مجموع رسائل ابن رجب

ابن رجب الحنبلي

المجلد الأول

مَجْمُوع رَسَائِلْ الحَافِظْ ابْنِ رَجَب الحَنْبَلِيِّ زِين الدِّين أَبِي الفَرَج عَبْد الرَّحْمَن بْن أَحْمَد بْن رَجَب الحَنْبَلِيّ (736 - 795 هـ) رَسَائِلُ جَمَعَتْ عُلُوماً شَتَّى فِي التَّوحِيدِ وَالفِقْهِ وَالتَّفْسِيرِ وَالحَدِيثِ وَالزُّهْدِ وَالأَدَبِ وَالمَوَاعِظِ وَالرَّقَائِقِ وَالسِّيَرِ وَالتَّارِيخِ جَمِيع الرَّسَائِل حُقِّقَتْ عَلَى نُسخٍ خطيَّة أَصْلِيَّة دِرَاسَة وَتَحْقِيق أَبِي مُصْعَبْ طَلْعَتْ بْن فُؤَادٍ الحُلْوَانِيّ المُجَلَّدُ الأَوَّلُ النَّاشِرُ الفَارُوقُ الحَدِيثَة لِلطِّبَاعَةِ وَالنَّشْرِ

جميع حقوق الطبع محفوظة للناشر لا يجوز نشر أي جزء من هذا الكتاب أو إعادة طبعه أو تصويره أو اختزان مادته العلمية بأي صورة دون موافقة كتابية من الناشر. النَّاشِرُ الفَارُوقُ الحَدِيثَة لِلطِّبَاعَةِ وَالنَّشْرِ خلف 60 ش راتب باشا - حدائق شبرا ت: 4307526 - 2055688 القاهرة اسم الكتاب: مجموع الرسائل الحافظ ابن رجب الحنبلي تأليف: زين الدين أبي الفرج عبد الرحمن بن أحمد بن رجب الحنبلي دراسة وتحقيق: أبي مصعب طلعت بن فؤاد الحلواني رقم الإيداع: 17307/ 2001 الترقيم الدولي: 5 - 65 - 5704 - 977 الطبعة: الثانية سنة النشر: 1424 هـ- 2003 م طباعة: الفَارُوق الحَدِيثَة لِلطِّبَاعَةِ وَالنَّشْرِ

مَجْمُوع رَسَائِلْ الحَافِظْ ابْنِ رَجَب الحَنْبَلِيِّ

مقدمة المحقق

مقدمة المحقق بسم الله الرحمن الرحيم لقد مَنَّ الله عليَّ أن وفقني لتحقيق مجموع رسائل الحافظ ابن رجب الحنبلي رحمه الله، وقد بدأت بـ 30 رسالة، ثم يتلوها رسائل أخرى منها: 1 - التوحيد أو تحقيق كلمة الإخلاص. 2 - فضل علم السلف على الخلف. 3 - اختيار الأولى شرح حديث اختصام الملأ الأعلى. 4 - نور الاقتباس في شرح وصية النبي - صلى الله عليه وسلم - لابن عباس. 5 - فضائل الشام. 6 - أهوال القبور. 7 - التخويف من النار. وغيرها من الرسائل بحيث يصبح عند من يقتنيها تراث ابن رجب الموجود، إذا أضاف إليه الكتب الكبيرة المطبوعة أمثال: شرح البخاري، وشرح علل الترمذي، وجامع العلوم والحكم، ولطائف المعارف، والقواعد الفقهية. هذا ومِنْ فضل الله عليَّ أن وفقني لجمع مخطوطات الرسائل التي قمت بتحقيقها والتي أقوم بتحقيقها أيضاً، وإني لأشكر أخي الحبيب/ أبي محمد أشرف بن عبد المقصود، والأخ الفاضل/ علي الحربي اللذين أمداني بكثير من المخطوطات ومنها مجموع فاتح باستانبول برقم (5318) وفيه 18 رسالة.

كما أشكر إدارة المخطوطات بدار الكتب المصرية وعلى رأسهم الأستاذ/ أحمد قطب، فقد يسروا لي سبيل تصوير كل ما لديهم من مخطوطات لابن رجب. كما أشكر إدارة المخطوطات بمعهد المخطوطات العربية بالقاهرة وعلى رأسهم الأستاذ/ محمد سلطان، والأستاذ/ محمد عبد العزيز، والأستاذ عبد اللطيف مبروك أنّهم قاموا بتصوير ما لديهم من مخطوطات لابن رجب. كما أشكر أخاً حبيباً لي أمدني بالكثير من المخطوطات ومن المطبوعات أيضاً، ورفض ذكر اسمه فجزاه الله خيراً. وإني لأرجو من الله أن ينال هذا العمل قبول القراء والباحثين وأن يكون نواة لجمع رسائل كثير من العلماء العاملين في مجموع كهذا. والله ولي التوفيق. المحقق

عملي في الكتاب وما تمتاز به طبعتنا

عملي في الكتاب وما تمتاز به طبعتنا 1 - قمت بمقابلة المخطوطات وإثبات الفروق التي بينها، وكتبتُ الكلمة المختلفة في الهامش وبجوارها " نسخة "، وذلك تيسيرًا على القارئ؛ لأنّ النسخ كثيرة، فعلى سبيل المثال رسالة " ما ذئبان جائعان " ضبطتُها على " 7 " نسخ خطية، فمن المشقة إثقال الهوامش بالفروق بين السبع نسخ وهكذا. 2 - قمت بتخريج آيات الكتاب وعزوها إلى مواضعها من كتاب الله الكريم. 3 - قمت بتخريج الأحاديث المرفوعة، وأكتفي بما ذكره الحافظ ابن رجب ولا أزيد عليه إلا النادر القليل. 4 - قمت بنقل كلام علماء العلل على الأحاديث المرفوعة. 5 - قمت بعزو الأحاديث الموقوفة على الصحابة فقط. 6 - استفدت من حكم بعض مشايخ عصرنا على الأحاديث كالشيخ الألباني رحمه الله، والشيخ محمد عمرو عبد اللطيف، والشيخ الجديع، والشيخ حسن أبو الأشبال حفظهم الله جميعًا. 7 - اجتهدت مع بعض إخواني في شرح بعض الألفاظ الغريبة في الكتاب، وذلك من خلال المعاجم وكتب الغريب. 8 - لم أثقل حواشي الكتاب بكثير من التخريجات الزائدة التي لا طائل وراءها وخاصة إذا كان الحديث له طريق واحد. 9 - قمت بوصف المخطوطات التي اعتمدت عليها في التحقيق، وتصوير بعض نماذج منها. 10 - قمت بعمل ترجمة لابن رجب.

شكر وتقدير

11 - قمت بالكلام على كتبه باختصار شديد. 12 - لم أقم بتوثيق الرسائل لشهرتها، وتداولها بين الأوساط العلمية، وهي معروفة لدى الجميع. وأسال الله أن يتقبل هذا العمل وأن يجعله زخرًا لي يوم ألقاه. شكر وتقدير استفدت من بعض الرسائل المطبوعة والكتب المطبوعة، ككتاب: شرح علل الترمذي بتحقيق د/ همام سعيد، وعقيدة ابن رجب الحنبلي لعلي الشبل، ومقدمة جامع العلوم والحكم للشيخ الأرناؤط، ومقدمة فتح الباري طبعة الحرمين. كما استفدت من الرسائل المطبوعة بتحقيق الدكتور آل فريان، والأخ أشرف عبد المقصود، والشيخ محمد عمرو عبد اللطيف، وسعد الحمدان، ومحمد بن ناصر العجمي، وإبراهيم العرف، وسامي جاد الله، ومحمود الحداد وغيرهم، فجزاهم الله عنا خيراً. كما أشكر الإخوة اللذين شاركوني في المقابلات والمراجعات ومنهم الأخ/ طلال الطرابيلي، والأخ/ أحمد سالم، والأخ/ مصطفى أبو الغيط، والأخ/ مجدي حمودة، والأخ/ إبراهيم الحماحمي فجزاهم الله خيرًا.

ترجمة الحافظ ابن رجب الحنبلي

ترجمة الحافظ ابن رجب الحنبلي اسمه ولقبه وكنيته: هو زين الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن أحمد بن رجب بن الحسن السلامي البغدادي ثم الدمشقي موطنًا. الشهير بابن رجب الحنبلي. مولده: ولد على الراجح في سنة 736 هـ ببغداد. أسرته: ذكر ابن رجب في الذيل على طبقات الحنابلة (¬1) خبراً يفيد قراءة الناس الحديث على جده عبد الرحمن الملقب برجب لكونه ولد في رجب. قال عنه ابن حجر: "ولد سنة 677 هـ تقريبًا، وسمع ثلاثيات البخاري من ابن المالحاني عن القطيعي -بغداد- وحدث بها وكان يقرئ حسبة .. ومات في شهر صفر سنة 742 هـ" أ. هـ (¬2) أبوه: وأما أبوه فهو أبو العباس شهاب الدين أحمد، ولد في بغداد صبيحة يوم السبت خامس عشر ربيع أول سنة 706 هـ. قرأ على العلماء في بغداد، حيث قرأ القرآن بالروايات، واشتغل بإقرائها، ولهذا لقب بالمقرئ، وأكثر من السماع عن الشيوخ حتى خرج لنفسه مشيخة ترجم فيها لهم، وما قرأه عليهم وهو شيخ مشايخ ابن حجر، كالحافظ العراقي والهيثمي والعلائي. رحل إلى دمشق بأولاده سنة 744 هـ وسمع مشايخها كمحمد بن إسماعيل الخباز، ورحل إلى القدس ثم حج سنة 749 هـ، وبمكة اسمع ابنه عبد الرحمن "ثلاثيات البخاري" على الشيخ أبي حفص عمر، ثم رحل إلى مصر قبل سنة 756 هـ وفيها روي عن القلانسي. ثم جلس للإقراء بدمشق وانتفع به، وكان ذا خير ودين وعفاف. ¬

_ (¬1) الذيل على طبقات الحنابلة (2/ 213). (¬2) الدرر الكامنة لابن حجر (1/ 107) ترجمة [1712].

نشأته ورحلته في طلب العلم:

نشأته ورحلته في طلب العلم: لقد اجتمعت عوامل كثيرة في تكوين شخصية ابن رجب العلمية فمنها نشأته بين كنف جده ووالده وما اشتهرا به من العلم والطلب، إلى جانب الاستعداد الفطري لدى ابن رجب نفسه لطلب العلم، والذي نماه احتكاكه بمشايخ عصره. فقد بدأ في الطلب وهو في سن الخامسة تقريبًا، فقد ذكر أنّه حضر لشيخه عبد الرحيم بن عبد الله الزريرتي (ت 741 هـ) قال: " وحضرت درسه وأنا إذ ذاك صغير لا أحقه جيدًا " (¬1). وفي سن الخامسة بدأ يميز السماعات: يقول ابن رجب: أخبرنا أبو الربيع علي بن الصمد بن أحمد البغدادي، قرأت عليه وأنا في الخامسة. وقد تلقى إجازات كبار العلماء وهو في سن مبكرة: يقول ابن رجب: وذكر شيخنا بالإجازة الإمام صفي الدين عبد المؤمن بن عبد الحق القطيعي البغدادي (¬2) (ت 739 هـ). كما ذكر بعض علماء الشام الذين أجازوه، كالقاسم بن محمد البرزالي (¬3) (ت 739 هـ)، ومحمد بن أحمد بن حسان التلي الدمشقي (¬4) (ت 741 هـ). وفي دمشق سمع ابن رجب مع والده كبار المسندين والمحدثين مثل شمس الدين محمد بن أبي بكر بن النقيب (ت 745 هـ) والإمام علاء الدين أحمد بن عبد المؤمن السبكي وغيرهما. وفي نابلس ودمشق سمع من أصحاب عبد الحافظ بن بدران، كما ذكر في ذيله على الطبقات، ¬

_ (¬1) الذيل على طبقات الحنابلة (2/ 436). (¬2) نفس المرجع (1/ 176). (¬3) نفس المرجع (2/ 184، 192). (¬4) نفس المرجع (1/ 82) وانظر مقدمة الدكتور همام سعيد لتحقيقه لشرح علل الترمذي لابن رجب (1/ 241).

عقيدة ابن رجب:

قال: حدثنا عنه جماعة من أصحابه بدمشق ونابلس، وقرأت " سنن ابن ماجه " بدمشق على الشيخ جمال الدين يوسف بن عبد الله بن محمد النابلسي الفقيه الفرضي بسماعه منه (¬1). وفي بغداد قرأ على الشيخ أبي المعالي محمد بن عبد الرزاق الشيباني سنة 749 هـ (¬2). وقد لزم في دمشق شيخه ابن قيم الجوزية إلى أنْ مات ابن القيم سنة 751 هـ. وقد أكثر عن شيخه أبي الفتح محمد بن محمد بن إبراهيم الميدومي بمصر (¬3)، كما لقي بالقاهرة محمد بن إسماعيل الصوفي المعروف بابن الملوك (¬4) (ت 756 هـ). وسمع أيضًا أبا الحرم القلانسي (¬5) (ت 765 هـ). ويذكر ابن رجب اجتماعه بالشيخ شمس الدين محمد بن الشيخ أحمد السقا وبين قاضي قضاة مصر الموفق ابن جماعة بمنى يوم القَرِّ عام 763 هـ (¬6). عقيدة ابن رجب: هو إمام من أئمة السلف في العقيدة ويشهد لذلك كتبه ونقولاته: ففي ¬

_ (¬1) الذيل على طبقات الحنابلة (2/ 341). (¬2) نفس المرجع (1/ 289). (¬3) انظر الذيل (1/ 118، 137، 138، 177، 180، 182، 187، 189، 196، 203، 206، 212، 222، 224، 229، 241 وغيرها. وقد استفدت ذلك من مقدمة الدكتور همام سعيد "حفظه الله". (¬4) نفس المرجع (1/ 15/ 41). (¬5) المنهج الأحمد (ق 457). (¬6) الذيل (2/ 447) ووقع خطأ في الذيل فقال: الموفق وابن جماعة والصواب حذف "الواو" وهو عز الدين عبد العزيز بن جماعة، كما أخطأ في تاريخ السنة التي التقيا فيها فكتب ثلاث وستين وستمائة، والصواب ثلاث وستين وسبعمائة، لأنّ ابن رجب لم يكن قد ولد في هذه السنة.

مكانته فقهيا:

كتاب "فضل علم السلف على الخلف" يقول: "والصواب ما عليه السلف الصالح من إمرار آيات الصفات وأحاديثها من غير تفسير لها ولا تكييف ولا تمثيل" (¬1). وفي الذيل على طبقات الحنابلة (¬2) يذكر حكاية فيها أنّ ابن فورك - وهو أشعري معروف- دخل على السلطان محمود فتناظرا، قال ابن فورك لمحمود: لا يجوز أن تصف الله بالفوقية لأنّه يلزمك أن تصفه بالتحتية؛ لأنّ من جاز أن يكون له فوق، جاز أن يكون له تحت، فقال محمود: ليس أنا وصفته بالفوقية لتلزمني أن أصفه بالتحتية، وإنما هو وصف نفسه بذلك. قال: فبهت. مكانته فقهيًا: يقول علي الشبل في كتابه الماتع "منهج الحافظ ابن رجب في العقيدة" ص 70 - 72: كان -رحمه الله- في فروع المسائل الفقهية على مذهب الإمام أحمد وأصحابه من الحنابلة، فيتبع أصول مذهب أحمد اتباع حق لا هوى وتشهٍ. وكانت له معرفة بالمذهب، حيث حفظ مختصر الخرقي على شيخه ابن النباش، وقرأ الروايات عن الإمام أحمد في مسائل أبنائه وأصحابه، وتحصلت له ملكة في التمييز بين روايات المذهب وأقواله وأوجهه وتخريجاته، حتى غدا متعقبًا لغرائب كبار الأصحاب في كتابه ذيل طبقات ابن أبي يعلى. ا. هـ. قال ابن عبد الهادي: "وكتاب القواعد الفقهية مجلد كبير، وهو كتاب نافع، من عجائب الدهر، حتى إنه استكثر عليه، حتى زعم بعضهم أنّه وجد قواعد مبددة لشيخ الإسلام ابن تيمية فجمعها، وليس ¬

_ (¬1) فضل علم السلف ص 19. (¬2) (1/ 12).

مكانته في علم الحديث وثناء العلماء عليه:

الأمر كذلك، بل كان رحمه الله فوق ذلك" (¬1). وقال ابن عبد الهادي: " ... وله تحقيق في المسائل على نصوص أحمد وكلام الأصحاب، وله مسائل كثيرة غريبة، وأشياء حسنة يعجز الإنسان عن حصرها، تفقه عليه جماعة من الأكابر .. " ا. هـ (¬2). مكانته في علم الحديث وثناء العلماء عليه: قال عنه الحافظ ابن حجر في " إنباء الغمر" (¬3): "رافق شيخنا زين الدين العراقي في السماع كثيرًا، ومهر في فنون الحديث أسماءً ورجالاً وعللاً وطرقًا واطلاعًا على معانيه" ونقل عن ابن حجي قوله: "أتقن الفن وصار أعرف أهل عصره بالعلل وتتبع الطرق" (¬4). وقال ابن قاضي شهبة (¬5): "كتب وقرأ وأتقن الفن، واشتغل في المذهب حتى أتقنه وأكب على الاشتغال بمعرفة متون الحديث وعلله ومعانيه". وقال ابن حجر في الدرر الكامنة (¬6): " وأكثر من المسموع، وأكثر الاشتغال بالعلم حتى مهر وأكثر عن الشيوخ، وخرج لنفسه مشيخة مفيدة. وقال عنه ابن فهد: " الإمام الحافظ الحجة والفقيه العمدة، أحد العلماء الزهاد والأئمة العباد، مفيد المحدثين واعظ المسلمين" (¬7). وقال ابن العماد في الشذرات: "الإمام العالم العلامة الزاهد القدوة البركة الحافظ العمدة الثقة الحجة الحنبلي المذهب" (¬8). ¬

_ (¬1) ذيل ابن عبد الهادي علي طبقات ابن رجب ص 38. (¬2) نفس المرجع ص 39. (¬3) (1/ 460). (¬4) نفس المرجع (1/ 461). (¬5) تاريخ ابن قاضي شهبة (3/ 195). (¬6) (2/ 322). (¬7) لحظ الألحاظ. (¬8) شذرات الذهب (6/ 339).

شيوخ ابن رجب

شيوخ ابن رجب ذكر الدكتور/ همام سعيد في كتاب شرح علل الترمذي ص 252: 1 - قاضي القضاة أبو العباس: أحمد بن الحسن بن عبد الله، المشهور بابن قاضي الجبل (¬1) (693 - 771هـ) سماعًا في دمشق. 2 - أبو العباس: أحمد بن سليمان الحنبلي، في بغداد، قراءة عليه (¬2). 3 - شهاب الدين، أبو العباس: أحمد بن عبد الرحمن الحريري المقدسي الصالحي (663 - 758 هـ) في دمشق سماعًا (¬3). 4 - أحمد بن عبد الكريم البعلي، شهاب الدين (696 - 777 هـ) حدث ببلده وفي دمشق (¬4). 5 - عماد الدين، أبو العباس: أحمد بن عبد الهادي بن يوسف بن محمد بن قدامة المقدسي (ت 754 هـ) سمعه في دمشق (¬5). 6 - جمال الدين أبو العباس: أحمد بن علي بن محمد البابصري، البغدادي (707 - 750 هـ) سمعه في بغداد (¬6). 7 - شهاب الدين: أحمد بن محمد الشيرازي المعروف بـ (زغنش) (¬7). ¬

_ (¬1) الذيل على طبقات الحنابلة 2/ 453؛ والمنهج الأحمد، ق 461؛ والمقصد الأرشد لوحة 12؛ والدرر الكامنة 1/ 129. (¬2) الذيل على طبقات الحنابلة 1/ 301؛ والمنهج الأحمد، ق 457. (¬3) الذيل على طبقات الحنابلة 2/ 286؛ والمقصد الأرشد لوحة 34؛ والمنهج الأحمد، ق 453. (¬4) الذيل على طبقات الحنابلة 2/ 365؛ والمنهج الأحمد، ق 473، والدرر الكامنة 1/ 188. (¬5) الذيل على طبقات الحنابلة 2/ 439؛ والمنهج الأحمد، ق 452. (¬6) الذيل على طبقات الحنابلة 2/ 445، والمقصد الأرشد لوحة 30؛ والمنهج الأحمد، ق 448. (¬7) شذرات الذهب 6/ 220؛ والمنهج الأحمد، ق 461.

8 - بشر بن إبراهيم بن محمود بن بشر البعلبكي، الحنبلي (681 - 761 هـ) سمعه في الشام (¬1). 9 - صفي الدين، أبو عبد الله: الحسين بن بدران البصري البغدادي (712 - 749 هـ) قرأ عليه، في بغداد (¬2). 10 - صلاح الدين، أبو سعيد: خليل بن كيكلدي العلائي (694 - 761 هـ) سمعه في القدس (¬3). 11 - جمال الدين أبو سليمان: داود بن إبراهيم العطار (665 - 752 هـ) سمعه في دمشق (¬4). 12 - بنت الكمال: زينب بنت أحمد بن عبد الرحيم المقدسية (646 - 740 هـ) إجازة، وهو في بغداد (¬5). 13 - نجم الدين، أبو الحامد: سليمان بن أحمد النهرماري البغدادي الفقيه. (ت 748 هـ) سمعه في بغداد (¬6). 14 - عز الدين: عبد العزيز بن محمد بن إبراهيم بن سعد الله بن جماعة، قاضي المسلمين (¬7)، 694 - 767 هـ) قال عنه شيخنا، ولقيه في مصر ومكة. ¬

_ (¬1) الذيل على طبقات الحنابلة 2/ 200؛ والمنهج الأحمد، ق 455؛ والدرر الكامنة 2/ 12؛ والمقصد الأرشد لوحة 72. (¬2) الذيل على طبقات الحنابلة 2/ 443؛ والمنهج الأحمد، ق 447، والمقصد الأرشد لوحة 91؛ والدرر الكامنة 2/ 139. (¬3) تاريخ ابن قاضي شهبة 2/ لوحة 156/ أ؛ لحظ الألحاظ للحسيني، ص 43؛ والدرر الكامنة 2/ 179؛ والذيل على طبقات الحنابلة، ص 365. (4، 5) الدرر الكامنة 2/ 185. وانظر: التنبيه والإيقاظ ذيل لحظ الألحاظ، ص 77؛ والذيل على طبقات الحنابلة 1/ 53، 82، 155. (¬6) الذيل على طبقات الحنابلة (2/ 441)؛ والمنهج الأحمد، ق 446؛ والدرر الكامنة 2/ 248 وقال: (النهرماوي). (¬7) الدرر الكامنة 2/ 489؛ ولحظ الألحاظ، ص 42؛ وورد ذكره في الذيل على طبقات الحنابلة 1/ 85.

15 - تاج الدين: عبد الله بن عبد المؤمن بن الوجبة الواسطي، المقرئ (671 - 740 هـ) في بغداد (¬1). 16 - تقي الدين، أبو محمد: عبد الله بن محمد بن إبراهيم بن نصر بن فهد، المعروف بابن قيم الضيائية (669 - 761 هـ) (¬2) سمعه في دمشق. 17 - صفي الدين، أبو الفضائل: عبد المؤمن بن عبد الحق بن عبد الله البغدادي الحنبلي (658 - 739 هـ) إجازة في بغداد (¬3). 18 - عز الدين، أبو يعلى: حمزة بن موسى بن أحمد بن بدران المعروف: بابن شيخ السلامية (712 - 769 هـ) (¬4) سمعه في دمشق. 19 - فخر الدين: عثمان بن يوسف بن أبي بكر النويري الفقيه، المالكي (663 - 756) (¬5) سمعه في مكة سنة 749 هـ. 20 - علاء الدين، أبو الحسن علي بن الشيخ زين الدين المنجا بن عثمان بن أسعد بن المنجا (673 - 763 هـ) سمعه في دمشق (¬6). 21 - أبو الربيع: علي بن عبد الصمد بن أحمد بن عبد القادر ¬

_ (¬1) الذيل على طبقات الحنابلة 2/ 444؛ والدرر الكامنة 2/ 276. (¬2) الذيل على طبقات الحنابلة 2/ 321؛ والمنهج الأحمد، ق 455؛ والدرر الكامنة 2/ 388. (¬3) الذيل على طبقات الحنابلة 2/ 304؛ والمنهج الأحمد، ق 443؛ والمقصد الأرشد لوحة 175؛ والدرر 3/ 32. وجاء في الدرر: ابن عبد الخالق والصحيح: ابن عبد الحق، ولحظ الألحاظ، ص 21؛ والتنبيه والإِيقاظ، ص 5. (¬4) الذيل على طبقات الحنابلة 2/ 443؛ والمنهج الأحمد، ق؛4؛ والمقصد الأرشد لوحة 96؛ والدرر الكامنة 2/ 165. (¬5) الدرر الكامنة 3/ 67، وجاء في تاريخ ابن قاضي شهبة أثناء ترجمة ابن رجب 3/ 95 - 1 (الفخر التوزري) وهو خطأ، إذ الفخر التوزري وهو عثمان بن محمد، ونزيل مكة أيضًا، وهو مالكي، ولكنه توفي سنة 713 هـ. انظر الدرر 3/ 64. (¬6) الذيل على طبقات الحنابلة 2/ 447؛ والمنهج الأحمد، ق 475؛ والمقصد الأرشد، ق 204؛ والدرر الكامنة 3/ 209.

البغدادي، (656 - 742 هـ) سمعه ببغداد وهو في الخامسة (¬1). 22 - عمر بن حسن بن مزيد بن أميلة المراغي، الحلبي، ثم الدمشقي (679 - 778 هـ) سمعه في دمشق (¬2). 23 - سراج الدين أبو حفص؛ عمر بن علي بن موسى بن خليل البغدادي (688 - 749 هـ) سمعه في دمشق (¬3). 24 - سراج الدين، أبو حفص: عمر بن علي بن عمر القزويني، محدث العراق (683 - 750 هـ) قراءة عليه في بغداد (¬4). 25 - علم الدين، أبو محمد: القاسم بن محمد البرزالي، مؤرخ الشام (665 - 739 هـ) إجازة من دمشق (¬5). 26 - عز الدين أبو عبد الله: محمد بن إبراهيم بن عبد الله بن محمد بن أحمد بن قدامة المقدسي (636 - 748 هـ) إجازة في دمشق (¬6). 27 - أبو عبد الله: محمد بن أحمد بن تمام بن حسان الصالحي (651 - 741 هـ) إجازة من دمشق (¬7). 28 - محمد بن إسماعيل بن إبرإهيم بن سالم الدمشقي الأنصاري العبادي من ولد عبادة بن الصامت، المعروف بابن الخباز (¬8) (667 - ¬

_ (¬1) الذيل على طبقات الحنابلة 2/ 445، 290، 221؛ والدرر الكامنة 3/ 132. (¬2) الذيل على طبقات الحنابلة 1/ 98؛ والدرر الكامنة 3/ 235. (¬3) الذيل على طبقات الحنابلة 2/ 444؛ والدرر الكامنة 3/ 256؛ والمنهج الأحمد، ق 447. (¬4) الذيل على طبقات الحنابلة 1/ 67، والدرر الكامنة 3/ 256. (¬5) البداية والنهاية 14/ 186؛ والذيل على طبقات الحنابلة 2/ 184؛ والدارس في تاريخ المدارس 1/ 112. (¬6) الذيل على طبقات الحنابلة 2/ 441؛ والمنهج الأحمد، ص 447. (¬7) الذيل على طبقات الحنابلة 2/ 433؛ والمقصد الأرشد، ص 229؛ والمنهج الأحمد، ص 444. (¬8) لحظ الألحاظ، ص 180؛ والدرر الكامنة، ص 404؛ والمنهج الأحمد، ق=

756 هـ) سمعه في دمشق وأكثر عنه جدًا. 29 - ناصر الدين، محمد بن إسماعيل بن عبد العزيز بن عيسى بن أبي بكر بن أيوب، ينتهي نسبه بالعادل الأيوبي، ويلقب بابن الملوك (¬1) (674 - 756 هـ) سمعه في مصر وأخذ عنه كثيرًا. 30 - شمس الدين أبو عبد الله: محمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعيد بن جرير الزرعي، ابن قيم الجوزية (691 - 751 هـ) (¬2) سمعه في دمشق ولازمه أزيد من سنة. 31 - أبو المعالي: محمد بن عبد الرزاق الشيباني في بغداد، قراءة عليه سنة 749 هـ (¬3). 32 - صدر الدين، أبو الفتح: محمد بن محمد بن إبراهيم الميدومي (664 - 754 هـ) سمعه في مصر (¬4). 33 - فتح الدين، أبو الحرم: محمد بن محمد بن محمد القلانسي الحنبلي (683 - 765 هـ) سمعه في القاهرة (¬5). 34 - ابن النباش: ذكر ابن رجب أنّه لازمه حتى الممات، ولم ¬

_ =453؛ والذيل على طبقات الحنابلة 1/ 247، 2/ 50، 61، 78، 109، 113، 161، 169، 192، وفي غيرها كثير. (¬1) الدرر الكامنة 4/ 8؛ والذيل على طبقات الحنابلة 1/ 41، 24. (¬2) الذيل على طبقات الحنابلة 2/ 448؛ والمنهج الأحمد، ق 449؛ والمنهل الصافي لابن تغري بردي 3/ 96/ أ؛ والدرر الكامنة 4/ 21. (¬3) الذيل على طبقات الحنابلة 2/ 89، 109، 247. (¬4) المنهل الصافي لابن تغري بردي 3/ 275/ ب؛ وتاريخ ابن قاضي شهبة 1/ 131/ ب؛ ولحظ الألحاظ لابن فهد، ص 180؛ والدرر الكامنة 4/ 274؛ والذيل على طبقات الحنابلة 1/ 118، 137، 138، 140، 177، 180، 182، 187، 189، 196. (¬5) لحظ الألحاظ لابن فهد ص 147؛ والدر الكامنة (4/ 353)؛ والمنهج الأحمد ق 457؛ وتاريخ ابن قاضي شهبة 3/ 175 ب.

يذكر له تاريخ وفاة (¬1). 35 - شمس الدين يوسف بن نجم الحنبلي (ت 751 هـ) سمعه في دمشق (¬2). 36 - جمال الدين، يوسف بن عبد الله بن العفيف المقدسي النابلسي (691 - 754 هـ) قرأ عليه سنن ابن ماجه بدمشق (¬3). وأضيف إلى ما ذكر الدكتور همام سعيد حفظه الله: 37 - " أبو محمد " ابن هشام الأنصاري المتوفى 761 هـ (¬4). 38 - محمد بن أبي بكر بن إبراهيم شمس الدين ابن النقيب الشافعي المتوفي 745 هـ. 39 - والده أبو العباس شهاب الدين أحمد بن رجب بن الحسن المتوفي 774 هـ. 40 - علاء الدين أحمد بن عبد المؤمن الشافعي السبكي ثم النووي المتوفي 749 هـ. 41 - جده عبد الرحمن رجب بن الحسن السلامي المتوفى 742 هـ قال ابن رجب في ذيله على الطبقات (2/ 213 - 214): "قرأ على جدي أبي أحمد بن رجب بن الحسن غير مرة ببغداد، وأنا حاضر، في الثالثة والرابعة والخامسة". ¬

_ (¬1) الذيل على طبقات الحنابلة 2/ 432؛ والمنهج الأحمد ق 443. (¬2) الذيل على طبقات الحنابلة 2/ 286؛ والمنهج الأحمد ق 451. (¬3) الذيل على طبقات الحنابلة 2/ 341؛ والدرر الكامنة 5/ 239. (¬4) ذكره في رسالته: "الكلام على قوله تعالى: {إنما يخشى الله من عباده العلماء}.

تلاميذ ابن رجب

تلاميذ ابن رجب قال الدكتور همام سعيد: وقد رتبناهم على حروف المعجم مع مراعاة ولاداتهم ووفياتهم، وكيفية تحملهم عن ابن رجب، ومكانه: 1 - الشهاب أبو العباس: أحمد بن أبي بكر بن سيف الدين الحموي، الحنبلي ويعرف بابن الرسام، (773 - 844 هـ) أجازه ابن رجب، وقال في الشذرات: وكان يعمل المواعيد وله كتاب فى الوعظ على نمط كتاب شيخه ابن رجب (¬1). 2 - محب الدين أبو الفضل، أحمد بن نصر الله بن أحمد بن محمد بن عمر، مفتي الديار المصرية، (765 - 844 هـ)، سمع ابن رجب في دمشق ولازمه (¬2). 3 - داود بن سليمان بن عبد الله الزين الموصلي الدمشقي الحنبلي (764 - 744 هـ) سمع ابن رجب في دمشق (¬3). 4 - زين الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن أحمد بن محمد بن محمد الدمشقي الأصلي المكي المقرئ (772 - 853 هـ) سمع ابن رجب في دمشق (¬4). 5 - زين الدين عبد الرحمن بن سليمان بن أبي الكرم الحنبلي المعروف بأبي شعر، (780 - 844 هـ) سمع ابن رجب في دمشق (¬5). 6 - زين الدين أبو ذر، عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله بن محمد المصري الحنبلي، المعروف بالزركشي (758 - 846 هـ) سمع ابن رجب في دمشق قبيل الفتنة اللنكية (¬6). ¬

_ (¬1) المنهج الأحمد ق 491؛ والضوء اللامع 1/ 249؛ وشذرات الذهب 2/ 252. (¬2) المنهج الأحمد ق 488؛ وشذرات الذهب 7/ 250؛ والضوء اللامع 2/ 233. (¬3) الضوه اللامع 3/ 212. (¬4) الضوء اللامع 4/ 59 - 61. (¬5) الضوء اللامع 4/ 82؛ وشذرات الذهب 7/ 253؛ والمنهج الأحمد ق 491. (¬6) المنهج الأحمد ق 491؛ والضوء اللامع 4/ 136.

7 - علاء الدين أبو الحسن، علي بن محمد بن عباس البعلي الشهير بابن اللحام، ولد بعد الخمسين وسبعمائة في بعلبك، وتوفي سنة ثلاث وثمانمائة، سمع ابن رجب في دمشق (¬1). 8 - علاء الدين علي بن محمد بن علي الطرسوسي المزي، كان يعيش حتى سنة 850 هـ، وحضر على ابن رجب وقال: " إنه سمعه يقول: أرسل إلي الزين العراقي يستعين بي في شرح الترمذي " (¬2). 9 - علاء الدين أبو المواهب، علي بن محمد بن أبي بكر السلمي الحموي الحنبلي، ويعرف بابن المغلي (761 - 828 هـ)، أخذ عن ابن رجب في دمشق (¬3). 10 - أبو حفص عمر بن محمد بن علي بن أبي بكر بن محمد السراج الحلبي الأصل الدمشقي الشافعي، يعرف بابن المُزَلِّق (بضم الميم وفتح الزاي وكسر اللام المشددة) (787 - 841 هـ) سمع ابن رجب في دمشق (¬4). 11 - محب الدين أبو الفضل ابن الشيخ نصر الله ولد سنة 765 هـ في بغداد، وأخذ عن ابن رجب في دمشق (¬5). 12 - قاضي القضاة شمس الدين محمد بن أحمد بن سعيد المقدسي الحنبلي قاضي مكة (771 - 855 هـ) سمع ابن رجب في دمشق (¬6). 13 - شهاب الدين أحمد بن علي بن محمد الأنصاري الحلبي ابن ¬

_ (¬1) المنهج الأحمد ق 478، والمقصد الأرشد، ص 201، والضوء اللامع 5/ 320، والشذرات 7/ 31. (¬2) المنهج الأحمد ق 481، والضوء اللامع 5/ 279. (¬3) المنهج الأحمد ق 482، والضوء اللامع 6/ 34. (¬4) الضوء اللامع 6/ 120. (¬5) المنهج الأحمد ق 488. (¬6) المنهج الأحمد ق 494، والضوء اللامع 6/ 309.

وفاة الحافظ ابن رجب:

الشحام (781 - 864 هـ)، سمع ابن رجب في دمشق (¬1). 14 - عز الدين محمد بن بهاء الدين علي المقدسي الحنبلي (764 - 820 هـ) أخذ عن ابن رجب في دمشق (¬2). 15 - شمس الدين محمد بن خالد الحمصي القاضي، توفي سنة 830 هـ قرأ على ابن رجب في دمشق (¬3). 16 - شمس الدين أبو عبيد الله محمد بن خليل بن طوغان الدمشقي الحريري الحنبلي، المعروف بابن المخصفي (746 - 803 هـ). سمع ابن رجب في دمشق (¬4). 17 - شمس الدين أبو عبد الله محمد بن محمد بن عبادة الأنصاري الحنبلي الدمشقي قاضي القضاة بدمشق، توفي سنة 820 هـ سمع ابن رجب في دمشق (¬5). وفاة الحافظ ابن رجب: توفي رحمه الله سنة 795 هـ. ¬

_ (¬1) الضوء اللامع 2/ 41. (¬2) المنهج الأحمد ق 481؛ وشذرات الذهب ص 747. (¬3) المنهج الأحمد ق 483؛ وشذرات الذهب 8 - 195. (¬4) المنهج الأحمد ق 476؛ وشذرات الذهب 7 - 35. (¬5) المنهج الأحمد 481؛ وشذرات الذهب 7 - 148.

تصوف الحافظ ابن رجب

تصوف الحافظ ابن رجب قال علي الشبل في كتابه منهج ابن رجب في العقيدة ص 79: في البدء لابد من العطف على معنى التصوف، إذ هو في الأصل من مفردات الزهد والورع، ولهذا تنوعت عبارات العلماء فيه، ثم ما طرأ في أصله وهو الزهد من المحدثات والبدع، بل والزندقة أضفى على التصوف معنى شرعيًا خاصًا يعكس ذم العلماء له وتحذيرهم منه، ومن أهله. وإذا نظرنا إلى ابن رجب الحنبلي رحمه الله وعرضنا على حاله مصطلح التصوف، نجده يتناقض معه قولاً وفعلاً وحالاً. وقد وصف بعض الناس الحافظ ابن رجب بالمتصوف، حتى إنه عرف به في بعض الجهات. وسبب هذا الوصف ما أشرت إليه آنفًا من العلاقة المتصورة بين التصوف والزهد. ولكن ها هنا لابد من تقييد تلك الدعوى لأنّ هذا الإطلاق في حق الحافظ ابن رجب وأمثاله فيه شبهة كبيرة. ولهذا أقول: إن اتهام الحافظ، ووصفه بالتصوف -والحالة هذه- لا يخرج عن أمرين. أحدهما: أنّه عن جهل وقلة علم في الحافظ، وفي التصوف المذموم؛ لأنّه على أحسن الحالين لدل على الفهم السطحي لكلام الحافظ، ونقوله عن بعض متقدمي الزهاد من معظمي الصوفية كأبي سليمان الداراني وابن أدهم والجنيد وأحزابهم. وهذا هو وجهة الأكثر من واصفي الحافظ بالتصوف. والثاني: أنّه صدر عن غرض وهوى مودَّاه القدح فيه وفي عقيدته ومنهجه، حيث حاولوا عسف بعض عبارات الحافظ إلى هذا المنحى، وهؤلاء والحمد لله قلة، وغرضهم مكشوف، وأمرهم إلى الله، فهو

حسيبهم وكافيهم. هذا والواقف على كلام الحافظ ابن رجب في موضوع البحث في كتبه يراه يدور على أمر هام هو التزهيد بالدنيا والترغيب عنها بدار الآخرة وبرضوان الله، باتخاذ أسلوب مخاطبة القلوب لا الشهوات والجوارح. وهذا في حدّ ذاته مقصد شرعي من مقاصد الشريعة العامة. لهذا كثر كلامه عن أحوال القلوب، ووجوب تزكية النفوس وترقيقها، لترقى إلى منزلة الصديقين وأولياء الله المقربين، وليبلغ العبد أعلى مراتب الإيمان وهي: الإحسان بدرجته الأولى، أن يعبد الله كأنّه هو يرى الله. وهو اليقين التام بهذا الموقف مع قلة الواصلين إليه. فكان رحمه الله يسوغ ذلك بإسلوب لطيف روحاني مجرب، أتى إليه عن طريق تجربة واقعية وممارسة عملية لهذا الأسلوب، وعظة، ودروسه العامة، وفي رسائله، وقبل ذلك في أحواله وحياته. فجاءت أكثر مصنفاته الوعظية على هذا النهج، حتى مصنفات المسائل الاجتهادية في الفقه وغيره، والتي فيها تحقيق وسبر للأدلة والأقوال، لم تخلُ من هذا المنهج، فكان غالبًا ما يذيلها بتلك اللفتات الزكية، والعبارات الندية في الوعظ ومخاطبة القلوب. وفي هذه المناسبات تراه ينقل أقوال وأحوال كبار الزهاد من صالحي القرون الثلاثة المفضلة وقصصهم ونوادرهم من أمثال: أيوب السختياني (131) هـ، ومالك بن دينار (130) هـ، وإبراهيم بن أدهم (162) والحسن البصري (110) هـ، والفضيل بن عياض (187) هـ، وابن المبارك (181) هـ، والجنيد (298) هـ، والإمام أحمد (241) هـ وأمثالهم. لأنّ كلام هؤلاء وأحوالهم أبلغ -في الحقيقة- في التأثير لأنّه صدر عن تجربة وعن اختصاص، وقبل ذلك عن صدق مع الله وإخلاص وتجرد.

ولعل مما سبب مثل هذه الدعوى للحافظ استخدامه للمصطلحات الشائعة عند متأخري الزهاد -أو قل المتصوفة- في القرون الأربعة المفضلة الذين وجد في آخرهم أنواع مذمومة ومنكرة من الشطحات وهذه العبارات نحو: أصحاب الحقائق، والمكاشفات، وخواص المحبين والعاشقين، والمنامات النورانية، وأهل المعرفة الحقيقة. مما هو محل احتمال ومورد إجمال يتطرق إليه مجال تلك الدعوى، ولكن هذا على أبعد أحواله خطأ من الحافظ وتجوز في القول لا يراد منه المعنى المتبادر عند أولئك، يدل عليه سياق كلامه الذي ترد فيه تلك المصطلحات، وقواعد منهجه الرادة للجنوح البعيد في تلك المجاهل، التي يسلكها مدعو الحقائق والمحبة وعشق الإله. ومنهج آخر من منهاج الحافظ في هذه المسألة، هو أنّه إذا نقل عن بعض الزهاد ممن غلبوا جانب العبادة والذوق على العلم، حتى وقعوا في أخطاء وبدع سلوكية أو انحرافات أدت بهم إلى نوع من الشطحات، نتيجة للجهل بعلم الرسول - صلى الله عليه وسلم - الذي أورثه أمته، كما وقع لذي النون المصري، والبسطامي، وبشر الحافي، ورابعة العدوية ومن هو أشد منهم، فالحافظ ينقل عنهم بعد أن ينتقي من كلامهم الحق والصواب، وتؤيده النصوص، ولا يسترسل معهم في نقل كل أقوالهم، وجميع ما عندهم مما يتضمنه الخطأ والبدع والضلال، ومثال ذلك على النوع الأول الذي ينقله الحافظ، ما نقله عن ذي النون المصري في كتابه " لطائف المعارف " مسألة الشوق إلى لقاء الله وتمني الموت لذلك قال: قال ذو النون: كل مطيع مستأنس وكل عاصي مستوحش " (¬1) اهـ. وعلى ذلك يجب مراعاة هذه الضوابط. 1 - نقل الحافظ لتلك الجمل من أقوالهم لا يعني بالضرورة تزكيتهم مطلقاً وتسويغ أخذ جميع ما جاء عنهم، إذ الميزان موافقة ما صدر عنهم ¬

_ (¬1) لطائف المعارف ص 512.

لقواعد الشرع وحيثياته مما جاء في كتاب الله أو سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وما قبله جماهير السلف الصالح من المسكوت عنه فيهما، ومما لا يخالف القواعد العامة المقررة. 2 - إنصافه- وحمه الله- لأولئك " العارفين " حيث لم يرد كل ما جاء عنهم، لما آثر عنهم من بدع ومخالفات في السلوك أو القول. بل أخذ ما لديهم من الحق، وطرح ضده. وهذا هو العدل لأنّ الحكمة التي هي ضالته أنى وجدها أخذها. ولا يجب أن يسلك هذا المنحى الدقيق إلا أولوا العلم الراسخ في الدين من أمثال الحافظ ابن رجب وابن القيم .. لأنّه مسلك وعر ودحض مزلة، ربما يُجلب فيه من الشر الذي لا يعرفه المنتقي من كلامهم أشد من الخير المنشود، وعلى مثل هذا تنزل قاعدة: "درء المفاسد مقدم على جلب المصالح ". 3 - أمر ثالث هو ملاحظة تعقب الحافظ ابن رجب لأغاليط المنحرفين من الزهاد، وغلاة المتصوفة، أو متصوفة أهل البدع والزندقة (¬1) كنحو المفرقين بين الحقيقة والشريعة، والرافعين التكاليف الشرعية عنهم أو عن غيرهم. قال -رحمه الله-: "ومما أحدث من العلوم، والكلام في العلوم الباطنة من المعارف وأعمال القلوب، وتوابع ذلك بمجرد الرأي، والذوق، أو الكشف وفيه خطر عظيم. وقد أنكره أعيان الأئمة كالإِمام أحمد وغيره. وكان أبو سليمان يقول: إنه لتمر بي النكتة من نكت القوم فلا أقبلها إلا بشاهدين عدلين: الكتاب والسنة. وقال الجنيد: علمنا هذا مقيد بالكتاب والسنة من لم يقرأ القرآن ويكتب الحديث لا يقتدى به في علمنا هذا. وقد اتسع الخرق في هذا الباب، ودخل فيه قوم إلى أنواع الزندقة ¬

_ (¬1) كما جاء في كتابه فضل علم السلف على الخلف ص 67 فانظره لزامًا.

والنفاق، ودعوى أنّ أولياء الله أفضل من الأنبياء، أو أنّهم مستغنون عنهم، وإلى التنقص بما جاءت به الرسل من الشرائع (¬1)، وإلى دعوى الحلول والاتحاد، أو القول بوحدة الوجود، وغير ذلك من أصول الكفر والفسوق والعصيان، كدعوى الإباحة، وحل محظورات الشرائع. وأدخلوا في هذا الطريق أشياءً كثيرة ليست من الدين في شيء، فبعضها زعموا أنّه يحصل به ترقيق القلوب كالغناء والرقص. وبعضها زعموا أنّه يراد لرياضة النفوس كعشق الصور المحرمة، ونظرها. وبعضها زعموا أنّه لكسر النفوس أو التواضع، كشهوة اللباس، وغير ذلك مما لم تأت به الشريعة، وبعضها يصد عن ذكر الله وعن الصلاة، كالغناء والنظر المحرم، وشابهوا بذلك الذين اتخذوا دينهم لهواً ولعبًا .. " أ. هـ (¬2). هذا ومن نماذج أقواله -رحمه الله- التي ترسم لنا منهجه الحقيقي في الزهد الذي ربما يسمى "تصوفاً معتدلاً" على سبيل التجوز: قوله في كتابه البشارة العظمى للمؤمن-: " .. فأما ما يجدونه من آثار الجنة فمما يتجلى لقلوب المؤمنين من آثار نور الإِيمان، وتجلي الغيب لقلوب المؤمنين، كالشهادة لقلوبهم في مقام الإحسان؛ فربما تجلت الجنة، أو بعضها، أو بعض ما فيها لقلوبهم أحياناً. حتى يرونها كالعيان. وربما استنشقوا من روائحها، كما قال أنس بن النضر يوم أحد: "والله إني لأجد ريح الجنة من قبل أحد ... " أ. هـ (¬3). وقال في شرح وصية النبي صلى الله عليه وسلم لابن عباس وهو ¬

_ (¬1) كما يقوله غلاتهم مثل الحلاج وابن عربي الطائي وابن الفارض، وصوفية الفلاسفة كابن سبعين. (¬2) من فضل علم السلف على الخلف ص 44 - 45. (¬3) من كتابه البشارة العظمى للمؤمن بأن حظه من النار الحمى (مخطوط) ص 181.

غلام رديفه على الدابة: " ... ومتى حصل هذا التعرف الخاص للعبد، حصل للعبد معرفة خاصة بربه توجب له الأنس به والحياء منه". وهذه معرفة خاصة، غير معرفة المؤمنين العامة. ومدار العارفين كلهم على هذه المعرفة، وهذا التعرف، وإشاراتهم تومئ إلى هذا. سمع أبو سليمان -هو عبد الرحمن الداراني (215) هـ- رجلاً يقول: سهرت البارحة في ذكر النساء فقال: ويحك! أما تستحي منه يراك ساهراً في ذكر غيره؟ ولكن كيف تستحي مما لا تعرف؟! " أ. هـ (¬1). وقال أيضاً في كتابه " استنشاق نسيم الأنس " في مقدمته: "الحمد لله الذي فتح قلوب أحبائه من فج محبته، وشرح صدور أوليائه بنور معرفته، فأشرق عليهم النور ولاح، أحياهم بين رجائه وخشيته، وغذاهم بولايته ومحبته، فلا عما هم فيه من السرور والأفراح، فسبحان من ذكره قوت القلوب وقرة العيون وسرور النفوس، وروح الحياة، وحياة الأرواح .. " (¬2). هذا المنهج يقارب في الحقيقة منهج ابن القيم -رحمه الله- في بعض مصنفاته كالفوائد، والجواب الكافي، وحادي الأرواح، وروضة المحبين في مواضع فيه. ومن هذا وغيره (¬3) أستطيع القول إن تصوف الحافظ ابن رجب -إن صحت تسميته كذلك- من التصوف المعتدل، والزهد المقبول عند السلف الصالح، وهو الخلي عن البدع والشطحات أو الانحرافات في الأقوال والأعمال. ¬

_ (¬1) من كتابة نور الاقتباس من مشكاة وصية النبي - صلى الله عليه وسلم - لابن عباس ص 24. (¬2) من كتابه استنشاق نسيم الأنس من نفحات رياض القدس (مخطوط) ص 84. (¬3) النماذج على ذلك كثيرة مبثوثة في كتبه: جامع العلوم والحكم، ولطائف المعارف فيما لمواسم العام من الوظائف. والتخويف من النار ص 8 وشرح حديث عمار بن ياسر 43 - 47، ونور الاقتباس 42، 45، 78 واختيار الأولى 115، 121، وسيرة عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز ص 3 وما بعدها، وكشف الكربة 28، 29، والمحجة ص 78 وما بعدها وفي أواخر رسائله عامة فإنها لا تخلو من تلك الإِشارات اللطيفة.

أشهر شروح ابن رجب الحديثية التي تدل على نبوغه وبراعته في هذا الفن

أشهر شروح ابن رجب الحديثية التي تدل على نبوغه وبراعته في هذا الفن أ- شرح جامع الترمذي: هذا الكتاب لو وجد كاملاً لأغنى العلماء وطلاب العلم عن سائر شروح الترمذي، فالحافظ ابن رجب لكثرة ممارسته العملية لجامع الترمذي، أتاه الله فهمًا لم يسبق إليه، وهذا ما دعا الحافظ العراقي أن يرسل إليه يستعين به في شرحه على الترمذي، ومعروف من هو الحافظ العراقي في هذا العلم، فهو من العلماء المجتهدين في هذا الفن، ومن طالع كتابه " التقييد والإيضاح على مقدمة ابن الصلاح " عرف قدر هذا الرجل، وحسبك أنّه شيخ الحافظ ابن حجر والحافظ الهيثمي رحمهما الله وهو الذي وجه الهيثمي لعمل الزوائد على الكتب. وقد أتم العراقي شرح ابن سيد التاس للترمذي، وقد قام بتحقيقه فضيلة الدكتور/ أحمد بن معبد عبد الكريم، وأعلمني أخي الحبيب/ أبو محمد أشرف عبد المقصود أن الكتاب في مراجعاته الأخيرة، وأنه سوف يطبع قريباً، وقد طبع من قبل الجزء الذي شرحه ابن سيد الناس. ومع علو قدر العراقي في هذا العلم فهو يستعين بابن رجب لمعاونته على شرح الترمذي مما يدل على أن ابن رجب انفرد دون غيره بفهمه الثاقب لهذا الكتاب، وقد ذكر السخاوي في ترجمة علاء الدين علي بن محمد بن علي الطرسوسي المزي أنّه كان يعيش حتى سنة 850 هـ وحضر على ابن رجب، وقال إنه سمعه يقول: أرسل إليَّ الزين العراقي يستعين بي في شرح الترمذي (¬1). وشرح الترمذي هذا لا يوجد منه إلا قطعة من كتاب اللباس لا تزيد على عشر ورقات ويوجد منه أيضًا شرح علل الترمذي، وهو آخر الكتاب، والباقي احترق في الفتنة (¬2). ونقل ابن عبد الهادي احتراق ¬

_ (¬1) انظر الضوء اللامع للسخاوي (5/ 328). (¬2) انظر كشف الظنون لحاجي خليفة (1/ 559). والفتنة هي ما حدث بمجيء=

منهج ابن رجب في شرح الترمذي:

معظم الكتاب في زمن الفتنة (¬1)، وما وجد مكتوباً على القطعة الباقية من هذا الشرح (¬2). منهج ابن رجب في شرح الترمذي: يقول الدكتور همام سعيد في مقدمته على شرح العلل (1/ 279 - 280): ولقد وجدت من خلال استعراض هذه القطعة الباقية من شرح الترمذي أن منهج ابن رجب يتلخص بما يلي: 1 - يذكر ابن رجب الباب كما هو عند الترمذي. 2 - ثم يخرج أحاديث الباب من كل الطرق والكتب. 3 - يتكلم على هذه الطرق جرحًا وتعديلاً، ويكشف عما فيها من مسائل مشكلة، كرفع الإِبهام في الأسماء، ويتكلم عن العلل. 4 - يفصل ما أجمله الترمذي بقوله: وفي الباب عن علي، وابن عمر، وأبي هريرة، ومعاوية، ويذكر حديث كل واحد من هؤلاء، ويفصل الطرق ويذكر ما فيها من علل أو جرح. 5 - يضيف إلى ما ذكره الترمذي بقوله: وفي الباب عن علي، وابن عمر، وأبي هريرة، فيقول: وفي الباب -أيضًا- ما لم يذكره الترمذي عن عمر، وأبي سعيد، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وجابر، وبريدة، وأبي ثعلبة الخشني، وابن مسعود، وابن عباس، ورجل من الصحابة. 6 - يفصل ابن رجب هذه الاستدراكات التي استدرك بها على ¬

_ =التتر إلى دمشق سنة 803 هـ وهي المعروفة بفتنة "تيمور" وفيها حرّفت دور دمشق بأسرها. شذرات الذهب (9/ 95). (¬1) الجوهر المنضد ص 49. (¬2) وهي قطعة من كتاب "اللباس" كما ذكرنا، جاء أولها: "ملك يوسف بن عبد الهادي" وهي بخط ابن رجب نفسه، فلو كان عند ابن عبد الهادي جميع هذا الكتاب لما كتب الملكية على صورة الغلاف.

ب- شرح صحيح البخاري المسمى " فتح الباري "

الترمذي فيقول: وأما حديث عمر: فمن طريق حماد بن سلمة (أنا) عمار بن أبي عمار أن عمر بن الخطاب قال .. وهكذا يفعل بكل صحابي ذكر أن له شيئًا في هذا الصدد. ويتكلم علي ما في هذه الروايات من علل أو جرح. 7 - ثم يختم كلامه بذكر أقوال الفقهاء، ويفصل في فقه الحديث. 8 - هذا المنهج يستخدمه ابن رجب في كشف مصطلحات الترمذي عندما يقول: حديث حسن أو حسن صحيح، أو غريب، وذلك لاطلاعه الواسع على طرق الحديث وروايته. أ. هـ. ب- شرح صحيح البخاري المسمى " فتح الباري " قال ابن عبد الهادي في الجوهر المنضد: "وشرح قطعة من البخاري إلى كتاب الجنائز وهي من عجائب الدهر، ولو كمل كان من العجائب". منهج ابن رجب في كتابه فتح الباري. يقول الدكتور همام سعيد في المقدمة (1/ 286 - 287): ولقد حاولت استقراء منهج ابن رجب فظهر لي أن منهجه يتلخص بما يلي: 1 - يذكر ترجمة الباب، ثم يعقب عليها بتعليق ضاف، يتناول ما في الترجمة من القضايا الفقهية، ويذكر آراء العلماء فيها، وكأنه بهذا التعليق يمهد للحديث، بمدخل مناسب. 2 - يأتي بعد هذا المدخل ذكر الحديث بإسناده ومتنه كما هو في البخاري. 3 - يخرج حديث الباب تخريجًا واسعًا، في الغالب، يستقصي الحديث من جميع رواياته وطرقه، وكثيرًا ما يذكرنا هذا التخريج بصنيعه في شرح الترمذي، وإلى جانب التخريج يتكلم عن القضايا الحديثية في الحديث وطرقه، كرفع توهم الانقطاع، وإثبات التصريح بالسماع إذا

مقارنة بين كتاب ابن رجب وكتاب ابن حجر:

كان الراوي مدلسًا، كما يتكلم في الرجال تعديلاً وجرحًا. 4 - يتناول فقه الحديث ويفصل قضاياه، ويذكر أقوال العلماء وأدلتهم ويناقش، ويرجح، كل ذلك باستيعاب وإطالة غير مخلين، فيجد الباحث نفسه، وهو يستعرض هذه المسائل، مستغرقًا مع كتاب موسوعي في الفقه المقارن. وفي النموذج الأول الذي ألحقناه بهذا المبحث مثال على هذا المنهج، فقد تناول قضاء الصلاة الفائتة عمدًا بما يزيد على ست لوحات مخطوطة. ويمتاز منهجه هذا بالأدب الجم، والحرص على نسبة كل قول إلى قائله، والإفاضة في ذكر أدلة كل قول. وهو وإن كان يركز على المذهب الحنبلي، إلا أنّه قد يعدل عن هذا المذهب إلى غيره تبعًا للدليل القوي. ولقد عبر صاحب الدارس في تاريخ المدارس عن شمول هذا الكتاب على آراء الكثيرين من الفقهاء بقوله: "ونقل فيه كثيرًا من كلام المتقدمين" (¬1). وإذا كان الدليل حديثيًا فنه يتناول طرقه بنفس الاستقصاء الذي أشرنا إليه سابقًا، ويضاف إلى ذلك بحث مستفيض في التعديل والتجريح والتصحيح والتضعيف وذكر العلل، ويعتمد في ذلك على كتاب "علل الدارقطني" إلى جانب مجموعة كبيرة من مصادر علوم الحديث الأصلية. مقارنة بين كتاب ابن رجب وكتاب ابن حجر: قال الدكتور همام سعيد في المقدمة ص 287 - ص 288: صنف ابن رجب "فتح الباري بشرح البخاري" وصنف ابن حجر كتابًا في نفس الموضوع والعنوان، ومما لا ريب فيه أن ابن رجب هو من طبقة شيوخ ابن حجر، ومن المؤكد أن كتابه متقدم على كتاب ابن حجر. وكنت أتوقع أن يكون ابن حجر قد اعتمد على شرح ابن رجب، وبحثت في كتابي ابن حجر المعجم المفهرس، والمجمع المؤسس، وهما ¬

_ (¬1) الدارس في تاريخ المدارس (2/ 77).

ج- جامع العلوم والحكم

كتابان ذكر في أحدهما شيوخه، وفي الآخر الكتب التي وصلت إليه، فلم أجد ذكرًا لابن رجب ولا لكتابه فتح الباري. ولجأت إلى كتاب ابن حجر " فتح الباري " أبحث فيه عن استمداد مصنفه من ابن رجب، فلم أجد ابن حجر يشير إلى شيء من ذلك، ولم أجد ذكرًا لكتاب ابن رجب بالرغم من أن كثيرًا من المسائل تعرض لها ابن حجر بكلام قريب جدًا من كلام ابن رجب، إلا أن ابن حجر يوجز ويختصر بالنسبة لكتاب ابن رجب. ومن الفروق الرئيسية فيهما بالإضافة إلى ما ذكرت من الاختصار والتطويل: 1 - أن ابن حجر يذكر الترجمة مع أحاديث الباب، ثم يبدأ بالشرح، بينما رأينا ابن رجب يذكر الترجمة، ثم يعقب عليها بكلام يطول أحيانًا، ثم يأتي بحديث الباب. 2 - التخريج عند ابن حجر مادة فرعية يأتي بها عرضًا، وعند ابن رجب مادة أساسية يطيل فيها غالبًا. 3 - بينما يوجز ابن حجر في عرض الآراء الفقهية ويبرز رأي الشافعية غالبًا، فإننا نجد ابن رجب في المقابل يفصل الآراء الفقهية ويبرز رأي الحنابلة غالبًا. 4 - يجمل ابن حجر الأحكام المستمدة من الحديث في مكان واحد وغالبًا ما يكون آخر الحديث بينما نجد ابن حجر ينثر هذه الأحكام في الباب كله. ج- جامع العلوم والحكم (¬5) قال الشيخ شعيب الأرناؤط في مقدمته لتحقيق جامع العلوم ¬

_ (¬5) لكتاب جامع العلوم والحكم عدة نسخ خطية منها: 1 - نسخة بدار الكتب المصرية تحت رقم 42 حديث، وعدد أوراقها 360 ورقة. 2 - نسخة أخرى بدار الكتب المصرية تحت رقم 188 حديث، وعدد أوراقها 357=

والحكم (*) بعد أن ذكر أن الخطابي ذكر في كتابه " غريب الحديث " بعضا من جوامع كلم النبي - صلى الله عليه وسلم -: ثم أملى الإمامُ الحافظُ المفتي شيخُ الإسلام تقيُّ الدين أبو عمرو عثمانُ بنُ موسى الشّهرزُوري الشهير بابن الصّلاح المتوفّى 643 هـ مجلسًا سمَّاه: الأحاديث الكلية جمع فيه الأحاديث الجوامع التي يُقال: إن مدارَ الدين عليها، وما كان في معناها من الكلمات الجامعة الوجيزة، وقد اشتمل مجلسُه هذا على ستة وعشرين حديثًا. ثم إنّ الفقيه الإِمام الزاهد القُدوة أبا زكريا يحيى بن شرف النووي ¬

_ =ورقة. 3 - نسخة ثالثة بدار الكتب المصرية تحت رقم 1824 حديث، وعدد أوراقها 292 ورقة. 4 - نسخة رابعة بدار الكتب المصرية تحت رقم 763 حديث طلعت، وعدد أوراقها 117 ورقة، وقد كتب عدد أوراقها 416 وهذا خطأ، فقد اطلعت عيها بنفسي ولدي نسخة منها. 5 - نسخة خامسة بدار الكتب المصرية تحت رقم 32566 ب وعدد أوراقها 233 ورقة. 6 - نسخة مكتبة بريدة العلمية العامة، وهي تحت رقم 83 حديث بعثة السعودية بمعهد المخطوطات العربية، وهي بقلم معتاد كتبت سنة 838 هـ بقلم يوسف بن يوسف بن محمد الصفدي الشافعي، وبآخر النسخة مقابلة على نسخة قوبل بعضها على المؤلف وعدد أوراقها 215 ورقة. 7 - نسخة الظاهرية بدمشق وعدد أوراقها 231 ورقة، وهذه النسخة كتبت سنة 852 هـ، وهي مقابلة ومصححة على نسخة أخرى مقابلة على قريب من عشر نسخ، منها نسخة عليها خط المصنف ابن رجب رحمه الله. وعلى النسخة خط عبد الرحمن بن يوسف الحنبلي وخط محمد بن أحمد بن أبي بكر الحنبلي وبلغت مقابلتها وتصحيحها سنة 853 هـ. 8 - نسخة خدابخش بالهند، وهي من مصورات معهد المخطوطات العربية 609 حديت وهي تحت الترميم. 9 - نسخة الظاهرية تحت رقم (1298) عام - 676 حديث. وعدد أوراقها 155 ورقة. (*) انظر مقدمة جامع العلوم والحكم طبعة مؤسسة الرسالة ص 8 - 11.

المتوفّى سنة 676 هـ أخذ هذه الأحاديث التي أملاها ابنُ الصلاح، وزاد عليها تمام اثنين وأربعين حديثًا، وسمّى كتابه بالأربعين، واشتهرت هذه الأربعون التي جمعها، وكَثُرَ حفظُها ونفع الله بها ببركِة نيَّة جامعها وحُسْنِ قصده رحمه الله. ثم إنّ الحافظ ابن رجب ضَمَّ إلى ذلك كُلِّه ثمانية أحاديث أُخَرَ من جوامع الكلم الجامعة لأنواع العلوم والحِكَمِ، فبلغت خمسين حديثًا. ثم استخار الله تعالى -إجابةً لجماعة من طلبة العلم- في جمع كتاب يتضمن شرح ما يَسَّرَ الله من معانيها، وتقييد ما يفتح به سبحانه من تبيين قواعدها ومبانيها. وقد اعتنى في شرحه هذا بالتفقه بالأحاديث النبوية وتفسير غريبها، وشرح معانيها، وتأويل مختلفها، وبيان أحكامها، وما يترتّبُ عليها من الفقه واختلاف العلماء، فكان من أجلِّ الشروح التي انتهت إلينا، وأكثرها أهمية، وأحفلها بالفوائد. وقد بدأه بمقدمة موجزةٍ أبانَ فيها عن الطريقة التي اتبعها في الشرح، فقال: "اعلم أنّه ليس من غرضي إلاّ شرْحُ الألفاظ النبوية التي تضمنتها هذه الأحاديث الكلية، فلذلك لا أتقيّدُ بألفاظ (الشيخ) (¬1) رحمه الله في تراجم رواة هذه الأحاديث من الصحابة رضي الله عنهم، ولا بألفاظه في العزو إلى الكتب التي يعزو إليها، وإنما آتي بالمعنى الذي يدلُّ على ذلك، لأني قد أعلمتُك أنّه ليس لي غرض إلا في شرح معاني كلمات النبيّ - صلى الله عليه وسلم - الجوامع، وما تضمنته من الاّداب والحِكمِ والمعارف، والأحكام والشرائع. وأشير إشارةً لطيفة قبل الكلام في شرح الحديث إلى إسناده ليُعْلم بذلك صحته وقوته وضعفه، وأذكرُ بعض ما رُوي في معناه من الأحاديث إن كان في ذلك الباب شيء غير الحديث الذي ذكره الشيخ وإن لم يكن في الباب غيرُه أو لم يكن يصِحُّ فيه غيره، على ذلك كُلّه". ¬

_ (¬1) يقصد بالشيخ الإمام النووي رحمه الله.

ويرى القارئ بإثر كل حديث تصدَّى المؤلفُ لشرحه جملة أشياء هي: 1 - تخريج الحديث من الصّحاح والمسانيد والسنن والمعاجم مما وعته ذاكرته، وإيرادُ طرقه وألفاظه، والمقارنة بينها، والتدقيق في صحتها، وبيانُ درجته من الصحة أو الحسن أو الضعف، والمؤلف رحمه الله إمامٌ في هذا الباب، فقد غلب عليه علمُ الحديث روايةً وذراية، وصرف مُعظم وقته فيه حتى صار لا يُعرف إلا به، ولم يُر أتقن منه فيه. 2 - الاستشهادُ بالآيات القرآنية التي تجلو معنى الحديث الذي يعْرِضْ له وتوضحه، ونقل ما هو مأثور عن السلف في بيان المراد منها، واحتفاله بذلك في إحلالها مرتبةَ الصدارة من شواهده. 3 - إكثارُه من الاستشهاد بالأحاديث النبوية مما ورد في المعنى الذي تضمنه الحديثُ الذي هو بصدد شرحه، يأتي بها على وجهها لا يخْرمُ منها حرفًا، وتخريجُها من مصادرها، وهو شيء كثير وعدد ضخم يدُلُّ على قوة حفظه، ودِقَّة فهمه وسَعَة اطِّلاعه. وهذه الأحاديث منها ما هو صحيح وهي الكثرة الكاثرة، وقد بين المؤلف درجتها إما بعزوها إلى مخرجيها مني أصحاب الصحاح، وإما بالتنصيص على صحتها، ومنها ما فيه ضعفٌ خفيف وقد نبّه على ضعفها في الأعم الأغلب، وهي من النوع الذي يصلح للمتابعات والشواهد، أو تكون واردة في غير العقائد والأحكام. وقد ترخص غير واحدٍ من الأئمة ذوي التحقيق في رواية الأحاديث الضعيفة، وجواز العمل بها إذا كان ضعفُها غير شديد، وتندرِجُ تحتَ أصلٍ عام في فضائل الأعمال وكرائم الأخلاق، والقصص والمواعظ، والترغيب والترهيب، وما إلى ذلك. 4 - تفسيرُ غريب الحديث وشرح مضامينه بالاعتماد على الأحاديث التي ترد في موضوعه، وفيها من التقييد والتخصيص والتوضيح وإزالة

د- شرح علل الترمذي

اللّبس ما ليس في حديث الباب. وقد أسهب في الشرح إسهابًا مفيدًا ممتعاً، شحنه بالفوائد والفرائد مما تمسُّ حاجةُ الإنسان إليه في شؤون دنياه وآخرته. 5 - إيرادُ الأحكام الفقهية المستفادة من الحديث -وهي مما تشتد حاجةُ المكلف إليها- ونسبتُها إلى قائليها من الصحابة والتابعين والأئمة المتبوعين مما يدل على اطلاعه الواسع على فتاوى السلف، وحفظه لآثارهم العلمية، وما كانوا يجتهدون من مسائل، وتفَهُّم لها، وبمعرفة بمراميها وغاياتها، وما اختلفوا فيه من هذه المسائل، فإنه يحتج لِكُلِّ قول منها بدليله، ثم يُرجح ما يراه أبلغ في الحجة، وأوفق للنص. 6 - ذكرُ طائفة من الحِكَمِ المأثورة عن السلف الصالح الذين وُصفُوا بالعلم والتقوى والورع في نهاية شرحِ الحديث مما له صلة به، وهي حِكَمٌ مؤثّرة تتغلل إلى أعماق النفس، فتحدث فيها تغييراً ملموساً نحو الأفضل. ويرى بعض أهل العلم أن هذا الكتاب بعامة، وفصول الأخلاقيات بخاصة تمثل الكبير من حياة ابن رجب، وأن هناك ترابطا قويًا بين ما ذكره هو في كتابه، وما ذكره عنه من ترجموا له. د- شرح علل الترمذي شرح فيه " العلل الصغير " للترمذي وقد أفاد وأجاد، والذي يقرأ هذا الكتاب يعلم مدى فهم ابن رجب للعلل، واستيعابه لأقوال الأئمة القدماء، وتوجيهه لاصطلاحاتهم، وهو كتاب لا يستغني عنه طالب حديث، فهو يُقعَّدُ تقعيدات ويشرح معضلات ويوضح مبهمات هذا الفن، الذي لا يتقنه إلا المبرزين من الحفاظ فرحم الله ابن رجب على ما أفادنا في هذا الكتاب. هـ- رسائل ابن رجب التي تضمنت شرح حديث واحد. قلت: وقد نهج فيها نفس المنهج الذي نهجه في شرح " جامع

العلوم والحكم " ومنها: ا- شرح حديث " من سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا ". 2 - شرح حديث " ما ذئبان جائعان ". 3 - شرح حديث " لبيك اللهم لبيك ". 4 - شرح حديث عمار بن ياسر " اللهم بعلمك الغيب ". 5 - شرح حديث "مثل الإسلام". 6 - شرح حديث "تمثيل المؤمن بخامة الزرع". 7 - شرح حديث " بعثت بالسيف بين يدي الساعة ". 8 - شرح حديث شداد بن أوس " إذا كنز الناس الذهب والفضة ". 9 - شرح حديث " إن أغبط أوليائي عندي ". 10 - شرح حديث " بدأ الإسلام غريباً ". 11 - البشارة العظمى للمؤمن بأن حظه من النار الحمى. 12 - شرح حديث " يتبع الميت ثلاث ". 13 - تسلية نفوس النساء والرجال عند فقد الأطفال. 14 - صدقة السر وفضلها. 15 - مختصر فيما روي عن أهل المعرفة والحقائق في معاملة الظالم السارق. وهذه الرسائل الخمسة عشر ضمن المجموع الذي قمت بتحقيقه ولله الحمد. وهناك رسالتان أقوم بتحقيقهما أيضًا وهما ضمن الشروح الحديثية. الأولى: "اختصام الملأ الأعلى ". الثانية: شرح حديث ابن عباس " احفظ الله يحفظك ".

مصنفات ابن رجب الفقهية

مصنفات ابن رجب الفقهية 1 - القواعد الفقهية: وقد ضمنه مائة وستين قاعدة، وأورد في آخره فصلاً أدرج فيه فوائد تلحق بالقواعد في مسائل مشهورة فيها اختلاف في المذهب، وتنبني على الاختلاف فيها فوائد متعددة بلغت إحدى وعشرين فائدة، معظمها ذاتُ شأن في الفقه (¬1). قلت: وقد سبق نقل كلام ابن عبد الهادي أنّه من عجائب الدهر تحت عنوان "مكانة ابن رجب فقهيًّا". يقول ابن رجب في مقدمته: فهذه قواعد مهمة وفوائد جمة، تضبط للفقيه أصول المذهب، وتُطلعه من مآخذ الفقه على ما كان قد تغيب، تنظم له منثور المسائل في سلك واحد، وتقيد له الشوارد، وتقرب عليه كُل متباعد، فليمعن الناظر فيه النظر، وليوسع العذر، إن اللبيب مَنْ عذر، فلقد سنح بالبال علي غايةٍ من الإعجال كالارتجال أو قريباً من الارتجال في أيام يسيرة وليال. 2 - الاستخراج في أحكام الخراج: وقد طبع في مصر بتحقيق عبد الله الصديق أحد علماء الأزهر، بالمطبعة الإسلامية بالأزهر في القاهرة سنة 1352 هـ ثم قامت بتصويره دار المعرفة في بيروت. وقام بتحقيقه في رسالة ماجستير من جامعة أم القرى محمد بن إبراهيم الناصر علي خمس نسخ خطية وقدم له بمقدمة جيدة تناول فيها أبواب الكتاب العشرة. وقام بتخريج أحاديثه والتعليق عليه رحمه الله. 3 - أحكام الخواتيم: وهو ضمن مجموع رسائل ابن رجب التي قمت بتحقيقها، وقد تعرض فيه لحكم لبس الخواتم الفضة للرجال، وحكم استعماله للأختام وأن هذا خاص بالأمراء، ثم أنواع الخواتم والنهي عن خاتم الذهب للرجال وكذلك خاتم الحديد والصفر والنحاس. ثم ما ورد في خاتم العقيق والياقوت، ثم ما ورد في فص الخاتم. ثم نقش ¬

_ (¬1) من مقدمة الشيخ الأرناؤط على جامع العلوم والحكم ص 48.

الخاتم، وذكر بعضًا من نقوش خواتيم الأكابر والأعيان. ثم ذكر فصلاً في جواز التختم في اليمين واليسار. ثم التختم في السبابة والوسطى ثم جعل الخاتم مما يلي الكف. ثم وزن الخاتم الفضة المتخذ للتحلي. ثم حكم دخول الخلاء بالخاتم المكتوب عليه ذكر الله. ثم حكم مس الخاتم الذي عليه ذكر الله مع الحدث. ثم ما يفعل المتوضئ أو المغتسل الذي في يده خاتم. ثم إذا أصاب الخاتم نجاسة. ثم حكم الصلاة بالخاتم المحرم. ثم في عد الآي والرجعات في الصلاة بالخاتم. ثم إذا مات الرجل وفي يده خاتم هل ينزع؟ ثم فصل في حكم زكاة الحلي. ثم فصل في حكم رمي الجمرة بفص الخاتم. ثم فصل في حكم بيع الخواتم، ثم بيع الخواتم بالسلم. ثم استصناع الخواتم، ثم إذا ظهر بالخاتم عيب بعد شرائه. ثم في استئجار الخاتم للتحلي. ثم فصل في وقف الحلي. ثم فصل في اتلاف الخاتم. ثم الشفعة في شراء الخاتم. 4 - نزهة الأسماع في مسألة السماع: وهو ضمن مجموعنا وهو كتاب تكلم فيه عن " أحكام الغناء والمعازف " وفصل القول في ذلك. 5 - الرد على من اتبع غير المذاهب الأربعة: وهو ضمن مجموعنا. وقد حث فيه على حفظ الكتاب والسنة، ثم الوقوت على معانيها بما قال سلف الأمة وأئمتها، ثم حفظ كلام الصحابة والتابعين وفتاويهم وكلام أئمة الأمصار، ومعرفة كلام الإمام أحمد وضبطه بحروفه ومعانيه، والاجتهاد على فهمه ومعرفته. 6 - القول الصواب في تزويج أمهات أولاد الغياب: وهو ضمن مجموعنا وقد فصل في هذه المسألة وهي تزويج امرأة المفقود، وبنى الجواب على أصلين: أحدهما: أنها تتربص أربع سنين أكثر مدة الحمل، ثم تعتد للوفاة، ثم تتزوج.

الثاني: تنتظر أبداً حتى يتبين خبره. وقد استعرض المسألة من جميع جوانبها، فأفاد وأجاد. 7 - رسالة في رؤية هلال ذي الحجة: وهي ضمن مجموعنا. والرسالة تتكلم عن حادثة وقعت عام 784 هـ وهو أنّه غم هلال ذي الحجة في هذا العام، فأكمل الناس هلال ذي القعدة، ثم تحدث الناس برؤية هلال ذي الحجة، وشهد به ناس لم يسمع الحاكم شهادتهم ... ثم توقف بعض الناس عن صيام يوم عرفة في هذا العام، فقالوا: هو يوم النحر، وقيل: إن بعضهم ضحى ذلك اليوم، وحصل للناس اضطراب. فتكلم ابن رجب وبين هل يصام يوم الشك أم لا؟ وبين مذهب الصحابة والتابعين والأئمة في ذلك. 8 - قاعدة في إخراج الزكاة على الفور، وهي ضمن مجموعنا. 9 - مختصر في معاملة الظالم السارق، وهي ضمن مجموعنا. 10 - رسالة في تعليق الطلاق بالولادة، يقال إن له نسخة خطية ضمن مجموع فاتح باستانبول رقم (5318) وعندي المجموع وليست فيه. 11 - الصلاة يوم الجمعة بعد الزوال وقبل الصلاة ابن حميد ص 198. 12 - مشكل الأحاديث الواردة في أن الطلاق الثلاث واحدة: وقد نقل منه يوسف بن عبد الهادي في كتاب " سير الحاث إلى علم الطلاق الثلاث" المطبوع بمطبعة السنة المحمدية في مصر سنة 1953 م وقد رد فيه على شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم في أن الطلاق الثلاث دفعة واحدة تقع طلقة واحدة رجعية. 13 - قطعة من كتاب اللباس: وهي من كتاب شرح الترمذي وسبق الكلام عليها.

مؤلفات ابن رجب الأخرى المتنوعة

مؤلفات ابن رجب الأخرى المتنوعة أولاً في التفسير وعلوم القرآن 1 - تفسير سورة النصر. 2 - تفسير سورة الإخلاص. 3 - الكلام على قوله تعالى {إنما يخْشى الله مِنْ عِبادِهِ}. وهذه الرسائل الثلاثة ضمن مجموعنا. 4 - تفسير سورة الفلق، يوجد لها مخطوطة في بغداد، مكتبة الآثار العامة برقم (36511) وقال الدكتور الفنيسان أنها طبعت (¬1). 5 - الاستغناء بالقرآن، ذكره في نزهة الأسماع، وفي الذل والانكسار. وهو مفقود. 6 - إعراب البسملة (2). 7 - إعراب أم الكتاب (3). 8 - موارد الظمآن إلى معرفة فضائل القرآن، طبع حديثًا ويحتاج إلى بحث لتأكيد نسبته لابن رجب. ثانيًا: في المواعظ والرقائق والفضائل والتوحيد والسير والتاريخ: 1 - أهوال القبور طبع، عدة مرات وعندي نسخته الخطية وسأقوم بتحقيقه إن شاء الله. 2 - التخويف من النار، طبع عدة مرات، وقد أنجزت أكثره تحقيقًا (¬4). 3 - استنشاق نسيم الأنس، طبع عدة مرات. ¬

_ (¬1) آثار الحنابلة في علوم القرآن ص 146. (3.2) ذكرهما صاحب الجوهر المنضد ص 50. (¬4) له نسخة خطية بدار الكتب المصرية برقم 9 غيبيات تيمور، وأخرى بالمكتبة الوطنية بتونس مجموع رقم (157).

4 - لطائف المعارف، طبع عدة مرات، ويقوم أخي الشيخ/ طارق عوض الله بتحقيقه يسر الله له ذلك. 5 - الفرق بين النصيحة والتعيير، وهو ضمن مجموعنا. 6 - فضل علم السلف على علم الخلف، وعندي له ثلاث نسخ خطية، وسيضم إلى مجموع، رسائل ابن رجب في " المجلد الثالث " إن شاء الله. 7 - التوحيد ويسمى تحقيق كلمة الإخلاص، وعندي له عدة نسخ خطية وسيضم إلى المجموع وقد فرغت من تحقيقه. 8 - فضائل الشام، وعندي نسخته الخطية المصورة من مكتبة بلدية الإسكندرية، وأقوم بتحقيقه. 9 - رسالة في فضيلة شهر رجب، مخطوطة بمكتبة الأوقاف العامة ببغداد برقم (2/ 13803) مجاميع. وربما تكون جزء من لطائف المعارف، والله أعلم. 10 - سيرة عبد الملك بن عبد العزيز، وهي ضمن مجموعنا هذا. 11 - رسالة في شعب الإيمان، مخطوطة بمكتبة الأوقاف العامة ببغداد برقم (26/ 4767) مجاميع. قال علي الشبل ص 101: ربما تكون مستلة من أحاديث جامع العلوم والحكم المشروحة، وبالتحديد حديث أبي هريرة في شعب الإيمان رقم (15)، أو هو شرح لغيره نسب إليه سهواً. 12 - المحجة في سير الدلجة، طبع عدة مرات. 13 - أحاديث حول هدم القباب والبنايا التي على القبور، وهي مخطوطة بجامعة الرياض برقم (3413/ 9). وبين علي الشبل في كتابه ص 112 - 113: أنها صفحات لجماعة من أئمة الدعوة ... وليس فيها لابن رجب شيء لا من قريب ولا من بعيد، وهي

من ص 341 - 348 وهي خطأ من المفهرسين بالمكتبة. 14 - اختيار الأبر في سير أبي بكر وعمر، وهو مخطوط في مكتبة برلين (9690). 15 - الاستيطان فيما يعتصم به العبد من الشيطان، ذكر إبراهيم العرف أنّه موجود في مكتبة العنقري. 16 - الإلمام في فضائل بيت الله الحرام، مفقود. 17 - الذيل على طبقات الحنابلة، مطبوع. 18 - شرح مولدات ابن الحداد، مفقود. 19 - الكشف والبيان عن حقيقة النذور والأيمان، مفقود. 20 - حماية الشام بما فيها من الأعلام، ذكره ابن حميد ص 198. 21 - ذم قسوة القلب، وهو ضمن مجموعنا. 22 - ذم الخمر، وهو ضمن مجموعنا. 23 - السليب، عن الجوهر المنضد ص 50. 24 - شرح المحرر، عن الجوهر المنضد ص 51. 25 - وقعة بدر، ذكره ابن حميد ص 198. 26 - منافع الإمام أحمد، الجوهر المنضد ص 51. 27 - مشيخة ابن رجب، ذكره الحافظ ابن حجر في الدرر الكامنة قائلاً: وخرج لنفسه مشيخة مفيدة. 28 - صفة النار وصفة الجنة، الجوهر المنضد ص 51. 29 - فائدة لابن رجب حول حديث النزول، له نسخة في جامعة الملك سعود برقم (4646/ 9). 30 - نصيحة الإخوان المؤمنين وهو برقم 228 مجاميع تيمور ضمن مخطوطات دار الكتب المصرية وما زال تحت التصوير، ولم أطّلِعْ عليه بعد. ولعله "الفرق بين النصيحة والتعيير" والله أعلم.

وصف النسخ المعتمدة في التحقيق

وصف النسخ المعتمدة في التحقيق الرسائل الخطية المعتمدة في تحقيق مجموع رسائل ابن رجب الحنبلي. 1 - رسالة في شرح حديث أبي الدرداء " من سلك طريقًا يلتمس فيه علما " ويسمى "ورثة الأنبياء". ولها أربعة نسخ خطية: الأولى: مصورة من الجامعة الإسلامية. الثانية: مصورة من جامعة الملك سعود، وهي سقيمة. الثالثة: مصورة من المكتبة السعودية (686/ 86). الرابعة مصورة من مكتبة على الشبل مجموع (533 - 583) (*). 2 - رسالة في شرح حديث "ما ذئبان جائعان" ويُسمى"ذم الجاه والمال". ولها سبع نسخ خطية: الأولى: نسخة دار الكتب المصرية برقم (1509) حديث. الثانية: نسخة ضمن مجموع فاتح باستانبول (5318). الثالثة: نسخة مصورة من جامعة الملك سعود برقم (824/ 1) م ص. الرابعة: نسخة مصورة عن المكتبة السعودية (686/ 86). الخامسة: نسخة مصورة من مكتبة علي الشبل (533 - 583). السادسة: نسخة مصورة من جامعة الملك سعود (1637/ 6). السابعة: نسخة مصورة من مكتبة الأوقاف بالعراق (2/ 6685 مجاميع). 3 - رسالة في شرح حديث " لبيك اللهم لبيك ". ¬

_ (*) ولها نسخة بمكتبة الأوقاف العامة بالعراق تحت رقم [14/ 4767 مجاميع] وعدد أوراقها 11 ورقة، ولم أحصل عليها.

ولها ثلاث نسخ خطية: الأولى: نسخة ضمن مجموع فاتح باستانبول (5318). الثانية: نسخة مصورة من الجامعة الإسلامية. الثالثة: نسخة مصورة من الجامعة الإسلامية أيضًا. 4 - رسالة في شرح حديث عمار بن ياسر "اللهم بعلمك الغيب.". ولها ثلاث نسخ خطية: الأولى: نسخة ضمن مجموع فاتح باستانبول (5318). الثانية: نسخة مصورة من الجامعة الإسلامية. الثالثة: نسخة مصورة من جامعة الملك سعود (*). 5 - رسالة في شرح حديث " مثل الإسلام ". وله نسخة خطية مصورة ضمن مجموع فاتح باستانبول. 6 - رسالة "غاية النفع في شرح حديث تمثيل المؤمن بخامة الزرع". ولها ثلاث نسخ خطية: الأولى: نسخة ضمن مجموع فاتح باستانبول (5318). الثانية: نسخة مصورة من جامعة الملك سعود (1637/ 13). الثالثة: نسخة مصورة من المكتبة السعودية رقم ف 56/ 16. 7 - رسالة الحكم الجديرة بالإذاعة. ولها نسختان خطيتان: الأولى: نسخة ضمن مجموع فاتح باستانبول (5318). الثانية: نسخة مصورة من المكتبة السعودية تحت رقم (56/ 16ب). ¬

_ (*) ولها نسخة بمكتبة الأوقاف العامة بالعراق تحت رقم [24/ 4767 مجاميع] وتقع في 20 ورقة، ولم أحصل عليها.

8 - رسالة في " ذم قسوة القلب". ولها نسختان: الأولى: نسخة ضمن مجموع بعنوان " كتاب التوحيد " كتبه الشيخ محمد بن محمد بن عبد الدايم الباهي، وهي نسخة مصححة ومقابلة ومكتوبة في حياة المؤلف سنة 787 هـ. الثانية: نسخة شهيد علي باستانبول برقم (543). 9 - رسالة في " ذم الخمر". ولها نسختان خطيتان: الأولى: نسخة مصورة من دار الكتاب الوطنية بتونس من مجموع برقم (157). الثانية: نسخة مصورة من مجموع فاتح باستانبول برقم (5318). 10 - رسالة "الذل والانكسار للعزيز الجبار" وهو الاسم الصواب لها. وتسمى " الخشوع في الصلاة ". ولها ثلاث نسخ خطية: الأولى: مصورة من جامعة الملك سعود برقم (672). الثانية: مصورة من المكتبة السعودية برقم (527/ 86). الثالثة: مصورة من دار الكتب المصرية "مصورات خارج الدار" تحت رقم ميكروفيلم (47883). 11 - رسالة "كشف الكربة في وصف حال أهل الغربة". وهو شرح حديث بدأ الإسلام غريبًا. ولها خمس نسخ خطية: الأولى: مصورة من دار الكتب المصرية، وهي نسخة قوبلت على أصل مقروء على المؤلف وعليه خطه.

الثانية: مصورة من معهد المخطوطات العربية برقم (441) تصوف، وهي ضمن مجموع مصور من مكتبة بلدية الإسكندرية. الثالثة والرابعة: مصورتان من جامعة الملك سعود. الخامسة: مصورة من مكتبة علي الشبل (533 - 583). 12 - رسالة في شرح حديث شداد بن أوس "إذا كنز الناس الذهب والفضة". ولها أربع نسخ خطية: الأولى نسخة ضمن مجموع فاتح باستانبول (5318)، نسخت سنة 893 هـ. الثانية: نسخة مصورة من جامعة الملك سعود ضمن مجموع رقم 1637/ 12م وتاريخ نسخها سنة 1334هـ. الثالثة: نسخة مكتبة وزارة الأوقاف ببغداد ضمن مجاميع تحت رقم (25/ 4767 مجاميع). الرابعة: نسخة مصورة من مكتبة جامعة الملك سعود ضمن مجموع (1817/ 8م). 13 - رسالة "البشارة العظمي للمؤمن بأن حظه من النار الحمى". ولها أربع نسخ خطية: الأولى: نسخة ضمن مجموع فاتح باستانبول (5318). الثانية: نسخة مصورة من جامعة الملك سعود برقم (1637) نسخت سنة 1334هـ. الثالثة: نسخة ضمن مجموع محفوظ بالمكتبة السعودية برقم (56/ 16 ب) نسخت سنة 1337هـ. الرابعة: نسخة ضمن مجموع بجامعة الملك سعود برقم (1817).

14 - رسالة " تسلية نفوس النساء والرجال عند فقد الأطفال ". ولها نسخة خطية ضمن مجموع فاتح باستانبول (5318). 15 - رسالة "الفرق بين النصيحة والتعيير". لها ثلاث نسخ خطية: الأولى: نسخة مصورة من الجامعة الإسلامية. الثانية: نسخة مصورة من جامعة الملك سعود. الثالثة: نسخة مصورة من علي الشبل، ضمن مجموع. 16 - جزء فيه الكلام على حديث " يتبع الميت ثلاث ". وله نسخة خطية ضمن مجموع فاتح باستانبول (5318). 17 - صدقة السر وفضلها. ولها نسخة خطية ضمن مجموع فاتح باستانبول (5318). 183 - نزهة الأسماع في مسألة السماع. ولها أربع نسخ خطية: الأولى: نسخة دار الكتب المصرية فقه تيمور (417). الثانية: نسخة دار الكتب المصرية أيضًا برقم (21613 ب)، وهذه النسخة أقحم فيها رسالة أخرى في الغناء لعلي القاري. الثالثة: نسخة مصورة من المكتبة السعودية (686/ 86). الرابعة: نسخة شيستر بيتي برقم (4242). 19 - سيرة عبد الملك بن عبد العزيز. لها نسخة مصورة من جامعة الملك سعود عن المكتبة السعودية. 20 - تفسير سورة النصر. ولها ثلاث نسخ خطية:

الأولى: نسخة مصورة من جامعة الملك سعود برقم (4433). الثانية: نسخة مصورة من مكتبة الأوقاف العراقية برقم (5/ 3809 - مجاميع) (*). الثالثة: نسخة مصورة من جامعة الملك سعود أيضًا برقم (1639). 21 - تفسير سورة الإخلاص. ولها ثلاث نسخ خطية: الأولى: نسخة مصورة من جامعة الملك سعود برقم (4433). الثانية: نسخة مصورة من مكتبة الأوقاف العراقية برقم (6/ 3809 - مجاميع) (**). الثالثة: نسخة مصورة من جامعة الملك سعود برقم (1637). 22 - مقدمة تشتمل على أن جميع الرسل كان دينهم الإسلام. لها نسخة مصورة من دار الكتب المصرية برقم (1379 - علم الكلام). 23 - القول الصواب في تزويج أمهات أولاد الغياب. لها نسخة خطية مصورة من جامعة الملك سعود ضمن مجموع برقم (1817/ 4م). 24 - رسالة في رؤية هلال ذي الحجة. ولها أربع نسخ خطية: الأولى: نسخة مصورة من المكتبة السعودية برقم (527/ 86). الثانية: نسخة مصورة من جامعة الملك سعود برقم (56/ 16ف). ¬

_ (*) ولها نسخة أخرى بمكتبة الأوقاف العراقية تحت رقم [18/ 4767 مجاميع] ولم أحصل عليها. (**) ولها نسخة أخرى بمكتبة الأوقاف بالعراق تحت رقم [19/ 4767 مجاميع].

الثالثة: نسخة مصورة من دار الكتب المصرية ضمن مجموع برقم (493) فقه تيمور. الرابعة: نسخة مصورة من جامعة الملك سعود برقم (1817/ 3). 25 - قاعدة في إخراج الزكاة على الفور. لها نسخة خطية واحدة كتبت بخط نسخي جيد وهي من خطوط القرن التاسع تقريباً نقلت من خط المؤلف وكتب الناسخ في آخرها: بلغ مقابلة وتصحيحًا على حسب الطاقة، وهي من مصورات دار الكتب المصرية برقم (79) فقه حنبلي. 26 - الرد على من اتبع غير المذاهب الأربعة. ولها نسختان خطيتان: الأولى: نسخة بخط حمد بن عبد العزيز العريني وتاريخ نسخها 1343 هـ. وهي نسخة مقابلة على أصلين. الثانية: نسخة أخرى من خطوط القرن الثالث عشر تقريبًا وهي نسخة جيدة مصححة ومقابلة ولكن بها بعض البياض. 27 - مختصر في معاملة الظالم السارق. وله نسخة مصورة من مجموع فاتح باستانبول (5318). 28 - أحكام الخواتيم. ولها ثلاث نسخ خطية مصورة من دار الكتب المصرية: الأولى: برقم (23794 ب). الثانية: برقم 59 فقه حنبلي. الثالثة: برقم (23178 ب). 29 - رسالة في شرح حديث " إن أغبط أوليائي ".

ملحوظة:

لها نسختان: الأولى: نسخة مصورة ضمن مجموع فاتح باستانبول (5318). الثانية: نسخة مصورة من مختصر اختصره أحمد بن حسن بن عبد الهادي وهي مصورة من مكتبة سوهاج باسم كتاب "المنتقى من كتب ابن رجب ومن كتاب الزهد للإمام أحمد"، وهي من مصورات معهد المخطوطات العربية بالقاهرة برقم 512 حديث. 30 - الكلام في قوله تعالي {إِنّما يخْشى الله مِنْ عِبادِهِ} وهي من مصورات دار الكتب المصرية (مجاميع حليم 28). ملحوظة: (1) هناك بعض الرسائل أضفت إليها بعض العناوين ووضعتها بين معقوفتين [] هكذا. وهذه العناوين ليست في الأصول الخطية، وذلك لتسهيل الفهم والمتابعة على القارئ، والله المستعان. (2) اتبعت في التحقيق طريقة النص المختار، فلذلك لم أثبت فروقاً كثيرة بين النسخ، كما لم أذكر أخطاء كثيرة في بعض النسخ، وكذلك الألفاظ أو العبارات التي تتكرر من النساخ، إلا في مواضع قليلة.

نماذج من صور بعض مخطوطات رسائل ابن رجب الحنبلي

الصفحة الأولى من رسالة "ما ذئبان جائعان" نسخة دار الكتب المصرية (1509 حديث) الصفحة الأول من نسخة المكتبة السعودية برقم 686/ 86 ... الصفحة الأولى من نسخة جامعة الملك سعود برقم 824/ 1 م ص الصفحة الأول من نسخة جامعة الملك سعود برقم 1637/ 6

الصفحة الأولى من شرح حديث "ما ذئبان جائعان" نسخة علي الشبل "حفظه الله" الصفحة الأولى من نسخة فاتح باستنبول برقم 5318 ... الصفحة الأولى من شرح حديث "وبدأ الإسلام غريباً" ويسمى كشف الكربة وهي نسخة معهد المخطوطات العربية بالقاهرة (441) تصوف الصفحة الأولى من نسخة دار الكتب المصرية

صورة الورقة الأولى من رسالة "ذم الخمر" وهي نسخة فاتح باستنبول ... الصفحة الأولى من رسالة "الذل والانكسار"

صورة الصفحة الأولى من "شرح حديث شداد بن أوس" إذا كنز الناس الذهب والفضة وهي نسخة فاتح باستنبول نسخة ثانية من فاتح باستنبول أيضاً ... صورة من نسخة جامعة الملك سعود ضمن مجموع (1637/ 12م)

صورة الورقة الأولى من "شرح شداد بن أوس إذا كنز الناس" وهي نسخة جامعة الملك سعود ضمن مجموع برقم (1817/ 8م) ... صورة من الورقة الأولى من رسالة "البشارة العظمى للمؤمن بأن حظه من النار الحمى" وهي نسخة المكتبة السعودية برقم 56/ 16ب

صورة من الورقة الأولى من رسالة البشارة العظمى نسخة جامعة الملك سعود برقم (1637) ... صورة الورقة الأولى من نسخة جامعة الملك سعود وهي ضمن مجموع برقم (1817)

البشارة العظمى نسخة فاتح (5318)

صورة الصفحة الأولى من شرح حديث "تمثيل المؤمن بخامة الزرع" وهي نسخة فاتح باستانبول (5318) ... صورة الصفحة الأولى من مخطوطة المكتبة السعودية برقم (56/ 16) ... صورة الصفحة الأولى من مخطوطة جامعة الملك سعود وهي برقم (1637/ 13)

صورة الورقة الأولى من شرح حديث "بعثت بالسيف بين يدي الساعة" نسخة فاتح باستانبول

الورقة الأولى من رسالة شرح حديث عمار بن ياسر "اللهم بعلمك الغيب" وهي نسخة فاتح باستانبول (5318)

الصفحة الأولى من رسالة "مثل الإسلام" وهي نسخة فاتح باستانبول (5318) ... الصفحة الأولى من رسالة "ذم قسوة القلب" وهي ضمن مجموع باسم "كتاب التوحيد" وهي نسخة مصححة ومقابلة ومكتوبة في حياة المؤلف سنة 787هـ، كتبها محمد بن محمد بن محمد بن عبد الدائم الباهي

صورة الورقة الأولى من شرح حديث "إن أغبط أوليائي" وهي نسخة فاتح باستانبول ... صورة من "مختصر شرح حديث" إن أغبط أوليائي" لابن عبد الهادي وهي نسخة مكتبة سوهاج، وعنها صورة في معهد المخطوطات العربية بالقاهرة

صورة الورقة الأولى من رسالة "صدقة السر وفضلها" وهي نسخة فاتح باستانبول

صورة الورقة الأولى من رسالة "أحكام الخواتيم" وهي نسخة دار الكتب المصرية برقم (23178ب)

صورة الورقة الأولى من رسالة "أحكام الخواتيم" وهي نسخة دار الكتب المصرية أيضاً

صورة الورقة الأولى من "أحكام الخواتيم" نسخة دار الكتب برقم (59) فقه حنبلي

صورة الورقة الأولى والأخيرة من رسالة "القول الصواب في تزويج أمهات الغياب" وهي مصورة من جامعة الملك سعود ضمن مجموع برقم (1818/ 4م)

صورة الصفحة الأولى والأخيرة من رسالة "قاعدة في وجوب إخراج الزكاة على الفور" وهي نسخة منقولة من خط المؤلف ومقابلة ومصححة.

صورة الغلاف والصفحة الأولى والأخيرة من رسالة "إذا غم الهلال من ذي الحجة" وهي نسخة دار الكتب المصرية برقم (493) فقه تيمور

صورة الصفحة الأولى من نسخة شستربيتي لكتاب نزهة الأسماع صورة الصفحة الأولى من نسخة المكتبة السعودية ... صورة الصفحة الأولى من نسخة دار الكتب المصرية برقم (3/ 6/2ب) صورة الصفحة الأولى من نسخة دار الكتب المصرية فقه تيمور (417)

صورة الصفحة الأولى والأخيرة من رسالة "يتبع الميت ثلاث" وهي نسخة مكتبة فاتح باستانبول

صورة الورقة الأولى من رسالة "مختصر فيما روي عن أهل المعرفة والحقائق في معاملة الظالم السارق" وهي نسخة فاتح باستانبول

صورة الورقة الأولى من رسالة "تسلية نفوس النساء والرجال عند فقد الأطفال" وهي نسخة فاتح باستانبول

صورة الورقة الأولى والأخيرة من رسالة "الرد على من اتبع غير المذاهب الأربعة" وهي منسوخة سنة 1343 بخط حمد بن عبد العزيز العريني، وهي نسخة مقابلة على أصل

صورة الغلاف والصفحة الأولى من رسالة "مقدمة تشتمل على أن جميع الرسل كان دينهم الإسلام" وهي نسخة دار الكتب المصرية برقم (1379) علم الكلام

صورة الصفحة الأولى من تفسير سورة النصر وهي نسخة جامعة الملك سعود برقم (4433) صورة الصفحة الأولى من نسخة فاتح باستانبول (5318) ... الصفحة الأولى من نسخة وزارة الأوقاف العراقية برقم (13809) مجاميع الصفحة الأولى من نسخة جامعة الملك سعود برقم (1639)

صورة الصفحة الأولى من تفسير سورة الإخلاص نسخة مكتبة جامعة الملك سعود برقم (4433) ... الصفحة الأولى من النسخة الثانية وهي نسخة الملك سعود أيضاً برقم (1637) ضمن مجموع ... الصفحة الأولى من نسخة وزارة الأوقاف العراقية برقم (13809) مجاميع

صورة الورقة الأولى من نسخة فاتح شرح حديث "لبيك اللهم لبيك" ... صورة الورقة الأولى من النسخة الثانية ... صورة الورقة الأولى من النسخة الثالثة وهي نسخة مختصرة

صورة الورقة الأولى من رسالة "الكلام على قوله تعالى {إِنّما يخْشى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلماءُ} " وهي نسخة دار الكتب المصرية (مجاميع حليم 28)

الصفحة الأولى والأخيرة من رسالة "سيرة عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز".

مَجْمُوع رَسَائِلْ الحَافِظْ ابْنِ رَجَب الحَنْبَلِيِّ زِين الدِّين أَبِي الفَرَج عَبْد الرَّحْمَن بْن أَحْمَد بْن رَجَب الحَنْبَلِيّ (736 - 795 هـ) رَسَائِلُ جَمَعَتْ عُلُوماً شَتَّى فِي التَّوحِيدِ وَالفِقْهِ وَالتَّفْسِيرِ وَالحَدِيثِ وَالزُّهْدِ وَالأَدَبِ وَالمَوَاعِظِ وَالرَّقَائِقِ وَالسِّيَرِ وَالتَّارِيخِ جَمِيع الرَّسَائِل حُقِّقَتْ عَلَى نُسخٍ خطيَّة أَصْلِيَّة دِرَاسَة وَتَحْقِيق أَبِي مُصْعَبْ طَلْعَتْ بْن فُؤَادٍ الجُلْوَانِيّ المُجَلَّدُ الأَوَّلُ النَّاشِرُ الفَارُوقُ الحَدِيثَة لِلطِّبَاعَةِ وَالنَّشْرِ

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

1 - ورثة الأنبياء شرح حديث أبي الدرداء

ورثة الأنبياء شرح حديث أبي الدرداء

بِسْمِ اللهِ الرّحْمنِ الرّحِيمِ الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه، من يهدي الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله - صلى الله عليه وسلم - تسليمًا كثيرًا. خرَّج الإمام أحمد (¬1) وأبو داود (¬2) والترمذي (¬3) وابن ماجه (¬4) في كتبهم: "أن رجُلاً قدِم مِن المدِينةِ على أبِي الدّرداءِ وهُو بِدِمشْق، فَقَالَ: ما أقْدمك يا أخِي؛ قال: حدِيثٌ بلغنِي أنّك تُحدِّثُهُ عنْ رسُولِ اللهِ صلّى اللهُ عليْهِ وسلّم. قال: أما جِئْت لِحاجةٍ؟ قال: لاَ. قال: أمَا قَدِمْتَ لِتِجارةٍ؟ قال: لاَ. قَالَ: ما جِئْتُ إِلاَّ فِي طَلَبِ هَذَا الحدِيثِ؟ قال: نَعَمْ. قال: فإِنِّي سمِعْتُ رسُول اللهِ صلّى اللهُ عليْهِ وسلّم يقُولُ: «منْ سلك طرِيقًا يبْتغِي فِيهِ عِلْمًا سَلَكَ اللهُ بِهِ طرِيقًا إِلى الجنّةِ، وإِنّ الملائِكة تضعُ أجْنِحَتَهَا رِضًى لِطالِبِ العِلْمِ، وإِنّ العالِم ليسْتغْفِرُ لهُ منْ فِي السّمواتِ ومنْ فِي الأرْضِ حتّى الحِيتانُ فِي الماءِ، وفضْلُ العَالِمِ عَلَى العَابِدِ كفضْلِ القمرِ على سائِرِ ¬

_ (¬1) (5/ 196). (¬2) برقم (3641). (¬3) برقم (2682). (¬4) برقم (223).

الكواكِبِ، وإِنّ العُلماء ورثةُ الأنْبِياءِ، وإِنّ الأنْبِياء لمْ يُورِّثُوا دِينارًا ولا دِرْهمًا إِنّما ورّثُوا العِلْم؛ فمنْ أخذ بِهِ أخذ بِحظٍّ وافِرٍ». وكان السلف الصالح -رضي الله عنهم- لقوة رغبتهم في العلم والدين والخير يرتحل أحدهم إلى بلد بعيد لطلب حديث واحد يبلغه عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وقد رحل أبو أيوب الأنصاري من المدينة إلى مصر للقاء رجل من الصحابة بلغه عنه حديث يحدثه عن النبي -صلى الله عليه وسلم-. وكذلك فعل جابر بن عبد الله الأنصاري مع كثرة ما سمع من النبي - صلى الله عليه وسلم - من الحديث وروى. وكان أحدهم يرحل إلى من هو دونه في الفضل والعلم لطلب شيء من العلم لا يجده عنده. ويكفي في هذا المعنى ما قص الله علينا من قصه موسى وارتحاله مع فتاه، فلو استغنى أحد عن الرحلة في طلب العلم لاستغنى عنها موسى عليه السلام، حيث كان الله قد كمله وأعطاه التوراة التي كتب له فيها من كل شيء، ومع هذا فلما أخبره الله عز وجل عن الخضر؛ أن عنده علمًا يختص به سأل السبيل إلى لقائه، ثم سار هو وفتاه إليه كما قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا} (¬1). يعني: سنين عديدة، ثم أخبر أنّه لما لقيه قال له: {هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا} (¬2). ¬

_ (¬1) الكهف: 60. (¬2) الكهف: 66.

وكان من أمرهما ما قصه الله في كتابه. ومن حديث أبي بن كعب، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قي قصة موسى والخضر مخرج في "الصحيحين" (¬1) وهو مشهور. وكان ابن مسعود يقول: "واللهِ الّذِي لا إِله إِلاّ هُو ما أُنْزِلتْ سُورةٌ مِنْ كِتابِ اللهِ إِلّا وأنا أعْلمُ أيْن نزلتْ، ولا نزلتْ آيةٌ مِنْ كِتابِ اللهِ إِلّا وأنا أعْلمُ (فِيم أُنْزِلتْ) (*)، ولوْ أعْلمُ أحدًا أعْلم مِنِّي بِكِتابِ اللهِ تبْلُغُهُ الإِبِلُ لركِبْتُ إِليْهِ " (¬2). وقال أبو الدرداء: "لوْ أعْيتْنِي آيةٌ مِنْ كِتابِ اللهِ فلمْ أجِذ أحدًا يفْتحُها عليّ إِلاّ رجُلٌ بِبرْكِ الْغِمادِ لرحلْتُ إِليْهِ " (¬3). وبرك الغماد أقصى اليمن. وخرج مسروق من الكوفة إلى البصرة لرجل يسأله عن آية من كتاب الله فلم يجد عنده فيها علمًا، فاُخْبِر عن رجل من أهل الشام فرجع إلى الكوفة ثم خرج إلى الشام إلى ذلك الرجل في طلبها. ورحل رجل من الكوفة إلى الشام إلى أبي الدرداء يستفتيه في يمين حلفها. ورحل سعيد بن جبير من الكوفة إلى ابن عباس بمكة يسأله عن تفسير آية. ورحل الحسن إلى الكوفة إلى كعب بن عجرة يسأله عن قصته في فدية الأذى. واستقصاء هذا الباب يطول. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (74)، مسلم (2380). (*) في نسخة: "أين أنزلت"، وفي نسخة أخرى: " فيمن أنزلت". (¬2) أخرجه البخاري (5002)، ومسلم (2463). (¬3) ذكره الذهبي في "السير" (2/ 322).

وحلف رجل يمينًا فأشكلت على الفقهاء، فدل على بلد فاستبعده فقيل له: إن ذلك البلد قريب على من أهمه دينه. وفي هذا إشارة إلى أن من أهمه أمر دينه كما أهمه أمر دنياه إذا حدثت له حادثة في دينه لا يجد من يسأله عنها إلا في بلد بعيد؛ فإنه لا يتأخر عن السفر إليه ليستبرئ لدينه، كما أنّه لو عرض له هناك كسب دنيوي لبادر السفر إليه. وفي هذا الحديث أن أبا الدرداء بشر من أخبره أنّه رحل/ إليه لطلب الحديث بما سمعه من النبي - صلى الله عليه وسلم - في فضل العلم وطلبه وهذا مأخوذ من قوله تعالى: {وإِذا جاءك الّذِين يُؤْمِنُون بِآياتِنا فقُلْ سلامٌ عليْكُمْ كتب ربُّكُمْ على نفْسِهِ الرّحْمة} (¬1). وقد ازدحم الناس مرة على باب الحسن البصري لطب العلم، فأسمعهم ابنه كلامًا، فقال الحسن: "مهلاً يا بني"، ثم تلا هذه الآية. وفي كتاب الترمذي (¬2) وابن ماجه (¬3) عن أبي سعيد: "أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - وَصَّاهُمْ بِطَلَبَةِ الْعِلْمِ وَالمُتَفَقِّهِينَ فِي الدِّينِ". وجاء زر بن حبيش إلى صفوان بن عسال في طلب العلم قال له: بلغني "أَنَّ الْمَلائِكَةَ تَضَعُ أَجْنِحَتَهَا لِطَالِبِ الْعِلْمِ " (¬4). وفي رواية أنه روى له ذلك عن النبي -صلى الله عليه وسلم-. ¬

_ (¬1) الأنعام: 54. (¬2) برقم (2650، 2651). (¬3) برقم (247، 249). (¬4) أخرجه الترمذي (3535 - 3536) وقال: هذا حدث حسن صحيح.

وازدحم الناس مرة على باب ابن المبارك فقال: حُقٌّ لهُمْ مِنْ وِلايةٍ سُرُورُ الأبدِ. يغبطهم بازدحامهم على طلب العلم؛ لأنّه يؤدي إلى الخلود في النعيم المقيم. ولهذا تأسف معاذ بن جبل عند موته وبكى على مفارقة مجالس الذكر فقال: "إِنّما أبكي على ظمأِ الْهواجِرِ، وقِيامِ ليْلِ الشِّتاءِ، ومُزاحمةِ العُلماءِ بِالرُّكبِ عِنْد حِلقِ الذِّكْرِ" (¬1). وينبغي للعالم أن يرحب بطلبة العلم ويوصيهم بالعمل. كما قال الحسن لأصحابه -وقد دخلوا عليه-: "مرحبًا بِكُمْ وأهْلاً، حَيّاكُمُ اللهُ بِالسّلامِ، وأذخلنا وإيّاكُمْ دار السّلامِ، هذِهِ علانِيةٌ حسنةٌ إِنْ صبرْتُمْ وصدقْتُمْ وأيْقنْتُمْ، لا يكُوننّ حظّكُمْ مِنْ هذا الخْيرِ -رحِمكُمُ اللهُ- أنْ تسْمَعُوهُ بِهذِهِ الْأُذُنِ فيخْرُجُ مِنْ هذِهِ الْأُذُنِ؛ فإِنّهُ منْ رَأَى مُحمّدًا صلّى اللهُ عليْهِ وسلّم فقذ رآهُ غادِيًا ورائِحًا لمْ يضعْ إِلى اللهِ لبِنةً على لبِنةٍ ولا قَصَبَةً عَلَى قَصَبةٍ، وَلَكِنْ رُفِع لهُ علمٌ فشمَّر إِليْهِ. الْوحَا الْوحَا (¬2)، النّجَا النّجَا عَلاَمَ تُعرِّجُون؛ أتيْتُمْ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ كأنّكُمْ والْأمْرُ معًا ". ... ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد في "الزهد" (226)، وأبو نعيم في "الحلية" (239). (¬2) الوَحَا الوَحَا: أي السرعة السرعة. "اللسان" مادة: (وحي).

ولنشرع الآن في شرح حديث أبي الدرداء رضي الله عنه الذي رواه عن النبي. فقوله - صلى الله عليه وسلم -: "منْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَلَكَ اللهُ لهُ بِهِ طرِيقًا إِلى الْجنّةِ" وفي رواية أخرى: "سهّل اللهُ لهُ بِهِ طرِيقًا إِلى الجنّةِ". وفي "صحيح مسلم " (¬1) عن أبي هريرة، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "منْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سهّل اللهُ لهُ بِهِ طرِيقًا إِلى الْجنّةِ". سلوك الطريق لالتماس العلم: يحتمل أن يراد به السلوك الحقيقي وهو المشي بالأقدام إلى مجالس العلم. ويحتمل أن يشمل ما هو أعم من ذلك من سلوك الطريق المعنوية المؤدية إلى حصول العلم، مثل حفظه ودراسته، ومطالعته ومذاكرته والتفهم له والتفكر فيه، ونحو ذلك من الطرق التي يتوصل بها إلى العلم. وأما قوله: "سهّل اللهُ لهُ بِهِ طرِيقًا إِلى الجنّةِ". فإنه يحتمل أمورًا: منها: أن يسهل الله لطالبِ العلمِ العلمَ الذي طلبه وسلك طريقه وييسره عليه؛ فإن العلم طريق موصل إلى الجنة. وهذا كقوله تعالى: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} (¬2). قال طائفة من السلف في هذه الآية: هَلْ مِنْ طَالِبِ عِلْمٍ فَيُعَانُ عَلَيهِ. ¬

_ (¬1) رقم (2699). (¬2) القمر: 22.

ومنها: أن ييسر الله لطالب العلم العمل بمقتضى ذلك العلم إذا قصد بتعلمه وجه الله، فيجعله الله سببًا لهدايته والانتفاع به والعمل به، وذلك من طرق الجنة الموصلة إليها. ومنها: أن الله -تعالى- ييسر لطالب العلم الذي يطلبه للعمل به علومًا أخر ينتفع بها؛ فيكون طريقًا موصلاً إلى الجنة، وهذا كما قيل: مَنْ عَمِل بِمَا عَلِمَ أوْرَثَهُ اللهُ عِلْمَ مَا لَمْ يَعْلَمْ. وكما يقال: "ثوابُ الْحَسَنَةِ الْحَسَنَةُ بَعْدَهَا". وإلى هذا إشارة بقوله تعالى: {وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى} (¬1). وقوله: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ} (¬2). فمن التمس العلم ليهتدي به زاده الله هدى وعلومًا نافعة، توجب له أعمالاً صالحة، وكل هذه طرق موصلة إلى الجنة. ومنها: أن الله تعالى قد ييسر لطالب العلم الانتفاع به في الآخرة، وسلوك الطريق الحسنى المفضي إلى الجنة وهو الصراط وما بعده، وما قبله من الأهوال العظيمة والعقبات الشديدة الشاقة. وسبب تيسير طريق الجنة على طالب العلم؛ إذا أراد به وجه الله عز وجل وطلب مرضاته: أن العلم يدل على الله من أقرب الطرق وأسهلها؛ فمن سلك طريقه ولم يعوج عنه وصل إلى الله وإلى الجنة من أقرب الطرق وأسهلها، فتسهلت عليه الطرق الموصلة إلى الجنة كلها في الدنيا وفي الآخرة. ومن سلك طريقًا يظنه طريق الجنة بغير علم، فقد سلك أعسر الطرق وأشقها، ولا يوصل إلى المقصود مع عسرة شديدة. ¬

_ (¬1) مريم: 76. (¬2) محمد: 17.

فلا طريق إلى معرفة الله وإلى الوصول إلى رضوانه والفوز بتهربه ومجاورته في الآخرة إلا بالعلم النافع، الذي بعث الله به رسله، وأنزل به كتبه، فهو الدليل عليه، وبه يُهْتدى في ظلمات الجهل والشبه والشكوك، وقد سمى الله كتابه نورًا يهتدى به في الظلمات. كما قال تعالى: {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (¬1). وقد ضرب النبي - صلى الله عليه وسلم - مثل من حمل العلم الذي جاء به بالنجوم التي يهتدى بها في الظلمات. كما في "المسند" (¬2) عن أنس رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ مَثَلَ الْعُلَمَاءِ فِي الْأَرْضِ كَمَثَلِ النُّجُومِ فِي السَّمَاءِ يُهْتَدَى بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ، فَإِذَا طُمِسَتِ النُّجُومُ أَوْشَكَ أَنْ تَضِلَّ الْهُدَاةُ". وهذا مثل في غاية المطابقة؛ لأنّ طريق التوحيد والعلم بالله تعالى وأحكامه، وثوابه وعقابه لا يدرك بالحس، إنما يعرف بالدليل، وقد بين ذلك كله في كتابه وعلى لسان رسوله. فالعلماء بما أنزل الله على رسوله هم الأدلاء الذين يهتدى بهم في ظلمات الجهل والشبه والضلال، فإذا فقدوا ضل السالك. وقد شبه العلماء بالنجوم، والنجوم في السماء، فيها ثلاث فوائد: يهتدى بها في الظلمات، وهي زينة للسماء، ورجوم للشياطين الذين يسترقون السمع منها. ¬

_ (¬1) المائدة: 15 - 16. (¬2) (3/ 157).

والعلماء في الأرض تجتمع فيهم هذه الأوصاف الثلاثة: بهم يهتدى في الظلمات، وهم زينة للأرض، وهم رجوم للشياطين الذين يخلطون الحق بالباطل، ويدخلون في الدين ما ليحمنه من أهل الأهواء، وما دام العلم باقيًا في الأرض فالناس في هدى. وبقاء العلم بقاء حملته؛ فإذا ذهب حملته ومن يقوم به وقع الناس في الضلال، كما في الحديث الصحيح (¬1) عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إِنّ الله لا يقْبِضُ العِلْم انْتِزاعًا ينْتزِعُهُ مِنْ صُدُورِ الرِّجالِ، ولكِنْ يُذْهِبُ العِلْم بِذِهابِ العُلماءِ، فإِذا لمْ يبْق عالِمٌ اتّخذ النّاسُ رُءُوسًا جُهّالًا فسُئِلُوا فأفْتوْا بِغيْرِ عِلْم، ٍ فضلُّوا وأضلُّوا». وخرج الترمذي (¬2) من حديث جبير بن نفير، عن أبي الدرداء قال: «كُنّا مَعَ النّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - فقال: هَذَا أوانُ يُخْتلسُ العِلْمُ مِن النّاسِ حتّى لا يقْدِرُوا مِنْهُ على شيْءٍ»، فقال زِيادُ بْنُ لبِيدٍ: كيْف يُخْتلسُ مِنّا العِلْمُ، وقد قرأْنا القُرْآن؟! فواللهِ لنقْرأنّهُ ولنُقْرِئنّهُ نِساءنا وأبْناءنا، فَقَالَ: «ثَكِلتْك أُمُّك يا زِيادُ، إِنْ كُنْتُ لأعُدُّك مِنْ فُقهاءِ المدِينةِ، هذِهِ التّوْراةُ والإِنْجِيلُ عِنْد اليهُودِ والنّصارى، فَمَاذَا تُغْنِي عنْهُمْ؟!» قال جُبيْرٌ بْنُ نفير: فلقِيتُ عُبادة بْن الصّامِتِ فقُلْتُ: ألا تسْمعُ ما يقُولُ أبُو الدّرْداءِ؟ فأخْبرْتُهُ بِالّذِي قال، قال: «صدق أبُو الدّرْداءِ، لَوْ شِئْتُ لأُخْبَرْتُكَ بِأَوّلِ عِلْمٍ يُرْفعُ مِن النّاسِ: الخُشُوعُ، يُوشِكُ أنْ تذخُل مسْجِد الجامِعِ فلا ترى فِيهِ خاشِعًا». وخرجه النسائي (¬3) من حديث جبير بن نفير، عن عوف بن مالك، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وفي حديثه: "فذكر - صلى الله عليه وسلم - ضلالة الْيهُودِ والنّصَارَى عَلَى مَا فِي أيْدِيهِمْ مِنْ كِتابِ اللهِ. قال جُبيْر: فَلَقِيتُ شَدَّادَ بْن أوْسٍ فحدّثْتُهُ بِحدِيثِ ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (100)، ومسلم (2673) من حديث عبد الله بن عمرو. (¬2) برقم (2653). (¬3) في "السنن الكبرى" (5909/ 3).

عوْفِ، فقال: صدق، ألا أُخْبِرُك بِأوّلِ ذلِك؛ يُرْفعُ الْخُشُوعُ حتّى لا ترى خاشِعًا». وخرج الإمام أحمد (¬1) من حديث زياد بن لبيد، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنّه ذكر شيئًا فقال: "ذاك عِنْد أوانِ ذِهابِ الْعِلْمِ ". فذكر الحديث، وقال فيه: "أو ليْس الْيهُودُ والنّصارى يقْرءُون التّوْراة والْإِنْجِيل لا يعْملُون بِشيْءٍ مِمّا فِيها؛! ". ولم يذكر ما بعدها. ففي هذه الأحاديث أن ذهاب العلم بذهاب العمل، وأن الصحابة فسروا ذلك بذهاب العلم الباطن من القلوب وهو الخشوع. وكذا روي عن حذيفة: "إنّ أوّل ما يُرْفعُ مِن العِلْمِ الخُشُوعُ" (¬2). فإن العلم علمان كما قال الحسن: "عِلْمُ اللِّسانِ، فذاك حُجّةُ اللهِ على ابْنِ آدمِ، وعِلْمٌ فِى الْقلْبِ فذاك الْعِلْمُ النافِعُ ". وروي عن الحسن مرسلًا (¬3) عن النبي -صلى الله عليه وسلم-. وفي " صحيح مسلم " (¬4) عن ابن مسعود/ قال: "إِنّ أقْوامًا يقْرءُون الْقُرْآن لا يُجاوِزُ تراقِيهُمْ، ولكِنْ إِذا وقع فِي الْقلْبِ فرسخ فِيهِ نفع". فالعلم النافع هو ما باشر القلب فأوقر فيه معرفة الله تعالى وعظمته، وخشيته وإجلاله، وتعظيمه ومحبته، ومتى سكنت هذه الأشياء في القلب خشع فخشعت الجوارح كلها تبعًا لخشوعه. ¬

_ (¬1) (4/ 160، 218، 219). (¬2) أخرجه أحمد في " الزهد") ص 224)، وأبو نعيم في "الحلية" (1/ 281) بلفظ: "أول ما تفقدون من دينكم الخشوع". (¬3) أخرجه أبي شيبة في "المصنف" (13/ 235) وغيره. (¬4) برقم (822).

وفي " صحيح مسلم " (¬1) عن النبي - صلى الله عليه وسلم -أنّه كان يقول: "إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عِلْمٍ لَا يَنْفَعُ، وَمِنْ قَلْبٍ لَا يَخْشَعُ". وهذا يدل على أن العلم الذي لا يوجب الخشوع للقلب فهو علم غير نافع. وروي عنه - صلى الله عليه وسلم -: "أنّهُ كَانَ يَسْأَلُ اللهَ عِلْمًا نَافِعًا" (¬2). وفي حديث آخر قال: «سَلُوا اللَّهَ عِلْمًا نَافِعًا، وَتَعَوَّذُوا بِاللَّهِ مِنْ عِلْمٍ لَا يَنْفَعُ» (¬3). وأما العلم الذي على اللسان فهو حجة الله على ابن آدم. كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "والقُرْآنُ حُجَّةٌ لَكَ أَوْ عَلَيكَ" (¬4). فإذا ذهب من الناس العلم الباطن بقي الظاهر على الألسنة حجة، ثم يذهب هذا العلم الذي هو حجة بذهاب حملته، ولا يبقى من الدين إلا اسمه فيبقى القرآن في المصاحف ثم يسري به في آخر الزمان فلا يبقى منه في المصاحف ولا في القلوب شيء. ومن هنا قَسَّمَ من قَسَّمَ من العُلَمَاءِ العلم إِلى باطن وظاهر، فالباطن: ما باشر القلوب فأثمر لها الخشية والخشوع، والتعظيم والإجلال، والمحبة والأنس والشوق. والظاهر: ما كان على اللسان، فبه تقوم حجة الله على عباده. وكتب وهب بن منبه إلى مكحول: "إِنَّكَ امْرُؤٌ قَدْ أَصَبْتَ بِمَا ظَهَرَ لَكَ مِنْ عِلْمِ الْإِسْلَامِ شَرَفًا فَاطْلُبْ بِمَا بَطَنَ مِنْ عِلْمِ الْإِسْلَامِ مَحَبَّةً وَزُلْفَى". ¬

_ (¬1) برقم (2722) من حديث ابن مسعود. (¬2) أخرجه أحمد (6/ 294، 305، 318، 322)، والنسائي في "الكبرى" (9930/ 2)، وابن ماجه (925) من حديث أم سلمة. (¬3) أخرجه النسائي في "الكبرى" (7867/ 1 - 2)، وابن ماجه (3843). (¬4) أخرجه مسلم (223).

وفي رواية أخرى أنّه كتب إليه: "إِنّك قذ بلغْت بِظَاهِرِ عِلْمِكَ عِنْدَ النّاسِ منْزِلةً وشَرَفًا، فَاطْلُبْ بِباطِنِ عِلْمِك عِنْد اللهِ مَنْزِلةً وزُلْفَى، واعْلمْ أن إِحْدى الْمنْزِلتيْنِ تَمْنعُ الْأُخْرى". فأشار وهب بعلم الظاهر إلى علم الفتاوى والأحكام، والحلال والحرام، والقصص والوعظ وهو ما يظهر على اللسان. وهذا العلم يوجب لصاحبه محبة الناس له، وتقدمه عندهم، فحذره من الوقوف عند ذلك، والركون إليه والالتفات إلى تعظيم الناس ومحبتهم؛ فإن من وقف مع ذلك فقد انقطع عن الله وانحجب بنظره إلى الخلق عن الحق. وأشار بعلم الباطن إلى العلم الذي يباشر القلوب، فيحدث لها الخشية والإجلال والتعظيم، وأمره أن يطلب بهذا المحبة من الله والقرب منه والزلفى لديه. وكان كثير من السلف كسفيان الثوري وغيره يقسمون العلماء ثلائة أقسام: عَالِمٌ بِاللهِ وَعَالِم بِأمْرِ اللهِ. ويشيرون بذلك إلى من جمع بين هذين العلمين المشار إليهما الظاهر والباطن، وهؤلاء أشرف العلماء، وهم الممدوحون في قوله تعالى: {إِنّما يخْشى الله مِنْ عِبادِهِ الْعُلماءُ} (¬1). وقوله: {إِنّ الّذِين أُوتُوا الْعِلْم مِنْ قبْلِهِ إِذا يُتْلى عليْهِمْ يخِرُّون لِلْأذْقانِ سُجّدًا} إلى قوله: {ويزِيدُهُمْ خُشُوعًا} (¬2). وقال كثير من السلف: لَيْسَ الْعِلْمُ كَثْرَةَ الرِّوايةِ ولَكِنّ الْعِلْمَ الْخَشْيةُ. وقال بعضهم: كفى بِخشْيةِ اللهِ عِلْمًا، وكفى بِالاغْتِرارِ بِاللهِ جهْلًا. ويقولون أيضًا: عَالِمٌ بِاللهِ لَيْسَ بِعالمٍ بِأمْرِ اللهِ. ¬

_ (¬1) فاطر: 28. (¬2) الإسراء: 107 - 109.

وهم أصحاب العلم الباطن الذي يخشون الله، وليس لهم اتساع في العلم الظاهر. ويقولون: عَالِمٌ بِأَمْرِ اللهِ لَيْسَ بِعَالِمٍ بِاللهِ. وهم أصحاب العلم الظاهر الذين لا نفاذ لهم في العالم الباطن، وليس لهم خشية ولا خشوع، وهؤلاء مذمومون عند السلف. وكان بعضهم يقول: هَذَا هُوَ العَالِمُ الفَاجِرُ. وهؤلاء الذين وقفوا مع ظاهر العلم ولم يصل العلم النافع إلى قلوبهم ولا شموا له رائحة، غلبت عليهم الغفلة والقسوة، والإعراض عن الآخرة والتنافس في الدنيا، ومحبة العلو فيها والتقدم بين أهلها. وقد منعوا إحسان الظن بمن وصل العلم النافع إلى قلبه، فلا يحبونهم ولا يجالسونهم، وربما ذموهم وقالوا: ليسوا بعلماء، وهذا من خداع الشيطان وغروره، ليحرمهم/ الوصول إلى العلم النافع الذي مدحه الله ورسوله، وسلف الأمة وأئمتها. ولهذا كان علماء الدنيا يبغضون علماء الآخرة، ويسعون في أذاهم جهدهم، كما سعوا في أذى سعيد بن المسيب والحسن وسفيان ومالك وأحمد، وغيرهم من العلماء الربانيين، وذلك لأن علماء الآخرة خلفاء الرسل، وعلماء السوء فيهم شبه من اليهود، وهم أعداء الرسل وقتلة الأنبياء ومن يأمر بالقسط من الناس، وهم أشد الناس عداوة وحسدًا للمؤمنين، ولشدة محبتهم للدنيا لا يعظمون علمًا ولا دينًا، وإنما يعظمون المال والجاه والتقدم عند الملوك. كما قال بعض الوزراء للحجاج بن أرطاة: "إنَّ لَكَ دِينًا وإِنَّ لَكَ فِقْهًا". فقال الحجاج: "أَفَلاَ تَقُولُ إِنَّ لَكَ شَرَفًا وإِنَّ لَكَ قَدْرًا".

فقال الوزير: "وَاللهِ إِنَّكَ لَتُصَغِّرُ مَا عَظَّمَ اللهُ وَتُعَظِّمُ مَا صَغَّرَ اللهُ" (5). وكثير ممن يدعى الباطن ويتكلم فيه ويقتصر عليه يذم العلم الظاهر، الذي هو الشرائع والأحكام، والحلال والحرام ويطعن في أهله ويقولون: هم محجوبون وأصحاب قشور، وهذا يوجب القدح في الشريعة، والأعمال الصالحة التي جاءت الرسل بالحث عليها والاعتناء بها. وربما انحل بعضهم عن التكاليف، وادعى أنها للعامة، وأما من وصل فلا حاجة له إليها، وأنها حجاب له، وهؤلاء كما قال الجنيد وغيره من العارفين وصلوا ولكن إلى سَقَرَ. وهذا من أعظم خداع الشيطان وغروره لهؤلاء، لم يزل يتلاعب بهم حتى أخرجهم عن الإسلام. ومنهم من يظن أن هذا العلم الباطن لا يُتَلَقَى من مشكاة النبوة، ولا من الكتاب والسنة، وإنما يتلقى من الخواطر والإلهامات والكشوفات، فأساءوا الظن بالشريعة الكاملة، حيث ظنوا أنها لم تأت بهذا العلم النافع الذي يوجب صلاح القلوب وقربها من علام الغيوب، وأوجب لهم الإعراض عما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - في هذا الباب بالكلية، والتكلم فيه بمجرد الآراء والخواطر، فضلوا وأضلوا. فظهر بهذا أن أكمل العلماء وأفضلهم: العلماء بالله وبأمره الذين جمعوا بين العلمين وتلقوهما معًا من الوحيين -أعني: الكتاب والسنة- وعرضوا كلام الناس في العلمين معًا على ما جاء في الكتاب والسنة، فما وافق قبلوه، وما خالف ردوه. وهؤلاء خلاصة الخلق، وهم أفضل الناس بعد الرسل، وهم خلفاء الرسل حقًّا، وهؤلاء كثير في الصحابة، كالخلفاء الأربعة، ومعاذ، وأبي الدرداء، وسلمان، وابن مسعود وابن عمر، وابن عباس وغيرهم.

وكذلك فيمن بعدهم كالحسن، وسعيد بن المسيب، وعطاء، وطاوس، ومجاهد، وسعيد بن جبير، والنخعي، ويحيى بن أبي كثير. وفيمن بعدهم كالثوري، والأوزاعي، وأحمد، وغيرهم من العلماء الربانيين. وقد سماهم علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-: العلماء الربانيين، يشير إلى أنّهم الربانيون الممدوحون في غير موضع من كتاب الله -عز وجل-. فقال: "النّاسُ ثلاثةٌ: عالِمٌ ربّانِيٌّ، ومُتعلِّمٌ على سبِيلِ نجاةٍ، وَهَمَجٌ رِعاعٌ ... ". ثم ذكر كلامًا طويلاً وصف فيه علماء السوء والعلماء الربانيين، وقد شرحناه في غير هذا الموضع. والمقصود ها هنا أن التماس العلم سبب موصل إلى الجنة. وفي الحديث المعروف عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: «إِذا مررْتُمْ بِرِياضِ الجنّةِ فارْتعُوا»، قالُوا: وما رِياضُ الجنّةِ؟! قال: «حِلَقُ الذِّكْرِ» (¬1). وكان ابن مسعود إذا ذكر هذا الكلام يقول: "أَمَا إنِّي لاَ أعْنِي القُصَّاصَ ولكِنْ حِلَقَ الفِقْهِ". وروي عن أنس معناه أيضاً. وقال عطاء الخراساني: "مجَالِسُ الذِّكْرِ مجَالِسُ الحَلالِ والحَرَامِ، كَيفَ تَشْترِي وَتَبِيعُ، وتُصَلِّي وتَصُومُ، وتنْكِحُ وتُطلِّقُ، وتَحُجُّ وأشْباهُ هذا". ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد (3/ 150)، والترمذي (3510) من حديث أنس. قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه من حديث ثابت عن أنس. وأخرجه الترمذي (3509) من حديث أبي هريرة مرفوعًا بلفظ: "إِذَا مَرَرْتُمْ بِرِيَاضِ الجَنَّةِ فَارْتَعُوا. قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ وَمَا رِيَاضُ الجَنَّةِ؟ قَالَ: الْمَسَاجِدُ، قُلْتُ: وَمَا الرَّتْعُ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: سُبْحَانَ اللهِ وَالحَمْدُ لِلَّهِ، وَلاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ" وقال: هذا حديث حسن غريب.

وقال يحيى بن أبي كثير: دَرْسُ الفِقْهِ صَلاةٌ. وكان أبو السوار العدوي في حلقة يتذاكرون العلم ومعهم فتى شاب فَقَالَ لَهُمْ: قُولُوا: سُبْحَانَ اللهِ وَالحَمْدُ لِلَّهِ، فَغَضِبَ أَبُو السُّوارِ، وَقَالَ: وَيْحَكَ، في أَيّ شَيء كُنَّا إِذًا؟! والمراد بهذا أن مجالس الذكر لا تختص بالمجالس التي يذكر فيها اسم الله بالتسبيح والتكبير والتحميد ونحوه؛ بل تشمل ما ذكر فيه أمر الله ونهيه وحلاله وحرامه وما يحبه ويرضاه، فإنه ربما كان هذا الذكر أنفع من ذلك؛ لأنّ معرفة الحلال والحرام واجبة في الجملة على كل مسلم، بحسب ما يتعلق به في ذلك، وأما ذكر الله باللسان، فإن أكثره يكون تطوعًا، وقد يكون واجبًا كالذكر في الصلوات المكتوبة. وأما معرفة ما أمر الله به ونهى عنه، وما يحبه ورضاه، وما يكرهه وينهى عنه فيجب على كل من احتاج إلى شيء من ذلك أن يتعلمه. ولهذا روى: "طَلَبُ الْعِلْمِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ" (¬1). فإنه يجب على كل مسلم معرفة ما يحتاج إليه في دينه، كالطهارة والصلاة والصيام. ويجب على من له مال معرفة ما يجب عليه في ماله من زكاة ونفقة، وحج وجهاد. وكذلك يجب على كل من يبيع ويشتري أن يتعلم ما يحل ويحرم من البيوع. كما قال عمر رضي الله عنه: "لَا يَبِيعُ فِي سُوقِنَا إِلا مَنْ قَدْ تَفَقَّهَ فِي الدِّينِ" خرجه الترمذي (¬2). ¬

_ (¬1) أخرجه ابن ماجه (224) من حديث أنس. (¬2) برقم (487).

ويروى بإسناد فيه ضعف عن علي رضي الله عنه قال: "الفِقْهُ قَبْلَ التِّجَارَةِ، إِنَّهُ مَنْ اتَّجَرَ قَبْلَ أَنْ يَتَفَقَّهَ ارْتَطَمَ فِي الرِّبَا ثُمَّ ارْتَطَمَ". وسُئل ابن المبارك: ما الذي يجب على الناس من تعلم العلم؟ قال: أن لا يقدم الرجل على شيء إلا بعلم يسأل ويتعلم، فهذا الذي يجب على الناس من تعلم العلم، ثم فسره وقال: "لَوْ أَنَّ رَجُلاً لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ لَمْ يَكُنْ عَلَيهِ وَاجِبٌ أَنْ يَتَعَلَّمَ الزَّكَاةَ، فَإِذَا كَانَ لَهُ مَائَتَا دِرْهَمٍ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَتَعَلَّمَ كَمْ يُخْرِجُ وَمَتَى يُخْرِجُ وَأَيْنَ يَضَعَ وَسَائِرُ الأَشْيَاءِ عَلَى هَذَا". وسئل الإمام أحمد رحمه الله عن الرجل مَا يَجِبُ عَلَيهِ مِنْ طَلَبِ العِلْمِ؟ فقال: مَا يُقِيمُ بِهِ الصَّلواتِ وَأَمَرَ دِينِه مِنَ الصَّوْمِ وَالزَّكَاةِ، وَذَكَرَ شَرَائِعَ الإِسْلاَمِ. وقال: يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَتَعَلَّمَ ذَلِكَ. وقال أيضاً: "الَّذِي يَجِبُ عَلَى الإِنسَانِ مِنَ العِلْمِ مَا لاَ بُدَّ لَهُ مِنْهُ فِي صَلاَتِهِ وَإِقَامَةِ دِيْنِهِ". واعلم أن علم الحلال والحرام علم شريف، ومنه ما تَعَلَّمُهُ فرض عين، ومنه ما هو فرض كفاية. وقد نص العلماء على أن تَعَلَّمُهُ أفضل من نوافل العبادات، منهم أحمد وإسحاق. وكان أئمة السلف يتوقون الكلام فيه تورعًا؛ لأنّ المتكلم فيه مخبر عن الله بأمره ونهيه، مبلغ عنه شرعه ودينه. وكان ابن سيرين إَذَا سُئِلَ عَنْ شَيْءٍ مِنَ الحَلاَلِ وَالحَرَامِ تَغَيَّر لَوْنُهُ وَتَبَدَّلَ، حَتَّى كَأَنَّهُ لَيْسَ بالَّذِي كَانَ. وقال عطاء بن السائب: أَدْرَكْتُ أَقْوَامًا إِنْ كَانَ أَحَدُهُمْ لَيُسْأَلُ عَن الشَّيءِ فَيَتَكَّلَّمُ وَإِنَّه لَيُرْعَدُ". وروي عن مالك أنّه كان إذا سئل عن مسألة، كأنّه بين الجنة والنار.

وكان الإمام أحمد شديد التورع في إطلاق لفظ الحرام والحلال أو دعوى النسخ، ونحو ذلك مما يجسر عليه غيره كثيرًا، وأكثر أجوبته: أرجو وأخشى، أو أحب إلي، ونحو ذلك. وكان هو ومالك وغيرهما يقولون كثيرًا: لا ندري. وكان أحمد يقول ذلك في مسألة يذكر للسلف فيها أقوالاً عديدة، ويريد بقوله لا أدري أي الراجح المفتى به من ذلك. ومن مجالس الذكر أيضاً: مجالس العلم التي يذكر فيها تفسير كتاب الله أو يروى فيها سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فإن كانت رواية الحديث مع تفسير معانيه، فذلك أكمل وأفضل من مجرد رواية ألفاظه ويدخل في الفقه في الدين كل علم مستنبط من كتاب الله أو سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - سواء كان من علوم الإسلام التي هي الأعمال الظاهرة والأقوال، أو من علوم الإيمان التي هي الاعتقادات الباطنة، وأدلة ذلك وبراهينه المقررة في الكتاب والسنة، أو من علوم الإحسان التي هى علوم المراقبة والمشاهدة بالقلب، ويدخل في ذلك علم الخشية والمحبة والرجاء والإنابة، والصبر والرضا، وغير ذلك من المقامات. وكل ذلك قد سماه النبي -صلى الله عليه وسلم- في حديث سؤال جبرئيل له عنه: دينًا. فالفقه فيه من الفقه في الدين، ومجالسه من أفضل مجالس الذكر التي هي من رياض الجنة، وهي أفضل من مجالس ذكر اسم الله بالتسبيح والتحميد والتكبير؛ لأنها دائرة بين فرض عين أو فرض كفاية، والذكر المجرد تطوع محض. وقد دخل بعض السلف مسجد البصرة فرأى فيه حلقتين في إحداهما قاص وفي الأخرى فقيه يعلم الفقه، فصلى ركعتين واستخار الله في الجلوس إلى إحداهما، فنعس فرأى في نومه قائلاً يقول له: أو قد سويت بينهما؟! إن شئت أريناك مقعد جبرئيل -عليه السلام- من فلان- يعني: الفقيه الذي يعلم العلم.

وسنذكر فيما بعد النصوص الدالة على فضل العلم على أنواع العبادات من الذكر وغيره -إن شاء الله تعالى. وكان زيد بن أسلم من جلة علماء المدينة، وكان له مجلس في المسجد يذكر فيه التفسير والحديث والفقه وغير ذلك، فجاء إليه رجل فقال له: إني رأيت بعض أهل السماء وهو يقول لأهل هذا المجلس: "هَؤلاَءِ فِي رَوْضَاتِ الجَنَّاتِ آمِنُونَ ثُمَّ أَرَاهُ أَنْزَلَ عَلَى أَهْلِ المَجْلِسِ حُوتًا طَرِيًّا وَوَضَعَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ، وَجَاءَ إِلَيْهِ رَجُلٌ فَقَالَ لَهُ: إِنِّي رَأَيْتُ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - وأبا بكر وعمر- رضي الله عنهما- خرجوا من هذا الباب والنبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: "انْطَلِقُوا بِنَا إِلَى زَيدٍ نُجَالِسُهُ وَنَسْمَعُ مِنْ حَدِيثِهِ. فجاء النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - حتَّى جَلَسَ إِلَى جَنْبِكَ فَأَخَذَ بِيَدِكَ، فَلَمْ يَبْقَ زَيدٌ بَعْدَ هذِهِ الرُّؤيَا إِلاَّ قَلِيلاً حَتَّى مَاتَ رحمه الله تعالى". ومع ما ذكرنا من تفضيل العلم على القصص؛ فالعالم لا يستغني أحيانًا عن موعظة الناس والقصص عليهم، وإزالة القسوة عن قلوبهم، بالتذكير بالله وأيامه، فإن القرآن يشتمل على ذلك كله، والفقيه العالم حقًّا هو من فهم كتاب الله واتبع ما فيه. كما قال علي رضي الله عنه: "الفَقِيهُ حق الفقيه مَنْ لاَ يُقَنَّطِ النَّاس مِنْ رَحْمَةِ اللهِ وَلاَ يُرَخِّصْ لَهُمْ فِي مَعَاصي اللهِ، وَلاَ يَدَعُ القُرْآنَ رَغْبَةً عَنْهُ إِلَى غَيْرِهِ" (¬1). وقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يَتَخَوَّلُ أَصْحَابَهُ بِالْمَوْعِظَةِ أَحْيَانًا؛ خشية السَّآمَةِ عَلَيْهِمْ" (¬2). قوله - صلى الله عليه وسلم -: "وَإِنَّ الْمَلاَئِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا لِطَالِبِ العِلْمِ رِضًى بِمَا يَصْنَعُ" ¬

_ (¬1) أخرجه الخطيب في "الفقيه والمتفقه" (2/ 161)، والآجري في "أخلاق العلماء" (49، 50). (¬2) أخرجه البخاري (68)، ومسلم (2821).

وخرج ابن ماجه (¬1) من حديث زر بن حبيش قال: "أتيت صفوان بن عسال، فقال: مَا جَاءَ بِكَ؟ قُلْتُ: أَطْلُبُ العِلْمَ. قال: فَإِنِّي سَمِعْتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «مَا مِنْ خَارِجٍ خَرَجَ مِنْ بَيْتِهِ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ إِلَّا وَضَعَتْ لَهُ الْمَلَائِكَةُ أَجْنِحَتَهَا رِضًى بِمَا يَصْنَعُ». وخرجه الترمذي (¬2) وغيره موقوفًا على صفوان. وقد اختلف الناس في تأويل وضع الملائكة أجنحتها: فمنهم من حمله على ظاهره، وأن المراد فرش الأجنحة وبسطها لطلاب العلم لتحملهم عليها إلى مقاصدهم من الأرض التي يطلبون فيها العلم؛ إعانة لهم على الطلب وتيسيره عليهم. وقد سمع هذا الحديث بعض الملحدين، فقال لطلبة العلم: "ارفعوا أرجلكم عن أجنحة الملائكة لا تكسروها. يستهزئون بذلك، فما زال من موضعه حتى جفت رجلاه وسقط". وروي عن آخر قال: لأكسرن أجنحة الملائكة. فصنع له نعلاً طرقها بمسامير كثيرة، فمشى بها إلى مجلس العلم فجفت رجلاه ووقعت فيهما الأكلة" (¬3). ومنهم من فسر وضع الملائكة أجنحتها بالتواضع لهم، والخضوع لطلاب العلم كما في قوله تعالى: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} (¬4). وفي هذا نظر؛ لأنّ للملائكة أجنحة حقيقة بخلاف البشر. ¬

_ (¬1) برقم (226، 4070). (¬2) برقم (3536) عن صفوان بن عسال قال: بلغني أن الملائكة ... الحديث. وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. (¬3) الأكلة: داء يقع في العضو، فيأتكل منه "اللسان" مادة: (أكل). (¬4) الشعراء: 215.

ومنهم من فسر ذلك بأن الملائكة تحف بأجنحتها مجالس الذكر إلى السماء كما جاء ذلك صريحًا في حديث أبي هريرة، عن النبي -صلى الله عليه وسلم-. وورد مثله في بعض ألفاظ حديث صفوان بن عسال مرفوعًا: "إِنَّ طَالِبَ الْعِلْمِ لَتَحُفُّهُ الْمَلائِكَةُ وَتَظلّه بِأَجْنِحَتِهَا، ثُمَّ يَرْكَبُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا حَتَّى يَبْلُغُوا إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا، مِنْ حُبِّهِمْ لِمَا يُطْلَبُ" (¬1). ولعل هذا القول أشبه، والله أعلم. قوله -صلى الله عليه وسلم-: "وَإِنَّ العَالِمَ لَيَسْتَغْفِرُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ، حَتَّى الحِيتَانُ فِي جَوفِ المَاءِ". قد أخبر الله في كتابه باستغفار ملائكة السماء للمؤمنين عمومًا بقوله تعالى: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا} (¬2). وقوله تعالى: {وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ} (¬3). فهذا للمؤمنين عموماً. فأما العلماء فيستغفر لهم أهل السماء وأهل الأرض حتى الحيتان في البحر. وخرج الترمذي (¬4) من حديث أبي أمامة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ وَأَهْلَ السَّمَوَاتِ وَالأَرَضِينَ حَتَّى النَّمْلَةَ فِي جُحْرِهَا وَحَتَّى الحُوتَ فِي البَحْرِ لَيُصَلُّونَ عَلَى مُعَلِّمِي النَّاسِ الخَيْرَ» وصححه الترمذي. ¬

_ (¬1) أخرجه الآجري في "أخلاق العلماء" (ص20). (¬2) غافر: 7. (¬3) الشورى: 5. (¬4) برقم (2685).

وخرج الطبراني (¬1) من حديث جابر، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "مُعَلِّمُ النَّاسِ الْخَيْرَ يَسْتَغْفِرُ لَهُ كُلُّ شَيءٍ حَتَّى الحِيتَانُ فِي الْبَحْرِ". ويروى من حديث البراء بن عازب، عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: "العُلَمَاءُ وَرَثَةُ الأَنْبِيَاءِ، يُحِبُّهُمْ أَهْلُ السَّمَاءِ، وَتَسْتَغْفِرُ لَهُمُ الحِيتَانُ فِي البَحْرِ إِذَا مَاتُوا إِلَى يَومِ الْقِيَامَةِ" (¬2). وورد الاستغفار أيضاً لطالب العلم. ففي "مسند الإمام أحمد" (¬3) عن قبيصة بن المخارق قال: "أتَيْتُ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: مَا جَاءَ بِكَ؟ قُلْتُ: كَبُرَ سِنِّي، وَرَقَّ عَظْمِي، وَأَتَيْتُكَ لِتُعَلِّمَنِي مَا يَنْفَعُنِي اللهُ بِهِ". قال: "يَا قَبِيصَةُ، مَا مَرَرْتَ بِحَجَرٍ وَلَا شَجَرٍ وَلَا مَدَرٍ إِلَّا اسْتَغْفَرَ لَكَ". وقد دل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا * هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} (¬4). على أن الله وملائكته يصلون على أهل الذكر، والعلم من أفضل أنواع الذكر، كما سبق تقريره. وخرج الحاكم (¬5) من حديث سليم بن عامر قال: "جَاءَ رَجُلٌ إِلَى أَبِي أُمَامَةَ فَقَالَ: يَا أَبَا أُمَامَةَ، إِنِّي رَأَيْتُ فِي مَنَامِي، كَأَنَّ المَلاَئِكَةَ تُصَلِّي عَلَيْكَ كُلَّمَا دَخَلْتَ وَكُلَّمَا خَرِجْتَ، وَكُلَّمَا قُمْتَ وَكُلَّمَا جَلَسْتَ فَقَالَ أَبُو أُمَامَةَ: اللَّهُمَّ ¬

_ (¬1) في "الأوسط" (6219). قال الطبراني: لم يرو هذا الحديث عن الأعمش إلاَّ أَبُو إسحاق الفزاري. وذكره الهيثمي في "المجمع" (1/ 124) وقال: وفيه إسماعيل بن عبد الله بن زرارة وثقه ابن حبان، وقال الأزدي: منكر الحديث، ولا يلتفت إلى قوله الأزدي في مثله، وبقية رجاله رجال الصحيح. (¬2) عزاه القرطبي في "التفسير" (4/ 41) إلى أبي محمد عبد الغني الحافظ من حديث بركة بن نشيط وهو عنكل بن حكارك وتفسيره بركة بن نشيط كان حافظًا حدثنا عمر بن المؤمل حدثنا محمد بن أبي الخصيب حدثنا عنكل حدثنا محمد بن إسحاق حدثنا شريك عن أبي إسحاق عن البراء .. فذكره. وذكره أيضًا الديلمي في "الفردوس" (3/ 75) عن البراء بن عازب. (¬3) (1/ 60). (¬4) الأحزاب: 41: 43. (¬5) في "المستدرك" (2/ 418). قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه.

غفرًا، دَعُونَا عَنْكُمْ، وَأَنْتُمْ لَوْ شِئْتُمْ لَصَلَّتْ عَلَيْكُمْ الَملاَئكَةُ. ثُمَّ قَرَأَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا * هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} (¬1). وقذ ذكر بعضهم السر في استغفار دواب الأرض للعلماء، وهو أن العلماء يأمرون الناس بالإحسان إلى المخلوقات كلها، وبإحسان قتل ما يجوز قتله أو ذبحه من الحيوانات، فيتعدى نفعهم إلى الحيوانات كلها، فلذلك يستغفرون لهم. ويظهر فيه معنى آخر وهو أن سائر المخلوقات مطيعة لله، قانتة له، مسبحة له غير عصاة الثقلين: الجن والإنس، فكل الخلق المطيعين لله يحبون أهل طاعته، فكيف به وهو يعرف الله ويعرف حقوقه وطاعته؟ فمن كانت هذه صفته، فإن الله يحبه ويزكيه ويثني عليه، ويأمر عباده من أهل السماء والأرض وسائر خلقه بمحبته والدعاء له، وذلك هو صلاتهم عليه، ويجعل له المودة في قلوب عباده المؤمنين. كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا} (¬2). ولا تختص محبته بالحيوانات؛ بل تحبه الجمادات أيضاً. كما جاء في تفسير قوله تعالى: {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ} (¬3) أن السَّماءِ والأَرضَ تَبْكِى عَلَى المُؤْمِنِ إِذَا مَاتَ أَرْبَعِينَ صَبَاحًا. وفي الحديث: "إِنَّ الأَرْضَ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِ إِذَا دُفِنَ: إِنْ كُنْتَ لأَحَبَّ مَنْ يَمْشِي عَلَى ظَهْرِي، فَسَتَرَى إِذَا صِرْتَ إِلَى بَطْنِى صنيعي" (¬4). ¬

_ (¬1) الأحزاب: 41. (¬2) مريم: 96. (¬3) الدخان: 29. (¬4) أخرجه الترمذي (2460) وقال: هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه.

وإنما يبغض المؤمن والعالم عصاة الثقلين؛ لأنّ معصيتهم لله اقتضت تقديم أهواء نفوسهم على محبة الله وطاعته، فكرهوا طاعة الله وأهل طاعته، ومن أحب الله وأحب طاعته أحب أهل طاعته، وخصوصًا من دعا إلى طاعته وأمر الناس بها. وأيضًا فإن العلم إذا ظهر في الأرض وعمل به درّت البركات ونزلت الأرزاق فيعيش أهل الأرض كلهم، حتى النملة وغيرها من الحيوانات ببركته، ويستبشر أهل السماء بما يرتفع لأهل الأرض من الطاعات والأعمال الصالحات فيستغفرون لمن كان السبب في ذلك. وعكس هذا أن من كتم العلم الذي أمر الله بإظهاره لعنه الله وملائكته وأهل السماء والأرض، حيث سعى في إطفاء نور الله فى الأرض، الذي بسبب إخفائه تظهر المعاصي والظم والعداوة والبغي. قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} (¬1). وقد قيل أنها نزلت في أهل الكتاب، الذين كتموا ما عندهم في كتابهم من صفة النبي - صلى الله عليه وسلم -. وكان أبو هريرة يقول: "لَوْلَا آيَةٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ مَا حَدَّثْتُكُمْ شَيْئًا أَبَدًا. وَيَتْلُو هَذِه الآيَةَ" (¬2). وفي "سنن ابن ماجه" (¬3) عن البراء بن عازب، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - "في قوله: {يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} (1) قَالَ: "دَوَابّ الأَرْضِ". وقد روي هذا موقوفًا على البراء (¬4). ¬

_ (¬1) البقرة: 159. (¬2) أخرجه البخاري (118) بلفظ: "لولا آيتان". (¬3) برقم (4021). (¬4) أخرجه الطبري في "تفسيره" (2/ 56).

وروي عن طائفة من السلف قالوا: "تَلْعَنُهُمْ دَوَابُّ الأرْضِ، ويقولون: مُنعنَا القَطْرَ بِخَطَايَا بَنِي آدَمَ ". فإن كتمان العلم النافع سبب لظهور الجهل والمعاصي، وذلك يوجب محو المطر ونزول البلاء، فيعم دواب الأرض، فتهلك بخطايا بني آدم، فتلعن الدواب من كان سبباً لذلك. وقد ظهر بهذا أن محبة العلماء من الدين، كما قال علي رضي الله عنه لكميل بن زياد: وَمَحَبَّةُ العَالِمِ دِينٌ يُدَانُ بِهَا. وفي الأثر المعروف: "كُنْ عَالِمًا أَوْ متَعَلِّمًا أَوْ مُسْتَمِعًا أَوْ مُحِبًّا لَهُمْ، وَلاَ تَكُنْ الخَامِسَ فَتَهْلَكَ ". قال بعض السلف عند هذا: سُبحَانَ اللهِ! لَقَدْ جَعَلَ اللهُ لَهُمْ مَخْرَجًا. يعني أنّه لا يخرج عن هذه الأربعة الممدوحة إلا الخامس الهالك، وهو من ليس بعالم ولا متعلم، ولا مستمع ولا محب لأهل العلم، وهو الهالك. فإن من أبغض أهل العلم أحب هلاكهم، ومن أحب هلاكهم فقد أحب أن يطفأ نور الله في الأرض ويظهر فيها المعاصي والفساد، فيخشى أن لا يرفع له مع ذلك عمل، كما قال سفيان الثوري وغيره من السلف. وكان بعض خدم الخلفاء يبغض أبا الفرج ابن الجوزي ويسعى في أذاه بجهده فرآه بعضهم في منامه وهو يذهب به إلى النار، فسئل عن سبب ذلك فقيل له: كان يبغض ابن الجوزي. قال ابن الجوزي: "لَمَّا زَادَ تَعَصُّبُهُ وَأَذَاهُ لَجَأْتُ إِلَى اللهِ فِي كَشْفِ سَتْرِهِ، فَقَصَمَهُ اللهُ تَعَالَى قَرِيبًا". ولما قتل الحجاجُ سعيدَ بن جبير كَانَ النَّاسُ كُلُّهُمْ مُحْتَاجِينَ إِلَى عِلمِهِ، فَمَنَعَهُمْ الانْتِفَاعِ بِعِلْمِهِ، فَرَئَي فِي المَنَامِ أَنَّ الحَجَّاجَ قُتِلَ بِكُلِّ قَتِيلٍ قَتَلَهُ فِي الدُّنْيَا قِتلَةً، وَقُتِلَ بِسعيدٍ بنِ جُبيرٍ سَبْعِينَ قِتْلَةً".

ولهذا المعنى كان أشد الناس عذابًا من قتل نبيًّا؛ لأنّه سعى في الأرض بالفساد، ومن قتل عالمًا فقد قتل خليفة نبي، فهو ساع في الأرض بالفساد أيضاً، ولهذا قرن الله بين قتل الأنبياء وقتل العلماء الآمرين بالمعروف في قوله تعالى: {وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} (¬1). وقال عكرمة وغيره من السلف في قوله تعالى: {مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} (¬2) مَنْ قَتَلَ نَبِيًّا أَوْ إِمَامَ عَدْلٍ قَالَ: فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا، وَمَنْ شَدَّ عَلَى عَضُدَ نَبِيٍّ أَوْ إِمَامِ عَدْلٍ فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا. قوله -صلى الله عليه وسلم-: "وَفَضْلُ العَالِمِ عَلَى العَابِدِ كَفَضْلِ القَمَرِ لَيْلَةَ البَدْرِ عَلَى سَائِرِ الكَوَاكِبِ". وقد رُوِي هذا المعنى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أيضاً من حديث معاذ وأبي الدرداء (¬3)، ولكن إسنادهما منقطع. وفي هذا المثل تشبيه للعالم بالقمر ليلة البدر، وهو نهاية كماله، وتمام نوره، وتشبيه للعابد بالكواكب، وأن بين العالم والعابد من التفاوت في الفضل ما بين القمر ليلة البدر والكواكب، والسر في ذلك -والله أعلم- أن الكوكب ضوءه لا يعدو نفسه، وأما القمر ليلة البدر فإن نوره يشرق على أهل الأرض جميعًا، فيعمهم نوره فيستضيئون بنوره، ويهتدون به في مسيرهم. ¬

_ (¬1) آل عمران: 21. (¬2) المائدة: 32. (¬3) أخرجه أحمد (5/ 196)، والترمذي (2682) من حديث أبي الدرداء، وقال أبو عيسى: ولا نعرف هذا الحديث إلا من حديث عاصم بن رجاء بن حيوة، وليس هو عندي بمتصل، هكذا حدثنا محمود بن خداش بهذا الإسناد، وإنما يروى هذا الحديث عن عاصم بن رجاء بن حيوة عن الوليد بن جميل عن كثير بن قيس عن أبي الدرداء عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، وهذا أصح من حديث محمود بن خداش، ورأي محمد بن إسماعيل هذا أصح.

وإنما قال: "على سائر الكواكب" ولم يقل: على سائر النجوم؛ لأنّ الكواكب هي التي لا تسير ولا يهتدى بها، فهي بمنزلة العابد الذي نفعه مقصور على نفسه، وأما النجوم فهي التي يهتدى بها كما قال تعالى: {وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} (¬1). وقال: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} (¬2). فكذلك مَثَّلَ العلماء من أمته بالنجوم في الحديث الذي سبق ذكره. وكذلك روي عنه أنّه قال: "أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ؛ فَبِأَيِّهِمُ اقْتَدَيْتُمُ اهْتَدَيْتُمْ" (¬3). وقد قيل: إن القمر إنما يستفيد نوره من ضوء الشمس، كما أن العالم نوره مقتبس من نور الرسالة، فلذلك شبه بالقمر ولم يشبه بالشمس. ولما كان الرسول سراجًا منيرًا، يشرق نوره على الأرض، كان العلماء ورثته وخلفاؤه مشبهين بالقمر عند تمام نوره وإضاءته. وفي "الصحيح" (¬4) عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ أَوَّلُ زُمْرَةٍ يدخلون الجَنَّةَ عَلَى صُورَةِ القَمَرِ لَيْلَةَ البَدْرِ لأَِهْلِ الأَرْضِ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلَونَهُمْ عَلَى أَضْوَأ كَوْكَبٍ دُرِّيٍّ فِي السَّمَاءِ". ولا يبعد-والله أعلم- أن العلماء الربانيين من الزمرة الأولى، كما كانوا في الدنيا بمنزلة القمر ليلة البدر لأهل الأرض، وقد يشاركهم في ذلك المبرزون من العباد ولا سيما من انتفع الناس باستماع أخبارهم، ورقت القلوب عند ذكرهم، وحنت إلى اقتفاء آثارهم، وأما الزمرة الثانية فهم عموم العباد. ولما مات الأوزاعي، وكان إمام أهل الشام فى العلم مع شدة عبادته وكثرة ¬

_ (¬1) النحل: 16. (¬2) الأنعام: 97. (¬3) أخرجه ابن عبد البر في "جامع بيان العلم" (2/ 91) وحكم عليه الشيخ ناصر الألباني -رحمه الله - في "السلسلة الضعيفة" برقم (58) بالوضع. (¬4) أخرجه البخاري (3327)، ومسلم (2834) من حديث أبي هريرة.

خشيته وخوفه من الله تعالى رئي في المنام فَقَالَ: ما رأيت هناك أعظم من درجة العلم، ثم درجة المحزونين، يعني: أهل الخوف من الله والخشية والحزن. وقد دل هذا الحديث على تفضيل العلم على العبادة تفضيلاً بينًا، والأدلة الدالة على ذلك كثيرة. قال الله تعالى: {هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} (¬1). وقال: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} (¬2). يعني: على الذين آمنوا ولم يؤتوا العلم، كذا قال ابن مسعود وغيره من السلف. وخرج الترمذي (¬3) من حديث أبي أمامة، عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أَنَّهُ ذُكِرَ لَهُ رَجُلَانِ أَحَدُهُمَا عَابِدٌ، وَالآخَرُ عَالِمٌ، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَضْلُ العَالِمِ عَلَى العَابِدِ كَفَضْلِي عَلَى أَدْنَاكُمْ» ". وقال: صحيح حسن غريب. وخرج أيضاً هو (¬4) وابن ماجه (¬5) من حديث ابن عباس، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "فَقِيهٌ وَاحِدٌ أَشَدُّ عَلَى الشَّيْطَانِ مِنْ أَلْفِ عَابِدٍ". وخرج ابن ماجه (¬6) من حديث عبد الله بن عمرو قال: "خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ فَدَخَلَ الْمَسْجِدَ، فَإِذَا هُوَ بِحَلْقَتَيْنِ، إِحْدَاهُمَا يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ وَيَدْعُونَ اللَّهَ -عَزَّ وَجَلَّ- وَالْأُخْرَى يَتَعَلَّمُونَ وَيُعَلِّمُونَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كُلٌّ عَلَى خَيْرٍ، هَؤُلَاءِ يَدْعُونَ اللَّهَ -عَزَّ وَجَلَّ- وَيَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ، فَإِنْ شَاءَ أَعْطَاهُمْ، وَإِنْ ¬

_ (¬1) الزمر: 9. (¬2) المجادلة: 11. (¬3) برقم (2685). قال الترمذي: هذا حديث غريب. (¬4) برقم (2681). قال الترمذي: هذا حديث غريب، ولا نعرفه إلا من هذا الوجه من حديث الوليد ابن مسلم. (¬5) برقم (222). (¬6) برقم (229). قال في "الزوائد": إسناده ضعيف، داود وبكر وعبد الرحمن كلهم ضعفاء.

شَاءَ مَنَعَهُمْ، وَهَؤُلَاءِ يَتَعَلَّمُونَ وَيُعَلِّمُونَ، وَإِنَّمَا بُعِثْتُ مُعَلِّمًا. فَجَلَسَ مَعَهُمْ". وخرجه ابن المبارك في كتاب "الزهد" (¬1) وزاد فيه بعد قوله: "وَإِنَّمَا وَإِنَّمَا بُعِثْتُ مُعَلِّمًا": "هَؤُلَاءِ أَفْضَلُ". وخرج الطبراني (¬2) من حديث عبد الله بن عمرو، عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: "قَلِيلُ الْفِقْهِ خَيْرٌ مِنْ كَثِيرِ الْعِبَادَةِ". وخرج البزار (¬3) والحاكم (¬4) وغيرهما بأسانيد متعدده مرفوعًا: "فَضْلُ الْعِلْمِ أَحَبُّ مِنْ فَضْلِ الْعِبَادَةِ، وَخَيْرُ دِينِكُمُ الْوَرَعُ" (¬5). وفي "مراسيل الزهري" عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: "فَضْلُ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ سَبْعُونَ دَرَجَةً، مَا بَيْنَ كُلِّ دَرَجَتَيْنِ مَسِيرَةُ حُضْرِ (¬6) جَوادٍ مِائَةَ عَامٍ". والآثار الموقوفة عن السلف في هذا كثيرة جدًّا: فروي عن أبي هريرة وأبي ذر قالا: "البَابُ يَتَعَلَّمُهُ الرَّجُل أَحَبُّ إِلَيْنَا مِنْ أَلْفِ رَكْعَةٍ تَطَوُّعًا" (¬7). وخرجه ابن ماجه (¬8) من حديث أبي ذر مرفوعًا. ¬

_ (¬1) برقم (1388). (¬2) في "الأوسط" (8698). قال الطبراني: لم يرو هذا الحديث عن رجاء بن حيوة إلا إسحاق أبو عبد الرحمن، تفرد به الليث. وأخرجه أبو نعيم في "الحلية" (5/ 173 - 174) وقال: غريب من حديث رجاء، تفرد به إسحاق بن أسيد، ولم يروه عن رجاء إلا ابنه. (¬3) في "المسند" كما في "كشف الأستار" (139). (¬4) في "المستدرك" (1/ 92 - 93). وصححه. (¬5) وأخرجه أبو نعيم في "الحلية" (2/ 211 - 212). من حديث حذيفة وقال أبو نعيم: لم يروه متصلاً عن الأعمش، إلا عبد الله بن عبد القدوس، ورواه جرير بن عبد الحميد عن الأعمش عن مطرف عن النبي -صلى الله عليه وسلم- من دون حذيفة، ورواه قتادة وحميد بن هلال عن مطرف من قوله. (¬6) حضر -بالضم-: العَدْو. "النهاية" (1/ 398). (¬7) أخرجه ابن عبد البر في "جامع بيان العلم" (115)، والخطيب في "الفقيه والمتفقه" (51). وقال الهيثمي في "المجمع" (1/ 124): رواه البزار، وفيه بلال بن عبد الرحمن الحنفي، وهر متروك. (¬8) برقم (219).

وروي عن أبي الدرداء قال: "مُذَاكَرَةُ العِلْمِ سَاعَةً خَيْرٌ مِنْ قِيَامِ لَيْلَةٍ" (¬1). ويروى عن أبي هريرة مرفرعًا (¬2): "لأَنْ أَفْقَهُ سَاعَة أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَحيِي لَيلَةً أُصَلِّيهَا حَتَّى أُصْبِحَ". وعنه قال: "لأَنْ أَعْلَمَ بَابًا مِنَ العِلْمِ فِي أَمْرٍ أَوْ نَهْيٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ سَبْعِينَ غَزْوَةٍ فِي سَبِيلِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-" (¬3). وعن ابن عباس- رضي الله عنه- قال: "تَذَاكِرُ العِلم ِبَعضَ لَيلَةٍ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ إِحْيَائِهَا" (¬4). وصح عن أبي موسى الأشعري أنّه قال: "لَمَجْلِسٌ أَجْلِسُهُ مِنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَوْثَقُ فِي نَفْسِى مِنْ عَمَلِ سَنَةٍ" (¬5). وعن الحسن قال: "لأَنّ أَتَعَلَّمَ بَابًا مِنَ العِلْمِ فَأُعَلِّمُهُ مُسْلِمًا أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ تَكُونَ لِي الدُّنْيَا كُلُّهَا أَجْعَلُهَا فِي سَبِيلِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-" (¬6). وعنه قال: "إنْ كَانَ الرَّجُلُ لَيُصِيبُ البَابَ مِنَ العِلْمِ فَيَعْمَلُ بِهِ فَيكُونُ خَيرًا لَهُ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا، لَوْ كَانَتْ لَهُ فَيَجْعَلُهَا فِي الآخِرَةِ". وعنه قال: "مِدَادُ العُلَمَاءُ ودَمُ الشُّهَدَاءُ مَجْرَى وَاحِدٍ". وعنه: "مَا مِن شَيْءٍ مِمَّا خَلَقَ اللهُ أَعْظْمُ عِندَ اللهِ فِي عَظِيمِ الثّوَابِ مِنْ طَلَبِ عِلْمٍ، لاَ حَجَّ، وَلاَ عُمَرَةَ، وَلاَ جِهَادَ، وَلاَ صَدَقَةَ، وَلاَ عِتْقَ، وَلَوْ كَانَ العِلْمُ صُورَةً لَكَانَتْ صُورَتُهُ أَحْسَنَ مِنْ صُورَةِ الشَّمْسِ وَالقَمَرِ وَالنُّجُومِ وَالسَّمَاءِ وَالعَرْشِ". ¬

_ (¬1) أخرجه الخطيب في "الفقيه والمتفقه" (54). وإسناده معضل. (¬2) أخرجه ابن عبد البر في "جامع بيان العلم" (109) عن أبي هريرة موقوفًا. وفي إسناده يزيد بن عياض، وهو كذاب. (¬3) أخرجه الخطيب في "الفقيه والمتفقه" (52). (¬4) رواه الدارمي في "السنن" (1/ 82). (¬5) أورده الذهبي في "السير" (1/ 493). (¬6) أخرجه الخطيب في "الفقيه والمتفقه" (53).

قال الزهري: "تعلم سنة أفضلُ من عِبَادَةِ مَائَتَي سَنَة". وقال سفيان الثوري وأبو حنيفة: "لَيسَ بَعدَ الفَرَائِضِ أَفْضَلُ مِنْ طَلَبِ العِلْمِ". قال الثوري: "لاَ نَعلَمُ شَيْئًا مِنَ الأَعْمَالِ أَفْضَلُ مِنْ طَلَبِ العِلْمِ وَالحَدِيثِ لِمَنْ حَسُنَتْ فِيهِ نيَّتُهُ. قِيلَ لَهُ: وأَيُّ شَيءٍ النِّيَّةُ فِيهِ؟ قَالَ: يُريدُ اللهَ والدَّارَ الآخِرَةَ". وقال الشافعي: "طَلَبُ العِلْمْ أَفْضَلُ مِنْ صَلاَةٍ نَافِلَةٍ". ورأى مالك بعض أصحابه يكتب العِلْم ثم تركه وقام يصلي، فَقَالَ: عَجَبًا لَكَ! مَا الَّذِي قُمْتَ إِلَيْهِ بِأَفْضَلَ مِنَ الَّذِي تَرَكْتَهُ. وسئل الإمام أحمد: أّيُّمَا أَحَبُّ إِلَيكَ، أَن أُصَلِّي بِاللَّيلِ تَطَوُّعًا، أَو أَجْلِسَ أَنسَخُ العِلْمَ؟ قال: إِذَا كنتَ تَنسَخُ مَا تعلمَ أَمرَ دِينِكَ فَهُوَ أَحَبُّ إِلَيَّ. وقال أحمد أيضاً: "العِلْمُ لاَ يَعْدِلُهُ شَيءٌ". وقال المعافى بن عمران: "كِتَابَةَ حديثٍ واحِدٍ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ قِيَامِ لَيلَةٍ". ومما يدل على تفضيل العِلْم على جميع النوافل أن العِلْم يجمع جميع فضائل الأعمال المتفرقة. فإن العِلْم أفضل أنواع الذكر، كما سبق تقريره، وهو أيضاً أفضل أنواع الجهاد. ويروى من حديث عبد الله بن [عمر] (¬1) والنعمان بن بشير -رضي الله عنه- مرفوعًا (¬2): "إِنَّهُ يُوزَنُ مِدَادُ العُلَمَاءِ بِدَمِ الشُّهَدَاءِ فَيَرجحُ مِدَادُ العُلَمَاءِ". وخرج الترمذي (¬3) من حديث أنس، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَنْ خَرَجَ فِي طَلَبِ العِلْمِ فَهُو فِي سَبِيلِ اللهِ حَتّى يَرجِعَ". ¬

_ (¬1) في "الأصل": عمرو. وهو خطأ. والمثبت من "تاريخ بغداد". (¬2) أخرجه الخطيب في "تاريخ بغداد" (2/ 193) من حديث عبد الله بن عمر. وأخرجه ابن عبد البر في "جامع بيان العِلْم" (153) من حديث النعمان بن بشير. (¬3) برقم (2647).

وورد في حديث آخر (¬1): "إِذَا جَاءَ المَوْتُ طَالِبَ العِلْمِ فَهُوَ شَهِيدٌ". وقال معاذ بن جبل: «تَعَلَّمُوا الْعِلْمَ فَإِنَّ تَعَلُّمَهُ لِلَّهِ [حَسَنَة] (¬2)، وَطَلَبَهُ عِبَادَةٌ، وَمُدَارَسَتهُ تَسْبِيحٌ، وَالْبَحْثَ عَنْهُ جِهَادٌ، وَتَعْلِيمَهُ لِمَنْ لَا يَعْلَمُ صَدَقَةٌ، وَبَذْلَهُ لِأَهْلِهِ قُرْبَةٌ؛ لِأَنَّ الْعِلْمَ سَبِيلُ مَنَازِلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَهُوَ الْأَنِيسُ فِي الْوِحْدَةِ، وَالصَّاحِبُ فِي الْغُرْبَةِ وَالْمُحَدِّثُ فِي الْخَلْوَةِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى السَّرَّاءِ وَالمُعِينُ عَلَى الضَّرَّاءِ، وَالسِّلَاحُ عَلَى الْأَعْدَاءِ، وَالزِّيْنُ عِنْدَ الْأَخِلَّاءِ، يَرْفَعُ اللهُ تَعَالَى بِهِ أَقْوَامًا فَيَجْعَلُهُمْ فِي الْخَيْرِ قَادَةً وَأَئِمَّةً، تقْتَصُّ آثَارُهُمْ، وَيُقْتَدَى بِفِعَالِهِمْ، وَيُنْتَهَى إِلَى رَأْيِهِمْ، تَرْغَبُ الْمَلَائِكَةُ فِي خِلَّتِهِمْ، وَبِأَجْنِحَتِهَا تَمْسَحُهُمْ، يَسْتَغْفِرُ لَهُمْ كُلُّ رَطْبٍ وَيَابِسٍ حِِيتَانُ الْبَحْرِ وَهَوَامُّهُ، وَسِبَاعُ البَرِّ وَأَنْعَامُهُ؛ لِأَنَّ الْعِلْمَ حَيَاةُ الْقُلُوبِ مِنَ الْجَهْلِ، وَمِصْابِيح الْأَبْصَارِ مِنَ الظُّلْمِ، وَقُوَّةُ الأَبْدَانِ مِنَ الضَّعْفِ، يَبْلُغُ [بِالْعَبْدِ فِي الْعِلْمَ] (*) مَنَازِلَ الْأَخْيَارِ والأَبْرَارِ وَالدَّرَجَاتِ الْعُلَى فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَالتَّفَكُّرُ فِيهِ يَعْدِلُ الصِّيَامِ، وَمُدَارَسَتُهُ تَعْدِلُ الْقِيَامِ، بِهِ تُوصَلُ الْأَرْحَامُ، وَيُعْرَفُ الْحَلَالُ مِنَ الْحَرَامِ، وَهُوَ إِمَامُ الْعمَلِ، وَالْعَمَلُ تَابِعُهُ يُلْهَمُهُ السُّعَدَاءَ، وَيُحْرَمُهُ الْأَشْقِيَاءِ» (¬3). رواه ابن عبد البر ... "به يُعْرَف اللهُ وَيُعْبَد، وبه يمجد ويوحد، يرفع الله بالعلم أقوامًا فيجعلهم قادة وأئمة للناس يقتدون بهم ويرجعون إلى رأيهم". في كلام أكثر من هذا. وقد روي هذا مرفوعًا من حديث أبي هريرة (¬4). ¬

_ (¬1) أخرجه البزار (138 - كشف الأستار)، وابن عبد البر في "جامع بيان العِلْم وفضله" (115)، والخطيب في " الفقيه والمتفقه " (51)، ويعقوب بن سفيان في "المعرفة والتاريخ" (3/ 499) عن أبي سلمة، عن أبي هريرة وأبي ذر مرفوعًا. قال الهيثمي في "المجمع" (1/ 124): "رواه البزار، وفيه: هلال بن عبد الرحمن الحنفي، وهو متروك". (¬2) هكذا في "الأصل": وفي "الفقيه والمتفقه" برقم (50)، وفي "جامع بيان العِلْم وفضله" لابن عبد البر "خشية". (*) في "جامع بيان العِلْم" (268): ييلغ العبد بالعلم. (¬3) أخرجه ابن عبد البر في "جامع بيان العِلْم" (268) مرفوعًا وحكم عليه شيخنا الفاضل أبو الأشبال بالوضع فليراجع هناك. وليراجع "تكميل النفع" لشيخنا العلامة محمد عمرو عبد اللطف برقم (13). (¬4) أخرجه الخطيب في "الفقيه والمتفقه " (50).

ومما يدل على تفضيل العِلْم على العبادة: قصة آدم عليه السلام فإن الله تعالى إنما أظهر فضله على الملائكة بالعلم، حيث علمه أسماء كل شيء واعترفت الملائكة بالعجز عن معرفة ذلك، فلما أنبأهم آدم بالأسماء ظهر حينئذ فضله عليهم، وقال عز وجل لهم: {أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ} (¬1). وذكر طائفة من السلف أَنَّ الَّذِي كتمُوهُ أنّهُمْ قالُوا فِي أنفُسهمْ: لَنْ يَخْلُقَ اللهُ خَلْقًا إِلاَّ نَحْنُ أَكرَمُ عَلَيْهِ مِنْهُ. ومما يدل على فضل العِلْم أن جبرئيل عليه السلام، إنما فضل على الملائكة المشتغلين بالعبادة بالعلم الَّذِي خص به، فإنه صاحب الوحي الَّذِي ينزل به على الأنبياء -عليهم السلام-. وكذلك خواص الرسل إنما فضلوا على غيرهم من الأنبياء -عليهم السلام - بمزيد العِلْم المقتضي لزيادة المعرفة بالله والخشية له. ولهذا وصف الله تعالى محمدًا - صلى الله عليه وسلم - في كتابه ومدحه بالعلم الَّذِي اختصه به، وامتن به عليه في مواضع كثيرة، وأمره أن يعلمه لأمته. فأول ما ذكره بالعلم وبتعليمه في قصة إبراهيم حين دعا ربه لأهل، البيت الحرام أن يبعث فيهم رسولاً منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم، ويعلمهم الكتاب والحكمة، ثم امتن علينا بأن بعث فينا رسولاً منا، وهو محمد - صلى الله عليه وسلم - بهذه الصفة، فَقَالَ تعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} (¬2). ¬

_ (¬1) البقرة: 33. (¬2) آل عمران: 164.

وأول ما أنزل على محمد - صلى الله عليه وسلم - ذكر العِلْم وفضله، وهو قوله تعالى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} (¬1). وامتن على محمد - صلى الله عليه وسلم - بالعلم في مواضع، كقوله تعالى: {وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا} (¬2). وأمره أن يسأل ربه أن يزيده علمًا، فَقَالَ: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} (¬3). وكان - صلى الله عليه وسلم - يقول: "أَنَا أَعْلَمُكُمْ بِاللَّهِ وَأَشَدُّكُمْ لَهُ خَشْيَةً" (¬4). وامتن الله تعالى علينا أن بعث فينا هذا الرسول - صلى الله عليه وسلم - الَّذِي يعلمنا ما لم نكن نعلم وأمرنا بشكر هذه النعمة كما قال تعالى: {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ * فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ} (¬5). وأخبر سبحانه أنّه إنما خلق السموات والأرض ونزل الأمر إلا لنعلم بذلك قدرته وعلمه، فيكون دليلاً على معرفته ومعرفة صفاته، كما قال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ} إلى قوله: {وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} (¬6). ومدح الله في كتابه العلماء في مواضع كثيرة، وقد سبق ذكر بعضها، وأخبر أنّه إنما يخشاه من عباده العلماء، وهم العلماء به. ¬

_ (¬1) العلق: 1 - 5. (¬2) النساء: 113. (¬3) طه: 114. (¬4) أخرجه البخاري (20)، ومسلم (2356) من حديث عائشة، وأخرجه البخاري (5063) من حدث أنس. (¬5) البقرة: 151 - 152. (¬6) الطلاق: 12.

قال ابن عباس في قوله: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} (¬1). قال: "إِنَّمَا يَخَافَنِي مِنْ عِبَادِي مَنْ عَرِفَ جَلاَلِي وَكِبْرِيَائِي وَعَظَمَتِي". فأفضل العِلْم العِلْم بالله، وهو العِلْم بأسمائه وصفاته، وأفعاله التي توجب لصاحبها معرفة الله وخشيته ومحبته وهيبته وإجلاله وعظمته، والتبتل إِلَيْهِ والتوكل عليه، والرضا عنه، والاشتغال به دون خلقه. ويتبع ذلك العِلْم بملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتفاصيل ذلك، والعلم بأوامر الله ونواهيه وشرائعه وأحكامه، وما يحبه من عباده من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة، وما يكرهه من عباده من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة. ومن جمع هذه العلوم فهو من العلماء الربانيين، العلماء بالله، العلماء بأمر الله. وهم أكمل ممن قصر علمه على العِلْم بالله دون العِلْم بأمره وبالعكس، وشاهد هذا النظر في حال الحسن وابن المسيب والثوري وأحمد وغيرهم من العلماء الربانيين، وحال مالك بن دينار والفضيل بن عياض ومعروف وبشر وغيرهم من العارفين. فمن قايس بين الحالين عرف فضل العلماء بالله وبأمره على العلماء بالله فقط. فما الظن بتفضيل العلماء بالله وبأمره على العلماء بأمره فقط، فإن هذا واضح لا خفاء به، وإنما يظن بعض من لا علم له تفضيل العباد على العلماء؛ لأنهم تخيلوا أن العلماء هم العلماء بأمر الله فقط، وأن العباد هم العلماء بالله وحده، فرجحوا العالم بالله على العالم بأمره، وهذا حق. ¬

_ (¬1) فاطر: 28.

ونحن إنما نقول: إن العلماء بالله والعلماء بأمره أفضل من العباد، ولو كان العباد من العلماء بالله؛ لأنّ [العلماء] (¬1) الربانيين شاركوا العباد في فضيلة العِلْم بالله؛ بل ربما زادوا عليهم فيه، وانفردوا بفضيلة العِلْم بأمر الله، وبفضيلة دعوة الخلق إلى الله وهدايتهم إِلَيْهِ، وهو مقام الرسل -عليهم السلام- وكذلك كانوا خلفاء الرسل وورثتهم كما سيأتي ذكره -إن شاء الله تعالى. وهذا القدر الَّذِي انفردوا به عن العُبَّاد أفضل من القدر الَّذِي انفرد به العُبَّاد من نوافل العبادة، فإن زيادة المعرفة بما أنزل الله على رسوله توجب زيادة المعرفة بالله والإيمان به، وجنس المعرفة بالله والإيمان [به] (1) أفضل من جنس العمل بالجوارح والأركان، ولكن من لا علم له تعظم في نفسه العبادات على العِلْم؛ لأنّه لا يتصور حقيقة العِلْم ولا شرفه، ولا قدرة له على ذلك، وهو يتصور حقيقة العبادات، وله قدرة على جنسها في الجملة. ولهذا تجد كثيرًا ممن لا علم لديه يفضل الزهد في الدنيا على العلوم والمعارف وسببه ما ذكرناه. وهو أنّه لا يتصور معنى العِلْم والمعرفة، ومن لا يتصور شيئًا لا يقر فى صدره عظمته، وإنما يتصور الجاهل بالعلم حقيقة الدنيا، وقد عظمت في صدره، فعظم عنده من تركها. كما قال محمد بن واسع -وقد رأى (شابًّا) (*)، فقِيلَ لَهُ: هؤلاء زهاد- فَقَالَ: وَأَيُّ شَيْءٍ قَدْرُ الدُّنْيَا حَتَّى يُمْدَحَ مَنْ زَهِدَ فِيهَا. وقال أبو سليمان الداراني قريبًا من هذا المعنى أيضاً، فالمفتخر بالزهد في الدنيا كأنّه يفتخر بترك نزر يسير من شيء هو أقل عند الله من جناح بعوضة، وهذا أحقر من أن يذكر، فضلاً عن أن يفتخر به. ¬

_ (¬1) من المطبوع. (*) شبابًا: "نسخة".

ولهذا أيضاً يعظم في نفوس كثير من الناس ذكر الخوارق والكرامات، ويرونها أفضل مما أعطيه العلماء من المعرفة والعلم، وإنما يتصورون حقيقة الخوارق؛ لأنها من جنس القدرة والسلطان في الدنيا، الَّذِي يعجز أكثر الناس عنه. وأما العلماء بالله فلا تعظم هذه الخوارق عندهم؛ بل يرون الزهد فيها، وإنها من نوع الفتنة والمحنة وبسط الدنيا على العبد، فيخافون من الاشتغال بها والوقوف معها، والانقطاع عن الله عز وجل. وقد ذكر أبو طالب المكي هذا المعنى فى كتابه عن كثير من العارفين منهم أبو يزيد، ويحيى بن معاذ، وسهل [التستري] (¬1)، وذو النون، [والجنيد] (1) وغيرهم. وقيل لبعضهم: إن فلانًا يمشي على الماء! فَقَالَ: "مَنْ أَمْكَنهُ اللهُ مِنْ مُخَالَفَةِ هَوَاهُ فَهُوَ أَفْضَلُ". وكان أبو حفص النيسابوري يومًا جالسًا مع أصحابه خارج المدينة، وهو يتكلم عليهم، فطابت أنفسهم فجاء أيل (¬2) قد نزل من الجبل حتى برك بين يديه، فبكى بكاءً شديدًا وانزعج، فسئل عن سبب بكائه، فَقَالَ: رأيت اجتماعكم حولي وقد طابت قلوبكم، فوقع في قلبي، لو أن لي شاة ذبحتها ودعوتكم، فما تحكم هذا الخاطر حتى جاء هذا الوحش فبرك بين يدي، فخيل لي أني مثل فرعون، الَّذِي سأل ربه أن يجري له النيل فأجراه له، قلت: فما يؤمنني أن يكون الله يعطني كل حظ في الدنيا، وأبقى في الآخرة فقيرًا لا شيء لي، فهذا الَّذِي أزعجني. ¬

_ (¬1) من المطبوع. (¬2) الأيْل، الذكر من الأوعال. قال الخليل: وإنما سُمي أَيْلاً؛ لأنّه يئول إلى الجبال. "اللسان" مادة: (أول). والوعل: تيس الجبل. "اللسان" مادة: (وعل).

فأحوال العارفين كلها تدل على أنّهم لم يكونوا يلتفتون إلى هذه الخوارق وإنما كان اهتمامهم بمعرفة الله وخشيته، ومحبته والأنس به، والشوق إلى لقائه وطاعته، والعلماء الربانيون [يشاركون] (¬1) في ذلك ويزيدون عليهم بالعلم بأمر الله وبدعوة الخلق إلى الله. وهذا هو الفضل العظيم عند الله وملائكته ورسله كما قال بعض السلف: مَنْ عَمِلَ وَعَلِمَ وَعَلَّمَ فَذَلِكَ يُدْعَى عَظِيمًا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاءِ. وإذا ظهر فضل العالم على العابد، فإنما المراد تفضيله على العابد بعلم، فأما العابد بغير علم؛ فإنه مذموم. ولهذا شبهه السلف بالسائر على غير طريق، وبأنه يفسد أكثر مما يصلح. وبأنه كالحمار في الطاحون، يدور حتى يهلك من التعب ولا ييرح من مكانه. وهذا أشد ظهورًا ووضوحًا من أن يحتاج إلى بسط القول فيه. ولنضرب هاهنا مثلاً جامعًا لأحوال الخلق كلهم، بالنسبة إلى دعوة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وانقسامهم في إجابة دعوته إلى: سابق، ومقتصد، وظالم لنفسه، وبه يظهر فضل العلماء الربانيين على غيرهم من الناس أجمعين، فنقول: مثل ذلك كمثل رسول قدم من بلد الملك الأعظم فأدى رسالة الملك إلى سائر البلدان، وظهر لهم صدقه في رسالته، فكان مضمون رسالته التي أداها عند الملك الأعظم إلى رعيته: أن هذا الملك لا إحسان أتم من إحسانه، ولا عدل أكمل من عدله، ولا بطش أشد من بطشه، وأنه لابد أن يستدعي الرعية كلهم إِلَيْهِ ليقيموا عنده، فمن قدم عليه بإحسان جازاه بإحسانه أفضل الجزاء، ومن قدم عليه بإساءة جازاه بإساءته أشد الجزاء، وأنه يحب كذا وكذا، ويكره كذا وكذا، ولم يدع شيئًا مما تعمله الرعية إلا أخبرهم بما يحبه الملك منه وبما يكره، وأمرهم ¬

_ (¬1) في المطبوع: يشاركونهم.

بالتجهز والسير إلى دار الملك التي فيها الإقامة وأخبرهم بخراب جميع البلدان سوى ذلك البلد، وأن من لم يتجهز للسير بعث إِلَيْهِ الملك من يزعجه عن وطنه، وينقله منه على أسوأ حال، وجعل يصف صفات هذا الملك الحسنى من الجمال والكمال، والجلال والإفضال. فانقسم الناس في إجابة هذا الرسول الداعي إلى الملك أقسامًا عديدة: فمنهم من صدقه، ولم يكن له هم إلا السؤال عما يحب هذا الملك من الرعية واستصحابه إلى داره عند السير إِلَيْهِ. فانشغل بتخليصه لنفسه، وبدعاء من يمكنه دعاؤه من الخلق إلى ذلك، وعما يكرهه الملك، فاجتنبه وأمر الناس باجتنابه، وجعل همه الأعظم السؤال عن صفات الملك وعظمته وإفضاله، فزاد بذلك محبته لهذا الملك وإجلاله، والشوق إلى لقائه، فارتحل إلى الملك مستصحبًا لأنفس ما قدر عليه مما يحبه الملك ويرتضيه، واستصحب معه ركبًا عظيمًا على مثل حاله، سار بهم إلى دار الملك. وقد عرف من جهة ذلك الدليل -وهو الرسول الصادق- أقرب الطرق التي يتوصل بالسير فيها إلى الملك، وما ينفع من التزود للمسير فيها، وعَمِلَ بمقتضى ذلك في السير هو ومن اتبعه. فهذه صفة العلماء الربانيين الذين اهتدوا وهدوا الخلق معهم إلى طريق الله، وهؤلاء يقدمون على الملك قدوم الغائب على أهله، المنتظرين لقدومه، المشتاقين إِلَيْهِ أشد الشوق. وقسم آخرون اشتغلوا بالتأهب لمسيرهم بأنفسهم إلى الملك ولم يتفرغوا لاستصحاب غيرهم معهم. وهذه صفة العباد الذين تعلموا ما ينفعهم في خاصة أنفسهم، واشتغلوا بالعمل بمقتضاه.

وقسم آخرون تشبهوا بأحد القسمين، وأظهروا للناس أنّهم منهم، وأن قصدهم التزود للرحيل، وإنما كان قصدهم استيطان دارهم الفانية. وهم العلماء والعباد المراءون بأعمالهم؛ لينالوا بذلك مصالح دارهم التي هم بها مستوطنون، وحال هؤلاء عند الملك الأعظم إذا قدموا عليه شر حال، ويقال لهم: اطلبوا جزاء أعمالكم ممن عملتم لهم، فليس لكم عندنا من خلاف، وهم أول من تسعر بهم النار من أهل التوحيد. وقسم آخرون فهموا ما أراده الرسول من رسالة الملك، لكنهم غلب عليهم الكسل والتقاعد عن التزود للسفر. واستصحاب ما يحب الملك، واجتناب ما يكرهه. وهؤلاء العلماء الذين لا يعملون بعلمهم، وهم على شفا هلكة، وربما انتفع غيرهم بمعرفتهم ووصفهم لطريق السير، فسار المتعلمون فنجوا، وانقطع بمن تعلموا منهم الطريق فهلكوا. وقسم آخرون صدقوا الرسول فيما دعا إِلَيْهِ من دعوة الملك، لكنهم لم يتعلموا منه طريق السير، ولا معرفة تفاصيل ما يحبه الملك وما يكرهه، فساروا بأنفسهم، ورموا نفوسهم في طرق شاقة، ومخاوف وقفار وعرة، فهلك أكثرهم، وانقطعوا في الطريق، ولم يصلوا إلى دار الملك. وهؤلاء هم الذين يعملون بغير علم. وقسم لم يهتموا بهذه الرسالة، ولا رفعوا بها رأسًا، واشتغلوا بمصالح إقامتهم في أوطانهم التي أخبر الرسول بخرابها. وهؤلاء: منهم من كذب الرسول بالكلية ومنهم من صدقه بالقول ولكنه لم يشتغل بمعرفة ما دل عليه ولا بالعمل به، وهؤلاء عموم الخلق المُعْرِضُون عن العِلْم والعمل.

ومنهم الكفار والمنافقون، ومنهم العصاة الظالمون لأنفسهم. فلم يشعروا إلا وقد طرقهم داعي الملك، فأخرجهم عن أوطانهم، واستدعاهم إلى الملك، فقدموا عليه قدوم الآبق على سيده الغضبان. فإذا تأملت أقسام الناس المذكورة لم تجد أشرف ولا أقرب عند الملك من العلماء الربانيين، فهم أفضل الخلق بعد المرسلين. قوله -صلى الله عليه وسلم-: "وَإِنَّ العُلَمَاءَ هُمْ وَرَثَةُ الأَنْبِيَاءِ". يعني أنّهم ورثوا ما جاء به الأنبياء من العِلْم، فخلفوا الأنبياء في أممهم بالدعوة إلى الله وإلى طاعته، والنهي عن معاصي الله والذب عن دينه. وفي مراسيل الحسن، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "رَحْمَةُ اللهِ عَلَى خُلَفَائِي. قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، وَمَنْ خُلَفَاؤُكَ؟ قَالَ: «الَّذِينَ يُحْيُونَ سُنَّتِي مِنْ بَعْدِي وَيُعَلِّمُونَهَا عِبَادَ اللَّهِ". وقد روي نحوه من حديث (¬1) علي بن أبي طالب رضي الله عنه مرفوعًا أيضاً. فالعلماء في مقام الرسل بين الله وبين خلقه، كما قال ابن المنكدر: إِنَّ العَالِمَ بَيْنَ اللهِ وَبَيْنَ خَلْقِهِ، فَلْيَنْظُرْ كَيفَ يَدْخُلُ عَلَيْهِمِ. وقال ابن عيينة: أَعْظَمُ النَّاسِ مَنْزِلَةً مَنْ كَانَ بَيْنَ اللهِ وَبَيْنَ خَلْقِهِ: الأَنْبِيَاءُ، وَالعُلَمَاءُ. وقال سهل التستري: مَنْ أَرَادَ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى مَجَالِسِ الأَنْبِيَاءِ فَلْيَنْظُرْ إِلَى مَجَالِسِ العُلَمَاءِ، يَجِيءُ الرَّجُلُ فَيَقُولُ: يَا فُلاَنُ، أيش تَقُولُ فِي رَجُلٍ حَلَفَ عَلَى امْرَأَتِهِ كَذَا وَكَذَا؟ فَيَقُولُ: طُلِّقَتْ امْرَأَتُهُ، وَيَجِيءُ آخَرُ فَيَقَولُ: مَا تَقُولُ ¬

_ (¬1) أخرجه الرامهرمزي في "المحدث الفاصل" (1/ 163) عن علي بنحوه. وقال الذهبي في "الميزان" (1/ 270): هذا باطل. وذكره الديلمي في "فردوس الأخبار" (1/ 479) بلفظ: "اللهم ارحم خلفائي، الذين يرون أحاديثي وسنتي، ويعلمونها الناس".

في رَجُلٍ حَلَفَ عَلَى امْرَأَتِهِ بِكَذَا وَكَذَا؟ فيقول: ليس يحنث بهذا القول. وليس هذا إلا لنبي أو عالم، فاعرفوا لهم ذلك. ورأت امرأة من العابدات في زمن الحسن البصري، كأنها تستفتي في المستحاضة، فقِيلَ لَهُا: أتستفتين وفيكم الحسن، وفي يده خاتم جبرئيل عليه السلام؟ وفي هذا إشارة إلى وراثة الحسن ما جاء به جبرئيل من الوحي بخاتمه. ورأى بعض العلماء النبي -صلى الله عليه وسلم- في المنام فَقَالَ له: يا رسول الله، قد اختلف علينا في مالك والليث أيهما أعلم؟ فَقَالَ - صلى الله عليه وسلم -: مالك ورث جدي -يعني: ورث علمي. ورأى بعضهم في المنام النبي -صلى الله عليه وسلم- قاعدًا في المسجد، والناس حوله، ومالك قائم بين يديه، وبين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مسك، وهو يأخذ منه قبضة فيدفعها إلى مالك، ومالك ينشرها على الناس فأول ذلك لمالك بالعلم واتباع السنة. ورأى الفضيل بن عياض النبي -صلى الله عليه وسلم- في منامه جالسًا، وإلى جنبه فرجة، فجاء ليجلس فيها، فَقَالَ له النبي -صلى الله عليه وسلم-: "هذا مجلس أبي إسحاق الفزاري". فسئل بعضهم: أيهما كان أفضل أبو إسحاق أو فضيل؟ فَقَالَ: كان فضيل رجل نفسه، وكان أبو إسحاق رجل عامة. يشير إلى أنّه كان عالمًا ينتفع الناس بعلمه، وكان فضيل عابدًا نفعه لنفسه. والعلماء في الآخرة يتلون الأنبياء في الشفاعة وغيرها، كما في الترمذي (¬1)، عن عثمان، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "يَشْفَعُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الْأَنْبِيَاءُ، ثُمَّ الْعُلَمَاءُ، ثُمَّ الشُّهَدَاءُ". ¬

_ (¬1) لم أقف عليه عند الترمذي، وإنما أخرجه ابن ماجه (4313). وذكره البيهقي في "شعب الإيمان" (1707) وقال: وروينا في مسألة الشفاعة من كتاب "البعث" عن عثمان بن عفان مرفوعًا .. فذكره. وذكره الديلمي في "الفردوس" (5/ 519) عنه أيضاً.

وقال مالك بن دينار: "بَلَغَنَا أَنّهُ يُقَالُ لِلعَابِدِ: ادْخُلِ الجَنَّةَ، وَيُقَالُ لِلْعَالِمِ: قِفْ فَاشْفَعْ". وقد روي هذا مرفوعًا من حديث أبي هريرة (¬1) بإسناد ضعيف جدًّا. وللعلماء الكلام في الموقف إذا اشتبهت الأمور على الناس؛ فإذا ظن أهل الموقف أنّهم لم يلبثوا في قبورهم إلا ساعة؛ بَيّن أهل العِلْم أن الأمر على خلاف ذلك كما قال تعالى: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ * وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ} الآية (¬2). والعلماء يخبرون يوم القيامة بخزي المشركين كما قال تعالى: {ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ} (¬3). وقد روي في حديث مرفوع: "إِنَّ النَّاسَ يَحْتَاجُونَ فِي الجَنّةِ إِلَى العُلَمَاءِ كَمَا كَانُوا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِمْ في الدُّنيا، إِذَا اسْتَدْعَى الرَّبُّ أَهْلَ الجَنَّةِ لِزِيَارَتِهِ وَقَالَ لَهُمْ: سَلُونِي مَا شِئْتُمْ فَيَلْتَفِتُونَ إِلَى العُلَمَاءِ مِنْهُمْ، فَيَقُولُونَ: سَلُوهُ رُؤْيَتِهِ؛ فَمَا فِي الْجَنَّةِ أَعْظَمُ مِنْهَا" (¬4). وهذا كله يبين أن لا درجة بعد النبوة أفضل من درجة العلماء. ¬

_ (¬1) أخرجه الخطيب في "الفقيه والمتفقه" (68) من حديث أنس، وأخرجه أيضاً (69) من حديث ابن عباس. (¬2) الروم: 55 - 56. (¬3) النحل: 27. (¬4) ذكره الذهبي في "الميزان" (6/ 22 - علمية) عن جابر مرفوعًا بنحوه، وقال: وهذا موضوع.

وقد يطلق اسم العلماء ويراد إدخال الأنبياء فيهم كما في قوله تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ} (¬1). فلم يفرد الأنبياء بالذكر؛ بل أدخلهم في مسمى العلماء، وكفى بهذا شرفًا للعلماء أنّهم يسمون باسم يجتمعون هم والأنبياء فيه. ومن هنا قال من قال: إِنَّ العُلَمَاءَ العَامِلِينَ هُمْ أَوْلِيَاءُ اللهِ. كما قال أبو حنيفة والشافعي: إِنْ لَمْ يَكُنْ العُلَمَاءُ وَالفُقَهَاءُ أَوْلِيَاءَ اللهِ فَلَيْسَ للهِ وَلِيٌّ. وقال الإمام أحمد في أَهْلِ الْحَدِيثِ: إِنَّهُمْ هُمُ الأَبْدَالُ. قوله -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا، وَإِنَّمَا وَرَّثُوا الْعِلْمَ؛ فَمَنْ أَخَذَهُ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ". والمراد بهذا أن العلماء ورثوا الأنبياء فيما خلفوه، وأن الَّذِي خلف الأنبياء هو العِلْم النافع، فمن أخذ العِلْم وحصل له فقد حصل له الحظ العظيم الوافر الَّذِي يغبط به صاحبه. وَرَأَى ابْنُ مَسْعُود قَوْمًا فِي المَسْجِدِ يَتَعَلَّمُونَ فَقَالَ رَجُلٌ: عَلَى مَا اجْتَمَعَ هَؤُلاَءِ؟ فَقَالَ: عَلَى مِيرَاثِ مُحَمَّد - صلى الله عليه وسلم - يَقْتَسِمُونَهُ. وخرج أبو هريرة إلى السوق، فَقَالَ لأهله: تَرَكْتُمْ مِيرَاثَ مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - يُقْتَسَمُ فِي المَسْجدِ ِوَأَنْتُمْ هَا هُنَا (¬2)؟! فتركة النبي - صلى الله عليه وسلم - وميراثه هو هذا الكتاب الَّذِي جاء به مع السنة المفسرة له المبينة لمعانيه. وفي "صحيح البخاري" (¬3) عن ابن عباس "أنّه سئل: أترك النبي -صلى الله عليه وسلم- من شيء؟ قال: مَا تَرَكَ إِلَّا مَا بَيْنَ الدَّفَّتَيْنِ، يَعْنِي: دفتي المُصْحَف". ¬

_ (¬1) آل عمران: 18. (¬2) ذكره الهيثمي في "المجمع" (1/ 124) وقال: رواه الطبراني في "الأوسط"، وإسناده حسن. أهـ. (¬3) برقم (5019).

وفي " الصحيحين " (¬1) عن ابن أبي أوفى "أنّه سئل: هل وصى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بشيء؟ قال: وَصَّى بِكِتَابِ اللهِ ". وخطب -صلى الله عليه وسلم- في مرجعه من حجة الوداع فَقَالَ: "إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ، يُوشِكُ أَنْ يَأْتِيَنِي رَسُولُ رَبِّي فَأُجِيبَهُ، وَإِنِّي تَارِكٌ فِيكُمُ الثَّقَلَيْنِ: أَوَّلَهُمَا: كِتَابُ اللَّهِ، فِيهِ الْهُدَى وَالنُّورُ، مَنِ اسْتَمْسَكَ بِهِ وَأَخَذَ بِهِ كَانَ عَلَى الهُدَى وَمَنْ أَخْطَأَهُ ضَلَّ" خرَّجه مسلم (¬2). وفي "المسند" (¬3) عن عبد الله بن عمرو قال: خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا كَالْمُوَدِّعِ، فَقَالَ: "أَنَا النَّبِيُّ الْأُمِّيُّ " -قَالَ ذَلِكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ- "وَلَا نَبِيَّ بَعْدِي، أُوتِيتُ فَوَاتِحَ الْكَلِمِ وَجَوَامِعَهُ، وَعَلِمْتُ كَمْ خَزَنَةُ النَّارِ وَحَمَلَةُ الْعَرْشِ، وَعُوفِيتْ أُمَّتِي، فَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا مَا دُمْتُ فِيكُمْ؛ فَإِذَا ذُهِبَ بِي فَعَلَيْكُمْ بِكِتَابِ اللهِ، أَحِلُّوا حَلَالَهُ وَحَرِّمُوا حَرَامَهُ". قوله -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا، وَإِنَّمَا وَرَّثُوا الْعِلْمَ". يريد أنّهم لم يورث عنهم سوى العِلْم، وهذا يبين المراد بقوله تعالى: {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ} (¬4). وقوله تعالى عن زكريا أنّه قال: {فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (5) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ} (¬5). إنما أريد به ميراث العِلْم والنبوة لا المال؛ فإن الأنبياء لا يجمعون مالاً يتركونه. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (5022)، ومسلم (1634). (¬2) برقم (2408). (¬3) (2/ 172). (¬4) النمل: 16. (¬5) مريم: 4 - 5.

قال عليه السلام: "مَا تَرَكْتُ بَعْدَ مُؤْنَةِ عَامِلِي وَنَفَقَةِ عِيَالِي فَهُوَ صَدَقَةٌ" (¬1). "وَمَا تَرَكَ إِلاَّ دِرْعَهُ وَسِلاَحه وَبَغْلَتَهُ البَيْضَاءَ وَأَرْضًا جَعَلَهَا صَدَقَةً" (¬2). فلم يخلف سوى آلته الَّذِي بعث به، والأرض التي كان يقتات منها هو وعياله، ردها صدقة على المسلمين. وكل هذا إشارة إلى أن الرسل لم تبعث بجمع الدنيا وتوريثها لأهليهم، وإنما بعثوا بالدعوة إلى الله والجهاد في سبيله والعلم النافع وتوريثه لأممهم. وفي مراسيل أبي مسلم الخولاني، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَا أَوْحَى اللهُ إِلَيَّ أَنْ أَجْمَعَ المَالَ وَأَكُنْ مِنَ التَّاجِرِينَ، وَلَكِنْ أَوْحَى إِلَيّ: أَنْ سَبّحَ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ، وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ اليَقِينُ" خرجه أبو نعيم (¬3). وفي الترمذي (¬4) وغيره عن ابن مسعود أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَا لِي وَلِلدُّنْيَا؟! إنَّمَا مَثَلِي وَمَثَلُ الدُّنْيَا كَرَاكِبٍ اسْتَظَلَّ بِظِلِّ شَجَرَةٍ، ثُمَّ رَاحَ وَتَرَكَهَا". فقوله - صلى الله عليه وسلم -: "وَإِنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ، وَإِنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا، وَإِنَّمَا وَرَّثُوا الْعِلْمَ". فيه إشارة إلى أمرين: أحدهما: أن العالم الَّذِي هو وارث للرسول حقيقة، كما أنّه ورث علمه فينبغي أن يورثه كما ورث الرسول العِلْم، وتوريث العالم العِلْم هو أن يخلفه بعده بتعليم أو تصنيف، ونحو ذلك مما ينتفع به بعده. وفي " الصحيح " (¬5) عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إِذَا مَاتَ العبدُ انْقَطَعَ عَمَلُه إِلَّا مِنْ ثَلَاثٍ: عِلْمٍ نَافِعٍ، أَوْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ". ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (3096)، ومسلم (1760) من حديث أبي هريرة. (¬2) أخرجه البخاري (2739) من حديث عمرو بن الحارث. (¬3) في "الحلية" (2/ 131). (¬4) برقم (2377). (¬5) أخرجه مسلم (1631).

فالعالم إذا عَلَّم من يقوم به بعده؛ فقد خلف علمًا نافعًا وصدقة جارية؛ لأنّ تعليم العِلْم صدقة، كما سبق عن معاذ وغيره، والذين علمهم بمنزلة أولاد الصالحين يدعون له، فيجتمع له بتخليف علمه هذه الخصال الثلاث. والأمر الثاني: أن من كمال ميراث العالم للرسول -عليه السلام- أن لا يخلف الدنيا كما لم يخلفها الرسول، وهذا من جملة الاقتداء بالرسول وبسنته في زهده في الدنيا، وتقلله منها، واجتزائه منها باليسير. كما كان سهل التستري يقول: مِنْ عَلاَمَةِ حُبِّ السُّنَّةِ حُبُّ الآخِرَةِ وَبُغْضُ الدُّنْيَا، وألا يأخذ مِنْهَا إِلاَّ زَادًا بُلْغَةً إِلَى الآخِرَةِ. وقال مالك بن دينار: إِنَّمَا العَالِمُ الَّذِي إِذَا أَتَيْتَهُ فِي بَيْتِهِ فَلَمْ تَجِدْهُ قَصَّ عَلَيْكَ بَيْتِهِ، رَأَيْتَ حَصِيرَةَ الصَّلاةِ وَمُصْحَفِهِ وَمَطْهَرَتَهُ فِي جَانِبِ البَيْتِ، تَرَى أَثَرَ الآخِرَةِ. وكان الفضيل يقول: احْذَرُوا عَالِمَ الدُّنْيَا لاَ يَصُدَّكُمْ بِسُكْرِهِ. ثم قال: إِنَّ كثيرًا مِنْ عُلَمَائِكُمْ زِيُّهُ أَشْبَهَ بِزِيِّ كِسْرَى وَقَيْصَر، أَشْبَهُ مِنْهُ بِزِيِّ مُحَمَّد -صلى الله عليه وسلم-، إِنَّ مُحَمَّدًا لَمْ يَضَعْ لَبِنَةً عَلَى لَبِنَةٍ، وَلاَ قَصَبَةً عَلَى قَصَبَةٍ، وَلَكِنْ رُفِعَ لَهُ عَلَمٌ فَشَمَّرَ إِلَيْهِ". وكان يقول: العُلَمَاءُ كَثِيرٌ وَالحُكَمَاءُ قَلِيلٌ، وَإِنَّمَا يُزَادُ مِنَ العِلْمِ الحِكْمَةُ، فَمَنْ أُوتِيَ الحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا. وهكذا كان حال العُلَمَاء الربانيين كالحسن وسفيان وأحمد، اجتزءوا من الدنيا باليسير إلى أن خرجوا منها، ولم يخلفوا سوى العِلْم، مع أن بعضهم كان يلبس لباسًا حسنًا، ويأكل أكلاً متوسطًا بعيدًا من التقشف. كالحسن البصري؛ فإنه كان يأكل اللحم كل يوم، كان يشتري بنصف درهم لحمًا فيطبخه مرقة طيبة فيأكل منه هو وعياله، ويُطْعِمُ كل من دخل عليه، وكان يلبس الثياب الحسنة، وهو مع هذا أزهد الناس في الدنيا، وما زاحم على شيء منها قط.

وكان الناس إذا دخلوا عليه خرجوا من عنده، ولا يعدون الدُّنْيَا شيئًا، وما رأوا أشد احتقارًا لأهل الدُّنْيَا منه. وكانوا يدخلون عليه في مرضه يعودونه وليس في بيته إلا سرير مرمول (¬1) هو عليه، وليس في بيته قليل ولا كثير، حتى قال ابن عون: "إِنَّمَا اسْتَبَدَّ الحَسَنُ النَّاس بِالزُّهْدِ فِي الدُّنْيَا، فَأَمَّا العِلْمُ فَقَدْ شُورِكَ فِيهِ". وكان الحسن يقول: "إِنَّمَا الْفَقِيهُ الزَّاهِدُ فِي الدُّنْيَا، الرَّاغِبُ فِي الْآخِرَةِ، المُجْتَهِدُ فِي العِبَادَةِ، القَائِمُ بِسُنَّةِ مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم -، من رأى مُحَمَّدًا فقد رآه غاديًا ورائحًا لم يضع لبنة، على لبنة ولا قصبة على قصبة؛ إِنَّمَا رفع له علم فشمر إِلَيْهِ". وكان سفيان الثوري أشد تقشفًا في ملبسه من الحسن، حتى كان من يراه ولا يعرفه يظنه من السؤال، وكان مع شدة ورعه إذا وجد الحلال أكل منه طيبًا، وإن لم يجد حلالاً استف الرمل، وربما بقي ثلاثًا لا يطعم شيئًا مع عرض الناس عليه الأموال الكثيرة. وكان إذا شبع من الحلال يزيد في عمله ويقول: "أطعم الزنجي وكده ". وكان أزهد الناس في الدُّنْيَا في زمانه حتى كان يتعرى بمجلسه عن الدُّنْيَا ولم تكن السلاطين والملوك والأغنياء أذل منهم في مجلسه، ولا الفقراء والمساكين أعز منهم فى مجلسه. وكان الخوف قد غلب عليه، فلما مرض مرض الموت حُمل ماؤه إلى طبيب فَقَالَ: "لَيْسَ لِهَذَا دَوَاءٌ، هَذَا قَدْ فَتَّتَ الحُزنُ وَالخَوفُ كَبِدَهُ". ويقال: لم يكن في زمانه من هو أخوف لله منه، ولا من هيبة الله في صدره أعظم منه. ¬

_ (¬1) قال أبو عبيد: رملت الحصير وأرملته، فهو مرمول اذا نسجته، "اللسان" مادة: (رمل).

ولما مات قال بعض العُلَمَاء: معشر أهل الهوى، كلوا الدُّنْيَا بالدين، فقد مات سفيان، يعني؛ ما بقي بعده أحد يستحيا منه. وأما الإمام أحمد فكان أشد منهما تقشفًا في عيشه وأكثر صبرًا على خشونة العيش للقلة، وكانت معيشته من حوانيت له ورثها من أبيه، ويأخذ أجرها في الشهر دون عشرين درهمًا، ومات لم يخلف إلا قطعًا في خرقة له، كان وزنها دون نصف درهم، وترك عليه دينًا قضي عنه من أجرة حوانيته مع كثرة ما كان يرد عليه من الخلفاء من الجوائز والصلات. وكان يحيى بن أبي كثير من العُلَمَاء الربانيين المتوسعين في العِلْم، وكان يقال: إنَّهُ لَمْ يَبْقَ عَلَى وَجْهِ الأَرْضِ مِثْلُهُ، وَكَانَ حسن الثياب، حسن الهيئة، فلما مات خلف ثلاثين درهمًا كفنوه بها رحمه الله. وكان محمد بن أسلم الطوسي من العُلَمَاء الربانيين الزهاد، فمات ولم يخلف سوى كساءه ولبده (¬1)، فوضعوهما على نعشه وإناء للوضوء تصدقوا به. فكان النساء على السطوح يقلن في جنازته: هَذَا العَالِمُ الَّذِي خَرَجَ مِنَ الدُّنْيَا، وَهَذَا مِيرَاثُهُ الَّذِي عَلَى جَنَازَتِهِ، لَيْسَ مِثْلَ عُلَمَائِنَا هَؤُلاَءِ عَبِيدُ بُطُونِهِمْ، يَجْلِسُ أَحَدُهُمْ لِلْعِلْمِ سَنَتَيْنِ أَوْ ثَلاَثًا فَيَشْتَرِي الضّيَاعَ وَيَسْتَفِيدُ المَالَ. وقال العباس بن مرثد: سَمِعْتُ أَصْحَابَنَا يَقُولُونَ: صَارَ إِلَى الأَوْزَاعِي أَكْثَرُ مِنْ سَبْعِينَ أَلْفَ دِينَارٍ مِنَ السُّلْطَانِ مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ، فَلَمَّا مَاتَ خَلَّفَ سَبْعَةَ دَنَانِيرَ بَقِيَتْ بَقِيَّة، وَمَا كَانَ لَهُ أَرْضٌ وَلاَ دَارٌ. قال العباس: نَظَرْنَا فَإِذَا هُوَ أَخْرَجَهَا فِي سَبِيلِ اللهِ وَالفُقَرَاءِ. وقد وصف الله سبحانه في كتابه العُلَمَاء بأوصاف منها: الخشية والخشوع والبكاء، كما سبق ذكره. ¬

_ (¬1) اللبد: من البُسُط، "اللسان" مادة: (لبد).

ومنها احتقار الدُّنْيَا والتزهيد فيها كما قال تعالى في قصة قارون: {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ * وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ} (¬1). وقيل للإمام أحمد: إِنَّ ابن المبارك قِيلَ لَهُ: كيف يعرف العالم الصادق؟ فَقَالَ: الَّذِي يَزْهَدُ فِي الدُّنْيَا وَيُقْبِلُ عَلَى أَمْرِ الآخِرَةِ. فَقَالَ أحمد: نعم، هكذا ينبغي أن يكون. وكان أحمد ينكر على أهل العِلْم حب الدُّنْيَا والحرص على طلبها. واعلم أنّه إِنَّمَا أهلك أهل العِلْم وأوجب إساءة ظن الجهال بهم وتقديم جهال المتعبدين عليهم ما دخل عليهم من الطمع في الدُّنْيَا. وقد رأى علي بن أبي طالب- رضي الله عنه- رجلاً يقص، فَقَالَ له: لأَسْأَلَنَّكَ مَسْأَلَةً، فَإِنْ خَرَجْتَ مِنْهِا وَإِلاَّ عَلَوْتُكَ بِهَذِهِ الدُّرَّةِ، فَقَالَ له: سَلْ يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ. فَقَالَ له: مَا ثَبَاتُ الدِّينِ وَزَوَالُهُ؟ فَقَالَ له: ثَبَاتُ الدِّينِ الوَرَعُ، وَزَوَالُهُ الطَّمَعُ. فَقَالَ له: قُصَّ، فَمِثْلُكَ يَقُصُّ (¬2). وهذا السؤال من علي -رضي الله عنه- لهذا القاص فيه إشارة إِلَى أن من نشر علمه للناس وتكلم عليهم، ينبغي أن يكون ورعًا عما في أيديهم، غير طامع في شيء من أموالهم ولا أرزاقهم، ولا اجتلاب قلوبهم اليه، وإنما ينشر علمه لله عز وجل ويتعفف عن الناس بالورع. ¬

_ (¬1) القصص: 79 - 80. (¬2) أخرجه أبو نعيم في "الحلية" (4/ 136).

وفي "سنن ابن ماجه" (¬1) عن ابن مسعود قال: "لَوْ أَنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ صَانُوا الْعِلْمَ وَوَضَعُوهُ عِنْدَ أَهْلِهِ لَسَادُوا أَهْلَ زَمَانِهِمْ، وَلَكِنَّهُمْ بَذَلُوهُ لِأَهْلِ الدُّنْيَا لِيَنَالُوا بِهِ مِنْ دُنْيَاهُمْ فَهَانُوا عَلَيْهِمْ، سَمِعْتُ نَبِيَّكُمْ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَنْ جَعَلَ الْهُمُومَ هَمًّا وَاحِدًا: هَمَّ آخِرَتِهِ، كَفَاهُ اللَّهُ هَمَّ دُنْيَاهُ، وَمَنْ تَشَعَّبَتْ بِهِ الْهُمُومُ فِي أَحْوَالِ الدُّنْيَا لَمْ يُبَالِ اللَّهُ فِي أَيِّ وَادٍ مِنْ أَوْدِيَتِهَا هَلَكَ". وقال أبو حازم الزاهد: لَقَدْ أَتَتْ عَلَيْنَا بُرْهَةٌ مِنْ دَهْرِنَا وَمَا عَالِمٌ يَطْلُبُ أَمِيرًا، وَكَانَ الرَّجُلُ إِذَا عَلِمَ اكْتَفَى بِالعِلْمِ عَمَّا سِوَاهُ، فَكَانَتْ الأُمَرَاءُ تعساهم في منازلهم وتقتبس منهم، فَكَانَ فِي ذَلِكَ صَلاَحٌ لِلْفَرِيقَيْنِ لِلْوَالِي والمُولى عَلَيْهِ، فَلَمَّا رَأَتْ الأُمَرَاءُ أَنَّ العُلَمَاءَ قَدْ غَشُّوهُمْ وَجَالَسُوهُمْ، وَسَأَلُوهُمْ مَا فِي أَيْدِيهِمْ هَانُوا عَلَيْهِمْ، وَتَرَكُوا الأَخْذَ عَنْهُمْ وَالاقْتِبَاسَ مِنْهُمْ، فَكَانَ فِي ذَلِكَ هَلاَكُ الفَرِيقَيْنِ الوَالِي والمُولى عَلَيهِ. ودخل أعرابي البصرة فَقَالَ: مَنْ سَيّدُ هَذِهِ القَرْيَةِ؟ فقالوا: الحَسَنُ، قَالَ: فَبِمَ سَادهُمْ؟ قالوا: احْتَاجَ النَّاسُ إِلَى عِلْمِهِ، وَاسْتَغْنَى هُوَ عَنْ دُنْيَاهُمْ. وكان الحسن يقول: إِنَّ لِكُلِّ شَيْءٍ شَيْنًا، وَشَيْنُ العِلْمِ الطَّمَعُ. وقال: مَنْ ازْدَادَ عِلْمًا فَازْدَادَ عَلَى الدُّنْيَا حِرْصًا، لَمْ يَزْدَدْ مِنَ اللهِ إِلاَّ بُعْدًا، وَلَمْ يَزْدَدْ اللهُ لَهُ إِلاَّ بُغْضًا. واجتاز الحسن يَوْمًا ببعض القراء عَلَى أبواب بعض السلاطين فَقَالَ: أَقْرَحْتُمْ جِبَاهَكُمْ، وَفَرْطَحْتُمْ نِعَالَكُمْ، وَجِئْتُمْ بِالعِلْمِ تَحْمِلُونَهُ عَلَى رِقَابِكُمْ إِلَى ¬

_ (¬1) برقم (257، 4106).

أَبْوَابِهِمْ، فَزَهِدُوا فِيكُمْ، أَمَّا إِنَّكُمْ لَوْ جَلَسْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ حَتَّى يَكُونُوا هُمُ الَّذِينَ يُرْسِلُونَ إِلَيْكُمْ؛ لَكَانَ أَعْظَمَ لَكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ، تَفَرَّقُوا فَرَّقَ اللهُ بَيْنَ أَضْلاَعِكُمْ. وفي رواية: تَفَرَّقُوا فَرَّقَ اللهُ بَيْنَ أَرْوَاحِكُمْ وَأَجْسَامكُمْ، فَرْطَحْتُمْ نِعَالكُمْ، وَشَمَّرْتُمْ ثِيَابَكُمْ، وَجَزَزْتُمْ شُعُورَكُمْ، وَلَكِنَّكُمْ رَغِبْتُمْ فِيمَا عِنْدَهُمْ فَزَهِدُوا فِيكُمْ، فَضَحْتُمْ القُرَّاءَ فَضَحَكُمُ اللهُ، أَما وَاللهِ لَوْ زَهِدْتُّمْ فِيمَا عِنْدَهُمْ لَرَغِبُوا فِيمَا عِنْدَكُمْ، وَلَكِنَّكُمْ رَغِبْتُمْ فِيمَا عِنْدَهُمْ فَزَهِدُوا فِيكُمْ وَفِيمَا عِنْدَكُمْ أَبْعَدَ اللهُ مَنْ أَبْعَدَ. وفي الجملة فمن لا يصون نفسه لا ينتفع بعلمه ولا ينتفع غيره به. قال الشافعي: مَنْ قَرَأَ القُرْآنَ عَظُمَتْ قِيمَتُهُ، وَمَنْ كَتَبَ الحَدِيثَ قَوِيَتْ حُجَّتُهُ، وَمَنْ تَفَقَّهَ نَبُلَ قَدْرُهُ، وَمَنْ تَعَلَّمَ العَرَبِيَّةَ رَقَّ طَبْعُهُ، وَمَنْ تَعَلَّمَ الحِسَابَ جَزُلَ رَأْيُهُ، وَمَنْ لَمْ يَصُنْ نَفْسَهُ لَمْ يَنْفَعُهُ عِلْمُهُ. وفي هذا المعنى يقول أبو الحسن عبد العزيز الجرجاني رحمه الله: يَقُولُونَ لِي فِيكَ انْقِبَاضٌ وَإِنَّمَا ... رَأَوْا رَجُلاً عَنْ مَوْقِفِ الذُّلّ أَحْجَمَا أَرَى النَّاسَ مَنْ دَانَاهُمُ هَانَ عِنْدَهُمْ ... وَمَنْ أَكْرَمَتْهُ عِزَّةُ النَّفْسِ أُكْرِمَا وَلَمْ أَقْضِ حَقَّ العِلْمِ إِنْ كَانَ كُلَّمَا ... بَدَا طَمَعٌ صَيَّرْتُهُ لِي سُلَّمَا إِذَا قِيلَ هَذَا مَنْهَلٌ قُلْتُ قَدْ أَرَى ... وَلَكِنَّ نَفْسَ الحُرِّ تَحْتَمِلُ الظّمَا ولَمْ أَبْتَذِلْ فِي خِدْمَةِ العِلْمِ مُهْجَتِي ... لأَِخْدِمَ مَنْ لاَقَيْتُ لَكِنْ لأُِخْدَمَا

أَأَشْقَى بِهِ عَرْسًا وَأَجْنِيهِ ذِلَّةً ... إِذًا فَاتِّبَاعُ الْجَهْلِ قَدْ كَانَ أَحْزَمَا وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ صَانُوهُ صَانَهُمْ ... وَلَوْ عَظَّمُوهُ فِي النُّفُوسِ لَعُظِّمَا وَلَكِنْ أَهَانُوهُ فَهَانُوا وَدَنَّسُوا ... مُحَيَّاهُ بِالْأَطْمَاعِ حَتَّى تَجَهَّمَا الحرص عَلَى الدُّنْيَا والطمع فيها قبيح وهو من العُلَمَاء أقبح، فإن كان بعد نزول الشيب فهو أقبح وأقبح. لبس بعض العُلَمَاء من التابعين ثيابه وتهيأ ليمضي لبعض الملوك فأخذ المرآة فنظر فيها فنظر في لحيته طاقة شيب، فَقَالَ: السلطان والشيب! ثم نزع ثيابه وجلس. قَدْ آنَ بَعْدَ ظَلاَمِ الجَهْلِ إِبْصَارِي ... لِلْشَّيْبِ صُبْح يُنَادِينِي بِأَسْفَارِي لَيْلُ الشَّبَابِ قَصِيرٌ فَاسْرِ مُتَّئِدًا ... إِنَّ الصَّبَاحَ قُصَارَى المُدَلِجِ السَّارِي كَمْ ذَا اغْتِرَارِي بِالدُّنيا وَزُخْرُفهَا ... أَبْنِي بِنَاهَا عَلَى جُرْفٍ لَهَا هَارٍ دَارٌ مَآثِمُهَا تَبْقَى وَلَذَّتُهَا ... تَفْنِى أَلا قَبُحَتْ هَاتِيكَ مِنْ دَارِ لَيسَ السَّعِيدُ الَّذِي دُنْيَاهُ تُسْعِدُهُ ... إِنَّ السَّعِيدَ الَّذِي يَنْجُو مِنَ النَّارِ

أَصْبَحْتُ مِنْ سَيِّئاتِي خَائِفًا وَجلاً ... وَاللهُ يَعْلَمُ إِعْلاَئِي وَإِسْرَارِي إَذَا تَعَاظَمْتُ ذَنْبِي ثُمَّ آيَسَنِي ... رَجَوْتُ عَفْوَ عَظِيمِ العَفْوِ غَفَّارِ نجزت، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله عَلَى سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا. ***

2 - شرح حديث «ما ذئبان جائعان»

شرح حديث "ما ذئبان جائعان"

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الحمدُ لله رب العالمين، وصلى الله عَلَى سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين، وسلم تسليمًا كثيرًا إِلَى يوم الدين. قال الشيخُ الإمامُ العالمُ العلامةُ شيخُ الإسلامِ بقيةُ السَّلفِ الكرامِ زينٌ الدين أبو الفرج عبدُ الرحمن ابن الشيخ الإمام شِهابِ الدين أحمدَ ابنِ الشيخ الإمام ابنِ رجب البغدادي الحنبلي -رحمه الله تعالى: خرَّج الإمامُ أحمدُ (¬1) والنَّسائي (¬2) والترمذيُّّّّّّّّ (¬3) وابن حبانَ (¬4) في "صحيحه" من حديث كعب بن مالكٍ الأنصاري -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «مَا ذِئْبَانِ جَائِعَانِ أُرْسِلَا فِي غَنَمٍ بِأَفْسَدَ لَهَا مِنْ حِرْصِ المَرْءِ عَلَى المَالِ وَالشَّرَفِ لِدِينِهِ». قال الترمذيّ: حسنٌ صحيحٌ. ورُوِيَ من وجهٍ آخر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من حديث ابن عمر، وابنِ عبَّاسٍ، وأبي هريرةَ، وأسامةَ بنِ زيدٍ، وجابرٍ، وأبي سعيّد الخدريّ، وعاصمِ بن عدي الأنصاريّ -رضي الله عنهم أجمعين. وقذ ذكرتها كلَّها والكلام عليها في كتاب "شرح الترمذي". ولفظُ حديث جابر: "مَا ذِئْبَانِ ضَارِبَانِ يَأْتِيَا فِي غَنَمٍ غَابَ رعاؤُها بأفسدَ للناس من حبِّ الشَّرفِ والمالِ لدينِ المؤمن". ¬

_ (¬1) في "المسند" (3/ 456، 460). (¬2) في "السنن الكبرى" كما في "تحفة الأشراف" (8/ 11136). (¬3) في "الجامع" (2376). (¬4) كما في "الإحسان" (3228).

وفي حديث ابن عبَّاسٍ: "حُبِّ المَالِ وَالشَّرَفِ" بدل "الحرص". فهذا مثلٌ عظيم جدًّا ضربه النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- لفسادِ دينِ المسلم بالحرص عَلَى المالِ والشَّرفِ في الدُّنْيَا، وأن فسادَ الدِّين بذلك ليسَ بدونِ فسادِ الغنم بذئبين جائعين ضاريين يأتيا في الغنمِ، وقد غابَ عنها رعاؤها ليلاً، فهما يأكلانِ في الغنمِ ويفترسانِ فيها. ومعلومٌ أنّه لا ينجو من الغنم من إفساد الذئبين المذكورين والحالة هذه إلا قليلٌ، فأخبرَ النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- أَنَّ حرصَ المرءِ عَلَى المالِ والشَّرَفِ: إفساده لدينه ليس بأقلّ من إفسادِ الذئبين لهذه الغنمِ؛ بل إمَّا أن يكونَ مساويًا وإما أكثر، يشيرُ إِلَى أنّه لا يسلمُ من دينِ المسلم مع حرصِهِ عَلَى المالِ والشَّرفِ في الدُّنْيَا إلا القليل، كما أنّه لا يسلمُ من الغنم مع إفساد الذئبين المذكورين فيها إلا القليل. فهذا المثلُ العظيمُ يتضمن غاية التَّحذيرِ من شرِّ الحرصِ عَلَى المالِ والشَّرفِ في الدُّنْيَا. فأمَّا الحرصُ عَلَى المالِ فهو عَلَى نوعين: أحدهما: شدةُ محبةِ المال مع شدةِ طلبهِ من وجوهه المباحةِ، والمبالغة في طلبهِ والجدِّ في تحصيلهِ واكتسابهِ من وجوهه مع الجهدِ والمشقةِ. وقد وردَ أنَّ سببَ الحديث كان وقوع بعض أفرادِ هذا النوع، كما أخرجه الطبرانيُّ من حديثِ عاصم بن عديٍّ، قال: (اشتريتُ) (*) مائةَ سهم من سهامِ خيبر، فبلغ ذلك النبيّ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: "مَا ذِئْبَانِ ضَارِبَانِ فِي غَنَمٍ غَابَ أضاعَهَا ربُّها بأفسدَ من طَلبِ المسلمِ والمالِ والشَّرَفِ لدينِه". ولو لم يكنْ في الحرص عَلَى المال إلاَّ تضييعُ العمرِ الشَّريفِ الَّذِي لا قيمةَ له، وقد كان يمكنُ صاحبه اكتساب الدرجات العلى والنَّعيم المقيم، فضيَّعَه الحريص في طلب رزقٍ مضمونٍ، مقسومٍ لا يأتي منه إلا ما قُدِّرَ وَقُسِّمَ، ثم ¬

_ (*) شريت: "نسخة".

لا ينتفعُ به؛ بل يتركُه لغيرهِ ويرتحل عنه، ويبقى حسابُه عليه ونفعُه لغيره، فيجمعُ لمن لا يحمدُه، ويقدم عَلَى من لا يعذرُه، لكفى بذلك ذَمًّا للحرصِ. فالحريصُ يضيعُ زمانَه الشريفَ، ويخاطرُ بنفْسه التي لا قيمةَ لها في الأسفارِ وركوبِ الأخطارِ؛ لجمعِ مالٍ ينفع به غيرُه. كما قيل: ولا تحسبن الفقر من فقد الغنى ... ولكن فقد الدين من أعظم الفقر قِيلَ لبعض الحكماءِ: إِنَّ فلانَا جَمَعَ مَالاً. فَقَالَ: فهل جمعَ أيامًا ينفقُه فيها؟ قيل: ما جمعَ شيئًا. وفي بعضِ الآثارِ الإسرائيلية: الرزقُ مقسومٌ والحريصُ محرومٌ، ابن آدمَ، إذا أفنيتَ عمرَك في طلبِ الدُّنْيَا، فمتى تطلبُ الآخرةَ؟! إذَا كنت في الدُّنْيَا عَنِ الخيرِ عاجزًا ... فما أنتَ في يومِ القيامةِ صانعُ قال ابنُ مسعود: اليقينُ أن لا تُرْضي النَّاسَ بسخطِ الله، ولا تحمد أحدًا عَلَى رزق الله، ولا تلوم أحدًا عَلَى ما لم يؤْتِك الله، فإنَّ رزق الله لا يسوقُه حرصُ حريصٍ ولا يردُّه كراهةُ كاره، فإنَّ الله بقسطهِ وعلمه جعلَ الروحَ والفرحَ في اليقين والرضى، وجعلَ الهمَّ والحزنَ في الشَّكِّ والسخطِ. وقال بعضُ السَّلف: إذا كان القدرُ حقَّا فالحرصُ باطلٌ، وإذا كان الغدرُ في الناس طباعًا فالثقةُ بكلِّ أحدٍ عجزٌ، وإذا كان الموتُ لكلِّ أحد راصدًا فالطمأنينةُ إِلَى الدُّنْيَا حمق. كان عبد الواحد بنُ زيد يحلفُ بالله: لحرصُ (المرءِ) (*) عَلَى الدُّنْيَا أخوفُ عليه عندي من أعدى أعدائه. ¬

_ (*) المومن: "نسخة".

وكان يقولُ: يا إخوتاه، لا تغبطوا حريصًا عَلَى ثروة ولا سعة في مكسبٍ ولا مالٍ، وانظروا إِلَيْهِ بعين المقتِ له في (اشتغالِه) (*) اليومَ بما ورديه غدًا في المعاد ثُمَّ ييكي، ويقولُ: الحرصُ حرصانِ: حرصٌ فاجعٌ، وحرصٌ نافعٌ؟ فأما النَّافعُ: فحرصُ المرءِ عَلَى طاعةِ اللهِ. وأما الفاجعُ: فحرصُ المرءِ عَلَى الدُّنْيَا مشغولٌ معذبٌ لا يسرُّ ولا يلتذُّ بجمعِهِ لشغله، ولا يفرُغُ من محبته الدُّنْيَا لآخرته، كذلك وغفلتِه عما يدومُ ويبقى. ولبعضِهم في المعنى: لا تغبطنَّ أخا حرصٍ عَلَى سعةٍ ... وانظرْ إِلَيْهِ بعينِ الماقتِ القالي إِنَّ الحريصَ لمشغولٌ بشقوته ... عن السُّرور بما يحوي من المالِ وأنشد آخر في المعنى: يا جامعًا مانعًا والدهرُ يرمقُه ... مفكرًا أيُّ بابٍ منه يغلقُه جمعتَ مالاً ففكرْ هل جمعتَ له ... يا جامعَ المالِ أياما تفرقُه المالُ عندَك مخزونٌ لوارثهِ ... ما المالُ مالك إلا يومَ تنفقُه إِنَّ القناعةَ من يَحللْ بساحتِها ... لم (ينل) (**) في ظلِّها همًّا يؤرقُه ¬

_ (*) انشغاله: "نسخة". (**) يلق: "نسخة".

كتب بعضُ الحكماء إِلَى أخٍ له كان حريصًا عَلَى الدُّنْيَا: أما بعد؛ فإنَّك أصبحت حريصًا عَلَى الدُّنْيَا، تخدمها وهي تزجرك عن نفسِها بالأعراضِ والأمراض والآفاتِ والعلل، كأنَّكَ لم ترَ حريصًا محرومًا، ولا زاهدًا مرزوقًا، ولا ميتًا عن كثيرٍ، ولا متبلغًا من الدُّنْيَا باليسير. عاتَبَ أعرابيٌّ أَخَاه عَلَى الحرصِ، فَقَالَ له: يا أخي، أنت طالبٌ ومطلوبٌ، يطلبك من لا تفوتُه وتطلبُ أنت من قد كُفِيتَه، يا أخي ألم ترَ حريصًا محرومًا وزاهدًا مرزوقًا. وقال بعضُ الحكماء: أطولُ النَّاسِ همَّا الحسودُ، وأهنؤُهم عيشًا القنوعُ، وأصبرُهم عَلَى الأذى الحريصُ، وأخفضُهم عيشًا أرفضهم للدنيا، وأعظمُهم ندامةٌ العالمُ المفرط. ولبعضِهم في هذا المعنى: الحرصُ داءٌ قد أضـ ... رّ بمن ترى إلا قليلاً كم مِنْ عزيز قد ... صَيَّرَه الحرص ذليلاً ولغيره: كم أنتَ للحر ... صِ والأماني عَبْدُ ليسَ يجدي الحرصُ ... والسَّعْيُ (إذا) (*) لم يكن (جَدُّ) (**) ليسَ لما قدره الله ... من الأمر بُدُّ ولأبي العتاهية يخاطب سلمًا الخاسر: تعالى الله يا سلمُ بن عَمْرٍو ... أذَلَّ الحرصُ أعناقَ الرجالِ ¬

_ (*) إذ: "نسخة". (**) بد: "نسخة".

ومن كلامِ المأمونِ: الحرصُ مفسدةٌ للدينِ والمروءةِ. وأنشدَ شعرًا: حرصُ الحريصِ جنونُ ... والصَّبر حصنٌ حصينُ إِنْ قدَّر الله شيئًا ... (لابد من أن يكونُ) (*) غيره: حتَّى متى (أنا) (**) في حلٍّ وترحالِ ... وطولِ سعيٍ وإدبارٍ وإقبالِ ونازحُ الدَّارِ لا (ينفكُّ) (**) مغتربًا ... عن الأَحبةِ لا يدرونَ ما حالِ بمشرقِ الأرضِ طورًا ثم مغرِبها ... لا يخطرُ الموتُ من حرصٍ عَلَى بال ولو قنعت أتاني الرزقُ في دعةٍ ... إِنَّ القنوعَ الغنِيُّ لا كثرة المالِ غيره: أَيُّهَا المتعبُ جهدًا لنفسه ... يطلبُ الدُّنْيَا حريصًا جاهدًا لا لك الدُّنيا ولا أنت لها ... فاجعل الهمَّينِ همًّا واحدًا ¬

_ (*) فإنه سيكون: "نسخة". (**) أنت: "نسخة". ( ... ) تنفك: "نسخة".

النَّوعُ الثَّاني من الحرص عَلَى المال: أن يزيدَ عَلَى ما سبق ذكرُه في النوعِ الأول، حتى يطلبَ المال من الوجوه المحرمة ويمنع الحقوقَ الواجبة، فهذا من الشحَّ المذموم. قال الله تعالى: {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (¬1). وفي "سنن أبي داودَ" (¬2) عن عبد الله بن عمر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "اتَّقُوا الشُّحَّ؛ فإنَّ الشحَّ أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، أَمَرَهُمْ بِالقطيعةِ فَقَطَعُوا، وأمَرهم بالبخلِ فبخلوا، وأمرَهم بالفجورِ ففجروا". وفي "صحيح مسلم" (¬3) عن جابرٍ عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "اتَّقُوا الشُّحَّ؛ فَإِنَّ الشُّحَّ أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، حَمَلَهُمْ عَلَى أَنْ سَفَكُوا دِمَاءَهُمْ، وَاسْتَحَلُّوا مَحَارِمَهُمْ". قال طائفةٌ من العُلَمَاء: الشحُّ هو الحرصُ الشديدُ الَّذِي يحمل صاحبَه عَلَى أن يأخذَ الأشياءَ من غير حلِّها ويمنعها من حقوقها. وحقيقتُه (شَرَّهُ) (*) النَّفس إِلَى ما حرَّمَ الله ومنع منه، وأن لا يقنعَ الإنسانُ بما أحل الله له من مالٍ أو فرجٍ أو غيرهما، فإن الله تعالى أحلَّ لنا الطيبات من المطاعم والمشارب، والملابس والمناكح وحرَّمَ علينا تناول هذه الأشياء من غير وجوه حلِّها، وأباح لنا دماءَ الكفارِ والمحاربين وأموالَهم، وحرَّم علينا ما عدا ذلك من الخبائثِ من المطاعم والمشارب، والملابس والمناكح، وحرم علينا أخذَ الأموال وسفك الدماء بغير حلها. فمن اقتصرَ عَلَى ما أبيحَ له فهو مؤمنٌ، ومن تعدَّى ذلك إِلَى ما منعَ منه فهو الشحُّ المذمومُ، وهو مناف للإيمان. ولهذا أخبر النبيّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّ الشُّحَّ يَأْمرُ بالقطِيعةِ والفجورِ وبالبخل. ¬

_ (¬1) الحشر: 9. (¬2) برقم (1698). (¬3) برقم (2578). (*) أن تسترضي: "نسخة".

والبخل هو إمساكُ الإنسان ما في يده. والشُّحَّ: تناولُ ما ليس له ظلمًا وعدوانًا من مالٍ أو غيره، حتَّى قيل: إنَّه رأسُ المعاصي كلُّها. وبهذا فسَّر ابنُ مسعودٍ وغيره من السَّلفِ الشحَّ والبخلَ. ومن هنا يُعلمُ معنى حديث أبي هريرةَ رضي الله عنه، عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يجتمعُ الشحُّ والإيمانُ في مؤمنٍ" (¬1). والحديثُ الآخرُ عن النبيّ -صلى الله عليه وسلم- أنّه قالَ: "أفضلُ الإيمانِ الصَّبرُ والسماحةُ" (¬2). وَفُسِّر الصبرُ بالصبرِ عن المحارم، والسماحةُ بأداءِ الواجباتِ. وقد يُستعملُ الشحُّ بمعنى البخلِ وبالعكسِ، لكنَّ الأصلَ هو التفريقُ بينهما عَلَى ما ذكرناه. ومتى وصلَ الحرصُ عَلَى المالِ إِلَى هذه الدرجة، نقص بذلك الدينُ والإيمانُ نقصًا بيِّنًا فِإنَّ مَنْعَ الواجباتِ وتناولَ المحرماتِ ينقصُ بهما الدين والإيمانُ بلا ريبٍ حتى لا يبقى منه إلا القليل جدًّا. وأمَّا حرصُ المرءِ عَلَى الشَّرفِ فهذا أشدُّ (هلاكًا) (*) من الحرص عَلَى المال فإِنَّ طلبَ شرفِ الدُّنْيَا والرفعةِ فيها، والرياسةِ عَلَى النَّاسِ والعلو في الأرض أضرُّ ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد (2/ 256، 441، 442)، والنسائي (6/ 13 - 14). (¬2) أخرجه أحمد (4/ 385)، وابن ماجه (2794) من حديث عمرو بن عبسة. وأخرجه أحمد (5/ 318) من حديث عبادة بن الصامت. وأخرجه البخاري في "التاريخ الكبير" (6/ 530)، والحاكم في "المستدرك" (3/ 626) من حديث عمير بن قتادة الليثي. وأخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف" (11/ 33)، وابن عدي في "الكامل" (7/ 155) من حديث جابر. (*) إهلاكًا: "نسخة".

عَلَى العبد من طلب المال، وضررُه أعظمُ، والزهدُ فيه أصعبُ، فإِنَّ المال يبذلُ في طلبِ الرياسةِ والشَّرفِ. والحرصُ عَلَى الشَّرفِ عَلَى قسمين: أحدهما: طلبُ الشَّرفِ بالولايةِ والسُّلطانِ والمال. وهذا خطرٌ جدًّا، وهو الغالبِ، يمنعُ خيرَ الآخرةِ وشَرَفَها وكرامَتها وعزَّها. قال الله تعالى: {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا ... } (¬1) الآية. وقلَّ مَنْ يحرصُ عَلَى رياسةِ الدُّنْيَا بطلبِ الولاياتِ فوفق؛ بل يُوكلُ إِلَى نفسهِ، كما قال النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- لعبد الرحمنِ بن سمرةَ: "يا عبدَ الرحمنِ، لا تسألِ الإمارةَ، فإِنَّكَ إِن أُعْطيتَهَا عن مَسألةٍ وُكّلتَ إليها، وإنْ أُعْطيتَهَا من غير مسألةٍ أُعنتَ عليها" (¬2). قال بعضُ السَّلفِ: ما حرصَ أحدٌ عَلَى ولايةٍ فعدل فيها. وكان يزيدُ بنُ عبد الله بن وهبٍ من قضاةِ العدلِ والصَّالحين، وكان يقولُ: من أَحَبَّ المالَ والشَّرفِ وخافَ الدوائِرَ لم يعدلْ فيها. وفي "صحيح البخاريّ" (¬3) عن أبي هريرة، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قالَ: "إِنكم سَتحرصونَ عَلَى الإمارة، وستكونُ ندامةً يوم القيامةِ، فنعم المرضعةُ، وبئستِ الفاطمة". وفيه (¬4) -أيضاً- عن أبي موسى الأشعريِّ "أنَّ رجلين قالا للنبي - صلى الله عليه وسلم -: يا رسول الله، أَمَّرنا. قال: إِنَّا لاَ نولِي أَمرَنَا هذا من سأَلَه، ولا من حرصَ عليه". ¬

_ (¬1) القصص: 83. (¬2) أخرجه البخاري (6622)، ومسلم (1652). (¬3) برقم (7148). (¬4) أخرجه البخاري (7149)، ومسلم (1733).

واعلمْ أَنَّ الحرصَ عَلَى الشَّرفِ يستلزمُ (شرًّا) (*) عظيمًا قبلَ وقوعه (في السَّعي) (**) في أسبابِه، وبعد وقوعِه بالخطر العظيم الَّذِي يقع فيه صاحبُ الولاية من الظلمِ والتكبرِ وغير ذلك من المفَاسِدِ. وقد صنَّفَ أبو بكر الآجري -وكان من العُلَمَاء الربَّانيين في أَوائلِ المائةِ الرابعة- مصنفًا في "أخلاق العُلَمَاء وآدابهِم" وهو من أجلِّ ما صُنِّف في ذلك، ومن تأمَّله علمَ منه طريقة السَّلفِ من العُلَمَاء، والطرائقَ التي حَدَثَتْ بعدهم المخالفةَ لطريقتهم، فوصفَ فيه عالم السوء بأوصافٍ طويلة. منها: أنّه قال: قد فتنه حبُّ الثناءِ والشَّرفِ والمنزلةِ عند أهل الدُّنْيَا، يتجملُ بالعلم كما يتجمل بالحلةِ الحسناء للدنيا، ولا يجمَّل علمه بالعمل به. وذكر كلامًا طويلاً إِلَى أن قال: فهذه الأخلاقُ وما يشبهُها تغلبُ عَلَى قلب من لم (ينتفعْ) (¬1) بالعلم، فبينا هو مُقاربٌ لهذه الأخلاقِ إذ رَغبتْ نفسُه في حبِّ الشَّرفِ والمنزلةِ، فأحبَّ مجالسةَ الملوكِ وأبناءِ الدُّنْيَا، (فأحب) (¬2) أن يشاركهم فيما هُم فيهِ (من منظرٍ) (¬3) بَهيٍّ، ومَركبٍ هَنِيٍّ، وخادم سَرِيٍّ، ولباسٍ ليّنٍ، وفِراشٍ ناعمٍ، وطعام شَهِيٍّ، وأَحبَّ أَن (يُعتنى به) (¬4)، وأن (يسمع) (¬5) قَولُه، ويُطَاعَ أَمرُه، فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِ إِلا مِن جهةِ القَضاءِ فَطلبَهُ، فَلم يُمكنْهُ إِلا بِبذلِ دِينِهِ، فَتَذَلَّلَ لِلمُلُوكِ وأتباعِهِم، (فَخدمَهُم) (¬6) بِنَفْسِهِ، وأَكرَمَهُم بِمَالِهِ، وسَكتَ عَن قَبيحِ مَا ظَهَرَ (من منازل أبوابهم، وفي منازلهم وفعلهم) (¬7)، ثم زيَّنَ لَهم كثيرًا من قَبيحٍ (فِعلهم بتأوُّلِهِ) (¬8) الخطأ ليحسن ¬

_ (*) من النسخة "ك" وليست في النسخ الثلاث الأخرى. (**) بالسعي: "نسخة". (¬1) يتضمخ: "نسخة". (¬2) وأحب: "نسخة". (¬3) من رخاء عيشهم من منزلٍ: "نسخة". (¬4) يغشى بابه: "نسخة". (¬5) يُشْفَعَ: "نسخة". (¬6) وخدمهم: "نسخة". (¬7) من مَناكِرِهم عَلَى أبوابهم وفي منازلهم ومن قولهم وفعلهم: "نسخة". (¬8) أفعالهم بتأويله: "نسخة".

(موقعه) (¬1) عندهم، فَلمَّا فعلَ هذه مُدةً طوِيلةً واسْتحكَمَ فيه الفسادُ وَلَّوْهُ القضاءَ فذبح بغيرِ سِكينٍ، فصارتْ لَهُم عليه ِمِنَّةٌ عَظِيمةٌ، ووجبَ عليه شُكرُهم، (فآلمَ نفسه) (¬2) لئلاَّ (يُغضِبهُم) (¬3) عليه فَيعزِلوهُ عن القضاءِ، ولم يلتفتْ إِلَى غَضبِ مَولاهُ، فاقْتطعَ أموالَ اليتامَى والأَراملِ، والفُقراءِ والمساكين، وأموالَ الوَقفِ الموقوفة عَلَى المجاهدينَ، وأهلِ الشَّرفِ بالحرمينِ، وأموالاً يعودُ نفعُها عَلَى جميعِ المسلمين، فأرضى بها الكاتبَ والحاجب والخادمَ، فأكلَ الحرامَ وأطعمَ الحرامَ وكَثُرَ الداعي عليهِ، فالويلُ لمن أورثَه علمُه هذهِ الأخلاقَ. هذا (العِلْم) (¬4) الَّذِي استعاذَ منه النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- وأمر أن يُستعاذَ منه، وهذا (العِلْم) (4) الَّذِي قالَ فيهِ -عليه الصلاة والسلام-: " «إِنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ القِيَامَةِ، عَالِمٌ لَمْ يَنْفَعْهُ اللهُ بِعِلْمِهِ» (¬5). وكان -صلى الله عليه وسلم- يقول: "اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عِلْمٍ لَا يَنْفَعُ، وَمِنْ قَلْبٍ لَا يَخْشَعُ، وَمِنْ نَفْسٍ لَا تَشْبَعُ، وَمِنْ دُعَاءٍ لَا يُسْمَعُ" (¬6). وكان عليه السلام يقول: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ عِلْمًا نَافِعًا، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ عِلْمٍ لَا يَنْفَعُ» (¬7). هذا كُلُّهُ كَلامُ الإِمام أبي بَكرٍ الآجُري -رحمه الله تعالى- وكان في أَواخِرِ الثلاثِمائة، ولم يَزَلِ الفسادُ (مُتَزَايِدًا) (*) عَلَى ما ذَكرناه أضعافًا مُضَاعَفَةً، فلا حولَ ولا قوةَ إلا بالله. ¬

_ (¬1) موقفه: "نسخة". (¬2) فأْلَّمَ بنفسه: "نسخة". (¬3) يغيظهم: "نسخة". (¬4) العالم: "نسخة". (¬5) أخرجه ابن عدي في "الكامل" (5/ 158)، وابن عبد البر في "جامع ببان العِلْم وفضله" (1079)، والطبراني في "الصغير" (507) من حديث أبي هريرة. (¬6) أخرجه مسلم (2722) من حديث زيد بن أرقم، وأخرجه أحمد (2/ 340، 365، 451)، وأبو داود (1548)، والنسائي (8/ 263، 284)، وابن ماجه (3837) من حديث أبي هريرة. (¬7) أخرجه النسائي في "الكبرى" (4/ 444) من حديث جابر. (*) بعده يتزايد: "نسخة".

ومن دَقِيقِ آفاتِ حُبِّ الشَّرفِ: طَلَبُ الولاياتِ والحرصُ عليها، وهو بابٌ غامضٌ لا يعرفُه إلا العُلَمَاءُ بالله، العَارِفُونَ بِهِ المُحِبُّونَ لَهُ، الذين يُعادون لهُ من جُهَّالِ خلقهِ المُزَاحمينَ لِرُبُوبيتِهِ وإلهيتهِ، مع حقارتهم وسُقوطِ منزلتهِم عند الله، وعندَ خَواصِّ عبادِهِ العارفين بهِ. كما قال الحسنُ -رحمه الله- فيهم: إِنَّهُمْ وَإِن طقطَقَتْ (¬1) بهم البغالُ وهملجَت (¬2) بهمُ البرَاذِينُ (¬3) فَإِنَّ ذُلِّ المعصيةِ فِي رِقَابهم، أبى الله إلا أن يُذلَّ مَنْ عَصَاهُ. واعلْمْ أَنَّ حُبَّ الشَّرفِ بالحرصِ عَلَى نُفوذِ الأمرِ والنهي وتَدبيرِ أَمرِ الناسِ، إذا (قصدَ) (*) بذلك مُجَرَّدَ عُلوّ المنزلة عَلَى الخلقِ والتَّعاظم عليهم، وإظهارِ صاحب هذا الشَّرفِ حاجةَ الناس إِلَيْهِ وافتقارهم إِلَيْهِ، وذُلّهم له في طلبِ حوائجِهم منه، فهذا نفسُه مُزاحمةٌ لرُبوبِية الله تعالى وإلهيتِهِ، وربما تسبب بعضُ هؤلاءِ إِلَى إيقاع الناس في أمر يحتاجُون فيه إِلَيْهِ؛ ليضطرِّهم بذلك إِلَى رفع حاجاتهم إِلَيْهِ، وظهورِ افتقارهم واحتياجهم إِلَيْهِ، ويتعاظم بذلك ويتكبَّرُ بِهِ، وهذا لا يَصلحُ إلا لله تعالى وحده لا شريكَ لى. كما قال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ} (¬4). وقال: {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ} (¬5). وفي بعض الآثارِ أنَّ الله تعالى يبتلي عبدهُ بالبلاءِ ليسمعَ تضرعهُ. ¬

_ (¬1) الطقطقة: صوت قوائم الخيل عَلَى الأرض الصلبة. "اللسان" مادة: (طقطق). (¬2) الهملجة: حسن سير الدابة في سرعة وبخترة. "اللسان" مادة: (هملج). (¬3) البرذون من الخيل: ما كان من غير نتاج العرب. "اللسان" مادة: (برذن). (*) كان القصد: "نسخة". (¬4) الأنعام: 42. (¬5) الأعراف: 94.

وفي بعضِ الآثارِ -أيضًا- أن العبدَ إذا دعا الله وهو يُحبهُ قال الله: "يا جِبريلُ، لاَ تَعْجَلْ بِقَضَاءِ حاجتهِ، فَإِنِّي أحبُّ أَنْ أَسْمَعَ تَضرعَهُ". فهذه الأمورُ أصعبُ وأخطرُ من مجردِ الظلمِ وأدهى من الشِّركِ، والشركُ أعظم الظُّلم عند الله. وفي "الصحيح" (¬1) عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "يَقُولُ الله تَعَالَى: الْكِِبْرِيَاءُ رِدَائِي، والْعَظَمَةُ إِزَارِي، فَمَنْ نَازَعَنِي فِيهِمَا عَذَّبْتُهُ". كان بعضُ المتقدمينَ قاضيًا، فرأى في منامهِ كأنَّ قائلًا يقول: أَنتَ قاضٍ، واللًه قاضٍ. فاستيقظَ مُنزعجًا، وخرجَ عن القضاءِ وتركهُ. وكان طائفةٌ مِن القضاةِ الورعين يمنعونَ الناسَ أن يدعوهم بـ "قاضي القُضَاة"، فإن هذا الاسمَ يُشبهُ مَلِكَ الملوكِ الَّذِي ذمَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- التسميةَ به. وقال: "لَا مَالِكَ إِلاَّ الله" (¬2). و"حاكمُ الحُكَّامِ" مِثلُه، أو أَشدُّ منه. ومن هذا البابِ -أيضًا- أن يُحبُّ ذُو الشَّرفِِ والولايةِ أَن يُحْمَدَ عَلَى أفعالهِ ويُثنْى عليهِ بها، ويطلبُ من الناسِ ذلك، ويَتَسَبَّبُ في أَذى من لا يُجيبُه إليهِ، ورُبما كانَ ذلكَ الفعلُ إِلَى الذمِّ أقربَ منهُ إِلَى المدحِ، وربما أظهرَ أمرًا حسنًا في الظاهرِ، وأحبَّ المدحَ عليه وقصدَ بهِ في الباطنِ شرًّا، (وفَرِحَ بتمْويهِ) (*) ذلكَ وترويجه عَلَى الخلقِ. وهذا يدخلُ في قوله تعالى: {لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ} الآية (¬3). ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (2620) من حديث أبي سعيد الخدري وأبي هريرة. (¬2) أخرجه البخاري (6205)، ومسلم (2143) من حديث أبي هريرة. (*) وقصد تمويه: "نسخة". (¬3) آل عمران: 188.

فإنَّ هذه الآيةَ إِنما نزلتْ فيمن هذه صفاتُهُ، وهذا الوصفُ -أَعني طلبَ المدح مِنَ الخلقِ ومحبَّتَهُ والعقوبةَ عَلَى تركهِ -لا يصلحُ إِلَّا لله وحدهُ لا شريكَ لهُ، ومن هنا كان أئمةُ الهدى ينهونَ عن حمدهِم عَلَى أعمالهم وما يصدُرُ منهم من الإحسانِ إِلَى الخلقِ، ويأمرونَ بإِضافةِ الحمدِ عَلَى ذلك إِلَى اللَّه وحدهُ لا شريكَ لهُ، فإِن النِّعم كلَّها منهُ. وكانَ عمرُ بنُ عبدِ العزيز -رحمه الله- شديد العنايةِ بذلكَ، وكتبَ مرةً إِلَى أهلِ الموسمِ كتابًا يْقرَأُ عليهم، وفيه الأمرُ بالإحسانِ إليهم، وإزالةُ (المظالمِ التي) (*) كانت عليهم، وفي الكتاب: "ولا تحمدُوا عَلَى ذلك كُلِّهِ إلًا اللَّهِ، فَإِنّهُ لوْ وَكَلَني إِلَى نفسِي كنتُ كغيري" (¬1). وحكايتُه مع المرأةِ التي طلبتْ منه أن يفرضَ لِبناتِها اليتامى مشهورةٌ، فإنها كانت لها أربعُ بناتٍ، ففرض لاثنتينِ منهنَّ، وهي تحمدُ اللَّه، ثُم فرضَ للثالثةِ فَشَكرتْهُ، فقالَ: إنَمَا كنَّا نفرضُ لهنَّ حيثُ كنتِ تولينَ الحمدَ أهلَهُ، فمري هؤلاء الثلاثَ يُواسينَ الرابعة. أو كما قال- رضي الله عنه. وحاصل الأمر أراد أن يعرف أنَّ ذا الولايةِ إِنما هو مُنتصِبٌ لتنفيذ أمرِ اللَّه، وآمرُ العبادَ بطاعة الله تعالى، وناهٍ لهم عن محارم الله، ناصحٌ لعبادِ الله بدُعائهم إِلَى الله، فهو يقصد أن يكون الدينُ كُلُّه لله، وأن تكونَ العِزَّةُ لله وهو مع ذلك خائفٌ من التقصيرِ في حقوقِ الله أيضًا. فالمُحِبّونَ للَّه غَايةُ مقاصدهم من الخلقِ أن يحبوا الله ويُطعوهُ، (ويفردوه) (**) بالعبوديةِ والإلهيةِ، فكيفَ من يزاحِمُهُ في شيء من ذلك، فهو لا يريدُ من الخلقِ جزاءً ولا شُكُورًا، وإِنما يَرجُو ثوابَ عمله من الله كما قال الله تعالى: ¬

_ (*) مظالم: "نسخة". (¬1) أخرجه أبو نعيم في "الحلية" (5/ 293). (**) من النسخة "ك" وباقي النسخ الثلاث: "ويعرفوه".

{مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ} [آل عمران: 79] الآيتين (¬1). وقال - صلى الله عليه وسلم -: "لَا تُطرُونِي كَمَا أَطرَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيمَ، فَإِنَّمَا أَنَا عَبد، فقولُوا: عبدَ الله ورسُولهُ" (¬2). وكَانَ - صلى الله عليه وسلم - يُنكرُ عَلَى مَن لَا يتأدَّبُ معهُ في الخطاب بهذا الأدب، كما قال: "لَا تقُولُوا: مَا شَاءَ الله وَشَاءَ محمدٌ، بل قُولُوا: مَا شَاءَ الله ثُمَّ شَاءَ مُحَمَّدٌ" (¬3). وقال لمن قال: مَا شاءَ اللَّه وشئتَ: "أجعلتني لله ندًّا؟! بل ما شاءَ الله وَحْدَهُ" (¬4). فَمِن هُنا كانَ خُلفاءُ الرُّسلِ وَأَتباعُهم مِن أُمراءِ العَدلِ وقُضاتِهم لَا يدعونَ إِلَى تعظيمِ نفوسهم البتَّةَ؛ بل إِلَى تعظيمِ الله وحدَهُ وإفرادهِ بالعُبوديه والإلهيةِ، ومنهم من كانَ لا يُريدُ الولايةَ إلَّا للاستعانةِ بها عَلَى الدعوة إِلَى الله وحدهُ. وكان بعضُ الصالحينَ يتولى القضاء ويقولُ: (أنا) (*) أتولاهُ لِأَستعينَ بهِ عَلَى الأمرِ بالمعروفِ والنهي عن المنُكر. ولهذا كانتِ الرسلُ وأتباعُهم يصبرونَ عَلَى الأذى في الدعوة إِلَى الله، ويتحملونَ في تنفيذ أوامر الله من الخلقِ غايةَ المشقةِ وهُم صابرونَ؛ بل رَاضُونَ ¬

_ (¬1) آل عمران: 79 - 80. (¬2) أخرجه البخاري (3445) من حديث ابن عباس. (¬3) أخرجه أحمد (5/ 72، 398)، وابن ماجه (2118) من حديث الطفيل بن سخبرة الأزدي. وأخرجه أحمد (5/ 384، 394 و398)، وأبو داود (4980) من حديث حذيفة. (¬4) أخرجه أحمد (1/ 214، 283، 347)، وابن ماجه (2117)، والنسائي في "الكبرى" (6/ 245) من حديث ابن عباس. (*) من النسخة "ك" و"س" وفي النسخة "" إِنَّمَا، وفي الأصل "ألا".

بذلك، فإِن المحبَّ ربما يتلذذُ بما يُصيبهُ من الأذى في رضى مَحبوبهِ، كما كانَ عبدُ الملكِ بنُ عمرَ بنِ عبدِ العزيز -رضي اللَّه عنهما- يقولُ لأبيهِ في خلافتهِ إذا حرصَ عَلَى تنفيذِ الحقّ وإقامةِ العدلِ: يا أَبَتِ، لوَدِدْتُ أَني غَلتْ بي وبكَ القُدورُ في الله عزَّ وَجَلّ. وقال بعضُ الصّالحينَ: ودَدتُ أنَّ جسمي قُرِضَ بالمقاريضِ وأَنَّ هذا الخلقَ كُلّهم أطاعُوا اللَّه عزَّ وَجَلّ. فعُرضَ قولُه عَلَى بعض العارفينَ، فَقَالَ: إِن كانَ أرادَ بذلك النصيحةَ للخلق وإِلَّا فلا أدري. ثم غُشِيَ عليهِ. ومعنى هذا: أنَّ صاحبَ هذا القولِ قد يكونُ لحظ نُصحِ الخلقِ والشفقةِ عليهمِ من عذابِ اللَّه (وأحبَّ) (*) أن يفدِيَهم من عذابِ اللَّه بأَذى نفسهِ، وقد يكونُ لحظ جَلالِ اللَّه وعظمتِهِ وما يستحقُّهُ من الإجلالِ والإكرامِ والطَّاعةِ والمحبةِ، فَوَدَّ أَنَّ الخلقَ قاموا بذلك، وإن حَصَلَ له في نفسهِ غايةُ الضررِ، وهذا هو مَشهدُ خواصِّ المُحبين العارفينَ بِمُلاحظتهِ فغُشِيَ عَلَى هذا الرجلِ العارفِ. وقد وصف اللَّه -تعالى- في كتابه أن المحبين له يجاهدون في سبيله ولا يخافون لومة لائم. وفى ذلك يقولُ بعضُهم: أَجِدُ الْمَلَامَةَ فِي هَوَاكَ لَذِيذَةً ... حُبًّا لِذِكرِكَ فَلْيَلُمْنِي اللُّوَّمُ القسم الثاني: طلبُ الشَّرفِِ والعُلوِّ عَلَى الناس بالأُمور الدينيةِ، كالعلمِ والعملِ والزُّهدِ. فهذا أفحشُ من الأولِ وأقبحُ وأشدُّ فسادًا وخطرًا، فإنَّ العلمَ والعملَ والزهدَ إنَّمَا يُطلبُ بها ما عند الله من الدرجات العُلَى والنعيمِ المقيمِ ويطلب بها ما عند الله والقربِ منهُ والزُّلفى لَديهِ (**). ¬

_ (*) فأحب: "نسخة". (*) لقربه: "نسخة".

قال الثوريُّ: إِنَّما فُضلَ العلمُ؛ لأنَّهُ يُتقى به اللَّه، وإلًا كَانَ كسائر الأشياءِ. فَإِذَا طلبَ بشيء من هذا عَرضَ الدُّنْيَا الفاني فهو -أيضَا- نوعانِ: أحدهما: أن يطلبَ به المالَ، فهذا من نوعِ الحرصِ عَلَى المالِ وطلبهِ بالأَسبابِ المحرَّمةِ. وفي هذا الحديث عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم -: " «مَنْ تَعَلَّمَ عِلْمًا مِمَّا يُبْتَغَى بِهِ وَجْهُ اللَّهِ لَا يَتَعَلَّمُهُ إِلَّا لِيُصِيبَ بِهِ عَرَضَ الدُّنْيَا لَمْ يَجِدْ عَرْفَ الْجَنَّةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» يعني: رِيحَها. خرّجهُ الإمامُ أحمد (¬1)، وأبو داود (¬2)، وابنُ ماجه (¬3)، وابنُ حبانَ في "صحيحه" (¬4) من حديث أبي هريرة، عن النبي -صلى الله عليه وسلم-. وسببُ هذا -واللُّه أعلمُ- أَنَّ في الدُّنْيَا جنةً مُعجَّلةً، وهي معرفةُ الله ومحبتُهُ، والأُنسُ به والشَّوقُ إِلَى لقائِهِ، وخشيتُهُ وطاعتُهُ، والعلمُ النافعُ يدلُّ عَلَى ذلك، فمن دلَّهُ علمهُ عَلَى دخول هذه الجنةِ المُعجَّلةِ في الدُّنْيَا دَخَلَ الجنةَ في الآخرةِ، ومن لم يشُم رائحتَها لم يشُم رائحةَ الجنةِ في الآخرةِ. ولهذا كان أشد الناس عذابًا في الآخرة عالمٌ لم ينفعهُ اللَّه بعلمهِ، وهو أشدُّ الناسِ حسرةً يومَ القيامةِ، حيثُ كان معهُ آلةٌ يتوصَّلُ بها إِلَى أعلى الدَّرجاتِ وأَرفعِ المقاماتِ، فلم يستعملها إلا في التوصُّل إِلَى أَخَسِّ الأمورِ وأدناهَا وأحقرِهَا، فهو كمن كان معهُ جواهرُ نفيسةٌ لها قيمةٌ، فباعَها ببعر أو شيءٍ مستقذَرٍ لا يُنتفَعُ بهِ، بل حالُ من يطلبُ الدُّنْيَا بعلمهِ، أقبح وأقبحُ وكذلك من يطلبُها بإظهارِ الزهدِ فيها، فإنَّ ذلكَ خداعٌ قبيحٌ جدًّا. ¬

_ (¬1) في "المسند" (2/ 338). (¬2) في "السنن" (3664). (¬3) في "السنن" (252، 260). (¬4) كما في "الإحسان" (78).

وكان أبو سليمان الدَّارانيُّ يعيبُ عَلَى من لبس عباءةً، وفي قلبهِ شهوةٌ من شهواتِ الدُّنْيَا تساوي أكثر من قيمةِ العَباءة. يشيرُ إِلَى أنَ إظهارَ الزهدِ في الدُّنْيَا باللباس الدني إِنَّمَا يصلحُ لمن فرغَ قلبهُ من التَّعلُّقِ بها، بحيثُ لا يتعلقُ قلبُهُ بها بأكثرَ من قيمةِ ما لبسهُ في الظاهرِ، حتى يستوي ظاهرُهُ وباطنُهُ في الفراغ من الدُّنْيَا. وما أحسنَ قول بعض العارفينَ -وقد سُئلَ عن الصوفيّ- فَقَالَ: الصوفيّ. مَنْ لبسَ الصُّوفَ علَى الصَّفَا ... وَسَلَكَ طَرِيقَ الْمُصْطَفَى وَذَاقَ الْهَوَى بَعْدَ الْجَفَا ... وَكَانَتِ الدُّنْيَا مِنْهُ خَلْفَ الْقَفَا النوع الثاني: مَن يطلبُ بالعمل والعلم والزهد الرياسة عَلَى الخلقِ والتعاظُمَ عليهم، وأن ينقادَ الخلقُ ويخضعونَ لهُ ويصرفُونَ وُجوههُم إليهِ، وأن يُظهرَ للناسِ زيادةَ علمهِ عَلَى العُلماءِ ليَعلوَ بهِ عليهِم ونحو ذلك. فهذا موعدُهُ النارُ؛ لأنَّ قَصْدَ التَّكبرِ عَلَى الخلقِ مُحَرَّمٌ في نفسهِ، فَإِذَا استعملَ فيهِ آلة الآخرةِ كان أقبحَ وأَفحشَ من أن يستعملَ فيهِ آلاتِ الدُّنْيَا من المالِ والسلطانِ. وفي " السنن " عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَنْ طَلَبَ الْعِلْمَ لِيُمَارِيَ بهِ السُّفَهَاءَ أَوْ يُجَارِي بِهِ الْعُلَمَاءَ أَوْ يَصْرِفَ وُجُوهَ الناسِ إِلَيهِ أَدْخَلَهُ الله النَّارَ". خرجه الترمذيُّ (¬1) من حديث كعبِ بنِ مالكٍ. وخرجه ابنُ ماجه من حديث ابن عمرَ (¬2) وحُذيفةَ (¬3) وعنده: "فَهُوَ فِي النَّارِ". وخرج ابن ماجه (¬4)، وابن حبان في "صحيحه" (¬5) من حديث جابر، عن ¬

_ (¬1) في "الجامع" (2654). قال الترمذي: هذا حديث لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وإسحاق بن يحيى بن طلحة ليس بذاك القوي عندهم، تُكُلِّمَ فيه من قِبَلِ حفظه. (¬2) في "السنن" (253). قال في " الزوائِد": إسناده ضعيف لضعف حماد وأبي كرب. (¬3) في "السنن" (259) وفي "الزوائد": إسناده ضعيف. (¬4) في "السنن" (254). في "الزوائد": رجال إسناده ثقات. (¬5) كما في "الإحسان" (77).

النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "لَا تَعَلِّمُوا الْعِلْمَ لِتُبَاهُوا بِهِ العُلَمَاءَ، وَلَا لِتُمَارُوا بِهِ السُّفَهَاءَ، وَلَا لتَخَيّرُوا بِهِ الْمَجَالِسَ؛ فمنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَالنارَ النَّارَ". وخرَّجه ابنُ عدَي (¬1) من حديث أبي هريرة، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- بنحوه، وزاد فيه: "وَلَكِنْ تَعَلَّمُوهُ لِوَجْهِ الله والدَّارِ الآخِرَةِ". وعن ابن مسعود قال: "لَا تَعَلَّمُوا العِلمَ لِثَلاثٍ: لِتُمارُوا بهِ السُّفهاءَ، أَو لتُجَادلُوا بهِ الْفُقهاءَ، أَو لِتَصرفُوا بهِ وُجُوهَ النَّاسِ إِلَيكُمْ، وابتغُوا بقوْلكُم وفعلكُم ما عندَ اللَّه؛ فإِنَّه يبَقَى؛ وَيَفْنَى مَا سِوَاهُ". وقد ثبتَ في "صحيح مسلم" (¬2) عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه، عن النبيّ -صلى الله عليه وسلم-: "إِن أَوّلَ خلق تُسَعَّرُ بهمُ النَّارُ يومَ القيامةِ ثلاثة ... " منهُمُ العَالمُ الَّذِي قرأَ القُرْآنَ ليُقَالَ: قَارئ، وتعلَّمَ الْعلمَ ليقَالَ عَالمٌ، وأنَهُ يُقالُ لهُ: قدْ قِيلَ ذَلكَ، وأُمرِ بهِ فسُحبَ عَلَى وجهِهِ حتَّى أُلْقِيَ في النَّارِ. وذكر مثلَ ذلك في المتُصدِّق ليقال إِنَّهُ جَوادٌ، وفي المجاهدِ ليُقالَ إِنَهُ شُجاعٌ. وعن علي رضي الله عنه قال: يا حملةَ العِلمِ، اعملوا بهِ؛ فإنما العالمُ من عملَ بما عَلمَ، فوافقَ عملُهُ علمَهُ، وسيكون أقوامٌ يحملونَ العلمَ لا يُجاوزُ تَراقِيهم، يُخالفُ عملَهم علمُهُم، وتخالفُ سريرتُهُم علانيتَهُم، يجلسونَ حلقًا حلقًا فيباهي بعضُهم بعضًا، حتى إنَّ الرجلَ ليغضبُ عَلَى جليسهِ إذا جلسَ إِلَى غيرهِ ويدعُهُ، أَولئكَ لا تصعدُ أعمالُهم في مجالسهِم تلكَ إِلَى الله عز وجَل. وقال الحسنُ: لا يكونُ حظُّ أحدِكُم من العِلْم أن يقال عالمٌ. وفي بعض الآثارِ أنَّ عيسى عليه السلامُ قال: "كيفَ يكونُ من أهلِ العلمِ من يطلبُ العِلْم ليُحَدِّثَ بهِ ولا يطلبُهُ ليعملَ به؟! ". ¬

_ (¬1) في "الكامل" (7/ 216) ترجمة يحيى بن أيوب الغافقي. وقال عن هذا الحديث وغيره: غير محفوظين وأعل هذا الحديث بتفرد يحيى بن أيوب به عن ابن جريج. (¬2) برقم (1905).

وقال بعضُ السلفِ: بَلغنا أَنَّ الَّذِي يطلبُ الأحاديثَ ليحدِّثَ بها لا يجدُ ريحَ الجنةِ، يعني: من ليسَ له غرضٌ في طلبهَا إلاَّ ليحدث بها دُون العملِ بها. ومن هذا القَبيلِ كراهةُ السَّلفِ الصَّالحِ الجُرْأَة عَلَى الفُتيا والحرصَ عليها (والمنازعة) (*) إليها والإكثارَ منها. وروى ابنُ لهيعةَ عن [عُبيد اللَّه] (¬1) بن أبي جعفر مرسلاً، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "أجْرَؤُكُم عَلَى الْفُتْيَا أَجرَؤُكُمْ عَلَى النَّارِ" (¬2). وقال علقمة: كانوا يَقُولُونَ: أَجرؤُكُم عَلَى الفتيا أَقلُّكُم علمًا. وعن البراءِ قال: "أَدركتُ مائة وعشرين من الأنصارِ من أصحابِ رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - يُسأَلُ أحدُهُم عن المسأَلةِ مَا منهُم من أحد إِلَّا وَدَّ أن أخاهُ كَفاهُ". وفي روايةٍ: "فيرُدُّها هذا إِلَى هذا، وهذا إِلَى هذا حتى ترجع إِلَى الأوَّلِ". وعن ابنِ مَسعودٍ رضي اللَّه عنه قال: "إِن الَّذِي يُفتي الناسَ فى كُل ما يَسْتَفْتُونَهُ لمجنون". وسُئِلِ عمرُ بنُ عبد العزيزِ عن مسألةٍ، فَقَالَ: ما أَنا عَلى الفُتيا بِجَريءٍ. وكتبَ إِلَى بعضِ عُمَّالِهِ: إِني واللَّه مَا أَنا بِحَريصٍ عَلَى الفُتيا، ما وَجدتُ منها بُدًّا. وليسَ هذا الأمرُ لمن ودَّ أَنَّ الناسَ احتاجُوا إليهِ، إِنما هذا الأمرُ لمن ودَّ أَنَّهُ وَجدَ من يَكفيهِ. وعنهُ أنّه قال: أَعلمُ الناسِ بالفتوى أَسكَتُهُم، وأجهلُهُم بها أَنطقُهُم. ¬

_ (¬1) في "الأصل": عبد الله. وهو خطأ، والصواب "عبيد الله" انظر "تهذيب الكمال" (15/ 488). (¬2) أخرجه الدارمي (157). (*) والمسارعة: "نسخة".

وقال سفيانُ الثوريُّ رحمة اللَّه عليه: أَدركنا الفُقهاءَ وهُم يَكرهونَ أن يُجيبوا في المسائل والفُتيا حتى لا يَجِدوا بُدًّا من أن يُفتُوا، وإذا أُعفُوا منهَا كانَ أَحبَّ إليهِم. وقال الإمامُ أحمدُ رضي الله عنه: مَن عرّضَ نفسَهُ لِلفُتيا فقد عَرّضَها لِأَمْرِ عَطيم، إِلاَّ أنَهُ قد تُلجئُ الضرورةُ. قِيلَ لَهُ: فَأَيَّمَا أفضلُ؟ الكلامُ أَمِ السُّكوتُ؟ قال: الإمساكُ أَحَبُّ إِلَيّ. قِيلَ لَهُ: فإِذَا كَانتِ الضرورةُ؟ فجعلَ يقولُ: الضرورةُ الضرورةُ! وقالَ: الإمساكُ أَسلمُ لَهُ. وليعلمِ المفتي أنهُ يوقعُ عن اللَّه أَمرهُ ونهيهُ، وأنهُ موقوفٌ ومسئُولٌ عن ذلك. قال الربيعُ بنُ خُثيمٍ: أيها المفتون! انظُروا كيفَ تُفتون. وقال عمرُو بنُ دينارٍ لقتادةَ لما جلس للفُتْيَا: تدري في أي عمل وقعت، وقعت بين الله وبين عباده وقلتَ: هذا يَصلحُ، وهَذا لا يَصلحُ. وعن ابن المنُكدرِ قال: إِنَّ العالمَ داخل بينَ اللَّه وبينَ خلقهِ، فلينظُرْ كيفَ يدخلُ عليهم. وكان ابنُ سيرينَ إذا سُئلَ عن الشيءِ من الحلالِ والحرامِ تغيرَ لونُهُ وتبدَّلَ، حتى كأنَّه ليسَ بالذي كانَ. وكانَ النَّخعيُّ يُسأَلُ فتظهرُ عليهِ الكراهةُ ويقولُ: ما وجدتَ أحدًا تسأل غيري؟! وقالَ: قَد تكلَّمتُ ولو وجدتُ بُدَّا مَا تكلمتُ، وإنَّ زمانًا أكونُ فيه فقيهَ الكُوفةِ لزمانُ سُوءٍ. ورُوِيَ عن عمر قال: إِنّكم لتستفتوننا استفتاءَ قومٍ كأَنَّا لا نسألُ عمَّا نُفتيكم به. وعن محمدِ بن واسعٍ قال: أَولُ من يُدعى إِلَى الحسابِ الفُقهاءُ.

وعن مالكٍ أنّه كانَ إذا سُئِلَ عن المسألةِ كأنهُ واقفٌ بين الجنةِ والنَّارِ. وقال بعضُ العلماءِ لبعضِ المُفتينَ: إذا سُئلْتَ عن مَسأَلة فلا يَكُنْ همُّكَ تخليصَ السائل، ولكن تخليصَ نفسكَ أَوَّلًا. وقال لِآخرَ: إِذَا سُئلتَ عن مسألةٍ فتفَكَّر؛ فإن وجدتَ لنفسك مخرجًا فتكلّم وإلا فاسْكُتْ. وكلامُ السلفِ في هذا المعنى كثيرٌ جدًّا يطولُ ذكرُه واستِقْصَاؤهُ. ومِن هذا البابِ أيضًا كراهةُ الدّخولِ عَلَى الملُوكِ والدُّنُوِّ منهُم، وهُوَ البَابُ الَّذِي يدخُلُ منهُ عُلماءُ الدُّنْيَا إِلَى نيلِ الشَّرفِِ والرياساتِ فيها. وخرج الإمام أحمدُ (¬1)، وأبو داود (¬2)، والترمذيُّ (¬3)، والنسائي (¬4) من حديث ابن عباس، عن النبيّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَنْ سكَنَ الْبَادِيَةَ جَفَا، وَمَن ِاتّبَعَ الصَّيدَ غَفَلَ، وَمَنْ أَتَى أَبْوَابَ السَّلاَطين افتُتِن". وخرج أحمد (¬5)، وأبو داود (¬6) نحوه من حديث أبي هريرة "، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وفي حديثه: "وَمَا ازْدَادَ أَحَدٌ منَ السَّلْطَانِ دُنُوًّا إِلَّا ازْدَادَ منَ اللَّه بُعْدًا". وخرج ابن ماجه (¬7) من حديث ابن عباس، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إِنَّ أُنَاسًا مِنْ أُمَّتِي سَيَتَفَقَّهُونَ فِي الدِّينِ وَيَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ وَيَقُولُونَ: نَأْتِي الْأُمَرَاءَ فَنُصِيبُ مِنْ دُنْيَاهُمْ وَنَعْتَزِلُهُمْ بِدِينِنَا، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ كَمَا لَا يُجْتَنَى مِنَ الْقَتَادِ إِلَّا الشَّوْكُ، كَذَلِكَ لَا يُجْتَنَى مِنْ قُرْبِهِمْ إِلَّا الْخَطَايَا". ¬

_ (¬1) (1/ 357). (¬2) برقم (2859). (¬3) برقم (2256). قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح غريب من حديث ابن عباس لا نعرفه إلا من حديث الثوري. (¬4) برقم (4320). (¬5) (2/ 371، 440). (¬6) برقم (2860). (¬7) برقم (255). قال في "الزوائد": إسناده ضعيف، وعبيد الله بن أبي بردة لا يعرف.

وخرجه الطبراني (¬1) ولفظُه: "إِنَّ أُنَاسًا مِنْ أُمَّتِي يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ وَيَتَعَمَّقُونَ فِي الدِّينِ يَأْتِيهُمُ الشَّيطَانُ يَقُولُ: لَو أَتَيتُمْ الْملُوكَ فَأَصَبْتُمْ مِنْ دُنْيَاهُمْ وَاعتْزَلْتُمُوهُمْ بِدِينِكُمْ، أَلاَ وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ كَمَا لَا يُجْتَنَى مِنَ الْقَتَادِ إِلَّا الشَّوْكُ، كَذَلِكَ لَا يُجْتَنَى مِنْ قُرْبِهِمْ إِلَّا الْخَطَايَا". وخرّجَ الترمذيُّ (¬2) من حديث أبي هريرة، عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «تَعَوَّذُوا بِاللَّهِ مِنْ جُبِّ الحَزَنِ»، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ: وَمَا جُبُّ الحَزَنِ؟ قَالَ: «وَادٍ فِي جَهَنَّمَ تَتَعَوَّذُ مِنْهُ جَهَنَّمُ كُلَّ يَوْمٍ مِائَةَ مَرَّةٍ». قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَنْ يَدْخُلُهُ؟ قَالَ: «الْقَرَّاءُونَ الْمُرَاءُونَ بِأَعْمَالِهِمْ». وخَرَّجَ ابن ماجه (¬3) نحوه، وزاد فيه: "وَإنَّ مِنْ أَبْغَضِ الْقُرَّاءِ إِلَى اللَّه الَّذِينَ يَزُورُونَ الْأُمَرَاءَ الْجَورَةَ". ورُوى من حديث علي (¬4)، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- نحوُه. ومِنْ أَعظمِ ما يُخشى عَلى من يَدخلُ عَلَى الملُوكِ الظلمة أَن يُصدِّقَهم بِكَذِبهم، ويُعينَهُم عَلَى ظُلمهم ولو بالسكوتِ عن الإنكارِ عليهم، فإنَّ من يرُيدُ بدُخولهِ عليهم الشَّرفَ والرّياسةَ -وهو حريصٌ عليهم- لَا يقدمُ عَلَى الإنكارِ عليهم؛ بل رُبَّمَا حَسَّن لهم بعضَ أفعالهم القبيحة تقربًا إليهم لِيحسُنَ موقعُهُ عندهُم، ويُساعدُوه عَلَى غرَضِهِ. وقد خَرَّج الإمامُ أحمدُ (¬5)، والترمذيُّ (¬6)، والنسائي (¬7)، وابن حبانَ في "صحيحه" (¬8) من حديثِ كعبِ بن عُجرةَ، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "سيكونُ ¬

_ (¬1) في "الأوسط" (8236). قال الطبراني: لا يروى هذا الحديث عن ابن عباس إلا بهذا الإسناد، تفرد به هشام بن عمار. (¬2) في "الجامع" (2383). وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب. (¬3) في "السنن" (256). (¬4) أخرجه العقيلي (2/ 241 - 242)، وابن عدي (4/ 139). وفي إسناده "أبي بكر الداهري" قال عنه العقيلي حدث بأحاديث لا أصل لها ويحيل عَلَى الثقات، وذكر العقيلي هذا الحديث منها. وقال ابن عدي عن هنا الحديث: باطل. (¬5) في "المسند" (4/ 243). (¬6) في "الجامع" (2259). قال الترمذي: هذا حديث صحيح غريب لا نعرفه من حديث مسعر إلا من هذا الوجه. (¬7) في "السنن الصغرى" (4207). (¬8) كما في "الإحسان" (279، 282، 283، 285).

بَعْدِي أُمَرَاءُ؛ فَمَنْ دَخَلَ عَلَيْهِمْ فَصَدَّقَهُمْ بِكَذِبِهِمْ وَأَعَانَهُمْ عَلَى ظُلْمِهِمْ فَلَيْسَ مِنِّي وَلَسْتُ مِنْهُ وَلَيْسَ بِوَارِدٍ عَلَيَّ الحَوْضَ، وَمَنْ لَمْ يَدْخُلْ عَلَيْهِمْ وَلَمْ يُعِنْهُمْ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَلَمْ يُصَدِّقْهُمْ بِكَذِبِهِمْ فَهُوَ مِنِّي وَأَنَا مِنْهُ، وَهُوَ وَارِدٌ عَلَيَّ الحَوْضَ". وخرج الإمامُ أحمدُ (¬1) معنى هذا الحديث من حديث حذيفةَ، وابن عُمرَ، وخبَّابِ بنِ الأرتِّ، وأبي سعيد الخُدريِّ، والنُّعمانِ بنِ بشير -رضي الله عنهم. وقد كان كثير من السلفِ ينهونَ عن الدخولِ عَلَى الملوكِ لمن أراد أمرهُم بالمعروفِ ونَهيهُم عن المنكر أيضاً. ومِمَّن نهى عن ذلك: عُمرُ بنُ عبدِ العزيزِ وابنُ المباركِ والثَّوريُّ وغيرُهم من الأئمةِ. وقال ابنُ المبُاركِ: ليسَ الأَمرُ الناهِي عندَنا من دَخلَ عليهم فأمرهُم ونهاهُم، إِنَّمَا الآمرُ الناهي من اعتزلهُم. وسببُ هذا ما يُخشَى من فتنةِ الدخولِ عليهم؛ فإنَّ النَفسَ قد تُخيلُ للإنسانِ إذا كانَ بعيدًا عنهُم أنهُ يأمرُهم وينهاهُم ويغلّظُ عليهم، فَإِذَا شاهدهُم قريبًا مالتِ النَّفسُ إليهم؛ لأنَّ محبةَ الشَّرفِِ كامنة في النفس، (والنفسُ تحُسِّنُ له ذلك و) (*) مداهنتهم وملاطفتهم، وربما مالَ إليهم وأحبَّهُم، ولا سيما إِنَّ لاطفُوهُ وأكرموهُ وقبل ذلك منهم، وقد جرى ذلك (لابن طاوسٍ) (**) مع بعض الأُمراءِ بحضرةِ أبيهِ طَاوسٍ فوبَّخَهُ طاوسٌ عَلَى فعلهِ ذلكَ. وكتبَ سُفيانُ الثوريُّ إِلَى عبَّادِ بن عَبَّادٍ، وكانَ في كتابهِ: "إِيَّاكَ وَالأُمراءَ أن تدنُو منهم أو تُخالطهم في شيء من الأشياءِ، وإياكَ أن تُخدَعَ ويقالُ لك: لتشفعَ وتدرأَ عن مظلومٍ أو تردَّ مظلمةً؛ فإن ذلك خديعةُ ¬

_ (¬1) في "المسند" (2/ 95)، (4/ 23، 92)، (4/ 267 - 268)، (5/ 111، 384)، (6/ 395). (*) لمحبة النفس له، ولذلك: "نسخة". (**) لعبد الله بن طاوس: "نسخة".

إبليسَ، وإنما اتَّخذها فُجَّارُ القُرَّاءِ سُلمًا، وما كُفيتَ من المسألةِ والفُتيا فاغتنمِ ذلك ولا تُنافسهم، وإياكَ أن تكونَ كمن يُحبُّ أن يُعملَ بقولهِ أو يُنشر قولهُ أو يُسمع قولُهُ، فَإِذَا تُركَ ذلك منه عُرفَ فيه، وإياك وحُبَّ الرئاسة، فإنَّ الرجلَ يكونُ حُبُّ الرئاسةِ أحبَّ إِلَيْهِ من الذهب والفضةِ، وهو بابٌ غامضٌ لا يُبصرُهُ إلاَّ البصيرُ من العُلماءِ السَّماسرةِ، فتفقَّد بقلبٍ واعمل بنيَّةٍ، واعلم أَنَه قد دنا من النَّاسِ أمرٌ يشتهي الرجلُ أن يموتَ، والسلامُ". ومن هذا البابِ أيضاً كراهةُ أن يُشهرَ الإنسانُ نفسهُ للناسِ بالعلم والزهدِ والدِّينِ، أو بإظهارِ الأعمالِ والأقوالِ والكراماتِ ليزار وتُلتمَسَ بركتُهُ ودُعاؤُه، وتقبيل يدُهُ وهُو مُحبٌّ لذلكَ ويُقِيمُ عليهِ ويفرحُ به أو يَسعى في أسبابهِ. ومن هنا كانَ السلف الصالحُ يكرهونَ الشُّهرةَ غايةَ الكَراهةِ، منهُم: أيوبُ والنخعيُّ وسفيانُ وأحمدُ وغيرُهم من العلماءِ الربَّانيينَ، وكذلك الفُضَيلُ وداود الطَّائيُّ وغيرُهما من الزُّهَّادِ والعارفينَ، وكانوا يذُمُّونَ أنفسهُم غايةَ الذمِّ ويسترون أعمالهُم غايةَ السَّترِ. دخلَ رجلٌ عَلَى داودَ الطائيّ فسألهُ ما جاء به؟ فَقَالَ: (جئت) (*) أزورك. فَقَالَ: أمَّا أنتَ فقد أصبتَ خيرًا حيثُ زُرتَ في الله، ولكن أنا أنظرُ ماذا لقيتُ غدًا إذا قيل لي: من أنتَ حتَّى تُزارَ؟ من الزهَّادِ أنتَ؟ لَا والله. من العُبَّادِ أنتَ؟ لَا واللَّه. من الصالحينَ أنت؟ لَا واللَّه ... وَعدَّدَ خصالَ الخيرِ عَلَى هذا الوجهِ، ثُمَّ جعَل يُوبِّخُ نفسُه، فيقول: يا دَاودُ! كنتَ في الشَّبيبةِ فاسقًا، فلمَّا شِبتَ صِرتَ مُرَائِيًا، والمُرائي أشرٌّ من الفَاسقِ. وكان محمدُ بنُ واسعٍ يقولُ: لو أنَّ للذنوبِ رائحةً ما استطاعَ أحد أَن يُجَالِسَني. وكان إبراهيمُ النخعيُّ إذا دخلَ عليهِ أحدٌ وهو يقرأُ في المصحفِ غَطَّاهُ. ¬

_ (*) أَحَبّ أن: "نسخة".

وكانَ أُويسٌ وغيرُه من الزُّهَّادِ إذا عُرفوا في مكَانٍ ارتحلُوا عنهُ. وكان كثيرٌ منَ السلفِ يَكرهُ أن يُطلَبَ منهُ الدُّعاءُ، ويقولُ لمن يسألهُ الدُّعاء: أَمِنِّي أنا؟! ومِمَّنْ رُويَ عنهُ ذلك عمرُ بنُ الخطابِ وحذيفةُ بن اليمان رضي الله عنهما، وكذلك مالكُ بنُ دينارٍ. وكان النخعي يَكرهُ أن يُسألَ الدُّعاء. وكتبَ رجلٌ إِلَى أحمدَ يسألُهُ الدعاءَ فَقَالَ أحمدُ: إذا دعونا نحنُ لهذا، فمن يدعُو لَنا؟! وَوُصفَ بعضُ الصالحينَ واجتهادَهُ في العبادةِ لبعضِ الملُوكِ فَعزمَ عَلَى زيارتهِ، فبلغَهُ ذلكَ فجلسَ عَلَى قَارِعة الطريقِ يأكُلُ، فَوافَاهُ الملكُ وهُو عَلَى تِلكَ الحالةِ، فَسلَّمَ عليهِ، فَردَّ عليهِ السلامِ، وجعل يأكُلُ أكلًا كثيرًا ولا يَلتفتُ إِلَى الملكِ، فَقَالَ الملكُ: ما في هذا خيرٌ، ورَجعَ. فَقَالَ الرجلُ: الحمدُ لله الَّذِي رَدّ هذا عَنِّي وهو لائمٌ. وهذا بابٌ واسعٌ جدًّا. وها هنا نُكتةٌ دقيقة، وهي أن الإنسانَ قد يذُمُّ نفسهُ يين الناسِ يُريدُ بذلك أن يُرِي أَنه مُتواضعٌ عندَ نفسهِ، فيرتفعُ بذلكَ عندَهُم ويمدحُونَهُ بهِ، وهذا من دَقائقِ أبوابِ الرِّياءِ وقد نَبَّه عليهِ السلفُ الصالحُ. قال مُطَرَّفُ بنُ عبدِ الله بن الشِّخِّير: كَفى بالنفس إِطراءً أَن تَذُمَّهَا عَلَى الملأ، كأنك تُريدُ بذمِّها زينتَهَا، وذلك عند الله سَفَهٌ. ***

فصل

فصل وقد تبيَّن بما ذكرنا أن حبّ المال والرياسةِ/ والحرصِ عليهما يُفسدُ دينَ المرءِ حتى لا يبقى منهُ إلا ما شاءَ الله، كما أخبرَ بذلك النبي -صلى الله عليه وسلم-. وأَصلُ محبةِ المال والشَّرفِِ. من حُب الدُّنْيَا، وأصل حُبِّ الدُّنْيَا اتّباعُ الهوى. قال وهبُ بنُ مُنبِّه: من اتّباع الهوى الرغبةُ في الدُّنْيَا، ومن الرغبةِ فيها حُبِّ المالِ والشَّرفِِ، ومِن حُبّ المالِ والشَّرفِ استحلالُ المحارمِ. وهذا كلامّ حَسَنٌ؛ فإنه إِنَّمَا عُتِبَ عَلَى صاحبِ المالِ والشَّرفِِ الرغبةَ في الدُّنْيَا، وإنما تَحصُلُ الرغبةُ في الدُّنْيَا من اتِّباع الهَوى؛ لأنَّ الهوى دَاعٍ إِلَى الرغبةِ في الدُّنْيَا وَحُبِّ المالِ والشَّرفِِ فيها، والتقوى تمنعُ من اتِّباعِ الهوى وتردعُ عن حُبِّ الدُّنْيَا. قال الله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ طَغَى * وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى * وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} (¬1). وقَد وَصفَ الله تعالى أَهلَ النارِ بالمالِ والسلطانِ في مَوَاضِعَ مِن كِتابهِ، فَقَالَ تعالى: {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ * يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ * مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ} (¬2). واعلمْ أَن النَّفسَ تُحبُّ الرِّفَعَةَ والعُلوَّ عَلَى أَبناءِ جنسِهَا، وَمن هُنا نشأَ الكِبرُ والحسدُ، ولكن العاقلَ يُنافسُ في العُلوِّ الدائم الباقي الَّذِي فيهِ رضوانُ اللَّه وقُربُهُ وجِوارُهُ، ويَرغَبُ عن العُلوِّ الفاني الزَّائلِ، الَّذِي يعقُبُهُ غَضبُ اللَّه وَسخطُه، وانحطاطُ العبدِ وسُفُولُه وبعدُهُ عَن الله وطردُهُ عنه، فهذا العُلوّ الفاني الَّذِي يُذَمًّ، وهو العتُوُّ والتكبرُ في الأرض بغيرِ الحَقِّ. ¬

_ (¬1) النازعات: 37 - 41. (¬2) الحاقة: 25 - 29.

وأما العُلوُّ الأوَّلُ والحرصُ عليهِ فهو محمودٌ. قال الله تعالى: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} (¬1). وقال الحسن: إِذَا رَأَيتَ الرَّجلَ يُنافسكَ في الدُّنْيَا فنافِسْهُ في الآخرةِ. وقال وُهَيبُ بنُ الوَرْدِ: إِن استطعتَ أَن لَا يسبقَكَ إِلَى الله أَحدٌ فافعلْ. وقالَ محمدُ بنُ يوسف الأصبهاني العابدُ: لو أَنَّ رجلاً سَمِعَ برجلٍ أو عَرفَ رجلًا أطوعَ للَّه منهُ فَانصدعَ قلبُهُ لم يكن ذلكَ بِعجبٍ. وقال رجلٌ لمالكِ بن دينارٍ: رأيتُ في المنام مناديًا يُنادي: أيها الناسُ، الرحيل، الرحيلَ، فَما رأيتُ أحدًا ارتحل إلا محمدُ بنُ واسعٍ، فصاحَ مَالكٌ وغُشِيَ عليهِ. ففي دَرجاتِ الآخرةِ الباقيةِ يَشرُعُ التنافسُ وطلبُ العُلوِّ في مَنازِلها، والحرصُ عَلَى ذلك بالسعىِ في أسبابِهِ، وأن لا يقنع الإنسانُ منها بالدُّونِ مَع قُدرتهِ عَلى العُلوّ. وأما العلوُّ الفاني المنُقطعُ الَّذِي يعقب صاحبَهُ غذا حَسرةً وندامةً وذِلَّةً وهَوانًا وصغارًا، فهو الَّذِي يشرعُ الزهدُ فيه والإِعراضُ عنهُ. وللزهدِ فيه أسبابٌ عديدةٌ: فمنها: نظرُ العبدِ إِلَى سُوءِ عاقبةِ الشَّرفِِ في الدُّنْيَا بالولايةِ والإمارةِ لمن لا يُؤدِّي حقَّها في الآخرةِ، ومنها: نظر العبد إِلَى عُقوبةِ الظَّالمينَ والمكذبين، ومن يُنازعُ اللَّه رِدَاء الكبرياءِ. وفي "السُّنن" عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «يُحْشَرُ المُتَكَبِّرُونَ يَوْمَ القِيَامَةِ أَمْثَالَ الذَّرِّ فِي صُوَرِ الرِّجَالِ، يَغْشَاهُمُ الذُّلُّ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ، يُسَاقُونَ إِلَى سِجْنٍ فِي جَهَنَّمَ يُقَالُ لَهُ: بُولَسَ، تَعْلُوهُمْ نَارُ الأَنْيَارِ، يُسْقَوْنَ مِنْ عُصَارَةِ أَهْلِ النَّارِ: طِينَةَ الخَبَالِ». ¬

_ (¬1) المطففين: 26.

وخرجه الترمذيُّ (¬1) وغيرُه (¬2) من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جدّه، عن النبيّ -صلى الله عليه وسلم-. وفي روايةٍ لغيرهِ مِن وَجْهٍ آخَرَ في هذا الحديث: "يَطَؤُهُمُ النَّاسُ بِأَقْدَامِهِمْ". وفي رواية أخرى من وجه آخر: "يَطَؤُهُم الْجِنُّ وَالْإِنْسُ وَالدَّوَابُّ بِأرْجُلهِمْ حَتَّى يَقْضِيَ الله بَيْنَ عِبَادِهِ". واستأذنَ رَجل عُمرَ -رضي اللَّه عنه- في القَصصِ عَلَى الناس فَقَالَ له: إِني أَخافُ أن تَقُصَّ عليهم فترتفع عَليهِم في نَفسكِ حَتَّى يَضَعَكَ اللَّه تَحْتَ أَرْجُلهمْ يَومَ القيامةِ. ومِنها: نَظرُ العبدِ إِلَى ثَوابِ المتَواضعينَ للَّه في الدُّنيا بالرِّفعةِ في الآخرةِ؛ فإنه من تواضعَ لله رفَعَهُ. ومنها -وَلَيس هُو في قُدرَةِ العبدِ، ولكنَّهُ من فضلِ اللَّه ورَحمتِهِ-: مَا يُعوّضُ الله عِبادهُ العارفين به، الزاهدينَ فيمَا يفنى مِنَ المالِ والشَّرفِِ، ممَّا يُعجِّلُهُ الله لهم في الدُّنْيَا مِن شرفِ التَّقوى وهيبةِ الخلقِ لهم في الظَّاهرِ، ومن حلاوةِ المعرفةِ والإيمان والطَّاعةِ في الباطن. وهي الحياةُ الطيِّبةُ التي وعدهَا الله لمن عَمِلَ صالحًا من ذكير أو أُنثى وهُو مُؤمنٌ، وهذهِ الحياةُ الطيِّبةُ لم يذُقها الملوكُ في الدُّنْيَا ولا أَهلُ الرئاساتِ والحرصِ عَلَى الشَّرفِِ، كما قالَ إبراهيمُ بنُ أَدهمَ. لو يعلمُ الملوكُ وأبناءُ الملوكِ ما نحنُ فيه لجالدونا عليهِ بالسيوفِ. ومن رزقهُ الله ذلك اشتغلَ به عن طلبِ الشَّرفِِ الزائلِ والرئاسةِ الفانية. قال الله تعالى: {وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ} (¬3). ¬

_ (¬1) فى "الجامع" (2492). وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، وانظر تخريج هذا الحديث في كتابي "أهوال النار" باب "سجن النار". (¬2) أخرجه أحمد في "المسند" (2/ 179)، والنسائي فى "الكبرى" كما فى "تحفة الأشراف" (8800). (¬3) الأعراف: 26.

وقال: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا} (¬1). وفي بعض الآثار: يقول الله عز وجل: "أَنَا العَزيزُ؛ فمن أرادَ العزّ فليُطِعِ العَزيزَ، وَمَن أَرادَ عزَّ الدُّنيا وَالآخِرةِ وشرفهما فَعليهِ بالتَّقْوَى". وكان حجاج بن أرطاةَ يقولُ: قَتلني حُبُّ الشَّرفِِ. فقالَ لهُ سَوَّارٌ: لَوِ اتقيتَ الله شَرفتَ. وفي هذا المعنى يقول القائل شعرًا: أَلَا إِنمَا التَّقْوَى هِيَ الْعِزُّ والْكَرَمُ ... وَحُبُّكَ لِلدُّنْيا هُوَ الذُّلُّ والسَّقَم وَليسَ عَلَى عَبْدٍ تقيٍّ نقيصَة ... إِذَا حَقَّقَ التَّقوَى وَإنْ حَاكَ أَو حَجَم وقال صالحٌ الباجيُّ: الطاعةُ إمرةٌ والمُطِيعُ للَّه أَميرٌ مُؤَمَّر عَلى الأُمراءِ، أَلا تَرَى هَيبتَهُ في صُدورِهِم، إِن قَالَ قَبِلُوا، وِإن أَمر أَطاعُوا، ثم يَقولُ: يَحقُّ لمن أَحسنَ خِدمتَكَ وَمننتَ عليهِ بمحَبَّتِكَ أن تُذْلِلَ له الجبابرةَ حتى يَهَابوهُ لهيبتهِ في صُدورهم من هيبتَكَ في قلبهِ، وكُلُّ الخيرِ من عندكَ بأوليائكَ. وقال بعضُ السلفِ الصالح: مَنْ أَسعدُ بالطاعةِ مِنْ مُطيع؟ ألاَ وَكُلُّ الخيرِ في الطاعةِ، أَلا وِإن المُطيعَ لله مَلِكٌ في الدُّنْيَا والآخرةِ. وقال ذو النون: مَن أكرمُ وأَعزُّ مِمَّن انقطَعَ إِلَى مَنْ مَلكَ الأَشياءَ بيدهِ؟ دَخلَ محمدُ بنُ سُليمانَ أَميرُ البصرةِ عَلَى حمادِ بنِ سلمةَ وقعدَ بين يديهِ يسألُهُ فَقَالَ له: يا أَبا سلمة، مَا لي كلما نظرتُ إليكَ ارتعدتُ فرقًا منكَ؟ قال: لأَنَّ العالِمَ إِذَا أَرادَ بعلمه وجهَ الله خافَهُ كلُّ شيءٍ، وإنْ أَرادَ أن يُكثِّرَ بهِ الكُنوزَ خافَ مِن كلِّ شيءٍ. ¬

_ (¬1) فاطر: 10.

ومِن هذا قولُ بعضهِم: عَلَى قَدرِ هيبتكَ للَّه يخافُك الخلقُ، وعلى قدرِ محبَّتَكَ للَّه يُحبُّكَ الخلقُ، وعلَى قدرِ اشتغالِكَ بالفَه تَشتغلُ الخلقُ بأَشغالِكَ. وكان عمرُ بن الخطابِ -رضي اللَّه عنه- يَومًا يمشي ووَراءَهُ قومٌ من كبارِ المهاجرين، فالتفتَ فرَآهم فخَروا عَلَى رُكبهم هيبة لهُ، فبكى عمرُ وقال: اللَّهمَّ إِنك تعلمُ أني أخوفُ لك منهُم؛ فاغفر لي. وكان العُمَريُّ الزاهد قد خرجَ إِلَى الكوفةِ إِلَى الرشيدِ ليعظَهُ وينهاه؛ فوقعَ الرعبُ في عسكرِ الرشيدِ لما سَمِعوا بنزوله، حتى لو نَزلَ بهم عَدوّ مِائةُ أَلفِ نفسٍ لما زَادُوا عَلَى ذَلك. وكان الحسنُ لَا يستطيعُ أحدٌ أن يسألَهُ هيبةً له، وكان خواصُّ أصحابهِ يجتمعونَ ويطلبُ بعضُهم مِن بَعضٍ أن يسألوه عن المسألةِ، فَإِذَا حَضروا مَجلسَهُ لم يَجسرُوا عَلَى سؤالهِ، حتى رُبما مكثُوا عَلَى ذلك سَنةً كاملةً هَيبةً له. وكَذلك كانَ مالكُ بنُ أَنسٍ يُهابُ أَن يُسأَلَ، حتى قالَ فيهِ القائلُ شعرًا: يَدَعُ الْجَوَابَ وَلَا يُرَاجَعُ هَيبَةً ... والسَّائِلُونَ نَوَاكِسُ الْأَذْقَانِ نُورُ الْوَقَارِ وَعِزُّ سُلْطَانِ التُّقَى ... فَهُوَ الْمَهِيبُ وَلَيسَ ذا سُلْطَانِ وكان يزيد العُقيليُّ يقول: من أرادَ بعلمه وجهَ الله تعالى أقبلَ اللَّه عليهِ بوَجههِ وأقبلَ بقلوبِ العبادِ عليه، ومن عملَ لغيرِ اللَّه صرفَ اللَّه وجهَهُ عنهُ وصرفَ قلوبَ العبادِ عنه. وقال محمدُ بنُ واسعٍ: إِذَا أقبلَ العبدُ بقلبهِ عَلَى الله أَقبلَ اللَّه عليهِ بقلوبِ المُؤمنينَ.

وقَال أَبُو يزيدَ البَسْطَاميُّ: طَلَّقْتُ الدُّنْيَا ثلاثًا بتاتًا، لا رجعةَ لِي فيها، وصرتُ إِلَى ربي وحدي، ونَاديتُهُ بالاستعانةِ: إِلهي، أدعُوكَ دُعاءَ من لم يَبقَ لهُ غيرُكَ. فلما عَرفَ صِدقَ الدُّعاءِ من قلبي واليأسَ مِن نَفسي كَانَ أَوَّلُ ما وردَ عليَّ من إجابةِ هذا الدُّعاءِ أن أنساني نَفسي بالكُلية، ونَصبَ الخَلَائقَ بين يدي مع إعراضي عنم. وكَانَ يُزارُ مِن البُلدانِ، فلما رأَى ازدحامَ الناسِ عليهِ قال: وَلَيتَني صِرْتُ شَيئًا ... مِنْ غَيرِ شَئء (أَعُد) (*) أَصْبَحْتُ للكل مَوْلًى ... لِأَنَّنِي لَكَ (عَبْد) (*) وَفِي الْفُؤَادِ أُمُورٌ ... مَا تُسْتَطَاعُ تُعَد لَكِنْ كِتْمَانُ حَالِي ... أَحَقُّ بِي (وَأَشَد) (*) كَتَبَ وهبُ بنُ مُنبِّهٍ إِلَى مَكحولٍ: أَمَّا بعدُ، فإنكَ أصبتَ بظاهرِ علمكَ عندَ الناسِ شَرفًا ومنزلةً، فاطلُبْ بباطنِ علمكَ عندَ اللَّه منزلةً وزُلْفَى، واعلمْ أنَّ إِحدَى المنزلَتيِن تمنعُ من الأخْرى. ومعنى هَذا أَنَّ العلمَ الظاهرَ من تعلُّم الشَّرائعِ والأحكامِ، والفَتاوى والقَصص والوَعظِ ونحوِ ذلك مما يظهرُ للناسِ يَحصلُ بهِ لصاحبهِ عندَهُم منزلةٌ وشرفٌ، والعلمُ الباطنُ المودَعُ في القلوبِ من معرفةِ اللَّه وخشيتِهِ، ومحبتِهِ ومُراقبتِهِ، والأنسِ بهِ والشوقِ إِلَى لقائِهِ، والتوكلِ عليهِ والرّضى بقضائِهِ، والإعراضِ عن عَرَضِ الدُّنْيَا الفاني، والإقبالِ عَلَى جَوهرِ الآخرةِ الباقي، كلُّ هذا يوجبُ لصاحبهِ عندَ اللَّه منزلةً وزُلْفَى، وإحدَى المنزلتينِ تمنعُ من الأُخرى. فمن وقفَ مع منزلتِهِ عندَ الخلْقِ، وانشغلَ بما حَصَل لهُ عندَهم بعلم الظاهرِ من شرفِ الدنيا، وكان همُّهُ حِفظَ هذهِ المنزلةِ عندَ الخلقِ وملازَمتَهَا وتربيتها ¬

_ (1) من "ك" وفي باقي النسخ الثلاث الأخري زيادة الألف بمد الدال.

والخوفَ من زَوَالِها كانَ ذلكَ حظَّهُ من اللَّه وانقطَعَ به عنهُ، فهو كما قالَ بعضُهم: ويلٌ لِمَن كانَ حَظُّهُ مِن اللَّه الدُّنْيَا. وكان السَّرِيُّ السَّقَطَيُّ يعجب مما يَرى من علمِ الجنُيدِ وحُسنِ خطابِهِ وسُرعةِ جَوابهِ فقالَ لَه يَومًا -وقَد سأَلهُ عن مَسألةٍ فَأجابَ وأَصابَ-: أَخشَى أن يكونَ حظَّكَ من الدُّنْيَا لسانك. فكانَ الجُنيدُ لَا يزالُ يَبكِي من هذهِ الكلمةِ. ومَن اشتغلَ بتَربيةِ منزلتِهِ عندَ اللَّه بما ذكرنا من العلمِ الباطنِ وَصلَ إِلَى اللَّه، فاشتغلَ بهِ عما سواهُ، وكانَ لهُ في ذلكِ شُغُلٌ عن طلبِ المنزلةِ عندَ الخلقِ، ومع هذا، فإن الله يُعطيهِ المنزلةَ في قُلوبِ الخلقِ والشَّرفَِ عندَهم، وإن كان لا يريدُ ذلك ولا يَقفُ معهُ؛ بل يَهرَبُ منهُ أَشدَّ الهربِ ويفِرُّ أَشدَّ الفِرَارِ؛ خشيةَ أن يقطعَهُ الخلقُ عن الحقِّ جلَّ جَلالُهُ. قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا} (¬1). أي: في قلوبِ عِبادِهِ. وفي حديث: "إِنَّ اللهَ إِذَا أَحَبَّ عَبْدًا نَادَى: يَا جِبْرِيلَ، إِنِّي أُحِبُّ فُلَانًا. فَيُحِبُّهُ جِبْرِيلُ، ثُمَّ يُحِبُّهُ أَهْلُ السَّمَاءِ، ثُمَّ يُوضَعُ لَهُ الْقَبُولُ فِي الْأَرْضِ". والحديثُ مَعروفٌ، وهُو مُخرّج في "الصحيح" (¬2). وبكُلِّ حالٍ؛ فطلبُ شرف الآخرةِ يَحصلُ معه شرف الدُّنْيَا، وإن يُردْهُ صاحبُهُ ولم يطلُبهُ، وطلبُ شرف الدُّنيا يمنع شَرفَ الآخرةِ ولا يَجتمعُ معهُ، والسعيدُ من آثَرَ الباقي عَلَى الفاني، كما في حديثِ أبي موسى، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «مَنْ أَحَبَّ دُنْيَاهُ أَضَرَّ بِآخِرَتِهِ، وَمَنْ أَحَبَّ آخِرَتَهُ أَضَرَّ بِدُنْيَاهُ، فَآثِرُوا مَا يَبْقَى عَلَى مَا يَفْنَى». ¬

_ (¬1) مريم: 96. (¬2) أخرجه البخاري (3209).

خرجه الإمام أحمد (¬1) وغيره (¬2). وما أَحسنَ ما قال أبو الفتح البُسْتِيُّ: أَمْرَانِ مُفْتَرِقَانِ لَسْت تَرَاهُمَا ... يَتَشَوَّقَانِ لخلطة وَتَلَاقِي طَلَبُ الْمَعَادِ مَعَ الرِّيَاسَةِ وَالْعُلَى ... فَدَعِ الَّذِي يَفْنَى لِمَا هُوَ بَاقِي تم الكلام عَلَى شرح الحديث، والحمد لله عَلَى كل حال، وصلى الله عَلَى سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين. ... ¬

_ (¬1) في "المسند" (4/ 412). (¬2) أخرجه أيضًا عبد بن حميد في "مسنده" (568)، والقضاعي في "مسند الشهاب" (418)، والبغوي في "شرح السنة" (4038)، والحاكم في "المستدرك" (4/ 308)، والبيهقي في "السنن الكبير" (3/ 370). وصححه الحاكم.

3 - شرح حديث «لبيك اللهم لبيك»

شرح حديث "لبيك اللهم لبيك"

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ خرَّج الإمام أحمد، والحاكم (¬1)، من حديث زيد بن ثابت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - علَّمه دعاءً، وأمره أن يتعاهد به أهلَه كل يوم، قال: "قُلْ حِينَ تُصْبِحُ: لَبَّيْكَ اللهُمَّ لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ، وَالْخَيْرُ فِي يَدَيْكَ وَمِنْكَ وَبِكَ وَإِلَيْكَ، اللهُمَّ مَا قُلْتُ مِنْ قَوْلٍ أَوْ نَذَرْتُ مِنْ نَذْرٍ أَوْ حَلَفْتُ مِنْ حَلِفٍ فَمَشِيئَتُكَ بَيْنَ يَدَيْهِ، مَا شِئْتَ وَمَا لَمْ تَشَأْ لَمْ يَكُنْ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِكَ، إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، اللهُمَّ وَمَا صَلَّيْتُ مِنْ صَلَاةٍ فَعَلَى مَنْ صَلَّيْتَ، وَمَا لَعَنْتُ مِنْ لَعْنَ فَعَلَى مَنْ لَعَنْتَ، إِنَّكَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ. اللهُمَّ إِنَِي أَسْأَلُكَ اللهُمَّ الرِّضَا بَعْدَ الْقَضَاءِ، وَبَرْدَ الْعَيْشِ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَلَذَّةَ نَظَرٍ إِلَى وَجْهِكَ، وَشَوْقًا إِلَى لِقَائِكَ، مِنْ غَيْرِ ضَرَّاءَ مُضِرَّةٍ وَلَا فِتْنَةٍ مُضِلَّةٍ، أَعُوذُ بِكَ اللهُمَّ أَنْ أَظْلِمَ أَوْ أُظْلَمَ، أَوْ أَعْتَدِيَ أَوْ يُعْتَدَى عَلَيَّ، أَوْ أَكْتَسِبَ خَطِيئَةً مُحْبِطَةً، أَوْ ذَنْبًا لَا تَغْفِرُهُ، اللهُمَّ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ، عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، ذَا الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ، فَإِنِّي أَعْهَدُ إِلَيْكَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَأُشْهِدُكَ وَكَفَى بِكَ شَهِيدًا أَنِّي أَشْهَدُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ وَحْدَكَ لَا شَرِيكَ لَكَ، لَكَ الْمُلْكُ وَلَكَ الْحَمْدُ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُكَ وَرَسُولُكَ، وَأَشْهَدُ أَنَّ وَعْدَكَ حَقٌّ وَلِقَاءَكَ حَقٌّ، وَالْجَنَّةَ حَقٌّ وَالسَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا، وَأَنْتَ تَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ. وَأَشْهَدُ أَنَّكَ إِنْ تَكِلْنِي إِلَى نَفْسِي، تَكِلْنِي إِلَى ضَيْعَةٍ وَعَوْرَةٍ وَذَنْبٍ وَخَطِيئَةٍ، وَإِنِّي لَا أَثِقُ إِلَّا بِرَحْمَتِكَ، فَاغْفِرْ لِي ذَنْبِي كُلَّهُ، إِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ، وَتُبْ عَلَيَّ إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ". قوله -صلى الله عليه وسلم-: "لَبَّيْكَ اللهُمَّ لَبَّيْكَ" معناه: إجابة لدعائك مرة بعد مرة. وليس المراد به حقيقة التثنية، بل المراد التكرير والتكثير والتوكيد؛ كقوله تعالى: {ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ} (¬2) يعني: مرة بعد مرة. ¬

_ (¬1) أحمد في "المسند" (5/ 191)، والحاكم في "المستدرك" (1/ 516). وصححه الحاكم. (¬2) الملك: 4.

وأصلُه: من (لب) (¬1) بالمكان: إذا لزمه وأقام فيه؛ فكأنَّ الملبِّي يُجيب دعوة الله ويلزم ذلك. ويقتضي أيضاً: سُرعة الإجابة مع الدوام عليها. وقوله: "وسعديك" يعني: إسعادًا بعد إسعاد. والمعنى: طاعة بعد طاعة. وأصلُه: أنَّ المُنادي إذا دعا غيره، فإنَّ المجيب لدعائه يجيبُه إسعادًا له ومساعدة. ثم نُقل ذلك إِلَى مُطلق الطاعة، حتى استُعمل في إجابة دعاء الله عزَّ وجل؛ وحُكي عن العرب: سُبحانه وسعدانه، عَلَى معنى أسبحه وأطيعه؛ تسمية للإسعاد بسعدان، كما يسمى التسبيح سبحان، ولم يُسمع بسعديك مفردًا. ولا شك أنَّ اللَّه تعالى يدعو عباده إِلَى طاعته، وإلى ما فيه رضاه، وما يوجب لهم به سعادة الآخرة، فمن أجاب دعاءه واستجاب له فقد أفلح وأنجح؛ قال تعالى: {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (¬2)، وقال تعالى: {قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} (¬3) وقال حكاية عن الجن الذين يستمعون القرآن: {يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} (¬4). ولهذا يقولُ المُلبي في الحج: لبيك اللهم لبيك. يعني: إجابة لدُعائك وطاعة لك، حيثُ دعوتنا إِلَى حج بيتك. وكان النبيّ -صلى الله عليه وسلم- يقوله في دُعاء الاستفتاح في الصلاة -وقد قيل: إنَّه كان يقولُه في قيام الليل، وقد قيل: إنه كان يقوله في استفتاح المكتوبة-: "لَبَّيْكَ اللهُمَّ لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ، وَالْخَيْرُ كُلُّهُ فِي يَدَيْكَ وَالشَّرُّ لَيْسَ إِلَيْكَ، أَنَا بِكَ وَإِلَيْكَ، ¬

_ (¬1) لبب: "نسخة". (¬2) يونس: 25. (¬3) إبراهيم: 10. (¬4) الأحقاف: 31.

تباركت وتعاليت أستغفرك وأتوب إليك". خرَّجه مسلم (¬1) من حديث علي - رضي الله عنه. وروي من حديث حذيفة مرفوعًا (¬2)، وموقوفًا (¬3) وهو أصح، يدعو محمدٌ - صلى الله عليه وسلم - فيقول: "لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ، وَالْخَيْرُ بِيَدَيْكَ، تَبَارَكْتَ وَتَعَالَيْتَ، وَالْمُهْتدَي مَنْ هَدَيْتَ، عَبْدُكَ بَيْنَ يَدَيْكَ، لَا مَلْجَأَ وَلَا مَنْجَى مِنْكَ إِلَّا إِلَيْكَ، تَبَارَكْتَ رَبَّ الْبَيْتِ". فَإِذَا كان العبد في صبح كل يوم، يقول: اللهم لبيك وسعديك. فإنه يُريد بذلك أني أصبحتُ مجيبًا لدعوتك، مُسرعًا إليها، مقيمًا عَلَى طاعتك، ممتثلاً لأوامرك، مجتنبًا لنواهيك. فَإِذَا قال هذا بلسانه فالواجبُ أنْ يتبع ذلك بعمله؛ ليكون مُستجيبًا لدعوة الله قولًا وفعلًا. وإنْ قال ذلك ثُم خالفه بعمله، فقد كذَّب قولُه عملَه، وهو جديرٌ أنْ يُجاب كما يُجَابُ مَنْ حجَّ بمالٍ حرام، وقال: لبيك اللهم لبيك. فيُقال: لا لبيك ولا سعديك. وفي بعض الآثار أنَّ الله عز وجَلَّ يُنادي كلَّ يوم: "ابن آدم ما أنصفتني، أذكرك وتنساني، وأدعوك إليَّ فتذهب إِلَى غيري، وأُذْهِبُ عنك البلايا وأنت تعكف عَلَى الخطايا. ابن آدم: ما اعتذارك غدًا إذا جئتنىِ؟ ". كم دعاك إِلَى بابه فما أجبت ولا لبَّيت، كم استدعاك إِلَى جنابه فقعدت وأبيت، كم عُرضت عليك واجباتُه فتكاسلت وتوانيت، وزُجرت عن منهياته فما انزجرت وتماديت، كم سمعت داعي الحق فتصاممت، وكم رأيت آياته في الخلق فتعاميت. ¬

_ (¬1) في "صحيحه" برقم (771). (¬2) أخرجه الحاكم (4/ 573). (¬3) أخرجه الطيالسي في "مسنده" (55 رقم 414) والنسائي في "الكبرى" (11294)، والبزار في مسنده (2926 البحر الزخار) وغيرهم من طريق صلة بن زفر قال: سمعت حذيفة يقول: يجمع الناس في صعيد واحد ... فأول مدعو محمد - صلى الله عليه وسلم - فيقول: لبيك وسعديك ... الحديث. قال الهيثمي في "المجمع" (10/ 377): رواه البزار موقوفًا، ورجاله رجال الصحيح.

فيا من جسدُه حي وقلبه ميت، يا ليتك أجبت منادي الهدى حين ناداك يا ليت. شعر: يا نفس ويحك قد أتاك هُداك ... أجيبي فداعي الحق قد ناداك كم قد دُعيت إِلَى الرشاد فتُعرضي ... وأجبت داعي الغي حين دعاك طُوبى لمن أجاب داعي "الهدى" (¬1) إذا دعاه، يا قومنا أجيبوا داعي الله. هكذا يا عبد سوء هكذا ... عبد سوء أنت لم تصلح لنا هكذا يا عبد سوء هكذا ... بعدما قاربتنا جانبتنا كم قد دعوناك فما أجبتنا ... واختبرناك فما أعجبتنا قولُه - صلى الله عليه وسلم -: "والخير في يديك" إشارة إِلَى أن الله -عز وجل- إنَّما يدعو عباده إِلَى ما هو خير لهم، مما يُصلح دينهم ودنياهم وآخرتهم؛ فإنَّه يدعوهم إِلَى دار السلام، ويدعوهم ليغفر لهم ذنوبَهم. فَإِذَا سارع العبدُ إِلَى إجابة دعوة ربه بتلبيته والاستجابة له، قال مع ذلك: والخيز في يديك؛ إشارةَ إِلَى أني (أستجيبُ) (¬2) لدعوتك طمعًا في نيل الخير الَّذِي كله بيديك، وأنت لا تدعو العبد إلَّا إِلَى ما هو خير له في دنياه وآخرته. يا هذا، لو دعاك مخلوقٌ ترجو خيره لأسرعت إجابته، مع أنه لا يملك لك ولا لنفسه ضرًّا ولا نفعًا. فكيف لا تُسارع إجابةَ مَن الخيرُ كلُّه بيديه، ولا يدعوك إلاَّ لخير يُوصله إليك؟! ألم يرث التقوى أناس صدق ... فقادهم التقى خير المقاد أما يقل الإله إلي عبيدي ... فكل الحير عندي في المعاد قولُه: "ومنك وبك وإليك" يحتمل أنَّ مراده أن الخير كله منك وبك وإليك ¬

_ (¬1) الهداة: "نسخة". (¬2) استجبت: "نسخة".

يعني: أنَّ مبدأ الخير منك؛ كما قال تعالى: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} (¬1). وقال: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ} (¬2) فاللَّه تعالى هو المبُتدئ بالخير، فمنه بدأ ونشأ. والخيرُ به، يعني: أنَّ دوامه واستمراره وثبوته باللَّه، ولو شاء اللَّه لنزعه وسلبه صاحبه. وقد قال لنبيه - صلى الله عليه وسلم -: {وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلًا * إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا} (¬3) يعني: أنَّ دوام هذه النعمة عليك من اللَّه كما أن ابتداءها منه. والخيرُ إِلَيْهِ: بمعنى أَنَّه يرجع بصاحبه إِلَى الله في الآخرة، وإلى جِواره وقُربه فى جنات النعيم. فينتهي الخيرُ بصاحبه إِلَى اللَّه عزَّ وجلَّ. ويُحتمل أنَّ المراد بقوله: "ومنك وبك وإليك": أنَّ العبد نفسه باللَّه ومن اللَّه وإلى الله؛ كما في حديث الاستفتاح: "أنا بك وإليك" ولعل هذا أظهر. ويكون معنى الكلام؛ أنَّ العبد وجودُه من اللَّه تعالى، فإنه كان عدمًا فأوجده اللَّه وخلقه، وهو في حال وجوده في الدُّنْيَا باللَّه. أي أنَّ ثباته وقيامه باللَّه، فلولا أنَّ اللَّه يُقيم الوجود وما فيه من أنواع الخلق لهلك ذلك كله وتلف. ومن أسمائه الحيُّ القيوم؛ وقال: {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا} (¬4). وفي الأثر المعروف في قصة القارورتين: "يا مُوسى، لو نمتُ لسقطت السماء عَلَى الأرض". وبعد انتقال العباد من هذه الدار فإنَّ مرجعهم إِلَى اللَّه، كما قال تعالى: {إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا} (¬5) ثم قال: {تُرْجَعُونَ} (¬6) في آيات كثيرة. وفي هذا المعنى قال بعضُ العارفين: حقيقة التوحيد أنْ يكون العبد فانيًا في الله عز وجل يرى الأشياء كلَّها به وله، وإليه ومنه، كما قال عامر بن عبد قيس: ما نظرتُ إِلَى شيءٍ إلَّا رأيت الله فيه. ¬

_ (¬1) النحل: 53. (¬2) الجاثية: 13. (¬3) الإسراء: 86. (¬4) فاطر: 1 4. (¬5) يونس: 4. (¬6) البقرة: 28.

تبارك من أوجد الإنسان من عدم ... وأقامه ولولا الإله لم يقم إِلَيْهِ مرجعه وهو باعثة ... بعد الممات والأجداث والرمم قولُه -صلى الله عليه وسلم-: "اللَّهُمَّ مَا قُلْتُ مِنْ قَوْلٍ أَوْ نَذَرْتُ مِنْ نَذْرٍ أَوْ حَلَفْتُ مِنْ حَلِفٍ فَمَشِيئَتُكَ بَيْنَ يَدَيْهِ، مَا شِئْتَ كَانَ وَمَا لَمْ تَشَأْ لَمْ يَكُنْ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِكَ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قدِيرٌ". ذكر الخطَّابي في كتاب "الدُّعاء" له أن قوله: "فمشيئتك" رُوي بضم التاء وفتحها، وأن من رواه بالضم فإنَّ المعنى: الاعتذار بسابق الأقدار العائقة عن الوفاء بما أَلْزَمَ العبدُ نفسَهُ مِن النذور والأيمان. قال: وفي هذا طرفٌ من الجبر. قال: والصواب رواية من رواه بفتح التاء عَلَى إضمار فعل. كأنّه قال: فإني أقدّم مشيئتك في ذلك، وأنوي الاستئناء فيه طرحًا للحنْث عني عند وقوع الحلف. قال: وفي ذلك حجة لمن ذهب مذهب المكيين، في جواز الاستئناء منفصلاً عن اليمين. قلتُ: الصواب: هذا المعنى عَلَى (كلا) (¬1) الروايتين. أعني: رواية الضم، ورواية النصب. وليس المرُاد برواية الضم الاعتذار بالقدر، وإنَّما المعنى: فمشيئتُك بين يدي ذلك كلِّه مقدَّمة. فهو مبتدأ حُذف خبره. ويشهد لهذا المعنى ما خرجه أبو داود في "سُننه" (¬2) بإسناده، عن أبي الدرداء أنه كان يقول: مَن قال حين يُصبح: اللهم ما حلفتُ من حلِفٍ أو قلتُ من قولٍ أو نذرتُ من نذرٍ فمشيئتك بين يدي ذلك كلّه، ما شئتَ كان وما لم تشأ لم يكن، اللهم اغفر لي وتَجَاوَزْ عنِّي، اللهم فمن صلَّيتَ عليه فعليه صلاتي، ومن لعنتَ فعليه لعنتي. كان في استثناءِ يومه ذلك". فقد صَرَّحَ أبو داود بأن المراد بهذا الاستثناء بالمشيئة أنه يكون استثناء في يومه ذلك، يعني: فيما يحلف به وينذره ويقوله في ذلك اليوم. ¬

_ (¬1) برقم (5078) عن أبي ذر. (¬2) كذا بالأصل، والصواب: "كلتا".

وهذا صريحٌ في أنَّه يكون استثناء في ما يستقبله من الكلام في يومه ذلك. وأما قولُ الخطابي -أنَّه يمتنع الحنث- كقول من يقول ذلك في الاستثناء (المتصل) (¬1) بعد الكلام -كما حكاه عن المكيين. فأصلُ ذلك أنَّه قد رُوي عن المكيين، كعطاء ومجاهد وعمرو بن دينار وابن جُريج وغيرهم أنه ينفع الاستثناء بعد مُدة من اليمين. ورُوي ذلك عن ابن عباس من وجوه، وقد طعن فيها كلِّها غيرُ واحد، منهم القاضي إسْماعيل المالكي، والحافظ أبو موسى المديني، وله في ذلك مصنَّفٌ مُفرد. ورُوي عن ابن عباس في قوله تعالى: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} (¬2) قال: هي خاصةٌ للنبي - صلى الله عليه وسلم - دون غيره. خرَّجه الطبراني من وجه ضعيف. ورُوي ذلك عن ابن جُريج أيضًا. وقالت طائفةٌ: إِنَّمَا أراد هؤلاء أنَّ هذا الاستثناء المنُفصل، يحصل به امتثال قوله تعالى: {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} (¬3) وسببُ نزولها: أن قومًا سألوا النبي -صلى الله عليه وسلم- عن قصة، فَقَالَ: غدًا أخبركم، ولم يقل: إنْ شاء الله، فاحتبس الوحي عنه مدة، ثم نزلت هذه الآية. وفي الحديث "الصحيح" (¬4) أنَّ سليمان عليه السلام قال: "لَأَطُوفَنَّ اللَّيْلَةَ عَلَى مِائَةِ امْرَأَةٍ ... ". الحديث. وفي الحديث: أنَّ بني إسرائيل، لو لم يقولوا: إنْ شاء الله، لما اهتدوا أبدًا. يعني: إِلَى البقرة التي أمروا بذبحها. ¬

_ (¬1) المنفصل: "نسخة". (¬2) الكهف: 24. (¬3) الكهف: 23 - 24. (¬4) أخرجه البخاري (2819)، ومسلم (1654).

وفي الحديث الَّذِي في "المسند" و"السنن" (¬1): أنَّ يأجوج ومأجوج يحفرون كلَّ يوم السد حتى يكادوا يروا منه شُعاع الشمس، ثم ينصرفون ويَقُولُونَ غدًا نفتحه. فَإِذَا رجعوا من الغد وجدوه كما كان أولاً فلا يفتحونه، حتى يأذن اللهُ في فتحه، فيَقُولُونَ: غدًا نفتحه -إنْ شاء اللَّه- فيرجعون فيجدونه كما تركوه فيفتحونه. قال سعيد القداح: بلغني أن موسى عليه السلام كانت له إِلَى اللَّه حاجة فطلبها فأبطأت فَقَالَ: ما شاء اللَّه، فَإِذَا حاجته بين يديه فتعجب، فأوحى اللَّه إِلَيْهِ: أما علمت أن قولك: ما شاء اللَّه أنجح ما طلعت به الحوائج. قال إبراهيم بن أدهم: قال بعضهم ما سأل السائلون مسألة هي أنجح من أن يقول العبد: ما شاء الله، ما شاء اللَّه. قال: يعني بذلك: التفويض إِلَى الله. وكان مالك بن أنس كثيرًا ما يقول: ما شاء اللَّه، فعاتبه رجلٌ عَلَى ذلك. فرأى في منامه قائلًا يقول: أنت المُعاتب لمالك عَلَى قوله: ما شاء الله؟ لو شاء مالك أنْ يثقب الخردل بقوله: ما شاء اللَّه فعل. قال حماد بن زيد: جعل رجلٌ لرجلٍ جُعلًا عَلَى أنْ يعبر نهرًا، فعبر حتى إذا قرب من الشط، قال: عبرتُ والله. فَقَالَ له رجل: قل: ما شاء الله. فَقَالَ: شاء اللَّه أو لم يشأ. قال: فأخذته الأرض. فلا ينبغي لأحد أنْ يُخبر بفعل يفعله في المستقبل إلاَّ أنْ يُلحقه بمشيئة اللَّه؛ فإنَّه ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن. والعبد لا يشاء إلَّا أن يشاء الله له. فَإِذَا نسي هذه المشيئة ثم ذكرها ولو بعد مدة فقد امتثل ما أُمر به، وزال عنه الإثم، وإنْ كان لا يرفع عنه الكفارة ولا الحنِث فى يمنيه. ولهذا في كلام أبي الدرداء (¬2): اللهم اغفر لي وتجاوز عني. فلم يسأل إلاَّ رفع الإثم دون رفع الكفارة. ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد (2/ 510، 511)، والترمذي (3153)، وابن ماجه (4080) عن أبي هريرة مع اختلاف بعض الألفاظ. (¬2) أبو داود (5087) عن أبي ذر.

وكذا روي عن سعيد بن جبير في قوله تعالى: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} (¬1) قال: يقول: إذا حلفت (ونسيت) (*) الاسشناء فاستثن إذا ذكرت، ولو بعد خمسة أشهر وستة أشهر، فإنَّه يجزئك ما لم تحنث. خرَّجه آدم بن أبي إياس في "تفسيره". وعلى هذا حَمل قولَ ابن عباس وأصحابه طائفةٌ من العُلَمَاء، منهم: أبو مسعود الأصبهاني، وابن جرير الطبري. وكذا يُقال في هذا الحديث في تقديم الاستثناء في اليمين؛ فإنَّ تقديمه أبعد من تأخيره عن اليمين، فإنَّ اليمين لم تُوجد بعد بالكلية وفي تأخيره قد وجدت. وقد قال مالك في الاستثناء في اليمين: إنْ ذكر المشيئة يُريد بها الاستثناء (نفعه) (**) ذلك في منع الحنث، وإنْ كان إنَّما (ريد) ( ... ) امتثال قوله تعالى: {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} (¬2) (لم يحنث) (****)، فإني أرى الكفارة. نقله ابنُ المنذر وغيره، وكذلك حكاه أبو عُبيد عن بعض العُلَمَاء. وتردد بعضُ العُلَمَاء في وجوب الكفارة في هذا القَسَم؛ لتردد نظره بين اللفظ والمعنى. فلفظُه معلَّقٌ بالمشيئة، ومعناه الجزم بالفعل غير معلق، وإنَّما ذكر الاستثناء تحقيقًا وتأكيدًا للفعل. وفي الجملة: فينبغي حملُ حديث زيد بن ثابت عَلَى هذا المعنى، وأنْ يُقدِّم المشيئة عَلَى كل قولٍ يقولُه، وحَلْفٍ يحلفهُ، ونذر ينذرُه؛ ليخرج بذلك من عُهدة استقلال العبد بفعله، وليحقق العبدُ أنَه لا يكون مما يعزم عليه العبدُ ويقوله؛ من حَلْفٍ ونذرٍ وغيرهما الأ ما شاء الله وأراده؛ ولهذا قال بعده: "ما شئتَ كان وما لم تشأ لم يكن، ولا حول ولا قوة إلا بك، إنك عَلَى كل شيء قدير". ¬

_ (¬1) الكهف: 24. (*) فنسيت: "نسخة". (**) فيمنعه: "نسخة". ( ... ) أراد: "نسخة". (¬2) الكهف: 23. (****) ثم حنث: "نسخة".

فتبرَّأ من حوله وقوته ومشيئته بدون مشيئة الله وحوله وقوته، وأقرَّ لربِّه بقدرته عَلَى كل شيء، فإن العبد عاجزٌ عن كل شيء إلاَّ ما أقدره عليه ربَّه. ففي هذا الكلام: إفرادُ الربِّ بالحوْل والقوة، والقُدرة والمشية، فإن العبد غيرُ قادرٍ عَلَى ذلك كله إلاَّ عَلَى ما يقدره مولاه، وهذا نهاية توحيد الربوبية. وللشافعي -رحمه الله- من أبيات: ما شئتَ كان وإنْ لم أشأ ... وما شتُ إِنَّ لم تشأ لم يكن وقد حمل طائفةٌ -منهم الإمام أحمد- كلامَ ابن عباس في تأويل الآية عَلَى وجه آخر، وهو أنَّ الرجل إذا قال لا أفعل كذا وكذا، ثم أراد فعلَه فإنَّه يستثني، ثم يقول: إنْ شاء الله، ثم يفعلُه ويتخلَّصُ بذلك من الكذب إِن لم يكن قد حلف عليه بيمين. وكان يحيى بن سعيد القطان إذا قال: لا أفعل كذا، لا يفعله أبدًا. فَإِذَا قيل له: لَمْ تحلف. يقول: هذا أشد -يعني الكذب- لو كنتُ حلفت كان أهون، كُنت أكفر يميني وأفعله. وسُئل الإمام أحمد عمَّن يقول لا آكل، ثم يأكل. قال: هو كذب، لا ينبغي أنْ يفعل ذلك. (ونقل) (*) الوليدُ بن مسلم في كتاب "الأيمان والنذور" -عن الأوزاعي، في رجل كُلِّم من شيءٍ فيقول: نعم، إنْ شاء اللَّه (ومن نيته أن لا يفعل) (**) قال: هذا الكذب والخُلف. قال: إنَّما يجوز المُستثنى في اليمين. قِيلَ لَهُ: فإن قال: نعم إنْ شاء الله، (ومن نيته) ( ... ) أنْ يفعل، ثم بدا له أن لا يفعل. قال: له (ثُنياه) (****). وهذا يدل عَلَى أن الاستثناء بالمشيئة في غير اليمين، إِنَّمَا ينفع لمن لم يكن مصممًا عَلَى مخالفة ما قاله من أول كلامه. ¬

_ (*) وسُئِلَ: "نسخة". (**) وما نيته إلا أن لا يفعل: "نسخة". ( ... ) ما بنيته: "نسخة". (****) استتناؤه مخالفة ما قال. "نسخة".

قوله -صلى الله عليه وسلم-: "اللهم ما صلَّيتُ من صلاة فعلى من صليتَ وما لعنتُ من لعن فعلى مَن لعنتَ". قال الخطَّابي: الوجهُ أن تُرفع التاء من "صلَّيت ولعنت" في الأولى، وأن تنصبها منهما في الأخرى. والمعنى: كأنّه يقول: اللهم اصرف صلاتي ودعائي إِلَى من (اختصصته) (*) بصلاتك ورحمتك، واجعل لعنتي عَلَى من استحق اللعن عندك واستوجب الطردَ والإبعاد في حُكمك، ولا تؤاخذني بالخطأ مني في (وضعها) (**) غير موضعها (وإحلالها) في غير محلها. قال: وإنَّما يصح عَلَى هذا التأويل، إذا كان قد سبقت منه صلاةٌ أو لعن لغير المستحقين. قال: وقد يُحتمل أن يكون إِنَّمَا دعا بالتوفيق، واشترط في مسألته العصمة؛ لئلا يجري عَلَى لسانه ثناءٌ إلا لمن يستحق الثناء من أوليائه، ولا ذم إلاَّ لمن يستحقه من أعدائه. كأنّه (يقول) (****): اللهم احفطي حتى لا أوالي إلاَّ أولياءك، ولا أعادي إلا أعداءك. قال: والوجه الأول إِنَّمَا ينصرف إِلَى الماضي، والوجه الآخر إِلَى المستقبل، والله أعلم. انتهى. قلتُ: التفسير الأول أصح؛ يشهد له قولُ أبي الدرداء: اللهم فمَنْ صليتَ عليه فعليه صلاتي، ومَنْ لعنتَ فعليه لعنتي. وقول الخطابي: إِنَّ هذا الوجه إِنَّمَا ينصرف إِلَى الماضي. ضعيفٌ؛ بل الصواب أنَّه ينصرف إِلَى المستقبل، (وأنَّ) (*****) المراد: ما لعنتُ في هذا اليوم من لعن، وما صلَّيت فيه من صلاة -يعني: ما ألعن وما أصلي. وهذا ما تقدم في قوله: ما قلتُ من قولٍ، أو نذرتُ من نذرٍ، أو حلفتُ من حلفٍ، فمشيئتُك بين يديه. ¬

_ (*) خصصه: "نسخة". (**) وضعي إياها: "نسخة". ( ... ) وأحلها: "نسخة". (****) قال: "نسخة". (*****) وإنما: "نسخة".

وقد وافق الخطَّابي -كما تقدم عنه- أنَّ المراد به ما يقوله ويحلفه، وينذره في المستقبل، فكذلك الصلاة واللعن. واعلم أنَّ العبد مبتلى بلسانه، يلعن به من يغضب عليه ويمدح به مَن يرضى عنه. وكثيرًا ما يمدح مَنْ لا يستحق المدح، ويلعن مَنْ لا يستحق اللعن. وقد ورد في غير حديث: أنَّ اللعنة إذا لم يكن الملعون بها أهلاً لها رجعت (عَلَى) (*) اللاعن. واللعنُ دعاء، فربَّما أُجيب وأصاب ذلك الملعون. وقد أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- المرأة التي لعنت بعيرَها أنْ ترسله، وقال: "لا تصحبنا ناقةٌ ملعونة" (¬1). وكان بعضُ السلف لا يدخل بيته بشيءٍ ملعون، ولا يأكل من بيض دجاجةٍ يلعنها، ولا يشرب من لبن شاة لعنها. قال بعضهم: ما أكلتُ شيئًا ملعونًا قط. وذكر ابنُ حامد من أصحابنا، عن أحمد قال: مَن لعن عبده فعليه أن يُعتقه، أو شيئًا من ماله: أنَّ عليه أن يتصدَّق. قال: ويجيءُ في لعن زوجته أنَّه (يلزمه) (**) أن يطلقها؛ ويشهد لها - في الزوجة- وقوعُ الفرقة بين المتلاعنين، لمَّا كان أحدُهما كاذبًا في نفس الأمر قد حقَّت عليه اللعنةُ والغضب. فَإِذَا قدمُ العبدُ من أول نهاره في دعائه: أنَّ ما لعن من لعن، فإنَّه لاحقٌ بمن لعنه الله، وما أثنى من ثناء فهو لاحق بمن أثنى عليه الله. فقد خلص بذلك من إثم لعن من لا يستحق اللعن، أو مدح من لا يستحق المدح، إذا وقع ذلك سهوًا أو غلطًا، أو عن قوة غضب ونحوه. فأمَّا من (يتعمد) ( ... ) ذلك عن علمه بالحال ففي دخوله في هذا الشرط نظر، مع أنَّ عموم اشتراطه يقتضي دخوله فيه. ¬

_ (*) إِلَى: "نسخة". (¬1) أخرجه مسلم (2596). (**) عليه: "نسخة". ( ... ) تعمد: "نسخة".

وقد صحَّ عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنَه اشترط أنَّه من سبه أو لعنه أو ضربه في غضب ونحوه، أنَّه يكون له كفارة وصلاة (¬1). وفي رواية: وهو غير مُستحق. وهذا إِنَّمَا يكون إذا ظن استحقاقه لذلك، ثم تبين أنه غير مستحق. قوله - صلى الله عليه وسلم -: " {أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} ". مأخوذٌ من دعاء يُوسف عليه السلام حين قال: {فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ} (¬2) الآية، والله عزَّ وجلَّ وفي أوليائه في الدُّنْيَا والآخرة، يتولَّى حفظَهم وكلاءتهم وهدايتهم وحراستَهم، في دينهم ودنياهم ما (داموا) (*) أحياء، فَإِذَا حضرهم الموتُ توفَّاهم عَلَى الإسلام، وألحقهم بعد الموت بالصالحين. وهذا أجلُّ النعم وأتمها عَلَى الإطلاق؛ وقد قال رسولُ اللَّه -صلى الله عليه وسلم- عند وفاته: " {مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ} " (¬3). وقول يوسف عليه السلام: {تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} (¬4) قيل: إنَّه دعا لنفسه بالموت، وهو قولُ جماعة من السلف، منهم الإمام أحمد. فَيُستدل به عَلَى جواز الدعاء بالموت من غير ضر نزل به. وقيل: إنَّه إِنَّمَا دعا لنفسه بالموت عَلَى الإسلام عند نزول الموت، وليس فيه دعاءٌ بتعجيل الموت كما أخبر عن المؤمنين أنهم قالوا في دُعائهم: {فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ} (¬5) ويؤيِّد التفسير الأوّل: أنَه عقَّبه بالدعاء بالشوق إِلَى لقاء اللَّه، وهو يتضمَّن الدعاء بالموت. ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد (6/ 45)، ومسلم (2600) من حديث عائشة، وأخرجه أحمد (2/ 390، 488، 496) " (3/ 400)، ومسلم (2601) من حديث أبي هريرة، وأخرجه أحمد (3/ 333، 384، 391، 400)، ومسلم (2602) من حديث جابر، وأخرجه أحمد (4/ 454) من حديث سودة امرأة أبي الطفيل. (¬2) يوسف: 101. (*) كانوا: "نسخة". (¬3) أخرجه البخاري (4586)، ومسلم (2444) [86] من حديث عائشة. (¬4) يوسف: 101. (¬5) آل عمران: 193.

واستدل من جوَّز الدعاء بالموت وتمنّيه بقوله تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} (¬1)، ثم ذمَّهم عَلَى عدم تمنيه بسبب سيئاتهم، وعلى حرصهم عَلَى طول الحياة في الدُّنْيَا. وكذلك قوله تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} الآية (¬2). وفي "المسند" (¬3) عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لاَ يتمنينَّ أحدٌ الموت إِلاَّ من وثق بعمله". فمن كان له عملٌ صالح فإنَّه يتمنَّى القدومَ عليه، وكذلك مَنْ غلب عليه الشوقُ إِلى لقاء اللَّه عزَّ وجلَّ. وأمَّا من تمنى الموت خوف فتنة في الدين، فإنَّه يجوز بغير خلاف. وقد بسطنا الكلام عَلَى هذه المسائل في غير هذا الموضع. قولُه - صلى الله عليه وسلم -: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الرِّضَا بَعْدَ الْقَضَاءِ وَبَرْدَ الْعَيْشِ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَلَذَّةَ النَّظَرِ فِي وَجْهِكَ، وَالشَّوْقَ إِلَى لِقَائِكَ، مِنْ غَيْرِ ضَرَّاءٍ مُضِرَّةٍ، وَلا فِتْنَةٍ مُضِلَّةٍ». هذه الثلاث خصال قد رُوي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أئه كان يدعو بها في غير هذا الحديث أيضًا من حديث عمَّار بن ياسر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬4) وقد شرحنا حديثَه بتمامه في موضع آخر. فأمَّا الرضا بالقضاء: فهو من علامات المُخبتين (¬5) الصادقين في المحبة، فمتى امتلأت القلوب بمحبة مولاها رضيت بكلِّ ما يقضيه عليها من مؤلمٍ ومُلائم. سيان إنْ لاموا وإنْ عَذلوا ... ما لي عن الأحباب مصطبرُ لابد لي منهم وإنْ تركوا ... قلبي بنار الهجر يستعرُ وعلي أنْ أرضى بما حكموا ... وأطيع في كل ما أمروا ¬

_ (¬1) البقرة: 94. (¬2) الجمعة: 6، 7. (¬3) أخرجه أحمد (2/ 350). (¬4) أخرجه أحمد (4/ 264)، والنسائي في "الصغرى" (1305)، وفي "الكبرى" (1228). (¬5) المتواضعين أو الخاشعين أو المطمئنين.

إذا امتلأت القلوبُ بالرضا عن المحبوب، صار رضاها في ما يرد عليها من أحكامه وأقداره. قال عُمر بن عبد العزيز: أصبحتُ وما لي سرور إلاَّ في مواقع القضاء والقدر. دخلوا عَلَى بعض التابعين في مرضه، فَقَالَ: أحبه إلي أحبه إِلَيْهِ. إِنْ كان (سركم) (*) ما قد بُليت به ... فما لجرحٍ إذا أرضاكم ألم حشب سُلطان الهوى أنه يُلذ كلَّ ما يؤلم. وربَّما اختار بعض (المحبين) (**) الذُّلَّ عَلَى العزِّ، والفقر عَلَى الغنى، والمرضَ عَلَى الصحة، والموت عَلَى الحياة. عزّي ذُلي وصحتي في سقمي ... يا قوم رضيتُ في الهوى سفك دمي عُذّاليَ كفُّوا فمن ملامي ألمي ... من بات عَلَى (مواعد اللقا) ( ... ) لم ينم وإنَّما قال - صلى الله عليه وسلم -: "الرضا بعد القضاء" لأنّ ذلك هو الرضا حقيقة. وأما الرضا بالقضاء قبل وقوعه فهو عزمٌ عَلَى الرضا، وقد تنفسخ العزائم (عند) ( ... ) وقوع الحقائق. ومع هذا فلا ينبغي أن يستعجل العبدُ البلاءَ؛ بل يسأل الله العافية؛ فإنْ نزل البلاء تلقَّاه بالرضا. قُتل لبعضهم ولدان في الجهاد، فجاءه الناسُ يعزّونه بهما فبكى، وقال: ما أبكي عَلَى قتلهما، ولكن كيف كان رضاهما عن الله حين أخذتهما السيوف! إِنْ كان سكّان الغصا ... رضوا بقتلي فرضا والله ما كنت لما ... يهوي الحبيب مُبغضا صرت لهم عبدًا وما ... للعبد إِنْ يعترضا من لمريض لا يرى ... إلاَّ الطبيب المُمرضا ¬

_ (*) سروركم: "نسخة". (**) الصالحين: "نسخة". ( ... ) مواعيد اللقاء: "نسخة". (****) مع: "نسخة".

وأمَّا بَرد العيش بعد الموت. فالمرادُ به: طيب العيش (ولذاته) (*)، وما تقر به عين صاحبه. فإنَّ البرد يحصل به قُرة عين الإنسان وطيبها، وبرد القلب يوجب انشراحه وطمأنينته، بخلاف حرارة القلب والعين. ولهذا في الحديث: "طهر قلبي بالماء والثلج والبرد" (¬1). ودمعةُ السرور باردة، بخلاف دمعة الحُزن فإنها حارة. فبردُ العيش هو طيبه ونعيمه، وفي الحقيقة إنَّما يكمل طيب العيش ونعيمه في الآخرة لا في الدُّنْيَا؛ كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا عيش إلاَّ عيش الآخرة" (¬2). وسببُ ذلك أنَّ ابن آدم مركبٌ من جسد وروح، وكل منهما يحتاج إِلَى ما يتقوت به ويتنعم به، وذلك هو عيشه. فالجسدُ عيشه: الأكلُ والشرب، والنكاح واللباس والطيب، وغير ذلك من اللذات الحسية. ففيه بهذا الاعتبار مُشابهة بالحيوانات في هذه الأوصاف. وأمَّا الروح: فهي لطيفة، وهي روحانية من جنس الملائكة. فقوتُها ولذتها وفرحها وسرورُها في معرفة خالقها وبارئها وفاطرها، وفيما يقرب منه مِن طاعته في ذكره ومحبّته، والأنس به والشوق إِلَى لقائه. فهذا هو عيشُ النفس وقُوتُها، فَإِذَا فقدت ذلك مرضت وهلكت؛ أعظم مما يهلك الجسد بفقد طعامه وشرابه؛ ولهذا يوجد كثير من أهل الغِنى والسعة يُعطي جسده حظِّه من التنعيم ثم يجد ألمًا في قلبه ووحشة، فيظنَّه الجهال أنَّ ¬

_ (*) ولذاذته: "نسخة". (¬1) أخرجه البخاري (744)، ومسلم (598) عن حديث أبي هريرة. وأخرجه البخاري (6368)، ومسلم (589) من حديث عائشة. (¬2) أخرجه البخاري (6413)، ومسلم (1805) عن حديث معاوية بن قرة. وأخرجه البخاري (6414)، ومسلم (1804) من حديث سهل بن سعد.

هذا يزول بزيادة هذه اللذات الحسية، وبعضُم يظن أنه يزول بإزالة العقل بالسُّكر. وكلُّ هذا يزيد الألم والوحشة. وإنما سببُه أنَّ الروح فقدت قوتها وغذاءها، فمرضت وتألَّمت. إذا كُنت قوت النفوس ثم هجرتها ... فلن تصبر النفس التي أنت قوُتُها ستبقى بقاء الضبِّ في الماء أو كما ... يعيش ببيداء المفاوز حوتُها قال بعضُ العارفين لقوم: ما تعدُّون العيش فيكم. قالوا: الطعام والشراب، ونحو ذلك. فَقَالَ: إنَّما العيش أن لا لقى منك جارحة إلاَّ وهي تجاذبك إِلَى طاعة اللَّه وعزَّ وجلَّ. مَن عاش مع اللَّه طاب عيشه، ومن عاش مع نفسه وهواه طال طيشه. قال الحسن: إنَّ أحباء الله هم الذين ورثوا أطيب الحياة بما وصلوا إِلَيْهِ من مناجاة حبيبهم، وبما وجدوا من لذَّة حبّه في قلوبهم. وأكل إبراهيمُ بن أدهم مع أصحابه كِسرًا يابسة، ثم قام إِلَى نهرٍ فشرب منه بكفه، ثم حمد اللَّه، تم قال: لو علم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه من النعيم والسرور لجالدونا عليه بالسيوف أيام الحب، عَلَى ما نحن فيه من لذيذ العيش وقلة التعب. فَقَالَ بعضُ أصحابه: يا أبا إسحاق، طلب القومُ الراحة والنعيم فأخطئوا (الصراط) (*) المستقيم. فتبسم ثم قال: من أين لك هذا. أهل المحبة قومٌ شأنهم عجب ... سرورهم أبدٌ وعيشهم طرب العيش عيشهم والملك ملكهم ... ما الناس إلا هم بانُوا أو اقتربوا قيل لبعض العارفين -وقد اعتزل عن الخلق-: إذا هجرتَ الخلقَ مع من تعيش؟ قال: مع من هجرتهم لأجله. ¬

_ (*) الطريق: "نسخة".

ويُروى عن المسيح عليه السلام، أنَّه قال: يا معشر الحواريين، كلِّموا الله كثيرًا، وكلموا الناس قليلًا. قالوا: كيف نكلم اللَّه كثيرًا؟! قال: اخلوا بذكره، اخلوا (بذكر نعمائه) (*) اخلوا بمناجاته. ما أطيبَ عيشَ مَن يخلو بحبيب ... يَلْتَذُّ بِهِ من غير مُحَاشاةِ رقيب أعيا مرضي بكم كلّ طبيب ... من أمَّل فضلَ مثلِكم كيفَ يَخِيب واعلم أنَّ الجمع بين هذين العيشين في دار الدُّنْيَا غيرُ ممكن، فمن اشتغل يعيش روحه وقلبه وحصل له منه نصيب وافر لها عن عيش جسده وبدنه، ولم يقدر أنْ يأخذ منه نهاية شهوته، ولم يقدر أنْ يتوسَّع في نيل الشهوات الحسية، وإنما يأخذ منها بقدر ما تقوم به حاجة البدن خاصة، فينتقص بذلك عيشُ الجسد، ولا بد. وهذه كانت طريقةُ الأنبياء والمرسلين وأتباعهم، وكان اللَّه يختار أنْ يقلل نصيبهم من عيش أجسادهم، (ويوفر) (**) نصيبهم مِن عيش قلوبهم وأرواحهم. قال سهل التستُري: ما آتى الله عبدًا مِن قُربه ومعرفته نصيبًا إلاَّ حرمه من الدُّنْيَا بقدر ما أعطاه من معرفته وقربه، ولا آتاه من الدُّنْيَا نصيبًا إلَّا حرمه (من) ( ... ) معرفته وقُربه بقدر ما آتاه من الدُّنْيَا. وقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يقتصد في عيشه غاية الاقتصاد، مع ما فتح اللَّهُ عليه من الدُّنْيَا والملُك، ومات ولم يشبع من خُبز الشعير، وكان يقول: «مَا لِي وَلِلدُّنْيَا إنَّمَا مَثَلِي وَمَثَلِ الدُّنْيَا كَرَاكِبٍ قَالَ فِي ظِلِّ شَجَرَةٍ ثُمَّ رَاحَ وَتَرَكَهَا» (¬1). وقال -صلى الله عليه وسلم-: «حُبِّبَ إِلَيَّ مِنْ دُنْيَاكُمُ النِّسَاءُ وَالطِّيبُ، وَجُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلَاةِ» (¬2). ¬

_ (*) بدعائه: "نسخة". (**) ويوف: "نسخة". ( ... ) منه: "نسخة". (¬1) تقدم تخريجه. (¬2) أخرجه أحمد (3/ 128، 199، 285)، والنسائي (7/ 61) من حديث أنس.

والنساءُ والطيب فيهما قوَّة الروح، بخلاف الطعام والشراب، فإنَّ الإكثار منهما يقسّىِ القلب ويفسده، وربما أفسد البدن أيضاً؛ كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «مَا مَلَأَ آدَمِيٌّ وِعَاءً شَرًّا مِنْ بَطْنٍ، فَإِنْ كَانَ لَابُدَّ فَاعِلاً، فَثُلُثٌ طَعَام، وَثُلُثٌ شَرَاب، وَثُلُثٌ نَفَس» (¬1). قال بعضُ السلف: قلَّةُ الطعام عونٌ عَلَى التسرُّع إِلَى الخيرات. وقال آخر: ما قلَّ طعامُ امرئ إلَّا رق قلبُه ونديت عيناه. وقال إبراهيمُ بن أدهم: الشِّبع يميت القلب، ومنه يكون الفرحُ والمرح والضحك. وقال أبو سليمان: إِنَّ النفس إذا جاعت وعطِشت صفي القلبُ ورق، وإذا شبِعت ورويت عمي القلب. وقال: مفتاح الدُّنْيَا الشبع، ومفتاح الآخرة الجوع. وقيل للإمام أحمد: يجدُ الرجلُ رقَّة من قلبه وهو يشبع؟ قال: ما أرى. ولهذا المعنى شرع اللَّه الصيام، وقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يُواصل في صيامه أيامًا فلا يأكل ولا يشرب، وإذا سُئل عن ذلك يقول: "إِنِّي لَسْتُ مِثْلَكُمْ إِنِّي أَظَلُّ عِنْدَ رَبِّي يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِي" (¬2) يُشير إِلَى أنَه يستغني عن قُوت جسده بما يمنحه اللهُ من قوت روحه، عند الخلوة به والأنس بذكره ومناجاته مما يُورده عَلَى قلبه من المعارف القُدسية والمواهب الإلهية. لها أحاديثُ من ذكراكَ تُشغلها ... عن الطعام وتلهيها عن الزاد واعلم أنَّ عيش الجسد يُفسد عيشَ الروح وينغصه، وأمَّا عيشُ الروح فإنَّه يُصلح عيشَ الجسد، وقد يُغنيه عن كثيرٍ مما يحتاج إِلَيْهِ من عيشه. ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد (4/ 132)، والترمذي (2380)، والنسائي في "الكبرى" (4/ 177)، وابن ماجه (3349) من حديث المقدام بن معدي كرب. (¬2) أخرجه البخاري (1965)، ومسلم (1103) من حديث أبي هريرة.

كان بالبصرة رجلٌ من المجتهدين في الطاعة، وكان قليل المطعم، وبدنُه غير مهزول، فسُئل عن سبب ذلك، فَقَالَ: ذلك مِن فرحى بحب الله، إذا ذكرتُ أنَّه ربي وأنا عبده لم يمنع بدني أنْ يصلح. وسُئل أبو الحسن بن بشار: هل يكون الوليُّ سَمينا. قال: نعم إذا كان الولي أمينًا. قِيلَ لَهُ: كيف، واللَّهُ يبُغض الحبر السمين. قال: إذا علم الحبر عبدَ مَن هو ازداد سمنًا. وكان بشر يخطر في داره، ويقول: كفى لي عِزًّا أني لك عبد، وكفى لي فخرًا أنك لي رب. نُسبت لكم عبدًا وذلك بغيتي ... وتشريفُ قدري نسبتي لعُلاكم فكل عذاب في هواكم يلذُ لي ... وكل هوانٍ طيِّبٌ في هواكم لحا (¬1) الله قلبي إنْ تغير عنكم ... وإن مال في الدُّنْيَا لحب سواكم فمن وفَّى نفسه حظها من عيش جسده بالشهوات الحسية كالطعام والشراب؛ فسد قلبُه وقسا، وجلب له ذلك الغفلةَ وكثرة النوم. فنقص حظُّ روحه وقلبه من طعام المناجاة وشراب المعرفة، فخسر خُسرانًا مبينًا. قال بعضُهم: مساكين أهل الدُّنْيَا، خرجوا منها وما ذاقوا أطيب شيء فيها. قيل: وما هو؟ قال: معرفةُ اللًه عزَّ وجل، فمن عاش في الدُّنْيَا ولا يعرف ربَّه ولا يتنعم بخدمته، فعيشُه عيش البهائم. نهارُك يا مغرورُ سهوٌ وغفلة ... وليلك نومٌ والردى (¬2) لك لازم وتتعب فيما سوف تكره غِبه ... كذلك في الدُّنْيَا تعيش البهائم ¬

_ (¬1) يقال: لحا لي الرجل أي شتمه ولامه وعنفه، وقيل: إِنَّ الملاحاة هي الملاومة، والمباغضة، ومنه لحاه الله لحيًا، أي: قبحه ولعنه. "اللسان" مادة: (لحي). (¬2) الردى: الهلاك "اللسان" مادة: (ردي).

فالصالحونُ كلهم قللوا من عيش الأجساد، وكثَّروا من عيش الأرواح، لكن منهم من قلَّل من عيش بدنه ليستوفيه في الآخرة، وهذا تاجرٌ. ومنهم من فعل ذلك خوفًا من الحساب عليه في الآخرة. والمحققون فعلوا ذلك تفريغًا للنفس عمَّا يشغل عن الله، لتتفرَّغ القلوبُ للعكوف عَلَى طاعته وخدمته، وذكره وشكره، والأنس والشوق إِلَى لقائه. فإنَّ الأخذ من عيش الأجساد أكثر من قدر الحاجة يُلهي عن الله، ويشغل عن خدمته. قال بعضُهم: كلُّ ما شغلك عن الله فهو عليك شؤم، فلا كان ما يُلهي عن الله؛ إنه يَضر ويُردي، إنَّه لشؤم. فما تفرَّغ أحدٌ لطلب عيش الأجساد، وأعطى نفسَه حظَّها من لك إلاَّ ونقص حظُّه من عيش الأرواح، وربما مات قلبُه من غفلته عن الله وإعراضه عنه، وقد ذمَّ الله من كان كذلك فَقَالَ تعالى: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} الآية (¬1). ثُم إِنَّ ما حصَّلوه من شهواتهم ينقطع ويزول بالموت، وينقص بذلك حظُّهم عند الله في الآخرة. فإن كان ما حصلوه من شهواتهم من حرام فذلك هو الخسرانُ المُبين؛ فإنَّه يُوجب العقوبة الشديدة في الآخرة. فلمَّا لم يجتمع في الدُّنْيَا للعبد بلوغُ حظّه من عيش رُوحه وبلوغ (نهايته) (*) من عيش جسده، جعل الله للمؤمنين دارًا جمع لهم فيها ما بين هذين الحظَّين عَلَى نهاية ما يكون من الكمال، وهي الجنة. فإنَّ فيها جميعَ لذات الأجساد وعيشها ونعيمها؛ كما قال الله تعالى: {وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ} (¬2) وقال: لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا ¬

_ (¬1) مريم: 59. (*) نهاية حظه: "نسخة". (¬2) الزخرف:71.

وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} (¬1) ولا ينقصُ ذلك حظَّهم من لذات أرواحهم؛ فإنَّه تتوافر لذات قلوبهم، وتتزايد عَلَى ما كانت للمؤمنين في الدُّنْيَا، مما لا نسبة لما كان في الدنيا إِلَيْهِ. فإنَّ الخبر في الدُّنْيَا يصير هناك عيانًا، فأعلى نعيمُهم هناك رؤية اللَّه عز وجلَّ ومشاهدته، وقُربه ورضاه، ويحصل لهم بذلك نهايةُ المعرفة به والأُنس، وتتزايد هنالك لذةُ ذكره عَلَى ما كانت في الدُّنْيَا؛ فإنهم يُلهمون التسبيح كما يلهمون النفسَ، وتصير كلمةُ التوحيد لهم كالماء البارد لأهل الدُّنْيَا. فعُلم بهذا أنَّ العيش الطب عَلَى الحقيقة لا يحصل في الدُّنْيَا، إِنَّمَا يكون بعد الموت. فإن من يُوفر حظَّه من نعيم روحه وقلبه في الدُّنْيَا يتوفَّر في الآخرة أيضًا، ومن توفَّر حظُّه من نعيم جسده في دنياه وسرَّ بها نقص في الدُّنْيَا ونقص به أيضًا حظه من نعيم الآخرة. ومع هذا فهو نعيمٌ منغَّص لا يدوم ولا يبقى، وكثيرًا ما يُنغَّص بالأمراض والأسقام، وربما انقطع وتبدَّل صاحبه بالفقر والذل بعد الغنى والعز. وإنْ سلم من ذلك كلِّه فإنه ينغصه الموتُ، فَإِذَا جاء الموت فما كان مَن تنعم بالدنيا ولذاتها كأنّه ما ذاق شيئًا من لذاتها، خصوصًا إنْ انتقل بعد الموت إِلَى عذاب الآخرة؛ كما قال تعالى: {أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ} إِلَى قوله: {مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ} (¬2). وكان الرشيدُ قد بنى قصرًا، فلما فرغ منه ونجزه وفرشه استدعى فيه بطعامٍ وشراب وملاهي، واستدعى أبا العتاهية، فَقَالَ له: صِف لي ما نحن فيه من العيش. فأنشأ يقول: عِش ما بدا لك سالماً ... في ظل شاهقة القُصور يُسعى عليك بما اشتهيت ... لدى الرَّواح وفي البكور فذا النفوس تقعقعت (¬3) ... في ضيق حشرجة الصدور فهناك تعلم موقنًا ... ما كنت إلاَّ في غُرور ¬

_ (¬1) ق:35. (¬2) الشعراء: 205 - 207. (¬3) تقعقعت: اضطربت وتحركت. "القاموس المحيط" مادة: (قعقع).

فبكى الرشيد. فَقَالَ له الوزير: دعاك أمير المؤمنين لتسره فأحزنته. فَقَالَ الرشيد: دعه؛ فإنَّه رآنا في عمى، فكره أنْ يزيدنا عمى. نظر بعضُ المترفين عند موته إِلَى منزله فاستحسنه، فَقَالَ: إنَّ عيشًا يكون آخره الموت ... لعيش معجَّل التغيص ثم مات من يومه. وقال آخر: يا غنيّ بالدنانير ... مُحب اللَّه أغنى وقال آخر: إِنَّمَا الدُّنْيَا وإنْ سرَّ ... ت قليل من قليل إنَّما العيش جوار اللَّه ... في ظل ظليل حيث لا تسمع ما يؤذيـ ... ك مِن قال وقيل وقال آخر: وكيف يلذ العيش من كان عالمًا ... بأنَّ إله الحلق لابد سائله فيأخذ منه ظلمه لعباده ... ويجزيه بالخير الَّذِي هو فاعله فالأشقياءُ في البرزخ في عيش ضنك؛ قال الله تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا} (¬1). وقد رُوي عن أبي سعيد الخدري، مرفوعًا وموقوفًا (¬2): أنَّ المعيشة الضنك عذاب القبر، يضيق عليه قبرُه حتى تختلف أضلاعُه، ويسلَّط عليه تسعة وتسعون تنينًا. فأما عيشهم في الآخرة فأضيق وأضيق، فأما من طاب عيشه بعد الموت فإن طيب عيشه لا ينقطع؛ بل كلما جاء تزايد طيبه. ولهذا سئل بعضهم: من أنعم ¬

_ (¬1) طه: 124 (¬2) أخرجه الحاكم في "المستدرك" (2/ 381) مرفوعًا، والطبري في "التفسير" (16/ 164) موقوفًا.

الناس عيشًا؟ فَقَالَ: أجسام في التراب قد أمنت العذاب، فانتظرت الثواب. فهذا في البرزخ في عيش طيب. رئي معروف في المنام بعد موته، وهو يُنشد: موت التقي حياة لا نفاد لها ... قد مات قومٌ وهم في الناس أحياء وكان إبراهيم بن أدهم يُنشد: ما أحد أنعم من مُفرد ... في قبره أعماله تؤنسُه منعَّم الجسم وفي روضة ... زيَّنها الله (في) (*) مجلسه رئي بعضُ الصالحين في المنام بعد موته، فَقَالَ: نحن بحمد الله في برزخ محمود، نفترشُ فيه الريحان ونتوسد فيه السندس والإستبرق إِلَى يوم النشور. رئي بعضُ الموتى في المنام فسئل عن حال الفُضيل بن عياض، فَقَالَ: كُسي حلَّة لا تقوم لها الدُّنْيَا بحواشيها. فأمَّا عيشُ المتقين في الجنة فلا يحتاج أنْ يُسأل عن طيبه ولذته، ويكفى في ذلك قوله تعالى: {فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ * كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ} (¬1) الآيات، ومعنى راضية أي: عيشةٌ يحصل بها الرضى. وفسَّر ابنُ عباس قوله: هنيئًا بأنه لا موت فيها، يُشير إِلَى أنَّه لم يهنهم العيش إلَّا بعد الموت والخلود فيها. قال يزيدُ الرقاشي: أمن أهلُ الجنة الموت فطاب لهم العيش، وأمنوا من الأسقام فهنيئًا لهم في جوار اللَّه طول المقام. وقال تعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} (¬2)، {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ} إِلَى آخرها (¬3) «أَدْنَى أَهْلِ الْجَنَّةِ مَنْزِلَةً مَنْ يَنْظُرُ فِي مُلْكِهِ وَسُرُرِهِ وَقُصُورِهِ ¬

_ (*) فهي: "نسخة". (¬1) الحاقة: 21 - 24. (¬2) الذاريات: 15. (¬3) القمر: 54 - 55.

مَسِيرَةَ أَلْفَيْ عَامٍ، يَرَى أَقْصَاهُ كَمَا يَرَى أَدْنَاهُ، وَأَعْلاَهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَى وَجْهِ رَبِّهِ بُكْرَةً وَعَشِيًّا» " (¬1). وقال طائفةٌ من السلف: وإنَّ المؤمن له بابٌ في الجنة من داره إِلَى دار السلام، يدخل منه عَلَى ربه إذا شاء بلا إذن. قال أبو سُليمان الداراني: وإذا أتاه رسولٌ من ربِّ العزة بالتحية واللُّطف، فلا يدخل عليه حتى يستأذن عليه، يقول للحاجب: استأذن لي عَلَى ولي الله، قال: لستْ أصل إِلَيْهِ. فَيُعْلِمُ ذلك الحاجبُ حاجبًا آخر حتى يصل إِلَيْهِ، فذلك قوله: {وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا} (¬2). فَللَّه ذَاك الْعَيْش بَين خيامها ... وروضاتها والثغرُ فِي الرَّوْض يبسم وَللَّه كم من خيرةٍ إِن تَبَسَّمت ... أَضَاء لَهَا نورٌ من الْفجْر أعظم وَللَّه واديها الَّذِي هُوَ موعد ... الْمَزِيد لوفد الْحبّ لَو كنتَ مِنْهُم بذيالك الْوَادي يهيم صبَابَة ... محب يرى أَنَّ الصبابة مغنم وَللَّه أفراحُ المحبين عِنْدَمَا ... يخاطبهم مَوْلَاهُم وَيُسلِّم وَللَّه أبصارٌ ترى الله جهرة ... فَلَا الْغَيْم يَغْشَاهَا وَلَا هِيَ تسأم فيا نظرةً أَهْدَت إِلَى الْقلب نظرة ... أَمن بعْدهَا يسلو الْمُحب المتيم فروحك قرّب إِن أردْت وصالهم ... فَمَا غلبت نظر تشري بروحك مِنْهُم وأقدم وَلَا تقنع بعيش منغص ... فَمَا فَازَ باللذات من لَيْسَ يُقدم فَصم يَوْمك الْأَدْنَى لَعَلَّك فِي غَد ... تفوز بعيد الْفطر وَالنَّاس صَوّم فيا بَائِعا هَذَا ببخس معجل ... كَأَنَّك لَا تَدْرِي بلَى سَوف تعلم فَإِن كنت لَا تَدْرِي فَتلك مُصِيبَة ... وَإِن كنت تَدْرِي فالمصيبة أعظم قوله - صلى الله عليه وسلم - بعد هذا: "وَأَسْأَلُكَ لَذَّةَ النَّظَرِ إِلَى وَجْهِكَ وَالشَّوْقَ إِلَى لِقَائِكَ مِنْ غَيْرِ ضَرَّاءَ مُضِرَّةٍ وَلَا فِتْنَةٍ مُضِلَّةٍ". ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد (2/ 13، 64)، والترمذى (2553، 3330) من حديث ابن عمر. وذكر الترمذي اختلافًا في رفع الحديث ووقفه. (¬2) الإنسان: 20.

فهذا يشتمل عَلَى أعلى نعيم المؤمنين في الدُّنْيَا والآخرة، وأطيب عيشٍ لهم في الدارين. فأمَّا لذَّةُ النظر إِلَى وجه الله عز وجل، فإنَّه أعلى نعيم أهل الجنة، وأعظم لذة لهم؛ كما في "صحيح مسلم" (¬1) عن صُهيب رضي الله عنه، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إِذَا دَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ نَادَى المُنَادِي: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ، إِنَّ لَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ مَوْعِدًا يُرِيدُ أَنْ يُنْجِزَكُمُوهُ، فَيَقُولُون: وَمَا هُوَ؟ أَلَمْ يُبَيِّضْ وُجُوهَنَا، أَلَمْ يُدْخِلْنَا الْجَنَّةَ، أَلَمْ يُنْجِنَا مِنَ النَّارِ؟ قَالَ: فَيَكْشِفُ الْحِجَابَ فَيَنْظُرُونَ إِلَيْهِ. فَوَاللَّهِ مَا أَعَطَاهُمُ اللَّهُ شَيْئًا هُوَ أَحَبَّ إِلَيْهِمْ مِنَ النَّظَرِ إِلَيْهِ، وَهُوَ الزِّيَادَة. ثم تلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذه الآية: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} (¬2) ". وفي رواية لابن ماجه وغيره (¬3)، في هذا الحديث: "فَوَاللَّهِ مَا أَعْطَاهُمْ شَيْئًا هُوَ أَحَبَّ إِلَيْهِمْ وَلَا أَقَرَّ لِأَعْيُنِهِمْ مِنَ النَّظَرِ إِلَيْهِ". وأخرج الدارمي (¬4)، من حديث ابن عمر مرفرعًا: "إِن أهل الْجنَّة إِذا بلغ بهم النَّعيم كل مبلغ فظنُّوا أَنه لَا نعيم أفضل مِنْهُ، تجلَّى الربُّ تبَارك وَتَعَالَى عَلَيْهِم فَيَنْظُرُونَ إِلَى وَجه الرَّحْمَن فينسون كلَّ نعيم عاينوه حِين نظرُوا إِلَى وَجه الرَّحْمَن". وأخرجه الدارقطني (¬5) بنقصان منه وزيادة، وفيه: فيقول: "يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ، هَلِّلُونِي وَكَبِّرُونِي وَسَبِّحُونِي، كَمَا كُنْتُ تُهَلِّلُونِي وَتُكَبِّرُونِي وَتُسَبِّحُونِي فِي دَارِ الدُّنْيَا، فَيَتَجَاوَبُونَ بِتَهْلِيلِ الرَّحْمَنِ، فَيَقُولُ تَبارَكَ وَتَعَالَى لِدَاوُدَ -عليه السلام-: يَا دَاوُدُ، قُمْ مَجِّدْنِي فَيَقُوم دَاوُد فَيُمَجِّدُ رَبَّهُ عَزَّ وَجَلَّ". وفي "سُنن ابن ماجه" (¬6) عن جابر مرفوعًا: بَيْنَمَا أَهْلُ الْجَنَّةِ فِي نَعِيمِهِمْ، إِذْ سَطَعَ لَهُمْ نُورٌ، فَإِذَا الرَّبُّ تَعَالَى قَدْ أَشْرَفَ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ لَهُمْ: السَّلامُ عَلَيْكُمْ ¬

_ (¬1) برقم (181). (¬2) يونس: 26. (¬3) أخرجه ابن ماجه (1871)، والنسائي في "الكبرى" (11234/ 1)، وأحمد (4/ 332، 333)، (6/ 15). (¬4) في "الرد عَلَى الجهمية" (189)، وفي الرد عَلَى المريسي (229). (¬5) في "الرؤية" (176). (¬6) برقم (184).

يَا أَهْلَ الجنة، وذلك قَوْلِهِ تَعَالَى: {سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَّبٍ رَّحِيمٍ} (¬1)، فَلَا يَلْتَفِتُونَ إِلَى شَيْءٍ مِمَّا هُمْ فِيْهِ مِنَ النَّعِيمِ دَامُوا يَنْظُرُونَ إِلَيْهِ". وخرَّج البيهقيُّ (¬2) من حديث جابر مرفوعًا: "إِنَّ أَهْلَ الْجنَّة يرونَ رَبهم عزَّ وَجَلَّ عَلَى نَجَائِبَ مِنْ يَاقُوتٍ أَحْمَرَ وَأَزِمَّتُهَا مِنْ زُمُرُّدٌ أَخْضَرُ، فَيَأْمُرُ اللَّهُ بكُثبان من مسك أذفر أَبيض فتثير عَلَيْهَا ريحًا يُقَال لَهَا: المُثيرة، حَتَّى تَنْتَهِي بهم إِلَى جنَّة عدن وَهِي قَصَبَة الْجنَّة. فَتَقول الْمَلَائِكَةُ: رَبنَا جَاءَ الْقَوْم. فَيَقُول: مرْحَبًا بالصادقين، مرْحَبًا بالطائعين. قَالَ: فَيكْشف لَهُم الْحجاب، فَيَنْظُرُونَ إِلَيْهِ ويتمتَّعون بنوره حَتَّى لَا يبصر بَعضهم بَعْضًا ثمَّ يَقُول: ارْجعُوا إِلَى الْقُصُور بالتحف. فيرجعون وَقد أبْصر بَعضهم بَعْضًا. فَذَلِك قَوْله تَعَالَى {نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ} (¬3) ". وفي "مسند البزار" (¬4)، من حديث حذيفة مرفوعًا، في يوم المزيد: "إِنَّ اللهَ يَكْشِفُ تِلْكَ الْحُجُبَ وَيَتَجَلَّى لَهُمْ، فَيَغْشَاهُمْ مِنْ نُورِهِ، لَوْلا أَنَّ اللهَ تَعَالَى قَضَى أَلاَّ يَحْتَرِقُوا لاحْتَرَقُوا؛ مِمَّا غَشِيَهُمْ مِنْ نُورِهِ، فَيَرْجِعُونَ إِلَى مَنَازِلِهِمْ وَقد خفوا عَلَى أَزوَاجهم مِمَّا غشيهم من نوره، فَإِذا صَارُوا تراد النورُ وتراد وَأمكن، حَتَّى يرجِعوا إِلَى صورهم الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا". ويُروى من حديث أنس (¬5) مرفوعًا: "إِن الله يَقُول لأهل الْجنَّة إِذا (استزادهم) (*) وتجلَّى لَهُم: سَلام عَلَيْكُم يَا عبَادي، انْظُرُوا إِلَيّ فقد رضيتُ عَنْكُم. فَيَقُولُونَ: سُبْحَانَكَ. فتتصدَّع لَهُ مَدَائِن الْجنَّة وقصورها ويتجاوب فُصُول شَجَرهَا وأنهارها وَجَمِيع مَا فِيهَا: سُبْحَانَكَ سُبْحَانَكَ. فاحتقروا الْجنَّة وَجَمِيع مَا فِيهَا حِين نظرُوا إِلَى وَجه الله عزَّ وَجَلَّ". ¬

_ (¬1) يس: 58. (¬2) في "البعث والنشور" (448). (¬3) فصلت: 32. (¬4) أخرجه البزار في "المسند" كما في " كشف الأستار" (3518). (¬5) أخرجه عبد الرزاق في "المصنف" (3/ 256)، وابن أبي شيبة (2/ 150) وابن أبي الدُّنْيَا في "صفة الجنة" (90) وغيرهم. (*) استزارهم: "نسخة".

ويُروى من حديث علي (¬1) مرفوعًا: "إِنَّ الله عز وجل يَتَجَلَّى لأَهْلِ الجَنَّة عَنْ وَجْهِهِ، فَكَأَنَّهُمْ لَمْ يَرَوْا نِعْمَةً قَبْلَ ذَلِكَ, وَهُوَ قَوْلُهُ وَتَعَالَى: {وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} (¬2). ويُروى من حديث أبي جعفر مُرسلاً (¬3): "إِنَّ أهل الْجنَّة إِذا زاروا رَبهم تَبَارَكَ وَتَعَالَى، وكشف لَهُم عَن وَجهه، قَالُوا: رَبنَا أَنْت السَّلَام ومنك السَّلَام، وَلك حق الْجلَال وَالْإِكْرَام، فَيَقُول تَعَالَى: مرْحَبًا بعبادي الَّذين حفظوا وصيتي، وراعوا عهدي، وخافوني بِالْغَيْبِ، وَكَانُوا مني عَلَى كل حَال مشفقين، فَقَالُوا: وَعزَّتك وعظمتك وجلالك مَا قدرناك حق قدرك، وَمَا أدينا إِلَيْك حَقك؛ فَائذن لنا فِي السُّجُود لَك. فَيَقُول لَهُم عز وَجل: إِنِّي قد وضعت عَنْكُم مُؤنَة الْعِبَادَة، وأرحت لكم أبدانكم. فطالما أنصبتم لي الْأَبدَان، وأعنيتم الْوُجُوه؛ فَالْآن أفضيكم إِلَى روحي ورحمتي وكرامتي، فاسألوني مَا شِئْتُم، وتمنوا عَليّ أعطكم أمانيكم؛ فَإِنِّي لم أجزكم الْيَوْم بِقدر أَعمالكُم، وَلَكِن بِقدر رَحْمَتي وكرامتي. فَمَا يزالون فِي الْأَمَانِي والعطايا والمواهب، حَتَّى إِن المقصّر مِنْهُم فِي أمْنِيته ليتمنَّى مثلَ جَمِيع الدُّنْيَا مُنْذُ خلقهَا الله إِلَى أَن أفناها. فَيَقُول لَهُم الرب تبَارك وَتَعَالَى: لقد قصَّرتم فِي أمانيكم ورضيتم بِدُونِ مَا يحِق لكم فقد أوجبتُ لكم مَا سَأَلْتُم وتمنيتم، وألحقتُ بكم ذريتكم وزدتكم مَا قصرت عَنهُ أمانيكم. قَالَ عبد الرَّحْمَن بنُ أبي ليلى: إِذا تجلَّى لَهُم رَبُّهم لَا يكون مَا أُعطوا عِنْد ذَلِك بِشَيْء. قَالَ الْحسن: إِذا تجلَّى لأهل الْجنَّة نسوا كلَّ نعيم الْجنَّة. وكان يقول: لو علم العابدون أنّهم لا يرون ربَّهم في الآخرة لماتوا. ¬

_ (¬1) أخرجه اللالكائي (852)، وأورده ابن القيم في "حادي الأرواح" (ص 368) من طريق يعقوب بن سفيان، ورواه أبو بكر المقرئ في "زيادات مسند أبي يعلى" كما في "المطالب العالية" (5205) وإسناده ضعيف جدًّا. (¬2) سورة ق: 35. (¬3) أخرجه ابن أبي الدُّنْيَا في "صفة الجنة" (53)، وأبو نعيم في "صفة الجنة" (411).

وقال: إِنَّ أحباء الله هم الذين ورثوا طيبَ الحياة، وذاقوا نعيمَها بما وصلوا إِلَيْهِ من مُناجاة حبيبهم، وبما وجدوا من حلاوة حبّه في قلوبهم. لا سيما إذا خطر عَلَى بالهم ذكرُ مشافهته، وكشف ستور الحُجب عنه في المقام الأمين والسرور، وأراهم جلالَه، وأسمعهم لذَّة كلامه، ورد عليهم جواب ما ناجوه به أيام حياتهم. أملي أن أراك يومًا من الدهر ... فأشكو لك الهوى والغليلا وأُناجيك من قرب وأبدي لك ... هذا الجوى وهذا النُّحُولاَ قال وهب: لو خُيِّرت بين الرؤية والجنة لاخترتُ الرؤية. رئي بشر في المنام، فسُئل عن حاله وحال إخوانه، فَقَالَ: تركتُ فلانًا وفلانًا بين يدي الله يأكلان ويشربان ويتنعَّمان. قِيلَ لَهُ: فأنت؛ قال: علم قلَّة رغبتي في الطعام فأباحني النظر إِلَيْهِ. يا حبيب القلوب ما لي سواك ... اوحم اليوم مذنبًا قد أتَاكا أنت سُؤلي ومنيتي وسُروري ... طال شوقي متى يكون لقاكا ليس سُؤلي من الجنان نعيم ... غير أني أريدها لأراكا قال ذُو النون: ما طابت الدُّنْيَا إلاَّ بذكره، ولا طابت الآخرة إلاَّ بعفوه، ولا طابت الجنة إلاَّ برؤيته. ولو أنَّ الله احتجب عن أهل الجنة لاستغاث أهل الجنة من الجنة كما يستغيث أهل النار من النار. كان بعضُ الصالحين يقول: ليت ربِّي جعل ثوابي من عملي نظرةً إِلَيْهِ، ثم يقول: كن ترابًا. كان علي بن الموفَّق يقول: اللهم إنْ كنت تعلم أنِّي أعبدُك خوفًا مِن نارك فعذِّبني بها، وإنْ كنت تعلم أنِّي أعبدك حُبًّا لجنتك فاحرمنيها، وإنْ كنت تعلم

أنما عبدتك حبًّا مني لك وشوقًا إِلَى وجهك الكريم فأبحنيه، واصنع بي ما شئت (¬1). سمع بعضُهم قائلاً يقول: كبُرت همة عبد طمعت في أنْ تراكا ... وما حسبت أنْ ترى من رآكا ثم شهق شهقة فمات. لما غلب الشوقُ عَلَى قلوب المُحبِّين استروحوا إِلَى مثل هذه الكلمات، وما تخفي صدورُهم أكبر! تجاسرتُ فكاشفتك لما غلب الصبر ... فإنْ عنفني الناسُ ففي وجهك لي عذر أبصارُ المُحبين قد غضت من الدُّنْيَا والآخرة، فلم تفتح إلاَّ عند مشاهدة محبوبهم يوم المزيد. أروح وَقد ختمتَ عَلَى فُؤَادِي ... بحبك أَنْ يحل بِهِ سواكا فَلَو أَنِّي اسْتَطَعْت غضضت طرفِي ... فَلم أنظر بِهِ حَتَّى أراكا أحبك لَا ببعضي بل بكلي ... وَإِنْ لم يبْق حبك لي حراكا وَفِي الأحباب مَخْصُوص بوجد ... وَآخر يَدعِي معي اشتراكا إِذا استكبت دموعي فِي خدودي ... تبيَّن من بَكَى مِمَّن تباكا فَأَما من بَكَى فيذوب وجدًا ... وينطق بالهوى من قد تشاكا كان سحنون المُحب يُنشد: وَكَانَ فُؤَادِي خَالِيًا قبل حُبّكم ... وَكَانَ بِذكر الْخلق يلهو ويمرح ¬

_ (¬1) في ذلك نظر، إذ العبودية الحقة لا بد وأن تجمع بين الحب والخوف والرجاء. قال تعالى: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [السجدة: 16] وقال: {وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا} [الأعراف: 56] وقال تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [الأنبياء: 90].

فَلَمَّا أن دَعَا قلبِي هَوَاك أَجَابَهُ ... فلست أرَاهُ عَن فنائك يبرح رُميت ببعد عَنْك إِن كنت كَاذِبًا ... وَإِن كنت فِي الدُّنْيَا بغيرك أفرح وَإِن كَانَ شَيْء بالبلاد بأسرها ... إِذا غبت عَن عَيْني لعَيْنِي يملح فَإِن شِئْت واصلني وَإِن شِئْت لَا تصل ... فلست أرى قلبِي لغيرك يصلح وأمَّا الشوق إِلَى لقاء الله فهو أجل مقامات العارفين في الدُّنْيَا؛ وقد روي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- "أنه كان يدعو: "اللهُمَّ اجْعَلْ حُبَّكَ أَحَبَّ الْأَشْيَاءِ إِلَيَّ، وَخَشْيَتَكَ أَخْوَفَ الْأَشْيَاءِ عِنْدِي، وَاقْطَعْ عَنِّي حَاجَاتِ الدُّنْيَا بِالشَّوْقِ إِلَى لِقَائِكَ، وَإِذَا أَقْرَرْتَ أَعْيُنَ أَهْلِ الدُّنْيَا مِنْ دُنْيَاهُمْ فَأَقِرَّ عَيْنِي مِنْ عِبَادَتِكَ" (¬1). وإنما قال: "مِنْ غَيْرِ ضَرَّاءَ مُضِرَّةٍ، وَلَا فِتْنَةٍ مُضِلَّةٍ" لأنَّ الشوق إِلَى لقاء الله يستلزم محبة الموت، والموتُ يقع تمنيه كثيرًا من أهل الدُّنْيَا؛ بوقوع الضرَّاء المُضرة في الدُّنْيَا، وإن كان منهيًّا عنه في الشرع. ويقع من أهل الدين تمنيه؛ لخشية الوقوع في الفتن المُضلَّة. فسأل تمنّي الموت خاليًا من هذين الحالين، وأنْ يكون ناشئًا عن محض محبَّة الله والشوق إِلَى لقائه؛ وقد حصل هذا المقامُ لكثيرٍ من السلف. قال أبو الدرداء: أَحَبّ الموتَ اشتياقًا إِلَى ربي. وقال أبو عُتبة (الخواص) (**): كان إخوانكم لقاء الله أحب إليهم من الشَّهد. وقالت رابعةُ: طالت عليّ الأيامُ والليالي بالشوق إِلَى لقاء الله. ومكث فتح بن (شخرف) (¬2) ثلاثين سنة لم يرفع رأسه إِلَى السماء، ثم رفع رأسه فَقَالَ: طال شوقي إليك فعجَّل بالقدوم عليك. ¬

_ (*) إذا: "نسخة". (¬1) أخرجه أبو نعيم في "الحلية" (8/ 282). (**) الخولاني: "نسخة". (¬2) في المطبوع "شخروق" والصواب ما أثبتناه. انظر "طبقات الأولياء" لابن الملقن (ص 222، 274، 319)، و"طبقات الصوفية" (ص 11، 143) و"سير أعلام النبلاء" (3/ 93) و"تاريخ بغداد" (12/ 384).

وكان بعضُهم يقول في مناجاته: قبيحٌ بعبد ذليل مثلي يعلم عظيمًا مثلك. اللهم إنك تعلم أنك لو خيَّرتني أنْ تكون لي الدُّنْيَا منذ خُلقت أتنعم فيها حلالاً لا أُسْأَلُ عنها يوم القيامة، وبين أن تخرج روحي الساعة (¬1). قال بعض السلف: إذا ذكرتُ القدومَ عَلَى اللَّه كُنت أشد اشتياقًا إِلَى الموت من الظمآن الشديد ظمؤه، في اليوم الحار الشديد حرَّه إِلَى الشراب الشديد بردُه. أشتاق إليك يا قريب نائي ... شوق الظامي إِلَى زُلال المائي قال الجنُيد: سمعتُ سريًّا يقول: الشوقُ أجل مقام العارف إذا تحقق فيه، وإذا تحقق بالشوق لها عن كل شيء يشغله عمَّن يشتاق إِلَيْهِ. رئي داود الطائي في المنام عَلَى منبر عالٍ، وهو ينشد: ما نال عبدٌ من الرحمن منزلة ... أعلى من الشوق إنَّ الشوق محمود لا زال المُحبُّون يروضون أرواحهم في الدُّنْيَا حتى خرجت عن أبدان الهوى وصارت في حواصل طير الشوق، فهي تسرح في رياض الأُنس وترد حياضَ القُدس، ثم تأوي إِلَى قناديل المعرفة المُعلقةِ في المحل الأعلى حول العرش؛ كما قال بعضُ العارفين: القلوب جوَّالة، فقلبٌ يدور حول العرش، وقلبٌ يجول حول الحُش، كلَّما حلَّت نسماتُ القُدس من أرجاء الأُنس عَلَى أغصان قلوب الأحباب، تمايلت شوقًا إِلَى ذلك الجنَاب. كان بعضُ السلف يمشي أبدًا عَلَى قدميه من الشوق، وكان بعضُهم كأنّه مخمورٌ من غير شراب (¬2). ¬

_ (¬1) كذا؛ وقد سقط: "لاخترت أن تخرج نفسى الساعة". انظر "استنشاق نسيم الأنس" (96) للمؤلف. (¬2) لم يكن هذا هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - وصحابته، ولا خير في هدي جانب هديه - صلى الله عليه وسلم -.

يريحني إليك الشوقُ حتى ... أميل من اليمين إِلَى الشمال ويأخذني لذكركم رياح ... كما نشط الأسير من العقال أهل الشوق عَلَى طبقتين: أحدهما: من أقلقه الشوقُ ففني اصطبارُه؛ كان أبو عُبيدة الخوَّاص يمشي ويضرب عَلَى صدره، ويقول: واشوقاه إِلَى من يراني ولا أراه. كان داود الطائي يقول بالليل: همُّك عطَّل عَلَيَّ الهموم، وخالف بيني وبين السهاد، وشوقي إِلَى النظر إليك أوبق مني اللذات، وخالف بيني وبين الشهوات، فأنا في سجنك أيها الكريم مطلوب. أحبابي أمَّا جِفن عيني فمقروح ... وأمَّا فؤادي فهو بالشوق مجروح يذكرني مرُّ النسيم عهودكم ... فأزداد شوقًا كلّما هبت الريحُ أراني إذا ما أظلم الليلُ أشرقت ... بقلبي من نارِ الغرام مصابيح أصلي بذكراكم إذا كُنت خاليًا ... ألا إِنَّ تذكار الأحبَّة تسبيح الطبقةُ الثانية: من إذا أقلقهم الشوقُ سكَّنهم الأُنس باللَّه، فاطمأنت قلوبُهم بذكره، وأنسوا بقُربه. وهذه حالُ الرسول -صلى الله عليه وسلم- وخواص العارفين من أمته. وسُئل الشَّبلي: بماذا تستريح قلوبُ المحبّين والمشتاقين؟ فَقَالَ: بسرورهم بمن أحبُّوه واشتاقوا إِلَيْهِ. أموت إذا ذكرتُك ثم أحيا ... ولولا ما أؤمل ما حييتُ فأحيا بالمنى وأموت شوقًا ... فكم أحيا عليك وكم أموت

كانت بعضُ الصالحات تقول: أليس عجبًا أنْ أكون حية بين أظهركم، وفي قلبي من الاشتياق إِلَى ربي مثل شعل النار التي لا تطفأ. أموت اشتياقًا ثم أحيا بذكركم ... وبين التراقي والضلوع لهيب فوا عجبا موت المشوق صبابة ... ولكن بقاه فى الحياة عجيب هذه أحوالٌ لا يعرفها إلاَّ من ذاقها. لا يعرف الوجدَ إلاَّ من يُكابده ... ولا الصبابة إلاَّ من يُعانيها فأمَّا من ليس عنده منها خبر، فربما لام أهلَها. يا عاذل المشُتاق دعه فإنّه ... لديه من الزفرات غير حشاكا لو كان قلبك قلبه ما لمته ... حاشاك مما عنده حاشاكا قولُه -صلى الله عليه وسلم-: "أَعُوذُ بِكَ اللهُمَّ أَنْ أَظْلِمَ، أَوْ أُظْلَمَ أَوْ أَعْتَدِيَ أَوْ يُعْتَدَى عَلَيَّ، أَوْ أَكْسِبَ خَطِيئَةً مُحْبِطَةً أَوْ ذَنْبًا لَا تَغْفِرُه". استعاذ من أربعة أشياء: أحدها: الظلم من الطرفين، وهو أنْ يظلم غيره أو يظمه غيره. وخرَّج أبو داود (¬1) من حديث أم سلمة، قالت: "مَا خَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ بَيْتِي قَطُّ إِلَّا رَفَعَ طَرْفَهُ إِلَى السَّمَاءِ فَقَالَ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَضِلَّ أَوْ أُضَلَّ، أَوْ أَزِلَّ أَوْ أُزَلَّ أَوْ أَظْلِمَ أَوْ أُظْلَمَ، أَوْ أَجْهَلَ أَوْ يُجْهَلَ عَلَيَّ". وخرَّجه الترمذي (¬2) وصححه، ولفظُه: "اللَّهُمَّ إِنَّا نَعُوذُ بِكَ أَنْ نَزِلَّ أَوْ نُزَلَّ أَوْ نَظْلِمَ أَوْ نُظْلَمَ، أَوْ نَجْهَلَ أَوْ يُجْهَلَ عَلَيْنَا". فمن سلم من ظُلم غيره، وسلم الناسُ من ظلمه: فقد عُوفي وعوفي الناسُ منه. وكان بعض السلف يدعو: اللهم سلِّمني وسلِّم مني. ¬

_ (¬1) برقم (5094). (¬2) برقم (3427).

والثاني: العُدوان. وفرَّق اللَّه بين الظلم والعُدوان، في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} إِلَى قوله: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا} (¬1) الآية. وقد يُفرَّق بين الظلم والعُدوان، بأنَّ الظلم: ما كان بغير حق بالكلية، كأخذ مالٍ بغير استحقاق شىء منه، وقتل نفس لا يحل قتلها. وأمَّا العُدوان: فهو مُجاوزة الحدود وتعديها فيما أصلُه مباح، مثل أنْ يكون له عند أحدٍ حقٌّ من مال أو دم أو عرض، فيستوفي أكثر منه. فهذا هو العُدوان، وهو تجاوز ما يجوز أخذه فيأخذ ماله أخذه وما لي له أخذه، وهو من أنواع الربا المحرَّمة. وقد ورد السَّبَّتَان بالسَّبة ربا. والظلم المُطلق: أخذُ ما ليس له أخذه، وأخذ شيءٍ منه من مال أو عرض أو دم. كلاهما في الحقيقة ظلم. وفي "الصحيح" (¬2) عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: "يقول اللَّه عز وجل: يا عبادي، إنِّي حرمت الظلمَ عَلَى نفسي وجعلته بينكم محرمًا؛ فلا تظالموا". وفي "الصحيحين" (¬3) عنه - صلى الله عليه وسلم - قال: "الظلم ظلمات يوم القيامة". وفيهما (¬4) عنه -صلى الله عليه وسلم- قال: " «إِنَّ اللَّهَ لَيُمْلِي لِلظَّالِمِ حَتَّى إِذَا أَخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ» وتلا قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} (¬5) الآية. وفي البخاري (¬6) عنه -صلى الله عليه وسلم- قال: «مَنْ كَانَتْ عِنْدَهُ مَظْلِمَةٌ لِأَخِيهِ فَلْيَتَحَلَّلْهُ مِنْهَا، فَإِنَّهُ لَيْسَ ثَمَّ دِينَارٌ وَلاَ دِرْهَمٌ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُؤْخَذَ لِأَخِيهِ مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَسَنَاتٌ أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِ أَخِيهِ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ». ¬

_ (¬1) النساء: 29 - 30. (¬2) أخرجه مسلم (2577) من حديث أبي ذر. (¬3) أخرجه البخاري (2447)، ومسلم (2579) من حديث ابن عمر. (¬4) أخرجه البخارى (4686)، ومسلم (2583) من حديث أبي موسى. (¬5) هود: 102. (¬6) أخرجه البخاري (2449) من حديث أبي هريرة.

وفي "صحيح مسلم" (¬1) عنه - صلى الله عليه وسلم - قال: «أَتَدْرُونَ مَنِ الْمُفْلِسُ»؟ قَالُوا: المُفْلِسُ مَنْ لَا دِرْهَمَ لَهُ وَلَا مَتَاعَ، قَالَ: «إِنَّ المُفْلِسُ مِنْ أُمَّتِي يَأْتِي يَوْمَ القِيَامَةِ بِصَلَاتِهِ وَصِيَامِهِ وَزَكَاتِهِ، وَقَدْ شَتَمَ هَذَا، وَأَكَلَ مَالَ هَذَا، وَسَفَكَ دَمَ هَذَا، وَضَرَبَ هَذَا، فَيَقْضِي هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِذَا فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يَُقْضِي مَا عَلَيْهِ، أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِهِمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ». وفي الحديث (¬2): " «لَتُؤَدُّنَّ الْحُقُوقَ إِلَى أَهْلِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، حَتَّى تَتَقاضَى الشَّاة الْجَماء (¬3) مِنَ الشَّاةِ الْقَرْنَاءِ» ". وفي حديث عبد الله بن أنيس: (وليَسْأَلَنَّ الحجر لم نكت الحجر، وليسألن العود لم خدش صاحبه". فخِف القضاء غدًا إذا وافيت ما ... كسبت يداك اليوم بالقسطاس في موقف ما فيه إلاَّ شاخص ... أو مهطع (¬4) أو مقنع بالراس أعضاؤهم هي الشهودُ وسجنهم ... نارٌ وحاكمهم شديد الباس إِنْ تمطل اليوم الحقوقَ مع الغنى ... فغدًا تؤديها مع الإفلاس والظلمُ المحرَّم تارة يكون في النفوس، وأشده في الدماء. وتارة في الأموال، وتارة في الأعراض، ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم - في خُطبته في حجة الوداع: "إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا فِي بَلَدِكُمْ هَذَا" (¬5) وفي رواية: ثم قال: "اسْمَعُوا مِنِّي تَعِيشُوا، أَلَا لَا تَظْلِمُوا، أَلَا لَا تَظْلِمُوا، أَلَا لَا تَظْلِمُوا، إِنَّهُ لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ إِلَّا بِطِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ" (¬6). ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (2581) من حديث أبي هريرة. (¬2) أخرجه مسلم (2582) من حديث أبي هريرة. (¬3) الجماء: التي لا قرن لها. "النهاية" (1/ 300). (¬4) مهطع: أقبل عَلَى الشيء ببصره فلم يرفعه وقيل: الَّذِي ينظر في ذل وخشوع. "اللسان" مادة: (مطع). (¬5) أخرجه البخاري (67)، ومسلم (1679) من حديث أبي بكرة. (¬6) أخرجه الدارقطني فى "السنن" (3/ 26) والبيهقي في "السنن الكبرى" (6/ 100)، (8/ 182) من حديث أنس.

وفي "صحيح مسلم" (¬1) عنه - صلى الله عليه وسلم - قال: "كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ دَمُهُ وَمَالُهُ وَعِرْضُهُ". فظلمُ العباد شرٌّ مكتسب؛ لأنَّ الحق فيه لآدمي مطبوع عَلَى الشُّح، فلا يترك من حقه شيئًا، لاسيما مع شدة حاجته يوم القيامة، فإنَّ الأم تفرحُ يومئذ إذا كان لها حقٌّ عَلَى ولدها، لتأخذه منه. ومع هذا، فالغالبُ أنَّ الظالم تُعجَّل له العقوبة في الدُّنْيَا وإنْ أُمهل؛ كما قال - صلى الله عليه وسلم - (¬2): «إِنَّ اللَّهَ لَيُمْلِي لِلظَّالِمِ حَتَّى إِذَا أَخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ» قَالَ: ثُمَّ قَرَأَ: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ القُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ} (¬3) الآية. قال بعضُ أكابر التابعين لرجل: يا مُفلس. فابتُلي القائل بالدَّين والحبس، بعد أربعين سنة. وضَرب رجلٌ أباه وسحبه إِلَى مكان، فَقَالَ الَّذِي رآه: إِلَى ها هنا! رأيتُ هذا المضروب قد ضَرب أباه، وسحبه إِلَيْهِ! وصادر بعضُ وزراء الخلفاء رجلًا، فأخذ منه ثلائة آلاف دينار. فبعد مدة غضب الخليفة عَلَى الوزير، وطلب منه عشرة آلاف دينار، فجزع أهلُه من ذلك، فَقَالَ: ما يأخذ مني أكثر من ثلاثة آلاف دينار كما كنتُ ظلمتُ. فلما أدَّى ثلاثة آلاف دينار وقَّع الخليفةُ بالإفراج عنه، فسبحان مَن هو قائمٌ عَلَى كل نفس بما كسبت، إنَّ ربك لبالمرصاد. حاكمُ العدل لا يجور، وإنَّما يُجازي بالعدل. وميزانُ عدله لا يُحابي أحدًا؛ بل يتحرَّر فيه مثاقيلُ الذر ومثاقيل الخردل، وكما تدين تدان. فجانب الظلمَ لا تسلُك (طريقته) (*) ... عواقبُ الظلم تُخشى وهى تنتظر وكل نفس ستُجزى بالذي عملت ... وليس للخلق من دينهم وطر ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (2564) من حديث أبي هريرة. (¬2) تقدم تخريجه. (¬3) هود:102. (*) مسالكه: "نسخة".

الثالث: مما استعاذ منه: وهو اكتساب الخطيئة؛ قال اللَّه عز وجل: {بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ} (¬1). وفسِّرت إحاطة الخطيئة بالموت عَلَى الشرك، وفسِّرت بالموت عَلَى الذنوب الموجبة للنار من غير توبة منها. فكأنَّ ذنوبه أحاطت به من جميع جهاته، فلم يبق له مخلصٌ منها. فالخطايا تُحيط بصاحبها حتى تُهلكه؛ وقد ضرب النبيّ -صلى الله عليه وسلم- مثل الخطايا التي يتلبس بها العبد بمثل درع ضيقة يلبسها، فتضيق عليه حتى تخنقه، ولا تنفك عنه إلا بعمل الحسنات، من توبة أو غيرها من الأعمال الصالحة؛ ففى "المسند" (¬2)، عن عُقبة بن عامر رضي اللَّه عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إِنَّ مَثَلَ الَّذِي يَعْمَلُ السَّيِّئَاتِ ثُمَّ يَعْمَلُ الْحَسَنَاتِ كَمَثَلِ رَجُلٍ كَانَتْ عَلَيْهِ دِرْعٌ ضَيِّقَةٌ (خَنِيقَة) (*)، ثُمَّ عَمِلَ حَسَنَةً فَانْفَكَّتْ حَلْقَةٌ، ثُمَّ عَمِلَ حَسَنَةً أُخْرَى فَانْفَكَّتْ حَلْقَةٌ أُخْرَى حَتَّى يَخْرُجَ إِلَى الْأَرْضِ». فلا يخلص العبد من ضيق الذنوب عليه وإحاطتها به إلاَّ بالتوبة والعمل الصالح. كان بعضُ السلف يُردد هذين البيتين بالليل، ويبكي بكاءً شديدًا: ابكِ لذنبك طول الليل مجتهدًا ... إنَّ البكاء معول الأحزان لا تنسَ ذنبك في النهار وطوله ... إِنَّ الذنوب تحيط بالإنسان الرابع مما استعاذ منه: الذنب الَّذِي لا يُغفر. ويدخل فيه شيئان. أحدُهما: الشرك؛ قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ ... } (¬3) الآية. والثاني: أنْ يعمل العبدُ ذنبًا ولا يُوفَّق لسبب يمحوه عنه؛ بل يلقى اللَّه من غير سبب ملح له، فلا يُغفر له؛ بل يُعاقب عليه، فإنَّ الله إذا أَحَبّ عبدًا أوقعه ¬

_ (¬1) البقرة:81. (¬2) أخرجه أحمد (4/ 145). (*) ثُم خنقته: "نسخة". (¬3) النساء: 48، 116.

في ذنب له، ووفقه لأسباب يمحوه عنه: إمَّا بالتوبة النصوح، وفي ابن ماجه (¬1) عن ابن مسعود مرفوعًا: (التائب من الذنب كمن لا ذنب له". وإمّا بحسنات ماحية {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} (¬2) وإمَّا أن يُتلى بمصائب مكفّرة؛ فمن وُرد اللَّه به خيرًا يُصب منه. ولا تزال البلايا بالمؤمن حتى يمشي عَلَى الأرض وليس عليه خطيئة. وإمَّا أنْ يُغفر له بشفاعة بإذن الله لمن يأذن فيها، وإما أن يغفر لمجرّد فضله ورحمته من غير سبب آخر، فحينئذ يكون هذا الذنب مغفورًا. قال بعضُهم: إذا أحبَّ اللهُ عبدًا لم يضره ذنب، ومرادُه أنه يمحوه عنه، وربما يجعل الذنب في حقه سببًا لشدة خوفه من ربَّ وذله وانكساره له، فيكون سببًا لرفع درجة ذلك العبد عنده. وإذا خذل عبدًا وقضى عليه بذنبٍ لم يوفِّقه لشيء من ذلك، فلقي الله بذنبه من غير سبب يمحوه عنه في الدُّنْيَا، ثم يؤاخذه عليه في الآخرة ولا يغفره، فهذا هو الذنب المُستعاذ منه ها هنا. وحاصلُ الأمر: أنَّ مَن عامله الله في ذنوبه بالعدل هلك، ومن عامله بالفضل نجا؛ كما قال يحى بن مُعاذ: إذا وضع عدله عَلَى (عبد) (*) لم ييق له حسنة، وإذا بسط فضله عَلَى عبد لم يبق له سيئة. يا ويلنا من موقف ما به ... أخوف من أنْ يعدل الحاكم يا رب عفوا منك عن مذنب ... أسرف إلا أنّه نادم قولُه - صلى الله عليه وسلم -: "اللهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، ذَا الجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ؛ فِإِنِّي أَعْهَدُ إِلَيْكَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَأُشْهِدُكَ وَكَفَى بِكَ شَهِيْدًا، أَنِّي أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ وَحْدَكَ لَا شَرِيكَ لَكَ، لَكَ المُلْكُ وَلَكَ ¬

_ (¬1) برقم (4250). (¬2) هود: 114. (*) عبده: "نسخة".

الحَمدُ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٍ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُكَ وَرَسُولُكَ، وَأَشْهَدُ أَنَّ وَعْدَكَ حَقٌّ، وَلِقَاءَكَ حَقٌّ، والجَنَّةُ حَقٌّ، والنَّارُ حَقٌّ، وَالسَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا، وَأَنَّكَ تَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ". هذا الدعاءُ استفتحه بقوله: "اللهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ ذَا الجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ". وقد قال الله تعالى: {قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ} (¬1) الآية. وفىِ "صحيح مسلم" (¬2): "أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يستفتح صلاة الليل بقوله: «اللَّهُمَّ رَبَّ جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ وَإِسْرَافِيلَ، فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ، عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ، اهْدِنِي لِمَا اخْتُلِفَ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِكَ، إِنَّكَ أَنْتَ تَهْدِي مَنْ تَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ». وفي "المسند" والترمذي (¬3): أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - سمع رجلًا يقول: يا ذا الجلال والإكرام، فَقَالَ: "لقد استُجيب لك؛ فاسأل". والمسئولُ في هذا الدعاء أنَّ العبد يعهد إِلَى ربه في هذه الحياة الدُّنْيَا، ويُشهده، وكفى به شهيدًا أنَّه يشهد له بأصول الإيمان التي من وفَّى بها فقد نجا. وهي الشهادةُ لله بالوحدانية، وأتبعها بالشهادة له بالملُك والحمد والقُدرة عَلَى كل شيء، والشهادة لمحمدٍ - صلى الله عليه وسلم - بالعبودية والرسالة، والشهادة لله بأنَّ وعده حق ولقاءه حق، وأنَّ الجنة حق والنار حق، وأنَّ الساعة آتية لا ريب فيها، وأنَّ الله يبعث من في القبور. وقد تضمَّنت هذه الشهادة أصولَ الإيمان الخمسة؛ فإنَّ من شهد لمحمدٍ -صلى الله عليه وسلم- بالرسالة فقد شهد بما أمر محمد - صلى الله عليه وسلم - بالشهادة به، وهو أصول الإيمان الخمسة كلِّها. وهي: الإيمان بالله وملائكته وكُتبه ورسله واليوم الآخر. ¬

_ (¬1) الزمر: 46. (¬2) برقم (770) من حديث عائشة. (¬3) أخرجه أحمد (5/ 231، 235)، والترمذي (3527) من حدث معاذ.

وكان النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- يقول في استفتاحه صلاة الليل: "أَنْتَ الحَقُّ، وَوَعْدُكَ الحَقُّ، وَقَوْلُكَ حَقٌّ، وَلِقَاؤُكَ حَقٌّ، وَالجَنَّةُ حَقٌّ، وَالنَّارُ حَقٌّ، وَالسَّاعَةُ حَقٌّ، وَالنَّبِيُّونَ حَقٌّ، وَمُحَمَّدٌ حَقٌّ" (¬1). وقد أخبر اللَّه تعالى عن هُود عليه السلام أنَه قال لقومه: {إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ} (¬2). وقد وردت الأحاديث بفضل من عهد إِلَى ربِّه في الدُّنْيَا هذا العهد، واستشهده عَلَى نفسه بمثل هذه الشهادة؛ ففي "سُنن أبي داود" (¬3) عن أنس موقوفًا: "مَن قَال حِين يُصبح أو يمسي: اللَّهُمَّ إِنِّي أَصْبَحْتُ أُشْهِدُكَ وَأُشْهِدُ حَمَلَةَ عَرْشِكَ وَمَلَائِكَتَكَ وَجَمِيعَ خَلْقِكَ، أَنِّي أَشْهَدُ أَنَّ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، وَحْدَكَ لاَ شَرِيكَ لَكَ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُكَ وَرَسُولُكَ. أَعْتَقَ اللَّهُ رُبُعَهُ مِنَ النَّارِ، وَمَنْ قَالَهَا مَرَّتَيْنِ أَعْتَقَ اللَّهُ نِصْفَهُ مِنَ النَّارِ، وَمَنْ قَالَهَا ثَلَاثًا أَعْتَقَ اللَّهُ ثَلَاثَةَ أَرْبَاعِهِ مِنَ النَّارِ، وَمَنْ قَالَهَا أَرْبَعًا أَعْتَقَهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ". وأخرج النسائي والترمذيّ بمعناه (¬4). ورُوي معناه: من حديث سلمان (¬5)، وعائشة. وفي "المُسند" (¬6) عن ابن مسعود رضي اللَّه عنه، أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "من قال: اللهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، إِنِّي أَعْهَدُ إِلَيْكَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا أَنِّي أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ وَحْدَكَ لَا شَرِيكَ لَكَ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُكَ وَرَسُولُكَ؛ فَإِنَّكَ إِنْ تَكِلْنِي إِلَى نَفْسِي تُقَرِّبْنِي مِنَ الشَّرِّ وَتُبَاعِدْنِي مِنَ ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (1120)، ومسلم (769) من حديث ابن عباس. (¬2) هود: 54 - 55. (¬3) برقم (5069). (¬4) أخرجه النسائي في "الكبرى" (6/ 6) برقم (9837/ 6) عن أنس، والترمذي (3501) بمعناه عن أنس. وقال الترمذي: هذا حديث غريب. (¬5) أخرجه الطبراني في "الكبير" (6/ 220)، و"الدعاء" (299، 300)، والحاكم في "المستدرك" (1/ 523) من حديث سلمان. (¬6) (1/ 412).

الْخَيْرِ، وَإِنِّي لَا أَثِقُ إِلَّا بِرَحْمَتِكَ فَاجْعَلْ لِي عِنْدَكَ عَهْدًا تُوَفِّينِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ. إِلَّا قَالَ اللهُ لِمَلَائِكَتِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: إِنَّ عَبْدِي قَدْ عَهِدَ إِلَيَّ عَهْدًا فَأَوْفُوهُ إِيَّاهُ. فَيُدْخِلُهُ اللهُ الْجَنَّةَ". قال القاسمُ بن عبد الرحمن: ما في أهلنا جارية إلا تقول هذا في خدرها. قولُه -صلى الله عليه وسلم-: "وَأَشْهَدُ أَنَّكَ إِنْ تَكِلْنِي إِلَى نَفْسِي تَكِلْنِي إِلَى ضَيْعَةٍ وَعَوْرَةٍ، وَذَنْبٍ وَخَطِيئَةٍ، وَإِنِّي لَا أَثِقُ إِلَّا بِرَحْمَتِكَ" هذا كما في حديث ابن مسعود (¬1) المتقدم: "فَإِنَّكَ إِنْ تَكِلْنِي إِلَى نَفْسِي تُقَرِّبْنِي مِنَ الشَّرِّ، وَتُبَاعِدْنِي مِنَ الْخَيْرِ، وَإِنِّي لَا أَثِقُ إِلَّا بِرَحْمَتِكَ". والمقصودُ من ذلك: سؤالُ العبد لربه أنْ يتولاَّه برحمته، وأنْ لا يكله إِلَى نفسه. وفي كتاب "اليوم والليلة" للنسائي (¬2): عن أنس أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لفاطمة: "مَا يَمْنَعُكِ أَنْ تَسْمَعِي مَا أُوصِيكِ بِهِ، أَنْ تَقُولِي إِذَا أَصْبَحْتِ وَأَمْسَيْتِ: يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ بِرَحْمَتِكَ اسْتَغِيثُ، أَصْلِحْ لِي شَأْنِي كُلَّهُ، ولاَ تَكِلْنِي إِلَى نَفْسِي طَرْفَةَ عَيْنٍ". وخرَّجه الطبراني (¬3)، وزاد فيه: "ولاَ إِلَى أحدٍ منَ الناسِ". وخرَّج أبو داود والنسائي (¬4): من حديث أبي بكرة، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "دَعْوَة الْمَكْرُوبِ: اللَّهُمَّ رَحْمَتَكَ أَرْجُو، فَلا تَكِلْنِي إِلَى نَفْسِي طَرْفَةَ عَيْنٍ، وَأَصْلِحْ لِي شَأْنِي كُلَّهُ لَا إِلَه إِلَّا أَنْت". وقال قتادة: لما نزل قولُه تعالى: {وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا} (¬5) الآيات، قال النبيّ - صلى الله عليه وسلم -: "اللَّهُمَّ لاَ تَكِلْنِي إِلَى نَفْسِي طَرْفَةَ عَيْنٍ" (¬6). ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد في "المسند" (1/ 412). (¬2) برقم (570). (¬3) في "الأوس" (3565)، (8021). (¬4) أخرجه أبو داود في "السنن" (5090)، والنسائي في "الكبرى" (6/ 167) برقم (10487/ 25). (¬5) الإسراء: 74. (¬6) أخرجه الطبري في "التفسير" (15/ 89).

وفي "سُنن أبي داود" (¬1) عن عبد اللَّه بن حوالة، قال: "بَعَثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِنَغْنَمَ عَلَى أَقْدَامِنَا، فَرَجَعْنَا وَلَمْ نَغْنَمْ شَيْئًا وَقّدْ عَرَفَ الْجَهْدَ فِي وُجُوهِنَا، فَقَالَ: «اللَّهُمَّ لَا تَكِلْهُمْ إِلَيَّ فَأَضْعُفَ عَنْهُمْ، وَلَا تَكِلْهُمْ إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَيَعْجِزُوا عَنْهَا، وَلَا تَكِلْهُمْ إِلَى النَّاسِ فَيَسْتَأْثِرُوا عَلَيْهِمْ». فَإِذَا وفَّق اللهُ عبدًا توكل بحفظه وكلاءته، وهدايته وإرشاده، وتوفيقه وتسديده. وإذا (أخذله) (*) وكله إِلَى نفسه أو إِلَى غيره؛ ولهذا كانت هذه الكلمة: "حسبنا اللَّه ونعم الوكيل" كلمة عظيمة، وهي التي قالها إبراهيم عليه الصلاة والسلام حين أُلقي في النار، وقالها محمدٌ -صلى الله عليه وسلم- حين قال الناس: إنَّ الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم (¬2)، وقالتها عائشةُ حين ركبت الناقة لمَّا انقطعت عن الجيش (¬3)، وهي كلمةُ المؤمنين. فمن حقَّق التوكلَ عَلَى اللَّه لم يكله إِلَى غيره، وتولَّاه بنفسه. وحقيقةُ التوكل: تَكِلَةِ الأمور كلِّها إِلَى من هي بيده؛ فمن توكَّل عَلَى اللَّه في هدايته وحِراسته وتوفيقه وتأييده ونصره ورزقه، وغير ذلك من مصالح دينه ودنياه تولَّى اللهُ مصالحه كلَّها؛ فإنه تعالى ولي الذين آمنوا. وهذا هو حقيقةُ الوثوق برحمة الله؛ كما في هذا الدعاء: "فإنى لا أثق إلا برحمتك". فمن وثق برحمة ربِّه ولم يثق بغير رحمته، فقد حقَّق التوكل عَلَى ربه في توفيقه وتسديده. فهو جدير بأن يتكفَّلَ اللهُ بحفظه، ولا يكله إِلَى نفسه. وفي هذا الحديث وصفَ النفسَ بأوصاف ذميمة، كلُّ ذلك حذرًا أنْ يُوكل العبد إِلَى ما هذه صفاته، وهي أربعةُ أوصاف: الضَّيعة، والعورة، والذَّنب، والخطيئة. ¬

_ (¬1) برقم (2535). (*) خذله: "نسخة". (¬2) أخرجه البخاري برقم (4563، 4564) عن ابن عباس. (¬3) أخرجه البخاري برقم (4141)، ومسلم برقم (2770).

فالضيعةُ: هي الضياع. فمن وكل إِلَى نفسه ضاع؛ لأنّ النفس ضيعة؛ فإنًها لا تدعو إِلَى الرُّشد، وإنَّما تدعو إِلَى الغي. والعورة: هي ما ينبغي سترُه لقبحه ودناءته، فكذلك النفس لقُبح أوصافها وسوء أخلاقها الذميمة. والذنبُ والخطيئة معناهما مُتقارب أو متحد، وقد يراد بأحدهما الصغائر وبالآخر الكبائر. وقد وصف الله سبحانه وتعالى النفسَ بأنها أمَّارة بالسوء، فَقَالَ تعالى: {إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي} (¬1) فمن رحمه اللَّه عصمه (من) (*) السوء الَّذِي تأمر به النفس. وفي حديث أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - علَّمه أنْ يقول في كل صباح ومساء وعند نومه: "أعوذ بك من شر نفسي" (¬2). وأمّا من وكله إِلَى نفسه ولم يرحه؛ فإنَّه يُجيب داعي نفسه الأمارة بالسوء، فيفعل كل سوء تأمره به نفسُه. وفي "المسند" والترمذي (¬3) مرفوعًا: " «الكَيِّسُ مَنْ دَانَ نَفْسَهُ وَعَمِلَ لِمَا بَعْدَ المَوْتِ، وَالعَاجِزُ مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا وَتَمَنَّى عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ». فقسَّم الناسَ إِلَى قسمين: كيّس، وعاجز. فالكيّسُ: هو اللَّبيب الحازمُ العاقل، الَّذِي ينظر في عواقب الأمور، فهذا يقهر نفسَه ويستعملُها فيما يعلم أنَّه ينفعها بعد موتها، وإن كانت كارهةٌ لذلك. والعاجز هو الأحمقُ الجاهل، الَّذِي لا يفكر في العواقب؛ بل يتابع نفسه عَلَى ما ¬

_ (¬1) يوسف: 53. (*) عن: "نسخة". (¬2) أخرجه أحمد (1/ 9، 10، 297)، وأبو داود (5067)، والترمذي (3392)، والنسائي في "الكبرى" برقم (1/ 7691، 7715/ 1) (9839/ 8) من حديث أبي هريرة. وأخرجه أحمد (1/ 14) من حديث أبي بكر. (¬3) أخرجه أحمد (4/ 124)، والترمذى (2459).

تهواه، وهي لا تهوى إلَّا ما تظن أنَّ فيه لذتها وشهوتها في العاجل وإنْ عاد ذلك بضرٍّ لها فيما بعد الموت، وقد يعود ذلك عليها بالضرر في الدُّنْيَا قبل الآخرة. فهذا هو الغالب واللازم، فيتعجَّل -هو لنفسه- العارَ والفضيحة في الدُّنْيَا، وسقوطَ المنزلة عند اللَّه وعند خلقه، والهوان والخزي، ويُحرم بذلك خير الدُّنْيَا والآخرة، من علمٍ نافع ورزق واسع وغير ذلك. ومَن خالف نفسَه ولم يُتبعها هواها تعجَّل بذلك الجزاء في الدُّنْيَا، ووجد بركة ذلك من حصول العِلْم والإيمان والرزق وغير ذلك. وقيل لبعضهم: بما بلغ الأحنفُ بن قيس فيكم ما بلغ؟ قال: كان أشد الناس سُلطانًا عَلَى نفسه. فهذه النفس تحتاج إِلَى مُحاربة ومجاهدة ومعاداة؛ فإنَّها أعدى عدو لابن آدم، وقد قال النبيّ -صلى الله عليه وسلم-: "المُجاهد من جاهد نفسه في الله" (¬1) ورُوي عنه -صلى الله عليه وسلم- أنَّه قال: "أعدى عدوك نفسك التي بين جنبيك" (¬2). وقال الصِّديقُ لعمر رضي اللَّه عنهما في وصيته له عند موته: أوَّل ما أُحذرك نفسك التي بين جنبيك. وفيه يقول بعضُهم: كيف احترازي من عدوي، إذا كان عدوي يين أضلاعي؟! وقال عبد اللَّه بن عمرو بن العاص لمن سأله عن الجهاد: ابدأ بنفسك فجاهدها، وابدأ بنفسك فاغزها (¬3). ويقال: إنَّه الجهاد الأكبر، ورُوي مرفوعًا (¬4) من وجه ضعيف. ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد (6/ 20، 21، 22)، والترمذي برقم (1621). قال الترمذي: حديث حسن صحيح. (¬2) أخرجه البيهقي في "الزهد الكبير" (343) من حديث ابن عباس. قال العراقي في "تخريج الإحياء" (4/ 3): وفيه محمد بن عبد الرحمن بن غزوان أحد الوضاعين. (¬3) أخرجه البيهقي في "الزهد الكبير" (368). (¬4) أخرجه أبو داود (2519).

فمن ملك نفسه وقهرها ودانها عزَّ بذلك؛ لأنّه انتصر عَلَى أشد أعدائه وقهره، وأسره واكتفى شرَّه، قال تعالى: {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (¬1) فحصر الفلاح في وقاية شح نفسه، وتطلُّعها إِلَى ما مُنعت منه، وحرصِها عَلَى ما يُضيرها مما تشتهيه: من علو وترفع، ومال وجاه، وأهل ومسكن، ومأكل ومشرب، وملبس وغير ذلك. فإنَّها تطلع إِلَى ذلك كلِّه وتشتهيه، وهو عين هلاكها، ومنه ينشأ البغيُ والحسد والحقد؛ فمن وقي شح نفسه فقد قهرها، وقصرها عَلَى ما أُبيح لها وأُذن لها فيه، وذلك عين الفلاح. كان بعض العارفين يُنشد: إذا ما (عدلت) (*) النفس ... عن الحق زجرناها وإن مالت عن الأخرى ... إِلَى الدُّنْيَا منعناها تخادعنا ونخدعها ... وبالصبر غلبناها لها خوف من الفقر ... وفي الفقر أنخناها وبكل حال، فلا يقوى العبدُ عَلَى نفسه إلاَّ بتوفيق الله إياه وتوليه له، فمن عصمه الله وحفظه تولاَّه، ووقاه شح نفسه وشرها، وقوَّاه عَلَى مُجاهدتها ومعاداتها. ومن وكله إِلَى نفسه غلبته وقهرته، وأسرته وجرَّته إِلَى ما هو عين هلاكه، وهو لا يقدر عَلَى الامتناع كما يصنع العدوُّ الكافر إذا ظفر بعدوه المسلم؛ بل شر من ذلك؛ فإن المسلم إذا قتله عدوه الكافر كان شهيدًا، وأمّا النفس إذا تمكّنَتْ من صاحبها قتلته قتلاً يَهلك به في الدُّنْيَا والآخرة. ¬

_ (¬1) الحشر: 9. (*) عدت: "نسخة".

وهذا معنى الحديث الَّذِي رُوي مرفوعًا: " «لَيْسَ عَدُوُّكَ الَّذِي إِذَا قَتَلْتَهُ كَانَ لَكَ نُورًا يَومَ القِيامةِ، وَإِنْ قَتَلَكَ دَخَلْتَ الْجَنَّةَ. أَعْدَى عَدُوِّكَ نَفْسُكَ الَّتِي بَيْنَ جَنْبَيْكَ» (¬1). فلهذا، كان من أهم الأمور سؤال العبد ربَّه أنْ لا يكله إِلَى نفسه طرفة عين. يا رب هئ لنا من أمرنا رشدا ... واجعل معونتك الحُسنى لنا مددا ولا تكلنا إِلَى تدبير أنفسنا ... فالعبد يعجز عن إصلاح ها فسدا وقوله -صلى الله عليه وسلم-: "فَاغْفِرْ لِي ذُنُوبِي إِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ، وَتُبْ عَلَيَّ، إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ". ختم الدعاء بسؤال مغفرة الذنوب والتوبة؛ قال بعض السلف: الدُّنْيَا إما عصمة الله أو الهلكة، والآخرة إمَّا عفو الله أو النار. فمن حصل له في الدُّنْيَا التوبة، وفي الآخرة المغفرة: فقد ظفر بسعادة الدُّنْيَا والآخرة. وقد تكرر في الكتاب والسنة ذكر الأمر بالتوبة والاستغفار؛ قال الله تعالى: {أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ} (¬2) الآية، وقال تعالى: {وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ} (¬3) الآية. وأخبر عن هود عليه السلام، وصالح وشعيب عليهم السلام. أنَّهم أمروا أممهم بالاستغفار والتوبة، وقال تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ} (¬4) الآيتان. وتركُ الإصرار هو التوبة. ¬

_ (¬1) أخرجه الطبراني في "الكبير" (3/ 294) برقم (3445)، وفي "مسند الشاميين" برقم (1668) من حديث أبي مالك الأشعري. وقال الهيثمي في "المجمع" (10/ 245): وفيه محمد بن إسماعيل ابن عياش وهو ضعيف. (¬2) المائدة: 74. (¬3) هود:3. (¬4) آل عمران: 135 - 136.

وفي "صحيح مسلم" (¬1)، عن الأغر المُزني، أنه سمع النبيّ -صلى الله عليه وسلم- يقول: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ، تُوبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَاسْتَغْفِرُوهُ، فَإِنِّي أَتُوبُ إِلَى اللَّهِ فِي يَوْمٍ مِائَةَ مَرَّةٍ». وخرَّجه النسائي (¬2)، ولفظه: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ تُوبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَاسْتَغْفِرُوهُ، فَإِنِّي أَتُوبُ إِلَى اللَّهِ وَأَسْتَغْفِرُهُ كُلَّ يَوْمٍ أَكْثرَ مِنْ سَبعينَ مَرَّةٍ». وفي "صحيح البخاري" (¬3)، عن أبي هريرة، أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "وَاللهِ إِنِّي إِنِّي لَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَأَتُوبُ إِليهِ كُلَّ يَوْمٍ أَكْثرَ مِنْ سَبعينَ مَرَّةٍ". وخرَّجه النسائي، وابن ماجه (¬4)، ولفظهما: "إِنِّي لَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَأَتُوبُ إِليهِ كُلَّ يَوْمٍ مِائَةَ مَرَّةٍ". وفي "المسُند" (¬5) عن حُذيفة، قال: كان في لساني ذرب عَلَى أهلي، ما أعدوه إِلَى غيرهم. فذكرتُ ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "أَيْنَ أَنْتَ مِنَ الِاسْتِغْفَارِ، يَا حُذَيْفَةُ؟ إِنِّي لَأَسْتَغْفِرُ اللهَ كُلَّ يَوْمٍ مِائَةَ مَرَّةٍ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ ". وفيه (¬6)، عن أبي موسى، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إِنِّي لَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ كُلَّ يَوْمٍ مِائَةَ مَرَّةٍ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ". وفي "السنن الأربعة" (¬7)، عن ابن عمر قال: إِنْ كنا لنعد للنبي -صلى الله عليه وسلم- فى المجلس الواحد مائة مرة يقول: (ربِّ اغفر لي وتُب عليَّ، إنك أنت التواب الرحيم الغفور". ¬

_ (¬1) برقم (2702). (¬2) في "الكبرى" (10278/ 11) من حديث أنس. (¬3) برقم (6307). (¬4) النسائي في "الكبرى" (10268/ 3)، وابن ماجه في "السنن" (3815). (¬5) (5/ 394، 396، 397، 42). (¬6) أخرجه أحمد (4/ 410)، (5/ 394). (¬7) أخرجه أبو داود (1516)، والترمذي (3434)، والنسائي في "الكبرى" (10292/ 1)، وابن ماجه (3814). قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح غريب.

وإنَّما قدَّم ذكرَ الشهادة بالتوحيد عَلَى طلب المغفرة؛ لأنّ التوحيد أعظم الأسباب التي تُستجلب بها المغفرة، وعدمُه مانع من المغفرة بالكلية؛ وفي الحديث (¬1): "ابن آدم إِنَّ جِئْتَنِي بِقُرَابِ الأَرْضِ خَطَايَا ثُمَّ لَقِيتَنِي لَا تُشْرِكُ بِي شَيْئًا لَأَتَيْتُكَ بِقُرَابِهَا مَغْفِرَةً". وفي حديث سيد الاستغفار (¬2) البدايةُ بذكر التوحيد قبل طلب المغفرة. وإذا اعترف العبدُ بذنبه وطلب المغفرة من ربِّه، وأقر له أنَّه لا يغفر الذنوب غيره كان جديرًا أنْ يُغفر له؛ ولهذا قال في الحديث: "فاغفر لي، إنَّه لا يغفر الذنوب إلاَّ أنت" وكذلك في دُعاء سيد الاستغفار، وكذلك في الدعاء الَّذِي علَّمه الصديق أنْ يقوله في صلاته. وإلى هذا الإشارة في القرآن: {ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ} (¬3). وفي حديث أبي ذر (¬4) المرفوع: "يَقُولُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: مَنْ عَلِمَ أَنِّي ذُو قُدْرَةٍ عَلَى المَغْفِرَةِ ثُمَّ اسْتَغْفَرَنِي غَفَرْتُ لَهُ وَلَا أُبَالِي". وفى حديث علي (¬5)، عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ رَبَّكَ لَيَعْجَبُ مِنْ عَبْدِهِ إِذَا قَالَ: اغْفِرْ لِي ذُنُوبِي. إِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ غَيْرِي". وفي "الصحيح" (¬6): حديثُ الَّذِي أذنب ذنبًا فَقَالَ: "رَبِّ عَمِلْتُ ذَنْبًا فَاغْفِرْهُ لِي، قَالَ عَزَّ وَجَلَّ: عَلِمَ عَبْدِي أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَأْخُذُ الذَّنْبَ قَدْ غَفَرْتُ لِعَبْدِي، ثُمَّ قَالَ فِي الرَّابعَة: فَلْيَعْمَلْ مَا شَاءَ". يعني: ما دام على هذا الحال، كلما أذنب استغفر. ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد (5/ 147، 148، 153، 155، 196، 180)، وابن ماجه (3821) من حديث أبي ذر. (¬2) أخرجه البخاري (6306). (¬3) آل عمران: 135. (¬4) أخرجه أحمد (5/ 154، 177)، والترمذي (2495)، وابن ماجه (4257). (¬5) أخرجه أحمد (1/ 97، 115، 128)، وأبو داود (2602)، والترمذي (3446)، والنسائي في "الكبرى" (8799/ 1). (¬6) أخرجه البخاري (7507)، ومسلم (2758) من حديث أبي هريرة.

وفي "السنن" (¬1)، عن أبي بكر الصديق رضي اللَّه عنه: «مَا أَصَرَّ مَنِ اسْتَغْفَرَ، وَإِنْ عَادَ فِي الْيَوْمِ سَبْعِينَ مَرَّةٍ». التوبةُ والاستغفار تُقبل في جميع آناء الليل والنهار، وفي "صحيح مسلم" (¬2) مرفوعًا: «إِنَّ اللهَ يَبْسُطُ يَدَهُ بِاللَّيْلِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ النَّهَارِ، وَيَبْسُطُ يَدَهُ بِالنَّهَارِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ اللَّيْلِ، حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا». ولكن بعض الأوقات أرجى قبولًا، فَإِذَا وقعت التوبةُ والاستغفار في مظان الإجابة كان أقرب إِلَى حصول المطلوب؛ ولهذا مدح اللَّهُ تعالى المُستغفرين بالأسحار، قال: {وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} (¬3)، وقال: {وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ} (¬4). وفي "الصحيح" (¬5)، حديثُ النزول، وأنَّ الله يقول كل ليلية حين يبقى ثلثُ الليل الآخر: "هَلْ مِنْ مُسْتَغْفِرٍ فَأَغْفَرُ لَهُ، هَلْ مِنْ تَائِبٍ فَأَتُوبَ عَلَيْهِ". قال الفُضيل بن عياض: ما من ليلةٍ اختلط ظلامُها، وأرخى الليل سربال سترها، إلَّا نادى الجليلُ -جلَّ جلاله-: مَن أعظم مني جودًا، والخلائق لي عاصون، وأنا لهم مراقب، أكلؤهم في مضاجعهم كأنَّهم لم يعصوني، وأتولَّى حفظَهم كأنهم لم يُذنبوا فيما بيني وبينهم، أجود بالفضل عَلَى العاصي وأتفضَّل عَلَى المسيء. من ذا الَّذِي دعاني فلم أُلبِّه، أمَّن ذا الَّذِي (سألني) (*) فلم أعطه، أمّن ذا الَّذِي أناخ ببابي فنحيتُه. أنا الفضل ومني الفضل، أنا الجواد ومني الجود، أنا الكريم ومني الكرم، ومِن كرمي (أن) (**) أغفر للعاصي بعد ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود (1514)، والترمذي (3559). وقال الترمذي: هذا حديث كريب، إِنَّمَا نعرفه من حديث أبي نضيرة، وليس إسناده بالقوي. (¬2) برقم (2759) من حديث أبي موسى. (¬3) الذاريات: 18. (¬4) آل عمران: 17. (¬5) أخرجه البخاري (1145)، ومسلم (758) من حديث أبي هريرة. (*) يسألني: "نسخة". (**) أني: "نسخة".

المعاصي، ومِن كرمي أن أعطي العبد ما سألني، وأعطيه ما لم يسألني، ومن كرمي أن أعطي التائب كأنَّه لم يعصني. فأين عني يهرب الخلائق، وأين عن بابي ينتحيَّ العاصون (¬1). ما للعصاة مهرب من الله إلاَّ إِلَيْهِ، فيهربون منه إِلَيْهِ. هربت مِنْهُ إِلَيْهِ ... بَكَيْت مِنْهُ عَلَيْهِ وَحقه هُوَ سؤلي ... لَا زلت بَين يَدَيْهِ حَتَّى أنال وأحظى ... بِمَا أرجي لَدَيْهِ أَسَأْت وَلم أحسن وجئتك تَائِبًا ... وَأَنِّي لعبد عَن موَالِيه يهرب يؤمل غفرانًا فَإِن خَابَ ظَنّه ... فَمَا أحد مِنْهُ عَلَى الأَرْض أخيب وهذا معنى: "لا ملجأ منك إلا إليك" هو أرحم بعباده من الوالدة بولدها، وأفرح بتوبة عبده ممن فقد راحلته بأرض مهلكة، حتى يئس من الحياة ثم وجدها. يا مطرود احذر أنْ تُفارق عتبة بابهم، يا مرميَّا بالبُعاد إياك أنْ تبعد عن جنابهم، يا مهجورًا ابْكِ وترام عليهم، يا متوعَّدا بالعقاب لا تهرب منهم إلاَّ إليهم. في حديث جابر، المرفوع: "إِنَّ الْعَبْدَ (لِيَدْعُو) (*) اللَّهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ، فَيُعْرِضُ عَنْهُ، فَلاَ يَزَالُ يَدْعُوهُ حَتَّى يَقُولُ عَزَّ وَجَلَّ لِمَلَائِكَتِهِ: إِنَّ عَبْدِي قَدْ أَبَى أَنْ يَدْعُوَ غَيْرِي فَقَدِ اسْتَجَبْتُ لَهُ". كان رجلٌ من أصحاب ذي النون يطوف في السِّكك يبكي، ويُنادي: أين قلبي، أين قلبي، مَن وجد قلبي؟! فدخل يومًا بعضَ السكك، فوجد صبيًّا يبكي وأمّه تضربه، ثم أخرجته من الدار وأغلقت الباب دونه. فجعل الصبي يلتفت يمينًا وشمالاً، ولا يدري أين يذهب ولا أين يقصد. فرجع إِلَى باب ¬

_ (¬1) أخرجه أبو نعيم في "الحلية" (8/ 92). (*) ليدع: "نسخة".

الدار، فوضع رأسه عَلَى عتبته فنام، فلما استيقظ جعل يبكى، ويقول: يا أمَّاه، مَن يفتح لي الباب إذا أغلقت عني بابك، ومن يُدنيني من نفسه إذا طردتيني، ومَن ذا الَّذِي يئويني بعد أنْ غضبت عليَّ؟ فَرَحمَتْهُ أمُه، فقامت فنظرت من خلل الباب فوجدت ولدها تجري الدموع عَلَى خده متمعِّكًا (¬1) في التراب. ففتحت البابَ وأخذته حتى وضعته في حِجرها، وجعلت تُقبله وتقول: يا قُرَّة عيني وعزيز نفسي، أنت الَّذِي حملتني عَلَى نفسك، وأنت الَّذِي تعرَّضت لما حلَّ بك، لو كنت أطعتني لم (تلق) (*) منى مكروهًا. فتواجد (¬2) الرجلُ، ثم قام وصاح، وقال: قد وجدتُ قلبي، قد وجدتُ قلبي. هكذا ينبغي أن يكون حالُ العبدُ مع ربه. إذا هجروا عزًّا وصلنا تذلُّلًا ... وإنْ بعدوا يأسًا قرُبنا تعللا وإنْ غلَّقوا بالهجر أبواب وصلهم ... وقالوا ابعدوا عنا طلبنا التوصلا وقفنا عَلَى أبوابهم نطلب الرِّضى ... عَلَى التُرب عفَّرنا الحدود تذللا أشرنا بتسليم وإنْ بعُد المدى ... إليهم وكلَّفنا الرياح التحملا (آخره والحمد لله رب العالمين حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، كما يحب ربنا ويرضى، وكما ينبغي لكرم وجهه وعز جلاله وصلى اللَّه عَلَى محمد وآله وصحبه وسلم) (**). ... ¬

_ (¬1) متمعك: أي تقلب وتمرغ في التراب. "لسان العرب" مادة: (معك). (*) يكن: "نسخة". (¬2) فتواجد أي حزن "لسان" مادة: (وجد). (**) تم هذا الحديث وشرحه، والحمد لله وحده وصل اللهم عَلَى سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم:

4 - شرح حديث عمار بن ياسر - رضي الله عنه -

شرح حديث عمار بن ياسر - رضي الله عنه -

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الحمد للَّه رب العالين والصلاة والسلام عَلَى محمد وآله وصحبه أجمعين. وبعد فقد خرَّج الإمام أحمد والنسائى (¬1) من حديث عمار بن ياسر رضي اللَّه عنه «أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَدْعُو بِهَؤُلاَءِ الدَّعَوَاتِ: اللَّهُمَّ بِعِلْمِكَ الْغَيْبَ وَقُدْرَتِكَ عَلَى الْخَلْقِ أَحْيِنِي مَا عَلِمْتَ الْحَيَاةَ خَيْرًا لِي، وَتَوَفَّنِي إِذَا كَانَتْ الْوَفَاةَ خَيْرًا لِي، اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ خَشْيَتَكَ فِي الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، وَكَلِمَةَ الْحَقِّ فِي الْغَضَبِ وَالرِّضَا، وَأَسْأَلُكَ الْقَصْدَ فِي الْفَقْرِ وَالْغِنَى، وَأَسْأَلُكَ نَعِيمًا لَا يَنْفَدُ، وَقُرَّةَ عَيْنٍ لَا تَنْقَطِعُ، وَأَسْأَلُكَ الرِّضَاءَ بَعْدَ الْقَضَاءِ، وَبَرْدَ الْعَيْشِ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَأَسْأَلُكَ لَذَّةَ النَّظَرِ إِلَى وَجْهِكَ وَالشَّوْقَ إِلَى لِقَائِكَ فِي غَيْرِ ضَرَّاءَ مُضِرَّةٍ وَلَا فِتْنَةٍ مُضِلَّةٍ، اللَّهُمَّ زَيِّنَّا بِزِينَةِ الْإِيمَانِ وَاجْعَلْنَا هُدَاةً مُهْتَدِينَ». اعلم أن الحاجات التي يطلبها العبد من اللَّه عز وجل نوعان: أحدهما: ما علم أنه خير محض كسؤاله خشيته من اللَّه تعالى وطاعته وتقواه، وسؤاله الجنة، والاستعاذة به من النار، فهذا يطلب من اللَّه تعالى بغير تردد، ولا تعليق بالعلم بالمصلحة؛ لأنّه خير محض، ومصلحة خالصة؛ فلا وجه لتعليقه بشرط وهو معلوم الحصول، وكذلك لا يعلق لمشيئة اللَّه عز وجل؛ لأنّ اللَّه يفعل ما يشاء ولا مُكْرِهَ له فلا فائدة في تعليقه بمشيئة؛ ولكن ليعزم المسألة، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لاَ يَقُلْ أَحَدُكُمْ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي إِنْ شِئْتَ، وَلَكِنْ لِيَعْزِمْ المَسْأَلَة، فَإِنَّ اللهَ لاَ مُسْتَكْرِهَ لَهُ"، خرّجاه من حديث أنس وأبي هريرة بمعناه (¬2). ¬

_ (¬1) أخرجه النسائي (1305). (¬2) أخرجه البخاري (6338)، ومسلم (2678) من حديث أنس، والبخاري (6339، 7477)، ومسلم (2679) من حديث أبي هريرة.

وفي رواية لمسلم (¬1): "وَلَكِنْ لِيَعْزِمْ المَسْأَلَة ولِيعظمْ الرَّغبة؛ فإنَّ الله لاَ يَتعَاظَمهُ شيء". وفي رواية للبخاري (¬2): "إنَّ اللهَ تَعَالَى لاَ يَتَعَاظَمُهُ شَيْءٌ وأنَّه يَفعَلُ مَا يَشاءُ ولاَ مكره له". النوع الثاني: ما لا يعلم هل هو خير للعبد أم لا، كالموت والحياة، والغنى والفقر، والولد والأهل، وكسائر حوائج الدُّنْيَا التي تُجْهَل عواقبها، فهذه لا ينبغي أن يسأل الله منها إلا ما يعلم فيه الخيرة للعبد، فإن العبد جاهل بعواقب الأمور، وهو مع هذا عاجز عن تحصيل مصالحه ودفع مضاره، فيتعين عليه أن يسأل حوائجه من هو عالم قادر، ولهذا شرعت الاستخارة في الأمور الدنيوية كلها، وشرع أن يقول الداعي في استخارته: "اللَّهُمَّ أَسْتَخِيرُكَ بِعِلْمِكَ، وَأَسْتَقْدِرُكَ بِقُدْرَتِكَ، وَأَسْأَلُكَ مِنْ فَضْلِكَ العَظِيم، فَإِنَّكَ تَقْدِرُ وَلا أَقْدِرُ، وَتَعْلَمُ وَلا أَعْلَمُ، وَأَنْتَ عَلامُ الْغُيُوبِ، ثُمَّ يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الأَمْرَ -ويسميه باسمه- خَيْرٌ لِي فِي دِينِي ودُنْيَايَ" (¬3). وكذلك في هذا الدعاء يسأل الله بعلمه الغيب وقدرته عَلَى الخلق ما يعلم له فيه الخيرة من موت أو حياة. وقد تضمن الدعاء الَّذِي في هذا الحديث النوعين معًا، فإنه لما سأل الموت والحياة قيد ذلك بما يعلم الله أن فيه الخيرة لعبده، ولما سأل الخشية وما بعدها مما هو خير صرف جزم به ولم يقيده بشيء. في "الصحيحين" (¬4) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "لاَ يَتَمَنَّيَنَّ أَحَدُكُمُ المَوْتَ لِضُرٍّ نَزَلَ بِهِ، فَإِنْ كَانَ لاَ بُدَّ فَاعِلًا فَلْيَقُلْ: اللَّهُمَّ أَحْيِنِي مَا عَلِمت الحَيَاةُ خَيْرًا لِي، وَتَوَفَّنِي إِذَا كَانَتِ الوَفَاةُ خَيْرًا لِي". ¬

_ (¬1) برقم (2679). (¬2) برقم (7477). (¬3) أخرجه البخاري (6382) من حديث جابر. (¬4) أخرجه البخاري (5671، 6351، 7233)، ومسلم (268).

وللبخاري (¬1): "لاَ يَتَمَنَّى أَحَدُكُمُ المَوْتَ: إِمَّا مُحْسِنًا فَلَعَلَّهُ أَنْ يَزْدَادَ، وَإِمَّا مُسِيئًا فَلَعَلَّهُ أَنْ يَسْتَعْتِبَ". ولمسلم (¬2): "لَا يَتَمَنَّيْنَ أَحَدُكُمْ الْمَوْتَ وَلَا يَدْعُ بِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُ، إنَّهُ إذَا مَاتَ أَحَدُكُمْ انْقَطَعَ عَمَلُهُ، وَإِنَّهُ لَا يَزِيدُ الْمُؤْمِنَ عُمُرُهُ إلَّا خَيْرًا". وزاد الإمام أحمد (¬3) في رواية له: "إلا أن يكون وثق بعلمه" وله أيضًا (¬4): "لا تتمنوا الموت، فإن هول المطلع، شديد وإن من السعادة أن يطول عمر العبد ويرزقه الله الإنابة". ففي هذه الأحاديث التعليل للنهي عن تمني الموت بأن العبد إِنَّ كان محسنًا فحياته يرجى أن يزداد بها إحسانًا، وإن كان مسيئًا فإنه يرجو أن يستعتب، يعني: يزيل العتب عنه بالتوبة والإنابة قبل الموت، وقد جاءت الأحاديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم- بفضيلة طول العمر في الطاعة ففي الترمذي (¬5): "أنه -صلى الله عليه وسلم- سئل: أَيُّ النَّاسِ خَيْرٌ؟ قَالَ: «مَنْ طَالَ عُمُرُهُ وَحَسُنَ عَمَلُهُ». وسئل: أَيُّ النَّاسِ شَرٌّ؟ قَالَ: «مَنْ طَالَ عُمُرُهُ وَسَاءَ عَمَلُهُ». وفي "المسند" (¬6): "إِنَّ نفرًا ثلاثة أسلَمُوا، فَكَانُوا عِنْدَ طَلْحَةَ، فَبَعَثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْثًا فَخَرَجَ فيه أَحَدُهُمْ فَاسْتُشْهِدَ، ثُمَّ بَعَثَ بَعْثًا آخَر فَخَرَجَ فِيهِ آخَرُ فَاسْتُشْهِدَ، ثُمَّ مَاتَ الثَّالِثُ عَلَى فِرَاشِهِ، قَالَ طَلْحَةُ: فَرَأَيْتُ الْمَيِّتَ عَلَى فِرَاشِهِ أَمَامَهُمْ، وَرَأَيْتُ الَّذِي اسْتُشْهِدَ آخِرًا يَلِيهِ، وَرَأَيْتُ الَّذِي اسْتُشْهِدَ أَوَّلَهُمِ آخِرَهُمْ، قَالَ: فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ: «وَمَا أَنْكَرْتَ مِنْ ذَلِكَ لَيْسَ أَحَدٌ أَفْضَلَ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ مُؤْمِنٍ يُعَمَّرُ فِي الْإِسْلامِ لِتَسْبِيحِهِ وَتَكْبِيرِهِ وَتَهْلِيلِهِ". ¬

_ (¬1) برقم (7235). (¬2) برقم (2682). (¬3) (2/ 350). (¬4) (3/ 332). (¬5) برقم (2330) وقال: هذا حديث حسن صحيح. (¬6) (1/ 163).

وفي رواية (¬1): «قَالَ: أَلَيْسَ قَدْ مَكَثَ هَذَا بَعْدَهُ سَنَةً؟» قَالُوا: بَلَى، قَالَ: «وَأَدْرَكَ رَمَضَانَ فَصَامَ؟ قَالُوا: بَلَى، قَالَ: وَصَلَّى كَذَا وَكَذَا مِنْ سَجْدَةٍ فِي السَّنَةِ؟» قَالُوا: بَلَى، قَالَ: «فَمَا بَيْنَهُمَا أَبْعَدُ مِمَّا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ» ". قيل لبعض السلف: طاب الموت. قال: يا ابن أخي، لا تفعل. لساعة تعيش فيها تستغفر الله خير لك من موت الدهر. وقيل لشيخ كبير منهم: أتحب الموت؟ قال: لا، قد ذهب الشباب وشره، وجاء الكبر وخيره، فَإِذَا قمت قلت: بسم الله، وإذا قعدت قلت: الحمد الله، فأنا أَحَبّ أن يبقى لي هذا. وقيل لشيخ آخر: ما بقي منك مما تحب له الحياة؟ قال: البكاء عَلَى الذنوب. ولهذا كان كثير من السلف يبكي عند موته تأسفًا عَلَى انقطاع أعماله الصالحة. وكان يزيد الرقاشي يقول عند موته يا يزيد من يصلي لك بعدك ومن يصوم؟ ومن يتوب لك من الذنوب السالفة. ولهذا يتحسر الموتى عَلَى انقطاع أعمالهم الصالحة. ففي الترمذي (¬2) عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: «مَا أَحَدٍ يَمُوتُ إِلَّا نَدِمَ: إِنْ كَانَ مُحْسِنًا أَنْ لَا يَكُونَ ازْدَادَ، وَإِنْ كَانَ مُسِيئًا أَنْ يَكُونَ اسْتعتب». ورئي بعض الموتى من السلف في المنام، فسُئل عن حاله فَقَالَ: قدمنا عَلَى أمر عظيم، نعلم ولا نعمل وتعملون ولا تعلمون، والله لتسبيحة أو تسبيحتان، أو ركعة أو ركعتان في نسخة عملي أَحَبّ إلي من الدُّنْيَا وما فيها. ¬

_ (¬1) أخرجه ابن ماجه (3925)، وأحمد (1/ 162، 163) من طريق أبي سلمة عن طلحة بن عبد الله. قال البوصيري في "الزوائد": رجال إسناده ثقات، إلا أنه منقطع. قال علي بن المدينى وابن معين: أبو سلمة لم يسمع من طلحة شيئًا. (¬2) برقم (2403) من طريق يحيى بن عبيد قال: سمعتُ أبي يقول: سمعت أبا هريرة يقول ... فذكره. قال أبو عيسى: هذا حديث إِنَّمَا نعرفه من هذا الوجه، ويحيى بن عبيد الله قد تكلّمَ فيه شعبة، وهو يحيى بن عبيد الله بن موهب، مَدَني.

وصلى بعض السلف ركعتين خفيفتين بقرب من المقابر، ولم يرضهما لتخفيفهما، ثم غلبته عينه فرأى صاحب القبر الَّذِي هو بقربه يقول له: صليت ركعتين ولم ترضهما؟ قال: نعم. قال: لئن يكون لي مثل ركعتيك أَحَبّ إلي من الدُّنْيَا بحذافيرها. وأما الرواية التي في "المسند" (¬1): "لَا يتمنين أحد الْمَوْت إِلَّا من وثق بِعَمَلِهِ" فيدل عَلَى أن من له عمل صالح يثق به فإن له أن يتمنى الموت. وقد كان كثير من السلف يتمنى الموت، وهم أقسام: منهم من يحمله حسن الظن باللَّه عَلَى حب لقائه، إما لا له عنده من كثرة الطاعات، أو لا عنده من محبة اللَّه عز وجل فيحسن ظنه به كما قال بعض السلف: لقد سئمتُ من الحياة، حتى لو وجدت الموت يباع لاشتريته، شوقًا إِلَى اللَّه وحبًّا للقائه، فقِيلَ لَهُ: أفعلى ثقة أنت من عملك؟ قال: لا، لكن لحبي إياه وحسن ظني به، أفتراه يعذبني وأنا أحبه؟! وكان بعضهم ينشد في هذا المعنى: وزادي قليل ما أراه مبلغي ... ألزاد أبكي أم لطول مسافتي؟ أتحرقني بالنار يا غاية المنى ... فأين رجائي فيك أين محبتي؟ ومنهم من يتمنى الموت شوقًا إِلَى لقاء الله عز وجل، وسنذكر أخبارهم في الكلام عَلَى آخر الحديث إِنَّ شاء اللَّه تعالى. وتمني الموت لمن يثق بعمله له أحوال: تارة يتمنى الموت لضر نزل به، وهذا منهي عنه، وصاحبه إِنَّ لم يثق بعمله كالمستجير من الرمضاء بالنار؛ فإنه لا يدري لعله يهجم بعد الموت عَلَى ما هو أعظم وأشد مما هو فيه، فإن وثق بعمله فقد تمناه للضر بعض السلف. ¬

_ (¬1) (2/ 350) وسبق عزوه للمسند.

وتارة يتمناه خشية فتنة في الدين، فهذا جائز عند أكثر العُلَمَاء، وقد تمناه عمر بن الخطاب رضي الله عنه في آخر حجة حجها فإنه قال: "اللهم إنه قد كبرت سني ورق عظمي، وانتشرت رعيتي، فاقبضني إلك غير مضيع ولا مفتون" (¬1). فقتل في ذلك الشهر. وتمنت زينب بنت جحش رضي الله عنها لما جاءها عطاء عمر فاستكثرته وقالت: اللهم لا يدركني عطاء لعمر بعدها، فماتت قبل أن يدركها عطاء ثانٍ لعمر. وسأل عمر بن عبد العزيز من ظن به إجابة الدعاء أن يدعو له بالموت، لما ثقلت عليه الرعية، وخشي العجز عن القيام بحقوقهم. وطُلِبَ كثير من السلف الصالح إِلَى بعض الولايات؛ فدعوا لأنفسهم بالموت فماتوا، واشتهر بعضهم واطلع عَلَى بعض عمل أحدهم أو معاملته مع الله فدعا لنفسه بالموت فمات، وفي الحديث: "وَإِذَا أَرَدْتَ بِقَوْمٍ فِتْنَةً فَاقْبِضْنِي إِلَيْكَ غَيْرَ مَفْتُونٍ" (¬2). وفي "المسند" (¬3) عن محمود بن لبيد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "اثْنَتَانِ يَكْرَهُهُمَا ابْنُ آدَمَ: الْمَوْتُ، وَالْمَوْتُ خَيْرٌ لِلْمُؤْمِنِ مِنَ الْفِتْنَةِ، وَيَكْرَهُ قِلَّةَ الْمَالِ، وَقِلَّةُ الْمَالِ أَقَلُّ لِلْحِسَابِ". وقال ابن مسعود وغيره: ما من بر ولا فاجر إلا والموت خير له إِنَّ كان برًّا، فما عند الله خير للأبرار. وإن كان فاجرًا، فإنما نملي لهم ليزدادوا إثمًا. ¬

_ (¬1) أخرجه مالك في "الموطأ" (2/ 824)، وأبو نعيم في "الحلية" (1/ 54). (¬2) أخرجه الترمذي (3233) من طريق أبي قلابة عن ابن عباس. قال أبو عيسى: وقد ذكروا بين أبي قلابة وابن عباس في هذا الحديث رجلاً، وقد رواه قتادة عن أبي قلابة عن خالد بن اللجلاج عن ابن عباس، وأحمد في "المسند" (5/ 243) من حديث معاذ بن جبل. (¬3) (5/ 427) قال الهيثمي في "المجمع" (2/ 321): رواه أحمد، ورجاله رجال الصحيح.

وتارة يتمناه من غير ضر ولا فتنة، فإن كان ممن وثق بعمله حبًّا لله وشوقًا إِلَى لقائه جاز، وسنذكره فيما بعد إِنَّ شاء الله تعالى. وكذلك تمنيه عند حضور أسباب الشهادة اغتنامًا لها، كتمنيه عند حضور القتال فىِ سبيل الله أو الطاعون، وإن كان إحسانًا للظن به ففيه اختلاف بين السلف، وقد ورد تعليل النهي عن تمني الموت بأن هول المطلع شديد؛ فتمنيه من نوع تمني وقوع البلاء قبل نزوله ولا ينبغي ذلك كما قال - صلى الله عليه وسلم -: "لاَ تَمَنَّوْا لِقَاءَ العَدُوِّ، وَلَكِنْ وَسَلُوا اللهَ الْعَافِيَةَ، فَإِذَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاثْبُتُوا" (¬1). وسمع ابن عمر رجلًا يتمنى الموت فَقَالَ: لا تتمنى الموت فإنك ميت، ولكن سل الله العافية، فإن الميت ينكشف له عن هول عظيم (¬2). هو هول المطلع، ويرى عالماً لا عهد له به، فلا ينبغي للإنسان أن يستعجل ذلك. وقد قال عمر عند موته: لو كان لي ما في الأرض لافتديت به من هول المطلع (¬3). وجزع الحسن بن علي عند موته وقال: إني أريد أن أشرف عَلَى ما لم أشرف عليه قط. وكان الحسن البصري يقول عند موته: نفيسة ضعيفة وأمر هول عظيم، فإنا لله وإنا إِلَيْهِ راجعون. وجزع حبيب بن محمد عند موته وجعل يقول: إني أريد أن أسافر سفرًا ما سافرته قط، إنني أريد أن أسلك طريقًا ما سلكته قط. أريد أن أزور سيدي ومولاي وما رأيته قط، أريد أن أشرف عَلَى أهوال ما شاهدت مثلها قط. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (2863)، ومسلم (1741). (¬2) أخرجه عبد بن حميد في "المنتخب" بهذا اللفظ رقم (330). (¬3) أخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (7/ 100)، والطبراني في "الأوسط" (579)، وابن حبان (6891 - إحسان)، والحاكم في "المستدرك" (3/ 90 علمية). وقال الهيثمي في "المجمع" (9/ 76): ... وإسناده حسن.

وأيضًا فالموت نفسه أشد ما يلقاه الآدمي في الدُّنْيَا ولا يعلم الناس في الدُّنْيَا حقيقة شدته. وقال بعض السلف: لو أن ميتًا نُشِرَ فأخبر أهل الدُّنْيَا بحقيقة الموت ما انتفعوا بعيش ولا استلذوا بنوم. وإنما كان الموت خيرًا للعاصي؛ لأنّه كلما طال عمره زادت ذنوبه، فزاد عقابه. وهذا كما قال ابن مسعود: إِن كان مسيئًا فإن الله تعالى يقول: {إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا} (¬1). وكان بعض الصالحين يقول: قد سئمنا من الحياة لكثرة ما نقترف من الذنوب. هذا مع كثرة أعمالهم الصالحة فكيف يقول من عمره كله ضائع. صفوة اللذة أثمرت لي كدري ... كم أبصرت ما يعطي بصري ما لي زاد وقد تداني سفري ... وقد ضاع العمر فإنه يوالي عمري ولقد كان كثير من الصالحين يتمنى الموت في صحته، فلما نزل به كَرِهَهُ لشدته، ومنهم: أبو الدرداء وسفيان الثوري، فما الظن بغيرهما. وكان بعض الصالحين يتمنى الموت، فرأى في منامه قائلًا يقول له: أتتمنى الموت؟ قال: قد كان ذلك، فقطب وجهه ثم قال: لو عرفت الموت وكربه حتى يخالط قلبك معرفته، لطار نومك أيام حياتك، ولذهل عقلك حتى تمشي في الناس والهًا. وكان إذا ذكر منامه هذا بكى وقال: طوبى لمن نفعه عيشه، فكان طول عمره زيادة في عمله، واللَّه ما أراني كذلك. قال إبراهيم بن أدهم: إِنَّ للموت كأسًا لا يقوى على تجرعها إلا خائف وجل طائع كان يتوقاها. ¬

_ (¬1) آل عمران: 178.

ولأبي العتاهية: ألا للموت كأس أي كأس ... وأنت لكأسه لابد حاسي إِلَى كم والممات إِلَى قريب ... تذكر بالممات وأنت ناسي وفي الجملة فينبغي للمؤمن أن يكون طول عمره زيادة في عمله، كما في "صحيح مسلم" (¬1) عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أنه كان يدعو: واجعل الحياة زيادة لي في كل خير". قال بعضهم: من لا خير له في الموت لا خير له في الحياة. يعني من لا تكون حياته زيادة في حسناته فلا خير له في الموت ولا في الحياة وقد رأى بعضهم النبي -صلى الله عليه وسلم- في منامه فَقَالَ له: «مَنِ اسْتَوَى يَوْمَاهُ فَهُوَ مَغْبُونٌ، وَمَنْ كَانَ يَوْمُهُ شَرًّا مِنْ أَمْسِهِ فَهُوَ مَلْعُونٌ، وَمَنْ لَمْ يَتَفَقَّدُ الزِّيَادَةِ فِي عَمَلِهِ فَهُوَ فِي نُقْصَانٍ، وَمَنْ كَانَ فِي نُقْصَانٍ فَالْمَوْتُ خَيْرٌ لَهُ» (¬2). وقال ميمون بن مهران: لا خير في الحياة إلا لتائب، أو لرجل يعمل في الدرجات يعني أن التائب يمحو بتوبته ما سلف من السيئات، والعامل في الدرجات تعلو درجاته بما يعمل من الحسنات، فهذا يزيد حسناته والأوّل يمحو سيئاته، فما عدا هذين الرجلين فلا خير لهما في الحياة. ولهذا قال بقية: عمر المؤمن لا قيمة له [إلا أن] (¬3) يتوب فيه من السيئات ويستدرك فيه ما مات. ¬

_ (¬1) برقم (2720). (¬2) أخرجه البيهقي في "الزهد الكبير" (987) عن عبد العزيز بن أبي رواد قال: رأيت النبي -صلى الله عليه وسلم- فى النوم ... فذكره. والحديث ليس في نسخة الزهد المخطوطة وإنَّما هو مما استدركه المحقق من كتب أخرى ونسب فيها الحديث للبيهقي في "الزهد". وأخرجه أبو نعيم في "الحلية" (8/ 35) قال: سمعت إبراهيم بن أدهم يقول: بلغني أن الحسن البصري رأى النبي -صلى الله عليه وسلم- في منامه ... (¬3) ليست بالأصل وهي أنسب للسياق.

رفع إِلَى بعض العابدين رقعة في منامه وإذا فيها مكتوب: إن كنت لا ترتاب أنك ميت ... وليست لبعد الموت ها أنت تعمل فعمرك ما يغني وأنت مفرط ... واسمك في الموتى معد محصل ورأى آخر في منامه كأن قائلًا ينشده: يا خدّ إنك إِن توسد لينا ... وسدت بعد الموت صم الجندل فاعمل لنفسك في حياتك صالحاً ... فلتندمن غدًا إذا لم تفعل قوله - صلى الله عليه وسلم -: "أَسْأَلُكَ خَشْيَتَكَ فِي الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، وَكَلِمَةَ الْحَقِّ فِي الْغَضَبِ وَالرِّضَا، وَالْقَصْدَ فِي الْفَقْرِ وَالْغِنَى": هذه الثلاث المنجيات التي رويت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "ثلاث منجيات، وثلاث مهلكات" فذكر المنجيات هذه الخصال الثلاث. والمهلكات: شح مطاع، وهوى متبع، وإعجاب كل ذي رأي برأيه. وروي أن سليمان عليه السلام قال: أوتينا مما أوتي الناس، ومما لم يؤتوا، وعلمنا مما علم الناس، ومما لم يعلموا، فلم نجد شيئًا أفضل من هذه الثلاث خصال. وقال نافع بن سليمان: قال عيسى بن مريم عليه السلام: ثلاث من كن فيه بلغ ما بلغت: تقوى الله في السر والعلانية، والعدل في الغضب والرضا، والقصد في الغنى والفقر. فأما خشية اللَّه في الغيب والشهادة فالمعنى بها أن العبد يخشى اللَّه سرًّا وإعلانًا وظاهرًا وباطنًا، فإن أكثر الناس يرى أنه يخشى الله في العلانية وفي الشهادة، ولكن الشأن في خشيته الله في الغيب إذا غاب عن أعين الناس، وقد مدح الله من يخافه بالغيب، قال تعالى: {الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ} (¬1) وقال: {مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ} (¬2) وقال تعالى: {لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ} (¬3) وقال: {إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} (¬4). ¬

_ (¬1) الأنبياء: 49. (¬2) ق: 33. (¬3) المائدة: 94. (¬4) الملك:12.

وقد فسر الغيب في هذه الآيات بالدنيا لأنّ أهلها في غيب عما وعدوا به من أمر الآخرة، وأما في هذا الحديث فلا يتأتى ذلك، كما ترى لمقابلته بالشهادة. كان بعض السلف يقول لإخوانه: زهدنا الله وإياكم في الحرام زهادة من قدر عليه في الخلوة فعلم أن الله يراه فتركه. ومن هذا قول بعضهم: ليس الخائف من بكى وعصر عينيه، إِنَّمَا الخائف من ترك ما اشتهى من الحرام إذا قدر عليه، ومن هنا عظم ثواب من أطاع الله سرًّا بينه وبينه، ومن ترك المحرمات التي يقدر عليها سرًّا. فأما الأول: فمثل قوله تعالى: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} إِلَى قوله: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} (¬1). قال بعض السلف: أخفوا للَّه العمل فأخفى لهم الجزاء. وفي حديث السبعة الَّذِي يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله «رَجُلٌ ذَكَرَ اللَّهَ خَالِيًا فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ، وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَأَخْفَاهَا، حَتَّى لاَ تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنفِقُ يَمِينُهُ» (¬2). وفي الحديث: إِذا صلى العبد في العلانية فأحسن وصلى في السر فأحسن، قال اللَّه: هذا عبدي حقًّا (¬3). وفي حديث آخر: "مَنْ أَحْسَنَ صَلَاتَهُ حِيثُ يَرَاهُ النَّاسُ وَأَسَاءَهَا حِيثُ لاَ يَرَاهَا فَتِلْكَ اسْتِهَانَةٌ يَسْتَهِينُ بِهَا رَبَّهُ" (¬4). وأما الثاني: فمثل قوله -صلى الله عليه وسلم- في السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إِلا ظله "وَرَجُلٌ دَعَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ حُسْنٍ وَجَمَالٍ فَقَالَ: إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ ¬

_ (¬1) السجدة: 16 - 17. (¬2) أخرجه البخاري (629، 1357، 6114)، ومسلم (1031). (¬3) أخرجه ابن ماجه (4253). (¬4) أخرجه عبد الرزاق في "المصنف" (3738).

العَالَمِينَ" (¬1)، ومثل الحديث الَّذِي جاء فيمن أدى دينًا خفيًَا أنه يخير في أي الحور العين شاء. والموجب لخشيته اللَّه في السر والعلانية أمور منها: 1 - قوة الإيمان بوعده ووعيده عَلَى المعاصي. 2 - ومنها النظر في شدة بطشه وانتقامه، وقوته وقهره، وذلك يوجب للعبد ترك التعرض لمخالفته، كما قال الحسن: ابن آدم، هل لك طاقة بمحاربة اللَّه، فإن من عصاه فقد حاربه. وقال بعضهم: عجبت من ضعيف يعصي قويًّا. 3 - ومنها قوة المراقبة له، والعلم بأنه شاهد ورقيب عَلَى قلوب عباده وأعمالهم وأنه مع عباده حيث كانوا، كما دل القرآن عَلَى ذلك في مواضع كقوله تعالى: {هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} (¬2) وقوله تعالى: {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ} الآية (3) وقوله تعالى: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ} (¬3) وقوله تعالى: {يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ} (¬4). وكما في الحديث الَّذِي خرّجه الطبراني (¬5): "أفضل الإيمان أن يعلم العبد أن الله معه حيث كان"، فيوجب ذلك الحياء منه في السر والعلانية. قال بعضهم: خف اللَّه عَلَى قدر قدرته عليك واستحي منه عَلَى قدر قربه منك. وقال بعضهم لمن استوصاه: اتق الله أن يكون أهون الناظرين إليك، وفي هذا المعنى يقول بعضهم: ¬

_ (¬1) سبق تخريجه في الصفحة السابقة برقم (2). (¬2) المجادلة: 7. (¬3) يونس: 61. (¬4) النساء: 108. (¬5) في "المعجم الصغير" (555) من حديث عبد الله بن معاوية الغاضري مطولاً، وقال الطبراني: لا يُروى هذا الحديث عن ابن معاوية إلا بهذا الإسناد، ولا نعرف لعبد الله بن معاوية الغاضري حديثًا مسندًا غير هذا.

يا مدمن الذنب أما تستحي ... والله في الخلوة ثانيكا غرك من ربك إمهاله ... وستره طول مساويكا وفي حديث أبي ذر رضي اللَّه عنه عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: «ثَلَاثَةٌ يُحِبُّهُمُ اللَّهُ: رَجُلٌ أَتَى قَوْمًا فَسَأَلَهُمْ بِاللَّهِ وَلَمْ يَسْأَلْهُمْ لِقَرَابَةٍ كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ فَمَنَعُوهُ، فَتَخَلَّفَ رَجُلٌ بِأَعْقَابِهِمْ، فَأَعْطَاهُ سِرًّا؛ لَا يَعْلَمُ بِعَطِيَّتِهِ إِلَّا اللَّهُ وَالَّذِي أَعْطَاهُ، وَقَوْمٌ سَارُوا لَيْلِهِمْ حَتَّى إِذَا كَانَ النَّوْمُ أَحَبَّ إِلَيْهِمْ مِمَّا يُعْدَلُ بِهِ، فَوَضَعُوا رُءُوسَهُمْ فَقَامَ رَجُلٌ (يَتَمَلَّقُنِي) (¬1) وَيَتْلُو آيَاتِي، وَرَجُلٌ كَانَ فِي سَرِيَّةٍ فَلَقُوا العَدُوَّ، فَهُزِمُوا، فَأَقْبَلَ بِصَدْرِهِ حَتَّى يُقْتَلَ أَوْ يُفْتَحَ لَهُ» (¬2). فهؤلاء الثلاثة قد اجتمع لهم معاملة الله سرًّا يينهم وبينه، حيث غفل الناس عنهم، فهو تعالى يحب من يعامله سرًّا بينه وبينه، حيث لا يعامله حينئذ أحد، ولهذا فضل قيام وسط الليل عَلَى ما سواه من أوقات الليل، والمحبون لله يحبون ذلك أيضًا علمًا منهم باطلاعه عليهم ومشاهدته لهم، فهم يكتفون بذلك لأنهم عرفوه، فاكتفوا به من بين خلقه، وعاملوه فيما بينه وبينهم معاملة الشاهد غير الغائب، وهذا مقام الإحسان، قال بعض العارفين: من عرف الله اكتفى به من خلقه. وكان بعض المخلصين يقول: لا أعتد بما ظهر من عملي. اطلع عَلَى بعض أحوال بعضهم، فدعى لنفسه بالموت وقال: إِنَّمَا كانت تطب الحياة إذا كانت المعاملة بينى وبينه سرّا. وقيل لبعضهم: ألا تستوحش وحدك؟ قال: كيف أستوحش وهو يقول: أنا جليس من ذكرني؟! ¬

_ (¬1) يتملقني من "تملق" بالتحريك أي الزيادة في التودد والدعاء والتضرع فوق ما ينبغي. "النهاية" (4/ 358). (¬2) أخرجه الترمذي رقم (2567، 2568)، والنسائي (1614)، وأحمد (5/ 153). قال الترمذي: هذا حديث صحيح، وهكذا روى شيبان عن منصور نحو هذا، وهذا أصح من حديث أبي بكر ابن عياش.

آنستني خلواتي بك من كل أنيسي ... وتفردت فعاينتك في الغيب جليسي "وأما كلمة الحق في الغضب والرضا": فعزيز جدًّا، وقد مدح اللَّه منْ يغفر عند غضبه فَقَالَ: {وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ} (¬1) لأنّ الغضب يحمل صاحبه عَلَى أن يقول غير الحق، ويفعل غير العدل، فمن كان لا يقول إلا الحق في الغضب والرضا، دل ذلك عَلَى شدة إيمانه وأنه يملك نفسه. وخرج الطبراني من حديث أنس مرفوعًا: "ثَلَاثٌ مِنْ أَخْلَاقِ الْإِيمَانِ: مَنْ إِذَا غَضِبَ لاَ يُدْخِلْهُ غَضَبُهُ فِي بَاطِلٍ , وَمَنْ إِذَا رَضِيَ لَمْ يُخْرِجْهُ رِضَاهُ مِنْ حَقٍّ , وَمَنْ إِذَا قَدَرَ لَمْ يَتَعَاطَى مَا لَيْسَ لَهُ". فهذا هو الشديد حقًّا كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «لَيْسَ الشَّدِيدُ بِالصُّرَعَةِ إِنَّمَا الشَّدِيدُ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الغَضَبِ» (¬2). ولمسلم: "مَا تَعدّونَ ذَا الصُّرَعَةِ فِيكُمْ؟ قلنا: الَّذِي لاَ تصرعه الرِّجَال. قال: لَيسَ كَذلِكَ، وَلَكِنَّهُ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الغَضَبِ» (¬3) وقال رجل للنبي -صلى الله عليه وسلم-: "أَوْصِنِي، قَالَ: لاَ تَغْضَبُ، فَردَّدَ مِرَارًا، قال: لاَ تَغْضَبُ" أخرجه البخاري (¬4). وفى "المسند" أن رجلاً قال: يا رسول الله، ما يباعدني عن غضب اللَّه؟ قال: لا تغضب" (¬5). قال مورق العجلي: ما قلت في الغضب شيئًا إلا ندمت عليه فىِ الرضا. ¬

_ (¬1) الشورى: 37. (¬2) أخرجه البخاري (5763)، ومسلم (2609). (¬3) برقم (2608). (¬4) برقم (5765). (¬5) أخرجه الأمام أحمد في "المسند" (2/ 175).

قال عطاء: ما أبكى العُلَمَاء بكاء آخر العمر إلا من غضبة يغضبها أحدهم، فتهدم عمل عشرين سنة أو ستين سنة، ورب غضبة قد أقحمت صاحبها مقحمًا ما استقاله. كان الشعبي ينشد: ليست الأحلام في حال الرضا ... إِنَّمَا الأحلام في حال الغضب وكان ابن عون رحمه الله تعالى إذا اشتد غضبه عَلَى أحد قال: بارك الله فيك ولم يزد. وقال الفضيل رحمه الله تعالى: أنا منذ خمسين سنة أطلب صديقًا إذا غضب لا يكذب عَلَيَّ ما أجده. فإن من لا يملك نفسه عند الغضب إذا غضب قال فيمن غضب عليه ما ليس فيه من العظائم، وهو يعلم أنه كاذب، وربما علم الناس بذلك ويحمله حقده وهوى نفسه عَلَى الإصرار عَلَى ذلك. وقال جعفر بن محمد رضي الله عنه: الغضب مفتاح كل شر. وقيل لابن المبارك: اجمع لنا حسن الخلق في كلمة. قال: ترك الغضب. وقال مالك بن دينار رحمه اللَّه تعالى: منذ عرفت الناس لم أبال بمدحهم وذمهم لأني لم أر إلا مادحًا غاليًا، أو ذامًّا غاليًا. يعني أنه لم ير من يقتصد فيما يقول في رضاه وغضبه. "وأما القصد في الفقر والغنى": فهو عزيز أيضًا، وهو حال الرسول -صلى الله عليه وسلم-، كان مقتصدًا في حال فقره وغناه. والقصد: هو التوسط في الإنفاق، فإن كان فقيرًا لم يقتر خوفًا من نفاد الرزق، ولم يسرف فيحمل ما لا طاقة له به، كما أدب الله تعالى نبيه بذلك

في قوله تعالى: {وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا} (¬1). وإن كان غنيًا لم يحمله غناه عَلَى السرف والطغيان؛ بل يكون مقتصدًا أيضًا، قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} (¬2). وإن كان المؤمن في حال غناه يزيد عَلَى نفقته في حال فقره، كما قال بعض السلف: إِنَّ المؤمن يأخذ عن الله أدبًا حسنًا، إذا وسع الله عليه، وسع عَلَى نفسه، وإذا ضيق عليه، ضيق عَلَى نفسه، ثم تلا قوله تعالى: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ} (¬3) لكن يكون في حال غناه مقتصدًا غير مسرف، كما يفعله أكثر أهل الغنى الذين يخرجهم الغنى إِلَى الطغيان، كما قال تعالى: {كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} (¬4). كان علي رضي الله عنه يعاتب عَلَى اقتصاده في لباسه في خلافته فيقول: هو أبعد عن الكبر وأجدر أن يقتدي بي المسلم (¬5). وعوتب عمر بن عبد العزيز في خلافته عَلَى تضييقه عَلَى نفسه فَقَالَ: إِنَّ أفضل القصد عند الجدة، وأفضل العفو عند المقدرة. يعني أفضل ما اقتصد الإنسان في عيشه وهو واجد قادر، وهذه حال النبي -صلى الله عليه وسلم- وخلفائه الراشدين، لم تغيرهم سعة الدُّنْيَا والملك ولم يتنعموا في الدُّنْيَا. وقد روي عن سليمان عليه السلام، أنه كان يأكل خبز الشعير ويلبس الصوف. وسئل الحسن رضي الله عنه عن رجل آتاه الله مالًا، فهو يحج منه ويتصدق، أله أن يتنعم فيه منه؟ قال: لا، لو كانت له الدُّنْيَا ما كان له إلا الكفاف. ¬

_ (¬1) الإسراء: 29. (¬2) الفرقان: 67. (¬3) الطلاق: 7. (¬4) العلق: 6 - 7. (¬5) أخرجه الضياء في "المختارة" (2/ 21) برقم (459، 460) وقال: إسناده حسن.

ويقدم فضل ذلك ليوم فقره وفاقته، إِنَّمَا كان أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومن أخذ عنهم من التابعين، ما آتاهم الله من رزق أخذوا منه -صلى الله عليه وسلم- الكفاف، وقدموا فضل ذلك ليوم فقرهم وفاقتهم. وقال ابن عمر لبعض ولده: لا تكن من الذين يجعلون ما أنعم الله عليهم به في بطونهم وعلى ظهورهم (¬1). إشارة إِلَى أن المال لا ينفق كله في شهوات النفوس، وإن كانت مباحة، بل يجعل صاحبه منه نصيبًا لداره الباقية، فإنه لاقى له منه غير ذلك. وفي الجملة فالاقتصاد في كل الأمور حسن حتى في العبادة، ولهذا نهى عن التشديد في العبادة عَلَى النفس، وأمر بالاقتصاد فيها، وقال - صلى الله عليه وسلم -: «عَلَيْكُمْ هَدْيًا قَاصِدًا، فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يَمَلُّ حَتَّى تَمَلُّوا» (¬2). وفي "مسند البزار" (¬3) عن حذيفة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «مَا أَحْسَنَ الْقَصْدَ فِي الْغِنَى، وَأَحْسَنَ الْقَصْدَ فِي الْفَقْرِ، وَأَحْسَنَ الْقَصْدَ فِي الْعِبَادَةِ». قوله -صلى الله عليه وسلم-: "وَأَسْأَلُكَ نَعِيمًا لَا يَنْفَدُ". النعيم الَّذِي لا ينفد هو نعيم الآخرة، كما قال الله تعالى: {مَا عِنْدَكُمْ ¬

_ (¬1) أخرجه ابن المبارك في "الزهد" (1/ 260) من طريق جعفر بن برقان عن ميمون بن جرير أو ابن أبي جرير أن ابن عمر أتاه ابن له، فَقَالَ: تخرق ازاري. فَقَالَ: اقطعه وانكسه، وإياك أن تكون من الذين ... الأثر. وأخرجه ابن المبارك في "الزهد" (1/ 355)، وهناد في "الزهد" (2/ 368)، وابن أبي عاصم في "الزهد" (1/ 193) من طريق جعفر بن برقان عن رجل عن ابن عمر. وأخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف" (7/ 235)، وأبو نعيم في "الحلية" (1/ 301) من طريق جعفر بن برقان قال: حدثني ميمون بن مهران قال: بلغني أن رجلاً من بني ابن عمر. وقال البخاري في "التاريخ الكبير" (7/ 343): قال ميمون بن أبي جرير أن ابن عمر قال: فذكره. قال البخاري: قاله كثير عن جعفر بن برقان قال: سمعت ميمونًا. (¬2) أخرجه ابن ماجه (4241)، وأبو يعلى في "مسنده" (1796، 1797). (¬3) كما في "كشف الأستار" (3604).

يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ} (¬1) وقال تعالى: {إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ} (¬2) وقال تعالى: {أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا} الآية (¬3). وفي الدعاء عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أسألك الدرجات العلى والنعيم المقيم" (¬4). وسمع النبي - صلى الله عليه وسلم - ابن مسعود ليلة وهو يقول: أسألك إيمانًا لا يرتد ونعيمًا لا ينفد، ومرافقة نبيك مُحَمَّدًا - صلى الله عليه وسلم - في أعلى جنة الخلد. فَقَالَ: "سَلْ تُعْطَه" (¬5). ولما سمع عثمان بن مظعون لبيدًا ينشد: ألا كل شيء ما خلا الله باطل قال: صدقت. فَقَالَ لبيد: وكل نعيم لا محالة زائل فَقَالَ: كذبت، نعيم الجنة لا ينفد. فنعيم الجنة مقيم، كما قال الله تعالى: {يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ} (¬6). وأما نعيم الدُّنْيَا فهو نافد، كما أن الدنْيا كلها نافدة، فلو نعم الإنسان فيها ما نعم، فإن ذلك ينفد، وكأنه حين ينزل به الموت وسكراته لم يذق نعيمًا من ¬

_ (¬1) النحل: 96. (¬2) ص: 54. (¬3) الرعد: 35. (¬4) أخرجه أحمد (3/ 724)، والبزار في "مسنده" (3724)، والحاكم في "المستدرك" (3/ 26) مطولاً. قال الهيثمي في "المجمع" (6/ 122): رواه أحمد والبزار، واقتصر عَلَى عبيد بن رفاعة، وهو الصحيح. (¬5) أخرجه ابن حبان (1970)، والحاكم (1/ 707)، وأخرجه الترمذي (593) مختصرًا وقال: حديث عبد الله بن مسعود حديث حسن صحيح. وقال أيضاً: هذا الحديث رواه أحمد بن حنبل عن يحيى بن آدم مختصرًا. (¬6) التوبة: 21.

نعيم الدُّنْيَا قط، كما قال الله تعالى: {أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ * مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ} (¬1). وقال بعض السلف: إذا جاء الموت لم يغن عن الإنسان ما كان فيه من النعيم واللذة، ثم تلا هذه الآية. وكان الرشيد قد بنى قصرًا فلما فرغ منه نجده وفرشه، واستدعى إِلَيْهِ أنواع الأطعمة والأشربة، وجلس مع ندمائه استدعى إِلَيْهِ أبا العتاهية، فأمره أن يصف ما هم فيه من النعيم والعيش، فَقَالَ أبو العتاهية: عِشْ مَا بَدَا لَكَ سَالِمًا ... فِي ظِلِّ شَاهِقَةِ الْقُصُورِ يُسْعَى عَلَيْكَ بِمَا اشْتَهَيْتُ ... لَدَى الرَّوَاحِ وَفِي الْبُكُورِ فَإِذَا النُّفُوسُ (تَقَعْقَعَتْ) (¬2) ... فِي ضِيقِ حَشْرَجَةِ الصُّدُورِ فَهُنَاكَ تَعْلَمُ مُوقِنًا ... مَا كُنْتَ إِلا فِي غُرُورِ فبكى واشتد بكاؤه، فَقَالَ الوزير لأبي العتاهية: دعاك أمير المؤمنين للمسرة فأحزنته! فَقَالَ: دعه فإنه رآنا في عمى، فكره أن يزيدنا عمًى. قال مالك بن دينار: رأيت بالبحرين قصرًا مشيدًا طريًا وعلى بابه مكتوب: طلبت العيش أسعد ناعميه ... وعشت من المعايش في النعيم فلم ألبث ورب الناس طرًّا ... سلبت من الأقارب والحميم فقلت: ما هذا القصر؟ قالوا: هذا أنعم أهل البحرين، مات فأوصى أن يدفن في قصره، وأن يكتب عَلَى بابه هذا الكلام. قال مالك: فعجبت من معرفته، فهلا يستقبل الموت بتوبة، ثم بكى مالك. إذا غمس أنعم الناس كان في الدُّنْيَا في العذاب غمسة. قِيلَ لَهُ: هل مر بك نعيم قط؟ فيقول: لا يا رب. ¬

_ (¬1) الشعراء: 205. (¬2) تقعقعت: اضطربت. "لسان العرب" (8/ 286).

ففي الحقيقة النعيم الَّذِي لا ينفد هو طاعة الله وذكره، ومحبته والأنس به والشوق إِلَى لقائه، فإن هذا نعيم لأهله في الدُّنْيَا. قال مالك بن دينار: في بعض الكتب يقول اللَّه: "أيها الصديقون تنعموا بذكري، فإنه لكم في الدُّنْيَا نعيم، وفي الآخرة جزاء". وقال: ما تنعم المتنعمون بمثل ذكر اللَّه عز وجل. وقال إبراهيم بن أدهم: لو يعلم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه لجالدونا عليه بالسيوف. قال أبو سليمان: أهل الليل في ليلهم ألذ من أهل اللهو في لهوهم، ولولا الليل ما أحببت البقاء في الدُّنْيَا، وإنه ليمر عَلَى القلب أوقات يضحك فيه ضحكًا. وكان بعض العارفين يقول: إنه ليمر بي أوقات أقول: إِن كان أهل الجنة في مثل ما أنا فيه إنهم لفي عيش طيب. أهل المحبة قوم شأنهم عجب ... يقودهم حزن يهزهم طرب العيش عيشهم والملك ملكهم ... ما الناس إلا همُ أبانوا أم اقتربوا فهذا نعيم فى الدُّنْيَا، فَإِذَا انتقلوا إِلَى البرزخ فهم في نعيم أزيد من ذلك، كما قال بعض السلف: أنعم الناس أجسادٌ في التراب أمنت العذاب، وانتظرت الثواب. وقال عمر بن عبد العزيز: ما أعلم أحدًا أنعم ممن صار إِلَى هذه القبور، وأمن من عذاب اللَّه عز وجل، وإذا بعثوا إِلَى الجزاء حينئذ فلهم النعيم الأعظم في جنات النعيم، وينادي مناد إِنَّ لكم أن تحيوا فلا تموتوا أبدًا، وإن لكم أن تصحوا فلا تسقموا أبدًا، وإن لكم أن تشبوا فلا تهرموا أبدًا، وإن لكم أن تنعموا فلا تبأسوا أبدًا. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "وقرة عين لا تنقطع".

قرة العين من جملة النعيم، فمنه ما هو منقطع، ومنه ما لا ينقطع، فمن قرت عينه بالدنيا، فقرة عينه منقطعة وأيضًا فسرورها لا يدوم؛ لأنّ لذاتها مشوبة بالفجائع والتنغيص. وكيف تقر عين المؤمن في الدُّنْيَا وهو يعلم سرعة انقضائها، ومفارقة ماله فيها من أهل وولد ومال، ويعلم ما يعالجه عند مفارقتها من سكرات الموت، وما يلقاه في البرزخ من الوحشة والوحدة والضيق، ثم ما يخشاه يوم القيامة من العذاب؟! قال بعض السلف: ما ترك الموت للمؤمن قرة عين في أهل ولا مال ولا ولد. وقال مطرف: إِنَّ هذا الموت قد أفسد عَلَى أهل النعيم نعيمهم، فالتمسوا نعيمًا لا موت فيه. وقال بضع السلف: عجبًا لمن يوقن بالموت، كيف تقر بالدنيا عينه، أم كيف يطب فيها عيشه؟! ونظر بعضهم إِلَى دار له حسنة، فبكى وقال: والله، لولا الموت لكنت بك مسرورًا، ولولا ما نصير إِلَيْهِ من ضيق القبور لقرت أعيننا بالدنيا، ثم بكى حتى ارتفع صوته. رأى بعض السلف في منامه قائلًا يقول له: وكيف تنام العين وهي قريرة ... ولم تدر في أي المحلين تنزل فلا تقر عين المؤمن في الدُّنْيَا إلا بالله عز وجل، وذكره ومحبته والأنس به، ومن قرت عينه باللَّه، فقد حصلت له قرة العين التي لا تنقطع في الدُّنْيَا ولا في البرزخ ولا في الآخرة، وقرت به عيون المؤمنين، كما قال بعضهم: من قرت عينه بالله قرت به كل عين. كان حبيب العجمي يخلو في بيته ثم يقول: ومن لم تقر عينه بك فلا قرت، ومن لم يأنس بك فلا أنس.

وروي عنه أنه كان يقول: لا قرت عين من لم تقر عينه بك ولا فرح قلب لم يفرح بك، وعزتك إنك لتعلم أني أحبك. وقال حبيب ليزيد الرقاشي: بأي شيء تقر عيون العابدين في الدُّنْيَا؟ وبأي شيء تقر أعينهم في الآخرة؟ فَقَالَ: بالإكثار من التهجد في ظلمة الليل، وأما الذين تقر أعينهم في الآخرة فلا أعلم شيئًا من نعيم الجنان وسرورها ألذ عند العابدين ولا أقر لعيونهم من النظر إِلَى ذي الكبرياء العظيم، إذا رفعت تلك الحجب، وتجلى لهم الكريم، فصاح حبيب عند ذلك صيحة خر مغشيًا عليه. وكان كهمس يقول في جوف الليل: أَتُرَاك معذبي وأنت قرة عيني يا حبيب قلباه. كان بعض العابدين يصلى، فنام في سجوده، فرأى في منامه كأنّه وقف بين يدي اللَّه عز وجل، وهو يقول لملائكته: انظروا إِلَى عبدي بدنه في طاعتي، وروحه عندي فاستيقظ، فَقَالَ: أنت قرة عيني في نومي، وأنت قرة عيني في يقظتي. وكان يحيى بن معاذ ينشد: قرة عيني لابد لي منك وإن ... أوحش بيني وبينك الزلل قرة عيني أنا الغريق فخذ ... كف غريق عليك يتكل كان بعضهم يقول: أنت قرة عين المطيعين، وأنت مننت عليهم بالطاعة، وكيف لا تكون قرة عين العاصين وأنت مننت عليهم بالتوبة. من قرت عينه بمناجاة اللَّه سرًّا في ظلمة الليل أقر اللَّه عينه عنده بما لم يُطْلِعْ عليه بشرًا، كما قال تعالى: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (¬1). ¬

_ (¬1) السجدة: 16 - 17.

وفي الأثر عن فضيل بن عياض يقول الله تعالى: "كذب من ادعى محبتى، فَإِذَا جنه الليل نام عني، أليس كل حبيب يحب خلوة حبيبه، فَإِذَا جن الليل جعلت أبصارهم في قلوبهم فكلموني عَلَى المشاهدة، وخاطبوني عَلَى حضوري، غدا أقر أعين أحبابي في جناني" (¬1). قوله -صلى الله عليه وسلم-: "وأسألك الرضا بعد القضاء". الرضا بالقضاء مقام عظيم، من حصل له فقد رضي الله عنه، كما قال تعالى: {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} (¬2) وفي الحديث: -صلى الله عليه وسلم- "من رضي فله الرضا ومن سخط فله السخط" (¬3). وقال بعضهم: لن يرد القيامة أعظم درجة من الراضين بقضاء الله عز وجل. قال بعضهم: من وهب له الرضا، فقد بلغ أفضل الدرجات. وقال بعضهم في قوله تعالى: {فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} (¬4) قال: الرضا والقناعة. قال عبد الواحد بن زيد: الرضا باب الله الأعظم، وجنة الدُّنْيَا، ومستراح العابدين. قالت أم الدرداء: إِنَّ الراضين بقضاء الله الذين ما قضي الله لهم رضوا به، لهم في الجنة منازل يغبطهم بها الشهداء. يا أيها الراضي بأحكامنا ... لابد أن تحمد عقبى الرضا فوض إلينا وارض مستسلما ... فالراحة العظمى لمن فوضا وإن تعرضت لأسبابنا ... فلا تكن عن بابنا معرضا فإن فينا خلفا باقيا ... من كل ما فات وما قد مضى ¬

_ (¬1) أخرجه أبو نعيم في "الحلية" (8/ 99 - 100). (¬2) المجادلة: 22 - والبينة: 8. (¬3) أخرجه الترمذي رقم (2396)، وابن ماجه رقم (4080). قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه. (¬4) النحل: 97.

وإنما قال: الرضا بعد القضاء؛ لأنّ الرضا قبل القضاء، عزم عَلَى الرضا فَإِذَا وقع القضاء فقد تنفسخ العزائم. كما قال بعضهم: وليس لي في سواك حظ ... فكيف ما شئت فامتحني فامتحن بعسر البول فلم يصبر، وجعل يطوف عَلَى المكاتب ويقول للصبيان: ادعو لعمكم الكذاب. وكذا قول من قال: لو أدخلني النار كنت راضيًا. هو أيضًا عزم عَلَى الرضا، ولا يدري هل يثبت أو ينفسخ، فلا ينبغي للعبد أن يتعرض للبلاء، ولكن يسأل الله العافية وأن يرزقه الرضا بالبلاء إِنَّ قدر له البلاء. كان عمر بن عبد العزيز يقول: ما تركتني هذه الدعوات، ولي سرور في غير مواقع القضاء والقدر، اللهم رضني بقضائك وبارك لي في قدرك، حتى لا أَحَبّ تعجيل ما أخرت، ولا تأخير ما عجلت. وقال بعضهم: الراضي لا يتمنى غير منزلته التي هو عليها؛ لأنّه قد رضي بها، وقد يستغرق المحب في الرضا عن حبيبه، حتى لا يحس بألم البلاء؛ لملاحظته عظمة المبتلي وكماله، وحكمته ورحمته، وأنه غير متهم في قضائه، وقد وصى النبي -صلى الله عليه وسلم- رجلًا فَقَالَ له: "لا تتهم اللَّه فيما قضاه لك" (¬1). كان بعض أهل البلاء يقول: لو قطعني إربًا إربًا ما ازددت له إلا حبًّا. ¬

_ (¬1) أخرجه الإمام أحمد (4/ 204) من حديث عمرو بن العاص. قال الهيثمي في "المجمع" (1/ 60): رواه أحمد، وفي إسناده رشدين وهو ضعيف. وأخرجه أحمد (5/ 318 - 319)، والبيهقي في "الشعب" (9714) من حديث عبادة بن الصامت. قلت: وفي إسناده ابن لهيعة، وهو ضعيف أيضاً.

لو قطعني الغرام إربًا إربا ... ما ازددت لكم عَلَى الملام إلا حبًّا لا زلت بكم أسير وَجْدُ صبا ... حتى أُقْضَى عَلَى هواكم نحبا كان بعض العارفين يطوف بالبيت فهجم القرامطة عَلَى الناس فقتلوهم بالسيوف، وهو يطوف، فأخذته السيوف، فلم يقطع طوافه حتى سقط فتمثل: ترى المحبين صرعى في ديارهم ... كفتية الكهف لا يدرون كم لبثوا قتل لرجل من الصالحين ابنان في الجهاد، فجاء الناس يعزونه بهما، فبكى وقال: والله ما أبكي عَلَى قتلهما، ولكن أبكي كيف كان رضاهما عن اللَّه عز وجل حين أخذتهما السيوف. إِن كَانَ سكان الغضا ... رَضوا بقتلي فرضا وَالله مَا كنت لما ... يهوي الحبيب مبغضا صرت لَهُم عبدا وَمَا ... للْعَبد أَن يعترضا من لمريض لَا يرى ... إِلَّا الطَّبِيب الممرضا قوله - صلى الله عليه وسلم -: "وبرد العيش بعد الموت". هذا يدل عَلَى أن العيش وطيبه وبرده، إِنَّمَا هو بعد الموت، فإن العيش قبل الموت منغص، ولو لم يكن له منغص غير الموت لكفى، كما قال بعضهم: إِنَّ عيشًا يكون آخره الموت لعيش معجل التغنيص، فكيف ومع ذلك له منغصات كثيرة من الهموم والأسقام والأمراض والهرم، ومفارقة الأحباب، وآخر الدُّنْيَا كلها الموت. قال بعض السلف: كيف يلذ العيش من يعلم أنه يموت. وقال بعضهم: ثنتان قطعتا عني لذات الدُّنْيَا: ذكر الموت المنغص، والوقوف بين يدي الله عز وجل.

وكيف يلذ العيش من كان موقنا ... بأن المنايا بغتة استعاجله وكيف يلذ العيش من كان موقنا ... بأن إله الخلق لابد سائله ولبعضهم: وكيف قرت لأهل العِلْم أعينهم ... أو استلذوا لذيذ النوم أو هجعوا والموت ينذرهم جهرًا علانية ... لو كان للقوم أسماع لقد سمعوا والنار ضاحية لابد موردهم ... وليس يدرون من ينجو ومن يقع فحينئذ فلا عيش يطيب إلا بعد الموت، وهو عيش من أمن من عذاب الله عز وجل، ووصل إِلَى ثوابه، فكذلك سأل برد العيش بعده، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول -لما حفر الخندق، وجهد هو وأصحابه في حفره-: "اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة ... فاغفر للأنصار والمهاجرة" (¬1) كان يزيد الرقاشي يقول: أمن أهل الجنة من الموت فطاب لهم العيش، وأمنوا من الأسقام فهنيئًا لهم في جوار الله طول المقام. وعن وهب قال: أوحى الله تعالى إِلَى عيسى عليه السلام: يا عيسى ما خير عيش عن صاحبه يزول، وما خير لذة لا تدوم؟! وأنشد بعضهم: تقضي الدُّنْيَا وتفنى ... والفتى لها معنى ليس في الدُّنْيَا نعيم ... لا ولا عيش مهنّا يا غنيا بالدنانير ... محب الله أغنى ولبعضهم: إِنَّمَا الدُّنْيَا وإن سرت قليلاً من قليل ... ليس تعد أن تبدُ لك في زيّ جميل ¬

_ (¬1) البخاري (418، 3585، 3872)، ومسلم (1805).

ثم ترميك من المأمن بالخطب الجليل ... إِنَّمَا العيش جوار الله في ظل ظليل حيث لا تسمع من يؤذيك ... من قال وقيل قوله - صلى الله عليه وسلم -: "وَأَسْأَلُكَ لَذَّةَ النَّظَرَ فِي وَجْهِكَ وَالشَّوْقَ إِلَى لِقَائِكَ فِي غَيْرِ ضَرَّاءَ مُضِرَّةٍ وَلَا فِتْنَةٍ مُضِلَّةٍ": هذان الأمران هما سعادة الدُّنْيَا والآخرة، وأعظم لذاتها وأعلى ما يحصل للمؤمن فيهما، فإن أعلى ما في الآخرة النظر إِلَى وجه الله عز وجل، وهو أعظم من الجنة وكل ما فيها. وفي "الصحيح" عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إِذَا دَخَلَ أَهْلُ الجَنَّةِ الجَنَّةَ، نَادَى مُنَادٍ: إِنَّ لَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ مَوْعِدًا يُرِيدُ أَنْ يُنْجِزَكُمُوهُ". فيَقُولُونَ: أَلَمْ تُبَيِّضْ وُجُوهَنَا، أَلَمْ تُثَقَّلَ مَوَازِينَنَا، وَتُدْخِلَنَا الجَنَّةَ وَتُزَحْزِحُنَا عَنِ النَّارِ؛ فَيُكْشَفُ الحِجَاب، فينظرون إِلَيْهِ، فَوَاللَّهِ مَا أَعْطَاهُمُ اللَّهُ شَيْئًا أَحَبَّ إِلَيْهِمْ مِنَ النّظر إِلَيْهِ" (¬1). وفي رواية: "ولا أقر لأعينهم من النظر إِلَيْهِ، وهو الزيادة، ثم تلا: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} (¬2) ". وفي "مسند البزار" (¬3) من حديث "حذيفة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أَنَّه يُكشَفُ الحِجَابُ، وَيَتَجَلَّى لَهُمْ فَيَغْشَاهُمْ مِنْ نُورِهِ لَوْلَا قَضَى عَلَيْهِمْ أَنْ لَا يَحْتَرِقُوا لَاحْتَرَقُوا مِنْ نُورِهِ، مِمَّا غَشِيَهُمْ مِنْ نُورِهِ، فَإِذَا رَجَعُوا إِلَى مَنَازِلِهِمْ خَفَوْا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ مِمَّا غَشِيَهُمْ مِنْ نُورِهِ حَتَّى يَعُودُوا إِلَى صُوَرِهِمُ التِي كَانُوا عَلَيهَا". قال الحسن: إِنَّ الله يتجلى لأهل الجنة، فَإِذَا رآه أهل الجنة نسوا نعيم الجنة. ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (181). (¬2) يونس: 26. (¬3) أخرجه البزار كما في "كشف الأستار" رقم (3518) من حديث حذيفة.

وقال ابن أبي ليلى: إذا تجلى لهم ربهم، فلا يكون ما أعطوا عند ذلك بشيء، ولا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة بعد نظرهم إِلَى ربهم عز وجل. وقال الحسن: لو يعلم العابدون أنهم لا يرون ربهم في الآخرة لماتوا. وفي رواية قال: لذابت أنفسهم. وكان أبو سليمان يقول: أي شيء أراد أهل المعرفة؟ ما أرادوا كلهم إلا ما سأل موسى عليه السلام. قال ذو النون: ما طابت الدُّنْيَا إلا بذكره، ولا طابت الآخرة إلا بعفوه، ولا طابت الجنة إلا برؤيته. وقال بعضهم: لو أن الله احتجب عن أهل الجنة، لاستغاث أهل الجنة من الجنة، كما يستغيث أهل النار من النار. وكان بعض العابدين يقول: ليت ربي جعل ثوابي من عملي نظرة إِلَيْهِ ثم يقول: كن ترابًا. وكان علي بن الموفق يقول كثيرًا: اللهم إِن كنت تعلم أني أعبدك خوفًا من نارك فعذبني بها، وإن كنت تعلم أنىِ أعبدك شوقًا إِلَى جنتك فاحرمنيها (¬1)، وإن كنت تعلم أني إِنَّمَا أعبدك حبًّا لك وشوقًا إِلَى وجهك الكريم فأبحنيه وافعل بي ما شئت. العارفون في شغل عن الجنة، فكيف يلتفتون إِلَى الدُّنْيَا. وأنشد بعض العارفين هذا المعنى: يا حبيب القلوب من لي سواك ... ارحم اليوم مذنبًا أتاكا أنت سؤلي ومنيتي وسروري ... قد أبى القلب أن يحب سواكا يا مرادي وسيدي واعتمادي ... طال شوقي متى يكون لقاكا ليس سؤلي من الجنان نعيم ... غير أني أريدها لأراكا ¬

_ (¬1) هذا مخالف للهدي الصحيح، وسبق التعليق عَلَى مثل هذا القول، وكثيرًا ما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يسأل الله الجنة ويستعيذ به من النار.

وأما الشوق إِلَى لقاء اللَّه في الدُّنْيَا فهو أعظم لذّة تحصل للعارفين في الدُّنْيَا، فمن أنس باللَّه في الدُّنْيَا واشتاق إِلَى لقائه، فقد فاز بأعظم لذّة يمكن لبشر الوصول إليها في هذه الدار. كان أبو الدرداء يقول: أَحَبّ الموت اشتياقًا إِلَى ربي عز وجل. قال أبو عتبة الخولاني: كان إخوانكم، لقاء اللَّه أَحَبّ إليهم من الشهادة. كان بعضهم يقول: إذا ذكرت القدوم عَلَى اللَّه كنت أشدّ اشتياقًا إِلَى الموت من الظمآن الشديد ظمؤه، في اليوم الحار الشديد حره إِلَى الماء البارد الشديد. كانت رابعة تقول: قد طالت عليَّ الأيام والليالي بالشوق إِلَى لقاء اللَّه عز وجل. وبقي فتح بن شخرف ثلاثين سنة لم يرفع رأسه إِلَى السماء، وقال: طال شوقي إليك فعجل قدومي عليك. وقال بعضهم: أخدموه شوقًا إِلَى لقائه، فإن له يومًا يتجلى فيه لأوليائه. وأهل الشوق إِلَى الله عَلَى طبقتين: أحدهما: من يفضي بهم الشوق إِلَى القلق والأرق، ويقل صبرهم عن طلب اللقاء. كان أبو عبيدة الخواص يمشي في الأسواق ويضرب عَلَى صدره ويقول: واشوقاه إِلَى من يراني ولا أراه. وعن إبراهيم بن أدهم أنه قال يومًا: اللهم إِن كنت أعطيت أحدًا من المحبين ما سكنت به قلوبهم قبل لقائك، فأعطي ذلك، فلقد أضرّ بي القلق، قال: فنمت فرأيته تعالى في النوم، فوقفني بين يديه، وقال: يا إبراهيم ما استحييت مني، تسألني أن أعطيك ما يسكن به قلبك قبل لقائي؟ وهل يسكن قلب

المشتاق إِلَى غير حبيبه؟ أم كيف يستريح المحب إِلَى غير من اشتاق إِلَيْهِ؟ فقلت: يا رب تهت في حبك فلم أدري ما أقول. آلمني الشوق فلولا دمعه ... أحرق ما بين العذيب والنقا واستعرت أنفاسه وإنما ... تلتهب الأنفاس من حرّ الجوى مروا عَلَى وادي الغضا فقلبوا ... من الجوى قلبى عَلَى جمر الغضا الطبقة الثانية: من أعطاه الله بعد بلوغه إِلَى درجة الشوق إِلَيْهِ الأنس به والطمأنينة إِلَيْهِ، فسكنت قلوبهم بما كشف لها من آثار قربه ومشاهدته، ووجدوا لذّة الأنس به في الذكر والطاعة، وصار عيشهم مع اللَّه في نعيم سرمدي، وطاب لهم السير إِلَيْهِ في الدُّنْيَا بالطاعات. وهذه كانت حال نبينا -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه، وهي حال كثير من العارفين، كأبي سليمان وأحمد بن أبي الحواري وذي النون والجنيد وغيرهم. سئل الشبلي: بماذا تستريح قلوب المحبين والمشتاقين؟ فَقَالَ: إِلَى سرورهم بمن أحبوه واشتاقوا إِلَيْهِ. فهؤلاء كلما أقلقهم الشوق سكنهم الأنس والقرب والمشاهد، كما كان - صلى الله عليه وسلم - إذا ذكر له تركه الطعام والشراب واجتهاده في الطاعات في الصيام يقول: "إني أظل عند ربي يطعمني ويسقيني" (¬1). ساكن في القلب يعمره ... لست أنساه فأذكره غاب عن سمعي وعن بصري ... (فسويداء) (¬2) القلب تبصره قلوب المحبين كالجمرة تحت فخمة الليل، فَإِذَا هب عليها نسيم السحر التهبت بالأشواق، فلولا أن ريق عليها من ماء العيون، وتعدل ببرودة الذكر لسرى الحريق إِلَى أجسادها. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (1860، 6814)، ومسلم (1105) عن أنس. (¬2) سويداء: حبة القلب. "القاموس المحيط" (2/ 642).

كان داود الطائي ينادي بالليل: همك عَطَّلَ عليَّ الهموم، وخالف بيني وبين (السهاد) (¬1) وشوقي إِلَى النظر إليك أوثق مني اللذات، وحال بيني وبين الشهوات، فأنا في سجنك أيها الكريم مطلوب. ثم يترنم بالآية فيخيل لمن سمعه أن جميع لذات الدُّنْيَا ونعيمها جمع له في ترنمه. أحبابي أما جفن عَيْني فمقروح ... وَأما فُؤَادِي فَهُوَ بالشوق مَجْرُوح يذكرنِي مرّ النسيم عهودكم ... فأزداد شوقًا كلما هبت الرّيح أَرَانِي إِذا مَا أظلم اللَّيْل أشرقت ... بقلبي من نَار الغرام مصابيح أُصَلِّي بذكراكم إِذا كنت خَالِيا ... أَلا إِن تذكار الْأَحِبَّة تَسْبِيح يشحّ فُؤادِي إِن يخامر سرّه ... سواكم وبعض الشح في المرء ممدوح وإن لاح برق بالندير تقطع ... الفؤاد عَلَى واد به البان والشيح قوله -صلى الله عليه وسلم-: "اللَّهُمَّ زِيِّنَا بِزِينَةِ الْإِيمَانِ وَاجْعَلْنَا هُدَاةً مَهْدِيِّينَ". أما زينة الإيمان، فالإيمان قول وعمل ونية. فزينة الإيمان تشمل زينة القلب بتحقق الإيمان له. وزينة اللسان بأقوال الإيمان. ¬

_ (¬1) السهاد: الأرق. "القاموس المحيط" (2/ 636).

وزينة الجوارح بأعمال الإيمان، وقد سمى الله تعالى التقوى لباس، وأخبر أنها خير من لباس الأبدان -قال تعالى-: {وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ} (¬1). وقال وهب بن منبه: أوحى الله تعالى إِلَى عيسى عليه السلام: "يا عيسى، تزين لي بالدين، وأحب المساكين". وعنه أن الله تعالى لما بعث موسى وهارون عليهما السلام قال لهما: "إِنَّمَا يتزين لي أوليائي بالذكر والخشوع، والخوف والتقوى، تنبت في قلوبهم، فتظهر عَلَى أجسادهم، فهي ثيابهم التي يلبسون، ودثارهم الَّذِي يظهرون، وضميرهم الَّذِي يستشعرون، ونجاتهم التي بها يفوزون، ورجاؤهم الَّذِي إياه يأملون، ومجدهم الَّذِي به يفتخرون، وسيماهم التى بها يعرفون". قال الحسن في قوله -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ اللَّهَ جَمِيل يُحِبُّ الجَمَالَ" (¬2) قال: يحب أن يُتَجَمَّلَ له بالطاعة. وعنه قال: "إِنَّ لباس المؤمن التقوى، وزينته الحياء". فالزينة النافعة الدائمة الباقية هي زينة الإيمان والتقوى، إذا شملت القلب والجوارح، فإن أظهر التزيين بذلك ظاهرًا وقلبه فارغ عاد ذلك عليه شيئًا، كما قال بعضهم: من تزيين للناس بما يعلم اللَّه منه خلافه شانه اللَّه عز وجل. وقال بعضهم لمن أظهر التزين بالعلم من غير عمل به: تزينوا بما شئتم، فلن يزيدكم اللَّه إلا (اتضاعًا) (¬3). وقال بعضهم: لا تقوم الساعة حتى يتزين الرجل بالعلم كما يتزين الرجل بثوبه. يعني: يظهره للناس تزينًا به عندهم من غير أن يزين قلبه وجوارحه بالعمل به، وكان الفضيل يقول: تزينت لهم بالصوف فلم ترهم يرفعون بك رأسًا، تزينت لهم بالقرآن، ولم تزل تنزين لهم بشيء بعد شيء كل ذلك لحب الدُّنْيَا. ¬

_ (¬1) الأعراف: 26. (¬2) أخرجه مسلم رقم (91) من حديث عبد الله بن مسعود. (¬3) اتضاعًا: من الضًعَة وهي الذل والهوان والدناءة. "لسان العرب" (8/ 397).

ومراده توبيخ من يزين ظاهره بالأعمال، وباطنه خالٍ منها. ومن زين للَّه جوارحه بالأعمال وقلبه بحقيقة الإيمان، زينه اللَّه في الدُّنْيَا والآخرة كما في الحديث: «إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ وَإِنَّمَ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ» (¬1) فمن علم اللًه من قلبه الصدق زينه اللَّه عند عباده، وبالعكس. وما أحسن قول أبي العتاهية: إذا المرء لم يلبس ثيابًا من التقى ... تقلب عريانًا وإن كان كاسيا وقوله -صلى الله عليه وسلم-: "واجعلنا هداة مهتدين". يعني نهدي غيرنا ونهتدي في أنفسنا. هذه أفضل الدرجات: أن يكون العبد هاديًا مهديًّا. قال تعالى: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا} (¬2). وقال - صلى الله عليه وسلم - لعلي بن أبي طالب رضي اللَّه عنه: "لَئِنْ يَهْدِيَ اللَّهُ بِكَ رَجُلًا وَاحِدًا خَيْرٌ لَكَ مِنْ حُمْرُ النَّعَمِ" (¬3) وقال: "من دعى إِلَى هدًى كان له مثل أجر من تبعه، من غير أن ينقص من أجورهم شىِء" (¬4). ويدخل فيمن دعى إِلَى الهدى من دعى إِلَى التوحيد من الشرك، وإلى السنة من البدعة، وإلى العِلْم من الجهل، وإلى الطاعة من المعصية، وإلى اليقظة من الغفلة، فمن استجيب له إِلَى شيء من هذه الدعوات فله مثل أجر من تبعه. ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (2564). (¬2) الأنبياء: 73. (¬3) أخرجه البخاري (2847 - 3498 - 3973)، ومسلم (2406). (¬4) أخرجه مسلم (2674).

أفضل الصدقة تعليم جاهل أو إيقاظ غافل، ما وصل المستثقل في نوم الغفلة بأفضل من ضربه بسياط الموعظة ليستيقظ. المواعظ كالسياط تقع عَلَى (نياط) (¬1) القلوب فمن آلمته فصاح فلا جناح، ومن تراد بها ألمه فمات فدمه مباح. قضى اللَّه في القتلى قصاص دماؤهم ... ولكن دماء العاشقين جبار وعظ عبد الواحد بن زيد يومًا فصاح به رجل: يا أبا عبيدة، كف فقد كشفت الموعظة قناع قلبي؛ فتمادى عبد الواحد في وعظه فمات الرجل. صاح الرجل في حلقة الشبلي فمات، فاستعدى أهله عَلَى الشبلي! فَقَالَ: نفس رنت فحنت، فدعيت فأجابت، فما ذنب الشبلي. فكر في أفعالهم ثم صاح ... لا خير في الحب بغير افتضاح قد جئتكم مستأمنًا فارحموا ... لا تقتلوني قد رميت السلاح وعظ أبو عامر الواعظ بالمدينة رجلًا وولده فأخذ وعظه فيهما فماتا؛ قال أبو عامر: فما رأيت حزنًا مما جنيت عليهما حتى رأيتهما في المنام، عليهما حلتان خضراوتان. فقلت لهما: مرحبًا بكما وأهلاً، فما زلت حذرًا من وعظي لكما، فما صنع الله بكما؛ فَقَالَ الشيخ: أنت شريكي في الَّذِي نلته ... مستأهلاً ذاك أبا عامر ¬

_ (¬1) نياط: جمع نوط وهو عرق غليظ نيط به القلب إِلَى الوتين. "القاموس والمحيط" (4/ 460).

وكل من أيقظ ذا غفلة ... فنصف ما يعطاه للآمر من رد عبدًا آبقًا مذنبا ... كان كمن راقب للقاهر واجتمعا في دار عدن وفي ... جوار رب سيد غافر آخره، والحمد لله وحده، وصلى الله عَلَى محمد وآله وصحبه وسلم تسليمًا كبيرًا. ***

5 - شرح حديث «مثل الإسلام»

شرح حديث "مثَل الإسلام"

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ربِّ يسِّر وأعن يا كريم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام عَلَى خير خلقه محمد وآله وصحبه أجمعين. وبعد: فقد خرَّج الإمام أحمد، والنسائى، والترمذي (¬1) من حديث النوَّاس بن سمْعان، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا، وَعَلَى جَنْبَتَيْ الصِّرَاطِ سُورَانِ فِيهِمَا أَبْوَابٌ مُفَتَّحَةٌ، وَعَلَى الْأَبْوَابِ سُتُورٌ مُرْخَاةٌ، وَعَلَى بَابِ الصِّرَاطِ دَاعٍ يَقُولُ: أَيُّهَا النَّاسُ، ادْخُلُوا الصِّرَاطَ جَمِيعًا وَلاً تَعْوَجُوا، وَدَاعٍ يَدْعُو مِنْ جَوْفِ الصِّرَاطِ، فَإِذَا أَرَادَ يَفْتَحُ شَيْئًا مِنْ تِلْكَ الْأَبْوَابِ قَالَ: وَيْحَكَ لاً تَفْتَحْهُ؛ فَإِنَّكَ إِنْ تَفْتَحْهُ تَلِجْهُ، وَالصِّرَاطُ: الْإِسْلَامُ، وَالسُّورَانِ: حُدُودُ اللَّهِ، وَالْأَبْوَابُ الْمُفَتَّحَةُ: مَحَارِمُ اللَّهِ، وَذَلِكَ الدَّاعِي عَلَى رَأْسِ الصِّرَاطِ: كِتَابُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَالدَّاعِي مِنِ فَوْقَ: "وَاعِظُ اللَّهِ فِي قَلْبِ كُلِّ مُسْلِمٍ" وهذا لفظ الإمام أحمد. وعند الترمذي زيادة: {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (¬2). وحسَّنه الترمذي (¬3)، وخرَّجه الحاكم (¬4)، وقال: صحيحٌ عَلَى شرط مسلم، لا أعلم له عِلَّة. ضرب النبيّ - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث العظيم الَّذِي حكاه عن ربه -عز وجل- مثل الإسلام بالصراط المستقيم. وقد سمَّى الله دينه الَّذِي هو دين الإسلام ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد (4/ 182، 183)، والنسائي في "الكبرى" (11233)، والترمذي (2859). (¬2) يونس: 25. (¬3) كما في "التحفة" (9/ 61) أما المطبوع ففيه: حديث غريب. وذكر المنذري في "الترغيب" (3/ 171) قول الترمذي: حديث حسن غريب. (¬4) في "المستدرك" (1/ 73).

صراطًا مستقيمًا في مواضع كثيرة من كتابه، كقوله تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} (¬1). ولد فُسِّر الصراط هنا بكتاب الله. وكتاب الله فيه شرح دين الإسلام، وبيانه وتفضيله والدعوةُ إِلَيْهِ. وعن جابر قال: "الصراط المستقيم هو الإسلام، وهو أوسع مما بين السماء والأرض". وقال تعالى: {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (¬2) وقال تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} (¬3). وخرَّج الإمام أحمد والنسائي في "تفسيره" والحاكم (¬4)، من حديث ابن مسعود قال: "خَطَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطًّا بِيَدِهِ، ثَمَّ قَالَ: "هَذَا سَبِيلُ اللهِ مُسْتَقِيمًا". وَخَطَّ عَنْ يَمِينِهِ وَشِمَالِهِ، ثُمَّ قَالَ: "هَذِهِ السُّبُلُ لَيْسَ مِنْهَا سَبِيلٌ إِلَّا عَلَيْهِ شَيْطَانٌ يَدْعُو إِلَيْهِ". ثُمَّ قَرَأَ: " {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ} " (3). وخرَّج الإمام أحمد، وابن ماجه (¬5)، من حديث مجاهد، عن الشّعبي، عن جابر، قال: "كُنَّا جُلوسًا عند النبي -صلى الله عليه وسلم- فَخَطَّ خَطًّا هَكذَا أَمَامَهُمْ، قال: "هَذَا سَبِيلُ اللهِ". وَخَطَّينِ عَنْ يَمِينِهِ وَخَطَّينِ عَنْ شِمَالهِ، وقال: "هَذَا سَبِيلُ الشَّيْطَانِ". ثُمَّ ¬

_ (¬1) الفاتحة: 6 - 7. (¬2) المائدة: 15 - 16. (¬3) الأنعام: 153. (¬4) أخرجه أحمد: (1/ 435، 465)، والنسائي في "الكبرى" (11174/ 1، 11175/ 2)، والحاكم في "المستدرك" (2/ 318). (¬5) أخرجه أحمد (3/ 397)، وابن ماجه (11).

وَضَعَ يَدَهُ فِي الخَطِّ الأَوْسَطِ، ثُمَّ تَلاَ هَذِهِ الآية: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاً تَتَّبِعُوا السُّبُلَ} الآية". وقد رُوي عن ابن مسعود "أنَّه سُئل عن الصراط المُستقيم فَقَالَ: تركنا محمدٌ - صلى الله عليه وسلم - في أدناه وطرفُه في الجنة، وعن يمينه جوادٌ [وعن شماله جواد] (¬1) وثُمَّ رجالٌ يدعون من مرَّ بهم، فمن أخذ في تلك الجواد انتهت به إِلَى النار، ومن أخذ عَلَى الصراط انتهى به إِلَى الجنة. ثم قرأ ابنُ مسعود: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ} خرَّجه ابنُ جرير (¬2) وغيرُه. وإنَّما سُمّي الصراطُ صراطًا؛ لأنًه طريقٌ واسع سهل، يُوصل إِلَى المقصود، وهذا مثل دين الإسلام فى سائر الأديان؛ فإنَّه يُوصل إِلَى الله وإلى داره وجِواره، مع سهولته وسعته. وبقيةُ الطرق -وإن كانت كثيرة- فإنَّها كلِّها مع ضيقها وعُسرها لا تُوصل إِلَى الله؛ بل تقطع عنه وتُوصل إِلَى دار سخطه وغضبه ومجاورة أعدائه، ولهذا قال تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (¬3) وقال تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} (¬4). والإسلامُ العام هو دين الله الَّذِي كان عليه جميع الرسل؛ كما قال نوح {وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} (¬5) وقال تعالى: {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ} (¬6) وقال تعالى: {وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ ¬

_ (¬1) ليست بالأصل، والمثبت من "تفسير الطبري" (8/ 65). (¬2) في "تفسيره" (8/ 65). (¬3) آل عمران: 85. (¬4) آل عمران: 19. (¬5) يونس: 72. (¬6) الحج: 78.

يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاً تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (¬1) وقال عن يوسف أنَّه قال: {فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} (¬2) وقال تعالى عن ملكة سبأ: {وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (¬3) وقال عن الحواريين أنهم قالوا: {وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} (¬4). وقد وصف الله في سُورة الفاتحة الصراط بأنَّه: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} (¬5). ثم سمَّى الله الذين أنعم عليهم في سُورة النساء، وجعلهم أربعة أصناف: النبيين، والصِّديقين، والشهداء، والصالحين، فدلَّ عَلَى أنَّ هؤلاء كلَّهم عَلَى هذا الصراط المستقيم، فلا يخرج عنهم إلاَّ إمَّا مغضوبٌ عليه، وهو من عَرف الصراط وسلك غيره عمدًا كاليهود والمشركين، وإمّا ضالٌّ جاهل يسلك غير الصراط جهلاً، ويظن أنَّه الصراط. وحقيقةُ الإسلام. الاستسلام لله تعالى والانقياد لطاعته، وأمَّا الإسلام الخاص، فهو دين محمد - صلى الله عليه وسلم -. ومُنذ بعث الله مُحَمَّدًا - صلى الله عليه وسلم - لم يقبل من أحد دينا غير دينه، وهو الإسلام الخاص [و] (¬6) بقية الأديان كفرًا؛ لما تضمَّن اتباعها من الكفر بدين محمد والمعصية لله في الأمر باتباعه؛ فإنه ليس هناك إلاَّ أحد أمرين: إمَّا الاستسلام لله والانقياد لطاعته وأوامره، وهو دين الإسلام الَّذِي أمر الله تعالى به. ¬

_ (¬1) البقرة: 132. (¬2) يوسف: 101. (¬3) النمل: 44. (¬4) المائدة: 111. (¬5) الفاتحة: 7. (¬6) زيادة يقتضيها السياق.

وإمَّا المعصية للَّه والمخالفة لأوامره، وذلك يستلزم طاعة الشيطان؛ لأنّ الشيطان يأمر بسلوك الطرق التي عن يمين الصراط وشماله، ويصد عن سلوك الصراط المستقيم؛ كما قال تعالى: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (60) وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} (¬1) وقال تعالى حاكيًا عن الشيطان: {قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ * قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ} (¬2) وقال تعالى: {قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ * قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ * إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} (¬3). وصح عن ابن مسعود (¬4) أنه قال: إنَّ هذا الصراط مُحتضر، تحضره الشياطين [ينادون] (¬5): يا عبد اللَّه، هذا الطريق، هلمَّ إِلَى الطريق، فاعتصموا بحبل اللَّه؛ فإنَّ حبل اللَّه هو القرآن. وهذا كما أنَّ الكتب المنزَّلة والرسل المُرسلة وأتباعهم يدعون إِلَى اتباع الصراط المستقيم، فالشيطانُ وأعوانه وأتباعه من الجن والإنس يدعون إِلَى بقية الطرق الخارجة عن الصراط المُستقيم؛ كما قال تعالى: {كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} (¬6). والإسلامُ له هو الاستسلام والإذعان والانقياد والطاعة. ¬

_ (¬1) يس: 60 - 61. (¬2) الأعراف: 16 - 18. (¬3) الحجر: 39 - 42. (¬4) أخرجه الدارمي في "السنن" (2/ 524)، والبيهقي في "الشعب" (2/ 355). (¬5) زيادة ليست في "الأصل" والمثبت من "سنن الدارمي" و"شعب الإيمان". (¬6) الأنعام: 71.

والإسلام قد فسَّره النبيّ -صلى الله عليه وسلم- في حديث جبريل (¬1) بالشهادتين، مع إقام الصلاة وإيتاء الزكاة والحج والصيام. وأخبر - صلى الله عليه وسلم - في حديث آخر (¬2) أنَّ الإسلام بُني عَلَى هذه الخمس -يعني: أنَّه أركانُ بنائه التي لا يقوم البناء إلاَّ عليها، وبقيةُ الأعمال داخلة في مسمَّاه أيضًا. ورُوي من حديث أبي الدرداء مرفوعًا (¬3)، ومن حديث حُذيفة مرفوعًا وموقوفًا، وعدَّ مِن سهامه الجهاد (¬4). وأفضل الإسلام أنْ يَسلم المسلمون من لسانه ويده (¬5)، ومن حُسن إسلام المرء تركُه ما لا يعنيه (¬6) و [في] (¬7) "صحيح مسلم" (¬8) عن عبد الله بن سلاَّم، قال: "يينما أنا نائم إذ أتاني رجلٌ فَقَالَ لي: قُم، فأخذ بيدي فانطقتُ معه فَإِذَا أنا بجواد من شمالي. قال: فأخذت لآخذ فيها، فَقَالَ: لا تأخذ فيها فإنَّها طُرق أصحاب الشمال، فَإِذَا جواد منهجٌ عن يميني، فَقَالَ لي: خذ هاهنا، قال: فأتى لي جبلًا، فَقَالَ لي: اصعد. قال: فجعلتُ إذا أردت أنْ أصعد خررتُ عَلَى استي. قال: حتى فعلتُ ذلك مرارًا. قال: ثم انطلق حتى أتى عمودًا رأسمه فى السماء وأسفله في الأرض في أعلاه حلْقة. قال لي: اصعد ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد (1/ 28، 51، 52)، ومسلم (8). (¬2) أخرجه البخاري (8)، ومسلم (16). (¬3) أخرجه الطبراني في "الكبير" كما في "مجمع الزوائد" (1/ 43). (¬4) أخرجه البزار كما في "كشف الأستار" (336، 337). (¬5) أخرجه البخاري (10، 6484)، ومسلم (40). (¬6) أخرجه الترمذي (2317)، وابن ماجه (3976) من حديث أبي سلمة عن أبي هريرة. قال الترمذي: هذا حديث غريب لا نعرفه من حديث أبي سلمة عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا من هذا الوجه. وأخرجه الترمذي (2318) من حديث مالك عن الزهري عن علي بن حسين مرسلاً. وقال الترمذي: وهكذا روى غير واحد من أصحاب الزهري عن الزهري عن علي بن حسين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - نحو حديث مالك مرسلاً، وهذا عندنا أصح من حديث أبي سلمة عن أبي هريرة. (¬7) في "الأصل": "ومن" والمثبت أنسب للسياق. (¬8) برقم (2484/ 150)، وفيه قصة.

فوق هذا. قلتُ: كيف أصعد هذا ورأسُه في السماء. قال: فأخذ بيدي فدخلَ بي، فَإِذَا أنا متعلِّق بالحلْقة، ثم ضرب العمود فخرَّ وبقيتُ متعلقًا بالحلْقة حتى أصبحت. قال: فَأتَيتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَصَصْتُهَا عَلَيْهِ قَالَ: «أَمَّا الطُّرُقُ الَّتِي رَأَيْتَ عَنْ يَسَارِكَ فَهِيَ طَرِيقُ أَصْحَابِ الشِّمَالِ، وَأَمَّا الطُّرُقُ الَّتِي رَأَيْتَ عَنْ يَمِينِكَ فَهِيَ طَرِيقُ أَصْحَابِ الْيَمِينِ، وَأَمَّا الْجَبَلُ فَهُوَ مَنْزِلُ الشُّهَدَاءِ وَلَنْ تَنَالَهُ، وَأَمَّا الْعَمُودُ فَهُوَ عَمُودُ الْإِسْلَامِ، وَأَمَّا الْعُرْوَةُ فَهِيَ عُرْوَةُ الْإِسْلَامِ، وَلَنْ تَزَالَ مُتَمَسِّكًا بِهَا حَتَّى تَمُوتَ». وقال تعالى: {وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} (¬1). فأخبر -صلى الله عليه وسلم-وهو الطريق القاصد- عليه، يعني: أنه يُوصل إِلَيْهِ، وأنَّ من السبيل ما هو جائر عن القصد غير مُوصل. فالسبيل القاصد هو الصراط المستقيم، والسبيل الجائر هو سبيلُ الشيطان الرجيم، وقد وحَّد طريقه في أكثر المواضع، وجَمع طُرق الضلال؛ لأنّ طريق الحق أصلُه شيء واحد، ودين الإسلام العام كما سبق، وهو توحيدُ الله وطاعته، وطُرق الضلالة كثيرة متبوعة، وإنْ جمعها الشرك والمعصية. قوله: "وعلى جنبتي الصراط سُوران" ثم فسّرهما بحدود اللَّه. والمرَاد أنَّ الله تعالى حد حدودًا ونهى عن تعديها؛ فمن تعدَّاها فقد ظلم نفسه وخرج عن الصراط المستقيم الَّذِي أمر بالثبوت عليه. ولما كان السور يمنع مَن وراءه مِن تعديه ومجاوزته سمَّى حدود اللَّه سورًا؛ لأنّه يمنع من دخله مِن مجارزته وتعدي حدوده. قال الله تعالى: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا} (¬2) وقال: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} إِلَى قوله: ¬

_ (¬1) النحل: 9. (¬2) البقرة: 229.

{وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ} (¬1) وقال: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلاً تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (¬2) وقال: {نَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لاً تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلاً يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} (¬3). وفي حديث أبي ثعلبة الخُشني، عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ اللَّهَ فَرَضَ فَرَائِضَ فَلاً تُضَيِّعُوها، وَحَرَّمَ أَشْيَاءً فَلاَ تَنتَهِكُوهَا، وَحَّدَّ حُدُودًا فَلاً تَعْتَدُوهَا" (¬4). فحدودُ اللَّه تُطلق ويُراد بها غالبًا ما أذن فيه وأباح؛ فمن تعدَّى هذه الحُدود فقد خرج مما أحلَّه اللَّه إِلَى ما حرَّمه، فلهذا نُهِيَ عن تعدي حُدود الله؛ لأنّ تعديها بهذا المعنى محرَّم. ويُراد بها تارة ما حرَّمه الله ونهى عنه. وبهذا المعنى يُقال: لا تقربوا حدود اللَّه؛ كما قال تعالى: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلاً تَقْرَبُوهَا} (¬5) بعد أنْ نهى عن ارتكاب المفطرات في نهار الصيام، وعن مباشرة النساء في الاعتكاف في المساجد. فأراد بحدوده هاهنا ما نهى عنه؛ فلذلك نهى عن قُربانه. ¬

_ (¬1) النساء: 13 - 14. (¬2) البقرة: 229. (¬3) الطلاق: 1. (¬4) أخرجه الطبراني فى "الكبير" (22/ 589)، الدارقطني في "السنن" (4/ 1831 - 184)، وأبو نعيم في "الحلية" (9/ 17). وأخرجه البيهقي في "السنن" (10/ 12) موقوفًا عَلَى أبي ثعلبة. قال ابن رجب في "جامع العلوم والحكم" في شرح الحديث الثلاثين (2/ 150 - الرسالة): هذا الحديث من رواية مكحول عن أبي ثعلبة الخشني، وله علتان: إحدهما: أن مكحولًا لم يصح له السماع من أبي ثعلبة، كذلك قال أبو مسهر الدمشقي وأبو نعيم الحافظ وغيرهما. الثانية: أنه اختلف في رفعه ووقفه عَلَى أبي ثعلبة، ورواه بعضهم عن مكحول من قوله، لكن قال الدارقطني: الأشبه بالصواب المرفوع، قال: وهو أشهر. وانظر "علل الدارقطني" (6/ 324 برقم (1170). وانظر "غاية المرام" للألباني (ص 17 - 19)، (¬5) البقرة: 187.

فإنَّه تعالى جعل لكل شيء حدًّا، فجعل للمباح حدًّا وللحرام حدًّا، وأمر بالاقتصاد عَلَى حد المباح وأنْ لا يتعدى، ونهى عن قربان حد الحرام. ومما سمِّي فيه المحرمات حدودًا، قول النبي: "مَثَلُ القَائِمِ عَلَى حُدُودِ اللَّهِ وَالمُدَاهِنِ (¬1) فِيهَا كَمَثَلِ قَوْمٍ اقْتَسَمُوا سَفِينَةٍ ... " (¬2) الحديث المعروف. والمراد بالقائم عَلَى حدود الله: المنكر للمحرمات والناهي عنها. وفي حديث ابن عباس، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "أَنَا آخِذٌ بِحُجَزِكُمْ (¬3) اتَّقُوا النَّارِ، اتَّقُوا الحُدُودَ -قالها ثلاثا". خرَّجه الطبراني والبزار (¬4). ومُراده بالحدود: محارم الله ومعاصيه -وقد تطلق الحدود باعتبار العقوبات المقدَّرة الرادعة عن الجرائم المغلَّظة. فيقال: حد الزنا، حد السرقة، حد شرب الخمر. وهو هذا المعروف من اسم الحدود في اصطلاح الفقهاء؛ ومنه قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لأسامة: "أَتَشْفَعُ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ" (¬5) لما شفع في المرأة التي سرقت. وفي حديث: «أَقِيمُوا الْحُدُودَ فِي الْحَضَرِ وَالسَّفَرِ عَلَى الْقَرِيبِ وَالْبَعِيدِ» (¬6). وقال علي: أقيموا الحدود عَلَى ما ملكت أيمانكم (¬7). وأمّا قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أبي بردة: «لاَ تَجْلَدُ فَوْقَ عَشْرِ جَلَدَاتٍ إِلَّا فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ» (¬8) فقد اختلفوا في المراد بالحد هنا: هل هو الحدود المقدَّرة شرعًا، أم المُراد بالحد ما حدّه الله ونهى عن قربانه؛ فيدخل فيه سائر ¬

_ (¬1) المداهنة والإدهان كالمصانعة، وداهن: أظهر خلاف ما أضمر. "اللسان" مادة: (دهن). (¬2) أخرجه البخاري (2493، 2686) من حديث النعمان بن بشير. (¬3) أصل الحجزة موضع ضد الإزار، ثم قيل للإزار: حجزة للمجاورة. "اللسان" مادة: (حجز). (¬4) أخرجه الطبراني في "الكبير" (11/ 10953)، و"الأوسط" (2874)، والبزار كما في "كشف الأستار" (3480). (¬5) أخرجه البخاري (2375، 3732، 3733، 6887، 6788، 6800)، ومسلم (1688). (¬6) أخرجه أحمد (5، 314، 316، 326). (¬7) أخرجه أبو داود (4473)، والنسائي في "الكبرى" (4/ 304)، أحمد (1/ 89، 95، 145) عن علي مرفوعًا. (¬8) أخرجه البخاري (6848، 864، 6850)، ومسلم (1708).

المعاصي، ويكون المرُاد: النهي عن تجاوز العشر جلدات بالتأديب ونحوه، مما ليس عقوبة عَلَى محرَّم. هذا فيه اختلافٌ مشهور بين العُلماء. وقال تعالى: {وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} (¬1). وقال تعالى: {الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ} (¬2). والمرُاد بحدود الله هاهنا: ما يفصل لون الحلال والحرام، ويتميَّز به أحدهما من الآخر. وقد مدح اللهُ الحافظين لحدوده في قوله: {وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ} (¬3). وفي الحديث المرفوع من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: "يُمَثَّلُ الْقُرْآنُ رَجُلًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيُؤْتَى بِالرَّجُلِ قَدْ حَمَلَهُ، فَخَالَفَ أَمْرَهُ ونَهْيِهِ، فَيُمَثَّلُ لَهُ خَصْمًا فَيَقُولُ: يَا رَبِّ، حَمَّلْتَهُ إِيَّايَ فَبِئسَ حَامِلٍ، تَعَدَّى حُدُودِي، وَضَيَّعَ فَرَائِضِي وَرَكِبَ مَعْصِيَتِي، فَيَتَمَثَّلُ خَصْمًا دُونَهُ فَيَقُولُ: يَا رَبِّ، حَمَّلْتَهُ إِيَّايَ فَخَيْرُ حَامِلٍ، حَفِظَ حُدُودِي، وَعَمِلَ بِفَرَائِضِي، وَاجْتَنَبَ مَعْصِيَتِي" (¬4). والمرُاد بحفظ الحدود هنا: المحافظةُ عَلَى الواجبات والانتهاء عن المحرمات. وفي حديث النعمان بن بشير، عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: "الحَلاَلُ بَيِّنٌ وَالحَرَامُ بَيِّنٌ وَبَيْنَهُمَا أُمُورٌ مُشْتَبَهَاتٌ لاَ يَعْلَمُنَّ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، فَمَنِ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ، وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الحَرَامِ كَالرَّاعِي يَرْعَى حَوْلَ الحِمَى يُوشِكُ أَنْ يُخَالِطُهُ، أَلاَ وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى، أَلاَ وَإِنَّ حِمَى اللَّهِ فِي أَرْضِهِ مَحَارِمُهُ" وهو حديث متفقٌ عَلَى صحته (¬5). ¬

_ (¬1) البقرة: 230. (¬2) التوبة: 97. (¬3) التوبة: 112. (¬4) أخرجه ابن أبي شبية في "المصنف" (10/ 491 - 492). (¬5) أخرجه البخاري (52، 2051)، ومسلم (1599).

فمثَّل المحرَّمات في هذا الحديث بالحمى، وهو ما يحميه الملوك وتمنع من قُربانه، وجعل الحلال بيِّنًا والحرام بيِّنًا، ومُراده: الحلال المحض والحرام المحض؛ فإنَّ لكل منهما حُدودًا معروفة في الشريعة، وجعل بينهما أمورًا مشتبهة عَلَى كثير من الناس، لا يدرون هل هي من الحلال أم من الحرام، فدَّل عَلَى أنَّ من الناس من لا يشتبه عليه حُكمُها، فيعلم أنَّها حلالٌ أو أنها حرام. فأمَّا من اشتبه عليه حُكمُها فإنَّ الأولى له أنْ يتقيها ويجتنبها؛ كما قال عُمر: "ذروا الربا والريبة" (¬1). وأخبر أنَّه من وقع في الأمور المشُتبهة وقع في الحرام، والمراد: أنَّ نفسَه تدعوه مِن ارتكاب الشبهات إِلَى ارتكاب الحرام. ومثَّله بالراعي حول الحمى يُوشك أنْ يرتع فيه، فأمَّا من بعُد عن الحِمى فإنَّه ييعُد وقوعُه في الحرام؛ ولهذا قال من قال من السلف: اجعل يينك وبين الحرام شيئًا مِن الحلال. وفي الحديث المرفوع، الَّذِي خرَّجه "الترمذي" (¬2): «لاً يَبْلُغُ العَبْدُ أَنْ يَكُونَ مِنَ المُتَّقِينَ حَتَّى يَدَعَ مَا لاً بَأْسَ بِهِ حَذَرًا مِمَّا بِهِ البَأْسُ». وهذه الأمور المشتبهات منها ما يقوى شبهُه بالحرام، ومنها ما ييعُد شبهُه بالحرام، ومنها ما يتردد، الشبهة بين الحلال والحرام. فالأوَّل يقوى فيه التحريم، والثاني يقوى فيه الكراهة، والثالث يتردد فيه، واجتنابُ الكل حسن، وهو الأفضل والأولى. وقولُه: "فيهما -يعني: السورين- أبوابٌ مفتحة، وعلى الأبواب سُتور مُرخاة". ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد (1/ 36)، وابن ماجه (2276). (¬2) برقم (2451) قال الترمذي: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه.

ثم فسَّر الأبواب المُفتحة بمحارم الله، لما شبّه حُدود الله بالسورين المكتنفين للصراط يَمنة ويَسرة -والسورُ يقتضي المنع، وأصل الحد في اللغة المنع- شبَّه المحارم بالأبواب المفتحة في السوريين اللذين هما حد الصراط المستقيم ونهايته. وجعل الأبواب مفتحةً غير مغلقةٍ ولا مُقفلة، وجعل عليها ستورًا مُرخاة، بحيث يتمكن كلُّ أحد من رفع تلك الستور وولوج تلك الأبواب. وهكذا الشهوات المحرَّمة، فإنَّ النفوس متطلعة إليها وقادرة عليها، وإنَّما يمنع منها مانعُ الإيمان خاصة. والنفوسُ مولعة بمطالعة ما مُنعت منه؛ كما في الحديث: "لَو يُمنَع النَّاس فت البعر لقالوا فيه الدر" (¬1). وفي حديث آخر مرفوع: "لو نهيتُ أحدَهم أنْ يأتي الحجون لأوشك أنْ يأتيه مرارًا وليس له إِلَيْهِ حاجة" (¬2). وحكايةُ ذي النون المِصري مع يوسف بن الحسين الرازي في الطبق الَّذِي أرسله، وأمره أنْ لا يكشفه معروفة. والمحرَّمات أمانةٌ من الله عند عبده، والسمعُ أمانة، والبصرُ واللسانُ أمانة، والفرج أمانة وهو أعظمها. وكذلك الواجبات كلها أمانات: كالطهارة، والصيام، والصلاة، وأداء الحقوق إِلَى أهلها؛ قال اللَّه تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} (¬3) ثم ذكر حُكمه، فَقَالَ: {لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} (¬4). ¬

_ (¬1) ذكره الغزالي في "الإحياء" وقال العراقي: لم أجده. (كشف الخفاء للعجلوني 2/ 163، 211)، و (المصنوع لعلي القاري 1/ 150). (¬2) أخرجه الترمذي في "العلل الكبير" (3/ 846). (¬3) الأحزاب: 72. (¬4) الأحزاب: 73.

وفي الحديث الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: " «حُفَّتِ الْجَنَّةُ بِالْمَكَارِهِ وَحُفَّتِ النَّارُ بِالشَّهَوَاتِ» (¬1). وفي رواية: "حُجبت" (¬2) بدل: "حُفَّت". فاللهُ -سبحانه- امتحن عباده في هذه الدار بهذه المحرَّمات من الشهوات والشُّبهات، وجعل في النفس داعيًا إِلَى حبها مع تمكن العبد منها وقُدرته عليها. فمن أدَّى الأمانة، وحفظ حدودَ الله ومنع نفسه ما يُحبه من محارم الله كان عاقبته الجنةُ؛ كما قال تعالى: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} (¬3). فلذلك يحتاج العبدُ في هذه الدار إِلَى مُجاهدة عظيمة، يُجاهد نفسه في الله -عز وجل- كما في الحديث: "المجاهدُ مَن جاهد نفسه في الله -عز وجل" (¬4). فمن كانت نفسُه شريفة، وهِمَّته عالية لم يرض لها بالمعاصي؛ فإنَّها خيانةٌ ولا يرضى بالخيانة إلاَّ مَن لا نفس له. قال بعضُ السلف: رأيتُ المعاصي نذالة، فتركتها مروءة فاستحالت ديانة. وقال آخر منهم: تركتُ الذنوب حياء أربعين سنة، ثم أدركني الورع. وقال آخر: مَن عمل في السر عملاً يستحيي منه إذا ظهر عليه، فليس لنفسه عنده قدر. قال بعضهم: ما أكرم العبادُ أنفسهم بمثل طاعة الله، ولا أهانوها بمثل معاصي الله عز وجل. فمن ارتكب المحارم فقد أهان نفسه. ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (2822). (¬2) أخرجه البخارى (6487). (¬3) النازعات: 40. (¬4) أخرجه أحمد (6/ 21، 22)، وأبو داود (2500)، والترمذي (1621)، والنسائي في "الكبرى" "تحفة الأشراف" (8/ 11038) من حديث فضالة بن عبيد.

وفي المثل المضروب أنَّ الكلب قال للأسد: يا سيد السباع، غيِّر اسمي؛ فإنه قبيح. فَقَالَ له: أنت خائن، لا يصلح لك غير هذا الاسم. قال: فجرّبنى. فأعطاه شقة لحم، وقال: احفظ لي هذه إِلَى غد وأنا أغيِّر اسمك. فجاع، وجعل ينظر إِلَى اللحم ويصبر. فلما غلبته نفسُه قال: وأي شيء أعمل باسمي، وما كلب إلا اسم حسن فأكل. ولهذا المعنى شبَّه الله عالمَ السُّوء الَّذِي لم ينتفع بعلمه بالكلب؛ فَقَالَ تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} (¬1). والمُراد بهذا المثل أنَّ من لم يزجره علمُه عن القبيح صار القبيحُ عادة له، ولم يؤثر فيه علمُه شيئًا، فيصير حالُه كحال الكلب اللاهث؛ فإنَّه إنْ طرد لهث وإنْ تُرك لهث، فالحالتان عنده سواء. وهذا أخسُّ أحوال الكلب وأبشعها، فكذلك مَن يرتكب القبائح مع جهله ومع علمه، فلا يؤثر علمُه شيئًا؛ ولذلك مثل مَن لا يرتدع عن القبيح بوعظ ولا زجر ولا غيره، فإنَّ فعل القبيح يصير عادةً، ولا ينزجر عنه بوعظ ولا تأديب ولا تعليم؛ بل هو متبعٌ للهوى عَلَى كل حال، فهذا كل من اتبع هواه، ولم ينزجر عنه بوعظ ولا غيره. وسواء كان الهوى المتُبَع داعيًا إِلَى شهوة حسية، كالزنا والسرقة وشرب الخمر، أو إِلَى غضب وحقدٍ وكبر وحسد، أو إِلَى شُبهة مضلة فى الدين. وأشد ذلك حال من اتبع هواه فى شبهة مضلة، ثم من اتبع هواه في غضب وكبر وحقد وحسد، ثم من اتبع هواه في شهوة حسية. ¬

_ (¬1) الأعراف: 175 - 177.

ولهذا يُقال: إنَّ مَن كانت معصيته في شهوة فإنَّه يُرجى له، ومن كانت معصيتُه في كبر لم يُرج. ويُقال: إنَّ البدع أَحَبّ إِلَى إبليس من المعاصي؛ لأنَّ المعاصي يُتاب منها والبدع يعتقدها صاحبُها دينًا فلا يتوب منها. والمقصود أنَّه لما كانت النفسُ والهوى داعيين إِلَى فتح أبواب المحارم وكشف ستورها وارتكابها، جعل الله -عز وجل- لها داعيين يزجران مَن يُريد ارتكاب المحارم وكشف ستورهما. أحدُهما: داعي القرآن، وهو الداعي عَلَى رأس الصراط يدعو الناس كلَّهم إِلَى الدخول في الصراط والاستقامة عليه، وأنْ لا يعرجوا عنه يمنة ولا يسرة، ولا يفتحوا شيئًا من تلك الأبواب التي عليها الستور المُرخاة؛ قال اللَّه عز وجل حاكيًا عن عباده المؤمنين أنهم قالوا: {رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا} (¬1) والمُراد به القرآن عند أكثر السلف. وقال حاكيًا عن الجن الذين استمعوا القرآن، أنهم لما رجعوا إِلَى قومهم قالوا: {إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ * يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ} (¬2). وقد وصف اللهُ نبيَّه - صلى الله عليه وسلم - بأنَّه يدعو الخلق بالكتاب إِلَى الصراط المستقيم؛ كما قال الله تعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} (¬3). وقال تعالى: {وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (73) وَإِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ} (¬4). ¬

_ (¬1) آل عمران: 193. (¬2) الأحقاف: 30 - 31. (¬3) إبراهيم: 1. (¬4) المؤمنون: 73 - 74.

وقد كان النبيّ -صلى الله عليه وسلم- يدعو الخلق بالقرآن إِلَى الدخول في الإسلام الَّذِي هو الصراط المستقيم؛ وبذلك استجاب له خواصُّ المؤمنين كأكابر المهاجرين والأنصار، ولهذا المعنى قال مالك: فُتحت المدينة بالقرآن. يعني: أنَّ أهلها إنَّما دخلوا في الإسلام بسماع القرآن. كما بعث النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- مُصعب بن عمير قبل أنْ يُهاجر إِلَى المدينة، فدعا أهلَ المدينة إِلَى الإسلام بتلاوة القرآن عليهم، فأسلم كثيرٌ منهم. قال بعضُ السلف: من لم يردعه القرآنُ والموت، لو تناطحت الجبالُ يين يديه لم يرتدع. وقال آخر: من لم يتعظ بثلاث لم يتعظ بشيء: الإسلام، والقرآن، والمشيب؛ كما قيل: كفى الشيبُ والإسلام للمرء ناهيًا. قال يحيى بن مُعاذ: الإسلام نقي فلا تدنسه بآثامك. منع الهوى مِن كاعبٍ ومدام. ومَن كان في الدُّنْيَا قد خرج عن الاستقامة عَلَى الصراط، ففتح أبواب المحارم التي في ستور الصراط يمنة ويسرة، ودخل إليها -سواء كانت المحارم من الشهوات أو من الشبهات- أخذته الكلاليبُ التي عَلَى ذلك الصراط يمنة ويسرة، بحسب ما فتح في الدُّنْيَا من أبواب المحارم ودخل إليها. فمنهم المكدوش في النار، ومنهم من تخدشه الكلاليب وينجو. رأى بعضُ السلف -وكان شابًّا- في منامه كأن الناس حُشروا، وإذا بنهر من لهب النار عليه جسرٌ يجوز الناسُ عليه يُدعون بأسمائهم، فمن دُعي أجاب، فناجٍ وهالك. قال: فدُعي باسمي، فدخلتُ في الجسر، فَإِذَا حد كحد السيف يمور دي يمينًا وشمالًا. فأصبح الرجلُ أبيض الرأس واللحية مما رأى.

سمع بعضُهم قائلاً يقول: أمامي موقف قُدَّام ربي ... يُسائلني وينكشف الغطاءُ وحسبي أنْ أمرّ عَلَى صراط ... كحد السيف أسفلُه لَظاء فغُشي عليه. قال الفُضيل يبشر: بلغني أنَّ الصراط مسيرة خمسة عشر ألف فرسخ؛ فانظر كيف تكون عليه. قال بعض السلف: بلغنا أنَّ الصراط يكون عَلَى بعض الناس أدق من الشعر، وعلى بعضهم كالوادي الواسع. قال سهلُ التستُري: من دقَّ عَلَى الصراط في الدُّنْيَا عرض له في الآخرة ومن عرض له في الدُّنْيَا الصراط دق عليه في الآخرة. والمعنى: أنَّ مَن صبَّر نفسه عَلَى الاستقامة عَلَى الصراط، ولم يعرج عنه يمنة ويسرة، ولا كشف شيئًا من الستور المُرخاة عَلَى جانبيه مما تهواه النفوسُ من الشهوات أو الشبهات؛ بل سار عَلَى متن الصراط المستقيم حتى أتى ربَّه وصبر عَلَى دقة ذلك عرض له الصراط في الآخرة، ومن وسَّع عَلَى نفسه الصراط في الدُّنْيَا فلم يستقم عَلَى جادته، بل كشف ستوره المُرخاة من جانبيه يمنة ويسرة، ودخل مما شاءت نفسه من الشهوات والشبهات دقَّ عليه الصراط في الآخرة، فكان عليه أدق من الشَّعر. أمَا آنَ يا صاح أنْ تسْتَفيقَا. . . وأنْ تتناسَى الهَوى والفُسوقَا وقد ضحِكَ الشيبُ فاحزنْ لهُ. . . وصارَ مساؤُكَ فيه شُروقَا ألا فازجرِ النفسَ عنْ غيِّها. . . عساكَ تجوزُ الصراطَ الدَّقيقَا ودونَ الصراطِ لَنَا موقفٌ. . . به يتناسَى الصديقُ الصَّديقَا فتُبصرُ ما شئتَ كَفًّا تُعضُّ. . . وعينًا تسحُّ وقلْبا خَفُوقَا إذا أطبقتْ فوقَهُم لم تكنْ. . . لسَمع إلا البكاء والشهيقَا شرابُهُم المُهْلُ في قعرِهَا. . . يقطّعُ أوصالَهُم والعُروقَا

قال إبراهيمُ بنُ أدهمَ: كُلِ الحلالَ، وادعُ بما شئتَ. وقالَ لرجل: اعبدِ اللَّهَ سرًّا، حتى تخرجَ على الناسِ يومَ القيامةِ (كمينًا) (¬1). ومما أنشدَ بعضُهم: أروحُ وقد ختمتُ على فؤادِي. . . بحبِّكَ أنْ يحلَّ به سِواكَا فلو أنِّى استطعتُ غضضتُ طَرفِي. . . فلم أبصرْ به حتَّى أراكَا أحبُّكَ لا ببعْضِي بل بكُلِّي. . . وإنْ لم يُبقِ حبُّك لي حِراكَا ويقبُحُ مِن سواكَ الفعلُ عندِي. . . وتفعلُه فيحسُنُ منكَ ذاكَا وفي الأحبابِ مخصوصٌ بوجدٍ. . . وآخرُ يدَّعي معه اشترَاكَا إذا اشتبكتْ دموعٌ في خدود. . . تَبَيَّن مَن بكى مِمَّنْ تباكَى فأمَّا منْ بكَى فيذوبُ وجْدًا. . . وينطقُ بالهَوى من قد تَشَاكَا تم الكتاب بحمد الله وعونه، وصلَّى الله عَلَى سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا. ... ¬

_ (¬1) سقط مقدار ورقة في المخطوط (10ب، 11أ) و (ق11/ب) تبدأ بـ: "بي فيقول إنما أبطأ بك

6 - غاية النفع في شرح حديث «تمثيل المؤمن بخامة الزرع»

غاية النفع في شرح حديث "تمثيل المؤمن بخامة الزرع"

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وبه نستعين خرَّج البخاري ومسلم (¬1) من حديث أبي هريرة" عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «مَثلُ المُؤْمِنِ كَمَثلِ الخامَةِ مِنَ الزَّرعِ مِنْ حَيثُ أَتَتْهَا الرِّيحُ كَفأتْهَا؛ فَإِذَا اعْتدلت تكفأ بِالبَلاءِ. والفَاجِرُ كَالأرزة (¬2) صَماء مُعتدِلَة حتَّى يقصمها الله إذا شاء» وهذا لفظ البخاري. وخرَّجا (¬3) أيضاً من حديث كعب بن مالك عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: " «مَثلُ المُؤْمِنِ كَالخَامَةِ مِنَ الزَّرعِ تفيؤُها الرِّيحُ مَرَّة وتَعدلها مَرَّة، وَمَثلُ المُنافِقِ كَالأرْزِة لا تَزالُ حَتّى يكونَ انْجِعافُها (¬4) مرَّةً واحدةً». وخرجه الإمام أحمد (¬5) بمعناه من حديث جابر بن عبد الله عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وخرجه البزار من حديث أنس عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. ففي هذه الأحاديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ضرب مثل المؤمن في إصابة البلاء لجسده بخامة الزرع التي (تفيئها الريح) (*) يمنة ويسرة. والخامة: الرطبة من النبات. وَمَثَّل المنافق والفاجر بالأرزة وهي الشجرة العظيمة التي لا تحركها الرياح ولا تزعزعها حتى يرسل الله عليها ريحًا عاصفًا فتقتلعها من الأرض دفعة واحدة. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (5644، 7466)، مسلم (2809). (¬2) الأرزة، بسكون الراء وفتحها: شجرة الأرز وهو خشب معروف. وقيل: هو الصنوبر. "النهاية" (1/ 38). (¬3) أخرجه البخاري (5643)، ومسلم (2810). (¬4) انجعافها: انقلاعها "اللسان" مادة: (جعف). (¬5) (3/ 454)، (6/ 386). (*) تقلبها الرياح: "نسخة".

وقد قيل: إنها شجرة الصنوبر، قاله أبو عبيد وغيره. وقيل: إنها شجرة تشبه (شجر) (*) الصنوبر. ففي هذا فضيلة عظيمة للمؤمن بابتلائه في الدُّنْيَا في جسده بأنواع البلاء. وتمييز له عَلَى الفاجر والمنافق بأنه لا يصيبه البلاء حتى يموت بحاله فيلقى الله بذنوبه كلها فيستحق العقوبة عليها. والنصوص في تكفير ذنوب المؤمن بالبلاء والمصائب كثيرة جدًّا. ففي "الصحيحين" (¬1) عن عائشة، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «مَا مِنْ مُصِيبَةٍ تُصِيبُ المُسْلِمَ إِلَّا كَفَّرَ اللَّهُ بِهَا مِنْ خَطَايَاهُ حَتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا». وفيهما (¬2) أيضًا عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «مَا يُصِيبُ المُؤْمِنَ مِنْ نَصَبٍ وَلَا وَصَبٍ وَلَا هَمُّ وَلَا حَزَنٍ وَلَا أَذًى وَلَا غّمٍّ حَتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكِهَا إِلَّا كَفِّرَ اللَّهُ بِهَا مِنْ خَطَايَاهُ». وفيهما (¬3) أيضًا عن ابن مسعود عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَا مِنْ مُسْلِمٍ يُصِيبُهُ أَذًى مِنْ مَرَضٍ فَمَا سِوَاهُ إِلَّا حَاتَ اللهُ عَنْهُ خَطَايَاهُ كَمَا تَحَاتُّ وَرَقُ الشَّجَرِ». وفي رواية: "يُصِيبُهُ أَذى شَوْكَةٌ فَمَا فَوْقَهَا إِلَّا كَفّرَ اللهُ بِهَا سَيِّئَاتِهِ كَمَا تَحُطُّ الشَّجَرَةُ وَرَقَهَا". وخرج الإمام أحمد والنسائي والترمذي (¬4) من حديث سعد بن أبي وقاص عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "لاَ تَزَالُ الْبَلَايَا بِالْعَبْدِ حَتَّى تَتْرُكهُ يَمْشِي عَلَى الْأَرْضِ مَا بِهِ خَطِيئَةٌ". ¬

_ (*) شجرة: "نسخة". (¬1) أخرجه البخاري (5640)، ومسلم (2572) [49]. (¬2) أخرجه البخاري (5641، 5642)، ومسلم (2573). (¬3) أخرجه البخاري (5647، 5648، 5660، 5661، 5667)، ومسلم (2571). (¬4) أخرجه أحمد (1/ 172، 173، 180، 185)، والنسائي في "السنن الكبرى" (7481)، والترمذي (2398). قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.

وخرج الإمام أحمد والترمذي وابن حبان (¬1) من حديث أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما تزال البلايا بالمؤمن والمؤمنة في جسده وماله وولده حتى يلقى الله وما عليه من خطيئة". وفي "صحيح ابن حبان" (¬2) عن أبي هريرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «إِنَّ الرَّجُلَ لِيَكُونُ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ الْمَنْزِلَةُ فَمَا يَبْلُغُهَا بِعَمَلٍ، فَلاَ يَزَالُ اللَّهُ يَبْتَلِيهِ بِمَا يَكْرَهُ حَتَّى يُبَلِّغَهُ إِيَّاهَا». وفي "المسند" (¬3) عن جابر عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "لاً يَمْرَضُ مُؤْمِنٌ وَلاً مُؤْمِنَةٌ وَلاً مُسْلِمٌ وَلاً مُسْلِمَةٌ إِلَّا حَطَّ اللهُ عَنْهُ مِنْ خَطَايَاهُ". وخرجه ابن حبان (¬4) وزاد: "كَمَا يَحُطُّ الوَرَقَ عِنِ الشَّجَرَةُ". وفيه (¬5) عن أبي الدرداء عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَا يَزَالُ الصُّدَاعَ وَالْمَلِيلَةَ (*) بِالْمُؤْمِنِ؛ وَإِنَّ ذَنْبَهُ مِثْلُ أُحُدٍ، فَمَا يَدَعُهُ وَعَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ". ْوإنما يعرف قدر البلاء إذا كشف الغطاء يوم القيامة، كما في الترمذي (¬6) عن جابر عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «يَوَدُّ أَهْلُ العَافِيَةِ يَوْمَ القِيَامَةِ حِينَ يُعْطَى أَهْلُ البَلَاءِ الثَّوَابَ لَوْ أَنَّ جُلُودَهُمْ قُرِضَتْ بِالمَقَارِيضِ فِي الدُّنْيَا». وفي "سنن أبي داود" (¬7) عن عامر (الرام) (¬8) قال: "جَلسْتُ إِلَى النبي - صلى الله عليه وسلم - ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد (2/ 287، 450)، والترمذي (2399)، وابن حبان كما في "الإحسان" (2924) قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. (¬2) كما في "الإحسان" (2908). (¬3) (3/ 346، 386، 400). (¬4) كما في "الإحسان" (2927). (¬5) في "مسند أحمد" (5/ 98، 199). (*) الملَيلة: حرارة الحمى وتوهجها، وقبل: هى الحمى التي تكون في العظام "اللسان" (11/ 630). (¬6) برقم (2402) قال الترمذي: وهذا حديث غريب لا نعرفه بهذا الإسناد إلا من هذا الوجه. وقد روى بعضهم هذا الحديث عن الأعمش عن طلحة بن مصرف عن مسروقٍ قوله شيئًا من هذا. (¬7) برقم (3089). (¬8) في "الأصل" البرام، وهو تحريف والصواب ما أثبتنا بفتح الراء وفي آخرها ميم بمد الألف هذه النسبة إِلَى صنعة الرمي بالقوس والنشاب، انظر "الأنساب" (3/ 31)، و"الإكمال" (3/ 161، 252).

فَذَكَرَ الْأَسْقَامَ، فَقَالَ: «إِنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا أَصَابَهُ السَّقَمُ ثُمَّ أَعْفَاهُ اللَّهُ مِنْهُ كَانَ كَفَّارَةً لِمَا مَضَى مِنْ ذُنُوبِهِ، وَمَوْعِظَةً لَهُ فِيمَا يَسْتَقْبِلُ، وَإِنَّ الْمُنَافِقَ إِذَا مَرِضَ ثُمَّ أُعْفِيَ كَانَ كَالْبَعِيرِ، عَقَلَهُ أَهْلُهُ ثُمَّ أَرْسَلُوهُ، فَلَمْ يَدْرِ لِمَ عَقَلُوهُ وَلِمَ أَرْسَلُوهُ» فَقَالَ رَجُلٌ مِمَّنْ حَوْلَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! وَمَا الْأَسْقَامُ؟ وَاللَّهِ مَا مَرِضْتُ قَطُّ. قَالَ: «قُمْ عَنَّا فَلَسْتَ مِنَّا» وهذا كما قال للذي سأله عن الحمى فلم يعرفها: «مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ النَّارِ فَلْيَنْظُرْ إِلَى هَذَا» (¬1) فجعل الفرق بين أهل الجنة وأهل النار إصابة البلاء والمصائب، كما جعل ذلك فرقًا بين المؤمنين والمنافقين والفجار في هذه الأحاديث المذكورة ها هنا. وفي "المسند" (¬2) عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - "أنه ذكر أهل النار، فَقَالَ: «كُلُّ شَدِيدٍ جَعْظَرِيٍّ (¬3)، هُمُ الَّذِينَ لَا يَأْلَمُونَ رُءُوسَهُمْ». وفي "المسند" (¬4) عن أنس أَنَّ امْرَأَةً أَتَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ ابْنَةً لِي كَذَا وَكَذَا، ذَكَرَتْ حُسْنِهَا وَجَمَالِهَا. آثَرْتُكَ بِهَا، قَالَ: «قَدْ قَبِلْتُهَا». فَلَمْ تَزَلْ تَمْدَحُهَا حَتَّى ذَكَرَتْ أَنَّهَا لَمْ تَصْدَعْ وَلَمْ تَشْتَكِ شَيْئًا قَطُّ، قَالَ: "لَا حَاجَةَ لِي فِي ابْنَتِكِ". وخرجه ابن أبي الدُّنْيَا من وجه آخر مرسلًا. وفيه قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لَا حَاجَةَ لنَا فِي ابْنَتِكِ"، تجيئنا تحمل خطاياها، لا خير في مال لا يرزأ (¬5) منه، وجسد لا ينال منه". وروى بإسناده (¬6) عن قيس بن أبي حازم قال: "طلق خالد بن الوليد امرأته، ثم أحسن عليها الثناء، فقِيلَ لَهُ: يا أبا سليمان، لأي شيء طلقتها؟ قال: ما طلقتها لأمر رابني منها، ولكن لم يصبها عندي بلاء". ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد في "المسند" (2/ 332، 366)، والبخاري في "الأدب المفرد" (ص 146)، والنسائي في "الكبرى" (7491). (¬2) (2/ 508). (¬3) الجعظري: الفظ الغليظ المتكبر. "اللسان" مادة: (جعظر). (¬4) (3/ 155). (¬5) رزأه ماله: أصاب من ماله شيئًا "اللسان" (3/ 1634). (¬6) أخرجه ابن أبي الدُّنْيَا في "المرض والكفارات" (203).

وبإسناده (¬1) عن عمار بن ياسر "أنه ذكر الأوجاع، فَقَالَ أعرابي عنده: ما اشتكيت قط، فَقَالَ عمار: ما أنت منا -أو لست منا- إِنَّ المسلم يبتلى ببلاء فتحط عنه ذنوبه كما تحط الشجرة اليابسة ورقها، وإن الكافر والفاجر ييتلى ببلاء، فمثله مثل البعير أطلق، فلم يدر لم أطلق، وعقل فلم يدر لم عقل". وبإسناده (¬2) عن كعب قال: أجد فى التوراة: لولا أن يحزن عبدي المؤمن لعصبت الكافر بعصابة من حديد، لا يصدع أبدًا. وعن الحسن (¬3) قال: كان الرجل منهم، أو من المسلمين إذا مر به عام لم يصب في نفسه ولا في ماله قال: ما لنا أيودع (¬4) الله عنا؟!. وقال الحسن (¬5): إِنَّمَا أنتم بمنزلة الغرض يرمى كل يوم، ليس من مرضة إلا قد أصابتكم منه رمية، عقل من عقل، وجهل من جهل، حتى تجيء الرمية التي لا تخطئ. وعن صالح بن مسمار (¬6) أنه دخل عَلَى مريض يعوده فَقَالَ له: إِنَّ ربك قد عاتبك فأعتبه. وعن ابن عباس أنه كان إذا رأى الناقةِ قال له: [فِ بما وعدت] (¬7) لربك. وروي (¬8) مرفوعًا من حديث خوات بن جبير وإسناده ضعيف. ¬

_ (¬1) ابن أبي الدُّنْيَا في "المرض والكفارات" رقم (15). (¬2) ابن أبي الدُّنْيَا في "المرض والكفارات" رقم (103). (¬3) أخرجه ابن أبي الدُّنْيَا في "المرض والكفارات" رقم (146). (¬4) في "المرض والكفارات": أتودع. (¬5) أخرجه ابن أبي الدُّنْيَا في "المرض والكفارات" رقم (175). (¬6) أخرجه ابن أبي الدُّنْيَا في "المرض والكفارات" رقم (87). (¬7) بياض بـ "الأصل" والمثبت من "الكامل" لابن عدي. (¬8) أخرجه ابن عدي في "الكامل" (6/ 146)، وابن أبي الدُّنْيَا في "المرض والكفارات" (162)، وابن السني في "عمل اليوم والليلة" (563).

وقال الحسن في أيام الوجع: أما والله ما هي بشرِّ أيام المسلم، أيام قورب له فيها أجله، وذكر فيها ما نسي من معاده، وكفر بها من خطاياه (¬1). وكان إذا دخل عَلَى مريض قد عوفي قال له: يا هذا! إِنَّ الله قد ذكرك فاذكره، وأقالك فاشكره. فهذه الأسقام والبلايا والأوجاع كلها كفارات للذنوب الماضية ومواعظ للمؤمنين حتى يتعظوا بها، ويرجعوا بها في المستقبل عن سيئ ما كانوا عليه. قال الفضيل: إِنَّمَا جعلت العلل ليؤدب بها العباد، ليس كل من مرض مات. وإلى هذا المعنى الإشارة بقوله عز وجل: {أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ} (¬2). ولبعض المتقدمين: أفي كل عام مرضت ثم نقهت ... وتنعي ولا تنعى متى ذا إِلَى متى واعلم أن تمثيل المؤمن بالزرع، وتمثيل المنافق والفاجر بالشجر العظام يشتمل عَلَى فوائد جليلة نذكر ما يسر اللَّه منها. فمنها أن الزرع ضعيف مستضعف والشجر قوي مستكبر متعاظم، فالشجر لا [يضعف] (¬3) من حر ولا برد، ولا من كثرة ماء ولا من ريح، والزرع بخلاف ذلك، وهذا هو الفرق بين المؤمن والكافر، وبين أهل الجنة والنار. كما في " الصحيحين" (¬4) عن حارثة بن وهب عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "أَلاَ أُخْبِرُكُمْ بِأَهْلِ الجَنَّةِ؟ كُلُّ ضَعِيفٍ مُتَضَعِّفٍ، لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ، أَلاَ أُخْبِرُكُمْ ¬

_ (¬1) أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف" (13/ 501)، وابن أبي الدُّنْيَا في "المرض والكفارات" (55، 145). (¬2) التوبة: 126. (¬3) بياض في "الأصل"، والمثبت أنسب للسياق. (¬4) البخاري (4918، 6071، 6657)، ومسلم (2853).

بأهل النار؟ كل عتل (¬1) جواظ (¬2) مستكبر. وفي "المسند" (¬3) عن أبي هريرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «أَلاً أُخْبِرُكُمْ بِأَهْلِ الْجَنَّةِ؟» قَالُوا: بَلَى. قال: الضُّعفاء المغلوبون. «أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَهْلِ النَّارِ؟» قَالُوا: بَلَى، قَالَ: «كُلُّ شَدِيدٍ جَعْظَرِيٍّ، هُمُ الَّذِينَ لَا يَأْلَمُونَ رُءُوسَهُمْ». وخرجه (¬4) أيضًا بمعناه من حديث سراقة بن مالك وعبد اللَّه بن عمر. وخرجاه في "الصحيحين" (¬5) عن أبي هريرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "تَحَاجَّتِ الجَنَّةُ وَالنَّارُ فَقَالَتِ الجَنَّةُ: مَا لِي لاَ يَدْخُلُنِي إِلَّا ضُعَفَاءُ النَّاسِ وَسَقَطُهُمْ؟ وَقَالَتِ النَّارُ: مَا لِي لاَ يَدْخُلُنِي إِلَّا المُتَجَبِّرِينَ وَالْمُتَكَبِّرونَ ... " الحديث. وقد ورد في القرآن تشبيه المنافقين بالخشب المسندة مع حسن منظرهم، فَقَالَ: {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ} (¬6). فوصفهم بحسن الأجسام وتمامها، وحسن المقال (وفصاحته) (*)، حتى يعجب من منظرهم من رآهم، ويسمع قولهم من سمعه سماع إصغاء وإعجاب به، ومع هذا فبواطنهم خراب ومعانيهم فارغة، فلهذا مثلهم بالخشب المسندة، التي لا روح لها ولا إحساس، وقلوبهم مع هذا ضعيفة فى غاية الضعف: {يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ} (6) لأنهم لما أضمروا خلاف ما أظهروا خافوا الاطلاع عليهم، فكلما سمعوا صيحة ظنوا أنها عليهم، وهكذا كل مريب يظهر خلاف ما يضمر يخاف من أدنى شيء ويحسبه عليه. ¬

_ (¬1) العُتُل: هو الشديد الجافي والفظ الغليظ من الناس "اللسان" (11/ 423). (¬2) الجواظ: الكثير اللحم، الجافي الغليظ الضخم المختال في مشيته. "اللسان" (7/ 439). (¬3) (2/ 369، 508). (¬4) في "المسند" (4/ 175). (¬5) أخرجه البخاري (4850)، ومسلم (2846). (¬6) المنافقون: 4. (*) والفصاحة: "نسخة".

وأما المؤمن فبعكس هذه الصفات، غالبهم مستضعفون في ظاهر أجسامهم ولباسهم وكلامهم لأنهم اشتغلوا بعمارة قلوبهم وأرواحهم عن عمارة أجسادهم. فقلوبهم ثابتة قوية عامرة، فيكابدون بها الأعمال الشاقة في طاعة الله من الجهاد والعبادات والعلوم وغيرها مما لا يستطيع المنافق مكابدته؛ لضعف قلبه، ولا يخافون من ظهور ما في قلوبهم إلا خشية الفتنة عَلَى نفوسهم، فإن بواطنهم خير من ظواهرهم، وسرهم أصلح من علانيتهم. قال سليمان التيمي: أتاني آت في منامي فَقَالَ: يا سليمان إِنَّ قوة المؤمن في قلبه. فالمؤمن لما اشتغل بعمارة قلبه عن عمارة قالبه استضعف ظاهره، وربما ازدري، ولو علم الناس ما في قلبه لما فعلوا ذلك. قال علي لأصحابه: كونوا في الناس كالنحل في الطير كل الطير يستضعفها، ولو علموا ما في جوفها ما فعلوا. ومن قوة قلب المؤمن وثباته أنه ثابت عَلَى الإيمان، فالإيمان الَّذِي في قلبه مثله كمثل شجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء، فيعيش عَلَى الإيمان ويموت عليه ويبعث عليه، وإنما الرياح وهي بلايا الدُّنْيَا تقلب جسمه يمنة ويسرة، وكذلك قلبه لا تصل إِليه الرياح؛ لأنّه محروس بنور الإيمان. والكافر والمنافق بعكس ذلك، قوي جسمه، لا تقلبه رياح الدُّنْيَا، وأما قلبه فإنه ضعيف، تلاعب به الأهواء المضلة، فتقلبه يمنة ويسرة، فكذلك كان مثل قلبه كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار، كشجر الحنظل ونحوه مما ليس له أصل ثابت فى الأرض. وقال علي في صفة الهمج: الرعاع أتباع كل ناعق، يميلون مع كل ريح، لم يستضيئوا بنور العِلْم، ولم يلجئوا منه إِلَى ركن وثيق.

وبهذا يظهر الجمع بين حديث تمثيل المؤمن بخامة الزرع والفاجر بشجرة الأرز، وبين حديث تمثيل المؤمن بالنخلة. فإن التمثيل بالزرع لجسده؛ لتوالي البلاء عليه، والتمثيل بالنخلة إيمانه وعمله وقوله، يدل عليه قوله عز وجل: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ} (¬1) فجعلها مثلًا بكلمة الشهادة التي هي أصل الإسلام، وثبوتها في قلب المؤمن كثبوت أصل النخلة في الأرض، وارتفاع عمل المؤمن إِلَى السماء كارتفاع النخلة، وتجدد عمل المؤمن من كل حين كإتيان النخلة أكلها كل حين. وقد روي عن أبي هريرة "أن المؤمن الضعيف مثل الزرع، والقوي مثله كمثل النخلة". وخرجه البزار وغيره مرفوعًا، ولا يصح رفعه، إِنَّمَا هو موقوف، قاله الدارقطني وغيره. ومنها أن ثمرة الزرع وهو السنبل يستضعف ويطمع فيه كل أحد لقرب تناوله فيطمع الآدمي في الأكل منه وفي قطعه وسرقته، والبهائم في رعيه، والطير في الأكل منه، وكذلك المؤمن يستضعف، فيعاديه عموم الناس؛ لأنّ الإسلام بدأ غريبًا ويعود غرييًا كما بدأ، فطوبى للغرباء. فعموم الخلق يستضعفه ويستغربه، ويؤذيه لغربته بينهم. وأما الكافر أو المنافق أو الفاجر الَّذِي كالصنوبرة، فإنه لا يطمع فيه، فلا الرياح تزعزع بدنه، ولا يطمع في تناول ثمرته لامتناعها. وفي كتاب "الزهد" للإمام أحمد عن عصام بن يحيى الحضرمي قال: شكى الحواريون إِلَى المسيح عليه السلام من ولع الناس بهم وبغضهم إياهم. فَقَالَ المسيح: كذلك المؤمنون مبغوضون في الناس، وإنما مثلهم كمثل حبة القمح ما أحلى مذاقها وأكثر أعدائها!!. ¬

_ (¬1) إبراهيم: 24.

وقال كعب: في التوراة: "ما كان حليم قط في قوم إلا بغوا عليه وحسدوه". وكان خيثمة يقول كلامًا معناه: إِنَّ من الناس من أجتهد في نفعه وهو يجتهد في إيذائي، إنه لا يحب منافق مؤمنًا أبدًا. ومنها أن المؤمن يمشي مع البلاء كيف ما مشى به، فيلين له فيقلبه البلاء يمنة ويسرة، فكلما أداره استدار معه، فيكون عاقبته العافية من البلاء وحسن الخاتمة، وتوقي ميتة السوء. فلهذا كان مثله كمثل السنبلة (تفيئها) (*) الرياح يمنة ويسرة، فلا تضره الرياح كما في أمثال العرب: إذا رأيت الريح عاصفًا فتطامن، أي: إذا رأيت الأمر غالبًا فاخضع له. وقال الحكماء: لا يرد لم العدو القوي بمثل الخضوع له، ومثله مثل الريح العاصف يسلم منها الزرع للينه لها ومعها، ويتقصف منها الشجر العظام لانتصابها لها. فإن الفاجر لقوته وتعاظمه يتقاوى عَلَى الأقدار، ويستعصي عليها، كشجرة الصنوبر التي تستعصي عَلَى الرياح، ولا تتطامن معها، فتسلط عليه ريح عاصف لا يقوى عليها، فتقلعه من أصله بعروقه فتهلكه. وهذا كما حكى الله عن عاد قال: {فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً ... } (¬1) فالمؤمن لمَّا تواضع لعظمة اللَّه، وصبر عَلَى بلائه كانت عاقبته (الحسنى) (**)، وسلم في الدُّنْيَا والآخرة من البلاء، وكانت العافية له. والفاجر لما تكبر وتعاظم وتقاوى عَلَى أقدار الله عجَّل اللَّه عقوبته، فسلط عليه بلاء يستأصله، ولا يقدر عَلَى الامتناع منه، كالشجر العظام التي تقتلعها الرياح بعروقها. قال بعضهم: إِنَّ الرياح إذا عصفن فإنما ... تولي الأذية شامخ الأغصان ¬

_ (*) تقلبها: "نسخة". (¬1) فصلت: 15 - 16. (**) الجنة: "نسخة".

وقال غيره: من أخمل النفس أحياها وروحها ... ولم يبت طاويًا منها عَلَى ضجر إِنَّ الرياح إذا اشتدت عواصفها ... فليس ترمي سوى العالي من الشجر ومنها أن الزرع وإن كانت كل طاقة منه ضعيفة ضئيلة؛ إلا أنه يتقوى بما يخرج معه وحوله ويعتضد به بخلاف الشجر العظام، فإن بعضها لا يشد بعضًا، وقد ضرب الله تعالى مثل نبيه -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه بالزرع لهذا المعنى قال: {وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى} (¬1). وقوله: {أَخْرَجَ شَطْأَهُ}؟ ي: فراخه، {فَآزَرَهُ} أي: ساواه وصار مثل الأم وقوي به، {فَاسْتَغْلَظَ} أي: غلظ، {فَاسْتَوَى} عَلَى سوقه جمع ساق، فالزرع مثل النبي -صلى الله عليه وسلم- إذ خرج وحده فأمده بأصحابه وهم شطأ الزرع كما قوى الطاقة من الزرع بما ينبت منها حتى غلظت واستحكمت. وفي الإنجيل: سيخرج قوم ينبتون نبات الزرع. وقد قال عز وجل: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} (¬2). وقال: {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ} (¬3) فالمؤمنون بينهم ولاية، وهي مودة ومحبة باطنة، كما قال: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} (¬4)؛ لأنّ المؤمنين قلوبهم عَلَى قلب رجل واحد فيما يعتقدونه من الإيمان. وأما المنافقون فقلوبهم مختلفة كما قال: {تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى} (¬5) فأهواؤهم مختلفة، ولا ولاية بينهم في الباطن، وإنما بعضهم من جنس بعض في الكفر والنفاق. ¬

_ (¬1) الفتح: 29. (¬2) التوبة: 71. (¬3) التوبة: 67. (¬4) الحجرات: 49. (¬5) الحشر: 14.

وفي "الصحيحين" (¬1) عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: «المُؤْمِنَ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا». وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعَهُ. وفيهما (¬2) أيضًا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ الوَاحِدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُه بِالْحُمَّى وَالسَّهَرِ". ومنها أن الزرع ينتفع به بعد حصاده، فإنه يحصده أربابه، ثم يبقى منه بعد حصاده ما يلتقطه المساكين، وترعاه البهائم وتأكله الطير، وربما استخلف بعضه فأخرج منه ثانية، وبيع منه من الحب ما ينبت مرارًا. وهكذا مثل المؤمن يموت ويخلف ما ينتفع منه، من علم نافع وصدقة جارية وولد صالح ينتفع به. وأما الفاجر فإنه إذا انقلع من الأرض لم يبق فيه نفع بل ربما أثر ضررًا، فهو: كالشجرة المنجعفة لا تصلح إلا لوقيد النار. ومنها أن الزرع في حمله مبارك، كما ضرب الله مثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة، والله يضاعف لمن يشاء. وليس كذلك الشجر لأنّ كل حبة مما يغرس منه لا تزيد عَلَى نبات شجرة واحدة منها. ومنها أن الحب الَّذِي ينبت من الزرع هو قوت الآدميين، وغذاء أبدانهم، وسبب حياة أجسادهم، فكذلك الإيمان هو قوت القلوب وغذاء الأرواح وسبب حياتها، ومتى فقدته القلوب ماتت، وموت القلوب لا يرجى معه حياة أبدًا، بل هو هلاك الدُّنْيَا والآخرة، كما قيل: لَيسَ مَنْ مَاتَ فَاسْتَرَاحَ بِمَيِّتٍ ... إِنَّمَا الميْتُ مَيَّتُ الأحْيَاءِ ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (481، 2446، 6026)، ومسلم (2585). (¬2) أخرجه البخاري (6011)، ومسلم (2586).

فلذلك شبه المؤمن بالزرع حيث كان الزرع حياة الأجساد، والإيمان حياة الأرواح. وأما ثمر بعض الأشجار العظام كالصنوبر ونحوه، فليس له كبير نفع، وربما لا يتضرر بفقده. فكذلك مَثَّل الفاجر أو المنافق بهذه الشجرة لقلة نفع ثمرها. لما كانت الدُّنْيَا سجن المؤمن وجنة الكافر، فصاحب السجن لا يزال في بلاء حتى يخرج منه، فَإِذَا خرج من السجن أفضى إِلَى الرخاء والنعيم الدائم، وصاحب الجنة إذا خرج منها وقع في السجن الدائم. إذا صُبغ أنعم الناس -كان في الدُّنْيَا- صبغة في العذاب، فقِيلَ لَهُ: هل مر بك نعيم قط؟ قال: لا يا رب. وإذا صُبغ أبأس الناس -في النعيم صبغة، ثم قِيلَ لَهُ: هل مر بك بؤس قط؟ قال: لا يا رب. ما كان تعب من استراح ... ولا استراح من تعب فما هي إلا ساعة ثم تنقضي ... ويذهب هذا كله ويزول لا يجد أهل الجنة من ألم نصب الدُّنْيَا شيئًا، بل ينقلب راحة أبدًا. جميع آلام لسع النحل يُذْهِبُهَا ... ما يَجْتَني المجتَني من لذة العسل من طمع في الوصول إِلَى المعالي؛ صبر عَلَى مواصلة نَصَبِ النهار بسهر الليالي. من أراد غدًا قربنا؛ فليصبر اليوم عَلَى ألم ضربنا، فما يحس بألم من صدق في حبنا. لابد من البلوى والاختبار ليتبين الصادق اليوم من الكاذب {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} (¬1). الراحة لا تنال بالراحة. ¬

_ (¬1) محمد: 31.

لولا المشقة ساد الناس كلهم ... الجود يفقر والإقدام قتّال مراتب الدُّنْيَا لا تنال إلا بالصبر عَلَى البلاء في طلبها والمجاهدة، فكيف من أراد مقعد صدق عند مليك مقتدر. كم صبروا حتى قدروا ... كم غضوا حتى نظروا ما وصلوا إِلَى المنزل إلا بعد طول السجن، ما نالوا لذة الراحة إلا بعد أن صبروا عَلَى المشقة. لو قرب الدرّ عَلَى طلابه ... ما لج الغائص في طلابه ولو أقام لازمًا أصدافه ... لم تكن التيجان في حسابه ما لؤلؤ البحر ولا مرجانه ... إلا وراء الهول من عبابه آخر ما وجد والحمد للَّه أولاً وآخرًا وظاهرًا وباطنًا، وصلى الله عَلَى عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا. ***

7 - الحكم الجديرة بالإذاعة من قول النبي - صلى الله عليه وسلم - «بعثت بالسيف بين يدي الساعة»

الحِكَم الجديرة بالإذاعة من قول النبي - صلى الله عليه وسلم - "بعثت بالسيف بين يدي الساعة"

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وبه نستعين الحَمْدَ لله نَحْمَدُهُ ونَسْتَعِينُهُ ونَسْتَهْدِيهِ ونَسْتَغفرُهُ، وَنَعوذُ بالله مِنْ شُرورِ أَنفسِنا، وَمِنْ سَيِّئاتِ أَعْمَالنا، مَن يَهدِهِ اللهُ فلا مُضِلَّ له، ومَن يُضلِل فَلاَ هاديَ لَه، وَأَشْهَدُ أَن لا إِلهَ إِلَّا اللهُ وَحَدهُ لا شَريِكَ لَه، وَأَشْهَدُ أَن مُحَمّدا عَبْدهُ وَرَسُولُه، أرسله بين يدي الساعة بشيرًا ونذيرًا، وداعيًا إِلَى الله بإذنه وسراجًا منيرًا، فهدى به من الضلالة وبصر به من العمى، وأرشد به من الغي وفتح به أعينًا عميًا وآذانًا وقلوبًا غلفًا. صلى اللَّه عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا. أخرج الإمام أحمد (¬1) من حديث ابن عمر -رضي الله عنهما- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "بُعِثْتُ بِالسَّيْفِ بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ، حَتَّى يُعْبَدَ اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهِ، وَجُعِلَ رِزْقِي تَحْتَ ظِلِّ رُمْحِي، وَجُعِلَ الذِّلَّةُ وَالصَّغَارُ عَلَى مَنْ خَالَفَ أَمْرِي, وَمَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ". قوله - صلى الله عليه وسلم -: "بُعِثْتُ بِالسَّيْفِ" يعني: أن الله بعثه داعيًا إِلَى توحيده بالسيف بعد دعائه بالحجة، فمن لم يستجب إِلَى التوحيد بالقرآن والحجة والبيان دعي بالسيف، قال تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ ... } (¬2) الآية. وفي بعض الكتب السالفة: وصف النبي -صلى الله عليه وسلم- بأنه يبعث بقضيب الأَدب، وهو السيف. ووصى بعض أحبار اليهود عند موته باتباعه وقال: إنه يسفك الدماء، ويسبي الذراري والنساء، فلا يمنعهم ذلك منه. ¬

_ (¬1) (2/ 50، 92). (¬2) الحديد: 25.

وروي أن المسيح عليه السلام قال لبني إسرائيل في وصف النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إنه يسل السيف، فيدخلون في دينه طوعًا وكرهًا". وإنما أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بالسيف بعد الهجرة لما صار له دار وأتباع وقوة ومنعة. وقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يتهدد أعداءه بالسيف قبل الهجرة، وكان -صلى الله عليه وسلم- يطوف بالبيت وأشراف قريش قد اجتمعوا (في الحجر) (*) وقالوا: ما رأينا مثل ما صبرنا عليه من هذا الرجل، قد سفه أحلامنا، وشتم آباءنا، وعاب ديننا، وفرق جماعتنا، وسب آلهتنا! لقد صبرنا منه عَلَى أمر عظيم. فلما مر بهم النبي -صلى الله عليه وسلم- غمزوه ببعض القول، فعُرِفَ ذلك في وجهه - صلى الله عليه وسلم - وفعلوا ذلك به ثلاث مرات، قال: "تَسْمَعُونَ يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ؟ أَمَا وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَقَدْ جِئْتُكُمْ بِالذَّبْحِ" فأخذت القوم كلمته، حتى ما فيهم رجل إلا وكأنما عَلَى رأسه طير واقع، وحتى أن أشدهم عليه قبل ذلك ليلقاه بأحسن ما يجد من القول، حتى أنه ليقول: انصرف يا أبا القاسم راشدًا، فواللَّه ما كنت جهولًا (¬1). وقال محمد بن (الحسن) (**): بلغ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن أبا جهل يقول: إِنَّ محمدًا يزعم أنكم إِن بايعتموه عشتم ملوكًا، فَإِذَا متم بعثتم بعد موتكم، وكانت جنان خير من جنان الأردن، وأنكم إِن خالفتموه كان لكم منه الذبح. ثم بعثتم بعد موتكم (وكان) ( ... ) لكم نار تعذبون فيها، فبلغ ذلك النبي -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: "وأنا أقول ذلك إِنَّ لهم مني لذبحًا، وإنه لآخذهم". وقد أمر الله -تعالى- بالقتال في مواضع كثيرة في القرآن قال تعالى: {فَاقْتُلُوا المُشْرِكِينَ ... } (¬2)، وقال: {فَإذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الوَثَاقَ ... } (¬3) الآية. ¬

_ (*) بالحجر: "نسخة". (¬1) أخرجه البخاري (3678). (**) كعب: "نسخة". (¬2) التوبة: 5. ( ... ) كانت: "نسخة". (¬3) محمد: 4.

ولهذا عوتبوا عَلَى أخذ الفداء منهم في أول قتال قاتلوه يوم بدر، وأنزل قوله تعالى: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ ... } (¬1) الآية. وكانوا قد أشاروا عَلَى النبي -صلى الله عليه وسلم- بأخذ الفداء من الأسارى وإطلاقهم. قال ابن عيينة: أُرسِلَ محمد -صلى الله عليه وسلم- بأربعة سيوف: سيف عَلَى المشركين من العرب حتى يسلموا، وسيف عَلَى المشركين من غيرهم حتى يسلموا أو يسترقوا أو يفادى بهم، وسيف عَلَى أهل الكتاب حتى يعطوا الجزية، وسيف عَلَى أهل القبلة من أهل البغي. وفيما ذكره نزاع بين العُلَمَاء؛ فإن منهم من يجيز المفاداة والاسترقاق في العرب وغيرهم، وكذلك منهم من يجيز أخذ الجزية من الكفار جميعهم، والذي يظهر أن في القرآن أربعة سيوف: سيف عَلَى المشركين حتى يسلموا أو يُؤسروا، فإمَّا منًّا بعد وإما فداءًا، وسيف عَلَى المنافقين وهو سيف الزنادقة (¬2)، وقد أمر الله بجهادهم والإغلاظ عليهم في سورة براءة وسورة التحريم وفي سورة الأحزاب، وسيف عَلَى أهل الكتاب حتى يعطوا الجزية، وسيف عَلَى أهل البغي، وهو المذكور في سورة الحجرات. ولم يسل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذا السيف في حياته، وإنما سلَّهُ علي- رضي الله عنه- في خلافته. وكان يقول: "أنا الَّذِي علمت الناس قتال أهل القبلة". وله -صلى الله عليه وسلم- سيوف أُخر، منها: سيفه عَلَى أهل الردة وهو الَّذِي قال فيه: «مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ» (¬3) وقد سله أبو بكر الصديق -رضي اللَّه عنه- من بعده في خلافته عَلَى من ارتد من قبائل العرب. ¬

_ (¬1) الأنفال: 67. (¬2) الزنديق: من لا يؤمن بالآخرة والربوبية، أو من يبطن الكفر ويظهر الإيمان. ترتيب القاموس (3/ 481). (¬3) أخرجه البخاري (6922) من حديث ابن عباس، وأحمد (5/ 231) من حديث معاذ بن جبل.

ومنها: سيفه عَلَى المارقين، وهم أهل البدع كالخوارج. وقد ثبت عنه الأمر بقتالهم مع اختلاف العُلَمَاء في كفرهم. وقد قاتلهم عَلَى -رضي الله عنه- في خلافته مع قوله: "إنهم ليسوا كفار". وقد روي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أمره بقتال المارقين والناكثين والقاسطين. وقد أحرق عليٌّ طائفة من الزنادقة، فصوب ابن عباس قتلهم، وأنكر عليه تحريقهم بالنار، فَقَالَ علي: "ويح ابن عباس، إنه لبَحَّاث عن الهنات". قوله - صلى الله عليه وسلم -: "بين يدي الساعة" يعني: أمامها، ومراده أنه بُعِثَ قدام الساعة قرييًا منها، ومن أسمائه - صلى الله عليه وسلم - الحاشر والعاقب، كما صح عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "أَنَا مُحَمَّدٌ وَأَحْمَدُ، وَأَنَا المَاحِي، الَّذِي يَمْحُو اللَّهُ بِي الكُفْرَ، وَأَنَا الحَاشِرُ الَّذِي يُحْشَرُ النَّاسُ عَلَى قَدَمِي، وَأَنَا العَاقِبُ الَّذِي لَيْسَ بَعْدِي نَبِيّ" (¬1). وقد جعل اللَّه انشقاق القمر من علامات اقتراب الساعة كما قال تعالى: {اقْتَرَيَتِ السَّاعَهُ وانشَقَ القَمَرُ} (¬2) وكان يرى انشقاقه بمكة قبل الهجرة. وصح عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «بُعِثْتُ أَنَا وَالسَّاعَةُ كَهَاتَيْنِ» -وَأَشَارَ بإصْبعه: السَّبَّابَةَ وَالْوُسْطَى، أخرجاه في " الصحيحين " (¬3). وخرج الإمام أحمد (¬4) من حديث بريدة: «بُعِثْتُ أَنَا وَالسَّاعَةُ جَمِيعًا وَإِنْ كَادَتْ لَتَسْبِقُنِي» وللترمذي (¬5): «بُعِثْتُ فِي نَفَسِ السَّاعَةِ/ فَسَبَقْتُهَا كَمَا سَبَقَتْ ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (4869)، ومسلم (2354). (¬2) القمر: 1. (¬3) أخرجه البخاري (6504)، ومسلم (2951) من حديث أنس. وأخرجه البخاري (6503)، ومسلم (2950) من حديث سهل بن سعد. وأخرجه البخاري (6505) من حديث أبي هريرة. وأخرجه مسلم (867) من حديث جابر بن عبد الله. (¬4) (5/ 348). (¬5) برقم (2213).

هَذِهِ هَذِهِ» -السبابة والوسطى- ليس بينهما أصبع أخرى" والصحيح أنه يدل من ذلك عَلَى القرب من الساعة. وكان قتادة يشير إِلَى أن المراد أن بينه وبين الساعة كمقدار فضل السبابة عَلَى الوسطى، وقد قيل: إِنَّ بينهما من الفضل مقدار نصف سبع. وأخذوا من هذا أن بقاء أمته مقدار ألف سنة، وهو سبع الدُّنْيَا. وفيه ورد ذلك مرفوعًا من حديث ابن زيد، ولكن إسناده لا يصح. وقد رجح ذلك ابن الجوزي والسهيلي، وقال: إِن لم يصح فيه الحديث المرفوع فقد صح عن ابن عباس وغيره، وهو عند أهل الكتاب كذلك. ومما يدل عَلَى أن بعثة محمد -صلى الله عليه وسلم- من علامات الساعة أنه أخبر عن خروج الدجال في حديث الجساسة (¬1). قوله -صلى الله عليه وسلم-: "حَتَّى يُعْبَدَ اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ" هذا هو المقصود الأعظم من بعثته -صلى الله عليه وسلم-، بل من بعثة الرسل من قبله كما قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} (¬2) وقال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} (¬3) بل هذا هو المقصود من خلق الخلق وإيجادهم كما قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (¬4) فما خلقهم إلا ليأمرهم بعبادته، وأخذ عليهم العهد لما استخرجهم من صلب آدم عَلَى ذلك كما قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ ... } (¬5) الآية. وقد تكاثرت الأحاديث المرفوعة والأخبار الموقوفة في تفسير هذه الآية أنه ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (2942). (¬2) الأنبياء: 25. (¬3) النحل: 36. (¬4) الذاريات: 56. (¬5) الأعراف: 172.

تعالى استنطقهم حينئذٍ، فأقروا كلهم بوحدانيته، وأشهدهم عَلَى أنفسهم وأشهد عليهم أباهم آدم والملائكة. ثم إنه تعالى تعهدهم في كل زمان بإرسال رسله، وإنزال الكتب يذكرهم بالعهد الأول، ويجدد عليهم العهد والميثاق عَلَى أن يوحدوه ويعبدوه ولا يشركوا به شيئًا، وأشار في خطاب آدم وحواء عند هبوطهما من الجنة إِلَى هذا المعنى في قوله تعالى: {قُلْنَا اهبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى ... } (¬1) الآيتين، وفي سورة طه نحو هذا، فما وفى بنو آدم كلهم بهذا العهد المأخوذ عليهم؛ بل نقضه أكثرهم وأشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانًا، فبعث الله الرسل تجدد ذلك العهد الأول وتدعوا إِلَى تجديد الإقرار بالوحدانية. فكان أول رسول بعث إِلَى أهل الأرض يدعوهم إِلَى التوحيد وينهاهم عن الشرك نوح -عليه السلام- فإن الشرك قد فشا في الأرض في بني آدم قبل نوح، فبعث الله نوحًا في قومه ألف سنة إلا خمسين عامًا يدعو إِلَى الله وإلى عبادته وحده لا شريك له، كما ذكره سبحانه في سورة نوح عنه أنه قال لقومه: {اعْبُدُوا اللَّهَ واتَّقُوهُ وأَطِيعُونِ} (¬2) وأخبر فى موضع آخر عنه أنه قال لهم: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إلَهٍ غَيْرُهُ} (¬3) فما استجاب له إلا قليل منهم، وأكثرهم أصروا عَلَى الشرك {وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتِكُمْ وَلاَ تَذَرُنَّ ودًّا وَلاَ سُوَاعًا وَلاَ يَغُوثَ ويَعُوق ونَسْرًا} (¬4) فلما أصروا عَلَى كفرهم أغرقهم الله بالطوفان ونَجَّى نوحًا ومن معه في الفلك {وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ} (¬5). ثم إِنَّ الله تعالى بعث خليله إبراهيم فدعا إِلَى توحيده وعبادته وحده لا شريك له، وناظر عَلَى ذلك أحسن مناظرة، وأبطل شبه المشركين بالبراهين ¬

_ (¬1) البقرة: 38 - 39. (¬2) نوح: 3. (¬3) المؤمنون: 23. (¬4) نوح: 23. (¬5) هود: 40.

الواضحة، وكسر أصنام قومه حتى جعلهم جذاذًا (¬1) فأرادوا تحريقه فنجّاه الله من النار وجعلها عليه بردًا وسلامًا ووهب الله له إسماعيل وإسحاق، فجعل عامة الأنبياء من ذرية إسحاق؛ فإن إسرائيل هو يعقوب بن إسحاق، وأنبياء بني إسرائيل كلهم من ذرية يعقوب، كيوسف وموسى وداود وسليمان -عليهم السلام- وآخرهم المسيح ابن مريم -عليه السلام- وإنما دعاهم إِلَى التوحيد كما قال: {مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ} (¬2). ثم طبق الشرك الأرض بعد المسيح؛ فإن قومه الذين ادعوا اتباعه والإيمان به أشركوا غاية الشرك، فجعلوا المسيح هو الله أو ابن الله، وجعلوا الله ثالث ثلاثة. وأما اليهود فإنهم -وإن تبرءوا من الشرك- فالشرك فيهم موجود؛ فإن فيهم من عبد العجل في حياة موسى -عليه السلام- وقال فيه أنه الله، وأن موسى نسي ربه وذهب يطلبه، ولا شرك أعظم من هذا. ومنهم طائفة قالوا: العزير ابن الله، وهذا من أعظم الشرك. وأكثرهم اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله، فأحلوا لهم الحرام وحرموا عليهم الحلال، فأطاعوهم فكانت تلك عبادتهم إياهم؛ لأنّ من أطاع مخلوقًا في معصية الخالق أو اعتقد جواز طاعته ووجوبها؛ أقد أشرك بهذا الاعتبار، حيث جعل التحريم والتحليل لغير الله. وأما المجوس فشركهم ظاهر؛ فإنهم يَقُولُونَ إلهين قديمين أحدهما: نور. والآخر: ظلمة، فالنور خالق الخير، والظلمة خالق الشر. وكانوا يعبدون النيران. وأما العرب والهند وغيرهم من الأم فكانوا أظهر الناس شركًا يعبدون مع الله آلهة كثيرة ويزعمون أنها تقرب إِلَيْهِ زلفى. فلما طبق الشرك أقطار الأرض، واستطار شررُهُ في الآفاق من المشرق إلى المغرب، بعث الله محمدًا - صلى الله عليه وسلم - بالحنيفية المحضة والتوحيد الخالص -دين ¬

_ (¬1) أي: قِطَعًا وكِسَرًَا، واحدها: جذٌّ -انظر "النهاية" (1/ 250). (¬2) المائدة: 117.

إبراهيم عليه السلام- وأمره أن يدعو الخلق كلهم إِلَى توحيد الله وعبادته وحده لا شريك له، فكان يدعو إِلَى ذلك سرًّا ثلاث سنين، فاستجاب له طائفة من الناس، ثم أمر بإعلان الدعوة وإظهارها، وقيل: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ} (¬1) فدعا إِلَى الله وإلى توحيده وعبادته وحده لا شريك له جهرًا، وأعلن الدعوة، وذم الآلهة التي تعبد من دون الله، وذم من عبدها وأخبر أنه من أهل النار، فثار عليه المشركون، واجتهدوا في إيصال الأذى إِلَيْهِ وإلى أتباعه، وفي إطفاء نور الله الَّذِي بعثه به، وهو لا يزداد إلا إعلانًا بالدعوة وتصميمًا عَلَى إظهارها وإشهارها والنداء بها في مجامع الناس. وكان يخرج بنفسه في مواسم الحج إِلَى من يقدم إِلَى مكة من قبائل العرب، فيعرض نفسه عليهم، ويدعوهم إِلَى التوحيد، وهم لا يستجيبون له، بل يردون عليه قوله ويُسْمِعُونه ما يكره، وربما نالوه بالأذى. وبقي عشر سنين عَلَى ذلك يقول: "من يمنعني حتى أؤدي رسالات ربي؟ فإن قريشًا منعوني أن أُبَلِّغَ رسالات ربي". وكان يشق أسواقهم في المواسم وهم مزدحمون بها، كسوق ذي المجاز، ينادي يقول: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ قُولُوا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ تُفْلِحُوا" ووراءه أبو لهب يؤذيه ويرد عليه وينهى الناس عن اتباعه. واجتمع المشركون مرة عند عمه أبي طالب يشكونه إِلَيْهِ ويَقُولُونَ: شتم آلهتنا وسفه أحلامنا وسب آباءنا، فمُرْهُ فلْيَكُفَّ عن آلهتنا. فَقَالَ أبو طالب للنبي - صلى الله عليه وسلم -: "أجب قومك فيما سألوا. فَقَالَ: أنا أدعوهم إِلَى خير من ذلك: أن يتكلموا بكلمة تدين لهم بها العرب ويملكوا بها العجم. فَقَالَ أبو جهل: نعطكها وعشر أمثالها. فَقَالَ: تقولون لا إله إلا الله. فنفروا عند ذلك وتفرقوا وهم يَقُولُونَ: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} (¬2) " وفي رواية أنه - صلى الله عليه وسلم - قال لعمه: "يا عم، لو وضعوا الشمس عن يميني والقمر عن ¬

_ (¬1) الحجر: 94. (¬2) ص: 5.

يساري عَلَى أنْ أتركَ هذا الأمر حتى يظهرَه الله أو أهلك في طلبه ما تركتُه" (¬1). وقال - صلى الله عليه وسلم -: "لقد أخفت في الله وما يخاف أحد، ولقد أوذيت في الله وما يؤذى أحد، ولقد أتت عليَّ ثلاثون -من يوم وليلة- وما لي طعام يأكله ذو كبد إلا شيء يواريه إبط بلال" (¬2). وفي رواية عنه -صلى الله عليه وسلم- قال: «مَا أُوذِيَ أَحَدٌ فِي اللهِ مَا أُوذِيتُ» (¬3). كان العدو يجهد له في نيل الأذى، والصديق يلوم عَلَى هذا الاحتمال إذا كان كذا، والمحبة تقول: حبذا هذا الشقاء في رضى ... الحبيب والدعوة إِلَى توحيده حبذا وقف الهوى بي حيث أنت فليس لي ... متأخر عنه ولا متقدم أجد الملامة في هواك لذيذة ... حبًّا لذكرك فليلمني اللوم ثم إِنَّ أبا طالب لما توفى وتوفيت بعده خديجة اشتد المشركون عَلَى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى اضطروه أن خرج من مكة إِلَى الطائف، فدعاهم إِلَى عبادة الله وحده لا شريك له، فلم يجيبوه وقابلوه بغاية الأذى، وأمروه بالخروج من أرضهم، وأغروا به سفهاءَهم، فاصطفوا له صفين وجعلوا يرمونه بالحجارة حتى أَدْمَوْهُ، فخرج هو ومعه مولاه زيد بن حارثة، فلم يمكنه دخول مكة إلا بجوار، وطلب من جماعة من رؤساء قريش أن يُجيرُوه حتى يدخل مكة، فلم يفعلوا حتى أجاره المطعم بن عدي، فدخل في جواره، وعاد إِلَى ما كان عليه من الدعاء إِلَى توحيد الله وعبادته. ¬

_ (¬1) انظر "سيرة ابن هشام" (1/ 257). (¬2) أخرجه أحمد (3/ 120، 186)، والترمذي (2472)، وابن ماجه (151) من حديث أنس. (¬3) أخرجه ابن عدي في "الكامل" (7/ 155) من حديث جابر، وأبو نعيم في "الحلية" (6/ 333) من حديث أنس.

وكان يقف بالمواسم عَلَى القبائل فيقول لهم قبيلة قبيلة: "يَا بَنِي فُلَانٍ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ، يأْمُرُكُمْ أَنْ تَعْبُدُوه وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا" ولا يقبلون منه، وأبو لهب خلفه يقول: لا تطيعوه. وكان -صلى الله عليه وسلم- ينادي: "مَنْ يُؤْوِينِي؟ مَنْ يَنْصُرُنِي حَتَّى أُبَلِّغَ رِسَالَةَ رَبِّي وَلَهُ الْجَنَّةُ؟ " (¬1) فلا يجيبه أحدٌ حتى بعث الله له الأنصارَ من المدينة فبايعوه. هذا، وهو صابر عَلَى الدعوة إِلَى الله عز وجل عَلَى هذا الوجه راضٍ بما يحصل له فيها من الأذى، منشرح الصدر بذلك، غير متضجرٍ منه ولا جزع. كان إذا اشتكى أحدٌ من أصحابه شيئًا يقول: "إني عبد الله وأنه لن يضيعني" (¬2). صرت لهم عبدًا وما ... للعبد أن (يعترضا) (¬3) من لمريض لا يرى ... إلا الطبيب المُمْرضا؟ وفي "الصحيح" (¬4) عن عائشة قالت: قلت، يا رسول الله، هل من يوم كان أشد من يوم أحد؟ فَقَالَ: "لَقَدْ لَقِيتُ مِنْ قَوْمِكِ مَا لَقِيتُ وَكَانَ أَشَدَّ مَا لَقِيتُ مِنْهُمْ يَوْمَ العَقَبَةِ، إِذْ عَرَضْتُ نَفْسِي عَلَى ابْنِ عَبْدِ يَالِيلَ بْنِ عَبْدِ كُلاَلٍ، فَلَمْ يُجِبْنِي إِلَى مَا أَرَدْتُ، فَانْطَلَقْتُ وَأَنَا مَهْمُومٌ عَلَى وَجْهِي، فَلَمْ أَسْتَفِقْ إِلَّا وَأَنَا بِقَرْنِ الثَّعَالِبِ (¬5) فَرَفَعْتُ رَأْسِي وَإِذَا أَنَا بِسَحَابَةٍ قَدْ أَظَلَّتْنِي، فَنَظَرْتُ فَإِذَا فِيهَا جِبْرِيلُ فَنَادَانِي فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ، وَمَا رَدُّوا عَلَيْكَ، وَقَدْ بَعَثَ لَكَ مَلَكَ الجِبَالِ فَسَلَّمَ عَلَيَّ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ وَأَنَا مَلَكَ الجِبَالِ، وَقَدْ بَعَثَنَِي إِلَيْكَ لِتَأْمُرَنِي بِأَمْرِكَ وَمَا شِئْتَ، إِنْ شِئْتَ أَنْ أُطْبِقَ عَلَيْهِمُ ¬

_ (¬1) أخرجه عبد الله بن أحمد في زيادات المسند (3/ 492). ووقع في مطبوع "مسند أحمد": "أن هذا الحديث من رواية أحمد، والصواب أنه من زيادات ابنه عبد الله. وانظر "المسند الجامع" (5/ 417). (¬2) هناك بياض قدر كلمة. (¬3) في "الأصل": يتعرض وبعدها بياض قدر كلمة. (¬4) البخاري (3231)، ومسلم (1795). (¬5) قرن الثعالب: هو ميقات أهل نجد تلقاء مكة. "معجم البلدان" (4/ 377).

الأَخْشَبَيْنِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بَلْ أَرْجُو أَنْ اللَّهَ يُخْرِجُ مِنْ أَصْلاَبِهِمْ مَنْ يَعْبُدُه لاَ يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا". ما مقصود النبي -صلى الله عليه وسلم- إلا أن يعبد الله وحده لا شريك له، وما يبالي -إذا حصل ذلك- ما أصابه في الدعوة، إذا وُحِّدَ مَغْبُودُهُ حصلَ مقصودهُ، إذا عُبدَ محبوبُه حصل مطلوبه، إذا ذكر ربَّه رضي قلبُه، وأما جسمه فلا يبالي ما أصابه في سبيل الله ما يؤلمه، أو ما يلائمه. إن كان سَرَّكم ما قد بليت به ... فما لجرح إذا أرضاكم ألم وحَشبُ سلطان الهوى أنه ... يألف فيه كل ما يؤلم وكان كلما آذاه الأعداء إذا دعاهم إِلَى مولاهم رجع إِلَى مولاه، فتسلى بعلمه ونظره إِلَيْهِ وقربه منه، واشتغل بمناجاته، وذكره ودعائه وخدمته، فنسي كل ما أصابه من الألم من أجله، وقد أمره الله بذلك في القرآن في مواضع كثيرة نحو قوله تعالى: {فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ} (¬1)، وقوله: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ} (¬2) وقوله: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ * وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} (¬3). وكان -صلى الله عليه وسلم- إذا حزبه أمر قام إِلَى الصلاة؛ لأنّ الصلاة صلة، وكان يقول: «جُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلَاةِ» (¬4). سروري من الدهر لقياكم ... ودار سلامي مغناكم وأنتم منتهى أملي ما حَيِيتُ ... وما طاب عيشي لولاكم ¬

_ (¬1) الطور: 49. (¬2) ق: 39. (¬3) الحجر: 97 - 99. (¬4) أخرجه أحمد (3/ 128، 85، 199)، والنسائي (7/ 61) من حديث أنس.

إذا [ازدادت] (¬1) في فؤادي الهموم ... أروح قلبي بذكراكم وأستنشق الريحَ في أرضكم ... لعلي أحظى برؤياكم فلا تنسوا العهد فيما مضى ... فلسنا مدى الدهر ننساكم فلم يزل - صلى الله عليه وسلم - يدعو إِلَى الله وإلى توحيده وعبادته وحده لا شريك له حتى ظهر دين الله وعلا ذكره وتوحيده في المشارق والمغارب، وصارت كلمة الله هي العليا، ودينه هو الظاهر، وتوحيده هو الشائع، وصار الدين كله لله، والطاعة كلها له، ودخل الناس في دين الله أفواجًا. جعل ذلك علامة عَلَى قرب أجله وَأُمِرَ حينئذٍ بالتهيؤ للقاء الله والنقلة إِلَى دار البقاء. وكأن المعنى أن قد حصل المقصود من إرسالك، وظهر توحيدي في أقطار الأرض وزال منها ظلام الشرك، وحصلت عبادتي، وحدي لا شريك لي، وصار الدين كله لي، فأنا أستدعيك إِلَى جواري لأجزيك أعظم الجزاء {وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى * وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} (¬2). وفي صفته - صلى الله عليه وسلم - في التوراة: "وَلَنْ أَقْبِضَهُ حَتَّى أُقِيمَ بِهِ الْمِلَّةَ الْعَوْجَاءَ بِأَنْ يَقُولُوا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَفْتَحَ بِهِ أَعْيُنًا عُمْيًا، وَآذَانًا صُمًّا، وَقُلُوبًا غُلْفًا". وكان -صلى الله عليه وسلم- إِنَّمَا يقاتل عَلَى دخول الناس فى التوحيد كما قال: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا: لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَإِذَا قَالُوهَا عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلَّا بِحَقِّ الإِسْلاَمِ» (¬3). وكان إذا بعث سرية للغزو يوصي أميرهم بأن يدعو عدوه عند لقائه للتوحيد، وكذلك أمر معاذًا لما بعثه إِلَى اليمن أن يدعوهم إِلَى شهادة ¬

_ (¬1) في "الأصل" ازداد. والمثبت أنسب للمعنى. وفي "نسخة": ازدحمت. (¬2) الضحى:4 - 5. (¬3) أخرجه البخاري (25)، ومسلم (22) من حديث ابن عمر. وأخرجه البخاري (2946)، ومسلم (20) من حديث أبي هريرة. وأخرجه البخاري (391) من حديث أنس. وأخرجه مسلم (1/ 53) من حديث جابر.

التوحيد (¬1)، وكذلك أمر علي بن أبي طالب حين بعثه لقتال أهل خيبر. وروي عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه كان إذا بعث بعثًا قال: «تَأَلَّفُوا النَّاسَ وَتَأَنُّوا بِهِمْ، فَلَا تُغِيرُوا عَلَيْهِمْ حَيٍّ تَدْعُوهُمْ, فَمَا عَلَى الأَرْضِ مِنْ أَهْلِ بَيْتٍ مَدَرٍ وَلَا وَبَرٍ إِلاَّ أَنْ تَأْتُونِي بِهِمْ مُسْلِمِينَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ تَأْتُونِي بِنِسَائِهِمْ وَأَوْلاَدِهِمْ وَتَقْتُلُوا رِجَالَهُمْ» ((¬2). قوله -صلى الله عليه وسلم-: "وَجُعِلَ رِزْقِي تَحْتَ ظِلِّ رُمْحِي" أشار إِلَى أن الله لم يبعثه بالسعي في طلب الدُّنْيَا، ولا لجمعها واكتنازها، ولا الاجتهاد بالسعي في أسبابها، وفإنما بعثه داعيًا إِلَى توحيده بالسيف، ومن لازم ذلك أن يقتل أعداءه الممتنعين عن قبول التوحيد، ويستبيح أموالهم، ويسبي نساءهم وذراريهم، فيكون رزقه مما أفاء الله من أموال أعداله، فإن المال إِنَّمَا خلقه الله لبني آدم يستعينون به عَلَى طاعة الله وعبادته، فمن استعان به عَلَى الكفر بالله والشرك به سلط اللهُ عليه رسولَه وأتباعه فانتزعوه منه وأعادوه إلى من هو أولى به من أهل عبادة الله وتوحيده وطاعته، ولهذا يسمى الفيء فيئًا؛ لرجوعه إلى من كان أحق به ولأجله خلق. وكان في القرآن المنسوخ: "إِنَّمَا أنزل المال لإقام الصلاة وإيتاء الزكاة". فأهل التوحيد والطاعة لله أحق بالمال من أهل الكفر به والشرك، فلذلك سلط الله رسوله وأتباعه عَلَى من كفر به وأشرك، فانتزعوا أموالهم، وجعل رزق رسوله من هذا المال؛ لأنه أحل الأموال كما قال: {فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا} (¬3) وهذا مما خص الله به محمدًا - صلى الله عليه وسلم - وأمته؛ فإنه أحل لهم الغنائم. وقد قيل: إِنَّ الَّذِي خصت بحله هذه الأمة هو الغنيمة المأخوذة بالقتال دون الفيء المأخوذ بغير قتال، فإنه كان حلاًّ مباحًا لمن قبلنا، وهو الَّذِي جعل ¬

_ (¬1) انظر البخاري (1395)، ومسلم (19). (¬2) أخرجه مسدد في "مسنده" كما في "المطالب العالية" (2035/ 1) من حديث عبد الرحمن بن عائذ والحارث في "مسنده" كما في البغية (639) من حديث شريح بن عبيد. (¬3) الأنفال: 69.

رزق رسوله منه، وإنما كان أحل لغيره لوجوه: منها: أنه انتزع ممن لا يستحقه؛ لأنّه يستعين به عَلَى معصية الله والشرك به، فَإِذَا انتزعه ممن يستعين به عَلَى غير طاعته وتوحيده والدعوة إِلَى عبادته؛ كان ذلك أَحَبّ الأموال إِلَى الله تعالى وأطيب وجوه اكتسابها عنده. ومنها: أنه - صلى الله عليه وسلم - إِنَّمَا يجاهد لتكون كلمة الله هي العليا [ودينه] (¬1) هو الظاهر لا لأجل الغنيمة؛ فيحصل له الرزق تبعًا لعبادته وجهاده في الله، فلا يكون فَرَّغَ وقتًا من أوقاته لطلب الرزق محضًا، وإنما عبد الله في جميع أوقاته وَوَحَّدَهُ فيها وأخلص له، فجعل الله له رزقه ميسرًا له في ضمن ذلك، من غير أن يقصده ولا يسعى فيه. وجاء في حديث مرسل أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "أَنَا رَسُولُ الرَّحْمَةِ، أَنَا رَسُولُ الْمَلْحَمَةِ، إِنَّ اللهَ بَعَثَنِي بِالجِهَادِ وَلَمْ يَبعَثنِي بِالزَّرْعِ" (¬2) وخرج البغوي في "معجمه" حديثًا مرفوعًا: "إِنَّ اللهَ بَعَثَنِي بِالهُدَى وَدِينِ الحَقِّ وَلَمْ يَجْعَلَنِي زراعًا ولا تاجرًا، ولا سخابًا بالأسواق، وجعل رزقي في رمحي" وإنما ذكر الرمح ولم يذكر السيف لئلا يقال أنه -صلى الله عليه وسلم- يرزق من مال الغنيمة، إِنَّمَا كان يرزق مما أفاء الله عليه من خيبر وفدك. والفيء ما هرب أهله منه خوفًا وتركوه، بخلاف الغنيمة؛ فإنها مأخوذة بالقتال بالسيف، وذكر الرمح أقرب إِلَى حصول الفىء؛ لأنّ الرمح يراه العدو من بعيد فيهرب، فيكون هرب العدو من ظل الرمح، المأخوذ به هو مال الفيء، ومنه كان رزق النبي -صلى الله عليه وسلم- بخلاف مال الغنيمة؛ فإنه يحصل من قتال السيف، والله أعلم. قال عمر بن عبد العزيز: إِنَّ الله تعالى بعث مُحَمَّدًا هاديًا ولم يبعثه جابيًا، فكان -صلى الله عليه وسلم- شغله بطاعة الله والدعوة إِلَى توحيده، وما يحصل في خلال ذلك ¬

_ (¬1) في "الأصل": ودنيه. وهو سبق قلم من الناسخ، والصواب ما أثبتناه. (¬2) أخرجه ابن عدي في "الكامل" (3/ 312).

من الأموال من الفيء والغنائم، فيحصل تبعًا لا قصدًا أصليًّا، ولهذا ذم من ترك الجهاد واشتغل عنه باكتساب الأموال. وفي ذلك نزل قوله تعالى: {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاً تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} (¬1) لا عزم الأنصار عَلَى ترك الجهاد والاشتغال بإصلاح أموالهم وأراضيهم. وفي الحديث الَّذِي خرجه أبو داود (¬2) وغيره (¬3): «إِذَا تَبَايَعْتُمْ بِالْعِينَةِ وَاتَّبَعْتُمْ أَذْنَابَ الْبَقَرِ، وَتَرَكْتُمُ الْجِهَادَ، سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ ذُلًّا لاً يَنْزِعُهُ اللهُ مِنْ رِقَابِكُمْ حَتَّى ترَاجِعُوا دِينِكُمْ» ولهذا كره الصحابة- رضي الله عنهم- الدخول في أرض الخراج للزراعة؛ فإنها تشغل عن الجهاد. قال مكحول: إِنَّ المسلمين لما قدموا الشام ذكر لهم زرع الحولة فزرعوا، فبلغ ذلك عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- فبعث إِلَى زرعهم وقد ابيضَّ وأدرك فحرقه بالنار، ثم كتب إليهم: إِنَّ الله جعل أرزاق هذه الأمة في أسنة رماحها، وتحت أزجتها (¬4)، فَإِذَا زرعوا كانوا كالناس. خرَّجه أسد بن موسى. وروى أيضاً بسند له عن عمر أنه كتب: من زرع زرعًا واتبع أذناب البقر ورضي بذلك وأقر به جعلت عليه الجزية. وقيل لبعضها: لو اتخذت مزرعة للعيال؟ فَقَالَ: والله ما جئنا زارعين، ولكن جئنا لنقتل أهل الزرع ونأكمل زرعهم. فأكمل حالات المؤمن أن يكون اشتغاله بطاعة الله والجهاد في سبيله، والدعوة إِلَى طاعته، لا يطلب الدُّنْيَا، ويأخذ من مال الفىء ونحوه قدر الكفاية، كما كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يأخذ لأهله قوت سنة من مال الفيء ثم يقسم ¬

_ (¬1) البقرة: 195. (¬2) برقم (3462). (¬3) وأخرجه أحمد (2/ 28، 42، 84). (¬4) أزجتها: الزج: الحديدة التي تركب فى أسفل الرمح. "اللسان" (2/ 285).

باقيه، وربما رأى محتاجًا بعد ذلك فيقسم عليه قوت أهله فيبقى أهله بلا شيء. وكذلك (من) (¬1) يشتغل بالعلم؛ لأنّه أحد نوعي الجهاد، فيكون اشتغاله بالعلم كالجهاد في سبيل الله والدعوة إِلَيْهِ، فإن أخذ من مال الفيء أو الوقف أخذ منه قدر الكفاية يتقوى به عَلَى الاستعانة به عَلَى جهاده، ولا ينبغي أن يأخذ أكثر من مقدار كفايته من ذلك. وقد نص أحمد عَلَى أن مال بيت المال كالخراج لا يؤخذ منه أكثر من الكفاية، فمال الوقف أضيق. ومن اشتغل بطاعة الله تكفل الله برزقه، كما في حديث زيد بن ثابت المرفوع: «مَنْ كَانَتِ الدُّنْيَا هَمَّهُ فَرَّقَ اللَّهُ عَلَيْهِ أَمْرَهُ وَجَعَلَ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، وَلَمْ يَأْتِهِ مِنَ الدُّنْيَا إِلَّا مَا كُتِبَ لَهُ، وَمَنْ كَانَتِ الْآخِرَةُ نِيَّتَهُ جَمَعَ اللَّهُ لَهُ أَمْرَهُ، وَجَعَلَ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ، وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ» خرَّجه الإمام أحمد وابن ماجه (¬2). وخرجه الترمذي (¬3) من حديث أنس مرفوعًا: "إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ: يَا ابْنَ آدَمَ، تَفَرَّغْ لِعِبَادَتِي أَمْلَأْ صَدْرَكَ غِنًى، وَأَسُدَّ فَقْرَكَ، وَإِلَّا تَفْعَلْ مَلَأْتُ يَدَيْكَ شُغْلًا، وَلَمْ أَسُدَّ فَقْرَكَ". وخرَّج ابن ماجه (¬4) من حديث ابن مسعود مرفوعًا: «مَنْ جَعَلَ الْهُمُومَ هَمًّا وَاحِدًا: هَمَّ آخِرَتِهِ كَفَاهُ اللَّهُ هَمَّ دُنْيَاهُ، وَمَنْ تَشَعَّبَتْ بِهِ الْهُمُومُ فِي أَحْوَالِ الدُّنْيَا لَمْ يُبَالِ اللَّهُ فِي أَيِّ أَوْدِيَتِهَا هَلَكَ». ¬

_ (¬1) تكررت بالأصل. (¬2) في "المسند" (5/ 183)، وابن ماجه (4105) من حديث زيد بن ثابت. (¬3) برقم (2465، 2466). وأخرجه ابن ماجه (4107)، وأحمد (2/ 358) من حديث أبي هريرة. (¬4) برقم (257، 4106).

وفي الآثار الإسرائيلية يقول الله: "يا دنيا، أخدمي من خدمني، وأتبعي من خدمك". قوله - صلى الله عليه وسلم -: "وجعل الذلة والصغار على من خالف أمري" هذا يدل على أن العز والرفعة في الدنيا والآخرة بمتابعة أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لامتثال متابعة أمر الله، كما قال تعالى: {من يطع الرسول فقد أطاع الله} (¬1) وقال تعالى: {ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين} (¬2) وقال تعالى: {من كان يريد العزة فلله العزة جميعاً} (¬3). وفي بعض الآثار: يقول الله تعالى: "أنا العزيز فمن أراد العز فليطع العزيز" قال الله تعالى: {إن أكرمكم عند الله أتقاكم} (¬4) فالذل والصغار يحصل بمخالفة أمر الله ورسوله. ومخالفة الرسول على قسمين: أحدهما: مخالفة من لا يعتقد طاعة أمره كمخالفة الكفار، وأهل الكتاب الذين لا يرون طاعة الرسول، فهم تحت الذل والصغار، ولهذا أمر الله بقتال أهل الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون، وضرب على اليهود الذلة والمسكنة؛ لأن كفرهم بالرسول عناداً. والثاني من يعتقد طاعته ثم يخالف أمره بالمعاصي وهذا نوعان: أحدهما: من يخالف أمره بالمعاصي التي يعتقد أنها معصية فله نصيب من الذلة والصغار، قال الحسن: إنهم وإن (طقطقت) (¬5) بهم البغال، و (هملجت) (¬6) بهم البراذين فإن ذل المعصية في رقابهم، أبى الله إلا أن يذل ¬

_ (¬1) النساء: 80. (¬2) المنافقون: 8. (¬3) فاطر: 10. (¬4) الحجرات: 13. (¬5) الطقطقة: صوت قوائم الخيل على الأرض الصلبة. "اللسان" (1/ 225). (¬6) الهملجة: فارسي معرب وهو حسن سير الدابة في سرعة. "اللسان" (2/ 393).

من عصاه. كان الإمام أحمد يدعو: اللهم أعزنا بعز الطاعة ولا تذلنا بذل المعصية. قال أبو العتاهية: ألا إنما التقوى هي العز والكرم ... وحبك للدنيا هو الذل والسقم وليس على عبد تقي نقيصة ... إذا حقق التقوى وإن حاك أو حجم فأهل هذا النوع خالفوا الرسول من أجل داعي الشهوات. النوع الثاني: من خالف أمره من أجل الشبهات وهم أهل الأهواء والبدع، فكلهم لهم نصيب من الذلة والصغار بحسب مخالفتهم لأوامره، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ... } الآية (¬1). وأهل الأهواء والبدع كلهم مفترون عَلَى الله، وبدعتهم تتغلظ بحسا كثرة افترائهم عليه، وقد جعل الله من حرم ما أحله الله أو حلل ما حرمه الله مفتريًا عليه بالكذب، ومن نسب إِلَى الله ما لا يجوز فنسبته إِلَيْهِ من تمثيل أو تعطل، أو كذَّب بأقداره فقد افترى عَلَى الله الكذب. قال الله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (¬2) قال سفيان: الفتنة أن يطبع الله عَلَى قلوبهم. فهذا تغلظت عقوبة المبتدع عَلَى عقوبة العاصي؛ لأنّ المبتدع مفترٍ عَلَى الله، مخالفٌ لأمر رسوله لأجل هواه. فأما مخالفة بعض أوامر الرسول -صلى الله عليه وسلم- خطأ من غير عمد، مع الاجتهاد عَلَى متابعته، فهذا قد يقع [فيه] (¬3) كثير من أعيان الأمة من علمائها وصلحائها، ¬

_ (¬1) الأعراف: 152. (¬2) النور: 63. (¬3) ليست بالأصل، وأثبتها لمراعاة السياق.

ولا إثم فيه، بل صاحبه إذا اجتهد فله أجر عَلَى اجتهاده، وخطؤه موضوع عنه، ومع هذا فلم يمنع ذلك من علم أمر الرسول الَّذِي خالفه هذا: أن يبين للأمة أن هذا مخالف لأمر الرسول، نصيحة لله ولرسوله ولعامة المسلمين. وهب أن هذا المخالف عظيم له قدر وجلالة، وهو محبوب للمؤمنين؛ إلا أن حق الرسول مقدم عَلَى حقه، وهو أولى بالمؤمنين من أنفسهم. فالواجب عَلَى كل من بلغه أمر الرسول وعرفه أن بيينه للأمة وينصح لهم، ويأمرهم باتباع أمره وإن خالف ذلك رأي عظيم من الأمة، فإن أمر الرسول -صلى الله عليه وسلم- أحق أن يعظم ويقتدى به من رأي معظم، قد خالف أمره في بعض الأشياء خطأ. ومن هنا رد الصحابة ومن بعدهم من العُلَمَاء عَلَى كل من خالف سنة صحيحة، وربما أغلظوا في الرد، لا بغضًا له؛ بل هو محبوب عندهم، معظم في نفوسهم؛ لكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أَحَبّ إليهم، وأمره فوق أمر كل مخلوق. فَإِذَا تعارض أمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأمر غيره فأمر الرسول -صلى الله عليه وسلم- أولى أن يقدم ويتبع، ولا يمنع من ذلك تعظيم من خالف أمره لأنّ كان مغفورًا له؛ بل ذلك المخالف المغفور له لا يكره أن يخالف أمره إذا ظهر أمر الرسول -صلى الله عليه وسلم- بخلافه؛ بل يرضى بمخالفة أمره ومتابعة أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا ظهر أمره بخلافه. كما أوصى الشافعي -إذا صح الحديث في خلاف قوله- أن يتبع الحديث ويترك قوله. وكان يقول: ما ناظرت أحدًا فأحببت أن يخطئ، وما ناظرت أحدًا فباليت أظهرَ الحقُّ عَلَى لسانه أو عَلَى لساني. لأنّ تناظرهم كان لظهور أمر الله ورسوله، لا لظهور نفوسهم ولا الانتصار لها. وكذلك المشايخ والعارفون كانوا يوصون بقبول الحق من كل من قال الحق صغيرًا أو كبيرًا، وينقادون لقوله. قيل لحاتم الأصم: أنت رجل أعجمي لا تفصح، وما ناظرت أحدًا إلا قطعته، فبأي شيء تغلب خصمك؟ قال: بثلاث: أفرح إذا أصاب خصمي،

وأحزن إذا أخطأ، وأحفظ لساني عنه أن أقول ما يسوءه. فذكر ذلك للإمام أحمد، فَقَالَ: ما كان أعقله من رجل. وقد روي عن الإمام أحمد أنه قِيلَ لَهُ: إِنَّ عبد الوهاب الوراق ينكر كذا وكذا، فَقَالَ: ما نزال بخير ما دام فينا من ينكر هذا. ومن هذا الباب قول عمر لمن قال له اتق الله يا أمير المؤمنين، فَقَالَ: "لا خير فيكم إذا لم تقولوها لنا، ولا خير فينا إذا لم نقبلها منكم". وردَّت عليه امرأة مقالته، فرجع إليها وقال: "امرأة أصابت ورجل أخطأ" فلم يزل الناس بخير ما كان فيهم من يقول الحق ويبين أوامر الرسول -صلى الله عليه وسلم- التي خالفها من خالفها وإن كان معذورًا مجتهدًا مغفورًا له، وهذا مما خص الله به هذه الأمة لحفظ دينها الَّذِي بعث به رسوله -صلى الله عليه وسلم- فإنها لا تجتمع عَلَى ضلالة بخلاف الأمم السابقة. فهاهنا أمران: أحدهما: أن من خالف أمر الرسول في شيء خطأ مع اجتهاده في طاعته ومتابعته أوامره؛ فإنه مغفور له لا تنقص درجته بذلك. والثاني: أنه لا يمنع تعظيمه ومحبته من تبيين مخالفة قوله لأمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - ونصيحة الأمة تبيين أمر الرسول لهم، ونفس ذلك الرجل المحبوب المعظم لو علم أن قوله مخالف لأمر الرسول؛ فإنه لأحب من يبين ذلك للأمة ويرشدهم إِلَى أمر الرسول، ويردهم في قوله في نفسه، وهذه النكتة تخفى عَلَى كثير من الجهال بسبب غلوهم في التقليد. وظنهم أن الرد عَلَى معظم من عالم وصالح تنقص به، وليس كذلك، وبسبب الغفلة عن ذلك تبدل دين أهل الكتاب، فإنهم اتبعوا زلات علمائهم، وأعرضوا عما جاءت به أنبياؤهم، حتى تبدَّلَ دينهم؛ واتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله. فأحلوا لهم الحرام وحرموا عليهم الحلال فأطاعوهم، فكانت تلك عبادتهم إياهم. فكان كلما كان فيهم رئيس كبير

معظم مطاع عند الملوك قبل منه كل ما قال، ويحمل الناس الملوك عَلَى قوله. وليس فيهم من يرد قوله، ولا يبين مخالفته للدين. وهذه الأمة عصمها الله عن الاجتماع عَلَى ضلالة، فلا بد أن يكون فيهم من ييين أمر الله ورسوله، ولو اجتهدت الملوك عَلَى جمع الأمة عَلَى خلافه لم يتم لهم أمرهم. كما جرى مع المأمون والمعتصم والواثق، حيث اجتهدوا عَلَى إظهار القول بخلق القرآن، وقتلوا الناس وضربوهم وحبسوهم عَلَى ذلك، وأجابهم العُلَمَاء تُقْية وخوفًا، فأقام الله إمام المسلمين في وقتهم: أحمد بن حنبل، فرد باطلهم حتى اضمحل أمرهم، وصار الحق هو الظاهر في جميع بلاد الإسلام والسنة، ولم يكن الإمام أحمد يحابي أحدًا في مخالفة أمر الرسول وإن دق. ولو عظم مخالفه في نفوس الخلق. فقد تكلم في بعض أعيان مشايخ العِلْم والدين لمسألة أخطأها، فحمل أمره لا مات لم يصل عليه إلا نحو أربعة أنفس، وكان كلما تكلم في أحد سقط؛ لأنّ كلامه تعظيمِ لأمر الله ورسوله لا لهوى نفسه. ولقد كان بشر الحافي يقول لمن سأله عن مرضه: أحمد الله إليكم، بي كذا وكذا. فنقل ذلك للإمام أحمد، وقالوا: هو يبدأ بالحمد قبل أن يصف مرضه، فَقَالَ أحمد: سلوه عمن أخذ هذا؟ يعني إِن كان هذا لم ينقل عن السلف فلا يقبل منه، فَقَالَ بشر: عندي فيه أثر، ثم روى بإسناده عن بعض السلف قال: "من بدأ بالحمد قبل الشكوى لم تكتب عليه الشكوى" فبلغ ذلك الإمام أحمد فقبل قوله. وقد صح عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "كل عمل ليس عليه أمرنا فهو رد" (¬1) فأمر الله رسوله بالرد عَلَى من خالف أمر الله ورسوله لا يتلقى إلا عمن عرف ما جاء به الرسول وخبره خبرة تامة. قال بعض الأئمة: لا يؤخذ العِلْم إلا عمن عرف بالطلب. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (2697)، ومسلم (1718) من حديث عائشة.

وأمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - نوعان: أمر ظاهر يعمل بالجوارح، كالصلاة والصيام والحج والجهاد ونحو ذلك، وأمر باطن يقوم به القلب، كالإيمان بالله ومعرفته، ومحبته وخشيته، وإجلاله وتعظيمه، والرضا بقضائه والصبر عَلَى بلائه، فهذا كله لا يؤخذ إلا ممن عرف الكتاب والسنة، ومن لم يقرأ القرآن ويكتب الحديث لا نقتدي به في علمنا، فمن تكلم عَلَى شيء من هذا مع جهله بما جاء به الرسول فهو داخل فيمن يفتري عَلَى الله الكذب، وفيمن يقول عَلَى الله ما لا يعلم، فإن كان مع ذلك لا يقبل الحق ممن ينكر عليه باطله لمعرفه ما جاء به الرسول -صلى الله عليه وسلم- بل ينتقص به وقال: أنا وارث حال الرسول، والعلماء وارثون علمه، فقد جمع هذا بين افتراء الكذب عَلَى الله، والتكذيب بالحق لما جاءه {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ} (¬1) فإن هذا متكبر عَلَى الحق والانقياد له، منقاد لهواه وجهله، ضال مضل، وإنما يرث حال الرسول من علم حاله ثم اتبعه، فأما من لا علم له بحاله، فمن أين يكون وارثه؟! ومثل هذا لم يكن ظهر في زمن السلف الصالح حتى يجاهدوا فيه حق الجهاد، وإنما ظهر هذا في زمن قل فيه العِلْم وكثر فيه الجهل، ومع هذا فلا بد أن يقيم الله من يبين للأمة ضلاله، وله نصيب من الذل والصغار بحسب مخالفته لأمر الرسول - صلى الله عليه وسلم -. يا لله! العجب لو ادعى رجل معرفة صناعة من صنائع الدُّنْيَا -ولم يعرفه الناس بها، ولا شاهدوا عنده آلاتها- لكذبوه في دعواه ولم يأمنوه عَلَى أموالهم، ولم يمكنوه من تلك الصناعة، فكيف بمن يدعي معرفة أمر الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وما شوهد قط يكتب علم الرسول، ولا يجالس أهله ولا يدارسه؟! فللَّه العجب، كيف يقبل أهل العقول دعواه ويحكمونه في أديانهم يفسدها بدعواه الكاذبة. ¬

_ (¬1) الزمر: 32.

إن كنت تنوح يا حمام البان ... للبين فأين شاهد الأحزان أجفانك للدموع أم أجفاني ... لا يقبل مدع بلا برهان ومن أعظم ما حصل به الذل من مخالفة أمر الرسول -صلى الله عليه وسلم- ترك ما كان عليه من مجاهدة أعداء الله؛ فمن سلك سبيل الرسول - صلى الله عليه وسلم - في الجهاد عز، ومن ترك الجهاد مع قدرته عليه ذل. وقد سبق حديث: «إِذَا تَبَايَعْتُمْ بِالْعِينَةِ وَتَبَعْتُمْ أَذْنَابَ الْبَقَرِ وَتَرَكْتُمُ الْجِهَادَ فِي سَبِيلِ اللهِ سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ ذُلًّا لَا يَنْزِعُهُ مِنْ رِقَابِكُمْ حَتَّى تَرْجِعُوا إِلَى دِينِكُمْ» (¬1) ورأى النبي -صلى الله عليه وسلم- سكة الحرث فَقَالَ: "ما دخلت دار قوم إلا دخلها الذل" فمن ترك ما كان عليه النبي -صلى الله عليه وسلم- من الجهاد مع قدرته واشتغل عنه بتحصيل الدُّنْيَا من وجوهها المباحة حصل له من الذل، فكيف إذا اشتغل عنه الجهاد بجمع الدُّنْيَا من وجوهها المحرمة؟! قول - صلى الله عليه وسلم -: «وَمَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ» هذا يدل عَلَى أمرين: أحدهما: النهى عن التشبه بأهل الشر مثل أهل الكفر والفسوق والعصيان، وقد وبخ الله من تشبه بهم في شىء من قبائحهم فَقَالَ تعالى: {فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلَاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا} (¬2). وقد نهى النبي -صلى الله عليه وسلم- عن التشبه بالمشركين وأهل الكتاب، فنهى عن الصلاة عند طلوع الشمس وعند غروبها، وعلل بأنه "حينئذ يسجد لها الكفار" فيصير السجود فى ذلك الوقت تشبهًا بهم في الصورة الظاهرة، وقال -صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّ اليَهُودَ وَالنَّصَارَى لاَ يَصْبُغُونَ، فَخَالِفُوهُمْ» (¬3) وفي رواية عنه - صلى الله عليه وسلم -: «غَيِّرُوا ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه. (¬2) التوبة: 69 وذكر في الأصل: {فاستمتعوا بخلاقهم} فقط وأثبتنا بقية الآية وفيها موضع الشاهد. (¬3) البخاري (5899)، ومسلم (2103) من حديث أبي هريرة.

الشَّيْبَ، وَلَا تَشَبَّهُوا بِاليَهُودِ» (¬1) وقال - صلى الله عليه وسلم -: «خَالِفُوا الْمُشْرِكِينَ، وَأَحْفُوا الشَّوَارِبَ» (¬2) وفي رواية: «وَأَرْخُوا اللِّحَى، خَالِفُوا الْمَجُوسَ» " (¬3) وقد أمر - صلى الله عليه وسلم - بالصلاة في النعال مخالفة لأهل الكتاب. وعنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «لَيْسَ مِنَّا مَنْ تَشَبَّهَ بِغَيْرِنَا، لَا تَشَبَّهُوا بِاليَهُودِ وَالنَّصَارَى، فَإِنَّ تَسْلِيمَ اليَهُودِ الإِشَارَةُ بِالكُفِّ» خرجه الترمذي (¬4)، ونهى -صلى الله عليه وسلم- عن التشبه بهم في أعيادهم، وقال عبد الله بن عمر: "من أقام بأرض المشركين يصنع نيروزهم ومهرجانهم، وتشبه بهم حتى يموت حشر يوم القيامة معهم" وقال الإمام أحمد: أكره حلق القفا، هو من فعل المجوس، ومن تشبه بقوم فهو منهم. فالتشبه بالمشركين والمغضوب عليهم والضالين منهي عنه، ولا بد من وقوعه في هذه الأمة كما أخبر به الصادق المصدوق -صلى الله عليه وسلم- حيث قال: «لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ شِبْرًا بِشِبْرٍ، وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ حَتَّى لَوْ دَخَلُوا جُحْرَ ضَبٍّ لَدَخَلْتُمُوهُ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، اليَهُودَ وَالنَّصَارَى؟ قَالَ: «فَمَنْ» (¬5). قال ابن عيينة: كان يقال: من فسد من علمائنا ففيه شبه من اليهود، ومن فسد من عبادنا ففيه شبه من النصارى. ووجه هذا أن الله ذم علماء اليهود بأكل السحت، وأكل الأموال بالباطل والصد عن سبيل الله، وبقتل النبيين بغير الحق، وبقتل الذين يأمرون بالقسط من الناس، وبالتكبر عن الحق وتركه عمدًا خوفًا من زوال المأكل والرياسات، وبالحسد وبقسوة القلب، وبكتمان الحق، وتلبيس الحق بالباطل، وكل هذه ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد (1/ 165)، والنسائي (8/ 137) من حديث الزبير بن العوام. وأخرجه النسائي (8/ 137) من حديث ابن عمر. وأخرجه الترمذي (1752) من حديث أبي هريرة. (¬2) أخرجه البخاري (5892)، ومسلم (259) من حديث ابن عمر. (¬3) أخرجه مسلم (260)، وأحمد (2/ 365، 366). (¬4) برقم (2695). (¬5) أخرجه أحمد (2/ 450، 327)، وابن ماجه (3994) من حديث أبي هريرة.

الخصال توجد في علماء السوء من أهل البدع ونحوهم. ولهذا شبهت الرافضة اليهود في نحو من سبعين خصلة. وأما النصارى فذمهم الله بالجهل والضلال، وبالغلو في الدين بغير الحق، ورفع المخلوق في درجة لا يستحقها، حتى تدعى فيه الألهية. وإتباع الكبراء في التحليل والتحريم. وكل هذا يوجد في جهال المنتسبين إِلَى العبادة من هذه الأمة. فمنهم من تعبد بالجهل بغير علم؛ بل يذم العِلْم وأهله، ومنهم من يغلو في بعض الشيوخ فيدعي فيه الحلول، ومنهم يدعي الحلول المطلق والاتحاد، ومنهم من يغلو فيمن يعتقده من الشيوخ كما تغلو النصارى في رهبانهم وتعتقد أن لهم أن يغلو في الدين ما شاءوا، وأن من رضي عنه غفر له، ولا يبالي بما عَمِلَ من عَمِلَ، وأن محبتهم لا يضر معها ذنب. وقد كان الشيوخ العارفون ينهون عن صحبة الأشرار، وأن ينقطع إِلَى الله بصحبة الأخيار، فمن صحب الأخيار بمجرد التعظيم لهم والغلو فيهم زائدٌ عن الحد وأعلق قلبه بهم؛ فقد انقطع عن الله بهم، وإنما المراد من صحبة الأخيار أن يوصلوا من صحبهم إِلَى الله ويسلكوا طريقه ويعلموه دينه. وقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يحث أهله وأصحابه عَلَى التمسك بالطاعة ويقول: «اشْتَرُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ اللَّهِ لَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا» (¬1) وقال: [لأهله]: "إِنَّ أَوْلِيَائِي مِنْكُمُ الْمُتَّقُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، لَا يَأْتِيَ النَّاسُ بِالْأَعْمَالِ وَتَأْتُونَ بِالدُّنْيَا تَحْمِلُونَهَا عَلَى رِقَابِكُمْ فتقولون: يَا مُحَمَّدُ؟ فَأَقُولُ: قَدْ بلَّغْتُ» (¬2) ولما سأله ربيعة الأسلمي مرافقته في الجنة قال له: «أَعِنِّي عَلَى نَفْسِكَ بِكَثْرَةِ السُّجُودِ» (¬3). فإنما يراد من صحبة الأخيار صلاح الأعمال والأحوال والاقتداء بهم في ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (2753)، ومسلم (206). (¬2) البخاري في "الأدب المفرد" (ص 31). (¬3) أخرجه أحمد (4/ 59).

ذلك، والانتقال من الغفلة إِلَى اليقظة، ومن البطالة إِلَى العمل، ومن التخليط إِلَى التكسب [ومن] (¬1) القول والفعل إِلَى الورع، ومعرفة عيوب النفس وآفاتها واحتقارها، فأما من صحبهم وافتخر بصحبتهم وادعى بذلك الدعاوى العريضة وهو مصر عَلَى غفلته وكسله وبطالته، فهو منقطع عن الله من حيث ظن الوصول إِلَيْهِ، كذلك المبالغة في تعظيمِ الشيوخ وتنزيلهم منزلة الأنبياء هو مما نهي عنه. وقد كان عمر وغيره من الصحابة والتابعين -رضي الله عنهم- يكرهون أن يطلب منهم الدعاء ويَقُولُونَ: "أنبياء نحن؟! " فدل عَلَى أن هذه المنزلة لا تنبغي إلا للأنبياء -عليهم السلام- وكذلك التبرك بالآثار ولما كان يفعله الصحابة مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يكونوا يفعلونه مع بعضهم بعضًا، ولا يفعله التابعون مع الصحابة مع علو قدرهم. فدل عَلَى أن هذا لا يفعله يترقى إِلَى نوع من الشرك، كل هذا إِنَّمَا جاء من التشبه بأهل الكتاب والمشركين الَّذِي نُهِيَتْ عنه هذه الأمة إلا مع النبي -صلى الله عليه وسلم- مثل التبرك بوضوئه (¬2) وفضلاته -صلى الله عليه وسلم- وشعره وشرب فضل شرابه وطعامه. وفي الجملة هذه الأشياء فتنة للمعظِّم والمعظَّم لما يخشى عليه من الغلو المدخل في البدعة. وربما يترقى إِلَى نوع من الشرك كل هذا إِنَّمَا جاء من التشبه بأهل الكتاب والمشركين الَّذِي نهيت هذه الأمة عنه. وفي الحديث الَّذِي في "السنن": «إِنَّ مِنْ إِجْلَالِ اللَّهِ إِكْرَامَ ذِي الشَّيْبَةِ، السُّلْطَانِ الْمُقْسِطِ، وَحَامِلِ الْقُرْآنِ غَيْرِ الْغَالِي فِيهِ وَالْجَافِي عَنْهُ» (¬3) فالغلو من صفات النصارى، والجفاء من صفات اليهود، والقسط هو المأمور به. ¬

_ (¬1) ليست بالأصل، وأثبتها لمناسبة السياق. (¬2) في "الأصل": بوطئه، والمثبت أنسب للسياق. (¬3) أخرجه أبو داود (4843).

وقد كان السلف الصالح ينهون عن تعظيمهم غاية النهي كمالك والثوري وأحمد. وكان أحمد يقول: من أنا حتى تجيئون إِلَى؟ اذهبوا اكتبوا الحديث، وكان يقول: إذا سئل عن شيء، يقول: سلوا العُلَمَاء. وإذا سئل عن شيء من الورع يقول: أنا لا يحل لي أن أتكلم في الورع، لو كان بشر حيًّا تكلم في هذا. وسئل مرة عن الإخلاص، فَقَالَ: اذهبوا إِلَى الزهاد، وأي شيء نحن حتى تجيء إلينا؟ وجاء إِلَيْهِ رجل فمسح يده عَلَى ثيابه ومسح بهما وجهه، فغضب الإمام أحمد، وأنكر ذلك أشد الإنكار، وقال: عمن أخذتم هذا الأمر؟! الثاني: التشبه بأهل الخير والتقوى والإيمان والطاعة، فهذا حسن مندوب إِلَيْهِ، ولهذا يشرع الاقتداء بالنبي -صلى الله عليه وسلم- في أقواله وأفعاله وحركاته وسكناته وآدابه وأخلاقه. وذلك مقتضى المحبة الصحيحة، فإن المرء مع من أَحَبّ، ولابد من مشاركته في أصل عمله وإن قصر عن درجته. قال الحسن: لا تغتر بقولك: المرء مع من أَحَبّ، إنه من أَحَبّ قومًا اتبع آثارهم، ولن تلحق بالأبرار حتى تتبع آثارهم، وتأخذ بهديهم، وتقتدي بسنتهم، وتصبح وتمسي وأنت عَلَى منهاجهم، حريصًا أن تكون منهم، وتسلك سبيلهم، وتأخذ طريقهم، وإن كنت مقصرًا في العمل؛ فإن مَلاكَ الأمرِ أن تكون عَلَى استقامة، أما رأيت اليهود والنصارى وأهل الأهواء المردية يحبون أنبياءهم ليسوا معهم؛ لأنهم خالفوهم في القول والعمل، وسلكوا غير طريقتهم فصار مأواهم النار؟ نعوذ بالله من النار. كان يونس بن عبيد ينشد: فَإِنَّكَ مَنْ يُعْجِبْكَ لا تَكُ مِثْلَهُ ... إِذَا أَنْتَ لَمْ تَصْنَعْ كَمَا كَانَ يَصْنَعُ

وجاء في الحديث: «ابْكُوا، فَإِنْ لَمْ تَبْكُوا فَتَبَاكَوْا» (¬1). فمن أَحَبّ أهل الخير وتشبه بهم جهده؛ فإنه يلحق بهم كما في الحديث المشهور: "مَنْ حَفِظَ أَرْبَعِينَ حَدِيثا حشر يَوْم الْقِيَامَة فِي زمرة الْعُلَمَاء" (¬2) ومن أَحَبّ أهل الطاعة والذكر -عَلَى وجه السنة- وجالسهم فإنه يغفر له معهم وإن لم يكن منهم «فإِنَّهُمْ الْقَوْمُ لَا يَشْقَى بِهِمْ جَلِيسُهُمْ». فأما التشبه بأهل الخير في الظاهر، والباطن لا يشبههم فهو بعيد منهم، وإنما القصد بالتشبه أن يقال عن المتشبه بهم أنه منهم وليس منهم، فهذه خصال النفاق، كما قال بعض السلف: استعيذوا بالله من خشوع النفاق أن يرى الجسد خاشعًا، والقلب ليس بخاشع. كان السلف يجتهدون في أعمال الخير ويعدون أنفسهم من المقصرين المفرطين المذنبين، ونحن مع إساءتنا نعد أنفسنا من المحسنين! كان مالك بن دينار يقول: إذا ذكر الصالحون: "أف لي وتف" وقال أيوب: "إذا ذكر الصالحون كنت عنهم بمعزل". وقال يونس بن عبيد: "أعد مائة خصلة من خصال الخير ليس فيَّ منها واحدة". وقال محمد بن واسع: "لو أن للذنوب رائحة لم يستطع أحد أن يجلس إليَّ". يا من إذا تشبه بالصالحين فهو عنهم متباعد، وإذا تشبه بالمذنبين فحاله وحالهم واحد، يا من يسمع ما تلين به الجوامد وطرفه جامد، وقلبه أقسى من الجلامد، يا من برد قلبه عن التقوى، كيف ينفع الضرب في حديد بارد؟ ¬

_ (¬1) أخرجه ابن ماجه (4196) من حديث سعد بن أبي وقاص. (¬2) أخرجه ابن عدي في "الكامل" (5/ 150)، (6/ 222)، (7/ 66) من حديث أبي هريرة.

يا نفس أنى تؤفكينَا ... حتى متى لا ترعوينَا حتى متى لا تعقلينا ... وتبصرين وتسمعينا يا نفس إن لم تصلحي ... فتشبهي بالصالحينا آخره ولله الحمد، والمنة، وصلى الله عَلَى سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا. ***

8 - ذم قسوة القلب

ذم قسوة القلب

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قال الإمام العلامة الحافظ زين الدين ابن الشيخ أبو العباس أحمد بن رجب - فسح الله في مدته ونفع به: الْحَمْدُ لِلَّهِ رسالةٌ في ذمِّ قسوة القلب وذكر أسبابها وما تَئول به. أمَّا ذمُّ القسوة، فَقَالَ تعالى: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} (¬1). ثم بَيَّن وجه كونها أشدّ قسوة، بقوله: {وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} (1). وقال تعالى: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ} (¬2). وقال تعالى: {فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} (¬3) فوصف أهل الكتاب بالقسوة، ونهانا عن التشبه بهم. قال بعضُ السلف: لا يكون أشدّ قسوة من صاحب الكتاب إذا قسا. وفي "الترمذي" (¬4)، من حديث ابن عمر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لَا تُكْثِرُوا الْكَلَامَ بِغَيْرِ ذِكْرِ اللَّهِ، فَإِنَّ كَثْرَةَ الْكَلَامِ بِغَيْرِ ذِكْرِ اللَّهِ قَسْوَةٌ لِلْقَلْبَ، وَإِنَّ أَبْعَدَ النَّاسِ عَنِ اللَّهِ الْقَلْبُ الْقَاسِي» (4). ¬

_ (¬1) البقرة: 74. (¬2) الحديد: 16. (¬3) الزمر: 22. (¬4) برقم (2411) من طريق إبراهيم بن عبد الله بن حاطب عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر ... فذكره.=

وفي "مسند البزَّار" (¬1)، عن أنس، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "أَرْبَعَةٌ مِنَ الشَّقَاءِ: جُمُودُ الْعَيْنِ، وَقَسَاوَةُ الْقَلْبِ، وَطُولُ الأَمَلِ، وَالْحِرْصُ عَلَى الدُّنْيَا". وذكره ابن الجوزي في "الموضوعات" (¬2)، من طريق أبي داود النخعي الكذَّاب، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، عن أنس. وقال مالك بن دينار: ما ضُرب عبد بعقوبة أعظم من قسوة القلب. ذكره عبدُ الله بن أحمد في "الزهد" (¬3). وقال حُذيفة المرعشي: ما أصيب أحدٌ بمصيبة أعظم من قساوة قلبه. رواه أبو نُعيم (¬4). ¬

_ =قال أبو عيسى: هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث إبراهيم بن عبد الله بن حاطب. وفي "تحفة الأشراف" (5/ 445): غريب. ونقل ابن كثير في "تفسيره" قول الترمذي (غريب). قال الذهبي في "ميزان الاعتدال" (1/ 161) في ترجمة إبراهيم بن عبد الله بن حاطب: ومن غرائبه حديثه عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر مرفوعًا ثم ذكر هذا الحديث، ثم قال: قال الترمذي: حسن غريب. (¬1) أخرجه البزار كما فى "كشف الأستار" (3230) من طريق هانئ بن المتوكل ثنا عبد الله بن سليمان وأبان عن أنس به. وقال البزار: عبد الله بن سليمان حدث بأحاديث، لم يتابع عليه، وقال الهيثمي في "المجمع" (10/ 226) رواه البزار وفيه هانئ بن المتوكل وهو ضعيف. وقال الذهبي في "الميزان" (4/ 291): هذا حديث منكر. ورواه ابن عدي في "الكامل" (3/ 248) من طريق سليمان بن عمرو بن وهب عن إسحاق ابن عبد الله بن أبي طلحة عن أنس. وقال ابن عدي عَلَى هذا الحديث وغيره: وهذان الحديثان وضعهما سليمان بن عمرو عَلَى إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة. وأخرجه أبو نعيم في "الحلية" (6/ 175) من طريق حجاج بن منهال عن صالح المري عن يزيد الرقاشي عن أنس به. وقال: تفرد برفعه متصلاً عن صالح حجاج. (¬2) "الموضوعات" (3/ 125). (¬3) "الزهد" (320). (¬4) في "الحلية" (8/ 269).

وأمَّا أسبابُ القسوة فكثيرة: منها: كثرةُ الكلام بغير ذكر الله؛ كما في حديث ابن عمر السابق. ومنها: نقض العهد مع الله تعالى - قال تعالى: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً} (¬1). قال ابنُ عقيل يومًا في وعظه: يا من يجد من قلبه قسوة، احذر أنْ تكون نقضت عهدًا؛ فإنَّ الله يقول: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ} الآية (1). ومنها: كثرةُ الضَّحك؛ ففي الترمذي (¬2)، عن الحسن، عن أبي هريرة، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «لاً تُكْثِرُوا الضَّحِكَ، فَإِنَّ كَثْرَةَ الضَّحِكِ تُمِيتُ الْقَلْبَ» وقال: روي عن الحسن قوله. وخرج ابنُ ماجه (¬3)، من طريق أبي رجاء الجَزَري، عن برد بن سِنان، عن مكحول، عن واثلة بن الأسقع، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «كَثْرَةَ الضَّحِكِ تُمِيتُ الْقَلْبَ». ¬

_ (¬1) المائدة: 13. (¬2) أخرجه الترمذي برقم [2305]، وأحمد في "مسنده" (2/ 310)، وأبو يعلى في "مسنده" برقم [6240]، والطبراني في "الأوسط" برقم [7054]، والبيهقي في "الشعب" برقم [9543]، [11128]، وأبو نعيم في "الحلية" (6/ 295) كلهم من طريق جعفر بن سليمان عن أبي طارق عن الحسن به مطولاً. قال أبو عيسى: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث جعفر بن سلمان، والحسن لم يسمع من أبي هريرة شيئًا، هكذا رُوِي عن أيوب ويونس بن عبيد وعلي بن زيد، قالوا: لم يسمع الحسن من أبي هريرة، وروى أبو عبيدة الناجي عن الحسن هذا الحديث قوله، ولم يذكر فيه عن أبي هريرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم-. وقال أبو نعيم في "الحلية" (6/ 295): غريب من حديث الحسن، تفرد به جعفر عن أبي طارق. وقال العجلوني في "كشف الخفا" (1/ 44): رواه أحمد والترمذي بسند ضعيف. (¬3) برقم (4217) من طريق مكحول عن واثلة به مطولاً. وذكر الدارقطني في "العلل" (7/ 263 - 265) برقم [1339] الاختلاف في هذا الحديث، ثم قال: والحديث غير ثابت.

ومن طريق إبراهيم بن عبد الله بن حنين، عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬1). ومنها: كثرةُ الأكل، ولا سيما إِنْ كان من الشُّبهات أو الحرام؛ قال بشر ابن الحارث: خصلتان تُقسِّيان القلب، كثرةُ الكلام وكثرة الأكل. ذكره أبو نُعيم (¬2). وذكر المروذي في كتاب الورع، قال: قلتُ لأبي عبد الله -يعني أحمد بن حنبل-: يجد الرجلُ من قَلبه رقَّة وهو شبع؟ قال: ما أرى. ومنها: كثرةُ الذنوب؟ قال تعالى: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} (¬3). وفي "المسند"، والترمذي، عن أبي هريرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إِنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا أَذْنَبَ كَانَتْ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ فِي قَلْبِهِ، فَإِنْ تَابَ وَنَزَعَ وَاسْتَغْفَرَ صُقِلَ قَلْبُهُ، وَإِنْ زَادَ زَادَتْ حَتَّى يَعْلُوَ قَلْبَهُ، فَذَلِكَ الرَّانُ الَّذِي ذَكَرَ اللهُ فِي كِتَابِهِ: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} (3) "وقال الترمذي: صحيح (¬4). قال بعضُ السلف: البدن إذا عري رقَّ، وكذلك القلب إذا قلت خطاياه أسرعت دمعتهُ. ¬

_ (¬1) أخرجه ابن ماجه (4193). (¬2) "الحلية" (8/ 350). (¬3) المطففين: 14. (¬4) رواه أحمد (2/ 297)، والترمذى برقم [3334]، والنسائي في "الكبرى" (6/ 110)، وابن ماجه برقم [4244]، والطبري في "تفسيره" (1/ 112)، (30/ 98)، الحاكم (2/ 562)، والبيهقي في "السنن الكبير" (10/ 88)، وفي "الشعب" برقم [7203] من طرق عن ابن عجلان عن القعقاع بن حكيم عن أبي صالح عن أبي هريرة ... فذكره. قال الترمذي: حسن صحيح. وقال الحاكم: صحيح عَلَى شرط مسلم ولم يخرجاه.

وفي هذا المعنى يقول ابن المبارك -رحمه الله-: رَأَيْتُ الذُّنُوبَ تُمِيتُ الْقُلُوبَ ... وَيُتْبِعُهَا الذُّلَّ إِدْمَانُهَا وَتَرْكُ الذُّنُوبِ حَيَاةُ الْقُلُوبِ ... وَالْخَيْرُ لِلنَّفْسِ عِصْيَانهَا وأمَّا مزيلاتُ القسوة، فمتعددة أيضاً: فمنها: كثرةُ ذكر الله الَّذِي يتواطأ عليه القلب واللسان؛ قال المعلَّى بن زياد: إِنَّ رجلاً قال للحسن: يا أبا سعيد، أشكو إليك قسوه قلبي، قال: أدنه من الذكر. وقال وهب بن الورد: نظرنا في هذا الحديث، فلم نجد شيئًا أرق لهذه القلوب ولا أشد استجلابًا للحق من قراءة القرآن لمن تدبره. وقال يحيى بن مُعاذ، وإبراهيم الخواص: دواءُ القلب خمسة أشياء: قراءة القرآن بالتفكر، وخلاء البطن، وقيام الليل، والتضرَّع عند السحر، ومجالسة الصالحين. والأصل في إزالة قسوة القلوب بالذكر قوله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} (¬1). وقوله تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} (¬2)، وقال تعالى: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ} (¬3). ¬

_ (¬1) الرعد: 28. (¬2) الزمر: 23. (¬3) الحديد: 16.

وفي حديث عبد العزيز بن أبي روَّاد مُرسلاً، عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ هذه القلوب لتصدأ كما يصدأ الحديد. قيل: فما جلاؤها يا رسول الله؟ قال: تلاوةُ كتاب الله وكثرة ذكره" (¬1). ومنها: الإحسانُ إِلَى اليتامى والمساكين؛ روى ابن أبي الدنيا: ثنا علي بن الجعد، حدثني حماد بن سلمة، عن أبي عمران الجوني، عن أبي هريرة": "أَنَّ رَجُلًا، شَكَا إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَسْوَةَ قَلْبِهِ، فَقَالَ: "إِنْ أَحْبَبْتَ أَنْ يَلِينَ قَلْبُكَ فَامْسَحْ رَأْسَ الْيَتِيمِ وَأَطْعِمِ الْمِسْكِينَ". إسناده جيد (¬2). وكذا رواه ابنُ مهدي عن حمَّاد بن سلمة، ورواه جعفر بن مُسافر: ثنا مُؤمَّل، نا حماد، عن أبي عمران، عن عبد الله بن الصامت، عن أبي ذر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وهذا كأنَّه غيرُ محفوظ عن حمَّاد. ¬

_ (¬1) أخرجه ابن عدي في "الكامل" (1/ 259)، (5/ 283)، وأبو نعيم في "الحلية" (8/ 197)، والبيهقي في "الشعب" برقم [2014]، والخطب في "تاريخه" (11/ 85)، والقضاعي في "مسند الشهاب" برقم [178، 1179]، وابن الجوزي في "العلل المتناهية" (2/ 832) من طريق عبد العزيز بن أبي رواد عن نافع عن ابن عمر مرفوعًا. قال ابن عدي عن الواسطي: ولم أر للمتقدمين فيه كلامًا، وإنما ذكرته لأحاديث رواها مناكير عن قوم ثقات. ونقل الخطيب قول الدارقطني: الغسانى متروك يكذب، ونقله كذلك ابن الجوزي في "العلل"، والذهبي في "الميزان". وقال أبو نعيم: غريب من حديث نافع وعبد العزيز، تفرد به أبو هشام واسمه عبد الرحيم بن هارون الواسطي. وقال ابن الجوزي: هذا حديث مشهور بعبد العزيز، معروف برواية عبد الرحيم بن هارون الغساني عنه، وقد سرقه منه إبراهيم. فأما عبد العزيز، فَقَالَ ابن حبان: كان يحدث عَلَى التوهم والنسيان، فسقط الاحتجاج به، وأما عبد الرحيم، فَقَالَ الدارقطني: متروك الحديث. وأما إبراهيم بن عدي كان يحدث بالمناكير. قال: وعندي أنه يسرق الحديث. وقال الذهبي في "الميزان" عن الواسطي: وله عن عبد العزيز بن أبي رواد عن نافع عن ابن عمر مرفوعًا إِنَّ هذه القلوب ..... رواه حفص بن غياث عن عبد العزيز قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فذكره منقطعًا. (¬2) وأخرجه أحمد (2/ 263).

ورواه الجوزجاني: ثنا محمد بن عبد الله الرّقاشي، ثنا جعفر، ثنا أبو عمران الجوني مُرسلاً (¬1)، وهو أشبه، وجعفر أحفظ لحديث أبي عمران من حمَّاد بن سلمة. وروى أبو نعيم (¬2)، من طريق عبد الرزاق، عن معمر (¬3)، عن صاحب له: أنَّ أبا الدرداء كتب إِلَى سلمان: "ارْحَمِ الْيَتِيمَ وَأَدنِهِ مِنْكَ، وَأَطْعِمْهُ مِنْ طَعَامِكَ؛ فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَتَاهُ رَجُلٌ يَشْتَكِي قَسَاوَةَ قَلْبِهِ، فَقَالَ: «أَتُحِبُّ أَنْ يَلِينَ قَلْبُكَ؟ فَقَالَ لَهُ: نَعَمْ. فَقَالَ: «أَدْنِ الْيَتِيمَ مِنْكَ، وَامْسَحْ رَأْسِهِ، وَأَطْعِمْهُ مِنْ طَعَامِكَ، فَإِنَّ ذَلِكَ يُلَيِّنُ قَلْبَكَ وَتَقْدِرُ عَلَى حَاجَتِكَ». قال أبو نُعيم: ورواه ابن جابر والمُطعم بن المقدام، عن محمَّد بن واسع أنَّ "أبا الدرداء كتب إِلَى سلمان .... " مثله. ونقل أبو طالب أنَّ رجلاً سأل أبا عبد الله -يعني أحمد بن حنبل- فَقَالَ له: كيف يرقُّ قلبي؟ قال: ادخل المقبرة، وامسح رأس اليتيم. ومنها: كثرةُ ذكر الموت؛ ذكر ابنُ أبي الدُّنْيَا بإسناده، عن منصور بن عبد الرحمن، عن صفية "أنَّ امرأة أتت عائشة لتشكو إليها القسوة. فقالت: أكثري ذكر الموت، يرق قلبك وتقدرين عَلَى حاجتك. قالت: ففعلت، فآنست من قلبها رشدًا، فجاءت تشكر لعائشة -رضي الله عنها-". وكان غيرُ واحد من السلف، منهم سعيد بن جُبير، وربيع بن أبي راشد يَقُولُونَ: لو فارق ذكرُ الموت قلوبنا ساعة لفسدت قلوبُنا. ¬

_ (¬1) في الأصل: "مرسل". (¬2) "الحلية" (1/ 214) بهذا الإسناد مطولاً وقال: رواه ابن جابر والمطعم بن المقدام عن محمد بن واسع أن أبا الدرداء كتب إِلَى سلمان مثله. قلت: ورواية محمد بن واسع عند البيهقي فى "الشعب" برقم [10657]. (¬3) "الجامع" لمعمر بن راشد (11/ 97 مع المصنف) برقم [20029].

وفي "السُّنن" (¬1) عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: «أَكْثِرُوا ذِكْرَ هَاذِمِ اللَّذَّاتِ» الموت. وروي مُرسلاً عن عطاء الخراساني قال: "مر رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بمجلس قد استعلاه الضحك فَقَالَ: شُوبوا مجلسكم بذكر مكدّر اللذات. قالوا: وما مُكدر اللذات يا رسول الله؟ قال: الموت". ومنها: زيارةُ القبور بالتفكر في حال أهلها ومصيرهم؛ وقد سبق قولُ أحمد للذي سأله ما يُرقُّ قلبي؟ قال: ادخل المقبرة. وقد ثبت في "صحيح مسلم" (¬2)، عن أبي هريرة"، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وقال: «زُورُوا الْقُبُورَ؛ فَإِنَّهَا تُذَكِّرُ المَوْت». وعن بُريدة، أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ فَزُورُوهَا؛ فَإِنَّهَا تُذَكِّرُ الْآخِرَةَ» رواه أحمد (¬3)، والترمذي وصححه. وعن أنس، أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "كُنْتُ قَّدْ نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ، ثُمَّ قَّدْ بَدَا لِي [أَنَّهَا] (*) تُرِقُّ الْقَلْبَ وَتُدْمِعُ الْعَيْنَ وَتُذَكِّرُ الْآخِرَةَ، فَزُورُوهَا وَلاً تَقُولُوا هُجْرًا" رواه الإمام أحمد (¬4)، وابن أبي الدُّنْيَا. وذكر ابنُ أبي الدُّنْيَا، عن محمد بن صالح التمار قال: كان صفوانُ بن سليم يأتي البقيع في الأيام فيمر بى، فاتبعته ذات يوم. وقلت: والله لأنظرنَّ ما يصنع. قال: فقنَّع رأسه وجلس إِلَى قبر منها، فلم يزل يبكي حتى رحمته. قال: ظننتُ أنه قبر بعض أهله. قال: فمر بي مرة أخرى، فاتبعته [فقعد] (**) ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد (2/ 292)، والترمذي (2307)، والنسائي (4/ 4)، وابن ماجه (4258). (¬2) برقم (976). (¬3) أخرجه أحمد (5/ 356، 359، 361)، ومسلم (672)، (3/ 564، 1585)، والترمذي (1054، 1510، 1869). (*) في الأصل: أنه. والمثبت من "المسند". (¬4) (3/ 237، 250). (**) في الأصل: "فقعدت".

إِلَى جنب قبر غيره. ففعل مثل ذلك فذكرتُ ذلك لمحمد بن المنكدر، وقلتُ: إِنَّمَا ظننتُ أنه قبر بعض أهله. فَقَالَ محمد: كلهم أهله وإخوانه، إِنَّمَا هو رجل يحرك قلبه بذكر الأموات، كلّما عرضت له قسوةٌ. قال: ثم جعل محمد بن المنكدر بعد يمرّ بي فيأتي البقيع، فسلَّمت عليه ذات يوم، فَقَالَ: ما نفعتك موعظة صفوان. قال: فظنت أنه انتفع بما ألقيتُ إِلَيْهِ منها. وذكر أيضاً أنَّ عجوزًا مُتَعبِّدة من عبد القيس كانت تُكثر إتيان القبور، فعُوتبت في ذلك. فقالت: إِنَّ القلب القاسي إذا جفا لم يليِّنه إلاَّ رسوم البلى، وإنِّي لآتي القبور وكأني أنظر إليهم وقد خرجوا من بين أطباقها، وكأني أنظر إِلَى تلك الوجوه المتعفِّرة، وإلى تلك الأجسام المتغيِّرة، وإلى تلك الأكفان الدنسة. فيا له منظر لم أَسرّ به (¬1) قلوبهم، ما أنكل (¬2) مرارة الأنفس وأشد تلفة الأبدان. وقال زياد النميري: ما اشتقت إِلَى البكاء إلاَّ مررت عليه. قال له رجل: وكيف ذلك؟ قال: إذا أردتُ ذلك خرجت إِلَى المقابر فجلست إِلَى بعض تلك القبور، ثم فكَّرتُ فيما صاروا إِلَيْهِ من البلى، وذكرت ما نحن فيه من المُهلة. قال: فعند ذلك تختفي أطوَاري! وقلتُ والله الموفَّق: أفي دار الخراب تظل تبني ... وتعمر ما لعمران خُلقتا وما تركت لك الأيامُ عذرًا ... لقد وعظتك لكن ما اتعظتا تُنادي للرحيل بكل حين ... وتُعلن إنَّمَا المقصودُ أنتا وتُسمعك النداءَ وأنت لاهٍ ... عن الداعي كأنَّك ما سمعتا وتعلم أنَّه سفرٌ بعيد ... وعن إعداد زادٍ قد غفلتا ¬

_ (¬1) بياض بقدر كلمة. (¬2) في الأصل: "نكل".

تنام وطالب الأيام ساعٍ ... وراءك لا ينام فكيف نمتا معائب هذه الدُّنْيَا كثير ... وأنت عَلَى محبَّتها طُبعتا يضيع العمرُ في لعبِ ولهو ... ولو أُعطيت عقلاً ما لعبتا فما بعد الممات سوى جحيمٍ ... لعاص أو نعيم إِنْ أطعتا ولست بآمل باطلٍ ردًّا لدنيا ... فتعملُ صالحًا فِيما تركتا وأوَّلُ من ألوم اليوم نفسي ... فقد فعلتْ نظائرَ ما فعلتا أيا نفسي أخوضًا في المعاصي ... وبعد الأربعين وفيت ستّا وأرجو أن يطول العمرُ حتى ... أرى زاد الرحيل وقد تأتَّى أيا غُصن الشباب تميل زهوًا ... كأنك قد مضى زمن وشبتا علمتَ فدع سبيلَ الجهل واحذر ... وصيحة قد علمتَ وما عملتا ويا من يجمع الأموال قل لي ... أيمنعك الزدى ما قد جمعتا ويا من يبتغي أمرًا مطاعًا ... ليسمع [نافذًا] (¬1) مَن قد أمرتا عججت إِلَى الولاية لا تُبالي ... أجرت عَلَى البرية أم عدلتا ألا تدري بأنك يوم صارت ... إليك بغير سكين ذُبحتا وليس يقوم فرحةُ قد تولَّى ... بترحة يوم تسمع قد عُزلتا ولا تمهل فإن الوقت سيف ... فإنْ لم تغتنمه فقد أضعتا ترى الأيام تُبلي كل غُصن ... وتطوي مِن سرورك ما نشرتا وتعلم إنَّما الدُّنْيَا منام ... فأحلى ما تكون به انتبهتا فكيف تصدّ عن تحصيل باق ... وبالفاني وزخرفه شُغلتا هي الدُّنْيَا إذا سرتك يومًا ... تسوءك ضعف ما فيها سررتا تغرّك كالسراب فأنت تسري ... إليه وليس تشعر (¬2) قد غررتا واشهد كم أبادت من حبيب ... كأنك آمن مما شهدتا وتدفنهم وترجع ذا سُرور ... بما قد نلت من إرث وحرثا ¬

_ (¬1) في الأصل: "نافذ". (¬2) زاد في الأصل: "أن".

وتنساهم وأنت غدًا ستفنى ... كأنك ما خلقت ولا وجدتا تُحدِّث عنهم وتقول كانوا ... نعم كانوا كما والله كنتا حديثك هم وأنت غدًا حديث ... لغيرهم فأحسن ما استطعتا يعود المرء بعد الموت ذكرًا ... فكن حسن الحديث إذا ذكرتا سل الأيام عن عم وخال ... ومالك والسؤال وقد علمتا ألست ترى ديارهم خلاء ... فقد أنكرت منها ما عرفتا ومنها: النظرُ في ديار الهالكين، والاعتبار بمنازل الغابرين. روى ابنُ أبي الدُّنْيَا في كتاب "التفكر والاعتبار"، بإسناده عن عُمر بن سليم الباهلي، عن أبي الوليد، أنَّه قال: كان ابن عمر إذا أراد أنْ يتعاهد قلبَه يأتي الخربة فيقف عَلَى بابها، فيُنادي بصوت حزين، فيقول: أَين أهلك؟ ثم يرجع إِلَى نفسه، فيقول: كل شيء هالكٌ إلاَّ وجهه". وروى في كتاب "القبور" بإسناده، عن محمَّد بن قُدامة قال: كان الرَّبيعُ ابن خُثيم إذا وجد من قلبه قسوةً يأتي منزل صديق له قد مات في الليل فيُنادي: يا فُلان ابن فلان، يا فلان ابن فلان. ثم يقول: ليت شِعري، ما فعلتَ وما فُعل بك؟ ثم يبكي حتى تسيل دموعه، فيعرف ذاك فيه إِلَى مثلها. ومنها: أكلُ الحلال؛ روى أبو نُعيم وغيرهُ، من طريق عُمر بن صالح الطرسوسي، قال: ذهبتُ أنا ويحيى الجلاء -وكان يقال إنّه من الأبدال- إِلَى أبي عبد الله أحمد بن حنبل فسألتُه، وكان إِلَى جنبه بوران وزُهير الجمال، فقلت: رحمك الله يا أبا عبد الله، بم تلين القلوبُ؟ فنظر إِلَى أصحابه فغمزهم بعينه، ثم أطرق ثم رفع رأسه، فَقَالَ: يا بني بأكل الحلال. فمررتُ كما أنا إِلَى أبي نصر بشر بن الحارث، فقلتُ له يا أبا نصر، بم تلين القلوب؛ فَقَالَ: ألا

بذكر الله تطمئن القلوب. قلت: فإني جئتُ من عند أبي عبد الله قال: هيه. أي شي قال لك أبو عبد الله؟ قلت: قال: بأكل الحلال. فَقَالَ: جاء بالأصل، جاء بالأصل. فمررتُ إِلَى عبد الوهاب الوراق، فقلتُ: يا أبا الحسن بم تلين القلوب؟ فَقَالَ: ألا بذكر الله تطمئن القلوب. قلت: [فإني جئتُ من عند] (¬1) أبي عبد الله. فاحمرت وجنتاه من الفرح. فَقَالَ لي: أي شيءٍ قال أبو عبد الله؟ قلتُ: بأكل الحلال. فَقَالَ: جاءك بالجوهر، جاءك بالجوهر، الأصل كمال الأصل. قال بعضهم عنه: لقد حكيت ولكن فاتك الأنسب. والحمد لله وحده. ... ¬

_ (¬1) في الأصل: "فبأي شيء جئت من".

9 - ذم الخمر

ذم الخمر

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قال زين الدين ابن رجب -رحمه الله-: خرّج الدّارقطني (¬1) بإسناد ضعيف من حديث ابن عباس مرفوعًا: «الْخَمْرُ أُمُّ الْخَبَائِثِ وَأَكْبَرُ الْكَبَائِرِ، مَنْ شَرِبَهَا وَقَعَ عَلَى أُمِّهِ وَعَمَّتِهِ وَخَالَتِهِ». قال عثمان: وروي مرفوعًا والصحيح وقفه قال: "اجْتَنِبُوا الْخَمْرَ أُمُّ الْخَبَائِثِ، فَإِنَّهُ كَانَ رَجُلٌ مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، كَانَ يَتَعَبَّدَ وَيَعْتَزِلُ النَّاسَ، فَعَلِقَتْهُ امْرَأَةٌ غَاوِيَةٌ، فَأَرْسَلَتْ إِلَيْهِ خَادِمَتَهَا، فَقَالَتْ: إِنَّهَا تَدْعُوكَ لِشَهَادَةٍ، فَدَخَلَ؛ فَطَفِقَتْ كُلَّمَا دَخَلَ بَابًا أَغْلَقَتْهُ دُونَهُ حَتَّى أَفْضَى إِلَى امْرَأَةٍ وَضِيئَةٍ، وَعِنْدَهَا غُلَامٌ وَبَاطِيَةُ خَمْرٍ، فَقَالَتْ: إِنَّمَا دَعَوْتُكَ لِتَقْتُلَ هَذَا الْغُلَامَ، أَوْ تَقَعَ عَلَيَّ، أَوْ تَشْرَبَ كَأْسًا، فَإِنْ أَبَيْتَ صِحْتُ وَفَضَحْتُكَ، فَلَمَّا رَأَى أَنَّهُ لاَبدّ لَهُ مِنْ ذَلِكَ قَالَ لَهَا: اسْقِينِي كَأْسًا، فَسَقَتْهُ، ثُمَّ قَالَ: زِيدِينِي، فَلَمْ يَرِمْ حَتَّى وَقَعَ عَلَيْهَا، وَقَتَلَ الْغُلَامَ. فَاجْتَنِبُوا الْخَمْرَ، فَإِنَّهُ لاً يَجْتَمِعُ الْإِيمَانُ وَإِدْمَانُ الْخَمْرِ فِي صَدْرِ رَجُلٍ أَبَدًا، يُوشِكُ أَحَدُهُمَا أَنْ يُخْرِجَ صَاحِبَهُ" (¬2). وفي الدارقطني (¬3) أيضاً عن عبد الله بن عمرو مرفوعًا: «الْخَمْرُ أُمُّ الْخَبَائِثِ». وروي عنه أيضاً أنه قال: "وَجَدُّتُهُ فِي التَّوْرَاةِ". وفي "مسند ابن وهب" عنه مرفوعًا: «هِيَ أَكْبَرُ الْكَبَائِرِ وَأُمُّ الْفَوَاحِشِ، فَلاَ تَشْرَبُواْ الْخَمْرَ فَإِنَّهَا مُفْتَاحُ كُلِّ شَرٍّ، وَمَنْ شَرِبَهَا تَرَكَ الصَّلَاةَ، وَوَقَعَ عَلَى أُمِّهِ وَعَمَّتِهِ وَخَالَتِهِ». ¬

_ (¬1) "سنن الدارقطني" (4/ 247). (¬2) أخرجه النسائي (5666). ورجح وقفه أبو زرعة كما في "العلل" لابن أبي حاتم (2/ 35) والدارقطني في "العلل" (3/ 41). (¬3) "سنن الدارقطني" (4/ 247).

وفي حديث معاذ في "المسند" (¬1): "لا تشربنّ خمرًا فإنها رأس كل فاحشة". وعن عُثْمَان قال: "الْخَمْرُ مَجْمَعُ الْخَبَائِثِ، ثم أنشأ يحدث أن رجلاً خُيِّر بين أن يقتل صبيًّا أو يمحو كتابًا أو يشرب خمرًا، فاختار أن يشرب الخمر، فما هو إلا أن شربها حتى صنعهنّ جميعًا". وعن عُثمان قال: "إياك والخمر فإنها مفتاح كلّ شرّ". "أُتَى رَجُلٌ فَقِيلَ لَهُ: إِمَّا أَنْ تَحْرِقَ هَذَا الْكِتَابَ، وَإِمَّا أَنْ تَقْتُلَ هَذَا الصَّبِيَّ، وَإِمَّا أَنْ تَسْجُدَ لِهَذَا الصَّلِيبِ، وَإِمَّا أَنْ تَفْجُرَ بِهَذِهِ الْمَرْأَةِ، وَإِمَّا أَنْ تَشْرَبَ هَذَا الْكَأسَ، فَلَمْ يَرَ فِيهَا شَيْئًا أَهْوَنَ مِنْ شُرْبِ الْكَأسِ، فَشَرِبَ الْكَأسَ، وَفَجَرَ بِالمَرْأَةِ، وَقَتَلَ الصَّبِيَّ وَحَرَّقَ الْكِتَابَ، وَسَجَدَ لِلصَّلِيبِ، فَهِيَ مِفْتَاحُ كُلِّ شَرٍّ". وعن مجاهد: "قال إبليس: إذا سكر ابن آدم، أخذنا (بخزامته) (¬2) فَقُدْنَاهُ حيث شئنا، وعمل لنا بما أحببنا". وعن وهب بن منبّه قال: "قال الشيطان: إذا سكر ابن آدم، قدناه إِلَى كلّ شهوة كما تقاد العير بأذنها". ويذكر منام الَّذِي رأى بعرفة أنه قد غفر للناس إلاَّ لفلان من أمره كذا وكذا، وأنه لمَّا دلّ عليه سأله، فأخبره أنه سكر ثم جاء إِلَى أمّه فنهته، فأخذها فألقاها في التنّور وهو مسجور. ذكره ابن أبي الدُّنْيَا، ورويت بسياق طويل غريب ذكره ابن الجوزي في كتاب "البّر والصلة". وفي تفسير ابن مردويه بإسناده عن عبد الله بن عمرو: "أَنَّهُمْ تَحَدَّثُوا عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَنَّ مَلِكًا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَخَذَ رَجُلًا فَخَيَّرَهُ بَيْنَ أَنْ يَشْرَبَ الْخَمْرَ، أَوْ يَقْتُلَ نَفْسًا، أَوْ يَزْنِيَ، أَوْ يَأْكُلَ لَحْمَ الْخِنْزِيرِ، أَوْ يَقْتُلُوهُ، فَاخْتَارَ أَنْ يَشْرَبَ الْخَمْرِ؛ فَأِنَّهُ لَمَّا شَرِبَهَا لَمْ يَمْتَنِعْ مِنْ شَيْءٍ أَرَادُوهُ مِنْهُ" (¬3). ¬

_ (¬1) (5/ 238). (¬2) الخزامة: حلقة تجعل في أحد منخري البعير يشد بها الزِّمام. "اللسان" مادة: (خزم). (¬3) أخرجه الحاكم في "المستدرك" (4/ 147).

وقصة "هاروت وماروت" في هذا المعنى، خرّجها أحمد (¬1) من رواية ابن عمر مرفوعة، وقد تُكلّم فيها، وقيل: إنها مأخوذة عن كعب. واعلم أن شرب الخمر فيه مفاسد في الدين وعقوبات في الآخرة. أمَّا مفاسدها في الدين فمتعددة: منها: نزع الإيمان: كما في "الصحيحين" (¬2): «لاً يَشْرَبُ الْخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ» وتقدم قول عثمان: "لاَ يَجْتَمِعُ الْإِيمَانُ وَإِدْمَانُ الْخَمْرِ فِي صَدْرِ رَجلٍ، يُوشِكُ أَنْ يُخْرِجَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ". وقد جاء إطلاق الكفر والشرك عَلَى شرب الخمر، وتشبيه شاربه بعابد الوثن، ففي "النسائي" (¬3) عن عبد الله بن عمرو مرفوعًا: «مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ فَجَعَلَهَا فِي بَطْنِهِ، لَمْ تُقْبَلْ لَهُ صَلَاةٌ سَبْعًا، إِنْ مَاتَ فِيهَا مَاتَ كَافِرًا، فَإِنْ (أَذْهَبَ) (*) عَقْلَهُ عَنْ شَيْءٍ مِنَ الْفَرَائِضِ لَمْ تُقْبَلْ مِنْهُ صَلاَةٌ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، وَإِنْ مَاتَ فِيهَا مَاتَ كَافِرًا». وروي موقوفًا ومرفوعًا عن عبد الله من وجوه شتَّى، والموقوف لعلّه أشبه. وروى خيثمة عن عبد الله موقوفًا: «هِيَ أَكْبَرُ الْكَبَائِرِ، مَنْ شَرِبَهَا نَهَارًا ظَلَّ مُشْرِكًا، وَمَنْ شَرِبَهَا لَيْلاً بَاتَ مُشْرِكًا» وروي مرفوعًا ولا يصح. وفي "المسند" (¬4) عن ابن عباس مرفوعًا: «مُدْمِنُ الْخَمْرِ إِنْ مَاتَ لَقِيَ اللهَ كَعَابِدِ وَثَنٍ» خرَّجه ابن حبّان في "صحيحه" (¬5). وفي حديث خرجه ابن الجوزي في "الواهيات" (¬6): "شارب الخمر كالذي ¬

_ (¬1) في "المسند" (2/ 134). (¬2) أخرجه البخاري (6772)، ومسلم (57). (¬3) برقم (5669). (*) أذهب: "نسخة". (¬4) أخرجه أحمد (1/ 272). (¬5) برقم (5347/ إحسان). (¬6) برقم (1115) وقال: هذا حديث لا يصح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وانظر " الكامل" لابن عدي (2/ 703).

يعبد اللات والعزّى" وهذا لأنّ مدمنها يعكف عليها ولا يكاد يفيق منها فيصير كالعاكف عَلَى الأوثان، كما قال علي -رضي الله عنه- في الشطرنج. وقد رُوي عنه: "أن أصل دين المجوسيّة أنه كان لهم دين، وكان عليهم ملك يشرب الخمر؛ فسكر، فوقع بأخته ثم ادّعى أن الله أباحه، ثم خدّ لمن خالفه (أخاديد) (*)، وأضرم فيها النار فيقتحم الناس، يتقاذفون فيها حتى إِن كانت المرأة لتجيء بالصبي ترضعه، فيقول: يا أمّه، اقتحمي فإن عذاب الدّنْيا أهون من عذاب الآخرة" خرَّجه يعقوب بن شيبة. وكلما أدمن الخمر وعكف عليها نقص إيمانه وضعف ونزع منه، فيخشى أنه يسلبه بالكليّة عند الموت، وقد وقع ذلك في حكاية ذكرها عبد العزيز بن أبي روَّاد، وكان عبد العزيز يقول: "اتقوا الذنوب فإنها أوقعته". وعن عبد الله بن عمرو قال: "لأنّ أزني وأسرق أَحَبّ إليَّ من أن أشرب الخمر؛ لأنّ السكران تأتي عليه ساعة لا يعرف فيها ربه". وروي في ذلك أثر إسرائيلي عن الله عز وجل. وفي "صحيح مسلم" (¬1): "أنهى عن كلّ ما أسكر عن الصلاة". وقال الله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ} (¬2) فلا سعادة للعبد ولا فلاح بدون ذكر الله والصلاة؛ فلذلك حرَّم عليه الاشتغال بكل ما صدّ عن ذلك. ومنها: سخط الله عز وجل. وفى "المسند" (¬3) عن أسماء بنت يزيد مرفوعًا: "مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ لَمْ يَرْضَ اللهُ عَنْهُ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً؛ فَإِنْ مَاتَ مَاتَ كَافِرًا، وَإِنْ تَابَ تَابَ اللهُ عَلَيْهِ". ¬

_ (*) أخدودًا: "نسخة". (¬1) برقم (2001). (¬2) المائدة: 91. (¬3) (6/ 460).

ومنها: منع قبول الصلاة والتوبة: وخرّج النسائي وابن ماجه وابن حبّان في "صحيحه" (¬1) من حديث عبد الله بن عمرو مرفوعًا: «مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ وَسَكِرَ، لَمْ تُقْبَلْ لَهُ صَلَاةٌ أَرْبَعِينَ صَبَاحًا؛ فَإِنْ مَاتَ دَخَلَ النَّارَ، وَإِنْ تَابَ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ» وعند النسائي: "لَمْ يَقْبَلُ اللهُ لَهُ تَوْبَةٌ أَرْبَعِينَ صَبَاحًا". وفي مسند ابن وهب: "سخطه الله عليه أربعين يومًا، وإن سكر الرابعة لم يرض الله عنه حتى يلقاه". وفي الترمذي (¬2) عنه مرفوعًا، بعد الرابعة: "وإن تاب لم يتب الله عليه، وسقاه من طينة الخبال" وإن صحَّ به حُمل عَلَى أنه لا تهيّأ له توبة نصوح بعد ذلك، ويكون ذلك من أحاديث الوعيد. وفي رواية: "من شرب خمرًا بخس وبخست صلاته أربعين يومًا" خرجه أبو داود (¬3) من حديث ابن عباس، فمنع قبول الصلاة أربعين يومًا بالسّكر، ومتى عدمه "لم تقبل له صلاة جمعة" كذا روي عن عبد الله بن عمرو مرفوعًا وموقوفًا. لو لم يكن للسكران إلا طرده عن مناجاة الرحمن؛ لكفاه بعدًا، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} (¬4). وأما العقوبات فمنها: دنيوية: وهي نوعان: شرعية كالقتل بعد الرابعة، وفيه كلام معروف. ومنها: قدرية: وهو المسخ قردة وخنازير والخسف، ففي "سنن ابن ماجه" و"صحيح ابن حبان" وغيره (¬5): «لَيَشْرَبَنَّ أُنَاسٌ مِنْ أُمَّتِي الْخَمْرَ وَيُضْرَبُ عَلَى رُءُوسِهِمْ بِالْمَعَازِفِ، يَخْسِفُ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ وَيَجْعَلُ مِنْهُمُ ْقِرَدَةَ وَخَنَازِيرَ». ¬

_ (¬1) أخرجه النسائي (5665. 5670)، وابن ماجه (3377)، وابن حبان (5357). (¬2) برقم (1862) وقال: حديث حسن. (¬3) برقم (3680). (¬4) النساء: 43. (¬5) أخرجه ابن ماجه (4020)، وابن حبان (6758)، وأبو داود (3688)، وأحمد (5/ 342).

ومنها: في البرزخ، وسيأتي، وقال مسروق: "ما من ميت يموت وهو يزني أو يسرق أو يشرب؛ إلا جعل معه في قبره شجاعان (¬1) ينهشانه إِلَى يوم القيامة". وقال سهل الأنباري: "أتيت رجلاً قد احتضر: فبينا أنا عنده إذ صاح صيحة أخذ منها، ثم وثب فأخذ بركبتي فأفزعني، فقلت له: ما قضيتك؟ قال: هو ذا حبشي أزرق عيناه مثل السكرّجتين (¬2) غمزني غمزة أخذت منها، فَقَالَ لي: موعدك السعير الظهر، فسألت عنه أي شيء كان يعمل؟ قيل: كان يشرب النبيذ". ومنها في الآخرة، وهي أنواع: فمنها: العطش يوم القيامة: ففي "المسند" (¬3) عن قيس بن سعد بن عبادة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من شرب الخمر أتى عطشانًا يوم القيامة". وعن عبد الله بن عمرو قال: "في التوراة: الخمر مرّ طعمها، أقسم الله بعزته: لمن شربها بعدما حرّمتها لأعطشنّه يوم القيامة". ومنها: تشويه الحلق وقبح الهيئة يوم القيامة: روى الآجرّى بإسناده عن عبد الله بن عمرو قال: "لَا تُسَلِّمُوا عَلَى شَرِبَةِ الْخَمْرِ، وَلَا تَعُودُوا مَرْضَاهُمْ، وَلَا تشهدوا جنائزهم، إن شارب الخمر يأتي يوم القيامة مائل شقّه، مُزرقة عيناه، يندلع (¬4) لسانه على صدره، يسيل لعابه على بطنه، يتقذّره كل من رآه". وعن أحمد رواية: أنه لا يصلّي الإمام عَلَى من مات مدمن خمر. ¬

_ (¬1) الشّجاع، بالضم والكسر: الحية الذكر، وقيل: الحية مطلقًا. "النهاية" (2/ 447). (¬2) السُّكُرُّجة: إناء صغير يؤكل فيه الشيء القليل من الأدم. "النهاية" (2/ 384). (¬3) (3/ 422). (¬4) اندلع: خرج من الفم واسترخى، وسقط عَلَى العنفقة كلسان الكلب. "اللسان" مادة: (دلع).

ومنها: الشرّب من صديد أهل النار. ففي "صحيح مسلم" (¬1) عن جَابَر، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ، إِنَّ عَلَى اللهِ عَهْدًا مَنْ شَرِبَ الخَمْرِ أَنْ أَسْقِيَهُ مِنْ طِينَةِ الْخَبَالِ. قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، وَمَا طِينَةُ الْخَبَالِ؟ قَالَ: عَرَقُ أَهْلِ النَّارِ، أَوْ عُصَارَةُ أَهْلِ النَّارِ». وفي "المسند" (¬2) عن أبي أمامة مرفوعًا: "أقسم ربي بعزته: لا يشرب عبد من عبيدي جرعة من خمر، إلاَّ سقيته مكانها من حميم جهنم معذَّبًا أو مغفورًا له". وفي "المسند" و"صحيح ابن حبان" (¬3) عن أبي موسى مرفوعًا: "من مات مدمن خمر سقاه الله من نهر الغوطة. قيل: وما نهر الغوطة؟ قال: نهر يجري من فروج المومسات، يؤذي أهل النار ريح فروجهن". وخرج بعض المتقدمين وهو نشوان، فمرّ بقرية فيها خمر كثير فتمثل بهذا البيت: تطيرنا بادِ كرم ما مررت به ... إلا تعجبت ممن يشرب الماء فهتف به هاتف من تحت شجرة: وفي جهنّم ماء ما تجرّعه ... عاص فأبقى له في الجوف أمعاء ومنها: أن شربها في الدُّنيا يمنع شرب خمر الآخرة. وفي "الصحيحين" (¬4) عن ابن عمر، عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ شَرِبَ الخَمْرَ فِي الدُّنْيَا لَمْ يَشْرَبْهَا فِي الْآخِرَةِ». ¬

_ (¬1) برقم (2002). (¬2) (5/ 257). (¬3) أخرجه أحمد (4/ 399)، وابن حبان (5346/ إحسان). (¬4) أخرجه البخاري (5575)، ومسلم (2003).

وفي رواية: "فمات وهو مدمنها" وفي رواية: "ثم لم يتب منها" (¬1). زاد النسائي وابن ماجه (¬2) في رواية لهما عن أبي هريرة: ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: شَرَابَ أَهْلِ الجَنَّةِ، ومن تَركَ شربها شَرِبَهَا في الآخِرَةِ". وفي المسند (¬3) عن أبي أمامة مرفوعًا: "أقسم ربّي بعزته: لا يدعها عبد من عبيدي من مخافتي إلا سقيته من حظيرة القدس" وخرَّجه الإسماعيلي من حديث عليَّ وزاد فيه: "يأتيه أهل الجنة يشربونها فيكرمهم الله بذلك" أي: أنهم يجتمعون في حظيرة القدس يشربون الخمر. وعن عبد الله بن عمرو قال: "في التوراة: لمن تركها بعدما حرمتها إلا سقيته إياها في حظيرة القدس". أفليس من الغبن كلّ الغبن، تعجّل شرب هذه الخبيثة المفسدة للعقل والدين، مع زمرة الفساق الأرذال والشياطين، وترك شرب الخمر المطهرة التي هي لذة للشاربين في حظيرة القدس، مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين!! ورأى النبي - صلى الله عليه وسلم -في المنام- ليلة منامًا، طويلاً، وفي آخره: "رَأيتُ ثَلَاثَةِ نَفَرٍ يَشْرَبُونَ خَمْرَةٍ وَيَتَغَنَّوْنَ، فَقُلْتُ عَنْهُم: فَقَالُوا: هَؤُلَاءِ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ وَجَعْفَرُ وَعَبدُ اللهِ بْنُ رَوَاحَةَ. فَمَالَ إِلَيْهِمْ فَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ. وَذَلِكَ بَعْدَ أَنْ اسْتَشْهَدُوا بِمُؤْتَة -رضي الله عنهم". ومنها: إقامة الحدّ عليها في البرزخ: استشهد رجل في زمن السلف، وكان يشرب بعض الأنبذة المختلف في حلّها، فرئي في المنام وهو متّشح بحلة خضراء، فقِيلَ لَهُ: ما فعل الله بك؟ ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (2003). (¬2) أخرجه النسائي في "الكبرى" (6869) بنحوه، وابن ماجه (3374) مختصرًا. (¬3) (5/ 257).

قال: ما تراه صانعًا بالشهداء؟ غفر لي وأدخلني الجنّة، قال: فلما ولّى نظرت إِلَى آثار السّياط بظهره، فقلت له: مكانك! قال: أو رأيت؟ قلت: نعم. قال: قل لأبي -وكان أبوه يومئذ حيًّا- يا شقي، ذاك الدّاذي (¬1) الَّذِي كنا نشرب أنا وأنت!! لا تشرب فإني أنا الَّذِي قُتلت في سبيل الله لم أترك أن جلدت عليه حدًّا. واعلم أن شرب الخمر لو لم يرد الشرع بتحريمه لكان العقل يقتضي تقبيحه، بما فيه من إزالة العقل -الَّذِي به شرف الآدمي عَلَى الحيوانات- فيصير مشاركًا لبقية البهائم، أو أسوأ حالاً منها، فمنهم من يتلطخ بالنجاسات والأقذار والقيء، ومنهنم من يتشبه بالخنزير، أو يقتل أو يجرح فيشبه السّباع الجوارح، كالكلب العقور ونحوه. أيها الشارب للخمر تنبّه ... لجناياتها فأنت لبيب إنها للستور هتك، وبالألبا ... ب فتك وفي المعاد ذنوب ولهذا حرّمها كثير من أهل الجاهلية قبل الإسلام. قال بعضهم: جاء السكر إِلَى أَحَبّ خلق الله إِلَيْهِ فأفسده. يعني: العقل. وربما يصير المجنون الَّذِي يصرع أحسن حالاً من السكران، قال أبو إسحاق الفزاري: رأيت مجنونًا يصرع يسوِّي رأس سكران. ورُئي سعدون المعتوه جالسًا عند رأس شيخ سكران يذبّ عنه، فسئل عنه، فَقَالَ: هذا مجنون، فقِيلَ لَهُ: أنت مجنون أو هو؟ قال: بل هو، قال: ثم قال: لأني صليت الظهر والعصر جماعة ولم يصلّ هو جماعة ولا فرادى، قيل له: هل قلت في ذلك شيئًا؟ قال: نعم. تركت النّبيذ لأهل النّبيذ ... وأصبحت أشرب ماء قراحًا ¬

_ (¬1) في "الأصل": الرأي. والمثبت من كتاب "ذم الهوى" لابن أبي الدُّنْيَا؛ فقد أخرجها ابن أبي الدُّنْيَا (ص 75)، والداذي: حب يطرح في النبيذ فيشتد حتى يسكر. راجع "النهاية" (2/ 147).

لأنّ النّبيذ يذلّ العزيز ... ويكسو الوجوه النضارى القباحا فالواجب المبادرة إِلَى التوبة من جميع المعاصي، فربما فاجأت المنية بغتة عَلَى غير توبة، فيصبح المرء في زمرة الموتى نادمًا مع الخاسرين، وقد تقدم أن الوعيد مشروط بعدم التوبة، وفي حديث أبي هريرة: «لَا يَشْرَبُ الْخَمْرَ حِينَ شُرْبِهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ، والتوبة معروضة بعد ذلك» (¬1). كان رجل بنصيبين (¬2) يكنّى: أبا عمرو وكان مدمن خمر، فشرب ليلة ثم نام، فاستيقظ مرعوبًا نصف الليل، فَقَالَ: أتاني آت في منامي فَقَالَ لي: جدّ بك الأمر أبا عمرو ... وأنت معكوف عَلَى الخمر تشرب صهباء صراحية (¬3) ... سال بك السيل ولا تدري ثم نام فلما كان وقت لفجر مات فجأة. وسكر آخر فنام عن عشاء الآخرة، وكانت امرأته ابنة عمه، وكانت ديّنة، فجعلت توقظه للصلاة، فلما ألحت عليه حلف بطلاقها البتّة أن لا يصلي ثلاثًا، فلما أصبح كَبُرَ عليه فراق ابنة عمّه، فبقي يرمين لم يصلّ لأجل يمينه، فعرضت له علّة فمات. وفي هذا أنشد بعضهم: أتأمن أيها السكران جهلاً ... بأن تفجأك في السكر المنيّة فتضحى عبرة للناس طرًّا ... وتلقى الله من شرّ البريّة قال الله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (¬4). ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه. (¬2) هي مدينة عامرة من بلاد الجزيرة عَلَى جادة القوافل من الموصل إِلَى الشام "معجم البلدان" (5/ 233). (¬3) الصهباء: الخمر، سميت بذلك للونها. وصراحية: أي خالصة. "لسان العرب" (1/ 532، 2/ 510). (¬4) الحجرات: 11.

وفي الحديث: "النَّدم توبة" (¬1) فلابدّ من ندم وإقلاع وعزم عَلَى ترك المعاودة بالكلية، أما من عزم عَلَى المعاودة ولو بعد حين فليس بتائب. قيل لابن المبارك: من مدمن الخمر؟ قال: الَّذِي يشربه اليوم ثم لا يشربه إِلَى ثلاثين سنة، ومن رَأْيُه إذا وجده أن يشربه. وكثير من العصاة يترك الشرب في الأيام الفاضلة كرمضان فقط، ومن نيته المعاودة بعد انقضائه، وهذا مدمن ليس بتائب، لا سيما إِنَّ عدَّ الأيام، وطال عليه الشهر حتى يعود، ولهذا إذا قرب الشهر جدّ في الشرب ليتودَّع منه، ثم يعاود الشرب عند انقضائه، وأنشد بعضهم: إذا العشرون من شعبان ولّت ... فواصل شرب ليلك بالنهار ولا تشرب بأقداح صغار ... فإن الوقت ضاق عن الصّغار وأقبح من ذلك أخذ بعض الجهلة هذا الكلام من باب الإشارات، ودعواهم أن له شرًّا لا يفهمه إلا الخواص، وأن فيه إشارة إِلَى مبادرة العمر بالطاعة عند اقتراب الأجل. وأخذ هذا من الكلام قبيح جدًّا، وهو كأخذ الآخر السرّ من قول قائلهم: رقّ الزجاج ورقت الحمر ... وتشاكلا فتشابه الأمر فكأنما خمر ولا قدح ... وكأنما قدح ولا خمر فإن هذا ظاهره إِنَّمَا يؤخذ منه الفسق، ولكن يدَّعي بعض الجهلة أن فيه سرًّا أراده القائل، وهذا السرّ أقبح من ظاهره، حيث كان ظاهره الفسق، وهذا الباطن المشار إِلَيْهِ وهو أن الخالق والمخلوق اتحدا حتى صارا شيئًا واحدًا، لا يميّز العارف بينهما وهو السرّ المشار إِلَيْهِ عندهم. ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد (1/ 423، 433)، وابن ماجه (4252) من حديث ابن مسعود.

فهذا الشعر ونحوه إما أن يؤخذ منه الفسق أو الكفر، وإنما تؤخذ الأسرار الرّبانية من كلام الله وكلام رسوله، أو كلام السلف الصالح أو الأشعار الحِكمية التي فيها الحكمة، والمقصود هنا ذكر التوبة: يا نداميّ صَحَا القلب صِحَا ... فاطردا عني الصبا والمرحا هزم العقل جنودًا للهوى ... سادتي لا تعجبوا أن صلحا زجر الوعظ فؤادي فارعوى ... وأفاق القلب مني وصحا بادروا التوبة من قبل الردى ... فمناديه ينادينا الوحا (¬1) يا هذا، اعرف قدر لطفنا بك، وحفظنا لك، إِنَّمَا نهينا عن المعاصي صيانة لك، وغيرة عليك، لا لحاجتنا إِلَى امتناعك ولا بخلاً بها عليك. لما عرفتنا بالعقل حرّمنا عليك الخمر لا تستره، شيء به عرفتنا يحسن بك أن تزيله أو تغطيه. لا كان كلما يقطع المعرفة بيننا وبينك، لا كان كلما يحجب بيننا وبينك. يا شارب الخمر لا تغفل، يكفيك سكر جهلك! لا تجمع بين خطيئتين. يا من باشر بعض القاذورات، اغتسل منها بالإنابة وقد زال الدّرن. طهّروا درن القلوب بدمع العيون فما ينفعها غيرها. يا من قد درن قلبه بوسخ الذنوب، لو اغتسلت بماء الإنابة لطهرت! لو شربت من شراب التوبة لوجدته شرابًا طهورًا. يا أوساخ الذنوب، يا أدران العيون {هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ} (¬2). مجالس الذكر للمذنبين، شراب المواعظ: شراب المحبّين درياق (¬3) المذنبين، {قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ} (¬4). ¬

_ (¬1) الوحا: الإسراع. "لسان العرب" (15/ 382). (¬2) سورة ص: 42. (¬3) الدرياق: الترياق، معرب. وهو دواء السموم. "اللسان" مادة: (دوق)، و (ترق). (¬4) البقرة: 60.

قد أدرنا عليكم اليوم شراب التشويق ممزوجًا بماء التخويف، فبالله لا يقم أحد منكم معكم من هذا المجلس إلا وقد أناب إِلَى الكريم الوهاب. أليس من أهل الشراب من يبكي، ومنهم من يضحك، ومنهم من يطرب، ومنهم من يتملّق النّاس ويتعلق بهم، ومنهم من تثور نفسه فلا يرضى إلا بأن يطلق أو يضرب بالسيف، ومنهم من ينام. فهكذا شراب المواعظ يعمل في السامعين: فمنهم من يبكي عَلَى ذنوبه، ومنهم من يضحك لنيل مطلوبه، ومنهم من يضحك فرحًا لمحبوبه، ومنهم من يتشبث بأذيال الواصلين لعله يعلّق خطام راحلته عَلَى قطارهم، ومنهم من لا يرضى حتى يبت طلاق الدُّنْيَا ثلاثًا، أو يقتل هوى نفسه بسيف العزم كالمعربد، ومنهم من لا يدري كالنائم. أَيَقْظَانُ أَنْتَ اليَوْمَ أَمْ أَنْتَ نَائِمُ ... وكيف يطيق النَّوْمَ حَيْرَانُ هَائِمُ! فَلَوْ كُنْتَ يَقْظَانَ الفُؤَادِ لَحَرَّقَتْ ... مَحَاجِرَ عَيْنَيْكَ الدُّمُوعُ السَّوَاجِمُ (¬1) بَلَ أَصْبَحْتَ فِي النَّوْمِ الطَّوِيلِ وَقَدْ دَنَتْ ... إلَيْكَ أُمُورٌ مُفْظِعَاتٌ عَظَائمُ تُسَرُّ بِمَا يَفْنَى وَتُشْغَلُ بِالمُنَى ... كَمَا سُرَّ بِاللَّذَاتِ فِي النَّوْم حَالِمُ نَهَارُكَ يَا مَغْرُورُ سَهْوٌ وَغَفْلَةٌ ... ولَيْلُكَ نَوْمٌ وَالرَّدَى لك لاَزِمُ وَتَدْأَبُ فِيما سَوْفَ تَكْرَهُ غِبَّهُ ... كَذَلِكَ فِي الدُّنْيَا تَعِيشُ البَهَائِمُ وصلى الله عَلَى سيدنا محمَّد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا إِلَى يوم الدين، ورضي الله عن أصحاب رسول الله أجمعين، {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (¬2). ... ¬

_ (¬1) السواجم: قَطَران الدمع وسيلانه قليلاً كان أو كثيرًا. "لسان العرب" مادة: (سجم). (¬2) الصافات: 180 - 182.

10 - الذل والانكسار للعزيز الجبار

الذل والانكسار للعزيز الجبار

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (وبه نستعين والحمد لله رب العالين) (*) قال الحافظ العلامة زين الدين ابن الشيخ أبو العباس أحمد بن رجب أمر الله في عمره البركة: هذه رسالة عملناها في الخشوع وانكسار القلب للرب. الحمدُ لله جابر قلوب المنكسرة قلوبهم من أجله، وغافر ذنوب (المستغفرين) (**) بفضله، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، ولا شيء كمثله، وأشهد أن مُحَمَّدًا عبده ورسوله، أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره عَلَى الدين كله، وخَيَّرَهُ بين أن يكون (ملكًا نبيًّا) ( ... ) أو عبدًا رسولاً (¬1)، فاختار مقام العبودية مع (الرسالة) (****). (وكان) (*****) يقول: «اللَّهُمَّ أَحْيِنِي مِسْكِينًا، وَأَمِتْنِي مِسْكِينًا، وَاحْشُرْنِي فِي زُمْرَةِ المَسَاكِينِ» (¬2) (تنويهًا بشرف) (******) هذا المقام وفضله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، والمستمسكين من بعدهم بحبله. أما بعد: فإن الله سبحانه وتعالى مدح في كتابه المخبتين له، والمنكسرين لعظمته، والخاضعين والخاشعين لها. فَقَالَ الله تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} (¬3). ¬

_ (*) رب يسر وأعن يا كريم: "نسخة". (**) المستغفرة لذنوبهم: "نسخة". ( ... ) نبيًّا ملكًا: "نسخة". (¬1) أخرجه أحمد (2/ 231). (****) رسله: "نسخة". (*****) فكان: "نسخة". (¬2) أخرجه الترمذي (2352)، وابن ماجه (4126) قال الترمذي: حديث غريب. (******) لشرف: "نسخة". (¬3) الأنبياء: 90.

وقال تعالى: {وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ} إِلَى قوله: {أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} (¬1). ووصف المؤمنين بالخشوع له في أشرف عباداتهم التي هم عليها يحافظون، فَقَالَ: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} (¬2). ووصف الذين أوتوا العِلْم بالخشوع حيث يكون كلامه لهم مسموعًا، فَقَالَ: {إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا * وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا * وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا} (¬3). وأصل الخشوع هو: لين القلب ورقته وسكونه وخضوعه وانكساره وحرقته فَإِذَا خشع القلب تبعه خشوع جميع الجوارح والأعضاء؛ لأنها تابعة له، كما قال -صلى الله عليه وسلم-: "أَلاَ إِنَّ فِي الجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الجَسَدُ كُلُّهُ، أَلاَ وَهِيَ القَلْبُ" (¬4). فَإِذَا خشع القلب خشع السمع والبصر والرأس والوجه، وسائر الأعضاء وما ينشأ منها حتى الكلام. لهذا كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول في ركوعه في الصلاة: "خَشَعَ لَكَ سَمْعِي وَبَصَرِي وَمُخِّي وَعَظْمِي" وفي رواية: "وَمَا اسْتَقَلَّ بِهِ قَدَمِي" (¬5). ورأى بعض السلف رجلاً يعبث بيده في "الصلاة) (*) فَقَالَ: لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه. ¬

_ (¬1) الأحزاب: 35. (¬2) المؤمنون: 1 - 2. (¬3) الإسراء: 107 - 109. (¬4) البخاري (52، 205)، ومسلم (1599). (¬5) أخرجه مسلم (771). (*) صلاته: "نسخة".

وروي ذلك عن حذيفة (¬1) رضي الله عنه وسعيد بن المسيب (¬2). ويروى مرفوعًا (¬3) لكن بإسناد لا يصح. قال المسعودي عن أبي سنان عمن حديثه عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه في قوله تعالى: {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} (¬4) قال: هو الخشوع في القلب، وأن تُلِيّن كَنَفَكَ للمرء المسلم، وأن لا تلتفت في صلاتك (¬5). وقال عطاء بن السائب عن رجل عن علي رضي الله عنه: الخشوع خشوع القلب، وأن لا (تلتفت) (*) يمينًا ولا شمالاً. وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} (4) قال: خائفون ساكنون (¬6). وقال ابن شوذب عن الحسن رحمه الله تعالى: كان الخشوع في قلوبهم فغضوا له البصر وخفضوا له الجناح. وقال منصور عن مجاهد: (أصل) (**) الخشوع في القلب، والسكون في الصلاة. ¬

_ (¬1) أخرجه ابن نصر في "تعظيم قدر الصلاة" (150) وضعفه شيخنا محمد عمرو في "تكميل النفع" (21). (¬2) أخرجه ابن المبارك في "الزهد" (213) وضعفه الألباني في "الضعيفة" (1/ 114). (¬3) قال الشيخ محمد عمرو في تخريجه لرسالة "الذل والإنكسار" (ص33): الحديث موضوع مرفوعًا، في سنده سليمان بن عمرو ... ذكره ابن حبان في "المجروحين" (1/ 329) ونقل عن عبد الجبار بن محمد: أنه كان أطول الناس قيامًا بليل وأكثرهم صيامًا بنهار، وكان يضع الحديث وضعًا. (¬4) المؤمنون: 2. (¬5) رواه وكيع في "الزهد" (328)، وابن المبارك في "الزهد" (1148) وغيرهما. وقال الشيخ محمد عمرو: إسناده ضعيف مداره عَلَى رجل مبهم. (*) يلتفت: "نسخة". (¬6) رواه الطبري في "تفسيره" (18/ 3). (*) هو: "نسخة".

وقال ليث عن مجاهد: من ذلك خفض الجناح وغض البصر، وكان المسلمون إذا قام أحدهم إِلَى الصلاة خاف ربه أن يلتفت عن يمينه أو شماله. وقال عطاء الخراساني: الخشوع خشوع القلب والطرف. وقال الزهري: هو سكون العبد في صلاته. وعن قتادة قال: الخشوع في القلب هو الخوف وغض البصر في الصلاة. وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد رحمه الله تعالى في قوله تعالى: {وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} (¬1) قال: متواضعين وقد وصف الله تعالى في كتابه الأرض بالخشوع فَقَالَ: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ} (¬2)، فاهتزازها وربوها -وهو ارتفاعها- مزيل لخشوعها، فدل عَلَى أن الخشوع الَّذِي كانت عليه هو سكونها وانخفاضها، (فكذلك) (*) القلب (إِن) (**) خشع فإنه تسكن خواطره وإراداته الرديئة، التي تنشأ (من) ( ... ) اتباع الهوى وينكسر ويخضع لله عز وجل. فيزول بذلك ما كان فيه من النأو (¬3) والتزفع والتكبر والتعاظم، ومتى سكن ذلك في القلب خشعت الأعضاء والجوارح والحركات كلها حتى الصوت، وقد وصف الله تعالى الأصوات بالخشوع في قوله: {وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلاً تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا} (¬4)، وخشوع الأصوات هو سكونها وانخفاضها بعد ارتفاعها. وكذلك وصف وجوه الكفار وأبصارهم في يوم القيامة بالخشوع، فدل ذلك عَلَى فى دخول الخشوع في هذه الأعضاء كلها، ومتى تكلف الإنسان تعاطي الخشوع في جوارحه وأطرافه -مع فراغ قلبه من الخشوع وخلوه منه- كان ذلك خشوع نفاق، وهو الَّذِي كان السلف يستعيذون منه كما قال بعضهم: ¬

_ (¬1) الأنبياء: 90. (¬2) فصلت: 39. (*) وكذا: "نسخة". (**) إذا: "نسخة". ( ... ) عن: "نسخة". (¬3) النأو، لغة في: "النأي"، وهو البعد. (¬4) طه: 108.

"استعيذوا بالله من خشوع النفاق. قالوا: وما خشوع النفاق؟ قال: أن (ترى) (*) الجسد خاشعًا والقلب ليس بخاشع". ونظر عمر رضي الله عنه إِلَى شاب قد نكس رأسه فَقَالَ له: يا هذا، ارفع رأسك، فإن الخشوع لا يزيد عَلَى ما في القلب. فمن أظهر للناس خشوعًا فوق ما في قلبه، فإنما هو نفاق عَلَى نفاق. وأصل الخشوع الحاصل في القلب، إِنَّمَا هو من معرفة الله، ومعرفة عظمته وجلاله وكماله، فمن كان بالله أعرف (فهو) (**) له أخشع. وتتفاوت القلوب في الخشوع بحسب تفاوت معرفتها لمن خشعت له، وبحسب تفاوت مشاهدة القلوب للصفات المقتضية للخشوع، فمن خاشع لقوة مطالعته (لقرب) ( ... ) الله من عبده، واطلاعه عَلَى سره وضميره المقتضي الاستحياء من الله تعالى ومراقبته في الحركات والسكنات، ومن خاشع لمطالعته لجلال الله وعظمته وكبريائه، المقتضي لهيبته وإجلاله، ومن خاشع لمطالعته لكماله وجماله المقتضي للاستغراق في محبته، والشوق إِلَى لقائه ورؤيته، ومن خاشع لمطالعة شدة بطشه وانتقامه، وعقابه المقتضي للخوف منه وهو سبحانه وتعالى جابر القلوب المنكسرة لأجله، فهو سبحانه وتعالى يتقرب من القلوب الخاشعة له كما يتقرب ممن هو قائم يناجيه في الصلاة وممن يعفر له وجهه في التراب بالسجود، وكما يتقرب من وفده وزوار بيته (الوافدين) (****) بين يديه، المتضرعين إِلَيْهِ في الوقف بعرفة، ويدنو ويباهي بهم الملائكة وكما يتقرب من عباده (الداعين) (*****) له، السائلين له، المستغفرين من ذنوبهم بالأسحار، ويجيب دعاءهم، ويعطيهم (سؤلهم) (******)، ولا جبر لانكسار العبد أعظم من القرب والإجابة. ¬

_ (*) يُرى: "نسخة". (**) كان: "نسخة". ( ... ) قرب: "نسخة". (****) الواقفين: "نسخة". (*****) الدائبين: "نسخة". (******) سؤالهم: "نسخة".

وروى الإمام أحمد رحمه الله تعالى في كتابه "الزهد" (¬1) بإسناده عن عمران القصير قال: "قال موسى بن عمران: أي رب، أين أبغيك؟ قال: ابغني عند المنكسرة قلوبهم من أجلي، إني أدنو منهم كل يوم باعًا، ولولا ذلك لانهدموا". وروى إبراهيم بن الجنيد رحمه الله تعالى في كتاب "المحبة" بإسناده عن جعفر بن سليمان: سمعت مالك بن دينار (قال) (*): قال موسى عليه السلام: "إلهي أين أبغيك؛ فأوحى الله عز وجل إِلَيْهِ: أن يا موسى ابغني عند المنكسرة قلوبهم من أجلي، فإني أدنو منهم في كل يوم وليلة باعًا ولولا ذلك لانهدموا"، قال جعفر: قلت لمالك بن دينار: كيف المنكسرة قلوبهم؟ فَقَالَ: سألت الَّذِي قرأ في الكتب فَقَالَ: سألت الَّذِي سأل عبد الله بن سلام فَقَالَ: سألت عبد الله بن سلام عن المنكسرة قلوبهم، ما يعنى؟ قال: المنكسرة قلوبهم بحب الله عز وجل عن حب غيره". وقد جاء في السنة الصحيحة ما يشهد (بقرب) (**) الله من القلب المنكسر ببلائه الصابر عَلَى قضائه أو الراضي بذلك كما في "صحيح مسلم" (¬2) عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: "يَقُولُ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: يَا ابْنَ آدَمَ، مَرِضْتُ فَلَمْ تَعُدْنِي، قَالَ: يَا رَبِّ كَيْفَ أَعُودُكَ وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ، قَالَ: أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ عَبْدِي فُلَانًا مَرِضَ فَلَمْ تَعُدْهُ، أَمَا عَلِمْتَ أَنَّكَ لَوْ عُدْتَهُ لَوَجَدْتَنِي عِنْدَهُ". وروى أبو نعيم (¬3) من طريق ضمرة عن ابن شوذب قال: "أوحى الله تعالى إِلَى موسى عليه السلام: أتدري لأي شيء اصطفيتك عَلَى الناس برسالاتي وكلامي؟ قال: لا يا رب! قال: لأنّه لم يتواضع لي أحد قط تواضعك". ¬

_ (¬1) (ص 75). (*) لقرب: "نسخة". (**) يقول: "نسخة". (¬2) برقم (2569). (¬3) في "الحلية" (6/ 130).

(وتواضعه هذا هو الخشوع، وهو) (*) العِلْم النافع، وهو أول ما يرفع من العِلْم، فخرج النسائي (¬1) من حديث جبير بن نفير رضي الله عنه، عن عوف بن مالك رضي الله عنه، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نظر إِلَى السماء يومًا (فَقَالَ) (**): «هَذَا أَوَانٌ يُرْفَعُ فِيهِ الْعِلْمُ» فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ، يُقَالُ لَهُ زِيَادُ بْنُ لَبِيدٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ, يُرْفَعُ الْعِلْمُ وَقَدْ أُثْبِتَ وَوَعَتْهُ الْقُلُوبُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنْ كُنْتُ لَأَحْسَبُكَ مِنْ أَفْقَهِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ» وَذَكَرَ لَهُ ضَلَالَةَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى عَلَى مَا فِي أَيْدِيهِمْ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. قَالَ: فَلَقِيتُ شَدَّادَ بْنَ أَوْسٍ فَحَدَّتْتُهُ بِحَدِيثِ عَوْفٍ بْنِ مَالِكٍ فَقَالَ: صَدَقَ عَوْفُ أَلاً أُخْبِرُكَ بِأَوَّلِ ذَلِكَ يُرْفَعُ؟ قُلْتُ: بَلَى، قَالَ: الْخُشُوعُ حَتَّى لاً تَرَى خَاشِعًا». وخرجه الترمذي (¬2) من حديث جبير بن نفير عن أبي الدرداء عن النبي -صلى الله عليه وسلم- بنحوه وفي آخره: قال جبير فلقيت عبادة بن الصامت فقلت: ألا تسمع إِلَى ما يقول أخوك أبو الدرداء: وأخبرته بالذي قال أبو الدرداء، قال: صدق أبو الدرداء، لو شئت لحدثتك بأول علم يرفع من الناس: الخشوع، يوشك أن تدخل مسجد الجامع، فلا ترى فيه رجلاً خاشعًا. وقد قيل: إِنَّ رواية النسائي أرجح. وقد روى سعيد بن بشير عن قتادة، عن الحسن رحمه الله تعالى، عن شداد ابن أوس عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "أَوَّلَ مَا يُرْفَعُ مِنَ النَّاسِ الْخُشُوعُ" (¬3) فذكره. ¬

_ (*) فصل: وهذا الخشوع هو: "نسخة". (¬1) أخرجه النسائي في " الكبرى" (3/ 456). (*) وقال: "نسخة". (¬2) برقم (2653) قال الترمذي: حسن غريب. (¬3) أخرجه الطبراني في "المعجم الكبير" (7/ 7183) من طريق عمران القطان عن قتادة به بمثله. قال الشيخ محمد عمرو في تخريجه "للذل والإنكسار" (ص44): وفي شعيب بن بيان الصفار، وعمران القطان: مختلف فيهما، والمهلب بن العلاء: مجهول لا تعرف له ترجمة. ورواه ابن عدي (2/ 840)، وأبو الشيخ في "الطبقات" (3/ 164 - 165) عن حسام بن مصك عنه، وحسام متروك، والراجح الصحيح رواية جبير بن نفير عن شداد بن أوس موقوفًا عليه من قوله.

ورواه أبو بكر بن أبي مريم عن ضمرة بن حبيب مُرسلاً (¬1). وروي نحوه عن حذيفة من قوله (¬2). فالعلم النافع هو ما باشر القلوب فأوجب لها السكينة والخشية، والإخباب لله والتواضع والانكسار له، وإذا لم يباشر القلوب ذلك من العِلْم، وإنما كان عَلَى اللسان، فهو حجة الله عَلَى ابن آدم، تقوم عَلَى صاحبه وغيره، كما قال ابن مسعود رضي الله عنه: "إِنَّ أَقْوَامًا يَقْرَءُونَ القُرْآنَ لاَ يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ، وَلَكِنْ إِذَا وَقَعَ فِي الْقَلْبِ فَرَسَخَ فِيهِ نَفَعَ صَاحِبُهُ". خرجه مسلم (¬3). وقال الحسن رحمه الله تعالى: العِلْم علمان: علم باللسان وعلم بالقلب، فعلم القلب هو العِلْم النافع، وعلم اللسان هو حجة الله عَلَى ابن آدم. وروي عن الحسن رحمه الله تعالى مرسلاً عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، وروي عنه عن جابر رضي الله عنه مرفوعًا، وعنه عن أنس رضي الله عنه مرفوعًا، ولا يصحُّ وصله. فأخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- أن العِلْم الَّذِي عند أهل الكتابين من قبلنا موجود بأيديهم ولا ينتفعون بشيء منه لما فقدوا المقصود منه، وهو وصوله إلى قلوبهم حتى يجدوا حلاوة الإيمان به، ومنفعته بحصول الخشية والإنابة لقلوبهم، وإنما هو عَلَى ألسنتهم تقوم به الحجة عليهم. ولهذا المعنى وصف الله سبحانه في كتابه العُلَمَاء بالخشية كما قال الله تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} (¬4). ¬

_ (¬1) رواه ابن المبارك في "الزهد" (72) ومن طريقه أحمد في "الزهد" (ص395). (¬2) أخرجه ابن أبي شيية في "المصنف" (13/ 381) ومن طريقه أبو نعيم في "الحلية" (1/ 281)، والحاكم (4/ 469). (¬3) برقم (822). (¬4) فاطر: 28.

وقال تعالى: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاً يَعْلَمُونَ} (¬1). ووصف العُلَمَاء من أهل الكتاب قبلنا بالخشوع كما قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا * وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا * وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا} الآية (¬2). وقوله تعالى فى وصف هؤلاء الذين أوتوا العِلْمَ ويخرون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعًا مدح لمن أوجب له سماع كتاب الله الخشوع في قلبه، وقال تعالى: {فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ * اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} (¬3). ولين القلوب هو زوال (قساوتها) (*) لحدوث الخشوع فيها والرقة. وقد (قبح) (**) الله من لا يخشع قلبه لسماع (كتابه) (**) وتدبره، قال تعالى: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلاً يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} (¬4) قال ابن مسعود رضي الله عنه: ما كان بين إسلامنا وبين أن عوتبنا بهذه الآية إلا أربع سنين خرجه مسلم (¬5)، وخرجه غيره (¬6) وزاد فيه: فجعل المؤمنون يعاتب بعضهم بعضًا. ¬

_ (¬1) الزمر: 9. (¬2) الإسراء: 107 - 109. (¬3) الزمر: 22 - 23. (*) قسوتها: "نسخة". (**) وبخ: "نسخة". ( ... ) كلامه: "نسخة". (¬4) الحديد: 16. (¬5) برقم (3027). (¬6) أخرجه النسائي في "الكبرى" في التفسير - كما في "تحفة الأشراف" (7/ 70).

وخرج ابن ماجه (¬1) من حديث ابن الزبير رضي الله عنه قال: "لَمْ يَكُنْ بَيْنَ إِسْلَامِهِمْ وَبَيْنَ أَنْ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ يُعَاتِبُهُمُ اللَّهُ بِهَا إِلَّا أَرْبَعُ سِنِينَ". وقد سمع كثير من الصالحين هذه الآية تتلى، فأثرت فيهم آثارًا متعددة، فمنهم من مات عند ذلك لانصداع قلبه بها، ومنهم من تاب عند ذلك وخرج عما كان فيه. وقد ذكرنا أخبارهم في كتاب "الاستغناء بالقرآن". وقال تعالى: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} (¬2) الآية. قال أبو عمران الجوني: والله لقد صرف إلينا ربنا في هذا القرآن ما لو صرفه إِلَى الجبال لحتها و (حناها). (*). وكان مالك بن دينار رحمه الله يقرأ هذه الآية ثم يقول: أقسم لكم، لا يؤمن عبد بهذا القرآن إلا صدع قلبه. وروي عن الحسن رحمه الله تعالى قال: يا ابن آدم إذا وسوس لك الشيطان بخطيئة أو حدثت بها نفسك فاذكر عند ذلك ما حملك الله من كتابه مما لو حملته الجبال الرواسي لخشعت وتصدعت أما سمعته يقول: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} (2). فإنما ضرب لك الأمثال لتتفكر فيها، وتعتبر بها وتزدجر عن معاصي الله عز وجل، وأنت يا ابن آدم أحق أن تخشع لذكر الله، وما حملك من كتابه وآتاك من حكمة، لأنّ عليك الحساب ولك الجنة أو النار. ¬

_ (¬1) برقم (4192). (¬2) الحشر: 21. (*) جباها: "نسخة".

وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يستعيذ بالله من قلب لا يخشع، كما في "صحيح مسلم" (¬1) عن زيد بن أرقم "أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يقول: "اللهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عِلْمٍ لاً يَنْفَعُ، وَمِنْ قَلْبٍ لاً يَخْشَعُ، وَمِنْ نَفْسٍ لاً تَشْبَعُ، وَمِنْ دَعْوَةٍ لاً يُسْتَجَابُ لَهَا". وقد روي نحوه عن النبي -صلى الله عليه وسلم- من وجوه متعددة. ويروى عن كعب الأحبار قال: "مكتوب في الإنجيل: يا عيسى، قلب لا يخشع عمله لا ينفع، وصوته لا يسمع، ودعاؤه لا يرفع". قال أسد بن موسى في كتاب "الورع": ثنا مبارك بن فضالة قال: كان الحسن رحمه الله تعالى يقول إِنَّ المؤمنين لما جاءتهم هذه الدعوة من الله صدقوا بها، وأفضى يقينها إِلَى قلوبهم، وخشعت لذلك قلوبهم وأبدانهم وأبصارهم، وكنت والله إذا رأيتهم رأيت قومًا كأنهم رأي عين، فوالله ما كانوا بأهل جدل ولا باطل، ولا اطمأنوا إلا إِلَى كتاب الله، ولا أظهروا ما ليس في قلوبهم، ولكن جاءهم عن الله أمر فصدقوا به، فنعتهم الله تعالى في القرآن أحسن نعت فقال: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا} (¬2) قال الحسن: الهون في كلام العرب: اللين والسكينة والوقار. قال: {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا} (¬3) قال: حلماء لا يجهلون، وإذا جهل عليهم حلموا، يصاحبون عباد الله نهارهم بما يسمعون، ثم ذكر ليلهم خير ليل فَقَالَ: {وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا} (3) ينتصبون لله عَلَى أقدامهم، ويفترشون وجوههم لربهم سجدًا، تجري دموعهم عَلَى خدودهم فرقًا من ربهم. قال الحسن رحمه الله تعالى: لأمر ما أسهروا له ليلهم، ولأمر ما خشعوا له نهارهم، ثم قال: {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا} (¬4). قال: وكل شيء يُصيب ابن آدم ثم يزول عنه فليس بغرام، ¬

_ (¬1) برقم (2722). (¬2) الفرقان: 63. (¬3) الفرقان: 64. (¬4) الفرقان: 65.

إِنَّمَا الغرام الملازم له ما دامت السموات والأرض، قال: صدق القوم، والله الَّذِي لا إله إلا هو فعملوا ولم يتمنوا فإياكم -رحمكم الله- وهذه الأماني فإن الله لم يعط عبدًا (بأمنيته) (*) خيرًا قط في الدُّنْيَا والآخرة، وكان يقول: يا لها موعظة لو وافقت من القلوب حياة لوعتها. وقد شرع الله تعالى لعباده من أنواع العبادات ما يظهر فيه خشوع الأبدان، الناشئ عن خشوع القلب وذله وانكساره، ومن أعظم ما يظهر فيه خشوع الأبدان لله تعالى من العبادات الصلاة، وقد مدح الله تعالى الخاشعين فيها بقوله عز وجل: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} (1) وقد سبق بعض ما قاله السلف في تفسير الخشوع في الصلاة. وقال ابن لهيعة عن عطاء بن دينار رحمه الله تعالى عن سعيد بن جبير رحمه الله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} (¬1) يعني: متواضعين لا يعرف من عن يمينه ولا من عن شماله، ولا يلتفت من الخشوع لله عز وجل. وقال ابن المبارك عن أبي جعفر عن ليث عن مجاهد: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} (¬2) قال: القنوت: الركون والخشوع، وغض البصر وخفض الجناح من رهبة الله عز وجل. قال: وكان العُلَمَاء إذا قام أحدهم في الصلاة هاب الرحمن عز وجل أن يشذ نظره، أو يلتفت أو يقلب الحصى، أو يعبث بشيء أو يحدث -يعني- نفسه بشيء من الدُّنْيَا إلا ناسيًا ما دام في صلاته. وقال منصور عن مجاهد رحمه الله تعالى، في قوله تعالى: {سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ} (¬3) قال: الخشوع في الصلاة. ¬

_ (*) بالأمنية: "نسخة". (¬1) المؤمنون: 1 - 2. (¬2) البقرة: 238. (¬3) الفتح: 29.

وخرج الإمام أحمد (¬1) والنسائي (¬2) والترمذي (¬3) من حديث الفضل بن عباس رضي الله عنهما عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "الصَّلَاةُ مَثْنَى مَثْنَى، تَشَهَّدُ فِي كُلِّ رَكْعَتَيْنِ، وَتَخَشَّعُ وَتَضَرَّعُ، وَتَمَسْكَنُ وَتُقْنِعُ يَدَيْكَ" يَقُولُ: تَرْفَعُهُمَا إِلَى رَبِّكَ عَزَّ وَجَلَّ وَتَقُولُ، يَا رَبِّ يَا رَبِّ يَا رَبِّ ثَلاّثًا فَمَنْ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَهِيَ خِدَاجٌ! وفي "صحيح مسلم" (¬4) عن عثمان رضي الله عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " «مَا مِنَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ تَحْضُرُهُ صَلَاةٌ مَكْتُوبَةٌ؛ فَيُحْسِنُ وُضُوءَهَا وَخُشُوعَهَا وَرُكُوعَهَا إِلَّا كَانَتْ كَفَّارَةً لِمَا قَبْلَهَا مِنَ الذُّنُوبِ، مَا لَمْ يُؤْتِ كَبِيرَةً وَذَلِكَ الدَّهْرَ كُلَّهُ". (ومما) (*) يظهر فيه الخشوع والذل والانكسار من أفعال الصلاة: وضع اليدين إحداهما عَلَى الأخرى في حال القيام، وقد روي عن الإمام أحمد رحمه الله أنه سئل عن المراد بذلك فَقَالَ: هو ذل بين يدي عزيز. قال علي بن محمد المصري الواعظ رحمه الله تعالى: ما سمعت في العِلْم بأحسن من هذا. وروي عن بشر الحافي رحمه الله تعالى أنه قال: أشتهي منذ أربعين سنة أن أضع يدًا عَلَى يد فى الصلاة ما يمنعني من ذلك إلا أن أكون قد أظهرت من الخشوع ما ليس في قلبي مثله. وروى محمد بن نصر المروزي رحمه الله تعالى بإسناده عن أبي هريرة (¬5) رضي الله عنه قال: «يُحْشَرُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى قَدْرِ صَنِيعِهِمْ فِي الصَّلَاةِ». وفسره بعض رواته بقبض شماله بيمينه وانحنى هكذا. ¬

_ (¬1) في "المسند" (1/ 11)، (4/ 167). (¬2) في "الكبرى" (1/ 212، 450). (¬3) برقم (385). ونقل الترمذي قول البخاري: حديث صحيح. (¬4) برقم (228). (*) فمما: "نسخة". (¬5) أخرجه ابن أبي شيبة (13/ 543).

وبإسناده عن أبي صالح السمان رحمه الله تعالى قال: يبعث الناس يوم القيامة هكذا ووضع إحدى يديه عَلَى الأخرى. وملاحظة هذا المعنى في الصلاة يوجب للمصلي أن يتذكر وقوفه بين يدي الله تعالى للحساب. وكان ذو النون وحمه الله تعالى يقول في وصف العباد: لو رأيت أحدهم وقد قام إِلَى صلاته فلما وقف في محرابه واستفتح كلام سيده، خطر على قلبه أن ذلك المقام هو المقام الَّذِي يقوم الناس فيه لرب العالمين فانخلع قلبه وذهل عقله، خرجه أبو نعيم رحمه الله تعالى. ومن ذلك إقباله عَلَى الله عز وجل وعدم التفاته إِلَى غيره، وهو نوعان: أحدهما: عدم التفات قلبه إِلَى غير ما هو مناج له، وتفريغ القلب للرب عز وجل. وفي "صحيح مسلم" (¬1) عن عمرو بن عبسة رضي الله عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه ذكر فضل الوضوء وثوابه: ثم قال: "فَإِنْ هُوَ قَامَ وَصَلَّى فَحَمِدَ اللهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَمَجَّدَهُ بِالَّذِي هُوَ أَهْلَهُ، وَفَرَّغَ قَلْبَهُ لِلَّهِ إِلَّا انْصَرَفَ مِنْ خَطِيئَتِهِ كَيَوْمَ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ". والثاني: عدم الالتفات بالبصر يمينًا وشمالاً، وقصر النظر عَلَى موضع السجود وهو من لوازم خشوع القلب وعدم التفاته، ولهذا رأى بعض السلف مصليًا يعبث في صلاته فَقَالَ: لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه، وقد سبق ذكره. وخرج الطبراني (¬2) من حديث ابن سيرين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "كَانَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَلْتَفِتْ فِي صَلَاتِهِ عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ يَسَارِهِ ثُمَّ أَنْزَل اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: ¬

_ (¬1) برقم (832). (¬2) ذكره الهيثمي في "المجمع" (2/ 80) وقال: رواه الطبراني في "الأوسط"، وقال: تفرد به حبرة بن نجم الإسكندراني، ولم أجد من ترجمه، وبقية رجاله ثقات.

{قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} (¬1) فخشع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فلم يكن يلتفت يمنة ولا يسرة. ورواه غيره عن ابن سيرين رحمه الله تعالى مرسلاً (¬2) وهو أصح. وخرج ابن ماجه (¬3) من حديث أم سلمة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت: «كَانَ النَّاسُ فِي عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا قَامَ أَحَدُهُمْ يُصَلِّي لَمْ يَعْدُ بَصَرُهُ مَوْضِعَ قَدَمَيْهِ، فَتُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَكَانَ النَّاسُ إِذَا قَامَ أَحَدُهُمْ يُصَلِّي لَمْ يَعْدُ بَصَرُهُ مَوْضِعَ (جَبِينِهِ) (*)، فَتُوُفِّيَ أَبُو بَكْرٍ فَكَانَ عُمَرُ -رضي الله عنه- فَكَانَ النَّاسُ إِذَا قَامَ أَحَدُهُمْ يَلِي لَمْ يَعْدُ بَصَرُ أَحَدِهِمْ مَوْضِعَ الْقِبْلَةِ، وَكَانَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ -رضي الله عنه-، فَكَانَتِ الْفِتْنَةُ فَتَلَفَّتَ النَّاسُ يَمِينًا وَشِمَالًا». وفي "صحيح البخاري" (¬4) عَنْ عَائِشَةَ -رضي الله عنها- قَالَتْ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الِالْتِفَاتِ فِي الصَّلاَةِ فَقَالَ: «هُوَ اخْتِلاَسٌ يَخْتَلِسُهُ الشَّيْطَانُ مِنْ صَلاَةِ العَبْدِ». وخرج الإمام أحمد وأبو داود والنسائي (¬5) من حديث أبي ذر رضي الله عنه عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «لَا يَزَالُ اللَّهُ مُقْبِلًا عَلَى الْعَبْدِ فِي صَلَاتِهِ مَا لَمْ يَلْتَفِتْ، فَإِذَا الْتَفَتَ انْصَرَفَ عَنْهُ». وخرج الإمام أحمد والترمذي (¬6) من حديث الحارث الأشعري عن النبي - صلى الله عليه وسلم - "إِنَّ اللَّهَ أَمَرَ يَحْيَى بْنَ زَكَرِيَّا بِخَمْسِ كَلِمَاتٍ أَنْ يَعْمَلَ بِهِنَّ وَيَأْمُرَ بني إسرائيل أَنْ يَعْمَلُوا بِهِنَّ" فذكر منها: "وَآمُرُكُمْ بِالصَّلَاةِ، فَإِنَّ اللَّهَ يَنْصِبُ وَجْهَهُ لِوَجْهِ عَبْدِهِ مَا لَمْ يَلْتَفِتْ فَإِذَا صَلَّيْتُمْ فَلَا تَلْتَفِتُوا". ¬

_ (¬1) المؤمنون: 1 - 2. (¬2) أخرجه أبو داود فى "المراسيل" (ص8). (¬3) برقم (1634). (*) جبهته: "نسخة". (¬4) برقم (751، 3291). (¬5) أخرجه أحمد (5/ 172)، وأبو داود (909)، والنسائي فى "الصغرى" (3/ 8)، وفى "الكبرى" (1/ 356). (¬6) أخرجه أحمد (4/ 130، 202)، والترمذي (2863، 2864). قال الترمذي: حسن صحيح غريب.

وفي المعنى أحاديث أُخر متعددة. وقال عطاء: سمعت أبا هريرة يقول: «إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ فَلَا يَلْتَفِتْ، فَإِنَّهُ يُنَاجِي رَبَّهُ إِنَّ رَبَّهُ أَمَامَهُ، وَإِنَّهُ يُنَاجِيهِ فَلَا يَلْتَفِتْ». قال عطاء رحمه الله تعالى: وبلغنا أن الرب عز وجل يقول: "يَا ابْنَ آدَمَ إِلَى مَنْ تَلْتَفِتُ، أَنَا خَيْرٌ لَكَ مِمَّنْ تَلْتَفِتُ إِلَيْهِ". وخرجه البزار وغيره مرفوعًا، والموقوف أصح. وقال أبو عمران الجوني رحمه الله تعالى: أوحى الله عز وجل إِلَى موسى عليه السلام: يا موسى إذا قمت بين يدي فقم مقام العبد الحقير الذليل، وذم نفسك فهي أولى بالذم، وناجي بقلب وجل، ولسان صادق. ومن ذلك الركوع وهو ذل بظاهر الجسد؛ ولهذا كانت العرب تأنف منه ولا تفعله حتى بايع بعضهم النبي -صلى الله عليه وسلم- عَلَى أن لا يخر إلا قائمًا يعني أن يسجد من غير ركوع، كذلك فسره الإمام أحمد رحمه الله تعالى والمحققون من العُلَمَاء. وقال الله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ} (¬1) وتمام الخضوع في الركوع: أن يخضع القلب لله ويذل له فيتم بذلك خضوع العبد بباطنه وظاهره لله عز وجل، ولهذا كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول في ركوعه: "خَشَعَ لَكَ سَمْعِي وَبَصَرِي وَمُخِّي وَعِظَامِي وَمَا اسْتَقَلَّ بِهِ قَدَمِي" (¬2)، إشارة إِلَى أن خشوعه في ركوعه قد حصل بجميع جوارحه، ومن أعظمها القلب الَّذِي هو ملك الأعضاء والجوارح، فَإِذَا خشع خشعت الجوارح، والأعضاء كلها تبعًا لخشوعه. ومن ذلك السجود وهو أعظم ما يظهر فيه ذل العبد لربه عز وجل، حيث جعل العبد أشرف ما له من الأعضاء، وأعزها عليه وأعلاها حقيقة أوضع ما يمكنه، فيضعه في التراب متعفرًا ويتبع ذلك انكسار القلب وتواضعه وخشوعه لله عز وجل. ¬

_ (¬1) المرسلات: 48. (¬2) تقدم تخريجه.

ولهذا كان جزاء المؤمن إذا فعل ذلك أن يقربه الله عز وجل إِلَيْهِ فإن: «أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ» (¬1) كما صح ذلك عن النبي -صلى الله عليه وسلم-. وقال الله تعالى: {وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} (¬2). والسجود أيضاً مما كان يأنف منه المشركون المستكبرون عن عبادة الله عز وجل، وكان بعضهم يقول: أكره ان أسجد فتعلوني استي، وكان بعضهم يأخذ كفًّا من حصى، فيرفعه إِلَى جبهته ويكتفي بذلك عن السجود. وإبليس إِنَّمَا طرده الله لما استكبر عن السجود لمن أمره الله بالسجود له. ولهذا يبكي إذا سجد المؤمن ويقول: أمر ابن آدم بالسجود ففعل فله الجنة، وأمرت بالسجود فعصيت فلي النار (¬3). ومن تمام خشوع العبد لله عز وجل وتواضعه له في ركوعه وسجوده، أنه إذا ذل لربه بالركوع والسجود وصف رَبَّه حينئذ بصفات العز والكبرياء والعظمة والعلو، فكأنه يقول: الذل والتواضع وصفي، والعلو والعظمة والكبرياء وصفك، فلهذا شرع للعبد في ركوعه أن يقول: سبحان ربي العظيم، وفي سجوده سبحان ربي الأعلى (¬4). وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - أحيانًا يقول في سجوده: «سُبْحَانَ ذِي الْمَلَكُوتِ وَالْجَبَرُوتِ، وَالْكِبْرِيَاءِ وَالْعَظَمَةِ» (¬5). وروي عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه قال ليلة في سجوده: "أَقُولُ كَمَا قَالَ أَخِي دَاوُدُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: أُعَفِّرُ وَجْهِي فِي التُّرَابِ لِسَيِّدِي، وَحَقٌّ لِسَيِّدِي أَنْ تُعَفَّرَ الْوُجُوهُ لِوَجْهِهِ" (¬6). ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (482). (¬2) العلق: 19. (¬3) أخرجه مسلم (81). (¬4) أخرجه مسلم (772). (¬5) أخرجه أحمد (6/ 24)، وأبو داود (873)، والنسائي (2/ 191، 223). (¬6) أخرجه البيهقي في "شعب الإيمان" (3556).

قال الحسن رحمه الله تعالى: «إِذَا قُمْتَ إِلَى الصَّلَاةِ فَقُمْ قَانِتًا كَمَا أَمَرَكَ اللَّهُ، وَإِيَّاكَ وَالسَّهْوَ وَالِالْتِفَاتَ، إِيَّاكَ أَنْ يَنْظُرَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَتَنْظُرَ إِلَى غَيْرِهِ، وَتَسْأَلُ اللَّهَ الْجَنَّةَ وَتَعَوَّذُ بِهِ مِنَ النَّارِ، وَقَلْبُكَ سَاهٍ وَلَا تَدْرِي مَا تَقُولُ بِلِسَانِكَ»، خرجه محمد بن نصر المروزي (¬1) رحمه الله تعالى. وروي بإسناده (¬2) عن عثمان بن أبي دهرش قال: بلغني أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- صَلَّى صَلَاةً جَهَرَ فِيهَا بِالْقِرَاءَةِ، فَلَمَّا فَرَغَ قَالَ: "هَلْ أَسْقَطْتُ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ فِي شَيْئًا؟ قَالُوا: لاَ نَدْرِي، قَالَ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ: نَعَمْ آيَةَ كَذَا وَكَذَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا بَالُ أَقْوَامٍ، يُتْلَى عَلَيْهِمْ كِتَابُ اللَّهِ فَلَا يَدْرُونَ مَا يُتْلَى مِنْهُ مِمَّا تُرِكَ، هَكَذَا خَرَجَتْ عَظَمَةُ اللَّهِ مِنْ قُلُوبِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَشَهِدَتْ أَبْدَانُهُمْ وَغَابَتْ قُلُوبُهُمْ، وَلَا يَقْبَلُ اللَّهُ مِنْ عَبْدٍ عَمَلًا حَتَّى يَشْهَدَ بِقَلْبِهِ مَعَ بَدَنِهِ». والآثار في هذا المعنى كثيرة جدًّا. ومر عصام بن يوسف رحمه الله تعالى بحاتم الأصم وهو يتكلم في مجلسه فَقَالَ: يا حاتم تحسن تصلي؟ قال: نعم! قال: كيف تصلي؟ قال حاتم: أقوم بالأمر وأمشي بالخشية، وأدخل بالنية، وأكبر بالعظمة، وأقرأ بالترتيل والتفكر، وأركع بالخشوع، وأسجد بالتواضع، وأجلس للتشهد بالتمام، وأسلم بالسبيل والسنة، وأسلمها بالإخلاص إِلَى الله عز وجل، وأرجع عَلَى نفسي بالخوف، أخاف أن لا يقبل مني، وأحفظه بالجهد إِلَى الموت، قال: تكلم فأنت تحسن تصلي. ومن أنواع العبادات التي يظهر فيها الذل والخشوع لله عز وجل: الدعاء، قال الله تعالى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} (¬3) وقال: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} (¬4). فمما يظهر فيه الذل من الدعاء رفع اليدين. ¬

_ (¬1) في "تعظيم قدر الصلاة" (1/ 189 رقم 140). (¬2) المصدر السابق (1/ 198 رقم 157). (¬3) الأعراف: 55. (¬4) الأنبياء: 90.

وقد صح (¬1) عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه رفع يديه في الدعاء في مواطن كثيرة، وأعظمها في الاستسقاء فإنه كان يرفع فيه يديه حتى يرى بياض إبطيه، وكذلك كان يجتهد في الرفع عشية عرفة بعرفة، وخرج الطبراني (¬2) رحمه الله تعالى من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: "رأيتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدعو بعرفة ويداه إِلَى صدره كاستطعام المسكين". وقد كان بعض الخائفين يجلس بالليل ساكنًا مطرقًا برأسه، ويمد يديه كحال السائل، وهذا من أبلغ صفات الذل وإظهار المسكنة والافتقار. ومن ذلك أيضاً افتقار القلب في الدعاء، وانكساره لله عز وجل، واستشعاره شدة الفاقة إِلَيْهِ والحاجة لديه، وعلى قدر هذه الحرقة والفاقة تكون إجابة الدعاء. وفي "المسند" والترمذي (¬3) عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَجِيبُ دُعَاءً مِنْ قَلْبٍ غَافِلٍ لَاهٍ". ومن ذلك إظهار الذل باللسان في نفس السؤال والدعاء والإلحاح فيه، قال الأوزاعي رحمه الله تعالى: كان يقال: أفضل الدعاء الإلحاح عَلَى الله والتضرع إِلَيْهِ. وفي "الطبراني" (¬4) عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي -صلى الله عليه وسلم- دعا يوم عرفة فَقَالَ: «اللَّهُمَّ إِنَّكَ تَرَى مَكَانِي وَتَسْمَعُ كَلَامِي لاً يَخْفَى عَلَيْكَ شَيْءٌ مِنْ ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (1031)، وسلم (895). (¬2) في "الأوسط" (2892). قال الهيثمي في "المجمع" (10/ 168): وفيه الحسين بن عبد الله بن عبيد الله، وهو ضعيف. (¬3) أخرجه أحمد (2/ 177)، والترمذي (3479). قال الترمذي: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه. (¬4) في "المعجم الكبير" (11/ 11405)، وفي "المعجم الصغير" (696) وقال: لم يروه عن عطاء إلا إسماعيل، ولا عنه إلا يحيى، تفرد به ابن بكير. قال الهيثمي في "المجمع" (3/ 252): فيه يحيى بن صالح الأبلي. قال العقيلي: روى عنه يحيى بن بكير مناكير، وبقية رجاله رجال الصحيح.

أَمْرِي, أَنَا الْبَائِسُ الْفَقِيرُ الْمُسْتَغِيثُ الْمُسْتَجِيرُ الْوَجِلُ الْمُشْفِقُ, الْمُقِرُّ الْمُعْتَرِفُ بِذَنَبِهِ, أَسْأَلُكَ مَسْأَلَةَ الْمِسْكِينِ وَأَبْتَهِلُ إِلَيْكَ ابْتِهَالَ الْمُذْنِبِ الذَّلِيلِ, وَأَدْعُوكَ دُعَاءَ الْخَائِفِ الضَّرِيرِ, دُعَاءَ مَنْ خَضَعَتْ لَكَ رَقَبَتُهُ, وَذَلَّ جَسَدُهُ, وَرَغِمَ لَكَ أَنْفُهُ, اللَّهُمَّ لاً تَجْعَلْنِي بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا, وَكُنْ بِي بَارًّا رَءُوفًا رَحِيمًا, يَا خَيْرَ الْمَسْئُولِينَ, وَيَا خَيْرَ الْمُعْطِينَ»، وكان بعضهم يقول في دعائه: (بعزتكم) (*) وذلي، (وبغناك) (**) وفقري. وقال طاوس رحمه الله تعالى: دخل علي بن الحسين رحمه الله تعالى ذات ليلة الحجرة (فصلى) ( ... )، فسمعت يقول في سجوده: (عبدك) (****) بِفِنَائِكَ، مسكينك بِفِنَائِكَ، فقيرك بِفِنَائِكَ، سألك بِفِنَائِكَ. قال طاوس: فحفظتهن، فما دعوت بهن في كرب إلا فرج عني. خرج ابن أبي الدُّنْيَا. وروى ابن باكويه الصوفي رحمه الله تعالى بإسناد له، أن بعض العباد حج ثمانين حجة عَلَى قدميه، فبينما هو فى الطواف وهو يقول: يا حبيبي يا حبيبي، وإذا بهاتف يهتف به: ليس ترضى أن تكون مسكينًا حتى تكون حبيبًا؟ قال: فغشي عليه، ثم كنت بعد ذلك أقول: مسكينك مسكينك، وأنا تائب عن قولي: حبيبي. خرج ابن ماجه (¬1) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يقول في دعائه: «اللَّهُمَّ أَحْيِنِي مِسْكِينًا، وَأَمِتْنِي مِسْكِينًا، وَاحْشُرْنِي فِي زُمْرَةِ المَسَاكِينِ». وخرج الترمذي (¬2) من حديث أنس رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مثله، وزاد: فَقَالَتْ عَائِشَةُ: -رضي الله عنها-: لِمَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «لِأَنَّهُمْ يَدْخُلُونَ ¬

_ (*) بعزك: "نسخة". (**) وغناك: "نسخة". ( ... ) يصلي: "نسخة". (****) عبيدك: "نسخة". (¬1) برقم (4126) وسبق تخريجه. (¬2) برقم (2352) وقال: هذا حديث غريب، وسبق تخريجه.

الجَنَّةَ قَبْلَ أَغْنِيَائِهِمْ بِأَرْبَعِينَ خَرِيفًا، يَا عَائِشَةُ لَا تَرُدِّي المِسْكِينَ، وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ، يَا عَائِشَةُ أَحِبِّي المَسَاكِينَ وَقَرِّبِيهِمْ، فَإِنَّ اللَّهَ يُقَرِّبُكِ يَوْمَ القِيَامَةِ». وقال أبو ذر: "أَوْصَانِي رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنْ أُحِبَّ الْمَسَاكِينَ وَأَنْ أَدْنُوَا مِنْهُمْ". خرجه الإمام أحمد (¬1) وغيره. وفي حديث معاذ رضي الله عنه عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال في قصة المنام: "أَسْأَلُكَ فِعْلَ الخَيْرَاتِ، وَتَرْكَ المُنْكَرَاتِ، وَحُبَّ المَسَاكِينِ" وذكر الحديث (¬2). والمراد بالمساكين في هذه الأحاديث ونحوها: من كان قلبه مستكنًّا لله خاضعًا له خاشعًا، وظاهره كذلك. وأكثر ما يوجد ذلك مع الفقر من المال؛ لأنّ المال يطغي. وحديث أنس رضي الله عنه يشهد بهذا إلا أن إسناده ضعيف. وخرج النسائي (¬3) من حديث أبي ذر رضي الله عنه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إِنَّ الفقر فقر النفس، والغنى غنى القلب". وفي "الصحيح" (¬4) عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إِنَّمَا الغِنَى غِنَى النَّفْسِ". ولهذا قال الإمام أحمد وابن عيينة وابن وهب وجماعة من الأئمة: إِنَّ الفقر الَّذِي استعاذ منه النبي -صلى الله عليه وسلم- هو فقر النفس، فمن استكان قلبه لله عز وجل وخشع له، فهو مسكين وإن كان غنيًّا من المال؛ لأنّ استكانة القلب لا تنفك عن استكانة الجوارح، ومن خشع ظاهره واستكان وقلبه ليس بخاشع ولا مستكين فهو جبار. ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد (5/ 159، 173)، والنسائي في "الكبرى" (6/ 96). (¬2) أخرجه أحمد (5/ 243)، والترمذي (3235) من حديث معاذ بن جبل. قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. (¬3) في "الكبرى" كما في "تحفة الأشراف" (9/ 157). (¬4) البخاري (6446)، ومسلم (1051).

وفي الحديث الَّذِي خرجه النسائي (¬1) وغيره أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مر في طريق وفيه امرأة سوداء، فَقَالَ لها رجل: هاء الطريق فقالت: إِن شاء أخذ يمنة وإن شاء أخذ يسرة، فَقَالَ رسول الله: "دَعُوهَا فَإِنَّهَا جَبَّارَةٌ" فقالوا: يا رسول الله إنها تعني إنها مسكينة، فَقَالَ: "إِنَّ ذلك في قلبها". وقال الحسن رحمه الله تعالى: إِنَّ قومًا جعلوا التواضع في لباسهم، والكبر في قلوبهم، ولبسوا مدارع (¬2) الصوف، والله لأحدهم أشد كبرًا بمدرعته من صاحب السرير بسريره، وصاحب المطرف (¬3) بمطرفه. وقد صح عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه أنكر أن يكون لبس الثوب الحسن والنعل الحسن كبرًا، وقال: "الْكِبْرُ بَطَرُ الْحَقِّ، وَغَمْطُ النَّاسِ" (¬4) وهذا تصريح بأن حسن اللباس ليس بكبر الكبر إِنَّمَا هو في القلب وهو عدم الانقياد للحق تكبرًا عليه، وغمط الناس هو: احتقارهم وازدراؤهم، فمن كان في نفسه عظيمًا بحيث يحقر الناس لاستعظام نفسه، ويأنف من الانقياد للحق تكبرًا عليه فهو المتكبر، وإن كان ثوبه ليس بحسن، ونعله ليس بحسن، ومن ترك اللباس الحسن تواضعًا لله وخشية أن يقع في نفسه شيء من الكبر فقد أحسن فيما فعل، وقد كان ابن عمر رضي الله عنهما يفعل ذلك. وقول النبي -صلى الله عليه وسلم- في الأنبجانية التي لبسها: "إِنَّهَا أَلْهَتْنِي آنِفًا عَنْ صَلاَتِي" (¬5) يدل عَلَى ذلك. (فعل النبي -صلى الله عليه وسلم-) (*). ومما اختاره النبي -صلى الله عليه وسلم- مقام العبودية عَلَى مقام الملك، وقام بين يديه - صلى الله عليه وسلم - رجل يوم الفتح فارتعد فَقَالَ له: «هَوِّنْ عَلَيْكَ، إِنِّي لَسْتُ بِمَلِكٍ إِنَّمَا أَنَا ابْنُ امْرَأَةٍ مِنْ قُرَيْشٍ تَأْكُلُ الْقَدِيدَ» (¬6). ¬

_ (¬1) في "الكبرى" (6/ 143) قال النسائي: عافيه بن يزيد ثقة، وسليمان الهاشمي لا أعرفه. (¬2) المدرعة: ثوب لا يكون إلا من صوف. "القاموس المحيط" مادة: (درع). (¬3) المُطرّف: رداء من خزٍّ مربع ذو أعلام. "القاموس المحيط" مادة: (طرف). (¬4) أخرجه مسلم (91). (¬5) أخرجه البخاري (1/ 406)، ومسلم (556). (*) كذا بالأصل، والمعنى يستقيم بدونها. (¬6) أخرجه ابن ماجه (3312).

وقد صح عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «لاَ تُطْرُونِي كَمَا أَطْرَتْ النَّصَارَى ابْنَ مَرْيَمَ فَإِنَّمَا أَنَا عَبْدٌ، فَقُولُوا عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ» (¬1). قال الإمام أحمد (¬2) رحمه الله تعالى: حدثنا محمد بن فُضيل، عن عمارة، عن أبي زرعة قال: لا أعلمه إلا عن أبي هريرة رضي الله عنه، قَالَ: "جَلَسَ جِبْرِيلُ -عَلَيْهِ السَّلاَمُ- إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَظَرَ إِلَى السَّمَاءِ، فَإِذَا مَلَكٌ (مهول) (*)، فَقَالَ جِبْرِيلُ -عَلَيْهِ السَّلاَمُ-: إِنَّ هَذَا الْمَلَكَ مَا نَزَلَ مُنْذُ يَوْمِ خُلِقَ قَبْلَ السَّاعَةِ، فَلَمَّا نَزَلَ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ، أَرْسَلَنِي إِلَيْكَ رَبُّكَ أَفَمَلِكًا نَبِيًّا يَجْعَلُكَ أَوْ عَبْدًا رَسُولًا؟ قَالَ جِبْرِيلُ: تَوَاضَعْ لِرَبِّكَ يَا مُحَمَّدُ. قَالَ: «بَلْ عَبْدًا رَسُولًا». ومن "مراسيل يحيى بن أبي كثير" رحمه الله تعالى أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «آكُلُ كَمَا يَأْكُلُ الْعَبْدُ، وَأَجْلِسُ كَمَا يَجْلِسُ الْعَبْدُ، فَإِنَّمَا أَنَا عَبْدٌ» خرجه ابن سعد في "طبقاته" (¬3). وخرجه أيضاً (¬4) من رواية أبي معشر، عن المقبري، عن عائشة رضي الله عنها أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "أَتَانِي مَلَكٌ فَقَالَ: إِنَّ رَبَّكَ يَقْرَأُ عَلَيْكَ السَّلَامَ وَيَقُولُ لَكَ: إِنْ شِئْتَ نَبِيًّا مَلَكًا، وَإِنْ شِئْتَ عَبْدًا رَسُولاً فَأَشَارَ إِلَى جِبْرِيلَ -عليه السلام-: أَنْ ضَعْ نَفْسَكَ. فَقُلْتُ: نَبِيًّا عَبْدًا. قَالَتْ: فَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ ذَلِكَ لاً يَأْكُلُ مُتَّكِئًا يَقُولُ: «آكُلُ كَمَا يَأْكُلُ الْعَبْدُ وَأَجْلِسُ كَمَا يَجْلِسُ الْعَبْدُ». ومن "مراسيل الزهري" (¬5) رحمه الله تعالى قال: بلغنا أنه أتى النبي -صلى الله عليه وسلم- ملك لم يأته قبلها، ومعه جبريل عليه السلام، فَقَالَ الملك -وجبريل عليه السلام صامت-: إِنَّ رَبَّكَ يُخَيِّرُكَ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ [نَبِيًّا] (¬6) مَلِكًا أَوْ نَبِيًّا عَبْدًا، ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (3446). (¬2) (2/ 231). (*) ينزل: "نسخة". (¬3) "الطبقات الكبرى" (1/ 371) طبعة دار صادر. (¬4) "الطبقات الكبرى" (1/ 381). (¬5) أخرجه ابن سعد أيضًا في "الطبقات الكبرى" (1/ 381). (¬6) من "الطبقات الكبرى".

فنظر النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى جبريل عليه السلام (كالمستشير) (*)، فأشار إِلَيْهِ أن تواضع، فَقَالَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "نبيًّا عبدًا". قال الزهري: فزعموا أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يأكل منذ قالها متكئًا حتى فارق الدُّنْيَا. وفي "المسند" و"كتاب الترمذي" (¬1) عن أبي أمامة رضي الله عنه عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "عَرَضَ عَلَيَّ رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ لِيَجْعَلَ لِي بَطْحَاءَ مَكَّةَ ذَهَبًا فَقُلْتُ: لَا يَا رَبِّ، وَلَكِنْ أَشْبَعُ يَوْمًا وَأَجُوعُ يَوْمًا" وَقَالَ ثَلَاثًا أَوْ نَحْوَ هَذَا: "فَإِذَا جُعْتُ تَضَرَّعْتُ إِلَيْكَ وَذَكَرْتُكَ، وَإِذَا شَبِعْتُ شَكَرْتُكَ وَحَمِدْتُكَ". قال بعض العارفين: من ادعى العبودية وله مراد باق فيه، فهو كاذب في دعواه، إنما تصح العبودية لمن أفنى مراداته، وقام بمراد سيده، يكون اسمه ما سُمِّيَ به، ونعته ما (خلي) (**) به، إذا دُعِيَ باسمه أجاب عن العبودية، فلا اسم له ولا رسم، ولا يجيب إلا لمن يدعوه بعبودية سيده، وأنشد يقول: يا عمرو ثاري عند زهرائي ... يعرفه السامع والرائي لا تدعني إلا بيا عبدها ... فإنه أصدق أسمائي تمت والحمد لله وصلى الله عَلَى سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم. ... ¬

_ (*) كالمستأمر له: "نسخة". (¬1) أخرجه أحمد (5/ 254)، والترمذي (2347) وقال الترمذى: هذا حديث حسن. (**) حلي:"نسخة".

11 - كشف الكربة في وصف حال أهل الغربة

كشف الكربة في وصف حال أهل الغربة

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم قال الشيخ الإمام العالم العلامة الحبر الكامل شيخ الإسلام قدوة الأنام، وحيد عصره وفريد دهره، سيدنا وشيخنا أبو الفرج عبد الرحمن بن سيدنا وشيخنا الإمام شهاب الدين أحمد بن رجب الحنبلي، فسح الله في مدته، ونفع به: الحمد لله رب العالمين حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، كما يحب ربنا ويرضى، وكما ينبغي لكرم وجهه وعز جلاله، وصلى الله عَلَى سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا. خرج مسلم في "صحيحه" (¬1) من حديث أبي هريرة، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «بَدَأَ الْإِسْلَامُ غَرِيبًا، وَسَيَعُودُ غَرِيبًا كَمَا بَدَأَ، فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ»، ومن حديث ابن عمر (¬2)، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إِنَّ الْإِسْلَامُ غَرِيبًا وَسَيَعُودُ غَرِيبًا كَمَا بَدَأَ". وخرجه الإمام أحمد (¬3) وابن ماجه (¬4) من حديث ابن مسعود بزيادة في آخره: "قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَنِ الْغُرَبَاءُ؟ قَالَ: «النُّزَّاعُ مِنَ الْقَبَائِلِ». وخرجه أبو بكر الآجري (¬5)، وعنده: قِيلَ: وَمَنْ هُمْ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: "الَّذِينَ يُصْلِحُونَ إِذَا فَسَدَ النَّاسُ". وخرجه غيره، وعنده: قال: "الذين يفرون بدينهم من الفتن" (¬6). ¬

_ (¬1) برقم (145). (¬2) أخرجه مسلم (146)، وزاد: وهو يأرز بين المسجدين كما تأرز الحية إِلَى حجرها. (¬3) (1/ 398). (¬4) برقم (3988). (¬5) في كتاب "الغرباء" (4). (¬6) أخرجه ابن المبارك في "الزهد" (1513)، ونعيم بن حماد في "الفتن" (168) بلفظ: "الذين يفرون بدينهم يجتمعون إِلَى عيسى بن مريم .... ".

وخرجه الترمذي (¬1) من حديث كثير بن عبد الله المزني، عن أبيه، عن جده، عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ الدِّينَ بَدَأَ غَرِيبًا، وَيَرْجِعُ غَرِيبًا، فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ، الَّذِينَ يُصْلِحُونَ مَا أَفْسَدَ النَّاسُ مِنْ بَعْدِي مِنْ سُنَّتِي". وخرجه الطبراني (¬2) من حديث جابر، عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، وفي حديثه: "قِيلَ: وَمَنْ هُمْ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: "الَّذِينَ يُصْلِحُونَ حِينَ فَسَدَ النَّاسُ". وخرجه أيضاً (¬3) من حديث سهل بن سعد بنحوه. وخرجه الإمام أحمد (¬4) من حديث سعد بن أبي وقاص، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وفي حديثه: "فَطُوبَى يَوْمَئِذٍ لِلْغُرَبَاءِ، إِذَا فَسَدَ النَّاسُ". وخرج الإمام أحمد (¬5) والطبراني (¬6) من حديث عبد الله بن عمرو، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «طُوبَى لِلْغُرَبَاءِ. قُلْنَا: وَمَا الْغُرَبَاءُ؟ قَالَ: «قَوْمٌ صَالِحُونَ قَلِيلٌ فِي نَاسِ سَوْءٍ كَثِيرٍ، مَنْ يَعْصِيهِمْ أَكْثَرُ مِمَّنْ يُطِيعُهُمْ». وروي عن عبد الله بن عمرو مرفوعًا (¬7) وموقوفًا (¬8) في هذا الحديث: قِيلَ: وَمَنِ الْغُرَبَاءُ؟ قَالَ: «الْفَرَّارُونَ بِدِينِهِمْ, يَبْعَثُهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَعَ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ». فقوله -صلى الله عليه وسلم-: "بَدَأَ الْإِسْلَامُ غَرِيبًا" يريد به أن الناس كانوا قبل مبعثه -صلى الله عليه وسلم- عَلَى ضلالة عامة، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم- في حديث عياض بن حمار الَّذِي خرجه مسلم (¬9): "إِنَّ اللهَ نَظَرَ إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ فَمَقَتَهُمْ، عَرَبَهُمْ وَعَجَمَهُمْ، إِلَّا بَقَايَا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ". ¬

_ (¬1) برقم (2630) (¬2) في "الأوسط" (4915، 8716). (¬3) في "الكبير" (6/ 202)، وفي "الصغير" (290). (¬4) (4/ 16). (¬5) (2/ 177، 222). (¬6) في "الأوسط" (8986). (¬7) أخرجه عبد الله بن أحمد في "زوائد الزهد" (ص149) ومن طريقه: أبو نعيم في "الحلية" (1/ 25)، والبيهقي في "الزهد الكبير" (204). (¬8) أخرجه أحمد في "الزهد" (ص77). (¬9) برقم (2865).

فلما بُعث النبي -صلى الله عليه وسلم- ودعا إِلَى الإسلام لم يستجيب في أول الأمر إلا الواحد بعد الواحد من كل قبيله، وكان المستجيب له خائفًا من عشيرته وقبيلته، يؤذى غاية الأذى، وينال منه وهو صابر عَلَى ذلك في الله عز وجل، وكان المسلمون إذ ذاك مستضعفين، يطردون ويشردون كل مشرد، ويهربون بدينهم إِلَى البلاد النائية، كما هاجروا إِلَى الحبشة مرتين، ثم هاجروا إِلَى المدينة، وكان منهم من يعذب في الله، وفيهم من قتل، فكان الداخلون فى الإسلام حينئذٍ غرباء. ثم ظهر الإسلام بعد الهجرة إِلَى المدينة وعزّ، وصار أهله ظاهرين كل الظهور، ودخل الناس بعد ذلك في دين الله أفواجًا، وأظهر الله لهم الدين، وأتم عليهم النعمة. وتوفي النبي -صلى الله عليه وسلم- والأمر عَلَى ذلك، وأهل الإسلام عَلَى غاية من الاستقامة. في دينهم وهم متعاضدون متناصرون، وكانوا عَلَى ذلك في زمن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، ثم أعمل الشيطان مكائده عَلَى المسلمين، وألقى بأسهم بينهم، وأفشى فيهم فتنة الشهوات والشبهات، ولم تزل هاتان الفتنتان لتزايدان شيئًا فشيئًا، حتى استحكمت مكيدة الشيطان، وأطاعه أكثر الخلق، فمهنم من دخل في طاعته في فتنة الشبهات، ومنهم من دخل في فتنة الشهوات، ومنهم من جمع بينهما، وكل ذلك مما أخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- بوقوعه. فأما فتنة الشبهات، فقد روي عنه -صلى الله عليه وسلم- من غير وجه أن أمته ستفترق عَلَى أزيد من سبعين فرقة، عَلَى (خلاف) (*) الروايات في عدد الزائد عَلَى السبعين، وأن جميع تلك الفرق في النار إلا فرقة واحدة، وهي من كان عَلَى ما هو عليه وأصحابه. وأما فتنة الشهوات، ففي "صحيح مسلم" (¬1)، عن عبد الله بن عمرو، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «كَيفَ أَنتُمْ إِذَا فُتِحَتْ عَلَيْكُمْ خَزَائِنُ فَارِسَ وَالرُّومِ، أَيُّ قَوْمٍ ¬

_ (¬1) برقم (2962). (*) اختلاف: "نسخة".

أَنْتُمْ؟» فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ: نَقُولُ كَمَا أَمَرَنَا اللَّهُ. قَالَ: «أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ، تَتَنَافَسُونَ، ثُمَّ تَتَحَاسَدُونَ، ثُمَّ تَتَدَابَرُونَ، ثُمَّ (تَتَبَاغَضُونَ)» (*). وفي "صحيح البخاري" (¬1)، عن عمرو بن عوف، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: وَاللَّهِ مَا الفَقْرَ أَخْشَى عَلَيْكُمْ، وَلَكِنِّي أَخْشَى عَلَيْكُمُ أَنْ تُبْسَطَ عَلَيْكُمُ الدُّنْيَا كَمَا بُسِطَتْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، فَتَنَافَسُوهَا كَمَا تَنَافَسُوهَا وَتُهْلِكَكُمْ كَمَا أَهْلَكَتْهُمْ». وفي "الصحيحين" (¬2) من حديث عقبة بن عامر، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- معناه أيضاً. ولما فتحت كنوز كسرى عَلَى عمر رضي الله عنه بكى وقال: إِنَّ هذا لم يفتح عَلَى قوم قط إلا جُعِلَ بأسُهُمْ بينهم -أو كما قال. وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يخشى عَلَى أمته هاتين الفتنتين، كما في "مسند الإمام أحمد" (¬3)، عن أبي برزة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إِنَّمَا أَخْشَى عَلَيْكُمْ شَهَوَاتِ الْغَيِّ فِي بُطُونِكُمْ وَفُرُوجِكُمْ، وَمُضِلَّاتِ الفِتَنِ»، وفي رواية: «وَمُضِلَّاتِ الْهَوَى». فلما دخل أكثر الناس في هاتين الفتنتين أو إحداهما أصبحوا متقاطعين متباغضين، بعد أن كانوا إخوانًا متحالين متواصلين، فإن فتنة الشهوات عمت غالب الخلق، فافتتنوا بالدنيا وزهرتها، وصارت غاية قصدهم، لها يطلبون، وبها يرضون، ولها يغضبون، ولها يوالون، وعليها يعادون، فقطعوا لذلك أرحامهم، وسفكوا دماءهم، وارتكبوا معاصي الله بسبب ذلك. ¬

_ (*) تتضاغنون: "نسخة". (¬1) برقم (3158، 4015، 6425)، وكذا مسلم (9261). (¬2) أخرجه البخاري (6426)، ومسلم (2296). (¬3) (4/ 420).

وأما فتنة الشبهات والأهواء الضلة فبسببها تَفَرَّقَ أهل القبلة، وصاروا شيعًا، وكفَّر بعضهم بعضًا، وصاروا أعداءً وفرقًا وأحزابًا، بعد أن كانوا إخوانًا قلوبهم عَلَى قلب رجل واحدٍ، فلم ينج من هذه الفرق إلا الفرقة الواحدة الناجية، وهم المذكورون في قوله - صلى الله عليه وسلم -: «لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ، لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ، أَوْ خَالَفَهُم حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللهِ، وَهُمْ عَلَى ذَلِكَ» (¬1). وهم في آخر الزمان الغرباء المذكورون في هذه الأحاديث، الذين يصلحون إذا فسد الناس، وهم الذين يصلحون ما أفسد الناس من السنة، وهم الذين يفرون بدينهم من الفتن، وهم النُّزَّاع من القبائل؛ لأنهم قلُّوا، فلا يوجد في كل قبيلة منهم إلا الواحد والاثنان، وقد لا يوجد في بعض القبائل منهم أحد، كما كان الداخلون إِلَى الإسلام في أول الأمر كذلك، وبهذا فسر الأئمة هذا الحديث. قال الأوزاعي في قوله - صلى الله عليه وسلم -: «بَدَأَ الْإِسْلَامُ غَرِيبًا وَسَيَعُودُ غَرِيبًا كَمَا بَدَأَ»: أما إنه ما يذهب الإسلام، ولكن يذهب أهل السنة حتى ما يبقى في البلد منهم إلا رجل واحد. ولهذا المعنى يوجد في كلام السلف كثيرًا مدح السنة ووصفها بالغربة، ووصف أهلها بالقلة، فكان الحسن البصري رحمه الله يقول لأصحابه: يا أهل السنة، ترفقوا، رحمكم الله، فإنكم من أقل الناس. وقال يونس بن عبيد: ليس شيء أغرب من السنة، وأغرب منها من يعرفها. وروي عنه أنه قال: أصبح من إذا عرف السنة فعرفها غريبًا، وأغرب منه من يعرفها. وعن سفيان الثوري أنه قال: استوصوا بأهل السنة خيرًا، فإنهم غرباء. ومراد هؤلاء الأئمة بالسنة: طريقة النبي -صلى الله عليه وسلم- التي كان هو وأصحابه عليها، السالمة من الشبهات والشهوات. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (7311)، ومسلم (1524).

ولهذا كان الفضيل بن عياض يقول: أهل السنة من عرف ما يدخل بطنه من حلال، وذلك لأنّ أكل الحلال من أعظم خصال السنة التي كان عليها - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه رضي الله عنهم. ثم صار في عرف كثير من العُلَمَاء المتأخرين من أهل الحديث وغيرهم السنة عبارة عما سلم من الشبهات في الاعتقادات، خاصة في مسائل الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وكذلك مسائل القدر وفضائل الصحابة، وصنفوا في هذا العِلْم تصانيف سموها كتب السنة، وإنما خصوا هذا العِلْم باسم السنة؛ لأنّ خطره عظيم، والمخالف فيه عَلَى شفا هلكة. وأما السنة الكاملة فهي الطريقة السالمة من الشبهات والشهوات، كما قال الحسن ويونس بن عبيد، وسفيان والفضيل وغيرهم، ولهذا وصف أهلها بالغربة في آخر الزمان لقلتهم وعزتهم فيه، ولهذا ورد في بعض الروايات كما سبق في تفسير الغرباء: «قَوْمٌ صَالِحُونَ قَلِيلٌ فِي قَوْمِ سَوْءٍ كَثِيرٍ، مَنْ يَعْصِيهِمْ أَكْثَرُ مِمَّنْ يُطِيعُهُمْ». وفي هذا إشارة إِلَى قلة عددهم، وقلة المستجيبين لهم والقابلين منهم، وكثرة المخالفين لهم والعاصين لهم. ولهذا جاء في أحاديث متعددة مدح المتمسك بدينه في آخر الزمان، وأنه كالقابض عَلَى الجمر، وأن للعامل منهم أجر خمسين ممن قبلهم؛ لأنهم لا يجدون أعوانًا عَلَى الخير. وهؤلاء الغرباء قسمان: أحدهما: من يصلح نفسه عند فساد الناس، والثاني: من يصلح ما أفسد الناس من السنة، وهو أعلى القسمين وأفضلها. وقد خرج الطبراني وغيره (¬1) بإسناد فيه نظر من حديث أبي أمامة، عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ لِكُلَّ شَيْءٍ إِقْبَالًا وَإِدْبَارًا, وَإِنَّ لِهَذَا الدِّينِ إِقْبَالًا وَإِدْبَارًا, وَإِنَّ مِنْ إِدْبَارِ الدِّينِ مَا كُنْتُمْ عَلَيْهِ مِنَ العَمَى وَالجَهَالَةِ، وَمُخَالَفَةْ مَا بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ، وَإِنَّ مِنْ ¬

_ (¬1) ذكره الهيثمي في "المجمع" (7/ 261 - 262)، وقال: رواه الطبراني، وفيه: علي بن يزيد، وهو متروك.

إِقْبَالِ هَذَا الدِّينِ أَنْ تَفْقَهَ الْقَبِيلَةُ بِأَسْرِهَا، حَتَّى لَا يُوجَدُ فِيهَا إِلَّا الْفَاسِقُ وَالْفَاسِقَانِ، فَهُمَا مَقْهُورَانِ ذَلِيلَانِ، إِنْ تَكَلَّمَا قَمْعًا وَقَهْرًا وَاضْطُهِدَا، أَلاَ وَإِنَّ مِنْ إِدْبَارِ هَذَا الدِّينِ أَنْ تَجْفُوَ الْقَبِيلَةُ بِأَسْرِهَا، حَتَّى لاَ يُرَى فِيهَا الْفَقِيهُ وَالْفَقِيهَانِ، وَهُمَا مَقْهُورَانِ ذَلِيلَانِ، إِنْ تَكَلَّمَا فَأمَرَا بِالمَعْرُوفِ وَنَهَيَا عَنِ الْمُنْكَرِ: قمعا وقهرا وَاضْطُهِدَا، فَهُمَا مَقْهُورَانِ ذَلِيلَانِ، لاَ يَجِدَانِ عَلَى ذَلِكَ أَعْوَانًا وَلاَ أَنْصًارًا". فوصف في هذا الحديث المؤمن العالم بالسنة الفقيه في الدين بأنه يكون في آخر الزمان عند فساده مقهورًا ذليلاً، لا يجد أعوانًا ولا أنصارًا. وخرج الطبراني أيضاً بإسناد فيه ضعف، عن ابن مسعود، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في حديث طويل في ذكر أشراط الساعة قال: «وَإِنَّ مِنْ أَشْرَاطِهَا أَنْ يَكُون المُؤمن فِي القَبِيلَةِ أَذَلّ مِنَ النَّقْدِ» (¬1) والنَّقَدُ: هي الغنم الصغار. وفى "مسند الإمام أحمد" (¬2) عن عبادة بن الصامت قال لرجل من أصحابه: يوشك إِن طالت بك حياة أن ترى الرجل قد قرأ القرآن عَلَى لسان محمد -صلى الله عليه وسلم-، أو عَلَى من قرأه عَلَى لسان محمد فأعاده وأبداه، فأحل حلاله وحرم حرامه، ونزل عند منازله لا يجوز فيكم إلا كما يجوز رأس الحمار الميت. ومنه قول ابن مسعود: وسيأتي عَلَى الناس زمان يكون المؤمن فيه أذل من الأَمَة. وإنما ذل المؤمن في آخر الزمان لغربته بين أهل الفساد من أهل الشبهات والشهوات، فكلهم يكرهه ويؤدِّيه، لمخالفة طريقه لطريقهم، ومقصوده لمقصودهم، ومباينته لهم فيما هم عليه. ولما مات داود الطائي قال ابن السماك: إِنَّ داود نظر بقلبه إِلَى ما بين يديه ¬

_ (¬1) ذكره الهيثمي في "المجمع" (7/ 322 - 323) وقال: رواه الطبراني في "الأوسط" و"الكبير"، وفيه: سيف بن مسكين، وهو ضعيف. (¬2) (4/ 126).

فأغشى (بصر قلبه) (*) بصر العيون، فكأنه لم ينظر إِلَى ما أنتم إِلَيْهِ تنظرون، وكأنكم لا تنظرون إِلَى ما إِلَيْهِ ينظر، فأنتم منه تعجبون، وهو منكم يعجب، استوحش منكم أنه كان حيًّا وسط موتى. ومنهم من كان يكرهه أهله وولده لاستنكار حاله، سمع عمر بن عبد العزيز امرأته مرة تقول: أراحنا الله منك. فَقَالَ: آمين. وقد كان السلف قديمًا يصفون المؤمن بالغربة في زمانهم، كما سبق مثله عن الحسن والأوزاعي وسفيان وغيرهم. ومن كلام أحمد بن عاصم الأنطاكي -وكان من كبار العارفين في زمان أبي سليمان الداراني-: إني أدركت من الأزمنة زمانًا عاد فيه الإسلام غريبًا كما بدأ، وعاد وصف الحق فيه غريبًا كما بدأ، إِن ترغب فيه إِلَى عالم وجدته مفتونًا بحب الدُّنْيَا، يحب التعظيم والرئاسة، وإن ترغب فيه إِلَى عابد وجدته جاهلاً في عابدته مخدوعًا، صريع عدوه إبليس، قد صعد به إِلَى أعلى درجة العبادة، وهو جاهل بأدناها، فكيف له بأعلاها؟! وسائر ذلك من الرعاع قبيح أعوج، وذئاب مختلفة، وسباعٌ ضارية، وثعالب صائلة، هذا وصف عيون أهل زمانك من حملة أهل العِلْم والقرآن ودعاة الحكمة. خرجه أبو نعيم في "الحلية". فهذا وصف أهل زمانه، فكيف بما حدث بعده من العظائم والدواهي التي لم تخطر بباله، ولم تَدُر في خياله؟! وخرج الطبراني من حديث أبي هريرة، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «الْمُتَمَسِّكُ بِسُنَّتِي عِنْدَ فَسَادِ أُمَّتِي لَهُ أَجْرُ شَهِيدٍ» (¬1). ¬

_ (*) بقلبه: "من المطبوعة، وهي الطبعة المنيرية". (¬1) ذكره الهيثمي في "المجمع" (1/ 172) وقال: رواه الطبراني في "الأوسط"، وفيه محمد بن صالح العدوي، ولم أر من ترجمه، وبقية رجاله ثقات.

وخرج أبو الشيخ الأصبهانى بإسناده عن الحسن قال: لو أن رجلاً من الصدر الأول بعث اليوم: ما عرف من الإسلام شيئًا إلا هذه الصلاة، ثم قال: أما والله، لئن عاش عَلَى هذه النكرات فرأى صاحب بدعة يدعو إِلَى بدعته، وصاص دنيا يدعو إِلَى دنياه، فعصمه الله عز وجل، وقلبه يحن إِلَى ذلك السلف الصالح، فيتبع آثارهم، ويستن بسنتهم، ويتبع سبلهم كان له أجر عظم. وروى المبارك بن فضالة، عن الحسن أنه ذكر الغني المترف، الَّذِي له سلطان يأخذ المال ويدعي أنه لا عقاب فيه، وذكر المبتدع الضال الَّذِي خرج بسيفه عَلَى المسلمين، وتأول ما أنزله الله في الكفار عَلَى المسلمين ثم قال: سنتكم والله الَّذِي لا إله إلا هو بينهما بين الغالي والجافي، والمترف والجاهل، فاصبروا عليها، فإن أهل السنة كانوا أقل الناس الذين لم يأخذوا من أهل الإتراف إترافهم ولا مع أهل البدع أهواءهم، وصبروا عَلَى سنتهم، حتى أَتَوْا ربهم، فكذلك إِنَّ شاء الله فكونوا. ثم قال: والله لو أن رجلاً أدرك هذه النُّكُرات، يقول هذا: هَلُم إليَّ، ويقول هذا: هَلُم إِلَيّ، فيقول: لا أريد إلا سُنة محمد - صلى الله عليه وسلم -، يطلبها ويسأل عنها، إِنَّ هذا ليقرض له أجرٌ عظيم، فكذلك إِنَّ شاء الله فكونوا. ومن هذا المعنى ما رواه أبو نعيم وغيره، عن كميل بن زياد، عن علي رضي الله عنه أنه قال: الناس ثلاثة: فعالم رباني، ومتعلم عَلَى سبيل نجاة، وهمج رعاع، أتباع كل ناعق، يميلون مع كل ريح، لم يستضيئوا بنور العِلْم، ولم يلجئوا إِلَى ركن وثيق، ثم ذكر كلامًا في فضل العِلْم إِلَى أن قال: (هاه) (*) إِنَّ ها هنها -وأشار إِلَى صدره- علمًا، لو أصبت له حملة، بل أصيبه لقنا غير مأمون عليه نستعمل آلة الدين للدنيا، نستظهر بحجج الله عَلَى كتابه، وبنعمته عَلَى عباده أو منقادًا لأهل الحق، لا بصيرة له في أحنائه، ينقدح الشك في قلبه ¬

_ (*) آه: "نسخة".

بأول عارض من شبهة، لا ذا، ولا ذا، أو منهومًا باللذات سلس (الانقياد) (*) للشهوات، أو مغرى بجمع المال والادخار، وليسا من دعاة الدين، أقرب شبهًا بهما الأنعام السارحة، كذلك يموت العِلْم بموت حامليه، اللهم بلى لن تخلوا الأرض عن قائم لله بحجة لكيلا تبطل حجج الله وبيناته، أولئك هم الأقلون عددًا والأعظمون عند الله قدرًا، بهم يدفع الله عن حججه حتى يؤدونها إِلَى نظرائهم، ويزرعوها في قلوب أشباههم، هجم بهم العِلْم عَلَى حقيقة الأمر، فاستلانوا ما استوعر منه المترفون، وأَنَسُوا بما استوحشَ منه الجاهلون، صحبوا الدُّنْيَا بأبدان، أرواحها معلقة بالمنظر الأعلى، أولئك خلفاء الله في بلاده، ودعاته إِلَى دينه، هاه هاه شوقًا إِلَى رؤيتهم. فقسم أمير المؤمنين- رضي الله عنه حملة العِلْم إِلَى ثلاث أقسام: قسم هم أهل الشبهات، وهم من لا بصيرة له من حملة العِلْم؛ بل ينقدح الشك في قلبه بأول عارض من شبهة، فتأخذه الشبهة، فيقع في الحيرة والشكوك ويخرج من ذلك إِلَى البدع والضلالات. وقسم هم أهل الشهوات، وجعلهم نوعين: أحدهما: من يطلب الدُّنْيَا بنفس العِلْم، فيجعل العِلْم آلة لكسب الدُّنْيَا، والثاني: من يطلب الدُّنْيَا بغير العِلْم وهذا النوع ضربان: أحدهما من همه من الدُّنْيَا لذاتها وشهواتها، فهو منهوم بذلك، سريع الانقياد إِلَيْهِ، والثاني من همه جمع الدُّنْيَا واكتنازها وادخارها، وكل هؤلاء ليسوا من دعاة الدين، وإنما هم كالأنعام، ولهذا شبه الله تعالى من حُمِّل التوراة ثم لم يحملها بالحمار الَّذِي يحمل أسفارًا، وشبه عالم السوء الَّذِي انسلخ من آيات الله وأخلد إِلَى الأرض واتبع هواه بالكلب، والكلب والحمار أخس الأنعام وأضل سبيلاً. ¬

_ (*) القياد: "نسخة".

القسم الثالث من حملة العِلْم هم أهله وحملته، ورعاته والقائمون بحجج الله وبيناته، وذكر أنهم الأقلون عددًا، [الأعظمون] (*) عند الله قدرًا إشاره إِلَى قلة هذا القسم وعزته في حملة العِلْم، وغربته بينهم. وقد قسم الحسن البصري رحمه الله حملة القرآن إِلَى قريب من هذا التقسيم الَّذِي قسمه علي رضي الله عنه لحملة العِلْم. قال الحسن: قراء القرآن ثلاثة أصناف: صنف اتخذوه بضاعة يأكلون به، وصنف أقاموا حروفه وضيعوا حدوده، واستطالوا به عَلَى أهل بلادهم، واسدنوا به الولاية، كثر هذا الضرب من حملة القرآن، لا كثرهم الله. وصنف عمدوا إِلَى دواء القرآن، فوضعوه عَلَى داء قلوبهم، فركدوا به في محاريبهم، وحنوا في (برانسهم) (¬1)، واستشعروا الخوف، وارتدوا الحزن، فأولئك الذين يسقي الله بهم الغيث، وينصر بهم عَلَى الأعداء. والله لهؤلاء الضرب في حملة القرآن أعز من الكبريت الأحمر. فأخبر أن هذا القسم - وهم الذين قرءوا القرآن لله وجعلوه دواءًا لقلوبهم، فأثمر لهم الخوف والحزن- أعز من الكبريت الأحمر بين قراء القرآن. ووصف أمير المؤمين علي رضي الله عنه هذا القسم من حملة العِلْم بصفات: منها أنه هجم بهم العِلْم عَلَى حقيقة الأمر، ومعنى ذلك أن العِلْم دلهم عَلَى المقصود الأعظم منه، وهو معرفة الله تعالى، فخافوه وأحبوه، حتى سهل بذلك عليهم كل ما تعسر عَلَى غيرهم ممن لم يصل إِلَى ما وصلوا إِلَيْهِ، ممن وقف مع الدُّنْيَا وزهرتها، واغتر بها ولم يباشر قلبه معرفة الله وعظمته وإجلاله. ¬

_ (*) كتب في الهامش: الأعظم. (¬1) البرنس: قلنسوة طويلة، وكل ثوب رأسه منه ملتزق. "اللسان" مادة: "برنس". [وهو يشبه الثوب المغربي].

فلذلك قال استلانوا ما استوعر منه المترفون، فإن المترف الواقف مع شهوات الدُّنْيَا ولذاتها يصعب عليه ترك لذاتها وشهواتها؛ لأنّه لا عوض عنده من لذات الدُّنْيَا إذا تركها، فهو لا يصبر عَلَى تركها. وهؤلاء في قلوبهم العوض الأكبر بما وصلوا إِلَيْهِ من لذة معرفة الله ومحبته وإجلاله، كما كان الحسن يقول: إِنَّ أحباء الله هم الذين ورثوا طيب الحياة وذاقوا نعيمها بما وصلوا إِلَيْهِ من مناجاة حبيبهم، وبما وجدوا من لذة حبه في قلوبهم في كلام يطول ذكره هاهنا في هذا المعنى. وإنما أنس هؤلاء بما استوحش منه الجاهلون؛ لأنّ الجاهلين بالله يستوحشون من ترك الدنيا وشهواتها؛ لأنهم لا يعرفون سواها، فهي أنسهم وهؤلاء يستوحشون من ذلك، ويستأنسون بالله وبذكره، ومعرفته ومحبته وتلاوة كتابه. والجاهلون بالله يستوحشون من ذلك ولا يجدون الأنس به. ومن صفاتهم التي وصفهم بها أمير المؤمنين علي رضي الله عنه: أنهم صحبوا الدُّنْيَا بأبدان أرواحها معلقة بالمنظر الأعلى، وهذا إشارة إِلَى أنهم لم يتخذوا الدنيا وطنًا، ولا رضوا بها إقامة (ومسكنًا) (*)، إِنَّمَا اتخذوها ممرًّا ولم يجلوها مستقرًّا. وجميع الكتب والرسل أوصت بهذا، وقد أخبر الله تعالى في كتابه عن مؤمن آل فرعون أنه قال لقومه في جملة وعظه لهم: {يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ} (¬1)، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لابن عمر (¬2): «كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ»، وفي رواية: «وَعُدَّ نَفْسَكَ مِنْ أَهْلِ الْقُبُورِ» (¬3). ¬

_ (*) وسكنًا: "نسخة". (¬1) غافر: 39. (¬2) أخرجه البخاري (6416). (¬3) أخرجها أحمد (2/ 24) بلفظ: "واعدد نفسك في الموتى".

ومن وصايا المسيح المروية عنه عليه السلام، أنه قال لأصحابه: اعبروها ولا تعمروها. وعنه عليه السلام أنه قال: "من الَّذِي يبني عَلَى موج البحر دارًا؟ تلك الدُّنْيَا فلا تتخذوها قرارًا". فالمؤمن في الدُّنْيَا كالغريب المجتاز ببلدة، غير مستوطن فيها، فهو يشتاق إِلَى بلده، وهمه الرجوع إِلَيْهِ والتزود بما يوصله في طريقه إِلَى وطنه، ولا ينافس أهل ذلك البلد المستوطنين فيه في عزهم، ولا يجزع مما أصابه عندهم من الذل. قال الفضيل بن عياض: المؤمن في الدُّنْيَا مهموم حزين، همه مرمة (¬1) جهازه. وقال الحسن: المؤمن في الدُّنْيَا كالغريب لا يجزع من ذلها، ولا ينافس فى عزها، له شأن وللناس شأن. وفي الحقيقة فالمؤمن في الدُّنْيَا غريب؛ لأنّ أباه إِنَّمَا كان في دار البقاء، ثم أخرج منها، فهمه الرجوع إِلَى مسكنه الأول، فهو أبدًا يحن إِلَى وطنه الَّذِي أخرج منه كما يقال: "حب الوطن من الإيمان" (¬2). وكما قيل: وَكَمْ مَنْزِلٍ لِلْمَرْءِ يَأْلَفُهُ الْفَتَى ... وَحَنِينُهُ أَبَدًا لِأَوَّلِ مَنْزِلِ وَلِبَعْضِ شُيُوخِنَا فِي هَذَا المَعْنَى: فَحَيَّ عَلَى جَنَّاتِ عَدْنٍ فَإِنَّهَا ... مَنَازِلُكَ الْأُولَى وَفِيهَا الْمُخَيَّمُ وَلَكِنَّنَا سَبْيُ الْعَدُوِّ فَهَلْ تَرَى ... نَعُودُ إِلَى أَوْطَانِنَا وَنَسْلَمُ وَقَدْ زَعَمُوا أَنَّ الْغَرِيبَ إِذَا نَأَى ... وَشَطَّتْ بِهِ أَوْطَانُهُ فَهُوَ مُغْرَمُ وَأَيُّ اغْتِرَابٍ فَوْقَ غُرْبَتِنَا الَّتِي ... لَهَا أَضْحَتِ الْأَعْدَاءُ فِينَا تَحَكَّمُ ¬

_ (¬1) الرمُّ: إصلاح الشيء الَّذِي فسد بعضه "اللسان" مادة: (رمم). (¬2) نسب هذا القول إِلَى النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا يصح عنه. انظر "كشف الخفاء" (1/ 413/1 - 414)، و"الضعيفة" برقم (36).

والمؤمنون في هذا أقسام: منهم من قلبه معلق بالجنة، ومنهم من قلبه معلق عند خالقه، وهم العارفون، ولعل أمير المؤمنين إِنَّمَا أشار إِلَى هذا القسم، فالعارفون أبدانهم في الدُّنْيَا وقلوبهم عند المولى. وَفِي مَرَاسِيلِ الْحَسَنِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَرْوِي ذَلِكَ عَنْ رَبِّهِ تَعَالَى قَالَ: «عَلَامَةُ الطُّهْرِ أَنْ يَكُونَ قَلْبُ الْعَبْدِ عِنْدِي مُعَلَّقًا، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَنْسَنِي عَلَى حَالٍ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ مَنَنْتُ عَلَيْهِ بِالِاشْتِغَالِ بِي، كَيْ لَا يَنْسَانِي، فَإِذَا لَمْ يَنْسِنِي حَرَّكْتُ قَلْبَهُ، فَإِنْ تَكَلَّمَ تَكَلَّمَ لِي، وَإِنْ سَكَتَ سَكَتَ لِي، فَذَلِكَ الَّذِي تَأْتِيهِ الْمَعُونَةُ مِنْ عِنْدِي» (¬1). وأهل هذا الشأن هم غرباء الغرباء، وغربتهم أعز الغربة، فإن الغربة عند أهل الطريقة غربتان: ظاهرة، وباطنة. فالظاهرة: غربة أهل الصلاح بين الفساق، وغربة الصادقين بين أهل الرياء والنفاق، وغربة العُلَمَاء بين أهل الجهل وسوء الأخلاق، وغربة أهل الآخرة بين علماء الدُّنْيَا الذين سلبوا الخشية والإشفاق، وغربة الزاهدين بين الراغبين في كل ما ينفد وليس هو بباق. وأما الغربة الباطنة: فغربة الهمَّة، وهي غربة العارف بين الخلق كلهم، حتى العُلَمَاء والعباد والزهاد، فإن أولئك واقفون مع علمهم وعبادتهم وزهدهم، وهؤلاء واقفون مع معبودهم، لا يعرجون بقلوبهم عنه. كان أبو سليمان يقول في وصفهم: همتهم غير همة الناس، وإرادتهم من الآخرة غير إرادة الناس، ودعاؤهم غير دعاء الناس. وسئل عن أفضل الأعمال، فبكى وقال: أن يطَّلع عَلَى قلبك فلا يراك تريد من الدُّنْيَا والآخرة غيره. ¬

_ (¬1) ذكره ابن رجب في "جامع العلوم والحكم" في شرح الحديث الخامس عشر (1/ 342) وقال: خرجه إبراهيم بن الجنيد.

وقال يحيى بن معاذ: الزاهد غريب الدُّنْيَا، والعارف غريب الآخرة يشير إِلَى أن الزاهد غريب بين أهل الدُّنْيَا، والعارف غريب لن أهل الآخرة، لا يعرفه العباد ولا الزهاد، وإنما يعرفه من هو مثله، وهمته كهمته. وربما اجتمعت للعارف هذه الغربات كلها، أو كثير منها أو بعضها، فلا تسأل عن غربته حينئذ، فالعابدون ظاهرون لأهل الدُّنْيَا والآخرة، والعارفون مستورون عن أهل الدُّنْيَا والآخرة. قال يحيى بن معاذ: العابد مشهور والعارف مستور، وربما خفي حال العارف عَلَى نفسه؛ لخفاء حاله، وإساءته الظن بنفسه. قال إبراهيم بن أدهم: ما أرى هذا الأمر إلا في رجل لا يعرف ذاك من نفسه، ولا يعرفه الناس منه. وفي حديث سعد، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْغَنِيَّ الْخَفِيَّ التَّقِيَّ" (¬1). وفي حديث معاذ، عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ اللهَ يُحِبُّ مِنْ عِبَادِهِ الْأَخْفِيَاءَ الْأَتْقِيَاءَ، الَّذِينَ إِذَا حَضَرُوا لَمْ يُعْرَفُوا، وَإِنْ غَابُوا لَمْ يُفْتَقَدُوا أُولَئِكَ أَئِمَّةَ الْهُدَى وَمَصَابِيحُ الْعِلْمِ» " (¬2). وعن علي: طوبى لكل عبد لومة عرف الناس، ولم تعرفه الناس، وعرفه الله منه برضوان، أولئك مصالح الهدى، تجلى عنهم كل فتنة مظلمة. قال ابن مسعود رضي الله عنه: كونوا جدد القلوب، خلقان الثياب، مصابيح الظلال، تخفون عَلَى أهل الأرض وتعرفون في أهل السماء. فهؤلاء هم أخص أهل الغربة، وهم الفرارون بدينهم من الفتن، وهم النزاع من القبائل، الذين يحشرون مع عيسى ابن مريم عليه السلام، وهم بين أهل ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (2965). (¬2) أخرجه ابن ماجه (3989)، والحاكم (1/ 4)، (4/ 328).

الآخرة أعز من الكبريت الأحمر، فكيف يكون حالهم بين أهل الدُّنْيَا؟! وتخفى أحوالهم غالبًا عَلَى الفريقين كما قال القائل: تورايت من دهري بظلٍّ جناحه ... فعيني ترى دهري وليس يراني فلو تسأل الأيام ما اسمي ما درت ... وأين مكاني ما عرفن مكاني ومن ظهر منهم للناس، فهو بينهم ببدنه، وقلبه معلق بالملأ الأعلى، كما قال أمير المؤمنين في وصفهم، وكما قيل: جسمي معي غير أن الروح عندكم ... فالجسم في غربة والروح في وطن وكانت رابعة تنشد في هذا المعنى: ولقد جعلتك في الفؤاد محدثي ... وأبحت جسمي من أراد جلوسي فالجسم مني للجليس مؤانسٌ ... وحبيب قلبي في الفؤاد أنيسي وأكثرهم لا يقوى عَلَى مخالطة الخلق، فهو يفر إِلَى الخلوة بحبيبه، ولهذا كان أكثرهم يطيل الوحدة. قيل لبعضهم: ألا تستوحش؟ قال: كيف أستوحش وهو يقول: أنا جليس من ذكرني؟! وقال آخر: وهل يستوحش مع الله أحد؟ وعن بعضهم: من استوحش من وحدته فذاك لقلة أنسه بربه. كان يحيى بن معاذ كثير العزلة والانفراد، فعاتبه أخوه فَقَالَ له: إِن كنت من الناس فلابد لك من الناس، فَقَالَ يحيى: إِن كنت من الناس، فلا بد لك من الله. وقِيلَ لَهُ: إذا هجرت الخلق مع من تعيش؟ قال: مع من هجرتهم له. وأنشد إبراهيم بن أدهم في هذا المعنى: هجرت الخلق طرًّا في هواكا ... وأيتمت العيال لكي أراكا فلو قطعتني في الحب إربًا ... لما حنَّ الفؤاد إِلَى سواكا

وعوتب غزوان عَلَى خلوته فَقَالَ: أصبت راحة قلبي في مجالسة من لديه حاجتي. ولغربتهم بين الناس ربما نسب بعضهم إِلَى الجنون لبعد حاله من حال الناس، كما كان أويس يقال ذلك عنه. وكان أبو مسلم الخولاني كثير اللهج بالذكر، لا يفتر لسانه منه، فَقَالَ رجل لجلسائه: أمجنون صاحبكم؟ قال أبو مسلم: لا يا أخي، ولكن هذا دواء الجنون. وفي الحديث (¬1) عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: «اذْكُرُوا اللَّهَ حَتَّى يَقُولُوا مَجْنُونٌ». وقال الحسن في صفتهم: إذا نظر إليهم الجاهل حسبهم مرضى وما بالقوم مرض. ويقول: قد خولطوا، وقد خالط القوم أمرٌ عظيم، هيهات والله مشغولون عن دنياكم. وفي هذا المعنى يقول القائل: وحرمة الود ما لي عنكم عوض ... وليس لي في سواكم سادتي غرضُ ومن حديثي بكم قالوا به مرضٌ ... فقلتُ لا زال عني ذلك المرضُ وفي الحديث (¬2): «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْصَى رَجُلًا فَقَالَ: اسْتَحْيِ مِنَ اللَّهِ كَمَا تَسْتَحْيِي مِنْ رَجُلَيْنِ مِنْ صَالِحِي عَشِيرَتِكَ، لَا يُفَارِقَانِكَ». وفي حديث آخر عنه -صلى الله عليه وسلم- قال: «أَفْضَلَ الْإِيمَانِ أَنْ تَعْلَمَ أَنَّ اللَّهَ مَعَكَ حَيْثُ كُنْتُ» (¬3). ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد (3/ 68)، وعبد بن حميد (925)، وأبو يعلى (1376)، وابن عدي فى "الكامل" (3/ 980)، وابن حبان (816)، والحاكم (1/ 499) من حديث أبي سعيد الخدري. وإسناده ضعيف، لضعف رواية دراج أبي السمح عن أبي الهيثم. والحديث استنكره ابن عدي فى "الكامل" والذهبي فى "الميزان". (¬2) أخرجه ابن عدي في "الكامل" (2/ 560، 4/ 1410) وهو ضعيف. (¬3) أخرجه الطبراني في "الأوسط" و"الكبير" كما فى "مجمع الزوائد" (1/ 60).

وفي حديث آخر: "أَنَّهُ سُئِلَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا تَزْكِيَةُ الْمَرْءِ نَفْسَهُ؟ قَالَ: «أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ اللَّهَ مَعَهُ حَيْثُ كَانَ» (¬1). وفي حديث آخر عنه - صلى الله عليه وسلم - قال: "ثَلَاثَةٌ فِي ظِلِّ اللهِ يَوْمَ لاً ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ ... فذكر منهم رَجُلٌ حَيْثُ تَوَجَّهَ عَلِمَ أَنَّ اللهَ مَعَهُ" (¬2). وثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه سئل عن الإحسان فَقَالَ: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه، فإنه يراك" (¬3). ولأبي عبادة البختري في هذا المعنى أبيات حسنة، لكنه أساء بقولها في مخلوق، وقد أصلحت منها كلمات حتى استقامت عَلَى الطريقة: كَأَن رقيبا مِنْك يرْعَى خواطري ... وَآخر يرْعَى ناظري ولساني فَمَا أَبْصرت عَيْنَايَ بعْدك منْظرًا ... يسوءك إِلَّا قلت قد رمقاني وَلَا بدرت من فِيّ بعْدك لَفْظَة ... لغيرك إِلَّا قلت قد سمعاني وَلَا خطرت من ذكر غَيْرك خطرة ... على الْقلب إِلَّا عرجا بعناني إذا ما تسلى القاعدون عن الهوى ... بذكر فلانٍ أو كلام فلان وجدت الَّذِي يسلّى سواى يشوقني ... إِلَى قربكم حتى أملّ مكاني إخوان صدق قد سئمت لقاهمُ ... وغضضت طرفي عنهم ولساني وما البعض أسلى عنهم غير أني ... أراك عَلَى كل الجهات تراني انتهى ما ذكره الشيخ فسح الله في مدته من هذا الكلام، والحمد لله وحده، وصلى الله عَلَى سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا. "بلغ مقابلة عَلَى أصل مقروء عَلَى المؤلف وعليه خطه رحمه الله". ... ¬

_ (¬1) أخرجه الطبراني في "الصغير" (1/ 201، 557). (¬2) أخرجه الطبراني في "الكبير" (8/ 286) من حديث أبي أمامة. قال الهيثمي في "المجمع" (10/ 279): وفيه بشر بن نمير، وهو متروك .. (¬3) أخرجه مسلم (8).

12 - جزء من الكلام على حديث شداد بن أوس «إذا كنز الناس الذهب والفضة»

جزء من الكلام على حديث شداد بن أوس "إذا كنز الناس الذهب والفضة"

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وبه نستعين قال الشيخ الإمام العالم العلامة شيخ الإسلام أبو الفرج عبد الرحمن بن رجب الحنبلي، رحمه الله تعالى: خرَّج الإمام أحمد (¬1) من حديث شداد بن أوس رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: «إِذَا كَنَزَ النَّاسُ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ، فَاكْنِزُوا أَنْتُمْ هَؤُلاَءِ الْكَلِمَاتِ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الثَّبَاتَ فِي الْأَمْرِ، وَالْعَزِيمَةَ عَلَى الرُّشْدِ، وَأَسْأَلُكَ شُكْرَ نِعْمَتِكَ، وَحُسْنَ عِبَادَتِكَ، وَأَسْأَلُكَ قَلْبًا سَلِيمًا، وَأَسْأَلُكَ لِسَانًا صَادِقًا، وَأَسْأَلُكَ مِنْ خَيْرِ مَا تَعْلَمُ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا تَعْلَمُ، وَأَسْتَغْفِرُكَ لِمَا تَعْلَمُ، إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ». وخرجه الترمذي (¬2) مختصرًا، وابن حبان في "صحيحه" (¬3)، والحاكم (¬4) وصححه. وله طرق متعددة عن شداد. وفي بعض طرقه "أن النبي -صلى الله عليه وسلم- علمهم أن يدعوا بهذه الكلمات في الصلاة، أو في دبر الصلاة" (¬5). فقوله -صلى الله عليه وسلم-: "إِذَا كَنَزَ النَّاسُ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ، فَاكْنِزُوا أَنْتُمْ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ": إشارة إِلَى أن كنز هذه الكلمات، أنفع من كنز الذهب والفضة. فإن هذه الكلمات نفعها يبقى، والذهب والفضة يفنى، قال الله تعالى: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا ¬

_ (¬1) (4/ 123). (¬2) برقم (3407). (¬3) كما في "الإحسان" (935). (¬4) (1/ 508). (¬5) أخرجه أحمد (4/ 125).

وَخَيْرٌ أَمَلًا} (¬1) وقال تعالى: {مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ} (¬2). وقد رُوي أن سليمان بن داود -عليهما السلام- مرَّ في موكبه، ومعه الإنس والجن بحرَّاث، فَقَالَ الحراث: لقد أوتي ابن داود ملكًا عظيمًا! فأتاه سليمان فَقَالَ له: تسبيحة واحدة خير من ملك سليمان؛ لأنّ التسبيحة تبقى، وملك سليمان يفنى (¬3). وفي الحديث المشهور عن ثوبان أنه قال: لما نزلت هذه الآية: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ} (¬4) فَقَالَ النبي - صلى الله عليه وسلم -: "تَبًّا لِلذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ" فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ فَمَا نَتَّخِذُ؟ قَالَ: «لِيَتَّخِذَ أَحَدُكُمْ قَلْبًا شَاكِرًا، وَلِسَانًا ذَاكِرًا، وَزَوْجَةً صَالِحَةً، تُعِينُ أَحَدُكُمْ عَلَى إِيمَانِهِ» (¬5). قال بعضهم: إِنَّمَا سمي الذهب ذهبًا لأنّه يذهب، وسميت الفضة فضة لأنها تنفض: يعني تنفض بسرعة، فلا بقاء لهما. فمن كنزهما فقد أراد بقاء ما لا بقاء له، فإنَّ نفعهما ما هو إلا بإنفاقهما في وجوه البر وسبل الخير. قال الحسن: بئس الرفيقان الدرهم والدينار! لا ينفعانك حتى يفارقانكَ فما داما مكنوزين فما يضران ولا ينفعان، وإنما نفعهما بإنفاقهما في الطاعات. قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاً يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ} الآية (¬6). والآية ذم ووعيد لمن يمنع حقوق ماله الواجبة من الزكاة، وصلة الرحم، وقرى الضيف، والإنفاق في النوائب. ¬

_ (¬1) الكهف: 46. (¬2) النحل: 96. (¬3) أخرجه أبو نعيم في "زياداته عَلَى زهد ابن المبارك" (210). (¬4) التوبة: 34. (¬5) أخرجه أحمد (5/ 278، 282)، والترمذي (3094)، وابن ماجه (1856). (¬6) التوبة: 34، 35.

وفي "صحيح مسلم" (¬1) عن أبي هريرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «مَا مِنْ صَاحِبِ ذَهَبٍ وَلاً فِضَّةٍ، لاً يُؤَدِّي مِنْهَا حَقَّهَا، إِلَّا إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، صُفِّحَتْ لَهُ صَفَائِحُ مِنْ نَارٍ، فَأُحْمِيَ عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَيُكْوَى بِهَا جَنْبُهُ وَجَبِينُهُ وَظَهْرُهُ، كُلَّمَا بَرَدَتْ أُعِيدَتْ لَهُ، فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ، حَتَّى يُقْضَى بَيْنَ الْعِبَادِ، فَيَرَى سَبِيلَهُ إِمَّا إِلَى الْجَنَّةِ وَإِمَّا إِلَى النَّارِ». وفي "صحيح البخاري" (¬2) عن أبي هريرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَنْ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا، فَلَمْ يُؤَدِّ زَكَاتَهُ، مُثِّلَ لَهُ مَالُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ شُجَاعًا أَقْرَعَ، لَهُ زَبِيبَتَانِ، يُطَوَّقُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ، ثُمَّ يَأْخُذُ بِلِهْزِمَتَيْهِ -يَعْنِي بِشِدْقَيْهِ- ثُمَّ يَقُولُ: أَنَا مَالُكَ، أَنَا كَنْزُكَ"، ثُمَّ تَلاَ: {وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} (¬3). وفيه أيضاً (¬4) عن أبي هريرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "يَكُونُ كَنْزُ أَحَدِكُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ شُجَاعًا أَقْرَعَ، يَفِرُّ مِنْهُ يَوْمَ القِيَامَةِ، وَيَطْلُبُهُ وَيَقُولُ: أَنَا كَنْزُكَ فَلاَ يَزَالَ يَطْلُبُهُ، حَتَّى يَبْسُطَ يَدَهُ، فَيُلْقِمَهَا فَاهُ". وفي "صحيح مسلم" (¬5) عن جابر عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: مَا مِنْ صَاحِبِ كَنْزٌ، لَاَ يُفْعَلُ فِيهِ حَقُّهُ، إِلا جَاءَ كَنْزُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، شُجَاعًا أَقْرَعَ، يَتْبَعُهُ فَاتِحًا فَاهُ، فَإِذَا أَتَاهُ فَرَّ مِنْهُ فَيُنَادِيَهُ: خُذْ كَنْزَكَ الَّذِي خَبَّأْتَهُ، فَأَنَا عَنْهُ غَنِيٌّ، فَإِذَا رَأَى أَنْ لاً بُدَّ مِنْهُ، سَلَكَ يَدَهُ فِي فِيهِ فَيَقْضِمَهَا قَضْمَ الْفَحْلِ". والشجاع: الحية الذكر، والأقرع: الَّذِي قد تمعط شعر فروة رأسه لكثرة سمه. فلهذا ورد الشرع بالأمر باكتناز ما يبقى نفعه بعد الموت، من الإيمان والأعمال الصالحة والكلمات الطيبة، فإن نفع ذلك يبقى، وبه يحصل الغنى الأكبر. ¬

_ (¬1) برقم (987). (¬2) برقم (1403، 4565). (¬3) آل عمران: 180. (¬4) برقم (6957). (¬5) برقم (988).

قال ابن مسعود (¬1): نعم كنز الصعلوك [البقرة وآل عمران، يقوم بهما] (*) في آخر الليل. وآخر سورة البقرة من كنز تحت العرش، أعطيته هذه الأمة مع سورة الفاتحة، ولا حول ولا قوة إلا بالله كنز من كنوز الجنة. وفي بعض الآثار الإسرائيلية: كنز المؤمن ربه. يعني أنه لا يكنز سوى طاعته وخشيته، ومحبته والتقرب إِلَيْهِ، فمن كان كنزه ربه، وجده وقت حاجته إِلَيْهِ. كما في وصية النبي - صلى الله عليه وسلم - لابن عباس: "احْفَظِ اللَّهَ يَحْفَظْكَ، احْفَظِ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ أَمَامَكَ، تَعَرَّفْ إِلَى اللهِ فِي الرَّخَاءِ يَعْرِفْكَ فِي الشِّدَّةِ" (¬2). أنت كنزي أنت ذخري ... أنت عزِّي أنت فخري كيف أخشى الفقرَ إذا ... كنتَ أمني عند فقرِي من كانَ اللَّهُ كنزَه فقد ظفرَ بالغنِى الأكبرِ قال بعض العارفين: من استغنى بالله أمن من العدم، ومن لزم الباب أثبت في الخدم، ومن أكثر من ذكر الموت أكثر من الندم. تنقضي الدُّنْيَا وتفنى ... والفتى فيها معنّى ليس في الدُّنْيَا نعيم ... لا ولا عيش مهنّا يا غنيًّا بالدنانير ... محب الله أغنى ¬

_ (¬1) أخرجه الدارمي في "سننه" (3398) بذكر آل عمران دون البقرة. (*) سورة آل عمران يقوم بها: "نسخة". (¬2) أخرجه أحمد (1/ 293، 307)، والترمذي (2516). وقال: هذا حديث حسن صحيح. قال ابن رجب في شرح الحديث التاسع عشر من "جامع العلوم والحكم" (1/ 460 - 461). وقد روي هذا الحديث عن ابن عباس من طرق كثيرة من رواية ابنه عليَّ، ومولاه عكرمة، وعطاء بن أبي رباح، وعمرو بن دينار، وعبيد الله بن عبد الله، وعمر مولى غفرة، وابن أبي مليكة وغيرهم. وأصح الطرق كلها طريقُ حنش الصنعاني التي خرجها الترمذي. كذا قاله ابن منده وغيره.

والمقصود هنا شرح الكلمات التي أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بكنزها، وأشار إِلَى أن نفعها خير من الذهب والفضة، وهي تتضمن طلب العبد من ربه لأهم الأمور الدينية. فقوله - صلى الله عليه وسلم -: "أَسْأَلُكَ الثَّبَاتَ فِي الأَمْرِ" المراد بالأمر: الدين والطاعة. فسأل الثبات عَلَى الدين إِلَى الممات {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} (1) الذين قالوا: ربنا الله كثير، ولكن أهل الاستقامة قليل. كان عمر يقول في خطبته: "اللهم اعصمنا بحفظك، وثبتنا عَلَى أمرك". فالاستقامة والثبات، لا قدرة للعبد عليه بنفسه، فلذلك يحتاج أن يسأل ربه. كان الحسن إذا قرأ: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} (¬1) يقول: اللهم أنت ربنا، فارزقنا الاستقامة. كان النبي -صلى الله عليه وسلم- كثيرًا ما يقول: «يَا مُقَلِّبَ القُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ». فقِيلَ لَهُ في ذلك، فَقَالَ: "إِنَّ القَلْبَ بَيْنَ أصْبَعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ الرَّحْمَنِ، إِنْ شَاءَ أَنْ يُقِيمُهُ أَقَامَهُ وإِنَّ شَاءَ أَنْ يُزِيغُهُ أَزَاغَهُ" (¬2). وفي رواية الترمذي (¬3): قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، آمَنَّا بِكَ وَبِمَا جِئْتَ بِهِ، فَهَلْ تَخَافُ عَلَيْنَا؟ فَقَالَ: "نَعَمْ" ثم ذكر الحديث. كيف يأمن من قلبه بين أصبعين؟ كيف يطيب عيش من لا يدري بما يختم له؟ ¬

_ (¬1) فصلت: 30. (¬2) أخرجه أحمد (6/ 91، 250)، والنسائي وفي "الكبرى" كما في "تحفة الأشراف" (11/ 6059) من حديث عائشة. وأخرجه أحمد (3/ 112، 257)، والترمذي (2140)، وابن ماجه (3834)، من حديث أنس. قال أبو عيسى: هذا حديث حسن. وأخرجه الترمذي (3587) من حديث عاصم بن كليب الجَرْمِي عن أبيه عن جده. قال أبو عيسى: هذا حديث غريب من هذا الوجه. (¬3) برقم (2140)، وحسنه.

كم من عامل خاشع وقع عَلَى قصة عمله؟ {عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ * تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً} (¬1) «رُبَّ صَائِمٍ حَظُّهُ مِنْ صِيَامِهِ الْجُوعُ وَالْعَطَشُ، وَقَائِمٍ حَظُّهُ مِنْ قِيَامِهِ السَّهَرُ» (¬2). كان بعض الصالحين يسرد الصيام، فَإِذَا أفطر بكى، ويقول: أخشى أن يكون حظي منه الجوع والعطش. في "الصحيح" (¬3): "إِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الجَنَّةِ، حَتَّى مَا يَبْقَى بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمَا إِلَّا ذِرَاعٌ، ثُمَّ َيَسْبِقُ عَلَيْهِ الكِتَابُ". كم من عامل يعمل الخير، إذا بقي يينه وبين الجنة ذراع، وشارف مركبه ساحل النجاة، ضربه موج الهوى فغرق؟! المحنة العظمى أن أمرك كله بد من لا يبالي بوجودك ولا عدمك، كم أهلك قبلك مثلك؟ {قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} (¬4). كان الحسن يبكي ويطيل البكاء ويقول: أخاف أن يطرحني في النار ولا يبالي. قال أبو الدرداء: ما أهون العباد عَلَى الله إذا عصوه (¬5)! ¬

_ (¬1) الغاشية: 3، 4. (¬2) أخرجه أحمد (2/ 373، 441)، والنسائي في "الكبرى" (2/ 239)، وابن ماجه (1690) من حديث أبي هريرة. (¬3) أخرجه البخاري (3208)، ومسلم (2643) من حديث ابن مسعود. (¬4) المائدة: 17. (¬5) أخرجه ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (14/ 389/1).

يا قلب إِلَى ما تطالبني ... بلقاء الأحباب وقد رحلوا أرسلتك في طلبي لهم ... لتعود فضعت وما حصلوا سلم واصبر واخضع لهم ... كم مثلك قبلك قد قتلوا ما أحسن ما علقت به ... آمالك منهم لو فعلوا العبد يحتاج إِلَى الثبات في طول حياته، وأحوج ما يحتاج إِلَيْهِ عند مماته. في الطبراني (¬1): -صلى الله عليه وسلم- «لَقِّنُوا مَوْتَاكُمْ لاً إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَقُولُوا: الثَّبَاتَ الثَّبَاتَ , وَلاً قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ». ويحتاج إِلَى الثبات أيضاً بعد الموت، قال الله تعالى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} (¬2). وفي "الصحيح" (¬3) أنها نزلت في سؤال القبر يُسأل المؤمن في قبره فيشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله. وفي "سنن أبي داود" (¬4) أنه - صلى الله عليه وسلم - كان إذا دفن الميت يقول: "سَلُوا لَهُ التَّثْبِيتَ، فَإِنَّهُ الْآنَ يُسْأَلُ". من دخل في الطاعة فهو يحتاج إِلَى الثبات عليها. يا معشر التائبين، أنتم تقاتلون جنود الهوى بجنود التقوى، فاصبروا وصابروا ورابطوا، لا تقولوا جنود الهوى لا طاقة لنا بها، ولكن اصبروا إِنَّ الله مع الصابرين. يا جنود العزائم اثبتوا واحذروا هتيكة (¬5) الهزيمة {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} (¬6). ¬

_ (¬1) في "المعجم الصغير" (2/ 125). وقال: لم يروه عن صفوان بن سليم إلا عمر بن محمد. (¬2) إبراهيم: 27. (¬3) أخرجه البخاري (1369)، ومسلم (2871) من حديث البراء. (¬4) برقم (3221). (¬5) الهتيكة: الفضيحة "لسان العرب" مادة: (هتك). (¬6) الأنفال: 65.

لا تجزعن من كل خطب عرى ... ولا تُري الأعداء ما يشمتوا يا قوم بالصبر ينال المنى ... إذا لقيتم فئة فاثبتوا يا قوم الثبات الثبات، والمدوامة المداومة إِلَى الممات. "أَحَبُّ الْعَمَلِ إِلَى اللَّهِ أَدْوَمُهُ، وَإِنْ قَلَّ" (¬1). قال الحسن: إِنَّ الله لم يجعل لعلم المؤمن أجلاً دون الموت، ثم قرأ: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} (¬2). وفي "الصحيح" (¬3) عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "سَدِّدُوا وَقَارِبُوا، وَاغْدُوا وَرُوحُوا، وَشَىْءٌ مِنَ الدُّلْجَةِ (¬4)، وَالْقَصْدَ الْقَصْدَ تَبْلُغُوا". يا معشر التائبين، صوموا اليوم عن شهوات الهوى، لتدركوا عيد الفطر يوم اللقاء، لا يطولن عليكم الأمد باستبطاء الأجل، فإن معظم نهار الصيام قد ذهب، وعيد اللقاء قد اقترب. وما إلا ساعة ثم تنقضي ... ويذهب هذا كله ويزول {يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ} (¬5). {مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ} (¬6). من سار في طريق العبودية إِلَى لقاء الحبيب، فلا بد من مواصلة السير حتى يصل، فإن وقف في الطريق أو رجع هلك، فإن اشتد عليه ألم السير، فليذكر راحة الوصول وقد زال التعب. ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد (6/ 165)، ومسلم (782) من حديث عائشة. (¬2) الحجر: 99. (¬3) أخرجه البخاري: (6463). (¬4) الدُّلجة: سير السحر أو سير الليل كله. "اللسان" مادة: (دلج). (¬5) الانشقاق: 6. (¬6) العنكبوت: 5.

لها أحاديث من ذكراك تشغلها ... عن الشراب وتلهيها عن الزاد لها بوجهك نور تستضيء به ... وقت المسير وفي أعقابها حادي إذا اشتكت من كلال السير أوعدها ... روح القدوم فتحيا عند ميعادي قوله -صلى الله عليه وسلم-: "وَالْعَزِيمَةَ عَلَى الرُّشْدِ". العزيمة عَلَى الرشد مبدأ الخير، فإن الإنسان قد يعلم الرشد وليس له عليه عزم، فَإِذَا عزم عَلَى فعله أفلح. "والعزيمة: هي القصد الجازم المتصل بالفعل. وقيل: استجماع قوى الإرادة عَلَى الفعل. ولا قدرة للعبد عَلَى ذلك إلا بالله، فلهذا كان من أهم الأمور سؤال الله العزيمة عَلَى الرشد. وفي "المسند" (¬1) عن عمران بن حصين قال لرجل: قل اللهم قني شر نفسي، واعزم لي عَلَى أرشد أمري. فالعبد يحتاج إِلَى الاستعانة بالله، والتوكل عليه في تحصيل العزم، وفي العمل بمقتضى العزم بعد حصول العزم. قال الله تعالى: {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} (¬2). "والرشد: هو طاعة الله ورسوله. قال الله تعالى: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ} (¬3). وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول في خطبته: "مَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ رَشَدَ، وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ غَوَى" (¬4). ¬

_ (¬1) (4/ 444). (¬2) آل عمران: 159. (¬3) الحجرات: 7. (¬4) أخرجه مسلم (780).

والرشد ضد الغي. قال الله تعالى: {قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} (¬1). فمن لم يكن رشيدًا، فهو إما غاوٍ، وإما ضال. كما قال تعالى: {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى} (¬2). فالغاوي من تعمد خلاف الحق، والضال من لم يتعمد. والعزم نوعان: أحدهما: عزم المريد عَلَى الدخول في الطريق، وهو من البدايات. والثاني: العزم عَلَى الاستمرار عَلَى الطاعات بعد الدخول فيها، وعلى الانتقال من حال كامل، إِلَى حال أكمل منه، وهو من النهايات. ولهذا سمى الله تعالى خواص الرسل أولوا العزم -وهم خمسة- وهم أفضل الرسل. فالعزم الأول يحصل للعبد [به] (*) الدخول في كل خير، والتباعد من كل شر؛ إذ به يحصل للكافر الخروج من الكفر والدخول في الإسلام، وبه يحصل للعاصي الخروج من المعصية والدخول في الطاعة، فَإِذَا كانت العزيمة صادقة، وصمم عليها صاحبها، وحمل عَلَى هوى نفسه وعلى الشيطان حملة صادقة، ودخل فيما أمر به من الطاعات فقد فاز. وعون الله للعبد عَلَى قدر قوة عزيمته وضعفها، فمن صمم عَلَى إرادة الخير أعانه وثبته، كما قيل: عَلَى قدر أهل العزم تأتي العزائم ... وتأتي عَلَى قدر الكرام المكارم ¬

_ (¬1) البقرة: 256. (¬2) النجم: 2. (*) زيادة يقتضيها السياق.

لما أفضت الخلافة إِلَى عمر بن عبد العزيز رضى الله عنه، بعد سليمان بن عبد الملك، فأول ما اشتغل به دفن سليمان، فلما رجع من دفنه، وصفت له مراكب الخلافة فوقف وأنشد: ولولا النُّهَى ثم التقى خشية الردى ... لعصيت في حب الصّبا كل زاجر قضى ما قضى فيما مضى ثم لا ترى ... له عودة أخرى الليالي الغوابر ثم قال: ما شاء الله، لا قوة إلا بالله، قربوا لي بغلي. فركب دابته التي كان يركبها أولاً، وسار مستصحبًا لتلك العزيمة، فعلم الله صدقه فيها فأعانه عليها. فأول ما بدأ به أنه سار لن يديه أهل الموكب، فنحاهم وقال: إِنَّمَا أنا رجل من المسلمين ثم نزل فقعد، فقام الناس بين يديه، فأقعدوا، وقال: إِنَّمَا يقوم الناس لرب العالمين. ثم عزم عَلَى رد المظالم، فأدركته القائلة، وكان قد تعب وسهر تلك الليلة لموت سليمان بن عبد الملك، فدخل ليقيل ثم يخرج فيرد المظالم وقت صلاة الظهر. فجاء ابنه عبد الملك فَقَالَ له: أتنام وما رددت المظالم؟ فَقَالَ: إذا صليت الظهر رددتها. فَقَالَ عبد الملك: ومن لك أن تعيش إِلَى الظهر؟! وإن عشت فمن لك أن تبقى لك نيتك؟! فقام وخرج ونادى: الصلاة جامعة. فاجتمع الناس فرد المظالم، وجاء بكتب القرى والأملاك -التي كانت في يده من إقطاع بني أمية- فمزقها كلها، ورد تلك القرى إِلَى بيت مال المسلمين.

وكان يقول: إِنَّ لي نفسًا تواقة! ما نالت شيئًا إلا تاقت إِلَى ما هو أفضل منه! فلما نالت الخلافة، وليس فوقها في الدُّنْيَا - منزلة، تاقت إِلَى الآخرة. وإذا كانت النفوس كبارُا ... تعبت في مرادها الأجساد لما ولي الخلافة، سمعوا في بيته صريخًا عاليًا من النساء. فسئل عن ذلك فقيل: إِن خير امرأته وجواريه، فَقَالَ: من أرادت منكن أن تذهب فلتذهب، ومن أرادت أن تقيم فلتقم، وليس لها مني نصيب، فإني قد نزل بي أمرٌ شغلني عنكن، فبكين إياسًا منه. ذاكروه مرة شيئًا مما كان فيه قبل الخلافة من النعيم فبكى، حتى بكى الدم! وكان أكثر ما يقتات به حال خلافته، العدس والزيت، فَإِذَا عوتب عَلَى ذلك يقول: هذا أهون علينا من معالجة الأغلال غدًا في النار. ودخل مرة عَلَى بناته وقد كن تعشين بعدس فيه بصل، فكرهن أن يشم منهن رائحة ذلك، فلما رأينه هربن، فبكى وقال: يا بناتي إما تفعلن (أن) (¬1) تتعشين الألوان ويذهب بأبيكن إِلَى النار. وكان يقول لأولاده: إِنَّ أباكم خير بين أن تفتقروا ويدخل الجنة، وبين أن تستغنوا ويدخل النار، فكان أن تفتقروا ويدخل الجنة أَحَبّ إِلَيْهِ. كم أحمل في هواك ذلاًّ وعنا ... كم أصبر فيك تحت ضر وضنا لا تطردني فليس لي عنك غنا ... خذ روحي إِن أردت روحي ثمنا كان يقول لبعض أعوانه: إذا رأيتني ملت عن الحق، فضع يدك في تلبابي، ثم هزني فقل: ما تصنع يا عمر؟! من أجلك قد تركت خدي أرضا ... للشامت والحسود حتى ترضى مولاي إِلَى متى بهذا أحظى ... عمري يفنى وحاجتي ما تقضى ¬

_ (¬1) بالأصول، ولعلها زائدة.

لا زال ينحل جسمه حتى ... كانت أضلاعه يعدهامن رآه عدًّا. حبي والفراق أورثاني سقما ... هذا جسدي يعد عظمًا عظما دعني فالشوق قد كفاني خصما ... يا سهم البين قد أصبت المرمى أخفي شجني ولوعتي تبديه ... والدمع ينم بالذي أخفيه قلبي قلق يحب من يضنيه ... لا أعذله فما به يكفيه كم كان يُعذل عَلَى حاله ويُلام؟! والمحبة تنهاه أن يصغي إِلَى عذل أو ملام: لو قطعني الغرام إربًا إربًا ... ما ازددت عَلَى الملام إلا حبا لا زلت بكم أسير وجد وصبا ... حتى أقضي عَلَى هواكم نحبا ما زالت به المحبة حتى رقته إِلَى درجة الرضى بمُرِّ القضاء، فكان يقول: أصبحت ومالي سرور في غير مواقع القضاء والقدر. ومات أعوانه عَلَى الخير كلهم في أيام متوالية: ابنه عبد الملك، وأخوه سهل، ومولاه مزاحم. فكان يقول بعد موتهم في مناجاته: أنت تعلم أني ما ازددت لك إلا حبًّا، ولا فيما عندك إلا رغبة. ولما دفن ابنه عبد الملك -وكان أَحَبّ الخلق إِلَيْهِ- قال: ما زلت أرى فيه السرور وقرة العين من يوم ولد إلي يومي هذا، فما رأيت فيه أمرًا قط أقر لعيني من أمر رأيته فيه اليوم. وكتب إِلَى الأمصار أن الله أَحَبّ قبضه، وأعوذ بالله أن تكون لي محبة في شيء من الأمور تخالف محبة الله، فإن خلاف ذلك لا يصلح في بلائه عندي، وإحسانه إليَّ، ونعمته عليَّ.

إِنَّ كان سكان الغضا ... رضوا بقتلي فرضا والله لا كنت لما ... يهوى الحبيب مبغضا صرت لهم عبدًا وما ... للعبد أن يعترضا إخواني، الخير كله منوط بالعزيمة الصادقة عَلَى الرشد، وهي الحملة الأولى التي تهزم جيوش الباطل، وتوجب الغلبة لجنود الحق. زجر الحق فؤادي فارعوى ... وأفاق القلب مني وصحا هزم العزم جيوشًا للهوى ... سادتي لا تعجبوا إِنَّ صلحا قال أبو حازم: إذا عزم العبد عَلَى ترك الآثام، أتته الفتوح. يشير إِلَى ما يُفتح عليه بتيسير الإنابة والطاعة، ومقامات العارفين. سئل بعض السلف متى ترتحل الدُّنْيَا من القلب؟ قال: إذا وقعت العزيمة ترحلت الدُّنْيَا من القلب، ودرج القلب في ملكوت السماء، وإذا لم تقع العزيمة اضطرب القلب ورجع إِلَى الدُّنْيَا. من صدق العزيمة يئس منه الشيطان، ومتى كان العبد مترددًا طمع فيه الشيطان، وسوفه ومناه. يا هذا كلما رآك الشيطان، قد خرجت من مجلس الذكر كما دخلت وأنت غير عازم عَلَى الرشد، فرح بك إبلس، وقال: قد فديت من لا يفلح! يا من شاب ولا تاب! ولا عزم عَلَى الرشد ولا أناب! لقد أفرحت الشيطان وأسخطت الرحمن! وإذا تكامل للفتى من عمره ... خمسون وهو إلى التقى لا يجنح عكفت عليه المخزيات فماله ... متأخر عنها ولا متزحزح وإذا رأى الشيطان غرة وجهه ... حيَّا وقال فديت من لا يفلح

قوله -صلى الله عليه وسلم-: "وَأَسْأَلُكَ شُكْرَ نِعْمَتِكَ، وَحُسْنَ عِبَادَتِكَ" هذا كما وصى النبي -صلى الله عليه وسلم- معاذًا أن يقول في دبر كل صلاة: "اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَى ذِكْرِكَ، وَشُكْرِكَ، وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ" (¬1). فهذا أمران: أحدهما: شكر العم، وهو مأمور به، قال تعالى: {وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ} (¬2)، وقال: {وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} (¬3) والشكر بالقلب واللسان والعمل بالجوارح. فالشكر بالقلب: الاعتراف بالنعم للمنعم، وأنها منه وبفضله، وجاء من حديث عائشة مرفوعًا: "مَا أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَى عَبْدٍ نِعْمَةً، فَعَلِمَ أَنَّهَا مِنَ اللَّهِ، إِلَّا كَتَبَ اللَّهُ لَهُ شُكْرُهَا" (¬4). ومن الشكر بالقلب محبة الله عَلَى نعمه، ومنه حديث ابن عباس المرفوع: "أَحِبُّوا اللَّهَ لِمَا يَغْذُوكُمْ (*) بِهِ مِنْ (النِّعَمِ) (**) " (¬5). قال بعضهم: إذا كانت القلوب جبلت عَلَى حب من أحسن إليها، فواعجبًا لمن لا يرى محسنًا إلا الله، كيف لا يميل بكليته إِلَيْهِ؟! وقال بعضهم: إذا أنت لم تزدد على كل نعمة ... لمؤتيكها حبًّا فلست بشاكر إذا أنت لم تؤثر رضى الله وحده ... عَلَى كل ما تهوى فلست بصابر والشكر باللسان: الثناء بالنعم وذكرها، وتعدادها وإظهارها. ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد (5/ 245، 247). (¬2) البقرة: 152. (¬3) النحل: 114. (¬4) أخرجه ابن أبي الدُّنْيَا في "الشكر" (47). (*) يغذوكم: أي يرزقكم. (**) نعمة: "نسخة" وهي موافقة لرواية الترمذي. (¬5) أخرجه الترمذي (3789) قال الترمذي: هذا حديث غريب، إنما نعرفه من هذا الوجه ..

قال الله تعالى: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} (¬1). وفي حديث النعمان بن بشير المرفوع (¬2): «التَّحَدُّثُ بِالنَّعَمِ شُكْرٌ، وتركها كفر». وقال عمر بن عبد العزيز: ذكر النعم شكرها. وكان يقول في دعائه: اللهم إني أعوذ بك أن أبدل نعمتك كفرًا، وأن أكفرها بعد معرفتها، أو أنساها فلا أثني بها. قال فضيل: كان يقال من شكر النعمة أن تحدث بها. وجلس ليلة هو وابن عيينة يتذاكران النعم إِلَى الصباح. والشكر بالجوارح: أن لا يستعان بالنعم إلا عَلَى طاعة الله عز وجل، وأن يحذر من استعمالها في شيء من معاصيه. قال تعالى: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا} (¬3) قال بعض السلف: لما قِيلَ لَهُم هذا، لم تأت عليهم ساعة إلا وفيهم مصل. وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول حتى تتورم قدماه، ويقول: «أَفَلاَ أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا» (¬4). ومر ابن المنكدر بشاب يقاوم امرأة، فَقَالَ: يا بني، ما هذا جزاء نعمة الله عليك! العجب ممن يعلم أن كل ما به من النعم من الله، ثم لا يستحيي من الاستعانة بها عَلَى ارتكاب ما نهاه! ¬

_ (¬1) الضحى: 11. (¬2) أخرجه ابن أبي الدُّنْيَا في "الشكر" (63). (¬3) سبأ: 13. (¬4) البخاري (1130)، ومسلم (2819).

هب البعث لم تأتنا رسله ... و (جاحمة) (¬1) النار لم تضرم أليس من الواجب المستحق ... حياء العباد من المنعم من كثرت عليه النعم فليقيدها بالشكر، وإلا ذهبت. إذا كنت في نعمة فارعها ... فإن المعاصي تزيل النعم وحافظ عليها بشكر الإله ... فشكر الإله يزيل النقم ودخل خالد بن صفوان عَلَى عمر بن عبد العزيز فَقَالَ: يا أمير المؤمنين إِنَّ الله لم يرض أن يكون أحدٌ فوقك، فلا ترض أن يكون أحد أولى بالشكر له منك. فبكى عمر حتى غشي عليه. الأمر الثاني: حسن العبادة، وحسنها إتقانها والإتيان بها عَلَى أكمل وجوهها. وإلى هذا أشار النبي -صلى الله عليه وسلم- لما سأله جبريل عن الإحسان فَقَالَ: «أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ، فَإِنَّهُ يَرَاكَ» (¬2). فأشار إِلَى مقامين: أحدهما: أن يعبد الله العبدُ مستحضرًا لرؤية الله إياه، ويستحضر قرب الله منه، واطلاعه عليه، فيخلص له العمل، ويجتهد في إتقانه وتحسينه. والثاني: أن يعبده عَلَى مشاهدته إياه بقلبه، فيعامله معاملة حاضر لا معاملة غائب، وقد وصَّى -صلى الله عليه وسلم- رجلاً أن يصلي صلاة مودع؛ يعني يستشعر أنه يصلي صلاة لا يصلي بعدها صلاة أخرى، فيحمله ذلك عَلَى إتقانها، وتكميلها، وإحسانها. وقد وردت أحاديث فضائل الأعمال مقيدة بإحسان العمل، كما في ¬

_ (¬1) كل نار توقد عَلَى نار: جحيم، وهي جاحمة. "اللسان" مادة: (جحم). (¬2) أخرجه مسلم (8) من حديث عمر بن الخطاب. وأخرجه البخاري (50)، ومسلم (9) من حديث أبي هريرة.

حديث أبي سعيد عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: «إِذَا أَسْلَمَ الْعَبْدُ فَحَسُنَ إِسْلَامُهُ، كَتَبَ اللَّهُ لَهُ كُلَّ حَسَنَةٍ كَانَ أَزْلَفَهَا، وَمُحِيَ عَنْهُ كُلُّ سَيِّئَةٍ كَانَ أَزْلَفَهَا، ثُمَّ كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ الْقِصَاصُ، الْحَسَنَةُ بِعَشْرَةِ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ، وَالسَّيِّئَةُ بِمِثْلِهَا، إِلَّا أَنْ يَتَجَاوَزَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ». خرَّجه البخاري تعليقًا (¬1)، وفي رواية: "وقيل: ائتنف العمل". وفي "صحيح مسلم" (¬2) عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إِذَا أَحْسَنَ أَحَدُكُمْ إِسْلاَمَهُ، فَكُلُّ حَسَنَةٍ يَعْمَلُهَا تُكْتَبُ لَهُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ، وَكُلُّ سَيِّئَةٍ يَعْمَلُهَا تُكْتَبُ لَهُ بِمِثْلِهَا عَزَّ وَجَلَّ". وفيه أيضاً (¬3) عن عثمان رضي الله عنه، عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ، خَرَجَتْ خَطَايَاهُ مِنْ جَسَدِهِ، حَتَّى تَخْرُجَ مِنْ تَحْتِ أَظْفَارِهِ». وفيه أيضاً (¬4) أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «مَنْ أَحْسَنَ فِي الإِسْلاَمِ، لَمْ يُؤَاخَذْ بِمَا عَمِلَ فِي الجَاهِلِيَّةِ، وَمَنْ أَسَاءَ فِي الإِسْلاَمِ، أُخِذَ بِالأَوَّلِ وَالآخِرِ». وكان السلف يوصون بإتقان العمل وتحسينه دون الإكثار منه، فإن العمل القليل مع التحسين والإتقان، أفضل من الكثير مع الغفلة وعدم الإتقان. قال بعض السلف: إِنَّ الرجلين ليقومان في الصف، وبين صلاتيهما كما بين السماء والأرض. كم بين من تصعد صلاته لها نور وبرهان كبرهان الشمس، وتقول: حفظك الله كما حفظتني، وبين من تُلَّفُ صلاته كما يُلَّفُ الثوب الخلق، فيضرب بها وجه صاحبها، وتقول: ضيعك الله كما ضيعتني؟! ولهذا قال ابن عباس وغيره: صلاة ركعتين في تفكر، خير من قيام ليلة والقلب ساه! ¬

_ (¬1) برقم (41). (¬2) البخاري (42)، مسلم (129). (¬3) برقم (235). (¬4) أخرجه (120)، وكذا البخاري (6921).

قال بعض السلف: لا يقل عمل مع تقوى، وكيف يقل ما يتقبل؟! يشير إِلَى قوله تعالى: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} (¬1). ولهذا قال من قال من الصحابة: لو علمت أن الله قبل مني ركعتين، كان أَحَبّ إليّ من كذا وكذا. فمن اتقى الله فى العمل قبله منه، ومن لم يتقه فيه لم يتقبله منه. والتقوى في العمل أن يأتي به عَلَى وجه إكمال واجباته الظاهرة والباطنة، وإن ارتقى إِلَى الإتيان بآدابه وفضائله كان أكمل. والقبول هنا يراد به: الرضا بالعمل، والمدح لعامله، والثناء عليه في الملأ الأعلى، ومباهاة الملائكة. وقد يراد بالقبول الثواب عَلَى العمل، وإن لم يرض به، ولم يمدح عامله، فيجازى عليه بأنواع من الجزاء، فضلاً من الله وإحسانًا، وإن لم يرض عن عامله. كما رُئي بعض العُلَمَاء المفرطين في النوم، فسئل عن حاله فَقَالَ: غفر لي، وأعرض عني وعن جماعة من العُلَمَاء لم يعملوا بعلمهم. ويطلق القبول عَلَى إسقاط الفرض بالعمل، وإن لم يثب عليه بثواب غير سقوط العقوبة، والمطالبة بأداء الفرض به. والعارفون كلهم إِنَّمَا يطلبون القبول بالوجه الأول -وهو الرضا- ويخافون من فواته أشد الخوف. قال مالك بن دينار: وددت أن الله إذا جمع الخلائق يقول لي: يا مالك. فأقول: لبيك. فيأذن لي أن أسجد بين يديه سجدة، فأعرف أنه قد رضي عني، ثم يقول لي: يا مالك كن اليوم ترابًا، فأكون ترابًا. ¬

_ (¬1) المائدة: 27.

كان بعضهم يقول في سجوده: متى ألقاك وأنت عني راض ... وعذبتني بكثرة الإعراض وأعتاض ولست عنه بالمعتاض ... يا من بوصاله شفا أمراضي هل أنت علي ساخط أم راضي رضاه أكبر من الجنة ونعيمها، فليس للعارفين هم سواه. لعلك غضبان وقلبي غافل ... سلام عَلَى الدرارين إِن كنت راضيًا قوله - صلى الله عليه وسلم -: "وَأَسْأَلُكَ قَلْبًا سَلِيمًا، وَلِسَانًا صَادِقًا". القلب واللسان هما عبارة عن الإنسان، كما يقال: الإنسان بأصغَرَيه بقلبه ولسانه. وخرج ابن سعد (¬1) بن روايه عروة بن الزبير مرسلاً أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لما رأى أشج عبد القيس -وكان رجلاً دميمًا- فَقَالَ النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّه لَا يَسْتَقِي فِي مسوك الرِّجَال، وَإِنَّمَا يحْتَاج من الرجل إِلَى أصغريه لِسَانه وَقَلبه". وقال المتنبي: لسان الفتى نصف ونصف فؤاده ... فلم يبق إلا صورة اللحم والدم فمن استقام قلبه ولسانه، استقام شأنه كله. فالقلب السليم: هو الَّذِي ليس فيه شيء من محبة ما يكرهه الله، فدخل في ذلك سلامته من الشرك الجلي والخفي، ومن الأهواء والبدع، ومن الفسوق والمعاصي -كبائرها وصغائرها- الظاهرة والباطنة، كالرياء والعجب، والغل والغش، والحقد والحسد وغير ذلك. ¬

_ (¬1) في "الطبقات" (5/ 557) من طريق عبد الحميد بن جعفر عن أبيه مرسلاً.

وهذا القلب السليم هو الَّذِي لا ينفع يوم القيامة سواه، قال تعالى: {لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} (¬1) إذا سلم القلب لم يسكن فيه إلا الرب، في بعض الآثار يقول الله: ما وسعني سمائي ولا أرضي، ولكن وسعني قلب عبدي المؤمن (¬2). ساكن في القلب يعمره (¬3) ... لست أنساه فأذكره غاب عن سمعي وعن بصري ... فسويداء القلب تبصره متى سكن في القلب غير الله، فالله أغنى الأغنياء عن الشرك، وهو لا يرضى بمزاحمة أصنام الهوى. أردناكم صرفًا فلما مزجتم ... بعدتم بقدر التفاتكم عنا وقلنا لكم لا تُسكنوا القلب غيرنا ... فأسكنتم الأغيار ما أنتم منا سلامة الصدور من الرياء والغل، والحسد والغش والحقد، وتطيرها من ذلك أفضل من التطوع بأعمال الجوارح. قال بعضهم: ما بلغ عندنا من بلغ بكثرة صيام ولا صلاة، ولكن بسلامة الصدور، وسخاوة النفوس والنصيحة. وكثرة أعمال الجوارح مع تدنس القلب بشيء من هذه الأوصاف لا تزكوا، وهو كزرع في أرض كثيرة الآفات لا يكاد يسلم ما ينبت فيها. وأما اللسان الصادق: فهو من أعظم المواهب من الله والمنح، وفي الحديث: "أَعْظَمِ الْخَطَايَا اللِّسَانُ الْكَذُوبُ". وكذلك اللسان الصادق أعظم الحسنات. ¬

_ (¬1) الشعراء: 88 - 89. (¬2) قال شيخ الإسلام ابن تيمية: هذا ما ذكروه في الإسرائيليات، ليس له إسناد معروف عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ومعناه: وسع قلبه محبتي ومعرفتي. "الفتاوى" (18/ 122). (¬3) المراد سكون محبته والإيمان به والتعلق به في قلب العبد.

وروى أبو نعيم بإسناده أن عبد الله بن عمرو بن العاص كان جالسًا، فأقبل إِلَيْهِ تُبَيْع الحميري، فَقَالَ عبد الله: قد أتاكم أعرف من علينا. فلما جلس قال له عبد الله: أخبرنا عن الخيرات الثلاث! والشَّرَّات الثلاث! قال: نعم، الخيرات الثلاث: لسان صدوق، وقلب تقي، وامرأة صالحة؟ والشَّرَّات الثلاث: لسان كذوب، وقلب فاجر، وامرأة سوء. فَقَالَ عبد الله: قد قلت لكم! وفي "الصحيح" (¬1) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «عَلَيْكُمْ بِالصِّدْقِ، فَإِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى الْبِرِّ، وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إِلَى الْجَنَّةِ، وَإِيَّاكُمْ وَالْكَذِبَ، فَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الْفُجُورِ، وَالْفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ؛ وَلاَ يَزَالُ الرَّجُلُ يَصْدُقُ وَيَتَحَرَّى الصِّدْقَ، حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللهِ صِدِّيقًا، وَلاَ يَزَالُ الرَّجُلُ يَكْذِبُ وَيَتَحَرَّى الْكَذِبَ، حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللهِ كَذَّابًا». وفيه أيضاً (¬2) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: -"آيَةُ المُنَافِقِ ثَلاَثٌ: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ". فالكذب أساس النفاق الَّذِي بني عليه، كما أن الصدق أساس الإيمان. قال ابن مسعود: إِنَّ الكذب لا يصلح في جد ولا هزل. ثم تلا قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} (¬3). وقال كعب بن مالك: إِنَّ من توبتي أن لا أحدث إلا صدقًا. قال: إِنَّمَا نجاني الله بالصدق. قال بعضهم: حقيقة الصدق أن يصدق العبد في موطن يرى أنه لا ينجيه فيه إلا الكذب. وكان الربيع بن حراش موصوفًا بالصدق -يقال: إنه لم يكن يكذب قط- وكان له ابنان عاصيان للحجاج -وكان يطلبهما- فقدما عَلَى أبيهما، فبعث الحجاج إِلَى الربيع، وقال: سيعلم بنو عبس أن شيخهم اليوم يكذب. فَقَالَ له: ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (6094)، ومسلم (2607) واللفظ لمسلم. (¬2) البخاري (33)، ومسلم (59). (¬3) التوبة: 19.

أين ابناك؟ فَقَالَ: تركتهما في البيت، والله المستعان. فَقَالَ: قد عفونا عنهما بصدقك! ومتى طهر اللسان من الكذب، طهر من غيره من الكلام السيئ المحرم، واستقام حال العبد كله، ومتى لم يستقم اللسان فسد حال العبد كله. وربما يعبر عن صدق اللسان باستقامة المقال كله، كما في قوله تعالى: {وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ} (¬1) وقوله تعالى: {وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا} (¬2) يريد الثناء عليهم بحق. وكما تنقسم الأعمال إِلَى صدق وغير صدق -والمراد بالصدق ماله نفع ودوام- فكذلك أقوال الصدق، قد يراد بها ما هو حق له نفع وثبات، وجاء من حديث أنس مرفوعًا: "لَا يَسْتَقِيمُ إِيمَانُ عَبْدٍ، حَتَّى يَسْتَقِيمَ قَلْبُهُ، وَلَا يَسْتَقِيمُ قَلْبُهُ حَتَّى يَسْتَقِيمَ لِسَانُهُ" خرجه الإمام أحمد (¬3). ويروى من حديث أبي سعيد رفعه: "إِذَا أَصْبَحَ ابْنُ آدَمَ، فَإِنَّ الأَعْضَاءَ كُلَّهَا تُكَفِّرُ اللِّسَانَ فَتَقُولُ: اتَّقِ اللَّهَ فِينَا، فَإِنْ اسْتَقَمْتَ اسْتَقَمْنَا، وَإِنْ اعْوَجَجْتَ اعْوَجَجْنَا" (¬4). وقال مطرف: من صفا عمله صفا لسانه، ومن خلط خُلّط له! وقال يونس بن عبيد: ما رأيت أحدًا لسانه منه عَلَى بال، إلا رأيت ذلك صلاحًا في سائر عمله. ومن مراسيل زيد بن أسلم: "ما من عضو من الأعضاء، إلا وهو يشتكي إِلَى الله ما يلقى من اللسان عَلَى حدته". ¬

_ (¬1) الشعراء: 84. (¬2) مريم: 5. (¬3) في "المسند" (3/ 198). (¬4) في "الجامع" (2407).

قال الحسن: اللسان أمير البدن، فَإِذَا جنى عَلَى الأعضاء شيئًا جنت، وإذا عفى عفت! وقد رُوي عن طائفة من السلفى أن اللسان ترجمان القلب، والقلب ملك الأعضاء، وبقية الجوارح جنوده، فَإِذَا صلح الملك وترجمانه صلحت الجنود كلها، وإذا فسد فسدت الجنود كلها. فَإِذَا كان الملك سليمًا من الهوى، والترجمان صادقًا أمينًا، فالرعية معهما في عافية؛ وإن كان الملك جائرًا، والترجمان غير أمين، فلا تسأل عن فساد حال الرعية معهما، ومتى كان الترجمان غير أمين فقد يلبس، ولكن حال الجائر لا يخفى! وفي "الصحيحين" (¬1) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "أَلاَ إِنَّ فِي الجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الجَسَدُ كُلُّهُ، أَلاَ وَهِيَ القَلْبُ". وقد تقدم (¬2) حديث أنس المرفوع: -صلى الله عليه وسلم- "لا يَسْتَقِيمُ إِيمَانُ عَبْدٍ حَتَّى يَسْتَقِيمَ قَلْبُهُ، وَلا يَسْتَقِيمُ قَلْبُهُ حَتَّى يَسْتَقِيمَ لِسَانُهُ". وفي "المسند" أيضاً (¬3) عن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لاَ يُسْلِمُ عَبْدٌ حَتَّى يُسْلِمَ قَلْبُهُ وَلِسَانُهُ". وفي "سنن ابن ماجه" (¬4) عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: "قلنا يا رسول الله، من خير الناس؟ قال: ذو القلب المخموم (¬5)، واللسان الصادق. قلنا: قد عرفنا اللسان الصادق فما القلب المخموم؟ قال: هو التقي النقي الَّذِي لا إثم فيه ولا غل، ولا بغي ولا حسد". ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (52)، ومسلم (1599). (¬2) في "المسند" (3/ 198). (¬3) في "المسند" (1/ 387). (¬4) برقم (4216). (¬5) المخموم: أي نقي من الغل والحسد. "اللسان" مادة: (خمم).

وفي "المسند" (¬1) عن أبي ذر عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "قَدْ أَفْلَحَ مَنْ أَخْلَصَ قَلْبَهُ لِلْإِيمَانِ وَجَعَلَ قَلْبَهُ سَلِيمًا، وَلِسَانَهُ صَادِقًا، وَنَفْسَهُ مُطْمَئِنَّةً، وَخَلِيقَتَهُ مُسْتَقِيمَةً، وَجَعَلَ أُذُنَهُ مُسْتَمِعَةً، وَعَيْنَهُ نَاظِرَةً، فَأَمَّا الْأُذُنُ فَتَسمِعٌ، وَالْعَيْنُ مُقِرَّةٌ بِمَا يُوعَى الْقَلْبُ، فَقَدْ أَفْلَحَ مَنْ جَعَلَ قَلْبَهُ وَاعِيًا". وفي حديث ابن عباس أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يقول في دعائه: "وَسَدِّدْ لِسَانِي، وَاسْلُلْ (¬2) سَخِيمَةَ (¬3) صَدْرِي" خرجه الترمذي (¬4). وسخيمة الصدر: ما فيه من الغل والغش، والحسد ونحو ذلك. قال خالد الربعي: أمر سيدُ لقمان لقمانَ، بذبح شاة وقال له: ائتني بأطيبها مضغتين. فأتاه باللسان والقلب! فَقَالَ له: أما وجدت فيها أطيب من هذين؟! قال: لا. ثم أمره أن يذبح شاة أخرى، وقال له: ألق أخبثها مضغتين فألقى اللسان القلب! فَقَالَ له: أما كان فيها أخبث من هذين؟! قال: لا. فسأله عن فعله الأول والثاني، فَقَالَ: إنه ليس شيء أطيب منهما إذا طابا، ولا أخبث منهما إذا خبثا! تعاهد لسانك إِنَّ اللسان ... سريع إِلَى المرء في قتله وهذا اللسان بريد الفؤاد ... يدل الرجال عَلَى عقله إذا سلم القلب وصدق اللسان، ترجم اللسان الصادق عن القلب السليم بأنواع السلامة، فهذا المسلم الَّذِي سلم المسلمون من لسانه ويده. وإذا فسد القلب فسد اللسان، فترجم عن القلب بأنواع الفساد، وهذا الفاجر المعلن بفجوره. ¬

_ (¬1) (5/ 147). (¬2) واسلل: أي انتزاع الشيء وإخراجه في رفق. "اللسان" مادة: (سلل). (¬3) السخيمة: الحقد والضغينة والموجدة في النفس. "اللسان" مادة: (سخم). (¬4) برقم (3551). قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.

فإن ترجم عن القلب الفاسد بالسلامة، فهذا اللسان الكذوب، وهو المنافق الَّذِي يختلف ظاهره وباطنه، وقوله وفعله. يا من يقول بلسانه ما ليس في قلبه، لا تبع ما ليس عندك، لا تنسب أحكام فرعون إِلَى موسى! وقوله -صلى الله عليه وسلم-: "وَأَسْأَلُكَ مِنْ خَيْرِ مَا تَعْلَمُ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا تَعْلَمُ". هذا سؤال جامع لطلب كل خير، والاستعاذة من كل شر، وسواء علمه الإنسان أو لم يعلمه. وهذا السؤال العام، بعد سؤال تلك الأمور الخاصة من الخير، هو من باب ذكر العام بعد الخاص. وقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يعجبه الجوامع من الدعاء، ويأمر بها. كما خرجه الإمام أحمد (¬1) وابن ماجه (¬2) وابن حبان في "صحيحه" (¬3) من حديث عائشة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- علمها هذا الدعاء: "اللهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ مِنَ الْخَيْرِ كُلِّهِ، عَاجِلِهِ وَآجِلِهِ، مَا عَلِمْتُ مِنْهُ وَمَا لَمْ أَعْلَمْ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ الشَّرِّ كُلِّهِ، عَاجِلِهِ وَآَجِلِهِ، مَا عَلِمْتُ مِنْهُ وَلَمْ أَعْلَمْ، اللهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ مِنْ خَيْرِ مَا سَأَلَكَ عَبْدُكَ وَنَبِيُّكَ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا اسْتَعَاذَ مِنْهُ عَبْدُكَ وَنَبِيُّكَ، اللهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْجَنَّةَ وَمَا قَرَّبَ إِلَيْهَا مِنْ قَوْلٍ أَوْ عَمَلٍ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ النَّارِ وَمَا قَرَّبَ إِلَيْهَا مِنْ قَوْلٍ أَوْ عَمَلٍ، وَأَسْأَلُكَ مَا قَضَيْتَ لِي مِنْ قَضَاءٍ أَنْ تَجْعَلَ عَاقِبَتَهُ لِي رُشْدًا". وخرجه الحاكم (¬4) وعنده أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لها: «يَا عَائِشَةُ، عَلَيْكِ بِالْكَوَامِلِ» وذكر الحديث. ¬

_ (¬1) في "المسند" (6/ 134). (¬2) برقم (3846). (¬3) كما في "الإحسان" (869). (¬4) في "المستدرك" (521، 522).

وخرجه الفريابي في "كتاب الدعاء"، وفي رواية له أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لها: «يَا عَائِشَةُ عَلَيْكِ بِالْجَوَامِعِ مِنَ الدُّعَاءِ» فذكره. وخرج الترمذي (¬1) من حديث أبي أمامة قال: "دَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِدُعَاءٍ كَثِيرٍ لَمْ نَحْفَظْ مِنْهُ شَيْئًا، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ دَعَوْتَ بِدُعَاءٍ كَثِيرِ لَمْ نَحْفَظْ مِنْهُ شَيْئًا، فَقَالَ: أَلَا أَدُلُّكُمْ بِمَا يَجْمَعُ ذَلِكَ كُلَّهُ، تَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ مِنْ خَيْرِ مَا سَأَلَكَ مِنْهُ نَبِيُّكَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَنَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا اسْتَعَاذَ مِنْهُ نَبِيُّكَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَنْتَ المُسْتَعَانُ وَعَلَيْكَ البَلَاغُ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ". وسمع سعد بن أبي وقاص ابنًا له يدعو يقول: اللهم إني أسألك الجنة، ونعيمها وإستبرقها -ونحو من هذا- وأعوذ بك من النار، وسلاسلها، وأغلالها. فَقَالَ: لقد سألت الله خيرًا كثيرًا، وتعوذت بالله من شر كثير، وإني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: «إِنَّهُ سَيَكُونُ قَوْمٌ يَعْتَدُونَ فِي الدُّعَاءِ» وقرأ هذه الآية: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} (¬2)، وإن بحسبك أن تقول: اللهم إنى أسألك الجنة وما قرب إليها من قول وعمل، وأعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول وعمل. خرجه الإمام أحمد (¬3). وخرج الطبراني (¬4) وغيره من حديث أم سلمة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يقول في دعاء له طويل: "الَّلهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ فَوَاتِحَ الْخَيْرِ وَخَوَاتِمَهُ، وَجَوَامِعَهُ وَأَوَّلَهُ وَآخِرَهُ، وَظَاهِرَهُ وَبَاطِنَهُ". وخرج أبو داود (¬5) من حديث عائشة قالت: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعْجِبُهُ الْجَوَامِعَ مِنَ الدُّعَاءِ، وَيَدَعُ مَا بَيْنَ ذَلِكَ». ¬

_ (¬1) برقم (3521). وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب. (¬2) الأعراف: 55. (¬3) برقم (1/ 172). (¬4) في "المعجم الكبير" (717). (¬5) برقم (1469).

قوله - صلى الله عليه وسلم -: "وَأَسْتَغْفِرُكَ لِمَا تَعْلَمُ، إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ". ختم الدعاء بالاستغفار فإنه خاتمة الأعمال الصالحة. وقوله: "وأستغفرك لما تعلم" يعم جميع ما يجب الاستغفار منه من ذنوب العبد، وقد لا يكون العبد عالمًا بذلك كله، فإن من الذنوب ما لا يشعر العبد بأنه ذنب بالكلية كما في الحديث المرفوع: "الشِّرْكَ أَخْفَى مِنْ هَذِهِ الأُمَّة مِنْ دَبِيبِ النَّمْلِ عَلَى الصَّفَا. قَالُوا: فَكَيْفَ نَقُولُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: قُولُوا: اللَّهُمَّ إِنَّا نَعُوذُ بِكَ مِنْ أَنْ نُشْرِكَ بِكَ وَنَحْنُ نَعْلَمُ، وَنَسْتَغْفِرُكَ لِمَا لَا نَعْلَمُ" (¬1). وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول في دعائه: «اللهُمَّ اغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ وَمَا أَخَّرْتُ، وَمَا أَسْرَرْتُ وَمَا أَعْلَنْتُ، وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي، أَنْتَ الْمُقَدِّمُ وَأَنْتَ الْمُؤَخِّرُ، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ». ومن الذنوب ما ينساه العبد ولا يذكره وقت الاستغفار، فيحتاج العبد إِلَى استغفار عام من جميع ذنوبه -ما علم منها وما لم يعلم- والكل قد علمه الله وأحصاه، فلهذا قال: "وَأَسْتَغْفِرُكَ لِمَا تَعْلَمُ، إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ". قال الله تعالى: {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ} (¬2). قال إبراهيم التيمي: لأنا عَلَى ذنوبي التي لا أذكرها أخوف مني عَلَى الذنوب التي أذكرها! لأني أستغفر من التي أذكرها. من أهمته ذنوبه صارت نصب عينيه، ولم ينسها، ومن لم تهمه ذنوبه هانت عليه فنسيها، فلم يذكرها إِلَى يوم يتذكر الإنسان وأنى له الذكرى. إذا نشر ديوان السيئات ضج أرباب الجرائم من صغارها قبل كبارها، ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد (4/ 403). (¬2) المجادلة: 6.

ويَقُولُونَ: {يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا} (¬1). قال ابن مسعود (¬2): إِنَّ المؤمن يرى ذنوبه كأنّه فى أصل جبل، يخاف أن يقع عليه، وإن الفاجر يرى ذنوبه كذباب طار عَلَى أنفه فَقَالَ به هكذا. قال عون بن عبد الله: جرائم التائبين منصوبة بالندامة نصب أعينهم، لا تقر للتائب في الدُّنْيَا عين كلما ذكر ما اجترح عَلَى نفسه. قال الفضيل: بقدر ما يصغر الذنب عندك يعظم عند الله، وبقدر ما يعظم عندك يصغر عند الله. قال كعب (¬3): إِنَّ العبد ليعمل الذنب الصغير فيحقره ولا يندم عليه، ولا يستغفر الله عنه، فيعظم عند الله حتى يكون مثل الطود؛ ويعمل الذنب العظيم فيندم عليه، ويستغفر الله منه، فيصغر عند الله حتى يغفره له. قال: وأصاب رجل ذنبًا فحزن عليه، فجعل يجيء ويذهب ويقول: بما أرضي ربي؟ فكتب صديقًا. وقال أبو أيوب الأنصاري: إِنَّ الرجل ليعمل بالمحقرات حتى يأتي الله وقد أحطن به، ويعمل بالسيئة فيفرق منها حتى يأتي الله آمنًا. وقال بعض السلف: إِنَّ الرجل لتعرض عليه ذنوبه يوم القيامة، فيرى ذنبًا فيقول: أما إني كنت مشفقًا منك، فيغفر له. وقال بعضهم: كفاك همك بذنبك -من توبتك- إقلاعًا وإنابة. وقال الأوزاعي: كان يقال: من الكبائر أن تعمل الذنب فتحقره. ومن هنا قال بعضهم: لا تنظر إِلَى صغر الخطيئة، ولكن انظر من عصيت؟! ¬

_ (¬1) الكهف: 49. (¬2) أخرجه الترمذي (2497). (¬3) أخرجه البيهقي في "الشعب" (7151).

وقال أويس لهرم بن حيان: لا تنظر إِلَى صغر ذنبك، ولكن انظر من عصيت؟ فإن صَغّرت ذنبك فقد صَغّرت الله، وإن عَظّمت ذنبك فقد عَظّمت الله! وقال عبد الله بن عمرو بن العاص: من ذكر خطيئة عملها، فوجل قلبه منها، فاستغفر الله منها، لم يحسبها شيئًا حتى يمحوها عند الرحمن. قال الفضيل في قوله تعالى: {مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ} (¬1) قال: هو الرجل يذكر ذنوبه في الخلاء فيستغفر الله منها. كان السلف لقلة ذنوبهم يعدونها. قال رياح القيسي: لي نيف وأربعون ذنبًا، قد استغفرت لكل ذنب مائة ألف مرة. ركب ابن سيرين الدين، فَقَالَ: هذا بذنب أذنبته منذ أربعين سنة، قلت لرجل: يا مفلس. فذكر ذلك لأبي سليمان، فَقَالَ: قَلَّتْ ذنوبهم فعرفوا من أين أتوا، وكثرت ذنوبنا فلم نعرف من أين نؤتى. كان معروف الكرخي رحمه الله ينشد: أي شيء تريد مني الذنوب ... شغفت بي فليس عني تغيب ما يضر الذنوب لو أعتقتني ... رحمة لي فقد علاني المشيب ما للمذنبين أحد يرجعون إِلَيْهِ غير الله، وإلى ذلك أشار بقوله: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ} (¬2). ¬

_ (¬1) ق: 33. (¬2) آل عمران: 135.

ما يأمل الخطاءون إلا رحمة من أسبل عَلَى خطاياهم ذيل الكرم فسترها، لولا أن حلمه وسع الخلق لهلكوا. قال هارون بن رئاب: حملة العرش أربعة يتجابون بالتسبيح يقول اثنان منهم: سبحانك وبحمدك، عَلَى حلمك بعد علمك؟ ويقول الآخران: سبحانك وبحمدك عَلَى عفوك بعد قدرتك؛ لما يرون من ذنوب بني آدم. وقال محمد بن النضر الحارثي: أصبت في بعض الكتب أن الله تعالى يقول: يا ابن آدم، لو يعلم الناس منك ما أعلم لنبذوك، فقد سترت عليك، وغفرت لك عَلَى ما كان منك، ما لم تشرك بي شيئًا. وفي "الصحيحين" (¬1) عن ابن عمر عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ اللهَ لَيَدْعُو العَبْدَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَضَعَ عَلَيْهِ كَنَفَهُ، فَيُقَرِّرُهُ بِذُنُوبِهِ وَيَقُولُ: أَتَذْكُرُ ذَنْبَ كَذَا؟ أَتَذْكُرُ ذَنْبَ كَذَا؟ فَلاَ يَزَال يُقَرِّرُهُ حَتَّى إِذَا رَأَى أَنَّهُ هَلَكَ قَالَ لَهُ: إِنِّي قَدْ سَتَرْتُهَا عَلَيْكَ فِي الدُّنْيَا، وَأَنَا أَغْفِرُهَا لَكَ الْيَوْمَ". وفي رواية: «يَأْتِي اللَّهُ تَعَالَى بِالْمُؤْمِنِ يَوْمَ الْقِيَامَةَ، فَيُقَرِّبُهُ حَتَّى يَجْعَلَهُ فِي حِجَابِهِ مِنْ جَمِيعِ الْخَلْقِ، فَيَقُولُ لَهُ: اقْرَأْ، فَيُعَرِّفُهُ ذَنْبًا ذَنْبًا: أَتَعْرِفُ؟ أَتَعْرِفُ؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ، نَعَمْ، ثُمَّ يَلْتَفِتُ الْعَبْدُ يَمْنَةً وَيَسْرَةً، فَيَقُولُ اللَّهُ: لَا بَأْسَ عَلَيْكَ يَا عَبْدِي أَنْتَ فِي سِتْرِي مِنْ جَمِيعِ خَلْقِي، لَيْسَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ الْيَوْمَ أَحَدٌ يَطَّلِعُ عَلَى ذُنُوبِكَ غَيْرِي، اذْهَبْ فَقَدْ غَفَرْتُهَا لَكَ اليَوْمَ بِحَرْفٍ وَاحِدٍ مِنْ جَمِيعِ مَا أَتَيْتَنِي بِهِ، قَالَ: مَا هُوَ يَا رَبِّ؟ قَالَ: كُنْتَ لَا تَرْجُو الْعَفْوَ مِنْ أَحَدٍ غَيْرِي». إخواني: هب أنه تجاوز عن الزلل، فأين ما يلقاه العاصي عند تقريره بذنوبه من الحياء والخجل؟! العارفون يشتد قلقهم من الحياء من الله عند الوقوف بين يديه. قال بعضهم: ما يمر بي أشد من الحياء من الله. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (2441)، ومسلم (2768).

وكان الفضيل يقول: واسوأتاه منك، وإن غفرت! وقال غيره: لو خيرت بين أن أبعث فأوقف بين يديه، ثم يأمر بي إِلَى الجنة، وبين أن لا أبعث لاخترت أن لا أبعث، ولا أريد الجنة! وقال آخر: لو أمر بي من الموقف إِلَى النار لكان أهون عليّ من أن يقفني بين يديه ثم يأمر بي إِلَى الجنة! قال أبو هريرة: يُدْنِي اللَّهُ الْعَبْدَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيَضَعُ عَلَيْهِ كَنَفَهُ، فَيَسْتُرُهُ مِنَ الْخَلَائِقِ كُلِّهَا، وَيَدْفَعُ إِلَيْهِ كِتَابَهُ فِي ذَلِكَ السَّتْرِ فَيَقُولُ: اقْرَأْ يَا ابْنَ آدَمَ كِتَابَكَ، فَيَقْرَأُ، فَيَمُرُّ بِالْحَسَنَةِ فَيَبْيَضُّ لَهَا وَجْهُهُ، وَيُسَرُّ بِهَا قَلْبُهُ! فَيَقُولُ اللَّهُ: أَتَعْرِفُ يَا عَبْدِي؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ. فَيَقُولُ: إِنِّي قَبِلْتُهَا مِنْكَ، فَيَسْجُدُ فَيَقُولُ: ارْفَعْ رَأْسَكَ، وَعُدْ فِي كِتَابِكَ فَيَمُرُّ بِالسَّيِّئَةِ فَيَسْوَدُّ لَهَا وَجْهُهُ، وَيَوْجَلُ لَهَا قَلْبُهُ، وَتَرْعَدُ مِنْهَا فَرَائِصُهُ، وَيَأْخُذُهُ مِنَ الْحَيَاءِ مِنْ رَبِّهِ مَا لَا يَعْلَمُهُ غَيْرُهُ! فَيَقُولُ: أَتَعْرِفُ يَا عَبْدِي؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ يَا رَبِّ أَعْرِفُ، فَيَقُولُ: إِنِّي قَدْ غَفَرْتُهَا لَكَ! فَيَسْجُدُ، فَلَا يَرَى مِنْهُ الْخَلَائِقُ إِلَّا السُّجُودَ! حَتَّى يُنَادِيَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا: طُوبَى لِهَذَا الْعَبْدِ الَّذِي لَمْ يَعْصِ اللَّهَ قَطُّ! وَلَا يَدْرُونَ مَا قَدْ لَقِيَ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ، فِيمَا قَدْ وَقَفَهُ عَلَيْهِ. أستغفِرُ الله ممّا يَعلمُ الله ... إنَّ الشَّقيَّ لَمَن لا يَرحَمُ الله هَبهُ تَجَاوَز لِي عَنْ كُلِّ مَظْلَمَةٍ ... يَا سَوْأَتَا مِنْ حَيَاتِي يَوْمَ أَلْقَاهُ ما أحلمَ الله عمن لا يُراقبُه ... كُلٌّ مُسيءٌ ولكن يَحلمُ الله فاسْتَغفِرُ الله مما كان من زَللٍ ... طُوبى لمن كَفَّ عما يَكرهُ الله طُوبى لمَن حَسُنَت سَريرتُه ... طُوبى لمَن يَنتهي عمَّا نهى الله آخر الكلام عَلَى الحديث، والحمد لله رب العالمين وصلى الله عَلَى محمد وعلى آله وصحبه وسلم آمين. ***

المجلد الثاني

البشارة العظمى للمؤمن بأن حظه من النار الحمى

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ رب يسر يا كريم، الحمد لله رب العالمين وصل الله عَلَى سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين خرَّج الإمام أحمد (¬1) من حديث أبي الحصين الشامي عن أبي صالح الأشعري، عن أبي أمامة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "الْحُمَّى مِنْ كِيرٍ (¬2) مِنْ جَهَنَّمَ، فَمَا أَصَابَ الْمُؤْمِنَ مِنْهَا، كَانَ حَظَّهُ مِنَ النَّارِ". وفي رواية له (¬3): "كَانَ حَظَّهُ مِنْ جَهَنَّمَ". اختلف في إسناد هذا الحديث عَلَى أبي صالح الأشعري. فَقَالَ أبو الحصين الفلسطيني: عن أبي أمامة، عن أبي صالح. وخالفه إسماعيل بن عبيد الله فرواه عن أبي صالح الأشعري، عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه عاد مريضًا ومعه أبو هريرة من وعك كان به، فَقَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أبشر فإن الله يقول: هي ناري، أسلطها عَلَى عبدي المؤمن في الدُّنْيَا، لتكون حظه من النار في الآخرة". خرجه ابن ماجه (¬4) من طريق أبي أسامة، عن عبد الرحمن بت يزيد، عن إسماعيل به. وعبد الرحمن بن يزيد بن تميم الدمشقي ضعيف. ومن قال إنه ابن جاير فقد وهم. وقد خرجه الطبراني من رواية أبي المغيرة عن أبي تميم به. وخالفه سعيد بن عبد العزيز، فرواه عن إسماعيل بن عبد الله، عن أبي ¬

_ (¬1) (5/ 252). (¬2) كير الحداد: الَّذِي ينفخ به النار. "النهاية " (4/ 217). (¬3) في "المسند" (5/ 264). (¬4) برقم (2370).

صالح، عن كعب الأحبار من قوله. قال الدارقطنى: وهو الصواب. قال: ورواه شبابة، عن أبي غسان، عن أبي حصين، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. قلت: ظنه أبا حصين الأسدي الكوفي -بفتح الحاء وكسر الصاد- وظن أبا صالح هو السمان، وكل ذلك وهم! إِنَّمَا هو أبو حصين بضم الحاء وفتح الصاد- فلسطيني ليس بالمشهور، وأبو صالح هو الأشعري. وقد روي هذا من حديث عائشة من رواية هشيم (¬1) ثنا مغيرة، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: "الْحُمَّى حَظُّ كُلِّ مُؤْمِنٍ مِنَ النَّارِ". خرجه ابن أبي حاتم من طريق عثمان بن مخلد التمار الواسطي عن هشيم به، وذكره الدارقطني وقال في التمار: لا بأس به. قال: وخالفه مندل، فرواه عن مغيرة، عن إبراهيم، عن عائشة موقوفًا، وهو المحفوظ. قلت: قد توبع التمار عَلَى روايته عن هشيم، فرواه نصر بن زكريا، عن جعفر بن عبد الله البلخي، عن هشيم، كما رواه التمار. وقد روي عن عائشة من وجه آخر، خرجه الطبراني (¬2) والبزار (¬3) من رواية عمر بن راشد- مولى عبد الرحمن بن أبان بن عثمان- عن محمد بن عجلان، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وعمر بن راشد هذا، قال ابن عدي: هو مجهول. وروي من حديث عثمان بن عفان، من رواية الفضل بن حماد الأزدي، ¬

_ (¬1) أخرجه البزار برقم (765 - كشف). (¬2) في الأوسط برقم (3318) وفي الصغير (13/ 113 - 114) وقال: لم يروه عن هاشم بن عروة إلا محمد بن عجلان، ولا عن ابن عجلان إلا عمر بن راشد، تفرد به يعقوب بن سفيان. وعزاه الهيثمي في المجمع (2/ 306) للطبراني في الصغير والأوسط، قال: وفيه عمر بن راشد ضعفه أحمد وغيره ووثقه العجلي. (¬3) كما في مجمع الزوائد (2/ 306)، ولكنه من طريق آخر غير هذا الطريق.

عن عبد الله بن عمران القرشي، عن مالك بن دينار، عن معبد الجهني، عن عثمان بن عفان، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «الْحُمَّى حَظُّ كُلِّ مُؤْمِنٍ مِنَ النَّارِ يَوْمَ القَيَامَة». خرجه ابن أبي الدُّنْيَا (¬1)، والعقيلى (¬2). وقال في ابن عمران: لا يتابع عَلَى حديثه. قال: وإسناده غير محفوظ، والمتن معروف بغير هذا الإسناد. وقال في موضع آخر: في إسناده نظر. قال: وهذا مروي من غير هذا الوجه، بإسناد أصلح من هذا يثبت (¬3)، وهو صحيح، انتهى. ومعبد الجهني هو القدري المبتدع. وروي من حديث أبي ريحانة من رواية عصمة بن سالم الهُنائي، عن أشعث الحداني، عن شهر بن حوشب، عن أبي ريحانة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «الْحُمَّى كِيرٍ مِنْ جَهَنَّمَ، وَهِيَ نَصِيبُ المُؤْمِنِ مِنَ النَّارِ». خرجه ابن أبي الدُّنْيَا (¬4) وغيره (¬5). وروي من حديث أنس: رواه الطبراني (¬6) من حديث الشاذكوني، ثنا [عبيس] (¬7) بن ميمون، عن قتادة، عن أنس، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «الْحُمَّى ¬

_ (¬1) في "المرض والكفارات" (157). (¬2) في "الضعفاء الكبير" (2/ 287) وقال العقيلي: إسناده غير محفوظ، والمتن معروف بغير هذا الإسناد، وقد روي في هذا أحاديث مختلفة في الألفاظ بأسانيد صالحة. (¬3) في "الضعفاء الكبير" (3/ 448) وقال العقيلي: هذا يروى من غير هذا الوجه بإسناد أصلح من هذا. (¬4) في "المرض والكفارات" (21). (¬5) وأخرجه البخاري في "التاريخ الكبير" (7/ 63) معلقًا، والطحاوي في "المشكل" (3/ 68)، والبيهقي في "الشعب" (9846). (¬6) في "الأوسط" (754). (¬7) في النسخ الثلاث (عيسى)، والصواب ما أثبته كما في "تهذيب الكمال" (19/ 276 - 277).

حَظُّ مُؤْمِنٍ مِنَ النَّارِ». إسناده ضعيف. وقد روي أيضاً من حديث ابن مسعود، ولا يصح. وروي مرسلاً، خرجه محمد بن سعد في طبقاته (¬1): ثنا أبو نعيم الفضل بن دكين حدثنا إسماعيل بن مسلم العبدي، ثنا أبو المتوكل أن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - ذكر الحمي، فَقَالَ: "مَنْ كَانَتْ بِهِ، فَهِيَ حَظُّهُ مِنَ النَّارِ". فسألها سعد ابن معاذ ربه، فلزمته حتى فارق الدُّنْيَا. وروي عن مجاهد قال: "الحمى". من قوله، خرجه ابن أبي الدُّنْيَا (¬2): من رواية عثمان بن الأسود عن مجاهد قال: "الحُمَّى حَظُّ كُلِّ مُؤْمِنٍ مِنَ النَّارِ" -ثم قرأ: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا} (¬3) - والورود في الدُّنْيَا هو الورود في الآخرة. اعلم أن الله تعالى خلق الجنة والنار، ثم خلق بني آدم، وجعل لكل واحد من الدارين أهلاً منهم. ثم بعث الرسل مبشرين ومنذرين، يبشرون بالجنة من آمن وعمل صالحًا، وينذرون بالنار من كفر وعصى. وأقام أدلة وبراهين دلت عَلَى صدق رسله فيما أخبروا به عن ربهم من ذلك. وأشهد عباده في هذه الدار آثارًا من الجنة، وآثارًا من النار. فأشد ما يجده الناس من الحر من فيح جهنم، وأشد ما يجدونه من البرد من زمهرير جهنم! كما صح ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬4). وروي أن برد السحر الَّذِي يشهده الناس كل ليلة من برد الجنة حين تفتح ¬

_ (¬1) (3/ 421). (¬2) في "المرض والكفارات" (20). (¬3) مريم: 71. (¬4) أخرجه البخاري (3260)، ومسلم (617).

سحرًا كل ليلة. وروي عن عبد الله بن عمرو أن الجنة معلقة بقرون الشمس، تنشر كل عام مرة. يشير إِلَى زمن الربيع، وما يظهر فيه من الأزهار والثمار، وطيب الزمان واعتداله، في الحر والبرد، وأبلغ من هذا كله، أن الله تعالى أشهد عباده في نفوسهم، آثارًا محسوسة، يجدونها ويحسونها من آثار الجنة والنار. فأما ما يجدونه من آثار الجنة، فما يتجلى لقلوب المؤمنين، من آثار أنوار الإيمان، وتجلي الغيب لقلوبهم، حتي يصير الغيب كالشهادة لقلوبهم في مقام الإحسان. فربما تجلت الجنة أو بعض ما فيها لقلوبهم أحيانًا، حتي يرونها كالعيان، وربما استنشقوا من أراييحها، كما قال أنس بن النضر يوم أحد: واهًا لريح الجنة، والله إني لأجد ريح الجنة من قبل أحد (¬1)!! وأما ما يجدونه من آثار النار، فما يجدونه من الحمى، فإنها من فيح جهنم، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: الْحُمَّى مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ، فَاطْفِئُوهَا بِالمَاءِ" (¬2). وهي نوعان: حارة وباردة. فالحارة من آثار (سموم) (¬3) جهنم، والباردة من آثار (زمهرير) (¬4) جهنم. وروى ابن إسحاق عن محمد بن عمرو بن عطاء، عن أبي السائب - مولى عبد الله بن زُهرَة- عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إِنَّ النار استأذنت ربها في نفسين، فأذن لها، فأما أحدهما فهذه (الجذوة) (¬5) التي تصبيكم من السماء، وأما الآخر فهذه الحمى التي تصيبكم، فَإِذَا اشتدت عَلَى أحدكم، ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (1903). (¬2) أخرجه البخاري (643، 5723)، ومسلم (2209) من حديث ابن عمر، وأخرجه البخاري (3263، 5725)، ومسلم (2210) من حديث عائشة، وأخرجه البخاري (3262، 5726)، ومسلم (2212) من حديث رافع بن خديج. (¬3) الريح الحارة تكون غالبًا بالنهار. القاموس: مادة: "سمم". (¬4) الزمهرير: شدة البرد، وهو الَّذِي أعده الله عذابًا للكفار في الدار الآخرة "النهاية" (2/ 314). (¬5) الجذوة: القبسة من النار. "ترتيب القاموس" (1/ 465).

فليطفئها عنه بالماء البارد". خرجه أبو أحمد الحاكم، وإسناده جيد، وهو غريب جدًّا! فَإِذَا كانت الحمى من النار، ففي هذه الأحاديث السابقة أنها حظ المؤمن من نار جهنم يوم القيامة. والمعنى -والله أعلم- أن حرارة الحمى في الدُّنْيَا تكفر ذنوب المؤمن، ويطهر بها، حتى يلقى الله بغير ذنب، فيلقاه طاهرم مطهرًا من الخبث، فيصلح لمجاورته في دار كرامته دار السلام، ولا يحتاج إِلَى تطهير في كير جهنم غدًا؛ حيث لم يكن فيه خبث يحتاج إِلَى تطهير، وهذا في حق المؤمن الَّذِي حقق الإيمان، ولم يكن له ذنوب، إلا ما تكفره الحمى وتطهره. وقد تواترت النصوص عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بتكفير الذنوب بالأسقام والأوصاب، وهي كثيرة جدًّا يطول ذكرها. ونحن نذكر هاهنا من ذلك بعض النصوص المصرحة بتكفير الحمى. ففي "صحيح مسلم" (¬1) عن جابر "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل عَلَى أم السائب- أو أم المسيب- فَقَالَ: "فَقَالَ: مَا لَكِ تُزَفْزِفِينَ" (¬2). قَالَتِ: الْحُمَّى، لا بَارَكَ اللَّهُ فِيهَا. قَالَ: "لا تَسُبِّي الْحُمَّى، فَإِنَّهَا تُذْهِبُ خَطَايَا بَنِي آدَمَ، كَمَا يُذْهِبُ الْكِيرُ الخَبَثَ». وخرج ابن ماجه (¬3) من حديث أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - معناه. وخرج الحاكم (¬4) من حديث عبد الرحمن بن أزهر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «مَثَلُ العَبْدُ الْمُؤْمِنُ حِينَ يُصِيبُهُ الْوَعْكُ أَوِ الْحُمَّى، كَمَثَلُ حَدِيدَةٍ تَدْخُلُ النَّارَ، فَيَذْهَبُ خَبَثُهَا، وَيَبْقَى طَيِّبُهَا». وقال: صحيح الإسناد. ¬

_ (¬1) برقم (2575). (¬2) تزفزف: "ترتعد من البرد، ويروى بالراء" "النهاية". (¬3) برقم (3469). (¬4) في "المستدرك" (1/ 348).

وقال غيره من الحفاظ: لا أعلم له علة. وخرج الترمذي (¬1) من حديث عائشة "أنها سألت النبي - صلى الله عليه وسلم - عن قوله تعالى: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} (¬2)، وعن قوله: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} (¬3)، فَقَالَ: هذه (معاتبة) (¬4) الله العبد بها يصيبه من الحمي، والنكبة، حتى البضاعة يضعها في جيب قميصه فيفقدها فيفزع لذلك، حتى إِنَّ العبد ليخرج من ذنوبه، كما يخرج التبر الأحمر من الكير". وقال: حسن غريب. وخرج ابن أبي الدُّنْيَا (¬5) من حديث أبي الدرداء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إِنَّ الحمى و (المليلة) (¬6)، لا تزالان بالمؤمن، وإن ذنبه مثل أحد، فما تدعانه وعليه من ذنبه مثقال حبة من خردل". وخرجه الإمام أحمد (¬7)، وعنده: "إِنَّ الصداع والمليلة". وخرج الطبراني (¬8) من حديث أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، أَنَّهُ قَالَ: "يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا جَزَاءُ الْحُمَّى؟ قَالَ: «تَجْرِي الْحَسَنَاتُ عَلَى صَاحِبِهَا، مَا (اخْتَلَجَ) (¬9) عَلَيْهِ قَدَمٌ، أَوْ ضَرَبَ عَلَيْهِ عِرْقٌ». فَقَالَ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ حُمَّى لَا تَمْنَعُنِي خُرُوجًا فِي سَبِيلِكَ، وَلَا خُرُوجًا إِلَى بَيْتِكَ، وَلَا إِلَى مَسْجِدِ نَبِيِّكَ". قال: فلم يمس قط إلا وبه الحمى! ¬

_ (¬1) برقم (2991). (¬2) البقرة: 284. (¬3) النساء: 123. (¬4) في "الأصل": متابعة، والمثبت منا "سنن الترمذي". (¬5) في "المرض والكفارات" (223). (¬6) المليلة: حرارة الحمى ووهجها. "النهاية" (4/ 362). (¬7) (5/ 198). (¬8) في "المعجم الكبير" (540)، و"الأوسط" (445). قال الهيثمي في "المجمع" (2/ 305): رواه الطبراني في الكبير والأوسط عن محمد بن معاذ بن أبي بن كعب عن أبيه وهما مجهولان كما قال ابن معين. (¬9) أصل الاختلاج: الحركة والاضطراب "النهاية" (2/ 60).

ومعنى إجراء الحسنات عليه، كتابة ما كان يعمله في الصحة، مما منعته منه الحمى، كما ورد تفسيره في أحاديث آخر صريحًا. وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا عاد من به الحمى قال له: "طَهُورٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ". يعني أنها تطهير من الذنوب والخطايا. ففي "صحيح البخاري" (¬1) عن ابن عباس "أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا دَخَلَ عَلَى مَرِيضٍ يَعُودُهُ، قَالَ: «لاَ بَأْسَ، طَهُورٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ». فَدخَلَ عَلَى أَعْرَابِيٍّ يَعُودُهُ، فَقَالَ لَهُ: «لاَ بَأْسَ، طَهُورٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ». فَقَالَ الأعرابي: قُلْتُ طَهُورٌ؟ بَلْ حُمَّى تَفُورُ، عَلَى شَيْخٍ كَبِيرٍ، تُزِيرُهُ القُبُورَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَنَعَمْ إِذًا». يعني أنه لم يقبل الطهارة، بل ردها، وأخبر عن حُمَّاه بما أخبره به عن نفسه، فحصل له ما اختاره لنفسه، دونه ما رده. وقد خرجه أبو نعيم في "تاريخ أصبهان" (¬2) من حديث شُرَحْبِيلَ بْنِ السِّمْطِ: "جَاءَ شَيْخٌ أَعْرَابِيٍّ إِلَى النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، شَيْخٍ كَبِيرٍ، وَحُمَّى تَفُورُ، فِي عِظَامِ شَيْخٍ كَبِيرٍ، تُزِيرُهُ الْقُبُورَ. فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «بَلْ كَفَّارَةٌ وَطَهُورٌ» فَقَالَهَا ثلاَثًا، فَأَعَادَهَا عَلَيْهِ: «بَلْ كَفَّارَةٌ وَطَهُورٌ». فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الثَّالِثَةِ: «فَنَعَمْ إِذًا، إِنَّ اللَّهَ إِذَا قَضَى عَلَى عَبْدٍ قَضَاءً، لَمْ يَكُنْ لِقَضَائِهِ مَرَدٌّ». وفي "مسند الإمام أحمد" (¬3) عن أنس "أَنَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ عَلَى أَعْرَابِيٍّ يَعُودُهُ -وَهُوَ مَحْمُومٌ- فَقَالَ: "كَفَّارَةٌ وَطَهُورٌ"، فَقَالَ الْأَعْرَابِيُّ: بَلْ حُمَّى تَفُورُ، عَلَى شَيْخٍ كَبِيرٍ، تُزِيرُهُ الْقُبُورَ، فَقَامَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَرَكَهُ". وقال هشام عن الحسن: كانوا يرجون في حُمَّى ليلة، كفارة لما مضى من الذنوب. ¬

_ (¬1) برقم (3616). (¬2) (1/ 290). (¬3) (3/ 250).

وقال حوشب عن الحسن رفعه: "إِنَّ الله ليكفر عن المؤمن خطاياه بحمى ليلة". وروي عن الحسن، عن أبي هريرة مرفوعًا بإسناد ضعيف. وقال عبد الملك بن عمير: قال أبو الدرداء: حمى ليلة كفارة سنة! وروى ذلك كله ابن أبي الدُّنْيَا (¬1). وقد قيل في مناسبة تكفير حمّى ليلة لذنوب سنة، أن القوى كلها تضعف بالحمى، فلا تعود إِلَى ما كانت عليه إِلَى سنة تامة! وفي مناسبة تكفيرها الذنوب كلها، أن الحمّى يأخذ منها كل أعضاء البدن ومفاصله قسطه من الألم والضعف، فيكفر ذلك ذنوب البدن كلها. وإذا كانت الحمّى بهذه المثابة، وأنها كفارة للمؤمن وطهارة له من ذنوبه، فهى حظه من النار؛ باعتبار ما سبق ذكره. فإنه لا يحتاج إِلَى الطهارة بالنار يوم القيامة، إلا من لقي الله وهو متلطخ يخبث الذنوب. وفي الترمذي (¬2). عن أبي بكر الصديق: "أنه كان عند النبي - صلى الله عليه وسلم، فأقراه هذه الآية حين أنزلت: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} (¬3) قَالَ: وَلاَ أَعْلَمُ إِلَّا أَنِّي وَجَدْتُ فِي ظَهْرِي انْْقِصَامًا، فَتَمَطَّأْتُ لَهَا وَقُلْتُ: يَا رَسولَ اللهِ، وَأَيُّنَا لَمْ يَعْمَلْ سُوءًا؟! أوْ إِنَّا لَمَجْزِيُّونَ بِمَا عَمِلْنَا؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَمَّا أَنْتَ يَا أَبَا بَكْرٍ وَالمُؤْمِنُونَ فَتُجْزَوْنَ بِذَلِكَ فِي الدُّنْيَا، حَتَّى تَلْقَوْا اللَّهَ وَلَيْسَ لَكُمْ ذُنُوبٌ، وَأَمَّا الآخَرُونَ فَيُجْمَعُ ذَلِكَ لَهُمْ حَتَّى يُجْزَوْا بِهِ يَوْمَ القِيَامَةِ». ¬

_ (¬1) في "المرض والكفارات" وأرقامها (29، 28، 83، 49). (¬2) برقم (3039) وقال أبو عيسي: هذا حديث غريب، وفي إسناده مقال. (¬3) النساء: 123.

وفي "مسند بقي بن مخلد" بإسناد جيد، عن عائشة: "أن رجلاً تلا هذه الآية: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} (¬1) فَقَالَ: إنا لنجزى بكل عمل عملنا؟ هلكنا إذًا! فبلغ ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: نعم يجزى به المؤمن في الدُّنْيَا، في نفسه، في جسده فما دونه". وأما ما روي عن مجاهد أن الحمى في الدُّنْيَا، هو ورود جهنم يوم القيامة -فإن صح عنه- فله معنى صحيح، وهو أن ورود النار في الآخرة قد اختلف فيه الصحابة عَلَى قولين: أحدهما: أنه المرور عَلَى الصراط، كقول ابن مسعود. والثاني: أنه الدخول فيها، كقول ابن عباس. فمن قال هو المرور عَلَى الصراط، فإنه يقول: إِنَّ مرور المؤمنين عَلَى الصراط بحسب إيمانهم وأعمالهم -كما صحت النصوص النبوية- فمن كمل إيمانه نجي، ولم يتأذ بالنار، ولم يسمع حسيسها، ومن نقص إيمانه، فإنه قد تخدشه (الكلاليب) (¬2)، و (يتكردس) (¬3) في النار بحسب ما نقص من إيمانه، ثم ينجو. ومن قال هو دخول النار، فإنه يقول إِنَّ المؤمنين الذين كمل إيمانهم، لا يحسون بحرها بالكلية. وفي "المسند" (¬4) عن جابر مرفوعًا: "لا يبقى أحد إلا دخلها، فأما المؤمنون فتكون عليهم بردًا وسلامًا كما كانت عَلَى إبراهيم، حتى إِنَّ للنار لضجيجًا من بردهم". وفي حديث آخر: "تقول النار للمؤمن: جز يا مؤمن فقد أطفأ نورك لهبي" (¬5). ¬

_ (¬1) النساء: 123. (¬2) الكلوب بالتشديد: حديدة معوجة الرأس "النهاية" (4/ 195). (¬3) المكردس: الَّذِي جمعت يداه ورجلاه وألقي في موضع "النهاية" (4/ 162). (¬4) (3/ 328 - 329). (¬5) أخرجه الطبراني في "الكبير" (22/ 668)، والبيهقي في "الشعب" (375)،=

وقال بعض التابعين: إذا قطع المؤمنون الصراط يقول بعضهم لبعض: ألم يعدنا ربنا أن نرد النار؟ فيَقُولُونَ: نعم، ولكن وردتموها وهي خامدة. فعلى كلا القولين: المؤمنون الذين كمل إيمانهم لا يحسون بحر جهنم، ولا يتأذون به عند الورود عليها، فيكون ما أصابهم في الدُّنْيَا من فيح جهنم بالحمّى، هو حظهم من النار، فلا يحصل لهم شعور وإحساس بحر النار، سوى إحساسهم بحر الحمّى في الدُّنْيَا. فهذا هو معنى ما ورد أن الحمّى حظ المؤمن من النار، وأنها حظهم من ورود النار يوم القيامة، والله أعلم. وقد كانت الحمى تشتد عَلَى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ لعظم درجته عند الله، وكرامته عليه، وإرادته رفعة درجته عنده. فروى ابن مسعود قال: «دَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يُحَمُّ، فَوَضَعْتُ يَدِي عَلَيْهِ، فَقُلْتُ: مَا أَشَدَّ حُمَّاكَ؟! وَإِنَّكَ لَتُوعَكُ وَعْكًا شَدِيدًا. قَالَ: «أَجَلْ إِنِّي أُوعَكُ كَمَا يُوعَكُ رَجُلَانِ مِنْكُمْ، إِمَّا إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ عَبْدٍ مُؤْمِنٍ، وَلا أَمَةٍ مُؤْمِنَةٍ، يَمْرَضُ مَرَضًا إِلَّا حَطَّ اللَّهُ عَنْهُ خَطَايَاهُ كَمَا يُحَطُّ عَنِ الشَّجَرَةِ وَرَقُهَا». ¬

_ =والخطيب في "تاريخ بغداد" (5/ 193) من حديث يعلى بن منية. قال البيهقي: تفرد به سليم بن منصور وهو منكر. وقال الخطيب: هكذا قال عن منصور بن عمار، عن خالد بن دريد. وروى هذا الحديث سليم بن منصور بن عمار، عن أبيه، واختلف عليه فَقَالَ: إسحاق بن الحسن الحربي، عن سليم، عن أبيه، عن بشير بن طلحة، عن خالد بن دريك، عن يعلى. ورواه أحمد بن الحسين بن إسحاق الصوفي، عن سليم، عن أبيه، عن هقل ابن زياد، عن الأوزاعي، عن خالد بن دريك، عن بشير بن طلحة، عن يعلى بن منية، والله أعلم. أ. هـ. وقال المصنف في "التخويف من النار" (ص 184) بعد ذكره الحديث: غريب وفيه نكارة. أهـ. وقال الهيثمي في "المجمع" (10/ 360): رواه الطبراني، وفيه سليم بن منصور بن عمار، وهو "ضعيف". اهـ.

خرَّجه البخاري بمعناه (¬1)، وهذا لفظ ابن أبي الدُّنْيَا (¬2). وفي رواية البخاري: قلت: ذلك أن لك أجرين. قال: "أجل". وخرج ابن ماجه (¬3) من حديث أبي سعيد الخدري قال: دخلت عَلَى النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو (يوعك) (¬4) فوضعت يدي عليه، فوجدت حره بين يدي فوق "اللحاق، فقلت: يا رسول الله، ما أشدَّها عليك؟! قال: "إنا كذلك، يُضعف لنا البلاء، ويُضعف لنا الأجر". وفي "المسند" (¬5) عن فاطمة بنت عتبة قَالَتْ: "أَتَيْنَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَعُودُهُ -فِي نِسَاءٍ- فَإِذَا سِقَاءٌ مُعَلَّقٌ نَحْوَهُ، يَقْطُرُ مَاؤُهُ عَلَيْهِ مِنْ شِدَّةِ مَا يَجِدُهُ مِنْ حَرِّ الْحُمَّى، فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ، لَوْ دَعَوْتَ اللهَ شَفَاكَ، فَقَالَ: "إِنَّ مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ بَلَاءً الْأَنْبِيَاءَ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ". وقد جعل النبي - صلى الله عليه وسلم - من لا تصيبه الحمى والصداع من أهل النار، فجعل ذلك من علامات أهل النار، وعكسه من علامات المؤمنين. ففي "المسند" (¬6) والنسائي (¬7) عن أبي هريرة «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِأَعْرَابِيٍّ: هَلْ أَخَذَتْكَ أُمُّ مِلْدَمٍ؟ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، وَمَا أُمُّ مِلْدَمٍ؟ قَالَ: حَرٌّ يَكُونُ بَيْنَ الْجِلْدِ وَالدَّمِ. قَالَ: مَا وَجَدْتُ هَذَا. قَالَ: يَا أَعْرَابِيُّ هَلْ أَخْذَكَ هَذَا الصُّدَاعُ؟ قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، وَمَا الصُّدَاعُ؟ قَالَ: عُرُوقٌ تَضْرِبُ عَلَى الْإِنْسَانِ فِي رَأْسِهِ قَالَ: فَمَا وَجَدْتُ هَذَا. فَلَمَّا وَلَّى قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ النَّارِ فَلْيَنْظُرْ إِلَى هَذَا». ¬

_ (¬1) برقم (5647)، وكذا مسلم (2571). (¬2) في "المرض والكفارات" رقمي (2، 229). (¬3) برقم (4024). (¬4) الوعك: الحمى. "النهاية" (5/ 207). (¬5) (6/ 369). (¬6) (2/ 332). (¬7) في "السنن الكبرى" (7491).

وخرج الطبراني (¬1) من حديث أَنَسٍ: "أَنَّ أَعْرَابِيًّا أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَهُ: مَتَى عَهْدُكَ بِأُمِّ مِلْدَمٍ؟ قَالَ: وَمَا أُمُّ مِلْدَمٍ؟ قَالَ: حَرٌّ يَكُونُ بَيْنَ الْجِلْدِ وَالْعَظْمِ، يَمَصُّ الدَّمَ، وَيَأْكُلُ اللَّحْمَ. قَالَ: مَا اشْتَكَيْتُ قَطُّ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ أَرَادَ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ النَّارِ فَلْيَنْظُرْ إِلَى هَذَا. أَخْرِجُوهُ عَنِّي". وفي "المسند" (¬2) عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: دَخَلَ رَجُلٌ عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: "مَتَى عَهْدُكَ بِأُمِّ مِلْدَمٍ؟ " وَهُوَ حَرٌّ بَيْنَ الْجِلْدِ وَاللَّحْمِ. وَقَالَ: إِنَّ ذَلِكَ لَوَجَعٌ مَا أَصَابَنِي قَطُّ. قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَثَلُ الْمُؤْمِنِ مَثَلُ الْخَامَةِ تَحْمَرُّ مَرَّةً، وَتَصْفَرُّ أُخْرَى". وقد اختار النبي - صلى الله عليه وسلم - الحمى لأمته عموماً، ولأهل مدينته خصوصًا، وللأنصار من أهل قباء خصوصًا. فأما الأول: ففي "المسند" (¬3) عن أبي قلابة قال: "نبئت أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بَيْنَمَا هُوَ ذَاتَ لَيْلَةٍ يُصَلِّي قَالَ فِي دُعَائِهِ: فَحُمَّى إِذًا أَوْ طَاعُونًا، قَالهاَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ. فَلَمَّا أَصْبَحَ سَأَلَهُ إِنْسَانٌ مِنْ أَهْلِهِ عَنْ ذَلِكَ: فَقَالَ: إِنِّي سَأَلْتُ رَبِّي أَنْ لَا يُهْلِكَ أُمَّتِي بِسَنَةٍ فَأَعْطَانِيهَا، وَسَأَلْتُهُ أَنْ لَا يُسَلِّطَ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ غَيْرِهِمْ فَيَسْتَبِيحَهُمْ فَأَعْطَانِيهَا، وَسَأَلْتُهُ أَنْ لَا يُلْبِسَهُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَهُمْ بَأْسَ بَعْضٍ فَأَبَى عَلَيَّ -أَوْ قَالَ: فَمنعت -فَقُلْتُ حُمَّى إِذًا أَوْ طَاعُونًا، حُمَّى إِذًا أَوْ طَاعُونًا ... " يَعْنِي ثَلَاثَ مَرَّاتٍ. وأما الثاني: في "المسند" (¬4) أيضاً عن أبي عسيب -مولى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "أَتَانِي جِبْرِيلُ بِالْحُمَّى وَالطَّاعُونِ، فَأَمْسَكْتُ الْحُمَّى بِالْمَدِينَةِ، ¬

_ (¬1) في "المعجم الأوسط" (5905) قال الهيثمي في "المجمع" (2/ 294): وفيه الحسن بن أبي جعفر. قال عمرو بن علي: صدوق منكر الحديث. وقال ابن عدي: صدوق وهو ممن لم يتعمد الكذب، وله أحاديث صالحة. (¬2) (5/ 142). (¬3) (5/ 248). (¬4) (5/ 81).

وَأَرْسَلْتُ الطَّاعُونَ إِلَى الشَّامِ، فَالطَّاعُونُ شَهَادَةٌ لِأُمَّتِي، وَرَحْمَةٌ لَهُمْ، وَرِجْزٌ عَلَى الْكَافِرِين". ولا ينافي هذا ما في "الصحيح" (¬1) عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: "لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المَدِينَةَ وُعِكَ أَبُو بَكْرٍ وَبِلاَلٌ، فَكَانَ أَبُو بَكْرٍ إِذَا أَخَذَتْهُ الحُمَّى يَقُولُ: كُلُّ امْرِئٍ مُصَبَّحٌ فِي أَهْلِهِ ... وَالمَوْتُ أَدْنَى مِنْ شِرَاكِ نَعْلِهِ وَكَانَ بِلاَلٌ إِذَا أُقْلِعَ عَنْهُ يَرْفَعُ عَقِيرَتَهُ (¬2) يَقُولُ: أَلاَ لَيْتَ شِعْرِي هَلْ أَبِيتَنَّ لَيْلَةً ... بِوَادٍ وَحَوْلِي إِذْخِرٌ وَجَلِيلُ وَهَلْ أَرِدَنْ يَوْمًا مِيَاهَ مَجَنَّةٍ ... وَهَلْ يَبْدُوَنْ لِي شَامَةٌ وَطَفِيلُ اللَّهُمَّ العَنْ شَيْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ، وَعُتْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ، وَأُمَيَّةَ بْنَ خَلَفٍ، كَمَا أَخْرَجُونَا مِنْ أَرْضِنَا إِلَى أَرْضِ الوَبَاءِ. ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اللَّهُمَّ حَبِّبْ إِلَيْنَا المَدِينَةَ، كَحُبِّنَا مَكَّةَ أَوْ أَشَدَّ، اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي صَاعِنَا وَفِي مُدِّنَا، وَصَحِّحْهَا لَنَا، وَانْقُلْ حُمَّاهَا إِلَى الجُحْفَةِ». قَالَتْ: وَقَدِمْنَا المَدِينَةَ وَهِيَ أَوْبَأُ أَرْضِ اللَّهِ. قَالَتْ: فَكَانَ بُطْحَانُ يَجْرِي نَجْلًا -تَعْنِي مَاءً آجِنًا (¬3). فإن المراد بالحمى في هذا الحديث الوباء، وهو وخم الأرض وفسادها وفساد مائها وهوائها، المقتضي للمرض، وقد نقل ذلك من المدينة إِلَى الجحفة، كما في "صحيح البخاري" (¬4) عن ابن عمر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «رَأَيْتُ امْرَأَةً سَوْدَاءَ ثَائِرَةَ الرَّأْسِ خَرَجَتْ مِنَ المَدِينَةِ حَتَّى قَامَتْ بِمَهْيَعَةٍ" -وَهِيَ الجُحْفَةُ- فَأَوَّلْتُهَا وَبَاءَ المَدِينَةِ يُنْقَلُ إِلَى الجُحْفَةِ». ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (1889)، ومسلم (1376). (¬2) أي صوته. قيل: أصله أن رجلاً قطعت رجله، فكان يرفع المقطوعة عَلَى الصحيحة ويصيح من شدة وجعها بأعلى صوته، فقيل لكل رافع صوته: رفع عقيرته. "النهاية". (3/ 275). (¬3) الماء الآجن: أي الماء المتغير الطعم واللون. "النهاية" (1/ 26). (¬4) برقم (7038). قال الحافظ في "الفتح" (12/ 444): وأظن قوله: "وهي الجحفة" مدرجًا من قول موسى بن عقبة.

وأما الحمى المعتادة فهي التي أمسكها النبي - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة، وهي التي تكون بالأرض الطيبة، والبلاد الهنيئة الصحيحة هواؤها وماؤها. وأما الثالث: -وهو تخصيص الأنصار بها- ففي "المسند" (¬1) أيضاً، و"صحيح ابن حبان" (¬2) عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: «اسْتَأْذَنَتِ الْحُمَّى عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: مَنْ هَذِهِ؟ قَالَتْ: أُمُّ مِلْدَمٍ، قَالَ: فَأَمَرَ بِهَا إِلَى أَهْلِ قُبَاءَ، فَلَقُوا مِنْهَا مَا يَعْلَمُ اللَّهُ، فَأَتَوْهُ فَشَكَوْا ذَلِكَ إِلَيْهِ، فَقَالَ: مَا شِئْتُمْ: إِنْ شِئْتُمْ أَنْ أَدْعُوَ اللَّهَ لَكُمْ يَكْشِفَهَا عَنْكُمْ، وَإِنْ شِئْتُمْ أَنْ تَكُونَ لَكُمْ طَهُورًا. قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَوَتَفْعَلُ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالُوا: فَدَعْهَا». وخرج الخلال في كتاب "العلل" من حديث سَلْمَان الفارسي قَالَ: «اسْتَأْذَنَتِ الْحُمَّى عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: مَنْ أَنْتِ؟ قَالَتْ: أَنَا الْحُمَّى أَبْرِي اللَّحْمَ، وأَمُصُّ الدَّمَ. قَالَ: اذْهَبِي إِلَى أَهْلِ قُبَاءَ. فَأَتَتْهُمْ. فَجَاءُوا إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَدِ اصْفَرَّتْ وُجُوهُهُمْ، فَشَكَوُا الْحُمَّى إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: مَا شِئْتُمْ، إِنْ شِئْتُمْ دَعَوْتُ اللهَ فَكَشَفَهَا عَنْكُمْ، وَإِنْ شِئْتُمْ تَرَكْتُمُوهَا، فَأسْتَنْظَفَتْ بَقِيَّةَ ذُنُوبِكُمْ، قَالُوا: بَلْ دَعْهَا يَا رَسُولَ اللهِ». وقد كان كثير من السلف الصالح يختار الحمى لنفسه -كما سبق عن أبي بن كعب أنه دعا لنفسه بالحمى. وروي من وجه آخر من حديث أبي سعيد البخاري قال: "قَالَ رَجُلٌ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَرَأَيْتَ هَذِهِ الْأَمْرَاضَ الَّتِي تُصِيبُنَا، مَا لَنَا بِهَا؟ قَالَ: كَفَّارَاتٌ. قَالَ: أُبَيٌّ: وَإِنْ قَلَّتْ؟ قَالَ: وَإِنْ شَوْكَةً فَمَا فَوْقَهَا. قَالَ: فَدَعَا اللهُ أُبَيٌّ عَلَى نَفْسِهِ أَنْ لَا يُفَارِقَهُ الْوَعْكُ حَتَّى يَمُوتَ! فِي أَنْ لاَ يَشْغَلَهُ عَنْ حَجٍّ، وَلَا عُمْرَةٍ، وَلَا جِهَادٍ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَلَا صَلَاةٍ مَكْتُوبَةٍ فِي جَمَاعَةٍ. فَمَا مَسَّهُ إِنْسَانٌ إِلَّا وَجَدَ حَرَّهُ حَتَّى مَاتَ". ¬

_ (¬1) (3/ 316). (¬2) كما في "الإحسان" (2935).

خرَّجه الإمام أحمد (¬1)، وابن حبان في "صحيحه" (¬2)، والحاكم (¬3) وقال: عَلَى شرطهما. وخرَّج النسائي (¬4) أول الحديث فقط. وقد سبق عن سعد بن معاذ نحو ذلك. وروى ابن أبي الدُّنْيَا (¬5) بإسناده عن عطاء، عن أبي هريرة قال: ما من مرض أَحَبّ إليَّ من هذه الحمّى، إِنَّمَا تدخل في كل مفصل، وإن الله عز وجل يعطي كل مفصل قسطه من الأجر. ووضع بعض ولد الإمام أحمد يده عليه، فَقَالَ له: كأنك محموم؟ فَقَالَ أحمد: وأنّى لي بالحمّى؟ ومع هذا كله فالمشروع سؤال الله العافية، لا سؤال البلاء. وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يأمر بسؤال العافية، ويحثّ عليه، وقال لمن سأل البلاء وتعجيل العقوبة له في الدُّنْيَا: "إِنَّكَ لا تُطِيقُ ذَلِكَ، أَلاَ قُلْتَ: رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً، وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ" (¬6). وسمع رجلاً يسأل الله الصبر، فَقَالَ: "سألت الله البلاء، فسل العافية" (¬7). وفي دعائه بالطائف -وقد بلغ منه الجهد مما أصابه من أذي المشركين -: "إِنْ لم يكن بك غضب عليّ فلا أبالي، ولكن عافيتك أوسع لي" (¬8). وقال: "لا تتمنوا لقاء العدو، ولكن سلوا الله العافية، فَإِذَا لقيتموهم فاصبروا" (¬9). وكان بعض السلف يقول في دعائه في المرض: اللهم أنقص من الوجع، ولا تنقص من الأجر. ¬

_ (¬1) (3/ 23). (¬2) كما في "الإحسان" (2928). (¬3) في "المستدرك" (4/ 308). (¬4) في "السنن الكبرى" (7489). (¬5) في "المرض والكفارات" (244). (¬6) أخرجه عبد بن حميد (1399)، وأبو يعلى (3837) عن أنس. (¬7) أخرجه الترمذي (3527) وقال: هذا حديث حسن، والبزار (2635 - البحر الزخار) وقال: وهذا الحديث لا نعلم له طريقًا عن معاذ إلا هذا الطريق، ولا نعلم رواه عن اللجلاج إلا أبو الورد. (¬8) أخرجه الطبراني في "الكبير" (13/ 181) في الجزء المطبوع وحده. (¬9) أخرجه البخاري (3026) معلقًا، ومسلم (1741).

{وروى ابن أبي الدُّنْيَا في "كتاب المرضى" (¬1) بسنده إِلى أبي هريرة رفعه قال: "من وعك ليلة فصبر ورضي بها عن الله عز وجل، خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه"} (¬2). ومن هنا كُره تمني الموت، فإنه استعجال للبلاء قبل وقوعه، كما قال ابن عمر لمن سمعه يتمنى الموت: لا تتمنّ الموت فإنك ميت، ولكن سل الله العافية. وفي "المسند" (¬3) عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ، فَإِنَّ هَوْلَ الْمَطْلَعِ شَدِيدٌ، وَإِنَّ مِنَ سَعَادَةِ المَرْء أَنْ يُطَولَ عُمْرَهُ، وَيَرْزُقَهُ اللهُ الْإِنَابَةَ». والحمى هي بريد الموت، ورائده، فتمنيها كتمني الموت، فيجوز حيث يجور تمني الموت. وكان أبو الدرداء يقول: أَحَبّ الموت اشتياقًا إِلَى ربي، وأحب المرض تكفيرًا لذنبي، وأحب الفقر تواضعًا لربي. وفي حديث عبد الرحمن بن المرقع عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إِنَّمَا الحمى رائد الموت، وسجن الله في الأرض" خرجه أبو القاسم البغوي. وقال حسان بن عطية: ذكرت الحمى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: "تلك أم الدم، تلدم اللحم والدم". وروي عن الحسن عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلاً قال: «الْحُمَّى رَائِدُ الْمَوْتِ، وَهِيَ سِجْنُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ، يَحْبِسُ عَبْدَهُ إِذَا شَاءَ، ثُمَّ يُرْسِلُهُ إِذَا شَاءَ». وقال ابن شبرمة عن الحسن قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الْحُمَّى رَائِدُ الْمَوْتِ، وَهِيَ سِجْنُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ لِلْمُؤْمِنِينَ». وقال سعيد بن جبير: الحمى بريد الموت. خرجه كله ابن أبي الدُّنْيَا (¬4). وصلى الله عَلَى سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا إِلَى يوم الدين، ورضي عن أصحاب رسول الله أجمعين. ¬

_ (¬1) برقم (83). (¬2) هذه الفقرة سقطت من الطبعة الأولى، واستدركتها من حاشية نسخة فاتح باستانبول. (¬3) (3/ 332). (¬4) في "المرض والكفارات" (92)، (73)، (74).

14 - تسلية نفوس النساء والرجال عند فقد الأطفال

تسلية نفوس النساء والرجال عند فقد الأطفال

بسم الله الرحمن الرحيم ربِّ يسِّر يا كريم الحمد لله رب العالمين، وصلواته وسلامه عَلَى سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين وبعد: ففي "الصحيحين" (¬1) من حديث أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رضي الله عنه، قَالَ: «قَالَ النِّسَاءُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: غَلَبَنَا عَلَيْكَ الرِّجَالُ، فَاجْعَلْ لَنَا يَوْمًا مِنْ نَفْسِكَ. فَوَاعَدَهُنَّ يَوْمًا لَقِيَهُنَّ فِيهِ، فَوَعَظَهُنَّ وَأَمَرَهُنَّ، فَكَانَ فِيمَا قَالَ لَهُنَّ: مَا مِنْكُنَّ امْرَأَةٌ تُقَدِّمُ ثَلاَثَةً مِنْ وَلَدِهَا، إِلَّا {كَانَ} (¬2) لَهَا حِجَابًا مِنَ النَّارِ. فَقَالَتِ امْرَأَةٌ: وَاثْنَتَيْنِ؟ فَقَالَ: وَاثْنَتَيْنِ». هذا يدل عَلَى أنَّ مجالس النبي صلى الله عليه وسلم للفقه في الدين والتذكير ونحو ذلك لم يكن النساء يحضرنها مع الرجال، وإنما كن يشهدن الصلوات في مؤخر المساجد ليلاً ثم ينصرفن عاجلاً، وكن يشهدن العيدين مع المسلمين منفردات عن الرجال من ورائهم، ولهذا لما خطب النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم العيد رأى أنه لم يسمع النساء، فلما فرغ جاء ومعه بلال إِلَى النساء، فوعظهن، وذكرهن وأمرهن بالصدقة، وأجلس الرجال حتى يفرغ من موعظة النساء (¬3). وأصلُ هذا أنَّ اختلاط النساء بالرجال في المجالس بدعةٌ، كما قال الحسن البصري؛ فلذلك قال له النساءُ: يا رسول الله، غَلَبنا عليك الرجال. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (101)، ومسلم (2633). (¬2) قال الحافظ في "الفتح" (1/ 236): وتعرب "كان" تامة، أي حصل لها حجاب. وللمصنف في الجنائز: "إلا كن لها" أي: الأنفس التي تقدم. وله في الاعتصام: "إذا كانوا" أي: الأولاد. (¬3) أخرجه البخاري (98)، ومسلم (884) من حديث ابن عباس. وأخرجه البخاري (978)، ومسلم (885) من حديث جابر.

وقد روي من حديث أبي هريرة "أن النساء قلن: يا رسول الله، إنا لا نقدر عَلَى أن نجالسك في مجلسك، قد غلبنا {عليك} (¬1) الرجال! فواعدنا موعدًا نأتيك، قال: موعدكن بيت فلانة. فأتاهن فحدثهن" (¬2). وقد أمره الله تعالى أن يبلِّغ ما أُنزل إِلَيْهِ للرجال والنساء، وأن يعلم الجميع كما قال له: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ} (¬3) الآية. وقال: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} (¬4) الآية. فامتثل ما أمره الله تعالى، ووعدهن مجلسًا خالصًا لهن في بيت امرأة، ولعل تلك المرأة كانت من أزواجه أو محارمه، والله أعلم بحقيقة ذلك. ثم وفى بموعده لهن فأتاهن في يوم موعدهن، فوعظهن وأمرهن ونهاهن، ورغبهن ورهبهن، فكان من جُملة ما بشَّرهن به أن قال لهن: «مَا مِنْكُنَّ امْرَأَةٌ تُقَدِّمُ ثَلاَثَةً مِنْ وَلَدِهَا إِلَّا {كَانُو} (¬5) لَهَا حِجَابًا مِنَ النَّارِ. فَقَالَتِ امْرَأَةٌ: وَاثْنَتَيْنِ؟ قَالَ: وَاثْنَتَيْنِ» (¬6). وليس في هذا الحديث {أنهم} (¬7) لم يبلغوا الحنث. وعمومُه يدخل فيه من بلغ الحنث ومن لم يبلغ؛ والمصيبة بمن بلغ أعظم وأشق عَلَى النفوس. ¬

_ (¬1) في "الأصل": "عَلَى" والمثبت هو الصواب. (¬2) أخرجه مسلم (2633). (¬3) الأحزاب: 59. (¬4) النور: 31. (¬5) في "الأصل": كان، والمثبت من البخاري. (¬6) أخرجه البخاري (1249) من حديث أبي سعيد، ومسلم (2634) من حديث أبي هريرة. (¬7) طمس بالأصل، والمثبت لمراعاة السياق.

والمصيبة بمن لم يبلغ أهون وأخف، وقد جاء تقييده في حديث أنس بن مالك، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَا مِنَ النَّاسِ مُسْلِمٌ يَمُوتُ لَهُ ثَلاَثَةٌ مِنَ الوَلَدِ لَمْ يَبْلُغُوا الحِنْثَ، إِلَّا أَدْخَلَهُ اللَّهُ الجَنَّةَ بِفَضْلِ رَحْمَتِهِ إِيَّاهُمْ» خرجاه في "الصحيحين" (¬1). والمُراد بالحنث: الإثم. والمعنى: أنه لم يجر عليه الإثم ببلوغه العمر الَّذِي يكتب عليه الإثم فيه، وهو بلوغ الحُلم، وعلَّل بفضل رحمة الله إياهم، يعني: أن الله يرحم أطفال المسلمين رحمة تامة، حتى تفضُل عنهم، فيدخل آباؤهم في فضل تلك الرحمة، وهذا مما يستدل {به} (¬2) عَلَى أن أطفال المسلمين في الجنة. وقد قال الإمامُ أحمد: ليس فيهم اختلاف أنَّهم في الجنة. وضعَّف ما رُوي مما يخالف ذلك أيضاً و {لا} (2) أحد يشك أنهم في الجنة. قال: وإنما اختلفوا في أطفال المشركين. وقال أيضاً: هو يرجى لأبويه فكيف يُشك فيه؟! يعني أنه يُرجى لأبويه دخول الجنة بسببه، فكيف يشك فيه؟! ولذلك نص الشافعي عَلَى أنَّ أطفال المؤمنين في الجنة، وروي ذلك عن علي، وابن مسعود، وابن عباس، وكعب. وخرَّج ابنُ أبي حاتم، عن ابن مسعود قال: "أرواح ولدان المؤمنين في أجواف عصافير، تسرح في الجنة حيث شاءت، فتأوي إِلَى قناديل معلقة في العرش" وخرج البيهقي من رواية ابن عباس، عن كعب نحوه. وفي "صحيح مسلم" (¬3) عن أبي هريرة "أن رجلاً قال له: مات لي ابنان، فما أنت مُحدِّثي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بحديث تُطيِّبُ به أنفسنا عن موتانا؟ ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (1248)، وليس عند مسلم. (¬2) ليست في الأصل، وأثبتها لحاجة السياق. (¬3) "صحيح مسلم" (2635).

فَقَالَ: "نعم، صغارُهم دَعَامِيص (¬1) الجنة، يتلقَّى أحدهم أباه- أو قال: أبويه -فيأخذ بثوبه- أو قال: بيده- كما آخُذ أنا بصَنِفَة (¬2) ثوبك، فلا يتناهى -أو قال: ينتهي- حتى يُدخله الله وأباه الجنة". وخرَّج النسائي (¬3) من حديث أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَا مِنْ مُسْلِمَيْنِ يَمُوتُ لَهُمَا ثَلَاثَةُ أَوْلاَدٍ لَمْ يَبْلُغُوا الْحِنْثَ، إِلَّا إِلَّا أَدْخَلَهُمَا اللَّهُ الْجَنَّةَ بِفَضْلِ رَحْمَتِهِ إِيَّاهُمْ الجَنَّة. قَالَ تَعَالَى لَهُمْ: ادْخُلُوا الْجَنَّةَ. فَيَقُولُونَ: حَتَّى يَدْخُلَ أَبَوَانَا. فَيُقَالُ لَهُمْ: ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَبَوَاكُمْ". وخرَّج الإمام أحمد، وابن ماجه (¬4) من حديث معاذ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "والذي نفسي بيده، إِنَّ السقط ليجُرُّ أمُّه بسرَرِه (¬5) إِلَى الجنة، إذا احتسبته". وخرَّج الإمام أحمد، وابن ماجه (¬6) أيضاً من حديث عتبة بن عبدٍ السُّلمي، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما من مسلم يموت له ثلاثة من الولد لم يبلغوا الحنث، إلا تلقوه من أبواب الجنة الثمانية من أيها شاء دخل" وفي رواية للإمام أحمد (¬7): "إِنَّ الله تعالى يقول للولدان يوم القيامة: ادخلوا الجنّة. فيَقُولُونَ: يا رب، حتى يدخل آباؤنا وأمَّهاتنا. قال: فيأبون، فيقول الله -عز وجل-: ما لِي أراهم مُحبنطئين (¬8) ادخلوا الجنة. فيَقُولُونَ: يا رب، آباؤنا. فيقول: ادخلوا ¬

_ (¬1) الدعموص: الدخال في الأمور: أي أنهم سياحون في الجنة، دخالون في منازلها لا يمنعون من موضع، كما أن الصبيان في الدُّنْيَا لا يمنعون من الدخول عَلَى الحرم، ولا يحتجب منهم أحدًا "اللسان" (7/ 36). (¬2) صنفة الإزار، بالكسر: طرته، ويقال: هي حاشية الثوب أي جانب كان -قال الليث: الصنفة: قطعة من الثوب. وقال شمر: الصنف: الطرف الزاوية من الثوب وغيره. "اللسان" (9/ 198 - 199). (¬3) برقم (1876). (¬4) أحمد (5/ 241)، وابن ماجه (1609). (¬5) كتب بالهامش: سرره جمع سرة. (¬6) أخرجه أحمد (4/ 183)، وابن ماجه (1604). (¬7) (4/ 105). (¬8) المحبنطئ: المتغضب المستبطئ للشيء. وقيل: هو الممتنع طلب، لا امتناع إباء. "اللسان" (7/ 272).

الجنة أنتم وآباؤكم" وروى الطبراني من حديث أنس نحوه، وزاد (¬1) فيه: يقال لهم في المرة الرابعة: "ادخلوا ووالديكم معكم، فيثب كلُّ طفل إِلَى أبويه فيأخذون بأيديهم، فيدخلونهم الجنة، فهم أعرف بآبائهم وأمهاتهم يومئذ من أولادكم الذين في بيوتكم". وخرَّج الإمام أحمد (¬2)، والنسائي (¬3) من رواية {مُعَاوِيَةُ بْنُ} (¬4) قُرَّةَ، "أَنَّ رَجُلًا كَانَ يَأْتِي النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَعَهُ ابْنٌ لَهُ، فَقَالَ لَهُ: أَتُحِبُّهُ؟ قَالَ: أَحَبَّكَ اللَّهُ كَمَا أُحِبُّهُ. فَمَاتَ فَفَقَدَهُ فَسَأَلَ عَنْهُ، فَقَالَ: أَمَا يَسُرُّكَ أَنْ لا تَأْتِيَ بَابًا مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ إِلَّا وَجَدْتَهُ عِنْدَهُ يَسْعَى يَفْتَحُ لَكَ؟» زاد الإمام أحمد: "فَقَالَ رجل: له خاصة أم لكلنا؟ قال: بل لكلكم". وخرَّج الطبراني، من حديث ابن عمر نحوه، ولكن قال فيه: (فَقَالَ له النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أَوَمَا تَرْضَى أَنْ يَكُونَ ابْنُكَ مَعَ ابْنِي إِبْرَاهِيمَ يُلاَعِبُهُ تَحْتَ ظِلِّ العَرْشِ؟! قال: بَلى يا رسولَ الله». (¬5). وفي المعنى أحاديثُ كثيرة جدًّا، وقد كان الصحابة يرجون ذلك عند موتهم، كما روي عن أبي ذر "أنه لما حضرته الوفاة بكت أمُّ ذر، فَقَالَ لَهَا: أَبْشِرِي وَلا تَبْكِي، فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: «لا يَمُوتُ بَيْنَ امْرَأَيْنِ مُسْلِمَيْنِ وَلَدَانِ أَوْ ثَلَاثة، فَيَصْبِرَانِ وَيَحْتَسِبَانِ فَيَرَيَانِ النَّارَ أَبَدًا» (¬6) وقد مات لنا ثلاثة من الولد". والحديث الَّذِي قبله يدل عَلَى أنَّ أطفال المسلمين الموتى يلعبون تحت ظل العرش، وفي حديث {أبي هريرة} (¬7): "أنهم دعاميص الجنة" ¬

_ (¬1) تكررت بالأصل. (¬2) في "المسند" (3/ 436)، (5/ 34، 35). (¬3) في "السنن" برقم (1869). (¬4) سقط من الأصل، والمثبت من "المسند". (¬5) ذكره الهيثمي في "المجمع" (3/ 10) وقال: رواه الطبراني في "الكبير" من حديث إبراهيم ابن عبيد في التابعين -وهو ضعيف- وبقية رجاله موثقون. (¬6) أخرجه ابن حبان (6671 - إحسان)، والحاكم (3/ 388) ولفظهما قريب من لفظ المصنف. وأخرجه أحمد (5/ 166) بنحوه. وليس عندهم جميعا: "وقد مات لنا ثلاثة من الولد. (¬7) طمس بالأصل وقد سبق من رواية مسلم.

والدُّعموص: دُويبة {صغيرة تكون} (¬1) في الماء، والمعنى أنهم يتربُّون في أنهار الجنة وينعمون فيها، وفي رواية: "ينغمسون في أنهار الجنة" يعني: يلعبون فيها. وقد روي " أنه يكفلهم إبراهيمُ -عليه السلام- وزوجته سارة- عليها السلام". وخرَّج ابن حبان في "صحيحه" والحاكم من حديث أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ذراري المؤمنين يكفلهم إبراهيمُ في الجنة". وخرجه الإمام أحمد (¬2) مع نوع شك في رفعه ووقفه عَلَى أبي هريرة. وروي من وجه آخر، عن أبي هريرة مرفوعًا وموقوفًا: «أَوْلَادُ الْمُسْلِمِينَ فِي جَبَلٍ فِي الْجَنَّةِ، يَكْفُلُهُمْ إِبْرَاهِيمُ وَسَارَةُ -عليهما السلام- فَإِذا كَانَ يَوْم القِيَامَة دُفِعُوا إِلَى آبَائِهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» خرّجه البيهقي وغيره مرفوعًا. ويشهد لذلك: ما في "صحيح البخاري" (¬3) عن سمُرة بن جندب أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "أتاني الليلة آتيان ... " فذكر حديثًا طويلاً وفيه: أن الملكين فسراه له، وأنهما جبريل وميكائيل، وأنه من جملة ما رأى: "رَجُلاً طَوِيلاً فِي رَوضَةٍ وَحَوْلَهُ وِلْدَان وقالا له: الرَّجُلُ الطَّوِيلُ فِي الرَّوْضَةِ إِبْرَاهِيمُ، وَالْوِلْدَانُ حَوْلَهُ كُلُّ مَوْلُودٍ مَاتَ عَلَى الْفِطْرَةِ، فقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَأَوْلَادُ الْمُشْرِكِينَ؟ قَالَ: وَأَوْلَادُ الْمُشْرِكِينَ". وقد روي أنهم يرتضعون من شجرة طُوبى؛ وروى ابنُ أبي حاتم بإسناده عن خالد بن معدان قال: "إِنَّ فِي الْجَنَّةِ شَجَرَةٌ يُقَالُ لَهَا: طُوبَى، ضروع كلها، ترضع أهل الجنة، وإن سقط المرأة يكون في أنهار يتقلب {فيها} " (¬4) حتى يوم القيامة، فيبعث ابن أربعين سنة" كذا قال. ¬

_ (¬1) طمس بالأصل، والمثبت من "لسان العرب" (7/ 35 - 36). (¬2) أخرجه أحمد (2/ 326)، وابن حبان (7446 - الإحسان)، والحاكم (2/ 370). (¬3) برقم (7047). (¬4) في "الأصل": فيه. والمثبت أنسب للسياق.

وفي حديث المقدام بن معدي كرب المرفوع: "إِنَّ ما بين السقط والهرم، يبعثون أبناء ثلاثين سنة" وفي رواية: "أبناء ثلاثة وثلاثين". وروى ابنُ أبي الدُّنْيَا بإسناده عن خالد بن معدان قال: "إِنَّ فِي الْجَنَّةِ شَجَرَةٌ يُقَالُ لَهَا: طُوبَى، كلها ضروع؛ فمن مات من الصبيان الذين يرضعون يرضع من طوبى، وحاضنهم إبراهيم -عليه السلام". وروى الخلال بإسناده، عن عبيد ابن عمير: "إِنَّ فِي الْجَنَّةِ شَجَرَةٌ لَهَا ضروع البقر، يغذى به ولدان أهل الجنة، حتى إنهم يستنون كاستنان البكارة". وبعضُ الأطفال له مرضع في الجنة، مثل إبراهيم ابن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإنه لما مات قبل أن يُفطم قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " «إِنَّ لَهُ مُرْضِعًا فِي الجَنَّةِ تكمل رضاعه {في الجنة} (¬1)، (¬2). وفي رواية: "ظئرًا" وفي رواية: "إِنَّ له مرضعين يكملان رضاعه في الجنة". وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - قد حضره وهو {يكيد} (¬3) بنفسه، فدمعت عيناه - صلى الله عليه وسلم - وقال: «تَدْمَعُ الْعَيْنُ وَيَحْزَنُ الْقَلْبُ وَلا نَقُولُ إِلَّا مَا يَرْضَى الرَّب، وَاللهِ يَا إِبْرَاهِيمُ إِنَّا بِكَ لَمَحْزُونُونَ» (¬4) وفي رواية: "ولولا أنه أمر حق ووعد صدق، وأنها سبيل مأتية، وأن آخرنا سيلحق بأولنا، لحزنا عليك حزنًا هو أشد من هذا". وروى ابنُ أبي الدُّنْيَا في "كتاب العزاء" من حديث زُرارة بن أوفى "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - عزَّى رجلاً عَلَى ابنه، فَقَالَ الرجل: يا رسول {الله} (¬5) أنا شيخ كبير، وكان ابني قد أجزأ (¬6) عنا. فَقَالَ: أيسرك، قد نشر لك أو يتلقاك من أبواب الجنة ¬

_ (¬1) طمس بالأصل والمثبت من "صحيح مسلم". (¬2) أخرجه البخاري (1382) من حديث البراء، ومسلم (2316) من حديث أنس. (¬3) في "الأصل": "يكبد" والمثبت من "صحيح مسلم"، ويكيد بنفسه كيدًا: يجود بها، يريد النزع. "اللسان" (3/ 383). (¬4) أخرجه البخاري (1303)، ومسلم (2315) من حديث أنس. (¬5) سقط لفظ الجلالة من "الأصل" والسياق يقضيه. (¬6) أجزأ عنه: أغنى عنه "اللسان" (1/ 46 - 47).

بالكأس؟ قال: من لي بذاك يا رسول الله؟ قال: الله لك به، ولكل مسلم مات له ولد في الإسلام". وبإسناده عن عبيد بن عمير، قال: "إذا كان يوم القيامة خرج ولدان المسلمين من الجنة بأيديهم الشراب، فيقول الناس: اسقونا اسقونا. فيَقُولُونَ: أبوينا أبوينا، حتى السقط محبنطئًا بباب الجنة يقول: لا أدخل حتى يدخل أبواي". وفي المعنى حديث مرفوع من رواية ابن عمر، لكن إسناده لا يصح وهو باطل، قاله أبو حاتم الرازي. وفي المعنى رُؤيا إبراهيم الحربي المشهورة صار يتمنَّى موتَ ابنه، ومات قبل البلوغ. وروى البيهقي بإسناده، عن ابن شوذب: "أن رجلاً كان له ابن لم يبلغ الحُلم، فأرسل إِلَى قومه: إِنَّ لي إليكم حاجة؛ إني أريد أن أدعو عَلَى ابني هذا أن يقبضه الله، وتؤمنون. فسألوه عن ذلك، فأخبرهم أنه رأى في نومه كأن الناس جمعوا إِلَى القيامة، فأصاب الناس عطشٌ شديدٌ، فَإِذَا الوالدان قد خرجوا من الجنة معهم الأباريق، فأبصرت ابن أخ لي. فقلت: يا فلان، اسقني. فَقَالَ: يا عم، إنا لا نسقي إلا الآباء. قال: فأحببت أن يجعل الله ولدي هذا فرطًا لي. فدعا فأمنوا. فلم يلبث الغلام إلا يسيرًا حتى مات". وفي أكثر الأحاديث ذكر الثلاثة والاثنين. وفي بعضها "وأظن لو قلنا: وواحدًا لقال: وواحدًا". خرَّجه أحمد (¬1) من حديث جابر. وقد جاء ذكرُ الواحد في حديث؛ خرَّج الترمذي (¬2) وغيره من حديث ابن مسعود مرفوعًا: " «مَنْ قَدَّمَ ثَلَاثَةً لَمْ يَبْلُغُوا الْحِنْثَ كَانُوا لَهُ حِصْنًا حَصِينًا. فَقَالَ ¬

_ (¬1) (3/ 306). (¬2) برقم (1061) وقال: هذا حديث غريب، وأبو عبيدة لم يسمع من أبيه. وابن ماجه (1606) وأحمد (1/ 375، 429، 451).

أَبُو ذَرٍّ: قَدَّمْتُ اثْنَيْنِ، فَقَالَ: وَاثْنَيْنِ. فَقَالَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ: قَدَّمْتُ وَاحِدًا. قَالَ: وَوَاحِدًا، وَلَكِنْ إِنَّما ذَاكَ عِنْدَ الصَّدْمَةٍ الأُوْلَى» وفي الترمذي (¬1)، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم: «مَنْ كَانَ لَهُ فَرَطَانِ مِنْ أُمَّتِي أَدْخَلَهُ اللَّهُ {بِهِمَا} (¬2) الجَنَّةَ. فَقَالَتْ عَائِشَةُ: وَمَنْ كَانَ لَهُ فَرَطٌ منْ أَمْتَلِك؟ قَالَ: وَمَنْ كَانَ لَهُ فَرَطٌ أُمَّتِي يَا مُوَفَّقَةُ. قَالَتْ: فَمَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ فَرَطٌ مِنْ أُمَّتِكَ؟ قَالَ: فَأَنَا فَرَطُ أُمَّتِي، لَنْ يُصَابُوا بِمِثْلِي». ويشهد له قوله - صلى الله عليه وسلم - في آخر خطبة خطبها: "إني فرطكم على الحوض" (¬3) يشير إِلَى أنه يتقدمهم ويسبقهم إِلَى الحوض، وينتظرهم عنده. وفي حديث مرسل خرجه ابن أبي الدُّنْيَا: "من مات ولم يقدم فرطًا لم يدخل الجنة إلا {تصْريدًا} (¬4). فقيل: يا رسول الله، وما الفرط؟ قال: الولد وولد الولد، والأخ يؤاخيه في الله -عز وجل- فمن لم يكن له فرط، فأنا له فرط" وفي حديث عبد الرحمن بن سمُرة، في ذكر المنام الطويل عن النّبي صلى الله عليه وسلم: "ورأيت رجلاً من أمتي {خف} (¬5) ميزانه، فجاءته أفراطه الصغار فثقلوا ميزانه". وعن داود بن أبي هند قال: "رأيت في المنام كأن القيامة قد قامت، وكأن الناس يدعون للحساب، فقدمت إِلَى الميزان فوضعت حسناتي في كفة وسيئاتي في كفة، فرجحت السيئات عَلَى الحسنات، فبينا أنا كذلك مغموم، إذ ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد (1/ 334)، والترمذي (1062). قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب، لا نعرفه إلا من حديث عبد ربه بن فارق. (¬2) في "الأصل": "بهم" والمثبت من "سنن الترمذي". (¬3) أخرجه البخاري (1344)، ومسلم (2296) من حديث عقبة بن عامر. وأخرجه البخاري (6589)، ومسلم (2289) من حديث جندب بن سفيان. وأخرجه البخاري (6583)، ومسلم (2290) من حديث سهل بن سعد. وأخرجه البخاري (6575)، ومسلم (2297) من حديث ابن مسعود. (¬4) أي قليلاً: والتصريد في العطاء: تقليله. "اللسان" (3/ 249). (¬5) في الأصل: "خفت".

أتيت بشيء كالمنديل أو كالخرقة البيضاء، فوضعت في حسناتي فقيل لي: تدري ما هذا؟ قلت: لا. قال: سقط كان لك. قلت: إنه قد كانت لي صبية ابنة لي فقيل لي: تيك ليست لك؛ لأنك كنت تتمنى موتها". وفي هذا إشارة إِلَى أن الميزان إِنَّمَا يثقل بما يثقل عَلَى النفوس من المصائب ويشق، فأما ما لا يثقل عليها ولا يشق -لمن يتمنى موته من أولاده- فلا يثقل به الميزان. قال ابن أسلم: "مات ابن لداود -عليه السلام- فحزن عليه حزنًا شديدًا. فأوحى الله: ماذا كنت مفتديه؟ قال: بطلاع الأرض ذهبًا. قال: فأوحى الله إِلَيْهِ: "إِنَّ لك عندي من الأجر بحساب ذلك" وفي رواية: "قال: يا داود، ما كان يعدل هذا الولد عندك؟ قال: كان يعدل عندي ملء الأرض ذهبًا، قال: فلك يوم القيامة عندي ملء الأرض ثوابًا". سبحان من لا يحصي العبادُ نعمه، وربما كانت نعمه فيما يسوء أكثر من نعمه فيما يسر، كما قيل: [شعر]. إذا مس بالسراء عم سرورها ... وإن مس بالضراء أعقبها الأجرُ وما فيهما إلا له فيه نعمة ... تضيق بها الأوهام والبر والبحر لمّا كان للمؤمن داران: دار يرتحل منها، ودار ينتقل إليها ويقيم بها، أمره أن ينقل من دار ارتحاله إِلَى دار إقامته؛ ليعمرها من بعض ما أعطاه في دار ارتحاله وربما أخذ منه كرها ما يعمر به دار إقامته، ويكمل له به عمارتها وإصلاحها، ويقدم له إليها ما يحب من أهل ومال وولد، يسبقونه إليها ليقدم عَلَى ما يحب من مال وأهل وولد، وإن كان المؤمن لا يشعر بذلك.

فما فرَّق إلا ليجمع، ولا أخذ إلا ليرد، ولا سلب إلا ليهب، ولا استرد العواري إلا ليردها تمليكًا ثابتًا لا استرجاع فيه بعد ذلك. وفي مراسيل الحسن "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سمع رجلاً يقول: لأن أموت قبل أخي أَحَبّ إلي. فَقَالَ: لأنّ يكون لك أَحَبّ إليك من أن تكون له". قال الحسن: علموا أنَّ ما لهم من أهاليهم إلا ما قدَّموا أمامهم. وكذا قال عمر بن عبد العزيز وغيره، ويشهد له حديث: "الرَّقوب (¬1) من لم يقدم ولدًا". سبحان من أنعم عَلَى عباده بما خولهم من المال والولد، ثم استرجع بعض ذلك منهم كُرهًا، وعوضهم الصلاة والرحمة والهدى، وذلك أفضل مما أخذ كما قيل: [شعر] عطِيَّتُهُ إذا أعطى سرورا ... وإن أخذ الَّذِي أعطى أثابا فأي النعمتين أجلُّ قدرًا ... وأحمدُ في عواقبها مآبا أرَحْمتُهُ التي جاءت بكرهِ ... أم الأخرى التي جلبت ثوابا بل الأخرى وإن نزلت بضرٍّ ... أجلُّ لفقد من صبر احتسابا آخرُه، والحمد لله وحده، وصلى الله عَلَى سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا. تم. ¬

_ (¬1) الرقوب: الرجل والمرأة لم يعش لهما ولد. "النهاية" (2/ 249).

15 - الفرق بين النصيحة والتعيير

الفرق بين النصيحة والتعيير

بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين الحمدُ لله رب العالمين، وصلاته وسلامه عَلَى إمام المتقين، وخاتم النبيين وآله وصحبه أجمعين، والتابعين لهم بإحسان إِلَى يوم الدين. أما بعد: فهذه كلماتٌ مختصرةٌ جامعةٌ في الفرق بين النصيحة والتعيير، فإنهما يشتركان في أنَّ كلاًّ منهما ذكر للإنسان بما يكره ذكرُه، وقد يشتبه الفرق بينهما عند كثير من الناس. والله الموفق للصواب. اعلم أن ذكر الإنسان بما يكره مُحَرَّم، إذا كان المقصود منه مجردَ الذم والعيبِ والنقصِ، فأمَّا إِن كان فيه مصلحة لعامة المسلمين، أو خاصة لبعضهم، وكان المقصودُ منه تحصيلَ تلك المصلحةِ، فليس بمحرم، بل مندوب إِلَيْهِ. وقد قرَّر علماء الحديث هذا في كتبهم في "الجرح والتعديل"، وذكروا الفرق بين جرح الرواة وبين الغيبة، وردُّوا عَلَى من سوَّى بينهما من المتعبدين وغيرهم ممن لا يتَّسع علمه. ولا فرق بين الطعن في رواةِ ألفاظ الحديث والتمييز بين من تُقبل روايتُه منهم ومن لا تُقبل، وبين تبيين خطأ من أخطأ في فهم معاني الكتاب والسنة وتأوَّل شيئًا منها عَلَى غير تأويله، وتمسَّك بما لا يتمسَّك به؛ ليحذر من الاقتداء به فيما أخطأ فيه، وقد أجمع العُلَمَاء عَلَى جواز ذلك أيضاً. ولهذا تجد كتبهم المصنَّفة في أنواع العلوم الشرعية من التفسير، وشرح الحديث، والفقه، واختلاف العُلَمَاء وغير ذلك ممتلئة من المناظرات، وردوا أقوال من تضعَّف أقواله من أئمة السلف والخلف، من الصحابة والتابعين

ومن بعدهم. ولم ينكر ذلك أحدٌ من أهل العِلْم، ولا ادَّعى فيه طعنًا عَلَى من ردَّ عليه قوله، ولا ذمًّا ولا نقصًا، اللهم إلا أن يكون المصنَّفُ يُفحش في الكلام، ويسيء الأدب في العبارة فيُنكرُ عليه فحاشتُه وإساءتُه دون أصل رده، ومخالفته إقامة الحجج الشرية، والأدلة المُعتبرة. وسبب ذلك أن علماء الدين كلهم مُجمعون عَلَى قصد إظهار الحق الَّذِي بعث الله به رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وأن يكون الدينُ كلُّه لله، وأن تكون كلمته هي العليا. وكلُّهم معترفون بأن الإحاطة بالعلم كلِّه -من غير شذوذ شيء منه- ليس هو مرتبةَ أحدٍ منهم، ولا ادَّعاه أحدٌ من المتقدمين ولا من المتأخرين، فلهذا كان أئمة السَّلف المجمع عَلَى علمهم وفضلهم يقبلون الحقَّ ممن أورده عليهم، وإن كان صغيرًا، ويوصون أصحابهم وأتباعَهُم بقَبول الحق إذا ظهر في غير قولهم. كما قالَ عُمر في مهور النساء، وردَّت تلك المرأة عليه بقوله تعالى: {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا} (¬1) فرجع عن قوله وقال: "أصابت امرأةٌ ورجلٌ أخطأ"، ورُوي عنه أنه قال: "كل أحد أفقه من عمر". وكان بعضُ المشهورين إذا قال في رأيه بشيء يقول: "هذا رأينا، فمن جاءنا برأي أحسن منه قبلناه". وكان الشافعي يُبالغ في هذا المعنى ويوصي أصحابه باتِّباع الحق، وقبول السنة، إذا ظهرت لهم عَلَى خلاف قولهم، وأن يضرب بقوله حينئذ الحائط، وكان يقول في كتبه: لا بد أن يوجد فيها ما يخالف الكتاب والسنة؛ لأنّ الله تعالى يقول: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} (¬2). وأبلغُ من هذا، أنه قال: "ما نَاظَرني أحدٌ فباليتُ، أظهرت الحجةُّ عَلَى لسانه أو عَلَى لساني". وهذا يدلُّ عَلَى أنه لم يكن له قصدٌ إلا في ظهور الحق ولو كان عَلَى لسان غيره ممَّن يناظرُه أو يخالفه. ¬

_ (¬1) النساء: 20. (¬2) النساء: 82.

ومن كانت هذه حاله، فإنه لا يكره أن يُردَّ عليه قولُه ويتبين له مخالفتُه للسنة لا في حياته ولا في مماته. وهذا هو الظنُّ بغيره من أئمة الإسلام، الذَّابين عنه، القائمين بنصره من السَّلف والخلف، ولم يكونوا يكرهون مُخالفة من خالفهم أيضًا بدليلٍ عَرَضَ له، ولو لم يكن ذلك الدليل قويًّا عندهم بحيثُ يتمسكون به ويتركون دليلهم له. ولهذا كان الإمام أحمد يذكر إسحاق بن راهويه ويمدحه ويثني عليه ويقول: "وإن كان يخالفُ في أشياء، فإن الناس لم يزل يخالف بعضهم بعضًا"، أو كما قال. وكان كثيرًا يُعرضُ عليه كلامُ إسحاق وغيره من الأئمة، ومأخذُهم في أقوالهم، فلا يوافقُهم في قولهم، ولا يُنكر عليهم أقوالهم ولا استدلالهم، وإن لم يكن هو موافقًا عَلَى ذلك كله. وقد استحسن الإمام أحمدُ ما حُكي عن حاتم الأصَم، أنه قِيلَ لَهُ: أنت رجلٌ أعجمي لا تفصح، وما ناظرك أحدٌ إلا قطعته، فبأي شيء تغلبُ خصمَك؛ فَقَالَ: بثلاث، أفرح إذا أصاب خصمي، وأحزن إذا أخطأ، وأحفظ لساني عنه أن أقول له ما يسوءه، أو معنى هذا، فَقَالَ أحمد: "ما أعقَلَه من رجل". فحينئذ، فرد المقالات الضعيفة، وتبيين الحق في خلافها بالأدلة الشرعية ليس هو مما يكره العُلَمَاءُ، بل مما يحبونه ويمدحون فاعله، ويُثنون عليه. فلا يكون داخلاً في باب الغيبة بالكلية، فلو فُرض أنَّ أحدًا يكره إظهارَ خطئه المخالفِ للحقّ، فلا عبرةَ بكراهته لذلك، فإنَّ كراهة إظهار الحق إذا كان مخالفًا لقولِ الرجل ليس من الخصال المحمودة، بل الواجب عَلَى المسلم أن يُحبَّ ظهورَ الحق ومعرفة المسلمين به، سواء كان ذلك في موافقته أو

مخالفته. وهذا من النصيحة لله ولكتابه ورسوله ودينه وأئمّة المسلمين وعامتهم وذلك هو الدينُ كما أخبر به النبيُّ صلى الله عليه وسلم (¬1). وأما المبين لخطأ من أخطأ من العُلَمَاء قبله، إذا تأدَّب في الخطاب، وأحسن الرد والجواب فلا حَرَج عليه ولا لوم يتوجَّه عليه، وإن صدر منه من الاغترار بمقالته، فلا حرج عليه، وقد كان بعضُ السَّلف إذا بلغه قولٌ يُنكره عَلَى قائله يقول: "كَذَب فلان"، ومن هذا قولُ النبي - صلى الله عليه وسلم -: "كَذَبَ أبو السّنابل" (¬2) لما بلغه أنه أفتى أن المتوفى عنها زوجُها إذا كانت حاملاً لا تحل بوضع الحمل حتى يمضي عليها أربعة أشهر وعشر. وقد بالغ الأئمة الورعون في إنكار مقالاتٍ ضعيفةٍ لبعض العُلَمَاء وردوها أبلغَ الرد كما كان الإمام أحمد ينكر عَلَى أبي ثور وغيره مقالاتٍ ضعيفة تفردوا بها، ويُبالغ في ردِّها عليهم، هذا كله حكمُ الظَّاهر. وأما في باطن الأمر: فإن كان مقصودُه في ذلك مجردَ تبيين الحق، وأن لا يغترَّ الناسُ بمقالاتِ من أخطأ في مقالاته، فلا ريب أنهُ مُثابٌ عَلَى قصده، ودَخَلَ بفعله هذا بهذه النية في النُّصح لله ورسوله وأئمةِ المسلمين وعامَّتهم. وسواء كان الَّذِي يبين خطؤه صغيرًا أو كبيرًا، وله أسوة بمن ردَّ من العُلَمَاء مقالات ابن عباس التي شذ بها، وأنكرت عليه من العُلَمَاء مثلَ المُتعة والصرف والعُمْرتين وغير ذلك. ومَنْ رد عَلَى سعيد بن المسيِّب قوله في إباحته المُطلقة ثلاثًا بمجرَّد العقد، وغير ذلك مما يُخالف السنَّة الصريحة، وردَّ عَلَى الحسن قوله في ترك الإحداد عن المتوفى عنها زوجُها، وعلى عطاء قوله في إباحته إعارة الفُروج، وعلى ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (55) من حديث تميم الداري. (¬2) أخرجه أحمد (1/ 447).

طاوس قوله في مسائل متعددة شذَّ بها عن العُلَمَاء، وعلى غير هؤلاء ممن أجمعَ المسلمونَ عَلَى هدايتهم ودرايتهم ومحبتهم والثناء عليهم. ولم يعد أحدٌ منهم مخالفيه (¬1) في هذه المسائل ونحوها طعنًا في هؤلاء الأئمة ولا عيبًا لهم. وقد امتلأت كتب أئمة المسلمين من السَّلف والخلف بتبيين خطأ هذه المقالات وما أشبهها مثل كتب الشافعي، وإسحاق وأبي عُبيد وأبي ثور ومن بعْدهم من أئمَّة الفقه والحديث وغيرهما ممَّن ادَّعوا هذه المقالاتِ وما كان بمثابتا شيءٌ كثير، ولو ذكرنا ذلك بحروفه لطال الأمرُ جدًّا. وأما إِن كان مُرادُ الرادِّ بذلك إظهار عيب من ردَّ عليه وتنقُّصه، وتبيين جهله، وقصوره في العِلْم ونحو ذلك كان محرمًا، سواء كان ردُّه لذلك في وَجْهِ من ردَّ عليه أو في غيبته، وسواء كان في حياته أو بعد موته، وهذا داخلٌ فيما ذمَّه اللهُ تعالى في كتابه وتوعد عليه في الهمز واللمز، ودخل أيضاً في قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «يَا مَعْشَرَ مَنْ آمَنَ بِلِسَانِهِ وَلَمْ يُوْمِنُ بِقَلْبِهِ، لا تُؤْذُوا الْمُسْلِمِينَ وَلاَ تَتَّبِعُوا عَوْرَاتِهِمْ، فَإِنَّهُ مَنِ يَتَّبِعُ عَوْرَاتِهِمْ، يَتَّبِعُ اللَّهُ عَوْرَتَهُ، وَمَنْ يَتَّبِعِ اللَّهُ عَوْرَتَهُ يَفْضَحْهُ وَلَوْ فِي جَوْفِ بَيْتِهِ» (¬2). وهذا كلُّه في حقِّ العُلَمَاء المُقتدى بهم في الدِّين، فأمَّا أهلُ البدع والضلالة ومن تشبه بالعُلماء وليس منهم، فيجوزُ بيانُ جهلهم، وإظهارُ عيوبهم تحذيرًا من الاقتداء بهم. وليس كلامنا الآن في هذا القبيل، والله أعلم. ... ¬

_ (¬1) في جمع النسخ المخطوطة: "مخالفوه". (¬2) أخرجه أحمد (4/ 420)، وأبو داود (4880) من حديث أبي برزة الأسلمي.

فصل: [فيمن أراد بالنصيحة للعلماء النصح لله ورسوله ومن أراد التنقص والذم وإظهار العيب وكيفية معاملة كل منهما] (*)

فصل: [فيمن أراد بالنصيحة للعلماء النصح لله ورسوله ومن أراد التنقص والذم وإظهار العيب وكيفية معاملة كلٍّ منهما] (*) ومَنْ عُرف منه أنه أراد بردِّه عَلَى العُلَمَاء النصيحةَ لله ورسوله، فإنه يجب أن يُعامل بالإكرام والاحترام والتعظيم كسائر أئمَّة المسلمين الذين سبق ذكرهم وأمثالهم ومن اتبعهم بإحسان. ومن عرف أنه أراد بردِّه عليهم التنقص والذم، وإظهارَ العيب، فإنه ييستحقُّ أن يُقابل بالعُقوبة ليرتدعَ هو ونظراؤه عن هذه الرذائل المحرمة. ويُعرف هذا القصدُ تارة بإقرار الرادِّ واعترافه، وتارة بقرائن تُحيطُ بفعله وقوله، فمن عُرفَ منه العِلْم والدينُ وتوقيرُ أئمة المسلمينَ واحترامهم، ولم يذكر الردَّ وتبيين الخطأ إلا عَلَى الوجه الَّذِي ذكره غيره من أئمة العُلَمَاء. وأما في التصانيف، وفي البحث، وجب حملُ كلامِهِ عَلَى الأول وأنه إِنَّمَا يقصد بذلك إظهار الدين والنصح لله ورسوله والمؤمنين، ومن حَمَل كلامه -والحال عَلَى ما ذُكر- فهو ممَّن يظنُّ بالبريء ظن السوء، وذلك من الظن الَّذِي حرمه اللهُ ورسولُه، وهو داخلٌ في قوله سبحانه وتعالى: {وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} (¬1)، فإن الظن السوءَ ممن لا يظهر منه أمارات السوء ممَّا حرَّمه الله ورسولُه، فقد جَمَع هذا الظان بين اكتساب الخطيئة والإثم ورَمْي البريء بها. ويقوِّي دخوله في هذا الوعيد إذا ظهرت منه -أعني هذا الظانَّ- أماراتُ السوء، مثلُ: كثرة البغي والعُدوان، وقلَّة الوَرَع وإطلاق اللسان، وكثرة الغيبة والبُهتان، والحَسَد للناس عَلَى ما آتاهم الله من فضله والامتنان، وشدة الحرص عَلَى المُزاحمة عَلَى الرياسات قبل الأوان. ¬

_ (*) ما بين المعقوفين ليس في الأصول. (¬1) النساء: 112.

ومن عُرفَ منه هذه الصفات، التي لا يرضى بها أهل العِلْم والإيمان، فإنه إِنَّمَا يحمل تعرضه للعلماء، وردُّه عليهم عَلَى الوجه الثاني فيستحقُّ حينئذ مقابلته بالهوان، ومن لم تظهر منه أماراتٌ بالكليَّة تدلُّ عَلَى شيء، فإنَّه يجب أن يُحمل كلامُه عَلَى أحسن محملاته، ولا يجوزُ حملُه عَلَى أسوأ حالاته. وقد قال عُمَرُ رضي الله عنه: "لا تظنَّ بكلمةٍ خرجت من أخيك المسلم سوءًا وأنت تجدُ لها في الخير محملاً" (¬1). ... ¬

_ (¬1) أخرجه المحاملي في "أماليه" (460).

فصل: [في الفرق بين النصح بالعيوب للرجوع عنها والتوبيخ والتعيير بالذنب] (*)

فصل: [في الفرق بين النصح بالعيوب للرجوع عنها والتوبيخ والتعيير بالذنب] (*) ومِنْ هذا الباب أن يُقال للرجل في وجهه ما يكرهُه، فإنْ كان هذا عَلَى وجه النُّصح فهو حسنٌ، وقد قال بعضُ السَّلف لبعض إخوانه: "لا تَنْصحْني حتى تقول في وجهي ما أكرهُ". فَإِذَا أخبر الرجل أخاه بعيبه ليجتنبه كان ذلك حسنًا، ويحق لمن أُخبر بِعيب من عيوبه أن يعتذر منها؛ إِن كان له منها عُذر، وإن كان ذلك عَلَى وَجْه التَّوبيخ بالذنبِ فهو قبيحٌ مذمومٌ. وقيل لبعض السَّلف: "أتحب أن يُخبرك أحدٌ بعيوبك؛ فَقَالَ: إِن كان يريدُ أن يُوبِّخني فلا". فالتوبيخ والتعييرُ بالذنب مذمومٌ، وقد نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - أن تُثرَّب الأمَةُ الزانيةُ مع أمره بجلدها (¬1)، فتُجلد حَدًّا ولا تُعيَّر بالذنب ولا تُوبَّخ به. وفي الترمذي وغيره مرفوعًا: «مَنْ عَيَّرَ أَخَاهُ بِذَنْبٍ لَمْ يَمُتْ حَتَّى يَعْمَلَهُ» (¬2). وحُمِل ذلك عَلَى الذنب الَّذِي تاب منه صاحبه. قال الفُضيل: "المؤمن يستُرُ وينصَحُ، والفاجر يهتكُ ويُعَير". ¬

_ (*) {ليست في الأصول}. (¬1) أخرجه البخاري (2152)، ومسلم (1703) من حديث أبي هريرة. (¬2) أخرجه الترمذي (2505) من طريق خالد بن معدان عن معاذ بن جبل به. وقال: قال أحمد: من ذنب قد تاب منه. قال أبو عيسى: هذا حديث غريب، وليس إسناده بمتصل، وخالد بن معدان لم يدرك معاذ بن جبل. ونقل البرذعي قول أبي زرعة الرازي في "سؤالاته" (1/ 584) وقد سئل عن هذا الحديث وغيره من رواية ثور عن خالد بن معدان عن معاذ: كلها مناكير، لم يقرأها عَليَّ، وأمرني فضربتُ عليها.

فهذا الَّذِي ذكره الفُضيل من علامات النُّصح والتعيير هو أن النُّصح يقترنُ به السترُ، والتَّعيير يقترنُ به الإعلانُ، وكان يقال: "من أمر أخاهُ عَلَى رءوس الملأ فقد عيَّره، أو هذا المعنى. وكان السَّلفُ يكرهون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عَلَى هذا الوجه، ويُحبُّون أن يكون سرًّا فيما بين الآمر والمأمور، فإن هذا من علامات النُّصح، فإن الناصح ليس له غَرَضٌ في إشاعة عُيوب من ينصحُ له، وإنما غرضُهُ إزالةُ المفسدةِ التي وقع فيها. وأما الإشاعة وإظهار العيوب فهو ممَّا حرمه الله ورسوله، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا} (¬1) الآيتين. والأحاديث في فَضْل السرِّ كثيرة جدًا. وقال بعضُ العُلَمَاء لمن يأمر بالمعروف: "اجتهد أن تستر العُصاة، فإن ظهور عوراتهمْ وَهَنٌ في الإسلام، وأحقُّ شيءٍ بالستر: العَوْرة". فلهذا كان إشاعةُ الفاحشة مُقترنة بالتعيير، وهُما من خِصَال الفُجار، ولأن الفاجر لا غَرَض له في زوال المفاسد ولا في اجتناب المؤمن للمعائب والنقائص، إِنَّمَا غَرَضُهُ في مُجردِ إشاعة العيب في أخيه المؤمن، وهتْك عرضه، فهو يُعيد ذلك ويُبديه، ومقصودُهُ تنقُّص أخيه المؤمن في إظهار عُيوبه ومساوئه للناس ليُدخلَ عليه بذلك الضَّرَرَ في الدُّنْيَا. وأما الناصحُ فَغَرضُهُ بذلك إزالةُ عيب أخيه المؤمن باجتنابه له، وبذلك وَصَفَ اللهُ تعالى رسوله - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ ... } (¬2) الآية. ووصف بذلك أصحابه فَقَالَ: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} (¬3). ¬

_ (¬1) النور: 19 - 20. (¬2) التوبة: 128. (¬3) الفتح: 29.

ووصف المؤمنين بالتواصي بالصحر والتواصي بالمرحمة. وأما الحامل للفاجر عَلَى إشاعة السوء (وَهتكِهِ) (*) في القسوة والغلظة، ومحبة إيذاء أخيه المؤمن، وإدخال الضر عليه، وهذه صفةُ الشيطان الَّذِي يُزيِّن لبني آدم الكفر والفسوق والعصيانَ ليصيروا بذلك من أهل النيران، كما قال تعالى: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا} (¬1). وقال بعدَ أن قصَّ علينا قصَّته مع نبي الله آدمَ عليه السلام ومَكرهُ به حتى توصَّل إِلَى إخراجه من الجنة: {يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا} (¬2). فشتَّان بين مَنْ قصدُهُ النصيحة وبين مَنْ قَصْدُهُ الفضيحة، ولا تلتبس إحداهما بالأخرى إلا عَلَى من ليس من ذوي العقول الصحيحة. ... ¬

_ (*) الهتكة: "نسخة". (¬1) فاطر: 6. (¬2) الأعراف: 27.

فصل: [في عقوبة من عير أخاه بالذنب]

فصل: [في عقوبة من عير أخاه بالذنب] وعقوبةُ مَنْ أشاع السوء عَلَى أخيه المؤمن، وتتَّبع عيوبه، وكَشَفَ عوراته، أن يتَّبع اللهُ عورته ويفْضَحَهُ ولو في جوف بيته، كما رُوي ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من غير وَجْه، وقد أخرجه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي من وجوه متعددة (¬1). وأخرجه الترمذي (¬2) من حديث واثِلَة بن الأسقع عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا تُظْهِرِ الشَّمَاتَةَ بِأَخِيكَ فَيُعَافِيَهُ اللَّهُ وَيَبْتَلِيكَ». وقال: حسنٌ غريبٌ. وخرَّج أيضاً (¬3) من حديث مُعاذ مرفوعًا: «مَنْ عَيَّرَ أَخَاهُ بِذَنْبٍ لَمْ يَمُتْ حَتَّى يَعْمَلَهُ» إسناده منقطع. وقال الحسن: "كان يُقال: مَنْ عَيَّرَ أَخَاهُ بِذَنْبٍ تَابَ مِنْهُ لَمْ يَمُتْ حَتَّى يَبْتَلِيهُ اللهُ بِهِ». ويُروي من حديث ابن مسعود بإسناد فيه ضعف: «الْبَلَاءُ مُوَكَّلٌ بِالْمَنْطِقِ، فلو أن رجلاً عير رجلاً برضاع كلبة لرضعها» (¬4). وقد رُوي هذا المعنى جماعة من السَّلف. ولمَّا ركب ابنَ سيرين الدَّيْنُ وحُبس به قال: "إني أعرف الذنبَ الَّذِي أصابني هذا، عيَّرت رجلاً منذ أربعين سنة فقلت له: يا مُفلس". ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد (4/ 420 - 421) وأبو داود (4880) من حديث أبي برزة الأسلمي وأخرجه الترمذي (2032) من حديث ابن عمر، وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث الحسين بن واقد. (¬2) برقم (2506). (¬3) برقم (2505) قال الترمذي: هذا حديث غريب وليس إسناده بمتصل. (¬4) أخرجه ابن أبي شيبة (5/ 231)، والبغوي في "الجعديات" (1963).

فصل: [فيمن يظهر النصح ويبطن التعيير والأذى وأن ذلك من صفات المنافقين]

فصل: [فيمن يظهر النصح ويبطن التعيير والأذى وأن ذلك من صفات المنافقين] ومنْ (أخرج التَّعيير وأظهر السوء وأشاعه) (*) في قالبِ النُّصح وزعم أنه إِنَّمَا يحمله عَلَى ذلك العيوب، إما عامًّا أو خاصًا، وكان في الباطن إِنَّمَا غرضه التعيير والأذى، فهو من إخوان المنافقين الذين ذمَّهم الله في كتابه، في مواضعَ، فإنَّ الله تعالى ذَّم من أظهر فعلاً أو قولاً حسنًا وأراد به التوصُّل إِلَى غَرَض فاسدٍ يقصده في الباطن، وعدَّ ذلك من خصال النفاق كما في سورة براءة التي هتَكَ فيها المنافقين وفضحهم بأوصافهم الخبيثة: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * لا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا ... } (¬1) الآيات، وقال تعالى: {لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلاً تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (¬2) الآية، وهذه الآية نزلت في اليهود، سألهم النبي - صلى الله عليه وسلم - عن شيء فكتموه وأخبروه بغيره، وقد أرَوه أن قد أخبروه بما سألهم عنه، واستحمدوا بذلك عليه وفرحوا بما أوتوا من كتماله، وما سألهم عنه. كذلك قال ابن عباس رضي اللهُ عنهما، وحديثُه بذلك مخرَّج في "الصحيحين" (¬3). ¬

_ (*) أظهر التعيير: إظهار السوء وإشاعته: "نسخة". (¬1) التوبة: 107 - 108. (¬2) آل عمران: 188. (¬3) أخرجه البخاري (4568)، ومسلم (2778).

عن أبي سعيد الخُدري "أن رجالاً من المُنافقين كانوا إذا خرج رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إِلَى الغزوة تخلَّفوا عنه وفرحوا بمقعدهم خلافَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فَإِذَا قدم رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - اعتذروا إِلَيْهِ وحَلَفُوا، وأحبُّوا أن يُحمدوا بما لم يفعلوا فنزلت هذه الآية (¬1). فهذه الخصالُ، خصالُ اليهود والمنافقين، وهو أن يظهر الإنسان في الظاهر قولاً أو فعلاً، وهو في الصورة التي أظهره عليها حسن، ومقصودهُ بذلك التوصُّل إِلَى غَرَض فاسد، فيحمَدُهُ عَلَى ما أظهره من ذلك الحسَن، ويتوصَّلُ هو به إِلَى غرضه الفاسد الَّذِي هو أبطنَهُ، ويفرح بحمده عَلَى ذلك الَّذِي أظهر أنه حسن وهو في الباطن سيء، وعلى توصله في الباطن إِلَى غرضه السيء، فتتتمُّ له الفائدة وتُنفّذُ له الحيلة بهذا الخداع!! ومَنْ كانت هذه صفته فهو داخلٌ في هذه الآية ولابدّ، فهو مُتوعَّدٌ بالعذاب الأليم، ومثالُ ذلك. أن يُريد الإنسانُ ذمَّ رجلٍ وتنقُّصه وإظهارَ عيبهِ لينفرَ الناس عنه؛ إما محبةٌ لإيدائه لعدواته أو مخافته من مزاحمته عَلَى مالٍ أو رياسةٍ أو غير ذلك من الأسباب المذمومة، فلا يتوصَّل إِلَى ذلك إلا بإظهار الطعْن فيه بسبب ديني، مثل: أن يكونَ قد ردَّ قولاً ضعيفًا من أقوال عالمٍ مشهور فيشيعُ بين من يُعظم ذلك العالم، أن فلانًا يُبغضُ هذا العالم ويذمُّه ويطعنُ عليه فيغرُّ بذلك كل من يَعظمه، ويُوهمُهُم أنَّ بغْضَ هذا الرادّ وأذاهُ من أعمال القُرب؛ لأنّه ذبٌّ عن ذلك العالم، ودفع الأذى عنه، وذلك قربة إِلَى الله عز وجل وطاعة؛ فيجمع هذا المظهر للنصح بين أمرين قبيحين مُحرَّمين: أحدهما: أن يحملَ رد هذا العالم القولَ الآخر عَلَى البُغض والطَّعن والهَوَى وقد يكونُ إنَّما أراده به النُّصح للمؤمنين، وإظهار ما لا يحلُّ له كتمانه. والثاني: أن يُظهر الطعْنَ عليه ليتوصَّلَ بذلك إِلَى هواه وغرضِهِ الفاسد في ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (4567)، ومسلم (2777).

قالب النُّصح والذَّب عن عُلماء الشرع. بمثل هذه المكيدة كان ظلم بني مروان وأتباعهم يستميلون الناس إليهم ويُنفرون قلوبهم عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه والحسن والحسين وذريتهم رضي الله عنهم أجمعين. فإنه لما قُتل عثمان -رضي الله عنه- لم تر الأُمَّةُ أحقَّ من عليٍّ -رضي الله عنه- بالأمر فبايعوه فتوصَّل مَن توصَّل إِلَى التنفير عنه، بأن أظهر تعظيم قتله عثمان وقُبحه، وهو في نفس الأمر كذلك، لكن ضُمّ إِلَى ذلك أن المؤلف عَلَى قلته والسَّاعي فيه هو عَلَيَّ رضي الله عنه، وهذا كذِب وبهت. وكان علي يحلف ويُغلظ الحلفَ عَلَى نفي ذلك، وهو الصادق البار في يمينه رضي الله عنه، فلما أظهروا ذلك تفرقت قلوب كثير ممن لا خبرة له بحقائق الأمور عن علي رضي الله عنه، وبادروا إِلَى قتاله ديانة وتقرُّبًا، ثم إِلَى قتال أولاده، واجتهد أولئك في إظهار ذلك وإشاعته عَلَى المنَابِر في أيَّام الجُمع وغيرها من المَجَامع العظيمة، حتى استقرَّ في قلوب أتباعهم أنَّ الأمرَ عَلَى ما قالوه، وأن بني مروان أحقُّ بالأمر من علي وولدِهِ لقُربهم من عُثمان، وأخذهم بثأره، فتوصَّلوا بذلك إِلَى تأليف قُلوب الناس عليهم، وقتالهم لعليَّ وولده من بَعْده، وثبت بذلك لهم المُلك، واستوثق لهم الأمر. وكان بعضهم يقول في الخلوة لمن يثقُ إِلَيْهِ كلامًا معناه: لم يكن أحدٌ من الصحابة أكفأ عن عثمانَ من عَلَيٍّ فيقال له: لم يسبُّونه إذًا، فيقول: إِنَّ المُلك لا يقوم إلا بذلك. ومراده أنَّه لولا تنفيرُ قلوب الناس عن عليّ وَولدِهِ ونسبتُهم إِلَى ظلم عثمان لما مالت قلوب الناس إليهم، لما عَلِموه من صفاتهم الجميلة وخصائصهم الجليلة، فكانوا يُسرعون إِلَى مُتابعتهم ومُبايعتهم، فيزولُ بذلك مُلك بني أميَّة، وينصرفُ الناس عن طاعتهم. ***

فصل: [فيمن أصابه أذى ومكر أن عليه أن يصبر وأن التمكين سيكون له بعد صبره]

فصل: [فيمن أصابه أذى ومكر أن عليه أن يصبر وأن التمكين سيكون له بعد صبره] وَمَنْ بُلي بشيء من هذا الأذى والمكر فليتقِ الله ويستعين به ويَصْبِرُ، فإنَّ العاقبة للتقوى. كما قال تعالى بعد أن قصَّ قصةَ يوسُف وما حصل له من أنواع الأذى بالمكر والمخادعة: {وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ} (¬1). وقال تعالى حكايةٌ عنه أنه قال لإخواته: {أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} (¬2) الآية. وقال تعالى في قصَّة موسى عليه السلامُ وما حصل له ولقومه من أذى فرعونَ وكيده، قال لقومه: {اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} (¬3). وقد أخبر الله تعالى أن المكر يعود وبالُه عَلَى صاحبه، وقال تعالى: {وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ} (¬4). وقال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا} (¬5) الآية. والواقع يشهد بذلك، فإنَّ من سبر أخبار الناس، وتواريخ العالِمَ، وقفَ من أخبارِ مَنْ مَكَرَ بأخيه فعادَ مكرُهُ عليه، وكان ذلك سببًا لنجاتِهِ وسلامتِهِ عَلَى العَجَبِ العجاب. ولو ذكَرْنَا بعضَ ما وقع من ذلك لطال الكتابُ واتَّسع الخطابُ، والله الموفق للصواب، وعليه قصْدُ السبيل، وهو حَسبُنا ونعْمَ الوكيل، وصلَّى الله عَلَى محمد وآله وصحبه وسلّم تسليمًا. ¬

_ (¬1) يوسف: 21. (¬2) يوسف: 90. (¬3) الأعراف: 128. (¬4) فاطر: 43. (¬5) الأنعام: 123.

16 - جزء فيه الكلام على حديث يتبع الميت ثلاث

جزءٌ فيه الكلام على حديث يتبع الميت ثلاث

بسم الله الرحمن الرحيم رب يسر يا كريم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله عَلَى سيدنا محمد المصطفى وآله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا. في "الصحيحين" (¬1) من رواية عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو ابن حزم، عن أنس، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «يَتْبَعُ المَيِّتَ ثَلَاثٌ، فَيَرْجِعُ اثْنَانِ وَيَبْقَى وَاحِدٌ: يَتْبَعُهُ أَهْلُهُ وَمَالُهُ وَعَمَلُهُ، فَيَرْجِعُ أَهْلُهُ وَمَالُهُ، وَيَبْقَى عَمَلُهُ». ورواه عمران القطان، وحجاج بن حجاج، عن قتادة، عن أنس، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما من عبد إلا له ثلاثة أخلاء، فأما خليلٌ فيقول: ما أنفقت فلك، وما أمسكت فليس لك، فذلك ماله، وأما خليلٌ فيقول: أنا معك، فَإِذَا أتيت باب الملك رجعت وتركتك، فذلك أهله وحشمه، وأما خليلٌ يقول: أنا معك حيث دخلت، وحيث خرجت، فذاك عمله. فيقول: إِن كنت لأهون الثلاثة عليَّ" (¬2). ويروى نحو هذا من حديث النعمان بن بشير مرفوعًا (¬3) وموقوفًا. وتفسير هذا: أن ابن آدم في الدُّنْيَا لا بُدَّ له من أهل يعاشرهم، ومال يعيش به، فهذان صاحبان يفارقانه ويفارقهما. فالسعيدُ من اتخذ من ذلك ما يعينه عَلَى ذكر الله تعالى، وينفعه في الآخرة. فيأخذ من المال ما يبلغ به إِلَى الآخرة، ويتخذ زوجة صالحة تعينه عَلَى إيمانه. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (6514)، ومسلم (2960). (¬2) أخرجه أبو داود الطيالسي (3/ 20)، والحاكم (1/ 74، 371)، والبزار (3229 - كشف). (¬3) أخرجه البزار (3226 - كشف الأستار)، والحاكم (1/ 74 - 75، 372).

فأمَّا من اتخذ أهلاً ومالاً يشغله عن الله تعالى، فهو خاسرٌ، كما قالت الأعراب: {شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا} (¬1). وقال تعالى: {لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} (¬2). وقال تعالى: {وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا} (¬3). قال الحسن وهو في جنازة: ابن آدم، لئن رجعت إِلَى أهل ومال، فإن الثوى فيهم قليل. وفي حديث: "ابن آدم، عِشْ مَا شِئْتَ فَإِنَّكَ مَيِّتٌ، وَأَحْبِبْ مَنْ شِئْتَ فَإِنَّكَ مَفَارِقُهُ، وَاعْمَلْ مَا شِئْتَ فَإِنَّكَ مُلاَقِيهِ، وَكُن كَيفَ شِئْتَ، وَكَمَا تَدين تُدان" (¬4). فَإِذَا مات ابن آدم، وانتقل من هذه الدار لم ينتفع من أهله وماله بشيء، إلا بدعاء أهله له واستغفارهم، وبما قدَّمه من ماله بين يديه. قال الله تعالى: {يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} (¬5). ¬

_ (¬1) الفتح: 11. (¬2) المنافقون: 9. (¬3) سبأ: 37. (¬4) روي من عدة طرق: حديث علي: أخرجه الطبراني في "الأوسط" (4845). وحديث جابر: أخرجه الطيالسي (1755). وحديث سهل بن سعد: أخرجه القضاعي في "مسند الشهاب" (746)، والحاكم في "المستدرك" (4/ 324 - 325)، وابن الجوزي في "الموضوعات" (2/ 108)، والسهمي في "تاريخ جرجان" (83)، وأبو نعيم في "الحلية" (3/ 253). وحديث أنس: أخرجه ابن حبان في "المجروحين" (3/ 44). (¬5) الشعراء: 88 - 89.

وقال تعالى {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ} (¬1). فأمَّا إِنَّ خلف من يدعو له من أهله، أو قدَّم شيئًا من ماله فإنَّه ينتفع به. كما في "صحيح مسلم" (¬2) عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إِذَا مَاتَ الإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثٍ: إِلَّا مِنْ صَدَقَةٌ جَارِيَةٌ، أَوْ وَلَدٌ صَالِحٌ يَدْعُو لَهُ، أَوْ عِلْمٌ يُنْتَفَعُ بِهِ". فأهله لا ينفعه منهم بعد موته إلا من استغفر له ودعا له، وقد لا يفعل. وقد يكون الأجنبيُّ أنفع للميت من أهله، كما قال بعض الصالحين: وأين مثل الأخ الصالح؟! أهلك يقتسمون ميراثك، وهو قد تفرَّد بحزنك، يدعو لك، وأنت بين أطباق الأرض. فمن الأهل من هو عدو كما قال الله تعالى: {إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ} (¬3). ومنهم من يشتغل عن الميت بحصول ميراثه كما قيل: تمرُّ أقاربي جنبات قبرى ... كأنَّ أقاربي لا يعرفوني وذووا الميراث يقتسمون مالي ... ولا يألون إِن جحدوا ديوني وقد أخذوا سهامَهُم وعاشوا ... في لله أسرع ما نسوني قال الحسن: أزهد الناس في عالم جيرانه، وشر الناس لميت أهلُه يبكون عليه ولا يقضون دينه. ¬

_ (¬1) الأنعام: 94. (¬2) برقم (1631). (¬3) التغابن: 14.

يشير إِلَى أنهم يفعلون ما يضرّه ويتركون ما ينفعه؛ فالبكاءُ إذا كان معه ندبٌ أو نوحٌ أو تسخط يُعذَّب به الميت. وإنَّما يبكون لفقد حظوظهم منه، فبكاؤهم عَلَى أنفسهم لا عَلَى ميتهم. احتُضر بعضُ الصالحين فبكى أبواه وولده، فسألهم عن بكائهم، فذكر أبواه ما يتعجَّلانه من فقده ووحشتهم بعده. وذكر ولده ما يتعجلون من فقده ويُتمهم بعده، فَقَالَ: كلُّكم بكى لدنياي، أما منكم من يبكي لآخرتي؟! أمَا منكم من يبكي لما يلقاه في التراب وجهي؟! أمَا منكم من يبكي لمسائلة منكر ونكير إياي؟! أما منكم من يبكي لمقامي بين يدي ربي؟! ثُم صرخ صرخةً فمات رحمه الله. وأكثر الورثة لا يُوفون دين مورِّثهم، فيتركونه مرتهنًا محتبسًا بدينه، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لقوم مات منهم ميت: "إِنَّ صَاحِبَكُمْ مُحْتَبَسٌ بِدَيْنِهِ، فَإِنْ شِئْتُمْ فَأَسْلِمُوهُ أَوْ فُكُّوهُ" (¬1) أو كما قال. وبكل حال فليوطِّن الإنسان في الدُّنْيَا نفسه عَلَى مفارقة أهله كما قيل: أيا فرقة الأحباب لابد لي منك ... ويا دار دنيا إنني راحلٌ عنك ألا أيّ حي ليس بالموت موقنًا ... وأَيُّ يقين منه أشبه بالشك ولا ينتفع الميت بعد موته بأهله ولا غيرهم، إلا بالاستغفار له ودعائهم وترحمهم، أو صدقتهم عنه. ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد (5/ 11 و13، 20)، وأبو داود (3341)، والنسائي من حديث سمرة.

وينتفع بزيارة من زاره ويسلم عليه ويستأنس بذلك. وقد وصَّى عمرو بن العاص، أن يقيموا عَلَى قبره بعدَ دفنه بقدر ما تنحر جزور ويقسم لحمها وقال: أستأنس بكم، وانظر ما أراجع به رسل ربي. وفي "سنن أبي داود" (¬1): "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا دفن الميت قال: سلوا له التثبيت، فإنه الآن يُسأل". وأمَّا إقامتهم عنده بعد ذلك فلا ينتفع به. ضربت امرأة الحسن بن الحسن بن علي عَلَى قبره بالبقيع فسطاطًا سنة، ثم نزعته بعد السنة وانصرفت، فسمعوا هاتفًا بالبقيع يقول: هل وجدوا ما فقدوا؟ أفاجابه مجيبٌ من الناحية الأخرى: بل يئسوا فانقلبوا. لمَّا دُفن داود الطائي حضر جنازته أهلُ الكوفة، وأثنى عليه ابن السماك بأعماله الصالحة، والناس يصدِّقونه عَلَى قوله: فقام أبو بكر النهشلي (¬2) فَقَالَ: اللهمَّ لا تكله إِلَى عمله، فأعجب الناس قوله فلمَّا انصرفوا قال ابن السماك: يا داود رجعنا وتركناك، ولو أقمنا ما أنفعناك ثم أنشأ يقول: انصرف الناس إِلَى دورهم ... وغُودر الميت فى رمسه (¬3) مرتهن النفس بأعماله ... لا يرتجي الإطلاق عن حبسه لنفسه صالح أعماله ... وما سواها فعلى نفسه ومع هذا فالمؤمن يبشَّرُ في قبره بصلاح ولده من بعده؛ لتقرَّ عينه. وأعمال الأحياء تُعرض عَلَى أقاربهم من الموتى فيسرون بالأعمال الصالحة، ويدعون لأهلها بالتوبة والزيادة. وتسوءهم الأعمال السيئة، ويدعون لأهلها بالتوبة والمراجعة. ¬

_ (¬1) برقم (3221) من حديث عثمان بن عفان. (¬2) في "الأصل": النهلي. وهو خطأ، والصواب ما أثبتناه. (¬3) الرمس: القبر. "اللسان" مادة: (رمس).

وفي ذلك آثارٌ وأحاديثٌ كثيرة قد ذكرت في "أهوال القبور" في موضع آخر. وتنزل الملائكة عند موت المؤمن بالبشرى له، ويقال له: لا تخف مما أنت قادمٌ عليه، ولا تحزن عَلَى من خلَّفت من أهلك؛ فإنَّ الله يتكفَّل بهم، فتقرّ عين المؤمن بذلك. فهذا أحد الأخلاء الثلاثة، وهو الأهل يصلون مع خليلهم إِلَى باب الملك وهو اللَّحد، ثم يرجعون عنه. وأمَّا الخليل الثاني وهو المال، فيرجع عن صاحبه أولاً ولا يدخل معه قبره، ورجوعه كنايةٌ عن عدم مصاحبته له في قبره ودخوله معه. وقد فسَّر بعضهم المال الراجع بمن يتبعه من رقيقه، ثم يرجعون مع الأهل فلا ينتفع الميت بشيء من ماله بعد موته، إلا بما كان قدَّمه بين يديه؛ فإنه يقدم عليه وهو داخلٌ في عمله الَّذِي يصحبه في قبره. فأما ما خلَّفه وتركه، فهو لورثته لا له، وإنَّما كان خازنًا لورثته. وفي "صحيح مسلم" (¬1) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "يَقُولُ ابْنُ آدَمَ: مَالِي مَالِي، قَالَ: وَهَلْ لَكَ، يَا ابْنَ آدَمَ مِنْ مَالِكَ إِلَّا مَا أَكَلْتَ فَأَفْنَيْتَ، أَوْ لَبِسْتَ فَأَبْلَيْتَ، أَوْ تَصَدَّقْتَ فَأَمْضَيْتَ؟. وفيه أيضاً (¬2) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "يَقُولُ الْعَبْدُ: مَالِي مَالِي، إِنَّمَا لَهُ مِنْ مَالِهِ ثَلَاثٌ: مَا أَكَلَ فَأَفْنَى، أَوْ لَبِسَ فَأَبْلَى، أَوْ أَعْطَى فَاقْتَنَى، وَمَا سِوَى ذَلِكَ فَهُوَ ذَاهِبٌ وَتَارِكُهُ لِلنَّاسِ ". وفي "صحيح البخاري" (¬3) عنه - صلى الله عليه وسلم - قال: «أَيُّكُمْ مَالُ وَارِثِهِ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ مَالِهِ؟ قَالُوا: مَا مِنَّا إِلَّا مَالُهُ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ مَالِ وَارِثِهِ. قَالَ: فَإِنَّ مَالَهُ مَا قَدَّمَ، وَمَالُ وَارِثِهِ مَا أَخَّرَ». ¬

_ (¬1) برقم (2958). (¬2) برقم (2959). (¬3) برقم (6442).

فلا ينتفع العبدُ من ماله إلا بما قدَّمه لنفسه، وأنفقه في سبيل الله- عز وجل. فأمَّا ما أكله ولبسه فإنه لا له ولا عليه، إلا أن يكون فيه نيةٌ صالحةٌ. وقيل: بل يثاب عليه مطلقًا. فأمَّا ما أنفقه في المعاصي فهو عليه لا له، وكذلك ما أمسكه ولم يؤد حق الله عز وجل منه؛ فإنه يمثَّلُ له شجاعًا أقرع، يتبعه وهو يفرُّ منه، حتى يأخذ (بلهزمتيه) (¬1) ويقول: أنا مالك! أنا كنزك، ويلقمه يده فيقضمها قضم الفحل (¬2). وإن كان المكنوز ذهبًا أو فضةٌ جُعل صفائح، فأحمي عليها، ثم كُوي بها جبينه وجبهته وجنبه. لا تدخر غير التقى فالمال لا يدخرُ ... فأخر لأمر بنا اعتدلوا واعتبروا فمن تحقَّق هذا، فليقدِّم لنفسه من ماله ما يحبُّ، فإنه إذا قدَّمه كان له وبين يديه، ينتفع به في دار الإقامة. وإذا خلَّفه كان لغيره لا له، وقد يكون هو ممن يحبسه عن النفقة في سبيل الله، فيراه يوم القيامة في ميزان غيره، فيتحسر عَلَى ذلك، فيدخل هو بماله النار، ولدخل وارثه به الجنة! ". فالعاقل هو من قدم من ماله ما يحبه، فيفوز به في دار الإقامة؛ فإن من أَحَبّ شيئًا استصحبه معه، ولا يدعه لغيره، فيندم حين لا ينفعه الندم. ذكر ابن أبي الدُّنْيَا من حديث عبد الله بن عبيد بن عمير مرسلاً "أن رجلاً قال: يا رسول الله، ما لي لا أَحَبّ الموت؟ قال: لك مال؟ قال: نعم، قال: فقدمه؛ فإن قلب المرء مع ماله، إِنَّ قدمه أَحَبّ أن يلحق به، وإن أخره أَحَبّ أن يتأخر معه" (¬3). ¬

_ (¬1) لهزمتيه: يعني شدقيه. "اللسان" مادة: (لهزه). (¬2) أخرجه البخاري (1403)، ومسلم (987). (¬3) أخرجه ابن المبارك في كتاب "الزهد" (634)، وأبو نعيم في "الحلية" (3/ 359).

وقال بعض الملوك لأبي حازم الزاهد: ما بالنا نكره الموت؟ قال: لتعظيمك الدُّنْيَا، جعلت مالك بين عينيك فأنت تكره فراقه، ولو قدمته لآخرتك لأحببت اللحوق به. قال الله تعالى: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} (¬1). كان ابن عمر لا يعجبه شيء من ماله إلا قدمه لله، حتى إنه كان يومًا راكبًا عَلَى ناقة فأعجبته، فنزل عنها في الحال وقلدها وجعلها هديًا لله عز وجل. وكان له جارية يحبها حبًّا شديدًا، فأعتقها وزوجها بمولاه نافع، فولدت لنافع أولادًا، فكان ابن عمر ربما أخذ بعض أولادها فشمه، وقال: واهًا لريح فلانة -يعني: أم ذلك الولد (¬2). دخل رجل عَلَى أبي ذر فجعل يقلب بصره في بيته، فَقَالَ: با أبا ذر، أين متاعكم؟ قال: إِنَّ لنا بيتًا نوجه إِلَيْهِ صالح متاعنا". قال: إنه لا بد لك من متاع، ما دمت هاهنا قال: إِنَّ صاحب المنزل لا يدعنا فيه. يا جامع الأموال بادر صرفها ... واعلم بأن الطالبين جثاث خذ من تراثك ما استطعت فإنما ... شركاؤك الأيام والأحداث لم يقض حق المال إلا معشر ... نظروا الزمان يعيث فيه فعاثوا ما كان فيه فاضلاً عن قوته ... فليعلمن بأنه ميراث ¬

_ (¬1) آل عمران: 92. (¬2) أخرجه ابن سعد في "الطبقات الكبرى" (4/ 167) (طبعة دار صادر) قال: أخبرنا محمد ابن يزيد بن خنيس، قال: سمعت عبد العزيز بن أبي داود، قال: أخبرني نافع أن عبد الله بن عمر كانت له جارية .... فذكر القصة. وذكر القصة الحكيم الترمذي في "نوادر الأصول" (2/ 66)، وابن حجر في "الإصابة" (4/ 187) طبعة دار الجيل بتحقيق البجاوي. قلت: في إسناده محمد بن يزيد بن خنيس المكي، قال الحافظ في "التقريب": مقبول. أي حيث يتابع وإلا فهو ضعيف، ولم يتابعه أحد عَلَى ما وقفت عليه، وعبد العزيز بن أبي رواد: صدوق ربما وهم. فالإسناد ضعيف، والله أعلم.

قال الحسن: بئس الرفيقان الدرهم والدينار لا ينفعانك حتي يفارقانك. وقيل لبعضهم: جمع فلان مالاً، قال: هل جمع عمرًا ينفقه فيه؟ قالوا: لا. قال: ما جمع شيئًا. جمعت مالاً ففكر هل جمعت له ... يا جامع المال أيامًا تفرقه المال عندك مخزون لوارثه ... ما المال مالك إلا حين تنفقه من قدم اليوم شيئًا قدم عليه غدًا، ومن لم يقدم شيئًا قدم عَلَى غير شيء، فطال فقره في دار الإقامة. قال {بعض} (¬1) السَّلف: ابن آدم، إِنَّمَا تسكن يوم القيامة فيما بنيت، وتنزل يومئذ علي ما نقلت في حياتك من متاعك. دخلت امرأة عَلَى عائشة قد شلت يدها فقالت: يا أم المؤمنين، بتُّ البارحة صحيحة اليد فأصبحت شلاء! قالت عائشة: وما ذاك؟ قالت: كان لي أبوان موسران، كان أبي يعطي الزكاة ويقري الضيف ويعطي السائل ولا يحقر من الخير شيئًا إلا فعله، وكانت أمي امرأة بخيلة ممسكة، لا تصنع في مالها خيرًا، فمات أبي ثم ماتت أمي بعده بشهرين، فرأيت البارحة في منامي أبي وعليه ثوبان أصفران، بين يديه نهر جارٍ، قلت: يا أبه ما هذا؟ قال: يا بنية، من يعمل في هذه الدُّنيا خيرًا يره، هذا أعطانيه الله تعالى. قلت: فما فعلت أمي؟ قال: وقد عماتت أمك؟! قلت: نعم، قال: هيهات! عدلت عنا، فاذهبي فالتمسيها ذات الشمال، فملت عن شمالي، فَإِذَا أنا بأمي قائمة عريانة متزرة بخرقة، بيدها شحيمة تنادي: والهفاه، واحسرتاه، واعطشاه. فَإِذَا بلغها الجهد دلكت تلك الشحيمة براحتها ثم لحستها، وإذا بين يديها نهر جار، قلت: يا {أماه} (1) ما لك تنادين العطش وبين يديك نهر جار؟! قالت: لا أترك أن أشرب منه. قلت: أفلا أسقيك؟ قالت: وددت أنك فعلت، فغرفت لها غرفة فسقيتها، فلما شربت نادى مناد من ذات ¬

_ (¬1) ليست في "الأصل" والسياق يقتضيها.

اليمين: ألا من سقي هذه المرأة شلت يمينه مرتين- فأصبحت شلاء اليمين، لا أستطيع أن أعمل بيميني. قالت لها عائشة: وعرفت الخرقة؟ قالت: نعم يا أم المؤمنين، وهي التي رأيتها عليها، ما رأيت أمي تصدقت بشيء قط، إلا أن أبي نحر ذات يوم ثورًا، فجاء سائل فعمدت أمي إِلَى عظم عليه شحيمة فناولتها إياه، وما رأيتها تصدقت بشيء إلا أن سائلاً جاء يسأل، فعمدت أمي إِلَى خرقة فناولتها إياه. فكبرت عائشة- رضي الله عنها- وقالت: صدق الله وبلغ رسوله - صلى الله عليه وسلم -: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} (¬1). أخرجه الحافظ أبو موسى المديني في كتاب "الترغيب والترهيب" من طريق أبي الشيخ الأصبهاني الحافظ بإسناد حسن. من خرج إِلَى سفر من أسفار الدُّنْيَا بغير زاد، ندم حيث يحتاج إِلَى الزاد، فلا ينفعه الندم وربما هلك. فكيف بمن رحل إِلَى سفر الآخرة مع طوله ومشقته بغير زاد؟! السّقم في جسمي له تزداد ... والعمر ينقص والذنوب تزاد ما أبعدْ سفرتي وما لي زاد ... ما أكثر بهرجي ولي نقَّاد كان عليّ -رضي الله عنه- يقول في الليل: آه من قلة الزاد وبعد السفر ووحشة الطريق. وبكى أبو هريرة عند موته وقال: إِنَّمَا ابكي عَلَى بعد سفري وقلة زادي. إذا شكا من قلة الزاد من زاده كثير فكيف يقول من لا زاد له؟! يا جامع المال ما أعددت للحفر ... هل يغفل الزاد من أضحى عَلَى سفر ¬

_ (¬1) الزلزلة: 7 - 8.

قال ابن السماك: ما بكوا لسكرة الموت، إِنَّمَا بكوا لحسرة الفوت، خرجوا من دار لم يتزودوا منها، وقدموا عَلَى دار لا زاد لهم فيها. إذا أنت لم ترحل بزاد من التقى ... وأبصرت بعد الموت من قد تزودا ندمت عَلَى أن لا تكون شركته ... وأرصدت ما قد كان من قبل أرصدا أما الخليل الثالث: فهو العمل، وهو الخليل الَّذِي يدخل مع صاحبه قبره فيكون معه فيه، ويكون معه إذا بعث، ويكون معه في مواقف القيامة، وعلى الصراط، وعند الميزان، وبه تقتسم المنازل في الجنة والنار. قال الله تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا} (¬1). وقال تعالى: {مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ} (¬2). قال بعض السَّلف: في القبر. يعني أن العمل الصالح يكون مهادًا لصاحبه في القبر، حيث لا يكون للعبد من متاع الدُّنْيَا فراشٌ ولا وسادٌ ولا مهاد؛ بل كل عامل يفترش عمله ويتوسده من خيرٍ أو شر. فالعاقل من عمر بيته الَّذِي تطول إقامته فيه، ولو عمره بخراب بيته الَّذِي يرتحل عنه قريبًا لم يكن مغبونًا؛ بل كان رابحًا. قال وهب بن منبه: قال لقمان لابنه: يا بني، لكل إنسان بيتان: بيتٌ غائبٌ، وبيتٌ شاهد؛ فلا يُلهينّك بيتك الشاهد الَّذِي فيه عمرك القليل، عن بيتك الغائب الَّذِي فيه عمرك الطويل. ¬

_ (¬1) فصلت: 46. (¬2) الروم: 44.

وقال بعض السَّلف: اعمل للدنيا عَلَى قدر مكثك فيها، واعمل للآخرة عَلَى قدر مكثك فيها. وقال بعضهم: لابن آدم بيتان: بيتٌ عَلَى الأرض، وبيتٌ في بطن الأرض، فعمد إِلَى الَّذِي عَلَى وجه الأرض، فزخرفه وزيّنه، وجعل فيه أبوابًا للشمال، وأبوابًا للجنوب، ووضع فيه ما يصلحه لشتائه وصيفه، ثُم عمد إِلَى الَّذِي في بطن الأرض فأخربه؛ فَإِذَا قيل: هذا البيت الَّذِي أصلحته كم تقيم فيه؟ قال: لا أدري. قِيلَ لَهُ: والذي أخربته كم تقيم فيه؟ قال: فيه مقامي. قال: تقرُّ بهذا عَلَى نفسك وأنت رجلٌ تعقل؟! كان عثمان بن أبي العاص -رضي الله عنه- في المقابر في جنازة ومعه شاب من أقاربه فيه بعض غفلة، فَقَالَ عثمان: اطلع إِلَى بيتك، فاطلع في القبر. فَقَالَ له: ما ترى؟ قال: أرى بيتًا ضيقًا مظلمًا، ليس فيه طعامٌ ولا شرابٌ ولا زوجة، وقد تركت بيتًا فيه طعامٌ وشرابٌ وزوجة، قال: فإن هذا والله بيتك. قال: صدقت، أما والله لو رجعت نقلت من ذلك إِلَى هذا. قال الحسن: تبع رجلٌ من المسلمين جنازة أخيه، فَلَمَّا دُلي في قبره قال الرجل: ما أرى تبعك من الدُّنْيَا إلا ثلاثة أثواب، أما والله لقد تركتُ بيتي كثير المتاع، أمَا والله إِن أقالني اللهُ حتى أرجع لأقدِّمنَّه بين يدي. قال: فرجع فقدمه -والله- بين يديه، وكانوا يرون أنه كان عمر بن عبد العزيز. وكان ينشد هذه الأبيات كثيرًا: من كان حين تصيبُ الشمسُ جبهته ... أو الغبارُ يخاف الشين والشَّعثا ويألف الظل كي تبقى بشاشته ... فسوف يسكن يومًا راغمًا جدثا (¬1) ¬

_ (¬1) الجدث: القبر. "اللسان" مادة: (جدث).

في ظل مقبرةٍ غبراء مظلمة ... يطيل تحت الثرى في غمها اللبثا تجهزي بجهاز تبلغين به ... يا نفسُ قبل الردئ لم تخلقي عبثا فالمؤمن يأتيه عمله الصالح في قبره في أحسن صورة، فيبشّره بالسعادة من الله، والكافر بعكس ذلك. والأعمال الصالحة تُحيط بالمؤمن في قبره؛ في "صحيح ابن حبان" (¬1) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، إِنَّهُ لَيَسْمَعُ خَفْقَ نِعَالِهِمْ حِينَ يُوَلُّونَ عَنْهُ، فَإِنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَانَتِ الصَّلَاةُ عِنْدَ رَأْسِهِ، وَالزَّكَاةُ عَنْ يَمِينِهِ، وَالصَّوْمُ عَنْ شِمَالِهِ، وَفِعْلُ الْخَيْرَاتِ وَالْمَعْرُوفُ وَالْإِحْسَانُ إِلَى النَّاسِ مِنْ قِبَلِ رِجْلَيْهِ، فَيُؤْتَى مِنْ قِبَلِ رَأْسِهِ، فَتَقُولُ الصَّلَاةُ: لَيْسَ قِبَلِي مَدْخَلٌ ... " وذكر سائر الأعمال كذلك، وقال في الكافر: "يؤتى من هذه الجهات فلا يوجد شىء فيجلس خائفًا مرعوبًا". قال عطاء بن يسار: إذا وضع الميت في لحده، فأول شيء يأتيه عمله، فيضرب فخذه الشمال فيقول: أنا عملك. فيقول: فأين أهلي وولدي وعشيرتي وما خولني الله؛ فيقول: تركت أهلك وولدك وعشيرتك وما خوّلك الله وراء ظهرك، فلم يدخل معك قبرك غيري. فيقول: يا ليتني آثرتك عَلَى أهلي وولدي وعشيرتي وما خولني الله، إذ لم يدخل معي غيرك. قال يزيد الرقاشي: بلغني أن الميت إذا وضع في قبره احتوشته (¬2) أعماله، ثم أنطقها الله، فقالت: أيها العبدُ المنفردُ في حفرته، انقطع عنك الأخلاء والأهلون، فلا أنيس لك اليوم غيرنا، ثم بكى يزيد وقال: طوبى لمن كان أنيسه صالحًا، والويل لمن كان أنيسه وبالاً. ¬

_ (¬1) كما في "الإحسان" (3133). (¬2) أي جعلوه وسطهم. "اللسان" مادة: (حوش).

تزوَّد قرينًا من فعالك إِنَّمَا ... قرين الفتى في القبر ما كان يفعلُ وإن كنت مشغولاً بشيءٍ فلا تكن ... بغير الَّذِي يرضى به اللهُ تُشغلُ فلن يصحبَ الإنسانُ من بعد موته ... إِلَى قبره إلا الَّذِي كان يعمل ألا إِنَّمَا الإنسان ضيفٌ لأهله ... يقيم قليلاً عندهم ثم يرحل انتهى والحمد لله وحده وصلى الله عَلَى سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليمًا (¬1). ... ¬

_ (¬1) كتب في الهامش: فتنبه أيها الغافل لأمرك قبل أن ترهن بعملك في قبرك، وتزود لطول سفرتك بك في حفرتك، وتأهب بتحويل عدتك قبل مدتك، قبل حلول الآجال، وورود الأهوال قبل القيامة، قبل أن تحاط في قبرك بالأعمال، وينصرف مشيعوك بالآمال، يتحدثون في قسمة ما خلفت من العقار والأموال. والحمد لله -تعالى- طالعت هذه الرسالة الشريفة فوجدتها نافعة مفيدة، رحمة الله تعالى لمؤلفها ولمن طالعها آمين.

17 - صدقة السر وفضلها

صدقة السر وفضلها

فصل في صدقة السر

بسم الله الرحمن الرحيم رب يسر يا كريم فصل في صدقة السر وفي فضلها نصوصٌ كثيرة، فمن القُرآن قولُه: {وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} (¬1). ومن السنة حديث: "رَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَأَخْفَاهَا، حَتَّى لاَ تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا صَنَعَتْ يَمِينُهُ" (¬2). وحديث: «الْجَاهِرُ بِالْقُرْآنِ كَالْجَاهِرِ بِالصَّدَقَةِ، وَالْمُسِرُّ بِالْقُرْآنِ كَالْمُسِرِّ بِالصَّدَقَةِ» (¬3). وحديث أنس: "لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ الأَرْضَ جَعَلَتْ تَمِيدُ فَخَلَقَ الجِبَالَ ... " الحديث، وفي آخره: "قِيلَ: {فَهَلْ} (¬4) "مِنْ خَلْقِكَ شَيْءٌ أَشَدُّ مِنَ الرِّيحِ؟ قَالَ: نَعَمْ، ابْنُ آدَمَ، يَتَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ بِيَمِينِهِ فَيُخْفِيهَا مِنْ شِمَالِهِ" (¬5). وحديث أبي ذر، وزاد: ثم شرع بهذه الآية: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ} (1). ¬

_ (¬1) البقرة: 271. (¬2) أخرجه البخاري (1423)، ومسلم (1031) من حديث أبي هريرة. (¬3) أخرجه أبو داود (1333)، والترمذي (2919) وقال: هذا حديث حسن غريب، والنسائي (3/ 225)، (5/ 80)، وأحمد (4/ 151، 158، 201) من حديث عقبة بن عامر. (¬4) زيادة يقتضيها السياق. (¬5) أخرجه الترمذي (3369)، وأحمد (3/ 124) وقال الترمذي: هذا حديث غريب لا نعرفه مرفوعًا إلا من هذا الوجه.

وحديث: "وَصَدَقَةُ السِّرِّ تُطْفِئُ غَضَبَ الرَّبِّ -عز وجل- وتدفع ميتَة السوء" خرّجه الترمذي (¬1)، وابن حبان (¬2). وحديث أبي طلحة، لما تصدق بحائطه وقال: -صلى الله عليه وسلم- "لَوْ اسْتَطَعْتُ أَنْ أُسِرَّهُ لَمْ أُعْلِنْهُ" خرّجه الترمذيّ (¬3) في تفسيره. واختلفوا في الزكاة: هل الأفضل إسرارها أم إظهارها، فروي عن علي ابن أبي طلحة عن ابن عباس، قال: "جعل الله صدقة الفريضة علانيتها أفضل من سرها، يقال: بخمسة وعشرين ضعفًا". خرَّجه ابنُ جرير. وفي رواية قال: "وكذلك جميع الفرائض والنوافل في الأشياء كلها". وقال سفيان الثوري في هذه الآية: هذا في التطوع. وعن يزيد بن أبي حبيب: إِنَّمَا نزلت هذه الآية في اليهود والنصارى، وكان يأمر بقسم الزكاة في السر. قال ابنُ عطية: وهذا مردود، لا سيّما عند السَّلف الصالح؛ فقد قال ابنُ جرير الطبري: أجمع الناس أنَّ إظهار الواجب أفضل. قال المهدوي: وقيل المُراد بالآية فرض الزكاة والتطوع، وكان الإخفاءُ فيها أفضل في مُدة النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم ساءت ظنونُ الناس بعد ذلك، فاستحسن العُلَمَاء إظهارَ الفرائض؛ لئلا يظن بأحد المنع. قال ابنُ عطية: وهذا القول مخالف للآثار، قال: ويحسن في زمننا أن يحسن التستر بصدقة الفرض، فقد كثر المانع لها، وصار إخراجُها عُرضة للرياء. هذا الَّذِي تخيَّله ابنُ عطية ضعيف. فلو كان الرجلُ في مكان يترك أهلُه الصلاة، فهل يُقال: إِنَّ الأفضل أن لا يُظهر صلاته المكتوبة؟! ¬

_ (¬1) برقم (664) من حديث أنس. قال أبو عيسى: هذا حديث غريب من هذا الوجه. (¬2) كما في "الإحسان" (3309) من حديث أنس. (¬3) برقم (2997) قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح.

وقال النقاش: إنّ هذه الآية نسخها قولُه تعالى: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً ... } (¬1) الآية. انتهى ما ذكره. ودعوى النسخ {ضعيفة} (¬2) جدًّا، وإنما معنى هذه الآية كمعنى التي قبلها أن النفقة تقبل سرًّا وعلانية. وحُكي عن المهدوي أن قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ} (¬3) رخّصت في صدقة الفرض عَلَى أهل القرابات المشركين. قال ابنُ عطية: وهذا عندي مردود. وحكي عن ابن المنذر نقل إجماع من يحفظ، أنه لا يُعطى {أهل} (¬4) الذِّمة من صدقة المال شيئًا. قلتُ: رُوي عن ابن عمر أنه قال في قوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} (¬5): إِنَّ المساكين أهل الكتاب. وإسنادُه لا يثبت. وروى الثعلبي بإسناده عن سعيد بن سويد الكلبي يرفعه، أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - سُئل عن الجهر بالقراءة والإخفاء. فَقَالَ: هي كمنزلة الصدقة {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} (¬6). وروى الثعلبي في تفسيره، عن أبي جعفر في قوله تعالى: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ} قال: هي الزكاة المفروضة {وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} قال: يعني التطوع. هذا تفسير غريب. تم. ... ¬

_ (¬1) البقرة: 274. (¬2) في الأصل: "ضعيف". والمثبت أنسب للسياق. (¬3) البقرة: 272. (¬4) ليست في الأصل، والصواب إثباتها. (¬5) التوبة: 60. (¬6) البقرة: 271.

18 - نزهة الأسماع في مسألة السماع «أحكام الغناء والمعازف»

نزهة الأسماع في مسألة السماع "أحكام الغناء والمعازف"

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، رب يسر وأعن يا كريم قال الشيخ الإمام العالم العلامة الحافظ المتقن المحقق زين الدين أبو الفرج عبد الرحمن ابن الشيخ الإمام شهاب الدين أبي العباس أحمد بن رجب الحنبلي [تغمده الله برحمته وأسكنه فسيح جنته بمنه وكرمه. آمين] (*). سُئلت عن السماع المحدث، وما يتضمنه من سماع الغناء وآلات اللهو، هل هو محظور أم لا؟ وهل ورد في حظره دليل صريح أم لا؟ وعن سماعه من المرأة الأجنبية، وعمّن يفعله قربة وديانة. فأجبت والله والموفق: هذه المسائل قد انتشر فيها من الناس المقال، وكثر القيل فيها والقال، وصنّف الناس فيها تصانيف مفردة، وذكرت في أشاء التصانيف ضمنًا، وتكلم فيها أنواع الطوائف، من الفقهاء وأهل الحديث والصوفية. ثم منهم من يميل إِلَى الرخصة، ومنهم من يميل إِلَى المنع والشدَّة. واستيفاء الكلام في ذلك يستدعي تطويلاً كثيرًا، ولكن سنشير -إِنَّ شاء الله تعالى بعونه وتوفيقه- إِلَى نكتٍ مختصرةٍ وجيزة، ضابطة لكثير من مقاصد هذه المسائل، ونسأل الله تعالى أن يلهمنا رشدنا، وأن يعيذنا من شر أنفسنا، وأن يجعل قصدنا بذلك بيان الحق الَّذِي بعث به رسوله، وأن يزيد المهتدي منا ومن إخواننا المسلمين هدى، وأن يُراجع بالمسيء إِلَى الحق الَّذِي يرتضيه، في خير وعافية. بمنه ورحمته آمين. فنقول: سماع الغناء وآلات الملاهي عَلَى قسمين: فإنه تارة يقع ذلك عَلَى وجه اللعب واللهو، وإبلاغ النفوس حظوظها من الشهوات واللذات. ¬

_ (*) في "نسخة": متعنا الله والمسلمين بطول حياته وختم لنا وله بالخير، إنه عَلَى كل شيء قدير.

القسم الأول:

وتارة يقع عَلَى وجه التقرب إِلَى الله عز وجل: باستجلاب صلاح القلوب، وإزالة قسوتها وتحصيل رقتها. القسم الأول: أن يقع عَلَى وجه اللعب واللهو: فأكثر العُلَمَاء عَلَى تحريم ذلك -أعني سماع الغناء وسماع آلات الملاهي كلها- وكل منها محرم بانفراده، وقد حكى أبو بكر الآجري وغيره إجماع العُلَمَاء عَلَى ذلك. والمراد بالغناء المحرم: ما كان من الشعر الرقيق الَّذِي فيه تشبيب بالنساء ونحوه، مما توصف فيه محاسن من تهيج الطباع بسماع وصف محاسنه، فهذا هو الغناء المنهي عنه، وبذلك فسره الإمام أحمد وإسحاق بن راهويه، وغيرهما من الأئمة. فهذا الشعر إذا لُحن، وأخرج تلحينه عَلَى وجه يُزعج القلوب، ويخرجها عن الاعتدال، ويُحرك الهوى الكلامن المجبول في طباع البشر، فهو الغناء المنهي عنه. فإن أنشد هذا الشعر عَلَى غير وجه التلحين؛ فإن كان محركًا للهوى بنفسه فهو محرم أيضاً؛ لتحريكه الهوى، لهان لم يُسمَّ غناء. فأما ما لم يكن فيه شيء من ذلك، فإنه ليس بمحرم وإن سُمي غناء. وعلى هذا حمل الإمام أحمد حديث عائشة -رضي الله عنها- في الرخصة في غناء نساء الأنصار وقال: هو غناء الركبان أتيناكم أتيناكم. يشير إِلَى أنه ليس فيه ما يُهيجُ الطباع إِلَى الهوى ويشهد لذلك حديث عائشة: أن الجاريتين اللتين كانتا عندها كانتا تغنيان بما (تقاولت) (*) به الأنصارُ رضي الله عنهم يوم بُعاث (¬1) وعلى مثله يُحمل كل حديث ورد في الرخصة في الغناء، كحديث الحبشية التي نذرت أن تضرب الدّف، في مقدم النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬2)، وما أشبهه من الأحاديث. ¬

_ (*) في "نسخة": تقاومت. (¬1) أخرجه البخاري (952)، ومسلم (892). (¬2) أخرجه الترمذي (3690)، وأحمد (5/ 353). وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح غريب من حديث بريدة، وفي الباب عن عمر، وسعد بن أبي وقاص، وعائشة.

ويدل عليه أيضاً ما في "صحيح البخاري" (¬1) عَنْ الرُّبَيِّعِ بِنْتِ مُعَوِّذٍ قَالَتْ: "جَاءَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، غَدَاةَ بُنِيَ بِي فَجَلَسَ عَلَى فِرَاشِي. وَجُوَيْرِيَاتٌ لَنَا يَضْرِبْنَ الدُّفّ وَيَنْدُبْنَ مَنْ قُتِلَ مِنْ آبَائِي يَوْمَ بَدْرٍ، إِلَى أَنْ قَالَتْ جَارِيةً مِنْهُنَّ: وَفِينَا نَبِيٌّ يَعْلَمُ مَا فِي غَدٍ، فَقَالَ لَهَا: أمْسِكِي عَنْ هَذِهِ، وَقُولِي الَّتِي كُنْتِ تَقُولِينَ قَبْلَهَا". وفي "مسند الإمام أحمد" (¬2) و"سنن ابن ماجه" (¬3) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعائشة: "أَهَدَيْتُمُ الْجَارِيَةَ إِلَى بَيْتِهَا؟ قَالَتْ: نَعَمْ. قَالَ: فَهَلَّا بَعَثْتُمْ مَعَهَا مَنْ يُغَنِّيهِمْ يَقُولُ: أَتَيْنَاكُمْ أَتَيْنَاكُمْ ... فَحَيُّونَا نُحَيِّيكُمْ فَإِنَّ الْأَنْصَارَ قَوْمٌ فِيهِمْ غَزَلٌ". وعلى مثل ذلك أيضاً حمل طوائف من العُلَمَاء قول من رخص في الغناء من الفقهاء، من أصحابنا وغيرهم وقالوا: إِنَّمَا أردوا الأشعار التي لا تتضمن ما يُهيج الطباع إِلَى الهوى، وقريبٌ من ذلك الحداء (¬4)، وليس في شيء من ذلك ما يحرك النفوس إِلَى شهواتها المحرمة. ونذكر بعض ما ورد في الكتاب والسنة والآثار من تحريم الغناء وآلات اللهو: فأمَّا تحريم الغناء، فقد استُنبط من القرآن من آيات متعددة، فمن ذلك: قول الله عز وجل: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} (¬5). (¬6) وقال ابن عباس: هو الغناء وأشباهه (¬7). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (5147). (¬2) في "المسند" (3/ 391). (¬3) في "السنن" (1900). (¬4) قال الجوهري: الحدو: سوق الإبل والغناء لها. "اللسان" مادة: (حدو). (¬5) لقمان: 6. (¬6) أخرجه ابن أبي شيبة (6/ 309)، والطبري في "تفسيره" (21/ 61)، والحاكم (2/ 411)، والبيهقي في "السنن الكبير" (10/ 223) وغيرهم. (¬7) أخرجه ابن أبى شيبة (6/ 310)، والبخاري في "الأدب المفرد" برقم (678، 1265)، وابن جرير في "تفسيره" (21/ 61) وغيرهم.

وفسّره بالغناء أيضًا خلق من التابعين، منهم: مجاهد وعكرمة، والحسن، وسعيد بن جبير، وقتادة، والنخعي، وغيرهم. وقال مجاهد في قوله تعالى: {وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ} (¬1) قال: الغناء والمزامير. وقال ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: {وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ} (¬2) قال: هو الغناء بالحميرية (¬3). وقال بعض التابعين في قوله تعالى: {وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا} (¬4) قال: إِنَّ اللغو هو الغناء. وعن أبي أمامة عن النّبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لَا تَبِيعُوا القَيْنَاتِ وَلَا تَشْتَرُوهُنَّ وَلَا تُعَلِّمُوهُنَّ، وَلَا خَيْرَ فِي تِجَارَةٍ فِيهِنَّ، وَثَمَنُهُنَّ حَرَامٌ، فِي مِثْلِ هَذَا أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةَ: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيرِ عِلْمٍ} (¬5). خرّجه الإمام أحمد (¬6) والترمذي (¬7) من رواية عبيد الله بن زحر، عن علي بن يزيد، عن القاسم، عن أبي أمامة وقال: قد تكلم بعض أهل العِلْم في علي بن يزيد وضعفه، وهو شامي. وذكر في كتاب "العلل" أنه سأل البخاري عن هذا الحديث فَقَالَ: علي ابن يزيد ذاهب الحديث. ووثق عبيد الله بن زحر والقاسم بن عبد الرحمن، وخرجه محمد بن يحيى الهمداني الحافظ الفقيه الشافعي في "صحيحه". وقال: عبيد الله بن زحر. قال أبو زرعة: لا بأس به صدوق. قلت: علي بن يزيد لم يتفقوا عَلَى ضعفه، بل قال فيه أبو مُسهر -وهو من بلده: وهو أعلم ¬

_ (¬1) الإسراء: 64. (¬2) النجم: 61. (¬3) أخرجه ابن جرير (27/ 82)، والبيهقي (10/ 223). (¬4) الفرقان: 72. (¬5) لقمان: 6. (¬6) في "المسند" (5/ 264). (¬7) برقم (1282).

بأهل بلده من غيرهم- قال فيه: ما أعلم فيه إلا خيرًا. وقال ابن عدي: هو في نفسه صالح، إلا أن يروي عنه ضعيف فيؤتى من قبل ذلك الضعيف. هذا الحديث، قد رواه عنه غير واحد من الثقات. وقد خرَّج الإمام أحمد (¬1) من رواية فرج بن فضالة، عن علي بن يزيد عن القاسم، عن أبي أمامة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إِنَّ اللهَ بَعَثَنِي رَحْمَةً وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ، وَأَمَرَنِي أَنْ أَمْحَقَ الْمَزَامِيرَ وَالْبَرَابِطَ (¬2)، وَالْمَعَازِفَ وَالْأَوْثَانَ". ذكر بقية الحديث وفي آخره: "وَلا يَحِلُّ بَيْعُهُنَّ وَلا شِرَاؤُهُنَّ، وَلا تَعْلِيمُهُنَّ تِجَارَةٌ فِيهِنَّ وَأَثْمَانُهُنَّ حَرَامٌ. يَعْنِي الضَّارِبَاتِ" وفرج بن فضالة مختلفٌ فيه أيضاً، ووثقه الإمام أحمد وغيره. وخرَّج الإسماعيلي وغيره من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ثمن المغنية حرام وغناؤها حرام" وإسناده كلهم ثقات متفق عليهم، سوى يزيد بن عبد الملك النوفلي، فإنه مختلف في أمره. وخرج حديثه هذا محمد بن يحيى الهمداني في "صحيحه" وقال: في النفس من يزيد بن عبد الملك. مع أن ابن معين قال: ما كان به بأس. وبوّب الهمداني هذا في "صحيحه" عَلَى تحريم بيع المغنيات وشرائهن، وهو من أصحاب ابن خزيمة وكان عالمًا بأنواع العلوم، وهو أول من أظهر مذهب الشافعي بهمدان، واجتهد في ذلك بماله ونفسه، وكان وفاته سنة سبع وأربعين وثلاثمائة رحمه الله تعالى. وخرَّج في باب تحريم ثمن المغنية من رواية أبي نعيم الحلبي، ثنا ابن المبارك، عن مالك، عن ابن المنكدر، عن أنس، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من قعد إِلَى قينة (¬3) يستمع منها صُبّ في أذنيه الآنُكُ (¬4) يوم القيامة". ¬

_ (¬1) في "المسند" (5/ 257، 268). (¬2) البرابط: جمع بربط، وهي آلة طرب، تشبه العود. "النهاية" (1/ 112). (¬3) القينة: الأمة، غنت أو لم تغن والماشطة، وكثيرًا ما تطلق عَلَى المغنية من الإماء. "النهاية" (4/ 135). (¬4) هو الرصاص الأبيض، وقيل الأسود. "النهاية" (1/ 77).

وقال: أبو نعيم الحلبي اسمه عبيد بن هشام. قلتُ: قد وثقه أبو داود وقال: إنه تغير بأخرة. وقد أنكر عليه أحاديث تفرد بها، منها هذا الحديث. وفي النهي عن بيع المغنيات أحاديث تفرد بها آخر عن علي وعائشة رضي الله عنهما وغيرهما، وفي أسانيدها مقال. وروى عامر بن سعد البجلي قال: دخلت عَلَى قرظة بن كعب وأبي مسعود الأنصاري في عرس، فَإِذَا جواري يتغنين. فقلت: أنتم أصحاب محمد، وأهل بدر ويُفعل هذا عندكم! قال: اجلس إِنَّ شئت واسمع، وإن شئت فاذهب فإنه قد رُخص لنا في اللهو عند العرس. خرَّجه النسائي (¬1) والحاكم (¬2) وقال: صحيح عَلَى شرطهما. والرخصة في اللهو عند العرس تدل عَلَى النهى عنه في غير العرس، ويدل عليه قول النبي - صلى الله عليه وسلم - حديث عائشة المتفق عليه في "الصحيحين" (¬3) "لما دخل عليها وعندها جاريتان تغنيان وتدففان، فانتهرهما أبو بكر الصديق رضي الله عنه وقال: مزمور الشيطان عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم -! فَقَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: دَعْهُمَا فَإِنَّهَا أَيَّامُ عِيدٍ". فلم ينكر قول أبي بكر رضي الله عنه، وإنما علّل الرخصة بكونه في يوم عيد، فدل عَلَى أنه يباح في أيام السرور، كأيام العيد وأيام الأفراح، كالأعراس وقدوم الغُياب ما لا يباح في غيرها من اللهو. وإنما كانت دفوفهم نحو الغرابيل، وغناؤهم بإنشاد أشعار الجاهلية في أيام حروبهم وما أشبه ذلك. فمن قاس عَلَى ذلك سماع أشعار الغزل مع الدفوف المصلصلة فقد أخطأ غاية الخطأ، وقاس مع ظهور الفرق بين الفرع والأصل. ¬

_ (¬1) في "السنن" (3383). (¬2) في "المستدرك" (2/ 184). (¬3) أخرجه البخاري (952)، ومسلم (892).

وقال ابن مسعود رضي الله عنه: الغناء يُنبت النفاق في القلب كما ينبت الماء البقل (¬1). وقد روي عنه مرفوعًا، خرّجه ابو داود (¬2) في بعض نسخ "السنن" وخرّجه ابن أبي الدُّنْيَا والبيهقي وغيرهما، وفي إسناد المرفوع من لا يُعرف والموقوف أشبه. وأما تحريم آلات الملاهي، فقد تقدم عن مجاهد أنه أدلخها في صوت الشيطان المذكور في قول الله تعالى: {وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ} (¬3) وتقدم أيضاً حديث أبي أمامة في ذلك. وقال البخاري في "صحيحه" (¬4): وقال هشام بن عمار ثنا صدقة بن خالد، ثنا عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، ثنا عطية بن قيس، حدثني عبد الرحمن بن غنم الأشعري، حدثني أبو عامر أو أبو مالك الأشعري -والله ما كذبني- سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: "لَيَكُونَنَّ مِنْ أُمَّتِي أَقْوَامٌ يَسْتَحِلُّونَ الحِرَ وَالحَرِيرَ وَالخَمْرَ وَالمَعَازِفَ وَلَيَنْزِلَنَّ أَقْوَامٌ إِلَى جَنْبِ عَلَمٍ تَرُوحُ عَلَيْهِمْ بِسَارِحَةٍ لَهُمْ، يَأْتِيهِمْ الفَقِيرَ لِحَاجَةٍ فَيَقُولُوا: ارْجِعْ إِلَيْنَا غَدًا، فَيُبَيِّتُهُمُ اللَّهُ وَيَضَعُ العَلَمَ، وَيَمْسَخُ آخَرِينَ قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ". هكذا ذكره البخاري في كتابه بصيغة التعليق المجزوم به، والأقرب أنه مُسند؛ فإن هشام بن عمار أحد شيوخ البخاري. وقد قيل: إِنَّ البخاري إذا قال في "صحيحه": قال فلان ولم يصرح بروايته عنه، وكان قد سمع منه، فإنه يكون قد أخذه عنه عرضًا أو مناولة أو مذاكرة. وهذا كله لا يخرجه عن أن يكون مُسندًا، والله أعلم. وخرجه البيهقي (¬5) من طريق الحسن بن سفيان، ثنا هشام بن عمار، فذكره فالحديث صحيح محفوظ عن هشام بن عمار. ¬

_ (¬1) أخرجه ابن أبي الدُّنْيَا في "ذم الملاهي" (156)، والبيهقي في "السنن الكبير" (10/ 223) وضعفه الشيخ الجديع في أحاديث "ذم الغناء والمعازف في الميزان" (ص 57). (¬2) في "السنن" برقم (4927). (¬3) الإسراء: 64. (¬4) برقم (5590). (¬5) في "السنن الكبير" (10/ 221).

وخرج أبو داود (¬1) هذا الحديث مختصرًا بإسناد متصل إِلَى عبد الرحمن ابن جابر الإسناد فَقَالَ: حدثنا عبد الوهاب بن نجدة، ثنا بشر بن بكر، عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، ثنا عطية بن قيس فذكره. وقال: "يستحلون الخز". كذا عنده، "الخز": بالخاء والزاي المعجمتين، وفى باب لباس الخز خرجه. والمعروف فى راوية البخاري "الحر"، بالحاء والراء المهملتين ومعناه: الفرج. وقد رواه معاوية بن صالح عن حاتم بن حريث، عن مالك بن أبي مريم، عن عبد الرحمن بن غنم، عن أبي مالك الأشعري، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لَيَشْرَبَنَّ نَاسٌ مِنْ أُمَّتِي الْخَمْرَ يُسَمُّونَهَا بِغَيْرِ اسْمِهَا، يُعْزَفُ عَلَى رُءُوسِهِمْ بِالْمَعَازِفِ وَالْمُغَنِّيَاتِ، يَخْسِفُ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ، وَيَجْعَلُ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ». خرجه ابن ماجه (¬2) وابن حبان في "صحيحه" (¬3) وعنده: والقينات. وخرج أبو داود (¬4): أول الحديث ولم يتمه. وروى فرقد السبخي: حدثني عاصم بن عمرو البجلي، عن أبي أمامة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "تَبِيتُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي عَلَى أَكْلٍ وَلَهْوٍ وَشُرْبٍ، ثُمَّ يُصْبِحُونَ قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ، وَتُبْعَثُ عَلَى حَيٍّ مِنْ أَحْيَائِهِمْ رِيحٌ، فَتَنْسِفُهُمْ، كَمَا نَسَفَتْ (*) مَنْ كَانَ قَبْلَهُمْ بِاسْتِحْلَالِهِمُ الْخُمُورَ، وَضَرْبِهِمْ بِالدُّفُوفِ، وَاتِّخَاذِهِمُ الْقَيْنَاتِ". خرجه الإمام أحمد (¬5) والحاكم (¬6) وقال: صحيح عَلَى شرط مسلم. كذا قال، وفرقد لم يخرج له مسلم، وقد وثقه ابن معين وغيره، وكان رجلاً صالحًا لكن كان مشتغلاً عن الحديث بالعبادة، ففي حفظه شيء، فحديثه يصلح للاستشهاد والاعتضاد. ¬

_ (¬1) برقم (4039). (¬2) برقم (4020). (¬3) كما في "الإحسان" (6758)، وفي إسناده مالك بن أبي مريم: مجهول، ولكن للحديث شواهد يتقوى بها. (¬4) برقم (3688)، (3689). (*) في "نسخة": تنسف. (¬5) برقم (5/ 259، 329). (¬6) في "المستدرك" (4/ 515).

وخرج الترمذي (¬1) معنى هذا الحديث: من حديث عمران بن حصين عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وخرج الترمذي (¬2) في المعنى أيضاً من حديث علي بن أبي طالب وأبي هريرة (¬3) عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقال في كل واحد من الثلاثة: غريب. وقد روي في هذا المعنى: أحاديث متعددة عن النبي صلى الله عليه وسلم، من رواية ابن مسعود وسلمان، وعبادة بن الصامت وأنس، وأبي سعيد وابن عمر، وسهل بن سعد وعبد الله بن بسر، وعائشة وغيرهم رضي الله عنهم، ولا تخلوا أسانيدها من مقال، لكن تقوى بانضمام بعضها إِلَى بعض، ويعضُد بعضها بعضًا. وقد ذكر البيهقي (¬4) أنها شواهد لحديث أبي مالك الأشعري المبدوء بذكره. وخرج الإمام أحمد (¬5) وأبو داود (¬6) أيضاً من حديث ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لوفد عبد القيس: "إِنَّ الله حرَّم عليّ أو حرم -الخمر والميسر والكوبة" (¬7) - قال: والكوبة: الطبل -كذا فسره بعض رواة الحديث. وخرَّج أحمد (¬8) وأبو داود (¬9) أيضاً من حديث عبد الله بن عمرو "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الخمر والميسر والكوبة". قال الإمام أحمد: أكره الطبل وهو الكوبة، نهى عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وروى ليث بن أبي سليم الكوفي، عن مجاهد قال: كنت مع ابن عمر رضي الله عنهما، فسمع صوت طبل، فأدخل إصبعيه في أذنيه، ثم تنحى حتى فعل ذلك ثلاث مرات ثُم قال: هكذا فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. خرجه ¬

_ (¬1) برقم (2213). (¬2) برقم (2211). (¬3) أخرجه الترمذي (2212). (¬4) في "السنن الكبير" (10/ 279). (¬5) (1/ 278 - 279). (¬6) برقم (3696). (¬7) قال ابن الأثير: هي النرد. وقيل: الطبل، "النهاية" (4/ 207). (¬8) (2/ 158، 165). (¬9) برقم (3685).

ابن ماجه (¬1). وروى ابن أبي ليلى، عن عطاء، عن جابر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "نَهَيْتُ عَنْ صَوْتَيْنِ فَاجِرَيْنِ: صَوْتٍ عِنْدَ مُصِيبَةٍ: خَمْشُ وُجُوهٍ، وَشَقِّ جُيُوبٍ، وَصَوْتُ عِنْدَ (نِعْمَةٍ) (*)، وَلَهْوٌ وَلَعِبٍ وَمَزَامِيرُ شَيْطَانٍ". خرجه وكيع ابن الجراح في كتابه عن ابن أبي ليلى به. وخرج الترمذي (¬2) أوله ولم يتمه، وقال في الحديث كلام، يشير إِلَى أن باقي الحديث لم يذكره، وعنده: صوتين أحمقين فاجرين. وقال: حديث حسن. وابن أبي ليلى إمام صدوق جليل القدر، لكن في حفظه شيء، وربما اختلف عنه في الأسانيد. وقد روي هذا الحديث عنه، عن عطاء، عن جابر، عن عبد الرحمن بن عوف، عن النبي صلى الله عليه وسلم. كذلك خرَّجه البزار في "مسنده" (¬3) وغيره وروي هذا المعنى عن النبي صلى الله عليه وسلم من رواية شبيب بن بشر، عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم. وشبيب وثقه ابن معين وغيره. وخرَّج الإمام أحمد (¬4) وأبو داود (¬5) من حديث نافع عن ابن عمر: «أَنَّهُ سَمِعَ صَوْتَ زَمَّارَةِ فَوَضَعَ إِصْبَعَيْهِ فِي أُذُنَيْهِ وَعَدَلَ رَاحِلَتَهُ عَنِ الطَّرِيقِ وَهُوَ يَقُولُ: أَتَسْمَعُ يَا نَافِعُ فَأَقُولُ: نَعَمْ، حَتَّى قُلْتُ: لَا، فَوَضَعَ يَدَيْهِ وَأَعَادَ رَاحِلَتَهُ إِلَى الطَّرِيقِ وَقَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَمِعَ صَوْتَ زَمَّارَةِ رَاعٍ فَصَنَعَ مِثْلَ هَذَا». وهذا الحديث: يرويه سليمان بن مُوسى الفقيه الدمشقي، عن نافع. وقد اختلفوا في سليمان، فوثقه قوم، وتكلم فيه آخرون. وتابعه عليه المطعم بن المقدام، فرواه عن نافع أيضاً، خرَّج حديثه أبو داود (¬6). والمطعم هذا ثقة جليل القدر. وتابعهما أيضاً: ميمون بن مهران ¬

_ (¬1) برقم (1901). (*) نعمة: "نسخة". (¬2) برقم (1005). (¬3) كما في "كشف الأستار" (805). (¬4) (2/ 38). (¬5) برقم (4924). وقال: هذا حديث منكر. (¬6) برقم (4925). وقال: أدخل بين مطعم ونافعٍ سليمانَ بن موسى.

عن نافع، خرَّج حديثه أبو داود (¬1) أيضاً. وروي أيضاً عن مالك وعبد الله العمري عن نافع، إلا أنه لا يثبت عنهما. فإن قيل: قد قال أبو داود: هذا حديث منكر. قيل: هذا يوجد في بعض نسخ السنن مع الاقتصار عَلَى رواية سليمان بن موسى، ولا يوجد في بعضها. وكأنه قاله قبل أن يتبين له أن سليمان بن موسى تُوبع عليه، فلما تبين له أنه تُوبع عليه رجع عنه. وقد قيل للإمام أحمد: هذا الحديث منكر؟ فلم يصرح بذلك ولم يوافق عليه، واستدل الإمام أحمد بهذا الحديث. وإنما لم يأمر ابن عمر بسد أذنيه؛ لأنّه لم يكن مستمعًا بل سامعًا، والسامع من غير استماع لا يُوصف فعله بالتحريم؛ لأنّه عن غير قصد منه، وإن كان الأولى له سد أذنيه حتى لا يسمع. ومعلوم أن زمارة الراعي لا تهيج الطباع للهوى، فكيف حال ما يُهيج الطباع ويغيرها ويدعوها إِلَى المعاصي؟! كما قال طائفة من السَّلف: الغناء رُقية الزنا. ومن سمع شيئًا من الملاهي وهو مار في الطريق أو جالس فقام عند سماعه فالأولى له أن يدخل أصبعيه في أذنيه كما في هذا الحديث. وكذلك روي عن طائفة من التابعين أنهم فعلوه، وليس ذلك بلازم، وإن استمر جالسًا وقصد الاستماع كان محرمًا، وإن لم يقصد الاستماع بل قصد غيره، كالأكل من الوليمة أو غير ذلك، فهو محرم أيضاً عن أصحابنا وغيرهم من العُلَمَاء، وخالف فيه طائفة من الفقهاء. فإن قيل: فلو كان سماع الزمارة محرمًا لأنكرهُ النبي صلى الله عليه وسلم عَلَى من فعله، ولم يكتف بسد أذنيه، فيحمل ذلك عَلَى كراهة التنزيه وقد نقل ابن عبد الحكم هذا المعنى بعينه عن الشافعي رحمه الله، كما ذكره الآبرِّي في كتاب "مناقب الشافعي رضي الله عنه"؟ قيل: الشافعيّ رحمه الله لا يبيح استماع آلات الملاهي، وابن عبد الحكم ينفرد عن الشافعي بما لا ¬

_ (¬1) برقم (4926). قال أبو داود: وهذا أنكرُهَا.

يوافقه عليه غيرهُ، كما نقل عنه في الوطء في المحل المكروه، وأنكره عليه العُلَمَاء. فإن كان هذا محفوظًا عن الشافعي فإنما أراد به أن زمارة الراعي بخصوصها، لا يبلغ سماعُها إِلَى درجة التحريم، فإنه لا طرب فيها، بخلاف المزامير المطربة، كالشبابات المؤصلة، وقد أشار إِلَى ذلك الخطابي وغيره من العُلَمَاء. وقد سبق حديث عائشة رضي الله عنها وقول أبي بكر رضي الله عنه: مزمور الشيطان عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟! فقاله رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «دَعْهُمَا يَا أَبَا بَكْرٍ، فَإِنَّهَا أَيَّامُ عِيدٍ». فدل عَلَى أن الدف من مزامير الشيطان لكنه يُرخص فيه للنساء في أيام الأفراح والسرور، كما يُرخص لهن في التحلي بالذهب والحرير دون الرجال، ويباح للرجال من الحرير اليسير دون الكثير، وكذلك من حلي الفضة. فكذلك يباح للنساء في أيام الأفراح الغناء بالدف، وإن سمع ذلك الرجال تبعًا، وهذا مذهب فقهاء الحديث، كالشافعي وأحمد وغيرهما وهو قول الأوزاعي وغيره، وروي عن عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى. وقد كان طائفة من الكوفيين من أصحاب ابن مسعود رضي الله عنه ومن بعدهم لا يُرخصون في شيء من ذلك بحالٍ. فأما الغناء المرخص فيه، فليس هو الغزل المهيج للطباع، بل هو غناء الركبان ونحوه كما قاله الإمام أحمد وغيره. وقد كان خالد بن معدان -وهو من أعيان التابعين- يأمر بناته ونساءه إذا ضربن بالدفوف أن يتغنين بذكر الله عز وجل. وإنما يُباح الدف إذا لم يكن فيه جُلجُل (¬1) ونحوه مما يُصوت عند أكثر العُلَمَاء، نص عليه الإمام أحمد وغيره من العُلَمَاء، كما كانت دفوف العرب عَلَى عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد رخص في هذا الدف طائفة من متأخري أصحابنا مطلقًا في العرس وغيره، للنساء دون الرجال. وأما الآثار الموقوفة عن السَّلف في تحريم الغناء وآلات اللهو فكثيرة جدًا. ¬

_ (¬1) الجلجل: هو الجرس الصغير. " النهاية" (1/ 284).

روى ابن أبي حاتم وغيره، عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: في التوراة: إِنَّ الله عز وجل أنزل الحق ليذهب به الباطل، ويُبطل به اللعب والرقص والمزمار والمزاهر والكنارات (¬1). وخرجه أبو عبيد في كتاب "غريب الحديث". وقال: المزاهر واحدها مزهر، وهو العود الَّذِي يُضرب به. وأما الكنارات فيقال: إنها العيدان أيضاً، ويقال: بل الدفوف. وروى زيد بن الحباب، عن أبي مودود المدني، عن عطاء بن يسار، عن كعب قال: إِنَّ مما أنزل الله عَلَى موسى عليه السلام ... فذكره بنحو ما ذكره عبد الله بن عمرو. قال زيد: سألت أبا مودود، ما المزاهر؟ قال: الدفوف المربعة. قلت: ما الكنارات؟ قال: الطنابير. وروى ابن أبي الدُّنْيَا (¬2)، من طريق يحيى بن سعيد، عن عبيد الله بن عمر قال: حدثني نافع أن ابن عمر مر عليه قومٌ محرمون، وفيهم رجل يتغنى. فَقَالَ: ألا لا سمع الله لكم، ألا لا سمع الله لكم. ومن طريق عبد الله بن دينار قال: مر ابن عمر -رضي الله عنهما- بجارية صغيرة تغني. فَقَالَ: لو ترك الشيطان أحدًا ترك هذه (¬3). وقد تقدم عن ابن مسعود أنه قال: الغناء ينبت النفاق في القلب، كما ينبت الماء البقل. وعنه أيضاً أنه قال: إذا ركب الإنسانه الدابة ولم يسم، ردفه الشيطان، فَقَالَ له: تغنه، فإن لم يحسن قال له: تمنه. ¬

_ (¬1) أخرجه ابن أبي حاتم في "تفسيره" (3/ 27/ ب)، والبيهقي (10/ 222)، وأبو عبيد في "غريب الحديث" (2/ 388) قال الجديع في أحاديث "ذم الغناء والمعازف في الميزان" (153): إسناده صحيح. (¬2) في "ذم الملاهي" (ق156/ أ). وصحح إسناده الجديع حفظه الله في "أحاديث ذم الغناء والمعازف في الميزان" (ص 153). (¬3) أخرجه البخاري في "الأدب المفرد" (784)، وابن أبي الدنيا في "ذم الملاهي" (ق156/ أ-ب)، والبيهقي في "الكبير" (10/ 223). وصحح إسناده الجديع في الموضع السابق ذكره.

وصح عن عثمان رضي الله عنه أنه قال: ما تغنيت ولا تمنيت (¬1). وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: الدف حرام، والمعازف حرام، والكوبة حرام، والمزمار حرام. خرجه البيهقي (¬2). وخرج أيضاً (¬3)، بإسناد صحيح، عن عائشة "أن بنات أخيها، خفضن (¬4) فأَلِمْنَ ذلك. فقِيلَ لَهُا: يا أم المؤمنين، ألا ندعو لهن من يلهيهن؟ قالت: بلى. فأرسلوا إِلَى فلان المغني، فأتاهم، فمرت به عائشة رضي الله عنها في البيت، فرأته يتغنى ويحرك رأسه طربًا -وكان ذا شعر كثير- فقالت عائشة: أُف شيطان، أخرجوه أخرجوه. فأخرجوه، فهذا هو الثابت عن الصحابة رضي الله عنهم. أعني ذم الغناء، وآلات اللهو. وقد روي ما يُوهم الرخصة عن بعضهم، وليس بمخالف لهذا. فإن الرخصة إِنَّمَا وردت عنهم في إنشاد أشعار الأعراب عَلَى طريق الحداء ونحوه، مما لا محذور فيه، كما خرج البيهقي (¬5) من طريق الزهري. قال: قال السائب ابن يزيد: بينا نحن مع عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه في طريق الحج، ونحو نؤم مكة اعتزل عبد الرحمن بن عوف الطريق، ثم قال لرباح بن المعترف: غننا يا أبا حسان. وكان يحسن النصب، فبينا رباح يغنيهم أدركهم عمر بن الخطاب في خلافته، فَقَالَ: ما هذا؟! فَقَالَ عبد الرحمن: يا أمير المؤمنين، ما بأس بهذا؛ نلهو ويُقصر عنا. فَقَالَ عمر رضي الله عنه: فإن كنت آخذًا، فعليك بشعر ضرار بن الخطاب -وضرار رجل من بني محارب بن فهر. قال البيهقي: والنصب ضرب من أغاني الأعراب، وهو يشبه الحداء. قاله أبو عبيد الهروي. ¬

_ (¬1) أخرجه يعقوب بن سفيان في "المعرفة والتاريخ" (2/ 488)، والطبراني في "الكبير" رقم (124)، وحسن إسناده الجديع حفظه الله. (¬2) أخرجه البيهقي في "الكبير" (10/ 222). (¬3) في "السنن الكبير" (10/ 222)، وأخرجه أيضًا البخاري في "الأدب المفرد" (1247). (¬4) الخفض للنساء كالختان للرجال "النهاية" (2/ 54). (¬5) في "السنن الكبير" (10/ 224).

قال وروينا فيه قصة أخرى عن خوات بن جبير، عن عمر (¬1) وعبد الرحمن بن عوف وأبي عبيدة بن الجراح في كتاب الحج، قال فيها خوات. فما زلت أغنيهم، حتى إذا كان السحر. وروي أيضاً (¬2) بإسناد صحيح، عن أسامة بن زيد -رضي الله عنه- أنه كان في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم مضطجعًا، رافعًا إحدى رجليه عَلَى الأخرى يتغنى بالنصب. وعن أبي مسعود الأنصاري وغيره من المهاجرين والأنصار أنهم كانوا يتغنون بالنصب. فتبين بهذه الروايات، أن ترخص الصحابة -رضي الله عنهم- إِنَّمَا كان في إنشاد شعر الجاهلية. وفيه من الحكم، وغيرها -عَلَى طريق الحداء ونحوه- مما لا يهيج الطباع إِلَى الهوى. ولهذا كانوا يفعلونه في مسجد المدينة، ولم يكن في شيء من ذلك غزل ولا تشبيب بالنساء ولا وصف محاسنهن، ولا وصف خمر ونحوه مما حرمه الله تعالى. وقال ابن جريج، سألت عطاء عن الغناء بالشعر. فَقَالَ: لا أرى به بأسًا ما لم يكن فحشًا وهذا يشير إِلَى ما ذكرناه، وعلى مثل ذلك يُحمل ما روي فيه عن عروة بن الزبير، وغيره من التابعين من الرخصة. وقال إسحاق بن منصور: قلت لأحمد بن حنبل: ما تكره من الشعر؟ قال: الهجاء، والشعر الرقيق الَّذِي يشبب بالنساء، وأما الكلام الجاهلي فما أنفعه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ من الشعر لحكمة" (¬3). قال إسحاق بن راهويه كما قال. وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يسمع شعر حسان وغيره (¬4). واستنشد من شعر أمية بن أبي الصلت (¬5). فمن استدل بشيء من ذلك عَلَى إباحة الغناء المذموم فقد غلط. وقد رُوي المنع من الغناء عن خلق من التابعين فمن بعدهم، حتى قال الشعبي: لُعن المغني والمغنى له. ¬

_ (¬1) في "السنن الكبير" للبيهقي (5/ 68 - 69). (¬2) في "السنن الكبير" (10/ 224 - 225). (¬3) أخرجه البخاري (6145). (¬4) أخرجه البخاري (6153) من حديث أبي هريرة، ومسلم (2255) من حديث الشريد الثقفي. (¬5) أخرجه البخاري (6147).

وكان أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز -رحمه الله- وهو من أعلام عُلماء التابعين، وأحد الخلفاء الراشدين المهديين -يبالغ في إنكار الغناء والملاهي، ويذكر أنها بدعة في الإسلام. وكفى بأمير المؤمنين قدوة، وقد كان من هو أسن منه من التابعين يقتدون به في الدين، حتى سُئل ابن سيرين عن بعض الأشربة، فَقَالَ: نهى عنه عمر بن عبد العزيز، وهو إمام هدى. وروى ابن أبي الدُّنْيَا بإسناد له، أن عمر بن عبد العزيز كتب إِلَى مؤدب ولده: ليكن أول ما يعتقدون من أدبك بغض الملاهي، التي بدؤهَا من الشيطان، وعاقبتها سخط الرحمن جل جلاله، فإنه بلغني عن الثقات من حملة العِلْم أن حضور المعازف، واستماع الأغاني واللهج بها ينبت النفاق في القلب كما يُنبت النبتَ الماءُ. وقد حكى زكريا بن يحيى الساجي -في كتابه اختلاف العُلَمَاء- اتفاق العُلَمَاء عَلَى النهي عن الغناء، إلا إبراهيم بن سعد المدني وعبيد الله بن الحسن العنبري قاضي البصرة. وهذا في الغناء دون سماع آلات الملاهي، فإنه لا يعرف عن أحد ممن سلف الرخصة فيها. إِنَّمَا يعرف ذلك عن بعض المتأخرين من الظاهرية والصوفية، ممن لا يعتد به. ومن حكى شيئًا من ذلك عن مالك فقد أبطل، إلا أن مالكًا يرى أن الدف والكَبَر (¬1) أخف من غيرهما من الملاهي، فلا يرجع لأجلهما من دُعي إِلَى وليمة فرأى فيها شيئًا من ذلك، وقد قال الإمام أحمد: حدثنا إسحاق بن عيسى الطباع قال: سألت مالك بن أنس عما يترخص فيه أهل المدينة من الغناء، فَقَالَ: إِنَّمَا يفعله عندنا الفساق، وكذا قال إبراهيم بن المنذر الحزامي، وهو من علماء أهل المدينة. فتبين بهذا موافقة علماء أهل المدينة المعتبرين لعلماء سائر الأمصار في النهي عن الغناء وذمه، ومنهم القاسم بن محمد وغيره، كما هو قول علماء أهل مكة كمجاهد وعطاء، وعلماء أهل الشام كمكحول والأوزاعي، وعلماء أهل مصر كالليث بن سعد، وعلماء أهل الكوفة كالثوري وأبي حنيفة، ومن قبلهما كالشعبي والنخعي وحماد، ومن قبلهم من التابعين أصحاب ابن ¬

_ (¬1) الكَبَر: الطبل ذو الرأسين وقيل: الطبل الَّذِي له وجه واحد، "النهاية" (4/ 143).

مسعود، وقول الحسن وعلماء أهل البصرة، وهو قول فقهاء أهل الحديث كالشافعي وأحمد إسحاق وأبي عبيد وغيرهم. وكان الأوزاعي يعد قول من رخص في الغناء من أهل المدينة من زلات العُلَمَاء التي يُؤمر باجتنابها، ويُنهى عن الاقتداء بها. وقد صنف القاضي أبو الطيب الطبري الشافعي رحمه الله مصنفًا في ذم السماع، وافتتحه بأقوال العُلَمَاء في ذمه، وبدأ بقول الشافعي رحمه الله: هو لهوٌ مكروه، يشبه الباطل. وقوله: من استكثر منه فهو سفيه تُرد شهادته. قال أبو الطيب: وأما سماعه من المرأة التي ليست بمحرم له، فإن أصحاب الشافعي قالوا: لا يجوزُ بحالٍ سواء كانت مكشوفة، أو من وراء حجاب، وسواء كانت حُرة أو مملوكة. قال الشافعي: وصاحب الجارية إذا جمع الناس لسماعها، فهو سفه تُرد شهادته، ثم غلظ القول فيه وقال: هو دياثة. ثم ذكر بعد ذلك قول فقهاء الأمصار، ثم قال: فقد أجمع علماء الأمصار عَلَى كراهته والمنع منه. قال: وإنما فارق الجماعة هذان الرجلان: إبراهيم بن سعد وعبيد الله العنبري. وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عليكم بالسواد الأعظم" (¬1). وقال: "من فارق الجماعة مات ميتة جاهلية" (¬2)، فالمصير إِلَى قول الجماعة أولى. وهذا الخلاف الَّذِي ذكرهُ في سماع الغناء المجرد. فأما سماع آلات اللهو فلم يحك في تحريمه خلافًا وقال: إِنَّ استباحتها فسق. قال: وإنما يكون الشعر غناء إذا لُحن وصيغ صيغة تورث الطرب، وتزعج القلب، وتثير الشهوة الطبيعية، فأما الشعر من غير تلحين فهو كلام، كما قال الشافعي: الشعر كلام حسنه كحسنه، وقبيحه كقبيحه. انتهى. وقد أفتى قاضي القضاة أبو بكر محمد بن المظفر الشامي الشافعي -وكان أحد العُلَمَاء الصالحين الزهاد، الحاكمين بالعدل وكان يقال عنه: لو رفع مذهب ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد (4/ 383) من حديث عبد الله بن أبي أوفى، وابن ماجه (3950) من حديث أنس، قال في "الزوائد": في إسناده أبو خلف الأعمى، واسمه حازم بن عطاء، وهو ضعيف، وقد جاء الحديث بطرق في كلها نظر. قاله شيخا العراقي في تخريج أحاديث البيضاوي. (¬2) أخرجه البخاري (7054)، ومسلم (1847 - 1851).

الشافعي من الأرض لأملاه من صدره- بتحريم الغناء، وهذه صورة فتياه بحروفها. قال: لا يجوز الضرب بالقضيب ولا الغناء ولا سماعه، ومن أضاف هذا إِلَى الشافعي فقد كذب عليه. وقد نص الشافعي في كتاب "أدب القضاء": أن الرجل إذا داوم عَلَى سماع الغناء ردت شهادته، وبطلت عدالته. وقال الله تعالى: {أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ * وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ * وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ} (¬1) قال ابن عباس: معناه تُغنون بلغة حمير. وقال الله عزَّ وجلَّ: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ} (¬2) جاء في التفسير: أنه الغناء والاستماع إِلَيْهِ. وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إِنَّ الله كره صوتين أحمقين فاجرين: صوتٌ عند نعمة، وصوتٌ عند مصيبة". يريد بذلك الغناء والنوح. وقال ابن مسعود: الغناء خطبة الزنا. وقال مكحول: الغناء ينبت النفاق في القلب كما ينبت السيل البقل، والله أعلم. هذا جواب محمد بن المظفر الشامي الشافعي، ثم كتب بعده موافقة له عَلَى فتياه جماعة من أعيان فقهاء بغداد، من الشافعية والحنفية والحنبلية في ذلك الزمان، وهو عصر الأربعمائة، وهذا يخالف قول كثير من الشافعية في حمل كلام الشافعي عَلَى كراهة التنزيه. والمعنى المقتضى لتحريم الغناء: أن النفوس مجبولة عَلَى حُب الشهوات، كما قال تعالى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ ... } (¬3) الآية، فجعل النساء أول الشهوات المزينة. والغناء المشتمل عَلَى وصف ما جبلت النفوس عَلَى حُبه، والشغف به من الصُّور الجميلة يُثير ما كمن في النفوس من تلك المحبة، ويُشوق إليها، ويُحرك الطبع ويزعجه، ويخرجه عن الاعتدال، ويؤزه إِلَى المعاصي أزًّا. ¬

_ (¬1) النجم: 59 - 61. (¬2) لقمان: 6. (¬3) آل عمران: 14.

القسم الثاني:

ولهذا قيل: إنه رقية الزنا. وقد افتتن بسماع الغناء خلق كثير فأخرجهم استماعه إِلَى العشق، وفتنوا في دينهم. فلو لم يرد نصٌّ صريحٌ في تحريم الغناء بالشعر الَّذِي توصف فيه الصور الجميلة لكان محرمًا بالقياس عَلَى النظر إِلَى الصور الجميله، التي يحرم النظر إليها بالشهوة بالكتاب والسنة وإجماع من يُعتد به من علماء الأمة. فإن الفتنة كما تحصل بالنظر والمشاهدة، فكذلك تحصل بسماع الأوصاف، واجتلائها من الشعر الموزون المحرك للشهوات، ولهذا "نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - أن تصف المرأةُ المرأةَ لزوجها، كأنّه ينظر إليها" (¬1)؛ لما يخشى من ذلك من الفتنة، وقد جعل النبي - صلى الله عليه وسلم - زنا العينين النظر، وزنا الأذنين الاستماع (¬2). وقال أبو هريرة رضي الله عنه: ثلاث فاتنات مُفتنات يُكببن في النار: رجلٌ ذو صورة حسنة، فاتن مفتون به يُكب في النار، ورجلٌ ذو شعر حسن، فاتن مفتون به يُكب في النار، ورجلٌ ذو صوت حسن، فاتن مفتون به يُكب في النار. خرجه حميد بن زنجويه في كتاب الأدب. القسم الثاني: أن يقع استماع الغناء بآلات اللهو، أو بدونها عَلَى وجه التقرب إِلَى الله - عز وجل- وتحريك القلوب إِلَى محبته، والأنس به والشوق إِلَى لقائه؛ وهذا هو الَّذِي يدعيه كثير من أهل السلوك ومن يتشبه بهم ممن ليس منهم، وإنما يتستر بهم، ويتوصل بذلك إِلَى بُلوغ غرض نفسه، من نيل لذته، فهذا المتشبه بهم، ومخادع مُلبِّسٌ. وفسادُ حاله أشهر من أن يخفى عَلَى أحدٍ. وأما الصادقون في دعواهم ذلك -وقليلٌ ما هم- فنهم ملبوس عليهم، حيث تقربُوا إِلَى الله عز وجل بما لم يشرعه الله تعالى، واتخذوا دينًا لم يأذن الله فيه. فلهم نصيبٌ ممن قال الله تعالى فيه: {وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (5240). (¬2) أخرجه البخاري (6243)، ومسلم (2657).

مُكَاءً وَتَصْدِيَةً} (¬1) والمكاء: الصفير، والتصدية: التصفيق باليد. كذلك قال غير واحد من السَّلف. وقال تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ} (¬2) فإنه إِنَّمَا يتقرب إِلَى الله -عز وجل- بما يُشرع التقربُ به إِلَيْهِ عَلَى لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم -. فأما ما نهي عنه، فالتقرب به إِلَيْهِ مُضادةٌ لله عزَّ وجل في أمره، قال القاضي أبو الطيب الطبري رحمه الله في كتابه في السماع: اعتقاد هذه الطائفة مخالفٌ لإجماع المسلمين؛ فإنه ليس فيهم من جعل السماع دينًا وطاعة، ولا رأى إعلانه في المساجد والجوامع، وحيث كان من البقاع الشريفة، والمشاهد الكريمة. وكان مذهب هذه الطائفة مخالفًا لما اجتمعت عليه العُلَمَاء، ونعوذ بالله من سوء التوفيق. انتهى ما ذكره. ولا ريب أن التقرب إِلَى الله تعالى بسماع الغناء المُلحن، لا سيما مع آلات اللهو مما يعلم بالضرورة من دين الإسلام، بل ومن سائر شرائع المرسلين أنه ليس مما يُتقرب به إِلَى الله، ولا مما تُزكى به النفس وتُطهر به فإن الله - تعالى- شرع عَلَى ألسنة الرسل كل ما تزكو به النفوس وتطهر من أدناسها وأوضارها. ولم يشرع عَلَى لسان أحد من الرسل في ملة من الملل شيئًا من ذلك. وإنما يأمر بتزكية النفوس بذلك من لا يتقيد بمتابعة الرسل من أتباع الفلاسفة، كما يأمرون بعشق الصور، وذلك كله مما تحيا به النفوس الأمارة بالسوء، لما لها فيه من الحظ. ويقوى به الهوى، وتموت به القلوب المتصلة بعلام الغيوب، وتبعد به عنه. فغلط هؤلاء واشتبه عليهم حظوظ النفوس وشهواتها بأقوات القلوب الطاهرة، والأرواح الزكية المعلقة بالمحل الأعلى، واشتبه الأمر في ذلك أيضًا عَلَى طوائف من المسلمين ممن ينتسب إِلَى السلوك، ولكن هذا مما حدث في الإسلام بعد انقراض القُرون الفاضلة، وكان قد حدث قبل ذلك ¬

_ (¬1) الأنفال: 35. (¬2) الشورى: 21.

حدثان: أحدهما: قراءة القرآن بالألحان، بأصوات الغناء وأوزانه وإيقاعاته؛ عَلَى طريقة أصحاب الموسيقى، فرخّص فيه بعض المتقدمين إذا قصد الاستعانة عَلَى إيصال معاني القرآن إِلَى القلوب؛ للتحزين والتشويق، والتخويف والترقيق. وأنكر ذلك أكثر العُلَمَاء. ومنهم من حكاه إجماعًا ولم يثبت فيه نزاعًا، منهم أبو عُبيد وغيره من الأئمة. وفي الحقيقة هذه الألحان المبتدعة المطربة، تهيج الطباع. وتُلهي عن تدبُّر ما يحصل له من الاستماع، حتى يصير الالتذاذ بمجرد سماع النغمات الموزونة والأصوات المطربة، وذلك يمنع المقصود من تدبر معاني القرآن، وإنما وردت السنة بتحسين الصوت بالقرآن، لا بقراءة الألحان، وبينهما بون بعيد. وقد بسطنا القول في ذلك في كتاب "بيان الاستغناء بالقرآن في تحصيل العِلْم والإيمان". والحدث الثاني: سماع القصائد الرقيقة، المتضمنة للزهد والتخويف والتشويق، فكان كثيرًا من أهل السُّلوك والعبادة يستمعون ذلك، وربما أنشدوها بنوع من الألحان؛ استجلابًا لترقيق القلوب بها، ثم صار منهم من يضرب مع إنشادها، عَلَى جلد ونحوه بقضيب ونحوه، وكان يسمون ذلك، التغبير (¬1) وقد كرهه أكثر العُلَمَاء قال يزيد بن هارون: ما يُغبر إلا فاسق. ومتى كان التغبير؟ وصح عن الشافعي من رواية الحسن بن عبد العزيز الجروي ويونس بن عبد الأعلى أنه قال: تركتُ بالعراق شيئًا يسمونه التغبير، وضعته الزنادقة، يصدون به الناس عن القرآن. وكرهه الإمام أحمد، وقال: هو بدعة ومحدث. قِيلَ لَهُ: إنه (يرقق) (*) القلب! قال: بدعة. ¬

_ (¬1) يغبرون: أي يهللون، ويرددون الصوت بالقراءة وغيرها، سمُّوا بها؛ لأنهم يرغبون الناس في الغابرة: أي الباقية. "ترتيب القاموس" (مادة: غبر). (*) في نسخة: "يرق".

ومن أصحابنا من حكي عنه رواية أخرى في الرخصة في سماع القصائد المجردة، وهي اختيار أبي بكر الخلال وصاحبه أبي بكر عبد العزيز وجماعة من التميميين، وهؤلاء يحكى أيضاً عنهم الرخصة في الغناء، وإنما أرادوا سماع هذه القصائد الزهدية المرققة، لم يرخصوا في أكثر من ذلك. وذكروا أن الإمام أحمد سمع في منزل ابنه صالح -من وراء الباب- منشدًا ينشد أبياتًا من هذه الزهديات، ولم ينكر ذلك، لكن لم يكن مع إنشادها تغبير، ولا ضرب بقضيب ولا غيره. وفي تحريم الضرب بالقضيب وكراهته وجهان لأصحابنا، فإنه لا يُطربُ كما يطرب سماع آلات الملاهي. وقد رُوي أيضًا سماع القصائد الزهدية عن يزيد بن هارون، وعن يحيى ابن معين وأبي خيثمة. وعلى مثل ذلك أيضًا يحمل ما نقله الربيع وابن عبد الحكم عن الشافعي في الرخصة في التغبير، وأنه أراد بذلك سماع الأبيات الزهدية المرققة للقلوب، المقتضية للتحزين والتشويق والترقيق إما مع ضرب بقضيب أو بدونه، ولعل الشافعي كره سماع القصائد مع الضرب بالقضيب، ورخص فيه بدونه، فلا يكون له في ذلك قولان مختلفان؛ بل يكونان منزلان عَلَى حالين، وكذلك يزيد بن هارون. وعلى مثل ذلك أيضًا يُحمل عامة ما (رُوي) (*) عن المتقدمين من الصوفية وغيرهم، في الترخص في السماع والغناء، فإن غناءهم وسماعهم كان لا يزيد عَلَى سماع هذه القصائد، إلا الضرب بالقضيب معها أحيانًا، فَإِذَا كان الشافعي رحمه الله قد أنكر الضرب بالقضيب، وجعله من فعل الزنادقة الصادين عن القرآن، فكيف يكون قوله في آلات اللهو المطربة؟! وإن كان قد وقع في سماع ذلك طائفة من الصالحين والصادقين بتأويل ضعيف، فلهم أسوة بكثير من العُلَمَاء الذين شذوا عن أهل العِلْم بأقاويل ضعيفة، ولم يقدح ذلك في منازلهم، ولم يُخرجهم عن دائرة العِلْم والدين. ¬

_ (*) يروى: "نسخة".

فكذلك هؤلاء لا يخرجون بذلك عن دائرة الصلاح، (فإن الجميع) (*) لا يُتبعون في زلاتهم، ولا يُقتدى بهم فيها. وقول الشافعي: إِنَّ الزنادقة وضعت التغبير تصد به الناس عن القرآن: يدل عَلَى أن الإصرار عَلَى سماع الشعر المُلحَّن -مع الضرب بقضيب ونحوه- يقتضي شغف النفوس بذلك وتعلقها به، ونفرتها عن سماع القرآن، أو عن استجلاب ثمرات القرآن وفوائده وإصلاح القلوب به، وهذا ظاهرٌ بينٌ. فإن من كان وجده من سماع الأبيات، لا يكاد يجد (رقة ولا حلاوة) (**) عند سماع الآيات، فَإِذَا كان هذا حال من أدمن سماع الأبيات الزهدية بالتلحين، فكيف يكون حال من أدمن سماع أشعار الغزل المتضمن لوصف الخمور، والقدود، والخُدود، والثغور والشعور، مع ذكر الهوى ولواعج الأشواق، والمحبة والغرام والاشتياق، وذكر الهجر والوصال، والتجني والصدود والدلال. وكان هذا كله مع آلات الملاهي المطربة المزعجة للنفوس، المثيرة للوجد، المحركة للهوى، لاسيما إِن كان المغني ممن تميل النفوس إِلَى صُورته وصوته، ووجد السماع حلاوته وذوقه، وطرب قلبُه في ذلك. فإن هذا كما قال ابن مسعود: ينبت النفاق في القلب، ولا يكاد يبقى معه من الإيمان إلا القليل، وصاحبه في غاية من البعد عن الله والحجاب عنه، فإن ادعى من يسمع ذلك أن نفسه ماتت وهواه فني، وأنه إِنَّمَا يُشير بما يسمعه إِلَى معرفة الله، ومحبته وخشيته فهو بمنزلة من ينظر إِلَى الصور الجميلة المفتنة، ويدعي أن فتنته ماتت، وأنه إِنَّمَا ينظر إليها، يعتبر ويستدل بحسن الصنعة وكمالها عَلَى عظمة صانعها وكماله! وكل ذلك محرم بلا ريب، وأكثر من يدعى ذلك كاذبٌ في دعواهُ، ومنهم من هو ملبوس عليه، يشتبه عليه حظ نفسه وهواه بحظ روحه وقلبه، أو يختلط له الأمران فيجتمعان له جميعًا، وهو يظن أن حظ نفسه وهواه فني، وليس كذلك. ¬

_ (*) وإن كان الجميع: "نسخة". (**) حلاوة ولا رقة: "نسخة".

وقد سُئل -أبو علي الرُّوذباري- وهو من أكابر مشايخ الصوفية وأهل العِلْم منهم -عمن يسمع الملاهي ويقول: هي لي حلالٌ؛ لأني وصلت إِلَى درجة لا يُؤثر فيَّ اختلاف الأحوال، فَقَالَ: نعم، قد وصل لعمري، ولكن إِلَى السفر. وسُئل أيضًا عن السماع فَقَالَ: ليتنا خلصنا منه رأسًا برأس. قال القاضي أبو الطيب الطبري رحمه الله: قال بعضهم: إنا لا نسمع الغناء بالطبع الَّذِي يشترك فيه الخاص والعام. قال: والجواب أن هذا تجاهلٌ منه عظيمٌ؛ لأمرين: أحدهما: أنه يلزمه عَلَى قوله، أن يستبيح سماع العُود، والطنبور وسائر الملاهي، ويسمع ذلك كله بالطبع الَّذِي لا يشاركه فيه أحد، فإن لم يستبح ذلك فقد نقض قوله، من حيث ادعى أن بعض الملاهي يؤثر وبعضها لا يؤثر في هذا الطبع الَّذِي قد اختص به، وإن استباحهُ فقد فسق. والثاني: أن هذا المدعي لا يخلو أن يدعي أنه فارق طبع البشر، وصار مطبوعًا عَلَى العقل والبصيرة، بمنزلة الملائكة. فإن قال ذلك فقد تخرّص عَلَى طبعه، وكذب عَلَى الله في تركيبه، وادعى بذلك العصمة مع مقارنة الفتنة، ووجب أن لا يكون مجاهدًا لنفسه، ولا مجانبًا لهواه وطبعه، ولا يكون له ثواب عَلَى ترك اللذات والشهوات، وهذا لا يقوله عاقل. وإن قال: أنا عَلَى طبع البشر المجبول عَلَى محبة الهوى والشهوة. قلنا له: فكيف يصح أن تسمع الغناء المطرب بغير طبعك، أو تطربُ بسماعه بغير ما في جبلتك، إِلَى غير ما غُرز في نفسك؟! وذكر بقية الكلام، وقال في آخره: وبلغني أن هذه الطائفة تُضيف إِلَى السماع النظر في وجه الأمرد، ورُبما زينته بالحُلي والمُصبغات من الثياب، وتزعم أنها تقصد به الازدياد في الإيمان بالنظر والاعتبار، والاستدلال بالصنعة عَلَى الصانع! وهذه النهاية في متابعة الهوى، ومخادعة العقل ومخالفة العِلْم. ثم أطال الكلام في الرد عليهم ثم

قال: وإنما تفعل هذه الطائفة ما ذكرناهُ من سماع الغناء، والنظر إِلَى وجوه الملاح بعد تناول الألوان الطيبة، والمآكل الشهية. فَإِذَا شبعت منها نفوسهم، طالبتهم بما يتبعها من السماع والرقص، والاستمتاع بالنظر إِلَى وجوه المُرد. ولو نظروا فيما ذكر من (التقليل) (**) من الغذاء، وما فيه من المجاهدة دُون الشهوات؛ لأخذوه بقدرٍ، ولم يحنوا إِلَى سماع ونظر. وذكر بقية الكلام. وقد حكى الإمام أبو عمرو بن الصلاح وغيره من العُلَمَاء، الإجماع عَلَى تحريم السماع المعتاد في هذه الأزمان عَلَى وجهه المعتاد. قال: ومن نسب إباحته، إِلَى أحد من العُلَمَاء -يُجوز الاقتداء به في الدين- فقد أخطأ. وما جاء عن بعض المشايخ من استباحته، ففي غير هذا السماع، وبشروط شرطوها غير موجودة في هذا السماع. ومما ينبغي أن يُعلم أن الله تعالى أكمل لنا ديننا، وأتم علينا نعمته ورضي لنا الإسلام دينًا. فما ترك شيئًا مما يقربُ منه ومن دار كرامته، إلا وأرشدنا إِلَيْهِ، ولا شيئًا يُباعد عنه وعن دار كرامته، إلا وزجرنا عنه. ولما كان الآدمي مركبًا من جسد وروح، ولكل منهما غذاء يتغذي به، فكما أن الجسد يتغذي بالطعام والشراب، ويلتذ بالنكاح وتوابعه، وبما يشمه ويسمعه، فكذلك الروح لها غذاء تتغذي به، هو قوتها. فَإِذَا فقدته مرضت أعظم من مرض الجسد بفقد غذائه، ومتى كان الجسد سقيمًا. فإنه لا (يلتذ) (**) بما يتغذي به، ولا يميلُ إِلَى ما ينفعه؛ بل ربما مال إلي ما يضره. فكذلك القلب والروح، إذا مرض فإنه لا يستلذ بغذائه، ولا يميل إِلَيْهِ، بل يميل إِلَى ما يضره. ولا قوت للقلب والروح، ولا غذاء لهما سوى معرفة الله تعالي، ومعرفة عظيمة وجلاله وكبريائه. فيترتب علي هذه المعرفة، خشيته ¬

_ (*) التقلل: "نسخة". (**) يستلذ: "نسخة".

وتعظيمه، وإجلاله والأنس به، والمحبة له والشوق إلي لقائه، والرضا بقضائه. فمتي سكن ذلك في القلب كان القلب حيًّا سليما، وهذا هو القلب السليم، الَّذِي لا ينفع يوم لقاء الله غيره، ومتى فقد القلب ذلك بالكلية صار ميتا. فإن فقد بعضه كان سقيما بحسب ما فقده، لاسيما إِن اعتاض عما فقده من ذلك، بما يضاده ويخالفه. وإذا علم هذا، فإن الله تعالي أمر عباده في كتابه، وعلي لسان رسوله، بجمع ما يصلح قلوب عباده ويقربها منه. ونهاهم عما ينافي ذلك ويضاده ولما كانت الروح تقوى بما تسمعه من الحكمة والموعظة الحسنة، وتحيي بذلك: شرع الله لعباده سماع ما تقوى به قلوبهم، وتتغذى وتزداد إيمانا. فتارة يكون ذلك فرضا عليهم، كسماع القرآن، والذكر والموعظة يوم الجمعة في الخطبة والصلاة، وكسماع القرآن في الصلوات الجهرية من المكتوبات. وتارة يكون ذلك مندوبا إِلَيْهِ غير مفترض، كمجالس الذكر والمندوب إليها. فهذا السماع حاد يحدو قلب المؤمن إلي الوصول إلي ربه، وسائق يسوقه ويشوقه إلي قربه، وقد مدح الله المؤمنين بوجود مزيد أحوالهم بهذا السماع. وذم من لا يجد منه ما يجدونه، فَقَالَ تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا} (¬1) وقال تعالى: {فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ * اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} (¬2) وقال: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ} (¬3) قال ابن مسعود: ما كان بين إسلامنا وبين أن عوتبنا بهذه الآية إلا أربع سنين. خرجه مسلم (¬4). ¬

_ (¬1) الأنفال: 2. (¬2) الزمر: 22 - 23. (¬3) الحديد: 16. (¬4) برقم (3027).

وفي رواية أخرى قال فجعل المؤمنون يعاتب بعضهم بعضًا وعن ابن عباس قال: إِنَّ الله استبطأ قلوب المهاجرين، فعاتبهم، عَلَى رأس ثلاث عشرة من نُزول القرآن بهذه الآية. فهذه الآية تتضمن توبيخًا وعتابًا لمن سمع هذا السماع، ولم يُحدث له في قلبه صلاحًا ورقة وخشوعًا، فإن هذا الكتاب المسموع يشتمل علي نهاية المطلوب، وغاية ما تصلح به القلوب، وتنجذب به الأرواح المغلقة بالمحل الأعلى، إلي حضرة المحبوب، فيحيى بذلك القلب بعد مماته، ويجتمع بعد شتاته، وتزول قسوته بتدبر خطابه وسماع آياته، فإن القلوب إذا أيقنت بعظمة ما سمعت، واستشعرت شرف نسبة هذا القول إِلَى قائله، أذعنت وخضعت فَإِذَا تدبرت ما احتوى عليه من المراد ووعت، اندكَّت من مهابة الله وإجلاله وخشعت. فَإِذَا هطل عليها وابل الإيمان من سُحب القرآن أخذت ما وسعت، فَإِذَا بذر في القرآن حقائق العرفان، وسقاهُ ماء الإيمان أنبتت ما زرعت {وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} (¬1) {فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} (¬2). ومتى فقدت القلوب غذاءها، وكانت جاهلة به طلبت العوض من غيره، فتغذت به، فازداد سقمُها بفقدها ما ينفعها، والتعوض بما يضرها. فَإِذَا سقمت مالت إِلَى ما فيه ضررها، ولم تجد طعم غذالها الَّذِي فيه نفعها، فتعوضت عن سماع الآيات بسماع الأبيات، وعن تدبُّر معاني التنزيل، بسماع الأصوات. قال عثمان بن عفان رضي الله عنه: لو طهُرت قلوبكم ما شبعتم من كلام ربكم (¬3). ¬

_ (¬1) الحج: 5. (¬2) الروم: 50. (¬3) أخرجه أحمد في "الزهد" (ص: 128) وفي "فضائل الصحابة" (775). وفي إسناده انقطاع بين سفيان وعثمان رضي الله عنه.

وفي حديث مرسل: "إِنَّ هذه القلوب تصدأ كما يصدأ الحديد. قيل: فما جلاؤها؟ قال: تلاوة كتاب الله" (¬1). وفي حديث آخر مرسل: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خطب بعدما قدم المدينة فَقَالَ: إِنَّ أحسن الحديث كتاب الله، قد أفلح من زينه الله في قلبه، وأدخله في الإسلام بعد الكفر؛ واختاره عَلَى ما سواه من أحاديث الناس، إنه أحسن الحديث وأبلغُه، أحبوا ما أَحَبّ الله، أحبوا الله من كل قلوبكم". وقال ميمون بن مهران: إِنَّ هذا القرآن قد خَلِقَ في صدور كثير من الناس، والتمسوا حديثًا غيره، وهو ربيع قلوب المؤمنين، وهو غض جديد في قلوبهم. وقال محمد بن واسع: القرآن بستان العارفين حيث ما حلوا منه، حلوا في نزهة. وقال مالك بن دينار: يا حملة القرآن، ماذا زرع القرآن في قلوبكم؟! فإن القرآن ربيع المؤمن، كما أن الغيث ربيع الأرض، فقد ينزل الغيثُ من السماء إِلَى الأرض، فيصيب الحش فتكون فيه الحبة، فلا يمنعها نتن موضعها أن تهتز وتخضر وتحسن، في "حملة القرآن، ماذا زرع القرآن في قلوبكم؟! أين أصحاب سورة؟ أين أصحاب سورتين؟! ماذا عملتم فيهما. وقال الحسن: تفقدوا الحلاوة في الصلاة، وفي القرآن، وفي الذكر، فإن وجدتموها فامضوا وأبشروا، وإن لم تجدوها باعلموا أن الباب مغلق. اسمع يا من لا يجد الحلاوة في سماع الآيات، ويجدها في سماع الأبيات، في حديث مرفوع: "من اشتاق إِلَى الجنة فليسمع كلام الله". كان داود الطائي يترنم بالآية في الليل، فيرى من سمعه أن جميع نعيم الدُّنْيَا جُمِعَ في ترنمه. قال أحمد بن أبي الحواري: إني لأقرأ القرآن، فانظر في اية منه، فيحارُ فيها عقلي، وأعجبُ من حفاظ القرآن، كيف يهنيهم النوم ويسعهم أن يشتغلوا بشيء من الدُّنْيَا، وهم يتلون كلام الله؟! أما لو فهموا ما يتلون، وعرفوا حقه، وتلذذوا به، واستحلوا المناجاة به، لذهب عنهم النوم، فرحًا بما قد رزقوا. ¬

_ (¬1) أخرجه ابن عدي عن ابن عمر مرفوعًا (1/ 259) وفيه إبراهيم بن عبد السلام المخزومي اتهمه ابن عدي بالسرقة وقال: ليس حدث بمعروف بالمناكير.

قال ابن مسعود لا يسأل أحدٌ عن نفسه غير القرآن، فمن كان يحب القرآن فهو يحب الله ورسوله قال شهل التستري علامةُ حب الله حب القرآن. وقال أبو سعيد الخزار من أَحَبّ الله أَحَبّ (كلام الله) (*)، ولم يشبع من تلاوته. ويروى عن معاذ قال: سَيَبْلى القرآن في صدور أقوام كما يبلى الثوب فيتهافت، فيقرءونه لا يجدون له شهوة. وعن حذيفة قال: يوشك أن يدرس الإسلام، كما يدرس وشي الثوب؛ ويقرأ الناس القرآن لا يجدو له حلاوة. وعن أبي العالية قال سيأتي عَلَى الناس زمان، تخربُ فيه صدورهم من القرآن، وتبلى كما تبلى ثيابهم، وتُهافت فلا يجدون له حلاوة ولا لذاذة. قال أبو محمد الجريري -وهو من أكابر مشايخ الصوفية-: من استولت عليه النفس، صار أسيرًا في حكم الشهوات، محصُورًا في سجن الهوى، فحرم الله عَلَى قلبه القوائد، فلا يستلذه بكلامه، ولا يستحليه، وإن كثر ترداده عَلَى لسانه. وذُكر عند بعض العارفين أصحاب القصائد، فَقَالَ: هؤلاء الفرارُون من الله -عزَّ وجلَّ- لو ناصحُوا الله -عزَّ وجلَّ- وصدقوه، لأفادهم في سرائرهم، ما يشغلهم عن كثرة التلاقي. واعلم أن سماع الأغاني يضاد سماع القرآن من كل وجه، فإن القرآن كلام الله، ووحيه ونُوره الَّذِي أحيا الله به القُلوب الميتة، وأخرج العباد به من الظلمات إِلَى النور. والأغاني وآلاتها مزامير الشيطان؛ فإن الشيطان قرآنه الشعر، ومؤذنه المزمار ومصائده النساء كذا قال قتادة وغيره من السَّلف، وقد روي ذلك ¬

_ (*) كلامه "نسخة".

مرفوعًا من رواية عبيد الله بن زَحْر، عن علي بن يزيد عن القاسم، عن أبي أمامة، عن النبي صلى الله عليه وسلم وقد سبق ذكر هذا الإسناد. والقرآن تُذكر فيه أسماء الله وصفاته وأفعاله، وقدرته وعظمته، وكبرياؤه وجلاله، ووعده ووعيده. والأغاني إِنَّمَا يذكر فيها صفات الخمر والصور المحرمة، الجميلة ظاهرها؛ المستقذر باطنها، التي كانت تُرابًا، وتعُود ترابًا. فمن نزل صفاتها عَلَى صفات من ليس كمثله شيء وهو السميع البصير فقد شبَّه، ومرق من الإسلام كما يمرُق السهمُ من الرمية. وقد رُئي بعض مشايخ القوم في النوم بعد موته، فسُئل عن حاله فَقَالَ: أوقفني بين يديه، ووبخني وقال: كنت تسمع وتقيسُني بسُعدى ولُبنى. وقد ذكر هذا المنام أبو طالب المكي في كتاب "قوت القلوب". وإن ذُكر في شيء من الأغاني التوحيد، فغالبه من يسوق ظاهره إلي الإلحاد: من الحلول والاتحاد، وإن ذُكر شيء من الإيمان والمحبة أو توابع ذلك، فإنما يعبر عنه بأسماء قبيحة، كالخمر وأوعيته ومواطنه وآثاره، ويذكر فيه الوصل والهجر، والصدود والتجنِّي، فيطرب بذلك السامعون، وكأنهم يشيرون إِلَى أن الله تعالى يفعل مع عباده المحبين له المتقربين إِلَيْهِ كما يذكرونه، فيبعد ممن يتقرب إِلَيْهِ، ويصد عمن يحبه ويطيعه ويعرض عمن يُقبل عليه. وهذا جهل عظيم، فإن الله تعالى يقول عَلَى لسان رسُوله الصادق المصدوق - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ تَقَرَّبَ مِنِّي شِبْرًا تَقَرَّبْتُ مِنْهُ ذِرَاعًا، وَمَنْ تَقَرَّبَ مِنِّي ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ مِنْهُ بَاعًا، وَمَنْ أَتَانِي يَمْشِي أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً» (¬1). وغاية ما تحرك هذه الأغاني ما سكن في النفوس من المحبة، فتتحرك القلوب إِلَى محبوباتها -كائنة ما كانت- من مباح ومحرم، وحق وباطل. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (7405)، ومسلم (2675).

والصادق من السامعين قد يكون في قلبه محبة الله، مع ما ركز في الطباع من الهوى، فيكون الهوى كامنًا، لظهور سُلطان الإيمان، فتحركه الأغاني مع المحبة الصحيحة، فيقوى الوجد، ويظن السامع أن ذلك كله محبة الله، وليس كذلك، بل هي محبة ممزوجة ممتزجة حقها بباطل (*)، وليس كل ما حرك الكامن في النفوس، يكون مُباحًا في حكم الله ورسوله. فإن الخمر تحرك الكامن في النفوس، وهي محرمةٌ في حكم الله ورسوله كما قيل: والرَّاح كالريح إِنَّ هبت عَلَى عطر ... طابت وتخبث إِن مرت عَلَى الجيف وهذا السماع المحظور يُسكر النفوس، كما يسكر الخمر أو أشد، ويصد عن ذكر الله وعن الصلاة كالخمر والميسر، فإن فُرض وجُود رجل يسمعه، وهو ممتلئ قلبُه بمحبة الله، لا يؤثر فيه شيءٌ من دواعي الهوى بالكلية، لم يُوجب ذلك له خصوصًا، ولا للناس عموماً؛ لأنّ أحكام الشريعة تناط بالأعم الأغلب، والنادر ينسحب عليه حكم الغالب، كما لو فُرض رجلٌ تام العقل، بحيث لو شرب الخمر، لم يؤثر فيه ولم يقع فيه فسادٌ فإن ذلك لا يوجب إباحة الخمر له ولا لغيره. عَلَى أن وجود هذا المفروض في الخارج في الصورتين: إما نادرٌ جدًّا أو ممتنعٌ متعذر. وإنما يظهر هذا السماع، عَلَى هذا الوجه، حيث جرد كثيرٌ من أهل السلوك الكلام في المحبة ولهجوا بها، وأعرضوا عن الخشية. وقد كان السَّلف الصالح يُحذرون منهم، ويفسقون من جرد وأعرض عن الخشية إِلَى الزندقة. فإن أكثر ما جاءت به الرسُل وذكر في الكتاب والسنة: هو خشية الله وإجلاله وتعظيمه، وتعظيم حرماته وشعائره وطاعته. ¬

_ (*) بباطلها: "نسخة".

والأغاني لا تحرك شيئًا من ذلك؛ بل تحدث ضده من الرعونة (¬1) والانبساط والشطح، ودعوى الوصول والقرب، ودعوى الاختصاص بولاية الله التي نسب الله في كتابه دعواها إِلَى اليهود. فأما أهل الإيمان، فقد وصفهم بأنهم {يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} (¬2) وفسر ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - بأنهم يصومون ويتصدقون، ويصلون ويخشون أن لا يُتقل منهم. وقد كان الصحابة رضي الله عنهم يخافون النفاق عَلَى نفوسهم، حتى قال الحسن: ما أمن النفاق إلا منافق، ولا خشيه إلا مؤمن. ويوجب أيضاً سماع الملاهي النفرة عن سماع القرآن، كما أشار إِلَيْهِ الشافعي رحمه الله، وعدم حضور القلب عن سماعه، وقلة الانتفاع بسماعه، ويوجب أيضاً قلة التعظيم لحرمات الله، فلا يكاد المدمن لسماع الملاهي، يشتد غضبه لمحارم الله تعالى إذا انتهكت، كما وصف الله تعالى المحبين له بأنهم {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ} (¬3). ومفاسد الغناء كثيرة جدًّا. وفي الجملة، فسماع القرآن بنيت الإيمان في القلب كما ينبت الماء البقل، وسماع الغناء ينبت النفاق، كما ينبت الماء (البقل) (¬4) ولا يستويان حتى يستوي الحق والبطلان {وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ * وَلا الظُّلُمَاتُ وَلا النُّورُ * وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ * وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ} (¬5). والله تعالى المسئول أن يهدينا وسائر إخواننا المؤمنين إِلَى صراط مستقيم، صراط الذين أنعم عليهم، غير المغضوب عليهم ولا الضالين، آمين. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله عَلَى سيدنا محمد، وآله وصحبه أجمعين. ¬

_ (¬1) الأرعن: الأهوج الأحمق. "ترتيب القاموس" (2/ 358). (¬2) المؤمنون: 60. (¬3) المائدة: 54. (¬4) البصل: "نسخة". (¬5) فاطر: 19 - 22.

19 - سيرة عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز

سيرة عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز

مقدمة المؤلف

مقدمة المؤلف بسم الله الرحمن الرحيم، وبه ثقتي وعليه اعتمادي. هذه نبذة من مناقب عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز. الحمد لله الَّذِي أسعدَ من شاءَ من خليقتِهِ، ووفقهم للقيام بطاعَتِهِ، واستعملهم فيما يرضيه؛ مع صغرِ سنِّ أحدِهم وحداثتِه؛ ليتبينَ بذلك أن السعادةَ بيدِهِ، والتوفيقَ بإرداتِهِ. أحمدُهُ عَلَى سوابِغ نعمهِ، وأسأله التوفيق لشكرِهِ، والإمدادَ بمعونته، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن مُحَمَّدًا عبدُهُ ورسولُهُ وحبيبه وخليله، وأمينه عَلَى وحيه، وخيرتُهُ من بَريَّتِهِ، صلى الله عليه وعلى آلِهِ وصحابته والتابعين لمنهاجِهِ وسُنَّتِهِ، أما بعد. فإنّ في سماع أخبار الأخيار {مقوّيًا} (¬1) للعزائِم {ومعينًا} (1) عَلَى اتباع تلك الآثار، وقال بعض العارفين: الحكايات جُندٌ من جنودِ الله، تقوى بها قلوبُ المريد. ثم تلا قوله -عزَّ وجلَّ- لرسوله - صلى الله عليه وسلم -: {وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} (¬2). وقد رأيتُ أن أجمَع في هذا الجزء أخبار عبد الملك ابن أمير المؤمنين أبي حفص عمرَ بن عبد العزيز القرشي الأموي -رضي الله عنهما- لسبب اقتضى ذلك. لقد كان -رحمه الله- مع حداثةِ سنِّهِ مجتهدًا في العبادَةِ، ومع قدرته عَلَى الدُّنْيَا وتمكنه منها راغبًا مؤثرًا للزهادة، فعسى اللهُ أن يجعلَ في سماع أخباره لأحدٍ من أبناء جنسه أسوةً لعل أحدًا كريمًا من أبناءِ الدُّنْيَا، تأخذُهُ بذلك حميةٌ عَلَى نفسهِ ونخوة، مع أنَّه لن يخلو سماعُ أخبارِ الصالحين ¬

_ (¬1) في "الأصل": مقوي، ومعين. والمثبت هو الصواب. (¬2) هود: 120.

من تحصيل رقةٍ للقلوب وإزالة للقسوة. وأيضًا ففي ذكر مثل أخبارِ هذا السيدِ الجليلِ مع سنهِ توبيحٌ لمن جاوَزَ سنَّهُ وهو بطال، ولمن كانَ بعيدًا عن اسباب الدُّنْيَا وهو إليها ميال، والله -تعالى- المسئولُ أن يوفقنا وسائرَ إخواننا المؤمنن لما وفق له عبادَهُ الصالحين، وأن يعيننا عَلَى ما أعانهم عليه بمنّه وكرمِهِ آمين. وقد قسَّمتُهُ أحَدَ عشرَ بابًا: الباب الأول: في ذكر عبادتِهِ واجتهاده وتهجده وبكائه، وإخفائه لذلك. الباب الثاني: في ذكر علمِهِ وفقهِه وفهمه. الباب الثالث: في ذكر زهدِهِ في الدُّنْيَا وقناعتِه منها باليسير، وبُعْدِهِ عن الإسراف. الباب الرابع: في ذكرِ حلمِهِ وكظمِهِ الغيْظَ. الباب الخامس: في ذكرِ كلامِهِ في قصَرِ الأمَل والمبادَرَةِ قبل هجوم الموْتِ بالعمَل. الباب السادس: في ذكرِ صلابتِهِ في الدينِ، وقوتِه في تنفيذِ الحق، واجتهادِهِ عَلَى الأمر بالمعروفِ والنهي عن المنكرِ، ومواعظِهِ لأبيه. الباب السابع: في ذكرِ هوان نفسِهِ عليه في ذاتِ الله، ورضاه بكل ما ينالُه من الأذى في تنفيذِ أوامرِ الله. الباب الثامن: في شدَّةِ حَذَرِه من الظلمِ وتنزُّهِهِ من ذلك. الباب التاسع: في ذكرِ مرضِهِ ووفاتِهِ. الباب العاشر: في ذكر سنّه ومقدارِ {عمرِهِ} (¬1). الباب الحادي عشر: في ثناءِ العُلَمَاء عليه من أهلِ زمانِهِ ومدحهمْ لَهُ. ... ¬

_ (¬1) في "الأصل": علمه. والمثبت هو الصواب حيث ذكرها في أصل الباب العاشر: "عمره" ولم يتحدث عن علمه فيه.

الباب الأول في ذكر عبادته واجتهاده وتهجده وبكائه وإخفائه لذلك

الباب الأول في ذكر عبادتِهِ واجتهادِهِ وتهجُّدِهِ وبكائِهِ وإخفائِهِ لذلك روى الحافظ أبو نعيم {في} (¬1) كتاب "حلية الأولياء" بإسناده عن بعض مَشيخَةِ أهل الشام قال: كنا نرى أن عمَر بن عبد العزيز إِنَّمَا أدخَلَهُ في العبادةِ ما رأى من ابنِهِ عبد الملكِ -رحمهُ الله. وروى الإمام أبو عبيد القاسمُ بنُ سلامٍ في كتاب "فضائل القرآن" بإسناده عن عاصم بن أبي بكر بن عبد العزيز بن مروان وهو ابنُ أخي عمر بن عبد العزيز قال: وفدتُ إِلَى سليمانَ بن عبد الملك، ومعنا عمرُ بن عبد العزيز، فنزلتُ عَلَى ابنِهِ عبد الملك وهو عزب، فكنتُ معه في بيتٍ فصلينا العشاء، وأوى كل رجلٍ منا إِلَى فراشِهِ. ثم قام عبدُ الملك إِلَى المصباح فأطفأه، ثم قامَ يصلّي حتى ذهبَ بي النوم، فاستيقظتُ فإذا هو في هذه الآية: {أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ * مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ} (¬2). الآية. فيبكي، ثم يرجع إليها، فَإِذَا فَرغَ منها فعل مثل ذلك، حتى قلتُ: سيقتُلُهُ البُكاءُ، فلما رأيت ذلك قلت: لا إله إلا الله والحمد لله كالمستيقظ من النَّوم لأقطعَ ذلك عليه، فلما (¬3) سمعني سَكَتَ فلم أسمع له حسًّا -رحمه الله تعالى. ... ¬

_ (¬1) طمس بالأصل والسياق يقتضيها. (¬2) الشعراء: 205 - 207. (¬3) في "الأصل": فلم.

الباب {الثاني} في ذكر علمه وفقهه وفهمه

الباب {الثاني} (¬1) في ذكر علمِهِ وفقهِهِ وفهمِهِ روى ابن أبي خيثمة في تاريخه، عن سليمان بن يسار قال: ركبت أنا وعمر بن عبد العزيز ومعنا عبدُ الملك بن عمر بن عبد العزيز بدير مرّان وفيها الوليد بن عبد الملك فَقَالَ عبد الملك بن عمر: أرأيت المرأة تطلق ثم تحيض الثالثة؟ فقلت: قد حلَّت فَقَالَ عبدُ الملك: فأين ما يُذكر عن ابن عباس؟ فَقَالَ: ذرنا منك بحديث عن زيد بن ثابت ومعاوية بن أبي سفيان. ومعنى هذه المسألة أن الأقراء الثلاثة التي تعتد بها المطلقة -إذا طلقت في أثناء طهر ثم حاضت حيضتين وطهرت طهرين ثم شرعت في الحيضة الثالثة- أنها تنقضي لمضي الأطهار الثلاثه عليها بذلك. وهو قول زيد بن ثابت وغيره من الصحابة. فعارضه عبد الملك بقول ابن عباس إِنَّ الأقراء هي الحيض فلا {تنقضي} (¬2) عدتُها حتى تطهر من الحيضة الثالثة. وأكثر علماء الحجاز {عَلَى ما أفتى به} (2) سليمان بن يسار؛ فإن الأقراء هي الأطهار، وهو قول مالكٍ والشافعي. وأكثرُ علماء العراق عَلَى أن الأقراء هي الحيضُ، وهو قولُ أبي حنيفة، والمشهورُ عن الإمام أحمد. واختلفوا في انقضاء عدَّتها بانقطاع الدمِ من الحيضة الثالثة، أم لا تنقضي عدَّتُها حتى تغْتَسلَ، عَلَى قولين مشهورين لهم. روى الدَّوْرَقي في كتاب "مناقب عمر بن عبد العزيز" بإسناده عن حفص ابن عمر: أن عمر بن عبد العزيز جمع الناس واستشارهم في رد مظالم الحجاج. فكان كلما استشارَ رجلاً قال له: يا أميرَ المؤمنين، ذاكَ أمرٌ كانَ في غير سلطانِكَ ولا ولايتكَ. فكان كلما قال له رجل ذلك أقامه، حتى خلص بابنه ¬

_ (¬1) ليست بالأصل وترتيب الأبواب يشير إليها. (¬2) طمس بالأصل والمثبت أنسب للسياق.

عبد الملك، فَقَالَ له ابنه عبد الملك: يا أبَهْ، ما من رجل استطاعَ أن يردَّ مظالمَ الحجاج، إِن لم يردها أن يشركه فيها. فَقَالَ عمر: لولا أنك ابني، لقلت إنك أفقهُ الناس. وهذا الَّذِي قاله عبدُ الملك، ومدحه عليه أبوه، هو الصواب فإن الإمام إذا قدر عَلَى رد مظالمِ من قَبْلَهُ من الولاة وجب عليه هو ذلك بحسب الاستطاعة. وعلماء السَّلف كانوا يقسمون العُلَمَاء ثلاثةَ أقسامٍ: قسم يعرفون الله ويخشونه ويحبونه ويتوكلون عليه، وهم العُلَمَاء بالله. وقسمٌ يعرفون أمرَ اللهِ ونهيه وحلاله وحرَامهُ، وهم العُلَمَاءُ بأمرِ الله. وقسمٌ يجمعون بين الأمرين، وهم أشرفُ العُلَمَاء، حيث جَمعوا بين العِلْمِ باللهِ والعلم بامر الله. وكان عمر بن عبد العزيز وابنُهُ عبدُ الملك من هذا القسم. وكذلك أكثرُ السَّلفِ -رضي الله عنهم- يجمعون بين العِلْمِ بالله الَّذِي يقتضي خشيتهُ ومحبتهُ والتبتُّلَ إِلَيْهِ، وبين العِلْم باللهِ الَّذِي يقتضي معرفة الحلالِ والحرامِ والفتاوى والأحكام. ومنهم من كان متوسعًا في كلا العلمين كالحسن البصري، وسفيان، وأحمد بن حنبل. ومنهم من كان نصيبهُ من أحدهما أوفرَ من نصيبه من الآخر. وأما المتأخرون فقلَّ فيهم من جمع بين العلمين الَّذِي كان عليه علماءُ المسلمين، وسلك كلا الطريقين. والله الموفق للخير والمعينُ عليه بمنِّهِ وكرمِهِ. ***

الباب الثالث في ذكر زهده في الدنيا وقناعته باليسير وبعده من الإسراف

الباب الثالث في ذكرِ زُهدِهِ في الدُّنْيَا وقناعتِهِ باليسيرِ وبُعدِهِ من الإسراف روى ابنُ المبارك في كتاب "الزهد" (¬1) له بإسناده عن ميمون بن مهران قال: قال لي عمر بن عبد العزيز: أما دخلت عَلَى عبد الملك -يعني ابنه. قال: فأتيت الباب فَإِذَا وصيف، فقلت: استأذن لي عليه فَقَالَ: ادخل؛ فإن عنده الناس، أو أمير هو؟ فدخلت عليه، فَقَالَ: من أنت؟ فعرف. ثم حضر طعامُهُ فأُتى بقَلية مدنية -وهي عظام اللحم- ثم أتي {بثريدة} (¬2) قد {ملئت خبزًا} (¬3) وشحمًا، ثم أتي بزبد وتمر، فقلت: لو {كلمتَ أمير المؤمنين} (3) يخصُّكَ منه بخاصةٍ. فَقَالَ: إني {لأرجو أنه} (3) يكون أوفى حظًّا عند الله من ذلك. إني في ألفين {كان} (3) سليمان ألحقني فيهما، والله لو كان أبي في نفسه لما فعل، ولي غلة بالطائف إِنَّ سلمت لي أتاني غلَّة (¬4) ألفُ درهم، فما أصنع بأكثر من ذلك. فقلت في نفسي: أنتَ لأبيك. وقد رُويت هذه القصة من وجهٍ آخر، وأن ميمون بن مهران قال: دخلت عَلَى عبد الملك وبين يديه قليلٌ من طعامٍ فما منعني من الأكلِ معه إلا الأبق عليه. وروى الدورقي بإسناده عن ميمون بن مهران قال: قال عمر بن عبد العزيز: ابني عبد الملك قد أُعجبتُ به، فما أدري أهو كذلك أم حبُّ الوالِد للولد؟ فأنا أَحَبُّ أن تأتيَهُ فتسبر ما عنده، فإن كان عَلَى ما ظننتُ أخبرتني فحمدتُ الله عليه، وإن كان غير ذلك أدَّبتهُ؛ فإنما هو ابنُ أخيك. ¬

_ (¬1) (ص310) رقم (888). (¬2) في "الأصل": بثرة، والمثبت من "الزهد" لابن المبارك. (¬3) طمس بالأصل، والمثبت من "الزهد". (¬4) الغَلَّة: الدخل من كراء دار، وأجر غلام، وفائدة أرض. "ترتيب القاموس" (3/ 363).

قال ميمون بن مهران فانتهيتُ إِلَيْهِ فاستأذَنتُ فدخلتُ عليه، وإذا تحته مِسحٌ (¬1) خلق وشاذكونة خلقة ومرفقة (¬2) قد ترفق بها، فوسَّع لي لأجلس معه، فجلست مقابله، فقلت: ما ها هنا أحبُّ إلي وإذا بين يديه مائدةٌ عليها ثلاثةُ أرغفةٍ وقصعة فيها خَل وزيتٌ. فقلت: هذا طعامُك في كل يوم؛ فَقَالَ: إِنَّ أمير المؤمنين صيَّر الدهر أثلاثًا: فيومٌ خبزٌ ولحم، ويومٌ لبن، ويومٌ خبزٌ وزيت. فبينا أنا كذلك إذ جاء غلام له فَقَالَ: قد فَرَّغناها. فأعرض عنه فعاود، فقلت: ما هذا الَّذِي فرغ؟ قال: الحمام. قلت: هل الحمامُ لك؟ قال: لا. قلت: فلأحد من إخوانك؟ قال: لا. قلت: فلأحدٍ من أهل بيتك؟ قال: لا. قلت: فلأمير المؤمنين؟ قال: لا. قلت: فبم استحللتَ أن تفرغَ حمامَ المسلمين فلَعلَّ إذا رجل يجيء من أقصى المدينةِ فيحالُ بينه وبين الحمام، أو تعطيه بقدر شغل حمامه؛ فهذه نفقةٌ باطلة، هذا أريد أن أُنهيَهُ (¬3) إلي أمير المؤمنين. قال: أوتسترُ علي يا عم، واللهِ ما يسرني أنه وَجَدَ عليَّ ساعة من نهار، ثم أتاني عنه الرضا، ولا أنَّ ليَ الدُّنْيَا وما فيها، ولك عليَّ ألا أدخل الحمام إلا ليلاً ومع ضعفةِ الناسِ. قال: قلت له: افعل. فخرجت من عنده، فما رأيت أفضل من عمر بن عبد العزيز، ولا ابنًا أفضل من عبد الملك -رضي الله عنهما. وقد رُويته هذه القصة من وجه آخر، وفيه: أن عبد الملك قال: لولا برد بلادنا ما دخلته -يعني: الحمام- ليلاً ولا نهارًا. وأنه إِنَّمَا كان امتناعه من دخوله مع الناس، خشية أن يرى فيه منكرًا، {فيؤدب} (¬4) فاعله، فربما خشي أن يجاوز حدَّ الأدب {أو أن يُنسَبَ} (4) إِلَى شيء من الظلم في ذلك، وسيأتي {ذكر} (4) ذلك فيما بعد -إِنَّ شاء الله تعالى. ¬

_ (¬1) المسح: الكساء من الشعر. "لسان العرب" (2/ 596). (¬2) المرفقة: المتكأ والمخدة. (¬3) أنهيه. أنهي الشيء أي أبلغه (¬4) طمس بالأصل، والسياق يقتضيها.

هذا مع أن طائفة من أعيان العُلَمَاء رأوا خلاء الحمام وزيادة صاحبِهِ كذلك لما في مثل ذلك من السلامةِ من رؤيةِ المنكراتِ مثل كشفه للعورة وغيرها. وممن رأى ذلك عروة بن الزبير وأبو جعفر بن علي الباقر وسفيان الثوري - رحمهم الله. وأما ميمون بن مهران فقد كرِه ذلك؛ وعلَّلَ بأنه قد يأتي الرجلُ الضعيفُ من مكان بعيدٍ فيُمتنعُ من دخوله حينئذ لإخلائه، وعلَّلهُ أيضاً في رواية أخرى بأن هذه نفقةُ كبر وسرَفٍ، ولكن هذا إذا كان المقصودُ بإخلائه مجرد التكبر والتعاظُمِ دونَ السلامةِ من رؤيةِ المنكراتِ، والله أعلم. ***

الباب الرابع في ذكر حلمه وكظمه الغيظ

الباب الرابع في ذكر حلمه وكظمِهِ الغَيْظَ روى ابن أبي الدُّنْيَا في كتاب "العفو وذَم الغضب" من حديث يعقوب بن عبد الرحمن، عن أبيه قال: أمر عمر بن عبد العزيز غلامهُ بأمرٍ، فغضب عمر، فَقَالَ له عبد الملك: يا أبتاه، وما هذا الغضبُ والاختلاط؟! فَقَالَ عمر: إنك لتتحلم يا عبد الملك؟ فَقَالَ له عبدُ الملك: لا واللهِ ما هو التحلُّم، ولكنه الحِلْم. قال: وقال عمر بن عبد العزيز: لولا أن أكونَ زُين لي من أمر عبد الملك، ما يزين في عين الوالد من ولده، لرأيتُ أنَّهُ أهلٌ للخلافة. ومراد عبد الملك -رحمه الله-: أنَّ الحُلْمَ عنده صفةٌ لازمةٌ له، وهو مجبولٌ عليها، ولا يحتاجُ أن يتعاطاهُ، ويتكلَّفهُ تكلُّفًا من غير أن يكون عنده حقيقة. وروى الدورَقي هذه القصة في كتابه. وعنده أن عبد الملك قال لأبيه: لا والذي أكرمك بما أكرمك به إِن ملأني غَضبٌ قط. والمعنى: ما ملأني الغضب قط. وروى أبو نعيم في "الحلية" بإسنادهِ عن إسماعيل بن أبي الحكم قال: غضب عمر بن عبد العزيز يومًا فاشتد غَضبهُ وكان فيه حدَّةٌ، وعبد الملك بن عمر بن عبد العزيز حاضرٌ. فلما سكن غَضبُهُ قال: يا أمير المؤمنين، أنت في قدر نعمةِ الله عليك وموضعكَ الَّذِي وضَعَكَ الله به، وما ولاك من أمر عبادِهِ يبلغ بك الغضب ما أرى؟! قال: كيف قلت؟ قال: فأعادَ عليه كلامَه، فَقَالَ له عمر: أما تغضب يا عبد الملك؟ قال: ما تُغني سَعَةُ جوفي إِن لم أردَّ فيه الغَضبَ حتى لا يظهرَ منه شيءٌ أكرهُهُ. قال: وكان له بُطين -رحمه الله تعالى. ***

الباب الخامس في ذكر كلامه في قصر الأمل والمبادرة قبل هجوم الموت بالعمل

الباب الخامس في ذكر كلامه في قِصَر الأمَل والمبادرةِ قبل هجومِ الموتِ بالعملِ روى أبو بكر الآجري في كتاب "فضائل عمر بن عبد العزيز" لما دَفَن سليمان بن عبد الملك؛ خطب الناس ونزل ثم ذهب يتبوَّأ مقيلاً، فأتاه ابنُهُ عبدُ الملك فَقَالَ: يا أمير المؤمنين، من لك أن تعيشَ إِلَى الظهر قال: ادنُ مني أي بني، فدنا منه والتزمه وقبل بين عينيه، وقال: الحمد لله الَّذِي أخرج من صُلْبي من يعينُني عَلَى ديني. فخرج فلم يقلْ، وأمر مناديه أن ينادي: ألا من كانت له مَظْلمَةٌ فليرفعها. وروى الحافظ أبو نعيم بإسناده عن إبراهيم بن أبي عبلة، قال: جلس عمر ابن عبد العزيز يومًا للناس، فلما انتصَفَ النهارُ ضجر وملَّ وكلَّ، فَقَالَ للناس: شأنكم حتى أنصرفَ إليكم. فدخل يستريح ساعة، فجاء ابنه عبد الملك فسأل عنه قالوا: دخل. فاستأذَنَ عليه، فأذن له. فلما دخل قال: يا أمير المؤمنين، ما أدخلك؟ قال: أردْتُ أن أستريحَ ساعة. قال: أو أمنْتَ الموتَ أن يأتيك، ورعيتك ينتظرونك، وأنت محتجب عنهم؟ فقامَ عمر من ساعتِهِ وخَرَجَ إِلَى الناس. وقال ابن أبي الدُّنْيَا في كتاب "العزاء": حدثنا محمد بن الحسين، ثنا محمد بن يحيى بن إسماعيل، عن أبيه قال: مات ابن لعمر بن عبد العزيز، فجاء عمر فقعد عند رأسِهِ، وكشفَ الثوبَ عن وجههِ فجعلَ ينظرُ إِلَيْهِ ويستَدمعُ، فجاء عبد الملك ابنه فَقَالَ: أشَغَلَك يا أمير المؤمنين ما أقبل من الموتِ إليك؟ بل هوى في شغل عما حل لديك، فكأن قد لحقت به وساويته تحت التراب بوجهك. فبكى عمر ثم قال: رَحِمكَ اللهُ يا بني، فواللهِ إنَّك

لعظيمُ البركة -ما علمتك- عَلَى أبيك، نافعُ الموعظةِ لمن وعظت، وايمُ الله، إن كان الذي رأيت من جزعي عَلَى أخيك، ولكن لما علمتُ أنَّ ملك الموتِ دخل داري فراعني دخوله، فكان الَّذِي رأيتَ. ثم أمر بجهازِهِ. ***

الباب السادس في ذكر صلابته في الدين وقوته في تنفيذ الحق واجتهاده على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومواعظه لأبيه في ذلك

الباب السادس في ذكر صلابتِهِ في الدين وقوتِهِ في تنفيذ الحق واجتهادِهِ عَلَى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومواعظِهِ لأبيه في ذلك روينا من حديث خير الجعفي، عن محمد بن أبان قال: جمع عمر بن عبد العزيز قُرآء أهل الشام وفيهم ابن أبي زكريا الخزاعي فَقَالَ: إِن قد جمعتكم لأمر، قد أهَمَّتني هذه المظالم التي في أيدي أهل بيتي، ما ترون فيها؟ قال: ما نرى وِزرها إلا عَلَى من غَصَبها. قال: فَقَالَ لعبد الملك ابنِهِ: ما ترى أي بني؟ قال: ما أرى من قَدَر عَلَى أن يردَّها فلم يردَّها والذي اغتصبها إلا سواء. فَقَالَ: صدقت أي بني. ثم قال: الحمدُ للهِ الَّذِي جَعَلَ لي وزيرًا من أهلي عبد الملك ابني. وروى الحافظ أبو نعيم بإسنادِهِ إِلَى ميمون بن مهران قال: بعث إليّ عمر بن عبد العزيز وإلى مكحولٍ، وإلى أبي قلابة، فَقَالَ: ما ترون في هذه الأموال التي أُخذت من الناس ظُلمًا؟ فَقَالَ مكحول يومئذ قولاً ضعيفًا، فكرهَهُ فَقَالَ: أرى أن تستأنفَ. فنظر إليّ عمر كالمستغيثِ بي، فقلتُ: يا أمير المؤمنين، ابعثْ إلي عبد الملك فأحضره؛ فإنه ليس بدون من رأيت. فلما دخل عليه قال: يا عبد الملك، ما ترى في هذه الأموال التي قد أخذتْ من الناس ظلْمًا، وقد حضروا يطلبونها وقد عرفنا مواضعها؟ قال: أرى (أن تردَّها) (¬1) فإن لم تفعل كنت شريكًا لمن أخذها. وروى يعقوب بن سفيان بإسناده عن جويرية بن أسماء، عن إسماعيل بن أبي حكيم قال: كنا عند عمر بن عبد العزيز حين تفرق الناس ودخل للقائلة ¬

_ (¬1) تكررت بالأصل.

فَإِذَا منادٍ ينادي: الصلاةُ جامعةٌ، ففزعنا فزعًا شديدًا مخافة أن يكون قد جاء فتقٌ من وجهِ من الوجوه أو حَدَث حَدَثٌ. قال جويرية: وإنما كان دعا مُزاحمًا -يعني مولاه- فَقَالَ: يا مزاحم، إِنَّ هؤلاء القوم -يعني بني عمِّه من الخلفاءِ (الذين) (¬1) كانوا قبلهُ -قد أعطونا عطايا، والله ما كان لهم أن يعطونا إياها، وما كان لنا أن نقبلها، وإن ذلك قد صار إليّ وليس علي فيه دون الله محاسب. قال له مزاحم: يا أمير المؤمنين، هل تدري كم ولدك؟ هم كذا وكذا. فذرفت عيناه، فجعل يستدمع ويقول: أكلُهم إِلَى الله -عز وجل- ثم انطلق مزاحمٌ من ساعتِهِ في وجهه ذلك، حتى استأذن عَلَى عبد الملك بن عمر فأذن له، وقد اضطجع للقائلة. فَقَالَ له عبد الملك: ما جاء بك يا مزاحم هذه الساعة؟ هل حَدَثَ من حَدَثٍ؟ قال: أشَدُّ الحدثِ عليك وعلى بني أبيكَ. قال: وما ذاك؟! قال: دعاني أمير المؤمنين، فذكر له ما قال عمر. فَقَالَ عبد الملك: فما قلت له؟ قال: قلت: يا أمير المؤمنين، هل تدري كم؟ هم كذا وكذا، قال: فما قال لك؟ قال: جعل يستدمع، ويقول: أكلهم إِلَى الله عز وجل. فَقَالَ عبد الملك: بئس وزير الدين أنت يا مزاحم! ثم وثب وانطلق إِلَى باب عمر. فاستأذن عليه، فَقَالَ الآذن: إِنَّ أمير المؤمنين قد وضع رأسهُ للقائلة. فَقَالَ: استأذن لي، لا أمَّ لك. قال: فسمع عمر الكلام فَقَالَ: من هذا؟ قال: عبد الملك. قال: ائذن له، فدخل عليه وقد اضطجع للقائلة فَقَالَ: ما حاجتُك يا بني هذه الساعة؟ قال: حديثٌ حدثنيه مزاحم. قال: فأين وقع رأيك من ذلك؟ قال: وقع رأيي عَلَى إنفاذه. قال: فرفع عمر يديه وقال: الحمد لله الَّذِي جعل من ذُرِّيَّتي من يعينني عَلَى ديني، نعم يا بني، أُصلي الظُّهر، ثم أصعد المنبر فأردها علانيةً عَلَى رءوس الناس. قال عبد الملك: ومن لك بالظهرِ يا أميرَ المؤمنين؟ ومن لك إِنَّ بقيت إِلَى الظهر أن تسلم لك نيتك إِلَى الظهر؟ فَقَالَ عمر: قد تفرّق الناسُ ورجعوا للقائلة. فَقَالَ عبد الملك: تأمر مناديك ينادي: ¬

_ (¬1) تكررت بالأصل.

الصلاة جامعة فيجتمع الناس قال إسماعيل: فنادي المنادي: الصلاةُ جامعة، فخرجتُ فأتيتُ للمسجدِ، وجاء عمر وصعد المنبر، فحمد الله وأثني عليه ثم قال: أما بعد، فإن هؤلاء القوم قد كانوا أعطونا عطايا، والله ما كان لهم أن يعطوناها، وما كان لنا أن نقبلها منهم، وإن ذلك قد صار إليّ، ليس عليَّ فيه دون الله -تعالى- مُحاسبٌ، ألا وإني قد ردَدْتُّها وبدأت بنفسي وأهل بيتي، اقرأ يا مزاحم. قال: وقد جيء {بسفط قبل ذلك} (¬1) أو قال: جونة فيها تلك الكتب - يعني: كتب الإقطاعات- قال: فقرأ مزاحم كتابًا منها، فلما فرغ من قراءتِهِ ناوله عمر وهو قاعد عَلَى المنبر، فقصه بالجلم -يعني: المقراض- فاستأنف مزاحم كتابًا آخر فجعل يقرأ فلما فرغ منه دفعه إِلَى عمر فقصه، ثم استأنف كتابًا آخر، فما زال كذلك حتى نودي لصلاة الظهر. والمرادُ من هذه الحكاية أن عمر -رضي الله عنه- رد الأراضي التي كانت في يده، مما أقطعه إياه بنو عمه الخلفاءُ قبله، فرد ذلك إِلَى بيتِ المال ولم يبق في يده شيء. وأن عبد الملك ابنه حثه عَلَى فعل ذلك وعلى المبادرة إِلَيْهِ، حين عزم عليه خشية أن تنفسخ عزيمته عن ذلك إِن أخره إِلَى صلاة الظهر أو يموت قبل فعله. وروى الحافظ أبو نعيم بإسناد له أن عبد الملك دخل عَلَى أبيه فَقَالَ: يا أمير المؤمنين، ماذا تقول لربك إذا أتيته وقد تركت حقًّا لم تُحيِهِ وباطلاً لم تُمتهُ؟ وبإسناد له أن عبد الملك بن عمر دخل عَلَى أبيه فَقَالَ: يا أمير المؤمنين إِنَّ لي عليك حاجةً فأدخلني -وعنده مسلمَة بن عبد الملك- فَقَالَ عمر: أسِرٌّ دون عمك؟ فَقَالَ: نعم. فقام مسلمةُ فخرج وجلس عبد الملك بين يديه فَقَالَ: يا أمير المؤمنين، ماذا أنت قائل لربك غدًا إذا سألك فَقَالَ: رأيت بدعةً فلم تُمتها وسُنَّةً فلم تُحيها؛ فَقَالَ له: يا بني، أشيءٌ حمَّلكه ¬

_ (¬1) طمس بالأصل، واستدركناه من "المعرفة والتاريخ" للفسوي (1/ 617).

الرعية إلي أم رأي رأيته من قبل نفسك" قال لا والله. ولكن رأيٌ رأيته من قبل نفسي، وعرفتُ أنك مسئول، فما أنت قائلٌ؟ فَقَالَ له أبوه رحمك الله وجزاك عن والدك خيرًا، فوالله إني لأرجو أن تكون من الأعوان عَلَى الخير؛ يا بني، إِنَّ قومك قد شدوا هذا الأمر عقدةً عقدةً، وعُروةً عروةً، ومتى أريد مكابرتهم (1) عَلَى ما في أيدهم، لم آمَنْ أن يفتقوا علي فتقًا تكثر فيه الدماء، والله لزوال الدُّنْيَا أهون من أن يُهراق في نصبتي (¬1) محجمةٌ (¬2) من دم، أوما ترى أن يأتي عَلَى أبيك يوم من أيام الدُّنْيَا، إلا وهو يميت فيه بدعة، ويحي فيه سنة، حتى يحكم الله بيننا وبين قومنا بالحقِ وهو خير الحاكمين. وروى عبد الله بن الإمام أحمد في كتاب "الزهد" بإسناده عن ابن شوذب قال: جاءت امرأةُ عبد الملك بن عمر إِلَيْهِ وقد تَرَجَّلت، ولبست إزارًا ورداءً ونعلين؛ فلما رآها قال: اعتدّي اعتدّي. وقوله اعتدّي كناية عن الطلاق. وإنما طلَّقها لما رآها قد تشبهت بالرجال في اللباس، وقد لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من تشبه من النساء بالرجالِ، كما لعن من تشبه من الرجال بالنساء. ... ¬

_ (¬1) أي: ببيعتي، أي: مدة حكمي. (¬2) محجمة: القارورة التي يجمع فيها دم الحجامة انظر "لسان العرب" مادة: (حجم).

الباب السابع في ذكر هوان نفسه عليه في ذات الله ورضاه بكل ما يناله من الأذى في تنفيذ أوامر الله عز وجل

الباب السابع في ذكر هوان نفسه عليه في ذات الله ورضاه بكل ما يناله من الأذى في تنفيذ أوامر الله عز وجل روى الإمام أحمد في كتاب "الزهد"، بإسناده عن ميمون بن مهران: أن عبد الملك بن عمر قال لأبيه يومًا: يا أبهْ، ما منعك أن تمضي لما تريد من العدل؟ فوالله ما كنت أبالي لو غَلَت بي وبك القدور في ذلك. وقال جويرية بن أسماء: قال عبد الملك بن عمر: يا أمير المؤمنين، ما منعك أن تنفذ رأيَكَ في هذا الأمر؛ فوالله ما كنت أبالي لو تغلي بي وبك القدور في نفاذ هذا الأمر. وقال الربيع بن سبرة: قال عمر بن عبد العزيز يومًا: والله لوددتُ لو عدلتُ يومًا واحدًا، وأن الله توفى نفسي. فَقَالَ له ابنه عبد الملك: وأنا واللهِ لوددتُ لو عدلتُ فواقَ ناقة (¬1)، وأن الله توفى نفسي. فَقَالَ عمر: آلله الَّذِي لا إله إلا هو؟ فَقَالَ عبد الملك: الله الَّذِي لا إله إلا هو، ولو جاشت بي وبك القدور. فَقَالَ عمر: جزاك الله خيرًا. وقال سليمانُ بن حبيب المحاربي: قال عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز: والله ما من أحد أعز علي من عمر، ولأن أكون سمعتُ بموتِهِ أَحَبُّ إلي من أن أكون كما رأيته. قلت: العارفون بالله المحبون له يرضون بما تقتضيه مقاديرُهُ، وإن كانت شاقة عَلَى النفوس مؤلمة لها، ويتلذذون بذلك، ولا سيما إِن كان أذاهم في ¬

_ (¬1) فواق ناقة: ما بين الحلبتين من الوقت؛ لأنها تحلب ثم تترك سويعة يرضعها الفصيل لتدر ثم تحلب "اللسان" (10/ 316).

تنفيد أوامر الله والدعاء إِلَى طاعة الله وكان هذا مقام عمر بن عبد العزيز وابنه عبد الملك -رضي الله {عنهما} (¬1). وكان عمر بن عبد العزيز قد رسخ في هذا المقام الرفيع حتى يقول: أصبحت وما لي سرور إلا في مواضع القَضاءِ والقدرِ. وكان أبو تراب النخشبي وهو من أعيان مشايخ العارفين ينشد هذه الأبيات: لا تُخْدَعَنَّ فللمحب دلائلُ ... ولدَيْهِ من تُحفِ الحبيبِ مسائلُ منها تَنَعُّمُهُ بمُر بَلائِهِ ... وسرورُهُ في كلِّ ما هو فاعلُ فالمنعُ (منه) (¬2) عَطيَّةٌ والفَفْـ ... ـرُ إكرامٌ وبرٌّ عاجلُ ... ¬

_ (¬1) في "الأصل": عنه. (¬2) تكررت بالأصل.

الباب الثامن في ذكر شدة حذره من الظلم وتنزهه من ذلك

الباب الثامن في ذكر شدةِ حذرهِ من الظلمِ وتنزهه من ذلك كان عبد الملك -رحمه الله- يكره أن يُدخل نفسه في تأديب أهل الفساد، خشيةَ أن يتعدّى الحدودَ الشرعية، وهو غيرُ قاصدٍ لذلك، أو خشية أن يُنسبَ إِلَى الظلمِ وهو منه بريء. فروى عبد الله بن بطة ابنُ الفقيه الزاهدِ المجاب الدعوةِ، وهو من أعيان علماء الحنابلة في كتاب "الحمّام" بإسناده عن ميمون بن مهران قال: أتيتُ عبدَ الملك بن عمر بن عبد العزيز، فاستأذنت عليه، فقعدت عنده ساعة، فأُعجبتُ به. فجاء الغلام فَقَالَ: فرغنا مما أمرتنا به. قال: قلتُ: وما ذاك؟ قال: الحمّام أمرتُهُ أن يُخليهُ لي. قلت: إني كنتُ قد أعجبتُ بك حتى سمعتُ هذه! قال: وما ذاك يا عماه؟ قال: أرأيت الحمّام ملكًا لك؟ قال: لا. قلت: فما الَّذِي يحملُكَ أن تصُدَّ عنه غايته وتعطّله عَلَى أهله؟! قال: إِن أعطَله عليه فأنا أعطيه غلة يومِهِ. قلت: هذه نفقةُ كبرٍ خلطها إسرافٌ، كأنك تريدُ بذلك الأُبَّهَة؛ فإنما أنتَ رجلٌ من المسلمين كأحدهم يجزئك أن تكون مثلهم! فَقَالَ: والذي عظَّم من حقك، ما يمنعني أن أدخلَ معهم إلا أن أرى قومًا رعاعًا بغير مآزر! فأكرَهُ أن أؤدبهم عَلَى الإزار، فيصفُونَ ذلك عَلَى سُلطاننا، خلَّصنا اللهُ منهم كفافًا. قال: قلتُ: تدخله ليلاً. قال: افعلُ، ولولا بردُ بلادنا ما دخلتُهُ ليلاً ولا نهارًا. ***

الباب التاسع في ذكر مرضه ووفاته رضي الله عنه

الباب التاسع في ذكر مرضِهِ ووفاتِهِ رضي الله عنه قال ابن أبي الدُّنْيَا: حدثنا علي بن مسلم قال: حدثنا سعيدُ بنُ عامر قال: قال عمر بن عبد العزيز لعبد الملكِ ابنه: ما شيءٌ كنت أَحَبّ أن أراه فيك إلا قد رأيته، إلا شيئًا واحدًا. قال: ما هو؟ قال: موتُكَ. قال: أراكهُ الله. وروى الحافظ أبو نعيم بإسناده عن سليمان بن حبيب المحاربي أن عبد الملك ابن عمر أصابه الطاعون في خلافة أبيه فمات. وروى ابن أبي الدُّنْيَا بإسناده عن مشيَخَةٍ من قريش قال: دخل عمر بن عبد العزيز عَلَى ابنه في وَجَعِهِ فَقَالَ: يا بني، كيف تجدُ؟ قال: أجدني في الحق. قال: يا بني، إِن تكن في ميزاني أحبُّ إلي من أن أكون في ميزانك. فَقَالَ ابنه: وأنا يا أبه لئن أكون ما تحبُّ، أحبّ إلي من أن يكون ما أُحِب. وروى أيضاً بإسناده عن زياد بن حسان أنه شهد عمر بن عبد العزيز حين دفن ابنهَ عبدَ الملك. قال: فلما سوّى عليه قبرَهُ بالأرض، وجعلوا في قبرهِ خشبتين من زيتون، إحداهما عند رأسه والأخرى عند رجليه، ثم جعل قبره بينه وبين القبلة، ثم استوى قائمًا، وأحاطَ به الناسُ. فَقَالَ: رحمك الله يا بني، فلقد كنتَ برًّا بأبيكَ، وما زلتُ منذ وهبك الله لي مسرورًا، ولا والله ما كنتُ أشدَّ سرورًا ولا أرْجي لحظي من الله فيك، منذُ وضعتك في الموضع الَّذِي صيرك الله إِلَيْهِ، فرحمك الله وغفر ذنبَكَ وجَزاك بأحسنِ عملك وتجاوز عن مسيئه، ورحم كلَّ شافع يشفعُ لك بخير من شاهدٍ وغائب، رضينا بقضاء الله وسلَّمنا لأمره، والحمد لله رب العالمين. ثم انصرف -رحمه الله تعالى.

_ (1) بياض بالأصل.

وروى الحافظ أبو نعيم بإسناد له أن عمر بن عبد العزيز كتب إِلَى عبد الحميد نائبه عَلَى الكوفة كتابًا ينهى فيه أن يناح عَلَى ابنه، كما كانت عادةُ الناس حينئذٍ في النياحةِ عَلَى الملوك وأولادهِم. وفيه أن عبد الملك ابنَ أميرِ المؤمنين كان عبدًا من عبادِ الله، أحسن الله إِلَيْهِ في نفسه، وأحسن إِلَى أبيه فيه، أعاشَهُ الله ما أحبَّ أن يعيشه، ثم قبضه إِلَيْهِ حين أَحَبّ أن يقبضه، وهو فيما علمت بالموت مرتبطٌ، نرجو فيه من الله رجاءً حسنًا. فأعوذ بالله أن تكونَ لي محبةٌ في شيء من الأمور تخالفُ محبةَ الله فإنَّ خلاف ذلك لا يصلُح في بلائِهِ عندي، وإحسانه إلي ونعمته علي، ثم قال: أحببت أن أكتب إليك بذلك وأعلمكه من قضاء الله، فلا أعلم من ينوحُ عليه في شيء من قبلك، ولا اجتمعَ عَلَى ذلك أحد من الناس، ولا رَخَّصْتَ فيه لقريب ولا بعيد، واكفني في ذلك بكفاية الله، ولا ألومَنَّكَ فيه -إِنَّ شاء الله- والسلام عليك. وروى الإمام أحمد بإسناد له، أن عمر بن عبد العزيز تتابعت عليه مصائب: مات أخ له، ثم مات مزاحِمٌ مولاه، ثم مات عبد الملك ابنه، فلما مات عبد الملك -رحمه الله- حمد الله وأثنى عليه ثم قال: لقد دفَعتْهُ إليَّ النساءُ في الخرَقِ فما زلتُ أرى فيه السرورَ وقُرَّةَ العين إِلَى يومي هذا، فما رأيت فيه أمرًا قط أقرَّ لعيني من أمرٍ قد رأيتُهُ فيه اليَوم. قال الزبير بن بكار: لما هلك عبد الملك بن عمر قال أبوه: يا بني، لقد كنتَ كما قال الله -عز وجل-: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} (¬1) وإني لأرجو أن تكون اليومَ من الباقياتِ الصالحاتِ التي هي خيرٌ ثوابًا وخيرٌ أملاً. والله ما يسرني أني دعوتُك فأجبتني. ¬

_ (¬1) الكهف: 46.

وذكر ابن المؤدب في "مناقب عمر بن عبد العزيز " بإسناده عن علي بن خالد بن يزيد قال لما مات عبد الملك بن عمر دخل عمر فنظر إِلَيْهِ فخرج وهو [ .... ] (¬1). وروى أبو نعيم بإسناد له: أن عبد الملك لما مات عَزّى الناسُ أباه، فعزاه أعرابي من بني كلاب: تعز أميرَ المؤمنين فإنَّهُ ... لما قد تَرى يُغذَى الصغيرُ ويُولد هل ابنك إلا من سلالةِ آدم ... لكل عَلَى حوضِ المنيةِ موردُ فما وقعت منه تعزية ما وقعت تعزية الأعرابي. ... ¬

_ (¬1) كلمة غير مقروءة.

الباب العاشر في ذكر سنه ومقدار عمره

الباب العاشر في ذكر سنه ومقدار عمره روى محمد بن عثمان بن أبي شيبة، عن منجاب بن الحارث، عن يحيى ابن عبد الملك بن أبي عتبة، أن عبد الملك بن عمر كان ابن تسعَ عشرةَ سنة حين ماتَ -رحمه الله. وذكر القاضي أبو عبد الله القضاعي في كتاب "تاريخ الخلفاء" قال: عاش عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز تسعَ عشرة ونِصفًا. وذكر أبو الفرج بن الجوزي في كتاب "أعمار الأعيان" (¬1) قال: عبد الملك ابن عمر لا يُتيقَّنُ عمره، ولكنه مات صبيًّا في حياةِ أبيه -رحمهما الله تعالى. ... ¬

_ (¬1) في الأصل: "أعمال"، والصواب "أعمار الأعيان" كما ذكرنا وهو مطبوع بتحقيق د. محمود الطناحي -رحمه الله- بمكتبة الخانجي.

الباب الحادي عشر في ثناء العلماء عليه ومدحهم له

الباب الحادي عشر (¬1) في ثناء العُلَمَاء عليه ومدحهم له فمنهم أبوه أميرُ المؤمنين عمرُ بن عبد العزيز -رضي الله عنه- وقد سبق بعضُ كلامِهِ في ثنائِهِ عليه، وكان عمر بن عبد العزيز شديدَ الحب لابنه عبد الملك والإعجاب به وحديثِهِ، ولكنه كان لشدة خَوْفِهِ وقوةِ وَرَعِهِ يخاف أن لا يكون ابنه في الأمرِ كذلك، وأنه زُيّن له فيه ما يُزَيَّنُ للوالدِ من ولدِهِ، فكان يتوقَّفُ أحيانًا ويسألُ غيره، وقد ذكرنا بعضَ ذلك فيما تقدم. وروى الدورقيُّ بإسنادٍ له أن عمر قال لابنه عبد الملك يومًا: يا عبد الملك، إني أخبرك خبرًا، لا والله إِن (¬2) رأيت فتى ماشيًا قط أنسَكَ منك نسكًا ولا أفقه فقهًا ولا أقرأ منك، ولا أبعدَ من صبوةٍ في صغيرٍ ولا كبيرٍ. قال: وقال عمر بن عبد العزيز: واللهِ لولا أن يكونَ بي زينةٌ من أمرِ عبد الملك ما يُزيَّنُ في عينِ الوالدِ من ولدِهِ، لرأيتُ أنه أهل للخلافة. وبإسناد له آخر: إِنَّ عبدَ الملك لما توفي جَعَلَ أبوهُ يثني عليه عند قبرهِ، فَقَالَ له رجل: يا أمير المؤمنين، لو بقي كنت تعهدُ إِلَيْهِ؟ قال: لا. قال: لم وأنت تثني عليه؟ قال: أخافُ أن يكون زُيِّن في عيني منه ما يُزيَّنُ في عين الوالدِ من ولده. ومنهم ميمون بن مهران من أعيان التابعين، وكان خصيصًا بعمر بن عبد العزيز، وقد تقدم بعض ذكر ثنائِهِ عَلَى عبد الملك. وروى الإمام أحمد بإسناده عن ميمون بن مهران قال: ما رأيتُ ثلاثة في بيتٍ خيرًا من عمر بن عبد العزيز، وابنهِ عبد الملك، ومولاهم مزاحم. ¬

_ (¬1) طمس بالأصل. وترتيب الأبواب يقتضيها. (¬2) إِنَّ هنا: بمعنى ما النافية. (3) طمس بالأصل.

ومنهم الربيعُ بن سبرة، روى ابن أبي الدُّنْيَا بإسناده عن الربيع بن سبرة أنه دخل عَلَى عمر بن عبد العزيز لما هَلَكَ ابنُهُ عبد الملك وأخوهُ سهلٌ ومزاحم مولاهم في أيامٍ متتابعةٍ، فَقَالَ له الربيع: أعظم الله جَزاءك يا أمير المؤمنين، فما رأيتُ أحدًا أصيبَ بأعظم من مصيبتك في أيام متتابعة، والله ما رأيتُ مثلَ ابنك ابنًا، ولا مثلَ أخيك أخًا، ولا مثلَ مولاكَ مولى قط. ومنهم سيار بن الحكم أنه قال: قال ابن لعمر بن عبد العزيز يقال: له عبد الملك -وكان يفضل عَلَى أبيه عمر: يا أبَهْ، أقم الحقَّ ولو ساعةً من نَهارٍ. ***

فصل وهذه نبذة مختصرة من سيرة والد عبد الملك أبي حفص عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه ونفع بها

فصل وهذه نبذةٌ مختصرةٌ من سيرةِ والدِ عبد الملكِ أبي حفصٍ عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه ونَفَعَ بها قال عمر بن عبد العزيز لصاحب حرسِهِ عمرو بن مهاجر. إذا رأيتني قد مِلْتُ عن الحق فضع يدك في تِلْبابي (¬1) ثم هُزَّني ثم قل لي: يا عمر، ما تَصْنَعُ؟ وكتب عمر إِلَى المسلمين كتابًا يُقرأ عليهم بالموسم بمكة: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنِّي أُشْهِدُ اللهَ وَأَبْرَأُ إِلَيْهِ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ، وَالْبَلَدِ الْحَرَامِ وَيوْمِ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنِّي بَرِيءٌ مِنْ ظَلَمَكُمْ، وَعُدْوَانِ مِنَ عَادَاكُمْ، أَنْ أَكُونَ أَمَرْتُ بِذَلِكَ أَوْ رَضِيتُ بِهِ أَوْ تَعَمَّدْتُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ وَهْمًا مِنِّي، أَوْ أَمْرًا خَفِيَ عَلَيَّ لَمْ أَتَعَمَّدْهُ، وَأَرْجُو أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مَوْضُوعًا عَنِّي مَغْفُورًا لِي، إِذَا عَلِمَ مِنِّي الْحِرْصَ وَالِاجْتِهَادَ، ألا وَإِنَّهُ لا { .... } (¬2) عَلَى المَظْلُوم دُونِي، وَأَنَا مِعْوَلُ المَظْلُومٍ، ألا وَأَيُّ عَامِلٍ مِنْ عُمَّالِي رَغِبَ عَنِ الْحَقِّ وَلَمْ يَعْمَلْ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَلا طَاعَةَ لَهُ عَلَيْكُمْ، وَقَدْ صَيَّرْتُ أَمَرَهُ إِلَيْكُمْ، حَتَّى يُرَاجِعَ الْحَقَّ وَهُوَ ذَمِيمٌ، ألا وَإِنَّهُ لا دَوْلَةَ بَيْنَ أَغْنِيَائِكُمْ وَلا أَثَرَةَ عَلَى فُقَرَائِكُمْ فِي شَيْءٍ مِنْ فَيْئِكُمْ. ألا وَأَيُّمَا وَارِدٍ وَرَدَ فِي أَمْرٍ يُصْلِحُ اللهُ بِهِ خَاصًّا أَوْ عَامًّا مِنْ هَذَا الدِّينِ، فَلَهُ مَا بَيْنَ مِائَةِ دِينَارٍ إِلَى ثَلَاثِمِائَةِ دِينَارٍ، عَلَى قَدْرِ مَا نَوَى مِنَ الْحَسَنَةِ وَتَجَشَّمَ الْمَشَقَّةِ، فَرَحِمَ اللهُ امْرَأً لَمْ يَتَعَاظَمْهُ سَفَرٌ يُحْيِي اللهُ بِهِ حَقًّا لِمَنْ وَرَاءَهُ، وَلَوْلا أَنْ أَشْغَلَكُمْ عَنْ مَنَاسِكِكُمْ، لَرَسَمْتُ لَكُمْ أُمُورًا مِنَ الْحَقِّ أَحْيَاهَا اللهُ لَكُمْ، وَأُمُورًا مِنَ الْبَاطِلِ أَمَاتَهَا اللهُ عَنْكُمْ، وَكَانَ اللهُ هُوَ الْمُتَوَحِّدُ بِذَلِكَ؛ فَلَا تَحْمَدُوا غَيْرَهُ، فَإِنَّهُ لَوْ وَكَّلَنِي إِلَى نَفْسِي كُنْتُ كَغَيْرِي، وَالسَّلَامُ عَلَيْكُمْ. ¬

_ (¬1) قيل لبيت فلانًا، إذا جمعت ثيابه عند صدره ونحره، ثم جررته "لسان العرب" (1/ 733). (¬2) كلمة غير واضحة بالأصل، وفي "المطبوع" إذن. (3) في "الأصل" برئيًا.

وكتب بعضُ عمال عمر بن عبد العزير إِلَيْهِ أما بعد، فإن مدينتنا قد خربَتْ فإن رأى أميرُ المؤمنين أن يقطع لنا مالاً نُعمرها به، فعل فكتب إِلَيْهِ. أما بعدُ، فقد فهمتُ كتابك وما ذكرتَ أن مدينتكم قد خربتْ، فَإِذَا قرأت كتابي هذا فأحصنها بالعدلِ، ونقِّ طرقها من الظلمِ، فإنه مرضها والسلام. وكتب إِلَيْهِ بعض عماله أيضاً: إِنَّ ناسًا من العمال قد اقتطعوا من مالِ الله مالاً عظيمًا، لستُ أقدر عَلَى إخراجه منهم، إلا أن يمسَّهم شيءٌ من العذاب؛ فإن رأى أميرُ المؤمنين أن ياذن لي في شيء من ذلك. فكتب إِلَيْهِ عمر: «أَمَّا بَعْدُ فَالْعَجَبُ كُلَّ الْعَجَبِ اسْتِئْذَانُكَ إِيَّايَ فِي عَذَابِ بَشَرِ، كَأَنِّي لَكَ جُنَّةٌ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ -عزَّ وجلَّ- وَكَأَنَّ رِضَائِي عَنْكُمْ مُنْجِيكُمْ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ، فانظر من قامْت عليه البينةُ فخذه بما قامت عليه، ومن أقر لك بشيءٍ فخذهُ بما أقر به، ومن أنكر فاستحلفْه بالله -تعالى- وخلِّ سبيله، فوالله لأنّ يلقوا الله بجناياتهم أَحَبّ إلي من أن ألقى الله بدمائِهم. وبلغ عمر بن عبد العزيز أنَّ أحد أولاده اشترى فصًّا بألف درهم ليختم به، فكتب إِلَيْهِ عمر: عزيمة مني عليك يا بُني لما بعتَ الفَصَّ الَّذِي اشتريت بألف درهم، وتصدقت بثمنه، واشتريت فصَّا بدرهم ونقشت عليه: رحم الله امرأ عرف قدر نفسه والسلام. وشكا مزاحم إِلَى عمر حاجةَ أهلِ عمر وقلةَ ما بأيديهم، فَقَالَ عمر: إِنَّ لي نفسًا توَّاقةً، لقد رأيتُني وأنا بالمدينة غلامٌ من الغلمان، ثم تاقت نفسي إلي العِلْم والعربية والشعرِ فأخذت منه حاجتي. ثم تاقت نفسي إِلَى السلطان فاستُعملتُ عَلَى المدينة. ثم تاقت نفسي وأنا في السلطان إِلَى اللبسِ والعيشِ الطيب، فما علمتُ أن أحدًا من أهل بيتي ولا غيرهم كان فيما كنتُ فيه، ثم

تاقت نفسي إِلَى الآخرة والعمل بالعدل؛ فأنا أرجو أن أنال ما تاقت إِلَيْهِ نفسي من أمرِ آخرتي، ولستُ بالذي أُهلكُ آخرتي بدُنياي. وكان عمر يقول لجلسائه: من صحبني منكم فليصحبني بخمس خصال: يدلني من العدلِ ما لا أهتدي له، ويكونُ لي عَلَى الحق عونًا، ويبلغني حاجة من لا يستطيعُ إبلاغها، ولا يغتاب عندي أحدًا، ويؤدي لي الأمانة التي حملها مني ومن الناس؛ فَإِذَا كان كذلك فأهلاً به وإلا فهو في حَرَجٍ من صُحبتي والدخول عليَّ. وكتب عمر إِلَى عاملِهِ عَلَى فلسطين: أن اركب إِلَى البيت الَّذِي يقال له: المكس (¬1) فاهدمه ثُم احمله إِلَى البحر فانسفه في اليم نسفًا. وشكا إِلَى عمر بن عبد العزيز بعضُ عمالِهِ فكتب إِلَيْهِ: اذكر طولَ سهرِ أهل النارِ في النار مع خلودٍ إِلَى الأبد، وإياكَ أن ينصرفَ بك من عند الله فيكون آخر العهد، وانقطاع الرجاء. فلما قرأ العامل الكتاب، طوى البلاد حتى قدم عَلَى عمر، قال: ما أقدمك؟! قال: خلعت قلبي بكتابك، والله لا أعود إِلَى ولايةٍ حتى ألقى الله -عز وجل! وكتب عمر إِلَى بعض مدن الشام كتابًا وكتب فيه: أما بعد، فكم للترابِ في جسدِ ابن آدم من مأكلٍ، وكم للدودِ في جوفِهِ من طريق منخرقٍ، وإني أحذركم أيها الناس ونفسي العرضَ عَلَى الله عز وجل. وكان عمر يجمع الفقهاء كل ليلة، فيتذاكرون الموت والقيامةَ، ثم يبكون كأن بين أيديهم جنازةً. وكان عمر يومًا في بيتٍ فبكى، فبكت زوجته، فبكى أهل الدارِ لا يدري ¬

_ (¬1) المكس: هو الجباية وهي الدارهم التي كانت تؤخذ من بائع السلع في الأسواق. "لسان العرب" (6/ 20).

هؤلاء ما أبكى هؤلاء، فلما انجلت عنهم العبرةُ قالت له زوجتُهُ: يا أمير المؤمنين، مم بكيت؟ قال: ذكرت منصرف القومِ من بين يدي الله -عز وجل- فريق في الجنة وفريق في السعير. ثم صرخ وغشي عليه. وكان آخر خطبة خطبها عَلَى المنبر -رحمه الله- أن حمد الله وأثنى عليه فقال فيها: إنكم لم تُخلقوا عبثاً، ولن تُتركوا سدى، وإن لكم معاداً ينزلُ اللهُ فيكم ليحكم بينكم، ويفصلَ بينكم، خابَ وخسرَ من خَرَجَ من رحمةِ الله، وحُرمَ جنَّةً عرضُها السماوات والأرض، ألم تعلموا أنه لا يأمن غداً إلا من حذرَ الله اليومَ وخافه، وباعَ نافدًا بباقٍ، وقليلاً بكثير، وخوفاً بأمان. ألا ترون أنكم في أسلاب الهالكين، وسيصيرون من بعدكم للباقين، وكذلك حتى نردَّ إِلَى خيرِ الوارثين، ثم إنكم تشيعونَ كل يومٍ غاديًا ورائحًا قد قضى نحبه، وانقضى أجله حتى تغيبوه في صدع من الأرض، وفي شق صدعٍ، ثم تتركونَهُ غير ممهَّد ولا موسَّدٍ، قد فارق الأحبابَ وباشرَ التُّرابَ وواجهَ الحسابَ، مرتهنٌ بما عمل، غنيٌّ عما تركَ، فقيرٌ إِلَى ما قدم، فاتقوا الله -عز وجل- قبل نزول الموت وحلولِهِ بكم، أما والله إني لأقول هذا، وما أعلم عند أحدٍ من الذنوب أكثرَ مما عندي، وأستغفرُ الله وأتوب إِلَيْهِ، وما منكم من أحدٍ {له} (¬1) حاجة، لا يتسع له ما عندنا إلا تمنيتُ الله أن يبدأ بي وبخاصّتي حتى يكون عيشُهُ وعيشنا واحدًا، إنه والله لو أردت غير هذا من غضارَةِ (¬2) العيش، لكان اللسان دلولاً وكنت بأسبابه عالمًا، ولكن سبق من الله كتاب ناطق وسنة عادلة، دلَّ فيها عَلَى طاعته ونهى فيها عن معصيته. ثم رَفعَ طرَفَ ردائه وبكى حتى شهق وأبكى من حوله، ثم نزل ولم يخطب بعدها حتى مات -رحمه الله. وكتب عمر إِلَى عاملِهِ عَلَى البصرة: ¬

_ (¬1) ليست بالأصل، وأثبتها لتناسب السياق. (¬2) الغضارة: النعمة والسعة في العيش. "لسان العرب" مادة: (غضر).

أما بعد، فإني أذكرك بليلةٍ تمخض (¬1) بالساعة، فصباحها القيامة، يا لها من ليلةٍ ويا له من صباحٍ كان عَلَى الكافرين عسيرًا. وبكى عمرُ ذات ليلة فاشتد بكاؤه، فلما أصبح قال لغلامه: يا بني، ليس الخير أن يُسمع لك ويُطاع، وإنما الخير أن تعقل عن ربك ثم تطيعه، يا بُني لا تأذن اليوم لأحدٍ عليَّ حتى يرتفع النهار؛ فإني أخاف أن لا أعقل عن الناس ولا يفهموا عني. فَقَالَ الغلام: بأبي أنت يا أميرَ المؤمنين، رأيتك الليلة بكيتَ بكاءً ما بكيتَ مثله. قال: فبكى ثم قال: يا بني، إني والله ذكرتُ الوقوفَ بين يدي الله -عز وجل- قال: ثم غمي عليه فلم يُفق حتى علا النهار. قال: فما رأيتُهُ بعد ذلك مبتسمًا حتى ماتَ -رحمه الله-. وجاء أعرابي يومًا إِلَى عمر بن عبد العزيز، فَقَالَ: يا أمير المؤمنين، جاءت بي الحاجَةُ وانتهت الغايةُ، والله سائلك عني يوم القيامة. قال: ويحك! أعدْ عليَّ. فأعاد عليه؛ فنكَّسَ عمر رأسه وأرسل دموعَهُ حتى ابتلَّت الأرض، ثم رفع رأسه فَقَالَ: ويحك كم عيالك وكم أنتم؟ قال: أنا وثلاثُ بنات. ففرض له عَلَى ثلاثماثة وفرض لبناتِهِ عَلَى مائة وأعطاه مائة درهم وقال: هذا من مالي وليس من أموال المسلمين، اذهب فاستنفقها حتى تخرجَ أعطياتُ المسلمين وتأخذَ معهم. وأتاه رجل من أهل أذربيجان فقام بين يديه فَقَالَ: يا أمير المومنين، اذكُر بمقامي هذا بين يديك مقامًا لا يشغل اللهَ -عز وجل- عنه كثرةُ من يتخاصم من الخلائق، يوم تلقاهُ بلا ثقةٍ من العمل، ولا براءةٍ من الذنب. فبكى عمر بكاءً شديدًا ثم قال: ويحك، اردد عليَّ كلامَكَ هذا. فجعل يردِّدُه وعمر يبكي وينتحب، ثم قال: حاجَتَك؟ قال: إِن عامل أذربيجان عدا عليَّ وأخذ ¬

_ (¬1) يقال: تمخضت الليلة عن يوم سوء إذا كان صباحها صباح سوء. "لسان العرب" مادة: (مخض).

مني اثني عشر ألف درهم، فجعلها في بيت مال المسلمين فَقَالَ عمر اكتبوا له الساعة إِلَى عاملها حتى يردَّ عليه. ووعظه رجل من الصالحين يومًا فَقَالَ له يا أمير المؤمنين، ما {من} أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - إلا هو خصمٌ لك. فبكى عمر حتى تمنى ذلك الرجل أنه لم يكن قال شيئًا. وقال عمر بن عبد العزيز يومًا لخالد بن صفوان: عظني وأوْجز. فَقَالَ: يا أمير المؤمنين، إِنَّ أقوامًا غرهم ستر الله تعالى عليهم، وفتنهم حسن الثناء، فلا يغلبن جهلُ غيركَ بك معرفتَكَ بنفسك. أعاذني الله وإياك أن نكون بالسترِ مغرورين، وبثناء الناس مفتونين، وعما افترض علينا متخلفين، وإلى الهوى مائلين. فبكى عمر ثم قال: أعاذنا الله وإياك من اتّباع الهوى. وقال خالد بن صفوان يومًا لعمر: إِنَّ الله لم يَرضَ أن يكون أحد فوقك فلا ترض أن يكون أحدٌ (فوقي) (¬1)، فوالله لأخافنه خوفًا، ولأحذرنه حذرًا، ولأرجونه رجاءً، ولأحبَّنَّهُ محبةً، ولأشكرنَّه شكرًا، ولأحمدنه حمدًا، يكون ذلك كله طاقتي، ولأجتهدنَّ في العدلِ والنِّصفَةِ والزُّهْد في الدُّنْيَا لزوالها، والرغبة في بقاءِ الآخرة ودوامها حتى ألقى الله عز وجلَّ؛ فلعلي أنجو مع الناجين، وأفوز مع الفائزين. وبكى حتى غشي عليه، وقام خالد وتركه عَلَى حاله. وقرأ عمر بن عبد العزيز يومًا هذه الآية: {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ} (¬2) فبكى عمر بكاءً شديدًا حتى سمعه أهلُ الدارِ، فجاءت زوجته، فجعلت تبكي لبكائه، وبكى أهل الدار لبكائهما، فجاء ابنه عبد الملك فدخل عليهم وهم عَلَى تلك الحال فَقَالَ: يا أبه ما يبكيك؟! قال: خير يا بني، ودَّ أبوك أنه لم يعرف الدُّنْيَا ¬

_ (¬1) كذا! ولعلها: "فوقه قال: ". (¬2) يونس: 61.

ولم تعرفه، يا بني لقد خشيتُ أن أهلك، يا بني لقد خشيت أن أكون من أهل النار. ودخل يومًا سابق البربري الشاعرُ عَلَى عمر بن عبد العزيز، فَقَالَ له عمر: عظني يا سابق وأوْجز. قال: نعم، وأبلغ يا أمير المؤمنين إن شاء الله. قال: هات. فأنشده: إِذَا أَنْتَ لَمْ تَرْحَلْ بِزَادٍ مِنَ التُّقَى ... وَوَافَيْتَ بَعْدَ الْمَوْتِ مَنْ قَدْ تَزَوَّدَا نَدِمْتَ عَلَى أَنْ لا تَكُونَ شركتهُ ... وَأَرْصَدْتَ قَبْلَ المَوْتِ مَا كَانَ أَرْصَدَا فَبَكَى عُمَرُ حَتَّى خَرَّ مَغْشِيًّا عَلَيْهِ. وأنشد يومئذ قصيدةً حسنة، مشتملة عَلَى حكم ومواعظ، أنشدها لعمر بن عبد العزيز ونحن نذكرها ونختم بها الكتاب. قال متمثلاً: بسم الَّذِي أُنْزِلت من عندِهِ السُّور ... والحمد للهِ أما بعدُ يا عمرُ إِن كنتَ تعلمُ ما تأتِى وما تذر ... فكُن عَلَى حَذَرٍ قد ينفَعُ الحذرُ واصبرْ عَلَى القَدَر المقدورِ وارضَ به ... وإن أتاك بما لا تشتهي القَدرُ فما صفا لامرئ عيشٌ يُسرُّ به ... إِلا وأعْقَبَ يومًا صفوَهُ كَدَرُ قد يرعوي المرء يومًا بعد هفوته ... وتحكم الجاهلَ الأيامُ والغيرُ

إِنَّ التقى خيرُ زادٍ أنتَ حاملُهُ ... والبرّ أفضَلُ ما تأتي وما تذَرُ من يطلُبِ الجورَ لا يَظْفَر بحاجتِهِ ... وطالبُ العدلِ قد يُهدى له الظَّفَرُ وفي الهدى عِبرٌ تشفى القلوبُ بها ... كالغيثِ تنضُرُ عن وسمِّيه (¬1) الشَّجَرُ وليس ذو العِلْمِ بالتقوى كجاهلها ... ولا البصيرُ كأعمى ما له بَصَرُ لا تَشْبَعُ النفسُ حتى حين تحرزُهُ ... ولا يزال لها فى غيرِه وَطَرُ ولا تزالُ وإن كانَتْ لها سعَةٌ ... لها إِلَى الشيءِ لم تظفرْ به نَظَرُ والذكرُ فيهِ حياةٌ للقلوبِ كما ... يُحيي البلادَ إذا ما ماتَت المطرُ والعلمُ يجلو العمى عن قلْبِ صاحبِهِ ... كما يجلي سوادَ الظُّلمَةِ القمرُ لا ينفعُ الذكرُ قلبًا قاسيًا أبدًا ... وهل يَلينُ لقولِ الواعِظِ الحجَرُ ما يلبثُ المرءُ أن يبلى إذا اختَلفَتْ ... يومًا عَلَى نفسِهِ الدَّوحاتُ (¬2) والغِيَرُ (¬3) والمرءُ يَصْعَدُ ريعانُ الشباب به ... وكلُّ مُصعدَةِ يومًا ستنحَدِرُ ¬

_ (¬1) وسميه: الوسمي هو مطر أول الربيع. "لسان العرب" مادة (وسم). (¬2) الدوائح: العظائم. "لسان العرب" مادة: (دوح). (¬3) الغير: تغير الدهر من حال إِلَى حال. انظر "لسان العرب" مادة: (غير).

بينا نرى الغُصْنَ لدْنًا في أرومتِهِ (¬1) ... ريانَ صارَ حُطامًا جوفُهُ نَخِرُ وكل بيتٍ خرابٌ بعد جدَّتِهِ ... ومن وراءِ الشبابِ الموتُ والكبرُ والموتُ جسرٌ لمن يمشي عَلَى قَدَمٍ ... إِلَى الأمورِ التي تُخشَى وتُنتَظَرُ فهم يمرّون إليها وتجمَعُهُم ... دارٌ إليها يصيرُ البدوُ والحَضَرُ فكم جميعٍ أشتت الدهرُ شملهُمُ ... وكلُّ شَمْلٍ جميعٍ سوف ينتشرُ ورُبَّ أصيدَ سامي الطرفِ متعصبٍ ... بالتاجِ نيرانُهُ للحربِ تستَعِرُ يظل مفترشَ الديباجِ محتجبًا ... عليه تُبنى قباب الملكِ والحُجَرُ قد غادرتْهُ المنايا وهو مُستَلبٌ ... مجدَّلٌ تربُ الخدينِ مُنعفرُ أبعْدَ آدمَ ترجون البقاءَ وهل ... تبقى فروع لأصلِ حين ينعقِرُ لهم بيوتٌ بمستن السيوفِ وهل ... يبقى عَلَى الماء بيتٌ أسُّهُ مَدَرٌ إِلَى الفناءِ وإن طَالَتْ سلامتُهُم ... مصيرُ كل بنى أنثى وإن كثروا إِنَّ الأمور إذا استقبلتها اشتَبَهتْ ... وفي تدبُّرها التبيانُ والعِيَرُ ¬

_ (¬1) أرومته: أصله. "لسان العرب" مادة: (روم).

والمرءُ ما عاش فى الدُّنْيَا له أملٌ ... إذا انقضى سفرٌ منها أتى سَفَرُ لها حلاوةُ عيشٍ غيرُ دائمةٍ ... وفي العواقبِ منها المُرُّ والصَّبرُ إذا انقضت زمرٌ آجالُها نزلتْ ... عَلَى منازلها من بعدِها زُمَرُ وليس يزجرُكم ما توعظون به ... والبُهم يزجرُها الراعي فتنزجر أصبحتم جُزُرًا للموت يقبضكم ... كما البهائمُ في الدُّنْيَا لها جزُرُ لا تبطروا واهجروا الدُّنْيَا فإن لها ... غبًّا وخيمًا وكفرُ النعمةِ البَطرُ ثم اقتدوا بالألى كانوا لكُمْ غررًا ... وليس من أمةٍ إلا لها غُرَرُ حتى تكونوا عَلَى منهاجِ أوّلكُمْ ... وتصبروا عن هوى الدُّنْيَا كما صبروا ما لي أرى الناس والدنيا مُوَلّيةٌ ... وكل حبل عليها سوف يَنبَتِرُ لا يشعرون بما في دينهم نقصوا ... جهلاً وإن نقصت دُنياهُمُ شعروا ***

20 - تفسير سورة النصر

تفسير سورة النصر

بسم الله الرحمن الرحيم قال الشيخ الأجلُّ عبد الرحمن بن رجب -رحمه الله وعفا عنه بمنه وكرمه آمين-: "الكلام عَلَى سورة النَّصر". جاء في حديث أنها: "تعدل ربع القرآن" (¬1). وهي مدنية بالاتفاق، بمعنى: أنها نزلت بعد الهجرة إِلَى المدينة، وهي من أواخر ما نزل. وفي "صحيح مسلم" (¬2) عن ابن عباس قال: "آخر سورة نزلت من القرآن جميعًا: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} (¬3) ". واختلف في وقت نزولها، فقيل: نزلت في السنة التي تُوفي فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وفي "مسند الإمام أحمد" (¬4) عن محمد بن فُضيل، عن عطاء، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: "لما نزلت {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: نُعيت إليَّ نفسي {بأنه} (¬5) مقبوض في تلك السنة". عطاء هو ابن السائب اختلط بأخرة. ويشهد له ما أخرجه البزار في "مسنده" (¬6) والبيهقي (¬7) من حديث موسى ابن عبيدة، عن عبد الله بن دينار وصدقة بن يسار (¬8) عن ابن عمر قال: ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي (2895)، وأحمد (3/ 146 - 147، 221) من حديث أنس بن مالك، وقال الترمذي: هذا حديث حسن. وضعفه ابن حجر في الفتح (9/ 62). (¬2) برقم (3024). (¬3) النصر: 1. (¬4) (1/ 217). (¬5) بياض بالأصول والمثبت من المسند. (¬6) في "كشف الأستار" (1141). (¬7) في "السنن الكبير" (5/ 152). (¬8) في جميع الأصول: بشار، وهو تصحيف، والصواب ما أثبتناه.

"نزلت هذه السورة عَلَى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمنى، وهو في أوسط أيام التشريق في حجة الوداع: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} فعرف أنه الوداع، فأمر براحلته القصواء فرحلت له ثمَّ ركب، فوقف للناس بالعقبة، فحمد الله وأثنى عليه ... " وذكر خطبة طويلة. هذا إسناد ضعيف جدًّا، وموسى بن عبيدة قال أحمد: لا تحل عندي الرواية عنه. وعن قتادة قال: "عاش رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعدها سنتين". وهذا يقتضي أنها نزلت قبل الفتح، وهذا هو الظاهر؛ لأنّ قوله: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} يدل دلالة ظاهرة عَلَى أن الفتح لم يكن قد جاء بعد، لأنّ "إذا" ظرف لما يستقبل من الزمان، هذا هو المعروف في استعمالها، وإن كان قد قيل إنها تجيء للماضي كما في قوله: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا} (¬1). وقوله: {وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ} (¬2). وقد أجيب عن ذلك بأنه أريد أن هذا شأنهم ودأبهم لم يرد به الماضي بخصوصه، وسنذكر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "جاء نصر الله والفتح، وجاء أهل اليمن" ومجيء أهل اليمن (كما قيل: في) (*) حجة الوداع. قوله تعالى: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ}. أمَّا نصر الله فهو معونته عَلَى الأعداء حتى غلب النبي - صلى الله عليه وسلم - العرب كلهم، واستولى عليهم من قريش وهوازن وغيرهم. وذكر النقَّاش عن ابن عباس أن النصر هو صلح الحديبية. ¬

_ (¬1) الجمعة: 11. (¬2) التوبة: 92. (*) "كان قبل" نسخة.

وأمَّا الفتح فقيل: هو فتح مكة بخصوصها. قاله ابن عباس وغيره؛ لأنّ العرب كانت تنتظر بإسلامها ظهور النبي - صلى الله عليه وسلم - عَلَى مكة. وفي "صحيح البخاري" (¬1) عن عمرو بن سلمة قال: "لمَّا كان الفتح بادر كل قوم بإسلامهم إِلَى رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت الأحياء تَلوَّمُ (¬2) بإسلامها فتح مكة فيَقُولُونَ: دعوه وقومه، فإن ظهر عليهم فهو نبي". وعن الحسن قال: "لمَّا فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة قالت العرب: أما إذا ظفر محمد بأهل مكة، وقد أجارهم الله من أصحاب الفيل فليس لكم به يدان. فَدَخلوا في دين الله أفواجًا". وقيل: إِنَّ الفتح يعم مكة وغيرها مما فُتح بعدها من الحصون والمدائن، كالطائف وغيرها من مدن الحجاز واليمن وغير ذلك، وهو الَّذِي ذكره ابن عطية. وقوله: {وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا} (¬3). المراد بالناس العموم عَلَى قول الجمهور، وعن مقاتل: أنهم أهل اليمن. وفي "مسند الإمام أحمد" (¬4) من طريق شعبة، عن عمرو بن مرة، عن أبي البختري، عن أبي سعيد الخدري، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لمَّا نزلت هذه السورة: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} قرأها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى ختمها، فَقَالَ: " «النَّاسُ حَيِّزٌ وَأَنَا وَأَصْحَابِي حَيِّزٌ». وقال: «لاَ هِجْرَةَ بَعْدَ الفَتْحِ، وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ» وأن مروان كذَّبه فصدق رافع بن خديج وزيد بن ثابت أبا سعيد عَلَى ما قال. ¬

_ (¬1) برقم (4302). (¬2) التَّلوُّم: الانتظار والتلبث. "اللسان" (12/ 557). (¬3) النصر: 2. (¬4) (3/ 22).

وهذا يستدل به عَلَى أنَّ المراد بالفتح فتح مكة؛ فقد ثبت في "الصحيحين" من حديث ابن عباس "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم الفتح: «لاَ هِجْرَةَ وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ» (¬1). وأيضًا فالفتح المطلق هو فتح مكة كما في قوله: {لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ} (¬2) ولهذا قال: «النَّاسُ حَيِّزٌ، وَأَنَا وَأَصْحَابِي حَيِّزٌ». وروى النسائي (¬3) من طريق هلال بن خَبّاب، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: "لمَّا نزلت: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} إِلَى آخر السورة قال: نُعيتْ لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - نفسُهُ حين أُنزلت، فأخذَ بأشد ما كان اجتهادًا في أمر الآخرة، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك: «جَاءَ الْفَتْحُ، وَجَاءَ نَصْرُ اللهِ وَجَاءَ أَهْلُ الْيَمَنِ. فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللهِ، وَمَا أَهْلُ الْيَمَنِ؟ قَالَ: قَوْمٌ رَقِيقَةٌ قُلُوبُهُمْ لَيِّنَةٌ {قُلُوبُهُمُ} (¬4) الْإِيمَانُ يَمَانٌ، وَالْحِكْمَةُ يَمَانِيَةٌ، وَالْفِقْهُ يَمَانٌ». وروى ابن جرير (¬5) من طريق الحسين بن عيسى الحنفي، عن معمر، عن الزهري، عن أبي حازم، عن ابن عباس قال: «بينما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المدينة إذ قال: الله أكبر الله أكبر، وَجَاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ، جَاءَ أَهْلُ الْيَمَنِ. قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ، وَمَا أَهْلُ الْيَمَنِ؟ قَالَ: قَوْمٌ رَقِيقَةٌ قُلُوبُهُمْ لَيِّنَةٌ طِبَاعُهُمُ، الْإِيمَانُ يَمَانٌ، وَالْحِكْمَةُ يَمَانٌ، وَالْفِقْهُ يَمَانِيَةٌ». ورواه أيضاً من طريق عبد الأعلى، عن معمر، عن عكرمة مرسلاً، وكذا هو في "تفسير عبد الرزاق" عن معمر، أخبرني من سمع عكرمة ... فأرسله. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (1834)، ومسلم (1353). (¬2) الحديد: 10. (¬3) في "السنن الكبرى" (11712). (¬4) في "الأصل": ألسنتهم. والمثبت من "أ" و"السنن الكبرى". (¬5) "تفسير الطبري" (30/ 215).

وهذا لا يدل عَلَى اختصاص أهل اليمن بالناس المذكورين في الآية، وإنما يدل عَلَى أنّهم داخلون في ذلك؛ فإن الناس أعم من أهل اليمن. قال ابن عبد البر: لم يمت رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وفي العرب رجل كافر بل دخل الكُلُّ في الإسلام بعد حُنين والطائف، منهم من قِدم، ومنهم قَدِم وفده ثُمّ كان بعدُ من الردةِ ما كان، ورجعوا كلهم إِلَى الدين. قال ابن عطية: المراد -والله أعلم-: العرب عبدة الأوثان. وأمَّا النصارى بنو تغلب فما أراهم أسلموا قط في حياة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لكن أعطوا الجزية. والأفواج: الجماعةُ إثر الجماعة كما قال الله تعالى: {كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ} (¬1) وفي "المسند" (¬2) من طريق الْأَوْزَاعِيِّ، حَدَّثَنِي أَبُو عَمَّارٍ، حَدَّثَنِي جَارٌ لِجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ: "قَدِمْتُ مِنْ سَفَرٍ فَجَاءَنِي جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ يُسَلِّمُ عَلَيَّ، فَجَعَلْتُ أُحَدِّثُهُ عَنْ افْتِرَاقِ النَّاسِ، وَمَا أَحْدَثُوا، فَجَعَلَ جَابِرٌ يَبْكِي، ثُمَّ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "إِنَّ النَّاسَ دَخَلُوا فِي دِينِ اللهِ أَفْوَاجًا وَسَيَخْرُجُونَ مِنْهُ أَفْوَاجًا". وقوله: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ} (¬3). فيه قولان: حكاهما ابن الجوزي: أحدهما: أن المراد به الصلاة، نقله عن ابن عباس. والثاني: التسبيح المعروف. وفي "الباء" في {بحمد} قولان: ¬

_ (¬1) الملك: 8. (¬2) (3/ 343). (¬3) النصر: 3.

أحدهما: أنها للمصاحبة، فالحمد مضاف إِلَى المفعول، أي: فسبحه حامدًا له، والمعنى: اجمع بين تسبيحه -وهو تنزيهه عما لا يليق به من النقائص- وبين تحميده، وهو إثبات ما يليق به من المحامد. والثاني: أنها للاستعانة، والحمد مضاف إِلَى الفاعل، أي سبحه بما حَمِد به نفسه؛ إذ ليس كل تسبيح بمحمود، كما أن تسبيح العتزلة يقتضي تعطيل كثير من الصفات، كما كان بشر المريسي يقول: سبحان ربي الأسفل. وقوله: {واستغفره} أي: اطلب مغفرته، والمغفرة: هي وقاية شر الذنب لا مجرد ستره. والفرق بين العفو والمغفرة أن العفو محو أثر الذنب، وقد يكون بعد عقوبة عليه، بخلاف المغفرة، فإنها لا تكون مع العقوبة. وقوله: {إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} إشارة إِلَى أنه سبحانه يقبل توبة المستغفرين المنيبين إِلَيْهِ، فهو ترغيب في الاستغفار، وحث عَلَى التوبة. وقد فهم طائفة من الصحابة -رضي الله عنهم- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أُمر بالتسبيح والتحميد والاستغفار عند مجيء نصر الله والفتح، شكرًا لله عَلَى هذه النعمة، كما صلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم فتح مكة ثمان ركعات (¬1). وكذلك صلى سعد يوم فتح المدائن، وكانت تلك تسمى: صلاة الفتح. وأما عمر وابن عباس فقالا: بل كان مجيء النَّصر والفتح علامة اقتراب أجله، وانقضاء عمره، فامر أن يختم عمله بذلك، ويتهيأ للقاء الله، والقدوم عليه عَلَى أحسن أحواله وأتمها، فإنه لمَّا جاء نصر الله والفتح بحيث صارت مكة دار إسلام، وكذلك جزيرة العرب كلها، ولم يبق بها كافر، ودخل الناس في دين الله أفواجًا. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (280)، ومسلم (336).

وقد بلَّغ رسول الله صلى الله عليه وسلم رسالات ربه، وعلَّم أمته مناسكهم وعباداتهم، وتركهم عَلَى البيضاء، ليلها كنهارها، ولم يبق له من الدُّنْيَا حاجة، فحينئذ تهيأ للنَّقلة إِلَى الآخرة؛ فإنها خير له من الأولى، ولهذا نزلت: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ... } (¬1) بعرفة. وعلَّم الأمة مناسكهم، وقال لهم: "لعلي لا أراكم بعد عامي هذا" (¬2). وقال لهم: "هل بلغت؟ قالوا: نعم"، وأشهد الله عليهم بذلك وودَّع النَّاس، فقالوا: هذه حجة الوداع (¬3). وقد خيَّر - صلى الله عليه وسلم - بين الدُّنْيَا وبين لقاء ربه، فكان آخر ما سُمع منه: "اللهم الرفيق الأعلى" (¬4). ونظير هذا الفهم الَّذِي فهمه عمر من هذه السورة ما فهمه أبو بكر من قول النبي - صلى الله عليه وسلم - في خطبته: "إِنَّ عبدًا خير بين الدُّنْيَا وبين لقاء ربه، فاختار لقاء ربه" (¬5) وقد سبق من حديث ابن عباس ما يدل عَلَى ذلك. وفي "صحيح البخاري" (¬6) من حديث سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: كَانَ عُمَرُ يُدْخِلُنِي مَعَ أَشْيَاخِ بَدْرٍ فَكَأَنَّ بَعْضَهُمْ وَجَدَ فِي نَفْسِهِ، فَقَالَ: لِمَ تُدْخِلُ هَذَا مَعَنَا وَلَنَا أَبْنَاءٌ مِثْلُهُ؟! فَقَالَ عُمَرُ: إِنَّهُ مِمَّنْ قَدْ عَلِمْتُمْ. فَدَعَاهُمْ ذَاتَ يَوْمٍ فَأَدْخَلَهُ مَعَهُمْ، فَمَا رأيتُ أَنَّهُ دَعَانِي فِيهِمْ يَوْمَئِذٍ إِلَّا لِيُرِيَهُمْ، فَقَالَ: مَا تَقُولُونَ فِي قَوْلِ اللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ-: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالفَتْحُ}؟ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: أُمِرْنَا أَنْ نَحْمَدَ اللَّهَ وَنَسْتَغْفِرَهُ إِذَا جَاءَ نُصِرْنَا وَفُتِحَ عَلَيْنَا، وَسَكَتَ بَعْضُهُمْ فَلَمْ يَقُلْ شَيْئًا، فَقَالَ لِي: أَكَذَاكَ تَقُولُ يَا ابْنَ عَبَّاسٍ؟ فَقُلْتُ: لاَ. ¬

_ (¬1) المائدة: 3. (¬2) أخرجه مسلم (1297). (¬3) أخرجه البخاري (4406)، ومسلم (1679). (¬4) أخرجه البخاري (5674، 5743، 5750)، ومسلم (2191). (¬5) أخرجه البخاري (3904)، ومسلم (2382). (¬6) برقم (4970).

قَالَ: فَمَا تَقُولُ؟ قُلْتُ: هُوَ أَجَلُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْلَمَهُ لَهُ، قَالَ: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالفَتْحُ} فَذَلِكَ عَلاَمَةُ أَجَلِكَ: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الخَطَّاب: مَا أَعْلَمُ مِنْهَا إِلَّا مَا تَقُولُ» وقد رُويت هذه القصة عن ابن عباس من غير وجه. وفي "المسند" (¬1) عن أبي رزين، عن ابن عباس قال: لما نزلت: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} علم النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قد نعيت إِلَيْهِ نفسه". وقد سبق من حديث ابن عباس "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لمَّا نزلت هذه السورة أخَذَ في أشد ما كان اجتهادًا في أمرِ الآخرة". وروى الخرائطي في كتاب "الشكر" من طريق {شاذ} (¬2) بن فياض، عن الحارث بن شبل، عن أم النُّعمان الكندية، عن عائشة قالت: "لما نزلت هذه الآية: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} اجتهد النبي - صلى الله عليه وسلم - في العبادة، فقِيلَ لَهُ: يا رسول الله، ما هذا الاجتهاد؟ أليس قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبكَ وما تأخر؟! قال: أفلا أكون عبدًا شكورًا". إسناده ضعيف. وروى البيهقي (¬3) من طريق سعيد بن سليمان، عن عَبَّادُ بْنُ الْعَوَّامِ، عَنْ هِلَالِ بْنِ خَبَّابٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «لَمَّا نَزَلَتْ: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} دَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاطِمَةَ، فَقَالَ: إِنَّهُ قَدْ نُعِيَتْ إِلَيَّ نَفْسِي. فَبَكَتْ ثُمَّ ضَحِكْتِ. وَقَالَتْ: أَخبرني أَنَّهُ قَدْ نُعِيَتْ إِلَيَّ نَفْسِي فَبَكَيْتُ، ثُمَّ أَخبرني: إِنَّكِ أَوَّلُ أَهْلِي لَاحِقًا بِي فَضَحِكْتُ». ¬

_ (¬1) (1/ 344). (¬2) في "الأصل": بشار. وفي "أ" بياض والصواب ما أثبتناه كما في "تهذيب الكمال" (12/ 339). (¬3) في "دلائل النبوة" (7/ 167).

وكان -صلى الله عليه وسلم- يكثر من التسبيح والتحميد والاستغفار بعد نزول هذه السورة؛ ففي "الصحيحين" (¬1) عن مسروق، عن عائشة قالت: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي. يتأول القرآن". وفي "المسند" (¬2) و"صحيح مسلم" (¬3) عنها قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُكْثِرُ فِي آخِرِ أَمْرِهِ مِنْ قَوْلِ: سُبْحَانَ اللهِ وَبِحَمْدِهِ، أَسْتَغْفِرُ اللهَ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ. وَقَالَ: إَنَّ رَبِّي كَانَ أَخْبَرَنِي أَنِّي سَأَرَى عَلَامَةً فِي أُمَّتِي، وَأَمَرَنِي إِذَا رَأَيْتُهَا أَنْ أُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَأَسْتَغْفِرَهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا، فَقَدْ رَأَيْتُهَا: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ}» السورة كلَّها. وروى ابن جرير (¬4) من طريق حفص، ثنا عاصم (¬5) عن الشعبي، عن أم سلمة قالت: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في آخر أمره لا يقومُ ولا يقعدُ ولا يذهبُ ولا يجيء إلا قال: سُبْحَانَ اللهِ وَبِحَمْدِهِ. فقلت: يا رسول الله، إنك تُكثرُ من قول: سبحان الله وبحمده {لا تذهب ولا تجيء ولا تقوم ولا تقعد إلا قلت: سُبْحَانَ اللهِ وَبِحَمْدِهِ} قال: إني أمرت بها. فَقَالَ: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} إِلَى آخر السورة". غريب. وفي "المسند" (¬6) عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ} كَانَ يُكْثِرُ إِذَا قَرَأَهَا وَرَكَعَ (¬7) أَنْ يَقُولَ: سُبْحَانَكَ اللهُمَّ رَبَّنَا وَبِحَمْدِكَ، اللهُمَّ اغْفِرْ لِي إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ثَلَاثًا". ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (817)، ومسلم (484). (¬2) في (6/ 35، 184). (¬3) "صحيح مسلم" (1/ 351) برقم (484/ 220). (¬4) في "تفسير" (30/ 216). (¬5) في "الأصل، أ": "حفص بن عاصم". وهو خطأ، والصواب ما أثبتناه من التفسير وانظر "تهذيب الكمال" (14/ 32، 13/ 486، 487). (¬6) (1/ 388، 392، 394، 410، 434، 455). (¬7) زاد في الأصل: "وسجد" وهي زيادة مقحمة.

واعلم أنَّ التسبيح والتحميد فيه إثبات صفات الكمال ونفي النقائص والعيوب، والاستغفارُ يتضمنُ وقايةَ شر الذنوب. فذاك حق الله، وهذا حق عبده، ولهذا في خطبة الحاجة: "الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره" (¬1). وكان رجل في زمن الحسن البصري معتزل النّاس، فسأله الحسن عن حاله، فَقَالَ: إني أُصبح بين نعمة وذنب فأحدثُ للنعمة حمدًا، وللذنب استغفارًا، فأنا مشغولٌ بذلك. فَقَالَ الحسن: الزم ما أنت عليه، فأنت عندي أفقه من الحسن. والاستغفار: هو خاتمة الأعمال الصالحة، فلهذا أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يجعله خاتمة عُمرِهِ. كما يُشرع لمصلي المكتوبة أن يستغفر عقبها ثلاثًا (¬2)، وكما يُشرع للمتهجد من الليل أن يستغفر بالأسحار، قال تعالى: {وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} (¬3) وقال: {وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ} (¬4) وكما يشرع الاستغفار عقيب الحج قال تعالى: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (¬5). وكما يشرع ختمُ المجالس بالتسبيح والتحميد والاستغفار وهو كفارة المجلس (¬6)، وروي أنه يختم به الوضوء أيضًا (¬7). ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (868). (¬2) أخرجه مسلم (591). (¬3) الذاريات: 18. (¬4) آل عمران: 17. (¬5) البقرة: 199. (¬6) أخرجه أبو داود (4858)، والترمذي (3433)، والنسائي فى "الكبرى" (10230)، وأحمد (2/ 369، 494). (¬7) أخرجه النسائي في "الكبرى" (9909).

فائدة:

وسبب هذا أن العباد مُقصرون عن القيام بحقوق الله كما ينبغي, وأدائها عَلَى الوجه اللائق بجلاله وعظمته، وإنما يؤدونها عَلَى قدر ما يطيقونه، فالعارف يعرف أن قدر الحق أعلى وأجلُّ من ذلك فهو يستحي من عمله ويستغفر من تقصيره فيه كما يستغفر غيره من ذنوبه وغفلاته، وكلما كان الشخصُ بالله أعرف كان له أخوف، وبرؤية تقصيره أبصر. ولهذا كان خاتم المرسلين وأعرفُهم برب العالمين - صلى الله عليه وسلم - يجتهد في الثناء عَلَى ربه، ثُمَّ يقول في آخر ثنائه: "لا أحصي ثناء عليك أنت، كما أثينت عَلَى نفسك" (¬1). ومن هذا قول مالك بن دينار: لقد هممتُ أن أوصي إذا متُّ أن أقيد، ثُمَّ يُنطلقُ بي كما ينطلق بالعبد الآبق إِلَى سيده، فَإِذَا سألني قلت: يا رب، لم أرض لك نفسي طرفةَ عين. وكان كهمس يصلي كل يوم ألف ركعة، فَإِذَا صلى أخذ بلحيته، ثُمّ يقول لنفسه: قومي يا مأوى كل سوء، فوالله ما رضيتُك لله طرفة عين. فائدة: الاستغفارُ يردُ مجردًا، ويردُ مقرونًا بالتوبة، فإن ورد مجردًا دخل فيه طلب وقاية شر الذنب الماضي بالدعاء، والندم عليه، وقاية الذنب المتوقع بالعزم عَلَى الإقلاع عنه. وهذا الاستغفار الَّذِي يمنعُ الإصرار بقوله: «مَا أَصَرَّ مَنِ اسْتَغْفَرَ وَلَوْ عَادَ فِي الْيَوْمِ سَبْعِينَ مَرَّةٍ» (¬2). وبقوله: "لا صغيرةَ مع الإصرارِ، ولا كبيرةَ مع الاستغفار" (¬3) خرَّجهما ابن أبي الدُّنْيَا. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود (879)، والنسائي (169)، وابن ماجه (3841)، وأحمد (6/ 21). (¬2) أخرجه أبو داود (1514)، والترمذي (3559). (¬3) أخرجه القضاعي في "مسند الشهاب" (853).

وكذا في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} (¬1)، وفي "الصحيح" (¬2): "إذ أذنب عبدٌ ذنبًا ... " الحديث. وهو المانع من العقوبة في قوله: {وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} (¬3)، وإن ورد مقرونًا بالتوبة اختص بالنوع الأول، فإن لم يصحبه الندم عَلَى الذنب الماضي، بل كان سؤالاً مجردًا فهو دعاء محض، أن صحبه ندمٌ فهو توبةٌ. والعزمُ عَلَى الإقلاع من تمام التوبة، والتوبة إذا قُبلت فهل تقبل جزمًا أم ظاهرًا؛ فيه خلاف معروف. فيقال: الاستغفار المجرد هو التوبة مع طلب المغفرة بالدعاء، والمقرون بالتوبة هو طلب المغفرة بالدعاء فقط. وكذلك التوبة إِن أطلقت دخلَ فيها الانتهاء عن المحظور، وفعل المأمور؛ ولهذا علق الفلاح عليها، وجعل من لم يتب ظالمًا. فالتوبة حينئذٍ تشمل فعل كل مأمور، وترك كل محظور، ولهذا كانت بداية العبد ونهايته، وهي حقيقة دين الإسلام. وتارة تُقرنُ بالتقوى، أو بالعمل فتختص حينئذ بترك المحظور، والله أعلم. وفي فضائل الاستغفار أحاديث كثيرة منها: حديث: "جلاء القلوب تلاوةُ القرآن والاستغفار" (¬4). ¬

_ (¬1) آل عمران: 135. (¬2) أخرجه البخاري (7507)، ومسلم (2758). (¬3) الأنفال: 33. (¬4) أخرجه أبو نعيم في "الحلية" (8/ 197)، والخطيب في "التاريخ" (11/ 85) عن ابن عمر مرفوعًا بلفظ: "إِنَّ هذه القلوب تصدأ كما يصدأ الحديد. قالوا: يا رسول الله، فما جلاؤها؟ قال: قراءة "القرآن". وأخرجه ابن عدي في "الكامل" (7/ 29) عن أنس مرفوعًا بلفظ: "إِنَّ للقلوب صدأ كصدأ الحديد وجلاؤها الاستغفار".

وحديث. "فإن تاب واستغفرَ ونَزَعَ صقلَ قلبُهُ" (¬1) وحديث: "يَا ابْنَ آدَمَ لَوْ بَلَغَتْ ذُنُوبُكَ عَنَانَ السَّمَاءِ ثُمَّ اسْتَغْفَرْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ، وَلَا أُبَالِي" (¬2). وحديث ابن عمر: "كُنَّا نَعُدُّ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيه وَسَلَّم، فِي الْمَجْلِسِ الوَاحِدِ: رَبِّ اغْفِرْ لِي وَتُبْ عَلَيَّ، إنَّك أَنْتَ التَّوَّابُ الْغَفُورُ مِائَةَ مَرَّةٍ" (¬3). وحديث أبي هريرة مرفوعًا: «إِنِّي لَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ فِي اليَوْمِ أَكْثَرَ مِنْ سَبْعِينَ مَرَّةً، وَأَتُوبُ إِلَيْهِ» خرَّجه البخاري (¬4). ومن حديثه مرفوعًا: «لَوْ لَمْ تُذْنِبُوا لَذَهَبَ اللهُ بِكُمْ، وَلَجَاءَ بِقَوْمٍ يُذْنِبُونَ ثُمَّ يَسْتَغْفِرُونَ فَيَغْفِرُ لَهُمْ» خرَّجه مسلم (¬5). وفي "المسند" (¬6) من حديث عطية، عن أبي سعيد، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَنْ قَالَ حِينَ يَأْوِي إِلَى فِرَاشِهِ؛ أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الحَيَّ القَيُّومَ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ، غَفَرَ {اللَّهُ} (¬7) لَهُ ذُنُوبَهُ، وَإِنْ كَانَتْ مِثْلَ زَبَدِ البَحْرِ، وَإِنْ كَانَتْ مِثْلَ رَمْلِ عَالِجٍ (¬8)، وَإِنْ كَانَتْ عَدَدَ وَرَقِ الشَّجَرِ". وحديث: "مَنِ أكْثَرَ مِنَ الاسْتِغْفَارِ جَعَلَ اللهُ لَهُ مِنْ كُلِّ هَمٍّ فَرَجًا" خَرَّجَهُ ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي (3334) وقال: هذا حديث حسن صحيح، والنسائي في "الكبرى" (6/ 110) وابن ماجه (4244)، وأحمد (2/ 297). (¬2) أخرجه الترمذي (3540). وقال: هذا حديث غريب، لا نعرفه إلا من هذا الوجه. (¬3) أخرجه أبو داود (1516)، والترمذي (3434)، وقال: هذا حديث حسن صحيح غريب. والنسائي في "الكبرى" (10251/ 5)، وابن ماجه (3814)، وأحمد (1/ 21). (¬4) برقم (6307). (¬5) برقم (2749). (¬6) أخرجه أحمد (3/ 10)، والترمذي (3397)، وقال: هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه من حديث الوصافي عبيد الله بن الوليد. (¬7) سقط لفظ الجلالة من "الأصل"، "أ". والمثبت من "المسند". (¬8) هو ما تراكم من الرمل ودخل بعضه في بعض. "لسان العرب" مادة: (علج).

أحمد (¬1) من حديث ابن عباس ويعضده قوله تعالى: {اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا} (¬2)، وقوله: {وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا} (¬3). قال رياح القيسي: لي نيفٌ وأربعون ذنبًا، قد استغفرتُ لكل ذنب مائة ألف مرة. وقال الحسن: لا تملُّوا من الاستغفار. وقال بكر المُزني: إِنَّ أعمال بني آدم ترفع فَإِذَا رُفعت صحيفةٌ فيها استغفار رُفعت بيضاء، وإذا رُفعت ليس فيها استغفار رفعت سوداء. وعن الحسن قال: أكثروا من الاستغفار في بُيوتكم، وعلى موائدكم، وفي طُرُقكم، وفي أسواقكم، فإنكم ما تدورن متى تنزل المغفرة. قال لقمان لابنه: أيْ بُنيَّ عوّد لسانَكَ: اللهم اغفر لي، فإن لله ساعات لا يردّ فيها سائلاً. ورئي عمر بن عبد العزيز في النوم فقِيلَ لَهُ: ما وجدت أفضل؟ قال: الاستغفار. ... ¬

_ (¬1) (1/ 248). (¬2) نوح: 10. (¬3) هود: 3.

21 - تفسير سورة الإخلاص

تفسير سورة الإخلاص

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله عَلَى محمد وآله وصحبه وسلم. قال ابن رجب -رحمه الله تعالى-: "الكلام عَلَى سورة الإخلاص". وفي موضع نزولها قولان: أحدهما أنها مكية. والثاني: مدنية، وذلك في فصول في فضائلها وسبب نزولها وتفسيرها. أمَّا فضائلها فكثيرة جدًّا؛ منها: أنها نسبة الله عز وجل. خرَّج الطبراني (¬1) من طريق عثمان بن عبد الرحمن الطرَائفي، عن الوازع ابن نافع، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لكل شيء نسبة، ونسبة الله: {قل هو الله أحد * الله الصمد}، ليس بأجوف". الوازع ضعيف جدًّا، وعثمان يروي المناكير، وسيأتي في سبب نزولها ما يشهد. ومنها: أنَّها صفة الرحمن، وفي "صحيح البخاري ومسلم" (¬2) من حديث عَائِشَةَ: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ رَجُلًا عَلَى سَرِيَّةٍ، فَكَانَ يَقْرَأُ لِأَصْحَابِهِ فِي صَلاَتِهِمْ فَيَخْتِمُ بِـ "قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، فَلَمَّا رَجَعُوا ذَكَرُوا ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: سَلُوهُ لِأَيِّ شَيْءٍ يَصْنَعُ ذَلِكَ؛ فَسَأَلُوهُ، فَقَالَ: لِأَنَّهَا صِفَةُ الرَّحْمَنِ، وَأَنَا أُحِبُّ أَنْ أَقْرَأَ بِهَا، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَخْبِرُوهُ أَنَّ اللَّهَ يُحِبُّهُ». ومنها: أن حبها يوجب محبة الله، لهذا الحديث المذكور آنفًا، ومنه قول ابن مسعود: "من كان يحبُّ القرآن فهو يحبُّ الله" (¬3). ومنها: أن حبها يوجب دخول الجنة؛ ذكره البخاري في "صحيحه" تعليقًا (¬4) وقال: عبيد الله عن ثابت عن أنس قال: "كان رجل من الأنصار ¬

_ (¬1) في "الأوسط" (732) وقال: لا يروى هنا الحديث عن أبي هريرة إلا بهذا الإسناد، تفرد به عبد الرحمن بن نافع. (¬2) أخرجه البخاري (7375)، ومسلم (813). (¬3) أخرجه الطبراني في "الكبير" (9) برقم (8656). (¬4) برقم (741).

يؤمهم في مسجد قباء، وكان كلما أفسح سورة يقرأ بها لهم في الصلاة مما يقرأ به افتتح بـ "قل هو الله أحد" حتى يفرغ منها، ثم يقرأ سورة أخرى معها، وكان يصنع ذلك في كل ركعة"، وذكر الحديث وفيه: "فَقَالَ النبي - صلى الله عليه وسلم -: يا فلان، ما حملك عَلَى لزوم هذه السورة في كل ركعة؛ فَقَالَ: إني أحبها. فَقَالَ: حبك إياها أدخلك الجنة". وخرّجه الترمذي في "جامعه" (¬1) عن البخاري، عن إسماعيل بن أبي أويس عن الدراوردي، عن عبيد الله بن عبد الرحمن، عن عبيد الله بن عمر، وغَرَّبهُ، وقال: روى مبارك بن فضالة، عن ثابت، عن أنس "أن رجلاً قال: يا رسول الله، إني أحبّ هذه السورة: "قل هو الله أحد" فَقَالَ: إِنَّ حبك إياها أدخلك الجنة". وقد خرّجه أحمد في "المسند" (¬2) عن أبي النضر، عن مبارك بن فضالة به. وروى مالك عن عبيد الله بن عبد الرحمن، عن عبيد بن حنين قال: سمعت أبا هريرة يقول: "أقبلت مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، فسمع رجلاً يقرأ: "قل هو الله أحد" فَقَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: وجبت. قلت: وما وجبت؟ قال: الجنة". وأخرجه النسائي والترمذي (¬3) وقال: حسن صحيح لا نعرفه إلا من حديث مالك. وروى أبو نعيم من طريق عمرو بن مرزوق، عن شعبة، عن مهاجر: سمعت رجلاً يقول: "صحبتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سفر، فسمع رجلاً يقرأ: "قل يا أيها الكافرون"، فَقَالَ: قد برئ من الشرك. وسمع آخر يقول: "قل هو الله أحد" فَقَالَ: غفر له" (¬4). ¬

_ (¬1) برقم (2901). (¬2) (3/ 141، 150). (¬3) أخرجه النسائي (2/ 171)، والترمذي (897). (¬4) وأخرجه الدارمي (2/ 458، 459)، والنسائي في عمل اليوم والليلة (704) وغيرهما.

ومنها: أنها تعدل ثلث القرآن ففي "صحيح البخاري" (¬1)، من حديث أبي سعيد أن رجلاً سمع رجلاً يقرأ: "قل هو الله أحد" يرددها، فلما أصبح جاء إِلَى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له -وكان الرجل يتقالها- فَقَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: والذي نفسي بيده إنها لتعدل ثلث القرآن". وقد روي عن أبي سعيد عن أخي قتادة بن النعمان (¬2). وفي "صحيح البخاري" (¬3) أيضاً من طريق الأعمش، عن إبراهيم النخعي والضحاك المشرقي، عن أبي سعيد قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه: "أيعجز أحدكم أن يقرأ ثلث القرآن في ليلة؟ فشق ذلك عليهم وقالوا: أينا يطيق ذلك يارسول الله؟ فَقَالَ: الله الواحد الصمد ثلث القرآن". وفي "المسند" (¬4) من طريق ابن لهيعة عن الحارث بن يزيد، عن أبي الهيثم، عن أبي سعيد قال: "بات قتادة بن النعمان يقرأ الليل كله بـ "قل هو الله أحد" فذكر ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: والذي نفسي بيده لتعدل نصف القرآن أو ثلثه". وفي "المسند" (¬5) أيضاً من طريق ابن لهيعة: حدثنا حيي بن عبد الله، عن أبي عبد الرحمن، عن عبد الله بن عمرو: "أن أبا أيوب الأنصاري كان في مجلس وهو يقول: ألا يستطيع أحدكم أن يقوم بثلث القرآن كل ليلة؟ فقالوا: وهل يستطيع ذلك أحد؟ قال: فإن "قل هو الله أحد" ثلث القرآن، قال: فجاء النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يسمع أبا أيوب، فَقَالَ: صدق أبو أيوب. وروى يحيى بن سعيد عن يزيد بن كيسان، عن أبي حازم -قال الترمذي: اسمه سلمان- عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "احشدوا، فإني سأقرأ عليكم ثلث القرآن. فحشد من حشد، ثم خرج نبي الله - صلى الله عليه وسلم - ¬

_ (¬1) برقم (5013، 6643، 7374). (¬2) برقم (5014). (¬3) برقم (5015). قال البخاري: عن إبراهيم مرسل، وعن الضحاك المشرقي مسند. (¬4) (3/ 15). (¬5) (2/ 173).

فقرأ: "قل هو الله أحد"، ثم دخل. فَقَالَ بعضنا لبعض: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: فإني سأقرأ عليكم ثلث القرآن، إني لأرى هذا خبرًا جاءه من السماء. ثم خرج نبي الله - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: إني قلت: سأقرأ عليكم ثلث القرآن، ألا وإنها تعدل ثلث القرآن". أخرجه مسلم (¬1). وروى الإمام أحمد (¬2) عن عبد الرحمن بن مهدي، عن زائدة بن قدامة، عن منصور، عن هلال بن يساف، عن الربيع بن خثيم، عن عمرو بن ميمون، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن امرأة من الأنصار، عن أبي أيوب، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "أيعجز أحدكم أن يقرأ ثلث القرآن في ليلة؟ فإنه من قرأ: "قل هو الله أحد الله الصمد" في ليلة فقد قرأ ليلتئذ ثلث القرآن". ورواه النسائي والترمذي عن بندار (¬3). وروى الترمذي (¬4) عن قتيبة أيضًا عن ابن مهدي فهو لهما عُشاري، ولأحمد تساعي، وفي رواية الترمذي عن امرأة أبي أيوب عن أبي أيوب به، وذكر اختلافًا في إسناده. وروى أحمد (¬5) عن هشيم، عن حصين، عن هلال بن يساف، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن أبي بن كعب -أو رجل من الأنصار- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قرأ قل هو الله أحد" فكأنما قرأ بثلث القرآن" ورواه النسائي في "اليوم والليلة" (¬6) من طريق هشيم، عن حصين، عن ابن أبي ليلى به من غير ذلك هلال بن يساف. ¬

_ (¬1) برقم (812). وأخرجه الترمذي (2900) وقال: هذا حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه. (¬2) في "المسند" (5/ 418/419). (¬3) أخرجه النسائي (2/ 172)، والترمذي (2896). (¬4) برقم (2896). قال الترمذي: هذا حديث حسن، ولا نعرف أحدًا روى هذا الحديث أحسن من رواية زائدة، وتابعه عَلَى روايته إسرائيل والفضيل بن عياض. وقد روى شعبة وغير واحد من الثقات هذا الحديث عن منصور واضطربوا فيه. (¬5) في "المسند" (5/ 141). (¬6) برقم (686).

وروى الإمام أحمد (¬1) أيضاً عن وكيع، عن سفيان، عن أبي قيس، عن عمرو بن ميمون، عن أبي مسعود قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. "قل هو الله أحد تعدل ثلث القرآن" ورواه ابن ماجه (¬2) والنسائي في "اليوم والليلة" (¬3) من طرق، وفي بعض طرقه وقفه. ورواه أبو نعيم (¬4) من طريق مسعر، عن أبي قيس، عن عمرو بن ميمون، عن أبي مسعود الأنصاري كذا قال! ومن طريق شعبة، عن أبي إسحاق، عن عمرو بن ميمون، عن ابن مسعود. وروى أبو نعيم من طريق علي بن عاصم، عن حصين، عن هلال بن يساف، عن ربيع بن خثيم، عن ابن أبي ليلى، عن كعب بن عجرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من قرأ: "قل هو الله أحد" في يوم وليلة ثلاث مرات كانت تعدل ثلث القرآن". ورواه شعبة، عن علي بن مدرك، عن إبراهيم النخعي، عن الربيع بن خثيم، عن ابن مسعود، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وروى أبو نعيم، حدثنا إبراهيم بن محمد بن يحيى، ثنا أحمد بن حمدون ابن رستم، ثنا علي بن إشكاب، ثنا شجاع بن الوليد، ثنا زياد بن خيثمة، عن محمد بن جحادة، عن الحسن، عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "قل هو الله أحد ثلث القرآن". قال إبراهيم: هكذا حدثني به وكتبه لي بخطه، وإنما يحفظ الإسناد قراءة يس. وروى يوسف بن عطية الصغار، ثنا هارون بن كثير، عن زيد بن أسلم، عن أبيه، عن أبي أمامة، عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من قرأ "قل هو الله أحد" فكأنما قرأ ثلث القرآن، وكتب له من الحسنات بعدد من أشرك بالله وآمن به". ¬

_ (¬1) في المسند (4/ 122). (¬2) في "السنن" (3789). (¬3) برقم (693). (¬4) في "الحلية" (4/ 154) وفي إسناده اختلاف عَلَى عمرو بن ميمون ذكره أبو نعيم، فراجعه إِنَّ شئت.

وفي "صحيح مسلم" (¬1) من طريق قتادة، عن سالم بن أبي الجعد، عن معدان بن أبي طلحة، عن أبي الدرداء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "أيعجز أحدكم أن يقرأ كل يوم ثلث القرآن؟ قالوا نعم. قال: إِنَّ الله جزأ القرآن ثلاثة أجزاء، فقل هو الله أحد ثلث القرآن". وروى أمية بن خالد، عن ابن أخي ابن شهاب، عن عمه، عن حميد بن عبد الرحمن بن عوف، عن امه أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "قل هو الله أحد ثلث القرآن". رواه أحمد (¬2) والنسائي في "اليوم والليلة" (¬3). ورواه أيضاً من طريق مالك، عن الزهري، عن حميد من قوله. ورواه أيضاً (¬4) من طريق ابن إسحاق، عن الحارث بن فضيل، عن الزهري، عن حميد أن نفرًا من أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - حدثوه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "قل هو الله أحد تعدل ثلث القرآن لمن صلى بها". وروى الحافظ أبو يعلى (¬5) عن قطن بن نُسير، عن عبيس بن ميمون، عن يزيد الرقاشي، عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أما يستطيع أحدكم أن يقرأ: "قل هو الله أحد" ثلاث مرات في ليلة، فإنها تعدل ثلث القرآن" إسناده ضعيف. ويستدل به عَلَى أنَّ المراد بكونها تعدل ثك القرآن أجره وثوابه، كما يستدل بحديث أبي الدرداء المتقدم عَلَى أنها جزء التوحيد من القرآن، وأئه ثلاثة أجزاء: توحيد، وتشريع، وقصص. ومنها: أن قراءتها تكفي من الشر وتمنعه، وقد ثبت في "صحيح البخارى (¬6). ¬

_ (¬1) برقم (811) من حديث أبي الدرداء. وفيه: "يقرأ في ليلة ... ". (¬2) في "المسند" (6/ 403 - 404). (¬3) برقم (695). (¬4) في "عمل اليوم والليلة" (696). (¬5) برقم (4118). وأخرجه أيضًا (1481، 4136). وقال الهيثمي في "المجمع" (7/ 147): وفيه عبيس بن ميمون، وهو متروك. (¬6) برقم (4729).

عن عائشة "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أوى إِلَى فراشه قرأها مع المعوذتين ومسح ما استطاع من جسده". وروى أبو داود والترمذي والنسائي (¬1) من طريق معاذ بن عبد الله بن خبيب، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: "قل هو الله أحد والمعوذتين حين تمسي وحين تصبح ثلاثًا تكفيك كل يوم" وصححه الترمذي. ورواه النسائي (¬2) من طريق أخرى عن معاذ، عن عبد الله بن خبيب، عن أبيه، عن عقبة بن عامر مر فذكره ولفظه: "تكفك كل شيء". وقال البزار في "مسنده" (¬3) حدثنا إبراهيم الجوهري، ثنا غسان بن عبيد، عن أبي عمران الجوني، عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا وضعت جنبك عَلَى الفراش، وقرأت فاتحة الكتاب، و"قل هو الله أحد" فقد أمنت من كل شيء إلا الموت". ومنها: أنها أفضل سور القرآن، فروى الدارمي في "مسنده" (¬4) عن أبي المغيرة عن صفوان عن أيفع بن عبد الكلاعي قال: "قال رجل: يا رسول الله، أي سور القرآن أعظم؟ قال: قل هو الله أحد". وفي "المسند" (¬5) من طريق معاذ بن رفاعة، عن علي بن يزيد، عن القاسم، عن أبي أمامة، عن عقبة بن عامر قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا أُعَلِّمُكَ خَيْرَ ثَلَاثِ سُوَرٍ أُنْزِلَتْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالزَّبُورِ وَالْقُرْآنِ الْعَظِيمِ؟ قُلْتُ: بَلَى، قَالَ: فَأَقْرَأَنِي: "قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ" "وَقُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ" "وَقُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ" ثُمَّ قَالَ لِي: يَا عُقْبَةُ، لا تَنْسَهُنَّ وَلا تَبِتِ لَيْلَةً ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود (5082)، والترمذي (3575)، والنسائي (8/ 250). قال الترمذي: وهذا حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه. (¬2) (8/ 251). (¬3) كما في "كشف الأستار" (4/ 26). (¬4) (2/ 447). نقل الحافظ في "اللسان" (2/ 169) عن أيفع أنه أرسل عن النبي صلى الله عليه وسلم. قال الحافظ: رويناه بعلو في مسند الدارمي. وقد غلط فيه بعضهم فعده في الصحابة، وقد بينته في كتابي الصحابة. (¬5) (4/ 148).

حَتَّى تَقْرَأَهُنَّ». وروى الترمذي (¬1) بعض هذا الحديث وحسنّه، ورواه أحمد (¬2) أيضاً بطوله من طريق أُسيد بن عبد الرحمن الخثعمي، عن فروة بن مجاهد، عن عقبة بن عامر به. ومنها: أن الدعاء بها مستجاب؛ ففي السنن الأربعة (¬3) عن عبد الله بن بريدة، عن أبيه "أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع رجلاً يصلي يدعو يقول: اللهم إني أسالك بأني أشهد أن لا إله إلا أنت الأحد الصمد الَّذِي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوًا أحد. قال: والذي نفسي بيده، لقد سأله باسمه الأعظم، الَّذِي إذا سُئل به أعطى، وإذا دُعي به أجاب". وقال الترمذي: حسن غريب. وفي "المسند" (¬4) عن محجن بن الأدرع "أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل المسجد، فَإِذَا هو برجل قد قضى صلاته وهو يتشهد وهو يقول: اللهم إني أسالك بأنك الواحد الأحد الصمد الَّذِي لم يلد، ولم يولد، ولم يكن له كفوًا أحد، أن تغفر لي ذنوبي، إنك أنت الغفور الرحيم. فَقَالَ نبي الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاث مرات: قد غفر له، قد غفر له، قد غفر له". وقد ورد في تكرير قراءتها خمسين مرة أو أكثر من ذلك، وعشرات المرات عقيب كل صلاة أحاديث كثيرة فيها ضعف، وكذلك حديث معاوية بن معاوية الليثي خرّجه الطبراني (¬5)، وأبو يعلى (¬6) من طرق كلها ضعيفة فلم يذكرها. ¬

_ (¬1) برقم (2406). (¬2) (5/ 259). (¬3) أخرجه أبو داود (1493، 1494)، والترمذي (3475)، والنسائي في "الكبرى" كما في "تحفة الأشراف" (2/ 90)، وابن ماجه (3857). (¬4) (4/ 338). (¬5) في "المعجم الكبير" (19) برقم (1040، 1041). (¬6) قال الهيثمي في "المجمع" (3/ 38): رواه أبو يعلى والطبراني في "الكبير"، وفي إسناد أبي يعلى محمد بن إبراهيم بن العلاء وهو ضعيف جدًا.

وأما سبب نزولها: ففي "المسند" (¬1) والترمذي (¬2) عن أبي سعد الصاغاني محمد بن ميسر، عن أبي جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية، عن أبي بن كعب "أن المشركين قالوا للنبي - صلى الله عليه وسلم -: انسب لنا ربك يا محمد. فأنزل الله: "قل هو الله أحد". ورواه الترمذي (¬3) من طريق عبيد الله ابن موسى، عن أبي جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية مرسلاً. وقال: هذا أصح من حديث أبي سعد. ورواه أبو يعلى الموصلي والطبراني وابن جرير (¬4) من طريق شريح بن يونس، عن إسماعيل بن مجالد، عن مجالد، عن الشعبي، عن جابر: "أن أعرابيًا جاء إِلَى رسول الله صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: انسب لنا ربك فأنزل: "قل هو الله أحد" إِلَى آخرها". وروي مرسلاً. وروى عبيد بن إسحاق العطار، عن قيس بن الربيع، عن عاصم، عن أبي وائل، عن ابن مسعود قال: "قالت قريش لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: انسب لنا ربك. فنزلت: "قل هو الله أحد" قال الطبراني: ورواه الفريابي وغيره، عن قيس، عن عاصم، عن أبي وائل مرسلاً. وروى ابن أبي حاتم في "تفسيره" حدثنا أبو زرعة (¬5)، ثنا العباس بن الوليد، ثنا يزيد بن زريع (*) ثنا علي بن الحسين، ثنا أبو عبد الله الحرشي، ثنا ¬

_ (¬1) (5/ 133، 143). (¬2) برقم (3364). (¬3) برقم (3365). (¬4) أبو يعلى الموصلي (2044)، والطبراني في "الأوسط" كما في المجمع (7/ 146). والطبري في "تفسيره" (30/ 343). (¬5) نقل هذه الرواية ابن تيمية في تفسير سورة الإخلاص ص55 طبعة الدار السلفية بالهند عن ابن أبي حاتم قال: حدثنا أبو زرعة، حدثنا العباس بن الوليد، حدثنا يزيد بن زريع عن سعيد، عن قتادة "ولم يكن له كفوًا أحد" قال: إِنَّ الله لا يكافئه من خلقه أحد. ثم نقل الرواية التي ذكرها ابن رجب حدثنا علي بن الحسين، حدثنا أبو عبد الله الحرشي بإسناده إِلَى آخر الرواية فسقط من النساخ باقي سند رواية أبي زرعة، فادخلوا رواية في رواية أخرى، فجعلوا يزيد بن زريع يروي عن علي بن الحسين وهذا خطأ بلا شك؛ لأنّ يزيد من "الثامنة"، فلا يروي عن شيخ ابن أبي حاتم علي بن الحسن، وهو من الثانية عشرة لأنّ يزيد متقدم عنه، ولم يتنبه لذلك الشيخ/ محمد بن ناصر العجمي في تحقيقه لسورة الإخلاص ص86 طبعة الدار السلفية بالكويت، فلتصحح في طبعته، والله الموفق إِلَى الصواب والحمد لله رب العالمين. (*) من هنا دخل إسناد في إسناد آخر فليتنبه.

أبو خلف عبد الله بن عيسى، ثنا داود بن أبي هند، عن عكرمة، عن ابن عباس "أن اليهود جاءت إِلَى النبي صلى الله عليه وسلم منهم حيي بن أخطب وكعب بن الأشرف فقالوا: يا محمد، صف لضا الَّذِي بعثك. فأنزل الله: "قل هو الله أحد الله الصمد لم يلد" فيخرج منه الولد، "ولم يولد" فيخرج من شيء". وأما التفسير: فقوله: {قل} هذا افتتاح للسورة بالأمر بالقول كما في المعوذتين وسورة الجن. وقد "سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن المعوذتن فَقَالَ: قيل لي فقلت" (¬1) وذلك إشارة منه إِلَى أنه مُبلغ محض لما يوحى إِلَيْهِ، ليس فيه تصرف لما أوحاه الله إِلَيْهِ بزيادة ولا نقص، وإنما هو مبلغ لكلام ربه كما أوحاه إِلَيْهِ، فَإِذَا قال: {قل هو الله أحد} كان امتثالاً للقول الَّذِي قِيلَ لَهُ بلفظه لا بمعناه، و"هو": اسم مضمر قيل: إنه ضمير الشأن، وقيل: لا. و"الله أحد" إِنَّ قيل هو ضمير الشأن، فالجملة مبتدأ وخبر. وإن قيل: لا، ففيه وجهان: أحدهما: أن "هو" مبتدأ، و"الله أحد" مبتدأ وخبر، وهما خبر للمبتدأ الأول، ولا حاجة فيه إِلَى رابط؛ لأنّ الخبر هو المبتدأ بعينه. والثاني: أن "هو" مبتدأ، و"الله" خبره، و"أحد" بدل منه. و"أحد": اسم من أسماء الله يُسمى الله به ولا يسمى غيره من الأعيان به. فلا يسمى شيء من الأشياء أحدًا في الإثبات إلا في الأعداد المطلقة. وإنما يسمى به في النفي، وما أشبهه من الاستفهام، والنهي، والشرط كقوله: {ولم يكن له كفوًا أحد} وقوله: {هل تُحسُّ مِنْهُم مِنْ أحدٍ} (¬2) وقوله: {فلا تدعوا مع الله أحدًا} (¬3) وقوله: {وإن أحد من المشركين استجارك} (¬4) ونحوه. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (4692). (¬2) مريم: 98. (¬3) الجن: 18. (¬4) التوبة: 6.

والأحد: هو الواحد في إلهيته وربوبيته، وفسره أهل الكلام بما لا يتجزأ ولا ينقسم، فإن أريد بذلك أنه ليس مؤلفًا مركبًا من أجزاء متفرقة فصحيح، أو أنه غير قابل للقسمة فصحيح، وإن أريد أنه لا يتميز منه شيء عن شيء وهو المراد بالمجسم عندهم فباطل. قال ابن عقيل: الَّذِي يصح من قولنا مع إثبات الصفات أنه واحد في إلهيته لا غير. والأحد هو الواحد. قال ابن الجوزي: قاله ابن عباس وأبو عبيدة، وفرق قوم بينهما. قال الخطابي: الفرق بين الأحد والواحد: أن الواحد هو المنفرد بذاته، فلا يضاهيه أحد. والأحد المنفرد بصفاته ونعوته، فلا يشاركه فيها أحدٌ. وقيل: بينهما فرق آخر، وهو أن الأحد في النفي نص في العموم، بخلاف الواحد فإنه محتمل للعموم وغيره فتقول: ما في الدار أحد. ولا يقال: بل اثنان. ويجوز أن يقال: ما في الدار واحد، بل اثنان. وفرق فقهاء الحنفية بينهما وقالوا: الأحدية لا تحتمل الجزئية والعددية بحال. والواحد يحتملها؛ لأنّه يقال: مائة واحد وألف واحدة، ولا يقال: مائة أحد، ولا ألف أحد. وبني عَلَى ذلك مسألة محمد بن الحسن التي ذكرها في "الجامع الكبير": إذا كان لرجل أربع نسوة فَقَالَ: والله لا أقرب واحدة منكن صار موليًا منهن جميعًا، ولم يجز له أن يقرب واحدة منهم إلا بكفارة. ولو قال: والله لا أقرب إحداكن لم يصر موليًا إلا من إحداهن، والبيان إِلَيْهِ. وقال العسكري: أصل أحد أوحد مثل أكبر، وإحدى مثل كبرى، فلما وقعا اسمين، وكانا كثيري الاستعمال هربوا إِلَى الكسرة ليخف، وحذفوا الواو

ليفرقوا بين الاسم والصفة؛ وذلك أن أوحد اسم وأكبر مثله. والواحد فاعل من وحد يحد، وهو واحدٌ مثل: وعد يعد فهو واعد. سؤال: قوله: {الله أحد} ولم يقل الأحد كما قال: الصمد؟ جوابه: أن الصمد يسمى به غير الله كما يأتي ذكره، فأتى فيه بالألف واللام ليدل عَلَى أنه سبحانه هو المستحق لكمال الصمدية، فإن الألف واللام تأتي لاستغراق الجنس تارة، ولاستغراق خصائص أخرى كقوله: زيد هو الرجل: أي الكامل في صفات الرجولة، فكذلك قوله: {الله الصمد} أي الكامل في صفات الصمدية. وأما الأحد فلم يتسم به غير الله، فلم يحتج شيه إِلَى الألف واللام. قوله: {الله الصمد} أعاد الاسم المبتدأ تأكيدًا للجملة وخبره الصمد، وقيل: هو نعت والخبر ما بعده. والصمد اختلفت عبارات السَّلف في معناه. وهي متقاربة أو متفقة، والمشهور منها قولان: أحدهما: أن الصمد هو السيد الَّذِي تصمد إِلَيْهِ الخلق في حوائجهم ومطالبهم، وهو مروي عن ابن عباس وغيره من السَّلف. قال ابن الأنباري: لا خلاف بين أهل اللغة أن الصمد: السيد الَّذِي ليس فوقه أحد، الَّذِي يصمد إِلَيْهِ الناس في حوائجهم وأمورهم. وقال الزجاج: هو الَّذِي ينتهي إِلَيْهِ السُّؤدد، فقد صمد له كل شيء أي قصد قصده. وأنشدوا: (لقد) (¬1) بكَّر الناعي (بخَيري) (¬2) بني أسد ... بعمرو بن مسعود وبالسيد الصمد وأنشدوا: علوته بحسام ثم قلت له ... خذها حذيف فأنت السيدُ الصمد ¬

_ (¬1) في "لسان العرب" (4/ 2495): "ألا". (¬2) بخير: "نسخة".

وفي "تفسير ابن أبي حاتم" (¬1) بإسناده، عن عكرمة عن ابن عباس قال: الصمد: الَّذِي تصمد إِلَيْهِ الأشياء إذا نزل بهم كربة أو بلاء. وعن إبراهيم قال: الَّذِي يصمد إِلَيْهِ العباد في حوائجهم. وعن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس (¬2) قال: الصمد: السيد الَّذِي قد كَمُلَ في سؤدده، والشريف الَّذِي قد كمل في شرفه، والعظيم الَّذِي قد كمل في عظمته، والحليم الَّذِي قد كمل شي حلمه، والعليم الَّذِي قد كمل في علمه، والحكيم الَّذِي قد كمل في حكمته، وهو الَّذِي قد كَمُلَ في أنواع الشَّرفِ والسؤدد، وهو الله سبحانه، هذه صفته لا تنبغي لأحدٍ إلا له؛ ليس له كفء، وليس كمثله شيء، سبحان الله الواحد القهار. والقول الثاني: أن الصمد الَّذِي لا جوف له، وأنه الَّذِي لا يأكل ولا يشرب، والذي لا حشو له، وأنه الَّذِي لا يدخل فيه شيء، ولا يخرج منه شيء، ونحو هذه العبارات المتقاربة في المعنى، وروي ذلك عن ابن مسعود، وقد سبق في حديث أبي هريرة المذكور في أول تفسير السورة: والصمد الَّذِي ليس بأجوف. وروى ابن جرير (¬3) وابن أبي حاتم (¬4) من طريق عبيد الله بن سعيد -قائد الأعمش- حدثني صالح بن حيان، عن عبد الله بن بريدة، عن أبيه قال: لا أعلم إلا أنه قد رفعه: قال: "الصمد الَّذِي لا جوف له". وعن أبي عبد الرحمن السلمي، عن ابن مسعود قال: الصمد ليس له حشاء (¬5). ¬

_ (¬1) كما في تفسير "سورة الإخلاص" لابن تيمية ص 49 - 50 طبعة الدار السلفية بالهند وتفسير ابن كثير (4/ 570) وفي إسناده محمد بن موسى بن نفيع الحرشي، لين الحديث، وعبد الله بن عيسى الخزاز، ضعيف. (¬2) أخرجه الطبري في "تفسيره" (30/ 346)، وابن أبي حاتم في "تفسيره" كما في تفسير سورة الإخلاص لابن تمية ص 51. والبيهقي في الأسماء والصفات (98). (¬3) أخرجه ابن جرير في "تفسيره" (30/ 645). (¬4) كما في تفسير سورة الإخلاص لابن تيمية ص 52 - 53 وقال ابن كثير في تفسيره (4/ 570): وهذا غريب جدًّا، والصحيح أنه موقوف عَلَى عبد الله بن بريدة. (¬5) أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره كما في تفسير سورة الإخلاص لابن تيمة ص 52 وفي إسناده مندل بن علي العنزي، ضعيف.

وروي عن ابن عباس أيضًا وعكرمة: الصمد الَّذِي لا يطعم (¬1). وعنه: الصمد الَّذِي لم يخرج منه شيء (¬2). وعن الشعبي: الصمد الَّذِي لا يأكل ولا يشرب (¬3). وعن مجاهد: هو المصمت الَّذِي لا جوف له (¬4). وقالت طائفة: الصمد الَّذِي لم يلد ولم يولد؛ كأنهم جعلوا ما بعده تفسيرًا له، وهو مما تقدم أنه الَّذِي لم ينفصل منه شيء، وروي ذلك عن أبي ابن كعب والربيع بن أنس. وتوجيه ذلك: الولادة والتوليد، إِنَّمَا يكون من أصلين، وما كان عينًا قائمًا بنفسه من المتولدات، فلا بد له من مادة يخرج منها، وما كان عرضًا قائمًا بغيره، فلا بد له من محل يقوم به، فالأول نفاه بقوله أحد؛ فإن الأحد هو الَّذِي لا كفء له ولا نظير، فيمتنع أن يكون له صاحبة. والتولد إِنَّمَا يكون بين شيئين، وكونه تعالى أحدًا، ليس أحد كفوًا له يستلزم أنه لم يلد ولم يولد؛ لأنّ الوالد والولد متماثلان متكافئان، وهو تعالى أحد لا كفء له. وأيضًا فالتولد يحتاج إِلَى زوجة، وهي مكافئة لزوجها من وجه، وذلك أيضاً ممتنع. ولهذا قال تعالى: {أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ} (¬5). وقد فسر مجاهد الكفء ها هنا بالصاحبة. وأما الثاني: وهو انفصال المادة فنفاه سبحانه بأنه الصمد، وهو المتولد من ¬

_ (¬1) أخرجه ابن أبي حاتم كما في تفسير سورة الإخلاص لابن تيمية ص 53 وفي إسناده حفص ابن عمر العدني، ضعيف. (¬2) أخرجه ابن جرير (30/ 345)، وابن أبي حاتم كما في تفسير سورة الإخلاص لابن تيمية (52) عن عكرمة. (¬3) أخرجه ابن جرير (30/ 345). (¬4) أخرجه ابن جرير (30/ 344). (¬5) الأنعام: 101.

أصلين، ربما يتكون من جزئين ينفصلان من الأصلين، كتولد الحيوان من أبيه وأمه بالمني الَّذِي ينفصل منهما، وكالنار المتولدة من بين الزندين، سواء كانا خشبين أو حجرين أو حجرًا وحديدًا. وهو سبحانه صمد، لا يخرج منه شيء منفصل عنه. والحيوان نوعان: متوالد وهو ما ولده من جنسه، وهو الإنسان وما يخلق من أبوين من البهائم والطير وغيرهما. ومتولد: وهو ما يخلق من غير جنسه كدود الفاكهة والخل، وكالقمل المتولد من الوسخ، والفأر والبراغيث وغير ذلك مما يخلق من التراب والماء، وإنما يتولد من أصلين أيضاً كما خلق آدم من تراب وماء. وإلا فالتراب المحض الذي لم يختلط به ماء لا يخلق منه شيء لا حيوان ولا نبات، والنات جميعه إِنَّمَا يتولد من أصلين أيضًا. والمسيح -عليه السلام- خلق من مريم ونفخة جبريل، وهي حملت به كما تحمل النساء وولدته، فلهذا يقال له: ابن مريم، بخلاف حواء، فإنها خُلقت من ضلع آدم فلا يقال إنه أبوها، ولا هي ولده. وكذلك سائر المتولدات من غيرهما. كما أن آدم لا يقال إنه ولد التراب ولا الطين، والمتولد من جنسه أكمل من المتولد من غير جنسه، ولهذا كان خلق آدم أعجب من خلق أولاده. فَإِذَا نزه الرب عن المادة العلق، وهي التولد من النظير، فتنزه به عن تولده من غير نظير أولى، كما أن تنزيهه عن الكفء تنزيه له عن أن يكون غيره أفضل منه بطريق الأولى. فتبين أن ما يقال إنَّه متولد من غيره من الأعيان القائمة بنفسها، لا يكون إلا من مادة تخرج من ذلك الوالد، ولا تكون إلا من أصلين، والرب تعالى صمد؛ فيمتنع أن يخرج منه شيء، وهو سبحانه لم يكن له صاحبة، فيمتنع أن يكون له ولد.

وأما تولد الأعراض كتولد الشعاع، وتولد العِلْم عن الفكرة، والشبع عن الأكل، والحرارة عن الحركة ونحو ذلك. فهذا ليس من تولد الأعيان، مع أن هذا لا بد له من محل، ولا بد له من أصلين كالشعاع، فإنه يحتاج إِلَى محاذاة جسم نوري لجسم آخر يقابله، فينعكس عليه شعاعه. فقد تضمنت هذه السورة العظيمة نفي نوعين عن الله تعالى: أحدهما: المماثلة، ودل عَلَى نفيها قوله تعالى: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} مع دلالة قوله: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} على ذلك؛ لأنّ أحديته تقتضي أنه متفرد بذاته، وصفاته؛ فلا يشاركه في ذلك أحد. والثاني: نفي النقائص والعيوب، وقد نفى منها التولد من الطرفين. وتضمنت إثبات جميع صفات الكمال بإثبات الأحدية؛ فالصمدية تثبت الكمال المنافي للنقائص، والأحدية تثبت الانفراد بذلك. فإن الأحدية تقتضي انفراده بصفاته، وامتيازه عن خلقه بذاته وصفاته. والصمدية إثبات جميع صفات الكمال ودوامها وقدمها؛ فإن السيد الَّذِي يصمد إِلَيْهِ لا يكون إلا متصفًا بجميع صفات الكمال، التي استحق لأجلها أن يكون صمدًا، وأنه لم يزل كذلك ولا يزال، فإن صمديته من لوازم ذاته لا تنفك عنه بحال. ومن هنا فسر الصمد بالسيد الَّذِي قد انتهى سؤدده، وفسره عكرمة بالذي ليس فوقه أحد. وروي عن علي وعن كعب: أنه الَّذِي لا يكافئه أحد في خلقه. وعن أبي هريرة قال: هو المستغني عن كل أحد، المحتاج إِلَيْهِ كل أحد. وعن سعيد بن جبير قال: هو الكامل في جميع صفاته وأفعاله.

وعن الربيع قال: هو الَّذِي لا تعتريه الآفات. وعن مقاتل بن حيان قال: هو الَّذِي لا عيب فيه. وعن ابن كيسان: هو الَّذِي لا يوصف بصفته أحد. وعن قتادة: الصمد الباقي بعد خلقه. وعن مجاهد ومعمر: هو الدائم. وعن مرة الهمداني: هو الَّذِي لا يبلى ولا يفنى. وعنه أيضاً: هو الَّذِي يحكم ما يريد، ويفعل ما يشاء؛ لا معقب لحكمه، ولا راد لقضائه. فقد تضمنت هذه السورة العظيمة إثبات صفات الكمال، ونفي النقائص، والعيوب من خصائص المخلوقين من التولد والمماثلة. وإذا كان منزهًا عن أن يخرج منه مادة الولد التي هي أشرف المواد، فلأن ينزه عن خروج مادة غير الولد أولى. وكذلك تنزيهه نفسه عن أن يولد فلا يكون من مثله، تنزيه له عن أن يكون من سائر المواد بطريق الأولى. فمن أثبت لله ولدًا فقد شتمه، وقد ثبت في "صحيح البخاري" (¬1) عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "يقول الله عَزَّ وَجَلَّ: كَذَّبَنِي ابْنُ آدَمَ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ، وَشَتَمَنِي وَلَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ. فَأَمَّا تَكْذِيبُهُ إِيَّايَ فَقَوْلُهُ: لَنْ يُعِيدَنِي كَمَا بَدَأَنِي، وَلَيْسَ أَوَّلُ الخَلْقِ بِأَهْوَنَ عَلَيَّ مِنْ إِعَادَتِهِ، وَأَمَّا شَتْمُهُ إِيَّايَ فَقَوْلُهُ: اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا، وَأَنَا الأَحَدُ الصَّمَدُ، لَمْ أَلِدْ وَلَمْ أُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لِي كُفُوًا أَحَدٌ". ¬

_ (¬1) برقم (4974).

وفي "صحيح البخاري" (¬1) أيضاً عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: كَذَّبَنِي ابْنُ آدَمَ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ، وَشَتَمَنِي وَلَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ. فَأَمَّا تَكْذِيبُهُ إِيَّايَ فَزَعَمَ أَنِّي لاَ أَقْدِرُ أَنْ أُعِيدَهُ كَمَا كَانَ، وَأَمَّا شَتْمُهُ إِيَّايَ فَقَوْلُهُ: لِي وَلَدٌ، فَسُبْحَانِي أَنْ أَتَّخِذَ صَاحِبَةً أَوْ وَلَدًا». وقد رد الله عَلَى من زعم أنه لا يعيد الخلق، وعلى من زعم أن له ولد كما تضمنه هذا الحديث في قوله: {وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا}، إِلَى قوله: {لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا} (¬2). وفي "صحيح البخاري" (¬3) أيضًا عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا أَحَدَ أَصْبَرُ عَلَى أَذًى سَمِعَهُ مِنَ اللهِ، إِنَّهُمْ يَجْعَلُونَ لَهُ وَلَدًا وَهُوَ يَرْزُقُهُمْ وَيُعَافِيهِمْ». فهذه السورة الكريمة تضمنت نفي ما هو من خصائص آلهة المشركين عن رب العالمين؛ حيث جاء في سبب النزول أنهم سالوا النبي صلى الله عليه وسلم عن ربه: من أي شيء هو؟ أمن كذا، أم من كذا، أو ممن ورث الدُّنْيَا، ولمن يورثها، حيث كانوا قد اعتادوا آلهة يلدون، ويولدون، ويرثون ويورثون، وآلهة من مواد مصنوعة منها، فأنزل الله هذه السورة. وفي "المسند" (¬4) من حديث أبي بن كعب بعد ذكر نزولها: "لأنّه ليس أحد يولد لا يموت، ولا أحد يرث إلا يورث". يقول: كل من عبد من دون الله وقد ولد مثل المسيح والعزير وغيرهما من الصالحين، ومثل الفراعنة المدعين الإلهية، فهذا مولود يموت، وهو وإن كان قد ورث من غيره ما هو فيه، فَإِذَا مات ورثه غيره، والله سبحانه حيٌّ لا يموت، ولا يورث سبحانه وتعالى. والله أعلم. ¬

_ (¬1) برقم (4482). (¬2) مريم: 66 - 89. (¬3) أخرجه البخاري (7378)، ومسلم (2804). (¬4) (5/ 133 - 134).

سؤال: نفي سبحانه الولادة قبل نفي التولد، والتولد أسبق وقوعًا عن الولادة في حق من هو متولد؟ وجوابه: أن الولادة لم يدعها أحد في حقه -سبحانه- وإنما ادعوا أنه ولد، فلذلك قدم نفيه؛ لأنّه المهم المحتاج إِلَى نفيه. سؤال آخر: كيف نفى أن يكون مولودًا ولم يعتقده أحد؟ جوابه من وجهين: أحدهما: أنهم سألوا عمن ورث الدُّنْيَا ولمن يورثها، وهذا يشعر بأن منهم عن اعتقد ذلك. والثاني: أنه نفى عن نفسه سبحانه خصائص آلهة المشركين، فإن منهم مَن عَبَدَ المسيح، ومنهم مَن عَبَدَ العزير وهما مولودان، ومنهم من عَبَدَ الملائكة والعجل وهي متولدات، وقد تقدم أن نفي الولادة تدل عَلَى نفي المتولد بطريق الأولى. فائدة: قال ابن عطية: {كفوًا} خبر كان، واسمها "أحد"، والظرف ملغي، وسيبويه يستحسن أن يكون الظرف إذا تقدم خبرًا. ولكن قد يجىء ملغي في أماكن يقتضيها المعنى كهذه الآية، وكقوله الشاعر أنشده سيبويه: ما دامَ فيهنَّ فصيلٌ حيًّا ويحتمل أن يكون: "كفوًا" حالاً لما قدم من كونه وصفًا للنكرة، كما قال كثير لعزة: لَمَّية موحِشًا طَلَلُ قال سيبويه: وهنا نقل في الكلام وبابه الشعر. قهذ السوره تتضمن انفراده ووحدانيه، وأنه منقطع النظير، وأنه إنما نزه عن أن يكون من أجناس المخلوقات؛ لأنّ أفراد كل جنس من هذه الأجناس

متكافئة متماثلة، فالذهب يكافئ الذهب، والإنسان يكافئ الإنسان ويزاوجه، ولهذا قال تعالى: {وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ} (¬1)، فما من مخلوق إلا وله كفء هو زوجه ونظيره، وعدله ومثيله، فلو كان الحق من جنس شيء من هذه الأجناس لكان له كفء وعدل، وقد علم انتفاؤه بالشرع والعقل. فهذه السورة هي نسب الرحمن وصفته، وهي التي أنزلها الله في نفي ما أضاف إِلَيْهِ المبطلون من تمثيل وتجسيم، وإثبات أصل وفرع، فدخل فيها ما يقوله من يقوله من المشركين والصائبة، وأهل الكتاب ومن دخل فيهم من منافقي هذه الأمة، من تولد الملائكة أو العقول أو النفوس أو بعض الأنبياء أو غير الأنبياء. ودخل فيها ما يقول من يقوله من المشركين وأهل الكتاب من تولده عن غيره، كالذين قالوا في المسيح أنه الله، والذين يَقُولُونَ في الدجال أنه الله، والذين يَقُولُونَ ذلك في علي وغيره. ودخل فيها ما يقوله من يقول من المشركين وأهل الكتاب من إثبات كفء له في شيء من الأشياء، مثل من يجعل له بتشبيهه أو بتجسيمه كفوًا له، أو يجعل له بعبادة غيره كفوًا، أو يجعل له بإضافة بعض خلقه إِلَى غيره كفوًا، فلا كفء له في شيء من صفاته، ولا في ربوبيته ولا في إلهيته. فتضمنت هذه السورة تنزيهه وتقديسه عن الأصول والفروع، والنظراء والأمثال. وليس في المخلوقات شيء إلا ولا بد أن ينسب إِلَى بعض هذه الأعيان والمعاني، فالحيوان من الآدمي وغيره لا بد أن يكون له إما والد وإما مولود، وإما نظير هو كفؤه، وكذلك الجن والملائكة، كما قال تعالى: {وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} (1). ¬

_ (¬1) الذاريات: 49.

قال بعض السَّلف: {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} فتعلمون أن خالق الأزواج واحد. قال تعالى: {وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ} (¬1) قال مجاهد: كل شيء خلقه الله فهو شفع قال تعالى: {وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} (¬2) الكفر والإيمان، والهدى والضلالة، والشقاوة والسعادة، والليل والنهار، والسماء والأرض، والبر والبحر، والشمس والقمر، والجن والإنس، والوتر الله تبارك وتعالى. وهو الَّذِي ذكره البخاري في "صحيحه" فإنه يعتمد قول مجاهد لأنّه أصح التفسير، قال الثوري: إذا جاءك التفسير عن مجاهد فحسبك به. واختاره الشيخ مجد الدين ابن تيمية. وحقيقة الكفء: هو المساوي والمقاوم؛ فلا كفء له تعالى في ذاته ولا في صفاته، ولا في أسمائه ولا في أفعاله، ولا في ربوبيته ولا في إلهيته، ولهذا كان الإيمان بالقدر نظام التوحيد كما قال ابن عباس؛ لأنّ القدرية جعلوا له كفوًا في الخلق. وأما توحيد الإلهية، فالشرك فيه تارة يوجب الكفر والخروج من الملة والخلود في النار، ومنه ما هو أصغر كالحلف بغير الله والنذر له، وخشية غير الله ورجائه، والتوكل عليه والذلِّ له، وقول القائل: ما شاء الله وشئت. ومنه ابتغاء الرزق من عند غير الله، وحمد غيره عَلَى ما أعطى، والغنية بذلك عن حمده، ومنه العمل لغير الله وهو الرياء، وهو أقسام. ولهذا حرم التشبيه بأفعاله بالتصوير، وحرم التسمي بأسمائه المختصة به كـ"الله والرحمن والرب". وإنما يجوز التسمية به مضافًا إِلَى غير من يعقل، وكذلك الجبار والمتكبر ¬

_ (¬1) الفجر: 3. (¬2) الذاريات: 49.

والقهار ونحو ذلك، كالخلاق والرزاق والدائم، ومنه ملك الملوك، وقد جعل ابن عقيل التسمية بهذا مكروهة. قال ابن عقيل: كل ما انفرد به الله كـ"الله ورحمن وخالق" لا يجوز التسمي به، كل ما وجد معناه في الآدمي: فإن كان يوجد تكبرًا، كالملك العظيم والأعظم، وملك الملوك والجبار فمكروه، والصواب الجزم بتحريمه. فأما ما يتسمى به المخلوقون من أسمائه كالسميع والبصير والقدير والعليم والرحيم، فإن الإضافة قاطعة الشركة، وكذلك الوصفية، فقولنا: زيد سميع بصير لا يفيد إلا صفة المخلوق وقولنا: الله سميع بصير يفيد صفته اللائقة به، فانقطعت المشابهة بوجه من الوجوه. ولهذا قال تعالى: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} (¬1). وفيه قولان: أحدهما: نفي التسمية. والثاني: نفي المساواة، وقد نفى سبحانه عن نفسه المثلية بقوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} (¬2)، ونفى عنه العدل والتسوية بقوله: {ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} (¬3) وقوله: {قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ * تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ * إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} (¬4) ونفى عنه الند بقوله: {فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (¬5) وقوله: {أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا} (¬6). ¬

_ (¬1) مريم: 65. (¬2) الشورى: 11. (¬3) الأنعام: 1. (¬4) الشعراء: 96 - 98. (¬5) البقرة: 22. (¬6) فصلت: 9.

وفي الحديث: «أَيُّ الذَّنْبِ أَعْظَمُ؟ قَالَ: أَنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَكَ» (¬1)، وقال للذي قال له: ما شاء الله وشئت: "أَجَعَلْتَنِي لِلَّهِ نِدًّا؟ "، وفي رواية: "أَجَعَلْتَنِي لِلَّهِ عَدْلًا؟ " (¬2). وقال كعب: السماوات السبع، والأرضون السبع، أسست عَلَى هذه السورة: "قل هو الله أحد". ومعنى هذا -والله أعلم- أن السماوات والأرض إِنَّمَا خلقت بالحق والعدل والتوحيد؛ كما قال: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ * مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ} (¬3). ومِنْ شعرِ أميةَ بنِ أبي الصلتِ: وسبحانَ ربيِّ خالقِ النورِ لم يَلد. . . ولم يكُ مُولُودًا بذلكَ أشهَد وسبحانَهُ مِنْ كُلِّ إفكٍ وباطلٍ. . . وكيفَ يلدْ ذو العرشِ أمْ كيفَ يُولَد هو اللَّهُ بارِئُ الخلقِ والخلقُ كُلُّهم. . . إِمَاءٌ لَهُ طَوْعًا جميعًا وأَعْبَد هو الصمدُ اللَهُ الذي لَمْ يكنْ لَهُ. . . مِنَ الخلقِ كفوٌ قَدْ يُضَاهِيه مخلد وأنَّى يكونُ الخلقُ كالخالقِ الَّذي. . . يدومُ ويَبْقَى والخليقة تَنْفَد وليسَ بمخلوق على الدَّهْرِ جده. . . ومَنْ ذا عَلَى مَرِّ الحوادثِ يَخْلُد ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (4477)، ومسلم (86). (¬2) أخرجه أحمد (1/ 214، 224، 283، 347). (¬3) الدخان: 38 - 39.

وَتفْنَى ولا يبْقَى سِوى القاهرِ الَّذي. . . يُميتُ ويُحيي دائِبًا ليس يَمْهَد آخرُه والحمدُ للَّهِ ربِّ العالمينَ. * * *

22 - مقدمة تشتمل على أن جميع الرسل كان دينهم الإسلام

مقدمة تشتمل على أن جميع الرسل كان دينهم الإسلام

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ اللهم صل عَلَى سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليمًا. الحمد لله نستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ونشهد أن مُحَمَّدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليمًا. أما بعد: فإن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد - صلى الله عليه وسلم -، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة، ومن يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فإنه لا يضر إلا نفسه، ولن يضر الله شيئًا. ثم إِنَّ الله تعالى خلق الخلق لأجل معرفته، وليأمرهم بعبادته، ولا سعادة لأحد في الدُّنْيَا والآخرة إلا بمعرفة الله -عز وجل- وعبادته وحده لا شريك له، ولذلك أرسل الله الرسل، وأنزل الكتب. فإن العباد وإن كانوا مفطورين عَلَى معرفة الله ومحبته وتألهه فإن كل مولود يولد عَلَى الفطرة، وهي سلامة القلب، وقبوله وإرادته للحق الَّذِي هو الإسلام، وتهيؤه له، لكنهم محتاجون أشد الحاجة إِلَى ما يحمل به قوتهم العلمية والعملية، وهو العِلْم النافع والعمل الصالح، وبذلك يصيرون مسلمين بالفعل، بعد أن كانوا مسلمين بالقوة، فلذلك أرسل الله الرسل وأنزل معهم الكتب؛ ليرشدوا الخلق إِلَى ما فيه سعادتهم، وفلاحهم في دنياهم وآخرتهم، وضمن لهم أن من اتبع هداه الَّذِي أرسل به رسله فلا يضل ولا يشقى، وأنه عَلَى هدًى من ربه، وأنه من المفلحين، فالهدى ضد الضلال، والفلاح ضد حال أهل الشقاء، وكذلك الغي، كما نفى الله تعالى عن نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن يكون ضل أو غوى، فَإِذَا جمع بين الضلال والغي، فالضلال من الجهل

وعدم العِلْم، والغي من اتباع الهوى، ذاك فساد في القوة العلمية، وهذا فساد في القوة العملية. ولن ينجو من ذلك إلا أهل الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم الله عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين. ثم إِنَّ الله تعالى كان يتعاهد الخلق بالأنبياء والرسل، كلما بعد عهد نبوة ورسالة أتبعها بأخرى. وكان الَّذِي اتفقت عليه دعوة جميع الأنبياء والرسل هو دين الإسلام كما قال نوح أول الرسل: {وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} (¬1). وقال الحواريون للمسيح وهو آخر أنبياء بني إسرائيل: {آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} (¬2). والإسلام هو الاستسلام والانقياد، وهو متضمن لعبادة الله وحده لا شريك له. والعبادة تجمع كمال الحب، وكمال الخضوع والذل. وعبادة الله هي الغاية التي لأجلها خلق الخلق، وبها سعد مَنْ سعد منهم في الدُّنْيَا والآخرة فأما في الآخرة فظاهر معروف، وأما في الدُّنْيَا فقد بسط في موضع آخر ذكر اختلاف الناس في المقصود بالتأله والعبادة وبين ما في تلك الأقوال من الباطل، وأن الصحيح من ذلك أن لا صلاح ولا فلاح، ولا سرور ولا نعيم ولا قرة عين، إلا بأن يكون كمال إرادتهم ومحبتهم، وخشيتهم وتعظيمهم وتألههم لله وحده لا شريك له، وأن ضد ذلك هو عين الفساد، ولا يتسع هذا المكان لبسط هذه الأمور. ¬

_ (¬1) يونس: 72. (¬2) آل عمران: 52.

ولما كان النفع الحاصل بإرسال الرسل، وإنزال الكتب أمرًا لا نظير له، قرر الله تعالى الرسالة عَلَى المنكرين لها بهذه الطريقة، وهي شدة الحاجة إليها في غير موضع من القرآن كما في قوله: {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ} (¬1). ولهذا نسب تعالى منكري إرسال الرسل وإنزال الكتب إِلَى القدح في كماله وعظمته وحكمته، وإلى الجهل به وبأسمائه وصفاته، وأنهم ما قدروه حق قدره. والمقصود ها هنا أن جميع الرسل كان دينهم الإسلام، ولهذا ثبت في "الصحيح" عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إنا معاشر الأنبياء ديننا واحد" (¬2) فإنهم كلهم متفقون عَلَى أصول التوحيد وتوابعه، وإنما تختلف شرائعهم في الأحكام العلمية التي يسميها كثير من الناس الفروع، وتنوع الشرائع في ذلك كتنوع الشريعة الواحدة التي فيها ناسخ ومنسوخ. كما كانت القبلة في أول الإسلام إِلَى صخرة بيت المقدس، ثم صارت إِلَى الكعبة. والدين واحد، ثم ختم الله الشرائع والملل بالشريعة العامة الكاملة، الحنيفية المحمدية، المحتوية عَلَى جميع محاسن الشرائع، المتضمنة لجميع مصالح العباد في المعاش والمعاد، فأكمل الله بها دينه الذى ارتضاه لنفسه، وختم بها العِلْم الَّذِي أنزله من السماء عَلَى رسله، فلذلك تضمنت جميع محاسن الشرائع المتقدمة، وزادت عليها أمورًا عظيمة وأشياء كثيرة، من العلوم النافعة والأعمال الصالحة، التي خص بها هذه الأمة، وفضلهم بها عَلَى من قبلهم من الأمم. ولذلك أوجب الله عَلَى جميع من بلغته هذه الدعوة من جميع الأمم الانقياد إليها ولم يقبل من أحد منهم دينا سواها. ¬

_ (¬1) آل عمران: 179. (¬2) أخرجه البخاري (3443)، ومسلم (2365) بمعناه من حديث أبي هريرة.

ولما كانت هذه الشريعة خاتمة الشرائع، وعليها تقوم الساعة، ولم يكن بعدها شريعة ولا رسالة أخرى، تبين ما تبدل منها، وتجدد ما درس من آثارها، كما كانت الشرائع المتقدمة تجدد بعضها آثار بعض، وتبين بعضها ما تبدل من بعض، تكفل الله بحفظ هذه الشريعة، ولم يجمع أهلها عَلَى ضلالة، وجعل منهم طائفة قائمة بالحق لا تزال ظاهرة عَلَى من خالفها حتى تقوم الساعة، وأقام لها من يحملها ويذب عنها بالسيف واللسان والحجة والبيان، فلهذا أقام الله تعالى لهذه الأمة من خلفاء الرسل وحَمَلَةِ الحجة في كل زمان من يعتني بحفظ ألفاظ الشريعة وضبطها، وصيانتها عن الزيادة والنقصان، ومن يعتني بحفظ معانيها ومدلولات ألفاظها، وصيانتها عن التحريف والبهتان. والأولون أهل الرواية، وهؤلاء أهل الدارية والرعاية، وقد ضرب النبي صلى الله عليه وسلم مثل الطائفتين. كما ثبت في "الصحيحين" (¬1) عن أبي موسى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ مَثَلَ مَا بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ مِنَ الْهُدَى وَالْعِلْمِ، كَمَثَلُ غَيْثٍ أَصَابَ الْأَرْضَ، فَكَانَتْ مِنْهَا طَائِفَةً قَبِلَتْ الْمَاءَ فَأَنْبَتَتِ الْكَلَأَ وَالْعُشْبَ الْكَثِيرَ، وَكَانَتْ مِنْهَا أَجَادِبُ أَمْسَكَتِ الْمَاءَ فَنَفَعَ اللَّهُ بِهِ نَاسًا فَشَرِبُوا وَرَعُوا وَسَقَوْا وَزَرَعُوا، وَأَصَابَتْ طَائِفَةً مِنْهَا أُخْرَى إِنَّمَا هِيَ قِيعَانٌ لا تُمْسِكُ مَاءً وَلا تُنْبِتُ كَلَأً، فَلِذَلِكَ مَثَلُ مَنْ فَقَّهَ فِي دِينِ اللَّهِ وَنَفَعَهُ اللَّهُ بِمَا بَعَثَنِي بِهِ وَنَفَعَ بِهِ فَعَلِمَ وَعَلَّمَ، وَمَثَلُ مَنْ لَمْ يَرْفَعْ بِذَلِكَ رَأْسًا وَلَمْ يَقْبَلْ هُدَى اللَّهِ الَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ». فمثَّل النبي - صلى الله عليه وسلم - العِلْم والإيمان الَّذِي جاء به بالغيث يصيب الأرض. وهذا المثل كقوله تعالى: {أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا} (¬2). فمثل تعالى ما أنزله من العلم والإيمان إلى القلوب بالماء الذي أنزله من ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (79)، ومسلم (2282)، من حديث أبي موسى الأشعري. (¬2) الرعد: 17.

السماء إِلَى الأرض، وهو سبحانه وتعالى يمثل العِلْم والإيمان تارة بالماء كما في هذه الآية، وكما في المثل الثاني المذكور في أول سورة البقرة (¬1)، وتارة يمثله بالنور كما في المثل المذكور في سورة النور (¬2)، والمثل الأول المذكور في سورة البقرة (¬3)، وكذلك في هذه الآية التي في سورة الرعد (¬4)، ذكر مثلاً ثانيًا يتعلق بالنار وهو قوله: {وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ} (¬5) فإن الماء والنور مادة حياة الأبدان، ولا يعيش حيوان إلا حيث هما موجودان، كما أن العِلْم والإيمان مادة حياة القلب، وهما للقلوب كالماء والنور، فَإِذَا فقدهما القلب فقد مات. وقوله تعالى: {فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا} (¬6) شبه القلوب الحاملة للعلم والإيمان بالأودية الحاملة للسيل، فقلب كبير يسع علمًا عظيمًا، كوادٍ كبير يسع ماء كثيرًا، وقلب صغير يسع علمًا قليلاً، كواد صغير يسع ماءً قليلاً، فحملت القلوب من هذا العِلْم بقدرها، كما سألت الأودية من الماء بقدرها. فهذا تقسيم للقلوب بحسب ما تحمله من العِلْم والإيمان إِلَى متسع وضيق. والذي ذكره النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي موسى تقسيم لها بحسب ما يرد عليها من العِلْم والإيمان إِلَى قابل لإنبات الكلأ والعشب، وغير قابل لذلك وجعلها ثلاثة أقسام: قسم قبل الماء، فأنبت الكلأ والعشب الكثير، وهؤلاء هم الذين لهم قوة الحفظ والفهم والفقه في الدين، والبصر بالتأويل، واستنباط أنواع المعارف والعلوم من النصوص، وهؤلاء مثل: ¬

_ (¬1) البقرة: 22. (¬2) النور: 35. (¬3) البقرة: 17. (¬4) الرعد: 16. (¬5) الرعد: 17. (¬6) الرعد: 17.

الخلفاء الأربعة، وأبيِّ بن كعب، وأبي الدرداء، وابن مسعود، ومعاذ بن جبل، وابن عباس. ثم كالحسن، وسعيد بن المسيب، وعطاء، ومجاهد. ثم كمالك، والليث، والثوري، والأوزاعي، وابن المبارك، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، وأبي عبيد، وأبي ثور، ومحمد بن نصر المروزي. وأمثالهم من أهلم العِلْم بالله وأحكامه، أوامره ونواهيه. وكذلك مثل أويس، ومالك بن دينار، وإبراهيم بن أدهم، والفضيل بن عياض، وأبي سليمان، وذي النون، ومعروف، والجنيد بن محمد، وسهل بن عبد الله، والحر بن أسد. وأمثالهم من أهل العِلْم بالله وأسمائه وصفاته، وأيامه وأفعاله. وقسم حفظ الماء، وأمسكه حتى ورد الناس فأخذوه فانتفعوا به، وهؤلاء هم الذين لهم قوة الحفظ والضبط، والإتقان، دون الاستنباط والاستخراج، وهؤلاء كسعيد بن أبي عروبة، والأعمش، ومحمد بن جعفر غندر، وعبد الرازق، وعمرو الناقد، ومحمد بن بشار بندار، ونحوهم. وقسم ثالث وهم شر الخلق، ليس لهم قوة الحفظ، ولا قوة الفهم، لا دارية ولا رواية، وهؤلاء الذين لم يقبلوا هدى الله ولم يرفعوا به رأسًا. والمقصود ها هنا أن الله تعالى حفظ هذه الشريعة بما جعل لها من الحملة: أهل الدارية، وأهل الرواية، فكان الطالب للعلم والإيمان يتلقى ذلك ممن يدركه من شيوخ العِلْم والإيمان، فيتعلم الضابط القرآن والحديث ممن يعلم ذلك، ويتعلم الفقه في الدين من شرائع الإسلام الظاهرة، وحقائق الإيمان الباطنة ممن يعلم ذلك. وكان الأغلب عَلَى القرون الثلاثة المفضلة جمع ذلك كله، فإن الصحابة تلقوا عن النبي صلى الله عليه وسلم جميع ذلك، وتلقاه عنهم التابعون، وتلقى عن التابعين تابعوهم، فكان الدين حيئذ مجتمعًا، ولم يكن قد ظهر الفرق بين

مسمى الفقهاء وأهل الحديث، ولا بين علماء الأصول والفروع، ولا بين الصوفي والفقير والزاهد، وإنما انتشرت هذه الفروق بعد القرون الثلاثة، وإنما كان السَّلف يسمون أهل العِلْم والدين القراء، ويَقُولُونَ: يقرأ الرجل إذا تنسك. وكان العالم منهم يتكلم في جنس المسائل المأخوذة من الكتاب والسنة، وسواء كانت من المسائل الخبرية العلمية، كمسائل التوحيد والأسماء والصفات، والقدر والعرش والكرسي، والملائكة والجن وقصص الأنبياء، ومسائل الأسماء والأحكام، والوعد والوعيد، وأحوال البرزخ، وصفة البعث والمعاد، والجنة والنار ونحو ذلك. أو من أعمال الجوارح، كالطهارة، والصلاة، والصيام، والزكاة، والحج والجهاد، وأحكام المعاوضات والمناكحات والحدود والأقضية والشهادة ونحو ذلك. أو من المسائل العملية، سواء كانت من أعمال القلوب كالمحبة والخوف والرجاء والتوكل والزهد والتوبة والشكر والصبر ونحو ذلك، وإن كان يكون لبعضهم في نوع من هذه الأنواع من مزيد العِلْم والمعرفة، والحال ما ليس له في غيره مثله. كما كان يقال في أئمة التابعين الأربعة: سعيد بن المسيب إمام أهل المدينة. وعطاء بن أبي رباح إمام أهل مكة. وإبراهيم النخعي إمام أهل الكوفة. والحسن البصري إمام أهل البصرة. كان يقال: أعلمهم بالحلال والحرام سعيد بن المسيب، وأعلمهم بالمناسك عطاء، وأعلمهم بالصلاة إبراهيم، وأجمعهم الحسن.

وكان أهل الدراية والفهم من العُلَمَاء إذا اجتمع عند الواحد منهم من ألفاظ الكتاب والسنة ومعانيهما، وكلام الصحابة والتابعين ما يسره الله له، جعل ذلك أصولاً وقواعد يبني عليها ويستنبط منها، فإن الله تعالى أنزل الكتاب بالحق والميزان، والكتاب فيه كلمات كثيرة، هي قواعد كلية وقضايا عامة، تشتمل أنواعًا عديدة، وجزئيات كثيرة، ولا يهتدي كل أحد إِلَى دخولها تحت تلك الكلمات؛ بل ذلك من الفهم الَّذِي يؤتيه الله من يشاء في كتابه. وأما الميزان فهو الاعتبار الصحيح، وهو من العدل والقسط الَّذِي أمر الله بالقيام به، كالجمع بين المتماثلين لاشتراكهما في الأوصاف الموجبة للجمع والتفريق بين المختلفين؛ لاختلافهما في الأوصاف الموجبة للفرق، وكثيرًا ما يخفى وجه الاجتماع والافتراق ويدق فهمه. وأما أهل الرواية إذا اجتمع عندهم من ألفاظ الرسول، وكلام الصحابة والتابعين وغيرهم في التفسير والفقه وأنواع العلوم، لم يتصرفوا في ذلك؛ بل نقلوه كما سمعوه، وأدوه كما حفظوه، وربما كان لكثير منهم من التصرف والتميز في صحة الحديث وضعفه من جهة إسناده، وروايته ما ليس لغيرهم. فصل: وكان العِلْم والدين يتلقاه التابع عن المتبوع سماعًا وتعلمًا، وتأدبًا واقتداء. وكان الحديث يحفظ في القلوب حفظًا، فكان الشيخ يحدث أصحابه من حفظه، وربما حدث من حِفْظِه وكتابه، وأصحابه يسمعون ذلك ويحفظونه عنه وربما كتبوه، ولم تكن الكتب قد صنفت في زمن الصحابة والتابعين، وإنما صنفت بعد ذلك في زمان أتباع التابعين، فصنف ابن جريج في التفسير والحديث والفقه. وصنف سعيد بن أبي عروبة، وحماد بن سلمة، وصنف مالك، وابن المبارك، ووكيع، وعبد الرحمن بن مهدي، وهشيم، وابن أبي شيبة، وعبد الرزاق، وابن وهب، وغيرهم.

وهؤلاء يجمعون في كتبهم ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن الصحابة والتابعين، ثم جرد طوائفه آخرون الحديث المسند عن النبي صلى الله عليه وسلم ولم يخلطوه بشيء من الآثار كما فعل موسى بن قرة، والإمام أحمد، وإسحاق وبقي بن مخلد، وأبو يعلى الموصلي، وغيرهم. ثم صنف قوم المسند الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأسقطوا ما عداه من الضعيف، كما فعل البخاري ومسلم. وصنف أيضاً في الصحيح ابن حبان، وابن خزيمة، والحاكم، وابن السكن، وغيرهم، ولا يبلغ تصحيح هؤلاء تصحيح الشيخين. وصنف أصحاب السنن والجوامع الكتب المرتبة عَلَى الأبواب، ولما انتشرت الكتب والتصانيف توسع الناس في الرواية، فصاروا يقرءون عَلَى الشيوخ قراءات ويسمى ذلك العرض. وصار الشيوخ يناولون أصحابهم كتبًا يعرفون ما فيها، ويأذنون لهم في روايتها عنهم، وكان هذا وهذا من عمل أهل الحجاز وغيرهم. وقد كانوا قبل تصنيف الكتب يفعلون ذلك أيضاً أحيانًا في أحاديث يكتبونها في صحف. وأنكر العرض والمناولة طائفة من علماء العراق، كما أنكروا الشهادة عَلَى مثل ذلك، فإنهم أنكروا الشهادة عَلَى الوصية المختومة، وعلى كتاب القاضي حين يقرءوه عليه، ويعلم ما فيه، ووافقهم طائفة من الفقهاء في الشهادة دون الرواية، فصارت الأقوال ثلاثة: أحدها: المنع من الرواية بما قرأه عَلَى الشيخ أو ناوله إياه بخطه، وهؤلاء يمنعون الزيادة بما ناوله بخطه أيضاً. وأما الشهادة بما قرئ عليه فأقر به، فلا يحفظ قولهم في ذلك، وهذا القول كان قديمًا مشهورًا عن أهل العراق، وكان مالك وغيره ينكره عليهم.

ومنهم طوائف يجيزون العرض دون المناولة. والثاني: جواز الرواية بالعرض والمناولة، وأن ذلك بمنزلة السماع من لفظ الراوي، وجواز الشهادة عَلَى ما قرئ عليه فأقر به، وعلى الكتاب المختوم أيضاً، وهذا قول علماء أهل الحجاز وغيرهم. وها هنا سببان يتعين الفرق بينهما: أحدهما: صحة ما قرأه عَلَى الشيخ أو ناوله إياه أو وجده بخطه. وكذلك صحة ما وجد من الوصايا والأقارير بخط الرجل، وجواز العمل بذلك والحكم به. والثاني: جواز الرواية والشهادة بذلك. فأما الأول: فإن مالكًا وغيره من علماء الحجاز يرون أن ما عرض عَلَى الرجل فأقر به، وما كتبه بخطه بمنزلة ما قاله بلسانه في الصحة والثبوت وفي ذلك كله، فإنهم يرون صحة العرض والمناولة، ويرون قبول كتاب القاضي وغيره إذا علم أنه كتابه بالشهادة، وإن لم يشهدوا بما فيه، وهذا أيضاً هو الثابت عن الإمام أحمد، فإن مذهبه جواز العرض والمناولة، ومذهبه جواز الرواية من الكتاب إذا عرف الخط، وإن لم يكن بخطه، وكذلك مذهبه جواز العمل بالوصية من غير إشهاد عليها، وكذلك الخط وإن لم يكن بخطه. وكذلك مذهبه جواز العمل بالوصية من غير إشهاد عليها، وكذلك الخط وإن لم يكن بخطه. وكذلك مذهبه أن الحاكم والشاهد يعملان بما يجدان بخطهما، وإن لم يذكراه، وهذا أكثر الروايات عنه. والرواية التي قال فيها لا يعمل بذلك -حتى يكون الكتاب تحت حرزه- هو من الاستظهار ليتيقن أنه خطه، وإلا فهو إِنَّمَا يعمل بخطه لا بحفظه. وكذلك خرَّج أصحابه من كلامه جواز العمل بكتاب القاضي إذا شهد به

شاهدان، وإن لم يقرأ عليهم، كما هو مذهب مالك والزهري، وقول أبي يوسف، وأبي عبيد، ومحمد بن نصر المروزي، واختيار السرخسي من الشافعية. وكانت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنة خلفائه الراشدين، وسنة قضاة الإسلام بالحجاز والعراق قبول الكتاب، وإن لم يشهد عَلَى ما فيه. وأول من طلب الشهود عَلَى الكتاب بعض القضاة في أوائل الدولة العباسية، كسوار بالبصرة، وابن أبي ليلى بالكوفة، وقد ذكر ذلك البخاري في "صحيحه" وغيره من العُلَمَاء؛ بل كانوا يقبلون الكتاب مع واحد ثقة إذا عرف الخط أيضًا. وهذه الأقوال في مذهب مالك، وقد صرح أصحاب أحمد أن من قوله قبول الكتاب بمجرد معرفة الخط والختم، وهو قول محمد بن نصر وغيره من فقهاء أهل الحديث. وأما الثاني: وحو جواز الرواية والشهادة بذلك، فها هنا ثلاثة أشياء: عرض، ومناولة، وشهادة. فأما العرض: فَإِذَا قرئ عَلَى العالم فأقر به جاز أن يرويه عنه، وإن لم يأذن له في روايته عند الجمهور، وليس في ذلك إلا خلاف شاذ ولا يكاد يثبت، وإن لم يقر به بل سكت فهل له أن يرويه عنه؟ فيه قولان. والجمهور عَلَى جواز روايته عنه، ويكون سكوته كإقراره. وتنازعوا: هل يجوز له في روايته عنه أن يقول: حدثني، وأخبرني، أو لا يجوز ذلك؟ يقول: قرأت عَلَى فلان فلم ينكر عليَّ. قوله هذا حكاية عن الإمام أحمد. وكذلك تنازعوا فيما إذا عرض عَلَى الشيخ فأقر له به، هل يقول في الرواية عنه: ثنا، وأخبرنا، أو لا يقول ذلك، بل يقول: قرأت عَلَى فلان فأقر به، أو يقول: أخبرنا، ولا يقول: حدثنا؟ عَلَى ثلاثة أقوال:

وكلام الإمام أحمد في ذلك مختلف، وطرق أصحابه مختلفة في حكاية الروايات عنه في ذلك. وأما المناولة: إذا ناوله شيئًا معينًا يعلمه، وقال له: اروه عني، فالجمهور عَلَى جواز ووايه عنه. وتنازعوا: هل يقول في الرواية بالمناولة: حدثنا، وأخبرنا، أو لا يجوز ذلك؟ بل يقول: قال فلان أو عن فلان، أو أعطانى فلان، أو ناولني ونحو ذلك، عَلَى قولين: وقد قيل بجواز أن تقول: أخبرني، ولا يجوز أن تقول: حدثني، وهو ظاهر كلام أحمد. وإن ناوله شيئًا، وقال: هو سماعي، ولم يأذن له في روايته عنه، ففي جواز روايته عنه قولان. وأما الشهادة عَلَى الخط: فإن قرأه عليه وأقر به، فلا ريب في صحة الشهادة به. وأما إِن لم يقرأه عليه، ولم يعلم ما فيه، فهل يجوز له أن يشهد به إذا أمره بذلك؟ كمن كتب كتابًا وختمه، وقال لرجل: اشهد بماء فيه، عَلَى قولين: وكثير من الفقهاء يمنعون تحمل صحة هذه الشهادة، وهو منصوص الإمام أحمد في رواية إسحاق بن منصور، وذهب طائفة إِلَى صحة تحملها كالزهري وأبي يوسف وأبي عبيد، وهو قول أبي بكر الرازي وغيره. وقد خرّج طائفة من أصحاب أحمد صحة هذه الشهادة من نصه، عَلَى جواز العمل بها، وليس ذلك بلازم، فإن جواز العمل بها يقتضي صحة الحكم بالخط المعروف، ولا يلزم من ذلك تحمل الشهادة عليه بما لم يسمعه منه، ألا ترى أنه إذا وجد حدثنا بخط من يعرفه، جاز له أن يعتمد عليه في العمل وتصحيحه، وليس له أن يروي عنه؛ لأنّه لم يتحمله عنه، ولم يسمعه منه، ولهذا منع طائفة من العُلَمَاء من الرواية بالمناولة، وجوزوا العمل

بها كما نُقِلَ ذلك عن الأوزاعي وغيره، وأيضًا فالحكم يعمل بالخط إِن يعرفه والشاهد في حال التحمل لم يعرف ما تحمله البتة، ولا سمعه من لفظه، ولا قرأه من خطه، فكيف يصح تحمله لما لم يعلمه بحال. نعم، يجوز له أن يشهد أن هذا كتابه الَّذِي تبه وختمه، أو يشهد عَلَى الخط إذا فتحه وعرفه، ولعل مراد كثير ممن قال بقبول الختاب المختوم المشهود عليه وأن يقرأ عَلَى الشهود أن الشاهد يشهد أن هذا كتاب فلان، فيفيد ذلك أنه كتابه، ويكون العمل بالخط، وتخريج هذا عن أحمد في كتاب القاضي ونحوه، من نصوصه المستفيضة في العمل بالخطوط أولى من تخريج صحة الشهادة بما تضمنه الكتاب المختوم. لكن يقال: تخرج صحة الشهادة عَلَى الكتاب المختوم من صحة الرواية بالمناولة، إِن ناوله كتابًا لا يعلم الطالب ما فيه، وأذن له في روايته، فإنه يجوز له أن يقول إذا قرأه: أجزت فلانًا بكذا كما تقدم، ولكن كثيرًا من العُلَمَاء يجعل باب الرواية أسهل من باب الشهادة، ويرى التوسع في الرواية بما لا يتسع بمثله في الشهادة، ولأجل هذا فرق أهل القول الثالث في أصل المسألة بين بابي الرواية والشهادة، فجوزوا الرواية بالعرض والمناولة، دون الحكم بالكتاب المختوم والشهادة به، وهذا قول الشافعي وغيره، وهو المشهور عند المتأخرين من أصحاب أحمد. وفرقوا بينهما بأن الرواية مبناها عَلَى المسامحة، فإنه لا يشترط لها العدالة في الباطن، ويقبل فيها قول النساء والعبيد، وحديث العنعنة ونحو ذلك بخلاف الشهادة في كلام أحمد إيماء إِلَى فرق آخر وهو أن الشهادة قد يخفى تغيرها وزيادتها ونقصها، بخلاف الحديث، فإنه قد ضبط وحفظ، فلا يكاد يخفى تغيره، وهذا لأنّ الطعن في رواية ما في الكتاب والشهادة، تارة يعلل بعدم الوثوق بالكتاب لاحتمال تزويره، والزيادة فيه والنقص منه.

وبسبب هذا قال من قال: إِن الرواية من الكتاب كالمنقطعة؛ لأنها مأخوذة عن مجهول، وتارة يعلل بالطعن في صحة تحمل الرواية والشهادة لانتفاء السماع، والذين يجيزون ذلك يحتجون بكتابة النبي صلى الله عليه وسلم إِلَى الملوك وغيرهم، وبعمل خلفائه من بعده بالمكاتبات ونحو ذلك مما ليس هذا موضع بسطه. وهذه المناولة التي ذكرناها هي أن يناوله شيئًا معينًا من رواياته قد عرفه، ويخبره أنه من رواياته، ويأذن له في روايته عنه، أو يكتب إِلَيْهِ بخطه الإذن في رواية شيء معين من رواياته. فأما الإجازة المطلقة، وهو أن يقول: أجزت لك جميع ما يصح عندك من مروياتي، أو يكتب إِلَيْهِ بذلك، فهذا فيه نزاع بين من يرى صحة المناولة المعينة، والذي نقله أبو بكر الخطيب وغيره عن أهل المدينة العمل به، وقد أنكره جماعة ممن يرى صحة المناولة المعينة، كأحمد بن صالح المصري، ولذلك نقل حنبل عن الإمام أحمد ما يدل عَلَى كراهته، وممن أنكر ذلك البرقاني وأبو بكر الرازي، وطائفة من الفقهاء والمحدثين، وأكثر أصحاب الشافعي وأحمد عَلَى جوار ذلك، وتوسعوا في ذلك حتى جوزوا الإجازة المطلقة لكل أحد، وهي التي تسمى الإجازة العامة، وجوزوا الإجازة للمعدوم. وهذا كما توسع المتأخرون في السماع، فإن المتقدمين كانوا لا يسمعون إلا من أهل المعرفة والحفظ، حتى تنازعوا في صحة الرواية عمن يحدث من كتابه، ولا يحفظ حديثه، فمنعه مالك ويحيى بن معين وغيرهما، ورخص فيه آخرون إذا كانت كتبه محفوظة، وأهل المغرب إِلَى الآن يشددون في ذلك، وبسبب ذلك صارت أسانيدهم نازلة. وأما أكثر المتأخرين، فإنهم يسمعون عَلَى الشيوخ الذين لا يعرفون ما يقرأ

عليهم ويستجيزونهم، وهذا لأنّ مقصودهم من الإسناد حفظ السلسلة والعلو، وليس المقصود من الرواية عن هؤلاء تلقي العِلْم عنهم وضبطه كما كان السَّلف، فإن هذه الكتب والأجزاء التي تسند عن هؤلاء الشيوخ معروفة محفوظة، بل منقولة بالتواتر لا يُحتاج في نقلها إِلَى ذلك الشيخ، وصار هذا كالذي يحفظ القرآن، ويقرأه عَلَى شيخ عالي الإسناد، فإنه يستفيد بذلك علو الإسناد فقط، وإلا فنقل القرآن والقراءات كلاهما متواتر، لا يحتاج فيه إِلَى هذا الشيخ، فكذلك الحديث إِنَّمَا يعمد فيه عَلَى ما يعرفه الحفاظ، وما {يحققونه} (*) من الكتب المعتمد عليها، والخطوط الموثوق بها. وتكون الرواية عن هؤلاء الشيوخ لأجل علو الإسناد، واتصال سلسلته؛ فإن الإسناد من خصائص هذه الأمة، مع أن في السماع فوائد جمة من نشر السنة النبوية وإظفارها، وبعث الهمم عَلَى الاشتغال بها دراية ورواية، وغير ذلك من المصالح. فصل: وكان المقصود من ذكر هذه المقدمة، أنه وقع السؤال عن جماعة من شيوخ الرواية الذين أدركناهم بالسماع والإجازة بالشام ومصر، وعن شيء من (رواياتهم) (**) العالية، وكان السائل قدره أعلى من أن يسلك به المسلك المعتاد من الاقتصار عَلَى ذكر الإسناد، فإن ذلك يقع كثيرًا لمن يقنع بظواهر الرسوم دون حقائق الإيمان والعلوم، فذكرنا قبل ذلك هذه المقدمة لتكون الأشياء مبنية عَلَى أصولها، ويبين بذلك مقصود الرواية، وأنها وسيلة إِلَى الدراية والرعاية. وقد قال الحسن البصري رضي الله عنه: همة السفهاء الرواية، وهمة الحكماء الرعاية. والرعاية هي: القيام بحقوق الرواية من العمل والتعليم، فهي ثمرة الدراية. ¬

_ (*) غير واضحة بالأصل وتشبه أن تكون ما أثبتناها، وفي نسخة: "وما يحتفون به". (**) رواتهم: "نسخة".

والحكماء هم: أهل الحكمة، والحكمة هي معرفة الدين والعمل به كما قاله مالك والليث وغيرهما من السَّلف. وكذلك ذكره ابن قتببة وغيره، فالحكماء هم خواص العُلَمَاء كما كان الفضيل بن عياض رضي الله عنه يقول: العُلَمَاء كثير، والحكماء قليل. وقال له رجل: العُلَمَاء ورثة الأنبياء، فَقَالَ فضيل: الحكماء ورثة الأنبياء، وإنما قال هذا؛ لأنّه صار كثير من الناس يظن أن العُلَمَاء الممدوحين في الشريعة يدخل فيهم من له لسان علم، وإن لم يكن عنده من حقائق الإيمان ومن العمل بالعلم ما يوجب سعادته. فبين الفضيل أنه لا يدخل في مدح الله ورسوله للعلماء إلا أهل الحكمة، وهم أهل الدراية والرعاية. وقد كان السَّلف لا يطلقون اسم العالم إلا عَلَى من عنده علم يوجب له الخشية، كما قال بعضهم: إِنَّمَا العالم من يخشى الله، ولقي بخشية الله علمًا، وهذا مطابق لقوله تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} (¬1). والله تعالى أعلم. انتهى. بلغ مقابلة عَلَى أصله. الحمد لله رب العالمين وصلى الله عَلَى سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليمًا. وحسبنا الله ونعم الوكيل. ... ¬

_ (¬1) فاطر: 28.

23 - القول الصواب في تزويج أمهات أولاد الغياب

القول الصواب في تزويج أمهات أولاد الغياب

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الحمدُ لله نحمده ونستعينه ونستهديه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا. هذه حادثة حدثت في الفتاوى وهي: أم ولد لرجل غاب عنها من نحو ثمان سنين أو أكثر، ولم يوقف له عَلَى خبر، وكان سفره من الشام إِلَى العراق في قافلة نهبت، وأُخذ أكثر أموال أهلها، وقتل منهم عدد كثير، فهل يجوز أن تتزوج أم ولده والحالة هذه أم لا؟ فالجواب عن هذه المسألة مبني عَلَى أصلين: أحدهما: تزويج امرأة المفقود، وفيها قولان مشهوران: أحدهما: أنها تتربص أربع سنين أكثر مدة الحمل، ثم تعتد للوفاة، ثم تتزوج، وهذا مروي عن عمر، وعثمان، وعلي، وابن عمر، وابن عباس، وابن الزبير، وهو قول عمر بن عبد العزيز، وسعيد بن المسيب، وعطاء، والحسن وقتادة والزبير والأوزاعي، ومالك، وابن الماجشون، وأهل المدينة، وأحمد، وإسحاق. وأبي عبيد والشافعي في القديم، وأبي خيثمة، وسليمان بن داود الهاشمي، وعلي بن المديني، وفقهاء الحديث. والقول الثاني: تنتظر أبدًا حتى يتبين خبره، وروي عن علي رضي الله عنه، وأنكر الإمام أحمد صحته عنه، وهو قول الكوفيين كالنخعي وابن أبي ليلى وابن شبرمة وأبي حنيفة وأصحابه والثوري، إليه ذهب الشافعي في الجديد، وروي {عن} (¬1) أبي قلابة، وحكي رواية عن أحمد، ومن أصحابه من لم يثبتها عنه؛ فإن المشهور عنه القول الأول، وقد أنكر قول من حكى عن خلافه. ¬

_ (¬1) سقطت من "الأصل"، والصواب إثباتها.

قال الأثرم: قلت لأبي عبد الله: إِنَّ إنسانًا قال: إِنَّ أبا عبد الله ترك قوله في المفقود، فضحك وقال: ومن ترك هذا القول فبأي شيء يقول؟! قال: وقال لي أبو عبد الله: ما أعجب من لا يفتي هنا! يذهبون بأقوال الناس ويحبسون المرأة المسيكينة أبدًا لا تتزوج؟! قيل: يَقُولُونَ: يطمع. قال: من يطمع بعد هذا الأجل؟ قال: وقال خمسة من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - يفتون يَقُولُونَ: تزوج امرأة المفقود. قال: وهو مروي من عمر رضي الله عنه من ثمانية أوجه. قِيلَ لَهُ فروي عن عمر خلاف هذا؟ قال: لا، إلا أن يكون إنسان يكذب. وقال أبو داود في "مسائله": سمعت أحمد قِيلَ لَهُ: في نفسك من المفقود شيء، فإن فلانًا وفلانًا لا يفتيان به؟ فَقَالَ: ما في نفسي منه شيء، هذا خمسة من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - أمروها بالتربص، قال أحمد: هذا من ضيق العِلْم. قال أبو داود: يعني ضيق علم الرجل أن لا يتكلم في المفقود. قال: وسمعته يقول: هذا عندي من ضيق العِلْم أن لا يتكلم في المفقود، وفيمن ليست عنده نفقة -يعني: في الفسخ. والكلام في أدلة هذه المسأله من الجانيين واستيعاب تفاريع القولين يطول جدًّا، وليس غرضنا الآن تقرير ذلك، لكن القائلون بتزويج امرأة المفقود منهم من يقول: صرنا إِلَى ذلك متابعة لقضاه الخلفاء الراشدين، وإن كان عَلَى خلاف القياس. ومنهم من يقول: بل هو عَلَى وفق القياس.

ثم منهم من يقول: لما ظهرت أمارات موته حكم عليه بحكم الميت واكتفي بذلك، كما يكتفى باشتهار موته بالاستفاضة وشهادة عدلين، ونحو ذلك مما لا يوقف معه عَلَى القطع، وهذا قول كثير من أصحابنا وغيرهم. ومنهم من يقول: إِنَّمَا فسخ لرفع الضرر الحاصل بحبس الزوجة أبدًا، وهو قول مالك وبعض أصحابنا. ومنهم من يقول: بل لما جهل بقاؤه جاز التصرف في أهله، وماله موقوف عَلَى إجازته عند ظهوره، كما لو جهل عين رب المال ابتداء كاللقطة ونحوها. {الأصل الثاني} (¬1): أن مال المفقود هل يقسم إذا حكم بجواز تزوج زوجته أم لا؟ وفيه قولان: أحدهما: أنه يقسم بين مستحقيه من الورثة وغيرهم -وهو قول الحسن وقتادة، والزهري وأحمد وإسحاق- لحكمهم بموته ظاهرًا. والثاني: لا يقسم ماله؛ بل يوقف، وهو قول من يقف الزوجة كما سبق، وقول من يبيح المزوجة النكاح لتضررها بانتظار زوجها أبدًا، كمالك والشافعي في القديم. والأوّل {هو} (¬2) المأثور عن الصحابة -رضي الله عنه- أيضاً. وروى الإمام أحمد -فيما نقله عنه ابنه صالح- في "مسائله" (¬3) ثنا عبد الرزاق، قال: أخبرني ابن جريج، قال: أخبرني عطاء الخراساني، عن الزهري: "أن عمر وعثمان قالا في امرأة المفقود: تتربص أربع سنين ثم تعتد أربعة أشهر وعشرًا، ويقسم ميراثه". وخرَّج الجوزجاني، من طريق عمر بن هبيرة، عن جابر بن زيد، عن ابن عباس قال: "إِنَّ امرأة المفقود تستقرض وتنفق؛ فإن جاء زوجها قضى ذلك، وإن لم يأت فهو من نصيبها". ¬

_ (¬1) بياض بالأصل والمثبت يناسب السياق. (¬2) في "الأصل": و. (¬3) (3/ 120).

وهذا يدل عَلَى أنه يرى قسمة ماله بين الورثة. إذا تقرر هذان الأصلان فلنرجع إِلَى الكلام عَلَى أم ولد المفقود فنقول: من قال بوقف مال المفقود وأزواجه؛ فلا شك في أنه يوقف أم ولده أيضاً. وأما من أباح التزويج لأزواجه ولم يقسم ماله كمالك؛ فإنه يحتمل عَلَى أصله أن يقف أم ولده؛ لأنها مال، ويحتمل أن لا يقفها؛ لأنّ في إيقافها عن النكاح من الضرر كالزوجة، ولهذا يغلب عنده عَلَى أم الولد حكم الحرة، فلا تضمن عنده بغصب، ولا بالعقد الفاسد. وأما من أباح نكاح زوجاته وقسمة ماله كأحمد، فلا وجه عنده للتوقف في نكاح أم ولده، وذلك لأنّ المغلب عند أصحابنا فيهم حكم المال، ولهذا يضمن عندهم بالغصب، ومن متأخريهم من قال: وبالعقد الفاسد أيضًا. وعلى تقدير تغليب حكم الأحرار عليها فليلحق بالزوجة لما في انتظارها لسيدها أبدًا من الضرر. وقد ذكر أبو داود في "مسائله" باب المفقود، ثم ذكر عن أحمد في زوجة المفقود أنها تتربص أربع سنين ثُم تعتد وتتزوج، ثم قال: سمعت أحمد سئل عن المفقود يقدم وقد تزوج أمهات ولده قال: يردون إِلَيْهِ، ثم ذكر كلام أحمد في قسمة مال المفقود بعد هذا. فانظر إِلَى ترتيب أبي داود، كيف أدخل حكم أمهات {أولاده} (¬1) بين الزوجات والمال لترددها بينهما، ولو كان أحمد لا يرى جواز تزويج أمهات أولاده لأنكر تزويجهن، وقال: لم يكن يجوز ذلك، أو ما يدل عَلَى هذا المعنى. وأيضًا فأبو داود لما ساق من كلام أحمد جواز تزويج زوجة المفقود كان تقريرًا منه لجواز تزويج أمهات أولاده، فلم يحتج إِلَى التصريح بجوازه، وإنما ساق أحكامه التي يحتاج إِلَى معرفتها لمخالفتها حكم تزويج الزوجة. ¬

_ (¬1) في "الأصل": "أوده" وهو تصحيف.

وممن روي عنه جواز تزويج أم ولد المفقود صريحًا: الحسن البصري. قال حرب: ثنا عبد الله بن معاذ، ثنا أبي، ثنا أشعث بن عبد الملك، عن الحسن قال: إِن تزوجت أم ولد المفقود فهو أحق بها، وولدها بمنزلتها، ولا تتزوج هي حتى يمضي لها أربع سنين. وقد روي عن عثمان وعلي أنهما قضيا في أم الولد إذا تزوجت لفقد سيدها ثم جاء سيدها أن الزوج يفدي ولده. فروى الجوزجاني، ثنا سليمان بن حرب، ثنا حماد بن زيد، عن أبي المليح، عن، سهيمة ابنة عميرة "أن زوجها صيفي بن قتيل أسر في خلافة عثمان، فتزوجت هي وأمهات أولاده، فجاءوا عثمان وهو محصور، فسألوه، فَقَالَ: ألا ترون عَلَى أي حال أنا؟! فقلنا: بلى يا أمير المؤمنين، فَقَالَ: أرى أن يخير بين الصداق وبين امرأته، وترد عليه أمهات أولاده، وعلى الآباء أن يفادوا أولاده، فلما قتل عثمان -رضي الله عنه- وقام علي أتيناه فسألناه، فَقَالَ مثل ذلك، فأعطيته ألفين وأعطاه زوجي ألفين". وروى هذا الحديث سعيد عن قتادة، عن أبي المليح "أن الحكم بن أيوب بعثه إِلَى سهيمة فسألها، فحدثت أن زوجها صيفيًّا قُتل، فتزوجت بعده العباس بن طريف القيسي، ثم إِنَّ الزوج الأول قدم، فأتينا عثمان بن عفان وهو محصور فأشرف علينا ثم قال: كيف أقضي بينكم وأنا عَلَى هذه الحال؟! فقلنا: قد رضينا بقولك، فقضى أن يخير الزوج الأول بين المرأة وبين الصداق فرجعنا، فلما قتل عثمان أتينا عليًّا فخير الزوج الأول بين الصداق وبين المرأة فاختار الصداق، وكانت له أم ولد فتزوجت بعده وولد لها أولاد من زوجها الآخر، فردها عليه وأولادها، وجعل لأبيهم أن يَفْتكّهُم (¬1) إِنَّ شاء". وقال أيوب: "جعل أولادها لأبيهم". خرجه الأثرم ومحمد بن سعد في "الطبقات" (¬2)، وخرّجه الخلال في ¬

_ (¬1) أي: يعتقهم، من الفكاك وهو العتق. (¬2) (8/ 471).

"العلل" وذكر عن الميمونى، عن أحمد أنه قال: حماد بن زيد يجوده ويفسره. وهذا يدل عَلَى ترجيح أحمد رواية حماد بن زيد، عن أيوب عَلَى رواية قتادة هذه. وقد عد أحمد في رواية الأثرم هذا الحديث من جملة أحاديث امرأة المفقود، فدل عَلَى أنه رأى أن نعي هذه المرأة (لها هو أثرها وانقطاع خبره) (¬1) الَّذِي فسره حماد بن زيد في روايته، وهذه بلغها مع ذلك موته من وجه لا يثبت مجرده فانضم ذلك إِلَى انقطاع خبره، وهذا القضاء من عثمان وعلي - رضي الله عنهما- يدل عَلَى أنهما رأيا الحكم بحرية ام الولد عند فقد سيدها ظاهرًا، فلذلك قضيا بفداء الزوج ولده منها، كما يفدي المغرور بحرية أمته ولده منها عند ظهور سيدها، فإن من تزوج أمة يعلم رقها كان ولده منها رقيقًا لا يفدون إلا باختيار سيد الأمة بخلاف المغرور، وهذا الاستدلال ظاهر عَلَى رواية حماد عن أيوب أن عليًّا وعثمان قضيا بفداء الأولاد حتمًا. وأما سعيد عن قتادة؛ فإنه جعل عليًّا وحده هو القاضي في ذلك، وأنه رد الأولاد عَلَى سيد أم الولد، وجعل لأبيهم أن يَفْتَكَّهم إِنَّ شاءوا، وهذا عَلَى تقدير أن يكون محفوظًا؛ فإنه قد يحمل عَلَى أن المغرور لا يحكم بحرية ولده إلا فكاكهم، وهو رواية عن أحمد. قال أحمد في رواية حنبل في أمة قالت: إني حرة، فتزوجها فولدت منه أولادًا قيل للأب: أفتكَّ ولدك هؤلاء وإلا هم يتبعون الأم. فظاهر هذه الرواية أن ولد المغرور بالحرية ينعقدون أرقاء، وإنما الأب يفتكهم بالفداء فيعتقون عليه، وظاهر ما روي عن علي يدل عَلَى أن الأب لا يجب عليه الافتداء، كما لا يجب عليه شراء ولده إذا رآه يباع، وقد يحمل عَلَى وجه آخر وهو أن من تزوج أم ولد فقد ( .... ) (¬2) سيدها؛ فإنه أقدم عَلَى نكاح أمة حكم بعتقها بسبب ظاهر، مع جواز ظهور بقاء رقها ¬

_ (¬1) كذا!! (¬2) بياض بالأصل.

بظهور سيدها. فلم يدخل عَلَى نكاح حرة في نفس الأمر، فلهذا كان ولدها منه تبعًا لها في حريتها الظاهرة ورجوعهم إلي الرق بظهور السيد، وهذا بخلاف الغرور الَّذِي لم يشعر برق المرأة المغرور بحريتها بالكلية، وبخلاف من شهد بموته اثنان، فحكم بعتق أم ولده ثم ظهر حيًّا؛ لأنّ العتق هنا استند إِلَى بينة شرعية، يجب العمل بها، بخلاف الحكم بعتق أمهات أولاد المفقود، فإنه إِنَّمَا استند عليه ظن مجرد. وعلى هذين المحملين يحمل كلام الحسن البصري في قوله: ولدها بمنزلتها. ونقل مهنا عن أحمد في أم ولد غاب عنها، فمكثت سنتين، ثم جاءها الخبر أنه قد مات. فزوجها، أخوها، فدخل بها وولدت منه، ثم جاء سيدها، لمن يكون الولد؟ قال: للآخر، {وعلى} (¬1) الَّذِي زوجها قيمة الولد، يدفعه إِلَى السيد. فقلت له: وترجع إِلَى سيدها؟ قال: نعم". فهذه المسألة إِن حملت عَلَى أنها زوجت بخبر ثبت به الموت شرعًا كانت مما نحن فيه. وإن حملت عَلَى أعم من ذلك دخلت فيه أم ولد المفقود، وأيضًا فقصة عثمان وعلي -رضي الله عنهما- تدل عَلَى جواز نكاح أم ولد المفقود عند إباحة نكاح نسائه {لأنّ} (¬2) وقوع ذلك في كلام عثمان إِنَّمَا يكون بعلمه وإذنه غالبًا، فإن مثل هذه القضايا المشكلة لا يفتات فيها عَلَى الإمام، وقد تنازع العُلَمَاء في توقيفها عَلَى إذن الإمام عَلَى قولين مشهورين، هما روايتان عن أحمد. ولو قدر أنها لم تكن بإذن عثمان فالظاهر أنها كانت عن فتاوى أعيان علماء الصحابة. وأسوأ ما تقدر أن ذلك وقع عن غير فتيا ولا حكم، لكنه لم ينكر مع ظهوره واشتهاره. ¬

_ (¬1) في "الأصل": "وعن" والمثبت أنسب للسياق. (¬2) في "الأصل": "لا" والمثبت أنسب للسياق.

والمعنى في جواز نكاح أمهات أولاد المفقود أنه إما أن يشبهن بالزوجات فلا يحبسن عَلَى مولاهن؛ لما فيه من الضرر كضرر الزوجات، فيتعين أنه يجوز لهن النكاح؛ دفعًا عن الضرر، ويوضح هذا أن الإماء يجب عَلَى سيدهن إعفافهن، إما بالوطء إِن أمكن، وإما بالتزويج، وإما أن يبيعهن لمن يقوم مقامه في ذلك إِن أمكن البيع. وأمهات الأولاد لا يمكن فيهن البيع فيتعين إعفافهن بأحد الأمرين الأولين، والغائب قد يتعذر الإعفاف منه بالوطء فيتعين وجوب إعفافهن بالنكاح إِن طلبنه، وهذا ينقضي جواز إنكاح الحاكم لهن مع الغيبة المطلقة. وإن لم يكن السيد مفقودًا؛ بل حصل لهن الضرر بترك الوطء، فقد صرح بذلك القاضي أبو يعلى في "الجامع الكبير" وإن الحاكم يزوج إماء الغائب إذا طلبن ذلك، وكانت غيبته منقطعة بحيث يجوز للولي الأبعد تزويج الحرة مع غيبة الولي الأقرب، فَإِذَا كان هذا في الغائب دون المفقود، فالمفقود أولى وأحرى أن يزوج أمهات أولاده. وأما إِن تشبهت -أعني أمهات الأولاد- بالإماء القن (¬1) تغليبًا للمالية فيهن وهو مقتضى كلام أصحابنا في تضمينهن بالغصب {والعقد} (¬2) كما سبق ذكره، فيجب حينئذ أن يحكم فيهن بحكم المال، ومعلوم أن ماله يقسم عند الإمام أحمد إذا مضت مدة انتظاره كما سبق ذكره. وإذا وجب قسمته فإنه يجب قسمته عَلَى مقتضى قسمة سائر التركات، فيبدأ بإخراج ما يخرج من رأس المال من ديون ونحوها، ثم بما يخرج من الثلث من الوصايا ونحوها، ثم يقسم الباقي بين الورثة عَلَى حكم الميراث. ¬

_ (¬1) العبد القنّ: الَّذِي وُلد عندك، ولا يستطيع أن يخرج عنك. والأنثى: قنّ بغير هاء. قال الأصمعي: القن: الَّذِي كان أبوه مملوكًا لمواليه، وكأن القن مأخوذ من القنية. "اللسان" مادة: (قنن). (¬2) في "الأصل": "اليد".

وقول الأصحاب: يقسم ماله بين ورثته مرادهم به أنه يقسم عَلَى حكم سائر المواريث، لم يريدوا أنه يقسم جميعه عَلَى الورثة، ولا يخرج منه ما يخرج من رءوس الأموال، فإن هذا لا يقوله عاقل، وبعضهم صرح به يقسم بين الغرماء والورثة، منهم ابن عقيل وغيره، وهذا واضح لا خفاء به، ومعلوم أن عتق أمهات الأولاد يتعين إخراجه من رأس المال قبل الديون وغيرها، ولهذا لو مات المفلس وعليه ديون، ولم يخلف غير أم ولده لعتقت ولم يتخلص فيها الغرماء، فكيف يتوهم متوهم أن مال المفقود يوفى منه ديونه، ويترك أمهات أولاده يعتقن، وعتقهن يقدم عَلَى الديون؟ أم كيف يتوهم متوهم أن ماله يقسم بين ورثته ولا تخرج منه ديونه ولا تنفذ منه وصاياه؟ فإن قيل: ما الفرق بين توريث المال والحكم بالعتق؟ أما توريث المال لم يشترط له تعين حياة الوارث ولا الموروث عند أحمد بدليل أنه يورث الغرقاء والهدماء بعضهم من بعض، ويورث المفقود من مال مورثه الَّذِي مات في مدة انتظاره في أحد الوجهين لأصحابه وقد قيل: إِنَّ في كلامه إيماء إِلَيْهِ، فلذلك لا يعتبر له تعين وفاة الموروث. وأما العتق فلا يحكم به مع الشك في وقوعه، كما لا يحكم بالطلاق مع الشك فيه. قيل: قسمة مال المفقود عند الإياس من قدومه مشبه بملك اللقطة بعد حول التعريف للإياس من الاطلاع عَلَى مالكها، وكلاهما جائز لما في قسمة المال والتصرف فيه من المصلحة، ولما في {إمساكه} (¬1) وحبسه من الفساد وتعرضه لاستيلاء الظلمة عليه، وذلك هو الواقع في هذه الأزمان لا محالة، وكلاهما يجوز من غير استئذان حاكم، وقد نص عليه أحمد في رواية أبي داود في مال المفقود، مع تردده في رفع أمر زوجته إِلَى الحاكم، وكلاهما ¬

_ (¬1) في "الأصل": "إنفاقه" والمثبت أنسب للسياق.

يتصرف فيه تصرفًا مراعًى بظهور صاحبه؛ فإن لم يظهر استمر التصرف في المالين عَلَى ما كان عليه من الصحة، وإن ظهر صاحبه؛ فإن كان عين المال موجودًا وجب رده عَلَى صاحبه، وإن كان مستهلكًا فهل يضمن له أم لا؟ عَلَى قولين مشهورين، وقد حكاهما الأصحاب روايتين عن أحمد في مال المفقود، وإن كان المنصوص عنه في أكثر الروايات عدم الضمان. وكذلك عنه في اللقطة روايتان أيضاً حكاهما ابن أبي موسى، ومن هنا حكم الصحابة -رضي الله عنهم- بأن أم ولد المفقود إذا جاء وقد تزوجت فإنهم خيروه بينها وبين الصداق الَّذِي دفعه إليها؛ لأنّ الزوجة ليست ملكًا له، وإنما كان يملك الانتفاع ببعضها، وفي مقابلة ذلك بذل لها الصداق، فلذلك خير بين المال الَّذِي لزمه مقابلة البضع وبين عوضه وهو البضع، وحينئذ فلا فرق بين قسمة ماله بين ورثته وبين عتق أمهات أولاده، وليس هذا من قبيل الحكم بالعتق مع الشك في شروطه، وإنما هو من قبيل التصرف في مال من أيس من وجوده لفقده، وأيضًا فما ذكر من الفرق غير صحيح عَلَى مقتضى سواعد مذهب أحمد؛ فإن {العتق} (¬1) عنده يحكم به مع الشك في عين من وقع عليه، كما يحكم إخراج المعتقة المسببة عنده بالقرعة، ويكون ذلك مراعاة بدوام النسيان عَلَى أحد الوجهين؛ بل وفي الطلاق أيضاً كذلك عَلَى الصحيح المنصوص عنه وعليه أكثر الأصحاب؛ فإن قيل فأحمد يحتاط للأبضاع ويفرق بينها وبين المال، ولهذا قال فيمن مات بأرض غربة ولا وارث له: إنه يجوز لمن معه أن يجمع ماله ويبيعه إلا الجواري؛ فإنه لا يبيعهن إلا الحاكم، وعلل بأن البضع يحتاط له، فلا يجوز أن يباع إلا بإذن الملك أو الحاكم، وكذلك فرق بين بيع المدبرة والمدبر في رواية عنه لهذا المعنى، وهذا يقتضي أن يفرق هاهنا بين مال المفقود وأمهات أولاده وهذا التفريق لم يقل به أحد في مال ¬

_ (¬1) في "الأصل": "المعتق" والمثبت أنسب للسياق.

المفقود، وذلك أنه سوى بين حكم ماله وزوجاته عَلَى ما سبق، وبضع الزوجة آكد حرمة من بضع الأمة، وأيضًا فإنه لم يفرق في مال المفقود بين الإماء وغيرهن، ولا أحد من {الصحابة} (¬1)، فلو كان في ماله أمة جاز بيعها وقسمة ثمنها، وجاز لبعض الورثة أن يأخذها من نصيبه برضاء الباقين، ولو كان الوارث واحدًا واختص بها {جاز} (¬2) له وطؤها. فعلم أن أحمد لم يراع هذا الفرق في مال الفقود بالكلية، وحينئذ فتجب التسوية بين أمهات أولاده وسائر رقيقه وأمواله في حكم القسمة، إلا أن قسمة أم الولد بين الورثة والغرماء والوصايا متعذر، وإنما قسمتها إرسالها وتمكينها عَلَى حكم العتق لها ظاهرًا. ومما يدل عَلَى هذا أن أحمد يرى أن المفقود إذا مضت هذه المدة في انتظاره بحكم له بأحكام الموتى مطلقًا، وأنه نص عَلَى أن نفقة زوجته تسقط من ماله بعد مدة انتظاره، ولو حبست نفسها عليه بعد ذلك منتظرة له. قال في رواية الأثرم: مال المفقود إذا أمرت به امرأته أن تزوج قسمت ماله بين ورثته، قال: فقلت له: ففي هذه الأريع سنين والأربعة أشهر أليس ينفق عليها من ماله؟ قال لي: فبد لها من نفقة، قلت: فإن أحبت أن تقيم عليه بعد الأربع سنين والأربعة أشهر أليس لها ذاك؟ فمن أين ينفق عليها بعد؟ قال: أنا أرى إذا مضى هذا الأجل أن يقسم المال، قلت: فَإِذَا قسم المال فمن أين ينفق عليها؟ أليس لها بعد الأجل نفقة؟ وهذا نص في أن نفقتها تسقط بانقضاء أربع سنين وأربعة أشهر وعشر عنه بموته بعد انقضاء هذه المدة، وإنما وجب لها النفقة هاهنا في مدة العدة، وإن كان عنده لا يجب {للمتوفى} (¬3) عنها نفقة في مدة عدتها؛ لأنّ الوفاة هاهنا غير متيقنة فيها بخلاف من علمت وفاة زوجها، وقد أشار إِلَى هذا المعنى في ¬

_ (¬1) في الأصل: أصحابه. (¬2) في الأصل: وجاز. (¬3) في الأصل: المتوفى.

رواية صالح فَقَالَ في نفقة الحامل، يموت عنها زوجها أو يطلقها: إِن قامت البينة فمن نصيبها، وإن لم يصح الخبر ولم تقم البينة فمن جميع المال؛ لأنها حبست نفسها عليه، وهذا النص يخالف ما قاله كثير من الأصحاب: أن لها النفقة من مال الغائب ما لم تتزوج أو يفسخ الحاكم نكاحها، ولما قاله بعضهم كابن الزاغوني أنه لا نفقة لها في مدة الأربعة أشهر لا كما في عدة وفاته، وذكر أبو البركات في "شرح الهداية" أنه قياس المذهب عنده، والمنصوص عن أحمد هو منقول عن عمر وابن عباس، لكنهما اختلفا في نفقة الأربع سنين، فَقَالَ ابن عمر: هي من مال المفقود. وقال ابن عباس: إذًا يجحف بالوارث، ولكن يستقرض وينفق؛ فإن جاء زوجها قضى ذلك، وإن لم يأت فهو من نصيبها. وكذلك نص أحمد عَلَى أن مال المفقود بعد مضي المدة المعتبرة لانتظاره يُزكى لما مضى من السنين معللاً بأن صاحبه مات وعليه زكاته، والزكاة تخرج من رأس المال، وهذا يدل عَلَى أنه يحكم بوفاته ظاهرًا بعد هذه المدة، وعلى هذا فتخرج الزكاة من أصل مال المفقود، فإن كان عليه دين تحاصا عَلَى المنصوص عليه في اجتماع الزكاة والدين عَلَى الميت. وهذا نص منه بإخراج جميع الواجبات عن الميت من ماله بعد مدة انتظاره، سواء كانت لآدمي أو لله، وعتق أم ولد المفقود من قبيل إخراج الزكاة من ماله؛ لأنّه حق واجب لله تعالى، وإن كان مستحقه آدميًّا معينًا بخلاف الزكاة؛ فإن مستحقها آدمي غير معين، وطرد هذا أن تنفذ منه وصاياه ويعتق المدبرون. ***

فصل: [في وصف حال المفقود الذي يجوز أن تتزوج زوجته]

فصل: [في وصف حال المفقود الَّذِي يجوز أن تتزوج زوجته] والمفقود الَّذِي يجوز أن تتزوج زوجته ويقسم ماله عند الإمام أحمد -رحمه الله تعالى- هو من فقد في حالة، الظاهر منها الهلاك، فأما من سافر سفر سلامة ثم انقطع خبره فليس عنده بمفقود؛ بل هو غائب. قال الأثرم: قيل لأبي عبد الله: أي شيء المفقود؟ قال: عَلَى حديث عمر إذا خرج من أهله لحاجة فلم يرجع، أو كان بين الصفين ففقد، فلم يدر أقتل ام أسر. قال: ولا يكون المفقود ( ..... ) (¬1) يخرج إِلَى الحج أو إِلَى السفر. ولو خرج إِلَى الصفين فلم يأت خبره وانقطع كتابه لا يكون مفقودًا. قيل لأبي عبد الله: فكان مع أصحاب له في سفر، فتوجه من بينهم لحاجة، ثم لم يعد إليهم. فَقَالَ: هذا مفقود، بمنزلة الَّذِي خرج من أهله لحاجة، فلم يرجع إليهم؟ قال أبو عبد الله: ترى هؤلاء الذين فقدوا في الحرب تربص أهاليهم إِلَى الساعة؟ والذين فقدوا في بلاد الروم؟! يعني: إنكارًا لذلك ثم قال: حديث أبي نضرة "أن رجلاً خرج من أهله .. " وحديث أبي عمرو الشيباني "أن قومًا لقوا العدو ففقد بعضهم .. " فهذا المفقود. يشير إِلَى أن المفقود الَّذِي أجل عمر امرأته؛ إِنَّمَا هو عَلَى ما جاء في هذه الروايات، وهو أن يكون فقده عَلَى وجه ظاهر بالهلاك، فلا يلحق به ما ليس في معناه، فنقل إسماعيل بن سعيد، عن أحمد قال: "إِنَّمَا المفقود أن يكون الرجل في أهله فيصبح وليس بينهم، ولم يعلموا أنه أراد سفرًا، أو يركب البحر فتنكسر بهم السفينة، أو تحملهم الريح في البحر أو يلقوا العدو فيفقد". فأما من سافر فطالت غيبته فليس بمفقود. ¬

_ (¬1) بياض بمقدار كلمة.

ولأحمد -رضي الله عنه- نصوص كثيرة في هذا المعنى، وكذلك مذهب إسحاق بن راهويه، قال حرب: قال إسحاق: المفقود هو الَّذِي يفقد من موضع منزله، أو في كورة (¬1) أخرى، أو في طريق سفر أو غيره يكون معهم ثم يفقدونه فيَقُولُونَ: أين فلان؟ وأين ذهب؟ فلا يدري الجن ذهبت به، أم مات، أم غاب حيث لا يدري في بر أو بحر. فهذا المفقود. فأما إذا غاب عن منزله إِلَى سفر أو قصد كورة فكان فيها في تجارة أو حاجة ثم انقطع علمه عن منزله وأهله فلم يأتهم خبر؛ فإن هذا لا يسمى مفقودًا، هذا غائب، ولا يحكم له حكم المفقود. وقال إسحاق بن منصور: قلت لأحمد: ما المفقود؟ قال: لا يكون مفقودًا حتى يغزو أو يركب البحر فينكسر بهم، أو رجل خرج من الليل فَسَبتْهُ الجن، فهو عَلَى قول عمر. قال إسحاق -يعني: ابن راهويه-: هو عَلَى ما قاله، وكذلك كل ما رئي في موضع ثم فقد منه. وأما مالك -رضي الله عنه- فالمفقود عنده أقسام منها المفقود في التجارة، فتتربص امرأته أربع سنين ثم تعتد. ومنها المفقود في معارك القتل، فيجتهد فيه الإمام، وليس فيه أجل معلوم، ثم تعتد بعد الاجتهاد عدة الوفاة. وأما الأسير عنده إذا انقطع خبره، فلا يفرق بينه وبين امرأته. وحكى ابن المنذر عن سعيد بن المسيب أن المفقود بين الصفين تؤجل امرأته سنة، وإن فقد في غير صف فأربع سنين. وعن الأوزاعي قال: إذا فقد -يعني: في الصف- ولم يثبت عَلَى أحد منهم أنهم قتلوا وأسروا، فعليهن عدة المتوفى عنهن ثم يتزوجن. ¬

_ (¬1) قال الجوهري: الكورة: المدينة. "اللسان" مادة: (كور).

قال: وأجمع كل من نحفظ عنه من أهل العِلْم عَلَى أن زوجة الأسير لا تنكج، حتى يعلم بتعين وفاته، ما دام عَلَى الإسلام. هذا قول النخعي، والزهري، ومكحول، ويحيى الأنصاري، ومالك، والشافعي، وأبي ثور وأبي عبيد وأصحاب الرأي. وتابعه عَلَى هذا النقل صاحب "المغني" وليس الأمر كما ذكره، وقد صح عن الزهري خلاف ما حكاه عنه. قال الجوزجاني: حدثنا أبو صالح أن الليث حدثه ثني يونس، عن ابن شهاب قال: "الأسير قد علم بحياته، لا تزوج امرأته ما علم بحياته، ولا يقسم ماله؛ فَإِذَا انقطع خبره كانت سنته سنة المفقود، وقال في رجل انطلق في معشر من أنصار المسلمين لحاجة أو تجارة؛ فغاب أربع سنين لم يأت عنه خبر ولا كتاب ولا نفقة، قال: "هو بمنزلة المفقود" وهذا إسناد صحيح. قال الجوزجاني: وثنا صفوان، ثنا عمر -هو ابن عبد الواحد- عن الأوزاعي قال: قلت للزهري، في العبد تكون تحته الحرة فأسر؟ قال: إِن علم أنه حي فلا سبيل لها إِلَى التزويج، وإن لم يعلم مكانه فأجلها مثل أجلها تحت الحر، قلت: فإن أبق؟ قال: هي مثل الَّذِي قبلها" وهذا الإسناد صحيح أيضاً. وكذلك حكى كثير من الفرضيين عن أكثر العُلَمَاء أن الأسير إذا انقطع خبره كان حكمه حكم المفقود، وصرح أصحابنا أيضاً بهذا القول في كتبهم، وأن الأسير المنقطع خبره حكمه حكم المفقود، منهم القاضي وأبو الخطاب وابن عقيل وغيرهم، حتى قال أبو محمد الحلواني في "تبصرته": تتربص زوجته أربع سنين ثم تعتد وتتزوج. وهذا تصريح بأن حكمه حكم المفقود الَّذِي غالب أمره الهلاك، وكذلك نقله الخبرين صريحًا عن أحمد، لا سيما إِن كان مأسورًا عند قوم يعرفون بقتل الأسارى، وعلم أنهم قتلوا بعض الأسارى، ولم يدر هل هو ممن قتل أم لا؛ فإن هذا يصير حكمه حكم المفقود في المعركة.

وقد تنازع الفقهاء في وصية الأسير، هل هي من رأس ماله أو من ثلثه، ومنهم من فصل بين أن يكون خائفًا أو آمنًا، ومنهم من فصل بين أن يكون عند قوم يعرفون بقتل الأسارى فتكون وصيته من الثلث وبين أن يكون عند من لا يعرف بذلك، فتكون وصيته من رأس المال. ولو غاب الزوج غيبة منقطعة ولم يترك للزوجة مالا ينفق عليها منه، ولم يبعث لها بمال، وليس بمعسر؛ فمن قال: إنه يثبت له حكم المفقود فحكمه ظاهر. وأما من لم يثبت له حكم المفقود بذلك، فاختلفوا هل يثبت لها الفسخ لامتناعه؟ عَلَى قولين: أحدهما: أنه لا فسخ بذلك، وهو ظاهر مذهب الشافعي، وقول القاضي من أصحابنا وابن عقيل في كتاب "الفصول". والثاني: يثبت به الفسخ كما لو كان معسرًا، وهو قول أبي الخطاب من أصحابنا وابن عقيل في كتاب "المفردات" و"عمدة الأدلة" ورجحه صاحب "المغنى" و"المحرر" ولا فرق عندهم بين أن يكون غائبًا أو حاضرًا إذا تعذر أخذ النفقة منه، وهو ظاهر كلام الخرقي، بل هو ظاهر كلام أحمد، فإنه قال في رواية الميموني: إذا كانت السنة فيمن عجز عن النفقة، وهو مقيم معها أن يفرق بينهما، أليس هذا أقل من أن يكون لا يوصل إليها وهو غائب عنها؟ فبين أحمد أن الغائب إذا لم يوصل إِلَى زوجته النفقة فهي أولى بالفسخ من زوجة العاجز المقيم، وهو اختيار أبي الطيب الطبري من الشافعية. ***

فصل: [متى يفرق بين الغائب وامرأته؟]

فصل: [متى يفرق بين الغائب وامرأته؟] وأما الغائب المعلوم خبره إذا طلبت امرأته قدومه، فإن كان سفره فوق ستة أشهر وأبى القدوم من غير عذر؛ فإنه يفرق بينهما عند الإمام أحمد، نص عليه في رواية ابن منصور. قال ابن منصور: قلت لأحمد: كم يغيب الرجل عن أهله؟ قال: ستة أشهر. قال إسحاق بن راهويه: كذا هو قول أحمد: يكتب إِلَيْهِ؛ (فإن أبى أن يرجع فرقت، فإن رجع وإلا فرق) (¬1). وقال حرب: سألت أحمد قلت: كم يجوز للرجل أن يغيب عن أهله؟ قال: يروى ستة أشهر حديث عمر، وقد يغيب الرجل أكثر من ذلك لابد له. وحمل القاضي أبو يعلى هذ الرواية عَلَى أن الزيادة عَلَى ستة أشهر كانت في سفره واجب متعين لابد منه، كالحج والجهاد، فلا يحتسب عليه بالزيادة، وكلام أحمد أعم من ذلك. وفي مسائل إسحاق بن هانئ عن أحمد: سألته عن رجل يغيب عن امرأته أكثر من ستة أشهر قال: إذا كان في حج أو غزو أو مكتسب -كسب عليَّ عياله- أرجو أن لا يكون به بأس، إذا كان قد تركها في كفاية من النفقة، ومحرم رجل يكفيها، مثل أب أو عم أو خال. ومذهب مالك: إذا أطال الغيبة عن امرأته مختارًا لذلك، وكرهت امرأته غيبته أمر بالقدوم إليها أو نقلتها إِلَيْهِ، فإن امتنع منه أمر بفراقها؛ فإن لم يفعل فرق الحاكم بينهما: نقله صاحب "التفريع". ¬

_ (¬1) كذا!!

وقال ابن عقيل من أصحابنا في كتاب "المفردات": قد يباح الفسخ وطلاق الحاكم لأجل الغيبة إذا قصد بها الإضرار، بناء عَلَى أصلنا: إذا ترك الاستمتاع بها من غير يمين أكثر من أربعة أشهر، فعلى هذه الغيبة المضرة بمجردها قد أثبتت الفسخ لنكاحه، انتهى. وهذا الأصل الَّذِي أشار إِلَيْهِ قد ذكره القاضي في خلافه ومن تبعه، وهو ترك الوطء لقصد الإضرار بغير يمين أن حكمه حكم المولى، وأخذه من قول أحمد، في رجل تزوج بامرأة، فلم يدخل بها ويقول: اليوم أدخل، وغدًا أدخل، قال: أذهب إِلَى أربعة أشهر، إِن دخل بها وإلا فرق بينهما. ونص فيمن ظاهر من امرأته سنة فجاءت تطالب فليس له أن يعضلها بعد أربعة أشهر، ثم تطلق عليه إِن أبي التكفير والطلاق. وقال ابن عقيل في "عمدة الأدلة" وفي كتاب "المفردات": عندي إِن قصد الإضرار خرج مخرج الغائب، وإلا فمتى حصل إضرارها بامتناعه من الوطء، وإن كان ذاهلاً عن قصد الإضرار تضرب له المدة. وذكر في آخر كلامه: إِن حصل له الضرر بترك الوطء لعجزه عنه كان حكمه كالعنين. فيؤخذ من كلامه أن حصول الضرر للزوجة بترك الوطء لعجزه عنه كان حكمه يقتضي الفسخ بكل حال، سواء كان بقصد من الزوج أو بغير قصد، وسواء كان مع قدرته أو عجزه، وكذا ذكره الشيخ تقي الدين ابن تيمية في العاجز، وألحقه بمن طرأ عليه خنث أو عُنة، وبالعاجز عن النفقة. وذكر أبو الخطاب، وصاحب "المحرر" إِن امتنع من وطء زوجته أكثر من أربعة أشهر بغير عذر، وطلبت الفرقة فرق بينهما، ولم يعتبرا قصد الإضرار. وقال صاحب "المغني": لابد أن يظهر دليل يدل عَلَى إرادة الضرر. ومذهب مالك وأصحابه أن ترك الوطء من غير عذر يوجب الفسخ مع اختلافهم في تقدير المدة، فهذا كله في حق الزوجات.

فأما الإماء، فمذهب أحمد أنه يجب عَلَى السيد إعفافهن إذا طلبن الإعفاف: إما بنفسه إِن أمكن، وإما بالتزويج، أو بخروجهن عن ملكه بالعتق، وفي إجباره عليه ضرر له، فَإِذَا لم يعفهن بنفسه تعين إعفافهن بالتزويج. وقد ذكر القاضي في غير موضع من كتابه "الجامع الكبير" أن الحاكم لا يجبر السيد عَلَى تزويج إمائه إذا طلبن ذلك؛ لأنّ لنا طريقًا إِلَى إزالة ضررها بدون النكاح، فلذلك قام الحاكم فيه مقام الأولياء عند امتناعهم منه، وهذا التعليل يقتضي أن أم الولد يزوجها الحاكم إذا امتنع السيد من تزويجها؛ لأنّه لا يمكن نقل الملك فيها إلا أن نقول: يجبره الحاكم عَلَى أحد أمرين: إما إعفافهن بالوطء، أو بالنكاح. وقد يقال: إنه يمكن إزالة ضررها، بإخراجها عن ملكه بالعتق لتصير حرة. ثُم قال القاضي -بعد ما ذكره من التعليل والفرق-: فعلى هذا لو كان السيد غائبًا غيبة منقطعة، وله أمة، وقد دعيت إلي التزويج، أو كان سيدها صبيًّا أو مجنونًا احتمل أن يزوجها الحاكم كما ينفق عليها من ماله. ومعنى هذا أنه إذا طلبت الأمة النكاج وكان الزوج ممن لا يمكن أن يطلب منه عقد النكاح عليها، إما لغيبته أو صغره أو جنونه؛ فإن الحاكم يقوم مقامه حينئذ فيه؛ لأنّه حق وجب إبقاوه، وقد تعذر فعله منه، فقام الحاكم فيه مقامه كما يقوم مقامه في الإنفاق عَلَى الأمة من ماله، وهذا المعنى لا فرق فيه بين أمهات الأولاد وغيرهن للاشتراك في وجوب الإعفاف، والله تعالى أعلم. ولذلك ذكر القاضي في "خلافه" أن سيد الأمة إذا غاب غيبة منقطعة، فطلبت منه التزويج في غيبته زوجها الحاكم، وأن هذا قياس المذهب، ولم يذكر فيه خلافًا. وكذلك نقله عنه صاحب "المحرر" في تعليقه عَلَى "الهداية" ولم يعترض عليه بشيء.

وكذلك أبو الخطاب في "الانتصار": أن السيد إذا غاب زوج أمته من يلي ماله. قال: وأومأ إِلَيْهِ أحمد في رواية بكر بن محمد. فإن قيل: فقد ذكر طائفة من أصحابنا كصاحب "المغني" ومن اتبعه أن حكم الإماء مخالف لحكم الزوجات في أنهن لا يجب لهن قسم، ولا يثبت في حقهن ما يثبت للزوجات من الفسخ بالجب (¬1) والعنة، ولا يضرب لهن مدة الإيلاء، وهذا يدل عَلَى أنه لا يتعرض لأمة الغائب بشيء حتى يقدم. قيل: إِنَّمَا مرادهم بذلك أن الإماء لا يساوين الزوجات في حكم الزوجات المختص بهن، من وجوب القسم والتسوية بينهن مع حضور السيد، ولا يثبت لهن به مع غيبة السيد ما يثبت للزوجات مع غيبة الزوج من مراسلته بعد ستة أشهر؛ فإن أبى القدوم أزيل ملكهن عنه، فإن هذا الحكم مختص بالزوجات، فلا تشاركهن فيه الإماء، وهذا لا ينافي أن للإماء المطالبة بحقهن من الإعفاف، عند تضررهن بترك الوطء مع الغيبة وإزالة ضررهن، فمراد الأصحاب بما قالوا نفي الحكم الأخص، وهو مساواة ما للزوجات، وليس مرادهم نفي الحكم الأعم، وهو وجوب إزالة الضرر لماء بترك الوطء، ومعلوم أن نفي الخاص لا يلزم منه نفي العام، ألا ترى أنهم قالوا: لا قسم عليه للإماء مع حضوره، ولم يكن قولهم هذا منافيًا لما ذكروه من وجوب إعفافهن بالوطء، ولا مناقضًا له، فحكم الزوجات يخالف حكم الإماء في حال حضور الزوج وغيبته. أما في حال حضوره، فإن الزوج يجب عليه القسم والمبيت والوطء في كل أربعة أشهر، والسيد لا يجب عليه سوى الإعفاف عند الحاجة إِلَيْهِ، ولا يتعذر ذلك بمدة معينة. وأما في حالة غيبته فإن الزوج إذا طالت غيبته فوق ستة أشهر، وطلبت زوجته قدومه، وأبى ذلك من غير عذر فرق بينهما. ¬

_ (¬1) الجب: هو القطع والمراد به هنا قطع الذكر.

والأمة لا تساوي الزوجة في ذلك من وجهين: أحدهما: تقدير المدة ستة أشهر. والثاني: إزالة ملك السيد عنها بالكلية، ولكن إذا طالت غيبته وتضررت بترك الوطء، زَوَّجها الحاكمُ ولم يزل ملكه عن رقبتها بالكلية. فيجب الجمع بين كلام الأصحاب (¬1) في هذا كله، ولا يرد بعضه ببعض، ولا يؤخذ بعضه ويترك بعضه، ولا يجعل متناقضًا، بل يجمع بينه، ويؤخذ بجميعه عَلَى الوجه الَّذِي ذكرنا، وبذلك يزول الإشكال عنه، ويتدفع التناقض، والله أعلم. فإن قيل: فالزوج لو غاب غيبة ظاهرها السلامة، ولم يعلم خبره وتضررت زوجته بترك النكاح لم يفسخ نكاحها عَلَى المشهور من كلام الإمام أحمد وأصحابه، فكيف يزوج أمة السيد الغائب في هذه الحال؟ قيل: أما عَلَى قول ابن عقيل الَّذِي تقدم ذكره؛ فإنه يزوج المرأة بذلك كما سبق، فتزويج الأمة حينئذ عَلَى قوله أولى. وأما عَلَى المشهور فالفرق بين تزويج المرأة وتزويج الأمة أن تزويج الأمة إِنَّمَا يجوز بعد الحكم بفسخ نكاح الزوج، ولا يجوز عند الإمام أحمد فسخ نكاحه في هذه الحال. وأما تزويج الأمة فليس فيه فسخ لملك السيد؛ إذ الأمة باقية عَلَى ملكه لم تخرج بذلك عن ملكه، وإنما يزال ضررها بالتزويج. ¬

_ (¬1) كتب في هامش "الأصل" ما يأتي: قف تأمل -رحمك الله- كلام الشيخ إذا وجد في عبارات الأصحاب ما يشكل أو يتعسر فهمه أو يظهر للمفتي أو العالم منه التناقض أو عدم الجمع أنه يجب الجمع بينه .. إلخ، فما أجله من تنبيه لو تأمله الجاهل بحال أعيان حملة الشرع، وعلو مقامهم، وسعة علومهم وأفهامهم، فتجد الجاهل بمحلهم من العِلْم، المخصوص بسوء الفهم، المعجب بنفسه كثيرًا ما يحط من قدرهم، ويرى أنه خفي عليهم ما خص به ... الفهم. فالله المستعان.

فقد يقال: فقد أخرجتم منفعة بعضها عن ملكه بتزويجها؛ لأنا نقول: ملك بضع الأمة للسيد ليس هو كملك الزوج لبضع زوجته؛ لأنّ بضع الزوجة يملكه الزوج للاستمتاع به بنفسه خاصة، فلا يجوز لغيره مشاركته فيه إلا بعد انقطاع علق الزوج عنه، وأما بضع الأمة فمملوك للسيد لا عَلَى طريق الانتفاع به بنفسه خاصة، بل ينتفع به بنفسه وتارة يعارض عليه، ولهذا يجوز له أن يتملك من يحرم عليه وطؤها عَلَى التأبيد. فظهر بهذا أن ملك الإماء ليس موضوعًا للاستمتاع بخلاف النكاح، وقد قرر أصحابنا هذا الفرق في مواضع متعددة من كتب الفقه. وحينئذ فنقول: لا يجوز إلحاق الأمة ببضع الزوجة في هذا الموضع، ويدل عليه أن الأمة لو طلبت من السيد تزويجها، عند امتناعه من الوطء، وتعذر عليه شرعًا أو حسّا أجبر عَلَى تزويجها بخلاف الزوجة. فظهر من هذا أن وجوب تزويج الأمة إِنَّمَا هو من باب إزالة ضررها لا غير، مع بقاء ملكها وملك بضعها عليه، وهذا أوسع من فسخ نكاح الحرة، فيجوز تزويج الأمة في حال لا يجوز تزويج الزوجة فيه، فإن الأمة لا يجوز منعها من نكاح عند طلبه، كما لا يجوز منعها من النفقة والكسوة عند الحاجة. وأما الزوجة فإنها -وإن كان يجب لها عَلَى الزوج حق الوطء- لكن لا يمكنها استيفاءه بالأمة خاصة، فَإِذَا لم يجز فسخ نكاحه فقد تعذر استيفاء هذا الحق منه، بخلاف الأمة؛ فإنه يجب إزالة ضررها بالنكاح مع حضور السيد، ويمكنه منه إذا تعذر حصول الوطء منه، ولا يعتبر امتناعه من ذلك كما لو كان السيد صبيًّا أو مجنونًا كما صرح به القاضي فيما تقدم، والله أعلم. ومما يبين ما بين الأمة والزوجة في هذا أن الزوجة لا تملك فسخ نكاح زوجها بطول مرضه وامتناعه من الوطء، فكذلك لا تملكه بغيبته، بخلاف الأمة؛ فإنها تطالب السيد بالتزويج عند تعذر استمتاعه بها لمرض وغيره، فكذا تطالب به مع غيبته، والله أعلم.

فتبين بهذا أن الأمة حقها في إزالة ضررها بالوطء من السيد أو غيره بخلاف الزوجة، فإن حقها في الوطء من الزوج خاصة، فكذلك تزوج أمة الغائب دون زوجة الغائب إلا حينما يجوز فسخ نكاحها بالغيبة. والله سبحانه وتعالى أعلم. آخره، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم عَلَى خير خلقه أجمعين، وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إِلَى يوم الدين. ***

24 - رسالة في رؤية هلال ذي الحجة

رسالة في رؤية هلال ذي الحجة

بسم الله الرحمن الرحيم رب يسر وأعن ووفق للخير يا كريم قال الشيخ الإمام العالم العلامة الأوحد الفهامة وحيد عصره، وفريد دهره: أبو الفرج عبد الرحمن ابن الشيخ الإمام شهاب الدين أحمد بن رجب الحنبلي رحمه الله تعالى ونفعنا بعلمه. آمين. الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن مُحَمَّدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم. أما بعد، فقد وقع في هذا العام وهو عام أربعة وثمانين وسبعمائة حادثة، وهو أنه غم هلال ذي الحجة فأكمل الناس هلال ذي القعدة، ثم تحدث الناس برؤية هلال ذي الحجة، وشهد به إناس) (*) لم يسمع الحاكم شهادتهم، واستمر الحال عَلَى إكمال عدة شهر ذي القعدة فتوقف بعض الناس (عن) (**) صيام التاسع الَّذِي هو يوم عرفة في هذا العام. فقالوا: هو يوم النحر عَلَى ما أخبر به أولئك الشهود الذين لم تقبل شهادتهم، وقيل: إِنَّ بعضهم ضحى في ذلك اليوم، وحصل للناس بسبب ذلك اضطراب، فأحببت أن أكتب في ذلك ما يسره الله تعالى، وبه المستعان وعليه التكلان، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. فنقول: هذه المسألة لها صورتان: ¬

_ (*) أناس: "نسخة". (**) في: "نسخة".

إحداهما

إحداهما أن يكون مستندًا إِلَى قرائن مجردة، أو إِلَى شهادة من لا تقبل شهادته إما لانفراده بالرؤية، أو لكونه ممن لا يجوز قبول قوله ونحو ذلك. فهذه المسألة قد اختلف الناس فيها عَلَى قولين: أحدهما: أنه لا يصام في هذه الحالة. قال النخعي في صوم يوم عرفة في الحضر: إذا كان فيه اختلاف، فلا تصومن. وعنه قال: كانوا لا يرون بصوم يوم عرفة بأسًا إلا أن يتخوفوا أن يكون يوم الذبح. خرجهما ابن أبي شيبة في كتابه (¬1)، وسنذكر عن مسروق وغيره من التابعين مثل ذلك فيما بعد إِن شاء الله تعالى. وكلام هؤلاء قد يقال -والله أعلم- أنه محمول عَلَى الكراهة دون التحريم. وقد ذكر شيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية -رحمه الله- في صوم هذا اليوم في هذه (الحالة) (*) أنه جائز بلا نزاع بين العُلَمَاء. قال: لأنّ الأصل عدم العاشر كما أنهم لو شكوا ليلة الثلاثين من رمضان هل طلع الهلال أم لم يطلع، فإنهم يصومون ذلك اليوم باتفاق الأئمة، وإنما يوم الشك الَّذِي رويت فيه الكراهة الشك في أول رمضان؛ لأنّ الأصل بقاء شعبان. انتهى. فإما أن يكون اطلع عَلَى كلام النخعي وحمله عَلَى الكراهة، (فذلك نفي) (**) النزاع في جوازه، وإما أن يكون لم يطلع عليه. ومراده: أن يستصحب الأصل في كلا الموضوعين؛ لأنّ الأصل بقاء الشهر المتيقن وجوده، وعدم دخول الشهر المشكوك في دخوله. فكذلك هنا إذا شك في دخول ذي الحجة بنى الأمر عَلَى إكمال ذي القعدة؛ لأنّه الأصل ويصام يوم عرفة عَلَى هذا الحساب. وهو تكميل شهر ذي القعدة. ولكن من السَّلف من كان يصوم يوم الشك في أول رمضان احتياطًا. وفرق ¬

_ (¬1) في "المصنف" (2/ 341) برقم {9719، 9720}. (*) الحال: "نسخة". (**) فلذلك نفي: "نسخة".

طائفة منهم بين أن تكون السماء مصحية أو مغيمة، كما هو مشهور عن الإمام أحمد. والاحتياط هنا إِنَّمَا يعتبر في استحباب صيام الثامن والتاسع من ذي الحجة مع الشك احتياطًا، كما قال ابن سيرين وغيره أنه مع اشتباه الأشهر، (وفي) (*) شهر المحرم يصام منه ثلاثة أيام احتياطًا، ليحصل بذلك صيام يوم التاسع والعاشر، ووافقه الإمام أحمد عَلَى ذلك. وقد رُوي عن ابن عباس -رضي الله عنه- أنه كان يعلل صيام التاسع مع العاشر بالاحتياط أيضاً خشية فوات صوم يوم عاشوراء. وأما أن الاحتياط ينهض إِلَى تحريم صيام يوم التاسع من ذي الحجة لمجرد الشك، فكلآ؛ لأنّ الأصل بقاء ذي القعدة وعدم استهلال ذي الحجة، فلا يحرم صوم يوم التاسع منه بمجرد الشك، كما يجب صوم الثلاثين من رمضان مع الشك في استهلال شوال؛ لأنّ الأصل عدمه وبقاء رمضان. القول الثاني: أنه يصام ولا يلتفت إِلَى الشك، وهو مروي عن عائشة رضي الله عنها من وجوه. قال عبد الرزاق (¬1) في كتابه: أبنا معمر، عن جعفر بن برقان، عن الحكم وغيره، عن مسروق أنه دخل هو ورجل معه عَلَى عائشة يوم عرفة فقالت عائشة: يا جارية، خوضي لهما سويقًا وحليه، فلولا أني صائمة لذقته، قالا: أتصومين يا أم المؤمنين ولا تدرين لعله يوم النحر؟! فقالت: إِنَّمَا يوم النحر إذا نحر الإمام وعظم الناس، والفطر إذا أفطر الإمام وعظم الناس". وروي من وجوه أخر. رواه أبو إسحاق السبيعي عن مسروق قال: " (دخلت عَلَى عائشة أنا وصديق لي) (**) يوم عرفة فدعت لنا بشراب، فقالت: لولا أني صائمة لذقته. فقلنا لها: أتصومين والناس يزعمون أن اليوم يوم النحر؟! قالت: الأضحى يوم يضحي الناس، والفطر ¬

_ (*) في: "نسخة". (¬1) في "مصنفه" (4/ 157) برقم {7310}. (**) دخلت أنا وصاحب لي عَلَى عائشة: "نسخة".

يوم يفطر الناس". رواه الإمام أحمد، عن ابن نمير وابن فضيل، كلاهما عن الأعمش، عن أبي إسحاق به، خرجه عنه ابنه عبد الله في كتاب "المسائل" وخرّجه أيضاً عبد الله، عن أبيه، عن ابن مهدي، عن سفيان، عن أبي إسحاق، عن أبي عطية ومسروق قالا: "دخلنا عَلَى عائشة" في اليوم الَّذِي يشك فيه الأضحى، فقالت: خوضي لابني سويقًا وحليه، فلولا أني صائمة لذقته. فقِيلَ لَهُا: يا أم المؤمنين، إِن الناس يرون أن اليوم يوم الأضحى! فقالت: إِنَّمَا يوم الأضحى يوم يضحي الإمام وجماعة الناس" (¬1) وكذا رواه شعبة، عن أبي إسحاق، عن أبي عطية، ومسروق عن عائشة بنحوه عنهم. ورواه دلهم بن صالح، عن أبي إسحاق، عن أبي عطية ومسروق، عن عائشة. واختلف عليه في رفع آخر الحديث، وهو "إِنَّمَا الأفضحى يوم يضحي الإمام" فمن أصحابه من رفعه عنه وجعله من قول النبي صلى الله عليه وسلم، ومنهم من وقفه عَلَى عائشة، وهو الصحيح. ورواه أيضاً مجالد، عن الشعبي، عن مسروق، عن عائشة بنحوه موقوفًا أيضاً. فهذا (الأثر) (*) صحيح عن عائشة رضي الله عنها إسناده في غاية الصحة، ولا يعرف لعائشة في ذلك مخالف من الصحابة، ووجه قولها أن الأصل في هذا اليوم أن يكون يوم عرفة؛ لأنّ اليوم المشكوك فيه، هل هو من ذي الحجة أو من ذي القعدة: الأصل فيه أنه من ذي القعدة، فيعمل بذلك استصحابًا للأصل. ومأخذ آخر: وهو الَّذِي أشارت إِلَيْهِ عائشة رضي الله عنها، أن يوم عرفة هو يوم مجتمع الناس مع الإمام عَلَى التعريف فيه، ويوم النحر. هو الَّذِي ¬

_ (¬1) وأخرجه عبد الرزاق في "مصنفه" (7310) من طريق آخر عن مروق أنه دخل هو ورجل معه عَلَى عائشة. (*) أثر: "نسخة".

يجتمع الناس مع الإمام عَلَى التضحية فيه، وما ليس كذلك فليس بيوم عرفة ولا يوم أضحى، وإن كان بالنسبة إِلَى عدد أيام الشهر هو التاسع أو العاشر. وقد روي ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم مرفوعًا من وجوه متعددة. خرَّجه الترمذي (¬1) من طريق المقبري، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الصوم يوم (يصوم الناس) (*)، والفطر يوم يفطرون، والأضحى يوم يضحون" وقال: حسن غريب. وخرَّجه أبو داود (¬2) وابن ماجه (¬3) من طريق ابن المنكدر، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه، بدون ذكر "الصوم" وخرّجه الترمذي (¬4) من حديث ابن المنكدر، عن عائشة، عن النبي صلى الله عليه وسلم وقال: صحيح. وقد روي عن عائشة من وجوه أخر مرفوعًا، وروي عن أبي هريرة من قوله موقوفًا. وروى السفاح بن مطر، عن عبد العزيز بن عبد الله ابن خالد بن أسيد (¬5) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يوم عرف اليوم الَّذِي يعرف الناس فيه" مرسل حسن، احتج به الإمام أحمد عَلَى أن الناس إذا وقفوا في يوم عرفة خطأ أجزأهم حجهم، وقال مجاهد: "الأضحى يوم يضحون، والفطر يوم يفطرون، والجمعة يوم يجمعون" خرَّجه عبد الله بن الإمام أحمد. ... ¬

_ (¬1) برقم (697). (*) يصومون: "نسخة". (¬2) برقم (2324). (¬3) برقم (1660) من طريق ابن سيرين، عن أبي هريرة. (¬4) برقم (802). (¬5) أخرجه أبو داود في "المراسيل" (149).

الصورة الثانية

الصورة الثانية أن يشهد برؤية هلال ذي الحجة من يثبت الشهر به، لكن لم يقبله الحاكم إما لعذر ظاهر، أو لتقصير في أمره. ففي هذه الصورة. هل يقال: يجب عَلَى الشهود العمل بمقتضى رؤيتهم، وعلي من يخبرونه ممن يثق بقولهم أم لا؟ فقد يقال: إِنَّ هذه المسألة تخرج عَلَى الخلاف المشهور في مسألة المنفرد برؤية هلال شوال، هل يفطر عملاً برؤيته أم لا يفطر إلا مع الناس؟ وفي ذلك قولان مشهوران للعلماء: أحدهما: لا يفطر. وهو قول عطاء، والثوري، والليث، وأبي حنيفة، وأحمد، وإسحاق. وروي مثله عن عمر بن الخطاب. والثاني: يفطر. وهو قول الحسن بن صالح، والشافعي، وطائفة من أصحابنا. وروي عن مالك كلا القولين. قالت طائفة من أصحابنا: هذه المسألة تبنى عَلَى هذا الأصل، وهو الصحيح من المذهب، فعلى قول من يقول: لا يفطر المنفرد برؤية هلال شوال، بل يصوم ولا يفطر إلا مع الناس. فإنه يقول: يستحب صيام يوم عرفة للشاهد الَّذِي لم تقبل شهادته بهلال ذي الحجة؛ لأنّ هذا هو يوم عرفة في حق الناس، وهو منهم. ومن قال في الشاهد بهلال شوال يفطر سرًّا. قال ها هنا: إنه يفطر ولا يصوم؛ لأنّه يوم عيد في حقه. قال: وليس له التضحية قبل الناس في هذا اليوم، كما أنه لا ينفرد بالوقوف بعرفة دون الناس بهذه الرؤية؛ لأنّ الذين أمَرُوا بالفطر في آخر رمضان إِنَّمَا أمَرُوا به سرًّا ولم يجيزوا له إظهاره، والانفراد بالذبح والوقوف فيه من مخالفة الجماعة ما في إظهار الفطر. وهذا ما ذكره الشيخ تقي الدين أبو العباس ابن تيمية -رحمه الله تعالى- مع أنه قد روي عن سالم بن عبد الله بن عمر أنه انفرد

بالوقوف بعرفة وحده دون الناس. ذكره الإمام أحمد وخرّجه عبد الرزاق عن سفيان الثوري، عن (عمر) (*) بن محمد قال: شهد نفر أنهم رأوا هلال ذي الحجة، فذهب بهم سالم إِلَى والي الحج وهو ابن هشام، فأبى أن يجيز شهادتهم، فوقف سالم بعرفة لوقت شهادتهم، فلما كان اليوم الثاني وقف مع الناس. لكن الذبح ليس هو مثل الوقوف؛ لأنّه لا ضرورة في تقديمه لامتداد وقته بخلاف الوقوف. وقد يقال: إِنَّ صيام هذا اليوم في حق الشاهد، أو من أخبره به ينبني عَلَى اختلاف المأخذ في الأمر لمن انفرد برؤية هلال الفطر بالصيام مع الناس. وفي ذلك مآخذ: أحدها: الخوف من التهمة بالفطر. والثاني: خوف الاختلاف وتشتت الكلمة، وأن يجعل لكل إنسان مرتبة الحاكم، وقواعد الشرع تأبى ذلك، وهو الَّذِي ذكره الشيخ مجد الدين ابن تيمية وغيره. والثالث: أنه لم يكمل نصاب الشهادة برؤيته وحده. وهذا مأخذ الشيخ موفق الدين بن قدامة المقدسي من أصحابنا. والرابع: ما ذكره الشيخ تقي الدين ابن تيمية -رحمه الله- أن الشهر: هو ما اشتهر وظهر، والهلال: ما استهل به وأعلن دون ما كان في السماء من غير رؤية ولا اشتهار، فإن اسم الشهر والهلال لا يصدق بدون اشتهار رؤيته، وترتيب الفطر والنسك عليه. فما لم يكن كذلك فليس بهلال ولا شهر، فأما عَلَى المأخذ الأول فلا يظهر الأمر للشاهد (هنا بالصوم) (**)؛ لأنّ الفطر يوم عرفة لا يخشى منه تهمة كما في رمضان. ¬

_ (*) عمرو: "نسخة". (**) بالصيام: "نسخة".

فيتوجه الأمر بصيام هذا اليوم مع الناس؛ لأن فطره يؤدي إِلَى أن يفطر أكثر الناس يوم عرفة مع اعتيادهم لصيامه في سائر الأعوام. وهذا فيه تفريق الكلمة، وافتئات عَلَى الإمام. وأما عَلَى المأخذ الثالث: فيقال: إِن كان هناك شاهدان فصاعدًا، فقد كمل نصاب الشهادة، فيعملان هما ومن يثق بقولهما بشهادتهما. وكذا قال الشيخ موفق الدين -رحمه الله تعالى- في الشاهدين بهلال الفطر إذا رُدَّت شهادتهما أنهما يفطران هما ومن يثق بقولهما. وخالفه في ذلك الشيخ مجد الدين. وقال: وقياس المذهب خلاف ذلك بناء عَلَى المأخذ الأول والثاني. وأما عَلَى المأخذ الرابع: فيتوجه ما ذكره الشيخ تقي الدين رحمه الله، وهو ظاهر المروي عن عائشة رضي الله عنها وغيرها من السَّلف. وعليه تدل الأحاديث السابقة أن الأضحى يوم يضحي الناس، والفطر يوم يفطرون، وعرفة يوم يعرفون. والمنقول عن الصحابة كابن عمر، وعن كثير من التابعين كالشعبي، والنخعي، والحسن، وابن سيرين وغيرهم: يقتضي أن لا ينفرد عن الجماعة بصيام ولا فطر. وأحمد يرى أنه لا ينفرد عن الجماعة بالفطر كمن رأى هلال شوال وحده. وأما الانفراد عن الجماعة بالصيام ففيه عنه روايتان، مثل صيام يوم الغيم إذا لم يصمه الإمام والجماعة معه، ومثل صيام من رأى هلال رمضان وحده وردت شهادته، فإنّ في وجوب صيامه عَلَى الرأي عن أحمد روايتين. والمنصوص عنه في رواية حنبل أنه لا يصوم، وهو قول طائفة من السَّلف. كعطاء، والحسن، وابن سيرين، ومذهب إسحاق. وعلى هذا فقياس مذهبه أنه لا ينفرد عن الجماعة بالفطر في يوم عرفة إذا صامه الإمام والناس ورآه من لم يؤخذ بقوله. فإن في الأمر بفطره وتحريم صيامه مفسدة المخالفة للإمام وجماعة المسلمين.

ومثل هذا لا يكاد يخفى؛ بل يظهر وينتشر، كما وقع في هذا العام، وربما يؤدي إِلَى أن يجعله كثير من الناس يوم النحر، فتنحر فيه الأضاحي، كما وقع في هذا العام أيضاً. وهذا من أبلغ الافتئات عَلَى الإمام وجماعة المسلمين، وفيه تشتيت الكلمة، وتفريق الجماعة، ومشابهة أهل البدع، كالرافضة ونحوهم؛ فإنهم ينفردون عن المسلمين بالصيام والفطر وبالأعياد، فلا ينبغي التشبه بهم في ذلك. (وتحقيق) (*) هذا: أن التقدم عَلَى الإمام بذبح النسك منهي عنه. كالتقدم عليه بالصيام، والتقدم عليه بالدفع من عرفة، والتقدم عليه بصلاة الجمعة. ولذلك منع طائفة من أصحابنا - كأبي بكر عبد العزيز- أهل الأعذار أن يصلوا الظهر يوم الجمعة حتى يصلي الإمام الجمعة. ولذلك تنازع العُلَمَاء: هل يجوز التقدم عَلَى الإمام بالذبح يوم النحر، أم لا يجوز الذبح حتى يذبح الإمام نسكه؟ وفيه قولان مشهوران للعلماء ولا خلاف بينهم أن الأفضل أن لا يذبح الناس حتى يذبح الإمام. وقال الحسن في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} (¬1)، قال: لا تذبحوا قبل الإمام. خرَّجه ابن أبي حاتم. فإن قيل: أليس قد أمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه عند وجود الأئمة الذين يؤخرون الصلاة عن وقتها أن يصلوا الصلاة لوقتها وأن يجعلوا صلاتهم معهم نافلة، مع أن في ذلك افتئاتًا عَلَى الأئمة واختلافًا عليهم؟ ولهذا كان بنو أمية يشددون في ذلك ويستحلفون الناس عند مجيئهم للصلاة أنهم ما صلوا قبل ذلك. ومع هذا فقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالصلاة في الوقت سرًّا، وبالصلاة معهم نافلة لدفع شرهم وكفِّ أذاهم. وهذا يدل عَلَى أنه لا يجوز لأحد ترك ما يعرفه من الحق لموافقة الأئمة وعموم الناس؛ بل يجب عليه العمل بما يعرفه من الحق في نفسه، وإن كان ¬

_ (*) تحقق: "نسخة". (¬1) الحجرات: 1.

فيه مخالفة للأئمة وعموم الناس المتبعين لهم وحينئذ فلا يجوز أن يؤمر من رأى الهلال، أو من أخبره برؤيته من يثق به أن يتبع الإمام والجماعة معه، ويترك ما قد عرفه من الحق. فالجواب: أن ما نحن فيه ليس من هذا القبيل، وذلك أن الصلاة لها وقت محدود في الشرع معلوم أوله وآخره علمًا ظاهرًا، فمن غيره من الأئمة (لم تجب) (*) متابعته في ذلك؛ لأنّ فيه موافقة عَلَى تغيير الشريعة. وذلك لا يجوز فنظير هذا من مسألتنا أن يشهد شهود عدول عند حاكم برؤية هلال ذي الحجة أو رمضان، فيقول: هم عندي عدول ولا أقبل شهادتهم أو نحو ذلك مما يظهر فيه أنه تعمد ترك الواجب بغير عذر، فهنا لا يلتفت إِلَيْهِ ويعمل بمقتضى الحق، وإن كان يظهر له التقية إذا خيف من شره. كما أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالصلاة مع أولئك الأمراء نافلة. وهذا بخلاف الأمور الاجتهادية التي تخفى ويسوغ في مثلها الاجتهاد، كقبول الشهود وردهم؛ فإن هذا مما تخفى أسبابه. وقد يكون الحاكم معذورًا في نفس الأمر؛ ففي مثل هذا لا يجوز الافتئات عَلَى الأئمة ونوابهم ولا إظهار مخالفتهم، ولو كانوا مفرطين في نفس الأمر، فإن تفريطهم عليهم لا عَلَى من لم يفرط. كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الأئمة: "يصلون لكم فإن أصابوا فلكم ولهم، وإن أخطئوا فلكم وعليهم" خرَّجه البخاري (¬1) والله اعلم. انتهى ما ذكره الشيخ -رحمه الله تعالى. ... ¬

_ (*) لم تجز: "نسخة". (¬1) برقم (694).

25 - قاعدة في إخراج الزكاة على الفور

قاعدةٌ في إخراج الزكاة عَلَى الفور

بسم الله الرحمن الرحيم ربِّ يسرّ يا كريم الحمدُ لله رب العالمين، وصلى الله عَلَى سيدنا محمد وآله أجمعين وسلَّم تسليمًا. وبعد. فهذا فصلٌ في وجوب إخراج الذكاة عَلَى الفور. قد صرَّح بذلك أصحابنا في كتبهم، وكلامُ الإمام أحمد يدلُّ عليه؛ قال في رواية (جعفر) (*) بن محمد: إذا وجبت الزكاةُ لا يخرجها إلا جملة، لا يُفرِّط. وقال في رواية ابن هانئ وصالح، وسُئل أتؤخر الزكاة؟ قال: لا. قال في رواية أبي داود: لا يؤخرها عن محلها. وقال بكرُ بن محمد: سُئل أبو عبد الله عن رجل يكون وقت زكاته، فيُخرج فيُعطي قليلاً قليلاً: فكأنه كره إذا حلَّت عليه إلا أن يُقدمها. قال: ما يأمن الحدثان (**). قال: ولكن يُخرج قليلاً قليلاً قبل أنْ تحل، فَإِذَا حلَّت تعيَّن تخريجُها. وقال الأثرم: سُئل أبو عبد الله عن رجل يحول الحولُ عَلَى ماله، فيُؤخّر عن وقت الزكاة. قال: ولم يؤخر، يُخرجها إذا حال الحولُ. وشدَّد في ذلك. قِيلَ لَهُ: فإن حال الحولُ فابتدأ في إخراجها. فجعل يُخرج أولاً فأولاً. قال: لا يحل، يخرجها كلَّها إذا حال عليه الحول. وشدَّد في ذلك. وقال رواية ابن منصور وصالح، وسُئل عن قول سُفيان الثوري: إذا وجبت عليه الزكاة فجعلها في كيس، فجعل يُعطي قليلاً قليلاً يرعى الموضع. قال: لا بأس إذا كان لا يجد، فَإِذَا وجد لأنّ يفرغ منه أَحَبّ إلي. قال: أحمد: جيد. وهذه الرواية قد تُشعر بعدم التحريم. ¬

_ (*) في الأصل ابن جعفر. المثبت هو الصواب، وهو القافلاني وقد صحب من صحب أحمد بن حنبل، {انظر طبقات الحنابلة} (586) وتاريخ بغداد (7/ 219) والمقصد الأرشد (317). (**) حدثان الدهر وحوادثه. نوبه، وما يحدث منه. قال الأزهري الحدث من أحدث الدهر. شبه النازلة "اللسان" (2/ 132).

وقال في رواية العبَّاس بن محمد الخلال، في الرجل يؤخِّر الزكاة حتى تأتي عليها سنين، ثُم يُزكي: نخافُ عليه الإثم في تأخيره. وقال في رواية يعقوب ابن بُختان، في رجل عليه زكاة عام لم يُعطه، وأعطى زكاة عام قابل. قال: جائز، ولكن يُعطي الماضي. وهذا يُشعر بعدم التحريم أيضًا. ونقل عنه يعقوب بن بُختان أيضاً، في الرجل تجب عليه الزكاة، وله قرابةٌ وقوم قد كان عوَّدهم، فيعطيهم وهم عنه غُيَّبٌ، يدفعها إليهم؟ قال: ما أَحَبّ أن يؤخرها إلا أن لا يجد مثلهم في الحاجة. فهذا نصٌّ جواز التأخير لمن لا يجد مثلهم في الحاجة. وقد نصٌّ في مواضع أُخر، عَلَى أنّه لا يؤخّرها بعد الحول ليُجريها عَلَى أقاربه، {نقله عنه جماعة} (¬1) منهم: محمد بن يحيى الكحَّال (¬2)، والحسن بن محمد، والفضل بن زياد. ونقل عنه إسحاقُ بن هانئ وعبد الله {و} (1) أبو مسعود الأصبهاني وأبو طالب، وسندي وغيرهم الجواز. وفي رواية عبد الله: أنَّه يجوز ذلك تعجيلاً للزكاة. فحمل أبو بكر عبد العزيز المنعَ والجواز عَلَى اختلاف حالين، لا عَلَى اختلاف قولين: المنعُ، عَلَى تأخيرها ليُجريها عليهم بعد الحول. والجواز، عَلَى إجرائها عليهم قبل الحول. وهذا التفصيلُ قد نقله الحسنُ بن محمد، عن أحمد. وخالف صاحبُ المحرَّر أبا بكر في ذلك. وقال: ظاهرهُ الجواز مطلقًا، وأخذ منه جوار تأخير ¬

_ (¬1) سقط من الأصل والسياق يقتضيها. (¬2) في الأصل. "العجال" والصواب ما أثبتناه وهو أبو جعفر محمد بن يحيى الكحال البغدادى، من كبار أصحاب أحمد، كان يقدمه ويكرمه له عنده مسائل كثيرة حسان. انظر "طبقات الحنابلة" لابن أبي يعلى (1/ 332).

الزكاة للقرابة

الزكاة للقرابة ولكن لأحمد نصوصٌ أُخر تدل {عَلَى} (¬1) كراهة إجرائها عليهم شيئًا فشيئًا قبل الحول. معللاً بأنّه يخص بزكاته {قرابته} (¬2) دون غيرهم ممن هو أحوج منهم وقال لا يُعجبني، فإن كانوا مع غيرهم سواء في الحاجة فلا بأس نقله عنه جعفرُ بن محمد. وكذا نقل عنه أبو داود إذا كان غيرُهم أحوج، وإنَّما يريد أن يُغنيهم ويدع غيرهم، فلا فإن استووا في الحاجة فهم أولى. ونقل عنه أيضًا إذا كان له قرابةٌ يجري عليهم، أيعطيهم من الزكاة؟ قال إِن كان {عدَّها} (¬3) من عياله، فلا قيل إنَّما يُجري عليها شيئًا معلومًا كلَّ شهر قال إذا كفاها ذلك قيل لا يكفيها فلم يُرخِّص له أن يُعطيها من الزكاة ثم قال لا يُوقى بالزكاة {مال} (¬4) قال ومعنى هذا إِن كان عوَّدها الإجراء عليها من غير الزكاة قال لا توقى بالزكاة فقد وقى به ماله ولم يذكر الخلال ولا أبو بكر آخر الرواية فأشكل فقهها من كلامها ومما يتفرَّع علي جواز تأخير أداء الزكاة أنَّه يجوز أن يُتحرَّى. بها شيء معين تُضاعف فيه الصدقة. فمن قال: إنّه يجوز تأخيرها لمن لا يجد مثلهم في الحاجة لم يبعُد عَلَى قوله أن يجوز تأخيرُها لشهر يفضُل فيه الصدقة أيضًا وقد يتخرَّج عَلَى ذلك أنه يجوز نقل الزكاة إِلَى بلدٍ بعيد لقرابة فقراء حاجتُهم شديدة. وقد توقف أحمدُ في هذه الصورة في رواية الأثرم وقال لا أدري ومسائل التوقف تُخرَّج عَلَى وجهين غالبًا. ¬

_ (¬1) في الأصل "منع" ولعل المثبت هو الصواب. (¬2) في الأصل "قرابتهم". (¬3) في الأصل "يجدها"، وما نقلته من مسائل أبي داود لأحمد برقم (579). (¬4) زيادة من مسائل أبي داود. والسياق يقتضيها.

وأجازه النخعي لذي القرابة خاصة، وأجازه مالك في النقل إِلَى المدينة خاصة والنقلُ فيه تأخيرُ الإخراج؛ فكما يؤخّر الأداء إِلَى الوصول إِلَى مكانٍ فاضل، تفضل فيه أبوابُ النفقة؛ فكذلك تُوخِّر إِلَى زمان فاضل تفضل فيه الصدقة. بل التأخير إِلَى الزمان أولى؛ لأنّه ليس فيه عدولٌ عن فُقراء بلد الصدقة، ولا نقلٌ لها عن غيرهم. وقد استشكل أحمدُ قولَ عُثمان: هذا شهرُ زكاتكم. قال إبراهيم بنُ الحارث: سُئل أحمد عن قول عثمان: هذا شهر زكاتكم. قال: ما فُسِّر أي وجه هو. قيل: فليس يُعرف وجهه؟ قال: لا. قال الأثرم: قلتُ لأبي عبد الله: حديثُ عثمان: هذا شهر زكاتكم. ما وجهه؟ قال: لا أدري. وأما {حديثُ} (¬1) عثمان: فحدَّثنا به من قال: ثنا ابنُ المبارك، ثنا معمر، عن الزهري، عن السائب بن يزيد، قال: سمعتُ عثمان، يقول: "هذا شهرُ زكاتكم" (¬2). يعني: رمضان. قال القاضي أبو يعلى: لقد نُقل عن السائب بن يزيد، أنَّه قال ذلك في شهر رمضان. ونُقل عنه أنّه قال ذلك في المحرَّم. قلتُ: قوله: يعني رمضان. ليس هو من قول السائب، بل من قول من بعده من الرُّواة. وحمل القاضي هذا الحديث: عَلَى أنَّ الإمام يبعثُ سُعَاته في أوَّل السنة، وهو أول المحرَّم. فمن كان حال حولُه أخذ منه زكاته، ومن تبرَّع بأداء زكاة لم تجب عليه قُبل منه، ومن قال: لم يحل حولي أخَّره. ¬

_ (¬1) إضافة يقتضيها السياق. (¬2) أخرجه ابن أبي شيبة (3/ 194) وتتمته: "فمن كان عليه دين فليقضه، وزكوا بقية أموالكم".

وقد نص أحمدُ وغيره عَلَى أن من خشي أن يرجع عليه الساعي بالزكاة، أنَّه عذرٌ له في تأخير إخراجها. وقال مالك وغيرُه من العُلَمَاء: لا تجب الزكاةُ في الأموال الظاهرة إلا يوم مجيء السُّعاة. نقله عنه أبو عُبيد. وقالت طائفة: معنى قول عُثمان: "هذا شهيرُ زكاتكم". يُستحب فيه تعجيل زكاتكم. نقل ذلك القاضي في "خلافه"، وردَّه عَلَى قائله. وروى أبو عبيد في كتاب "الأموال" (¬1): ثنا إبراهيمُ بن سعد، عن ابن شهاب، عن السائب بن يزيد، قال: سمعتُ عُثمان بن عفان، يقول: "هذا شهرُ زكاتكم. فمن كان عليه دينٌ فليؤدِّه حتى تُخرجوا زكاة أموالكم، ومن لم يكن عنده لم يُطلب منه حتى يأتي بها تطوعًا، ومن أُخذ منه لم تُؤخذ منه حتى يأتي هذا الشهر من قابل" قال إبراهيم: أراه يعني شهر رمضان. قال أبو عُبيد: وقد جاءنا في بعض الأثر، ولا أدري عمَّن هو: أنَّ هذا الشهر الَّذِي أراد عُثمان المحرَّم. وقد قال بعضُ السَّلف: ذلك الشهر الَّذِي كان يُخرج فيه الزكاة نُسي، وأنَّ ذلك من المصائب عَلَى هذه الأمة. فروى أبو زرعة في تاريخه، قال: سألت أبا مُسهر، عن عبد العزيز بن الحُصين: هل يُؤخذ عنه؟ فَقَالَ: أمَّا أهلُ الحزم فلا يفعلون. قال: فسمعتُ أبا مُسهر يحتجّ بما أنكره عَلَى عبد العزيز بن الحُصين. ثنا سعيد بن عبد العزيز، عن الزهري فَقَالَ: كان من البلاء عَلَى هذه الأمة أن نسوا ذلك الشهر. يعني: شهر الزكاة. قال أبو مُسهر: قال عبد العزيز: سمَّاه لنا الزُّهري. وقد رُوي أنَّ الصحابة كانوا يُخرجون زكاتهم في شهر شعبان إعانة عَلَى الاستعداد لرمضان، لكن من وجهٍ لا يصح (¬2). ¬

_ (¬1) ص 395. (¬2) وقال المؤلف في "لطائف المعارف" ص174 وفي الإسناد ضعف.

وروى يحيى بن سعيد العطَّار الحمصي، ثنا سيفُ بن محمد، عن ضرار ابن عمرو، عن يزيد الرقاشي، عن أنس بن مالك، قال: "كان أصحابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا استهلَّ شهر شعبان أكبّوا عَلَى المصاحف فقرءوها وأخذوا في زكاة أموالهم فقووا بها الضعيف والمسكين عَلَى صيام شهر رمضان، ودعا المسلمون مملوكيهم فحطوا عنهم ضرائب شهر رمضان، ودعت الولاةُ أهل (السجون) (¬1) فمن كان عليه حدٌّ أقاموه عليه وإلا خلَّوا سبيله. يحيى، ومن فوقه إِلَى يزيد: كلُّهم ضُعفاء. وأمَّا مذاهب العُلَمَاء في هذه المسألة: قال ميمون بن مهران: إذا حال الحولُ أخرج زكاته، وله أن يشتغل بتفرقتها شهرًا لا يزيد عليه. قال أبو عُبيد: ثنا علي بن ثابت، عن جعفر بن برقان، عن ميمون بن مهران، قال: اجعلها صررًا ثم ضعها فيمن تعرف، ولا يأتي عليك الشهر حتى تفرقها. وصرَّح أصحابُنا: بجواز تأخير إخراجها يسيرًا من غير تقدير. وحكوا عن مالك، والشافعي، ومحمد بن الحسن أنه يجب إخراجُها علي الفور. وعن أبي يوسف: لا يجب ما لم يُطالبه الإمام. وحكوا في كُتب الخلاف -منهم القاضي وابن عقيل- عن الحنفية أنهم قالوا: تسقط الزكاة بتلف المال قبل إمكانه وبعده. عَلَى أنَّه لا يجب إخراجها عَلَى الفور، وأنَّه لا يجب بدون مطالبة الساعي. وهذا يُشبه المحكي عن أبي يوسف، كما تقدَّم. آخر ما وجدنا من خط المؤلف -رحمه الله تعالى- والحمد لله وحده وصلى الله عَلَى سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم، ورضي الله عن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أجمعين. هذا آخر القاعدة في إخراج الزكاة عَلَى الفور، للشيخ الإمام العالم العلامة بقية الحفاظ زين الدين ابن رجب البغدادي الدمشقي، رحمه الله وأسكنه فسيح جنته بمنه وكرمه، وغفر لنا ولجميع المسلمين أجمعين. بلغ مقابلة وتصحيحًا عَلَى حسب الطاقة. ¬

_ (¬1) في الأصل: "السنجوق"، وما أثبته هو الصواب.

26 - الرد على من اتبع غير المذاهب الأربعة

الرد عَلَى من اتبع غير المذاهب الأربعة

بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين الحمدُ لله رب العالمين، حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما يُحبُّ ربُّنا ويرضى، وصلَّى الله عَلَى محمد عبده ورسوله، النبي صلى الله عليه وسلم الأمي خاتم النبيين وإمام المتقين، المبعوث بالدِّين القيم، والشريعة الباقية المؤيَّدة المحفوظة، الَّذِي لا يزال من أمَّته طائفةٌ ظاهرين عَلَى الحق لا يضرُّهم من خذلهم حتى تقوم الساعة. أما بعدُ: فقد بلغني إنكارُ بعض الناس عَلَى إنكاري عَلَى بعض من ينتسبُ إِلَى مذهب الإمام أحمد وغيره من مذاهب الأئمة المشهورين في هذا الزمان: الخروج عن مذاهبهم في مسائل، وزعم أنَّ ذلك لا يُنكر عَلَى مَنْ فعله، وأنَّ من فعله قد يكون مُجتهدًا مُتبعًا للحق الَّذِي ظهر له، أو مقلدًا لمجتهد آخر. فلا يُنكر ذلك عليه. فأقولُ وبالله التوفيق، وهو المُستعان وعليه التكلان، ولا حول ولا قوة إلا بالله: لا ريب أنَّ الله تعالى حفظ لهذه الأمة دينها؛ حفظًا لم يحفظ مثله دينا غير دين هذه الأمة؛ وذلك أنَّ هذه الأمة ليس بعدها نبيٌّ يُجدد ما دثر من دينها، كما كان دينُ من قبلنا من الأنبياء، كلَّما دثر دينُ نبي جدَّده نبيُّ آخر يأتي بعده. فتكفّل الله سبحانه بحفظ هذا الدين، وأقام له فى كلِّ عصر حملةٌ ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحالَ المبطلين وتأويلَ الجاهلين. وقال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (1). فتكفَّل الله

وقال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (¬1). فتكفَّل الله سبحانه بحفظ كتابه، فلم يتمكّن أحدٌ من الزيادة في ألفاظه ولا من النقص منها. وقد كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يُقرئ أمَّته القرآن في زمانه عَلَى أحرفٍ مُتعددة؛ تيسيرًا عَلَى الأمة لحفظه وتعلمه، حيث كان فيهم العجوزُ والشَّيخ الكبير، والغلام والجارية والرجلُ الَّذِي لم يقرأ كتابًا قط. فطلب لهم الرخصة في حفظهم له أن يُقرئهم عَلَى سبعة أحرف؛ كما ورد ذلك في حديث أبي بن كعب وغيره (¬2). ثم لما انتشرت كلمةُ الإسلام في الأقطار، وتفرَّق المسلمون في البُلدان المتباعدة صار كلُّ فريق منهم يقرأ القرآن عَلَى الحرف الَّذِي وصل إِلَيْهِ. فاختلفوا حينئذٍ في حروف القرآن، فكانوا إذا اجتمعوا في الموسم أو غيره اختلفوا في القرآن اختلافًا كثيرًا. فأجمع أصحابُ النبي صلى الله عليه وسلم في عهد عُثمان عَلَى جمع الأمَّةِ عَلَى حرفٍ واحد، خشية أن تختلف هذه الأمة في كتابها كما اختلف الأممُ قبلهم في كُتبهم، ورأوا أنَّ المصلحة تقتضي ذلك. وحرَّقوا ما عدا هذا الحرف الواحد من المصاحف (¬3)، وكان هذا من محاسن أمير المؤمنين عثمان -رضي الله عنه- التي حمده عليها عَليِّ وحُذيفة وأعيانُ الصحابة. ¬

_ (¬1) الحجر:9. (¬2) أخرج ذلك من حديث أبي بن كعب: مسلم في "الصحيح" رقم (281)، وأحمد في "المسند" (5/ 127، 129) وعن ابن عباس: البخاري في "الصحيح" رقم (4991)، ومسلم في "الصحيح" رقم (819)، وأحمد في "المسند" (1/ 264. 299، 313). (¬3) أخرج ذلك البخاري في "الصحيح" رقم (4987) من حديث أنس.

وإذا كان عُمر قد أنكر عَلَى هشام بن حكيم بن حزام عَلَى عهد النبي صلى الله عليه وسلم في آيةٍ أشدُّ الإنكار، وأبيُّ بن كعب حصل له بسبب اختلاف القرآن ما أخبر به عن نفسه من الشك، وبعض من كان يكتبُ الوحي للنبي - صلى الله عليه وسلم - ممن لم يرسخ الإيمانُ في قلبه ارتد، بسبب ذلك حتى مات مرتدًّا. هذا كلُّه في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فكيف الظن بالأمّة بعده أنْ لو بقي الاختلافُ في ألفاظ القرآن بينهم. فلهذا ترك جمهورُ علماء الأمة القراءة بما عدا هذا الحرف الَّذِي جمع عثمان عليه المسلمين، ونهوا عن ذلك. ورخَّص فيه نفرٌ منهم (¬1)، وحُكي رواية عن أحمد ومالك مع اختلاف عنهما عَلَى ذلك به في الصلاة وغيرها أم خارج الصلاة فقط. وبكل حال: فلا تختلف الأمة أنه لو قرأ أحدٌ بقراءة ابن مسعود ونحوها مما يخالف هذا المُصحف المجتمع عليه، وادَّعى أنَّ ذلك الحرف الَّذِي قرأ به هو حرف زيد بن ثابت الَّذِي جمع عليه عثمانُ الأمَّة، أو أنَّه أولى بالقراءة من حرف زيد: لكان ظالمًا متعديًا مستحقًّا للعقوبة. وهذا لا يختلف فيه اثنان من المسلمين. إِنَّمَا محل الخلاف: إذا قرأ بحرف ابن مسعود ونحوه مع اعترافه أنَّه حرفُ ابن مسعود المخالف لمصحف عثمان رضي الله عنه. وأما سنَّة النبي صلى الله عليه وسلم: فإنَّها كانت في الأمة تُحفظ في الصدور كما يُحفظ القرآن، وكان من العُلَمَاء من يكتبها كالمصحف، ومنهم من ينهى عن كتابتها. ولا ريب أنَّ الناس يتفاوتون في الحفظ والضبط تفاوتًا كبيرًا. ¬

_ (¬1) منهم ابن مسعود -رضي الله عنه- (3103) وقال: هذا حديث حسن صحيح، وابن أبي داود في "المصاحف" كما في "الفتح" (9/ 19) عن أنس.

ثم حدث بعد عصر الصحابة قومٌ من أهل البدع والضلال، أدخلوا في الدين ما ليس منه وتعمَّدوا الكذب عَلَى النبي صلى الله عليه وسلم. فأقام الله - صلى الله عليه وسلم - تعالى لحفظ السنَّة أقوامًا ميَّزوا ما دخل فيها من الكذب والوهم والغلط، وضبطوا ذلك غاية الضبط وحفظوه أشد الحفظ. ثم صنَّف العلماءُ التصانيف في ذلك، وانتشرت الكتبُ المؤلفة في الحديث وعلومه، وصار اعتماد الناس في الحديث الصحيح عَلَى كتابي الإمامين أبي عبد الله البُخاري، وأبي الحسين مُسلم بن الحجاج القُشيري -رضي الله عنهما. واعتمادُهم بعد كتابيهما عَلَى بقيّة الكُتب الستة خصوصًا سُنن أبي داود وجامع أبي عيسى وكتاب النسائي ثم كتاب ابن ماجه. وقد صُنّف في الصحيح مصنفات أخر بعد صحيحي الشيخين، لكن لا تبلغ مبلغ كتابي الشيخين. ولهذا أنكر العُلَمَاءُ عَلَى من استدرك عليهما الكتاب الَّذِي سمَّاه المستدرك. وبالغ بعضُ الحفَّاظ فزعم أنه ليس فيه حديث واحد عَلَى شرطهما. وخالفه غيرهُ، وقال: يصفو منه حديثٌ كثير صحيح. والتحقيق: أنَّه يصفو منه صحيحٌ كثير عَلَى غير شرطهما؛ بل عَلَى شرط أبي عيسى ونحوه، وأما عَلَى شرطهما فلا. فقلَّ حديثٌ تركاه إلا وله علةٌ خفية؛ لكن لعزة من يعرف العلل كمعرفتهما وينقده، وكونه لا يتهيأ الواحد منهم إلا في الأعصار المُتباعدة: صار الأمر في ذلك إِلَى الاعتماد عَلَى كتابيهما، والوثوق بهما والرجوع إليهما، ثم بعدهما إِلَى بقية الكتب المُشار إليها. ولم يُقبل من أحد بعد ذلك الصحيحُ والضعيف إلا عمَّن اشتُهر حذقه ومعرفته بهذا الفن واطلاعُه عليه، وهم قليل جدًّا.

وأمَّا سائر الناس، فإنَّهم يعوَّلون عَلَى هذه الكتب المشار إليها، ويكتفون بالعزو إليها. وأما الأحكام ومسائل الحلال والحرام؛ فلا ريب أنَّ الصحابة والتابعين ومن بعدهم اختلفوا في كثيرٍ من هذه المسائل اختلافًا كثيرًا، وكان في الأعصار (المتقدمة) (*) كلُّ من اشتُهر بالعلم والدين يفتي بما ظهر له أنَّه الحق في هذه المسائل، مع أنَّه لم يخل من كان يشذ منهم عن الجمهور عن إنكار العُلَمَاء عليه. كما كان يُنكر عَلَى ابن عباس رضي الله عنه مسائل متعددة تفرَّد بها (¬1). وأُنكر ذلك عَلَى أتباعه أشدُّ من الإنكار عليه، حتى كان ابنُ جُريج لما قدم البصرة، إذا رآه الناسُ دخل المسجد الجامع رفعوا أيديهم ودعوا الله عليه؛ لشذوذه بتلك المسائل التي تلقَّى عن أصحاب ابن عباس، حتى أنَّه رجع عن بعضها قبل أن يخرج من عندهم. وهذا مع أنَّ الناس حينئذٍ كان الغالبُ عليهم الدين والورع. فكان ذلك يُريحهم عن أن يتكلَّم أحدُهم بغير علم، أو ينصب نفسه للكلام، وليس هو لذلك بأهل. ثم قلَّ الدينُ والورع، وكثرُ من يتكلم في الدين بغير علم، ومن ينصب نفسه لذلك وليس هو له بأهل. فلو استمر الحالُ في هذه الأزمان المتأخِّرة عَلَى ما كان عليه في الصدر الأول بحيث أنَّ كلَّ أحدٍ يُفتي بما يدَّعي أنَّه يظهر له أنَّه الحق؛ لاختل به نظامُ الدين لا محالة، ولصار الحلالُ حرامًا والحرام حلالاً. ولقال كلُّ من شاء ما يشاء، ولصار دينُنا بسبب ذلك مثل دين أهل الكتابين من قبلنا. ¬

_ (*) المتقادمة: "نسخة". (¬1) كقوله في الربا والمتعة.

فاقتضت حكمةُ الله سبحانه أن ضبط الدين وحفظه: بأن نصب للناس أئمة مجتمعًا عَلَى علمهم ودرايتهم وبلوغهم الغاية المقصودة في مرتبة العِلْم بالأحكام والفتوى، من أهل الرأي والحديث. فصار الناس كلُّهم يعولون في الفتاوى عليهم، ويرجعون في معرفة الأحكام إليهم. وأقام الله من يضبط مذاهبهم ويحرر قواعدهم، حتى ضُبط مذهبُ كل إمام منهم وأصوله، وقواعدُه وفصوله، حتى تُرد إِلَى ذلك الأحكام ويُضبط الكلامُ في مسائل الحلال والحرام. وكان ذلك من لُطف الله بعباده المؤمنين، ومن جُملة عوائده الحسنة في حفظ هذا الدين. ولولا ذلك: لرأي النَّاسُ العجبَ العُجاب، من كلِّ أحمق متكلِّف مُعجبٍ برأيه، جريء عَلَى الناس وثَّاب. فيدَّعى هذا أنَّه إمامُ الأئمة، ويدَّعي هذا أنَّه هادي الأمة، وأنَّه هو الَّذِي ينبغي الرجوعُ دون الناس إِلَيْهِ، والتعويل دون الخلق عليه. ولكن بحمد الله ومنته انسدَّ هذا الباب الَّذِي خطرُه عظيم وأمره جسيم، وانحسمت هذه المفاسدُ العظيمة وكان ذلك من لُطف الله تعالى لعباده وجميل عوائده وعواطفه (الحميمة) (*). ومع هذا فلم يزل يظهر من يدَّعى بلوغَ درجة الاجتهاد، ويتكلّم في العِلْم من غير (تقليدٍ لأحد) (**) من هؤلاء الأئمة ولا انقياد. فمنهم من يسوغ له ذلك؛ لظهور صدقه فيما ادّعاه، ومنهم من ردَّ عليه قوله وكُذِّب في دعواه. وأمَّا سائرُ الناس ممن لم يصل إِلَى هذه الدرجة فلا يسعهُ إلا تقليدُ أولئك الأئمة، والدخول فيما دخل فيه سائرُ الأمة. ¬

_ (*) الرحيمة " " نسخة". (**) تقيد بأحد: "نسخة".

فإن قال أحمق متكلف: كيف يُحصر الناسُ في أقوال علماء (متعينين) (*) ويُمنع من الاجتهاد، أو من تقليد غير أولئك من أئمة الدين. قِيلَ لَهُ: كما جمع الصحابةُ -رضي الله عنهم- الناسَ عَلَى حرفٍ واحد من حُروف القرآن، ومنعوا الناس من القراءة بغيره في سائر البُلدان؛ لما رأوا أنَّ المصلحةَ لا تتم إلا بذلك، وأنَّ الناس إذا تُركوا يقرءون عَلَى حروفٍ شتَّى وقعوا في أعظم المهالك. فكذلك مسائلُ الأحكام وفتاوى الحلالِ والحرام، لو لم تُضبط الناسُ فيها بأقوال أئمة معدودين؛ لأدَّى ذلك إِلَى فساد الدين، وأن يُعد كلُّ أحمق متكلف طلبت الرياسة نفسُه من (زمرة) (**) المجتهدين، وأن يبتدع مقالةٌ ينسبها إلي بعض من سلف من المتقدمين؛ فربما كان بتحريف يُحرِّفه عليهم، كما وقع ذلك كثيرًا من بعض الظاهريين، وربما كانت تلك المقالة زلةٌ من بعض من سلف قد اجتمع عَلَى تركها جماعةٌ من المسلمين. فلا تقتضي المصلحةُ غير ما قدَّره الله وقضاه من جمع الناس عَلَى مذاهب هؤلاء الأئمة المشهورين رضي الله عنهم أجمعين. فإن قيل: الفرقُ بين جمع الناس عَلَى حرفٍ واحد من الحروف السبعة من أحرف القرآن وبين جمعهم عَلَى أقوال فقهاء أربعة، أنَّ تلك الحروف السبعة (كانت) (¬1) يُقال: معناها واحد أو متقارب، والمعنى حاص بهذا الحرف. وهذا بخلاف قول الفقهاء الأربعة؛ فإنه يجوز أن يتفقوا عَلَى شيء ويكون الحق خارجًا عنهم. قيل: هذا قد منعه طائفةٌ من العُلَمَاء وقالوا: إِنَّ الله لم يكن ليجمع هذه الأمة عَلَى ضلالة. وفي ذلك أحاديثٌ تعضُد ذلك. ¬

_ (*) معينين: "نسخة". (**) جملة: "نسخة". (¬1) كذا!!.

وعلى تقدير تسليمه؛ فهذا إِنَّمَا يقع نادرًا، ولا يطلع عليه إلا مجتهد وصل إِلَى أكثر مما وصلوا إِلَيْهِ، وهذا أيضًا مفقود أو نادر. وذلك المجتهدُ عَلَى تقدير وجوده: فرضُه اتباع ما ظهر له من الحق، وأما غيره ففرضُه التقليد. وتقليد هؤلاء الأئمة سائغٌ بلا ريب، ولا إثم عليهم، ولا من قلّدهم ولا بعضهم. {إِن قيل:} (¬1) فهذا يُفضي إِلَى اتباع الأئمة عَلَى الخطأ. {قيل:} (1) لا يقول القول الحق {جميع الخلق} (1) لابُد أن يكون مذمومًا به أحد من {المخالفين} (1). فلم يتفق للأمة الخطأ، وأكثر ما يقع هذا إِن كان واقعًا فيما قل وقوعه. فأمَّا المسائلُ التي يحتاج المسلمون إليها عموماً، فلا يجوز أن يعتقد أنَّ الأئمة المُقتدى بهم في الإسلام في هذه الأعصار المستطالة اجتمعوا فيها عَلَى الخطأ؛ فإنَّ هذا قدحٌ في هذه الأمة قد أعاذها الله منه. فإن قيل: نحن نُسلم منعَ عُموم الناس من سلوك طريق الاجتهاد؛ لما يُفضي ذلك إِلَى أعظم الفساد. لكن لا نسلم منعَ تقليد إمامٍ مُتبع من أئمة المجتهدين غير هؤلاء الأئمة المشهورين. قيل: قد نبَّهنا عَلَى علة المنع من ذلك، وهو أنَّ مذاهب غير هؤلاء لم تشتهر ولم تنضبط، فربما نُسب إليهم ما لم يقولوه، أو فُهم عنهم ما لم يريدوه، وليس لمذاهبهم من يذبّ عنها، ويُنبّهُ عَلَى ما يقع من الخلل فيها بخلاف هذه المذاهب المشهورة. فإن قيل: فما تقولون في مذهب إمامٍ غيرهم قد دُون مذهبه وضُبط وحفظ كما حُفظ مذاهب هؤلاء؟ ¬

_ (¬1) بياض بالأصل، والمثبت من المطبوع وانظر "مجموع الفتاوى" (19/ 92).

قيل: أولاً: هذا لا يُعلم وجودُه الآن، وإن فُرض وقوعه الآن وسُلّم جوازُ اتباعه والانتساب إِلَيْهِ، فإنَّه لا يجوز ذلك إلا لمن أظهر لانتساب إِلَيْهِ والفتيا بقوله والذبَّ عن مذهبه. فأمَّا من أظهر الانتساب إِلَى بعض الأئمة المشهورين، وهو في الباطن منتسبٌ إِلَى غيرهم معتقدٌ لمذهب سواه، فهذا لا يسوغ له ذلك البتة، وهو من نوع النفاق والتقية، ولاسيما من أخذ الأموال المختصة بأصحاب ذلك الإمام المشهور من الأوقاف أو غيرها. أو لبَّس عَلَى النَّاس، فأوهمهم أنَّ ما يُفتي به من مذهب من ينتسب إِلَيْهِ في الباطن هو مذهب ذلك الإمام المشهور. فهذا غير سائغ قطعًا، وهو تلبيس عَلَى الأمة وكذبٌ عَلَى علماء الأمة. ومن نسب إِلَى أئمة الإسلام ما لم يقولوه، أو ما عُلم أنَّهم يَقُولُونَ خلافه فإنه كاذبٌ يستحق العقوبة عَلَى ذلك. وكذلك إِن صنَّف كتابًا عَلَى مذهب إمام معيَّن؛ وذكر فيه ما يعتقده من قول من ينتسب إِلَيْهِ في الباطن من غير نسبته إِلَى قائله. وكذلك لو كان الكتاب المصنَّف لا يختص بمذهب معينٌ، إلا أن مصنَّفه في الظاهر ينتسب إِلَى مذهب إمام معين وفي الباطن إِلَى غيره. فيذكر فيه أقوال من ينتب إِلَيْهِ باطنًا، من غير بيان لمخالفتها لمذهب من ينتسب إِلَيْهِ ظاهرًا. فكلُّ هذا إيهامٌ وتدليس غير جائز، وهو يقتضي خلط مذاهب العُلَمَاء واضطرابها. فإن ادعى مع ذلك الاجتهاد كان أدهى وأمر، وأعظم فسادًا وأكثر عنادًا؛ فإنَّه لا يسوغ ذلك مطلقًا إلا لمن كمُلت فيه أدواتُ الاجتهاد: من معرفة الكتاب والسنة، وفتاوى الصحابة والتابعين، ومعرفة الإجماع والاختلاف، وبقية شرائط الاجتهاد المعروفة.

وهذا يدعي إطلاعًا كثيرًا عَلَى السنة، ومعرفة صحيحهما من سقيمها، ومعرفة مذاهب الصحابة والتابعن، والآثار المنقولة عنهم في ذلك. ولهذا كان الإمام أحمد يُشدد أمر الفُتيا، ويمنع منها من يحفظ مائة ألف حديث ومائتي ألف حديث وأكثر من ذلك. وعلامةُ صحة دعواه: أن يستقلّ بالكلام في المسائل كما استقل غيرُه من الأئمة، ولا يكون كلامُه مأخوذًا من كلام غيره. فأمَّا من اعتمد عَلَى مجرَّد نقل كلام غيره، إمَّا حكمًا، أو حكمًا ودليلاً: كان غاية جهده أن يفهمه، وربما لم يفهمه جيدًا أو حرّفه وغيره، فما أبعد هذا عن درجة الاجتهاد! كما قيل: فدع عنك الكتابةَ لست منها ... ولو سوَّدت وجهك بالمداد فإن قيل: فما تقولون في نهي الإمام أحمد وغيره من الأئمة عن تقليدهم وكتابة كلامهم، وقول الإمام أحمد: لا تكتب كلامي ولا كلام فلان وفلان، وتعلم كما تعلمنا. وهذا كثيرٌ موجود في كلامهم. قيل: لا ريب أنَّ الإمام أحمد رضي الله عنه كان ينهى عن آراء الفقهاء، والاشتغال بها حفظًا وكتابة، ويأمر بالاشتغال بالكتاب والسنة حفظًا وفهمًا، وكتابة ودراسة، وبكتابة آثار الصحابة والتابعين دون كلام من بعدهم، ومعرفة صحة ذلك من سقمه، والمأخوذ منه والقول الشاذ المطرح منه. ولا ريب أن هذا مما يتعين الاهتمامُ به والاشتغال بتعلمه أولاً قبل غيره. فمن عرف ذلك وبلغ النهاية من معرفته كما أشار إِلَيْهِ الإمام أحمد، فقد صار علمُه قريبًا من علم أحمد. فهذا لا حجر عليه ولا يتوجه الكلام فيه، إنَّما الكلام في منع من لم يبلغ

هذه الغاية ولا ارتقى إِلَى هذه النهاية، ولا فهم من هذا إلا النزر اليسير، كما هو حال أهل هذا الزمان. بل هو حالُ أكثر الناس منذ أزمان، مع دعوى كثير منهم الوصول إِلَى الغايات، والانتهاء إِلَى النهايات، وأكثرهم لم يرتقوا عن درجة البدايات. وإذا أردت معرفة ذلك وتحقيقه، فانظر إِلَى علم الإمام أحمد -رضي الله عنه- بالكتاب والسنة. أمَّا علمه بالكتاب: فإنه -رضي الله عنه- كان شديد العناية بالقرآن وفهمه وعلومه، وكان يقول لأصحابه: قد ترك الناسُ فهم القرآن، عَلَى وجه الذم لهم. وقد جمع في القرْآن كثيرًا من الكتب، من ذلك: كتاب "الناسخ والمنسوخ"، و"المقدم والمؤخر" (3/ أ) وجمع "التفسير الكبير"، وهو محتوٍ عَلَى كلام الصحابة والتابعين في التفسير. وتفسيرهُ من جنس التفاسير المنقولة عن السَّلف: من تفاسير شيوخه كعبد الرزاق، ووكيع، وآدم بن أبي إياس وغيرهم. ومن تفاسير أقرانه كإسحاق وغيره، وممن بعده ممن هو عَلَى منواله كالنسائى، وابن ماجه، وعبد ابن حُميد، وابن أبي حاتم، وغيرهم من أهل الحديث. وكلُّ هؤلاء جمعوا الآثار المروية عن السَّلف في التفسير من غير زيادة كلام من عندهم. وأمَّا علمُه رضي الله عنه بالسنة: فهذا أمرٌ اشتهر وذاع، ووقع عليه الوفاق والإجماع، وأنَّه حامل لواء السنة والحديث، وأعلم الناس في زمانه بكلام النبي صلى الله عليه وسلم علبم وأصحابه. والتابعين. واختص عن أقرانه من ذلك بأمور متعددة، منها: سعةُ الحفظ وكثرته، وقد قيل: إنه كان يحفظ ثلاثمائة ألف حديث.

ومنها: معرفةُ صحيحه من سقيمه: وذلك تارة بمعرفة الثقات من المجروحين، وإليه كانت نهاية المنتهى في علم الجرح والتعديل. وتارة معرفة طُرق الحديث واختلافه، وهر معرفة علل الحديث. وكان أيضاً نهايةٌ في ذلك. وهذا وإن شاركه كثيرٌ من الحفاظ في معرفة علل الحديث المرفوعة، فلم يصل أحدٌ منهم إِلَى معرفته بعلل الآثار الموقوفة. ومن تأمل كلامه في ذلك: رأى العجب، وجزم بأنه قل من وصل إِلَى فهمه في هذا العِلْم رضي الله عنه. ومنها: معرفته فقه الحديث وفهمه، وحلاله وحرامه ومعانيه، وكان أعلم أقرانه بذلك كما شهد به الأئمة من أقرانه، كإسحاق وأبي عُبيد وغيرهما. ومن تأمل كلامه في الفقه وفهم مأخذه ومداركه فيه، علم قوة فهمه واستنباطه. ولدقة كلامه في ذلك، ربما صعُب فهمُه عَلَى كثير من أئمة أهل التصانيف ممن هو عَلَى مذهبه، فيعدلون عن مآخذه الدقيقة إِلَى مآخذ أُخر ضعيفة يتلقّونها عن غير أهل مذهبه، ويقع بسبب ذلك خللٌ كثير في فهم كلامه، وحمله عَلَى غير محامله. ولا يحتاج الطالبُ لمذهبه إلا إِلَى إمعانٍ وفهم كلامه. وقد رئي من فهمه وعلمه ما يقضي منه العجب، وكيف لا، ولم يكن مسألة سبق للصحابة والتابعين ومن بعدهم فيها كلامٌ؛ إلا وقد علمه وأحاط علمه به، وفهم مأخذ تلك المسألة وفقهها، وكذلك كلام عامة فقهاء الأمصار وأئمة البلدان -كما يُحيط به معرفته- كمالك، والاوزاعي، والثوري، وغيرهم.

وقد عُرض عليه عامةُ علم هؤلاء الأئمة وفتاويهم، فأجاب عنها تارة بالموافقة وتارةٌ بالمخالفة. فإنَّ مُهنا بن يحيى الشامي عرض عليه عامةَ مسائل الأوزاعي وأصحابه، فأجاب عنها. وجماعةٌ عرضوا عليه مسائل مالك وفتاويه من الموطأ وغيره، فأجاب عنها. وقد نقل ذلك عنه حنبلُ وغيره. وإسحاقُ بن منصور عرض عليه عامةَ مسائل الثوري، فأجاب عنها. وكان أولاً قد كتب كُتب أصحاب أبي حنيفة وفهمها، وفهم مآخذهم في الفقه ومداركهم، وكان قد ناظر الشافعي وجالسه مُدّة وأخذ عنه. وشهد له الشافعيُّ رضي الله عنه تلك الشهادات العظيمة في الفقه والعلم، وأحمد مع هذا شاب لم يتكهل. ومعلوم أنَّ من فهم علمَ هذه العلوم كلُّها وبرع فيها، فأسهلُ شيءٍ عنده معرفة الحوادث والجواب عنها، عَلَى قياس تلك الأصول المضبوطة والمآخذ المعروفة. ومن هنا قال عنه أبو ثور: كأنَّ أحمد إذا سُئل عن مسألة كأنَّ علم الدُّنْيَا لوحٌ بين عينيه، أو كما قال. ولا نعلم سُنَّة صحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا وقد أحاط بها علمًا، وكان أشدُّ الناس اتباعًا للسنة إذا صحت، ولم يعارضها معارضٌ قوي. وإنَّما ترك الأخذَ بما لم يصح، وبما عارضه معارضٌ قوي جدًا. وكان السَّلف-رضي الله عنهم-؛ لقُرب عهدهم بزمن النوة، وكثرة ممارستهم كلام الصحابة والتايعين ومن بعدهم؛ يعرفون الأحاديث الشاذة التي لم يعمل بها، ويطرحونها. ويكتفون بالعمل بما مضى عليه السَّلفُ.

ويعرفون من ذلك ما لم يعرفه من بعدهم، ممن لم تبلغه السننُ إلا من كُتب الحديث لطول العهد وبُعده. إذا فهمت هذا وعلمته، فهذه نصيحةٌ لك أيها الطالب لمذهب هذا الإمام أؤديها إليك خالصةً لوجه الله تعالى؛ فإنَّه "لا يؤمن أحدُكم حتى يُحب لأخيه ما يحب لنفسه" (¬1). إياك ثم إياك أن تحدّث نفسك أنّك قد اطلعت عَلَى ما لم يطلع عليه هذا الإمام، ووصلت من الفهم إِلَى ما لم يصل إِلَيْهِ، هذا الَّذِي ظهر فضلُ فهمه عَلَى من بعده من أولي الأفهام. ولتكن همتك كلُّها مجموعة عَلَى فهم ما أشار إِلَيْهِ، وتعلُّم ما أرشد إِلَيْهِ من الكتاب والسنّة، عَلَى الوجه الَّذِي سبق شرحُه. ثم بعد ذلك: ليكن همك في فهم كلام هذا الإمام في جميع مسائل العِلْم، لا مسائل الإسلام. أعني: مسائل الحلال والحرام. وفي علم الآفاق، أعني: مسائل الإيمان بالله وملائكته وكُتبه ورسله واليوم الآخر، وهو العِلْم المسمَّى في اصطلاح كثيرٍ من العُلَمَاء بعلم السُّنة. فإن هذا الإمام كأنَّ غاية في هذا العِلْم، وقد امتحن بسبب مسائل منه، وصبر لله علي تلك المحنة، ورضي المسلمون كلهم بقوله الَّذِي قاله ومقامه الَّذِي قامه وشهدوا أنَّه إمام السنة، وأنه لولاه لكفر الناس. فمن كانت هذه منزلته في علم السنة، كيف يحتاج إلي تلقي هذا العِلْم من كلام أحد من العُلَمَاء غيره، لاسيما لمن ينتسب إلي مذهبه. فليتمسك بكلامه في عامة هذا الباب، ويعرض عما أحدث من فضول المسائل التي أحدثت. وليس للمسلمين فيما أحدث حاجة؛ بل تشغل عن ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (13)، ومسلم (45) من حديث أنس.

العِلْم النافع، وتوقع العداوة والبغضاء بين المسلمين، وتوجب كثرة الجدل والخصومات في الدُّنْيَا مما هو منهي عنه عند هذا الإمام وغيره من السَّلف الماضين. وكذلك علم الإحسان: وهو علم المراقبة والخشية، كان هذا الإمام فيه غاية، كما كان في علم الإسلام والإيمان آية. ولكن كان الغالبُ عليه في هذا العِلْم تحقيق الأعمال دون تزويق الأحوال؛ فلذلك كان لا يطلق إلا المأثور عن السَّلف، دون ما (أخذته) (¬1) المتأخرون عن الخلف. ولقد كان رضي الله عنه في جميع علومه مستندًا بالسنة، لا يرى إطلاقَ ما لم يُطلقه السَّلفُ الصالح من الأقوال، ولا سيما في علم الإيمان والإحسان. وأمَّا علم الإسلام: فكان يُجيب فيه عن الحوادث الواقعة مما لم يسبق فيها كلامٌ؛ للحاجة إِلَى ذلك، مع نهيه لأصحابه أن يتكلموا في مسائل ليس لهم فيها إمام. وإنَّما كان يُجيب غالبًا عما سبق الكلامُ فيه، وفيما يحتاج ولابد لوقوعه ومعرفة حُكمه. فأمَّا ما يولِّده الفقهاءُ من المسائل التي لا تقع أو لا تكاد تقع إلا نادرًا، فكان ينهى كثيرًا عن الكلام فيها؛ لأنّه قليلُ الفائدة ويُشغل عمَّا هو أهم منه مما يحتاج إِلَى معرفته. وكان رضي الله عنه لا يرى كثرة الخصام والجدال، ولا توسعة لقيل أو لقال في شيء من العلوم والمعارف والأحوال. إِنَّمَا يرى الاكتفاء في ذلك بالسنة والآثار، ويحث عَلَى فهم معاني ذلك من غير إطالةٍ للقول والإكثار. ¬

_ (¬1) كذا!!

ولم يترك توسعة الكلام بحمد الله عجزًا ولا جهلاً، ولكن ورعًا وفضلاً واكتفاءً بالسنة، فإن فيها كفاية، واقتداءً بالسلف الصالح من الصحابة والتابعين، فبالاقتداء بهم تحصل الهداية. فإن أنت قبلت هذه النصيحة، وسلكت الطريقة الصحيحة، فلتكن همتك؛ حفظ ألفاظ الكتاب والسنة، ثم الوقوف عَلَى معانيها بما قال سلف الأمة وأئمتها، ثم حفظ كلام الصحابة والتابعين وفتاويهم وكلام أئمة الأمصار، ومعرفة كلام الإمام أحمد وضبطه بحروفه ومعانيه، والاجتهاد عَلَى فهمه ومعرفته. وأنت إذا بلغت من هذه الغاية: فلا تظن في نفسك أنك بلغت النهاية، وإنما أنت طالبٌ متعلم من جملة الطلبة المتعلمين. ولو كُنتَ بعد معرفتك ما عرفتَ موجودًا في زمن الإمام أحمد، ما كنت حينئذٍ معدودًا من جملة الطالبين. فإن حدثتك نفسُك بعد ذلك أنك قد انتهيت أو وصلت إِلَى ما وصل إِلَيْهِ السَّلفُ، فبئس ما رأيت. وإيّاك ثم إيّاك أن تترك حفظ هذه العلوم المشار إليها، وضبط النصوص والآثار المعول عليها، ثم تشتغل بكثرةِ الخصام والجدال، وكثرة القيل والقال، وترجيح بعض الأقوال عَلَى بعض الأقوال مما استحسنه عقلُك، لا تعرف في الحقيقة من القائل لتلك الأقوال، وهل هو من السَّلف المُعتبر بأقوالهم، أو من غير أهل الاعتدال. إيّاك أن تتكلم في كتاب الله أو في حديث رسول الله بغير ما قاله السَّلفُ، كما أشار إِلَيْهِ إمامك، فيفوتك العِلْمُ النافع، وتضيع أيامُك. فإن العِلْم النافع: إِنَّمَا هو ما ضبُط في الصدور، وهو عن الرسول أو عن السَّلف الصالح مأثور. وليس العِلْم النافع أرأيت وأريت؛ فقد نهى عن ذلك الصحابةُ ومن بعدهم

ممن إذا اقتديت بهم فقد اهتديت وكيف يصح لك دعوى الانتساب إِلَى إمام، وأنت عَلَى مخالفته مُصرّ، ومن علومه وأعماله وطريقته تفرّ. واعلم -وفقك الله- أنك كلما اشتغلت بتلك الطريقة، وسلكت السُّبل الموصلة إِلَى الله عَلَى الحقيقة، واستعملت الخشية ونفسها المراقبة، ونظرتَ في أحوال من سلف من الأئمة بإدمان النظر في أحوالهم بحُسن العاقبة، ازددت بالله وبأمره علمًا، وازددت لنفسك احتقارًا وهضمًا، وكان لك من نفسك شغلٌ شاغلٌ عن أن تتفرغ لمخالفة المسلمين. ولا تكن حاكمًا عَلَى جميع فرق المؤمنين، كأنك قد أوتيت علمًا لم يؤتوه، أو وصلت إِلَى مقامٍ لم يصلوه. فرحم الله من أساء الظلم بنفسه علمًا وعملاً وحالاً، وأحسن الظن بمن سلف، وعرف من نفسه نقصًا ومن السَّلف كمالاً، ولم يهجم عَلَى أئمة الدين ولا سيما مثل الإمام أحمد، وخصوصًا إِن كان إِلَيْهِ من المُنتسبين. وإن أنت أبيت النصيحة وسلكت طريقة الجدال والخصام، وارتكبت ما نُهيت عنه من التشدّق والتفيهق وشقشقة الكلام، وصار شغلك الرد عَلَى أئمة المسلمين، والتفتيش عن عيوب أئمة الدين: فإنك لا تزداد لنشك إلا عُجبًا، ولا لطلب العلو في الأرض إلا حُبًّا، ومن الحق إلا بُعدًا، وعن الباطل إلا قربًا، وحينئذٍ تقول: ولم لا أقول وأنا أولى من غيري بالقول والاختيار، ومن أعلم مني ومن أفقه مني؛ كما ورد في الحديث هذا يقوله مِن هذه الأمة مَن هو وقود النار. أعاذنا الله وإياكم من هذه الفضائح، ووفقنا وإياكم لنتول النصائح بمنه وكرمه إنه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين. فإن أبيت إلا الإصرار عَلَى أنَّ العِلْم والتفقه هو نقلُ الأقوال، وكثرة البحث عليها، والجدال، وأنَّ من اتسع في ذلك ونقب عن عيوب الأئمة بالنظر

والاستدلال أعلم ممن لم يكن كذلك، وأن من قلّ كلامُه في هذا فليس هنالك. فنقول لك من هنا اعتقد طوائفُ من أهل الضلال أنَّ الخلف أعلم من السَّلف؛ لما امتازوا به من كثرة القيل والقال. ونحن براء إِلَى الله من هذه الأقوال، ولو كان الأمرُ عَلَى هذا لكان شيوخُ المعتزلة والرافضة أعلم من سلف الأمة وأئمتها. وتأمل كلامَ شيوخ المعتزلة كعبد الجبار بن أحمد الهمداني وغيره، وكثرة بحوثه وجداله، واتساعه في كثرة مقاله، وكذلك من كان من أهل الكلام من سائر الطوائف. وكذلك المصنفون في سائر الكلام، وفي الفقه من فقهاء الطوائف: يُطيلون الكلام في كل مسألةٍ إطالة مُفرطةً جدًّا، ولم يتكلم أئمتُهم في تلك المسائل بتقريرها وكلامهم فيها. هل يجوز أن يُعتقد بذلك فضلُهم عَلَى أئمة الإسلام، مثل سعيد بن المسيب والحسن، وعطاء، والنخعي، والثوري، والليث، والأوزاعي، ومالك، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، وأبي عُبيد ونحوهم. بل التابعون المتسعون في المقال أكثر من الصحابة بكثير، فهل يعتقد مسلم أنَّ التابعين أعلمُ من علماء الصحابة. وتأمَّل قول النبي صلى الله عليه وسلم: «الإِيمَانُ يَمَانٍ، وَالْفِقْهُ يَمَانٍ، وَالحِكْمَةُ يَمَانِيَةٌ» (¬1). قاله في مدح أهل اليمن وفضلهم، فشهد لهم بالفقه والإيمان، ونسبها إليهم لبلوغهم الغاية في الفقة والإيمان والحكمة. ولا نعلم طائفة من عُلماء المسلمين أقل كلامًا من أهل اليمن، ولا أقل جدلاً، منهم، سلفًا وخلفًا؛ فدلَّ عَلَى أنَّ العِلْم والفقه الممدوح في لسان ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (4388، 4389، 439)، ومسلم (52) من حديث أبي هريرة.

الشارع: هو العِلْم بالته المؤدي إِلَى حُبّه ومحبته، وإجلاله وتعظيمه، وهما مع العِلْم بما يحتاج إِلَيْهِ من أوامره ونواهيه، كما كان عليه علماء أهل اليمن قديمًا، مثل: أبي موسى الأشعري، وأبي مُسلم الخولاني وأويس وغيرهم. دون ما زاد عَلَى ذلك، من ضرب أقوال الناس بعضها ببعض، وكثرة التفتيش عن عوراتهم وزلاتهم. وهو أنَّ أكثر الأئمة غلطوا في مسائل يسيرة، مما لا تقدح في إمامتهم وعلمهم، فكان ماذا؟! فلقد انغمر ذاك في محاسنهم وكثرة صوابهم، وحُسن مقاصدهم ونصرهم للدين. والانتصابُ للتنقيب عن زلاَّتهم ليس محمودًا ولا مشكورًا، لاسيما في فضول المسائل التي لا يضر فيها الخطأ، ولا ينفع فيها كشفُ خطئهم وبيانُه. وكذلك كثرة البحث عن فضول علوم لا تنفع في الدين وتشغل عن الله والاشتغال به، وتقسِّي القلب عن ذكره، وتوجب لأهلها حبَّ العلو والرئاسة عَلَى الخلق. فكل هذا غيرُ محمود، وقد كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يتعوَّذُ من علم لا ينفع (¬1)، وفي حديث عنه أنَّه قال: «سَلُوا اللَّهَ عِلْمًا نَافِعًا، وَتَعَوَّذُوا بِاللَّهِ مِنْ عِلْمٍ لَا يَنْفَعُ» (¬2). وفي حديث عنه: "إِنَّ من العِلْم جهلاً" (¬3). وكان - صلى الله عليه وسلم - يكره إطالة القول وكثرة تشقيق الكلام، ويُحب التجوز في القول؛ وفي ذلك عنه أحاديثُ كثيرة يطول ذكرها. وكذلك التصدّي لرد كلام أهل البدع بجنس كلامهم، من الأقيسة الكلامية وأدلة العقول: يكرهه الإمامُ أحمد، وأئمة أهل الحديث كيحيى القطان، وابن مهدي، وغيرهم. وإنَّما يرون الردَّ عليهم بنصوص الكتاب والسنّة، وكلام سلف الأمة إِن كان موجودًا، وإلا رأوا السكوت أسلم. ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (2722) من حديث زيد. (¬2) أخرجه ابن ماجه (3843). (¬3) أخرجه أبو داود في "السنن" رقم (5012).

وكان ابنُ المبارك، أو غيره من الأئمة يقول: ليس أهل السنة عندنا من رد عَلَى أهل الأهواء، بل من سكت عنهم. ذكر هذا كراهية {لما يشغل} (¬1) عن العِلْم الَّذِي جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وعن العمل بمقتضاه؛ فإن فيه كفاية، ومن لم يكفه ذلك فلا كفاه الله! وكل ما ذكرته هاهنا، فانأ أعلم أنَّ أهل الجدال والخصومات يناقشون فيه أشد المناقشة، ويعترضون عليه أشد الاعتراض؛ ولكن إذا وضح الحق تعيَّن اتباعُه، وترك الالتفات إِلَى من نازع فيه وشغب، وخاصم وجادل وألب. ومن هاهنا يُعلم أنَّ علم الإمام أحمد ومن سلك سبيله من الأئمة: أعلم علوم الأمة، وأجلها وأعلاها، وأنَّ فيه كفايةٌ لمن هداه الله إِلَى الحق. ومن لم يجعل الله له نورًا فماله من نور. تمت الرسالة المباركة الشافية لمن وقف عليها ونظر فيها وعمل بما فيها، فهي له كافية، والله الموفق لإصابة الصواب، وإليه المرجع والمآب. ... ¬

_ (¬1) ليست بالأصل والسياق يقتضيها.

27 - مختصر في معاملة الظالم السارق

مختصر في معاملة الظالم السارق

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ رب يسر يا كريم وبعد. فهذا مختصر، فيما روي عن أهل المعرفة والحقائق في معاملة الظالم السارق. قد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه نهي عن سب السارق والدعاء عليه. خرَّج أبو داود (¬1) من حديث عائشة، "إنها سُرِقَتْ مِلْحَفَةٌ لَهَا، فَجَعَلَتْ تَدْعُو عَلَى مَنْ سَرَقَهَا، فَجَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «لَا تُسَبِّخِي عَنْهُ». قَالَ أَبُو دَاوُدَ: لَا تُسَبِّخِي: أَيْ لَا تُخَفِّفِي. وخرَّجه الإمام {أحمد} (¬2) من وجه آخر، عن عائشة قالت: "سُرقت لحفتي، فدعوت الله عَلَى صاحبها، فَقَالَ النبي صلى الله عليه وسلم "لَا تُسَبِّخِي عَنْهُ، دعيه بذنبه". والمراد، أن من ذهب له مال بسرقة، ونحوها فإن ذهابه، من جملة المصائب الدنيوية، والمصائب كلها كفارة للذنوب، والصبر عليها: (يحصل للصابر) (¬3) الأجر الجزيل. وفي حصول الأجر له عَلَى مجرد المصيبة، خلاف مشهور بين العُلَمَاء. فإذا كانت المصيبة من فعل آدمي ظالم: كالسارق والغاصب ونحوهما، فإن المظلوم يستحق أن يأخذ يوم القيامة من حسنات الظالم، فإن لم يكن له حسنات، طرحت من سيئات المظلوم عليه. فإن دعا المظلوم علي ظالمه في الدُّنْيَا، فقد استوفي منه بدعائه بعض حقه، فخف وزر الظالم بذلك، فلهذا، أمر النبي صلى الله عليه وسلم عائشة أن ¬

_ (¬1) برقم (1497). (¬2) ما بين المعقوفتين بياض بالأصل، والسياق يقتضيه. والحديث أخرجه أحمد (6/ 45، 136) عن عائشة قالت: "سرقها سارق فدعت عليه فَقَالَ لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لَا تُسَبِّخِي عَنْهُ» واللفظ الآخر أن الَّذِي سرقَ ثوبٌ لها. (¬3) في الأصل (يحصل للصابه للصابر) وهو خطأ من الناسخ، والصواب حذف "للصابه".

تصبر، فلا تدعو عليه، فإن ذلك يخفف عنه. وخرَّج الترمذي (¬1) من حديث عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «مَنْ دَعَا عَلَى مَنْ ظَلَمَهُ فَقَدْ انْتَصَرَ». وروي ليث، عن طلحة: أن رجلاً لطم رجلاً، فَقَالَ: اللهم إِن كان ظلمني فاكفنيه. فَقَالَ له مسروق: قد استوفيت. وقال مجاهد: لا تسبن أحدًا، فإن ذلك يخفف عنه، ولكن أَحَبّ لله بقلبك وأبغض لله بقلبك. وقال سالم بن أبي الجعد: الدعاء قصاص. وشكا رجل إلي عمر بن عبد العزيز رجلاً ظلمه، وجعل يقع فيه، فَقَالَ له عمر: إنك إِن تلقى الله ومظلمتك كما هي، خير لك من أن تلقاه، وقد استقضيتها. وقال أيضاً: بلغني أن الرجل، ليظلم بمظلمة، فلا يزال المظلوم يشتم الظالم وينتقصه، حتي يستوفي حقه، ويكون للظالم الفضل عليه قال بعض السَّلف: لولا أن الناس يدعون علي ملوكهم، لعجل لملوكهم العقاب. ومعنى هذا: يشير إِلَى أن دعاء الناس عليهم استفاء منهم بحقوقهم من الظالم، أو لبعضها، فبذلك يدفع عنهم العقوبة. وروي عن الإمام أحمد، قال: ليس بصابر من دعا عَلَى من ظلمه. وفي مسند الإمام أحمد (¬2)، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مَا مِنْ عَبْدٍ ظُلِمَ بِمَظْلَمَةٍ، فَيُغْضِي عَنْهَا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، إِلَّا أَعَزَّ اللهُ بِهَا نَصْرَهُ". ويشهد له ما خرّجه مسلمٌ في "صحيحه" (¬3) من حديث أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما زاد الله عبدًا بعفوٍ، إلا عزًّا". فإن دعا عَلَى من ظلمه بالعدل جاز، وكان مستوفيًا لبعض حقه منه، وإن اعتدى عليه في دُعائه ¬

_ (¬1) برقم (3552). وقال الترمذي: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث أبي حمزة، وقد تكلم بعض أهل العِلْم في أبي حمزة، وهو: ميمون الأعور. (¬2) (2/ 436). (¬3) برقم (2588).

لم يجز. وروي عن ابن عباس، في قوله تعالى: {لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ} (¬1) قال: لا يُحب الله أن يدعو أحدٌ عَلَى أحد، إلا أن يكون مظلومًا، فإنَّه قد رُخص له أن يدعو عَلَى من ظلمه؛ وذلك قوله تعالى: {إِلَّا مَنْ ظُلِمَ} ومن صبر فهو خير. وقال الحسن: قد أرخص له أن يدعو عَلَى من ظلمه، وذلك قوله تعالى: {إِلَّا مَنْ ظُلِمَ} ومن صبر فهو خير. وقال الحسن: قد أرخص له أن يدعو عَلَى من ظلمه، من غير أن يعتدي عليه. وروي عنه، قال: لا تدع عليه، ولكن قل: اللهم أعني عليه، واستخرج حقي منه. ومن العارفين من كان يرحم ظالمه، فربَّما دعا له. سرق لبعضهم شيءٌ فقِيلَ لَهُ ادع الله عليه، فَقَالَ: اللهم إِن كان فقيرًا فأغنه، وإن كان غنيًّا فأقبل بقلبه. وقال إبراهيم التيمي: إِنَّ الرجل ليظلمني، فارحمه. قِيلَ لَهُ: كيف ترحمه وهو يظلمك؟ قال: إنه لا يدري لسخط من تعرَّض. وآذى رجلٌ أيوب السَّختياني، وأصابه أذى شديدًا، فلما تفارقوا، قال أيوب: إني لأرحمه، إنا نُفارقه وخلقه معه! وقال بعضهم: لا يكْبُرنَّ عليك ظُلم من ظلمك، فإنما سعى في مضرَّته، ونفعك. وقيل لبعض السَّلف الصالح: إِنَّ فُلانًا يقع فيك، قال: لأغيظنَّ من أمرهُ. يغفر الله لي وله. قيل: من أمرُه؟! قال الشيطان. وقال الحجاج بن الفرافِصة: بلغنا أنَّ في بعض الكُتب: من استغفر لظالمه، فقد هزم الشيطان. وقال الفُضيل بن عياض: حسناتك من عدِّوك أكثر منها من صديقك؟! إِن عدوك يغتابك، فيدفع إليك حسناته الليل والنهار، فلا ترضى إذا ذُكر بين ¬

_ (¬1) النساء: 148.

يديك تقول: اللهم أهلكه. لا، بل ادع الله له: اللهم أصلحه، اللهم راجع به، فيكون الله يُعطيك أجر ما دعوت؛ فإنَّ من قال لرجل: اللهم أهلكه فقد أعطى الشيطان سؤله؛ لأنّ الشيطان إِنَّمَا يدور منذ خلق الله آدم عَلَى هلاك الخلق. وفي كتاب "الزُّهد" للإمام أحمد، أنَّ رجلاً من إخوان فُضيل بن عياض، من أهل خُراسان، قدم مكة، فجلس إِلَى الفُضيل في المسجد الحرام يُحدِّثه، ثم قام الخُراساني يطوف، فسرقت منه دنانير ستين أو سبعين، فخرج الخراساني يبكي. فَقَالَ له فُضيل: ما لك؟ قال سُرقت الدنانير، قال: عليها تبكي؟ قال: لا مَثَّلتُني وإياه بين يدي الله عز وجل، فأشرف عقلي عَلَى إدحاض حجته، فبكيت رحمة له. وسُرق لبعض المتقدمين شيءٌ، فحزن عليه. فذكر ذلك لبعض العارفين، فَقَالَ له: إِن لم يكن حزنك عَلَى أنَّه قد صار في هذه الأمة من يعمل هذا العمل، أكثر من حزنك عَلَى ذهاب مالك، لم تؤدِّ النصيحة لله عز وجل في عباده إِلَيْهِ!! أو كما قال. وخرَّج الإمام أحمد (¬1)، وأبو داود (¬2)، والنسائي (¬3)، وابن ماجه (¬4)، من حديث أبي أمية المخزومي عَنِ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ أُتِيَ بِلِصٍّ قَدِ اعْتَرَفَ، وَلَمْ يُوجَدْ مَعَهُ مَتَاعٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا أخَالُكَ سَرَقْتَ؟» قَالَ: بَلَى، فَأَعَادَ عَلَيْهِ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا!! فَأَمَرَ بِهِ، فَقُطِعَ. وَجِيءَ بِهِ، فَقَالَ: «اسْتَغْفِرِ اللَّهَ وَتُبْ إِلَيْهِ»، فَقَالَ: أَسْتَغْفِرُ {اللَّهَ} (¬5) وَأَتُوبُ إِلَيْهِ، فَقَالَ: «اللَّهُمَّ تُبْ عَلَيْهِ» ثَلَاثًا. ولفظُه لأبي داود. وفي صحيح البُخاري (¬6) عن ¬

_ (¬1) (5/ 293). (¬2) برقم (4380). (¬3) (8/ 67). (¬4) برقم (2597). (¬5) ما بين معقوفتين سقط من الأصل، واستدركته من سنن أبي داود. (¬6) برقم (6777).

أبي هُريرة، «أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُتِيَ بِرَجُلٍ قَدْ شَرِبَ، فَقَالَ: «اضْرِبُوهُ»، فَضَرَبُوهُ، فَلَمَّا انْصَرَفَ، قَالَ بَعْضُ القَوْمِ: أَخْزَاكَ اللَّهُ، فَقَالَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لاَ تَقُولُوا هَكَذَا، لاَ تُعِينُوا عَلَيْهِ الشَّيْطَانَ». وفي رواية له أيضاً (¬1) «لاَ تَكُونُوا عَوْنَ الشَّيْطَانِ عَلَى أَخِيكُمْ» وخرّجه النسائي (¬2) بمعناه. وزاد "ولكن قولوا: رحمك الله" وخرَّجه أبو داود (¬3)، وعنده: "ولكن قولوا: اللهم اغفر له، اللهم ارحمه". وخرَّج البخاري أيضاً (¬4)، من حديث عُمر بن الخطاب، أنَّ رجلاً كان عَلَى عهد النبي صلى الله عليه وسلم، كان اسمه عبد الله وكان يلقب حمارًا، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يضحك منه، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم، قد جلده في الشراب فأُتي به يومًا، فأمر به فجلد، فَقَالَ رجلٌ من القوم: اللهم العنه ما أكثر ما يُوتي به، فقام النبيُّ صلى الله عليه وسلم وقال: «لاَ تَلْعَنُوهُ، فَوَاللَّهِ مَا عَلِمْتُ إِنَّهُ يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ». تم، وصلى الله علي سيدنا محمد. ¬

_ (¬1) برقم (6781). (¬2) في السنن الكبرى كما في تحفة الأشراف (10/ 474). (¬3) برقم (4478). (¬4) برقم (6780).

28 - أحكام الخواتيم

أحكام الخواتيم

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين وصلى الله عَلَى سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا إِلَى يوم الدين. وبعد فهذه فصول في بيان الخاتم وما جاء فيه. اعلم أن الخاتم يجوز بكسر التاء وفتحها، والفتح أفصح وأشهر؛ لأنّه آلة الختم، وهي ما (يختم) (*) به، وهي بناء الآلات كذلك كالقالب والطابع. وحكي في طائفة من المتأخرين لغتين أخرتين وهما: خَاتَام وخَيتَام. ذكره ابن السرَّاج والنووي. وقد اختلف أهل العِلْم في لبسه في الجملة، فأباحه في من أهل العِلْم ولم يكرهوه، وهو ظاهر كلام الإمام أحمد، وهو اختيار أكثر أصحابه. قال في رواية أبي داود وصالح وعلي بن سعيد: ليس به بأس. واستدلوا عَلَى ذلك بما في الصحيحين عن ابن عمر (¬1) قال: «اتَّخَذَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاتَمًا مِنْ وَرِقٍ فَكَانَ فِي يَدِهِ، ثُمَّ كَانَ فِي يَدِ أَبِي بَكْرٍ، ثُمَّ كَانَ فِي يَدِ عُمَرَ، ثُمَّ كَانَ فِي يَدِ عُثْمَانَ حَتَّى وَقَعَ مِنْهُ فِي بِئْرِ أَرِيسٍ». وفيهما أيضاً عن أنس بن مالك (¬2): «أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَبِسَ خَاتَمَ فِضَّةٍ، فِيهِ فَصٌّ حَبَشِيٌّ، كَانَ يَجْعَلُ فَصَّهُ مِمَّا يَلِي كَفَّهُ». فحديث أنس رواه عنه: قتادة والزهري وحميد وعبد العزيز بن صهيب وثابت والحسن وثمامة. ¬

_ (*) تختم: "نسخة". (¬1) أخرجه البخاري (5873)، ومسلم (2091/ 54). (¬2) أخرجه البخاري (5868) بنحوه دون ذكر الفص وما بعده، ومسلم (2094) من طريق يونس بن يزيد عن ابن شهاب عن أنس.

فحديث قتادة أخرجاه في الصحيحين من طرق (¬1)، عن قتادة، وكذلك حديث الزهري (¬2). وحديث حميد (¬3) رواه البخاري من طرق أيضًا عنه. وحديث ابن صهيب أخرجاه من طرق (¬4) أيضًا عنه. وحديث ثابت رواه مسلم (¬5) من حديث حماد بن سلمة عنه. وحديث الحسن تفرد به البخاري من رواية قرة بن خالد (¬6) عنه. وحديث ثمامة رواه البخاري من حديث الأنصاري (¬7) عن أبيه عن ثمامة. قال: وزاد فيه أحمد بن حنبل (¬8). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (5875)، ومسلم (2092/ 56) من طريق شعبة عنه. وأخرجه البخاري (5872) من طريق سعيد بن أبي عروبة عنه. وأخرجه مسلم (2092/ 57) من طريق هشام الدستوائي عنه. وأخرجه مسلم (2092/ 58) من طريق خالد بن قيس عنه. (¬2) أخرجه البخاري (5868)، ومسلم (2094) من طريق يونس بن يزيد عنه. وأخرجه مسلم (2093/ 59) من طريق إبراهيم بن سعيد عنه. وأخرجه مسلم (2093/ 60) من طريق زياد عنه. (¬3) أخرجه البخاري (5869) من طريق يزيد بن زريع عنه، و (5870) من طريق معتمر عنه. (¬4) أخرجه البخاري (5877)، ومسلم (2092) من طريق حماد بن زيد عنه. وأخرجه البخاري (5874) من طريق عبد الوارث عنه. وأخرجه مسلم (2092) من طريق إسماعيل ابن علية عنه. (¬5) برقم (2095). (¬6) برقم (600)، وقد علق الحافظ عَلَى هذا الحديث تعليقًا نافعًا (2/ 89 سلفية) فانظره فإنَّه مهم. (¬7) برقم (5878). (¬8) برقم (5879) قال البخاري: وزادني أحمد: حدثنا الأنصاري .. إلخ. وقال الحافظ في التعليق عَلَى هذه الرواية (10/ 341 سلفية): قوله: "وزادني أحمد حدثنا الأنصاري إِلَى آخره" هذه الزيادة موصولة، وأحمد المذكور جزم المزي في "الأطراف"=

وسنذكر إِن شاء الله تعالى نهيه عن خاتم الذهب ونهيه عن التختم به في السبابة والوسطى، وهو يدل بمفهومه عَلَى إباحته عَلَى غير تلك الصفة. وقد ثبت لبس الخاتم عن جماعة من الصحابة منهم: طلحة وسعد وابن عمر وخباب بن الأرت والبراء بن عازب والمغيرة بن شعبة وغيرهم. ولم ينقل عن أحد منهم إنكار لبسه لكونه خاتمًا، ثم إِن طائفة من الأصحاب قالوا: متى كان لبسه لغرض التَّزين به لا غير، كره. ومنهم من قال: تركه حينئذٍ أولى. وهذا يفيد أن الإباحة إِنَّمَا هي مع إطلاق القصد، ولا يقال مع قصد الاتباع أيضًا، لأن هؤلاء لا يرونه مستحبًّا، ولا يجعلون لبس الشارع له تشريعًا فلا يمكن قصد الاتباع حينئذٍ، اللهم إلا في التشبه بصورة الفعل، وإن كان مباحًا، كما كان ابن عمر يفعله، وهذا ينبغي اختصاصه بالرجال، فإن النساء لا يكره لهن لبس الخاتم للزينة بلا ريب لأنّه من جملة الحلي، "وقد كُنَّ النساء يلبسن الخواتم عَلَى عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد تصدقن بها يوم العيد بحضرته لما حثهن عَلَى الصدقة" (¬1). وذهبت طائفة إِلَى استحباب لبس الخاتم للرجال أيضاً وهذا وجه لأصحابنا. وروى مالك عن صدقة بت يسار قال (سألت) (*) سعيد بن المسيب عن لبس الخاتم فَقَالَ: "البسه وأخبر الناس أني قد أفتيتك بذلك". واحتج لهذا ¬

_ =أنَّه أحمد بن حنبل، لكن لم أر هذا الحديث في "مسند أحمد" من هذا الوجه أصلاً. (¬1) أخرجه البخاري (964)، ومسلم (884) من حديث ابن عباس ولفظ البخاري: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى يَوْمَ الفِطْرِ رَكْعَتَيْنِ لَمْ يُصَلِّ قَبْلَهَا وَلاَ بَعْدَهَا، ثُمَّ أَتَى النِّسَاءَ وَمَعَهُ بِلاَلٌ، فَأَمَرَهُنَّ بِالصَّدَقَةِ، فَجَعَلْنَ يُلْقِينَ، تُلْقِي المَرْأَةُ خُرْصَهَا وَسِخَابَهَا» وفي أحد ألفاظ الحديث: "فَجَعَلْنَ يُلْقِينَ الفَتَخَ وَالخَوَاتِم فِي ثَوبِ بِلال". (*) ليس في "النسخ الثلاث المخطوطة"، والسياق يقتضيها، وهي في الموطأ.

بأن الخاتم لم يزل في يد النبي صلى الله عليه وسلم حتى مات، وفي يد أبي بكر وعمر حتى ماتا، وفي يد عثمان حتى وقع منه في بئر أريس، وهذه المداومة تدل عَلَى مشروعيته، وبما في حديث بريدة "أَنَّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا رَأَى فِي يَدِ ذَلِكَ الرَّجُلَ خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ فَقَالَ: «مَا لِي أَجِدُ مِنْكَ رِيحَ الأَصْنَامِ». ثم قال له: «اتَّخِذْهُ مِنْ فِضَّةٍ، وَلَا تَزِدْ عَلَى مِثْقَالٍ». أخرجه أحمد (¬1) والنسائي (¬2) والترمذي (¬3) والبزار في "مسنده". وهذا أمرٌ أقل أحواله الندب. ويروى من طريق عمر بن هارون، عن يونس، عن الزهري عن أنس أن النيي - صلى الله عليه وسلم - قال: «أُمِرْتُ بِالنَّعْلَيْنِ وَالْخَاتَمِ». أخرجه الطبراني في "المعجم الصغير" (¬4). وروينا من طريق نعيم بن سالم بن قيس قال: سمعت أنسًا يحدث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في قول الله عز وجل: {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} (¬5) قال: "النعل والخاتم" (¬6). وذهبت طائفة إِلَى كراهة الخاتم إلا لذي سلطان، واحتجوا بالحديث الَّذِي ¬

_ (¬1) (5/ 359). (¬2) (8/ 172). (¬3) برقم (1785) وقال: هذا حديث غريب. وأخرجه أبو داود أيضاً (4223). (¬4) (1/ 166) وقال: لم يروه عن الزهري إلا يونس. ولا عن يونس إلا عمر بن هارون، تفرد به أبو حبيب عن سعيد بن يعقوب. وأخرجه ابن الجوزي في "العلل المتناهية" (2/ 203) وقال: عمر متروك، تركه ابن مهدي وأحمد، وقال ابن حبان: يروي عن الثقات المعضلات ويدعي شيوخًا لم يرهم. (¬5) الأعراف: 31. (¬6) أورد نحوه السيوطي في "الإتقان" (2/ 510) وقال: أخرج ابن مردويه وغيره بسند ضعيف عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} قال: صلوا في نعالكم.

رواه الإمام أحمد في "المسند" (¬1) وأبو داود (¬2) والنسائي (¬3) من حديث الهيثم ابن شفي عن صاحب له عن أبي ريحانة "أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن (لُبُوسِ) (*) الْخَاتَمِ إِلَّا لِذِي سُلْطَانٍ". ولأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يلبس الخاتم لُبس تجمل وتزين به كالرداء والعمامة والنعل، وإنَّما اتخذه لحاجة ختم الكتب التي يبعثها إِلَى الملوك، كما في حديث أنس «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَتَبَ إِلَى كِسْرَى وَقَيْصَرَ وَالنَّجَاشِيِّ، فَقِيلَ لَهُ: إِنَّهُمْ لاَ يَقْبَلُونَ كِتَابًا إِلَّا بِخَاتَمٌ: فَصَاغَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاتَمًا حَلْقَتُهُ فِضَّةً، وَنَقَشَ فِيهِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ» (¬4). وأبو بكر إِنَّمَا لبسه بعده لأجل ولايته، فإنَّه كان يحتاج إِلَيْهِ كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يحتاج إِلَيْهِ، وكذلك عمر إِنَّمَا لبسه بعد أبي بكر لهذه المصلحة، وكذلك عثمان رضي الله عنهم. وحكى ابن عبد البر عن طائفة من العُلَمَاء أنهم كرهوا لبسه مطلقًا، احتجاجًا بحديث أنس "أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نبذه ولم يلبسه". وقد رُوي "أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَخْتِمُ بِهِ وَلَا يَلْبَسُهُ". كما رواه الترمذي في "الشمائل" (¬5) ثنا قتيبة، ثنا أبو عوانة عن أبي بشر، ثنا نافع عن ابن عمر "أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اتَّخَذَ خَاتَمًا مِنْ فِضَّةٍ، فَكَانَ يَخْتِمُ بِهِ وَلَا يَلْبَسُهُ". (رواه) (**) النسائي أيضًا (¬6)، ويؤيد هذا ما في الصحيحين (¬7) عن الزهري عن أنس «أَنَّهُ رَأَى فِي يَدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاتَمًا مِنْ وَرِقٍ يَوْمًا وَاحِدًا، ثُمَّ إِنَّ ¬

_ (¬1) (4/ 134). (¬2) برقم (4049) وقال أبو داود: الذي تفرد به من هذا الحديث ذكر الخاتم. (¬3) برقم (5106). (*) لبس: "نسخة". والمثبت من المصادر الثلاثة الذين أخرجوا الحديث. (¬4) أخرجه البخاري (5873، 5875)، ومسلم (2092). (¬5) برقم (83). (¬6) (8/ 195). (¬7) أخرجه البخاري (5868)، ومسلم (2093). (**) فرواه: "نسخة".

النَّاسَ اصْطَنَعُوا الخَوَاتِيمَ مِنْ وَرِقٍ وَلَبِسُوهَا، فَطَرَحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَطَرَحَ النَّاسُ خَوَاتِيمَهُمْ». والصواب: القول الأول، فإن لبس النبي صلى الله عليه وسلم للخاتم إِنَّمَا كان في الأصل لأجل مصلحة ختم الكتب التي يرسلها إِلَى الملوك، ثم استدام لبسه، ولبسهُ أصحابه معه، ولم ينكره عليهم، بل أقرهم عليه، فدل ذلك عَلَى إباحته المجردة. فأما ما جاء في حديث الزهري عن أنس "أن النبي صلى الله عليه وسلم لَبِسَهُ يَوْمًا وَاحِدًا ثُمَّ أَلْقَاهُ". فقد أجيب عنه بثلاثة أجوبة: أحدها: أنَّه وهم من الزهري وسهو جرى عَلَى لسانه بلفظ الوَرِق، وإنَّما الَّذِي لبسه يومًا ثم ألقاه كان من ذهب، كما ثبت ذلك من غير وجه من حديث ابن عمر وأنس أيضًا، وسنذكره إِنَّ شاء الله تعالى. ويدل عَلَى هذا إخبار ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم لبسه وكان في يده، وكذلك أنس، وإنَّما نُسبَ السهو إِلَى الزهري هاهنا؛ لأنّه رواه عنه كذلك يونس بن يزيد، وإبراهيم بن سعد، وزياد بن سعد، وشعيب، وابن هشام، وكلهم قالوا: من وَرِق. قلت: رُوي عن زياد بن سعد وعبد الرحمن بن خالد بلفظة: "من ذهب"، وسنذكره. الثاني: أن الخاتم الَّذِي رمى به النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن كله من فضة، وإنَّما كان (من حديد) (*) عليه فضة، وهذا الجواب ظاهر ما ذكره أحمد في رواية أبي طالب "كان للنبي صلى الله عليه وسلم خاتم من حديد عليه فضة فرمى به، فلا يصلى في الحديد والصُّفر". وهذا الَّذِي قاله أحمد من خاتم الحديد. قد رواه أبو داود (¬1) والنسائي (¬2) من حديث إياس بن الحارث بن ¬

_ (*) حديدًا: "نسخة". (¬1) برقم (4224). (¬2) برقم (5220).

معيقيب {عن جده} (¬1) وكان عَلَى خاتم النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كَانَ خَتمُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ حَدِيدٍ مَلْوِيٌّ عَلَيْهِ بِفِضَّةٌ». إياس لم يرو عنه إلا نوح بن ربيعة، فلعل هذا هو الَّذِي لبسه يومًا واحدًا ثم طرحه كما قال أحمد، ولعله هو الَّذِي كان يختم به ولا يلبسه، كما جاء في حديث ابن عمر الَّذِي رواه الترمذي في "شمائله" إِن ثبت. وروى أبو جعفر بن جرير فى "أسماء من روى عن النبي صلى الله عليه وسلم من القبائل" حدثنا عمر بن شبة، ثنا أحمد ثنا إسحاق بن سعيد بن عمرو بن سعيد القرشي عن أبيه سعيد بن عمرو، عن خالد بن سعيد أنَّه "أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي يَدِهِ خَاتَمٌ فَقَالَ: مَا هَذَا الْخَاتَمُ في يدك يا خالد؟ قال: خاتم من حديد. قال: اطرحه إليَّ فإذا بخاتم من حديد قد لوي عليه فضة. فقال: ما نقشه؟ قال: محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخذه النبي - صلى الله عليه وسلم -، فتختم حتى مات" (¬2). الثالث: إِن طرحه إِنَّمَا كان لئلا يظن أنَّه سنة مسنونة، فإنهم اتخذوا الخواتيم لما رأوه قد لبسه، فتبين بطرحه أنَّه ليس بمشروع ولا سنة، وبقي أصل الجواز بلبسه. وقد أجيب أيضاً عنه بأن طرحه كان زجرًا للناس عند اصطناعهم الخواتيم، لئلا يتشبه المفضول بالفاضل والرعية بالإمام، ولكن هذا يعود إِلَى كراهة لبسه لغير الإمام .. وأجيب أيضاً بأن طرحه كان بسبب نقش الناس عَلَى نقشه، لنهيه عن ذلك. وعلى هذا فلا يلزم من طرحه ذلك اليوم استدامة طرحه، فإن هذا مخالف للأحاديث المستفيضة. وروى ثمامة عن أنس قال: كان خاتم النبي صلى الله عليه وسلم من فضة وفصه منه ¬

_ (¬1) سقط من الناسخ فالحديث من رواية الحارت بن معيقيب عن جده معيقيب. (¬2) وأخرجه الطبراني في الكبير (4/ 4118)، والحاكم (3/ 279) من طريق إسحاق بن سعيد به وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه. وذكره الهيثمي في المجمع (5/ 152) وقال: رواه الطبراني وفيه: يحيى بن عبد أحمد الحماني وهو ضعيف.

نقشه ثلاثة أسطر: سطر محمد، وسطر رسول، وسطر الله، وكان في يد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى قبض وفي يد أبي بكر وفي يد عمر، وفي يد عثمان، فبينا هو قاعد عَلَى بئر أريس إذ سقط منه في البئر، فنزح ماه البئر فلم يقدر عليه. وفي رواية (¬1): "وفي يد عثمان ست سنين". وأصله في البخاري (¬2). وقد جاء حديث مبين فيه سبب طرحه. قال المروذي في كتاب "الورع" (¬3): قرأت عَلَى أبي عبد الله ثنا عثمان بن عمر، ثنا مالك بن مغول، عن سليمان الشيباني، عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: "اتخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم خاتمًا فلبسه فَقَالَ: شغلني هذا عنكم منذ اليوم، إِلَيْهِ نظرة وإليكم نظرة، ثم رمى به". ورواه ابن عدي (¬4) من جهة عن عبد الله بن محمد بن المغيرة عن مالك بن مغول في جملة أحاديث، وقال: هذه الأحاديث عن مالك عامتها مما لا يتابع عليه، {وعبد الله محمد بن المغيرة} (¬5) مع ضعفه يكتب حديثه. قلت: هذا قد توبع عليه إلا أن ابن المغيرة خالف في إسناده. وأما حديث بريدة الَّذِي فيه: "اتخذه من فضة". فسنذكره إِن شاء الله تعالى، ونبين ضعفه، وأن أحمد استنكره، ولو ثبت لم يكن حجة، فإنَّه لما نهاه عن خاتم الذهب والحديد سأله مما أتخذه؟ قال: اتخذ من فضة. فلم يأمره أمر ندب، وإنَّما هو أمر إرشاد إِلَى ما يتخذ منه خاتمه. وأيضًا فهو من جنس الأمر بعد الحظر، فإنَّه لما نهاه عن الخاتم من نوعين فرآه عليه منهما، فنهاه عنهما، وامره به من نوع ثالث. وأما حديث "أمرت بالخاتم والنعلين" فلا يثبت فإن عمر بن هارون ¬

_ (¬1) أخرجها ابن أبي عاصم في "السنة" (1144). (¬2) برقم (5878 - 5879). (¬3) برقم (285)، وأخرجه النسائي (8/ 194)، وفي "الكبرى" (9543)، وأحمد (1/ 322). (¬4) في الكامل (4/ 219) من حديث ابن عمر. (¬5) في الثلاث نسخ الخطية: "محمد بن المغيرة" والصواب ما أثبته. وقد ذكره ابن رجب في إسناد ابن عدي عَلَى الصواب وانظر الكامل لابن عدي (4/ 217 - 220).

فصل: [في أنواع الخاتم]

راوية متروك. وحديث أنس في تفسير قوله تعالى: {خُذُوا زِينَتَكُمْ} باطل، فإن نعيم ابن سالم أحاديثه منكرة. وأما حديث النهي عن الخاتم إلا لذي سلطان (¬1) فذكر بعض أصحابنا أن أحمد ضعفه، وأشار إِلَى ما رواه الأثرم عن أحمد أنَّه سئل عن الخاتم أيجوز لبسه؟ فَقَالَ: إِنَّمَا هو شيء يرونه أهل الشام -يعني: الكراهية. قال: وقد تختم قوم. قال: وحدثنا أبو عبد الله بحديث أبي ريحانه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنَّه كره عشر خلال وفيها الخاتم إلا لذي سلطان، فلما بلغ هذا الموضع تبسم كالمعجب (¬2)، قال: وإن صح حمل عَلَى كراهة التنزيه لمن اتخذه لمجرد غرض التزين به، وهذا إِنَّمَا يصح إذا لم يكره التنزين به للسلطان وكره لغيره. فصل: [في أنواع الخاتم] والخاتم يكون تارة من فضة، وتارة من ذهب، وتارة من حديد أو صفر أو رصاص ونحوها، وتارة من عقيق، فأما الفضة فهو الَّذِي تقدم ذكره، وأما خاتم الذهب فالمذهبُ تحريمه. قال عبد الله (¬3): سألت أبي عن حديث النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه نهى عن لبس الذهب إلا مقطعًا (¬4)، قال: الشيء اليسير الصغير. قلت: فالخاتم؟ قال: روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه نهى عن خاتم الذهب وهو قول الأئمة الثلاثة مالك والشافعي وأبي حنيفة وأكثر العلماء. ورخصت فيه طائفة منهم: إسحاق بن راهويه وقال: مات خمسة من ¬

_ (¬1) سبق تخريجه. (¬2) في النسخة الثانية في هذا الموضع: "ثم قال أهل الشام". (¬3) في "مسائله" لأبيه (1619). (¬4) أخرجه أحمد (4/ 92)، وأبو داود (4239)، والنسائي (5164، 5166)، وفي الكبرى (9452)، من حديث معاوية بن أبي سفيان.

أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم خواتيهم من ذهب. قال مصعب بن سعد: رأيت عَلَى طلحة وسعد وصهيب خواتيم من ذهب (¬1). وعن حمزة بن أبي أسيد والزبير بن المنذر بن أبي أسيد أنهما نزعا من يد أبي أسيد خاتمًا من ذهب حين مات، وكان بدريًّا (¬2). رواهما البخاري في "تاريخه" وذكر في "صحيحه" (¬3) عن علقمة قال: جاء خباب بن الأرت إلي ابن مسعود وعليه خاتم من ذهب فَقَالَ: ألم يأن لهذا الخاتم أن يُلقى؟ قال: أما إنك لن تراه عَلَيَّ بعد اليوم فألقاه. وروى حرب الكرماني بإسناده عن سماك قال: رأيت عَلَى جابر بن سمرة خاتمًا من ذهب. واحتج من أباحه بما رواه النسائي (¬4) عن سعيد بن المسيب قال: قال عمر لصهيب: ما لي أرى عليك خاتم الذهب؛ فَقَالَ: قد رآه من هو خيرٌ منك فلم يعيبه. قال: من هو؟ قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفي مسند الإمام أحمد (¬5) عن محمد بن مالك قال: رَأَيْتُ عَلَى الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ خَاتَمًا مِنْ ذَهَبٍ، فكان الناس يَقُولُونَ له: لم تختم بالذهب وقد نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم؟ فَقَالَ البراء: "بينا نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين يدية غنيمة يغسمها سبي وخُرثي (¬6) قال: فقسمها حتى بقي هذا الخاتم، فرفع طرفه فنظر إِلَى أصحابة ثم خفض ثم رفع طرفه فنظر إليهم، ثم قال: أي براء! فجئته حتى. قعدت بين يديه، فأخذ الخاتم فقبض عَلَى كرسوعي (¬7) ثم قال: خذ البس ما كساك الله ورسوله، قال: فكان البراء يقول: فكيف (تأمروني) (*) أن أضع ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "البس ما كساك الله ورسوله". ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في "التاريخ الكبير" برقم (1514). (¬2) أخرجه البخاري في "تاريخه" أيضاً برقم (1362). (¬3) برقم (4391). (¬4) برقم (5178)، وفي الكبرى (9465). (¬5) (4/ 294). (¬6) الخرثي: أثاث البيت ومتاعه "نهاية". (¬7) الكرسوع: طرف رأس الزند مما يلي الخنصر "نهاية". (*) تأمرني: "نسخة".

وروى وكيع بإسناده أن عمر رأى عَلَى رجل خاتمًا من حديد فَقَالَ: ألا اتخذت خاتمًا من ذهب أو فضة؟ والصحيح التحريم فقد ثبت في الصحيحين (¬1) عن البراء بن عازب قال: "نَهَانَا رَسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ خَاتَمِ الذَّهَبِ، وعَنْ آنِيَةِ الفِضَّةِ". وفيهما (¬2) عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم "أنَّه نهى عن خاتم الذهب". وفيهما (¬3) أيضاً عن ابن عمر "أن النبي صلى الله عليه وسلم اتَّخَذَ خاتَماً مِنْ ذَهَبٍ فَجعلَهُ فِي يَمِينِهِ، وجَعَلَ فَصُّهُ مِمَّا يَلِي بَاطِنَ كَفِّهِ، فَاتَّخَذَ النَّاسُ خَوَاتِيمَ الذَّهَبِ، قَالَ: فَصَعِدَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمِنْبَرَ فَأَلْقَاهُ، وَنَهَى عَنِ التَّخَتُّمِ بِالذَّهَبِ". وروى ابن جريج عن زياد بن سعد، عن الزهري، عن أنس "أنَّه رأى في يد النبي صلى الله عليه وسلم خاتمًا من ذهب، فاضطرب الناس الخواتيم، فرمى به النبي وقال: لا ألبسه أبدًا" (¬4). وخرّجه ابن أبي عاصم من طريق الليث، عن عبد الرحمن بن خالد عن الزهري بنحوه. وفي صحيح مسلم (¬5) عن علي رضي الله عنه قال: "نَهَانِي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ التَّخَتُّمِ بِالذَّهَبِ". ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (5863)، ومسلم (2066). (¬2) أخرجه البخاري (5864)، ومسلم (2089). (¬3) أخرجه البخاري (5865)، مسلم (2091). (¬4) أخرجه البخاري (5868)، من طريق يونس عن ابن شهاب عن أنس نحوه وقال: تابعه إبراهيم بن سعد، وزياد، وشعيب، عن الزهري .. إلخ. وأخرجه مسلم (2093)، من طريق ابن جريج به، ولفظه: "ثم إِنَّ الناس اضطربوا الخواتم ... ". (¬5) برقم (2078).

ولأحمد (¬1) وأبي داود (¬2) من حديث ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم "أنَّه نهى عن خاتم الذهب". وفي "المسند" (¬3) وكتاب الترمذي (¬4) عن عمران بن حصين قال: "نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن التختم بالذهب". وقال الترمذي حسن صحيح. وفي كتب السنن (¬5) عن معاوية "أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن خاتم الذهب، وقد طرحه رسول الله صلى الله عليه وسلم". وفي صحيح مسلم (¬6) عن ابن عباس "أَنَّ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى خَاتَمًا مِنْ ذَهَبٍ فِي يَدِ رَجُلٍ فَنَزَعَهُ فَطَرَحَهُ فَقَالَ: يَعْمِدُ أَحَدُكُمْ إِلَى جَمْرَةٍ مِنْ نَارٍ فَيَجْعَلُهَا فِي يَدِهِ. فَقِيلَ لِلرَّجُلِ بَعْدَمَا ذَهَبَ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: خُذْ خَاتَمَكَ فَانْتَفِعْ بِهِ. قَالَ: لَا وَاللَّهِ لَا آخُذُهُ أَبَدًا وَقَدْ طَرَحَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ". وفي "المسند" (¬7) عن عمار بن أبي عمار عن عمر "أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى في يد رجل خاتمًا من ذهب فَقَالَ: ألق ذا. فألقاه ثم تختم بخاتم من حديد. فَقَالَ: هذا شر منه فتختم بخاتم من فضة فسكت عنه". وفي "المسند" (¬8) أيضاً من حديث ابن أبي مليكة عن عبد الله بن عَمْرو بن الْعَاصِ "أَنه لبس خَاتمًا من ذهب فَنظر إِلَيْهِ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَكَأَنَّهُ كرهه وَطرحه، ثمَّ لبس خَاتمًا من حَدِيد فَقَالَ: هَذَا أَخبث وأخبث. فطرحه، ثمَّ لبس ¬

_ (¬1) (1/ 392). (¬2) برقم (4222). (¬3) برقم (4/ 443). (¬4) برقم (1738). (¬5) أخرجه أبو داود (4239)، والنسائي (5165)، وفي الكبرى (9452) من طريق أبي قلابة عن معاوية بن أبي سفيان به. وقال أبو داود: أبو قلابة لم يلق معاوية. (¬6) برقم (2090). (¬7) (1/ 21). قال الهيثمي في المجمع (5/ 151) رواه أحمد، رجاله رجال الصحيح، إلا أن عمار بن أبي عمار لم يسمع من عمر. (¬8) (2/ 211).

خاتمًا من ورق فسكت عنه". وروى الدارقطني (¬1) من طريق عطاء بن يزيد عن أبي ثعلبة الخشني أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى في يده خاتمًا من ذهب فقرعه بقضيب، فلما غفل النببي - صلى الله عليه وسلم - ألقاه فنظر النبي صلى الله عليه وسلم -فلم يره- فَقَالَ: "ما أرأنا إلا قد أوجعناك وأغرمناك". وقد رواه النعمان بن راشد عن الزهري عن عطاء هكذا، والحفاظ من أصحاب الزهري رووه عن الزهري عن أبي إدريس "أن رجلاً من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - لبس خاتمًا" وهو صحيح. وروى أبو داود (¬2) من حديث عائشة قالت: "قدمت علي النبي صلى الله عليه وسلم من عنده النجاشي حلبة أهداها له، فيها خاتم من ذهب، فيه فص حبشي، قال: فأخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم بعود معرضًا عنه أو ببعض أصابعه، ثم دعا أمامة بنت أبي العاص ابنة ابنته زينب فقال: تحلي بهذا يا بنية" وسيأتى من حديث بريدة وأبي سعيد نحو ذلك. وروى عقيل ويونس عن الزهري عن أبي إدريس الخولاني عن رجل أدرك النبي - صلى الله عليه وسلم - "أن النبي صلى الله عليه وسلم رأي في يد رجل خاتمًا من ذهب فضرب أصبعه حتى رمى به". ذكره الدارقطني في علله. وقال: رواه يونس بن الوليد وعبد العزيز ابن أبي سلمة عن إبراهيم بن سعد عن الزهري عن أنس، وليس بمحفوظ، ¬

_ (¬1) ذكره في العلل (6/ 319) برقم (1165) وقد سئل عنه، فَقَالَ: يرويه الزهري عن عطاء ابن يزيد واختلف عنه، فرواه النعمان بن راشد عن الزهري عن عطاه بن سيد عن أبى ثعلبة. ورواه عبد العزيز بن أبي سلمة العمري وبشر بن الوليد عن إبراهيم بن سعد عن الزهري عن أنس، ووهما فيه. وغيرهما يرويه عن إبراهيم بن سعد عن الزهري مرسلاً. ورواه الحفاظ من أصحاب الزهري عنه عن أبي إدريس الخولاني أن رجلاً من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - لبس خاتماً، وهو صحيح. (¬2) برقم (4234).

فصل: [في حكم اتخاذ خاتم الذهب والحديد والصفر النحاس]

والصحيح الأول. وهكذا رواه أبو يعلي الموصلي عن بشر بن الوليد -أعني- عن أنس. وهذه نصوص خاصة في خاتم الذهب مع النصوص العامة في ذلك كما في السنن (¬1) عن أبي موسى أن النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ فِي الذَّهَبِ وَالفِضَّةِ: "هَذَانَ حَرَامٌ عَلَى ذُكُورِ أُمَّتِي حِلٌ لِإِنَاثِهِمْ". وهذه الأحاديث أصح من أحاديث الرخصة وأكثر، فيحمل ما ورد في الرخصة إِن ثبت عَلَى أنَّه كان قبل النهي، ثم نسخ بهذه الأحاديث الصحيحة. وهذا متعين فإنا نتيقن أن لبس الذهب كان مباحًا حين لبسه - صلى الله عليه وسلم - ثم حرم بنهيه عنه بعد لبسه، والأصل بقاء التحريم وعدم تغيره ويحمل فعل من لبسه من الصحابة عدي أنَّه لم يبلغهم الناسخ. فصل: [في حكم اتخاذ خاتم الذهب والحديد والصفر النحاس] لو اتخذ الرجل خاتم ذهب ونحوه مما لا يستبيح لبسه فإن كان لإمائه أو لإعارته، وإن كان نيته لبسه لم يجز، وإن كان له نية وحيث قيل بجوازه، فلا زكاة فيه عندنا. وحكى أبو الحسن التميمي في وجوب الزكاة فيه روايتين، ونزلهما ابن عقيل عَلَى اختلاف النية. وأما خاتم الحديد والصفر والنحاس فالمذهب كراهته للرجال والنساء. قال مهنا: سألت أحمد عن خاتم الحديد، فَقَالَ: أكرهه هو حلية أهل النار، قلت: الشبه (¬2)، قال لم يكن خواتيم الناس إلا فضة ونهى عن لبسه في رواية جماعة من أصحابه، وعن الصلاة فيه في رواية أخرى. ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي (1720)، والنسائي (5163)، والبيهقي في الكبير (3/ 275) بلفظ "حرم لباس الحرير والذهب عَلَى ذكور أمتي وأحل لإناثها". واللفظ للترمذي وقال في آخره: وفي الباب عن عمر وعلي وعقبة بن عامر وأنس وحذيفة وأم هانئ وعبد الله بن عمر وعمران بن حصين وعبد الله بن الزبير وجابر وأبي ريحان وابن عمرو وواثلة بن الأسقع، وحديت أبي موسى حديث حسن صحيح. (¬2) هو ضرب من النحاس.

وقال في رواية أبي طالب وسأله عن الحديد والصفر والرصاص تكرهه؟ فَقَالَ: أما الحديد والصفر فنعم، وأما الرصاص فليس أعلم فيه شيئًا، وله رائحة إذا كان في اليد، كأنه كرهه. وقال الأثرم: قلت لأبي عبد الله: خاتم الحديد ما ترى فيه؟ فذكر حديث عمرو بن شعيب (¬1) "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لرجل: "هذه حلية أهل النار". قال: وابن مسعود لبسه وابن عمر. قال: ما طهرت كف فيها خاتم حديد. قال أبو عبد الله: اختلفوا فيه، وقال في رواية يوسف بن موسى وإسحاق وقد سئل عن التختم بالحديد قال لا تلبسه. وكذلك (كره) (*) مالك وأبو حنيفة خاتم الحديد. والصفر والرصاص. وروينا عن عبد الله بن مسلم، عن عبد الله بن بريدة عن أبيه قال: "جاء رجل إِلَى النبي صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم وعليه خاتم من حديد فَقَالَ: ما لي أرى عليك حلية أهل النار، ثم جاءه وعليه خاتم من صفر، فَقَالَ: ما لي أجد منك ريح الأصنام، ثم أتاه وعليه خاتم من ذهب فَقَالَ: ما لي أرى عليك حلية أهل النار، قال: من أي شيء أتخذه؟ قال: من ورق ولا تتمة مثقالاً. أخرجه الإمام أحمد (¬2) والنسائي (¬3) والترمذي (¬4)، وهذا لفظه وقال: حديث غريب. ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد (2/ 163). (*) في النسخ الثلاث "كرهه" وما أثبته أنسب للسياق. (¬2) (5/ 359). (¬3) برقم (5210). (¬4) برقم (1785).

وقد سأل المروذي أبا عبد الله عن عبد الله بن مسلم هذا، فَقَالَ: لا أعرفه. وقال أحمد في موضع آخر: هو حديث منكر. وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده "أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى عَلَى بعض أصحابه خاتمًا من ذهب فأعرض عنه فألقاه واتخذ خاتمًا من حديد، وقال: هذا شر، هذا حلية أهل النار فألقاه واتخذ خاتمًا من ورق فسكت عنه". رواه الإمام أحمد في المسند (¬1)، واحتج به في رواية الأثرم، ورواه الأثرم مختصراً ولفظه "أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن خاتم الذهب وعن خاتم الحديد". وروى أبو نعيم (¬2) من طريق المثني بن الصباح عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عبد الله بن عمرو "أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم وعليه خاتم من ذهب فأعرض عنه، فانطلق الرجل فنزعه ثم لب خاتمًا من حديد ثم أتاه، فنظر إِلَيْهِ فقال: هذا لباس أهل النار، ثم أتاه قد لبس خاتمًا من فضة فلم ينكر ذلك ولم يُعرض عنه". وقد سبق عن عمر بن الخطاب مرفوعًا نحوه من المسند أيضًا، وفيه عن أبي هريرة خرجه الطحاوي (¬3). وقد روي من حديث جابر (¬4) أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى عَلَى رجل خاتمًا من حديد فَقَالَ: "مالي أرى عليك حلية أهل النار؟ " ثم ذكر نحوًا مما تقدم. وفي إسناده عبد الله بن شبيب متروك. ويروى أيضًا من طريق بحر بن كثير (¬5)، عن أبي الزبير عن جابر وبحر ليس بثقة. ¬

_ (¬1) (2/ 163). (¬2) في "الحلية" (8/ 323). (¬3) في شرح معاني الآثار (4/ 261). (¬4) أخرجه ابن الجوزي في العلل المتناهية (2/ 206) وقال: هذا حديث لا يصح. قال ابن عدي. حدث عبد الله بن شبيب بمناكير. (¬5) أخرجه ابن عدي في "الكامل" (2/ 51 - 52). وقال ابن عدي: ولبحر السقاء غير ما ذكرت من الحديث، وكل روايته مضطربة، ويخالف الناس في أسانيدها ومتونها، والضعف عَلَى حديثه بَيِّنَ.

وروى الرافعي بسنده من حديث عباد بن كثير عن شميسة بنت نبهان، عن مولاهم مسلم بن عبد الرحمن، قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يبايع الناس عام الفتح عَلَى الصفا، وقد جاءه رجل عليه خاتم حديد، فَقَالَ: "ما طهر الله يدًا فيها خاتم الحديد". وروينا في فوائد القاضي أبي بكر المنائحي، أنا أحمد بن جعفر الجمال، ثنا محمد بن حميد، ثنا هارون بن المغيرة، عن عمرو بن أبي قيس، عن الأعمش، عن أنس "أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن خاتم الحديد". قال أبو طالب: سئل أحمد عن الرجل في يده خاتم من حديد أو صفر أو رصاص. قال: الحديد كان للنبي - صلى الله عليه وسلم - خاتم من حديد عليه فضة فرمى به، فلا يُصلي في الحديد والصفر. ورأى ابن مسعود مع رجل صفرًا، فَقَالَ: رائحة الأصنام. وفي "مسند يعقوب بن شيبة"، ثنا يعلى بن عبيد، ومحاضر بن المورع قالا: ثنا الأعمش، عن إبراهيم، قال: أخبرني من رأى في يد عبد الله خاتمًا من حديد، وكان النخعي في يده خاتم من حديد. ويشهد لهذا ما رواه الطبراني في "المعجم الأوسط" (¬1) من حديث المطعم ابن المقدام العجلي عن أبي سورة بن أخي أبي أيوب، عن عبد الله بن عمر قال: مر النبي - صلى الله عليه وسلم - بصنم من نحاس، فضرب ظهره بظهر كفه، ثم قال: "خاب وخسر من عبدك من دون الله". ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم جبريلُ ومعه ملك فَتَنحَّى المَلَكُ، فَقَالَ النبي صلى الله عليه وسلم: "ما شأنه تنحى؟ " فَقَالَ: "إنه وجد منك ريح نحاس وإنَّا لا نستطيع ريحَ النُّحاس". ¬

_ (¬1) برقم (3882) وقال الطبراني: لم يرو هذا الحديث عن المطعم بن المقدام إلا يزيد بن يوسف، تفرد به مروان بن محمد. وقال الهيثمي في المجمع (5/ 174): وفيه يزيد بن يوسف الصنعاني ضعفه ابن معين وغيره، وهو متروك، وأثنى عليه أبو مسهر، و (أبو سبرة) (*) قال الذهبي: لا يعرف، وبقية رجاله ثقات.

لكن أبو سورة قد ضعف. وكذلك جاءت آثار عن الصحابة في كراهة الوضوء من آنية النحاس والصفر لأجل ريحه. وقد ذكر أبو الحسن الزاغوني في "الفتاوى الرحبيات" أن النهي عن خاتم الحديد ونحوه لأجل الشرك. وذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من علق عليه تميمة أو حديدة فقد أشرك بالله" (¬1). قال: ووجه أنَّه شرك. أن النساء والجهال يتخذون الدملوج الحديد ليدفع به شر الجن، ويتخذون الخاتم الحديد ليطرد عنهم الفزع. وقد روى أبو الشيخ الأصفهاني بإسناده عن عمر "أنَّه كتب إِلَى أمراء الأجناد أن اختموا أعناق أهل الذمة بالرصاص". وهذا يقتضي ذم التختم به، ولهذا قاله الفقهاء في أهل الذمة: إنهم يميزون في الحمام بخاتم حديد في رقابهم. ثم هذه الكراهة كراهة تنزيه عند أكثر الأصحاب. وظاهر كلام ابن أبي موسى تحريمه عَلَى الرجال والنساء. وحكي عن أبي بكر عبد العزيز: أن من صلى وفي يده خاتم حديد أو صفر أعاد الصلاة. وقال أحمد في رواية علي بن زكريا التمار، وقد سئل عن رجل يلبس الخاتم الحديد فيصلي فيه؟ قال: لا. وقال في رواية أبي طالب، وقد سئل عن رجل في يده خاتم من حديد أو صفر أو رصاص، فَقَالَ: الحديد "كان للنبي - صلى الله عليه وسلم - خاتم من حديد عليه فضة، فرمى به فلا يصلى في الحديد والصفر". وفي كلام أحمد إيماء إِلَيْهِ. ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد (4/ 156) من حديث عقبة بن عامر الجهني، ولم يذكر "أو حديدة". قال الهيثمي في المجمع (5/ 103). رواه أحمد والطبراني، ورجال أحمد ثقات.

[حكم خاتم العقيق]

قال في رواية إسحاق وقد قِيلَ لَهُ: تكره الخاتم من ذهب أو حديد؟ قال: إي والله والحديد يكره، فسوى بينه وبين الذهب في الكراهة، ثم أفرده بكراهة زائدة. وظاهر الأحاديث السابقة يدل عَلَى ذلك، والصحيح عدم التحريم، فإن الأحاديث فيه لا تخلوا عن مقال، وقد عارضها ما هو أثبت منها كالحديث الَّذِي في الصحيحين (¬1) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لخاطب المرأة التي عرضت نفسها عليه: "التمس ولو خاتمًا من حديد". وروى النسائي (¬2) من حديث أبي سعيد الخدري أن رجلاً أقبل إِلَى النبي - صلى الله عليه وسلم - فسلم، فلم يرد عليه، وكان في يده خاتم ذهب وجبة حرير، فألقاهما ثم سلم عليه، فرد عليه السلام وقال: "إنه كان في يدك جمرة من نار". قال: فماذا أتختم؟ قال: حلقة من حديد أو ورق أو صفر. وقد تقدم حديث معيقيب أن خاتم النبي صلى الله عليه وسلم كان من حديد يلوى عليه بفضة، ولكن الإمام أحمد احتج به عَلَى الكراهة لأنّه ذكر أنَّه رماه كذلك. [حكم خاتم العقيق] وأما خاتم العقيق فَقَالَ بعض أصحابنا يستحب مع قولهم أن خاتم الفضة مباح ليس بمستحب، ولعلهم أسندوا إِلَى الأحاديث المروية في الأمر به، والأمر أقل درجاته الاستحباب، وظاهر كلام أكثر الأصحاب خلاف ذلك، وهذا ظاهر كلام أحمد في رواية مهنا، وقد سأله ما السنة -يعني في التختم-؟ قال: لم تكن خواتيم القوم إلا فضة. ونحن نذكر أحاديث التختم بالعقيق ونبين حالها. روى حسين بن إبراهيم البابي عن حميد عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: تختموا بالعقيق، واليمين أحق بالزينة" (¬3). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (5126)، ومسلم (1425) بنحوه. (¬2) في "المجتبى" (8/ 175)، وفي "الكبرى" (9532). وذكره الهيثمي في المجمع (5/ 154) بزيادة في بعض ألفاظه، وقال روى النسائي طرفًا من أوله يسيرًا، ورواه الطبراني في "الأوسط"، وأبو النجيب، وثقه ابن حبان، ثقات. (¬3) أخرجه ابن الجوزي في "العلل المتناهية" (2/ 693) وقال: قال ابن عدي هذا حديث باطل، والحسين بن إبراهيم مجهول.=

قال ابن الجوزي واليمين لفضلها لا تحتاج إِلَى زينة الخاتم (¬1). حسين البابي هذا: مجهول، وليس هذا عند أحد من أصحاب قتادة المعرفين وقد ورد هذا الحديث عنه بلفظ آخر وهو: "تختموا بالعقيق فإنَّه ينفي الفقر" (¬2). وروي يعقوب بن الوليد، ثنا هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "تختموا بالعقيق فإنَّه مبارك" (¬3). ويعقوب هذا متروك. وروى أبو بكر بن شعيب [عن مالك بن أنس] (¬4) عن الزهري عن عمرو ابن الشريد عن فاطمة بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من تختم بالعقيق لم يزل يرى خيرًا" (¬5). ¬

_ =وأورده الذهبي في "الميزان" (2/ 283، علمية) وقال: وحسين لا يدري من هو، فلعله من وضعه. وأوود أيضاً في "المغني في الضعفاء" (1/ 169) وقال: وهذا باطل. وقال العقيلي في الضعفاء (4/ 448): ولا يثبت في هذا الباب شيء. (¬1) كتب في هامش الأصل عند هذه الكلمة: "بلغ مقابلة". (¬2) قلت: هو نفس الحديث السابق، وأورده الحافظ في "اللسان" (2/ 268) وبرهان الدين الحلبي في "الكشف الحثيث" برقم (233) ونقلا كلام الذهبي السابق. (¬3) أخرجه ابن عدي (7/ 146) من طريق يعقوب بن إبراهيم الزهري ثنا هشام بن عروة به، وقال: وهذا يعرف بيعقوب هذا، وليس بالمعروف "مدني"، وقد سرقه منه يعقوب ابن الوليد الأزدي "مدني أيضاً"، فرواه عن هشام بن عروة كما رواه هو، ويعقوب بن إبراهم الزهري لم أعرف له غير هذا فأذكره، ثم ساق ابن عدي (7/ 147) الحديث من طريق يعقوب بن الوليد المدني ثنا هشام بن عروة به. ونقل ابن عدي قول أحمد في يعقوب هذا: كتبنا عنه وخرقنا حديثه منذ دهر، وكان من الكذابين الكبار يضع الحديث. (¬4) سقطت من الناسخ واستدركتها من المعجم الأوسط. (¬5) أخرجه الطبراني في الأوسط (103) من طريق أبي بكر بن شعيب به، وقال: لم يرو هذا الحديث عن مالك إلا أبو بكر بن شعيب، تفرد به زهير بن عباد.=

وهذا لا يثبت أيضاً. وروي أيضاً من حديث أبي سعيد مرفوعًا: "من تختم بالعقيق لم يقض الله له إلا بالذي هو خير". ومن رواية الزبير مرفوعًا: "من تختم بالعقيق لم يزل يرى خيرًا". ومن رواية موسى بن جعفر (¬1) عن أبيه عن جده، عن آبائه عن علي مرفوعًا "من تختم بالعقيق قضى الله له بالحسنى". وكلها لا تثبت، والنسخة المروية عن موسى عن آبائه باطلة. وروى ابن منجويه (¬2) في كتاب "الخواتيم" بإسناد ضعيف عن علي -رضي الله عنه- مرفوعًا: "من تختم بالياقوت الأصفر منع الطاعون" وبإسناد أضعف من الأول عن ابن عباس مرفوعًا في الزمرد بمثل ذلك. ولا يثبت شيء من ذلك. وقد ذكر بعض الأطباء في خواص الأحجار أن من تختم بالياقوت أو تقلد به في بلد وقع فيه الطاعون منع منه بقدرة الله تعالى. فأما ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان خاتمه فضة فصُّهُ حبشيًّا. ¬

_ =وأورده ابن حبان في (المجروحين 3/ 153) ترجمة أبي بكر وقال: شيخ يروي عن مالك ما ليس من حديثه لا يجور الاحتجاج به. وأورده الذهبي في الميزان (7/ 337) في ترجمة أبي بكر بن شعيب وقال: غير ثقة ثم ذكر الحديث من طريقه عن مالك وقال: فمالك بريء من هذا. وقال الذهبي أيضًا في الميزان (7/ 341) بعد أن أورد الحديث من نفس الطريق: هذا كذب. (¬1) ذكره العجلوني في كشف الخفاء (1/ 356) عن علي بن مهرويه القزويني عن داود بن سليمان عن علي بن موسى بن جعفر عن أبيه فذكره بلفظ: "تختوا بالخواتم العقيق فإنَّه لا يصيب أحدكم غم ما دام عليه" قال: وفي سنده داود بن سليمان الغازي الجرجاني كذبه ابن معين، وله نسخة موضوعة بالسند المذكور. (¬2) كذا بالأصل "منجويه" وذكره المناوي في "فيض القدير" (3/ 236) قال: وروى "ابن زنجويه" بسند ضعيف عن علي كرم الله وجهه مرفوعًا فذكره بلفظه.

فصل: [في فص الخاتم]

فهو حديث صحيح رواه مسلم من حديث أنس (¬1). لكن قد قيل يمكن أن يكون من عادة الحبشة اتخاذ فص الخاتم من جوهره أعني الخاتم، فيكون فصه حبشيا، وهو منه. ولهذا صح أيضاً "أن خاتمه - صلى الله عليه وسلم - كان فصه منه" (1). وفي رواية عن أنس "فاتخذ حلقة فضة" (¬2). وإن صح أنهم كانو يعنون بالحبشي العقيق، فقد يكون له خاتمان، أحدهما: فصه عقيق، والآخر: فصه فضة منه، لكن لم يرو عنه أنَّه لبس خاتمًا كله عقيق. قال العقيلي: لا يصح في التختم بالعقيق عن النبي صلى الله عليه وسلم شيء. فصل: [في فص الخاتم] وفص الخاتم تارةً يكون منه، وتارةً من غيره، فإن كان منه وكان الخاتم فضة فهو مباح كما تقدم، فإن أنسًا روي "أن النبي صلى الله عليه وسلم اتخذ خاتمًا من فضة فصه منه". أخرجه البخاري (¬3) وأبو داود (¬4). وروى الخطيب في تاريخه (¬5) من طريق أبي بكر الشافعي ثنا محمد بن جعفر بن أبي داود الأنباري، حدثني يوسف بن يعقوب الخوارزمي، ثنا عفان، ثنا حماد، عن عاصم، عن أنس قال: حدثني ابناي عني عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أنَّه كان يكره أن يجعل فص الخاتم مما سواه". [ورواه من حديث (ولي) (*) وساق فيه من طريق إسحاق بن الحسن ومحمد بن إسماعيل الصائغ، واللفظ له، كلاهما عن عفان عن حماد بن سلمة عن عاصم الأحوال قال: حدثني حميد عن أنس "أن عمر نهى أن ¬

_ (¬1) سبق تخريجه. (¬2) أخرجه مسلم (2092). (¬3) برقم (5870). (¬4) برقم (4217). (¬5) تاريخ بغداد (2/ 134). (*) وردت هكذا في الأصل، وكتب الناسخ في هامش الأصل "صح".

يجعل في الخاتم فص من غيره". قال عاصم: فلما أخبرني، كان في يدي فص فقطعته أو فقلعته. وقيل لحميد: فإن عاصمًا حدث عنك بكذا وكذا! فلم يعرف الَّذِي قال] (*). ورواه أيضاً عن الحسن بن أبي طالب، ثنا محمد بن عبد الله الشيباني ثنا محمد بن جعفر بن ملاس، ثنا إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني، حدثني عفان عن حماد، عن علي بن زيد، عن أنس قال حدثني ابني عني "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كره أن يجعل فص الخاتم من غيره". وقال: كذب رواه هذا عن عفان، عن حماد عن علي بن زيد، لا عن عاصم، فالله أعلم. وإن كان من غيره فإن كان عن ذهب وكان يسيرًا، ففي إباحته قولان معروفان لمن حرم خاتم الذهب الخالص. أحدهما: التحريم أيضاً. وقد نص أحمد عَلَى منع مسمار الذهب في خاتم الفضة في رواية الأثرم إبراهيم بن الحارث، وهو اختيار القاضي وأبي الخطاب، ومذهب الشافعي وأبي يوسف ومحمد لعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم في الذهب والحرير "هذا حرام عَلَى الذكور أمتي حل لإناثها" (¬1). وعن أسماء بنت يزيد عن النّبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يصلح شيء من الذهب ولا خربصيصة" (¬2). رواه أحمد في المسند (¬3). ¬

_ (*) ما بين المعقوفتين ليس بالأصل، وهو لحق بالنسخة الثانية وكتب بعده صح. (¬1) أخرجه أبو داود (4057)، والنسائي (5159 - 5162)، وفي "الكبرى" (9445 - 9448)، وابن ماجه (3595)، وأحمد (1/ 115) من حديث علي. (¬2) خربصيصة: هي أي شيء من الحلي، والخربصيص: هنة في الرمل لها بصيص كأنها عين الجراد. انظر ترتيب القاموس والنهاية: مادة "خربص". (¬3) (6/ 453).

ورُوي أيضاً (¬1) من طريق شهر بن حوشب. عن عبد الرحمن بن غنم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من تحلى أو حلى بخربصيصة من ذهب كُوي يوم القيامة". واحتج به أحمد في رواية الأثرم. والخربصيصة قال ثعلب: هي بقدر عين الجراد. والقول الثاني الإباحة: وهو اختيار أبي بكر عبد العزيز وأبي البركات ابن تيمة وحفيده أبي العباس، وهو ظاهر كلام أحمد في العِلْم وقول أبي حنيفة ومالك لحديث معاوية أن النبي صلى الله عليه وسلم: "نهي عن لبس الذهب إلا مقطعًا". رواه أحمد وأبو داود والنسائي (¬2)، واحتج به أحمد. وفسر قوله: "إلا مقطعًا" باليسر، وهذا أصح من الأحاديث المصرحة بتحريم اليسر من الذهب فإن شهرًا لا يحتج به، وعبد الرحمن بن غنم ليس بصحابي. وأما عموم تحريم الذهب فيخصه هذا كما خص عموم تحريم الحرير بنص آخر فاستويا، وإن كان الفص جوهرة ونحوها من اليواقيت واللآلي فذكر بعض أصحابنا أنَّه مباح للرجال والنساء، وجعلوه محل وفاق مع أصحاب الشافعي وغيرهم، فإن النهي إِنَّمَا هو خاص بخاتم الذهب فلا يتعدي إِلَى غيره كما أن التحريم لما ثبت في الحرير لم يتعدّى إِلَى ما هو أعلى قيمة منه من غير جنسه. وقد ورد في حديث رُوي من طريق المنصور عن أبيه، عن جده عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "تختموا بالياقوت فإنَّه ينفى الفقر". وهو حديث ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد (4/ 227)، وقال الهيثمي في "المجمع" (5/ 147): وفيه شهر وهو "ضعيف" يكتب حديثه، وبقية رجاله رجال الصحيح. (¬2) أخرجه أحمد (4/ 92، 93)، وأبو داود (4239)، والنسائي (8/ 161).

باطل، رواه محمد بن عبد الله الشيباني -وهو كذاب- بإسناد مظلم إِلَى المنصور هكذا، وكذا رواه عبد الصمد. فأما ما رواه حرب في "مسائله"، ثنا محمد بن مصفى، ثنا عبد الملك بن محمد، حدثني عبد الملك بن (معقل) (*) بن منبه، عن وهب ابن منبه قال: لما تنبأ الأسود العنسي، وكان اسمه عيطة وامرأته المرزبانة، سار إِلَيْهِ فيروز بن الديلمي، وولد ابن باذان في جماعة في قومهم، فقتلوه وبعثوا برأسه إِلَى النبي صلى الله عليه وسلم، فدعا لهم بالبركة، وكان عَلَى بعضهم منطقة فيها الياقوت واللؤلؤ والزبرجد، فَقَالَ النبي صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ هذه ليست من لباسنا، ثم أعطاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منطقة من أدم، فَقَالَ له: "اعتجز بهذه". فأهل ذلك البيت يسمون آل "ذي معجر"، والمنطقة عندهم اليوم بصنعاء اليمن، فهو مرسل، وإن ثبت حمل عَلَى أنَّه كره لهم كثره ذلك فإنَّه سرف وخيلاء. فروى وكيع بإسناد عن موسى بن طلحة قال: كان في خاتم طلحة ياقوتة حمراء فنزعها واتخذ جزعة. فصل: [في نقش الخاتم] فأما النقش عليه فإن نقش ذِكرًا أو قرآنًا فهو مكروه، ذكره القاضي وغيره، وقد ذكر المروذي وغيره في "كتاب الورع" قال: سألت أبا عبد الله عن الستر يكتب عليه القرآن فكره ذلك، وقال: لا يكتب القرآن عَلَى شيء منصوب، لا ستر ولا غيره، لكن ذكر ابن تميم. لا بأس بكتابة .. الذكر عَلَى الستر ونحوه. ومعلوم أن المنصوب أصون من الخاتم؛ لأنّه أبعد عن أن تناله الأيدي أو يلمسه المحدث أو يحمله في الخلاء ونحو ذلك، فيفيد ذلك كراهة كتابته عَلَى الخاتم بطريق الأولى. ¬

_ (*) مغول: "نسخة"، وفي نسخة "مغفل".

قال القاضي: وقد قال أحمد وإسحاق بن منصور: لا يكتب فيه ذكر الله وقال إسحاق بن راهويه لا يدخل الخلاء فيه وذكر عبد الرزاق في "كتابه" (¬1) عن ابن عينية عن عبد الكريم قال سألت سعيد بن جبير عن الخاتم يكتب فيه ذكر الله -تعالى- فكرهه. ويدل عَلَى هذا ما ثبت في صحيح مسلم (¬2) عن أنس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صنع خاتمًا من وَرِق نقش فيه محمد رسول الله، وقال للناس: "إني اتخذت خاتمًا من فضة ونقشت فيه محمد رسول الله، فلا ينقش أحد عَلَى نقشه". قال الترمذي معنى قوله: لا تنقشوا (عليه) (*)، نهى أن ينقش أحد عَلَى خاتمه محمد رسول الله. وقد جاء مصرحًا بذلك في رواية حماد عن عبد العزيز بن صهيب، عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم اتخذ خاتمًا من فضة ونقش فيه: محمد رسول الله، وقال للناس: "إني اتخذت خاتمًا ونقشت فيه محمد رسول الله، فلا ينقشن أحد عَلَى نقشي". خرَّجاه في الصحيحين (¬3). وروى أبو عبد الرحمن المقري، عن حماد بن سلمة، عن حميد، عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يكتب في الخاتم بالعربية" (¬4). قال الدارقطني: رواه هشيم وغيره عن حميد، عن الحسن مرسلاً وهو الصواب. وروى الإمام أحمد (¬5) والنسائي (¬6) من حديث العوام عن الأزهر بن راشد عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم. قال: "لا تستضيئوا بنار المشركين، ولا تنقشوا في ¬

_ (¬1) في "المصنف" (1362). (¬2) برقم (2092). (*) عَلَى: "نسخة". (¬3) أخرجه البخاري (5874، 5877)، ومسلم (2092). (¬4) أخرجه البيهقي (10/ 127). (¬5) (3/ 99) عن أنس. (¬6) برقم (5224)، وفي الكبرى (9535).

خواتيمكم عربيًا". وقد فسر الحسن البصري فيما رواه أبو يعلى الموصلي هذا الحديث والنسائي أيضاً مما أظن، فَقَالَ: أما قوله "لا تنقشوا في خواتيمكم عربيًا "محمد - صلى الله عليه وسلم -". وأما قوله "لا تستضيئوا بنار أهل الشرك" يقول لا تستشيروا المشركين في أموركم. قال الحسن: تصديق ذلك في كتاب الله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ} (¬1) انتهي. وقد قيل في قوله: لا تنقشوا عربيًا -أي بخط عربي- لئلا يشابه نقش خاتم النبي صلى الله عليه وسلم. وفي الاستضاءة بنار المشركين أن المراد التباعد من مجاورتهم ووجوب الهجرة عنهم كما في الحديث الآخر "لا تراءي ناراهما". ونقل ثعلب عن ابن الأعرابي موافقة الحسن في التفسير الاستضائة بالنار. وعلي هذا نقش النبي صلى الله عليه وسلم عَلَى خاتمه لحاجته إِلَى (ختم الكتب إِلَى الملوك) (*) به ونهى غيره عن النقش لعدم حاجته إِلَى ذلك. وعلى هذا فقد يقال: يباح النقش عَلَى الخواتيم للملوك وذوي السلطان لحاجتهم إِلَى ختم كتبهم وإنفاذها إِلَى البلدان دون غيرهم، ولربما كان نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن لبوس الخاتم إلا لذي سلطان محمولاً عَلَى هذا النوع من الخواتيم إِن ثبت النهي، ويدل عَلَى هذا أن الخلفاء ما زالوا ينقشون عَلَى خواتمهم لهذه المصلحة. وقد روى ابن عدي (¬2) من حديث أبي عوانة، حدثني بشر بن حرب أبو عمرو الندبي قال: قلت لابن عمر: "أنقش عَلَى خاتمي آية من كتاب الله؟ ¬

_ (¬1) آل عمران: 118. (*) ختم كتب الملوك: "نسخة". (¬2) في الكامل (2/ 9).

قال: لا ها الله إذا لا يصلح ذلك، فنقشت بشر بن حرب". وبشر بن حرب ضعفه أحمد ويحيى وعلي والأكثرون. وقد يقال: اختلاف كلام أحمد في كراهة دخول الخلاء بالخاتم الَّذِي عليه الذكر يقتضي عدم كراهة لبسه مطلقًا إذ لو لبسه مكروهًا بكل حال، لم يكن معنى للتردد في كراهة استصحابه في الخلاء خاصة، إلا أن يقال: الكراهة في الخلاء تتزايد، أو يقال: عدم كراهة اللبس لا ينفي كراهة الكتابة ابتداءً. لكن أحمد قد أشار إِلَى كراهة لبس ما تكره الكتابة عليه. قال المروذي في كتاب (له) (*). قلت لأبي عبد الله: قد سألوني أن أشتري لهم ثوبًا عليه كتاب. فَقَالَ: قل لهم: إِنَّ أردتم أن أشتريه ويقلع الكتاب. قلت: فإنهم إِنَّمَا يريدون الكتاب، قال: لا تشتره. وذكر المروذي عن أبي عبد الله، عن أزهر، عن ابن عون قال: كان محمد يكره أن يشتري بهذه الدنانير المحدثة والدراهم التي عليها اسم الله تعالى. وقد روي عن كثير من السَّلف أنهم نقشوا عَلَى خواتيمهم الأذكار. وروي عن إبراهيم النخعي أنَّه رخص فيما دون الآية في نقش (الخواتيم) (**) (¬1). رواه أبو علي الصواف في "فوائده" فيما يغلب عَلَى ظني. ورواه عبد الرزاق في "مصنفه" (¬2) عن الثوري، عن مغيرة، عن إبراهيم أنَّه كره أن يكتب في الخاتم آية تامة إلا بعضها. وروينا من طريق ابن أبي الدُّنْيَا في "كتاب المنامات" ثنا زكريا بن عبد الله ¬

_ (*) الورع: "نسخة". (**) الخاتم: "نسخة". (¬1) أخرج ابن أبي شيبة في "مصنفه" (8/ 273) من طريق أبي الأحوص عن مغيرة عن إبراهيم أنَّه كره أن ينقش في الخاتم الآية التامة. (¬2) برقم (1357).

[نقوش خواتيم الأكابر والأعيان]

التميمي، عن عبد الله بن بكر السهمي عن شيخ يكنى أبا الحسن الكوفي، عن أبيه قال: رأيت عيسى ابن مريم عليه السلام في النوم، فقلت: يا روح الله وكلمته إني أريد أن أنقش عَلَى خاتمي شيئًا، فمرني بشيء أنقشه، فَقَالَ: اكتب عليه لا إله إلا الله الملك الحق المبين، فإنها تذهب الهم والحزن: قال: فكان هذا نقش خاتم الحسن. [نقوش خواتيم الأكابر والأعيان] ونذكر هاهنا جملة من نقوش خواتيم الأكابر والأعيان مما نقله أهل السير والتواريخ -وذكره أبو عبد الله (معمر بن الفاخر) (*) الأصبهاني، وذكر أن بعض غرائبه من كتاب حمزة بن يوسف في الخواتيم وغير ذلك- أمَّا خاتم النبي - صلى الله عليه وسلم - فكان نقشه محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم (¬1). هذا هو الصحيح كما تقدم. وروى أن أول الأسطر كان اسم الله، ثم في الثاني: رسول الله ثم في الثالث: محمد (1). وقد رُوي أن نقشه كان لا إله إلا الله. وسنذكره فيما بعد ونبين ضعفه، وروي فيه صفة أخرى من طريق حفص بن غياث عن جعفر، عن أبيه، قال: كان نقش خاتم النبي صلى الله عليه وسلم "العزة لله جميعًا". قال ابن الفاخر: ولا أظنه صحيحًا. وهو كما قال. وقال: وروي أن نقش خاتم سليمان "لا إله إلا الله محمد رسول الله". وروي أن الله سبحانه أمر موسى أن ينقش عَلَى خاتمه "لكل أجل كتاب". وكان أبو بكر رضي الله عنه يتختم بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بخاتمه، وقيل: كان له خاتم نقشه "نعم القادر الله". وكذلك عمر رضي الله عنه تختم بخاتم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد أبي بكر، وقيل كان له خاتم نقشه. "كفى بالموت واعظًا" وكان عثمان رضي الله عنه يتختم بخاتم رسول الله صلى الله عليه وسلم ست ¬

_ (*) محمد بن معمر بن الفاخر: "نسخة". (¬1) سبق تخريجه.

سنين من خلافته حتى سقط منه فاتخذ خاتمًا من فضة، وفصه منه نقشه "آمنت بالذي خلق فسوى". وكان نقش خاتم علي رضي الله عنه، "الله الملك الحق المبين". وقيل: "الملك لله الواحد القهار"، وقيل: "الله الملك وعلي عبده" وخاتم ابنه الحسن "الله أكبر وبه استعنت"، وقيل: "العزة لله"، وقيل: "لا إله إلا هو الحي القيوم الملك الحق المبين" وخاتم أخيه الحسين: "إِنَّ الله بالغ أمره". وقد ذكر أهل التواريخ والسير ما نقله أبو عبد الله القضاعي وغيره أن عثمان لما سقط منه خاتم النبي صلى الله عليه وسلم اتخذ خاتمًا من فضة فصه منه ونقش عليه "آمنت بالذي خلق فسوى"، وقيل: "لتنصرن أو لتندمن". وأن عليًا رضي الله عنه كان نقش خاتمه "الملك لله الواحد القهار". وقد روى ابن السمعاني في تاريخه بإسناد عن زيد بن ربيع رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اتخذ آدم عليه السلام خاتمًا ونقش فيه "لا إله إلا الله محمد رسول الله". وهذا لا يثبت، وإسناده مظلم جدًّا. وفي جزء أبي علي الخالدي بإسناده عن جابر بن عبد الله، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "كان نقش خاتم سليمان بن داود عليهما السلام لا إله إلا الله محمد رسول الله". هذا باطل موضوع، وقد رواه ابن السمعاني أيضاً بغير هذا الإسناد. وروى وكيع بإسناده في "كتاب اللباس" عن خلدة بن دينار، أبي العالية قال: قلت له: إيش كان نقش خاتم النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: "صدق الله"، (وألحق) (*) الخلفاء بعده " محمد رسول الله". وروى ابن عدي (¬1) من طريق زمعة بن صالح، عن سلمة بن وهرام، عن ¬

_ (*) فألحق: "نسخة". (¬1) في الكامل (3/ 230) وقال ابن عدي: ولا أعلم يرويه عن زمعة غير أبي داود به. وقد نقل ابن عدي قول يحيى بن معين في زمعة أنَّه ضعيف، وقال يحيى مرة في زمعة: أنَّه صويلح الحديث، ونقل قول الفلاس عنه: أن فيه ضعفًا، وقول البخاري: يخالف=

عكرمة، عن يعلى بن أمية، قال: "أنا صغت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - خاتمًا لم يشركني فيه أحد، ونقشته محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم". وروى الأثرم في "مسائله" من حديث الضحاك بن مزاحم، قال سمعت ابن عمر يقول: "ما طهرت كف فيها خاتم من حديد" ومن حديث أسامة بن زيد، عن مكحول "أن عمر بن الخطاب رأى في يد عوف بن مالك الأشجعي خاتمًا من ذهب، فدفع يده بمخصرة معه، وقال: أتجعل في يدك جمرة من نار؟ فنزعه، ثم جاء الغد وفي يده خاتم من حديد، فَقَالَ عمر: بدلت حلية أهل النار، فنزعه ثم جاء الغد وفي يده خاتم من وَرِق فَقَالَ عمر: نعم". ومن حديث قتادة عن عبد الرحمن مولى أم يزيد بن الأشعري و {زياد} (¬1) قدما عَلَى عمر، وفي يد زياد خاتم من ذهب، فَقَالَ عمر: تختم بالذهب؟ فَقَالَ أبو موسى: أما أنا فخاتمي من حديد، فَقَالَ: ذاك أنتن وأخبث، ثم قال: "من كان متختمًا فليتختم بالفضة" (¬2). وروى ابن عدي (¬3) من طريق عبد الله بن عيسى {الخزاز} (¬4)، ثنا داود بن أبي هند، عن عكرمة عن ابن عباس قال: "أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعمل له خاتم من حديد فجعله في أصبعه، فأتاه جبريل فَقَالَ انبذه من أصبعك، قال فنبذه من أصبعه، وأمر بخاتم آخر يصاغ له، فعمل له خاتم من نحاس، فجعله في أصبعه، فَقَالَ جبريل: أبعده من أصبعك. فنبذه وأمر ¬

_ =في حديثه، تركه ابن مهدي أخيرًا ... إلخ. (¬1) في الأصل: زيادا. (¬2) أخرجه ابن سعد في "الطبقات" (4/ 114) من طريق قتادة عن قزعة مولى زيادة عن عبد الرحمن مولى ابن برثن قال: قدم أبو موسى وزياد عَلَى عمر بن الخطاب فذكره، وفيه: قول عمر: أتخذتم حلق الذهب؟ قال ابن سعد: شك سعيدًا "من كان منكم متختمًا فليتختم بخاتم من فضة". (¬3) في "الكامل" (4/ 252). (¬4) في الأصل: "الحراد"، وفي النسختين الأخريين "الحرار" والصواب ما أثبته وانظر "الإكمال" لابن ماكولا (2/ 183)، الكامل لابن عدي (4/ 251)، وميزان الاعتدال (2/ 47).

بخاتم يصاغ له من ورق فجعله في أصبعه، فأقره جبريل، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن ينقش عليه محمد رسول الله. وهو حديث طويل جدًّا. وقال: عبد الله بن عيسى يروي عن يونس بن عبيد وداود بن أبي هند ما لا يوافقه عليه الثقات. وروى من طريق داود بن عبد الجبار -وهو ضعيف- عن أبي إسحاق، عن معمر الهمداني: أن نقش خاتم علي بن أبي طالب رضي الله عنه "ولي علي". وروى أبو عثمان الصابوني من طريق الفريابي، ثنا الثوري، عن إسماعيل السدي، عن عكرمة قال: "لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه أربعة خواتيم يتختم بها: ياقوت لنبله، فيروزج لنصره، حديد صيني لقوته، عقيق لحرزه، كان نقش الياقوت "لا إله إلا أنت الملك الحق المبين" ونقش الفيروز ج "الله الملك، ونقش الحديد الصيني "العزة لله جميعًا"، ونقش العقيق ثلاثة أسطر: "ما شاء الله لا قوة إلا بالله، أستغفر الله". قال الشيخ: أخبرني به محمد بن أحمد بن الحسن بن عبد الغني المقدسي، أنبأنا إبراهيم بن علي بن أحمد بن الواسيطي العابد، أنبأنا عمر بن كرم الدينوري، أنبأنا أبو الوقت عبد الأول بن عيسى، أنبأنا محمد بن أحمد بن سعيد الرازي أبو جعفر، أنبأنا محمد بن مسلم بن وارة، أنبأنا محمد بن يوسف الفريابي، أنبأنا سفيان الثوري فذكره وكان نقش خاتم معاوية "لكل عمل ثواب" وقيل: "لا قوه إلا بالله". وكان نقش خاتم ابنه يزيد "ربنا الله"، وابنه معاوية "إِنَّمَا الدُّنْيَا غرور". وكان نقش خاتم عبد الله بن الزبير "أبو خبيب. العائذ بالله"، وقيل "رب نجني من النار" ونقش خاتم مروان ابن الحكم "الله ثقتي ورجائي"، وقيل: "آمنت بالعزيز الحكيم"، ونقش خاتم ابنه عبد الملك" آمنت بالله مخلصًا"، ونقش خاتم ابنه الوليد "يا وليد أنت ميت"، ونقش خاتم أخيه سليمان: "آمنت بالله مخلصًا"، وقيل: "أومن بالله مخلصًا، وكان نقش خاتم عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه "عمر ابن عبد العزيز يؤمن بالله"، وقيل: "لكل عمل ثواب" وقيل: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له"، وقيل: "اغز غزوة تجادل عنك يوم القيامة".

قلت: وقد روينا في "أمالي أبي الحسن بن سمعون" من طريق إسماعيل ابن عياش، عن عمرو بن مجاهر قهرمان عمر بن عبد العزيز قال: كان نقش خاتم عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه "الوفاء عزيز". وكان نقش خاتم يزيد بن عبد الملك: "قني الحساب"، وقيل: "السيئات يا عزيز"، وقيل: "بالله استعنت"، وكان لأخيه خاتم نقشه "إِنَّ الحكم للحكم الحكيم". وكان خاتم أبي الوليد بن يزيد "بالعزيز يثق الوليد"، وقيل: "يا وليد إنك ميت". ونقش خاتم يزيد بن الوليد بن عبد الملك "يا يزيد قم بالحق تصبه" ولأخيه إبراهيم بن الوليد: "توكلت عَلَى الحي القيوم". وعلى خاتم مروان الحمار "اذكر الموت يا غافل". وكان نقش خاتم السفاح عبد الله ابن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس "الله ثقة عبد الله وبه يؤمن"، ونقش خاتم أخيه المنصور واسمه عبد الله أيضاً "الله ثقة عبد الله وبه يؤمن"، وقيل: "الحمد لله كله" ونقش خاتم ابنه المهدي "حسبي الله" وقيل: "رضيت بالله" وقيل: "الله ثقة محمد بن عبد الله". ونقش خاتم ابنه موسى الهادي "الله ربي" وقيل: "بالله أثق" وقيل: "الله ثقة موسى" وكان نقش خاتم أخيه الرشيد هارون "كن من الله عَلَى حذر"، ونقش خاتم ابنه الأمين: "لكل عمل ثواب" وقيل: "حسبي القادر"، ونقش خاتم أخيه المأمون "سل الله يعطك"، ونقش خاتم أخيه المعتصم: "الله ثقة محمد بن الرشيد وبه يؤمن"، وقيل: "سل الله"، ونقش خاتم ابنه الواثق: "الله ثقة الواثق"، وقيل: "الواثق بالله"، ونقش خاتم أخيه المتوكل "عَلَى إلهي اتكالي"، وقيل: "عَلَى الله توكلت"، ونقش خاتم ابنه المنتصر "يؤتى الحذر من مأمنه"، وقيل: "أنا من آل محمد"، وقيل: "الله ولي محمد"، وقيل: "محمد بالله ينتصر"، وعلى خاتم المستعين أحمد ابن المعتصم "في الاعتبار غنى عن الاختبار"، وقيل: "أحمد بن محمد"، وعلى خاتم المعتز بن المتوكل: "الحمد لله رب كل شيء وخالق كل شيء" وقيل: "الله ولي الزبير"، وقيل: "المعتز بالله"، وقيل: "رضيت بالله". وعلى خاتم المهتدي

ابن الواثق رحمه الله: "من تعدى الحق ضاق مذهبه" وعلى خاتم أحمد بن المتوكل: "السعيد من وعظ بغيره"، وقيل: "اعتمادي عَلَى الله". وعلى خاتم المعتضد أحمد بن الموفق بن المتوكل "أحمد يستكفي ربه"، وقيل: "الاضطرار يزيل الاختيار". وعلى خاتم ابنه المكتفي علي "بالله علي بن أحمد يثق"، وقيل: "علي يتوكل عَلَى ربه"، وقيل: "المكتفي آمن". وعلى خاتم أخيه المقتدر بن جعفر: "الحمد لله الَّذِي ليس كمثله شيء وهو خالق كل شيء" وقيل: "الله ولي المؤمنين"، وقيل: "المقتدر بالله" وعلى خاتم أخيه القاهر: "محمد رسول الله". وعلى خاتم الراضي بن المقتدر وأخيه المتقي: "المتقي لله". وروى الخطيب في تاريخه أن المعتز والمتوكل كل منهما كان له خاتمان نقش أحدهما: "محمد رسول الله"، والآخر عليه اسمه. وعلى خاتم المستكفي بن المكتفي: "علي بن أحمد المستكفي بالله"، وعلى خاتم المطيع بن المقتدر: "المطيع لله"، وعلى خاتم له آخر: "لا إله إلا الله محمد رسول الله"، وعلى خاتم ابنه الطائع والقادر أحمد بن إسحاق بن المقتدر: "لا إله إلا الله محمد رسول الله"، وقيل: "حسبنا الله ونعمه الوكيل". قال ابن النجار في {ذيل} (¬1) تاريخ بغداد: بلغني أن نقش خاتم الخليفة الظاهر لأمر الله محمد بن الناصر: "راقب العواقب". فهذا ما انتهى إلينا الآن من ذكر نقوش خواتم الخلفاء. وأما خواتيم غيرهم من الصحابة والتابعين والأئمة فقد روي أن الزبير كان نقش خاتمه: "ثقتي بالرحمن"، ونقش خاتم حذيفة: "الحمد لله" ونقش أويس القرني: "كن من الله عَلَى حذر"، وعلى خاتم الحسن البصري: "لا إله إلا الله الملك الحق المبين" وقد تقدم. وعلى خاتم النخعي: "نحن بالله وله". وعلى خاتم الشعبي: "الله ¬

_ (¬1) زيادة يقتضيها السياق؛ لأنّ ابن النجار كتابه ذيل عَلَى تاريخ بغداد.

فصل [حكم نقش صورة الحيوان على الخاتم]

ولي الخلق"، وعلى خاتم طاوس: "أعبد الله مخلصًا"، وعلى خاتم الزهري: "محمد يسأل الله العافية". رواه أبو نعيم في الحلية. وعلى خاتم هشام بن عروة: "رب زدني علمًا"، وعلى خاتم مالك ابن أنس: "حسبنا الله ونعم الوكيل"، وكان نقش فص خاتم النعمان أبو حنيفة: "قل الخير وإلا فلتسكت (¬1)، وأبي يوسف: "من عمل برأيه ندم"، ومحمد ابن ( ... ) (¬2)، وعلى خاتم الشافعي: "الله ثقة محمد بن إدريس"، وعلى خاتم الربيع بن سليمان: "الله ثقة الربيع بن سليمان". وكان نقش خاتم أبي مسهر: "أبرمت فقم"، فَإِذَا استثقل أحدًا ختم به علي طينة ثم رماها إِلَيْهِ فيقرأها. وروى أبو نعيم في "الحلية" من طريق ابن عائشة عن أبيه قال: بلغ عمر ابن عبد العزيز رضي الله عنه أن ابنًا له اشترى فصًا بألف درهم فكتب إِلَيْهِ عمر: عزيمة مني عليك لما بعت الفص الَّذِي اشتريت بألف درهم وتصدقت بثمنه، واشتريت فصًا بدرهم ونقشت عليه "رحم الله امرأً عرف قدره". وعن الأوزاعي قال: نقش رجل عَلَى خاتم عمر بن عبد العزيز، فحسبه خمس عشرة ليلة، ثم خلى سبيله. ونقش بعض العارفين عَلَى خاتمه: "ولعل طرفك لا يدور وأنت تجمع {للدهور} " (¬3)، ونقش بعضهم عَلَى خاتمه "وإن امرأً دنياه أكبر همه لمستمسك منها بحبل غرور". فصل [حكم نقش صورة الحيوان عَلَى الخاتم] وإن نقش عليه صورة حيوان لم يجز، للنصوص الثابتة المستفيضة في تحريم التصوير، وليس هذا موضوع ذكرها، لكن هل يحرم لبسه أو يكره؟ فيه وجهان لأصحابنا. أحداهما: أنَّه محرم وهو اختيار القاضي وأبي الخطاب وإبن عقيل في آخر ¬

_ (¬1) في الأصل: فليسكت. (¬2) كذا بالأصل، ولعله: محمد بن الحسن. (¬3) في الأصل: "الدهور" ولا يستقم بها المعنى.

كتابه "الفصول"، وحكاه أبو حكيم النهرواني عن الأصحاب، وهو منصوص عن أحمد في الثياب والخواتم، ففي "مسائل صالح" سألت أبي عن قوم يرخصون في هذه الصور ويَقُولُونَ: كان نقش خاتم سليمان فيه صورة وغيره، فَقَالَ أبي: إِنَّمَا هذه الخواتيم كانت نقشت في الجاهلية لا ينبغي لبسها لما (يروى) (*) فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم: "من صور صورة كلف أن ينفخ فيها الروح وليس بنافخ وعذب" (¬1). وقد قال إبراهيم: أصحاب أصحابنا خمائص فيها صلب، فجعلوا يضربونها بالسكوك يمحونها بذلك. وفي حديث أبي طلحة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تدخل الملائكة بيتًا فيه كلب ولا صورة" (¬2) انتهى. والثاني: أنَّه مكروه وليس بمحرم، وهو الَّذِي ذكره ابن أبي موسى، وذكره ابن عقل أيضًا في كتاب "الصلاة"، وصححه أبو حكيم النهرواني، وهو مذهب مالك. ومأخذ هذا الخلاف أن اللبس هل هو مختص بالافتراش والاتكاء أو بالتستر والنصب والتعليق، فإن افتراش ما فيه صورة حيوان والاتكاء عليه جائز علي المذهب المعروف، وتعليقه محرم، واللبس متردد بينهما، فمن لم يحرمه قال: اللبس نوع امتهان وابتذال ويعضد ذلك حديث أبي طلحة وسهل بن سعد عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا تدخل الملائكة بيتًا فيه كلب أو صورة إلا رقمًا في ثوب". أخرجاه في الصحيحين (¬3). وفي صحيح مسلم (¬4) عن عائشة قالت: "خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات غداة وعليه مِرْطٌ مُرحَّل (**) من شعر أسود". والمرحل: الَّذِي قد نقش فيه تصاوير الرِّحال. ¬

_ (*) روي: "نسخة". (¬1) أخرجه البخاري (5963)، ومسلم (2110) من حديث ابن عباس. (¬2) أخرجه البخاري (5949)، ومسلم (2106). (¬3) أخرجه البخاري (5958)، ومسلم (2106). (¬4) برقم (2081، 2424). (**) مرجل: "نسخة" وهو خطأ فقد ورد في الحديث: وعليه مرط مُرحل.

ومن حرمه جعله في الملابس تعظيمًا له فهو كنصبه بخلاف افتراشه، وحملوا حديث أبي طلحة عَلَى ثوب يفترش، وعضدوا ذلك بما في صحيح البخاري عن عائشة قالت: "لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يدع في بيته شيئًا فيه تصاليب إلا نقضه" (¬1). وقد رواه البرقاني والإسماعيلي ولفظهما: "لم يكن يدع سترًا أو ثوبًا فيه تصليب إلا قضبه" (¬2) (¬3). ورواه الخلال ولفظه: "كان لا يرى في ثوب تصاوير إلا نقضه". ويعضد الجواز ما رُوي "أن أبا موسى الأشعري كان يلبس خاتم دانيال الَّذِي نفله إياه عمر، وكان عليه صورة رجل بين أسدين (¬4) يلحسانه. وسنذكره فيما بعد إِن شاء الله تعالى، وكان ابنه أبو بُردَة يلبسه. ورُوي أن فصه كان من عقيق وكان يقول: هو خاتم دانيال الحكيم. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (5952) من حديث عائشة. (¬2) نضبه: "نسخة". والقضب: القطع، ونضب: نفذا وانقضى. (¬3) قال الحافظ في "الفتح" (10/ 398): ووقع في رواية الإسماعيلي "شيئًا فيه تصليب"، وفي رواية الكشميهني "تصاوير" بدل تصاليب، ورواية الجماعة أثبت. قلت: ومراد الحافظ رواية الإسماعيلي والكشميهني لصحيح البخاري، وأما مراد ابن رجب بالبرقاني والإسماعيلي أنهما روياه في مستخرجيهما. وقال الحافظ (10/ 339): قوله: (إلا نقضه) كذا للأكثر، ووقع في رواية أبان "إلا قضبه"، بتقديم القاف ثُم المعجمة ثم الموحدة، وكذا وقع في رواية ابن أبي شيبة عن يزيد بن هارون عن هشام، ورجحها بعض شراح "المصابيح"، وعكسه الطيبي فَقَالَ: رواية البخاري أضبط والاعتماد عليه أولى. قلت: ويترجح من حديث المعنى أن النقض يزيل الصورة مع بقاء الثوب عَلَى حاله، والقضب: وهو القطع، يزيل صورة الثوب. قال ابن بطال: في هذا الحديث دلالة عَلَى أنَّه - صلى الله عليه وسلم - كان ينقض الصورة سواء كانت مما له ظل أو لا، وسواء كانت مما توطأ أم لا، سواء في الثياب وفي الحيطان وفي الفرش والأوراق وغيرها. (¬4) أخرج عبد الرزاق في "مصنفه" (1360) من طريق قتادة قال": "كان نقش خاتم أبي موسى الأشعري أسد بين رجلين".

وذكر عن ابن مسعود "أن نقش خاتمه كان شجرة بين ذبابين" (¬1). وأن حذيفة كان نقش خاتمه عَلَى ياقوت أسمايحوني تمثال كركيين متقابلين بينهما الحمد لله. وأن أنس بن مالك "كان نقش خاتمه تمثال كركي، أو طائر له رأسان" (¬2). وقد ذكر ذلك الحافظ أبو عبد الله محمد بن معمر بن الفاخر الأصبهاني في كتابه "جامع العلوم"، وذكر أن بعض غرائب ما أورده نقله من كتاب حمزة بن يوسف في "الخواتيم". وروى الحافظ أبو بكر الخطيب في كتاب "تلخيص المتشابه" (¬3) من طريق هلال بن العلاء، ثنا عبد الله بن جعفر، ثنا عبيد الله بن عمرو، عن بشر بن حبان، قال: كنت عند عبد الله بن محمد بن عقيل فدعا بخاتم فخضخضه في الماء فقلنا: ما هذا؟ قال: هذا خاتم كان لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فَإِذَا فصُّه حجر فيه نقش دابة أو تمثال. ورواه عبد الرزاق في "كتابه" (¬4)، عن معمر قال: "أخرج إلينا عبد الله بن محمد بن عقيل خاتمًا نقشه تمثال، وأخبرنا أن النبي صلى الله عليه وسلم لبسه مرة أو مرتين، قال: فغسله بعض من كان معنا فشربه". وذكر (عبد الرزاق) (¬5)، عن معمر، عن جابر قال: "كان في خاتم ابن مسعود شجرة أو شيء بين ذبابين" (¬6). وعن معمر، عن قتادة قال: كان نقش خاتم أنس بن مالك كركي أو قال: طائر له رأسان. وكلان نقش خاتم أبي عبيدة بن الجراح: "الخمس لله". ¬

_ (¬1) أخرجه عد الرزاق في "مصنفه" (1359)، ومن طريقه الطبراني في "الكبير" (9/ 8727) عن جابر. (¬2) أخرجه عبد الرزاق (1361). (¬3) برقم (360). (¬4) في "المصنف" (1358). (¬5) في النسختين: "ابن عد الرزاق" وهو خطأ، والصواب ما أثبته. (¬6) أخرجه عبد الرزاق في "مصنفه" (1359).

فصل [في جواز التختم في اليمين واليسار]

فصل [في جواز التختم في اليمين واليسار] ويجوز التختم في اليمين واليسار واختلف الناس في أفضلهما فقالت طائفة: التختم في اليسار أفضل وهذا نص أحمد في رواية صالح، قال: التختم في اليسار أَحَبّ إليَّ، قال: وهو أقوى وأثبت ونقل نحوه الفضل بن زياد وهو أيضاً مذهب مالك. ورُوي عنه أنَّه كان يلبسه في يساره، وكذلك الشافعي. قال ابن سعد (¬1): أنا مسلم بن إبراهيم، ثنا أبو عقيل قال: رأيت خاتم الحسن في يساره يعني -الحسن البصري. قال وكيع: "التختم في اليمين ليس بسنة". وروينا في "صحيح مسلم" (¬2) عن حماد، عن ثابت عن أنس قال: "كان خاتم النبي صلى الله عليه وسلم في هذه، وأشار إِلَى الخنصر من يده اليسرى". وفي "سنن أبي داود" (¬3) عن إبراهيم بن سعد، عن ابن إسحاق، عن نافع، عن ابن عمر "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتختم في يساره" وفي هذا المعنى حديث من رواية علي، لا يثبت، وسنذكره فيما بعد. ورَوَى إسماعيل بن مسلم عن السليطي، ويُسمى سحارًا قال: "أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - في ليلةٍ قمراء وكأني أنظر إِلَى عكن بطنه كأنها القباطي، وإلى وبيص خاتمه في يساره". وإسماعيل هذا، قال البخاري: تركه ابن المبارك، وربما روى عنه. وفي التختم في اليسار من حيث أبي سعيد الخدري أيضاً، ذكره بعض الحفاظ. وقد رويناه من طريق الزبير بن بكار، حدثني أبو غزية، حدثني إسحاق بن إبراهيم، عن رميح بن عبد الرحمن بن أبي سعيد عن أبيه، ¬

_ (¬1) في "الطبقات الكبرى" (7/ 160). . (¬2) برقم (2095). (¬3) برقم (4227) عن عبد العزيز بن أبي روَّاد عن نافع به، وقال أبو داود: قال ابن إسحاق وأسامة -يعني ابن زيد- عن نافع {بإسناده}: في يمينه.

عن جده أبي سعيد "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يلبس خاتمه في يساره" (¬1). ورواه ابن عدي (¬2)، عن الباغندي، عن الزبير، وقال في رميح أنَّه لا بأس به، وخرّجه ابن سعد (¬3) عن الواقدي، عن إسحاق بن أزهر بن أبي منصور عن رميح به، وعن جعفر بن محمد عن أبيه قال: كان الحسن والحسين يتختمان في يسارهما". رواه الترمذي (¬4) وقال: صحيح. ورُوي عن القاسم بن عبد الله العمري، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتختم في يساره" (¬5). قال: "وكان ابن عمر- رضي الله عنهما- يتختم في يساره، فإذا توضأ نزع خاتمه". والقاسم هذا قد تُكُلَّم فيه، وقال البخاري: سكتوا عنه. وقد ذكر بعض الحفاظ المتأخرين أن التختم في اليسار مروي عن عامة الصحابة والتابعين، ورجَّحت طائفة التختم في اليمين وهو قول ابن عباس وعبد الله بن جعفر. وروى حماد بن سلمة قال: رأيت ابن أبي نافع يتختم في يمينه فسألته عن ذلك، فَقَالَ: رأيت عبد الله بن جعفر يتختم في يمينه، وقال: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يتختم في يمينه". رواه أحمد (¬6) والنسائي (¬7) وابن ماجه (¬8) والترمذى (¬9) وقال: وقال محمد -يعني البخاري-: هذا أصح شيء رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الباب. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو الشيخ الأصبهاني في أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم برقم (345)، وقال الحافظ في الفتح (10/ 327): ولأبي الشيخ من حديث أبي سعيد بلفظ: "كان يلبس خاتمه في يساره" وفي سنده لين. (¬2) (3/ 174). (¬3) في الطبقات (1/ 477). (¬4) برقم (1743) وقال: هذا حديث حسن صحيح. (¬5) أخرجه ابن عدي (6/ 34) وقال: هذا يرويه القاسم أيضًا عن ابن دينار، وللقاسم عن ابن دينار أحاديث لا يُتابع عليها. (¬6) (1/ 204). (¬7) برقم (5219). (¬8) برقم (3647). (¬9) برقم (1744).

وعن ابن إسحاق عن الصلت بن عبد الله بن نوفل قال: كان ابن عباس يتختم في يمينه ولا أخاله إلا قال: "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتختم في يمينه". رواه الترمذي (¬1) وذكر عن البخاري أنَّه قال: هو حديث حسن. هذا الحديث اختلف فيه عَلَى ابن نمير راويه عن ابن إسحاق فرُوي عنه بالشك في رفعه، ورُوي عنه مرفوعًا بغير شك، ورواه غير ابن نمير مرفوعًا بغير شك، ورواه أحمد بن خالد {الوهبي} (¬2) عن ابن إسحاق بالشك في رفعه. وعن شريك بن عبد الله بن أبي نمر، عن إبراهيم بن عبد الله بن حسين {عن أبيه} (*)، عن علي بن أبي طالب "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتختم في يمينه" (¬3). رواه الترمذي في "الشمائل" (¬4) من حديث سليمان بن بلال عن شريك، وقد أورده أبو الفرج بن الجوزي في "الواهيات" (¬5) من طريق ابن عثمان بن أبي يحيى، عن شريك، عن إبراهيم عن أبيه، عن ابن عباس، عن علي. ثم ضعف إبراهيم بن أبي يحيى ولا يفيده ذلك، لأنّه لم ينفرد به. وروى الترمذي أيضاً في الشمائل (¬6) من حديث عبد الله بن ميمون، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جابر "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتختم في يمينه". وهذا فيه ضعف لحال عبد الله بن ميمون. ¬

_ (¬1) برقم (1742). وقال الترمذي قال: محمد بن إسماعيل: حديث محمد بن إسحاق عن الصلت بن عبد الله بن نوفل حديث حسن صحيح. (¬2) في الأصول: "الذهبي". والصواب ما أثبته، وهو أحمد بن خالد أبو سعيد الوهبي - نسبة إِلَى وهب بن ربيعة بطن من كندة -روى عن ابن إسحاق وجماعة، وعنه الذهلي والبخاري ومحمد بن عوف وطائفة، وثقه ابن معين. {انظر الكاشف، والتقريب، وتهذيب الكمال}. (*) زيادة من "الشمائل" للترمذي وجاء في هوامش الأصول الخطية: "لعله عن أبيه، فقد وقع في بعض الأجزاء كذلك". (¬3) أخرجه أبو داود (4226)، والنسائي (5218). (¬4) برقم (90). (¬5) برقم (1153). (¬6) برقم (93).

ويروى من حديث عباد بن صهيب، عن جعفر بن محمد، عن أبيه عن جابر قال: "قبض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والخاتم في يمينه" (¬1) وعباد بن صهيب متروك أيضاً. وروى البزار في مسنده (¬2) من حديث عبيد بن القاسم، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتختم في يمينه، وقُبض والخاتم في يمينه". وعبيد هذا كذاب. وروى من وجه آخر لا يثبت عن هشام نحوه، وفيه كان يقول: "اليمين أولى بالزينة، وإنَّما الشمال خادم لليمين". وروى هلال الحفار، ثنا إسماعيل بن علي بن علي بن رزين الخزاعي، ثنا أبي، ثنا أخي دعبل بن علي، سمعت مالك بن أنس يحدث الرشيد قال: ثنا أمير المؤمنين، ثنا صدقة بن يسار أبو محمد التمَّار، عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة قال: "لم يزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتختم في يمينه حتى قبضه الله عز وجل". هذا باطل قطعًا. وذكر ابن عدي (¬3) من طريق مسعدة بن اليسع، عن أبي حميد، عن مودود، عن الحسن بن علي بن أبي طالب، "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتختم في يمينه". ومسعدة قال أحمد: ليس بشيء، تركنا حدثيه منذ دهر. وروى ابن عدي (¬4) أيضًا من حديث أبي قتادة الحراني وغيره، عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن مقسم، عن ابن عباس "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبا بكر وعمر كانوا يتختمون في أيمانهم". وفي "مسند الهيثم بن كليب" من حديث محمد بن أبي حميد، ¬

_ (¬1) أخرجه ابن الجوزي في "العلل المتناهية" برقم (1158)، وقال: قال النسائي، وأبو حاتم الرازي: عباد متروك. (¬2) ذكره الهيثمي في المجمع (5/ 153) وقال: رواه البزار وفيه عيد بن القاسم، وهو متروك. (¬3) في الكامل (6/ 390) وقال: ومسعدة هذا ضعيف الحديث كل ما يرويه من المراسيل ومن المسند وغيره. (¬4) في "الكامل" (4/ 194) عن أبي قتادة الحراني به إلا أنَّه قال: "في شمائلهم".

عن يعقوب بن حميد، عن رجل من أهل مكة ثقة، عن عقيل بن أبي طالب "أن النبي صلى الله عليه وسلم تختم في يمينه". ورواه ابن أبي عاص. وقد ورد التختم في اليمين من حديث أنس وابن عمر أيضاً. فأما حديث أنس فيروى من حديث قتادة عن أنس "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتختم في يمينه". رواه النسائي (¬1) والترمذي في الشمائل (¬2). وقد سُئل الدارقطني عنه فَقَالَ: يرويه عمر بن عامر، وابن أبي عروبة، عن قتادة، عن أنس "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتختم في يمينه". قاله عباد بن العوام، وخالد الواسطي، وخالد بن يحعمس السدوسي عن سعيد. ورواه حسين البسطامي، عن سلم بن قتيبة، عن شعبة، عن قتادة كذلك. ورواه أبو عبد الرحمن النسائي (¬3) عنه هكذا، وخالفه على بن أحمد الجرجاني، فرواه عنه بهذا الإسناد وقال فيه: "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتختم في يساره". ثم ذكر الدارقطني حديث ثابت عن أنس في التختم في اليسار قال: وهو المحفوظ عن أنس قال: وقد رواه سليمان بن بلال، وطلحة ابن يحيى، ويحيى بن نصر بن حاجب، عن يونس عن الزهري، عن أنس "أن النبي صلى الله عليه وسلم لبس خاتمًا من فضة في يمينه، فيه فص حبشي، جعله في بطن كفه". وخالفهم عبد الله بن وهب، وعثمان بن عمر، وخارجة بن مصعب، فرووه عن يونس، عن الزهري، عن أنس قال: "كان خاتم النبي - صلى الله عليه وسلم - من وَرِق فصه حبشي". ولم يذكروا فيه أنَّه تختمه في يمينه، ثم ذكر أن سائر من رواه عن الزهري لم يذكروا فيه اليمين. ¬

_ (¬1) برقم (5298). (¬2) برقم (97). (¬3) برقم (5299).

وأما حديث ابن عمر فقد رواه أبو داود في "سننه" (¬1)، والترمذي في "كتابه" (¬2) ورواه الثوري، عن العرزمي، عن نافع، عن ابن عمر: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يتختم بيمينه". ورواه أبو نعيم (¬3) وقال: غريب من حديث الثوري عن العرزمي وله طريقان عن ابن عمر: أحدهما: عن نافع فرواه محمد بن إسحاق، وأسامة بن زيد، وعبد الله العمري، عن نافع، عن ابن عمر، وذكروا فيه التختم في اليمين. وخالفهم أيوب السختياني، وعبد الوهاب بن بُخت، والمغيرة بن زياد، وعبد العزيز بن أبي رواد، وعبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز، وعثمان بن خالد وغيرهم، فرووه عن نافع، عن ابن عمر من غير ذكر اليمين. ورواه عبيد الله، عن نافع، واختُلف عنه، فرواه بركة بن محمد الحلبي، عن محمد بن عيينة، عن عبيد الله، وقال مرة: عن محمد بن بشر، عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر، ولفظه: "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يلبس خاتمه في يمينه، فلما قبض رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، صار في يد أبي بكر في يمينه، فلما قبض صار في يد عمر في يمينه، ثم صار في يد عثمان في يمينه، ثم ذهب يوم الدار عليه لا إله إلا الله". ورواه ابن عدي (¬4) من طريق ابن وهب حدثني عبد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يلبس خاتمه في يمينه، فيجعل فصه مما يلي باطن كفه". قال: ويروى أيضاً عن عبيد الله بن عمر، وهو لم ترد روايته. ¬

_ (¬1) برقم (4227). (¬2) برقم (1741) وقال الترمذي: حديث ابن عمر حديث حسن صحيح، وقد روي هذا الحديث عن نافع عن ابن عمر نحو هذا من غير هذا الوجه، ولم يذكر فيه أنَّه تختم في يمينه. (¬3) في "الحلية" (8/ 198). (¬4) في الكامل (4/ 142).

وروى عقبة بن خالد، عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يلبسه في يمينه"، ولم يذكر أبا بكر ولا عمر. والمحفوظ عن عبيد الله ما رواه معتمر، وعلي بن مسهر، ومحمد ابن بشر، وعبد الله بن نمير، وابن المبارك، عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر قصة الخاتم بطوله من الذهب والفضة، وفيه ذكر أبي بكر وعمر وعثمان، وليس فيه ذكر اليمين ولا اليسار. والطريق الثاني: عن سالم رواه خالد بن أبي بكر، عن سالم عن أبيه يذكر التختم في اليمين. هذا ملخص ما ذكره الدارقطني وقال: الحفاظ الأثبات لم يذكروا فيه التختم في اليمين ولا غيرها. قلت: قوله: "ولا في غيرها" إشارة إِلَى رواية ابن إسحاق المتقدمة في التختم في اليسار، فإنَّه قد روي عنه التختم في اليمين أيضاً، وكلاهما غير محفوظ، وأسامة وعبد الله العمري لا تفيد متابعتهما له عَلَى رواية اليمين شيئًا لضعف روايتهما. وأما رواية بركة الحلبي فساقطةٌ جدًّا، فإن بركة مذكور بالكذب، وشيخه قد اختلف في تسميته، وفي لفظه ما يدل عَلَى بطلانه، وهو قوله: "ذهب يوم الدار عليه لا إله إلا الله"، فإنَّه إِنَّمَا سقط في بئر أريس قبل الدار، وقد عاش عثمان بعده مدة، واتخذ له خاتمًا عوضهُ، وإنَّما كان نقشه: "محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم"، لا كلمة الإخلاص، كما ثبت ذلك في الصحيح (¬1). ولكن رواه الترمذي (¬2) من وجه جيد لم يذكره الدارقطني، عن المحاربي، عن عبد العزيز بن أبي حازم، عن موسى بن عقبة، عن نافع، عن ابن عمر "أن النبي صلى الله عليه وسلم صنع خاتمًا من ذهب فتختم به في يمينه، ثم جلس عَلَى المنبر فَقَالَ: إني كنت اتخذت هذا الخاتم في يميني، ثم نبذه، ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (5873). (¬2) برقم (1741).

ونبذ الناس خواتيمهم" ثم قال: حديث حسن صحيح. قال: وقد رُوي هذا الحديث عن نافع، عن ابن عمر نحو هذا من غير هذا الوجه، ولم يذكروا فيه أنَّه تختم في يمينه. وقول أحمد في التختم في اليسار: هو أقوى وأثبت، إشارة إِلَى أن تقديم رواية ثابت عن أنس في ذلك، وأنها أصح الروايات في هذا الباب، موافق لما ذكره الدارقطني من أن هذا هو المحفوظ عن أنس، وأن ما روي عن ابن عمر في ذلك لا يثبت. قال الأثرم: ذكرت لأبي عبد الله عن (عباد) (¬1) بن العوام، عن سعيد، عن قتادة، عن أنس "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتختم في يمينه" فأنكره، وقال: مضطرب الحديث عن سعيد. وقال أبو داود: قلت لأبي عبد الله: حديث (عباد) (1) بن العوام عن سعيد، عن قتادة، عن أنس، "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يتختم في يمينه" فلم يعرفه، وقال: فعند عباد عن سعيد غير حديث خطأ، فلا أدري سمع منه بآخره أم لا؟ وقال علي بن سعيد: سألت أحمد عن لبس الخاتم في اليمين، فَقَالَ في حديث حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس أنَّه رأي النبي صلى الله عليه وسلم يتختم في اليسرى". فذكرت له حديث علي رضي الله عنه "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتختم في اليمين" فأنكره. وما حكاه الترمذي عن البخاري أن حديث أبي جعفر أصح ما رُوي في هذا الباب، إِنَّمَا أراد به والله أعلم بأن التختم في اليمين خاصة، وهذا لا ينفي أن يكون حديث ثابت عن أنس أثبت منه، وثُُبوتُهُ وقُوتُهُ عَلَى غيره تقتضي ترجيحه، وقد أشار بعض أصحابنا إلي أن التختم في اليمين منسوخ، وأن التختم في الشمال هو آخر الأمرين وهذا إِنَّمَا يتأتى في حديث ابن عمر الَّذِي رواه الترمذي (¬2)، فإز فيه أن ذلك كان في ¬

_ (¬1) في النسخ الثلاث "عبادة"، والصواب ما أثبتناه. (¬2) برقم (1741).

فصل: [في حكم التختم في السبابة والوسطى]

خاتم الذهب قبل نزعه، ولا ريب أن هذا كان قبل تختمه بالفضة كما وقع التصريح به في حديث ابن عمر وأنس، وقول أنس: "كان خاتم النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذه"، إِنَّمَا يريد خاتمه الَّذِي استمر يلبسه حتى مات، وهو الفضة، وقد جاء التصريح بأن تختمه في يساره كأن آخر الأمرين في حديث رواه سليمان بن محمد القافلاني عن عبد الله بن عطاء نافع، عن ابن عمر "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتختم في يمينه، ثم إنه حوله إِلَى يساره" (¬1)، وروى وكيع بإسناده عن ابن سيرين "أن النبي صلى الله عليه وسلم وأبا يكر وعمر وعثمان كانوا يتختمون في يسارهم" (¬2). قال وكيع: التختم في اليمين ليس بسنة. وروى الترمذي في "العلل" (¬3) عن الفضل بن الصباح، عن معن بن عيسى، عن خالد بن أبي بكر، عن سالم عن أبيه "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جعل خاتمه في يمينه، ثم إنه نظر إِلَيْهِ وهو يصلي، ويده عَلَى فخذه فنزعه ولم يلبسه". وقال: سألت البخاري عنه فلم يعرفه، وقال: خالد بن أبي بكر منكر الحديث. وروى الهيثم بن كليب في "مسنده"، ثنا محمد بن سعد العوفي، ثنا أبي، ثنا سوار، عن عطية، عن ابن عمر قال "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتختم في يده اليسرى فيعبث به في الصلاة فنزعه فجعله في يمينه" وفي لفظ آخر رواه "كان يصلي فيعبث بخاتمه، فيغلط، فحَوَّلهُ في اليمين، فَإِذَا قضى صلاته حوَّلهُ إِلَى الشمال"، وهذا منكر. فصل: [في حكم التختم في السبابة والوسطى] ويكره التختم في السبابة والوسطى نص عليه أحمد، قال في رواية ابن القاسم وقد سأله عن الخاتم أنكره أن يجعله الرجل في أي أصبع ¬

_ (¬1) أخرجه ابن عدي (3/ 261) عن سليمان بن محمد القافلاني به. (¬2) أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف" (5/ 196) عن ابن سيرين به. (¬3) برقم (527) بترتيب القاضي أبي طالب.

فصل [في جعل فص الخاتم مما يلي الكف]

شاء؟ قال: نعم، أليس قد رُوي أنَّه كره أن يصير في السبَّاحة (¬1) وفي الوسطى فيما أحسب. وروي عن علي رضي الله عنه قال: "نهاني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أتختم في هذه أو هذه، وأومأ إِلَى السبابة والوسطى". رواه مسلم (¬2). وقد ذكر مهنا هذا الحديث لأحمد من طريق شعبة، عن عاصم بن كليب، عن أبي بردة، عن جابر، فَقَالَ أحمد: شعبة يحدثه عن عاصم ابن كليب عن أبي بردة، عن علي. وهذا النص في "كتاب اللباس" للقاضي. وذكر بعض الأصحاب أن هذا خاص بالرجال. وبكل حال، فالأفضل جعله في الخنصر وظاهر كلام الأصحاب جواز لبسه في الإبهام أو البنصر، هذا مع الانفراد، فأما إِنَّ لبس خاتمًا في خنصره وآخر في بنصره أو خاتمين في الخنصرين، فقد ذكر بعض الأصحاب عن القاضي: أن من اتخذ لنفسه عدة خواتيم لم يسقط عنه الزكاة فيما خرج {عن من يعتاد لبسه} (¬3)، إلا أن يتخذه لولده أو عبده. وهذا قد يدل عَلَى منع لبس أكثر من خاتم واحد؛ لأنّه مخالف للعادة ومخالف للسنة، فإيجاب الزكاة فيه إِنَّمَا كان لاتخاذه ما لا يستبيح لبسه فهو كاتخاذه حلي النساء ليلبسه أو خاتم الذهب، وقد يقال: لم يقل ما زاد على الواحد بل على العادة، وهذا قد يختلف باختلاف العوائد. فصل [في جعل فص الخاتم مما يلي الكف] وذكر بعض الأصحاب أن المستحب أن يجعل فصه مما يلي بطن كفه. وروي عن النخعي أنَّه كان يلبسه كذلك، وقد ثبت ذلك في الصحيحين (¬4) من حديث أنس "أن النبي صلى الله عليه وسلم انخذ خاتمًا من فضة فيه فص حبشي، فكان يجعل فصه مما يلي كفه". ونحوه في حديث ابن عمر (¬5). ¬

_ (¬1) وهي السبابة. (¬2) برقم (2078). (¬3) كتب في هامش الأصل: "لعله عما يعتاد لبسه". (¬4) أخرجه البخاري (5868)، ومسلم (2094). (¬5) أخرجه البخاري (5865، 5866).

ولأحمد نصوص نذكرها إِن شاء الله تعالى، فيما بعد فيمن دخل الخلاء بخاتم عليه ذكر الله، أنَّه يحوله إِلَى بطن كفه، وهذا ليس بالصريح في استحباب جعل الفص إِلَى ظاهر الكف لاحتمال أن يكون جوابه خرج علي ما هو الواقع المعتاد من الناس لا (¬1) عَلَى المشروع في نفس الأمر، وأيضًا فلفظ أحمد يجعله في بطن كفه، وهذا يحتمل أن يريد به يقبض أصابعه في بطن كفه -أي الأخرى- فتستتر بذلك الكتابة إذا كانت إِلَى باطن الكف، ولم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه جعله إِلَى ظاهر كفه إلا في حديث باطل لا يثبت "أنَّه كان إذا دخل الخلاء جعل الكتابة مما يلي كفه". وسيأتي ذكره. وقد أخذ بعضهم ذلك من حديث أنس الَّذِي في الصحيحين (¬2) "أنَّه سُئل: هل اتخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خاتمًا؟ فقال: نعم، أخر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - العشاء ليلة إِلَى شطر الليل ... " فذكر الحديث، وقال: "فكأني أنظر إلى وبيص الخاتم في يده". قال: لأنّ وبيص الخاتم في ظلام الليل في كف الرجل إِنَّمَا يكون من فصه لإتساعه وبروزه، بخلاف حلقته، فإنَّه لا يظهر وبيصها في الظلام في يد اللابس غالبًا، لاسيما مع البعد، وهذا ليس بلازم، وقد يكون رأى بصيص فص الخاتم وهو في كفه عند بسطها للدعاء أو غيره، ويؤيد ما في رواية يزيد بن زريع عن سعيد، عن قتادة، عن أنس "فكأني بوبيص أو بصيص الخاتم في أصبع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو كفه" (¬3). ولا ينافي هذا رواية ثابت عنه "فكأني أنظر إِلَى وبيص خاتمه ورفع يده اليسرى". وفي رواية: "ورفع أصبعه اليسرى بالخنصر" وفي رواية "وأشار إِلَى الخنصر من يده اليسرى". لاحتمال إشارته إلي الخنصر من جهة باطن الكف. ¬

_ (¬1) في النسخ كلها: إلا. والصواب ما أثبته. (¬2) أخرجه البخاري (5869)، من طريق حميد عن أنس بلفظه، وأخرجه مسلم (2092/ 56، 57) من طريق قتادة عن أنس بنحوه. (¬3) تقدم.

فصل [في وزن خاتم الفضة المتخذ للتحلي]

قال "أبو زرعة الدمشقي: حدثني محمد بن العلاء، حدثنا يونس بن بكير، عن طلحة بن يحيى بن طلحة، قال: رأيت عَلَى عبد الله بن جعفر خاتمًا في يمينه في الخنصر فصه عَلَى ظهرها. ورُوي أيضاً عن ابن عباس أنَّه جعل فصه عَلَى ظاهر أصبعه" ورفع ذلك. خرجه أبو داود (¬1). فصل [في وزن خاتم الفضة المتخذ للتحلي] وذكر بعض الأصحاب أن خاتم الفضة لا يزاد عَلَى مثقال، لحديث بريدة الَّذِي أسلفناه، ولأنه متى زاد عَلَى ذلك خرج عن التّحلي المعتاد إِلَى السرف والزيادة. وقد ورد في بعض الروايات عن عبد العزيز بن أبي رواد، عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما: "أن النبي صلى الله عليه وسلم اتخذ خاتمًا من نصف درهم". وقياس قول من منع من أصحابنا تحلي النساء بما زاد عَلَى ألف مثقال أن يمنع الرجل من لبس الخاتم إذا زاد عَلَى مثقال، وأولى لورود النص هاهنا، وثم ليس فيه حديث مرفوع، بل من كلام بعض الصحابة. فصل [في حكم دخول الخلاء بالخاتم المكتوب عليه ذكر الله] ويتعلق بالخاتم مسائل كثيرة يذكرها الفقهاء متفرقة في أبواب الفقه، ونحن نذكر هاهنا إِن شاء الله تعالى منها ما تيسر عَلَى ترتيب أبواب الفقه، فمن ذلك: أن الخاتم إذا كان عليه ذكر الله فهل يكره استصحابه في الخلاء لغير عذر أم لا؟ ذكر طائفة من الأصحاب فيه روايتين عن أحمد. إحداهما: يكره، وهي المشهورة عند الأصحاب المتأخرين، ونص ¬

_ (¬1) برقم (4229).

عليها أحمد في رواية إسحاق بن هانئ في الدرهم إذا كان فيه اسم الله أو مكتوبًا عليه "قل هو الله أحد" فيكره أن يدخل اسم الله -عز وجل- الخلاء. وهذا يقتضي كراهة كل ما فيه اسم الله من خاتم وغيره، وهو قول طائفة من السَّلف كمجاهد، والقاسم بن محمد، ومحمد بن عبد الرحمن بن يزيد، والشعبي، وأبي حنيفة. وروينا عن همام، عن ابن جريج، عن الزهري، عن أنس قال "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل الخلاء وضع خاتمه" أخرجه أبو داود (¬1) وابن ماجه (¬2) والنسائي (¬3) والترمذي (¬4) وقال: حديث حسن صحيح، والحاكم (¬5) وقال: صحيح عَلَى شرط الشيخين. وله علة قد ذكرها حذاق الحفاظ كأبي داود والنسائي والدارقطني، وهي أن همامًا تفرد به عن ابن جريج هكذا، ولم يتابعه غير يحيى بن المتوكل، ويحيى بن الضريس، ورواه بقية الثقات: عبد الله بن الحارث المخزومي، وحجاج، وأبو عاصم، وهشام بن سليمان، وموسى بن طارق، عن ابن جريج عن زياد بن سعد، عن الزهري، عن أنس "أنَّه رأى في يد النبي صلى الله عليه وسلم خاتمًا من ذهب" .. الحديث. وهذا هو المحفوظ عن ابن جريج دون الأول، وقد جاء في رواية هدبة عن همام عن ابن جريج، ولا أعلمه إلا عن الزهري، عن أنس، وهذه تشعر بعدم تيقن، فإن كانت من همام، فقد قوي الظن بوهمه، وإن كانت من هدبة فلا تؤثر؛ لأنّ غيره ضبطه عن همام، كما أن بعض الرواة وقفه عن همام عَلَى أنس، ولم يضر ذلك لاتفاق سائر ¬

_ (¬1) برقم (19) وقال: هذا حديث منكر، وإنما يعرف عن ابن جريج عن زياد بن سعد عن الزهري عن أنس "أن النبي صلى الله عليه وسلم اتخذ خاتمًا من ورق ثم ألقاه" والوهم فيه من همام، ولم يروه إلا همام. (¬2) برقم (303). (¬3) برقم (5228)، ونقل الحافظ المزي في تحفة الأشراف (1/ 385) قول النسائي: هذا الحديث غير محفوظ. (¬4) برقم (1746) وقال: هذا حديث حسن غريب، وفي الشمائل برقم (88). (¬5) في "المستدرك" (1/ 283).

الرواة عنه عَلَى الرفع. وروى ابن عدي أن همامًا إِنَّمَا وَهِمَ في إدراج قوله: "كان إذا دخل الخلاء وضعه" فإن هذا من قول الزهري، وأما أول الحديث وهو أن النبي - صلى الله عليه وسلم - اتخذ خاتمًا ولبسه فهو مرفوع، وقد جاء هذا مبيَّنًا في رواية عمر ابن شبة، ثنا حبان بن هلال، ثنا همام، عن ابن جريج، عن الزهري "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حيث لبس خاتمه كان إذا دخل الخلاء وضعه". ووجه الحجة أنَّه إِنَّمَا نزعه لأنّ نقشه كان محمد رسول الله كما تقدم، وقد جاء ذلك مفسرًا في رواية البيهقي (¬1) من حديث يحيى بن المتوكل عن، ابن جريج عن الزهري، عن أنس "أن النبي صلى الله عليه وسلم لبس خاتمًا نقشه محمد رسول الله، وكان إذا دخل الخلاء وضعه". وروى الحافظ أبو بكر الجوزقاني من حديث المنهال بن عمرو، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا دخل الخلاء نزع خاتمه" (¬2). وقد أورد ابن أبي شيبة في "كتابه" (¬3) من طريق عكرمة قال: كان ابن عباس إذا دخل الخلاء ناولني خاتمه. وعن ابن عباس أنَّه قال: "كان سليمان بن داود -عليهما السلام- إذا دخل الخلاء نزع خاتمه فأعطاه امرأته" (¬4). والرواية الثانية": لا يكره، وهي اختيار أبي علي بن أبي موسى والسامري وصاحب المغني، وبَوَّب الخلال في جامعه "باب الخاتم فيه ذكر الله عز وجل أو الدرهم يدخل الخلاء وهو معه"، ولم يذكر في الخاتم سوى هذه النصوص لأحمد، وذكر في الدرهم ما رواه عنه صالح في الرجل يدخل الخلاء ومعه الدرهم. قال: أرجو أن لا يكون به بأس. ¬

_ (¬1) في السنن الكبير (1/ 95) وقال البيهقي: وهذا شاهد ضعيف. (¬2) أخرجه الجوزجاني في "الأباطيل والمناكير والصحاح والمشاهير" برقم (344)، والبيهقي (95). (¬3) المصنف (1/ 112). (¬4) أخرجه ابن أبي شيبة (11/ 112).

فصل [هل يمس الخاتم الذي عليه ذكر الله مع الحدث]

وهذا قول كثير من السَّلف: كالحسن، وابن سيرين، وابن المسيب، وعطاء وعكرمة والنخعي وهو مذهب مالك، وإسحاق وابن المنذر، ولأن الأصل عدم الكراهة، وصيانته تحصل بإطباق يده عليه، وهو في باطن الكف، فلا يبقى مع ذلك محذور، ومتى كان في يساره أداره إِلَى يمينه لأجل الاستنجاء. وقد رُوي حديث عن علي بن أبي طالب "أن النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل الخلاء حوله في يمينه، فَإِذَا توضأ حوله في يساره". أورده الجوزقاني من جهة عمرو ابن خالد، وقال: هو حديث منكر، وعمرو كذاب. وروى ابن عدي من حديث محمد بن عبيد الله العرزمي، عن نافع، عن ابن عمر قال: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتختم في خنصره الأيمن، فَإِذَا دخل الخلاء جعل الكتابة مما يلي كفه". والعرزمى متروك. فصل [هل يمس الخاتم الَّذِي عليه ذكر الله مع الحدث] ومن أحكام الخاتم إذا كتب عليه شيء من القرآن فهل له مسه مع الحدث؟ ذكر أبو البركات صاحب "المحرر في شرح الهداية" أنَّه لا يجوز، ولم يخرجه عَلَى الروايتين في الدرهم المكتوب عليه القرآن، وأشار إِلَى الفرق بأن البلوى تعم بمس الدرهم لكثرة الحاجة إِلَيْهِ بخلاف الخاتم فصار كالورقة، وفي "الكافي" لو مس ثوبًا مطرزًا بآية من القرآن جاز؛ لأنّه لا يسمى مصحفًا، والقصد منه غير القرآن، وحكى في الدرهم وجهين: أحدهما: كذلك لهذا المعنى. والثاني: لا يجوز لأنّ معظم ما فيه القرآن، وهذه العلة مطردة في الخاتم فيتعين إلحاقه به. وما ذكره صاحب "المحرر" من الفرق بعموم البلوى بمس الدرهم تقابله عموم البلوى بحمل المحدث الخاتم، والمس والحمل بمعنى واحد.

فصل [فيما يفعل المتوضئ أو المغتسل الذي في يده خاتم]

فصل [فيما يفعل المتوضئ أو المغتسل الَّذِي في يده خاتم] ومن أحكام الخاتم أن المتوضئ أو المغتسل إذا كان في يده خاتم فله حالتان. إحداهما: أن يكون ضيقًا بحيث يشك في وصول الماء إِلَى ما تحته أو يغلب عَلَى الظن ذلك، فها هنا يجب تحريكه أو نزعه ليصل الماء إِلَى ما تحته. قال حنبل: سألت أبا عبد الله عن حنب اغتسل وعليه خاتم ضيق، قال: يغسل موضع الخاتم. قلت: فإن جف غسله؟ قال: يغسله. قلت: فإن صلى ثم ذكر؟ قال: يغسل موضعه ثم يعيد الصلاة. وهذا قول أصحاب الشافعي وغيرهم، وحكي عن بعض الحنفية أنَّه لا يجب ذلك بل يستحب. الحالة الثانية: أن يكون واسعًا بحيث يصل الماء إِلَى ما تحته بدون تحريكه، فها هنا يستحب تحريكه ولا يجب في قول أصحابنا. قال أبو داود: قيل لأحمد: من توضأ يحرك خاتمه؟ قال: إِن كان ضيقًا لابد أن يحركه، وإن كان واسعًا يدْخلُهُ الماءُ أجزأه. ومراده أجزأه عدم تحريكه. وهذا يشعر بأن التحريك أولى، وهو قول جمهور أهل العِلْم من السَّلف: كالحسن، وابن سيرسن، وميمون بن مهران، وعمر بن عبد العزيز، وعمرو بن دينار، وعروة بن الزبير، وحماد ومالك، وأبي حنيفة، والشافعي، وغيرهم. وكان سالم بن عبد الله يتوضأ ولا يحركه، وعن محمد بن الحسن قال: ليس بشيء. وقول الجمهور أصح لأنّ هذا من جنس تخليل الأصابع، وقد وردت فيه أحاديث متعددة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد رُوي في تحريك الخاتم حديث أيضاً

رواه معمر بن محمد بن عبد الله بن أبي رافع عن أبيه {عن عبد الله بن أبي رافع} (*)، عن أبي رافع قال: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا توضأ حرك خاتمه" أخرجه ابن ماجه (¬1) والدارقطني (¬2) والبيهقي (¬3) ولكن معمر هذا قال البخاري: هو منكر الحديث. وقال ابن عدي: مقدار ما يرويه لا يتابع عليه. وأبوه محمد قال ابن معين عنه: ليس بشيء. وقال البخاري: منكر الحديث. وقد رواه الطبراني في "المعجم الكبير" (¬4) من حديث إبراهيم بن عبيد الله ابن أبي رافع، عن أبيه، عن جده "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا توضأ وضوءه للصلاة، حرك خاتمه في أصابعه". ولا يخلو إسناده أيضاً من نظر، ويدل عَلَى عدم ثبوته أن الخلال ذكر عن هارون بن سفيان المستملي أن أبا عبد الله أحمد بن حنبل أنكر تحريك الخاتم إلا ثلاثة أحاديث: حديث علي عن داود العطار، وحديث ابن مهدي عن ابن سيرين والحسن، وحديث جعفر بن برقان عن حبيب بن أبي مرزوق. لم يكن عنده غير هذه الثلاثة أحاديث. قلت: ويعني بالأحاديث الآثار، فإن لفظ الحديث في كلامهم يدخل فيه المرفوع والموقوف، ثم ذكر أن أبا عبد الله روى فيه أيضاً آثارًا عن عروة وعمرو بن دينار قال: وحديث سفيان بن عيينة الَّذِي رواه عن فضيل بن غزوان، عن نافع، عن ابن عمر في تحريك الخاتم خطأ، إِنَّمَا أخطأ فيه ابن عيينة، ليس هو في تحريك الخاتم، إِنَّمَا هو في شيء آخر، فهذا الكلام من أحمد يقتضي أنَّه لم يثبت فيه حديثًا مرفوعًا البتة. وإنما فيه آثار معروفة كما روى مجمع بن غياث بن سمينة، عن أبيه قال: "وضأت عليًّا، فكان إذا ¬

_ (*) سقطت من النسخ الثلاث، والصواب إثباتها كما في مصادر التخريج. (¬1) برقم (449) وفي الزوائد: إسناده ضعيف، لضعف معمر وأبيه محمد بن عبد الله. (¬2) في "سنته" (1/ 83) وقال: معمر وأبوه ضعيفان، ولا يصح هذا. (¬3) (1/ 57) ونقل قول البخاري: معمر بن محمد بن عبيد الله بن أبي رافع منكر الحديث. قال البيهقي: فالاعتماد في هذا الباب عَلَى الأثر عن علي وغيره. (¬4) (1/ 956).

فصل [فيما إذا أصاب الحاتم نجاسة]

توضأ حرك خاتمه" (رواه) (*) ابن أبي شيبة (¬1) والبيهقي (¬2). وروى ابن أبي شيبة (¬3) من طريق ابن لهيعة عن ابن هبيرة، عن أبي تميم الجيشاني "أن عبد الله بن عمرو كان إذا توضأ حرك خاتمه". وذكر أبو محمد بن قتيبة في كتاب "غريب الحديث" له من رواية ابن لهيعة عن عمرو بن الحارث، عن عقبة بن مسلم، عن أبي عبد الرحمن الحبُلي، عن الصنابحي، عن أبي بكر رضي الله عنه أنَّه رأى رجلاً يتوضأ فَقَالَ: "عليك بالمغفلة والمنشلة". قال ابن قتيبة: قالوا المغفلة: العنفقة، سميت بذلك لأنّ كثيرًا من الناس يغفل عنها وعما تحتها والمنشلة: موضع الخاتم من الخنصر، ولا أحسبه سمى موضع الخاتم منشلة إلا أنَّه إذا أراد غسلاً نشل الخاتم من ذلك الموضع، أي اقتلعه منه ثم غسله ورد الخاتم. وكان ابن سيرين يغسل موضع الخاتم. ذكره البخاري في مواضع من صحيحه. فصل [فيما إذا أصاب الحاتم نجاسة] ولو استنجى أو غسل بيده نجاسة وفيها خاتم فَقَالَ بعض الأصحاب: نجس، ونجسٌ ما تحته، وينزعه لغسل ما تحته، وهذا إِنَّمَا يجب في الضيق الَّذِي لا يصل الماء إِلَى ما تحته، فأما إذا وصل بغير نزع كفى غسل ما تحته، وكذلك يكفي تطهيره وهو في موضعه، فإنَّه متى علم وصول الماء إِلَيْهِ الوصول المعتبر كفى، ثم إِنَّ الضيق الَّذِي لا يمكن وصول الماء إِلَى ما تحته كيف يحكم بنجاسة ما تحته؟ فصل [في حكم الصلاة بالخاتم المحرَّم] ومن ذلك الصلاة في الخاتم المحرم كالذهب، فالمذهب المعروف صحتها، ¬

_ (*) في الأصل: رواهما. والصواب ما أثبته. (¬1) في "المصنف" (1/ 44). برقم (421). (¬2) في "السنن الكبير" (1/ 57). (¬3) في "المصنف" (1/ 44) بر قم (423).

فصل [في عد الآي والركعات في الصلاة بالخاتم]

وهو قول أكثر الفقهاء؛ لأنّ التحريم فيها لا يعود إِلَى شرط فيها ولا ركن ولا واجب. وحكي عن أبي بكر عبد العزيز ما يقتضي بطلانها، وهو قول طائفة من أهل الظاهر كابن حزم وغيره، نظرًا إِلَى فعل الصلاة عَلَى وجه منهي عنه في الجملة. فصل [في عد الآي والركعات في الصلاة بالخاتم] ومن ذلك عد الآي والركعات في الصلاة بالخاتم، روى الفضل بن شاذان الرازي المقري في كتاب "عد الآي والركعات في الصلاة" من طريق عبد الرحمن ابن القاسم، عن أبيه، عن عائشة "أنها كانت إذا صلت المكتوبة عدت صلاتها بخاتمها، تحوله في يديها حتى تفرغ من صلاته وتحفظ به". وعن أبي معشر عن إبراهيم قال: لا بأس أن يحفظ الرجل صلاته بخاتمه. فصل [فيما إذا مات الرجل وفي يده خاتم هل ينزع] ومن ذلك أن الميت إذا كان في يده خاتم نزع عنه، ولم يترك معه، فإن لم يخرج بُرِد وأُزيل عنه. ذكره الأصحاب؛ لأنّ في تركه إضاعة للمال بغير غرض صحيح. وقد تقدم في ذكر خاتم الذهب أن أبا أسيد صاحب النبي صلى الله عليه وسلم نزعوا عنه خاتمه بعد موته. وقد روى ابن أبي الدُّنْيَا في "كتاب القبور" بإسناده عن عنبسة بن سعيد - وكان عالمًا- قال: وجد أبو موسى مع دانيال مصحفًا وجرة فيها ودك ودراهم وخاتمه، فكتب أبو موسى بذلك إِلَى عمر، فكتب إليه: أما المصحف فابعث به إلينا، وأما الودك فابعث إلينا منه، ومُرْ من قبلك من المسلمين يستبقون به، وأقسم الدراهم بينهم، فأما الخاتم فقد نفلناكه.

ثم روى من حديث ابن وهب، عن عبد الرحمن بن أبي الزناد عن أبيه قال: رأيت في يد أبي بردة -يعني: ابن (أبي) (¬1) موسى الأشعري خاتمًا نقش فصه أسَدان، بينهما رَجُلٌ يلحسان ذلك الرجل، فَقَالَ أبو بردة: هذا الخاتم خاتم ذلك الرجل الميت الَّذِي زعم أهل ذلك البلد أنَّه دانيال، أخذه أبو موسى يوم دفنه، فسأل أبو موسى: علماء تلك القرية عن نقش ذلك الخاتم فَقَالَ: إِنَّ الملك الَّذِي كان دانيال في سلطانه جاءه المنجمون وأصحاب العِلْم فقالوا: إنه يولد ليلة كذا وكذا غلام يعوق ملكك ويفسده. فَقَالَ الملك: والله لا يبقى غلام يولد تلك الليلة إلا قتل، إلا أنهم أخذوا دانيال فألقوه في أجمة الأسد، فبات الأسد ولبوته يلحسانه، فجاءت أمه فوجدتهما يلحسانه، فنجاه الله تعالى بذلك حتى بلغ ما بلغ. قال أبو بردة: قال أبو موسى: قال علماء تلك القرية فنقش دانيال صورته، وصورة الأسدين يلحسانه في خاتمه، لئلا ينسى نعمة الله عز وجل في ذلك. قلت: كان التصوير لحاجة مباحًا في غير هذه الملة كما أخبر الله عن سليمان أن الجن يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل، وقد رُوي في حديث أسلفناه "أن النبي صلى الله عليه وسلم قُبض والخاتم في يمينه". فلو ثبت لدل عَلَى هذا الحكم، فإن خاتمه لم يدفن معه، بل بقي عند أبي بكر مدة خلافته، ثم عند عمر وعثمان إِلَى أن سقط في بئر أويس، وقد كان بعض الناس يوصي بترك خاتمه معه إذا دفن، كما روى ابن أبي الدُّنْيَا في كتاب "المحتضرين" عن أبي إسحاق الرياحي عن مرجا بن وداع قال: كان شاب به رهق فاحتضر فقالت له أمه: يا بني أوص بشيء، قال: نعم. خاتمي لا تسلبينه فإن فيه ذكر الله لعل الله -عز وجل- أن يرحمني، فمات فرؤي في النوم، فَقَالَ: أخبروا أمي أن الكلمة قد نفعتني، وأن الله قد غفر لي. ¬

_ (¬1) سقطت من الناسخ.

ولكن لم يثبت ذلك عمن نعتد بقوله، وليس في هذا عرض صحيح، فإن دفن ما فيه ذكر الله مع الميت، وإن كان قد نقل عن كثير بن العباس أنَّه أوصى أن يكتب معه عَلَى أكفانه، وينبغي أن تتأكد كراهة ترك خاتم الحديد مع الميت، لما ورد من أنَّه حلية أهل النار، ومتى دفن معه فهو كما لو وقع ماله قيمة يجوز نبشه لأخذه. وأما الشهيد فإن الأصحاب ذكروا أنَّه ينزع عنه صلاحه وآلات القتال خاصة ويدفن في بقية ثيابه؛ لأنّ النبي صلى الله عليه وسلم إِنَّمَا أمر أن ينحى عنهم الجلود والحديد وهما آلات القتال، فهل يقال: يلحق الخاتم بالثياب الملبوسة؛ لأنّه لباس أيضاً؟ وإن كان زينة فهو كثياب الجمال الَّذِي عليه؟ ويقال: يلحق بالنفقة التي معه، فتؤخذ منه؟ هذا فيه تردد، والأشبه تخريجه عَلَى وجهين من مسألة إلحاق الحلي في سلب الكافر المقتول بثيابه، فيكون لقاتله عَلَى المذهب المشهور، وعلى وجه يلحق بالنفقة الموجردة معه، فيكون غنيمة. والأقرب ترك الخاتم ونزع غيره من الحلي عنه؛ لأنّه قد يكون كثيرًا كما إذا قتلت المرأة في المعركة وعليها حلي كثير، فترك مثل هذا معها إضاعة للمال بغير فائدة. وقد نص أحمد في رواية صالح عَلَى نزع المنطقة عن الشهيد. وقد أورد ابن أبي الدُّنْيَا في كتاب "القبور" من طريق ابن إسحاق، عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم أنَّه حدَّث أن رجلاً من أهل نجران في زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه حفر خربة من خرب نجران لبعض حاجته، فوجد عبد الله بن الثامر تحت دفن منها قاعدًا واضعًا يديه عَلَى ضربة في رأسه، ممسك عليها يده، فإذا أخرت يده عنها ثغبت دمًا، فإن أرسلت يده ردها عليه فأمسك دمها، وفي يده خاتم مكتوب فيه "ربي الله"، فكتب فيه إِلَى عمر يخبره بأمره، فكتب إِلَيْهِ عمر أن أقروه عليَّ حاله، وردوا عليه الدفن الَّذِي كان عليه. ففعلوا.

فصل [في حكم زكاة الحلي]

قلت: عبد الله بن الثامر يقول بعض الناس: إنه الغلام الَّذِي كان يتردد إِلَى الراهب والساحر، ولم يقدر الملك عَلَى قتله حتى قتله بسهم من كنانته بإشارته إِلَيْهِ بذلك وقال: بسم الله رب الغلام، فآمن الناس حينئذٍ برب الغلام، فخد لهم أخاديد وحديثه في "صحيح مسلم" (¬1). ومن الناس من يقول: هو غيره وقصته شبيهة بقصته، عَلَى ما ذكره أهل السير، لكنها مخالفة لسياق الحديث. وفي "مصنف عبد الرزاق" عن ابن جريج، عن محمد بن عبد الرحمن ابن أبي ليلى قال: لا يدفن الشهيد في حذاء خفين ولا نعلين ولا سلاح ولا خاتم. قال: يدفنه في المنطقة والتبان. انتهى. وروى عبد الرزاق أيضاً عن الثوري أو غيره عن أبي إسحاق عن الحارث عن علي قال: ينزع عن القتيل خفاه وسراويله. فصل [في حكم زكاة الحلي] ومن ذلك وجوب الزكاة فيما يلبسه الرجل من خاتم الفضة، وذلك مبني عَلَى وجوب الزكاة في الحلي المباح للنساء، والمذهب الصحيح أنَّه لا زكاة فيه. قال أحمد: هو عن خمسة من الصحابة أن زكاته عاريته، وهو قول مالك والشافعي وإسحاق وأبي عبيد، وغيرهم فإنَّه خرج باللبس والاستعمال عن مشابهة النقود المعدة للإنفاق إِلَى شبه ثياب الزينة ونحوها. وعن أحمد رواية أخرى بوجوب زكاته أيضاً، كقول الثوري والأوزاعي وأبي حنيفة وغيرهم. وفي المسألة أحاديث من الطرفين لا يثبت منها شيء مرفوع إِلَى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وليس هنا موضع بسطها. وقد ذكر أبو علي بن البناء في كتاب "الجعال والأقسام" له أن حلي النساء المباح لا زكاة فيه، ولم يحك فيه خلافًا، وحكى في حلي الرجال المباح وجهين، وهذا يقتضي أنَّا عَلَى قولنا بسقوط الزكاة في حلي النساء، يخرج في ¬

_ (¬1) برقم (3005).

حلي الرجال وجهان، وهذا غريب مخالف لما ذكره الأكثرون وأكثر ما يمكن أن يفرق به بين حلي الرجال والنساء، أن تحلي المرأة غير مكروه، بل هي مرغبة فيه لأجل بعلها، بخلاف الرجل، فإن تحليه بالفضة غير مستحب، وإنَّما هو مباح أو مكروه كما سبق. والصحيح التسوية بينهما، لأن هذا الفرق يقابله أن تحلي الرجال إِنَّمَا يباح باليسير من الفضة أولى، وهذا كله في المباح، أما المحظور كخاتم الذهب الَّذِي يلبسه الرجل ففيه الزكاة بلا نزاع، وأما كيفية الزكاة في الحلي، فالنصاب يعتبر بالوزن ولا يكمل بالقيمة فلو كان وزنه دون نصاب وقيمته نصاب لجودة صناعته، فلا زكاة فيه سواء كانت صناعته محرمة أو مباحة، كما لو كانت النقود لا تبلغ نصابًا وزنًا، وتبلغ قيمته نصابًا لجودتها أو ضربها. هذا هو المشهور من المذهب، وقول الأئمة الثلاثة والثوري، وقد حكاه بعض الأصحاب إجماعًا. وفي المذهب وجهان آخران. أحدهما: أنَّه يكمل النصاب بالقيمة إِن كانت الصياغة مباحة، لأنها مالية متقومة شرعًا، ولهذا يعتبر بقيمتها في الإخراج، كما سنذكره. فكذا في النصاب بخلاف النقود، وهذا قول ابن عقيل، وقد أشار إِلَيْهِ أحمد رحمه الله تعالى في حلي التجارة أنَّه يُقَوَّمُ. والثاني: اعتبار قيمته في تكميل النصاب سواء كانت صياغته مباحة أو محرمة، وهذا اختيار ابن عقيل أيضاً في موضع من فصوله في دُمْلَج ذهب يلبسه رجل أنَّه يقوم، وهذا متجه فيما كان جنسه يباح لبسه في الجملة كالدملج، فإنَّه يصلح للنساء، وإنَّما المحرم استعمال الرجل له، فلا يُسقط استعماله تقويمه، بخلاف ما كان جنسه محرمًا تحريما مطلقًا كالخف، فإنه لا يباح للرجال ولا للنساء، ولأن العادة لم تجر بالتحلي به، ولا حاجة إِلَيْهِ، بل هو سَرَفٌ محضٌ.

وأما في إخراج زكاته إذا بلغ وزنه نصابًا وكانت قيمته أزيد من وزنه، فإنَّه قلنا نعتبر القيمة في تكميل النصاب ففي الإخراج كذلك، وإن قلنا لا يعتبر في التكميل فهل يعتبر في الإخراج؟ هاهنا عَلَى وجهين. أحدهما: لا يعتبر أيضاً. قالوا: وهو ظاهر كلام أحمد في رواية غير واحد، وصححه أبو عبد الله السامري، وهو قول مالك، ونحوه قول أبي حنيفة وأبي يوسف. والثاني: يعتبر. وهو اختيار القاضي وأصحابه: وأخذوه من إيماء أحمد أيضاً، وهو قول الشافعي، ومحمد بن الحسن وغيرهما. ثم اختلفوا في معنى اعتبار القيمة في الإخراج، فقالت طائفة منهم: تجعل زيادة القيمة مضمومة إِلَى الوزن كالمال المضموم إِلَى مال آخر ويزكى الجميع، فإذا كان وزن المُصاغ مائتي درهم وقيمته ثلاثمائة، أخرج عنه زكاة ثلاثمائة: سبعة ونصفًا. وهذا عَلَى قول ابن عقيل ظاهر، فإنَّه جعل زيادة القيمة تضم إِلَى الوزن في تكميل النصاب يها. وأما الأكثرون فيَقُولُونَ: إِنَّمَا تضم القيمة إِلَى الوزن تبعًا لكمال الوزن نصابًا. وهؤلاء يجيزون إخراج زكاة هذه الزيادة قيمة، ويجيزون الإخراج من جنس ذلك الحلي مصاغًا بحيث تجتمع زكاته من قيمة ووزن كامل نصابه، ويجيزون أيضاً إخراج أجود منه صفةً ومثله وزنًا مقابلة للصنعة بالجودة. هذا قول القاضي، وأبي الفتح الحلواني، وأبي الخطاب، وابن عقيل. وقالت طائفة: بل يجب إخراج ربع عشر الحُلي عَلَى صفته خاصة وليست زيادة القيمة مالاً مضمومًا إِلَى النصاب، بل الصياغة صفة في المال، فيجب إخراج الزكاة عَلَى صفة المال، فيخرج ربع عشره زنة وقيمة، فإن أخرج مثله وزنًا من غيره وكان أجود منه بحيث تقابل جودته زيادة الصنعة جاز.

فصل [في حكم رمي الجمرة بفص الخاتم]

وأما إِن أخرج من جنسه نقدًا، وجَبَر زيادة الصنعة بزيادة في المخرج، خرج علي الخلاف في إخراج البهرجة عن الصَّحاح ومعها مقدار الفضل بينهما. وينبغي أيضاً أن يقال: إخراجُ شيء من جنسه أجود منه عَلَى غير صفة صياغته، يخرج عَلَى الوجهين في إخراج الهزيلة عن السمينة إذا كانت بقيمتها؛ لأنّ الجنس والقيمة واحدة، والاختلاف في الصفة. إلا أن يقال: في الهزيلة عيب بخلاف هذا فإن فيه جودة، فلهذا جعلوا الجواز هاهنا إجماعًا وهذه طريقة صاحب الكافي والمحرر وغيرهما. هذا كله في المباح. فأما المحظور اتخاذه فأكثر الأصحاب عَلَى أن الاعتبار بوزنه دون قيمته، لأنّ صنعته مُلغاة شرعًا. وذكر أبو الخطاب فيه الوجهين. وصرَّح في "رؤس المسائل" له بأن فيه الروايتين، ونَصَر اعتبار القيمة. فصل [في حكم رمي الجمرة بفص الخاتم] ومن ذلك: لو كان في يده خاتم فَصُّهُ من حجرٍ كالمَرمَر، والرُّخام، ونحوهما فرمي به الجمرة، هل يجزئه أم لا؟ فيه وجهان حكاهما في المغني: - أحدهما: لا يجزئه. وهو الَّذِي رجحه، وعلله بأن الفصَّ تبع للخاتم، والرمي إِنَّمَا يكون بالمتبوع، والمبتوع لا يجزئ الرميُ به. - والثاني: يجزئه، لأنّه قد رمى بحجر. وهذا الوجه هو ظاهر كلام أحمد، والقاضي. أما أحمد فإنَّه قال في رواية "المروذي" فيمن رمى بفص وكان حجرًا:

فصل [في حكم بيع الخواتم]

لا يرمي إلا بمثل ما رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم "بمثل حصى الحذف" (¬1). قِيلَ لَهُ: فإن رمى من غير تلك الحجارة. فَقَالَ: يرمي بمثل ما أمر الحاج. فلم يعلل المنع إلا بأنّ الفص ليس مثل حصى الخَذَف الَّذِي أمر بالرمي به، وهذا يقتضي أنَّه لو كان كبيرًا كحصى الخذف لأجزأ. ونصُّه هذا يدل عَلَى أنَّه لا يجزئ ما دون حصى الخذف، وكذلك رُوي عنه في الحَجَر الكبير ما يقتضي أنَّه لا يجزئ أيضاً. وللأصحاب وجهٌ آخر بإجزاء الصغير والكبير. وأما القاضي فإنَّه ذكر في "خلافه" قصة سُكينة بنت الحسين رضي الله عنهما وأنها رمَت بستة أحجارٍ فأعوَزَها سابعٌ فرمت بخاتمها. وأجاب عنها بجوابين. أحدهما: أن الفرض يسقط بالست، فالسابع غير واجب بناءً عَلَى قولنا أن الست مجزئة. والثاني: أنَّه قد قيل يحتمل أن يكون فَصُّهُ حجرًا فاعتدت بذلك، والخواتيم لا تخلو من فَصٍّ. هذا لفظه في الثاني. فصل [في حكم بيع الخواتم] ومن ذلك: بيع الخواتيم. ولها صورتان: إحداهما: أن يكون الخاتم من فضة، وفصه غير فضة. أو يكون الخاتم غير فضة، وهو مُحلى بفضة، ويباع بالدراهم. فهذا من فروع المسألة الملقبة بـ "مد عجوة". وفيها طريقان للأصحاب: أحدهما: وهو المشهور عن المتأخرين كالقاضي وأصحابه أن فيها روايتين أصحهما: البُطلان بكل حال، كقول الشافعي. ولمالك تفصيلٌ بين الثُّلث وغيره، ولأحمد نصوصٌ في المنع لصورة الخاتم بفُصوصه حتى يُفصَلَ، في رواية ابن منصور، والحسن بن ثواب، وأحمد ابن القاسم، وحنبل، وأبي طالب، والأثرم. ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (1218، 1282، 1299).

والثانية: الجواز بشرط أن تكون الدراهم المشترى بها أكثر من الفضة التي في الخاتم، ليكون بقية الثم مقابلاً لما فيه من غير الفضة. وهو قول أبي حنيفة. والأولى هي المذهب عندهم لما في "صحيح مسلم" (¬1) عن فضالة بن عبيد قال: «أُتِيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ خَيْبَرَ بِقِلاَدَةٍ فِيهَا ذَهَبٌ وَخَرَزٌ ابْتَاعَهَا رَجُلٌ بِتِسْعَةِ دَنَانِيرَ أَوْ سَبْعَةِ دَنَانِيرَ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا حَتَّى تُمَيِّزَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ. فَقَالَ: إِنَّمَا أَرَدْتُ الْحِجَارَةَ». فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا حَتَّى يميز بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ». قال: "فرده حتى ميز بينهما". رواه أبو داود (¬2) وهذا لفظه. وأصل الحديث في صحيح مسلم، وكذا النسائي (¬3)، والترمذي (¬4) وصححه. وأهلُ القول الثاني يجيبون عنه بأن مسلمًا رواه في "صحيحه" (¬5) مصرحًا ولفظه. "اشتريت قلادةً يوم خيبر باثني عشر دينارًا فيها ذهب وخرز، فَفَصَّلتُها (¬6)، فوجدت فيها أكثر من اثني عشر دينارًا، فذكرت ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: "لا تباع حتى تُفَصَّلَ". وفي لفظ له أيضاً (¬7): "فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالذهب الَّذِي في القلادة فَنُزِعَ وَحْدَهُ , ثُمَّ قَالَ لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ وَزْنًا بِوَزْنٍ». ¬

_ (¬1) برقم (1591) بنحوه. (¬2) برقم (3351). (¬3) برقم (4587). (¬4) برقم (1255) وقال: حسن صحيح. (¬5) برقم (1591/ 90). (¬6) أي: ميزت ذهبها وخرزها. (*) لا يباع: "نسخة". (¬7) برقم (1591/ 89).

فهذا صريح بأنَّ الذهب الَّذِي في القلادة كان أكثر من الدنانير التي اشتريت به، ومثل هذا لا يجوز بلا ريب. ولو لم يكن الذهب مقصودًا؛ لأن قيام المقضي للمنع لا يزيله قصد غيره. واستدل المجيزون أيضاً بقوله: "حتى يُفَصَّلَ" وما بعد الغاية مخالفٌ لما قبلها، فدلَّ عَلَى أنَّه يجوزُ بيعهُ بعد التفصيل، والعلم إذا اقتضى ذلك النقد بجنسه وزنًا بوزن، وهو الَّذِي جزم به أبو بكر في "التنبيه". والثاني: الجواز، وهو الَّذِي ذكره التميمي في خصاله. ومأخذ الخلاف هو الخلاف في بيع الجنس بغيره جزافًا. وقال الشيرازي: الأظهر المنع، ويشهد لهذه الرواية من كلام أحمد ما روى عنه البرزاطي قال: قيل لأحمد: رجلٌ كانت معه مائة درهم فضة جياد، فأضاف إليها مائة درهم نحاس، وصاغها حلية لنفسه، ثم احتاج إِلَى بيع ذلك. هل يجوز أن يبيع ذلك بمائة درهم الفضة التي كانت فيه؟ قال: لا يجوز بيع ذلك كله بالفضة، ولا بالذهب، ولا بوزنه من الفضة والنحاس، ولا يجوز بيعه حتى يخلص الفضة من النحاس، ويبيع كل واحد منهما وحده. والطريقة الثانية: وهي طريقة القدماء من الأصحاب كأبي بكر، وابن أبي موسى، ومن تابعهما أنَّه لا يجوز شراء المُحلَّى بجنس حليته قولاً واحدًا، وفي شرائه بنقد آخر روايتان، أصحُّهُما عندهم: المنع أيضًا، وهو الَّذِي جَزَم به أبو بكر، وعللوه بأنه لو بان مستحقًا وقد استهلك لم يدر بما يرجع عَلَى صاحبه. وقد يشكل فَهْمُ هذا وتوجيه هذه الطريقة عَلَى كثير من الناس. ووجهُها: أنَّ بيعَ المُحلَّى بجنسه قبل التمييز والفصل بينه وبين جنسه يؤدي إِلَى الربا؛ لأنّه بيعٌ ربويٌّ بجنسه من غير تحقُّق مساواة؛ لأنّ بعض

الثمن مقابل العرض، فيبقى الباقي مقابلاً للربوي، ومع الجهل بمقداره لا يتحقق التساوي بينه وبين ما قابله من الثمن، والجهل بالتساوي كالعلم بالتفاضل. وأما بيعُه بنقد آخر، فإن أجزناه فلأن بيع أحد النقدين بالآخر لا يعتبر فيهما التساوي، فلا يضُرُّ الجهل بهما أو بأحدهما، وإن منعناه فلأنه يؤدي إِلَى أن تستحق الحلية عَلَى المشتري وقد استهلكت عنده، فيضمنها لصاحبها ثم يريد أن يرجع عَلَى البائع بحصتها من الثمن، فلا يدري بم يرجع عليه؛ لأنّ الثمن (يتقسط) (*) هاهنا بالقيمة فيفضي إِلَى الربا؛ لأنّه قد يأخذ منه أقل من تلك الفضة أو أكثر. وهذا يشبه ما نص عليه أحمد في المنع من بيع أحد النقدين بالآخر جزافًا، وهو الَّذِي ذكره أبو بكر، وابن أبى موسى أيضاً، والقاضي في "خلافه" وعللوه بأنه لو استحقَّ أحدُهُما لم يدر بم يرجع عَلَى صاحبه فيؤدي إِلَى الربا من جهة العقد، وهو ضعيف، فإنَّه إذا بانَ مستحقًّا تبينا أنَّه لا عقد فيه البتة، وإنَّما دفع إِلَيْهِ نقدًا عَلَى وجه المعاوضة ولم يأخذ منه عوضهُ فيصالحُه عنه، كما لو أتلف له فضَّةَ أو ذهبًا لا يُعلمُ مقدارُه، ويشبه هذا اشتراط العِلْم برأس مال السَّلَم، وضبط صفاته، وأنه إذا أسلم في جنسين لم يجز حتى يبين قسط كل واحد منهما، فإنَّ ذلك سلم وهذا صرف، وأحكامها متشابهة في الجملة. فهذا الَّذِي ذكره ابن أبي موسى وغيره في بيع العرض المحلى بنقد، فأما مع تمييز الربوي ومعرفة مقداره، فإنما منع مما يظهر فيه وجه (الحلية) (**) كبيع عشرة دراهم مكسرة بثمانية صحاح، وفلسين أو ألف صحاحًا بألف مكسرة، وثوب أو ألفٍ صحاحًا ودينار بألف ومائة مكسرة. والطريقة الأولى أشهر وأوجه. ومتى كان الخاتم من غير النقدين وهو مموَّه بالفضة أو بالذهب تمويهًا يسيرًا تافهًا لا يتحصل منه شيءٌ، فهو كتزويق الدار، فيجوز بيعهُ بجنس حليته في ¬

_ (*) يسقط: "نسخة". (**) الحلية: "نسخة".

هذه الحال، ويباحُ لبسُ هذا المموَّه بالذهب عَلَى هذه الصفة وجهًا واحدًا. قاله بعض أصحابنا. الصورة الثانية: أن يكون الخاتم غير فضة وهو محلى بفضة، فذهب بعض أهل العِلْم إِلَى أنَّه لا يجوز بيعهُ بنقد من جنسه أزيد منه إلا وزنًا. وهو مذهبُنا { ... } (*) وأبي حنيفة وغيرهم لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ مِثْلًا بِمِثْلٍ" (¬1). قد رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث عبادة وغيره. ولهذا أنكر عبادةُ بيعَ الأواني من النقود بجنسها، واستدلَّ بهذا الحديث. وقد ورد في "سنن أبي داود" (¬2) في حديث عبادة زيادة وهي: «الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ تِبْرُهَا وَعَيْنُهَا، وَالْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ تِبْرُهَا وَعَيْنُهَا». وقد روى مالك في "الموطأ" (¬3) فيه حديثًا مرفوعًا عن ابن عمر أن صائغًا سأله عن ذلك فنهاه ابن عمر، وقال: "هذا عهد نبينا {إلينا، وعهدنا إليكم} " (**). وقال الشافعي، والدارقطني: إِنَّمَا هو عهد صاحبنا يعني: عمر، وهو أصح. وحكى عن مالك جواز بيع المضروب بقيمته من جنسه، وأنكر أصحابه ذلك عن، وحكي أيضاً عن بعض السَّلف، واختاره الشيخ أبو العباس ابن تيمية؛ لأنَّ الصياغة فيها متقومة فلابد من مقابلتها بعوض، فإنَّ في إجبار الناس عَلَى بذلها مجانًا ظلم فلا يؤمر به، ولأنها قد خرجت بالصياغة عن حيز النقود إِلَى السلع المتقومة. ¬

_ (*) بياض بالنسخ الثلاث، وكتب في هامش الأصل: "هذه البياضات الثلاثة أصلها مهربة لا يعرف ما هي في نسخة الأصل المنقولة منه هذه"، فليعلم. (¬1) أخرجه مسلم (1587/ 81). (¬2) برقم (3349). (¬3) باب بيع الذهب بالفضة تبرًا وعينًا من كتاب البيوع برقم (31). (**) في الأصل: عن ذلك فنهانا، والتصويب منا "الموطأ" (ص 633) طبعة محمد فؤاد عبد الباقي.

فصل

ولهذا يقول كثير من العُلَمَاء -كالثوري وأبي حنيفة، وأحمد في إحدى الروايتين: أنَّه لا يجري الربا في معمول الصُّفر، والنحاس، والقطن، والكتان لخروجه (بالصياغة) (*) عن الوزن، وحمل قوله - صلى الله عليه وسلم - " «الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ، وَالْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ" على الدراهم دون المُصاغ صياغة مُباحة، فإنَّه بالصياغة خرج دخوله في إطلاق الذهب والفضة، وصار سلعةً من السَّلع كالثياب ونحوها، وحمل إنكارَ عُبادةَ عَلَى ما كانت صياغتُه محرَّمة؛ لأنّه إِنَّمَا أنكر بيع الأواني لا الحُلي المُباح. فأما بيعُهُ بجنسه بدراهم مثله وزنًا فالصحيح جوازه. وحكى الأصحابُ روايةً أخرى بالمنع أيضاً بناء عَلَى الرواية المحكية بالمنع من بيع الصحاح بالمكسرة لأنّ (الصياغة) (*) قيمة بدليل حالة الإتلاف فيصير كأنه ضمَّ قيمة (الصياغة) (*) إلي الخاتم وباعها بوزن الخاتم فضة فيقع التفاضل بذلك. وقد ذكر صاحب المغني أن هذا باطل بالجيد بالرديء، ولكن ابن عقيل ذكر في النقد الجيد بالرديء الخلاف أيضاً، لكنه أبطله بالجيد بالرديء في سائر المكيلات، وكذلك حكى الخلاف في بيع القراضة بالصحاح، (والمصوغ بمصوغ) (**) يخالفه في الصنعة جودةً أو رداءةً. فأما بيع خواتيم الرصاص والحديد بالرصاص والحديد فينبني عَلَى جريان الربا في معمولها. وفي ذلك قولان هما روايتان عن أحمد. فصل ولو اشترى [ .... ] ( ... ) بفضة، فالمذهب المنصوص جوازه مطلقًا إذا لم تكن الفضة مقصودة حتى [ ... ] ( ... ) من الثمن لجاز، كما إذا كان عَلَى الجارية حليٌ كثيرة. ¬

_ (*) الصناعة: "نسخة". (**) والمصنوع بمصنوع: "نسخة". ( ... ) بياض بالنسخ الثلاث، وكتب في هامش الأصل: هذا البياض في الأصل مقطع لا يعرف ما هو.

فصل [في بيع الخواتم بالسلم]

وهذه طريقة المتقدمين من الأصحاب لدخوله، وكثير من المتأخرين خرَّجها علي مسألة ملك العبد بتمليكه، فإن قُلنا: يملك فكذلك، وإن قلنا: لا يملك فهي كبيعٍ ربويّ بجنسه ومعه من غير جنسه عَلَى الخلاف فيه. قالوا: ولو وجد بهذا المال عيبًا. وقلنا: هو ملك للعبد فهل يملك؟ الردّ بذلك عَلَى وجهين. وإن قلنا: لا يملكه، فله رده بغير خلاف. وهذه المسألة مبسوطة في غير هذا الموضع. فصل [في بيع الخواتم بالسَّلم] فأما السلم في الخواتيم فيصحُّ إذا ضبطها بأوصافها المعتبرة، فيذكر جنس الخاتم، ونوعه، ووزنه، وقدره، وسعته. ثم إِن كان الخاتم فضة لم يجز جعله رأسه ماله فضةً ولا ذهبًا لفوات التقابض في المجلس. وإن جعله عرضًا جاز لأنّ العُروض -وإن كانت موزونة- لا يشترط في بيعها بأحد النقدين تقابض. وإن كان الخاتم من غير الفضة والذهب جاز جعل رأس ماله ذهبًا أو فضة لما ذكرنا. وإن جعل رأس المال فيه عرضًا إنبنى علي جريان ربا النساء (¬1) في العروض، فإنَّه قلنا بجريانه فيها مع اختلاف الجنسين لم يجز ذلك بحال. وإن لم يجز في العروض جاز بكل حال. وإن أجريناه فيها مع اتحاد الجنس جاز جعل رأس ماله عرضًا من غير جنسه خاصة. وهذا إذا كان الخاتم كله جنسًا واحدًا، فإن كان فصه من غيره مثل إن كان من جوهر لم يصحّ السلم فيه عند أصحابنا، لأن الجوهر لا يصح السلم فيه عندهم؛ لأنّ الجوهر لا ينضبط بالوصف بل بالرؤية. ¬

_ (¬1) أي ربا النسيئة -وهو التأخير والتأجيل.

فصل [استصناع الخواتم]

وإن كان من عقيق فوجهان: أحدهما: يصح السلم فيه بالوصف، وهو قول القاضي؛ لأنّه يمكن ضبطه (ويقل) (*) تفاوته. والثاني: لا. وهو قول ابن عقيل لمساواته للجواهر في المعنى الَّذِي لا يمكن ضبطه بالقول. وإن كان من غير ذلك مما يمكن ضبطه بالصفة، ويصح السلم فيه مفردًا كالحديد والنحاس وغيرهما صح عَلَى الصحيح، ويضبطه بما يتميز به ويتخرج فيه وجه آخر: أنَّه لا يصح السلم فيه بناء عَلَى أحد الوجهين فيما له أخلاط مقصودة تتميز كالثوب المنسوج من كتان وقطن والنبل المريش فإن فيه وجهين. فصل [استصناع الخواتم] وأما استصناع الخواتم فله صور: إحداهما: أن يأتيه بفضة ويستأجره عَلَى (صياغتها) (**) خاتمًا بأجرة ما معلومة. فهذه إجارة محضة لا ريب في جوازها. وكذلك إذا اشترى منه فضة معلومة وتقابضا في المجلس، ثم شرط عليه صياغتها بأجرة معلومة. وكذلك إذا اشترى منه فضة معلومة وشرط عليه عملها خاتمًا وقبضها ثم تركها عنده، فإن هذا من جنس اشتراط نفع البائع، والمذهب. المنصوص صحته، وفيه وجه أنَّه لا يصح. وربما رجح هاهنا بأنه اشترى فضة ومنفعة بفضة، فهو كما لو اشترى جنسًا ربويًا ومعه غيره بجنسه، ولكن المنصوص هاهنا صحته، ومنعه إسحاق ابن راهويه. ¬

_ (*) ونقل: "نسخة". (**) صناعتها: "نسخة".

ففي كتاب الخلاَّل عن إسحاق بن منصور قال: قلت لأبي عبد الله: رجل ابتاع فضة من رجل واشترط عليه أن يصوغ خاتمًا، فَقَالَ: "هذا يكره. هذا يصيرُ نَسيئةً". قال أحمد: جيد هذا مكروه في نفس البيع، ولكن لو سَمَّى له الكراء لم يكن به بأس، هو أيضاً شرط في صرف. قال إسحاق: لا يجوز في هذا اشتراط، والصرف منتقض. قلت: فقد فرق أبو عبد الله رضي الله عنه بين أن يسمى له الكراء أولاً، فإن سمى له الكراء جاز، وعلله بأنه شرط في صرف، ومعناه: أن غايته أن يكون كالشرط. وإن لم يُسمَّ له الكراء فقد كرهه، ولعله كرهه لما فيه من الجمع بين بيع الفضة بفضة، فيكون بيع جنسين بأحدهما كـ "مد عجوة" وهي ها هنا محرمة؛ لأنّه ينقص بالأجرة قيمة الفضة فتصير متفاضلة، بخلاف ما إذا ابتاع منه الفضة بوزنها ثم استأجره عَلَى صياغتها بأجرة معلومة، فإن تلك المفسدة تزول بتفصيل الثمن والأجرة. ويحتمل -وهو الأظهر- أن يكون كره ذلك إذا لم يُسَمِّ له الكراء لعدم التقابض، ولهذا علله بأنه يصير نسيئة في البيع بخلاف ما إذا سمى له الكراء فإنَّه يصير مستأجرًا له عَلَى الصياغة، فتصير يده يد إجارة محضة بائنةٍ عن يد المشتري فكأنه قد وكَّله في قبضه له، ولو فعل ذلك جاز وصحَّ القبض. فكذلك إذا استأجره عليه إجارة مستقلة بأجرة مسماة بخلاف ما إذا لم يسمَّ له الأجره وشَرَطَ عليه العمل؛ فإن الإجارة تكون في ضمن عقد البيع فتكون تابعة له وداخلةً في ضمنه ولم يحصل القبض فكرهه لذلك. ولعله كرهه كراهة تنزيه؛ لأنّ يد البائع أيضاً يد أجير في مده الصياغة، وإن كانت داخلة في ضمن البيع، ولهذا لا بد أن يكون قد زاد في الثمن لأجل الصياغة ولا بد. وقوله: فيما إذا سمى الكراء هو أيضاً شرط في صرف يومئذ، ذلك فإن معناه أنَّه لا يخرج بالتسمية عن أن يكون شرطًا في عقد الصرف كما لو لم يسمَّ.

وقد حملها القاضي في خلافه عَلَى أن الشرط إِنَّمَا يؤثر إذا كان في نفس العقد دون ما قبله وبعده، وساق رواية ابن منصور، ولعلها في رجل ابتاع فضة من رجل واشترط عليه أن يصوغ صياغًا فهو مكروه في نفس العقد، ولكن لو سأله الكراء لم يكن له تأثير. والصورة الثانية: قال له: صُغ لي خاتمًا حتى أعطيك بوزن الفضة وأجرة الصياغة. فهذا لا يجوز، ذكره القاضي وابن عقيل وغيرهما؛ لأنهما تبايعا فضة مجهولة بفضة مجهولة، وتفرقا قبل القبض، وأيضًا فالأجرة مجهولة. الصورة الثالثة: قال له: صُغ لي خاتمًا حتى أعطيك درهمًا وأجرتك درهمًا. فَقَالَ في المغني: ليس هذا ببيع درهم بدرهمين، بل قال أصحابنا: للصائغ أخذ الدرهمين أحدهما في مقابلة الخاتم، والثاني في مقابلة (أجره) (*) لعمله. انتهى. وفيه نظر فإنَّ هذا ليس بيعًا لعدم التقابض في المجلسى ولا إجارة؛ لأنّ الإجارة إِنَّمَا تعقد عَلَى المنافع لا عَلَى الأعيان، وإنَّما تدخل فيها الأعيان تبعًا {كجر} (¬1) الناسخ أو تكون الأعيان فيها من جنس المنافع تستخلف شيئًا بعد شيء كلبن الظئر (¬2) وماء البئر. وهذا كله مفقود قيما نحن فيه. وأيضًا فهذا بعيد عن أصلنا في سد الذرائع وإبطال الحيل، فإن هذا حيلة عَلَى بيع درهم بدرهمين نساء. ومعلوم أن أحمد يمنع من باع شيئًا نسيئة بثمن في الذمة أن يبتاع به عند حلوله ما يباع به نسيئة سليم لذريعة ربا النسيئة خاصة، فكيف بربا الفضل مع النساء مع أن الحيلة ثم بعيدة أو متتفية، وها هنا ظاهرة، بل لا معنى لهذا غير الحيلة عَلَى بيع درهم بدرهمين. ¬

_ (*) أجرة: "نسخة". (¬1) كذا ولعلها: "كحبر". (¬2) الظئر هنا: المرضع المستأجرة.

وأيضًا فإن القاضي أبا يعلى في "الخلاف الكبير" ومن تابعه كابنه أبي الحسين، وأبي الخطاب، والشريف أبي جعفر ذكروا أن استصناع القمقم والطست والخف ونحو ذلك بمال معلوم لا يصح. وهو قول الشافعي، واستدلوا عَلَى ذلك بأنه بيع ما ليس عنده عَلَى غير وجه السلم، فلم يجز كاستصناع الثياب فإنَّه لا يجوز بالاتفاق، وإن وصف طولها وعرضها وجنسها، وحكوا عن مالك جوازه إذا ضرب له أجلاً، وأنه جعله سلمًا. وعن أبي حنيفة جوازه استحسانًا لأجناسها في ذلك، ولم يزل في الإسلام ولم نعلم له (منكر) (¬1). وعن الرازي -من أصحابه- أنَّه يقع فاسدًا، لكن إذا جاء به الصانع ورضي به المستصنع كان ذلك بمنزلة عقد مبتدأ فيما بينهما. هذا مع أن هذه الأقوال كلها متوجهة عَلَى المذهب (توجيهًا) (*) ظاهرًا. فإن السلم في هذه الأعيان لا يصح عَلَى أحد الوجهين إذا ذكر شروطها المعتبرة، والمستصنع لا بد أن يذكر صفاتها التي يختلف بها الثمن، فإذا ضرب مع ذلك أجلاً فهو السَّلم بعينه، وإلا فهو السَّلم الحال. وفيه الخلاف المعروف، والتعليل بأن ذلك لم يزل في الإسلام، قد علل به أحمد نفسه في بيع التمر في جلاله. وقد ذكر ابن المنذر أن الاستصناع جائز، وأنه إذا جاء عَلَى الوصف فلا خيار له فيه عن أبي ثور واختاره. وأما إذا تراضيا بذلك عند إحضاره، وسلَّم إِلَيْهِ الثمن قهذا بعينه بيع المعاطاة. وقد قال أحمد في رواية "الأثرم" وقد سأله عن رجل أخذ من رجل رطلاً من كذا، ومنّا (¬2) من كذا، ولم يقاطعه عَلَى سعره ولم يعطه ثمنه، أيجوز هذا؟ ¬

_ (¬1) كذا في النسخ الثلاث، والصواب: "منكرًا". (*) توجهًا: "نسخة". (¬2) المن: كيل معروف أو ميزان أو رطلان.

فصل [إذا ظهر في الخاتم عيب بعد شرائه]

فَقَالَ: أليس عَلَى معنى البيع أخَذَهُ؟ قلت: بلى. فَقَالَ: لا بأس، ولكن إذا حاسبه أعطاه عَلَى السعر يوم أخذه لا يوم يحاسبه. والمقصود أن هذا الاستصناع في القمقم ونحوه قواعد المذهب وأصوله تدل عَلَى جوازه. وقد ذكر الأصحاب بطلانه فكيف باستصناع الخاتم من فضة مع أنَّه في الحقيقة بيع المصوغ بجنسه متفاضلاً، فمثل هذا لا ريب في امتناعه عَلَى أصول المذهب وقواعده. والله أعلم. فصل [إذا ظهر في الخاتم عيب بعد شرائه] ولو اشترى الخاتم بدراهم ثم ظهر به عيبٌ. فَقَالَ كثير من الأصحاب كالقاضي، وأبي الخطاب، وابن عقيل ليس له المطالبة بالأرش؛ لأنّ أخذ الأرش يُفضي إِلَى ربا الفضل، فيتعين له الردُّ فيرده إِن كان باقيا ويأخذ ثمنه. وإن كان تالفًا فقالوا: له الفسخ ها هنا للضرورة، ويرد مثله أو قيمته ويسترجع الثمن. وذكر في "المغني" وجهًا بجواز أخذ الأرشِ في المجلس؛ لأنّ الزيادة طرأت بعد العقد. ثم قال: وليس لهذا الوجه وجه. ثم حكى عن ابن عقيل رواية أخرى بجواز أخذ الأرش مع التلف لتعذر رده بالفسخ، وابن عقيل ذكر هذه الرواية وبناها عَلَى الرواية المحكية عن أحمد بتقويم الصنعة في المصاغ مع ملاقاته بجنسه، وقد سبق ذكرها فكذلك الصفة. قال: والصحيح سقوطها، كما تقدم. وهذا التعليل يشمل حالة البقاء والتلف، وإن أن قد فرض المسألة أولاً

فصل [في استئجار الخاتم للتحلي]

مع التلف فإنَّه بنى ثبوت الأرش لعيب في المصاغ، عَلَى أن الصنعة والجودة فيه هل تقوَّم مع ملاقاتها بجنسها أم لا؟ فإن قومناها أثبتنا الأرش بفواتها وإلا فلا، ولكن إثباتنا للأرش بناء علي التقويم من ها هنا يستلزم جواز مقابلتها بزيادة (الوزن) (*) في الثمن، والمذهب خلافه. وأحمد -عَلَى قوله بالتقويم في رواية- يمنع من ملاقاتها بجنسها المساوي لها وزنًا لزيادتها عليه صفة، فكيف يجيز ها هنا أخذ زيادة لفواتها؟ وهل هذا إلا قول من يجيز بيع المصاغ بجنسه متفاضلاً؟ وأما إِن حدث عند المشتري به عيب آخر وأراد الردَّ فهل له رده مع أرشه؟ قال القاضي: لا، لإفضائه إِلَى المفاضلة المحذورة. وأجازه صاحبا المغني والتلخيص لزوال العقد بالفسخ فلا يكون الضمان بالعقد بل لتلفه تحت يده الضامنة، وهذا إِنَّمَا يتمشى عَلَى أصل من يقول: الفسخ رفع للعقد من أصله. فصل [في استئجار الخاتم للتحلي] ومن ذلك: اسئجار الخاتم للتحلي به، وذلك جائز في الجملة؛ لأنها منفعة مباحة مقصودة، ثم إِن استأجره بغير جنسه جاز بلا إشكال. ورُوي عن أحمد: الوقف في إجارته في الجملة. وحمله القاضي عَلَى إجارته بجنسه. وإن استأجره بجنسه كاستئجار خاتم الفضة بفضة، فحكى الأصحاب فيه روايتين، والمنقول عن أحمد أنَّه قال: لا يعجبني. قال أحمد في رواية "المروذي" وسأله عن الحلي يكرى؟ قال: هذا مكروه أي شيء يكرى الذهب والفضة؟ قلت: فيكون فيه الحب. ¬

_ (*) في الوزن: "نسخة".

قال: هذا مكروه. وقال جعفر بن محمد: سئل أحمد عن كراء الحلي. قال: ما أدرى ما هذا؟ وأنكره. وسئل عن كراء الثياب. قال: لا بأس به. وقال في رواية "ابن بختان": وسئل عن الحلي يكرى. قال: يكرى دراهم بدراهم. قِيلَ لَهُ: يكون فيه الحب واللؤلؤ؟ قال: لا. هذه تدل عَلَى جواز إجارته بغير جنسه. وقال ابن منصور: قلت لأحمد: ما ترى في استئجار الحلي؟ قال: لا بأس به. قيل: والسيف والسرج؟ قال أحمد: أما الحلي ما أدري ما هو، وأما السيف واللجام والسرج فلا بأس به. وقال في رواية "حنبل": في الحلي إذا كان يكرى ويؤخذ أجره كان بمنزلة التجارة وجبت فيه الزكاة. فوجه الصحة -وهي اختيار ابن عقيل، وقول أبي حنيفة والشافعي- أن الأجرة عوض عن منفعته المباحة لا عن عينه، فلا وجه للمنع منه. ووجه البطلان -وهو اختيار القاضي وغيره، وقول بعض الشافعية- أن الأجرة تؤخذ عن المنفعة وعما يتلف من الأجزاء بالاستعمال، فيفضي إِلَى بيع فضة بفضة متفاضلة.

فصل [في وقف الحلي]

وهذا فيه ضعف؛ لأنّ الأجرة إنما هي عوض عن المنفعة خاصة، والأجزاء تتلف من ضمان مالكها، ولو كانت الأجزاء التالفة داخلة في العقد لم يجز إجارة كساء صوف بصوف، ولا ثوب قطن بغزل، ولا دار مذهبة بذهب. وقد أطلق أبو الخطاب في "رءوس مسائله" الكراهة دون التحريم، وقد ذكر بعض الشافعية أن هذا النزاع في هذه المسألة مبني عَلَى أن المعقود عليه في الإجارة هل هو العين أو المنفعة؟ فإن قيل: إِنَّ العين لم يجز إجارة الحلي بجنسه، وإلا جاز. ولو استأجر فصًّا يضعه في خاتم جاز أيضاً، فَإِذَا انقضت مدة الإجارة فللمؤجر مطالبته برده، ويلزمه قلعه ليرده عَلَى مالكه. ذكره أصحابنا أيضاً. فصل [في وقف الحلي] وكذلك اختلفوا في كلام أحمد في صحة وقف الحلي. فروى عنه الأثرم وحنبل: لا يصح. وأنكر الحديث الَّذِي رُوي عن أم سلمة في وقفه. ونقل عنه بكر بن محمد فيمن وصى بفرس وسرج وخاتم مفضض، يوقف في سبيل الله حبيس، فهو عَلَى ما وقف وأوصى، وأن بيع الفضة التي في السرج واللجام وجعل في سرج مثله، فهو أَحَبّ إلي؛ لأنّ الفضة لا يُنْتَفعُ بها، ولعله يشتري بتلك الفضة سرج ولجامٌ فيكون أنفَعُ للمسلمين. فقِيلَ لَهُ: فتباع الفضة وتصير في نفقةِ الفرسِ؟ قال: لا. واختلف الأصحاب في هذه النصوص عنه فتأوَّل القاضي في "المجرد" ومن تابعه رواية حنبل والأثرم عَلَى أنه لا يصح الحديث عن أم سلمة في وقفه لا عَلَى أنَّ وقفه لا يصحّ.

فصل [في إتلاف الخاتم]

وتأول أيضاً رواية بكر بن محمد، عَلَى أن وقف اللجام والسرج المفضض لا يصح. فلذلك (*) أجاز أن يشتري به ما يُباحُ الانتفاعُ به، فيوقفُ عَلَى تلكَ الجهة. وحُكي عن الآمديِّ أنَّه قال: أجاز أحمد وقف هذه الفضة تبعًا للفرس، لأن كان لا يجوزُ وقفُها مفردًا. فَقَالَ صاحب "المغني" وغيرهُ: روايةُ بكر تدُلُّ عَلَى صحة وقف السرج واللجام المفضض بناءً عَلَى جواز تحلية خيل الجهاد بذلك، كما يباحُ محليةُ لباس الجهاد من الخُوذة والجَوشن وحمائلِ السيف. وإنَّما أباح بيعه وصرفَ ثمنه في سرجٍ ولجامٍ؛ لأنّه لا منفعة فيه. وهؤلاء أقروا رواية حنبل والأثرم عَلَى ظاهرها، وجعلوا في صحة الحلي روايتين، والأولون يصححونه روايةً واحدةً، وهي طريقة ابن عقيل أيضًا وغيره. وجمهورُ الأصحاب عَلَى صحة وقف الحُلي المباح. وهو قول القاضي وأصحابه؛ لأنّه عينٌ مباحةٌ منتفعٌ بها فجاز وقفُها كغيره، وروايةُ المنع إِنَّمَا تتجه عَلَى القول بمنعِ وقف المنقول. فصل [في إتلاف الخاتم] ولو أتلف له خاتمًا فله حالتان: إحداهما: أن يكون مباحًا كخاتم الفضة للرجل: فعليه ضمانُهُ، كما لو أتلف ثوبَهُ، ثم هل يضمَنُه بقيمته أو مثله؟ فيه وجهان: احدهما: بالقيمة، قاله القاضي وصاحب المغني؛ لأنّ الصناعة تؤثِّر في قيمته، وهي مختلفةٍ فالقيمةُ فيه أحصر. ¬

_ (*) فكذلك: "نسخة".

والثاني: بالمثل، وهو اختيار السامري وظاهرُ كلام أحمد. قال إسحاق بن منصور: قلت لأحمد فيمن كسر ذهبًا أو فضة، قال: يصلحه أحبُّ إليّ إِن كان خلخالاً، وإن كان دينارًا أعطاه دينارًا آخر مثله. ونقل مُهنا عنه فيمن رَهَن إبريق فضةٍ فانهشَم أو انكسَرَ يصوغُه كما كان. فقِيلَ لَهُ: كيف يصوغُه وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن آنيةِ الذهب والفضة؟ فسكت، كذا ساقه ابن عقيل، رواه مُهنا في "الرهن"، وقال: هي سهو؛ لأن الصياغة متقومة. وساقها أبو الخطاب عليه قيمة مصوغه، وقد حملَ القاضي هذا على التراضي. وذكر ابن عقيل في كتاب "الرهن" أن رواية مُهنا وقع فيها الخطأ من وجهين: من جهة تضمنه (الصياغة) (*) بمثلها وهي متقومة. ومن جهة تضمنه صناعة الأواني وهي محرمة، وهذا باطل. وقد رجع في كتاب "الغصب" ورد تأويل شيخه وقال: لا وجه لصرف كلام أحمد عن ظاهره، بل صناعة الآدمي يمكن احتذاء مثلها أو شكلها، فإذا عرفت الصورة كان إعادتها جزاءً للحق. وقد وافق القاضي عَلَى أن من هدم جدارًا أو نقض بابًا فعليه إعادته، وهذا مثله. فأما تضمين أحمد صناعة الأواني: فقد ذكر طائفة من الأصحاب عن أحمد أخذًا من هذا النص، وابن عقيل نفسه في باب الغصب خالف في ذلك، وذكر أن هذا رجوع عن ذلك لما نبه عَلَى تحريم هذه (الصياغة) (*) بدليل السنة. قال: ومن أحق منه بمراجعة الصواب وترك الرأي للسنة. وكذلك اختلف الأصحاب في كل مسألة يُعترضُ عَلَى أحمد فيها فيسكت هل يكون رجوعًا أم لا؟ ¬

_ (*) الصناعة: "نسخة".

فَقَالَ ابن حامد: هو رجوع. وقال غيره: ليس برجوع. والمقصود هنا: أن أحمد لما حكم بالمثل في الصناعة وجب ضمان الحلي بمثله؛ لأنّ مادته مثلية بلا نزاع. وقد نص عَلَى أن صورته وتأليفه مثلي فوجب ضمانه عند التلف بالمثل، وعلى الوجه الأول يضمنه بقيمته، فإذا كانت أكثر من وزنه فهل يجوز ضمانه من جنسه بأكثر منه وزنًا؟ فيه وجهان: أحدهما: لا؛ لأنّه ربا. وفي مسائل "البرزاطي" سئل أحمد عن صَيرفيٍّ دُفع إِلَيْهِ دينارٌ محكك لينقده فنقضه وحكه. قال: قد أحسن، ولا شيء عليه. قِيلَ لَهُ: فإن كسرَهُ؟ قال: يغرم ما بين قيمته صحيحًا ومكسورًا فضة. وهو اختيار أبي الخطاب، وصاحبي المغني والمحرر ومذهب الثوري وأبي حنيفة وبعض الشافعية. والثاني: يجوز، وهو اختيار القاضي، وابن عقيل، والصحيح من مذهب الشافعي؛ لأنّ الربا إِنَّمَا يجري في المعاوضات، لا في الغرامات، فإن الغرامة استدراك ظُلامة، ولهذا يجب الأرش في الكسر لتفويت الصناعة ولا يؤخذ عنها العوض في البيع، وسلم القاضي وابن عقيل أن ما لا صناعة فيه كالنقرة إذا خالفت قيمتها النقد لم يجز ضمانها من جنسها متفاضلاً، وفرَّقا بأن الصناعة فيها مالية زائدة، فلذلك ضمنت ولا صناعة في النقرة. وهذا الوجه يَقربُ مما ذكره صاحب المغني في ردِّ أرش العيب الحادث عند المشتري كما تقدم.

الحالة الثانية:

وعلى هذا الأصل: لو كسر الخاتم ولم يتلفه فعليه إصلاحه، كما نصَّ عليه أحمد فى الحلي. وعلى الوجه الأول: عليه أرشه مطلقًا سواء كان من جنسه أو لا. ذكره القاضي وغيره، وهو قول مالك والشافعي، وحكي عن أبي حنيفة أنَّه إِن أخذه مكسورًا فلا أرش له؛ لأنّ الصناعة في الأموال الربوية ملغاة، وإن لم يأخذه فله القيمة من غير الجنس. ووافقه في القيمة الثوري، وهذا قريب مما ذكره القاضي في أن المُصاغ إذا حدث به عيب عد المشتري ثم ظهر فيه عَلَى عيب وأراد ردّه لا يردّ معه أرشًا، فإن ردّ الأرش لم يوجبه عقد المعاوضة، بل وجب بحصوله تحت يده الضامنة، ولهذا يضمنه عند القاضي وكثير من الأصحاب بما نقص من قيمته مطلقًا لا بجزء من الثمن. وقد ذكر صاحب "التلخيص" في مسألة حدوث العيب أنَّه إِن شاء أمسكه وغرم قيمته للبائع سليمًا من غير جنسه، وضمانه بغير الجنس إِنَّمَا يتفرع عَلَى القول بامتناع الأرش مع الردّ، إذ جواز رد عينه مع الأرش ومع منع ضمان قيمته من جنسه زائدة عَلَى وزنه تناقص محض. الحالة الثانية: أن يكون الخاتم مُحرَّمًا كالذهب عَلَى الرجال فلو كسره وهو لابسه لم يضمنه، هذا المعروف من المذهب بناء عَلَى أن كسر آنية الخمر وشق ظروفه لا يوجب ضمانًا، وسواء أمكنه إفراغه بدون ذلك أو لا. هذا هو الصحيح من المذهب. وقد جاء في كسر أواني الخمر أحاديث متعددة ليس هذا موضع ذكرها. وقد روى الإمام أحمد في "مسائل ابنه صالح" بإسناده أن عبد الرحمن ابن عوف دخل عَلَى عمر ومعه ولد صغير وعليه قميص حرير وقلبا ذهب، فشقَّ عمر القميصَ وفك القلبين فأعطاه الغلام، فَقَالَ: اذهب به إِلَى أمك.

وعن سعيد بن جبير قال: قدم حذيفة من سَفَرٍ وعلى صبيانه قميصٌ من حريرٍ؛ فمزقه عَلَى الغلمان وتركه عَلَى الجواري. وعن ابن مسعود أنَّه مرَّ به صبيان له عليهم قُمُص من حريرٍ فأخذها (فشقَّها) (*) وقال: انطلقوا إِلَى أمكم فلتلبسكم غير هذا إِن شاءت. ومعلومٌ أن الحرير مما يمكن انتفاع الجواري به، ولكن سقطت حرمته بإلباس ما لا يجوز إلباسه له، لكن لو كان لابسه جاهلاً بتحريمه فقد ذكر إبراهيم الحربي رحمه الله في كتاب "الهدايا" له في حكم آنية الخمر أنَّه لا يجوز حينئذٍ الكسر عَلَى إذن صاحبه، وفيه روايتان أشهرهما: أنَّه لا يتوقف عَلَى إذنه مطلقًا. وذكر أبو الخطاب في "انتصاره" في مسألة زكاة الحلي أن حليَّ الرجال المباح للنساء دونه لا يكسر؛ لأنّه ينتفع به النساء فهو كثياب الحرير. وأطلق ولم يفرق بين أن يكون في حال لبسه أو غيره. وأما إِن أتلفه بالكلية، فذكر طائفة من الأصحاب في الإناء المحرم: أنَّه يضمن قيمته بدون الصياغة الممنوعة، منهم القاضي، وابن عقيل في كتاب "الغصب"، وعلَّلَهُ ابن عقيل بأن النقدين مقصودان لذاتهما ليسا تابعين للصورة المحظورة بخلاف الأوتار والعيدان في آلات اللهو فإنها تابعة للصورة المحرمة فلا يضمنها. وهذا مخالف لما ذكراه أيضاً في مسألة سرقة آنية الخمر والصُّلبان ونحوهما، فإنَّه لا يقطع بسرقتها عندهما. وعلَّلا بأنها تبع للصورة المحرمة أو للخمر، فصار حكمها حكم متبوعها، حتى صرَّح ابن عقيل في تمام هذا الكلام بأنه لو أتلفها متل رأسًا، لم يضمن لمصيرها بمنزلة الخمر. وهذا ظاهره مخالف لما ذكره في "الغصب" إلا أن يحمل عَلَى ما عدا الذهب والفضة فيكون كلامه في الغصب مخصصًا له. ¬

_ (*) فشققها: "نسخة".

فصل [الشفعة في شراء الخاتم]

فصل [الشفعة في شراء الخاتم] لو كان هذا الخاتم مشتركًا بين اثنين فباع أحدهما نصيبه، فهل للآخر أخذه بالشفعة أم لا؟ فيه روايتان معروفتان أشهرهما: أن لا شفعة فيه بناءً عَلَى أن الشفعة إِنَّمَا تثبت في العقار خاصةً، بل وثبوتها في العقار مختصّ عَلَى ظاهر المذهب بما ينقسم فيه فكيف بمنقولٍ لا ينقسم، وهذا قول أكثر الفقهاء. والرواية الثانية: فيه الشفعة. نقلها حنبل قال: قيل لأحمد: فالحيوان دابة بين رجلين أو حمار أو ما كان من نحو ذلك؟ قال: هذا كله أوكد؛ لأنّه خليط، والشريك أحق به بالثمن، وهذا لا يمكن قسمته، فإذا عرضه عَلَى شريكه وإلا باعه بعد ذلك. وكذلك أشار إِلَيْهِ في رواية غيره، وهو قول طائفة من السَّلف، وأهل الظاهر، وهو أقوى لحديث جابر: "قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالشفعة في كل مال لم يقسم" (¬1) وهذا عامٌ. وفي كتاب "الترمذي" (¬2) من رواية ابن أبي مليكة عن ابن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الشفعة في كل شيء". وهو مما تفرد بوصله أبو حمزة السكري، عن عبد العزيز بن رفيع، عن ابن أبي مليكة. وأبو حمزة من رجال الشيخين، لكن خالفه جماعة من الثقات فرووه مرسلاً بدون ذكر ابن عباس. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (2214)، ومسلم (1608). (¬2) برقم (1371) وقال: هذا حديث لا نعرفه مثلَ هذَا إلا من حديث أبي حمزة السكري. وقد روى غير واحد عن عبد العزيز بن رفيع، عن ابن أبي مليكة، عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلاً وهذا أصح، ثم أورد الترمذي الحديث مرسلاً من طريقين عن عبد العزيز بن رفيع عن ابن أبي مليكة عن النبي صلى الله عليه وسلم. قال: وهكذا روى غيرُ واحد عن عبد العزيز بن رفيع مثل هذا، ليس فيه (عن ابن عباس) رهذا أصح من حديث أبي حمزة، وأبو حمزة ثقة، يمكن أن يكون الخطأ من غير أبي حمزة.

فصل

وفي بعض ألفاظه: "قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالشفعة في كل شيء: الأرض والدار، والجارية والخادم" (¬1). وفي الباب أحاديث أخر. ولأن ما لا يقبل القسمة من المنقول يتأيد ضرر الشركة فيه فتكون الشفعة فيه أولى من ثبوتها في عقار يمكن قسمته فيندفع بها الضرر. وإلى هذا المعنى أشار أحمد في رواية حنبل كما تقدم، وهذا النص منه يفيد ثبوت الشفعة في العقار الَّذِي لا ينقسم أيضاً، وقد صرح بذلك في رواية غيره وهو اختيار ابن عقيل، فيما حُكي عنه وطائفة من محققي أصحابنا المتأخرين، وقول أبي حنيفة، ومالك في رواية، والشافعي في القديم، واختاره ابن سُريج وأصحابنا، وليس هذا موضع بسط هذه المسائل. فصل إذا أودعه خاتمًا فإن أمَرَهُ بوضعه فى أصبعه جاز ذلك بلا إشكال، ثم إِن عيَّن له أصبعًا فوضعه فيها فلا كلام، وإن خالف ففيه مسائل: أحدها: قال: اجعله في الخنصر، فلبسه في البنصر فلا ضمان. ذكره القاضي، وابن عقيل، ومن تابعهما، لأنها أحرز من الخنصر لغلظها، وأيضًا فالخنصر وقاية للبنصر فإن الخنصر طرف، والبنصر من ورائها فهو كما لو أمره بإحرازه في بيت فأحرزه في بيت وراءه، ويتخرج فيه وجهٌ آخر بالضمان من الوجه المحكي فيما إذا أمره بإحرازه في حرز معين فأحرزه فيما هو أعلى منه. لكن إن انكسر بوضعه (في البنصر) (*) لدقته ضمن بلا خلاف؛ لأنّه متعدي بذلك. ¬

_ (¬1) أخرجه ابن أبي شيبه (2797). (*) بالبنصر: "نسخة".

الثانية: قال: اجعله في البنصر، فجعله في الخنصر ضمن. ذكره القاضي، وابنُ عقيل؛ لأن البنصر أغلظ فهي أحرز له، فعدوله إِلَى الخنصر عدول إِلَى دون الحرز الَّذِي عينه. ومن الأصحاب من ذكر علَّةً أخرى، وهي أن لبسه في الخنصر استعمال له، والاستعمال موجب للضمان بخلاف وضعه في البنصر فإنَّه ليس باستعمال معتاد فلا يكون النقل إِلَيْهِ إلا إحرازًا. الثالثة: جعله في الوسطى مع تعيين غيرها ففي "الكافي" إِن أمكن إدخاله في جميعها لم يضمن لأنها أغلظ من الخنصر والبنصر فهي أحرز، وإن لم يمكن إدخاله في جميعها فجعله في بعضها ضمن لسرعة سقوطه بذلك فهو به مفرط. وأما إِن أودعه الخاتم ولم يكن يأمره بوضعه في الأصبع فهل له وضعهُ فيها؟ لا أعلمُ لهم فيه كلامًا، وينبغي أن يقالَ: إِن لم يجد أحرز منها وضعه في أصبعه، جاز ذلك بنية الإحراز كما يجوز ركوب الدابة المودعة لمصلحة السقي ونحوه. وإن وجد حِرزًا غير الأصبع احتمل وجهين: أحدهما: جوازه بنية الحفظ؛ لأنّ الأصبع للخاتم أحرز وأصون، فأدنى أحوالها أن تجعل كسائر الأحراز، وأنه لو لم يجز ذلك عند الإطلاق لم يجز النقل عند تعيين الأصبع إِلَى أحرز منها؛ لأنّ الثاني يكون لبسًا مجردًا عن إذن، ولكن يمكن أن يقال: قد وجد الإذن في الإحراز في الأصبع وإنَّما خالف في عينها. ولأنه لو لم يكن ثَم فَرْقٌ بين اللبس بنيَّة الاحتراز واللبس بنيَّة التزَيُّن والانتفاع، لكان وضع الخاتم في الوسطى موجبًا للضمان بكل حال لأنّه منهي عنه من جهة الشارع، فلما أجازه الأصحاب ولم يوجبوا به الضمان دلَّ عَلَى الفرق عندهم بين اللبس للحفظ واللبس للانتفاع.

فصل [حكم لقطة الخاتم الذهب والفضة]

والثاني: لا يجوز؛ لأنّ ذلك لبس وانتفاع بمال المُودِع، فلا يجوز بدون إذنه أو دعوى الحاجة إِلَى حفظ المال به، ولهذا علل من علل من الأصحاب منع العدول عن البنصر إِلَى الحنصر بأن الوضع في الخنصر ليس معتادًا فيمنع وإن كان القصد به الحفظ. فصل [حكم لُقطة الخاتم الذهب والفضة] إذا اصطاد سمكة فوجد فيها خاتمًا فهو لُقطة. نصَّ عليه أحمد في الذهب والفضة؛ لأنَّ الخاتم مالٌ ضائغٌ من ربِّه ليس مستفاد من البحر، بخلاف ما لو وجد فيها لؤلؤة فإنها له. نص عليه أحمد أيضاً لأنها من مُباح البحر كالسمكة نفسها. قال الأصحاب: إلا أن تكون اللؤلؤة عليها آثار المِلك، مثل أن تكون مثقوبة، فإنها تكون لقطة؛ لأنّ اللؤلؤ المثقوب جرى عليه مِلك الناس بلا ريب، فلو وجد اللؤلؤة في جوف شاة اشتراها فهي كالخاتم إذا وجده في جوفها؛ لأنّ الشاة لم تبتلعها من معدنها المباح بخلاف السمكة. فأما إن اشترى سمكة فوجد فيها خاتمًا أو غيره من العين أو الورق ونحو ذلك مما لا يكون في البحر، فالمذهب المعروف عند الأصحاب أنَّه لقطة. ونص عليه أحمد في رواية إسحاق بن إبراهيم وغيره؛ لأنّه مالٌ ضائع لا يُعرف ربه، فهو كما لو وجده في البر. وقد حكى ابن أبي موسى وغيره فيما إذا اشترى شاةً فوجد في بطنها ذهبًا أو فضةً روايتين: إحداهما: أنَّه لقطة، وقال: هي أصح. والثانية: أنَّه لربِّ الشاة البائع لها.

فصل [في سرقة الخاتم]

قال صاحب التلخيص وغيره: إِنَّمَا يكون للبائع إذا ادعاها لقرب العهد ويشبه هذه الرواية ما يقوله في الركاز بناءً عَلَى إحدى الروايتين أنَّه لا يملك الأرض، بل هو لمن وجده فإذا وجده مالك الأرض فادَّعاه المالك قبله، أنَّه يدفع إِلَيْهِ بغير بينة ولا صفة في أحد الوجهين. وهو الَّذِي ذكره صاحب "المغني" لأنّ يده كانت عليه بكونها عَلَى محلها. وفي وجهٍ آخر: أنَّه لابد في ذلك من بيِّنَة أو صفة. وقد نص أحمد في "المؤجر والمستأجر" إذا اختلفا في دفن في الدار: أنَّه لمن وصفه منهما، فيخرج هاهنا وجه آخر أنَّه لا يكون للبائع حتى يصفه، وبكل حال فالسمكة ليست كالشاة في ذلك، فإنا نعلم أنها لم تبتلع الخاتم ونحوه إلا من الماء لا من ملكه بخلاف الشاة، لكن لو ادعى أنَّه صادها من بركةٍ أعدَّها للسمك في ملكه وإن ذلك وقع منه في البركة توجه أن يقال هنا: هو له مع الوصف، فإنَّه لو لم يكن ذلك حقًّا لما عرف صفته لعدم اطلاعه عَلَى ما يبتلعه في الماء غالبًا. وإن وجد في السمكة المشتراة لؤلؤة فهي للصياد. ذكره الأصحاب لأنّه ملك السمكة ابتداءً بما فيها ولم يخرج عنه بالبيع سوى السمكة فتبقى اللؤلؤة عَلَى ملكه. فصل [في سرقة الخاتم] لو نزع من يد نائم خاتمًا ثم رده إِلَى يده في نومه فهو ضامن له. ذكره أبو الخطاب في "رءوس المسائل"، وأبو الحسين في "الفروع"، وغالب الظن أن القاضي قاله قبله في "الخلاف". وحُكي عن أبي حنيفة أنَّه إن ردَّه في ذلك النوم لم يضمن، وفي غيره يضمن. ووجه ما قاله أبو الخطاب: أنَّه لزمه الضمان بالأخذ فلا يبرأ منه إلا بالدفع إِلَى المالك أو وكيله، ولم يوجد ذلك بل تركه بمضيعة، فإنّ النائم لا قبض له ولا حفظ.

فصل [الهبة في الخاتم]

وجعل أصل هذه المسألة ما إذا أخذ اللقطة ثم ردَّها إِلَى موضعها، فإنَّه يضمن بذلك، والخلاف فيها مع أبي حنيفة أيضًا، وحكم الخفِّ ينزعه من رِجلِ النائم ثم يعيده، والدرهم يأخذه من جيبه ثم يرده إِلَيْهِ حكم الخاتم. وقد ذكر ابن عقيل في كتاب السرقة من "الفصول" أنَّه لو أعاد المسروق إِلَى مال صاحبه فخلطه خلطًا لا يتميز به ولم يعلمه وإن كان لم يعلم بالأخذ برئ بذلك وإن كان علم لم يبرأ حتى يعلمه مراعاة لتطييب قلبه وتسليمه وتسليطه عَلَى ماله كما كان. قال: ومتى تحقق أنَّه علم بالرد برئ، مثل أن يسرق دابته ويعلم بها ثم يعيدها إِلَى اصطبله، ويعلم أنَّه علم بعودها، فهذا يقتضي أنَّه يبرأ هاهنا بالرد إِلَى يده في تلك النومة كما قال أبو حنيفة؛ لأنّه لم يكن علم بالأخذ بخلاف رده في نومة أخرى فإنَّه لا يبرأ به حتى يستقيظ ويعلم بالرد. ولم يقل ابن عقيل أنَّه لا يبرأ إلا بالرد إِلَى يده حقيقة، بل صرح بالبراءة بردِّه إِلَى ما يجري مجرى يده وهو خلطه بماله، ولا ريب أن جيبه وإصبعه ورجله تجري مجرى يده وما فيها يحكمُ بأنه له، ولكن يقال: هي في حال نومه ليست حرزًا وإن كانت حرزًا في يقظته، ولهذا ذكر القاضي وابن عقيل أن الروايتين في قطع الطرار من الكم والجيب مأخذهما هل هما حرزان أم لا؟ قال: فَإِذَا قلنا: ليسا بحرزين ضمن بتركه الوديعة فيهما ثم صح أنها حرز في اليقظة، قال: لأنّ الشارع جعل وضع رأس النائم في المسجد عَلَى ردائه حرزًا، فَجيبُ المستيقظ أبلغ. فصل [الهبة في الخاتم] لو وهب له خاتمًا من أحد النقدين وشرط عليه الثواب فإن كان في الثواب المشترط نقدًا من جنس الخاتم أو غير جنسه، لم يجز لإفضائه إِلَى الربا المحظور: إما ربا الفضل أو النساء أو كلاهما، وإن كان من غير النقود جاز فإنّ الهبة بشرط الثواب بيعٌ فيعتبر فيها شروطه، والله أعلم.

آخر ما وجد بخط المؤلف رحمه الله، والله أعلم. علقه أفقر عباد الله تعالى وأحوجهم إِلَى رحمته أحمد بن أبي بكر بن دريق بن عبد الرحمن المقدسي الحنبلي، غفر الله ذنوبه، وستر عيوبه في العشر الآخر من صفر الميمون سنة إحدى وستين وثمانمائة. بلغ مقابلة بأصله بحسب الطاقة. ***

29 - شرح حديث «إن أغبط أوليائي»

شرح حديث "إن أغبط أوليائي"

بسم الله الرحمن الرحيم رب يسر وأعن يا كريم. الحمد لله رب العالمين وصلى الله عَلَى سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليمًا. خرَّج الإمام أحمد والترمذي وابن ماجه (¬1) من حديث أَبِي أُمَامَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ أَغْبَطَ أَوْلِيَائِي عِنْدِي لَمُؤْمِنٌ خَفِيفُ (الْحَاذِّ) (¬2) ذُو حَظٍّ مِنَ الصَّلَاةِ، أَحْسَنَ عِبَادَةَ رَبِّهِ وَأَطَاعَهُ فِي السِّرِّ، وَكَانَ غَامِضًا فِي النَّاسِ لَا يُشَارُ لَهُ بِالْأَصَابِعِ، وَكَانَ رِزْقُهُ كَفَافًا فَصَبَرَ عَلَى ذَلِكَ، ثُمَّ نَقَرَ بِيَدِهِ فَقَالَ: عُجِّلَتْ مَنِيَّتُهُ، قَلَّتْ بَوَاكِيهِ، قَلَّ تُرَاثُهُ». ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد (5/ 252)، والترمذي (2347) من طريق عبد الله بن زحر، عن علي بن يزيد، عن القاسم أبي عبد الرحمن، عن أبي أمامة. وقال الترمذي عن القاسم: وهو شامي ثقة، وعلي بن يزيد ضعيف الحديث. وأخرجه أحمد (5/ 255) من طريق ليث بن أبي سليم عن عبد الله عن القاسم عن أبي أمامة. وقال عبد الله بن أحمد: سألت أبي قلت: ما تراثه؟ قال: ميراثه. قلت: وليس بن أبي سليم ضعيف. وأخرجه ابن ماجه (4117) من طريق صدقة بن عبد الله، عن إبراهيم بن مرة، عن أيوب بن سليمان، عن أبي أمامة. وفي الزوائد: إسناده ضعيف، لضعف أيوب بن سليمان، قال فيه أبو حاتم: مجهول، وتبعه عَلَى ذلك الذهبي في الطبقات وغيرها. وصدقة بن عبد الله متفق عَلَى تضعيفه. اهـ. قال ابن حبان في المجروحين (2/ 62 - 63): عبيد الله بن زحر يروي الموضوعات عن الأثبات، وإذا روى عن علي بن يزيد أتى بالطامات، وإذا اجتمع في إسناد خبرٍ عبيد الله وعلي بن يزيد والقاسم أبو عبد الرحمن لا يكون متن ذلك الحبر إلا مما عملته أيديهم. فلا يحل الاحتجاج بهذه الصحيفة بل التنكب عن رواية عبد الله بن زحر عَلَى الأحوال أولى. وأخرجه ابن الجوزي في "العلل المتناهية" (2/ 636) من طريق وكيع قال: نا علي بن صالح عن أبي المهلب، عن عبيد الله بن زحر، عن علي بن يزيد، عن القاسم عن أبي أمامة مرفوعًا. قال ابن الجوزي: هنا حديث لا يصح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فمن وكيع إِلَى أبي أمامة ضعفاء، ومتى اجتمع ابن زحر وعلي بن يزيد والقاسم في حديث لا يبعد أن يكون معمولهم. (¬2) أي: خفيف الظهر من العيال (النهاية 1/ 457).

وقال الترمذي: حديث حسن واللفظ له. ولفظ ابن ماجه: "أغبط الناس عندي" والباقي بمعناه ولم يذكر "نقر بيده". قوله - صلى الله عليه وسلم -: "أغبط أوليائي عندي" الاغتباط هو: الفرح والسرور والابتهاج بالنعمة سواء كانت عَلَى الإنسان أو عَلَى غيره، محبة لذلك الغير وتهنئة له بما وصل إِلَيْهِ، وسواء كان المغبِط له أعلى منزلة من المغبوط أو مساويًا أو دونه. فأما مع علو المنزلة فكما في هذا الحديث، وفي حديث: «إن لِلَّهِ عِبَادًا لَيْسُوا بِأَنْبِيَاءَ وَلا شُهَدَاءَ يَغْبِطُهُمُ النَّبِيُّونَ وَالشُّهَدَاءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِمَكَانِهِمْ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ» (¬1). وفسرهم بالمتحابين في الله عز وجل، وليس المراد أن الأنبياء يتمنون أن يكونوا بمنزلتهم لقصورهم عن درجاتهم، وإنَّما المراد أنهم يبتهجون ويسرون بهم بمكانهم من الله عز وجل. ومن هنا يعلم أن من فسر الغبطة بتمني مثل نعمة المغبوط، من غير زوالها عنه -بخلاف الحسد، فإنَّه تمني زوال نعمة المحسود- ليس ذلك ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود (3527)، والبيهقي في "الشعب" (8998) من حديث عمر بن الخطاب، وأخرجه الترمذي (2390) وأحمد (5/ 229، 239، 328) وغيرهم من حديث معاذ. وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. وأخرجه أحمد (5/ 341، 342، 343)، ومعمر بن راشد في جامعه كما في المصنف لعبد الرزاق (11/ 202) برقم (20324)، ومن طريقه الطبراني في "الكبير" (3/ 3433) وغيرهم من حديث أبي مالك الأشعرى، وفي الإسناد شهر بن حوشب وهو ضعيف، ولكنه يصلح في المتابعات والشواهد فيعتبر به. وأخرجه النسائي في الكبرى (6/ 362) برقم (11236)، وأبو يعلى في مسنده (6110)، وابن حبان (2508 - موارد)، والبيهقي في الشعب (8997) من حديث أبي هريرة. وقال البيهقي: وهو وهم -أي حديث أبي هريرة- والمحفوظ عن أبى زرعة عن عمر بن الخطاب، وأبو زرعة عن عمر مرسل، ثم ساق الحديث من طريق أبى زرعة بن عمرو بن جرير عن عمر. ووقع خطأ في المطبوع، فَقَالَ: عن عمرو بن جرير، والصواب: من طريق أبي زرعة بن عمرو بن جرير {راجع تخريج الزيلعي للكشاف}. وأخرجه البيهقي في الشعب (409) من حديث أنس بن مالك وفي إسناده يزيد الرقاشي وهو ضعيف، ولكنه يعتضد بما قبله، فيصح الحديث ولله الحمد. ولمزيد من التخريج لهذا الحديث راجع تخريج الأحاديث والآثار الواقعة في تفسير الكشاف بتخريج الإمام الزيلعي برقم (599).

عَلَى إطلاقه وإنَّما هي في غبطة الأدنى للأعلى خاصة. وقوله: "أغبط أوليائي عندي" يشير صلى الله عليه وسلم إِلَى أن من كان كذلك فهو من خاصة أوليائه، وأن النبي صلى الله عليه وسلم يُسَرُّ بمن كان من أمته عَلَى هذه الصفة، ويفرح به ويهنئه بما حصل له من السعادة، وكذلك جعله النبي صلى الله عليه وسلم من أوليائه. وأولياء رسول الله صلى الله عليه وسلم أولياء الله؛ كما قال تعالى: {وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} (¬1) وصحَّ عنه - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال: "إن وليي الله وصالح المؤمنين". وفي حديث آخر "إن أوليائي، من كانوا وحيث كانوا". وكذلك هم أولياء الله عز وجل؛ كما قال تعالى: {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} (¬2) فمن كان أعظم إيمانًا وتقوى فهو أعظم ولاية لله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -، فلهذا قال في هذا الحديث: "إن أغبط أوليائي عندي لمؤمن" والمؤمن إذا أُطلق، لا سيما في مقام المدح، فإنما يراد به: من كمل إيمانه بفعل الواجبات وترك المحرمات، وربما أريد به: من قام بعد ذلك بالنوافل؛ لأنّ ذلك كله داخل في اسم الإيمان. وقوله: "خفيف الحاذ" فسره الأصمعي بقلة المال. {قال} (*): ابن قتيبة: ويفسر أيضاً بقلة العيال، ويشهد لهذا قول أبي ذر: «لَيَأْتِيَنَّ عَلَيْكُمْ زَمَانٌ يُغْبَطُ الرَّجُلِ فِيهِ بِخِفَّةِ الْحَاذِ، كَمَا يُغْبَطُ الْيَوْمَ فِيكُمْ أَبُو عَشْرَةَ» خرجه أبو نعيم وغيره. وخرَّج ابن عدي (¬3) وغيره (¬4) من حديث حذيفة مرفوعًا: "خيركم في ¬

_ (¬1) المائدة: 56. (¬2) يونس: 62 - 63. (*) تكررت بالأصل. (¬3) في "الكامل" (3/ 177). (¬4) وأخرجه أيضاً أبو يعلى فى "مسنده" كما في "المطالب العالية" (5/ 15) برقم (4365)، والبيهقي في "شعب الإيمان" (10350)، والخطيب في "تاريخ بغداد" (6/ 197=

المائتين كل خفيف الحاذ. قالوا: وما خفيف الحاذ؟ قال: الَّذِي لا أهل له ولا ولد". وهو من باب الاستعارة والكناية؛ لأنّ أصل الحاذ هو اللحم كما يقال: خفيف الظهر. فأما قلة المال: فهو ما يغبط به صاحبه في الدُّنْيَا إذا صبر عَلَى ذلك أو رضي به، وسنذكر ذلك في تفسير قوله: "وكان رزقه كفافًا فصبر عليه" إن شاء الله تعالى. وأما قلة العيال فهو مما يغبط به المؤمن أحيانًا لاسيما مع فقره وحاجته، ولهذا يقال: "قلة العيال أحد اليسارين". فإن كثرة العيال قد يحمل المؤمن عَلَى طلب الرزق لهم من الوجوه المكروهة، ولهذا وقع في كلام كثير من السَّلف ذم العيال، فكان سفيان الثوري يقول: لا يُعبأ بصاحب عيالٍ، فقلما رأيت صاحب عيال إلا خلط. وكان يقول: لا أعتد بعبادة رجل له عيال. ¬

_ =، 11/ 225)، وابن الجوزي في "الموضوعات" (3/ 195). وسئل أبو حاتم الرازي كما في "العلل" لابنه (1890) عن هذا حديث فَقَالَ: هذا حديث باطل. وسئل أيضاً كما في العلل (2769) عن هذا الحديث فَقَالَ: هذا حديث منكر. وقال البيهقي: تفرد به رواد بن الجراح العسقلاني عن سفيان الثوري. وقال البخاري: رواد عن سفيان كان قد اختلط، لا يكاد يقوم، ليس له كبير حديث قائم "الميزان" (3/ 84). وقال الدوري عن ابن معين: لا بأس به -أي: رواد- إِنَّمَا غلط في حديث سفيان. وقال عبد الله بن أحمد عن أبيه: صاحب سنة لا بأس به، إلا أنَّه حدَّث عن سفيان أحاديث مناكير. وقال الحفاظ: كثيرًا ما يخطئ ويتفرد بحديث ضعّفه الحفاظ فيه وخطّئوه، وهو خيركم بعد المائتين كل خفيف الحاذ. (التهذيب 3/ 249 - دار الفكر). قال الدارقطني: تفرد به رواد وهو ضعيف، وقد أدخله البخاري في الضعفاء (نقل ذلك ابن الجوزي في الضعفاء). وقال الخليلي في "الإرشاد" (2/ 471) عن رواد "يتفرد بحديث ضعفه الحفاظ في ذلك، ثم ذكر حديث حذيفة بإسناده، وقال: وهذا لا يعرف من حديث سفيان إلا من هذا الوجه وقد خطّئوه فيه.

وقال: لو حدّثت عن ذي العيال أنَّه كفر ما أبعدت. وقال: صاحب العيال لا يكون ورعًا أبدًا. وقال: من تزوج فقد ركب البحر، فإن ولد له فقد كُسر المركب. وقال: كانت لنا هرَّة لا تؤذينا، فلما ولدت كشفت القدور. وعاتب سفيان رجلاً من كتاب الأمراء عَلَى كتابته معهم، وقال له سفيان: كلما دعي بأمير ممن كتبت له دعيت أنت معه، فسئلت عما جرى عَلَى يدك فأنت أسوؤهم حالاً. فَقَالَ له الرجل: فكيف أصنع بعيالي؛ فَقَالَ سفيان: اسمعوا هذا، يقول إذا عصى الله رُزق عياله، وإذا أطاع الله ضُيع عياله، ثم قال سفيان: لا تقتدوا بصاحب عيال، فما كان عذر من عوتب إلا أن قال: عيالي. وقال: يؤمر بالرجل إِلَى النار يوم القيامة فيقال: هذا عياله أكلوا حسناته. ولما ولي شريك قضاء الكوفة هجره سفيان وقال: أي رجل أفسدوه! فَقَالَ شريك: لو كان لسفيان بنات، أفسدوه أكثر مما أفسدوني. ومما يستدل عَلَى فضل قله العيال بقوله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا} (¬1) عَلَى تفسير من فسره بكثرة العيال، ولكن الجمهور عَلَى تفسيره بالجور والحيف، فإن ملك اليمين قد تكثر به الأولاد كثر من الزوجات الأربع، فإنَّه لا ينحصر في عدد. وكان الإمام أحمد ينكر عَلَى من كره كثرة الأزواج والعيال، ويستدل بحال النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من كثيرة أزواجهم وعيالهم، ويمثل قوله: «تَزَوَّجُوا الْوَدُودَ الْوَلُودَ، فَإِنِّي مُكَاثِرٌ بِكُمْ الْأُمَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» (¬2) ولكنه يأمر مع ¬

_ (¬1) النساء: 3. (¬2) أخرجه أبو داود (2050)، والنساني في "الكبرى" (5342)، وفي "المجتبى" (6/ 65)، والطبراني في "الكبير" (20/ 508)، وابن حبان في "صحيحه" (4056، 4057 - إحسان)، والبيهقي في "السنن الكبير" (7/ 81) من حديث معقل بن

هذا بطلب الحلال والكسب، والصبر عَلَى الفقر وإن شق، فالإمام أحمد أمر بما جاء الأمر به في الشرع، وسفيان نظر إِلَى قلة صبر الناس إِلَى ما يئول إِلَيْهِ حالهم عند كثرة عيالهم من ترك الورع، والتكسب من الوجوه المكروهة، وهذا هو الغالب عَلَى الناس لاسيما مع قلة العِلْم والصبر (¬1)، وأما حال الصابرين عَلَى العيال المحافظين عَلَى الورع معهم فعزيزٌ جدًّا كحال الفضيل لما دخل عليه الرشيد فأعطاه ألف دينار، فأبى أن يأخذها، فخرج عنه، فجاء إِلَيْهِ بعض عياله فقالوا له: لو قبلت هذا المال ففرجت به عنا، قال: مثلي ومثلكم كمثل {رجال} (¬2) كان لهم جمل يستقون عليه، فلما كبر نحروه، فأكلوا لحمه. وكان الإمام أحمد له عيال وكان يومًا لا يكون عنده شيء يفرح، وقال: أسرُّ أيامي يوم أصبح وليس عندي شيء، وأرسل يومًا إِلَيْهِ عياله يَقُولُونَ له: ليس عندنا اليوم دقيق، أو قالوا: خبز -فَقَالَ لهم: الساعة، ثم أبطأ عليهم، فعاودوه فَقَالَ: الساعة. فدق عليه رجل الباب، فإذا هو رجل من خراسان قد أرسل معه إِلَيْهِ بخمسة آلاف درهم، فأبى أن يأخذها رردها. كان فتح الموصلي يجمع عياله في ليالي الشتاء، ويمد كساءه ¬

_ =يسار. وأخرجه أحمد (3/ 158، 245)، وسعيد بن منصور في سننه (490)، والطبراني في "الأوسط" (5099)، وابن حبان (4028 - إحسان) من حديث أنس. قال الطبراني: لم يرو هذا الحديث عن حفص ابن أخي أنس إلا خلف بن خليفة. وذكره الهيثمي في "المجمع" (4/ 252) وقال: رواه أحمد والطبراني في "الأوسط" من طريق حفص بن عمر عن أنس، وقد ذكر ابن أبي حاتم وروى عنه جماعة، وبقية رجاله رجال الصحيح. وذكره أيضاً في (4/ 258) وقال: إسناده حسن. وأخرجه الطبراني في "مسند الشاميين" (723) من طريق أبان بن أبي عياش عن أنس، وأبان متروك. (¬1) كتب في الهامش: فافهم ترشد. (¬2) في "الأصل": رجل. والمثبت أنسب للسياق.

[شعر]

عليهم ويقول: أجعتني وأجعت عيالي وأعريتني وأعريت عيالي، فبأي وسيلة توسلت بها إليك حتى تفعل هذا بي، وإنَّما تفعل هذا بأوليائك وأحسابك، فهل أنا منهم حتى أفرح، وعريت ابنة له فقِيلَ لَهُ: لو طلبت من أحد أن يكسوها؟ فَقَالَ: أدَعُها حتى يرى الله عريها وصبري عَلَى ذلك. وجيء إِلَى عبد الصمد الزاهد بمال، فأبى أن يقبله فقالوا له: تصدق به. فَقَالَ لأصحابه: من كانت له حاجة إلي شيء فليأخذ، فَتَورَّعَهُ أصحابُهُ بقدر حاجاتهم فجاء إِلَيْهِ بني له صغير يبكي فَقَالَ: أنا جائع. فَقَالَ: اذهب فخذ عليَّ من البقال ربع رطل تمر. إخواني، الطبع إِلَى التوسع في الدُّنْيَا يحن، والولد يطلب ما يشتهي، والزوجة تطلب سعة النفقة، والورع يمنع من التوسع {هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا} (¬1) فإن كان الإمام أحمد قد امتنع أن يأخذ من الخليفة شيئًا من مال بيت المال، واقتنع بِكَري حوانيت له، كانت تغل في الشهر عشرين درهمًا أو أقل، فأخذ أولاده من الخليفة، فهجرهم لذلك. وكانت أم ولده تعاتبه وتقول له: أنا معك في ضيق وأولادك يأكلون ويفعلون ويفعلون. ليقول لها: قولي خيرًا. فخرج إِلَيْهِ صبي له صغير يبكي فَقَالَ: أي شيء تريد؟ قال: زيت. قال: اذهب فخذ من البقال بحبة. [شعر] كم أحمل في هواك كلاًّ وعنَّا ... كم أصبر فيك تحت (سقم) (¬2) وضنًّا لا تطردني فليس لي عنك غنى ... هذا حالي فإن رحمتم فأنا ¬

_ (¬1) الأحزاب: 11. (¬2) كتب الناسخ فوقها "ضر".

غيره: من أجل هواكمُ هجرت الخلقا ... لم يُبق حقكمُ لنفسي حقًّا في حبكم يهون ما قد ألقى ... ما يسعد بالنعيم من لا يشقى وأيضًا فكثرة العيال مما يوجب تعلق القلب بهم، فيشغل ذلك عن محبته وخدمته لله، وقد قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} (¬1). قال أبو حازم: كل ما شغلك عن الله من مال أو ولد فهو عليك شؤم. وقد روى أبو نعيم (¬2) بإسناد ضعيف من حديث ابن مسعود مرفوعًا: "إذا أَحَبّ الله عبدًا اقتناه لنفسه، ولم يشغله بزوجة ولا ولد". ومن كلام الشيخ عبد القادر: وكم تقول: كل من أحبه لا يدوم لي، بل يحال بيني وبينه بموت أو غيره، فيقال لك: يا محبوب الحق! المعني به المنطورُ إِلَيْهِ المغَارُ عليه، أما علمت أن الله غيور، خلقك له وتروم أن تكون لغيره، أما سمعت قوله عز وجل: {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} (¬3) وقوله: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (¬4) وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا أَحَبّ الله عبدًا ابتلاه ¬

_ (¬1) المنافقون: 9. (¬2) في "الحلية" (1/ 25) من طريق عبد الملك بن يزيد، ثنا أبو عوانة عن الأعمش، عن أبي وائل، عن عبد الله بن مسعود. فذكره. وأورد الخبر الذهبي في "الميزان" (4/ 418 - علمية) وابن حجر في اللسان (4/ 73) في ترجمة عبد الملك بن يزيد، وقال الذهبي: عبد الملك بن يزيد، عن أبى عوانة بخبر باطل في ترك التزويج، لا يُدرى من هو؟ ثم ساق الخبر بإسناد أبي نعيم وقال: رواه ابن الجوري في "الموضوعات". وعزاه العجلوني في "كشف الخفا" (1/ 465) للخطيب وغيره. (¬3) المائدة: 54. (¬4) الذاريات: 56.

[شعر]

فَإِذَا صبر اقتناه فلم يذر له مالاً ولا ولدًا (¬1) انتهى. ومن هذا المعنى الأثر الإسرائيلي: "يا ابن آدم خلقتُ كل شيء لك وخلقُتكَ لنفسي، فلا تشتغل بما خلقتُهُ لك عما خلقتُكَ له". وقد قيل: إن إبراهيم الخليل -عليه السلام- إِنَّمَا أُمر بذبح ولده لتعلق قلبه به، فلما فرَّغه منه، وقدَّم محبة الله علي محبة ولده، وأسلما وتلّه للجبين، حصل الفداء بحصول المقصود منه، وهو تفريغ القلب، فلم يبق لإراقة الدم معنًى. وكذلك الخليل الأكبر لما اشتدت محبته لعائشة وقع تنغيصها عليه بما جرى من حديث الإفك. كان بعض العارفين له زوجة هي ابنة عمه وكان يحبها حبًّا شديدًا، فَقَالَ لنفسه يومًا: كيف ألقى الله بهذا الحال؟ فسأل الله فمرضت ثلاثة أيام ثم ماتت فخرج من فوره إِلَى مكة. مرَّ بعض الفقراء بامرأة فأعجبته فتزوجها، فلما دخل بها البيت نزعوا خلقَانَهُ، وألبسوه ثيابًا جددًا، فلما جن عليه الليل، طلب قلبه فلم يجده فصاح: خلقَاني خلقَاني. فأخذ ورجع. [شعر] نقِّل فؤادك حيث شئت من الهوى ... ما الحب إلا للحبيب الأولِ كم منزل (للمرء) (*) يألفه الفتى ... وحنينه أبدًا لأول منزلِ ¬

_ (¬1) ذكر الديلمي في "مسند الفردوس" (1/ 250)، والعجلوني في "كشف الخفا" (1/ 80) وعزاه للطبراني. (*) كتب بالحاشية: "في القلب" خ. أي في نسخة أخرى "في القلب" بدلاً من "للمرء".

دخلوا عَلَى أبي سليمان الداراني بيته فَقَالَ بعضهم ما أحوجه إِلَى زوجة تؤنسه. فَقَالَ: لا آنسني الله إلا به أبدًا. كان إبراهيم بن أدهم قد خرج من أهله وولده وحشمه وأقام في بلاد الغربة، فحج مرة فرأى ولده وحشمه في الطواف، فجعل يسارقهم النظر ويبكي، فأخبر ولدُهُ به، فجاء إِلَيْهِ فاعتنقه وبكى، ثم صرفه وودعه. وأنشد بعضهم: هجرت الخلق طُرَّأ في هواكا ... وأيتمت العيال لكي أراكا ولو قطعتني في الحب إِرَبًا لما ... حن الفؤاد إِلَى سواكا قوله: "ذو حظ من الصلاة" يشير إِلَى أن المؤمن الخفي التقي لابد أن يكون له نصيب من التنفل بالصلاة فيكون هو لذته وقوته وغذاؤه كما قال - صلى الله عليه وسلم -: "جعلت قرة عيني في الصلاة" خرّجه النسائي (¬1). وفي "سنن أبي داود" (¬2) عنه - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال: "يا بلال، أقم الصلاة وأرحنا بها". وفي "المسند" (¬3) عن ابن عباس قال: "قال جبريل للنبي - صلى الله عليه وسلم -: يا محمد، إن الله قد حبب إليك الصلاة فخذ منها ما شئت". وفي "مسند البزار (¬4) والطبراني" عن أنس "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا ¬

_ (¬1) في "السنن الكبرى" (8888)، وفي "المجتبى" (7/ 61) من حديث لأنس. (¬2) برقم (4985) من حديث رجل من خزاعة. (¬3) (1/ 245، 255)، وقال الهيثمي في المجمع (2/ 270): رواه أحمد والطبراني في "الكبير"، وفيه علي بن يزيد، وفيه كلام، وبقية رجاله رجال الصحيح. (¬4) ذكره الهيثمي في المجمع (2/ 251) عن أنس وقال: رواه البزار، وفيه يحيى بن عثمان القرشي البصرى ولم أعرفه، روى عن أنس وبقية رجاله رجال الصحيح، ثم قال: قلت: ذكر ابن حبان في "الثقات" يحيى بن عثمان القرشي، ولكنه جمره في الطبقة الثالثة. وأخرجه البخاري في "التاريخ الكبير" (1/ 180) معلقًا وأبو نعيم في "الحلية" (1/ 343) والخطيب في "تاريخه" (4/ 360) من طريق محمد بن كان الواسطي عن ثابت عن أنس.

[شعر]

أعجبه نحو الرجل أمره بالصلاة". وقال ثابت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يشبع من الصلاة". وفي رواية عن أنس أنَّه - صلى الله عليه وسلم - قال: «الْجَائِعُ يَشْبَعُ وَالظَّمْآنُ يَرْوَى وَأَنَا لَا أَشْبَعُ مِنْ حُبِّ الصَّلَاةِ» (¬1). خرَّجه عبد الله بن أحمد في الزهد. وعن أبي هريرة قال: "كان داود -عليه السلام- كثير الصلاة لا يفتر". وكان ثابت البناني لا يقدر أن يَقَرّ من الصلاة حبًّا لها، وكان يقوم الليل أربعين سنة ويدعو في السحر: اللهم إن كنت أذنت لأحد من خلقك أن يصلي في قبره فاجعلني منهم، فلما مات وسُوي اللَّبن عَلَى لحده، سقطت منه لبنةٌ، فنظروا إِلَيْهِ قائمًا يصلي في قبره. كان محمد بن النضر الحارثي لا يفتر من الصلاة، فكان إذا خرج حاجًّا فنزل الناس، قام يصلي، ثم إذا قرب ارتحالهم تقدم عَلَى رأس ميل يصلي حتى {إذا سمع حس} (*) الإبل فإذا أدركته تقدم عليها يصلي حتى تلحقه فلا يزال كذلك حتى يصلي العصر ثم يركب في وقت النهي عن الصلاة. وكان كرز بن وبرة لا يفتر عن الصلاة، وكان إذا حج ونزل الناس منزلاً، توارى عن الناس يصلي في موضع لا يرونه، فإذا سمع بحركة الناس للسير، جاء إِلَى رفقته فاحتبس عنهم يومًا عند الرحيل، فطلبه بعض رفقته فوجده قائمًا يصلي في يوم شديد الحر وغمامة تظله، فاجتهد به حتى حلف له أن لا يخبر بما رأى منه أحدًا حتى يموت. [شعر] كم أكتم حبكم عن الأغيار ... والوجد يذيع في الهوى أسراري كم أستركم هتكتمو أستارى ... من يخفي في الهوى لهيب النار ¬

_ (¬1) ذكره الديلمي في "الفردوس" (2622) عن أنس. (*) من الحلية (8/ 220).

قوله: "أحسن عبادة ربه" إحسان العبادة إتقانها وإكمالها والإتيان بها عَلَى أكمل الوجوه. والحاصل عَلَى ذلك أن يعبد العبد ربه كأنه يراه كما فسر النبي - صلى الله عليه وسلم - الإحسان بذلك، وكان يقول في دعائه: "أسألك شكر نعمتك وحسن عبادتك" وعلَّم معاذ بن جبل أن يقول: "اللهم أعني عَلَى ذكرك وشكرك وحسن عبادتك" (¬1). قوله: "وإطاعته في السر" طاعة العبد لربه في السر دليل عَلَى قوة إيمانه وإخلاصه لربه، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يسأل ربه خشيته في السر والعلانية (¬2) وأفضل النوافل إسرارها، ولذلك فضلت صلاة الليل عَلَى نوافل الصلاة وفضلت صدقة السر عَلَى صدقة العلانية. وفي الحديث "الجاهر بالقرآن كالجاهر بالصدقة، والمسر بالقرآن كالمسر بالصدقة (¬3). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في "الأدب المفرد" (690)، وأبو داود (1522)، والنسائي في "الكبرى" (9937)، والبزار (2661 - البحر الزخار) وابن خزيمة (751) وابن حبان (2020، 2021 - إحسان)، والطبراني في "الكبير" (20/ 110، 250)، والحاكم في "المستدرك" (1/ 407)، (3/ 307) كلهم من حديث معاذ بن جبل. وقال الحاكم: هذا حديث صحيح عَلَى شرط الشيخين، ولم يخرجاه. وذكره الهيثمي في "المجمع" (10/ 172) من حديث ابن مسعود وقال: رواه البزار، ورجاله رجال الصحيح غير عمرو بن عبد الله الأودي، وهو ثقة. (¬2) أخرجه أحمد (4/ 264)، وابن حبان (1971 - إحسان) من حديث عمار بن ياسر مرفوعًا، وأخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (4516)، وعبد الله بن أحمد في "السنة" (468) عن عمار بن ياسر موقوفًا، ولفظ الحديث: اللهم إِلَيّ أسألك خشيتك في الغيب والشهادة. (¬3) أخرجه أحمد (4/ 151، 158)، والترمذى (2919)، والنسائي في "الكبرى" (2342) وابن حبان (734 - إحسان) والبيهقي في "السنن الكبير" (3/ 13) من حديث عقبة بن عامر. وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب، ومعنى هذا الحديث أن الَّذِي يسر بقراءة القرآن أفضل من الَّذِي يجهر بقراءة القرآن، لأن صدقة السر أفضل عند أهل العلم من صدقة العلانية، وإنَّما معنى هذا عند أهل العِلْم لكي يأمن الرجل من العُجب؛ لأنّ الَّذِي يسر العمل لا يُخافُ عليه العجب ما يُخافُ عليه من علانيته.

قال بعض السَّلف: ما أعتد بما ظهر من عملي، وحب الإسرار بالطاعة من علامات المحبين لمولاهم. قال مخلد بن الحسين: ما أَحَبّ الله عبدٌ فأحب أن يعرف الناس مكانه. وقال أحمد بن أبي الحواري: مَن عَبَدَ الله عَلَى المحبة لا يحب أن يرى خدمته سوى محبوبه. واطَّلع عَلَى بعض أسرار المحبين مع الله، فعلم بذلك، فدعا لنفسه بالموت، وقال: إنما كانت المعاملة تطيب حيث كانت سرًّا بيني وبينه، فمات. سئل بعضهم عن شيء من أسراره مع مولاه فأنشد: من سارروه فأبدى السر مجتهدًا ... لم يأمنوه عَلَى الأسرار ما عاشا وجانبوه فلم يظفر بودهم ... وأبدلوه من الإيناس إيحاشا لا يصفون مذيعًا بعض سرهم ... حاشا ودادهم من ذاكمو حاشا المحبون يغارون عَلَى الأسرار من اطلاع الأغيار. نسيم صبا نجد متى جئت حاملاً ... تحيتهم فاطو الحديث الركبِ ولا تذع السر المصون فإنني ... أغار على ذكر الأحبة من صحبِ قوله: "وكان غامضًا في الناس لا يشار إِلَيْهِ بالأصابع" يدل عَلَى فضل العبد التقي الخفي. وفي حديث سعد عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله يحب العبد الغني التقي الخفي" (¬1). وفي حديثه أيضاً: "خير الرزق ما يكفي وخير الذكر الخفي" (¬2). ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (2965). (¬2) أخرجه أحمد (1/ 172، 180، 187)، وابن أبي شيبة في "مصنفه" (7/ 84)، وعبد بن حميد في "المنتخب" (137)، وأبو يعلى في "مسنده" (731) من حديث سعد ابن أبي وقاص. قال الهيثمي في "المجمع" (10/ 81): وفيه محمد بن عبد الرحمن ابن لبيبة، وقد وثقه ابن حبان وقال: روى عن سعد بن أبي وقاص.

وفي حديث معاذ المرفوع (¬1): «إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْأَبْرَارَ الْأَتْقِيَاءَ الْأَخْفِيَاءَ الَّذِينَ إِذَا غَابُوا لَمْ يُفْتَقَدُوا وَإِنْ حَضَرُوا لَمْ يُدْعَوْا وَلَمْ يُعْرَفُوا، مَصَابِيحُ الْهُدَى يَخْرُجُونَ مِنْ كُلِّ غَبْرَاءَ مُظْلِمَةٍ» خرّجه ابن ماجه. وخرَّج من حديثه مرفوعًا أيضاً: «أَلَا أُخْبِرُكُمْ عَنْ مُلُوكِ الْجَنَّةِ؟ قلت: بَلَى. قَالَ: رَجُلٌ ضَعِيفٌ مُسْتَضْعَفٌ ذُو طِمْرَيْنِ لَا يَؤُبهُ لَهُ، لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ» (¬2). وفي حديث آخر: «رُبَّ أَشْعَثَ أَغْبَرَ ذِي طِمْرَيْنِ مَدْفُوعٍ بِالْأَبْوَابِ، لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ» (¬3). ¬

_ =قلت: وضعفه ابن معين، ويقية رجالهما رجال الصحيح. اهـ. وانظر العلل لابن أبي حاتم (2/ 143) برقم (1926)، وعلل الدارقطني (4/ 393) برقم (652). (¬1) أخرجه ابن ماجه (3989). قال البوصيري في "مصباح الزجاجة" (4/ 178): هذا إسناد فيه عبد الله بن لهيعة، وهو ضعيف، رواه الحاكم من طريق عياض بن عباس عن عيسى به، وقال: لا علة له. قلت: هو عند الحاكم (1/ 44) وقال: هذا حديث صحيح ولم يخرج في الصحيحين، وقد احتجا جميعًا بزيد بن أسلم عن أبيه عن الصحابة، واتفقا جميعًا عَلَى الاحتجاج بحديث الليث بن سعد عن عياش بن عباس القتباني، وهذا إسناد مصر صحيح ولا يحفظ له علة. (¬2) أخرجه ابن ماجه (4115) من حديث معاذ. قال البوصيري في "مصباح الزجاجة" (4/ 214): هذا إسناد فيه سويد بن عبد العزيز وقد ضعفوه، وله شاهد من حديث حارثة بن وهب رواه الشيخان، ورواه البخاري وغيره من حديث أنس، ورواه مسلم وغيره من حديث أبي هريرة. (¬3) أخرجه الطبراني في "الأوسط" (861) من طريق أسامة بن ريد عن حفص بن عبد الله ابن أنس عن جده أنس. قال الطبراني: لم يرو هذا الحديث عن حفص إلا أسامة. وأورده الهيثمي في المجمع (10/ 264) من طريق آخر عن أنس وقال: رواه الطبراني في الأوسط، وفيه عبد الله ابن موسى التيمي، وقد وثق، وبقية رجاله رجال الصحيح غير جارية بن هرم، ووثقه ابن حبان عَلَى ضعفه.

قال ابن مسعود (¬1): كونوا ينابيع العِلْم مصابيح الظلام، جُددُ القلوب خلقان الثياب، تعرفون في أهل السماء، وتخفون عَلَى أهل الأرض. كان قاسم الجوعي يقول لأصحابه: اغتنموا من زمانكم خمسًا إن حضرتم لم تعرفوا، وإن غبتم لم تفقدوا، وإن شهدتم لم تشاوروا، وإن قلتم شيئًا لم يقبل قولكم، وإن عملتم شيئًا لم تعطوا به. وأوصيكم بخمس أيضاً: إن ظلمتم لم تظلموا، وإن مُدحتُم لم تفْرحوا، وإن ذُممتُم لم تجزعوا، وإن كُذِّبتُم فلا تغضبوا، وإن خانوكم فلا تخونوا. طوبى لعبدٍ طوبى لعبد بحبل الله معتصم ... عَلَى صراط سويٍّ ثابت قدمه رثُّ اللباس جديدُ القلب مستترٌ ... في الأرض مشتهر فوق السماء اسمه ما زال يحتقر الأولى بهمته ... حتى ترَّقت إِلَى الأخرى به هممه فذاك أعظم من ذي التاج متكئًا ... عَلَى النمارق مختلفًا به خدمه ما زال الصادقون من العُلَمَاء والصالحين يكرهون الشهرة ويتباعدون عن أسبابها، ويحبون الخمول، ويجتهدون عَلَى حصوله. وقال بعضهم: ما اتَّقى الله من أَحَبّ الشهرة. وكان أيوب السختياني يقول: ما صدق عبدٌ إلا أَحَبّ أن لا يشعر بمكانه. ولما اشتهر بالبصرة كان إذا خرج إِلَى موضع يتحرى المشي في الطرقان الخالية، ويجتنب سلوك الأسواق والمواضع التي يعرف فيها. وكان سفيان الثوري لما اشتهر يقول: وددت أن يدي قُطعت من إبطي، وأني لم أشتهر ولم أُعرف. ولما اشتهر ذكر الإمام أحمد، اشتد غمه وحزنه، وكثر لزومه لمنزله، وقل خروجه في الجنائز وغيرها، خشية اجتماع الناس عليه. ¬

_ (¬1) أخرجه الدارمي في "سننه" (256)، والبيهقي في "الشعب" (1729) مع اختلافٍ فى بعض الألفاظ.

وكان يقول: طوبى لمن أخمل الله ذكره. وكان يقول: لو قدرت عَلَى الخروج من هذه المدينة -يعني بغداد- لفعلت حتي لا أذكر عند هؤلاء -يعني الملوك. فكان إذا مشي معه أحد من أقاربه يعرفه الناس، أبعده عنه لئلا يعرف به، وكان لا يدع أحدًا يمشي معه في الطريق ولا يتبعه، فإن تبعه أحد وقف حتى ينصرف الَّذِي معه. وكان ابن مسعود يقول لمن تبعه: لو تعلمون ما أغلق عليه بابي لم يتَّبعني منكم أحد (¬1). ورأى عمر قومًا يتبعون رجلاً فعلاهم بالدَّرة وقال: إن خفق النعال خلف الأحمق، قل ما يُبقي من دينه (¬2). مشى قومٌ مع معروف إِلَى بيته، فلما دخل قال لهم: مشيُنا هذا كان ينبغي لنا أن نتقيه، أليس جاء في الخبر: "أنَّه فتنة للمتبوع مذلة للتابع". وكان بعض العُلَمَاء في مجلسه فقام، فاتبعه جماعة فأعجبه ذلك، فرأى تلك الليلة في منامه قائلا يقول: سيعلمُ من يُحبُّ أن يُمشى خلفه غدًا. ورئي سفيان في النوم بعد موته فقِيلَ لَهُ: ما فعل الله بك؟ قال: غفر لي. قِيلَ لَهُ: هل رأيت شيئًا تكرهه؟ قال: نعم، الإشارة بالأصابع -يعني قول الناس هذا سفيان. الإشارة إِلَى الرجل بالأصابع فتنة، وإن كان في الخير. وفي الحديث "كَفَى بِالْمَرْءِ شَرًّا أَنْ يُشَارَ إِلَيْهِ بِالْأَصَابِعِ فِي دِينهِ أَوْ دُنْيَاهُ، إِلَّا مَن عَصَمَهُ اللَّهُ" (¬3). ¬

_ (¬1) أخرجه الدارمي في "سننه" (532). (¬2) أخرجه أبو نعيم في "الحلية" (9/ 12) بلفظ: أن خفق النعال، دون ذكر "فعلاهم بالدرة". (¬3) أخرجه أبو نعيم في "الحلية" (4/ 232) من قول إبراهيم والحسن.

كان بعض التابعين إذا جلس إِلَيْهِ أكثر من ثلاثة أنفس قام خوف الشهرة. وكان علقمة يكثر الجلوس في بيته فقِيلَ لَهُ: ألا تخرج فتحدث الناس. فَقَالَ: أكره أن يوطأ عقبي ويقال: هذا علقمة، هذا علقمة. كان كثير من الصادقين من السَّلف يجتنب لباس الثياب التي يُظنُّ بأصحابها الخير، إبعادًا لهذا الظن عن أنفسهم. وكان ابن محيريز يدعو فيقول: اللهم إني اسألك ذكرًا خاملاً. وقال مطرف: انظروا قومًا إذا ذكروا ذكروا بالقراءة، فلا تكونوا منهم، وانظروا قومًا إذا ذكروا ذكروا بالفجور فلا تكونوا منهم، وكونوا بين ذلك. وهذا هو الذكر الخفي المشار إِلَيْهِ في حديث سعد، وهو من أعظم نعم الله عَلَى عبده المؤمن، الَّذِي رزقه نصيبًا من ذوق الإيمان، فهو يعيش به مع ربه عيشًا طيبًا، ويحجبه عن خلقه حتى لا يُفسدُوا عليه حاله مع ربه، فهذه هي الغنيمة الباردة، فمن عرف قدرها وشكر عليها فقد تمت عليه النعمة. وقد ورد في بعض الآثار أن العبد يسأل عن شكر هذه النعمة يوم القيامة. تواريت من دهري بظل جناحه ... فعيني ترى دهرى وليس يراني فلو تسأل الأيام ما اسمي ما درت ... وأين مكاني ما عرفن مكاني كم بين حال هؤلاء الصادقين وبين من يسعى في ظهوره بكل طريق، باستجلاب قلوب الملوك وغيرهم، لكن إذا حقت الحقائق تبين الخالص من البهرج.

شعر: إذا اشتبكت دموع في خدود ... تبين من بكى ممن تباكى رائحة الإخلاص كرائحة البخور الخالص، كلما قوي ستره بالثياب، فاح وعبق بها، ورائحة الرياء كدخان الحطب، يعلو إِلَى الجو ثم يضمحل وتبقى رائحته الكريهة. كلما بليت أجسام الصادقين في التراب فاحت رائحة صدقهم فاستنشقها الخلق. كما اجتهد المخلصون في إخفاء أحوالهم عن الخلق، وريح الصدد تنم عليهم. كم يقول لسان الصادق: لا لا، وحاله ينادي: نعم نعم، ولسان الكاذب يقول: نعم نعم، وحاله ينادي عليه: لا لا. كما اجتهد الإمام أحمد عَلَى أن لا يذكر، وأبى الله إلا أن يُشهرهُ ويقرن الإمامة باسمه عَلَى ألسنة الخلق شاءوا أو أبوا، وكان في زمانه من يعطي الأموال لمن ينادي باسمه في الأسواق ليشتهر، فما ذكر بعد ذلك ولا عرف. خمول المحبين لمولاهم شهرة، وذلُّهم بين يديه عزُّ، وفقرٌ أليه الغنى الأكبر. شعر: تذلل أرباب الهوى في الهوى عزٌّ ... وفقرهم نحو الحبيب هو الكنزُ وسترهم فيه السرائر شهرة ... وغير تلاف النفس فيه هو العجزُ قوله: "وكان رزقه كفافًا فصبر عَلَى ذلك" هذا خير الرزق كما سبق في حديث "خير الرزق ما يكفي".

وفي الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: "اللهم اجعل رزق آل محمد قوتًا" (¬1) وقد فسر طائفة من المفسرين قوله تعالى: {وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى} (¬2) بهذا، وقالوا: المراد رزق يوم بيوم. في "صحيح مسلم" (¬3) عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "قد أفلح من هُدي إِلَى الإسلام وكان عيشه كفافًا وقنَّعه الله به". وخَرَّج الترمذي والنسائي (¬4) من حديث فضالة بن عبيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قاله: "طُوبَى لِمَنْ هُدِيَ لِلْإِسْلَامِ وَكَانَ عَيْشُهُ كَفَافًا وَقَنَع". وفي "المسند" و {سنن ابن ماجه (¬5) عن أنس مرفوعًا "ما من غني ولا فقير إلا وَدَّ يوم القيامة أنَّه أوتي قوتًا". وفي الترمذي (¬6) عن أبي أمامة مرفوعًا "عرض عَلَيَّ ربي أن يجعل لي بطحاء مكة ذهبًا فقلت: لا يا رب، ولكن أجوع يومًا وأشبع يومًا، فإذا جعت تضرعت إليك ودعوتك، وإذا شبعت حمدتك وشكرتك"} (¬7). وفي سنن ابن ماجه (¬8) "أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث إِلَى رجل يستمنحه ناقة ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (6460)، ومسلم (1055) من حديث أبي هريرة. (¬2) طه:131. (¬3) برقم (1054). (¬4) أخرجه الترمذي (2349) وقال: هذا حديث حسن صحيح، والنساني في "الكبرى" كما في تحفة الأشراف (8/ 261) برقم (11033). (¬5) أخرجه أحمد (3/ 117، 167)، وابن ماجه (4140) وقال السيوطي: هذا حديث أورده ابن الجوزي في الموضوعات، وأعله بنفيع، فإنه متروك، وهو مخرج في مسند أحمد، وله شاهد من حديث ابن مسعود، أخرجه الخطيب في تاريخه. (حاشية ابن ماجه). (¬6) أخرجه الترمذي تحت رقم (2347) قال: وبهذا الإسناد وقال: هذا حديث حسن. (¬7) ما بين المعقوفتين تكرر بالأصل. (¬8) برقم (4134) من حديث نقادة الأسدي. قال في الزوائد: في إسناده البراء، قد ذكره ابن حبان في الثقات، وقال الذهبي: مجهول، وباقي رجال الإسناد ثقات. وليس لنقادة شيء في بقية الكتب الستة سوى هذا الحديث الَّذِي انفرد به ابن ماجه. (انظر حاشية ابن ماجه).

فردَّه، ثم بعث إِلَى آخر فبعث إِلَيْهِ بناقة، فَقَالَ النبي صلى الله عليه وسلم: «اللَّهُمَّ أَكْثِرْ مَالَ فُلَانٍ -لِلْمَانِعِ الْأَوَّلِ- وَاجْعَلْ رِزْقَ فُلَانٍ يَوْمًا بِيَوْمٍ -لِلَّذِي بَعَثَ بِالنَّاقَةِ». وخرَّج ابن أبي الدُّنْيَا من حديث أبي هريرة مرفوعا "اللهم من أجبني فارزقه العفاف والكفاف، ومن أبغضني فأكثر ماله وولده". (¬1) وفي الترمذي وابن ماجه (¬2) عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ آمِنًا فِي سِرْبِهِ، مُعَافًى فِي بَدَنِهِ، عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ، فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا». وخرَّجه الطبراني (¬3) وزاد في أوله "ابن آدم جمعتُ عندك ما يكفيك، وأنت تطلب ما يطغيك، لا بقليل ولا من كثير تشبع" وزاد في آخره، "فعلى الدُّنْيَا العفاء". وقال عمر (¬4): كونوا أوعية الكتاب ينابيع للعلم، وسلوا الله رزق يوم بيوم، وعدوا أنفسكم في الموتى، ولا يضركم أن لا يكثر لكم". والكفاف من الرزق هو ما ليس فيه فضل لأنّ يكتفي به صاحبه من غير فضل. وجاء من حديث ابن عباس (¬5) مرفوعًا: "وإنَّما يكفي أحدكم ما قنعت به نفسه" خرَّجه ابن أبي الدُّنْيَا. والمراد أن من اكتفى من الدُّنْيَا باليسير وقنعت به نفسه، فقد كفاه ذلك واستغنى به وإن كان يسيرًا. قال أبو حازم: إن كان يغنيك ما يكفيك، فإن أدنى ما في الدُّنْيَا يكفيك، ¬

_ (¬1) وأخرجه البيهقي في "الشعب" (1475) مطولاً من حديث عبد الله بن سعيد المقبري عن جده عن أبي هريرة، وقال البيهقي: عبد الله بن سعيد غير قوي في الحديث. (¬2) أخرجه الترمذي (2346)، وابن ماجه (4141) من حديث عبيد الله بن محصن الحطمي. قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث مروان بن معاوية، وحيزت: جُمعت. (¬3) في "الأوسط" (8875) من حديث عمر، وقال الطبراني: لا يروى هذا الحديث عن عمر إلا بهذا الإسناد، تفرد به أسد بن موسى. (¬4) أخرجه عبد الله بن أحمد في "العلل" (4719)، والبيهقي في "الشعب" (10608)، وأبو نعيم في "الحلية" (1/ 51). (¬5) ذكره الديلمي في "الفردوس" (1/ 342).

وإن كان لا يغنيك ما يكفيك، فليس في الدُّنْيَا شيء يكفيك. قال بكر المزني: يكفيك من الدُّنْيَا ما قَنَعَت به، ولو كف تمر وشربة ماء. وقال الإمام أحمد: قليل الدُّنْيَا يكفي، وكثير ما يكفي يُعني، إن من اكتفى من الدُّنْيَا كفاه منها القليل، ومن لم يكتف لم يكفه الكثير. كما قال بعضهم، شعر: حقيق بالتواضع من يموتُ ... ويكفي المرء من ديناه قوتُ وقال آخر: يكفي الفتى خلق وقوت ... ما أكثر القوت لمن يموت وقد مدح في هذا الحديث من صبر عَلَى كفاف عيشه وقنع به، فأما الراضي بذلك فهو أعلى منزلة من الصابر القانع. وقد قيل: إن الفقير الراضي، أفضل من الفقير الصابر، والغني الشاكر بالإنفاق. وفي الحديث أنَّه عليه السلام كان يقول في دعائه: "رضني بما قسمت لي" (¬1). وفي حديث آخر: "إذا أراد بعبد خيرًا أرضاه بما قسم له وبارك له فيه". شعر: إذا رضيت بميسور من القوت ... أصبحت في الناس حرًّا غير ممقوت ¬

_ (¬1) أورده الهيثمي في المجمع (10/ 181) عن ابن عمر بنحوه وقال: رواه البزار، وفيه أبو مهدي سعيد بن سنان، وهو ضعيف في الحديث.

ياقوت نفسي إذا ما تم عفوك لي ... فلست آسى عَلَى دُرٍّ وياقوت قوله: "عجلت منيته، قلَّت بواكيه، قلَّ تراثه" يعني أنَّه يعجل له الموت عَلَى هذه الصفة، وهي أن يكون من يبكي {عليه} (*) قليلاً، وذلك لقلة عياله كما سبق، وأن يكون تراثه قليلاً، ويعني بتراثه الَّذِي يخلفه من الدُّنْيَا، وبذلك فسَّره الإمام أحمد وغيره. وهذا الكلام يحتمل أن يكون إخبارًا عن حال هذا المؤمن، ويحتمل أن يكون دعاء له من النبي صلى الله عليه وسلم، فاقتضى هذا الكلام أن المؤمن إذا كان عَلَى حالةٍ حسنة من حسن عبادةٍ وخمولٍ وقناعةٍ باليسير، فإنَّه يغبط بتعجيل موته عَلَى هذه الحالة، خشية أن يفتن في دينه ويتغير عما عليه. ولهذا المعنى شُرع تمني الموت وطلبه، خشية الفتنة في الدين. وفي "المسند" مرفوعًا (¬1) "لا يتمنين الموت إلا من وثق بعمله". فمن كان عَلَى حالةٍ حسنةٍ في دينه فإنَّه يغبط بموته قبل تغير حاله. كان أبو الدرداء إذا مات الرجل عَلَى الحالة الصالحة قال: هنيئًا لك، يا ليتني مكانك، فقالت له أم الدرداء في ذلك فَقَالَ: هل تعلمين يا حمقاء، أن الرجل يصبح مؤمنًا ويمسي منافقًا، يسلب إيمانه وهو لا يشعر، فأنا لهذا الميت أغبط مني لهذا بالبقاء والصلاة والصوم. وقيل: ما تحب لمن تحب؟ قال: الموت. قِيلَ لَهُ: فإن لم يمت؟ قال: قلة المال والولد. وكان ابن مسعود يتمنى الموت، فقِيلَ لَهُ، فَقَالَ: لو أني أعلم أني أبقى عَلَى ما أنا عليه لتمنيت البقاء عشرين سنة. ورأى أبو هريرة شبابًا يتعبدون فَقَالَ: ليت الموت ذهب بهؤلاء. ¬

_ (*) في الأصل: "عَلَى" وما أثبته موافق للسياق. (¬1) (2/ 350) من حديث أبي هريرة بنحوه.

وكان داود الطائي يبكي ويقول: أخاف أن يطول عمري. وسبب هذا أن من أطاع الله أَحَبّ لقاءه؛ كما قال الصديق في وصيته لعمر: إن أنت حفظت وصيتي لم يكن غائب أَحَبّ إليك من الموت، ولابد لك منه وإلى هذا الإشارة بقوله تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} (¬1). وقوله: {قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} (¬2). ومن أراد الله به خيرًا عسَّلهُ، فاستعمله بعمل صالح قبل موته فيقبضه عليه، إِنَّمَا الأعمال بالخواتيم. وقوله "قلَّت بواكيه" لما كان هذا المؤمن خفيف الحاذ قليل العيال، لم يكن له عند الموت كبير أحد يبكي عليه، خلاف من له أهل وولد وخدم وحشم وعشيرة، فإنَّه يكثر بواكيه مع قلة غناهم عنه، بل يزيد بكاؤهم في عذابه كما في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه" (¬3) فإنهم كثيرًا ما يفعلون ما لا يجوز من النياحة واللطم، وتحريق الثياب، وإتلاف الأمول، والتسخط لقضاء الله، وذلك كله يعذب به الميت ويتألم به. ولهذا أوصى كثير من السَّلف أهلهم أن لا يبكون عليهم. لما احتضر هشام بن عبد الملك أحد خلفاء بني أمية بكى أهله، فَقَالَ لهم: جاد عليكم هشام بالدنيا وجدتم عليه بالبكاء، ترك لكم ما جمع وتركتم عليه ما حمل، ما أعظم منقلب هشام إن لم يغفر له. وقال الحسن: شر الناس لميت أهله يبكون عليه ولا يقضون دينه، فهم يفعلون معه ما يضره، ولا يفعلون ما ينفعه في قبره، وكثر من يكي عَلَى ¬

_ (¬1) البقرة: 94. (¬2) الجمعة: 6. (¬3) أخرجه البخاري (1286)، ومسلم (928) من حديث ابن عمر. وأخرجه البخاري (1290)، ومسلم (927) من حديث عمر بن الخطاب.

الميت عند موته، إِنَّمَا يبكي لفقد حظه منه، إما من نفعه الحاصل له به من مال أو غيره، أو لفقده الأنس به ونحو ذلك من حظوظ الباكين، ولا يبكون رحمة لما هو فيه، وبكاء الرحمة هو بكاء العارفين دون بكاء الحزن، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لما بكى: "إِنَّمَا هذه رحمة، وإنَّما يرحم الله من عباده الرحماء" (¬1). احتضر بعض (الصالحين) (¬2) فبكى أبواه وولده وأهله وصبيانه، فسألهم ما الَّذِي أبكاهم؟ قال أبواه: نبكي لفراقك، وما نتعجل من الوحشة بعدك. وقال ولده: نبكي لفراقك وما يُتعجَّلُ من اليتم بعدك. فَقَالَ: كلكم يبكي لدنياي، أما فيكم من يبكي لآخرتي؟ أما فيكم من ييكي لما يلقى في التراب وجهي؟ أما فيكم من يبكي لمسائلة منكر ونكير؟ أما فيكم من يبكي لوقوفي بين يدي ربي؟ ثم صرخ صرخة فمات رحمه الله. فمن قلت بواكيه كان ذلك أقرب إِلَى رحمته. وقد روى صالح المري عن الحسن قال: إن الله إذا توفى المؤمن ببلاد غربة لم يعذبه رحمة لغربته، وأمر الملائكة فبكته لغيبة بواكيه عنه. وفي الحديث "إن من مات في غير مولده قِيسَ به إِلَى منتهى أثره في الجنة". وقد تبكي السماء والأرض عَلَى المؤمن لفقد عمله الصالح. وقد قال طائفة من السَّلف في قوله عز وجل: {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ} (¬3) قالوا: إن السماء والأرض تبكي عَلَى المؤمن. فَقَالَ علي: يبكي عَلَى المؤمن مصلاه الَّذِي كان يصلي فيه من الأرض، وبابه الَّذِي كان يصعد فيه قوله وعمله، ولم يكن ذلك لآل فرعون، فلذلك لم (تبك) (¬4) ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (1284) من حديث أسامة بن زيد بلفظ "هذه رحمة ... ". (¬2) كان مكانها في الأصل: "العارفين" ووضع فوقها حرف "ح" وكتب في الهامش "الصالحين" صح فكأن الأولى خطأ أو أنها نسخة والحاء "خاء"، والله أعلم. (¬3) الدخان: 29. (¬4) في الأصل: "تبكي" وما أثبتناه هو الأصوب.

عليهم السماء والأرض. وقيل: إن في التوراة أن الأرض تبكي عَلَى المؤمن أربعين صباحًا. فكلما قلت بواكي الميت المؤمن من بني آدم، كان أقرب إِلَى بكاء غيرهم عليه. وقد سُمع نياحة الجن وبكاؤهم عَلَى جماعة من سلف الأمة منهم: عمر ابن الخطاب، والحسين بن علي، وعمر بن عبد العزيز -رضي الله عنهم-. كان للمأمون ولد يسمى عليًّا وكان شديد الترف، فألقى الله في قلبه الزهد في الدُّنْيَا، فهرب من أبيه وخرج إِلَى البصرة وتنكر ولبس الخشن، وكان يصوم النهار ويقوم الليل، ويحمل عَلَى رأسه للناس بالأجرة ما يتقوت به، ويبيت في المساجد يتخللها حتى لا يفطن به، فمرض في بعض المساجد، فلما اشتد مرضه دخل خانًا بالبصرة، فاكترى فيه بيتًا وألقى نفسه عَلَى بارية فلما آيس من نفسه، دعا صاحب الخان، فناوله خاتمه ورقعة مختومة فَقَالَ له: إذا مت فاخرج إِلَى صاحبكم -يعني الأمير- بالبصرة فأه خاتمي وعرِّفهُ موضعي وناولُه هذه الرقعة. فلما مات خرج الرجل إِلَى باب الأمير، فأدى النصيحة فأدخله فأراه الخاتم، فلما نظر إِلَيْهِ عرفه فَقَالَ: ويلك أين صاحب هذا الخاتم؟ قال: في الخان ميت، وناوله الرقعة مختومة مكتوب عليها: لا يفكها إلا المأمون أمير المؤمنين، فأرسله الأمير ميتًا في دجلة إِلَى المأمون، وكتب إِلَيْهِ يعرفه قصته وأنه وجده في غرفة عَلَى بارية في بعض الخانات، ما تحته مهاد ولا عنده باكية، مسجي مغمض العينين مستنير الوجه طيب الرائحة، وبعث معه الخاتم والرقعة، ففكها المأمون فإذا فيها: يا أمير المؤمنين اقرأ سورة الفجر إِلَى قوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} (¬1) فاعتبر بها، واعلم أن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون. ¬

_ (¬1) الفجر: 14.

قوله "قل تراثه" فسره الإمام أحمد وغيره ميراثه بعد موته، يعنيان ما يخلف من الدُّنْيَا بعده يكون قليلاً نزرًا يسيرًا، هذه سنة الأنبياء -عليهم السلام- كما في حديث أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إِنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا، وَإِنَّمَا وَرَّثُوا الْعِلْمَ فَمَنْ أَخَذَهُ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ» (¬1) والنبي - صلى الله عليه وسلم - لم يخلف إلا آلات الجهاد؛ ففي الصحيح عنه أنَّه لم يخلف إلا سلاحه وبغلته وأرضًا جعلها صدقة (¬2). ولما احتضر أبو بكر الصديق قال لعائشة -رضي الله عنها-: "يا بنية إنا ولينا أمر المسلمين فلم نأخذ لهم دينارًا ولا درهمًا، ولكنا أكلنا من حريش طعامهم في بطوننا، ولبسنا من خشن ثيابهم عَلَى ظهورنا، وإنه لم يبق عندنا من مال المسلمين قليل ولا كثير إلا هذا العبد الحبشي، وهذا البعير الناضح، وجرد هذه القطيفة، فإذا مت فابعثي بهن إِلَى عمر. فلما جاء الرسول إِلَى عمر بذلك، بكى عمر، وقال: رحم الله أبا بكر، لقد اتعب من بعده. ولما احتضر عمر بن عبد العزيز قال: لا تتهموا الخازن فإني لا أدع إلا إحدى وعشرين دينارًا، وصَّى منها بوفاء ديون، فلم يبق لورثته سوى أربعة عشر دينارًا، هذا وجميع مملكة الإسلام تحت يديه. ودخلوا عليه في مرض موته وعليه قميص قد اتسخ جيبه وتحرق، فَقَالَ مسلمة بن عبد الملك لأخته -وهي زوجة عمر: ناوليني قميصًا سوى هذا حتى يلبسه أمير المؤمنين فإن الناس يدخلون {عليه} (¬3). فَقَالَ عمر: ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود برقم (3641)، والترمذي برقم (2682)، وقال: لا نعرف هذا الحديث إلا من حديث عاصم بن رجاء بن حيوة، وليس هو عندي بمتصل، هكذا حدثنا محمود بن خداش بهذا، وإنَّما يروى هذا الحديث عن عاصم بن رجاء بن حيوة، عن الوليد بن جميل، عن كثير بن قيس، عن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا أصح من حديث محمود بن خداش، ورأي محمد بن إسماعيل هذا أصح. اهـ. وأخرجه ابن ماجه برقم (223) عن أبي الدرداء مطولاً. (¬2) أخرجه البخاري في عدة مواضع منها (2873). (¬3) في الأصل: عَلَى، وما أثبته أنسب للسياق.

دعها يا مسلمة فما أمسى ولا أصبح لأمير المؤمنين ثوب سوى الَّذِي ترى علَيَّ. وكان يحيى بن أبي كثير من العُلَمَاء الربانيين، وكان حسن اللباس حسن الهيئة، فمات ولم يخلف سوى ثلاثين درهمًا كفنوه بها. وكان الأوزاعي قد وصل إِلَيْهِ في حياته من ملوك بني أمية وبني العباس أكثر من سبعين ألف دينار (*)، فأنفقها كلها في سبيل الله وفي الفقراء، فمات ولم يخلف سوى سبعة دنانير. ومات الإمام أحمد ولم يخلف سوى قطعًا في خرقة، كان وزنها دون نصف درهم، وترك دينًا (عليه) (**) وُفِّيَ من أجرة عقارٍ خلفه. وكان محمد بن أسلم الطوسي من العُلَمَاء الربانيين، فمات ولم يخلف سوى كسائه يراناء لوضوئه، فتصدقوا به. ووصى معروف أن يتصدق عند موته بقميصه الَّذِي عليه، وقال: أَحَبّ أن أخرج من الدُّنْيَا كما دخلت إليها عريانًا. وقال سفيان: يعجبني أن يموت الرجل ولا يخلف كفنًا. مات بعض الفقراء ولم يخلف كفنًا، فقالت له زوجته: نفتضح إذا لم تخلف كفنًا. فَقَالَ: لو خلفت كفنًا لافتضحت. قال يحيى بن معاذ: لا تكن ممن يفضحه في الدُّنْيَا ميراثه وفي الآخرة ميزانه. لابن آدم في ماله عند مماته مصيبتان عظيمتان يُسْلَبُهُ كله ويسأل عنه كله. فهو حينئذ يجمع لمن لا يحمده ويقدم عَلَى من لا يعذره. ¬

_ (*) في الأصل: دينارًا. (**) في الأصل: "عَلَى"، وما أثبته أنسب للسياق.

يا نفس توبي فإن الموت قد حانا ... واعصي الهوى فالهوى ما زال فتانا أما ترين المنايا كيف تلقطنا ... لقطًا وتُحلق أخرانا بأولانا في كل يوم لنا ميت نشيعه ... نرى بمصرعه آثار موتانا يا نفس مالي وللأموال أتركها ... خلفي وأخرج من دنياي عريانا أبعد خمسين قد قضيتها لعبًا ... قد آن أن تقصري قد آن قد آنا ما بالنا نتعامى عن مصائرنا ... ننسى بغفلتنا من ليس ينسانا نزداد حرصًا وهذا الدهر يزجرنا ... كان زاجرنا بالحرص أعرانا أين الملوك وأبناء الملوك ومن ... كانت تخر له الأذقان إِذعانًا صاحت بهم حادثات الدهر فانقلبوا ... مستبدلين من الأوطار أوطانًا خلوا مدائن كان العز مفرشها ... واستفرشوا حفرًا غُيرًا وقيعانا يا راكضًا في ميادين الهوى مرحًا ... ورافلا في ثياب الغي نشوانًا مضى الزمان وولى العمر فى لعب ... يكفيك ما قد مضى قد كان ما كانا تم آخره والحمد لله وحده، وصلى الله عَلَى سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.

30 - الكلام على قوله تعالى {إنما يخشى الله من عباده العلماء}

الكلام على قوله تعالى {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ}

فصل في قوله تعالى: {إنما يخشى الله من عباده العلماء}

بسم الله الرحمن الرحيم اللهم صل عَلَى سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم. قال شيخنا وسيدنا الشيخ الإمام العلامة شيخ الإسلام، مفتي الأنام، وحيد عصره، وفريد دهره: أبو الفرج عبد الرحمن بن الشيخ الإمام العلامة شهاب الدين أحمد بن رجب الحنبلي نفع الله به. فصل في قوله تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} دلت هذه الآية عَلَى إثبات الخشية للعلماء بالاتفاق، وعلى نفيها عن غيرهم عَلَى أصح القولين، وعلى نفي العِلْم عن غير أهل الخشية أيضاً. أما الأول: فلا ريب فيه، فإن صيغة "إِنَّمَا" تقتضي تأكد ثبوت المذكور بالاتفاق؛ لأنّ خصوصية "إنَّ" إفادة التأكيد، وأما "ما" فالجمهور عَلَى أنها "كأن"، ثم قال جمهور النحاة هي الزائدة التي تدخل عَلَى: {إن، وأن، وليت، ولعلَّ، وكأن} فتكفها عن العمل؛ لأنّ الأصل في الحروف العاملة أن تكون مختصة، فَإِذَا اختصت بالاسم أو الفعل، ولم تكن كالجزء منه عملت فيه، و"إن وأخواتها" مختصة بالاسم، فتعمل فيه، فإذا دخلت عليها "ما" أزالت اختصاصها فصارت تدخل عَلَى الجفلة الاسمية والفعلية فبطل عملها، وإنَّما عملت "ما" النافية عَلَى اللغة التي نزل بها القرآن، وهي لغة أهل الحجاز استحسانًا لمشابهتها لـ "ليس" وذهب بعض الكوفيين، وابن درستويه إِلَى أن "ما" مع هذه الحروف اسم مبهم لمنزلة ضمير الشأن في التفخيم والإبهام وفي أن الجملة بعده مفسرة له ومخبر بها عنه. وذهبت طائفة من الأصوليين وأهل البيان إِلَى أن "ما" هذه نافية واستدلوا بذلك عَلَى إفادتها الحصر، وأن "إنَّ" أفادت الإثبات في المذكور و"ما" أفادت النفي فيما عداه، وهذا باطل باتفاق أهل المعرفة باللسان، فإن "إنَّ" إِنَّمَا تفيد توكيد الكلام إثباتًا كان أو نفيًا، لا تفيد الإثبات، و"ما"، زائدة

كافة، لا ناقية، وهي الداخلة عَلَى سائر أخوات "إن": "لكن، وكأن، وليت، ولعل" وليست في دخولها عَلَى هذه الحروف نافية بالاتفاق، فكذلك الداخلة على "إن" و"أن". وقد نُسِبَ القول بأنها نافية إِلَى أبي علي الفارسي لقوله في كتاب "الشيرازيات": إن العرب عاملوا "إِنَّمَا" معاملة النفي، و"إلاَّ" في فصل الضمير كقوله: "وإنَّما يدافع عن أحسابهم أنا أو مثلي". وهذا لا يدل علي أن "ما" نافية، عَلَى ما لا يخفى، وإنَّما مراده أنهم أجروا "إِنَّمَا" مجرى النفي، و"إلا" في هذا الحكم لما فيها من معنى النفي، ولم يصرح بأن النفي مستفاد من "ما" وحدها. وقيل: إنه لا يمتنع أن تكون "ما" في هذه الآية بمعني: الَّذِي، والعلماء: خبر، والعائد: مستتر في يخشى وأطلقت "ما" عَلَى جماعة العقلاء، كما في قوله تعالى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 3] وأما دلالة الآية علي الثاني وهو نفي الخشية عن غير العُلَمَاء، فمن صيغة "إِنَّمَا" إما عَلَى قول الجمهور، وإن "ما" هي الكافة، فنقول: إذا دخلت "ما" الكافة عَلَى "إنَّ" أفادت الحصر، هذا هو الصحيح. وقد حكاه بعض العُلَمَاء عن جمهور الناس، وهو قول أصحابنا كالقاضي، وابن عقيل، والحلواني، والشيخ موفق الدين، وفخر الدين إسماعيل بن علي -صاحب ابن المني- وهو قول أكثر الشافعية، كأبي حامد، وأبي الطيب، والغزالي، والهراسي، وقول طائفة من الحنفية كالجرجاني، وكثير من المتكلمين كالقاضي أبي بكر وغيره وكثير من النحاة وغيرهم، بل قد حكاه أبو علي، كما ذكره الرازي عن النحاة جملة، ولكن اختلفوا في دلالتها عَلَى النفي، هل هو بطريق المنطوق، أو بطريق المفهوم؟ فَقَالَ كثير من أصحابنا كالقاضي في أحد قوليه، وصاحب ابن المني، والشيخ موفق الدين: إن دلالتها عَلَى النفي بالمنطوق كالاستثناء سواء، وهو قوله أبي حامد، وأبي الطيب من الشافعية، والجرجاني من الحنفية، وذهبت طائفة من أصحابنا كالقاضي في قوله الآخر، وابن عقيل، والحلواني إِلَى أن دلالتها عَلَى النفي بطريق المفهوم، وهو قول كثير من الحنفية والمتكلمين واختلفوا

أيضًا: هل دلالتها عَلَى النفي بطريق النص أو الظاهر؟ فقالت طائفة: "إِنَّمَا" تدل عَلَى الحصر ظاهرًا، ويحتمل التأكيد، وهذا الَّذِي حكاه الآمدي عن القاضي أبي بكر، والغزالي والهراسي، وغيرهم من الفقهاء، وهو يشبه قول من يقول: إن دلالتها بطريق المفهوم، فإن أكثر دلالات المفهوم بطريق الظاهر لا النص، وظاهر كلام كثير من أصحابنا وغيرهم أن دلالتها عَلَى النفي والإثبات كلاهما بطريق النص لأنهم جعلوا "إِنَّمَا" كالمستثنى والمستثنى منه سواء، وعندهم أن الاستثناء من الإثبات نفي، ومن النفي إثبات لها لا محتملاً. وأما من قال: إن الاستثناء ليس لإثبات النقيض بل لدفع الحكم، إما مطلقًا، أو في الاستثناء من الإثبات وحده، كما يذكر عن الحنفية، وجعلوه من باب المفهوم الَّذِي ينفونه، فهو يقول ذلك في "إِنَّمَا" بطريق الأولى، فظهر بهذا أن المخالف في إفادتها الحصر، هو من القائلين بأن دلالتها عَلَى النفي بالمفهوم وهم قسمان: أحداهما: من لا يرى كون المفهوم حجة بالكلية كالحنفية، ومن وافقهم من المتكلمين. والثاني: من يراه حجة في الجملة، ولكن ينفيه هاهنا؛ لقيام الدليل عنده عَلَى أنَّه لا مفهوم لها، واختاره بعض المتأخرين من أصحابنا وغيرهم، وبيان ذلك: أن "إِنَّمَا" مركبة من "إنَّ" المؤكدة، و"ما" الذائدة الكافة، فيستفاد التوكيد من إن والذائد لا معنى له، نعم أكثر ما يقال إنه يفيد تقوية التوكيد كما فى الباء الذائدة ونحوها، فأما أن يحدث معنى آخر فلا، وقد تقدم بيان بطلان قول من ادعى أن "ما" نافية، وأن النفي فيما عدا المذكور مستفاد منها. وأيضًا: فورودها لغير الحصر كثير جدًّا كقوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ

يَتَوَكَّلُونَ} (¬1). وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إِنَّمَا الربا في النسيئة" (¬2). وقوله: "إِنَّمَا الشهر تسع وعشرون" (¬3). وغير ذلك من المنصوص، ويقال: إِنَّمَا العالم زيد، ومثل هذا لو أريد به الحصر، لكان لغزًا وقد يقال: إن أغلب مواردها لا تكون فيه للحصر، فإن قوله تعالى: {إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [النساء: 171] لا تفيد الحصر مطلقًا فإنَّه سبحانه وتعالى له أسماء وصفات كثيرة غير توحده بالإلهية، وكذلك قوله: {قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [الأنبياء: 108]، فإنَّه لم يحصر الوحي إِلَيْهِ، في هذا وحده، وكذلك قوله: {إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ} [الرعد: 7]، ومثل هذا كثير جدًّا، وما يبين عدم إفادتها للحصر قوله - صلى الله عليه وسلم -: "مَا مِنْ نَبِيٍّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ إِلَّا وَقَدْ أُوتِيَ مِنَ الْآيَاتِ مَا آمَنَ عَلَي مثله الْبَشَرُ، وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِي أُوتِيتُهُ وَحْيًا أَوْحَى اللَّهُ إِلَيَّ، فَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَكْثَرَهُمْ تَابِعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ" (¬4). فلو كانت "إِنَّمَا" للحصر لبطلت أن تكون سائر آيات النبي صلى الله عليه وسلم ومعجزاته سوى القرآن آيات له تدل عَلَى {معرفة} وهذا باطل قطعًا، فدل عَلَى أن: "إِنَّمَا" لا تفيد الحصر في مثل هذا الكلام، وشبهه. والصواب: أنا تدل عَلَى الحصر. ودلالتها عليه معلومة بالاضطرار من لغة العرب، كما يعلم من لغتهم بالاضطرار معاني حروف الشرط، والاستفهام، والنفي، والنهي، وغير ذلك، ولهذا تتوارد "إِنَّمَا" وحروف النفي، والاستفهام في قوله تعالى: {إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} (¬5)، فإنَّه كقوله: {وَمَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ ¬

_ (¬1) الأنفال: 2. (¬2) أخرجه مسلم (1595) من حديث أسامة بن زيد، وكذا البخاري (2178 - 2179) بلفظ: "لا ربا إلا في النسيئة". (¬3) أخرجه مسلم (1080)، وعند البخاري (1907) بلفظ: "الشهر تسع وعشرون". (¬4) أخرجه البخاري (4981، 7274)، ومسلم (152، 239). (¬5) التحريم: 7.

تَعْمَلُونَ} (¬1)، وقوله: {إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ} (¬2). {إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ} (¬3). {إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} (¬4) فإنَّه كقوله: {وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ} (¬5) وقوله: {مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} (¬6)، ونحو ذلك، ولهذا كانت كلها واردة في سياق نفي الشرك، وإبطال إلهية ما سوى الله سبحانه. وأما أنها مركبة من "إن" و"ما" الكافة، فمسلَّم، ولكن قولهم: أن "ما" الكافة أكثر ما تفيد قوة التوكيد، لا تفيد معنى زائدًا، يجاب عنه من وجوه: أحدها: أن "ما" الكافة قد تثبت معنًى زائدًا، وقد ذكر ابن مالك أنها إذا دخلت عَلَى الباء أحدثت معنى التقليل كقول الشاعر: ولئن صرت لا تحير جوابًا ... لبما قد تُرى وأنت خطيب قال: وكذلك تحدث في "الكاف" معنى التعليل، في نحوه قوله تعالى: {وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ} (¬7). ولكن قد نُوزِعُ في ذلك وادعيَ أن الباء والكاف للسببية، وأن الكاف بمجردها تفيد التعليل. والثاني: أن يقال: لا ريب أن "إنَّ" تفيد توكيد الكلام، و"ما" الزائدة تقوي هذا التوكيد، وتثبت معنى الكلام، فتفيد ثبوت ذلك المعنى المذكور في اللفظ خاصة ثبوتًا لا يشاركه فيه غيره، واختصاصه به، وهذا من نوع التوكيد والثبوت ليس معنًى آخر مغايرًا له، وهو الحصر المدعى فبوته بدخول "ما" فلم يخرج عن إفادة قوة معنى التوكيد، وليس ذلك بمنكر إذ المستنكر ثبوت معنى آخر بدخول الحرف الزائد من غير جنس ما يفيده الحرف الأول. الوجه الثالث: أن "إنَّ" المكفوفة بـ "ما" استعملت في الحصر، فصارت حقيقة عرفية فيه، واللفظ يصير له بالاستعمال معنى غير ما كان يقتضيه أصل الوضع، وهكذا يقال في الاستثناء، فإنَّه وإن كان في الأصل ¬

_ (¬1) الصَّافات: 39. (¬2) الأنبياء: 108. (¬3) النساء: 171. (¬4) طه: 98. (¬5) آل عمران: 62. (¬6) الأعراف: 59 (¬7) البقرة: 198.

للإخراج من الحكم لكن صار حقيقة عرفية في مناقضة المستثنى منه، وهذا يشبه بقل اللفظ عن المعنى الخاص إِلَى العام، إذا صار حقيقة عرفية فيه. كقولهم "لا أشرب له شربة ماء" ونحو ذلك، وكنقل الأمثال السائرة ونحوها مما ليس هذا موضع بسطه. وهذا الجواب ذكره أبو العباس ابن تيمية في بعض كلامه القديم، وهو يقتضي أن دلالة "إِنَّمَا" عَلَى الحصر إِنَّمَا هو بطريق العرف والاستعمال، لا بأصل وضع اللغة، وهو قول حكاه غيره في المسألة. وأما قوله تعالى {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} (¬1) وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّمَا الربا في النسيئة". وقوله: "إِنَّمَا الشهر تسع وعشرون". وقولهم: "إِنَّمَا العالم زيد" ونحو ذلك. فيقال: معلوم من كلام العرب أنهم ينفون الشيء في صيغ الحصر وغيرها تارةً لانتفاء ذاته، وتارة لانتفاء فائدته ومقصوده، ويحصرون الشيء في غيره تارةً لانحصار جميع الجنس فيه، وتارةً لانحصار المفيد أو الكامل فيه، ثم إنهم تارة يعيدون النفي إِلَى المسمى، وتارةً إِلَى الاسم، وإن كان ثابتًا في اللغة إذا كان المقصود الحقيقي بالاسم منتفيًا عنه ثابتًا لغيره كقوله تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} (¬2). فنفى عنهم مسمى الشيء مع أنه في الأصل شامل لكل موجود من حقٍ وباطلٍ، لما كان ما لا يفيد ولا منفعة فيه يئول إِلَى الباطل الَّذِي هو العدم فيصير بمنزلة المعدوم، بل قد يكون أولى بالعدم من المعدوم المستمر عدمه؛ لأنّه قد يكون فيه ضرر، فمن قال الكذب فلم يقل شيئًا، ومن لم يعمل ما ينفعه بل ما يضره فلم يعمل شيئًا، ولهذا لما سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الكفار فَقَالَ: "ليسوا بشيء" (¬3). ويقول أهل الحديث عن بعض الرواة المجروحين أو الأحاديث الواهية: ¬

_ (¬1) الأنفال: 2. (¬2) المائدة: 68. (¬3) أخرجه البخاري (6213، 5762، 7561)، ومسلم (122، 123، 2228) من حديث عائشة وعندهما: "الكهان" بدلاً من "الكفار".

ليس بشيء، إذا لم يكن مما ينتفع به في الرواية لظهور كذبه عمدًا أو خطأ. ويقال أيضاً لمن خرج عن موجب الإنسانية في الأخلاق ونحوها: هذا ليس بآدمي ولا إنسان، وما فيه إنسانية، ومنه قول النسوة عن يوسف - صلى الله عليه وسلم -: {مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ} [يوسف: 31]، وكذلك قول الله تعالى: {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} (¬1). وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لَيْسَ الْمِسْكِينُ بِهَذَا الطَّوَّافِ الَّذِي تَرُدُّهُ اللُّقْمَةُ وَاللُّقْمَتَانِ، وَالتَّمْرَةُ وَالتَّمْرَتَانِ، إِنَّمَا الْمِسْكِينُ الَّذِي لَا يَجِدُ مَا يُغْنِيهِ، وَلَا يُفْطَنُ لَهُ فَيُتَصَدَّقَ عَلَيْهِ، وَلَا يَسْأَلُ النَّاسَ إِلْحَافًا» (¬2). وكذلك قال: «مَا تَعدُّونَ الْمُفْلِس فِيكُمْ؟ قَالُوا: الَّذِي لَا دِرْهَمَ لَهُ وَلَا دِينَار. قَالَ: لَيسَ ذَلِكَ بِالْمُفْلِس، وَلَكِنَّ الْمُفْلِسَ مَنْ يُأْتَى يَوْم الْقِيَامَة بِحَسَنَاتٍ أَمْثَال الجِبَال، وَيَجِيءُ قَدْ شَتَمَ هَذَا، وَضَرَبَ هَذَا، وَأَخَذَ مَالَ هَذَا، فَيَأْخُذُ هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِذَا لَمْ يَبْقَ لَهُ حَسَنَة، أُخِذَ مِنْ سَيئَاتِهِمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ، ثُمَّ أُلْقِيَ فِي النَّارِ» (¬3). وقال: «مَا تَعدُّونَ الرَّقُوبُ فِيكُمْ؟ قالوا: الرَّقُوبُ من لا يولد له. قال: الرقوب من لم يقدم من ولده شيئًا» (¬4). وكذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لَيْسَ الشَّدِيدُ بِالصُّرعَةِ، وَلَكِنَّ الشَّدِيد الَّذِى يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ" (¬5). وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لَيْسَ الْغِنَى عَنْ كَثْرَةِ الْعَرْضِ، وَإِنَّمَا الْغِنَى غِنَى النَّفْسِ" (¬6). وأمثال ذلك. ¬

_ (¬1) الحج: 46. (¬2) أخرجه البخاري (1476، 4539)، ومسلم (102، 1039) من حديث أبي هريرة. (¬3) أخرجه مسلم (2581) من حديث أبي هريرة. (¬4) أخرجه مسلم (2608) من حديث ابن مسعود. (¬5) أخرجه البخاري (6114)، ومسلم (107، 2609) من حديث أبي هريرة. (¬6) أخرجه البخاري (6446)، ومسلم (1051) من حديث أبي هريرة.

فهذا كله نفي لحقيقة الاسم من جهة المعنى الَّذِي يجب اعتباره، فإن اسم الرقوب والمفلس والغني والشديد ونحو ذلك، إِنَّمَا تعارفه الناس فيمن عدم ماله وولده، أو حصل له مالٌ أو قوةٌ في بدنه، والنفوس تجزع من الأولين وترغب في الآخرين، فيعتقد أنَّه هو المستحق لهذا الاسم دون غيره فبيَّن - صلى الله عليه وسلم - أن حقيقة ذلك المعنى ثابتة لغير هذا المتوهم، { ... وجه ... المقدر بذلك لغير} (¬1)، فإن من عدم المال والولد يوم القيامة حيث يضر عدمه أحق باسم المفلس والرقوب ممن يعدمهما حيث قد لا يتضرر بذلك ضررًا معتبرًا. وكذلك وجود غنى النفس وقُوَّتِهَا، أحق بالمدح والطلب من قوة البدن وغنى المال. وهكذا قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّمَا الربا في النسيئة" "ولا ربا إلا في النسيئة" (¬2). فإن الربا العام الشامل للجنسين والجنس الواحد المتفقة صفاته إِنَّمَا يكون في النسيئة، وأما ربا الفضل فلا يكون إلا في الجنس الواحد، ولا يفعله أحد إلا إذا اختلفت الصفات كالمضروب بالتبر، والجيد الرديء، فأما مع استواء الصفات فلا يبيع أحدٌ درهمًا بدرهمين وأيضًا فربا الفضل إِنَّمَا حرم؛ لأنّه ذريعة إِلَى ربا النساء، كما في "المسند" (¬3) عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: "لا تبيعوا الدرهم بالدرهمين، إني أخاف عليكم الرماء، وهو الربا". فالربا المقصود بالقصد الأول هو ربا النسيئة، فَإِذَا باع مائة بمائة وعشرين مع اتفاق الصفات، ظهر أن الزيادة قابلت الأجل الَّذِي لا منفعة فيه، وإنَّما دخل فيه للحاجة، ولهذا لا يضمن الآجال باليد ولا بالإتلاف، فلو بقيت العين في يده أو المال في ذمته مدة، لم يضمن الأجل بخلاف زيادة الصفة فإنها مضمونة في الإتلاف والغصب، وفي المبيع إذا قابلت غير الجنس. ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين غير واضح بالأصل. (¬2) تقدم تخريجه. (¬3) (2/ 109) وذكر الهيثمي في المجمع (4/ 113) وقال: وفيه أبو جناب، وهو ثقة ولكنه مدلس.

فلهذا قيل: "إِنَّمَا الربا في النسيئة" و"لا ربا إلا في النسيئة"، فإن المستحق لاسم الربا في الحقيقة هو ربا النسيئة، وكذلك نفي الأسماء الشرعية لانتفاء بعض واجباتها، كقوله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} إِلَى قوله: {أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا} (¬1). فهؤلاء هم المستحقون لهذا الاسم عَلَى الحقيقة الواجبة، دون من أخلَّ بشيء من واجبات الإيمان، ولهذا ينفي الإيمان والإسلام عمن انتفى عنه بعض واجباتهما كقوله: "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن" (¬2) الحديث. وقوله: "المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه" (¬3). وقوله: "المؤمن من أمِنَهُ الناس عَلَى دمائهم وأموالهم" (¬4) و"المجاهد من جاهد نفسه في ذات الله" (¬5) ومثل هذا كثير. وكذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّمَا الشهر تسع وعشرون" وقوله: "الشهر تسع وعشرون" فإن هذا هو عدد الشهر اللازم الدائم، واليوم الزائد عَلَى ذلك جائز يكون في بعض المشهور، ولا يكون في بعضها بخلاف التسعة والعشرين، فإنَّه يجب عددها واعتبارها بكل حال. وهذا كما يقال: "الإسلام شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله" فهذا هو الَّذِي لابد منه، وما زاد عَلَى ذلك. فقد يجب عَلَى ¬

_ (¬1) الأنفال: 2. (¬2) أخرجه البخاري (2475، 5578، 6772، 6810)، ومسلم (57) من حديث أبي هريرة، وأخرجه البخاري (6782، 6809) من حديث ابن عباس. (¬3) أخرجه البخاري (6484)، ومسلم (40) مختصراً من حديث عبد الله بن عمرو. (¬4) أخرجه الترمذي (2627) مختصرًا، والنسائي (5010) مختصرًا، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. (¬5) أخرجه الترمذى (1621)، وأحمد (6/ 21) من حديث فضالة بن عبيد، وقال الترمذي: حسن صحيح.

الإنسان، وقد يموت قبل التمكن، فلا يكون الإسلام في حقه إلا ما تكلم به. وحاصل الأمر: أن الكلام الخبري هو إما إثبات أو نفي، فكما أنهم في الإثبات يثبتون للمسمى اسم الشيء إذا حصل فيه مقصود الاسم، وإن انتفت صورة المسمى فكذلك في النفي، فإن أدوات النفي تدل عَلَى انتفاء الاسم بانتفاء مسماه قد يدل تارةً عَلَى أنَّه لم يوجب صلاة، وتارةً لأنه لم توجد حقيقة مقصودةٌ بالمسمى، وتارةً لأنّه لم تحمل تلك الحقيقة، وتارةً لأنّ ذلك المسمى لا ينبغي أن يكون مقصودًا، بل المقصود غيره، وتارة لأسباب أخر، وهذا حسب ما يقتضيه سياق الكلام، وما اقترن به من القرائن اللفظية، التي تخرجه عن كونه حقيقة عند الجمهور؛ لكون المركب قد صار موضوعًا لذلك المعنى، ومن القرائن الحالية التي تجعله مجازًا عند الجمهور. وأما إذا أطلق الكلام مجردًا عن القرينتين، فمعناه السلب المطلق، وهو أكثر الكلام، وهذا الجواب ملخص من كلام شيخ الإسلام أبي العباس ابن تيمية -رحمه الله- وأما قوله تعالى: {إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ} (¬1)، وقوله: {إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ} (¬2)، ونحو ذلك، فالجواب عنه أن يقال: الحصر تارة يكون عامًا كقوله: {إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} (¬3) ونحو ذلك، وتارة يكون خاصًا بما يدل عليه سياق الكلام، فليس الحصر أن ينفي عن الأول كل ما سوى الثاني مطلقًا، بل قد ينفي عنه ما يتوهم أنَّه ثابت له من ذلك النوع الَّذِي أثبت له في الكلام، فقوله: {إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ} فيه نفي تعدد الإلهية في حقه سبحانه، وأنه لا إله غيره، ليس المراد أنَّه لا صفة له سوى وحدانيته الإلهية. ¬

_ (¬1) النساء: 171. (¬2) الرعد: 7. (¬3) طه: 98.

وكذلك قوله: {إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} (¬1)، فإن المراد به أنَّه لم يُوحَ إليَّ في أمر الإلهية إلا التوحيد لا الإشراك. والعجب أن أبا حيان الأندلسي أنكر عَلَى الزمخشري ادعاء الحصر في هذه الآية لاستلزامه عنده أنَّه لم يوح إِلَيْهِ غير التوحيد. قال: إن الحصر إِنَّمَا تلقي من جهة "أنما" المفتوحة الهمزة. قال: ولا يعرف القول بإفادتها الحصر إلا عن الزمخشري وحده، ورد عليه شيخنا أبو محمد بن هاشم بناء عَلَى أن "أن" المفتوحة فرع عن "إن" المكسورة عَلَى الصحيح. قال: ولهذا صح للزمخشري أن يدعي أنها تفيد الحصر كـ "إِنَّمَا"، انتهى. وهذا كله لا حاجة إِلَيْهِ في هذه الآية فإن الحصر مستفاد فيها من "إِنَّمَا" المكسورة التي في أول الآية، فلو فرض أن "أنما" المفتوحة لا تفيد الحصر لم ينتف بذلك الحصر في الآية عَلَى ما لا يخفى، وكذلك قوله تعالى: {إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ} (¬2) أي: لست ربًا لهم ولا مجازيًا، ولا محاسبًا، وليس عليك أن تجبرهم عَلَى الإيمان، ولا أن تتكلف لهم طلب الآيات التي يقترحونها عليك، إِنَّمَا أنت منذر، فليس عليك إلا الاتباع كما قال: {فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ} (¬3)، وقال: {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ} (¬4). ومن هاهنا يظهر الجواب عن قوله: "وإنَّما كان الَّذِي أوتيته وحيًا أوحاه الله إلي" فإنَّه قال: "ما من نبي إلا قد أوتي من الآيات ما آمن عَلَى مثله ¬

_ (¬1) الأنبياء: 108. (¬2) النازعات: 45. (¬3) الرعد: 40. (¬4) الغاشية: 21 - 22.

البشر، وإنَّما كان الَّذِي أوتيته وحيًا أوحاه الله إلي فأرجو أن أكون أكثرهم تبعًا يوم القيامة" (¬1). فالكلام إِنَّمَا سيق لبيان آيات الأنبياء العظام، الَّذِي آمن لهم بسببها الخلق الكثير، ومعلوم أن أعظم آيات النبي صلى الله عليه وسلم التي آمن عليها أكثر أمته هي الوحي، وهو الَّذِي كان يدعو له الخلق كلهم، ومن أسلم في حياته خوفًا، فأكثرهم دخل الإيمان في قلبه بعد ذلك بسبب سماع الوحي، كمسلمة الفتح وغيرهم. فالنفي توجه إِلَى أنَّه لم تكن آياته التي أوجبت إسلام الخلق الكثير من جنس ما كان لمن قبله مثل ناقة صالح، وعصا موسى ويده، وإبراء المسيح الأكمة والأبرص وإحياء الموتى ونحو ذلك، فإن هذه أعظم آيات الأنبياء قبله، وبها آمن البشر لهم، وأما آيته هو - صلى الله عليه وسلم - التي آمن البشر عليها في حياته وبعد وفاته فهي الوحي الَّذِي أوحي إِلَيْهِ، وهي التي توجب إيمان البشر إِلَى يوم القيامة، كما قال تعالى: {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} (¬2). ولهذا قيل: إن آيات الأنبياء انقطعت بموتهم وآيته - صلى الله عليه وسلم - باقية إِلَى يوم القيامة، ومما يبين أن الحصر لم يتتف عن "إِنَّمَا" في شيء من هذه الأنواع التي توهموها: أن الحصر قد جاء فيها وفي مثلها "بإلا" كما جاء "بإنما" فإنَّه جاء "لا ربا إلا في النسيئة"، كما جاء "إِنَّمَا الربا في النسيئة"، وجاء في القرآن: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ} (¬3)، كما جاء فيه: {إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ} (¬4)، وكذلك قوله: {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ ¬

_ (¬1) سبق تخريجه. (¬2) الأنعام: 19. (¬3) آل عمران: 144. (¬4) النازعات: 45.

الرُّسُلُ} (¬1) ومثل ذلك كثير. فهذا وجه إفادتها الحصر في هذه الآية عَلَى القول المشهور، وهو أن "ما" في قوله: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} (¬2) هي الكافة، وأما عَلَى قول من جعلها موصولة، فيفيد الحصر من جهة أخرى، وهو أنها إذا كانت موصولة فتقدير الكلام: أن الذين يخشون الله هم العُلَمَاء، وهذا أيضًا يفيد الحصر فإن الموصول يقتضي العموم لتعريفه، إذا كان عامًا لزم أن يكون خبره عاما أيضاً؛ لئلا يكون الخبر أخص من المتبدأ، وهذا النوع من الحصر يسمى حصر المبتدأ في الخبر. ومتى كان المبتدأ عامًا فلا ريب في إفادته الحصر. وأما دلالة الآية عَلَى الثالث، وهو نفي العِلْم عن غير أهل الخشية فمن جهة الحصر أيضًا، فإن الحصر المعروف المطرد هو حصر الأول في الثاني، وهو هاهنا حصر الخشية في العُلَمَاء، وأما حصر الثاني في الأول فقد ذكره الشيخ أبو العباس ابن تيمية -رحمه الله- وأنه قد يكون مرادا أيضاً فيصير الحصر من الطرفين، ويكونان متلازمين، ومثل ذلك كقوله: {إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ} (¬3). {إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا} (¬4). {إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ * تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} (¬5). قال: وكذلك الحصر في الآية، أعني قوله: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} (¬6)، فيقتضي أن كل من خشي الله فهو عالم، أو يقتضي حال من يخشى الله. ¬

_ (¬1) المائدة: 75. (¬2) فاطر: 28. (¬3) يس: 11. (¬4) النازعات: 45. (¬5) السجدة: 15 - 16. (¬6) فاطر: 28.

وبيان الحصر الَّذِي ذكره الشيخ -رحمه الله- في هذه الآيات أن قوله: {إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ} (¬1) فيه الحصر من الطرفين، فإنَّه اقتضى أن إنذاره مختص بمن اتبع الذكر، وخشي الرحمن بالغيب، فإن هذا هو المختص بقبول الإنذار والانتفاع به، فلذلك نفي الإنذار عن غيره، والقرآن مملوء بأن الإنذار إِنَّمَا هو للقائل له خاصة، ويتقضي أنَّه لا يتبع الذكر ويخشى الرحمن بالغيب إلا من أنذره، أي: من قِبَل إنذاره، وانتفع به، فإن اتباع الذكر وخشية الرحمن بالغيب مختصة بمن قبل الإنذار، كما يختص قبول الإنذار والانتفاع به بأهل الخشية واتباع الذكر. وكذلك قوله: {إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا} (¬2). وقوله: {إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا} (¬3). فإن انحصار الإنذار في أهل الخشية والإنذار، كانحصار أهل الخشية في أهل الإنذار والذين خروا سجدًا في أهل الإيمان، ونحو ذلك، فكذلك قوله: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} (¬4). وقد فسرها السَّلف بذلك أيضاً كما سنذكره إن شاء الله تعالى ونذكر شواهده. وهاهنا نكتة حسنة: وهي أن قول تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} (4) قد علم أنَّه يقتضي ثبوت الخشية للعلماء، لكن هل يقتضي ثبوتها لجنس العُلَمَاء، كما يقال: إِنَّمَا يحج المسلمون أو لا يحج إلا مسلم، فيقتضي ثبوت الجح لجنس المسلمين لا لكل فرد منهم؟ ويقتضي ثبوت الخشية لكل واحد من العُلَمَاء؟ هذا الثاني هو الصحيح، وتقريره من جهتين: ¬

_ (¬1) يس: 11. (¬2) النازعات: 45. (¬3) السجدة: 15. (¬4) فاطر: 28.

الجهة الأولى: أن الحصر هاهنا من الطرفين، حصر الأول في الثاني، وحصر الثاني في الأول، كما تقدم بيانه، فحصر الخشية في العُلَمَاء يفيد أن كل ما خشي الله فهو عالم، وإن لم يفد بمجرده أن كل عالم فهو يخشى الله، ويفيد أن من لا يخشى فليس بعالم، وحصرُ العُلَمَاء في أهل الخشية يفيد أن كل عالمٍ خاشٍ، فاجتمع من مجموع الحصرين ثبوت الخشية لكل فرد من أفراد العُلَمَاء. والجهة الثانية: أن المحصور هل هو مقتضي للمحصور فيه، أو هو شرط له؟ قال الشيخ أبو العباس -رحمه الله-: وفي هذه الآية وأمثالها هو مقتضى، فهو عام فإن العِلْم بما أنذرت به الرسل يوجب الخوف. ومراده بالمقتضى العلة المقتضية، وهي التي يتوقف تأثيرها عَلَى وجود شروط وانتفاء موانع، كأسباب الوعد والوعيد ونحوهما، فإنها مقتضيات وهي عامة. ومراده بالشرط ما يتوقف تأثير السبب عليه، بعد وجود السبب، وهو الَّذِي من عدمه عدم المشروط، ولا يلزم من وجوده وجود المشروط كالإسلام بالنسبة إِلَى الحج. والمانع بخلاف الشرط: وهو ما يلزم من وجوده العدم، ولا يلزم من عدمه الوجود. وهذا الفرق بين السبب والشرط، وعدم المانع، إِنَّمَا يتم عَلَى قول من يُجَوِّزُ تخصيص العلة، وأما من لا يسمي علة إلا ما استلزم الحكم ولزم من وجوده وجوده عَلَى كل حال، فهؤلاء عندهم الشرط وعدم المانع من جملة أجزاء العلة. والمقصود هنا: أن العِلْم إذا كان سببًا مقتضيًا للخشية كان ثبوت الخشية تمامًا لجميع أفراد العُلَمَاء، لا تتخلف إلا لوجود مانع ونحوه.

فصل

فصل قد تقدم بيان دلالة الآية عَلَى أن من خشي الله وأطاعه، وامتثل أوامره، واجتنب نواهيه، فهو عالم؛ لأنّه لا يخشاه إلا عالم. وعلى نفي الخشية عن غير العُلَمَاء، ونفي العِلْم عن غير أُولي الخشية أيضاً، وأن من لم يخش الله فليس بعالم، وبذلك فسرها السَّلف. - فعن ابن عباس قال: يريد إِنَّمَا يخافني من خلقي مَن علم جبروتي وعزِّتي وجلالي وسلطاني". وعن مجاهد والشعبي: "العالِم من خاف الله". وعن ابن مسعود قال: "كفى بخشية الله علماً، وكفى بالاغترار بالله جهلاً" (¬1). وذكر ابن أبي الدُّنْيَا، عن عطاء الخراساني في هذه الآية قال: "العُلَمَاء بالله الذين يخافونه". وعن الربيع بن أنس في هذه الآية قال: "من لم يخش الله فليس بعالم، ألا ترى أن داود قال: ذلك بأنك جعلت العِلْم خشيتك والحكمة الإيمان بك، وما عِلم مَن لم يخشك وما حكمة من لم يؤمن بك، وعن الربيع، عن أبي العالية {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ} (¬2)، قال: "الحكمة" الخشية، فإن خشية الله رأس كل حكمة". وروى الدارمي من طريق عكرمة، عن ابن عباس: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ}، قال: "من خشي الله فهو عالمٌ" (¬3). وعن يحيى بن جعدة، عن علي قال: "يا حملة العِلْم اعملوا به، فإنما العالم من عمل بما علم فوافق علمه عمله، وسيكون أقوامٌ يحملون العِلْم، ¬

_ (¬1) أخرجه ابن المبارك في "الزهد" (46)، وابن أبي شيبة في "المصنف" (14/ 343) برقم (34532)، والطبراني في "الكبير" (9/ 8927)، والبيهقي في "الشعب" (746) وغيرهم. (¬2) البقرة: 269. (¬3) في "السنن" برقم (333).

ولا يجاوز تراقيهم، يخالف علمهم عملهم، وتخالف سريرتهم علانيتهم، يجلسون حِلَقًا فيباهي بعضهم بعضًا، حتى أن الرجل ليغضب عَلَى جليسه أن يجلس إِلَى غيره ويدعه، أولئك لا تصعد أعمالهم في مجالسهم تلك إِلَى الله عز وجل" (¬1). وعن مسروق قال: "كفى بالمرء علمًا أن يخشى الله عز وجل، وكفى بالمرء جهلاً أن يعجب بعمله". وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: "لا يكون الرجل عالمًا حتى لا يحسد من فوقه، ولا يحقر من دونه، ولا يبتغي بعلمه ثمنًا" (¬2). وعن أبي حازم نحوه. ومنه قول الحسن: "إِنَّمَا الفقيه الزاهد في الدُّنْيَا الراغب في الآخرة، البصير بدينه المداوم عَلَى عبادة ربه". وعن عبيد الله بن عمر، أن عمر بن الخطاب سأل عبد الله بن سلام: من أرباب العِلْم؟ قال: الذين يعملون بما يعلمون (¬3). وقال رجل للشعبي: أفتني أيها العالم، فَقَالَ: "إِنَّمَا العالم من يخاف الله". وعن الربيع بن أنس، عن بعض أصحابه قال: "علامة العِلْم خشية الله عز وجل". وسئل سعد بن إبراهيم: من أفقه أهل المدينة؟ قال: "أتقاهم لربه". وسئل الإمام أحمد عن معروف، وقِيلَ لَهُ: هل كان معه علم؟ فَقَالَ: "كان معه أصل العِلْم، خشية الله عز وجل". ويشهد لهذا قوله تعالى: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} (¬4). وكذلك قوله تعالى: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ ¬

_ (¬1) أخرجه الدارمي في "السنن" (382). (¬2) أخرجه أبو نعيم في "الحلية" (1/ 306). (¬3) أخرجه الدارمي في "السنن" (575). (¬4) الزمر: 9.

يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ} (¬1). وقوله: {أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (¬2). وقوله: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} (¬3). قال أبو العالية: سألت أصحاب محمد عن هذه الآية: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ} (¬4)، فقالوا: كل من عصى الله فهو جاهل، وكل من تاب قبل الموت، فقد تاب من قريب. وعن قتادة، قال: أجمع أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عَلَى أن كل من عصى ربه، فهو جهالة عمدًا كان أو لم يكن، وكل من عصى الله فهو جاهل. وقال مجاهد: من عمل ذنبًا من شيخ أو شاب فهو بجهالة. وقال أيضاً: من عصى ربه فهو جاهل؛ حتى ينزع عن معصيته. وقال أيضاً: من عمل سوءًا خطأ أو إثمًا عمدًا فهو جاهل حتى ينزع منه. وقال أيضاً هو وعطاء: الجهالة العمد. رواهنَّ ابن أبي حاتم وغيره. قال: ورُوي عن قتادة وعمرو بن مرة والثوري نحو ذلك. ورُوي عن مجاهد والضحاك قالا: ليس من جهالته ألا يعلم حلالاً ولا حرامًا، ولكن من جهالته حين دخل فمه. وقال عكرمة: الدُّنْيَا كلها جهالة. ¬

_ (¬1) النساء: 17. (¬2) الأنعام: 54. (¬3) النحل: 119. (¬4) النساء: 17.

وعن الحسن البصري أنَّه سئل عنها، فَقَالَ: هم قوم لم يعلموا ما لهم وما عليهم. قِيلَ لَهُ: أرأيت لو كانوا علموا؟ قال: فليخرجوا منها فإنها جهالة. ومما يُبين أن العِلْم يوجب الخشية، وأن فقده يستلزم فقد الخشية وجوه: أحدها: أن العِلْم بالله تعالى وماله من الأسماء والصفات كالكبرياء والعظمة والجبروت والعزة وغير ذلك يوجب خشيته، وعدم ذلك يستلزم فقد هذه الخشية. وبهذا فسر الآية ابن عباس فَقَالَ: يريد إِنَّمَا يخافني من علم جبروتي وعزتي وجلالي وسلطاني. ويشهد لهذا قول النبي صلّى الله عليه وسلم: "إني لأعلمكم بالله وأشدكم له خشية" (¬1). وكذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيرًا" (¬2). وفي "المسند" (¬3) وكتاب الترمذي (¬4) وابن ماجه (¬5) من حديث أبي ذر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ، وَأَسْمَعُ مَا لَا تَسْمَعُونَ، إِن السَّمَاءُ أَطَّت وَحُقَّ لَهَا أَنْ تَئِطَّ، لَيسَ فِيهَا مَوْضِعُ أَرْبَعِ أَصَابِعَ إِلَّا وَمَلَكٌ وَاضِعٌ جَبْهَتَهُ سَاجِدًا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَاللَّهِ لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلًا وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا، ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (6101) ومسلم (2356) من حديث عائشة بلفظ، "فوالله لأنا أعلمهم بالله وأشدهم له خشية". (¬2) أخرجه البخاري (4621، 6486)، ومسلم (2359) من حديث أنس. (¬3) (5/ 173). (¬4) برقم (2312). وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب، ويروى من غير هذا الوجه أن أبا ذر قاله: لوددت أني شجرة تعضد. وقال الترمذي: وفي الباب عن أبي هريرة وعائشة وابن عباس وأنس. (¬5) برقم (4190).

وما تلذذتم بالنساء علي الفرش، ولخرجتم إِلَى الصُّعدات (¬1) تجأرون (¬2) إِلَى الله عز وجل". وقال الترمذي: حسن غريب. قال: ويروى عن أبي ذر موقوفًا. وذكر أبو نعيم وغيره بالإسناد عن ابن عباس أنَّه قال للنفر الذين كانوا يختصمون ويتمارون: "أوما علمتم أن لله عبادًا أصمتتهم خشية الله من غير بكم ولا عي، وإنهم لهم العُلَمَاء والفصحاء والطلقاء والنبلاء، العُلَمَاء بأيام الله، غير أنهم إذا تذكروا عظمة الله طاشت لذلك عقولهم، وانكسرت قلوبهم، وانقطعت ألسنتهم، حتى إذا استفاقوا من ذلك تسارعوا إِلَى الله عز وجل بالأعمال الزاكية يعدون أنفسهم مع المفرطين، وإنهم لأكياس أقوياء مع الظالمين والخاطئين، وإنهم لأبرار برءاء إلا أنهم لا يستكثرون إلا الكثير، ولا يرضون له بالقليل، ولا يدلُّون عليه بالأعمال، هم حيث ما ليقتموهم مهتمون مشفقون وجلون خائفون". وروى ابن أبي الدُّنْيَا أثرًا عن زياد بن {أبي} حبيب أنَّه بلغه أن من جملة العابدين من يسيل من عينه أمثال الأنهار من البكاء، فإذا رفع رأسه قال: سبحانك ما تُخشى حق خشيتك، قال -تعالى ذكره-: "لكن الذين يحلفون باسمي كاذبين لا يعلمون ذلك". وعن يزيد الرقاشي قال: "إن لله تبارك وتعالى ملائكة حول العرش تجري أعينهم مثل الأنهار إِلَى يوم القيامة يميدون كأنهم تنفضهم الريح من خشية الله". فيقول الرب عز وجل: ملائكتي! ما الَّذِي يخيفكم وأنتم عندي؟ فيَقُولُونَ: يا رب! لو أن أهل الأرض اطلعوا من عزتك وعظمتك عَلَى ما اطلعنا عليها ما أساغوا طعامًا ولا شرابًا ولا انبسطوا في فرشهم، ولخرجوا إِلَى الصحاري يخورون كما تخور البقر. ¬

_ (¬1) الطرق. (¬2) ترفعون أصواتكم بالدعاء.

ومثل هذا كثير جداً، والمقصود: أن العِلْم بالله وأسمائه وصفاته وأفعاله من قدره، وخلقه، والتفكير في عجائب آياته المسموعة المتلوة وآياته المشاهدة المرئية مع عجائب مصنوعاته، وحكم مبتدعاته ونحو ذلك، مما يوجب خشية الله وإجلاله، ويمنع من ارتكاب نهيه، والتفريط في أوامره، وهو أصل العِلْم النافع. ولهذا قال طائفة من السَّلف كعمر بن عبد العزيز، وسفيان بن عيينة: أعجب الأشياء قلب عرف ربه ثم عصاه. وقال بشر بن الحارث: لو تفكر الناس في عظمة الله لما عصوا الله. وفي هذا المعنى يقول الشاعر: فواعجبًا كيف يعصى الإله ... وكيف يجحده الجاحد ولله في كل تحريكة وتسكينة ... أبدًا شاهد وفي كل شيءٍ له آية ... تدل عَلَى أنَّه واحد الوجه الثاني: أن العِلْم بتفاصيل أمر الله ونهيه والتصديق الجازم بذلك، وبما يترتب عليه من الوعد والوعيد، والثواب والعقاب مع تيقن مراقبة الله واطلاعه ومشاهدته، ومقته لعاصيه، وحضور الكرام الكاتبين كل هذا يوجب الخشية، وفعل المأمور وترك المحظور، وإنَّما يمنع الخشية ويوجب الوقوع في المحظورات الغفلة عن استحضار هذه الأمور، والغفلة من أضداد العِلْم. والغفلة والشهوة أصل الشر، قال تعالى: {وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} (¬1). والشهوة وحدها لا تستقل بفعل السيئات إلا مع الجهل، فإن صاحب الهوى لو استحضر هذه الأمور المذكورة، وكانت موجودة في ذكره، لأوجبت له الخشية القامعة لهواه، ولكن غفلته عنها مما يوجب نقص إيمانه الَّذِي أصله التصديق الجازم المترتب عَلَى التصور التام، ولهذا كان ذكر الله وتوحيده والثناء ¬

_ (¬1) الكهف: 28.

عليه يُزيد الإيمان، والغفلة والإعراض عن ذلك يُضعفه ويُنقصه، كما كان يقول من يقول من الصحابة: "اجلسوا بنا نؤمن ساعة" (¬1). وفي الأثر المشهور عن حماد بن سلمة (¬2)، عن أبي جعفر الخطمي، عن جده عمير بن حبيب، وكان من الصحابة قال: "الإيمان يزيد وينقص". قيل: وما زيادته ونقصانه؟ قال: إذا ذكرنا الله فحمدناه وسبحناه فتلك زيادته، وإذا أغفلنا ونسينا فذلك نقصانه. وفي مسند الإمام أحمد (¬3)، والبزار من حديث أبي هريرة، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "جددوا إيمانكم". قالوا: وكيف نجدد إيماننا يا رسول الله؟ قال: "قولوا: لا إله إلا الله". ¬

_ (¬1) ذكره البخاري تعليقًا في كتاب الإيمان -باب قول النبي صلّى الله عليه وسلم بني الإسلام عَلَى خمس". قال البخاري: وقال معاذ ... فذكره. الفتح (1/ 60). وعزاه الحافظ إِلَى أحمد بن حنبل وأبي بكر بن أبي شيبة في "كتابي الإيمان" لهما، وذكر إسناديهما. وقال: هذا موقوف صحيح. تعليق التعليق (2/ 20 - 21). وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" برقم (10412، 414 - 1، 16547). وأخرج ابن أبي شيبة في "مصنفه" برقم (10415) عن زر قال: كان عمر مما يأخذ بيد الرجل والرجلين من أصحابه فيقول: "قم بنا نزدد إيمانًا". (¬2) أخرجه الحاكم في "شعار أصحاب الحديث" (8)، والآجرى في "الشريعة" (215) كلاهما من طريق حماد بن سلمة به. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (10376)، وعبد الله بن أحمد في "السنة" (634، 680)، والصابوني في "عقيدة أهل السنة" (105)، والحاكم في "شعار أصحاب الحديث" (7)، والبيهقي في "الشعب" (56)، والآجرى في "الشريعة" (216) وغيرهم من طريق حماد بن سلمة عن أبي جعفر الخطمي عن أبيه عن جده عمير بن حبيب بن خماشة به. قال الحافظ في "الإصابة" (3/ 30): وقال ابن السكن: تفرد به حماد بن سلمة، وقال أبو نعيم: اسم أبي جعفر: عمير بن يزيد بن حبيب وأخرجه ابن شاهين من وجه آخر عن حماد بن سلمة قال: حدثنا أبو جعفر الخطمي قال: كان جدى عمير بن حبيب - وكانت له صحبة- يقول: "أي بني الإيمان يزيد وينقص". (¬3) أخرجه أحمد (35912) وضعفه الشيخ الألباني -رحمه الله- في الضعيفة (896).

ولهذا كان الصحيح المشهور عن الإمام أحمد، الذي عليه أكثر أصحابه، وأكثر علماء السنة من جميع الطوائف، أن ما في القلب من التصديق والمعرفة يقبل الزيادة والنقصان، فالمؤمن يحتاج دائمًا كل وقت إِلَى تجديد إيمانه وتقوية يقينه، وطلب الزيادة في معارفه، والحذر من أسباب الشك والريب والشبهة، ومن هنا يعلم معنى قول النبي صلّى الله عليه وسلم: "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن" (¬1)، فإنَّه لو كان مستحضرًا في تلك الحال لاطلاع الله عليه ومقته له مع ما توعده الله به من العقاب المجمل والمفصل استحضارًا تامًّا لامتنع منه بعد ذلك وقوع هذا المحظور، وإنَّما وقع فيما وقع فيه لضعف إيمانه ونقصه. الوجه الثالث: أن تصور حقيقة المخوف يوجب الهرب منه، وتصور حقيقة المحبوب يوجب طلبه، فإذا لم يهرب من هذا، ولم يطلب هذا، دل عَلَى أن تصوره لذلك ليس تامًّا، وإن كان قد تصور الخبر عنه، وتصور الخبر وتصديقه وحفظ حروفه غير تصور المخبر به، فَإِذَا أخبر بما هو محبوب أو مكروه له، ولم يكذب الخبر، بل عرف صدقه، لكن قلبه مشغول بأمور أخرى عن تصور ما أخبر به، فهذا لا يتحرك للهرب ولا للطلب. وفي الأثر المعروف عن الحسن، ورُوي مرسلاً عن النبي صلّى الله عليه وسلم: "العِلْم علمان، فعلم في القلب، فذاك العِلْم النافع، وعلم عَلَى اللسان فذاك حجة الله عَلَى ابن آدم" (¬2). الوجه الرابع: أن كثيرًا من الذنوب قد يكون شب وقوعه جهل فاعله بحقيقة قبحه وبغض الله له، وتفاصيل الوعيد عليه، وإن كان عالمًا بأصل تحريمه وقبحه، لكنه يكون جاهلاً بما ورد فيه من التغليظ والتشديد ونهاية القبح، فجهله بذلك هو الَّذِي جرأه عليه وأوقعه فيه، ولو كان عالمًا بحقيقة قبحه لأوجب ذلك العِلْم تركه خشية من عقابه. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (2475) وفي مواضع أخر، ومسلم (57) من حديث أبي هريرة، وأخرجه البخاري (6782) وفي مواضع أخر من حديث ابن عباس. (¬2) أخرجه الخطيب في "تاريخه" (4/ 346)، وابن الجوزي في "العلل المتناهية" (1/ 82).

ولهذا فإن القول الصحيح الَّذِي عليه السَّلف وأئمة السنة أنَّه يصح التوبة عن بعض الذنوب دون بعض خلافًا لبعض المعتزلة، فإن أحد الذنبين قد يعلم قبحه فيتوب منه، ويستهين بالآخر لجهله بقبحه وحقيقة مرتبته فلا يقلع عنه، وكذلك قد يقهره هواه، ويغلبه في أحدهما دون الآخر، فيقلع عما لم يغلبه هواه فيه دون ما غلبه فيه هواه. ولا يقال: لو كانت الخشية عنده موجودة لأقلع عن الجميع؛ لأنّ أصل الخشية عنده موجودة، ولكنها غير تامة، وسبب نقصها إما نقص علمه، وإما غلبة هواه، فنقص توبته نشأ من كون المقتضي للتوبة من أحد الذنبين أقوى من المقتضي للتوبة من الآخر، وكون المانع من التوبة من أحدهما أشد من المانع من الآخر. الخامس: أن كل من علم علماً تامًّا جازمًا بأن فعل شيء يضره ضررًا راجحًا ولم يفعله فإن هذا خاصة العاقل، فإن نفسه تنصرف عما يعلم رجحان ضرره بالطبع. فإن الله جعل في النفس حبًّا لما ينفعها، وبغضًا لما يضرها فلا يفعل ما يجزم بأنه يضرها ضررًا راجحًا، ولا يقع ذلك إلا مع ضعيف العقل؛ فإن السقوط من موضع عالٍ أو في نهرٍ مغرقٍ، والمرور تحت حائط يخشى سقوطه، ودخول نار متأججة، ورمي المال في البحر ونحو ذلك، لا يفعله من هو تام العقل؛ لعلمه بأن هذا ضررٌ لا منفعة فيه، وإنَّما يفعله من لم يعلم ضرره كالصبي والمجنون والساهي والغافل. وأما العقل فلا يقدم عَلَى ما يضره مع علمه بما فيه من الضرر إلا لظنه أن منفعته راجحة إما بأن يجزم بأن ضرره مرجوح، أو يظن أن خيره راجح، كالذي يركب البحر، ويسافر الأسفار الخطرة للربح، فإنَّه لو جزم بأنه يغرق أو يخسر لما فعل ذلك، وإنَّما أقدم عليه لترجيح السلامة عنده والربح، وإن كان قد يكون مخطئًا في هذا الظن، وكذلك الزاني والسارق ونحوهما، لو حصل لهم جزم بإقامة الحدود عليهم من الرجم والقطع ونحو ذلك لم يقدموا

عَلَى ذلك، فإذا علم هذا فأصل ما يوقع الناس في السيئات الجهل وعدم العِلْم بأنها تضرهم ضررًا راجحًا، أو ظنّ أنها تنفعهم نفعًا راجحًا، وذلك كله جهلٌ إما بسيط وإما مركب، ولهذا يسمى حال فعل السيئات الجاهلية، فإن صاحبها في حال جاهلية، ولهذا كان الشيطان يزين السيئات ويأمر بها، ويذكر ما فيها من المحاسن التي يظن أنا منافع لا مضار، كما أخبر الله عنه في قصة آدم أنَّه قال: {يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى * فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا} (¬1). وقال: {مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ} (¬2). وقال تعالى: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ * وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ} (¬3). وقال تعالى: {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا} (¬4). وقال: {كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (¬5). وتزيين أعمالهم يكون بواسطة الملائكة والأنبياء والمؤمنين للخير، وتزيين شياطين الإنس والجن للشر. وقال تعالى: {وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ} (¬6). ومثل هذا كثير. فالفاعل للذنب لو جزم بأنه يحصل له به الضرر الراجح لم يفعله، لكنه ¬

_ (¬1) طه: 120 - 121. (¬2) الأعراف: 20. (¬3) الزخرف: 36 - 37. (¬4) فاطر: 8. (¬5) الأنعام: 108. (¬6) الأنعام: 137.

يزين له ما فيه من اللذة التي يظن أنها مصلحة، ولا يجزم بوقوع عقوبته بل يرجو العفو بحسنات أو توبة أو بعفو الله ونحو ذلك. وهذا كله من اتباع الظن وما تهوى الأنفس، ولو كان له علم كامل لعرف به رجحان ضرر السيئة، فأوجب له ذلك الخشية المانعة من مواقعتها ونبين هذا: بالوجه السادس هو: أن لذات الذنوب لا نسبة لها إِلَى ما فيها من الآلام والمفاسد البتة، فإن لذاتها سريعة الانقضاء، وعقوباتها وآلامها أضعاف ذلك، ولهذا قيل: "إن الصبر عَلَى المعاصي أهون من الصبر عَلَى عذاب الله". وقيل: رب شهوة ساعة أورثت حزنًا طويلاً. وما في الذنوب من اللذات كما في الطعام الطيب المسموم من اللذة، فهي مغمورة بما فيه المفسدة، ومُؤثر لذة الذنب كمؤثر لذة الطعام المسموم الَّذِي فيه من السمون ما يُمرض أو يقتل. ومن هاهنا يعلم: أنَّه لا يؤثر لذات الذنوب إلا من هو جاهلٌ بحقيقة عواقبها، كما لا يؤثر أكل الطعام المسموم للذته إلا من هو جاهل بحاله، أو غير عاقل، ورجاؤه التخلص من شرها بتوية أو عفو، أو غير ذلك، كرجاء آكل الطعام المسموم الطيب الخلاص من شر سُمه بعلاجٍ أو بغير، وهو في غاية الحمق والجهل، فقد لا يتمكن من التخلص منه بالكلية فيقتله سمه، وقد لا يتخلص منه تخلصًا تامًا فيطول مرضه، وكذلك المذنب قد لا يتمكن من التوية، فإن من وقع في ذنب تجرأ عَلَى غيره، وهان عليه خوض الذنوب، وعسر عليه الخلاص منها، ولهذا قيل من عقوبة الذنب: الذنب بعده، وقد دل عَلَى ذلك القرآن في غير موضع، وإذا قُدِّر أنَّه تاب منه فقد لا يتمكن من التوية النصوح (الحاصلة) (*) التي تمحو أثره بالكلية، وإن قُدِّر أنَّه تمكن من ذلك، فلا يقاوم اللذة الحاصلة بالمعصية ما في التوبة النصوح المشتملة عَلَى الندم والحزن والخوف والبكاء وتجشم الأعمال الصالحة المشقة من الألم والمشقة. ¬

_ (*) كتب فوقها: كذا وكتب في الهامش: لعلها الخالصة.

ولذا قال الحسن: ترك الذنب أيسر من طلب التوبة. ويكفي المذنب ما فاته في حال اشتغاله بالذنوب من الأعمال الصالحة التي كان يمكنه تحصيل الدرجات بها. وقد اختلف الناس في التائب هل يمكن عَوْدُه إِلَى ما كان عليه قبل المعصية عَلَى قولين معروفين، والقول بأنه لا يمكن عوده إِلَى ما كان عليه قول أبي سليمان الداراني وغيره. وكذلك اختلفوا في التوبة إذا استكملت شروطها هل يجزم بقبولها؟ عَلَى قولين: فالقاضي أبو بكر وغيره من المتكلمين عَلَى أنَّه لا يجزم بذلك، ولكن كثير من أهل السنة والمعتزلة وغيرهم عَلَى أنَّه يقطع بقبولها. وإن قُدِّر أنَّه عُفي عنه من غير توبة، فإن كان ذلك بسبب أمر مكفرٍ عنه كالمصائب الدنيوية، وفتنة القبر، وأهوال البرزخ، وأهوال الموقف، ونحو ذلك، فلا يستريب عاقل أن ما في هذه الأمور من الآلام والشدائد أضعاف أضعاف ما حصل في المعصية من اللذة. وإن عفي عنه بغير سبب من هذه الأسباب المفكرة ونحوها، فإنَّه لابد أن تلحقه عقوبات كثيرة منها ما فاته من ثواب المحسنين، فإن الله تعالى وإن عفى عن المذنب فلا يجعله كالذين آمنوا وعملوا الصالحات. كما قال تعالى: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} (¬1). وقال: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} (¬2). ولهذا قال بعض السَّلف: هب أن المسيء قد عفي عنه، أليس قد فاته ثواب المحسنين؟ ولولا أن الله تعالى رضَّى أهل الجنة كلهم بما حصل لهم من ¬

_ (¬1) الجاثية: 21. (¬2) ص: 28.

المنازل، لتقطعت {قلوب} (*) أصحاب اليمين حسرات مما فاتهم من منازل المقربين مع إمكان مشاركتهم لهم في أعمالهم التي نالوا بها منازلهم العالية، وقد جاء في الأحاديث والآثار أنهم يَقُولُونَ: ألم نكن مع هؤلاء في الدُّنْيَا؟ فيقال: كنتم تفطرون وكانوا يصومون، وكنتم تنامون وكانوا يقومون وكنتم تبخلون، وكانوا ينفقون، ونحو ذلك. وكذلك جاء "أن الرجل من أهل عليين ليخرج فيسير في ملكه فما تبقى خيمة من خيم الجنة إلا دخلها من ضوء وجهه فيستبشرون بريحه فيَقُولُونَ: واهًا لهذه الريح، هذا رجل من أهل عليين قد خرج يسير في ملكه". هذا قد رُوي من حديث ابن مسعود مرفوعًا (¬1)، ورُوي من كلام كعب (¬2). ومنها: ما يلحقه من الخجل والحياء من الله عز وجل عند عرضه عليه وتقريره بأعماله وربما كان ذلك أصعب عليه من دخول النار ابتداءً وقد أخبر بذلك بعض المحتضرين في زمان السَّلف عند احتضاره، وكان أغمي عليه حتى ظُن أنَّه مات، ثم أفاق فأخبر ذلك، وجاء تصديق ذلك في الأحاديث والآثار، كما روى عبد الله بن الإمام أحمد في كتاب "الزهد" بإسناده عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "يدني الله عز وجل العبد يوم القيامة فيضع عليه كنفه فيستره من الخلائق كلها، ويدفع إِلَيْهِ كتابه في ذلك الستر فيقول: اقرأ يا ابن آدم كتابك، قال: فيمر بالحسنة فيبيض لها وجهه ويسرُّ بها قلبه، قال: فيقول الله عز وجل: أتعرف يا عبدي؟ فيقول: نعم يا رب أعرف، فيقول إني قد قبلتها منك، قال: فيخر لله ساجدًا، قال: فيقول الله عز وجل ارفع رأسك يا ابن آدم وعدُ في كتابك، قال: فيمر بالسيئة فيسود لها وجهه ويَوجَل منها قلبه، وترتعد منه فرائصه، ويأخذه من الحياء من ربه ما لا يعلمه غيره قال: فيقول الله عز وجل: أتعرف يا عبدي؟ قال: فيقول: نعم يا رب أعرف، قال: فيقول: إني قد غفرتها لك، قال: فلا يزال حسنة تقبل فيسجد وسيئة تغفر فيسجد، فلا ترى الخلائق منه إلا السجود، قال: ¬

_ (*) زياة يستقيم بها السياق. (¬1) أخرجه أبو داود برقم (3987). (¬2) أخرجه عبد الله بن أحمد في "السنة" (1203)، والطبراني في "الكبير" (9/ 9763)، ومحمد بن نصر المروزي في "تعظيم قدر الصلاة" (278)، والحاكم في "المستدرك" (4/ 590 - 593) وقال: صحيح الإسناد عَلَى شرط مسلم، ولم يخرجاه. والحديث=

حتى تنادي الخلائق بعضها بعضًا: طوبى لهذا العبد الَّذِي لم يعص الله قط، ولا يدرون ما قد لقي فيما بينه وبين الله عز وجل مما قد وقفه عليه". ورُوي معنى ذلك عن أبي موسى، وعبد الله بن سلام وغيرهما، ويشهد لهذا حديث عبد الله بن عمر الثابت في الصحح حديث النجوى، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا كان يوم القيامة دعى الله بعبده، فيضع عليه كنفه، فيقول: ألم تعمل يوم كذا وكذا ذنب كذا وكذا، فيقول العبد: بلى يا رب، فيقول: فإني قد سترتها عليك في الدُّنْيَا، وغفرت ذلك لك اليوم" (¬1) وهذا كله في حق من يريد الله أن يعفو عنه، ويغفر له، فما الظن بغيره. ولهذا في مراسيل الحسن عن النبي صلّى الله عليه وسلم: "إذا أراد الله أن يستر عَلَى عبده يوم القيامة أراه ذنوبه فيما بينه وبينه، ثم غفرها له". ولهذا كان أشهر القولين أن هذا الحكم عام في حق التائب وغيره، وقد ذكره أبو سليمان الدمشقي عن أكثر العُلَمَاء، واحتجوا بعموم هذه الأحاديث مع قوله تعالى: {وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} (¬2). وقد نُقل ذلك صريحًا عن غير واحد من السَّلف: كالحسن البصري وبلال ابن سعد حكيم أهل الشام كما روى ابن أبي الدُّنْيَا وابن المنادي وغيرهما عن الحسن أنَّه سئل عن الرجل يذنب ثم يتوب هل تمحى؟ قال: لا دون أن يوقفه عليه ثم يسأله عنه. ثم في رواية ابن المنادي وغيره: "ثم بكى الحسن وقال لو لم نبك إلا حياء من ذلك المقام لكان يحق لنا أن نبكي فنطيل". ¬

_ =عندهم مطولاً وأوله عن ابن مسعود مرفوعًا، ثم ذكروا كلام كعب -رضي الله عنه- وقال الذهبي في "التلخيص": ما أنكره حديثًا عَلَى جودة إسناده، وأبو خالد شيعي منحرف. (¬1) أخرجه البخاري برقم (2441). (¬2) الكهف: 49.

وذكر ابن أبي الدُّنْيَا عن بعض السَّلف أنَّه قال: "ما يمر علي أشد من الحياء من الله عز وجل". وفي الأثر المعروف الَّذِي رواه أبو نعيم وغيره عن علقمة بن مرثد: أن الأسود بن يزيد لما احتضر بكى فقِيلَ لَهُ: ما هذا الجزع؟ قال: "ما لي لا أجزع ومن أحق بذلك مني والله لو أتيت بالمغفرة من الله عز وجل لهمني الحياء منه مما قد صنعت، إن الرجل ليكون بينه وبين الرجل الذنب الصغير فيعفو عنه فلا يزال مستحيًا منه". ومن هذا قول الفضيل بن عياض بالموقف: "واسوأتاه منك وإن عفوت" والمقصود هنا أن آلام الذنوب ومشاقها وشداتها التي تزيد عَلَى لذاتها أضعافًا مضاعفة، لا تتخلف عن صاحبها لا مع توبة ولا عفو. فكيف إذا لم يوجد واحد منهما؟! ويتضح هذا بما نذكره في: الوجه السابع وهو: أن المقدم عَلَى موافقة المحظور إِنَّمَا أوجب إقدامه عليه ما فيه من اللذة الحاصلة له به فظن أنَّه تحصل له لذَّته العاجلة ورجى أن يتخلص من تبعته بسبب من الأسباب ولو بالعفو المجرد فينال به لذَّة ولا يلحقه به مضرة وهذا من أعظم الجهل، والأمر بعكس باطنه فإن الذنوب يتبعها ولابد من الهموم والآلام وضيق الصدر والنكد وظلمة القلب وقسوته أضعاف أضعاف ما فيها من اللذة، ويفوت بها من حلاوة الطاعات وأنوار الإيمان وسرور القلب ببهجة الحقائق والمعارف ما لا يوازي الذَّرة منه جميع لذات الدُّنْيَا، فيحصل لصاحب المعصية العيشة الضنك وتفوته الحياة الطيبة فينعكس قصده بارتكاب المعصية؛ فإن الله ضمن لأهل الطاعة الحياة الطيبة ولأهل المعصية العيشة الضنك قال تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} (¬1) وقال: {وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَابًا دُونَ ¬

_ (¬1) طه: 124.

ذَلِكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} (¬1) وقال: {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} (¬2). وقال في أهل الطاعة: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} (¬3). قال الحسن وغيره من السَّلف "لنرزقنه عبادةً يجد حلاوتها في قلبه". ومن فسرها بالقناعة فهو صحيح أيضًا من أنواع الحياة الطيبة الرضى بالمعيشة، فإن الرضى كما قال عبد الواحد بن زيد: "جنة الدُّنْيَا ومستراح العابدين". وقال تعالى: {وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ} (¬4). وقال: {فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} (¬5). كما قال عن إبراهيم عليه السلام: {وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ} (¬6) ومثل هذا كثير في القرآن فما في الطاعات من اللذة والسرور والابتهاج والطمأنينة وقرة العين أمر ثابت بالنصوص المستفيضة وهو مشهور محسوس يدركه بالذوق والوجد من حصل له، ولا يمكن التعبير بالكلام عن حقيقته، والآثار عن السَّلف والمشايخ العارفين في هذا الباب كثيرة موجودة، حتى كان بعض السَّلف يقول: "لو يعلم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه لجالدونا عليه بالسيوف". وقال آخر: "لو علموا ما نحن فيه لقتلونا ودخلوا فيه". وقال أبو سليمان: "أهل الليل في ليلهم ألذ من أهل اللهو في لهوهم ¬

_ (¬1) الطور: 47. (¬2) السجدة: 21. (¬3) النحل: 97. (¬4) هود: 3. (¬5) آل عمران: 148. (¬6) النحل: 122.

ولولا الليل ما أحببت البقاء في الدُّنْيَا". وقال: "إنه ليمرُّ عَلَى القلب أوقات يضحك فيه ضحكًا". وقال ابن المبارك وغيره: "مساكين أهل الدُّنْيَا خرجوا عنها ولم يذوقوا أطيب ما فيها". قيل: ما أطيب ما فيها؟ قال: "معرفة الله". وقال آخر: "أوجدني الله قلبًا طيبًا حتى قلت: إن كان أهل الجنة في مثل هذا فإنهم في عيش طيب". وقال مالك بن دينار: "ما تنعم المتنعمون بمثل ذكر الله". وهذا باب واسع جدًّا. والمعاصي تقطع هذه المواد وتغلق أبواب هذه الجنة المعجلة وتفتح أبواب الجحيم العاجلة من الهم والغم والضيق والحزن والتكدر وقسوة القلب وظلمته وبعده عن الرب عز وجل وعن مواهبه السنية الخاصة بأهل التقوى، كما ذكر ابن أبي الدُّنْيَا بإسناده عن علي رضي الله عنه قال: "جزاء المعصية الوهن في العبادة والضيق في المعيشة والتعس في اللذة قيل: وما التعس في اللذة؟ قال: "لا ينال شهوةً حلالاً إلا جاء ما يُبَغِّضُهُ إياها". وعن الحسن قال: "العمل بالحسنة نور في القلب وقوة في البدن والعمل بالسيئة ظلمة في القلب ووهن في البدن". وروى ابن المنادي وغيره عن الحسن قال: "إن للحسنة ثوابًا في الدُّنْيَا وثوابًا في الآخرة، وإن للسيئة ثوابًا في الدُّنْيَا وثوابًا في الآخرة؛ فثواب الحسنة في الدُّنْيَا: البصر في الدين، والنور في القلب، والقوة في البدن مع صحبة حسنة جميلة؛ وثوابها في الآخرة: رضوان الله عز وجل، وثواب السيئة في الدنيا: العمى في الدين، والظلمة في القلب، والوهن في البدن مع عقوبات ونقمات، وثوابها في الآخرة: سخط الله عز وجل والنار.

وروى ابن أبي الدُّنْيَا بإسناده عن مالك بن دينار قال: "إن لله عقوبات فتعاهدوهن من أنفسكم في القلوب والأبدان وضنك في المعيشة ووهن في العبادة وسخط في الرزق". وعنه أنَّه قال: "ما ضرب عبد بعقوبة أعظم من قسوة القلب". ومثل هذا كثير جدًا. وحاصل الأمر ما قاله قتادة وغيره من السَّلف: "إن الله لم يأمر العباد بما أمرهم به لحاجته إِلَيْهِ، ولا نهاهم عما نهاهم عنه بخلا به، بل أمرهم بما فيه صلاحهم، ونهاهم عما فيه فسادهم". وهذا هو الَّذِي عليه المحققون من الفقهاء من أصحابنا وغيرهم كالقاضي أبي يعلي وغيره وإن كان بينهم في جواز وقوع خلاف ذلك عقلاً نزاع مبني عَلَى أن العقل هل له مداخل في التحسين والتقبيح أم لا؟ وكثير منهم كأبي الحسن التميمي وأبي الخطاب عَلَى أن ذلك لا يجوز عقلاً أيضاً، وأما من قال بوقوع مثل ذلك شرعًا فقوله شاذ مردود. والصواب: أن ما أمر الله به عباده فهو من عين صلاحهم وفلاحهم في دنياهم وآخرتهم؛ فإن نفس الإيمان بالله ومعرفته وتوحيده وعبادته ومحبته وإجلاله وخشيته وذكره وشكره هو غذاء القلوب وقوتها وصلاحها وقوامها فلا صلاح للنفوس ولا قرة للعيون ولا طمأنينة ولا نعيم للأرواح ولا لذة لها في الدُّنْيَا عَلَى الحقيقة إلا بذلك فحاجتها إِلَى ذلك أعظم من حاجة الأبدان إِلَى الطعام والشراب والنفس بكثير، فإنَّه حقيقة العبد وخاصيته هي قلبه وروحه ولا صلاح له إلا بتألهه لإلهه الحق الَّذِي لا إله إلا هو ومتى فقد ذلك هلك وفسد ولم يصلحه بعد ذلك شيء البتة، وكذلك ما حرمه الله عَلَى عباده هو عين فسادهم وضررهم في دينهم ودنياهم ولهذا حرَّم عليهم ما يصدهم عن ذكره وعبادته كما حرم الخمر والميسر وبين أنَّه يصد عن ذكره وعن الصلاة مع مفاسد أخر ذكرها فيهما وكذلك سائر ما حرَّمه الله فإنَّه مضرة لعبادة في دينهم ودنياهم وآخرتهم كما ذكر ذلك السَّلف، وإذا تبين هذا وعُلم أن

صلاح العباد ومنافعهم ولذَّاتهم في امتثال ما أمرهم الله به واجتناب ما نهاهم الله عنه تبين أن من طلب حصول اللذة والراحة من فعل المحظور أو ترك المأمور فهو غاية الجهل والحمق، تبين أن كل من عصى الله فهو جاهل كما قاله السَّلف ودل عليه القرآن كما تقدم ولهذا قال: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} (¬1). وقال: {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا * وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا * وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} (¬2). وقال تعالى: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ * وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} (¬3). فأخبر أنهم علموا أن من اشتراه أي تعوَّض به في الدُّنْيَا فلا خلاق له في الآخرة ثم قال {وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} فيدل هذا عَلَى أنهم لم يعلموا سوء ما شروا به أنفسهم. وقد اختلفه المفسرون في الجمع بين إثبات العِلْم ونفيه هاهنا فقالت طائفة منهم: الذين {عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ} هم الشياطين الذين يعلمون الناس السحر والذين قيل فيهم: {لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} هم الناس الذين يتعلمون. ¬

_ (¬1) البقرة: 216. (¬2) النساء: 66 - 68. (¬3) البقره: 102 - 103.

قال ابن جرير: وهذا القول خطأ مخالف لإجماع أهل التأويل عَلَى أن قوله: {وَلَقَدْ عَلِمُوا} أنَّه عائد إِلَى اليهود الذين اتبعوا ما تتلوا الشياطين عَلَى ملك سليمان، ثم اختار ابن جرير أن الذين علموا أنَّه لا خلاق لمن اشتراه هم اليهود والذين قيل عنهم: {لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} هم الذين يتعلمون من الملكين، وكثيرًا ما يكون فيهم الجهَّال بأمر الله ووعده ووعيده، وهذا أيضاً ضعيف فإن الضمير فيهما عائد إِلَى واحد، وأيضًا فإن الملكلين يقولان لمن يعلمانه: {إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ}، فقد أعلماه تحريمه وسوء عاقبته. وقالت طائفة: إِنَّمَا نفى عنهم العِلْم بعدما أثبته لانتفاء ثمرته وفائدته وهو العمل بموجبه ومقتضاه، فلما انتفى عنهم العمل بعلمهم جعلهم جهَّالاً لا يعلمون كما يقال: لا علم إلا ما نفع. وهذا حكاه ابن جرير وغيره. وحكى الماوردي قولاً بمعناه، لكنه جعل العمل مضمرًا وتقدوره "لو كانوا يعملون بما يعلمون". وقيل: أنهم علموا أن من اشتراه فلا خلاق له أي لا نصيب له في الآخرة من الثواب لكنهم لم يعلموا أنَّه يستحق عليه العقاب مع حرمانه الثواب. وهذا حكاه الماوردي وغيره هو ضعيف أيضاً، فإن الضميران عادا إِلَى اليهود، فاليهود لا يخفى عليهم تحريم السحر واستحقاق صاحبه العقوبة وإن عاد إِلَى الذين يتعلمون من الملكين فالملكان يقولان لهم: إِنَّمَا نحن فتنة فلا تكفر، والكفر لا يخفى عَلَى أحد أن صاحبه يستحق العقوبة، وإن عاد إليهما وهو الظاهر فواضح. وأيضًا فإذا علموا أن من اشتراه ما له في الآخرة من خلاق فقد علموا أنَّه يستحق العقوبة؛ لأنّ الخلاق: النصيب من الخير فإذا علم أنَّه ليس له نصيب في الخير بالكلية فقد علم أن له نصيبًا من الشر؛ لأنّ أهل التكليف في الآخرة لا يخلو واحد منهم عن أن يحصل له إما خيرٌ أو شرٌّ لا يمكن انفكاكه عنهما جميعًا البتة.

وقالت طائفة: علموا أن من اشتراه فلا خلاق له في الآخرة لكنهم ظنوا أنهم ينتفعون به في الدُّنْيَا، ولهذا اختاروه وتعوضوا به عن ثواب الآخرة وشروا به أنفسهم وجهلوا أنَّه في الدُّنْيَا يضرهم أيضاً ولا ينفعهم فبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون. ذلك وأنهم إِنَّمَا باعوا أنفسهم وحظهم من الآخرة بما يضرهم في الدُّنْيَا أيضاً ولا ينفعهم. وهذا القول حكاه الماوردي وغيره وهو الصحيح، فإن الله تعالى قال: {وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ} (1) أي: هو في نفس الأمر يضرهم ولا ينفعهم بحال في الدُّنْيَا وفي الآخرة، ولكنهم لم يعلموا ذلك لأنهم لم يقدموا عليه إلا لظنهم أن ينفعهم في الدُّنْيَا، ثم قال: {وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ} (1) أي: قد تيقنوا أن صاحب السحر لا حظ له في الآخرة، وإنَّما يختاره لما يرجو من نفعه في الدُّنْيَا، وقد يسمون ذلك "العقل المعيشي" أي: العقل الَّذِي يعيش به الإنسان في الدُّنْيَا عيشة طيبة. قال الله تعالى: {وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} (¬1) أي: أن هذا الَّذِي تعوضوا به عن ثواب الآخرة في الدُّنْيَا أمرٌ مذمومٌ مضرٌّ لا ينفع لو كانوا يعلمون ذلك ثم قال: {وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} (¬2) يعني: أنهم لو اختاروا الإيمان والتقوى بدل السحر لكان الله يثيبهم عَلَى ذلك ما هو خير لهم مما طلبوه في الدُّنْيَا لو كانوا يعلمون، فيحصل لهم في الدُّنْيَا من ثواب الإيمان والتقوى من الخير الَّذِي هو جلب المنفعة ودفع المضرة ما هو أعظم مما يحصلونه بالسحر من خير الدُّنْيَا مع ما يُدَّخر لهم من الثواب في الآخرة. والمقصود هنا أن كل من آثر معصية الله عَلَى طاعته ظانًّا أنَّه ينتفع بإيثار المعصية في الدنيا فهو من جنس من آثر السحرَ الَّذِي ظن أنَّه ينفعه في الدُّنْيَا عَلَى التقوى والإيمان، ولو اتقى وآمن لكان خيرًا له وأرجى لحصول مقاصده ¬

_ (¬1) البقرة: 102. (¬2) البقره: 103.

ومطالبه ودفع مضاره ومكروهاته ويشهد لذلك أيضاً ما في مسند البزار (¬1) من حديث {حُذَيْفَةَ قال: قَامَ النَّبِيُّ} (¬2) صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَعَا النَّاسَ، فَقَالَ: «هَلُمُّوا»، فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ فَجَلَسُوا فَقَالَ: «هَذَا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ جِبْرِيلُ نَفَثَ فِي رَوْعِي أَنَّهُ لَا تَمُوتُ نَفْسٌ حَتَّى تَسْتَكْمِلَ رِزْقَهَا وَإِنْ أَبْطَأَ عَلَيْهَا، فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ وَلَا يَحْمِلَنَّكُمُ اسْتِبْطَاءُ الرِّزْقِ أَنْ تَأْخُذُوهُ بِمَعْصِيَةِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُنَالُ مَا عِنْدَهُ إِلَّا بِطَاعَتِهِ». ... ¬

_ (¬1) أخرجه البزار في "البحر الزخار" (2914) من طريق قدمة بن زائدة بن قدامة قال: حدثني أبي عن عاصم عن زر عن حذيفة ... فذكره. والحديث في "كشف الأستار" برقم (1253)، وفي مختصر "زوائد البزار" لابن حجر برقم (874). قال البزار: وهذا الحديث لا نعلمه يروى عن حذيفة إلا من هذا الوجه. وأورده الهيثمي في المجمع (4/ 71) وقال: رواه البزار، وفيه قدامة بن زائدة بن قدامة، ولم أجد من ترجمه، وبقية رجاله ثقات. (¬2) غير واضحة بالأصل، واستدركتها من مصادر التخريج.

فصل

فصل إذا تبين هذا فقد عُلم أن العِلْم يستلزم الخشية من هذه الوجوه كلها لكن عَلَى الوجه الأول: يستلزم الخشية العِلْم بالله بجلاله وعظمته وهو الَّذِي فسر الآية به جماعة من السَّلف ما تقدم. وعلى الوجوه الآخر: تكون الخشية ملازمة للعلم بأوامر الله ونواهيه وأحكامه وشرائعه وأسرار دينه وشرعه وخلقه وقدره، ولا تَنَافِيَ بين هذا العِلْم والعلم بالله، فإنهما قد يجتمعان وقد يتفرد أحدهما عن الآخر، وأكمل الأحوال اجتماعها جميعًا، وهي حالة الأنبياء عليهم السلام وخواص الصديقين، ومتى اجتمعا كانت الخشية حاصلة من تلك الوجوه كلها، وإن انفرد أحدها حصل من الخشية بحيث ما حصل من ذلك العِلْم، والعلماء الكُمَّل أولو العِلْم في الحقيقة الذين جمعوا الأمرين وقد ذكر الحافظ أبو أحمد بن عدي، ثنا أحمد بن عبد الله بن صالح بن شيخ بن عميرة ثنا إسحاق بن بهلول قال: قال لي إسحاق بن الطباع قال لي سفيان بن عيينة: "عَالِمٌ بالله عَالِمٌ بالعلم، عَالِمٌ بالله ليس بعالمٍ بالعلم، عالمٌ بالعلم ليس بعالمٍ بالله". قال: قلت لإسحاق: فهمنيه واشرحه لي، قال: عالمٌ بالله عَالِمٌ بالعلم حماد بن سلمة، عالمٌ بالله {ليس} بعالمٍ بالعلم مثل أبي الحاج العابد، عَالِمٌ بالعلم {ليس} بعالمٍ بالله فلان وفلان وذكر بعض الفقهاء. وروى الثوري، عن أبي حيان التيمي سعيد بن حيان، عن رجل قال: كان يقال: العُلَمَاء ثلاثة: فعالمٌ بالله ليس عالماً بأمر الله، وعالم بأمر الله ليس عالماً بالله، وعالمٌ بالله عَالِمٌ بأمر الله. فالعالم بالله وبأوامر الله: الَّذِي يخشى الله ويعلم الحدود والفرائض، والعالم بالله ليس بعالمٍ بأمر الله: الَّذِي يخشى الله ولا يعلم الحدود والفرائض، والعالم بأمر الله ليس بعالمٍ بالله: الَّذِي يعلم الحدود والفرائض ولا يخشى الله عز وجل.

وأما بيان أن انتفاء الخشية ينتفي معه العِلْم فإنَّه العِلْم له موجب ومقتضى، وهو اتباعه والاهتداء به وضده الجهل، فإذا انتفت فائدته ومقتضاه صار حاله كحاله عند عدمه وهو الجهل، وقد تقدم أن الذنوب إِنَّمَا تقع عن جهالة، وبيَّنَّا دلالة القرآن عَلَى ذلك وتفسير السَّلف له بذلك فيلزم حينئذ أن ينتفي ويثبت الجهل عن انتفاء فائدة العِلْم ومقتضاه وهو اتباعه. ومن هذا الباب قوله تعالى: {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا} (¬1). وقول النبي صلّى الله عليه وسلم: "إذا كان أحدكم صائمًا فلا يرفث ولا يجهل فإن امرؤ شاتمه أو قاتله فليقل إني إمرؤ صائم" (¬2). وهذا كما يوصف من لا ينتفع بسمعه وبصره وعقله فى معرفة الحق والانقياد له بأنه أصمٌّ أبكمٌ أعمى قال تعالى: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} (¬3). ويقال أيضاً أنَّه لا يسمع ولا يبصر ولا يعقل كما قال تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} (¬4). فسلب العِلْم والعقل والسمع والبصر، وإثبات الجهل والبكم والصمم والعمى في حق من فقد حقائق هذه الصفات وفوائدها من الكفار والمنافقين أو من شركهم في بعض ذلك كله من باب واحد وهو سلب اسم الشيء أو مسماه لانتفاء مقصوده وفائدته وإن كان موجودًا وهو باب واسع وأمثلته كثيرة في الكتاب والسنة. انتهى ما ذكره الشيخ نفع الله به وفسح في مدته. ¬

_ (¬1) الفرقان: 63. (¬2) أخرجه البخاري (1904)، ومسلم (1151)، بلفظ: "وإذا كان يوم صوم أحدكم، فلا يرفث ولا يصخب، فإن سابه أحد ... " الحديث. (¬3) البقرة:171. (¬4) الأعراف: 179.

نقل من نسخة مكتوبًا عليها ما صورته: بلغ مقابلة عَلَى أصلي، وهو بيدي كاتبه وصاحبه الفقيه الفاضل الأوحد { ... } الدين أبو الخير محمد ابن الشيخ القدوة العارف أبي محمد عبد القادر ابن محمد بن علي بن الحجار المدني الحنبلي نفعه الله ونفع به، وذلك في شهر رجب سنة خمس وثمانين وسبعمائة، بظاهر دمشق المحروسة، وأجزت له ما يجوز لي وعني روايته بشرطه له. عبد الرحمن بن أحمد بن رجب الحنبلي عفا الله عنه. أصلي بمقابلته عنه ***

المجلد الثالث

مَجْمُوع رَسَائِلْ الحَافِظْ ابْنِ رَجَب الحَنْبَلِيِّ زِين الدِّين أَبِي الفَرَج عَبْد الرَّحْمَن بْن أَحْمَد بْن رَجَب الحَنْبَلِيّ (736 - 795هـ) رَسَائِلُ جَمَعَتْ عُلُوماً شَتَّى فِي التَّوحِيدِ وَالفِقْهِ وَالتَّفْسِيرِ وَالحَدِيثِ وَالزُّهْدِ وَالأَدَبِ وَالمَوَاعِظِ وَالرَّقَائِقِ وَالسِّيَرِ وَالتَّارِيخِ جَمِيع الرَّسَائِل حُقِّقَتْ عَلَى نُسخٍ خطيَّة أَصْلِيَّة دِرَاسَة وَتَحْقِيق أَبِي مُصْعَبْ طَلْعَتْ بْن فُؤَادٍ الحلْوَانِيّ المُجَلَّدُ الثَّالِثُ النَّاشِرُ الفَارُوقُ الحَدِيثَة لِلطِّبَاعَةِ وَالنَّشْرِ

لا يجوز نشر أى جزء من هذا الكتاب أو إعادة طبعه أو تصويره او اختزان مادته العلمية بأى صورة دون موافقة كتابية من الناشر. النَّاشِرُ الفَارُوقُ الحَدِيثَة لِلطِّبَاعَةِ وَالنَّشْرِ خلف 60 ش راتب باشا - حدائق شبرا ت: 4307526 - 2055688 القاهرة اسم الكتاب: مجموع الرسائل الحافظ ابن رجب الحنبلي تأليف: زين الدين أبي الفرج عبد الرحمن بن أحمد بن رجب الحنبلي دراسة وتحقيق: أبي مصعب طلعت بن فؤاد الحلواني رقم الإيداع: 3041/ 2003 الترقيم الدولي: 8 - 92 - 5704 - 977 الطبعة: الأولى سنة النشر: 1424 هـ- 2003 م طباعة: الفَارُوقُ الحَدِيثَة لِلطِّبَاعَةِ وَالنَّشْرِ

مَجْمُوع رَسَائِلْ الحَافِظْ ابْنِ رَجَب الحَنْبَلِيِّ

*إهداء* أهب ثواب العمل في هذا المجلد إِلَى روح والدي الذي فارق الحياة أثناء مراجعاته، فرحمه الله رحمة واسعة، وأسكنه فسيح جناته، وتجاوز عن سيئاته. ولدك

مقدمة المجلد الثالث من مجموع رسائل الحافظ ابن رجب الحنبلي

بسم الله الرحمن الرحيم مقدمة المجلد الثالث من مجموع رسائل الحافظ ابن رجب الحنبلي الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام عَلَى أشرف المرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. فهذا هو "المجلد الثالث" من "مجموع رسائل الحافظ ابن رجب الحنبلي" قد أطَلَّ بنوره إِلَى عالم المطبوعات بعد جهد جهيد، استمر قرابة عام منذ إصدار المجلدين السابقين، وهو يشمل الرسائل الآتية: 1 - فضل علم السَّلف عَلَى علم الخلف. 2 - التوحيد أو تحقيق كلمة الإخلاص. 3 - نور الاقتباس في مشكاة وصية النبي صلّى الله عليه وسلم لابن عباس وهو شرح حديث "احفظ النه يحفظك". 4 - فضائل الشام. 5 - استنشاق نسيم الأنس من نفحات رياض القدس. وسوف يعقب المجلد الثالث، الرابع إن شاء الله تعالى وهو يشمل الرسائل الآتية: 1 - اختيار الأولى شرح حديث اختصام الملأ الأعلى. 2 - المحجة في سير الدلجة. 3 - التخويف من النار.

4 - أهوال القبور. 5 - تفسير سورة الفلق (¬1) ولم تصلني مخطوطتها حتى الآن وأناشد الإخوة الباحثين وطلاب العِلْم والمشايخ أن يرسلوها لي، هي وغيرها، لكي أتمم مشروع الحافظ ابن رجب كما أنَّه لم تصلني مخطوطة "الأبر في فضائل أبي بكر وعمر" وهي في مكتبة برلين برقم (9690) (¬2). ورقم تليفوني هو (0124855961)، كما أنني أرحب بالتعاون في تبادل المخطوطات مع الإخوة الباحثين، أو من يرغب في تصوير مخطوطات من مصر، والله الموفق. 6 - كتاب "الاستغناء بالقرآن في تحصيل العِلْم والإيمان" قال علي الشبل في كتابه الماتع منهج الحافظ ابن رجب الحنبلي في العقيدة ص 111: وهذا الكتاب ذكره صاحب كشف الظنون (1/ 79) وهدية العارفين (1/ 527) ومن قبلهما، ولما يوجد. لكن ابن عبد الهادي في كتابه "هداية الإنسان في الاستغناء بالقرآن" لخصه فيه. وقال أبو عبد الله محمود الحداد في تعليقه عَلَى نزهة الأسماع ص 84: لما أقف عَلَى نسخة من هذا الكتاب، لكن يوسف بن عبد الهادي استنبطه وزاد عليه في كتابه "هداية الإنسان إِلَى الاستغناء بالقرآن" في ثلاثة أجزاء كبار لا أعرف منها إلا الأول والثاني، وهي قيد العمل. قلت: وسوف أنقل كلام ابن رجب فقط الَّذِي نقله ابن عبد الهادي إن شاء الله. ¬

_ (¬1) قال علي الشبل "حفظه الله": إنها ضمن مجموع مكتبة الأوقاف ببغداد العامة رقم (36511). وقال الدكتور الفنيسان: إنها طبعت (انظر آثار الحنابلة في علوم القرآن ص 146). (¬2) قال علي الشبل: وربما يكون عند مركز الملك فيصل للدراسات الإسلامية بالرياض صورة فيلمية عنها.

والكتاب في الظاهرية رقم "6 - تصوف" و (56 ق). وله صورة بالجامعة الإسلامية بالمدينة برقم (2206). قلت: وقد ذكره ابن رجب في كتابه "الذل والانكسار" ص 48 من المطبوع بتحقيق الشيخ محمد عمرو، و (1/ 298) من مجموعنا هذا، وفي كتابه نزهة الأسماع في مسألة السماع ص 84 من المطبوع بإشراف الحداد. 7 - "مشكل الأحاديث الواردة في أن الطلاق الثلاث واحدة" وهذا الكتاب مفقود وقد نقل منه يوسف بن عبد الهادي الحنبلي المعروف بابن المبرد في أكثر من موضع في كتابه "سير الحاث إِلَى علم الطلاق الثلاث" وقد طبع بمطبعة السنة المحمدية بمصر سنة 1953م، وطبع بتحقيق الدكتور/ عبد العزيز بن محمد بن عبد الله الجيلان في دار ابن الجوزي سنة 1997م وسوف أنقل كلام ابن رجب من الكتاب إن شاء الله. 8 - فائدة حول حديث النزول. قال علي الشبل ص110: وهذه الفائدة أظنها مأخوذة من شرح البخاري، فهي مضمنة ضمن مجموع في جامعة الملك سعود برقم (4646/ 9) وهي حكاية أقوال العُلَمَاء من علماء السَّلف في معنى النزول وهي قدر صفحة ونصف. وفي فهارس جامعة ابن سعود أنها تقع في 4 صفحات من ص34 - 37 والرقم العام 4946/ 9 م. وسوف أجعل المجلد الخامس للفهارس التفصيلية للكتاب إن شاء الله. وهناك رسائل لابن رجب قيد البحث ومنها: 1 - الاستيطان فيما يعتصم به العبد من الشيطان، ذكر إبراهيم العرف أنَّه موجود في مكتبة العنقري.

2 - نصيحة الإخوان المؤمنين وهو برقم (228) مجاميع تيمور ولم أطَّلع عليه حتى الآن ولعله "الفرق بين النصيحة والتعيير". 3 - رسالة في شعب الإيمان، مخطوطة بمكتبة الأوقاف العامة ببغداد برقم (26/ 4767) مجاميع. قال علي الشبل ص 101: ربما تكون مستلة من أحاديث جامع العلوم والحكم المشروحة، وبالتحديد حديث أبي هريرة في شعب الإيمان رقم (15) أو هو شرح لغيره نسب إِلَيْهِ سهوًا. 4 - إعراب أم الكتاب ذكره علي الشبل ص 112 ضمن كتب ابن رجب وقال إنه في مجلد، وقد سمعت أنَّه مطبوع بالكويت، ولم أره. 5 - رسالة في تعليق الطلاق بالولادة ذكر علي الشبل ص 108: أن لها نسخة واحدة ضمن مجاميع خزانة الفاتح بالسليمانية باستنبول برقم (5318) في 7 ورقات. قلت: وعندي المجموع كله وهو يحتوي عَلَى 18 رسالة ليست هذه واحدة منه. 6 - قطعة من شرحه لجامع الترمذي قال الدكتور همام سعيد في مقدمة شرح علل الترمذي (1/ 266): وتوجد منه قطعة، تقع في عشر ورقات، مخطوطة في المكتبة الظاهرية بدمشق. وقال علي الشبل ص 109: وهي ورقات بقيت من عشرين مجلدًا هي مجموع شرح الحافظ لجامع الترمذي. وقد شرح جامع الترمذي أبو بكر بن العربي المتوفي سنة 543 هـ في كتابه "عارضة الأحوذي" وشرحه البغوي المتوفي سنة 510 هـ وشرح منه جزءًا ابن سيد الناس المتوفي 734 هـ سماه "النفح الشذي" وأتمه الحافظ زين الدين عبد

الرحيم العراقي، غير أن هذه التتمة للعراقي لم تكمل كما صرح بذلك ابن فهد والسخاوي وابن حجر (¬1). قال الدكتور همام سعيد في مقدمته لتحقيق كتاب "شرح علل الترمذي" ص 27: ويبدو لي أن ابن رجب شرع في شرح الترمذي قبل أن يبدأ العراقي في شرح هذا الكتاب، إذ وفاة ابن رجب متقدمة عَلَى وفاة العراقي بإحدى عشرة سنة. وشرح ابن رجب شرح كامل للترمذي من أوله إِلَى آخره، بينما نجد شرح العراقي تكملة لما بدأ به ابن سيد الناس، وهذه التكملة لم تنته كما صرح بذلك ابن فهد والسخاوي وابن حجر، ونص ابن فهد عَلَى أن هذا الشرح يبدأ من "باب ما جاء أن الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام" إِلَى قوله في أثناء كتاب البر والصلة: "باب ما جاء في الستر عَلَى المسلمين" وفي ذلك يقول السخاوي: أكمل شرح الترمذي لابن سيد الناس، فكتب منه تسع مجلدات. ومما يؤكد أن ابن رجب سبق العراقي في هذا، ما ذكره السخاوي في ترجمة علاء الدين علي بن محمد بن علي الطرسوسي المزي فَقَالَ: كان يعيش حتى سنة 850 هـ وحضر علي ابن رجب، وقال أنَّه سمعه يقول: أرسل إِلَى الزين العراقي يستعين بي في شرح الترمذي (¬2). ¬

_ (¬1) انظر لحظ الألحاظ ص 232، وإنباء الغمر (2/ 276)، والضوء اللامع (4/ 173) ومقدمة الدكتور همام سعيد ص 278. (¬2) الضوء اللامع للسخاوي (5/ 328) وانظر مقدمة الدكتور همام سعيد ص278.

عرض موجز لمحتوى الرسائل التي اشتمل عليها المجلد الثالث من مجموع رسائل ابن رجب

عرض موجز لمحتوى الرسائل التي اشتمل عليها المجلد الثالث من مجموع رسائل ابن رجب 1 - فضل علم السَّلف عَلَى علم الخلف يبدأ ابن رجب الرسالة بقوله: فهذه كلمات مختصرة في معنى العِلْم، وانقسامه إِلَى علم نافع وعلم غير نافع، والتنبيه عَلَى فضل علم السَّلف عَلَى علم الخلف. ثم يعرض الآيات القرآنية والأحاديث النبوية في ذلك -أي العِلْم النافع والغير نافع. ثم الآثار عن الصحابة وكلام أهل العِلْم ثم يورد ذم علم تأثير النجوم، وكذلك التوسع في علم الأنساب، وكذلك التوسع في علم العربية لغة ونحوًا. ثم بَدَّعَ ما أحدثته المعتزلة من الكلام في القدر، وضرب الأمثال لله، والكلام في ذات الله تعالى وصفاته بأدلة العقول. ثم قال: والصواب ما عليه السَّلف الصالح من إمرار آيات الصفات وأحاديثها كما جاءت من غير تفسير لها ولا تكييف ولا تمثيل. ثم يورد إنكار أئمة السَّلف للجدال والخصام والمراء في مسائل الحلال والحرام، ثم يورد كلام الأئمة في ذلك ومنه قول مالك: المراء والجدال في العِلْم يذهب بنور العِلْم. ثم يبين أن أكابر الصحابة كان كلامهم أقل من ابن عباس وهم أعلم منه. وكذلك كلام التابعين أكثر من كلام الصحابة، والصحابة أعلم منهم ... إلخ. ثم قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - أوتي جوامع الكلم واختصر له الكلام اختصارًا. ولهذا ورد النهي عن كثرة الكلام والتوسع في القيل والقال.

ثم ينقل قول الأوزاعي: العِلْم ما جاء به أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم -، فما كان غير ذلك فليس بعلم. وكذا قال أحمد، وفي التابعين أنت مخير -يعني: مخير في كتابته وتركه. ثم يبين أن العِلْم النافع من هذه العلوم كلها ضبط نصوص الكتاب والسنة وفهم معانيها، والتقيد في ذلك بالمأثور عن الصحابة والتابعين وتابعيهم في معاني القرآن والحديث، وفيما ورد عنهم من الكلام في مسائل الحلال والحرام والزهد والرقائق والمعارف وغير ذلك، والاجتهاد عَلَى تمييز صحيحه من سقيمه أولاً، ثم الاجتهاد عَلَى الوقوف عَلَى معانيه وتفهمه ثانيًا. ثم يبين أن العِلْم النافع يدل عَلَى أمرين: أحدهما: معرفة الله وما يستحقه من الأسماء الحسنى والصفات العلى. والثاني: المعرفة بما يحبه ويرضاه وما يكرهه ويسخطه من الاعتقادات والأعمال الظاهرة والباطنة والأقوال. ثم يبين أن أصل العِلْم هو العِلْم بالله الَّذِي يوجب خشيته، ومحبته والقرب منه والأنس به والشوق إِلَيْهِ، ثم يتلوه العِلْم بأحكام الله، وما يحبه ويرضاه من العبد من قول أو عمل أو حال أو اعتقاد ثم يبين علامة العِلْم الغير نافع وهو أن يكسب صاحبه الزهو والفخر والخيلاء، وطلب العلو والرفعة في الدُّنْيَا والمنافسة فيها، وطلب مباهاة العُلَمَاء ومماراة السفهاء، وصرف وجوه الناس إِلَيْهِ. ثم يعود ويتكلم عن علامات العِلْم النافع وأنه يدل صاحبه عَلَى الهرب من الدُّنْيَا، وأعظمها الرياسة والشهرة والمدح. وإن صاحب العِلْم النافع لا يدعي العِلْم ولا يفخر به عَلَى أحد، ولا ينسب غيره إِلَى الجهل إلا من خالف السنة وأهلها. ثم يقول رحمه الله: ولا بد للمؤمن من صبر قليل حتى يصل به إِلَى راحة طويلة. ثم يبين مشابهة علماء السوء من المسلمين بأهل الكتاب.

2 - التوحيد أو تحقيق كلمة الإخلاص

2 - التوحيد أو تحقيق كلمة الإخلاص وهذه الرسالة تبين أن شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله صلّى الله عليه وسلم تنجي من النار وتدخل الجنة ثم يبين ابن رجب أن أهل التوحيد لا يخلدون في النار وإن دخلوها. ثم يذكر شروط لا إله إلا الله، ثم شروط دخول الجنة ثم يبين أن النصوص المطلقة جاءت مقيدة في نصوص أخرى ففي بعضها من قال لا إله إلا الله مخلصًا وفي بعضها مستيقنًا .... إلخ ثم يبين أن الشرك والكفر له أصل وفروع، ولهذا ورد إطلاق الكفر والشرك عَلَى كثير من المعاصي التي منشؤها من طاعة غير الله أو خوفه أو رجائه أو التوكل عليه أو العمل لأجله. ثم يبين أن طاعة الشيطان تقدح في توحيد الله. ثم يبين دلالة محبة الله عز وجل وأنه لا بد فيها من اتباع الرسول - صلى الله عليه وسلم -. ثم يبين من خلال قصة السحرة مع فرعون تلازم الظاهر والباطن وأنهم لما سكنت المحبة قلوبهم، سمحوا ببذل نفوسهم. ثم يبين أن النجاة لا تكون إلا لصاحب القلب السليم. ثم يحذر من الرياء، ويبين أن من صدق في قول لا إله إلا الله نجا من كربات يوم القيامة. ثم يبين فضائل كلمة التوحيد. ثم يختم الرسالة بالحث عَلَى تحقيق التوحيد. 3 - نور الاقتباس في مشكاة وصية النبي - صلى الله عليه وسلم - لابن عباس وهي في شرح حديث "احفظ الله يحفظك". وهو يبدأ في شرح أجزاء الحديث فيفسر قول النبي صلّى الله عليه وسلم "احفظ الله يحفظك" أي: احفظ حدود الله وحقوقه وأوامره ونواهيه. ثم يبين أن من حفظ الله للعبد أن يحفظه في صحة بدنه وقوته وعقله وماله. ويبين أن من أنواع حفظ الله لمن حفظه في دنياه، أن يحفظه من شر كل من يريده بأذى من الجن والإنس. ثم بين أن النوع الثاني من الحفظ وهو أشرفها وأفضلها، حفظ الله تعالى

لعبده في دينه، فيحفظ عليه دينه وإيمانه في حياته من الشبهات المردية والبدع المضلة والشهوات المحرمة، ويحفظ عليه دينه عند موته، فيتوفاه عَلَى الإسلام. ثم بين أن من أنواع حفظ الله لعبده في دينه أن العبد قد يسعى في سبب من أسباب الدُّنْيَا، إما الولايات أو التجارات أو غير ذلك، فيحول الله بينه وبين ما أراده لما يعلم له من الخيرة في ذلك وهو لا يشعر مع كراهته لذلك. ثم ينتقل إِلَى شرح "احفظ الله تجده أمامك" وأن معناه أن من حفظ حدود الله وراعى حقوقه، وجد الله معه في جميع الأحوال، يحوطه وينصره ويوفقه ويؤيده ويسدده. ثم ينتقل إِلَى شرح "تعرف إِلَى الله في الرخاء، يعرفك في الشدة" ومعناه أن العبد إذا اتقى الله وحفظ حدوده وراعى حقوقه في حال رخائه وصحته فقد تعرف بذلك إِلَى الله وكان بينه وبينه معرفة، فعرفه ربه في الشدة وعرف له عمله في الرخاء، فنجاه من الشدائد بتلك المعرفة. ثم ينتقل إِلَى شرح "إذا سألت فاسأل الله" وأن في سؤال الله عبودية عظيمة، لأنها إظهار للافتقار إِلَيْهِ، واعتراف بقدرته عَلَى قضاء الحوائج. ثم ينتفل إِلَى شرح "وإذا استعنت فاستعن بالله" وبين أن في الاستعانة بالله وحده فائدتان: إحداهما: أن العبد عاجز عن الاستقلال بنفسه في عمل الطاعات. والثانية: أنَّه لا معين له عَلَى مصالح دينه ودنياه إلا الله عز وجل، فمن أعانه الله فهو المعان، ومن خذله الله فهو المخذول. ثم ينتقل إِلَى شرح "جف القلم بما هو كائن" وفي رواية "رفعت الأقلام وجفت الكتب" وفي رواية "وجفت الصحف". قال: كله كناية عن نفوذ المقادير وكتابتها جميعها في كتاب جامع من أمد بعيد. ثم ينتقل إِلَى شرح "فلو أن الخلق جميعًا أرادوا أن ينفعوك بشيء لم يقضه الله لك لم يقدروا عليه ... ".

قال: يريد بذلك أن ما يصيب العبد مما يضره أو ينفعه في دنياه فكله مقدر عليه، ولا يمكن أن يصيبه ما لم يكتب له ولم يقدر عليه ولو اجتهد عَلَى ذلك الخلق كلهم جميعًا. ثم ينتقل إِلَى شرح "واعلم أن في الصبر عَلَى ما تكره خيرًا كثيرًا" ثم يبين حقيقة الفرق بين الصبر والرضا وهو أن الصبر كف النفس وحبسها عن التسخط مع وجود الألم، والرضا يوجب انشراح الصدر وسعته. ثم يقول: انتظار الفرج بالصبر عبادة، فإن البلاء لا يدوم. ثم يتكلم عن شرح "واعلم أن النصر مع الصبر". وبعد أن يذكر الآيات والأحاديث في فضل الصابرين يتكلم عن الصبر عَلَى مخالفة الهوى فيقول: واعلم أن نفسك بمنزلة دابتك، إن عرفت منك الجد جدت، وإن عرفت منك الكسل طمعت فيك، وطلبت منك حظوظها وشهواتها. ثم يقول فقوله - صلى الله عليه وسلم - "إن النصر مع الصبر" يشمل الصبر عَلَى جهاد العبد لعدوه الظاهر، وجهاده لعدوه الباطن وهو نفسه وهواه. ثم يتكلم عن قوله - صلى الله عليه وسلم -. "أن الفرج مع الكرب" فيذكر نجاة نوح إبراهيم وموسى عليهم السلام، الأول من الكرب والغرق، والثاني من النار، والثالث من الغرق ومن بطش فرعون وجنوده. ثم يذكر أن الله قص قصص النبي صلّى الله عليه وسلم محمد - صلى الله عليه وسلم - ونصره عَلَى أعدائه ونجاته منهم في عدة مواطن مثل قصته في الغار وقصته يوم بدر ويوم أحد ويوم حنين. ثم يذكر قصة الثلاثة الذين خلفوا وينوه عَلَى قصة الثلاثة الذين دخلوا الغار وقصة سيدنا إبراهيم وزوجته سارة مع الجبار. ثم يذكر نبذة يسيرة من لطائف البلايا وفوائدها وحكمها ثم يذكر فصلا عن أنَّه إذا اشتد الكرب وعظم الخطب كان الفرج حينئذٍ قريبًا في الغالب.

4 - فضائل الشام

4 - فضائل الشام هذا الكتاب ورد اسمه في بعض المصادر "حماية الشام بما فيها من الأعلام" فظن البعض ومنهم علي الشبل في كتابه "منهج الحافظ ابن رجب في العقيدة" ص 110. أنَّه حوى تراجم علماء الشام مع بيان فضائله. وليس الأمر كذلك، فإن بعض المفهرسين أخذ من الأسطر الأولى كلامًا لابن رجب وحرفه فقد قال ابن رجب: وقد جمعت في هذا الكتاب ما ورد في حماية الشام وصيانتها بما فيها من الإيمان والإسلام. فحرفت كلمة الإيمان إِلَى الأعلام والله أعلم. وكتاب فضائل الشام ليس عَلَى طرة مخطوطته التي بين أيدينا إلا هذه التسمية "فضائل الشام" تأليف سيدنا ومولانا الشيخ الإمام العالم العلامة شيخ السنة في زمانه، عمدة الأمة في أوانه زين الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن الشيخ الإمام العلامة أبي العباس أحمد بن رجب الحنبلي تغمده الله برحمته آمين. وقد قسم ابن رجب الكتاب إِلَى عشرة أبواب وهي: 1 - فيما ورد في الأمر بسكنى الشام. 2 - فيما ورد في استقرار العِلْم والإيمان بالشام. 3 - فيما ورد في حفظ الشام من الفتن. 4 - فيما ورد في استقرار خيار أهل الأرض في آخر الزمان بالشام، وأن الخير فيها أكثر منه في سائر بلاد المسلمين. 5 - فيما ورد في أن الطائفة المنصورة بالشام. 6 - فيما ورد في أن الأبدال بالشام. 7 - فيما ورد في بركة الشام. 8 - في حفظ الله الشام بالملائكة الكرام. 9 - فيما ورد في بقاء الشام بعد خراب غيرها من الأمصار. 10 - فيما ورد في فضل دمشق بخصوصها.

5 - "كتاب استنشاق نسيم الأنس من نفحات رياض القدس" وهو في محبة الله وعلامتها وطرقها ولوازمها ومقتضهاتها فذكر اثني عشر بابا هي:

5 - "كتاب استنشاق نسيم الأنس من نفحات رياض القدس" وهو في محبة الله وعلامتها وطرقها ولوازمها ومقتضهاتها فذكر اثني عشر بابًا هي: 1 - في لزوم محبة الملك القدوس وتقديمها عَلَى الأموال والأولاد والنفوس. 2 - في بيان أن من أعظم المطالب وأهمها سؤال الله محبته عَلَى أكمل الوجوه وأتمها. 3 - في بيان الأسباب التي تستجلب بها محبة رب الأرباب. 4 - في علامات المحبة الصادقة من التزام طاعة الله والجهاد في سبيله واستحلاء الملامة في ذلك واتباع رسوله. 5 - في استلذاذ المحبين بكلام محبوبهم وأنه غذاء قلوبهم وغاية مطلوبهم. 6 - في أنس المحبين بالله وأنه ليس لهم مقصود من الدُّنْيَا والآخرة سواه. 7 - في سهو المحبين وخلواتهم بمناجاة مولاهم الملك الحق المبين. 8 - في شوق المحبين إِلَى لقاء رب العالمين. 9 - في رضا المحبين بمر الأقدار وتنعمهم ببلاء من يخلق ما يشاء ويختار. 10 - في ذكر خوف المحبين العارفين وفضله عَلَى سائر الخائفين. 11 - في شرف أهل الحب وإن لهم عند الله أعلى منازل القرب. 12 - في نبذ من كلام أهل المحبة وتحقيقهم، تقوى به القلوب عَلَى سلوك طريقهم.

وصف النسخ الخطية والمطبوعة المعتمدة في التحقيق

وصف النسخ الخطية والمطبوعة المعتمدة في التحقيق اعتمدت في تحقيق هذا المجلد عَلَى عدة نسخ خطية وهي كالأتي: 1 - رسالة "فضل علم السَّلف عَلَى علم الخلف" ولها ست نسخ خطية: الأولى: نسخة ضمن مجموع فاتح باستانبول وتقع تحت رقم (5318) وتقع في (15) ورقة. وقد جعلت هذه النسخة أصلا. الثانية: نسخة تشستربتي ضمن مجموع برقم (3292) وتقع في (18) ورقة. الثالثة: نسخة دار الكتب المصرية أيضًا وتقع تحت رقم (62) تعليم تيمور، وتقع في (34) ورقة. الرابعة: نسخة دار الكتب المصرية أيضاً وتقع تحت رقم (336) مباحث إسلامية طلعت وتقع في (18) ورقة. الخامسة: نسخة تابعة للمكتبة المركزية بجامعة الإمام محمد بن سعود وهي ضمن مجموع برقم (1637/ 7) وتقع في (9) ورقات وناسخها هو إبراهيم الربيعي وتاريخ نسخها سنة 1333هـ. السادسة: نسخة مكتبة الأوقاف العراقية وهي برقم (13809) وتقع في (11) ورقة. أما النسخة المطبوعة التي استفدت منها فهي التي حققها الشيخ/ محمد بن ناصر العجمي، الطبعة الثالثة سنة 1412هـ طبعة دار الصميعي بالرياض، وهي محققة تحقيقًا جيدًا ومحققها رجل من أهل الحديث المتقنين، وكل أعماله تمتاز بالدقة والاعتماد عَلَى المخطوطات، جمعنا الله وإياه في الفردوس الأعلى وحشرنا

2 - رسالة عنوانها "التوحيد" ووردت بعنوان "تحقيق كلمة الإخلاص"

مع العُلَمَاء العاملين الذابين عن سنة نبيه - صلى الله عليه وسلم -. 2 - رسالة عنوانها "التوحيد" ووردت بعنوان "تحقيق كلمة الإخلاص". ولها نسختان خطيتان: الأولى: نسخة ضمن مجموع فاتح باستانبول برقم (5318). وتقع في (15) ورقة وقد جعلتها الأصل. الثانية: نسخة تابعة للمكتبة المركزية بجامعة الإمام محمد بن سعود وهي ضمن مجموع برقم (4761/ ح). أما النسخ المطبوعة فالأولى بتحقيق الأستاذ/ زهير الشاويش وتخريج الشيخ/ ناصر الدين الألباني -رحمه الله- وناسخها هو محمد بن عبد العزيز بن عبد الرحمن بن أحمد بن ناصر المطاوعة، وقد استفدت مني تعليقات الشيخ ناصر الدين في مواضع فجزاه الله عنا خيرًا. والثانية: بتحقيق صبرى بن سلامة شاهين وهي من مطبوعات دار القاسم وقد بذل جهدًا كبيرًا في ضبطها حفظه الله، إلا أن هناك بعض الاستدراكات عليه وخاصة في تخريج الأحاديث، فقد وقع في أخطاء منها عَلَى سبيل المثال: ص 55 هامش رقم (4) في تخريج حديث: "لا تزال لا إله إلا الله تدفع عن أصحابها ... " الحديث. قال: أخرجه أبو يعلى في مسنده بلفظ قريب منه رقم (4034) والحافظ ابن حجر في المطالب العالية رقم (3274) والهندي في كنز العمال رقم (221) .... إلخ. والحافظ ابن حجر في المطالب العالية لا يخرج الأحاديث، وإنَّما يذكرها إما مجردة عن الأسانيد، وإما مسندة مستلة من مسند أبي يعلى فلا يقال: أخرجها ابن حجر، لأنه لكي يخرجها لابد أن يكون الإسناد متصلا من عنده حتى متن الحديث، لأن الحديث المسند دائمًا له مخرجان، أحدهما من عند شيخ المصنف والآخر إِلَى القائل سواء كان النبي صلّى الله عليه وسلم أو الصحابي أو التابعي أو من هو في طبقة أقل من ذلك. والعلماء يسمون المرفوع إِلَى النبي صلّى الله عليه وسلم حديثًا، والموقوف عَلَى

الصحابي أو التابعي أثرًا، أو يجعلون كلام التابعي مقطوعًا، وهناك من يجعل كل ذلك حديثًا ولكن إذا كان عَلَى من دون النبي صلّى الله عليه وسلم يَقُولُونَ: قوله، وهكذا. والشاهد من الكلام أن العالم الَّذِي يستل أحاديث كتاب مسند أو أكثر ويرتبها بأسانيدها لا يعتبر مخرَّجٌ فمثلا: الهيثمي في مجمع الزوائد أخذ زيادات ست كتب عَلَى الكتب الستة وهي مسند أحمد، وأبي يعلى الصغير والكبير، والبزار، ومعاجم الطبراني الثلاثة، ورتبها ترتيبًا فقهيًا عَلَى الأبواب وحذف أسانيدها ثم تكلم عن الأحاديث بعد إيراد المتون ومخرجيها، فلا يقال عن حديث أورده من معجم الطبراني الكبير أخرجه الهيثمي في مجمع الزوائد، ولكن يقال: أورده أو ذكره في مجمع الزوائد. وكذلك المتقي الهندي في "كنز العمال" أورد أحاديث الجامع الصغير للسيوطي ورتبها ثم يعزوها لمخرجيها فيعامل معاملة مجمع الزوائد عند العزو إِلَيْهِ. وقد رتب علاء الدين الفارسي المعروف بابن بلبان المتوفي سنة 739 هـ صحيح ابن حبان المعروف "بالتقاسم والأنواع" واسمه الكامل: "المسند الصحيح عَلَى التقاسيم والأنواع من غير وجود قَطْعٍ في سندها ولا ثبوت جرح في ناقليها" رتبه عَلَى الأبواب الفقهية وسماه: "الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان" وأما صحيح ابن حبان فهو مفقود ضمن المفقودات من التراث الإسلامي، فَإِذَا جاء مُخَرَّجٌ وأخرج حديثًا من كتاب "الإحسان" الَّذِي هو من ترتيب ابن بلبان فلابد بعد التخريج أن يذكر ذلك فيقول مثلا: أخرجه ابن حبان برقم (كذا بترتيب ابن بلبان، أو يقول: أخرجه ابن حبان برقم (كذا - إحسان) فيفيد القارئ أنَّه لم يخرجه من كتاب ابن حبان الأصل، وهكذا. وكذلك ما صنعه الهيثمي من ترتيب زيادات صحيح ابن حبان عَلَى الصحيحين عَلَى الأبواب الفقهية، إذا أراد أحد العزو إِلَيْهِ فليكتب: أخرجه ابن حبان برقم (كذا - موارد الظمآن) أو يكتفي بكلمة "موارد" وهي التسمية التي سماها الهيثمي للكتاب. وكذلك صنيع الهيثمي في ترتيب زيادات مسند البزار عَلَى الكتب الستة عَلَى الأبواب الفقهية والتي سماها: "كشف الأستار عن زوائد

3 - رسالة بعنوان: "نور الاقتباس في مشكاة وصية النبي صلى الله عليه وسلم لابن عباس" ولها أربع نسخ خطية:

البزار" إذا أراد أحد العزو لهذا الكتاب فليكتب: أخرجه البزار كما في كشف الأستار أو يكتب أخرجه البزار برقم (كذا - كشف) اختصارًا لكشف الأستار. وكذلك لا يقال: أخرجه السيوطي في الدر المنثور، لأنه إِنَّمَا جمع مرويات التفسير المرفوعة والموقوفة وعزاها إِلَى مخرجيها. فيقال عند النقل منه: أورده السيوطي في الدر المنثور، وعزاه إِلَى الترمذي مثلا، وهكذا. وقد أخذت من محقق كتاب التوحيد "عناوين أجزاء الرسالة" وهي ليست في الأصول التي بين يدي، فليتنبه لذلك. وأعتذر إن كنت أطلت في الكلام عَلَى هذه التنبيهات وذلك لأهميتها، وغيابها عَلَى كثير من طلبة العِلْم. 3 - رسالة بعنوان: "نور الاقتباس في مشكاة وصية النبي صلّى الله عليه وسلم لابن عباس" ولها أربع نسخ خطية: الأولى: ضمن مجموع فاتح باستانبول برقم (5318) وهي آخر المجموع ويحتوي هذا المجموع عَلَى (18) رسالة وتقع في (47) ورقة، وهي مكتوبة في سنة 893 هـ بخط عيسى بن علي بن محمد الحوراني الشافعي. الثانية: نسخة جامعة برنستون بالولايات المتحدة الأمريكية ورقمها (4161 - مجاميع) وتقع في (32) ورقة، وهي من مصورات. مركز البحث العلمي وإحياء التراث الإسلامي بجامعة أم القرى برقم (663) وهي من أقدم النسخ حيث كتبت سنة 816 هـ. الثالثة: هي نسخة تشستربتي برقم (4951) ضمن مجموع تبدأ فيه من ص 248: ص321 وبها نقص في آخرها حوالي ثلاث ورقات، وقد نسخت في السابع والعشرين من شهر المحرم سنة 816 هـ واسم ناسخها هو علي بن أحمد المقرئء الدمشقي. الرابعة: هي نسخة المكتبة المركزية بجامعة الملك سعود وهي برقم (1637/ 8) ضمن مجموع، وتبدأ من ص176 - ص228 وهي منسوخة سنة 1333هـ

4 - فضائل الشام

واسم ناسخها هو عبد الله بن إبراهيم الربيعي. وأما النسخ المطبوعة التي استفدت منها فهي نسخة بتحقيق الشيخ محمد بن ناصر العجمي "حفظه الله" طبعة دار البشائر الإسلامية سنة 1410 هـ وهي جيدة، والثانية بتعليق عز الدين النجار طبعة المدني بالقاهرة سنة 1400 هـ وبها نقص حوالي ثلث الكتاب، وقد اعتمد عَلَى الطبعة الماجدية المطبوعة بمكة بتعليق الشيخ عبد الرحمن أبي حجر سنة 1347 هـ، وبالنسختين أخطاء مطبعية كثيرة وسقط بعض الكلمات بل والأسطر فلا يعتمد عليهما في القراءة. 4 - فضائل الشام ولهذه الرسالة نسخة خطية واحدة وهي نسخة بلدية الإسكندرية ورقمها (1351 - د) (1) وهي من مصورات معهد المخطوطات العربية بالقاهرة برقم (368 - تاريخ) وتقع في (56) ورقة. وجاء في نهايتها: "وهذا آخر ما وجد بخط المصنف عفا الله عنه وغفر له ورضي عنه ونفع به آمين. بأصله ما صورته: عَلَّقَهُ لنفسه العبد الفقير إِلَى ربه اللطيف علي بن محمد بن إبراهيم العفيف الحنبلي الجعفري، عفا الله عنه وغفر لوالديه ولمشايخه وإخوانه، بمنه وكرمه، وذلك في رابع عشر من صفر سنة ثمانمائة، والحمد لله وحده وصلى الله عَلَى سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا. وحسبنا الله ونعم الوكيل. وكان الفراغ من هذه الأحرف البالية باليد الفانية في أواخر شهر جمادى الأولى المنتظم في سلك سنة ثلاث وعشرين وألف من الهجرة المحمدية عَلَى صاحبها الصلاة والسلام". وبهذه النسخة الخطية كلامًا بخط المصنف منقول من جامع الخلال ومن كتاب الترحم للجوزجاني ... إلخ فرأيت نقله للاستفادة وهو. ليس ضمن "فضائل الشام" لابن رجب رحمه الله. والنسخة الخطية للكتاب مليئة بالتصحيف والتحريف حتى يظن القارئ أن الَّذِي كتبها لم يكن له دراسة بعلم الرجال ولا الحديث ولا البلدان وقد صوبت الأخطاء قدر الاستطاعة. وأما النسخة المطبوعة

5 - رسالة "استنشاق نسيم الأنس من نفحات رياض القدس"

فهي بتحقيق سامي جاد الله وبتقديم فضيلة الشيخ عبد الله السعد "حفظه الله" وقد بذل المحقق جهدًا كبيرًا في ضبط الكتاب إلا أنَّه لم يتمكن من قراءة بعض الكلمات والعبارات في نسخته المصورة فاجتهد في توقعها، وهي واضحة في نسختي ولله الحمد فقمت بتصويبها وهي قليلة. 5 - رسالة "استنشاق نسيم الأنس من نفحات رياض القدس" وقد حصلت عَلَى نسخة خطية واحدة للكتاب مصورة من الامبروريانا بإيطاليا برقم (197) وبها سقط من أول عبارة: "ويذكر بالآء الله حتى انشرحت القلوب بمحبته أعظم انشراح ... إِلَى عبارة: "وأمنحهم رياض قدسي" في الباب التاسع، استدركته من المطبوعة طبعة "دار الفتح". وهي من مصورات دار الكتب المصرية مصورات خارج الدار برقم (47883). والعجيب أن نسخة دار الصحابة بطنطا زعم صاحب الدار أنَّه اعتمد عَلَى نفس نسختنا الخطية، وهو لم يقترب منها بتاتًا، وذلك لعدم تنبيهه على السقط الموجود بها، وعند المقابلة اتضح لي أنَّه اعتمد عَلَى نسخة "دار الفتح" فقط. وأما محققها فهو رجل فاضل اجتهد في تخريجها وضبطها اجتهادًا كبيرًا وهو الشيخ/ مجدي قاسم "حفظه الله"، وقد استفدت منه في مواضع كثيرة فجزاه الله عنا خيرًا. ولا أنسى أن أذكر أن لكتاب "استنشاق نسيم الأنس" عدة نسخ خطية لم تصلني منها نسختان بجامعة الملك سعود ورقمهما فيها (1817/ 7) في (36) ورقة و (1637/ 1) في (26) ورقة من منسوخات القرن الثالث والرابع عشر الهجري. ونسختان في مكتبة دار الإفتاء السعودية بالرياض برقم (527) في (18) ورقة و (633) في (27) ورقة. وفي مكتبة الأوقاف العامة ببغداد برقم (4754/ 3 - مجاميع) في (32) ورقة (¬1). ولعلي أحصل عليهم أو عَلَى بعضهم في طبعات الكتاب التالية إن شاء الله. ¬

_ (¬1) انظر تصانيف الحافظ ومؤلفاته في كتاب منهج الحافظ ابن رجب في العقيدة لعلي الشبل ص 91.

عملي في هذا الكتاب وما تمتاز به طبعتنا

عملي في هذا الكتاب وما تمتاز به طبعتنا 1 - قمت بمقابلة النسخ الخطية لكل رسالة وإثبات الفروق التي بينها في الهامش وبجوارها كلمة "نسخة" بنفس طريقة المجلدين السابقين. 2 - قمت بتخريج آيات الكتاب العزيز وعزوها إِلَى مواضعها من كتاب الله، ووضعت الترقيم في هذا المجلد بجوار الآيات، وكذلك ترقيم صفحات المخطوط. 3 - قمت بتخريج الأحاديث المرفوعة، وأضع رقمًا عند عزو الحافظ ابن رجب للكتاب فمثلاً: حينما يقول: رواه أحمد وأبو داود الترمذي فإني أضع فوق عزو أحمد رقم (1)، وفوق عزو أبي داود رقم (2)، وفوق عزو الترمذي رقم (3) ثم أنقل في الحاشية الجزء والصفحة عند أحمد وعند الإطلاق يكون العزو للمسند، أما إن كان في غير المسند، فأذكر اسم الكتاب، كفضائل الصحابة لأحمد مثلا، ثم أنقل كلام الترمذي عَلَى الأحاديث إن كان له كلام. وليتنبه القارئ الكريم أن قول الترمذي عن حديث غريب سواء هو أو أبو نعيم في الحلية أو غيرهما من علماء العلل، فإنما يعني الضعف غالبًا في الإسناد، فحينما يكون في إسناد الترمذي عطية الصغار أو شهر بن حوشب أو غيرهما من الضعفاء فإنَّه يقول: غريب، وإذا وصف العُلَمَاء المتأخرون حديثًا بالغرابة فإنما يعنون في الغالب غرابة المتن ونكارته ومنهم: الذهبي وابن كثير وابن رجب. 4 - قمت بنقل كلام علماء العلل عَلَى الأحاديث المرفوعة المعلة وأذكر أحيانًا كلام الدارقطني في اختلاف السند، وكلام ابن عدي والعقيلي وأبي حاتم الرازي وأبي زرعة وغيرهم في إعلال الحديث. 5 - الأحاديث التي خارج الكتب الستة، وضمن ما أورده الهيثمي في مجمع

الزوائد، أنقل كلامه غالبًا. 6 - انقل غالبًا كلام الطبراني عَلَى الأحاديث في "المعجم الأوسط" -وهو من الكتب التي تعني بالغريب من الأحاديث، وبتفردات الرواة، ولهذا يجب أن ينظر للمعجم الأوسط عَلَى أنَّه ضمن كتب العلل، وكذلك كلامه في "المعجم الصغير"، وكذلك كلام البزار. 7 - عند العزو للطبراني في "المعجم الكبير" فإنني أذكر رقم الجزء وبعده رقم الحديث. 8 - قمت بنقل معنى بعض الكلمات الغريبة من معاجم اللغة. 9 - هناك بعض عناوين ليست في الأصول الخطية التي بين يدي، ولكنني وضعتها تسهيلاً عَلَى القارئ، وقد اقتبست من رسالة التوحيد العناوين التي وضعها محققها. 10 - قمت بالتنبيه عَلَى بعض أخطاء الناسخين خاصة في مخطوطة "فضائل الشام". 11 - قمت بوصف النسخ الخطية التي اعتمدت عليها في التحقيق، وتصوير نماذج منها. 12 - تكلمت عَلَى بعض أسانيد الأحاديث المرفوعة كلامًا موجزًا، خاصة الضعيف منها، ولم أجعل ذلك منهجًا. 13 - استفدت من أحكام الشيخ الألباني -رحمه الله- عَلَى بعض الأحاديث. 14 - اتبعت طريقة النص المختار في التحقيق.

شكر وتقدير

شكر وتقدير أشكر كل من ساهم في إخراج هذا المجلد، وأخص منهم الأخ الفاضل/ أحمد المرشدي صاحب "مركز الصفا" للكمبيوتر عَلَى ما بذله هو والإخوة العاملين بالمكتب من جهد في كتابة هذا المجلد. كما أشكر الأخ/ طلال الطرابيلي، والأخ/ أحمد سالم، والأخ/ محمد فاضل، والأخ/ مكرم مسعد، والأخ/ إبراهيم الحماحمي عَلَى جهدهم في المقابلات والمراجعات فجزاهم الله عنا خيرًا. ولأخي الحبيب/ عصام الدين سعد صاحب "دار الفاروق الحديثة" -حفظه الله- جزيل الشكر عَلَى طبعه للكتاب وعلى اهتمامه بطبع كتب التراث المحققة تحقيقًا جيدًا خاصة الجديد منها.

ثناء الهيئات العلمية وملاحظاتها على مجموع رسائل ابن رجب

ثناء الهيئات العلمية وملاحظاتها عَلَى مجموع رسائل ابن رجب قال الباحثون في ثمرات المطابع عن "مجموع رسائل الحافظ ابن رجب الحنبلي". جمع رسائل الحافظ ابن رجب -رحمه الله- في مجموع واحد عمل من الأعمال النافعة لأنها تيسر عَلَى طلبة العِلْم مؤونة جمع وحفظ الرسائل المتفرقة خاصة وأنها طبعت في أزمان متفاوتة. وقالوا: والحافظ ابن رجب رحمه الله من الأئمة المحققين الذين اجتمعت فيهم أدوات الاجتهاد بكمل صورها -كنا قد تعرضنا لشيء من ذلك في قراءة حول رسالته "أحكام الاختلاف في رؤية هلال ذي الحجة" ونشرت بالموقع. وإضافة إِلَى ذلك فقد برع بشكل واضح في الحديث عن أمور الزهد والرقائق، واعتنى ببيان ذلك من خلال شروحه النبوية، وقد تضمن هذا المجموع طائفة منها، مما يجعل القارئ لكتبه يشعر أنَّه يتنقل في روضة غناء تفيض بالعلم والحكمة، ولعل ذلك من ثمار تلمذته عَلَى شيخه المحقق الجليل شمس الدين ابن قيم الجوزية، الَّذِي يمثل قمة شامخة ومعلمًا بارزًا من معالم العِلْم والدين. والملاحظات: 1 - لم يشر محقق هذا المجموع إِلَى ما سبق طبعه من هذه الرسائل، ويبدو أنَّه لم يطلع عَلَى بعض الطبعات بل كان اعتماده كليًّا عَلَى المخطوطات (¬1). 2 - وقع في الفصل الأخير من رسالة "الفرق بين النصيحة والتعيير" ¬

_ (¬1) بل أشرت إِلَى استفادتي من بعض الرسائل المطبوعة والكتب المطبوعة كما في (1/ 8) من المقدمة فقلت: كما استفدت من الرسائل المطبوعة بتحقيق الدكتور آل فريان، والأخ أشرف عبد المقصود، والشيخ محمد عمرو عبد اللطيف، وسعد الحمدان،=

ص 417 من هذه الطبعة ما يلي: ومن يلي بشيء من هذا الأذى والمكر فليتق الله [ويستعن] (¬1) به ويصبر، فإن العاقبة للتقوى. وفي الحاشية رقم (1): في جميع النسخ: ويستعين. وأجريناه عَلَى عمل العطف عَلَى المجزوم. اهـ كلام المحقق. وكان الأولى إثبات ما في جميع النسخ -وهي ثلاث- لا سيما- أن المقرر في النحو العربي- أنَّه إذا وقع بعد جواب الشرط فعل مضارع مقرون بالفاء أو الواو جار فيه ثلاثة أوجه: الجزم عَلَى العطف، والرفع عَلَى الاستئناف، والنصب بأن مضمرة وجوبًا بعد واو المعية الواقعة في جواب الشرط المشبه للاستفهام، وقد قرئ بالأوجه الثلاثة فعل (يذرهم) في قولى تعالى: {مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ} [الأعراف: 186]، وعسى أن يستدرك المحقق ذلك في طبعة قادمة. 3 - لم يصنع المحقق فهارس مفصلة للموضوعات، ولا فهارس للآيات والأحاديث، ولعله أخر ذلك إِلَى حين فراغه من تحقيق بقية الرسائل التي بين يديه (1)، لكننا نؤكد عَلَى أهمية إكمال هذا المشروع بفهرسته بالفهارس اللازمة. ¬

_ =ومحمد ناصر الدين العجمي، وإبراهيم العرف، وسامي جاد الله، ومحمود الحداد وغيرهم، فجزاهم الله عنا خيرًا. اهـ ولم أرد تطويل المقدمة بذكر طبعات الكتاب السابقة، وذلك يتطلب تبيين ما في هذه الطبعات من مميزات وعيوب، وفي ذلك تطويل عَلَى القارئ. (¬1) سوف أقوم بعمل فهارس تفصيلية للكتاب إن شاء الله بعد الفراغ من تحقيق بقية الرسائل.

نماذج من صور بعض مخطوطات رسائل ابن رجب

نماذج من صور بعض مخطوطات رسائل ابن رجب

صورة الورقة الأولى من رسائل "فضل علم السلف" نسخة فاتح باستانبول

صورة المخطوط صورة الورقة الأولى من رسائل "فضل علم السلف" نسخة فاتح باستانبول

صورة الورقة الأخيرة من رسائل "فضل علم السلف" نسخة فاتح باستانبول

صورة المخطوط صورة الورقة الأخيرة من رسائل "فضل علم السلف" نسخة فاتح باستانبول

الورقة الأولى من رسائل "فضل علم السلف" "دار الكتب المصرية" (62 - تعليم تيمور)

صورة المخطوط الورقة الأولى من رسائل "فضل علم السلف" "دار الكتب المصرية" (62 - تعليم تيمور)

الورقة الأخيرة من رسائل "فضل علم السلف" "دار الكتب المصرية" (62 - تعليم تيمور)

صورة المخطوط الورقة الأخيرة من رسائل "فضل علم السلف" "دار الكتب المصرية" (62 - تعليم تيمور)

فضل علم السلف الوجه الأول من الورقة الأولى من نسخة تشيستربيتي والورقة الأخيرة من نفس النسخة

صورة المخطوط فضل علم السلف الوجه الأول من الورقة الأولى من نسخة تشيستربيتي والورقة الأخيرة من نفس النسخة

الورقة الأولى من رسائل "فضل علم السلف" نسخة "دار الكتب المصرية" مباحث إسلامية - طلعت) والوجه الأخير من نفس النسخة

صورة المخطوط الورقة الأولى من رسائل "فضل علم السلف" نسخة "دار الكتب المصرية" مباحث إسلامية - طلعت) والوجه الأخير من نفس النسخة

فضل علم السلف الصفحة الأولى من نسخة الأوقاف العراقية والصفحة الأخيرة من نفس النسخة

صورة المخطوط فضل علم السلف الصفحة الأولى من نسخة الأوقاف العراقية والصفحة الأخيرة من نفس النسخة

فضل علم السلف الصفحة الأولى من نسخة جامعة الملك سعود والصفحة الأخيرة من نفس النسخة

صورة المخطوط فضل علم السلف الصفحة الأولى من نسخة جامعة الملك سعود والصفحة الأخيرة من نفس النسخة

نسخة فاتح باستانبول الورقة الأولى من رسائل التوحيد أو تحقيق كلمة الإخلاص

صورة المخطوط نسخة فاتح باستانبول الورقة الأولى من رسائل التوحيد أو تحقيق كلمة الإخلاص

نسخة فاتح باستانبول الورقة الأخيرة من رسائل التوحيد أو تحقيق كلمة الإخلاص

صورة المخطوط نسخة فاتح باستانبول الورقة الأخيرة من رسائل التوحيد أو تحقيق كلمة الإخلاص

صورة المخطوط صورة الغلاف من رسالة التوحيد أو تحقيق كلمة الإخلاص نسخة جامعة ابن سعود والصفحة الأولى والأخيرة من نفس النسخة

الوجه الأول من رسالة "نور الاقتباس" نسخة فاتح باستانبول والوجه الأخير من نفس النسخة

صورة المخطوط الوجه الأول من رسالة "نور الاقتباس" نسخة فاتح باستانبول والوجه الأخير من نفس النسخة

الورقة الأولى من رسالة "نور الاقتباس" نسخة تشيستربيتي والورقة الأخيرة من نفس النسخة

صورة المخطوط الورقة الأولى من رسالة "نور الاقتباس" نسخة تشيستربيتي والورقة الأخيرة من نفس النسخة

الورقة الأولى من نسخة جامعة برنستون من رسالة "نور الاقتباس" والورقة الأخيرة من نفس النسخة

صورة المخطوط الورقة الأولى من نسخة جامعة برنستون من رسالة "نور الاقتباس" والورقة الأخيرة من نفس النسخة

الورقة الأولى من رسالة "نور الاقتباس" نسخة جامعة الملك سعود والورقة الأخيرة من نفس النسخة

صورة المخطوط الورقة الأولى من رسالة "نور الاقتباس" نسخة جامعة الملك سعود والورقة الأخيرة من نفس النسخة

الورقة الأولى من رسالة "فضائل الشام"

صورة المخطوط الورقة الأولى من رسالة "فضائل الشام"

الورقة الثانية من رسالة "فضائل الشام"

صورة المخطوط الورقة الثانية من رسالة "فضائل الشام"

الورقة الأخيرة من رسالة "فضائل الشام"

صورة المخطوط الورقة الأخيرة من رسالة "فضائل الشام"

صورة المخطوط صورة ما ألحقه ابن رجب بعد نهاية رسالة "فضائل الشام"

غلاف رسالة استنشاق نسيم الأنس نسخة الامبروزيانا والورقة الأولى من نفس النسخة

صورة المخطوط غلاف رسالة استنشاق نسيم الأنس نسخة الامبروزيانا والورقة الأولى من نفس النسخة

الورقة الأخيرة من رسالة استنشاق نسيم الأنس

صورة المخطوط الورقة الأخيرة من رسالة استنشاق نسيم الأنس

المنتقى من "استنشاق نسيم الأنس" انتقاء ابن عبد الهادي نسخة مكتبة سوهاج وهي من مصورات معهد المخطوطات العربية بالقاهرة (512 حديث)

صورة المخطوط المنتقى من "استنشاق نسيم الأنس" انتقاء ابن عبد الهادي نسخة مكتبة سوهاج وهي من مصورات معهد المخطوطات العربية بالقاهرة (512 حديث)

مَجْمُوع رَسَائِلْ الحَافِظْ ابْنِ رَجَب الحَنْبَلِيِّ زِين الدِّين أَبِي الفَرَج عَبْد الرَّحْمَن بْن أَحْمَد بْن رَجَب الحَنْبَلِيّ (736 - 795هـ) رَسَائِلُ جَمَعَتْ عُلُوماً شَتَّى فِي التَّوحِيدِ وَالفِقْهِ وَالتَّفْسِيرِ وَالحَدِيثِ وَالزُّهْدِ وَالأَدَبِ وَالمَوَاعِظِ وَالرَّقَائِقِ وَالسِّيَرِ وَالتَّارِيخِ جَمِيع الرَّسَائِل حُقِّقَتْ عَلَى نُسخٍ خطيَّة أَصْلِيَّة دِرَاسَة وَتَحْقِيق أَبِي مُصْعَبْ طَلْعَتْ بْن فُؤَادٍ الحلْوَانِيّ النَّاشِرُ الفَارُوقُ الحَدِيثَة لِلطِّبَاعَةِ وَالنَّشْرِ

بسم الله الرحمن الرحيم

31 - فضل علم السلف على علم الخلف

فضل علم السلف على علم الخلف

بسم الله الرحمن الرحيم رب أعن يا كريم الحمد لله رب العالمين، وصلى لله عَلَى محمد وآله وصحبه أجمعين وسلم تسليمًا كثيرًا. أما بعد؛ فهذه كلمات مختصرة في معنى العِلْم، وانقسامه إِلَى علم نافع وعلم غير نافع، والتنبيه عَلَى فضل علم السَّلف عَلَى علم الخلف. فنقول وبالله المستعان، ولا حول ولا قوة إلا بالله: قد ذكر الله -تعالى- في كتابه العِلْم تارة في مقام المدح، وهو العِلْم النافع، وذكر العِلْم تارة في مقام الذم، وهو العِلْم الَّذِي لا ينفع. فأما الأول فمثل قوله تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [الزمر: 9]، وقوله: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ} [آل عمران: 18]، وقوله: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه: 114] وقوله: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28]، وما قص الله سبحانه من قصة آدم وتعليمه الأسماء وعرضهم عَلَى الملائكة وقولهم: {سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [البقرة: 32]، وما قص الله سبحانه من قصة موسى -عليه السلام- وقوله للخضر: {هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا} [الكهف: 66] فهذا هو العِلْم النافع. وقد أخبر عن قوم أنهم أوتوا علماً ولم ينفعهم علمهم، فهذا علم نافع في نفسه لكن صاحبه لم ينتفع به، قال تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا} [الجمعة: 5]، وقال تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ} [الأعراف: 175 - 176]، وقال تعالى: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ

عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ ... } الآية [الأعراف: 169] وقال: {وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ} [الجاثية: 23]. وعلى تأويل من تأول الآية عَلَى علم عند من أضله الله. وأما العِلْم الَّذِي ذكره الله -تعالى- عَلَى جهة الذم له، فقوله في السحر: {وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ} [البقرة: 102] وقوله: {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} [غافر: 83] وقوله تعالى: {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم: 7]. ولذلك جاءت السنة بتقسيم العِلْم إِلَى نافع وغير نافع، والاستعاذة من العِلْم الَّذِي لا ينفع، وسؤال العِلْم النافع. ففي "صحيح مسلم" (¬1) عن زيد بن أرقم أن النبي صلّى الله عليه وسلم كان يقول: "اللهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عِلْمٍ لَا يَنْفَعُ، وَمِنْ قَلْبٍ لَا يَخْشَعُ، وَمِنْ نَفْسٍ لَا تَشْبَعُ، وَمِنْ دَعْوَةٍ لَا يُسْتَجَابُ لَهَا". وخرّجه أهل السنن من وجوه متعددة (¬2) عن النبي صلّى الله عليه وسلم وفي بعضها: "وَمِنْ دُعَاءٍ لَا يُسْمَعُ". وفي بعضها (¬3): «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَؤُلَاءِ الْأَرْبَعِ». ¬

_ (¬1) برقم (2723). (¬2) أخرجه أحمد (3/ 255)، وأبو يعلى (2845) عن أنس. وأخرجه أحمد (2/ 167) والنسائي (8/ 255) عن عبد الله بن عمرو. وأخرجه أحمد (2/ 340، 365) وأبو داود (1548)، والنسائي (8/ 263، 284)، وابن ماجه (3837) عن أبي هريرة. (¬3) أخرجه أحمد (2/ 167)، والترمذي (3482) عن عبد الله بن عمرو، وقال: هذا حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه من حديث عبد الله بن عمرو. وأخرجه أحمد (4/ 381) في عبد الله بن أبي أوفي. وأخرجه أحمد (3/ 283)، والنسائي (8/ 263) عن أنس. وأخرجه أحمد (2/ 340، 365)، وأبو داود (1548)، والنسائي (8/ 263)، وابن ماجه (3837) عن أبي هريرة.

وخرج النسائي (¬1) من حديث جابر أن النبي صلّى الله عليه وسلم كان يقول: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ ِلْمًا نَافِعًا، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ عِلْمٍ لَا (يَنْفَعُ) (*)». وخرّجه ابن ماجه (¬2) ولفظه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «سَلُوا اللَّهَ عِلْمًا نَافِعًا، وَتَعَوَّذُوا بِاللَّهِ مِنْ عِلْمٍ لَا يَنْفَعُ». وخرّجه الترمذي (¬3) من حديث أبي هريرة أن النبي صلّى الله عليه وسلم كان يقول: «اللَّهُمَّ انْفَعْنِي بِمَا عَلَّمْتَنِي، وَعَلِّمْنِي مَا يَنْفَعُنِي، وَزِدْنِي عِلْمًا». وخرج النسائي (¬4) من حديث أنس "أن النبي صلّى الله عليه وسلم كان يدعو: «اللَّهُمَّ انْفَعْنِي بِمَا عَلَّمْتَنِي، وَعَلِّمْنِي مَا يَنْفَعُنِي، وَارْزُقْنِي عِلْمًا تَنْفَعُنِي بِهِ". وخرج أبو نعيم (¬5) من حديث أنس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول: «اللَّهُمَّ إِنِّا نَسْأَلُكَ إِيمَانًا دَائِمًا، فرب إيمان غير دائم، وَأَسْأَلُكَ وَعِلْمًا نَافِعًا، فرب علم غير نافع». وخرج أبو داود (¬6) من حديث بريدة عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: "إِنَّ مِنَ البَيَانِ سِحْرًا، وَإِنَّ مِنَ الْعِلْمِ جَهْلًا". وإن صعصعة بن صوحان فسر قوله: "إِنَّ مِنَ الْعِلْمِ جَهْلًا"، أن يتكلف العالم إِلَى علمه ما لم يعلم فيجهله ذلك. ¬

_ (¬1) في "الكبرى" برقم (7867). وهذا الحديث مما فات المزي عزوه للنسائي في الكبرى في "تحفة الأشراف" (1/ 357) رغم أنَّه أتى بنفس السند، ولم يعزه إلا لابن ماجه، فلتنبه لذلك. (*) ينتفع به: "نسخة". (¬2) برقم (3843) عن جابر. (¬3) برقم (3599) وقال: هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه. (¬4) في "الكبرى" برقم (7868). (¬5) في الحلية (6/ 179) بلفظ: "اللهم إني أسألك إيمانًا دائمًا، وهديًا قيمًا، وعلمًا نافعًا. (¬6) برقم (5012).

ويفسر أيضاً: بأن العِلْم الَّذِي يضر ولا ينفع جهل؛ لأنّ الجهل به خير من العِلْم به؛ فإذا كان الجهل به خيرًا منه فهو شر من الجهل، وهذا كالسحر وغيره من الجهل، وهذا كالسحر وغيره من العلوم المضرة في الذين أو في الدُّنْيَا. وقد رُوي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - تفسير بعض العلوم التي لا تنفع. ففي "مراسيل أبي داود" (¬1) عن زيد بن أسلم قال: "قيل: يا رسول الله، ما أعلم فلانًا! قال: بم؟ قالوا بأنساب الناس، قال: علم لا ينفع وجهالة لا تضر". وخرّجه أبو نعيم في كتاب "رياضة المتعلمين" من حديث بقية عن ابن جريج عن أبي هريرة مرفوعًا. وفيه أنهم قالوا: أعلم الناس بأنساب العرب، وأعلم الناس بالشعر، وبما اختلفت فيه العرب. وزاد في آخره: "الْعِلْمُ ثَلَاثَةٌ مَا خَلاَهُنَّ فَهُوَ فَضْل: آيَةٌ مُحْكَمَةٌ، أَوْ سُنَّةٌ قَائِمَةٌ، أَوْ فَرِيضَةٌ عَادِلَةٌ" (¬2). وهذا الإسناد لا يصح، وبقية دلسه عن غير ثقة. وآخر الحديث خرجه أبو داود (¬3) وابن ماجه (¬4) من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص مرفوعًا: "الْعِلْمُ ثَلَاثَةٌ وَمَا سِوَى ذَلِكَ فَهُوَ فَضْل: آيَةٌ مُحْكَمَةٌ، أَوْ سُنَّةٌ قَائِمَةٌ، أَوْ فَرِيضَةٌ عَادِلَةٌ" وفي إسناده عبد الرحمن بن زياد الإفريقي وفيه ضعف مشهور. وقد ورد الأمر بأن يتعلم من الأنساب ما نوصل به إِلَى الأرحام، من حديث أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «تَعَلَّمُوا مِنْ أَنْسَابِكُمْ مَا تَصِلُونَ بِهِ أَرْحَامَكُمْ» ¬

_ (¬1) في كتاب الأدب - باب ما جاء في العصبية وتعلم النسب برقم (511). (¬2) أخرجه ابن عبد البر في "جامع بيان العِلْم" (2/ 23) من طريق بقية به وقال (2/ 24): في إسناد هذا الحديث رجلان لا يحتج بهما وهما سليمان وبقية .. الخ. (¬3) برقم (2885). (¬4) برقم (54).

خرجه الإمام أحمد (¬1) والترمذي (¬2). وخرّجه حميد بن زنجويه من طريق آخر عن أبي هريرة مرفوعًا: «تَعَلَّمُوا مِنْ أَنْسَابِكُمْ مَا تَصِلُونَ بِهِ أَرْحَامَكُمْ ثم انتهوا، وَتَعَلَّمُوا الْعَرَبِيَّةَ مَا تُعْرِفُونَ بِهِ كِتَابَ اللهِ ثُمَّ انْتَهُوا، وَتَعَلَّمُوا مِنَ النُّجُومِ مَا تَهْتَدُونَ بِهِ فِي ظُلُمَاتِ الْبِرِّ وَالْبَحْرِ ثُمَّ انْتَهُوا" (¬3) وفي إسناد رواته: ابن لهيعة، وخرج أيضاً من زواية نعيم بن أبي هند قال: قال عمر: تعلموا من النجوم ما تهتدون به في بركم وبحركم ثم أمسكوا، وتعلموا من النسبة ما تصلون به أرحامكم، وتعلموا ما يحل لكم من النساء ويحرم عليكم ثم انتهوا (¬4). وروى مسعر عن محمد بن عبيد الله قال: قال عمر بن الخطاب: تعلموا من النجوم ما تعرفون به القبلة والطريق. وكان النخعي لا يرى بأسًا أن يتعلم الرجل من النجوم ما بهتدي به. ورخص في تعلم منازل القمر أحمد وإسحاق، نقله عنهما حرب، زاد إسحاق: ويتعلم من أسماء النجوم ما يهتدي به. ¬

_ (¬1) (2/ 374). (¬2) برقم (1979) وقال: هذا حديث غريب من هذا الوجه. (¬3) أخرج شطره الأول ابن عدي في الكامل (2/ 12) إِلَى قوله: "أرحامكم". وفي إسناده بشر بن رافع الحارثي، نقل ابن عدي تضعيف أحمد والنسائي له، وقول ابن معين: شيخ كوفي وهو ثقة .... يحدث بمناكير. ونقل الخلاف بين العُلَمَاء هل بشر بن رافع هذا واحد أو اثنان، وأن الَّذِي وثقه ابن معين كوفي بينما صاحب الترجمة يمني من قبيلة بلحارث أشهر قبائل نجران. والله أعلم. قال ابن عدي: وبشر بن رافع وأبو الأسباط إن كلانا اثنين، فلهما غير ما ذكرته، وكان أحاديث بشر بن رافع أنكر من أحاديث أبي الأسباط وأخرج شطره الأخير ابن عبد البر في "جامع بيان العِلْم وفضله" (1474). (¬4) وأخرجه هناد في "الزهد" (997) من طريق عمارة بن القعقاع قال: قال عمر: "تعلموا من النجوم ما تهتدون بها وتعلموا من الأنساب ما تواصلون به". وأورد شطره الأول الحافظ ابن حجر في "التلخيص الحبير" (2/ 187) وقال: رواه حرب الكرماني.

وكره قتادة تعلم منازل القمر، ولم يرخص ابن عيينة فيه، ذكره حرب عنهما. وقال طاوس: رب ناظر في النجوم ومتعلم حروف أبي جاد ليس له عند الله خلاق. خرجه حرب، وخرّجه حميد بن زنجويه من رواية طاوس عن ابن عباس (¬1). وهذا محمول عَلَى علم التأثير لا علم (التسيير) (*) فإن علم التأثير باطل محرم، وفيه ورد الحديث المرفوع: «مَنِ اقْتَبَسَ شعبة مِنَ النُّجُومِ فقد اقْتَبَسَ شُعْبَةً مِنَ السِّحْرِ» خرجه أبو داود (¬2) من حديث ابن عباس مرفوعًا. وخرج أيضاً (¬3) من حديث قبيصة مرفوعًا «الْعِيَافَةُ وَالطِّيَرَةُ وَالطَّرْقُ مِنَ الْجِبْتِ» والعيافة: زجر الطير، والطرق: الخط في الأرض. فعلم تأثير النجوم باطل محرم، والعمل بمقتضاه كالتقرب إِلَى النجوم، وتقريب القرابين لها كفر. وأما علم التسيير فإذا تعلم منه ما يحتاج إِلَيْهِ للاهتداء ومعرفة القبلة، والطرق كان جائزًا عند الجمهور. وما راد عليه فلا حاجة إِلَيْهِ وهو يشغل عما هو أهم منه، وربما أدى التدقيق فيه إِلَى إساءة الظن بمحاريب المسلمين في أمصارهم. كما وقع ذلك كثيرًا من أهل هذا العِلْم قديمًا وحديثًا، وذلك يفضي إِلَى اعتقاد خطأ الصحابة والتابعين في صلاتهم في كثير من الأمصار، وهو باطل. وقد أنكر الإمام أحمد الاستدلال بالجدي، وقال إِنَّمَا ورد "ما بين المشرق والمغرب قبلة" يعني: لم يرد اعتبار الجدي ونحوه من النجوم. ¬

_ (¬1) وعزاه أيضاً المناوي في "فيض القدير" (4/ 17) لحميد بن زنجويه عن ابن عباس. (*) التعبير: "نسخة". (¬2) برقم (3905). (¬3) برقم (3907).

وقد أنكر ابن مسعود عَلَى كعب قوله: إن الفلك تدور. وأنكر ذلك مالك وغيره، وأنكر الإمام أحمد عَلَى المنجمين قولهم أن الزوال يختلف في البلدان. وقد يكون إنكارهم أو إنكار بعضهم لذلك؛ لأن الرسل لم تتكلم في هذا وإن كان أهله يقطعون به، وإن الاشتغال به ربما أدى إِلَى فساد عريض. وقد اعترض بعض من كان يعرف هذا عَلَى حديث "النزول ثلث الليل الآخر" (¬1)، وقال: ثلث الليل يختلف باختلاف البلدان فلا يمكن أن يكون النزول في وقت معين. ومعلوم بالضرورة من دين الإسلام قبح هذا الاعتراض، وأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أو خلفاءه الراشدين لو سمعوا من يعترض به لما ناظروه، بل بادروا إِلَى عقوبته أو إلحاقه بزمرة المخالفين المنافقين المكذبين. كذلك التوسع في علم الأنساب هو مما لا يحتاج إِلَيْهِ، وقد سبق عن عمر وغيره النهي عنه. مع أن طائفة من الصحابة والتابعين كانوا يعرفونه ويعتنون به. وكذلك التوسع في علم العربية لغة ونحوًا، وهو مما يشغل عن العِلْم الأهم، والوقوف معه يَحرِمُ علماً نافعًا. وقد كره القاسم بن مخيمرة علم النحو، وقال: أوله شغل وآخره بغي، وأراد به التوسع في معرفة اللغة وغريبها وأنكر عَلَى أبي عبيد توسعه في ذلك وقال: هو يشغل عما هو أهم منه. ولهذا يقال: إن العربية في الكلام كالملح في الطعام. يعني: أنَّه يؤخذ منها ما بصلح الكلام كما يؤخذ من الملح ما يصلح الطعام، وما راد عَلَى ذلك فإنَّه يفسده. وكذلك علم الحساب يحتاج منه إِلَى ما يعرف به حساب (ما ينتفع) (*) من قسمة الفرائض والوصايا والأموال التي تقسم بين المستحقين لها، والزائد عَلَى ذلك مما لا ينتفع به إلا في مجرد رياضة الأذهان وصقالها لا حاجة إِلَيْهِ ويشغل ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (1145)، ومسلم (758). (*) في المطبوع: "يقع".

عما هو أهم منه. وأما ما أُحدث بعد الصحابة من العلوم التي توسع فيها أهلها وسموها علومًا، وظنوا أن من لم يكن عالماً بها فهو جاهل أو ضال، فكلها بدعة. وهي من محدثات الأمور المنهي عنها، فمن ذلك ما أحدثته المعتزلة من الكلام في القدر وضرب الأمثال لله، وقد ورد النهي عن الخوض في القدر. وفي (صحيحي) (*) ابن حبان (¬1) والحاكم (¬2) عن ابن عباس مرفوعًا: "لَا يَزَالُ أَمْرُ هَذِهِ الْأُمَّةِ مُوَافِيًا وَمُقَارِبًا مَا لَمْ يَتَكَلَّمُوا فِي الوِلْدَانِ وَالْقَدَرِ". وقد رُوي موقوفًا، ورجح بعضهم وقفه. وخرج البيهقي (¬3) من حديث ابن مسعود مرفوعًا: " «إِذَا ذُكِرَ أَصْحَابِي فَأَمْسِكُوا، وَإِذَا ذُكِرَ النُّجُومُ فَأَمْسِكُوا»، وقد رُوي من وجوه متعددة في أسانيدها مقال. ورُوي عن ابن عباس "أنَّه قال لميمون بن مهران: إياك والنظر في النجوم، فإنها تدعو إِلَى الكهانة، وإياك والقدر فإنَّه يدعو إِلَى الزندقة، إياك وشتم أحد من أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - فيكبك الله في النار عَلَى وجهك" (¬4) وخرّجه أبو نعيم مرفوعًا (¬5) ولا يصح رفعه. والنهي عن الخوض في القدر يكون عَلَى وجوه: ¬

_ (*) صحيح: "نسخة". (¬1) برقم (6724 - إحسان). (¬2) في "المستدرك" (1/ 33) وقال: هذا حديث صحيح عَلَى شرط الشيخين، ولا نعلم له علة ولم يخرجاه. (¬3) وأخرجه الطبراني في الكبير (10/ 10448)، وأبو نعيم في الحلية (4/ 108). وقال أبو نعيم: غريب من حديث الأعمش تفرد به عنه مسهر. وانظر الصحيحة للألباني برقم (34). (¬4) أخرجه اللالكائي في "شرح اعتقاد أهل السنة" (1134). (¬5) وأخرجه السهمي في تاريخ جرجان (ص 429) وذكر ابن حجر في اللسان (1/ 298) أن هذا الخبر منكر.

منها: ضرب كتاب الله بعضه ببعض فينزع المثبت للقدر بآية والنافي له بأخرى ويقع التجادل في ذلك. وهذا قد رُوي أنَّه وقع في عهد النبي صلّى الله عليه وسلم وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - غضب من ذلك ونهى عنه (¬1). وهذا من جملة الاختلاف في القرآن والمراء فيه، وقد نهى عن ذلك (¬2). ومنها: الخوض في القدر إثباتًا ونفيًا "بالأقيسة العقلية، كقول القدرية: لو قدر وقضى ثم عذب كان ظالمًا، وقول من خالفهم: إن الله جبر العباد عَلَى أفعالهم، ونحو ذلك. ومنها: الخوض في سر القدر، وقد ورد النهي عنه، عن علي وغيره من السَّلف، فإن العباد لا يطلعون عَلَى حقيقة ذلك. ومن ذلك -أعني: محدثات الأمور- ما أحدثه المعتزلة، ومن حذا حذوهم من الكلام في ذات الله -تعالى- وصفاته بأدلة العقول وهو أشد خطرًا من الكلام في القدر؛ لأنّ الكلام في القدر كلام في أفعاله، وهذا كلام في ذاته وصفاته. (وانقسم) (*) هؤلاء إِلَى قسمين: أحدهما: من نفى كثيرًا مما ورد به الكتاب والسنة من ذلك لاستلزامه عنده التشبيه بالمخلوقين، كقول المعتزلة: لو رُوي لكان جسمًا؛ لأنّه لا يرى إلا في (جهة) (**). وقولهم: لو كان له كلام يسمع لكان جسمًا. ووافقهم من نفى الاستواء، فنفوه لهذه الشبهة، وهذا طريق المعتزلة والجهمية. وقد اتفق السَّلف عَلَى تبديعهم وتضليلهم، وقد سلك سبيلهم في بعض الأمور كثير ممن انتسب إِلَى السنة والحديث من المتأخرين. ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (2666) عن عبد الله بن عمرو. (¬2) وبهذا المعنى حديث أخرجه أحمد (2/ 286) وأبو داود (4603) وغيرهما من حديث أبي هريرة أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: "المراء في القرآن كفر". (*) وتقسم: "نسخة". (**) وجهة: "نسخة".

والثاني: من (رام) (*) إثبات ذلك بأدلة العقول التي لم يرد بها الأثر، ورد عَلَى أولئك مقالتهم، كما هي طريقة مقاتل بن سليمان ومن تابعه كنوح بن أبي مريم، وتابعهم طائفة من المحدثين قديمًا وحديثًا، وهو أيضاً مسلك الكَرَّامية، فمنهم من أثبت لإثبات هذه الصفات الجسم، إما لفظًا وإما معنى، ومنهم من أثبت لله صفات لم يأت بها الكتاب والسُّنَّة كالحركة وغير ذلك مما هي عنده لازم الصفات الثابتة. وقد أنكر السَّلف عَلَى مقاتل قوله في رده عَلَى جهم بأدلة العقل، وبالغوا في الطعن عليه، ومنهم من استحل قتله، منهم مكي بن إبراهيم شيخ البخاري وغيره. والصواب ما عليه السَّلف الصالح من إمرار آيات الصفات وأحاديثها كما جاءت من غير تفسير لها ولا تكييف ولا تمثيل، ولا يصح عن أحد منهم خلاف ذلك ألبتة، خصوصًا الإمام أحمد، ولا خوضًا في معانيها ولا ضرب مثل، الأمثال لها. وإن كان بعض من كان قريبًا من زمن أحمد فيهم من فعل شيئًا من ذلك اتباعًا لطريقة مقاتل، فلا يقتدى به في ذلك، وإنَّما الاقتداء بأئمة الإسلام كابن المبارك ومالك والثوري والأوزاعي والشافعي وأحمد وإسحاق وأبي عبيد ونحوهم. وكل هؤلاء لا يوجد في كلامهم شيء من جنس كلام المتكلمين فضلا عن كلام الفلاسفة، ولم يدخل ذلك في كلامه من سلم من قدح وجرح. وقد قال أبو زرعة الرازي: كل من كان عنده علم فلم يصن علمه واحتاج في نشره إِلَى شيء من الكلام فلستم منه. ومن ذلك -أعني: محدثات العلوم- ما أحدثه فقهاء أهل الرأي من ضوابط وقواعد عقلية ورد فروع الفقه إليها. وسواء خالفت السنن أم وافقتها طردًا لتلك القواعد المقررة، وإن كان أصلها ¬

_ (*) أراد: "نسخة".

مما تأولوه عَلَى نصوص الكتاب والسُّنَّة لكن بتأويلات يخالفهم غيرهم فيها، وهذا الَّذِي أنكره أئمة الإسلام عَلَى من أنكروه من فقهاء أهل الرأي بالحجاز والعراق وبالغوا في ذمه وإنكاره. فأما الأئمة وفقهاء أهل الحديث؛ فإنهم يتبعون الحديث الصحيح حيث كان إذا كان معمولا به عند الصحابة ومن بعدهم أو عند طائفة منهم، فأما ما اتفق السَّلف عَلَى تركه، فلا يجور العمل به؛ لأنهم ما تركوه إلا عَلَى علم أنَّه لا بعمل به. ***

[مطلب]

[مطلب] قال عمر بن عبد العزيز: خذوا من الرأي ما يوافق من كان قبلكم؛ فإنهم كانوا أعلم منكم، فأما ما خالف عمل أهل المدينة من الحديث فهذا كان مالك يرى الأخذ بعمل أهل المدينة، والأكثر أخذوا بالحديث. ***

[مطلب]

[مطلب] ومما أنكره أئمة السَّلف، الجدال والخصام والمراء في مسائل الحلال والحرام أيضاً، ولم يكن ذلك طريقة أئمة الإسلام، وإنما أحدث ذلك بعدهم كما أحدثه فقهاء العراقين في مسائل الخلاف بين الشافعية والحنفية، وصنفوا كتب الخلاف ووسعوا البحث والجدال فيها، وكل ذلك محدث لا أصل له، وصار ذلك علمهم، حتى شغلهم عن العِلْم النافع. وقد أنكر ذلك السَّلف وورد الحديث المرفوع في السنن (¬1) «مَا ضَلَّ قَوْمٌ بَعْدَ هُدًى، إِلَّا أُوتُوا الْجَدَلَ. ثُمَّ قَرَأَ {مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} [الزخرف: 58]». وقال بعض السَّلف: إذا أراد الله بعبد خيرًا فتح له باب العمل وأغلق عنه باب الجدل، وإذا أراد الله بعبد شرًا أغلق عنه باب العمل وفتح له باب الجدل. وقال مالك: أدركت هذه البلدة وإنهم ليكرهون هذا الإكثار الَّذِي فيه الناس اليوم -يريد المسائل. وكان يعيب كثرة الكلام والفتيا ويقول: يتكلم (أحدهم) (*) كأنه جمل مغتلم، يقول: هو كذا هو كذا، يهدر في كلامه. وكان يكره الجواب في كثرة المسائل ويقول: قال الله عز وجل: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} [الإسراء: 85] فلم يأته في ذلك جواب وقِيلَ لَهُ: الرجل يكون عالمًا بالسنن يجادل عنها؟ قال: لا ولكن يخبر بالسُّنَّة، فإن قبل ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي (3253) وقال: هذا حديث حسن صحيح إِنَّمَا نعرفه من حديث حجاج ابن دينار، وحجاج ثقة مقارب الحديث، وأبو غالب اسمه حزور. وأخرجه ابن ماجه (48). (*) أحدكم: "نسخة".

منه وإلا سكت. وقال: المراء والجدال في العِلْم يذهب بنور العِلْم. وقال: المراء في العِلْم يقسي القلب ويورث الطعن، وكان يقول في المسائل التي يسأل عنها كثيرًا: لا أدري. وكان الإمام أحمد يسلك سبيله في ذلك. وقد ورد النهي عن كثرة المسائل وعن أغلوطات المسائل، وعن المسائل قبل وقوع الحوادث، وفي ذلك ما يطول ذكره. ومع هذا ففي كلام السَّلف والأئمة كمالك والشافعي وأحمد وإسحاق التنبيه عَلَى مأخذ الفقه، ومدارك الأحكام بكلام وجيز مختصر يفهم به المقصود من غير إطالة ولا إسهاب. وفي كلامهم من رد الأقوال المخالفة للسُّنة بألطف إشارة و (أحسن) (*) عبارة، بحيث يغني ذلك من فهمه عن إطالة المتكلمين في ذلك بعدهم، بل ربما لم يتضمن تطويل كلام من بعدهم من الصواب في ذلك، ما تضمنه كلام السَّلف والأئمة مع اختصاره وإيجازه. فما سكت من سكت عن كثرة الخصام والجدال من سلف الأمة جهلاً ولا عجزًا، ولكن سكتوا عن علم وخشية لله. وما تكلم من تكلم وتوسع من توسع بعدهم باختصاصه بعلم دونهم، ولكن حبّا للكلام وقلة ورع. كما قال الحسن وسمع قومًا يتجادلون: هؤلاء قوم ملوا العبادة وخف عليهم القول، وقل ورعهم فتكلموا. وقال مهدي بن ميمون: سمعت محمد بن سيرين وما رآه رجل ففطن له، فَقَالَ: إني أعلم ما يريد، إني لو أردت أن أماريك كنت عالماً (بأبواب) (**) ¬

_ (*) حسن: نسخة". (**) باب: "نسخة".

المراء. وفي رواية قال: أنا أعلم بالمراء منك ولكني لا أماريك. وقال إبراهيم النخعي: ما خاصمت قط، وقال عبد الكريم الجزري: ما خاصم ورع قط. وقال جعفر بن محمد: إياكم والخصومات في الدين؛ فإنها تشغل القلب وتورث النفاق. وكان عمر بن عبد العزيز يقول: إذا سمعت المراء فأقصر. وقال من جعل دينه غرضًا للخصومات أكثر التنقل. وقال: إن السابقين عن علم وقفوا، وببصر نافذ قد كفوًا، وكانوا هم أقوى عَلَى البحث لو بحثوا، وكلام السَّلف في هذا المعنى كثير جدًّا. وقد فتن كثير من المتأخرين بهذا، وظنوا أن من كثر كلامه وجداله وخصامه في مسائل الدين فهو أعلم ممن ليس كذلك، وهذا جهل محض. وانظر إِلَى أكابر الصحابة وعلمائهم كأبي بكر، وعمر، وعلي، ومعاذ، وابن مسعود، وزيد بن ثابت كيف كانوا؟ كلامهم أقل من كلام ابن عباس وهم أعلم منه. وكذلك كلام التابعين أكثر من كلام الصحابة، والصحابة أعلم منهم. وكذلك تابعوا التابعين كلامهم أكثر من كلام التابعين، والتابعون أعلم منهم. فليس العِلْم بكثرة الرواية ولا بكثرة المقال، ولكنه نور يقذف في القلب يَفْهَم به العبدُ الحق، ويميز به بينه وبين الباطل، ويعبر عن ذلك بعبارات وجيزة محصلة للمقاصد. وقد كان النبي صلّى الله عليه وسلم أوتي جوامع الكلم (¬1) واختصر له الكلام اختصارًا. ولهذا ورد النهي عن كثرة الكلام والتوسع في القيل والقال (¬2)، وقد قال ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (6998)، ومسلم (523). (¬2) يشير المصنف -رحمه الله- لحديث النبي صلّى الله عليه وسلم الَّذِي أخرجه البخاري (1477)، ومسلم (1715) عن أبي هريرة، وفيه: "إن الله كره لكم ثلاث: قيل وقال .. " الحديث.

النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ الله لَمْ يَبْعَثْ نِبِيّاً إلاَّ مبلغًا، وإِنَّ تَشْقِيقُ الْكَلَامِ مِنَ الشَّيْطَانِ" (¬1) يعني أن النبي صلّى الله عليه وسلم إِنَّمَا يتكلم بما يحصل به البلاغ، وأما كثرة القول وتشقيق الكلام فإنَّه مذموم، وكانت خطب النبي - صلى الله عليه وسلم - قصدًا (¬2)، وكان يحدث حديثًا لو عده العاد لأحصاه (¬3)، وقال: "إن من البيان سحرًا" (¬4) وإنَّما قاله في ذم ذلك لا مدحًا له، كما ظن ذلك من ظنه، ومن تأمل سياق ألفاظ الحديث قطع بذلك. وفي الترمذي (¬5) وغيره (¬6) عن عبد الله بن عمرو مرفوعًا: «إِنَّ اللَّهَ لَيُبْغِضُ الْبَلِيغَ مِنَ الرِّجَالِ، الَّذِي يَتَخَلَّلُ بِلِسَانِهِ كَمَا يَتَخَلَّلُ الْبَقَرَةُ بِلِسَانِهَا» وفي المعني أحاديث كثيرة مرفوعة وموقوفة عَلَى عمر وسعد وابن مسعود وعائشة وغيرهم من الصحابة. فيجب أن يعتقد أنَّه ليس كل من كثر بسطه للقول وكلامه في العِلْم، كان ممن ليس كذلك. وقد ابتلينا بجهلة من الناس يعتقدون في بعض من توسع في القول من المتأخرين أنَّه أعلم ممن تقدم، فمنهم من يظن في شخص أنَّه أعلم من كل من تقدم من الصحابة ومن بعدهم؛ لكثرة بيانه ومقاله، ومنهم من يقول: هو أعلم من الفقهاء المشهورين المتبوعين، وهذا يلزم منه ما قبله؛ لأنّ هؤلاء الفقهاء المشهورين المتبوعين أكثر قولا ممن كان قبلهم، فإذا كان من بعدهم أعلم منهم لاتساع قوله كان أعلم ممن كان أقل منهم قولاً بطريق الأولى، كالثوري والأوزاعي والليث وابن المبارك وطبقتهم، وممن قبلهم من التابعين والصحابة ¬

_ (¬1) أخرجه عبد الرزاق (11/ 163، 164) من مرسل مجاهد. (¬2) أخرجه مسلم (866). (¬3) أخرجه البخاري (3567)، ومسلم (2493) كتاب الزهد والرقائق، باب التثبت في الحديث وحكم كتابة العِلْم. (¬4) أخرجه البخاري (5146). (¬5) برقم (2853) وقال: هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه، وفي الباب عن سعد. (¬6) أخرجه أحمد (2/ 165، 187)، وأبو داود (5005).

أيضاً؛ فإن هؤلاء كلهم أقل كلامًا ممن جاء بعدهم. وهذا تنقص عظيم بالسلف الصالح، وإساءة ظن بهم، ونسبته لهم إِلَى الجهل وقصور العِلْم، ولا حول ولا قوة إلا بالله. ولقد صدق ابن مسعود في قوله في الصحابة: "إنهم أبر الأمة قلوبًا، وأعمقها علومًا، وأقلها تكلفًا" ورُوي نحوه عن ابن عمر (¬1) أيضاً. وفي هذا إشارة إِلَى أن من بعدهم أقل علومًا وأكثر تكلفًا، وقال ابن مسعود أيضاً: "إنكم في زمان كثير علماؤه قليل خطباؤه، وسيأتي بعدكم زمان قليل علماؤه كثير خطباؤه" (¬2) فمن كثر علمه وقل قوله فهو الممدوح، ومن كان بالعكس فهو مذموم. وقد شهد النبي - صلى الله عليه وسلم - لأهل اليمن بالإيمان والفقه (¬3)، وأهل اليمن أقل الناس كلامًا وتوسعًا في العلوم (لكن) (*) علمهم علم نافع في قلوبهم، ويعبرون بألسنتهم عن القدر المحتاج إِلَيْهِ من ذلك، وهذا هو الفقه والعلم النافع. فأفضل العلوم في تفسير القرآن ومعاني الحديث، والكلام في الحلال والحرام ما كان مأثورم عن الصحابة والتابعين وتابعيهم إِلَى أن ينتهي إِلَى زمن أئمة الإسلام المشهورين المقتدى بهم، الذين سميناهم فيما سبق. فضبط ما رُوي عنهم في ذلك أفضل العِلْم مع تفهمه وتعقله والتفقه فيه، وما حدث بعدهم من التوسع لا خير في كثير منه، إلا أن يكون شرحًا لكلام يتعلق من كلامهم. وأما ما كان مخالفًا لكلامهم فأكثره باطل أو لا منفعة فيه، وفي كلامهم في ذلك كفاية وزيادة فلا يوجد في كلام من بعدهم من حق إلا وهو في كلامهم ¬

_ (¬1) أخرجه أبو نعيم في الحلية (1/ 305). (¬2) أخرجه البخاري في الأدب المفرد (789)، والطبراني (9/ 8567). (¬3) أخرجه البخاري (4388)، ومسلم (52). (*) لأنّ: "نسخة".

موجود بأوجز لفظ وأخصر عبارة، ولا يوجد في كلام من بعدهم من باطل إلا وفي كلامهم ما يبين بطلانه لمن فهمه وتأمله، ويوجد في كلامهم من المعاني البديعة والمآخذ الدقيقة ما لا يهتدي إليه من بعدهم ولا يُسلِّم به. فمن لم يأخذ العِلْم من كلامهم فاته ذلك الخير كله مع ما يقع في كثير من الباطل متابعة لمن تأخر عنهم، ويحتاج من أراد جمع كلامهم إِلَى معرفة صحيحه من سقيمه، وذلك بمعرفة الجرح والتعديل والعلل، فمن لم يعرف ذلك فهو غير واثق بما ينقله من ذلك ويلتبس عليه حقه بباطله، ولا يثق بما عنده من ذلك. كما يرى من قل علمه بذلك لا يثق بما يروى عن النبي صلّى الله عليه وسلم عن السَّلف لجهله بصحيحه من سقيمه، فهو لجهله يجور أن يكون كله باطلا لعدم معرفته بما يعرف به صحيح ذلك وسقيمه. قال الأوزاعي: العِلْم ما جاء به أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - فما كان غير ذلك فليس بعلم. وكذا قال الإمام أحمد، وقال في التابعين: أنت مخير -يعني: مخير في كابته وتركه. وقد كان الزهري يكتب ذلك، وخالفه صالح بن كيسان ثم ندم عَلَى تركه كلام التابعين. وفي زماننا يتعين كتابة كلام أئمة السَّلف المقتدى بهم إِلَى زمن الشافعي وأحمد وإسحاق وأبي عبيد، وليكن الإنسان عَلَى حذر مما حدث بعدهم، فإنَّه حدث بعدهم حوادث كثيرة، وحدث من انتسب إِلَى متابعة السنة والحديث من الظاهرية ونحوهم وهو أشد مخالفة لها لشذوذه عن (الأمة) (¬1) وانفراده عنهم بفهم يفهمه، أو يأخذ ما لم يأخذ به الأئمة من قبله. فأما الدخول مع ذلك في كلام المتكلمين أو الفلاسفة فشر محض، وقلَّ من دخل في شيء من ذلك إلا وتلطخ ببعض أوضارهم (¬2). ¬

_ (¬1) في المطبوع: "الأئمة". (¬2) أوساخهم، وهي من وسخ الدسم واللبن "القاموس" مادة: "وضر".

كما قال أحمد: لا يخلو من نظر في الكلام إلا تجهم. وكان هو وغيره من أئمة السَّلف يُحذِّرون من أهل الكلام وإن ذبوا عن السُّنَّة. وأما ما يوجد في كلام من أَحَبّ الكلام المحدث واتبع أهله من ذم من لا يتوسع في الخصومات والجدال ونسبته إِلَى الجهل أو إِلَى الحشو، وإلى أنَّه غير عارف بالله أو غير عارف بدينه، فكل ذلك من خطوات الشيطان نعوذ بالله منه. ومما أُحدث من العلوم والكلام في العلوم الباطنة من المعارف وأعمال القلوب وتوابع ذلك، بمجرد الرأي والذوق أو الكشف وفيه خطر عظيم، وقد أنكره أعيان الأئمة كالإمام أحمد وغيره. وكان أبو سليمان يقول: إنه لتمر بي النكتة من نكت القوم فلا أقبلها إلا بشاهدين عدلين: الكتاب والسُّنَّة. وقال الجنيد: عِلْمُنا هذا مقيد بالكتاب والسنَّة، من لم يقرأ القرآن ويكتب الحديث لا يقتدى به في علمنا هذا. وقد اتسع الخرق في هذا الباب، ودخل فيه قوم إِلَى أنواع الزندقة والنفاق، ودعوى أن أولياء الله أفضل من الأنبياء، أو أنهم مستغنون عنهم، وإلى التنقص بما جاءت به الرسل من الشرائع، وإِلَى دعوى الحلول والاتحاد أو القول بوحدة الوجود، وغير ذلك من أصول الكفر والفوق والعصيان، كدعوى الإباحة، وحل محظورات الشرائع. وأدخلوا في هذا الطريق أشياء كثيرة ليست من الدين في شيء، فبعضها زعموا أنَّه يحصل به ترقيق القلوب كالغناء والرقص، وبعضها زعموا أنَّه يراد لرياضة النفوس، كعشق الصور المحرمة ونظرها، وبعضها زعموا أنَّه لكسر النفوس والتواضع، كشهوة اللباس وغير ذلك مما لم تأت به الشريعة، وبعضه يصد عن ذكر الله وعن الصلاة كالغناء والنظر المحرم، وشابهوا بذلك الذين اتخذوا دينهم لهوًا ولعبًا. ***

[العلم النافع] (*)

[العِلْم النافع] (*) فالعلم النافع من هذه العلوم كلها ضبط نصوص الكتاب والسنة وفهم معانيها، والتقيد في ذلل بالمأثور عن الصحابة والتابعين وتابعيهم في معاني القرآن والحديث، وفيما ورد عنهم من الكلام في مسائل الحلال والحرام والزهد والرقائق والمعارف وغير ذلك، والاجتهاد عَلَى تمييز صحيحه من سقيمه أولاً، ثم الاجتهاد عَلَى الوقوف عَلَى معانيه وتفهمه ثانيًا، وفي ذلك كفاية لمن عقل، وشغل لمن بالعلم النافع عني واشتغل. ومن وقف عَلَى هذا وأخلص القصد فيه لوجه الله عز وجل واستعان عليه، أعانه وهداه ووفقه وسدده وفهمه وألهمه، وحينئذ يثمر له هذا اعلم ثمرته الخاصة به وهي خشية الله، كما قال عز وجل {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28]. قال ابن مسعود وغيره: كفى بخشية الله علماً، وكفى بالاغترار بالله جهلاً (¬1). وقال بعض السَّلف: ليس العِلْم بكثرة الرواية ولكن العِلْم الخشية. وقال بعضهم: من خشي الله فهو عالم ومن عصاه فهو جاهل. وكلامهم في هذا المعنى كثير جدًّا. وسبب ذلك أن هذا العِلْم النافع يدل عَلَى أمرين: أحدهما: عَلَى معرفة الله وما يستحقه من الأسماء الحسنى والصفات العلى والأفعال الباهرة، وذلك يستلزم إجلاله وإعظامه وخشيته، ومهابته ومحبته ¬

_ (*) كل عنوان بين معقوفتين ليس في الأصول ووضع لتنبيه القارئ. (¬1) أخرجه ابن المبارك في "الزهد" (ص 15)، وأحمد في "الزهد" (ص 158)، والطبراني في "الكبير" (9/ 8927).

ورجاءه والتوكل عليه، والرضا بقضائه والصبر عَلَى بلائه. والأمر الثاني: المعرفة بما يحبه ويرضاه وما يكرهه ويسخطه من الاعتقادات والأعمال الظاهرة والباطنة والأقوال. فيوجب ذلك لمن علمه المسارعة إِلَى ما فيه محبة الله ورضاه والتباعد عما يكرهه ويسخطه؛ فإذا أثمر العِلْم لصاحبه هذا فهو علم نافع، فتى كان العِلْم نافعًا ووقر في القلب لله، فقد خشع القلب وانكسر له وذل هيب وإجلالا وخشية ومحبة وتعظيمًا ومتى خشع القلب لله وانكسر له وذل قنعت النفس بيسير الحلال من الدنيا، وشبعت به فأوجب لها ذلك القناعة والزهد في الدُّنْيَا. وكل ما هو فإن لا يبقى من المال والجاه وفضول العيش الذي ينقص به حظ صاحبه عند الله من نعيم الآخرة وإن كان كريمًا عَلَى الله كما قالا ذلك ابن عمر وغيره من السلف وروى مرفوعًا. وأوجب ذلك أن (تكون) (*) بين العبد وبين ربه عز وجل معرفة خاصة، فإن سأله أعطاه، وإن دعاه أجابه، كما قال في الحديث الإلهي: "وَلاَ يَزَالُ عَبْدِى يَتَقَرَّبُ إِلَىَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ -إلى قوله- فلَئِنْ سَأَلَنِى لأعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِى لأعِيذَنَّهُ" (¬1) وفي رواية (¬2): "وَلَئِنْ دَعَانِي لِأُجِيبَنَّهُ". وفي وصيته - صلى الله عليه وسلم - لابن عباس: "احْفَظِ اللَّهَ يَحْفَظْكَ، احْفَظِ اللَّهَ تَجِدْهُ أَمَامَكَ، وتَعَرَّفْ إِلَى اللَّهَ فِي الرَّخَاءِ يَعْرِفْكَ فِي الشِّدَّةِ"، (¬3) فالشأن في أن العبد يكون بينه وبين ربه معرفة خاصة بقلبه بحيث يجده قريبًا منه يستأنس به في خلوته ويجد ¬

_ (*) يكون: "نسخة". (¬1) أخرجه البخاري (6502). (¬2) أخرجه أحمد (6/ 256). وقال الهيثمي في "المجمع" (10/ 269): رواه البزار وأحمد والطبراني في الأوسط وفيه عبد الواحد بن قيس وقد وثقه غير واحد وضعفه غيرهم، وبقية رجال أحمد رجال الصحيح، ورجال الطبراني في "الأوسط" رجال الصحيح غير شيخه هارون بن كامل. (¬3) أخرجه أحمد (1/ 307).

حلاوة ذكره ودعائه ومناجاته وخدمته، ولا يجد ذلك إلا من أطاعه في سره وعلانيته، كما قيل لوهيب بن الورد: أيجد حلاوة الطاعة من عصى؟ قال: لا، ولا من هم. ومتى وجد العبد هذا فقد عرف ربه وصار بينه وبينه معرفة خاصة؛ فإذا سأله أعطاه وإذا دعاه أجابه، كما قالت شعوانة لفضيل: أما بينك وبين ربك ما إذا دعوته أجابك؟ فغشي عليه. والعبد لا يزال يقع في شدائد وكرب في الدُّنْيَا وفي البرزخ وفي الموقف؛ فإذا كان بينه وبين ربه معرفة خاصة كفاه الله ذلك كله، وهذا هو المشار إِلَيْهِ في وصية ابن عباس بقوله - صلى الله عليه وسلم - "تَعَرَّفْ إِلَى اللَّهِ فِي الرَّخَاءِ يَعْرِفْكَ فِي الشِّدَّةِ" (¬1). وقيل لمعروف: ما الَّذِي هيجك إِلَى الانقطاع؟ وذكره الموت والقبر والموقف والجنة والنار، فَقَالَ: إن ملكًا هذا بيده إذا كانت بينك وبينه معرفة كفاك هذا كله. فالعلم النافع ما عرف بين العبد وربه (ودل) (*) عليه حتى عرف ربه ووحده وأنس به واستحيا من قربه وعبده كأنه يراه، ولهذا قالت طائفة من الصحابة (¬2): إن أول علم يرفع من الناس: الخشوع. وقال ابن مسعود: إن أقوامًا يقرءون القرآن لا يجاور تواقيهم، ولكن إذا وقع في القلب فرسخ فيه نفع. وقال الحسن: العِلْم علمان، فعلم عَلَى اللسان فذاك حجة الله عَلَى ابن آدم، وعلم في القلب فذاك العِلْم النافع. وكان السَّلف يَقُولُونَ: العُلَمَاء ثلاثة: ¬

_ (¬1) سبق تخريجه. (*) ودله: "نسخة". (¬2) منهم: شداد بن أوس كما في مسند أحمد (6/ 26)، وعبادة بن الصامت عند الترمذي. (2653) وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب، وحذيفة عند الحاكم (4/ 516) وقال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه.

عالم بالله عالم بأمر الله، وعالم بالله ليس بعالم بأمره، وعالم بأمر الله ليس بعالم بالله. وأكملهم الأول، وهو الَّذِي يخشى الله ويعرف أحكامه، فالشأن كله في أن العبد يستدل بالعلم عَلَى ربه فيعرفه؛ فإذا عرفه ربه فقد وجده منه قريبًا، ومتى وجده منه قريبًا قربه إِلَيْهِ، وأجاب دعاءه كما في الأثر الإسرائيلي: «ابْنَ آدَمَ اطْلُبْنِي تَجِدْنِي، فَإِنْ وَجَدْتَنِي وَجَدْتَ كُلَّ شَيْءٍ، وَإِنْ فُتُّكَ فَاتَكَ كُلُّ شَيْءٍ، وَأَنَا أَحَبُّ إِلَيْكَ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ» ". وَكَانَ ذُو النُّونِ يُرَدِّدُ هَذِهِ الْأَبْيَاتَ بِاللَّيْلِ: اطْلُبُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِثْلَ مَا وَجَدْتُ أَنَا قَدْ وَجَدْتُ لِي سَكَنًا لَيْسَ فِي هَوَاهُ عَنَا إِنْ بَعَدْتُ قَرَّبَنِي أَوْ قَرُبْتُ مِنْهُ دَنَا وكان الإمام أحمد -رحمه الله- يقول عن معروف: معه أصل العِلْم: خشية الله. فأصل العِلْم: العِلْم بالله الَّذِي يوجب خشيته، ومحبته والقرب منه والأُنس به والشوق إليه، ثم يتلوه العِلْم بأحكام الله، وما يحبه ويرضاه من العبد من قول أو عمل أو حال أو اعتقاد. فمن تحقق بهذين العلمين كان علمه علماً نافعًا، وحصل له العِلْم النافع والقلب الخاشع والنفس القانعة والدعاء المسموع، ومن فاته هذا العِلْم النافع وقع في الأربع التي استعاذ منها النبي صلّى الله عليه وسلم وصار علمه وبالا وحجة عليه، فلم ينتفع به؛ لأنّه لم يخشع قلبه لربه، ولم تشبع نفسه من الدُّنْيَا، بل ارداد عليها حرصًا ولها طلبًا، ولم يسمع دعاؤه لعدم امتثاله لأوامر ربه وعدم اجتنابه لما يسخطه ويكرهه، هذا إن كان علمه علماً يمكن الانتفاع به، وهو المتلقى عن الكتاب والسنة؛ فإن كان متلقى من غير ذلك فهو غير نافع في نفسه، ولا يمكن الانتفاع به، بل ضوء أكثر من نفعه. ***

[علامة العلم الغير نافع]

[علامة العِلْم الغير نافع] وعلامة هذا العِلْم الَّذِي لا ينفع أن يكسب صاحبه الزهو والفخر والخيلاء، وطلب العلو والرفعة في الدُّنْيَا والمنافسة فيها، وطلب مباهاة العُلَمَاء ومماراة السفهاء وصرف وجوه الناس إِلَيْهِ، وقد ورد عن النبي صلّى الله عليه وسلم: "أن من طلب العِلْم لذلك فالنار النار" (¬1). وربما ادعى بعض أصحاب هذه العلوم معرفة الله وطلبه والإعراض عما سواه، وليس غرضهم بذلك إلا طلب التقدم في قلوب الناس من الملوك وغيرهم، وإحسان ظنهم بهم، وكثرة أتباعهم، والتعظم بذلك عَلَى الناس، وعلامة ذلك إظهار دعوى الولاية كما كان يدعيه أهل الكتاب، وكما ادعاه القرامطة والباطنية ونحوهم، وهذا بخلاف ما كان عليه السَّلف من احتقار نفوسهم وازدرائها باطنًا وظاهرًا. وقال عمرو: من قال إنه عالم فهو جاهل، ومن قال أنَّه مؤمن فهو كافر، ومن قال هو في الجنة فهو في النار. ومن علامات ذلك: عدم قبول الحق والانقياد إِلَيْهِ والتكبر عَلَى من يقول الحق، خصوصًا إن كان دونهم في أعين الناس، والإصرار عَلَى الباطل خشية تفرق قلوب الناس عنهم بإظهار الرجوع إِلَى الحق. وربما أظهروا بألسنتهم ذم أنفسهم واحتقارها عَلَى رءوس الأشهاد؛ ليعتقد الناس فيهم أنهم عند أنفسهم متواضعون فَيُمدَحُون بذلك، وهو من دقائق أبواب الرياء، كما نبه عليه التابعون فمن بعدهم من العُلَمَاء. ويظهر منهم من قبول المدح واستجلابه (مما) (*) ينافي الصدق والإخلاص؛ ¬

_ (¬1) أخرجه ابن ماجه (254)، وابن حبان (77)، والحاكم (1/ 86). (*) ما: "نسخة".

فإن الصادق يخاف النفاق عَلَى نفسه ويخشى عَلَى نفسه من سوء الخاتمة، فهو في شغل شاغل عن قبول المدح واستحسانه. فلهذا كان من علامات أهل العِلْم النافع أنهم لا يرون لأنفسهم حالا ولا مقامًا، ويكرهون بقلوبهم التزكية والمدح، ولا يتكبرون على أحد. قال الحسن: إِنَّمَا الفقيه الزاهد في الدُّنْيَا الراغب في الآخرة، البصير بدينه المواظب على عبادة ربه. وفي رواية عنه قال: الَّذِي لا يحسد من فوقه، ولا يسخر ممن دونه، ولا يأخذ عَلَى علم علمه الله أجرًا. وهذا الكلام الأخير قد رُوي معناه عن ابن عمر (¬1) من قوله. وأهل العِلْم النافع كلما ازدادوا من هذا العِلْم ازدادوا لله (تواضعًا) (*) وخشية وانكسارًا وذلا. قال بعض السَّلف: ينبغي للعالم أن يضع التراب عَلَى رأسه تواضعًا لربه. فإنَّه كلما ازداد علماً بربه ومعرفة به ازداد منه خشية ومحبة وازداد له ذلا وانكسارًا. ومن علامات العِلْم النافع: أنَّه يدل صاحبه عَلَى الهرب من الدُّنْيَا، وأعظمها الرياسة والشهرة والمدح، فالتباعد عن ذلك والاجتهاد في مجانبته من علامات العِلْم النافع فإن وقع شيء من ذلك من غير قصد واختيار كان صاحبه في خوف شديد من عاقبته، بحيث أنَّه يخشى أن يكون مكرًا واستدراجًا، كما كان الإمام أحمد يخاف ذلك عَلَى نفسه عند اشتهار اسمه ويُعْدِ صيته. ومن علامات العِلْم النافع: أن صاحبه لا يدعي العِلْم ولا يفخر به عَلَى أحد، ولا ينسب غيره إِلَى الجهل إلا من خالف السنة وأهلها؛ فإنَّه يتكلم فيه غضبًا لله لا غضبًا لنفسه ولا قصدًا لرفعتها عَلَى أحد. وأما من علمه غير نافع فليس له شغل سوى التكبر بعلمه عَلَى الناس، ¬

_ (¬1) أخرجه الدارمي (1/ 88). (*) نورًا: "نسخة".

وإظهار فضل علمه عليهم ونسبتهم إِلَى الجهل، وتنقصهم ليرتفع بذلك عليهم وهذا من أقبح الخصال وأردئها، وربما نسب من كان قبله من العُلَمَاء إِلَى الجهل والغفلة والسهو، فيوجب له حب نفسه وحب ظهورها، وإحسان ظنه بها وإساءة ظنه بمن سلف. وأهل العِلْم النافع عَلَى ضد هذا. يسيئون الظن بأنفسهم، ويحسنون الظن بمن سلف من العُلَمَاء، ويقرون بقلوبهم وأنفسهم بفضل من سلف عليهم وبعجزهم عن بلوغ مراتبهم والوصول إليها أو مقاربتها. وما أحسن قول أبي حنيفة وقد سئل عن علقمة والأسود: أيهما أفضل؟ فَقَالَ: والله ما نحن بأهل أن نذكرهم، فكيف نفضل بينهم؟!. وكان ابن المبارك إذا ذكر أخلاق من سلف ينشد: لا تعرضن لذكرنا في ذكرهم ... ليس الصحيح إذا مشى كالمقعد ومن علمه غير نافع إذا رأى لنفسه فضلا عَلَى من تقدمه في المقال وتشقق الكلام، ظن لنفسه عليهم فضلا في العِلْم أو الدرجة عند الله لفضل خص به عمن سبق فاحتقر من تقدمه، وأزرى عليه بقلة العِلْم، ولا يعلم المسكين أن قلة كلام من سلف إِنَّمَا كان ورعًا وخشية لله، ولو أراد الكلام وإطالته لما عجز عن ذلك، كما قال ابن عباس لقوم سمعهم يتمارون في الدين: أما علمتم أن لله عبادًا أسكتتهم خشية الله من غير عي ولا بكم، وإنهم لهم العُلَمَاء والفصحاء والطلقاء والنبلاء، العُلَمَاء بأيام الله غير أنهم إذا تذكروا عظمة الله طاشت لذلك عقولهم وانكسرت قلوبهم وانقطعت ألسنتهم، حتى إذا استفاقوا من ذلك يسارعون إِلَى الله بالأعمال الزاكية، يعدون أنفسهم من المفرطين، وإنهم لأكياس أقوياء ومع الظالمين والخاطئين، وإنهم لأبرار برآء، إلا أنهم لا يستكثرون له الكثير، ولا يرضون له بالقليل، ولا يدلون عليه بالأعمال، هم حيث ما لقيتهم مهتمون مشفقون وجلون خائفون. خرجه أبو نعيم (¬1) وغيره (¬2). ¬

_ (¬1) في الحلية (1/ 325). (¬2) وأخرجه ابن المبارك في الزهد (1495)، وأحمد في الزهد ص 43، والآجري في الشريعة ص 59، 60.

وأخرج الإمام أحمد (¬1) والترمذي (¬2) من حديث أبي أمامة، عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال «الحَيَاءُ وَالعِيُّ شُعْبَتَانِ مِنَ الإِيمَانِ، وَالبَذَاءُ وَالبَيَانُ شُعْبَتَانِ مِنَ النِّفَاقِ» وحسنه الترمذي، وخرّجه الحاكم (¬3) وصححه. وخرج ابن حبان في "صحيحه" (¬4) عن أبي هريرة، عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: "الْبَيَانُ مِنَ اللَّهِ وَالْعِيُّ مِنَ الشَّيْطَانِ، وَلَيْسَ الْبَيَانُ بِكَثْرَةِ الْكَلَامِ وَلَكِنَّ الْبَيَانَ الْفَصْلُ فِي الْحَقِّ، وَلَيْسَ الْعِيُّ قِلَّةَ الْكَلَامِ وَلَكِنْ مَنْ سفه الحق". وفي مراسيل محمد بن كعب القرظي، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ثلاث ينقص بهن العبد في الدُّنْيَا ويدرك بهن في الآخرة ما هو أعظم من ذلك: الرحم والحياء وعي اللسان". قال عون بن عبد الله (¬5): ثلاث من الإيمان: الحياء والعفاف والعي، عي اللسان لا عي القلب ولا عي العمل، وهن مما يزدن في الآخرة وينقصن من الدُّنْيَا، وما يزدن في الآخرة أكبر مما ينقصن من الدُّنْيَا. ورُوي هذا مرفوعًا (¬6) من ¬

_ (¬1) (5/ 269). (¬2) برقم (2027) وقال: هذا حديث حسن غريب وإنَّما نعرفه من حديث أبي غسان محمد بن مطرف. (¬3) (1/ 52) وقال: هذا حديث صحيح عَلَى شرط الشيخين ولم يخرجاه، وله شاهد صحيح عَلَى شرطهما. (¬4) برقم (5796 إحسان). (¬5) أخرجه معمر في جامعه (11/ 142 - مع المصنف). (¬6) أخرجه الدارمي (509) من طريق عون بن عبد الله قال: قلت لعمر بن العزيز حدثني فلان -رجل من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -- فعرفه عمر، قلت: حدثني أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "ثم إن الحياء والعفاف والعي ... " فذكر الحديث. وأخرجه البخاري في "التاريخ الكبير" (7/ 180)، والطبراني في المعجم الكبير (19/ 63) وابن أبي الدنيا في "مكارم الأخلاق" (87) من طريق إياس بن معاوية بن قرة عن أبيه عن جده مرفوعًا. قال الهيثمي في المجمع (8/ 27): رواه الطبراني، وفيه عبد الحميد بن سوار، وهو ضعيف.

وجه ضعيف. وقال بعض السَّلف: إن كان الرجل ليجلس إِلَى القوم فيرون أن به عيًّا وما به عي إنه لفقيه مسلم. فمن عرف قدر السَّلف عرف أن سكوتهم عما سكتوا عنه من ضروب الكلام وكثرة الجدال والخصام، والزيادة في البيان عَلَى مقدار الحاجة لم يكن عيًّا ولا جهلاً ولا قصورًا، وإنما كان ورعًا وخشية لله واشتغالا عما لا ينفع بما ينفع. وسواء في ذلك كلامهم في أصول الدين وفروعه، وفي تفسير القرآن والحديث، وفي الزهد والرقائق والحكم والمواعظ، وغير ذلك مما تكلموا فيه. فمن سلك سبيلهم فقد اهتدى، ومن سلك غير سبيلهم ودخل في كثرة السؤال والبحث والجدال والقيل والقال؛ فإن اعترف لهم بالفضل وعلى نفسه بالنقص كان حاله قريبًا. وقد قال إياس بن معاوية: ما من أحد لا يعرف عيب نفسه إلا وهو أحمق. قِيلَ لَهُ: فما عيبك؟ قال: كثرة الكلام. وإن ادعى لنفسه الفضل ولمن سبقه النقص والجهل، فقد ضل ضلالا مبينًا وخسر خسرانًا عظيمًا. وفي الجملة ففي هذه الأزمان الفاسدة إما أن يرضى الإنسان لنفسه أن يكون عالماً عند الله أو لا يرضى إلا بأن يكون عند أهل الزمان عالمًا؛ فإن رضي بالأول فليكتف بعلم الله فيه. ومن كان بينه وبين الله معرفة اكتفى بمعرفة الله إياه، ومن لم يرض إلا بأن يكون عالماً عند الناس دخل في قوله - صلى الله عليه وسلم - «مَنْ طَلَبَ الْعِلْمَ لِيُبَاهِيَ بِهِ الْعُلَمَاءَ، أَوْ يُمَارِيَ بِهِ السُّفَهَاءَ، أَوْ لِيَصْرِفَ بِهِ وُجُوهَ النَّاسِ إِلَيْهِ، فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ» (¬1). ¬

_ (¬1) تقدم من حديث جابر -دون قوله- "فليتبوأ مقعده من النار". وهذه الزيادة أخرجها الترمذي (2655) بلفظ: "من تعلم علماً لغير الله، أو أراد به غير الله، فليتبوأ مقعده من النار، وهو حديث آخر غير حديث: "من طلب=

قال وهيب بن ورد: رب عالم يقول له الناس: عالم، وهو معدود عند الله من الجاهلين. وفي "صحيح مسلم" (¬1) عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلم "إن أول من تسعر به النار ثلاثة: أحدهم من قرأ القرآن وتعلم العِلْم ليقال هو قارئ أو هو عالم، ويقال له: قد قيل ذلك، ثم أمر به فيسحب عَلَى وجهه حتي ألقي في النار". فإن لم تقنع نفسه بذلك حتى تصل درجة الحكم بين الناس، حيث كان أهل الزمان لا يعظمون من لم يكن كذلك ولا يلتفتون إِلَيْهِ، فقد استبدل الَّذِي هو أدنى بالذي هو خير وانتقل من درجة العُلَمَاء إِلَى درجة الظلمة. ولهذا قال بعض السَّلف لما أريد عَلَى القضاء فأباه: إِنَّمَا تعلمت العِلْم لأحشر به مع الأنبياء لا مع الملوك؛ فإن العُلَمَاء (يحشرون) (*) مع الأنبياء والقضاة (يحشرون) (*) مع الملوك. ولابد للمؤمن من صبر قليل حتى يصل به إِلَى راحة طويلة، فإن جزع ولم يصبر فهو كما قال ابن المبارك: من صبر فما أقل ما يصبر، ومن جزع فما أقل ما يتمتع. وكان الإمام الشافعي رحمه الله ينشد: يا نفس ما هي إلا صبر أيام ... كان مدتها أضغاث أحلام يا نفس جوري عن الدُّنْيَا مبادرة ... وخل عنها فإن العيش قدام فنسأل الله تعالى علماً نافعًا، ونعوذ به من علم لا ينفع، ومن قلب لا ¬

_ =العِلْم ليجاري به العُلَمَاء" فليتنبه لذلك. وقال الترمذي: وفي الباب عن جابر -إِلَى أن قال- هذا حديث حسن غريب لا نعرفه من حديث أيوب إلا من هذا الوجه. وأخرجها أيضاً ابن ماجه (258) وإسنادها ضعيف منقطع بين خالد بن دريك وابن عمر. (¬1) برقم (1905) بنحوه. (*) محشورون: "نسخة".

يخشع، ومن نفس لا تشبع، ومن دعاء لا يسمع. اللهم إنا نعوذ بك من هؤلاء الأربع، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم عَلَى سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين. ***

فصل: [في مشابهة علماء السوء من المسلمين بأهل الكتاب]

فصل: [في مشابهة علماء السوء من المسلمين بأهل الكتاب] ليتدبر ما ذم به الله أهل الكتاب من قسوة القلوب بعد إتيانهم الكتاب، ومشاهدتهم الآيات، كإحياء القتيل المضروب ببعض البقرة، ثم نهينا عن التشبه بهم في ذلك فقيل لنا: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد: 16]. وبين في موضع آخر سبب قسوة قلوبهم، فَقَالَ سبحانه: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً} [المائدة: 13] فأخبر أن قسوة قلوبهم كان عقوبة لهم عَلَى نقضهم ميثاق الله، وهو مخالفتهم لأمره وارتكابهم لنهيه بعد أن أخذت عليهم مواثيق الله وعهوده ألا تفعلوا ذلك. ثم قال تعالى: {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ} [المائدة: 13] فذكر أن قسوة قلوبهم أوجبت لهم خصلتين مذمومتين: إحداهما: تحريف الكلم من بعد مواضعه. والثانية: نسيانهم حظًّا مما ذكروا به، والمراد تركهم وإهمالهم نصيبًا مما ذكروا به من الحكمة والموعظة الحسنة، فنسوا ذلك وتركوا العمل به وأهملوه. وهذان الأمران موجودان في الذين فسدوا من علمائنا، لمشابهتهم لأهل الكتاب. أحدهما: تحريف الكلم، فإن من تفقه لغير العمل يقسو قلبه فلا يشتغل بالعمل؛ بل بتحريف الكلم وصرف ألفاظ الكتاب والسنة عن مواضعها،

والتلطف في ذلك بأنواع الحيل اللطيفة من حملها عَلَى مجازات اللغة المستبعدة ونحو ذلك. والطعن في ألفاظ السنن حيث لم يمكنهم الطعن في ألفاظ الكتاب. ويذمون من تمسك بالنصوص وأجراها عَلَى ما يفهم منها ويسمونه جاهلا أو حشوبًا. وهذا يوجد في المتكلمين في أصول الديانات، وفي فقهاء الرأي وفي صوفية الفلاسفة والمتكلمين. والثاني: نسيان حظ مما ذكروا به من العِلْم النافع فلا تتعظ قلوبهم؛ بل يذمون من تعلم ما يبكيه ويرق به قلبه ويسمونه قاصًّا. ونقل أهل الرأي في كتبهم عن بعض شيوخهم: أن ثمرات العلوم تدل عَلَى شرفها؛ فمن اشتغل بالتفسير فغايته أن يقص عَلَى الناس ويذكرهم، ومن اشتغل برأيهم وعلمهم فإنَّه يفتي ويقضي ويحكم ويدرس، وهؤلاء لهم نصيب من لذين: {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم: 7]. والحامل لهم عَلَى هذا شدة محبتهم للدنيا وعلوها. ولو أنهم زهدوا في الدُّنْيَا ورغبوا في الآخرة، ونصحوا أنفسهم وعباد الله لتمسكوا بما أنزل الله عَلَى رسوله، وألزموا الناس بذلك، فكان الناس حينئذ أكثرهم لا يخرجون عن التقوى، فكان يكفيهم ما في نصوص الكتاب والسنة، ومن خرج منهم عنهما كان قليلاً، فكان الله يقيض من يفهم من معاني النصوص ما يرد به الخارج عنها إِلَى الرجوع إليها، ويستغني بذلك عما ولدوه من الفروع الباطلة (*)، والحيل المحرمة التي بسببها فتحت أبواب الربا وغيره من المحرمًات، واستحلت محارم الله بأدنى الحيل كما فعل أهل الكتاب. وهدى الله الذين آمنو لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه والله يهدي من يشاء إِلَى صراط مستقيم. ¬

_ (*) الباطنة: "نسخة".

وصلي الله عَلَى سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا إِلَى يوم الدين، وحسبنا الله ونعم الوكيل (*). ¬

_ (*) كتب في آخر الرسالة: يلوح الخط في القرطاس دهرًا ... وكاتبه رميم في التراب خرجت من التراب بغير ذنب ... وعدت مع الذنوب إِلَى التراب حشرنا الله في زمرة أوليائه في دار كرامته بمنه وكرمه آمين.

32 - التوحيد أو تحقيق كلمة الإخلاص

التوحيد أو تحقيق كلمة الإخلاص

بسم الله الرحمن الرحيم وهو حسبي وبه أستعين قال الشيخ الإمام العالم العلامة شيخ الإسلام زين الدين بن رجب -رحمه الله تعالى-: خرج البخاري (¬1) ومسلم (¬2) في الصحيحين عن أنس -رضي الله عنه- قال: «كَانَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمُعاذٌ رَدِيفُهُ عَلَى الرَّحْلِ، فَقَالَ: يَا مُعَاذَ. قَالَ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَسَعْدَيْكَ! قَالَ: «يَا مُعَاذُ» قَالَ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَسَعْدَيْكَ. قَالَ: يَا مُعَاذُ. قَالَ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَسَعْدَيْكَ. قَالَ: مَا مِنْ عَبْدٍ يَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلَى النَّارِ. قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: أَلاَ أُخْبِرُ بِهَا النَّاسَ فَيَسْتَبْشِرُوا! قَالَ: إِذًا يَتَّكِلُوا» وَأَخْبَرَ بِهَا مُعَاذٌ عِنْدَ مَوْتِهِ تَأَثُّمًا. وفي "الصحيحين" (¬3) عن عتبان بن مالك، عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: "إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَرَّمَ عَلَى النَّارِ مَنْ قَالَ: لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، يَبْتَغِي بِهَا وَجْهَ اللَّهِ". وفي "صحيح مسلم" عن أبي هريرة -أو أبي سعيد، بالشك (¬4) - أنهم كانوا مع النبي صلّى الله عليه وسلم في (غزاة) (*) تبوك فأصابتهم مَجَاعَةٌ، فدعا النبي - صلى الله عليه وسلم - بِنِطَعٍ (¬5) فَبَسَطَهُ، ثُمَّ دَعَا بِفَضْلِ أَزْوَادِهِمْ، فَجَعَلَ الرَّجُلُ يَجِيءُ بِكَفِّ ذُرَةٍ، ¬

_ (¬1) برقم (128). (¬2) برقم (30/ 48) من هذا الطريق أيضاً. (¬3) أخرجه البخاري (425 مطولا) ومسلم (33 مطولا، 33/ 263 ص 455). (¬4) برقم (27/ 45 ص 56 - 57) والشاك هنا هو الأعمش، ورواه مسلم أيضاً (27/ 44 ص 55 - 56) عن أبي هريرة بغير شك. (*) غزوة "نسخة". (¬5) النطع: هو بساط متخذ من أديم، وفيه أربع لغات: فتح النون وكسرها، ومع كل واحد فتح الطاء وسكونها. وكانت الأنطاع تبسط بين أيدي الملوك والأمراء حين أرادوا قتل أحد صبرًا، ليصان=

وَيَجِيءُ الْآخَرُ بِكَفِّ تَمْرٍ، وَجَعَلَ الْآخَرُ يَجِيءُ بِكَسْرَةٍ، حَتَّى اجْتَمَعَ عَلَى النِّطَعِ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ يَسِيرٌ، فَدَعَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهِ بِالْبَرَكَةِ، ثُمَّ قَالَ: خُذُوا فِي أَوْعِيَتِكُمْ. فَأَخَذُوا فِي أَوْعِيَتِهِمْ، حَتَّى مَا تَرَكُوا فِي الْعَسْكَرِ وِعَاءً إِلَّا مَلَئُوهُ. قَالَ: فَأَكَلُوا حَتَّى شَبِعُوا وَفَضَلَتْ فَضْلَةٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَنِّي رَسُولُ اللهِ، لَا يَلْقَى اللهَ بِهِمَا عَبْدٌ غَيْرَ شَاكٍّ فَيُحْجَبَ عَنِ الْجَنَّةِ». وفي "الصحيحين" (¬1) عن أبي ذر، عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «مَا مِنْ عَبْدٍ قَالَ: لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، ثُمَّ مَاتَ عَلَى ذَلِكَ إِلَّا دَخَلَ الجَنَّةَ. قُلْتُ: وَإِنْ زَنَى، وَإِنْ سَرَقَ؟! قَالَ: وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ، قَالَهَا ثَلاَثًا، ثُمَّ قَالَ فِي الرَّابِعَةِ: عَلَى رَغْمِ أَنْفِ أَبِي ذَرٍّ. فَخَرَجَ أَبُو ذَرٍّ، وَهُوَ يَقُولُ: وَإِنْ رَغِمَ أَنْفُ أَبِي ذَرٍّ». وفي "صحيح مسلم" (¬2) عن عبادة، أنَّه قال عند موته: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -- يقول: «مَنْ شَهِدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ النَّارَ». وفي " الصحيحين" (¬3) عن عبادة عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: " «مَنْ شَهِدَ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَأَنَّ عِيسَى عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ، وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ، وَأَنَّ الجَنَّةُ حَقٌّ وَالنَّارُ حَقٌّ، أَدْخَلَهُ اللَّهُ الجَنَّةَ عَلَى مَا كَانَ مِنْ عَمَلِ». وفي هذا المعنى أحاديث كثيرة جدًّا، يطول ذكرها. ... ¬

_ =المجلس من الدم. انظر المصباح المنير مادة "نطع" وشرح النووي لصحيح مسلم. (¬1) أخرجه البخاري (5828)، ومسلم (94). (¬2) برقم (29). (¬3) أخرجه البخاري (3435)، ومسلم (28).

أهل التوحيد لا يخلدون في النار وإن دخلوها

أهل التوحيد لا يخلدون في النار وإن دخلوها وأحاديث هذا الباب نوعان: أحدهما: ما فيه أنَّ من أتى بالشهادتين دخل الجنة، أو لم يحجب عنها؛ وهذا ظاهر؛ فإن النار لا يخلد فيها أحد من أهل التوحيد الخالص، وقد يدخل الجنة ولا يحجب عنها إذا طُهِّر من ذنوبه بالنار. وحديث أبي ذر معنا: أن الزنا والسرقة لا يمنعان دخول الجنة مع التوحيد، وهذا حق لا مرية فيه، ليس فيه أنَّه لا يعذب يومًا عليهما مع التوحيد. وفي "مسند البزار" (¬1) عن أبي هريرة مرفوعًا: "مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ نَفَعَتْهُ يَوْمًا مِنَ دَهْرِهِ، يُصيبُهُ قَبْلَ ذَلِكَ مَا أَصَابَهُ". ¬

_ (¬1) برقم (3 - كشف) وقال: لا نعلمه يروى عن النبي صلّى الله عليه وسلم إلا بهذا الإسناد. ورواه عيسى بن يونس عن الثوري عن منصور أيضًا، وقد رُوي عن أبي هريرة موقوفًا، ورفعه أصح. وسئل الدراقطني في العلل (11/ 238 - 240) برقم (2260) عن هذا الحديث فَقَالَ: يرويه هلال بن يساف عن الأغر، حدث به منصور بن المعتمر وحصين بن عبد الرحمن، واختلف عنهما، فأما منصور، فرواه الثوري عن منصور، واختلف عنه؛ فرواه عيسى بن يونس وابن إسماعيل الفارسي عن الثوري عن منصور مرفوعًا إِلَى النبي - صلى الله عليه وسلم -. وخالفهما أبو نعيم، فوقفه عَلَى أبي هريرة وراد ابن إسماعيل الفارسي وهو محمد بن إسماعيل في هذا الحديث كلمة لم يقلها غيره، وهي قوله: "لقنوا موتاكم لا اله إلا الله". ورواه أبر عوانة، واختلف عنه، فرواه حبَّان بن هلال عن أبي عوانة عن منصور مرفوعًا؛ وغيره يرويه عن أبي عوانة موقوفًا. وكذلك رواه إبراهيم بن طهمان وجرير بن عبد الحميد وأبو حفص الأبار عن=

والثاني: ما فيه أنَّه يحرم عَلَى النار، وهذا قد حمله بعضهم عَلَى الخلود فيها، أو عَلَى نار يخلَّد فيها أهلُها، وهي ما عدا الدرك الأعلى، فإن الدرك الأعلى يدخله خلق كثير من عصاة الموحدين بذنوبهم، ثم يخرجون بشفاعة الشافعين، وبرحمة أرحم الراحمين. وفي "الصحيحين" (¬1): "أن الله -تعالى- يقول: وعزتي وجلالي لأخرجن من النار من قال: لا اله إلا الله". ... ¬

_ =منصور، وأما حصين بن عبد الرحمن، فرواه عمرو بن عثمان الكلابي عن زهير بن معاوية عن حصين عن هلال عن الأغر عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلم. وخالفه شعبة وهشيم وعبثر بن القاسم؛ رووه عن حصين عن هلال موقوفًا. ورواه علي بن عابس عن حصين عن الأغر عن أبي هريرة موقوفًا، أسقط منه هلال بن يساف، والصحيح عن حصين ومنصور الموقوف. (¬1) أخرجه البخاري (7510)، ومسلم (193/ 326) في كتاب الإيمان باب أدنى أهل الجنة منزلة فيها.

شروط لا إله إلا الله

شروط لا إله إلا الله وقالت طائفة من العُلَمَاء: المراد من هذه الأحاديث: أن لا إله إلا الله سبب لدخول الجنة والنجاة من النار، ومتقض لذلك، ولكن المقتضي لا يعمل عمله إلا باستجماع شروطه وانتفاء موانعه، فقد يتخلف عنه مقتضاه لفوات شرط من شروطه، أو لوجود مانع؛ وهذا قول الحسن ووهب بن منبه وهو الأظهر. وقال الحسن للفرزدق -وهو يدفن امرأته-: ما أعددت لهذا اليوم؟ قال: شهادة أن لا إله إلا الله منذ سبعين سنة. قال الحسن: نعم العُدة إن لـ "لا إله إلا الله" شروطما؛ فإياك وقذف المحصنة!. ورُوي عنه أنَّه قال للفرزدق: هذا العمود. فأين الطنب (¬1)؟ وقيل للحسن: إن ناسًا يَقُولُونَ: من قال: لا إله إلا الله دخل الجنة؟ فَقَالَ: من قال: لا إله إلا الله، فأدّى حقها وفرضها دخل الجنة. وقال وهب بن منبه لمن سأله: أليس لا إله إلا الله مفتاح الجنة؟ قال: بلى، ولكن (ليس) (*) مفتاح إلا وله أسنانُ؛ فإن جئت بمفتاح له أسنان فُتح لك، وإلا لم يُفتَح لك. وهذا الحديث: "إن مفتاح الجنة لا اله إلا الله" خرجه الإمام أحمد (¬2) بإسناد ¬

_ (*) ما من "نسخة". (¬1) قال في القاموس المحيط: هو حبل طويل يشد به سرادق البيت أو الوتد. (¬2) في مسنده (5/ 242). وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (1/ 21): رواه أحمد والبزار، وفيه انقطاع بين شهر ومعاذ، وإسماعيل بن عياش روايته عن أهل الحجار ضعيفة، وهذا منها. وقد أخرجه ابن عدي في الكامل (4/ 38 - 39) وقال ابن عدي (4/ 40):=

منقطع. عن معاذ قال: "قال لي رسول الله صلّى الله عليه وسلم: إذا سألك أهل اليمن عن مفتاح الجنة فقل: شهادة أن لا إله إلا الله". ويدل عَلَى صحة هذا القول أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رتَّب دخول الجنة عَلَى الأعمال الصالحة في كثير من النصوص، كما في "الصحيحين" (¬1) عن أبي أيوب أن رجلاً قال: يا رسول الله! أَخْبِرْنِى بِعَمَلٍ يُدْخِلُنِى الْجَنَّةَ. فَقَالَ: "تَعْبُدُ اللَّهَ، لا تُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا، وَتُقِيمُ الصَّلاةَ، وَتُؤْتِى الزَّكَاةَ، وَتَصِلُ الرَّحِمَ". وفي "صحيح مسلم" (¬2) عن أبي هريرة "أنَّ رَجُلاً قال: يا رسول الله، دُلَّنِى عَلَى عَمَلٍ إِذَا عَمِلْتُهُ دَخَلْتُ الْجَنَّةَ، قَالَ: تَعْبُدُ اللَّهَ لا تُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا، وَتُقِيمُ الصَّلاةَ الْمَكْتُوبَةَ، وَتُؤَدِّى الزَّكَاةَ الْمَفْرُوضَةَ، وَتَصُومُ رَمَضَانَ. فَقَالَ الرَّجُلُ: وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ لا أَزِيدُ عَلَى هَذَا شَيْئًا وَلَا أَنْقُصُ مِنْهُ. فَقَالَ النبي صلّى الله عليه وسلم: "مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَلْيَنْظُرْ إِلَى هَذَا". وفي "المسند" (¬3) عَنْ بَشِيرِ بْنِ الْخَصَاصِيَةِ قَالَ: «أَتَيْتُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِأُبَايِعَهُ فَاشْتَرَطَ عَلَيَّ: شَهَادَةَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَأَنْ أُقِيمَ الصَّلَاةَ، وَأَنْ (أُؤَدِّي) (¬4) الزَّكَاةَ، وَأَنْ أَحُجَّ حَجَّةَ الْإِسْلَامِ، وَأَنْ أَصُومَ رَمَضَانَ، وَأَنْ أُجَاهِدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَمَّا [اثْنَتَانِ] (¬5) فَوَاللَّهِ لاَ أُطِيقُهُمَا: الْجِهَادُ وَالصَّدَقَةُ! فَقَبَضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدَهُ ثُمَّ حَرَّكَهَا، وَقَالَ: فَلَا جِهَادَ وَلَا صَدَقَةَ، فَبِمَ تَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِذًا؟! قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَنْ أُبَايِعُكَ، فَبَايَعْتُهُ عَلَيْهِنَّ كُلِّهِنَّ». ¬

_ =ولشهر بن حوشب هذا غير ما ذكرت من الحديث .... وشهر هذا ليس بالقوي في الحديث، وهو ممن لا يحتج بحديثه ولا يتدين به. (¬1) أخرجه البخاري (1396)، ومسلم (13). (¬2) برقم (14)، وكذا البخاري (1397). (¬3) (5/ 224) وفي إسناده مؤثر بن عفارة وهو مجهول. (¬4) "أوتي": نسخة. (¬5) في الأصول المخطوطة "اثنتين" وما نقلته من المسند، وهو الصواب.

شروط دخول الجنة

شروط دخول الجنة ففي هذا الحديث أن الجهاد والصدقة شرط في دخول الجنة، مع حصول التوحيد والصلاة والصيام والحج. ونظير هذا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "أُمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله" (¬1). ففهم عمر، وجماعة من الصحابة أن من أتى بالشهادتين امتنع من عقوبة الدُّنْيَا بمجرد ذلك، فتوقفوا في قتال مانعي الزكاة، وفهم الصِّديق أنَّه لا يمتنع قتاله إلا بأداء حقوقها، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "فإذا فعلوا ذلك منعوا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها. وقال: الزكاة حق المال" (¬2). وهذا الَّذِي فهمه الصديق؛ قد رواه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (صريحًا غير واحد من الصحابة) (*) منهم: ابن عمر (¬3) وأنس (¬4) وغيرهما (¬5)، وأنه قال: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ» ". ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (25)، ومسلم (22) من حديث ابن عمر بهذا اللفظ، وورد بلفظ: "حتى يقولوا" في الصحيحين من حديث عمر بن الخطاب، وفي صحيح البخاري من حديث أنس، وفي صحيح مسلم من حديث جابر. (*) جماعة من الصحابة "نسخة". (¬2) انظر تخريج الحديث السابق. (¬3) كما سبق في الصحيحين. (¬4) أخرجه البخاري (392). (¬5) منهم: أ- جابر بن عبد الله، كما عند مسلم برقم (21/ 35). ب- وعمر، كما عند البخاري برقم (1399)، ومسلم برقم (20). ج- وأبو هريرة، كما عند مسلم برقم (21).

وقد دل عَلَى ذلك قوله تعالى: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} [التوبة: 5]. كما دل قوله تعالى: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} [التوبة: 11]، عَلَى أن الأخوة في الدين لا تثبت إلا بأداء الفرائض مع التوحيد، فإن التوبة من الشرك لا تحصل إلا بالتوحيد. ولما قرر أبو بكر هذا للصحابة رجعوا إِلَى قوله (¬1)، ورأوه صوابًا. فإذا عُلم أن عقوبة الدُّنْيَا لا ترفع عمن أدّى الشهادتين مطلقًا. بل قد يعاقب بإخلاله بحق من حقوق الإسلام، فكذلك عقوبة الآخرة. وقد ذهب طائفة إِلَى أن هذه الأحاديث المذكورة أولاً وما في معناها، كانت قبل نزول الفرائض والحدود، منهم: الزهري والثوري وغيرهما. وهذا بعيد جدًا، فإن كثيرًا منها كان بالمدينة قد نزل بعد نزول الفرائض والحدود، وفي بعضها أنَّه كان في غزوة تبوك (وهي) (*) في آخر حياة النبي - صلى الله عليه وسلم -. وهؤلاء منهم من يقول في هذه الأحاديث أنها منسوخة، ومنهم من يقول: هي (**) محكمة، ولكن ضم إليها شرائط، ويلتفت هذا إِلَى أن الزيادة عَلَى النص: هل هي نسخ أم لا؟ والخلاف في ذلك بين الأصوليين مشهور. وقد صرَّح الثَّوري وغيره بأنها منسوخة، وأن نسخها الفرائض والحدود، وقد يكون مرادهم بالنسخ البيان والإيضاح، فإن السَّلف كانوا يطلقون النسخ ¬

_ (¬1) وعلى رأسهم عمر رضي الله عنه كما عند البخاري (1400)، ومسلم (20) حيث قال: "فوالله ما هو إلا أن قد شرح الله صدر أبي بكر للقتال، فعرفت أنه الحق". (*) وهو "نسخة". (**) إنها: "نسخة".

عَلَى مثل ذلك كثيرًا، ويكون مقصودهم أن آيات الفرائض والحدود تبين بها توقفُ دخول الجنة والنجاة من النار عَلَى فعل الفرائض واجتناب المحارم، فصارت تلك النصوص منسوخة، أي: مبيَّنة مفسَّرة، ونصوص الفرائض والحدود ناسخة أي: مفسَّرة لمعنى تلك، موضِّحة لها. ***

فهم النصوص المطلقة في ضوء النصوص المقيدة

فهم النصوص المطلقة في ضوء النصوص المقيدة وقالت طائفة: تلك النصوص المطلقة قد جاءت مقيَّدة في أحاديث أُخر، ففي بعضها: "من قال: لا إله إلا الله مخلصًا" (¬1) وفي بعضها: (مُستيقنًا) (*) " (¬2)، وفي بعضها: "يصدق قلبه لسانه" (¬3) وفي بعضها: "يقولها حقًّا من قبله" (¬4) وفي بعضها: "قد ذل بها لسانه، واطمأن بها قلبه" (¬5). وهذا كله إشارة إِلَى عمل القلب، وتحققه بمعنى الشهادتين، فتحققه بقول: لا إله إلا الله أن لا يأله القلب غير الله حبًّا ورجاءً، وخوفًا، وتوكلا واستعانة، وخضوعًا وإنابة وطلبًا، وتحققه بأن محمدًا رسول الله، ألا يعبد الله بغير ما شرعه الله عَلَى لسان رسوله محمد - صلى الله عليه وسلم -. ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد (5/ 236). (*) "متيقنا": "نسخة". (¬2) أخرجه مسلم (31) من حديث أبي هريرة. (¬3) أخرجه أحمد (2/ 307) قال الهيثمي في المجمع (10/ 407): رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح غير معاوية بن معتب، وهو ثقة. (¬4) أخرجه أحمد (1/ 63). قال الهيثمي في "المجمع" (1/ 20): قلت: لعمر حديث رواه ابن ماجه، بغير هذا السياق، ورجاله ثقات، رواه أحمد. (¬5) أخرجه البيهقي في الشعب رقم (9) من حديث أبي قتادة. وأورده الهيثمي في المجمع (1/ 26) عن سعد بن عبادة قال: سمعت النبي صلّى الله عليه وسلم يقول: "من قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، أطاع بها قلبه، وذل بها لسانه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله حرمه الله -عز وجل- عَلَى النار". وقال الهيثمي: رواه الطبراني في الأوسط وفيه عبد الرحمن بن ريد بن أسلم، والأكثر عَلَى تضعيفه.

وقد جاء هذا المعنى مرفوعًا إِلَى النبي - صلى الله عليه وسلم - صريحًا أنَّه قال: «مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مُخْلِصًا دَخَلَ الْجَنَّةَ. قِيلَ: مَا إِخْلَاصُهَا يَا رَسُولَ الله؟! قَالَ: أَنْ تَحْجِزَكَ (عَمَّا) (*) حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيكَ». وهذا يُروى من حديث أنس بن مالك (¬1)، وزيد بن أرقم (¬2)، ولكن إسنادهما لا يصح. وجاء أيضاً من مراسيل الحسن نحوه. وتحقيق هذا المعنى وإيضاحه أن قول العبد: لا إله إلا الله يقتضي أن لا إله غير الله، والإله الَّذِي يطاع فلا يعصى هيبة له وإجلالا، ومحبة وخوفًا ورجاء، وتوكلاً عليه، وسؤالا منه، ودعاء له، ولا يصلح ذلك كله إلا لله عز وجل، فمن أشرك مخلوقًا في شيء من هذه الأمور التي هي من خصائص الإلهية كان ذلك قدحًا في إخلاصه في قول: لا إله إلا الله، ونقصًا في توحيده (فكان فيه عبودية لذاك المخلوق) (**) بحسب ما فيه من ذلك. ... ¬

_ (*) عن كل ما: "نسخة". (¬1) أخرجه الخطيب في تاريخه (12/ 64). (¬2) أخرجه الطبراني في الكبير (5/ 5074)، وفي الأوسط (3 - مجمع البحرين). وأورده الهيثمي في المجمع (1/ 23) وقال: رواه الطبراني في الأوسط والكبير إلا أنَّه قال في الكبير: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إخلاصه أن تحجزه عما حرم الله عليه" وفي إسناده: محمد بن عبد الرحمن بن غزوان، وهو وضاع. (**) وكان فيه من عبودية المخلوق "نسخة".

الشرك والكفر له أصل وفروع

الشرك والكفر له أصل وفروع وهذا كله من فروع الشرك، ولهذا ورد إطلاق الكفر والشرك عَلَى كثير من المعاصي (التي) (*) منشؤها من طاعة غير الله أو خوفه أو رجائه، أو التوكل عليه أو العمل لأجله، كما ورد في (الصحيح) (**) إطلاق الشرك عَلَى الرياء (¬1)، وعلى الحلف بغير الله (¬2)، وعلى التوكل عَلَى غير الله والاعتماد عليه، وعلى من سوَّى بين الله وبين المخلوق في المشيئة، مثل أن يقول: ما شاء الله وشاء فلان (¬3). وكذا قوله: ما لي إلا الله وأنت؛ وكذلك ما يقدح في التوكل وتفرد الله بالنفع والضر: كالطيرة، والرُّقَى المكروهة، وإتيان الكهان وتصديقهم بما يَقُولُونَ، وكذلك اتباع هوى النفس فيما نهى الله عنه، قادحٌ في تمام التوحيد وكماله. ولهذا أطلق الشرع عَلَى كثير من الذنوب التي منشؤها من اتباع هوى النفس بما هو كفر وشرك؛ كقتال المسلم (¬4)، ومن أتى حائضًا أو امرأة في ¬

_ (*) الَّذِي: "نسخة". (**) في نسخة استانبول: صحيح، وما أثبته الأنسب للسياق، والأحاديث في "المسند" وليست في الصحيح. (¬1) أخرجه أحمد (5/ 428) بلفظ: "إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر. قالوا: وما الشرك الأصغر يا رسول الله؟ قال: "الرياء" من حديث محمود بن لبيد. (¬2) أخرجه أحمد (2/ 125)، وأبو داود (3251)، والترمذي (1535). بلفظ: "لا تحلف بأبيك؛ فإنَّه من حلف بغير الله فقد أشرك" من حديث ابن عمر. (¬3) أخرجه أحمد (5/ 384، 394، 398)، وأبو داود (4980) بلفظ: "لا تقولوا ما شاء الله وشاء فلان" من حديث حذيفة بن اليمان. (¬4) أخرج البخاري (6044)، ومسلم (64) من حديث ابن مسعود مرفوعًا بلفظ:=

دبرها (¬1)، ومن شرب الخمر في المرة الرابعة (¬2)، وإن كان ذلك لا يخرجه عن الملّة بالكلية. ولهذا قال السَّلف: كُفر دون كفر، وشرك دون شرك. ¬

_ = "سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر". (¬1) أخرج الترمذي (135) وغيره من حديث أبي هريرة مرفوعًا بلفظ: "من أتى حائضًا أو امرأة في دبرها أو كاهنا فقد كفر بما أنزل عَلَى محمد". وقال الترمذي: لا نعرف هذا الحديث إلا من حديث حكيم الأثرم عن أبي تميمة الهجيمي عن أبي هريرة. وإنَّما معنى هذا عند أهل العِلْم عَلَى التغليظ. وقد رُوي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من أتى حائضًا فليتصدق بدينار". فلو كان إتيان الحائض كفرًا لم يؤمر فيه بالكفارة. وضعف محمد هذا الحديث من قبل إسناده. (¬2) أخرج الترمذي (1444) وغيره من حديث معاوية مرفوعًا بلفظ: "من شرب الخمر فاجلدوه، فإن عاد في الرابعة فاقتلوه". قال الترمذي: وفي الباب عن أبي هريرة والشريد وشرحبيل بن أوس وجرير وأبي الرَّمَد البَلَوي وعبد الله بن عمرو. وقال أبو عيسى: حديث معاوية هكذا روى الثوري أيضاً عن عاصم عن أبي صالح عن معاوية عن النبي صلّى الله عليه وسلم، وروى ابن جريج ومعمر عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلم. قال: سمعت محمدًا يقول: حديث أبي صالح عن معاوية عن النبي صلّى الله عليه وسلم في هذا أصح من حديث أبي صالح عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلم، وإنما كان هذا في أول الأمر ثم نسخ بعد. هكذا روى محمد بن إسحاق عن محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: "إِنَّ مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ فَاجْلِدُوهُ، فَإِنْ عَادَ فِي الرَّابِعَةِ فَاقْتُلُوهُ"، قال: ثُمَّ أُتِيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ ذَلِكَ بِرَجُلٍ قَدْ شَرِبَ الْخَمْرَ فِي الرَّابِعَةِ فَضَرَبَهُ وَلَمْ يَقْتُلْهُ. وكذلك روى الزهري عن قبيصة بن ذويب عن النبي صلّى الله عليه وسلم نحو هذا، قال: فَرَفَعَ الْقَتْلَ وَكَانَتْ رُخْصَةً، والعمل عَلَى هذا الحديث عند عامة أهل العِلْم لا نعلم بينهم اختلافًا في ذلك في القديم والحديث، ومما يقوي هذا ما رُوي عن النبي صلّى الله عليه وسلم من أوجه كثيرة أنَّه قال: "لا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ يَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، وَأَنِّى رَسُولُ اللَّهِ إِلا بِإِحْدَى ثَلاثٍ: النَّفْسُ بِالنَّفْسِ، وَالثَّيِّبُ الزَّانِى، وَالتَّارِكُ لِدِينِهِ".

وقد ورد إطلاق الإله عَلَى الهوى المتَّبع، قال تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الجاثية: 23] وقال الحسن: هو الَّذِي لا يهوى شيئًا إلا ركبه. وقال قتادة: هو الَّذِي كلما هوى شيئًا ركبه، وكلما اشتهى شيئًا أتاه لا يحجزُه عن ذلك ورعٌ ولا تقوى. ورُوي من حديث أبي أمامة مرفوعًا بإسناد ضعيف: «مَا تَحْتَ ظِلِّ السَّمَاءِ إِلَهٌ يُعْبَدُ أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ هَوًى مُتَّبَعٍ» (¬1). وفي حديث آخر: "لا تزال لا إله إلا الله تدفع عن أصحابها حتى يؤثروا دنياهم عَلَى دينهم، فَإِذَا فعلوا ذلك رُدَّت عليهم، وقِيلَ لَهُم: كذبتم" (¬2). ¬

_ (¬1) أخرجه ابن عدي (2/ 301)، (3/ 69) والطبراني في الكبير (8/ 7502)، وأبو نعيم في الحلية (6/ 118) من طريق الحسن بن دينار عن الخصيب بن جحدر عن راشد بن سعد عن أبي أمامة. قال ابن عدى (2/ 301): وهذا إن كان البلاء فيه من الحسن، وإلا من الخصيب ابن جحدر، ولعله أضعف منه. وقال ابن عدي (3/ 69): وللخصيب أحاديث غير ما ذكرته، وأحاديثه قلما يتابعه أحد عليها، وربما روى عنه ضعيف مثله مثل عباد بن كثير والحسن بن دينار، كما ذكرته، فلعل البلاء منهم لا منه. وقال الهيثمي في المجمع (1/ 193): رواه الطبراني في الكبير، وفيه الحسن بن دينار، وهو متروك الحديث. (¬2) أخرجه أبو يعلى (4034) من حديث أنس. وسئل أبو حاتم الرازي عنه كما في العلل لابنه برقم (1857) فَقَالَ: هذا خطأ، إِنَّمَا هو أبو سهيل عن مالك بن أنس عن النبي صلّى الله عليه وسلم مرسل. وقال الهيثمي في المجمع (7/ 277): رواه البزار وإسناده. حسن. قلت: وليس كما قال. وأخرجه العقيلي في الضعفاء (2/ 297) من حديث أبي هريرة، وفي إسناده: عبد الله بن محمد بن عجلان، قال عنه العقيلي: منكر الحديث، لا يتابع على هذين الحديثين. وذكر هذا الحديث وآخر. وأورده الهيثمي في المجمع (7/ 277) وقال: رواه البزار، وفيه: عبد الله بن محمد ابن عجلان، وهو ضعيف جدًّا. اهـ. وللحديث روايات أخرى كلها ضعيفة.

ويشهد لذلك الحديث الصحيح عن النبي صلّى الله عليه وسلم: "تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ، تَعِسَ عَبْدُ الدِّرْهَمِ، تَعِسَ عَبْدُ الْقَطِيفَةِ، تَعِسَ عَبْدُ الْخَمِيصَةِ، تَعِسَ وَانْتَكَسَ، وَإِذَا شِيكَ فَلا انْتَقَشَ" (¬1). فدل هذا عَلَى أن كل من أَحَبّ شيئًا وأطاعه، وكان غاية قصده ومطلوبه، ووالى لأجله، وعادى لأجله؛ فهو عبده، وذلك الشيء معبوده وإلهه. ... ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (2886).

طاعة الشيطان تقدح في توحيد الرحمن

طاعة الشيطان تقدح في توحيد الرحمن ويدل عليه أيضاً أن الله -تعالى- سمَّى طاعة الشيطان في معصية عبادةً للشيطان، كما قال تعالى: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ} [يس: 60]. وقال حاكيًا عن خليله إبراهيم أنَّه قال لأبيه: {يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا} [مريم: 44]. فمن لم يحقق عبودية الرحمن وطاعته فإنَّه يعبد الشيطان بطاعته له، ولم يخلص من عبادة الشيطان إلا من أخلص عبودية الرحمن، وهم الذين قال فيهم: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} [الحجر: 42]. فهم الذين (حققوا) (*) قول: "لا إله إلا الله" وأخلصوا في قولها، وصدقوا قولهم بفعلهم، فلم يلتفتوا إِلَى غير الله، محبةً ورجاءً وخشية وطاعة وتوكلا، وهم الذين صدقوا في قول: "لا إله إلا الله" وهم عباد الله حقًّا. فأما من قال: "لا إله إلا الله" بلسانه ثم أطاع الشيطان، وهواه في معصية الله ومخالفته فقد كذب فعلُهُ قولَهُ، ونقص من كمال توحيده بقدر معصية الله في طاعة الشيطان والهوى {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ} [القصص: 50] {وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [ص: 26]. فيا هذا كن عبد الله لا عبد الهوى، فإن الهوى يهوي بصاحبه في النار: {أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} [يوسف: 39] "تَعِسَ عَبْدُ الدِّرْهَمِ، تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ" والله ما ينجو غدًا من عذاب الله إلا من حقق عبودية الله ¬

_ (*) حفظوا: "نسخة".

وحده، ولم يلتفت معه إِلَى شيء من الأغيار". من علم أن إلهه ومعبوده فرد، فليُفرده بالعبودية {وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف: 110]. كان بعض العارفين يتكلم عَلَى أصحابه عَلَى رأس جبل، فَقَالَ في كلامه: لا ينال أحد مراده حتى ينفرد فردًا بفرد، فانزعج واضطرب، حتى رأى أصحابه أن الصخور قد تدكدكت، وبقي عَلَى ذلك ساعات، فلما أفاق فكأنه نُشر من قبر. قوله: "لا إله إلا الله" يقتضي أن لا يحب سواه، فإن الإله هو الَّذِي يطاع، محبةً وخوفًا ورجاءً، ومن تمام محبته محبةُ ما يحبه وكراهية ما يكرهه، فمن أَحَبّ شيئًا مما يكره الله، أو كره شيئًا مما يحبه الله لم يكمل توحيده ولا صدقه في قول: لا إله إلا الله، وكان فيه من الشرك الخفي بحسب ما كرهه مما يحبه الله، وما أحبه مما يكرهه الله. قال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} [محمد: 28]. ***

دلالة محبة الله عز وجل

دلالة محبة الله عز وجل قال الليث، عن مجاهد في قوله تعالى: {لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} [النور: 55]، قال: لا تحبوا غيري. وفي صحيح الحاكم (¬1) عن عائشة عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «الشَّرَكُ أَخْفَى مِنْ دَبِيبِ الذَّرِّ عَلَى الصَّفَا فِي اللَّيْلَةِ الظَّلْمَاءِ، وَأَدْنَاهُ أَنْ تُحِبَّ عَلَى شَيْءٍ مِنَ الْجَوْرِ، أَوْ أَنْ تُبْغِضَ عَلَى شَيْءٍ مِنَ الْعَدْلِ، وَهَلِ الدِّينُ إِلَّا الْحُبُّ وَالْبُغْضُ؟». قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 31]. وهذا نص في أن محبة ما يكرهه الله وبغض ما يحبه متابعة للهوى، والموالاة عَلَى ذلك والمعاداة عليه من الشرك الخفي. وقال الحسن: اعلمْ أنك لن تحب الله حتى تحب طاعته! وسئل ذو النون: متى أحبّ ربي؟ قال: إذا كان ما يبغضه عندك أمرَّ من الصبر. وقال بشر بن السري: ليس من أعلام الحب أن تحب ما يبغضه حبيبك. وقال أبو يعقوب النَّهْرجَوري: كل من ادعى محبة الله ولم يوافق الله في أمره فدعواه باطلة. وقال يحيى بن معاذ: ليس بصادقٍ من ادعى محبة الله ولم يحفظ حدوده. وقال رويم: المحبة: الموافقة في جميع الأحوال. وأنشد: وَلَوْ قُلْتَ لي مُتْ مُتُّ سَمعًا وطَاعَةً ... وَقلت لِدَاعي المَوْتِ أهلا ومَرْحَبًا ¬

_ (¬1) أخرجه الحاكم في مستدركه (2/ 291) وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم=

ويشهد لهذا المعنى أيضاً قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 31]. قال الحسن: قال أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -: يا رسول، الله إنا نحب ربنا حبًّا شديدًا؛ فأحبَّ الله أن يجعل لحبه علماً. فأنزل الله -تعالى- هذه الآية. ومن هنا يُعلم أنَّه لا تتم شهادة أن لا إله إلا الله إلا بشهادة أن محمدًا رسول الله؛ فإنَّه إذا علم أنَّه لا تتم محبة الله إلا بمحبة ما يحبه وكراهة ما يكرهه. ولا طريق إِلَى معرفة ما يحبه وما يكرهه إلا من جهة محمد المبلّغ عن الله ما يحبه وما يكرهه، فصارت محبة الله مستلزمة لمحبة رسوله وتصديقه ومتابعته. ولهذا قرن الله بين محبته ومحبة رسوله في قوله: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ ... } إِلَى قوله: {أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [التوبة: 24] كما قرن بين طاعته وطاعة رسوله في مواضع كثيرة. وقال - صلى الله عليه وسلم -: "ثَلاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلاوَةَ الإيمَانِ: أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا، وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لا يُحِبُّهُ إِلا لِلَّهِ، وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْقَذَهُ اللهُ مِنْهُ، وَأَنْ يَكْرَهُ أَنْ يُلْقَى فِى النَّارِ" (¬1). ... ¬

_ =يخرجاه. وتعقبه الذهبي في التلخيص قائلا: عبد الأعلى، قال الدارقطني: ليس بثقة. (¬1) أخرجه البخاري (16)، ومسلم (43) من حديث أنس.

تلازم الظاهر والباطن

تلازم الظاهر والباطن هذا حال السحرة لما سكنت المحبة قلوبهم، سمحوا ببذل نفوسهم، قالوا لفرعون: "اقض ما أنت قاض" ومتى تمكنت المحبة في القلب لم تنبعث الجوارح إلا إِلَى طاعة الرب. وهذا هو معنى الحديث الإلهي الَّذِي خرَّجه البخاري في "صحيحه" (¬1) وفيه: "وَلَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ؛ فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا". وفي بعض الروايات: "فبي يسمع وبي يبصر وبي يبطش، وبي يمشي". والمعنى أن محبه الله إذا استغرق بها القلب واستولت عليه لم تنبعث الجوارح إلا إِلَى مراضي الرب، وصارت النفس حينئذٍ مطمئنة، ففنيت بإرادة مولاها عن مرادها وهواها. يا هذا، اعبد الله لمراده منك لا لمرادك منه، فمن عبده لمراده منه فهو ممن يعبد الله عَلَى حرف، إن أصابه خير اطمأن به، وإن أصابته فتنة انقلب عَلَى وجهه خسر الدُّنْيَا والآخرة، ومتى قويت المعرفة والمحبة لم يُرد صاحبها إلا ما يريده مولاه. وفي بعض الكتب السالفة: من أَحَبّ الله لم يكن في شيءٌ عنده آثر من رضاه، ومن أحبَّ الدُّنْيَا لم يكن شيء عنده آثر من هوى نفسه. وروى ابن أبي الدُّنْيَا بإسناده عن الحسن قال: (ما نظرت) (*) ببصري، ولا نطقت بلساني، ولا بَطَشْتُ بيدي، ولا نَهَضْتُ عَلَى قدمي، حتى أنظر عَلَى طاعة ¬

_ (¬1) برقم (6502) من حديث أبي هريرة. (*) ما ضربت: "نسخة".

أو معصية، فإن كانت طاعة تقدمتُ، وإن كانت معصية تأخرت. هذا حال خَوَاصّ المحبين الصادقين، فافهموا -رحمكم الله- هذا، فإنَّه من دقائق أسرار التوحيد الغامضة. وإلى هذا أشار - صلى الله عليه وسلم - في خطبته لما قدم المدينة حيث قال: "أحبوا الله من كل قلوبكم" وقد ذكرها ابن إسحاق (¬1) وغيره. فإن من امتلأ قلبه من محبة الله لم يكن فيه فراغ لشيء من إرادات النفس والهوى، وإلى ذلك أشار القائل بقوله: أروح وَقد ختمت على فُؤَادِي ... بحبِّك أَن يَحُلَّ بِهِ سواكا فَلَو أَنِّي اسْتَطَعْت غضضت طَرفِي ... فَلم أنظُر بِهِ حَتَّى أراكا أحبك لَا ببعضي بل بكلِّي ... وَإِن لم يُبْق حُبُّك لي حِراكا وَفِي الأحباب مَخْصُوص بوجدٍ ... وَآخر يَدَّعِي معه اشتراكا إِذا اشتكبت دموعٌ فِي خدودٍ ... تبيَّن من بَكَى مِمَّن تباكى فَأَما من بَكَى فيذوبُ وجدًا ... وينطقُ بالهوى من قد تشاكى متى بقي للمحب من نفسه حظ، فما بيده من المحبة إلا الدعوى، إِنَّمَا المحب من يفنى عن نفسه كله، ويبقى بحبيبه، "فبي يسمع، وبي يبصر". القلب بيت الرب: وفي الإسرائيليات يقول الله: "ما وسعني سمواتي ولا أرضي، ولكن وسعني قلبُ عبدي المؤمن" (¬2). فمتى كان القلب فيه غير الله، فالله أغنى الأغنياء عن الشرك، وهو لا يرضى بمزاحمة أصنام الهوى. الحق -تعالى- غيور، يغار عَلَى عبده المؤمن من أن يسكن في قلبه سواه، ¬

_ (¬1) أخرج ذلك البيهقي في الدلائل (2/ 524 - 525) من طريق ابن إسحاق، وذكر ذلك ابن هشام في السيرة (2/ 146 - 147) دون إسناد. (¬2) انظر مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية (18/ 122) فقد ذكر أن هذا الحديث من الإسرائيليات.

وأن يكون فيه شيء لا يرضاه. أردناكموا صِرْفًا فلما مَزَجْتُم ... بعُدْتُم بمقدار التفاتكموا عنَّا وقلنا لكم لا تُسْكِنُوا غَيْرَنَا ... فأسْكَنْتُمُوا الأغيار ما أنتموا مِنَّا ***

النجاة لا تكون إلا لصاحب القلب السليم

النجاة لا تكون إلا لصاحب القلب السليم لا ينجو غدًا إلا من لقي الله بقلب سليم، ليس فيه سواه؛ قال الله -تعالى-: {يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء: 88 - 90]. القلب السليم هو الطاهر من أدناس المخالفات، فأما المتلطخ بشيء من المكروهات فلا يصلح لمجاورة حضرة (القدوس) (*) إلا بعد أن يطهر في كير العذاب، فإذا زال منه الخبث صلح حينئذٍ للمجاورة، إن الله طيب لا يقبل إلا طيبًا. فأما القلوب الطيبة فتصلح للمجاورة من أول الأمر: {سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} [الزمر: 73] {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ} [النحل: 32]. ومن لم يُحرق اليوم قلبَه بنار الأسف عَلَى ما سلف، أو بنار الشوق إِلَى لقاء الحبيب، فنار جهنم له أشد حرًا. ما يحتاج إِلَى التطهير بنار جهنم إلا من لم يُكمل تحقيق التوحيد والقيام بحقوقه. ... ¬

_ (*) القدس: "نسخة".

احذروا الرياء

احذروا الرياء أول من تُسعر به النار من الموحدين العباد المراءون بأعمالهم؛ أولهم العالم والمجاهد والمتصدق للرياء (¬1)؛ لأنّ يسير الرياء شرك. ما ينظر المرائي إِلَى الخلق في عمله إلا لجهله بعظمة الخالق. المرائي يُزوِّر التواقيع عَلَى اسم الملك ليأخذ البراطيل (¬2) لنفسه، ويوهم أنَّه من خاصة الملك، وهو ما يعرف الملك بالكلية. نقش المرائي عَلَى الدرهم الزائف اسم الملك ليروج، والبهرج (¬3) ما يجوز إلا عَلَى غير الناقد. وبعد أهل الرياء يدخل النار أصحاب الشهوات وعبيد الهوى، الذين أطاعوا هواهم، وعصوا مولاهم، فأما عبيد الله حقًّا، فيقال لهم: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي} [الفجر: 27 - 30]. نار جهنم تنطفئ بنور إيمان الموحدين. في الحديث: "تقول النار للمؤمن: (جُزْ) (¬4)، فقد أطفأ نورك ¬

_ (¬1) يشير إِلَى الحديث الَّذِي رواه مسلم برقم (1905) من حديث أبي هريرة. (¬2) البراطيل: جمع برطيل بكسر الباء، وهو الرشوة، ويقال في المثل: البراطيل تنصر الأباطيل. كأنه مأخوذ من البرطيل الَّذِي هو المعول؛ لأنه يستخرج به ما استتر. وفتح الباء عاميُّ - المصباح المنير (ص 42). (¬3) البهرج: مثل جعفر. الرديء من الشيء ... ودرهمٌ بَهْرَجٌ: رديء الفضة. وبُهْرِجَ الشيء -بالبناء للمفعول-: أخذ به عَلَى غير الطريق - المصباح المنير (ص 64). (¬4) كذا وقع في الأصول المخطوطة، وفي جميع النسخ المطبوعة ومصادر التخريج [جُز يا مؤمن].

لهبي! " (¬1). وفي "المسند" (¬2) عن جابر عن النبي صلّى الله عليه وسلم: "لَا يَبْقَى (بَرٌّ) (*) وَلَا فَاجِرٌ إِلَّا دَخَلَهَا، فَتَكُونُ عَلَى الْمُؤْمِنِ بَرْدًا وَسَلَامًا، كَمَا كَانَتْ عَلَى إِبْرَاهِيمَ حَتَّى إِنَّ لِلنَّارِ ضَجِيجًا مِنْ بَرْدِهِمْ". هذا ميراث ورثه المحبون من حال الخليل -عليه السلام. نار المحبة في قلوب المحبين تخاف منها نار جهنم. قال الجنيد: قالت النار: يا رب لو لم أطعك هل كنت تعذبني بشيء هو أشد مني؟ قال: نعم كنت أسلط عليك ناري الكبرى. قالت: وهل هناك نار أعظم مني وأشد؟! قال: نار محبتي أسكنها قلوب أوليائي المؤمنين. قفا قليلاً بها عَلَيَّ فلا ... أقلَّ من نظرة أرددها ففي فؤاد المحبِّ نارُ جويّ ... أحرُّ نار الجحيم أبردُها لولا دموع المحبين تطفئ بعض ... حرارة الوجد لاحترقوا كمدًا دعوه يطفي بالدموع حرارة ... عَلَى كبدٍ حرِّي دعوه دعُواه سلوا عاذليه يعذروه هنيهة ... فبالعذل دون الشوق قد قتلوه كان بعض العارفين، يقول: أليس عجبًا أن كون حيًّا بين أظهركم، وفي ¬

_ (¬1) أخرجه ابن عدي في الكامل (6/ 394)، والطبراني في الكبير (22/ 668)، وأبو نعيم في الحلية (9/ 329)، والخطيب في تاريخ بغداد (9/ 232) من طرق عن بشير بن طلحة عن خالد بن دريك عن يعلي بن منية مرفرعًا. قلت: وهذا الطريق فيه علتان، إحداهما: ضعف بشير بن طلحة، والثانية: الانقطاع بين خالد بن دريك ويعلي بن منية. وقد أخرجه البيهقي في الشعب (469 - سلفية) من طريق سليم بن منصور بن عمار حدثني أبي عن الهقل بن زياد عن خالد بن دريك عن بشير، وهو منكر. قلت: وقد حدث قلب في هذا السند؛ لأن خالدًا شيخ بشير لا تلميذه. (¬2) (3/ 328، 329). (*) مؤمن: "نسخة".

قلبي من الاشتياق إِلَى ربي مثل شُعَلِ النار التي لا تنطفئ؟! ولم أرَ مِثْل نارِ (المحبين) (*) نارًا ... تزيدُ بُبُعد موقِدِها اتِّقادًا ما للعارفين شغل بغير مولاهم، ولا همّ في غيره. وفي الحديث: "من أصبح وهمه غير الله فليس من الله" (¬1). قال بعضهم: من أخبرك أن الله وليه [و] (¬2) همه في غيره فلا تصدقه. وكان داود الطائي يقول في الليل: همك عطّل عليّ الهموم، وحال بيني وبين السهاد، وشوقي إِلَى النظر إليك أوبق مني اللذات، وحال بيني وبين الشهوات، فأنا في سجنك أيها الكريم مطلوب. ما لي شُغْلٌ سواه ما لي شُغلُ ... ما يصرفُ قلبي عن هواه عذل ما أصنع إن جَفَا وخَابَ الأملُ ... مني بَدلٌ ومنه مالي بَدَلُ إخواني: إذا فهمتم هذا المعنى فهمتم معنى قول النبي صلّى الله عليه وسلم: "من شهد أن لا إله إلا الله (صدقًا) (**) من قلبه حرّمه الله عَلَى النار" (¬3). ... ¬

_ (*) الحب: "نسخة". (¬1) أخرجه بهذا اللفظ ابن بشران في "الأمالي" (7/ 105/ 1)، (ج19/ 3/ 2) كما في الضعيفة للألباني برقم (311)، والحاكم (4/ 320) من طريق إسحاق بن بشر، ثنا مقاتل بن سليمان عن حماد عن إبراهيم عن عبد الرحمن بن يزيد عن ابن مسعود مرفوعًا. ونقل العلامة الألباني -رحمه الله- قول ابن بشران: "هذا حديث غريب، تفرد به إسحاق بن بشر" وقال الذهبي في "التلخيص": "إسحاق ومقاتل ليسا بثقتين ولا صادقين". وحكم عليه العلامة الألباني بالوضع؛ فراجعه في الضعيفة برقم (311). (¬2) سقطت من الناسخ، وبها يستقيم المعنى. (**) خالصًا: "نسخة". (¬3) أخرجه البخاري (128).

من صدق في قول لا إله إلا الله نجا من كربات يوم القيامة

من صدق في قول لا إله إلا الله نجا من كربات يوم القيامة فأما من دخل النار من أهل الكلمة، فلقلة صدقه في قولها، فإن هذه الكلمة إذا صدقت في قولها طهَّرت القلب من كل ما سوى الله، ومتى بقي في القلب أثر (لما سوى) (*) الله، فمن قلة (صدقه) (**) في قولها. من صَدَق في قوله: لا إله إلا الله، لم يحبّ سواه، ولم يرج إلا إياه، ولم يخش أحدًا إلا الله، ولم يتوكل إلا عَلَى الله، ولم يبق له بقية من آثار نفسه وهواه. ومع هذا فلا تظنوا أن المراد أن المحب مطالب بالعصمة، وإنَّما هو مطالب كلما زَلَّ أن يتلافى تلك الوصمة. قال زيد بن أسلم: إن الله ليحبُّ العبد حتى يبلغ من حبه له أن يقول: اذهب فاعمل ما شئت فقد غفرت لك. وقال الشعبي: إذا أَحَبّ الله عبدًا لم يضره (ذنب) ( ... ). وتفسير هذا الكلام أن الله عزَّ وجل له عناية بمق يحبه من عباده، فكلما زلق ذلك العبد في هوة الهوى أخذ بيده إِلَى نجوة النجاة، ييسر له أسباب التوبة، وينبهه عَلَى قبح الزلة، فيفزع إِلَى الاعتذار، ويبتليه بمصائب مكفّرة لما جنى. وفي بعض الآثار: يقول الله: "أهل ذكري أهل مجالستي، وأهل طاعتي ¬

_ (*) لسوى: "نسخة". (**) الصدق: "نسخة". ( ... ) ذنبه: "نسخة".

أهل كرامتي، وأهل مصيبتي لا أؤيسهم من رحمتي، إن تابوا فأنا حبيبهم، وإن لم يتوبوا فأنا طبيبهم، أبتليهم بالمصائب لأطهرهم من المعائب". وفي "صحيح مسلم" (¬1) عن جابر عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: "الحمى تذهب الخطايا كما يذهب الكير الخبث". وفي "المسند" (¬2) و"صحيح ابن حبان" (¬3) عن عبد الله بن مغفل "أَنَّ رَجُلًا لَقِيَ امْرَأَةً كَانَتْ بَغِيًّا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَجَعَلَ يُلَاعِبُهَا حَتَّى بَسَطَ يَدَهُ إِلَيْهَا، فَقَالَتِ: مَهْ (¬4) فَإِنَّ اللهَ أَذْهَبَ بِالشِّرْكِ وَجَاءَ بالإِسْلامِ! فَتَرَكَهَا وَوَلَّى، فَجَعَلَ يَلْتَفِتُ خَلْفَهُ وَيَنْظُرُ إِلَيْهَا حَتَّى أَصَابَ وَجْهُهُ حَائِطًا، فَأَتَى النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَالدَّمُ يَسِيلُ عَلَى وَجْهِهِ، فَأَخْبَرَهُ بِالْأَمْرِ فَقَالَ - صلى الله عليه وسلم -: «أَنْتَ عَبْدٌ أَرَادَ اللَّهُ بِكَ خَيْرًا». ثُمَّ قَالَ: «إِنَّ اللهَ إِذَا أَرَادَ بِعَبْدٍ خَيْرًا عَجَّلَ عُقُوبَتَهُ فِي الدُّنْيَا، وَإِذَا أَرَادَ بِعَبْدٍ شَرًّا أَمْسَكَ ذَنْبِهِ حَتَّى يُوَافِيَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ". يا قوم، قلوبكم عَلَى أصل الطهارة، وإنَّما أصابها رشاش من نجاسة الذنوب، فرشوا عليها قليلاً من (ماء) (*) العيون، وقد طهرت. اعزموا عَلَى فطام النفوس عن رضاع الهوى، فالحِمية رأس الدواء. متى طالبتكم بمألوفاتها، فقولوا لها كما قالت تلك المرأة لذلك الرجل، الَّذِي دمي وجهه: قد أذهب الله الشرك وجاء بالإسلام، والإسلام يقتضي الاستسلام والانقياد للطاعة. ذكِّروها مدحةَ {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} [فصلت: 30] لعلها تَحِنَّ إِلَى الاستقامة. ¬

_ (¬1) برقم (2575). (¬2) (4/ 87). (¬3) برقم (2911 - إحسان). وقال الهيثمي في المجمع (10/ 191): ورجال أحمد رجال الصحيح. (¬4) اسكت واكفف. (*) دمع: "نسخة".

عرِّفوها اطلاع من هو أقرب إليها من حبل الوريد، لعلها تستحي من قربه ونظره: {أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى} [العلق: 14] {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} [الفجر: 14]. راود رجل امرأة في فلاة ليلا فأبت، فَقَالَ لها: ما يرانا إلا الكواكب، قالت: فأين مُكَوْكبُها؟! أكره رجلٌ امرأة عَلَى نفسها، وأمرها بغلق الأبواب ففعلت، فَقَالَ لها: هل بقي باب لم تغلقيه؟ قالت: نعم، الباب الَّذِي بيننا وبين الله! فلم يتعرض لها. رأى بعض العارفين رجلاً يكلم امرأة، فَقَالَ: إن الله يراكما، سترنا الله وإياكما!. سُئل الجنيد: بم يستعان عَلَى غض البصر؟ قال: بعلمك أن نظر الله إليك أسبقُ من نظرك إِلَى ما تنظر. وقال المحاسبي: المراقبة: علم القلب بقرب الرب. كلما قويت المعرفة بالله قوي الحياء من قربه ونظره. وصّى النبي صلّى الله عليه وسلم رجلاً أن يستحي من الله كما يستحي من رجل صالح من عشيرته لا يفارقه (¬1). ¬

_ (¬1) أخرجه أبو بكر الإسماعيلي ما ذكر ابن كثير في تفسيره (4/ 305) من حديث نصر ابن خزيمة بن جنادة بن علقمة حدثني أبي عن نصر بن علقمة، عن أخيه، عن عبد الرحمن بن عائد قال: قال عمر: "جاء رجل إِلَى النبي صلّى الله عليه وسلم فقال: زودني حكمة أعش بها. فَقَالَ: استح الله كما تستحي رجلاً من صالح عشيرتك لا يفارقك". قال ابن كثير: هذا حديث غريب. وأخرجه ابن عدى (2/ 136)، (4/ 90) من حديث أبي أمامة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "اسْتَحْيِ مِنَ اللَّهِ اسْتِحْيَاءَكَ مِنْ رَجُلَيْنِ مِنْ صَالِحِي عَشِيرَتِكَ". وفي إسناده جعفر بن الزبير (وصفدي) بن سنان، قال ابن عدي: ولجعفر بن الزبير هذا أحاديث غير ما ذكرت عن القاسم، وعامتها مما لا يتابع عليه، والضعف عَلَى حديثه بيِّن. =

......................................... ¬

_ =وقال عن الرواية الأخرى (4/ 90): وهذا يرويه الليث، عن يزيد بن أبي حبيب، عن أبي الخير، عن سعيد بن زيد عن النبي صلّى الله عليه وسلم وأتى به (صفدي) (*) عن جعفر بن القاسم، عن أبي أمامة، ولعل البلاء فيه من جعفر لا من صفدي، فإن صفدي خير من جعفر بن الزبير، ولصفدي غير ما ذكرت من الحديث يتبين عَلَى حديثه ضعفه. قلت: وحديث سعيد بن يزيد أخرجه أحمد في الزهد (ص 59) والطبراني في الكبير (6/ 5539) ومحمد بن نصر المروزي في تعظيم قدر الصلاة (827). قال الهيثمي في المجمع (10/ 284): ورجاله وثقوا عَلَى ضعف في بعضهم. وأخرجه البيهقي في الشعب (7738) من طريق ليث بن سعد عن يزيد بن أبي حبيب عن أبي الخير سمع سعيد بن زيد "أن رجلاً قال للنبي - صلى الله عليه وسلم - أوصني .. " فذكره. قال البيهقي: كذا قال: سعيد بن زيد، وقال غيره: سعيد بن يزيد بن أبي حبيب عن سعيد بن يزيد الأزدي عن ابن عم له قال: "قلت: يا رسول الله ... " فذكره، وروى هذا عن جعفر بن الزبير -وهو ضعيف- عن القاسم عن أبى أمامة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وسئل الدارقطني في العلل (4/ 421 - 422) برقم [669] عن هذا الحديث فَقَالَ: حدث به يزيد بن أبي حبيب واختلف عنه، فرواه الليث بن سعد عن يزيد عن أبي الخير عن سعيد بن زيد أو سعد بن زيد عن النبي صلّى الله عليه وسلم. وخالفه عبد الحميد بن جعفر فرواه عن يزيد بن أبي حبيب عن أبي الخير عن سعيد بن زيد عن ابن عم له قال: "قلت: يا رسول الله أوصني ... " الحديث. وقول عبد الحميد بن جعفر أشبه. وذكر الحديث ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل (4/ 72): وقال: وليس بمحفوظ. ثم ذكر الخلاف في السند. وذكر في المراسيل (ص 68) أن سعيد بن يزيد ليست له صحبة. وأخرجه البيهقي في الشعب (7739) من طريق المعارك بن عباد البصري عن أبي عباد عن جده أبي سعيد المقبري عن أبي هريرة مرفوعًا بلفظ مختلف، وقال البيهقي: إسناده ضعيف، وله شاهد ضعيف. وقال المناوي في فيض القدير (5/ 35): فيه ضعفاء منهم: معارك بن عباد، أورده الذهبي في الضعفاء وقال: ضعفه الدراقطني وغيره. وللحديث شاهد أخرجه البزار (1972 - كشف) من حديث معاذ، وفي إسناده: سعيد بن كثير وابن لهيعة وهما ضعيفان.

قال بعضهم: استح من الله عَلَى قدر قربه منك، وخف الله عَلَى قدر قدرته عليك. كان بعضهم يقول لي منذ أربعين سنة ما خطوت خطوة لغير الله، ولا نظرت إلى شيء أستحسنه حياءً من الله -عزّ وجل-: كَأَن رقيبًا مِنْك يرْعَى خواطري ... وَآخر يرْعَى ناظري ولساني فَمَا أَبْصرت عَيْنَايَ بعْدك منْظرًا ... لغيرك إِلَّا قلتُ قد رَمَقاني وَلَا بدرت من فِيَّ بعْدك لَفْظَة ... لغيرك إِلَّا قلتُ قد سمعاني وَلَا خطرت من ذكر غَيْرك خطرة ... على الْقلب إِلَّا عرَّجا بعناني ***

فصل فضائل كلمة التوحيد

فصل فضائل كلمة التوحيد وكلمة التوحيد لها فضائل عظيمة لا يمكن ها هنا استقصاؤها؛ فلنذكر بعض ما ورد فيها. فهي كلمة التقوى، كما قاله عمر (¬1) وغيره من الصحابة. وهي كلمة الإخلاص، وشهادة الحق، ودعوة الحق، وبراءة من الشرك، ونجاة هذا الأمر، ولأجلها خُلق الخلق. كما قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]. ولأجلها أرسلت الرسل وأنزلت الكتب، قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 25] وقال تعالى: {يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ} [النحل: 2]. وهذه الآية أول ما عدَّد الله عَلَى عباده من النعم في سورة النعم التي تسمى "سورة النحل". ولهذا قال ابن عيينة: ما أنعم الله عَلَى العباد نعمة أعظم من أن عرَّفهم لا إله إلا الله، وإن لا إله إلا الله لأهل الجنة كالماء البارد لأهل الدُّنْيَا، ولأجلها ¬

_ (¬1) أخرج أحمد في مسنده (1/ 63) من حديث عثمان بن عفان رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "ثم إني لأعلم كلمة لا يقولها عبد حقًّا من قلبه إلا حرم عَلَى النار". فَقَالَ له عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أنا أحدثك ما هي كلمة الإخلاص التي أعز الله تبارك وتعالى بها محمد - صلى الله عليه وسلم -، وهي كلمة التقوى ... " الحديث.

أعدت دارُ الثواب ودار العقاب في الآخرة. فمن قالها ومات عليها كان من أهل دار الثواب، ومن ردها كان من أهل العقاب. ومن أجلها أُمرت الرسل بالجهاد، فمن قالها عصم ماله ودمه، ومن أباها فماله ودمه (هدر) (*). وهي مفتاح دعوة الرسل، وبها كلم الله موسى كفاحًا (¬1). وفي "مسند البزار" (¬2) وغيره عن عياض الأنصاري عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: "إن لا إله إلا الله كلمة حقٍّ عَلَى الله كريمة، ولها من الله مكان، وهي كلمة جُمعت وشُرِكَتْ؛ فمن قالها صادقًا أدخله الله الجنة، ومن قالها كاذبًا أحرزت ماله، وحقنت دمه، ولقي الله فحاسبه". وهي مفتاح الجنة كما تقدم. وهي ثمن الجنة؛ قاله الحسن. وجاء مرفوعًا من وجوهٍ ضعيفة (¬3): "ومن كانت آخر كلامه دخل الجنة" (¬4). وهي نجاة من النار: ¬

_ (*) حلال: "نسخة". (¬1) أي مواجهة ليس بينهما حجاب ولا رسول. النهاية (4/ 185). (¬2) أورده الهيثمي في المجمع (1/ 26) وقال: رواه البزار ورجاله موثقون، إن كان تابعيه عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود. (¬3) منه ما أخرجه ابن عدي (6/ 348) من حديث أنس. وفي إسناده: موسى بن إبراهيم قال عنه ابن عدي: حدث بالمناكير عن قوم ثقات أو من لا بأس بهم. ثم ذكر له عدة روايات ثم قال: ولموسى بن إبراهيم هذا أحاديث غير ما ذكرت عن ثقات الناس، وهو بَيَّن الضعف عَلَى رواياته وحديثه. (¬4) أخرجه أحمد (5/ 233، 247) بلفظ: "من كان آخر كلامه لا إله إلا الله وجبت له الجنة". وأبو داود (3116) بلفظ: "دخل الجنة". والحاكم (1/ 351، 500) وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه.

وسمع النبي صلّى الله عليه وسلم مؤذنًا يقول: أشهد أن لا إله إلا الله، فَقَالَ: "خرج من النار" خرجه مسلم (¬1). وهي توجب المغفرة: في "المسند" (¬2) عن شداد بن أوس وعبادة بن الصامت أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِأَصْحَابِهِ يَوْمًا: ارْفَعُوا أَيْدِيَكُمْ، وَقُولُوا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَرَفَعْنَا أَيْدِيَنَا سَاعَةً، ثُمَّ وَضَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدَهُ، ثُمَّ قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، اللَّهُمَّ بَعَثْتَنِي بِهَذِهِ الْكَلِمَةِ وَأَمَرْتَنِي بِهَا، وَوَعَدْتَنِي الْجَنَّةَ عَلَيْهَا، وَإِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ. ثُمَّ قَالَ: أَبْشِرُوا، فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ غَفَرَ لَكُمْ". وهي أحسن الحسنات: قال أبو ذَرٍّ: "قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، عَلِّمْنِي عَمَلًا يُقَرِّبُنِي مِنَ الْجَنَّةِ، وَيُبَاعِدُنِي مِنَ النَّارِ، قَالَ: "إِذَا عَمِلْتَ سَيِّئَةً فَاعْمَلْ حَسَنَةً، فَإِنَّهَا عَشْرُ أَمْثَالِهَا. قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مِنَ الْحَسَنَاتِ؟ قَالَ: هِيَ أَحْسَنُ الْحَسَنَاتِ" (¬3). ¬

_ (¬1) برقم (382) ولفظه: "خرجت من النار". (¬2) (4/ 124). أخرجه البزار في مسنده (2717 - البحر الزخار) وكما في كشف الأستار (10)، والطبراني في الكبير (7/ 7163)، والحاكم في المستدرك (1/ 501). قال البزار: وهذا لا نعلمه يروى إلا بهذا الإسناد. وقال الحاكم: حال إسماعيل بن عياض يقرب من الحديث قبل هذا، فإنَّه أحد أئمة الشام، وقد نسب إِلَى سوء الحفظ، وأنا عَلَى شرطي في أمثاله. وقال الذهبي في التلخيص: راشد ضعفه الدارقطني وغيره، ووثقه دحيم. وقال الهيثمي في المجمع (1/ 24): رواه أحمد والطبراني والبزار، ورجاله موثقون. وقال أيضاً في (10/ 84): رواه أحمد وفيه راشد بن داود وقد وثقه غير واحد وفيه ضعف، وبقية رجاله ثقات. (¬3) أخرجه أحمد (5/ 169). وقال الهيثمي في المجمع (10/ 84): رواه أحمد ورجاله ثقات، إلا أن شمر بن=

وهي تمحو الذنوب والخطايا: وفي "سنن ابن ماجه" (¬1) عن أم هانئ بنت أبي طالب عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا إله إلا الله لا تترك ذنبًا، ولا يسبقها عملٌ". رؤي بعض السَّلف بعد موته في المنام، فسئل عن حاله، فَقَالَ: ما أبقت لا إله إلا الله شيئًا. وهي تجدد ما دُرِسَ من الإيمان في القلب: وفي "المسند" (¬2) "أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال لأصحابه: جَدِّدُوا إِيمَانَكُمْ. قَالُوا: كَيْفَ نُجَدِّدُ إِيمَانَنَا؟! قَالَ: قُولُوا: لَا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ". وهي التي لا يعدلها شيء في الوزن، فلو وزنت بالسماوات والأرض رجحت بهن. كما في "المسند" (¬3) عن عبد الله بن عمرو عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أَنَّ نُوحًا قَالَ ¬

_ =عطية حدَّث به عن أشياخه عن أبي ذر، ولم يسم أحدًا منهم. (¬1) برقم (3797). قال في الزوائِد: في إسناده زكريا بن منظور، وهو ضعيف. (¬2) (2/ 359)، وأخرجه ابن عدي (4/ 77)، والحاكم (4/ 256) من طريق صدقة بن موسى ثنا محمد بن واسع عن سُمَيرِ بن نهار عن أبي هريرة مرفوعًا. وفي إسناده صدقة بن موسى قال عنه ابن عدي: وبعض أحاديث مما يتابع عليه، وبعضه مما لا يتابع عليه. وقال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه وتعقبه الذهبي بأن صدقة ضعفوه. وقال الهيثمي في المجمع (10/ 85): رواه أحمد والطبراني ورجال أحمد ثقات. (¬3) (2/ 170، 225)، وأخرجه الحاكم (1/ 49) وقال: هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه للصقعب بن زهير، فإنه ثقة قليل الحديث. وقال الذهبي: صحيح الإسناد والصقعب ثقة، ورواه ابن عجلان عن زيد بن أسلم مرسلاً. وأورده الهيثمي (4/ 219 - 220) مطولا في كتاب الوصايا وقال: ورجال أحمد ثقات.

لَابْنِهِ عِنْدَ مَوْتِهِ: آمُرُكَ بِلاَ إِلهَ إِلَّا اللَّهُ، فَإِنَّ السَّمَاوَات السَّبع وَالْأَرْضين السَّبع لَوْ وُضِعَتْ فِي كِفَّةٍ وَوُضِعَتْ لاَ إِلهَ إِلَّا اللَّهُ فِي كِفَّةٍ، رَجَحَتْ بِهِنَّ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَلَوْ أَنَّ السَّمَوَاتِ السَّبْعَ وَالْأَرْضين السَّبع كُنَّ حَلْقَةً مُبْهَمَةً قَصَمَتْهُنَّ لاَ إِلهَ إِلَّا اللَّهُ". وفيه أيضاً عن عبد الله بن عمرو (¬1) عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أن مُوسَى -عليه السلام- قَالَ: يَا رَبِّ، عَلِّمْنِي شَيْئًا أَذْكُرُكَ بِهِ وَأَدْعُوكَ بِهِ. قَالَ: يَا مُوسَى: قُلْ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، قَالَ: يَا رَبِّ!، كُلُّ عِبَادِكَ يَقُولُونَ هَذَا.! قَالَ: قُلْ: لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، فَقَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، إِنَّمَا أُرِيدُ شَيْئًا تَخُصَّنِي بِهِ، قَالَ: يَا مُوسَى، لَوْ أَنَّ السَّمَوَاتِ السَّبْعَ وَعَامِرَهُنَّ غَيْرِي وَالْأَرَضِينَ السَّبْعَ فِي كَفَّةٍ، وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ فِي كَفَّةٍ، مَالَتْ بِهِنَّ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ" (¬2). ولذلك نرجح بصحائف الذنوب: كما في حديث السجلات والبطاقة، وقد خرّجه أحمد (¬3) والنسائي (¬4) ¬

_ (¬1) كذا وقع في نسخنا الخطية عزو الحديث إِلَى المسند وإِلَى عبد الله بن عمرو. قال العلامة الألباني -رحمه الله-: إن العزو للمسند خطأ كما أن عزوه إِلَى حديث عبد الله بن عمرو خطأ، وإنَّما هو من حديث أبي سعيد الخدري اهـ. (¬2) أخرجه النسائي في عمل اليوم والليلة (834، 1141)، وأبو يعلي (1393)، وابن حبان (6218 - إحسان)، والحاكم في "المستدرك" (1/ 528 - 529) وأبو نعيم في الحلية (8/ 327 - 328) من طرق عن عبد الله بن وهب قال: أخبرني عمرو بن الحارث أن دراجًا أبا السمح حدثه عن أبي الهيثم عن أبي سعيد الخدري مرفوعًا. قال أبو نعيم: غريب من حديث عمرو لم يروه عنه إلا ابن وهب. وقال الهيثمي في المجمع (10/ 82): ورجاله قد وثقوا، وفيهم ضعف. وقال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. قلت: وليس كما قال؛ لأنّ في رواية دراج عن أبي الهيثم ضعف كما ذكر العُلَمَاء. (¬3) (2/ 213، 221 - 222). (¬4) لم أجده في سنن النسائي ولا في تحفة الأشراف وهو من رواية أبي عبد الرحمن الحبلي عن عبد الله بن عمرو، وهو في سننن ابن ماجه (4300)، وفي مستدرك الحاكم (1/ 6، 529) وقال الحاكم: هذا حديث صحيح لم يخرج في الصحيحين، وهو صحيح عَلَى شرط مسلم.

والترمذي (¬1) أيضاً من حديث عبد الله بن عمرو عن النبي صلّى الله عليه وسلم. وهي التي تخرق الحجب كلها حتى تصل إِلَى الله عز وجل. وفي "الترمذي" (¬2) عن عبد الله بن عمرو عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا إله إلا الله ليس لها دون الله حجاب، حتى تصل إليه". وفيه أيضاً (¬3) عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «مَا قَالَ عَبْدٌ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مُخْلِصًا إِلَّا فُتِحَتْ لَهُ أَبْوَابُ السَّمَاءِ حَتَّى تُفْضِيَ إِلَى العَرْشِ مَا اجْتَنَبَ الكَبَائِرَ». ويُروى عن ابن عباس مرفوعًا: "ما من شيء إلا بينه وبين الله حجابٌ، إلا قول: لا إله إلا الله، كما أن شفيتك لا تحجبها كذلك، لا يحجبها شيءٌ، حتى تنتهي إِلَى الله عز وجل" (¬4). وقال أبو أمامة: ما من عبد يهلل تهليلة فينهنهها (¬5) شيء دون العرش. وهي التي ينظر الله إِلَى قائلها، ويجيب دعاه. خرَّج النسائي في كتاب "اليوم والليلة" (¬6) من حديث رجلين من الصحابة عن النبي صلّى الله عليه وسلم: "مَنْ قَالَ: لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، لَهُ المُلْكُ وَلَهُ الحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، مخلصًا بها روحه مصدقًا بها قلبه ولسانه، إلا فتق الله له السماء فتقًا، حتى ينظر إلى قائلها من أهل الأرض، وحُقّ لعبدٍ نظر الله ¬

_ (¬1) برقم (2639) وقال: هذا حديث حسن غريب. (¬2) برقم (3518) وقال: هذا حديث غريب من هذا الوجه، وليس إسناده بالقوي. (¬3) برقم (3590) وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه. (¬4) أخرجه الختلي في الديباج كما في اللآلئ المصنوعة للسيوطي (2/ 345) وفي إسناده: عثمان بن عطاء بن أبي أسلم الخراساني، وقد ضعفه ابن معين والساجي، ولينه غيرهما وقالوا: ليس بالقوي قال أبو حاتم: يكتب حديثه ولا يحتج به. وقد استفدت في تخريج هذا الحديث من أخي أبي إسحاق السمنودي مجدي بن حمودة في تخريجه لنفس الرسالة - رغم اعتراضي عليه في مواضع كثيرة منها. (¬5) يكفها: القاموس المحيط مادة: "نهنه". (¬6) برقم (28).

إليه أن يعطيه سؤله (*) ". وهي الكلمة التي يصدق الله قائلها. كما خرجه النسائي (¬1) والترمذي (¬2) وابن حبان (¬3) من حديث أبي هريرة وأبي سعيد، عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: "إِذَا قَالَ الْعَبْدُ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاللَّهُ أَكْبَرُ، صَدَّقَهُ رّبُّهُ، وَقَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا وَأَنَا أَكْبَرُ وَإِذَا قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ، يَقُولُ اللهُ: لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا وَحْدِي، وَإِذَا قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، قَالَ اللهُ: لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا وَحْدِي لَا شَرِيكَ لِي، وَإِذَا قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ، لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ، قَالَ اللهُ: لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا، لِي الْمُلْكُ، وَلِيَ الْحَمْدُ. وَإِذَا قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ، قَالَ اللهُ: لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِي". وكان يقول: "من قالها في مرضه ثم مات لم تطعمه النار" (¬4). وهي أفضل ما قاله النبيون، كما ورد في دعاء يوم عرفة (¬5). ¬

_ (*) سؤاله: "نسخة". (¬1) في عمل اليوم والليلة (30، 31) من طريقين عن أبي إسحاق عن الأغر أبي مسلم أنَّه شهد عَلَى أبي هريرة وعلى أبي سعيد أنهما شهدا عَلَى رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال ... الحديث. وأخرجه النسائي (32) من طريق شعبة عن أبي إسحاق عن الأغر عن أبي هريرة موقوفًا، ولم يذكر أبا سعيد. (¬2) برقم (3430) وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب. وقد رواه شعبة عن أبي إسحاق عن الأغر أبي مسلم عن أبي هريرة وأبي سعيد بنحو هذا الحديث بمعناه، ولم يرفعه شعبة. (¬3) برقم (851 - إحسان). (¬4) هذا لفظ الترمذي برقم (3430). (¬5) أخرجه مالك في الموطأ (1/ 422 - 423 - بترقيم عبد الباقي) من حديث طلحة بن عبيد الله بن كريز أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال ... الحديث. قال ابن عبد البر في التمهيد (6/ 39): لا خلاف عن مالك في إرسال هذا الحديث كما رأيت ولا أحفظه بهذا الإسناد مسندًا من وجه يحتج بمثله، وقد جاء مسندًا من حديث علي بن أبي طالب وعبد الله بن عمرو بن العاص.=

وهي أفضل الذكر: كما في حديث جابر المرفوع: "أفضل الذكر لا إله إلا الله" (¬1). وعن ابن عباس قال: أَحَبُّ كلمة إِلَى الله -تعالى- لا يقبل الله عملاً إلا بها. وهي أفضل الأعمال وأكثرها تضعيفًا، وتعدل عتق الرقاب، وتكون حرزًا من الشيطان. كما في "الصحيحين" (¬2) عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ¬

_ =فأما حديث علي، فإنَّه يدور عَلَى دينار أبي عمرو، عن ابن الحنفية، وليس دينار ممن يحتج به. وحديث عبد الله بن عمرو من حديث عمرو بن شعيب، وليس [من] دون عمرو من يحتج به فيه. وأحاديث الفضائل لا يحتاج فيها إِلَى من يحتج به. اهـ. قلت: أما حديث علي فأخرجه الطبراني في الدعاء (874) وإسناده ضعيف. وقد ورد من حديث ابن عمر فأخرجه العقيلي في الضعفاء (3/ 462) من طريق فرج بن فضالة عن يحيى بن سعيد عن نافع عن ابن عمر ... فذكره. قال العقيلي: لا يتابع عليه -أي: فرج بن فضالة،- وقد نقل عن عبد الرحمن بن مهدي أن حديث فرج بن فضالة عن يحيى بن سعيد أحاديث منكرة مقلوبة. وأما حديث عبد الله بن عمرو فأخرجه الترمذي (3585) من طريق حماد بن أبي حميد عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مرفوعًا. قال الترمذي: هذا حديث غريب من هذا الوجه، وحماد بن أبي حميد هو محمد بن أبي حميد، وهو أبو إبراهيم الأنصاري المدني، وليس بالقوي عند أهل الحديث. وأخرجه ابن عدي (4/ 290) من طريق مالك عن سمي عن أبي صالح عن أبي هريرة. قال ابن عدي: وهذا منكر عن مالك عن سمي عن أبي هريرة، لا يرويه عنه غير عبد الرحمن بن يحيى هذا، وعبد الرحمن غير معروف. وهذا الحديث في الموطأ عن زياد ابن أبي زياد عن طلحة بن عبيد اله بن كريز عن النبي -عليه السلام- مرسلاً. (¬1) أخرجه الترمذي (3383) وقال: هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث موسى بن إبراهيم، وأخرجه النسائي في عمل اليوم والليلة (831)، وابن ماجه (3800)، وابن حبان (846 - إحسان)، والحاكم (1/ 503) وقال: هذا حديث صحيح، ولم يخرجاه. (¬2) أخرجه البخاري (3293)، ومسلم (2691).

"من قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو عَلَى كل شيء قدير في يوم مائة مرة كانت له عدل عشر رقاب، وكتب له مائة حسنة ومُحي عنه مائة سيئة، وكانت له حرزًا من الشيطان يومه ذلك حتى يُمسي، ولم يأت أحدُ بأفضل مما جاء به، إلا (أحد) (*) عمل أكثر من ذلك". وفيهما أيضاً عن أبي أيوب (¬1)، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ قَالَهَا عَشْرَ مَرَّاتٍ كَانَ كَمَنْ أَعْتَقَ أَرْبَعَةَ أَنْفُسٍ مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ". وفي "الترمذي" (¬2) عن ابن عمر مرفوعًا: "مَنْ قَالَهَا إِذَا دَخَلَ السُّوقَ وَزَادَ ¬

_ (*) رجل: "نسخة". (¬1) أخرجه البخاري (6404)، ومسلم (2693) وذكر البخاري اختلافًا في وقف الحديث ورفعه ثم قال: والصحيح قول عمرو. أي: عمرو بن ميمون وروايته عن ابن أبي ليلى عن أبي أيوب مرفوعًا. (¬2) برقم (3428) من طريق محمد بن واسع قال: قدمت مكة فلقيني أخي سالم بن عبد الله بن عمر فحدثني عن أبيه عن جده أن رسول الله قال ... فذكره. قال أبو عيسى: هذا حديث غريب. وقد رواه عمرو بن دينار -وهو قهرمان آل الزبير- عن سالم بن عبد الله هذا الحديث نحوه. وأخرجه الترمذي (3429) من طريق عمرو بن دينار -قهرمان آل الزبير- عن سالم ابن عبد الله بن عمر عن أبيه عن جده مرفوعًا. قال أبو عيسى: وعمرو بن دينار هذا هو شيخ بصرى، وقد تكلم فيه بعض أصحاب الحديث من غير هذا الوجه. ورواه يحيى بن سليم الطائفي عن عمران بن مسلم عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر عن النبي صلّى الله عليه وسلم ولم يذكر فيه عن عمر رضي الله عنه. وسئل أبو حاتم الرازي عن هذا الحديث كما في العلل لابنه برقم (2038) فَقَالَ: هذا حديث منكر. قال ابن أبي حاتم: وهذا الحديث هو خطأ، وإنَّما أراد عمران بن مسلم عن عمرو بن دينار -قهرمان آل الزبير- عن سالم عن أبيه. فغلط وجعل بدل عمرو، عبد الله بن دينار، وأسقط سالمًا من الإسناد. وذكر الدارقطني في العلل (2/ 48 - 50) برقم (101) اختلافًا في جعل الحديث من رواية عمر، ومن رواية ابن عمر مرفوعًا، ومن رواية عمر مرقوفًا.=

فيها: يُحْيِي وَيُمِيتُ- كُتِبَ لَهُ أَلْفُ أَلْفِ حَسَنَةٍ، وَمُحِيَ عَنْهُ أَلْفُ أَلْفِ سَيِّئَةٍ، وَرُفِعَ لَهُ ألف ألف دَرَجَة". وفي رواية: "وبني له بيت في الجنة" (¬1). ومن فضائلها أنها أمان من وحشة القبر وهول الحشر: كما في المسند وغيره (¬2)، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لَيْسَ عَلَى أَهْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْشَةٌ فِي قُبُورِهِمْ وَلَا فِي نُشُورِهِمْ، وَكَأَنِّي بِأَهْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ قَدْ قَامُوا يَنْقُضُونَ التُّرَابَ عَنْ رُءُوسِهِمْ، وَيَقُولُونَ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ} ¬

_ =قال الدارقطني: ويشبه أن يكون الاضطراب فيه من عمرو بن دينار؛ لأنّه ضعيف قليل الضبط. ثم ذكر أن عمرو بن دينار ضعيف الحديث لا يحتج به. (¬1) وهي عند الترمذي (3429). (¬2) هذا الحديث ليس في المسند كما ذكر العلامة الألباني -رحمه الله- في تعليقه عَلَى هذه الرسالة (ص 64)، وإنَّما أخرجه ابن عدي في الكامل (2/ 65)، والطبراني في الأوسط (4978)، والبيهقي في البعث والنشور (79)، (99) وغيرهم من حديث ابن عمر. قال ابن عدي وقد رواه من طريق بهلول بن عبد الله الكندي: ولبهلول هذا غير ما ذكرت من الحديث قليل، وأحاديثه عمن روى عنه فيه نظر، وحديثه عن أبي إسحاق أنكر منه عن غيره، وإنَّما ذكرته لأبين أن أحاديثه ليس مما يتابعه الثقات عليها، إذ لم أرَ لمن تكلم في الرجال فيه كلامًا. وقال البيهقي في الشعب: تفرد به عبد الرحمن بن زيد بن أسلم. وقال أيضاً: ورُوي من وجه آخر ضعيف عن ابن عمر، قد أخرجناه في كتاب البعث والنشور. وذكر الهيثمي فى المجمع (10/ 82 - 83) له روايتين ثم قال: وفي الرواية الأولى يحيى الحماني، وفي الأخرى مجاشع بن عمرو وكلاهما ضعيف. وقال أيضاً (10/ 333): رواه الطبراني وفيه جماعة لم أعرفهم. وأخرجه ابن حبان في المجروحين (2/ 268) من حديث ابن عباس وقال: وهذا خبر باطل، إنما يعرف هذا من حديث عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه عن ابن عمر فقط.

[فاطر: 34]». وفي حديث مرسل (¬1): من قال: "لَا إِلَهَ إِلَّا اللَهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَهُ الْمُلْكُ كُلِّ يَوْمٍ مِائَةَ مَرَّةٍ كَانَتْ لَهُ أَمَانًا مِنَ الْفَقْرِ، وَأُنْسًا مِنْ وَحْشَةِ الْقَبْرِ، وَاسْتُجْلِبَ بِهِ الْغِنَى وَاسْتُقْرِعَ بِهِ بَابُ الْجَنَّةِ". وهي شعار المؤمنين إذا قاموا من القبور: قال النضر بن عربي: بلغني أن الناس إذا قاموا من قبورهم كان شعارهم: لا إله إلا الله. وقد خرَّج الطبراني (¬2) حديثًا مرفوعًا: "إن شعار هذه الأمة عَلَى الصراط: يا لا إله إلا أنت". ومن فضائلها أنها تفتح لقائلها أبواب الجنة الثمانية، يدخل من أيها شاء: كما في حديث عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيمن أتى بالشهادتين بعد الوضوء، خرجه مسلم (¬3). وفي الصحيحين (¬4) عن عبادة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَنْ قَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَأَنَّ عِيسَى عَبْدُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ، وَأَنَّ الْجَنَّةَ حَقٌّ وَأَنَّ النَّارَ حَقٌّ، وَأَنَّ اللهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي ¬

_ (¬1) أخرجه أبو نعيم في صفة الجنة (185) وفي الحلية (8/ 280) من طريق مالك بن أنس عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جده عن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .. فذكره ولم يذكر أبو نعيم "عليًّا" في إسناد الحلية. قال أبو نعيم في الحلية: غريب من حديث سالم عن مالك -رضي الله تعالى عنه. (¬2) في الكبير (13/ 168) وفي الأوسط (160) من طريق ابن لهيعة عن أبي قبيل عن عبد الله بن عمرو بن العاص مرفوعًا. قال الهيثمي في المجمع (10/ 359) رواه الطبراني في الكبير والأوسط وفيه من وثق عَلَى ضعفه، وعبدوس بن محمد لم أعرفه. (¬3) برقم (234). (¬4) أخرجه البخاري (3435)، ومسلم (28).

الْقُبُورِ، فُتِحَتْ لَهُ ثَمَانِيَةُ أَبْوَابٍ مِنَ الْجَنَّةِ يَدْخُلُ مِنْ أَيُّهَا شَاء". وفي حديث عبد الرحمن بن سمرة عن النبي صلّى الله عليه وسلم في قصة منامه الطويل، وفيه قال: "ورأيت رجلاً من أمتي انتهى إِلَى أبواب الجنة، فأغلقت الأبواب دونه، فجاءته شهادة أن لا إله إلا الله، ففتحت له الأبواب، وأدخلته الجنة" (¬1). ومن فضائلها أن أهلها وإن دخلوا النار بتقصيرهم في حقوقها فإنهم لابد أن يخرجوا منها: وفي الصحيحين (¬2) عن أنس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: يقول الله: "وَعِزَّتِى وَجَلالِى وَكِبْرِيَائِى وَعَظَمَتِى، لأخْرِجَنَّ مِنْهَا مَنْ قَالَ -لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ". وخرَّج الطبراني (¬3) عن أنس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "أن أناسًا من أهل لا إله إلا الله يدخلون النار بذنوبهم، فيقول لهم أهل اللات والعزى: ما أغنى عنكم قول: لا إله إلا الله! فيغضب الله لهم فيخرجهم من النار، فيدخلون الجنة". ومن كان في سُخطه محسنًا فكيف يكون إذا ما رضي؟! لا يُسوي بين من وحَّده وإن قصر في حقوق توحيده وبين من أشرك به. قال بعض السَّلف: كان إبراهيم -عليه السلام- يقول: اللهم لا تشرك من ¬

_ (¬1) أخرجه الطبراني في الأحاديث الطوال بآخر المعجم الكبير برقم (39) من طريق سليمان بن أحمد الواسطي، ثنا مروان بن معاوية الفزاري، ثنا الوزير بن عبد الرحمن، عن علي بن زيد بن جدعان عن سعيد بن المسيب عن عبد الرحمن بن سمرة ... فذكره. قال الهيثمي في المجمع (7/ 180): رواه الطبراني بإسنادين في أحدهما: سليمان ابن أحمد الواسطي، وفي الآخر: خالد بن عبد الرحمن المخزومي، وكلاهما ضعيف. (¬2) أخرجه البخاري (7510)، ومسلم (193)، وقد سبق تخريجه في أول الرسالة. (¬3) في الأوسط برقم (7289). قال الهيثمي في المجمع (10/ 397)، رواه الطبراني في الأوسط وفيه من لم أعرفهم.

كان يشرك بك بمن كان لا يشرك بك. كان بعض السَّلف يقول في دعائه: اللهم إنك قلت عن أهل النار إنهم {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ} [النحل: 38]. ونحن نقسم بالله جهد أيماننا: ليبعثن الله من يموت، اللهم لا تجمع بين أهل القسمين في دار واحدة. كان أبو سليمان يقول: إن طالبني ببخلي طالبته بجوده، وإن طالبني بذنوبي طالبته بعفوه، وإن أدخلني النار أخبرت أهل النار أني كنت أحبه. ما أطيب وصله وما أعذبه ... وما أثقل هجره وما أصعبه في السخط وفي الرضا ما أهيبه ... القلب يُحبُّه وإن عذَّبه وكان بعض العارفين يبكي طول ليله، ويقول: إن تعذبني فإني لك محب، وإن ترحمني فإني لك محب. العارفون يخافون من الحجاب أكثر مما تخافون من العذاب. قال ذو النون: خوف النار عند خوف الفراق كقطرة في بحر لُجِّيٍّ. كان بعضهم يقول: إلهي وسيدي ومولاي! لو أنك عذبتني بعذابك كله كان ما فاتني من قربك أعظم عندي من العذاب. قيل لبعضهم: لو طردك ما كنت تفعل؟ فَقَالَ: أنا إن لم أجد من الحبِّ وَصْلا ... رُمْتُ في النار منزلا ومَقيلا ثم أزعجت أهلها بندائي ... بُكرةً في (عُرَاصها) (*) وأصيلا معشر المشركين نُوحوا عَلَى من ... يدَّعي أنَّه يُحبُّ الخليلا لم يكن في الَّذِي ادّعاه محقًّا ... فجزاه به العذاب الطَّويلا ... ¬

_ (*) عرصاتها: "نسخة".

الله الله أيها الناس تمسكوا بأصل دينكم

الله الله أيها الناس تمسكوا بأصل دينكم إخواني اجتهدوا اليوم في تحقيق التوحيد، فإنَّه لا يوصل إِلَى الله سواه، واحرصوا عَلَى القيام بحقوقه، فإنَّه لا ينجي من عذاب الله إلا إياه. مَا نطق الناطقون إِذْ نطقوا ... أحسن من لَا إِلَه إِلَّا هُوَ تبَارك الله ذُو الْجلَال وَمن ... أشهد أَن لَا إِلَه إِلَّا هُوَ من لِذُنُوبي وَمن يُمحّصها ... غَيْرك يَا من لَا إِلَه إِلَّا هُوَ جنانُ خلد لمن يُوَحدهُ ... أشهد أَن لَا إِلَه إِلَّا هُوَ نيرانه لَا تحرق من ... (يشْهد) (**) أَن لَا إِلَه إِلَّا هُوَ أقولُها مخلصًا بِلاَ بخل ... أشهد أَن لَا إِلَه إِلَّا هُوَ آخره والحمد لله وحده، وصلى الله عَلَى سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم. وحسبنا الله ونعم الوكيل، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. ... ¬

_ (**) حقق: "نسخة".

33 - نور الاقتباس في مشكاة وصية النبي - صلى الله عليه وسلم - لابن عباس

نور الاقتباس في مشكاة وصية النبي - صلى الله عليه وسلم - لابن عباس

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ رب يسر يا كريم الحمد لله رب العالمين حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وكما ينبغي لكرم وجهه وعز جلاله، وصلى الله عَلَى محمد النبي الأمي وآله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا. خرج الإمام أحمد (¬1) من حديث حَنَشٍ الصَّنْعَانِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ [رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ] (¬2). قَالَ: "كُنْتُ رَدِيفَ (النَّبِيِّ) (*) صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا غُلامُ -أَوْ يَا غُلَيِّمُ- أَلا أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ يَنْفَعُكَ اللهُ بِهِنَّ؟ فَقُلْتُ: بَلَى، فَقَالَ: احْفَظِ اللهَ يَحْفَظْكَ، احْفَظِ اللهَ تَجِدْهُ أَمَامَكَ، تَعَرَّفْ إِلَى اللهِ فِي الرَّخَاءِ يَعْرِفْكَ فِي الشِّدَّةِ، وَإِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ اللهَ، وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللهِ، قَدْ جَفَّ الْقَلَمُ بِمَا هُوَ كَائِنٌ، فَلَوْ أَنَّ الْخَلْقَ كُلَّهُمْ جَمِيعًا أَرَادُوا أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَكْتُبْهُ اللهُ [عَلَيْكَ] (**) لَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهِ، وَإِنْ أَرَادُوا أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَكْتُبْهُ اللهُ عَلَيْكَ لَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهِ، وَاعْلَمْ أنَّ فِي الصَّبْرِ عَلَى مَا تَكْرَهُ خَيْرًا كَثِيرًا، وَأَنَّ النَّصْرَ مَعَ الصَّبْرِ، وَأَنَّ الْفَرَجَ مَعَ الْكَرْبِ، وَأَنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا". هكذا ساقه من طريق حنش مع إسنادين آخرين منقطعين، وفي السياق أنَّه لا يحفظ حديث بعضهم من بعض. ¬

_ (¬1) (1/ 293). (¬2) ما بين المعقوفتين من المطبوعة. (*) رسول الله "نسخة". (**) ما بين المعقوفتين من المطبوعة بتحقيق النجار، وفي المسند: "لم يكتبه الله عليك".

وخرّجه أيضاً (¬1) من طريق حنش وحده مختصراً، ولفظه: "يَا غُلامُ، إِنِّي مُحَدِّثُكَ حَدِيثًا: احْفَظِ اللهَ يَحْفَظْكَ، احْفَظِ اللهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ، إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ اللهَ، وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللهِ، فَقَدْ رُفِعَتِ الأَقْلاَمُ وَجُفَّتِ الكُتُبِ، فَلَوْ جَاءَتِ الأُمَّةُ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَكْتُبْهُ اللهُ لَكَ لَمَا اسْتَطَاعَتْ، وَلَوْ أَرَادَتْ أنْ تَضُرَّكَ بِشَيءٍ لَمْ يَكْتُبُهُ اللهُ لَكَ لَمَا اسْتَطَاعَتْ عَلَيهِ، وَاعْلَمْ أَنَّ فِي الصَّبْرِ عَلَى مَا تَكْرَهُ خَيْرًا كَثِيرًا، وَأَنَّ النَّصْرَ مَعَ الصَّبْرِ، وَأَنَّ الْفَرَجَ مَعَ الْكَرْبِ، وَأَنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا". هكذا ساقه من طريق [حنش] (¬2)، وخرّجه الترمذي (¬3) بنحو هذا السياق المختصر ولفظه: «إِنِّي أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ: احْفَظِ اللَّهَ يَحْفَظْكَ، احْفَظِ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ، إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ اللَّهَ، وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الأُمَّةَ لَوْ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ، وَإِنْ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ، رُفِعَتِ الأَقْلَامُ وَجَفَّتْ الصُّحُفُ». وقال: حديث حسن صحيح. وقال الحافظ أبو عبد الله بن منده: لهذا الحديث طرق عن ابن عباس وهذا أصحها. قال: وهذا إسناد مشهور ورواته ثقات. قلت: قد رُوي هذا الحديث عن ابن عباس من رواية جماعة؛ عنه فمنهم: علي ابنه، وعطاء، وعكرمة. ومن رواية عمر (¬4) مولى غفرة، وعبد الملك بن ¬

_ (¬1) (1/ 307). (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من الناسخ والسياق يقتضيه، وانظر بداية العزو. (¬3) برقم (2516). (¬4) أخرجها العقيلي (3/ 178)، والطبراني (11/ 11560) ونقل العقيلي قول ابن يونس قلت لعمر مولى غفرة: سمعت من ابن عباس؟ قال: أدركت زمانه. قال العقيلي: وهذا المتن يروى عن ابن عباس وغيره عن النبي صلّى الله عليه وسلم بأسانيد لينة.

عمير (¬1)، وابن أبي مليكة عن ابن عباس (¬2). وقيل أنهما لم يسمعا منه، وفي أسانيدها جميعها مقال، وفي ألفاظها بعض الزيادة والنقص. ورُوي عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنَّه وصى بذلك ابن عباس من حديث علي بن أبي طالب، وأبي سعيد الخدري (¬3)، وسهل بن سعد، وغيرهم من الصحابة، وفي أسانيدها أيضًا مقال. وذكر العقيلي (¬4) أن أسانيد الحديث كلها لينة، وبعضها أصلح من بعض. قلت: وأجود أسانيده من رواية حنش عن ابن عباس التي ذكرناها، وهو إسناد حسن لا بأس به. وقد استوفينا ذكر طرق الحديث مع الكلام عليها في كتاب "شرح الترمذي". ومقصودنا ها هنا الكلام عَلَى معنى الحديث وشرح ألفاظه، فإنَّه تضمن وصايا عظيمة وقواعد كلية من أهم أمور الدين وأجلها، حتى قال الإمام أبو الفرج [ابن الجوزي] (*) في كتابه "صيد الخاطر": تدبرت هذا الحديث فأدهشني وكدت أطيش. ثم قال: واأسفًا من الجهل بهذا الحديث، وقلة الفهم لمعناه. ... ¬

_ (¬1) أخرجه الحاكم (3/ 541). (¬2) أخرجه العقيلي (3/ 397 - 398) وقال: الأسانيد في هذا لينة. (¬3) أخرجه ابن عدي في الكامل (7/ 227) في ترجمة يحيى بن ميمون بن عطاء أبي أيوب التمار، والخطيب في تاريخ بغداد (14/ 124) ونقل ابن عدي عن عمرو بن علي الفلاس أنَّه قال عن يحيى بن ميمون: كنت عنده وكان كذابًا يحدث عن علي بن زيد بأحاديث موضوعة ... ومنها حديث أبي نضرة عن أبي سعيد أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال لابن عباس: ..... الحديث. (*) ما بين المعقوفتين من المطبوعة. (¬4) في "الضعفاء الكبير" (3/ 54).

فقوله - صلى الله عليه وسلم -: "احفظ الله يحفظك"

فقوله - صلى الله عليه وسلم -: "احفظ الله يحفظك" يعني: احفظ حدود الله وحقوقه وأوامره ونواهيه وحفظ ذلك هو الوقوف عند أوامره بالامتثال، وعند نواهيه بالاجتناب، وعند حدوده فلا تتجاوز ولا تتعدى ما أمر به إِلَى ما نهى عنه. فدخل في ذلك فعل الواجبات جميعًا وترك المحرمًات كلها، كما في حديث أبي ثعلبة المرفوع: «إِنَّ اللَّهَ فَرَضَ فَرَائِضَ فَلَا تُضَيِّعُوها، وَحَرَّمَ حُرُمَاتٍ فَلَا تَنْتَهِكُوهَا، وَحَدَّ حُدُودًا فَلَا تَعْتَدُوهَا» (¬1). ¬

_ (¬1) أخرجه الطبراني في الكبير (22/ 589)، والدارقطني في سننه (4/ 184) من طريق داود بن أبي هند عن مكحول عن أبي ثعلبة الخشني. وأخرجه الييهقي في "السنن الكبير" (10/ 12) موقوفًا عَلَى أبي ثعلبة الخشني من نفس الطريق المرفوع. قال البيهقي: هذا موقوف، وأنبأنيه شيخنا أبو عبد الله الحافظ في "المستدرك" فيما لم يقرأ عليه إجازة حدثني علي بن عيسى ثنا محمد بن عمرو الحرشي ثنا علي بن مسهر عن داود بن أبي هند ... فذكر نفس الإسناد. وسئل الدارقطني في العلل (6/ 324) برقم (1170) عن هذا الحديث فَقَالَ: يرويه مكحول واختلف عنه، فرواه داود بن أبي هند عن مكحول، واختلف عنه، فرواه إسحاق الأزرق عن داود بن أبي هند عن مكحول عن أبى ثعلبة مرفوعًا. وتابعه محمد بن فضيل عن داود. ورواه حفص بن غياث ويزيد بن هارون عن داود فوقفاه. وقال قحذم: سمعت مكحولا يقول: لم يتجاوز به. والأشبه بالصواب مرفوعًا وهو أشهر. قال ابن رجب في جامع العلوم والحكم (1/ 240): وله علتان: إحداهما أن مكحولاً لم يصح له السماع عن أبي ثعلبة، كذلك قال أبو مسهر الدمشقي وأبو نعيم وغيرهم.=

وذلك كله يدخل في حفظ حدود الله، كما ذكره الله في قوله: {وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ ... } [التوبة: 112]. وقال تعالى: {هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ * مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ} [ق: 32، 33]. وفسر الحفيظ ها هنا بالحافظ لأوامر الله، وفسر بالحافظ لذنوبه حتى يرجع منها، وكلاهما يدخل في الآية. ومن حفظ وصية الله لعباده وامتثلها فهو داخل أيضاً، والكل يرجع إِلَى معنى واحد. وقد ورد في بعض ألفاظ حديث يوم المزيد في الجنة: "إن الله تعالى يقول لأهل الجنة، إذا استدعاهم إِلَى زيارته وكشف لهم الحجب: مرْحَبًا بعبادي الَّذين حفظوا وصيتي، وراعوا عهدي، وخافوني بِالْغَيْبِ، وَكَانُوا مني على كل حَال مشفقين" (¬1). ¬

_ =والثانية: أنَّه اختلف في رفعه ووقفه عَلَى أبي ثعلبة، ورواه بعضهم عن مكحول من قوله، لكن قال الدارقطني: الأشبه بالصواب المرفوع، قال: وهو أشهر" اهـ. قلت: وله شاهد من حديث أبي الدرداء مرفوعًا أخرجه ابن عدي في الكامل (1/ 404)، والطبراني في الصغير (2/ 122 - 123). قال الطبراني: لم يروه عن قرة إلا أصرم بن حوشب. وقال ابن عدي بعد أن نقل قول يحيى بن سعيد القطان في أصرم بن حوشب: أنَّه كذاب خبيث، وقول البخاري: متروك الحديث. قال ابن عدي: وهذه الأحاديث بواطيل عن قرة بن خالد كلها، لا يحدث بها عنه غير أصرم هذا. (¬1) أخرجه ابن أبي الدُّنْيَا في صفة الجنة (53)، وأبو نعيم في "صفة الجنة" (411) وعزاه لهما المنذري في الترغيب والترهيب (4/ 307) فَقَالَ: رواه ابن أبي الدُّنْيَا وأبو نعيم هكذا معضلا، ورفعه منكر، والله أعلم. وقال الحافظ ابن كثير في "النهاية" (2/ 520): وهذا مرسل ضعيف غريب، وأحسن أحواله أن يكون من كلام بعض السَّلف فوهم بعض رواته، فجعله مرفوعًا وليس كذلك، والله أعلم.

فأمره - صلى الله عليه وسلم - لابن عباس بحفظ الله يدخل فيه هذا كله. ومن أعظم ما يجب حفظه من المأمورات الصلوات الخمس، قال تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى} [البقرة: 238] وقال: {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} [المعارج: 34]. وقال النبي صلّى الله عليه وسلم: "من حافظ عليها كان له عند الله عهدًا أن يدخله الجنة ... " (¬1) الحديث. وفي حديث آخر: " «مَنْ حَافَظَ عَلَيْهِنَّ كُنَّ لَهُ نُورًا وَبُرْهَانًا وَنَجَاةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ» (¬2). الحديث. وكذلك الطهارة فإنها مفتاح الصلاة، وقال النبي صلّى الله عليه وسلم: "لا يحافظ عَلَى الوضوء إلا مؤمن" (¬3). فإن العبد تنتقض طهارته ولا يعلم بذلك إلا الله، فالمحافظة عَلَى الوضوء للصلاة دليل عَلَى ثبوت الإيمان في القلب. ومما أمر الله بحفظه الأيمان لمَّا ذكر كفارة اليمين قال: {ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ} [المائدة: 89] فإن الأيمان كثيرًا ما تقع من الناس وموجباتها مختلفة، فتارة يجب بها كفارة يمين وتارة يجب بها كفارة مغلظة، وتارة يلزم بها المحلوف عليه من طلاق ونحوه. فمن حفظ أيمانه دل عَلَى دخول الإيمان في قلبه. وكان السَّلف كثيرًا يحافظون عَلَى الأيمان، فمنهم من كان لا يحلف بالله ألبتة، ومنهم من كان يتورع حتى يكفر عما شك في الحنث فيه. ووصى الإمام ¬

_ (¬1) أخرجه مالك في الموطأ (1/ 123) (14)، وأحمد (5/ 319). (¬2) أخرجه أحمد (2/ 169)، والطبراني في "الأوسط" (1767). (¬3) أخرجه أحمد (5/ 280)، والدارمي (1/ 168) والطبراني في الكبير (2/ 1444).

أحمد -رحمه الله- عند موته أن تخرج عنه كفارة يمين. وقال: أظن أني حنثت في يمين حلفتها. وقد رُوي عن أيوب -عليه السلام- أنَّه كان إذا مر باثنين يحلفان بالله ذهب فكفر عنهما بيمين، لئلا يأثمان وهما لا يشعران. ولهذا لما حلف عَلَى ضرب امرأته مائة جلدة، أفتاه الله بالرخصة لحفظه لأيمانه وأيمان غيره. وقد اختلف العُلَمَاء، هل تتعدى الرخصة لحلفه أم لا؟ وقال يزيد بن أبي حبيب: بلغني أن من حملة العرش من يسيل من عينيه أمثال الأنهار من البكاء، فإذا رفع رأسه قال: سبحانك، ما (تخشى) (*) حق خشيتك؟ فيقول الله تعالى: لكن الذين يحلفون باسمي كاذبين لا يعلمون ذلك. وقد ورد التشديد العظيم في الحلف الكاذب، ولا يصدر كثرة الحلف بالله والحلف به كاذبًا من الجهل بالله وقلة هيبته في الصدور. ومما يلزم المؤمن حفظه رأسه وبطنه، كما في حديث ابن مسعود المرفوع: "الِاسْتِحْيَاءَ مِنَ اللَّهِ حَقَّ الحَيَاءِ أَنْ تَحْفَظَ الرَّأْسَ وَمَا وَعَى، وَيَحْفَظِ البَطْنَ وَمَا حَوَى" خرجه الإمام أحمد (¬1) والترمذي (¬2). وحفظ الرأس وما وعى، يدخل فيه السمع والبصر واللسان من المحرمات. وحفظ البطن وما حوى: يتضمن حفظ القلب عن الإصرار عَلَى محرم. وقد جُمع -ذلك كله في قوله تعالى: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء: 36]. ويدخل في حفظ البطن وما حوى: حفظه من إدخال الحرام. إِلَيْهِ من ¬

_ (*) نخشى: "نسخة". (¬1) (1/ 387). (¬2) برقم (2458) وقال: هذا حديث إِنَّمَا نعرفه من هذا الوجه من حديث أبان بن إسحاق عن الصباح بن محمد.

المأكولات والمشروبات. ومما يجب حفظه من المنهيات: حفظ اللسان والفرج. وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلم: "من حفظ ما بين لحييه وما بين رجليه دخل الجنة" خرجه الحاكم (¬1). وخرّجه البخاري (¬2) من حديث سهل بن سعد عن النبي صلّى الله عليه وسلم ولفظه: "من يضمن لي ما بين لحييه ورجليه، أضمن له الجنة". وفي مسند الإمام أحمد (¬3) عن أبي موسى، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من حفظ ما بين فقميه (¬4) وفرجه دخل الجنة". وقد أمر الله بحفظ الفروح خاصة ومدح الحافظين لها، قال تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ... } [النور: 30]. وقال تعالى: {وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ} [الأحزاب: 35]. وقال: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ ... } [المؤمنون: 5، 6]. وقد رُوي عن أبي إدريس الخولاني أن أول ما وصى الله آدم عند إهباطه إِلَى الأرض بحفظ فرجه، أن لا يضعه إلا في حلال. ... ¬

_ (¬1) في "المستدرك" (4/ 357). (¬2) برقم (6474). (¬3) (4/ 398). (¬4) الفُقْم: بالضم والفتح، اللَّحِي، يريد من حفظ لسانه وفرجه. النهاية مادة "فقم".

قوله: "يحفظك"

قوله: "يحفظك" يعني أن من حفظ حدود الله وراعى حقوقه، حفظه، فإن الجزاء من جنس العمل، كما قال تعالى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ} [البقرة: 40]. وقال: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} [البقرة: 152]. وقال: {إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ} [محمد: 7]. وحفظ الله -تعالى- لعبده وماله. وفي حديث ابن عمر قال: لم يكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدع هؤلاء الدعوات حين يمسي وحين يصبح: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْعَافِيَةَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْعَفْوَ وَالْعَافِيَةَ فِي دِينِي وَدُنْيَايَ وَأَهْلِي وَمَالِي، اللَّهُمَّ اسْتُرْ عَوْرَتِي وَآمِنْ رَوْعَاتِي وَاحْفَظْنِي مِنْ بَيْنِ يَدَيَّ وَمِنْ خَلْفِي، وَعَنْ يَمِينِي وَعَنْ شِمَالِي وَمِنْ فَوْقِي، وَأَعُوذُ بِعَظَمَتِكَ أَنْ أُغْتَالَ مِنْ تَحْتِي». خرجه الإمام أحمد (¬1) وأبو داود (¬2) والنسائي (¬3) وابن ماجه (¬4). وهذا الدعاء منتزع من قوله -عز وجل-: {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ} الآية [الرعد: 11]. قال ابن عباس: هم الملائكة يحفظونه بأمر الله، فإذا جاء القدر خلوا عنه (¬5). ¬

_ (¬1) (2/ 25). (¬2) (5074). (¬3) (8/ 282). (¬4) برقم (3871). (¬5) أخرج ابن جرير في تفسيره (13/ 117) شطره الأول.

وقال علي رضي الله عنه: إن مع كل رجل ملكين يحفظانه مما لم يُقَدَّرْ، فإذا جاء القَدَرُ خليا بينه وبينه، وإن الأجل جنة حصينة (¬1). وقال مجاهد: ما من عبد إلا له ملك يحفظه في نومه ويقظته من الجن والإنس والهوام، فما من شيء يأتيه إلا قال: وراءك، إلا شيئًا قد أذن الله فيه فيصيبه. ومن حفظ الله للعبد: أن يحفظه في صحة بدنه وقوته وعقله وماله. قال بعض السَّلف: العالم لا يحزن، وقال بعضهم: من جمع القرآن متع بعقله. وتأول ذلك بعضهم عَلَى قوله تعالى: {ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ} [التين: 5] وهو أرذل العمر {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [التين: 6]. وكان أبو الطيب الطبري قد جاوز المائة سنة وهر ممتع بعقله وقوته، فوثب يومًا من سفينة كان فيها إِلَى الأرض وثبة شديدة. فعوتب عَلَى ذلك، فَقَالَ: هذه جوارح حفظناها عن المعاصي في الصغر، فحفظها الله علينا في الكبر. وعكس هذا أن الجنيد رأى شيخًا يسأل الناس، فَقَالَ: إن هذا ضيع الله في صغره، فضيعه الله في كبره. وقد يحفظ الله العبد بصلاحه في ولده وولد ولده، كما قيل في قوله تعالى: {وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا} [الكهف: 82]: إنهما حفظا بصلاح أبيهما. وقال محمد بن المنكدر: إن الله ليحفظ بالرجل الصالح ولده وولد ولده وقريته التي هو فيها، والدويرات التي حولها، فما يزالون في حفظ من الله وستره. وقال ابن المسيب لابنه: يا بني (لأزيدن) (*) في صلاتي من أجلك، رجاء ¬

_ (¬1) أخرجه ابن سعد في "الطبقات الكبرى" (3/ 34 - طبعة دار صادر)، والطبري في تفسيره (13/ 119). (*) في "المطبوع": إني لأزيد.

أن أحفظ فيك. وتلا هذه الآية: {وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا} [الكهف: 82]. وقال عمر بن عبد العزيز: ما من مؤمن يموت إلا حفظه الله في عقبه وعقب عقبه. وقال يحيى بن إسماعيل بن سلمة بن كُهيل: كان لي أخت أسنَّ مني فاختلطت وذهب عقلها وتوحشت، وكانت في غرفة في أقصى سطوحنا، فمكثت بذلك بضع عشرة سنة، فبينما أنا نائم ذات ليلة إذا باب يدق نصف الليل، فقلت: من هذا؟ قالت: كجه، فقلت: أختي؟! قالت: أختك، ففتحت الباب فدخلت ولا عهد لها بالبيت أكثر من عشر سنين. فقالت: أتيت الليلة في منامي فقيل لي: إن الله قد حفظ أباك إسماعيل لسلمة جدك، وحفظك لأبيك إسماعيل؛ فإن شئت دعوت الله فذهب ما بك، وإن شئت صبرت ولك الجنة؛ فإن أبا بكر وعمر قد شفعا فيك إِلَى الله عز وجل بحب أبيك وجدك إياهما، فقلت: فإذا كان لابد من اختيار أحدهما فالصبر عَلَى ما أنا فيه والجنة، وإن الله عز وجل لواسع بخلقه لا يتعاظمه شيء، إن شاء أن يجمعهما لي فعل. قالت: فقيل لي: فإن الله قد جمعهما لك ورضي عن أبيك وجدك بحبهما أبا بكر وعمر رضي الله عنهما، قومي فانزلي، فأذهب الله تعالى ما كان بها. ومتى كان العبد مشتغلاً بطاعة الله فإن الله عز وجل يحفظه في تلك الحال، كما في مسند الإمام أحمد (¬1) عن حميد بن هلال عن رجل قال: "أتيت النبي صلّى الله عليه وسلم فإذا هو يريني بيتًا فَقَالَ: إِنَّ امْرَأَةً كَانَتْ فِيهِ فَخَرَجَتْ فِي سَرِيَّةٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَتَرَكَتْ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ عَنْزًا وَصِيصِيَتَهَا (¬2)، كَانَتْ تَنْسِجُ بِهَا قَالَ: فَفَقَدَتْ عَنْزًا، مِنْ غَنَمِهَا وَصِيصِيَتَهَا فَقَالَتْ: يَا رَبِّ، إِنَّكَ قَدْ ضَمِنْتَ لِمَنْ خَرَجَ فِي سَبِيلِكَ أَنْ تَحْفَظَ عَلَيْهِ، وَإِنِّي قَدْ فَقَدْتُ عَنْزًا مِنْ غَنَمِي ¬

_ (¬1) (5/ 67). قال الهيثمي في المجمع (5/ 277): ورجاله رجال الصحيح. (¬2) الصِّيصيَّة: هي الصِّنارة التي يغزل بها وينسج.

وَصِيصِيَتِي، وَإِنِّي أَنْشُدُكَ عَنْزِي وَصِيصِيَتِي. قَالَ: فَجَعَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَذْكُرُ شِدَّةَ مُنَاشَدَتِهَا رَبِّهَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى، قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَأَصْبَحَتْ عَنْزُهَا وَمِثْلُهَا وَصِيصِيَتُهَا وَمِثْلُهَا، وَهَاتِيكَ [فَأْتِهَا]. قَالَ: قُلْتُ: بَلْ أُصَدِّقُكَ". وكان شيبان الراعي يرعى غنمًا في البرية، فإذا جاءت الجمعة خط عليها خطًّا وذهب إِلَى الجمعة ثم يرجع وهي كلما تركها. وكان بعض السَّلف في يده الميزان يزن بها دراهم، فسمع الأذان فنهض ونفضها عَلَى الأرض وذهب إِلَى الصلاة، فلما عاد جمعها فلم يذهب منها شيء. ومن أنواع حفظ الله لمن حفظه في دنياه: أن يحفظه من شر كل من يريده بأذى من الجن والإنس. كما قال تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} [الطلاق: 2] قالت عائشة رضي الله عنها: يكفيه غم الدُّنْيَا وهمها. وقال الربيع بن خثيم. يجعل له مخرجًا من كل ما ضاق عَلَى الناس. وكتبت عائشة إِلَى معاوية: إن اتقيت الله كفاك الناس، وإن اتقيت الناس لم يغنوا عنك من الله شيئًا (¬1). وكتب بعض الخلفاء إِلَى الحكم بن عمرو الغفاري كتابًا يأمره فيه بأمر يخالف كتاب الله، فكتب إِلَيْهِ الحكم: إني نظرت في كتاب الله فوجدته قَبلَ كتاب أمير المؤمنين، وإن السماوات والأرض لو كانتا رتقًا عَلَى امرئ فاتقى الله عز وجل، جعل الله له مخرجًا، والسلام. قال بعضهم شعرًا: بتقوى الإلهِ نجا من نجَا. . . وفازَ وصارَ إلى مَا رَجَا ومن يتقِّ اللَّهِ يجعلْ له. . . كما قالَ من أمره مَخْرَجَا ¬

_ (¬1) أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (7/ 244) برقم (35717)، والبيهقي في "الزهد الكبير" (885).

ويرزقه من حيث لا يحتسب. .. وإن ضاق أمرًا به فرجًا كتب بعض السَّلف إِلَى أخيه: أما بعد: فإنه من اتقى الله فقد حفظ نفسه، ومن ضيع تقواه فقد ضيع نفسه، والله الغني عنه. ومن عجيب حفظ الله تعالى لمن حفظه: أن يجعل الحيوانات المؤذية بالطبع حافظة له من الأذى وساعية في مصالحه، كما جرى لسفينة (¬1) مولى النبي صلّى الله عليه وسلم حيث كسر به المركب وخرج إِلَى جزيرة فرأى السبع، فَقَالَ له: يا أبا الحارث، أنا سفينة مولى النبي - صلى الله عليه وسلم - فجعل يمشي حوله ويدله عَلَى الطريق حتى أوقفه عليها، ثم جعل يُهَمْهِمُ كأنه يودعه وانصرف عنه. وكان أبو إبراهيم السائح قد مرض في برية بقرب دير، فَقَالَ: لو كنت عند باب الدير لنزل الرهبان فعالجوني، فجاء السبع فاحتمله عَلَى ظهره حتى وضعه عَلَى باب الدير فرآه الرهبان فأسلموا وكانوا أربعمائة. وكان إبراهيم بن أدهم نائمًا في بستان وعنده حية في فمها طاقة نرجس، فما زالت تذب عنه حتى استيقظ. فمن حفظ الله حفظه من الحيوانات المؤذية بالطبع، وجعل تلك الحيوانات حافظة له. ومن ضيع الله ضيعه الله بين خلقه، حتى يدخل عليه الضرر بشيء ممن كان يرجو أن ينفعه، ويصير أخص أهله به وأرفقهم به يؤذيه. كما قال بعضهم: إني لأعصى الله فأعرف ذلك في خلق خادمي وحماري. يعني: أن خادمه يسوء خلقه عليه ولا يطيعه، وحماره يستعصي عليه فلا يواتيه لركربه. فالخير كله مجموع في طاعة الله والإقبال عليه، والشر كله مجموع في معصيته والإعراض عنه. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو نعيم في حلية الأولياء: (1/ 369).

قال بعض العارفين: من فارق سُدَّة سيده لم يجد لقدميه قرارًا أبدًا. وقال بعضهم شعرًا: والله ما جئتكم زائرًا ... إلا وجدت الأرض تطوى لي ولا ثنيت العزم عن بابكم ... إلا تعثرت بأذيالي بالله فاعفوا واصفحوا واجبروا ... كسري فحالي بكم حالي النوع الثاني من الحفظ: وهو أشرفها وأفضلها، حفظ الله تعالى لعبده في دينه، فيحفظ عليه دينه وإيمانه في حياته من الشبهات المردية والبدع المضلة، والشهوات المحرمة، ويحفظ عليه دينه عند موته، فيتوفاه عَلَى الإسلام. قال الحكم بن أبان عن أبي مكي: إذا حضر الرجل الموت يقال للملك: شم رأسه، قال: أجد في رأسه القرآن. قال: شم قلبه. قال: أجد في قلبه الصيام، قال: شم قدميه. قال: أجد في قدميه القيام. قال: حفظ نفسه فحفظه الله عز وجل. خرجه ابن أبي الدُّنْيَا. وقد ثبت في "الصحيحين" (¬1) في حديث البراء بن عازب أن النبي صلّى الله عليه وسلم علَّمه أن يقول عند منامه: "اللهم إن قبضت نفسي فارحمها وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين". وفي حديث عمر عن النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "أَنَّهُ عَلَّمَهُ أَنْ يَقُولَ: اللَّهُمَّ احْفَظْنِي بِالْإِسْلَامِ قَائِمًا، وَاحْفَظْنِي بِالْإِسْلَامِ قَاعِدًا، وَاحْفَظْنِي بِالْإِسْلَامِ رَاقِدًا، فَلاَ تُطِعْ فِيَّ ¬

_ (¬1) هذا الحديث ليس في الصحيحين من حديث البراء بهذا اللفظ، وإنَّما هو من حديث أبي هريرة أخرجه البخاري (6330)، ومسلم (2714). وأما حديث البراء فبلفظ: إذا أتيت مضجعك فتوضأ وضوءك للصلاة، ثم اضطجع عَلَى شقك الأيمن وقل: اللهم أسلمت وجهي إليك ... الحديث. أخرجه البخاري (6311)، ومسلم (270).

عدوًا ولا حاسدًا، خرجه ابن حبان في "صحيحه" (¬1). وكان النبي صلّى الله عليه وسلم إذا وَدَّعَ من يريد السفر يقول له. "أستودع الله دينك وأمانتك وخواتيم عملك" (¬2). وفي رواية، وكان يقول: "إن الله إذا استودع شيئًا حفظه" خرجه النسائي (¬3) وغيره (¬4). وخرج الطبراني (¬5) حديثًا مرفوعًا: "إن العبد إذا صلّى الصلاة عَلَى وجهها صعدت إِلَى الله ولها برهان كبرهان الشمس وتقول لصاحبها: حفظك الله كما حفظتني، وإذا ضيَّعها لفت كما يلف الثوبُ الخَلِقُ ثم يضرب بها وجه صاحبها وتقول: ضيعك الله كما ضيعتني". وكان عمر رضي الله عنه يقول في خطبته: اللهم اعصمنا بحفظك وثبتنا عَلَى ¬

_ (¬1) برقم (2230). وفي إسناده انقطاع بين هاشم بن عبد الله بن الزبير وعمر. (¬2) أخرجه أحمد (2/ 7)، والترمذي (3442، 3443)، والنسائي في "عمل اليوم والليلة" (524)، وابن خزيمة في "صحيحه" (2531)، والحاكم (1/ 610، 2/ 106) من حديث ابن عمر. قال الترمذي: هذا حديث غريب من هذا الوجه، وقال في الموضع الثاني: هذا حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه من حديث سالم. وقال الحاكم: هذا حديث صحيح عَلَى شرط الشيخين ولم يخرجاه، وقال في الموضع الثاني: وله شاهد عن أنس بن مالك وعبد الله بن يزيد الأنصاري، ثم ساق الحديثين بإسناده إليهما. (¬3) في عمل اليوم والليلة (509). (¬4) وأخرجه ابن حبان (2376 - موارد)، والبيهقي في "السنن الكبير" (9/ 173). (¬5) في الأوسط (3095) عن أنس بنحوه، وفي مسند الشاميين (427) عن عبادة بن الصامت بنحوه. قال الهيثمي في المجمع (1/ 302) عن حديث أنس: رواه الطبراني في الأوسط وفيه عباد بن كثير وقد أجمعوا عَلَى ضعفه. وقال (2/ 122) عن حديث عبادة: رواه الطبراني في الكبير والبزار بنحوه، وفيه الأحوص بن حكيم وثقه ابن المديني والعجلي، وضعفه جماعة، وبقية رجاله موثقون.

أمرك. ودعا رجل لبعض السَّلف بأن يحفظه الله فَقَالَ: يا أخي، لا تسأل عن حفظه، ولكن قل يحفظ الإيمان. يعني: أن المهم هو الدعاء بحفظ الدين، فإن الحفظ الدنيوي قد يشترك فيه البر والفاجر، فالله يحفظ عَلَى المؤمن دينه ويحول بينه وبين ما يفسده عليه بأسباب قد لا يشعر العبد ببعضها وقد يكون يكرهه. وهذا كما حفظ يوسف -عليه السلام- قال: {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} [يوسف: 24] فمن أخلص لله خلصه الله من السوء والفحشاء وعصمه منها من حيث لا يشعر، وحال بينه وبين أسباب المعاصي المهلكة. كما رأى معروف الكرخي شبابًا يتهافتون في الخروج إِلَى القتال في فتنة، فَقَالَ: اللهم احفظهم، فقِيلَ لَهُ: تدعو لهؤلاء؟ فَقَالَ: إن حفظهم لم يخرجوا إِلَى القتال. وسمع عمر -رضي الله عنه- رجلاً يقول: اللهم إنك تحول بين المرء وقلبه، فَحُلْ بيني وبين معاصيك. فأعجب ذلك عمر ودعا له بخير (¬1). ورُوي عن ابن عباس في قوله تعالى: {يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ} [الأنفال: 24]، قال: يحول بين المؤمن وبين المعصية التي تجره إِلَى النار (¬2). حج بعضُ المتقدمين فبات بمكة مع قوم فهمَّ بمعصية، فسمع هاتفًا يهتف يقول: ويلك، ألم تحج؟ فعصمه الله مما هم به. ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد في "الزهد" ص 142 - الريان. (¬2) أخرجه الطبري في تفسيره (9/ 143) بإسناد مسلسل بالضعفاء، وسبق أن نقلت كلام الشيخ شاكر -رحمه الله- في التعليق عَلَى إسناد العوفيين هذا في تخريجي لـ "اعتقاد الإمام أحمد بن حنبل" للتميمي ص 43 - 45 طبعة دار بلنسية بالرياض فانظره فإنَّه نفيس.

وخرج بعضهم مع رفقة إِلَى معصية، فلما همَّ بمواقعتها هتف به هاتف: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} [المدثر: 38] فتركها. ودخل رجل غيضة ذات شجر فَقَالَ: لو خلوت ها هنا بمعصية من كان يراني؟ فسمع صوتًا ملأ ما بين حافتي الغيضة: {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك: 14]. وهمَّ رجل بمعصية فخرج إليها فمرَّ في طريقه بقاصٍّ يقص عَلَى الناس، فوقف عَلَى حلقته فسمعه يقول: أيها الهامُّ بالمعصية، أما علمت أن خالق الهمة مطلع عَلَى همَّتك؟ فوقع مغشيًا عليه فما أفاق إلا من توبة. كان بعض الملوك الصالحين قد تعلق قلبه بمملوك له جميل فخشي عَلَى نفسه؛ فقام ليلة واستغاث الله، فمرض المملوك من ليلته ومات بعد ثلاث. ومنهم من عُصِمَ بموعظة جرت عَلَى لسان من أراد منه الموافقة عَلَى المعصية، كما جرى لأحد الثلاثة الذين دخلوا الغار وانطبقت عليهم الصخرة، فإنَّه لما جلس من تلك المرأة مجلس الرجل من امرأته، قالت له: يا عبد الله. اتق الله ولا تفض الخاتم إلا بحقه فقام عنها (¬1). وكذلك الكفل من بني إسرائيل، كان لا يتورع عن معصية، فأعجبته امرأة فأعطاها ستين دينارًا، فلما قعد منها مقعد الرجل من امرأته ارتعدت، فَقَالَ: أكرهتك؟ قالت: لا، ولكن عمل ما عملته قط، وإنَّما حملني عليه الحاجة. فَقَالَ: تخافين الله ولا أخافه! ثم قام عنها ووهب لها الدنانير وقال: والله لا يعصي الله الكفلُ أبدًا. ومات من ليلته فأصجع مكتوبًا عَلَى بابه، قد غفر الله للكفل. خرج الإمام أحمد (¬2) والترمذي (¬3) حديثه هذا من حديث ابن عمر مرفوعًا. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (2272)، ومسلم (2743). (¬2) (2/ 23). (¬3) برقم (2496) وقال: "هذا حديث حسن قد رواه شيبان وغير واحد عن الأعمش=

وراود رجل امرأة عن نفسها وأمرها بغلق الأبواب ففعلت، وقالت له: قد بقي باب واحد، قال: وأي باب هو؟ قالت: الباب الَّذِي بيننا وبين الله -عز وجل- فلم (يعرض) (*) لها. وراود رجل أعرابية، قال لها: ما يرانا إلا الكواكب، قالت: فأين مكوكبها؟! وهذا كله من ألطاف الله وحيلولته بين العبد ومعصيته. قال الحسن -وذكر أهل المعاصي-: هانوا عليه فعصوه، ولو عزوا عليه لعصمهم. وقال بشر: ما أصر عَلَى معصية الله كريم، ولا آثر الدُّنْيَا عَلَى الآخرة حكيم. ومن أنواع حفظ الله لعبده في دينه: أن العبد قد يسعى في سبب من أسباب الدُّنْيَا، إما الولايات أو التجارات أو غير ذلك، فيحول الله بينه وبين ما أراده لما يعلم له من الخيرة في ذلك وهو لا يشعر مع كراهته لذلك. قال ابن مسعود: إن العبد ليهم بالأمر من التجاوة والإمارة حتى ييسر له، فينظر الله إليه فيقول للملائكة: اصرفوه عنه، فإني إن يسَّرته له أدخلته النار. فيصرفه الله عنه، فيظل يتطير، يقول: سبقني فلان، دهاني فلان، وما هو إلا فضل الله عز وجل. ¬

_ = نحو هذا ورفعوه، وروى بعضهم عن الأعمش فلم يرفعوه، وروى أبو بكر بن عياش هذا الحديث عن الأعمش فأخطأ فيه، وقال عن عبد الله بن عبد الله عن سعيد ابن جبير عن ابن عمرو، وهو غير محفوظ، وعبد الله بن عبد الله الرازي هو كوفي .. " الخ. وقال الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية (1/ 226): رواه الترمذي من حديث الأعمش به وقال: حسن، وذكر أن بعضهم رواه فوقفه عَلَى ابن عمر، فهو حديث غريب جدًا، وفي إسناده نظر، فإن سعدًا هذا قال أبو حاتم: لا أعرفه إلا بحديث واحد، ووثقه ابن حبان، ولم يرو عنه سوى عبد الله الرازي هذا فالله أعلم. (*) يتعرض: "نسخة".

وأعجب من هذا أن العبد قد يطلب بابًا من أبواب الطاعات، ولا يكون فيه خيرة، فيحول الله بينه وبينه صيانة له وهو لا يشعر. وخرج الطبراني (¬1) وغيره (¬2) حديث أنس مرفوعًا. "يقول الله عز وجل إِنَّ مِنْ عِبَادِي مَنْ لَا يُصْلِحُ إِيمَانَهُ إِلَّا الْفَقْرُ، وَإِنْ بَسَطْتُ عَلَيْهِ أَفْسَدَهُ ذَلِكَ, وَإِنَّ ¬

_ (¬1) كما في جامع العلوم والحكم للمصنف (1/ 359 - دار المعرفة) قال ابن رجب خرجه الطبراني وغيره من حديث الحسن بن يحيى الخشني عن هشام الكناني عن أنس عن النبي صلّى الله عليه وسلم عن جبريل عن ربه تعالى قال: "من أهان لي وليًّا.- فذكره. قال ابن رجب: والخشني وصدقة ضعيفان، وهشام لا يعرف، وسئل ابن معين عن هشام هذا من هو؟ قال لا أحد، يعني لا يعتبر به، وقد خرج البزار بعض الحديث من طريق صدقة بن عبد الكريم الجزري عن أنس. اهـ. قال العلامة الألباني رحمه الله في الصحيحة (4/ 188 - 189): وأما حديث أنس فلم يعزه الهيثمي إلا للطبراني في "الأوسط" مختصراً جدًا بلفظ "من أهان لي وليًّا فقد بارزني بالمحاربة" وقال وفيه عمر بن سعيد أبو حفص الدمشقي وهو ضعيف. وقال الألباني: وقد وجدته من طريق أخرى بأتم منه يرويه الحسن بن يحيى قال حدثنا صدقة بن عبد الله عن هشام الكناني عن أنس به نحو حديث الترجمة، وزاد "وإن من عبادي المومنين" الخ. قال الألباني: أخرجه محمد بن سليمان الربعي في "جزء من حديثه" (ق216/ 2)، والبيهقي في "الأسماء والصفات" (ص 121). قلت: وإسناده ضعيف، مسلسل بالعلل. الأولى: هشام الكناني لم أعرفه .... الثانية: صدقة بن عبد الله -وهو أبو معاوية السمين- ضعيف. الثالثة: الحسن بن يحيى -وهو الخشني- وهو صدوق كثير الغلط كما في "التقريب". اهـ. (¬2) وأخرجه ابن أبي الدنيا في "الأولياء" (1)، وأبو نعيم في الحلية (8/ 318 - 319) ولفظه: "من أهان لي وليا فقد بارزني بالمحاربة، وما ترددت في شيء أنا فاعله ما ترددت في قبض نفس عبدي المؤمن، يكره الموت وأنا أكره مساءته ولا بد له منه، وإن من عبادي المؤمنين من يريد بابًا من العِلْم فأكفه عنه ... الحديث. قال أبو نعيم: غريب من حديث أنس لم يروه عنه بهذا السياق إلا هشام الكناني وعنه صدقة بن عبد الله أبو معاوية الدمشقي، تفرد به الحسن بن يحيى الحسني.

مِنْ عِبَادِي مَنْ لَا يُصْلِحُ إِيمَانَهُ إِلَّا الْغِنَى، وَلَوْ أَفْقَرْتُهُ لَأَفْسَدَهُ ذَلِكَ، وَإِنَّ مِنْ عِبَادِي مَنْ لَا يُصْلِحُ إِيمَانَهُ إِلَّا الصِّحَّةُ، وَلَوْ أَسْقَمْتُهُ لَأَفْسَدُهُ ذَلِكَ، وَإِنَّ مِنْ عِبَادِي مَنْ لَا يُصْلِحُ إِيمَانَهُ إِلَّا السَّقَمُ وَلَوْ أَصْحَحْتُهُ لَأَفْسَدَهُ ذَلِكَ, وَإِنَّ مِنْ عِبَادِي مَنْ يَطْلُبُ بَابًا مِنَ الْعِبَادَةِ فَأَكُفُّهُ عَنْهُ لِكَيْ لَا يَدْخُلَهُ الْعُجْبُ، إِنِّي أُدَبِّرُ عِبَادِي بِعِلْمِي بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ إِنِّي عَلِيمٌ خَبِيرٌ". كان بعض المتقدمين يكثر سؤال الشهادة، فهتف به هاتف: إنك إن غزوت أسرت وإن أسرت تنصرت. فكف عن سؤاله. وفي الجملة: فمن حفظ حدود الله وراعى حقوقه، تولى الله حفظه في أمور دينه ودنياه، وفي دنياه وآخرته. وقد أخبر الله تعالى في كتابه أنَّه وليُّ المؤمنين، وأنه يتولى الصالحين، وذلك يتضمن أنَّه يتولى مصالحهم في الدُّنْيَا والآخرة، ولا يكلهم إِلَى غيره، قال تعالى: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} [البقرة: 257]. وقال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ} [محمد: 11]. وقال: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق: 3]. وقال: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} [الزمر: 36]. فمن قام بحقوق الله عليه فإن الله يتكفل له بالقيام بجميع مصالحه في الدُّنْيَا والآخرة؛ فمن أراد أن يتولى الله حفظه ورعايته في أموره كلها فليراع حقوق الله عليه، ومن أراد ألا يصبيه شيء مما يكره فلا يأت شيئًا مما يكرهه الله منه. كان بعض السَّلف يدور عَلَى المجالس ويقول: من أَحَبّ أن تدوم له العافية فليتق الله. وقال العمري الزاهد لمن طلب منه الوصية: كما تحب أن يكون الله لك،

فهكذا كن لله -عز وجل وقال صالح بن عبد الكريم يقول الله -عز وجل- "وعزتي وجلالي لا أطلع عَلَى قلب عبد أعلم أن الغالب عليه حب التمسك بطاعتي، إلا توليت سياسته وتقويمه". وفي بعض الكتب المتقدمة: يقول الله عز وجل "يا ابن آدم، ألا تعلمني ما يضحكك؟! يا ابن آدم، اتقني ونم حيث شئت". والمعنى: أنك إذا قمت بما عليك لله من حقوق التقوى فلا تهتم بعد ذلك بمصالحك، فإن الله هو أعلم بها منك، وهو يوصلها إليك عَلَى أتم الوجوه من غير اهتمام منك بها. وفي حديث جابر عن النبي صلّى الله عليه وسلم "مَنْ كَانَ يُحِبُّ أَنْ يَعْلَمَ مَنْزِلَتَهُ عِنْدَ اللَّهِ، فَلْيَنْظُرْ كَيْفَ مَنْزِلَةِ اللَّهِ عَنْهُ، فَإِنَّ اللَّهَ يُنْزِلُ الْعَبْدَ مِنْهُ، حَيْثُ أَنْزَلَهُ مِنْ نَفْسِهِ» (¬1). فهذا يدل عَلَى أنَّه على قدر اهتمام العبد بحقوق الله وبأداء حقوقه ومراعاة حقوقه ومراعاة حدوده، واعتنائه بذلك وحفظه له يكون اعتناؤه به وحفظه له، فمن كان غاية همه رضا الله عنه وطلب قربه ومعرفته ومحبته وخدمته، فإن الله يكون له عَلَى حسب ذلك كما قال تعالى {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} [البقرة: 152] {وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} [البقرة: 40] بل هو سبحانه أكرم الأكرمين، فهو يجازي بالحسنة عشرًا ويزيد، ومن تقرَّب منه شبرًا تقرب منه ذراعًا. ومن تقرب منه ذراعًا تقرب منه باعًا، ومن أتاه يمشي أتاه هرولة. فما يؤتى الإنسان إلا من قِبل نفسه ولا يصيبه المكروه إلا من تفريطه في حق ¬

_ (¬1) أخرجه أبو يعلي (1865، 2138)، والطبراني في "الأوسط" (2501) والحاكم (1/ 494) وصححه، وتعقبه الذهبي في "التلخيص" بقوله قلت عمر ضعيف. وقال الطبراني: لا يروى هذا عن جابر إلا بهذا الإسناد تفرد به عمر. وذكره الهيثمي في "المجمع" (10/ 77) وقال: وفيه عمر بن عبد الله مولى غفرة. وقد وثقه غير واحد وضعفه جماعة، وبقية رجالهم رجال الصحيح. وقال الطبراني: لا يروى هذا عن جابر إلا بهذا الإسناد تفرد به عمر.

ربه -عز وجل. كما -قال علي -رضي الله عنه-: لا يرجوَنَّ عبد إلا ربه، ولا يخافنَّ إلا ذنبه. وقال بعضهم: من صَفَّى صُفِّي له، ومن خلَّطَ خُلِّطَ عليه. وقال مسروق: من راقب الله في خطرات قلبه، عصمه الله في حركات جوارحه. وبسط هذا المعنى يطول جدًّا، وفيما أشرنا إِلَيْهِ كفاية، ولله الحمد. ***

وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "احفظ الله تجده أمامك" وفي رواية أخرى: "تجاهك"

وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "احفظ الله تجده أمامك" وفي رواية أخرى: "تجاهك" معناه أن من حفظ حدود الله وراعى حقوقه، وجد الله معه في جميع الأحوال، يحوطه وينصره ويحفظه ويوفقه ويؤيده ويسدده، فإنَّه قائم عَلَى كل نفس بما كسبت، وهو تعالى مع الذين اتقوا والذين هم محسنون. قال قتادة: ومن يتق الله يكن معه، ومن يكن الله معه فمعه الفئة التي لا تغلب، والحارس الَّذِي لا ينام، والهادي الَّذِي لا يضل. كتب بعض السَّلف إِلَى أخ له أما بعد؛ فإن كان الله معك فمن تخاف؟ وإن كان عليك فمن ترجو؟ والسلام. وهذه المعية الخاصة بالمتقين، غير المعية العامة المذكورة في قوله تعالى: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [الحديد: 4] وقوله: {وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ} [النساء: 108] فإن المعية الخاصة تقتضي النصر والتأييد والحفظ والإعانة، كما قال تعالى لموسى وهارون: {لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه: 46]. وقوله تعالى: {إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة: 40]. وكان - صلى الله عليه وسلم - قد قال لأبي بكر الصديق رضي الله عنه في تلك الحال: "ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟ " (¬1). فهذا غير المعنى المذكور في قوله تعالى: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ ... } الآية [المجادلة: 7]. فإن ذلك عام لكل جماعة، ومن هذا المعنى الخاص الحديث الإلهي وقوله فيه: ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (4663).

"وَلاَ يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا" (¬1). إِلَى غير ذلك من نصوص الكتاب والسنة الدالة عَلَى قرب الرب سبحانه ممن أطاعه واتقاه، وحفظ حدوده وراعاه. ودخل بُنان الحمال البرية عَلَى طريق تبوك فاستوحش، فهتف به هاتف: لم تستوحش، أليس حبيبك معك؟ فمن حفظ الله وراعى حقوقه وجده أمامه وتجاهه عَلَى كل حال، فاستأنس به واستغن به عن خلقه. وفي الحديث: "أفضل الإيمان أن يعلم العبد أن الله معه حيث كان" خرجه الطبراني (¬2) وغيره (¬3). وبسط هذا القول يطول جدًّا. كان بعض العُلَمَاء البربانيين كثير السفر عَلَى التجريد وحده، فخرج الناس مرة معه يودعونه فردهم، وأنشد: إِذَا نَحْنُ أَدْلَجْنَا وَأَنْتَ أَمَامَنَا ... كَفَى لِمَطَايَانَا بِذِكْرِكَ هَادِيًا وكان الشبلي ينشد هذا البيت، وربما قطع مجلسه عليه. ... ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (5602). (¬2) أخرجه الطبراني في الأوسط (8796) فإن حديث عبادة بن الصامت. وقال الهيثمي في "المجمع" (1/ 60): رواه الطبراني في الأوسط والكبير، تفرد به عثمان بن كثير، قلت: ولم أر من ذكره بثقة ولا جرح. اهـ. (¬3) وأخرجه أبو نعيم في الحلية (6/ 124) وقال: غريب من حديث عروة، لم نكتبه إلا من حديث محمد بن مهاجر.

قوله - صلى الله عليه وسلم -: "تعرف إلى الله في الرخاء، يعرفك في الشدة"

قوله - صلى الله عليه وسلم -: "تعرف إِلَى الله في الرخاء، يعرفك في الشدة" المعنى: أن العبد إذا اتقى الله وحفظ حدوده وراعى حقوقه في حال رخائه وصحته، فقد تعرف بذلك إِلَى الله وكان بينه وبينه معرفة، فعرفه ربه في الشدة وعرف له عمله في الرخاء، فنجاه من الشدائد بتلك المعرفة. وهذه أيضاً معرفة خاصة تقتضي القرب من الله عز وجل، ومحبته لعبده، وإجابته لدعائه، وليس المراد بها المعرفة العامة فإن الله لا يخفى عليه حال أحد من خلقه، كما قال تعالى: {هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ} [النجم: 32] وقال: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ} [ق: 16]. وهذا التعرف الخاص هو المشار إِلَيْهِ في الحديث الإلهي. "وَلاَ يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ -إلى أن قال-: وَلَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ" (¬1). اجتمع الفضيل بشعوانة العابدة فسألها الدعاء، فقالت: يا فضيل، وما بينك وبينه؟ ما إن دعوته أجابك: فشهق الفضيل شهقة خرَّ مغشيًّا عليه. وقال أبو جعفر السائح: أتى الحسن إِلَى حبيب أبي محمد هاربًا من الحَجَّاج، فَقَالَ: يا أبا محمد احفظني من الشرط، هم عَلَى إثري. فَقَالَ: استحييت لك يا أبا سعيد، أليس بينك وبينه من الثقة ما تدعوه فيسترك من هؤلاء؟! ادخل البيت فدخل الشرط عَلَى إثره فلم يروه. ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه.

فذكروا ذلك للحجاج فَقَالَ: بل كان في بيته إلا أن الله طمس أعينهم فلم يروه. ومتى حصل هذا التعرف الخاص للعبد حصل للعبد معرفة خاصة بربه توجب له الأنس به والحياء منه، وهذه معرفة خاصة غير معرفة المؤمنين العامة. ومدار العارفين كلهم عَلَى هذه المعرفة وهذا التعرف، وإشاراتهم تومئ إِلَى هذا. سمع أبو سليمان رجلاً يقول: سهرت البارحة في ذكر النساء، فَقَالَ: ويحك، أما تستحي منه، يراك ساهرًا في ذكر غيره؟! ولكن كيف تستحي ممن لا تعرف؟!. وقال أحمد بن عاصم الأنطاكي: أَحَبّ ألا أموت حتى أعرف مولاي. وليس معرفته الإقرار به ولكن المعرفة الَّذِي إذا عرفته استحييت منه. وهذه المعرفة الخاصة والتعرف الخاص [توجب] طمأنينة العبد بربه وثقته به في إنجائه من كل شدة وكرب وتوجب استجابة الرب دعاء عبده. لما اختفى الحسن البصري من الحجاج قِيلَ لَهُ: لو خرجت من البصرة فإنا نخاف أن يدل عليك، فبكى ثم قال: أخرج من مصري وأهلي وإخواني؟ إن معرفتي بربي وبنعمته عليّ [تدلني] عَلَى أنَّه سينجيي ويخصلني منه إن شاء الله تعالى؟ فما ضرَّه الحجاج بشيء، ولقد كان يكرمه بعد ذلك إكرامًا شديدًا ويحسن ذكره. وقال رجل لمعروف: ما الَّذِي هيجك عَلَى الانقطاع والعبادة وذكر الموت والبرزخ والجنة والنار؟ فَقَالَ معروف: أى شيء هذا، إن مَلِكًا هذا كله بيده، إن كانت بينك وبينه معرفة كفاك جميع هذا. ومما يبين هذا ويوضحه الحديث الذي خرجه "الترمذي" (¬1) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلم. ¬

_ (¬1) برقم (3382) وقال: هنا حديث غريب.

من سره أن يستجيب الله له عند الشدائد، فليكثر الدعاء في الرخاء". وخرج ابن أبي الدُّنْيَا (¬1) وابن أبي حاتم (¬2) وابن جرير (¬3) وغيرهم من حديث يزيد الرقاشي عن أنس يرفعه: «أَنَّ يُونُسَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا دَعَا فِي بَطْنِ الْحُوتِ، قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ: يَا رَبِّ، هَذَا صَوْتٌ مَعْرُوفٌ مِنْ بِلَادٍ غَرِيبَةٍ فَقَالَ اللَّهُ: أَمَا تَعْرِفُونَ ذَلِكَ؟ قَالُوا: وَمَنْ هُوَ؟ قَالَ: عَبْدِي يُونُسُ قَالُوا: عَبْدُكَ يُونُسُ الَّذِي لَمْ يَزَلْ يُرْفَعُ لَهُ عَمَلٌ مُتَقَبَّلٌ وَدَعْوَةٌ مُسْتَجَابَةٌ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالُوا: يَا رَبِّ، أَفَلَا تَرْحَمُ مَا كَانَ يَصْنَعُ فِي الرَّخَاءِ فَتُنْجِيَهِ مِنَ الْبَلَاءِ؟ قَالَ: بَلَى. قَالَ: فَأَمَرَ اللَّهُ الْحُوتَ فَطَرَحَهُ بِالْعَرَاءِ». قال الضحاك بن قيس: اذكروا الله في الرخاء يذكركم في الشدة، إن يونس عليه السلام- كان يذكر الله، فلما وقع في بطن الحوت قال الله تعالى: {فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [الصافات: 143، 144]. وإن فرعون كان طاغيًا ناسيًا لذكر الله، فلما أدركه الغرق قال: آمنت، فَقَالَ الله تعالى: {آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} [يونس: 91]. وقال رشدين بن سعد: قال رجل لأبي الدرداء أوصني، فَقَالَ: اذكر الله في السراء يذكرك في الضراء. وقال سلمان الفارسي: إذا كان الرجل دعّاءً في السراء ونزلت به ضراء فدعا الله عز وجل، فقالت الملائكة. صوت معروف ... فشفعوا له، وإذا كان ليس بدعّاءٍ في السراء فنزلت به ضراء، فدعا الله عز وجل قالت ¬

_ (¬1) في "الفرج بعد الشدة" (ص 25). (¬2) كما في تفسير ابن كثير (4/ 21). (¬3) في تفسيره (24/ 64) وفي إسناده يزيد الرقاشي وهو متروك.

الملائكة: صوت ليس بمعروف، فلا يشفعون له. وحديث الثلاثة الذين دخلوا الغار (¬1) (وأطبقت) (*) عليهم الصخرة يشهد لهذا أيضًا؛ فإنهم فُرِّجَ عنهم بدعائهم لله بما كان سبق منهم من الأعمال الصالحة الخالصة في حال الرخاء: من بر الوالدين، وترك الفجور، وأداء الأمانة الخفية. فإذا علم أن التعرف إِلَى الله في الرخاء يوجب معرفة الله لعبده في الشدة، فلا شدة يلقاها المؤمن في الدُّنْيَا أعظم من شدة الموت، وهي أهون مما بعدها إن لم يكن مصير العبد إِلَى خير، وإن كان مصيره إِلَى خير، فهي آخر شدة يلقاها. فالواجب عَلَى العبد الاستعداد للموت قبل نزوله بالأعمال الصالحة والمبادرة إِلَى ذلك، فإنَّه لا يدري المرء متى تنزل به هذه الشدة من ليل أو نهار. وذكر الأعمال الصالحة عند الموت مما يحسن ظن المؤمن بربه، ويهون عليه شدة الموت ويقوي رجاءه. قال بعضهم: كانوا يستحبون أن يكون للمرء خبيئة من عمل صالح، ليكون أهون عليه عند نزول الموت أو كما قال. وكانوا يستحبون أن يموت (الرجل) (**) عقب طاعة عملها من حج أو جهاد أو صيام. وقال النخعي: كانوا يستحبون أن يلقنوا العبد محاسن عمله عند موته لكي يحسن ظنه بربه. قال أبو عبد الرحمن السُّلمى في مرضه: كيف لا أرجو ربي وقد صمت له ثمانين رمضان؟!. ولما احتُضِر أبو بكر بن عياش وبكوا عليه قال: لا تبكوا، فإني ختمت ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه. (*) وانطبقت: نسخة". (**) المرء: "نسخة".

القرآن في هذه الزاوية ثلاث عشرة ألف ختمة. ورُوي عنه أنَّه قال لابنه: أترى أن الله يضيع لأبيك أربعين سنة يختم القرآن كل ليلة؟. وقال بعض السَّلف لابنه عند موته ورآه يبكي: لا تبك فما أتى أبوك فاحشة قط. وختم آدم بن أبي إياس القرآن وهو مسجى للموت ثم قال: بحبي لك إلا رفقت بي في هذا المصرع، كنت أؤملك لهذا اليوم، كنت أرجوك، لا إله إلا الله. ثم قضى رحمه الله. وكان عبد الصمد الزاهد يقول عند موته: سيدي، لذه الساعة خبأتك، ولهذا اليوم اقتنيتك حقق حسن ظني بك. وقال ابن عقيل عند موته وقد بكى النسوة: قد وَقَّعْتُ عنه خمسين سنة، فدعوني أتهنأ بلقائه. ولما هجم القرامطة عَلَى الحُجَّاج وقتلوهم في الطواف، وكان علي بن باكويه الصوفي يطوف فلم يقطع (الطواف) (*) والسيوف تأخذه حتى وقع، فأنشد: ترى المحبين صرعى في ديارهم ... كفتيةِ الكهف لا يدرون كم لبِثُوا تالله لو حلف الأحباب أنهم ... موتى من البين يوم البين ما حنثوا فمن أطاع الله واتقاه وحفظ حدوده في حياته تولاه الله عند وفاته، وتوفاه عَلَى الإيمان، وثبته بالقول الثابت في القبر عند سؤال الملكين، ودفع عنه عذاب القبر، وآنس وحشته في تلك الوحدة والظلمة. قال بعض السَّلف: إذا كان الله معك عند دخول القبر، فلا بأس عليك ولا وحشة. ورؤي بعض العُلَمَاء الصالحين في النوم بعد موته، فسئل عن حاله فَقَالَ: ¬

_ (*) طوافه: "نسخة".

يؤنسني ربي عز وجل. فمن كان الله أنيسه في خلواته في الدُّنْيَا، فإنَّه يرجى أن يكون أنيسه في ظلمات اللحود إذا فارق الدُّنْيَا وتخلى عنها، وفي هذا المعنى يقول بعضهم: فيا رب كن لي مؤنسًا يوم وحشتي ... فإني (بما) (*) أنزلته لمصدق وما ضرني أني إِلَى الله صائر ... ومن هو من أهلي أبر وأرفق وكذلك أهوال القيامة وأفزاعها وشدائدها، إذا تولى الله عبده المطيع له في الدُّنْيَا، أنجاه من ذلك كله. قال قتادة في قوله تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} [الطلاق: 2] قال: من الكرب عند الموت ومن أفزاع يوم القيامة. وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس [رضي الله عنهما] في هذه الآية: ننجيه من كل كرب في الدُّنْيَا والآخرة (¬1). وقال زيد بن أسلم في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} [الأحقاف: 13] قال: يُبَشَّر في ذلك عند موته، وفي قبره ويوم يبعث، فإنَّه لفي الجنة وما ذهبت فرحة البشارة من قلبه. وقال ثابت البناني في هذه الآية: بلغنا أن المؤمن حيث يبعثه الله من قبره يتلقاه ملكاه اللذان كانا معه في الدُّنْيَا فيقولان له: لا تخف ولا تحزن، فيؤمِّن الله خوفه ويقر الله عينه، فما من عظيمة تغشى الناس يوم القيامة إلا وهي للمؤمن قرة عين، لما هداه الله ولما كان يعمل في الدُّنْيَا. خرج ذلك كله ابن أبي حاتم وغيره. وأما من لم يتعرف إِلَى الله في الرخاء، فليس له من يعرفه في الشدة لا في الدُّنْيَا ولا في الآخرة. وشواهد هذا مشاهدة حالهم في الدُّنْيَا، وحالهم في الآخرة أشد، وما لهم من ولي ولا نصير. ¬

_ (¬1) أخرجه ابن جرير في "تفسيره" (28/ 89). (*) لما: "نسخة".

وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا سألت فاسأل الله"

وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا سألت فاسأل الله" أمر بإفراد الله عز وجل بالسؤال ونهي في سؤال غيره من الخلق، وقد أمر الله تعالى بسؤاله، فَقَالَ: {وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ} [النساء: 32]. وفي "الترمذي" (¬1) عن ابن مسعود مرفوعًا: "سلوا الله من فضله فإن الله يحب أن يُسأل". وفيه (¬2) عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا: "من لا يسأل الله يغضب عليه". وفيه أيضاً (¬3): "إن الله يحب الملحين في الدعاء". ¬

_ (¬1) برقم (3571) وقال: هكذا روى حماد بن واقد هذا الحديث وقد خولف في روايته. وحماد بن واقد هذا هو الصغار ليس بالحافظ وهو عندنا شيخ بصري. وروى أبو نعيم هذا الحديث عن إسرائيل عن حكيم بن جبير عن رجل عن النبي صلّى الله عليه وسلم مرسل وحديث أبي نعيم أشبه أن يكون أصح. اهـ. (¬2) برقم (3373) وقال الترمذي: وروى وكيع وغير واحد عن أبي المليح هذا الحديث، ولا نعرفه إلا من هذا الوجه، وأبو المليح اسمه: صبيح، سمعت محمدًا يقوله وقال: يقال له الفارسي. (¬3) ليس هذا الحديث في سنن الترمذي، ولم يعزه للترمذي غير ابن رجب، وقد أخرجه العقيلي في "الضعفاء" (4/ 452)، وابن عدى في "الكامل" (7/ 163) كلاهما من طريق بقية عن يوسف بن السفر عن الأوزاعي عن الزهري عن عروة عن عائشة مرفوعًا. وأخرجه الطبراني في الدعاء (20)، والبيهقي في الشعب (1108) والقضاعي في مسند الشهاب (1069) كلهم من طريق بقية عن الأوزاعي به إسقاط يوسف بن السفر من السند. قال العقيلي عن يوسف بن السفر: يحدت بمناكير ثم ذكر هذا الحديث له. وقال ابن عدي يعد أن ذكر تجريح الأئمة له: وهذا كان بقية يرويه أحيانًا عن=

وفي حديث آخر: "ليسأل أحدكم ربه حاجته كلها حتى يسأله شسع نعله إذا انقطع" (¬1). وفي هذا المعنى أحاديث كثيرة، وفي النهي عن سؤال الخلق أحاديث كثيرة صحيحة. وفي حديث (ابن مسعود) (*) مرفوعًا: ¬

_ =الأوزاعي نفسه، فسقط يوسف لضعفه، وربما قال: ثنا يوسف بن السفر عن الأوزاعي، وربما كناه فيقول: عن أبي الفيض، عن الأوزاعي وكل ذلك يضعفه، لأنّ الحديث يرويه يوسف عن الأوزاعي. ثم قال ابن عدي: وهذه الأحاديث التي رواها يوسف عن الأوزاعي بواطيل كلها. وقال البيهقي بعد أن ساق الحديث وفيه تصريح بقية بالتحديث عن الأوزاعي: هكذا قال: ثنا الأوزاعي، وهو خطأ. وسئل أبو حاتم الرازي عن هذا الحديث كما في العلل لابنه (2/ 199) برقم (2087) من رواية بقية عن الأوزاعي فَقَالَ: هذا حديث منكر، نرى أن بقية دلسه عن ضعيف عن الأوزاعي. وقال الحافظ ابن حجر في "التلخيص الحبير" (2/ 95) برقم (715) عن هذا الحديث: تفرد به يوسف بن السفر عن الأوزاعي، وهو متروك، وكان بقية ربما دلسه. (¬1) أخرجه الترمذي (3682)، وابن حبان (866، 894، 895)، وابن عدي في "الكامل" (6/ 53). قال الترمذي: هذا حديث غريب، وروى غير واحد هذا الحديث عن جعفر بن سليمان عن ثابت البناني عن النبي صلّى الله عليه وسلم، ولم يذكروا فيه عن أنس. ثم ساق الترمذي حديث ثابت البناني المرسل برقم (3683) وقال: وهذا أصح من حديث قطن عن جعفر بن سليمان. وقال ابن عدى عن قطن بن نسير: بصري يسرق الحديث ويوصله. قال ابن عدي: وحدثناه البغوي، ثنا القواريري، ثنا جعفر، عن ثابت عن انس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - نحوه، فَقَالَ رجل للقواريري: إن لي شيخًا يحدث به عن جعفر عن ثابت، عن أنس، فَقَالَ القواريرى: باطل، وهذا كما قال. وقال ابن حبان (895): أخبرنا أحمد بن علي بن المثنى بخبر غريب، واستدرك الشيخ محمد بن ناصر/ العجمي -حفظه الله- في تخريجه للحديث لنفس الرسالة هذه ص67 عَلَى المطبوع من كتاب الكامل لابن عدي، فجعل رواية القواريري مرسلة ثم قال: والتصويب من تهذيب التهذيب (8/ 382)، والميزان (3/ 391). تنبيه! سقط هذا الحديث من نسخة الترمذي المطبوعة بتحقيق إبراهيم عطوة، وخرجته من النسخة المشروحة المسماة بـ "تحفة الأحوذي". (*) هكذا في "الأصل"، وفي التخريج "مسعود بن عمرو".

"لا يزال العبد يسأل. وهو غني حتى يخلق وجهه فما يكون له عند الله وجه" (¬1) وقد بايع النبي -صلى الله عليه وسلم- جماعة من أصحابه عَلَى أن لا يسألوا الناس شيئًا (¬2)، منهم: أبو بكر الصديق، وأبو ذر، وثوبان، وكان أحدهم يسقط سوطه أو خطام ناقته فلا يسأل أحدًا أن يناوله. واعلم أن سؤال الله تعالى دون خلقه هو المتعين عقلا وشرعًا وذلك من وجوه متعددة منها: أن السؤال فيه بذل لماء الوجه وذلة للسائل، وذلك لا يصلح إلا لله وحده، فلا يصلح الذل إلا له بالعبادة والمسألة، وذلك من علامات المحبة الصادقة. سئل يوسف بن الحسين ما بال المحبين يتلذذون بذلهم في المحبة؟ فأنشد: ذل الفتى في الحب مكرمة ... وخضوعه لحبيبه شرف وهذا الذل وهذه المحبة لا تصلح إلا لله وحده وهذا هو حقيقة العبادة التي يختص بها الإله الحق. كان الإمام أحمد رحمه الله يقول في دعائه: اللهم كما صنت وجهي عن السجود لغيرك (فصنه) (*) عن المسألة لغيرك. وقال أبو الخير الأقطع: كنت بمكة سنة فأصابتني فاقة وضر، فكنت كلما ¬

_ (¬1) أخرجه البزار (919) والطبراني (20/ ص 333 برقم 790) من حديث مسعود بن عمرو، وذكره الهيثمي في "المجمع" (3/ 96) وقال: رواه البزار والطبراني في الكبير، وفيه محمد بن أبي ليلى وفيه كلام. وأورد هذا الحديث ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل (8/ 282) وقال: وهذا الحديث منكر. وله شاهد من حديث عمر أخرجه أبو نعيم في الحلية (3/ 164) قال أبو نعيم: ثابت من حديث حمزة، غريب من حديث صفوان، تفرد به عنه عبد الله بن أبي جعفر وإبراهيم بن أبي يحيى الأسلمي. (¬2) أخرجه مسلم (1043) من حديث عوف بن مالك. (*) كتب في هامش الأصل: فصن وجهي. وكتب فوقه: دعاء لطيف.

أردت أن أخرج إِلَى المسألة هتف بي هاتف يقول: الوجه الَّذِي يسجد لي تبذله لغيري؟ وفي هذا المعنى يقول بعضهم: ما اعتاض باذل وجهه بسؤاله ... بدلاً وإن نال الغنى بسؤال وإذا السؤال مع النوال وزنته ... رجح السؤال وخف كل نوال فإذا ابتليت ببذل وجهك سائلاً ... فابذله للمتكرم المفضال ولهذا المعنى كان عقوبة من أكثر المسألة بغير حاجة أن يأتي يوم القيامة وليس عَلَى وجهه مزعة لحم، كما ثبت ذلك في "الصحيحين" (¬1) لأنّه أذهب عز وجهه وصيانته وماءه في الدُّنْيَا، فأذهب الله من وجهه في الآخرة جماله وبهاءه الحسي فيصير عظمًا بغير لحم ويذهب جماله وبهاؤه المعنوي، فلا يبقى له عند الله وجاهة. ومنها أن في سؤال الله عبودية عظيمة؛ لأنها إظهار للافتقار إِلَيْهِ، واعتراف بقدرته عَلَى قضاء الحوائج، وفي سؤال المخلوق ظلم؛ لأنّ المخلوق عاجز عن جلب النفع لنفسه ودفع الضر عنها، فكيف يقدر عَلَى ذلك لغيره؟ وسؤاله إقامة له مقام من يقدر وليس هو بقادر. ويشهد لهذا المعنى الحديث الَّذِي في "صحيح مسلم" (¬2) عن أبي ذر رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. «يَا عِبَادِي، لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِي، فَأَعْطَيْتُ كُلَّ إِنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ، مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي، إِلَّا كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إِذَا (غمس) (*) فِي الْبَحْرَ». وفى الترمذي (¬3) وغيره زيادة في هذا الحديث وهي: ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (1474)، ومسلم (1040). (¬2) برقم (2577). (*) أدخل: "نسخة"، وهو الموافق لما في صحيح مسلم المطبوع. (¬3) (2495) وقال: هذا حديث حسن. وروى بعضهم هذا الحديث عن شهر بن حوشب عن معدي كرب عن أبي ذر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - نحوه.

"ذَلِكَ بِأَنِّي جَوَادٌ وَاجِدٌ مَاجِدٌ أَفْعَلُ مَا أُرِيدَ, عَطَائِي كَلَامٌ، وَعَذَابِي كَلَامٌ, إِذَا أَرَدْتُ شَيْئًا فَأِنَّمَا أَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ". فكيف يسأل الفقير العاجز ويترك الغني القادر؟ إن هذا لأعجب العجب! قال بعض السَّلف: إني لأستحي من الله أن أسأله الدُّنْيَا وهو (يملكها) (*) فكيف أسألها من لا يملكها؟! يعني: المخلوق. وحصل لبعض السَّلف ضيق في معيشته حتى هم أن يطلب من بعض إخوانه، فرأى في منامه قائلا يقول: أيحسن بالحرِّ المريد إذا وجد عند الله ما يريد أن يميل بقلبه إِلَى العبيد فاستيقظ وهو من أغنى الناس قلبًا. وقال بعض السَّلف: قرأت في بعض الكتب المنزلة: "يقول الله عز وجل: (أَيُؤَمَّلُ) (**) غَيْرِي لِلشَّدَائِدِ؟! وَالشَّدَائِدُ بِيَدِي وَأَنَا الْحَيُّ الْقَيُّومُ, وَيُرْجَى غَيْرِي وَيُطْرَقُ بَابُهُ بِالْبُكْرَاتِ؟! وَبِيَدِي مَفَاتِيحُ الْخَزَائِنِ، وَبَابِي مَفْتُوحٌ لِمَنْ دَعَانِي, مَنْ ذَا الَّذِي أَمَّلَنِي لِنَائِبَةٍ فَقَطَعْتُ بِهِ أَوْ مَنْ ذَا الَّذِي رَجَانِي لِعِظَمٍ فَقَطَعْتُ رَجَاءِهِ, وَمَنْ ذَا الَّذِي طَرَقَ بَابِي فَلَمْ أَفْتَحْهُ لَهُ؟ أَنَا غَايَةُ الْآمَالِ، فَكَيْفَ تَنْقَطِعُ الْآمَالُ دُونِي؟! أَبَخِيلٌ أَنَا؟ فَيُبَخِّلُنِي عَبْدِي! أَلَيْسَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ وَالْكَرْمُ وَالْفَضْلُ كُلُّهُ لِي؟! فَمَا يَمْنَعُ الْمُؤَمِّلِينَ أَنْ يُؤَمِّلُونِي, لَوْ جَمَعْتُ أَهْلَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ أَعْطَيْتُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مَا أَعْطَيْتُ الْجَمِيعَ وَبَلَّغْتُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَمَلَهُ، لَمْ يَنْقُصْ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي عُضْوَ ذَرَّةٍ. ¬

_ (*) نسخة: " مالكها". (**) نسخة: "يُؤَمَّلُ".

وكيف ينقص ملك أنا قيِّمه؟؟ فيا بؤسًا للقانطين من رحمتي، ويا بؤسا لمن عصاني وتوثّب عَلَى محارمي". ومنها: أن الله يحب أن يسأل، ويغضب عَلَى من لا يسأله فإنَّه يريد من عباده أن يرغبوا إِلَيْهِ ويسألوه ويدعوه ويفتقروا إِلَيْهِ، ويحب الملحين في الدعاء. والمخلوق غالبًا يكره أن يُسأل لفقره وعجزه. قال ابن السَّمَّاك: لا تسأل من يفر منك من أن تسأله، واسأل من أمرك أن تسأله. وقال أبو العتاهية: الله يَغضبُ إنْ تَرَكتَ سُؤالهُ ... وبُنيَّ آدَمَ حِينَ يُسألُ يَغضبُ فاجعل سؤالك للإله فإنما ... في فضل نعمة ربنا نتقلب كان يحيى بن معاذ يقول: يا من يغضب عَلَى من لا يسأله لا تمنع من قد سألك. وأنشد بعض الأعراب: أيا مالك لا تسأل الناس والتمس ... يكفيك فضل الله فالله أوسع ولو يسأل الناس التراب لأوشكوا ... إذا قيل هاتوا أن يملوا ويمنعوا ومنها: "أن الله -تعالى- يستدعي من عباده سؤاله، وينادي كل ليلة: هل من سائل فأعطيه سؤاله؟ هل من داع فأستجيب له؟ " (¬1). وقد قال تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة: 186]. فأي وقت دعاه العبد وجده سميعًا قريبًا مجيبًا ليس بينه وبينه حجاب ولا بواب، وأما المخلوق فإنَّه يمتنع بالحجاب والأبواب، ويعسر الوصول إِلَيْهِ في أغلب الأوقات. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (1145)، ومسلم (758).

قال طاوس لعطاء: إياك أن تطلب حوائجك إِلَى من أغلق دونك بابه ويجعل دونها حجابه، وعليك بمن بابه مفتوح إِلَى يوم القيامة، أمرك أن تسأله ووعدك أن يجيبك. وقال وهب بن منبه لبعض العُلَمَاء: ألم أخبر أنك تأتي الملوك وأبناء الملوك تحمل إليهم علمك؟! ويحك تآتي من يغلق عليك بابه، ويظهر لك فقره ويواري عنك غناه! وتَدَعُ من يفتح لك بابه بنصف الليل وبنصف النهار ويظهر لك غناه؟ ويقول: ادعني استجب لك؟!. ورأى ميمون بن مهران الناس مجتمعين عَلَى باب بعض الأمراء فَقَالَ: من كانت له حاجة إِلَى سلطان فحجبه فإن بيوت الرحمن مُفتحة، فليأت مسجدًا فليصل ركعتين ثم ليسأل حاجته. وكان بكر المزني يقول: من مثلك يا ابن آدم؟! متى شئت تطهرت ثم ناجيت ربك ليس بينك وبينه حجاب ولا ترجمان. وسأل رجل بعض الصالحين أن يشفع له في حاجة إِلَى بعض المخلوقين، فَقَالَ له: أنا لا أترك بابًا مفتوحًا، وأذهب إِلَى باب مغلق. وفي هذا المعنى يقول بعضهم: وأفنية الملوك محجبات ... وباب الله مبذول الفناء وقال آخر: قل للذين تحصنوا عن سائل ... بمنازل من دونها حجّاب إن حال دون لقائكم بوابكم ... فالله ليس لبابه بوّاب ولبعض العُلَمَاء: لا تجلس بباب من ... يأبى عليك دخول داره وتقول حاجتي إِلَيْهِ ... يعوقها إن لم أداره واتركه واقصد ربها ... تقضى ورب الدار كاره

وخرَّج ابن أبي الدُّنْيَا (¬1) من حديثِ أبي عبَيدةَ بنِ عبدِ اللَّهِ بنِ مسعودٍ "أنَّ رجلاً جاءَ إلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فقالَ يا رسولَ اللَّهِ، إنَّ بَني فُلانٍ أغاروا عليَّ فذهبُوا بابنِي وإبلِي. فقالَ له النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: إنَّ آلَ محمَّدٍ كذا وكذا أهلَ بيتٍ ما لهُم مدٌّ منْ طعامٍ أو صاعٍ، فاسألِ اللَّهَ عزَّ وجلَّ. فرجعَ إلى امرأتهِ، فقالت: ما قالَ لكَ؟ فأخبرَهَا، فقالتْ: نِعْمَ ما رَدَّ عليكَ. فما لبثَ أن ردَّ اللَّهُ عليه ابنَه وإبلَهُ أوفرَ ما كانتْ. فأتى النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فأخبرَهُ فصعدَ المنبرَ فحَمِدَ اللَّهَ وأثنى عليهِ، وأمرَ الناسَ بمسألةِ اللَّهِ عزَّ وجلَّ والرغبة إليهِ، وقرأَ عليهِمْ: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} [الطلاق: 2، 3]. وسأل رجل ثابتًا البناني أن يشفع له إِلَى قاض في قضاء حاجة له، فقام ثابت معه، فكان كلما مر بمسجد في طريقه دخل فصلى فيه ودعا، فما وصل إِلَى مجلس القاضي إلا وقد قام منه، فعاتبه طالب الحاجة في ذلك فَقَالَ: ما كنت إلا في حاجتك. فقضى الله حاجته، ولم يحتج إِلَى القاضي. وكان إِسْحَاقَ بْنِ عَبَّادٍ الْبَصْرِيِّ نَائِمًا، فَرَأَى فِي مَنَامِي قَائِلًا يَقُولُ لَهُ: أَغِثِ الْمَلْهُوفَ. فاسْتَيْقَظَ فَسَأَلَ: هَلْ فِي جِيرَانِهِ مُحْتَاجٌ؟ قَالُوا: مَا نَدْرِي؟ ثُمَّ نَامُ فَأَتَاهُ ثَانِيًا وَثَالِثًا، فَقَالَ لَهُ: أَتَنَامُ وَلَمْ تُغِثِ الْمَلْهُوفَ؟ فَقَامَ وَأَخَذَ مَعَهُ ثَلَاثَمِائَةَ دِرْهَمٍ، وَرَكِبَ بَغْلَه فخرج إِلَى البَصْرَةِ حَتَّى وَقَفَ بِهِ عَلَى بَابِ مَسْجِد يُصَلَّى فِيهِ عَلَى الْجَنَائِزِ، فَدَخَلَ المَسْجِدَ فَإِذَا رَجُلٌ يُصَلِّي فَلَمَّا أحَسَّ بِهِ انْصَرَفَ فَدَنَا مِنْهُ، فَقَالَ لَهُ: يَا عَبْدَ اللهِ، فِي هَذَا الْوَقْتِ؟ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ؟! مَا أَخْرَجَتْكَ؟ قَالَ: أَنَا رَجُلٌ كَانَ رَأْسُ مَالِي مِائَةَ دِرْهَمٍ فَذَهَبَتْ مِنْ يَدَيَّ وَلَزِمَنِي دَيْنُ مِائَتَا دِرْهَمٍ. فَأَخْرَجَ لَهُ الدَّرَاهِمَ وَقَالَ: هَذِهِ ثَلَاثُمِائَةِ دِرْهَمٍ خُذْهَا. فَأَخَذَهَا ثُمَّ قَالَ لَهُ: أَتَعْرِفُنِي؟ قَالَ: لَا. قَالَ لَهُ: أَنَا إِسْحَاقُ بْنُ عَبَّادٍ، فَإِنْ نَابَتْكَ نَائِبَةٌ فَأْتِنِي فَإِنَّ مَنْزِلِي فِي مَوْضِعِ كَذَا. ¬

_ (¬1) في الفرج بعد الشدة (10)، وفي القناعة والتعفف (54).

فَقَالَ لَهُ: رَحِمَكَ اللهُ إِنْ نَابَتْنَا نَائِبَةٌ فَزِعْنَا إِلَى مَنْ أَخْرَجَكَ فِي هَذَا الْوَقْتِ حَتَّى جَاءَ بِكَ إِلَيْنَا. وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: أصبحنا ذات يوم فقالت أمي لأبي: والله ما في بيتك شيء يأكله ذو كبد. فقام فتوضأ ولبس ثيابه ثم صلّى في بيته، قال: فالتفتت إليّ أمي، فقالت: إن أباك ليس يزيد عَلَى ما ترى، فاخرج أنت. فخرجت، فخطر ببالي صديق لنا تمّار فجئت إِلَى سوقه، فلما رآني صاح بي وذهب بي إِلَى منزله وأطعمني، ثم أخرج لي صرة فيها ثلاثون دينارًا من غير أن أذكر له شيئًا من حالنا إلا ابتداء منه. وقال: اقرأ عَلَى أبيك السلام، وقل له: إنا جعلنا له شركًا في كل شيء من (تجرنا) (*) وهذا نصيبه منه. وعن شقيق البلخي قال: كنت في بيتي قاعدًا فَقَالَ لي أهلي: ترى ما بهؤلاء الأطفال من الجوع، ولا يحل لك أن تجمل عليهم ما لا طاقة لهم به؟ قال: فتوضأت، وكان لي صديق لا يزال يقسم عَلَيَّ بالله إن يكن لي حاجة أن أعلمه بها ولا أكتمها عنه فخطر ذكره ببالي، فلما خرجت من المنزل مررت بالمسجد فذكر ما رُوي عن أبي جعفر قال: من عرض له حاجة إِلَى مخلوق فليبدأ فيها بالله عز وجل. فدخلت المسجد وصليت ركعتين، فلما كنت في التشهد أفرغ عَلَيَّ النوم، فرأيت في منامي أنَّه قيل: يا شقيق، أتدل العباد عَلَى الله ثم تنساه! فاستيقظت وعلمت أن ذلك تنبيه نبهني به ربي، فلم أخرج من المسجد حتى صليت العشاء الآخرة ثم انصرفت إِلَى المنزل، فوجدت الَّذِي أردت أن أقصده قد حركه الله وأجرى لأهلي عَلَى يديه ما أغناهم. وعن إبراهيم بن أدهم أنَّه خرج إِلَى الغزو مع أصحابه، وأنهم تناهدوا فوضع كل واحد منهم دينارًا، ففكر فيمن يقصد من إخوانه ويستقرض منه ثم استفاق فبكى وقال: واسوءتاه أطلب من العبيد، وأترك مولاهم فيقول لي: من ¬

_ (*) متجرنا: "نسخة".

كان أحق أن تطلب منه: أنا أو عبدي؟ فتوضأ وصلى ركعتين وخرّ ساجدًا، وقال: يا رب، قد عَلِمْتَ ما كان مني وذلك بخطئي وجهلي فإن عاقبتني عليه فأنا أهل لذلك، وإن عفوت عني فأنت أهل لذلك وقد عرفت حاجتي فاقضها برحمتك. ثم رفع رأسه فإذا هو بنحو أربعمائة دينار فتناول منها دينارًا واحدًا وذهب. وعن أصبغ بن زيد قال: مكثت أنا ومن عندي ثلاثًا لم نطعم شيئًا، فخرجت إِلَيَّ ابنتي الصغيرة وقالت: يا أبة، الجوع! فأتيت الميضأة فتوضأت وصليت ركعتين وألهمتُ دعاء دعوت به وفي آخره: "اللهم افتح عَلَيّ منك رزقًا لا تجعل لأحد عليّ فيه منة، ولا لك علي في الآخرة فيه تبعة، برحمتك يا أرحم الراحمين". ثم انصرفت إِلَى البيت فإذا بابنتي الكبيرة قد قامت إِلَيّ وقالت: يا أبة جاء عمي الساعة بهذه الصرة من الدراهم وحمَّال عليه دقيق، وحمَّال عليه من كل شيء في السوق، وقال: أقرئوا أخي السلام، وقولوا له: إذا احتجت إِلَى شيء فادع بهذا الدعاء تأتك حاجتك. قال أصبغ: والله ما كان لي أخ قط ولا أعرف من كان هذا القائل، ولكن الله عَلَى كل شيء قدير!. وعن الحكم بن موسى قال: أصبحت يومًا، فقالت لي المرأة: ليس عندنا دقيق ولا خبز! فخرجت ولا أقدر عَلَى شيء، فقلت في الشارع: "اللهم إنك تعلم أني أعلم أنك تعلم أنَّه لا دقيق لي ولا خبزًا -وقال: ولا دراهم- فأتنا بذلك". فلقيني رجل، فَقَالَ: خبزًا تريد أو دقيقًا؟ فقلت له: أحدهما ثم مشيت نهاري أجمع لا أقدر عَلَى شيء فرجعت فقدّم أهلي إِلَيَّ خبزًا، ولحمًا واسعًا، فقلت: من أين هذا لكم؟ قالوا: من الَّذِي وجهت به. فَسَكَتُّ. وعن الأوزاعي قال: رأيت رجلاً في الطواف وهو متعلق بأستار الكعبة وهو

يقول: يا رب، إني فقير كما ترى، وصبيتي قد عروا كما ترى، وناقتي قد عجفت كما ترى، فما ترى يا من ترى ولا يُرى؟ فإذا بصوت من خلفه: يا عاصم، يا عاصم، الحق عمك! فقد هلك بالطائف وقد خلف ألف نعجة، وثلاثمائة ناقة وأربعمائة دينار، وأربعه أعبد، وثلاثة أسياف يمانية، فامض فخذها فليس له وارث غيرك. قال: فقلت: يا عاصم، إن الَّذِي دعوت لقد كان قريبًا منك. قال: يا هذا، أما سمعت قوله تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ} [البقرة: 186]. والآثار والحكايات في هذا المعنى كثيرة جدًّا يطول الكتاب بذكرها، وهي موجودة في مثل "كتاب الفرج بعد الشدة" و"كتاب مجابي الدعوة" لابن أبي الدُّنْيَا، وفي "كتاب المستصرخين بالله عند نزول البلاء" للقاضي أبي الوليد بن الصغار، و"كتاب المستغيثين بالله عند نزول البلاء" للحافظ أبي القاسم ابن بشكوال الأندلسيين وفي غيرها من كتب الزهد والرقائق والتواريخ وغيرها. وروى الشيخ أبو الفرج في "تاريخه الكبير" بإسناده عن الحسن بن سفيان الفسوي الحافظ أنَّه كان مقيمًا بمصر مع جماعة من أصحابه يكتبون الحديث، فاحتاجوا فباعوا ما معهم حتى لم يبق لهم ما يباع، وبقوا ثلاثة أيام جياعًا لا يجدون شيئًا يكون وأصبحوا في اليوم الرابع وقد عزموا عَلَى المسألة لشدة الضرورة، فاقترعوا عَلَى من يسأل لهم، فخرجت القرعة عَلَى الحسن بن سفيان قال: فتحيرت ودهشت ولم تسامحني نفسي بالمسألة، فعدلت إِلَى زاوية المسجد أصلي ركعتين طويلتين وأدعو الله -عز وجل- لكشف الضر وسياقة الفرج، فلم أفرغ من الصلاة حتى دخل المسجد رجل معه خادم في يده منديل، فَقَالَ: من منكم الحسن بن سفيان؟ فرفعت رأسي من السجود وقلت: أنا. فَقَالَ: إن الأمير ابن طولون يقرئكم السلام والتحية، ويعتذر إليكم في الغفلة عن تفقد أحوالكم والتقصير الواقع في رعاية حقوقكم، وقد بعث إليكم

بما يكفي نفقة الوقت، وهو زائر لكم غدًا ومعتذرًا إليكم بلفظه ووضع (في يد) (*) كل واحد منا صرة فيها مائة دينار، قال: فتعجبنا وسألناه عن السبب، قال: إنه كان اليوم نائمًا فرأى فارسًا في الهواء يقول له: قم فأدرك الحسن بن سفيان وأصحابه؛ فإنهم منذ ثلاثة أيام جياع في المسجد الفلاني! فَقَالَ له: من أنت؟ قال: أنا رضوان صاحب الجنة. قال الحسن: فشكرنا الله -عز وجل- وأصبحنا أحوالنا وسافرنا تلك الليلة من مصر خشية أن يزورنا الأمير، فيطلع الناس عَلَى أسرارنا فيكون ذلك سبب ارتفاع اسم، وانبساط جاه، ويتصل ذلك بنوع من الرياء والسمعة. وروى أيضاً بإسناد له عن محمد بن هارون الروياني أنَّه اجتمع هو ومحمد ابن نصر المروزي ومحمد بن علويه الورَّاق ومحمد بن إسحاق بن خزيمة ... فذكر معنى هذه الحكاية وأن المصلي والداعي كان هو ابن خزيمة، وبإسناد آخر أن الأربعة كانوا محمد بن جرير، ومحمد بن نصر، ومحمد بن خزيمة، ومحمد بن هارون. ... ¬

_ (*) بين يدي: "نسخة".

وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "وإذا استعنت فاستعن بالله"

وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "وإذا استعنت فاستعن بالله" لما أمر عليه السلام بحفظ الله والتعرف إِلَيْهِ في الرخا، وذلك هو العبادة حقيقة ثم أرشد إِلَى سؤال الله وحده ودعائه و"الدعاء هو العبادة" كما في حديث النعمان بن بشير عن النبي صلّى الله عليه وسلم ثم قرأ: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60]. خرَّجه أهل السنن الأربعة (¬1). أرشد بعد ذلك إِلَى الاستعانة بالله وحده وهذا منتزع من قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] وهي كلمة عظيمة جامعة يقال: إن سر الكتب الإلهية كلها ترجع إليها وتدور عليها. وفي استعانة الله وحده فائدتان: إحداهما: أن العبد عاجز عن الاستقلال بنفسه في عمل الطاعات. والثانية: أنَّه لا معين له عَلَى مصالح دينه ودنياه إلا الله عز وجل، فمن أعانه الله فهو المعان، ومن خذله الله فهو المخذول. وفي الحديث الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "احرص عَلَى ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز" (¬2). وكان - صلى الله عليه وسلم - يقول في خطبته ويعلم أصحابه أن يقولوا: "الحمد لله نستعينه ونستهديه" (¬3). ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود (1479)، والترمذي (3372)، والنسائي في "الكبرى" برقم (11464) وابن ماجه (3828). قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. (¬2) أخرجه مسلم (2664). (¬3) أخرجه الشافعي في "المسند" بترتيب السندي (ص/ 147/ 1). قال الشيخ=

وأمر معاذ بن جبل أن لا يدع في دبر كل صلاة أن يقول: "اللهم أعني عَلَى ذكرك وشكرك وحسن عبادتك" (¬1). وكان من دعائه - صلى الله عليه وسلم -: "يا رب أعني ولا تعن عليّ" (¬2). وفي دعاء القنوت الَّذِي كان يدعو به عمر وغيره: "اللهم إنا نستعينك". وفي الأثر المعروف -ويقال إن موسى -عليه السلام- قاله لما ضرب البحر فانفلق-: اللهم لك الحمد وإليك المشتكى، وأنت المستعان وبك المستغاث، وعليك التكلان، ولا حول ولا قوة إلا بالله. فالعبد محتاج إِلَى الاستعانة بالله في فعل المأمورات، وفي ترك المحظورات، وفي الصبر عَلَى المقدورات كما قال يعقوب -عليه السلام- لبنيه: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} [يوسف: 18]. ولهذا قالت عائشة هذه الكلمة لما قال أهل الإفك ما قالوا، فبرأها الله مما قالوا. وقال موسى لقومه: {اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا} [الأعراف: 128]، وقال الله لنبيه - صلى الله عليه وسلم -: {قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} [الأنبياء: 112]، ولما بشَّر - صلى الله عليه وسلم - عثمان بالجنة عَلَى بلوى تصيبه قال: الله المستعان (¬3). ولما دخلوا عَلَى عثمان وضربوه جعل يقول والدماء تسيل عليه: لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين، اللهم إني أستعيذ بك عليهم وأستعينك عَلَى ¬

_ =الألباني: رحمه الله في مقدمة المجلد الخامس ص1 عن لفظة "ونستهديه" بأن هذه الزيادة لا أصل لها في شيء من طرق هذه الخطبة؛ خطبة الحاجة. (¬1) أخرجه أحمد (5/ 245)، وأبو داود (1522)، والنسائي (3/ 53). (¬2) أخرجه أحمد (1/ 227)، وأبو داود (1510)، والترمذي (3551) وقال: هذا حديث حسن صحيح. (¬3) أخرجه مسلم (2403)، وعنده فَقَالَ: اللهم صبرًا، أو الله المستعان.

جميع أموري، وأسألك الصبر عَلَى ما ابتليتني. ورُوي عن أبي طلحة أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال في بعض غزواته حين لقي العدو: "يَا مَالِكَ يَوْمِ الدِّينِ، إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ. قال أبو طلحة: فَلَقَدْ رَأَيْتُ الرِّجَالَ تُصْرَعُ" (¬1) خرَّجه أبو الشيخ الأصبهاني. فالعبد محتاج إِلَى الاستعانة بالله في مصالح دينه ودنياه، كما قال الزبير في وصيته لابنه عبد الله بقضاء دينه: إن عَجزتَ فاستعن بمولاي. فَقَالَ له: يا أبت من مولاك؟ قال: الله. قال: فما وقعت في كُربة من دَيْنِهِ إلا قلتُ: يا مولى الزبير، اقض عنه دينه فيقضيه؟. وقال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- في أول خطبة خطبها عَلَى المنبر: ألا إن العرب جمل أنف قد أَخَذْتُ بخطامه، ألا وإني حامله عَلَى المحجة ومستعن بالله عليه. وكذلك يحتاج العبد الاستعانة بالله عَلَى أهوال ما بين يديه من الموت وما بعده. لما احتضر خالد بن الوليد قال رجل ممن حوله: والله، إنه ليسؤه -يعني: الموت- قال خالد: أجل، فأستعين الله عز وجل. وبكى عامر بن عبد الله بن الزبير عند موته وقال: إِنَّمَا أبكي عَلَى حر النهار وبرد القيام -يعني: صيام النهار وقيام الليل- وقال: إني أستعين الله عَلَى مصرعي هذا بين يديه. ومن كلام بعض المتقدمين: يا رب، عجبت لمن يعرفك يرجو غيرك! عجبت لمن يعرفك كيف يستعين بغيرك!. ¬

_ (¬1) أخرجه ابن السني في "عمل اليوم الليلة" (334)، والطبراني في الأوسط (8163)، وذكره الهيثمي في "المجمع" (5/ 328) وقال: وفيه عبد السلام بن هاشم وهو ضعيف.

وكتب الحسن إِلَى عمر بن عبد العزيز -رحمه الله-: لا تستعن بغير الله فيكلك الله إِلَيْهِ. وقال بعضهم: فاستعن بالله واستعنه فإنَّه خير مستعان. ***

وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "جف القلم بما هو كائن" وفي الرواية الأخرى: "رفعت الأقلام وجفت الكتب" وفي الرواية الأخرى: "وجفت الصحف"

وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "جف القلم بما هو كائن" وفي الرواية الأخرى: "رفعت الأقلام وجفت الكتب" وفي الرواية الأخرى: "وجفت الصحف" كله كناية عن نفوذ المقادير وكتابتها جميعها في كتاب جامع من أمد بعيد، فإن الكتاب إذا كتب وفرغ من كتابته وبعد عهده فقد رفعت الأقلام عنه وجفت الأقلام التي كتب به من مدادها وجفت الصحيفة المكتوب فيها بالمداد المكتوب به فيها. وهذا من (أحسن) (*) الكنايات وأبلغها، وقد دل الكتاب والسنة الصحيحة عَلَى مثل هذا المعنى، قال الله تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الحديد: 22]. قال الضحاك عن ابن عباس: إن الله خلق القلم فأمره ليجري بإذنه، وعِظَم القلم كقدر ما بين السماء والأرض، فَقَالَ القلم: بم يا رب أجري؟ قال: بما أنا خالق وكائن في خلقي من قطر أو نبات أو نفس أو أثر -يعني به: العمل- أو رزق أو أجل. فجرى القلم بما هو كائن إِلَى يوم القيامة، فأثبته الله في الكتاب المكتوب عنده تحت العرش. وروى أبو ظبيان عن ابن عباس: إن أول شيء خلقه الله القلم، فَقَالَ له: اكتب قال: وما كتب؟ قال: القدر. فجرى بما هو كائن إِلَى أن تقوم الساعة ثم قرأ: {ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ} [القلم: 1] (¬1)، وروى أبو الضحى عن ابن عباس نحوه أيضاً (¬2). ¬

_ (*) أبلغ: "نسخة". (¬1) أخرجه ابن جربر (29/ 9، 10). (¬2) أخرجه ابن جرير (29/ 10).

ورُوي حديث أبي الضحى مرفوعًا، ولا يثبت رفعه (¬1). ورُوي ابن بطة بإسناد ضعيف عن أبي هريرة مرفوعًا: "أَوَّلَ شَيْءٍ خَلَقَهُ اللَّهُ الْقَلَمَ ثُمَّ خَلَقَ النُّونَ، وَهِيَ الدَّوَاةُ ثُمَّ قَالَ: اكْتُبْ. قَالَ: مَا أَكْتُبُ؟ قَالَ: اكْتُبْ مَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. فَذَلِكَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ}، ثُمَّ خُتِمَ عَلَى الْقَلَمِ فَلَمْ يَنْطِقْ وَلَا يَنْطِقُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ" (¬2). وخرَّج الإمام أحمد (¬3) وأبو داود (¬4) والترمذي (¬5) من حديث عبادة بن الصامت عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: "إِنَّ أَوَّلَ مَا خَلَقَهُ اللَّهُ الْقَلَمُ ثُمَّ قَالَ: اكْتُبْ. فَجَرَى فِي تِلْكَ اَلسَّاعَةِ بِمَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى يَوْمٍ اَلْقِيَامَةِ". وفي "صحيح مسلم" (¬6) عن عبد الله بن عمرو- رضي الله عنهما- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ مَقَادِيرَ الْخَلَائِقِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ». وخرَّج الإمام أحمد (¬7) والترمذي (¬8) والنسائي (¬9) من حديث عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو قَالَ: «خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي يَدِهِ كِتَابَانِ فَقَالَ: «أَتَدْرُونَ مَا هَذَانِ الكِتَابَانِ؟» فَقُلْنَا: لَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِلَّا أَنْ تُخْبِرَنَا، فَقَالَ: لِلَّذِي فِي يَدِهِ اليُمْنَى: هَذَا كِتَابٌ مِنْ رَبِّ العَالَمِينَ فِيهِ أَسْمَاءُ أَهْلِ الجَنَّةِ وَأَسْمَاءُ آبَائِهِمْ وَقَبَائِلِهِمْ ¬

_ (¬1) أخرجه الطبراني في الكبير (11/ 342 برقم 12227) وقال: لم يرفعه عن حماد ابن زيد إلا مؤمل بن إسماعيل. وقال الهيثمي في المجمع (7/ 128): ومؤمل ثقة كثير الخطأ، وثقه ابن معين وغيره، وضعفه البخاري وغيره، وبقية رجاله ثقات. (¬2) عزاه العجلوني في كشف الخفاء (1/ 309) للحكيم الترمذي عن أبي هريرة. (¬3) (5/ 317). (¬4) برقم (4700). (¬5) برقم (2155) وقال: هذا حديث غريب من هذا الوجه. (¬6) برقم (2653). (¬7) (2/ 167). (¬8) برقم (2141) وقال: وفي الباب عن ابن عمر وهذا حديث حسن غريب صحيح. (¬9) في السنن الكبرى (11473).

ثُمَّ أُجْمِلَ عَلَى آخِرِهِمْ، فَلَا يُزَادُ فِيهِمْ وَلَا يُنْقَصُ مِنْهُمْ أَبَدًا. ثُمَّ قَالَ لِلَّذِي فِي شِمَالِهِ: هَذَا كِتَابٌ مِنْ رَبِّ العَالَمِينَ فِيهِ أَسْمَاءُ أَهْلِ النَّارِ وَأَسْمَاءُ آبَائِهِمْ وَقَبَائِلِهِمْ ثُمَّ أُجْمِلَ عَلَى آخِرِهِمْ فَلَا يُزَادُ فِيهِمْ وَلَا يُنْقَصُ مِنْهُمْ أَبَدًا. فَقَالَ أَصْحَابُهُ: فَفِيمَ العَمَلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنْ كَانَ أَمْرٌ قَدْ فُرِغَ مِنْهُ؟! فَقَالَ: «سَدِّدُوا وَقَارِبُوا؛ فَإِنَّ صَاحِبَ الجَنَّةِ يُخْتَمُ لَهُ بِعَمَلِ أَهْلِ الجَنَّةِ وَإِنْ عَمِلَ أَيَّ عَمَلٍ، وَإِنَّ صَاحِبَ النَّارِ يُخْتَمُ لَهُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ وَإِنْ عَمِلَ أَيَّ عَمَلٍ. ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدَيْهِ فَنَبَذَهُمَا ثُمَّ قَالَ: فَرَغَ رَبُّكُمْ مِنَ العِبَادِ، {فَرِيقٌ فِي الجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} [الشورى: 7]». وخرَّج الإمام أحمد (¬1) من حديث أبي الدرداء عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "فرغ الله إِلَى كل عبد من خمس: من أجله ورزقه وأثره ومضجعه وشقي أو سعيد". وخرَّج الإمام أحمد (¬2) والترمذي (¬3) من حديث ابن مسعود عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: "خلق الله كل نفس وكتب حياتها ورزقها ومصائبها". وخرَّج مسلم (¬4) من حديث جابر "أنَّ رَجُلاً قال: يا رسول الله، فِيمَ الْعَمَلُ الْيَوْمَ أَفِيمَا جَفَّتْ بِهِ الْأَقْلَامُ وَجَرَتْ بِهِ الْمَقَادِيرُ أَوْ فِيمَا نَسْتَقْبِلُ؟ قَالَ: لَا، بَلْ فِيمَا جَفَّتْ بِهِ الْأَقْلَامُ وَجَرَتْ بِهِ الْمَقَادِيرُ. قَالَ: فَفِيمَ الْعَمَلُ؟ قَالَ: اعْمَلُوا، فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ". وفي هذا المعنى أحاديث كثيرة جدًّا، وكذلك الآثار الموقوفة. وقال بعضهم: سلم الأمر كله جف بالكائن القلم ... إن للناس خالقًا لا مرد لما حكم ... ¬

_ (¬1) (5/ 197). (¬2) (1/ 440). (¬3) برقم (2143). (¬4) برقم (2648).

وقوله - صلى الله عليه وسلم - بعد هذا: "فلو أن الخلق جميعا أرادوا أن ينفعوك بشيء لم يقضه الله لك لم يقدروا عليه، وإن أرادوا أن يضروك بشيء لم يكتبه الله عليك لم يقدروا عليه"

وقوله - صلى الله عليه وسلم - بعد هذا: "فلو أنَّ الخلق جميعًا أرادوا أن ينفعوك بشيء لم يقضه الله لك لم يقدروا عليه، وإن أرادوا أن يضروك بشيء لم يكتبه الله عليك لم يقدروا عليه" يريد بذلك أن ما يصيب العبد مما يضره أو ينفعه في دنياه فكله مقدر عليه، ولا يمكن أن يصيبه ما لم يكتب له ولم يُقدَّر عليه ولو اجتهد عَلَى ذلك الخلق كلهم جميعًا، وقد دلّ القرآن أيضاً عَلَى مثل هذا في قوله تعالى: {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا} [التوبة: 51] وقوله: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ} [الحديد: 22] وقوله: {قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ} [آل عمران: 154]. وخرَّج الإمام أحمد (¬1) من حديث أبي الدرداء، عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «إنَّ لِكُلِّ شَيْءٍ حَقِيقَةٌ وَمَا بَلَغَ عَبْدٌ حَقِيقَةَ الْإِيمَانِ حَتَّى يَعْلَمَ أَنَّ مَا أَصَابَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَهُ، وَمَا أَخْطَأَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَهُ». وخرَّج أبو داود (¬2) وابن ماجه (¬3) من حديث زيد بن ثابت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - معناه أيضاً. واعلم أن مدار جميع هذه الوصية من النبي صلّى الله عليه وسلم لابن عباس عَلَى هذا الأصل، وما بعده وما قبله متفرع عليه وراجع إِلَيْهِ، فإنَّه إذا علم العبد أنَّه لن يصيبه إلا ما كتب الله له من خير أو شر أو نفع أو ضر، وأن اجتهاد ¬

_ (¬1) (6/ 441). (¬2) برقم (4699). (¬3) برقم (77).

الخلق كلهم جميعًا عَلَى خلاف المقدور غير مفيد شيئًا ألبتة، علم حينئذ أن الله تعالى وحده هو الضار النافع والمعطي المانع، فأوجب ذلك للعبد توحيد ربه -عز وجل- وإفراده بالاستعانة والسؤال والتضرع والابتهال، وإفراده أيضاً بالعبادة والطاعة؛ لأنّ المعبود إِنَّمَا يقصد بعبادته جلب المنافع ودفع المضار، ولهذا ذم الله سبحانه من يعبد ما لا ينفع ولا يضر ولا يغني عن عابده شيئًا، وأيضًا فكثير ممن لا يحقق الإيمان (في قلبه) (*) يقدّم طاعة مخلوق عَلَى طاعة الله رجاء نفعه أو دفعًا لضره، فإذا تحقق العبد تفرد الله وحده بالنفع والضر وبالعطاء والمنع، أوجب ذلك إفراده بالطاعة والعبادة، ويقدم طاعته عَلَى طاعة الخلق كلهم جميعًا، كما يوجب ذلك أيضاً إفراده سبحانه بالاستعانة به، والطلب منه. وقد اشتملت هذه الوصية العظيمة الجامعة عَلَى هذه الأمور المهمة كلها. فإن حفظ العبد لله -عز وجل- هو حفظ حدوده ومراعاة حقوقه وهو حقيقة عبادته، وهو أول ما صُدِّرت به هذه الوصية، ورُتِّب عَلَى ذلك حفظ الله لعبده، وهو نهاية ما يطلبه العبد من ربه ويريده منه، ثم عقَّب ذلك بذكر التعرف إِلَى الله في الرخاء، وأنه مقتض لمعرفة الله لعبده في الشدة وهذا هو من تمام حفظ الله لعبده وداخل فيه، إلا أن حالة الشدة لما كان العباد مضطرين فيها إِلَى من يعرفهم ويفرج عنهم خُصَّت بالذكر لهذا المعنى، وفي هذه الحالة يُخلص المشركون الدعاء إِلَى الله وحده، ويُفردونه بالسؤال والطلب لعلمهم أنَّه لا يكشف الضر سواه سبحانه، ثم يعودون عند كشف الضر عنهم إِلَى الشرك كما ذكر سبحانه ذلك عنهم في مواضع من كتابه وذمَّهم عليه، فأمر - صلى الله عليه وسلم - بمخالفتهم في ذلك بالتعرف إِلَى الله في حال الرخاء بإخلاص الدين له وحده وبطاعته والتقرب إِلَيْهِ، ليوجب ذلك معرفته لهم في الشدة وكشفها عنهم. ثم عقب ذلك بذكر إفراد الله بالسؤال، وإفراده بالاستعانة وذلك يشمل حال الشدة وحال الرخاء. ثم ذكر بعد هذا كله الأصل الجامع الَّذِي (تنبني) (*) ¬

_ (*) وقلبه: "نسخة". (**) تبني: "نسخة"، وتبتني: "نسخة أخرى".

عليه هذه المطالب، وهو: تفرد الله- سبحانه وتعالى- بالضر والنفع والعطاء والمنع، وأنه لا يصيب العبد من ذلك كله إلا ما سبق تقديره وقضاه له، وأن الخلق كلهم عاجزون عن إيصال نفع أو ضر غير مقدَّر في الكتاب السابق. وتحقيق هذا يقتضي انقطاع العبد عن التعلق بالخلق، وعن سؤالهم واستعانتهم ورجائهم بجلب نفع أو دفع ضر، وخوفهم من إيصال ضر أو منع نفع، وذلك يستلزم إفراد الله سبحانه بالطاعة والعبادة أيضاً، وأن تُقدم طاعته عَلَى طاعة الخلق كلهم جميعًا، وأن يُتقى سخطه وإن كان فيه سخط الخلق جميعًا، وقد جاء في حديث أبي سعيد مرفوعًا: «إِنَّ مِنْ ضَعْفِ الْيقِينِ أَنْ تُرْضِيَ النَّاسَ بِسُخْطِ اللهِ، وَأَنْ تَحْمَدَهُمْ عَلَى رِزْقِ اللهِ، وَأَنْ تَذُمَّهُمْ عَلَى مَا لَمْ يَؤْتِكَ اللهُ، إِنَّ رِزْقَ اللهِ لَا يَجُرُّهُ إِلَيْكَ حِرْصُ حَرِيصٍ، وَلَا يَرُدُّهُ كُرْهُ كَارِهٍ» (¬1). ورُوي عن ابن مسعود من قوله نحوه. وما أحسن قول بعضهم: فليتك تحلو والحياة مريرة ... وليتك ترضى والأنام غضاب وليت الَّذِي بيني وبينك عامر ... وبيني وبين العالمين خراب إذا صح منك الود فالكل هين ... وكل الَّذِي فوق التراب ترابُ فمن تحقق أن كل مخلوق فوق التراب فهو تراب، فكيف يقدم عَلَى طاعة شيء من التراب عَلَى طاعة رب الأرباب؟ أم كيف يُرضي التراب بسخط الملك الوهاب إن هذا لشيء عجاب! وقد دلّ القرآن عَلَى هذا الأصل وهو تفرد الله -سبحانه- بالعطاء والمنع في ¬

_ (¬1) أخرجه أبو نعيم في "الحلية" (5/ 106) وقال: غريب من حديث عمرو تفرد به علي بن مروان عن أبيه. قلت: ووالد علي بن مروان هو محمد بن مروان السدي قال الذهبي في الميزان (4/ 32): تركوه، واتهمه بعضهم بالكذب، وهو صاحب الكلبي. وفي الإسناد عطية العوفي وهو ضعيف.

مواضع كثيرة جدًّا كقوله تعالى: {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ} [فاطر: 2]. وقوله تعالى: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ} [يونس: 107]. وقوله تعالى: {قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ} [الزمر: 38]. وقوله تعالى حاكيًا عن نبيه نوح -عليه السلام- أنَّه قال لقومه: {إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ} [يونس: 71]. وقوله تعالى حاكيًا عن نبيه هود -عليه السلام- {قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ * إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [هود: 54 - 56]. وقال بعضهم: ما قدر الله لي لابد يدركني ... من ذا الَّذِي يدفع المقدور بالحذر الله أولى بنا منا بأنفسنا ... إن نحن إلا مماليك المقتدر وشكا رجل إِلَى فضيل الفاقة، فَقَالَ له فضيل: أمدبِّرًا غير الله تريد؟! وقال بعضهم: دبر فليس بمغن عنك تدبير ... وليس يعدوك بالتدبير تقدير إن الأمور لها رب يدبرها ... فما قضى الرب ساقته المقادير ***

وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "واعلم أن في الصبر على ما تكره خيرا كثيرا"

وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "واعلم أنَّ في الصبر عَلَى ما تكره خيرًا كثيرًا" وفي رواية عمر مولى غفرة عن ابن عباس زيادة قبل هذا الكلام وهي: "فإن استطعت أن تعمل لله بالرضا في اليقين فافعل، وإن لم نستطع فإن في الصبر عَلَى ما تكره خيرًا كثيرًا" (¬1). ومراده باليقين هاهنا تحقيق الإيمان بما سبق ذكره من التقدير السابق كما ورد ذلك صريحًا في رواية ابنه علي بن عبد الله بن عباس عن أبيه، لكن بإسناد ضعيف، وفي روايته زيادة وهي: قلت: يا رسول الله كيف أصنع باليقين؟ قال: "أن تعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وأن ما أخطأك لم يكن ليصيبك". فإذا أنت أحكمت باب اليقين فحصول اليقين للقلب بالقضاء السابق والتقدير الماضي يوجب رضا النفس بالقضاء والقدر وطمأنينتها به، وقد دلّ القرآن عَلَى هذا المعنى بعينه في قوله تعالى: {لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ} [الحديد: 23]. قال الضحاك في هذه الآية: عزّاهم {لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ} لا تأسوا عَلَى شيء من أمر الدُّنْيَا فإنا لم نقدره لكم {وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ} لا تفرحوا بشيء من أمر الدُّنْيَا أعطيناكموه، فإنَّه لم يكن يزوى عنكم. خرّجه ابن أبي الدُّنْيَا. وقال سعيد بن جبير في هذه الآية: لكيلا تأسوا عَلَى ما فاتكم من العافية والخصب إذا علمتم أنَّه كان مكتوبًا عليكم قبل أن يخلقكم. خرَّجه ابن أبي حاتم. ومن هذا المعنى قول بعض السَّلف: الإيمان بالقدر يُذْهِبُ الهم ¬

_ (¬1) أخرجه أبو نعيم في "الحلية" (1/ 314).

والحزن، وقد أشار النبي صلّى الله عليه وسلم إِلَى ذلك بقوله في الحديث الصحيح عنه: "احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ وَاسْتَعِنْ بِاللهِ وَلَا تَعْجَزْ، فَإِنْ أَصَابَكَ شَيْءٌ فَلَا تَقُلْ: لَوْ أَنِّي فَعَلْتُ [كَانَ] (*) كَذَا [وَكَذَا] (*) وَلَكِنْ قُلْ: قَدَرُ اللهِ وَمَا شَاءَ فَعَلَ، فَإِنَّ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ" (¬1). فأشار في هذا الحديث إِلَى أن تذكير النفس بالقدر السابق عند المصائب يذهب وساوس الشيطان الموجبة للهم والحزن والندم عَلَى تعاطي الأسباب الدافعة لوقوعها. وقال أنس: خدمت النبي صلّى الله عليه وسلم عشر سنين، فما قال لي لشيء فعلته لم فعلت كذا وكذا؟ ولا شيء لم أفعله: ألا فعلت كذا (¬2). وقال: وكان إذا لامني بعض أهله، قال: "دعوه فلو قُدِّرَ شيء كان" خرّجه الإمام أحمد (¬3) بهذه الزيادة. وخرَّج ابن أبي الدُّنْيَا بإسناد فيه نظر عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: كان أكثر كلام النبي صلّى الله عليه وسلم في بيته إذا خلا: "ما قضى من أمر يكن" وخرَّج أيضاً حديثًا مرسلاً أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال لابن مسعود: "لا تكثر همك ما يُقدَّر يكن، وما ترزق يأتيك" وفي حديث أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا حول ولا قوة إلا بالله، دواء من تسعة وتسعين داء، أيسرها: الهم" خرّجه الطبراني (¬4) والحاكم (¬5). ¬

_ (*) ما بين المعقوفتين من صحيح مسلم. (¬1) أخرجه مسلم (2664). (¬2) أخرجه البخاري (6038)، ومسلم (2309). (¬3) (3/ 231). (¬4) في "الأوسط" (5028) وقال: لم يرو هذا الحديث عن محمد بن عجلان إلا بشر ابن رافع، تفرد به عبد الرزاق. وقال الهيثمي في المجمع (10/ 98): رواه الطبراني في الأوس، وفيه بشر بن رافع الحارثي وهو ضعيف وقد وثق وبقية رجاله رجال الصحيح، إلا أن النسخة من الطبراني الأوسط سقط منها عجلان والد محمد الَّذِي بينه وبين أبي هريرة والله أعلم. (¬5) (1/ 542) وقال: هذا حديث صحيح ولم يخرجاه، وبشر بن رافع الحارثي ليس بالمتروك وإن لم يخرجاه، وكذلك الهيثم البكاء لم يخرجاه وله حديث يتفرد به وهذا موضعه فإنَّه من عباد المسلمين. وتعقبه الذهبي في "التلخيص" وقال: بشر واه.

فإن تحقيق هذه الكلمة يقتضي تفويض الأمور إِلَى الله، وأنه لا يكون إلا ما شاء والإيمان بذلك يذهب الهم والغم، وقد وصى النبي - صلى الله عليه وسلم - رجلاً فَقَالَ: "لا تتهم الله في شيء قضاه لك" (¬1). فإذا نظر المؤمن بالقضاء والقدر في (حكم) (*) الله ورحمته، وأنه غير متهم في قضائه دعاه ذلك إِلَى الرضا بالقضاء، وقال الله عز وجل: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} [التغابن: 11] قال علقمة في هذه الآية: هي المصيبة تصيب الرجل فيعلم أنها من عند الله فيسلّم لها ويرضى. وفي الحديث الصحيح (¬2) عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: "لَا يَقْضِي اللَّهُ لِلْمُؤْمِنِ من قَضَاء إِلَّا كَانَ خَيْرًا لَهُ، إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ كَانَ خَيْرًا لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ فَصَبَرَ كَانَ خَيْرًا لَهُ، وَلَيْسَ ذَلِكَ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ". وقد دلّ القرآن عَلَى مثل هذا المعنى في قوله تعالى: {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ * قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ} [التوبة: 51، 52] فأخبر أنَّه لن يصيبهم إلا ما كتب لهم، فدلّ عَلَى أنَّه لهم بكل حال سواء كان مما يلائم أو لا يلائم، وأخبر أنَّه تعالى مولاهم، ومن تولاه الله لم يخذله بل هو يتولى مصالحه، قال تعالى: {وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلَاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} [الأنفال: 40] ثم عقب ذلك بقوله: {قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ} [التوبة: 52] يعني إما النصر والظفر، وإما الشهادة، وأيّهما كان فهو حسن. وخرَّج الترمذي (¬3) من حديث أنس عن النبي صلّى الله عليه وسلم: "إِنَّ اللَّهَ إِذَا أَحَبَّ قَوْمًا ابْتَلَاهُمْ، فَمَنْ رَضِي فَلَهُ الرِّضَا، وَمَنْ سَخِطَ فَلَهُ السَّخَطُ". ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد (5/ 319). وذكره الهيثمي في المجمع (1/ 59) وقال: رواه أحمد، وفي إسناده ابن لهيعة. (*) حكمة: "نسخة". (¬2) أخرجه مسلم (2999). (¬3) برقم (2396) وقال: هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه.

قال أبو الدرداء: إن الله إذا قضى قضاء أَحَبّ أن يُرضى به. وقالت أم الدرداء: إن الراضين بقضاء الله الذين ما قضى لهم رضوا به، لهم في الجنة منازل، يغبطهم بها الشهداء يوم القيامة. وقال ابن مسعود (¬1): إن الله بقسطه وعلمه جعل الروح والفرح في اليقين والرضا، وجعل الهم والحزن في الشك والسخط. وقد رُوي هذا مرفوعًا من وجه ضعيف (¬2). وكان عمر بن عبد العزيز يقول: لقد تركتني هؤلاء الدعوات وما لي في شيء من الأمور إرب إلا في مواقع قدر الله عز وجل، وكان يدعو بها كثيرًا: اللهم ارضني بقضائك وبارك لي في قدرك، حتى لا أَحَبّ تعجيل شيء أخرته، ولا تأخير شيء قدّمته. وقال ابن عون: ارض بقضاء الله عَلَى ما كان من عسر ويسر؛ فإن ذلك أقل لهمك، وأبلغ فيما تطلب من أمر آخرتك، واعلم أن العبد لن يصيب حقيقة الرضا حتى يكون رضاه عند الفقر والبلاء كرضاه عند الغنى والرخاء، كيف تستقضي الله في أمرك؟ ثم تسخط إن رأيت قضاءه مخالفًا لهواك! ولعل ما هويت من ذلك لو وفق لك لكان فيه هلاكك، وترضى قضاءه إذا وافق هواك وذلك لقلة علمك بالغيب! وكيف تستقضيه إن كنت ذلك؟ ما أنصفت من نفسك ولا أصبت باب الرضا! وهذا كلام حسن، ومعناه أن العبد إذا استخار الله -عز وجل- فينبغي له أن يرضى لما اختاره له من موافق لهواه أو مخالف له؛ لأنّه لا يدري في أيهما الخيرة له والله تعالى غير متهم في قضائه لمن استخاره. ومن ها هنا كان طائفة من السَّلف ابن مسعود وغيره يأمرون من يخاف أن ¬

_ (¬1) أخرجه البيهقي في "الشعب" (205 - سلفية) وإسناده منقطع. (¬2) أخرجه الطبراني في الكبير (10/ 10514)، والبيهقي في "الشعب" (204 - سلفية)، وأبو نعيم في الحلية (4/ 121، 7/ 130). قال أبو نعيم: غريب من حديث الثوري ومن حديث الأعمش، تفرد به خالد بن يزيد العمري. وقال الهيثمي في المجمع (4/ 71): وفيه خالد بن يزيد العمري واتهم بالوضع.

لا يصبر عَلَى ما يخالف هواه مما يختار له أن يقول في استخارته: في عافية فإنَّه قد يختار له البلاء ولا يصبر عليه، وقد رُوي مرفوعًا من وجه ضعيف (¬1)!. وعن بكر المزني أن رجلاً كان يكثر الاستخارة فابتلي فجزع ولم يصبر فأوحى الله إِلَى نبي من أنبيائهم أن قل لعبدي فلان: إذا لم يكن من أهل العزائم فهلا استخرتني في عافية! وفي حديث سعد المرفوع: «مِنْ سَعادَةِ الْمَرْءِ استِخَارَتُهُ رَبُّهُ -عَزَّ وَجَلَّ- وَرِضَاهُ بِمَا قَضَى، وَإِنَّ مِنْ شَقَاوَتهِ تَرْكُهُ الاسْتِخَارَةَ وَسَخَطُهُ بِمَا قَضَى» خرَّجه الترمذي (¬2) وغيره (¬3). وللرضا بالقضاء أسباب منها: يقين العبد بالله وثقته بأنه لا يقضي للمؤمن قضاء إلا وهو خير له، فيصير كالمريض المستسلم للطبيب الحاذق الناصح فإنَّه يرضى بما يفعله به من مؤلم وغيره لثقته به ويقينه أنَّه لا يريد له إلا الأصلح، وهذا الَّذِي أشار إِلَيْهِ ابن عون في كلامه المتقدم ذكره. ومنها: النظر إِلَى ما وعد الله من ثواب الرضا، وقد يستغرق العبد في ذلك حتى ينسى ألم المقضي به كما رُوي عن بعض الصالحات من السلف أنها عثرت فانكسر ظفرها، فضحكت وقالت: أنساني لذة ثوابه مرارة ألمه. ومنها: وهو أعلى من ذلك كله الاستغراق في محبة المبتلي ودوام ملاحظة جلاله وجماله وعظمته وكماله الَّذِي لا نهاية له، فإن قوة ملاحظة ذلك يوجب ¬

_ (¬1) أخرجه الطبراني في الكبير (10/ 10012، 10052). (¬2) برقم (2151). وقال: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث محمد بن أبي حميد. ويقال له أيضاً حماد بن أبي حميد، وهو أبو إبراهيم المدني، وليس هو بالقوي عند أهل الحديث. (¬3) وأخرجه أحمد (1/ 168) وغيره.

الاستغراق فيه حتى لا يشعر بالألم كما غاب النسوة اللاتي شاهدن يوسف عن ألم تقطيع أيديهن بمشاهدته. قال الجنيد سألت سريًّا: هل يجد المحب ألم البلاء؟ فَقَالَ: لا. وهذا إشارة منه إِلَى هذا المقام، ومنه قول جماعة من أهل البلاء: دعه يفعل بنا ما يشاء فلو قطعنا إربًا إربًا ما ازددنا له إلا حبًّا. وفي هذا المعنى يقول بعضهم: لو قطّعني الغرام إربًا إربًا ... ما ازددت عَلَى الملام إلا حبًّا لا زلت بكم أسير وجدٍ صبا ... حتى أقضي عَلَى هواكم نحبا وكان إبراهيم بن أدهم قد خرج من ملكه وماله وولده وحشمه، فرأى ولده في الطواف فلم يكلمه، وقال: هجرتُ الخلق طرّا في (رضاكا) (*) ... وأيتمتُ العيال لكي أراكا فلو قطّعتني في الحب إربًا ... لما حنَّ الفؤاد إِلَى سواكا كان جماعة من المحبين كالفضيل وفتح الموصلي إذا باتوا ليلة بغير عشاء ولا سراج اشتد فرحهم، وبكوا من الفرح، وقالوا: مثلنا يترك بغير عشاء ولا سراج بأي يد كانت منَّا، وبأي وسيلة توسلنا بها، وكان فتح يجمع ولده في ليالي الشتاء، ويغطيهم بكسائه، ويقول: أجعتني وأجعت عيالي، وأغربتني وأغربت عيالي، وإنَّما تفعل ذلك بأوليائك وأحبابك فهل أنا منهم حتى أفرح؟. ودخلوا عَلَى بعض السَّلف وهو مريض فقالوا له: ما تحب؟ فَقَالَ: أحبُّه إِلَيّ أحبُّه إِلَيْهِ. وفي هذا المعنى يقول بعضهم: عذابه فيك عذب ... وبعده فيك قرب وأنت عندي كروحي ... بل أنت منها أَحَبّ حسبي من الحب أني ... لما تحب أحبُّ ¬

_ (*) هواكا: "نسخة".

وأنشد أبو تراب: لا تخدعن فللمحب دلائل ... ولديه من تحف الحبيب وسائل منها تنعمه بمرِّ بلائه ... وسروره في كل ما هو فاعل فالمنع منه عطية مقبولة ... والفقر إكرامٌ وبرٌّ عاجل دخلوا عَلَى رجل قد قتل ولده في الجهاد يعزونه فبكى وقال: ما أبكي عَلَى قتله، إِنَّمَا أبكي كيف كان رضاه عن الله حين أخذته السيوف؟: إن كان سكان الغضا ... رضوا بقتلي فرضى والله لا كنت لما ... يهوى الحبيب مبغضا صرت لهم عبدًا وما ... للعبد أن يعترضا هم قلبوا قلبي من الشـ ... ـوق عَلَى جمر الغضا يا ليت أيام الحمى ... يعود منها ما مضى من لمريض لا يرى ... إلا الطبيب الممرضا والمقصود أن النبي صلّى الله عليه وسلم أمر ابن عباس بالعمل لله بالرضا إن استطاعه، ثم قال له: "فإن لم تستطع فإن في الصبر عَلَى ما تكره خيرًا كثيرًا". وهذا يدل عَلَى أن الرضا بالأقدار المؤلمة ليس بحتم واجب؛ وإنَّما هو فضل مندوب إِلَيْهِ، فمن لم يستطع الرضا فليلزم الصبر، فإن الصبر واجب لابد منه، وفيه خير كثير، فإن الله تعالى أمر بالصبر ووعد عليه جزيل الأجر، قال تعالى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر: 10] وقال: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة: 155 - 157] وقال تعالى: {وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ * الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ} [الحج: 34، 35]. قال الحسن: الرضا عزيز ولكن الصبر مُعَوَّلُ المؤمن.

قال سليمان الخواص: الصبر دون الرضا، فالرضا: أن يكون الرجل قبل نزول المصيبة راض بأي ذلك كان، والصبر: أن يكون بعد نزول المصيبة يصبر. وحقيقة الفرق بين الصبر والرضا: أن الصبر كف النفس وحبسها عن التسخط مع وجود الألم، والرضا يوجب انشراح الصدر وسعته، وإن وجد الإحساس بأصل الألم لكن الرضا يخفف الإحساس بالألم لما يباشر القلب من روح اليقين والمعرفة، وقد يزيل الإحساس به بالكلية عَلَى ما سبق تقريره. ولهذا قال طائفة كثيرة من السَّلف منهم عمر بن عبد العزيز، والفضيل، وأبو سليمان، وابن المبارك، وغيرهم: إن الراضي لا يتمنى غير حاله التي هو عليها بخلاف الصابر. وقد رُوي عن طائفة من الصحابة هذا المعنى أيضاً، وأنهم كانوا لا يتمنون غير ما هم عليه من الحال، منهم عمر وابن مسعود. قال عبد العزيز بن أبي روَّاد: كان عابد يتعبد في بني إسرائيل، فرأى في منامه أن فلانة زوجتك في الجنة، فاستضافها ثلاث ليال لينظر عملها، فكانت تنام وهو يقوم، وتفطر وهو يصوم، فلما فارقها سألها عن أوثق عملها عندها، قالت: هو ما رأيت، إلا خصلة واحدة، إن كنت في شدة لم أتمنّ أني في رخاء، وإن كنت في مرض لم أتمنّ أني في صحة وإن كنت جائعة لم أتمنّ أني شبعانة، وإن كنت في شمس لم أتمنّ أني في ظلٍّ. فَقَالَ العابد: هذه والله خصلة يعجز عنها العباد. وكما أن الصبر إِنَّمَا يكون عند الصدمة الأولى، كما صح ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬1) فالرضا إِنَّمَا يكون بعد نزول البلاء، كما كان النبي صلّى الله عليه وسلم يقول في دعائه: "وأسألك الرضا بعد القضاء" (¬2). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (1302)، ومسلم (626). (¬2) أخرجه النسائي (1305)، والحاكم في المستدرك (1/ 524 - 525) وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه.

لأنّ العبد قد يعزم عَلَى الرضا بالقضاء قبل وقوعه، فَإِذَا وقع انفسخت تلك العزيمة. فمن رضي بعد وقوع القضاء، فهو الراضي حقيقة. وفي الجملة: فالصبر واجب لابد منه، وما بعده إلا السخط، ومن سخط أقدار الله فله السخط مع ما يتعجل له من الألم وشماتة الأعداء به أعظم من جزعه، كما قال بعضهم: لا تجزعن من كل خطب عرا ... ولا ترى الأعداء ما يشمتوا يا قوم بالصبر ينال المنى ... إذا لقيتم فئة فاثبتوا (*) وقال النبي صلّى الله عليه وسلم: "من يتصبر يصبره الله، وما أُعطي أحد عطاءً خيرًا ولا أوسع من الصبر" (¬1). وقال عمر: وَجدنا خير عيشنا بالصبر (¬2). وقال علي: إن الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد، ولا إيمان لمن لا صبر له (¬3). وقال الحسن: الصبر كنز من كنوز الجنة، لا يعطيه الله إلا لمن كرم عليه. وقال ميمون بن مهران: ما نال أحد شيئًا من جسيم الخير، نبي فمن دونه إلا بالصبر. وقال إبراهيم التيمي: ما من عبد (وهبه الله) (**) صبراً عَلَى الأذى، ¬

_ (*) فاصبروا "نسخة". (¬1) أخرجه البخاري (1469)، ومسلم (1053). (¬2) علقه البخاري (11/ 309) وقال الحافظ في "الفتح": وقد وصله أحمد في "كتاب الزهد" بسند صحيح عن مجاهد قال: قال عمر -إِلَى قوله- وأخرجه الحاكم من رواية مجاهد عن سعيد بن المسيب عن عمر ... الخ. وأخرجه ابن المبارك في الزهد (630) ووكيع في الزهد (198). (¬3) أخرجه أبو نعيم في "الحلية" (1/ 75 - 76). (**) وهب الله له: "نسخة".

وصبرًا عَلَى البلاء وصبرًا عَلَى المصائب، إلا وقد أوتي أفضل ما أوتيه أحد بعد الإيمان بالله -عز وجل. وهذا منتزع من قوله تعالى: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} إِلَى قوله: {وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [البقرة: 177]. والمراد بالبأساء: الفقر ونحوه، وبالضراء: المرض ونحوه، وحين البأس: حال الجهاد. وقال عمر بن عبد العزيز: ما أنعم الله عَلَى عبد نعمة فانتزعها منه، فعاضه مكان ما انتزع منه الصبر إلا كان ما عوضه خيرًا مما انتزع منه، ثم تلا: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر: 10]. وكان بعض الصالحين في جيبه ورقة يفتحها كل ساعة فينظر فيها، وفيها مكتوب: {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} [الطور: 48]. والصبر الجميل هو أن يكتم العبد المصيبة ولا يخبر بها. قال طائفة من السَّلف في قوله تعالى: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ} [يوسف: 83] قالوا: لا شكوى معه. كان الأحنف بن قيس قد ذهبت عينه من أربعين سنة ولم يذكرها لأحد. وذهبت عين عبد العزيز بن أبي روَّاد من عشرين سنة، فتأمله ابنه يومًا فَقَالَ له: يا أبت، قد ذهبت عينك! فَقَالَ: نعم يا بني، الرضا عن الله أذهب عين أبيك من عشرين سنة. وكان الإمام أحمد لا يشتكي ما به من المرض إِلَى أحد، وذُكرَ له أن مجاهدًا كان يكره الأنين في المرض، فتركه فلم يئن حتى مات، وكان يقول لنفسه: يا نفسي، اصبري ولا تندمي. ودخل بعض العارفين عَلَى مريض يقول: آه، فَقَالَ له ذلك العارف: ممن؟!

وفي هذا المعنى يقول بعضهم: تفيض النفوس بأوصابها ... وتكتم عوادها ما بها وما أنصفت مهجة تشتكي ... هواها إِلَى غير أحبابها قال يحيى بن معاذ: لو أحببت ربك ثم جوعك وأعراك، لكان يجب أن تحتمله وتكتمه عن الخلق، فقد يحتمل الحبيب لحبيبه الأذى فكيف وأنت تشكوه فيما لم يصنعه بك؟: ويقبح من سواك الفعل عندي ... وتفعله فيحسن منك ذاكا كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه يشدون عَلَى بطونهم الحجارة من الجوع (¬1). أن أُويس يلتقط الكسر من المزابل، والكلابُ تزاحمه، فنبح عليه كلب يومًا فَقَالَ: يا كلب، لا تؤذ من لا يؤذيك، كل مما يليك وآكل ما يليني، فإن دخلت الجنة فأنا خير منك، وإن دخلت النار فأنت خير مني. وكان إبراهيم بن أدهم يلتقط السنبل مع المساكين، فرأى منهم كراهة لمزاحمته، فَقَالَ: أنا تركت ملك بلخ أفأزاحم المساكين عَلَى لقط السنبل؟ فكان بعد ذلك لا يلتقط إلا مع الدواب التي ترعى فيه. وكان الإمام أحمد يلتقط السنبل مع المساكين أيضاً. وآجر سفيان الثوري نفسه من جمالين في طريق مكة، فطبخ لهم طعامًا فأفسده. فضربوه. وكان فتح الموصلي يوقد النار للناس بالأجرة: من أجلك قد تركت خدي أرضا ... للشامت والحسود حتى ترضى مولاي إِلَى متى بهذا أحظى ... عمر يفنى وحاجتي ما تقضى ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (6452).

غيره: كم أحمل في هواك ذلا وعنا ... كم أصبر فيك تحت سقم وضنا لا تطردنّي فليس عنك غنى ... خذ روحي إن أردت الثمنا من أجل هواكم هويت العشقا ... قلبي كلف ودمعتي ما ترقا في حبكم يهون ما قد ألقى ... ما يسعد بالنعيم من لا يشقى كانت مصائب الدُّنْيَا عندهم نعمًا، حتى قال بعضهم: ليس بفقيه من لم يعد البلاء نعمة والرخاء مصيبة. ومن الإسرائيليات: إذا رأيت الغنى مقبلا فقل: ذنب عجلت عقوبته، وإذا رأيت الفقر مقبلا فقل: مرحبًا بشعار الصالحين. وقال بعض السَّلف: إني لأصاب بالمصيبة فأحمد الله عليها أربع مرات: أحمد الله إذ لم تكن أعظم مما هي، وأحمد الله إذ رزقني الصبر عليها، وأحمده إذ وفقني للاسترجاع، وأحمده إذ لم يجعلها في ديني. انتظار الفرج بالصبر عبادة، فإن البلاء لا يدوم: اصبر لكل مصيبة وتجلد ... واعلم بأن الضر غير مؤبد واصبر كما صبر الكرام فإنها ... نُوَبٌ تنوب اليوم تكشف في غد إذا غُمِسَ أعظم الناس بلاء في الدُّنْيَا في نعيم الجنة غمسة، قِيلَ لَهُ: هل رأيت بؤسًا قط؟ هل مر بك بؤس قط؟ قال: لا يا رب (¬1). يا نفس ما هي إلا صبر أيام ... كأن مدتها أضغاث أحلام يا نفس جوزي عن الدُّنْيَا مبادرة ... وخل عنها فإن العيش قدام قال غيره: وما هي إلا ساعة ثم تنقضي ... ويذهب هذا كله ويزول ¬

_ (¬1) يشير المصنف لما أخرجه مسلم (2807) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.

وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "واعلم أن النصر مع الصبر"

وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "واعلم أنَّ النصر مع الصبر" هذا موافق لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الأنفال: 45]. وقوله تعالى: {الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ ... } الآية [الأنفال: 66]. وقوله تعالى في قصة طالوت: {فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 249]. وقوله تعالى: {بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ} [آل عمران: 125] إِلَى غير ذلك من الآيات والأحاديث في الأمر بالصبر عند لقاء العدو كثيرة جدًا. وقال عمر لأشياخ من بني عبس: بم قاتلتم الناس؟ قالوا: بالصبر، لم نلق قومًا إلا صبرنا لهم كما صبروا لنا. قال بعض السَّلف: كلنا نكره الموت وألم الجراح، ولكن نتفاضل بالصبر. وسئل البطال عن الشجاعة فَقَالَ: صبر ساعة. وهذا كله في جهاد العدو الظاهر وهو جهاد الكفار، وكذلك في جهاد العدو الباطن وهو جهاد النفس والهوى، فإن جهادهما من أعظم الجهاد كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-:

"المجاهد من جاهد في الله" (¬1). وقال عبد الله بن عمرو لرجل سأله عن الجهاد: ابدأ بنفسك فجاهدها، وابدأ بنفسك فاغزها. ويروى بإسناد ضعيف من حديث "جابر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لقوم رجعوا من الغزو: قَدِمْتُمْ مِنَ الْجِهَادِ الْأَصْغَرِ إِلَى الْجِهَادِ الْأَكْبَرِ. قيل وما الجهاد الأكبر؟ قال: مُجَاهَدَةِ الْعَبْدِ هَوَاهُ" (¬2). وقال أبو بكر الصديق -رضي الله عنه- في وصيته لعمر رضي الله عنه حين استخلفه: إن أول ما أحذرك نفسك التي بين جنبيك. ويروى من حديث سعد بن سنان عن أنس -رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ومن حديث أبي مالك الأشجعي عن النبي صلّى الله عليه وسلم مرسلاً قال: "لَيْسَ عَدُوُّكَ الَّذِي إِذَا قَتَلَكَ أَدْخَلَكَ الْجَنَّةَ، وَإِذَا قَتَلْتَهُ كَانَ لَكَ نُورًا، أَعْدَى عَدُوّكَ نَفْسُكَ الَّتِي بَيْنَ جَنْبَيْكَ" (¬3). وأخذ هذا المعنى العباس بن الأحنف الشاعر فَقَالَ: قلبي إِلَى ما ضرني داعي ... يكثر أحزاني وأوجاعي لقل ما أبقى عَلَى ما أرى ... يوشك أن ينعاني الناعي كيف احتراسي من عدوي إذا ... كان عدوي بين أضلاعي فهذا الجهاد أيضاً يحتاج إِلَى صبر، فمن صبر عَلَى مجاهدة نفسه وهواه وشيطانه غلب وحصل له النصر، ومن جزع ولم يصبر عَلَى مجاهدة ذلك غلب ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد (6/ 20)، والترمذي (1621) وقال: "وفي الباب عن عقبة بن عامر وجابر، وحديث فضالة حديث حسن صحيح. والحاكم في "المستدرك" (1/ 11). (¬2) أخرجه البيهقي في "الزهد الكبير" (373) وقال: هذا إسناد فيه ضعف. (¬3) أخرجه الطبراني في "الكبير" (3/ 3445) من حديث أبي مالك الأشعري وفيه: "ولكن أعدى عدوك ولدك الَّذِي خرج من صلبك، ثم أعدى عدو لك مالك الَّذِي ملكت بيمينك". وإسناده منقطع في موضعين، فإن محمد بن إسماعيل بن عياش لم يسمع من أبيه، وشريح لم يسمع من أبي مالك الأشعرى كما قال أبو حاتم الرازي.

وقهر وأسر، وصار ذليلا أسيرًا في يدي شيطانه وهواه، كما قيل. قال غيره: رب مستور سبته صبوة ... فتعرى صبره فانهتكا صاحب الشهوة عبد فإذا ... غلب الشهوة صار الملكا قال ابن المبارك رحمه الله: من صبر فما أقل ما يصبر، ومن جزع فما أقل ما يجزع. وفي الصحيحين عن النبي صلّى الله عليه وسلم: "ليس الشديد بالصُّرعة، إِنَّمَا الشديد الَّذِي يملك نفسه عند الغضب" (¬1). ووصف بعضهم الأحنف بن قيس فَقَالَ: كان أشد الناس سلطانًا عَلَى نفسه عند الغضب. قيل لبعضهم: إن فلانًا يمشي عَلَى الماء! فَقَالَ: من مكّنه الله من مخالفة هواه فهو أقوى ممن يمشي عَلَى الماء. واعلم أن نفسك بمنزلة دابتك، إن عرفت منك الجدّ جدت، وإن عرفت منك الكسل طمعت فيك، وطلبت منك حظوظها وشهواتها. كان أبو سليمان الداراني يقول: كنت بالعراق، أمر عَلَى تلك القصور والمراكب والملابس والمطاعم التي للملوك، فلا تلتفت نفسي إِلَى شيء من ذلك، وأمر عَلَى التمر، فتكاد نفسي تقع عليه، فذكر ذلك لبعض العارفين فَقَالَ: تلك الشهوات آيس نفسه منها فآيست والتمرة أطعمها فيه فطعمت، كما قيل: صبرت عَلَى اللذات حتى تولت ... وألزمت نفسي هجرها فاستمرت وما النفس إلا حيث يجعلها الفتى ... فإن طعمت تاقت لها وإلا تسلت وكانت عَلَى الأيام نفسي عزيزة ... فلما رأت عزمي عَلَى الذل ذلت ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (6114)، ومسلم (2608).

فقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إن النصر مع الصبر"

فقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إن النصر مع الصبر" يشمل الصبر عَلَى جهاد العبد لعدوه الظاهر، وجهاده لعدوه الباطن وهو نفسه وهواه، وكان السَّلف يفضلون هذا الصبر عَلَى الصبر عَلَى البلاء. قال ميمون بن مهران: الصبر صبران: الصبر عَلَى المصيبة حسن، وأفضل من ذلك الصبر عن المعاصي. وقال سعيد بن جبير: الصبر عَلَى نحوين: أحدهما الصبر عما حرم الله، والصبر لما افترض الله من عبادته، فذلك أفضل الصبر، والصبر الآخر في المصائب. وقد ورد في هذا حديث مرفوع من حديث علي (¬1). لكنه لا يثبت. ... ¬

_ (¬1) أخرجه ابن أبي الدُّنْيَا في "الصبر" (24) من طريق عمر بن يونس عمن حديثه عن علي بن أبي طالب قال رسول الله: "الصبر ثلاث: فصبر عَلَى المصيبة، وصبر عَلَى الطاعة، وصبر عن المعصية .. " الحديث. وفي إسناده راوٍ مبهم.

قوله - صلى الله عليه وسلم -: "أن الفرج مع الكرب"

قوله - صلى الله عليه وسلم -: "أَنَّ الفرج مع الكرب" هذا يشهد له قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ ... } [الشورى: 28]. وقوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا ... } [الروم: 48]. وقول النبي صلّى الله عليه وسلم في حديث أبي رزين العقيلي: "ضَحِكَ رَبُّنَا مِنْ قُنُوطِ عِبَادِهِ وَقُرْبِ غِيَرِهِ" خرَّجه الإمام أحمد (¬1)، وخرَّج ابنه عبد الله (¬2) من حديث أبي رَزِينٍ أيضًا في حديث طويل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "علم الله يوم الغيث إنه ليشرف عليكم أَزَلينَ قَنِطِينَ، فَيَظَلُّ يَضْحَكُ، قَدْ يَعْلَمُ أَنَّ غَيرَكُمْ إِلى قرب". والمعنى أنَّه سبحانه يعجب من قنوط عباده عند احتباس المطر عنهم، وخوفهم وإشفاقهم ويأسهم من الرحمة، وقد قدر الله تغيير هذه الحال عنهم عن قرب بإنزال المطر ولكنهم لا يشعرون. وهذا كما اشتكى ذلك الرجل إِلَى النبي صلّى الله عليه وسلم وهو قائم يخطب يوم الجمعة احتباس المطر وجهد الناس فرفع النبي صلّى الله عليه وسلم يديه فاستسقى لهم حتى نشأ السحاب ومطروا إِلَى الجمعة الأخرى حتى قاموا إليه يسضحي لهم ففعل فأقلعت السماء (¬3). وقد قص الله في كتابه قصصًا كثيرة تتضمن وقوع الفرج بعد الكرب والشدة، ¬

_ (¬1) (4/ 11، 12). (¬2) في السنة (452، 453). (¬3) أخرجه البخاري (1013)، ومسلم (897).

كما قص نجاة نوح ومن معه في الفلك من الكرب العظيم، مع إغراق سائر أهل الأرض. وكما قص نجاة إبراهيم -عليه السلام- من النار التي ألقاه المشركون فيها، وأنه جعلها عليه بردًا وسلامًا، وكما قص قصة إبراهيم عليه السلام مع ولده الَّذِي أمر بذبحه ثم فداه بذبح عظيم. وكما قص قصة موسى -عليه السلام- مع أمه لما ألقته في اليم حتى التقطه آل فرعون، وقصته مع فرعون لما نجّى الله موسى في البحر وأغرق عدوه. وكما قص أيوب ويونس ويعقوب ويوسف- عليهم السلام- وقصة قوم يونس لما آمنوا. وكما قص الله قصص محمد - صلى الله عليه وسلم - ونصره عَلَى أعدائه ونجاته منهم في عدة مواطن مثل قصته في الغار وقصته يوم بدر ويوم أُحد ويوم حنين. وكما قص سبحانه قصة عائشة رضي الله عنها في حديث الإفك وبرأها مما رميت به (¬1). وقصة الثلاثة: {وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا} (¬2) [التوبة: 118]. وفي السنة من هذا المعنى شيء كثير أيضاً مثل قصة الثلاثة الذين دخلوا الغار فانطبقت عليهم الصخرة، فدعوا الله بأعمالهم الصالحة، ففرج عنهم (¬3). ومثل قصة إبراهيم وسارة مع الجبار الَّذِي طلبها من إبراهيم، ورد الله كيد الفاجر (¬4). والحكايات الواقعة في هذا المعنى في الإسلام وقبله كثيرة جدًّا لا يمكن ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (4750)، ومسلم (2770). (¬2) أخرجه البخاري (4677)، ومسلم (2769). (¬3) أخرجه البخاري (2272)، ومسلم (2743). (¬4) أخرجه البخاري (3358)، ومسلم (2371).

استقصاؤها وكثير منها مذكور في الكتب المصنفة: في "الفرج بعد الشدة" لابن أبي الدُّنْيَا وغيره، وكتاب "مجابي الدعوة" لابن أبي الدُّنْيَا، وكتاب "المستغيثين بالله والمستصرخين به" وكتب كرامات الأولياء، وأخبار الصالحين، وفي كتب التواريخ وغيرها. ونحن نذكر هاهنا طرفًا يسيرًا، من أظرف ما حكي في هذا الباب ليعتبر به. ذكر بعض العُلَمَاء في مصنف له -وأظنه من المغاربة- أنَّه سمع من أبي ذر الهروي الحافظ يحكي أنَّه كان ببغداد يقرأ عَلَى أبي حفص بن شاهين في دكان عطار، وأنه شاهد رجلاً جاء إِلَى العطار فدفع إِلَيْهِ عشرة دراهم وأخذ منه حوائج، وجعلها في طبق ووضعه عَلَى رأسه، فزلق ووقع طبقه وتفرقت حوائجه، فبكى واشتد بكاؤه وقال: لقد ضاع مني في قافلة كذا وكذا هميان فيه أربعمائة دينار - أو قال: أربعة آلاف دينار- ومعها فصوص قيمتها أكثر من ذلك فما جزعت لضياعها، ولكن ولد لي الليلة ولد فاحتجنا في البيت إِلَى ما تحتاج إِلَيْهِ النفساء، ولم يكن عندي غير هذه العشرة دراهم، فلما قدر الله ما قدر جزعت، وقلت: لا أنا عندي ما أرجع به اليوم إِلَى أهلي ولا ما أكتسب لهم غدًا، ولم يبق لي حيلة إلا الفرار عنهم وتركهم عَلَى هذه الحال فيهلكون بعدي، فلم أملك نفسي أن جزعت هذا الجزع. قال أبو ذر: ورجل من شيوخ الجند جالس على باب داره فسمع هذا كله، فسأل الجندي أبا حفص أن يدخل هو وأصحابه والرجل المصاب معه إِلَى بيته ففعل، وطلب من الرجل المصاب إعادة الحكاية في الهيمان فأعاد ذلك عليه، وسأله عن من كان في تلك القافلة وعن المكان الَّذِي ضاع فيه الهميان، فأخبره، ثم سأله عن صفة الهميان وعلامته، فأخبره بذلك، فَقَالَ: لو رأيته كنت تعرفه؟ قال: نعم. قال: فأخرجه إِلَيْهِ فلما رآه، قال: هذا الهميان الَّذِي سقط مني وفيه من الأحجار ما صفته كذا وكذا، ففتح الهميان فوجد الأحجار عَلَى ما وصف، فدفعه إِلَيْهِ وخرج من عنده وقد صار من الأغنياء. فلما خرج بكى الشيخ الجندي بكاء شديدًا، فسئل عن سبب بكائه فَقَالَ: إنه لم يكن بقي لي في الدُّنْيَا أمل ولا أمنية أتمناها إلا أن يأتي الله بصاحب هذا المال

فيأخذه، فلما قضى الله بذلك بفضله ولم يبق لي أمل علمت أنَّه قد حان أجلي. قال أبو ذر: فما انقضى شهر حتى توفي، وصلينا عليه رحمه الله. وحكى هذا المصنف أيضاً في كتابه عن رجل حكى له بالموصل أن رجلاً كان عندهم تاجرًا يسافر بتجارته إِلَى البلدان، فسافر مرة بجميع ماله وما يملكه إِلَى الكوفة، فوافقه في تلك السفرة رجل فخدمه فأحسن خدمته، وأنس به حتى وثق به، ثم استغفله في بعض المنازل وأخذ دابته وما عليها من المال والمتاع، ولم يبق له شيئًا ألبتة، واجتهد في طلبه فلم يقع له عَلَى خبر، فرجع إِلَى بلده راجلاً جائعًا، فدخل المدينة ليلا وهو عَلَى تلك الحال فطرق بابه، فلما علم به أهله سروا به وقالوا: الحمد لله الَّذِي جاء بك في هذا الوقت، فإن أهلك قد ولدت اليوم ولدًا وما وجدنا ما نشتري به ما تحتاج إِلَيْهِ النفساء، ولقد كانت هذه الليلة طاوية فاشتر لنا دقيقًا ودهنا نسرج به، فلما سمع ذلك زاد في غمه وكربه، وكره أن يخبرهم بما جرى له فيحزنهم، فخرج إِلَى حانوت رجل كان بالقرب من داره فسلم عليه، وأخذ منه دهنًا وغيره مما يحتاج إِلَيْهِ، فبينما هو يخاطبه إذ التفت فرأى خرجه الَّذِي هرب به خادمه مطروحًا في داخل الحانوت، فسأله عنه فَقَالَ: إن رجلاً ورد عَلَيَّ بعد العشاء واشترى مني عشاء واستضافني فأضفته، فجعلت خرجه في حانوتي ودابته في دار جارنا، والرجل بائت في المسجد، فنهض إِلَى المسجد ومعه الخرج فوجد الرجل نائمًا، فرفسه فاستيقظ مذعورًا، فَقَالَ له: أين مالي يا خائن؟ قال: هوذا عَلَى عنقك والله ما فقد منه ذرة. واستخرج الدابة من موضعها، ووسع عَلَى أهله وأخبرهم حينئذ بخبره. وتشبه هاتين الحكايتين ما حكاه التنوخي في كتابه "الفرج بعد الشدة" والحكاية طويلة، وملخصها: أن رجلاً كان ببغداد في زمن الرشيد، وكان صيرفيًّا، فابتاع جارية بخمسمائة دينار، وشغف بها حتى تعطل عن معاشه بسبب ملازمتها، وأنفق رأس ماله حتى لم يبق معه منه شيء، وحملت جاريته فصار ينقض داره ويبيع أنقاضها حتى فرغت ولم يبق له حيلة فضربها الطَّلق وهو عَلَى تلك الحال، وطلبت منه ما يصلح للنفساء، وشكت إِلَيْهِ أنها تموت إن لم يعجل

عليها بذلك، فبكى وخرج عَلَى وجهه، وهم أن يغرق نفسه في دجلة، ثم خاف عقاب الله فامتنع، وخرج ماشيًا عَلَى قدميه من قرية إِلَى قرية حتى بلغ خراسان، فأقام بها واكتسب بها مالا، وكتب إِلَى بلده ستة وستين كتابًا ليتعرف خبر الجارية، فلم يعد إليه الجواب فلم يشك أنها ماتت. ثم رجع إِلَى بغداد بعد مدة طويلة، ومعه مال قيمته عشرون ألف دينار، فخرج عَلَى قافلته اللصوص فأخذوا ما معه كله، وعاد بثيابه فقيرًا، ولم يزل يتوصل حتى دخل بغداد فقيرًا كما خرج منها بعد أن غاب عنها قريبًا من ثلاثين سنة، فقصد داره فوجدها عامرة وبابها حسن، وعليه بواب وغلمان وبغال، فسأل عن الدار: لمن هي؟! فقيل: هي لابن فلان الصيرفي -وسموا الرجل باسمه- قالوا: وهو ابن داية أمير المؤمنين، وهو جهبذه وصاحب بيت ماله، وأخبره الَّذِي سأله أن أباه أخبره أن أبا هذا الرجل صاحب الدار كان صيرفيًّا جليلا فافتقر، وإن أم هذا الصبي ضربها الطلق فخرج أبوه يطلب لها شيئًا، ففقد وهلك، وأن أمه أرسلت إِلَى بعض الجيران تستغيث بهم، فقاموا لها بحوائج الولادة، ثم أنَّه ولد لأمير المؤمنين ولد ذكر وذلك الولد هو المأمون، وأنه عرض عليه جميع الدايات فلم يقبل أثدائهن، فأرشدوا إِلَى أم هذا الصبي فَحُمِلَت إِلَى دار الرشيد، فحين وضع فم المولود عَلَى ثديها قبله وأرضعته، وصارت عندهم في حال جليلة، ثم لما ولى المأمون الخلافة كانت المرأة وابنها معه، وبنى ابنها هذه الدار، وسأله عن أمه: أحية هي؟ قالوا: نعم، وهي تمضي إِلَى دار الخليفة أيامًا وتكون عند ابنها أيامًا، فجاء الرجل الصيرفي حتى دخل الدار مع الناس فرآها في غاية الحسن ورأى في صدرها شابًّا يشبهه، وبين يديه الكتاب والأموال والموازين يقبضون ويُقبضون، فجلس الرجل في غمار الناس حتى تفرقوا ولم يبق غيره فَقَالَ له الشاب: يا شيخ، هل من حاجة؟ قال: نعم أنا أبوك. قال: فتغير وجهه ووثب مسرعًا، ثم استدعاه إِلَى داره وأجلسه عَلَى كرسي وهناك ستار، فَقَالَ له الشيخ: لعلك تريد أن تختبر صدق قولي من جهة فلانة؟ وذكر اسم جاريته أم الصبي، فسمعت الجارية صوته فرفعت الستارة

وخرجت إِلَى سيدها وجعلت تقبله وتبكي، وأخبرها خبره من حين خروجه من عندها إِلَى أن رجع، فقام ولده حينئذ واعتذر إِلَيْهِ من تقصيره وأصلح حاله، ثم أدخله عَلَى المأمون فحدثه بحديثه، فخلع عليه وصيره جهبذًا له عَلَى ما كان عليه ابنه، وأجرى عليه الرزق وقلد ابنه عملا أجلَّ من عمله. وروى المعافى بن زكريا النهرواني بإسناده عن سوّار القاضي أنَّه خرج يومًا من دار المهدي، فدخل داره بغدائه فجاشت نفسه، فرده ثم دعا بجارية له فلم تطب نفسه، فدخل للقائلة فلم يأخذه النوم، فنهض وركب بغلته، فلقيه وكيل له معه ألفا درهم، فَقَالَ له: أمسكها معك واتبعني. وخلى بغلته فذهبت به، فحضرت الصلاة وهو في بعض الشوارع فدخل فصلى في مسجد هناك، فلما قضى صلاته، إذا هو بأعمى يتلمس، فَقَالَ له: ما تريد؟ قال له: أريدك. قال: وما حاجتك؟ قال: شممت منك ريح الطيب فظننت أنك من أهل النعيم فأردت أن ألقي إليك شيئًا. قال: قل. قال: أترى هذا القصر؟ لقصر هناك. قال: نعم، قال: فإنَّه كان لأبي فباعه، ثم خرج إِلَى خراسان فخرجت معه فزالت عنا النعم التي كلنا فيها، فقدمت فأتيت صاحب الدار لأسأله شيئًا يصلني به وأصير إِلَى سوّار القاضي؛ فإنَّه كان صديقًا لأبي، قال سوّار: قلت: فمن أبوك؟ قال: فلان بن فلان. فإذا هو أصدق الناس لي، فقلت له: فإن الله قد أتاك بسوّار منعه الطعام والشراب والنوم وجاء به بين يديك. ثم دعا سوار وكيله فأخذ منه الدراهم فدفعها إِلَيْهِ، وقال له: إذا كان غد فصر إِلَيّ. قال سوّار: ثم دخلت عَلَى المهدي فحدثته بهذا الحديث، فأعجبه وأمر للأعمى بمائة ألف دينار، قال سوّار: فجاءني الأعمى، فدفعت إِلَيْهِ الألفي دينار وقلت له: قد رزق الله بكرمه بك خيرًا كثيرًا، وأعطيته من مالي ألفي دينار أيضاً. وخرَّج ابن أبي الدُّنْيَا في كتابه "الفرج بعد الشدة" بإسناده عن وَضَّاح بن خيثمة قال: أمرني عمر بن عبد العزيز رحمه الله بإخراج من في السجن، فأخرجتهم إلا يزيد بن أبي مسلم فنذر هدر دمي، فإني لبإفريقية إذ قيل لي: قدم يزيد بن أبي سفيان -يعني: أميرًا عَلَى إفريقية- فهربت منه، وأرسل في طلبي

فأَخِذْت، فأتي بي إِلَيْهِ فَقَالَ لي: والله لطالما سألت الله أن يمكنني منك. فقلت: وأنا والله طالما استعذت بالله من شرك، فَقَالَ: والله ما أعاذك، والله لأقتلنك، ثم والله لأقتلنك، ثم والله لأقتلنك، لو سابقني ملك الموت إِلَى قبض روحك لسبقته، عَلَيَّ بالسيف والنطع!! قال: فجيء بالنّطع فأقعدت فيه وكُتّفت، وقام قائم عَلَى رأسي بسيف مشهورٍ، وأقيمت الصلاة، فخرج إِلَى الصلاة فلما سجد أخذته سيوف الجند، فقتل: فجاءني رجل فقطع كتافي بسيفه وقال لي: انطلق. وبإسناده عن عمرو السرايا وكان يغزو في بلاد الروم وحده فبينما هو نائم ذات يوم إذ ورد عليه علجٌ منهم فحرَّكه برجله، فانتبه فَقَالَ: يا عربي، اختر إن شئت مطاعنة، وإن شئت مسايفة، وإن شئت مصارعة! فقلت: أما المطاعنة والمسايفة فلا بقاء لهما ولكن المصارعة، فنزل فصرعني وجلس عَلَى صدري وقال: أيَّ قتلة أقتلك؟ فرفعت رأسي وقلت: أشهد أن كل معبود ما دون عرشك إِلَى قرار الأرضين باطل غير وجهك الكريم، قد ترى ما أنا فيه ففرج عني! قال: فأغمى عَلَيَّ، فأفقت فإذا الرومي قتيل إِلَى جنبي. وروى أبو الحسن بن الجهضم بإسناده عن حاتم الأصم قال: لقينا الترك فكان بيننا جولة فرماني تركي فقلبني عن فرسي، ونزل فقعد عَلَى صدري وأخذ بلحيتي وأخرج من خفه سكينًا ليذبحني، فما كان قلبي عنده ولا عند سكينه، وإنَّما كان عند سيدي، فقلت: سيدي، إن قضيت علي أن يذبحني هذا فعلى الرأس والعين؛ إِنَّمَا أنا لك وملكك! فبينما أنا عَلَى هذه الحال إذ رماه بعض المسلمين بسهم فما أخطأ حلقه فسقط عني فقمت أنا إِلَيْهِ وأخذت السكين من يده فذبحته بها، فما هو إلا أن تكون قلوبكم عند السيد حتى تروا من عجائب لطفه ما لم تروا من الآباء والأمهات. وهذا باب يطول ذكره جدًّا فليقتصر عَلَى ما ذكرناه ففيه كفاية. ***

قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إن مع العسر يسرا"

قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إن مع العسر يسرًا" هذا منتزع من قوله سبحانه وتعالى: {سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا} [الطلاق: 7] وقوله تعالى: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} [الشرح: 5، 6]. وروى حُميد بن حماد بن أبي الخوار، ثنا عائذ بن شريح، سمعت أنس بن مالك يقول: «كان النبي صلّى الله عليه وسلم جالسًا وحياله جحر، فَقَالَ: لَوْ جَاءَ الْعُسْرُ فَدَخَلَ هَذَا الْحَجَرَ لَجَاءَ الْيُسْرُ حَتَّى يَدْخُلَ عَلَيْهِ فَيُخْرِجَهُ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا}». خرّجه ابن أبي حاتم في "تفسيره" (¬1) وخرَّجه البزار في "مسنده" (¬2): ولفظه لو جاء العسر حتى يدخل هذا الجحر لجاء اليسر حتى يخرجه. ثم قال: {إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا}. حُميد بن حماد هذا ضعفوه. وخرَّج ابن أبي حاتم من رواية مبارك بن فضالة، عن الحسن قال: كانوا يَقُولُونَ: لا يغلبُ عسر واحد يسرين اثنين. وخرَّج ابن جرير (¬3) من رواية معمر عن الحسن قال: "خرج النبي صلّى الله عليه وسلم يومًا مسرورًا فرحًا وهو يقول: "لَنْ يَغْلِبَ عُسْرٌ يُسْرَيْنِ, لَنْ يَغْلِبَ عُسْرٌ يُسْرَيْنِ. {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} ". ¬

_ (¬1) كما في تفسير ابن كثير (4/ 525). (¬2) (3/ 81 - كشف)، والحاكم في المستدرك (2/ 255) وقال: هذا حديث عجيب غير أن الشيخين لم يحتجا بعائذ بن شريح. وتعقبه الذهبي قائلاً: تفرد به حميد بن حماد عن عائذ، وحميد منكر الحديث كعائذ. (¬3) في تفسيره (30/ 151).

وخرَّجه أيضاً من رواية عوف ويونس عن الحسن مرسلاً أيضاً. ومن حديث قتادة (¬1) قال: "ذكر لنا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بشر أصحابه بهذه الآية فَقَالَ: لن يغلب عسر يسرين". وروى ابن أبي الدُّنْيَا من حديث معاوية بن قرة حدثه عن ابن مسعود قال: "لَوْ أَنَّ الْعُسْرَ دَخَلَ جُحْرًا لَجَاءَ الْيُسْرُ حَتَّى يَدْخُلَ مَعَهُ ثُمَّ قَالَ: اللَّهُ قَالَ: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} "، ومن حديث عبد الرحمن ابن زيد بن أسلم عن أبيه عن جده "أن أبا عبيدة حُصر فكتب إِلَيْهِ عمر يقول: مهما ينزل بامرئ من شدة إلا يجعل الله له بعدها فرجًا، وإنه لن يغلب عسر يسرين، أنَّه يقول: {اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران: 200] " (¬2). وكذا قال ابن عباس وغيره من المفسرين في هذه الآية: "لن يغلب عسر يسرين". كان بعض المتقدمين ليلة في البادية في غم شديد، فألقي في روعه بيت من الشعر، فَقَالَ: أرى الموت لمن أصبح ... مغمومًا له أصلح فلما جنّ عليه الليل سمع هاتفًا يهتف: ألا يا أيها المرء ... الذى الهم به برح وقد أنشد بيتًا لم ... يزل في ذكره يسبح إذا اشتد بك العسر ... ففكر في ألم نشرح فعسر بين يسرين ... إذا أبصرته فافرح قال: فحفظت الأبيات ففرج الله غمي: وقد أكثر الشعراء من القول في هذا المعنى، ونحن نذكر قطعة منتخبة من ¬

_ (¬1) أخرجه ابن جرير (30/ 151). (¬2) أخرجه ابن أبي الدُّنْيَا في "الفرج بعد الشدة" ص 24.

محاسن ما قيل في ذلك، فمما قيل في هذا المعنى: تصبر إن عقبى الصبر خير ... ولا تجزع لنائبة تنوب فإن اليسر بعد العسر يأتي ... وعند الضيق تنكشف الكروب ولبعضهم: وكم جزعت نفوس عن أمور ... أتى من دونها فرج قريب ولبعضهم: عسى فرج يكون عسا ... نعلل أنفسنا بعسى وأقرب ما يكون المرء ... من فرج إذا يئسا ولغيره: إذا تضايق أمرٌ فانتظر فرجا ... فأضيق الأمر أدناه من الفرج ولبعضهم: فلا تجزع وأن أعسرت يومًا ... فقد أيسرت في الزمن الطويل ولا تظنن بربك ظنّ سوء ... فإن الله أولى بالجميل ولا تيأس فإن اليأس كفر ... لعل الله يغني عن قليل فإن العسر يتبعه يسار ... وقيل الله أصدق كل قيل ولبعضهم: مفتاح باب الفرج الصبر ... وكل عسر بعده يسر والدهر لا يبقى عَلَى حالة ... والأمر يأتي بعده الأمر ولغيره: إذا اشتملت عَلَى اليأس القلوب ... وضاق لما به الصدر الرحيب وأوطأت المكاره وأطمأنت ... وأرست في أماكنها الخطوب ولم ترى لانكشاف الضر وجها ... ولا أغنى بحيلته الأريب أتاك عَلَى قنوط منك غوث ... يمن به اللطيف المستجيب

وكل الحادثات وإن تناهت ... فموصول بها الفرج القريب ولبعضهم: عسى ما ترى أن لا يدوم وأن ترى ... له فرجًا مما ألج به الدهر عسى فرج يأتي به الله إنه له ... كل يوم في خليقته أمر إذا لاح عسر فارج يسرًا فإنَّه ... قضى الله أن العسر يتبعه اليسر ولنختم الكتاب بذكر نبذة يسيرة من لطائف البلايا وفوائدها وحكمها، فمنها: تكفير الخطايا بها، والثواب عَلَى الصبر عليها، وهل يثاب عَلَى (البلايا) (*) بنفسه؟ فيه اختلاف بين العُلَمَاء. ومنها: تذكر العبد بذنوبه؛ فربما تاب ورجع منها إِلَى الله عز وجل. ومنها: زوال قسوة القلوب وحدوث رقتها. قال بعض السَّلف: إن العبد ليمرض فيذكر ذنوبه فيخرج منه مثل رأس الذباب من خشية الله فيغفر له. ومنها: انكسار العبد لله عز وجل وذله له، وذلك أَحَبّ إِلَى الله من كثير من طاعات الطائعين. ومنها: أنها توجب للعبد الرجوع بقلبه إِلَى الله عز وجل، والوقوف ببابه والتضرع له والاستكانة، وذلك من أعظم فوائد البلاء، وقد ذم الله من لا يستكين له عند الشدائد، قال الله تعالى: {وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ} [المؤمنون: 76]. وقال: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ} [الأنعام: 42]. وفي بعض الكتب السابقة: إن الله ليبتلي العبد وهو يحبه ليسمع تضرعه. وقال سعيد بن عبد العزيز: قال داود -عليه السلام-: سبحان مستخرج ¬

_ (*) البلاء: "نسخة".

الدعاء بالبلاء، وسبحان مستخرج الشكر بالرخاء. ومرَّ أبو جعفر محمد بن علي بمحمد بن المنكدر وهو مغموم، فسأل عن سبب غمه، فقِيلَ لَهُ: الدّين قد فدحه، فَقَالَ أبو جعفر: أفتح له في الدعاء؟ قيل: نعم. قال: لقد بورك لعبد في حاجة أكثر فيها من دعاء ربه كائنة ما كانت. وكان بعضهم إذا فتح له في الدعاء عند الشدائد لم يحب تعجيل إجابته خشية أن ينقطع عما فتح له. وقال ثابت: إذا دعا الله المؤمن بدعوة وكل الله جبريل بحاجته يقول: لا تعجل بإجابته، فإني أَحَبّ أن أسمع صوت عبدي المؤمن. ورُوي مرفوعًا من وجوه ضعيفة (¬1). رأى بعض السَّلف رب العزة في نومه فَقَالَ: يا رب، كم أدعوك ولا تجيبني؟. قال: إني أَحَبّ أن أسمع صوتك (¬2). ومنها: أن البلاء يوصل إِلَى قلبه لذة الصبر عليه والرضا به، وذلك مقام عظيم جدًّا، وقد تقدمت الإشارة إِلَى فض ذلك وشرفه. ومنها: أن البلاء يقطع قلب المؤمن عن الالتفات إِلَى مخلوق ويوجب له الإقبال عَلَى الخالق وحه. ¬

_ (¬1) أخرجه الطبراني في "الأوسط" (8442) وقال: لم يرو هذا الحديث عن محمد بن المنكدر إلا إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة تفرد به سويد بن عبد العزيز. وذكره الهيثمي في "المجمع" (10/ 151) وقال: ... وفيه إسحاق بن عبد الله ابن أبي فروة، وهو تروك. (¬2) قال الشيخ محمد ناصر العجمي- حفظه الله- في تعليقه على هذه الرسالة ص 122: كان الأولى بالمصنف -رحمه الله- الإعراض عن ذكر مثل هذه الحكاية، وقد شحن كتابه هذا من الحكايات التي جلها لا أصل لها في الكتاب والسنة الصحيحة، بل مبنية عَلَى الحيال، وكفى بما صح من السنة وأقوال السَّلف واعظًا، فنسأل الله أن يتجاوز عنا وعنه.

وقد حكى الله عن المشركين إخلاص الدعاء له عند الشدائد؛ فكيف بالمؤمن؟!. فالبلاء يوجب للعبد تحقيق التوحيد بقلبه وذلك أعلى المقامات وأشرف الدرجات. وفي الإسرائيليات يقول الله عز وجل: "البلاء يجمع بيني وبينك، والعافية تجمع بينك وبين نفسك". ***

فصل

فصل وإذا اشتد الكرب وعظم الخطب كان الفرج حينئذٍ قريبًا في الغالب. قال تعالى: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا} [يوسف: 110] وقال: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة: 214]. وأخبر عن يعقوب -عليه السلام- أنَّه لم ييأس من لقاء يوسف، وقال لإخوته: {اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ} [يوسف: 87] وقال: {عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا} [يوسف: 83]. ومن لطائف أسرار اقتران الفرج باشتداد الكرب أن الكرب إذا اشتد وعظم وتناهى وجد الإياس من كشفه من جهة المخلوق ووقع التعلق بالخالق وحده، ومن انقطع عن التعلق بالخلائق وتعلق بالخالق، استجاب الله له وكشف عنه؛ فإن التوكل هو قطع الاستشراف باليأس من المخلوقين، كما قال الإمام أحمد، واستدل عليه بقول إبراهيم لما عرض له جبريل في الهواء وقال: ألك حاجة؟ فَقَالَ: أما إليك فلا!. والتوكل من أعظم الأسباب التي تطلب بها الحوائج، فإن الله يكفي من توكل عليه، كما قال: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق: 3]. قال الفضيل: والله لو يئست من الخلق حتى لا تريد منهم شيئًا لأعطاك مولاك كل ما تريد. ومنها: أن العبد إذا اشتد عليه الكرب فإنَّه يحتاج حينئذٍ إِلَى مجاهدة الشيطان؛ لأنّه يأتيه فيقنطه ويسخطه، فيحتاج العبد إِلَى مجاهدته ودفعه، فيكون ثواب مجاهدة عدوه ودفعه: دفع البلاء عنه ورفعه.

ولهذا في الحديث الصحيح: "يستجاب لأحدكم ما لم يعجل، يقول: قد دعوت فلم يستجب لي! فيدع الدعاء" (¬1). ومنها: أن المؤمن إذا استبطأ الفرج ويئس منه ولا سيما بعد كثرة الدعاء وتضرعه ولم يظهر له أثر الإجابة، رجع إِلَى نفسه باللائمة ويقول لها: إِنَّمَا أتيت من قبلك ولو كان فيك خير لأجبت!. وهذا اللوم أَحَبّ إِلَى الله من كثير من الطاعات؛ فإن يوجب انكسار العبد لمولاه، واعترافه له بأنه ليس بأهل لإجابة دعائه فلذلك يسرع إِلَيْهِ حينئذ إجابة الدعاء وتفريج الكرب، فإنَّه تعالى عند المنكسرة قلوبهم من أجله، عَلَى قدر الكسر يكون الجبر. قال وهب: تعبد رجل زمانًا ثم بدت له إِلَى الله حاجة فصام سبعين سبتًا يأكل في كل سبت إحدى عشرة تمرة، ثم سأل الله حاجته فلم يعطها فرجع إِلَى نفسه فَقَالَ: منك أتيت، لو كان فيك خير أعطيت حاجتك. فنزل إِلَيْهِ عند ذلك ملك، فَقَالَ: يا ابن آدم؛ ساعتك هذه خير من عبادتك التي مضت وقد قضى الله حاجتك. أهين لهم نفسي لكي يكرمونها ... ولن تكرم النفس التي لا تهينها فمن تحقق هذا وعرفه وشاهده بقلبه، علم أن نعم الله عَلَى عبده المؤمن بالبلاء أعظم من نعمه في الرخاء، وهذا تحقيق معنى الحديث الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لَا يَقْضِي اللَّهُ لِلْمُؤْمِنِ قَضَاءً إِلَّا كَانَ خَيْرًا لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ فَشَكَرَ كَانَ خَيْرًا لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ كَانَ خَيْرًا لَهُ، وَلَيْسَ ذَلِكَ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ» (¬2). ومن ها هنا كان العارفون بالله لا يختارون إحدى الحالتين عَلَى الأخرى، بل ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (6340)، ومسلم (2735). (¬2) أخرجه مسلم (2999).

أيهما قدر الله رضوا به وقاموا بعبوديته اللائقة به. وفي "المسند" (¬1) والترمذي (¬2) عن أبي أمامة عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: "عَرْضَ عَلَيَّ رَبِّي لِيَجْعَلَ لِي بَطْحَاءَ مَكَّةَ ذَهَبًا، فَقُلْتُ: لَا يَا رَبِّ، وَلَكِنْ أَشْبَعُ يَوْمًا، وَأَجُوعُ يَوْمًا؛ فَإِذَا جُعْتُ تَضَرَّعْتُ إِلَيْكَ وَذَكَرْتُكَ، وَإِذَا شَبِعْتُ شَكَرْتُكَ وَحَمِدْتُكَ". وقال عمر: ما أبالي أصبحت عَلَى ما أَحَبّ أو عَلَى ما أكره لأني لا أدري الخير فيما أَحَبّ أو فيما أكره (¬3)؟ وقال عمر بن عبد العزيز: أصبحت يومًا وما لي سرور إلا في مواقع القضاء والقدر. يا هذا، لِمَ نستدعيك إلينا وأنت تفر منا؟! نسبغ عليك النعم فتشتغل بها عنا وتنسانا! فنفرغ عليك البلاء لترد إلينا! وتقف عَلَى بابنا ونسمع تضرعك! البلاء يجمع بيننا وبينك، والعافية تجمع بينك وبين نفسك. إن جرى بيننا وبينك عتب ... أو تناءت منا ومنك الديار فالوداد الَّذِي عهدت مقيم ... والأيادي التي عهدت غزار كم لنا في طي البلايا من منح ... وعطايا وفي الزوايا خبايا يا هذا! إن شكرت نعمنا عليك فتوفيقك للشكر من جملة نعمنا فاشكره! وإن صبرت عَلَى بلائنا فالصبر من جملة فضلنا فاذكره، فكل ما تقلب فيه فهو من نعمنا فلا تكفره {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ ¬

_ (¬1) (5/ 254). (¬2) برقم (2347) وقال: هذا حديث حسن ... إِلَى أن قال: وعلي بن يزيد ضعيف الحديث. قلت: وفي الإسناد عبيد الله بن زحر عن علي بن يزيد الألهاني عن القاسم أبي عبد الرحمن، وقد قال ابن حبان عنهم: إنهم إذا اجتمعوا في إسناد، فهو مما عملت أيديهم. (¬3) أخرجه ابن أبي الدُّنْيَا في الفرج بعد الشدة ص 21.

كَفَّارٌ} [إبراهيم: 34]. إذا كان شكري نعمة الله نعمةً ... عَلَيَّ له في مثلها يجب الشكر فكيف وقوع الشكر إلا بفضله ... وإن طالت الأيام واتصل العمر إذا مس بالسراء عم سرورها ... وإن مس بالضراء أعقبها الأجر وما منهما إلا له فيه منة ... تضيق لها الأوهام والبر والبحر آخره والحمد ولله وحده، وصلى الله عَلَى سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا يا رب العالمين. ووافق الفراغ منه في ليلة يسفر صباحها عن ليلة الثلاثاء خامس شهر ربيع الأولى من شهور سنة ثلاث وتسعين وثماني مائة، عَلَى يد فقير عفو ربه الممجد عيسى بن علي بن محمد الحوراني الشافعي، عامله الله بلطفه الخفي وغفر له ولوالديه، ولمن نظر فيه ودعا لي بالمغفرة وحسن الخاتمة، إنه بر رحيم جواد لا يخيب من دعاه. ***

34 - فضائل الشام

فضائل الشام

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الحمد لله منجي من شاء من عباده المؤمنين من الهلكة، ومصطفي ما شاء من بلاده بمزيد الإيمان والبركة، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، فطوبى لمن وحده، وتبًّا لمن أشركه. وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله المخصوص بالفضل الَّذِي ما بلغه سواه ولا أدركه، مولده بمكة، ومهاجره طَيْبَة، وملكه بالشام فهي لأمته خير مملكة، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن اقتفى طريقه وسلكه، وبعد. فإن الله -تعالى- جعل البلدة الحرام مبدأ لخلقه وأمره؛ فأول ما خلق من الأرض مكان البيت، ومنه دُحيتِ الأرض وهو أول مسجد وضع عَلَى وجه الأرض لعِبَادَةِ الله -تعالى- وتوحيده، وفيه ابتدأت رسالة. خاتم النبيين، وأنزل الكتاب المبين، وجعل الشام منتهى الخلق والأمر، ففي آخر الزمان يستقر الإيمان وأهله بالشام، وهي أرض المحشر والنشر للأنام. وقد اجتمعت في هذا الكتاب ما ورد في حماية الشام وصيانتها بما فيها من الإيمان والإسلام تطييبًا لقلوب المؤمنين وتسكينًا لهم مما حدث بالشام من الحوادث المزعجة في سنة إحدى واثنين وتسعين بعد سبع مئين من هجرة إمام المتقين، وخاتم النبيين صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، والله المسئول أن يحسن لنا وللمسلمين العاقبة، وأن يجعلنا من الطائفة القائمة بالحق الغالبة. وقد قسمته إِلَى عشرة أبواب، والله الموفق للصواب. الباب الأول: فيما ورد في الأمر بسُكنى الشام. الباب الثاني: فيما ورد في استقرار العِلْم والإيمان بالشام. الباب الثالث: فيما ورد في حفظ الشام من الفتن. الباب الرابع: فيما ورد في استقرار خيار أهل الأرض في آخر الزمان بالشام، وأن الخير فيها أكثر منه في سائر بلاد المسلمين. الباب الخامس: فيما ورد في أن الطائفة المنصورة بالشام.

الباب السادس: فيما ورد في أن الأبدال بالشام. الباب السابع: فيما ورد في بركة الشام. الباب الثامن: في حفظ الله الشام بالملائكة الكرام. الباب التاسع: فيما ورد في بقاء الشام بعد خراب غيرها من الأمصار. الباب العاشر: فيما ورد في فضل دمشق بخصوصها. وبالله المستعان وعليه التكلان، ولا حول ولا قوة إلا بالله. ***

الباب الأول ما ورد في الأمر بسكنى الشام

الباب الأول ما ورد في الأمر بسُكْنى الشام عن عبد الله بن حوالة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "سَيَصِيرُ الأَمْرُ إِلَى أَنْ يَكُونَ أَجْنَادًا مُجَنَّدَةً، جُنْدٌ بِالشَّامِ، وَجُنْدٌ بِالْيَمَنِ، وَجُنْدٌ بِالْعِرَاقِ، فَقَالَ ابْنُ حَوَالَةَ: خِرْ لِي يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنْ أَدْرَكْتُ ذَلِكَ! فَقَالَ: عَلَيْكَ بِالشَّامِ؛ فَإِنَّهَا خِيرَةُ اللَّهِ مِنْ أَرْضِهِ، يَجْتَبِي إِلَيْهَا خِيرَتَهُ مِنْ عِبَادِهِ، فَأَمَّا إِنْ أَبَيْتُمْ فَعَلَيْكُمْ بِيَمَنِكُمْ، وَاسْقُوا مِنْ غُدْرِكُمْ (¬1)، فَإِنَّ اللَّهَ توكل -وفي رواية: تَكَفَّلَ -لِي بِالشَّامِ وَأَهْلِهِ". خرجه الإمام أحمد (¬2) وأبو داود (¬3) وابن حبان في صحيحه (¬4)، والحاكم (¬5) وقال: صحيح الإسناد. وقال أبو حاتم الرازي (¬6): هو حديث صحيح حسن غريب. قلت: وله طرق كثيرة، قد ذكرتها في شرح كتاب الترمذي مستوفاة. وخرَّج البزار (¬7) نحوه، من حديث أبي الدرداء، وخرج البزار (¬8) أيضاً، والطبراني (¬9) نحوه من حديث ابن عمر. ¬

_ (¬1) جمع غدير، وهو حوض الماء. (¬2) (4/ 110). (¬3) برقم (2483). (¬4) برقم [(7306) إحسان]. (¬5) في المستدرك (4/ 510). (¬6) كما في العلل (2/ 421). (¬7) برقم [(2851) - كشف]. (¬8) [(2852) كشف]. (¬9) في "الأوسط" (3851).

وخرَّج الطبراني أيضاً من حديث واثلة بن الأسقع (¬1)، والعرباض (¬2) بن سارية. وخرَّج الإمام أحمد (¬3) والترمذي (¬4) وابن حبان (¬5) في صحيحه من حديث ابن عمر عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: "تَخْرُجُ نَارٌ مِنْ حَضْرَمَوْتَ فَتَسُوقُ النَّاسَ قُلنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا تَأْمُرُنَا؟ قَالَ: عَلَيْكُمْ بِالشَّامِ» وصححه الترمذي. وخرَّج الإمام أحمد (¬6) والترمذي (¬7) من حديث بهز بن حكيم (¬8) قال: "قلت يا رسول الله، أين تأمرني؟ قال: ها هنا. ونحى بيده نحو الشام. قال: إنكم محشورون رجالاً وركبانًا، وتخرون عَلَى وجوهكم". وفي رواية خرج الإمام أحمد (¬9): "وأشار بيده إِلَى الشام، فقال: إِلَى ها هنا تحشرون" وصححه الترمذي أيضاً. وخرَّج الإمام أحمد (¬10) من حديث أبي أمامة الباهلي عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: "عليكم بالشام". وخرج الطبراني (¬11) من حديث ابن عباس قال: "جاء رجل إِلَى رسول الله ¬

_ (¬1) في "الكبير" (22/ برقم 130، 137، 138). قال الهيثمي في المجمع (10/ 59): رواه الطبراني من طريقين، وفيهما المغيرة بن زياد، وفيه خلاف، وبقية رجال أحد الطريقين رجال الصحيح. (¬2) (18/ برقم 627). (¬3) (2/ 8، 119). (¬4) برقم (2217) وقال: هذا حديث حسن غريب صحيح ... الخ. (¬5) برقم (7305/ إحسان). (¬6) (5/ 3، 5). (¬7) برقم (2192، 2424، 3143). وقال: هذا حديث حسن. (¬8) كذا بالأصل، ولعل مقصوده السلسلة كلها، فاقتصر عَلَى أولها. (¬9) (4/ 446 - 447). (¬10) (5/ 249). (¬11) في "المعجم الكبير" (11/ 11149)، وفي الأوسط (378 - مجمع البحرين). قال الهيثمي في المجمع (10/ 62): وفيه يحيى بن سليمان المدني وهو ضعيف.

- صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: يا رسول الله، إني أريد الغزو في سبيل الله، قال: عليك بالشام؛ فإن الله قد تكفل لي بالشام وأهله". وخرج الإمام أحمد (¬1) من حديث أبي ذر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "كيف تصنع إن أُخرجت من المدينة؟ قلت: إِلَى السَّعة والدَّعة أنطلق، حين (¬2) أكون حمامةً من حمام مكة. قال: فكيف تصنع إن أُخرجت من مكة؟ قلت: إِلَى السَّعة والدَّعة، إِلَى الشام والأرض المقدسة. قال: فكيف تصنع إن أُخرجت من الشام؟ قلت: إذًا والذي بعثك بالحق أضع سيفي عَلَى عاتقي. فَقَالَ: أو خيرٌ من ذلك تسمع وتطيع، وإن كان عبدًا حبشيًّا". وخرج ابن أبي خيثمة من حديث ذي الأصابع، أنَّه قال: "يا رسول الله، أين تأمرنا إن ابتلينا بالبقاء بعدك؟ قال: عليك بالشام". وخرج الترمذي (¬3) من حديث ابن عمر "أن مولاة له أتته فقالت: اشتد عليّ الزمان، وأنا أريد أن أخرج إِلَى العراق، قال: فهلا إِلَى الشام؛ أرض المنشر ... " وذكر الحديث، وقال: حسن غريب (¬4). وروى يحيى بن سعيد عن عبد الله بن هبيرة "أن أبا الدرداء كان قاضيًا بالشام فكتب إِلَى سلمان: هلم إِلَى الأرض المقدسة، أرض الجهاد". وروى الطبراني (¬5) من حديث أرطاة بن المنذر قال: حدثني أبو الضحاك، قال: "أتيت ابن عمر فسألته: أين أنزل؟ فَقَالَ: إنَّ الناصية الأولى من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ساروا بلواء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين نزلوا الشام، ثم نزلوا حمص خاصة، فانظر ما كانوا عليه فأته". وروينا من حديث ابن ثوبان عن منصور بن المعتمر عن علقمة قال: "قدم ¬

_ (¬1) (5/ 178، 179). (¬2) في "المسند" "حتى". (¬3) برقم (3918). (¬4) في المطبوع "حسن صحيح غريب". (¬5) وأخرجه من طريقه ابن عساكر في "تاريخه" (1/ 90).

كعب عَلَى عمر المدينة، فَقَالَ له عمر: يا كعب، ما يمنعك بالنزول (¬1) بالمدينة، فإنها مهاجر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبها مدفنه؟ قال: يا أمير المؤمنين، إني وجدت في كتاب الله المنزل في التوراة، وإن الشام كنز الله في أرضه، وبها كنز الله من عباده". ورواه عبد الرزاق (¬2) عن معمر، عن قتادة: "أن كعبًا قال لعمر: إني وجدت ... " فذكره. وروى إبراهيم بن أدهم عن عطاء الخراساني قال: لما هممت بالنُّقلة من خراسان شاورت من بها من أهل العِلْم: أين ترون أن أنزل بعيالي؟ فكلهم يقول: عليك بالشام، ثم أتيت البصرة فشاورت من بها: أين ترون أن أنزل بعيالي؟ فكلهم يقول: عليك بالشام، ثم أتيت الكوفة فشاورت من بها من أهل العِلْم: أين ترون أن أنزل بعيالي؟ فكلهم يقول: عليك بالشام، ثم أتيت مكة فشاورت من بها من أهل العِلْم: أين ترون لي أن أنزل بعيالي؟ فكلهم يقول: عليك بالشام، ثم أتيت المدينة: فسألت من بها من أهل العِلْم: أين ترون لي أن أنزل بعيالي؟ فكلهم يقول: عليك بالشام. خرَّجه ابن أبي خيثمة. وروى الصلت بن حكيم عن وهب بن منبه، قال: قال هرم بن حبَّان لأويس القرني: يا أخي، إني أخاف الوحشة من بعدك، فَقَالَ أويس: ما ظننت أن أحدًا يعرف الله -عز وجل- فيستوحش معه، قال: قلت له: فأين أكون؟ قال: فأومأ بيده نحو الشام. قال: فقلت: كيف أصنع بالمعيشة؟ قال: إن خالط هذه النفوس الضعف فما ينفعها شيء. وذكر أبو بكر الخلال في كتاب "الجامع" عن أبي بكر المروذي قال: سئل أبو عبد الله -يعني: أحمد بن حنبل-: أين ترى إذا كره المكان الَّذِي هو فيه أن ينتقل؟ قال: إِلَى المدينة، قيل: فغير المدينة؟ قال: مكة. قيل: فغير هذا؟ ¬

_ (¬1) في "تاريخ دمشق" "من النزول". (¬2) في جامع معمر برقم (20459).

قال: الشام، والشام أرض المحشر، ثم قال: دمشق، لأنها يجتمع إليها الناس إذا غلبت عليهم الروم. ونقل إسحاق بن إبراهيم بن هانئ وأبو طالب عن أحمد، قريبًا من ذلك، زاد أبو طالب: قلت له: فأصير إِلَى دمشق؟ قال: نعم. قلت: فالرملة؟ قالا: لا، هي قريبة من الساحل. ونقل حنبل عن أحمد قال: إذا لم يكن للرجل حرمة فالساحل والرباط أعظم للأجر، يَردُّ عن المسلمين، والشام بلد مبارك. ونقل أبو داود عن أحمد أنَّه قِيلَ لَهُ: هذه الأحاديث التي جاءت أن الله تكفل لي بالشام وأهله، ونحو هذا قال: ما أكثر ما جاء في هذا. قِيلَ لَهُ: فلعله في الثغور. قال: لا. وقال: أرض بيت المقدس أين هي؟ ولا يزال أهل الغرب ظاهرين عَلَى الحق، هم أهل الشام. ونقل يعقوب بن بختان قال: سمعت أبا عبد الله -يعني: أحمد- يقول: كنت آمُر بحمل الحريم إِلَى الشام، فأما اليوم فلا. ونقل مهنّا وبكر بن محمد وأبو الحارث عن أحمد نحوه. وزاد في روايتهما قال: لأنّ الأمر قد اقترب. زاد مهنّا قال: أخاف عَلَى الذرية من العدو. وقال جعفر بن محمد: سألت أبا عبد الله عن الحرمة، قلت: دمشق، فأعجبه ذلك، وأحسبه قال: نعم. ونقل حنبل، قيل لأبي عبد الله: فأين أَحَبّ إليك أن ينزل الرجل بأهله وينتقل؟ قال: كل المدينة معقل للمسلمين مثل دمشق. قال أبو بكر الخلال: كل ما ذكروه عن أبي عبد الله -يعني: أحمد- من معاقل المدن، ثم ذكرهم عند التوفي بآلائها أيضاً فهذا لما يبلغه من الحوادث، فأما ذكرهم عنه دمشق فهي عنده معقل دون الشام ودون غيرها إلا ما ذكر في أول

الباب من محبة المدينة عَلَى غيرها. انتهى. وحاصل ما نُقِل عن الإمام أحمد أنَّه يُسْتَحَبُّ سُكْنَى الشام والانتقال بالذرية والعيال إِلَى معاقلها كدمشق، فأما أطرافها وثغورها القريبة من السواحل فلا يستحب سكناها بالذرية، لما يخشى عليهم من إغارة الكفار، وإنَّما يستحب الإقامة بها للرباط بدون نقل النساء والذرية. وكل ما كان من بلد من بلدانها أقرب إِلَى السواحل، وأشد خوفًا، فإنَّه يكره نقل الذرية إِلَيْهِ. فأما الأحاديث في فضائل الشام فلا تختص عنده بثغورها، بل هي عامة لجميع أرض الشام، كبيت المقدس، وما والاه ودمشق وغيرها، والله تعالى أعلم. وكذلك كره الأوزاعي نقل الذرية إلي الثغور التي يخشى عليها من العدو دون الثغور التي يغلب عليها الأمن من العدو. وفي كتاب "المراسيل" (¬1) لأبي داود عن الوضين بن عطاء عن مكحول والقاسم أبي عبد الرحمن أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تنزلوا الذرية -يعني- بإزاء العدو". وروى جويبر، عن الضحاك، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يعرض ذريته لسَبَاء المشركين" خرّجه أبو إسحاق الفزاري في كتاب "السير" وهو مرسل، وجويبر ضعيف. وروى أبو إسحاق عن الحسن بن الحسن عن عمر بن عبد العزيز أنَّه صرف قومًا قدموا عليه من اليمامة أرادوا سُكنى دمشق عنها، فقالوا: اختر لنا، قال: قِنَّسرِين. وهكذا كان عمر بن العزيز يختار لنفسه بلاد قنسرين عَلَى دمشق، وإنَّما اختار هذا لقرب العدو، وكون مقامه فيه أنفع للمسلمين؛ لتجهيز الجيوش ووصول الأخبار، وغير ذلك من مصالح العامة. والله أعلم. ¬

_ (¬1) برقم (344).

الباب الثاني ما ورد في استقرار العلم والإيمان بالشام

الباب الثاني ما ورد في استقرار العِلْم والإيمان بالشام عن عبد الله بن عمرو بن العاص عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «إِنِّي رَأَيْتُ كَأَنَّ عَمُودَ الْكِتَابِ (¬1) انْتُزِعَ مِنْ تَحْتِ وِسَادَتِي، فَأَتْبَعْتُهُ بَصَرِي، فَإِذَا هُوَ نُورٌ سَاطِعٌ عُمِدَ بِهِ إِلَى السَّمَاءِ، أَلَا وَإِنَّ الْإِيمَانَ إِذَا وَقَعَتِ الْفِتَنُ بِالشَّامِ» خرّجه الحاكم (¬2) وقال: صحيح عَلَى شرط الشيخين. وفي رواية خرّجها [أبو] (¬3) القاسم بن عساكر في "تاريخ دمشق": "فَأَوَّلتُهُ المُلْك". وللحديث طرق عن عبد الله بن عمرو، قد ذكرتها في شرح الترمذي. وخرّجه الإمام أحمد (¬4) من حديث أبي الدرداء، وعمرو بن العاص (¬5) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بنحوه. وخرّجه الطبراني (¬6) من حديث عمر بن الخطاب وابنه عبد الله (¬7) - رضي ¬

_ (¬1) في الحاشية: لعله الإيمان، وما في "المستدرك" للحاكم هو الموافق للأصل. (¬2) (4/ 509). (¬3) سقطت من الأصل والصواب إثباتها، وهي كنية ابن عساكر "رحمه الله". (¬4) (5/ 198، 199). (¬5) (4/ 198). (¬6) في "مسند الشاميين" (1566). (¬7) في "الأوسط" (2710) من حديث عبد الله بن عمرو، وكذا في مجمع البحرين، ومجمع الزوائد، ولعله تصحيف قديم. وقد ساق ابن عساكر الحديث في تاريخه نفس مساق ابن رجب عازيًا الحديث لابن عمر، ولم أقف على أحد ذكر أبا قلابة في الرواة عن عبد الله بن عمرو وفي تهذيب الكمال (14/ 542) ذكر المزي رواية لأبي قلابة عن ابن عمر.

الله عنهما- ويروى نحوه من حديث أبي أمامة وعائشة، وفي إسناديهما ضعف. وخرَّج الإمام أحمد (¬1) والنسائي (¬2) من حديث سلمة بن [نفيل] (¬3) سمع النبي صلّى الله عليه وسلم يقول: "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين عَلَى الناس يزيغ الله قلوب أقوام فيقاتلونهم، يرزقهم الله منهم حتى يأتي أمر الله لي هم عَلَى ذلك، ألا إن [عقب] (¬4) دار المؤمنين الشام". وروى أبو القاسم الحافظ (¬5) بإسناده عن أبي الدرداء أنَّه كان بدمشق فسأله معاوية أن يرجع إِلَى حمص، فَقَالَ: يا معاوية، أتأمرني بالخروج من عقر دار الإسلام. وعقر الشيء: أصله، ومنه قول النبي صلّى الله عليه وسلم: "إني لَبِعُقْرِ حوضي" أي: عند أصله. وروى شهاب بن خراش، عن سفيان الثوري، عن الأعمش، عن خيثمة، عن عبد الله بن عمرو، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "يأتي عليكم زمان لا يبقى مؤمن إلا لحق بالشام". خرجه أبو القاسم الدمشقي الحافظ في "تاريخه" (¬6) وقال: رواه ابن المبارك، وابن مهدي، وقبيصة، و [أبو] (¬7) حذيفة، عن سفيان، فوقفوه عَلَى عبد الله بن عمرو، وهو المحفوظ. قلت: وكذا خرّجه عبد الرزاق (¬8) في "كتابه" عن معمر، عن الأعمش. ¬

_ (¬1) (4/ 104). (¬2) (6/ 214). (¬3) في الأصل "نوفل" والتصويب من مصادر التخريج وتحفة الأشراف. (¬4) في الحاشية لعله: "عقر" وهو الموافق لرواية أحمد، والنسائي. (¬5) في "تاريخ دمشق" (1/ 106). (¬6) (1/ 301). (¬7) في الأصل: "أبي" والصواب ما أثبته. (¬8) برقم (20778).

وخرَّج ابن عدي (¬1) من رواية أحمد بن كنانة، عن مقسم، عن ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا ذهب الإيمان من الأرض وجد ببطن الأردن". وقال: حديث منكر، وأحمد بن كنانة شامي منكر الحديث. وروى المسعودي، عن القاسم بن عبد الرحمن، قال: مَدَّ الفُرات عَلَى عهد عبد الله بن مسعود، فكره الناس مَدَّه، فَقَالَ عبد الله: يا أيها الناس، لا تكرهوا مَدَّه، فإنَّه يوشك أن يلتمس فيه ملء طست من ماء فلا يوجد، وذلك حين يرفع كل ماء إِلَى عنصره، ويكون الحساء وبقية المؤمنين بالشام". ورواه الأعمش، عن القاسم بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن ابن مسعود بنحوه، إلا أنَّه ذكر فيه أن الماء قل بالفرات، وقال فيه: "ويبقى الماء والمؤمنون بالشام". وخرّجه عبد الرزاق في "كتابه" (¬2) عن معمر، عن الأعمش، عن القاسم ابن عبد الرحمن، قال: "شُكِي إِلَى ابن مسعود الفرات، فقالوا: نخشى أن ينفتق علينا، فلو أرسلت له من يَسْكره، فَقَالَ عبد الله: "لا نسكره؛ فوالله ليأتين عَلَى الناس زمان لو التمستم فيه ملء طست من ماء ما وجدتموه، وليرجعن كل ماء إِلَى عنصره، ويكون بقية الماء والمسلمين بالشام". وروى سعيد بن راشد القيسي عن عطاء عن ابن عمر، قال: "يأتي عَلَى الناس زمان لا يبقى مؤمن إلا لحق بالشام" (¬3). وروى أبو مسهر، حدثنا صدقة بن خالد، سمعت عبد الرحمن بن يزيد بن جابر يقول: كان يقال: "من أراد العِلْم فلينزل [بداريا، بين عنس] (¬4) وخولان. ¬

_ (¬1) في "الكامل" (1/ 168). (¬2) برقم (20779). (¬3) تاريخ دمشق (1/ 301). (¬4) في الأصل: "بدار بين عبس" والصواب ما أثبتناه وهي بلدة "داريا" وقد أورد السمعاني هذا النص في "فضائل الشام" (36).

وروى ضمرة، عن رجاء بن أبي سلمة، عن عطاء الخراساني قال: ما رأيت ففيها أفقه إذا وجدته من شامي. وقال [يعقوب] (¬1) بن سفيان (¬2): سمعت الحسن بن الربيع يقول: سمعت ابن المبارك يقول: ما رحلت إِلَى الشام إلا لاستغني عن حديث أهل الكوفة. وقد ذكرنا في أول الباب الرواية عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بتأويل آية استقرار الكتاب بالشام بالملك، فإن الكتاب إِنَّمَا يقام به بملك يؤيده ويقاتل به من خرج عنه، كما جمع الله بين الأمرين في قوله: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحديد: 25] وروى العوام بن حوشب، عن سليمان بن أبي سليمان، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: "الخلافة بالمدينة، والملك بالشام" (¬3). وروى شهاب بن خراش، حدثنا عبد الملك بن عمير، عمن حديثه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "خلافتي بالمدينة، وملكي بالشام" (¬4). وروى الوليد بن مسلم، عن مروان بن جناح، عن يونس بن ميسرة بن حَلْبَس قال: قال رسول الله: " «هَذَا الْأَمْرُ كَائِنٌ بِالْمَدِينَةِ ثُمَّ بِالشَّامِ ثُمَّ بِالْجَزِيرَةِ ثُمَّ بِالْعِرَاقِ ثُمَّ بِالْمَدِينَةِ ثُمَّ بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ، فَإِذَا كَانَتْ بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ فَثَمَّ عُقْرُ دَارِهَا وَإنْ يُخْرِجُهَا قَوْمٌ فَتَعُودُ إِلَيْهِمْ أَبَدًا» (¬5). قال أبو القاسم الحافظ: يعني بقوله: بالجزيرة أمر مروان بن محمد الحمار. وبقوله: بالمدينة بعد العراق، يعني به: المهدي الَّذِي يخرج آخر الزمان ثم ¬

_ (¬1) في الأصل: الحسن، والصواب: يعقوب صاحب كتاب المعرفة والتاريخ، والأثر عنده (2/ 758). (¬2) في "المعرفة والتاريخ" (2/ 758). (¬3) أخرجه ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (1/ 183). (¬4) أخرجه ابن عساكر: (1/ 185). (¬5) أخرجه ابن عساكر (1/ 185).

ينتقل إِلَى بيت القدس، وبها يحاصره الدجال، فالله أعلم. ورُوي عن ابن عباس "أنَّه سأل كعبًا: كيف تجد نعت النبي صلّى الله عليه وسلم في التوراة؟ قال كعب: نجده محمد بن عبد الله، يولد بمكة، ويهاجر إِلَى طابة، ويكون ملكه بالشام" (¬1) وقد رُوي هذا عن كعب من وجوه كثيرة، وفي بعض ألفاظه: "سلطانه بالشام". ... ¬

_ (¬1) خرجه الدارمي في "سننه" (8).

الباب الثالث فيما ورد في حفظ الشام من الفتن وأنها معقل المسلمين في ذلك الزمن

الباب الثالث فيما ورد في حفظ الشام من الفتن وأنها معقل المسلمين في ذلك الزمن قد تقدم في الباب الأول حديث ابن عمر، وبهز بن حكيم، عن أبيه، عن جده في المعنى. وفي الباب الثاني حديث "أن الإيمان إذا وقعت الفتن بالشام". وفي رواية خرجها الطبراني (¬1) من حديث عبد الله بن عمرو عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "رأيت في المنام أخذوا عَمُودَ الْكتَاب فَعَمَدُوا بِهِ إِلَى (السماء) (¬2)؛ فَإِذَا وَقَعَتِ الْفِتَنَةُ فَالأَمْرُ بِالشَّامِ". وفي مسند الإمام أحمد (¬3) عن ابن حوالة قال: «قَالَ لِي رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا ابْنَ حَوَالَةَ، كَيْفَ تَصْنَعُ فِي فِتْنَةٍ تَثُورُ فِي أَقْطَارِ الْأَرْضِ كَأَنَّهَا صَيَاصِي بَقَرٍ؟» (¬4) قُلْتُ: أَصْنَعُ مَاذَا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «عَلَيْكَ بِالشَّامِ». وروى ثور بن يزيد، عن حفص بن بلال بن سعيد (¬5)، عن أبيه، وإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا وقعت الفتن فهاجروا إِلَى الشام؛ فإنها من الله بمنظر، وهي أرض المحشر: خرجه أبو القاسم الحافظ (¬6) وهو مرسل. ¬

_ (¬1) في المعجم الأوسط (2710). (¬2) كذا بالأصل وفي "المعجم" "الشام". (¬3) (5/ 33). (¬4) أي قرون بقر شبه الفتنة بها لشدّتها وصعوبة الأمر فيها، وراجع "النهاية" (3/ 67). (¬5) كذا بالأصل وفي "تاريخ دمشق": سعد. (¬6) (1/ 171).

وروى حماد بن سلمة، عن بهز بن حكيم، عن أبيه، عن جده "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لأبي ذر: إذا رأيت البناء قد بلغ مبلغًا -يعني:- المدينة، فعليك بالشام". ورُوي معناه عن الحسن، عن أبي أَسِيدِ الأنصاري، عن النبي صلّى الله عليه وسلم. وروى نافع، عن ابن عمر، عن كعب قال: "يوشك نار تخرج من اليمن تسوق الناس إِلَى الشام، تغدو معهم إذا غدوا، وتروح معهم إذا راحوا، فَإِذَا سمعتم بها فأخرجوا إِلَى الشام". وروى قطن بن وهب، عن مولاة لعبد الله بن عمر "أنها أرادت الجلاء في الفتنة واشتد عليها الزمان فاستأمرت عبد الله بن عمر، فَقَالَ: أين؟ قالت: العراق، قال: فلا إِلَى الشام، إِلَى المحشر". وروى هشام بن عمار، حدثنا الوليد، حدثنا خليد وسعيد، عن قتادة "في قوله تعالى: {وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 71] قال: أنجاهما الله إِلَى الشام أرض المحشر والمنشر، وبها يجتمع الناس رأسًا واحدًا، وبها ينزل عيسى ابن مريم -عليه السلام- وبها يُهْلك الله المسيح الكذاب". وقال ابن أبي خيثمة: حدثنا هارون بن معروف، حدثنا ضمرة، عن ابن شوذب قال: تذاكرنا الشام قال؛ فقلت لأبي سهل: أما بلغك أنَّه يكون بها كذا؟ قال: بلى، ولكن ما كان لها فهو أيسر مما يكون بغيرها. وروى نعيم بن حماد (¬1)، عن أبي ربيعة، عن يزيد بن أبي حبيب، قال: بلغني أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "ستكون فتنة تشمل الناس كلهم، لا يسلم منهم إلا الجند الغربي". وسنذكر فيما بعد أن الشام وما والاها مكان أهل المدينة يسمونها الغرب. وقد سبق حديث عبد الله بن حوالة عن النبي صلّى الله عليه وسلم أن الله تكفل لي بالشام ¬

_ (¬1) الفتن (85).

وأهله. وكان أبو إدريس الخولاني إذا حدث به قال: ومن تكفل الله به فلا ضيعة عليه. ورُوي عن عبد الله بن حوالة أنَّه كان إذا حدث به قال مثل ذلك أيضًا. وبقية هذا الباب سيأتي -إن شاء الله تعالى- في الباب الأخير في ذكر دمشق، فإنَّه ورد أنها معقل المسلمين من الملاحم، وأن من سكنها نجا وسنذكر فيه إن شاء الله حديث معقل المسلمين من الروم دمشق، ومن الدجال بيت المقدس، ومن يأجوج ومأجوح الطور، وهذه الأماكن الثلاثة كلها من أرض الشام. ***

الباب الرابع فيما ورد في استقرار خيار أهل الأرض في آخر الزمان بالشام وأن الخير فيها أكثر منه في سائر بلاد المسلمين

الباب الرابع فيما ورد في استقرار خيار أهل الأرض في آخر الزمان بالشام وأن الخير فيها أكثر منه في سائر بلاد المسلمين قد سبق حديث: "أنها صفوة الله من بلاده، يسوق إليها خيرته من عباده". خرَّج الإمام أحمد (¬1) وأبو داود (¬2) واللفظ له من حديث قتادة، عن شهر ابن حوشب، عن عبد الله بن عمرو قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «سَتَكُونُ هِجْرَةٌ بَعْدَ هِجْرَةٍ، فَخِيَارُ أَهْلِ الأَرْضِ أَلْزَمهم مُهَاجرِ إِبْرَاهِيمَ، وَتَنْفِي الأرْض شِرَار أهْلِها تَلْفِظَهُمْ أَرْضُهُمْ (¬3)، وَتَقْذَرُهُم (¬4) نَفْسُ الرَّحْمَنِ، وَتَحْشَرُهُمُ النَّارُ مَعَ الْقِرَدَةِ وَالْخَنَازِيرِ». وعند الإمام أحمد (¬5): "ينحاز الناس إِلَى مهاجر إبراهيم". وعنده في ذكر النار: "تبيت معهم إذا باتوا، تقيل معهم إذا قالوا، وتأكل من تَخَلَّف" (5). وخرّجه نعيم بن حماد في كتاب "الفتن" (¬6) وعنده: "وتحشرهم نار من ¬

_ (¬1) (2/ 209). (¬2) برقم (2474). (¬3) في "سنن أبي داود" أرضوهم - بالجمع. (¬4) تَقْذُرهم: تكرههم أي تكره خروجهم إِلَى الشام ومقامهم بها يقال: قِذرت الشيء أقذرُه إذا كرهته. النهاية (4/ 28). (¬5) (2/ 199). (¬6) برقم (1767).

عدن مع القردة والخنازير". وقد رُوي موقوفًا عَلَى عبد الله بن عمرو، ورواه أبو جناب الكلبي، عن شهر، عن عبد الله بن عمر، عن النبي صلّى الله عليه وسلم بنحوه. خرّجه من طريقه الإمام أحمد (¬1)، ورواية قتادة ومن تابعه أشبه، وقد رواه عبد الله بن صالح، عن موسى بن علي [بن] رباح (¬2)، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن عبد الله بن عمرو بن العاص عن النبي صلّى الله عليه وسلم خرَّجه من طريقه الحاكم في "المستدرك" (¬3) وقال: صحيح عَلَى شرط الشيخين. وفيما قاله نظر. وقد رُوي هذا الحديث عن الأوزاعي، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يسمعه الأوزاعي من نافع، إِنَّمَا بلغه عنه، ولم يسم من حديثه عنه، والله أعلم. وخرَّج الحاكم (¬4) من حديث عفير بن معدان سمع سليم بن عامر يحدث عن أبي أمامة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "الشام صفوة الله من بلاده يسوق إليها صفوة عباده، من خرج من الشام إِلَى غيرها فبسخطه، ومن دخلها من غيرها فبرحمته". وقال: صحيح الإسناد عَلَى شرط مسلم، كذا قال، وعفير بن معدان ضعيف الحديث. وروى إسماعيل بن عياش، عن عبد العزيز بن [عبيد] الله (¬5)، عن القاسم، عن أبي أمامة، عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: "صفوة الله من أرض الشام، وفيها صفوته ممن خلقه وعباده" وخرجه الطبراني (¬6) وعبد العزيز هذا فيه ضعف. ويروى نحوه من حديث معاذ عن النبي صلّى الله عليه وسلم بإسناد ضعيف. ¬

_ (¬1) (2/ 84). (¬2) في الأصل علي عن رباح، والتصويب من المستدرك وكتب التراجم. (¬3) (4/ 510). (¬4) (4/ 509 - 510). (¬5) في الأصل: "عبد الله"، والتصويب من كتب التراجم وإسناد الطبراني. (¬6) في "الكبير" (8/ 7796)، و"مسند الشاميين" (1341).

وفي مسند الإمام أحمد (¬1) من حديث أبي المثنى، عن أبي أمامة قال: "لا تقوم الساعة حتى يتحول خيار أهل العراق إِلَى الشام، ويتحول شرار أهل الشام إِلَى العراق" وهذا موقوف. وخرَّج الطبراني (¬2) من حديث أنس قال: "قلت": يا رسول الله، أين الناس يوم القيامة؟ قال: "في خير أرض الله وأحبها إِلَيْهِ؛ الشام، وهي أرض فلسطين". وهو منكر، وفي إسناده: إبراهيم بن حرب العسقلاني، قال العقيلي (¬3): حدث بمناكير. وروى معاوية بن قرة عن أبيه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا فسد أهل الشام، فلا خير فيكم، ولا تزال طائفة من أمتي منصورين، لا يضرهم من خذلهم، حتى تقوم الساعة". خرجه الإمام أحمد (¬4) والترمذي (¬5)، وقال: "حسن صحيح" وابن حبان في [صحيحه] (¬6) (¬7). وخرج ابن ماجه (¬8) آخره. وروى أبو خليد الدمشقي، عن الوضين بن عطاء، عن مكحول، عن عبد الله بن عمرو، عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: "الْخَيْر عشرَة أعشار، تِسْعَة بِالشَّام، وَوَاحِد فِي سَائِر الْبلدَانِ، وَالشَّر عشرَة أعشار، وَاحِد بِالشَّام، وَتِسْعَة فِي سَائِر الْبلدَانِ، وَإِذا فسد أهل الشَّام فَلَا خير فِيكُم". ¬

_ (¬1) (5/ 249). (¬2) في "مسند الشاميين" برقم (2314). (¬3) في "الضعفاء الكبير" (1/ 51). (¬4) (2/ 436)، (4/ 34، 35). (¬5) برقم (2191). (¬6) سقطت من الناسخ. (¬7) برقم (15461 - إحسان). (¬8) برقم (6).

في إسناده ضعف وانقطاع، ولعله موقوف. وروى الأعمش، عن عبد الله بن ضرار الأسدي، عن أبيه، عن ابن مسعود قال: "قسم الله الْخَيْر فَجعله عشرَة أعشار، فَجعلت (¬1) تِسْعَة أعشار بِالشَّام وبقيته فِي سَائِر الْأَرْض، وَقسم الشَّرّ، فَجعله عشرَة أعشار، فَجعل جزءًا منه فِي الشَّام، وبقيته فِي سَائِر الْأَرْضين". وقيل: عن الأعمش، عن عبد الله بن سراقة، عن أبيه، عن ابن مسعود. وقيل: عن الأعمش، عن سعيد بن عبد الله بن ضرار، عن أبيه، وعن خيثمة قالا: قال عبد الله ... فذكره (¬2). خرَّجه ابن أبي خيثمة. وروى زياد بن عِلاَقة، عن ثابت بن قُطبة، عن عبد الله بن مسعود، قال: "إن تسعة أعشار الخير بالشام، وعُشْر بغيرها، وإن تسعة أعشار الشر بغيرها وعُشْر بها، وسيأتي عليكم زمان يكون أحب مال الرجل فيه حمر ينتقل عليها إِلَى الشام". وقيل: عن زياد بن علاقة، عن قطبة بن مالك، عن ابن مسعود. وقد رُوي هذا المعنى مرفوعًا، من وجه ضعيف، من رواية بقية بن الوليد، عن صباح بن مجالد، عن عطية، عن أبي سعيد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا كان سنة خمس وثلاثين ومائة خرج مردة الشياطين كان حبسهم سليمان بن داود - عليهما السلام- في جزيرة العرب، فذهب تسعة أعشارهم في العراق يجادلونهم، وعُشْر بالشام". خرجه العقيلي (¬3)، وقال: لا أصل لهذا الحديث. ¬

_ (¬1) كذا بالأصل وفي فضائل الشام للربعي (6): " فجعل". (¬2) أخرجه ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (1/ 144) من طريق ابن أبي خيثمة. (¬3) في "الضعفاء الكبير" (2/ 213).

وخرّجه [ابن] (¬1) عدي (¬2) من طريق بقية، عن عبد الواحد بن زياد، عن الصباح ... فذكره. وقال: الصباح هذا ليس بالمعروف، وهو من مشايخ بقية الذين لا يروي عنهم غيره. ورُوي عن كعب الأحبار، قال: الخير عشرة أجزاء، فتسعة أجزاء الخير في الشام، وجزء في سائر الأرضين. خرجه ابن أبي خيثمة (¬3). وخرج الطبراني (¬4) من حديث ابن وهب: أخبرني ابن [لهيعة] (¬5) ويحيى [بن] (¬6) أيوب عن عقيل عن الزهري عن يعقوب بن عتبة بن المغيرة عن الأخنس عن ابن عمر، عن النبي صلّى الله عليه وسلم: «دَخَلَ إِبْلِيسُ الْعِرَاقَ فَقَضَى حَاجَتَهُ وَدَخَلَ الشَّامَ فَطَرَدُوهُ، حَتَّى بَلَغَ [بسَاق] (¬7) وَدَخَلَ مِصْرَ فَبَاضَ فِيهَا وَفَرَّخَ، وَبَسَطَ عَبْقَرِيَّهُ». وقال: تفرد به ابن وهب بهذا الإسناد. وفي رواية عن الطبراني قال ابن وهب: أرى ذلك في فتنة عثمان، لأن الناس افتتنوا فيه، وسلم أهل الشام. ورُوي من وجه آخر من رواية خطاب بن يوسف، حدثنا عباد بن كثير عن سعيد عن قتادة عن سالم عن ابن عمر، عن النبي صلّى الله عليه وسلم: "إن الشيطان أتى العراق فباض فيهم وأفرخ، ثم إِلَى مصر، فبسط عبقريه وجلس، ثم أتى إِلَى الشام فطردوه". ورُوي موقوفًا فرواه يعقوب بن [سفيان] (¬8) ثنا إبراهيم بن المنذر، حدثني ¬

_ (¬1) سقطت من الناسخ والصواب إثباتها. (¬2) في "الكامل" (4/ 85). (¬3) ومن طريقة ابن عساكر (1/ 147). (¬4) في الكبير (12/ 13290)، والأوسط (6431). (¬5) في الأصل: "أبي ربيعة" والتصويب من مصادر التخريج. (¬6) في الأصل: "عن" والتصويب من مصادر التخريج. (¬7) هكذا بالأصل وفي المعرفة والتاريخ (2/ 306)، وفي "الأوسط" للطبراني ومجمع البحرين "سباق". (¬8) كذا بالأصل وفي تاريخ دمشق "أيوب".

[عباس] (¬1) بن أبي شملة، عن موسى بن يعقوب، عن زيد بن أبي عتاب عن أسيد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب عن عمر (¬2) قال: "نزل الشيطان [بالشرق] (¬3) فقضى قضاءه، ثم خرج يريد الأرض المقدسة الشام فمنع، فخرج عَلَى ساق حتى جاء المغرب فباض بيضة، وبسط بها عبقريه". وهذا الموقوف أشبه، ويروى نحوه مختصرًا بإسناد منقطع عن إياس ابن معاوية مرسلاً. وخرج الطبراني (¬4) من رواية أبي عبد السلام- صالح بن رستم مولى بني هاشم- عن عبد الله بن حوالة عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: "إن الله يقول: يَا شَامُ، يدي عليك، يَا شَامُ، أَنْتِ صَفْوَتِي مِنْ بِلَادِي، أُدْخِلُ فِيكِ خَيْرَة مِنْ عِبَادِي, أَنْتِ سَوْطُ نِقْمَتِي، وَسَوْطُ عَذَابِي, أَنْتِ [الْأَنْدَرُ] (¬5) وَإِلَيْكِ الْمَحْشَرُ. [وَرَأَيْتُ] (¬6) لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي عَمُودًا أَبْيَضَ كَأَنَّهُ لُؤْلُؤَة تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ، قُلْتُ: [مَا] (¬7) تَحْمِلُونَ؟ قَالُوا: عَمُودُ الْإِسْلَامِ، أَمَرَنَا أَنَ نَضَعَهُ بِالشَّامِ، وَبَيْنَا أَنَا نَائِمٌ إِذْ رَأَيْتُ الْكِتَابَ اخْتُلِسَ مِنْ تَحْتِ وِسَادَتِي, فَظَنَنْتُ أَنَّ اللَّهَ قَدْ تَخَلَّى مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ فَأَتْبَعْتُهُ بَصَرِي، فَإِذَا هُوَ نُورٌ بَيْنَ يَدَيَّ حَتَّى وُضِعَ بِالشَّامِ". وهذه الألفاظ غير محفوظة في حديث ابن حوالة فإنَّه رُوي من طرق كثيرة، ليس فيها شيء من ذلك وروى إسماعيل بن عياش عن الأسود بن [أحمد ¬

_ (¬1) في الأصل "عياش" والتصويب من المعرفة والتاريخ للفسوي (2/ 305) والجرح والتعديل (6/ 217). (¬2) في المعرفة والتاريخ (2/ 306) ابن عمر. (¬3) في المعرفة والتاريخ (2/ 306): "بالمشرق". (¬4) في مسند الشاميين (601). (¬5) في الأصل: الأنذر والمثبت من مسند الشاميين والأندر: البيدر، وهو الموضع الَّذِي يداس فيه الطعام بلغة الشام. النهاية مادة " أندر". (¬6) بالأصل: "وأتت" وما أثبته من مسند الشاميين (1/ 345). (¬7) سقطت من الأصل، واستدركتها من مسند الشاميين.

العبسي] (¬1) عن وهب الذماري، قال: إن الله -عز وجل- كتب للشام: إني فدَّسْتُكِ وباركتك، جعلت فيك مقامي، وأنت صفوتي من بلادي، وأنا سائق إليك صفوتي من عبادي؛ فاتسعي لهم برزقك [ومسألتك] (¬2) كما يتسع الرحم أن [وضع] (¬3) فيه اثنان وسعه، وإن ثلاثة مثل ذلك، وعيني عليك بالظل والمطر من أول السنين إِلَى آخر الدهر، فلن أنساك حتى أنسى يميني، وحتى تنسى ذات الرحم ما في رحمها. وروى ضمرة بن ربيعة عن الوليد بن صالح قال: في [كتاب] (¬4) الأول: إن الله يقول للشام: أنت [الأندر] (¬5) ومنك المنشر، وإليك المحشر، فيك ناري، ونُوري من دخلك، رغبة فيك، فبرحمتي ومن خرج منك رغبة [عنك] (¬6) فبسخطي، تتسع لأهلها كما يتسع الرحم للولد. وخرّجه ابن أبي خيثمة في "تاريخه" وزاد في آخره: مهما أعجزهم فيها، فلن يعجزهم فيها [الخبز والزيت] (¬7). ويروي من غير وجه عن كعب أنَّه وجد في الكتب السابقة أن الشام كنز الله في أرضه، بها كنزه من عباده. وقد سبق ذكره. ويروى أيضاً عن كعب أنَّه كان يقول: يا أهل الشام، إن الناس يريدون أن يضعوكم، والله يرفعكم، وإن الله يتعهدكم كما يتعاهد الرجل نبله في كنانته؛ لأنها أَحَبّ أرضه إِلَيْهِ، يسكنها أَحَبّ خلقه إِلَيْهِ، من دخلها مرحوم، ومن خرج منها فهو مغبون. ¬

_ (¬1) كذا بالأصل، وفي تاريخ دمشق "أحمر العنسي". (¬2) كذا بالأصل، وفي تاريخ دمشق: "ومساكنك". (¬3) في الأصل: "يضع". (¬4) في تاريخ دمشق 11: "الكتاب". (¬5) في الأصل: الأنذر والتصويب من "مسند الشاميين". (¬6) زيادة من تاريخ دمشق. (¬7) في الأصل: "الخير والذيب" والتصويب من تاريخ دمشق.

وقال الأوزاعي عن ثابت بن معبد قال الله -عز وجل-: "يا شام، أنت خيرتي من بلادي، أسكنك خيرتي من عبادي". وعن وهب بن منبه قال: "إني لأجد ترداد الشام في الكتب، حتى كأنه ليس لله حاجة إلا بالشام". وعن كعب قال: "أَحَبّ البلاد إِلَى الله: الشام، وأحب الشام إِلَى الله القدس، وأحب القدس: جبل نابلس، ليأتين عَلَى الناس زمان يتماسحونه بالحبال بينهم". وعن كعب وروى أبو المهدي عن أبي [الزاهرية] (¬1) عن الصنابحي يرفعه، قال: "أوصى الله إِلَى الشام: إنك واري، وقراري، وأنت [الأندر] وأنت منبت أنبيائي، وأنت موضع قدسي، وأنت موضع موطئي، وإليك أسوق [خيري] (¬2) من خلقي، وإليك محشر عبادي، ولم تزل [عيني] (¬3) عليك من أول يوم من الدهر إِلَى آخر يوم من الدهر بالظل والمطر، وإذا عجز أهلك المال لمن يعجزهم الخبز والماء. وروينا في كتاب "فضائل الشام" (¬4) للربعي بإسناده عن يونس بن حلبس قال: "أشرف عيسى -عليه السلام- عَلَى الغوطة، فَقَالَ: يا غوطة، إن عجز الغني أن يجمع منك كنزًا، لم يعجز المسكين أن يشبع منك خبزًا". وروى خالد الخراساني، حدثنا جسر - هو ابن الحسن - عن الحسن قال: "خيار أهل الشام خير من خياركم، وشرار أهل الشام خير من شراركم، قالوا: ولم تقول هذا يا أبا سعيد؟ قال: لأنّ الله -تعالى- يقول: {وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 71]. ¬

_ (¬1) في الأصل: "الراهويه" والتصويب من تاريخ دمشق. (¬2) كذا بالأصل وفي تاريخ دمشق: "خيرتي". (¬3) ما بين المعقوفتين من تاريخ دمشق. (¬4) برقم (64).

وقال يحيى بن صالح: سمعت إسماعيل بن عياش يقول: لما أنْ خرجت من عند المهدي لقيني هشيم بن بشير، فَقَالَ لي: يا أبا عتيبة، جزاك الله عن الإسلام خيرًا، سمعت أشياخنا يَقُولُونَ: صَالحُوكم خير من صالحينا، وطالحوكم خير من طالحينا. أخرج ذلك كله الحافظ أبو القاسم الدمشقي في أول "تاريخه" (¬1). وروى يعقوب بن شيبة بإسناده عن الحارث بن عميرة أنَّه قدم عَلَى "مسعود" (¬2)، فَقَالَ له: ممن أنت يا ابن أخي؟ فَقَالَ الحارث: من أهل الشام. فَقَالَ: نعم الحي أهل الشام، لولا واحدة، لولا أنهم يشهدون عَلَى أنفسهم أنهم من أهل الجنة ... وذكر الحديث. ... ¬

_ (¬1) تاريخ مدينة دمشق (1/ 295). (¬2) كذا بالأصل، ولعلها "ابن مسعود" فإن الحارث بن عميرة ترجمه البخاري في التاريخ الكبير (2/ 275) وابن حبان في الثقات (4/ 132) وقالا: يروي عن معاذ بن جبل.

الباب الخامس فيما ورد في أن الطائفة المنصورة بالشام

الباب الخامس فيما ورد في أن الطائفة المنصورة بالشام في "الصحيحين" (¬1) عن عمير بن هانئ أنَّه سمع معاوية يقول: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: "لا يزال من أمتي أمة قائمة بأمر الله، لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم عَلَى ذلك". قال عمير: فَقَالَ مالك بن يخامر: قال معاذ: وهم بالشام. فَقَالَ معاوية: هذا مالك بن يخامر يزعم أنَّه سمع معاذًا يقول: وهم بالشام. وروى حماد بن زيد عن الجريري عن مطرف عن عمران بن حصين قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون عَلَى الحق ظاهرين عَلَى من ناوأهم حتى يقاتل آخرهم المسيح الدجال". قال مطرف: فنظرت في هذه العصابة فوجدتهم أهل الشام. وقد خرجه الإمام أحمد (¬2) وأبو داود (¬3) بدون قول مطرف. وخرج مسلم في "صحيحه" (¬4) من حديث سعد بن أبي وقاص قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لا يزال الغرب ظاهرين عَلَى الحق حتى تقوم الساعة" وقد فسر الإمام أحمد أهل الغرب في هذا الحديث بأهل الشام؛ فإن التشربق والتغريب ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (7460)، ومسلم (1037). (¬2) (4/ 437). (¬3) برقم: (2476). (¬4) برقم (1925).

أمر نسبي، والنبي - صلى الله عليه وسلم - إِنَّمَا قال هذا بالمدينة، وقد سمي النبي صلّى الله عليه وسلم وأهل نجد والعراق أهل المشرق، فلذلك كانوا يسمون أهل الشام أهل المغرب؛ لأن الشام تتغرّب عن المدينة، كما أن نجدًا تتشرّق عنها. وكانوا يسمون البصرة هِندًا، لأنها من جهة الهند، ومنها يُسلك إِلَى الهند، ولهذا قال خالد لما عزله عمر عن الشام: إن عمر أمرني أن [آتي] (¬1) الهند. قال الرواي: وكانت الهند عندنا البصرة. وفسرت طائفة أخرى الغرب المذكور في هذا الحديث بالدلو العظيم، وقالوا: المراد بهم العرب (¬2)؛ لأنهم يستقون [بالغرب] (¬3) وهذا قول علي بن المديني وغيره. وقد وردت الأحاديث أن [العرب تهلك] (¬4) في آخر الزمان، فلا يبقى منهم بقية إلا بالشام، فيرجع الأمر إِلَى تفسير الحديث بأهل الشام، كما روى يونس بن أبي إسحاق، حدثنا إدريس بن يزيد وداود بن يزيد [الأوديان] (¬5)، حدثنا والدنا عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "أول الناس هلاكًا فارس ثم [العرب] (¬6) من قربها، ثم أشار بيده قبل الشام: إلا بقية ها هنا" (¬7). ورواه سعيد بن بشير عن داود (الأزدي) (¬8) عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "أول الناس هلكة فارس، ثم الغرب، إلا بقايا ها هنا - يعني: ¬

_ (¬1) في الأصل: "اياتي" ولعل ما ذكرته هو الصواب. (¬2) كتب في الحاشية: لعله المغرب. (¬3) في الأصل: "المغرب" والصواب ما أثبته. والغَرْب: الدَّلو العظيمة التي تتخذ من جلد ثور. النهاية مادة "غرب" (3/ 349). (¬4) في الأصل: "الغرب يهلك"، والسياق يقتضي ما أثبته. (¬5) في الأصل "الأزديان"، والتصويب من تاريخ دمشق (1/ 297) وانظر الأنساب لابن السمعاني (1/ 227) فقد نسب إدريس بن يزيد بالأودي. (¬6) في الأصل "الغرب" والتصويب من تاريخ دمشق (1/ 296). (¬7) أخرجه ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (1/ 296 - 297). (¬8) في الأصل "الأزدي" والتصويب من تاريخ دمشق (1/ 296).

بالشام" (¬1). وخرج ابن ماجه (¬2) من حديث أبي أمامة "أن النبي صلّى الله عليه وسلم لما نزل خروج الدجال خارج المدينة قِيلَ لَهُ: يا رسول الله، فأين [العرب] (¬3) يومئذ؟ قال: هم يومئذ قليل، وجُلَّهُم ببيت المقدس". وقد ورد عن النبي -صلى الله عليه وسلم- التصريح بأن هذه الطائفة المنصورة بالشام. فروى يعقوب بن سفيان، حدثنا عبد الله بن يوسف، حدثنا يحيى بن حمزة، حدثني أبو علقمة الحضرمي أن عمير (الأسود) (¬4) وكثير بن مرة الحضرمي قالا: إن أبا هريرة وابن السَّمط كانا يقولان: "لا يزال المسلمون في الأرض حتى تقوم الساعة، وذلك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: لا تزال عصابة من أمتي قوَّامة عَلَى أمر الله، لا يضرُّها من خالفها، تقاتل أعداء الله، كما ذهب حرب نشأ حرب قوم آخرين". يزيغ الله قلوب قوم ليرزقهم منهم حتى تأتيهم الساعة كأنها قطع الليل المظلم، فيفزعون لذلك، حتى [يلبسوا] (¬5) له أبدان الدروع". وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "وهم أهل الشام. ونكت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأصبعه يومئ بها إِلَى الشام حتى أوجعها" (¬6). وذكر البخاري في "تاريخه" (¬7) عن عبد الله بن يوسف نحوه. وخرَّج ابن ماجه (¬8) من أوله إِلَى قوله: "ولا يضرها من خالفها" عن ¬

_ (¬1) أخرجه ابن عساكر في تاريخ دمشق (1/ 296 - 297). (¬2) برقم (4077) مطولاً. (¬3) في الأصل "الغرب"، والتصويب من "سنن ابن ماجه". (¬4) في تاريخ دمشق: ابن الأسود. (¬5) في الأصل: "يلبسون" والمثبت هو الصواب نحويا. (¬6) أخرجه ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (1/ 243). (¬7) برقم (2691). (¬8) برقم (7).

[هشام] (¬1) بن عمار عن [يحيى] (¬2) بن حمزة به، ولم يذكر في إسناده ابن السمط. وله طريق أخرى من رواية الصعق بن حزن عن سيار بن الحكم عن جبر عن عبيدة الحمصي الشاعر عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: "هذه الأمة منصورة بعدي، منصورون أينما توجهوا، لا بضرهم [من خالفهم] (¬3) من الناس حتى يأتي أمر الله، أكثرهم من الشام". وفي رواية: هم أهل الشام. ورواة بقية بن الوليد، حدثنا [حشرج] (¬4) بن نباتة، حدثني سيار أبو الحكم عن شهر بن حوشب عن أبي الدرداء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فذكره بنحوه. ورواية الصعق بن حزن أصح. والصعق ثقة، وشيخ بقية غير معروف. وقد رُوي من حديث أنس من رواية محمد بن كثير المصيصي عن الأوزاعي عن قتادة عن أنس عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لا تزال طائفة من أمتي ... " فذكر الحديث، "وقال وأومأ بيده إِلَى الشام". وذكره الترمذي في "كتاب العلل" (¬5) وقال: سألت البخاري عنه، فَقَالَ: هو منكر خطأ، إِنَّمَا هو عن قتادة عن مطرف عن عمران بن حصين. قلت: حديث قتادة عن مطرف عن عمران قد خرجه الإمام أحمد (¬6) وأبو ¬

_ (¬1) في الأصل: "هامش"، والصواب ما أثبته، وهو شيخ ابن ماجه. (¬2) في الأصل: "بحير" والصواب ما أثبته، وهو يحيى بن حمزة بن واقد الحضرمي أبو عبد الرحمن الدمشقي القاضي من الثامنة. (¬3) سقطت من الناسخ، واستدركتها من تاريخ دمشق (1/ 244 - 245). (¬4) في الأصل: خزرج. والصواب ما أثبته، وهو حشرج بن نُباتة - بضم النون ثم الموحدة ثم المثناة -أبو مكرم الواسطي- أو الكوفي- من الثامنة. وهناك استدراك عَلَى ابن رجب؛ لأنه قال: شيخ بقية غير معروف. وحشرج قال فيه الحافظ في التقريب: صدوق يهم! ووثقه غير واحد من الأئمة منهم أحمد وابن معين. (¬5) برقم (598). (¬6) (4/ 429، 437).

داود (¬1)، وقد سبق ذكره، وأن الجُريريَّ رواه عن مطرف، وذكر فيه عنه أنَّه قال: نظرت فيهم فوجدتهم أهل الشام. وأما الأوزاعي فإنَّه روى هذا الحديث عن يحيى بن أبي كثير عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلم من غير ذكر الشام. قال الأوزاعي: فحدثت به قتادة فَقَالَ: لا أعلم أولئك إلا أهل الشام. كذلك رواه الوليد بن مسلم عن الأوزاعي، وكذا رواه يحيى بن حمزة عنه إلا أنَّه قال: عن يحيى عن جابر، وقال فيه: قال الأوزاعي: وحدثني به قتادة، فزعم أنهم أهل الشام. ورواه عقبة بن علقمة عن الأوزاعي عن يحيى عن أبي سلمة عن أبي هريرة، فوصل إسناد أبي هريرة، والمحفوظ الأول. ورُوي من وجه آخر: من رواية عباد بن عباد أبي عتبة البرمكي عن أبي زرعة [السيباني] (¬2) عن أبي وعْلَة [العكي] (¬3) عن كريب السحولي، حدثني مرة البهزي أنَّه سمع النبي صلّى الله عليه وسلم يقول: "لا تزال طائفة من أمتي عَلَى الحق ظاهرين عَلَى من ناوأهم، وهم كالإناء بين الأكلة حتى يأتي أمر الله، وهم عَلَى ذلك، قلنا: يا رسول الله، وأين هم؟ قال: بأكناف بيت المقدس". خرجه الطبراني (¬4) وغيره إلا أن رواية الطبراني عن أبي زرعة العكي، وهو وهم. ¬

_ (¬1) برقم (2476). (¬2) في "الأصل": السفياني وهو خطأ والتصويب من المعجم الكبير للطبراني (20/ 754). (¬3) كذا بالأصل، وفى الكنى للبخاري ص 78 "العجلي" وذكر البخاري حديث مرة البهزي. (¬4) في "الكبير" (20/ برقم 754).

ورواهُ ضمرة بن ربيعة عن أبي زرعة الشيباني عن عمرو بن عبد الله الحضرمي عن أبي أمامة عن النبي صلّى الله عليه وسلم بنحوه. وقال فيه: "قالوا يا رسول الله، وأين هم؟ قال: ببيت المقدس وما حوله، لا يضرهم خذلان من خذلهم، ظاهرين عَلَى الحق إِلَى أن تقوم الساعة". أخرجه ابن أبي خيثمة والطبراني (¬1) وقال: لم يروه عن عامر إلا الوليد، تفرد به إسماعيل بن عياش. وخرّجه ابن عدي (¬2)، وقال: هذا الحديث بهذا اللفظ ليس يرويه إلا ابن عياش عن الوليد، والوليد بن عباد ليس بمعروف، وحديثه غير مستقيم. انتهى. وقد قال بعضهم في هذا الإسناد: عن عاصم الأحول، عن أبي صالح الخولاني، قاله أبو القاسم الدمشقي الحافظ (¬3). الوجه الثاني: رواه خيثمة بن [سليمان] (¬4) الحافظ، حدثنا العباس بن الوليد، أخبرنا محمد بن شعيب، أخبرني أبو المغيرة عمرو بن [شراحيل] (¬5) العنسي أنَّه سمع حيان بن [وبرة] (¬6) المري ببيروت يحدث عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يزال بدمشق عصابة يقاتلون عَلَى الحق حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون". الوجه الثالث: من رواية محمد بن عائذ، حدثنا الهيثم بن حميد، حدثنا يزيد الحميري، رفعه إِلَى أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يزال عصابة من أمتي يقاتلون عَلَى أبواب دمشق وما حولها، وعلى أبواب بيت المقدس وما ¬

_ (¬1) في الكبير (8/ 145)، ومسند الشاميين (860). (¬2) في "الكامل" (7/ 84). (¬3) في "تاريخ دمشق" (1/ 240). (¬4) في الأصل "سليم" والتصويب من "تاريخ دمشق" لابن عساكر (1/ 242). (¬5) في الأصل: "شرحبيل" والتصويب من تاريخ دمشق (1/ 242). (¬6) في الأصل: "مرة" والتصويب من الجرح والتعديل لابن أبي حاتم (3/ 245) برقم [1089].

حولها، لا يضرهم خذلان من خذلهم، ظاهرين عَلَى الحق إِلَى أن تقوم الساعة". الوجه الرابع: من رواية موسى بن أيوب، حدثنا عبد الله بن القاسم (¬1) عن السري بن بزيع عن السري عن الحسن عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون عَلَى أبواب بيت المقدس وما حولها، وعلى أبواب أنطاكية وما حولها، وعلى أبواب دمشق، وما حولها، وعلى أبواب الطالقان وما حولها، ظاهرين عَلَى الحق، لا يبالون من خذلهم ولا من نصرهم". غريب جدًّا، وفي إسناده من لا يعرف، ومما يدل عَلَى أن هذه الطائفة بالشام حديث شعبة عن معاوية بن قرة عن أبيه، عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: "إذا فسد أهل الشام فلا خير فيكم، لا تزال طائفة من أمتي منصورين، لا يضرهم من خذلهم حتى تقوم الساعة". خرجه الإمام أحمد (¬2)، والترمذي (¬3) وقال: حديث حسن صحيح. ورواه سعيد بن عبد الجبار، عن أرطاة بن المنذر، حدثني معاوية بن قرة عن عبد الله بن عمر، عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: "إذا هلك أهل الشام فلا خير في أمتي، ولا تزال طائفة من أمتي يقاتلون عَلَى الحق ظاهرين لا يبالون بخلاف من خالفهم أو خذلان من خذلهم حتى يأتي أمر الله، وهم عَلَى ذلك وهو يشير إِلَى الشام". خرجه أبو القاسم الحافظ (¬4). ورواية شعبة عن معاوية بن قرة عن أبيه أصلح. وقد ذكرنا فيما تقدم حديث سلمة بن نفيل عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين عَلَى الناس يزيغ الله قلوب أقوام فيقاتلونهم، ويرزقهم الله ¬

_ (¬1) كذا بالأصل، وفي "فضائل الشام" للربعي (75) "وتاريخ دمشق" (1/ 242) "عبد الله بن قسيم" ولم أعرفه، والله أعلم. (¬2) (3/ 436، 4/ 34، 35). (¬3) برقم (2191). (¬4) في "تاريخ دمشق" (1/ 256).

منهم حتى يأتي أمر الله وهم عَلَى ذلك، ألا إن عقر دار المؤمنين الشام". خرجه الإمام أحمد (¬1) والنسائي (¬2). وفي رواية لأبي القاسم البغوي: "وعقر دار المؤمنين يومئذ بالشام" (¬3) وفيه إشارة إِلَى أن هذه الطائفة، أو معظمها بالشام. وأما من قال من العُلَمَاء أن هذه الطائفة المنصورة هم أهل الحديث. كما قاله ابن المبارك، ويزيد بن هارون، وأحمد بن حنبل، وعلي ابن المديني، والبخاري وغيرهم، فإنَّه غير مناف لما ذكرناه؛ لأنّ الشام في آخر الزمان بها يستقر الإيمان وملك الإسلام، وهي عقر دار المؤمنين، فلابد أن يكون فيها من ميراث النبوة من العِلْم ما يحصل به سياسة الدين والدنيا، وأهل العِلْم بالسنة النبوية بالشام هم الطائفة المنصورة القائمين بالحق الذين لا يضرهم من خذلهم. وروى محمد بن أيوب بن ميسرة عن حَلْبَس عن أبيه خريم بن فاتك الأسدي أنَّه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "أهل الشام سوط الله في أرضه، ينتقم بهم ممن يشاء من عباده، وحرام عَلَى منافقيهم أن يظهروا عَلَى مؤمنيهم، ولا يموتوا إلا همًّا وغمًّا". خرجه الطبراني (¬4) وغيره، ورُوي عن خريم موقوفًا. وروى عبد الله بن [مسلم] (¬5) بن هرمز عن مجاهد عن تبيع عن كعب قال: أهل الشام سيف من سيوف الله، ينتقم الله بهم ممن عصاه في أرضه. ويروى عن عون بن عبد الله بن عتبة قال: قرأت فيما أنزل الله عَلَى بعض ¬

_ (¬1) (4/ 104). (¬2) برقم (3561). (¬3) أخرجه ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (1/ 104 - 105). (¬4) في "الكبير" (4/رقم 4163). (¬5) في الأصل: مسلمة: والتصويب من تاريخ دمشق (1/ 275).

الأنبياء أن الله -عز وجل- يقول: الشام كنانتي، فإذا غضبت عَلَى قوم رميتهم منها بسهم. وروى سعيد بن بشير عن قتادة في قوله -تعالى-: {وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الصافات: 173] قال: هم أهل الشام. ورواه خليد عن قتادة قال: لا أعلم أولئك إلا أهل الشام. وروى عطاء بن السائب قال: سمعت عبد الرحمن الحضرمي [أيام] (¬1) ابن الأشعث يخطب وهو يقول: يا أهل الشام، أبشروا؛ فإن فلانًا أخبرني أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "يكون قوم في آخر أمتي يعطون من الأجر مثل ما يعطى أولهم، ويقاتلون أهل الفتن وينكرون المنكر وأنتم هم". وروى [عمرو] (¬2) بن مرزوق، أنا عمران القطان، عن يزيد بن [سفيان] (¬3) عن أبي هريرة قال: "لا تسبوا أهل الشام، فإنهم جند الله المقدم". وروى مالك بن أبي عامر [أنَّه] (¬4) سمع كعبًا يقول: نجد صفة الأرض في كتاب الله (¬5) عَلَى صفة النسر، فالرأس الشام والجناحان المشرق والمغرب، فإذا قرع (¬6) الرأس هلك الناس، وايم الَّذِي نفسي كعب بيده، ليأتين عَلَى الناس زمان لا يبقى جزيرة من جزائر العرب -أو قال: مصر من أمصار العرب - إلا وفيهم مغيث كذا - جبل من الشام يقاتلونهم عن الإسلام، لولاهم كفروا". وقد ورد النهي عن قتال أهل الشام وذم من قاتلهم؛ فروى يعقوب بن شيبة في "مسنده" حدثنا الأسود بن عامر، حدثنا شريك، عن الأعمش، عن حبيب ¬

_ (¬1) في الأصل: "إمام" والتصويب من تاريخ دمشق (1/ 274). (¬2) في الأصل: "عمر" والتصويب من تاريخ دمشق (1/ 327). (¬3) في الأصل: "شعبان" والتصويب من "تاريخ مدينة دمشق" (1/ 327). (¬4) زيادة من تاريخ دمشق (8/ 179). (¬5) في تاريخ دمشق (1/ 179) زياة "يعني: التوراة". (¬6) في "تاريخ دمشق" (نزع) وقرع أي ضرب.

ابن أبي ثابت عن أبي إدريس عن المنتقب ابن بحينة (¬1) قال: قال علي -رضي الله عنه-: "لا تقاتلوا أهل الشام بعدي". وروى أبو القاسم من الحافظ (¬2) بإسناده عن [أبي بكر] (¬3) النهشلي قال: كنت في الجمع -يعني: جمع الكوفة- يوم جاء [أهل] (¬4) الشام يقاتلون أهل الكوفة، فإذا شيخ حسن الخطاب، حسن الهيئة عَلَى دابة له، وهو يقول: اللهم لا تنصرنا عليهم، اللهم فرق بيننا وبينهم، اللهم، اللهم؟ فقلت: يا عبد الله، ألا تتقي الله؟! ترى قومًا قد جاءوا يريدون، يقاتلون مقاتلينا ويسبون ذرارينا، وأنت تقول: اللهم لا تنصرنا عليهم؟! فَقَالَ: ويحك! إني سمعت عبد الله بن مسعود يقول: لا يغلب أهل الشام إلا شرار الخلق. ... ¬

_ (¬1) لعل صوابه: (المسيب بن نجية) راجع تهذيب الكمال (27/ 589). (¬2) في "تاريخ دمشق" (1/ 275). (¬3) في الأصل "أبهل" والتصويب من تاريخ دمشق. (¬4) زيادة من تاريخ دمشق.

الباب السادس فيما ورد في أن الأبدال بالشام

الباب السادس فيما ورد في أن الأبدال بالشام قال الإمام أحمد (¬1): حدثنا أبو المغيرة، حدثنا صفوان، حدثني شريح بن عبيد قال: "ذكر [أهل] (¬2) الشام عند علي بن أبي طالب فقالوا: العنهم يا أمير المؤمنين قال: لا؛ إني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "الأبدال يكونون بالشام وهم [أربعون] (¬3) رجلاً، كلما مات رجل بدل الله مكانه رجلاً فيستقي بهم الغيث وينصر بهم عَلَى الأعداء، ويصرف عن أهل الشام بهم العذاب". شريح بن عبيد شامي، معروف، قيل: إنه لم يسمع من علي، لكنه أدركه فإنَّه يروي عن عقبة بن عامر، وفضالة بن عبيد، ومعاوية، وغيرهم. ورُوي عن علي من وجه آخر: من رواية [ابن لهيعة] (¬4) حدثني عياش بن عباس عن عبد الله بن زرير عن علي بن أبي طالب أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "يكون في آخر الزمان فتنة، (يخلص) (¬5) فيها الناس كما (يخلص) (5) الذهب في المعدن، فلا تسبوا أهل الشام، ولكن سبوا شرارهم؛ فإنَّه فيهم الأبدال، يوشك أن يرسل عَلَى أهل الشام سَبب من السماء فيفرق جماعتهم، حتى لو قاتلتهم الثعالب غلبتهم، فعند ذلك ¬

_ (¬1) (1/ 112). (¬2) زيادة من المسند. (¬3) في الأصل [أن يقعد] والتصويب من المسند (1/ 112). (¬4) في الأصل: "ابن ربيعه" والتصويب من المعجم الأوسط. (¬5) هكذا في الأصل وكتب في الهامش: "بمهملة: يحصل" وهو الموافق لما في المعجم الأوسط، والمعنى واحد.

يخرج خارج من أهل بيتي في ثلاث رايات، المكثر يقول: هم خمسة عشر ألفًا، والمقل يقول: هم اثنا عشر ألفًا، أمارتهم: أمت أمت، يلقون سب رايات، تحت كل راية منها رجل يطلب الملك، فيقتلهم الله جميعًا، ويرد الله إِلَى المسلمين ألفتهم ونعمتهم وقاصيهم ودانيهم". خرجه الطبراني (¬1). وقد روى ذكر الأبدال عن علي موقوفًا، وهو أشبه. روى أبو صالح حدثني أبو شريح أنَّه سمع الحارث بن يزيد يقول: حدثني عبد الله بن زرير الغافقي أنَّه سمع علي بن أبي طالب يقول: "لا تسبوا أهل الشام؛ فإن فيهم الأبدال وسبوا ظلمتهم". وروى الفرج بن فضالة، حدثنا عروة بن رويم اللخمي عن رجاء بن حيوة عن الحارث بن جبريل عن علي بن أبي طالب قال: قال علي بن أبي طالب: إلا تسبوا أهل الشام". وروى سفيان بن عيينة حدثنا زياد بن سعد عن الزهري عن أبي عثمان بن [سَنَّة] (¬2) قال: قام رجل فسب أهل الشام فَقَالَ: [علي رضي الله عنه] (¬3) إلا تسبوهم جمًّا غفيرًا، فإن فيهم الأبدال". وروى عبد الرزاق (¬4) عن معمر عن الزهري عن عبد الله بن صفوان، قال: "قال رجل يوم صفين: اللهم العن أهل الشام! فَقَالَ علي: لا تسبوا أهل الشام جمًّا غفيرًا؛ فإن بها الأبدال، فإن بها الأبدال، فإن بها الأبدال". ورواه ابن المبارك ومحمد بن كثير المصيصي عن معمر فقالا: عن الزهري ¬

_ (¬1) في الأوسط برقم (3905). قال الطبراني: لم يرو هذا الحديث عن ابن لهيعة إلا زيد بن أبي الزرقاء. (¬2) في الأصل "شبَّة" والتصويب من تاريخ دمشق (1/ 324). (¬3) زيادة من تاريخ دمشق (1/ 324). وأخرجه الفسوي في المعرفة والتاريخ (2/ 305). (¬4) "كما في الجامع لمعمر بن راشد" برقم (20455).

عن صفوان بن عبد الله بن صفوان عن علي ... فذكره. وكذا رواه صالح بن كيسان عن الزهري عن صفوان بن عبد الله. ورواه الأوزاعي عن الزهري فأرسله عن علي، ولم يذكر بينهما أحدًا. وروى يعقوب بن سفيان (¬1)، حدثنا يحيى بن عبد الحميد، حدثنا شريك عن عثمان بن أبي زرعة، عن أبي صادق، قال: "سمع [علي] (¬2) رجلاً وهو يلعن أهل الشام فَقَالَ: علي: لا تعم؛ فإن فيهم الأبدال". وروى يعقوب بن شيبة في مسنده، حدثنا عثمان بن محمد، حدثنا جرير عن الأعمش عن حبيب بن أبي ثابت عن أبي الطفيل قال: خطبنا علي فذكر الخوارج، فقام رجل فلعن أهل الشام، فَقَالَ له علي: ويحك؟ لا تعمم إن كنت لاعنًا فلانًا فلانًا، وأشياعه، فإن فيهم الأبدال، ومنك الغضب" (¬3). ويروى عن وكيع [عن] (¬4) فطر عن أبي الطفيل عن علي قال: "الأبدال بالشام، والنجباء بالكوفة". وروى إسحاق بن إبراهيم الأزدي عن فطر عن أبي الطفيل قال: قال علي: [إذا قام قائم آل محمد جمع له أهل المشرق وأهل المغرب، فيجتمعون كما يجتمع قرع الخريف، فأما الرفقاء فمن أهل الكوفة، وأما الأبدال فمن أهل الشام". وروى ابن لهيعة عن خالد بن يزيد السكسكي عن سعيد بن أبي هلال عن علي قال: "النجباء بمصر، والأبدال بالشام وهم قليل". وقال كعب: "الأبدال ثلاثون". وهذا منقطع. ورواه عن الليث بن سعد، عن عياش بن عباس، عن علي، وهو أيضاً منقطع. ¬

_ (¬1) في "المعرفة والتاريخ" (2/ 305). (¬2) في الأصل "عليًّا" والمثبت هو الصواب لغويًّا. (¬3) أخرجه ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (1/ 284). (¬4) في الأصل "بن" والتصويب من تاريخ دمشق.

ورُوي عن علي من وجوه أخر، فهذا الأثر صحيح عن علي - رضي الله عنه- من قوله. وقد رُوي [مرفوعًا] (¬1) من غير حديث علي أيضاً من رواية عمرو بن واقد حدثنا يزيد بن أبي مالك عن شهر بن حوشب قال: "لما فتح معاوية مصر، جنح أهل مصر يسبون أهل الشام، فَقَالَ عوف - وأخرج وجهه من برنسه-: يا أهل مصر، أنا عوف بن مالك: لا تسبوا أهل الشام؛ فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: فيهم الأبدال، وبهم يرزقون، وبهم ينصرون" عمرو بن واقد فيه ضعف. ورُوي من حديث أنس من طريق العلاء بن زيدل (¬2) عن أنس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "البدلاء أربعون: اثنان وعشرون بالشام، وثمانية عشر بالعراق، كما مات منهم واحد أبدل الله مكانه آخر، فَإِذَا جاء الأمر قبضوا كلهم فعند ذلك تقوم الساعة". العلاء بن زيد متروك. ورُوي من وجه آخر من طريق يزيد الرقاشي، وهو ضعيف جدًّا من قبل حفظه، عن أنس عن النبي صلّى الله عليه وسلم: "دعائم أمتي عصائب اليمن [و] (¬3) أربعون رجلاً من الأبدال بالشام، كلما مات رجل أبدل الله مكانه رجلاً، أما إنهم لم [يبلغوا] (¬4) ذلك بكثرة صلاة ولا صيام، ولكن بسخاء الأنفس، وسلامة الصدور، والنصيحة للمسلمين". وقد رُوي في ذلك آثار موقوفة كثيرة. ¬

_ (¬1) في الأصل: "موقوفًا" والسياق يدل عَلَى المثبت. (¬2) هكذا بالأصل وهو صواب، قال الحافظ في التقريب: العلاء بن زيد، ويقال: زيدل بزيادة "لام" الثقفي، أبو محمد البصري، متروك، ورماه أبو الوليد بالكذب. (¬3) زيادة من تاريخ دمشق (1/ 279). (¬4) في الأصل "يبلغون" والمثبت هو الصواب نحويًّا -مجزوم بلم.

فروى سيف بن عمر -وفيه ضعف- عن ابن عمر، وعن زيد بن أسلم عن أبيه قال: كان الشام قد أقبل فإذا أقبل جند من اليمن، وممن بين المدينة واليمن، فاجتاز أحدهم بالشام. قال عمر: يا ليت شعري عن الأبدال هل مرت بها الركبان (¬1). ورواه سيف من طريق آخر منقطع عن عمر. وروى عيسى بن يونس عن هشام عن من سمع الحسن يقول: لن تخلو الأرض من سبعين صِدِّيقًا، وهم الأبدال، لا يهلك منهم رجل إلا أخلف مكانه مثله، أربعون بالشام، وثلاثون في سائر الأرضين. وروى إسماعيل بن عياش حدثتني أم عبد الله بن خالد بن معدان عن أبيها، قال: قالت الأرض للرب -عز وجل-: كيف تدعني وليس عَلَى نبي؟! قال: سوف أدع عليك أربعين صِدّيقًا بالشام. وروى زيد بن الحباب، حدثنا معاوية - أُراه عن [أبي] (¬2) الزاهرية قال: قال الأبدال ثلاثون رجلاً بالشام بهم يجأرون، وبهم يرزقون، فإذا مات رجل أبدل الله -عز وجل- مكانه. وروى بقية [عن الوليد بن كامل البجلي] (¬3) قال: سمعت الفضيل بن فضالة يقول: إن الأبدال بالشام من حمص خمسة وعشرون رجلاً، ومن دمشق ثلاثة عشر رجلاً، ونبيان اثنان. ورُوي عن رجاء بن [حيوة] (¬4) أنَّه بلغه أن ببيسان [رجلين] (¬5) من الأبدال. ¬

_ (¬1) أخرجه ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (1/ 284). (¬2) في الأصل "ابن" والتصويب من تاريخ دمشق (1/ 286). (¬3) في الأصل: "أن الوليد أن كامل البجلي" والتصويب من تاريخ دمشق (1/ 286). (¬4) في الأصل: "حياة" والتصويب من تاريخ دمشق (1/ 323). (¬5) في الأصل (رجالي) وما أثبته من تاريخ دمشق (1/ 323).

وعن الحسن بن يحيى الخشني قال: بدمشق من الأبدال سبعة عشر نفسًا، وببيسان أربعة. وعنه قال: بدمشق من الأبدال خمسة، وأربعة ببيسان. وروى ابن أبي خيثمة في "تاريخه" حدثنا هارون بن معروف، نا ضمرة، عن ابن شوذب قال: الأبدال سبعون، فستون بالشام، وعشرة بسائر الأرضين (¬1). وقال ضمرة عن عثمان بن عطاء الخراساني عن أبيه: الأبدال أربعون إنسانًا. قلت: أربعون رجلاً، قال: لا تقل: أربعون رجلاً، قل: أربعون إنسانًا، لعل فيهم نساء. وقال أحمد بن أبي الحواري: سمعت أبا سليمان يقول: الأبدال بالشام، والنجباء بمصر، والعُصَب باليمن، والأخيار بالعراق. وروى ابن أبي الدُّنْيَا (¬2) عن هارون بن عبد الله عن سيار عن جعفر بن سليمان، حدثنا شيخ من أهل صنعاء من جلساء وهب بن منبه قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المنام، فقلت: يا رسول الله: أين بدلاء أمتك؟ فأومأ بيده نحو الشام، فقلت: يا رسول الله، أما بالعراق منهم أحد؟ قال: بلى، محمد بن واسع، وحسان بن أبي سنان، ومالك بن دينار، الَّذِي يمشي في الناس بمثل زهد أبي ذر في زمانه. وقد رويت أحاديث كثيرة في الأبدال لا تخلو من ضعف في أسانيدها، وبعضها موضوع، ولكن ليس فيها ذكر الشام، فلم نذكرها لذلك، وفي بعضها أن أعمالهم أنهم يعفون عمن ظلمهم، ويحسنون إِلَى من أساء إليهم، ويواسون فيما أتاهم الله عز وجل. وقد رُوي ذكر الأبدال عن الحسن وقتادة وغيرهم من السَّلف. ¬

_ (¬1) أخرجه ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (1/ 286). (¬2) في "المنامات" (134).

وفي مراسيل ابن أبي رباح عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: "الأبدال من الموالي". خرجه الترمذي (¬1). ومن أحسن ما ورد في وصفهم: ما رواه ابن أبي الدُّنْيَا (¬2) حدثنا أبو حاتم الرازي محمد بن إدريس حدثنا عثمان (¬3) بن مطيع، حدثنا سفيان بن عيينة قال: قال أبو الزناد: لما ذهبت النبوة وكانوا أوتاد الأرض، أخلف الله مكانهم أربعين رجلاً من أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - يقال لهم: الأبدال، لا يموت الرجل منهم حتى ينشئ الله مكانه آخر يخلفه، وهم أوتاد الأرض، قلوب ثلاثين منهم عَلَى مثل يقين إبراهيم -عليه السلام- لم يفضلوا الناس بكثرة الصلاة ولا بكثرة الصيام، ولا بحسن التخشع، ولا بحسن الحلية، ولكن بصدق الورع، وحسن النية، وسلامة القلوب، والنصيحة لجميع المسلمين ابتغاء مرضاة الله، بصبر وخير، ولب حليم، وبتواضع في غير مذلة، واعلم أنهم لا يلعنون شيئًا، ولا [يزدرون] (¬4) أحدًا فوقهم، ولا يتطاولون عَلَى أحد تحتهم، ولا يحقرون، ولا يحسدون، ليسوا بمتخشعين ولا متماوتين ولا معجبين ولا يحبون الدُّنْيَا، ليسوا اليوم في خشية وغدًا في غفلة. وروى إبراهيم بن هانئ عن الإمام أحمد قال: إن لم يكن أصحاب الحديث هم الأبدال، فلا أدري من هم. ومراده بأصحاب الحديث من حفظ الحديث وعلمه وعمل به، فإنَّه نص أيضاً عَلَى أن أهل الحديث من عمل بالحديث لا من اقتصر على طلبه. ولا ريب أن من علم سنن النبي صلّى الله عليه وسلم وعمل بها وعلمها الناس فهو من خلفاء الرسل، وورثة الأنبياء، ولا أحدًا أحق بأن يكون من الأبدال منه، والله أعلم. ¬

_ (¬1) لم أقف عليه عند "الترمذي" وهو عند الآجري في "سؤالات أبي داود" (178). (¬2) في "الأولياء " برقم (57). (¬3) في "الأصل": "أكثم" وما أثبته من "الأولياء" وانظر ترجمته في الجرح والتعديل (6/ 170) برقم [929]. (¬4) في الأصل: "يزدون"، والمثبت هو الموافق للسياق.

ومما يشهد لذلك -الأبدال- كونهم في الشام- حديث خرجه الإمام أحمد (¬1)، وأبو داود (¬2) من حديث قتادة عن أبي الخليل عن صاحب له عن أم سلمة عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: "يكون اختلاف عند موت خليفة، فيخرج رجل من أهل المدينة هاربًا إِلَى مكة، فيأتيه ناس من أهل مكة فيخرج وهو كاره، فيبايعونه بين الركن والمقام، ويبعث إِلَيْهِ بعث من الشام فيخسف بهم بالبيداء بين مكة والمدينة، فإذا رأى الناس ذلك أتاه أبدال [الشام وعصابة أهل العراق] (¬3) فيبايعونه ... " وذكر بقية الحديث. وقد اختلف في تسمية هذا الرجل [المبهم] (¬4) في إسناده، فقيل: هو مجاهد، وقيل: هو عبد الله بن الحارث ورجحه محمد بن حاتم الرازي (¬5)، والله أعلم. ... ¬

_ (¬1) (6/ 316). (¬2) برقم (4285). (¬3) بالأصل "أهل اليمن وعصابة أهل الشام" والتصويب من المسند والسنن. (¬4) في الأصل: "المتهم" والصواب ما أثبته. (¬5) في "العلل" (2/ 410 - 411) برقم [2740].

الباب السابع فيما ورد في بركة الشام

الباب السابع فيما ورد في بركة الشام قال الله -عز وجل-: {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا} [الأعراف: 137]. وإنما أورث الله بني إسرائيل أرض الشام. وقال -سبحانه وتعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ} [الإسراء: 1]. وقال تعالى: {وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 71]. وقال تعالى: {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا} [الأنبياء: 81]. وقال تعالى: {وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا} [سبأ: 18]. روى الربيع عن أبي العالية عن أبي بن كعب (¬1) أنَّه قال في قوله تعالى: {وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 71]. قال: الشام، وما من ماء عذب إلا يخرج من تلك الصخرة التي ببيت المقدس. ورُوي بإسناد ضعيف عن ابن عباس في قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا} [سبأ: 18]. يعني: الأرض المقدسة: أرض الشام. وعن الحسن في قوله تعالى: {مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا} ¬

_ (¬1) أخرجه ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (1/ 140).

[الأعراف: 137] يقول: مشارق الشام ومغاربها. وكذا قال زيد بن أسلم وقتادة وسفيان. وقال السدي في قوله تعالى: {تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا} [الأنبياء: 81] قال: أرض الشام. قال الوليد بن مسلم: حدثنا زهير بن محمد، قال: حدّثت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن الله -تعالى- بارك ما بين العريش [والفرات] (¬1) وخص فلسطين بالتقديس" يعني: التطهير. ورُوي عن كعب قال: إن الله تعالى بارك في الشام من الفرات إِلَى العريش. وعنه قال: بارك الله في أرض الشام من الفرات إِلَى العريش، وخص بالتقديس من أرض حمص إِلَى رفح. وعنه أنَّه جاء إِلَيْهِ [رجل] (¬2) فَقَالَ: إني أريد الخروج أبتغي من فضل الله، قال: عليك بالشام؛ فإنَّه ما ينقص من بركة الأرضين يزاد بالشام (¬3). وقال عقبة بن وساج عمن حديثه قال: ما ينقص من الأرض شيء يزاد في الشام، وما ينقص من الشام يزاد في فلسطين. وقال سليمان بن عبد الرحمن: حدثنا أبو عبد الملك الجزري قال: إذا كانت الدُّنْيَا في بلاء وقحط كان الشام، في رخاء وعافية، وإذا كان الشام (¬4) في بلاء وقحط كان بيت المقدس في رخاء وعافية. وقال: الشام مباركة، وفلسطين مقدسة، وبيت المقدس قدس القدس. ويروي عن كعب قال: قدس ميسرة الشام مرتين وقدست سائر الشام مرة واحدة. ¬

_ (¬1) في الأصل: الفراة والمثبت هو الصواب. (¬2) زيادة من "تاريخ دمشق" (1/ 144). (¬3) روى هذه الآثار عن كعب ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (1/ 144). (¬4) في "تاريخ دمشق" (1/ 144) كانت فلسطين في رخاء وعافية، وإذا كانت فلسطين في ... ".

وعن ثور بن يزيد قال: قدس الأرض الشام، وقدس الشام فلسطين، وقدس فلسطين: بيت المقدس، وقدس: بيت المقدس الجبل، وقدس الجبل: المسجد، وقدس المسجد: القبة. واعلم أن البركة في الشام تشمل البركة في أمور الدين والدنيا، ولهذا سميت: الأرض المقدسة. قال -تعالى- حاكيًا عن موسى -عليه السلام-: {يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} [المائدة: 21]. ولما "قال النبي صلّى الله عليه وسلم لأبي ذر: كيف تصنع إن أخرجت من المدينة؟ قال: أنطلق إِلَى الشام والأرض المقدسة المباركة". وقد خرّجه الإمام أحمد (¬1) وغيره. وفي رواية الإمام أحمد (¬2) قال: "الحق بالشام؛ فإن الشام أرض الهجرة، وأرض المحشر وأرض الأنبياء". وكتب أبو الدرداء إِلَى سلمان: هلمَّ إِلَى أرض الجهاد. قال قتادة: الأرض المقدسة: أرض الشام. وقال عكرمة والسدي: هي أريحا. وقال الكلبي: دمشق وفلسطين، والمراد بالمقدسة المطهرة من الشرك وتوابعه، ولذلك كانت أرض الأنبياء. قال ضمرة بن ربيعة: سمعت أنَّه لم يبعث [نبي] (¬3) إلا من الشام، فإن لم يكن فيها أُسري به إليها. وروى الوليد بن مسلم، حدثنا عفير بن معدان، عن (سليم) (¬4) بن عامر، ¬

_ (¬1) (5/ 156). (¬2) (6/ 457). (¬3) زيادة من "تاريخ دمشق" (1/ 154). (¬4) في الأصل "سالم"، والتصويب من تاريخ دمشق (1/ 154).

عن أبي أمامة عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: (أنزل القرآن) (¬1) في ثلاثة أمكنة: مكة والمدينة والشام". قال الوليد: يعني: بيت المقدس. خرجه الحاكم (¬2) وقال: صحيح الإسناد. كذا قال. وفي رواية: "أنزلت علي النبوة في ثلاثة أمكنة ... " فذكره، وعفير بن معدان ضعيف. وقد سمى الله الشام: مبوأ صدق. قال تعالى: {وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ}. قال قتادة: بوأهم الشام وبيت المقدس. وأما حد الشام: فروى الشافعي (¬3) أخبرني (عمي محمد بن عباس) (¬4) عن حسن بن القاسم الأزرقي (¬5) قال: "وقف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عَلَى ثنية تبوك، فَقَالَ: "ما ها هنا شام [وما ها هنا يمن] (¬6) وأشار بيده إِلَى جهة المدينة". وزعم الواقدي في "مغازيه" بغير إسناد أن "وادي القرى أول طرف الشام من جهة الحجاز، وما وراءه إِلَى المدينة حجاز". ورعم بعض الأئمة المتأخرين أن حد الشام من جهة الحجاز عقبة الصوان. قال: وتسمى: المنحنى، فما فوقها شام وما تحتها حجاز، وهو غريب لم يتابع ¬

_ (¬1) كذا بالأصل، وفي "تلخيص المستدرك للذهبي" أنزلت علي النبوة. (¬2) راجع "مختصر استدراك الذهبي ... " لابن الملقن (1132). (¬3) في الأم برقم (1/ 162). (¬4) في الأصل: "عمر بن محمد بن عياش" والتصويب من "الأم" للشافعي، "وتاريخ دمشق" (1/ 187). (¬5) في الأصل: "الأزرق" والتصويب من "الأم". (¬6) سقط من الأصل وهو في "تاريخ مدينة دمشق".

عليه. وقال سالم بن عبد الأعلى حدثنا أبو الأعيس القرني، وكان قد أدرك أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلم قال "سئل عن البركة التي تدرك في الشام أين مبلغ حدّه؟ قال: أول حددوة عريش مصر، والحد الآخر جبل طرف الثنية، والحد الآخر: الفرات، والحد الآخر جبل فيه قبر هود (¬1) النبي - صلى الله عليه وسلم -". وقال أبو حاتم بن حبان في صحيحه (¬2): أول الشام: بالس (¬3)، وآخره: عريش مصر. ويروي عن معاذ بن جبل قال: أرض المقدسة ما بين العريش إِلَى الفرات. ولكن إسناده لا يصح. وقد دعا النبي صلّى الله عليه وسلم للشام بالبركة، ففي صحيح البخاري (¬4) عن عمران أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "اللهم بارك لنا في شامنا، اللهم بارك لنا في يمننا. قالوا: وفي نجدنا؟ قال: هناك الزلزال والفتن، وبها -أو قال: منها- يخرج قرن الشيطان". ولحديث ابن عمر طرق متعددة عنه، قد ذكرتها في شرح الترمذي، وخرج الطبراني من حديث ابن عباس عن النبي صلّى الله عليه وسلم معناه. ... ¬

_ (¬1) راجع للأهمية "اقتضاء الصراط المستقيم" (2/ 758) والفتاوى (27/ 444). (¬2) (16/ 295 - إحسان). (¬3) هي بلدة بالشام شرق حلب عَلَى ستين ميلا منها، عندها يتحول مجرى الفرات من الجنوب إِلَى الشرق فتحها أبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنه. (¬4) برقم (7094).

فصل

فصل ومن بركاتها الدينية أنها أرض الجهاد، فأهلها في جهاد ورباط، ونفقتهم عَلَى أنفسهم كالنفقة في سبيل الله، تضاعف سبعمائة ضعف. وقد كتب أبو الدرداء إِلَى سلمان: هلم إِلَى الأرض المقدسة، أرض الجهاد، ولذلك كان السَّلف يختارون الإقامة بها للجهاد، كما فعل (*) ذلك رؤساء مسلمة الفتح من قريش. وقال أرطاة بن المنذر (¬1): قال عمر: أعظم الناس أجرًا: رويجل بالشام أخذ بلجام فرسه يكلأ من وراءه بيضة المسلمين لا يدري أسبع يفترسه أم هامة تلدغه أو عدو يغشاه. وكان ابن ( ... ) (¬2) وغيره من العُلَمَاء يَقُولُونَ: من أراد علم السير فعليه بأهل الشام؛ فإنهم لكثرة جهادهم أعلم الناس بأحكام الجهاد. وعن الشافعي قال: من أراد علم الملاحم فعليه بأهل الشام. وقد صنف أبو إسحاق الفزاري كتابًا كبيرًا في السير فيه علم كبير مما يتعلق بالجهاد لا يكاد يوجد في غيره مجموعًا. وقد ورد حديث مرفوع غريب من رواية أبي مطيع معاوية بن يحيى حدثنا أرطاة بن المنذر عمن حديثه عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله: "أهل الشام وأزواجهم وذرياتهم وعبيدهم إِلَى منتهى الجزيرة مرابطون؛ فمن نزل مدينة من المدائن فهو في رباط أو في ثغر من الثغور فهو في جهاد". خرجه الطبراني وغيره (¬3). ¬

_ (*) ليست بالأصل وبها يستقيم المعنى. (¬1) في "الأصل": "المنذري" والتصويب من تاريخ دمشق (1/ 270). (¬2) بياض بالأصل ولعلها عيينة وقد رُوي عنه هذا الكلام في تاريخ دمشق (1/ 316). (¬3) أخرجه ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (1/ 269) من طريق الطبراني، وذكره=

ورواه ابن جوصا حدثنا عمرو بن عثمان حدثنا ابن حمير عن سعيد البجلي عن شهر بن حوشب عن أبي الدرداء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ستفتح عَلَى أمتي من بعدي الشام وشكًا (*)، فَإِذَا فتحها فاتحها فأهل الشام مرابطون إِلَى منتهى الجزيرة ورجالهم ونساؤهم وصبيانهم وعبيدهم، فمن احتل ساحل من تلك السواحل فهو في جهاد، ومن احتل بيت المقدس وما حولها فهو في رباط". غريب جدًّا، وسعيد هذا غير معروف. وروى أبو زرعة [يحيى] (¬1) بن [أبي] (1) عمرو السيباني (¬2) عن عبد الله بن باشرة (¬3) أنَّه أخبره عن سعيد بن سفيان القاري (¬4) قال: توفي أخي وأوصى بمائة دينار في سبيل الله، فلم يكن عامئذ غازية [فما تأمرني] (¬5) فقدمت المدينة في حج أو عمرة، فدخلت عَلَى عثمان بن عفان، وعنده رجل قاعد، فقلت: يا أمير المؤمنين توفي أخي وأوصى بمائة دينار في سبيل الله -تعالى- فلم تجئنا غازية، فَقَالَ عثمان: إن الله أمرنا بالإسلام فأسلمنا كلنا فنحن المسلمون، وأمرنا بالهجرة فهاجرنا، فنحن المهاجرون أهل المدينة، ثم أمرنا بالجهاد فجاهدنا، فأنتم المجاهدون أهل الشام أنفقها عَلَى نفسك وعلى أهلك وعلى ذوي الحاجة ممن حولك، فإنك لو خرجت بدرهم، ثم اشتريت به لحمًا فأكلت أنت وأهلك كتب لك بسبعمائة درهم. فخرجت من عنده فسألت عن الرجل الَّذِي كان عنده فإذا هو علي بن أبي طالب -رضي الله عنه. ¬

_ =الهيثمي في المجمع (10/ 60) وقال: رواه الطبراني من رواية أرطاة بن المنذر عمن حدثه عن أبي الدرداء ولم يسمه، وبقية رجاله ثقات. (*) قال في ترتيب القاموس مادة: "وشك" ووَشْكُ الفراق وَشكانه ويُضَمَّان سرعته. (¬1) من تاريخ دمشق (1/ 234). (¬2) في الأصل "الشَّيباني" والتصويب من توضيح المشتبه لابن ناصر الدين (5/ 244 - 245). (¬3) كذا بالأصل وفي تاريخ دمشق (1/ 234) ناشرة، ونبه ابن عساكر عَلَى أن الصواب: "ناشر". (¬4) في تاريخ دمشق "الغازي" وما في الأصل هو الصواب. انظر الأنساب لابن السمعاني (4/ 426). (¬5) من تاريخ دمشق (1/ 235).

فصل ومن بركات الشام الدينية

فصل ومن بركات الشام الدينية أن نور النبي - صلى الله عليه وسلم - عند ولادته سطع إليها فأشرقت قصورها منه، فكان ذلك أول مبدأ دخول نوره - صلى الله عليه وسلم - الشام، ثم دخلها نور دينه وكتابه فأشرقت به وطهرت مما كان فيها من الشرك والمعاصي، وكمل بذلك قدسها وبركتها. فخرج الإمام أحمد (¬1) والحاكم في صحيحه (¬2) من حديث العرباض بن سارية قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ وَخَاتَمُ النَّبِيِّينَ، وَإِنَّ آدَمَ لَمُنْجَدِلٌ فِي طِينَتِهِ، سَأُخْبِرُكُمْ عَنْ ذَلِكَ، دَعْوَةُ أَبِي إِبْرَاهِيمَ، وَبِشَارَةُ عِيسَى، وَرُؤْيَا أُمِّي الَّتِي رَأَتْ، وَكَذَلِكَ أُمَّهَاتُ (النَّبِيِّينَ) (¬3) يَرَيْنَ، وَإِنَّ أُمَّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَتْ حِينَ وَضَعَتْهُ نُورًا (أَضَاءَ) (¬4) مِنْهُ قُصُور الشَّام". وخرج أبو القاسم البغوي نحوه من حديث فرج بن فضالة عن لقمان بن عامر عن أبي أمامة عن النبي صلّى الله عليه وسلم. وخرَّج الحاكم (¬5) أيضاً من حديث خالد بن معدان، عن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنهم قالوا: يا رسول الله، أخبرنا عن نفسك ... فذكره. وفي حديثه: "قصور بُصْرى من أرض الشام". وقال: صحيح الإسناد. وخرّجه الامام أحمد (¬6) من حديث خالد بن معدان عن عبد الرحمن بن ¬

_ (¬1) (4/ 127). (¬2) المستدرك" (2/ 418). (¬3) في الأصل "المؤمنين" والتصويب من مصدري التخريج. (¬4) في المصادر السابقة "أضاءت". (¬5) في "المستدرك" (2/ 600). (¬6) (4/ 184) مطولا.

عمرو السلمي عن عتبة (¬1) بن عبد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن أمهُ قالت: "إني رأيت خرج مني نور أضاءت به قصور الشام". ورواه الأحوص بن حكيم عن خالد بن معدان عن عبد الرحمن بن غنم عن عبادة بن الصامت عن النبي صلّى الله عليه وسلم والذي قبله أصح. وروى الطبراني (¬2) وأبو نعيم من حديث بقية بن الوليد، حدثني صفوان بن عمرو عن حجر (¬3) بن مالك الكندي، عن أبي مريم الكندي قال: أقبل أعرابي من بهز، حتى جلس إِلَى النبي صلّى الله عليه وسلم فَقَالَ: أي شيء كان من أمر نبوتك أول؟ قال: أخذ الله مني الميثاق كما أخذ من النبيين ميثاقهم. وتلا: {وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا} [الأحزاب: 7]. وبشر بي المسيح عيسى ابن مريم -عليهما السلام- ورأت أم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في منامها أنَّه خرج من بين رجليها سراج أضاءت لها منه قصور الشام، فَقَالَ الأعرابي: هاه؟ وأدنى رأسه منه، وكان في سمعه شيء فَقَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ووراء ذلك، ووراء ذلك" مرتين، أو ثلاثًا. أبو مريم الكندي؛ قيل: إنه صحابي نزل حمص. وروى محمد بن عائذ حدثنا الوليد بن مسلم عن عثمان بن أبي عاتكة وغيره "أن آمنة بنت وهب أنها حين وضعته كفأت عليه برمة حتى تتفرغ له، قالوا: فوجدت البرمة قد انشقت عن نور أضاء منه قصور كثيرة من قصور الشام". فكان مولد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمكة، وابتداء النبوة له بها، وأنزل الكتاب عليه بمكة، ثم أسري به إِلَى الشام من المسجد الحرام إِلَى المسجد الأقصى، ثم رجع إِلَى مكة ثم هاجر إِلَى المدينة، ثم في آخر عمره كتب إِلَى الشام، وإلى هرقل، وإِلَى كثير من أتباعه، ثم غزا بنفسه غزوة تبوك، ثم رجع ثم بعث سرية ¬

_ (¬1) في الأصل "عيينة" والتوصيب من الإكمال لابن ماكولا (5/ 83) وجاء في المسند عَلَى الصواب. (¬2) في الكبير (22/ 835)، ومسند الشاميين (984). (¬3) في الأصل: "صخر" والتصويب من مسند الشاميين، وتاريخ دمشق (1/ 158)، وانظر الجرح والتعديل (3/ 267) برقم [1921].

إِلَى مؤتة، ثم بعث جيش أسامة فتوفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل خروجهم ثم ابتدأ أبو بكر الصديق بفتوح الشام، واستكمل في زمن عمر -رضي الله عنه. وذكر ابن عائذ (¬1) قال: قال الوليد بن مسلم: أخبرني ابن لهيعة عن أبي الأسود القرشي عن عروة، أنَّه كان في كتاب أبي بكر إِلَى خالد بن الوليد أن أعجل إِلَى إخوانكم بالشام، فوالله لقرية من قرى الأرض المقدسة يفتحها الله علينا أَحَبّ إِلَيّ من رستاق من رساتيق العراق. وأخبر النبي صلّى الله عليه وسلم أنَّه "لا تقوم الساعة حتى تخرج نار من أرض الحجاز تضيء لها أعناق الإبل ببصرى". ففي الصحيحين (¬2) عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تقوم الساعة حتى تخرج نار من أرض الحجاز تضيء أعناق الإبل ببصرى". وهذه النار خرجت من وادي بقرب مدينة النبي - صلى الله عليه وسلم - سنة أربع وخمسين وستمائة، واشتهر أمرها وشوهد من ضوئها بالليل عناق الإبل ببصرى، واستفاض وبعد ذلك بقليل ثم خراب العراق بواقعة بغداد المشهورة ودخول أكثر الكفار إليها، وقتل خليفة بني العباس وعامة أهلها، وبذلك ثم خراب بلاد المشرق عَلَى أيدي التتار، وانتقل من حينئذٍ إِلَى الشام عامة أهل العراق، وخيارهم كما أخبر بذلك أبو أمامة، وقد سبق كلامه، وعظم أمر الشام، وكثر أهلها، واتسعت عمارتها وكثر بها علم النبوة الموروث، عن خاتم النبيين - صلى الله عليه وسلم - ثم في آخر الزمان تخرج نار تحشر الناس كلهم إِلَى الشام، وهي أول أشراط الساعة كما في "صحيح البخاري" (¬3) عن أنس عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنَّه قال: "أول أشراط الساعة نار تحشرهم من المشرق إِلَى المغرب، ويجتمع الناس كلهم حينئذ بعد ذلك". وسنذكر هذه النار فيما بعد، إن شاء الله. ¬

_ (¬1) في الأصل "عابد" والتصويب من تاريخ دمشق (1/ 138). (¬2) أخرجه البخاري (7118) و"مسلم" (2902). (¬3) برقم (3938).

الباب الثامن في حفظ الله -تعالى- الشام بالملائكة الكرام

الباب الثامن في حفظ الله -تعالى- الشام بالملائكة الكرام خرج الإمام أحمد (¬1) والترمذي (¬2) والحاكم (¬3) من حديث زيد بن ثابت قال: "كنا عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نؤلف القرآن من الرقاع، فَقَالَ رسول الله: "طوبى للشام. قلنا: لأي ذلك يا رسول الله؟! قال: لأنّ ملائكة الرحمن باسطة أجنحنها عليها". وقال الترمذي: حسن صحيح غريب (¬4). وقال الحاكم: صحيح عَلَى شرط الشيخين. وفي رواية خرجها ابن خزيمة (¬5): "إن ملائكة الرحمة" وفي رواية للطبراني (¬6) في هذا الحديث: "إن الرحمن باسط رحمته عليه"، وفي رواية ¬

_ (¬1) (5/ 184 - 185). (¬2) برقم (3954). (¬3) في "المستدرك" (2/ 229). (¬4) في "سنن الترمذي" و"تحفة الأحوذي" (10/ 454)، و"تحفة الأشراف" (3/ 221) قال: حسن غريب. (¬5) ومن طريقه خرجها ابن عساكر (1/ 112). (¬6) في الكبير (5/ 9435). قال الهيثمي في المجمع (10/ 60): ورجاله رجال الصحيح. وقال العلامة الألباني -رحمه الله- في الصحيحة (2/ 16): وحق العبارة أن تتبع بقوله: غير أحمد بن رشدين ... فإنَّه ليس من رجال الصحيح، بل هو من شيوخ الطبراني الضعفاء. وكثيرًا ما يصنع الهيثمي مثل هذا التعميم المخل، فكن منه عَلَى ذكر تنج إن شاء الله تعالى من الخطأ.

رويناها في كتاب "فضائل الشام" لأبي الحسن الربعي (¬1) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال: "طوبى لأهل الشام ... " فذكره. وذكر الحافظ أبو القاسم (¬2) من رواية معروف الخياط قال: سمعت واثلة بن الأسقع يقول: إن الملائكة تغشى مدينكم هذه -يعني: دمشق- ليلة الجمعة، فإذا كان بكرة افترقوا عَلَى أبواب دمشق براياتهم وبنورهم، فيكونون سبعين رجلاً، ثم ارتفعوا، ويدعون الله لهم: اشف مريضهم، ورد غائبهم. ... ¬

_ (¬1) في "فضائل الشام" برقم (17). (¬2) في "تاريخ دمشق" (1/ 115).

الباب التاسع فيما ورد في بقاء الشام بعد خراب غيرها من الأمصار

الباب التاسع فيما ورد في بقاء الشام بعد خراب غيرها من الأمصار ذكر الحافظ أبو القاسم (¬1) من طريق محمد بن هارون [بن محمد بن] (¬2) بكار بن بلال، حدثنا أبي عن أبيه محمد بن بكار، حدثنا سعيد بن بشير عن قتادة عن عوف بن مالك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "تخرب الدُّنْيَا، أو قال: الأرض -قبل الشام بأربعين سنة". هذا غريب منكر منقطع، ومحمد بن بكار متكلم فيه. وبإسناده (¬3) عن كعب الأحبار قال: إني لأجد في كتاب الله المنزل إن خراب الأرض قبل الشام بأربعين عامًا. وبإسناده (¬4) عن [أبي] (¬5) عبد ربه قال: يبعث تُبَيْعًا أكثر من ثلاثين مرة يقول: تخرب الأرض وتعمر الشام، حتى يكون من العمران كالرمانة، ولا يبقى فيها ضربة في سهل ولا جبل إلا عمرت، وليعرس فيها من البحر ما لم يغرس في زمن نوح وتبين فيها القصور اللائحة في السماء، فإذا رأيت ذلك، فقد نزل بك الأمر. وبإسناده عن بجير بن سعد قال: يقيم الشام بعد خراب الأرض أربعين عامًا. وروينا في كتاب "فضائل الشام" لأبي الحسن الربعي من طريق عبد الخالق بن ¬

_ (¬1) في "تاريخ دمشق" (1/ 185). (¬2) كذا في تاريخ دمشق، وفي الأصل: (محمد بن هارون عن بكار ... ). (¬3) تاريخ دمشق (1/ 186). (¬4) تاريخ دمشق (1/ 186). (¬5) في الأصل "ابن" والتصويب من "تاريخ دمشق" وراجع تهذيب الكمال (34/ 36).

زيد بن واقد عن أبيه عن عطية بن قيس قال: قال كعب: ليبنينّ في دمشق مسجد يبقى بعد خراب الأرض أربعين عامًا. وبإسناده عن الوليد بن مسلم عن عثمان بن أبي العاتكة عن علي بن زيد عن القاسم أبي عبد الرحمن قال: أوحى الله عز وجل إِلَى جبل قاسيون أن هب ظلك وبركتك بجبل بيت المقدس، ففعل، فأوحى الله -عز وجل- إِلَيْهِ: أما إذ فعلت، فإني سأبني لي في حضنك بيتًا. قال الوليد: في حضنك أي: في وسطك بيتًا، وهو هذا المسجد، يعني: مسجد دمشق أُعبَدُ فيه بعد خراب الدُّنْيَا أربعين عامًا، ولا تذهب الأيام والليالي حتى أعيد عليك ظلك وبركتك. فهو عند الله بمنزلة المؤمن الضعيف المتضرع. قال أبو القاسم الحافظ: هذا هو المحفوظ. وقد روى عن عبد الله بن عمرو بن العاص ضد هذه الأقوال ثم ساق من طريق أبي جعفر محمد بن عثمان بن أبي شيبة، حدثنا أبي، حدثنا معاوية بن هشام، حدثنا سفيان عن أبي ظبيان عن عبد الله بن عمرو، قال: قال: أول أهل الأرض خرابًا: الشام. قلت: أبو جعفر متكلم فيه، والأولى تدل عَلَى صحة القول الأول كما ذكر أبو القاسم أنَّه المحفوظ؛ فإن الشام تبقى عامرة فيها أهلها بعد خراب المدينة، وبعد خروج الدجال، ونزول عيسى ابن مريم، وخروج يأجوج ومأجوج، وبعد ظهور النار التي هي من أول أشراط الساعة وبعد بعث الله الريح الطيبة التي تقبض أرواح المؤمنين. وكل هذا قد ذكر في الأحاديث. فخرج الإمام أحمد (¬1) وأبو داود (¬2) من حديث معاذ بن جبل عن النبي صلّى الله عليه وسلم ¬

_ (¬1) (5/ 232، 245). (¬2) برقم (4294).

قال: "عمران بيت المقدس خراب يثرب، وخراب يثرب خروج الملحمة، وخروج الملحمة فتح القسطنطينية، وفتح القسطنطينية خروج الدجال ثم ضرب بيده وقال: إن هذا الحق، كما أنك قاعد". وقد صح أن عيسى -عليه السلام- ينزل شرقي دمشق، وسيأتي ذكره فيما بعد -إن شاء الله. وثبت في الصحيح (¬1) أيضاً أن الدجال يهلك بالشام، وأن عيسى -عليه السلام- يتجاوز بمن معه من المؤمنين إِلَى الطور وهو من الشام. وفي صحيح مسلم (¬2) عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «يَخْرُجُ الدَّجَّالُ فِي أُمَّتِي فَيَمْكُثُ أَرْبَعِينَ، لَا أَدْرِي أَرْبَعِينَ يَوْمًا، أَوْ شَهْرًا، فَيَبْعَثُ اللَّهُ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ، كَأَنَّ عُرْوَةُ بْنُ مَسْعُودٍ، فَيَطْلُبُهُ، فَيُهْلِكُهُ، ثُمَّ يَمْكُثُ فِي النَّاسِ سَبْعَ سِنِينَ ثُمَّ يُرْسِلُ اللَّهُ رِيحًا بَارِدَةً مِنْ قِبَلِ (السَّمَاء) (¬3) فَلَا يَبْقَى عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ أَحَدٌ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ خَيْرٍ أَوْ إِيمَانٍ إِلَّا قَبَضَهُ، حَتَّى لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ دَخَلَ فِي كَبِدِ جَبَلٍ لَدَخَلَتْهُ عَلَيْهِ حَتَّى تَقْبِضَهُ -سمعته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فَيَبْقَى شِرَارُ النَّاسِ فِي خِفَّةِ الطَّيْرِ، وَأَحْلَامِ السِّبَاعِ، لَا يَعْرِفُونَ مَعْرُوفًا، وَلَا يُنْكِرُونَ مُنْكَرًا، فَيَتَمَثَّلُ لَهُمُ الشَّيْطَانُ فَيَقُولُ: أَلَا تَسْتَجِيبُونَ، فَيَقُولُونَ: مَا تَأْمُرُنَا؟! وَيَأْمُرُهُمْ بِعِبَادَةِ الْأَوْثَانِ، وَهُمْ فِي ذَلِكَ، دَارٌّ رِزْقُهُمْ، حَسَنٌ عَيْشُهُمْ، ثُمَّ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ ... »، وذكر بقية الحديث. وقد ذكرنا فيما تقدم عن ابن مسعود أن الفرات لا يبقى فيها طست من ماء، ويرجع كل ماء إِلَى عنصره، ويبقى الماء وبقية المؤمنين بالشام، ولا يبقى مؤمن إلا من انحاز مع عيسى ابن مريم إِلَى جبل الطور، ولا يبقى ماء إلا بالشام، فإن أصل مياه الدنيا من الشام، فترجع إِلَى عنصرها. ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (2137). (¬2) برقم (2940). (¬3) كذا بالأصل وفي "مسلم": الشام.

ورُوي عن كعب قال: والذي نفسي بيده، ما شرب ماء عذب إلا يخرج من تحت هذه الصخرة، حتى العين التي بدارين بتخرج من تحت هذه الصخرة، يعني: عينًا في البحر. وروى ابن أبي حاتم في تفسيره من حديث شبيب بن بشر عن عكرمة عن ابن عباس في قوله تعالى: {وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتًا} [المرسلات: 27] قال: من أربعة أنهار: سيحان، وجيحان، والفرات، والنيل. فكل ماء عذب شربه ابن آدم من هذه الأنهار؛ فإنها تخرج من تحت الصخرة التي في بيت المقدس. ( ... ) (¬1) قال: يوشك الرعد والبرق أن يهاجرا إِلَى الشام حتى لا يكون رعد ولا برق إلا ما بين الفرات والعريش. وخرج ابن أبي خيثمة وغيره عن الأوزاعي قال: يهاجر الرعد والبرق إِلَى مهاجر إبراهيم، حتى لا يبقى قطرة إلا فيما بين الفرات والعريش. وعن عباد بن منصور، حدثنا أبو قلابة أن الرعد والبرق سيهاجر من أرض العراق إِلَى أرض الشام حتى لا يبقى بها رعد ولا برق، ويدل عَلَى صحة ذلك أيضاً أن النار التي هي أول أشراط الساعة تسوق الناس إِلَى الشام. وقد ذكرنا في أول الكتاب حديث ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "تخرج نار من حضرموت تسوق الناس، قالوا: يا رسول الله، ما تأمرنا؟ قال: عليكم بالشام". وهو حديث اختلف فيه نافع وسالم؛ فرواه سالم عن ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ورواه نافع عن ابن عمر عن كعب من قوله. وفي حديثه: "يوشك تخرج نار اليمن تسوق الناس إِلَى الشام". وذكرنا أيضاً حديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: "إنكم تحشرون ها هنا -وأشار بيده إِلَى الشام". ¬

_ (¬1) بياض بالأصل وعند ابن عساكر (1/ 153): عن كعب الأحبار.

وذكرنا حديث عبد الله بن عمرو عن النبي صلّى الله عليه وسلم: "سَتَكُونُ هِجْرَةٌ بَعْدَ هِجْرَةٍ، فخيار أهل الأَرْض ألزمهم مُهَاجَرِ إِبْرَاهِيمَ وَيَبْقَى فِي الْأَرْضِ شِرَارُ أَهلهَا، تَلْفِظُهُمْ أَرْضُوهُمْ، وَتَقْذَرُهُمْ نَفْسُ اللَّهِ، وَتَحْشُرُهُمُ النَّارُ مَعَ الْقِرَدَةِ وَالْخَنَازِيرِ". وفي رواية: "تكون هجرة بعد هجرة، فخيار الأرض إِلَى مهاجر إبراهيم ... " وذكر الحديث، فهذا كله يدل عَلَى أن خيار الناس في آخر الزمان مهاجرون إِلَى مهاجر إبراهيم عليه السلام، وهي الشام طوعًا فيجتمعون فيها، وأما شرار الناس فيحشرون كرهًا (¬1) تحشرهم النار من بلادهم إِلَى الشام. وقد تكاثرت الأحاديث والآثار بذكر هذه النار، ففي صحيح البخاري (¬2) عن أنس أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: "أول أشراط الساعة نار تحشرهم من المشرق إِلَى المغرب". والمراد بالمغرب ها هنا -والله أعلم-: الشام، كما سبق في تفسير قوله -صلى الله عليه وسلم-: "لا يزال أهل الغرب ظاهربن عَلَى الحق". وفي الصحيحين (¬3) عن أبي هريرة عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «يُحْشَرُ النَّاسُ عَلَى ثَلَاثِ طَرَائِقَ، رَاغِبِينَ رَاهِبِين وَاثْنَانِ عَلَى بَعِيرٍ، وَثَلَاثَةٌ عَلَى بَعِيرٍ، وَأَرْبَعَةٌ عَلَى بَعِيرٍ، وَعَشَرَةٌ عَلَى بَعِيرٍ، وَتَحْشُرُ بَقِيَّتَهُمُ النَّارُ، َتَقِيلُ مَعَهُمْ حَيْثُ قَالُوا، تَبِيتُ مَعَهُمْ حَيْثُ بَاتُوا، وَتُصْبِحُ مَعَهُمْ حَيْثُ أَصْبَحُوا، وَتُمْسِي مَعَهُمْ حَيْثُ أَمْسَوْا». فهذه الثلاث المذكورة في هذا الحديث: أحدها: من يحشر راغبًا، وهو من يهاجر إِلَى الشام طوعًا. والثاني: من يحشر رهبة وخوفًا عَلَى نفسه؛ لظهور الفتن في أرضه. والثالث: من تحشره النار قسرًا، وهو شر الثلاثة وخرج الإمام أحمد (¬4) من حديث أبي ذر قال: "أقلنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (فرأينا) (¬5) ذا الحليفة، فتعجل ¬

_ (¬1) رسمت في الأصل: كذكرها!. (¬2) برقم (3938). (¬3) أخرجه "البخاري" (6522)، و"مسلم" (2861). (¬4) (5/ 144). (¬5) هكذا في الأصل: "وفي المسند": فنزلنا.

رجال إِلَى المدينة، وبات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبتنا معه، فلما أصبح سأل عنهم فقيل: تعجلوا، فَقَالَ: تعجلوا إِلَى المدينة والنساء، أما إنهم سيدعونها أحسن ما كانت، ثم قال: ليت شعري (من) (¬1) تخرج نار من اليمن من جبل الوراق، تضيء منها أعناق الإبل بروكًا ببصرى كضوء النهار". وهذا فيه إشعار بأن هذه النار هي التي تخرج أهل المدينة منها. وفي صحيح مسلم (¬2) عن حذيفة قال: أخبرني رسوك الله - صلى الله عليه وسلم - مما هو كائن إِلَى أن تقوم الساعة، فما منه شيء إلا وقد سألته، إلا أني لم أسأله ما يخرج أهل المدينة من المدينة. وفي صحيح البخاري (¬3) عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: (ينزلون) (¬4) المدينة عَلَى خير ما كانت لا يغشاها إلا العوافي -يريد: عوافي السباع والطير- وآخر من يحشر راعيان من مزينة -يريدان المدينة ينعقان بغنمهما فيجدونها وحوشًا- حتى إذا بلغا ثنية الوداع خرَّا عَلَى وجوههما". وفي "المسند" (¬5) عن جابر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ليسيرن راكب في جانب المدينة فيَقُولُونَ: قد كان في هذه مرة حاضر من المؤمنين كثير". وقد سبق حديث: "عمارة بيت المقدس: خراب يثرب". وهذا يدل عَلَى خرابها قبل خروج الدجال. وقد ثبت أن الدجال ينزل خارجها، وأنها ترجف، فيخرج إِلَيْهِ كل منافق ومنافقة. فإما أن يكون المراد بخرابها ضعف أمرها، وقلة بركاتها أو أن أهلها يخرجون منها في بعض الفتن ثم يعودون إليها. ¬

_ (¬1) في المطبوع: متى. (¬2) برقم (2891). (¬3) برقم (1874). (¬4) كذا في الأصل، وفي البخاري "تنزلون". (¬5) (3/ 347).

وفي "المسند" (¬1) عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: "يوشك أن يرجع الناس إِلَى المدينة حتى يصير [مسالحهم بِسَلاحٍ] (*)، وسَلاح بوزن لَحَام أسفل من خيبر". وقد خرجه أبو داود (¬2) وغيره من حديث ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "يوشك المسلمون أن يحاصروا [إِلَى] (¬3) المدينة، حتى يكون أبعد مسالحهم بسلاح". قال الزهري: سلاح: قريب من خيبر. وفي الترمذي (¬4) عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلم: "آخر قرية من قرى الإسلام خرابا: المدينة". وذكر عن البخاري (¬5) أنَّه تعجب منه، يريد أنَّه استنكره، وهو منكر جدًّا مخالف للأحاديث، والله أعلم. وفي مسند الإمام أحمد (¬6) عن رافع بن بشر -أو [بسر] (¬7) عن أبيه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "يوشك أن تخرج نار من حبس سيل تسير بسير بطئة الإبل، تسير النهار، وتقيم الليل، فتغدوا وتروح". يقال: غدت النار أيها النار فاغدوا، قالت النار أيها الناس قيلوا، راحت النار أيها الناس روحوا، من أدركته أكلته!. ¬

_ (¬1) (2/ 402). (*) في الأصل: "مشايخهم بسلاح" المثبت من المسند. قال ابن الأثير في النهاية (2/ 388): المسلحة: القوم الذين يحفظون الثغور من العدو. (¬2) برقم (4250، 4299). (¬3) زيادة من "سنن أبي داود". (¬4) برقم (3919). (¬5) كما في "العلل الكبير" برقم (703). (¬6) (3/ 443). (¬7) في الأصل "بشر": والتصويب من المسند وانظر التاريخ الكبير (للبخاري) (2/ 131)، (3/ 304).

وفي صحيح الحاكم (¬1) من حديث أبي البدَّاح بن عاصم عن أبيه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنَّه [قال:] (*) "يوشك أن تخرج نار من حبس سيل نار تضيء إليها أعناق الإبل ببصرى". حبس السيل: الظاهر أنَّه بقرب المدينة من منازل بني سليم. وفي "صحيح مسلم" (¬2) عن حذيفة بن أسيد عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: "إِنَّ السَّاعَةَ لَنْ تَقُومَ حَتَّى تَرَوْا قَبْلَهَا عَشْرَ آيَاتٍ ... فَذَكَرَ: الدُّخَّانُ والدَّجَّالُ والدَّابةُ وَطُلُوعِ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا، ونزول عيسى -عليه السلام- ويأجوج ومأجوج، وثلاثة خسوف: خسف بالمشرق وخسف بالمغرب وخسف بجزيرة العرب، وآخر ذلك نار تخرج من اليمن تطرد الناس إلى محشرهم". وفي رواية له (¬3): "ونار تخرج من قعر عدن ترحل الناس". وخرّجه الترمذي (¬4) وعنده: "ونار تخرج من قعر عدن تسوق الناس أو تحشر الناس فتبيت معهم حيث باتوا، وتقيل معهم حيث قالوا". وخرج الحاكم (¬5) من حديث واثلة بن الأسقع عن النبي - صلى الله عليه وسلم - نحوه، وقال فيه: "ونار تخرج من قعر عدن تسوق الناس إِلَى المحشر تحشر الذر والنمل". وقال: صحيح الإسناد. وخرج أيضاً (¬6) من حديث عبد الله بن عمرو عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "تبعث نار عَلَى أهل المشرق، فتحشرهم إِلَى المغرب تبيت معهم حيث باتوا، وتقيل معهم ¬

_ (¬1) (4/ 443) مطولاً. (*) زيادة ليست بالأصل، لكن السياق يقتضيها. (¬2) برقم (2901). (¬3) برقم (2901). (¬4) برقم (2183). (¬5) في "المستدرك" (4/ 428). (¬6) (4/ 548).

حيث قالوا، يكون لها ما سقط منهم، وتخلف فتسوقهم سوق الجمل الكبير". وخرج الإمام أحمد (¬1) والنسائي (¬2) والحاكم (¬3) من حديث أبي ذر قال: "حدثني الصادق المصدوق - صلى الله عليه وسلم - أن الناس يحشرون عَلَى ثلاثة أفواج؛ فوج راكبين [ ... ] (¬4) طاعمين كاسين، وفوج يمشون ويسعون، وفوج تسحبهم الملائكة عَلَى وجوههم وتحشرهم النار. فَقَالَ قائل منهم: هذان قد عرفناهما فما بال هؤلاء الذين يسعون ويمشون؟! قال: يُلْقي الله الآفة عَلَى الظهر حتى لا يبقى ظهر، حتى أن الرجل ليكون له الحديثة المعجبة فيغطيها بالشارف ذي القتب، فلا يقدر عليها، فقد تضمنت هذه الأحاديث أمرين: أحدهما: أن الناس تحشرهم النار إِلَى المحشر. وفي حديث أنس وعبد الله بن عمرو، أنهم يحشرون إِلَى المغرب، والظاهر أنَّه أريد بالمغرب مغرب المدينة، وهو الشام، ويدل عَلَى أن المحشر إِلَى الشام حديث ابن عمر وحديث بهز بن حكيم عن أبيه، عن جده، كما سبق. وقد روى ذلك صريحًا عن جماعة من السَّلف. خرجه نعيم بن حماد في كتاب "الفتن" (¬5) عن ابن اليمان عن (جراح) (¬6) عن أرطاة عمن حديثه عن كعب قال: قال عبد الله بن عمرو: "يبعث الله بعد قبص عيسى ابن مريم والمؤمنين بتلك الريح الطيبة نارًا، تخرج من نواحي الأرض تحشر الناس والدواب والذر إِلَى الشام". ¬

_ (¬1) (5/ 164 - 165). (¬2) (4/ 116 - 117). (¬3) (2/ 367)، (4/ 564). (¬4) أقحمت بالأصل كلمة: "وفوج". (¬5) برقم (1749). (¬6) في الأصل: "حزام" والتصويب من "الفتن" لنعيم بن حماد، وانظر ت الكمال (14/ 517)، (2/ 311).

وعن ابن عيينة (¬1) عن ابن طاوس عن أبيه قال: قال معاذ بن جبل: "اخرجوا من اليمن قبل انقطاع الحبل (¬2) وقبل أن لا يكون لكم راد إلا الجراد (¬3) وقبل أن تحشركم نار إِلَى الشام". وبإسناده عن أبي هريرة (¬4) قال: "يحشر الناس إِلَى الشام عَلَى ثلاثة أصناف: صنف عَلَى وجوههم وصنف عَلَى الإبل، وصنف عَلَى أقدامهم". وبإسناده عن كعب (¬5) قال: تخرج نار من القسطنطينية فتركد عند الدرب بين سيحان وجيحان، ونار أخرى تخرج من عدن تبلغ بصرى تقوم إذا قاموا، وتسير إذا ساروا، وإن الفرات ليجري ماؤه أول النهار وبالعشي تجري كبريتًا ونارًا، وتخرج نار من الغرب تبلغ العريش وأخرى من نحو المشرق فتبلغ كذا وكذا فتقيم زمانا لا تنطفئ حتى يشك الشاك، ويقول الجاهل: لا جنة ولا نار، إلا هذه، تجتنب في مسيرها مكة والمدينة والحرم كله، حتى تلج الشام، تحشر جميع الناس. وعنه (¬6) قال: إذا عثر إنسان أو دابته قالت له النار: تعست وانتكست، لو شئت هاجرت قبل اليوم، حتى تنتهي إِلَى بصرى فتقيم أربعين عامًا، وحتى يسأل الكافر، فيقول: هذه النار التي كانوا يوعدون!. الثاني: أن في بعض الأحاديث خروج النار من اليمن وفي بعضها من المشرق، وفي بعضها ما يدل عَلَى خروجها من قرب المدينة، وكله حق. وقد ذكرنا في هذه الآثار أنها تخرج من أماكن متعددة. فروى نعيم بن حماد (¬7) من طريق علي بن زيد بن جدعان عن رجل عن أبي ¬

_ (¬1) "الفتن" (759). (¬2) في الأصل: "الحيل" وما أثبته من "الفتن" وقال: معناه: الطريق. (¬3) في الأصل: "الجواد" وما أثبته من "الفتن". (¬4) "الفتن" (1749). (¬5) "الفتن" (1745) مختصراً. (¬6) "الفتن" (1743). (¬7) في "الفتن" (1751، 1761).

هريرة قال: "تخرج نار من قبل المشرق، ونار أخرى من قبل المغرب تحشران الناس بين أيديهم القردة، يسيران بالنهار، ويكتمان بالليل حتى يجتمعا بجسر منبج. وهذا كله يدل عَلَى أن الشام هي أرض المحشر والمنشر وأن الناس كلهم يجتمعون إليها في آخر الزمان، ولذلك تسمى أرض الشام: أرض المحشر. وفي "المسند" (¬1) عن أبي ذر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "كيف أنت إذا أخرجوك منه -يعني: مسجد المدينة-؟ فقلت: إذًا ألحق بالشام، فإن الشام أرض الهجرة وأرض المحشر، وأرض الأنبياء، فذكر الحديث. وخرج الطبراني (¬2) والحاكم (¬3) وغيرهما من حديث أبي ذر عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: "صلاة في مسجدي هذا أفضل من أربع صلوات فيه -يعني: بيت المقدس - ولنعم المصلى هو أرض المحشر والمنشر، وليأتين عَلَى الناس زمان، ولبسطة قوسه من حيث يرى منه بيت المقدس أفضل وخير من الدُّنْيَا جميعًا". وخرج الإمام أحمد (¬4) وأبو داود (¬5) وابن ماجه (¬6) من حديث ميمونة مولاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قالت: "قلت: يا رسول الله، أفتنا في بيت المقدس؟ قال: أرض المحشر والمنشر ائتوه فصلوا فيه ... " وذكر الحديث. وروى عبد الحميد بن بهرام عن شهر بن حوشب عن عبد الرحمن بن غنم "أن اليهود آتوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: يا أبا القاسم، إن كنت صادقًا أنك نبي فالحق الشام، فإن الشام أرض المحشر وأرض الأنبياء! فصدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما قالوا، فغزا غزوة تبوك لا يريد إلا الشام، فلما بلغ تبوك أنزل الله عليه آيات ¬

_ (¬1) برقم (6/ 457). (¬2) في "الأوسط" برقم (6979)، ومسند الشاميين (2714). (¬3) في "المستدرك" (4/ 509). (¬4) (6/ 463). (¬5) برقم (458). (¬6) برقم (1407).

من سورة بني إسرائيل بعد ما ختم السورة: {وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا ... } إِلَى قوله {تَحْوِيلًا} " [الإسراء: 76، 77]. فأمره الله -تعالى- بالرجوع إِلَى المدينة، قال: فيه محياك ومماتك، ومنها تبعث. خرجه آدم بن أبي إياس في تفسيره عن عبد الحميد بمعناه (¬1). وفي مراسيل الحسن (¬2) قال: "نزلت قريظة عَلَى حكم سعد بن معاذ فقتل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منهم ثلاثمائة وقال لبقيتهم: انطلقوا إِلَى أرض المحشر؛ فإني في آثاركم -يعني: أرض الشام، فسيرهم إليها". وفي صحة هذا عن الحسن نظر؛ فإن قريظة قتلت مقاتلتهم، وسبيت ذراريهم، وإنَّما الذين سيروا إِلَى الشام بنو النضير، وفيهم نزلت سورة الحشر. وروى أبو سعيد (البقال) (¬3) عن عكرمة عن ابن عباس قال: "من شك أن المحشر ها هنا، يعني: الشام- فليقرأ هذه الآية: {هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ} [الحشر: 2]. قال: قال لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم- يومئذ: اخرجوا. قالوا: إِلَى أين؟ قال: إِلَى أرض المحشر". وخرّجه البزار (¬4) في مسنده، وعنده: فَقَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "هي أرض المحشر -يعني: الشام". وروى نعيم بن حماد في كتابه عن يزيد بن أبي حكيم عن الحكم بن أبان ¬

_ (¬1) أخرجه "البيهقي" في "الدلائل" (5/ 254). قال ابن كثير في تفسير: "وفي هذا الإسناد نظر، والأظهر أن هذا ليس بصحيح ... " إلخ. (¬2) تاريخ دمشق (1/ 171). (¬3) في الأصل: "النقال" والصواب ما أثبته. (¬4) برقم (3426 - كشف). قال الهيثمي في المجمع (10/ 343): رواه البزار وفيه أبو سعد البقال، والغالب فيه الضعف.

عن عكرمة قال: يحشر الناس نحو الشام، وأول من حشر من هذه الأمة بنو النضير. وهذا فيه إشارة إِلَى أن الحشر إِلَى الشام ليس هو مرة واحدة، بل هو مرات كثيرة، وأول ما وقع منه حشر بني النضير إليها. ويدخل في ذلك خروج من خرج من الصحابة، ومن بعدهم بعد. وقد روى عن عامر بن عبد قيس أنَّه لما أخرج من البصرة كرها إِلَى الشام وكان راكبًا عَلَى بعيره، قال: الحمد لله الَّذِي حشرني راكبًا، فجعل مسيره إِلَى الشام حشرًا. وقد ذكر أن النار التي خرجت بالحجار، وأضاءت منها أعناق الإبل ببصرى، تكامل عقيبها خراب بلاد العراق عَلَى أيدي التتار، وانتقل غالب خيار أهل العراق، بعد ذلك إِلَى الشام فهذا نوع من الحشر، وهو حشر خيار الناس إِلَى الشام (وأما شرارهم) (¬1) فتحشرهم النار قسرًا بعد قبض المؤمنين. وحديث عبد الله بن عمرو صريح في هذا المعنى، ولفظه: ستكون هجرة بعد هجرة، ينحاز الناس إِلَى مهاجر إبراهيم لا يبقى في الأرض إلا شرار أهلها، تلفظهم أرضوهم، تقذرهم نفس الله، تحشرهم النار مع القردة والخنازير، تبيت معهم إذا باتوا وتقيل معهم إذا قالوا، وتأكل من تخلف. وفي رواية: "ستكون هجرة بعد هجرة، تخرج خيار أهل الأرض إِلَى مهاجر إبراهيم -عليه السلام- هو الشام". قال قتادة في قوله عز وجل: {وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي} [العنكبوت: 26]. قال: إِلَى الشام، كان مهاجره. والله أعلم. ... ¬

_ (¬1) في الأصل: فالشرار هم، وما أثبته هو الموافق للسياق.

الباب العاشر ما ورد في فضل دمشق بخصوصها وفيه فصول الفصل الأول

الباب العاشر ما ورد في فضل دمشق بخصوصها وفيه فصول الفصل الأول فيما ورد من ذلك في القرآن: قال الله تعالى: {وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ} [المؤمنون: 50]. روى تمام الرازي (¬1) وغيره من حديث مسلمة بن علي، حدثنا أبو سعيد الأسدي عن سليم بن عامر عن أبي أمامة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنَّه تلا هذه الآية: {وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ} [المؤمنون: 50] قال: هل تدرون أين هي؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: هي بالشام، بأرض يقال لها: الغوطة، مدينة يقال لها: دمشق، هي خير مدائن الشام". إسناده ضعيف؛ مسلمة بن علي ضعيف، وشيخه لا يعرف. ورُوي عن عكرمة عن ابن عباس "في هذه الآية قال: هي دمشق". وفي رواية عنه، قال: "هي أنهار دمشق". ورواه أيضاً يحيى الأنصاري عن سعيد بن المسيب من قوله. ورواه يحيى عن سعيد عن عبد الله بن سلام. وفي رواية عن سعيد قال: "هي دمشق ذات قرار ومعين الغوطة". ¬

_ (¬1) في فوائده (989).

وفي رواية رويناها في كتاب "فضائل الشام" لأبي الحسن الربعي (¬1) قال: "هي مسجد دمشق". وقال يزيد بن شجرة: "دمشق هي الربوة المباركة". عن قتادة عن الحسن "في هذه الآية قال: هي أرض ذات أشجار وأنهار - يعني: أرض دمشق". وعنه قال: "ذات معيشة تقوتهم وتحملهم وماء جارٍ". قال: "هي الربوة، هي دمشق". وفي رواية عنه (¬2) قال: "ذات ثمار كثيرة وماء، هي دمشق". وعنه قال: "هي الغوطة". وممن قال أن الربوة هي دمشق: خالد بن معدان، وغيره من السَّلف. وقالت طائفة: هي الرملة. وروى عبد الرزاق (¬3) عن بشر بن (رافع) (¬4) أخبرني أبو عبد الله بن عم أبي (¬5) هريرة، سمع أبا هريرة يقول في "قوله عز وجل: {إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ} [المؤمنون: 50] هي الرملة، من فسلطين". بشر بن رافع ضعيف الحديث. وخرج الطبراني (¬6) وغيره، من رواية عباد بن عباد الرملي عن أبي زرعة السيباني عن أبي وعلة العكي عن كريب (السحولي) (¬7)، حدثني مرة البهزي ¬

_ (¬1) برقم (41). (¬2) في فضائل الشام برقم (32). (¬3) في "تفسيره" (2/ 46). (¬4) في الأصل (نافع): والتصويب من التفسير، وسيذكره المصنف عَلَى الصواب. (¬5) في الأصل: أبو والمثبت هو الصواب نحويًّا. (¬6) في "المعجم الكبير" (20/ 754). (¬7) في الأصل: (النجولي) والتصويب من المعجم الكبير وكتب التراجم.

سمع النبي - صلى الله عليه وسلم- يقول: "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على من ناوأهم، وهم كالإناء بين الأكلة، حتى يأتي أمر الله وهم كذلك. قلنا: يا رسول الله، وأين هم؟ قال: بأكناف بيت المقدس. قال: وحدثني أن الرملة هي الربوة. وذلك أنها مغربة ومشرقة. كذا رواه زكريا بن نافع الأرسوفي، ومحمد بن عبد العزيز البرمكي، عن عباد، وهو أبو عتبة الخواص الزاهد. والظاهر أن قوله: وحدثني، يشير به إِلَى مرّة، فهو من كلام مرة، ليس مرفوعًا. ورواه رواد بن الجراح -وقد اختلط بأخرَةَ عن عبَّاد فرفعه. ورواه هشام بن عمار حدثنا المغيرة بن المغيرة، حدثنا يحيى بن أبي عمرو السيباني- وهو أبو زرعة- قال: مرض رجل من عك، يقال له: الأقرع عَلَى عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأتى يعوده، فَقَالَ له: "إنك لا تموت ولا تدفن إلا بالربوة. فمات ودفن بالرملة، فكانت عك إذا مات الرجل منهم بالأردن حمل ودفن بالرملة -مكان الأقرع". وهذا مرسل. وخرّجه ابن منده في "معرفة الصحابة" بإسناد مجهول عن الأقرع بن [شفي العكي] (¬1) قال: "دخل عليّ النبي - صلى الله عليه وسلم- في مرض فَقَالَ: لتبقين ولتهاجرن إِلَى الشام، وتموت وتدفن بالربوة من أرض فلسطين" (¬2). ثم قال: رواه إسماعيل بن رشيد الرملي عن ضمرة بن ربيعة عن قادم بن ¬

_ (¬1) في الأصل: صفي العلي والتصويب من الإصابة (1/ 59) لابن حجر ونقل قول ابن السكن: لا نعرف من رجال هذا الإسناد أحدًا. (¬2) أخرجه ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (1/ 200) من طريق ابن منده.

(ميسور) (¬1) القرشي عن رجال (¬2) من عك، عن الأقرع. قلت: خرجه آدم بن أبي إياس في تفسيره، عن ضمرة عن قادم بن ميسور، قال: "مرض رجل من أهل عك يقال له: الأقرع ... " فذكره مرسلاً. وبتقدير صحة الحديث، فلا يدل عَلَى أن هذه الربوة المذكورة في الحديث هي المذكورة في القرآن، والله أعلم. وقال طائفة: الربوة المذكورة في القرآن: بيت المقدس. قال قتادة فيما رواه مسكين بن بكير عن جرير بن حازم عنه، فعلى هذه الأقوال الثلاثة، الربوة المذكورة في القرآن هي من أرض الشام، وقيل: إنها مصر. رُوي عن وهب بن منبه: وقيل: الإسكندرية، رواه عبد الرحمن بن زيد ابن أسلم عن أبيه. وقيل: هي الكوفة، وهو أضعف الأقوال وأردأها. رواه أهل الكوفة من الشيعة عن جعفر الصادق وأبيه أبي جعفر، ولا يصح غيرهما (¬3) إن شاء الله تعالى. وقال الله سبحانه وتعالى: {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (1) وَطُورِ سِينِينَ (2) وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ} [التين: 1 - 3]. فطور سنين: هو الطور الَّذِي كلم الله -عليه موسى عليه السلام - والبلد الأمين: مكة، وأما التين والزيتون، اختلف في تفسيرهما. وقد رُوي حديث مرفوع، رواه محمد بن بيان بن مسلم، حدثنا الحسن بن ¬

_ (¬1) في الأصل: مسور، والمثبت من "تاريخ دمشق" وجاء في العزو التالي عَلَى الصواب، في إسناد آدم بن أبي إياس. (¬2) في الإصابة لابن حجر (1/ 59): عن رجل. (¬3) كذا بالأصل ولعلها "عنهما".

عرفة حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، عن مالك عن الزهري، عن أنس "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - فرح بنزول هذه السورة فرحًا شديدًا، قال: فسألنا ابن عباس عن تفسيرهما؟ فَقَالَ: التين: بلاد الشام، والزيتون: بلاد فلسطين ... " وذكر بقية الحديث. وهذا كذب لا مرية فيه. قال الحافظ أبو بكر الخطيب (¬1): هذا الحديث بهذا الإسناد باطل لا أصل له، والرجال المذكورون في إسناده كلهم أئمة مشهورون غير محمد بن بيان، ونرى العلة من جهته ومن أورد هذا الحديث بهذا الإسناد، فقد أغنى أهل العِلْم عن أن ينظروا في حاله ويبحثوا عن أمره، يعني: أنَّه أبان عن كذبه، وفضح نفسه. وأشد من هذا نكرة ما خرجه الحافظ أبو القاسم الدمشقي (¬2) من طريق أبي الفضل العباس بن منجور مولى أمير المؤمنين، حدثنا أبو محمد المراغي حدثنا قتيبة حدثنا أبو عوانة، عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه سلم- وذكر حديثًا طويلاً، وفيه: إن الله اختار من المدائن أربعة وهي البلدة والمدينة وهي النخلة، وبيت المقدس وهي الزيتون، ودمشق وهي التينة. وقال: هذا حديث منكر [بمرة] (¬3). وأبو الفضل والمراغي مجهولان. قلت: هو موضوع لا شك في ذلك. وروى عوف عن يزيد أبي عبد الله عن كعب قال: التين: مسجد دمشق، والزيتون: بيت المقدس. وروى عبد الرحمن بن أبي عمار عن كعب قال: التين: دمشق، والزيتون: بيت المقدس. وروى أبو حمزة العطار عن الحسن في {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ} قال: جبال ومساجد بالشام. ¬

_ (¬1) في "تاريخ بغداد" (2/ 98). (¬2) في "تاريخ دمشق" (1/ 210 - 211). (¬3) في الأصل: مرة. والصواب ما أثبتناه.

وعن خالد بن معدان في التين والزيتون، قال: دمشق. وروى عبد الرزاق عن معمر عن قتادة في قوله: {وَالتِّينِ}، قال: الجبل الَّذِي عليه دمشق، والزيتون: الَّذِي عليه بيت المقدس. وكذا قال خليد بن دعلج عن قتادة. وروى سعيد بن بشير عن قتادة قال: التين: دمشق، والزيتون: بيت المقدس. وفي رواية أخرى قال: التين: مسجد دمشق، والزيتون: مسجد بيت المقدس. وعن الحكم قال: التين: دمشق، والزيتون: فلسطين. وعن الحارث بن محمد قال: التين: مسجد دمشق، والزيتون: مسجد بيت المقدس. وعن محمد بن كعب قال: أقسم الله عز وجل بأربعة مساجد، التين: مسجد أصحاب الكهف، والزيتون: مسجد إيلياء، ومسجد الطور، ومسجد الحرام. وعن الربيع بن أنس قال: التين والزيتون: جبل عليه التين والزيتون. وعن يزيد بن ميسرة قال: أربعة أجبل مقدسة: طور زيتا، وطور سيناء، وطور تيناء، وطور تيمانا، قال: فطور زيتا: طور بيت المقدس، وطور سيناء: طور موسى -عليه السلام. وطور تيناء: مسجد دمشق. وطور تيمانا: مكة يشرفها الله تعالى. وقالت طائفة: المراد به التين والزيتون المأكولان. رُوي عن ابن عباس ومجاهد وعكرمة، والكلبي وغيرهم. وروى العوفي عن ابن عباس، التين: مسجد نوح الَّذِي بنى (عَلَى) (¬1) ¬

_ (¬1) في الأصل: عليه، والتصويب من تفسير الطبري (15/ 239).

الجودي، وإسناده ضعيف. ولا ريب أن لفظ القرآن يدل صريحًا يدل عَلَى التين والزيتون المأكولين، كما قاله ابن عباس ومجاهد وغيرهما، ولكنه قد يدل عَلَى مكانهما من الأرض بدليل أنهما قرنا (¬1) بمكانين شريفين، وهما الطور والبلد الأمين، وهذه البقاع هي أشرف بقاع الأرض، ومنها ظهرت النبؤات العظيمة والشرائع المتبعة، فعامة أنبياء بني إسرائيل كانوا من الشام، وهي أرض التين والزيتون، ومنها ظهرت نبوة عيسى -عليه السلام- وطور سيناء كلم الله منه (موسى عليه السلام) (¬2) والبلد الأمين، فمن ابتديء الوحي، وانزاله عَلَى محمد - صلى الله عليه وسلم - وهذه النبوات الثلاث هي أعظم النبوات والشرائع. ونظير ذلك ما ذكر في التوراة من قوله: جاء الله من طور سيناء، وأشرق من ساعير، واستعلن من جبال قاران. وساعير: هي أرض بيت المقدس وما حوله، وجبال قاران: مكة. فمن قال من المفسرين: إن التين والزيتون هما المأكولان فقوله صحيح باعتبار دلالة التين والزيتون عَلَى بفاعهما من الأرض، فإن أرض الشام هى أرض التين والزيتون غالبًا. ومن قال: التين: دمشق، والزيتون: بيت المقدس، وفلسطين، فقوله: صحيح باعتبار أن دمشق وما حولها هي بلاد التين غالبًا. وفلسطين وبيت المقدس وبلاد الزيتون غالبًا. ومن قال: المراد: جبل دمشق وجبل بيت المقدس، فالجبل من جملة أرض التين والزيتون. ومن قال: المراد مسجد دمشق ومسجد بيت المقدس، فهذان المسجدان هما أشرف بقاع أرض الشام، والله أعلم. ¬

_ (¬1) في الأصل قربا ولعل الصواب من أثبته. (¬2) زيادة ليست في الأصل والساق يقتضيها.

وقد روينا في كتاب "فضائل الشام" (¬1) لأبي الحسن الرَّبعي بإسناد فيه نظر عن كعب أنَّه قال لواثلة بن الأسقع وهو يريد الخروج إلى بيت المقدس: تعال حتى أريك موضعًا من هذا المسجد -يعني: مسجد دمشق- من صلّى فيه فكأنما صلّى في بيت المقدس. وبإسناد فيه نظر (¬2) أيضاً عن سفيان الثوري قال: الصلاة في بيت المقدس بأربعين ألف صلاة، وفي مسجد دمشق بثلاثين ألف صلاة. وبإسناده (¬3) عن هشام بن عمار، حدثنا الحسن بن يحيى الخشني أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليلة أُسري به صلّى في موضع مسجد دمشق. والخشني لا يعتمد عليه. وقال عز وجل: {إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (7) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ} [الفجر: 7 - 8]. قد قيل: إنها دمشق. قاله سعيد المقبري وخالد بن معدان. وروى عن سعيد بن المسيب، وعكرمة ولا يصح عنهما. أما سعيد فهو من رواية إسحاق بن بشر عن [ابن] (¬4) إسحاق عمن يخبره عنه، وإسحاق هذا كذاب مشهور. وأما عكرمة فهو من رواية حفص بن عمر العدني عن الحكم بن أبان عنه. وحفص ضعيف جدًّا. وقال مالك: يقال إن إرم ذات العماد: دمشق. ولكن جمهور المفسرين [والمحققين] (¬5) من العُلَمَاء عَلَى خلاف هذا القول، عَلَى اختلاف بينهم في تفسيره يطول ذكره ها هنا والله أعلم. ¬

_ (¬1) في فضائل الشام برقم (65). (¬2) في فضائل الشام برقم (64). (¬3) في فضائل برقم (68). (¬4) زيادة من تاريخ دمشق. (¬5) في الأصل: والمحققون، والصواب نحويًّا ما أثبته.

الفصل الثاني فيما ورد في السنة والآثار من أنها فسطاط المسلمين ومعقلهم في الملاحم

الفصل الثاني فيما ورد في السنة والآثار من أنها فسطاط المسلمين ومعقلهم في الملاحم روى زيد بن أرطاة عن جبير بن نفير عن أبي الدرداء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن فسطاط المسلمين يوم الملحمة بالغوطة إِلَى جانب مدينة يقال لها: دمشق من خير مدائن الشام". خرجه أبو داود (¬1) وغيره، وخرّجه الطبراني (¬2)، وعنده: "فهو خير مساكن يومئذ". وخرّجه الحاكم (¬3) وعنده: خير منازل المسلمين يومئذ وقال: صحيح الإسناد. وفي رواية في هذا الحديث: "يوم الملحمة الكبرى". قال إبراهيم بن الجنيد: سمعت يحيى بن معين وقد ذكروا عنده أحاديث من ملاحم الروم فَقَالَ يحيى: ليس من حديث الشاميين شيء أصح من حديث [صدقة بن خالد] (¬4) يعني: حديث أبي الدرداء عن النبي صلّى الله عليه وسلم "معقل المسلمين أيام الملاحم دمشق". وروى عبد الرحمن بن جبير بن نفير عن أبيه عن عوف بن مالك قال: "قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يا عوف، اعْدُدْ سِتًّا بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ. أولهن: مَوْتِي. ¬

_ (¬1) برقم (4298). (¬2) في "مسند الشاميين" (1313). (¬3) في "المستدرك" (4/ 486). (¬4) سقطت من الناسخ واستدركتها من سؤالات ابن الجنيد برقم (566).

فاستبكيت حتى جعل يُسكتني، ثم قال لي: [احدى] (1)، فقلت: [احدى] (¬1) قال: والثانية: فُتِحَ بَيْتُ الْمَقْدِسِ، قل: ثنتان. قلت: ثنتان. (فَقَالَ) (2): والثالثة: مُوتَانٌ يكون في أمتي يأخذه [مثل] (¬2) قعاص الغنم، قل: ثلاث، قلت: ثلاث. قال: والرابعة: فتنة تكون في أمتي وعظمها، قل: أربع. فقلت: أربع. قال: والخامسة: يفيض فيكم المال حتى إن الرجل ليعطى المائة دينار فيسخطها، قل: خمس. فقلت: خمس. قال: والسادسة هدنة تكون بينكم وبين بني الأصفر، فيسيرون إليكم على ثمانين غاية تحت كل غاية اثني عشر ألفًا، ففسطاط المسلمين يومئذ في أرض يقال لها: الغوطة في مدينة يقال لها: دمشق". خرجه الطبراني (¬3) وغيره. وخرّجه البخاري في "صحيحه" (¬4) من طريق أبي إدريس عن عوف بمعناه ... إِلَى قوله: "اثنى عشر ألفًا"، ولم يذكر ما بعده. ورواه بعضهم: راية -بالراء- وهما بمعنى. وقيل: إنه رُوي: "غياية" يعني: السحابة. ورواه بعضهم غابة -بباء موحدة، وهي الأجمة، وهو بعيد من المعنى. وقال أبو القاسم الدمشقي (¬5) الحافظ: وكلا القولين في إسناده صحيح قول من قال عن جبير عن أبي الدرداء، وقول من قال عن جبير عن عوف. واستدل بما خرجه الإمام أحمد (¬6) من حديث أبي بكر بن أبي مريم عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير عن أبيه، قال: حدثنا أصحاب محمد (¬7) - صلى الله عليه وسلم - ¬

_ (¬1) في الأصل: "اجدر" والتصويب من المعجم الكبير للطبراني. (¬2) من المعجم الكبير. (¬3) في "المعجم الكبير" (18/ برقم 72). (¬4) برقم [3176]. (¬5) في "تاريخ دمشق" (1/ 224). (¬6) (4/ 16). (¬7) في المسند حدثنا رجل من أصحاب محمد في "تاريخ دمشق" و"أطراف المسند" ما=

أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "ستفتح عليكم الشام؛ فإذا اخترتم المنازل منها فعليكم بمدينة يقال لها: دمشق، فإنها معقل المسلمين من الملاحم، وفسطاطهم منها بأرض يقال لها: الغوطة". وخرّجه الإمام أحمد (¬1) من وجه آخر بهذا الإسناد، إلا أنَّه قال فيه: عن رجل من أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم -. ورواه مكحول عن جبير بن نفير مرسلاً. ورواه بعضهم عن مكحول عن النبي - صلى الله عليه وسلم- مرسلاً من غير ذكر جبير. وروى الوليد بن مسلم، حدثني سعيد بن عبد العزيز أن من أدرك من علمائنا كانوا يَقُولُونَ: "تخرجون أهل مصر من مصرهم إِلَى ما يلي المدينة، ويَخْرُجُ أهل فلسطين والأردن إِلَى مشارف البلقاء وإلى دمشق، ويخرج أهل الجزيرة وقنسرين، وحمص إِلَى دمشق. وذلك ما كان حدثنا به سعيد عن مكحول عن النبي - صلى الله عليه وسلم- قال: "فسطاط المؤمنين، يوم الملحمة الكبرى بالغوطة مدينة يقال لها: دمشق". ورواه أبو القاسم البغوي حدثنا [أبو نصر] (¬2) التمار، عن سعيد بن عبد العزيز عن مكحول عن معاذ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وروينا بإسناد مجهول لا يصح عن جعفر بن محمد بن علي بن حسين عن أبيه عن جده عن النبي صلّى الله عليه وسلم نحوه. وزاد: ومعقلهم من الدجال بيت المقدس، ومعقلهم من يأجوج ومأجوج الطور. رواه محمد بن علي بن حسين عن أبيه عن جده عن النبي - صلى الله عليه وسلم - للمسلمين ثلاث معاقل فمعقلهم من الملحمة الكبرى التي تكون بعمق أنطاكية دمشق، ¬

_ =يوافق الأصل، وسيأتي عزو "أحمد" عند المصنف ابن رجب بعد ذكره لمتن الحديث. (¬1) (5/ 270). (¬2) في الأصل: "أبو نصير" والتصويب من تاريخ دمشق.

ومعقلهم من الدجال بيت المقدس، ومعقلهم من يأجوج ومأجوج طور سيناء. و [ ... ] (¬1) مشهور بالكذب والوضع، ولا يصح هذا الحديث من هذا الوجه. وقد رُوي من وجوه أخر مرسلة. رواه الوليد بن مسلم، حدثنا [حفص] (¬2) بن غيلان [أبو مُعَيد] (¬3) عن حسان بن عطية، قال ذكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كيف تجوز الأعداء أمته من بلد إِلَى [بلد] (¬4). فقالوا: يا رسول الله، هل من شيء به قال نعم الغوطة، مدينة يقال لها: دمشق، فسطاطهم ومعقلهم من الملاحم، لا ينالهم عدو إلا منها، قال حفص: يقول: لا ينالهم عدو لهم إلا منها من الأمة، وهو يوم دخلها عبد الله بن علي بجنوده. وروى ابن أبي خيثمة (¬5) بإسناده عن يحيى بن جابر الطائي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "للمسلمين ثلاثة معاقل؛ فمعقلهم من الملاحم: دمشق، ومعقلهم من الدجال: بيت المقدس، ومعقلهم من يأجوج ومأجوج: الطور". وقد رُوي هذا عن كعب من قوله، قال: معقل المسلمين من الملاحم دمشق، ومعقلهم من الدجال نهر أبي قطرس (¬6) وفي رواية عن كعب قال: "الأردن، ومعقلهم من يأجوج ومأجوج الطور". وقال الأوزاعي: بلغني أن بالشام واديًا يقال له: الغوطة فيه مدينة يقال لها: ¬

_ (¬1) بياض بالأصل. (¬2) في الأصل: "جعفر" والتصويب من تاريخ دمشق. (¬3) في الأصل: "أبو معبد" والتصويب من التقريب، وهي كنية حفص بن غيلان. (¬4) بياض بالأصل، واستدركتها من تاريخ دمشق. (¬5) ومن طريقه ابن عساكر (1/ 229). (¬6) قال في القاموس المحيط: فطرس، بالضم رجل، ومنه نهر فطرس، ويقال: أبي فطرس قرب الرملة، مخرجه من جبل قرب نابلس.

دمشق، هي خير مدائن الشام يوم الملاحم. وروينا في كتاب "فضائل الشام" (¬1) للرَّبعي، من حديث واثلة بن الأسقع مرفوعًا: "ستكون دمشق في آخر الزمان أكثر المدن أهلا، وهي لأهلها معقل، وأكثره أبدالاً، وأكثره مساجد، وأكثره زهادًا، وأكثره مالاً وأكثره رجالاً، وأقله رجالاً وأقله كفارًا". وذكر حديثًا طويلاً لا يصح، إسناده واه. ومن حديث مكحول (¬2) عن عبد الله بن سلام قال: "دمشق معقل الناس في آخر الزمان من الملاحم". ومن حديث هشام بن عمار (¬3) قال: سمعت من رفع الحديث إِلَى وهب بن منبه سمع ابن (عباس) (¬4) سمع النبي صلّى الله عليه وسلم يقول: "اجتمع الكفار يتشاورون في أمري -فَقَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: -يا ليتني بالغوطة بمدينة يقال لها: دمشق حتى آتي الموضع -مستغاث الأنبياء- حيث قَتَلَ ابن آدم آخاه، فأسأل الله أن يهلك قومي، فأتى جبربل فَقَالَ: يا محمد، ائت بعض جبال مكة فاسأل الله أن يهلك قومي فأتى جبريل، فَقَالَ: يا محمد ائت بعض جبال مكة، فأو [إِلَى] (¬5) بعض غاراتها؛ فإنها معقلك من قومك". هذا منكر جدًّا، ولا يدري ممن سمعه هشام بن عمار. وذكر أبو القاسم الدمشقي الحافظ (¬6) بإسناد له عن عبد الرحمن بن زياد بن أنعم عن عمرو بن جابر الحضرمي، قال: سمعت جابر بن عبد الله الأنصاري يقول: من سكن دمشق نجا، فقلت: عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: أفعن رأي ¬

_ (¬1) فضائل الشام برقم (76). (¬2) فضائل الشام برقم (85). (¬3) فضائل الشام برقم (99). (¬4) في الأصل: "عياش"، والتصويب من تاريخ دمشق. (¬5) ليست في الأصل، واستدركتها من تاريخ دمشق. (¬6) في "تاريخ دمشق" (1/ 231).

أحد؟! قلت: إسناده فيه ضعف. وحديث ابن لهيعة، حدثنا عبد الرحمن بن شريح عن يزيد بن أبي حبيب [عن] (¬1) أبي سالم الجيشاني أنَّه قال "لعبد الله بن عمرو بن العاص -اختر لي، فَقَالَ له: عليك بالفحص- قال: وهي الغوطة -فإنها فسطاط المسلمين، ثم قال: عليك بمدينة الأسباط -يعني: بانياس- فإن العافية تجوزها، كما يجوز السيل الدمن" (¬2). ومن طريق عبد الرحمن بن سابط (¬3) قال: قلت لعبد الله بن عمرو بن العاص: إن منزلي قد نبا بي بالعراق والحجار فخر لي؟ قال: أرضى لك ما أرضى لنفسي ولوالدي عليك بدمشق، ثم عليك بمدينة الأسباط بانياس؛ فإنها مباركة السهل والجبل، وإن البركة عشر بركات، خص الله بانياس من ذلك: ببركتين، وإذا وقعت الفتن كانت بها أخف منها في غيرها، فوالله لفدَّان بها أَحَبّ إليّ من عشرين بالوهط. والوهط بالطائف. ومن طريق عبد الله بن حكيم (¬4) عن عبد الله بن عمرو قال: "ما أودُّ أن لي مصر و (كنوزها) (¬5) بعد (الخمسين، ومائه) (¬6) أسكنها، ولدمشق خير لو كنتم تعلمون. ومن طريق ابن لهيعة (¬7) عن سليم بن عبد الرحمن أخبرني نافع بن كيسان الدمشقي قال: لقيت يزيد بن شجرة فقلت: إني أردت أن آتي فلسطين. ¬

_ (¬1) ليست في الأصل، وهي في تاريخ دمشق. (¬2) أخرجه ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (1/ 229). (¬3) تاريخ دمشق (1/ 90، 235 - 236) مختصراً. (¬4) تاريخ دمشق (1/ 230). (¬5) هكذا في الأصل وفي تاريخ دمشق (1/ 230) "كورها". (¬6) في الأصل الحسين ومنه التصويب من تاريخ دمشق. (¬7) تاريخ دمشق (1/ 230).

قال: لا تفعل؛ فإني أحدثك في دمشق أحاديث ليست في غيرها، إن خيل الناس إذا اضطربت كانت عصمتهم، وإن أهلها مدفوع عنهم، وإنه لا ينزل بأرض جوع ولا بلاء ولا فتنة إلا خفف ذلك عنهم. ومن حديث ابن مُحَيْريز (¬1)، قال: قال لي رويفع بن ثابت الأنصاري، وكان من أصحاب الشجرة: اسكن فلسطين، ما استقامت العرب، فإذا نادوا بشعار الجاهلية، فاسكن دمشق وشرقها خير من غيرها. وروى نعيم بن حماد (¬2) بإسناده عن مكحول قال: لتمخرنَّ الروم الشام أربعين صباحًا، لا يمتنع منها إلا دمشق وعمان. وبإسناده (¬3) عن [أبي الأعمش عن عبد الرحمن بن سلمان] (¬4) قال: سيأتي ملك من ملوك العجم يظهر عَلَى المدائن كلها إلا دمشق. وروى أبو الشيخ الأصبهاني (¬5) بإسناده عن أبي الزاهرية عن كعب قال: لن تزالوا بخير ما لم يركب أهل الجزيرة أهل قنسرين، وأهل قنسرين أهل حمص، فيومئذ تكون الجفلة ويفزع الناس إِلَى دمشق. وفي كتاب "الفتن" (¬6) لنعيم بن حماد بإسناده عن كعب أنَّه قال لمعاوية: ليغشين الناس بحمص أمر يفزعهم من الجفلة حتى يخرجوا منها مبادرين قد تركوا دنياهم خلفهم حتى [يموت منهم] (¬7) ما بين باب دمشق إِلَى ثنية العقاب ¬

_ (¬1) "تاريخ دمشق" (1/ 231). (¬2) "الفتن" برقم (1257). (¬3) "الفتن" برقم (1258). (¬4) في الأصل: أبي الأعمش عن عبد الرحمن بن سليمان، وهو خطأ، والصواب ما أثبته. قال الحافظ في التقريب: أبو الأعمش، فتح التحتانية قبلها مهملة ساكنة وآخره مهملة، الخولاني الشامي، لقبه عبيد، مشهور بكنيته. (¬5) ومن طريقه ابن عساكر (1/ 233). (¬6) برقم (1302). (¬7) هكذا في الأصل، وفي "الفتن": حتى إن المرأة لتخرج تتبعها جاريتها حتى تنزع رداءها تقول: أين أين؟!! وحتى يموت منهم.

سبعون ألفًا من العطش. وبإسناده عن كعب (¬1) قال: يهلك ما بين حمص وثنية العقاب سبعون ألفًا من الوغا -يعني: العطش- فمن أدرك ذلك منكم فعليه بالطريق الشرقي من حمص إِلَى سربك ومن سربك إِلَى حميراء، أو من حميراء إِلَى الذخيرة ومن الذخيرة إِلَى النبك، ومن النبك إِلَى القطيفة، ومن القطيفة إِلَى دمشق، فمن أخذ هذه الطريق لم يزل في مياه متصلة. وقال نعيم (¬2) حدثنا أبو المغيرة صفوان حدثنا بعض مشايخنا قال: جاء رجل نعرفه خليف للخير حسن [ننظر إِلَيْهِ] (¬3) كأنه يلتمس العِلْم فَقَالَ: هل لكم علم بسوسية، قالوا: نعم. قال: وأين هي؟ قلنا: خربة نحو البحر. قال: هل فيها عين يهبط إليها بدرج وماء بارد عذب؟ قالوا: نعم. قال: فهل إِلَى جانبها حصن خرب؟ قالوا: نعم. قلنا: ومن أنت يا عبد الله؟ قال: أنا رجل من أشجع. قالوا: فما بال ما ذكرت قال: تقبل سفن الروم في البحر حتى ينزلوا قريبًا من تلك العين [فيخربون] (¬4) سفنهم، فيبعث الله إليهم أهل دمشق، فيمكثون ثلاثًا يدعونهم الروم عَلَى أن يخلو لهم البلد، فيأبون عليهم فيقاتلوهم المهاجرون فيكون أول يوم القتل في الفريقين كلاهما، واليوم الثاني عَلَى العدو، والثالث يهزمهم الله، فلا يبلغ سفنهم منهم إلا أقلهم، وقد [خربوا] (¬5) سفنا كثيرة، وقالوا: لا نبرح هذا البلد فيهزمهم الله وصف المسلمون يومئذ بحذاء البرج ¬

_ (¬1) في الفتن برقم (1304). (¬2) في الفتن برقم (1297). (¬3) هكذا في الأصل، وفي "الفتن" لنعيم بن حماد: "جاءنا رجل وأنا نازل عند ختن لي بعرقة فَقَالَ: هل من منزل الليلة؟ فأنزلوه، فإذا برجل خليق للخير حين تنظر إِلَيْهِ". (¬4) هكذا في الأصل، وفي الفتن "يحرقون". (¬5) هكذا في الأصل، وفي الفتن لنعيم: "حرقوا".

[الخرب] (¬1) فبينما هم عَلَى ذلك قد هزم الله عدوهم حتي يأتي آت من خلفهم فيخبرهم أن أهل قنسرين قد أقبلوا مقبلين إِلَى دمشق، وأن الروم قد حكمت عليهم، وكان موعد منهم في البر والبحر فيكون معقل المسلمين يومئذ بدمشق. سوسية ذكر صاحب كتاب "معجم البلدان" (¬2). أنها كورة بالأردن لعلها من بلدان السواحل الخربة في ناحية الغور. والله أعلم. وروينا في كتاب "فضائل الشام" (¬3) لأبي الحسن الربعي -بإسناده- عن [عبد السلام التنوخي] (¬4) حدثنا أشياخنا أنهم لما فتحوا دمشق في أيام عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- وجدوا حجرًا في جيرون مكتوب عليه باليونانية، فجاءوا برجل يوناني فقرأه فإذا فيه مكتوب: دمشق جبارة، لا يهم بها جبار إلا قصمه الله، الجبابرة تبني، والقرود تخرب، الآخر شر إِلَى يوم القيامة. ... ¬

_ (¬1) في الأصل: الجنوب وما أثبته من "الفتن". (¬2) في الأصل: عبد الله المذحجي وما أثبته من "فضائل الشام للربعي". (¬3) (5/ 175). (¬4) برقم (40).

فصل وقد ورد في تخريب دمشق ما نحن ذاكروه ومثبتون معناه

فصل وقد ورد في تخريب دمشق ما نحن ذاكروه ومثبتون معناه فروى عبد العزيز بن المختار، عن خالد الحذاء، عن أبي قلابة عن أبي أسماء عن ثوبان عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: "تجيء رايات سود من قبل المشرق كأن قلوبهم زبر الحديد، فمن سمع بهم فليأتهم، ولو حبوًا عَلَى الثلج حتى يأتوا مدينة دمشق، فيهدمونها حجرًا حجرًا، ويقتلوا بها أبناء الملوك ... " وذكر الحديث. وهذا الحديث قد رواه الثوري وغيره، عن خالد الحذاء، ولم يذكروا فيه هذه الزيادة. وقد خرجه الإمام أحمد (¬1) من حديث علي بن زيد عن أبي قلابة. وخرّجه ابن ماجه (¬2) والحاكم (¬3) من حديث الثورى وفيه ذكر المهدي، وقد كان إسماعيل ابن علية ينكر هذا الحديث. قال عبد الله بن الإمام أحمد في كتاب "العلل" (¬4): حدثنا أبي قال: قيل لابن علية في هذا الحديث كان خالد يرويه فلم يلتفت إِلَيْهِ، ضعّف ابن علية أمره، يعني: حديث خالد عن أبي قلابة عن أبي أسماء عن ثوبان "في الرايات السود". ¬

_ (¬1) (5/ 277). (¬2) برقم (4084). (¬3) في "المستدرك" (4/ 463 - 464). (¬4) برقم (2443).

أن صح فقد وقع ذلك عند ظهور بني العباس. عَلَى دمشق، ودخول عبد الله بن علي بن عبد الله بن عباس إليها، فإنَّه هدم سورها، وقتل بها مقتلة عظيمة من بني أمية وأتباعهم. وقد ذكر الحافظ أبو القاسم (¬1) بإسناده، عن يحيى بن حمزة، قال: قدم عبد الله بن علي إِلَى دمشق، وحاصر أهلها، فلما دخلها هدم سورها فوق منها حجر كان عليه مكتوب باليونانية، ويل إرم الجبابرة، من رامك بسوء قصمه الله، إذا وهي مثل جيرون الغربي من باب البريد، ويل من الخمسة أعين، نقض سورك عَلَى يديه بعد أربعة آلاف سنة تعيشين رغدًا، فإذا وهي مثل جيرون الشرقي إذ ويل لك ممن تعرض لك. قال: فوجدنا الخمسة أعين عبد الله بن علي بن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب. وذكر أيضاً (¬2) من طريق علي بن أبي طلحة عن كعب قال: إن الله خلق (الدُّنْيَا) (¬3) بمنزلة الطائر، فجعل الجناحين للمشرق والمغرب، وجعل الرأس الشام، وجعل رأس الرأس حمص وفيها المنقار، فإذا [نقف] (¬4) المنقار ويتأفف الناس وجعل الجؤجؤ: دمشق وفيها القلب، فإذا تحرك القلب تحرك الجسد والرأس ضربتان: ضربة من الجناح الشرقي وهي عَلَى دمشق، وضربة من الجناح الغربي وهي عَلَى حمص، وهي أثقلهما، ثم يقبل الرأس عَلَى الجناحين، فينتفهما ريشة ريشة. وبإسناده عن كعب (¬5) أيضاً قال: ويل للجناحين من الرأس، وويل للرأس من الجناحين، يرددها ثلاثاً، فالرأس الشام، والجناحان المشرق رالمغرب. ¬

_ (¬1) ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (1/ 15). (¬2) (1/ 192). (¬3) في الأصل: آدم، والتصويب من تاريخ دمشق. (¬4) في الأصل: انفت، وما أثبته من "تاريخ دمشق". (¬5) في تاريخ دمشق (1/ 193).

وهذا أيضا يراد به ما وقع عن عبد الله بن علي لما دخل دمشق من بلاد المشرق. فأما الفتن الواقعة من قبل المغرب، فإنما يخشى منها على حمص. وروى ابن أبي خيثمة حدثنا عبد الوهاب بن نجدة، حدثنا جنادة بن مروان عن أبيه قال: سمعت الأشياخ يَقُولُونَ: أسعد الناس بالرايات السود من أهل الشام أهل دمشق وأسعد الناس بالرايات الصفر من أهل الشام أهل حمص. وهذا أيضًا إشارة إلى ما وقع من بني العباس عند دخولهم دمشق. وروى ابن أبي خيثمة (¬1) بإسناده عن بشر بن غنم قال: لتهدمن مدينة دمشق حجرًا حجرًا. قال الحافظ أبو القاسم (¬2): ولعله أراد بذلك ما وجد عن هدم عبد الله بن علي سورها لما فتحها. وفي كتاب "العلل" لأبي بكر الخلال (¬3) بإسناد ضعيف عن الشعبي قال: تخرج من خراسان رايات سود يدعونه إلى ولد فلان، يعني: العباس [فلا] (¬4) ترد لهم راية حتى يأتوا مسجد دمشق فيلقونه حجرًا حجرًا، ثم لا يزال الملك فيهم حتى يخرج السفياني. وذكر أن الإمام أحمد نهى أن يحدث بهذا وبأحاديث أخر من الملاحم. قال الخلال (¬5): وأخبرنا [المروذي] (¬6) قال: سمعت أبا عبد الله يقول: كتب إليّ يعني: المتوكل أن اكتب إليّ بما صح عندك من الملاحم فكتبت إليه: ما ¬

_ (¬1) ومن طريقه ابن عساكر (1/ 187). (¬2) في "تاريخ دمشق" (1/ 187). (¬3) في " المنتخب من العلل" لابن قدامة برقم (204). (¬4) زيادة من المطبوع. (¬5) في "المنتخب من العلل" لابن قدامة المقدسي برقم (200). (¬6) في الأصل: المروزي، والصواب ما أثبتناه.

صح عندي منها شيء. وقد سبق حديث أبي معيد حفص بن غيلان عن حسان بن عطية المرسل في دمشق، وأنهم لا ينالهم عدو إلا منها وتفسير أبي معيد له بأن دمشق لا يسلط عليها إلا من هذه الأمة وأنه أريد ما نالها عند دخول بني العباس إليها. والله المسئول أن يحقق ظن هؤلاء الأئمة ورجاءهم لدمشق أن لا يعبد الله عليها ما كان حصل لها عند دخول بني العباس إليها، فإنَّه عند حسن ظن عباده به بمنه وكرمه. وقد كان عبد الله بن سيار الكذاب المفتري يزعم أن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- أخبره أنَّه يدخل دمشق، ويهدم مسجدها حجرًا حجرًا. وهذا مما كان يفتريه عليه ابن سيار، فإن الثابت عن علي أنَّه نهى عن سب أهل الشام، وأخبر أن فيهم الأبدال، وقال عند حربه لأهل الشام كلامًا فيه تورية، فإن الحرب خدعة فلم يفهمه من سمعه منه، فحرفه. كما روى أمية بن خالد، حدثنا أبو محصن عن شعبة عن عمرو بن مرة عن أبي الطفيل قال: سمعت عليًّا يقول بمسكن: لا أغسل رأسي بغسل حتى آتي البصرة فأحرقها ثم أسوق الناحه بعصاي إِلَى مصر. قال: فأتيت أبا مسعود فأخبرته فَقَالَ: إن عليًّا يورد الأمور مواردها، ولا تحسنون أن تصدروها على أن يغسل رأسه بغسل، ولا يأتي البصرة ولا يحرقها ولا يسوق الناس بعصاه إِلَى مصر عَلَى رجل أصلع رأسه مثل الطست إِنَّمَا حوله مثل الشعرات - أو قال: زغيبات (¬1). وروى نعيم بن حماد (¬2) عن أبي المغيرة عن إسماعيل بن عياش، أخبرني بعض أهل العِلْم عن محمد بن جعفر قال: سئل علي بن أبي طالب عن السفياني، فَقَالَ: هو من ولد خالد بن يزيد بن أبي سفيان رجل ضخم الهامة ¬

_ (¬1) "تاريخ بغداد" (1/ 199). (¬2) في "الفتن" برقم (1976).

بوجهه آثار جدري، وبعينه نكتة بياض، خروجه خروج المهدي، ليس بينهما سلطان، هو يدفع الخلافة إِلَى المهدي، يخرج من الشام من واد من أرض دمشق يقال له: وادي اليابس، يخرج في سبعة نفر، مع رجل منهم لواء معقود يتعرفون في لوائه النصر، يسير بين يديه عَلَى ثلاثين ميلا، لا يرى ذلك العِلْم أحد يريده إلا انهزم، يأتي دمشق فيقعد عَلَى منبرها ويدني الفقهاء والقراء، ويضع السيف في التجار وأصحاب الأموال، ويستصحب القراء، ويستعين بهم عَلَى أموره، لا يمتنع منهم أحد إلا قتله ... وذكر بقية الخبر. وهذا إسناد غير صحيح. والله أعلم. ***

الفصل الثالث فيما ورد في أن دمشق خير بلاد الشام في آخر الزمان وأن أهلها خير أهل الشام

الفصل الثالث فيما ورد في أن دمشق خير بلاد الشام في آخر الزمان وأن أهلها خير أهل الشام قد سبق حديث (هي) (¬1) من خير مدائن الشام. وقد روى: "هي خير مدائن الشام". كذا رواه مكحول وغيره عن جبير بن نفير مرسلاً. وروى: خير مساكن المسلمين يومئذ. وقد ذكرنا في أوائل الكتاب قول أبي الدرداء لما أمره معاوية أن يرجع من دمشق إِلَى حمص: يا معاوية أتأمرني بالخروج من عقر دار الإسلام؟! وروى ابن أبي خيثمة بإسناده (¬2) عن شريح بن عبيد أن معاوية سأل كعب، فَقَالَ: حمص أعجب إليك أم دمشق؟ قال: بل دمشق. قال: ولم؟ فَقَالَ كعب: مربض ثور في دمشق خير عن دار عظيمة في حمص. وروى بإسناد آخر له (¬3): أن معاوية قال لكعب: ما ترى في حمص وطيبها؟ فَقَالَ: يا أمير المؤمنين، لموضع من دمشق (صغير) (¬4) أَحَبّ إِلَيّ من ¬

_ (¬1) في الأصل، وفي المطبوع: "أنها"، وكتب في الهامش: في الأصل غير مقروءة. (¬2) ومن طريقه ابن عساكر (1/ 236). (¬3) ومن طريقه ابن عساكر (1/ 236 - 237). (¬4) في الأصل: صغيرة ما أثبته من المطبوع وهو الأصوب.

دار بحمص. قال: ولِمَ ذلك؟ قال: لأنها معقل الناس في الملاحم. قال: لا جرم، (لا تركب بها حرمة) (¬1). روى الحافظ أبو القاسم (¬2) عن الزهري عن ربيعة بن عبد الله بن المهدي قال: منزل في دمشق خير من عشر منازل في غيرها في أرض حمص، ومنزل داخل دمشق خير من عشر منازل بالفراديس، وإياك وأرباضها فإن في سكناها الهلاك. وبإسناده (¬3) عن يونس بن ميسرة بن حلبس أن رجلاً سكن طبرية بعياله شهرًا، فكفاهم فيها عشرة أمداد من قمح، ثم تحول إِلَى دمشق، فكفاهم فيها خمسة أمداد من قمح. وبإسناده (¬4) عن عبد الرحمن بن يزيد (بن) (¬5) جابر قال: قلت لأبي سلام الأسود: ما تملك من حمص إِلَى دمشق؟ قال: بلغني أن البركة تضاعف بها ضعفين. وبإسناده (¬6) عن مكحول أنَّه سأل رجلاً: أين تسكن؟ قال: الغوطة، فَقَالَ له مكحول: ما يمنعك أن تسكن دمشق فإن البركة بها مضاعفة. وبإسناده (¬7) عن عبيد بن يعلي -رجل من أهل بيت المقدس كان بعسقلان، وكان عالماً- أنَّه قال لرجل: ارحل من فلسطين والحق بدمشق؛ فإن بركات الشام كلها مسوقات إِلَى دمشق. ¬

_ (¬1) "في تاريخ دمشق": لا تركت لها حرمة. (¬2) "في تاريخ دمشق" (1/ 237). (¬3) "في تاريخ دمشق" (1/ 237). (¬4) "في تاريخ دمشق" (1/ 238). (¬5) في الأصل: "أن" والتصويب من تاريخ دمشق وكتب التراجم. (¬6) "في تاريخ دمشق" (1/ 238). (¬7) "في تاريخ دمشق" (1/ 238).

وبإسناده عن جابر (¬1) بن أزد الحمصي قال: حُدثنا أنَّه سيأتي عَلَى الناس زمان لمربض ثور من دمشق خير من دار عظيمة بحمص، وإنها لمعقل المسلمين. وبإسناده عن كعب (¬2) قال: كل ما يبنيه العبد في الدُّنْيَا يحاسب به العبد يوم القيامة إلا بناء في دمشق. وقال ابن أبي خيثمة: حدثنا هارون بن معروف، حدثنا ضمرة حدثنا السيباني قال: كان نوف البكالي إماما لأهل دمشق، فكان إذا أقبل عَلَى الناس بوجهه قال: من لا يحبكم فلا أحبه الله ومن لا يرحمكم فلا رحمه الله. وروى عثمان بن أبي العاتكة عن سليمان بن حبيب عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إذا كانت الملاحم خرج من دمشق بعث من الموالي هم خير عباد الله، أبعثهم فرسًا وأجوده سلاحا". وفي رواية: "هم أكرم العرب فرسًا وأجودهم سلاحًا، يؤيد الله بهم الدين". وقد خرجه الحاكم (¬3)، وقال: صحيح عَلَى شرط الشيخين. وليس كما قال؛ فإن عثمان بن أبي العاتكة ليس بالقوي. وخرّجه ابن ماجه (¬4)، ولكن ليس في روايته: "من دمشق". وروى أبو بكر بن أبي مريم عن عطية بن قيس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "إذا وقعت الملاحم خرج بعث من دمشق خبر عباد الله الأولين والآخرين". وهذا مرسل. ¬

_ (¬1) في تاريخ دمشق (1/ 238). (¬2) "في تاريخ دمشق" (1/ 239). (¬3) في "المستدرك" (4/ 548). وقال الحاكم: صحيح عَلَى شرط البخاري، ورمز له الذهبي في التلخيص بـ "م" أي عَلَى شرط مسلم. (¬4) برقم (4090).

وروى الحافظ أبو القاسم (¬1) بإسناده عن ابن محيريز قال: خير فوارس تظل السماء: فوارس من قيس يخرجون من غوطة دمشق، يقاتلون الدجال. وروى نعيم بن حماد في كتابه (¬2): حدثنا الوليد عن الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير عن كعب قال: يا معشر قيس، أخبر يمنًا (¬3)، ويا معشر اليمن، أخبر قيسًا، فيوشك أن لا يقاتل عَلَى هذا الدين غيركما. قال الأوزاعي: بلغني أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قال: "قيس فرسان الناس يوم الملاحم، واليمن رجال الإسلام". وخرج عبد الرزاق (¬4) في كتابه بإسناد صحيح عن حذيفة بن اليمان قال: إن قيسا لا تزال تبغي دين الله شرًّا حتى [يركبها] (¬5) الله بملائكة فلا يمنعوا ذنب [تلعة] (¬6)، ثُمَّ فإذا رأيت قيسا توالت الشام فخذ حذرك. وروى بإسناد (¬7) فيه نظر عن عائشة "أنها "سألت النبي صلّى الله عليه وسلم يوم الأحزاب: كيف بنا يا رسول الله لو اجتمعت علينا اليمن مع هوازن، وغطفان؟ فَقَالَ النبي - صلى الله عليه وسلم -: كلا، أولئك قوم ليس عَلَى أهل هذا الدين منهم [بأس] (¬8) ". وخرج الخطابي في "غريب الحديث" (¬9) بإسناد فيه ضعف عن غالب بن الأبجر مرفوعًا: "إن لله فرسانًا من أهل السماء مسوَّمين، وفرسانًا من أهل الأرض معلَّمين، ففرسانه من أهل الأرض قيس، وإن قيسا ضِرَاءُ الله". ¬

_ (¬1) في "تاريخ دمشق" (1/ 260). (¬2) "في الفتن" (1401). (¬3) "في الفتن": أحبي. (¬4) وهو في "الجامع" لمعمر بن راشد برقم (19889/ مع المصنف). (¬5) في الأصل غير مقروءة وما أثبته من المطبوع و"الجامع" و"الفتن". (¬6) أى أسفلها، أي يذلها الله حتى لا تقدر عَلَى أن تمنع ذيل تلعة "انظر الفائق للزمخشري" (2/ 248). (¬7) برقم (19892). (¬8) ما بين المعقوفتين من الجامع لمعمر، وقد سقط من الناسخ. (¬9) (1/ 395).

الضِّرَاءُ: جمع ضِرْو، وهو ما أبيح بالفرائس من السباع وبالصيد من الكلاب. واعلم أن العرب كانت من قديم الزمان تنقسم إِلَى فريقين: العدنانية والقحطانية، فمن كان من ولد معد بن عدنان يقال في الواحد منهم: عدناني، وقيسي، ونزاري، وخِنْدِفيٌّ. ويقال لمن انتسب إِلَى ما دون عدنان من القبائل: مضري، أو ربيعي، أو قرشي، وغير ذلك بحسب القبائل التي ينتسب إليها ولد معد بن عدنان. ومن كان من ولد قحطان يقال له: يمني، ويقال لهم: يمن. ولا خلاف أن معد بن عدنان من ولد إسماعيل بن إبراهيم عليه السلام، وأما قحطان فالأكثرون عَلَى أنهم ليسوا من ولد إسماعيل، بل كان جدهم: قحطان قبل إسماعيل عليه السلام بكثير. ومن الناس من يقول: بل هو من ولد إسماعيل، ويزعم أن العرب كلها من ولد إسماعيل عليه السلام. وكان بين العدنانية والقحطانية تباين كثير من زمن الجاهلية، وكانت العدنانية تفتخر عَلَى القحطانية، فإنهم كانوا أشرف منهم وبقيت هذه الأحقاد في أولادهم متوراثة. ولما مات سفيان الثوري أوصى إِلَى رجل من كندة يصلي عليه، فقالت بنو تميم: يماني يصلي عَلَى مضري! فقِيلَ لَهُم: أوصى، بذلك فخلوا سبيله! والله أعلم. ***

الفصل الرابع فيما ورد في نزول عيسى ابن مريم عليهما السلام في آخر الزمان عند دمشق

الفصل الرابع فيما ورد في نزول عيسى ابن مريم عليهما السلام في آخر الزمان عند دمشق روى النواس بن سمعان عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "ينزل عيسى ابن مريم عَلَى المنارة البيضاء شرقي دمشق". وفي رواية: "عند المنارة". وهذا قطعة من حديث طويل فيه ذكر الدجال، ويأجوج ومأجوج، خرجه مسلم في صحيحه بتمامه (¬1). وروى محمد بن شعيب بن شابور حدثنا يزيد بن عبيدة، حدثني أبو الأشعث عن أوس بن أوس الثقفي أنَّه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "ينزل عيسى ابن مريم عند المنارة البيضاء شرقي دمشق" (¬2). ورواه بعضهم عن محمد بن شعيب بهذا الإسناد، وشك هل هو عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أو عن كعب؟ ورجح أبو حاتم الرازي (¬3) قول من قال عن أوس عن كعب. وقال: يزيد بن عبيدة لا بأس به. وروى الوليد بن مسلم، حدثني ربيعة بن ربيعة عن نافع بن كيسان عن أبيه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "ينزل عيسى ابن مريم عند المنارة البيضاء ¬

_ (¬1) برقم (2137). (¬2) أخرجه الطبراني في الكبير (1/ 590). قال الهيثمي في المجمع (8/ 205): رواه الطبراني ورجاله ثقات. (¬3) "في العلل" لابنه (2/ 422).

شرقي دمشق" (¬1). وفي مسند الإمام أحمد (¬2) من حديث الحسن عن سمرة عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: "يجيء عيسى عليه السلام من قبل المغرب مصدقا بمحمد - صلى الله عليه وسلم - وعلى ملته، فيقتل الدجال، ثم إِنَّمَا هو قيام الساعة". وهذا يؤيد ما ذكرناه من قبل (أن) (¬3) المغرب يراد به الشام. وروى صفوان بن عمرو عن شريح بن عبيد عن كعب قال: يهبط المسيح - عليه السلام- عند القنطرة البيضاء عَلَى باب دمشق الشرقي تحمله غمامة، واضع يديه عَلَى منكبي ملكين (¬4). وروى سعيد بن عبد العزيز عن شيخ له أنَّه سمع (ابن عباس) (¬5) الحضرمي قال: يخرج عيسى ابن مريم عند المنارة عند باب الشرقي ثم يأتي مسجد دمشق حتى يقعد عَلَى المنبر، ثم يخرج يتبع الدجال بمن معه من أهل دمشق، ثم يأتي ببيت المقدس وهي مغقلة قد حصرها الدجال. فيأمر بفتح الأبواب ويتبعه حتى يدركه بباب لُدٍّ ... وذكر بقية الحديث. وروى أبو اليمان عن الجراح عمن حديثه عن كعب قال: ينزل عيسى عند المنارة التي عند باب دمشق الشرقي، ويسير إِلَى من في بيت المقدس من المسلمين. وقد جاء من حديث أبي أمامة وغيره ما قد يشعر بأن عيسى ينزل ببيت المقدس، وليست أسانيدها بالقوية. ¬

_ (¬1) أخرجه ابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" (2640)، وابن قانع في "معجم الصحابة" (3/ 141) برقم (115). (¬2) (5/ 13). (¬3) زيادة يستقيم بها المعنى. (¬4) أخرجه نعيم بن حماد في "الفتن" (159). (¬5) كذا في الأصل "ابن عباس"، وفي هامش تاريخ دمشق (1/ 228) كتب المحقق في "خع" ابن عائش، أي في نسخة خطية.

ويتعين حملها -عَلَى تقدير صحتها- عَلَى أنَّه يأتي بمن معه من المؤمنين إِلَى بيت المقدس من دمشق، كما قاله ابن عباس وكعب، جمعا بينها وبين حديث النواس المخرج في الصحيح. وظاهر ما تقدم من الأحاديث والآثار يدل عَلَى أن عيسى عليه السلام ينزل عند باب مدينة دمشق الشرقي. وقد ذهبت طائفة إِلَى أنَّه ينزل عند المنارة البيضاء شرقي مسجد دمشق الجامع، وهو مخالف للظاهر، والله أعلم. ***

الفصل الخامس فيما ورد في أن دمشق من مدن الجنة

الفصل الخامس فيما ورد في أن دمشق من مدن الجنة روى الوليد بن محمد الموقري عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلم: "أربع مدائن في الدُّنْيَا من الجنة: مكة والمدينة، وبيت المقدس، ودمشق، وأربع مدائن من النار: رومية، وقسطنطينية، وأنطاكية المحترقة، وصنعاء". وفي رواية: "القسطنطينية، والطوانة، وأنطاكية المحترقة وصنعاء" (¬1). وقال: "إن المياه [المقدسة] (¬2) والرياح اللواقح من تحت صخرة بيت المقدس". قال ابن عدي (¬3): هذا حديث منكر، لا يرويه عن الزهري غير الموقري. كذا قال. وقد رُوي بإسناد غريب عن محمد بن مسلم الطائفي عن الزهري نحوه، وليس بمحفوظ، وفيه ذكر مدائن النار: القسطنطينية وطبرية وأنطاكية المحترقة وصنعاء. وصنعاء هذه قيل أنها غير صنعاء اليمن وأنها بأرض الروم، وأنطاكية ¬

_ (¬1) أخرجه ابن عدي في الكامل (7/ 73) ومن طريقه السمعاني في "فضائل الشام" (19)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (1/ 209 - 210). قال العلامة الألباني في "تخريج أحاديث فضائل الشام" للربعي: حديث موضوع، في إسناده الوليد بن محمد الموقري، قال ابن حبان وغيره: روى عن الزهري أشياه موضوعة لم يروها الزهري قط. (¬2) كذا بالأصل وفي الكامل (7/ 73) وتاريخ دمشق (1/ 210): العذبة. (¬3) في "الكامل" (7/ 73).

المحترقة: بأرض الروم، أحرقها العباس بن الوليد بن عبد الملك. والمعروف أن هذا الحديث موقوف عَلَى كعب. وروى بقية بن الوليد عن يزيد بن عبد الله الخولاني عن كعب قال: خمس مدائن من مدائن الجنة: بيت المقدس، وحمص، ودمشق، وبيت جبرين وظفار اليمن. وخمس مدائن من النار: القسطنطينية، والطوانة، وأنطاكية، وتدمر، وصنعاء - صنعاء اليمن. وكذا رواه محمد بن عبد الله الشعيشي عن يزيد الخولاني إلا أنَّه ذكر في مدائن النار "عمورية" بدل "الطوانة". وروى سفيان الثوري عن ثور بن يزيد عن خالد بن معدان عن عبد الله بن عمرو، قال: الجنة مطوية في قرون الشمس بدمشق في كل عام. وقد رُوي عن كعب أن أهل كل مدينة من مدائن الشام لهم في الجنة خصوصية يختصرن بها. وروى عروة بن رويم عن كعب أنَّه لقي رجلاً، فَقَالَ له: من أين أنت؟ قال: من أهل الشام. فَقَالَ له كعب: فلعلك من الجند الذين يشفع شهيدهم في سبعين؟ قال: ومن هم؟ قال: أهل حمص. قال: لا. قال: فلعلك من الجند الذين يعرفون في الجنة بثياب خضر؟ قال: ومن هم؟ قال: أهل دمشق. قال: لا. قال: فلعلك من الجند الذين في ظل العرش؟ قال: ومن هم؟ قال: أهل الأردن. قال: لا. قال: فلعلك من الجند الذين ينظر الله عز وجل إليهم في كل يوم مرتين؟ قال: ومن هم؟ قال: أهل فلسطين. قال: نعم.

وفي رواية في هذا الخبر عن كعب أنَّه قال في أهل حمص: يدخل الجنة منهم سبعون ألفًا بغير حساب ولا عذاب. وهذا قد رُوي مرفوعًا. خرجه الإمام أحمد (¬1) بإسناد ضعيف، عن عمر ابن الخطاب، "سمعت النبي صلّى الله عليه وسلم يقول في حمص: ليبعثن الله منها يوم القيامة سبعين ألفًا لا حساب عليهم ولا عذاب". وخرج أيضاً (¬2) بإسناد ضعيف عن أنس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "عسقلان أحد العروسين، يبعث الله منها يوم القيامة سبعون ألفًا لا حساب عليهم". وروينا في "فضائل الشام" (¬3) للربعي عن كعب قال في مقبرة باب الفراديس: يبعث منها سبعون ألف شهيد يشفعون كل إنسان في سبعين. وفي مسند الإمام أحمد (¬4) من رواية ابن لهيعة حدثنا [الحارث بن يزيد] (¬5) عن أبي مصعب قال: قدم رجل من أهل المدينة شيخ، فسألوه، فأخبرهم أنَّه يريد المغرب، وقال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "سيخرج ناس إِلَى المغرب يأتون يوم القيامة، وجوههم عَلَى ضوء الشمس". وقد سبق أن المغرب يراد به في كلام النبي صلّى الله عليه وسلم: الشام وما وراءها إِلَى مغرب الشمس. ¬

_ (¬1) (1/ 19). (¬2) (3/ 225). وقال الهيثمي في المجمع (10/ 61): وفيه أبو عقال هلال بن يزيد ابن يسار، وثقه ابن حبان وضعفه الجمهور، وبقية رجاله ثقات، وفي إسماعيل بن عياش خلاف. وقال ابن الجوزي في الموضوعات (2/ 54): وأما حديث أنس فجميع طرقه تدور عَلَى أبي عقال، واسمه هلال بن يزيد بن يسار قال ابن حبان: يروي عن أنس أشياء موضوعة ما حدث بها قط، لا يجوز الاحتجاج به بحال. (¬3) برقم (87). (¬4) (3/ 424). (¬5) في الأصل: أبو الحارث عن يزيد. والتصويب من المسند (3/ 424)، وأطراف المسند لابن حجر (8/ 355).

فصل

فصل وقد ورد في فضل أماكن كثيرة بالشام أشياء لم نذكرها؛ لأنّ الغرض من هذا الكتاب كان ذكر دمشق وفضلها وحفظها، ولكن نختم الكتاب بذكر نبذة من فضائل بيت المقدس فإنَّه عين الشام، وواسطة عقد النظام، وقد صنف العُلَمَاء في فضله تصانيف كثيرة، وممن أفرد فضله بالتصنيف أبو الفرج بن الجوزي، وأبو محمد القاسم بن عساكر. ولو استقصينا ما ورد في فضله لطال الكتاب، وإنما نقتصر عَلَى ذكر أعيان الأحاديث المرفوعة في فضله دون الآثار والإسرائيليات. والله الموفق. قال الله- سبحانه وتعالى- في فضله: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ} [الإسراء: 1]. وفي الصحيحين (¬1) عن جابر أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "لما كذبني قريش قمت في الحجر، فجلى الله لي بيت المقدس فطفقت أخبرهم عن آياته، وأنا أنظر إليه". وخرج مسلم (¬2) من حديث أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لقد رأيتني في الحجر، وقريش تسألني عن مسراي فسألوني عن أشياء من بيت المقدس، لم أثبتها، فكربت كربًا ما كربت مثله قط، فرفعه الله لي أنظر إليه، فما سألوني عن شيء إلا أنبأتهم به". وفي صحيج البخاري (¬3) عن ابن عباس في قوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ} [الإسراء: 60]. ¬

_ (¬1) "أخرجه البخاري" (3886، 4710)، و"مسلم" (170). (¬2) برقم (172). (¬3) برقم (4716).

قال: هي رؤيا عين (أوتيها) (¬1) النبي - صلى الله عليه وسلم - ليلة أسري به إِلَى بيت المقدس. وفي مسند الإمام أحمد (¬2) عن عمر بن الخطاب أنَّه قال كعب: أين ترى أن أصلي؟ يعني: في بيت المقدس، فَقَالَ: إن أخذت عني صليت خلف الصخرة، فكانت القدس كلها بين يديك. فَقَالَ عمر -رضي الله عنه-: ضاهيت اليهود ولكن أصلي حيث صلّى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فتقدم إِلَى القبلة فصلى. وخرج الإسماعيلي (¬3) في "مسند عمر" ولفظه: أن عمر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "صليت ليلة أسري بي في مقدم المسجد، ثم دخلت إِلَى الصخرة التي في بيت المقدس، فإذا أنا بملك قائم معه آنية ثلاث ... " وذكر بقية الحديث. وقد أنكر حذيفة بن اليمان -رضي الله عنه- أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - صلّى في بيت المقدس وقال: لو صلّى فيه لكتب عليكم الصلاة فيه، كما كتب عليكم الصلاة في المسجد الحرام. ومال إِلَى قوله طائفة من العُلَمَاء، منهم أبو بكر الخلال من أصحابنا، وخالفهم الأكثرون في ذلك. وفي الصحيحين (¬4) عن أبي سعيد الخدري عن النبي - صلى الله عليه سلم- قال: "لا تشد الرحال إلا إِلَى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى". ¬

_ (¬1) كذا بالأصل، وفي صحيح البخاري: أريها. (¬2) (1/ 38). (¬3) أورد إسناده ابن كثير في "مسند الفاروق" (1/ 331) وابن رجب في "فتح الباري" (4/ 64 - 65) قال ابن كثير: هذا حديث غريب جدًّا. (¬4) أخرجه "البخاري" (1188، 1197، 1864، 1995) "مسلم" (827).

وفي رواية أخرجها الإمام أحمد (¬1): "لا ينبغي للمطي أن تشد رحاله إِلَى مسجد يبتغى فيه الصلاة غير المسجد الحرام، والمسجد الأقصى، ومسجدي هذا". وفي رواية (¬2) له أيضاً -ولأبي يعلي الموصلي في مسنده (¬3): "لا تشدوا رحال المطي إِلَى مسجد يذكر الله فيه إلا إِلَى ثلاثة مساجد ... " فذكره. وفي الصحيحين (¬4) عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تشد الرحال إلا إِلَى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، والمسجد الأقصى، ومسجدي". وقد رُوي هذا الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من رواية جماعة من الصحابة والمعنى متقارب. ولكن في رواية خرجها الطبراني (¬5) وغيره: ذكر مسجد الخيف بدل المسجد الأقصى، وليس ذلك بمحفوظ. وكان سفيان بن عيينة يروي حديث أبي هريرة بلفظ: "تشد الرحال إِلَى ثلاثة مساجد"، ثم يقول: "لا تشدوا إلا إِلَى ثلاثة مساجد سواء". كذا رواه الإمام أحمد (¬6) عنه، وما قاله ابن عن أنس اللفظين بمعنى سواء، فليس كما قال. وخرج ابن ماجه (¬7) والنسائي (¬8) من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لما فرغ سليمان بن داود -عليهما السلام- من بناء بيت المقدس سأل الله ثلاث: حكمًا يصادف حكمه، وملكًا لا ينبغي لأحد من بعده، وأن لا يأتي ¬

_ (¬1) (3/ 64). (¬2) (3/ 93). (¬3) برقم (1326). (¬4) أخرجه "البخاري" (1189)، ومسلم (1397). (¬5) في "المعجم الأوسط" (5106). (¬6) (2/ 238). (¬7) برقم (1408). (¬8) (2/ 34).

هذا المسجد أحد لا يريد إلا الصلاة فيه إلا خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه. فَقَالَ النبي - صلى الله عليه وسلم -: أما اثنتان فقد أعطيهما، وأرجو أن يكون أعطي الثالثة". وروى أبو ذر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ذكر له الصلاة في بيت المقدس، فَقَالَ: "نعم المصلى، هو أرض المحشر والمنشر". خرجه الطبراني (¬1) والحاكم (¬2)، وقال: صحيح الإسناد. وعن ميمونة مولاة النبي صلّى الله عليه وسلم قالت: "قلت يا رسول الله: أفتنا في بيت المقدس. قال: أرض المحشر والمنشر، ائتوه فصلوا فيه؛ فإن صلاة فيه كألف صلاة في غيره. قلت: أرأيت إن لم أستطع أن أتحمل إِلَيْهِ؟ قال: فتهدي له زيتًا يسرج فيه، فمن فعل ذلك فهو كمن أتاه". خرجه الإمام أحمد (¬3) وابن ماجه (¬4). وخرّجه أبو داود (¬5) ولم يذكر: "فإن الصلاة فيه كألف صلاة في غيره". وإسناده قوي؛ لأنّ رواته ثقات. لكن قد قيل: إن إسناده منقطع، وفي متنه نكارة. وقد تأول الأوزاعي آخر الحديث. قال الوليد بن مسلم: ذكرت للأوزاعي هذا الحديث فَقَالَ: أوصى الله إِلَى نبي من أنبياء بني إسرائيل أن مر بني إسرائيل أن يكثروا في مساجدهم النور. قال: فظنوا إِنَّمَا يراد به المصابيح فأكثروها، وإنَّما يراد به العمل الصالح. خرجه ابن أبي خيثمة، فحمل الأوزاعي تنويره بكثرة الصلاة فيه والذكر، ولكن لفظ الحديث يأبى ذلك لمن تأمله؛ فإن هذا لا يرسله إِلَيْهِ العاجز عن إتيانه. ¬

_ (¬1) في "المعجم الأوسط" (6979، 8226). (¬2) في "المستدرك" (4/ 509). (¬3) (6/ 463). (¬4) برقم (1407). (¬5) برقم (458).

والله أعلم. وروى الواقدي في كتاب "المغازي" حدثني إبراهيم بن يزيد هو الخوزي عن عطاء بن أبي رباح قال: "قالت ميمونة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم -: إني جعلت عَلَى نفسي إن فتح الله عليك مكة أن أصلي في بيت المقدس! فَقَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا تقدرين عَلَى ذلك، تحول بينك وبينه الروم. قالت: آتي بخفير يقبل بي ويدبر. قال: لا تقدرين عَلَى ذلك، ولكن ابعثي بزيت يستصبح لك به فيه فكأنك أتيتيه. فكانت ميمونة تبعث إِلَى بيت المقدس كل سنة بمال يشترى به زيت يستصبح به في بيت المقدس حتى ماتت، فأوصت بذلك". وهذا مرسل ضعيف. وروى هشام بن (عمار) (¬1) حدثنا أبو الخطاب الدمشقي حدثنا [رزيق] (¬2) الألهاني عن أنس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "صلاة الرجل في بيته صلاة، وصلاته في مسجد القبائل بخمس وعشرين صلاة، وصلاته في المسجد الَّذِي يجمع فيه بخمسمائة صلاة، وصلاته في المسجد الأقصى بخمسين ألف صلاة، وصلاته في المسجد الحرام بمائة ألف صلاة". خرجه ابن ماجه (¬3). وقال الحافظ [أبو] (¬4) نصر بن ماكولا: هو حديث منكر، ورجاله مجهولون، وقد رُوي عن أنس نحوه، من طرق كلها لا تثبت، وفي بعضها "صلاته في مسجد الأقصى بألف صلاة". ¬

_ (¬1) في الأصل: "عمارة" وهو خطأ ظاهر، والتصويب من سنن ابن ماجه، وهو من شيوخه الذين أكثر من الرواية عنهم في سننه. (¬2) في "الأصل": "زريق"، والتصويب من "سنن ابن ماجه". قال ابن ماكولا في الإكمال (4/ 48): ورزيق الألهاني أبو عبد الله. وقال الشيخ المعلمي في التعليق: يرى صاحب التوضيح أن هذا هو رزيق بن عبد الله الرواي عن أنس. وهو كما قال. (¬3) برقم (1413). (¬4) سقطت من الناسخ، وهي كنية ابن ماكولا صاحب الإكمال.

وروى مقاتل عن الضحاك عن ابن عباس مرفوعًا، في حديث ذكره: "صلاة الرجل في بيت المقدس بألف صلاة". وهو إسناد ضعيف جدًا. وروى سعيد بن سالم القداح عن سعيد بن بشير عن إسماعيل بن عبيد الله عن أم الدرداء [عن أبي الدرداء] (¬1) عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: "فضل الصلاة في المسجد الحرام عَلَى غيره مائة ألف صلاة، وفي مسجدي ألف صلاة، وفي بيت المقدس خمسمائة صلاة". خرجه البزار في مسنده (¬2). وقال: إسناده حسن، انتهى. القداح ضعفوه، وسعيد فيه لين. وروى ابن عدي (¬3) من طريق أبي حية الكلبي (¬4) -وفيه ضعف- عن عثمان ابن الأسود عن مجاهد عن جابر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "الصلاة في المسجد الحرام مائة ألف صلاة، والصلاة في مسجدي ألف صلاة، والصلاة في بيت المقدس خمسمائة صلاة". وخرج الإمام أحمد (¬5) وأبو داود (¬6) وهذا لفظه -وابن ماجه (¬7) من حديث أم سلمة عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: "من أهل بحجة أو عمرة من المسجد الأقصى إِلَى المسجد الحرام غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، [أو] (¬8) وجبت له الجنة". شك بعض رواته أيهما قال. ¬

_ (¬1) سقط من الناسخ واستدركته من "كشف الأستار". (¬2) برقم (422 - كشف). (¬3) في "الكامل" (7/ 213). (¬4) لعله يحيى بن أبي حية، وسقط من الأصل "يحيى بن" وهو هكذا في الكامل لابن عدي. (¬5) (6/ 299). (¬6) برقم (1738). (¬7) برقم (3001). (¬8) في الأصل: "و" وما أثبته من سنن "أبي داود".

وروى عثمان بن عطاء عن أبي عمران عن ذي الأصابع قال: "قلنا يا رسول الله: إن بعدك ابتلينا بالبقاء، أين تأمرنا؟ قال: عليك ببيت المقدس، فلعله إن تعش لك ذرية يغدون إِلَى ذلك المسجد ويروحون". خرَّجه عبد الله بن الإمام أحمد في المسند (¬1). وأبو عمران هذا شامي، قال البخاري (¬2) وأبو أحمد (¬3): اسمه: سليم. وعثمان بن عطاء الخراساني فيه ضعف. وقد اختلف عليه في إسناده، فرواه عنه ضمرة بن ربيعة عن أبي عمران عن ذي الأصابع كما ذكرناه، وخالفه محمد بن شعيب بن شابور، فرواه عن عثمان ابن عطاء عن [زياد] (¬4) بن أبي سودة أنَّه حدثه عن أبي عمران ... فذكره. وخرج الإمام أحمد (¬5) من حديث جنادة بن أبي أمية حدثنا رجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يخطب وهو يذكر الدجال، فَقَالَ: يمكث في الأرض [أربعين] (¬6) صباحًا، يبلغ فيها كل منهل، لا يقربن أربعة مساجد: مسجد الحرام، ومسجد المدينة، ومسجد الطور، ومسجد الأقصى، وذكر الحديث. وخرّجه أيضاً (¬7) من حديث سمرة بن جندب عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنَّه ذكر الدجال فَقَالَ: إنه سوف يظهر عَلَى الأرض كلها إلا الحرم، وبيت المقدس [وإنه يحصر المؤمنين في بيت المقدس] (¬8) فتزلزلوا زلزالاً شديدًا، ثم يهلكه الله عز ¬

_ (¬1) (4/ 67). (¬2) في "التاريخ الكيير" (4/ 125). (¬3) أبو أحمد الحاكم في "الكنى" كما نقله الحافظ في "التهذيب". (¬4) في الأصل: "زيادة" والتصويب من التقريب لابن حجر وغيره من كتب التراجم. (¬5) (5/ 434 - 435). (¬6) في الأصل: "أربعون". (¬7) (5/ 16). (¬8) زيادة من "المسند".

وجل ... وذكر الحديث بطوله. وهذا آخر ما وجد بخط المصنف، عفا الله عنه وغفر له ورحمه ورضي عنه ونفع به، آمين. بأصله ما صورته: علقه لنفسه العبد الفقير إِلَى ربه اللطيف: علي بن محمد بن إبراهيم العفيف، الحنبلي الجعفري -عفا الله عنه وغفر لوالديه ولمشايخه إخوانه- بمنه وكرمه. وذلك في رابع عشرين صفر سنة ثمانمائة والحمد لله وحده، وصلى الله عَلَى سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا. وحسبنا الله ونعم الوكيل وكان الفراغ من رقم هذه الأحرف البالية، باليد الفانية في أواخر شهر جمادى الأول المنتظم في سلك سنة ثلاث وعشرين وألف من الهجرة المحمدية عَلَى صاحبها الصلاة والسلام.

بأصله ما صورته: وجد أيضاً بخط شيخنا المصنف -رحمه الله تعالى- قال: قال الخلال في الجامع: كراهية البناء حول سور المدينة. حدثني أحمد بن محمد ابن مطر ثنا أبو طالب قال: سألت أبا عبد الله قال: قلت: ثابت كان لا يدع خلف الخندق شيئًا كراهية ستر العدو في الرمي والسهام فاليوم قد بنوا المساجد والبناء. قال: إذا كان هذا ضرر للمسلمين فلا. حدثنا أبو بكر المروزي قال: قيل لأبي عبد الله: قد بنى مروان هذا الخندق وبيوت الروم يتترسون بهذه البيوت يلقونها في الخندق فيسدون الخندق فكره نزولها. وقال الجوزجاني في كتاب "الترحم": حدثنا إسماعيل بن سعيد، هو الشلنجي قال: سألت أحمد بن حنبل: هل يبنى عَلَى خندق مدينة المسلمين مسجد للمسلمين عامة؟ قال: لا بأس بذلك إذا لم يضيق الطريق. وقال أبو أيوب يعني: سليمان بن داود الهاشمي: لا بأس بذلك إلا أن يكون في الثغور مخافة العدو. وبه قال أبو خيثمة. قال الجوزجاني: أقول كلما قال أحمد، ثم قال: إذا كان الخندق للمسلمين، وهم في دار أمن، فلا بأس أن يتخذ فيه مسجد للعامة، وإن كانت الدار بإزاء دار الحرب وفي بناء المسجد عَلَى الخندق تغرير بالمسلمين فترك ذلك، والاجتماع مع المسلمين يضرهم، وترك التغرير بهم فرقًا من كمين أن يكون للعدو ميل. والله أعلم. ووجد أيضاً بخطه رحمه الله -قال ابن أبي خيثمة: ثنا هارون قال: قيل لأبي هربرة: ما يمنعك من التحويل إِلَى الشام، لعله إِنَّمَا يمنعك منها طاعونها؟ قال: لبراغيثها أهم من طاعونها، وفي كتاب: "فضائل الشام" لأبي الحسن الربعي بإسناده عن أبي حازم المدني قال: براغيث الشام تنفي خطاياهم. آخره والحمد لله وحده. ***

35 - استنشاق نسيم الأنس من نفحات رياض القدس

استنشاق نسيم الأنس من نفحات رياض القدس

بسم الله الرحمن الرحيم رب يسر وأعن يا كريم [قال الشيخ الإمام العالم العلامة الأوحد، شيخ الإسلام والسنة، قامع البدعة، بقية السَّلف الصالح، وعمدة الخلف: أبو الفرج عبد الرحمن بن الشيخ الإمام القدوة أبي العباس أحمد بن رجب الحنبلي -رضي الله عنه وجزاه عن الأمة خيرًا]. الحمد لله الَّذِي فتح عَلَى قلوب أحبابه من فيح محبته، فعبق فيهم نشره وفاح، وشرح صدور أوليائه بنور معرفته؛ فأشرق عليهم نوره ولاح، أحياهم بين رجائه وخشيته، وغذاهم بولائه ومحبته؛ فلا تسأل عما هم فيه من السرور والأفراح، فسبحان من ذكره قوت القلوب وقرة العيون وسرور النفوس وروح الحياة وحياة الأرواح، وتبارك الذي من خشيته تتجافي عن المضاجع الجنوب، وبرجاء رحمته تتنفس عن نفوس الخائفين الكروب، وبروح محبته تطمئن القلوب وترتاح، ما طابت الدُّنْيَا إلا بذكره ومعرفته، ولا الآخرة إلا بقربه ورؤيته، فلو احتجب عن أهل الجنة لاستغاث أهل الجنة في الجنة كما يستغيث أهل النار في النار، وأعلنوا بالصياح، كل قلوب تألهت سواه فهي فاسدة ليس لها صلاح، وكل صدور خلت من هيبته وتقواه فهي ضيقة ليس لها انشراح، وكل نفوس أعرضت عن ذكره فهي مظلمة الأرجاء والنواح {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ} [النور: 35]. أحمده ونشر ذكره كلما نشر فاح، وأشكره، ومزيده عَلَى الشارين يتجدد بالغدو والرواح. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك، له شهادة استمدها سلاحًا عَلَى الأعداء، فنعم الجنة ونعم السلاح، واستعدها مفتاحا لباب دار البقاء، فما للجنة

سواها مفتاح، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، بعثه مفصحًا بتوحيده أي إفصاح، موضحًا لعبيده سبيل الهدى كل الاتضاح، فلم يزل - صلى الله عليه وسلم - يعرف بالله حتى يعرف توحيده في جميع النواح، ويخوف بالله حتى لانت القلوب القاسية وصلحت كل (الفلاح) (¬1) [(*) ويذكر بآلاء الله حتى انشرحت القلوب بمحبته أعظم انشراح، وصلى الله عليه وعلى آله وصحبه صلاة تكون سببًا للفلاح، فحي عَلَى الصلاة وحي عَلَى الفلاح. أما بعد؛ فإن الله -تعالى- خلق الخلق وأوجدهم لعبادته الجامعة لخشيته ورجائه ومحبته كلما قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] وإنَّما يعبد الله -سبحانه- بعد العِلْم به ومعرفته، فبذلك خلق السماوات والأرض وما فيهما للاستدلال بهما عَلَى توحيده وعظمته كما قال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} [الطلاق: 12] وقد علم أن العبادة إِنَّمَا تبنى عَلَى ثلاثة أصوال: الخوف والرجاء والمحبة. وكل منهما فرض لازم، والجمع بين الثلاثة حتم واجب، فلهذا كان السَّلف يذمون من تعبد بواحد منها وأهمل الآخرين؛ فإن بدع الخوارج ومن أشبههم إِنَّمَا حدثت من التشديد في الخوف والإعراض عن المحبة والرجاء، وبدع المرجئة نشأت من التعليق بالرجاء وحده والإعراض عن الخوف، وبدع كثير من أهل الإباحة والحلول ممن ينسب إِلَى التعبد، نشأت من إفراض المحبة والأعراض عن الخوف والرجاء. وقد كثر في المتأخرين المنتسبن إِلَى السلوك تجريد الكلام في المحبة وتوسيع القول فيها بما لا يساوي علي الحقيقة مثقال حبة، إذا هو عار عن الاستدلال بالكتاب والسنة، وخال من ذكر كلام من سلف من سلف الأمة وأعيان الأئمة، ¬

_ (¬1) في المطبوع: الصلاح. (*) من هنا حدث سقط في النسخة الخطية التي بين أيدينا حتى عبارة: "وأمنحهم رياض قدسي" في الباب السابع.

وإنما هو مجرد دعاوي، قد تشرف بأصحابها عَلَى مهاوي، وربما استشهدوا بأشعار عشاق الصور، وفي ذلك ما فيه من عظيم الخطر، وقد يحكون حكايات العشاق، ويشيرون إِلَى التأدب بما سلكوه من الآداب والأخلاق، وكل هذا ضرره عظيم، وخطره جسيم. وقد يكثر ذكر المحبة ويعيدها ويبديها من هو بعيد عن التلبس بمقدماتها ومباديها، وما أحسن قول ذي النون -رحمة الله تعالى- وقد ذكر عنده الكلام في المحبة فَقَالَ: "اسكتوا عن هذه المسألة، لا تسمعها النفوس فتدعيها" فإن النفوس من الكبر والفخر والغرور "والمتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور" (¬1)، وكثير ما تقترن دعوى المحبة بالشطح والإدلال وما ينافي العبودية من الأقوال والأفعال. ... ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (5219)، ومسلم (2130) من حديث أسماء، وأخرجه مسلم (2129) من حديث عائشة.

محتويات الكتاب

محتويات الكتاب وقد استخرت الله -تعالى- في جمع ما ورد في الكتاب والسنة، وكلام أعيان سلف الأمة، ومن سلك سبيلهم من العارفين الأئمة، في محبة الله- جل وعلا- وعلاماتها وطرقها ولوازمها ومقتضياتها، وإن كنت لا أستقصي ذلك كله؛ فإنَّه يطول جداً، وإنَّما أذكر منه أبوابًا أعدها عدًّا، وهي اثنا عشر بابًا: (الباب الأول): في لزوم محبة الملك القدوس وتقديمها عَلَى الأموال والأولاد والنفوس. (الباب الثاني): في بيان أن من أعظم المطالب وأهمها سؤال الله محبته عَلَى أكمل الوجوه وأتمها. (الباب الثالث): في بيان الأسباب التي تستجلب بها محبة رب الأرباب. (الباب الرابع): في علامات المحبة الصادقة من التزام طاعة الله والجهاد في سبيله واستحلاء الملامة في ذلك واتباع رسوله. (الباب الخامس): في استلذاذ المحبين بكلام محبوبهم وأنه غذاء قلوبهم وغاية مطلوبهم. (الباب السادس): في أنس المحبين بالله وأنه ليس لهم مقصود من الدُّنْيَا والآخرة سواء. (الباب السابع): في سهر المحبين وخلواتهم بمناجاة مولاهم الملك الحق المبين. (الباب الثامن): في شوق المحبين إِلَى لقاء رب العالمين. (الباب التاسع): في رضا المحبين بمر الأقدار وتنعمهم ببلاء من يخلق ما يشاء ويختار. (الباب العاشر): في ذكر خوف المحبين العارفين وفضله عَلَى خوف سائر الخائفين.

(الباب الحادي عشر): في شرف أهل الحب وأن لهم عند الله أعلى منازل القرب. (الباب الثاني عشر): في نبذ من كلام أهل المحبة وتحقيقهم تقوى به القلوب علي سلوك طريقهم، وسميته (استنشاق نسم الأنس من نفحات رياض القدس) فإن قلوب الأحباب تشتاق باستنشاق نسيم الاقتراب، وقد خرج "الطبراني" (¬1) من حديث عمرو بن عبد الغفار -وهو ضعيف عن الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر مرفوعًا "أن الله -جل وعلا- يقول للجنة: طيبي لأهلك ليزدادوا طيبًا" فذلك البرد يجده الناس في السحر من ذلك. ويروى بإسناد فيه ضعف، عن مجاهد، عن عطية، عن أبي سعيد قال: "إن الله -عز وجل- خلق جنة عدن من ياقوتة حمراء ثم قال لها: تزيني. فتزينت، ثم قال لها: تكلمي. فقالت: طوبى لمن رضيت عنه. فأطبقها وعلقها بالعرش فلم يدخلها بعد ذلك إلا الله لا إله غيره يدخلها كل سحر، فذلك برد السحر". وخرّجه الحاكم والبيهقي بإسناد جيد عن مجاهد من قوله مختصراً، وأنشد بعضهم: تمر الصبا صفحًا بسكان ذي الغضا ... ويصدع قلبي أن يهب هبوبها قريبة عهد بالحبيب وإنما ... هوى كل نفس حيث حل حبيبها وقد قيل: إن القلب المحب تحت فحمة الليل جمرة، كما هب عليه نسيم السحر التهب. وأنشدوا في هذا المعني: تذكرني مر النسيم عهودكم ... فأزداد شوقًا كلما هبت الريح أراني إذا ما أظلم الليل أشرفتْ ... بقلبي من نار الغرام مصابيح ¬

_ (¬1) في الصغير (1/ 32) وقال: لم يروه عن الأعمش إلا عمرو بن عبد الغفار، تفرد به يوسف بن موسى أبو غسان. قال الهيثمي في المجمع (10/ 412): وفيه عمرو بن عبد الغفار، وهو متروك.

أصلي بذكراكم إذا كنت خاليًا ... ألا إن تذكار الأحبة تسبيح يشح فؤادي أن يخامر سره ... سواكم وبعض الشح في المرء ممدوح وإن لاح برق بالغوير تقطع الـ ... ـفؤاد عَلَى واد به البان والشيح والله المستعان وعليه التكلان، ولا حول ولا قوة إلا بالله. ***

الباب الأول في لزوم محبة الملك القدوس وتقديمها على حب الأموال والأولاد والنفوس

الباب الأول في لزوم محبة الملك القدوس وتقديمها عَلَى حب الأموال والأولاد والنفوس قال الله -عز وجل-: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [التوبة: 24]. قال أبو عبد الله محمد بن خفيف الصوفي: "سألنا أبو العباس بن سريج بشيراز فَقَالَ لنا: محبة الله فرض أم غير فرض؟ قلنا: فرض، قال: ما الدلالة عَلَى فرضها؟ فما منا من أتى بشيء يقبل فرجعنا إِلَيْهِ وسألناه: ما الدليل عَلَى فرض محبة الله -عز وجل-؟ فَقَالَ: قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ} إلى قوله: - {أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} [التوبة: 24] قال: فتوعدهم الله -عز وجل- عَلَى تفضيل محبتهم لغيره عَلَى محبته ومحبة رسوله، والوعيد لا يقع إلا عَلَى فرض لازم وحتم واجب". وفي "الصحيحين" (¬1) عن أنس، عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: "والذي نفسي بيده، لا يؤمن أحدكم حتى أكون أَحَبّ إِلَيْهِ من والده وولده والناس أجمعين". وفي "الصحيحين" (¬2) أيضاً أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قال: "يا رسول الله، والله لأنت أَحَبّ إلي من كل شيء إلا من نفسي. فَقَالَ: لا يا عمر حتى أكون أَحَبّ إليك من نفسك. فَقَالَ: والله لأنت أَحَبّ إلي من نفسي. فَقَالَ: الآن يا عمر". ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (14)، ومسلم (69). (¬2) أخرجه البخاري (6632) ولم يخرجه مسلم، قال ابن كثير في تفسيره (2/ 343): "انفرد بإخراجه البخاري".

ومعلوم أن محبة الرسول إِنَّمَا هي تابعة لمحبة الله جل وعلا؛ فإن الرسول إِنَّمَا يحب موافقة لمحبة الله له، ولأمر الله بمحبته وطاعته واتباعه، فإذا كان لا يحصل الإيمان إلا بتقديم محته عَلَى الأنفس والأولاد والآباء والخلق كلهم، فما الظن بمحبة الله عز وجل؟ وذكر ابن إسحاق عن المغيرة بن عثمان بن الأخنس، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن "أن النبي - صلى الله عليه سلم- خطب لما قدم المدينة فَقَالَ في خطبته (¬1): "أحبوا من أَحَبّ الله وأحبوا الله من كل قلوبكم". وقد جعل النبي -صلى الله عليه وسلم- تقديم محبة الله ورسوله عَلَى محبة غيرهما من خصال الإيمان ومن علامات وجود حلاة الإيمان في القلوب. ففي "الصحيحين" (¬2) عن أنس رضي الله عنه، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أَحَبّ إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه، كما يكره أن يلقى في النار". وفي رواية "النسائي" (¬3): "ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان وطعمه: أن يكون الله ورسوله أَحَبّ إليه مما سواهما، وأن يحب في الله ويبغض في الله، وأن توقد نار [عظيمة] (*) فيقع فيها أَحَبّ إليه من أن يشرك بالله شيئًا". وفي مسند الإمام أحمد (¬4) عن أبي رزين العقيلي قال: "قلت يا رسول الله ما الإيمان؟ قال: أن تشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ¬

_ (¬1) علقه ابن هشام في "السيرة النبوية" (2/ 166 - 167). وأخرج البيهقي في دلائل النبوة (2/ 525) شطره الأخير. (¬2) أخرجه البخاري (16)، ومسلم (43). (¬3) (8/ 94 - 95) برقم (4987). (*) من سنن النسائي. (¬4) (4/ 11). وقال الهيثمي في المجمع (1/ 53 - 54): رواه أحمد، وفي إسناده: سليمان بن موسي، وقد وثقه ابن معين وأبو حاتم وضعفه آخرون.

ورسوله، وأن يكون الله ورسوله، أَحَبّ البك مما سواهما، وأن تحرق في النار أَحَبّ إليك من أن تشرك بالله، وأن تحب غير ذي نسب لا تحبه إلا لله، فَإِذَا كنت كذلك فقد دخل حب الإيمان في قلبك كما دخل حب الماء للظمآن في اليوم القائظ" (¬1). ورُوي من حديث المقداد بن الأسود عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: "من أَحَبّ الله ورسوله صادقًا من قلبه، ولقي المؤمنين فأحبهم، ومن كان أمر الجاهلية عنده كنار أججت فألقي فيها فقد طَعِمَ طَعْمَ الإيمان -أو قال: بلغ ذروة الإيمان" (¬2). ومن هذا المعني أن الله -تعالى- قال {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ ... } [الممتحنة: 10] فأمر بامتحانهن ليعلم إيمانهن، فكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يحلفهن أنهن ما خرجن إلا حبًّا لله ورسوله، لم يخرجن رغبة في غير ذلك؛ فيكون ذلك علماً بإيمانهن. قال ابن عباس في هذه الآية: "كانت المرأة إذا أتت النبي صلّى الله عليه وسلم لتسلم حلفها بالله: ما خرجتي من بغض زوج إلا حبًّا لله ورسوله؟ ". وهو موجود في بعض نسخ الترمذي (¬3) كذلك. وخرّجه البزار في "مسنده" (¬4)، وابن جرير (¬5) وابن أبي حاتم، ولفظه: ¬

_ (¬1) وهو الشديد الحر. (¬2) أخرجه الطبراني في الكبير (20/ 606). وقال الهيثمي في المجمع (1/ 88): رواه الطبراني في الكبير، وفيه شريح بن عبيد، وهو ثقة مدلس، اختلف في سماعه من الصحابة لتدليسه. (¬3) برقم (3308) وقال: "هذا حديث غريب". (¬4) برقم (2272 - كشف) قال البزار: لا نعلمه يروى عن ابن عباس إلا بهذا الإسناد، وأبو نصر لم يرو عنه إلا خليفة. وقال الهيثمي في المجمع (7/ 123): وفيه قيس بن الربيع، وثقه شعبة والثوري وضعفه غيرهما، وبقية رجاله ثقات. (¬5) في تفسيره (28/ 44).

"حلفها بالله ما خرجتي من بغض زوج، وبالله ما خرجتي إلا حبًّا لله ورسوله". وخرج إبراهيم بن الجنيد الختلي في "كتاب المحبة" بإسناد ضعيف عن أبي هريرة مرفوعًا قال: "الإيمان في قلب الرجل أن يحب الله عز وجل". ومن مراسيل الزهري أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: "رأس الإيمان المحبة لله -عز وجل- وطابع الإيمان: البر والعدل، وتحقيق الإيمان بإكرام ذي الدِّين وذي الشيبة". ***

فصل محبة الله على درجتين: 1 - فرض لازم 2 - درجة السابقين

فصل محبة الله عَلَى درجتين: 1 - فرض لازم 2 - درجة السابقين ومحبة الله -سبحانه وتعالى- عَلَى درجتين: إحداهما فرض لازم، وهي أن يحب الله -سبحانه- محبة توجب له، محبة ما فرض الله عليه، وبغض ما حرمه عليه، ومحبة لرسوله المبلغ عنه أمره ونهيه، وتقديم محبته عَلَى النفوس والأهلين أيضاً كما سبق، والرضا بما بلغه عن الله من الدين وتلقي ذلك بالرضا والتسليم، ومحبة الأنبياء والرسل والمتبعين لهم بإحسان جملة وعمومًا لله -عز وجل- وبغض الكفار والفجار جملة وعمومًا لله -عز وجل- وهذا القدر لابد منه في تمام الإيمان الواجب، ومن أخل بشيء منه فقد نقص من إيمانه الواجب بحسب ذلك. قال الله عز وجل: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65] وكذلك ينقص من محبته الواجبة بحسب ما أخل به من ذلك، فإن المحبة الواجبة تقتضي فعل الواجبات وترك المحرمات. وخرج أبو نعيم (¬1) من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إن سالما -يعني: مولى أبي حذيفة- شديد الحب لله لو كان لا يُخافُ الله ما عصاه" يشير إِلَى أن محبة الله تمنعه من أن يعصيه. وذكر أبو عبيد في "غريبه" (¬2) أن عمر قال: "نعم العبد صهيب لو لم يخف الله لم يعصه" (¬3). ¬

_ (¬1) في الحلية (1/ 177) وقال الشيخ الألباني -عليه رحمة الله- في ضعيف الجامع (1861): "موضوع". (¬2) غريب الحديث (3/ 394). (¬3) نقل "العجلوني" في كشف الخفاء (2/ 446 - 447) عن البهاء السبكي والسيوطي=

قال الحسن بن آدم: "أَحَبّ الله يحبك الله، واعلم أنك لن تحب الله حتى تحب طاعته". وقال عبد الله بن حنيف: "قال رجل لرابعة إني أحبك في الله. قالت: "فلا تعصي الَّذِي أحببتني له". وسئل ذو النون: متي أَحَبّ ربي؟ قال: "إذا كان ما يبغضه عندك أمر من الصبر". وقال بشر بن السري. "ليس من أعلام الحب أن تحب ما يبغض حبيبك". وقال أبو يعقوب النهرجوري: كل من ادعى محبة الله -جل جلاله- ولم يوافق الله في أمره فدعواه باطلة، وكل محب ليس يخاف الله فهو مغرور". وقال يحيى بن معاذ: "ليس بصادق من ادعى محبة الله ولم يحفظ حدوده". وقال رويم: "المحبة الموافقة في جميع الأحوال" وأنشد: ولو قلت لي مت مت سمعًا وطاعة ... وقلت لداعي الحق أهلا ومرحبًا وقد تقدم أن العبد لا يجد حلاوة الإيمان حتى يحب المرء لا يحبه إلا لله، وحتى يكره أن يرجع إِلَى الكفر، كما يكره أن يلقي في النار. ولهذا المعني كان الحب في الله والبغض في الله من أصول الإيمان. وخرج الترمذي (¬1) من حديث معاذ بن أنس الجهني، عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: "من أعطى لله ومنع لله وأحب لله وأبغض لله؛ فقد استكمل إيمانه". وخرج الإمام أحمد (¬2) وزاد فيه: "وأنكح لله" وفي لفظ له أيضاً (¬3) "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سئل عن أفضل الإيمان قال: أن تحب لله وتبغض لله وتعمل لسانك في ¬

_ =وابن حجر اجتهادهم في البحث عن إسناد لهذا الحديث، وعدم وقوفهم عليه. (¬1) برقم (2521) وقال: هذا حديث حسن. (¬2) (3/ 438، 440). (¬3) أخرجه أحمد (5/ 247) من طريقين. قال الهيثمي في المجمع (1/ 89): "وفي الأولى: رشدين بن سعد، وفي الثانية ابن لهيعة وكلاهما ضعيف".

ذكر الله، وخرج أبو داود (¬1) من حديث أبي أمامة، عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: "من أَحَبّ لله وأبغض لله وأعطى لله؛ فقد استكمل الإيمان". ومن حديث أبي ذر، عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: "أفضل الإيمان: الحب في الله والبغض في الله" (¬2). وخرج الإمام أحمد (¬3) من حديث البراء بن عازب، عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: "إن أوثق عرى الإيمان أن تحب في الله وتبغض في الله". ومن حديث عمرو بن الجموح، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يجِدُ العبْدُ حقَّ صرِيح الإيمانِ حتَّى يُحبَّ للَّهِ ويبْغِضَ للَّه، فإذا أحبَّ للهِ، وأبْغَضَ للَّهِ فقدْ استحقَّ الولايَةَ منَ اللَّه، وإن أوْليائِي منْ عبادي وأحبَّائِي منْ خلقِي يُذْكَرُون بذِكرِي وأُذكرُ بذكرِهِم" (¬4). وفي هذا المعني أحاديث كثيرة: وروى ليث عن مجاهد عن ابن عباس قال: "من أَحَبّ في الله وأبغض في الله ووالى في الله وعادى في الله فإنما تنال ولاية الله بذلك، ولن يجد عبد طعم الإيمان وإن كثرت صلاته وصومه حتى يكون كذلك". وقد صار عامة مؤاخاة الناس علي أمر الدُّنْيَا وذلك لا يجدي عَلَى أهله شيئًا. خرجه ابن جرير الطبري. وخرج أيضًا بإسناده عن ابن مسعود قال: "من أَحَبّ لله وأبغض لله ومنع لله وأعطى لله فقد توسط الإيمان". وخرج الحاكم (¬5) من حديث عائشة -رضي الله عنها- عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: ¬

_ (¬1) برقم (4681). (¬2) أخرجه أبو داود (4595)، وأحمد (5/ 146) بلفظ: "أفضل الأعمال". (¬3) (4/ 286) بلفظ: "إن أوسط ... " وقال الهيثمي في المجمع (1/ 89 - 90): رواه أحمد، وفيه ليث بن أبي سليم، وضعفه الأكثر. (¬4) أخرجه أحمد (3/ 430). قال الهيثمي في المجمع (1/ 89): فيه رشدين بن سعد، وهو منقطع ضعيف. (¬5) (2/ 291) وقال: هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه. =

"الشرك أخفى من دبيب النمل عَلَى الصفا في الليلة الظلماء، وأدناه أن تحب عَلَى شيء من الجور، وتبغض عَلَى شيء من العدل، وهل الدين إلا الحب في الله والبغض في الله؟! قال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ} [آل عمران: 31] وقال: صحيح الإسناد، وفيما قاله نظر؛ ففي هذا الحديث أن محبة ما يبغضه الله وبغض ما يحبه الله من الشرك الخفي. وروينا من طريق الأصمعي، عن سفيان، عن ليث، عن مجاهد أنَّه قال في قوله تعالى: {يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} [النور: 55] قال: لا يحبون غيره". وحينئذ فلا يكمل التوحيد الواجب إلا بمحبة ما يحبه الله وبغض ما يبغضه الله، وكذلك لا يتم الإيمان الواجب إلا بذلك. ومن هنا يعلم أن الإخلال ببعض الواجبات وارتكاب بعض المحرمَّات ينقص به الإيمان الواجب بحسب ذلك، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم- "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ... " (¬1) الحديث. وروى الإمام أحمد (¬2) من طريق الربيع بن أنس، عن أبي العالية، عن أبي بن كعب قال: "من أصبح وأكبر همه غير الله فليس من الله". وقد رُوي هذا مرفوعًا من حديث أنس بأسانيد ضعيفة (¬3). ¬

_ =وتعقبه "الذهبي" قائلا: عبد الأعلى، قال الدراقطني: ليس بثقة. وأخرجه البزار (3566 - كشف) وقال: "لا نعلمه يروى عن عائشة إلا بهذا الإسناد". وقال الهيثمي في الجمع (10/ 23): رواه البزار، وفيه عبد الأعلى بن أعين، وهو ضعيف. (¬1) أخرجه البخاري (2475) وفي مواضع أخر، ومسلم (57). (¬2) في الزهد (ص 42). (¬3) أخرجه ابن عدي في الكامل (7/ 67) وأبو نعيم في الحلية (3/ 48) وقال أبو نعيم: لم يروها عن أنس -رضي الله عنه- غير فرقد، ولا عنه إلا وهب بن راشد، ووهب وفرقد غير محتج بحديثهما وتفردهما. وقال ابن عدي في ترجمة وهب بن راشد: يروي عن ثابت ومالك بن دينار وفرقد السبخي، ليست روايته عنهم بالمستقيمة.=

فهذه الدرجة من محبة الله فرض واجب عَلَى كل مسلم وهي درجة المقتصدين أصحاب اليمين الدرجة الثانية درجة السابقين المقربين، وهي أن ترتقي المحبة إلي ما يحبه الله من نوافل الطاعات، وكراهة ما يكرهه من دقائق المكروهات، وإلى الرضا بما يقدره ويقضيه مما يؤلم النفوس من المصائب، وهذا فضل مستحب مندوب إِلَيْهِ. وفي صحيح البخاري (¬1)، عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "يقول الله -عز وجل- «مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنَتْهُ بِالْحَرْبِ، وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ، وَلَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَلَئِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لِأُعِيذَنَّهُ، وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ قَبْضِ نَفْسِ عَبْدِي الْمُؤْمِنِ يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَأَنَ أَكْرَهُ مَسَاءَتَه». وقد رُوي هذا المعني عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من حديث علي بن أبي طالب (¬2) -رضي الله عنه- وابن عباس (¬3) -وأبي أمامة (¬4) وعائشة (¬5) -رضي الله عنهم- بأسانيد ¬

_ =ثم ساق ابن عدي لوهب أحاديث عن ثابت وفرقد، ومنها حديثنا هذا وقال: وهذه الأحاديث غير محفوظة، ولا أعلم يرويها غير وهب بن راشد. ثم قال ابن عدي: ولوهب غير ما ذكرت، وأحاديثه كلها فيها نظر. (¬1) برقم (6502). (¬2) أخرجه الإسماعيلي في "مسند علي" كما في الفتح (11/ 349) وضعفه الحافظ. (¬3) أخرجه الطبراني في الكبير (12/ 12719) وضعفه الحافظ في الفتح. وقال الهيثمي في "المجمع" (10/ 270): "فيه من لم أعرفه". (¬4) أخرجه الطبراني في الكبير (8/ 7833، 7880)، والبيهقي في الزهد الكبير (696) وقال في المجمع (2/ 248): فيه علي بن يزيد، وهو ضعيف. (¬5) أخرجه أحمد (6/ 256)، وأبو نعيم في "الحلية" (1/ 5). قال الهيثمي في المجمع (1/ 269): فيه عبد الواحد بن قيس، وقد وثقه غير واحد، وضعفه غيرهم.

فيها نظر. وذكر ابن أبي الدُّنْيَا بإسناده عن سهيل أخي حزم قال: بلغني عن عامر بن عبد قيس أنَّه كان يقول: "أحببت الله -عز وجل- حبًّا سهل علي كل مصيبة، ورضاني بكل قضية، فما أبالي مع حبي إياه ما أصبحت عليه وما أمسيت". وقال إبراهيم بن الجنيد: حدثنا محمد بن الحسن، حدثني عبيد الله بن محمد التميمي "أن رجلاً قال لعابد: أوصني -أو عظني- فَقَالَ: أي الأعمال أغلب عَلَى قلبك؟ فَقَالَ الرجل: والله ما أجد شيئًا أنفع للمحب عند حبيبه من المبالغة في محبته وهل تدري ما ذلك؟ أن لا يعلم شيئًا فيه رضاه إلا أتاه، ولا يعلم شيئًا فيه سخطه إلا اجتنبه، فعند ذلك ينزل المحبون من الله منازل المحبة. قال: فصرخ العابد والسائل وسقطا". وقد تبين بما ذكرناه أن محبة الله إذا صدقت أوجبت محبة طاعته وامتثالها، وبغض معصيته واجتنابها، وقد وقع المحب أحيانًا في تفريط في بعض المأمورات وارتكاب لبعض المحظورات ثم يرجع عَلَى نفسه بالملامة، وينزع عن ذلك ويتداركه بالتوبة. وفي صحيح البخاري (¬1) "أن رجلاً كان يؤتى به إِلَى النبي صلّى الله عليه وسلم قد شرب الخمر، فَقَالَ رجل: اللهم العنه، ما أكثر ما يؤتى به؟ فَقَالَ رسول الله: لا تلعنه؛ فإنَّه يحب الله ورسوله". وقد رُوي عن الشعبي في "قوله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ} [البقرة: 222] قال: التائب من الذنب كمن لا ذنب له، وإذا أَحَبّ الله عبدًا لم يضره ذنبه". وعن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم قال: "إن الله -تعالى- ليحب العبد حتى يبلغ من حبه إذا أحبه أن يقول له: اذهب فاعمل ما شئت؛ فقد غفرت لك". ¬

_ (¬1) برقم (6780).

والمراد من هذا أن الله -تعالى- إذا أَحَبّ عبدًا وقدر عليه بعض الذنوب؛ فإنَّه يقدر له الخلاص منها بما يمحوها من توبة إو عمل صالح أو مصائب مكفرة، كما في الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "أذنب عبد ذنبًا فَقَالَ: أي ربي، عملت ذنبًا؛ فاغفر لي؟ -فذكر الحديث- إِلَى أن قال- فليعمل ما شاء" (¬1). والمراد ما دام عَلَى هذا، كما عمل ذنبًا اعترف به وندم عليه واستغفر منه، فأما مع الإصرار عليه فلا، وكذلك المحبة الصادقة الصحيحة تمنع من الإصرار عَلَى الذنوب وعدم الاستحياء من علام الغيوب. وما أحسن قول بعضهم: تعصي الإله وأنت تزعم حبه ... هذا لعمري في القياس شنيع لو كان حبك صادقًا لأطعته ... إن المحب لمن يحب مطيع ... ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (7507)، ومسلم (2758).

الباب الثاني في بيان أن من أعظم المطالب وأهمها سؤال الله تعالى محبته على أكمل الوجوه وأتمها

الباب الثاني في بيان أن من أعظم المطالب وأهمها سؤال الله تعالى محبته عَلَى أكمل الوجوه وأتمها روى معاذ بن جبل -رضي الله عنه- عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: "أتاني ربي - تبارك وتعالى- في أحسن صورة -يعني: في المنام- فذكر الحديث، وقال في آخره: قال: سل. قلت: اللهم إني أسألك فعل الخيرات، وترك المنكرات، وحب المساكين، وأن تغفر لي وترحمني، وإذا أردت بقوم فتنة فتوفني إليك غير مفتون، وأسألك حبك، وحب من يحبك، وحب كل عمل يقربني إِلَى حبك. فَقَالَ - صلى الله عليه وسلم -: إنها حق؛ فادرسوها وتعلموها". خرجه الإمام أحمد (¬1) والترمذي (¬2) وقال: حسن صحيح. وخرّجه الحاكم (¬3) وقال: صحيح الإسناد. وفي بعض الروايات: "وحب عمل يبلغني حبك". وخرج البزار (¬4) والطبراني (¬5) والحاكم (¬6) من حديث ثوبان، عن النبي صلّى الله عليه وسلم ¬

_ (¬1) في المسند (5/ 243). (¬2) برقم (3235). قال الترمذي: سألت محمد بن إسماعيل عن هذا الحديث فقال: هذا حديث حسن صحيح. (¬3) (1/ 52). (¬4) برقم (2128 - كشف). قال الهيثمي في المجمع (7/ 177 - 178): رواه البزار من طريق أبي يحيى عن أبي أسماء الرحبي، وأبو يحيى لم أعرفه، وبقية رجاله ثقات. (¬5) لم أجده في مسند ثوبان من "المعجم الكبير"، ولم يعزه الهيثمي إلا للبزار. وليس الحديث أيضاً في المعجمين "الأوسط والصغير" للطبراني. (¬6) (1/ 527) وقال: هذا حديث صحيح عَلَى شرط البخاري.

نحوه. وخرج البزار (¬1) بإسناد فيه ضعف، عن ابن عمر، عن النبي صلّى الله عليه وسلم نحوه، وفي حديثه: "اللهم إني أسألك حبك، وحب من يحبك، وحب عمل يقربني إِلَى حبك، اللهم إني أسألك إيمانا يباشر قلبي حتى أعلم أنَّه لن يصيبني إلا ما كتبت لي، ورضني بما قسمت لي". وخرج الترمذي (¬2) والحاكم (¬3) من حديث أبي الدرداء، عن النبي - صلى الله عليه وسلم- قال: "كان من دعاء داود -عليه السلام-: اللهم إني أسألك حبك وحب من يحبك والعمل الَّذِي يبلغني حبك، اللهم اجعل حبك أَحَبّ الي من نفسي وأهلي ومن الماء البارد". قال: وكان النبي صلّى الله عليه وسلم إذا ذكر داود وتحدث عنه قال: "كان داود أعبد البشر". وقال الترمذي: حديث حسن غريب. وخرج الترمذي (¬4) أيضاً من حديث عبد الله بن يزيد الخطمي الأنصاري، عن النبي صلّى الله عليه وسلم "أنَّه كان يقول في دعائه: اللهم ارزقني حبك، وحب من ينفعني حبه عندك، اللهم ما رزقتني مما أَحَبّ فاجعله فراغًا لي فيما تحب" وقال: حسن غريب. وخرج ابن أبي الدُّنْيَا وغيره من رواية أبي بكر بن أبي مريم، عن الهيثم بن مالك الطائي "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يدعو: اللهم اجعل حبك أَحَبّ الأشياء إلي، واجعل خشيتك أخوف الأشياء عندي، واقطع عني حاجات الدُّنْيَا بالشوق إِلَى ¬

_ (¬1) برقم (2129 - كشف). وقال الهيثمي في المجمع (7/ 178): وفيه سعيد بن سنان، وهو ضعيف، وقد وثقه بعضهم، ولم يلتفت إليه في ذلك. (¬2) برقم (3490) وقال: هذا حديث حسن غريب. (¬3) في المستدرك (2/ 433) وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وتعقبه الذهبي فَقَالَ: بل عبد الله هذا قال أحمد: أحاديثه موضوعة. (¬4) برقم (3491) وقال: هذا حديث حسن غريب.

لقائك، وإذا أقررت أعين أهل الدُّنْيَا بدنياهم؛ فاقرر عيني من عبادتك" (¬1). وهذا مرسل. وخرج ابن أبي الدُّنْيَا أيضاً من رواية أبي بردة قال: "صليت إِلَى جنب ابن عمر فسمعته حين يسجد يقول: اللهم اجعل حبك أَحَبّ الأشياء إلي، وخوفك أخوف الأشياء عندي" وخرّجه أبو نعيم (¬2)، ولفظه: "اللهم اجعلك أَحَبّ الأشياء إِلَيَّ وأخشى عندي". وصح من رواية نافع عن ابن عمر "أنَّه كان يدعو عَلَى الصفا والمروة وفي مناسكه فيقول في دعائه: اللهم اجعلني ممن يحبك ويحب ملائكتك، ويحب رسلك، ويحب عبادك الصالحين، اللهم حببني إليك وإلى ملائكتك وإلى رسلك وإلى عبادك الصالحين" (¬3) في دعاء له كثير. وروى إبراهيم بن الجنيد في كتاب المحبة له بإسناد إِلَى أبي الزاهرية قال: "كان داود عليه السلام يقول: "اللهم اجعلني من أحبائك؛ فإنك إذا أحببت عبدًا غفرت ذنبه لأن كان عظيمًا وقبلت عمله وإن كان يسيرًا". وبإسناد عن صالح بن مسمار قال: "بلغنا أن الله -عز وجل- أرسل إِلَى سليمان بن داود -عليهما السلام- بعد موت أبيه داود ملكًا من الملائكة، فَقَالَ له الملك: إن ربي -عز وجل- أرسلني إليك لتسأله حاجة. قال سليمان: فإني أسأل ربي أن يجعل قلبي يحبه كما كان قلب أبي داود يحبه، وأسال الله -تعالى- أن يجعل قلبي يخشاه كما كان قلب أبي يخشاه. فَقَالَ الرب -تبارك وتعالى-: أرسلت إِلَى عبدي ليسألني حاجة فكانت حاجته أن أجعل قلبه يحبني وأجعل قلبه يخشاني، وعزتي لأكرمنه. فوهب له ملكًا لا ينبغي لأحد بعده؛ ثم قال: {هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (39) وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ} [ص: 39، 40]. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو نعيم في الحلية (8/ 282). (¬2) في الحلية (1/ 304). (¬3) أخرجه أبو نعيم في الحلية (1/ 388).

وعن سلام بن مسكين قال: سمعت الحسن يقول: "اللهم املأ قلوبنا إيمانا بك، ويقينا بك ومعرفة بك وتصديقًا لك وحبًّا لك، وشوقًا إِلَى لقائك". وعن عبد الواحد بن زيد "أنَّه كان يقول في دعائه: اللهم إني أسألك أركانًا قوية عَلَى عبادتك، وأسألك جوارح مسارعة إِلَى طاعتك، وأسألك هممًا متعلقة بمحبتك". وعن مرثد بن أبي عامر عن الحسن بن علي "أنَّه كان يقول في دعائه: اللهم ارزقني محبة لك تقطع بها عني محبات الدُّنْيَا ولذاتها، وارزقني محبة لك تجمع لي بها خير الآخرة ونعيمها، اللهم اجعل محبتك آثر الأشياء عندي وأقرها لعيني واجعلني أحبك حب الراغبين في محبتك، حبًّا لا يخالطه حب هوى أعلى منه في صدري، ولا أكثر منه في نفسي حتى يشتغل قلبي به عن السرور بغيره، حتى يكمل لي به عندك الثواب غدًا في أعلى منازل المحبين لك يا كريم" قال: وكان من خيار أهل البيت، وكان يدعو بهذا الدعاء في آخر كلامه ويبكي. وعن عقبة بن فضالة قال: "كان أبو عبيدة الخواص يقول في دعائه بعد ما كبر: اللهم ارزقني حبًّا لك، وحبًّا لطاعتك، وحبًّا لمطيعك، وحبًّا لأوليائك، وحبًّا لأهل محبتك وخدمتك، اللهم ارزقني حبًّا ترفعني به عندك في أعلى درجات العلى في منازل المحبين لك". قال: وكان يبكي حتى يكاد يهمد وكان قد كبر جدًّا. وعن أبي صخر، عن محمد بن كعب القرظي "أن عمر بن عبد العزيز أرسل يومًا إِلَيْهِ -وعمر أمير المدينة يومئذ- فَقَالَ: يا أبا حمزة، إنه أسهرتني البارحة آية قال محمد: وما هي أيها الأمير؟ فَقَالَ: قول الله -عز وجل-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ} قال محمد: إِنَّمَا عنى الله -عز وجل- {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} الولاة من قريش {مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ} عن الحق {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} وهم أهل اليمن. قال عمر: يا ليتني وإياك منهم! قال: آمين".

وروى ابن أبي الدُّنْيَا بإسناده عن سعيد بن صدقة أبي مهلهل قال: "أتاني آت في منامي فَقَالَ: أتحب الله؟ قلت: أي والله الَّذِي لا إله غيره، إني لأحبه وأحب طاعته. قال: أفلا تناديه نداء أوليائه؟ قلت: وما هو؟ قال: قل: نبهني إلهي للخطر العظيم من محبتك يا باري النسم". قال أحمد بن أبي الحواري: حدثنا أبو قرة، حدثنا حميد بن قائد قال: كان بعض التابعين يقول: "إلهي أعطيتني من غير أن أسألك؛ فكيف تحرمني وأنا أسألك، اللهم إني أسألك أن تسكن عظمتك في قلبي وأن تسقيني شربة من كأس حبك". قال أحمد: وحدثنا جعفر بن محمد، عن أبيه قال: "كان من دعاء مريم أم عيسى -عليهما السلام- اللهم املأ قلبي بك فرحًا وغش وجهي منك الحياء". وكان من دعاء بعض التابعين "اللهم أعمت قلبي بخوفك وخشيتك، وأحيه بحبك وذكرك". ***

الباب الثالث في بيان الأسباب التي تستجلب بها محبة رب الأرباب

الباب الثالث في بيان الأسباب التي تستجلب بها محبة رب الأرباب فمن ذلك معرفة نعمة الله علي عباده، وقد جبلت القلوب علي حب من أحسن إليها. وهذا الكلام مروي عن ابن مسعود. ورُوي عنه مرفوعًا ولا يصح (¬1). قال بعضهم: "إذا كانت القلوب جبلت عَلَى حب من أحسن إليها فوا عجبًا لمن لا يري محسنًا غير الله -عز وجل- كيف لا يميل بكُلِّيته إِلَيْهِ". وقال بعض السَّلف: "ذكر النعيم يورث الحب لله -عز وجل". قال الفضيل: "أوحى الله إِلَى داود -عليه السلام-: أحبني وأحب من يحبني وحببني إِلَى عبادي. قال: يا رب، هذا أحبك وأحب من يحبك، فكيف أحببك إِلَى عبادك؟! قال: تذكرني ولا تذكر مني إلا حسنًا". ¬

_ (¬1) أخرجه ابن عدي في الكامل (2/ 286 - 287)، والبيهقي في "الشعب" (8984) وأبو نعيم في الحلية (4/ 121)، والخطيب في تاريخه (7/ 346 - 347) وغيرهم. قال ابن عدي: وهذا لم أكتبه مرفوعًا إلا من هذا الوجه، وهو معروف عن الأعمش موقوفًا ... ثم ذكره موقوفًا. ونقل هذه العبارة البيهقي في الشعب عن ابن عدي. وقال أبو نعيم: غريب من حديث الأعمش عن خيثمة، لم نكتبه إلا من هذا الوجه. وأخرجه البيهقي في "الشعب" (4983) مرقوفًا عَلَى ابن مسعود وقال: هذا هو المحفوظ موقوف. وحكم عليه الشيخ الألباني بالوضع مرفوعًا وموقوفًا في الضعيفة (600).

ويروى عن كعب قال: "أوحى الله -عز وجل- إِلَى موسى- عليه السلام-: أتحب أن تحبك أحبتي وملائكتي وما ذرأت من الجن والإنس؟ قال: نعم يا رب. قال: ذكرهم آلائي ونعمائي؛ فإنهم لا يذكرون مني إلا كل حسنة". وعن أبي عبد الله الجدلي قال: "أوحى الله -عز وجل- إِلَى داود -عليه السلام- يا داود، أحبني وأحب من يحبني وحببني إِلَى الناس؟ قال: يا رب، أحبك وأحب من يحبك؛ فكيف أحببك إِلَى الناس؟ قال: تذكرهم آلائي ونعمائي فلا يذكرون مني إلا حسنًا". ويروى عن ابن عباس. عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "أحبوا الله لما يغذوكم من نعمة، وأحبوني لحب الله وأحبوا أهل بيتي لحبي". وهذا الحديث موجود في بعض نسخ كتاب الترمذي (¬1). والحب عَلَى النعم من جملة شكر المنعم وهو واجب عَلَى من أنعم عليه، ولهذا يقال: إن الشر يكون بالقلب واللسان والجوارح. ومن الأسباب أيضاً: معرفة الله -تعالى-: قال الحسن بن أبي جعفر: سمعت عتبة الغلام يقول: "من عرف الله - تعالى- أحبه، ومن أَحَبّ الله أطاعه، ومن أسكنه في جواره فطوباه وطوباه وطوباه". قال فلم يزل يقول: "وطوباه، وطوباه" حتى خر ساقطًا مغشيًا عليه. خرجه إبراهيم بن الجنيد. وقال بديل بن ميسرة: "من عرف ربه أحبه، ومن عرف الدُّنْيَا زهد فيها". خرجه الإمام أحمد وغيره. ¬

_ (¬1) برقم (3789) وقال: هذا حديث حسن غريب، إنما نعرفه من هذا الوجه.

ومن أعظم أسباب المعرفة الخاصة: التفكر في ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله من شيء. قال الجوزجاني: حدثني صاحب لي عن جعفر بن سليمان قال: "كنا نكون عند مالك بن دينار عشية جمعة، فكان يجيء خليفة العبدي بعد العصر فيأخذ بعضادتي الباب فيقول: يا أبا يحيى، عليك السلام، يا أبا يحيى، لو أن الله - تعالى- لم يعبد إلا عن رؤية ما عبده أحد، لأنه عز وجل لا تدركه الأبصار ولكن المؤمنون تفكروا في مجيء هذا الليل إذا جاء فطبق كل شيء وملأ كل شيء، ومجيء سلطان النهار وتفكروا في مجيء النهار إذا جاء فملأ كل شيء وطبق كل شيء، ومجيء سلطان الليل، وتفكروا في السحاب المسخر بين السماء والأرض، وتفكروا في الفلك التى تجري في البحر بما ينفع الناس، وتفكروا في مجيء الشتاء والصيف، فوالله ما زال المؤمنون يتفكرون فيما خلق لهم ربهم حتى أيقنت قلوبهم، وحتى كأنما عبدوا الله عن رؤية". وكان شميط بن عجلان يقول: "دلنا ربنا عَلَى نفسه في هذه الآية: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ ... } الآية [الأعراف: 54، ويونس: 3]. وفي القرآن شيء كثير من التذكير بآيات الله الدالة عَلَى عظمته وقدرته وجلاله وكماله وكبريائه ورأفته ورحمته وبطشه وقهره وقدرته وانتقامه، غير ذلك من صفاته العلى وأسمائه الحسنى والندب إِلَى التفكر في مصنوعاته الدالة علي كماله، فإن القلوب مفطورة عَلَى محبة الكمال، ولا كمال عَلَى الحقيقة إلا له سبحانه وتعالى، ولهذا كان السَّلف يفضلون التفكر عَلَى نوافل البدن. ورُوي ذلك عن الحسن وابن المسيب. قال عمر بن عبد العزيز: "الفكر في نعم الله أفضل العبادة". وقال عبد الله بن محمد التيمي: "أفضل النوافل طول الفكرة". وكان أكثر عمل أبي الدرداء الاعتبار والتفكر.

وكلام الإمام أحمد يدل عَلَى مثل هذا أيضاً. وقال ذو النون: تناول المعرفة بثلاث: "بالنظر في الأمور كيف دبرها، وفي المقادير كيف قدرها، وفي الخلائق كيف خلقها". "وسئل أبو سليمان الداراني: بأي شيء تنال معرفة الله؟ قال: بطاعته. قيل: فبأي شيء تنال طاعته؟ قال: به". فكلما قويت معرفة العبد بالله قويت محبته له ومحبته لطاعته، وحصلت له لذة العبادة من الذكر وغيره عَلَى قدر ذلك. وقد روى ابن أبي الدُّنْيَا بإسناده عن ابن عمر- رضي الله عنهما- قال: "أخبرني أهل الكتاب أن هذه الأمة تحب الذكر كما تحب الحمامة وكرها، ولهم أسرع إِلَى ذكر الله من الإبل إِلَى وردها يوم ظمئها". وعن مالك بن دينار قال: "ما تلذذ المتلذذون بمثل ذكر الله -عز وجل". وعنه قال: "قرأت في التوراة: أيها الصديقون تنعموا بذكري في الدُّنْيَا؛ فإنَّه لكم في الدُّنْيَا نعيم وفي الآخرة جزاء". وقال محمد بن كعب القرظي: "وجدت في بعض الحكمة: أيها الصديقون، افرحوا بي وتنعموا بذكري". وقال مسلم أبو عبد الله: "ما تلذذ المتقون بشيء في صدورهم ألذ من حب الله -عز وجل- ومحبة أهل ذكره". وقال أحمد بن غسان: "قرأت في زبور داود -عليه السلام-: أحبوا الله يا صِدِّيقيه، افرحو أيها الصديقون بالله وتنعموا بذكره". وقال أحمد بن أبي الحواري عن أبي جعفر الرقي قال: "ما فرح أحد بغير الله إلا بالغفلة عن الله -عز وجل". قال وحدثنا محمود عمن أخبره قال: "رأيت بالبصرة رجلاً كثير الدواب قليل الطعم جيد البدن؛ فقلت له: أراك كثير الدوب قليل الطعم جيد البدن؟

قال: ذلك من فرحي بحب الله -عز وجل-، إذا ذكرت أنَّه ربي وأنا عبده لم يمنع أن يصلح". وقال الفضل الرقاشي: "والله لو جمع للعباد جميع لذات الدُّنْيَا بحذافيرها لكان امتهانهم أنفسهم لله بطاعته ألذ وأحلى عندهم من ذلك كله". وقال إبراهيم بن أدهم: "أعلى الدرجات: أن يكون ذكر الله عندك أحلى من العسل، وأشهى من الماء العذب الصافي عند العطشان في اليوم الصائف". وقال زبيد اليامي: "إن لله عبادًا ذكروه فخرجت نفوسهم به إعظامًا واشتياقًا، وقومًا ذكروه فوجلت قلوبهم فرقًا وهيبة له، فلو أحرقوا بالنار لم يجدوا مس النار، وآخرون ذكروه في الشتاء وبرده فارفضوا عرقًا من خوفه، وقومًا ذكروه فحالت ألوانهم غبرًا، وقومًا ذكروه فجفت أعينهم سهرًا". "وكان أبو حفص النيسابوري إذا ذكر الله تغيرت عليه حاله حتى كان يرى ذلك منه جميع من حضره، ففعل ذلك مرة فلما رجع قال: ما أبعد ذكرنا من ذكر المحققين، فما أظن محققًا يذكر الله من غير غفلة ثم يبقى بعد ذلك حيًّا إلا الأنبياء؛ فإنهم أيدوا بقوة النبوة، وخواص الأولياء بقوة ولايتهم، ومع ذلك كله فلو كشف الغطاء لتبين أن الأمر أعظم وأعظم. ولهذا يقول أهل الجنة إذا كشفت لهم الحجب ورأوه معاينة قالوا: سبحانك، ما عبدناك حق عبادتك" (¬1). وفي حديث آخر: «إِنَّ لِلَّهِ مَلَائِكَةً فِي السَّمَاءِ قِيَامًا إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ تَرْعَدُ فَرَائِصُهُمْ مِنْ مَخَافَتِهِ، مَا مِنْهُمْ مَلَكٌ تَقْطُرُ مِنْ عَيْنَيْهِ دَمْعَةٌ إِلَّا وَقَعَتْ عَلَى مَلَك يُسَبِّحُ، وَلِلَّهِ مَلَائِكَةً سُجُودًا مُنْذُ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَمْ يَرْفَعُوا رُءُوسَهُمْ وَلَا يَرْفَعُونَهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَصُفُوفًا لَمْ يَتَفَرَّقُوا عَنْ مَقَامِهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ فَإِذَا ¬

_ (¬1) أخرج نحوه محمد بن نصر المروزي في "تعظيم "قدر الصلاة" (256) مطولاً من حديث عمر مرفوعًا من قول الملائكة. قال ابن كثير في تفسيره (14/ 188ط - أولاد شيخ): هذا حديث غريب جدًّا؛ بل منكر نكارة شديدة ... والعجب من الإمام محمد بن نصر، كيف رواه ولم يتكلم عليه، ولا عَرَّف بحاله، ولا تعرض لضعف بعض رجاله؟ غير أنَّه رواه من وجه آخر عن سعيد بن جبير مرسلاً بنحوه. ومن طريق أخرى عن الحسن البصري مرسلاً قريبًا منه.

كان يوم القيامة تجلى لهم ربهم -عز وجل- فينظرون إِلَيْهِ تبارك وتعالى، فقالوا: سبحانك ما عبدناك كما ينبغي لك". خرجه ابن أبي الدُّنْيَا (¬1) والأجري (¬2) مرفوعًا. ورُوي نحوه من وجه آخر مرسلاً (¬3)؛ ورُوي عن عبد الله بن عمرو مرفوعًا (¬4) نحوه أيضاً. وفي الصحيحين (¬5) عن أبي هريرة، عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال "إنَّ لِلَّهِ مَلَائِكَةً يَطُوفُونَ فِي الطُّرُقِ يَلْتَمِسُونَ أَهْلَ الذِّكْرِ؛ فَإِذَا وَجَدُوا قَوْمًا يَذْكُرُونَ اللَّهَ -عزَّ وَجَلَّ- تَنَادَوْا: هَلُمُّوا إِلَى حَاجَتِكُمْ. قَالَ: فَيَحُفُّونَهُمْ بِأَجْنِحَتِهِمْ إِلَى السَّمَاءِ، قَالَ: فَيَسْأَلُهُمْ رَبُّهُمْ -وَهُوَ أَعْلَمُ مِنْهُمْ-: مَا يَقُولُ عِبَادِي؟ قَالَ يَقُولُونَ: يُسَبِّحُونَكَ وَيُكَبِّرُونَكَ وَيَحْمَدُونَكَ وَيُمَجِّدُونَكَ، قَالَ يَقُولُونَ: لَوْ رَأَوْكَ كَانُوا أَشَدَّ لَكَ عِبَادَةً وَأَشَدَّ لَكَ تَمْجِيدًا وَتَحْمِيدًا، وَأَكْثَرَ لَكَ تَسْبِيحًا ... " وذكر بقية الحديث، وإذا كان مخلوق يقول في مخلوق: وكنت أرى أن قد تناها بي الهوى ... إِلَى غاية ما فرقها لي مطلب فلما تلاقينا وعاينت حسنها ... تيقنت أني إنما كنت ألعب فكيف بالخالق الملك الحق العظيم الَّذِي لا يُقَدَّرُ حق قدره، ولا يحيط خلقه به علماً، ولا يحصون ثناء عليه، وهو كما أثنى عَلَى نفسه؟!. ¬

_ (¬1) في الرقة والبكاء (105). (¬2) وأخرجه أبو الشيخ في العظمة (515)، والمروزي في تعظيم قدر الصلاة (260). قال ابن كثير (14/ 189): إسناده لا بأس به. (¬3) أخرجه المروزي في تعظيم قدر الصلاة (258) من طريق الحسن عن عمر مرفوعًا، وهو مرسل فالحسن لم يدرك عمر. (¬4) أخرجه البيهقي في "الرؤية" كما في "الحاوي" (ص 199 - 200) موقوفًا عَلَى عبد الله بن عمرو. (¬5) أخرجه البخاري (6408)، ومسلم (2689).

فصل "الأسباب الجالبة لمحبة الله"

فصل "الأسباب الجالبة لمحبة الله" ومن الأسباب الجالبة لمحبة الله -عز وجل- معاملة الله بالصدق والإخلاص ومخالفة الهوى، فإن ذلك سبب لفضل الله عَلَى عبده وأن يمنحه محبته. قال بشر الحافي: قال فتح الموصلي: "من أدام النظر بقلبه ورثه ذلك الفرح بالمحبوب، ومن آثره عَلَى هواه، ورثه ذلك حبه إياه، ومن اشتاق إِلَيْهِ وزهد فيما سواه ورعى حقه وخافه بالغيب، ورثه ذلك النظر إِلَى وجهه الكريم". خرجه أبو نعيم وغيره. ويقال: إن سرى السقطي -رحمه الله تعالى- كان له دكان فاحترق السوق الَّذِي فيه دكانه ولم يحترق دكانه، فأخبر بذلك فَقَالَ: "الحمد لله. ثم تفكر في ذلك فرأى أنَّه قد سر بعطب الناس وسلامته، فتصدق بما في دكانه، فشكر الله له ذلك ورقاه إلى درجة المحبة، وسئل مرة عن حاله فأنشد: من لم يبت والحب حشو فؤاده ... لم يدر كيف تفتت الأكباد وبلغ من أمره "أنَّه لما مرض رفع ماؤه إِلَى الطبيب، فلما رآه الطبيب قال: هذا عاشق! فصعق حامل الماء وغشي عليه. ونظروا إِلَى جسده مرة وكان سقيمًا مضنيًا، فَقَالَ: لو شئت أن أقول هذا كله من محبته لقلت". "وسئل المرتعش: بم تنال المحبة؟ قال: بموالاة أولياء الله -عز وجل- ومعاداة أعدائه وأصله الموافقة". ومن أعظم ما تستجلب به المحبة: كثرة الذكر مع الحضور. وقال ذو النون: "من شغل قلبه ولسانه بالذكر قذف الله في قلبه الاشتياق إِلَيْهِ". وقال إبراهيم بن الجنيد: "كان يقال: من علامة المحبة لله: دوام الذكر

بالقلب واللسان، وقل ما ولع المرء بذكر الله -عز وجل- إلا أفاد منه حب الله- جل جلاله". ومما يستجلب به المحبة تلاوة القرآن بالتدبر والتفكر، ولا سيما الآيات المتضمنة للأسماء والصفات والأفعال الباهرات، ومحبة ذلك يستوجب به العبد محبة الله ومحبة الله له. وفي الصحيحين (¬1) عن أنس "أن رجلاً كان يصلي بهم ويختم قراءته {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} فأمر النبي صلّى الله عليه وسلم أن يسأل عن ذلك، فَقَالَ إنها صفة الرحمن وأنا أَحَبّ أن أقرأها؟ فَقَالَ - صلى الله عليه وسلم -: أخبروه أن الله يحبه". ومن أسباب المحبة نذكر ما ورد في الكتاب والسنة من رؤية أهل الجنة لربهم وزيارتهم له واجتماعهم يوم المزيد، فإن ذلك تستجلب به المحبة الخالصة. وقد أشار إِلَى ذلك الحسن قال دلهم عن الحسن: "أوصيكم بتقوى الله -عز وجل- وإدمان التفكر، فإنَّه مفتاح خلال الخير كله، وبه يخص الله كل موفق، واعلموا أن خير ما ظفرتم به مدرك من تفكر بخالصة الله وشرب بكأس حبه، وأن أحباء الله هم الذين ظفروا بطيب الحياة، وذاقو لذة نعيمها بما وصلوا إِلَيْهِ من مناجاة حبيبهم، وما وجدوا من حلاوة حبه في قلوبهم، ولا سيما إذا خطر عَلَى بال أحدهم، وذكر مشافهته وكشف ستور الحجب عنه في المقام الأمين والسرور الدائم وأراهم جلاله، وأسمعهم لذيذ منطقه، ورد عليهم جواب ما ناجوه به أيام حياتهم؛ إذ قلوبهم به مشغوفة، وإذ مودتهم إِلَيْهِ معطوفة وإذ هم له مأثورون وإليه منقطعون، فليبشر المصفون له ودهم بالمنظر العجيب بالحبيب، فوالله ما أراه يحل لعاقل، ولا يجمل به أن يستوعبه حب أحد سوى حب الله - عز وجل". خرجه ابن أبي الدنيا وغيره. ¬

_ (¬1) أورده البخاري (774) تعليقًا من حديث أنس. والذي في الصحيحين: رواية عائشة عند البخاري (7375)، ومسلم (813).

الباب الرابع في علامات المحبة الصادقة

الباب الرابع في علامات المحبة الصادقة من التزام طاعة الله -تعالى- والجهاد في سبيله واستحلاء الملامة في ذلك واتباع رسوله. قال الله -جل وعلا-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [المائدة: 54]. قال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران: 31]. فوصف الله -سبحانه- المحبين له بخمسة أوصاف: أحدها: الذلة عَلَى المؤمنين، والمراد لين الجانب وخفض الجناح والرأفة والرحمة للمؤمنين، كما قال تعالى لرسوله: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الشعراء: 215] ووصف أصحابه بمثل ذلك في قوله: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح: 29] وهذا يرجع إِلَى أن المحبين لله يحبون أحباءه ويعودون عليهم بالعطف والرأفة والرحمة، وقد سبق في الباب الأول بيان ذلك. الثاني: العزة عَلَى الكافرين، والمراد الشدة والغلظة عليهم، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} [التحريم: 9]. وهذا يرجع إِلَى أن المحبين له يبغضون أعداءه، وذلك من لوازم المحبة

الصادقة كما سبق تقريره أيضاً. الثالث: الجهاد في سبيل الله وهو مجاهدة أعدائه باليد واللسان، وذلك أيضاً من تمام معاداة أعداء الله الَّذِي تستلزمه المحبة، وأيضًا فالجهاد في سبيل الله فيه دعاء الخلق إِلَى الله وردهم إِلَى بابه بالقهر لهم والغلبة، كما قال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران: 110]. قال مجاهد وغيره: يعني: كنتم خير الناس للناس، فخير الناس للناس أنفعهم لهم، ولا نفع أعظم من الدعاء إِلَى التوحيد والطاعة والنهي عن الشرك والمعصية. "وسئل الحسن البصري عن رجل له أم فاجرة فَقَالَ: يقيدها؛ فما وصلها بشيء أعظم من أن يكفها عن معاصي الله -تعالى". قال إبراهيم بن أدهم: "سمعت رجلين من الزهاد يقول أحدهما للآخر يا أخي، ما ورث أهل المحبة محبتهم؟ قال: فأجابه الآخر: ورثوا النظر بنور الله والعطف عَلَى أهل معاصي الله. قال: فقلت له: كيف يعطف عَلَى قوم قد خالفوا أمر محبوبهم؛ فَقَالَ: مقت أعمالهم وعطف عليهم ليزيلهم بالمواعظ عن فعالهم وأشفق عَلَى أبدانهم من النار. لا يكون المؤمن مؤمنًا حقًّا حتى يرضى للناس ما يرضاه لنفسه". الرابع: أنهم لا يخافون لومة لائم، والمراد أنهم يجتهدون فيما يرضى به من الأعمال ولا يبالون بلومة من لامهم في شيء منه إذا كان فيه رضا ربهم. وهذا من علامات المحبة الصادقة، وإن المحب يشتغل بما يرضي به حبيبه ومولاه، ويستوي عنده من حمده في ذلك أو لامه، وفي هذا المعنى يقول بعضهم:

وقف الهوى بي حيث أنت فليس لي ... متأخر عنه ولا متقدم أجد الملامة في هواك لذيذة ... حبًّا لذكرك فليلمني اللوم الخامس: متابعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وهو طاعته واتباعه في أمره ونهيه. قال مبارك بن فضالة عن الحسن: "كان ناس عَلَى عهد النبي صلّى الله عليه وسلم يَقُولُونَ: يا رسول الله، إنا نحب ربنا حبًّا شديدًا. فأحب الله أن يجعل لحبه علمًا، فأنزل الله -تبارك وتعالى-: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران: 31]. وقد قرن الله بين محبة رسوله في قوله تعالى: {أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} [التوبة: 24] وكذلك ورد في السنة في أحاديث كثيرة جدًّا سبق ذكر بعضها، والمراد أن الله تعالى لا توصل إِلَيْهِ إلا من طريق رسوله - صلى الله عليه وسلم - باتباعه وطاعته. كما قال الجنيد وغيره من العارفين: "الطرق إِلَى الله مسدودة إلا من اقتفى أثر الرسول - صلى الله عليه وسلم -". وكلام أئمة العارفين في هذا الباب كثير جداً. قال إبراهيم بن الجنيد: "يقال علامة المحب عَلَى صدق الحب ست خصال: أحدها: دوام الذكر بقلبه بالسرور بمولاه. والثانية: إيثاره محبة سيده عَلَى محبة نفسه ومحبة الخلائق، يبدأ بمحبة مولاه قبل محبة نفسه ومحبة الخلائق. والثالثة: الأنس به، والاستثقال لكل قاطع يقطع عنه أو شاغل يشغله عنه. والرابعة: الشوق إِلَى لقائه والنظر إِلَى وجهه. الخامسة: الرضا عنه في كل شديدة وضر ينزل به.

والسادسة: اتباع رسوله - صلى الله عليه وسلم -. ومحبة الرسول - صلى الله عليه وسلم - عَلَى درجتين: إحداهما فرض: وهي المحبة التي تقتضي قبول ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - من عند الله وتلقيه بالمحبة والرضا والتعظيم والتسليم، وعدم طلب الهدى من غير طريقه بالكلية، ثم حسن الاتباع له فيما بلغه عن ربه من تصديقه في كل ما أخبر به، وطاعته فيما أمر به من الواجبات، والانتهاء عما نهي عنه من المحرمات، ونصرة دينه والجهاد لمن خالفه بحسب القدرة. فهذا القدر لا بد منه ولا يتم الإيمان بدونه. والدرجة الثانية فضل، وهي المحبة التي تقتضي حسن التأسي به، وتحقيق الاقتداء بسنته في أخلاقه وآدابه ونوافله وتطوعاته وأكله وشربه ولباسه وحسن معاشرته لأزواجه، وغير ذلك من آدابه الكاملة وأخلاقه الطاهرة، والاعتناء بمعرفة سيرته وأيامه واهتزاز القلب عند ذكره، وكثرة الصلاة عليه لما سكن في القلب من محبته وتوقيره ومحبة استماع كلامه، وإيثاره عَلَى كلام غيره من المخلوقين. ومن أعظم ذلك الاقتداء به في زهده في الدُّنْيَا والاجتزاء باليسير منها ورغبته في الآخرة. قال سهل التستري: من علامات حب الله: حب القرآن وعلامة حب الله وحب القرآن وحب النبي صلّى الله عليه وسلم وعلامة حب النبي صلّى الله عليه وسلم: حب السنة، وعلامة حب السنة: حب الآخرة، ومن علامة حب الآخرة: بغض الدُّنْيَا، وعلامة بغض الدُّنْيَا أن لا يأخذ منها إلا زادًا يبلغه إِلَى الآخرة. ***

فصل "بعض الآثار عن الحب"

فصل "بعض الآثار عن الحب" وقد ذكرنا في الباب الأول أن محبة الله -عز وجل- الواجبة تقتضي محبة ما أوجب من الطاعات وامتثالها، وكراهة ما كرهه من المحرمات واجتنابها، وأن محبته المستحبة تقتضي محبة التقرب إِلَيْهِ بالنوافل والورع عن دقائق المكروهات، والمحبة الواجبة تقتضي أيضاً مخالفة الهوى، وإيثار ما يحبه ويرضاه عَلَى ما تشتهيه الأنفس وتهواه، فإذا تمكنت المحبة في القلب، وامتلأ القلب منها أخرجت من القلب محبة كل ما يكرهه الله فلم يبق في القلب سوى محبة الله ومحبة ما يحبه، فلم تنبعث الجوارح إلا إِلَى الطاعات التي تقتضي التقرب إِلَى الله، وصارت النفس حينئذ مطمئنة. إِلَى هذا الإشارة في الحديث الإلهي: "فَإِذَا أحببته كنت سمعه الَّذِي يسمع به، وبصره الَّذِي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها ... "، وقد سبق ذكره. وروى إبراهيم بن الجنيد بإسناده عن فرقد السبخي قال: "قرأت في بعض الكتب: من أَحَبّ الله -تعالى- لم يكن شيء عنده آثر من هواه، ومن أَحَبّ الدُّنْيَا لم يكن شيء عنده آثر من هوى نفسه". والمحبة منتهى القربة والاجتهاد، ولم يسأم المحبون من طول اجتهادهم لله - عز وجل- يحبونه ويحبون ذكره ويحببونه إِلَى خلقه، ويمشون بين عباده بالنصائح ويخافون عليهم من أعمالهم يوم تبدو الفضائح، وأولئك أولياء الله وأحباؤه وأهل صفوته، أولئك الذين لا راحة لهم دون لقائه. وعن ثور بن زيد قال: "نظر الله -عز وجل- إِلَى داود -عليه السلام- وهو وحداني منتبذ، فَقَالَ: مالك وحداني؟ قال: "عاديت الخلق فيك.

قال: أو ما علمت أن من محبتي أن تعطف عَلَى عبادي وتأخذ عليهم بالفضل؟ هنالك أكتبك من أوليائي ومن أحبائي؛ فإذا كنت كذلك كتبتك في ديوان أهل المحبة". وعن عبيد الله بن محمد التيمي قال: سمعتهم يذكرون عن بعض أولئك الفخام أنَّه قال: "إن العمل عَلَى المخالفة قد يغيره الرجاء، والعمل عَلَى المحبة لا يدخله الفتور". وعن عبد الله بن أبي نوح قال: "سمعت رجلاً من العباد يقول في كلامه: إذا سئم الباطلون من بطالتهم فلن يسأم محبوبك من مناجاتك وذكرك". وعن أبي جعفر المحبوبي قال: "ولي الله: المحب لله، لا يخلو قلبه من ذكر ربه، ولا يسأم من خدمته، فإذا أعرض أعرض عنه، وإذا أقبل إِلَى الله أقبل عليه برأفته ورحمته". وعن مسلم أبي عبد الله قال: "من أَحَبّ الله -عز وجل- آثر هوى الله- عز وجل- عَلَى هوى محبة نفسه، ومن خشي الله -تعالى- خرج من الدُّنْيَا بحسرات، والمؤمن من الله -عز وجل- بمنزلة كل خير بين خوف وشفقة وطاعة ومحبة". وعن الفضيل بن عياض قال: "الحب أفضل من الخوف، ألا ترى إذا كان لك عبدان أحدهما يحبك والآخر يخافك، فالذي يحبك منهما ينصحك شاهدًا كنت أو غائبًا لحبه إياك، والذي يخافك عسى أن ينصحك إذا شهدت لما يخاف، ويغشك إذا غبت ولم ينصحك". وعن سعيد بن عمر أن ابن زرارة قال: "سمعت كَلابَ بن جُرَي يقول لرجل من الطفاوة وهو يوصيه بطرائق البر، فَقَالَ له: وكن لربك ذا بر لتخدمه ... إن المحبين للأحباب خدام قال: فصاح الطفاوي صيحة، فخر مغشيًا عليه". وعن أبي عبد الرحمن المغازلي قال: "لا يعطى طريق المحبة غافل ولا ساه.

المحب لله -تعالى- طائر القلب، كثير الذكر، متسبب إِلَى رضوانه بكل سبيل يقدر عليه من الوسائل والنوافل دوبًا دوبًا، وشوقًا شوقًا". وعن محمد بن النضر الحارثي قال: "ما يكاد يمل القربة إِلَى الله -عز وجل - محب لله -عز وجل- ولا يكاد يسأم من ذلك". وقال محمد بن نعيم الموصلي: "إن القلب الَّذِي يحب الله يحب التعب والنصب لله، إنه لن ينال حب الله بالراحة". وذكر ابن أبي الدُّنْيَا بإسناده "أن رجل قال لبعض العارفين: أوصني. قال: افش فعل الخيرات، وتوصل إِلَى الله بالحسنات، فإني لم أر شيئًا قط أرضى للسيد مما يحب؛ فبادر في محبته يسرع في محبتك. ثم بكى فَقَالَ له: زدني رحمك الله. قال: الصبر عَلَى محبة الله وإرادته رأس كل بر -أو قال: كل خير". واجتمع أحمد بن أبي الحواري وقاسم الجوعي وجماعة من الصالحين بعد صلاة العتمة، وقد خرجوا من المسجد إِلَى بيت رجل قد دعاهم إِلَى طعام صنعه لهم، فأنشدهم رجل قبل دخول الباب: علامة صدق المستخصين بالحب ... بلغوهم المجهود في طاعة الرب وتحصيل طيب القوت من مجتنائه ... وإن كان ذاك القوت في مرتقى صعب فلم يزل يردده وهم قيام حتى أذن مؤذن الفجر ورجعوا إِلَى المسجد. وقد رُويت بيتان آخران مع هذين البيتين وهما: وإمساك سوء اللفظ عن وَلَهِ جنسهم ... وإن ظلموا فالعفو من ذاك بالخطب أولئك بالرحمن قرت عيونهم ... وحلوا من الإخلاص بالمنزل الرحب وقال نصر: "اجتمعنا ليلة عَلَى الساحل ومعنا مسلم أبو عبد الله، فَقَالَ رجل من الأزد: ما للمحب سوى إرادة حبه ... إن المحب بكل بر يضرع قال: فبكى مسلم حتى خشيت والله أن يموت". خرجه ابن أبي الدُّنْيَا.

الباب الخامس في استلذاذ المحبين بكلام محبوبهم وأنه غذاء قلوبهم وغاية مطلوبهم

الباب الخامس في استلذاذ المحبين بكلام محبوبهم وأنه غذاء قلوبهم وغاية مطلوبهم خرج ابن ماجه (¬1) والترمذي من رواية موسى بن عبيدة عن المقبري عن الأدرع السلمي قال: "كان رجل يقرأ قراءة عالية، فمات بالمدينة فحملوا نعشه، فَقَالَ النبي صلّى الله عليه وسلم: ارفقوا به رفق الله به، إنه كان يحب الله ورسوله. قال: وحضر حضرته فَقَالَ: أوسعوا له وسع الله عليه فَقَالَ بعض الصحابة: يا رسول الله، لقد حزنت عليه؟ قال: أجل، إنه كان يحب الله ورسوله". وروى أبو إسحاق، عن عبد الرحمن بن يزيد، عن ابن مسعود قال: "لا يسأل عبد عن نفسه إلا القرآن، فإن كان يحب القرآن فإنَّه يحب الله ورسوله". ورواه الحر بن مالك، عن شعبة، عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص، عن عبد الله مرفوعًا (¬2): "من سره أن يحب الله ورسوله فليقرأ في المصحف" والموقوف أصح (¬3). ¬

_ (¬1) برقم (1559) قال البوصيري في مصباح الزجاجة (1/ 508) ليس لأدرع السلمي هذا عند ابن ماجه سوى هذا الحديث، وليس له شيء فى الخمسة الأصول، وإسناد حديثه ضعيف؛ لضعف موسى بن عبيدة الربذي. (¬2) أخرجه ابن عدي في الكامل (2/ 449)؛ وأبو نعيم في الحلية (7/ 209)، والبيهقي في الشعب (2027). قال ابن عدي: وهذا لا يرويه عن شعبة غير الحر بهذا الإسناد، وللحر عن شعبة وعن غيره أحاديث ليست بالكثيرة، وأما هذا الحديث عن شعبة بهذا الإسناد فمنكر. وقال أبو نعيم في الحلية: غريب، تفرد به الحر بن مالك. وقال البيهقي: هكذا رُوي بهذا الإسناد مرفوعًا، وهو منكر، تفرد به أبو سهل الحر بن مالك عن شعبة. (¬3) أخرجه عبد الرزاق في "مصنفه" (5979)، وابن أبي شيبة في "مصنفه"=

ورويناه من طريق سلمة بن كهيل، عن عبد الرحمن بن يزيد، عن ابن مسعود قال: "من كان يحب أن يعلم أنَّه يحب الله -عز وجل- فليعرض نفسه عَلَى القرآن، فمن أَحَبّ القرآن فهو يحب الله -عز وجل- فإنما القرآن كلام الله -عز وجل". وقال أحمد بن أبي الحواري: سمعت ابن عيينة يقول: "لا تبلغون ذروة هذا الأمر حتى لا يكون شيء أَحَبّ إليكم من الله -عز وجل-، فمن أَحَبّ القرآن فقد أَحَبّ الله -عز وجل". قال أحمد بن أبي الحواري: سمعت محمد بن حفص يذكر عن عروة الرقي قال: "حب الله -عز وجل-: حب القرآن، وحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: العمل بسنته" وقال أبو سعيد الخراز: "من أَحَبّ الله- عز وجل- أَحَبّ كلامه ولم يشبع من تلاوته". وقال أبو طالب المكي: قال سهل بن عبد الله: "علامة حب الله: حب القرآن". قال: وروينا عن أبي تراب النخشبي هذه الأبيات: لا تخدعن فللمحب دلائل ... ولديه من تحف الحبيب وسائل منها تنعمه بمر بلائه ... وسروره في كل ما هو فاعل فالمنع منه عطية مقبولة ... والفقر إكرام وبر عاجل ومن الدلائل أن يرى من عزمه ... طوع الحبيب وإن ألح العاذل ومن الدلائل أن يرى متبسمًا ... والقلب فيه من الحبيب بلابل ومن الدلائل أن يرى متفهما ... لكلام من يحظى لديه السائل ¬

_ = (10/ 532)، والطبراني في الكبير (9/ 8687)، والبيهقي في "الشعب" (2028، 2029).

ومن الدلائل أن يرى متقشفا ... متحفظا في كل ما هو قائل وقال أبو طالب: حدثونا عن بعض المريدين قال: "وجدت حلاوة المناجاة في مر الإرادات، فأدمت عَلَى قراءة القرآن ليلا ونهارًا، ثم لحقني فترة فانقطعت عن التلاوة، فسمعت قائلا يقول في المنام: إن كنت تزعم حبي فلم جفوت كتابي؟ أما ترى إِلَى ما فيه من لطيف عتابي. قال: فانتبهت وقد أُشْرب قلبي محبة القرآن، فعاودت إِلَى حالي الأولى". ***

الباب السادس في أنس المحبين بالله وأنه ليس لهم مقصود من الدنيا والآخرة سواه

الباب السادس في أنس المحبين بالله وأنه ليس لهم مقصود من الدُّنْيَا والآخرة سواه ثبت في الصحيحين (¬1) والسنن (¬2) والمسانيد (¬3) من غير وجه أن "جبريل - عليه السلام- سأل النبي - صلى الله عليه وسلم- عن الإحسان، فَقَالَ النبي صلّى الله عليه وسلم: "الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنَّه يراك". وقال بعض العارفين من السَّلف: "من عمل لله عَلَى المشاهدة فهو عارف، ومن عمل عَلَى مشاهدة الله إياه فهو مخلص" فهذان مقامان: أحدهما: الإخلاص، وهو أن يعمل العبد عَلَى استحضار مشاهدة الله إياه واطلاعه عليه وقربه منه، فإذا استحضر العبد ذلك في عمله وعمل عَلَى هذا المقام فهو مخلص لله؛ لأنّ استحضاره ذلك يمنعه من الالتفات إِلَى غير الله وإرادته بالعمل. والثاني: المعرفة التي تستلزم المحبة الخالصة، وهو أن يعمل العبد عَلَى مشاهدة الله بقلبه، وهو أن يتنور قلبه بنور الإيمان وتنفذ بصيرته في العرفان حتى يصير الغيب عنده كالعيان، وهذا هو مقام الإحسان المشار إِلَيْهِ في حديث جبريل - عليه السلام- ويتفاوت أهل هذا المقام فيه بحسب قوة نفوذ البصائر. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (50، 4777)، ومسلم (1). (¬2) أخرجه أبو داود (4670)، والترمذي (2610) والنسائي (8/ 97) ابن ماجه (63). (¬3) أخرجه أحمد (1/ 27، 51، 319)، (2/ 107)، (2/ 426)، (4/ 129).

وقد فسر طائفة من العُلَمَاء المثل العلي المذكور في قوله تعالى: {وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الروم: 27] بهذا، ومثله قوله تعالى: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ} [النور: 35]. وقد فسرها أُبي بن كعب وغيره من السَّلف بأن المراد مثل نور الله في قلب المؤمنين. ومن هذا حديث حارثة المشهور لما قال النبي صلّى الله عليه وسلم "وكأني أنظر إِلَى عرش ربي بارزًا؛ وكأني أنظر إِلَى أهل الجنة يتزاورون فيها، إِلَى أهل النار يتعاوون فيها. فَقَالَ النبي صلّى الله عليه وسلم: "عرفت فالزم، عبد نَوَّر الله الإيمان في قلبه". وهذا الحديث مروي مرسلاً، ورُوي مسندًا متصلاً، لكن من وجوه ضعيفة (¬1). "وخطب عروة إِلَى ابن عمر ابنته وهما في الطواف فلم يجبه بشئ، ثم رآه بعد ذلك فاعتذر إِلَيْهِ. وقال: كنا في الطواف نتخايل الله بين أعيننا". خرجه أبو نعيم (¬2) وغيره (¬3). ويتولد من هذين المقامين للعارفين مقام الحياء من الله -عز جل-، وقد أشار النبي - صلى الله عليه وسلم - إِلَى ذلك في حديث بهز بن حكيم، عن أبيه، عن جده (¬4) "أنَّه سئل عن كشف العورة خاليًا، فَقَالَ: الله أحق أن يستحيا منه" وقد ندب النبي - صلى الله عليه وسلم - إِلَى دوام استحضار معية الله وقربه وإلى الحياء منه بذلك ¬

_ (¬1) تم تخريجه في موضع آخر من مجموع الرسائل. (¬2) في الحلية (1/ 309). (¬3) وأخرجه الفاكهي في "أخبار مكة" (339). (¬4) علقه البخاري (1/ 458). وأخرجه أبو داود (3998 - عون)، والترمذي (2919، 2946 - تحفة) وقال: حسن، إلا أن المزي نقل عنه في أحد الموضعين أنَّه قال: غريب كما في تحفة الأشراف (8/ 428).

في غير حديث، كما دل عليه قوله تعالى: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [الحديد: 4] وقوله تعالى: {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ ... } [يونس: 61]. وخرج البزار من حديث عبد الله بن معاوية الغاضري "أن رجلاً قال: يا رسول الله، ما تزكية المرء نفسه؟ قال: أن يعلم أن الله حيث كان معه". وخرج الطبراني (¬1) من حديث عبادة بن الصامت -رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "أفضل الإيمان أن تعلم أن الله معك حيث كنت" وبإسناد فيه نظر من حديث أبي أمامة -رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ثلاثة في ظل الله -تعالى- يوم لا ظل إلا ظله: رجل حيث توجه علم أن الله معه ... " (¬2) إلخ. ومن حديث سعيد بن يزيد الأزدي "أنَّه قال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: أوصني. قال: أوصيك أن تستحي من الله كما تستحي رجلاً صالحًا من صالحي قومك" (¬3). ورويناه بإسناد فيه ضعف من حديث أبي أمامة أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: "استح من الله استحياؤك من رجلين من صالحي عشيرتك هما معك لا يفارقانك" (¬4). ¬

_ (¬1) في الكبير، والأوسط (8796). وقال الطبراني: لم يرو هذا الحديث عن عروة بن رويم إلا محمد بن مهاجر، تفرد به عثمان بن كثير. قال الهيثمي في المجمع (1/ 60): رواه الطبراني في الأوسط وفي الكبير، وقال: تفرد به عثمان بن كثير. قلت: ولم أر من ذكره بثقة ولا جرح ا. هـ. وأخرجه أبو نعيم في الحلية (6/ 124) وقال: غريب من حديث عروة، لم نكتبه إلا من حديث محمد بن مهاجر. (¬2) أخرجه الطبراني في الكبير (8/ 7935). وقال الهيثمي في المجمع (10/ 279): وفيه بشر بن نمير، وهو متروك. (¬3) أخرجه أحمد في الزهد (248) والطبراني في "الكبير" (6/ 576). وقال الهيثمي في المجمع (10/ 284): ورجاله وثقوا على ضعف في بعضهم. (¬4) أخرجه ابن عدي في الكامل (2/ 136) وقال: وهذا الحديث بهذا الإسناد ليس=

في هذا المعنى يقول بعضهم: كأن رقيب منك يرعى خواطري ... وآخر يرعى ناظري ولساني فما أبصرت عيناي بعدك منظرًا ... لغيرك إلا قلت قد رمقاني ولا بدرت من في بعدك لفظة ... لغيرك إلا قلت قد سمعاني ولا خطرت من ذكر غيرك خطرة ... عَلَى القلب إلا عرجا بعناني إذا ما تسلى القاعدون عن الهوى ... بذكر فلان أو كلام فلان وجدت الَّذِي يسلى سواي يشوقني ... إِلَى قربكم حتى أمل مكاني وإخوان صدق قد سئمت لقاءهم ... وغضضت طرفي عنهمو ولساني وما البغض أسلى عنهمو غير أنني ... أراك عَلَى كل الجهات تراني ويتولد من ذلك أيضاً الأنس بالله والخلوة لمناجاته وذكره واستثقال ما يشغل عنه من مخالطة الناس والاشتغال بهم، وقد صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال: "إن أحدكم إذا كان يصلي فإنما يناجي رَبَّهُ أو رَبُّهُ بينه وبين القبلة" (¬1). وأنه قال: "إن الله قبل وجهه إذا صلى" (¬2). وفي حديث الحارث الأشعري عن النبي صلّى الله عليه وسلم: "أن الله تعالى ينصب وجهه لوجه عبده في صلاته ما لم يلتفت" (¬3) وفي حديث أبي هريرة (¬4) وأبي ¬

_ =يرويه غير صغدي، وإنَّما يروي هذا الحديث الليث بن سعد". وقال الألباني في الضعيفة (1500): وهذا إسناد واه جدًّا". (¬1) أخرجه البخاري (405) وفي مواضع أخرى، ومسلم (551) من حديث أنس. وأخرجه البخاري (416) من حديث أبي هريرة. (¬2) أخرجه البخاري (406) وفي مواضع أخري، ومسلم (547) من حديث ابن عمر. (¬3) أخرجه أحمد (4/ 130، 202)، والترمذي (3023، 3024 تحفة). قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح غريب. وقال في رقم (3024 تحفة): هذا حديث حسن غريب. بينما في السنن المطبوعة بتحقيق إبراهيم عطوة برقم (2864) قال: هذا حديث حسن صحيح غريب. (¬4) ذكره البخاري "معلقًا" (13/ 508) وأخرجه في خلق أفعال العباد (344).

الدرداء (¬1) عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: "يقول الله -عز وجل-: أنا مع عبدي إذا ذكرني وتحركت بي شفتاه". وصح من حيث أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "يَقُولُ -اللَّهُ تعالى-: أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِى بِي وَأَنَا مَعَهُ حَيْثُ يَذْكُرُنِي؛ فَإِنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِى نَفْسِي، وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي مَلإٍ ذَكَرْتُهُ فِي مَلإ خَيْرٍ مِنْهُمْ، وَإِنْ اقَتَرَبَ إِلَيَّ شِبْرًا اقْتَرَبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعًا، وَإِنْ اقْتَرَبْتُ إِلَيَّ ذِرَاعًا اقْتَرَبْتُ إِلَيْهِ بَاعًا، وَإِنْ أَتَانِي يَمْشِي أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً" (¬2). وروينا بإسناد فيه نظر عن أنس مرفوعًا: "إذا أَحَبّ أحدكم أن يحدث ربه فليقرأ" (¬3). وقال ثور بن يزيد: "قرأت في التوراة أن عيسى -عليه السلام- قال: يا معشر الحواريين، كلموا الله كثيرًا وكلموا الناس قليلاً. قالوا: كيف نكلم الله كثيرًا؟! قال: اخلوا بمناجاته، اخلوا بدعائه". خرجه أبو نعيم. والتوراة اسم جنس للكتب المتقدمة كلها وتسمى أيضاً إنجيلاً وقرآنًا. وخرج أيضاً بإسناد فيه ضعف عن رباح قال: "كان عندنا رجل يصلي كل يوم وليلة ألف ركعة حتى أقعد من رجليه، فكان يصلي جالسًا ألف ركعة، فإذا صلي العصر احتبى فاستقبل القبلة ويقول: عجبت للخليقة كيف أنست بسواك؟ بل عجبت للخليقة كيف استنارت قلوبها بذكر سواك؟! ". ¬

_ (¬1) أخرجه الحاكم (1/ 496) وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. (¬2) أخرجه البخاري (7505)، ومسلم (2675). (¬3) أخرجه الخطيب في "تاريخه" (7/ 239) ونقل العلامة الألباني في الضعيفة (1842) قول ابن عبد الهادي الحنبلي في "هداية الإنسان" (2/ 32/ 1): إسناده مظلم، ولا يثبت مرفوعًا. قال الألباني -رحمه الله-: ولا موقوفًا، فإنَّه لم يرد إلا من هذا الوجه الواهي. وحكم عَلَى الحديث بأنه ضعيف جدًّا.

وروينا من حديث أبي أسامة قال: "دخلت عَلَى محمد بن النضر الحارثي فرأيته كأنه ينقبض، فقلت: كأنك ترى تكره أن تؤتى؟ قال: أجل. قلت: أو ما تستوحش؟ قال: كيف أستوحش وهو يقول: أنا جليس من ذكرني؟!. وقال بكر المزني: "من مثلك يا ابن آدم، خلى بينك وبين المحراب والماء، كلما شئت دخلت عَلَى الله -عز وجل- ليس بينك وبينه ترجمان". خرجه عبد الله بن الإمام أحمد. وروى ابن أبي الدُّنْيَا بإسناده عن شميط بن عجلان قال: "إن الله وسم الدُّنْيَا بالوحشة ليكون أنس المنقطعين به". وعن حبيب أبي محمد "أنَّه كان يخلو في بيته ثم يقول: من لم تقر عينه بك فلا قرت، ومن لم يأنس بك فلا أنس". وعن زكريا بن عدي قال: "سمعت عابدًا باليمن يقول: سرور المؤمن ولذته في الخلوة بمناجاة سيده -عز وجل". وعن أحمد بن أبي الحواري قال: حدثني أبو عبد الرحمن الأزدي قال: "مررت برجل ببيروت مدلى الرجلين في البحر يكبر. فقلت: يا شاب، ما لك جالس وحدك؟ قال: اتق الله ولا تقل إلا حقا، ما كنت قط وحدي منذ ولدتني أمي، إن معي ربي -عز وجل- حيثما كنت، ومعي ملكان يحفظان علي، وشيطان ما يفارقني، فإذا عرضت لي حاجة إِلَى ربي سألته إياها بقلبي فجاءني بها". وعن إبرهيم بن أدهم قال: "اتَّخذ الله صاحبًا ودع الناس جانبًا". وعن عبد الواحد بن زيد قال: "كان أصحاب غزوان يَقُولُونَ له: ما يمنعك عن مجالسة إخوانك؟ فيبكي ويقول: إني أصبت راحة قلبي في مجالسة من لديه حاجتي".

وعن مسلم بن يسار قال: "ما تلذذ المتلذذون بمثل الخلوة بمناجاة الله عز وجل". وعن عبد العزيز بن سليمان الراسبي، وكانت رابعة تسميه: سيد العابدين "أنَّه قِيلَ لَهُ: ما بقي مما يتلذذ به؟ قال: سرداب أخلو بربي فيه". وعن مسلم العابد قال: "لولا الجماعة -يعني: الصلاة في الجماعة- ما خرجت من باب أبدًا حتى أموت. وقال: ما يجد المطيعون الله لذة في الدُّنْيَا أحلى من الخلوة بمناجاة سيدهم، ولا أَحَبّ لهم في الآخرة من عظيم الثواب كبر في صدورهم وألذ في قلوبهم من النظر إِلَى الله -عز وجل- ثم غشي عليه". وعن شعيب بن حرب قال: "دخلت عَلَى مالك بن مغول وهو جالس في بيته وحده، فقلت: ألا تستوحش؟ قال: أو يستوحش مع الله أحد؟! ". وعن يحيى بن سعيد قال: قال نصر بن يحيى بن أبي كثير -وكان من الحكماء: "لم نجد شيئًا أبلغ من الزهد في الدُّنْيَا من ثبات حرث الآخرة في قلب العبد، ومن ثبت ذلك في قلبه آنسه بالوحدة فأنس بها واستوحش من المخلوقين، فأول ما يهيج من حب الخلوة طلب العبد الإخلاص والصدق في جميع قوله وفعله فيما بينه وبين ربه، ويهيج منها الزهد في معرفة الناس والأنس بالله -تبارك وتعالى- ويهيج منها الوحشة من الناس والاستثقال لكلامهم والأنس بكلام رب العالمين". ويروى عن إبراهيم بن أدهم قال: "أعلى الدرجات أن تنقطع إِلَى ربك وتستأنس إِلَيْهِ بقلبك وعقلك وجميع جوارحك حتى لا ترجو إلا ريك ولا تخاف إلا ذنبك وترسخ محبته في قلبك حتى لا تؤثر شيئًا عليه؛ فإذا كنت كذلك لم تبال في بر كنت أو في بحر أو في سهل أو في جبل؛ وكان شوقك بلقاء الحبيب شوق الظمآن إِلَى الماء البارد، وشوق الجائع إِلَى الطعام الطيب، ويكن ذكر الله - عز وجل- عنك أحلى من العسل وأشهى من الماء العذب الصافي عن العطشان في

اليوم الصائف". وقال الفضيل: "طوبى لمن استوحش من الناس وكان الله أنيسه". وقال أبو سليمان: "لا آنسني الله -عز وجل- إلا به أبدًا". وقال رجل لمعروف الكرخي: "أوصني. قال: توكل عَلَى الله حتى يكون جليسك وأنيسك وموضع شكواك، وأكثر ذكر الموت حتى لا يكون لك جليس غيره، واعلم أن الشفاء لما نزل بك كتمانه، وأن الناس لا ينفعونك ولا يضرونك ولا يعطونك ولا يمنعونك". وقال سعيد بن عثمان: سمعت ذا النون يقول: "من علامات المحب لله: ترك كل ما يشغله عن الله حتى يكون الشغل بالله وحده. ثم قال: إن من علامات المحبين لله أن لا يأنسوا بسواه ولا يستوحشوا معه ثم قال: إذا سكن حب الله القلب أنس بالله؛ لأن الله أجل في صدور العارفين من أن يحبوا سواه". وكانت رابعة العدوية تنشد هذين البيتين: ولقد جعلتك في الفؤاد محدثي ... وأبحت جسمي من أراد جلوسي فالجسم مني للجليس مؤانس ... وحبيب قلبي في الفؤاد أنيسي ورؤي بعض العارفين يصلي في مكان وحده، فلما سلم قِيلَ لَهُ: "ما معك مؤنس؟ قال: بلى. قِيلَ لَهُ: أين هو؟ قال: أمامي وخلفي ومعي وعن يميني وعن شمالي وفوقي. قِيلَ لَهُ: معك زاد؟ قال: نعم: الإخلاص. قِيلَ لَهُ: أما تستوحش في وحدتك؟ قال: إن الأنس بالله قطع عني كل وحشة حتى لو كنت بين السباع ما خفتها". وقال بعض العارفين: "عجبت لمن عرف الطريق إِلَى الله كيف يعيش مع غيره، والله -تعالى- يقول: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ ... } الآية [الزمر: 54] ".

ولو استقصينا ما في هذا الباب من الأخبار والآثار لطال الكتاب جدًّا. ومن الأنس -بالله عز وجل- الأنس بكلامه وذكره والأنس بالعلم النافع الَّذِي بلغه رسوله - صلى الله عليه وسلم - عنه. وروى أبو نعيم بإسناده عن ذي النون قال: "الأنس بالله نور ساطع، والأنس بالناس غم واقع". "قيل لذي النون: ما الأنس بالله؟ قال: العِلْم والقرآن". ومن كلام الفضيل بن عياض: "كفى بالله محبًّا وبالقرآن مؤنسًا وبالموت واعظًا، اتخذ الله صاحبًا وح الناس جانبًا. وقال: "من لم يستأنس بالقرآن فلا أنس الله وحشته". وقد رُوي من حديث أنس مرفوعًا: "علامة حب الله: حُبُّ ذكره، وعلامة بغض الله بغضُ ذكره" (¬1) من طريقين غير صحيحين. وكان فتح الموصلي يقول: "المحب لله لا يجد مع حب لله -عز وجل- للدنيا لذة، ولا يغفل عن ذكر الله -عز وجل- طرفة عين". خرجه إبراهيم بن الجنيد. وخرج أيضاً بإسناده عن الربيع بن أنس عن بعض أصحابه قال: "علامة حب الله: كثرة ذكره، فإنك لن تحب شيئًا إلا أكثرت ذكره، وعلامة الدين: الإخلاص لله -عز وجل- وعلامة العِلْم خشية الله -عز وجل-، وعلامة الشكر: الرضا بقضاء الله -عز وجل- والتسليم للقدر". ومما ينشأ من معرفة الله -تعالى- ومحبته الاكتفاء به والاستغناء به عن خلقه. ومنه قول أحمد بن عاصم الأنطاكي: "من عرف الله -عز وجل- اكتفى ¬

_ (¬1) أخرجه البيهقي في "الشعب" (406) من حديث لأنس، قال البيهقي -رحمه الله-: ورُوي من وجه آخر عن زياد بن ميمون، وزياد منكر الحديث. ورُوي من وجه آخر ضعيف عن أنس بن مالك، والله أعلم.

به، ومن لم يعرفه اكتفى بخلقه دونه، فطال غمه وكثرت شكايته، ومن أَحَبّ -الله تعالى- لم يكن في قلبه فضلة لحب أحد؛ ولو أراد لم يترك". ومنه قول علي بن الكاتب: "إذا انقطع العبد إِلَى الله بالكلية فأول ما يفيده: الاستغناء به عمن سواه". ومنه قول بعض العارفين: "من لزم الباب أثبت في الخدم، ومن استغنى بالله أمن من العدم". وفي بعض الإسرائيليات يقول الله -عز وجل-: "ابن آدم، اطلبني تجدني، فإن وجدتني وجدت كل شيء، وإن فُتُّكَ فاتك كل شيء، وأنا أَحَبّ إليك من كل شيء". وأنشد أبو الحسن بن سيار الزاهد: تنقضي الدنيا وتفنى ... والفتى فيها مُعَنَّى ليس في الدنيا نعيم ... لا ولا عيش مهنا يا غنيا بالدنانير ... محب الله أغنى ولبعضهم: وكم كنت أخشى الفقر حتى وجدتكم ... فصرت أدل المفلسين عليكموا ***

فصل "هم العارفين رؤية ربهم"

فصل "هم العارفين رؤية ربهم" وهمم العارفين المحبين متعلقة من الآخرة برؤية الله، والنظر إِلَى وجهه في دار كرامته والقرب منه، وقد سبق قول مسلم العابد في ذلك. وقال عبد الواحد بن زيد عن الحسن: "لو علم العابدون أنهم لا يرون ربهم يوم القيامة لماتوا". وفي رواية عنه قال: "لذابت أنفسهم". وقال إبراهيم الصائغ: "ما سرني أن لي نصف الجنة بالرؤية. ثم تلا: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين: 15] " وخرّجه ابن أبي حاتم. وروى ابن منده بإسناده عن عبد الله بن وهب قال: "لو خيرت بين دخول الجنة والنظر إِلَى ربي -عز وجل- لاخترت النظر إِلَيْهِ سبحانه وتعالى". وقال غزوان الرقاشي في قوله تعالى: {وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} [ق: 35]. قال: "ما يسرني بحظي من المزيد الدُّنْيَا جميعها". خرجه الإمام أحمد -رحمه الله تعالى. وخرج أيضاً بإسناده عن حبيب أبي محمد قال: "لأن كون في صحراء ليس عَلَيَّ إلا ظلمة وأنا جار لربي -عز وجل- أَحَبّ إلي من جنتكم هذه" وقوله: من "جنتكم هذه" توبيخ لمن تعلق همته من العباد بأنواع نعيم الجنة المتعلق بالمخلوقات فيها مقتصرًا عَلَى ذلك. ولهذا كان أبو سليمان يقول: "الدُّنْيَا عند الله أقل من جناح بعوضة، فما قيمة جناح البعوضة حتى يزهد فيها؟ إِنَّمَا الزهد في الجنة والحور العين، وكل نعيم خلقه الله ويخلقه حتى لا يرى الله في قلبك غيره". وكان يقول: "أهل المعرفة دعاؤهم غير دعاء الناس، وهممهم من الآخرة

غير همم الناس". وسئل عن أقرب ما يتقرب به العبد إِلَى الله -عز وجل-؟ فبكى وقال: "مثلي يُسْألُ عن هذا؟! أفضل ما يتقرب به العبد إِلَى الله -عز وجل- أن يطلع عَلَى قلبك وأنت لا تريد من الدُّنْيَا والآخرة غيره". وقال: "لو لم يكن لأهل المعرفة إلا هذه الآية الواحدة لاكتفوا بها {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 22]. وقال: "أي شيء أراد أهل المعرفة؟ ما أرادوا كلهم إلا ما سأل موسى - عليه السلام". وذكر ابن أبي الدُّنْيَا بإسناده عن مسمع بن عاصم قال: اختلف العابدون عندنا في الولاية؛ فتكلموا في ذلك كلامًا كثيرًا، واجتمعوا عَلَى أن يأتوا امرأة من بني عدي يقال لها: أمة الجليل بنت عمرو، وكانت منقطعة جدًّا من طول الاجتهاد، فأتوا فعرضوا عليها اختلافهم وما قالوا، فقالت: ساعات الولي ساعات شغل عن الدُّنْيَا، ليس للولي المستحق في الدُّنْيَا من حاجة". ثم أقبلت عَلَى كلاب بن جري فقالت: من حدثك أو أخبرك أن وليه له هم غيره فلا تصدقه. قال مسمع: فما كنت أسمع إلا التصارخ من نواحي البيت". وروى إبراهيم ببن الجنيد، عن محمد بن الحسين قال: حدثني حكيم بن جعفر قال: قال ضيغم لكلاب: "إن حبه شغل قلوب مريديه عن التلذذ بمحبة غيره، فليس لهم مع حبه لذة تداني محبته ولا يكون في الآخرة من كرامة الثواب أكبر عندهم من النظر إِلَى وجهه). قال: فسقط كلاب عند ذلك مغشيا عليه". وروى بإسناده عن عبد العزيز بن سليمان العابد أنَّه كان يقول في كلامه: أنت أيها المحب، تزعم أن محبتك لله تحقيق، أما والله لو كنت كذلك لضاقت عليك الأرض برحبها حتى تصل إِلَى رضا حبيبك وإلى النظر إِلَى وجهه في دار كبريائه وعزه. قال: ولقد كان إذا أخد في هذا النعت سمعت التصارخ من نواحي المسجد".

"وقال حبيب الفارسي ليزيد الرقاشي: بأي شيء تقر عيون العابدين في الدُّنْيَا؟ وبأي شيء تقر عيونهم في الآخرة؟ فَقَالَ: أما الَّذِي تقر عيونهم به في الدُّنْيَا، فما أعلم [شيئًا] (¬1) أقر لعيون العابدين من التهجد في ظلمة الليل. وأما الَّذِي تقر أعينهم به في الآخرة، فما أعلم شيئًا من نعيم الجنان وسرورها ألذ عند العابدين ولا أقر لعيونهم من النظر إلي ذي الكبرياء العظيم إذا رفعت تلك الحجب وتجلى لهم الكريم فصاح حبيب عند ذلك صيحة وخر مغشيًا عليه". وكان علي بن الموفق كثيرًا ما يقول: "اللهم إن كنت تعلم أني أعبدك خوفًا من نارك فعذبني بها، وإن كنت تعلم أني أعبدك شوقًا إِلَى جنتك فاحرمنيها، وإن كنت تعلم أني إِنَّمَا أعبدك حبا مني لك وشوقًا إِلَى وجهك الكريم فأبحنيه واصنع بي ما شئت". وكانت رقبة الموصلية تقول: "إني لأحب ربي حبا شديدًا، فلو أمر بي إِلَى النار لما وجد للنار حرا مع حبه، ولو أمر بي إِلَى الجنة لما وجدت للجنة لذة مع حبه هو الغالب علي". وكانت تقول: "إلهي وسيدي ومولاي، لو أنك عذبتني بعذابك كله لكان ما فاتني من قربك أعظم عندى من العذاب، ولو نعمتني بنعيم الجنة كله، لكانت لذة حبك في قلبي أكبر". ومن كلام ذي النون: "ما طابت الدُّنْيَا إلا بذكره، ولا طابت الآخرة إلا بعفوه، ولا طابت الجنان إلا برؤيته". وقال أحمد بن أبي الحواري: حدثنا محمد بن يحيى الموصلي قال: سمعت نافعًا -وكان من عباد الجزيرة- يقول: "ليت ربي جعل ثوابي من عملي نظرة مني إِلَيْهِ، ثم يقول لي: يا نافع: كن ترابا". وفي هذا المعنى يقول القائل: حرمة الود مالي عنكمو عوض ... وليس لي في سواكم سادتي غرض ¬

_ (¬1) في "الأصل": شيء، والمثبت هو الصواب.

وقد شرطت عَلَى قوم صحبتهمو ... بأن قلبي بكم من دونهم فرضوا ومن حديثي بكم قالوا به مرض ... فقلت لا زال عني ذلك المرض وأنشد بعض العارفين: يا حبيب القلوب من لي سواكا ... ارحم اليوم مذنبا فد أتاكا أنت سؤلي ومنيتي وسروري ... قد أبى القلب أن يحب سواكا يا مرادي وسيدي واعتمادي ... طال شوقي متى يكون لقاكا ليس سؤلي من الجنان نعيم ... غير أني أريدها لأراكا ***

الباب السابع في سهر المحبين وخلوتهم بمناجاة مولاهم الملك الحق المبين

الباب السابع في سهر المحبين وخلوتهم بمناجاة مولاهم الملك الحق المبين قال الله -تعالى-: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا ... } [السجدة: 16]. وأشرف الطمع طمع أهل الجنة في رؤية مولاهم وقربه وجواره. وروى أبو نعيم بإسناده عن حسين بن زياد قال: "أخذ فضيل بن عياض بيدي فَقَالَ: يا حسين، ينزل الله -تعالى- كل ليلة إِلَى سماء الدُّنْيَا فيقول: كذب من ادعى محبتي؛ فَإِذَا جنه الليل نام عني، أليس كل حبيب يحب خلوة حبيبه، ها أنا ذا مطلع عَلَى أحبائي إذا جَنَّهم الليل مَثُلَتْ نفسي بين أعينهم، فخاطبوني عَلَى المشاهدة وكلموني عَلَى حضوري، غدًا أقر أعين أحبائي في جناني". ورُوي من وجه آخر، وفيه: "جعلت أبصارهم في قلوبهم، ومثلت نفسي بين أعينهم". وروى أبو نعيم بإسناده عن أحمد بن أبي الحواري قال: "دخلت عَلَى أبي سليمان فرأيته يبكي، فقلت: ما يبكيك؟ قال: ويحك يا أحمد؟ إذا جن الليل وخلال حبيب بحبيبه افترش أهل المحبة أقدامهم وجرت دموعهم عَلَى خدودهم وأشرف الجليل -جل جلاله- عليهم وقال: بعيني من تلذذ بكلامي واستروح إِلَى مناجاتي، وإني مطلع عليهم في خلواتهم، أسمع أنينهم وأرى بكاءهم وحنينهم، يا جبريل، ناد فيهم ما هذا الَّذِي أراه منكم؟ وهل خبركم مخبر أن حبيبًا يعذب أحبابه بالنار، بل كيف يجمل أن أعذب قومًا إذا جنهم الليل

تملقوني، فبي حلفت إذا وردوا القيامة عَلَيَّ أن أسفر لهم عن وجهي] (*) وأمنحهم رياض قدسي". ورويت هذه القصة من وجه آخر عن أحمد [بن أبي الحواري] (¬1) عن أبي سليمان، وفي أولها زيادة وهي: أن الله -تعالى- ينزل في كل ليلة إِلَى سماء الدُّنْيَا فيقول: كذب من ادعى محبتي، فإذا جنه الليل نام عني، كيف ينام (محب) (¬2) عن حبيبه؟ وأنا المطلع عليه، إذا قاموا جعلت أبصارهم في قلوبهم فكلموني عَلَى المخاطبة ... " وذكر الباقي بمعنى ما تقدم مختصراً. وروى "أبو نعيم" أيضاً بإسناده عن ذي النون أنَّه قال: "لو رأيت أحدهم وقد قام إِلَى صلاته وقراءته، فلما وقف في محرابه واستفتح كلام سيده خطر عَلَى قلبه أن ذلك المقام هو المقام الَّذِي يقوم الناس فيه لرب العالمين، فانخلع قلبه وذهل عقله، فقلوبهم في ملكوت السماوات معلقة، وأبدانهم بين يدي الخالق عارية، وهمومهم بالفكر دائمة. وبإسناده عن ذي النون أيضاً "أنَّه قال في وصفهم: يتلذذون بكلام الرحمن، ينوحون، به عَلَى أنفسهم نوح الحمام، فرحين في خلواتهم لا تفتر لهم جارحة في الخلوات، ولا تستريح لهم قدم تحت ستور الظلمات". ومن طريق إسحاق السلولي [قال] (2): حدثتني أم سعيد بن علقمة - وكانت طائية- قالت: "كان بيننا وبين داود الطائي جدار قصير، فكنت أسمع حنينه عامة الليل لا يهدأ (وكثيرًا ما) (¬3) سمعته يقول في جوف الليل: اللهم همك عطل عَلَيَّ الهموم، وخالف بيني وبين السهاد، وشوقي إِلَى النظر إليك أوثق مني اللذات وحال بيني وبين الشهوات، فأنا في سجنك أيها الكريم ¬

_ (*) إِلَى هنا انتهى السقط المشار إليه آنفًا من النسخة المخطوطة التي اعتمدت عليها في تحقيقي. (¬1) من المطبوع. (¬2) في المطبوع: حبيب. (¬3) في المطبوع: ولربما.

مطلوب". قالت: "وربما ترنم في السحر بشيء من القرآن" فأرى أن جميع نعيم الدُّنْيَا جمع في ترنمه تلك الساعة. قالت: وكان يكون في الدار وحده، وكان لا يصبح -أي: لا يسرج". وروى الحافظ أبو الفرج بإسناده عن الربيع قال: "بت أنا ومحمد بن المنكدر وثابت البناني عند ريحانة المجنونة (بالأُبُلَّةِ) (¬1) فقامت بالليل وهي تقول: قام المحب إِلَى المؤمل قومةً ... كاد الفواد من السرور يطير فلما كان جوف الليل سمعتها تقول أيضاً: لا تأنسن بمن توحشك نظرته ... فتمنعن من التذكار في الظلم واجهد وكد وكن في الليل ذا شجن ... يسقيك كأس وداد العز والكرم قال: ثم نادت: واحزناه! واسلباه!. فقلت: مم ذا؟! فقالت: ذهب الظلام بأنسه وبإلفه ... ليت الظلام بأنسه يتجدد". وروى ابن أبي الدُّنْيَا بإسناده عن مطرف بن أبي بكر الهذلي قال: "كانت عجوز في عبد القيس متعبدة (فإذا) (¬2) جاء الليل تحزمت ثم قامت إِلَى المحراب، وكانت تقول: المحب لا يسأم من خدمة حبيبه". وسئل بعض العارفين عن حاله، فأنشد: من لم يبت والحب حشو فؤاده ... لم يدر كيف تقت الأكباد وروينا من طريق الحسن بن علي بن يحيى بن سلام قال: "قيل ليحيى بن معاذ -يروي عن رجل من أهل الخير- وكان قد أدرك الأوزاعي وسفيان أنَّه سئل: متى تقع الفراسة عَلَى الغائب؟ قال: إذا كان محبًّا لما أَحَبّ الله، مبغضًا لما أبغض الله وقعت فراسته عَلَى الغائب. فَقَالَ يحيى: ¬

_ (¬1) في المطبوع: بالأيلة. (¬2) في المطبوع: فكانت إذا.

كل محبوب سوى الله سرف ... وهموم وغموم وأسف كل محبوب فمنه لي خلف ... ما خلا الرحمن ما منه خلف إن للحب دلالات إذا ... ظهرت من صاحب الحب عُرِف صاحب الحب حزين قلبه ... دائم الغصة (مهموم) (¬1) دَنِف همه في الله لا في غيره ... ذاهب العقل وبالله كلف أشعت الرأس خميص بطنه ... أصفر (الوجنة و) (¬2) الطرف ذرف دائم (التذكير) (¬3) من حب الَّذِي ... حبه غاية غايات الشرف فإذا أمعن في الحب له ... وعلاه الشوق (من داء) (¬4) كشف باشر المحراب يشكو بئسه ... وأمام الله مولاه وقف قائما قدامه منتصبًا ... لهجا يتلو بآيات الصحف راكعًا طورًا وطورًا ساجد ... باكيًا والدمع في الأرض يكف أورد القلب عَلَى (الحب) (¬5) الَّذِي ... فيه حب الله حقا فعرف ثم جالت كفه في شجر ... ينبت الحب (فسمى) (¬6) واقتطف إن ذا الحب لمن يعني به ... لا بدار ذات - لهو وطرف لا ولا الفردوس لا يألفها ... لا ولا الحوراء من فوق غرف وروى أبو موسى المديني بإسناده عن أبي محمد عبد الله بن عروة قال: أنشدني بعض الناس: ¬

_ (¬1) في المطبوع: "مغموم". (¬2) في المطبوع: "أصفر الوجه وفي". (¬3) في المطبوع: "التذكار". (¬4) في المطبوع: "مما قد". (¬5) في المطبوع: "حب". (¬6) في الأصل: "فيسمي"، وما أثبته من المطبوع.

تشاغل قوم بدنياهم ... وقوم تخلوا (بمولاهم) (¬1) فألزمهم باب مرضاته ... وعن سائر الخلق أغناهم فما يعرفون سوى حبه ... وطاعته طول محياهم يصفون بالليل أقدامهم ... وعين المهيمن ترعاهم فطورًا يناجونه سجدًا ... ويبكون طورًا خطاياهم إذا فكروا في الَّذِي أسلفوا ... أذاب القلوب وأبكاهم وإن يسكن الخوف لاذوا به ... وباحوا إِلَيْهِ بشكواهم وأصبحوا صيامًا عَلَى جهدهم ... تبارك من هو قواهم هم القوم أعطوا مليك الملو ... ك صدق القلوب فوالاهم هم المحبون بنياتهم ... أرادوا رضاه فأعطاهم وأسكنهم في فراديسه ... وأعلى المنازل بواهم فنالوا المراد (ومازوا) (¬2) به ... فطوبى لهم ثم طوباهم قرأت بخط عبد الله بن أحمد بن صابر السلمي: أنشدنا أبو إسحاق إبراهيم ابن محمد بن عقيل الشهرزوري لبعضهم: قليل العزاء كثير الندم ... طويل النحيب عَلَى ما اجترم جرى دمعه فبكى جفنه ... فصار البكاء بدمع ودم يخاف البيات بهجم الممات ... وفقد الحياة بضر السقم ويخفي محبة رب العلى ... فتظهر أنفاسه ما (كتم) (¬3) وأسبل من طرفه عبرة ... عَلَى الصحن من خده فانسجم ¬

_ (¬1) في المطبوع: "لمولاهم". (¬2) في المطبوع: " وفازوا". (¬3) في المطبوع: "ما اكتتم".

وبات (يحارب محرابه) (¬1) ... ولما تزل قدم عن قدم فلما (تبت) (¬2) أحشاؤه ... من الشوق (رق) (¬3) عليه الألم وكم ليلة رام فيها المنام ... فصاح به حبه لا تنم وناح عَلَى جسد ناحل ... أطال النحول به فانهدم أناب إِلَى الله مستغفرًا ... فصار له من أعز الخدم ... ¬

_ (¬1) في المطبوع: "محارب محاربه". (¬2) في المطبوع: "تفتتت". (¬3) في المطبوع: "رقا".

الباب الثامن في شوق المحبين إلى لقاء رب العالمين

الباب الثامن في شوق المحبين إِلَى لقاء رب العالمين الشوق إِلَى لقاء الله درجة عالية رفيعة تنشأ من قوة الحبة لله -عز وجل- وقد كان النبي صلّى الله عليه وسلم يسأل الله هذه الدرجة. خرج الإمام أحمد (¬1) وابن حبان في "صحيحه" (¬2)، والحاكم (¬3) من حديث عمار بن ياسر "أن النبي صلّى الله عليه وسلم كان يدعو بهذا الدعاء: «اللَّهُمَّ بِعِلْمِكَ الْغَيْبَ وقُدرتِكَ على الخَلقِ أَحْيني مَا عَلِمْتَ الْحَيَاةَ خَيْرًا لِي، وَتَوَفَّنِي إِذَا عَلِمْتَ الْوَفَاةَ خَيْرًا لِي، اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ خَشْيَتَكَ فِي الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، وَكَلِمَةَ الْحَقِّ فِي الْغَضَبِ وَالرِّضَا، وَالْقَصْدَ فِي الْفَقْرِ وَالْغِنَى، وَأَسْأَلُكَ نَعِيمًا لَا يَنْفَدُ، وَأَسْأَلُكَ لَذَّةَ النَّظَرِ إِلَى وَجْهِكَ، وَالشَّوْقِ إِلَى لِقَائِكَ فِي غَيْرِ ضَرَّاءَ مُضِرَّةٍ، وَلَا فِتْنَةٍ مُضِلَّةٍ، اللَّهُمَّ زِيِّنَا بِزِينَةِ الْإِيمَانِ، وَاجْعَلْنَا هُدَاةً مَهْتَدِينَ». وخرج الطبراني (¬4) نحوه من حديث فضالة بن عبيد عن النبي صلّى الله عليه وسلم، وخرج الإمام أحمد (¬5) والحاكم (¬6) عن زيد بن ثابت "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - علمه دعاء وأمره أن يتعاهد به أهله كل يوم، وفيه: ¬

_ (¬1) (4/ 264). (¬2) برقم (1971 - إحسان). (¬3) (1/ 524) وقال: هذا حديث صحيح ولم يخرجاه. وأخرجه النسائي (3/ 54 - 55). (¬4) في المعجم الكبير (18/ 825) وقال الهيثمي (10/ 177): رواه الطبراني في الكبير والأوسط، ورجالهما ثقات. (¬5) (5/ 191). (¬6) (1/ 516 - 517) وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. وتعقبه الذهبي فَقَالَ: أبو بكر ضعيف، فأين الصحة؟!.

"اللهم إني أسألك الرضا (بالقدر) (¬1) وبرد العيش بغد الموت، ولذة النظر (في) (¬2) وجهك (وشوقًا) (¬3) إِلَى لقائك من غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة". وإنَّما قال: "من غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة" والله أعلم؛ لأنّ محبة لقاء الله وهو محبة الموت تصدر غالبًا إما من ضراء وهي ضراء الدُّنْيَا، وقد نهى عن تمني الموت حينئذ، وإما عن فتنة مضلة، وهي خشية الفتنة في الدين، وهو غير منهي عنه في هذه الحال. والمسئول ها هنا الشوق إِلَى لقاء الله [غير] (¬4) الناشئ عن هذين الأمرين؛ بل عن محض المحبة، وقد دل قوله تعالى في حق اليهود: {قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة: 94] عَلَى أن من كان عَلَى حالة حسنة من الاستعداد للقاء الله؛ فإنَّه يتمنى لقاء الله ويحبه، وأنه لا يكره ذلك إلا من هو مريب في أمره، ولهذا قال: {وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} [البقرة: 95] ثم قال تعالى: {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} [البقرة: 96] فذمهم عَلَى حرصهم عَلَى الحياة الدُّنْيَا. وفي مسند الإمام أحمد (¬5) عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: "لا يتمنى الموت إلا من وثق بعمله" وقد كان كثير من السَّلف الصالح يتمنون الموت شوقًا إِلَى [لقاء] (¬6) الله -عز ¬

_ (¬1) في المطبوع: "بعد القضا". (¬2) في المطبوع: "إِلَى". (¬3) في المطبوع: "والشوق". (¬4) من المطبوع. (¬5) (2/ 350). وقال الهيثمي في المجمع (10/ 206): رواه أحمد وفيه ابن لهيعة، وهو مدلس وفيه ضعف وقد وثق، وبقية رجاله رجال الصحيح. (¬6) من المطبوع.

وجل -فكان أبو الدرداء يقول: "أَحَبّ الموت اشتياقًا إِلَى ربي، وأحب الفقر تواضعًا لربي، وأحب المرض تكفيرًا لخطيئتي" (¬1). وقال محمد بن زياد: "اجتمع رجال من الأحبار -أو قال [من] (¬2) العُلَمَاء والعباد- وذكروا الموت، فَقَالَ بعضهم: [لو] (¬3) أتاني آت أو ملك الموت فَقَالَ: أيكم سبق إِلَى هذا العمود فوضع يده عليه لمات؟ لرجوت أن لا يسبقني إِلَيْهِ أحد منكم شوقًا إِلَى لقاء الله -عز وجل". وقال عبد الله بن زكريا: "لو خيرت بين أن (أعمر) (¬4) مائة سنة في طاعة [الله] (2) أو أقبض في يومي هذا أو في ساعتي هذه لاخترت أن أقبض في يومي هذا أو في ساعتي هذه شوقًا إِلَى الله ورسوله إِلَى الصالحين من عباده". وكان أبو عبد ربه الزاهد يقول "لو أنَّه قيل: من مس هذا العمود لمات، لسرني أن أقوم إِلَيْهِ شوقًا إِلَى لقاء الله ورسوله". وقال أبو عتبة الخولاني: "كان إخوانكم لقاء الله أَحَبّ إليهم من الشهد". قال سفيان: "كان بالكوفة رجل متعبد من همدان، فكان يقول: ما تطيب نفسي بالموت إلا إذا ذكرت لقاء الله -عز وجل- فإني أجد نفسي عند ذلك تطيب بالموت لما ترجو في لقاء الله -عز وجل- من البركة والسرور". وذكروا عنه أنَّه كان يقول: "إذا ذكرت القدوم عَلَى الله كنت أشد اشتياقًا إِلَى الموت من الظمآن الشديد ظمأه في اليوم الحار الشديد حره إِلَى الشراب البارد الشديد برده". وقال رياح القيسي (¬5): "أتيت الأبرد بن ضرار فَقَالَ لي: يا رياح، هل ¬

_ (¬1) أخرجه أبو نعيم في "الحلية" (1/ 217). (¬2) من المطبوع. (¬3) في الأصل: "إنه" وما نقلته من المطبوع وهو الأنسب للسياق. (¬4) في المطبوع: أعيش. (¬5) راجع حلية الأولياء (6/ 193).

طالت بك الليالي والأيام؟ فقلت له: بم؟ قال: بالشوق إِلَى لقاء الله. قال: فسكت، وأتيت رابعة فذكرت ذلك لها. قال: فسمعت تخريق قميصها من وراء ثوبها وهي تقول: لكني نعم" وقال عبيد الله بن محمد التميمي: "سمعت امرأة من المتعبدات تقول: والله لقد سئمت من الحياة حتى لو وجدت الموت يباع لاشتريته شوقًا إِلَى لقاء الله وحبًّا للقائه: قال فقلت لها: أفعلى ثقة أنت من عملك؟ قالت: لا ولكن لحبي إياه وحسن ظني به، أَفَتَرَاهُ يعذبني وأنا أحبه؟! ". وقال سلمة العوصي: "إني لمشتاق إِلَى (الموت) (¬1) منذ أربعين سنة؛ منذ فارقت الحسن بن صالح. قِيلَ لَهُ: ولم؟ قال: لو لم يشتق العامل إلا إِلَى (لقائه) (¬2) عز وجل لكان ينبغي له أن يشتاق". "وكان أبو عبد الله النباحي يقول في مناجاته: إنك لتعلم أنك لو خيرتني بين أن تكون لي الدُّنْيَا منذ خلقت أَتَنعَّمُ فيها حلالاً ولا أُسئَلُ عنها يوم القيامة، وبين أن تخرجَ نفسي الساعة لاخترت أن تخرج نفسي الساعة. ثم قال: (أما) (¬3) تحب أنك تلقى من تطيع؟ ". "وصحب رجل فتح بن شخرف ثلاثين سنة قال: فلم أره رفع رأسه إِلَى السماء إلا مرة [واحدة] (4) رفع رأسه وفتح عينيه ونظر إِلَى السماء ثم قال: [قد] (¬4) طال شوقي إليك؛ فعجل قدومي عليك". وقال فتح الموصلي في [يوم] (4) عيد أضحى: "قد تقرب المتقربون بقربانهم، وأنا أتقرب إليك بطول حزني يا محبوب، لم تتركني في أرقة الدُّنْيَا محزونًا؟ ". ثم غشي عليه، وحمل فدفن بعد ثلاث رحمه الله -تعالى". فهذا حال من غلب عليه الشوق والرجاء، فأما من غلب عليه الخوف فإنَّه ¬

_ (¬1) في المطبوع: "ربي". (¬2) في المطبوع: "لقاء الله". (¬3) في المطبوع: "ألا". (¬4) من المطبوع.

بخلاف ذلك، ولا يتمنى الموت؛ بل يستعظمه حتى يكاد يتصدع قلبه من ذكره. وقد نازع أبو سليمان الداراني: من كان يتمنى الموت شوقًا إِلَى لقاء الله، وخالفهم في ذلك وقال: لو أعلم أن الأمر كما تقولون لأحببت أن نفسي تخرج الساعة، ولكن كيف بانقطاع الطاعة والحبس في البرزخ؟ وإنَّما نلقاه بعد البعث". وقال أحمد بن أبي الحواري: "فهو في الدُّنْيَا أحرى أن نلقاه -يعني: بالذكر". فأبو سليمان وصاحبه أحمد بن أبي الحواري -رحمهما الله تعالى- يقولان: ما يجده العارفون المحبون في الدُّنْيَا من حلاوة الطاعة ولذة المعاملة واستنارة القلوب وتقربها من علام الغيوب أكمل مما يحصل لهم في البرزخ قبل البعث، فإنَّه لا يمكن رؤية الله -تعالى- بالأبصار إلا في يوم القيامة. وقد جاء في حديث: "إن يوم القيامة أول يوم نظرت فيه عين إِلَى الله - عز وجل". وأما الأولون فإنهم يخالفون في ذلك ويَقُولُونَ قد يحصل للمحبين في البرزخ اتصال وقرب من الله -سبحانه- ورؤية للأرواح، فيكون ذلك أكمل من الحاصل لهم في الدُّنْيَا بالعمل؛ كما أن نعيم البرزخ بالمخلوقات من الجنة أكمل من نعيم الدُّنْيَا أيضاً، وقد قال النبي صلّى الله عليه وسلم: "اعلموا أنكم لن تروا ريكم حتى تموتوا" (¬1). وهذا يدل بمفهومه عَلَى أن (رؤيته) (¬2) سبحانه تحصل بعد الموت. وقد روى في ذلك من المبشرات الأحلامية قديمًا وحديثًا ما يطول ذكره؛ و [قد] (¬3) اتفق العارفون كلهم عَلَى أن ما يحصل بعد البعث للعارفين المحبين أكمل ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (2931) بنحوه من حديث عمر بن ثابت الأنصاري، عن بعض أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلم. وأخرجه أحمد (5/ 324) من حديث عبادة بن الصامت وأخرجه ابن ماجه (4077) من حديث أبي أمامة الباهلي. وأخرجه ابن أبي عاصم في "السنة" (431) من حديث معاوية. (¬2) في المطبوع: "رؤية الله". (¬3) من المطبوع.

مما يحصل لقلوبهم في الدُّنْيَا؛ فإن غاية الحاصل [للقلوب] (¬1) في الدُّنْيَا هو تجلي أنوار الإيمان في القلب، حتى يصير الغيب كأنه شهادة، ومن قال: إن الأرواح والقلوب تكافح ذات الرب -سبحانه- في الدُّنْيَا عيانًا، فهو غالط، فإن هذا لم يثبت لأحد إلا للنبي - صلى الله عليه وسلم - ليلة الإسراء، كما ذكره الصحابة -رضي الله عنهم- وصنف بعضهم مصنفًا سماه "تفضيل العبادات عَلَى نعيم الجنات" وأشار إِلَى أن العبادات حق الرب، وأن النعيم حظ النفس، وكأنه ظن أن لا نعيم في الجنة إلا التمتع بالمخلوقات [فيها] (1) وهو غلط عظيم، فإن أعلى نعيم الجنة ما يحصل فيها من معرفة الله ومشاهدته، فإن علم اليقين يصير هناك عين اليقين، وتتجدد معرفة عظيمة لم تكن موجودة قبل ذلك؛ بل ولم تخطر عَلَى قلب بشر وكذلك توحيد أهل الجنة ودوام ذكرهم هو من أكمل لذاتهم، ولذلك يلهمون التسبيح، كما يلهمون النفس. قال ابن عيينة: "لا إله إلا الله لأهل الجنة كالماء البارد لأهل الدُّنْيَا" وكذلك ترنمهم بالقرآن و (سماعه) (¬2) وأعلاه سماعه من الله (عز وجل) (¬3) فأين هذا من تلاوة أهل الدُّنْيَا وذكرهم؟ وأما سائر العبادات فما كان منها فيه مشقة عَلَى الأبدان فإن أهل الجنة قد أسقط ذلك عنهم؛ وكذلك ما فيه نوع ذل وخضوع كالسجود ونحوه. وأما ما في العبادات من النعيم الحاصل بها لأهل المعرفة في الدُّنْيَا، فإنَّه يحصل لهم في الجنة أضعافا مع راحة (الجسد) (¬4) من مشقة التكاليف التى في الدُّنْيَا، فتجتمع لهم راحة القلب والبدن عَلَى أكمل الوجوه. وهذا مثل الصلاة، فإن العارفين في الدُّنْيَا إِنَّمَا يتنعمون بما فيها من المناجاة وآثار القرب، وما يرد عليهم من الواردات في تلاوة الكتاب، ونحو ذلك من ¬

_ (¬1) من المطبوع. (¬2) في المطبوع: "وسماعهم له". (¬3) في المطبوع: "جل جلاله وتقدست أسماؤه". (¬4) في المطبوع: "البدن".

نعيم القلوب، وربما يستغرقون [به] (¬1) عن الشعور بتعب الأبدان، فهذا القدر الَّذِي حصل لهم به التنعم في الدُّنْيَا يتزايد في الجنة بلا ريب، لا سيما في أوقات الصلوات؛ فإن أكملهم من ينظر إِلَى وجه الله -عز وجل- كل يوم مرتين، بكرة وعشية، في وقت صلاة (الفجر) (¬2) وصلاة العصر، كما جاء في حديث ابن عمر مرفوعًا (¬3) وموقوفًا، وإلى ذلك أشار النبي - صلى الله عليه وسلم- بالمحافظة عَلَى هاتين الصلاتين (عقب) (¬4) ذكره رؤية الرب -سبحانه- في حديث جرير البجلي (¬5). فالنعيم الحاصل لأهل الجنة بالرؤية والمخاطبة في هذين الوقتين أكمل مما كان حاصلا في الدُّنْيَا، وكذلك صلاة الجمعة فإنهم يجتمعون في وقتها في يوم المزيد ويتجلى لهم سبحانه ويحاضرهم محاضرة. وكذلك في العيدين، فهذا أكمل مما [كان] (1) يحصل لهم في الدُّنْيَا في صلاتهم من آثار القرب وحلاوة المناجاة مع راحة البدن ونعيمه أيضاً. فتبين بهذا أن نعيم الجنة أكمل من نعيم الدُّنْيَا مطلقًا، وسواء في ذلك نعيم الأبدان بال والشرب والجماع ونعيم [القلوب] (1) والأرواح بالمعارف والعلوم والقرب والاتصال والأنس والمشاهدة، فظهر بهذا أن قوله تعالى: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا} [النمل: 89] هو عَلَى ظاهره من غير حاجة إِلَى تأويل ولا ¬

_ (¬1) من المطبوع. (¬2) في المطبوع: "الصبح". (¬3) رواه أحمد (2/ 13، 64) والترمذي (2677، 3386 - تحفة) وقال: هذا حديث غريب. وقال الترمذي: وقد رُوي هنا الحديث من غير وجه عن إسرائيل عن ثور عن ابن عمر مرفوعًا، ورواه عبد الملك بن أبجر عن ثوير عن ابن عمر موقوفًا. ورواه عبيد الله الأشجعي عن سفيان عن ثوير عن مجاهد عن ابن عمر قوله ولم يرفعه. وهو برقم (2678 تحفة) عند الترمذي. (¬4) في المطبوع: "عقيب". (¬5) أخرجه البخاري (554) ومسلم (633).

تكلف؛ فإن كثيرًا من المفسرين فسروا الحسنة بكلمة. التوحيد والجزاء عليها بالجنة، ثم استشكلوا تفضيل الجنة عَلَى التوحيد، وبما ذكرناه يزول الإشكال. ويتبين أن التوحيد الَّذِي في الجنة أكمل من التوحيد الَّذِي في الدُّنْيَا وهو جزاء له، وكذلك المعرفة والمحبة والشوق أيضاً، فقد جاء في بعض أحاديث يوم المزيد (¬1): "أنهم ليسوا إِلَى شيء أشوق منهم إِلَى يوم الجمعة" وشيبة بهذا الغلط الَّذِي أشرنا إِلَيْهِ قول من قال: إن العارفين لا يشتاقونا إِلَى الله -عز وجل- في الدُّنْيَا؛ لأنهم يشهدونه بقلوبهم حاضرًا، وتباشر قلوبهم أنواره ويتجلى لها فيستأنسون به ويطمئنون إِلَيْهِ. وهذا وإن كان نقل عن بعض السَّلف المتقدمين فهو أيضاً غلط، ولعله صدر من قائله في حال استغراقه في مشاهدة ما شاهده، فظن أنَّه ليس وراء ذلك مطلب، وهذا كما قال بعضهم: "إنه تمر بي أوقات أقول: إن كان أهل الجنة في مثل ما أنا فيه إنهم لفي عيش طيب". ومعلوم أن أهل الجنة في أضعاف أضعاف ما هو فيه من النعيم واللذة، ولكنه لما استعظم ما حصل له من النعيم ظن أنَّه ليس وراءه شيء، وعند التحقيق يتبين أن ما حصل في الدُّنْيَا للقلوب من تجلي أنوار الإيمان يدل عَلَى عظمة ما يحصل في الجنة، وليس بينهما نسبة فيتزايد بذلك الشوق إِلَى ما وراءه، ولهذا "كان النبي صلّى الله عليه وسلم يسأل ربه الشوق إِلَى لقائه" (¬2) مع أنَّه أكمل الخلق مشاهدة ومعرفة، وكان يقول في الوصال: "إني لست كهيئتكم، إني أظل عند ربي ¬

_ (¬1) أخرجه البزار (3519 - كشف) ولفظه: " ... فليسوا إِلَى شيء أحوج منهم إِلَى يوم الجمعة؛ ليزدادوا فيه كرامة وليزدادوا فيه نظرًا إِلَى وجهه -تبارك وتعالى-" ولذلك دعي: يوم المزيد". قال الهيثمي في المجمع (10/ 421 - 422): رواه البزار، والطبراني في الأوسط بنحوه، وأبو يعلي باختصار، ورجال أبي يعلى رجال الصحيح، وأحد إسنادي الطبراني رجاله رجال الصحيح غير عبد الواحد بن ثابت بن ثوبان، وقد وثقه غير واحد وضعفه غيرهم، وإسناد البزار فيه خلاف. (¬2) تقدم تخريجه.

يُطعمني ويسقيني" (¬1). ويشير إِلَى ما يتجلى لقلبه من آثار القُرْبِ والأُنْسِ مما يقويه ويغذيه ويغنيه عن الطعام والشراب. كما قال القائل: لها أحاديث من ذكراك تشغلُها ... عن (الطعام) (¬2) وتلهيها عن الزاد ولم يزل أئمة العارفين يثبتون الشوق ويخبرون به عن أنفسهم. قال عبد الواحد بن زيد: "يا إخوتاه، ألا تبكون شوقًا إِلَى الله -عز وجل-؟ ألا إنه من بكى شوقًا إِلَى سيده لم يحرمه النظر إِلَيْهِ". وقال صالح المري: بلغني عن كعب أنَّه كان يقول: "من بكى اشتياقًا إِلَى الله -عز وجل- أباحه النظر إِلَيْهِ تبارك وتعالى". قال حبيب بن عبيد: "كان دليجة إذا مشي طاشت قدماه من العبادة، فقيل له: ما شأنك؟! قال: الشوق. فقِيلَ لَهُ: أبشر؛ فإن الأمير قد بعث إِلَى سرح المسلمين ليأذن لهم. فيقول: ليس شوقي إِلَى ذلك، إن شوقي إِلَى من يحثها". وقال عثمان بن صخر العتكي: "طوبى لمحبي الرب الذين عبدوه بالفرح والسرور والأنس والطمأنينة، فصاروا الصفوة من الخلق والخاصة من البرية، يحنون إِلَيْهِ حنين الولهان؟ ويشتاقون إِلَيْهِ شوق (من ليس له صبر) (¬3) عنه قد ¬

_ (¬1) ورد هذا الحديث من رواية جمع من الصحابة -رضي الله عنهم- منهم: أ- أبو هريرة، رواه عنه البخاري (1965، 1966) وفي مواضع أخر، ومسلم (1103). ب- أنس، رواه عنه البخاري (1961)، ومسلم (1104). ب- ابن عمر، رواه عنه البخاري (1922) وفي موضع آخر، ومسلم (1102). د- عائشة، رواه عنها البخاري (1964) ومسلم (1105). هـ- أبو سعيد الخدري، رواه عنه البخاري (1963) وفي موضع آخر. (¬2) في المطبوع: "الشراب". (¬3) في المطبوع وهامش الأصل: "من لا صبر لهم".

كُسِروا بالخوف، وروحوا بالظفر". "وكان أبو عبيدة الخواص يمشي في الأسواق ويضرب عَلَى صدره ويقول: واشوقاه إِلَى من يراني ولا أراه". "وكانت امرأة من المتعبدات بمكة لا تزال تصرخ وتقول: "أو ليس عجبًا أن أكون حية بين أظهركم وفي قلبي من الاشتياق إِلَى ربي مثل شعل النار التي لا تطفأ حتى أصير إِلَى الطبيب الَّذِي (بيده) (¬1) برؤ دائي وشفائي". وقال ذو النون: "إن المؤمن إذا آمن بالله واستحكم إيمانه خاف الله، فإذا خاف الله تولدت من الخوف هيبة الله، فإذا سكنت درجة الهيبة دامت طاعته لربه، فإذا أطاع تولد من الطاعة الرجاء، فإذا سكنت درجة الرجاء تولد من الرجاء المحبة، فإذا استحكمت معاني المحبة في قلبه سكن بعدها درجة الشوق، فإذا اشتاق أدّاه الشوق إِلَى الأنس بالله، فإذا أنس بالله اطمأن إِلَى الله، فإذا اطمأن إِلَى الله كان ليله في نعيم، ونهاره في نعيم، وسِرُّهُ في نعيم، وعلانيته في نعيم". انتهى. ولا ريب أن الشوق يقتضي القلق، لكن قد يمنح الله بعض أهله ما يسكن قلقهم من الأنس به والطمأنينة إِلَيْهِ، كما أشار ذو النون -رحمه الله تعالى. وعن إبراهيم بن أدهم قال: "قلت يومًا اللهم إن كنت أعطيت أحدًا من المحبين لك ما (سكنت) (¬2) به قلوبهم قبل لقائك، فأعطني ذلك فلقد أضر بي القلق. قال: فرأيته تبارك وتعالى في (المنام) (¬3) فوقفني بين يديه وقال لي: "يا إبراهيم، أما استحيت مني؟ تسألني أن أعطيك ما (تُسَكِّن) (¬4) به قلبك قبل ¬

_ (¬1) في المطبوع: "عنده". (¬2) في المطبوع: "أسكنت". (¬3) في المطبوع: "النوم". (¬4) في المطبوع: "يسكن".

لقائي، وهل يسكن قلب المشتاق إِلَى غير حبيبه؟ أم هل يستريح المحب إِلَى غير من (يشتاق) (¬1) إِلَيْهِ؟ قال: فقلت: يا رب، تهت في حبك؛ فلم أدر ما أقول". وروى أبو نعيم بإسناده عن عبد العزيز بن محمد قال: "رأي في المنام قائلا يقول: من يحضر، من يحضر؟ " فأتيته فَقَالَ لي: أما ترى القائم الَّذِي يخطب الناس ويخبرهم عن أعلى مراتب الأنبياء؛ فأدركه لعلك تلحقه وتسمع كلامه قبل انصرافه. فأتيته فإذا الناس حوله وهو يقول: ما نال عبدٌ من الرحمن منزلةً ... أعلى من الشوق إن الشوقَ محمودُ ثم سلم ونزل، (فقلت) (¬2) لرجل إِلَى جانبي: من هذا؟ قال: أما تعرفه؟! قلت لا. قال: هذا داود الطائي. فعجبت في منامي منه، فَقَالَ: أتعجب مما رأيت؟ والله (إن الَّذِي) (¬3) عند الله من الزلفى لداود أكبر من هذا وأكثر. ومما قيل في وصف المشتاقين: أنَّ من الشوق فلولا دمعه ... أحرق ما بين العُذيب والنَّقَا واستعرت أنفاسه وإنَّما ... (تَلَهُّبُ) (¬4) الأنفاس من حَرِّ الجوى مروا عَلَى وادي الغضا فقلَّوا ... من الجوى قلبي عَلَى جمر الغضا ... ¬

_ (¬1) في المطبوع: "اشتاق". (¬2) في الأصل: "قلت" وما نقلته من المطبوع. (¬3) في المطبوع: "للذي". (¬4) في المطبوع: "تلتهب".

الباب التاسع في رضا المحبين بمر الأقدار وتنعمهم ببلاء من يخلق ما يشاء ويختار

الباب التاسع في رضا المحبين بمر الأقدار وتنعمهم ببلاء من يخلق ما يشاء ويختار قد تقدم أن النبي صلّى الله عليه وسلم كان يقول في دعائه: "اللهم إني أسألك الرضا بعد القضاء، وبرد العيش بعد الموت، ولذة النظر إِلَى وجهك والشوق إِلَى لقائك" (¬1). وخرج الترمذي (¬2) من حديث أنس، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن الله إذا أَحَبّ قومًا ابتلاهم؛ فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط". وروى جعفر بن برقان [عن ميمون بن مهران] (¬3) عن يزيد بن الأصم، عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قال: "نظر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إِلَى مصعب بن عمير مقبلا وعليه إهاب كبش قد تَنَطَّقَ به، فقاله النبي - صلى الله عليه وسلم -: انظروا إِلَى هذا الرجل الَّذِي قد نوَّر الله قلبه، لقد رأيته بين أبوين يغذيانه بأطيب الطعام والشراب؛ فدعاه حب الله ورسوله إِلَى ما ترون". خرجه الإسماعيلي في مسند عمر، وأبو نعيم في الحلية (¬4). وقد روى من وجه آخر مرسلا. وروى حسين بن علي الرحبي -وفيه ضعف- عن عكرمة، عن ابن عباس، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما من عبد يحب الله ورسوله إلا كان الفقر أسرع إليه [من جرية السيل من رأس الجبل عَلَى وجهه، والفقر أسرع إِلَى من يحب الله ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه. (¬2) برقم (2396) وقال: هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه. (¬3) سقطت من الأصل، واستدركتها من الحلية (1/ 108). (¬4) (1/ 108) من طريق جعفر بن برقان، عن ميمون بن مهران، عن يزيد بن الأصم، عن عمر بن الخطاب ... فذكره.

ورسوله] (1) من جرية السيل عَلَى وجهه، ومن أَحَبّ الله ورسوله فليعد للبلاء تجفافًا. وإنما يعني الصبر. وقد روى [معنى] (1) هذا الحديث من وجوه متعددة ولكن ليس في أكثرها سوى [ذكر] (¬1) حب الرسول - صلى الله عليه وسلم -. قال موسى بن وردان: "لما احتضر معاذ بن جبل وتغشاه الموت جعل يقول: اخنق خنقك؛ فوعزتك إني أحبك". قال شهر بن حوشب، عن عبد الرحمن بن غنم (عن) (¬2) الحارث بن عميرة: "أن معاذًا نزع نزعًا لم ينزعه أحد، فكان كلما أفاق من (غمرة) (¬3) فتح طرفه ثم قال: اخنقني خنقك؛ فوعزتك إنك تعلم أن قلبي يحبك" (¬4). وقال صالح بن حسان: "إن حذيفة لما نزل به الموت. قال: هذه آخر ساعة من الدُّنْيَا، اللهم إنك تعلم أني أحبك؛ فبارك لي في لقائك". وقال أبو علي الرازي: "صحبت الفضيل بن عياش ثلاثين سنة (ما) (¬5) رأيته ضاحكًا ولا متبسمًا إلا يوم مات ابنه علي، فقلت له في ذلك فَقَالَ: إن الله أَحَبّ أمرًا فأحببت ما أَحَبّ الله". وقال مردويه سمعت الفضيل يقول: "درجة الرضا عن الله درجة المقربين ليس بينهم وبين الله إلا روح وريحان" قال: وسمعته يقول: "أحق الناس بالرضا عن الله أهل المعرفة بالله". وقال أبو عبد الله النباحي: "سأل رجلٌ الفضيل بن عياش فَقَالَ: متى يبلغ الرجل غايته من حب الله (تعالى) (1)؟ فَقَالَ له الفضيل: إذا كان عطاؤه ومنعه ¬

_ (¬1) سقطت من "الأصل" والمثبت من المطبوع. (¬2) في المطبوع: "من حديث". (¬3) في المطبوع: "غمرته". (¬4) أخرجه أبو نعيم في "الحلية" (1/ 240) من حديث الحارث بن عميرة، وفي إسناده: شهر بن حوشب، وهو ضعيف. (¬5) في المطبوع: "فما".

إياك عندك سواء فقد بلغت الغاية من حب الله". وذكر أبو القاسم الدمشقي الحافظ في "تاريخه" بإسناد عن أبي شعيب قال: "سألت إبراهيم بن أدهم الصحبة إِلَى مكة قال: عَلَى شريطة: عَلَى أنك لا تنظر إلا لله وبالله فشرطت له ذلك عَلَى نفسي، فخرجت معه فبينما نحن في الطواف فإذا أنا بغلام قد افتتن الناس به وبحسنه وماله، فجعل إبراهيم يديم النظر إِلَيْهِ، فلما أطال ذلك قلت: يا أبا إسحاق، أليس شرطت عليّ أنك لا تنظر إلا لله وبالله؟! قال: بلى. قلت: (إني) (¬1) أراك تديم النظر إِلَى هذا الغلام! فَقَالَ: إن هذا ابني وولدي، وهؤلاء غلماني وخدمي الذين معه، ولولا شيء لقبَّلتُه ولكن انطلق فسلم عليه مني. قال: فمضيت إِلَيْهِ وسلمت عليه من والده، فجاء إِلَى والده فسلم عليه ثم صرفه مع الخدم. فَقَالَ: ارجع انتظر (أيش) (¬2) يراد بك. ثم أنشأ يقول: هجرت الخلق طُرًّا في هواكا ... وأيتمتُ العيالَ لكي أراكا فلو قطعتني في الحبِّ إربًا ... لما حَنَّ الفُؤادُ إِلَى سواكا وروى ابن أبي الدُّنْيَا بإسناده عن عبد الواحد بن زيد قال: "خرجت إِلَى ناحية الحربية، فإذا إنسان أسود مجذوم قد تقطعت كل جارحة له بالجذام، وعمي وأقعد، وإذا صبيان يرمونه بالحجارة حتى دموا وجهه [ورأسه] (¬3) فرأيته يحرك شفتيه، فدنوت منه لأسمع ما يقول، فإذا هو يقول: يا سيدي [إنك لتعلم] (3) أنك لو قرضت لحمي بالمقاريض ونشرت عظمي بالمناشير ما ازددت لك إلا حبًّا؛ فاصنع بي ما شئت! ". وعن الأوزاعي قال: "حدثني بعض الحكماء قال: رأيت رجلاً [قد] (3) ذهبت يداه ورجلاه وهو يقول: اللهم إني أحمدك حمدًا يوافي محامد خلقك كفضلك عَلَى سائر خلقك، إذ فضلتني عَلَى كثير ممن خلقت تفضيلا! فقلت له: ¬

_ (¬1) في المطبوع: " فإني". (¬2) في المطبوع: "أي شيء". (¬3) من المطبوع.

عَلَى أي نعمة تحمد؟! فَقَالَ: "أليس ترى ما قد صنع بي، قال: قلت: بلى. قال: فوالله لو أن الله صب عليّ [من] (¬1) السماء نارًا فأحرقتني، وأمر الجبال فدمرتني، وأمر البحار فغرقتني، وأمر الأرض فخسفت بى ما ازددت له إلا حبّا، ولا ازددت له إلا شكرًا". وعن بكر بن خُنَيْس قال: "مررت بمجذوم وهو يقول: وعزتك وجلالك، لو قطعتني بالبلاء قطعًا ما ازددت لك إلا حبًّا". وفي هذا المعنى يقول بعضهم: لو قطعني الغرامُ إربًا إربًا ... ما ازددت عَلَى الملام إلا حبًّا لا زلت بكم أسير وجدٍ صبا ... حتى أقضي عَلَى هواكم نحبًا وروى أبو العباس بن مسروق بإسناده عن خلف البزار "أنَّه أتي بمجذوم ذاهب اليدين والرجلين أعمى، فجعله مع المجذومين وغفل عنه، ثم ذكره فَقَالَ له: يا هذا، غفلت عنك! فَقَالَ: حبيبي ومن أنا أحبه قد أحاطت محبته بأحشائي؛ فلا أجد لما أنا فيه من ألم مع محبته لا يغفل عني. فقلت له: إني نسيتك. قال: "إن لي من يذكرني، وكيف لا يذكر الحبيب حبيبه وهو نصب عينيه تائه العقل واللب؟! ". وذكر أبو عبد الرحمن السلمي بإسناده عن بنان [الحمال] (1) قال: "ليس يتحقق (في الحب) (¬2) حتى يتلذذ بالبلاء في الحب كما يتلذذ (الأغيار) (¬3) بأسباب النعم". وكان عبد الصمد الزاهد يقول: "أوجدهم في تعذيبه عذوبة -يشير إِلَى صبرهم عَلَى الضر والفقر". وقالت امرأة من العارفات: "ما النعيم إلا الأنس بالله والموافقة لتدبيره". ¬

_ (¬1) من المطبوع. (¬2) كتب في هامش الأصل: "لعله العبد". (¬3) في المطبوع: " الأغنياء".

وشكا رجل إِلَى فضيل الفقر، فَقَالَ فضيل: "أمدبّرًا غير الله تريد؟! ". وقالت رابعة: "إن أولياء الله إذا قضى لهم شيئًا لم (يتسخطوه) (¬1) ". وقال يحيى بن معاذ: "لو أحببت ربك ثم جوعك وأعراك لكان يجب أن تحتمله وتكتمه عن الخلق، فقد يحتمل (الحبيب) (¬2) لحبيبه الأذى، فكيف وأنت تشكوه فيما لم يصنعه بك". وفي هذا المعنى يقول القائل: ويقبح من سواك الفعلُ عندي ... وتفعله فيحسنُ منك ذاكا وقد تقدم ما أنشده أبو تراب النخشبي: لا تُخدعن فللمحب دلائل ... ولديه من تحفِ الحبيبِ وسائلُ منها تنعمه بمر بلائِه ... وسُرورُه في كلّ ما هو فاعل فالمنع منه عطيةٌ مقبولةٌ ... والفقر إكرام وبر عاجل كان فتح الموصلي: يجمع عياله (في) (¬3) ليالي الشتاء ويضم كسائه عليهم ثم يقول: "اللهم أفقرتني وأفقرت عيالي وجوعتني وجوعت عيالي وأعريتني وأعريت عيالي، بأي وسيلة توسلتها إليك، وإنَّما تفعل هذا بأوليائك وأحبابك، فهل أنا منهم حتى أفرح. ودخل ليلة إِلَى أهله وهو صائم فلم يجد عندهم عشاءً، ولا ما يسرجون به فجلس يبكي من الفرح ويقول: "إلهي مثلي يترك بلا عشاء ولا سراج بأي يد كانت مني. فما زال يبكي إِلَى الصباح". ويروى عن الفضيل بن عياش نحو هذا أيضًا. "وكان علي بن بابويه الصوفي في الطواف (فهجم) (¬4) القرامطة عَلَى ¬

_ (¬1) في المطبوع: "يسخطوه". (¬2) في المطبوع: "المحب". (¬3) من المطبوع. (¬4) في المطبوع: "هجمت".

الناس فقتولهم فأخذته السيوف، فلما وقع تمثل بهذا البيت: ترى المحبين صرعى في ديارهم ... كفتية الكهف لا يدرون كم لبثوا "واستشهد لبعض السَّلف ولد في الجهاد، فجاء الناس يعزونه فيه فبكى وقال: ما أبكي عَلَى موته، إِنَّمَا أبكي كيف كان رضاه عن الله حين أخذته السيوف": وفي هذا يقول القائل: إن كان سكان الغضا ... رضوا بقتلي فرضا والله لا كنت لما ... يهوى الحبيبُ مُبغضا صرت لهم عبدًا وما ... للعبد أن يعترضا ***

فصل ["انكسار قلوبهم بحب ربهم"] (1)

فصل ["انكسار قلوبهم بحب ربهم"] (¬1) ومما يستحليه المحبون لله -عز وجل- اختيارهم الذل له عَلَى الشَّرفِ، والخمول عَلَى الشهرة. قال مخلد بن الحسين: "ما أحبَّ الله عَبْدٌ فأحب أن يعرف الناس مكانه". وقال أحمد بن أبي الحواري: "من عبد الله عَلَى المحبة لا يحب أن يرى خدمته سوى محبوبه". وقال ذو النون: "كل مطيع مستأنس، وكل عاص مستوحش، وكل محب ذليل، وكل خائف هارب، وكل راج طالب". وكان بشر يقول في دعائه: "اللهم إنك تعلم أن الذل أَحَبّ الي من العز، وأن الفقر أَحَبّ الي من الغنى، وأني لا أوثر عَلَى حبك شيئًا. فسمعه رجل فأخذه البكاء، فَقَالَ: [اللهم] (¬2) أنت تعلم أني لو علمت أن هذا ها هنا لم أتكلم". وسئل يوسف بن الحسين: "ما بال المحبين يتلذذون بالذل في المحبة؟! فأنشأ يقول: ذُلُّ الفتى في الحبِّ مكرمةٌ ... وخضوعه لحبيبه شرفُ وفي هذا المعنى يقول القائل: مساكين أهل الحبِّ حتى قبورهم ... عليها ترابُ الذلِّ بين المقابر ¬

_ (¬1) هذا العنوان ليس في الأصل، وهو من تصرف محقق المطبوع. (¬2) من المطبوع.

ويقول الآخر: العزُّ ذُلي فلا تَلُمْنِي ... ما ينبغي يا عذولي مني قال جعفر بن سليمان: عن مالك بن دينار، قال موسى -عليه السلام-: "إلهي أين أبغيك؟ فأوحى الله إِلَيْهِ يا موسى ابغني عند المنكسرة قلوبهم من أجلي، فإني أدنو منهم في كل يوم وليلة باعًا، ولولا ذلك لانهدموا" (¬1). قال جعفر: "فقلت لمالك: كيف المنكسرة قلوبهم؟ فَقَالَ: سألت الَّذِي قرأ في (الكتاب) (¬2) فَقَالَ: سألت الَّذِي سأل عبد الله بن سلام عن المنكسرة قلوبهم ما يعني؟ قال: المنكسرة قلوبهم بحب الله (جل جلاله) (¬3) عن حب غيره". خرجه إبراهيم بن الجنيد. ... ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد في الزهد ص (95)، وأبو نعيم في الحلية (2/ 364) وفي إسناده انقطاع كما هو معروف بين مالك وموسى -عليه السلام. (¬2) في المطبوعة: "الكتب". (¬3) من المطبوع.

الباب العاشر في ذكر خوف المحبين العارفين وفضله على خوف سائر الخائفين

الباب العاشر في ذكر خوف المحبين العارفين وفضله عَلَى خوف سائر الخائفين قال الله -تعالى- في حق الفجار: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14) كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ (16) ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} [المطففين: 14 - 17] فوصفهم بأن كسبهم ران عَلَى قلوبهم، والران هو ما يعلو [عَلَى] (¬1) القلب من الذنوب من ظلمة المعاصي وقسوتها، ثم ذكر جزاءهم عَلَى ذلك، وهو ثلاثة أنواع: الحجاب عن ربهم، ثم صلي الجحيم، ثم التوبيخ. فأعظم عذاب أهل النار حجابهم عن ربهم -عز وجل-، ولما كانت قلوبهم في الدُّنْيَا مظلمة قاسية، لا يصل إليها شيء من نور الإيمان وحقائق العرفان كان جزاؤهم عَلَى ذلك في الآخرة حجابهم عن رؤية الرحمن. قال بعض العارفين: "من عرف الله في الدُّنْيَا، عرفة بقدر تعرفه إِلَيْهِ، وتجلى له في الآخرة بقدر معرفته إياه في الدُّنْيَا، فرآه في الدُّنْيَا رؤية الأسرار، ويراه في الآخرة رؤية الأبصار؛ فمن لا يراه في الدُّنْيَا بسره، لا يراه في الآخرة بعينه" انتهى. فخوف العارفين في الدنيا من احتجابه عن بصائرهم، وفي الآخرة من احتجابه عن أبصارهم ونواظرهم. وكتب الأوزاعي إِلَى أخ له: "أما بعد؛ فإنَّه [قد] (1) أحيط بك من كل ¬

_ (¬1) من المطبوع.

جانب، واعلم أنَّه يسار بك في كل يوم وليلة، فاحذر الله والمقام بين يديه، وأن يكون آخر عهدك به، والسلام". وكان عتبة الغلام يبكي بالليل ويقول: "قطع ذكر العرض عَلَى الله أوصالَ المحبين. ثم يحشرج البكاء حشرجة الموت ويقول: تراك يا مولاي تعذب (محبيك) (¬1) وأنت الحي الكريم. وبات ليلة بالساحل قائمًا يردد هذه الكلمات لا يزيد عليها ويبكي حتى أصح: إن تعذبني فإني لك مُحبُّ، وإن ترحمني فإني لك محبٌّ! ". وكان كهمس يقول في الليل: "أتراك تعذبني وأنت قرة عيني يا حبيب قلباه؟! ". وكان أبو سليمان [يبكي] (¬2) ويقول: "لئن طالبني بذنوبي لأطالبنه بعفوه، ولئن طالبني ببخلي لأطالبنه بجوده، ولئن أدخلني النار، لأخبرن أهل النار أني كنت أحبه". وأخذ هذا المعنى بعض [الشعراء] (2) المتأخرين فَقَالَ: وحقك لو أدخلتني النار قلت للـ ... ذين بها قد كنتُ ممن (أحبه) (¬3) وآيةُ حبِّ الصبِّ أن يَعْذُبَ الأسى ... إذا كان من يهوى عليهم (يصيبه) (¬4) كان بعض المحبين عند قوم يبكون من الخوف، فأنشد: كلهم يعبدون من خوف نار ... ويرون النجاة فضلا جزيلا أو بأن يسكنوا الجنان فيعطوا ... روضة من رياضها سلسبيلا ليس لي في الجنان والنار رأيٌ ... أنا لا أبتغي بحبي بديلا ¬

_ (¬1) في المطبوع: "محبك". (¬2) من المطبوع. (¬3) في المطبوع: "يحبه". (¬4) فى المطبوع: "يَصُبُّه".

فقِيلَ لَهُ: لو طردوك، ما كنت تصنع؟ فَقَالَ: أنا إن لم أجد من الحب وصلا ... رُمتُ في النار منزلا ومقيلا ثم أزعجت أهلها بندائي ... بكرةً في عراصها وأصيلا معشر المشركين نوحوا على من ... يدعي أنَّه يحبُّ الجليلا لم يكن في الَّذِي ادّعاه محقًا ... فجزاه به العذاب الطويلا وقد سبق قول رقية الموصلية: "إلهي وسيدي ومولاي، لو أنك عذبتني بعذابك كله، كان ما فاتني من قربك أعظم عندي من العذاب". وقال ذو النون: "خوف النار عند خوف الفراق كقطرة في بحر لجي". وكان الشبلي يهيج في داره وينشد: عَلَى بعدك لا يصبر ... من عادته القرب ولا يقوى عَلَى حجبك ... من تيَّمَه الحب فإن لم ترك العين ... فقد يبصرك القلب ***

فصل ["الحياء والخوف من الله" (*)]

فصل ["الحياء والخوف من الله" (*)] ومما يخافه العارفون فوات الرضا عنهم، وإن وجد العفو وترك العقوبة [فإن] (¬1) الرضا أَحَبّ إليهم من نعيم الجنة كله مع الإعراض وعدم التقريب والزلفى. وقد قال سبحانه وتعالى: {وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ} [التوبة: 72] يعني: أكبر من نعيم الجنة. وفي الصحيح (¬2) عن النبي صلّى الله عليه وسلم [قال] (1): "إن الله يقول لأهل الجنة: ألا أعطيكم أفضل من ذلك؟ قالوا: وما أفضل من ذلك؟! قال: أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبدًا". وكان مطرف يقول: "اللهم ارض عنا؛ فإن لم ترض عنا فاعف عنا". ورئي بعضهم في المنام فسئل عن حاله فَقَالَ: "غفر لي وأعرض عني وعن جماعة من أهل العِلْم لم يعملوا بعلمهم". فالمحبون العارفون يخافون من مثل هذه الحال، وإنَّما يسألون الرضا من أول الأمر. قال الفضيل: "من سأل الله رضوانه فقد سأله عظيمًا. وقال: لو أخبرت عن جبريل [وميكائيل] (¬3) وإسرافيل بشدة (اجتهاد) (¬4) ما عجبت، وكان ذلك قليلاً عند ما يطلبون (أتدري) (¬5) أي شيء يطلبون؟ وأي شيء يريدون؟ ¬

_ (*) هذا العنوان ليس في الأصل وهو من تصرف محقق المطبوع. (¬1) من المطبوع. (¬2) أخرجه البخاري (6549)، ومسلم (2829). (¬3) من المطبوع. (¬4) في المطبوع: "اجتهادهم". (¬5) في المطبوع: "أتدرون".

يريدون رضا ربهم -عز وجل". وقال جعفر بن سليمان: قال مالك بن دينار "وددت أن الله -تعالى- إذا جمع الخلائق يوم القيامة يقول لي: يا مالك، فأقول: لبيك، فيأذن لي أن أسجد بين يديه سجدة، فأعرف أنَّه قد رضي عني، فيقول: يا مالك، كن اليوم ترابًا". وكان أبو عُبَيد البُسْرى يقول: "ما غمي ولا أسفي إلا أن يجعلني ممن عفي عنه. فقِيلَ لَهُ: [أليس] (¬1) الخلق عَلَى العفو يتذابحوا؛ فَقَالَ: أجل، ولكن أي شيء أقبح بشيخ مثلي يوقف غدًا بين يدي الله -عز وجل- فيقال له: شيخُ سوءٍ كنت؛ اذهب فقد عفوت عنك، أنا أملي في الله أن يهب لي كل من أحبني". ومما يشتد قلق العارفين منه الحياء من الله -عز وجل- عند الوقوف بين يديه. قال بعضهم: ما يمر بي أشد من الحياء من الله -عز وجل. وقال الحسن: "لو لم نبك إلا من الحياء من ذلك المقام؛ لكان ينبغي لنا أن نبكي فنطيل البكاء". وكان الفضيل يقول: "واسوءتاه منك وإن عفوت". وقال أحمد بن أبي الحواري: سمعت محمد بن حاتم أبا جعفر يقول: قال الفضيل بن عياض: "لو خيرت بين أن أبعث فأدخل الجنة وبين أن لا أبعث اخترت أن لا أبعث. قال: فقلت لمحمد: هذا من الحياء؟ قال: نعم". وقال أحمد [بن أبي الحواري] (¬2): وسمعت مُضَاء بن عيسى يقول: كان بعض التابعين يقول: "لئن يؤمر بي من (الجنة) (¬3) إِلَى النار أَحَبّ ¬

_ (¬1) من المطبوع. (¬2) من المطبوع. (¬3) كتب في هامش الأصل: "لعله القبر".

إليّ من أن أقف بين يديه فيسألني ثم يأمر بي إِلَى الجنة" قال: فحدثت به أبا سليمان فَقَالَ: بل نقف بالموقف فتقر به أعيننا". وإلى قول أبي سليمان ذهب أبو يزيد وغيره من المحبين، وإلى قول الفضيل ذهب حذيفة المرعشي؛ فإنَّه قال: "لو نزل عَلَيَّ ملك من السماء يخبرني أن لا أرى النار بعيني وأني أصير إِلَى الجنة، إلا أني أقف بين يدي ربي، ثم أصير إِلَى الجنة. فقلت: لا أريد الجنة ولا أقف ذلك الموقف". ورُوي عن أحمد بن أبي الحواري معنى ذلك أيضاً. ورُوي أن الأسود بن يزيد لما احتضر بكى: فقِيلَ لَهُ: ما هذا الجزع؟ قال: "ما لي لا أجزع ومن أحق بذلك مني، والله لو أتيت بالمغفرة من الله -عز وجل - لأهمني الحياء منه مما قد صنعت، إن الرجل ليكون بينه وبين الرجل الذنب الصغير فيعفو عنه، فلا يزال مستحيًا منه". قال ابن أبي الدُّنْيَا: حدثني حسين بن عبد العزيز قال: "كان عندنا شيخ عَلَى أمور ثم أقلع عنها، فلما احتضر أغمي عليه ثم أفاق، فَقَالَ: إن رأيت كأني ميت، وكأن آتيًا أتاني فانطلق بي إِلَى الله -عز وجل- حتى وقف بي دون الحجاب، فكأنه أرادني عَلَى الدخول فتداخلني الحياء والخوف، وكأنه يقول: ما هو إلا الدخول عليه -عز وجل- أو دخول النار. قال: فكأني اخترت دخول النار للذي أصابني من الحياء. قال: فانطلق بي ثم إنه عرج بي وقِيلَ لَهُ: انطلق به إِلَى الجنة". ورُوي عن أبي حامد الخلقاني: "أنَّه أنشدَ الإمامَ أحمد هذين البيتين: إذا ما قال لي ربي ... أما استحييت تعصيني وتخفي الذنب من خلقي ... وبالعصيان تأتيني فأمره أحمد بإعادتهما عليه، فأعادهما [عليه] (¬1) فدخل أحمد داره وجعل ¬

_ (¬1) من المطبوع.

يرددهما ويبكي". وأنشد بعضهم: يا حسرة العاصين عند معادهم ... هذا وإن قدموا عَلَى الجنات لو لم يكن إلا الحياء من الَّذِي ... ستر القبيح (لأعظموا) (¬1) الحسرات ... ¬

_ (¬1) في المطبوع: "لكان أعظم".

الباب الحادي عشر في شرف أهل الحب وأن لهم عند الله أعلى منازل القرب

الباب الحادي عشر في شرف أهل الحب وأن لهم عند الله أعلى منازل القرب في الصحيحين (¬1) عن أنس "أَنَّ رَجُلا سَأَلَ النَّبِى - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: مَتَى السَّاعَةُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: مَا أَعْدَدْتَ لَهَا؟ قَالَ: مَا أَعْدَدْتُ لَهَا مِنْ (كَثِيرِ) (*) صَلاةٍ وَلا صِيامٍ وَلا صَدَقَةٍ، وَلَكِنِّى أُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: أَنْتَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ. وفي رواية للبخاري (¬2): "فقلنا: ونحن كذلك؟ قال: نعم" [قال أنس] (**) ففرحنا يومئذ فرحًا شديدًا. وفي رواية لمسلم (¬3): "قال أنس فما فرحنا بعد الإسلام فرحًا أشد من قوله: "أنت مع من أحببت" قال أنس: "فأنا أَحَبّ الله -عز وجل- ورسوله - صلى الله عليه وسلم - وأبا بكر وعمر -رضي الله عنهما- وأرجو أن أكون معهم وإن لم أعمل بأعمالهم". قال بعض العارفين: "يكفي (المحبين) ( ... ) شرفًا هذه المعية". وقد قدمنا في أول [هذا] (**) الكتاب أن محبة الله الواجبة تستلزم امتثال طاعته واجتناب معصيته، وكذلك محبة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه والتابعين لهم ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (6171)، ومسلم (2639). (*) في المطبوع: "كبير". (¬2) برقم (6167). (**) من المطبوع. (¬3) برقم (2639/ 163) وكذا البخاري (3688). ( ... ) في المطبوع: "للمحبين".

بإحسان. فالمحبة الصحيحة [لهم] (*) تقتضي مشاركتهم في أصل عملهم، وإن عجز عن بلوغ غايته. كما قال أنس -رضي الله عنه-: ولهذا قال السائل للنبي - صلى الله عليه وسلم - "ما أعددت لها (كثير) (¬1) صلاة ولا صيام ولا صدقة" فدل عَلَى أنَّه قد أتى من ذلك بما وجب عليه [و] (¬2) لم يأت بأزيد من ذلك. قال عبيد بن عمير: "جاء رجل إِلَى النبي - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: يا رسول الله، الرجل يحب المصلين ولا يصلي إلا قليلاً، ويحب الصائمين ولا يصوم إلا قليلاً، ويحب الذاكرين ولا يذكر إلا قليلاً، ويحب المتصدقين ولا يتصدق إلا قليلاً، ويحب المجاهدين ولا يجاهد إلا قليلاً، وهو في ذلك يحب الله ورسوله؟ قال: هو يوم القيامة مع من أَحَبّ". وقال أبو سالم (الجيشاني) (¬3): جاء رجل إِلَى النبي صلّى الله عليه وسلم فَقَالَ: "يا رسول الله، إني أرى الرجل الجواد فأحب الجود وفيّ بخل، وأرى الرجل الحسن الخلق فأحب حسن الخلق (وفي خلقي شيء) (¬4) وأرى الرجل الجريء فأحب الجراءة وفيَّ جبن؟ قال: أنت مع من أحببت". قال الحسن: "ابن آدم لا تغتر بقول من يقول المرء مع من أَحَبّ، إنه من أَحَبّ قومًا اتبع آثارهم، ولن تلحق بالأبرار حتى تتبع آثارهم وتأخد بهديهم وتقتدي بِسُنَّتهم وتُصبحَ وتمسي وأنت عَلَى منهاجهم، حريصًا عَلَى أن تكون منهم فتسلك سبيلهم وتأخذ طريقهم، وإن كنت مقصرًا في العمل، فإنما ملاك الأمر أن تكون عَلَى استقامة، أما رأيت اليهود والنصارى وأهل الأهواء المردية يحبون ¬

_ (*) من المطبوع ووقع في المخطوط: "لا". (¬1) في المطبوع: " من كبير". (¬2) من المطبوع. (¬3) في المطبوع: "الجوشاني". (¬4) في المطبوع: "وخلقي سيء".

أنبياءهم وليسوا معهم؛ لأنهم خالفوهم في القول والعمل (وسلكوا) (¬1) غير طريقهم، فصار موردهم النار، نعوذ بالله من ذلك". وفي "مسند البزار" (¬2) من حديث أبي سعيد، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إني لأعرف ناسًا ما هم بأنبياء، ولا شهداء، يغبطهم الأنبياء والشهداء [بمنزلتهم عند الله -سبحانه-" (¬3) يوم القيامة، الذين يحبون الله ويحببونه إِلَى خلقه، يأمرونهم بطاعة الله، فإذا أطاعوا الله أحبهم الله". وخرج إبراهيم بن الجنيد نحوه من حديث أنس مرفوعًا. قال زيد بن أسلم: "لما وُضع عثمان بن مظعون في قبره قالت امرأته هنيئًا لك أبا السائب الجنة، فَقَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: وما علمك بذلك؟! قالت: كان يا رسول الله صلّى الله عليه وسلم يصوم النهار (ويقوم) (¬4) الليل. قال: "بِحَسْبُكِ" (¬5) لو قلت: كان يحب الله ورسوله" (¬6). وقال عتبة الغلام: "من عرف الله أحبه؛ ومن أَحَبّ الله أطاعه، ومن (أطاع الله) (¬7) أكرمه، ومن أكرمه الله أسكنه في جواره، ومن أسكنه في جواره فطوباه وطوباه وطوباه ... ؟ فلم يزل يقول: وطوباه وطوباهء ... حتى خر ساقطًا مغشيًا عليه". وقال فرقد السبخي: قرأت في بعض الكتب: "المحب لله -تعالى- أمير مؤمر عَلَى الأمراء، زمرته أول الزمر يوم القيامة، ومجلسه أقرب المجالس فيما ¬

_ (¬1) في المطبوع: "وسلوك". (¬2) برقم (140 - زوائد) قال البزار: لم يتابع سعيد. وقال الهيثمي في المجمع (1/ 126): رواه البزار، وفيه سعيد بن سلام العطار، وهو كذاب. (¬3) من المطبوع. (¬4) في المطبوع: "ويصلي". (¬5) في المطبوع: " فحسبك". (¬6) أخرجه أبو نعيم في الحلية (1/ 106) وهو مرسل. (¬7) في المطبوع: " أطاعه".

هنالك". خرجهما [إبراهيم] (¬1) بن الجنيد. وخرج ابن أبي الدُّنْيَا بإسناده عن عبد الله بن عبد الرحمن قال: قال أرميا [عليه السلام] (1): أي رب، أي عبادك أَحَبّ إليك؟ قال: أكثرهم لي ذكرًا، الذين يشتغلون بذكري عن ذكر الخلائق، الذين لا تعرض لهم وساوس (العباد) (¬2)، ولا يحدثون أنفسهم بالبقاء، الذين إذا عرض لهم عيش الدُّنْيَا قلوه، إذا زوي عنهم سروا بذلك (أولئك الذين) (¬3) أبحت لهم محبتي وأعطيتهم فوق (غاياتي) (¬4) ". وقال أحمد بن أبي الحواري: حدثنا رباح، حدثنا عبد الله بن سليمان، حدثنا موسى بن أبي الصباح "في قول الله -عز وجل-: {إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ} [البقرة: 243] قال: إذا كان يوم القيامة يؤتى بأهل ولاية الله يقومون بين يدي الله -عز وجل- ثلاثة أصناف: فيؤتى برجل من المصنف الأول فيقول: عبدي، لماذا عملت؟ فيقول: يا رب خلقت الجنة وأشجارها وثمارها وأنهارها وحورها ونعيمها وما أعددت لأهل طاعتك فيها، فأسهرت ليلي وأظمأت نهاري شوقًا إليها! فيقول الله -تعالى-: عبدي، إِنَّمَا عملت للجنة، هذه الجنة فادخلها، ومن فضلي عليك أن أعتقك من النار. قال: فيدخل هو ومن معه الجنة. قال: ثم يؤتى برجل من المصنف الثاني فيقول: عبدي، لماذا عملت؟ فيقول: يا رب، خلقت نارًا وخلقت سلاسلها وأغلالها وسعيرها وسمومها ويحمومها، وما أعددت لأعدائك وأهل معصيتك فيها، فأسهرت ليلي وأظمأت نهاري خوفًا منها! فيقول (الله) (1): عبدي، إِنَّمَا عملت ذلك خوفًا من النار ¬

_ (¬1) من المطبوع. (¬2) كتب في هامش الأصل: "لعله الصدور". (¬3) في المطبوع: "فأولئك". (¬4) في المطبوع: "غاياتهم".

فإني أعتقتك من النار، ومن فضلي عليك أن أدخلك (جنتي) (¬1) فيدخل هو ومن معه الجنة. قال: ثم يؤتى برجل من المصنف الثالث فيقول: عبدي، لماذا عملت؟ فيقول: عملت حبًّا لك وشوقًا إليك، وعزتك [وجلالك] (¬2) لقد أسهرت ليلي وأظمأت نهاري شوقًا إليك وحبًّا (لك) (¬3) فيقول تبارك وتعالى: عبدي، إِنَّمَا عملت (حبًّا لي وشوقًا إِلَيّ) (¬4) فيتجلى له الرب (جل جلاله ويقول) (¬5): ها أنا ذا، انظر إِلَيَّ. ثم يقول من فضلي عليك أن أعتقك من النار (وأمنحك) (¬6) الجنة وأزيرك ملائكتي وأسلم عليك بنفسي، فيدخل هو ومن معه الجنة". خرجه ابن أبي حاتم في تفسيره. وخرج ابن أبي الدُّنْيَا في "كتاب الجوع" من طريق إسحاق بن نوح بن عبد الله الشامي، عن أبيه، عن جده قال: قال عبد الله بن سلام: "يكون في آخر الزمان (قوم) (¬7) خلت أنفسهم من لذة الدُّنْيَا وشهواتها، تكاد أنوارهم تلحق بأنوار الأنبياء يوم القيامة كلما نظر إليهم أهل ذلك الموقف والجمع العظيم كادت أبصارهم تذهب من النور الَّذِي بوجوههم. قيل: بم بلغوا ذلك؟! قال: بحبهم الله واتباع مسرته. جوعوا له أنفسهم ليقيها من الجوع يوم الجوع الأكبر، وأظمئوا له أنفسهم لينالوا حلاوة الري من فضله يوم العطش الأكبر، وأهملوا له العيون رجاء أن ينير لهم غدًا في (ظلمة) (¬8) القيامة وأهوالها، زكوا أبدانهم ¬

_ (¬1) في المطبوع: "الجنة". (¬2) من المطبوع. (¬3) في المطبوع: "إليك". (¬4) في المطبوع: "شوقًا إليَّ وحبًّا لي". (¬5) في المطبوع: "عز وجل فيقول". (¬6) في المطبوع: "وأبيحك". (¬7) في المطبوع: "أقوام". (¬8) في المطبوع: "ظلم".

بترك المطعم والمشرب شوقًا إِلَى النظر إِلَى وجهه الكريم، أولئك الآمنون يوم (تعني) (¬1) الوجوه للحي القيوم". ومن طريق إسحاق بن نوح، عن رجل من السكاسك، عن عبد الله بن ضمرة عن كعب قال: "إني لأجد نعت قوم يكونون في هذه الأمة بمنزلة الرهبانية، قلوبهم نور، وأفواههم نور، تنطق ألسنتهم بنور الحكمة، تعجب الملائكة من اجتهادهم واتصالهم بمحبة الله -عز وجل" (¬2). وروينا من رواية أحمد بن الفتح قال: "رأيت بشر بن الحارث في منامي فقلت له: ما فعل معروف الكرخي؟ فحرك رأسه ثم قال: هيهات حالت بيننا وبينه الحجب! إن معروفًا لم يعبد الله شوقًا إِلَى جنته ولا خوفًا من ناره (¬3)، وإنَّما عبده شوقًا إِلَيْهِ، فرفعه الله -تعالى- إِلَى الرفيق الأعلى". وقال الحافظ أبو نعيم: [حدثت عن المهلبي] (¬4) قال الأنصاري: "رأيت معروف الكرخي في النوم كأنه تحت العرش (والله -تعالى- يقول) (¬5): ملائكتي، من هذا؛ فقالت الملائكة: أنت أعلم، هذا معروف الكرخي قد سكر من حبك لا يفيق إلا بلقائك". وفي الباب حديث مرفوع طويل وهو حسن المتن إلا أنَّه لا يصح تركنا ذكره لذلك. وقال إبراهيم بن بشار الخراساني سمعت إبراهيم بن أدهم يقول: "بؤسًا لأهل النار لو نظروا إِلَى زوار الرحمن وقد حملوا عَلَى النجائب يزفونهم إِلَى الله زفًّا وحشروا وفدًا، وقد نصبت لهم المنابر ووضعت لهم الكراسي، وقد أقبل ¬

_ (¬1) في المطبوع: "تعنوا". (¬2) أخرجه أبو نعيم في الحلية (5/ 381). (¬3) سبق بيان أن هذا الكلام مخالف للهدي الصحيح. (¬4) من الحلية. (¬5) في المطبوع: " فيقول الله".

عليهم الجليل -جل جلاله- بوجهه ليسرهم وهو يقول لهم "إِلَيّ عبادي، إِلَيَّ عبادي، إِلَيَّ أوليائي المطيعين، إليَّ أحبابي المشتاقين إليّ أصفيائي المحزونين، ها أنا ذا فاعرفوني، من كان منكم مشتاقًا أو محبًّا متملقًا فليستمتع بالنظر إِلَى وجهي الكريم، فوعزتي وجلالي لأفرحنكم بجواري، ولأسرنكم بقربي (ولأبيحنكم) (¬1) كرامتي من الغرفات تشرفون وعلى الأسرة تتكئون، تقيمون في دار المقامة أبدًا لا تظعنون، وتأمنون فلا تخافون، تصحون فلا تسقمون، تنعمون في رغد العيش لا تموتون، وتعانقون الحور الحسان فلا تملون ولا تسأمون، كلوا واشربوا هنيئًا، وتنعموا كثيرًا بما أنحلتم الأبدان وأنهكتم الأجسام ولزمتم الصيام وسهرتم بالليل والناس نيام". قال وسمعته يقول: "لا تنال جنته إلا بطاعته ولا تنال ولايته إلا بمحبته. ولا تنال مرضاته إلا بترك معصيته، والله -تعالى- قد أعد المغفرة للأوابين، وأعد الرحمة للتوابين، وأعد الجنة للخائفين، وأعد رؤيته للمشتاقين، وأعد الحور للمطيعين". ... ¬

_ (¬1) في المطبوع: "ولأمنحنكم".

الباب الثاني عشر في نبذ من كلام أهل المحبة وتحقيقهم تقوى به القلوب على سلوك طريقهم

الباب الثاني عشر في نبذ من كلام أهل المحبة وتحقيقهم تقوى به القلوب عَلَى سلوك طريقهم قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في "قوله تعالى {الوَدُودُ} [البروج: 14] قال يقول: الحبيب". خرجه ابن أبي حاتم في تفسيره (¬1). وفي حديث أبي جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية -أو غيره- عن أبي هريرة في "قصة الإسراء الطويلة في ذكر سدرة المنتهى، قال: فيغشاها نور الخالق وغشيتها الملائكة مثل الغربان حين يقعن عَلَى الشجرة من حب الله -جل ثناؤه" (¬2). قال الجوزجاني: حدثنا أبو صالح أن معاوية حدثه عن يزيد بن ميسرة أنَّه ¬

_ (¬1) انظر الدر المنثور للسيوطي (6/ 256). (¬2) أخرجه الطبري في تفسيره (15/ 10)، وأخرجه البزار (55 - زوائد) قال البزار: هنا لا نعلمه يروى إلا بهذا الإسناد من هذا الوجه. وقال الهيثمي في "المجمع" (1/ 72): رواه البزار ورجاله موثقون إلا أن الربيع بن أنس قال: عن أبي العالية أو غيره. فتابعيه مجهول. قال الحافظ ابن كثير في تفسيره (3/ 25): وأبو جعفر الرازي، قال فيه الحافظ أبو زرعة: الرازي يهم في الحديث كثيرًا، وقد ضعفه غيره أيضًا ووثقه بعضهم، والظاهر أنَّه سيء الحفظ، ففيما تفرد به نظر. وهذا الحديث في بعض ألفاظه غرابة ونكارة شديدة، وفيه شيء من حديث المنام من رواية سمرة بن جندب في المنام الطويل عند البخاري، ويشبه أن يكون مجموعًا من أحاديث شتى أو منام أو قصة أخرى غير الإسراء، والله أعلم.

سمع أبا الدرداء يقول: "لما أهبط الله آدم إِلَى الأرض قال له: يا آدم، أحبني وحببني [إِلَى خلقي] (¬1) ولا تستطيع ذلك إلا بي، ولكني إذا رأيتك حريصًا عَلَى ذلك أعنتك عليه، فإذا فعلت ذلك (تجد) (¬2) به اللذة والنضرة وقرة العين (والاطمأنينة) (¬3). وقال خليد العصري: "يا إخوتاه، هل منكم من أحد إلا يحب أن يلقى حبيبه؟ ألا فأحبوا ربكم -عز وجل- وسيروا إِلَيْهِ سيرًا كريمًا". خرجه الإمام أحمد، وخرّجه أبو نعيم، وفي رواية له: "فأحبوا الله وسيروا إِلَيْهِ سيرًا جميلاً لا مصعدًا ولا مميلا". وخرج ابن أبي الدُّنْيَا (¬4) من طريق ابن لهيعة، حدثني عبد الحميد بن عبد الله بن إبراهيم القرشي، عن أبيه قال: "لما نزل بالعباس بن عبد المطلب الموت قال لابنه عبد الله: إني موصيك بحب الله وحب طاعته، وخوف الله وخوف معصيته، وإنك إذا كنت كذلك لم تكره الموت متى أتاك". وقال أحمد بن أبي الحواري: حدثنا أبو صالح الخراساني، حدثنا إسحاق ابن نجيح، عن إسماعيل الكندي قال: "جاء رجل من البصرة إلى طاوس ليسمع منه، فوافاه مريضًا فجلس عند رأسه يبكي، فَقَالَ: ما يبكيك؟! قال: والله ما أبكي عَلَى قرابة بيني وبينك ولا عَلَى دنيا جئت أطلبها منك، ولكن عَلَى العِلْم الَّذِي جئت أطلب منك يفوتني! فَقَالَ له طاوس: إني موصيك بثلاث كلمات إن حفظتهن علمت علم الأولين و [علم] (¬5) الآخرين، وعلم ما كان (¬6)، ¬

_ (¬1) من المطبوع. (¬2) في المطبوع: "فَخُذ". (¬3) في المطبوع: "الطمأنينة". (¬4) في كتاب "المحتضرين" (311). (¬5) من المطبوع. (¬6) أما علم ما يكون فهو من الغيبيات التي لم يطلع الله عليها أحدًا إلا من ارتضى من رسله، فهو سبحانه يطلعهم عَلَى بعض الأمور الغببية.

وعلم ما يكون: خف الله حتى لا يكون عندك شيء أخوف منه، وارج الله حتى لا يكون عندك شيء أرجا منه، وأحب الله حتى لا يكون شيء أَحَب إليك منه؛ فإذا فعلت ذلك علمت علم الأولين، وعلم الآخرين، وعلم ما كان، وعلم ما يكون. فَقَالَ: لا جرم لا سألت أحدًا بعدك عن شيء ما بقيت". وعن إبراهيم بن الأشعث قال: سمعت الفضيل بن عياش يقول: "مر عيسى -عليه السلام- بثلاثة من الناس نحلت (أبدانهم) (¬1) وتغيرت ألونهم فَقَالَ: ما الَّذِي (بَلَّغَكُم) (¬2) ما أرى؟! قالوا: الخوف من النيران. قال: مخلوقًا خفتم وحق عَلَى الله أن يؤمن الخائف. ثم جاوزهم إِلَى ثلاثة أخر؛ فإذا هم أشد تغيرًا وأنحل أجسامًا، فَقَالَ: ما الله (بَلَّغَكُم) (2) ما أرى؟! قالوا: الشوق إِلَى الجنة. قال: مخلوقًا اشتقتم وحق عَلَى الله أن يعطيكم ما رجوتم، ثم جاوزهم إِلَى ثلاثة أخر؛ فإذا هم أشد تغيرًا وأنحل أجسامًا، كان عَلَى وجوههم المرايا من النور. فَقَالَ: ما الَّذِي (بَلَّغَكُم) (2) ما أرى؟! قالوا: حب الله -عز وجل- قال: أنتم المقربون، أنتم المقربون، أنتم المقربون" (¬3). وروى إبراهيم بن الجنيد بإسناده عن محمد بن كعب قال: "أوحى الله إِلَى موسى -عليه السلام-: إن إبراهيم -عليه السلام- لم يحبني أحد من خلقي كحبه إياي". وعن أبي حازم القيساري قال: "مكتوب في الإنجيل: يا عيسى، الحق ¬

_ (¬1) في المطبوع: "أجسامهم". (¬2) في المطبوع: "بلغ بكم". (¬3) أخرجه أبو نعيم في الحلية (10/ 7) من حديث إسحاق بن خلف .. فذكره. وهو منقطع بين الرواي وعيسى عليه السلام. قال الشيخ مجدي قاسم في تعليقه عَلَى هذا الموضع من الكتاب: خوفنا الله من النار فوجب علينا أن نخاف، وشوقنا إِلَى الجنة فحق علينا أن نشتاق. والحب كالطير له جناحان، وجناحاه الخوف والرجاء فلا يطير إلا بهما.

والحق أقول: إني أَحَبّ إِلَى عبدي من نفسه التي بين جنبيه". وعن ابن عيينة، عن رجل، عن يحيى بن أبي كثير اليمامي قال: "نظرنا فلم نجد شيئًا يتلذذ به المتلذذون أفضل من حب الله -عز وجل- وطلب مرضاته". وعن سعيد بن عامر، عن محمد بن ليث، عن بعض أصحابه قال: "كان حكيم بن حزام يطوف بالبيت ويقول: لا إله إلا الله، نعم الرب ونعم الإله، أحبه وأخشاه". وعن بكر المزني قال: "ما فاق أبو بكر أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - بصوم ولا صلاة ولكن بشيء (كان) (¬1) في قلبه". قال إبراهيم: بلغني عن ابن علية "أنَّه قال في عقيب هذا الحديث: الَّذِي كان في قلبه الحب لله -تعالى- والنصيحة في خلقه". وقال ابن أبي الدُّنْيَا: حدثنا هارون بن سفيان، حدثنا عبد الله بن صالح، أخبرني بعض أهل البصرة قال: "لما استقضى سوّار بالبصرة كتب إِلَيْهِ أخ له كان يطلب العِلْم معه وكان ببعض الثغور: أما بعد؛ أوصيك بتقرى الله الَّذِي جعل التقوى عوضًا من كل فائت من الدُّنْيَا، ولم يجعل شيئًا من الدُّنْيَا يكون عوضًا من التقوى؛ فإن التقوى عقيدة كل عاقل مستبصر إليها يستروح وبها يستن، ولم يظفر أحد في عاجل هذه الدُّنْيَا وآجل الآخرة بمثل ما ظفر به أولياء الله الذين شربوا بكأس حبه فكانت قرة أعينهم فيه، وذلك أنهم أعملوا أنفسهم في جسيم الأدب وراضوها رياضة الأصحاء الصادقين، فطلقوها عن فضول الشهوات وألزموها الفوت المقلق، وجعلوا الجوع والعطش شعارًا لها برهة من الزمان حتى انقادت وأذعنت وعزفت لهم عن فضول الحطام، فلما ظعن حب فضول الدُّنْيَا من قلوبهم، وزايلتها أهواؤهم وانقطعت أمانيهم وصارت. الآخرة نصب أعينهم ومنتهى أملهم، ورث الله قلوبهم نور الحكمة، وقلدها قلائد العصمة، وجعلهم دعاة لمعالم الدين يلمون منه الشعث، ويشعبون منه الصدع، لم يلبثوا إلا يسيرًا ¬

_ (¬1) في المطبوع: "وقر".

حتى جاءهم من الله موعود صادق اختص به العاملين له، والعالمين به دون من سواهم، فإذا سرك أن تسمع صفة الأبرار الأتقياء، فصفة هؤلاء فاستمع، وشمائلهم الطيبة فاتبع، وإياك يا سوار وبنيات الطريق والسلام". وخرج أبو نعيم بإسناده عن الربيع بن برة، عن الحسن "في قوله تعالى: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ} [الفجر: 27] قال: النفس المؤمنة اطمأنت إِلَى الله واطمأن إليها، وأحبت لقاء الله وأحب لقاءها، ورضيت عن الله ورضي عنها، فأمر بقبض روحها، فغفر لها وأدخلها الجنة وجعلها من عباده الصالحين". وروى ابن أبي الدُّنْيَا بإسناده عن مسمع بن عاصم، عن نعيم بن صبيح السعدي قال: "همم الأبرار متصلة بمحبة الرحمن، وقلوبهم تنظر إِلَى مواضع العز من الآخرة بنور أبصارهم". قال مسمع: "وسمعت عابدًا من أهل البحرين يقول في جوف الليل: قرة عيني وسرور قلبي، ما الَّذِي أسقطني من عينك يا مانح العصم. ثم صرخ وبكى، ثم نادى: طوبى لقلوب ملأتها خشيتك، واستولت عليها محبتك، فمحبتك مانعة لها من كل لذة غير مناجاتك والاجتهاد في خدمتك، وخشيتك قاطعة لها عن سبيل كل معصية خوفًا من حلول سخطك. ثم بكى وقال: يا إخواتاه، ابكوا عَلَى فوت خير الآخرة حيث لا رجعة ولا حيلة". وبإسناده عن أيوب بن خوط عن قتادة قال: "كان في حفرة عتيب شيخ يقال له ميسور بن محمد، وكان لا يقدر أن يسمع القرآن من شدة خوفه وكان يقول: سيد الأعمال: التقوى ثم البذل، ثم بعد البذل الشكر، ثم بعد الشكر الرضا، ثم بعد الرضا التعظيم، ثم بعد التعظيم الحب لله والإجلال له". ومعنى هذا أن درجة الحب المستحبة التي ذكرناها في أول الكتاب متأخرة عن درجة الشكر والرضا والتعظيم والبذل. أما الواجبة فإنها (داخلة) (¬1) في التقوى، كما سبق بيانه. ¬

_ (¬1) في المطبوع: " تدخل".

[الخوف والحب]

[الخوف والحب] (¬1) ولذلك كان السَّلف يقدمون درجة الخوف عَلَى الشوق، كما روى ابن أبي الدُّنْيَا بإسناده عن واقد العابد مولى أم البنين قال: "قال لي رجل من العباد: ما رأيت القلوب بشيء أنقى جلاء منها بالخوف. قلت: فالشوق؟ قال: قد يشتاق وصدى الرين عَلَى قلبه". قال: والرين يعني الذنب عَلَى الذنب. وكذلك كانت حالة العُلَمَاء الربانيين كالحسن وسفيان وأحمد وغيرهم، يظهر عليهم الخوف ولوازمه ويكثر كلامهم فيه ويقل كلامهم في المحبة وظهور آثارها عليهم أيضاً، حتى حذر طوائف من العُلَمَاء ممن يكثر دعوى الشوق والمحبة بغير خوف لما ظهر منهم من الشطح والدعاوي؛ بل والإباحة والحلول وغير ذلك من المفاسد، والله -سبحانه- أعلم. ولهذا "كان أبو عبد الله بن الجلاء -وكان من كبار العارفين- إذا سئل عن المحبة قال: أنا ما لي وللكلام في المحبة، وأنا أريد أن أتعلم التوبة". ويقال: إن أول من أظهر الكلام في المحبة والشوق وجمع الهمة وصفاء الفكر، وتكلم به عَلَى رؤس الناس: أبو حمزة الصوفي، وكان من أعيان العارفين أيضاً، وكان يجتمع بالإمام أحمد كثيرًا، وكان أحمد يسأله ويقول [له] (¬2): ما تقول يا صوفي؟ رضي الله عنهم أجمعين. وكان عباد البصري بعد طبقة الحسن وأصحابه كعبد الواحد بن زيد وأصحابه عتبة وضيغم وغيرهما يظهر منهم المحبة كثيرًا مع شدة الخوف أيضاً وكذلك رابعة العدوية والفضيل وداود الطائي وغيرهم. ¬

_ (¬1) هذا العنوان ليس في الأصل، وهو من تصرف محقق المطبوع. (¬2) من المطبوع.

قال إبراهيم بن الجنيد: حدثني عبد الرحيم بن يحيى الرملي، حدثني عثمان ابن عمارة قال: قال عتبة: "من سكن حبه قلبه لم يجد حرًّا ولا بردًا. قال عبد الرحيم: يعني من سكن حب الله قلبه شغله حتى لا يعرف الحر من البرد، ولا الحلو من الحامض، ولا الحار من البارد". وقال عبد الواحد بن زيد: "كان عتبة يجيء إِلَى المسجد يوم الجمعة وقد أخذ الناس الظل، فيقوم عَلَى الحصى ويسجد السجدة الطويلة. قال عبد الواحد: ما أراه يعقل بحره". وسمع عتبة قائلا يقول: "سبحان جبار السماء إن المحب لفي عناء. فَقَالَ عتبة: صدقت والله! وغشى عليه". وقال ضيغم [يومًا] (¬1) لمولى له: "منعني والله حب الله من الاشتغال بحب غيره! ثم سقط مغشيًّا عليه". وكان كَلاَّبُ بن جُرَي العابد يقول في سجوده: "وعزتك لقد خالط قلبي من محبتك أمر يكل لساني عما أجد منه في نفسي". وقدمت شعوانة العابدة وزوجها مكة فجعلا يطوفان ويصليان، فإذا كلَّ أو أعيا جلس وجلست خلفه، فيقول هو في جلوسه: "أنا العطشان من حبك لا أُرْوَى. وتقول هي بالفارسية: يا سيدي أنبتَّ لكل داء دواء في الجبال، ودواء المحبين في الجبال لم ينبت". ودخلوا عَلَى عابد بالبصرة وهو يجود بنفسه ويقول: "أنا عطشان لم أرو من حب ربي، وجائع لم أشبع من حب ربي". وقال المعافى بن عمران: "كلمت فتحًا الموصلي يومًا في شيء، فَقَالَ: لم تترك المحبة لله في قلوب أوليائه موضعًا لمحبة غيره". وقال أبو معمر: "نظرت رابعة يومًا إِلَى رياح القيسي [وهو] (1) يقبل صبيًّا صغيرًا من أهله، فقالت: أتحبه يا رياح؟ قال: نعم. قالت: ما كنت أحسب ¬

_ (¬1) من المطبوع.

أن في قلبك موضعًا فارغًا لمحبة سواه! فخر رياح مغشيًا عليه، ثم أفاق وهو يمسح العرق عن وجهه وهو يقول: رحمة جعلها الله في قلوب عباده للأطفال". وقال حذيفة المرعشي: "رأيت رجلاً بالرقة وبين يديه صَبِيَّان يلعبان ويقتتلان وهو يتشاغل بها فزجرهما ونهاهما. فقلت [له] (¬1): إني أحسبك تحبهما؟! قال: "لا والله ما أحبهما، ولكن أرحمهما؟ وما أحد أحبّ إليّ من الله -عز وجل". ثم اتسع الكلام في المحبة من زمن أبي سليمان الداراني وأصحابه بالشام كأحمد بن أبي الحواري وقاسم الجوعي. وكان قاسم الجوعي يقول: "شبع الأولياء بالمحبة عن الجوع، ففقدوا لذاذة الطعام والشراب والشهوات ولذات الدُّنْيَا؛ لأنهم تلذذوا بلذة ليس فوقها لذة فقطعتهم عن كل لذة". وبالعراق في زمن السري وأصحابه كالجنيد وأصحابه، وبمصر في زمن ذي النون وأقرانه. وكان بعض من يذكر بالمحبة ربما حصل له وسوسة ونوع تغير عقل، كسعدون وسمنون، وكان [سمنون] (¬2) شديد المحبة [ربما حصل له وسوسة] (1)، ويقال أنَّه تكلم يومًا في المحبة فاصطفقت قناديل المسجد حتى تكسرت، وأنه تكلم يومًا فيها فجاء طائر فضرب بمنقاره الأرض حتى مات؛ وكذلك كان ربما حصل للشبلي نوع تغير. ومما ينسب من الشعر إِلَى بعض هذه الطبقة: هجرت الورى في حب من جاد بالنعم ... وعفت الكرى شوقًا إِلَيْهِ فلم أنم وموهت دهري بالجنون عن الورى ... لأكتم ما بي من هواه فما انكتم ¬

_ (¬1) من المطبوع. (¬2) في المخطوط: "ميمون" والتصويب من الاستقامة لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله (2/ 89).

فلما رأيتُ الشوق بالحب بائحا ... كشفت قناعي ثم قلت نعم نعم فإن قيل مجنون فقد جنني الهوى ... وإن قيل مسقام فما بي من سقم وحق الهوى والحب والعهد بيننا ... وحرمة روح الأنس في حندس (¬1) الظلم (¬2) لقد لامني الواشون فيك جهالةً ... فقلت لطرفي أفصح العذر فاحتشم فعاتبهم طرفي بغير تكلم ... وأخبرهم أن الهوى يُورثُ السقم فبالحلم يا ذا المنِّ لا تبعدنني ... وقرت مزاري منك يا بارئ النِّسم وكان بعض هؤلاء يقول: "إذا بك لم أجن يا حبيبي فبمن؟! ". ومن هؤلاء من كان يسمى مجنونًا كسعدون وغيره، ويسمون أيضاً "عقلاء المجانين" وكانت أقوالهم و [أحوالهم] (¬3) محفوظة غالبًا، ويصدر منهم من الكلام الحسن شيء كثير. ... ¬

_ (¬1) الحِنْدِس: الليل المظلم والظلمة. القاموس المحيط مادة "حندس". (¬2) الظلم: ثلاث ليال يلين الدُّرَع، والدُّرع: ثلاث ليالٍ يلين البيض، والبيض: هي الثالث عشر إِلَى الخامس عشر من الشهر الهجري. (¬3) في المطبوع: "وأفعالهم".

[مفهوم جيد]

[مفهوم جيد] (*) وقد غلط طوائف من المتأخرين في أمرهم فظنوا أن حالهم هو غاية الكمال، وأن العقلاء كلهم من العُلَمَاء بالله، والعمال لله مقصرون عن درجتهم، وهذا خطأ قبيح جدًّا. ثم أدخلوا في طبقتهم من ليس منهم من المجانين الذين لا حكمة لديهم ولا ظهر شيء من الأحوال الصحيحة [عليهم] (¬1) وإنَّما تظهر منهم مخالفة الشرعة بالأعمال والأقوال الشنيعة، ولكن أحسنوا الظن بهم لما يظهر من بعضهم من الإخبار بالمغيبات في بعض الأحيان، مما قد ظرفر منه من الرهبان والكهان، ونشأ بهذا السبب اعتقاد أن الأولياء لهم طريقة غير طريقة الأنبياء، وأنهم واقفون مع الحقيقة لا يتقيدون بالشريعة إِلَى غير ذلك من أنواع الضلال والبدع الفظيعة. ووجد بعض من كان في صدره النفاق كامنًا من أنواع الحلولية والإباحية سبيلا إِلَى إظهار ما في نفوسهم، فعظم الخطب بذلك واشرأب النفاق، ولو سمع بذلك أئمة الطريق العارفون بالله كالجنيد ومن قبله لجاهدوا في الله حق جهاده في إنكار هذه العظائم، ولن تخلو الأرض من قائم لله بحجته {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج: 40]. وقد ورد حديث: "إن أكثر أهل الجنة البُله". وله طريقان ضعيفان: أحدهما: مسند من حديث أنس (¬2)، والآخر: مرسل من مراسيل عمر بن ¬

_ (*) هذا العنوان من تصرف محقق المطبوع. (¬1) من المطبوع. (¬2) أخرجه البزار (1983 - كشف) وابن عدي في الكامل (3/ 313). قال البزار: قد روى بعضه مرفوعًا من وجوه، وبعضه لا نعلمه إلا من هذا الوجه،=

عبد العزيز (¬1). قد رواه أحمد بن أبي الحواري بإسناده إِلَى عمر مرسلاً، ثم قال مفسرًا له: البُله عن الشر وأعلى عليين لأولي الألباب. يشير إِلَى أن درجة العقلاء أكمل وأعلى من درجة هؤلاء، وبَيَّن أن المراد: البله عن الشر الذين لا يعرفونه من شدة سلامة صدورهم، وإنما يعرفون الخير فقط. وروى ابن أخي ابن وهب عن عمه عبد الله بن وهب، قال: "سألت مالكًا عن تفسير قول النبي صلّى الله عليه وسلم: أكثر أهل الجنة البله. فَقَالَ: الأبله مثل عبد الله ابن عمر -رضي الله عنهما- كان أبله في معاصي الله، فطنًا فيما يرضي الله، مسارعًا إِلَى ما يرضي الله، بطيئًا عن محارم الله، لا تأخذه في الله لومة لائم". ثم رواه الحسن بن حبيب الدمشقي عن عبد الله بن عبد الحميد عن ابن أخي ابن وهب به. وكذلك رُوي تفسيره عن الأوزاعي، قال إسحاق بن راهويه في "مسنده": حدثنا بقية بن الوليد قال: حدثنا الأوزاعي عن أبي يزيد الجوفي قال "قال رسول ¬

_ =وسلامة هو ابن أخي عقيل، ولم يتابع عَلَى حديثه: "أكثر أهل الجنة البله" عَلَى أنَّه لو صح كان له معنى. وقال ابن عدي: وهذا الحديث بهذا الإسناد منكر لم يروه عن عقيل غير سلامة هذا. وأخرجه أبو موسى المديني في "اللطائف" (ق/75أ) بتحقيقي وفيه متابعة ابن عيينة لسلامة بن روح ولكن أبا موسى المديني قال: حديث غريب جدًّا من حديث ابن عيينة عن الزهري، وإنَّما يعرف هذا من رواية سلامة بن روح. وذكر هذا الحديث ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل (4/ 302) في ترجمه سلامة ابن روح وذكر قول أبيه عنه: ليس بالقوي، محله عندي محل الغفلة. وقول أبي زرعة: أيلي ضعيف منكر الحديث. (¬1) قال العلامة الألباني -رحمه الله- في تخريجه للعقيدة الطحاوية (ص 509): رواه عبد الوهاب الكلابي في "حديثه" (ق/176/ 2) بسنده عن عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز، عن أبيه، وعبد العزيز صدوق يخطئ كما في التقريب، وفيه من لم أجد من ترجمه.

الله - صلى الله عليه وسلم -: "أكثر أمتي دخولا الجنة البله. قال: سألت الأوزاعي عن البله؟ قال: الذين يعرفون الخير ولا يعرفون الشر". وهذا مرسل أيضاً. ***

فصل [الخاتمة]

فصل [الخاتمة] (*) ولنختم الكتاب بكلمات جوامع من أمر المحبة وأبيات (رائقة) (¬1) متضمنة لها. روى الإمام أحمد في "كتاب الزهد" (¬2) بإسناده عن عطاء بن يسار قال: "قال موسى -عليه السلام-: يا رب، من أهلك الذين هم أهلك الذين تظلهم في ظل عرشك؟ قال: هم البريئة أيديهم، الطاهرة قلوبهم، الذين يتحابون بجلالي، الذين إذا ذكرت ذكروا بي، وإذا ذكروا ذكرت بذكرهم؛ الذين يسبغون الوضوء في المكاره، وينيبون إِلَى ذكري كما تنيب النسور إِلَى وكورها، ويكلفون بحبي كلما يكلف الصبي بحب الناس، ويغضبون لمحارمي إذا استحلت كلما يغضب النمر إذا حرب". وفي "كتاب المحبة" لإبراهيم بن الجنيد عن أحمد بن مخلد الخراساني قال: "قال الله -عز وجل-: ألا قد طال شوق الأبرار إِلَى لقائي وأنا إليهم أشد شوقًا، وما شوق المشتاقين إِلَيّ إلا بفضل شوقي إليهم، ألا من طلبني وجدني، ومن طلب غيري لم يجدني، ومن ذا الَّذِي أقْبَلَ إليَّ فلم أُقْبِلْ إِلَيْهِ، ومن ذا الَّذِي توكل عليَّ فلم أكفه، ومن ذا الَّذِي دعاني فلم أجبه، ومن ذا الَّذِي سألني فلم أعطه؟ ". قال أحمد بن أبي الحواري: حدثنا عمر بن سلمة السراج، عن أبي جعفر ¬

_ (*) هذا العنوان من تصرف محقق المطبوع. (¬1) في المطبوع: "رقائق". (¬2) (ص 95) طبعة الريان. وإسناده منقطع بين عطاء بن يسار وموسى عليه السلام.

المصري قال: "قال الله -عز وجل-: يا معشر المتوجهين إليَّ بحبي، ما ضركم ما فاتكم من الدُّنْيَا إذا كنت لكم حظًّا، وما ضركم من عاداكم إذا كنت لكم سِلْمًا" وفي هذا المعنى يقول القائل: هنيئًا لمن (أمسى) (¬1) وأنت حبيبه ... ولو أن (نيران) (¬2) الغرامِ تذيبهُ وطوبى لصب أنت ساكن سره ... ولو بان عنه إلفه وقريبه وما ضر صَبًّا أن يبيت وماله ... نصيبٌ من الدُّنْيَا وأنتَ نصيبهُ ومن تكُ راضٍ عنه في طي غيبه ... فما ضره في الناس من يستغيبه فيا علةً في الصدر أنتَ شفاؤها ... ويا مرضًا في القلب أنت طبيبه عُبيدُك في باب الرجا مُتضرعٌ ... إذا لم تجبه أنت من ذا يجيبه بعيدٌ عن الأوطان يبكي بذلةٍ ... وهل ذاق طعم الذل إلا غريبه تصدَّق عَلَى من ضاع منه زمانه ... ولم يدر حتى لاح منه مشيبه غدا خاسرًا فالعار يكفيه والعنا ... وقد آن من ضوء النهار مغيبه ومما أنشده (أبو زيد) (¬3) النجراني -من المتقدمين- رحمة الله عليه: محبٌّ نفى ما التذ من غمضه الفكر ... وأعقبه ضرًّا فأنهكه الضرُّ وبات يراعي أنجما [من] (¬4) بعد أنجم ... ويرعدُ من خوفٍ إِلَى أن بدا الفجرُ ويخدم مولاه بألطف خدمة ... ويُسعده في حسن خدمته الصبرُ به وبمن ساواه في الزهد والتقى ... إذا الجدبُ عمَّ الأرض يستنزل القطرُ محب خلا بالحب خلوة واجد ... خلا بحبيب والظلام له ستر ¬

_ (¬1) في المطبوع: "أضحى". (¬2) في المطبوع: "لوعات". (¬3) في المطبوع: "أحمد بن زيد". (¬4) من المطبوع.

يقول بذلتُ الحبَّ يا منتهى المنى ... ويا نور قلبي أنت لي سيدي ذُخرُ فلا تُخْزِني يا رب وارحم تضرعي ... فقد وعظيم العفو أثقلني الوزر وقد خفت من يوم المعادِ مخافةً ... تيقنت أني ليس لي فيهما عذر بفضلك زدني منك قربًا وأدنني ... إليك دُنوًا لا يغيره الدهر مُرَادي سقامي في الهوى هو قاتلي ... وبين سقامي والشفاء ينفذ العمر وفي كبدي مما أقاسي من الهوى ... ومن (لوعات) (¬1) الحبِّ يا واحدي جَمر غزا الحب قلبي قاصدًا بجيوشه ... ليأسره قسرًا فأذهله الأسرُ (وحبك) (¬2) لا أنساك ما دمتُ باقيًا ... وهل يتسلى من محبته فخر وأنشدت بعض العارفات: أحبك حبين حب الوداد ... وحب لأنك أهل لذكا فأما الَّذِي هو حب الوداد ... فحب شغلت به (عَنْ) (¬3) سواكا وأما الَّذِي أنت أهلٌ له ... فكشفك الحجب حتى أركا فما الحمد في ذا ولا ذاك لي ... ولكن لك الحمد في ذا وذاكا وأنشدت أخرى منهن: حبيب ليس يعدلُهُ حبيب ... ولا لسواه في قلبي نصيبٌ حبيبٌ غاب عن بصري وشخصي ... ولكن عن فؤادي ما يغيب وأنشد بعض المحبين: أعميت عيني عن الدُّنْيَا وزينتها ... فأنت والروح مني غير مفترق إذا ذكرتك وفي مقلتي أرقٌ ... من أول الليل حتى مطلعِ الفلق ¬

_ (¬1) في المطبوع: "زفرات". (¬2) في المطبوع: "وحقك". (¬3) في المطبوع: "عمن".

وما تطابقت الأجفان عن سنةٍ ... إلا رأيتك بين الجفن والحدق ارحم حشاشة نفس فيك قد تلفت ... قبل (الممات) (¬1) فهذا آخرُ الرمقِ ولو مضى الكل مني لم يكن عجبًا ... وإنَّما عجبي في البعض كيفَ بقى وأنشد بعضهم: والله ما طلعت شمسٌ ولا غربت ... إلا وأنت حديثي بين جُلاسي ولا هممت بشرب الماء من عطش ... إلا رأيت خيالا منك في الكاس ولبعضهم: ساكن في القلب يعمرُهُ ... لستُ أنساه فأذكرُهُ غَابَ عن سمعي وعن بصري ... فسويداء القلب يبصره وأنشد آخر منهم: من عامل الله بتقواه ... وكان في الخلوة يرعاهُ سقاه كأسًا من صفاء حبِّهِ ... يسليه عن لذةِ دُنياه فأبعدَ الخلقَ وأقصاهم ... وانفرد العبدُ بمولاه وأنشد بعضهم أيضاً: أنت تدري يا حبيبي ... [من] (¬2) حبيبي أنت تدري ونحول الجسم والدمـ ... ـع يبوحان بسري يا عزيزي قد كتمت الحـ ... ـبَّ حتى ضاق صدري وأنشد بعضهم أيضاً: أبى الحبُّ أن يخفى وكمْ قدْ كتمته ... فأصبح عندي قد أناخَ وطنبا ¬

_ (¬1) في المطبوع: "الفراق". (¬2) في الأصل: "يا" والمثبت من المطبوع.

إذا اشتدَّ شوقي هام قلبي بذكره ... وإن رُمْتُ قربًا من حبيبي تقربا ويبدو فأفنى ثم أحيا (به له) (¬1) ... فيسعدني حتى ألذَّ وأطربا سئل إبراهيم القصاب: "هل يبدي المحب [حبه] (¬2) أو هل ينطق به، أو هل يطيق كتمانه؟ فتمثل بهذين البيتين: ظفرتم بكتمان اللسان فمن لكم ... بكتمان عين دمعها الدهر يذرف حملتُ جبال الحبِّ فوقي وإنني ... لأعجزُ عن حمل القميص وأضعف ومن كلام يحيى بن معاذ الرازي: "لو سمع (الخلائق) (¬3) صوت النياحة عَلَى الدُّنْيَا في الغيب من ألسنة الفناء لتساقطت القلوب منهم حزنًا، ولو رأت العقول بعيون الإيمان نزهة الجنة لذابت النفوس شوقًا، ولو أدركت القلوب كنه المحبة لخالقها لتخلعت مفاصلها وَلَهًا وطارت الأرواح إِلَيْهِ من أبدانها دهشًا فسبحان من أذهل الخليقة عن كنه هذه الأشياء وألهاهم بالوصف عن حقائق هذه الأنباء". أروحُ وقد ختمت عَلَى فؤادي ... بحبك أن يحلَّ به سواكا فلو أني استطعت غَضَضْتُ طرفي ... فلم أبصر به حتى أراكا أحبك لا ببعضي بل بكلي ... وإن لم يبق حبك لي حراكا ويقبح من سواك الفعل عندي ... وتفعله فيحسن منك ذاكا وفي الأحباب خصوص بوجدٍ ... وآخرُ يَدَّعى معه اشتراكا إذا اشتبكت خدودٌ في دموع ... تبين من بكا ممن تباكا فأما من بكى فيذوب وجدًا ... وينطق بالهوى من قد تشاكا تم الكتاب، والحمد لله الملك الوهاب، وصلى الله عَلَى محمد سيد الأحباب. ¬

_ (¬1) في المطبوع: "بقربه". (¬2) من المطبوع. (¬3) في المطبوع: "الناس".

*الفهارس*

المجلد الرابع

مَجْمُوع رَسَائِلْ الحَافِظْ ابْنِ رَجَب الحَنْبَلِيِّ زِين الدِّين أَبِي الفَرَج عَبْد الرَّحْمَن بْن أَحْمَد بْن رَجَب الحَنْبَلِيّ (736 - 795هـ) رَسَائِلُ جَمَعَتْ عُلُوماً شَتَّى فِي التَّوحِيدِ وَالفِقْهِ وَالتَّفْسِيرِ وَالحَدِيثِ وَالزُّهْدِ وَالأَدَبِ وَالمَوَاعِظِ وَالرَّقَائِقِ وَالسِّيَرِ وَالتَّارِيخِ جَمِيع الرَّسَائِل حُقِّقَتْ عَلَى نُسخٍ خطيَّة أَصْلِيَّة دِرَاسَة وَتَحْقِيق أَبِي مُصْعَبْ طَلْعَتْ بْن فُؤَادٍ الحُلْوَانِيِّ المُجَلَّدُ الرَّابِع النَّاشِرُ الفَارُوقُ الحَدِيثَة لِلطِّبَاعَةِ وَالنَّشْرِ

جميع حقوق الطبع محفوظة للناشر لا يجوز نشر أي جزء من هذا الكتاب أو إعادة طبعه أو تصويره أو اختزان مادته العلمية بأي صورة دون موافقة كتابية من الناشر.

مَجْمُوع رَسَائِلْ الحَافِظْ ابْنِ رَجَب الحَنْبَلِيِّ

مقدمة المجلد الرابع من مجموع رسائل الحافظ ابن رجب الحنبلي

بسم الله الرحمن الرحيم مقدمة المجلد الرابع من مجموع رسائل الحافظ ابن رجب الحنبلي هذا هو المجلد الرابع من رسائل الحافظ ابن رجب الحنبلي بين يدي القراء الكرام لينضم إِلَى المجلدات الثلاث السابقة وهو يشمل: 1 - اختيار الأولى في شرح حديث اختصام الملأ الأعلى، وموضوعه: "الكفَّارات والدَّرَجات والدَّعَوات". 2 - التخويف من النار والتعريف بحال دار البوار: وقد اشتمل عَلَى ثلاثين بابًا استوعب فيها معظم ما جاء في صفة النار وأهلها وأنواع العذاب فيها وأهوالها، وهو من أفضل كتب المواعظ والترهيب من عذاب الله سبحانه وتعالى ولا غنى عنه لكل مسلم سواء كان واعظًا أو قارئًا أو عالماً أو طالب علم. وقد قال ابن رجب في مقدمته: وقد استخرت الله تعالى في جمع كتاب أذكر فيه صفة النار، وما أعد الله فيها لأعدائه من الخزي والنكال والبوار، ليكون بمشيئة الله قامعًا للنفوس عن غَيِّها وفسادها، وباعثًا لها عَلَى المسارعة إِلَى فلاحها وإرشادها، فإن النفوس ولاسيما في هذه الأزمان قد غلب عليها الكسل والتواني، واسترسلت في شهواتها وأهوائها (¬1) وتمنت عَلَى الله الأماني. والشهوات لا يذهبها من القلوب إلا أحد أمرين: ¬

_ (¬1) يقول هذا الحافظ ابن رجب وهو في القرن الثامن الهجري قبل انتشار الموبقات والرذائل والعُري الفاحش والفتن التي تعصف بالقلوب لولا التثبيت من الله وحده. فما باله لو عاش في زماننا هذا ماذا عساه كان يفعل؟!.

3 - المحجة في سير الدلجة.

إما خوف مزعج محرق، أو شوق مبهج مقلق. وفي الحقيقة هذه الرسالة تعد مجلدًا وحدها، وقد أودعتها ضمن مجموع الرسائل لما اشتملت عليه من الترهيب من عذاب الله وذلك مما يعظم الله في القلوب ويبين قدرته وقوته وبطشه وجبروته وكبرياءه وهو من التوحيد الخالص لله سبحانه وتعالى. وكذلك لم أجد من طبع هذه الرسالة عَلَى مخطوطات، فكل الطبعات منقولة من بعضها البعض. وإن كان أفضلها التي حققها بشير محمد عيون عَلَى ما فيها من أخطاء. وإني لأشكر الشيخ/ علي بن عبد العزيز الشبل الَّذِي تفضل وأرسل لي مخطوطة التخويف من النار عن طريق أخي الحبيب الشيخ/ أحمد بن سليمان بن أيوب حفظهما الله جميعًا. 3 - المحجة في سير الدلجة. وهي شرح حديث: "لن ينجي أحدًا منكم عمله". قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: "ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته، سَدِّدوا وقاربوا واغدوا ورُوحوا وشيء من الدُّلجة، والقصدَ القصدَ تبلغوا". ثم بين ابن رجب أن هذا الحديث وغيره اشتمل عَلَى أصل عظيم وهو أن عمل الإنسان لا ينجيه من النار ولا يدخله الجنة، وإن ذلك كله إِنَّمَا يحصل بمغفرة الله ورحمته. كما أشكر أخي الحبيب الشيخ/ حسين بن عكاشة الَّذِي أحضر لي مخطوطتي الرسالة عن طريق صديقه الدكتور/ هاني بن أحمد بن عبد الرحمن فجزاهما الله خيرًا.

وصف النسخ الخطية والمطبوعة المعتمدة في التحقيق

وصف النسخ الخطية والمطبوعة المعتمدة في التحقيق اعتمدت في تحقيق هذا المجلد عَلَى عدة نسخ خطية وهي كالآتي: 1 - رسالة "اختيار الأولى في شرح حديث اختصام الملأ الأعلى". الأولى: نسخة ضمن مجموع مكتبة "الإمبروزيانا" بإيطاليا وتقع في المجموع من الورقة (22 - 43) وقد اعتمدتها أصلا وهي نسخة جيدة مشكولة ومقابلة ووضعت الإلحاقات والتصويبات عَلَى حواشيها مع كتابة كلمة (صح). وهي كاملة. الثانية: نسخة ضمن مجموع "فاتح باستانبول" تحت رقم (5318) وتقع في المجموع من ورقة (54 ب - 91 أ) وهي الرسالة الرابعة في المجموع غير أن فيها بعض السقط في مواضع فلم أجعلها أصلاً. وعلى حواشيها بعض نقول من شرح الشفا للقاضي عياض لعلي القاري. أما النسخة المطبوعة فهي بتحقيق الشيخ جاسم الفهيد الدوسري بمكتبة الأقصى بالكويت، وهي نسخة جيدة محققة عَلَى عدة نسخ خطية غير النسخ التي اعتمدنا عليها في التحقيق. وقد استفدت منها ومن تخريجاتها والتعليق عليها. 2 - التخويف من النار والتعريف بحال أهل البوار: اعتمدت في تحقيقها عَلَى نسخة خطية واحدة أرسلها إليَّ الأخ الشيخ/ علي ابن عبد العزيز الشبل، وهي نسخة جيدة أفادتني في مواضع كثيرة وصوبت منها أخطاء جمة في المطبوع. وتقع في (64) ورقة وهي بخط صالح بن عبد العزيز ابن مرشد، وفرغ من كتابتها صبح الخميس رابع يوم من شهر ربيع الآخر من سنة

خمس وخمسين وثلاثمائة وألف من الهجرة النبوية. وكتب في آخرها: بَلَغَ مقابلة وتصحيحًا عَلَى حسب الطاقة والإمكان، ولابد في الأصل من خلل بسبب الكاتب. وهذه النسخة مقابلة عَلَى نسخة أخرى ويذكر كاتبها اختلاف بعض الألفاظ عَلَى حاشيتها ويضع بجوارها حرف (خ) أي في نسخة أخرى كذا! إلا أن هذه النسخة يكثر فيها الخطأ في أسماء الرواة، إلا أنها دقيقة في نقل ألفاظ الأحاديث. أما النسخة المطبوعة فهي بتحقيق بشير محمد عيون وطبعت بمكتبة المؤيد، وهي نسخة جيدة بذل فيها المحقق قصارى جهده، وقد استفدت منه في مواضع كثيرة، خاصة في نقل معاني الكلمات، إلا أن بها بعض الأخطاء، وسأذكر بعضها عَلَى سبيل المثال: 1 - في ص 18 كتب وخرج الترمذي من حديث يحيى بن عبد الله، والصواب: يحيى بن عبيد الله كما في سنن الترمذي برقم (2601) وقد قال الترمذي عقب تخريجه للحديث: هذا حديث إِنَّمَا نعرفه من حديث يحيى بن عبيد الله، ويحيى بن عبيد الله ضعيف عند أكثر أهل الحديث، تكلم فيه شعبة. ويحيى بن عبيد الله -هو ابن مَوْهِبٍ- وهو مدني. وقد روى الترمذي من طريق ابن المبارك عنه في ثلاث مواضع في "سننه": أولها: في "كتاب البر والصلة". - باب ما جاء في شفقة المسلم عَلَى المسلم برقم (1929) قال: حدثني أحمد بن محمد، أخبرنا عبد الله بن المبارك، أخبرنا يحيى بن عبيد الله، عن أييه، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن أحدكم مرآة أخيه، فإن رأى به أذى فليمطه عنه". وقال الترمذي: ويحيى بن عبيد الله ضعفه شعبة. الثاني: في "كتاب الزهد" - برقم (2403) قال: حدثنا سويد بن نصر، أخبرنا ابن المبارك، أخبرنا يحيى بن عبيد الله قال: سمعت أبي يقول: سمعت أبا هريرة يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما من أحد يموت إلا ندم".

قالوا: وما ندامته يا رسول الله؟ قال: إن كان محسنًا ندم أن لا يكون ازداد، وإن كان مسيئاً ندم أن لا يكون نَزَعَ". الثالث: حديث "ما رأيت مثل النار ... " وسبق الكلام عليه. الرابع: من طريق يعلى بن عبيد عنه ما في تحفة الأشراف (10/ 245 - 246) برقم (14125). وفي الأربع مواضع يذكره الترمذي بـ "يحيى بن عبيد الله". وللعلم فاسم جده عبد الله. 2 - حاشية ص 22 برقم (12) عزا الحديث لأحمد في المسند (5/ 74) ثم قال: في إسناده رجل من بني سلمة يقال له: سليم وهو مجهول وقد فاته أنَّه صحابي ففي تبويب المسند كتب حديث سليم من بني سلمة رضي الله تعالى عنه، ثم ذكر أنَّه أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وخاطبه النبي صلّى الله عليه وسلم كما في الحديث ثم قال: سليم: سترون غدًا إذا التقى القوم إن شاء الله -قال: والناس يتجهزون إِلَى أحد، فخرج وكان في الشهداء رحمة الله ورضوانه عليه. وذكره ابن حجر في الإصابة (2/ 75) في القسم الأول من الصحابة ثم أورد له حديث الباب من طريق عمرو بن يحيى المازني، عن معاذ بن رفاعة الزرقي، وإن رجلاً من بني سلمة يقال له: سليم أتي النبي صلّى الله عليه وآله وسلم ... الحديث وعزاه لأحمد والطبراني والبغوي والطحاوي، ثم أورد إسنادًا آخر وقال: والإسناد الأول مع إرساله أصح. قلت: فكيف يجعل الصحابي مجهولا؟ 3 - في هامش ص 23 برقم (13) عزا الحديث للبخاري برقم (3340)، ومسلم (194)، والصواب: أن البخاري رواه برقم (7437)، ومسلم برقم (182). 4 - في ص 29 السطر قبل الأخير: كتب ورواه بعضهم عن حمران، عن

أبي حرب بن الأسود مرسلاً أيضاً، والصواب: ابن أبي الأسود. 5 - ص 36 السطر الأول: كتب وعن ابن أبي الذباب أن طلحة وزيدًا، والصواب: وزبيرًا. 6 - ص 42 السطر الأول والثامن كتب "خازم بن جبلة"، والصواب: حازم بن جبلة، ثم نقل كلام ابن مخلد الدوري الحافظ عنه: لا يكتب حديثه. وهو مما يستدرك عَلَى الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 54) فقدأورد حديثًا عزاه للطبراني في الأوسط وقال: وفيه حازم بن جبلة ولم أعرفه. وفي نفس الصفحة السطر الأخير كتب وبإسناده عن البختري بن يزيد عن حارثة الأنصاري، والصواب: البختري بن يزيد بن (حارثة) (¬1) الأنصاري. 7 - ص 50 السطر (14) كتب وخرج الطبراني من حديث محمد بن أحمد ابن أبي خيثمة، حدثنا محمد بن علي، حدثنا أبي، عن زيد بن أسلم، عن أبيه، عن عمران، والصواب: محمد بن علي بن خلف العطار، قال: نا محمد بن علي بن عبد الله، حدثنا أبي، عن زيد بن أسلم، عن أبيه، عن عمر. 8 - السطر (9) كتب نقله عن الخلال في "كتاب السنة"، والصواب نقله عنه الحلال ... 9 - ص 75 السطر (10) كتب وروى عبد الله بن الوليد الوصافي، والصواب: عبيد الله .... 10 - ص 84 السطر (3) كتب رواه شبيب بن بشير، والصواب: شبيب ابن بشر. 11 - وفي السطر (4) كتب ورواه أبو خباب الكلبي، والصواب: أبو جناب الكلبي. 12 - ص 90 السطر (6) كتب ولا أعلم أحدًا رفعه غير يحيى بن أبي كثير، عن شريك، والصواب: يحيى بن أبي بكير. ¬

_ (¬1) له ترجمة في الثقات لابن حبان (6/ 115) قال ابن حبان: كان يجالس الثوري وشعبة، يروي عن العراقيين، روى عنه داود بن يزيد الأودي. قال محقق الثقات عند كلمة "حارثة" كذا في الأصل، وفي ظ، م: "جارية".

13 - ص 122 السطر (10) كتب عن محمد بن عمرو بن طلحة، والصواب: محمد بن عمرو بن حلحلة. 14 - ص 126 السطر (2) كتب كلهم يتبدر، والصواب: كلهم يبتدر. 15 - ص 127 السطر (5) كتب وروى سفيان عن بشير، والصواب: نسير وهو ابن ذعلوق. 16 - في السطر (8) كتب أنبأنا بكار عن عبد الله، والصواب: بكار بن عبد الله. 17 - ص 128 السطر (9) كتب ورواه ابن أبي الدُّنْيَا عن عبد الله بن عمر الجشمي، والصواب: عبيد الله. 18 - ص 140 السطر (16) كتب كالبغال الذل، وفي نسختنا: الدلم. 19 - ص 154 السطر (11) كتب قال علي بن أبي طالب، عن ابن عباس، والصواب: علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس. 20 - ص 199 السطر (12) كتب وروى الأعمش، عن مالك بن الحارث قال: والصواب: عن مالك بن الحارث، عن مغيث بن سمي قال: 21 - ص 204 السطر (3) كتب وقال عبد الله بن رياح الأنصاري، والصواب: رياح. 22 - ص 215 السطر (6) كتب حدثنا عبد الله بن غياث، والصواب: عبد الله بن عتاب. 23 - ص 219 السطر (7) كتب وروى حديث عن الشعبي، والصواب: وروى حريث. 24 - ص 234 السطر (12) كتب وخرج أيضاً بإسناده ابن مسعود، والصواب: عن ابن مسعود.

25 - ص 237 السطر (7) كتب ثم يؤتى بجهنم تعرض مأنها، والصواب: كأنها. 26 - ص 244 السطر (7) كتب وروى ابن المبارك، عن عباد المقبري، والصواب: عن عباد المنقري. 27 - ص 248 السطر (17، 18) كتب كذا خرجه مسلم عن عبد الله بن سعيد، والصواب: عبيد الله بن سعيد. 28 - ص 252 السطر (7) كتب {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا} عَلَى أنها آية من سورة مريم والصواب كما جاء في المخطوط، وفي متن الحديث: ثم ينجي الله الَّذِي اتقوا ونذر الظالمين فيها جثيا. معنى الآية، وليس نصها. 29 - آخر سطر عن زاذان بن نائل، والصواب: زبان بن فائد. 30 - ص 261 السطر (6) كتب عن سلمان بن الحكم بن عوانة، والصواب: وعن سليمان بن الحكم بن عوانة. 31 - ، وفي السطر (12) كتب قال ابن أبي الدُّنْيَا: وحدثني أبو حفص الصيرفي، أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، والصواب: أن عمر بن ذر كما في كتاب "حسن الظن بالله" لابن أبي الدُّنْيَا. وفي الحقيقة كتبت خطأ في المخطوط أيضاً، ولعل الَّذِي أوقع النساخ في هذا الخطأ أن أبا حفص الصيرفي شيخ ابن أبي الدُّنْيَا كنيته نفس كنية أمير المؤمنين عمر ابن الخطاب، وفي الأثر: "ثم بكى أبو حفص بكاء شديدًا". فظنوا أنَّه عمر ابن الخطاب رضي الله عنه. 32 - ص 268 السطر (11) كتب وكذا رواه هشام، عن محمد بن سيرين، عن محمد، عن أبي هريرة، والصواب: عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة. هذه هي بعض الأخطاء في أضبط النسخ المطبوعة لكتاب "التخويف من النار" وإلا فهناك بعض النسخ المطبوعة كتب فيها بدلا من حماد بن سلمة، حمادة بن

3 - رسالة المحجة في سير الدلجة:

سلمة. وبدلا من ابن جريج، ابن جريح وبدلا من المبارك بن فضالة، ابن فضلة. وبدلا من ابن أبي حاتم، ابن أبي الحاتم. وهذا مما يؤكد ضرورة ضبط جميع الكتب عَلَى مخطوطات، وإعادة النظر في التراث المطبوع دون تحقيق، وتحقيقه عَلَى يد متخصصين، وإعادة طبعه وتقديمه للباحثين ليسهل عليهم نقل المعلومة الصحيحة، والله الموفق لما فيه الخير. 3 - رسالة المحجة في سير الدلجة: ولها نسختان خطيتان تم تصوير إحداهما من مكتبة جامعة محمد بن سعود الإسلامية. النسخة الأولى: وتقع في (9) ورقات تحت فن تصوف وأخلاق دينية برقم (821) وناسخها سليمان بن عبد الرحمن العمري، وهي بخط حديث كتبت سنة 333 هـ، وهي من دشت كلية اللغة كما هو مبين عَلَى غلافها، وفي النسخة بعض الاختلاف في ترتيب الأوراق. النسخة الثانية: وتقع في (10) ورقات وقد اتخذتها أصلا رغم أنها ناقصة من آخرها إلا أنها أحسن ترتيبًا في أوراقها من النسخة الأخرى. وأما النسخة المطبوعة فهي بتحقيق يحيى مختار غزاوي طبعة دار البشائر الإسلامية وقد استفدت منها في مواضع، كما اقتبست العناوين التي وضعها المحقق وهي محققة تحقيقًا جيدًا وأسال الله أن يتقبل هذا العمل مني بقبول حسن وأن يجعله ذخرًا لي يوم ألقاه، وأن يجعله خالصًا لوجهه الكريم.

شكر وتقدير

شكر وتقدير أشكر كل من ساعدني في إخراج هذا المجلد ومنهم الأخ/ محمد سعيد الزيني، والأخ/ طلال الطرابيلي، والأخ/ حسان بن عبد الرحيم، والأخ/ عبد الرحمن بن شحاتة، كما أشكر الأخ أحمد المرشدي صاحب "مركز الصفا" عَلَى ما بذله هو والعاملون معه بالمكتب من جهد في إخراج هذا المجلد. وأخص بالشكر الوافر الشيخ الفاضل/ عصام الدين سعد صاحب "دار الفاروق الحديثة" حفظه الله وحفظ داره عَلَى طبعه للكتاب واهتمامه بكل ما هو جديد وجيد من تحقيقات تراثية فجزاه الله خيرًا وأعانه عَلَى المواصلة.

نماذج من صور بعض مخطوطات رسائل ابن رجب

نماذج من صور بعض مخطوطات رسائل ابن رجب

صورة غلاف "نسخة الإمبروزيانا" لكتاب اختيار الأولى

صورة الورقة الأولى من "نسخة الإمبرزيانا" لكتاب اختيار الأولى

صورة الورقة الأخيرة من "نسخة الإمبرزيانا"

صورة الورقة الأولى من "نسخة باستنبول" من كتاب "اختيار الأولى"

صورة الورقة قبل الأخيرة من "نسخة فاتح باستنبول" لكتاب "اختيار الأولى"

صورة الورقة الأخيرة من "نسخة فاتح باستنبول" لكتاب "اختيار الأولى"

صورة غلاف "كتاب التخويف من النار" نسخة علي الشبل "حفظه الله"

صورة الورقة الأولى "لكتاب التخويف من النار"

صورة الورقة الأخيرة "لكتاب التخويف من النار"

صورة غلاف "المحجة في سير الدلجة" برقم (821) تصوف وأخلاق دينية نسخة المكتبة المركزية بجامعة ابن سعود

صورة الورقة الأولى من "المحجة" نسخة ابن سعود برقم (821)

صورة الورقة الأخيرة من نسخة ابن سعود برقم (821)

صورة الورقة الأولى من النسخة الثانية "للمحجة في سير الدلجة"

صورة الورقة قبل الأخيرة من النسخة الثانية "للمحجة في سير الدلجة"

صورة الورقة الأولى من النسخة الثانية "للمحجة في سير الدلجة"

مَجْمُوع رَسَائِلْ الحَافِظْ ابْنِ رَجَب الحَنْبَلِيِّ زِين الدِّين أَبِي الفَرَج عَبْد الرَّحْمَن بْن أَحْمَد بْن رَجَب الحَنْبَلِيّ (736 - 795هـ) رَسَائِلُ جَمَعَتْ عُلُوماً شَتَّى فِي التَّوحِيدِ وَالفِقْهِ وَالتَّفْسِيرِ وَالحَدِيثِ وَالزُّهْدِ وَالأَدَبِ وَالمَوَاعِظِ وَالرَّقَائِقِ وَالسِّيَرِ وَالتَّارِيخِ جَمِيع الرَّسَائِل حُقِّقَتْ عَلَى نُسخٍ خطيَّة أَصْلِيَّة دِرَاسَة وَتَحْقِيق أَبِي مُصْعَبْ طَلْعَتْ بْن فُؤَادٍ الحُلْوَانِيِّ النَّاشِرُ الفَارُوقُ الحَدِيثَة لِلطِّبَاعَةِ وَالنَّشْرِ

36 - اختيار الأولى في شرح حديث اختصام الملأ الأعلى

اختيار الأولى في شرح حديث اختصام الملأ الأعلى

بسم الله الرحمن الرحيم وبه ثقتي الحمد لله رب العالمين، وصلاته وسلامه عَلَى محمد خاتم النبيين، وإمام (المتقين) (*)، ورسول رب العالمين، وعلى آله وصحبه أجمعين والتابعين لهم بإحسان إِلَى يوم الدين. خرَّج الإمام أحمد (¬1) -رحمه الله-: من حديث مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ - رضي الله عنه - قَالَ: احْتَبَسَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ غَدَاةٍ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ حَتَّى كِدْنَا نَتَرَاءَى قَرْنَ الشَّمْسِ، فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَرِيعًا فَثَوَّبَ (¬2) بِالصَّلَاةِ وَصَلَّى وَتَجَوَّزَ فِي صَلَاتِهِ، فَلَمَّا سَلَّمَ قَالَ: «كَمَا أَنْتُمْ عَلَى مَصَافِّكُمْ كَمَا أَنْتُمْ». ثُمَّ أَقْبَلَ (إِلَيْنَا) (**) فَقَالَ: "إِنِّي سَأُحَدِّثُكُمْ مَا حَبَسَنِي عَنْكُمُ الْغَدَاةَ: إِنِّي قُمْتُ مِنَ اللَّيْلِ فَصَلَّيْتُ مَا قُدِّرَ لِي، فَنَعَسْتُ فِي صَلَاتِي حَتَّى اسْتَثْقَلْتُ (¬3)، فَإِذَا أَنَا بِرَبِّي -عَزَّ وَجَلَّ- فِي أَحْسَنِ صُورَةٍ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ! فِيمَ يَخْتَصِمُ الْمَلَأُ الْأَعْلَى؟ قُلْتُ: لَا أَدْرِي رَبِّ. قَالَ: يَا مُحَمَّدُ! فِيمَ يَخْتَصِمُ الْمَلَأُ الْأَعْلَى؟. قُلْتُ: لَا أَدْرِي رَبِّ، قَالَ: يَا مُحَمَّدُ فِيمَ يَخْتَصِمُ الْمَلَأُ الْأَعْلَى؟ قُلْتُ: لَا أَدْرِي يا رَبِّ فَرَأَيْتُهُ وَضَعَ كَفَّه بَيْنَ كَتِفَيَّ حَتَّى وَجَدْتُ بَرْدَ أَنَامِلِهِ بَيْنَ صَدْرِي، وَتَجَلَّى لِي كُلُّ شَيْءٍ وَعَرَفْتُ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ فِيمَ يَخْتَصِمُ الْمَلَأُ الْأَعْلَى؟. قُلْتُ: فِي الْكَفَّارَاتِ وَالدَّرَجَاتُ. ¬

_ (*) المرسلين: "نسخة". (¬1) (5/ 243). (¬2) التثويب: إقامة الصلاة (النهاية مادة: ثوب). (**) علينا: "نسخة". (¬3) كذا في الأصول وجامع الترمذي وتوحيد ابن خزيمة، ووقع في المسند "استيقظت".

قَالَ: وَمَا الْكَفَّارَاتُ؟. قُلْتُ: نَقْلُ الْأَقْدَامِ إِلَى الْجُمُعَاتِ، وَالجُلُوسُ فِي الْمَسَاجِدِ بَعْدَ الصَّلَواتِ، وَإِسْبَاغُ الْوُضُوءِ (عَلَى) (*) الْكَرِيهَاتِ. فَقَالَ: وَمَا الدَّرَجَاتُ؟ قُلْتُ: إِطْعَامُ الطَّعَامِ وَلِينُ الْكَلَامِ، وَالصَّلَاةُ وَالنَّاسُ نِيَامٌ. قَالَ: سَلْ يَا مُحَمَّدُ. قُلْتُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ، وَتَرْكَ الْمُنْكَرَاتِ، وَحُبَّ الْمَسَاكِينِ، وَأَنْ تَغْفِرَ لِي وَتَرْحَمَنِي، وَإِذَا أَرَدْتَ فِتْنَةً فِي قَوْمٍ فَتَوَفَّنِي غَيْرَ مَفْتُونٍ، وَأَسْأَلُكَ حُبَّكَ وَحُبَّ مَنْ يُحِبُّكَ وَحُبَّ عَمَلٍ يُقَرِّبُنِي إِلَى حُبِّكَ". وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّهَا حَقٌّ فَادْرُسُوهَا وَتَعَلَّمُوهَا». وخرّجه الترمذي (¬1)، وقال: "حديث (حسن صحيح) (**) "، قال: وسألت محمد بن إسماعيل البخاري عن هذا، فَقَالَ: "هذا حديث حسن صحيح (¬2). ¬

_ (*) عند:"نسخة". (**) صحيح: "نسخة". (¬1) برقم (3235). (¬2) ونقل الترمذي في السنن (5/ 344) قول البخاري: هذا أصح من حديث الوليد بن مسلم عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر قال: حدثنا خالد بن اللجلاج حدثني عبد الرحمن بن عائش الحضرمي قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكر الحديث، وهذا غير محفوظ. هكذا ذَكَرَ الوليدُ في حديثه عن عبد الرحمن بن عائش قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وروى بشر بن بكر عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر هذا الحديث بهذا الإسناد عن عبد الرحمن بن عائش عن النبي صلّى الله عليه وسلم. وهذا أصح، وعبد الرحمن بن عائش لم يسمع من النبي صلّى الله عليه وسلم. وفي علل الترمذي الكبير (661) قال الترمذي: سألت محمدًا عن هذا الحديث فَقَالَ: عبد الرحمن بن عائش لم يدرك النبي صلّى الله عليه وسلم. وحديث الوليد بن مسلم غير صحيح. والحديث الصحيح ما رواه جهضم بن عبد الله عن يحيى بن أبي كثير حديث معاذ بن جبل هذا.

قلت: وفي إسناده اختلاف، وله طرق متعددة، وفي بعضها زيادة وفي بعضها نقصان، وقد ذكرت عامة أسانيده وبعض ألفاظه المختلفة في كتاب "شرح الترمذي". وفى بعض ألفاظه عند الإمام أحمد (¬1) والترمذي (¬2) أيضاً: "المشي عَلَى الأقدام إِلَى الجماعات" بدل "الجُمُعات". وفيه أيضاً عندهما (¬3) بعد ذكر الكفّارات زيادة: "ومن فعل ذلك عاش بخير ومات بخير وكان من خطيئته كيوم ولدته أمه". وفيه (¬4) أيضاً عندهما: "والدرجات: إفشاء السلام ... " بدلاً لين الكلام". وفي بعض رواياته (¬5): " ... فعلمت ما في "السماء" (*) والأرض". ثم تلى: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ} [الأنعام: 75]. وفي رواية أخرى (¬6): " ... فتجلَّى لي ما بين السماء والأرض". وفي رواية (¬7): ... "ما بين المشرق والمغرب". ¬

_ (¬1) (5/ 378) عن بعض أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلم. (¬2) برقم (3233) عن ابن عباس. قال الترمذي: وقد ذكروا بين أبي قلابة وبين ابن عباس في هذا الحديث رجلاً، وقد رواه قتادة عن أبي قلابة عن خالد بن اللجلاج عن ابن عباس: (¬3) انظر رقمي (1، 2). (¬4) الترمذي (3233). (¬5) أخرجه ابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (2585) بلفظ: "فعلمت ما في السماوات". (*) السماوات: "نسخة". (¬6) أخرجها الروياني في مسنده (656). (¬7) أخرجها الترمذي (3234) عن ابن عباس، وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه.

وفي بعضها زيادة في الدعاء الَّذِي فيه وهي (¬1): " ... وتتوب عَلَى.". وفي بعضها (¬2): "إصباغ الوضوء في السَّبرات". وفي بعضها (¬3): "وقال: يا محمد! إذا صلّيت فقلْ: اللهم إني أسألك فعل الخيرات ... " فذكره. والمقصود هنا: شرحُ الحديث وما يُستنبط منه من المعارف والأحكام وغير ذلك. ففي الحديث دلالة عَلَى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن من عادته تأخير صلاة الصبع إِلَى قرب طلوع الشمس، وإنما كانت عادتُه التغليس بها، وكان أحيانًا يسفر بها عند انتشار الضوء عَلَى وجه الأرض، وأما تأخيرها إِلَى قريب طلوع الشمس فلم يكن من عادته، ولهذا اعتذرَ لهم عنه في هذا الحديث. وقد قيل: إن تأخيرها إِلَى هذا الإسفار الفاحش لا يجوز لغير عذر، وأنَّه وقت ضرورة كتأخير العصر إِلَى بعد اصفرار الشمس، وهو قول القاضي من أصحابنا في بعض كتبه، وقد أومأ إِلَيْهِ الإمام أحمد، وقال: "هذه صلاة مفرط، إِنَّمَا الإسفار أن ينتشر الضوءُ عَلَى الأرض". وفي الحديث: دلالة عَلَى أنّ من أخَّر الصلاة إِلَى آخر الوقت لعذر أو غيره وخاف خروج الوقت في الصلاة إن طوّلها أن يخففها حتى يدركها كلَّها في الوقت. ¬

_ (¬1) أخرجها ابن أبي عاصم في السنة (388)، وفي الآحاد والمثاني (2585). (¬2) أخرجها البزار في البحر الزخار (2668)، والطبراني في الكبير (20/ 290)، الأوسط (5496). (¬3) أخرجها الترمذي (3233). وانظر في الكلام عَلَى هذا الحديث علل الدراقطني (6/ 54 - 57) برقم (973)، والعلل المتناهية لابن الجوزي (1/ 30 - 35)، فقد ذكر الدارقطني الخلاف في هذا الحديث ثم قال: ليس فيها صحيح، وكلها مضطربة، ونقل كلامه ابن الجوزي وقال: قال أبو بكر البيهقي: قد رُوي من أوجه كلها ضعاف.

وأما قول أبي بكر الصديق -رضي الله عنه- لما طوّل في صلاة الفجر وقرأ بالبقرة فقِيلَ لَهُ: كادت الشمس أن تطلع! فَقَالَ: "لو طلعت لم تجدنا غافلين" (¬1)، فإن أبا بكر -رضي الله عنه- لم يتعمد التأخير إِلَى طلوع الشمس ولا أن يُمدَّها ويطيلها حتى تطلع الشمس لأنه دخل فيها بغلس، وأطال القراءة وربما كان قد استغرق في تلاوته فلو طلعت الشمس حينئذٍ لم يضره لأنّه لم يكن متعمدًا لذلك. وهذا يدل عَلَى أنَّه كان يرى صحة الصلاة لمن طلعت عليه الشمس وهو في صلاته كما أمر النبي صلّى الله عليه وسلم من طلعت عليه الشمس -وقد صلّى ركعة من الفجر- أن يضيف إليها أخرى (¬2). وفي حديث معاذ: دليل عَلَى أن من رأى رؤيا تسرُّه فإنَّه يقصها عَلَى أصحابه وإخوانه المحبين له، ولاسيما إن تضمنت رؤياه بشارة لهم، وتعليمًا لما ينفعهم، وقد كان النبي صلّى الله عليه وسلم إذا صلّى الفجر يقول لأصحابه: "من رأى منكم الليلة رؤيا"؟ (¬3). وفيه أيضاً: أن من استثقل نومه في تهجده بالليل حتى رأى رؤيا تسره فإنَّ في ذلك بشرى له. وفي مراسيل الحسن: "إذا نام العبد -وهو ساجد- باهى الله به الملائكة، يقول: يا ملائكتي انظروا إِلَى عبدي: جسده في طاعتي وروحه عندي". وفيه: دلالة عَلَى شرف النبي صلّى الله عليه وسلم وتفضيله بتعليمه. ما في (السماوات) (*) والأرض، وتجلَّى ذلك له مما تختصم فيه الملائكة في السماء وغير ذلك، كما أُريَ ¬

_ (¬1) أخرجه الييهقي في السنن الكبير (1/ 379)، وفيه أن القراءة كانت "بآل عمران". (¬2) أخرجه "أحمد" (2/ 489). (¬3) أخرجه البخاري (1386)، ومسلم (2275) من حديث سمرة. (*) السماء: "نسخة".

إبراهيم ملكوت السماوات والأرض. وقد ورد في غير حديث مرفوعًا (¬1) وموقوفًا (¬2) أنَّه - صلى الله عليه وسلم - أعطي علم كلِّ شيء خلا مفاتيح الغيب الخمس التي اختص الله عز وجل بعلمها، وهي المذكورة في قوله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا} [لقمان: 34]. وأما وصف النبي صلّى الله عليه وسلم لربه عز وجل بما وصفه به فكل ما وصف النبي - صلى الله عليه وسلم - به ربه عز وجل فهو حق وصدق يجب الإيمان والتصديق به كما وصف الله عز وجل به نفسه مع نفي التمثيل عنه، ومن أشكل عليه فهم شيء من ذلك واشتبه عليه فليقل كما مدح الله تعالى به الراسخين في العِلْم وأخبر عنهم أنهم يَقُولُونَ عند المتشابه: {آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} [آل عمران: 7]. وكلما قال النبي صلّى الله عليه وسلم في القرآن: "وما جهلتهم منه فكلوه إِلَى عالمه"، خرّجه الإمام أحمد (¬3) والنسائي وغيرهما، ولا يتكلَّف ما لا علم له به فإنَّه يُخشى عليه من ذلك الهلكة. سمع ابن عباس يومًا من يروي عن النبي صلّى الله عليه وسلم شيئًا من هذه الأحاديث فانتفض رجل استنكارًا لذلك، فَقَالَ ابن عباس: "ما فرق هؤلاء؟! يجدون رقة عند محكمه، ويهلكون عند متشابهه" خرَّجه عبد الرزاق في "كتابه" (¬4) عن معم، عن ابن طاوس، عن أبيه، عن ابن عباس رضي الله عنهما. فكلما سمع المؤمنون شيئًا من هذا الكلام قالوا: هذا ما أخبرنا الله به ورسوله {وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا} [الأحزاب: 22]. ¬

_ (¬1) أخرجه "أحمد" (2/ 85 - 86) من حديث ابن عمر مرفوعًا. وقال الهيثمي في المجمع (8/ 263) رواه أحمد وأبو يعلى ورجالهما رجال الصحيح وهو بنحوه عند البخاري في صحيحه (1039) من حديث ابن عمر. وأخرجه أحمد (1/ 386، 438، 445) وغيره من حديث ابن مسعود. (¬2) أخرجه الطيالسي (1809) عن ابن عمر بنحوه. (¬3) في مسنده (2/ 185) وفي (2/ 181، 300) بلفظ: "فردوه إِلَى عالمه". (¬4) كما في الجامع لمعمر (11/ 423 مع المصنف) برقم (20895).

وفي الحديث دلالة عَلَى أن الملأ الأعلى -وهم الملائكة أو المقرَّبون منهم- يختصمون فيما بينهم، ويتراجعون القول في الأعمال التي تُقرِّب بني آدم إِلَى الله عز وجل وتكفر بها عنهم خطاياهم، وقد أخبر الله عنهم بأنهم يستغفرون للذين آمنوا ويدعون لهم. وفي الحديث الصحيح (¬1): "إن الله إذا أحبَّ عبدًا نادى: يا جبريل إني أَحَبّ فلانًا فأحبه، فيحبه جبريل ثم ينادي في السماء: إن الله يحب فلانًا فأحبوه، فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في الأرض". وقال أبو هريرة رضي الله عنه: "إذا مات ابن آدم قال الناس: ما خلَّف؟. وقالت الملائكة: ما قدَّم؟ " (¬2). فالملائكة يسألون عن أعمال بني آدم ولهم اعتناء بذلك واهتمامٌ به. وبقي الكلام عَلَى المقصود من الحديث، وهو: ذكر الكفّارات والدرجات والدعوات، ونعقد لكل واحدة منها فصلاً مفردًا. ... ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (3209)، ومسلم (2637). (¬2) أخرجه البيهقي في "الشعب" (10475) بلفظ: "إذا مات الميت، قالت الملائكة: ما قدَّم، وقال بنو آدم ما خلف".

الفصل الأول في ذكر الكفارات

الفصل الأول في ذكر الكفَّارات وهي إسباغ الوضوء في الكريهات، ونقل الأقدام إِلَى الجُمعات (أو) (*) الجماعات، والجلوس في المساجد بعد الصلوات. وسميت هذه كفارات لأنها تكفر الخطايا والسيئات، ولذلك جاء في بعض الروايات: "من فعل ذلك عاش بخير، ومات بخير، وكان من خطيئته كيوم ولدته أمه". وهذه الخصال المذكورة الأغلب عليها تكفيرُ السيئات، ويحصل بها أيضاً رفعُ الدرجات كما في صحيح مسلم (¬1) عن أبي هريرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "ألا أدلكم عَلَى ما يمحو الله به الخطايا، ويرفع به الدرجات؟! ". قالوا: بلى يا رسول الله. قال: "إسباغ الوضوء عَلَى المكاره، وكثرة الخطأ إِلَى المساجد، وانتظارُ الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرِّباط، فذلكم الرباط". وقد رُوي هذا المعنى عن النبي صلّى الله عليه وسلم من وجوه متعددة. فهذه ثلاثة أسباب تُكفَّر بها الذنوب: أحدها: الوضوء، وقد دلَّ القرآن عَلَى تكفيره للذنوب في قوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} إلى قوله {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ} [المائدة: 6] فقوله تعالى: {لِيُطَهِّرَكُمْ} يشمل طهارة ظاهر البدن بالماء، وطهارة الباطن من الذنوب والخطايا، وإتمامُ النعمة إِنَّمَا يحصل بمغفرة الخطايا وتكفيرها، كما قال تعالى لنبيه ¬

_ (*) (و): "نسخة". (¬1) برقم (251).

- صلى الله عليه وسلم -: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ} [الفتح: 2]. وقد استنبط هذا المعنى محمد بن كعب القرظي، ويشهد له الحديث الَّذِي خرّجه الترمذي (¬1) وغيره (¬2) عن معاذ رضي الله عنه أن النبي صلّى الله عليه وسلم سمع رجلاً يدعو، يقول: اللهم إني أسألك تمام النعمة. فَقَالَ له: "أتدري ما تمامُ النعمة؟ ". قال: دعوةٌ دعوت بها، أرجو بها الخير. فَقَالَ النبي صلّى الله عليه وسلم: "إن تمام النعمة: النجاةُ من النار، ودخول الجنة". فلا تتِمُّ نعمة الله عَلَى عبده إلا بتكفير سيئاته. وقد تكاثرت النصوص عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بتكفير الخطايا بالوضوء كما في "صحيح مسلم" (¬3) عن عثمان رضي الله عنه أنَّه توضأ ثم قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - توضأ مثل وضوئي هذا ثم قال: "من توضأ هكذا غُفرَ له ما تقدم من ذنبه وكانت صلاته ومشيه إِلَى المسجد نافلة". وفيه (¬4) أيضاً عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: "من توضأ فأحسن الوضوء خرجت خطاياه من جسده حتى تخرج من تحت أظفاره". وفيه أيضاً (¬5) عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: "إذا توضأ ¬

_ (¬1) برقم (3527) وقال: هذا حديث حسن. (¬2) أخرجه أحمد (5/ 231، 235)، والبخاري في الأدب المفرد (725)، والطبراني في الكبير (20/ 97)، وأبو نعيم في الحلية (6/ 204). قال أبو نعيم في الحلية: تفرد به عن اللجلاج أبو الورد، وحدث به الأكابر عن الجريري منهم: إسماعيل بن علية، ويزيد بن زريع، وعنهما الإمامان: علي بن المديني، وأحمد بن حنبل. (¬3) برقم (229). (¬4) برقم (245). (¬5) برقم (244).

العبد المسلم - أو المؤمن - فغسل وجهه خرج من وجهه كل خطيئة نظر إليها بعينيه مع الماء -أو مع آخر قطر الماء، فَإِذَا غسل يديه خرج من يديه كل خطيئة كان بطشتها يداه مع الماء -أو مع آخر قطر الماء- حتى يخرج نقيًّا من الذنوب". وفيه أيضاً (¬1) عن عمرو بن عَبَسَة رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «مَا مِنْكُمْ مِنْ رَجُلٌ يُقَرِّبُ وَضُوءَهُ فَيَتَمَضْمَضُ وَيَسْتَنْشِقُ فَيَنْتَثِرُ إِلَّا (خَرَّجت) (*) خَطَايَا وَجْهِهِ وَفِيهِ وَخَيَاشِيمِهِ، ثُمَّ إِذَا غَسَلَ وَجْهَهُ كَمَا أَمَرَهُ اللهُ إِلَّا (خَرَّجت) (*) خَطَايَا وَجْهِهِ مِنْ أَطْرَافِ لِحْيَتِهِ مَعَ الْمَاءِ، ثُمَّ يَغْسِلُ يَدَيْهِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ إِلَّا خَرَّجت خَطَايَا يَدَيْهِ مِنْ أَنَامِلِهِ مَعَ الْمَاءِ، ثُمَّ يَمْسَحُ رَأْسَهُ إِلَّا خَرَّجت خَطَايَا رَأْسِهِ مِنْ أَطْرَافِ شَعْرِهِ مَعَ الْمَاءِ، ثُمَّ يَغْسِلُ قَدَمَيْهِ إِلَى الْكَعْبَيْنِ إِلَّا خَرَّجت خَطَايَا رِجْلَيْهِ مِنْ أَنَامِلِهِ مَعَ الْمَاءِ، فَإِنْ هُوَ قَامَ فَصَلَّى فَحَمِدَ اللهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَمَجَّدَهُ بِالَّذِي هُوَ أَهْله وَفَرَّغَ قَلْبَهُ لِلَّهِ إِلَّا انْصَرَفَ مِنْ خَطِيئَتِهِ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ». وفي "الموطأ" (¬2) "ومسند الإمام أحمد" (¬3) "وسنن النسائي" (¬4) "وابن ماجه" (¬5) عن الصنابحي عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «إِذَا تَوَضَّأَ الْمُؤْمِنُ فَمَضْمَضَ خَرَجَتِ الْخَطَايَا مِنْ فِيهِ، فَإِذَا اسْتَنْثَرَ خَرَجَتِ الْخَطَايَا مِنْ أَنْفِهِ، فَإِذَا غَسَلَ وَجْهَهُ خَرَجَتِ الْخَطَايَا مِنْ وَجْهِهِ حَتَّى تَخْرُجَ مِنْ تَحْتِ أَشْفَارِ عَيْنَيْهِ، فَإِذَا غَسَلَ يَدَيْهِ خَرَجَتِ الْخَطَايَا مِنْ يَدَيْهِ حَتَّى تَخْرُجَ مِنْ تَحْتِ أَظْفَارِ يَدَيْهِ، فَإِذَا مَسَحَ بِرَأْسِهِ خَرَجَتِ الْخَطَايَا مِنْ رَأْسِهِ حَتَّى تَخْرُجَ مِنْ أُذُنَيْهِ، فَإِذَا غَسَلَ رِجْلَيْهِ خَرَجَتِ الْخَطَايَا مِنْ رِجْلَيْهِ حَتَّى تَخْرُجَ مِنْ تَحْتِ أَظْفَارِ رِجْلَيْهِ، ثُمَّ كَانَ مَشْيُهُ إِلَى الْمَسْجِدِ وَصَلاَتُهُ نَافِلَةً». ¬

_ (¬1) برقم (832). (*) في صحيح مسلم "خرَّت". (¬2) (1/ 56) برقم [301]. (¬3) (4/ 348، 349). (¬4) (1/ 74، 75). (¬5) برقم (282).

وفي "المسند" عن أبي أمامة (¬1) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَتَوَضَّأُ فَيَغْسِلُ يَدَيْهِ وَيُمَضْمِضُ فَاهُ وَيَتَوَضَّأُ كَمَا أَمَرَ اللهُ إِلَّا حَطَّ اللهُ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ: مَا نَطَقَ بِهِ فَمُهُ، وَمَا مَسَّ بِيَدَيْهِ، وَمَا مَشَى إِلَيْهِ، حَتَّى إِنَّ الْخَطَايَا تَحَادَرُ مِنْ أَطْرَافِهِ، ثُمَّ إِذَا هُوَ مَشَى إِلَى الْمَسْجِدِ فَرِجْلٌ تَكْتُبُ حَسَنَةً، وَأُخْرَى تُمْحِي سَيِّئَةً». وفيه أيضًا (¬2) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "أيما رجل قام إلى وضوئه يريد الصلاة ثم غسل كفيه، نزلت خطيئته من كفيه مع أول قطرة، فإذا مضمض واستنشق واستنثر نزلت خطيئته من لسانه وشفتيه مع أول قطرة، فإذا غسل وجهه نزلت خطيئته من سمعه وبصره مع أول قطرةٍ، فإذا غسل يديه إلى المرفقين ورجليه إلى الكعبين سلم من كل ذنب هو له، ومن كل خطيئة كهيئته يوم ولدته أمه، فإذا قام إلى الصلاة رفع الله بها درجته، وإن قعد قعد سالماً". وفي هذا المعنى أحاديثُ (أخر) (*)، وفيما ذكرناه كفاية. وقد وردت النصوص أيضاً بحصول الثواب عَلَى الوضوء، وهذا زيادة عَلَى تكفير السيئات به: ففي "صحيح مسلم" (¬3) عن عمر رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: "مَنْ تَوَضَّأ فَأحْسن الْوضُوء ثمَّ قَالَ: أشهد أَن لَا اله الا الله وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، فُتِحَتْ لَهُ أَبْوَابٍ مِنَ الْجَنَّةِ الثَمَانِيَةُ، يَدْخُلُ مِنْ أَيِّهَا شَاءَ". وفيه أيضاً (¬4): عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلم: "تبلغ الحلية من المؤمن حيث ¬

_ (¬1) لم أجده في "المسند" وهو عند "الطبرانى في "الكبير" (8/ 7995) قال: الهيثمي في "المجمع" (1/ 223): رواه الطبراني في "الكبير" وفيه: لقيط أبو المساور (*)، روى عن أبي أمامة، وروى عنه الجريري وقرة بن خالد، وقد ذكره ابن حبان في الثقات، وقال يخطئ ويخالف. (¬2) أخرجه أحمد (5/ 252، 256، 263، 264) من طرق عن شهر بن حوشب. وشهر ضعيف. وانظر الترغيب والترهيب للمنذرى (1/ 155) ومجمع الزوائد للهيثمي (1/ 222 - 226). (*) كثيرة: "نسخة". (¬3) برقم (234). (¬4) برقم (250).

يبلغ الوضوء". وفيه أيضاً (¬1): عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: "أنتم الغر المحجلون من إسباغ الوضوء". وخرّجه البخاري (¬2)، ولفظه: "إن أمتي يدعون يوم القيامة غرًّا محجلين من أثر الوضوء". واعلم أن حديث معاذ بن جبل في المنام إِنَّمَا فيه ذكر إسباغ الوضوء عَلَى الكريهات، وكذا في حديث أبي هريرة المبدوء بذكره في هذا الفصل، فهاهنا أمران: أحدهما: إسباغ الوضوء، وهو إتمامه إبلاغه مواضعه الشرعية كالثوب السابغ المغطي للبدن. وفي "مسند البزار" (¬3) عن عثمان مرفوعًا: "من توضأ فأسبغ الوضوء غُفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر". إسناده لا بأس به، وأخرجه ابن أبي عاصم (¬4) من وجه آخر عن عثمان. وخرَّج النسائي (¬5) وابن ماجه (¬6) من حديث أبي مالك الأشعري رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: "إسباغ الوضوء شطر الإيمان". [وخرّجه مسلم (¬7)، ولفظه: "الطهور شطر الإيمان"] (*). ¬

_ (¬1) برقم (246). (¬2) برقم (136). (¬3) برقم (262 - كشف) بنحوه وقال الهيثمي في "المجمع" (1/ 237): "ورجاله موثقون والحديث حسن إن شاء الله، وكذا حسنه المنذري فى الترغيب والترهيب (1/ 103). (¬4) لم أقف عليه. (¬5) في المجتبى (5/ 5). (¬6) برقم (280). (¬7) برقم (223). (*) ما بين المعقوفتين من المطبوع.

وثانيهما: أن يكون إسباغه عَلَى الكريهات، والمراد أن يكون عَلَى حالة تكره النفس فيها الوضوء، وقد فُسِّر بحال نزول المصائب فإن النفس حينئذٍ تطلب الجزع، فالاشتغال عنه بالصبر والمبادرة إِلَى الوضوء والصلاة من علامة الإيمان كما قال الله عز وجل: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ} [البقرة: 45] وقال تعالى: {أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 153]. والوضوء مفتاح الصلاة، وقد يٌطفأ به حرارة القلب الناشئة عن ألم المصائب، كما يؤمر من غضب بإطفاء غضبه بالوضوء. وفُسِّرت الكريهات بالبرد الشديد، ويشهد له أن في بعض روايات حديث معاذ: " ... إسباغ الوضوء (عَلَى) (*) السبرات"، والسبرة: شدة البرد، ولا ريب أن إسباغ الوضوء في البرد يشق عَلَى النفس وتتألم به، وكل ما يؤلم النفوس ويشق عليها فإنَّه كفارة للذنوب وإن لم يكن للإنسان فيه صنعٌ ولا تسبب كالمرض وغيره كما دلت النصوص الكثيرة عَلَى ذلك. وأما إن كان ناشئًا عن فعل هو طاعة لله فإنَّه يكتب لصاحبه به أجر، وترفعِ به درجات كالألم الحاصل للمجاهد في سبيل الله تعالى، قال الله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ} [التوبة: 120]، وكذلك [ألم] (**) الجوع والعطش الَّذِي يحصل للصائم، فهكذا التألم بإسباغ الوضوء في البرد. ويجب الصبر عَلَى الألم بذلك، فإن حصل به الرضى فذلك مقام خواصِّ العارفين المحبين، وينشأ الرضا بذلك عن ملاحظة أمور: أحدها: تذكر فضل الوضوء من حطَّه للخطايا، ورفعه للدرجات وحصول الغرة والتحجيل به، وبلوغ الحلية في الجنة إِلَى حيث يبلغ، وهذا كما انكسر ظفر ¬

_ (*) في: "نسخة". (**) من المطبوع.

بعض الصالحات من السَّلف من عثرة عثرتها فضحكت وقالت: أنساني حلاوة ثوابه مرارة وجعه. وقال بعض العارفين: من لم يعرف ثواب الأعمال ثَقُلت عليه في جميع الأحوال. الثاني: تذكُّر ما أعده الله عز وجل لمن عصاه من العذاب بالبرد والزمهرير، فإن [شدة] (*) برد الدُّنْيَا يذكِّر بزمهرير جهنم، وفي الحديث الصحيح (¬1): "إن أشد ما تجدون من البرد من زمهرير جهنم". فملاحظة هذا الألم الموعود يهون الإحساس بألم برد الماء، كما رُوي عن زبيد اليامي أنَّه قام ليلة للتهجد -[وكان] (*) البرد شديدًا- فلما أدخل يده في الإناء وجد شدة برده فذكر زمهرير جهنم فلم يشعر ببرد الماء بعد ذلك، وبقيت يده في الماء حتى أصبح، فقالت له جاريته: مالك لم تصل الليلة كما كنت تصلي؟!. فَقَالَ: إني لما وجدت شدة برد الماء (ذكرتُ) (**) زمهرير جهنم فما شعرت به حتى أصبحت، فلا تخبري بهذا أحدًا ما دمت حيًّا. الثالث: ملاحظة جلال من أمر بالوضوء، ومطالعة عظمته وكبريائه، وتذكُّر التهيؤ للقيام بين يديه ومناجاته في الصلاة (فذلك يهوِّن) ( ... ) كل ألم ينال العبدَ في طلب مرضاته من برد الماء وغيره، وربما لم يشعر بألمه بالكلية كما قال بعض العارفين: بالمعرفة هانت عَلَى العاملين العبادة. قال سعيد بن عامر: بلغني أن إبراهيم الخليل عليه السلام كان إذا توضأ سُمع لعظامه قعقعة. ¬

_ (*) من المطبوع. (¬1) أخرجه البخاري (536)، مسلم (617). (**) تذكرت: "نسخة". ( ... ) فبذلك يهون: "نسخة".

وكان علي بن الحسين إذا توضأ اصفر لونه، فيقال له: ما هذا الَّذِي يعتريك عند الوضوء؟!. فيقول أتدرون بين يدي من أريد أن أقوم؟. وكان منصور بن زاذان إذا فرغ من وضوئه يبكي حتى يرتفع صوته، (فقيل) (*) له: ما شأنك؟!. (فَقَالَ) (**): وأي شيء أعظم من شأني، إني أريد أن أقوم بين يدي من لا تأخذه سنة ولا نوم، فلعله (يعرض) ( ... ) عني. وكان عطاء السليمي إذا فرغ من وضوئه ارتعد وانتفض وبكى بكاءً شديدًا، فقِيلَ لَهُ في ذلك، فَقَالَ: إني أريد أن أتقدم إِلَى أمر عظيم: إني أريد أن أقوم بين يدي الله عز وجل. الرابع: استحضار اطلاع الله عز وجل عَلَى عبده في حال العمل له، وتحمل المشاق لأجله، فمن تيقَّن أن البلاء بعين من يحبه هان عليه الألم كما أشار تعالى إِلَى ذلك وله عز وجل لنبيه - صلى الله عليه وسلم -: {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} [الطور: 48]. وقوله تعالى لموسى وهارون -عليهما السلام-: {لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه: 46]. وقال: "اعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنَّه يراك" (¬1). وقال أبو سليمان الداراني: قرأت في بعض الكتب: يقول الله عز وجل: "بعيني ما تحمَّل المتحمِّلون من أجلي، وكابد المكابدون في طلب مرضاتي، فكيف بهم وقد صاروا في جواري، وتبحبحوا في رياض خلدي؟ فهنالك فليبشر المُصَفُّون لله أعمالهم بالمنظر العجيب من الحبيب ¬

_ (*) فيقال: "نسخة". (**) فيقول: "نسخة". ( ... ) في المطبوع: "يرضى". (¬1) أخرجه البخاري (50) ومسلم (8) في سياق حديث جبريل الطويل.

القريب، أترون أني أضيع لهم عملاً؟ فكيف وأنا أجود عَلَى المولين عني، فكيف بالمقبلين إليّ؟ ". فبإسباغ الوضوء في البرد -لاسيما في الليل- يطلع الله عليه، ويرضى به، ويباهي به الملائكة، فاستحضار ذلك يهون ألمه. وفي "المسند" (¬1) وصحيح ابن حبان (¬2) عن عقبة بن عامر عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: "رجلان من أمتي يقوم أحدهما من الليل يعالج نفسه إِلَى الطهور وعليه عُقَدٌ فيتوضأ، فَإِذَا وضّأ يديه انحلَّت عقدة، وإذا وضّأ وجهه انحلَّت عقدة، إذا مسح برأسه انحلّت عقدة، وإذا وضّأ رجليه انحلَّت عقدة، فيقول الرب عز وجل للذين وراء الحجاب: انظروا إِلَى عبدي هذا يعالج نفسه، ما سألني عبدي هذا فهو له ... " وذكر بقية الحديث. وروى عطية عن أبي سعيد عن النبي صلّى الله عليه وسلم: "إن الله يضحك إِلَى ثلاثة نفر: رجل قام من جوف الليل فأحسن الطُّهور فصلى ... " (¬3) وذكر الحديث. كان بعض السَّلف له ورد بالليل ففتر عنه، فهتف به هاتف يقول: بعين الله في الليل لما يصنع خدّامه ... إذا قاموا وحثَّتهم عَلَى الخدمة أحكامه الخامس: الاستغراق في محبة من أمر بهذه الطاعة، وأنه يرضى بها ويحبها كما قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة: 222]، فمن امتلأ قلبه من محبة الله عز وجل أَحَبّ ما يحبه وإن شق عَلَى النفس وتألمت به، كما يقال: المحبة تهوَّن الأثقال. وقال بعض السَّلف في مرضه: أحَبُّهُ إِلَيّ أحَبُّهُ إِلَيْهِ. ¬

_ (¬1) (4/ 159، 201) وقال الهيثمي في المجمع (1/ 224) عن الثاني: رجاله ثقات. (¬2) برقم (168 - موارد). (¬3) أخرجها "البزار" (715 - كشف) من طريق محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن عطية العوفي به، وقال الهيثمي في المجمع (2/ 256)، فيه محمد بن أبي ليلى وفيه كلام كثير لسوء حفظه لا لكذبه.

وكما قيل: فما لجرح إذا أرضاكم ألم وكما قيل أيضاً: في حبكم يهون ما قد ألقى ... ما يسعد بالنعيم من لا يشقى من خدم من يحب تلذّذ بشقائه في خدمته. وقال بعضهم: القلبُ المحبُّ لله يحب النصب له. وقال عبد الصمد: أوجدهم في عذابه عُذوبة. فإسباغ الوضوء عَلَى المكاره من علامات المحبِّين كما في "كتاب الزهد" للإمام أحمد (¬1) عن عطاء بن يسار قال: "قال موسى عليه السلام: يا رب! من أهلك الذين هم أهلك، الذين تظلهم في ظل عرشك؟. قال: هم البريئة (أيديهم) (*)، الطاهرة قلوبهم، الذين يتحابون بجلالي، الذين إذا ذُكرت ذكروا بي، وإذا ذُكروا ذكرت بذكرهم، الذين يُسبغون الوضوء في المكاره، ويُنيبون إِلَى ذكري كما تنيب النسور إِلَى أوكارها، ويكلفون بحبي كما يكلف الصبي بحب الناس، ويغضبون لمحارمي إذا استحلت كما يغضب النمر إذا حَرِبَ". وقد يخرق الله العادة لبعض المحبِّين له فلا يجد ألم برد الماء، كما كان بعض السَّلف قد دعا الله أن يهوِّن عليه الطهور في الشتاء، فكان يؤتى بالماء وله بخار، وربما سُلِب بعضهم الإحساس في الحرِّ والبرد مطلقًا. وكان علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- قد دعا له النبي صلّى الله عليه وسلم أن يذهب الله عنه الحر والبرد، فكان يلبس في الصيف لباس الشتاء، وفي الشتاء لباس ¬

_ (¬1) (ص 74 - 75) وبين عطاء بن يسار وموسى عليه السلام مفاوز تنقطع فيها أعناق المطي. (*) أبدانهم: "نسخة".

الصيف (¬1). وقال النبي صلّى الله عليه وسلم فيه: "إنه يحب الله رسوله، ويحبه الله ورسوله" (¬2). ورأى أبو سليمان الداراني في طريق الحج في شدة برد الشتاء شيخًا عليه أخلاقٌ رثَّة وهو يرشح عرقًا، فسأله عن حاله، فقال: إِنَّمَا الحر والبرد خلقان لله عز وجل، فإن أمرهما أن يغشياني أصاباني، لأن أمرهما أن يتركاني تركاني. وقال: أنا في هذه البرية منذ ثلاثين سنة يلبسني في البرد فيحًا من محبته، ويُلبسني في الصيف بردًا من محبته. وقيل لآخر -وعليه خرقتان في برد شديد: لو استترت في موضع يكنك من البرد!. فأنشد: ويحسن ظني أنني في فنائه ... وهل أحدٌ في كنِّه يجد البردا ... ¬

_ (¬1) أخرجه ابن ماجه (117) قال البوصيري في الزوائد (1/ 70): هذا إسناد ضعيف، ابن أبي ليلى شيخ وكيع هو محمد، وهو ضعيف الحفظ لا يحتج بما ينفرد به وأخرجه الطبراني في الأوسط (2286) وقال الهيثمي في المجمع (9/ 122): إسناده حسن. (¬2) أخرجه البخاري (3009)، ومسلم (2406).

السبب الثاني من مكفرات الذنوب: المشي على الأقدام إلى الجماعات وإلى الجمعات

السبب الثاني من مكفّرات الذنوب: المشيُ عَلَى الأقدام إِلَى الجماعات وإلى الجُمُعات ولا سيما إن توضأ الرجل في بيته ثم خرج إِلَى المسجد لا يريد بخروجه إلا الصلاة فيه كما في الصحيحين (¬1) عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: "صَلاَةُ الرَّجُلِ فِي الجَمَاعَةِ تُضَعَّفُ عَلَى صَلاَتِهِ فِي بَيْتِهِ وَفِي سُوقِهِ خَمْسة وَعِشْرِينَ ضِعْفًا، وَذَلِكَ أَنَّهُ إِذَا تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ الوُضُوءَ ثُمَّ خَرَجَ إِلَى المَسْجِدِ لاَ يُخْرِجُهُ إِلَّا الصَّلاَةُ لَمْ يَخْطُ خَطْوَةً إِلَّا رُفِعَتْ لَهُ بِهَا دَرَجَةٌ، وَحُطَّ عَنْهُ بِهَا خَطِيئَةٌ، فَإِذَا صَلَّى لَمْ تَزَلِ المَلاَئِكَةُ تُصَلِّي عَلَيْهِ مَا دَامَ فِي مُصَلَّاهُ: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَيْهِ، اللَّهُمَّ ارْحَمْهُ، وَلاَ يَزَالُ أَحَدُكُمْ فِي صَلاَةٍ مَا انْتَظَرَ الصَّلاَةَ". وفي صحيح (¬2) مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «مَنْ تَطَهَّرَ فِي بَيْتِهِ ثُمَّ مَشَى إِلَى بَيْتٍ مَنْ بُيُوتِ اللهِ لِيَقْضِيَ فَرِيضَةً مِنْ فَرَائِضِ اللهِ، كَانَتْ خَطْوَتَاهُ (*) إِحْدَاهُمَا تَحُطُّ خَطِيئَةً، وَالْأُخْرَى تَرْفَعُ دَرَجَةً». وفي الصحيحين (¬3) عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "كل خطوة يمشيها إِلَى الصلاة صدقة". وفي "المسند" (¬4) وصحيح ابن حبان (¬5) عن عقبة بن عامر عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (647)، ومسلم (649). (¬2) برقم (666). (*) خطواته: "نسخة". (¬3) ليس في الصحيحين بهذا اللفظ عن أبي هريرة، وأخرجه أحمد (2/ 312، 316، 350). (¬4) (4/ 157). (¬5) برقم (2045 - إحسان).

"إذا تطهر الرجل ثم أتى المسجد يرعى الصلاة كتب له كاتباه بكل خطوة يخطوها إِلَى المسجد عشر حسنات" (¬1). وفيهما أيضًا (¬2) عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: "مَنْ رَاحَ إِلَى مَسْجِدِ الْجَمَاعَةِ فَخَطَوَاتِهِ: خَطْوَةٌ تَمْحُو سَيِّئَةً، وَخَطْوَةٌ تُكْتَبُ حَسَنَةٌ ذَاهِبًا وَرَاجِعًا". وفي سنن أبي داود (¬3) عن أبي أمامة عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: "من خرج من بيته متطهرًا إِلَى صلاة مكتوبة فأجره كأجر الحاج المحرم". وفية (¬4) أيضاً عن رجل من الأنصار عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَنْ تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ ثُمَّ خَرَجَ إِلَى الصَّلَاةِ، لَمْ يَرْفَعْ قَدَمَهُ الْيُمْنَى إِلَّا كَتَبَ اللَّهُ لَهُ بِهَا حَسَنَةً، وَلَمْ يَضَعْ قَدَمَهُ الْيُسْرَى إِلَّا حَطَّ اللَّهُ عَنْهُ بِهَا خَطِيئَةً، فَلْيُقَرِّبْ أَوْ لِيُبَعِّدْ، فَإِنْ أَتَى الْمَسْجِدَ فَصَلَّى فِي جَمَاعَةٍ غُفِرَ لَهُ". والأحاديث في هذا المعنى كثيرة جدًّا. والمشي إِلَى الجُمُعات له مزيد فضل، لاسيما إن كان بعد الاغتسال، كما في السنن (¬5) عن أوس بن أوس -عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «مَنْ غَسَّلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ ¬

_ (¬1) قال المنذري في الترغيب (1/ 207) عن هذا الحديث: "بعض طرقه صحيح" وقال الهيثمي في المجمع (2/ 29): "رواه أحمد وأبو يعلى والطبراني في الكبير والأوسط، وفي بعض طرقه ابن لهيعة، وبعضها صحيح وصححه الحاكم" قلت: ولفظ الحكم في المستدرك (1/ 211): هذا حديث صحيح عَلَى شرط مسلم ولم يخرجاه. (¬2) أخرجه أحمد (2/ 172)، وابن حبان (419 - موارد). وقال الهيثمي في المجمع (2/ 29) رواه أحمد والطبراني في الكبير، ورجال الطبراني رجال الصحيح ورجال أحمد فيهم ابن لهيعة. (¬3) برقم (558). (¬4) برقم (563). (¬5) أخرجه أبو داود برقم (345، 346)، والترمذي (496) وقال: حسن، والنسائي (3/ 95، 96، 97)، وابن ماجه (1087).

وَاغْتَسَلَ، وَبَكَّرَ وَابْتَكَرَ، وَمَشَى وَلَمْ يَرْكَبْ، وَدَنَا مِنَ الْإِمَامِ، وَاسْتَمَعَ وَلَمْ يَلْغُ، كَانَ لَهُ بِكُلِّ خُطْوَةٍ أَجْرُ سَنَةٍ: صِيَامِهَا وَقِيَامِهَا». وكلما بعد المكان الَّذِي يمشي منه إِلَى المسجد كان المشي منه أفضل لكثرة الخُطا. وفي صحيح مسلم (¬1) عن جابر قال: كانت دارُنا نائية عن المسجد، فأردنا أن نبيع بيوتنا فنقرب من المسجد، فنهانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال: "إن لكم بكل خطوة حسنة". وفي صحيح البخاري (¬2) عن أنس أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: "يا بني سلمة! ألا تحتسبون آثاركم؟ ". وفي الصحيحين (¬3) عن أبي موسى أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: "إن أعظم الناس أجرًا في الصلاة: أبعدهم إليها ممشى فأبعدهم". ومع هذا فنفس الدار القريبة من المسجد أفضل من الدار البعيدة عنه لكنَّ المشي من الدار البعيدة أفضل. ففي المسند (¬4) عن حذيفة عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «فَضْلُ الدَّارِ الْقَرِيبَةِ مِنَ الْمَسْجِدِ عَلَى الدَّارِ البَعِيدَةِ الشَّاسِعَةِ كَفَضْلِ الْغَازِي عَلَى الْقَاعِدِ» وإسناده منقطع. والمشيُ إِلَى المسجد أفضل من الركوب كما تقدّم في حديث أوس في الجُمُعة، ولهذا جاء في حديث معاذ ذكرُ المشي عَلَى الأقدام، وكان النبي صلّى الله عليه وسلم لا يخرجُ إِلَى الصلاة إلا ماشيًا حتى العيد يخرج إِلَى المُصلَّى ماشيًا، فإن الآتي للمسجد زائر ¬

_ (¬1) برقم (664). (¬2) برقم (655). (¬3) أخرجه البخاري (651)، ومسلم (662). (¬4) (5/ 387) وقال الهيثمي في المجمع (2/ 16): رواه أحمد وفيه ابن لهيعة وفيه كلام. قلت: وفي إسناده أبي عبد الملك وهو علي بن يزيد الألهاني، وهو مع ضعفه فإن روايته عن حذيفة منقطعة.

الله، والزيارة عَلَى الأقدام أقربُ إِلَى الخضوع والتذلل كما قيل: لو جئتكم زائرًا أسعى عَلَى بصري ... لم أدِّ حفًّا وأي الحق أديت؟! وفي صحيح البخاري (¬1) عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: "من غدا إِلَى المسجد أو راح أعد الله له نزلا في الجنة كلما كدا أو راح". والنزل: هو ما يعد للزائر عند قدومه. وفي الطبراني (¬2) من حديث سلمان مرفوعًا: "من توضأ في بيته فأحسن الوضوء، ثم أتى المسجد فهو زائرُ اللهِ تعالى، وحق عَلَى المزور أن يكرم الزائر". وفي "صحيح مسلم" (¬3) عن أبي بن كعب قال: كان رجل لا أعلم رجلاً أبعد من المسجد منه، وكان لا تُخطئه صلاة في المسجد، قال: فقِيلَ لَهُ -أو قلت له- لو اشريت حمارًا تركبه في الظلمات وفي الرمضاء. فَقَالَ: ما يسرني أن منزلي إِلَى جنب المسجد، إني أريد أن يُكتبَ لي ممشاي إِلَى المسجد ورجوعي إذا رجعت إِلَى أهلي فَقَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "قد جمع الله لك ذلك كله". وكلما شقَّ المشي إِلَى المسجد كان أفضل، ولهذا فضل المشي إِلَى صلاة العشاء وصلاة الصبح، وعدل بقيام الليل كله كما في "صحيح مسلم" (¬4) عن عثمان عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: "من صلّى العشاء في جماعة فكأنَّما قام نصف الليل، ومن صلَّى الصبح في جماعة فكأنما قام الليل كله". وفي "الصحيحين" (¬5) عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: "أثقل صلاة ¬

_ (¬1) برقم (66). (¬2) في "الكبير" (6/ 311 - 312) وقال المنذري (1/ 214): رواه الطبراني بإسنادين أحدهما جيد وقال الهيثمي (2/ 31): وأحد إسناديه رجاله رجال الصحيح. (¬3) برقم (663). (¬4) برقم (644). (¬5) أخرجه البخاري (644) ومسلم (651).

عَلَى المنافقين: صلاة العشاء وصلاة الفجر، ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبوًا". وإنما ثقلت هاتان الصلاتان عَلَى المنافقين لأنّ المنافق لا ينشط للصلاة إلا إذا رآه الناس كما قال تعالى: {وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا} [النساء: 142]. وصلاة العشاء والصبح يقعان في ظلمة، فلا ينشط للمشي إليهما إلا كل مخلصٍ يكتفي برؤية الله عز وجل وحده لعلمه به. وثواب المشي إِلَى المساجد في الظلم: النور التام في ظلم القيامة كما في سنن أبي داود (¬1) والترمذي (¬2) عن بريدة عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: "بشر المشائين في الظلم إِلَى المساجد بالنور التام يوم القيامة" وخرّجه ابن ماجه (¬3) من حديث سهل بن سعد، وقد رُوي من وجوه كثيرة (¬4). ¬

_ (¬1) برقم (561). (¬2) برقم (223) وقال: هذا حديث غريب من هذا الوجه. (¬3) برقم (780). (¬4) من حديث: 1 - أنس: أخرجه ابن ماجه (422) وقال ابن الجوزي في العلل المتناهية (1/ 406): فيه مجاهيل وقال البوصيري في الزوائد (1/ 100) حديث ضعيف. 2 - أبي الدرداء: عند ابن حبان (422 - موارد). وقال الهيثمي في المجمع (2/ 30) فيه جناد بن أبي خالد ولم أجد من ترجمه، وبقية رجاله ثقات. 3 - أبي سعيد الخدري: أخرجه الطيالسي (2212)، والعقيلي (3/ 105)، وابن عدي (5/ 334). وقال العقيلي عن هذه الرواية: فيها لين. وقال ابن عدي: ولعبد الحكم غير ما ذكرت من الأحاديث وعامة أحاديثه مما لا يتابع عليه، وبعض متون ما يرويه مشاهير إلا أنَّه بالإسناد الَّذِي يذكره عبد الحكم لعله لا يروي ذاك. وقال ابن الجوزي في العلل المتناهية (1/ 408): هذا لا يصح، وقال ابن حبان: لا يحل كتابة حديث عبد الحكم إلا عَلَى سبيل التعجب. 4 - أبي هريرة: أخرجه ابن ماجه (779) وقال البوصيري: هذا إسناد ضعيف، أبو رافع أجمعوا عَلَى ضعفه، والوليد بن مسلم مدلس وقد عنعنه.=

وفي بعضها زيادة: "يفزع الناسُ ولا يفزعون" (¬1). قال النخعي: وكانوا يرون أن المشي في الليلة الظلماء موجبة، يعني: توجب المغفرة. وروينا عن الحسن قال: أهل التوحيد في النار لا يقيدون، فيقول الخزنة بعضهم لبعض: ما بال هؤلاء لا يقيدون وهؤلاء يقيدون؟! فيناديهم منادٍ: إن هؤلاء كانوا يمشون في ظُلم الليل إِلَى المساجد. كما أن مواضع السجود من عصاة الموحدين في النار لا تأكلها النار (¬2)، فكذلك الأقدام التي تمشي إِلَى المساجد في الظلم لا تقيد في النار، ولا يُسوِّي في العذاب بين من خدمه وبين من لم يخدمه وإن عذبه: ¬

_ =5 - عائشة: أخرجه الطبراني في الأوسط (1275) وقال: لم يرو هنا الحديث عن عطاه عن عائشة إلا الحسن، تفرد به قتادة. وقال الهيثمي في المجمع (1/ 30): فيه الحسن بن علي الشروي قال الذهبي: لا يعرف وفي حديثه نكرة، وقال العقيلي: لا يتابع عليه. 6 - أبي أمامة: أخرجه الطبراني في الكبير (8/ 7633، 7634، 8125). 7 - عمر: أخرجه ابن الجوزي في العلل المتناهية: (683) وقال: هذا حديث لا يثبت. 8 - ابن عمر: عند الطبراني في الكبير (12/ 13335). 9 - زيد بن حارثة: أخرجه الطبراني في الكبير (5/ 4662) قال الهيثمي في المجمع (2/ 30): رواه الطبراني في الأوسط وفي الكبير، وفيه ابن لهيعة، وهو مختلف في الاحتجاج به. 10 - ابن عباس: أخرجه الطبراني في الكبير (10/ 10689). قال الهيثمي في المجمع (2/ 30): رواه الطبراني في الكبير وفيه العباس بن عامر الضبي، ولم أجد من ترجمه، وبقية رجاله موثقون. 11 - أبي موسى الأشعرى: أخرجه البزار (432 - كشف). قال الهيثمي في المجمع (2/ 30): وفيه محمد بن عبد الله بن عمير بن عبيد، وهو منكر الحديث. (¬1) وهي في حديث أبي أمامة. (¬2) أخرجه البخاري (806)، ومسلم (182) كلاهما من حديث أبي هريرة مطولاً.

ومن كان في سخطه محسنًا ... فكيف يكون إذا ما رضي؟! لما كانت الصلاة صلة بين العبد وربه، ومناجاة تظهر فيها آثارُ تَجَلِّيه لقلوب العارفين وقربه، شرع قبل الدخول فيها الطهارة، فإنَّه لا يصلح للوقوف بين يدي الله عز وجل والخلوة بمناجاته إلا طاهر، فأما المتلوث بالأوساخ الظاهرة والباطنة فلا يصلح للقرب، فشرع الله عز وجل للمُصلي غسل أعضائه بالماء، ورتب عليها طهارة الذنوب وتكفيرها، حتى يجتمع لمن يريد المناجاة طهارة ظاهره وباطنه، ثم شرع المشي إِلَى المساجد. وفيه أيضاً: تكفير الخطايا حتى تكمل طهارة الذنوب إن بقى منها شيء بعد الوضوء، حتى لا يقف العبد في مقام المناجاة إلا بعد كمال طهارة ظاهره وباطنه من درن الأوساخ والذنوب. ولهذا شرع له تجديد التوبة والاستغفار عقب كل وضوء حتى تكمل طهارة ذنوبه كما خرَّج النسائي (¬1) من حديث أبي سعيد مرفوعًا وموقوفًا: "من توضأ فأسبغ الوضوء، ثم قال عند فراغه من وضوئه: سبحانك اللهم وبحمدك، أستغفرك وأتوب إليك خُتم عليها بخاتم، فوضعت تحت العرش فلم يكسر إِلَى يوم القيامة". ومتى اجتهد العبد عَلَى تكميل طهارته ومشيه إِلَى المسجد ولم يقوَ ذلك عَلَى تكفير ذنوبه فإن الصلاة يكمل بها التكفير، كما في الصحيحين (¬2) عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: "أرأيتم لو أنَّ نهرًا بباب أحدكم يغتسل فيه كل يوم خمس مرات، هل يبقى من درنه شيء؟ " قالوا: لا ييقى من درنه شيء. قال: "فذلك مثل الصلوات الخمس يمحو الله بهنّ الخطايا". وإن قويَ الوضوء وحده عَلَى تكفير الخطايا فالمشي إِلَى المسجد والصلاة بعده ¬

_ (¬1) في عمل اليوم والليلة (81) وقال: هذا خطأ، والصواب موقوف ثم ساقه موقوفًا. (¬2) أخرجه البخاري (528)، ومسلم (667).

تكون زيادة حسنات، وهذا هو المراد بقول النبي صلّى الله عليه وسلم في حديث عثمان والصنابحي: " ... وكان مشيه إِلَى المسجد وصلاته نافلة"، وقد سبق ذكر الحديثين. واعلم أن جمهور العُلَمَاء عَلَى أن هذه الأسباب كلها إِنَّمَا تكفر الصغائر دون الكبائر، وقد استدل بذلك عطاء وغيره من السَّلف في الوضوء. وقال سلمان الفارسي رضي الله عنه: الوضوء يكفر الجراحات الصغار، والمشي إِلَى المسجد يكفر (أكثر) (*) من ذلك، والصلاة تكفر (أكثر) (*) من ذلك. خرَّجه محمد بن نصر المروزي. ويدل عَلَى أن الكبائر لا تكفر بذلك ما في "الصحيحين" (¬1) عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: "الصلوات الخمس، والجمعة إِلَى الجمعة، ورمضان إِلَى رمضان مكفرات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر". وفي "صحيح مسلم" (¬2) عن عثمان عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: "ما من امرئ مسلم تحضره صلاة مكتوبة فيحسن وضوءها وخشوعها وركوعها وسجودها إلا كانت كفارة لما قبلها من الذنوب ما لم تؤت كبيرة وذلك الدهر كله". فانظر إِلَى كم تُيَسَّرُ لك أسباب تكفير الخطايا لعلك تطهر منها قبل الموت فتلقاه طاهرًا، فتصلح لمجاورته في دار السلام، وأنت تأبى إلا أن تموت عَلَى خبث الذنوب فتحتاج إِلَى تطهيرها في كير جهنم. يا هذا! أما علمت أنَّه لا يصلح لقربنا إلا طاهر؟! فإن أردت قربنا ومناجاتنا اليوم فطهِّر ظاهرك وباطنك لتصلح لذلك، وإن أردت قربنا ومجاورتنا غدًا فطهر قلبك من سوانا لتصلح لمجاورتنا {يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ ¬

_ (*) أكبر: "نسخة". (¬1) أخرجه مسلم (233)، وليس عند البخاري، وعزوه له وهم من ابن رجب رحمه الله. (¬2) برقم (228).

أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء: 88، 89]، القلب السليم الَّذِي ليس فيه غير محبة الله، ومحبة ما يحبه الله، إن الله طيب لا يقبل إلا طيبًا، فما كل أحد يصلح لمجاورة الله تعالى غدًا، ولا كل أحد يصلح لمناجاة الله اليوم، ولا عَلَى كل الحالات تحسن المناجاة: الناس من الهوى عَلَى أصناف ... هذا نقض العهد وهنا وافي هيهات من الكدور تبغي الصافي ... ما يصلح للحضرة قلبٌ جافي ***

السبب الثالث من مكفرات الذنوب الجلوس في المساجد بعد الصلوات

السبب الثالث من مكفرات الذنوب الجلوس في المساجد بعد الصلوات والمراد بهذا الجلوس انتظارُ صلاةٍ أخرى كما في حديث أبي هريرة: " ... وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط فذلكم الرباط، فذلكم الرباط" (¬1) فجعل هذا من الرباط في سبيل الله عز وجل، وهذا أفضل من الجلوس قبل الصلاة لانتظارها فإن الجالس لانتظار الصلاة ليؤديها ثم يذهب تقصر مدة انتطاره، بخلاف من صلّى صلاة ثم جلس ينتظر أخرى فإن مدته تطول، فإن كان كلما صلّى صلاة جلس ينتظر ما بعدها فقد استغرق عمره بالطاعة، وكان ذلك بمنزلة الرباط في سبيل الله عز وجل. وفي "المسند" (¬2) وسنن ابن ماجه (¬3) عن عبد الله بن عمرو قال: صلينا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المغرب، فرجع من رجع، وعقب من عقب، فجاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مسرعًا قد حفزه النفس، قد حسر عن ركبيته فَقَالَ: "أبشروا! هذا ربكم قد فتح بابًا من أبواب السماء يباهي بكم الملائكة، يقول: أنظروا إِلَى عبادي قد قضوا فريضة وهم ينتظرون أخرى". وفي "المسند" (¬4) عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "منتظر الصلاة من بعد ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه. (¬2) (2/ 186، 208). (¬3) برقم (801) قال المنذري في "الترغيب" (1/ 282): رواته ثقات وأبو أيوب هو المراغي العتكي ثقة ما أراه سمع عبد الله والله أعلم ا. هـ. وقال البوصيري في الزوائد (1/ 102): رجاله ثقات. (¬4) (2/ 352) قال المنذري في الترغيب (1/ 284) إسناد أحمد صالح وقال الهيثمي في المجمع (2/ 36): وفيه نافع بن سليمان القرشي وثقه أبو حاتم وبقية رجاله رجال الصحيح.

الصلاة كفارس اشتدَّ به فرسه في سبيل الله عَلَى كشحه (¬1) تُصلِّي عليه ملائكة الله ما لم يحدث أو يقوم، وهو في الرباط الأكبر". ويدخل في قوله: "والجلوس في المساجد بعد الصلوات": الجلوس للذكر والقراءة وسماع العِلْم وتعليمه ونحو ذلك، لاسيما بعد صلاة الصبح حتى تطلع الشمس، فإنَّ النصوص قد وردت بفضل ذلك، وهو شبيه بمن جلس ينتظر صلاة أخرى؛ لأنّه قد قضى ما جاء إِلَى المسجد لأجله من الصلاة وجلس ينتظر طاعة أخرى. وفي "الصحيح" (¬2) عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: "وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله تعالى يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفّتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده". وأما الجالس قبل الصلاة في المسجد لانتظار تلك الصلاة خاصة فهو في صلاة حتى يصلي، وفي "الصحيحين" (¬3) عن أنس عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنَّه لما أخر صلاة العشاء الآخرة ثم خرج فصلى بهم: قال لهم: "إنكم لم تزالوا في صلاة ما انتظرتم الصلاة". وفيهما أيضاً (¬4) عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: "الملائكة تصلي عَلَى أحدكم ما دام في مصلاه ما لم يحدث: اللهم اغفر له، اللهم ارحمه. ولا يزال أحدكم في صلاة ما كانت الصلاة تحبسه، لا يمنعه أن ينقلب إِلَى أهله إلا الصلاة". وفي رواية لمسلم (¬5): "ما لم يؤذ فيه، ما لم يحدث فيه". وهذا يدل عَلَى أن المراد بالحدث: حدث اللسان ونحوه من الأذى، وفسره ¬

_ (¬1) قال ابن الأثير: الكاشح: العدو الَّذِي يُضمر عدواته ويطوي عليها كشحه، أى: باطنه. والكشح: الخصر. (¬2) أخرجه مسلم (2699). (¬3) أخرجه البخاري (572)، ومسلم (640). (¬4) تقدم تخريجه. (¬5) برقم (649).

أبو هريرة بحدث الفرج، وقيل: إنه يشمل الحدثين. وفي "المسند" (1) عن عقبة بن عامر عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: "القاعد يرعى الصلاة كالقانت، ويكتب من المصلين من حين يخرج من بيته حتى يرجع إِلَيْهِ". وفي رواية له (2): "فَإِذَا صلّى في المسجد ثم قَعد فيه كان كالصائم القانت حتى يرجع". وفي هذا المعنى أحاديث كثيرة. وبالجملة فالجلوس في المسجد للطاعات له فضلٌ عظيمٌ، وفي حديث أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: "لا يوطِّنُ رجلٌ المساجد للصلاة والذكر إلا تبشبش الله عز وجل به كما يتبشبش أهل الغائب إذا قَدِمَ عليهم غائبهم" (¬3). وروى درّاج عن أبي الهيثم عن أبي سعيد عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: "من ألف المسجد ألفه الله" (¬4). وقال سعيد بن المسيب: من جلس في المسجد فإنما يجالس الله عز وجل. وصح عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنَّه عدَّ من السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: "رجل قلبه معلق بالمسجد إذا خرج منه حتى يعود إِلَيْهِ" (¬5). وإنَّما كان ملازمة المسجد للطاعات مكفرًا للذنوب لأنّ فيه مجاهدة النفس، وكفًا لها عن أهوائها فإنها لا تميل إلا إِلَى الانتشار في الأرض لابتغاء الكسب أو لمجالسة الناس لمحادثتهم أو للتنزه في الدور الأنيقة والمساكن الحسنة ومواطن النَّزه ونحو ذلك، فمن حبس نفسه في المساجد عَلَى الطاعة فهو مرابط لها في سبيل الله، مخالف لهواها وذلك من أفضل أنواع الصبر والجهاد. ¬

_ (1، 2) أخرجهما أحمد (4/ 159). (¬3) أخرجه أحمد (2/ 328، 453)، وابن ماجه (800) وقال البوصيري في الزوائد (1/ 102): هذا إسناد صحيح. (¬4) أخرجه ابن عدي (4/ 152)، والطبراني في الأوسط (6383). قال الطبراني: لم يرو هذا الحديث عن دراج إلا ابن لهيعة، تفرد به عمرو بن خالد. وقال الهيثمي (2/ 23): وفيه ابن لهيعة وفيه كلام. (¬5) أخرجه البخاري (660)، ومسلم (1031).

وهذا الجنس -أعني ما يؤلم النفس ويخالف هواها- فيه كفارة للذنوب وإن كان لا صنع فيه للعبد كالمرض ونحوه، فكيف بما كان حاصلا عن فعل العبد واختياره إذا قصد به التقرب إِلَى الله عز وجل؟! فإن هذا من نوع الجهاد في سبيل الله الَّذِي يقتضي تكفير الذنوب كلها. ولهذا المعنى كان المشيُ إِلَى المساجد كفارة للذنوب أيضًا، وهو نوع من الجهاد في سبيل الله أيضاً، كما خرّجه الطبراني (¬1) من حديث أبي أمامة عن النبي صلّى الله عليه وسلم: "الغدو والرَّواح إِلَى المساجد من الجهاد في سبيل الله". كان زياد مولى ابن عباس أحد العباد الصالحين، وكان يلازم مسجد المدينة، فسمعوه يومًا يعاتب نفسه ويقول لها: "أين تريدين أن تذهبي؟! إِلَى أحسن من هذا المسجد!! تريدين أن تُبصري دار فلان ودار فلان". لما كانت المساجد في الأرض بيوت الله أضافها الله إِلَى نفسه تشريفًا لها، وتعلّقت قلوب المحبين لله عز وجل بها، لنسبتها إِلَى محبوبهم، وارتاحوا إِلَى ملازمتها لإظهار ذكره فيها {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (36) رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ} [النور: 36 - 37]. أين يذهب المحبون عن بيوت مولاهم؟! قلوبُ المحبين ببيوت محبوبهم متعلقة، وأقدام العابدين إِلَى بيوت معبودهم مترددة: يا حبّذا العرعرُ النجدي والبان ... ودارُ قومٍ بأكناف الحِمى بانوا وأطيبُ الأرض ما للقلبِ فيه هوى ... سَمُّ الخَياط مع المحبوبِ ميدانُ لا يُذكرُ الرَّملُ إلا حَنَّ مُغتربٌ ... له بذي الرمل أوطارٌ وأوطانُ يهفو إلى البان من قلبي نوازعُه ... وما بيَ البانُ بل مَن دارهُ البانُ ¬

_ (¬1) في "المعجم الكبير" (8/ 7739)، وفي "مسند الشاميين" (879) قال الهيثمي في المجمع (2/ 29 - 30): وفيه القاسم بن عبد الرحمن وفيه اختلاف. وذكر الدارقطني في العلل (8/ 141) برقم (1460) اختلافًا في الحديث في الرفع والوقف ثم قال: والموقوف أولى.

الفصل الثاني في ذكر الدرجات المذكورة في حديث معاذ

الفصل الثاني في ذكر الدرجات المذكورة في حديث معاذ وهي ثلاث درجات: أحدها: إطعام الطعام، وقد جعله الله في كتابه من الأسباب الموجبة للجنة ونعيمها، قال الله عز وجل: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (8) إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا (9) إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا (10) فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا (11) وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا (12) مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا (13) وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا (14) وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا (15) قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا (16) وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلًا (17) عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا} إِلَى قوله: {وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا}. [الإنسان: 8 - 25] فوصف فاكهتهم وشرابهم جزاء لإطعامهم الطعام. وفي "الترمذي" (¬1) من حديث أبي سعيد الخدري عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: "أيما مؤمن أطعم مؤمنًا عَلَى جوع أطعمه الله من ثمار الجنة، ومن سقى مؤمنًا عَلَى ظمأ سقاه الله من الرحيق المختوم". وفي "المسند" (¬2) و"الترمذي" (¬3) عن علي عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: "إن في ¬

_ (¬1) برقم (2449). قال الترمذي: هذا حديث غريب، وقد رُوي هذا عن عطية عن أبي سعيد موقوف، وهو أصح عندنا وأشبه. وسئل أبو حاتم كما في العلل لابنه (2/ 171) برقم (2007) عن هذا الحديث فَقَالَ: الصحيح موقوف، الحفاظ لا يرفعونه. وأخرجه أبو داود (1682) من طريق آخر عن أبي سعيد. (¬2) أخرجه عبد الله بن أحمد في زوائده عَلَى المسند (1/ 155 - 156). (¬3) برقم (1984، 2527) وقال: حديث غريب، وقد تكلم بعضُ أهل العِلْم في=

الجنة غرفًا يرى ظاهرها من باطنها، وباطنها من ظاهرها. قالوا: لمن هي يا رسول الله؟. قال: "لمن أطعم الطعام، وأطاب الكلام، وصلى بالليل والناس نيام". وفي حديث عبد الله بن سلام الَّذِي خرّجه "أهل السنن" (¬1) أنَّه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - أول قدومه المدينة يقول: "أيها الناس! أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلوا الأرحام، وصلوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام". وفي حديث عبادة عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنَّه سئل: أي الأعمال أفضل؟ قال: "إيمان بالله وجهاد في سبيله وحج مبرور، وأهون من ذلك: إطعام الطعام، ولين الكلام" خرجه الإمام أحمد (¬2). وفي حديث هانئ بن يزيد أن رجلاً قال: يا رسول الله! دُلني عَلَى عمل يدخلني الجنة ويباعدني من النار؟. قال: "تطعم الطعام، وتفشي السلام" (¬3). وفي حديث حذيفة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من ختم له بإطعام مسكين دخل الجنة" (¬4). وفي الصحيحين (¬5) من حديث عبد الله بن عمرو أن رجلاً قال: يا رسول الله! أي الإسلام خير؟. ¬

_ =عبد الرحمن بن إسحاق هذا من قبل حفظه. (¬1) أخرجه الدارمي (1468، 2635)، والترمذي (2485)، وابن ماجه (1334، 3251). قال الترمذي: هذا حديث صحيح. (¬2) ليس في المسند، وهو عند الطبراني كما في مجمع الزوائِد للهيثمي (5/ 278 - 279) حيث ذكره وقال: رواه الطبراني بإسنادين في أحدهما: ابن لهيعة، وحديثه حسن وفيه ضعف، وفي الآخر سويد بن إبراهيم وثقه ابن معين في روايتين وضعفه النسائي، وبقية رجالهما ثقات. (¬3) أخرجه البخاري في الأدب المفرد (811)، وفي خلق أفعال العباد (ص 68)، والبزار (2889 - كشف)، والطبراني في الكبير (22/ 467، 468). قال الهيثمي في المجمع (5/ 17): رواه الطبراني بإسنادين، ورجال أحدهما ثقات. (¬4) أخرجه أبو نعيم في أخبار أصبهان (1/ 218 - 219)، وفي إسناده انقطاع. (¬5) أخرجه البخاري (12)، ومسلم (39).

قال: "تطعم الطعام، وتقرئ السلام عَلَى من عرفت ومن لم تعرف". وفي حديث صهيب عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: "خيركم من أطعم الطعام" خرجه الإمام أحمد (¬1). فإطعام الطعام يوجب دخول الجنة، ويباعد من النار وينجي منها كما قال تعالى: {فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ (12) فَكُّ رَقَبَةٍ (13) أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ (15) أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ} [البلد: 11 - 16]. وفي الحديث الصحيح عن النبي صلّى الله عليه وسلم: "اتقوا النار ولو بشق تمرة" (¬2). وكان أبو موسى الأشعري يقول لولده: اذكروا صاحب الرغيف. ثم ذكر أن رجلاً من بني إسرائيل عبد الله سبعين سنة، ثم إن الشيطان حسَّن في عينيه امرأة فأقام معها سبعة أيام، ثم خرج هاربًا فأقام مع مساكين فتصدق عليه برغيف كان بعض أولئك المساكين (يريده) (*)، فآثره به ثم مات، فوُزنت عبادته بالسبعة أيام التي مع المرأة فرجحت الأيام السبعة بعبادته، ثم وزن الرغيف بالسبعة الأيام فرجح بها (¬3). ويتأكد إطعام الطعام للجائع وللجيران خصوصًا، وفي "الصحيح" (¬4) عن أبي موسى الأشعرى عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: "أطعموا الجائع، وعودوا المريض، وفكوا العاني" (¬5). وفي "صحيح مسلم" (¬6) عن أبي ذر عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال له: "يا أبا ذر! إذا طبخت مرقةً فأكثر ماءها، وتعاهد جيرانك". ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد (5/ 16) وقال الهيثمي في المجمع (5/ 17): رواه أحمد، وفيه عبد الله بن محمد بن عقيل، وحديثه حسن وفيه ضعف، وبقية رجاله ثقات. (¬2) أخرجه البخاري (6540)، ومسلم (1016). (*) أحق به: "نسخة". (¬3) أخرجه أبو نعيم في الحلية (1/ 263) مطولاً. (¬4) أخرجه البخاري (3046). (¬5) هو الأسير، وكل من ذل واستكان وخضع فقد عنا. (النهاية: 3/ 314). (¬6) برقم (2625).

وفي المسند" (¬1) و "صحيح الحاكم" (¬2) عن [ابن] عمر عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: "أيما أهل عَرْصةٍ (¬3) أصبح فيهم امرؤ جائعًا فقد برئت منهم ذمة الله عز وجل". وقال - صلى الله عليه وسلم -: "لا يشبع المؤمن دون جاره" (¬4). وفي "صحيح الحاكم" (¬5) عن ابن عباس عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: "ليس بالمؤمن الَّذِي يشبع وجاره جائع". وفي رواية: "ما آمن من بات شبعانًا، وجاره طاويًا" (¬6). فأفضل أنواع إطعام الطعام: الإيثار مع الحاجة كما وصف الله تعالى بذلك الأنصار رضي الله عنهم فَقَالَ: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر: 9]، وقد صحَّ أن سبب نزولها أن رجلاً منهم أخذ ضيفًا من عند النبي - صلى الله عليه وسلم - يضيفه، فلم يجد عنده إلا قوت صبيانه، فاحتال هو وامرأته حتى نوّما صبيانهما، وقام إِلَى السراج كأنه يصلحه فأطفأه، ثم جلس مع الضيف يريه أنَّه يأكل معه ولم يأكل، فلما غدا عَلَى رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال له: "عجب الله من ¬

_ (¬1) (2/ 33) عن ابن عمر. (¬2) (2/ 11 - 12) عن ابن عمر. وسئل أبو حاتم كما في العلل لابنه (1/ 392) عن هذا الحديث فَقَالَ: "هذا حديث منكر". وأورده ابن الجوزي في الموضوعات. (¬3) كل موضع واسع لا بناء فيه (النهاية 3/ 208). (¬4) أخرجه أحمد (1/ 54)، وأبو نعيم في الحلية (9/ 27) بلفظ: "الرجل" بدلاً من "المؤمن". قال أبو نعيم: غريب لم نكتبه من حديث عمر بن الخطاب إلا بهذا الإسناد، تفرد به عبد الرحمن. وقال الهيثمي في المجمع (8/ 167 - 168): رواه أحمد وأبو يعلى ببعضه، ورجاله رجال الصحيح إلا أن عباية بن رفاعة لم يسمع من عمر. (¬5) (4/ 167) وقال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. (¬6) أخرجه الطبراني في الكبير (1/ 751) بنحوه. قال الهيثمي في المجمع (8/ 167): رواه الطبراني والبزار، وإسناد البزار حسن.

صنيعكما الليلة". ونزلت هذه الآية (¬1). وكان كثير من السَّلف يؤثر بفطوره غيره وهو صائم ويصبح صائما، منهم: عبد الله بن عمر رضي الله عنهما وداود الطائي، وعبد العزيز بن سليمان، ومالك بن دينار، وأحمد بن حنبل وغيرهم. وكان ابن عمر لا يفطر إلا مع اليتامى والمساكين، وربما علم أن أهله قد ردوهم عنه فلم يفطر في تلك الليلة. ومنهم من كان لا يأكل إلا مع ضيف له، قال أبو السوار العدوي: كان رجال من بني عدي يصلون في هذا المسجد، ما أفطر أحد منهم عَلَى طعام قط وحده، إن وجد من يأكل معه أكل، وإلا أخرج طعامه إِلَى المسجد (فأكله) (*) مع الناس، وأكل الناس معه. وكان منهم من يطعم إخوانه الطعام وهو صائم، ويجلس يخدمهم ويروحهم، منهم الحسن وابن المبارك، وكان ابن المبارك ربما يشتهي الشيء فلا يصنعه إلا لضيف ينزل به فيأكله مع ضيفه. وكان كثير منهم يفضل إطعام الإخوان عَلَى الصدقة عَلَى المساكين. وقد رُوي هذا المعنى مرفوعًا من حديث أنس بإسناد ضعيف، ولاسيما إن كان الإخوان لا يجدون مثل ذلك الطعام. كان بعضهم يعمل الأطعمة الفاخرة ثم يطعمها إخوانه الفقراء، ويقول: إنهم لا يجدونها. ومنهم من يقول: إني لا أشتهيه، وإنَّما صنعته لأجلكم. وبعضهم اتخذ حلاوة فأطعمها المعتوه، فَقَالَ له أهله: إن هذا لا يدري!. فَقَالَ: لكن الله يدري. واشتهى الربيع بن خثيم حلواء فلما صنعت له دعا بالفقراء فأكلوا، فَقَالَ له أهله: أتعبتنا ولم تأكل!. فَقَالَ: ومن أكله غيري! ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (3798)، ومسلم (2054) من حديث أبى هريرة بنحوه. (*) فيأكله: "نسخة".

وقال آخر منهم -وجرى له نحو من ذلك:- إذا أكلته كان في الحش، وإذا أطعمته كان عند الله مذخورًا. ورُوي عن علي قال: لأنّ أجمع أناسًا من إخواني عَلَى صاع من طعام، أَحَبّ إِلَيَّ من أن أدخل سوقكم هذا فأبتاع نسمة فأعتقها. وعن أبي جعفر محمد بن علي قال: لأنّ أدعو عشرةً من أصحابى فأطعمهم طعامًا يشتهونه أَحَبّ إِلَيَّ من أن أعتق عشرة من ولد إسماعيل. أأصف الإيثار لمن يبخل بأداء الحقوق الواجبة عليه؟! أأطلب الشجاعة من الجبان، وأستشهد عَلَى رؤية الهلال من هو من جملة العميان؟! كم بين من قيل فيه: {فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ} [التوبة: 76] وبين من قيل فيه: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر: 9].؟! كم بيننا وبين القوم كما بين اليقظة والنوم. لا تعرضن لذكرنا في ذكرهم ... ليس الصحيح إذا مشى كالمقعد فيا من يطمع في علو الدرجات من غير عمل صالح هيهات هيهات! {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [الجاثية: 21]. نزلوا بمكة في قبائل هاشم ... ونزلت بالبيداء أبعد منزل (الثاني من الدرجات): لين الكلام، وفي رواية: "إفشاء السلام". وهو داخل في لين الكلام، وقد قال الله عز وجل: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} [البقرة: 83]، وقال تعالى: {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [الإسراء: 53]، وقال تعالى: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [فصلت: 34، 35]، وقال تعالى: {وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125]، وقال تعالى: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} [العنكبوت: 46]، ولما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -. "الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة" قالوا له: وما الحج المبرور يا

رسول الله؟ قال: "إطعام الطعام، ولين الكلام". خرّجه الإمام أحمد (¬1)، وقد تقدّم في ذكر إطعام الطعام أحاديث أُخر في طيب الكلام. وفي الحديث الصحيح عن النبي صلّى الله عليه وسلم: "والكلمة الطيبة صدقة" (¬2). وفيه أيضًا: "اتقوا النار ولو بشق تمرة، فمن لم يجد فبكلمة طيبة" (¬3). وأما إفشاء السلام فمن موجبات الجنة، وفي "صحيح مسلم" عن أبي هريرة (¬4) عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: "والذي نفسي بيده لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، ألا أدلكم عَلَى شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟! أفشوا السلام بينكم". وخرَّج أبو داود من حديث أبي أمامة (¬5) عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: "إن أولى الناس بالله من بدأهم بالسلام". ويروى من حديث ابن مسعود مرفوعًا (¬6) وموقوفًا (¬7): "إذا مر الرجل بالقوم فسلّم عليهم فردوا عليه كان له عليهم فضل درجة لأنّه ذكرهم بالسلام، وإن لم يردوا عليه رد عليه ملأ خير منهم وأطيب". وقد رُوي من حديث عمران بن حصين وغيره أن رجلاً دخل عَلَى النبي - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: السلام عليكم. فَقَالَ النبي صلّى الله عليه وسلم: "عشر"، ثم جاء آخر فَقَالَ: السلام عليكم ورحمة الله. فَقَالَ رسول الله صلّى الله عليه وسلم "عشرون"، ثم جاء ¬

_ (¬1) (3/ 325، 334) عن جابر بن عبد الله، قال الحافظ في الفتح (3/ 382): "في إسناده ضعف" وطرف الحديث الأول في الصحيحين من حديث أبي هريرة. (¬2) قطعة من حديث أخرجه البخاري (2989) ومسلم (2/ 699) عن أبي هريرة. (¬3) أخرجه البخاري (6023)، ومسلم (1016). (¬4) برقم (54). (¬5) برقم (5197). (¬6) أخرجه البزار (1999 - كشف) والطبراني في الكبير (10/ 9800) قال البزار: رواه غير واحد موقوفًا. وقال الهيثمي في المجمع (8/ 29): "رواه البزار بإسنادين، والطبراني بأسانيد، وأحدهما رجاله رجال الصحيح عند البزار والطبراني". (¬7) أخرجه البخاري في الأدب (1039). وقال الحافظ في الفتح (11/ 13): "وطريق الموقوف أقوى".

آخر فَقَالَ: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. فَقَالَ رسول الله: "ثلاثون". خرجه الترمذي (¬1) وغيره (¬2). وخرّجه أبو داود (¬3). وزاد: ثم جاء آخر فَقَالَ: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ومغفرته. قال النبي صلّى الله عليه وسلم: "أربعون" ثم قال: "هكذا تكون الفضائل" (¬4). وقد سبق حديث: "أن تقرأ السلام عَلَى من عرفت ومن لم تعرف". وفي حديث ابن مسعود مرفوعًا: "من أشراط الساعة: السلام بالمعرفة. خرَّجه الإمام أحمد (¬5). وإنَّما جمع بين إطعام الطعام ولين الكلام ليكمل بذلك الإحسان إِلَى الخلق بالقول والفعل، فلا يتم الإحسان بإطعام الطعام إلا بلين الكلام وإفشاء السلام، فإن أساء بالقول بطل الإحسان بالفعل من الإطعام وغيره كما قاله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى} [البقرة: 264]، وربما كان معاملة النَّاس بالقول الحسن أَحَبّ إليهم من الإحسان بإعطاء المال كما قال لقمان لابنه: يا بني! لتكن كلمتك طيبة، ووجهك منبسطا، تكن أَحَبّ إِلَى الناس ممن يعطيهم الذهب والفضة. وقد كان النبي صلّى الله عليه وسلم يلين القول لمن يشهد له بالشر فينتفي بذلك شره، وكان - صلى الله عليه وسلم - لا يواجه أحدًا بما يكره في وجهه، ولم يكن - صلى الله عليه وسلم - فحاشًا ولا متفحشًا. ورُوي عن ابن عمر أنَّه كان ينشد: بني إن البر شيء هين ... وجه طليق وكلام لين ¬

_ (¬1) برقم (2689) وقال: حسن صحيح. (¬2) وأخرجه أحمد (4/ 439 - 440)، والدارمي (2/ 277 - 278) والنسائي في عمل اليوم والليلة (337). (¬3) برقم (5195). (¬4) هذه الزيادة أخرجها أبو داود (5196) وقال الحافظ. في الفتح (11/ 6): سندها ضعيف. (¬5) (1/ 387، 405 - 406).

ولبعضهم: خذ العفو وأمر بعرف كما ... أمرت وأعرض عن الجاهلين ولن في الكلام لكل الأنام ... فمستحسن من ذوي الجاه لين وقد وصف الله عز وجل في كتابه أهل الجنة بمعاملة الخلق بالإحسان بالمال واحتمال الأذى، فَقَالَ تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران: 133، 134] فالإنفاق في السراء والضراء يقتضي غاية الإحسان بالمال من الكثرة والقلة، وكظم الغيظ والعفو عن الناس يقتضي عدم المقابلة عَلَى السوء بمثله من قول وفعل، وذلك يتضمن إلانة القول، واجتناب الفحش والإغلاظ في المقال ولو كان مباحًا، وهذا نهاية الإحسان، فلهذا قال تعالى: {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}. ومن هذا قول بعضهم وقد سئل عن حسن الخلق، فَقَالَ: بذل الندى (¬1) وكف الأذى. وهذا الوصف المذكور في القرآن أكملُ من هذا، لأنّه وصفهم ببذل الندى، واحتمال الأذى. وحُسن الخُلُق يبلغ به العبد درجات المجتهدين في العبادة، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إن الرجل ليدرك بحسن خلقه درجة الصائم النهار، القائم الليل" (¬2). ورؤي بعض السَّلف في المنام فسئل عن بعض إخوانه الصالحين، فَقَالَ: وأين ذلك؟ رُفع في الجنة بحُسن الخلق. ومما يندب إِلَى إلانة القول فيه: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن يكون برفق كما قال تعالى في حق الكفار: {وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125] ¬

_ (¬1) الندى: السخاء والكرم. (لسان العرب: 15/ 315). (¬2) أخرجه أبو داود (4798) وغيره وفيه إرسال بين المطلب بن حنطب وعائشة. وأخرجه البخاري في الأدب المفرد (284) وغيره عن أبي هريرة. وأخرجه الطبراني في الأوسط (6273) عن علي وقال: لا يروى هذا الحديث عن علي رضي الله عنه إلا بهذا الإسناد، تفرد به إسماعيل بن عياش.

قال بعض السَّلف: ما أغضبت أحدًا فقبل منك. وكان أصحاب ابن مسعود إذا رأوا قومًا عَلَى ما يُكره يَقُولُونَ لهم: مهلاً مهلاً بارك الله فيكم. ورأى بعض التابعين رجلاً واقفًا مع امرأة فَقَالَ لهما: إن الله يراكما، سترنا الله وإياكما. ودُعي الحسن إِلَى دعوة، فجيء بآنية فضة فيها حلواء، فأخذ الحسن الحلواء فقلبها عَلَى رغيف وأكل منها، فَقَالَ بعض من حضر: هنا نهيٌ في سكون. ورأى الفُضيل رجلاً يعبث في صلاته فزبره، فقال له الرجل: يا هذا! ينبغي لمن يقوم لله أن يكون ذليلاً. فبكى الفضيل، وقال له: صدقت. قال شعب بن حرب: ربما مرَّ سفيان الثوري بقوم يلعبون الشطرنج، فيقول: ما يصنع هؤلاء؟ فيقال له: يا أبا عبد الله ينظرون في كتاب. فيُطأطئ رأسه ويمضي، وإنَّما يريد بذلك ليُعلم أنه قد أنكر. وقال سفيان: لا يأمرُ بالمعروف ولا ينهى عن المنكر إلا من كان فيه خصال ثلاث: رفيق بما يأمر، رفيق بما ينهى، عدل بما يأمر، عدل بما ينهى، عالم بما يأمر، عالم بما ينهى. وقال الإمام أحمد: الناس يحتاجون إِلَى مداراة ورفق في الأمر بالمعروف بلا غلظة إلا رجلاً معلنًا بالفسق فإنَّه لا حرمة له. وكان كثير من السَّلف لا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر إلا سرًّا فيما بينه وبين من يأمره وينهاه. وقالت أم الدرداء: من وعظ أخاه سرًّا فقد زانه، ومن وعظه علانية فقد شأنه (¬1). وكذلك مقابلة الأذى بإلانة القول كما قال تعالى: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [فصلت: 34]، وقال تعالى: {وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ} ¬

_ (¬1) أخرجه الخلال (ص 10).

[الرعد: 22]، قال بعض السَّلف: هو الرجل يسبه الرجل فيقول له: إن كنت صادقًا فغفر الله لي، وإن كنت كاذبًا فغفر الله لك. قال رجل لسالم بن عبد الله وقد زحمت راحلتُه راحلتَه في سفر: ما أراك إلا رجل سوء. فَقَالَ له سالم: ما أراك أبعدت. وقالت امرأة لمالك بن دينار: يا مُرائي!. قال: متى عرفت اسمي؟! ما عرفه أحدٌ من أهل البصرة غيرك. ومرَّ بعضهم عليَّ صبيان يلعبون بجوزٍ، فوطئ عَلَى بعض الجوز بغير اختياره فكسره، فَقَالَ له الصبي: يا شيخ النار! فجلس الشيخ يبكي ويقول: ما عرفني غيره. ومرَّ بعضهم مع أصحابه في طريق فرموا عليهم رمادًا، فَقَالَ الشيخ لأصحابه: من يستحق النار فصالحوه عَلَى الرماد؟! يعني فهو رابح. ورأى جندي إبراهيم بن أدهم خارج البلد فسأله عن العمران، فأشار له إِلَى القبور، فضرب رأسه ومضى، فقِيلَ لَهُ إنه إبراهيم بن أدهم! فرجع يعتذر إِلَيْهِ، فَقَالَ له إبراهيم: الرأس الَّذِي يحتاج إِلَى اعتذارك تركته ببلخ. ومرَّ به جندي آخر وهو ينظر بستانًا لقوم بأجرة، فسأله أن يناوله شيئًا فلم يفعل وقال: إن أصحابه لم يأذنوا لي في ذلك. فضرب رأسه، فجعل إبراهيم يُطأطئ رأسه وهو يقول: اضرب رأسًا طالما عصى الله (¬1). من أجلك قد جعلت خدي أرضًا ... للشامت والحسود حتى ترضى ¬

_ (¬1) قال الشيخ جاسم الدوسري: هذا ضعف وخور، وينبغي للمسلم أن يكون عزيز النفس أبيًّا لا يرضى بالذل والمهانة، ومثل هذه الحكايات نلاحظ فيها التأثر بحكمة نصرانية تقول: "إذا ضرب خدك الأيمن فأدر له خدك الأيسر". وهذا غير مجود في الإسلام، وقد ألصقت بهذا الزاهد حكايات وأقوال هو منها براء، قد افتراها عليه المتأخرون، فينبغي التثبت من صحتها قبل أن يُحكم عَلَى الرجل عَلَى ضوء هذه الروايات المختلفة فيكون الحكم جائرًا ولابد.

(الثالث من الدرجات): الصلاة بالليل والناس نيام، فالصلاة بالليل من موجبات الجنة كما سبق ذكره في غير حديث، وقد دلّ عليه قول الله عز وجل: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (15) آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ (16) كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (17) وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (18) وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [الذاريات: 15 - 19]، فوصفهم بالتيقظ بالليل، والاستغفار بالأسحار، وبالإنفاق من أموالهم. وكان بعض السَّلف نائمًا فأتاه آتٍ في منامه فَقَالَ له: قم فصلِّ، أما علمت أن مفاتيح الجنة مع أصحاب الليل، هم خُزّانها هم خُزّانها. وقيام الليل يوجب علو الدرجات في الجنة، قال الله تعالى لنبيه - صلى الله عليه وسلم -: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الإسراء: 79]، فجعل جزاءه عَلَى التهجد بالقرآن بالليل أن يبعثه المقام المحمود، وهو أعلى درجاته - صلى الله عليه وسلم -. قال عون بن عبد الله: يدخل الله الجنة أقوامًا فيعطيهم حتى يملوا، وفوقهم ناس في الدرجات العلى، فلما نظروا إليهم عرفوهم، فقالوا: ربنا إخواننا كنا معهم، فبم فضلتهم علينا؟ فيقول: هيهات هيهات! إنهم كانوا يجوعون حين تشبعون، ويظمئون حين تروون، ويقومون حين تنامون، ويشخصون حين تخفضون". ويوجب أيضاً من نعيم الجنة ما لم يطلع عليه العباد في الدُّنْيَا، قال الله عز وجل: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (16) فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة: 16، 17]. وفي "الصحيح" (¬1) عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: يقول الله عز وجل: أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر عَلَى قلب بشر. اقرءوا إن شئتم: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (4780) ومسلم (2174 - 2175) عن أبي هريرة.

يَعْمَلُونَ} [السجدة: 17]. قال بعض السَّلف: أخفوا لله العمل فأخفى الله لهم الجزاء، فلو قدموا عليه لأقر تلك الأعين عنده. ومما يجزي به المتهجدين في الليل: كثرة الأزواج من الحور العين في الجنة، فإن المتهجد قد ترك لذة النوم ولذة التمتع بأزواجه طلبًا لما عند الله عز وجل، فعوضه الله تعالى خيرًا مما تركه وهو الحور العين في الجنة، ومن هنا قال بعضهم: طول التهجد مهور الحور العين في الجنة. وكان بعض السَّلف يحيى الليل بالصلاة ففتر عن ذلك، فأتاه آتٍ في منامه فَقَالَ له: قد كنت يا فلان تدأب في الخطبة، فما الَّذِي قصر بك عن ذلك؟. قال: وما ذلك؟. قال: كنت تقوم من الليل، أو ما علمت أن المتهجد إذا قام إِلَى التهجد قالت الملائكة: قد قام الخاطب إِلَى خطبته؟! ورأى بعضهم في منامه امرأة لا تشبه نساء الدُّنْيَا فَقَالَ لها: من أنت؟ قالت: حوراء أمة الله. فَقَالَ لها: زوجيني نفسك. قالت: اخطبني إِلَى سيدي وأمهرني. قال: وما مهرك؟. قالت: طولُ التهجد. نام بعض المتهجدين ذات ليلة فرأى في منامه حوراء تنشد: أتخطب مثلي وعني تنام ... ونوم المحبين عنا حرام لأنا خلقنا لكل امرئ ... كثير الصلاة براه (¬1) الصيام وكان لبعض السَّلف ورد من الليل فنام عنه ليلة، فرأى في منامه جارية كأنّ وجهها القمرُ ومعها رق فيه كتاب مكتوب، فقالت: اتقرأ؟ قال: نعم. فأعطته إياه ففتحه فإذا فيه مكتوب: أألهتك لذة نومة عن خير عيش ... مع الخيرات في غُرف الجنان تعيش مخلدًا لا موت فيه ... وتنعم في الجنان مع الحسان ¬

_ (¬1) أهزله وأضعفه: (اللسان: 14/ 71).

تيقظ من منامك إن خيرًا ... من النوم التهجد بالقران فاستيقظ، قال: فوالله ما ذكرتها إلا ذهب عني النوم. كان بعض الصالحين له وردٌ فنام عنه، فوقف عليه فتى في منامه فَقَالَ له بصوت محزون: تيقظ لساعات من الليل يا فتى ... لعلك تحظى في الجنان بحورها فتنعم في دار يدوم نعيمها ... محمد فيها والخليل يزورها فقم فتيقظ ساعة بعد ساعة ... عساك تُوفِّي ما بقى من مهورها كان بعض السَّلف الصالحين كثير التعبد، وبكى شوقًا إِلَى الله ستين سنة، فرأى في منامه كأنه عَلَى ضفة نهر يجري بالمسك، حافتاه شجر لؤلؤ ونبتٌ من قضبان الذهب، فإذا بجوار مزينات يقلن بصوت واحد: ذرانا إله الناس رب محمد ... لقوم عَلَى الأقدار بالليل قُوَّم يناجون رب العالمين إلههم ... وتسري هموم القوم والناس نُوَّم فَقَالَ: بخ بخ لهؤلاء! من هم؟ لقد أقر الله أعينهم بكن. فقلن: أوما تعرفهم؟ قال: لا. فقلن: بلى هؤلاء المتهجدون أصحاب القرآن والسهر. وكان بعض الصالحين ربما نام في تهجده فتوقظه الحوراء في منامه فيستيقظ بإيقاظها. ورُوي عن أبي سليمان الداراني أنَّه قال: ذهب بي النوم ذات ليلة في صلاتي، فإذا بها -يعني: الحوراء- تنبهني وتقول: يا أبا سليمان! أترقد وأنا أربى لك في الخدور منذ خمسمائة عام؟!. وفي رواية عنه أنَّه نام ليلة في سجوده قال: فإذا بها قد ركضتني برجلها وقالت: حبيبي أترقد عيناك والملك يقظان ينظر إِلَى المتهجدين في

تهجدهم؟ بؤسًا لعين آثرت لذة نوم عَلَى مناجاة العزيز، قم فقد دنا الفراغ، ولقي المحبون بعضهم بعضا، فما هذا الرقاد يا حبيبي وقرة عيني؟ أترقد عيناك وأنا أربى لك في الخدور منذ خمسمائة عام؟. فوثب فزعًا وقد عرق من توبيخها له، قال: وإن حلاوة منطقها لفي سمعي وقلبي (¬1). وكان أبو سليمان يقول: أهل الليل في ليلهم ألذ من أهل اللهو في لهوهم، ولولا الليل ما أحببت البقاء في الدُّنْيَا. وقال يزيد الرقاشي لحبيب العجمي: ما أعلم شيئًا أقر لعيون العابدين في الدُّنْيَا من التهجد في ظلمة الليل، وما أعلم شيئًا من نعيم الجنان وسرورها ألذَّ عند العابدين ولا أقرّ لعيونهم من النظر إِلَى ذي الكبرياء العظيم إذا رفعت تلك الحجب وتجلّى لهم الكريم. فصاح حبيب عند ذلك وخرَّ مغشيًّا عليه. وكان السري يقول: رأيت الفوائد ترد في ظلام الليل. وقال أبو -سليمان-: إذا جنَّ الليل وخلا كل حبيب بحبيبه، افترش أهل المحبة أقدامهم، وجرت دموعهم عَلَى خدودهم، أشرف الجليل جل جلاله فنادى؟ يا جبريل! بعيني من تلذذ بكلامي، واستروح إِلَى مناجاتي، ناد فيهم يا جبريل: ما هذا البكاء؟! هل رأيتم حبيبا يعذب أحبَّاءه؟ أم كيف يجمل بي أن أعذب قومًا إذا جنَّهم الليل تلمقوني؟ فبي حلفت إذا قدموا عليّ يوم القيامة لأكشفنَّ لهم عن وجهي الكريم ينظرون إليّ وأنظر إليهم (¬2). وسئل الحسن: لم كان المتهجدون أحسن الناس وجوهًا؟. قال: لإنهم خلوا بالرحمن فألبسهم نورًا من نوره. ¬

_ (¬1) قال الشيخ جاسم الدوسري: قد أسرف المصنف رحمه الله في إيراد مثل هنه الحكايات التي هي من نسج الخيال، وتظهر عليها لوائح الوضع والانتحال، وإن امرءا لم يرغبه في قيام الليل ما ورد في الكتاب والسنة، لن يرغبه فيه أمثال هذه الحكايات الغثة. (¬2) قال الشيخ جاسم الدوسري: الإخبار عن الله عز وجل أمر عظيم، وما لم يرد في أحد الوحيين: كتاب الله وسنة رسول الله صلّى الله عليه وسلم فهو مردود عَلَى قائله.

رأت امرأة من الصالحات في منامها كأن حللا قد فرقت عَلَى أهل مسجد محمد بن جحادة، فلما انتهى الَّذِي يفرقها إِلَيْهِ دعا بسفط (¬1) مختوم فأخرج منه حلة صفراء، قالت: فلم يقم لها بصري، فكساه إياها، وقال: هذه لك بطول السهر. قالت: فوالله لقد كنت أراه -تعني: محمد بن جحادة- بعد ذلك فأتخايلها عليه- تعني تلك الحلة. قال كرز بن وبرة: بلغني أن كعبًا قال: إن الملائكة ينظرون من السماء إِلَى الذين (يتهجدون) (*) بالليل كما تنظرون أنتم إِلَى نجوم السماء. يا نفس فاز الصالحون بالتقى ... وأبصروا الحق وقلبي قد عمي يا حُسْنَهُم والليل قد جنهم ... ونورهم يفوق نور الأنجم ترنموا بالذكر في ليلهم ... فعيشهم قد طاب بالترنم قلوبهم للذكر قد تفرغت ... دموعهم كلؤلؤ منتظم أسحارهم بهم لهم قد أشرقت ... وخلع الغفران خير القِسَمِ في بعض الآثار يقول الله عز وجل كل ليلة: يا جبريل أقم فلانًا وأنم فلانًا. قام بعض الصَّالحين في ليلة باردة، وكان عليه خلقان رثَّة فضربه البرد فبكى، فسمع هاتفًا يقول: أقمناك وأنمناهم، ثم تبكي علينا! تنبهوا أيا أهيل ودي ... كم ذا الكرى، هب نسيم نجد كم بين خال وجوٍّ وساهر ... وراقد وكاتم ومبدي قيل لابن مسعود: ما نستطيع قيام الليل. قال: أبعدتكم ذنوبكم. وقيل للحسن: أعجزنا قيام الليل. ¬

_ (¬1) كيس يعبأ فيه الطيب وما أشبهه من أدوات النساء. (اللسان: 7/ 315). (*) يصلون: "نسخة".

قال: قيدتكم خطاياكم. إِنَّمَا يؤهل الملوك للخلوة بهم ومخاطبتهم من يخلص في ودادهم ومعاملتهم، فأما من كان من أهل مخالفتهم فلا يرضونه لذلك: الليل لي ولأحبابي أحادثهم ... قد اصطفيتهم كي يسمعوا ويعوا لهم قلوب بأسرار لها ملئت ... عَلَى ودادي وإرشادي لهم طبعوا قد أثمرت شجرات الفهم عندهم ... فما جَنَوْا إذ جَنَوْا مما به ارتفعوا سَرَوْا فما وهنوا عجزًا وما ضعفوا ... وواصلوا حبل تقريبي فما انقطعوا ***

الفصل الثالث في ذكر الدعوات المذكورة في هذا الحديث

الفصل الثالث في ذكر الدعوات المذكورة في هذا الحديث وهي: "اللهم إني أسألك فعل الخيرات، وترك المنكرات، وحبَّ المساكين، وأن تغفر لي وترحمني، وإذا أردت بقوم فتنة فاقبضني إليك غير مفتون، وأسألك حبك، وحب من يحبك، وحب العمل الَّذِي يبلغني حبك". فَقَالَ النبي - صلى الله عليه وسلم -: "تعلموهن وادرسوهن فإنهن حق". هذا دعاء عظيم من أجمع الأدعية وأكملها، فقوله: "أسألك فعل الخيرات وترك المنكرات"، يتضمن طلب كل خير وترك كل شر، فإن الخيرات تجمع كل ما يحبه الله تعالى ويقرب منه من الأعمال والأقوال من الواجبات والمستحبات، والمنكرات تشمل كل ما يكرهه الله تعالى ويباعد منه من الأقوال والأعمال، فمن حصل له هذا المطلوب حصل له خير الدُّنْيَا والآخرة. وقد كان النبي صلّى الله عليه وسلم يستحب مثل هذه الأدعية الجامعة، قالت عائشة: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعجبه الجوامع من الدعاء، ويدع ما بين ذلك. خرَّجه أبو داود (¬1). وقوله: "وحب المساكين"، هذا قد يُقال أنَّه من جملة فعل الخيرات، وأفرده بالذكر لشرفه وقوة الاهتمام به، كما أفرد أيضاً ذكر حب الله تعالى وحب من يحبه وحب عمل يبلغه إِلَى حبه، وذلك أصل فعل الخيرات كلها، وقد يقال أنَّه طلب من الله عز وجل أن يرزقه أعمال الطاعات بالجوارح وترك المنكرات بالجوارح، وأن يرزقه ما يوجب له ذلك، وهو حبه وحب من يحبه وحب عمل يبلغه حبه، فهذه المحبة بالقلب موجبة لفعل الخيرات بالجوارح ولترك المنكرات بالجوارح، وسأل الله تعالى أن يرزقه المحبة فيه. ¬

_ (¬1) برقم (1482).

فقد تضمن هذا الدعاء سؤال حب الله عز وجل وحب أحبابه وحب الأعمال التي تقرب من حبه والحب فيه، وذلك مقتض فعل الخيرات كلها. وتضمن ترك المنكرات والسلامة من الفتن، وذلك يتضمن اجتناب الشر كله، فجمع هذا الدعاء طلب خير الدُّنْيَا، وتضمن سؤال المغفرة والرحمة، وذلك يجمع خير الآخرة كله، فجمع هذا الدعاء خير الدُّنْيَا والآخرة. والمقصود أن حب المساكين أصل الحب في الله تعالى؛ لأنّ المساكين ليس عندهم من الدُّنْيَا ما يوجب محبتهم لأجله، فلا يحبون إلا لله عز وجل، والحب في الله من أوثق عرى الإيمان. ومن علامات ذوق حلاوة الإيمان، وهو صريح الإيمان، وهو أفضل الإيمان، وهذا كله مروي عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنَّه وصف به الحب في الله تعالى (¬1). ¬

_ (¬1) منها حديث: "أوثق عرى الإيمان الحب في الله". أخرجه أحمد (4/ 286) عن البراء بن عازب، وأخرجه أحمد (5/ 247) وغيره عن معاذ، وأخرجه أحمد (5/ 146) وأبو داود (4599) عن أبي ذر. وأخرجه الطيالسي (378) والطبراني في الكبير (10/ 10357، 10531)، والصغير (1/ 223 - 224) والحاكم (2/ 480) عن ابن مسعود. قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. وتعقبه الذهبي قائلا: ليس بصحيح، فإن الصعق وإن كان موثقًا، فإن شيخه منكر الحديث، قاله البخاري. وقال الهيثمي في المجمع (1/ 90، 163): وفيه عقيل بن الجعد قال البخاري: منكر الحديث. وقال الهيثمي (7/ 260 - 261): رواه الطبراني بإسنادين، ورجال أحدهما رجال الصحيح غير بكير بن معروف، وثقه أحمد وغيره، وفيه ضعف. ومنها حديث: "ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان" وذكر منها: "وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله". أخرجه البخاري (16)، ومسلم (43) عن أنس. ومنها حديث: "لا يجد العبد صريح الإيمان حتى يحب لله تعالى ... " الحديث. أخرجه أحمد (3/ 430) عن عمرو بن الجموح. ومنها حديث معاذ بن أنس أنَّه سأل النبي صلّى الله عليه وسلم عن أفضل الإيمان. قال: "أن تحب لله وتبغض لله". أخرجه أحمد (5/ 247).

ورُوي عن ابن عباس أنَّه قال: "به تنال ولاية الله، وبه يوجد طعم الإيمان" (¬1). وحب المساكين قد وصى به النبي صلّى الله عليه وسلم غير واحد من أصحابه، قال أبو ذر: أوصاني رسول الله صلّى الله عليه وسلم أن أَحَبّ المساكين، وأن أدنو منهم. خرَّجه الإمام أحمد (¬2). وخرَّج الترمذي (¬3) عن عائشة أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال لها: "يا عائشة! أحبي المساكين وقرِّبيهم فإن الله يقربك يوم القيامة". ويروى أن داود عليه السلام كان يجالس المساكين، ويقول: يا رب مسكين بين مساكين. ولم يزل السَّلف الصالح يوصون بحب المساكين، كتب سفيان الثوري إِلَى بعض إخوانه: "عليك بالفقراء والمساكين والدنو منهم، فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يسأل ربه حب المساكين". وحب المساكين مستلزم لإخلاص العمل لله تعالى، والإخلاص هو أساس الأعمال الَّذِي لا تثبت الأعمال إلا عليه، فإن حب المساكين يقتضي إسداء النفع إليهم بما يمكن من منافع الدين والدنيا، فَإِذَا حصل إسداء النفع إليهم حبًّا لهم والإحسان إليهم كان هذا العمل خالصًا، وقد دلّ القرآن عَلَى ذلك، قال عز وجل: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (8) إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا} [الإنسان: 8 - 9]، وقال عز وجل: {وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ ¬

_ (¬1) أخرجه ابن المبارك في الزهد (353). (¬2) (5/ 159) وقال الهيثمي (10/ 263): "رواه أحمد والطبراني في الأوسط بنحوه، وأحد إسنادي أحمد ثقات". (¬3) برقم (2352) وقال: هذا حديث غريب. وقال الحافظ في التلخيص (3/ 109): "إسناده ضعيف".

{وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنعام: 52]، وقال تعالى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الكهف: 28]. قال سعد بن أبي وقاص: نزلت هذه الآية في ستة: فيَّ وفي ابن مسعود وصهيب وعمار والمقداد وبلال، قالت قريش لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إنا لا نرضى أن نكون أتباعًا لهم فاطردهم عنك. فأنزل الله عز وجل: {وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} الآية (¬1). وقال خباب بن الأرت في هذه الآية: جاء الأقرع بن حابس وعيينة بن حصن فوجدوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع صهيب وعمار وبلال وخباب قاعدًا في ناس من الضعفاء من المؤمنين، فلما رأوهم حول النبي صلّى الله عليه وسلم حقَّروهم، فأتوه فخلوا به، وقالوا: إنا نريد أن تجعل لنا منك مجلسا تعرف لنا به العرب فضلنا، فإن وجوه العرب تأتيك فنستحي أن ترانا العرب مع هذه الأعبُد، فإذا نحن جئناك فأقمهم عنك، فإذا نحن فرغنا فاقعد معهم إن شئت. قال: "نعم". قالوا: فاكتب لنا عليك كتابًا. قال: فدعا بصحيفة، ودعا عليًّا ليكتب ونحن قعود في ناحية فنزل جبريل عليه السلام فَقَالَ: {وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ} ثم ذكر الأقرع بن حابس وعيينة بن حصن فَقَالَ: {وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ} [الأنعام: 53] ثم قال: {وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} [الأنعام: 54] قال: فدنونا منه حتى وضعنا ركبنا عَلَى ركبتيه، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يجلس معنا فإذا أراد أن يقوم قام وتركنا، فأنزله الله عز وجل: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ} وتجالس الأشراف {وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا} [الكهف: 28] يعني: عيينة والأقرع. قال خباب: فكنا نقعد مع النبي -صلى الله عليه وسلم- فإذا ¬

_ (¬1) أخرجه ابن ماجه (4128).

بلغنا الساعة التي يقوم فيها قمنا وتركناه حتى يقوم. خرجه ابن ماجه (¬1) وغيره (¬2). وكان النبي صلّى الله عليه وسلم يعود المرضى من مساكين أهل الدينة ويشيِّع جنائزهم، "وكان لا يأنف أن يمشي مع الأرملة والمسكين حتى يقضي حاجتهما" (¬3)، وعلى هذا الهدي كان أصحابه من بعده والتابعون لهم بإحسان. ورُوي عن أبي هريرة قال: كان جعفر بن أبي طالب يحب المساكين ويجلس إليهم، ويحدثهم ويحدثونه، وكان النبي صلّى الله عليه وسلم يكنيه: أبا المساكين (¬4). وفي رواية: أنَّه كان يطعمهم، وربما أخرج لهم عكَّة (¬5) العسل فشقوها ولعقوها (¬6). وكانت زينب بنت خزيمة أم المؤمنين تسمى أم المساكين لكثرة إحسانها إليهم، وتوفيت في حياه النبي صلّى الله عليه وسلم. وقال ضرار بن مرة في وصف علي بن أبي طالب في أيام خلافته: كان ¬

_ (¬1) برقم (4127). (¬2) وأخرجه ابن أبي حاتم في التفسير - كما في تفسير ابن كثير (2/ 134 - 135)، وابن جرير في تفسيره (7/ 127 - 128) قال ابن كثير في تفسيره (2/ 135): "هذا حديث غريب، فإن هذه الآية مكية، والأقرع بن حابس وعيينة وإنَّما أسلما بعد الهجرة بدهر". (¬3) أخرجه الدارمي (1/ 35) والنسائي (3/ 109)، والحاكم (2/ 614) عن عبد الله ابن أبي أوفى وقال: صحيح عَلَى شرط الشيخين، ولم يخرجاه. وأخرجه الحاكم (2/ 614) عن أبي سعيد الخدري. وقال: صحيح عَلَى شرط الشيخين، ولم يخرجاه. (¬4) أخرجه الترمذي (3766) وقال: هذا حديث غريب. وأبو إسحاق المخزومي هو إبراهيم بن الفضل المدني، وقد تكلم فيه بعض أهل الحديث من قبل حفظه وله غرائب. وابن ماجه (4125). (¬5) وعاء من جلد مستدير يختص بالسمن والعسل. (النهاية: 3/ 284). (¬6) أخرجها البخاري (5432) من حديث أبي هريرة بنحوه.

يُعظم أهل الدين، ويحب المساكين. ومرَّ ابنه الحسن عَلَى مساكين يأكلون، فدعوه فأجابهم وأكل معهم، وتلا: {إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ} [النحل: 23] ثم دعاهم إِلَى منزله فأطعمهم وأكرمهم. وكان ابن عمر لا يأكل غالبًا إلا مع المساكين، ويقول: لعلَّ بعض هؤلاء أن يكون ملكًا يوم القيامة. وجاء مسكين أعمى إِلَى ابن مسعود -وقد ازدحم الناس عنده- فناداه: يا أبا عبد الرحمن! آويت أرياب الخزِّ واليمنية (¬1) وأقصيتني لأجل أني مسكين. فَقَالَ له: أدنه. فلم يزل يدنيه حتى أجلسه إِلَى جانبه أو بقربه. وكان مطرف بن عبد الله يلبس الثياب الحسنة ثم يأتي المساكين ويُجالسهم. وكان سفيان الثوري يعظم المساكين ويجفو أهل الدُّنْيَا، فكان الفقراء في مجلسه هم الأغنياء، والأغنياء هم الفقراء. وقال سليمان التيمي: كنا إذا طلبنا علية أصحابنا وجدناهم عند الفقراء والمساكين. وقال الفضيل: من أراد عز الآخرة فليكن مجلسه مع المساكين. ومن فضائل المساكين أنهم أكثر أهل الجنة كما قال النبي صلّى الله عليه وسلم: "قُمت عَلَى باب الجنة فإذا عامة من دخلها المساكين" (¬2). وقال - صلى الله عليه وسلم -: "تحاجت الجنة والنار، فقالت الجنة: لا يدخلني إلا الضعفاء والمساكين" (¬3). وسئل النبي صلّى الله عليه وسلم عن أهل الجنة، فَقَالَ: "كل ضعيف متضعف" (¬4). ¬

_ (¬1) أي أصحاب الثياب الفاخرة، يكني بذلك عن أهل الغنى والسعة. (¬2) قطعة من حديث أخرجه البخاري (6547)، ومسلم (2736) من حديث أسامة بن زيد. (¬3) أخرجه مسلم (2846/ 34). (¬4) أخرجه البخاري (4918) ومسلم (2853) عن حارثة بن وهب الخزاعي.

وهم أول الناس دخولاً الجنة كما صحَّ عنه - صلى الله عليه وسلم -: "أن الفقراء يسبقون الأغنياء إِلَى الجنة بأربعين عامًا" (¬1). وفي رواية: "أنهم يدخلون الجنة بنصف يوم، وهو خمسمائة سنة" (¬2). وهم أول الناس إجازة عَلَى الصراط كما صحَّ عنه - صلى الله عليه وسلم - أنَّه سئل: من أول الناس إجازة عَلَى الصراط؟. فَقَالَ: "فقراء المهاجرين" (¬3). وهم أول الناس ورودًا الحوض كما قال - صلى الله عليه وسلم -: "أول الناس ورودًا عليه: فقراء المهاجرين، [الدنس ثيابًا والشعث رؤوسًا] (¬4)، الذين لا ينكحون المتنعمات، ولا تفتح لهم السدد (¬5) " (¬6). وهم أتباع الرسل كما أخبر الله تعالى عن نوح عليه السلام أن قومه عيَّروه باتباع الضعفاء له فقالوا: {قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ} [الشعراء: 111]، وكذلك قال هرقل لأبي سفيان لما سأله عن النبي صلّى الله عليه وسلم: وهل يتبعه أشراف الناس أم ضعفاؤهم؟ فَقَالَ: بل ضعفاؤهم. قال هرقل: هم أتباع الرسل (¬7). ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (2979) من حديث عبد الله بن عمرو بلفظ: "إن فقراء المهاجرين يسبقون الأغنياء يوم القيامة إِلَى الجنة بأربعين خريفًا ... ". (¬2) أخرجها أحمد (2/ 343، 451) والترمذي (2353، 2354) وقال: هذا حديث حسن صحيح، وفي الرواية الأخرى: صحيح والنسائي في الكبرى كما في تحفة الأشراف (11/ 6) وابن ماجه (4122) من حديث أبي هريرة. (¬3) قطعة من حديث أخرجه مسلم (315) عن ثوبان. (¬4) جاء في الأصول: (الدنسة رؤوسهم، الشعثة ثيابهم) وهو خطأ، والمثبت من مصادر التخريج. (¬5) الأبواب، جمع سدَّة. (النهاية: 2/ 353). (¬6) أخرجه أحمد (5/ 275 - 276) والترمذي (2444) وقال: هذا حديث غريب من هذا الوجه، وقد روى هذا الحديث عن معدان بن أبي طلحة عن ثوبان عن النبي صلّى الله عليه وسلم، وأبو سلام الحبشي اسمه ممطور، وهو شامي. وابن ماجه (4303) والحاكم (4/ 184) وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه من طريق أبي سلام ممطور عن ثوبان. (¬7) أخرجه البخاري (7) ومسلم (1773) من حديث ابن عباس عن أبي سفيان،

وهم أفضل من الأغنياء عند كثير من العُلَمَاء أو أكثرهم، وقد دلَّ عَلَى ذلك أدلة كثيرة، منها قول النبي صلّى الله عليه وسلم حين مرَّ به الغني والمسكين في المسجد: "هذا - يعني: المسكين- خير من ملء الأرض من مثل هذا -يعني: الغني" وقد خرجه البخاري (¬1) وغيره (¬2). ومنهم من لو أقسم عَلَى الله لأبره كما في الصحيح عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنَّه قال في أهل الجنة: "كل ضعيف متضعف لو أقسم عَلَى الله لأبره" (¬3). وفي رواية: "أشعث ذو طمرين" (¬4)، وفي رواية خرَّجها ابن ماجه: "أنهم ملوك الجنة" (¬5)، وفي الحديث المشهور: "رب أشعث أغبر ذي طمرين مدفوع بالأبواب لو أقسم عَلَى الله لأبره" خرّجه الحاكم (¬6) وغيره (¬7). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (6447) عن سهل بن سعد. (¬2) وأخرجه ابن ماجه (4120). (¬3) تقدم. (¬4) أخرجه أحمد (3/ 145) من حديث أنس، وقال الهيثمي (10/ 264): "وفيه ابن لهيعة وحديثه يعتضد". وأخرجه ابن ماجه (4115) والطبراني في الكبير (20/ 84) من حديث معاذ بن جبل مرفوعًا: "ألا أخبرك عن ملوك الجنة؟ قلت: بلى. قال: "ورجل ضعيف مستضعف ذو طمرين ... ". قال العراقي في تخريج الإحياء (4/ 197): "سنده جيد". ا. هـ وانظر: روايات أخرى في ذكر ذي طمرين في المجمع (10/ 264 - 265). (¬5) برقم (4115). (¬6) أخرجه الحاكم (4/ 328) وقال: هذا حديث صحيح الإسناد، أظن مسلمًا أخرجه من حديث حفص بن عبد الله بن أنس. (¬7) وأخرجه أبو نعيم في الحلية (1/ 7) من حديث أبي هريرة وعندهما: "تنبو عنه أعن الناس". وأخرجه الطبراني في الأوسط (861) وقال: لم يرو هذا الحديث عن حفص إلا أسامة. وقال الهيثمي في المجمع (10/ 264): " وفيه عبد الله بن موسى التيمي وقد وثق، وبقية رجاله رجال الصحيح غير جارية بن هرم، وقد وثقه ابن حبان عَلَى=

رب ذي طمرين نضوٍ (¬1) ... يأمن العالم شره لا يُرى إلا غنيًّا ... وهو لا يملك ذره ثم لو أقسم في شيء ... عَلَى الله أبره قال ابن مسعود: كونوا جدد القلوب، خلقان الثياب، سرج الليل، مصابيح الظلام، تُعرفون في أهل السماء، وتخفون عَلَى أهل الأرض. طوبى لعبدٍ بحبلِ الله مُعْتَصَمُه ... على صراطٍ سَويٍّ ثابتٍ قدمُه رثّ اللباس جديدِ القلب مُستترٍ ... في الأرض مشتهرٍ فوقَ السما سمُه ما زال (يستحقرُ) (*) الأُولَى بِهمَّته ... حتى ترقّت إلى الأخرى به هِمَمُه فذاك أعظمُ من التاج مُتّكئاً ... على النمارق مُحتفّاً به خَدَمُه واعلم أن محبة المساكين لها فوائد كثيرة، منها: أنها توجب إخلاص العمل لله عز وجل؛ لأنّ الإحسان إليهم لمحبتهم لا يكون إلا لله عز وجل؛ لأنّ نفعهم في الدُّنْيَا لا يرجى غالبًا، فأما من أحسن إليهم ليمدح بذلك فما أحسن إليهم حبًّا لهم بل حبًّا لأهل الدُّنْيَا، وطلبًا لمدحهم له بحب المساكين. ومنها: أنَّها تزيل الكبر، فإن المستكبر لا يرضى مجالسة المساكين كما سبق عن رؤساء قريش والأعراب ومن حذا حذوهم من هذه الأمة ممن تشبّه بهم، حتى أن بعض علماء السوء كان لا يشهد الصلاة في جماعة خشية أن تزاحمه المساكين في الصف. ويمتنع بسبب هذا الكبر خير كثير جدًّا، فإن مجالس الذكر والعلم يقعُ فيها كثيرًا مجالسة المساكين، فإنهم أكثر هذه المجالس، فيمتنع المتكبر من هذه المجالس بتكبره، وربما كان المسموع منه الذكر والعلم من جملة المساكين، فيأنف ¬

_ = ضعفه". وأخرجه البزار في البحر الزخار (2035) من حديث ابن مسعود، وقال: وهذا الكلام لا نعلمه يروى عن عبد الله إلا بهذا الإسناد. (¬1) أي: ذو ثياب خلقة بالية. (اللسان: 15/ 329). (*) يحتقر: "نسخة".

أهل الكبر من التردد إِلَى مجلسه لذلك فيفوتهم خير كثير. وقد أخبر الله تعالى عن المشركين أنهم قالوا: {وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزخرف: 31] يشيرون إِلَى عظماء مكة والطائف كعتبة بن ربيعة وأخيه شيبة ونحوهما من صناديد قريش وثقيف ذوي الأموال والشَّرفِ فيهم ممن كان أكثر مالاً من محمد - صلى الله عليه وسلم - وأعظم رياسة عندهم، ورد عليهم سبحانه بأنه يقسم رحمته كما يشاء، وأنه كما رفع درجات بعضهم عَلَى بعض في الدُّنْيَا فكذلك يرفعها في الآخرة، وأن رحمته بالنبوة والعلم والإيمان خير مما يجمعونه من الأموال التي تفنى، فهو سبحانه يختص بهذه الرحمة الدينية من يشاء ويرفعه عَلَى أهل النعم الدنيوية، وقد خص محمدًا - صلى الله عليه وسلم - بما لم يشركه فيه غيره من هذه النعم كما قال تعالى له: {وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا} [النساء: 113]. وقد كان علي بن الحسين يجلس في مجلس زيد بن أسلم فيُعاتب عَلَى ذلك فيقول: إِنَّمَا يجلس المرءُ حيث يكون له فيه نفعٌ. أو كما قال، يشير إِلَى أنَّه ينتفع بسماع ما لم يسمعه من العِلْم والحكمة، وزيد بن أسلم أبوه مولى لعمر، وعلي ابن الحسن سيد بني هاشم وشريفهم. ولما اجتمع الزهرى وأبو حازم الزاهد بالمدينة عند بعض بني أمية -لما حج- وسمع الزهري كلام أبي حازم وحكمته أعجبه ذلك، وقال: هو جاري منذ كذا وكذا، وما جالسته ولا عرفت أن هذا العِلْم عنده!. فقال له أبو حازم: أجل إني من المساكين، ولو كنت من الأغنياء لعرفتني فوبَّخه بذلك. وفي رواية عنه أنَّه قال له: لو أحببت الله لأحببتني، ولكنك نسيت الله فنسيتني. يشير إِلَى أنَّ من أحبَّ الله تعالى أحبَّ المساكين من أهل العِلْم والحكمة لأجل محبته لله تعالى، ومن غفل عن الله تعالى غفل عن أوليائه من المساكين فلم يرفع بهم رأسًا، ولم ينتفع بما اختصَّهم الله عز وجل به من الحكمة والعلوم النافعة التي لا توجد عند غيرهم من أهل الدُّنْيَا.

وقد كان علماء السَّلف يأخذون العِلْم عن أهله والغالبُ عليهم المسكنة وعدم المال والرفعة في الدُّنْيَا، ويدعون أهل الرياسات والولايات فلا يأخذون عنهم شيئًا مما عندهم من العِلْم بالكلية. ومنها: أنَّه يوجب صلاح القلب وخشوعه، وفي "المسند" عن أبي هريرة أن رجلاً شكى إِلَى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قسوة قلبه، فَقَالَ له: "إن أحببت أن يلين قلبك فأطعم المسكين وامسح رأس اليتيم" (¬1). ومنها: أنَّ مجالسة المساكين تُوجب رضى من يجالسهم برزق الله عز وجل، وتعظُمُ عنده نعمة الله عز وجل عليه بنظره في الدُّنْيَا إِلَى من دونه. ومجالسة الأغنياء تُوجب التسخط بالرزق، ومدَّ العين إِلَى زينتهم وما هم فيه، وقد نهى الله عز وجل نبيه - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك فَقَالَ تعالى: {وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [طه: 131]، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "انظروا إِلَى من دونكم ولا تنظروا إِلَى من فوقكم، فإنّه أجدر أن لا تزدروا نعمة الله عليكم" (¬2). قال أبو ذر أوصاني رسول الله صلّى الله عليه وسلم أن أنظر إِلَى من دوني ولا أنظر إِلَى من فوقي، وأوصاني أن أحبَّ المساكين وأن أدنو منهم (¬3). وكان عون بن عبد الله بن عتبة بن مسعود يجالس الأغنياء فلا يزال في غمَّ، لأنّه لا يزال يرى من هو أحسن منه لباسًا ومركبًا ومسكنًا ومطعمًا، فتركهم وجالس المساكين فاستراح من ذلك. وقد رُوي عن النبي صلّى الله عليه وسلم من أنَّه نهى عائشة من مخالطة الأغنياء (¬4). ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد (2/ 263، 387) من طريق أبي عمران الجوني عن رجل عن أبي هريرة، وفي الرواية الثانية عند أحمد: عن أبي عمران عن أبي هريرة دون ذكر. التابعي المبهم، قال الهيثمي في المجمع (8/ 160): "رجاله رجال الصحيح". (¬2) أخرجه مسلم (2963/ 9) من حديث أبي هريرة. (¬3) تقدم. (¬4) أخرجه الترمذي (1780) والحاكم (4/ 312)، وابن الجوزي في الموضوعات=

وقال عمر: إياكم والدخول عَلَى أهل السعة فإنَّه مسخطةٌ للرزق. واعلم أن المسكين إذا أُطلق يُراد به غالبًا من لا مال له يكفيه، فإن الحاجة توجب السكون والتواضع، بخلاف الغنى فإنَّه يوجب الطغيان، ولهذا ذُمَّ الفقير المختال وعظم وعيده لأنّه عصى بما ينافي فقره، وهو الاختيال والزهو والكبر. ولما كان المسكين عند الإطلاق لا ينصرف إلا إِلَى من لا كفاية له من المال وصى الله تعالى بإيثار المساكين وإطعامهم الطعام، ومدح من يُطعمهم، وذمَّ من لا يحف عَلَى إطعامهم، وجعل لهم حقًّا في أموال الصدقات والفيء وخُمس الغنائم وحضور قسمة الأموال. وهؤلاء المساكين عَلَى قسمين: أحدهما: من هو محتاج في الباطن وقد أظهر حاجته للناس. والثاني: من يكتم حاجته ويظهر للناس أنَّه غنيٌّ فهذا أشرف القسمين، وقد مدح الله عز وجل هذا في قوله تعالى: {لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} [البقرة: 273]، وقال النبي صلّى الله عليه وسلم: "ليس المسكين بهذا الطوَّاف الَّذِي ترده اللقمه واللقمتان والتمرة والتمرتان، ولكن المسكين من لا يجد ما يغنيه، ولا يُفطن له فيتصدق عليه" (¬1). وقال بعضهم: هذا المحروم المذكور في قوله عز وجل: {وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [الذاريات: 19]. ¬

_ = (3/ 139 - 140) عن عائشة قالت: قال لي رسول الله صلّى الله عليه وسلم: "إن أردت اللحوق بي فليكفك من الدُّنْيَا كزاد الراكب، وإياك ومجالسة الأغنياء .. " الحديث. قال الترمذي: "هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث صالح بن حسان، قال: وسمعت محمدًا يعني البخاري يقول: صالح بن حسان منكر الحديث". وقال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. وتعقبه الذهبي قائلا: الوراق -يعني: سعيد بن محمد- عدم". (¬1) أخرجه البخاري (1476) ومسلم (1039) عن أبي هريرة بنحوه.

فأخبر النبي صلّى الله عليه وسلم أن من كتم حاجته فلم يُفطن له أحقُّ باسم المسكين من الَّذِي أظهر حاجته بالسؤال، وأنه أحقُّ بالبر منه، وهذا يدل عَلَى أنهم كانوا لا يعرفون من المساكين إلا من أظهر حاجته بالسؤال، وبهذا فرَّق طائفة من العُلَمَاء بين الفقير والمسكين، فقالوا: من أظهر حاجته فهو مسكين، ومن كتمها فهو فقير. وفي كلام الإمام أحمد إيماء إِلَى ذلك، وإن كان المشهور عنه أن التفريق بينهما بكثرة الحاجة وقلتها كقول كثير من الفقهاء، وهذا حيث جمع بين ذكر الفقير والمسكين كما في آية الصدقات، (وأما إن) (*) أفرد أحد الاسمين دخل فيه الآخر عند الأكثرين. وقد كان كثير من السَّلف يكتم حاجته ويظهر الغنى تعففًا وتكرمًا، منهم: إبراهيم النخعي كان يلبس ثيابًا حسانًا، ويخرج بها إِلَى الناس وهم يرون أنَّه تحل له الميتة من الحاجة. وكان بعض الصالحين يلبس الثياب الجميلة وفي كمه مفتاح دار كبيرة ولا مأوى له إلا المساجد. وكان آخر لا يلبس جبة في الشتاء لفقره، ويقول: بي علة تمنعني من لبس المحشو، وإنَّما يعني به الفقر. شعر: إن الكريم ليُخفي عنك عُسرته ... حتى تراه غنيًّا وهو مجهود وكان بعكس هؤلاء من يلبس ثياب المساكين مع الغنى تواضعًا لله عز وجل، وبُعدًا من الكبر كما كأن يفعله الخلفاء الراشدون الأربعة وبعدهم عمر بن عبد العزيز، وكذلك كان جماعة من الصحابة منهم: عبد الله بن عمر، وعبد الله بن عمرو بن العاص وغيرهما رضي الله عنهم. ورُوي أن أبا بكر الصديق -رضى الله عنه- كان يُنشد: ¬

_ (*) فإذا أفرد: "نسخة".

إذا أردت شريف الناس كلهم ... فانظر إِلَى ملك في زي مسكين ذاك الَّذِي حسُنت في الناس سيرته ... وذاك يصلح للدنيا وللدين وكان علي رضي الله عنه يعاتب عَلَى لباسه فيقول: هو أبعدُ من الكبر، وأجدر أن يقتدي بي المسلم (¬1). وعُوتب عمر بن عبد العزيز عَلَى ذلك فَقَالَ: إن أفضل القصد عند الجدة. يعني: أفضل ما اقتصد الرجل في لباسه عقدرته ووجدانه. وفي سنن أبي داود (¬2) وغيره (¬3) عن النبى - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال: "البذاذة من الإيمان" يعني: التقشف. وفي الترمذي (¬4) عن النبي صلّى الله عليه وسلم: "من ترك اللباس تواضعًا لله عز وجل وهو يقدر عليه دعاه الله يوم القيامة [عَلَى رؤوس الخلائق] (¬5) حتى يخيره من أي حُلل الإيمان شاء يلبسها". وخرَّجه أبو داود (¬6) من وجه آخر ولفظه: "من ترك ثوب جمال -أحسبه قال: تواضعًا- كساه الله حلة الكرامة". وإنما يُذم من ترك اللباس مع قدرته عليه بخلا عَلَى نفسه، أو كتمانًا لنعمة الله عز وجل، وفي هذا جاء الحديث المشهور: "إن الله إذا أنعم عَلَى عبد نعمة أَحَبّ أن يرى أثر نعمته عَلَى عبده" (¬7). ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد في الزهد (ص 132) والفضائل (924) والحاكم (3/ 143) وأبو نعيم في الحلية (1/ 82 - 83) وفيه شريك القاضي صدوق سيء الحفظ. وأخرجه أحمد في الفضائل (923) وعبد الله بن أحمد في زوائد الزهد (ص 131) والفضائل (893) وأبو نعيم (1/ 83). (¬2) برقم (4161). (¬3) وأخرجه ابن ماجه (4118) وغيره، وانظر الصحيحة للعلامة الألباني برقم (341). (¬4) برقم (2481) وقال: هذا حديث حسن. وقال ابن الجوزي في العلل (1129): هذا حديث لا يصح. (¬5) ما بين المعقوفتين من جامع الترمذي. (¬6) برقم (4778). قال المنذري في مختصر السنن (7/ 164): فيه رواية مجهول. (¬7) أخرجه أحمد (4/ 438)، والطبراني في الكبير (18/ 281، 418) قال الهيثمي=

ومن لبس لباسًا حسنًا إظهارًا لنعمة الله ولم يفعله اختيالاً كان حسنًا. وكان كثير من الصحابة والتابعين يلبسون لباسًا حسنًا، منهم: ابن عباس، والحسن البصري. وقد صحَّ عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنَّه سئل عن الرجل يحب أن يكون لباسه حسنًا ونعله حسنًا؟ قال: "ليس ذلك بالكبر، إِنَّمَا الكبر بطر الحق وغمط الناس" (¬1). يعني: التكبر عن قبول الحق والانقياد له، واحتقارُ الناس وازدراؤهم فهذا هو الكبر، فأما مجرد اللباس الحسن الخالي عن الخيلاء فليس بكبر، واحتقارُ الناس مع رثاثة اللباس كبر. وقد رُوي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنَّه كان ماشيًا في طريق، وهناك أمة سوداء، فَقَالَ لها رجل: الطريق! الطريق! للنبي - صلى الله عليه وسلم -. فقالت: الطريق يُمنةً ويُسرةً!. فَقَالَ النبي - صلى الله عليه وسلم -: "دعوها فإنَّه جبارة". خرَّجه النسائي (¬2) وغيره (¬3)، وفي رواية للطبراني (¬4) وغيره: قالوا: يا رسول الله! إنها. يعني: مسكينة. قال: ¬

_ =في المجمع (5/ 132): رواه أحمد والطبراني، ورجال أحمد ثقات. (¬1) أخرجه مسلم (91) بنحوه من حديث ابن مسعود. (¬2) في السنن الكبرى (6/ 143) برقم (10391) من حديث أبي بردة عن أبيه. قال النسائي: عافية بن يزيد ثقة، وسليمان الهاشمي. لا أعرفه. (¬3) وأخرجه أبو يعلى (3276)، والطبراني في الأوسط (8160)، وأبو نعيم في الحلية (6/ 291) من حديث أنس. وقال الهيثمي في المجمع (1/ 99): رواه الطبراني في الأوسط وأبو يعلى، وفيه يحيى الحماني ضعفه أحمد، ورماه بالكذب، ورواه البزار وضعفه براوٍ آخر. وقال البوصيري في الإتحاف (7107 - ط. دار الوطن): رواه أبو يعلى عن يحيى بن عبد الحميد الحماني، وقد ضعفه الجمهور. (¬4) في المعجم الكبير كما في المجمع (1/ 99) من حديث أبي موسى بلفظ: "إن لا يكن ذلك في قدرتها، فإنَّه في قلبها". قال الهيثمي: وفيه بلال بن أبي بردة.

"إن ذاك قلبها". يعني: أن الكبر في قلبها وإن كان لباسها لباس المساكين. وقال الحسن: إن قومًا جعلوا التواضع في لباسهم والكبر في صدورهم، إن أحدهم أشد كبرًا بمدرعته من صاحب السرير بسريره، وصاحب المنبر بمنبره. قال أحمد بن أبي الحواري: قال لي سليمان بن أبي سليمان -وكان يُعدلُ بأبيه: أي شيء أرداو بثياب الصوف؟. قلت: التواضع. قال: وما يتكبر أحدهم إلا إذا لبس الصوف". وقال أبو سليمان: يكون ظاهرك قطنيًّا وباطنك صوفيًّا. قال أبو الحسن بن بشار: صوَّف قلبك، والبس القوهي عَلَى القوهي. يعني: رفيع الثياب. فمتى أظهر الإنسان لباس المساكين لدعوى الصلاح ليشتهر بذلك عند الناس كان ذلك كبرًا ورياء، ومن هنا ترك كثير من السَّلف المخلصين اللباس المختص بالفقراء والصالحين، وقالوا: إنه شهرة. ولما قدم سيّار أبو الحكم البصرة لزيارة مالك بن دينار لبس ثيابًا حسنة ثم دخل المسجد فصلى صلاة حسنة، فرآه مالك -ولم يعرفه- فَقَالَ له: يا شيخ! إني أرغب بك عن هذه الثياب مع هذه الصلاة. فَقَالَ له: يا مالك! ثيابي هذه تضعني عندك أم ترفعُني؟! قال: بل تضعك. فَقَالَ: نعم الثوب ثوب يضع صاحبه عند الناس، ولكن انظر يا مالك لعل ثوبيك هذين -يعني: الصوف- أنزلاك عند الناس ما لم يُنزلاك من الله. فبكى مالك وقام إِلَيْهِ واعتنقه، وقال له: أنشدك الله أنت سيار أبو الحكم؟ قال: نعم. فلهذا كَرِه من كَرِه من السَّلف كابن سيرين وغيره لباس الصوف حيث صار شعار الزاهدين، فيكون لباسه إشهارًا للنفس، وإظهارًا للزهد، وأما النبي صلّى الله عليه وسلم

فكان يلبس ما وجد، فتارة يلبس لباس الأغنياء من حلل اليمن وثياب الشام ونحوها، وتارة يلبس لباس المساكين فيلبس جُبَّة من صوف أحيانًا، وأحيانًا يتزر بعباءة ويهنأ إبل الصدقة بيده، يعني أنَّه يطليها بيده ويُصلحها كما يفعل أرباب الإبل بها. ولم يبعث الله نبيًّا من أهل الكبر، وإنَّما بعث من لا كبر عنده، ولا يتكبر عن معالجة الأشياء التي يأنف منها المتكبرون كرعاية الإبل (والغنم) (*)، وإجارة نفسه (¬1) عند الحاجة إِلَى الاكتساب: ومن أعطاه الله منهم مُلكًا فإنَّه يزداد به تواضعا لله عز وجل كداود وسليمان ومحمد صلّى الله عليه وسلم. وقد يطلق اسم المسكين ويُراد به من استكان قلبه لله، وانكسر له وتواضع لجلاله وكبريائه وعظمته وخشيته ومحبته ومهابته. وعلى هذا المعنى حمل بعضهم الحديث المروي عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنَّه قال: "اللهم أحييني مسكينًا، وأمتني مسكينًا، واحشرني في زمرة المساكين" خرَّجه الترمذي من حديث أنس (¬2)، وخرّجه ابن ماجه من حديث ابن عباس (¬3). وفي حمله عَلَى ذلك نظرٌ لأنّ في تمام حديثيهما ما يدل عَلَى أن المراد به المساكين من المال؛ لأنّه ذكر سَبْقَهُم الأغنياء إِلَى الجنة، مع أن في إسناد الحديثين ضعفًا. وقد خُيِّر النبي صلّى الله عليه وسلم بين أن يكون نبيًّا ملكًا أو عبدًا رسولاً، فأشار إِلَيْهِ جبريل أن تواضع. فَقَالَ: بل عبدًا رسولاً. وكان بعد ذلك لا يأكل متكئًا، ويقول: ¬

_ (*) والبقر: "نسخة". (¬1) أي: اشتغاله أجيرًا للآخرين. (¬2) برقم (2352) وقال الترمذي: هذا حديث غريب. (¬3) وهم المصنف رحمه الله في عزو الحديث لابن عباس عند ابن ماجه فقد أخرجه ابن ماجه عن أبي سعيد الخدري برقم (4126). قال البوصيري في مصباح الزجاجة: هذا إسناد ضعيف، أبو المبارك لا يعرف اسمه وهو مجهول، ويزيد بن سنان التميمي أبو فروة ضعيف.

"آكل كما يأكل العبد. وأجلس كما يجلس العبد" (¬1). قال الحسن: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: "فأعطاني الله لذلك أن جعلني سيد ولد آدم، وأول شافع، أول مشفع، وأول من تنشق عنه الأرض". وصحَّ عنه - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال: "إِنَّمَا أنا عبد، فقولوا: ¬

_ (¬1) ورد هذا الحديث عن عدة من الصحابة فمنهم: أ- عائشة رضي الله عنها: رواه عنها ابن سعد في الطبقات (1/ 381)، وأبو يعلي (4920) ومن طريق أبو الشيخ في أخلاق النبي صلّى الله عليه وسلم (ص 197) والبغوي في شرح السنة (3683)، والذهبي في السير (2/ 195). قال الهيثمي في المجمع (9/ 19): رواه أبو يعلى وإسناده حسن. وقال الذهبي في السير (2/ 195): هذا حديث حسن غريب. ب- أنس رضي الله عنه: رواه عنه ابن شاهين في ناسخ الحديث ومنسوخه (637). ج- ابن عباس رضي الله عنه. رواه عنه النسائي في الكبرى (6743) والبخاري في التاريخ الكبير (1/ 124)، والطبراني كما في المجمع (9/ 20)، وأبو الشيخ في أخلاق النبي صلّى الله عليه وسلم (ص 198) ومن طريقه البغوي في شرح السنة (3684). قال الهيثمي في المجمع (9/ 20): وفيه بقية بن الوليد وهو مدلس. قلت: وفي السند انقطاع بين محمد بن علي بن عبد الله بن عباس وبين جده عبد الله ابن عباس. وضعف الحديث العراقي في تخريج الأحياء (3/ 340). ورُوي الحديث مرسلاً عن الزهري وطاوس ويحيى بن أبي كثير والحسن. فأما مرسل الزهري فأخرجه معمر في جامعه (19551 - مع المصنف). وأما مرسل طاوس فأخرجه معمر أيضاً (19552). وأما مرسل يحيى بن أبي كثير فأخرجه معمر (19554)، ومن طريقه البيهقي في الشعب (5975)، وابن سعد في الطبقات (1/ 371). قال الحافظ في التلخيص الحبير (3/ 125) بعد أن ذكر الحديث، ولأبي الشيخ في كتاب أخلاق النبي صلّى الله عليه وسلم من حديث جابر نحوه ومن حديث عائشة وإسنادهما ضعيف ولابن شاهين من طريق عطاء بن يسار مرسلاً نحوه. ثم ذكر رواية عائشة عند ابن سعد، قال: وللبيهقي في الشعب والدلائل من حديث ابن عباس في قصة قال فيها:=

عبد الله ورسوله" (¬1). فأشرف أسمائه: عبد الله ولهذا سُمِّى بهذا الاسم في القرآن في أفخر مقاماته، فلما حقق - صلى الله عليه وسلم - (عبوديته لربه) (*) حصلت له السيادة عَلَى جميع الخلق. كان كثير من العارفين يقول في مناجاته لربه: كفى بي فخرًا أني لك عبدٌ، وكفى بي شرفًا أنك لي رب. وكان بعضهم يقول: كلما ذكرت أنَّه ربي وأني عبده حصل لي من السرور ما يصلح به بدني: شرف النفوس دخولها في رقهم ... والعبد يحوي الفخر بالمتملَّك وكان أبو يزيد البسطامي ينشد: واليتني صرت شيئًا ... من غير شيء أعد أصبحت للكل مولى ... لأنني لك عبد فمن انكسر قلبه لله تعالى -واستكان وخشع وتواضع جبره الله عز وجل ورفعه بقدر ذلك وفي الأثر المشهور: أن الله عز وجل قال لموسى عليه السلام ¬

_ =فما أكل - صلى الله عليه وسلم - بعد تلك الكلمة طعامًا متكئًا حتى لقي الله. ورواه النسائي بلفظ "قط" بدل "حتى لقي الله"، وإسناده حسن فإنَّه من رواية بقية عن الزبيدي وقد صرح، ووافقه معمر عن الزهري أخرجه عبد الرزاق أيضًا. وذكر العجلوني في كشف الخفاء (1/ 17): الحديث "آكل كما يأكل العبد وأجلس كما يجلس العبد" وقال: رواه ابن سعد بسند حسن وأبو يعلى عن عائشة، وفي رواية البيهقي عن يحيى بن أبي كثير مرسلاً بزيادة: "فإنما أنا عبد" ورواه هناد في "الزهد" (800) عن عمرو بن مرة مرسلاً بلفظ: آكل كما يأكل العبد، فوالذي نفسي بيده لو كانت الدُّنْيَا تزن ثم الله جناح بعوضة ما سقى منها كافرًا كأسًا". قلت: ولفقرات الحديث شواهد يتقوى بها انظرها في تخريج الشيخ جاسم الدوسري لهذا الحديث برقم (302) فقد أفاد وأجاد حفظه الله وقد استفدت منه في تخريج هذا الحديث وغيره، فجزاه الله خير الجزاء. (¬1) أخرجه البخاري (3445) عن عمر بن الخطاب. (*) عبودية ربه "نسخة".

حين سأله: أين أجدك؟. قال: عند المنكسرة قلوبهم من أجلي، فإني أدنو منهم كل يوم باعًا ولولا ذلك لانهدموا (¬1). ورُوي عن عبد الله بن سلام أنَّه فسره، فَقَالَ: هم المنكسرة قلوبهم بحب الله عن حب غيره. وفي الحديث المشهور المرفوع: "إن الله تعالى إذا تجلى لشيء من خلقه خشع له، فَإِذَا تجلَّى لقلوب العارفين عظمة الله وجلاله وكبرياؤه اندكَّت قلوبهم من هيبته، وخشعت وانكسرت من محبته ومخافته" (¬2). مساكين أهل الحب حتى قبورهم ... عليها تراب الذل بين المقابر فالمسكين في الحقيقة من استكان قلبه لربه وخشع من خشيته ومحبته، ولا يكون المسكين ممدوحًا بدو هذه الصفة، فإن من لم يخشع قلبه مع فقره وحاجته فهو جبار كتلك الأمة السوداء التي قال فيها النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إنها جبارة". وهو إما عائل مستكبر أو فقير مختال، وكلاهما لا ينظر الله إِلَيْهِ يوم القيامة، فالمؤمن يستكين قلبه لربه ويخشع له ويتواضع، ويظهر مسكنته وفاقته إِلَيْهِ في الشدة والرخاء، أما في حال الرضا فإظهارًا للشكر، وأما في حال الشدة فإظهارًا للذل والعبودية والفاقة والحاجة إِلَى كشف الضر، قال تعالى: {وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ} [المؤمنون: 76]، فذمّ من لا يستكين لربه عند الشدة، وكان النبي صلّى الله عليه وسلم يخرج عند الاستسقاء متواضعًا متخشعًا ¬

_ (¬1) أخرجه ابن أبي عاصم في الزهد (1/ 57) وأبو نعيم في الحلية (6/ 177) عن عمران القصير قال: قال موسى وفيه انقطاع بين عمران وموسى عليه السلام. وأخرجه أبو نعيم في الحلية (2/ 364) عن مالك بن دينار قال: قال موسى عليه السلام وفيه انقطاع أيضاً. قال القاري في الأسرار المرفوعة (ص 118): لا أصل له. (¬2) قال الشيخ جاسم: لم أقف عليه ولا أظنه إلا موضوعًا، فهو أشبه بكلام المتصوفة من كلام المعصوم - صلى الله عليه وسلم - وغفر الله لابن رجب ما كان أغناه عن مثل هذه الأحاديث التى لا خطام لها ولا أزمة.

متمسكنًا (¬1). وحبس لمطرف بن عبد الله قريب له فلبس خلقان ثيابه، وأخذ بيده قصبة، وقال: أتمسكن لربي لعله يُشفعني فيه. ومما يشرع فيه التمسكن لله حال الصلاة كما في حديث الفضل بن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "الصلاة مثنى مثنى، تَشَهَّدُ في كل ركعتين، وتخَشَّعُ، وتَضَرَّع وتمسكن، وتقنع يديك -يقول: ترفعهما- وتقول: يا رب ثلاثًا، فمن لم يفعل ذلك (فهي خداج) (*) ". خرّجه الترمذي (¬2) وغيره (¬3). وكذلك يشرع إظهار المسكنة في الدعاء. خرَّج الطبراني (¬4) من حديث ابن عباس قال: رأيت النبي صلّى الله عليه وسلم يدعو بعرفة، ويداه إِلَى صدره كاستطعام المسكين. ومن حديثه أيضاً أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في دعائه عشية عرفة: "أَنَا الْبَائِسُ الْفَقِيرُ، الْمُسْتَغِيثُ الْمُسْتَجِيرُ، الْوَجِلُ الْمُشْفِقُ، الْمُقِرُّ الْمُعْتَرِفُ بِذَنْبِهِ، أَسْأَلُكَ مَسْأَلَةَ الْمِسْكِينِ، وَأَبْتَهِلُ إِلَيْكَ ابْتِهَالَ الْمُذْنِبِ الذَّلِيلِ، وَأَدْعُوكَ دُعَاءَ الْخَائِفِ الضَّرِيرِ" (¬5). ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد (1/ 230، 269) وأبو داود (1165) والترمذي (558، 559) وقال: حسن صحيح. والنسائي (3/ 156 - 157) وابن ماجه (1266). (*) في نسخة "الأمبروزيانا": كررت هذه العبارة "ثلاث مرات"، وفي سنن الترمذي: "فهو كذا وكذا". قال أبو عيسى: وقال غير ابن المبارك في هذا الحديث: "من لم يفعل ذلك فهي خداج". (¬2) برقم (385) ونقل قول البخاري: وحديث الليث بن سعد هو حديث صحيح، يعني أصح من حديث شعبة. (¬3) وأخرجه أحمد (1/ 211) والنسائي في الكبرى تحفة الأشراف (8/ 264) من حديث الفضل، وأخرجه الطيالسي (1366) وأحمد (4/ 167) وأبو داود (1296) والنسائي في الكبرى في التحفة (8/ 391) وابن ماجه (1325). (¬4) في الأوسط (2892) عن ابن عباس. قال الهيثمي في المجمع (10/ 168): "وفيه الحسين بن عبد الله بن عبيد الله، وهو ضعيف". (¬5) قطعة من حديث أخرجه الطبراني في الكبير (11/ 11405) والصغير (1/ 247) والخطيب في التاريخ (6/ 163) ومن طريقه: ابن الجوزي في العلل (1412) عن ابن عباس. قال الهيثمي في المجمع (3/ 252): "وفيه يحيى بن صالح الأبلي، قال العقيلي:=

وكان بعض السَّلف يجلس بالليل مطرقا رأسه، ويمد يديه وهو ساكت كحال المسكين المستعطي. وقال طاوس: دخل علي بن الحسين الحجر ليلة فصلى، فسمعته يقول في سجوده: عُبيدك بِفِنَائِكَ، مسكينك بفنائك، فقيرك بفنائك، سائلك بفنائك. قال طاوس: فحفظتهن، فما دعوت بهن في كرب إلا فرج عني. وكان بعض العباد قد حج ثمانين حجة عَلَى قدميه، فبينما هو في الطواف وهو يقول: يا حبيبي! يا حبيبي! فهتف به هاتف: ليس ترضى أن تكون مسكينًا حتى تكون حبيبًا! فغشي عليه فكان بعد ذلك يقول: مسكينك مسكينك. ولشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: أنا الفقير إِلَى رب السماوات ... أنا المسكين في مجموع حالاتي أنا الظلوم لنفسي وهي ظالمتي ... والخير إن جاءنا من عنده يأتي قوله - صلى الله عليه وسلم -: "وأن تغفر لي وترحمني": المغفرة والرحمة يجمعان خير الآخرة كله؛ لأنّ المغفرة (ستر) (*) الذنب مع وقاية شره، وقد قيل: إنه لا تجتمع المغفرة مع عقوبة الذنب، حيث كانت المغفرة وقاية لشر الذنب، وهذا لا يكون مع عقوبة عليه، ولذلك سمي المِغفر مغفرًا؛ لأنّه يستر الرأس ويقيه الأذى، وهذا بخلاف العفو، فإنَّه يكون تارة قبل العقوبة وتارة بعدها. وأما الرحمة فهي دخول الجنة وعلوّ درجاتها، وجميعُ ما في الجنة من (النعيم) (**) بالمخلوقات، ومن رضى الله وقربه ومشاهدته وزيارته فإنَّه من رحمة الله، وفي الحديث الصحيح: "إن الله عز وجل يقول للجنة: أنت رحمتي ¬

_ =روى عنه يحيى بن بكير مناكير، وبقية رجاله رجال الصحيح". ا. هـ. وقال ابن الجوزي: "حديث لا يصح" وقال العراقي في تخريج الإحياء (1/ 254): "إسناده ضعيف". (*) تستر: "نسخة". (**) كتب في حاشية "نسخة الامبروزيانا" أنها في نسخة: "النعم".

أرحم بك من أشاء من عبادي" (¬1). فكل ما في الجنة فهو من رحمته عز وجل، وإنَّما تنال برحمته لا بالعمل كما قال - صلى الله عليه وسلم -: "لن يدخل أحد منكم الجنة بعمله". قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟!. قال: "ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته" (¬2). قوله - صلى الله عليه وسلم -: "وإذا أردت بقوم فتنة فاقبضني إليك غير مفتون": المقصود بهذا الدعاء سلامة العبد من فتن الدُّنْيَا مدة حياته، فإن قُدِّر الله عَلَى عباده فتنة قبض عبده إِلَيْهِ قبل وقوعها، وهذا من أم الأدعية فإن المؤمن إذا عاش سليمًا من الفتن ثم قبضه الله قبل وقوعها وحصول الناس فيها كان في ذلك نجاة له من الشر كله، وقد أمر النبي صلّى الله عليه وسلم أصحابه أن يتعوذوا بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن (¬3). وفي حديث آخر: "وجنبنا الفواحش والفتن ما ظهر منها وما بطن" (¬4). وكان يخص بعض الفتن العظيمة بالذكر، فكان يتعوَّذ في صلاته من أربع، ويأمر بالتعوذ منها: "أعوذ بالله من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدجال" (¬5). ففتنة المحيا يدخل فيها فتنُ الدين والدنيا كلها، (كالكفر) (*) والبدع ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه. (¬2) أخرجه البخاري (6467) ومسلم (2818) من حديث عائشة. وأخرجه البخاري (6463) ومسلم (2816) من حديث أبي هريرة. (¬3) قطعة من حديث أخرجه مسلم (2867) عن زيد بن ثابت مطولاً. (¬4) قطعة من حديث أخرجه أبو داود (969)، وابن حيان (2429)، والحاكم (1/ 265) وقال: صحيح عَلَى شرط مسلم. (¬5) أخرجه البخاري (833) ومسلم (589) عن عائشة، وأخرجه مسلم (588) عن أبي هريرة وعن ابن عباس (590) بألفاظ متعددة. (*) كالفقر: "نسخة".

والفسوق والعصيان. وفتنة الممات يدخل فيها سوء الخاتمة وفتنة الملكين في القبر، فإن الناس يفتنون في قبورهم مثل أو قريبًا من فتنة الدجال. ثم خصَّ فتنة الدجال بالذكر لعظم موقعها، فإنَّه لم يكن في الدُّنْيَا فتنة قبل يوم القيامة أعظم منها، وكلما قرب الزمان من الساعة كثرت الفتن. وفي حديث معاوية عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنَّه قال: "إنه لم يبق من الدُّنْيَا إلا بلاء وفتنة" (¬1). وقد أخبر النبي صلّى الله عليه وسلم عن الفتن التي تكون كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل فيها مؤمنًا ويمسي كافرًا، ويمسي مؤمنًا ويصبح كافرًا، يبيع دينه بعرض من الدُّنْيَا (¬2). وكان أول هذه الفتن ما حدث بعد عمر رضي الله عنه، ونشأ من تلك الفتن قتلُ عثمان رضي الله عنه، وما ترتب عليه من إراقة الدماء وتفرُّق القلوب وظهور فتن الدين كبدع الخوارج المارقين من الدين وإظهارهم ما أظهروا، ثم ظهور بدع أهل القدر والرفض ونحوهم، وهذه هي الفتنة التي تموج كموج البحر المذكورة في حديث حذيفة المشهور حين سأله عنها عمر (¬3)، وكان حذيفة رضي الله عنه من كثر الناس سؤالاً للنبي - صلى الله عليه وسلم - عن الفتن خوفًا من الوقوع فيها (¬4). ولما حضره الموت قال: حبيب جاء عَلَى فاقة، لا أفلح من ندم! الحمد لله الَّذِي سبق بي الفتنة! قادتها وعلوجها (¬5) (¬6). وكان موته قبل قتل عثمان رضي الله عنه بنحو من أربعين يومًا، وقيل: بل مات (بعد قتل) عثمان. ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد (4/ 94)، وابن ماجه (4035) وقال البوصيري في الزوائد: إسناده صحيح رجاله ثقات. (¬2) أخرجه مسلم (118) عن أبي هريرة. (¬3) أخرجه البخاري (7096)، ومسلم (144). (¬4) أخرجه البخاري (7084)، ومسلم (1847). (¬5) العلوج جمع عِلْج، وهو الرجل من كفار العجم (اللسان مادة: علج). (¬6) أخرجه أبو نعيم في الحلية (1/ 282).

وكان في تلك الأيام رجل من الصحابة نائمًا، فأتاه آتٍ في منامه فَقَالَ له: قم! فاسأل الله أن يعيذك من الفتنة التي أعاذ منها صالح عباده، فقام فتوضأ وصلى، ثم اشتكى ومات (بعد قليل) (*). وقد رُوي عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنَّه قال لرجل: "إذا مت أنا وأبو بكر وعمر وعثمان فإن استطعت أن تموت فمت" (¬1)، وهذا إشارة إِلَى هذه الفتن التي وقعت بمقتل عثمان رضي الله عنه. والدعاء بالموت خشية الفتنة في الدين جائزٌ، وقد دعا به الصحابة والصالحون بعدهم، ولما حج عمر رضي الله عنه آخر حجة حجها استلقى بالأبطح ثم رفع يديه وقال: اللهم إنه قد كبرت سني، ورق عظمي، وانتشرت رعيتي، فاقبضني إليك غير مضيع ولا مفتون. ثم رجع إِلَى المدينة فما انسلخ الشهر حتى قتل رضي الله عنه (¬2). ودعا علي ربه أن يريحه من رعيته حيث سئم منهم فقتل عن قريب. ¬

_ (*) عن قريب: "نسخة". (¬1) أخرجه العقيلي في الضعفاء (2/ 165 - 166)، وابن عدي في الكامل (4/ 351 - علمية)، وابن حبان في المجروحين (1/ 341) من طريق سلم بن ميمون الخواص ثنا سليمان بن حيان حدثني إسماعيل بن أبي خالد عن قيس عن سهل بن أبي حثمة ... فذكره. قال العقيلي عن سلم: حدث بمناكير لا يتابع عليها ثم ذكر هذا الحديث منها. وقال ابن حبان عنه: من عباد أهل الشام وقرائهم ممن غلب عليه الصلاح حتى غفل عن حفظ الحديث وإتقانه، فربما ذكر الشيء بعد الشيء ويقلبه توهمًا لا تعمدًا، فبطل الاحتجاج بما يروي إذا لم يوافق الثقات. وقال ابن عدي عنه: روى عن جماعة ثقات ما لا يتابعه الثقات عليه، أسانيدها ومتونها ثم ذكر هذا الحديث وقال: ولسلم الخواص أحاديث، وهذا الحديث لا يرويه عن سليمان بن حيان غير سلم الخواص، وله غير ما ذكرت أحاديث معلومة الإسناد والمتن، وهو في عداد المتصوفة الكبار، وليس الحديث من عمله، ولعله كان يقصد أن يصيب، فيخطئ في الإسناد والمتن، لأنه لم يكن من عمله. (¬2) أخرجه مالك في الموطأ (2/ 824) وأبو نعيم في الحلية (1/ 54).

ودعت زينب بنت جحش لما جاءها عطاءُ عمر من المال فاستكثرته وقالت: اللهم لا يدركني عطاء عمر بعدها، فماتت قبل العطاء الثاني (¬1). ولما ضجر عمر بن عبد العزيز من رعيته حيث ثقل عليهم قيامه فيهم بالحق طلب من رجل كان معروفا بإجابة (الدعوة) (*) أن يدعو له بالموت، فدعا له ولنفسه بالموت فماتا. ودعي طائفة من السَّلف الصالح إِلَى ولاية القضاء، فاستمهلوا ثلاثة أيام فدعوا الله لأنفسهم بالموت فماتوا. واطُّلع عَلَى حال بعض الصالحين ومعاملاته التي كانت سرًّا بينه وبين ربه، فسأل الله أن يقبضه إِلَيْهِ خوفًا من فتنة (الاشتهار) (**) فمات. فإن الشهرة بالخير فتنة كما جاء في الحديث: "كفى بالمرء فتنة أن يُشار إِلَيْهِ بالأصابع، فإنها فتنة" (¬2). ¬

_ (¬1) أخرجه ابن سعد في الطبقات (3/ 300 - 301)، (8/ 109 - 110)، وأبو نعيم في الحلية (2/ 54). (*) الدعاء: "نسخة". (**) الدين: "نسخة". (¬2) أخرجه الطبراني في الكبير (8/ 210، 228) والعقيلي في الضعفاء (4/ 7) ومن طريقه ابن الجوزي في العلل (1380) وأبو نعيم في الحلية (5/ 247) والبيهقي في الشعب (6979) عن عمران بن حصين مرفوعًا: "كفى بالمرء إثمًا أن يُشار إِلَيْهِ بالأصابع". قالوا: يا رسول الله وإن كان خيرًا؟! قال: "وإن كان خيرًا فهي مزلة إلا من رحمه الله وإن كان شرًّا فهو شر". قال ابن الجوزي: لا يصح. وضعفه العراقي في تخريج الإحياء (3/ 276). وأخرجه البيهقي في الشعب (6977) من حديث أنس مرفوعًا: "حسب امرئ من الشر -إلا من عصمه الله- أن يشير إِلَيْهِ الناس بالأصابع في دينه ودنياه" قال المناوي في الفيض (3/ 197): "وفيه يوسف بن يعقوب، فإن كان النيسابوري فقد قال أبو علي الحافظ: ما رأيت بنيسابور من يكذب غيره. وإن كان القاضي باليمن فمجهول، وابن لهيعة وسبق ضعفه". أ. هـ. وأخرجه البيهقي من طريق عطاء الخراساني عن أبي هريرة بهذا اللفظ، وفيه كلثوم بن محمد بن أبي سدرة، قال أبو حاتم: يتكلمون فيه. (اللسان: 4/ 489) وعطاء لم يسمع من أبي هريرة فهو منقطع. (جامع التحصيل ص 290 - 291).=

كان سفيان الثوري يتمنى الموت كثيرًا فسئل عن ذلك، فَقَالَ: ما يدريني! لعلي أدخل في بدعة، لعلي أدخل فيما لا يحلّ لي، لعلي أدخل في فتنة، أكون قد مت فسبقت هذا. واعلم أن الإنسان لا يخلوا من فتنة، قال ابن مسعود: لا يقل أحدكم: أعوذ بالله من الفتن، ولكن ليقل: أعوذ بالله من مضلات الفتن. ثم تلا قوله تعالى: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ} [التغابن: 15] (¬1). يشير إِلَى أنَّه لا يستعاذ من المال والولد وهما فتنة. وفي المسند أن النبي صلّى الله عليه وسلم أمر أم سلمة أن تقول: "اللهم رب النبي محمد اغفر لي ذنبي، وأذهب غيظ قلبي، وأجرني من مضلات الفتن ما أبقيتني" (¬2). وقد جعل النبي، النساء والأموال فتنة، ففي الصحيح عنه - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما تركت بعدي فتنة أضر عَلَى الرجال من النساء" (¬3). وفيه أيضاً (¬4) أنَّه - صلى الله عليه وسلم - قال: "والله ما الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى أن تُبسط عليكم الدُّنْيَا كما بُسطت عَلَى من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، فتهلككم كما أهلكتهم". ¬

_ =وأخرجه الطبراني في الأوسط (مجمع البحرين: ق 496) من طريق آخر عن أبي هريرة، وقال الهيثمي (10/ 297): "وفيه عبد العزيز بن حصين وهو ضعيف". أ. هـ وأشار البيهقي إِلَى هذا الطريق، وقال: "هذا إسناد ضعيف". والحديث ضعفه العراقي في تخريج الإحياء (3/ 275). قلت: وفيه عنعنة الحسن. وقد استفدت تخريج هذا من الشيخ جاسم الدوسري حفظه الله. (¬1) أخرجه الطبراني في الكبير (9/ 8931). قال الهيثمي (7/ 220): "إسناده منقطع، وفيه المسعودي وقد اختلط". (¬2) قطعه من حديث أخرجه أحمد (6/ 301 - 302) عن أم سلمة. قال الهيثمي (7/ 211): "وفيه شهر وقد وُثِّق وفيه ضعف". وقال أيضاً (10/ 176): "إسناده حسن". (¬3) أخرجه البخاري (5096) ومسلم (2740) عن أسامة بن زيد. (¬4) أخرجه البخاري (3158) ومسلم (2961) عن عمرو بن عوف.

وفي صحيح مسلم (¬1) عنه - صلى الله عليه وسلم - قال: "اتقوا النساء، فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء". وفي الترمذي (¬2) أنَّه - صلى الله عليه وسلم - قال: "لكل أمة فتنة، وفتنة أمتي المال". وقد قال الله عز وجل: {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا} [الفرقان: 20]، فالرجل فتنة للمرأة، والمرأة فتنة للرجل، والغني فتنة للفقير، والفقير فتنة للغني، والفاجر فتنة للبر، والبر فتنة للفاجر، والكافر فتنة للمؤمن، والمؤمن فتنة للكافر قال تعالى: {وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ} [الأنعام: 53]، وقال عز وجل: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} [الأنبياء: 35]، فجعل كل ما يصيب الإنسان من شر أو خير فتنة، يعني أنَّه محنة يمتحن بها، فإن أصيب بخير امتحن به شكره، وإن أصيب بشر امتحن به صبره. وفتنة السراء أشد من فتنة الضراء، قال عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه: بُلينا بفتنة الضراء فصبرنا، وبلينا بفتنة السراء فلم نصبر (¬3). وقال بعضهم: فتنة الضراء يصبر عليها البر والفاجر، ولا يصبر عَلَى فتنة السراء إلا صديق. ولما ابتلي الإمام أحمد بفتنة الضراء صبر ولم يجزع، وقال: كانت زيادة في إيماني. فلما ابتلي بفتنة السراء جزع وتمنّى الموت صباحًا ومساء، وخشي أن يكون نقصًا في دينه. ثم إن المؤمن لابد أن يفتن بشيء من الفتن المؤلمة الشاقة عليه ليمتحن إيمانه كما قال الله تعالى: {الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا ¬

_ (¬1) برقم (2742) عن أبي سعيد الخدري. (¬2) برقم (2336) وقال الترمذي: حسن صحيح غريب. (¬3) أخرجه ابن المبارك في الزهد (519)، والترمذي (2464) وحسنه، وأبو نعيم في الحلية (1/ 100).

يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت: 2، 3]، ولكن الله يلطف بعباده المؤمنين في هذه الفتن، ويصبرهم عليها، ويثيبهم فيها، ولا يلقيهم في فتنة مضلة مهلكة تذهب بدينهم، بل تمر عليهم الفتن وهم فيها في عافية. وأخرج ابن أبي الدنيا من حديث ابن عمر مرفوعًا: "إن لله ضنائن (¬1) من عباده يغذوهم في رحمته، ويحييهم في (عافية) (*)، ويتوفاهم إِلَى جنته، أولئك الذين تمر عليهم الفتن كقطع الليل المظلم، وهم (فيها) (**) في عافية" (¬2). والفتن الصغار التي يُبتلى بها المرء في أهله وماله وولده وجاره تكفِّرها الطاعات من الصلاة والصيام والصدقة كذا جاء في حديث حذيفة (¬3). ورُوي عنه أن سأل النبي صلّى الله عليه وسلم قال: إن في لساني ذربًا، وإن عامة ذلك عَلَى أهلي. فَقَالَ له: "أين أنت من الاستغفار"؟! (¬4). وأما الفتن المضلة التي يخشى منها فساد الدين فهي التي يُستعاذ منها، ويسأل الموت قبلها، فمن مات قبل وقوعه في شيء من هذه الفتن فقد حفظه الله ¬

_ (¬1) أي: خصائص، واحدهم ضنينة من الضنِّ، وهو ما تختصه لنفسك (النهاية 3/ 104) (*) عافيته: "نسخة". (**) عنها: "نسخة". (¬2) أخرجه الطبراني في الكبير (12/ 13425) والأوسط (6369)، والعقيلي (4/ 152) وأبو نعيم في الحلية (1/ 6) عن ابن عمر، وفي إسناده مسلم بن عبد الله، قال العقيلي: "مجهول بالنقل وحديثه غير محفوظ" وقال: "والرواية في هذا الباب فيها لين". وقال الذهبي في الميزان (4/ 105): "لا يعرف، والخبر منكر". وقال الهيثمي (10/ 266): "وفيه مسلم بن عبد الله الحمصي، ولم أعرفه. وقد جهله الذهبي، وبقية رجاله وثقوا" ا. هـ. (¬3) تقدم تخريجه. (¬4) أخرجه أحمد (5/ 394، 396، 397، 402) والدارمي (2/- 302) والنسائي في عمل اليوم والليلة (448 - 453) وابن ماجه (3817) عن حذيفة قال البوصيري في زوائده: "في إسناده أبو المغيرة البجلي مضطرب الحديث عن حذيفة، قاله الذهبي في الكاشف".

وحماه. وفي "المسند" عن محمود بن لبيد عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: "اثنتان يكرههما ابن آدم: يكره الموت، والموت خيرٌ للمؤمن من الفتنة، ويكره قلة المال، وقلة المال أقل للحساب" (¬1). قوله - صلى الله عليه وسلم -: "وأسألك حبك، وحب من يحبك، وحب العمل الَّذِي يبلغني حبك": هذا الدعاء يجمعُ كل خير، فإن الأفعال الاختيارية من العباد إِنَّمَا تنشأ عن محبة وإرادة، فإن كانت محبة الله ثابتة في قلب العبد نشأت عنها حركات الجوارح فكانت بحسب ما يحبه الله ويرتضيه، فأحبَّ ما يحبه الله من الأعمال والأقوال كلها، ففعل حينئذ الخيرات كلها وترك المنكرات كلها، وأحب من يحبه الله من خلقه، وهذا الدعاء كانت الأنبياء عليهم السلام تدعوا به كما في الترمذي (¬2) عن النبي صلّى الله عليه وسلم "أن داود عليه السلام كان يقول: اللهم إني أسألك حبك، وحب من يحبك، وحب عمل يبلغني ألى حبك، اللهم اجعل حبك أَحَبّ إليَّ من نفسي وأهلي ومن الماء البارد". وفيه أيضاً (¬3) أن النبي صلّى الله عليه وسلم كان يدعو: "اللهم ارزقني حبك، وحب من يحبك، وحب عمل يبلغني إِلَى حبك، اللهم ما رزقتني مما أَحَبّ فاجعله قوة لي فيما تحب، وما زويت عني مما أحب فاجعله فراغًا لي فيما تحب". وفي حديث مرسل خرَّجه ابن أبي الدُّنْيَا وغيره أن النبي صلّى الله عليه وسلم كان يقول: "اللهم اجعل حبك أَحَبّ الأشياء إِلَيَّ، وخشيتك أخوف الأشياء عندي، واقطع عني حاجات الدُّنْيَا بالشوق إِلَى لقائك، وإذا أقررت أعين أهل الدُّنْيَا من دنياهم ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد (5/ 427، 428) والبغوي في شرح السنة (14/ 267) عن محمود ابن لبيد، قال الهيثمي في المجمع (10/ 257) رواه أحمد بإسنادين، رواة أحدهما محتج بهم في الصحيح، ا. هـ. (¬2) برقم (3490) وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب. (¬3) برقم (3491) وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب.

ومحبة الله على درجتين:

فأقرر عيني من عبادتك" (¬1). ومن كان همه طلب محبة الله أعطاه الله فوق ما يريده من الدُّنْيَا تبعًا. قال بعض السَّلف: لما توفي داود عليه السلام أرسل الله إِلَى سليمان عليه السلام: ألك حاجة تسألني إياها؟ فَقَالَ سليمان: اسأل الله أن يجعل قلبي يحبه كما كان قلب أبي داود يحبه، وأن يجعل قلبي يخشاه كما كان قلب أبي داود يخشاه. فشكر الله له ذلك وأعطاه ملكًا لا ينبغي لأحد من بعده. ومحبة الله عَلَى درجتين: إحداهما: واجبة، وهي المحبة التي توجب للعبد محبة ما يحبه الله من الواجبات، وكراهة ما يكرهه من المحرمات، فإن المحبة التامة تقتضي الموافقة، (لمن يحبه) (*) في محبة ما يحبه، وكراهة ما يكرهه خصوصًا فيما يحبه ويكرهه من المحب نفسه فلا تصح المحبة بدون فعل ما يحبه المحبوب من محبه، وكراهة ما يكرهه المحبوب من محبه. وسُئل بعض العارفين عن المحبة، فَقَالَ: الموافقة في جميع الأحوال. وأنشد: ولو قلت لي مت مت سمعًا وطاعة ... وقلت لداعي الموت أهلاً ومرحبًا وأنشد آخر منهم: تعصي الإله وأنت تزعم حبه ... هذا لعمري في القياس شنيع لو كان حبك صادقًا لأطعته ... إن المحب لمن يحب مطيع ومتى أخلَّ العبد ببعض الواجبات، أو ارتكب بعض المحرمات فمحبته لربه ¬

_ (¬1) أخرجه أبو نعيم في الحلية (8/ 282) عن الهيثم بن مالك الطائي مرسلاً. (*) للمحبوب: "نسخة".

غير تامة، فالواجب عليه المبادرة بالتوبة، والاجتهاد في تكميل المحبة المُفضية لفعل الواجبات كلها واجتناب المحرمات كلها، وهذا معنى قول النبي صلّى الله عليه وسلم: "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن" (¬1). فإن الإيمان الكامل يقتضي محبة ما يحبه الله، وكراهة ما يكرهه، والعمل بمقتضى ذلك، فلا يرتكب أحد شيئًا من المحرمات أو يخل بشيء من الواجبات إلا لتقديم هوى النفس المقتضي لارتكاب ذلك عَلَى محبة الله تعالى المقتضية لخلافه. الدرجة الثانية من المحبة: درجة المقربين، وهي أن يمتلئ القلبُ بمحبة الله حتى توجب له محبة النوافل، والاجتهاد فيها، وكراهة المكروهات، والانكفاف عنها، والرضا بالأقضية والأقدار المؤلمة للنفوس لصدورها عن المحبوب، كما قال عامر بن قيس: أحببت الله حبًّا هوَّن عَلَيَّ كلَّ مصيبة، ورضَاني بكل بلية، فلا أبالي مع حبي إياه عَلَى ما أصبحت ولا عَلَى ما أمسيت. وقال عمر بن عبد العزيز لما مات ولده الصالح: إن الله أَحَبّ قبضه، وإني أعوذ بالله أن يكون لي محبة في شيء من الأمور يخالف محبة الله. كان يقول: إذا أصبحت فمالي سرور إلا في مواقع القضاء والقدر. وأنشد بعضهم: يا من يعز علينا أن نفارقهم ... وجداننا كل شيء بعدكم عدم إن كان سركم ما قد بليت به ... فما لجرح إذا أرضاكم ألم وحسب سلطان الهوى ... أن يلذ فيه كل ما يؤلم كان عمار بن ياسر رضي الله عنه يقول: اللهم لو أعلم أنَّه أرضى لك عني ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (2475) ومسلم (57) عن أبي هريرة.

أقل ثمن المحبة بذل الروح:

أن أرمي بنفسي من هذا الجبل فأتردى فأسقط فعلت، ولو أعلم أنَّه أرضى لك أن أوقد نارًا عظيمة فأقع فيها فعلت، ولو أعلم أنَّه أرضى لك عني أن ألقي نفسى في الماء فأُغرق نفسي فعلت، وإني لا أقول هذا إلا أريد وجهك، وأنا أرجو أن لا تخيّبني وأنا أريد وجهك (¬1). وقُتل لبعض الصالحين ولدان في الجهاد، فعزّاه الناس فيهما فبكى وقال: ما أبكى لفقدهما، إِنَّمَا أبكي كيف كان رضاهما عن الله حيث أخذتهما السيوف. وكان بعض العارفين يطوف بالبيت، فهجمت القرامطة عَلَى الناس فقتلوهم في الطواف، فوصلوا إِلَيْهِ فلم يقطع الطواف حتى سقط من ضرب السيوف صريعًا فأنشد: ترى المحبين صرعى في ديارهم ... كفتية الكهف لا يدرون كم لبثوا أقل ثمن المحبة بذل الروح: بدم المحب يباع وصلهم ... فمن الَّذِي يبتاع بالثمن قال بعض العارفين: إن كنت تسمح ببذل روحك في هذه الطريق، وإلا فلا تشتغل بالترهات: خاطر بروحك في هوانا واسترح ... إن شئت تحظى بالمحِّل الأعظم لا يشغَلَنَّك شاغل عن وصلنا ... وانهض عَلَى قدم الرجاء وقدَّم ولما كانت محبة الله عز وجل لها لوازم، وهي محبة ما يحبه الله عز وجل من الأشخاص والأعمال، وكراهة ما يكرهه من ذلك، سأل النبي صلّى الله عليه وسلم الله مع محبته محبة شيئين آخرين. أحدهما: محبة من يحب ما يحبه الله تعالى. فإن من أحبَّ الله أحبَّ أحبَّاءه فيه ووالاهم، وأبغض أعداءه وعاداهم كما قال - صلى الله عليه وسلم -: "ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله ¬

_ (¬1) أخرجه أبو نعيم في الحلية (1/ 142 - 143) عن عمار بنحوه.

أَحَبّ إِلَيْهِ مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله ... " (¬1). الحديث. وأعظم من تجب محبته في الله أنبياؤه ورسله، وأعظمهم نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - الَّذِي افترض الله عَلَى الخلق كلهم متابعته، وجعل متابعته علامةً لصحة محبته كما قال الله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [آل عمران: 31]، وتوعد من قدم محبة شيء من المخلوقين عَلَى محبته ومحبة رسوله ومحبة الجهاد في سبيله في قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا} [التوبة: 24]. ووصف المحبين له باللين للمؤمنين: من الرأفة بهم والرحمة والمحبة لهم، والشدة عَلَى الكافرين: من البغض لهم والجهاد في سبيله، فَقَالَ تعالى: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ} [المائدة: 54]. والثاني: محبة ما يحبه الله تعالى من الأعمال وبها يبلغ إِلَى حبه. وفي هذا إشارة إِلَى أن درجة المحبة لله إِنَّمَا تُنال (بطاعته) (*) وبفعل ما يحبه، فإذا امتثل العبد أوامر مولاه وفعل ما يحبه أحبه الله تعالى ورقّاه إِلَى درجة محبته كما في الحديث الإلهي الَّذِي خرّجه البخاري: "وما تقرب إليَّ عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه" (¬2). فأفضل ما استجلبت به محبة الله فعلُ الواجبات، وتركُ المحرَّمات، ولهذا جعل النبي - صلى الله عليه وسلم - من علامات وجدان حلاوة الإيمان أن يكره أن يرجع إِلَى الكفر كما يكره أن يلقى في النار. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (16) ومسلم (43) عن أبي هريرة. (*) بطاعة الله: "نسخة". (¬2) أخرجه البخاري (6502) عن أبي هريرة.

وسئل ذو النون: متى أَحَبّ ربي؟ قال: إذا كان ما يكرهه عندك أمرَّ من الصبر. ثم بعد ذلك الاجتهاد في نوافل الطاعات، وتركُ دقائق المكروهات والمشتبهات. ومن أعظم ما تحصل به محبة الله من النوافل: تلاوة القرآن، وخصوصًا مع التدبر، قال ابن مسعود: لا يسأل أحدكم عن نفسه إلا القرآن، فمن أَحَبّ القرآن فهو يحب الله ورسوله. ولهذا قال النبي صلّى الله عليه وسلم لمن قال: إني أَحَبّ سورة (قل هو الله أحد) لأنها صفة الرحمن. فَقَالَ: "أخبروه أن الله يحبه" (¬1). وقال أبو سلمة بن عبد الرحمن: لما قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينة خطب، فَقَالَ في خطبته: "إن أحسن الحديث كتاب الله، قد أفلح من زينه الله في قلبه، وأدخله في الإسلام بعد الكفر، واختاره عَلَى ما سواه من الأحاديث، إنه أحسن الحديث وأبلغه، أحبوا من أَحَبّ الله، أحبوا الله من كل قلوبكم" (¬2). وكان بعضهم يكثر تلاوة القرآن ثم فتر عن ذلك فرأى في المنام قائلاً يقول له: إن كنت تزعم حبي ... فلم جفوت كتابي أما تدبّرت ما فيـ ... ـه من لطيف عتابي فاستيقظ وعاد إِلَى تلاوته. ومن الأعمال التي توصل إِلَى محبة الله تعالى وهي من أعظم علامات المحبين: كثرة ذكر الله عز وجل بالقلب واللسان. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (7375)، ومسلم (813) عن عائشة. (¬2) أخرجه البيهقي في دلائل النبوة (2/ 524 - 525) عن أبي سلمة بن عبد الرحمن مرسلاً.

قال بعضهم: ما أدمن أحد ذكر الله إلا وأفاد منه محبة الله. وقال ذو النون: من أدمن ذكر الله قذف الله في قلبه نور الاشتياق إِلَيْهِ. وقال بعض التابعين: علامة حب الله كثرة ذكره، فإنك لن تحب شيئًا إلا أكثرت ذكره. وقال فتح الموصلي: المحب لله لا يجد مع حب الله للدنيا لذة، ولا يغفل عن ذكر الله طرفة عين. المحبون إن نطقوا نطقوا بالذكر، وإن سكتوا اشتغلوا بالفكر: فإن نطقتُ فلم ألفظ بغيركم ... وإن سكتُّ فأنتم عقد إضماري ومن علامات المحبين لله وهو مما يحصل به المحبة أيضاً حب الخلوة بمناجاة الله تعالى، وخصوصًا في ظلمة الليل: الليل لي ولأحبابي (أحادثهم) (*) ... وأنتجيهم لي يسمحوا بوصالي قال الفضيل: يقول الله عز وجل: كذب من ادعى محبتي فإذا جنَّه الليل نام عني، أليس كل (حبيب) (**) يحب خلوة حبيبه، ها أنا مطَّلع عَلَى أحبابي إذا جنَّهم الليل جعلت أبصارهم في قلوبهم، ومثلت نفسي بين أعينهم (¬1)، فخاطبوني عَلَى المشاهدة، وكلموني عَلَى حضوري، غدًا أقر عين أحبابي في جناني: تنام عيناك وتشكوا الهوى ... لو كنت صبًّا لم تكن نائمًا قلوب المحبين جمرة تحت فحمة الليل، كلما هب عليها نسيمُ السحر التهبت، يذكرني مرّ النسيم عهودكم ... فأزداد شوقًا كلما هبت الريح ¬

_ (*) أسامرهم: "نسخة". (**) محب: "نسخة". (¬1) قال الشيخ جاسم الدوسري: تعالى الله عز وجل عن مثل هذا الكلام، ولا أدري كيف يصبح القول عَلَى الله بهذه السهولة واليسر نسأل الله السلامة.

أراني إذا ما أظلم الليل أَشْرَقَتْ ... بقلبي من نار الغرام مصابيح كلما جنَّ الغاسق حَنَّ العاشق: لو أنك أبصرت أهل الهوى ... إذا غابت الأنجم الطلع فهدا ينوح عَلَى ذنبه ... وهذا يصلي وذا يركع من لم يكن له مثل تقواهم لم يدر ما الَّذِي أبكاهم، ومن لم يشاهد جمال يوسف لم يدر ما الَّذِي آلم قلب يعقوب. [وسُئل السري السقطي عن حاله فأنشد:] (*). من لم يبت والحب حشو فؤاده ... لم يدر كيف تفتت الأكباد أين رجال الليل؟! أين ابن أدهم والفضيل؟! ذهب الأبطال وبقي كل بطال، يا من رضي من الزهد بالزي، ومن الفقر بالاسم، ومن التصوف بالصوف، ومن التسبيح بالسبح، أين فضل الفضيل؟! أين جد الجنيد؟! أين سر السري؟! أين بشر بشر؟! أين همة ابن أدهم؟! ويحك إن لم تقدر عَلَى معرفة معروف فاندب عَلَى ربع رابعة هاتيك ربوعهم وفيها كانوا ... بانوا عنها فليتهم ما بانوا ناديتُ وفي حشاشتي نيران ... يا دار متى تحوَّل السكان؟! يا من كان له قلب فانقلب، يا من كان له وقت مع الله فذهب، قيام الأسحار يستوحش لك، صيام النهار يسأل عنك، ليالي الوصال تعاتبك عَلَى انقطاعك: تشاغلتم عنا بصحبة غيرنا ... وأظهرتم الهجران ما هكذا كنا وأقسمتم أن لا تحولوا عن الهوى ... فقد وحياة الحبِّ حلتم وما حلنا ليالي كنا نجتني من ثماركم ... فقلبي إِلَى تلك الليالي لقد حنّا ¬

_ (*) من المطبوع.

إخواني! مجالسُ الذكر شراب المحبين، وترياق المذنبين {قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ} [البقرة: 60]، مجالس الذكر مآتم الأحزان، فهذا يبكي لذنوبه، وهذا يندب لعيوبه وهذا يتأسف عَلَى فوات مطلوبه، وهذا يتلهف لإعراض محبوبه، وهذا ييوح بوجده، وهذا ينوح عَلَى (فقده) (*). ما أذكر عيشنا الَّذِي قد سلفا ... إلا وجف القلبُ وكم قد وجفا واهًا لزماننا الَّذِي كان صفا ... وا أسفًا وهل يَرُدُّ فائتًا واأسفا يا ليتنا بزمزم والحجر ... (يا حيرتنا) (**) قُبيل يوم النَّفر هل يرجع صفو ما مضى من عمري ... أدري ما كان ليتني لا أدري كأني أرى الخلع خُلعت عَلَى المقبولين، كأني أرى الملائكة تصافح التائبين، تعالوا نبكي عَلَى المطردوين: ما زالت دهرًا (للقلى) ( ... ) متعرضا ... ولطالما قد كنت عنا معرضا جانبتنا دهرًا فلما لم تجد ... عوضًا سوانا صرت تبكي ما مضى لو كنت لازمت الوقوف ببابنا ... للبست من إحساننا خلع الرضا لكن تركت حقوقنا وهجرتنا ... فلذاك ضاق عليك متسع الفضا تم الكتاب بحمد الله وحسن توفيقه وصلى الله عَلَى سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم. ... ¬

_ (*) بعده: "نسخة". (**) ترى حيرتنا: "نسخة". ( ... ) للرضا: "نسخة".

37 - التخويف من النار والتعريف بحال دار البوار

التخويف من النار والتعريف بحال دار البوار

وبه نستعين ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. قال شيخنا، الشيخ الإمام العالم العلامة، شيخ الإسلام، أوحد الأعلام، بركة الأنام؛ حافظ مصر والشام، أبو الفرج عبد الرحمن زين الدين ابن رجب البغدادي الحنبلي، فسح الله في مدته: الحمد لله العزيز المجيد، ذي البطش الشديد، المبدئ المعيد، الفعال لما يريد، المنتقم ممن عصاه بالنار بعد الإِنذار بها والوعيد، المكرم لمن خافه واتقاه بدار لهم فيها من كل خير مزيد، فسبحان من قسم خلقه قسمين وجعلهم فريقين {فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ} [هود: 105] {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت: 46]. أحمده وهو أهل الحمد والثناء والتمجيد، وأشكره، ونعمه بالشكر تدوم وتزيد. وأشهد أن لا إله إلاَّ الله وحده لا شريك له، ولا كفو ولا عدل ولا ضد ولا نديد، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الداعي إِلَى التوحيد، الساعي بالنصح إِلَى القريب والبعيد، المحذر للعاصين من نار تلظى بدوام الوقيد، المبشر للمؤمنين بدار لا ينفذ نعيمها ولا يبيد. صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه صلاة لا تزال على كر الجديدين في تجديد، وسلم تسليمًا. أما بعد، فإن الله خلق الخلق ليعرفوه ويعبدوه ويخشوه ويخافوه، ونصب لهم الأدلة الدالة عَلَى عظمته وكبريائه ليهابوه ويخافوه خوف الإجلال، ووصف لهم شدة عذابه ودار عقابه التي أعدها لمن عصاه ليتقوه بصالح الأعمال، ولهذا (أكثر) (*) سبحانه وتعالى في كتابه ذكر النار وما أعده فيها لأعدائه من العذاب والنكال، وما احتوت عليه من الزقوم والضريع والحميم والسلاسل والأغلال، إِلَى غير ذلك مما فيها من العظائم والأهوال، ودعا عباده بذلك إِلَى خشيته ¬

_ (*) في حاشية الأصل، كرر: "نسخة".

وتقواه، والمسارعة إِلَى امتثال ما يأمر به ويحبه ويرضاه، واجتناب ما ينهى عنه ويكرهه ويأباه، فمن تأمل الكتاب الكريم وأدار فكره فيه وجد من ذلك العجب العجاب، وكذلك السنة الصحيحة التي هي مفسرة ومبينة لمعاني الكتاب، وكذلك سيرة السَّلف الصالح أهل العِلْم والإيمان من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، من تأملها علم أحوال القوم وما كانوا عليه من الخوف والخشية والإخبات، وأن ذلك هو الذي رقاهم إِلَى تلك الأحوال الشريفة والمقامات السنيات، من شدة الاجتهاد في الطاعات والانكفاف عن دقائق الأعمال والمكروهات فضلاً عن المحرمات، ولهذا قال بعض السَّلف: خوف الله تعالى حجب قلوب الخائفين عن زهرة الدُّنْيَا وعوارض الشبهات. وقد ضمن الله سبحانه الجنة لمن خافه من أهل الإِيمان، فَقَالَ تعالى: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن: 46]. قال: مجاهد: في هذه الآية الله قائم عَلَى كل نفس بما كسبت، فمن أراد أن يعمل شيئًا فخاف مقام ربه عليه فله جنتان. وعنه أنَّه قال: هو الرجل يذنب فيذكر مقام الله فيدعه. وعنه قال: هو الرجل يهم بالمعصية فيذكر الله فيتركها. وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: وعد الله المؤمنين الذين خافوا مقامه وأدوا فرائضه الجنة (¬1). وعن الحسن، قال قالت الجنة: يا رب لمن خلقتني، قال: لمن يعبدني وهو يخافني. وقال يزيد بن عبد الله بن الشخير: كنا نحدث أن صاحب النار الَّذِي لا تمنعه مخافة الله من شيء خفي له. وعن وهب بن منبه، قال: ما عبد الله بمثل الخوف. وقال أبو سليمان الداراني: أصل كل خير في الدُّنْيَا والآخرة الخوف من الله عزّ وجلّ، وكل قلب ليس فيه خوف الله فهو قلب خرب. ¬

_ (¬1) أخرجه ابن جرير في "تفسيره" (27/ 145 - حلبي).

وقال وهيب بن الورد: بلغنا أنَّه ضرب لخوف الله مثل في الجسد، قيل: إِنَّمَا مثل خوف الله كمثل الرجل يكون في منزله فلا يزال عامرًا ما دام فيه ربه، فإذا فارق المنزل ربه وسكنه غيره خرب المنزل، وكذلك خوف الله تعالى إذا كان في الجسد لم يزل (معمورًا) (*) ما دام فيه خوف الله، فإذا فارق خوف الله الجسد خرب، حتى إن المار يمر في المجلس من الناس فيَقُولُونَ: بئس العبد فلان، فيقول بعضهم لبعض: ما رأيتم منه، فيَقُولُونَ: ما رأينا منه شيئًا إلا أنا نبغضه، وذلك أن خوف الله تعالى فارق جسده، وإذا مر بهم الرجل فيه خوف الله، قالوا: نعم والله الرجل، فيَقُولُونَ: أي شيء رأيتم منه: فيَقُولُونَ: ما رأينا منه شيئًا غير أنا نحبه، وذلك أن خوف الله سكن قلبه. وقال الفضيل بن عياض: الخوف أفضل من الرجاء ما كان الرجل صحيحًا، فإذا نزل الموت فالرجاء أفضل. وسئل ابن المبارك عن رجلين أحدهما خائف والآخر قتل في سبيل الله عزّ وجلّ، قال: أحَبهما إِلَيَّ أخوفهما. وقد استخرت الله تعالى في جمع كتاب أذكر فيه صفة النار، وما أعد الله فيها لأعدائه من الخزي والنكال والبوار، ليكون بمشيئة الله قامعًا للنفوس عن غَيِّها وفسادها، وباعثًا إِلَى المسارعة إِلَى فلاحها وإرشادها فإن النفوس ولا سيما في هذه الأزمان قد غلب عليها الكسل والتواني، واسترسلت في شهواتها وأهوائها وتمنت علي الله الأماني، والشهوات لا يذهبها من القلوب إلا أحد أمرين، إما خوف مزعج محرق، أو شوق مبهج مقلق، وسميته "كتاب التخويف من النار والتعريف بحال دار البوار" وقسمته ثلاثين بابًا، والله المسؤول أن يجيرنا من النار، وأن يجعل بيننا وبينها حجابًا بمنه وكرمه. الباب الأول: في ذكر الإنذار بالنار والتحذير منها. الباب الثاني: في الخوف من النار وأحوال الخائفين. الباب الثالث: في ذكر تخويف جميع أصناف الخلق بالنار وخوفهم منها. ¬

_ (*) في حاشية الأصل، عامرًا: "نسخة".

الباب الرابع: في أن البكاء من خشية النار ينجي منها، وأن التعوذ بالله من النار يوجب الإِعاذة منها. الباب الخامس: في ذكر مكان جهنم. الباب السادس: في ذكر طبقاتها وأدراكها وصفتها. الباب السابع: في ذكر قعرها وعمقها. الباب الثامن: في ذكر أبوابها وسرادقها. الباب التاسع: في ذكر ظلماتها وشدة سوادها. الباب العاشر: في ذكر شدة حرها وزمهريرها. الباب الحادي عشر: في ذكر سجر جهنم وتسعرها. الباب الثاني عشر: في ذكر تغيظها وزفيرها. الباب الثالث عشر: في ذكر دخانها وشررها ولهبها. الباب الرابع عشر: في ذكر أوديتها وجبالها وآبارها وعيونها وأنهارها. الباب الخامس عشر: في ذكر سلاسلها وأغلالها وأنكالها. الباب السادس عشر: في ذكر حجارتها. الباب السابع عشر: في ذكر حياتها وعقاربها. الباب الثامن عشر: في ذكر طعام أهل النار وشرابهم فيها. الباب التاسع عشر: في ذكر كسوة أهل النار ولباسهم. الباب العشرون: في ذكر عظم خلق أهل النار فيها وقبح صورهم وهيآتهم. الباب الحادي والعشرون: في ذكر أنواع عذاب أهل النار، وتفاوتهم في العذاب بحسب أعمالهم. الباب الثاني والعشرون: في ذكر بكائهم، وزفيرهم وشهيقهم، وصراخهم، وعويلهم الَّذِي لا يستجاب لهم. الباب الثالث والعشرون: في ذكر نداء أهل النار أهل الجنة، وأهل الجنة أهل النار، وكلام بعضهم بعضًا.

الباب الرابع والعشرون: في ذكر خزنة جهنم وزبانيتها. الباب الخامس والعشرون: في ذكر مجيء النار يوم القيامة وخروج عنق منها يتكلم. الباب السادس والعشرون: في ضرب الصراط عَلَى متن جهنم ومرور الموحدين عليه. الباب السابع والعشرون: في ذكر ورود النار. الباب الثامن والعشرون: في ذكر حال الموحدين في النار وخروجهم منها برحمة أرحم الراحمين وشفاعة الشافعين. الباب التاسع والعشرون: في ذكر أكثر أهل النار. الباب الثلاثون: في ذكر صفات أهل النار وأصنافهم وأقسامهم. ***

الباب الأول في ذكر الإنذار بالنار والتحذير منها

الباب الأول في ذكر الإنذار بالنار والتحذير منها قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم: 6]. وقال تعالى: {فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [البقرة: 24]. وقال تعالى: {وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [آل عمران: 131]. وقال تعالى: {فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى} [الليل: 14]. وقال تعالى: {لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ} [الزمر: 16]. وقال تعالى: {وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ (31) كَلَّا وَالْقَمَرِ (32) وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ (33) وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ (34) إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ (35) نَذِيرًا لِلْبَشَرِ (36) لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ} [المدثر: 31 - 37]. قال الحسن في قوله تعالى: {نَذِيرًا لِلْبَشَرِ} قال: والله ما أنذر العباد بشيء قط أدهى منها، خرجه ابن أبي حاتم. وقال قتادة في قوله تعالى: {إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ (35) نَذِيرًا لِلْبَشَرِ} يعني النار، وروى سماك بن حرب، قال: سمعت النعمان بن بشير يخطب، يقول: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: "أنذرتكم النار أنذرتكم النار

حتى لو أن رجلاً كان بالسوق لسمعه من مقامي هذا، حتى وقعت خميصة (¬1) كانت عَلَى عاتقة عند رجليه". خرجه الإمام أحمد (¬2). وفي رواية له أيضاً (¬3) عن النعمان بن بشير، قال: قال رسول الله عليه وسلم: "أندرتكم النار، أنذرتكم النار حتى لو كان رجل في أقصى السوق لسمعه، وسمع أهل السوق صوته وهو عَلَى المنبر". وفي رواية له (¬4) عن سماك قال: سمعت النعمان يخطب وعليه خميصة، فَقَالَ: لقد سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: "أنذرتكم النار، أنذرتكم النار فلو أن رجلاً بموضع كذا وكذا سمع صوته". وعن عدي بن حاتم قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: "اتقوا النار" قال: وأشاح، ثم قال: "اتقوا النار"، ثم أعرض وأشاح ثلاثًا، حتى ظننا أنَّه ينظر إليها، ثم قال: "اتقوا النار ولو بشق تمرة فمن لم يجد فبكلمة طيبة"، خرجاه في الصحيحين (¬5). وخرج البيهقي (¬6) بإسناد فيه جهالة عن أنس عن النبي صلّى الله عليه وسلم: "يا معشر المسلمين ارغبوا فيما رغبكم الله فيه، واحذروا وخافوا ما خوفكم الله به من عذابه وعقابه، ومن جهنم، فإنها لو كانت قطرة من الجنة معكم في دنياكم التي أنتم فيها حَلَّتها لكم، ولو كانت قطرة من النار معكم في دنياكم التي أنتم فيها خَبَثْهَا عليكم". ¬

_ (¬1) هي ثوب خز أو صوف مُعلم، وقيل: لا تسمى خميصة إلا أن تكون سوداء معلمة، وكانت من لباس الناس قديمًا. (¬2) (4/ 272). (¬3) (4/ 272). (¬4) في المسند (4/ 268). (¬5) أخرجه البخاري (1413)، ومسلم (1016). (¬6) في "البعث والنشور" (546).

وفي الصحيحين (¬1) عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: "إِنَّمَا مثلي ومثل أمتي، كمثل رجل استوقد نارًا، فجعلت الدواب والفراش يقعن فيها، فأنا آخذ بحجزكم عن النار، وأنتم تقتحمون فيها". وفي رواية لمسلم (¬2): «مَثَلِي كَمَثَلِ رَجُلٍ اسْتَوْقَدَ نَارًا، فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهَا جَعَلَ الْفَرَاش وَهَذِهِ الدَّوَابّ الَّتِي يَقَعْنَ فِي النَّارِ يَقَعْنَ فِيهَا، وَجَعَلَ يَحْجِزُهُنَّ وَيَغْلِبْنَهُ فَيَقْتَحِمنَ فِيهَا قَالَ: فَذَلِكُمْ مَثَلِي وَمَثَلُكُمْ، أَنَا آخُذُ بِحُجَزِكُمْ عَنْ النَّارِ، هَلُمَّ عَنْ النَّارِ، فَتَغْلِبُونِي وَتَقْتَحِمُونَ فِيهَا». وفي رواية للإمام أحمد (¬3): "مثلي ومثلكم -أيتها الأمة- كمثل رجل أوقد نارًا بليل، فأقبلت إليها هذه الفراش والذباب التي تغشى النار، فجعل يذبها ويغلبنه إلا تقحمًا في النار، وأنا آخذ بحجزكم أدعوكم إلى الجنة وتغلبوني إلا تقحمًا في النار". وخرج الإمام أحمد (¬4) أيضًا من حديث ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن الله لم يحرم حرامه إلا وقد علم أنَّه سيطلعها منكم مطلع، ألا وإني آخذ بحجزكم [أن تهاتفوا في النار، كتهافت الفراش والذباب". وخرج البزار (¬5) والطبراني (¬6) من حديث ابن عباس عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: "أنا آخذ بحجزكم] (*) فاتقوا النار، اتقوا النار، اتقوا الحدود، فإذا ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (3426)، ومسلم (2284). (¬2) برقم (2284/ 18) من كتاب الفضائل بتبويب النووي. (¬3) (2/ 539 - 540). (¬4) (1/ 390). (*) ما بين المعقوفتين سقط من الأصل، واستدركته من المطبوع. (¬5) برقم (209 - زوائد ابن حجر) وقال: لا نعلم رواه عن عبد الملك عن أبيه إلا ليث، وهو ضعيف. (¬6) في المعجم الكبير (12/ 12508) والأوسط (2874) قال الطبراني: لم يرو هذا الحديث إلا عبد الواحد. وقال الهيثمي في المجمع (6/ 254): وفيه ليث بن أبي سليم، والغالب عليه الضعف.=

مت تركتكم، وأنا فرطكم عَلَى الحوض، فمن ورد فقد أفلح؟ فيؤتي بأقوام ويؤخذ بهم ذات الشمال، فأقول: رب أمتي! فيقول: إنهم لم يزالوا بعدك يرتدون عَلَى أعقابهم". وفي رواية للبزار (¬1) قال: "وأنا آخذ بحجُزِكُم أقولُ: إيَّاكُم وجهنم، إيَّاكُم والحدودَ، إيَّاكُم وجهنم، إيَّاكُم والحدودَ، إيَّاكُم وجهنمَ، إيَّاكم والحدودَ"، وذكر بقية الحديث. وفي "صحيح مسلم" (¬2) عن أبي هريرة قالَ: لما نزلتْ هذه الآية: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} [الشعراء: 214]، دعا رسولُ اللَّه - صلى الله عليه وسلم - قريشًا فاجتمَعُوا، فعمَّ وخصَّ، فقال: "يا بني كعبِ بنِ لؤيٍّ أنقذوا أنفسكم من النارِ، يا بني مُرَةَ بنِ كعبٍ، أنقذُوا أنفسَكُم من النارِ، يا بني عبدَ شمسٍ أنقذُوا أنفسَكم من النارِ، يا بني عبدِ مناف، أنقذُوا أنفسكم من النارِ، يا بني هاشم أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني عبد المطلب، أنقذوا أنفسكم من النارِ، يا فاطمةُ بنتُ محمد، أنقدي نفسك من النارِ، فإنِّي لا أملك لكم من اللَّه شيئا". وخرَّج الطبرانيُّ (¬3) وغيرُه من طريقِ يعلى بن الأشدقِ عن كليبِ بنِ حزنٍ، قالَ: سمعتُ رسولَ اللَّه - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: "اطلبُوا الجنةَ جهدَكُم واهربُوا من النارِ جهدكم، فإن الجنة لا ينامُ طالبها، وإنَّ النارَ لا ينامُ هاربها، وإن الآخرةَ اليوم محفوفة بالمكارِهِ، وإن الدنيا محفوفة باللذاتِ والشهواتِ، فلا تلهينَّكُم عن الآخرةِ". ¬

_ =وعزاه الهيثمي (10/ 364) لأحمد والطبراني في الكبير والأوسط والبزار، قال الهيثمي: وفي إسناده عندهم ليث بن أبي سليم وهو مدلس، وبقية رجالهم ثقات. (¬1) برقم (1536 - كشف). (¬2) برقم (204)، وكذا البخاري (4771) بنحوه. (¬3) في المعجم الكبير (19/ 449) بمثله، وفي الأوسط (3643) إِلَى قوله: "هاربها". قال الطبراني: لم يسند كليب بن حزن عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم حديثًا غير هذا، ولا يُروى عنه إلا بهذا الإسناد. وقال الهيثمي في المجمع (10/ 230): وفيه يعلى بن الأشدق وهو ضعيف جدًّا.

ويُروى هذا الحديثُ أيضًا عن يعلى بن الأشدقِ عن عبدِ اللَّهِ بن جرادٍ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -. وأحاديثُ يعلى بنِ الأشدقِ باطلة منكرةٌ. وخرَّج الترمذيُّ (¬1) من حديثِ يحيى بن [عبدِ] (*) اللَّه عن أبيه، عن أبي هريرة، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "ما رأيتُ مثلَ النارِ نامَ هاربُها، ولا مثلَ الجنةِ نامَ طالبُها" ويحيى هذا ضعفُوه. وخرَّجه ابنُ مردويه من وجهٍ آخرَ أجودَ من هذا إلى أبي هريرة. وخرَّج الطبرانيُّ (¬2) نحوَه بإسنادٍ فيه نظر عن أنس عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -. وخرَّجه ابنُ عديٍّ (¬3) بإسنادٍ ضعيفٍ عن عمرَ - رضي الله عنه - عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -. وقالَ يوسفُ بنُ عطيةَ عن المعلى بنِ زيادٍ: كانَ هرمُ بنُ حيانَ يخرجُ في بعضِ الليالي وينادِي بأعلَى صوتِهِ: عجبتُ من الجنةِ كيفَ نامَ طالبُها، وعجبتُ منَ النارِ ¬

_ (¬1) برقم (2601) وقال الترمذي: هذا حديث إنَّما نعرفه من حديث يحيى بن عبيد الله، ويحيى بن عبيد الله ضعيف عند أكثر أهل الحديث، تكلم فيه شعبة، ويحيى بن عبد الله هو ابن مَوْهبٍ وهو مدني. (*) في الأصل والمطبوع: "عبد"، والتصويب من سنن الترمذي. (¬2) في الأوسط (1638) وقال الطبراني عن هذا الحديث والذي قبله: لم يرو هذين الحديثين عن قتادة إلا همام، تفرد بهما محمد بن مصعب. وقال الهيثمي في المجمع (10/ 230): رواه الطبراني في الأوسط، وإسناده حسن. (¬3) في الكامل (6/ 454 - علمية) في ترجمة أبي طيبة عيسى بن سليمان وقال ابن عدي بعد إيراده عده أحاديث في الترجمة: وهذه الأحاديث لكرز بن وبرة يرويها عنه أبو طيبة وهي كلها غير محفوظة، وأبو طيبة هذا كان رجلاً صالحًا، ولا أظن أنَّه كان يتعمد الكذب، ولكنه لعله كان يشبه عليه فيغلط.

كيف نامَ هاربُها، ثم يقول: {أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ (97) أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ} [الأعراف: 97، 98] (¬1). وقال أبو الجوزاءِ: لو وليتُ من أمرِ الناس شيئًا اتخذتُ منارًا على الطريقِ وأقمتُ عليها رجالاً ينادون في الناس: النارَ النارَ. خرَّجه الإمامُ أحمدُ في كتابِ "الزهدِ". وخرَّج ابنُه عبدُ اللَّه في هذا الكتابِ أيضًا بإسنادِهِ عن مالكِ بنِ دينارٍ، قالَ: لو وجدتُ أعوانًا لفرقتهم ينادون في منارِ الدنيا كلها: يا أيها الناس النارَ النارَ. وفي رواية أخرى عنه قالَ: لو وجدتُ أعوانًا لناديت في منارِ البصرة بالليل: النارَ النارَ. ... ¬

_ (¬1) أخرجه أبو نعيم في "الحلية" (2/ 119).

الباب الثاني في ذكر الخوف من النار وأحوال الخائفين

الباب الثاني في ذكر الخوف من النار وأحوال الخائفين قال الله تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191) رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} [آل عمران: 190 - 192]. وقال تعالى: {قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (15) الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران: 15، 16]. وقال تعالى: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا} إِلَى قوله: {اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا (65) إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا} [الفرقان: 63 - 66]. وقال تعالى: {وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} [الإسراء: 57]. وقال تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (27) إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ} [المعارج: 27، 28]. وقال: {ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ (14) وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ} [إبراهيم: 14، 15]. وقال تعالى: {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (25) قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ (26) فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ} [الطور: 25 - 27].

قال إبراهيم التيمي: ينبغي لمن لم يحزن أن يخاف أن يكون من أهل النار، لأنّ أهل الجنة قالوا: {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ} [فاطر: 34]. وينبغي لمن لم يشفق أن يخاف أن لا يكون من أهل الجنة لأنهم قالوا: {قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ} [الطور: 26]. وقد كان النبي صلّى الله عليه وسلم كثيرًا يستعيذ من النار ويأمر بذلك في الصلاة وغيرها، والأحاديث في ذلك كثيرة. وقال أنس: كان أكثر دعاء النبي صلّى الله عليه وسلم: "رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ" أخرجه البخاري (¬1). وفي كتاب النسائي (¬2) عن أبي هريرة رضي الله عنه، أنَّه سمع النبي صلّى الله عليه وسلم يقول: "اللهم إني أعوذ بك من حر جهنم". وفي سنن أبي داود (¬3) وابن ماجه (¬4) عن جابر أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال لرجل: "كيف تقول في الصلاة؟ قال: أتشهد، ثم أقول: اللهم إني أسألك الجنة، وأعوذ بك من النار، أما إني لا أحسن دندنتك ولا دندنة معاذ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "حولها ندندن". وخرّجه البزار (¬5) ولفظه "وهل أدندن أنا ومعاذ إلا لندخل الجنة ونعاذ من النار". ¬

_ (¬1) برقم (4522)، وكذا مسلم (2690). (¬2) في المجتبى (8/ 278 - 279) بلفظ: "اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم". (¬3) برقم (792، 796). (¬4) برقم (910) قال في الزوائد: إسناده صحيح، ورجاله ثقات. (¬5) أورده الهيثمي في المجمع (2/ 133) وقال: لجابر حديث في هذا رواه البزار، ورجاله رجال الصحيح خلا معاذ بن عبد الله بن حبيب، وهو ثقة لا كلام فيه.

وفي مسند الإمام أحمد (¬1) بإسناد منقطع عن سليم الأنصاري: أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال له: "يَا سُلَيْمُ مَاذَا مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ؟ قَالَ: إِنِّي أَسْأَلُ اللهَ الْجَنَّةَ وَأَعُوذُ بِهِ مِنَ النَّارِ، وَاللهِ مَا أُحْسِنُ دَنْدَنَتَكَ وَلَا دَنْدَنَةَ مُعَاذٍ، فَقَالَ النَّبِيُّ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "وَهَلْ تَصِيرُ دَنْدَنَتِي وَدَنْدَنَةُ (¬2) مُعَاذٍ إِلَّا أَنْ نَسْأَلَ اللهَ الْجَنَّةَ وَنَعُوذَ بِهِ مِنَ النَّارِ؟! ". وروينا من حديث سويد بن سعيد، حدثنا حفص بن ميسرة، عن زيد بن أسلم، عن ابن عمر عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: "إِنَّمَا يدخل الجنة من يرجوها، ويجنب النار من يخافها، وإنَّما يرحم الله من يرحم". وخرّجه أبو نعيم (¬3)، وعنده: "إِنَّمَا يرحم الله من عباده الرحماء" وقال: غريب من حديث زيد مرفوعًا متصلاً، تفرد به حفص، ورواه ابن عجلان عن زيد مرسلاً، انتهى، والمرسل أشبه. وقال عمر: لو نادى مناد من السماء: أيها الناس إنكم داخلون الجنة كلكم إلا رجلاً واحدًا لخفت أن أكون أنا هو. خرجه أبو نعيم (¬4). وخرج الإمام أحمد (¬5) من طريق عبد الله الرومي قال: بلغني أن عثمان، رضي الله عنه قال: لو أني بين الجنة والنار -ولا أدري إِلَى أيتهما يؤمر بي- لاخترت أن أكون رمادًا قبل أن أعلم إِلَى أيتهما أصير. ... ¬

_ (¬1) (5/ 74). (¬2) الدندنة: أن يتكلم الرجل بالكلام يُسمع نغمته ولا يُفْهَم، وهو أرفع من الهينمة قليلاً، والمعنى: أي حولها ندندن وفي طلبها. (انظر "النهاية" مادة: "دندن"). (¬3) في "الحلية" (3/ 225). (¬4) في "الحلية" (53). (¬5) في "الزهد، ص 160.

فصل [الخوف من عذاب جهنم لا يخرج عنه أحد]

فصل [الخوف من عذاب جهنم لا يخرج عنه أحد] والخوف من عذاب جهنم لا يخرج عنه أحد من الخلق، وقد توعد الله سبحانه خاصة خلقه عَلَى المعصية، قال الله تعالى: {ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا} [الإسراء: 39]. وقال في حق الملائكة المكرمين: {وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} [الأنبياء: 29]. وثبت من حديث عمارة بن القعقاع عن أبي زرعة عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث الشفاعة، قال: "فَيَأْتُونَ آدَمَ" فَيَقُولُ آدَمُ: إِنَّ رَبِّي قَدْ غَضِبَ الْيَوْمَ غَضَبًا، لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ، وَلَنْ يَغْضَبَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ، وَإِنَّهُ أمرني بأمر فعصيته، فأخاف أن يطرحني في النار، انطلقوا إلى غيري، نفسي نفسي". وذكر في نوح إبراهيم وموسى وعيسى مثل ذلك، كلهم يقول: إني أخاف أن يطرحني في النار. خرجه ابن أبي الدُّنْيَا (¬1) عن أبي خيثمة، عن جرير، عن عمارة به. وخرّجه مسلم في "صحيحه" (¬2) عن أبي خيثمة إلا أنَّه لم يذكر لفظه بتمامه. ¬

_ (¬1) وأخرجه أحمد في "مسنده" (2/ 435) والترمذي (2434) وقال: هذا حديث حسن صحيح، والنسائي في الكبرى كما في تحفة الأشراف (10/ 451). (¬2) برقم (182).

وخرّجه البخاري (¬1) من وجه آخر بغير هذا اللفظ. ولم يزل الأنبياء والصديقون والشهداء والصالحون يخافون النار ويخوفون منها. فأما ما يذكر عن بعض العارفين من عدم خشية النار فالصحيح منه له وجه، سنذكره إن شاء الله تعالى. قال ابن المبارك: أخبرني عمر بن عبد الرحمن بن هرمز، سمعت وهب بن منبه يقول: قال حكيم من الحكماء: إني لأستحيي من الله أن أعبده رجاء ثواب الجنة فأكون كالأجير السوء، إن أعطي عمل، وإن لم يعط لم يعمل، وإني لأستحي من الله أن أعبده مخافة النار، أي قط، فأكون كالعبد السوء، إن رهب عمل لأن لم يرهب لم يعمل، لأنه يستخرج حبه مني ما لا يستخرجه مني غيره. خرجه أبو نعيم بهذا اللفظ. وفي تفسير لهذا الكلام من بعض رواته، وهو أنَّه ذم العبادة عَلَى وجه الرجاء وحده أو عَلَى وجه الخوف وحده، وهذا حسن. وكاد بعض السَّلف يقول: من عبد الله بالرجاء وحده فهو مرجئ، ومن عبد الله بالخوف وحده فهو حروري، ومن عبد الله بالحب وحده فهو زنديق، ومن عبد الله بالخوف والرجاء والمحبة فهو موحد مؤمن، وسبب هذا أنَّه يجب عَلَى المؤمن أن يعبد الله بهذه الوجوه الثلاثة: المحبة والخوف والرجاء، ولا بد له من جميعها، ومن أخل ببعضها فقد أخل ببعض واجبات الإيمان. وكلام هذا الحكيم يدل عَلَى أن الحب ينبغي أن يكون أغلب من الخوف والرجاء. وقد قال الفضيل بن عياش رحمه الله: المحبة أفضل من الخوف، ثم استشهد بكلام هذا الحكيم الَّذِي حكاه عنه وهب. وكذا قال يحيى بن معاذ قال: حسبك من الخوف ما يمنع من الذنوب، ولا ¬

_ (¬1) برقم (7437).

حَسْبَ من الحب أبدًا. فأما الخوف والرجاء، فأكثر السلف عَلَى أنهما يستويان، لا يرجح أحدهما عَلَى الآخر، قاله مطرف والحسن والإمام أحمد وغيرهم. ومنهم من يرجح الخوف عَلَى الرجاء، وهو محكي عن الفضيل وأبي سليمان الداراني. ومن هذا قول حذيفة المرعشي: إن عبدًا يعمل عَلَى خوف لعبد سوء، وإن عبدًا يعمل عَلَى رجاء لعبد سوء، فكلاهما عندي سواء. ومراده إذا عمل على إفراد أحدهما عن الآخر. وقال وهيب بن الورد: لا تكونوا كالعامل، يقال له: تعمل كذا وكذا، فيقول: نعم إن أحسنتم لي من الأجر، ومراده: ذم من لا يلاحظ بالعمل إلا الأجر. وهؤلاء العارفون لهم ملحظان: أحدهما: أن الله تعالى يستحق لذاته أن يطاع ويحب، ويبتغى قربه والوسيلة إِلَيْهِ مع قطع النظر عن كونه يثيب عباده أو يعاقبهم، كما قال القائل: هب البعثَ لم تأتنا رسله ... وجَاحِمَةُ النار لم تُضْرِمِ أليس من الواجب المُسْتـ ... حِقِّ حياءُ العبادِ من المُنْعِمِ وقد أشار هذا إِلَى أن نعمه عَلَى عباده تستوجب منهم شكره عليها وحياءهم منه. وهذا هو الَّذِي أشار إِلَيْهِ النبي صلّى الله عليه وسلم لما قام حتى تورمت قدماه، فقِيلَ لَهُ: تفعل هذا وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ فَقَالَ: "أفلا أكون عبدًا شكورًا" (¬1). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (4837)، ومسلم (2820) من حديث عائشة. وأخرجه البخاري (1130)، ومسلم (2819) من حديث المغيرة بن شعبة.

والملحظ الثاني: أن أكمل الخوف والرجاء ما تعلق بذات الحق تعالى -كما تقدم-، دون ما تعلق بالمخلوقات في الجنة والنار، فأعلى الخوف خوف البعد والسخط والحجاب عنه سبحانه، كما قدم سبحانه ذكر هذا العقاب لأعدائه عَلَى صليهم النار في قوله تعالى: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ} [المطففين: 15، 16]. وقال ذو النون: خوف النار عند خوف الفراق كقطرة في بحر لجي، كما أن أعلى الرجاء ما تعلق بذاته سبحانه من رضاه ورؤيته ومشاهدته وقربه، ولكن قد يغلط بعض الناس في هذا، فيظن أن هذا كله ليس بداخل في مسمى نعيم الجنة ولا في مسمى الجنة إذا أطلقت، ولا في مسمى النار ولا في مسمى عذاب النار إذا أطلقت، وليس كذلك. وبقي هاهنا أمر آخر، وهو أن يقال: ما أعده الله في جهنم من أنواع العذاب المتعلق بالأمور المخلوقة لا يخافها العارفون، كما أن ما أعده الله في الجنة من أنواع النعيم المتعلق بالأمور المخلوقة لا يحبه العارفون ولا يطلبونه. وهذا أيضاً غلط، والنصوص الدالة عَلَى خلافه كثيرة جداً ظاهرة. وهو أيضاً مناقض لما جبل الله عليه الخلق من محبة ما يلائمهم وكراهة ما ينافرهم، وإنَّما صدر مثل هذا الكلام ممن صدر منه في حال سكره واصطلامه واستغراقه وغيبة عقله، فظن أن العبد لا يبقى له إرادة أصلاً، فإذا رجع إِلَيْهِ عقله وفهمه علم أن الأمر عَلَى خلاف ذلك. ونحن نضرب لذلك مثلاً يتضح به هذا الأمر إن شاء الله تعالى. وهو أن أهل الجنة إذا دخلوا الجنة واستدعاهم الرب سبحانه إِلَى زيارته ومشاهدته ومحاضرته يوم المزيد، فإنهم ينسون عند ذلك كل نعيم عاينوه في الجنة قبل ذلك، ولا يلتفتون إِلَى شيء مما هم فيه من نعيم الجنة حتى يحتجب عنهم سبحانه، ويحتقرون كل نعيم في الجنة حين ينظرون إِلَى وجهه جل جلاله، كما جاء ذلك في أحاديث يوم المزيد. فلو أنهم ذكروا حينئذٍ شيئًا من نعيم الجنة لأعرضوا عنه،

ولأخبروا أنهم لا يريدونه في تلك الحال، وكذلك لو خوفوا عذابًا ونحوه لم يلتفتوا إِلَيْهِ، وربما لم يستشعروا ألمه في تلك الحال، وإنَّما يحذرون حينئذٍ من الحجاب عما هم فيه والبعد عنه، فإذا رجعوا إِلَى منازلهم، رجعوا إِلَى ما كانوا عليه من التنعم بأنواع النعيم المخلوق لهم، بل يزداد نعيمهم بذلك مع شدة شوقهم إِلَى يوم المزيد ثانيًا. فهكذا أحوال العارفين الصادقين في الدُّنْيَا إذا تجلى عَلَى قلوبهم أنوار الإحسان واستولى عليها المثل الأعلى، فإن هذا من شواهد ما يحصل لهم في الجنة يوم المزيد، فهم لا يلتفتون في تلك الحال إِلَى غير ما هم فيه من الأنس بالله والتنعم بقربه وذكره ومحبته، حتى ينسوا ذكر نعيم الجنة، ويصغر عندهم بالنسبة إِلَى ما هم فيه، ولا يخافون حينئذ أيضاً غير حجبهم عن الله وبعدهم عنه وانقطاع مواد الأنس به، فإذا رجعوا إِلَى عقولهم، وسكنت عنهم سلطنة هذا الحال وقهره، وجدوا نفوسهم وإرادتهم باقية، فيشتاقون حينئذٍ إِلَى الجنة ويخافون من النار، مع ملاحظتهم لأعلى ما يشتاق إِلَيْهِ من الجنة ويخشى منه من النار. وأيضًا، فالعارفون قد يلاحظون من النار أنها ناشئة عن صفة انتقام الله وبطشه وغضبه، والأثر يدل عَلَى المؤثر، فجهنم دليل عَلَى غضب الله وشدة بأسه وبطشه وقوة سلطنة سطوته وانتقامه من أعدائه، فالخوف منها في الحقيقية خوف من الله وإجلال له وإعظام وخشية لصفاته المخوفة، مع أنَّه سبحانه يخوف بها عباده، ويحب منهم أن يخافوه بخوفها، وأن يخشوه بخشية الوقوع فيها، وأن يحذروه بالحذر منها، فالخائف من النار خائف من الله، متبع لما فيه محبته ورضاه والله أعلم. ***

فصل [في القدر الواجب من الخوف]

فصل [في القدر الواجب من الخوف] والقدر الواجب من الخوف، ما حمل عَلَى أداء الفرائض واجتناب المحارم، فإن زاد عَلَى ذلك بحيث صار باعثًا للنفوس عَلَى التشمير في نوافل الطاعات والانكفاف عن دقائق المكروهات، والتبسط (*) في فضول المباحات، كان ذلك فضلاً محمودًا، فإن تزايد عَلَى ذلك بأن أورث مرضًا أو موتًا أو همًّا لازمًا بحيث يقطع عن السعي في اكتساب الفضائل المطلوبة المحبوبة لله عز وجل، لم يكن ذلك محمودًا، ولهذا كان السَّلف يخافون عَلَى عطاء السلمي من شدة خوفه الَّذِي أنساه القرآن، وصيره صاحب فراش، وهذا لأنّ خوف العقاب ليس مقصودًا لذاته، إِنَّمَا هو سوط يساق به المتواني عن الطاعة إليها، ومن هنا كانت النار من جملة نعم الله عَلَى عباده الذين خافوه واتقوه، ولهذا المعنى عدها سبحانه من جملة آلائه عَلَى الثقلين في سورة الرحمن. وقال سفيان بن عيينة: خلقت النار رحمة يخوف بها عباده لينتهوا. أخرجه أبو نعيم. والمقصود الأصلي هو طاعة الله عز وجل وفعل مراضيه ومحبوباته وترك مناهيه ومكروهاته. ولا ننكر أن خشية الله وهيبته وعظمته في الصدور وإجلاله مقصود أيضاً، ولكن القدر النافع من ذلك ما كان عونًا عَلَى التقرب إِلَى الله بفعل ما يحبه وترك ما يكرهه، ومتى صار الخوف مانعًا من ذلك وقاطعًا عنه فقد انعكس المقصود منه. ولكن إذا حصل ذلك عن غلبة، كان صاحبه معذورًا، وقد كان من السَّلف من ¬

_ (*) في حاشية الأصل: "لعله: والتوسط".

حصل له من خوف النار أحوال شتى، لغلبة حال شهادة قلوبهم للنار، فمنهم من كان يلازمه القلق والبكاء، وربما اضطرب أو غشي عليه إذا سمع ذكر النار. وقد رُوي عن النبي صلّى الله عليه وسلم في ذلك شيء، إلا أن إسناده ضعيف، فروى حمزة الزيات عن حمران بن أعين، قال: سمع رسول الله صلّى الله عليه وسلم قارئًا يقرأ {إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالًا وَجَحِيمًا (12) وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا} [المزمل: 12، 13]. فصعق رسول الله صلّى الله عليه واه وسلم. وفي رواية فبكى حتى غشي عليه - صلى الله عليه وسلم -. هذا مرسل وحمران ضعيف (*). ورواه بعضهم عن حمران عن أبي حرب بن أبي الأسود مرسلاً أيضًا. وقيل: إنه رُوي عن حمران عن ابن عمر ولا يصح. وعن عبد العزيز بن أبي رواد قال: لما أنزل الله عز وجل عَلَى نبيه - صلى الله عليه وسلم -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ} [التحريم: 6]، تلاها رسول الله صلّى الله عليه وسلم ذات يوم عَلَى أصحابه، فخر فتى مغشيًّا عليه، فوضع النبي صلّى الله عليه وسلم يده عَلَى فؤاده فَإِذَا هو يتحرك، فَقَالَ: رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يا فتى قل: لا إله إلا الله" فقالها فبشره بالجنة، فَقَالَ أصحابه: يا رسول الله صلّى الله عليه وسلم أمن بيننا؟ فَقَالَ: أو ما سمعتم قوله تعالى: {ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ} [إبراهيم: 14]. وقد رُوي عن ابن أبي رواد عن عكرمة عن ابن عباس، وخرّجه من هذا الوجه الحاكم (¬1) وصححه. ولعل المرسل أشبه. وقال الجوزجاني في "كتاب النواحين": حدثنا صاحب لنا عن جعفر بن سليمان عن لقمان الحنفي، قال: أتى رسول الله صلّى الله عليه وسلم عَلَى شاب ينادي في جوف الليل: واغوثاه من النار، فلما أصبح قال: "يا شاب لقد أبكيت ¬

_ (*) في حاشية الأصل: "صوابه: ضعفوه". (¬1) في "المستدرك" (2/ 351).

البارحة أعين ملأ من الملائكة كثيرًا". وقال سليمان بن سحيم: أخبرني من رأى ابن عمر يصلي وهو يترجح ويتمايل ويتأوه، حتى لو رآه غيرنا ممن يجهله لقال: لقد أصيب الرجل، وذلك لذكر النار إذا مر بقوله تعالى: {وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ} [الفرقان: 13]. ونحو ذلك أخرجه أبو عبيد. وفي "كتاب الزهد" (¬1) للإمام أحمد، عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر قال: قلت ليزيد بن مرثد: مالي أرى عينك لا تجف؟ قال: وما مسألتك عنه؟ قلت: عسى الله أن ينفعني به، قال: يا أخي إن الله توعدني إن أنا عصيته أن يسجنني في النار، والله لو لم يتوعدني أن يسجنني إلا في الحمام لكنت حريًّا أن لا تجف لي عين، قلت له؛ فهكذا أنت في خلواتك؟ قال: وما مسألتك عنه؟ قلت: عسى الله أن ينفعني به، قال: والله إن ذلك ليعرض لي حين أسكن إِلَى أهلي، فيحول بيني وبين ما أريد، وأنه ليوضع لي الطعام بين يدي، فيعرض لي، فيحول بيني وبين كله، حتى تبكي امرأتي، ويبكي صبياننا، ما يدرون ما أبكانا، ولربما أضجر ذلك امرأتي فتقول: يا ويحها، ما خصت من طول الحزن معك في الحياة الدُّنْيَا ما يقر لي معك عين. وقال يزيد بن حوشب: ما رأيت أخوف من الحسن وعمر بن عبد العزيز كأن النار لم تخلق إلا لهما. وروى ضمرة عن حفص بن عمر، قال: بكى الحسن، فقيل ما يبكيك؟ قال: أخاف أن يطرحني في النار غدًا ولا يبالي. وعن الفرات بن سليمان، قال: كان الحسن يقول: إن المؤمنين قوم ذلت والله منهم الأسماع والأبصار والأبدان، حتى حسبهم الجاهل مرضى، وهم والله أصحاء القلوب، ألا تراه يقول: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ} [فاطر: ¬

_ (¬1) أخرجه أبو نعيم في "الحلية" (5/ 164) من طريق الإمام أحمد بن حنبل به ... فذكره.

34]. والله لقد كابدوا في الدُّنْيَا حزنًا شديدًا، وجرى عليهم ما جرى عَلَى من كان قبلهم، والله ما أحزنهم ما أحزن الناس، ولكن أبكاهم الخوف من النار. وروى ابن المبارك عن معمر عن يحيى بن المختار عن الحسن نحوه. وروى ابن أبي الدُّنْيَا من حديث عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، قال سمعت عبد الله بن حنظلة يومًا، وهو عَلَى فراشه، وعُدْتُهُ مِنْ عِلَّته، فتلا رجل عنده هذه الآية: {لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ} [الأعراف: 41] فبكى، حتى ظننت أن نفسه ستخرج، وقال: صاروا بين أطباق النار، ثم قام عَلَى رجليه، فَقَالَ قائل: يا أبا عبد الرحمن اقعد، قال: منع ذكر النار مني القعود، لا أدري لعلي أحدهم. ومن حديث عبد الرحمن بن مصعب، إن رجلاً كان يومًا عَلَى شط الفرات فسمع تاليًا يتلو: {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ} [الزخرف: 74] فتمايل، فلما قال التالي: {لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ} (¬1) [الزخرف: 75] سقط في الماء فمات. ومن حديث أبي بكر بن عياش، قال: صليت خلف فضيل بن عياض المغرب وإلى جانبي علي ابنه، فقرأ الفضيل {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ} فلما بلغ {لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ} سقط علي مغشيًّا عليه، وبقي فضيل لا يقدر يجاوز الآية، ثم صلى بنا صلاة خائف، قال: ثم رابطت عليًّا فما أفاق إلا في نصف الليل. وروى أبو نعيم بإسناده عن الفضيل، قال: أشرفت ليلة عَلَى علي، وهو في صحن الدار، وهو يقول: النار، ومتى الخلاص من النار؟. وكان علي يومًا عند ابن عيينه، فحدث سفيان بحديث فيه ذكر النار، وفي يد علي قرطاس في شيء مربوط، فشهق شهقة، ووقع ورمى بالقرطاس، أو وقع من يده، فالتفت إِلَيْهِ سفيان، فَقَالَ: لو علمت أنك هاهنا ما حدثت به، فما أفاق إلا بعد ما شاء الله. ¬

_ (¬1) أي: ساكنون، أو محزونون من شدة اليأس.

وقال علي بن خشرم: سمعت منصور بن عمار يقول: تكلمت يومًا في المسجد الحرام، فذكرت شيئًا من صفة النار، فرأيت فضيل بن عياش صاح حتى غشي عليه وطرح نفسه. وفي "الحلية" لأبي نعيم، أن علي بن فضيل صلّى خلف إمام قرأ في صلاته سورة الرحمن، فلما سلم، قيل لعلي: أما سمعت ما قرأ الإمام: {حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ} [الرحمن: 72] فَقَالَ: شغلني عنها ما قبلها: {يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ (¬1) مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ فَلَا تَنْتَصِرَانِ} [الرحمن: 35]. وقال ابن أبي ذئب: حدثني من شهد عمر بن عبد العزيز -وهو أمير المدينة- وقرأ عنده رجل: {وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا} (¬2) [الفرقان: 13] فبكى عمر حتى غلبه البكاء وعلا نشيجه، فقام من مجلسه، ودخل بيته، وتفرق الناس. وقال أبو نوح الأنصاري: وقع حريق في بيت فيه علي بن الحسين وهو ساجد، فجعلوا ينادونه: يا ابن رسول الله صلّى الله عليه وسلم النار، فما رفع رأسه حتى أطفئت، فقِيلَ لَهُ: ما الَّذِي ألهاك عن النار؟ قال: النار الأخرى. قال أحمد بن أبي الحواري: سمعت أبا سليمان يقول: ربما مثل لي رأسي بين جبلين من نار، وربما رأيتني أهوي فيها حتى أبلغ قرارها، فكيف يهنأ الدُّنْيَا من كانت هذه صفته؟ قال أحمد: وحدثني أبو عبد الرحمن الأسدي، قال: قلت لسعيد بن عبد العزيز: ما هذا البكاء الَّذِي يعرض لك في الصلاة؟ فَقَالَ: يا ابن أخي وما سؤالك عن ذلك؟ قلت: يا عم لعل الله أن ينفعني به، قال: ما قمت في صلاتي إلا مثلت لي جهنم. وقال سرار أبو عبد الله: عاتبت عطاء السلمي في كثرة بكائه، فَقَالَ: يا ¬

_ (¬1) أي: لهب خالص لا دخان فيه. (¬2) أي: هلاكًا، فقالوا: واثبوراه.

سرار، كيف تعاتبني في شيء ليس هو إلي؟ إني إذا ذكرت أهل النار وما ينزل بهم من عذاب الله عز وجل وعقابه، تمثلت لي نفسي بهم، فكيف لنفس تغل يداها إِلَى عنقها، وتسحب إِلَى النار، أن لا تبكي وتصيح؟ وكيف لنفس تعذب أن لا تبكي؟ قال العلاء بن زياد: كان إخوان مطرف عنده، فخاضوا في ذكر الجنة، فقال مطرف: لا أدري ما تقولون! حَالَ ذِكْرُ النارِ بيني وبين الجنة. وقال عبد الله بن أبي الهذيل: لقد شغلت النار من يعقل عن ذكر الجنة. وعوتب يزيذ الرقاشي عَلَى كثرة بكائه، وقِيلَ لَهُ: لو كانت النار خلقت لك ما زدت عَلَى هذا، فَقَالَ: وهل خلقت النار إلا لي ولأصحابي ولإخواننا من الجن؟ أما تقرأ: {سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلَانِ} [الرحمن: 31]. أما تقرأ: {يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ فَلَا تَنْتَصِرَانِ} [الرحمن: 35]. فقرأ حتى بلغ: {يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ} (¬1) [الرحمن: 44]. وجعل يجول في الدار ويصرخ ويبكي حتى غشي عليه. وقرئ عَلَى رابعة العدوية آية فيها ذكر النار، فصرخت، ثم سقطت، فمكثت ما شاء الله لم تفق. ودخل ابن وهب الحمام فسمع قارئًا يقرأ: {وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ} [غافر: 47]، فسقط مغشيًّا عليه، فغسل عنه بالنورة وهو لا يعقل. ولما أهديت معاذة العدوية إِلَى زوجها، صلة بن أشيم، أدخله ابن أخيه الحمام، ثم أدخله بيتًا مطيبًا، فقام يصلي حتى أصبح، وفعلت معاذة كذلك، فلما أصبح عاتبه ابن أخيه عَلَى فعله، فَقَالَ له: إنك أدخلتني بالأمس بيتًا أذكرتني به النار، ثم أدخلتني بيتًا أذكرتني به الجنة، فما زالت فكرتي فيهما حتى أصبحت. قال العباس بن الوليد عن أبيه قال: كان الأوزاعي إذا ذكر النار، لم يقطع ¬

_ (¬1) أي: ماء حار تناهى حره.

ذكرها، ولم يقدر أحد يسأله عن شيء حتى يسكت، فأقول بيني وبين نفسي: ترى بقي أحد في المجلس لم يتقطع قلبه حسرات؟!. كانت آمنة بنت أبي المورع من العابدات الخائفات، وكانت إذا ذكرت النار تقول: أدخلوا النار، وأكلوا من النار وشربوا من النار، وعاشوا؟ ثم تبكي. وكانت كأنها حبة عَلَى مقلى وكانت إذا ذكرت النار بكت وأبكت. قال عبد الواحد بن زيد: لم أر مثل قوم رأيتهم، هجمنا مرة عَلَى نفر من العباد في سواحل البحر، فتفرقوا حين رأونا، فما كنت تسمع عامة الليل إلا الصراخ والتعوذ من النار، فلما أصبحنا تتبعنا آثارهم فلم نرهم. ***

فصل [من السلف من كان إذا رأى النار اضطرب وتغيرت حاله] (*)

فصل [من السَّلف من كان إذا رأى النار اضطرب وتغيرت حاله] (*) وكان من السَّلف من إذ رأى النار اضطرب وتغير حاله، وقد قال تعالى: {نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ} [الواقعة: 73] قال مجاهد وغيره: يعني أن نار الدُّنْيَا تذكر بنار الآخرة. و] (**) قال أبو حيان التيمي: سمعت منذ ثلاثين سنة أو أكثر من ثلاثين سنة أن عبد الله بن مسعود مر عَلَى الذين ينفخون عَلَى الكير فسقط، خرجه الإمام أحمد. وخرج ابن أبي الدُّنْيَا (¬1) من رواية سعد بن الأخرم، قال: كنت أمشي مع ابن مسعود فمر بالحدادين وقد أخرجوا حديدًا من النار، فقام ينظر إِلَيْهِ ويبكي. وعن عطاء الخراساني قال: كان أويس القرني يقف عَلَى موضع الحدادين فينظر إليهم كيف ينفخون الكير، ويسمع صوت النار، فيصرخ، ثم يسقط. وعن ابن أبي الذباب، أن طلحة وزبيدًا مرا بكير حداد، فوقفا ينظران إِلَيْهِ ويبكيان. قال الأعمش: أخبرني من رأى الربيع بن خثيم مر بالحدادين، فرأى الكير وما فيه، فخرَّ. وقال مطر الوراق: كان حممة وهرم بن حيان إذا أصبحا غديا فمرا بأكورة ¬

_ (*) في حاشية الأصل أنها في نسخة: "لونه". (**) من المطبوع. (¬1) في "الرقة والبكاء" (58).

الحدادين، فنظرا إِلَى الحديد كيف ينفخ عليه، فيقفان ويبكيان، ويستجيران من النار. وقال حماد بن سلمة عن ثابت: كان بشير بن كعب وقراء البصرة يأتون الحدادين، فينظرون إِلَى شهيق النار، فيتعوذون بالله من النار. وعن العلاء بن محمد قال دخلت عَلَى عطاء المسلمي فرأيته مغشيًّا عليه، فقلت لامرأته ما شأنه؟ قالت: سجرت جارية لنا التنور، فلما نظر إِلَيْهِ غشي عليه. وعن معاوية الكندي قال: مر عطاء السلمي عَلَى صبي معه شعلة نار، فأصابت النار الريح، فسمع ذلك منها، فغشي عليه. وقال الحسن: كان عمر، ربما توقد له النار، ثم يدني يده منها، ثم يقول: يا ابن الخطاب هل لك عَلَى هذا صبر؟!. وكان الأحنف بن قيس، يجيء إِلَى المصباح بالليل، فيضع أصبعه فيه، ثم يقول حَسٍّ حَسٍّ (¬1)، ثم يقول: يا حنيف، ما حملك عَلَى ما صنعت يوم كذا؟ ما حملك عَلَى ما صنعت يوم كذا؟. وقال البختري بن حارثة: دخلت عَلَى عابد، فإذا بين يديه نار قد أججها، وهو يعاتب نفسه، فلم يزل يعاتبها حتى مات. وكان كثير من الصالحين يذكر النار وأنواع عذابها برؤية ما يشبهه بها في الدُّنْيَا، أو يذكره بها، كرؤبة البحر وأمواجه، والرءوس المشوية، وبكاء الأطفال، وفي الحر والبرد، وعند الطعام والشراب، وغير ذلك، وسنذكر ما تيسر من ذلك مفرقًا في موضعه إن شاء الله تعالى. وقد سبق أن منهم من كان يذكر النار بدخول الحمام. وروى ليث عن طلحة، قال: انطلق رجل ذات يوم، فنزع ثيابه، وتمرغ في ¬

_ (¬1) كلمة تقال عند الألم المفاجئ.

الرمضاء وهو يقول لنفسه: ذوقي نار جهنم أشد حرًّا، جيفة بالليل، بطالة بالنهار، فبينما هو كذلك إذ أبصر النبي صلّى الله عليه وسلم في ظل شجرة، فأتاه، فَقَالَ: غلبتني نفسي، فَقَالَ له النبي صلّى الله عليه وسلم: "ألم يكن لك بد من الَّذِي صنعت؟ لقد فتحت لك أبواب السماء، ولقد باهى الله بك الملائكة" خرجه ابن أبي الدُّنْيَا (¬1). وهو مرسل، وخرج الطبراني نحوه من حديث بريدة موصولاً، وفي إسناده من لا يعرف حاله، والله أعلم. ... ¬

_ (¬1) في "محاسبة النفس" (57)، وعزاه العراقي في تخريج الأحياء لابن أبي الدُّنْيَا في "محاسبة النفس" من رواية ليث بن أبي سليم عنه، وقال وهذا منقطع أو مرسل، ولا أدري من طلحة هذا؟ إلا أن يكون بن مصرف، وإلا فهو مجهول. قال: وقد أخرجه الطبراني من حديث بريدة متصلا نحوه، قال: "بينما النبي صلّى الله عليه وسلم في مسير له إذ أتى عَلَى رجل يتقلب في الرمضاء ظهر البطن ويقول: نوم بالليل وباطل بالنهار وترجين الجنة ... " الحديث اهـ. قال الزبيدي: وقوله وهذا منقطع أو مرسل يعني به إن كان طلحة صحابيًّا، فليث لم يدركه فهو منقطع بينهما، وإن كان هو طلحة بن مصرف، فروايته عن الصحابة وعن كبار التابعين، فهو مرسل. (تخريج أحاديث إحياء علوم الدين للعراقي وابن السبكي والزبيدي (6/ 2446) برقم (3867).

فصل من الخائفين من منعه خوف جهنم من النوم

فصل من الخائفين من منعه خوف جهنم من النوم ومن الخائفين من منعه خوف جهنم من النوم. قال أسد بن وداعة: كان شداد بن أوس، إذا أوى إِلَى فراشه، كأنه حبة عَلَى مقلى، فيقول: اللهم إن ذكر جهنم لا يدعني أنام، فيقوم إِلَى مصلاه. وقال أبو سليمان الداراني: كان طاووس يفترش فراشه، ثم يضطجع عليه، فيتقلى عليه كما تتقلى الحبة عَلَى المقلى، ثم يثب، فيدرجه، ويستقبل القبلة حتى الصباح، ويقول: طير ذكر جهنم نوم العابدين. وقال مالك بن دينار: قالت ابنة الربيع بن خثيم: يا أبت، مالك لا تنام والناس ينامون؟ فَقَالَ: إن النار لا تدع أباك ينام. وكان صفوان بن محرز إذا جنه الليل يخور كما يخور الثور، ويقول: منع خوف النار مني الرقاد. وكان عامر بن عبد الله يقول: ما رأيت مثل الجنة نام طالبها، وما رأيت مثل النار نام هاربها، فكان إذا جاء الليل قال: أذهب حر النار النوم، فما ينام حتى يصبح، وإذا جاء النهار قال: أذهب حر النار النوم، فما ينام حتى يمسي. ورُوي عنه أنَّه قِيلَ لَهُ: مالك لا تنام؟ قال: إن ذكر جهنم لا يدعني أنام. وقال الحر بن حصين الفزاري: رأيت شيخًا من بني فزارة أمر له خالد بن عبد الله بمائة ألف، فأبى أن يقبلها، وقال: أذهب ذكر جهنم حلاوة الدُّنْيَا من قلبي، قال: وكان يقوم إذا نام الناس، فيصيح النار النار النار. وكان رجل من الموالي، يقال له صهيب، وكان يسهر الليل ويبكي، فعوتب

عَلَى ذلك، وقالت له مولاته: أفسدت عَلَى نفسك، فَقَالَ: إن صهيبًا إذا ذكر الجنة طال شوقه، وإذا ذكر النار طال خوفه. وعن ابن مهدي قَالَ: ما كان سفيان الثوري ينام إلاَّ أول الليل، ثم ينتفض فزعًا مرعوبًا ينادي: النار النار، شغلني ذكر النار عن النوم والشهوات، ثم يتوضأ، ويقول عَلَى إثر وضوئه: اللهم إنك عالم بحاجتي غير معلم، وما أطلب إلاَّ فكاك رقبتي من النار. وفي هذا المعنى يقول عبد الله بن المبارك رحمه الله تعالى: إذا ما الليل أظلم كَابَدُوهُ ... فيُسفرُ عنهم وهم ركوعُ أطارَ الخوف نومهُمُ فقاموا ... وأهل الأمن في الدُّنْيَا هُجُوعُ (¬1) وقال ابن المبارك أيضاً: وَمَا فَرْشُهُمْ إِلَّا أَيَامِنُ أُزْرِهِمْ ... وَمَا وُسْدُهُمْ إِلَّا مَلَاءٌ وَأَذْرُعُ وَمَا لَيْلُهُمْ فيهن إِلَّا تخوف ... وَمَا نَوْمُهُمْ إِلَّا عُشَاشٌ مُرَوِّعُ وَأَلْوَانُهُمْ صُفْرٌ كَأَنَّ وُجُوهَهُمْ ... عَلَيْهَا جِسَاد عُلْيَ بِالْوَرْسِ (¬2) مُشْبَعُ نَوَاحِلُ قَدْ أَزْرَى بِهَا الْجُهْدُ (¬3) وَالسُّرَى (¬4) ... إِلَى اللَّهِ فِي الظَّلْمَاءِ وَالنَّاسُ هُجَّعُ وَيَبكُونُ أحيانًا كأن عَجِيجَهُمْ (¬5) ... إذا نَوَّمَ الناس الحَنِينُ المُرَجَّعُ وَمَجْلِسُ ذِكْرٍ فِيهِمْ قَدْ شَهِدْتُهُ ... وَأَعْيُنُهُمْ مِنْ رهبة اللَّهِ تَدْمَعُ وكان عباد بن زياد التيمي له إخوة متعبدون، فجاء الطاعون فاخترمهم، فَقَالَ ¬

_ (¬1) أي: نيام ليلاً. (¬2) الورس: نبت أصفر يصبغ به. (¬3) الجُهُدُ: بضم الجيم، الشيء القليل يعيش به المقل عَلَى جهد العيش، وهو بالفتح المشقة، وقيل: المبالغة والغاية. (¬4) السُّرَى: السير بالليل، يقال: سرى يَسْري سُرّي، وأسرى يُسري إسراء، لغتان (النهاية: مادة "سرى"). (¬5) العج: رفع الصوت بالتلبية.

يرثاهم: فتية يُعْرَفُ التَّخَشُّعُ فيهم ... كلهم أحكمَ القرآن غُلامًا بأنين قد بَرَى جِلدهُ التهجد ... حتى عاد جلده مصفرًا وعظاما تتجافى عن الفراش من الخوف ... إذا الجاهلون باتوا نياما بأنين (¬1) وعَبْرَةٍ (¬2) ونَحِيبٍ (¬3) ... وَيَظَلُّون بالنهار صياما يقرءون القرآن لا ريب فيه ... ويبيتون سجدًا وقياما ... ¬

_ (¬1) بأنين: بتأوه. (¬2) عَبْرَة: دمعة. (¬3) نحيب: أشد البكاء.

فصل ومنهم من منعه خوف النار من الضحك

فصل ومنهم من منعه خوف النار من الضحك قَالَ إسماعيل السدي: قَالَ الحجاج لسعيد بن جبير: بلغني أنك لم تضحك قط، قَالَ: كيف أضحك وجهنم قد سعرت، والأغلال قد نصبت، والزبانية قد أعدت؟!. وقال عثمان بن عبد الحميد: وقع في جيران غزوان، حريق، فذهب يطفئه، فوقع شرارة عَلَى أصبع من أصابعه، فَقَالَ: ألا أراني قد أوجعتني نار الدُّنْيَا، والله لا يراني ضاحكًا حتى أعرف أينجيني من نار جهنم أم لا؟. وقد كان جماعة من السَّلف عاهدوا الله أن لا يضحكوا أبدًا حتى يعلموا أين مصيرهم، إِلَى الجنة أم إِلَى النار، منهم حممة الدوسي، والربيع بن خراش، وأخوه ربعي، وأسلم العجلي، ووهيب بن الورد، وغيرهم. وروى يزيد الرقاشي عن أنس، قَالَ: لما أسري بالنبي -صلى الله عليه وسلم- وجبريل معه، سمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هدة، فَقَالَ: يا جبريل ما هذه الهدة؟ قَالَ: حجر أرسله الله من شفير جهنم، فهو يهوي فيها منذ سبعين عامًا فبلغ قعرها الآن، قَالَ: فما ضحك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعد ذلك إلاَّ أن يبتسم تبسما. خرّجه ابن أبي الدُّنْيَا (¬1)، ويزيد الرقاشي شيخ صالح لا يحفظ الحديث. وخرج الطبراني (¬2)، بإسناد ضعيف إِلَى أبي سعيد الخدري، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم ¬

_ (¬1) في "صفة النار" (15). (¬2) في الأوسط (815)، وكما في مجمع البحرين (4845) وقال: لم يروه عن يحيى إلاَّ إسماعيل. وقال الهيثمي في المجمع (10/ 389 - دار الكتاب العربي): رواه الطبراني في "الأوسط"=

معناه، وفي حديثه قَالَ: فما رؤي رسول الله صلّى الله عليه وسلم يا ضاحكًا حتى قبض. وسيأتي حديث امتناع الملائكة من الضحك، منذ خلقت جهنم، فيما بعد إن شاء الله تعالى. وفي حديث أبي ذر الطويل عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم قلت: يا رسول الله، ما كانت صحف موسى؟ قَالَ: "كانت عبرًا كلها، عجبت لمن أيقن بالموت وهو يفرح، وعجبت لمن أيقن بالنار وهو يضحك" وذكر الحديث بطوله، خرّجه ابن حبان في صحيحه (¬1) وغيره (¬2). ... ¬

_ =وفيه إسماعيل بن قيس الأنصاري، وهو ضعيف. (¬1) برقم (94 - موارد) وفى إسناده إبراهيم بن هشام الغساني: كذاب. (¬2) وأخرجه أبو نعيم في "الحلية" (1/ 166 - 168) وقال: السياق للحسن بن سفيان، ورواه المختار بن غسان عن إسماعيل بن سلمة عن أبي إدريس، ورواه علي بن يزيد عن القاسم عن أبي أمامة عن أبي ذر، ورواه عبيد بن الحسحاس عن أبي ذر، ورواه معاوية بن صالح عن أبي عبد الملك محمد بن أيوب عن ابن عائذ عن أبي ذر بطوله، ورواه ابن جريج عن عطاء عن عبيد بن عمير عن أبي ذر بطوله، تفرد به عنه يحيى بن سعيد العبشمي.

فصل ومنهم من حديث له من خوفه من النار مرض، ومنهم من مات من ذلك

فصل ومنهم من حديث له من خوفه من النار مرض، ومنهم من مات من ذلك وكان الحسن يقول في وصف الخائفين: قد براهم الخوف، فهم أمثال الفراخ (*) ينظر إليهم الناظر فيقول. مرضى وما بهم مرض، ويقول: قد خولطوا، وقد خالط القوم من ذكر الآخرة أمر عظيم!!. وسمع عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- رجلاً يتهجد في الليل ويقرأ سورة الطور، فلما بلغ إِلَى قوله تعالى: {إن عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ (7) مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ} [الطور: 7، 8] قَالَ عمر: قسم ورب الكعبة حق، ثم رجع إِلَى منزله، فمرض شهرًا يعوده الناس، لا يدرون ما مرضه (¬1). وكان جماعة من عباد البصرة مرضوا من الخوف، ولزموا منازلهم، كالعلاء ابن زياد، وعطاء السلمي، وكان عطاء قد صار صاحب فراش عدة سنين. وكانوا يرون أن بدو مرض عمر بن عبد العزيز الَّذِي مات فيه كان من الخوف. وروى الإمام أحمد (¬2) عن حسين بن محمد، عن فضيل بن سليمان، عن محمد بن مطرف، قَالَ: حدثني ثقة، وإن شابًّا من الأنصار، دخل خوف النار قلبه، فجلس في البيت، فأتاه النبيّ صلّى الله عليه وسلم، فقام إِلَيْه فاعتنقه، فشهق شهقة خرجت نفسه، فَقَالَ النبىي - صلى الله عليه وسلم -: "جهزوا صاحبكم فَلَذَ (¬3) خوفُ النار كبده". ¬

_ (*) كتب في حاشية الأصل أنها في نسخة: "القداح". (¬1) أخرجه ابن قدامة المقدسي في "الرقة"، وأخرجه ابن أبي الدُّنْيَا في "الرقة والبكاء" (1) بنحوه. (¬2) في "الزهد" صـ 397. (¬3) أي قطع.

ورواه ابن المبارك عن محمد بن مطرف به بنحوه. ورُوي من وجه آخر متصلاً، خرّجه ابن أبي الدُّنْيَا: حدثنا الحسن بن يحيى، حدثنا حازم بن جبلة بن أبي نضرة العبدي، عن أبي سنان، عن الحسن، عن حذيفة، قَالَ: كان شاب عَلَى عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يبكي عند ذكر النار، حتى حبسه ذلك في البيت، فذكر ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم -، فأتاه النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلما نظر إِلَيْهِ الشاب قام إِلَيْه فاعتنقه وخر ميتًا، قَالَ النبيّ صلّى الله عليه وسلم: "جهزوا صاحبكم فإن الفرق من النار فلذ كبده (¬1)، والذي نفسي بيده. لقد أعاذه الله منها، من رجا شيئًا طلبه، ومن خاف شيئًا هرب منه". والمرسل أصح وحازم بن جبلة، قَالَ ابن مخلد الدوري الحافظ: لا يكتب حديثه. وقال حفص بن عمرو الجعفي: اشتكى داود الطائي أيامًا، وكان سبب علته أنّه مر بآية فيها ذكر النار، فكررها مرارًا في ليلته، فأصبح مريضًا، فوجدوه قد مات ورأسه عَلَى لبنة. خرّجه أبو نعيم. وخرج أيضاً هو وابن أبي الدُّنْيَا، وغيرهما من [غير] (¬2) وجه، قصة منصور بن عمار مع الَّذِي مر به بالكوفة ليلاً، وهو يناجي ربه، فتلا منصور هذه الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا} [التحريم: 6] قَالَ منصور: فسمعت دكدكة لم أسمع بعدها حسنًا ومضيت، فلما كان من الغد رجعت، فإذا جنارة قد أخرجت، وإذا عجوز فسألتها عن أمر الميت، ولم تكن عرفتني، فقالت: هذا رجل، لا جزاه الله إلاَّ جزاءه، مر بابني البارحة وهو قائم يصلّي، فتلا آية من كتاب الله، فتفطرت مرارته، فوقع ميتًا. وروى ابن أبي الدُّنْيَا عن محمد بن الحسين، حدثني بعض أصحابنا حدثني عبد الوهاب، قَالَ: بينا أنا جالس في الحدادين ببلخ، إذ مر رجل، فنظر إِلَى النار في الكور، فسقط، فقمنا ونظرنا، فإذا هو قد مات. ¬

_ (¬1) وأخرجه أحمد في "الزهد" ص 397 من وجه آخر. (¬2) من المطبوع.

وبإسناده عن [البختري بن يزيد بن حارثة الأنصاري] (¬1)، أن رجلاً من العباد وقف عَلَى كور حداد، وقد كشف عنه، فجعل ينظر إِلَيْه ويبكي، قَالَ: ثم شهق شهقة فمات. قَالَ: وحُدِّثْتُ عن عبد الرحيم بن مطرف بن قدامة الرؤاسي، حدثني أبي، عن مولى لنا، قَالَ: لما مات منصور بن المعتمر صاحت أمه: واقتيل جهنماه! ما قتل ابني إلاَّ خوف جهنم (¬2). ورُوي من غير وجه، أن علي بن فضيل مات من سماع قراءة هذه الآية: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنعام: 27]. وقال يونس بن عبد الأعلى: قرأ عبد الله بن وهب كتاب "الأهوال" فمر في صفة النار فشهق فغشي عليه، فحمل إِلَى منزله، وعاش أيامًا، ثم مات رحمه الله. ... ¬

_ (¬1) في الأصل: البختري عن ابن يزيد عن حارثة الأنصارى، وفي المطبوع البختري بن يزيد عن حارثة الأنصاري، والصواب ما أثبتناه، وهو البختري بن يزيد بن حارثة الأنصاري، كان يجالس الثوري وشعبة، يروي عن العراقيين، روى عنه داود بن يزيد الأودي (انظر الثقات لابن حبان 6/ 115). (¬2) أخرجه ابن أبي الدُّنْيَا في "صفة النار" (256) قَالَ: حدثنا عبد الرحيم بن مطرف ابن قدامة بن عبد الرحمن الرؤاسي بسنده سواء.

فصل أحوال بعض الخائفين

فصل أحوال بعض الخائفين خرج مسلم في "صحيحه" (¬1) من حديث أنس عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنّه قَالَ: "والذي نفسي بيده، لو رأيتم ما رأيت، لضحكتم قليلاً، ولبكيتم كثيرًا قالوا: وما رأيت يا رسول الله؟ قَالَ: رأيت الجنة والنار". وفي "الصحيحين" (¬2) عن ابن عباس عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم: قَالَ: "لما كسفت الشمس رأيت النار، فلم أر منظرًا كاليوم أفظع". وروى الأعمش عن مجاهد، عن ابن عباس مرفوعًا: "لو أبرزت النار للناس ما رآها أحد إلاَّ مات" ورُوي موقوفًا. وخرج أبو يعلى الموصلي في "مسنده" (¬3) وغيره من حديث ابن عمر عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - أنّه خطب فَقَالَ: "لا تنسوا العظيمتين: الجنة والنار، ثم بكى حتى جرى وبل دموعه جانبي لحيته ثم قَالَ: والذي نفسي بيده، لو تعلمون ما أعلم من أمر الآخرة، لمشيتم إِلَى الصعيد، ولحثيتم عَلَى رءوسكم التراب". وروى ابن أبي الدُّنْيَا بإسناده، عن مسعر، عن عبد الأعلى: ما جلس قوم مجلسًا، فلم يذكروا الجنة والنار، إلاَّ قالت الملائكة: أغفلوا العظيمتين؟!. وعن عامر بن يساف، عن يحيى بن أبي كثير، قَالَ: قطع قلوب الخائفين، طول الخلدين في الجنة أو النار. وعن ابن السماك، قَالَ: قطع قلوب العارفين بالله، ذكر الخلدين الجنة ¬

_ (¬1) برقم (426). (¬2) أخرجه البخاري (1052)، ومسلم (907). (¬3) كما في المطالب العالية (3335)، وإتحاف الخيرة (7098 - دار الوطن).

والنار. وعن بكر المزني، وإن أبا موسى الأشعري -رضي الله عنه- خطب الناس بالبصرة، فذكر في خطبته النار، فبكى حتى سقطت دموعه عَلَى المنبر، قَالَ: وبكى الناس يومئذ بكاء شديدًا. وعن إبراهيم بن محمد البصري قَالَ: نظر عمر بن عبد العزيز إِلَى رجل عنده متغير اللون، فَقَالَ له: ما الَّذِي أرى بك؟ قَالَ: أسقام وأمراض يا أمير المؤمنين إن شاء الله، فأعاد عليه عمر، فأعاد الرجل مثل ذلك ثلاثًا، ثم قَالَ: إذا أبيت إلاَّ أن أخبرك، فإني ذقت حلاوة الدُّنْيَا، فصغر في عيني زهرتها وملاعبها، واستوى عندي حجارتها وذهبها، ورأيت كان الناس يساقون إِلَى الجنة وأنا أساق إِلَى النار، فأسهرت لذلك ليلي، وأظمأت نهاري، وكل ذلك صغير حقير في جنب ثواب الله عز وجل وجنب عقابه. وهذا الكلام يشبه حديث حارثة المشهور، وهو حديث رُوي من وجوه مرسلاً، ورُوي مسندًا متصلاً من رواية يوسف بن عطية الصفار، وفيه ضعف، عن ثابت عن أنس أن النبيّ صلّى الله عليه وسلم قَالَ لشاب من الأنصار: "كيف أصبحت يا حارثة؟ قَالَ: أصبحت مؤمنًا بالله حقًّا، قَالَ: انظر ما تقول، فإن لكل قول حقيقة قَالَ: يا رسول الله عزفت نفسي عن الدُّنْيَا، فأسهرت ليلي وأظمأت نهاري، وكأني بعرش ربى بارزًا، وكأني أنظر إِلَى أهل الجنة يتزاورون فيها، وإلى أهل النار يتعاوون فيها، قَالَ: أبصرت فالزم، عبد نور الله الإيمان في قلبه" (¬1) والمرسل ¬

_ (¬1) أخرجه العقيلي في الضعفاء (4/ 455)، ومحمد بن نصر في "تعظيم قدر الصلاة" (362)، والبيهقي في "الشعب" (10590) قَالَ العقيلي: ليس لهذا الحديث إسناد يثبت. وذكر الحافظ ابن حجر في الإصابة في ترجمة الحارث بن مالك الأنصاري طرق الحديث ثم قَالَ: ورواه البيهقي في "الشعب" من طريق يوسف بن عطية الصفار -وهو ضعيف جداً عن أنس ... فذكره، ثم قَالَ الحافظ: قَالَ البيهقي: هذا منكر، وقد خبط فيه يوسف فَقَالَ مرة: الحارث، وقال مرة: حارثة .... ثم قَالَ الحافظ: قَالَ ابن صاعد بعد أن أخرجه عن الحسين بن الحسن المروزي عن ابن المبارك: لا أعلم صالح بن=

أصح. وقال أحمد بن أبي الحواري: حدثنا علي بن أبي الحر، قَالَ: أوحى الله إِلَى يحيى بن زكريا عليه السلام: يا يحيى، وعزتي، لو اطلعت إِلَى الفردوس اطلاعة، لذاب جسمك، ولزهقت نفسك اشتياقًا، ولو اطلعت إِلَى النار اطلاعة لبكيت بالصديد بعد الدموع، وللبست الحديد بعد المسوح. وذكر ابن أبي الدُّنْيَا بإسناده عن سفيان، قَالَ: كان عمر بن عبد العزيز ساكتًا وأصحابه يتحدثون، فقالوا: مالك لا تتكلم يا أمير المؤمنين، قَالَ: كنت مفكرًا في أهل الجنة كيف يتزاورون فيها، وفي أهل النار كيف يصطرخون فيها، ثم بكى. وعن مغيث الأسود أنّه كان يقول: زوروا القبور كل يوم بفكركم، وتوهموا جوامع الخير كل يوم بعقولكم، وشاهدوا الموقف كل يوم بقلوبكم، وانظروا إِلَى المنصرف بالفريقين إِلَى الجنة أو النار بهممكم، وأشعروا قلوبكم وأبدانكم ذكر النار ومقامعها وأطباقها. وعن صالح المري أنّه قَالَ: للبكاء (*) دواعي: الفكرة في الذنوب، فإن أجابت عَلَى ذلك القلوب وإلا نقلتها إِلَى الموقف وتلك الشدائد والأهوال، فإن أجابت إِلَى ذلك وإلا فأعرض عليها التقلب بين أطباق النيران، قَالَ: ثم صاح، وغشي عليه، وتصايح الناس من جوانب المسجد. وعن أبي سليمان الداراني، قَالَ: خرج مالك بن دينار إِلَى قاعة الدار وترك أصحابه في البيت، فأقام إِلَى الفجر قائمًا في وسط الدار، فَقَالَ لهم: إني كنت في وسط الدار خطر ببالي أهل النار، فلم يزالوا يعرضون علي بسلاسلهم وأغلالهم حتى الصباح. وكان سعيد الجرمي يقول في وصف الخائفين: إذا مروا بآية من ذكر النار، صرخوا منها فرقًا، كأن زفير النار في آذانهم، وكأن الآخرة، نصب أعينهم. ¬

_ = مسمار أسند إلا حديثًا واحدًا، وهذا الحديث لا يثبتُ موصولا. (*) من المطبوع، وفي الأصل: "البكاء".

وقال الحسن: إن لله عبادًا كمن رأى أهل الجنة في الجنة مخلدين، وكمن رأى أهل النار في النار معذبين. وقال أيضاً: والله ما صدق عبد بالنار قط إلاَّ ضاقت عليه الأرض بما رحبت، وإن المنافق لو كانت النار خلف ظهره، لم يصدق بها حتى يهجم عليها. وقال وهب بن منبه: كان عابد في بني إسرائيل قام في الشمس يصلّي حتى اسود وتغير لونه، فمر به إنسان، فَقَالَ: كأن هذا حرق بالنار، قَالَ: إن هذا من ذكرها، فكيف بمعاينتها؟ ". وقال ابن عيينة قَالَ إبراهيم التيمي: مثلت نفسي في الجنة، آكل من ثمارها، وأشرب من أنهارها، وأعانق أبكارها، ثم مثلت نفسي في النار، آكل من زقومها، وأشرب من صديدها، وأعالج سلاسلها وأغلالها. فقلت لنفسي: أي شيء تريدين؟ قالت: أريد أن أرد إِلَى الدُّنْيَا، فأعمل صالحًا. فقلت: فأنت في الأمنية فاعملي. ***

الباب الثالث في ذكر تخويف جميع أصناف الخلق بالنار وخوفهم منها

الباب الثالث في ذكر تخويف جميع أصناف الخلق بالنار وخوفهم منها النار خلقها الله تعالى لعصاة الإنس والجن، وبهما تمتلئ، قَالَ الله تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ} [الأعراف: 179]. وقال تعالى: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [هود: 119]. وقال تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ} [الأنعام: 128]. وقال تعالى: {وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [السجدة: 13]. وقال تعالى حاكيًا عن الجن الذين استمعوا القرآن: {وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا (14) وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا} [الجن: 14، 15]. وقال تعالى: {سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلَانِ (31) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (32) يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ (33) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (34) يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ فَلَا تَنْتَصِرَانِ (35) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (36) فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ (37) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} إلى قوله: {فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ (39) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن: 31 - 40].

ولهذا رُوي أن النبيّ صلّى الله عليه وسلم، قرأ هذه السورة عَلَى الجن (¬1)، وأبلغهم إياها، لما تضمنت ذكر خلقهم وموتهم وبعثهم وجزائهم. وأما سائر الخلق، فأشرفهم الملائكة، وهم متوعدون عَلَى المعصية بالنار، وهم خائفون منها، قَالَ الله تعالى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ (26) لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (27) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (28) وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} [الأنبياء: 26 - 29]. وقد استفاض عن جماعة من الصحابة والتابعين ومن بعدهم، وإن هاروت وماروت كانا ملكين، وأنهما خُيِّرا بعد الوقوع في المعصية، بين عذاب الدُّنْيَا وعذاب الآخرة، فاختارا عذاب الدُّنْيَا لعلمهما بانقطاعه. وقد رُوي في ذلك حديث مرفوع، من حديث ابن عمر، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم، خرّجه الإمام أحمد (¬2) وابن حبان في صحيحه (¬3)، لكن قد قيل: إن الصحيح ¬

_ (¬1) كما في حديث جابر عند الترمذي برقم (3291) وقال الترمذي: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث الوليد بن مسلم عن زهير بن محمد، قَالَ ابن حنبل: كأن زهير بن محمد الَّذِي وقع بالشام ليس هو الذي يُروى عنه بالعراق كأنه رجل آخر قلبوا اسمه، يعني لما يروون عنه من المناكير. وسمعت محمد بن إسماعيل البخاري يقول: أهل الشام يروون عن زهير بن محمد مناكير، وأهل العراق يروون عنه أحاديث مقاربة. (¬2) (2/ 134). (¬3) برقم (1717 - موارد). قَالَ العجلوني في كشف الخفاء (2/ 439) هاروت وماروت وقصتهما مع الزهرة أخرجه أحمد وابن حبان وابن السني وآخرون عن ابن عمر مرفوعًا، وفي سنده موسى بن جبير قَالَ فيه ابن القطان: لا يعرف حاله، وقال ابن حبان: إنه يخطئ ويخالف، لكن تابعه معاوية بن صالح فرواه بنحوه عن نافع كما أخرجه ابن جرير في تفسيره. وأورد ابن كثير الحديث في تفسيره (1/ 139 - دار الجيل) فَقَالَ: ذكر الحديث الوارد في ذلك إن صح سنده ورفعه وبيان الكلام عليه، ثم أورد الحديث بسنده=

أنه موقوف عَلَى كعب. وخرج الإمام أحمد (¬1)، من حديث أنس عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم، أنّه سأل جبريل عليه السلام، فَقَالَ: ما لي لا أرى ميكائيل عليه السلام يضحك؟! قَالَ جبريل: ما ضحك ميكائيل منذ خلقت النار. وروى أيضاً في كتاب "الزهد" من حديث أبي عمران الجوني، قَالَ: بلغنا أن جبريل جاء إِلَى رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وجبريل عليه السلام يبكي، فَقَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما يبكيك يا جبريل؟ قَالَ: وما تبكي أنت يا محمد؟ ما جفت عيناي منذ ¬

_ =ومتنه عند الإمام أحمد ثم قَالَ: وهكذا روأه أبو حاتم بن حبان في صحيحه عن الحسن بن سفيان، عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن يحي بن بكير به، وهذا حديث غريب من هذا الوجه ورجاله كلهم ثقات من رجال الصحيحين إلا موسى بن جبير هذا وهو الأنصاري السلمي مولاهم المدني الحذاء ... ذكره ابن أبي حاتم في كتاب "الجرح والتعديل" ولم يحك فيه شيئًا من هذا ولا هذا، فهو مستور الحال، وقد تفرد به عن نافع مولى ابن عمر، عن ابن عمر رضي الله عنهما، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم، ورري له متابع من وجه آخر عن نافع كما قَالَ ابن مردويه حدثنا دعلج بن أحمد، حدثنا هشام بن عَلَى ابن هشام حدثنا عبد الله بن رجاء، حدثنا سعيد بن سلمة، حدثنا موسى بن سرجس، عن نافع، عن ابن عمر، سمع النبيّ صلّى الله عليه وسلم يقول: فذكره بطوله. وقال أبو جعفر بن جرير رحمه الله: حدثنا القاسم، أخبرنا الحسين -وهو سنيد بن داود صاحب التفسير- أخبرنا الفرج بن فضالة، عن معاوية بن صالح، عن نافع قَالَ: سافرت مع ابن عمر ... فذكر ابن كثير رواية ابن جرير مرفوعة ثم قَالَ: وهذان أيضًا غريبان جدًّا، وأقرب ما يكون في هذا أنّه من رواية عبد الله بن عمر عن كعب الأحبار لا عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم كما قَالَ عبد الرزاق في "تفسيره" عن الثوري، عن موسى بن عقبة، عن سالم، عن ابن عمر، عن كعب الأحبار .. ثم ذكر ابن كثير رواية عبد الرازق ثم قَالَ: رواه ابن جرير من طريقين عن عبد الرزاق به، ورواه ابن أبي حاتم، عن أحمد بن عصام، عن مزمل، عن سفيان الثوري به، ثم ذكر ابن كثير رواية أخرى لابن جرير. (¬1) (3/ 224). قَالَ الهيثمي في المجمع (10/ 385): رواه أحمد من رواية إسماعيل بن عياش عن المدنيين وهي ضعيفة، وبقية رجال ثقات.

خلق الله جهنم مخافة أن أعصيه فيلقيني فيها" (¬1). وقد رُوي نحوه من وجه آخر مرسلاً أيضاً. وخرّجه الطبراني (¬2) من حديث محمد بن أحمد بن أبي خيثمة، حدثنا محمد ابن علي [بن خلف العطار، حدثنا محمد بن علي بن عبد الله بن محمد بن عمر ابن علي] (*) حدثنا أبي، عن زيد بن أسلم، عن أبيه، عن عمر، وإن جبريل جاء إِلَى النبيّ صلّى الله عليه وسلم حزينًا لا يرفع رأسه، فَقَالَ له: مالي أراك يا جبريل حزينًا؟! قَالَ: إني رأيت نفخة من جهنم، فلم ترجع إلي روحي بعد. وقال: لم يرفعه عن زيد إلاَّ علي، تفرد به ابنه محمد بن علي بن خلف (¬3)، وهذا يدل عَلَى أن غيره وقفه. وخرج الطبراني (¬4) أيضاً، من طريق سلام الطويل، عن الأجلح الكندي، عن عدي بن عدي الكندي، عن عمر بن الخطاب ور قَالَ: "جاء جبريل إِلَى النبيّ - صلى الله عليه وسلم - في غير حينه الَّذِي كان يأتيه فيه، فَقَالَ له: يا جبريل مالي أراك متغير اللون؟ قَالَ: ما جئتك حتى أمر الله عز وجل بمنافخ النار. قَالَ: يا جبريل، صف النار، وانعت لي جهنم" فذكر الحديث، وسنذكره إن شاء الله تعالى مفرقًا في الكتاب في مواضع، ثم قَالَ: فَقَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: حسبي يا جبريل، لا ينصدع قلبي فأموت. ¬

_ (¬1) وأخرجه ابن أبي الدُّنْيَا في "صفة النار" (216) وهو مرسل. (¬2) في الأوسط برقم (5340) وفيه: "لفحة" بدلا من "نفخة". (*) من الأوسط للطبراني. (¬3) كذا بالأصل، وفي "المعجم الأوسط": لم يرو هذا حديث عن زيد بن أسلم إلاَّ علي بن عبد الله، تفرد به محمد بن علي بن خلف. (¬4) في "الأوسط" (2583) وقال: لا يروى هذا الحديث عن عمر إلاَّ بهذا الإسناد، تفرد به سلام. قَالَ الهيثمي في المجمع (10/ 387): رواه الطبراني في "الأوسط" وفيه سلام الطويل، وهو مجمع عَلَى ضعفه.

قَالَ: فنظر رسول الله صلّى الله عليه وسلم إِلَى جبريل وهو يبكي، فَقَالَ رسول الله صلّى الله عليه وسلم: تبكي يا جبريل، وأنت من الله بالمكان الَّذِي أنت فيه؟ فَقَالَ: وما لي لا أبكي، أنا أحق بالبكاء، لعلي أن أكون في علم الله، عَلَى غير الحال التي أنا عليها، وما أدري لعلي أبتلى بما ابتلي به إبليس، فقد كان من الملائكة، وما أدري لعلى أبتلى بما ابتلي به هاروت وماروت. قَالَ: فبكى رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وبكى جبريل عليه السلام، فما زالا يبكيان حتى نوديا: أن يا محمد ويا جبريل، إن الله عز وجل قد أمنكما أن تعصياه، فارتفع جبريل، وخرج رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فمر بقوم من الأنصار يضحكون، فَقَالَ: تضحكون ووراءكم جهنم؟! فلو تعلمون ما أعلم، لضحكتم قليلاً، ولبكيتم كثيرًا، ولما أسغتم الطعام والشراب، ولخرجتم إِلَى الصعدات تجأرون إِلَى الله عز وجل فنودي: "يا محمد، لا تقنط عبادي، إِنَّمَا بعثتك ميسرًا" (*) ولم أبعثك معسرًا. قَالَ رسول الله صلّى الله عليه وسلم: "سددوا وقاربوا". وسلام الطويل: ضعيف جدًّا. وروى ابن أبي الدُّنْيَا، من حديث أبي فضالة عن أشياخه، قَالَ: إن لله عز وجل ملائكة، لم يضحك أحدهم منذ خلقت النار، مخافة أن يغضب الله عليهم فيعذبهم. وبإسناده عن بكر العابد، قَالَ: قلت لجليس لابن أبي ليلى -يكنى أبا الحسن-: أتضحك الملائكة؟. قَالَ: ما ضحك مَنْ دون العرش منذ خلقت جهنم. وعن محمد بن المنكدر قَالَ: لما خلقت النار طارت أفئدة الملائكة من أماكنها، فلما خلق ابن آدم عادت. وروى أبو نعيم بإسناده عن طاووس، قَالَ: لما خلقت النار طارت أفئدة ¬

_ (*) في الأصل: "مبشرا".

الملائكة، فلما خلق بنو آدم سكنت. فأما البهائم والوحش والطير، فقد رُوي ما يدل عَلَى خوفها أيضاً. قَالَ عامر بن يساف، عن يحيى بن أبي كثير، قَالَ: بلغنا أنّه إذا كان يوم نوح داود عليه السلام يأتي الوحش من البراري، وتأتي السباع من الغياض، وتأتي الهوام من الجبال، وتأتي الطيور من الأوكار، وتجتمع الناس في ذلك اليوم، ويأتي داود عليه السلام حتى يرقى المنبر، فيأخذ في الثناء عَلَى ربه، فيضجون بالبكاء والصراخ، ثم يأخذ بذكر الجنة والنار، فيموت طائفة من الناس وطائفة من السباع وطائفة من الوحوش وطائفة من الهوام وطائفة من الرهبان والعذارى المتعبدات، ثم يأخذ بذكر الموت وأحوال القيامة فيأخذ بالنياحة عَلَى نفسه، فيموت طائفة من هؤلاء، ومن كل صنف طائفة. خرّجه ابن أبي الدُّنْيَا. وأما غير الحيوان من الجمادات وغيرها، فقد أخبر الله عنها، أنها تخشاه، قَالَ الله تعالى: {وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} [البقرة: 74]. قَالَ ابن أبي نجيح: عن مجاهد: كل حجر يتفجر منه الماء فيتشقق عن ماء، تردى عن رأس جبل، فهو من خشية الله عز وجل، نزل بذلك القرآن. وخرج الجوزجاني وغيره من طريق مجاهد عن ابن عباس، قَالَ: إن الحجر ليقع إِلَى الأرض، ولو اجتمع عليه الفئام من الناس، ما استطاعوه، لأنه يهبط من خشية الله. قَالَ ابن أبي الدُّنْيَا (¬1): حدثني أحمد بن عاصم بن عنبسة العباداني، أنبأنا الفضل بن العباس -وكان من الأبدال، وكانت الدموع قد أثرت في وجهه، وكان يصوم الدهر، ويفطر كل ليلة عَلَى رغيف -قَالَ: مر عيسى عليه السلام بجبل بين نهرين، نهر عن يمينه، ونهر عن يساره، ولا يدري من أين يجيء هذا الماء، [ولا ¬

_ (¬1) في "صفة النار" (233).

إِلَى] (*) أين يذهب؟ قَالَ: أما الَّذِي يجري عن يساري فمن دموع عيني اليسرى، قَالَ: مم ذاك؟ قَالَ: من خوف ربي أن يجعلني من وقود النار. قَالَ عيسى: فأنا أدعو الله عز وجل أن يهبك لي. فدعا الله فوهبه له. قَالَ عيسى: قد وهبت لي. قَالَ: فجاء منه من الماء حتى احتمل عيسى فذهب به. فَقَالَ عيسى: اسكن بعزة الله، فقد استوهبتك من ربي فوهبك لي فما هذا؟ قَالَ: فأما البكاء الأول فبكاء الخوف، وأما البكاء الثاني فبكاء الشكر. قال عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: إن القمر ليبكي من خشية الله. قَالَ طاووس: إن القمر ليبكي من خشية الله ولا ذنب له، ولا يسأل عن ذنب ولا يجازى به. ... ¬

_ (*) من المطبوع، وفي "صفة النار": من أين يجيء وأين يذهب.

فصل وهذه النار التي في الدنيا تخاف من نار جهنم:

فصل وهذه النار التي في الدُّنْيَا تخاف من نار جهنم: روى نفيع أبو داود عن أنس، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم قال: "ناركم هذه لجزء من سبعين جزءًا من نار جهنم، ولولا أنها أطفئت بالماء مرتين ما انتفعتم بها، وإنها لتدعو الله ألا يعيدها فيها". خرّجه ابن ماجه (¬1)، ونفيع فيه ضعف، وقد رُوي موقوفًا عَلَى أنس. وخرج الحاكم (¬2)، من حديث جسر بن فرقد، عن الحسن، عن أنس، عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "ناركم هذه جزء من سبعين جزءًا من نار جهنم، ولولا أنها غمست في البحر مرتين ما انتفعتم بها، وايم الله إن كانت لكافية، وإنها لتدعو الله وتستجير الله أن لا يعيدها في النار أبدًا" وقال: صحيح الإسناد، وفي ذلك نظر، فإن جسر بن فرقد ضعيف. وروى ابن أبي الدُّنْيَا بإسناد عن أبي رجاء، قَالَ: لما ألقي إبراهيم عليه السلام في النار أوحى الله إليها (*): "لئن ضربتيه وآذيتيه لأردنك إِلَى النار الكبرى، فخرت مغشيًّا عليها ثلاثة أيام لا ينتفع الناس منها بشيء". وعن أبي عمران الجوني، قَالَ: بلغنا أن عبد الله بن عمرو سمع صوت النار ¬

_ (¬1) برقم (4318). قَالَ البوصيري في الزوائد (4/ 261): نفيع ضعفه ابن معين وأبو حاتم وأبو زرعة والفلاس والبخاري والترمذي والنسائي وابن حبان وغيرهم. (¬2) (4/ 635). وقال البوصيري في الزوائد (4/ 261) بعد أن ذكر رواية ابن ماجه: رواه الحاكم في المستدرك من طريق جسر بن فرقد -وهو ضعيف- عن الحسن عن أنس، وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه بهذا السياق. انتهى. (*) في الأصل: إِلَيْهِ.

فَقَالَ: وأنا، فقِيلَ لَهُ: ما هذا؟ فَقَالَ: والذي نفسي بيده إنها تستجير من النار الكبرى أن تعاد إليها. وعن الأعمش عن مجاهد، قَالَ: ناركم هذه تعوذ بالله من عذاب جهنم. ***

الباب الرابع في أن البكاء من خشية النار ينجي منها وأن التعوذ بالله من النار يوجب الإعاذة منها

الباب الرابع في أن البكاء من خشية النار ينجي منها وأن التعوذ بالله من النار يوجب الإعاذة منها قد تكاثرت الأحاديث في أن البكاء من خشية الله مقتضٍ للنجاة من النار، والبكاء من نار جهنم هو البكاء من خشية الله، لأنّه بكاء من خشية عقاب الله وسخطه والبعد عنه وعن رحمته وجواره ودار كرامته. وروى أبو هريرة رضي الله عنه عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم قَالَ: "لا يلج النار رجل بكى من خشية الله، حتى يعود اللبن في الضرع" أخرجه النسائي (¬1) والترمذي (¬2) وقال: صحيح. وعن ابن عباس رضي الله عنهما قَالَ: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: "عينان لا تمسهما النار: عين بكت في جوف الليل من خشية الله، وعين باتت تحرس في سبيل الله عز وجل" خرّجه الترمذي (¬3) وقال: حسن. وعن أبي ريحانة، عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: "حرمت النار عَلَى عين دمعت أو ¬

_ (¬1) في المجتبى (6/ 12). (¬2) برقم (2311) وقال: هذا حديث حسن صحيح. (¬3) برقم (1639) وقال: وحديث ابن عباس حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث شعيب بن رزيق. وقال الترمذي في العلل الكبير (495): سألت محمدًا عن هذا الحديث فَقَالَ: شعيب بن رزيق مقارب الحديث، ولكن الشأن في عطاء الخراساني، ما أعرف لمالك بن أنس رجلاً يروي عنه مالك يستحق أن يترك إلاَّ عطاء الخراساني قلت له: ما شأنه؟ قَالَ: عامة أحاديثه مقلوبة. وأخرج العقيلي في الضعفاء (4/ 345) الحديث من وجه آخر ثم قَالَ: والرواية في هذا الباب لينة، وفيها ما هو أصلح من هذا الإسناد.

بكت من خشية الله، وحرمت النار عَلَى عين سهرت في سبيل الله وذكر عينًا ثالثة. خرجه الإمام أحمد (¬1) وهذا لفظه، والنسائي (¬2) والحاكم (¬3) وقال: صحيح الإسناد. وخرّجه الجوزجاني ولفظه "حرمت النار عَلَى عين سهرت بكتاب الله، وحرمت النار عَلَى عين دمعت من خشية الله، وحرمت النار عَلَى عين غضت عن محارم الله أو فقئت في سبيل الله". وعن ابن مسعود رضي الله عنه، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم قَالَ: "ما من عبد مؤمن يخرج من عينيه دموع، وإن كان مثل رأس الذباب، من خشية الله، ثم تصيب شيئًا من حر وجهه، إلاَّ حرمه الله عَلَى النار" خرّجه ابن ماجه (¬4)، وقد رُوي موقوفًا عَلَى من دون ابن مسعود. وفي الباب أحاديث أخر في المعنى مسندة ومرسلة، وفيه أيضاً عن معاذ بن جبل رضي الله عنه وابن عباس من قولهما غير مرفوع. وخرج ابن أبي الدُّنْيَا (¬5) من طريق نفيع أبي داود، عن زيد بن أرقم، أن رجلاً قَالَ: يا رسول الله، بما أتقي النار؟ قَالَ: "بدموع عينيك، فإن عينًا بكت من خشية الله لا تمسها النار أبدًا" ونفيع سبق أنّه ضعيف. ¬

_ (¬1) (4/ 134). (¬2) في المجتبى (6/ 15). (¬3) في المستدرك (2/ 83). قَالَ الهيثمي في المجمع (5/ 278): رواه أحمد والطبراني في الكبير والأوسط، ورجال أحمد ثقات. (¬4) برقم (4197). قَالَ البوصيري في الزوائد: إسناده ضعيف، وحماد بن أبي حميد، اسمه محمد بن أبي حميد، ضعيف. وأخرجه أبو نعيم في الحلية (4/ 466) وقال: غريب من حديث عون، تفرد به محمد بن أبي حميد وهو أبو إبراهيم الزرقي المدني ويعرف بحماد بن أبي حميد. ورواه إسماعيل بن أبي أويس عن أخيه عن حماد عن عون مثله. (¬5) في "الرقة والبكاء" (15).

ومن طريق النضر بن سعيد، رفعه قَالَ: "ما اغرورقت عين عبد بمائها من خشية الله إلاَّ حرم جسدها عَلَى النار، فإن فاضت عَلَى خده لم يرهق وجهه فتر ولا ذلة، ولو أن عبدًا بكى في أمة من الأمم، لأنجي الله عز وجل ببكاء ذلك العبد تلك الأمة من النار، وما من عمل إلاَّ وله وزن أو ثواب إلاَّ الدمعة، فإنها تطفئ بحورًا من النار" (¬1). وقد رُوي هذا المعنى أو بعضه موقوفًا من كلام الحسن وأبي عمران الجوني وخالد بن معدان وغيرهم. وعن زاذان أبي عمر قَالَ: بلغنا أن من بكى خوفًا من النار أعاذه الله منها، ومن بكى شوقًا إِلَى الجنة أسكنه الله إياها. وكان عبد الواحد بن زيد يقول: يا إخوتاه، ألا تبكون شوقًا إِلَى الله عز وجل؟ ألا إنه من بكى شوقًا إِلَى سيّده لم يحرمه النظر إِلَيْهِ، يا إخوتاه، ألا تبكون خوفًا من النار؟ ألا إنه من يبكي خوفًا من النار أعاذه الله منها. وعن فرقد السبخي، قَالَ: قرأت في بعض الكتب أن الباكي عَلَى الجنة لتشفع له الجنة إِلَى ربها، فتقول: يا رب، أدخله الجنة كما يبكي علي، وإن النار تستجير له من ربها، فتقول: يا رب، أجره من النار كما استجارك مني، وبكى خوفًا من دخولي. وفي حديث عبد الرحمن بن سمرة، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم، أنّه قَالَ: "رأيت الليلة رؤيا" فذكر الحديث بطوله، وفيه قَالَ: رأيت رجلاً من أمتي عَلَى شفير جهنم، فجاءه وجله (¬2) من الله، فاستنقذه من ذلك، ورأيت رجلاً من أمتي يهوي في النار، ¬

_ (¬1) أخرجه ابن أبي الدُّنْيَا في "الرقة والبكاء" (25) وهو مرسل. (¬2) قَالَ صاحب نوادر الأصول (3/ 242): الوجل هو في وقت انكشاف الغطاء لقلب المؤمن، وهو خشية العبد.

فجاءته دموعه التي بكى من خشية الله عز وجل، فاستخرجته من النار (¬1). وروى الكديمي، حدثنا سهل بن حماد، حدثنا مبارك بن فضالة، حدثنا ثابت، عن أنس، قَالَ: تلا رسول الله صلّى الله عليه وسلم هذه الآية: {نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [التحريم: 6]. وبين يديه رجل أسود، فهتف بالبكاء، فنزل جبريل عليه السلام، فَقَالَ: من هذا الباكي بين يديك؟ قَالَ: رجل من الحبشة وأثنى عليه معروفًا. قَالَ: إن الله عز وجل يقول: وعزتي وجلالي، وارتفاعي فوق عرشي، لا تبكي عين عبد في الدُّنْيَا من خشيتي إلاَّ أكثرت ضحكه في الجنة (¬2). ... ¬

_ (¬1) أخرجه بحشل في "تاريخ واسط" (1/ 170)، والحكيم الترمذي في "نوادر الأصول" كما في تفسير ابن كثير (2/ 536)، وابن الجوزي في العلل المتناهية (1165، 1166). قال ابن الجوزي: وهذا حديث لا يصح، أما الطريق الأول ففيه هلال أبو جبلة وهو مجهول، وفيه الفرج بن فضالة قَالَ ابن حبان: يقلب الأسانيد ويلزق المتون الواهية بالأسانيد الصحيحة لا يحل الاحتاج به. فأما الطريق الثاني: ففيه علي بن زيد قَالَ أحمد ويحيى: ليس بشيء، وقال أبو زرعة: يهم ويخطي فاستحق الترك، وفيه مخلد بن عبد الواحد قَالَ ابن حبان: منكر الحديث جدًّا ينفرد بمناكير لا تشبه أحاديث الثقات. وقال الهيثمي في المجمع (7/ 179 - 180): رواه الطبراني بإسنادين في أحدهما سليمان بن أحمد الواسطي، وفي الآخر خالد بن عبد الرحمن المخزومي وكلاهما ضعيف. (¬2) أخرجه البيهقي في "الشعب" (799) قَالَ البيهقي: وبمعناه رواه سهيل بن أبي حازم عن ثابت في الحبشي وبكائه.

فصل [التعوذ من النار]

فصل [التعوذ من النار] قَالَ الله تعالى: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} إلى قوله: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ} [آل عمران: 191 - 195]. وفي الصحيحين (¬1) عن أبي هريرة، رضي الله عنه، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم، في ذكر الملائكة الذين يلتمسون مجالس الذكر، وفيه: إن الله عز وجل يسألهم، وهو أعلم بهم، فيقول: فمما يتعوذون؟ فيقولون: من النار. فيقول: وهل رأوها؟ قالوا: لا والله ما رأوها. قَالَ: يقول: كيف لو رأوها؟ فيَقُولُونَ: لو رأوها كانوا أشد منها فرارًا وأشد منها مخافة. قَالَ: فيقول: إني أشهدكم أني قد غفرت لهم. وخرج الترمذي (¬2) والنسائي (¬3) وابن ماجه (¬4)، من حديث أنس، عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: "ما من مسلم يسأل الله الجنة ثلاثاً إلاَّ قالت الجنة: اللهم أدخله الجنة، ومن استجار بالله من النار ثلاثًا، إلاَّ قالت النار: اللهم أجره من النار". ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (6408)، ومسلم (2689). (¬2) برقم (2575). (¬3) (8/ 279). (¬4) برقم (4340).

وخرج البزار (¬1) وأبو يعلى الموصلي (¬2)، من حديث أبي هريرة، رضي الله ¬

_ (¬1) برقم (3175 - كشف). (¬2) برقم (6192). وسئل الدارقطني في العلل (11/ 188 - 190) برقم (2213) عن هذا الحديث، فَقَالَ: يرويه يونس بن خباب واختلف عنه، فرواه ليث بن أبي سليم عن يونس بن خباب عن أبي حازم عن أبي هريرة، قاله جرير بن عبد الحميد عنه. وخالفه شعيب بن صفوان وعمرو بن مجمع وشعبة، فرووه عن يونس بن خباب عن أبي علقمة، عن أبي هريرة، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم، رفعه عبد الصمد عن شعبة، ووقفه غيره. ورواه الثوري، عن منصور، عن يونس بن خباب، عن أبي علقمة عن أبى هريرة مرفوعًا، قَالَ ذلك الأشجعي عن سفيان. ثم ذكر الدارقطني روايتين للحديث موقوفًا عَلَى أبي هريرة ثم قَالَ: والأشبه بالصواب من ذلك قول من قَالَ عن أبي علقمة عن أبي هريرة. قلت: قد أخطأ في تعيين رواة هذا الحديث ثلاثة من الحفاظ الكبار هم: الضياء المقدسي والمنذري وابن القيم فظنوا أن جرير هو ابن حازم، وأن يونس هو ابن يزيد الأيلي، فصححوا السند عَلَى شرط الشيخين، وتبعهم عَلَى ذلك الشيخ الألباني رحمه الله في الصحيحة برقم (2506). بل ولقد تعقب الشيخ الألباني محقق مسند أبي يعلي -حسين سليم أسد- لقوله عن الحديث: إسناده ضعيف، يونس هو ابن خباب، قَالَ يحيى بن سعيد: كان كذابًا .. ". ثم نقله عن مجمع الزوائد (10/ 171): رواه البزار وفيه: يونس بن خباب، وهو ضعيف. وقد زعم الألباني أن طريق أبي يعلى تدور عَلَى جرير بن حازم وهذا خطأ محض لا مرية فيه، لأنّ مدار الحديث عَلَى يونس بن خباب كما بين الدارقطني رحمه الله في "العلل"، وابن حجر في "المطالب العالية". كما أن جرير بن حازم ليس من مشايخه يونس بن يزيد، وقد رواه إسحاق بن راهويه في مسنده (1/ 249) برقم (213) عن جرير بن عبد الحميد عن ليث بن أبي سليم عن يونس عن أبي حازم عن أبي هريرة به. فاتضح أن إسناد أبي يعلي والبزار سقط منهما "ليث" وهو ضعيف، ولقد وجدت ذلك كثيرًا في مسند أبي يعلي يُسقط روايا ضعيفًا فيبدو للناظر أن الإسناد صحيح فَيُصحِّحُ الحديث إذا لم يجمع طرقه. =

عنه، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم، قَالَ: "ما استجار عبد من النار سبع مرات إلاَّ قالت النار: يا رب، إن عبدك فلانًا استجار مني فأجره، ولا سأل عبد الجنة سبع مرات إلاَّ قالت الجنة: يا رب، إن عبدك فلانًا سألني فأدخله الجنة". وروى صالح المري، عن أبان، عن أنس، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم: "يقول الله عز وجل: انظروا في ديوان عبدي، فمن رأيتموه يسألني الجنة أعطيته، ومن استعاذ بي من النار أعذته" (¬1) إسناده ضعيف. وروى أبو صالح عبد الله بن صالح، حدثنا يحيى بن أيوب، عن عبد الله بن سليمان، عن دراج، عن أبي الهيثم، عن أبي سعيد -وأبي حجيرة الأكبر، عن أبي هريرة أو أحدهما حدثه عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم قَالَ: "إذا كان يوم حار، فَإِذَا قَالَ الرجل: لا إله إلاَّ الله، ما أشد حر هذا اليوم! اللهم أجرني من حر جهنم. قَالَ الله لجهنم: إن عبدًا من عبادي استجارني من حرك، وأنا أشهدك أني قد أجرته. إذا كان يومًا شديد البرد، فإذا قَالَ العبد: لا إله إلاَّ الله، ما أشد برد هذا اليوم! اللهم أجرني من زمهرير جهنم. قَالَ الله لجهنم: إن عبدًا من عبادي استعاذني من زمهريرك، وأنا أشهدك أني قد أجرته" قالوا: وما زمهرير جهنم؟ قَالَ: "بيت يلقى فيه الكافر فيتميز من شدة بردها" (¬2). ¬

_ =ورحم الله ابن المديني إذ قَالَ: الباب إن لم تجمع طرقه لم تتبين علله. ورحم الله الأئمة الذين وهموا في تعيين رواة هذا الحديث فهم الذين نقلوا إلينا العِلْم ومن كتبهم وأحكامهم نستفيد في هذا العِلْم، ورحم الله الشيخ الألباني فقد تعلمنا من كتبه الكثير، وما زلنا نتعلم منها. (¬1) أخرجه أبو نعيم في "الحلية" (6/ 175) وقال: غريب من حديث صالح لم نكتبه إلاَّ من حديث إسماعيل بن نصر. (¬2) ذكره البيهقي في "الاعتقاد" (1/ 85) دون إسناد قَالَ: وروينا في حديث الحر=

وقال أبو يحيى القتات، عن مجاهد: يؤمر بالعبد إِلَى النار يوم القيامة، فتنزوي، قَالَ: فيقول: ما شأنك؟ فتقول: إنه قد كان يستجير مني، فيقول: خلوا سبيله. وقال سفيان: عن مسعر، عن عبد الأعلى: الجنة والنار لقيتا السمع من ابن آدم، فإذا قَالَ الرجل: أعوذ بالله من النار. قالت النار: اللهم أعذه. فإذا قَالَ: أسأل الله الجنة. قالت الجنة: اللهم بلغه. وقال عثمان بن أبي العاتكة: قَالَ أبو مسلم الخولاني: ما عرضت لي دعوة إلاَّ ذكِرت جهنم، فصرفتها إِلَى الاستعاذة منها. وقال أبو سنان عيسى بن سنان، عن عطاء الخراساني، قَالَ: من استجار بالله من جهنم سبع مرات. قالت جهنم: لا حاجة لي بك. ... ¬

_ =والبرد ... فذكره وأخرجه السهمي في تاريخ جرجان (1/ 486) من حديث أبي موسى الأشعري. وعزاه العجلوني في كشف الخفاء (2/ 466) لابن السني وأبي نعيم بسند ضعيف عن أبي سعيد وأبي هريرة رفعاه ... فذكره.

الباب الخامس في ذكر مكان جهنم

الباب الخامس في ذكر مكان جهنم روى عطية عن ابن عباس، قَالَ: الجنة في السماء السابعة، فيجعلها الله حيث يشاء يوم القيامة، وجهنم في الأرض السابعة، أخرجه أبو نعيم (¬1). وخرج ابن منده، من حديث أبي يحيى القتات عن مجاهد، قَالَ: قلت لابن عباس: أين الجنة؟. قَالَ: فوق سبع سماوات. قلت: فأين النار؟. قَالَ: تحت سبعة أبحر مطبقة. وروى البيهقي، بإسناد فيه ضعف، عن أبي الزعراء، عن ابن مسعود، قَالَ: الجنة في السماء السابعة العليا، والنار في الأرض السابعة السفلى، ثم قرأ: {كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ} [المطففين: 18] {كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ} [المطففين: 7]. وخرّجه ابن منده، وعنده: فإذا كان يوم القيامة جعلها الله حيث شاء. وقال محمد بن عبد الله بن أبي يعقوب، عن بشر بن شغاف، عن عبد الله ابن سلام، قَالَ: إن الجنة في السماء، وإن النار في الأرض. خرّجه ابن خزيمة وابن أبي الدُّنْيَا (¬2). وروى ابن أبي الدنيا (¬3) بإسناده عن قتادة، قَالَ: كانوا يَقُولُونَ: إن الجنة في السماوات السبع، وإن جهنم لفي الأرضين السبع. ¬

_ (¬1) في "صفة الجنة" (132). (¬2) في "صفة النار" (178، 179). (¬3) في "صفة النار" (184).

وروى ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} [الذاريات: 22] قَالَ: الجنة في السماء. وقد استدل بعضهم لهذا أن الله أخبر أن أهل النار يعرضون عَلَى النار بكرة وعشيًّا -يعني: في مدة البرزخ- وأخبر أنّه لا تفتح لهم أبواب السماء، فدل أن النار في الأرض. قَالَ تعالى: {كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ} [المطففين: 7]. وفي حديث البراء بن عازب، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم، في صفة قبض الأرواح، قَالَ في أرواح الكفار: "حتى ينتهوا بها إِلَى السماء الدُّنْيَا، فيستفتحون فلا يفتح له" ثم قرأ رسول الله صلّى الله عليه وسلم: " {لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} [الأعراف: 40]. قَالَ: ثم يقول الله تعالى: "اكتبوا كتابه في سجين في الأرض السفلى قَالَ: فتطرح روحه طرحًا". خرّجه الإمام أحمد (¬1) وغيره (¬2). ¬

_ (¬1) (4/ 287، 288، 295، 296). (¬2) وأخرجه أبو داود (3122، 4753، 4754)، وابن ماجه (1549)، والحاكم (1/ 37 - 39)، والبيهقي في إثبات عذاب القبر (27، 30، 33، 34، 35، 55)، وفي الشعب (1/ 356 - 357)، وابن منده في "الإيمان" (1064) وغيرهم. قَالَ البيهقي: هذا حديث صحيح عَلَى شرط الشيخين فقد احتجا جميعًا بالمنهال بن عمرو، وزاذان أبي عمر الكندي. وقال أبو موسى الأصبهاني: هذا حديث حسن مشهور بالمنهال عن زاذان، وصححه أبو نعيم، نقل ذلك ابن القيم في "تهذيب السنن" (13/ 93) بحاشية "عون المعبود". وصححه أبو عوانة وغيره نقل ذلك الحافظ في الفتح (3/ 277). وقال ابن منده. في "الإيمان": هذا إسناد متصل مشهور رواه جماعة عن البراء وكذلك رواه عدة عن الأعمش عن المنهال بن عمرو، والمنهال بن عمرو أخرج عنه البخاري منفرد به، وزاذان أخرج عنه مسلم، وهو ثابت عَلَى رسم الجماعة. وقال ابن تيمية: هذا حديث حسن ثابت كما في "مجموع الفتاوي" (4/ 290)، وصححه ابن القيم في "تهذيب السنن".=

وعن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم، في صفة قبض الروح، قَالَ في روح الكافر (*): "فتخرج كأنتن ريح جيفة، فينطلقون به إِلَى باب الأرض، فيَقُولُونَ (**): ما أنتن هذه الريح! كلما أتوا عَلَى أرض قالوا ذلك، حتى يأتوا بها أرواح الكفار" خرّجه ابن حبان (¬1) والحاكم (¬2) وغيرهما (¬3). وقال عبد الله بن عمرو بن العاص: [أرواح الكفار] ( ... ) في الأرض السابعة (¬4). ¬

_ =وقد ضعف الحديث ابن حبان فَقَالَ في صحيحه (7/ 387) خبر الأعمش عن المنهال بن عمرو عن زاذان عن البراء سمعه الأعمش عن الحسن بن عمارة عن المنهال ابن عمرو، وزاذان لم يسمعه من البراء، فلذلك لم أخرجه. وابن حزم فقد قَالَ في "المحلى" (1/ 22): ولم يرو أحد أن في عذاب القبر ردّ الروح إِلَى الجد إلاَّ المنهال بن عمرو وليس بالقوي. والذهبي قَالَ في "السير" (5/ 184): حديثه في شأن القبر بطوله فيه نكارة وغرابة. وانظر للمزيد تخريج أخي الحيب محمد العلاوي للحديث في تخرجه لكتاب "حادي الأرواح" ص 25 - 28 طبعة دار ابن رجب فقد أفاد وأجاد، ومنه استفدت تخريج هذا الحديث. (*) زاد في الأصل: "حتى يتتهوا بها إِلَى السماء الدُّنْيَا فيستفتحون له فلا يفتح له، ثم قرأ - صلى الله عليه وسلم -: {لا تفتح لهم أبواب السماء ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط}، قَالَ: ثم يعود، قَالَ في روح الكافر، وهو خطأ من الناسخ فقد انتقل بصره إِلَى الحديث السابق. (**) في الأصل: "فيقول". (¬1) برقم (3014 - إحسان). (¬2) في "مستدركه" (1/ 352 - 353) وقال: هذه الأسانيد كلها صحيحة. (¬3) وأخرجه النسائي في "السنن الكبرى" (1959)، وفي المجتبى (4/ 8) برقم (1833)، وانظر لمزيد من التخريج كتابي "الجامع الصحيح في أهوال النار وسبل النجاة منها" ص 26 - 28 طبعة "دار الضياء" بطنطا - ج. من. ع. ( ... ) من المطبوع. (¬4) أخرجه ابن جرير (30/ 94).

فصل [البحار تسجر يوم القيامة]

فصل [البحار تسجر يوم القيامة] روى الإمام أحمد (¬1)، بإسناد فيه نظر، عن يعلى بن أمية، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم، قَالَ: "البحر هو جهنم"، فقالوا ليعلى، قَالَ: ألا ترون أن الله عز وجل يقول: {نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا} [الكهف: 29] ألا والذي نفس يعلى بيده، لا أدخلها أبدًا حتى أعرض عَلَى الله عز وجل، ولا يصيبني منها قطرة حتى ألقى الله عز وجل. وهذا إن ثبت، فالمراد به أن البحار تفجر يوم القيامة، فتصير بحرًا واحدًا، ثم تسجر ويوقد عليها، فتصير نارًا، وتزاد في جهنم. وقد فسر غير واحد من السَّلف قوله تعالى: {وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ} [التكوير: 6] بنحو هذا. روى المبارك بن فضالة، عن كثير بن أبي محمد، عن ابن عباس قَالَ: تسجر حتى تكون نارًا. وروى مجالد، عن شيخ من بجيلة، عن ابن عباس {وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ} قَالَ: تكور الشمس والقمر والنجوم في البحر، فيبعث الله عليها ريحًا دبورًا، فتنفخه حتى يرجع نارًا. خرّجه ابن أبي الدُّنْيَا وابن أبي حاتم (¬2). وخرج ابن أبي الدُّنْيَا، وابن أبي حاتم أيضاً، من طريق مجالد، عن الشعبي، عن ابن عباس في قوله تعالى: {وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ} [التوبة: 49] قَالَ: هو هذا البحر تنتثر الكواكب فيه، وتكور الشمس والقمر، فيكون هو جهنم. ¬

_ (¬1) (4/ 223). قَالَ الهيثمي في المجمع (10/ 386): رواه أحمد ورجاله ثقات. (¬2) انظر تفسير ابن أبي حاتم (10/ 3405) برقم (19157).

وروى ابن جرير (¬1) بإسناده، عن سعيد بن المسيب، عن علي أنّه قَالَ لرجل من اليهود: أين جهنم؟ قَالَ: البحر، قَالَ علي: ما أراه إلاَّ صادقًا، قَالَ تعالى: {وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ} [الطور: 6]، وقال: {وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ} [التكوير: 6]. وروى آدم بن أبي إياس في "تفسيره" عن حماد بن سلمة عن داود بن أبي هند عن سعيد بن المسيب، قَالَ: قَالَ علي ليهودي: أين جهنم؟ قَالَ: تحت البحر، قَالَ علي: صدق، ثم قرأ: {وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ} [التكوير: 6] وخرّجه في موضع آخر منه، وفيه ثم قَالَ {وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ} [الطور: 6]. وخرج ابن أبي حاتم بإسناده، عن أبي العالية، عن أبي بن كعب {وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ} [التكوير: 6] قَالَ: قالت الجن للإنس: نأتيكم بالخبر، فانطلقوا إِلَى البحر، فإذا هو نار تأجج. وعن ابن لهيعة، عن أبي قبيل، قَالَ: إن البحر الأخضر هو جهنم. وروى أبو نعيم (¬2) بإسناده، عن كعب في قوله تعالى: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ} [إبراهيم: 48] قَالَ: تبدل السماوات فتصير جنانًا، وتبدل الأرض فيصير مكان البحر النار. وقد سبق عن ابن عباس أنّه قَالَ: النار تحت سبعة أبحر مطبقة. ورُوي عن عبد الله بن عمرو، رضي الله عنهما، أنّه قَالَ: لا يتوضأ بماء البحر؛ لأنّه طبق جهنم. وكذا قَالَ سعيد بن أبي الحسن البصري: البحر طبق جهنم. وفي سنن أبي داود (¬3) عن عبد الله بن عمرو، رضي الله عنهما، عن النبيّ ¬

_ (¬1) في تفسيره (30/ 67). (¬2) في "الحلية" (5/ 370). (¬3) برقم (2489) وضعفه الألباني في الضعيفة برقم (478).

- صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: "لا تركب البحر إلاَّ حاجًّا أو معتمرًا أو غازيًا في سبيل الله، فإن تحت البحر نارًا وتحت النار بحرًا". وخرج ابن أبي حاتم بإسناده، عن معاوية بن سعيد، قَالَ: إن هذا البحر - يعني بحر الروم- وسط الأرض والأنهار كلها تصب فيه، والبحر الكبير يصب فيه، وأسفله آبار مطبقة بالنحاس، فإذا كان يوم القيامة أسجر. وذكر ابن أبي الدُّنْيَا عن العباس أبي يزيد البحراني، قَالَ: سمعت الوليد بن هشام وقلت له: عمن أخذت هذا؟. قَالَ: عن رجل من أهل الكتاب، أسلم فحسن إسلامه، قَالَ: لما التقم الحوت يونس عليه السلام جال به في الأبحر السبعة، فلما كان آخر ذلك، انتهى به الحوت إِلَى قعر البحر، موضع يلي قعر جهنم، فسبح يونس في بطن الحوت، فسمع قارون تسبيحه وهو في النار، وذكر بقية الخبر. وروى قيس بن الربيع، عن عبيد المكتب، عن مجاهد، عن ابن عمر رضي الله عنهما، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم: "إن جهنم محيطة بالدنيا، وإن الجنة من ورائه (*)، فلذلك كان الصراط عَلَى جهنم طريقًا إِلَى الجنة" غريب منكر. وقد رُوي عن بعضهم ما يدل عَلَى أن النار في السماء. ورُوي عن مجاهد قَالَ في قوله تعالى: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} [الذاريات: 22] قَالَ: الجنة والنار، وكذا قَالَ جوبير عن الضحاك. وروى عاصم، عن زر، عن حذيفة، وإن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: "أوتيت بالبراق، (فلم نزايل) (**) طرفه أنا وجبريل حتى أتيت بيت المقدس، وفتحت لنا أبواب السماء، ورأيت الجنة والنار" خرّجه الإمام (¬1) أحمد وغيره (¬2)، وقال في رواية ¬

_ (*) كذا بالأصل. (**) في حاشية الأصل أنها في نسخة: "فما تزايل". (¬1) (5/ 392، 394). (¬2) أخرجه الطيالسي في "مسنده" (411).

المروذي: في حديث حذيفة، أن النبيّ صلّى الله عليه وسلم قَالَ: "رأيت ليلة أسري بي الجنة والنار في السماء، فقرأت هذه الآية: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} [الذاريات: 22]. فكأني لم أقرأها قط، وهو تصديق لما قاله حذيفة، نقله عنه الخلال في "كتاب السنة" وهذا اللفظ الَّذِي احتج به الإمام أحمد لم نقف عليه بعد في حديثه، وإنَّما رُوي عنه ما تقدّم. ورُوي عن حذيفة، أنّه قَالَ: والله ما زايل البراق حتى فتحت لهما أبواب السماء، ورأيا الجنة والنار ووعد الآخرة أجمع (¬1). ولم يرفع (*)، وهذا كله ليس بصريح في أنّه رأى النار في السماء كما لا يخفى. وأيضاً، فعلى تقدير صحة ذلك اللفظ، لا يدل عَلَى أن النار في السماء، وإنَّما يدل عَلَى أنّه رآها في السماء، والميت يرى في قبره الجنة والنار وليس الجنة في الأرض. وقد رأى النبيّ صلّى الله عليه وسلم، في صلاة الكسوف، الجنة والنار وهو في الأرض (¬2)، وكذلك في بعض طرق حديث الإسراء حديث أبي هريرة، أنّه مر عَلَى أرض الجنة والنار، في مسيره إِلَى بيت المقدس، ولم يدل شيء من ذلك عَلَى أن الجنة في والأرض، فحديث حذيفة إن ثبت فيه أنّه رأى الجنة والنار في السماء، فالسماء ظرف للرؤية لا للمرئي، والله أعلم. وفي حديث أبي هارون العبدي، وهو ضعيف جداً، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه في صفة الإسراء، أنّه - صلى الله عليه وسلم -، رأى الجنة والنار فوق السماوات، ولو صح لحمل عَلَى ما ذكرناه أيضًا. وقد روى القاضي أبو يعلى، بإسناد جيد، عن أبي بكر المروذي، أن الإمام أحمد فسر له آيات متعددة من القرآن، فكان مما فسره قوله تعالى: {وَإِذَا الْبِحَارُ ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي (3147) وقال: هذا حديث حسن صحيح. (*) في حاشية الأصل في نسخة: "يرفعه". (¬2) أخرجه البخاري (431) من حديث ابن عباس، (540) من حديث أنس وأخرجه مسلم (904) من حديث جابر.

سُجِّرَتْ} [التكوير: 6] قَالَ: أطباق النيران، {وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ} [الطور: 6] قَالَ: جهنم، وهذا يدل عَلَى أن النار في الأرض، ورواه الخلال عن المروذي، والله أعلم. وأما المروي عن مجاهد، فقد تأوله بعضهم عَلَى أن المراد أن أعمال الجنة والنار مقدرة في السماء من الخير والشر، وقد صرح بذلك مجاهد في رواية أخرى عنه. وقد ورد في بعض طرق حديث الإسراء، أنّه - صلى الله عليه وسلم - رأى جهنم في طريقه إِلَى بيت المقدس. ورُوي عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه أنّه وقف عَلَى سور بيت المقدس الشرقي يبكي، وقال: من هاهنا أخبرنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنّه رأى جهنم (¬1). ... ¬

_ (¬1) أخرجه الطبراني في "مسند الشاميين" (229)، وعنه أبو نعيم في الحلية (6/ 129) وقال أبو نعيم: غريب من حديث سعيد، لم نكتبه عاليًا إلاَّ من هذا الوجه، ورواه الوليد بن مسلم في جماعة عن سعيد مثله، والضياء في "المختارة" (8/ 332) برقم (404). وأخرجه أيضاً المقدسي في "فضائل بيت المقدس" (8). قَالَ الهيثمي في المجمع (10/ 386): رواه الطبراني، ويزيد لم أعرفه، وفيه ضعفاء قد وثقوا.

الباب السادس في ذكر طبقاتها وأدراكها وصفتها

الباب السادس في ذكر طبقاتها وأدراكها وصفتها وقال الله عز وجل: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} [النساء: 145]. وقد قرئ بسكون الراء وتحريكها، وهما لغتان. قَالَ الضحاك: الدرج إذا كان بعضها فوق بعض، والدرك إذا كان بعضها أسفل من بعض. وقال غيره: الجنة درجات، والنار دركات. وقد تسمى النار درجات أيضاً، كما قَالَ تعالى، بعد أن ذكر أهل الجنة وأهل النار: {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا} [الأنعام: 132]. وقال تعالى: {أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (162) هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ} [آل عمران: 162، 163]. قَالَ عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: درجات الجنة تذهب علوًّا ودرجات النار تذهب سفولاً. وروى ابن أبي الدُّنْيَا، بإسناده عن عكرمه، في قوله تعالى: {لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ} [الحجر: 44]. قَالَ: لها سبعة أطباق. وعن قتادة: {لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ} قال: هي والله منازل بأعمالهم. وعن يزيد بن أبي مالك الهمداني قَالَ: لجهنم سبعة نيران: تأتلق: ليس منها نار إلاَّ وهي تنظر إِلَى التي تحتها، مخافة أن تأكلها.

وعن ابن جريج في قوله: {لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ} [الحجر: 44] قَالَ: أولها جهنم، ثم لظى، ثم الحطمة، ثم السعير، ثم سقر، ثم الجحيم، ثم الهاوية وفيها أبو جهل. وروى سلام المدائني -هو ضعيف- عن الحسن، عن أبي سنان، عن الضحاك، قَالَ: للنار سبعة أبواب، وهي سبعة أدراك بعضها عَلَى بعض، فأعلاها فيه أهل التوحيد، يعذبون عَلَى قدر أعمالهم وأعمارهم في الدُّنْيَا ثم يخرجون منها، وفي الثانية اليهود، وفي الثالث النصارى، والرابع الصابئون، والخامس فيه المجوس، والسادس فيه مشركو العرب، والسابع المنافقون، وهو قوله: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} [النساء: 145]. وروى العلاء بن المسيب، عن أبيه، وخيثمة بن عبد الرحمن، قالا: قَالَ ابن مسعود: أي أهل النار أشد عذابًا، قالوا: اليهود والنصارى والمجوس، قَالَ: لا، ولكن المنافقين في الدرك الأسفل من النار، في توابيت من نار، مطبقة عليهم، ليس لها أبواب (¬1). وروى عاصم (¬2)، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، في قوله تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} [النساء: 145]. قَالَ: الدرك الأسفل، بيوت لها أبواب تطبق عليهم، فيوقد من فوقهم ومن تحتهم، وقال تعالى: {لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ} [الزمر: 16]. وقال ابن المبارك، عن يحيى بن أيوب، عن [عبيد الله] (*) بن زحر، عن ¬

_ (¬1) أخرجه ابن أبي الدُّنْيَا في "صفة النار" (104) من هذا الطريق، وأخرج ابن جرير في تفسيره (5/ 338 - دار الفكر) عن ابن وكيع قَالَ ثنا أبي عن سفيان عن سلمة بن كهيل عن خيثمة عن عبد الله {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ}. قَالَ: في توابيت من حديد مبهمة عليهم. (¬2) رواه ابن أبي حاتم عن المنذر بن شاذان عن عبيد الله بن موسى عن إسرائيل عن عاصم به، كما في تفسير ابن كثير (1/ 571 - دار الفكر). (*) في الأصل: "عبيد" والمثبت من المطبوع، وهو الصواب.

أبي يسار قَالَ: الظلة من جهنم فيها سبعون زاوية، في كل زاوية صنف (*) من العذاب ليس في الأخرى. وروى ابن أبي حاتم بإسناده عن كعب، قَالَ: اقتحام العقبة في كتاب الله، يعني قوله: {فلا اقتحم العقبة}. سبعون درجة في النار (¬1). وعن ضمرة قَالَ: سمعت أبا رجاء قَالَ: بلغني أن العقبة التي ذكر الله في كتابه، مطلعها سبعة آلاف سنة، ومهبطها سبعة آلاف سنة. وعن عطية، عن ابن عمر رضي الله عنهما، قَالَ في العقبة: جبل في جهنم، أفلا أجاوزه بعتق رقبة (¬2)؟! وعن مقاتل بن حيان، قَالَ: هي عقبة في جهنم، قيل: بأي شيء تقطع؟ قَالَ: فك رقبة. وفي "الصحيحين" (¬3) ولفظه للبخاري، عن ابن عمر قَالَ: رأيت في المنام أنّه جاءني ملكان، في يد كل واحد منهما مقمعة (¬4) من حديد، ثم لقيني ملك في يده مقمعة من حديد، فَقَالَ: لن ترع، نعم الرجل أنت لو كنت تكثر الصلاة من الليل، فانطلقوا بي، حتى وقفوا بي عَلَى شفير (¬5) جهنم، فإذا هي مطوية كطي البئر، لها قرون كقرون البئر، بين كل قرنين ملك بيده مقمعة من حديد، وإذا فيها رجال معلقون بالسلاسل رؤوسهم أسفلهم، عرفت فيهم رجالاً من قريش، فانصرفوا بي عن ذات اليمين، فقصصتها عَلَى حفصة، فقصتها حفصة عَلَى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فَقَالَ: "إن عبد الله رجل صالح". ¬

_ (*) في الأصل: "ضعف" والمثبت من المطبوع. (¬1) انظر تفسير ابن كثير (4/ 514). (¬2) أخرجه ابن جرير في "تفسيره" (30/ 201) دون قوله: أفلا أجاوزه ... (¬3) أخرجه البخاري (1121، 1122)، ومسلم (2479). (¬4) "مقمعة" هي سياط تعمل من حديد، رءوسها معوجة. (¬5) "شفير" جانبه وحرفه.

الباب السابع في ذكر قعرها وعمقها

الباب السابع في ذكر قعرها وعمقها عن خالد بن عمير قَالَ: خطب عتبة بن غزوان فَقَالَ: إنه ذكر لنا أن الحجر يلقى من شفير جهنم، فيهوي فيها سبعين عامًا، ما يدرك قعرها، والله لتملأن، أفعجبتم؟ خرّجه هكذا مسلم موقوفًا (¬1)، وخرّجه الإمام أحمد موقوفًا ومرفوعًا (¬2)، والموقوف أصح. وخرج الترمذي (¬3) من حديث الحسن، قَالَ: فإن عتبة بن غزوان خطبنا عَلَى منبرنا هذا -يعني منبر البصرة- عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم، قَالَ: "إن الصخرة العظيمة لتلقي من شفير جهنم، فتهوي فيها سبعن عامًا، ما تفضي إِلَى قعرها"، قَالَ: وكان عمر يقول: أكثروا ذكر النار، فإن حرها شديد، وإن قعرها بعيد، وإن مقامعها حديد، ثم قَالَ: لا يعرف للحسن سماع من عتبة بن غزوان. وخرج مسلم أيضاً (¬4)، من حديث أبي هريرة، قَالَ: كنا عند النبيّ - صلى الله عليه وسلم - يومًا، فسمعنا وجبة (¬5) فَقَالَ النبيّ صلّى الله عليه وسلم: "أتدرون ما هذا؟ قلنا: الله ورسوله أعلم، قَالَ: هذا حجر أرسل في جهنم منذ سبعين خريفًا، فالآن انتهى إِلَى قعرها". وخرج أيضاً (¬6) من وجه آخر عن أبي هريرة قَالَ: والذي نفس أبي هريرة بيده، إن قعر جهنم لسبعون (*) خريفًا". ¬

_ (¬1) برقم (2967). (¬2) في "المسند" (4/ 174). (¬3) برقم (2578). (¬4) برقم (2844). (¬5) الوجبة: السقطة مع الهدة. أي مع صوت السقوط. (¬6) برقم (195). (*) في الأصل: "سبعين" والمثبت من "صحيح مسلم".

وخرج الحاكم (¬1)، من حديث أبي هريرة أيضاً، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم، قَالَ: "لو أخذ سبع خلفات (¬2) بشحومهن، فألقين من شفير جهنم، ما انتهين إِلَى آخرها سبعين عامًا". وخرج البراز (¬3) والطبراني (¬4)، من حديث بريدة عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم، قَالَ: "إن الحجر ليزن سبع خلفات، يرمى به في جهنم، فيهوي سبعين خريفًا ما يبلغ قعرها". وأخرج ابن حبان في "صحيحه" (¬5) من حديث أبي موسى الأشعري، عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: "لو أن حجرًا قذف به في جهنم لهوى سبعين خريفًا قبل أن يبلغ قعرها". وقد سبق من حديث أنس وأبي سعيد، معنى حديث أبي هريرة، في سماع الهدة. وقال ابن المبارك: أنبأنا يونس عن الزهري، قَالَ: بلغنا أن معاذ بن جبل، كان يحدث عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم، قَالَ: "والذي نفسي بيده إن ما بين شفة النار وقعرها، كصخرة زنة سبع خلفات بشحومهن ولحومهن وأولادهن، تهوي من شفة النار، قبل أن تبلغ قعرها، سبعبن خريفًا" (¬6). ¬

_ (¬1) في المستدرك (4/ 606) وقال الذهبي: سنده صالح، قلت: في إسناده عقبة بن أبي الحسناء قَالَ عنه الذهبي في الميزان (3/ 84): مجهول. وللحديث رواية أخرى عند الحاكم (4/ 597) عن أبي هريرة وقال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. (¬2) خلفات: جمع خلفة، وهي الحامل من النوق. (¬3) ص 315 - زوائد. (¬4) في الكبير (2/ 1158)، وفي الأوسط (5459) وقال الطبراني: لم يرو هذا الحديث عن علقمة بن مرثد إلاَّ محمد بن أبان، ولا يروى عن بريدة إلاَّ بهذا الإسناد. وذكره الهيثمي في المجمع (10/ 389) من رواية أبي موسى، وقال: رواه البزار والطبراني وفيهما محمد بن أبان الجعفي وهو ضعيف. (¬5) برقم (2609 - موارد) وانظر السلسلة الصحيحة للألباني -رحمه الله- برقم (1612). (¬6) أخرجه نعيم في زوائده عَلَى زهد ابن المبارك (301)، والطبراني في الكبير (20/=

قَالَ ابن المبارك، أنبأنا هشيم أخبرني زكريا بن أبي مريم الخزاعي، قَالَ: سمعت أبا أمامة يقول: إن ما بين شفير جهنم، مسيرة سبعين خريفًا، من حجر يهوي، أو صخرة تهوي، عظمها كعشر عشروات عظام سمان فَقَالَ له رجل: هل تحت ذلك من شيء يا أبا أمامة؟ قَالَ: نعم، غي وآثام (¬1). وقد رُوي هذا مرفوعًا بإسناد فيه ضعف، من طريق لقمان بن عامر، عن أبي أمامة، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم، وزاد فيه: قلت: وما غي وآثام؟ قَالَ: "بئران يسيل فيهما صديد أهل النار وهما اللذان ذكرهما الله تعالى في كتابه" {فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} [مريم: 59] وفي الفرقان {يَلْقَ أَثَامًا} [الفرقان: 68] والموقوف أصح (¬2). وقد رُوي من وجه آخر: قَالَ حريز بن عثمان: حدثني عبد الرحمن بن ميسرة الحضرمي، عن أبي أمامة، أنّه كان يقول: إن جهنم ما بين شفتيها إِلَى قعرها خمسون خريفًا للحجر المتردي، والحجر مثل سبع خلفات مملوآت شحمًا ولحمًا. خرّجه الجوزجاني. ¬

_ =361). قَالَ الهيثمي في المجمع (10/ 390): وفيه راو لم يسم، وبقية رجاله رجال الصحيح. (¬1) أخرجه العقيلي في الضعفاء (2/ 88) من طريق هشيم به. قَالَ ابن عدي في الكامل (3/ 214): وهشيم يروي عن زكريا بن أبي مريم القليل، وليس فيما روى عنه هشيم حديث له رونق وضوء. ونقل العقيلي سؤال ابن مهدي لشعبة: لقيت زكريا بن أبي مريم سمع من أبي أمامة؟ فجعل يتعجب، ثم ذكره فصاح صيحة. وقال ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل (3/ 593): دلّ صيحة شعبة أنّه لم يرض زكريا. (¬2) أخرجه الطبري (16/ 100) والطبراني في الكبير (8/ 7731) وفي مسند الشاميين (1589) من طريق لقمان به. قَالَ الهيثمي في المجمع (10/ 389): وفيه ضعفاء قد وثقهم ابن حبان وقال: يخطئون. وأورده ابن كثير في تفسيره (3/ 129) وقال: هذا حديث غريب ورفعه منكر.

وروى مجالد عن الشعبي، عن مسروق، عن عبد الله، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم، قَالَ: "ما من حاكم يحكم بين الناس (*)، إلاَّ يحبس يوم القيامة، وملك آخذ بقفاه، حتى يقفه عَلَى جهنم، ثم يرفع رأسه إِلَى الله عز وجل، فإن قَالَ له: ألقه، ألقاه في مهوى أربعين خريفًا" خرّجه الإمام أحمد (¬1). وروى عبيد الله بن الوليد الوصافي، حدثنا عبد الله بن [عبيد بن] (**) عمير، عن أبيه، قَالَ: قَالَ أبو ذر لعمر: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: "يجاء بالوالي يوم القيامة، فينبذ به عَلَى جسر جهنم، فيرتج به الجسر ارتجاجة، لا يبقى منه مفصل إلاَّ زال عن مكانه، فإن كان مطيعًا لله في عمله مضي به، وإن كان عاصيًا لله في عمله انخرق به الجسر، فهوى في جهنم مقدار خمسين عامًا". فَقَالَ له عمر: من يطلب العمل بعد هذا؟. قَالَ أبو ذر: من سلت لله أنفه، وألصق خذه بالتراب. فجاء أبو الدرداء، فَقَالَ له عمر: يا أبا الدرداء هل سمعت من النبيّ صلّى الله عليه وسلم حديثًا حدثني به أبو ذر؟. قَالَ: فأخبره أبو ذر، فَقَالَ: نعم ومع الخمسين خمسون عامًا، يهوي به إِلَى النار (¬2). الوصافي لا يحفظ الحديث، وكان شيخًا صالحًا رحمه الله. وروى سويد بن عبد العزيز -وفيه ضعف شديد- عن سيار، عن أبي وائل، ¬

_ (*) في "الأصل: "الاثنين" وفي الحاشية: "صوابه: الناس"، وهو الموافق لما في "المسند". (¬1) (1/ 430) وقال الدارقطني في العلل (5/ 249): يرويه مجالد عن الشعبي عن مسروق، رفعه يحيى بن سعيد القطان عن مجالد، وتابعه علي بن صالح، ووقفه عبد الرحيم بن سليمان وهشيم ويحيى بن زكريا بن أبي زائدة عن مجالد، والموقوف هو الصحيح. (**) من المطبوعَ". (¬2) أخرجه ابن أبي الدُّنْيَا في "الأهوال" (248).

أن أبا ذر قَالَ لعمر: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول، فذكر معناه، وفي حديثه: "وإن كان مسيئًا انخرق به الجسر، فهوى في قعرها سبعين خريفًا" (¬1). وفي موعظة الأوزاعي للمنصور قَالَ: أخبرني يزيد بن يزيد بن جابر، عن عبد الرحمن بن أبي عمرة الأنصاري، وإن أبا ذر وسلمان قالا لعمر: سمعنا النبى - صلى الله عليه وسلم - يقول، فذكراه بمعناه، وقال: "هوى به في النار سبعين خريفًا" (¬2). وفي "الصحيحين" (¬3) عن أبي هريرة، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم، قَالَ: "إن العبد ليتكلم بالكلمة، ما يتبين فيها، يزل بها في النار، أبعد ما بين المشرق والمغرب". وخرج الإمام أحمد (¬4) والترمذي (¬5) وابن ماجه (¬6)، من حديث أبي هريرة، عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: "إن الرجل ليتكلم بالكلمة، لا يرى بها بأسًا، يهوي بها في النار سبعين خريفًا". وخرج البزار (¬7) نحوه من حديث ابن مسعود، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم. وفي تفسير ابن جرير (¬8)، من رواية العوفي، عن ابن عباس، في قوله تعالى: {وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً} [البقرة: 80] قَالَ: ذكر أن اليهود ¬

_ (¬1) أخرجه ابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (1591)، والطبراني في الكبير (2/ 1219)، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (5/ 206): وفيه سويد بن عبد العزيز وهو متروك. (¬2) أخرجه أبو نعيم في الحلية (6/ 138)، وفي "الحلية": حدثني يزيد بن مزيد عن جابر عن عبد الرحمن بن أبي عمرة الأنصاري. (¬3) أخرجه البخاري (6477)، ومسلم (2988). (¬4) (2/ 236). (¬5) برقم (2314) وقال: حسن غريب من هذا الوجه. (¬6) برقم (3970) وقال البوصيري (4/ 177): هذا إسناد ضعيف لتدليس ابن إسحاق. (¬7) في "مسنده" (1732) وقال: هذا الحديث لا نعلمه يروى عن عبد الله إلا من هذا الوجه بهذا الإسناد. وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (10/ 297): فيه من لم أعرفهم. (¬8) (1/ 381).

وجدوا في التوراة مكتوبًا، وإن ما بين طرفي جهنم مسيرة أربعين سنة، إِلَى أن ينتهوا إِلَى شجرة الزقوم، نابتًا في أصل الجحيم. وكان ابن عباس يقول: إن الجحيم سقر، وفيها شجرة الزقوم، فزعم أعداء الله: إذا خلا العدد الَّذِي وجدوا في كتابهم أيامًا معدودة، إِنَّمَا يعني بذلك السير الَّذِي ينتهي إِلَى أصل الجحيم، فقالوا: إذا خلا العدد انقضى الأجل، فلا عذاب، وتذهب جهنم وتهلك، فذلك قوله تعالى: {وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً} [البقرة: 80] يعنون بذلك الأجل. فَقَالَ ابن عباس: لما اقتحموا من باب جهنم، ساروا في العذاب، حتى انتهوا إِلَى شجرة الزقوم آخر يوم من الأيام المعدودة وهي أربعون ستة، فلما أكلوا من شجرة الزقوم وملؤوا البطون آخر يوم من الأيام المعدودة، قَالَ لهم خزان سقر: زعمتم أنكم لن تمسكم النار إلاَّ أيامًا معدودة، وقد خلا العدد، وأنتم في الأبد، فأخذ بهم في الصعود في جهنم يرهقون. ففي هذه الرواية عن ابن عباس، أن قعر جهنم ومسافة عمقها أربعون عامًا وأن ذلك هو معنى ما في التوراة، ولكن اليهود حرقوه، فجعلوه مسافة ما بين طرفيها، وزعموا أنها إذا انقضت هذه المدة، وإن جهنم تخرب وتهلك، وأن ذلك من كذبهم عَلَى الله، وتحريفهم التوراة. ***

فصل سعة جهنم طولا وعرضا

فصل سعة جهنم طولا وعرضًا وأما سعة جهنم طولا وعرضًا. فروى مجاهد، عن ابن عباس، قَالَ: أتدرون ما سعة جهنم؟. قلنا: لا. قَالَ: أجل، والله ما تدرون، وإن ما بين شحمة أذن أحدهم وعاتقه مسيرة سبعين خريفًا، تجري فيه أودية القيح والدم. قلنا: أنهار؟ قَالَ: لا، بل أودية. ثم قَالَ: أتدرون ما سعة جهنم؟. قلنا: لا: قَالَ: حدثتني عائشة، أنها سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، عن قوله تعالى: {وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر: 67] فأين الناس يومئذ؟. قَالَ: "عَلَى جسر جهنم". خرّجه الإمام أحمد (¬1)، وخرج النسائي (¬2) والترمذي (¬3) منه المرفوع، وصححه الترمذي، وخرّجه الحاكم (¬4) وقال: صحيح الإسناد. ¬

_ (¬1) (6/ 116). (¬2) في الكبرى (11453). (¬3) برقم (3241) وقال: حسن صحيح غريب من هذا الوجه. (¬4) في مستدركه (2/ 473).

الباب الثامن في ذكر أبوابها وسرادقها

الباب الثامن في ذكر أبوابها وسرادقها قَالَ الله عز وجل: {وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ (43) لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ} [الحجر: 43، 44]. وخرج الإمام أحمد (¬1) والترمذي (¬2)، من حديث ابن عمر عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم، قَالَ: "إن لجهنم سبعة أبواب، باب منها لمن سل سيفه عَلَى أمتي". وخرج الإمام أحمد (¬3)، من حديث عتبة بن عبد السلمي، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم، قال: "إن للجنة ثمانية أبواب، ولجهنم سبعة أبواب، وبعضها أفضل من بعض". وفي حديث أبي رزين العقيلي، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم، قَالَ: "لعَمْرُ إلهك إن للنار سبعة أبواب، ما منهن بابان إلاَّ ويسير الراكب بينهما سبعين عامًا". خرّجه عبد الله بن الإمام أحمد (¬4)، وابن أبي عاصم (¬5)، والطبراني (¬6)، والحاكم (¬7)، ¬

_ (¬1) (2/ 94). (¬2) برقم (3123) وقال: هذا حديث غريب لا نعرفه إلاَّ من حديث مالك بن مغول. انتهى. وضعفه الألباني في ضعيف الجامع (4661). (¬3) (4/ 185 - 186) مطولاً. قَالَ الهيثمي في مجمع الزوائد (5/ 291): رواه أحمد والطبراني ورجال أحمد رجال الصحيح خلا أبي المثنى الأملوكي وهو ثقة. (¬4) في زوائده عَلَى المسند (4/ 13 - 14) مطولاً. ووقع في المطبوع زيادة: "حدثني أبي" وهي مقحمة، وقد أخرجه عبد الله في "السنة" (2/ 485). وأورده الهيثمي في المجمع (10/ 338 - 340) وقال: رواه عبد الله والطبراني بنحوه، وأحد طريقي عبد الله إسنادها متصل، ورجالها ثقات، والإسناد الآخر، وإسناد الطبراني مرسل عن عاصم بن لقيط أن لقيطًا. (¬5) أخرج ابن أبي عاصم في السنة (636) مطولاً. وقال الألباني: إسناده ضعيف. (¬6) (19/ 477) مطولاً أيضاً. (¬7) (4/ 605 - 607) وقال: صحيح الإسناد كلهم مدنيون ولم يخرجاه.

وغيرهم. وخرج البيهقي (¬1)، من حديث أبي سعيد وأبي هريرة، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم في حديث المرور عَلَى الصراط، وقال فيه: "فناج مسلم، ومخدوش مرسل، ومطروح فيها" {لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ} [الحجر: 44]. وروى أبو إسحاق، عن هبيرة بن يريم، عن علي، قَالَ: أبواب جهنم سبعة، بعضها فوق بعض، وقال بإصبعه، وعقد خمسين، وأضجع يده، ثم تمتلئ الأول والثاني والثالث حتى عقدها كلها. خرّجه ابن أبي حاتم وغيره (¬2)، ورواه بعضهم عن أبي إسحاق، عن عاصم بن ضمرة، عن علي بمعناه. وخرج ابن أبي حاتم (¬3)، عن حطان الرقاشي، قأل: سمعت عليًّا يقول: هل تدرون كيف أبواب جهنم؟. قلنا: هي مثل أبوابنا. قَالَ: لا، هي هكذا، بعضها فوق بعض. وفي رواية له أيضاً: بعضها أسفل من بعض، وخرّجه البيهقي، ولفظه: أبواب جهنم هكذا، ووضع يده اليمنى عَلَى ظاهر يده اليسرى. وعن ابن جريح، في قوله تعالى: {لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ} قَالَ: أولها جهنم، ثم لظى، ثم الحطمة، ثم السعير، ثم سقر، ثم الجحيم وفيها أبو جهل، ثم الهاوية. خرّجه ابن أبي الدُّنْيَا (¬4) وغيره. وقال جويبر، عن الضحاك: سمى الله أبواب جهنم، لكل باب منهم جزء ¬

_ (¬1) في "البعث" (459). (¬2) وأخرجه الطبري في تفسيره (14/ 35) به. (¬3) وأخرجه ابن المبارك في الزهد (294) به. (¬4) في "صفة النار" (8).

مقسوم: باب لليهود، وباب للنصارى، وباب للمجوس، وباب للصابئين، وباب للمنافقين، وباب للذين أشركوا وهم كفار العرب، وباب لأهل التوحيد، يرجى لهم ولا يرجى للآخرين. خرّجه الخلال. قَالَ آدم بن أبي إياس: أنبأنا حماد بن سلمة، عن عطاء بن السائب، عن ميسرة، في قوله: {ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ} [الزمر: 72]. قَالَ: لجهنم سبعة أبواب، بعضها أسفل من بعض. وقال عطاء الخراساني: إن لجهنم سبعة أبواب، أشدها غمًّا وكربًا وحرًّا، وأنتنها ريحًا، للزناة الذين ركبوه بعد العِلْم. خرّجه أبو نعيم. وعن كعب قَالَ: لجهنم سبعة أبواب، باب منها للحرورية. وهذا كله حديث ابن عمر (*) المتقدم، يدل عَلَى أن كل باب من الأبواب السبعة لعمل من الأعمال السيئة، كما أن أبواب الجنة الثمانية، كل باب منها لعمل من الأعمال الصالحة. وعن وهب بن منبه قَالَ: بين كل بابين مسيرة سبعين سنة، كل باب أشد حرًّا من الَّذِي فوقه. وخرج الثعلبي في تفسيره بإسناد مجهول إِلَى منصور بن عبد الحميد بن أبي رباح، عن أنس، عن بلال، وإن أعرابية صلت خلف النبيّ صلّى الله عليه وسلم، فقرأ النبيّ صلّى الله عليه وسلم هذه الآية: {لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ} [الحجر: 44]. فخرت مغشيًّا عليها، فلما أفاقت قالت: يا رسول الله، كل عضو من أعضائي يعذب عَلَى كل باب منهم. فَقَالَ رسول الله صلّى الله عليه وسلم: "لكل باب منهم جزء مقسوم يعذب عَلَى كل باب عَلَى قدر أعمالهم". فقالت: ما لي إلاَّ سبعة أعبد أشهدك أن كل عبد منهم لكل باب من أبواب ¬

_ (*) كذا بالأصل، ولعل السياق: "وهذا كله مع حديث ابن عمر".

جهنم لوجه الله تعالى. فجاء جبريل فَقَالَ: "بشرها أن الله قد حرم عليها أبواب جهنم" وهذا حديث لا يصح مرفوعًا، ومنصور بن عبد الحميد قَالَ فيه ابن حبان: لا تحل الرواية عنه. والصحيح ما روى مخلد بن الحسين عن هشام بن حسان، قَالَ: خرجنا حجاجًا فنزلنا منزلاً في بعض الطريق، فقرأ رجل كان معنا هذه الآية: {لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ} فسمعته امرأة، فقالت: أعد رحمك الله. فأعادها، فقالت: خلفت في البيت سبعة أعبد أشهدكم أنهم أحرار لكل باب منهم واحد. خرّجه ابن أبي الدُّنْيَا. وخرج البيهقي (¬1) من حديث الخليل بن مرة، وإن النبيّ صلّى الله عليه وسلم، كان لا ينام حتى يقرأ "تبارك" و"حم" السجدة وقال: "الحواميم سبع وأبواب جهنم سبع: جهنم، والحطمة، ولظى، والسعير، وسقر، والهاوية، والجحيم". وقال: تجيء كل حم منها يوم القيامة، أحسبه قَالَ: تقف عَلَى باب من هذه الأبواب فتقول: "اللهم لا تدخل هذا الباب من كان يؤمن بي ويقرؤني". وقال: هذا منقطع، والخليل بن مرة فيه نظر. وروى ابن أبي الدُّنْيَا من طريق عبد العزيز بن أبي رواد، قَالَ: كان بالبادية رجل قد اتخذ مسجدًا، فجعل في قبلته سبعة أحجار، فكان إذا قضى صلاته قَالَ: يا أحجار أشهدكم أن لا إله إلاَّ الله. قَالَ: فمرض الرجل فعرج بروحه، قَالَ: فرأيت في منامي أنّه أمر بي إِلَى النار، فرأيت حجرًا من تلك الأحجار -أعرفه بعينه- قد عظم، فسد عني بابًا من أبواب جهنم، حتى قَالَ: سد عني بقية الأحجار أبواب جهنم السبعة. ... ¬

_ (¬1) في "البعث" (461).

فصل وقد وصف الله أبوابها أنها مغلقة على أهلها

فصل وقد وصف الله أبوابها أنها مغلقة عَلَى أهلها فَقَالَ: {إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ} [الهمزة: 8]. وقال تعالى: {عَلَيْهِمْ نارٌ مُؤْصَدَةٌ} [البلد: 20]. قَالَ مجاهد: هي بلغة قريش: أسد الباب أي: أغلقه يعني قوله {مُؤْصَدَةٌ}. وقال مقاتل: يعني أبوابها مطبقة عليهم، فلا يفتح لها باب، ولا يخرج منها غم، ولا يدخل فيها روح، آخر الأبد. وقد ورد في ذلك حديث مرفوع، خرّجه ابن مردويه، من طريق شجاع بن أشرس قَالَ: حدثنا شريك، عن عاصم، عن أبى صالح، عن أبى هريرة رضي الله عنه عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم: {إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ} قال: مطبقة" (¬1) ولكن رفعه لا يصح. فقد خرّجه آدم بن أبي إياس، في تفسيره، عن شريك بهذا الإسناد، موقوفًا عَلَى أبي هريرة، ورواه إسماعيل بن أبي خالد، عن أبي صالح، من قوله، ولم يذكر فيه أبا هريرة. وكذاك قَالَ عطاء الخراساني وغيره في المؤصدة: إنها المطبقة. وعن الضحاك قَالَ: حائط لا باب له، ومراده -والله أعلم- أن الأبواب أطبقت فصار الجدار، كأنه لا باب له. وقوله تعالى: {إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ (8) فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ} [الهمزة: 8، 9]. معناه: أطبقت عليهم بعمد. ¬

_ (¬1) أخرجه ابن مردويه كما في تفسير ابن كثير (4/ 549) قَالَ ابن كثير: وقد رواه ابن أبي شيبة عن عبد الله بن أسد، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن أبي صالح قوله، ولم يرفعه.

قَالَ قتادة: وكذلك هو في قراءة عبد الله بعمد بالباء. قَالَ عطية: هي عمد من حديد في النار. وقال مقاتل: أطبقت الأبواب عليهم، ثم شدت بأوتاد من حديد، حتى يرجع عليهم غمها وحرها. وعلى هذا فقوله: {مُمَدَّدَةٍ} صفة للعمد يعني أن العمد التي أوثقت بها الأبواب ممددة مطولة، والممدود الطويل أرسخ وأثبت من القصير. وفي تفسير العوفي عن ابن عباس، في قوله: {فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ} قَالَ: هي عليهم مغلقة، أدخلهم في عمد، فمدت عليهم بعماد، وفي أعناقهم السلاسل، فسدت بها الأبواب (¬1). وقيل: إن الممددة صفة للأبواب. رواه شبيب بن بشر، عن عكرمة، عن ابن عباس (¬2). وقيل: المراد بالعمد المددة: القيود الطوال. رواه إسماعيل بن أبي خالد، عن أبي صالح. وروى أبو جناب (*) الكلبي، عن زبيد، عن إبراهيم، قَالَ عبد الله بن مسعود، في قوله تعالى: {عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ} قَالَ: هي الأدهم، وقد تقدم أن عبد الله كان يقرؤها بعمد، والأدهم: الغيل (**). وكذا قَالَ ابن زيد في قوله: {عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ} قَالَ: في عمد من حديد مغلولين فيه، وكذلك العمد من نار وقد احرقت بالنار، فهي نار ممددة لهم. وقيل: إن المراد بالعمد الممددة: الزمان الَّذِي لا انقطاع له، قاله أبو فاطمة. وقال السدي: من قرأها في عمد يعني بالفتح، فهي عمد من نار، ومن قرأها في عمد بالضم، فهو أجل ممدود. ¬

_ (¬1) أخرجه ابن جرير الطبري في "تفسيره" (30/ 295) بإسناد مسلسل بالضعفاء. (¬2) كما في تفسير ابن كثير (4/ 549) بهذا الإسناد. (*) في الأصل: "خباب" والصواب ما أثبتناه. (**) في المطبوع: "القيد".

وقال سعيد بن بشير عن قتادة: {مُؤْصَدَةٌ} أي مطبقة، أطبقها الله عليهم، فلا ضوء فيها، ولا فرج، ولا خروج منها آخر الأبد. وهذا الإطباق نوعان: أحدهما: خاص لمن يخلد في النار، أو من يريد الله التضييق عليه، أجارنا الله من ذلك. قَالَ أبو توبة اليزني: إن في النار أقوامًا مؤصدة عليهم، كما يطبق الحق عَلَى طبقه. خرّجه ابن أبي الدُّنْيَا. والثاني: الإطباق العام، وهو إطباق النار عَلَى أهلها المخلدين فيها. وقد قَالَ سفيان، وغيره، في قوله تعالى: {لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ} [الأنبياء: 103] قَالَ: هو إطباق النار عَلَى أهلها. وفي حديث مسكين أبي فاطمة، عن اليمان بن يزيد، عن محمد بن حمير، عن محمد بن علي، عن أبيه، عن جده عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم، في خروج الموحدين من النار، قَالَ: ثم يبعث الله ملائكة، معهم مسامير من نار، وأطباق من نار، فيطبقونها عَلَى من بقي فيها، يسمرونها بتلك المسامير، يتناساهم الجبار عَلَى عرشه من رحمته، ويشتغل عنهم أهل الجنة بنعيمهم ولذاتهم خرّجه الإسماعيلي وغيره، وهو حديث منكر، قاله الدارقطني (¬1). وروى ابن أبي حاتم بإسناده، عن سعيد بن جبير، قَالَ: ينادي رجل في شعب من شعاب النار مقدار ألف عام: يا حنان يا منان. فيقول الله تعالى: يا جبريل، أخرج عبدي، فيجدها مطبقة، فيقول: إنها مطبقة عليهم مؤصدة مطبقة (*). ¬

_ (*) كذا بالأصل. (¬1) وقال الذهبى في الميزان (4/ 461) في ترجمة يمان بن يزيد، عن محمد بن حمير بخبرٍ طويل في عذاب الفساق، أظنه موضوعًا.

وقال قتادة: عن أبي أيوب العتكي، عن عبد الله بن عمرو: إذا أجاب الله أهل النار بقوله: {اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون: 108] أطبقت عليهم، فلم ييأس القوم إلاَّ بعد تلك الكلمة، وإن كان إلاَّ الزفير والشهيق (¬1). وقال أبو الزعراء، عن ابن مسعود: وإذا قِيلَ لَهُم {اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ} أطبقت عليهم فلم يخرج منهم أحد (¬2). وقال أبو عمران الجوني: إذا كان يوم القيامة، التي أمر الله بكل جبار عنيد، وكل شيطان مريد، وكل من يخاف الناس شره في الدُّنْيَا، فإذا وثقوا في الحديد، ثم أمر بهم إِلَى جهنم، ثم أوصدوها عليهم، قَالَ: فلا والله، لا تستقر أقدامهم عَلَى قرار أبدًا، ولا والله، لا ينظرون فيها إِلَى أديم السماء أبدًا، ولا الله، لا تلتقي جفون أعينهم عَلَى غمض أبدًا، ولا والله، لا يذوقون فيها بارد شراب أبدًا. وفي معنى إطباق النار عَلَى أهلها، يقول بعض السَّلف رضي الله عنهم: ألبسوا النضيح من النحاس، ومنعوا خروج الأنفاس، فالأنفاس في أجوافهم تتردد، والنيران عَلَى أبداتهم تتوقد، وقد أطبقت عليهم الأبواب، وغضب عليهم رب الأرباب. وأنشد بعضهم في هذا: لو أبصرتْ عيناكَ أهلَ الشَّقَا. . . سِيقُوا إلى النارِ، وقدْ أُحرِقُوا يَصْلَونَها حينَ عَصَوا ربهم. . . وخالفُوا الرسلَ وما صدَّقُوا ¬

_ (¬1) أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف" (13/ 152 - 153) برقم (15969)، وعنه ابن أبي الدُّنْيَا في "صفة النار" (168) بمعناه. (¬2) هو قطعة من حديث طويل أخرجه الطبراني في "الكبير" (9/ 9761)، والحاكم (4/ 598 - 600) وقال: هذا حديث صحيح عَلَى شرط الشيخين، ولم يخرجاه. وتعقبه الذهبي بقوله: ما احتجا بأبي الزعراء. وأخرجه البيهقي في "البعث" (598).

تقولُ أخرَاهُم لأولاهُمُ. . . في لجج المهلِ وقد أغْرِقُوا قد كنتمُ حُذِّرتمُ حرهَا. . . لكنْ من النيرانِ لم تَفْرَقُوا وجيءَ بالنيرانِ مزمُومةً. . . شَرَارُهَا مِنْ حولِهَا مُحرقُ وقيلَ للنيرانِ أنْ أحرِقي. . . وقيلَ للخُزانِ أنْ أَطبقُوا وقد وردَ في بعضِ أحاديثِ الشفاعةِ، فتحُ بابِ النارِ، فخرجَ الطبرانيُّ (¬1) من روايةِ العباسِ بنِ عوسجةَ، حدثني مطر أبو مُوسى مولَى آل طلحةَ، عن أبي هريرةَ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّى آتي جهنَّم، فأضربُ بابَها، فيفتحُ لي، فأدخُلها، فأحمدُ اللَّهَ بمحامد ما حمَدهُ بها أحدٌ قبلي مثلَهَا، ولا يحمدُه أحدٌ بعدي، ثم أخرجُ منها من قالَ: لا إلهَ إلا اللَهُ مخلصًا، فيقومُ إليَّ ناسٌ من قريشٍ فينتسبونَ إليَّ، فأعرف نسبَهُم، ولا أعرفُ وجوهَهُم، فأتركهم في النارِ". إسنادُه ضعيفٌ. * * * ¬

_ (¬1) في "الأوسط" برقم (3845) مطولاً، وقال الطبراني: لم يرو هذا الحديث عن العباس بن عوسجة إلاَّ أبو معشر البراء، تفرد به أبو كامل الجحدري. وقال الهيثمي في المجمع (10/ 379): رواه الطبراني في "الأوسط" عن شيخه علي بن سعيد الرازي، وفيه لين، وفيه من لم أعرفه.

فصل [إحاطة سرادق جهنم بالكافرين]

فصل [إحاطة سرادق جهنم بالكافرين] قَالَ الله تعالى: {إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا} [الكهف: 29] قَالَ الزجاج: السرادق: كل ما أحاط بشيء نحو المشقة في الغرب أو الحائط المشتمل به عَلَى الشيء. وقال ابن قتيبة: السرادق: الحجرة التي تكون حول الفسطاط. وقيل: الدهليز وهو معرب، وأصله بالفارسية سرادار. وقال ابن عباس: هو سرادق من نار. وروى ابن لهيعة، عن دراج، عن أبي الهيثم، عن أبي سعيد الخدري، عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "السرادق في النار أربعة جدر، كشف كل جدار مسيرة أربعين سنة" خرّجه الترمذي (¬1). وإحاطةُ السرادقِ بهم قريبٌ من المعنى المذكورِ في غلقِ الأبوابِ، وهو شبهُ قولِ من قالَ: إنه حائط لا بابَ لهُ. ولما كانَ إحاطةُ السرادِق بهم موجبًا لكربهِم وغمِّهِم، وعطشِهِم، لشدةِ وهج النارِ عليهم، قال اللَّه تعالى: {وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا} [الكهف: 29]. وقال تعالى: {وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (21) كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ} [الحج: 21 - 22]. ¬

_ (¬1) برقم (2584) وقال الترمذي: هذا حديث إِنَّمَا نعرفه من حديث رشدين بن سعد، وفي رشدين مقال، وقد تكلم فيه من قبل حفظه.

قال أبو معشرٍ: كنا في جنازة مع أبي جعفرٍ القاري، فبكى أبو جعفرٍ، ثم قالَ: حدَّثني زيدُ بنُ أسلمَ، أنَّ أَّهَلَ النارِ لا يتنفسونَ، فذلك الذي أبكاني. خرَّجه الجوزجاني. وخرَّج ابنُ أبي حاتم، طريقِ إبراهيمَ بنِ الحكم بنِ أبانَ، عن أبيهِ، عن عكرمةَ، قال: على كلِّ بابٍ من أبوابِ النارِ سبعونَ ألفَ سرادقٍ من نارٍ، في كلِّ سرادقٍ منها سبعونَ ألفَ قبة من نارٍ، في كلِّ قبةٍ منها سبعونَ ألفَ تنورٍ من نارٍ، في كلِّ تنورٍ منها سبَّعَون ألفَ كوةٍ من نارٍ، في كلِّ كوةٍ منها سبعونَ ألفَ صخرةٍ من نارٍ، على كل صخرة منها سبعون ألفَ حجر من نار، على كل حجر منها سبعونَ ألفَ عقربٍ من نارٍ، لكلِّ عقربٍ منها سبعونَ ألفَ ذنبٍ من نارٍ، لكل ذنبٍ منها سبعونَ ألفَ فقارةٍ من نارٍ، في كل فقارة منها سبعونَ ألفَ قلةٍ من سمٍّ، وسبعونَ ألفَ موقد من نارٍ، يوقدونَ تلك النارَ، وَذكر تمامَ الحديثِ. وسيأتِي فيما بعد إن شاء اللَّهُّ تَعالى، وفيه: إنهم يهوونَ من بابٍ إلى بابٍ، خمسين (*) سنةٍ. وهو غريب ومنكرٌ. وإبراهيمُ بنُ الحكمِ بنِ أبانَ ضعيف تركه الأئمةُ. ... ¬

_ (*) وفي حاشية الأصل أنها في نسخة: "خمسمائة".

فصل وأبواب جهنم قبل دخول أهلها إليها يوم القيامة مغلقة

فصل وأبواب جهنم قبل دخول أهلها إليها يوم القيامة مغلقة كما دلّ عليه ظاهر قوله تعالى: {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} [الزمر: 71] الآية. وفي حديثِ أبي هارونَ العبدي، وهو ضعيف جدًّا، عن أبي سعيدٍ الخدريِّ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في قصة الإسراءِ، قال: "ثم عُرضتْ عليَّ النارُ، فإذا فيها غضبُ اللَّهِ وزجره ونقمتِه، لو طرحَ فيها الحجارةُ والحديدُ لأكلتْها، ثم أغلقتْ دونِي". (¬1). وقد رُويَ أن أبوابَها تفتحُ كل يوم نصفُ النهارِ، وسنذكرُهُ فيما بعدُ إن شاء اللَّه تعالى. وروى الإمامُ أحمدُ، عن إسحاقَ الأزرق، عن شريكٍ، عن الركينِ، عن أبيه، قالَ: رأى خبابُ بنُ الأرتِّ رجلاً يصلِّي نصفَ النهارِ، فنهاه، وقالَ: إنها ساعةٌ تفتحُ فيها أبوابُ جهنَّمَ فلا تصلّ فيها. وقد وردَ ما يستدلُّ به على أنها مفتحةٌ. ففي الصحيحينِ (¬2) عن أبي هريرةَ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "إذا جاءَ رمضانُ، ¬

_ (¬1) أخرجه البيهقي في "الدلائل" (2/ 390 - 396) مطولاً جدًّا، وأورده ابن كثير بإسناد البيهقي في "تفسيره" (1213 - 14) ثم قَالَ: وكذا رواه الإمام أبو جعفر بن جرير بطوله ثم ساق أسانيده، ثم قَالَ: ورواه ابن أبي حاتم وساق إسناده ثم قَالَ: فذكره حسن أنيق أجود مما ساقه غيره عَلَى غرابته وما فيه من النكارة. (¬2) أخرجه البخاري (1899)، ومسلم (1079).

فتحتْ أبوابُ الجنةِ، وغلِّقَت أبوابُ النارِ، وصفدتِ الشياطينُ ومردةُ الجنِّ". وخرَّج الترمذيُّ (¬1)، من حديثِ أبي هريرةَ عنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا كان أولُ ليلة من شهر رمضانَ، صفدتِ الشياطينُ ومردةُ الجنِّ، وغلقتْ أبوابُ النارِ، فلم يفتحْ منها بابٌ، وفتحتْ أبوابُ الجنةِ، فلم يغلقْ منها بابٌ". ولكنْ قد قيلَ: إن إغلاقَ أبوابِ النارِ إنَّما هو عن الصائمينَ خاصةً، وكذلك فتحُ أبوابِ الجنةِ هو لهم خاصةً. وفي حديثِ القاسم العُرنيِّ، عن الضحاكِ، عن ابنِ عباسٍ، عنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، في فضلِ رمضانَ، قالَ فيه: "فيفتحُ فيها يعني: من أول ليلة منه أبوابُ الجنةِ للصائمينَ من أمةِ محمد - صلى الله عليه وسلم -، فيقولُ اللَّهُ: يا رضوانُ، افتحْ أبوابَ الجنانِ، ويا مالكُ، أغلِقْ أبوابَ الجحيم عن الصائمينَ من أمَّةِ محمد - صلى الله عليه وسلم -" (¬2) وهذا منقطعٌ، فإن الضحاكَ لم يسمعْ من ابنِ عباسٍ. ... ¬

_ (¬1) برقم (682). (¬2) أورده المنذري مطولاً في الترغيب والترهيب (2/ 61 - 62) وقال: رواه أبو الشيخ ابن حيان في كتاب "الثواب"، والبيهقي واللفظ له، وليس في إسناده من أجمع عَلَى ضعفه.

الباب التاسع في ذكر ظلمتها وشدة سوادها

الباب التاسع في ذكر ظلمتها وشدة سوادها روى شريكٌ، عن عاصم، عن أبي صالح، عن أبي هريرة عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: "أوقدَ على النَّارِ ألفُ سنة حتَّى ابيضتْ، ثم أوقدَ عليها ألفُ سنة حتَّى احمرَّتْ، ثمَّ أوقِد عليها ألفُ سنة حتَّى اسودتْ، فهي سوداءُ مظلمة". خرَّجَه ابنُ ماجه (¬1) والترمذيُّ (¬2) وقال: حديثُ أبي هريرةَ في هذا موقوف أصح، ولا أعلمُ أحدًا رفَعه غيرُ يحيى بنِ أبي بكيرٍ (*) عن شريكٍ. وروى معن عن مالك، عن أبي سهيل، [عن أبيه] (**)، عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قالَ: "أترونَها حمراءَ كنارِكم هذه؟! لهى أشدُّ سوادًا من القارِ". خرَّجه البيهقيّ (¬3). وخرَّجه البزارُ (¬4) ولفظُه: "لهي أشدُّ سوادًا من دخانِ نارِكُم سبعينَ ضعفًا. ورُوي موقوفًا على أبي هريرة (¬5) وهو أصحُّ، قالَه الدارقطنيُّ (¬6). ¬

_ (¬1) برقم (4320). (¬2) برقم (2591) وقال الترمذي: حدثنا سويد، أخبرنا عبد الله بن المبارك، عن شريك عن عاصم عن أبي صالح أو رجل آخر، عن أبي هريرة نحوه ولم يرفعه. ثم ذكر الترمذي ما نقله ابن رجب من أن الحديث موقوف أصح. (*) في الأصل: "كثير" وهو تصحيف. (**) من البيهقي. (¬3) في "البعث والنشور" (501). (¬4) عزاه الهيثمي في "المجمع" (10/ 387) للطبراني في "الأوسط" وقال: رجاله رجال الصحيح. (¬5) أخرجه مالك في "الموطأ" كتاب جهنم - باب ما جاء في صفة جهنم (2/ 994) برقم (2) وفيه بدلا من "القار" الزفت. (¬6) في العلل (10/ 83) برقم (1882) وقد سئل عن هذا الحديث، فَقَالَ: يرويه=

وقالَ الجوزجَانيُّ: حدثنا عبيدُ اللَّه الحنفي، حدثنا فَرْقَدُ بنُ الحجاج، سمعتُ عقبةَ اليماني يقول: سمعتُ أبا هريرةَ يقول: قال رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ نَارَ جهنمَ أشدُّ حرًا من نارِكم هذه بتسعة وتسعينَ جزءًا، وهي سوداءُ مظلمةٌ، لا ضوءَ لها، لهي أشد سوادًا من القطرانِ". غريبٌ جدًّا. وروى الكُديمي، عن سهلِ بنِ حمادٍ، عن مباركِ بنِ فضالةَ، عن ثابتٍ، عن أنسٍ قال: تلا رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - {نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [التحريم: 6]. قال: "أوقِدَ عليها ألفُ عامٍ حتَى ابيضتْ، وألفُ عامٍ حتَى احمرت، وألفُ عامٍ حتَى اسودَّت، فهي سوداءُ لا يضيءُ لهبُها". خرَّجه البيهقيُّ َ (¬1)، والكُديميّ ليس بحجةٍ. وخرَّج البزار من حديثِ زائدةَ بنِ أبي الرقادِ، عن زيادٍ النميريِّ، عن أنسٍ، عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، أنَّه ذكر نارَكم هذه فقالَ: "إنها لجزءٌ من سبعينَ جزءًا من نارِ جهنم، وما وصلتْ إليكُم حتَّى -قال: أحسبه- نُضحتْ لمرتينِ بالماءِ، لتضيءَ لكُم، ونارُ جهنمَ سوداءُ مظلمةٌ" (¬2). وفي حديثِ عديِّ بن عدي، عن عُمَرَ مرفوعًا، ذكرَ الإيقادَ عليها ثلاثةَ آلافِ عامٍ أيضًا، وقال: "هي سوداءُ مظلمةٌ، لا يضئُ جمرُها ولا لهبُها". خرَّجه ابنُ أبي الدنيا والطبرانيُّ، وقد سبقَ إسنادُه والكلامُ عليه. ورَوى ابنُ أبي الدُّنيا (¬3) من طريقِ الحكم بنِ ظهيرٍ -وهو ضعيف-، عن عاصم، عن زرٍ، عن عبدِ اللَّهِ {وإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ} [التكوير: 12] قال: سُعّرَت ألفَ سنةٍ حتِّى ابيضت، ثُمَّ ألفَ سنةٍ حتى احمرت، ثمَّ ألفَ سنةٍ حتى اسودت، فهي سوداءُ مظلمةٌ. ¬

_ =مالك بن أنس عن عمه أبي سهيل بن مالك عن [أبيه] (1) عن أبي هريرة. ورُوي عن معن وابن أبي بكير مرفوعًا، والصحيح موقوف. (¬1) في "شعب الإيمان" (799). (¬2) أورده الهيثمي في "المجمع" (10/ 388) وقال: رواه البزار ورجاله ضعفاه عَلَى توثيقٍ لينٍ فيهم. (¬3) في "صفة النار" (24).

الحكم بن ظهير ضعيف. والصحيح رواية عاصم، عن أبي صالح، عن أبي هريرة كما سبق. وروى الأعمش، عن أبي ظبيان، عن سلمان، قَالَ: النار سوداء مظلمة، لا يطفأ جمرها، ولا يضيء لهبها، ثم قرأ: {وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ} [الأنفال: 50] (¬1). وخرّجه البيهقي، من طريق أحمد بن عبد الجبار، عن أبي معاوية، عن الأعمش مرفوعًا، وقال: رفعه ضعيف. وقال أبو جعفر الرازي: عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية، عن أبي بن كعب: ضرب الله مثلاً للكافر، قَالَ: {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ} [النور: 40] فهو يتقلب في خمس من الظلم: كلامه ظلمة، وعمله ظلمة، ومدخله ظلمة، ومخرجه ظلمة، ومصيره إِلَى ظلمات النار (¬2). وقال -أيضاً- أبو جعفر: عن الربيع بن أنس: إن الله جعل هذه النار -يعني نار الدُّنْيَا- نورًا وضياء ومتاعًا لأهل الأرض، وإن النار الكبرى سوداء مظلمة مثل القبر- نعوذ بالله منها. وعن الضحاكِ قالَ: جهنمُ سوداءُ، وماؤُها أسودُ، وشجرُها أسودُ، وأهلُها سود. وقد دلَّ على سوادِ أهلِها قولُه تعالى: {كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [يونس: 27]. وقولُه تعالى: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} الآيتين [آل عمران: 106]. ¬

_ (¬1) أخرجه ابن أبي شيبة (7/ 48)، والطبري في تفسيره (17/ 135) وسقط "سلمان" من إسناد الطبري المطبوع، وقد عزاه السيوطي في الدر المنثور (6/ 22) لابن جرير عن سلمان. (¬2) أخرجه الطبري في "تفسيره" (9/ 335 - علمية)، وابن حاتم (8/ 2614) برقم (14688).

وقد ثبتَ في الأحاديثِ الصحيحةِ (¬1)، أنَّ مِن عصاةِ الموحدينَ، من يحرق في النارِ حتَّى يصيرَ فحمًا. ... ¬

_ (¬1) أخرج البخاري (22)، ومسلم (184) من حديث أبي سعيد الخدري وفيه: أن الله تعالى يقول: "أخرجوا من كان في قلبه حبة من خردل من إيمان، فيخرجون منها قد اسوَدُّوا". وأخرج ابن حبان (183 - إحسان) من حديث جابر وفيه: "ثم يقول الله جل وعلا أنا الآن أخرج بنعمتي وبرحمتي فيخرج أضعاف ما أخرجوا وأضعافهم قد امتحشوا وصاروا فحمًا". وأخرج مسلم (185) من حديث أبي سعيد مرفوعًا "أما أهل النار الذين هم أهلها، فإنهم لا يموتون فيها ولا يحيون، ولكن ناس أصابتهم النار بذنوبهم -أو قَالَ:- بخطاياهم، فأماتهم إماتة حتى إذا كانوا فحمًا أذن بالشفاعة، فجيء بهم ضبائر ضبائر ... " الحديث.

الباب العاشر في شدة حرها وزمهريرها

الباب العاشر في شدة حرها وزمهريرها قَالَ الله عز وجل: {وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ} [التوبة: 81]. وفي "الصحيحينِ" (¬1)، عن أبي هريرةَ، عنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: "اشتكتِ النارُ إلى ربِّها فَقَالَتْ: يَا رَبِّ، أَكَلَ بَعْضِي بَعْضًا فنفسني". فَأَذِنَ لَهَا بِنَفَسَيْنِ، نَفَسٍ فِي الشِّتَاءِ وَنَفَسٍ فِي الصَّيْفِ، فَأَشَدُّ مَا تَجِدُونَ مِنْ الْحَرِّ مِن سمومُها وأَشَدُّ ما تجدونَ من البردِ زمهريرُهَا". وفي "الصحيحينِ" (¬2) أيضًا، عن أبي هريرةَ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: "نارُكم هذه، ما يوقدُ بنو آدمَ، جزء واحدٌ من سبعينَ جزءًا من نارِ جهنَّمَ". قالوا: والله، إن كانتْ لكافيةً. قال: "إنها فُضِّلتْ عليها، بتسعة وستينَ جزءًا كلِّهنَّ مثلُ حرِّهَا". وخرَّجه الإمامُ أحمدُ (¬3)، وزادَ فيه: "وضربت في البحرِ مرتينِ، ولولا ذلك ما جعل اللَّهُ فيها منفعة لأحدٍ". ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (537)، ومسلم (617). (¬2) أخرجه البخاري (3265)، ومسلم (2843). (¬3) (2/ 244).

وقد سبقَ من حديثِ أنسٍ نحوُهُ. وعن عطيةَ العوفيِّ، عن أبي سعيدٍ الخدري، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: "نارُكم هذه جزء من سبعينَ جزءًا من نارِ جهنَّم، (لكلِّ جزء منها مثل حرِّها). (*) خرَّجه الترمذيُّ (¬1). وقال الإمامُ أحمدُ (¬2): حدثنا قتيبةُ، حدثنا عبدُ العزيزِ - هو الدراورديُّ - عن سهيلٍ، عن أبيه، عن أبي هريرةَ أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "إنَّ هذه النارَ جزء من مائةِ جزءٍ من جهنَّمَ". وقال ابنُ مسعود: "إنَّ نارَكم هذه ضُرِبَ بها البحرُ ففترتْ، ولولا ذلكَ ما انتفعتم بها، وهي جزء من سبعينَ جزءًا من نارِ جهنَّمَ". وخرَّجه البزَّارُ مرفوعًا والموقوفُ (¬3) أصحُّ. وخرَّج الطبرانيُّ (¬4)، من طريقِ تمامِ بنِ نجيحِ، عن الحسنِ، عن أنسٍ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قالَ: "لو أن غربًا من جهنَّم، جعلَ في وسطِ الأرض، لآذى نتنُ ريحِهِ وشدةُ حرِّه ما بينَ المشرقِ والمغرب، ولو أنَّ شررَةً من شررِ جهنَّم بالمشرقِ، لوجدَ حرَّها مَن بالمغربِ". وتمامُ بنُ نجيع تكُلًّمَ فيه. وخرَّج أيضًا (¬5)، من طريقِ عديِّ بن عدي الكندي، عن عمرَ، أن جبريلَ ¬

_ (*) كذا بالأصل، وسياق الترمذي أطول من ذلك. (¬1) برقم (2589) من طريق همام بن منبه عن أبي هريرة. وقال الترمذي: هذا حديث صحيح. (¬2) (2/ 379) وقال الهيثمي في المجمع (10/ 387): ورجاله رجال الصحيح. (¬3) أخرجه هناد موقوفًا في "الزهد" (235)، والطبري في تفسيره (23/ 111). (¬4) في "المعجم الأوسط" (3681) وقال: لم يرو هذا الحديث عن الحسن إلاَّ تمام بن نجيح. وأخرجه ابن عدي في "الكامل" (2/ 84) في ترجمة تمام ثم قَالَ: ولتمام غير ما ذكرت من الروايات شيء يسير، وعامة ما يرويه لا يتابعه الثقات عليه. (¬5) في "المعجم الأوسط" (2583) مطولاً ثم قَالَ الطبراني: لا يروى هذا الحديث عن=

قال للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: "والذي بعثكَ بالحقِّ نبيًّا، لو أنَّ قدرَ ثقبِ إبرة فُتحَ من جهنَّمَ، لمات من في الأرضِ كلُّهم جميعًا من حرِّه". وقد سبقَ الكلامُ على إسنادِهِ. ورُوي من وجهٍ ضعيفٍ عن الحسنِ مرسلاً نحوُهُ أيضًا. وخرَّج أبو يعلى الموصلي (¬1)، من حديثِ أبي هريرةَ عنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "لو كان في هذا المسجدِ مائةُ ألف أو يزيدونَ، وفيهم رجل من أهلِ النارِ، فتنفسَ، فأصابَهُم نفسُهُ، لأحرقَ المسجدِ". لكن قالَ الإمامُ أحمدُ: هو حديث منكر. وقال كعبٌ لعمرَ بنِ الخطابِ: "لو فُتحَ من جهنَّم قدرُ منخرِ ثورٍ بالمشرقِ، ورجلٌ بِالمغربِ، لغلى دماغُهُ حتى يسيلَ من حرِّهِا" (¬2). ¬

_ =عمر إلاَّ بهذا الإسناد، تفرد به سلام. وقال الهيثمي في المجمع (10/ 387): وفيه سلام الطويل، وهو مجمع عَلَى ضعفه. (¬1) في "مسنده" (6670) وفيه "مائة" بدلا من "مائة ألف". وأخرجه أبو نعيم في "الحلية" (4/ 307) وقال: غريب من حديث سعيد، تفرد به أبو عبيدة عن هشام". قلت: وكلمة "غريب" هي إعلال للحديث عند علماء العلل ومنهم: "أبو نعيم الأصبهاني" فليتنبه لذلك. وقال الهيثمي في المجمع (10/ 391): رواه أبو يعلى عن شيخه إسحاق ولم ينسبه، فإن كان ابن راهويه فرجاله رجال الصحيح، وإن كان غيره فلم أعرفه. وقد نقل ابن رجب "رحمه الله" قول الإمام أحمد بن حنبل "رحمه الله" هو حديث منكر. قلت: والنكارة عند أحمد تعني الخطأ، فقد سأله الأثرم عن حديث من أحاديث الفضل بن دَلْهم، فَقَالَ أحمد: هذا حديث منكر. قَالَ الأثرم: يعني خطأ. وانظر لذلك بحثًا قيمًا لأخي الحبيب الشيخ طارق بن عوض الله "حفظه الله" في مقدمته لتحقيق كتاب "المنتخب من علل الخلال" فإنَّه أفاد وأجاد. (¬2) أخرجه أبو نعيم في "الحلية" (5/ 368 - 369).

وقال عبدُ الملكِ بن عميرٍ: لو أنَّ أهل النارِ كانُوا في نارِ الدنيا لقَالُوا فيها. وقال عبدُ اللَّهِ بن أحمدَ: أُخبرتُ عن (سيَّارٍ عن ابنِ المقرئ) (¬1) -وكان من خيارِ الناسِ- قال: بلغني أنَّ رجلاً لو خرجَ منها إلى نارِ الدنيا لنام فيها ألفي سنة. وقال معاويةُ بنُ صالحٍ، عن عبدِ الملكِ بن أبي بشيرِ، يرفعُ الحديثَ: "ما من يومٍ إلا والنارُ تقولُ: اشتدَّ حرِّي، وبعدَ قعري، وعظُم جمرِي، عَجِّلْ إلهي إليَّ بأهلي". وقال ابنُ عيينةَ، عن بشيرِ بنِ منصور، قلتُ لعطاء السلميِّ: لو أنَّ إنسانًا أوقدتْ له نار، فقيلَ لهُ: من دخلَ هذه النارَ نجا من النارِ؟ فقال: عطاءٌ: لو: قيلَ لي ذلك، لخشيتُ أن تخرجَ نفسِي فرحًا، أن أقعَ فيها. ... ¬

_ (¬1) كذا بالأصل، وفي المطبوع: "سيار، عن ابن المعزى".

فصل [في زمهرير جهنم بيت يتميز فيه الكافر من برده]

فصل [في زمهرير جهنم بيت يتميز فيه الكافر من برده] قد سبق في حديث مرفوعٍ: "إنَّ زمهريرَ جهنَّمَ بيت يتميزُ فيه الكافرُ من بردِهِ" يعني: يتقطع ويتمزعُ. ورَوى ابنُ أبي الدنيا (¬1)، من طريقِ الأعمشِ عن مجاهدٍ، قال: إنَّ في النارِ لزمهريرًا يغلونَ فيه، فيهربون منها إلى ذلك الزمهريرِ، فإذا وقعوا فيه، حطمَ عظامَهم، حتى يُسمعَ لها نقيضٌ (¬2). وعن ليثٍ عن مجاهدٍ، قالَ: الزمهريرُ، الذي لا يستطيعون أن يذوقُوه من بردِهِ. وعن قابوسِ بنِ أبي ظبيانَ، عن أبيه، عن ابنِ عباسٍ، قال: يستغيثُ أهلُ النارِ من الحرِّ، فيغوثونَ بريح باردة، فصدعُ العظامَ بردُها، فيسألون الحر (¬3). وعن عبدِ الملك بنِ عميرٍ، قالَ: بلغني أنَّ أهلَ النارِ سألوا خازنَها أن يخرجَهُم إلى جانبِهَا، فأخرجُوا، فقتلَهُم البردُ والزمهريرُ، حتى رجعُوا إليها فدخلوها، مما وجدوا من البردِ. وروى أبو نُعيمٍ (¬4) بإسنادِهِ عن ابنِ عباسٍ أنَّ كعبًا (*) قال إنَّ في جهنَم بردًا ¬

_ (¬1) في "صفه النار" (102). (¬2) أي: صوت. (¬3) أخرجه ابن أبي الدُّنْيَا في "صفة النار" (152). (¬4) في "الحلية" (5/ 370). (*) من "صفة النار" لابن أبي الدُّنْيَا.

هو الزمهرير يسقط اللحم [عن العظم] (*) حتى يستغيثوا بحر جهنم. ورُويَ عن ابنِ مسعودٍ قال: الزمهريرُ لونٌ من العذابِ. وعن عكرمة قَالَ: هو البرد الشديد. ورُوي عن زبيد اليامي (**)، أنّه قام ليلة للتهجد، فعمد إِلَى مطهرة له، قد كان يتوضأ فيها، فغسل يده، ثم أدخلها في المطهرة، فوجد الماء الَّذِي فيها باردًا شديدًا، كاد أن يجمد، فذكر الزمهرير، ويده في المطهرة فلم يخرجهما منها حتى أصبح. فجاءت الجارية، وهو عَلَى تلك الحال، فقالت: ما شأنك -يا سيدي- لم تصل الليلة، كما كنت تصلي؟. قَالَ: ويحك، إني أدخلت يدي في هذه المطهرة، فاشتد علي برد الماء، فذكرت به الزمهرير، فوالله ما شعرت بشدة برده حتى وقفت علي. انظري لا تخبري بهذا أحدًا ما دمت حيًّا. فما علم بذلك أحد حتى مات رحمه الله. ... ¬

_ (*) من الحلية. (**) في الأصل: "اليمامي" وكتب في حاشية الأصل: لعله اليامي.

الباب الحادي عشر في ذكر سجر جهنم وتسعيرها

الباب الحادي عشر في ذكر سجر جهنم وتسعيرها قد سبق في غير حديث أنّه قد أوقد عليها ثلاثة آلاف عام. وروى أبو هريرة، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم، قَالَ: "لما خلق الله النار، أرسل جبريل إليها، وقال له: اذهب فانظر إليها وإلى ما أعددت لأهلها فيها. قَالَ: فنظر إليها، فَإِذَا هي يركب بعضها بعضًا. ثم رجع فَقَالَ: وعزتك، لا يدخلها أحد سمع بها!. فأمر بها، فحفت بالشهوات، ثم قَالَ: اذهب، فانظر إِلَى ما أعددت لأهلها فيها. فذهب، فنظر إليها ورجع، فَقَالَ: وعزتك، لقد خشيت أن لا ينجو منها أحد إلاَّ دخلها. خرّجه الإمام أحمد (¬1) وأبو داود (¬2) والترمذي (¬3). وفي حديث سمرة بن جندب، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم: "أن ملكين أتياه في المنام فذكر رؤيا طويلة، وفيها قَالَ: فانطلقت فأتينا عَلَى رجل كريه المرآة، كأكره ما أنت راء رجلاً مرآة، فَإِذَا هو عند نار له، [يحشها] (*) ويسعى حولها. قَالَ: قلت: ما هذا؟ قالا لي: انطلق انطلق". وفي آخر الحديث قالا: "فأما الرجل الكريه المرآة، الَّذِي عند النار، ¬

_ (¬1) (2/ 332 - 333، 354، 373). (¬2) برقم (4744). (¬3) برقم (2560) وقال الترمذي: هذا حديث حن صحيح. (*) في الأصل: "يحثها"، وما نقلته من صحيح البخاري.

[يحشها] (*) ويسعى حولها، فإنه مالك خازن جهنم ". وقد خرّجه البخاري (¬1) بتمامه، وخرج مسلم أوله ولم يتمه (¬2). وقوله: كريه المرآة أي المنظر، وقوله: [يحشها] (*) أي يوقدها. وروى هذا الحديث أبو خلدة، عن أبي رجاء، عن سمرة بن جندب، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم، فذكر الحديث بطوله. وفي حديثه قَالَ: "فرأيت شجرة، لو أن الخلق اجتمعوا لأظلتهم، وتحتها وجلان، واحد يوقد نارًا وآخر يحتطب الحطب". وفي آخر الحديث قلت: "فالرجلان اللذان رأيت تحت الشجرة؟. قَالَ: ذانك ملكا جهنم، يحمون جهنم لأعداء الله إِلَى يوم القيامة". ... ¬

_ (*) في الأصل: "يحثها"، وما نقلته من صحيح البخاري. (¬1) برقم (7047). (¬2) برقم (2275).

فصل وجهنم تسجر كل يوم نصف النهار

فصل وجهنم تسجر كل يوم نصف النهار وفي صحيح مسلم (¬1)، عن عمرو بن عبسة، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم، قَالَ: "صل صلاة الصبح، ثم أقصر عن الصلاة، حتى تطلع الشمس وترتفع، فإنها تطلع حين تطلع بين قرني شيطان، وحينئذ يسجد لها الكفار، ثم صل فإن الصلاة مشهودة حتى يستقل الظل بالرمح، ثم أقصر عن الصلاة، فإنَّه حينئذ تسجر جهنم، فَإِذَا أقبل الفيء فصل وذكر بقية الحديث. وقد رُوي هذا المعنى عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم، من غير وجه، من حديث أبي أمامة وغيره. وفي حديث صفوان بن المعطل، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم: "إذا طلعت الشمس فصل، حتى تعتدل عَلَى رأسك مثل الرمح، فَإِذَا اعتدلت عَلَى رأسك، فإن تلك الساعة تسجر فيها جهنم، وتفتح فيها أبوابها، حتى تزول عن حاجبك الأيمن". خرّجه عبد الله بن الإمام أحمد (¬2). وفي حديث أبي هريرة، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم، في هذا المعنى قَالَ: "فَإِذَا انتصف النهار فأقصر عن الصلاة، حتى تميل الشمس، فإن حينئذ تسعر جهنم، وشدة الحر من فيح جهنم" (¬3). وروى أبو بكر بن عياش، عن عاصم، عن زر، عن عبد الله بن مسعود، ¬

_ (¬1) برقم (832). (¬2) أخرجه عبد الله في "المسند" (5/ 312) عن أبيه مطولاً، وفي إسناده انقطاع بين سعيد القبري وصفوان بن المعطل. (¬3) أخرجه أبو يعلى في مسنده (6581)، وابن حبان (1275 - إحسان).

قَالَ: "إن الشمس تطلع بين قرني شيطان -أو في قرني شيطان- فما ترتفع قصمة (¬1) في السماء إلاَّ فتح لها باب من أبواب النار، فَإِذَا كانت الظهيرة، فتحت أبواب النار كلها، فكنا ننهى عن الصلاة عند طلوع الشمس، وعند غروبها ونصف النهار". خرّجه يعقوب بن شيبة ورواه الإمام أحمد عن أبي بكر بن عياش أيضاً. وفي "الصحيحين" (¬2) عن أبي هريرة. عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم قَالَ: "إذا اشتد الحر فأبردوا بالصلاة، فإن شدة الحر من فيح جهنم". [وفي رواية خرجها أبو (*) نعيم] (¬3): "من فيح جهنم أو من فيح أبواب جهنم". وخرج أبو داود (¬4) "من حديث أبي قتادة، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم أنّه كره الصلاة نصف النهار، إلاَّ يوم الجمعة، وقال: إن جهنم تسجر إلاَّ يوم الجمعة". وفي إسناده انقطاع وضعف. ... ¬

_ (¬1) أي: درجة. (¬2) أخرجه البخاري (533)، ومسلم (645). (*) من المطبوع. (¬3) في "الحلية" (6/ 274) من طريق هشام بن حسان عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة مرفوعًا. وأخرجه أحمد في "مسنده" (2/ 507)، وأبو يعلى فى "مسنده" (6074) كلاهما من طريق هشام بن حسان عن محمد بن سيرين به. (¬4) برقم (1083).

فصل وتسجر أحيانا في غير نصف النهار

فصل وتسجر أحيانًا في غير نصف النهار كما خرّجه الطبراني (¬1)، من حديث ابن أم مكتوم، قَالَ: خرج النبيّ صلّى الله عليه وسلم ذات غداة، فَقَالَ: "سعرت النار، وجاءت الفتن" فذكر الحديث. ومن طريق عبيد الله بن سعيد، قائد الأعمش، عن الأعمش، عن زيد بن وهب، عن ابن مسعود رضي الله عنه، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم، قَالَ: "يا أهل الحجرات، سعرت النار، لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً، ولبكيتم كثيرًا" (¬2) عبيد الله بن سعيد فيه ضعف. والصحيح أن الأعمش رواه عن أبي سفيان، عن عبيد بن عمير مرسلاً. وقيل: عن الأعمش، عن أبي سفيان، عن ابن عمر، ولا يصح. وفي حديث، عدي بن عدي، عن عمر، أن جبريل قَالَ للنبي - صلى الله عليه وسلم -: "جئتك ¬

_ (¬1) في "المعجم الأوسط" (887) وقال الطبراني: لا يروى هذا الحديث عن ابن أم مكتوم إلاَّ بهذا الإسناد، تفرد به إسحاق بن سليمان. (¬2) أخرجه الطبراني في "الكبير" (10/ 10393)، والبزار في "البحر الزخار" (1772) وقال البزار: وهذا الحديث لا نعلم رواه إلاَّ عبيد الله بن سعيد بهذا الإسناد، ولا نعلمه يروى عن عبد الله إلاَّ من هذا الوجه. وأخرجه العقيلي في "الضعفاء الكبير" (3/ 121) وقال العقيلي: ولا يتابع عَلَى هذا -أي عبيد الله قائد الأعمش- ولا عَلَى غيره، في حديثه عن الأعمش وهم كثير، أما هذا المتن فيروى من غير هذا الوجه، بأسانيد صالحة جياد. وعزاه الهيثمي في المجمع (10/ 229) للطبراني في الكبير والأوسط، وللبزار وقال: وفيه عبيد الله بن سعيد قائد الأعمش وهو ضعيف، ووثقه ابن حبان وقال: يخطئ، وبقية رجاله ثقات، وفي بعضهم خلاف.

حين أمر الله عز وجل بمنافخ النار، فوضعت عَلَى النار" (¬1) الحديث. ورُوي أيضًا من حديث الحسن مرسلاً. وفي الإسنادين ضعف. ... ¬

_ (¬1) هو قطعة من حديث طويل أخرجه ابن أبي الدُّنْيَا في "صفة النار" (157)، والطبراني في الأوسط (2583) من طريق عدي بن عدي به. وأخرجه أبو نعيم في "الحلية" (6/ 138 - 140) من طريق الأوزاعي حدثني يزيد ابن مزيد عن جابر عن عبد الرحمن بن أبي عمرة الأنصاري أن عمر بن الخطاب وفيه: "وقد بلغني يا أمير المؤمنين أن جبريل عليه السلام أتى النبيّ صلّى الله عليه وسلم فَقَالَ: أتيتك حين أمر الله عز وجل بمنافيخ النار فوضعت عَلَى النار تسعر ليوم القيامة ... فذكره. قَالَ الهيثمي في المجمع (10/ 389): رواه الطبراني في "الأوسط" وفيه: سلام الطويل، وهو مجمع عَلَى ضعفه.

فصل وتسجر أيضا يو القيامة

فصل وتسجر أيضاً يو القيامة قَالَ الله تعالى: {وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ (12) وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ (13) عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ} [التكوير: 12 - 14]، وقرى "سعِّرت" وسعرت بالتشديد والتخفيف. قَالَ الزجاج: المعنى واحد، إلاَّ أن معنى المشدد أوقدت مرة بعد مرة. قَالَ قتادة: "وإذا الجحيم سعرت": أوقدت. وقال السدي: أحميت. وقال سعيد بن بشير عن قتادة: يسعرها غضب الله وخطايا بني آدم. خرّجه ابن أبي حاتم. وهذا يقتضي، أنَّ تسعيرَ جهنَّم، حيثُ سعرتْ، فإنما تسعر بخطايا بني آدمَ التي تقتضي غضبَ اللَّه، فتزدادُ جهنَم حينئذٍ تلهبًا وتسعُّرًا. وهذا، كما أن بناءَ دورِ الجنةِ غرس أشجارِها، يحصلُ بأعمالِ بني آدمَ الصالحةِ من الذكر وغيرِهِ، وكذلك حُسنُ ما فيها من الأزواجِ وغيرهم، يتزايدُ بتحسينِ الأعمالِ الصالحةِ، وكذلك جهنَّم، تسعرُ وتزدادُ آلاتُ العذابِ فيها، بكثرةِ ذنوبِ بني آدم وخطاياهم وغضبِ الربِّ تعالى عليهم. نعوذُ باللَّه من غضبِ اللَّه، ومن النارِ، وما قرَّب إليها من قولٍ وعملٍ، بِمنِّهِ وكرمِهِ. وقد سبق في الباب الخامس، صفة تسعر النار يوم القيامة ومزيدها، بإيقاد البحر وإضافته إليها.

فصل وتسجر على أهلها بعد دخولهم إليها

فصل وتسجر عَلَى أهلها بعد دخولهم إليها قَالَ الله عز وجل: {وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ (¬1) زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا (¬2)} [الإسراء: 97]. [قَالَ ابن عباس: كلما طفئت أوقدت. وقال ابن عباس: خبت: سكنت] (*). وقالَ ابنُ قتيبةَ: خبتِ النارُ، إذا سكنَ لهبُها، فاللهبُ يسكنُ والجمرُ يعملُ. وقال غير واحد من المفسرينَ: تأكلُهُم، فإذا صارُوا فحمًا، ولم تجدِ النارُ شيئًا تأكلُهُ، أعيد خلقُهم خلقًا جديدًا، فتعودُ لأكِلهِم. وقولهُ: {زِدْنَاهُم سَعِيرًا} أي: نارًا تتسعرُ وتتلهبُ. وقد رُويَ عن عمرِو بنِ عبسةَ أن في جهنَّمَ بئرًا يقال له: الفلقُ، منه تسعرُ جهنَّمُ إذا سعرتْ (¬3). وسنذكرُهُ فيما بعدُ إن شاءَ الله تعالى. والمعنى أنَّه يكشفُ تلك البئرُ فتخرج منه نارٌ تلهب جهنَّم وتوقدُها. وقالَ اللَّه تعالى: {فَأَنذَرْتُكمْ نَارًا تَلَظَّى} [الليل: 14]. ¬

_ (¬1) خبت: سكن لهبها. (¬2) سعيرًا: لهبًا وتوقدًا. (*) من المطبوع. (¬3) أخرجه ابن أبي الدُّنْيَا في "صفة النار" (44).

قال مجاهدٌ وعْيرُهُ: توهجُ. قرأ عمرُ بنُ عبدِ العزيزِ ليلةً في صلاتِهِ سورةَ: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} فلما بلغَ قولَهُ: {فَأَنذَرْتُكمْ نَارًا تَلَظَّى}. بكى، ولم يستطعْ أنْ يجيزهَا، ثم عاد فقرأ السورة حتى بلغ الآية، فلم يستطع أن يجاوزها مرتين أو ثلاثًا، ثم قرأ سورةً أخرى غيرَها. * * *

الباب الثاني عشر في ذكر تغيظها وزفيرها

الباب الثاني عشر في ذكر تغيظها وزفيرها قَالَ الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ (101) لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا} [الأنبياء: 102]. وقال تعالى: {وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا (11) إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا} [الفرقان: 12]. وقال تعالى: {وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (6) إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ (7) تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ} [الملك: 6 - 8]. والشهيق: الصوت الَّذِي يخرج من الجوف بشدة كصوت الحمار. قَالَ الربيع بن أنس: الشهيق في الصدر. وقال مجاهد في قوله {وَهِيَ تَفُورُ} قَالَ: تغلي بهم كما تغلي القدورة. وقال ابن عباس: تتميز: تفرق، وعنه قَالَ: يكاد يفارق بعضها بعضًا وتتفطر. وعن الضحاك: تتميز: تتفطر. وقال ابن زيد: التميز: التفرق من شدة الغيظ عَلَى أهل معاصي الله عز وجل، غضبًا لله، وانتقامًا له. وخرج ابن أبي حاتم (¬1)، من حديث خالد بن دريك، عن رجل من الصحابة، قَالَ: قَالَ رسول الله صلّى الله عليه وسلم: "من تقول علي ما لم أقل، فليتبوأ بين عيني جهنم مقعدًا. قيل: يا رسول الله صلّى الله عليه وسلم وهل لها عينان؟ قَالَ: نعم، أو لم تسمع قول الله عز وجل: {ذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا} [الفرقان: 12]. ¬

_ (¬1) كما في "تفسير ابن كثير" (6/ 62 - دار الإيمان).

وروى أبو يحيى القتاتُ، عن مجاهد عن ابنِ عباسٍ قالَ: إن العبدَ ليجرُّ إلى النارِ، فتشهقُ إليه شهقةَ البغلةِ إلى الشعير، ثم تزفرُ زفرةً لا يبقى أحدٌ إلا خافَ. خرَّجهُ ابنُ أبي حاتمٍ (¬1). وقال كعب: ما خلقَ اللَّهُ من شيءٍ، إلا وهوَ يسمعُ زفيرَ جهنم غدوةً وعشيةً، إلا الثقلينِ، اللذينِ عليهما الحسابُ والعذابُ. خرَّجَه الجوزجانيّ. وفي كتابِ "الزهدِ" لهنادِ بنِ السريِّ (¬2)، عن مغيثِ بنِ سمي، قالَ: إنَّ لجهنمَ كلَّ يومٍ زفرتين، يسمعُهما كلُّ شيءٍ إلا الثقلينِ اللذينِ عليهما الحسابُ والعذابُ. وعن الضحاك قالَ: إن لجهنَّمَ زفرة يومَ القيامة، لا يبقى ملكٌ مقرَّبٌ، ولا نبيٌّ مرسلٌ، إلا خرَّ ساجدًا يقولُ: رب نفسي نفسِي. وعن عبيدِ بنِ عميرٍ، قالَ: تزفرُ جهنمُ زفرةً، فلا يبقى ملكٌ، ولا نبيٌّ، إلا وقعَ لركبتيه، ترعدُ فرائصُهُ، يقولُ: ربِّ نفسي نفسي. وروى ابنُ أبي الدُّنيا وغيرُه، عن الضحاكِ، قالَ: ينزلُ الملكُ الأعلَى في بهائه وملكِهِ، مجنبته اليسرى جهنمُ، فيسمعونَ شهيقها وزفيرهَا فيندُّون. وعن وهبِ بنِ مُنَبِّه، قالَ: إذا سيرتِ الجبالُ، فسمعتْ حسيسَ النارِ وتغيظَها وزفيرَها وشهيقَها، صرختِ الجبالُ كما تصرخُ النساءُ، ثم يرجعُ أوائلُها على أواخرِهَا، يدقُ بعضُها بعضًا. خرَّجهُ الإمامُ أحمد (¬3). وفي تفسيرِ آدمَ بنِ أبي إياس عن محمدِ بنِ الفضلِ، عن عليِّ بنِ زيدِ بن جدعان، عن أبي الضُّحى، عن ابنِ عباسٍ، قالَ: تزفرُ جهنمُ زفرةً، لا يبْقَى ملكٌ ¬

_ (¬1) كما في تفسير ابن كثير (3/ 312) ثم قَالَ ابن كثير: هكذا رواه ابن أبي حاتم بإسناده مختصراً، وقد رواه الإمام أبو جعفر الطبري ثم ساق سنده، ثم قَالَ: وهذا إسناد صحيح. (¬2) برقم (255). (¬3) في "الزهد" (373، 374 - علمية).

مقرب، ولا نبيٌّ مرسلٌ، إلا جثا على ركبتيهِ حولَ جهنَّم، فتطيشُ عقولهُم، فيقولُ اللَّهُ عز وجلَّ: ماذا أجبتُمُ؟ قالُوا: لا علمَ لنا. ثم تُردُّ عليهم عقولُهم، فينطقونَ بحجتِهِم، وينطقونَ بعذرِهِم. محمدُ بنُ الفضلِ، هو ابنُ عطيةَ، متروكٌ. قال آدمُ بن أبي إياس: وحدثنا أبو صفوانَ، عن عاصم بنِ سليمانَ الكوزيِّ، عن ابنِ جريج، عن عطاءٍ، عن ابنِ عباسٍ {إِذَا رَأَتْهم مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ} [الفرقان: 12] من مسيرة مائة عامٍ، وذلكَ أنه إذا أُتيَ بجهنمَ، تقادُ بسبعينَ ألف زمام، يشدّد بكلِّ زمامٍ سبعونَ ألفَ ملكٍ، لو تركتْ لأتتْ على كُلِّ برٍ وفاجر {سَمِعوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا} [الفرقان: 12] ثمَّ تَزفرُ زفرة، لا يبقى قطرةٌ من دمع إلا بدرت، ثم تزفرُ الثانيةُ، فَتقطع القلوبُ من أماكنها، تقطع اللهواتِ والحناجرَ، وهو قولُه: {وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الحَنَاجِرَ} [الأحزاب: 10] وعاصم الكوزيُّ ضعيف جدًّا. وقال الليث بن سعد، عن عبيد الله بن أبي جعفر: إن جهنم لتزفر زفرة، (تنشق) (*) منها قلوب الظلمة، ثم تزفر أخرى، فيطيرون من الأرض، حتى يقعوا عَلَى رءوسهم. خرّجه عبد الله بن الإمام أحمد (¬1). ورَوى أسدُ بنُ موسى، عن إبراهيمَ بنِ محمد، عن صفوانَ بنِ سليم، عن عطاءِ بنِ يسارِ، عن عبدِ اللهِ بنِ عمرِو بن العاصِ، مثلَه. وخرجَ أبو نعيم (¬2)، وغيره، من روايةِ عبدِ الرحمنِ بنِ حاطبٍ، قالَ قالَ عمرُ - رضي الله عنه - لكعبِ: خَوِّفْنَا، قالَ: والذي نفسِي بيده؛ إن النارَ لتقربُ يومَ القيامة، لها زفيرٌ وشهيقٌ، حتى إذا أدنيت وقربت، زفرت زفرةً، فما خلقَ اللَّهُ من نبي ولا شهيدٍ، إلا وجبَ لركبتيهِ ساقطًا، حتى يقولَ كل نبي، وكلُّ صدِّيق، وكلُّ ¬

_ (*) في الأصل: "تشهق" والمثبت من حاشية الأصل. (¬1) في "الزهد" ص 368 - علمية. (¬2) في "الحلية" (5/ 371).

شهيدٍ: اللهمَّ لا أكلفُكَ اليومَ إلا نفسِي، ولو كانَ لكَ يا ابنَ الخطابِ عملُ سبعينَ نبيًّا لظننتَ أن لا تنجُو، قالَ عمرُ: واللَّه إن الأمرَ لشديد. ومن روايةِ شريح بنِ عبيدٍ قالَ: قالَ عمرُ لكعب: خَوِّفنا، قالَ: واللهِ لتزفرنَّ جهنمُ زفرةً، لا يبقَى ملك مقرَّب، ولا غيرُهُ، إلا خرَّ جاثيًا على ركبتيهِ، يقولُ: ربِّ نفسِي نفسِي، وحتى نبينا، وإبراهيمَ، وإسحاقَ - عليهمُ الصلاة والسلامُ، قال: فأبكَى (*) القوم حتى نشجوا. وفي رواية مطرفِ بن الشخيرِ، عن كعبٍ، قالَ: كنتُ عندَ عمرَ، فقالَ: يا كعبُ، خوِّفنا، فقلتُ يا أميرَ المؤمنينَ، إنَّ جهنمَ لتزفرُ يومَ القيامة زفرةً، ما يبقَى ملك مقرب، ولا نبي مرسل، إلا خرَ ساجِدًا على ركبتيهِ، حتى إنً إبراهيمَ خليله - عليه السلامُ - ليخرُّ ساجِدًا، ويقولُ: نفسِي نفسِي، لا أسألكُ اليومَ إلا نفسِي، قالَ: فأطرقَ عمرُ مليًّا. قالَ: قلتُ: يا أميرَ المؤمنينَ، أولستُم تجدونَ هذا في كتابِ اللَّهِ عزَّ وجل؟!. قالَ عمرُ: كيفَ؟. قلتُ: يقولُ اللَه عزَّ وجل في هذه الآيةِ: {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} [النحل: 111] (¬1). وكانَ سعيدُ الجرميُّ، يقولُ في موعظتِهِ، إذا وصفَ الخائفين: كأنَ زفيرَ النارِ في آذانِهِم. وعن الحسنِ، أنه قالَ في وصفِهم: إذا مرُّوا بآية، من ذكرُ الجنة، بكوا شَوْقًا، وإذا مرُّوا بآيةٍ، من ذكر النارِ، ضجوا صُراخًا، كأنَّ زفيرَ جهنًّم عندَ أصولِ آذانِهِم. وروى ابنُ أبي الدنيا، وغيرُه عن أبي وائلٍ، قالَ: خرجْنا معَ ابنِ مسعودٍ، ¬

_ (*) في حاشية الأصل: "فبكى". (¬1) أخرجه أبو نعيم في "الحلية" (5/ 368 - 369).

ومعنا الربيعُ بنُ خُثَيم، فأتينَا على تنورٍ على شاطئ الفراتِ، فلمَّا رآهُ عبدُ اللَّهِ والنارُ تلتهبُ في جوفهِ قرأَ هذه الآيةَ {إِذَا رَأَتْهُم مِّن مَّكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا} إلى قوله: {ثُبُورًا} [الفرقان: 12 - 13] فصعقَ الربيعُ بنُ خثَيمٍ، فاحتملناه إلى أهلهِ، فرابطَهُ عبدُ اللَّهِ حتى صلَّى الناسُ الظهرَ، فلم يُفقْ، ثم رابطَهُ إلى العصرِ فلم يُفِقْ، ثم رابطَهُ إلى المغربِ فأفاقَ، فرجعَ عبدُ اللَّهِ إلى أهلهِ. ومن روايةِ مسمع بنِ عاصم قالَ: بتُّ أنا وعبدُ العزيزِ بن سليمانَ وكلابُ ابنُ جريٍّ وسلمانُ الأعرجُ على ساحلٍ من بعضِ السواحلِ، فبكَى كلاب حتى خشيتُ أن يموتَ، ثم بكى عبدُ العزيزِ لبكائِهِ، ثم بكَى سلمانُ لبكائهِمَا، وبكيت والله لبكائهم، لا أدري ما أبكاهم. فلما كانَ بعدُ، سألتُ عبدَ العزيزِ فقلتُ: يا أبا محمدٍ ما الذي أبكاك ليلتئذٍ؟. قالَ: إنَي واللَّهِ نظرتُ إلى أمواج البحرِ، تموجُ وتجيلُ، فذكرتُ أطباقَ النيرانِ وزفراتِها، فذلكَ الذي أبكاني. ثم سألتُ كلابًا أيضًا نحوًا مما سألتُ عبدَ العزيز فواللَّهِ لكأنّما سمعَ قصتَهُ، فقال لي مثلَ ذلكَ. ثم سألتُ سلمانَ الأعرجَ نحوًا مما سألتُهما. فقالَ لي: ما كانَ في القومِ شرًّا منّي، ما كانَ بُكائي إلا لبكائِهم، رحمةً لهم مما كانُوا يصنعونَ بأنفسِهِم - رحمهُمُ اللَّهُ تعالى. * * *

الباب الثالث عشر في ذكر فى دخانها وشررها ولهبها

الباب الثالث عشر في ذكر فى دخانها وشررها ولهبها قوله تعالى: {وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ (41) فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ (42) وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ (43) لَا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ} [الواقعة: 41 - 44]. قالَ ابنُ عباسٍ: ظلٌّ من دخانٍ. وكذا قالَ مجاهدٌ، وعكرمةُ، وغيرُ واحدٍ. وعن مجاهدٍ، قالَ: ظل من دخانِ جهنمَ، وهو السَّمُومُ. وقالَ أبو مالكٌ اليحمومُ: ظلٌّ من دخانِ جهنمَ. قالَ الحسنُ وقتادةُ، في قولهِ: {لَا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ}: لا باردُ المدخلِ، ولا كريمُ المنظرِ. والسَّمُومُ: هو الريحُ الحارةُ، قالَه قتادةُ وغيرُه. وهذه الآية، تضمنتْ ذكرَ ما يُتبردُ به في الدُّنيا، من الكربِ والحرِّ، وهو ثلاثة: الماءُ، والهواءُ، والظلُّ، فهواءُ جهنمَ: السمومُ، وهو الريحُ الحارَةُ الشديدةُ الحرِّ، وماؤُها: الحميمُ وهو الذي قدْ اشتدَّ حرُّهُ، وظلُّها: اليحمومُ، وهو قطعُ دخانِها، أجارَنا اللهُ من ذلك كلِّه بكرمِه. وقالَ تعالى: {انْطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلَاثِ شُعَبٍ} [المرسلات: 30]. قالَ مجاهد: هو دخانُ جهنمَ: اللهبُ الأخضرُ، والأسودُ، والأصفرُ، الذي يعلو النَّارُ، إذا أُوقِدتْ. قالَ السديُّ، في قولهِ: {إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ} [المرسلات: 32]. قال: زعمُوا أن شررَها ترمي به كأصولِ الشجرِ ثمَّ يرتفعُ فيمتدُّ. وقالَ القرظيُّ: على جهنمَ سور، فما خرج من وراءِ سورِها، يخرجُ منها في

عظم القصورِ، ولونِ القارِ. وقال الحسنُ والضحاكُ في قوله: "كالْقَصْرِ": هو كأصولِ الشجرِ العظامِ. وقالَ مجاهد: قطعُ الشجرِ والجبلِ. وصحَّ عن ابنِ مسعودٍ قالَ: شرر كالقصورِ والمدائنِ. ورَوى عليٌّ بنُ أبي طلحةَ، عن ابنِ عباسٍ، قالَ: "شَرَرٍ كالْقَصْرِ" يقولُ: كالقصرِ العظيم (¬1). وفي "صحيح البخاريّ" (¬2) عن ابنِ عباس، قالَ: كنا نرفعُ من الخشبِ، بقصرِ ثلاثةَ أذرع، أو أقلَّ، نرفعُه للشتاءِ، نُسميه القصرَ. وقولُه: "كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ صُفْرٌ" قالَ ابنُ عباسٍ: حبالُ السفنِ، يُجمَعُ بعضُها إلى بعضٍ، تكونُ كأوساطِ الرجالِ (¬3). وقالَ مجاهد: هي حبالُ الجسورِ. وقالتْ طائفة: هي الإبلُ، منهم الحسنُ وقتادةُ والضحاكُ، وقالوا: الصفرُ هي السودُ. ورُوي عن مجاهدٍ أيضًا. وقالَ عليٌّ بنُ أبي طلحةَ، عن ابنِ عباسٍ في قولهِ: "جِمَالَتٌ صُفْرٌ" قال: يقولُ: قِطَعُ النحاسِ (¬4). قال اللَّهُ عزَّ وجلَّ: {يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ} [الرحمن: 35]. قال عليٌّ بنُ أبي طلحةَ عن ابنِ عباسٍ {شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ} يقولُ: لهبُ النَّارِ (¬5) ¬

_ (¬1) أخرجه الطبري (29/ 239). (¬2) برقم (4932). (¬3) أخرجه البخاري (4933). (¬4) أخرجه الطبري (29/ 242). (¬5) أخرجه الطبري (27/ 139).

{وَنُحَاسٌ} يقول: دخانُ النَارِ (¬1). وكذا قالَ سعيدُ بنُ جبيرٍ، وأبو صالح، وغيرُهما: إنَّ النحاسَ: دخانُ النَارِ. وقالَ سعيدُ بنُ جبيرٍ، عن ابنِ عباس {شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ} قالَ: دخانٌ. وقال أبو صالح: الشواظُ: اللهبُ الذي فوقَ النَّارِ ودونَ الدخانِ. قالَ منصور عن مجاهدٍ: الشواظُ: هو اللهب الأخضرُ المتقطعُ. وعنه قالَ: الشواظُ: قطعة من النَّارِ فيها خُضرة. قالَ الحسينُ بنُ منصورٍ: أخرج الفضيلُ بنُ عياضٍ رأسه من خوخةٍ، فقالَ منصورٌ عن مجاهدٍ: {يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ فَلا تَنتَصِرَانِ} [الرحمن: 35] ثمَّ أدخلَ رأسَه فانتحَب. ثم أخرجَ رأسَه، فقالَ: هو اللهبُ المتقطعُ. ولم يستطعْ أنْ يجيزَ الحديثَ. وخرَّجَ النسائيُّ (¬2) والترمذيُّ (¬3)، من حديثِ أبي هريرةَ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قالَ: "لا يجتمعُ غبار في سبيلِ اللَّهِ ودخانُ جهنمَ، في جوفِ امرئ أبدًا". وخرج الإمام أحمد (¬4)، من حديث أبي الدرداء، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم نحوه. ... ¬

_ (¬1) أخرجه الطبري (27/ 139). (¬2) في "المجتبى" (6/ 12). (¬3) برقم (1633) وقال: هذا حديث حسن صحيح. (¬4) (6/ 443) ولفظ أحمد: "ثم لا يجمع الله في جوف رجل غبارًا في سبيل الله ودخان جهنم" وفي إسناه خالد بن دريك وهو لم يدرك أبا الدرداء.

الباب الرابع عشر في ذكر أوديتها وجبالها وآبارها وجبابها وعيونها وأنهارها

الباب الرابع عشر في ذكر أوديتها وجبالها وآبارها وجبابها وعيونها وأنهارها روى دراجٌ، عن أبي الهيثم، عن أبي سعيدٍ، عن النبيّ - صلّى الله عليه وسلم - قالَ: "ويل: واد في جهنم، يهوي فيه الكافر، أربعين خريفًا، قبل أن يبلغ قعره". خرّجه الإمام أحمد (¬1)، والترمذي (¬2)، ولفظه: "واد بين جبلين يهوي فيه الكافر، سبعين خريفًا، قبل أن يبلغ قعره". وذكر أنه لا يعرفه إلاَّ من حديث ابن لهيعة، عن دراج. ولكن خرّجه ابن حبان (¬3)، والحاكم (¬4)، في صحيحيهما من حديث عمرو بن الحارث، عن دراج به. وخرج ابن جرير الطبري (¬5)، بإسناد فيه نظر، عن عثمان، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم، قَالَ: "الويل جبل في النار". ¬

_ (¬1) (3/ 75). (¬2) برقم (3164) وقال الترمذي: هذا حديث غريب لا نعرفه مرفوعًا إلاَّ من حديث ابن لهيعة. قال ابن كثير في "تفسيره" وهذا الحديث بهذا الإسناد مرفوعًا منكر، والله أعلم. (¬3) برقم (7467 - إحسان). (¬4) في "المستدرك" (2/ 551، 583)، (4/ 639) وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. (¬5) في "تفسيره" (1/ 379). وذكره ابن كثير بإسناد ابن جرير ومتنه ثم قَالَ: وهذا غريب أيضاً جدًّا.

وخرج البزار (¬1)، بإسناد مجهول، عن سعد بن أبي وقاص، قَالَ: سمعت النبيّ - صلى الله عليه وسلم -"، يقول: "إن في النار حجرًا، يقاله له: ويل، يصعد عليه العرفاء، وينزلون منه". ورواه ابن أبي حاتم، في طريق الحماني، حدثنا خلف بن خليفة، عن العلاء ابن المسيب، عن أبيه عن أبى عبيدة، عن عبد الله، قَالَ: ويل واد في جهنم من قيح (¬2). ومن طريق المحاربي، عن العلاء بن المسيب، عن أبيه وعاصم بن أبي النجود، قالا: واد في جهنم يقال له: ويل، ينصب فيه صديد أهل النار. ومن طريق زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، قَالَ: الويل واد في جهنم، لو سيرت فيه الجبال لماعت من حره (¬3). وعن مالك بن دينار، قَالَ: الويل: واد في جهنم، فيه ألوان العذاب. وعن أبي عياض، قَالَ: ويل: واد يسيل من صديد في أصل جهنم (¬4). وخرج ابن جرير بإسناده، عن أبي عياض، قَالَ: ويل: صهريج في أصل جهنم، يسيل فيه صديد أهل النار. وعن سفيان نحوه. وروى الأعمش، عن زر، عن وائل بن مهانة، قَالَ: الويل واد في جهنم من قيح. ¬

_ (¬1) في "البحر الزخار" (60) من مسند سعد بن أبي وقاص بتحقيق شيخنا الحويني "حفظه الله" وقال: إسناده ضعيف. (¬2) وعزاه الهيثمي في المجمع (7/ 55) للطبراني بأسانيد رجال بعضها ثقات، إلاَّ أن أبا عبيدة لم يسمع من أبيه. (¬3) أخرجه نعيم بن حماد في زوائده عَلَى زهد ابن المبارك (332)، وابن أبي الدُّنْيَا في "صفة النار" (32). (¬4) أخرجه نعيم في زوائد الزهد (333)، وابن أبي الدُّنْيَا في "صفة النار" (33) مع اختلاف في بعض ألفاظه.

فصل [في تفسير قوله تعالى: {سأرهقه صعودا}]

فصل [في تفسير قوله تعالى: {سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا}] وروى دراجٌ، عن أبي الهيثم، عن أبي سعيدٍ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال في قوله تعالى: {سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا} [المدثر: 17] قال: "جبلٌ من نارٍ، يكلفُ أن يصعدَهُ، فإذا وضَعَ يدَهُ عليه ذابتْ، وإذا رفَعَها عادتْ، وإذا وَضعَ رِجلَه عليه ذابتْ، وإذا رَفَعها عادتْ، يصعدُ سبعينَ خرِيفًا، ثم هَوى مثلَها كذلك". وهذا الحديثُ خرَّجه الإمامُ (¬1) أحمدُ وغيرُه (¬2) بمعناه. وخرّجه الترمذي (¬3) مختصرًا، ولفظه: "الصعود: جبل من نار، يصعد فيه الكافر سبعين خريفًا ويهوي فيه كذلك أبدًا". وقال: حديث غريب، لا نعرفه مرفوعًا، إلاَّ من حديث ابن لهيعة عن دراج. ولكن رواه أيضًا، عمرو بن الحارث، عن دراج، به خرّجه من طريقه الحاكم (¬4)، وقال: صحيح الإسناد. ¬

_ (¬1) (3/ 75). (¬2) وأخرجه عبد بن حميد في "مسنده" (924) وأخرج لفظ المصنف الطبراني في "الأوسط" (5573) وقال الطبراني: لم يرفع هذا الحديث عن عمار الدهني إلاَّ شريك، ورواه سفيان بن عيينة، عن عمار الدهني، فوقفه. وقال الهيثمي في المجمع (7/ 131): رواه الطبراني في "الأوسط" وفيه عطية وهو ضعيف. (¬3) برقم (3326) وقال الترمذي: هذا حديث غريب، إِنَّمَا نعرفه مرفوعًا من حديث ابن لهيعة، وقد رُوِي شيء من هذا عن عطية عن أبي سعيد قوله موقوف. (¬4) سبق تخريجه.

ورَوى هذا الحديثَ أيضًا، شريكٌ عن عمارٍ الدهني، عن عطيةَ، عن أبي سعيدٍ الخدريِّ، عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم -. خرَّجه من طريقِهِ البزارُ (¬1)، وقال: تفردَ شريكٌ برفعه. ووقفه سفيانُ على عمار - أي أنه وقفَهُ على أبي سعيد - ولم يرفعْهُ. ورواه أيضًا عمرُو بنُ قيسٍ الملائي، عن عطيةَ، عن أبي سعيد الخدريِّ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -. ورَوى سماك، عن عكرمةَ، عن ابنِ عباسٍ، في قولِهِ: {سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا} قالَ: جبل في النارِ. [ورويناه من طريق فيه ضعف، عن الضحاك، عن ابن عباس، قَالَ: هو جبل من النار] (*) زلق، كما صعد الفاجر زلق، يهوي في النار. وعن ابن السائبِ قال: هو جبل من صخرةٍ ملساءَ في النارِ، يكلفُ أن يصعدها، حتى إذا بلغ أعلاها أخضر إلى أسفلِها، ثم يكلفُ أيضًا أن يصعدَها، فذلك دأبُهُ أبدًا، يجذبُ من أمامِهِ بسلاسلِ الحديدِ، ويضربُ من خلفِه بمقامع الحديدِ، فيصعدُهَا في أربعين سنةٍ. وقال أيوبُ بنُ بشير، عن شفي بن ماتع، قال: في جهنَّم جبل يُدْعَى صعودًا، يطلعُ فيه الكافرُ أربعينَ خريفًا قبل أن يرقاهُ. خرَّجه ابنُ أبي الدنيا (¬2). ¬

_ (¬1) وأخرجه الطبري في "تفسيره" (12/ 308 - دار الكتب العلمية). وسئل الدارقطني عن حديث عطية عن أبي سعيد في قوله تعالى: {سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا} في العلل (11/ 290 - 291) برقم (2289) فَقَالَ: يرويه عمار الدهني عن عطية، واختلف عنه؛ فرواه شريك عن عمار عن عطية عن أبي سعيد مرفوعًا. ورواه عبيدة بن حميد وابن عيينة عن عمار موقوفًا. وكذلك رواه إبراهيم بن مهاجر عن عطية عن أبي سعيد موقوفًا، وعطية مضطرب الحديث. ورواه عمرو بن قيس الملائي عن عطية عن أبي سعيد مرفوعًا. (*) من المطبوع. (¬2) في "صفة النار" (37).

فصل [في أودية جهنم]

فصل [في أودية جهنم] وروى عطية عن ابن عمر، في قوله تعالى: {فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ} [البلد: 11] قَالَ: جبل زلزال في جهنم. وقد سبق ذكره في الباب السادس، وذكرنا فيه عن أبي رجاء، قَالَ: بلغني أن مطلعها سبعة آلاف سنة، ومهبطها سبعة آلاف سنة. وروى لقمان بن عامر، عن أبي أمامة، مرفوعًا: "غي وآثام: نهران في أسفل جهنم، يسيل فيهما صديد أهل النار" (¬1). وقد سبق ذكره، مرفوعًا وموقوفًا (¬2)، بلفظ آخر، وهو "بئران". ورُوي أيضاً، عن ابن عباس، مرفوعًا: "الغي واد في جهنم". ولا يصح رفعه. وعن أبي إسحاق، عن أبي عبيدة عن عبد الله {فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} [مريم: 59] قَالَ: واد في جهنم، خبيث الطعم، بعيد القعر. خرّجه ابن أبي الدُّنْيَا (¬3) وغيره (¬4). ¬

_ (¬1) أخرجه ابن أبي الدُّنْيَا في "صفة النار" (17) بلفظ: "بئران". (¬2) أخرجه ابن أبي الدُّنْيَا في "صفة النار" (25) بلفظ: "إن ما بين شفير جهنم إِلَى قعرها مسيرة سبعين خريفًا من حجر يهوي، أو قَالَ: صخرة تهوي، عظَمُها كعشر عشراوات عظام سمان. فَقَالَ له مولى لعبد الرحمن بن خالد بن الوليد: هل تحت ذاك شيء يا أبا أمامة؟ قَالَ: نعم، غي وأثام. (¬3) في "صفة النار" (ق 143/ أ). (¬4) وأخرجه هناد في "الزهد" (276)، والطبرى (16/ 75)، والطبراني في الكبير (9/ 259)، والحاكم (2/ 374) وقال: هذا حديث الإسناد ولم يخرجاه. قلت: في إسناده انقطاع، فإن أبا عبيدة لم يسمع من عبد الله بن مسعود.

وخرّجه البيهقي (¬1) ولفظه: "الغي: نهر حميم في النار، يقذف فيه الذين يتبعون الشهوات". وخرّجه أيضاً (¬2) من وجه آخر، عن أبي إسحاق، عن البراء بن عازب بنحوه. ورواه عمرو بن قيس، عن عطية، عن أبي عبيدة، قَالَ: هو نهر في جهنم. وقال همام، عن قتادة، قَالَ: "أثام: واد في جهنم". [وكذا قَالَ ابن أبي نجيح، عن مجاهد. وقال شفي بن ماتع: إن في جهنم] (*) قصرًا يقال له: هوى، يرمى الكافر من أعلاه أربعين خريفًا قبل أن يبلغ أصله، قَالَ الله: {وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى} [طه: 81]. وإن في جهنم واديًا، يدعى أثامًا، فيه حيات وعقارب، فقار إحداهن، مقدار سبعين قلة سم، والعقرب منهن، مثل البغلة الموكفة، يلدغ الرجل، ولا يلهيه ما يجد من حر جهنم حموة لدغتها، فهو لمن خلق له، وإن في جهنم واديًا، يدعى غيًّا، يسيل قيحًا ودمًا، وإن في جهنم سبعين داء، كل داء مثل جزء من أجزاء جهنم. خرّجه ابن أبي الدُّنْيَا (¬3). وورى يزيد بن درهم، عن أنس، في قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا} [الكهف: 52] قَالَ: هو واد من قيح في جهنم. وفي رواية: نهر في جهنم من قيح ودم. خرّجه عبد الله بن الإمام أحمد (¬4). وعن عبد الله بن عمرو، قَالَ: هو واد في النار عميق. وروى النعمان بن عبد السلام، أنبأنا أبو مغلس بن علي، عن أيوب بن يزيد، ¬

_ (¬1) في "البعث" (471). (¬2) في "البعث (469). (*) من المطبوع. (¬3) في "صفة النار" (44). وفي المطبوع: "مغلس أبي علي"، وليس في إسناده: "يحيى بن أبي كثير". (¬4) في "الزهد" ص 378 طبعة الريان.

عن يحيى بن أبي كثير، عن عمرو بن عَبَسَة، قَالَ: الفلق بئر في جهنم، فإذا سعرت جهنم فيه تسعر، وإن جهنم لتتأذى منه، كما يتأذى بنو آدم من جهنم. خرّجه ابن أبي الدُّنْيَا (¬1). وخرّجه ابن أبي حاتم، وغيره عن أيوب بن يزيد، عن يحيى بن أبي كثير، عن رجل عن عمرو بن عبسة. وخرج ابن أبي حاتم (¬2)، من طريق السدي، عن زيد بن علي، عن آبائه قالوا: الفلق جب في قعر جهنم، عليه غطاء، فَإِذَا كشف عنه، خرجت منه نار، تضج منه جهنم، من شدة حر ما يخرج منه. ومن طريق ابن لهيعة، عن ابن عجلان، عن أبى عبيد، أن كعب الأحبار، دخل كنيسة، فأعجبه حسنها، فَقَالَ: أحسن عملا، وأضل قومًا، رضيت لهم بالفلق. قالوا: وما الفلق؟ قَالَ: بيت في جهنم، إذا فتح صاح جميع أهل النار من شدة حره (¬3). وفي تفسير ابن جرير (¬4)، من طريق عبد الجبار الخولاني، قَالَ: قدم رجل من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم الشام، فنظر إِلَى دور أهل الذمة، وما هم فيه من العيش والنضارة، وما وسع عليهم في دنياهم، فَقَالَ: لا أبالي، أليس من ورائهم الفلق؟! قيل: وما الفلق؟ قَالَ: بيت في جهنم، إذا فتح هرَّ أهل النار. وفيه أيضاً (¬5)، من حديث أبي هريرة مرفوعًا: "الفلق جب في جهنم مغطى". ¬

_ (¬1) وأورده ابن كثير (14/ 523) بنحوه عن زيد بن علي عن أبائه من رواية ابن أبى حاتم، وقال: وكذا رُوي عن عمرو بن عبسة. (¬2) كما في تفسير ابن كثير (4/ 574). (¬3) أخرجه ابن جرير (30/ 349). (¬4) (30/ 349). (¬5) ابن جرير (30/ 349). وقال ابن كثير (4/ 574): إسناده غريب ولا يصح رفعه.

ورُوي عن ابن عباس، أن الفلق سجن في جهم (¬1). وروى يحيى بن يمان، عن سفيان، عن سلمة بن كهيل، عن سعيد بن جبير، قَالَ: السعير واد من قيح في جهنم. خرّجه ابن أبي حاتم. وقال خالد بن يزيد بن أبي مالك، عن أبيه: إن في جهنم لآبارًا، من ألقي فيها، تردى سبعين عامًا، ثم ينزع بهذه الآية: {الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا} [الجاثية: 34]. خرّجه ابن أبي الدُّنْيَا (¬2). ... ¬

_ (¬1) أخرجه ابن جرير (30/ 349) من طريق إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة -وهو متروك- عمن حديثه عن ابن عباس. وفي إسناده راو مبهم كما رأيت فهو ضعيف جدًّا. (¬2) في "صفة النار" (49).

فصل في جهنم واد هو: جب الحزن

فصل في جهنم واد هو: جب الحزن روى عمار بن سيف، عن أبي معان (*)، عن ابن سيرين، عن أبي هريرة، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم، قَالَ: "تعوذوا بالله من جب الحزن". قالوا: وما جب الحزن؟ قَالَ: "واد في جهنم، تتعوذ منه جهنم كل يوم مائة مرة! ". قيل: يا رسول الله صلّى الله عليه وسلم من يدخله؟. قَالَ: "القراء المراؤون بأعمالهم". خرجه الترمذي (¬1) وقال: غريب. وخرّجه ابن ماجه (¬2) بمعناه. وفي روايته: "أربعمائة مرة"، وزاد في آخره "وإن من أبغض القراء إِلَى الله، الذين يزورون الأمراء الجورة". وفي هذا الإسناد ضعف. وخرج الطبراني (¬3) نحوه، من حديث الحسن، عن ابن عباس، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم ¬

_ (*) في حاشية الأصل أنّه في نسخة: "أبي معاذ". وفي سند الترمذي وتحفة الأشراف والجرح والتعديل لابن أبي حاتم (9/ 447) والكنى للبخاري ص 75: "أبو معان". (¬1) برقم (2383) وقال: حسن غريب. وقد نقل المصنف قول الترمذي غريب ونقله أيضًا البوصيري عنه في مصباح الزجاجة (1/ 37). (¬2) برقم (256) وقال البخاري في "التاريخ الكبير" بعد أن روى الحديث (2/ 170): وأبو معان لا يعرف له سماع من ابن سيرين، وهو مجهول. وقال ابن عدي في "الكامل" (5/ 71) عن عمار بن سيف: منكر الحديث، وجعل هذا الحديث من مناكيره. وضعف الحديث العقيلي (2/ 241) وجهل أبا معان. (¬3) وأخرجه في المعجم الأوسط (6189) من طريق محمد بن ماهان قَالَ: لنا محمد بن الفضل بن عطية عن سليمان التيمي عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة وقال=

وخرج العقيلي (¬1) نحوه، من حديث علي، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم، من طريق أبي بكر الداهري، وهو ضعيف جدًّا. وروى الإمام أحمد في الزهد بإسناده، عن عمران القصير، قَالَ: بلغني أن في جهنم واديًا، تستعيذ منه جهنم [كل يوم] (*) أربعمائة مرة، مخافة أن يرسل عليها فيأكلها، أعد الله ذلك الوادي للمرائين من القراء. وقال بكر بن محمد العابد، عن سفيان الثوري: إن في جهنم لواديًا، تتعوذ منه جهنم في كل يوم سبعين مرة، يسكنه القراء الزائرون للملوك. وروينا من حديث معروف الكرخي، رحمه الله تعالى، قَالَ بكر بن خنيس: إن في جهنم لواديًا تتعوذ جهنم من ذلك الوادي كل يوم سبع مرات، وإن في الوادي لجبًّا، يتعوذ الوادي وجهنم من ذلك الجب كل يوم سبع مرات، وإن في الجب لحية، يتعوذ الوادي والجب وجهنم من تلك الحية كل يوم سبع مرات، يبدأ بفسقة حملة القرآن فيقولون: أي رب بدئ بنا قبل عبدة الأوثان؟! قِيلَ لَهُم: ليس من يعلم كمن لا يعلم. ¬

_ =الطبراني: لم يرو هذا الحديث عن سليمان التيمي إلاَّ محمد بن الفضل، تفرد به محمد بن ماهان. ورواه أيضاً (3090) من طريق بكير بن شهاب الدامغاني عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة. قال ابن حبان في المجروحين (1/ 194) في ترجمة بكير بن مسمار، وقيل: إنه بكير الدامغاني الَّذِي يروي عن مقاتل بن حيان، كان مرجئًا، يروى من الأخبار ما لا يتابع عليها، وهو قليل الحديث عَلَى مناكير فيه ... وهو الَّذِي روى عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة قَالَ: خرج علينا - صلى الله عليه وسلم - وهو يقول: "أعوذ بالله من جب الحزن" ... فذكر الحديث. (¬1) في الضعفاء الكبير (2/ 241) وقال: لا أصل له. (*) من المطبوع.

وروى هناد بن السري (¬1)، بإسناده عن حميد بن هلال، قَالَ: نبئت أن كعبًا قَالَ: إن في أسفل درك جهنم تنانير ضيقها كضيق زج (¬2) أحدكم من الأرض، يقال له: جب الحزن، يدخلها قوم بأعمالهم، فيطبق (*) عليهم. وخرّجه ابن أبي حاتم، إلاَّ أن عنده، عن حميد بن هلال، قَالَ: لا أعلمه إلاَّ عن بشير بن كعب، قَالَ: إن في النار لجبًّا يقال له: جب الحزن، لهو أضيق عَلَى من دخل فيه من زج أحدكم عَلَى رمحه، يطبقها الله، أو قَالَ: يضيقها الله عَلَى عباد من عباده، سخطًا عليهم، ثم لا يخرجهم منها آخر الأبد. وروى ابن المبارك (¬3)، عن يحيى بن عبيد الله، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم: "إن في جهنم لواديًا يقال له: لملم، إن أودية جهنم تستعيذ بالله من حره". خرّجه ابن أبي الدُّنْيَا (¬4) وغيره (¬5)، ويحيى ضعفوه. وخرج ابن أبي الدُّنْيَا (¬6) وغيره (¬7)، من رواية أزهر بن سنان القرشي، عن محمد بن واسع، عن أبي بردة عن أبيه، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم، قَالَ: "إن في جهنم لواديًا، ولذلك الوادي بئر، يقال له: هبهب، حق عَلَى الله أن يسكنه كل جبار". أزهر بن سنان ضعفوه. والصحيح ما خرّجه الإمام أحمد وغيره، من طريق هشام بن حسان، عن ¬

_ (¬1) في "الزهد" (221). (¬2) الزج: الرمح والسهم، قَالَ ابن سيده: الزج، الحديدة التي تُرَكَّبُ في أسفل الرمح والسِّنان. "اللسان، مادة: زج". (¬3) في "الزهد" (331). (*) في حاشية الأصل أنها في نسخة "فينطبق". (¬4) في "صفة النار" (34). (¬5) وأخرجه أبو نعيم في "الحلية" (8/ 178) وقال: غريب لم نكتبه إلاَّ من حديث يحيى. (¬6) في "صفة النار" (35). (¬7) وأخرجه الدارمي (2816)، والحاكم (4/ 596 - 597) وقال: هذا حديث تفرد به أزهر بن سنان عن محمد بن واسع، لم نكتبه عاليا إلاَّ من هذا الوجه.

محمد بن واسع، قَالَ: قلت لبلال بن أبي بردة، وأرسل إلي: إنه بلغني أن في النار بئرًا يقال له: جب الحزن، يؤخذ المتكبرون فيجعلون في توابيت من نار، ثم يجعلون في تلك البئر، ثم تنطبق عليهم جهنم من فوقهم، فبكى بلال. وروى عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم: "يحشر المتكبرون يوم القيامة، أمثال الذر في صور الناس، يعلوهم كل شيء من الصغار، حتى يدخلوا سجنًا في جهنم. يقال له: بولس، فيعلوهم نار الأنيار، يسقون من طين الخبال، عصارة أهل النار". خرّجه الإمام أحمد (¬1) والنسائي والترمذي (¬2)، وقال: حسن. ورُوي موقوفًا عَلَى عبد الله بن عمرو. ورُوي من وجه آخر موقوفًا عَلَى عبد الله بن عمرو، قَالَ: "في النار قصر يقال له: بولس، يدخله الجبارون والمتكبرون، فيه نار الأنيار وأشر الأشرار، وحزن الأحزان، وموت الأموات، والشر، وأبيار الشر" (¬3). وقال ابن لهيعة: أنبأنا أبو قبيل، قَالَ: سمعت رجلاً يقول: سمعت عبد الله ابن عمرو يقول: إن في النار لجبًّا، لا يدخله إلاَّ من كان شر الأشرار، قراره نار وسقفه نار، وجدرانه نار، وتلفح منه نار. خرّجه عبد الله بن الإمام أحمد، ¬

_ (¬1) (2/ 179). (¬2) برقم (2492) وقال: هذا حديث حسن صحيح. (¬3) وسأل ابن أبي حاتم أباه عن هذا الحديث كما في العلل (2/ 436) من طريق عمرو ابن شعيب عن أبيه عن جده أنّه قَالَ: "في الجنة قصر يقال له: عدن، حوله البروج والمروج، لا يدخله إلاَّ نبي أو صديق أو شهيد أو إمام عدل، وفي النار قصر يقال له: بولس يدخله الجبارون والمتكبرون، فيه نار الأنيار، وأشر الأشرار، وحزن الأحزان، ومرت الأمرات، والشر، وأنيار الشر" قَالَ: فسمعت أبي يقول: هذا خطأ، إِنَّمَا هو نافع عن عاصم بن عروة بن مسعود عن عبد الله بن عمرو. قلت: الكلام الأخير لا أعلمه في شيء من الحديث. اهـ.

وخرّجه ابن أبي الدُّنْيَا (¬1) وعنده: فإذا دخلوا قيل بالنار عَلَى أفواههم. وروى إبراهيم بن الفضيل المديني، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن بشر بن عاصم الجشمي، حدثه عمر، أنّه سمع رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: "لا يلي أحد من أمر الناس شيئًا إلاَّ وقفه الله عَلَى جسر جهنم، فزلزل به الجسر زلزلة، فناج أو غير ناج لا يبقي منه عظمًا إلاَّ فارق صاحبه، فإن هو لم ينج ذهب به في جب مظلم كالقبر في جهنم، لا يبلغ قعره سبعين خريفًا". وإن عمر سأل سلمان وأبا ذر: هل سمعتما ذلك من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قالا: نعم. خرّجه ابن أبي الدُّنْيَا (¬2)، وإبراهيم بن الفضيل ضعيف. وروى إسماعيل بن عياش، عن سعيد بن يوسف، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلام، عن الحجاج بن عبد الله الثمالي -وكان قد رأى النبيّ صلّى الله عليه وسلم، وحج معه حجة الوداع- قَالَ: إن سفيان بن مجيب حدثه -وكان من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقدمائهم- قَالَ: إن في جهنم ألف واد، في كل واد سبعون ألف شعب في كل شعب سبعون ألف ثعبان وسبعون ألف عقرب، لا ينتهي الكافر والمنافق حتى يواقع ذلك كله. قَالَ أبو عمر بن عبد البر: هذا حديث منكر لا يصح. وخرج ابن أبي الدُّنْيَا (¬3)، من طريق إسماعيل بن عياش، عن محمد بن عمرو بن حلحلة، عن عطاء بن يسار، قَالَ: إن في النار سبعين ألف واد، في كل واد سبعون ألف شعب، في كل شعب ألف جحر، في كل جحر حية تأكل وجوه أهل النار. وقال ابن المبارك أنبأنا عوف، عن أبي المنهال الرياحي، أنه بلغه أن في النار أودية في ضحضاح من النار، في تلك الأودية حيات أمثال أجواز الإبل، وعقارب ¬

_ (¬1) في "صفة النار" (42) بنحوه. (¬2) في "الأهوال" (247). (¬3) في "صفة النار" (45).

كالبغال الحبش، فَإِذَا سقط [إليهن] (*) شيء من أهل النار، أنشأن به لسعًا ونشطًا، حتى يستغيثوا بالنار، فرارًا منهن، وهربًا منهن. خرّجه ابن أبي الدُّنْيَا. وخرج الجوزجاني، من رواية الأعمش، عن مجاهد، عن عبيد بن عمير، قَالَ: إن لجهنم جبابًا، فيه هوام، فيه حيات أمثال البخت، وعقارب أمثال البغال الدلم، [يستغيث أهل النار إِلَى تلك الحيات أو الساحل، فتثب إليهم] (**) فتأخذهم بأشعارهم وشفاههم، فتكشطهم حتى تبلغ أقدامهم، فيستغيثون بالرجوع إِلَى النار، فيَقُولُونَ النار النار، وتتبعهم حتى تجد حرها، فترجع وهي في أسراب. وقال مطهر بن الهيثم بن الحجاج، عن أبيه: إن طاوسًا قَالَ لسليمان بن عبد الملك يا أمير المؤمنين، إن صخرة كانت عَلَى شفير جب في جهنم، هوت فيها سبعين خريفًا حتى استقرت قرارها، أتدري لمن أعدها الله؟ قَالَ: [لا ثم] ( ... ) قَالَ: ويلك! لمن أعدها الله؟ قَالَ: لمن أشركه الله في حكمه فجار. قَالَ: فبكى لها. خرّجه أبو نعيم. وقال أحمد بن أبي الحواري: حدثني أبو الطيب أبو الحسن علي، (عن الحسن ابن يحيى، في "الحلية") (¬1) عن الحسن بن يحيى الخشني، قَالَ: ما في جهنم دار، ولا مغار، ولا غل، ولا قيد، ولا سلسلة، إلاَّ اسم صاحبها عليها مكتوب، قَالَ أحمد: فحدثت به أبا سليمان، فبكى ثم قَالَ: ويحك! فكيف به أن لو جمع هذا كله عليه، فجعل الغل في عنقه، والقيد في رجله، والسلسة في عنقه، ثم أدخل النار، وأدخل المغار؟ نعوذ بالله من ذلك. ... ¬

_ (*) في الأصل: إليهم. (**) من المطبوع. ( ... ) الزيادة من "الحلية" (4/ 15). (¬1) كذا في الأصل، ولعلها مقحمة.

الباب الخامس عشر - في ذكر سلاسلها وأغلالها وأنكالها

الباب الخامس عشر - في ذكر سلاسلها وأغلالها وأنكالها قَالَ الله تعالى: {إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَ وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا} [الإنسان: 4]. وقال الله تعالى: {وَجَعَلْنَا الأغْلالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا} [سبأ: 33]. وقال الله تعالى: {وَجَعَلْنَا الأغْلالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ (71) فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ} [غافر: 71 - 72]. وقال تعالى: {خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (30) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (31) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ} [الحاقة: 30 - 32]. وقال تعالى: {إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالًا (¬1) وَجَحِيمًا (12) وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ (¬2)} [المزمل: 12، 13]. وقرأ ابنُ عباسٍ: {وَالسلاسِلَ يُسْحَبُونَ} [غافر: 71] بنصب السلاسل وفتح الياءِ من يسحبونَ، قال: هو أشدُّ عليهم هم يسحبون السلاسلَ. خرَّجَه ابنُ أبي حاتمٍ. فهذه ثلاثةُ أنواع: أحدها: الأغلالُ: وهي في الأعناقِ. كما ذكر سبحانه. قال الحسنُ بنُ صالح: الغلُّ: تغلُّ اليدُ الواحدةُ إلى العنق، والصفدُ: اليدانِ جميعًا إلى العنقِ. خرَّجه ابنُ أبي الدنيا. وقال أسباط عن السُّديِّ: الأصفادُ تجمعُ اليدينِ (*) إِلَى عنقه. ¬

_ (¬1) أنكالاً: أي قيودًا شديدة ثقال. (¬2) طعامًا ذا غصة: أي ذا نشوب في الحلق فلا يستساغ. (*) في حاشية الأصل أنها في نسخة: "اليد".

وقال معمر عن قتادةَ في قوله: {مُّقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ} [إبراهيم: 49]. قَالَ: مقرنين في القيود والأغلال. قالَ: مقرنين في القيودِ والأغلالِ. قالَ عيينةُ بنُ الغصنِ، عن الحسنِ: إنَّ الأغلالِ لم تُجعلْ في أعناقِ أهلِ النارِ لأنَّهم أعجزُوا الربَّ عزَّ وجلَّ، ولكنها إذا طُفِئَ بهم اللهبُ أرستْهُم. قالَ: ثم خرَّ الحسنُ مغشيًّا عليه!!. وقال سيَّارُ بنُ حاتم: حدثنا مسكينُ عن حوشب، عن الحسنِ، أنه ذكرَ النارَ فقالَ: لو أنَّ غلاً منها، وُضِعَ على الجبالِ لقصمَهَا إلى الماءِ الأسودِ، ولو أنَّ ذراعًا من السلسلة، وُضِعَ على جبلٍ لرضَّه. ورَوى ابنُ أبي حاتم: بإسناد عن موسى بنِ أبي عائشةَ، أنَّه قرأ قولَهُ تعالى: {أَفَمَن يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الزمر: 24] قال: تشدُّ أيديهم بالأغلال في النارِ، فيستقبلونَ العذابَ بوجوهِهِم قد شدتْ أيدِيهم، فلا يقدرون على أن يتَّقوا بها، كلما جاء نوع من العذابِ يستقبلونَ بوجوهِهِم. وبإسنادِهِ عن فيضِ بنِ إسحاقَ عن فضيلِ بنِ عياضِ: إذا قالَ الربُّ تباركَ وتعالى: {خُذوهُ فَغُلُّوهُ} [الحاقة: 30]. يتبدره سبعونَ ألفَ ملك، كلُّهم يتبدرُ أيهم يجعلُ الغلَّ في عنقِهِ. النوع الثاني: الأنكالُ: وهي القيودُ. قال مجاهدٌ والحسنُ وعكرمةُ وغيرُهم. قال: الحسنُ: قيودٌ من نارٍ. قال أبو عمرانَ الجونيُّ: قيودٌ لا تحلُّ واللَّهِ أبدًا. وواحدُ الأنكالِ: نكلٌ، وسميت القيودُ أنكالاً لأنه ينكلُ بها، أي يمنعُ. وروى أبو سنانَ، عن الحسنِ: قال: أما وعزَّتِهِ، ما قيدَهُم مخافةَ أن يعجزُوه، ولكن قيدَهُم لترسَى بهم القيود في النارِ. وقال الأعمشُ: الصفدُ: القيودُ. وقولُهُ تعالى: {مّقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ} القيودُ.

وقد سبقَ عن أبي صالح قولُهُ: {فِي عَمَدٍ مُّمَدَّدَةٍ} [الهمزة: 9]. قال: القيودُ الطوالُ. النوع الثالثُ: السلاسلُ. خرجَ الإمامُ أحمدُ (¬1) وغيرُه (¬2)، من طريقِ أبي السمح، عن عيسى بنِ هلالٍ الصدفيِّ، عن عبد اللهِ بن عمرٍو، قال: قالَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "لو أنَّ رضاضةً (¬3) مثلَ هذه - وأشار إلى مثل الجمجمةِ - أُرْسِلت من السماءِ إلى الأرضِ، وهي مسيرةُ خمسمائة عامٍ لبلغتِ الأرض قبل الليلِ، ولو أنَّها أُرْسلتْ من رأسِ السلسلةِ، لسارتْ أربعينَ خرِيفًا، الليلَ والنهارَ، قبل أن تبلغَ أصلَها". غريبٌ، وفي رفعِهِ نظر، واللَّه أعلم. وفي حديثِ عدي الكندي، عن عمرَ، أن جبريلَ قال للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: "لو أن حلقةً من سلسلة أهلِ النارِ، التي نعتَ اللَّهُ في كتابِهِ، وُضِعَتْ على جبالِ الدنيا، لانقضتْ ولم ينهضها شيء، حتى تنتهي إلى الأرضِ السابعةِ السفلى" خرَّجه الطبرانيُّ (¬4) وسبق الكلامُ على إسنادِهِ. ¬

_ (¬1) في مسنده (2/ 197). (¬2) والترمذي (2588) وقال: هذا حديث إسناده حسن صحيح، وفي تحفة الأشراف للمزي (6/ 8910): إسناده حسن، والحاكم في المستدرك (2/ 438) وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. وقد بين ابن رجب أنّه غريب أي ضعيف، قَالَ: وفي رفعه نظر. وضعفه الألباني -رحمه الله- في ضعيف الجامع (4805). (¬3) الرضاضة: فتات الشيء، والرضاضة: القطعة. (¬4) في "المعجم الأوسط" (2583) مطولاً، وقال الطبراني: لا يُروى هذا الحديث عن عمر إلاَّ بهذا الإسناد، تفرد به سلام. وقال الهيثمي في المجمع (10/ 387) رواه الطبراني في الأوسط، وفيه سلام الطويل، وهو مجمع عَلَى ضعفه.

وروى سفيانُ، عن [بسير] (¬1) عن نوف (*) الشامي، في قولِهِ تعالى: {ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فاسْلُكُوهُ} [الحاقة: 32] قال: إن الذراعَ سبعونَ باعًا، والباعُ من هاهنا إِلَى مكة - وهو يومئذ بالكوفة. وقال ابنُ المباركِ (¬2): أنبأنا بكَارُ عن عبدِ اللَّه، سمعَ ابنَ أبي مليكةَ يحدِّثُ، أنَّ كعبًا قال: إنَّ حلقة من السلسلة التي قال اللَّهُ: {ذَرْغهَا سَبْعونَ ذِرَاعًا} [الحاقة: 32] إن حلقةً منها أكثرُ من حديدِ الدُّنيا. وقال ابنُ جريج في قولِهِ تعالى: {ذَرْعُهَا سبْعُونَ ذِرَاعًا} [الحاقة: 32] قال: بذراع الملكِ. وقال ابنُ المنكدرِ: لو جُمعَ حديدُ الدنيا كلُّه، ما خلا منها وما بقي، ما عدلَ حلقةً من الحلقِ التي ذكرَ اللَّهُ في كتابِهِ تعالى فقال: {فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا} [الحاقة: 32]. أخرَجَه أبو نُعيمٍ. قال ابنُ المباركِ، عن سفيانَ، في قوله: {فَاسْلُكُوهُ} قال: بلَغنا أنها تدخلُ في دبره حتى تخرج منه. وقال ابنُ جريج: قال ابنُ عباس: السلسلةُ تدخلُ في استِهِ، ثمَ تخرجُ من فِيه، ثم يُنظمونَ فيها، كما ينظمُ الجرَّاَدُ في العودِ حتَّى يُشْوَى. خرَّجه ابنُ أبي حاتم. وخرَّجَه أيضًا من روايةِ العوفيِّ عن ابن عباسٍ، قال: تسلكُ في دُبُر حتَى ¬

_ (¬1) في الأصل والمطبوع: "بشير"، والتصويب من كتب الرجال، وهو نسير بن ذعلوق الثوري، أبو طعمة، قَالَ الحافظ في التقريب: صدوق لم يصب من ضعفه، من الرابعة. والأثر أخرجه ابن أبي الدُّنْيَا في "صفة النار" (59). (*) في حاشية الأصل أنّه في نسخة: "عوف" وهو خطأ، والصواب ما أثبتناه، وهو نوف بن فضالة الحميري البكالي، إمام أهل دمشق في عصره (انظر تهذيب الكمال30/ 65). (¬2) في "الزهد" (289).

تخرج من منخريهِ، حتى لا يقوم على رجليه (¬1). وخرَّج ابنُ أبي الدنيا، من طريقِ خلفِ بنِ خليفةَ، عن أبي هاشم قال: يجعلُ لهم أوتادٌ في جهنَّم، فيها سلاسل، فتلقَى في أعناقِهِم، فتزفرُ جهنَّمُ زفرةً، فتذهبُ بهم مسيرة خَمسمائة سنة، ثم تجيءُ بهم في يوم، فذلك قوله: {وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} [الحج: 47]. ومن طريق أشعث، عن جعفر، عن سعيد بن جبير، قَالَ: لو انفلت رجل من أهل النار بسلسلة لزالت الجبال (¬2). وقال جويبرٌ عن الضحاكِ، في قوله: {فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالأَقْدَامِ} [الرحمن: 41] قال: يجمعُ بين ناصيتِهِ وقدميهِ، في سلسلةٍ من وراء ظهرهِ. وقال السديُّ في هذه الآيةِ: يجمعُ بين ناصيةِ الكافرِ وقدميهِ، فتربطُ ناصيتُهُ بقدمِهِ، ويفتلُ ظهره. وذكر الأعمشُ، عن مجاهدٍ، عن ابنِ عباسٍ، قال: يؤخذَ بناصيتِه وقدميه، ويكسر كما يكسرُ الحطبُ في التنورِ. وقال سيارُ بنُ حاتمٍ: أنبأنا مسكينُ، عن حوشبٍ، عن الحسن، قال: إنَّ جهنمَ ليَغلي عليها من الدهرِ إلى يومِ القيامةِ، يُحمى طعامُها وشرابُها وأغلالُها، ولو أن غلاًّ منها وُضِعَ على الجبالِ لقصَمَهَا إلى الماء الأسودِ، ولو أنَّ ذراعًا من السلسلةِ وضعَ على جبل لرضَّه، ولو أنَّ جبلاً كان بينه وبين عذابِ اللَّه عزَّ وجلَّ مسيرةَ خمسمائة عامٍ لذابَ ذلك الجبلُ، وإنَّهم ليُجمعونَ في السلسلةِ من آخرِهِم فتأكلُهُم النارُ وتبقى الأرواحُ. ورواه ابن أبي الدُّنْيَا (¬3)، عن عبدِ اللَّه بن عمرَ الجشميّ، عن المنهال ابن عيسى العبديِّ، عن حوشبٍ، عن الحسنِ عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - فذكرَهُ بمعناه. ¬

_ (¬1) انظر تفسير ابن كثير للآية "32" من سورة الحاقة. (¬2) أخرجه ابن أبي الدُّنْيَا في "صفة النار" (69) وعنده: "انقلب" بدلا من "انفلت". (¬3) في "صفة النار" (27).

وزادَ في آخره: تبقى الأرواحُ في الحناجِرِ تصرخُ والموقوفُ أشبهُ. وقال عبدُ اللَّه بنُ الإمامِ أحمدَ: أخبرت عن سيَّارِ، عن (ابنِ العربي) (*) -وكان من خيارِ الناسِ- قال: بلغني أنَّ الأبدانَ تذهبُ وتبقى الأرواحُ في السلاسلِ. وخرَّج الطبرانيُّ (¬1) وابنُ أبي حاتم، من طريقِ منصورِ بنِ عمار، حدثنا بشيرُ ابنُ طلحةَ، عن خالدِ بن الدريكِ، عن يعْلَى بنِ أميةَ، رفعَ الحديثَ إلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: "ينشئُ اللَّهُ سبحانه لأهلِ النارِ سحابةً سوداءَ مظلمة، فيقالُ: يا أهلَ النارِ، أيَّ شيءٍ تطلبون؟ فيذكرون بها سحابة الدنيا، فيقولون: يا ربَّنا الشرابُ، فتمطرُهم أغلالاً تزيدُ في أغلالهم، وسلاسلَ تزيدُ في سلاسلهم، وجمرًا يلتهبُ عليهم". وخرَّجه ابنُ أبي الدنيا (¬2) موقوفًا لم يرفعْهُ. وروى أبو جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس عن أبي العالية وغيره، عن أبي هريرة، فذكر قصة الإسراء بطولها، وفيها قَالَ: ثم أتى عَلَى واد -يعني النبيّ صلّى الله عليه وسلم- فسمع صوتًا منكرًا، ووجد ريحًا منتنة. فقال: ما هذا يا جبريلُ؟ " قال: "هذا صوتُ جهنَّم تقولُ: ربِّ، آتني ما وعدتني، فقدْ كثُرَتْ سلاسلي وأغلالي وسعيري وحميمي وغساقي وعذابي، وقد برد قعري، واشتدَّ حرِّي، فآتني ما وعدتني. قال: لكِ كلُّ مشرك ومشركة، وكافر وكافرة، وكل خبيث وخبيثة، وكل جبار لا يؤمن بيوم الحسابِ" (¬3). ¬

_ (*) في المطبوع: ابن المعزى. (¬1) في الأوسط برقم (4103) وقال: لا يروي هذا الحديث عن يعلى إلاَّ بهذا الإسناد، تفرد به منصور. (¬2) في "صفة النار" (62). (¬3) أورده المنذري في الترغيب والترهيب (4/ 857 - 861) مطولاً وقال: رواه البزار، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية أو غيره عن أبي هريرة.=

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ =وأخرجه ابن جرير الطبري كما في تفسير ابن كثير (5/ 21 - 25) قَالَ: ثنا علي ابن سهل، ثنا حجاج، ثنا أبو جعفر الرازى، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية الرياحي، عن أبي هريرة أو غيره - شك أبو جعفر. وقال ابن كثير: "أبو جعفر الرازي" قَالَ فيه الحافظ أبو زرعة الرازي: يهم في الحديث كثيرًا، وقد ضعفه غيره أيضًا، ووثقه بعضهم، والظاهر أنّه سيئ الحفظ، ففيما تفرد به نظر، وهذا الحديث في بعض ألفاظه غرابة ونكارة شديدة، وفيه شيء من حديث المنام من رواية سمرة بن جندب في المنام الطويل عند البخاري، ويشبه أن يكون مجموعًا من أحاديث شتى أو منام أو قصة أخرى غير الإسراء، والله أعلم. وقال الذهبى في الميزان (3/ 320) في ترجمة أبى جعفر الرازي "عيسى بن أبي عيسى": هو ماهان، روى حديثًا طويلاً في المعراج، فيه ألفاظ منكرة جدًّا.

فصل في تفسير قوله تعالى: ولهم مقامع من حديد

فصل في تفسير قوله تعالى: ولهم مقامع من حديد قَالَ الله تعالى: {(وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (21) كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا} [الحج: 21 - 22]. قال جويبر عن الضحاك: {مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ}: أي: مطارقُ. وروى ابنُ لهيعةَ، عن دراج، عن أبي الهيثم، عن أبي سعيدٍ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "لو أنَّ مقمعًا من حديدٍ وُضِعَ في الأرضِ، فاجتمعَ له الثقلانِ لما أقلوه (¬1) من الأرضِ". خرَّجه الإمامُ أحمدُ (¬2). وخرَّج أيضًا بهذا الإسنادِ (¬3) عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: "لو ضُرب بمقمع من حديدٍ لتفتت ثمَّ عاد". قال الإمامُ أحمدُ في كتابِ الزهدِ: حدثنا سيارٌ، حدثنا جعفر، سمعت مالكَ بنَ دينار، قال: إذا أحسَّ أهلُ النارِ في النارِ بضربِ المقامع، انغمسُوا في حياضِ الحمَّيَم، فيذهبونَ سفالاً سفالاً، كما يغرقُ الرجلُ في الماءِ في الدنيا، ويذهبُ سفالاً سفالاً. قال سعيدٌ، عن قتادةَ: قالَ عمرُ بنُ الخطابِ - رضي الله عنه -: اذكرو لهم النارَ لعلَّهم يفرقُونَ فإن حرَّها شديدٌ، وقعرُها بعيدٌ، وشرابُها الصديدُ، ومقامعُها الحديدُ (¬4). ¬

_ (¬1) "ما أقلوه": ما حملوه وزحزحوه. (¬2) في "المسند" (3/ 29)، قَالَ الهيثمي في "المجمع" (10/ 388): رواه أحمد وأبو يعلى، وفيه ضعفاء وثقوا. (¬3) في "المسند" (3/ 83) وقال الهيثمي في المجمع (10/ 388) رواه أحمد وأبو يعلى في حديث طويل، ويأتي إن شاء الله، وفيه ابن لهيعة وقد وثق علي ضعفه. (¬4) قتادة لم يدرك عمر فالإسناد منقطع صعيف.

وذكر ابنُ أبي الدنيا بإسنادِهِ، عن صالح المريِّ، أنه قرأ على بعضِ العبادِ: {إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ (71) فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ} [غافر: 71 - 72] قالَ: فشهقَ الرجلُ شهقةً، فإذا هو قدْ يبسَ مغشيًا عليهِ، قالَ: فخرجْنَا من عندِهِ وتركْنَاهُ. وقرأ رجلٌ، على يزيدَ الضبيِّ: {وَترَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُّقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ} [إبراهيم: 49] فجعلَ يزيدُ يبكي حتى غشيَ عليه. خرَّجهُ عبدُ اللَّهِ ابنُ الإمامِ أحمدَ. وقد سبقَ عن مالكِ بنِ دينارٍ، أنه قامَ ليلةً في وسطِ الدارِ إلى الصباح، فقالَ: ما زالَ أهلُ النارِ يعرضُونَ عليَّ بسلاسلهم وأغلالِهِم. ***

الباب السادس عشر - في ذكر حجارتها

الباب السادس عشر - في ذكر حجارتها قَالَ الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [التحريم: 6]. وقال تعالى: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [البقرة: 24] واختلف المفسرون من السَّلف في هذه الحجارة: فقالتْ طائفةٌ، منهم الربيع بنُ أنسٍ: الحجارةُ هي الأصنامُ التي عبدَتْ من دونِ اللَّهِ، واستشهدَ بعضُهم لهذا بقولِهِ تعالى: {(إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} [الأنبياء: 98 - 99]. قالَ ابنُ أبي حاتمٍ: حدثنا أبو صالح، حدثنا معاويةُ بنُ أبي صالح، عنْ أبي بكرٍ بنِ أبي مريمَ، عنْ أبيه، أنَّ رسولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قالَ في قولِهِ: {إِذَا الشَّمْس كُوِّرَتْ} [التكوير: 1] قالَ: "كورتْ في جهنمَ". {وإِذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْ} [التكوير: 2] قال: "انكدرتْ في جهنمَ، وكلُّ ما عُبِدَ من دونِ اللهِ فهو في جهنمَ إلا ما كانَ مِنْ عيسى وأمِّه، ولو رضيا أن يعبدا لدخلاَهَا". غريبٌ جدًّا، وأبو بكرٍ بنُ أبي مريمَ فيه ضعفٌ. وقد رُويَ أنَّ الشمسَ والقمرَ يكورانِ في النارِ. ورواهُ عبدُ العزيزِ بنِ المختارِ، عنْ عبدِ اللَهِ - هو ابنُ فيروزَ الداناج - قالَ: سمعتُ أبا سلمةَ بنَ عبدِ الرحمنِ، يحدثُ عن أبي هريرةَ، عنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قالَ: "إن الشمسُ والقمرُ يكورانِ في النارِ يومَ القيامةِ". خرَّجه البزار (¬1) وغيرهُ (¬2). ¬

_ (¬1) في البحر الزخار (المجلد السادس مخطوط (نسخة كوبريلي) قَالَ البزار: وهذا الحديث لا نعلمه يروى عن أبي هريرة إلاَّ من هذا الوجه، بهذا الإسناد، ولا نعلم روى عبد الله الداناج عن أبي سلمة إلاَّ هذا الحديث. (¬2) وأخرجه الطحاوي في مشكل الآثار (1/ 66 - 67).

وخرَّجهُ البخاريُّ (¬1) مختصرًا، ولفظُه: "الشمسُ والقمرُ مكورانِ يومَ القيامةِ". وخرَّج أبو يَعْلَى، منْ روايةِ درستْ بنِ زيادٍ، عن يزيدَ الرقاشيَ، عن أنسٍ، عنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قالَ: "الشمسُ والقمرُ ثورانِ عقيرانِ في النارِ". وهذا إسنادٌ ضعيف جدًّا (¬2). وقد قيلَ: إنَّ المعنى في ذلكَ أنَّ الكفارَ، لمَّا عبدُوا الآلهةَ من دونِ اللَّهِ، واعتقدُوا أنها تشفعُ لهم عندَ اللَّهِ وتقرِّبُهم إليه، عوقِبُوا بأن جعلت معهم في النارِ إهانةً لها وإذلالاً، ونكايةً لهم، وإبلاغًا في حسرتِهِم وندامتِهِم، فإنَّ الإنسانَ إذا قرنَ في العذابِ بمنْ كانَ سببَ عذابِهِ كانَ أشدَّ في ألَمِهِ وحسرَتِهِ. ولهذا المعنى يقرنُ الكفارُ بشياطينهِم التي أضلتْهُم. قالَ اللَّهُ تعالَى: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (36) وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (37) حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ (38) وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُون} [الزخرف: 36 - 39]. قالَ مَعْمرٌ: عنْ سعيدٍ الجريريِّ في هذهِ الآياتِ: بلغنَا أن الكافرَ إذا بُعِثَ يومَ القيامةِ منْ قبره، شُفِعَ بيده شيطانِ، فلم يفارقْه حتى يصيرَهُما اللَّهُ إلى النارِ، فذاكَ حينَ يقولُ: {يَا لَيْتَ بيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ} [الزخرف: 38]. وقالَ أبو الأشهبِ عن سعيدٍ الجريريِّ، عن عباسٍ الجشميِّ: إنَّ الكافرَ إذا خرجَ من قبرِهِ، وجَدَ عندَ رأسِهِ مثلَ السرحةِ المحترقةِ شيطانةً فتأخذُ بيده، فتقولُ: ¬

_ (¬1) برقم (3200). (¬2) قَالَ ابن حبان في المجروجين (1/ 293) عن درست: وكان منكر الحديث جدًّا يروي عن مطر وغيره أشياء تتخايل إِلَى من يسمعها أنها موضوعة، لا يحل الاحتجاج بخبره، روى عن يزيد الرقاشي عن أنس. ثم ساق هذه الرواية.

أنا قرينتُكَ، حتى أدخلُ أنا وأنتَ جهنَّم، فذاك قولُهُ: {يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَينِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ} [الزخرف: 38] خرَّجَهما ابنُ أبي حاتمٍ وغيرُهُ. والسرحةُ: شجرةٌ كبيرةٌ. وقد أخبرَ اللَّهُ تعالى عن حنقِ الكفارِ على من أضلَّهُم بقولِهِ: {وقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا اللَّذَيْنِ أَضَلاَّنَا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامَا لِيكُونَا مِنَ الأَسْفَلِينَ} [فصلت: 29]. فإذا قُرن أحدُهُم بمن أضلَّه في العذابِ، كانَ أشدَّ لعذابِهِ، فإنَّ المكانَ المتسعَ، يضيقُ على المتباغِضينِ، باقترانِهِما في المكانِ الضيقِ. وأخبرَ اللَّهُ تعالى عن اختصامِ الكفارِ معَ من كانَ معهُم من الشياطينِ، ومن عبدُوه من دونِ اللَّهِ تعالى. قالَ اللَّهُ تعالى: {وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ (91) وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (92) مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ (93) فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ (94) وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ (95) قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ (96) تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (97) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (98) وَمَا أَضَلَّنَا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ} الآيات كلها [الشعراء: 91 - 98]. ومن جملةِ أنواع عذابِ أهلِ النارِ فيها تلاعنُهم وتباغضُهم، وتبرُّؤُ بعضُهم من بعضٍ، ودعاءُ بعضِهم على بعضٍ بمضاعفةِ العذابِ. كما قَالَ اللَّه تعالى: {كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ} الآيات [الأعراف: 38]. وقال الله تعالى: {وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا} [غافر: 47] وقال اللَّهُ تعالى: {هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لَا مَرْحَبًا بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُو النَّارِ (59) قَالُوا بَلْ أَنْتُمْ لَا مَرْحَبًا بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا فَبِئْسَ الْقَرَارُ (60) قَالُوا رَبَّنَا مَنْ قَدَّمَ لَنَا هَذَا فَزِدْهُ عَذَابًا ضِعْفًا فِي النَّارِ (61) وَقَالُوا مَا لَنَا لَا نَرَى رِجَالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرَارِ (62) أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصَارُ (63) إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ} الآيات [ص: 59 - 64].

وحينئذ فلا يبعدُ أن يقرنَ كلُّ كافرٍ بشيطانِهِ الذي أضَلَّهُ، وبصورة من عَبَدَهُ من دونِ اللَّهِ من الحجارةِ. وقالَ ابنُ أبي الدنيا: حدثنا عبدُ اللَّه بنُ وضاح، حدثنا عبادة بنُ كليبٍ، عن محمدِ بنِ هاشمٍ، قالَ: لما نزلتْ هذه الآية {وَقُودُهَا النَّاسُ والحِجَارَةُ} [التحريم: 6] وقرأها النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -، فسمعَهَا شابٌّ إلى جنبِهِ فصُعِقَ، فجعلَ رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - رأسَهُ في حجره رحمةً لَهُ، فمكثَ ما شاءَ أن يمكثَ، ثم فتحَ عينيهِ، فقالَ: بأبي أنتَ وأمِّي، مثلَ أيِّ شيء الحجرُ؟ قالَ: "أما يكفيكَ ما أصابَكَ، على أنَّ الحجرَ الواحدَ منها لو وُضِعَ عن جبالِ الدنيا كلِّها لذابتْ منهُ، وإنَّ معَ كل إنسانٍ منهُم حجرًا وشيطانًا" (¬1). وقالَ الحسنُ في موعظَتِهِ: أذكركَ اللهَ ما رحمتَ نفسَكَ، فإنَّك قد حذرتَ نارًا لا تطفأ، يهوِي فيها من صارَ إليها، ويترددُ في أطباقِهَا قرينُ شيطانٍ، ولزيقُ حجرٍ يتلهبُ في وجههِ شعلُها: {لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا} [فاطر: 36]. وأكثرُ المفسرينَ، على أن المرادَ بالحجارةِ في الآيتين حجارةُ الكبريتِ توقدُ بها النارُ، ويقالُ: إن فيها خمسةُ أنواع من العذابِ، ليسَ في غيرِها من الحجارةِ: سرعةُ الإيقادِ، ونتن الرائحةِ، وكثرةُ الدخانِ، وشدةُ الالتصاقِ بالأبدانِ، وقوةُ حرِّهَا إذا أحميتْ. قالَ عبدُ الملكِ بنُ عميرِ، عنْ عبدِ الرحمنِ بنِ سابطٍ، عنْ عمرِو بنِ ميمونَ، عنِ ابنِ مسعودٍ في قولِهِ تعالى: {وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [التحريم: 6] قالَ: هي حجارةٌ من الكبريتِ، خلقَهَا اللَّهُ يومَ خلقَ السموات والأرضَ في السماءِ الدنيا، يُعدها للكافرينَ. خرَّجه ابنُ أبي حاتمٍ والحاكمُ في المستدركِ (¬2)، وقال: ¬

_ (¬1) وقال المنذري في "الترغيب والترهيب" (4/ 887): رواه ابن أبي الدُّنْيَا عن عبد الله بن الوضاح، حدثنا عباءة بن كليب، عن محمد بن هاشم، وعباءة قَالَ أبو حاتم: صدوق في حديثه إنكار، أخرجه البخاري في "الضعفاء" يحوّل من هناك. (¬2) (2/ 494).

صحيح عَلَى شرط الشيخين. وقالَ السُّديُّ في تفسيره عنْ أبي مالكِ وعنْ أبي صالح، عنِ ابنِ عباسٍ وعن مرة، عن ابنِ مسعودٍ، وعن أناسٍ من الصحابةِ: {فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [البقرة: 24]. أما الحجارةُ حجارةٌ في النار من كبريتٍ أسودَ، يعذبونَ به مع النارِ. وقالَ مجاهدٌ: حجارة من كبريتٍ أنتن من الجيفةِ. وهكذا قالَ أبو جعفرِ وابنُ جريج، وعمرُو بنُ دينار وغيرُهم. وقالَ ابنُ وهبٍ: أخبرَني عبدُ اللَّهِ بنُ عياشٍ، أخبرَني عبدُ اللَّهِ بن سليمانَ، عنْ درَّاج عن أبي الهيثم، عن عيسى بنِ هلال الصدفيّ، عنْ عبدِ اللَّهِ بنِ عمرو، قالَ: قالَ رسولُ اللَهِ - صلى الله عليه وسلم -: "إن الأرضينَ بينَ كل أرض إلى التي تليهَا مسيرةُ خمسمائة سنةٍ، فالعُليا منها على ظهرِ حوتٍ قد التقَى طرفَاهُ في السماءِ والحوتُ على صخرةٍ، والصخرةُ بيدِ ملكٍ، والثانية مسجن الريح، فلما أرادَ اللَهُ يهلك عادًا أمرَ خازنَ الريح أن يرسلَ عليهم ريحًا تهلكُ عادًا، قالَ: يا ربِّ أرسلْ عليهم من الريح قدرَ منخرِ ثورٍ. قالَ له الجبارُ تباركَ وتعالى: إذنْ يكفي الأرضَ ومن عليها، ولكنْ أرسِل عليهم بقدرِ خاتمٍ" فهي التي قالَ اللَّهُ في كتابه: {مَا تَذَرُ مِن شيءٍ أتت عَلَيْهِ إِلا جَعَلَتْهُ كالرميمِ} [الذاريات: 42]. والثالثةُ فيها حجارةُ جهنَم، والرابعةُ فيها كبريتُ جهنمَ. قالُوا: يا رسولَ اللَهِ أللنارِ كبريتٌ؟! قالَ: نعم. والذي نفسي بيدِهِ، إنَّ فيها لأوديةً من كبريت لو أرسلتْ فيها الجبالُ الرواسي لماعَتْ، والخامسةُ فيها حياتُ جهنمَ، وأفواهَها كالأوديةِ تلسعُ الكافرَ اللسعةَ فلا يبْقى منه لحمٌ على وضَمٍ (¬1)، والسادسةُ فيها عقاربُ جهنَّم، إنَّ أدنى عقربة منها ¬

_ (¬1) الوضم: الخشبة أو البارية التي يوضع عليها اللحم، تقية من الأرض. النهاية، مادة: "وضم".

كالبغالِ الموكفةِ (¬1) تضربُ الكافرَ ضربةً تنسيه ضربتُها حرَّ جهنَّم، والسابعةُ سقرُ وفيها إبليسُ مصفدٌ بالحديد أمامَهُ ويدُه من خلفِهِ، فإذا أرادَ اللَّه أن يطلِقَهُ لما يشاءُ من عبابٍ أطلَقَهُ". خرَّجه الحاكمُ في آخرِ المستدركِ (¬2) وقالَ: تفرد به أبو السمح، وقد ذكرتْ عدالتُه بنصِ الإمامِ يحيى بنِ معين، والحديثُ صحيحٌ ولم يخرِّجاه. وقالَ بعضُ الحفاظِ المتأخرين (¬3): هو حديثٌ منكرٌ، وعبدُ اللَهِ بنُ عياشٍ القتبانيُّ ضعَّفه أبو داودَ، وعندَ مسلم أنَه ثقةٌ، ودرَاج كثيرُ المناكيرِ، واللَّهُ أعلمُ. قلتُ: رفْعُه منكرٌ جدًّا، ولعله موقوفٌ، وغلطَ بعضُهم فرفَعَه. وروى عطاء بن يسار عن كعب من قوله نحو هذا الكلام أيضاً. عطاءُ بنُ يسارٍ عن كعب من قولِهِ نحوَ هذا الكلام أيضًا. وعن عبدِ العزيز بن أبي روادٍ قالَ: بلغني أنَّ رسولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - تلا هذهِ الآيةَ: {قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [التحريم: 6] وعندهُ بعضُ أصحابِهِ وفيهم شيخٌ، فقالَ الشيخُ: يا رسولَ اللَّهِ حجارةُ جهنَّم كحجارةِ الدنيا؟ فقالَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "والذي نفسي بيده لصخرةً من صخرِ جهنَّم أعظمُ من جبالِ الدنيا كلِّها فوقعَ الشيخُ مغشيًّا عليه". فوضعَ النبي - صلى الله عليه وسلم - يدَهُ على فؤادِهِ، فإذا هو حيٌّ، فناداه قلْ: "لا إله إلا اللَهُ" فقالَهَا، فبشَّره بالجنةِ". فقالَ أصحابُهُ: يا رسولَ اللهِ، أمِنْ بيننا؟ قالَ: "نعم، يقولُ الله تبارك وتعالى: {ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ} [إبراهيم: 14]. خرَّجه ابن أبي حاتم (¬4). ¬

_ (¬1) السمينة. (¬2) (4/ 594) وأورده ابن كثير في "تفسيره" (3/ 143) من رواية ابن أبي حاتم من طريق ابن وهب به وقال: وهذا حديث غريب جدًّا، ورفعه فيه نظر. (¬3) هو الحافظ الذهبي في تلخيص المستدرك (4/ 594). (¬4) كما في تفسير "ابن كثير" (8/ 88) وقال ابن كثير: هذا حديث مرسل غريب.

الباب السابع عشر - في ذكر حياتها وعقاربها

الباب السابع عشر - في ذكر حياتها وعقاربها قد تقدم في الباب الثامن، والباب الرابع عشر، والباب السادس عشر، بعض ذكر حيات جهنم وعقاربها. وخرج الإمام أحمد (¬1)، من حديث ابن لهيعة، عن دراج، سمعت عبد الله بن الحارث بن جزء الزبيدي، قَالَ: قَالَ رسول الله صلّى الله عليه وسلم: "إن في النار حيات كأعناق البخت البيض، تلسع إحداهن اللسعة، فيجد حموتها (¬2) أربعين خريفًا، وإن في النار عقارب، كأمثال البغال الموكفة (¬3)، تلسع إحداهن اللسعة، فيجد حموتها أربعين سنة". وخرّجه الحاكم (¬4) من طريق ابن وهب عن عمرو بن الحارث عن دراج به. وروى الأعمش عن عبد الله بن مرة، عن مسروق، عن ابن مسعود، في قوله تعالى: {زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ} [النحل: 88] قال: "عقارب لها أنيابٌ كالنخلِ الطوالِ". وخرَّجه الحاكم (¬5) وقال صحيح على شرطِ الشيخينِ. وفي روايةٍ عنه، قالَ: "زيدُوا عقاربَ من نارٍ كالبغالِ الدهم (¬6)، أنيابُها كالنخلِ". خرَّجه آدمُ بنُ أبي إياسِ في "تفسيره" عن المسعوديِّ، عن ¬

_ (¬1) (4/ 191). قَالَ الهيثمي في المجمع (10/ 390): رواه أحمد والطبراني، وفيه جماعة قد وثقوا. (¬2) أي سمها. (¬3) أي الغزيرة السمينة. (¬4) (4/ 593) وقال: صحيح الإسناد. (¬5) في "المستدرك" (2/ 356). (¬6) أي السود.

الأعمش، عن أبي وائل، عن ابن مسعود. وقول من قَالَ: عن عبد الله بن مرة، عن مسروق أصح. وخرج ابن أبي حاتم، من رواية سفيان، عن رجل، عن مرة عن عبد الله، في قوله تعالى: {عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ} [الأعراف: 38] قال: حيات وأفاعي (¬1). وروى السدي، عن مرة، عن عبد الله في هذه الآية، قَالَ: أفاعي النار. وروى ابن وهب (¬2)، عن [حيي] (*) بن عبد الله، عن أبي عبد الرحمن الحبلي، عن عبد الله بن عمرو، قَالَ: إن لجهنم سواحل فيها حيات وعقارب، أعناقها كأعناق البخت (¬3). وخرج ابن أبي الدُّنْيَا وغيره، من طريق مجاهد، عن يزيد بن شجرة، قَالَ: إن لجهنم جبابًا (¬4) في سواحل البحر، فيه هوام وحيات كالبخاتي وعقارب كالبغال الموكفة الذل (¬5)، فإذا سأل أهل النار التخفيف، قيل: اخرجوا إِلَى الساحل، فتأخذهم تلك الهوام بشفاههم (¬6) وجنوبهم وما شاء الله من ذلك فتكشطها، فيرجعون فيبادرون إِلَى معظم النيران، ويسلط عليهم الجرب، حتى إن ¬

_ (¬1) وأخرجه الطبري في "تفسيره" (8/ 174) من طريق سفيان، عن السدي، عن مرة، عن عبد الله {فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ} [الأعراف: 38] قَالَ: حيات وأفاعي. وأخرجه أيضاً (8/ 174) من طريق سفيان قَالَ: ثني غير واحد، عن السدي، عن مرة، عن عبد الله {ضِعْفًا مِنَ النَّارِ} قال: أداعي. (¬2) أخرجه ابن جرير في "تفسيره" (14/ 161) من طريقه به فذكره. (¬3) هي نوع من الإبل الضخام. (¬4) جمع جب، وهو البئر العميقة. (¬5) أي السمينة المذللة المروضة. (¬6) أي من شفاههم. (*) في الأصل والمطبوع: "يحيى" وهو خطأ، والتصويب من كتب الرجال وكتب التخريج وفي الجرح والتعديل لابن أبي حاتم (3/ 271) قَالَ عنه أحمد بن حنبل: أحاديثه مناكير وقال ابن معين: ليس به بأس. وفي الكامل لابن عدي (2/ 449) =

أحدَهُم ليحكُّ جلدَهُ حتى يبدُوا العظمُ، فيقالُ: يا فلانُ هل يؤذيكَ هذا، فيقولُ له: نعم، فيقالُ له: ذلك ما كنتَ تؤذي المؤمنينَ (¬1). وروى عبيدُ اللَّهِ بنُ موسى، عن عثمانَ بنِ الأسودِ، عن مجاهدٍ، قال: في جهنَّمَ عقاربُ كأمثالِ الدلم لها أنيابٌ كالرماح، إذا ضربتْ إحداهُنَّ الكافرَ على رأسِهِ ضربةً تساقطَ لحمُهُ على قدميهِ. وروى حمادُ بنُ سلمةَ، عن الجريري، عن أبي عثمانَ، قال: على الصراطِ حيات يلسعْنَ أهلَ النارِ، فيقولونَ: حسّ حسّ، فذلكَ قولُهُ: {لا يَسْمَعُونَ حَسِيسها} [الأنبياء: 102]. وكان إبراهيم العجلي، رحمه الله، يقع عَلَى كتفيه وظهره، فيتأذى به فيقول لنفسه: وأنت تأذى من حسيس بعوضة ... فللنار أشقى ساكنين وأوجع ... ¬

_ =أن البخاري قَالَ: حيي بن عبد الله المصري، عن أبي عبد الرحمن الحبلي، سمع منه ابن وهب، فيه نظر. قلت: وهذه العبارة جرح شديد عند البخاري رحمه الله. (¬1) وعزاه المنذري في "الترغيب والترهيب" (4/ 892) لابن أبي الدُّنْيَا، وقال: ويزيد بن شجرة الرهاوي مختلف في صحبته.

الباب الثامن عشر - في ذكر طعام أهل النار وشرابهم فيها

الباب الثامن عشر - في ذكر طعام أهل النار وشرابهم فيها قَالَ الله تعالى: {إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ (43) طَعَامُ الْأَثِيمِ (44) كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ (45) كَغَلْيِ الْحَمِيمِ} [الدخان: 43 - 46]. وقال: {أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ (62) إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ (63) إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ (64) طَلْعُهَا (¬1) كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ (65) فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ (66) ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا (¬2) مِنْ حَمِيمٍ (67) ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ} [الصافات: 62 - 68] وقال: {ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ (51) لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ (52) فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ (53) فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ (54) فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ (¬3) (55) هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ (56) نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلَا تُصَدِّقُونَ [الواقعة: 51 - 57]. وقال: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرًا} [الإسراء: 60] وخرَّجَ الترمذيُّ (¬4) وابنُ ماجهَ (¬5) وابنُ حبانَ في صحيحِهِ (¬6)، من حديثِ ابنِ عباسٍ، أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، قرأ هذه الآيةَ: {اتَقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَموتنَّ إِلاَّ وَأَنتُم ¬

_ (¬1) {طلعها}: أي ثمرها الشبيه بطلع النخل. {كأنه رؤوس الشياطين}: تمثيل لتناهيه في البشاعة والقبح. (¬2) {لشوبًا}: لخلطًا ومزاجًا. {حميم}: أي ماء بالغ غاية الحرارة. (¬3) {شرب الهيم}: الإبل العطاش التي لا تروى. (¬4) برقم (2585) وقال: حسن صحيح. (¬5) برقم (4325). (¬6) برقم (7470).

مُّسْلِمُونَ} [آل عمران: 102] فقال رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -: "لو أن قطرةً من الزقومِ قُطِرَتْ في دارِ الدنيا لأفسدتْ على أهلِ الدنيا معايشَهُم، فكيفَ بمن تكونُ طعامَهُ؟ " وقال الترمذيُّ: صحيح، ورُوي موقوفًا على ابنِ عباس. وقال ابن إسحاق (¬1): حدثني حكيمُ بنُ حكيم، عن عكرمةَ، عن ابنِ عباسٍ، قال: قال أبو جهلٍ لما ذكرَ رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - شجرةَ الزقومِ: يُخوِّفُنا بها محمد؟! يا معشرَ قريشٍ، أتدرُون ما شجرةُ الزقومِ التي يُخوِّفكم بها محمد؟ قالوا: لا، قال: عجوةُ يثربَ بالزبدِ، واللهِ لئنِ استمكنا منها لنتزقمنَّها تزقمًا (¬2)، فأنزل اللَّه فيه: {إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ (43) طَعَامُ الْأَثِيم} [الدخان: 43 - 44]. أي ليس كما تقول. وأنزل الله: {وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ طُغْيَانًا كَبِيرًا} [الإسراء: 60] وقال عبدُ الرزاقِ (¬3): عن معمر، عن قتادةَ، في قوله: {فِتْنَةً لِّلظَّالِمِينَ} [الصافات: 63] قال: زادتُهم تكذيبًا حينَ أخبرَهم أنَّ في النَّارِ شجرةً، فقالوا: يخبرُهم أنَّ في النَّارِ شجرةً، والنَّارُ تحرقُ الشجرَ، فأخبرَهم أنَّ غذاءَها من النارِ. وقد تقدمَ عن ابنِ عباسٍ، أنَّ شجرةَ الزقومِ نابتة في أصلِ سقرَ (¬4). ورُوي عن الحسنِ، أنَّ أصلَها في قعرِ جهنمَ، وأغصانَها ترتفعُ إلى دركاتِها. وقال سلامُ بنُ مسكينٍ: سمعتُ الحسنَ تلا هذه الآيةَ: {إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ (43) طَعَامُ الْأَثِيمِ (44) كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ (45) كَغَلْيِ الْحَمِيمِ} [الدخان: 43 - 46]. ¬

_ (¬1) ذكرها ابن هشام في السيرة (2/ 207 - 208) دون إسناد. (¬2) أي لنلتقمنها تلقمًا، اللسان، مادة: "زقم". (¬3) في "تفسيره" (3/ 150). (¬4) انظر تفسير الطبري (1/ 381).

قالَ: إنَّها هناك قد حُميت عليها جهنمُ. وقال مغيرةُ، عن إبراهيمَ وأبي رزينِ: {كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ} [الدخان: 45]: قال: الشجرُ يغلي. قال جعفرُ بنُ سليمانَ: سمعتُ أبا عمرانَ الجوني يقولُ: بلغَنا أنَّه لا ينهسُ منها نهسةً إلا نهستْ منه مثلَها. وقد دلَّ القرآنُ، على أنَّهم يأكلونَ منها، حتى تمتلى منها بطونُهم، فتغلي في بطونِهم كما يغلي الحميمُ، وهو الماءُ الذي قدْ انتهى حرُّهُ، ثمَّ بعدَ أكلهم منها يشربُونَ عليه من الحميم شربَ الهيم. قال ابنُ عباسٍ في روايةِ علي بنِ أبي طلحة: الهيمُ: الإبلُ العطاشُ (¬1). وقال السديُّ: هو داء يأخذ الإبلَ فلا تُروى أبدًا حتى تموت، فكذلك أهلُ جهنم لا يُروونَ من الحميم أبدًا. وعن مجاهدٍ نحوُه. وعن الضحاكِ في قولِهِ: {شُرْبَ الْهِيم} [الواقعة: 55] قال: من العربِ مَن يقولُ: هو الرملُ، ومنهم مَنْ يقولُ: الإبلُ العطاش. وقد رُوي عن ابنِ عباسٍ كلا القولين. ودلَّ قولُهُ سبحانَهُ: {ثُمَّ إِن لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِّن حَمِيم} [الصافات: 67] على أنَّ الحميمَ يشابُ به ما في بطونِهِم من الزَّقوم، فيصيرُ شوبًا له. وقال عطاء الخراسانيُّ في هذه الآيةِ: يقالُ: يُخلطُ طعامُهُم ويشاطُ (*) بالحميم. وقال قتادةُ: {لَشَوْبًا مِّنْ حَمِيم} [الصافات: 67]: مِزاجًا من حميم. ¬

_ (¬1) أخرجه الطبري في "تفسيره" (27/ 196) من طريق سفيان عن ابن عباس، وهو إسناد منقطع، وكذلك علي بن أبي طلحة قيل: لم يسمع ابن عباس. (*) في المطبوع: "ويشاب".

وعن سعيدِ بنِ جبيرِ قال: إذا جاعَ أهلُ النَّارِ، استغاثُوا، من الجوعُ فأُغيثُوا بشجرةِ الزَّقومِ، فأكلوا منها، فانسلختْ وجوهُهُم، حتى لو أنَّ مارًّا مرَّ عليهم يعرفُهم لِعُرْفِ جلود وجوهِهِم، فإذا أكلُوا منها، أُلقي عليهم العطشُ، فاستغاثُوا من العطشِ، فأُغيثوا بماءِ كالمهلِ، والمهلُ: الذي قد انتهى حرُّهُ، فَإِذَا أدنوه من أفواههم، أنضج حره الوجوه، ويصهر به ما في بطونهم، ويضربون بمقامع من حديد، فيسقط كل عضو عَلَى حاله، يدعون بالثبور (¬1). وقولُهُ تعالى: {ثمَّ إِن مَرْجِعَهُمْ لإِلَى الْجَحِيمِ} [الصافات: 67] أي: بعدَ أكل الزقومِ وشربِ الحميم عليه. ويدلُّ هذا على أنَّ الحميمَ خارجٌ من الجحيم، فهم يردُونَه كما تَرِدُ الإبلُ على الماءَ، ثمَّ يَرِدُون إلى الجحيم. ويدلُّ على هذا أيضًا، قولُه تعالى: {هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ (43) يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ} [الرحمن 43 - 44]. والمعنى أنَّهم يتردَّدُون بينَ جهنمَ والحميم، فمرةٌ إلى هذا، ومرةٌ إلى هذا قالَهُ قتادةُ، وابنُ جريجٍ، وغيرُهما. وقال القرظيُّ في قولِهِ: {يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ} [الرحمن: 44] قالَ: إنَّ الحميمَ دونَ النَّارِ، فيُؤخذُ العبدُ بناصيتِه، فيُجرُّ في ذلك الحميم، حتى يذوبَ اللحمُ، ويبقى العظمُ، والعينان في الرأسِ، وهذا الذي يقول اللَّهُ عزَّ وجلَّ: {فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ} [غافر: 72]. * * * ¬

_ (¬1) الثبور: الهلاك.

فصل في تفسير قوله تعالى: {وطعاما ذا غصة}

فصل في تفسير قوله تعالى: {وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ} وقال اللَّه سبحانه وتعالى: {إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالًا وَجَحِيمًا (12) وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا} [المزمل: 12 - 13] وقال: {لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ (6) لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ} [الغاشية: 6 - 7] روى الإمامُ أحمدُ بإسنادِهِ، عن عكرمةَ، عن ابنِ عباسٍ، في قوله: {وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ} قال: شوكٌ يأخذُ بالحلقِ لا يدخلُ ولا يخرج (¬1). ورَوى عليٌّ بنُ أبي طلحة، عن ابنِ عباسٍ، في قوله: {مِن ضَرِيعٍ} قال: شجرٌ في جهنمَ في النار. وقال مجاهدٌ: الضريعُ: الشبرقُ اليابسُ. ورُوي أيضاً عن عكرمة وقتادة. ورواه العوفي عن ابن عباس. والشبرق: نبت ذو شوك، لاطئ بالأرض، فَإِذَا هاج سمي ضريعًا. وقال قتادة: من أضرع الطعام وأبشعه. وعن سعيدِ بن جبيرٍ في قوله: {مِن ضَرِيع} قال: من حجارةٍ، وعنه قال: الزقومُ. ¬

_ (¬1) وأخرجه الطبري في "تفسيره" (29/ 135) من طريق شبيب بن بشر عن عكرمة به. وعزاه المنذري في الترغيب (4/ 262) للحاكم وقال: صحيح الإسناد. أي الحاكم.

وعن أبي الجوازاء قال: الضريع: السَّلى [شوكُ النخلِ] (*)، وكيف يسمنُ من يأكل الشوكُ؟ وخرج الترمذي (¬1) من حديث أبي الدرداءِ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: "يُلقَى على أهل النار الجوعُ فيعدلُ ما هم فيه من العذابِ فيستغيثونَ، فيُغاثونَ بطعامٍ من ضريع، لا يسمنُ، ولا يُغني من جوع، فيستغيثونَ بالطعام، فيغاثونَ بطعامٍ ذي غصة، فيذكرون أنهم كانُوا يجيزون الغصص في الدنيا بالشرابِ، فيستغيثون بالشرابِ، فيدفعُ إليهم الحميمُ كلاليبِ الحديدِ، فإذا دنتْ من وجوهِهِم شوتْ وجوهَهُم، فإذا وصلتْ بطونَهُم قطعتْ ما في بطونِهِم .. " وذكر بقية الحديثِ. وقد رُوي هذا الحديثُ موقوفًا على أبي الدرداءِ. وقيلَ: وقفهُ أشبهُ. وقال سبحانه وتعالى: {فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ (35) وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ (36) لَا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ} (¬2) [الحاقة: 35 - 37]. روى علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: من غسلين، قَالَ: هو صديد أهل النار (¬3). وقال شبيب بن بشر، عن عكرمة، عن ابن عباس في الغسلين: الدم والماء يسيل من لحومهم، وهو طعامهم (¬4). وعن مقاتل، قَالَ: إذا سأل القيح والدم، بادروا أكله، قبل أن تأكله النار. وقال أبو جعفر، عن الربيع بن أنس: الغسلين: شجرة في جهنم. ¬

_ (*) من المطبوع. (¬1) برقم (2586) ونقل قول الدارمي: والناس لا يرفعون هذا الحديث. وقال الترمذي: إِنَّمَا نعرف هذا الحديث عن الأعمش عن شمر بن عطية عن شهر بن حوشب عن أم الدرداء عن أبي الدرداء قوله، وليس بمرفوع. (¬2) الخاطئون: الكافرون. (¬3) أخرجه الطبري (29/ 65). (¬4) انظر تفسير ابن كثير (4/ 417 - دار الفكر).

وعن الضحاك مثله. وروى خصيف، عن مجاهد، عن ابن عباس، قَالَ: ما أدري ما الغسلين، ولكني أظنه الزقوم. وقال أبو هلال، عن قتادة: وهو طعام من طعام جهنم، من شر طعامهم. وقال يحيى بن سلام: هو غسالة أجوافهم. قَالَ ابن قتيبة: هو فعلين من غسلت، كأنّه الغسالة. قَالَ شريح بن عبيد: قَالَ كعب: لو دلي من غسلين دلو واحد في مطلع الشمس، لغلت منه جماجم قوم في مغربها. خرّجه أبو نعيم (¬1). وقد رُوي أن بعض أهل النار يأكل لحمه، وسنذكر الحديث في ذلك، فيما بعد، إن شاء الله. وقال الله تعالى: {(إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} [النساء: 10]. وقد روي في حديث: "إن أكلةَ الربا [يبعثونَ] (*) تتأججُ أفواهُهُم نارًا" ثم تلا هذه الآية. خرَّجه ابنُ حبانَ في صحيحه (¬2) من حديثِ أبي برزةَ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -. ... ¬

_ (*) من المطبوع. (¬1) في "الحلية" (5/ 368) مطولاً، وأوله: "قَالَ عمر لكعب: خوفنا يا كعب ... " الحديث. (¬2) برقم (2580 - موارد).

فصل في شراب أهل النار

فصل في شراب أهل النار وأما شرابُهم فقالَ اللَّهُ تعالى: {فَشَارِبونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيم} [الواقعة: 54]. وقالَ تعالى: {وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ} [محمد: 15]. وقالَ تعالى: {لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا (24) إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا} [النبأ: 24 - 25]. وقالَ تعالى: {هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ (57) وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ} [ص: 57 - 58]. وقال تعالى: {وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ (16) يَتَجَرَّعُهُ (¬1) وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ} [إبراهيم: 16 - 17}. وقالَ تعالى: {وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا} (¬2) [الكهف: 29]. فهذه أربعة أنواع من شوابهم، ذكرها الله في كتابه: النوع الأولي: الحميم. قَالَ عبد الله بن عيسى الخزاز (*)، عن أبي رواد، عن عكرمة، عن ابن عباس: الحميم: الحار الَّذِي يحرق. ¬

_ (¬1) "يتجرعه": أي يتكلف بلعه لحرارته ومرارته. "لا يكاد يسيغه": أي يبتلعه لشدة كراهته ونتنه. (¬2) "مرتفقا": أي متكئًا أو مقرًّا. (*) في الأصل: "الحراز"، والمثبت من حاشية الأصل وهو الصواب، وانظر الإكمال لابن ماكولا (2/ 183).

وقال الحسن والسدي: الحميم: الَّذِي قد انتهى حره. وقال جويبر عن الضحاك: يسقى من حميم يغلي منذ خلق الله السماوات والأرض، إِلَى يوم يسقونه، ويصب عَلَى رؤوسهم. وقال ابن وهب، عن ابن زيد الحميم: دموع أعينهم في النار، تجتمع في حياض النار، فيسقونه، وقال تعالى: {يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ} [الرحمن: 44]. قَالَ محمد بن كعب: حميم آن: حاضر، وخالفه الجمهور، فقالوا: بل المراد بالآن: ما انتهى حره. وقال شبيب، عن عكرمة، عن ابن عباس: حميم آن: الَّذِي قد انتهى غليه (¬1). وقال سعيد بن بشير عن قتادة: قد آن طبخه، منذ خلق الله السماوات والأرض. وقال الله تعالى: {تسقى من عين آنية} قَالَ مجاهد: قد بلغ حرها، وحان شربها. وعن الحسن، قَالَ: كانت العرب تقول للشيء، إذا انتهى حره، حتى لا يكون شيء أحر منه: قد أنى حره. فقالَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ: "مِنْ عَينٍ آنِيَة" يقول قد أوقدَ اللَّهُ عليها جهنمَ منذُ خُلقتْ، وآنى حرُّها. وعنه قال: آنَ طبخُها منذُ خلقَ اللَّهُ السمواتِ والأرضَ. وقال السديُّ: انتهى حرُّها، فليس بعدَه حرٌّ. وقد سبقَ حديثُ أبي الدرداء، في دفع الحميم إليهم بكلاليبِ الحديدِ. النوع الثاني: الغسَّاقُ. قَالَ ابن عباس: الغساق: ما يسيل من بين جلد الكافر ولحمه. وعنه قَالَ: الغساق: الزمهرير البارد، الَّذِي يحرق من برده. وعن عبد الله بن عمرو قَالَ: الغساق: القيح الغليظ، لو أن قطرة منه تهراق ¬

_ (¬1) أخرجه الطبري في "تفسيره" (27/ 144) من طريق آخر مسلسل بالضعفاء.

في المغرب، لأنتنت أهل المشرق، ولو تهراق في المشرق، لأنتنت أهل المغرب. وقال مجاهد: غساق: الَّذِي لا يستطيعون أن يذوقوه من برده. وقال عطية: هو ما يغسق من جلودهم -يعني يسيل من جلودهم. وقال كعب: غساق: عين في جهنم يسيل إليها (¬1) حمة كل ذي حمة، من حية وعقرب أو غير ذلك، فيستنقع، فيؤتى بالآدمي، فيغمس فيها غمسة واحدة، فيخرج وقد سقط جلده ولحمه عن العظام، ويتعلق جلده ولحمه في عقبيه وكعبيه، ويجر لحمه، كما يجر الرجل ثوبه. وقال السدي: الغساق: الَّذِي يسيل من أعينهم من دموعهم، يسمونه مع الحميم. وروى دراج، عن أبي الهيثم، عن أبي سعيد، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم، قَالَ: "لو أن دلوًا من غسَّاقٍ، يُهرَاقُ في الدنيا، لأنتنَ أهلَ الدُّنيا" خرَّجَه الإمامُ أحمدُ (¬2) والترمذيُّ (¬3) والحاكم (¬4) وصححه. وقال بلال بن سعد: لو أن دلوًا من الغساق، وضع عَلَى الأرض، لمات من عليها. وعنه قَالَ: لو أن قطرة منه، وقعت عَلَى الأرض، لأنتنت ما فيها. خرجهما أبو نعيم. فقد صرح ابن عباس، في رواية عنه، ومجاهد، بأن الغساق هنا هو البارد الشديد البرد. ويدل عليه قوله تعالى: {لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا (24) إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا} ¬

_ (¬1) الحُمَة: بالتخفيف: السم، وقد يُشَدّد. (¬2) (3/ 28، 83). (¬3) برقم (2584) وقال: هذا حديث إِنَّمَا نعرفه من حديث رشدين بن سعد، وفي رشدين مقال، وقد تُكلِّمَ فيه من قبل حفظه. (¬4) (2/ 602).

[النبأ: 24 - 25] فاستثنى من البرد الغساق ومن الشراب الحميم. وقد قيل: إن الغساق هو البارد المنتن، وليس بعربي. وقيل: إنه عربي، وإنه فعال من غسق، يغسق، والغاسق: الليل، وسمي غاسقًا لبرده. النوع الثالث: الصديد. قال مجاهد في قولِه تعالى: {وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ} [إبراهيم: 16] قَالَ: يعني القيح والدم. وقال قتادة في قوله: {وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ} قَالَ: ما يسيلُ من بينِ لحمِه وجلدهِ. قالَ: {يَتَجَرَّعُهُ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ} [إبراهيم: 17] قالَ قتادةُ: هلْ لكُم بهذا يدانِ، أم لكُم على هذا صبر؟ طاعةُ اللَّهِ أهونُ عليكُم يا قوم فأطيعُوا اللَّهَ ورسولَه. وخرَّج الإمامُ أحمدُ (¬1) والترمذيُّ (¬2)، "من حديثِ أبي أمامةَ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، في قوله: {وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ (16) يَتَجَرَّعُهُ} [إبراهيم: 16، 17] قال: يقربُ إلى فيه فيكرهُهُ، فإذا أُدني منه، شَوى وجهَه، ووقعت فروةُ رأسِه، فإذا شَرِبه قطَّعَ أمعاءَه، حتَّى يخرجَ من دبرِه، يقولُ اللَّهُ تعالى: {وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَعَ أَمْعَاءَهُمْ} [محمد: 15]. وقال: {وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا} [الكهف: 29]. وروى أبو يحيى القتات، عن مجاهد، عن ابن عباس، قَالَ: في جهنم أودية من قيح تكتاز، ثم تصب في فيه. وفي صحيح مسلم (¬3) عن جابر، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم، قَالَ: "إن عَلَى الله عهدًا، ¬

_ (¬1) (5/ 265). (¬2) برقم (2583) وقال الترمذي: هذا حديث غريب، وهكذا قَالَ محمد بن إسماعيل عن عبيد الله بن بسر، ولا نعرف عبد الله بن بسر إلاَّ في هذا الحديث. (¬3) برقم (2002).

لمن شَرِبَ المسكر أن يسقِيَه من طينةِ الخبالِ. قالوا: يا رسول الله! وما طينة الخبال؟ قَالَ: عرق أهل النار أو عصارة أهل النار". وخرج الإمام أحمد (¬1) والنسائي (¬2) وابن ماجه (¬3) وابن حبان في "صحيحه" (¬4) من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم، نحوه، إلاَّ أنّه ذكر ذلك في المرة الرابعة. وفي بعض الروايات: "من عين الخبال" (¬5). [وخرج الترمذي (¬6)، من حديث عبد الله بن عمر، نحوه، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم، أنّه قَالَ: "من نهر الخبال"] (*). قيل: يا أبا عبد الرحمن ما نهر الخبال؟ قَالَ: نهر من صديد أهل النار. وقال: حديث حسن. وخرج أبو داود (¬7)، من حديث ابن عباس، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - نحوه، وقال: "من طينة الخبال". قيل: يا رسول الله، ما طينة الخبال؟ قَالَ: "صديد أهل النار". وفي رواية أخرى، قَالَ: "ما يخرج من زهومة (¬8) أهل النار وصديدهم". وخرّجه الإمام أحمد بمعناه أيضًا من حديث أبي ذر (¬9) وأسماء بنت يزيد (¬10)، ¬

_ (¬1) (2/ 178). (¬2) لم أجده عند النسائي بلفظ أحمد. (¬3) برقم (3377). (¬4) برقم (1378 - مواردّ). (¬5) أخرجه البزار في البحر الزخار (2469)، والحاكم (4/ 162) وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. (¬6) برقم (1862). (*) من المطبوع. (¬7) برقم (3680). (¬8) زهومة: الريح المنتنة. (¬9) (5/ 171). (¬10) (6/ 460).

عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم وخرّجه الإمام أحمد (¬1) وابن حبان (¬2) في صحيحه، من حديث أبي موسى عن النّبي - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: "من مات، مدمن خمر، سقاه الله من نهر الغوطة. قيل: وما نهر الغوطة؟ قَالَ: نهر يخرج من فروج المومسات، يؤذي أهل النار ريح فروجهم". وقد سبق حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، في المتكبرين، وفيه: "يسقون من عصارة أهل النار، طينة الخبال". النوعُ الرَّابعُ: الماءُ الذي كالمهلِ. خرج الإمام أحمد (¬3) والترمذي (¬4)، من حديث دراج، عن أبي الهيثم، عن أبي سعيد، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم، في قوله: كالمهل قَالَ: "كعكر الزيت، فَإِذَا قرب إِلَى وجهه، سقطت فروة وجهه فيه". قَالَ عطية: سئل ابن عباس عن قوله: "كالمهل" قَالَ: غليظ. كدردي الزيت (¬5). قَالَ علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: أسود كمهل الزيت (¬6). وكذا قَالَ سعيد بن جبير وغيره. ¬

_ (¬1) (4/ 399). (¬2) برقم (1380 - موارد). (¬3) (3/ 71). (¬4) برقم (2584) وقال: هذا حديث إِنَّمَا نعرفه من حديث رشدين بن سعد، وفي رشدين مقال، وقد تكلم فيه من قبل حفظه. (¬5) أخرجه الطبري في تفسيره (25/ 131) من طريق قابوس عن أبيه عن ابن عباس دون قوله: "غليظ". وأخرجه الطبري (15/ 240) بإسناد مسلسل بالضعفاء قَالَ: هو ماء غليظ مثل دردي الزيت. (¬6) أخرجه الطبري (25/ 131).

وقال الضحاك: أذاب ابن مسعود فضة بيت المال، ثم أرسل إِلَى أهل المسجد، فَقَالَ: من أَحَبّ أن ينظر إِلَى المهل، فلينظر إِلَى هذا. وقال مجاهد: بماء كالمهل: مثل القيح والدم، أسود كعكر الزيت. وخرج الطبراني (¬1)، من طريق تمام بن نجيح، عن الحسن، عن أنس عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم -: "لو أن غربًا، جعل من حميم (¬2) جهنم، جعل وسط الأرض، لآذى نتن ريحه وشدة حره ما بين المشرق والمغرب". وفي موعظة الأوزاعي للمنصور قَالَ: بلغني أن جبريل، قَالَ للنبي - صلى الله عليه وسلم -: "لو أن ذنوبًا من شراب جهنم، صب في ماء الأرض جميعًا، لقتل من ذاقه". خرج بعض المتقدمين، فمر بكروم بقرية، يقال لها: طيز ناباذ، وكأنه كان يعصر فيها الخمر، فأنشد يقول: بطيز ناباذ (¬3) كرم ما مررت به ... إلا تعجبت ممن يشرب الماء فهتف به هاتف يقول: وفي جهنم ماء ما تجرعه ... حلق فأبقى له في البطن أمعاء ... ¬

_ (¬1) في الأوسط (3681) وقال: لم يرو هذا الحديث عن الحسن إلاَّ تمام بن نجيح. وقال الهيثمي في المجمع (10/ 387): وفيه تمام بن نجيح وهو ضعيف، وقد وثق، وبقية رجاله أحسن حالاً من تمام. (¬2) في "الأوسط": "لو أن غربًا من جهنم". (¬3) طيزناباذ: موضع بين الكوفة والقادسية، بينها وبين القادسية ميل، وهي كلمة أعجمية، والشعر لأبي نواس الحسن بن هانئ.

فصل في تنغص السلف على عند ذكر طعام أهل النار

فصل في تنغص السَّلف عَلَى عند ذكر طعام أهل النار وكان كثير من الخائفين من السَّلف، ينغص عليهم ذكر طعام أهل النار، طعام الدُّنْيَا وشرابها، حتى يمتنعوا من تناوله أحيانًا لذلك. وكان الإمام أحمد يقول: الخوف يمنعني من أكل الطعام والشراب فلا أشتهيه. روى شعبة، عن سعد بن إبراهيم، قَالَ: أتي عبد الرحمن بن عوف بعشائه، وهو صائم، فقرأ: {إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالًا وَجَحِيمًا (12) وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا} [المزمل: 12، 13] فلم يزل يبكي، حتى رفع طعامه، فما تعشى، وإنه لصائم. خرّجه الجوزجاني. وروى ابن أبي الدُّنْيَا من طريق يونس، عن الحسن، قَالَ: لقي رجل رجلاً، فَقَالَ له: ما هذا إني أراك قد تغير لونك، ونحل جسمك، فما هو؟ فَقَالَ الآخر: وإني أرى ذلك، فمم هو؟ قَالَ: أصبحت منذ ثلاثة أيام صائمًا، فلما أتيت بإفطاري، عرضت لي هذه الآية: {وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ (16) يَتَجَرَّعُهُ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ} [إبراهيم: 6 - ، 17]. فلم أستطع أن أتعشى، فأصبحت صائمًا، فلما أتيت بعشائي أيضًا، عرضت لي أيضاً، فلم أستطع أن أتعشى، فلي ثلاث منذ أنا صائم، قَالَ: يقول الرجل الآخر: وهي التي عملت بي هذا العمل. ومن طريق خليد بن حسان الهجري، قَالَ: أمسى الحسن صائمًا فأتي بعشائه، فعرضت له هذه الآية: {إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالًا وَجَحِيمًا (12) وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا}

[المزمل: 12، 13] فقلصت يده، وقال: ارفعوه، فأصبح صائمًا، فلما أمسى، أتي بإفطاره، عرضت له، فَقَالَ ارفعوه فقلنا: يا أبا سعيد، تهلك وتضعف!! فأصبح اليوم الثالث صائمًا، فذهب ابنه إِلَى يحيى البكاء وثابت البناني ويزيد الضبي، فَقَالَ: أدركوا أبي، فإنَّه هالك، فلم يزالوا به، حتى سقوه شربة ماء من سويق. ومن طريق صالح المري قَالَ: كاد عطاء السلمي، قد أضر بنفسه حتى ضعف، فقلت له: إنك قد أضررت بنفسك، وأنا متكلف لك شيئًا، فلا ترد كرامتي، قَالَ: أفعل، قَالَ: فاشتريت سويقًا، من أجود ما وجدت، وسمنًا، قَالَ: فجعلت له شريبة، فلتتها وحليتها، وأرسلت بها مع ابني وكوزًا من ماء، وقلت له: لا تبرح حتى يشربها، فرجع، فَقَالَ: قد شربها، فلما كان من الغد، جعلت له نحوها، ثم سرحت بها مع ابني، فرجع بها لم يشربها، قَالَ: فأتيته فلمته، فقلت: سبحان الله! أرددت علي كرامتي؟! إن هذا مما يعينك ويقويك عَلَى الصلاة، وعلى ذكر الله تعالى، قَالَ: فلما رآني قد وجدت (¬1) من ذلك، قَالَ: يا أبا بشر، لا يسؤك الله قد شربتها أول ما بعثت بها، فلما كان الغد راودت نفسي عَلَى أن أسيغها، فما قدرت عَلَى ذلك، إذا أردت أن أشربه أذكر هذه الآية: {يَتَجَرَّعُهُ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ} [إبراهيم: 17] فبكى صالح عند هذا، وقال قلت لنفسي؟ ألا أراني في واد وأنت في آخر. وروى الإمام أحمد بإسناده، عن صالح المري، عن عطاء السلمي، قَالَ: كنت إذا ذكرت جهنم، ما يسيغني طعام ولا شراب. وروى عبد الله بن الإمام أحمد، من طريق مرجى بن وداع، قَالَ: انطلقت مع صالح المري، فدخلنا عَلَى عطاء السلمي، فقلنا له: يا عطاء، تركت الطعام والشراب؟! قَالَ: إني إذا ذكرت صديد أهل النار لم أسغه. ¬

_ (¬1) وجدت: غضبت.

وروى ابن أبي الدُّنْيَا بإسناده، عن عبد المؤمن الصائغ، قَالَ: دعوت رباحًا القيسي ذات ليلة إِلَى منزلي، فجاءني في السحر، فقربت إِلَيْه طعامًا، فأصاب منه شيئًا، فقلت: ازدد فما أراك شبعت، قَالَ: فصاح صيحة أفزعتني، وقال: كيف أشبع أيام الدُّنْيَا، وشجرة الزقوم بين يدي طعام الأثيم، قَالَ: فرفعت الطعام من بين يديه، فقلت: أنت في شيء ونحن في شيء. وبإسناده عن أبي سعد (*)، قَالَ: دخل عبيد الله بن الوليد، عَلَى حبابة التيمية، فعدمت له سمنًا وخبزًا وعسلاً، فَقَالَ: يا حبابة ما تخافين أن يكون بعد هذا الضريع، قَالَ: فما زال يبكى وتبكي، حتى قام ولم يأكل شيئًا. وبإسناده عن سوار بن عبد الله القريعي، قَالَ: كنا مع عمرو بن درهم في بعض السواحل، وقال: وكان لا يأكل إلاَّ من السحر إِلَى السحر، فجئنا بطعام، فلما رفع الطعام إِلَى فيه، سمع بعض المتهجدين وهو يقرأ: {إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ (43) طَعَامُ الْأَثِيمِ} [الدخان: 43، 44] فغشي عليه، وسقطت اللقمة من يده، فلم يفق إلاَّ بعد طلوع الفجر، فمكث بذلك سبعًا، لا يطعم شيئًا، كما قرب إِلَيْهِ عام، عرضت له الآية، فيقوم ولا يطعم شيئًا، فاجتمع إِلَيْه أصحابه، فقالوا: سبحان الله! تقتل نفسك؟! فلم يزالوا به حتى أصاب شيئًا. وبإسناده عن محمد بن سويد، قَالَ: كان لطاووس طريقان إذا رجع من المسجد، أحدهما فيه رواس، وكان يرجع إذا صلّى المغرب، فإذا أخذ الطريق الَّذِي فيه الرواس لم يتعش، فقِيلَ لَهُ، فَقَالَ: إذا رأيت تلك الرؤوس كالحة لم أستطع آكل. وذكر مالك بن أنس هذه الحكاية، عن طاووس، قَالَ مالك: يعني لقول الله تعالى: {وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ} [المؤمنون: 104] وروى ابن أبي الدُّنْيَا أيضاً بإسناده عن عبد الله بن عمر أنّه شرب ماء باردًا فبكى واشتد بكاؤه، فقيل: ما يبكيك؟ فَقَالَ: ذكرت آية في كتاب الله قوله: ¬

_ (*) في المطبوع: "عن أبي سعيد".

{وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ} [سبأ: 54] فعرفت أن أهل النار لا يشتهون شيئًا، شهوتهم الماء البارد، وقد قَالَ الله تعالى: {أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ} [الأعراف: 50]. وعن سلام بن أبي مطيع، قَالَ: أتي الحسن بكوز من ماء، ليفطر عليه، فلما أدناه إِلَى فيه بكى، وقال: ذكرت أمنية أهل النار وقولهم: {أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ} [الأعراف: 50] وذكرت ما أجيبوا به {إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ}. وعن عبد الملك بن مروان، أنه شرب ماء باردًا، فقطعه ثم بكى، فقيل: له ما يبكيك يا أمير المؤمنين؟! قَالَ: ذكرت شدة العطش يوم القيامة، وذكرت أهل النار وما منعوا من بارد الشراب، ثم قرأ: {يَتَجَرَّعُهُ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ} [إبراهيم: 17]. وروى عبد الله بن الإمام أحمد، بإسناده عن إبراهيم النخعي، قَالَ: ما قرأت هذه الآية إلاَّ ذكرت برد الشراب، وقرأ: {وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ} [سبأ: 54]. واستسقى محمد بن مصعب العابد ماء، فسمع صوت البراد، وقال لنفسه: من أين لك في النار براد؟ ثم قرأ: {وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ} [الكهف: 29]. ***

الباب التاسع عشر في ذكر كسوة أهل النار ولباسهم

الباب التاسع عشر في ذكر كسوة أهل النار ولباسهم قَالَ الله تعالى: {فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ} [الحج: 19]. كان إبراهيم التيمي إذا تلا هذه الآية في قصصه يقول: سبحان من خلق من النار ثيابًا! وروينا من طريق يحيى بن معين، حدثنا أبو عبيدة الحداد، حدثنا عبد الله بن بحير، عن عباس الجريري -أحسبه عن ابن عباس- قَالَ: يقطع للكافر ثياب من نار، حتى ذكر القباء والقميص والكمة. وخرج أبو داود (¬1) وغيره (¬2)، من حديث المستورد، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم، قَالَ: "من أكل برجل (¬3) مسلم أكلة في الدُّنْيَا، أطعمه الله مثلها في جهنم، ومن كسي أو اكتسى برجل مسلم ثوبًا، كساه الله مثله في جهنم". وفي مسند الإمام أحمد (¬4) عن هبيب بن مغفل، عن النبيّ -صلّى الله عليه وسلم-، قَالَ: "من وطئ إزاره خيلاء، وطئه في النار". ¬

_ (¬1) برقم (4881). (¬2) وأخرجه أحمد (4/ 229)، والبخاري في الأدب المفرد (240)، والحارث في مسند (879 - بقية)، وابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (2807)، والطبراني في الكبير (20/ 735)، وفي مسند الشاميين (206)، وفي الأوسط (697، 3572) وقال الطبراني: لم يرو هذا الحديث عن ابن ثوبان إلاَّ بقية بن الوليد. وأخرجه البيهقي في الشعب (6717) أيضًا. (¬3) من أكل برجل مسلم: أي بسبب اغتيابه والوقيعة فيه، أو بتعرضه له بالأذية عند من يعاديه. (¬4) (3/ 437)، (4/ 237). قَالَ الهيثمي في المجمع (5/ 125): رواه أحمد وأبو يعلى والطبراني، ورجال أحمد رجال الصحيح، خلا أسلم أبا عمران، وهو ثقة.

وهذا يبين معنى ما في صحيح البخاري (¬1) عن أبي هريرة، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم، أنّه قَالَ: "ما تحت الكعبين من الإزار ففي النار" أن المراد ما تحت الكعب من البدن والثوب معًا. وأنه يسحب ثوبه في النار كما يسحبه في الدُّنْيَا خيلاء. وسيأتي حديث: "أهون أهل النار عذابًا، من في قدميه نعلان من نار، يغلي منهما دماغه". فيما بعد إن شاء الله تعالى. وفي كتاب أبي داود (¬2) والنسائي (¬3) والترمذي (¬4)، عن بريدة أن النبيّ صلّى الله عليه وسلم، رأى عَلَى رجل خاتمًا من حديد، فَقَالَ: "مالي أرى عليك حلية أهل النار؟! ". وروى حماد بن سلمة، عن علي بن زيد، عن أنس، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم: "أن أول من يكسى حلة من النار إبليس، يضعها عَلَى حاجبيه، وبسحبها من خلفه [و] (*) ذريته من خلفه، وهو يقول: يا ثبوره! وهم ينادون: يا ثبورهم! حتى يقفوا عَلَى النار، فيقول: يا ثبوره! فيقول: يا ثبورهم فيقال: {لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا} [الفرقان: 14] خرّجه الإمام أحمد (¬5). وفي حديث عدي الكندي، عن عمر، أن جبريل قَالَ للنبي - صلى الله عليه وسلم -: "والذي بعثك بالحق، لو أن ثوبًا من ثياب أهل النار، علق بين السماء والأرض، لمات من في الأرض كلهم جميعًا من حره"، وخرّجه الطبراني، وسبق ذكر إسناده. وفي موعظة الأوزاعي للمنصور قَالَ: بلغني أن جبريل قَالَ للنبي - صلى الله عليه وسلم -، فذكر بنحوه. ¬

_ (¬1) برقم (5787). (¬2) برقم (4223). (¬3) (8/ 172). (¬4) برقم (1785) وقال الترمذي: هذا حديث غريب. وفي الباب عن عبد الله بن عمرو. (*) من "المسند"، وأخرجه البزار (6/ 12 أمخطوط) وعنده: "فيسحبها من خلفه، أحسبه قَالَ: وتتبعه ذريته خلفه". وقال البزار: وهذا الحديث لا نعلم رواه إلاَّ أنس، ولا نعلم رواه عن علي بن زيد إلاَّ حماد بن سلمة. (¬5) (3/ 152، 153 - 154). قَالَ الهيثمي في المجمع (10/ 392): رواه أحمد والبزار، ورجالهما رجال الصحيح، غير علي بن زيد وقد وُثّق.

فصل في أن سرابيل أهل النار من قطران

فصل في أن سرابيل أهل النار من قطران قَالَ الله عز وجل: {وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ (49) سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ} [إبراهيم: 49، 50]. قَالَ علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله: {مِنْ قَطِرَانٍ} قال: هو النحاس المذاب (¬1). وروى حصينُ عن عكرمةَ، في قولِهِ: {مِنْ قَطِرَانٍ} قال: من صفر يحمى عليها. قال معمرٌ [عن قتادةَ في قولِهِ: {مِنْ قَطِرَانٍ} قال: من النحاسِ. قال معمرٌ:] (*) وقال الحسنُ: قطرانُ الإبلِ. وفي صحيح مسلم (¬2) عن أبي مالك الأشعري، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم قَالَ: "النائحة إذا لم تتب قبل موتها، تقام يوم القيامة، وعليها سربال من قطران، ودرعه من جرب". وخرّجه ابن ماجه (¬3)، ولفظه: "النائحة إذا ماتت، ولم تتب، قطع الله لها ثيابًا من فطران، ودرعًا من لهب النار". وخرج ابن ماجه (¬4) أيضاً، من حديث ابن عباس، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم: "إن النائحة إذا لم تتب، قبل أن تموت، فإنها تبعث يوم القيامة، عليها سرابيل من قطران، ثم يُغْلَى عليها، بدروع من لهب النار". ¬

_ (¬1) أخرجه الطبري في "تفسيره" (13/ 257). (*) من المطبوع. (¬2) برقم (934). (¬3) برقم (1581). (¬4) برقم (1582) قَالَ البوصيري في "الزوائد": في إسناده عمر بن راشد، قَالَ فيه الإمام أحمد: حديثه ضعيف ليس بمستقيم، وقال ابن معين: ضعيف. وقال البخاري: حديثه عن يحيى بن أبي كثير مضطرب لي بالقائم، وقال ابن حبان: يصنع الحديث لا يحل ذكره إلا عَلَى سبيل القدح فيه، وقال الدارقطني في "العلل":=

فصل تفسير قوله تعالى: لهم من جهنم مهاد ومن فوقهم غواش

فصل تفسير قوله تعالى: لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ قَالَ الله تعالى: {لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ} [الأعراف: 41]. قَالَ محمد بن كعب والضحاك والسدي وغيرهم: المهاد: الفرش، والغواس، اللحف. وقال الحسن في قوله: {وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا} [الإسراء: 8]. قَالَ: فراشًا ومهادًا. وقال قتادة: محبسًا حصروا فيه. وروى مسكين، عن حوشب عن الحسن، أنّه كان إذا ذكر أهل النار قَالَ في وصفهم: قد حذيت لهم نعال من نار، وسرابيل من قطران، وطعامهم من نار، وشرابهم من نار، وفرش من نار، ولحف من نار، ومساكن من نار، [في شر دار، وأسود عذاب في الأجساد] (*) أكلاً أكلاً، وصهْرًا صهْرًا، وحطْمًا حطْمًا. وروى داود بن المحبر، عن الحسن بن واصل، وعبد الواحد بن زيد، عن الحسن، قَالَ: إن رجلاً من صدر هذه الأمة، كان إذا دخل المقابر نادى: يا أهل القبور! بعد الرفاهية والنعيم معالجة الأغلال في النار، وبعد القطن والكتان لباس القطران ومقطعات النيران، وبعد تلطف الخدم [والحشم]، (*) ومعانقة الأزواج، مقارنة الشيطان في نار جهنم، مقرنين في الأصفاد. ¬

_ =متروك. ولكن يشهد له الحديث السابق. (*) من المطبوع.

وروى ابنُ أبي الدنيا، بإسنادِهِ، عن وهبِ بنِ منبهٍ، قال: أما أهلُ النارِ الذينَ هم أهلُها، فهم في النارِ لا يهدؤون ولا ينامونَ ولا يموتونَ، ويمشونَ على النارِ، ويجلسونَ [على النارِ،] (*) ويشربونَ من صديدِ أهلِ النارِ، ويأكلونَ من زقومِ النارِ، فرشُهم ولحفهم نار، وقمصُهُم نار وقطران، وتغشى وجوهَهُمُ النارُ، وجميعُ أهلِ النارِ في سلاسلَ بأيدي الخزنةِ أطرافُها، يجذبونَهم مقبلينَ ومدبرينَ، فيسيلُ صديدُهم إلى حفرٍ في النارِ فذلكَ شرابُهُم، قالَ: ثم بَكَى وهب حتى سقطَ مغشيًّا عليهِ، وغلبَ بكرُ بنُ خنيسٍ عندَ روايتِهِ هذا الحديثِ البكاءُ، حتى قامَ فلم يقدرْ أن يتكلمَ، وبكى محمدُ بنُ جعفرٍ بكاءًا شديدًا. وبإسنادِهِ عن هدابٍ، قال: أقبلتْ أمُّ يحيى بن زكريا على يحيى في ثوبٍ تعالجه لَهُ ليلبسه، فقال لها: أفعل، فقالتْ: من أيِّ شيءٍ؟ قالَ من شعرٍ، قالتْ: يا بنيَّ إذًا يأكلُ لحمَكَ، قال: يا أمَّه، إذا ذكرتُ مقطعاتِ أهلِ النارِ لانَ عليَّ جِلْدي. وكان عطاء الخراسانيُّ ينادِي أصحابهُ في السفرِ: يا فلانُ ويا فلانُ! قيامُ هذا الليلِ، وصيامُ هذا النهارِ، أيسرُ من شراب الصديد ومقطعات الحديد، ألوَاحَا ثم ألواحَا ثم ألواحَا (¬1)، ثم يقبلُ على صلاتِهِ. ولما ماتت النور امرأة الفرزدق ودفنت، وقف الفرزدق عَلَى قبرها، وأنشد بحضرة الحسن رحمه الله هذه الأبيات: أخاف وراء القبر -إن لم يعافني ... أشد من القبر التهابًا وأضيقا إذا جاءني يوم القيامة قائد ... عنيف وسواق يسوق الفرزدقا لقد خاب من أولاد آدم من مثسى ... إِلَى النار، مغلول القلادة أزرقا يساق إِلَى نار الجحيم مسربلاً ... سرابيل قطران لباسًا محرقا إذا شربوا فيها الصديد رأيتهم ... يذوبون من حر الصديد تمزقا فبكى الحسن رحمة الله عليه. ¬

_ (*) من المطبوع. (¬1) أي: النجاة.

الباب العشرون في ذكر عظم خلق أهل النار فيها وقبح صورهم وهيئاتهم

الباب العشرون في ذكر عظم خلق أهل النار فيها وقبح صورهم وهيئاتهم خرج البخاري (¬1)، من حديث أبي هريرة، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم، قَالَ: "ما بين منكبي الكافر مسيرة ثلاثة أيام للراكب السريع". وخرّجه مسلم (¬2)، ولفظه، عن أبي هريرة يرفعه، قَالَ: "ما بين منكبي الكافر في النار مسيرة ثلاثة أيام للراكب المسرع". وخرج مسلم (¬3) أيضاً عن أبي هريرة عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم، قَالَ: "ضرس الكافر - أو ناب الكافر- مثل أحد، وغلظ جلده مسيرة ثلاث". وخرج الحاكم (¬4)، عن أبي هريرة، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم، قَالَ: "ضرس الكافر يوم القيامة مثل أحد، وعرض جلده سبعون ذراعًا، وعضده مثل البيضاء، وفخذه مثل ورقان (¬5)، ومقعده من النار مثل ما بيني وبين الربذة" (¬6). خرّجه الإمام أحمد، ولم يذكر فيه عضده، وخرّجه الحاكم موقوفًا عَلَى أبي هريرة، وزاد فيه: ¬

_ (¬1) برقم (6551). (¬2) برقم (2852). (¬3) برقم (2851). (¬4) (4/ 595) وقال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه بهذه السياقة إِنَّمَا اتفقا عَلَى ذكر ضرس الكافر فقط. (¬5) البيضاء: موضع بقرب حمي الربذة. و"ورقان": جبل أسود بين العرج والروثية، عَلَى يمين المار من المدينة إِلَى مكة. (¬6) الربذة: قرية من قرى المدينة المنورة عَلَى ثلاثة أيام، قريبة من ذات عرق عَلَى طريق الحجاز إذا رحلت من فيد تريد مكة، وبها قبر أبي ذر الغفاري رضي الله عنه.

قَالَ أبو هريرة: وكان يقال: بطنه مثل بطن إضم (¬1). وخرج الإمام أحمد (¬2)، عن أبي هريرة أيضاً، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم، قَالَ: "ضرس الكافر مثل أحد وفخذه مثل البيضاء، ومقعده من النار كما بين قديد (¬3) ومكة، وكثافة جلده اثنان وأربعون ذراعًا بذراع الجبار". وخرج الترمذي (¬4)، عن أبي هريرة، عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم -: "ضرس الكافر يوم القيامة مثل أحد، وفخذه مثل البيضاء، ومقعده من النار مسيرة ثلاث مثل الربذة". وقال: قوله: مثل الربذة يعني كما بين المدينة والربذة، والبيضاء جبل. وخرج أيضاً (¬5)، عن أبي هريرة، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم، قَالَ: "إن غلظ جلد الكافر اثنان وأربعون ذراعًا، وإن ضرسه مثل أحد، وإن مجلسه من جهنم ما بين مكة والمدينة". وخرج الإمام أحمد (¬6)، من حديث ابن عمر، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم، قَالَ: "يعظم أهل النار في النار، حتى إن ما بين شحمة أذن أحدهم إِلَى عاتقه، مسيرة سبعمائة عام، وإن غلظ جلده سبعون ذراعًا، وإن ضرسه مثل أحد". وخرج الإمام أحمد (¬7) والحاكم (¬8)، من حديث أبي سعيد عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم، ¬

_ (¬1) بكسر الهمزة وفتح الضاد، اسم جبل، وقيل: موضع. (¬2) (2/ 334، 537). (¬3) قديد: موضع بين مكة والمدينة. (¬4) برقم (2578) وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب. (¬5) برقم (2577) وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح غريب من حديث الأعمش. (¬6) (2/ 26) وقال الهيثمي في المجمع (10/ 391): رواه أحمد والطبراني في الكبير والأوسط، وفي أسانيدهم أبو يحيى القتات، وهو ضعيف وفيه خلاف، وبقية رجاله أوثق منه. (¬7) (3/ 29). (¬8) (4/ 598) وقال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه. وقال الهيثمي في المجمع (10/ 391): وفيه ابن لهيعة، وقد وثق عَلَى ضعفه.

قَالَ: "إن مقعد الكافر من النار مسيرة ثلاثة أيام، وكل ضرس مثل أحد، وفخذه مثل ورقان، وجلده سوى لحمه وعظامه أربعون ذراعًا". وخرج ابن ماجه (¬1)، عن أبي سعيد الخدري، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: "إن الكافر ليعظم، حتى إن ضرسه لأعظم من أحد، وفضيلة جسده عَلَى ضرسه كفضيلة جسد أحدكم عَلَى ضرسه". وخرج البزار (¬2)، من حديث ثوبان، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: "ضرس الكافر مثل أحد، وغلظ جلده أربعون ذراعًا بذراع الجبار". وخرج الطبراني (¬3) وغيره، من حديث المقدام بن معد يكرب، عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: "يعظم الكافر ونار، حتى يصير غلظ جلده أربعين باعًا، وحتى يصير الناب مثل أحد". وخرج الطبراني (¬4) أيضًا، عن المقدام، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم، قَالَ: "من كان من أهل النار، عظموا وفخموا كالجبال". وقال زيد بن أرقم: إن الرجل من أهل النار، ليعظم للنار، حتى يكون الضرس من أضراسه كأحده خرّجه الإمام أحمد موقوفًا (¬5). وعن ابن عباس، قَالَ: إن بين شحمة أذن أحدهم -يعني أهل النار- وبين عاتقه مسيرة سبعين خريفًا، أودية القيح والدم، قِيلَ لَهُ: أنهار؟ قَالَ: بل أودية. خرّجه الإمام أحمد، وقد سبق بتمامه. ¬

_ (¬1) برقم (4322). وقال البوصيري في الزوائد: عطية العوفي والراوى عنه ضعيفان، وقد روى مسلم في "صحيحه" والترمذي بعضه من حديث أبي هريرة. (¬2) قَالَ الهيثمي في المجمع (10/ 392): رواه البزار، وفيه: عباد بن منصور وهو ضعيف، وقد وثق، وبقية رجاله ثقات. (¬3) قَالَ الهيثمي في المجمع (10/ 334): رواه الطبراني بإسنادين وأحدهما حسن. (¬4) في "الكبير" (20/ 663). (¬5) (4/ 367) وأورده الهيثمي في المجمع (10/ 392) موقوفًا أيضاً وقال: رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح، غير عنبسة بن سعيد وهو ثقة.

وعن عمرو بن ميمون، قَالَ: إنه ليسمع بين جلد الكافر ومه، جلبة الدود، كجلبة الوحش. وخرج الإمام أحمد (¬1) والترمذي (¬2)، من حديث ابن عمر، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم، قَالَ: "إن الكافر يجر لسانه يوم القيامة وراءه قدر فرسخين يتوطؤه الناس". وقد ورد نحو ذلك في حق عصاة الموحدين أيضاً، فخرج الإمام أحمد (¬3) وابن ماجه (¬4) والحاكم (¬5)، من حديث الحارث بن أقيش، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -" قَالَ: "إن من أمتي من يعظم للنار، حتى يكون أحد زواياها". وروى الطبراني (¬6) من حديث أبي غنم الكلاعي، عن أبي غسان الضبي"، قَالَ: قَالَ لي أبو هريرة -بظهر الحيرة تعرف عبد الله بن خداش- قَالَ: فإني سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: "فخذه في جهنم مثل أحد، وضرسه مثل البيضاء، قلت: لم ذلك يا رسول الله؟! قَالَ: كان عاقًّا لوالديه". وروى أغلب بن تميم، وفيه ضعف، عن ثابت، عن أنس مرفوعًا: "يجاء بالأمير الجائر يوم القيامة، فتخاصمه الرعية، فيفلجوا عليه (¬7)، فيَقُولُونَ له: سد عنا ¬

_ (¬1) (2/ 92). (¬2) برقم (2850) وقال الترمذي: هذا حديث غريب، إِنَّمَا نعرفه من هذا الوجه .... وأبو المخارق ليس بمعروف. (¬3) (4/ 212). (¬4) برقم (4323) وقال البوصيري في "الزوائد": في إسناده عبد الله بن قيس النخعي، ذكره ابن حبان في الثقات، وقال: أحسبه الَّذِي روى عنه أبو إسحاق عن ابن عباس. وقال: لم يروه عنه غير داود بن هند، وليس إسناده بالصافي. (¬5) (1/ 71). (¬6) في الأوسط (6857) وقال الطبراني: لم يرو هذا الحديث عن أبي غسان الضبي إلاَّ أبو غنم الكلاعي، تفرد به الوليد. وقال الهيثمي في المجمع (8/ 148): وأبو غسان وأبو غنم الراوي عنه، لم أعرفهما، وبقية رجاله ثقات. (¬7) فيفلجوا عليه: أي فيغلبوه.

ركنًا من أركان جهنم". وروى الخلال في كتاب السنة، من حديث الحكم بن الأعرج، عن أبي هريرة، قَالَ: يعظم الرجل في النار، حتى يكون مسيرة سبع ليال، وضرسه مثل أحد، شفاههم عَلَى صدورهم مقبوحين، يتهافتون في النار. وروى مسكين عن حوشب، عن الحسن، أنّه ذكر أهل النار، فَقَالَ: قد عظموا لجهنم مسيرة ثلاثة أيام ولياليهن للراكب الجواد، وإن ناب أحدهم مثل النخل الطوال، وإن دبره لمثل الشعب، مغلولة أيديهم إِلَى أعناقهم، قد جمع بين نواصيهم وأقدامهم، [والملائكة] (*) يضربون وجوههم وأدبارهم يسوقونهم إِلَى جهنم. فيقول العبد للملك: ارحمني. فيقول: كيف أرحمك ولم يرحمك أرحم الراحمين؟! ... ¬

_ (*) من المطبوع.

فصل في تفسير قوله تعالى: تلفح وجوههم النار وهم فيها كالحون

فصل في تفسير قوله تعالى: تلفح وجوههم النار وهم فيها كالحون قَالَ الله تعالى: {تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ}. روى دراج عن أبي الهيثم، عن أبي سعيد، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم، قَالَ: {وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ} [المؤمنون: 104] قَالَ: "تشويه النار، فتقلص شفته العليا، حتى تبلغ وسط رأسه، وتسترخي شفته السفلى! حتى تضرب سرته" خرّجه الإمام أحمد (¬1) والترمذي (¬2) والحاكم (¬3) وقالا: صحيح. وعن ابن مسعود أنّه قَالَ في قوله: {وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ} قَالَ: ككلوح الرأس النضيح (¬4). وعنه: ككلوح الرأس المشيط بالنار، قد بدت أسنانهم، وتقلصت شفاههم (¬5). وعنه قَالَ: ألم تر إِلَى الرأس المشيط بالنار، وقد تقلصت شفتاه، وبدت أسنانه (¬6)؟!. وخرج الخلال في كتاب السنة، من حديث الحكم بن الأعرج، عن أبي هريرة، قَالَ: يعظم الرجل في النار، حتى يكون مسيرة سبع ليال، ضرسه مثل ¬

_ (¬1) (3/ 88). (¬2) برقم (3176) وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح غريب. (¬3) (2/ 395) وقال: صحيح الإسناد، ولم يخرجاه. (¬4) أخرجه هناد في "الزهد" (303)، والحاكم (2/ 429) وقال: هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه. (¬5) أخرجه هناد في "الزهد" (304). (¬6) أخرجه ابن المبارك في "الزهد" (291)، والطبري في "تفسيره" (18/ 56).

أحد، شفاههم عَلَى صدورهم مقبوحين، يتهافتون في النار. قَالَ أبو بكر بن عياش، عن محمد بن سويد: كان لطاووس طريقان إذا رجع من المسجد، أحدهما فيه رواس، وكان يرجع إذا صلّى المغرب، فَإِذَا أخذ الطريق الَّذِي فيه الرواس لم يتعش، فقِيلَ لَهُ، فَقَالَ: إذا رأيت الرؤوس كالحة لم أستطع آكل، قَالَ أبو بكر: فذكرته لسريع المكي، فَقَالَ: قد رأيته يقف عليها. وقال أبو غندر الدمشقي: كان أويس إذا نظر إِلَى الرؤوس المشوية، يذكر هذه الآية: {تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ} [المؤمنون: 104] فيقع مغشيًّا عليه، حتى يظن من نظر إليه أنّه مجنون. خرجهما ابن أبي الدُّنْيَا وغيره. وقال الأصمعي: حدثنا الصقر بن حبيب، قَالَ: مر ابن سيرين برواس قد أخرج رأسًا، فغشي عليه. ***

فصل في تفسير قوله تعالى: كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها

فصل في تفسير قوله تعالى: كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودًا غيرها قَالَ- الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ} [النساء: 56]. روى نافع مولى يوسف السلمي، عن نافع، عن ابن عمر، قَالَ: قرأ رجل عند عمر هذه الآية: {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا} فَقَالَ عمر: أعد علي، فأعادها عليه، فَقَالَ معاذ بن جبل: عندي تفسيرها: "تبدل في ساعة واحدة مائة مرة"، فَقَالَ عمر: هكذا سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم. خرّجه ابن أبي حاتم، وابن مردويه (¬1). وخرّجه ابن مردويه أيضاً من طريق نافع أبي هرمز، أنبأنا نافع، عن ابن عمر، قَالَ: تلا رجل عند عمر هذه الآية: {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ} [النساء: 56] فَقَالَ عمر: أعده علي وثم كعب، فَقَالَ: يا أمير المؤمنين، أنا عندي تفسير هذه الآية، قرأتها قبل الإسلام، قَالَ: فَقَالَ: هاتها يا كعب، فإن جئت بها كما سمعتها من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صدقناك، وإلا لم ننظر إليها: قَالَ: "إني قرأتها قبل الإسلام" {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ} في الساعة الواحدة: عشرين ومائة مرة، فَقَالَ عمر: هكذا سمعت من ¬

_ (¬1) وأخرجه ابن عدي في الكامل (7/ 49) وقال: ولنافع أبو هرمز غير ما ذكرت وعامة ما يرويه غير محفوظ، والضعف عَلَى روايته بَيِّنَ. وأخرجه الطبراني في "الأوسط" (4517) وقال الهيثمي في المجمع (7/ 6): وفيه نافع مولى يوسف السلمي، وهو متروك.

رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬1). نافع أبو هرمز: ضعيف جداً، وهو نافع مولى يوسف السلمي أيضاً، عند طائفة من الحفاظ، منهم ابن عدي. ومنهم من قَالَ: هما اثنان وكلاهما ضعيف. وروى الربيع بن برة، عن الفضل الرقاشي، وإن عمر سأل كعبًا عن هذه الآية، فَقَالَ: إن جلده يحرق ويجدد في ساعة، أو في مقدار ساعة، مائة ألف مرة، فَقَالَ عمر: صدقت (¬2). وهذا منقطع. وروى ثوير بن أبي فاختة -وهو ضعيف- عن ابن عمر، أنّه قَالَ في هذه الآية: إذا أحرقت جلودهم، بدلوا جلودًا بيضاء أمثال القراطيس. خرّجه ابن أبي حاتم. وخرج أيضاً بإسناده عن يحيى بن يزيد الحضرمي، أنّه بلغه في هذه الآية، قَالَ: يجعل للكافر مائة جلد، بين كل جلدين لون من العذاب. وعن هشام، عن الحسن، في هذه الآية قَالَ: تأكلهم النارل يوم سبعين ألف مرة، كلما أكلتهم، قِيلَ لَهُم: عودوا [فيعودون] (*) كما كانوا (¬3). وعن الربيع بن أنس، قَالَ: مكتوب في الكتاب الأول أن جلد أحدهم أربعون ذراعًا، وسنه تسعون ذراعًا، وبطنه لو وضع فيه جبل لوسعه، فَإِذَا أكلت النار جلوب هم بدلوا جلودًا غيرها. ... ¬

_ (¬1) وأخرجه أبو نعيم في "الحلية" (5/ 374 - 375). (¬2) أخرجه البيهقي في "البعث" (577) وعنده: "ستة آلاف مرة" بدلا من "مائة ألف مرة". (¬3) أخرجه أحمد في "الزهد" (2/ 235). (*) من المطبوع.

فصل في تسويد وجوه أهل النار ومد جسومهم

فصل في تسويد وجوه أهل النار ومد جسومهم خرج الترمذي (¬1) من حديث السدي، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، في قوله تعالى: {يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ} [الإسراء: 71] قَالَ: "يدعى أحدهم، فيعطى كتابه بيمينه، ويمد له في جسمه ستون ذراعًا، ويبيض وجهه، ويجعل عَلَى رأسه تاج من نور يتلألأ، فينطلق إِلَى أصحابه فيرونه من بعيد، فيقولون: اللهم آتنا بهذا، وبارك لنا في هذا، حتى يأتيهم فيقول لهم: أبشروا! لكل رجل منكم مثل هذا. قَالَ: وأما الكافر فيسود وجهه، ويمد له في جسمه ستون ذراعًا في صورة آدم ويلبس تاجًا من نار، فيراه أصحابه، فيَقُولُونَ: نعوذ بالله من شر هذا، اللهم لا تأتنا بهذا، فيأتيهم، فيَقُولُونَ: اللهم أخزه، فيقول: أبعدكم الله! فإن لكل رجل منكم مثل هذا. وقال: حسن غريب. وروى عطاء بن يسار، عن كعب، قَالَ: يؤتى بالرئيس في الشر، فيقال له: أجب ربك، فينطلق به إِلَى ربه، فيحتجب عنه، ويؤمر به إِلَى النار، فيرى منزله ومنزل أصحابه، فيقال: هذه منزلة فلان، هذه منزلة فلان، فيرى ما أعد الله لهم فيها من الهوان، ويرى منزلته شر من منازلهم. قَالَ: فيسود وجهه، وتزرق عيناه، ويوضع عَلَى رأسه (*) قلنسوة من نار، فيخرج، فلا يراه أهل ملأ إلاَّ تعوذوا بالله منه، فيأتي أصحابه الذين كانوا يجامعونه عَلَى الشر ويعينونه عليه، فما يزال يخبرهم بما أعد الله لهم في النار، حتى يعلو وجوههم من السواد مثل ما علا وجهه، فيعرفهم الناس بسواد ¬

_ (¬1) برقم (3136). (*) في الأصل: "وجهه" والمثبت من المطبوع.

وجوههم، فيَقُولُونَ: هؤلاء أهل النار. خرّجه أبو نعيم (¬1) وغيره. وهذا إِنَّمَا هو قبل دخولهم النار، فإذا دخلوا النار، عظم خلقهم، عَلَى ما تقدم في الأحاديث السابقة. وأما سنهم فعلى سن أهل الجنة لا يزادون عليه. روى دراج، عن أبي الهيثم، عن أبي سعيد، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم، قَالَ: "من مات من أهل الجنة، من صغير وكبير، يردون بني ثلاثين في الجنة، لا يزيدون عليها أبدًا، وكذلك أهل النار" خرّجه الترمذي (¬2). وفي رواية غير الترمذي "بني ثلاث وثلاثين" (¬3). وخرَّج الطبراني (¬4)، من طريق سليم بن عامر، عن المقدام بن معد يكرب، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم، قَالَ: "ما من أحد يموت سقطًا ولا هرمًا، وإنما الناس بين ذلك، إلاَّ بعث ابن ثلاثين سنة، فإن كان من أهل الجنة، كان عَلَى مسحة آدم، وصورة يوسف، وقلب أيوب، ومن كان من أهل النار، عظموا وفخموا كالجبال". ورواه غير الطبراني وقال: "أبناء ثلاث وثلاثين سنة" (¬5). ... ¬

_ (¬1) في الحلية (5/ 370 - 371). (¬2) تحت رقم (2562) وقال الترمذي: هذا حديث غريب، لا نعرفه إلاَّ من حديث رشدين. (¬3) أخرجه الطبراني في الكبير (20/ 118). (¬4) في المعجم الكبير (20/ 663) وقال الهيثمي في المجمع (10/ 334) رواه الطبراني بإسنادين وأحدهما حسن. (¬5) أخرجه البزار في البحر الزخار (2644) من حديث معاذ بن جبل.

فصل ذو الوجهين في الدنيا له وجهان من نار يوم القيامة

فصل ذو الوجهين في الدُّنْيَا له وجهان من نار يوم القيامة وقد ورد أن بعضهم له لسانان من نار، ووجهان من نار. ففي سنن أبي داود (¬1) عن عمار، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم، قَالَ: "من كان له وجهان في الدُّنْيَا، كان له يوم القيامة لسانان من نار". ويروى نحوه، من حديث أنس (¬2) وأبي هريرة (¬3) أيضًا. وخرج الطبراني (¬4)، من حديث سعد، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم، قَالَ: "ذو الوجهين في الدنيا، يأتى يوم القيامة، وله وجهان من نار". ... ¬

_ (¬1) برقم (4873). (¬2) أخرجه القضاعي في "مسند الشهاب" (463). (¬3) أخرجه أبو نعيم في "الحلية" (8/ 282). (¬4) في "الأوسط" من حديث سعد بن أبي وقاص برقم (6278). وقال الطبراني: لا يروى هذا الحديث عن سعد إلاَّ بهذا الإسناد، تفرد به خالد بن يزيد العمري. وقال الهيثمي في المجمع (8/ 95): رواه الطبراني في "الأوسط" من حديث سعد ابن أبي وقاص، وفيه خالد بن يزيد العمري، وهو كذاب.

فصل ومنهم من تمسخ صورته على صورة قبيحة

فصل ومنهم من تمسخ صورته عَلَى صورة قبيحة وفي الصحيح (¬1) أن إبراهيم عليه السلام، إذا شفع في أبيه، قِيلَ لَهُ: يا إبراهيم، انظر ما وراءك، فإذا هو بذيخ ملطخ (¬2)، فيؤخذ بقوائمه، ويلقى في النار. والذيخ: الضبع الذكر. وقال أبو العالية، في قوله تعالى: {ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ} [التين: 5] قَالَ: في النار في صورة خنزير، خرّجه ابن أبي حاتم. وقال ابن مسعود: إذا أراد الله أن لا يخرج منها أحدًا، غير صورهم وألوانهم، فلا يعرف منهم أحد. وسنذكر كلامه بتمامه فيما بعد إن شاء الله تعالى. ... ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (3350). (¬2) قَالَ الحافظ في الفتح (8/ 359): والذيخ بكسر الذال المعجمة بعدها تحتانية ساكنة ثم خاء معجمة، ذكر الضباع. وقيل: لا يقال له ذيخ إلاَّ إذا كان كثير الشعر، والضبعان لغة في الضبع. وقوله: "متلطخ" قَالَ بعض الشراح: أي في رجيع أو دم أو طين.

فصل في نتن ريح أهل النار

فصل في نتن ريح أهل النار قَالَ الأوزاعي في موعظته للمنصور: بلغني أن جبريل قَالَ للنبي - صلى الله عليه وسلم -: "لو أن رجلاً أدخل النار، ثم أخرج منها، لمات أهل الأرض من نتن ريحه وتشويه خلقته". وقد رواه أيضاً بكر بن خنيس، عن عبد الملك الجسري، عن الحسن، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلاً. وروى ابن لهيعة، عن أبي قبيل، عن عبد الله بن عمرو، قَالَ لو أن رجلاً من أهل النار أخرج إِلَى الدُّنْيَا، لمات أهل الأرض من وحشة منظره ونتن ريحه، قَالَ: ثم بكى عبد الله بكاء شديدًا، خرّجه ابن أبي الدُّنْيَا (¬1). وخرج أيضاً (¬2)، من طريق النضر بن إسماعيل، قَالَ: مر الربيع بن أبي راشد برجل به زمانة (¬3)، فجلس يحمد الله ويبكي، فمر به رجل، فَقَالَ: ما يبكيك رحمك الله؟ قَالَ: ذكرت أهل الجنة وأهل النار، فشبهت أهل الجنة بأهل العافية، وأهل البلاء بأهل النار، فذلك الَّذِي أبكاني. ... ¬

_ (¬1) قَالَ المنذري في "الترغيب والترهيب" (4/ 263): رواه ابن أبي الدُّنْيَا موقوفًا، وفي إسناده ابن لهيعة. (¬2) في "الرقة والبكاء" (59). (¬3) زمانة: عاهة.

الباب الحادي والعشرون في ذكر أنواع عذاب أهل النار فيها وتفاوتهم في العذاب بحسب أعمالهم

الباب الحادي والعشرون في ذكر أنواع عذاب أهل النار فيها وتفاوتهم في العذاب بحسب أعمالهم خرج مسلم (¬1)، من حديث سمرة بن جندب، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم، قَالَ: "منهم من تأخذه النار إِلَى كعبيه، ومنهم من تأخذه النار إِلَى ركبتيه، ومنهم من تأخذه النار إِلَى حجزته، ومنهم من تأخذه النار إِلَى ترقوته" (¬2). وخرج الإمام أحمد (¬3)، من حديث أبي سعيد الخدري، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم، قَالَ: "إن أهون أهل النار عذابًا، رجل منتعل بنعلين من نار، يغلي منهما دماغه مع إجزاء العذاب، ومنهم من في النار إِلَى كعبيه مع إجزاء العذاب، ومنهم من في النار إِلَى ركبتيه مع إجزاء العذاب، ومنهم من في النار إِلَى أرنبته (¬4) مع إجزاء العذاب، ومنهم من في النار إِلَى صدره مع إجزاء العذاب، ومنهم من قد اغتمر". وفي الصحيحين (¬5)، من حديث النعمان بن بشير، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم، قَالَ: "إن أهون أهل النار عذابًا، رجل في أخمص قدميه جمرتان، يغلي منهما دماغه كما يغلي المرجل بالقمقم". ولفظ مسلم: "إن أهون أهل النار عذابًا، من له نعلان وشراكان من نار، يغلي منهما دماغه كما يغلي المرجل، ما يرى أن أحدًا أشد منه عذابًا، وإنه لأهونهم ¬

_ (¬1) برقم (2845). (¬2) حجزته: أي وسطه. وترقوته: هي العظم الَّذِي بين ثغرة النحر والعاتق. (¬3) (3/ 78). (¬4) أرنبته: أي طرف أنفه. (¬5) أخرجه البخاري (6561)، ومسلم (213).

عذابًا". ولمسلم (¬1)، من حديث أبي سعيد، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم: "إن أدنى أهل النار عذابًا، منتعل بنعلين من نار، يغلي دماغه من حر نعليه". وفي الصحيحين (¬2)، عن أبي سعيد، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم، أنّه ذكر عنده عمه أبو طالب، فَقَالَ: "لعله تنفعه شفاعتي يوم القيامة، فيجعل في ضحضاح من نار، تبلغ كعبيه، يغلي منهما دماغه". وفيهما أيضاً (¬3)، عن العباس بن عبد المطلب، أنّه قَالَ: يا رسول الله، هل نفعت أبا طالب بشيء، فإنه كان يحوطك، ويغضب لك؟ قَالَ: "نعم، هو في ضحضاح من نار، ولولا أنا، لكان في الدرك الأسفل من النار". وفي رواية لمسلم (¬4)، قَالَ: "وجدته في غمرات من النار، فأخرجته إِلَى ضحضاح". ولمسلم أيضاً (¬5)، من حديث ابن عباس، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم، قَالَ: "إن أهون أهل النار عذابًا أبو طالب، وهو منتعل بنعلين، يغلي منهما دماغه". وروى الحكم بن ظهير، وهو ضعيف، عن السدي، عن مرة، عن ابن مسعود، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم "إن أشد الناس عذابًا، [رجل يرمى به فيها، فيهوي فيها سبعين خريفًا، وإن أدنى أهل النار عذابًا] (*)، رجل في ضحضاح من النار، يغلي منه دماغه، حتى يخرج من منخره". وروى مسكين أبو فاطمة، عن اليمان بن يزيد، عن محمد بن حمير، عن ¬

_ (¬1) برقم (211). (¬2) أخرجه البخاري (3885)، ومسلم (210). (¬3) أخرجه البخاري (3883)، ومسلم (209). (¬4) برقم (209). (¬5) برقم (213). (*) من المطبوع.

محمد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، أنّه ذكر أهل الكبائر من الموحدين، فَقَالَ: "منهم من تأخذه النار إِلَى ركبتيه، ومنهم من تأخذه النار إِلَى حجزته، ومنهم من تأخذه النار إِلَى عنقه، عَلَى قدر ذنوبهم وأعمالهم" وذكر الحديث، وهو منكر، قاله: الدارقطني وغيره. وقال عبيد بن عمير، قَالَ رسول الله صلّى الله عليه وسلم: "إن أدنى أهل النار عذابًا، لرجل، عليه نعلان، يغلي منهما دماغه، كأنه مرجل، مسامعه جمرة، وأضراسه جمرة، وأشفاره لهب النار، وتخرج أحشاء جنبيه من قدميه، وسائرهم كالحب القليل، في الماء الكثير، فهو يفور". خرّجه هناد بن السري في "كتاب الزهد" (¬1) بإسناد صحيح إِلَى عبيد، وهو مرسل، وقد رُوي عن عبيد موقوفًا غير مرفوع. وروى أيضاً (¬2) بإسناده، عن ابن مسعود، في قوله تعالى: {فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ} [الصافات: 55] قَالَ عبد الله: اطلع ثم اطلع إِلَى أصحابه، فَقَالَ: لقد رأيت جماجم القوم تغلي. وإسناده عن مجاهد، في قوله تعالى: {سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ} [الملك: 7] قَالَ: تفور بهم كما يفور الحب القليل في الماء الكثير. وعن سفيان الثوري، قَالَ في هذه الآية: تغلي بهم كالحب القليل في الماء الكثير. وفي مصنف عبد الرزاق (¬3): عن معمر، عن إسماعيل بن أبي سعيد، أن عكرمة، مولى ابن عباس، أخبره أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قَالَ: "إن أهون أهل النار عذابًا، رجل يطأ جمرة، يغلي منها دماغه". فَقَالَ أبو بكر الصديق رضي الله عنه: وما كان جرمه يا رسول الله؟ قَالَ: كانت له ماشية، يغشى بها الزرع ويؤذيه". ¬

_ (¬1) برقم (309). (¬2) في "الزهد" (310). (¬3) برقم (18447).

وفي صحيح مسلم (¬1)، عن أنس، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم، قَالَ: "يؤتى بأنعم أهل الدُّنْيَا من أهل النار، فيصبغ في النار صبغة، ثم يقال له: يا ابن آدم، هل رأيت خيرًا قط؟ هل مر بك نعيم قط؟!. فيقول: لا والله يا رب!! ". واعلم أن تفاوت أهل النار في العذاب، هو بحسب تفاوت أعمالهم، التي دخلوا بها النار، كما قَالَ تعالى: {وَلِكَلٍّ دَرَجَاتٌ ممَا عَمِلُوا} [الأنعام: 132]. وقال تعالى: {جَزَاءً وِفَاقًا} [النبأ: 26] قَالَ ابن عباس: وفق أعمالهم، فليس عقاب من تغلظ كفره، وأفسد في الأرض، ودعا إِلَى الكفر، كمن ليس كذلك، قَالَ تعالى: {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ} [النحل: 88]. وقال تعالى: {وَيَوْمَ تَفوم السَّاعَة أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشدَّ الْعَذَابِ} [غافر: 46] وكذلك، تفاوت عذاب عصاة الموحدين في النار، بحسب أعمالهم. فليس عقوية أهل الكبائر، كعقوبة أصحاب الصغائر، وقد يخفف عن بعضهم العذاب، بحسنات أخر له، أو بما شاء الله من الأسباب، ولهذا يموت بعضهم في النار، كما سيأتي ذكره فيما بعد، إن شاء الله تعالى. وأما الكفار، إذا كان لهم حسنات في الدُّنْيَا، من العدل والإحسان إِلَى الخلق، فهل يخفف عنهم بذلك من العذاب في النار أو لا؟. هذا فيه قولان للسلف وغيرهم: أحدهما: أنه يخفف عنهم بذلك أيضًا. روى ابن لهيعة، عن عطاء بن دينار، عن سعيد بن جبير، معنى هذا القول، واختاره ابن جرير الطبري وغيره. وروى الأسود بن شيبان، عن أبي نوفل، قَالَ: قالت عائشة: يا رسول الله، ¬

_ (¬1) برقم (2807).

أين عبد الله بن جدعان؟ قَالَ: "في النار". فجزعت عائشة، واشتد عليها. فلما رأى رسول الله صلّى الله عليه وسلم ذلك، قَالَ: "يا عائشة، ما يشتد عليك من هذا؟ " قالت بأبي أنت وأمي يا رسول الله!! إنه كان يطعم الطعام ويصل الرحم. قَالَ: "إنه يهون عليه بما قلت". خرّجه الخرائطي في كتاب "مكارم الأخلاق" (¬1). وهو مرسل. وروى عامر بن مدرك الحارثي، عن عتبة بن اليقظان، عن قيس بن مسلم، عن طارق بن شهاب، عن عبد الله بن مسعود، قَالَ: قَالَ رسول الله صلّى الله عليه وسلم: "ما أحسن من محسن، كافر أو مسلم، إلاَّ أثابه الله عز وجل في عاجل الدُّنْيَا، أو ادخر له في الآخرة". قلنا: يا رسول الله ما إثابة الكافر في الدُّنْيَا؟ قَالَ: "إن كان قد وصل رحمًا، أو تصدق بصدقة، أو عمل حسنة، أثابه الله المال والولد والصحة وأشباه ذلك" قلنا: فما إثابة الكافر في الآخرة (*)؟ قاله: عذابًا دون العذاب، ثم تلا: {أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر: 46]. خرّجه ابن أبي حاتم (¬2) والخرائطي (¬3) والبزار في مسنده (¬4) والحاكم في ¬

_ (¬1) برقم (327). (¬2) في "تفسيره" (10/ 3267) برقم (18436). (*) في الأصل: "الدُّنْيَا" وفي حاشية الأصل: "لعله الآخرة". (¬3) في "مكارم الأخلاق" (120). (¬4) برقم (945 - كشف) وقال: ولا نعلم رواه إلاَّ ابن مسعود، ولا له إلاَّ هذا الطريق عنه. وقال الهيثمي في المجمع (3/ 111): وفيه عتبة بن يقظان وفيه كلام، وقد وثقه ابن حبان، وبقية وجاله ثقات. وقال الحافظ في الفتح (11/ 432): سنده ضعيف. وقال الذهبي في الميزان (5/ 40): والخبر منكر.

المستدرك (¬1) وقال: صحيح الإسناد، وخرّجه البيهقي في كتاب "البعث والنشور" (¬2) وقال: في إسناده نظر. انتهى، وعتبة بن يقظان تكلم فيه بعضهم. وقد سبقت الأحاديث، في تخفيف العذاب عن أبي طالب، بإحسانه إِلَى النبي - صلى الله عليه وسلم -. وخرج الطبراني (¬3)، بإسناد ضعيف، عن أم سلمة رضي الله عنها، أن الحارث بن هشام، أتى النبيّ صلّى الله عليه وسلم، يوم حجة الوداع فَقَالَ: "إنك تحث عَلَى صلة الرحم، وإيواء اليتيم، وإطعام الضعيف والمسكين، وكل هذا كان يفعله هشام بن المغيرة، فما ظنك به يا رسول الله؟ ". فَقَالَ: "كل قبر لا يشهد صاحبه أن لا إله إلاَّ الله، فهو جذوة من النار، وقد وجدت عمي أبا طالب في طمطام من النار فأخرجه الله بمكانه مني وإحسانه إلي فجعله في ضحضاح من النار". والقول الثاني: أن الكافر لا ينتفع في الآخرة بشيء من الحسنات بحال. ومن حجة أهل هذا القول قوله تعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً منثورًا} [الفرقان: 23]. وقوله تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ} [إبراهيم: 23] ونحو هذا من الآيات. وفي صحيح مسلم (¬4): عن أنس، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم، قَالَ: "إن الله لا يظلم مؤمنًا حسنة، يعطى بها في الدُّنْيَا ويجزى بها في الآخرة، وأما الكافر فيطعم بحسنات ما ¬

_ (¬1) (2/ 253). (¬2) برقم (17). (¬3) في المعجم الكبير (23/ 972)، والأوسط (7389). قَالَ الهيثمي في المجمع (1/ 118): وفيه عبد الله بن محمد بن عقيل، وهو منكر الحديث لا يحتجون بحديثه وقد وثق. (¬4) برقم (2808/ 56).

عمل بها في الدُّنْيَا، حتى إذا أفضى إِلَى الآخرة، لم تكن له حسنة يجزى بها". وفي رواية له أيضًا (¬1): "إن الكافر إذا عمل حسنة، أطعم بها طعمة في الدُّنْيَا، وأما المؤمن، فإن الله يدخر له حسناته في الآخرة، ويعقبه رزقًا في الدُّنْيَا عَلَى طاعته". وفيه أيضاً (¬2): عن عائشة رضي الله عنها، قالت: قلت: يا رسول الله، إن ابن جدعان كان في الجاهلية يصل الرحم، ويطعم المسكين، فهل ذاك نافعه؟ قَالَ: "لم ينفعه، إنه لم يقل يومًا: رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين". وهؤلاء جعلوا تخفيف العذاب عن أبي طالب، من خصائصه بشفاعة النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، وجعلوا هذه الشفاعة من خصائص النبيّ صلّى الله عليه وسلم لا يشركه فيها غيره. ... ¬

_ (¬1) برقم (2808/ 57). (¬2) برقم (214).

فصل ومن عذاب أهل النار: الصهر

فصل ومن عذاب أهل النار: الصهر ومن أنواع عذابهم الصهر: قَالَ الله تعالى: {فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ (19) يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ} [الحج: 19، 20]. قَالَ مجاهد: "يصهر به" يذاب به إذابة. وقال عطاء الخراساني: يذاب به ما في بطونهم، كما يذاب الشحم. وخرج الترمذي (¬1)، من حديث أبى هريرة، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم، قَالَ: "إن الحميم ليصب عَلَى رؤوسهم، فينفذ الحميم حتى يخلص إِلَى جوفه، فيسلت ما في جوفه حتى يمرق من قدميه، وهو الصهر، ثم يعاد كما كان". وقال: حسن غريب صحيح. وقال الله عز وجل: {خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ (47) ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ (48) ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} [الدخان: 47 - 49]. قَالَ كثير من السَّلف: نزلت هذه الآية في أبي جهل. قَالَ الأوزاعي: يؤخذ أبو جهل يوم القيامة، فيخرق في رأسه خرق، ثم يؤتى بسجل من الحميم، فيصب في ذلك الخرق، ثم يقال له: ذق إنك أنت العزيز الكريم. وقال مجاهد في قوله: {يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ فَلَا تَنْتَصِرَانِ} [الرحمن: 35] قَالَ: النحاس: الصفر يذاب، فيصب عَلَى رؤوسهم، يعذبون به. ¬

_ (¬1) برقم (2582).

وقال عطاء الخراساني، في قوله تعالى: {وَنُحَاسٌ} قَالَ: الصفر، يذاب فيصب عَلَى رؤوسهم، فيعذبون به. وقد سبق في الباب الثامن عشر آثار متعددة تتعلق بهذا الفصل أيضاً. ***

فصل في تفسير قوله تعالى: التي تطلع على الأفئدة

فصل في تفسير قوله تعالى: التي تطلع عَلَى الأفئدة قَالَ الله تعالى: {كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ (4) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ (5) نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ (6) الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ} [الهمزة: 4 - 7]. قَالَ محمد بن كعب القرظي، في قوله: {تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ} قَالَ: تأكله النار إِلَى فؤاده، فإذا بلغت (*) فؤاده، أنشئ خلقه. وعن ثابت البناني، أنّه قرأ هذه الآية، ثم قَالَ: تحرقهم إِلَى الأفئدة، وهم أحياء، لقد بلغ منهم العذاب! ثم يبكي. وقال الله عز وجل: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ (27) لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ (28) لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ} [المدثر: 27 - 29]. قَالَ صالح بن حيان، عن ابن بريدة، في قوله: {لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ} قَالَ: تأكل اللحم والعظم والمخ، ولا تذره عَلَى ذلك. وقال السدي: لا تبقي من جلودهم شيئًا، ولا تذرهم من العذاب. وقال أبو سنان: لا تذرهم إذا بدلوا خلقًا جديدًا. وقال أبو رَزِين في قوله: {لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ} قَالَ: تلفح وجهه لفحة، تدعه أشد سوادًا من الليل. وقال قتادة: {لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ} حراقة للجلد، خرّجه كله ابن أبي حاتم وغيره. وقال الله تعالى: {كَلَّا إِنَّهَا لَظَى (15) نَزَّاعَةً لِلشَّوَى} [المعارج: 15 - 16]. ¬

_ (*) في الأصل: "بلغ".

قَالَ: تحرق كل شيء منه، ويبقى فؤاده يصيح. وعن ابن زيد، قَالَ: تقطع عظامه، ثم يجدد خلقهم، وتبدل جلودهم. وروى ابن مهاجر، عن مجاهد، في قوله: {نَزَّاعَةً لِلشَّوَى} قَالَ: تنزع المجلد. وعنه قَالَ: تنزع اللحم ما دون العظم. ***

فصل ومن أنواع عذابهم سحبهم في النار على وجوههم

فصل ومن أنواع عذابهم سحبهم في النار عَلَى وجوههم قَالَ الله تعالى: {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (74) لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ} [القمر: 47، 48]. وقال تعالى: {فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (70) إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ (71) فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ} [غافر: 70 - 72]. قَالَ قتادة: يسحبون في النار مرة ومرة في الحميم. وقال تعالى: {يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا} [الأحزاب: 66]. وقال قتادة: قَالَ ابن عباس: "صعودًا" صخرة في جهنم، يسحب عليها الكافر عَلَى وجهه (¬1). وقال كعب: يقول الله عز وجل للإمام الجائر: {خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (30) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ} [الحاقة: 30، 31]. فيسحب عَلَى وجهه في النار، فينتثر لحمه وعظامه ومخه. وقال ثابت أبو زيد القيسي، عن عاصم الأحول، عن أبي منصور مولى سليم: إن ابن عباس قَالَ: {يُسْحَبُونَ فِي الْحَمِيمِ} [غافر: 71 - 72]. قَالَ أبو زيد: أراه قَالَ: ينسلخ كل شيء عليه، من جلد أو لحم أو عرق، حتى يصير في عقبيه جسد من لحمه مثل طوله، وطوله ستون ذراعًا، ثم يكسى جلدًا آخر، ثم يسجر في الجحيم. خرّجه كله ابن أبي حاتم. ¬

_ (¬1) أورده ابن كثير في "تفسيره" (4/ 443).

فصل

فصل ومنهم من يعذب بالصعود إِلَى أعلى النار، ثم يهوي فيها كذلك أبدًا، ومنهم من يكلف صعود جبل في النار والتردي منه. وقد سبق في الباب الرابع عشر، ما ورد في تفسير قوله تعالى: {سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا} [المدثر: 17]. وفي الصحيحين (¬1) عن أبي هريرة، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم، قَالَ: "من قتل نفسه بحديدة، فحديدته في يده يتوجأ بها (¬2) في بطنه في نار جهنم خالدًا مخلدًا فيها أبدًا، ومن قتل نفسه بسم، فسمه في يده يوم القيامة، يتحساه (¬3) في نار جهنم خالدًا مخلدًا فيها أبدًا، [ومن تردى من جبل، فقتل نفسه فهو يتردى (¬4) في نار جهنم خالدًا مخلدًا فيها أبدًا"] (*). وروى شريك، عن الأعمش، عن عبد الله بن السائب، عن زاذان، عن ابن مسعود، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم قَالَ: "القتل في سبيل الله يكفر كل شيء -أو قَالَ: يكفر الذنوب- إلاَّ الأمانة، يؤتى بصاحب الأمانة، فيقال له: أد أمانتك، فيقول: أنى يا رب وقد ذهبت الدُّنْيَا؟ فيقال: اذهبوا به إِلَى الهاوية، فيهوي فيها، حتى ينتهي إِلَى قعرها، فيجدها هناك كهيئتها، فيحملها عَلَى عنقه، فيصعد بها في نار جهنم، حتى إذا رأى أنّه قد خرج منها، زلت عن منكبيه فهوت، فهوى في إثرها أبد الآبدين". قَالَ: "والأمانة في ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (5778)، ومسلم (109). (*) من المطبوع. (¬2) يطعن بها. (¬3) يشربه في تمهل، ويتجرعه. (¬4) ينزل.

الصلاة، والأمانة في الصوم، والأمانة في الحديث وأشد ذلك الودائع". قَالَ: فلقيت البراء فقلت: ألا تسمع إِلَى ما يقول أخوك عبد الله؟ قَالَ: صدق (¬1). قَالَ شريك: وحدثنا عياش العامري، عن زاذان، [عن عبد الله] (*)، عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - بنحو منه، ولم يذكر الأمانة في الصلاة والأمانة في كل شيء، كذا رواه إسحاق الأزرق، عن شريك مرفوعًا، ورواه منجاب بن الحارث، عن شريك موقوفًا (¬2). وكذا رواه أبو الأحوص عن الأعمش، فوقفه عَلَى ابن مسعود، وزاد فيه في خصال الأمانة: الكيل والميزان والغسل من الجنابة. وروى عاصم، عن أبي صالح، قَالَ: إذا ألقي الرجل في النار، لم يكن له ¬

_ (¬1) أخرجه أبو نعيم في "الحلية" (4/ 201)، وعزاه الهيثمي في المجمع (5/ 292 - 293) للطبراني وقال: ورجاله ثقات. وسئل الدارقطني في العلل (5/ 77 - 78) برقم (724) عن هذا الحديث فَقَالَ: يرويه عبد الله بن السائب، عن زاذان أبي عمر، ويرويه عياش بن عمرو العامري عنه أيضًا. ورفعه شريك، عن الأعمش، عن عبد الله بن السائب، عن زاذان، وعن عياش بن عمرو العامري، عن زاذان. قَالَ ذلك إسحاق الأزرق عن شريك. وخالفه منجاب فرواه عن شريك، عن الأعمش، عن عبد الله بن السائب، عن راذان، عن عبد الله موقوفًا. وكذلك رواه الثوري، عن عبد الله بن السائب موقوفًا أيضاً. ويقال: إن محمد بن يحيى بن فياض رفعه عن يحيى القطان، عن الثور، حدث به ابن جوصا، عن محمد بن يحيى بن فياض. وكذلك رواه أبو سنان سعيد بن سنان، عن عبد الله بن السائب موقوفًا أيضاً. والموقوف هو الصواب. (*) من المطبوع. (¬2) أخرجه أبو نعيم في "الحلية" (4/ 201).

منتهى حتى يبلغ قعرها، ثم تجيش به جهنم، فترفعه إِلَى أعلى جهنم، وما عَلَى عظامه مزعة لحم، فتضربه الملائكة بالمقامع، فيهوي بها في قعرها، فلا يزال كذلك. أو كما قَالَ. خرّجه البيهقي. وفي هذا المعنى يقول ابن المبارك رحمه الله في صفة النار: تهوي بساكنها طورًا وترفعه ... إذا رجوا مخرجًا من عمقها قمعوا ***

فصل ومنهم من يدور في النار ويجر معه أمعاءه

فصل ومنهم من يدور في النار ويجر معه أمعاءه وقد رأى النبيّ - صلى الله عليه وسلم - عمرو بن لحي، يجر قصبه (¬1) في النار (¬2). وفي الصحيحين (¬3) عن أسامة بن زيد، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم، قَالَ: "يؤتى بالرجل، فيلقى في النار، فتندلق أقتابه (¬4) في النار، فيدور كما يدور الحمار برحاه، فيجتمع أهل النار عليه، فيقولون: أي فلان، ما شأنك؟ ألست كنت تأمرنا بالمعروف، وتنهانا عن المنكر؟! قَالَ: كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه، وأنهاكم عن المنكر وآتيه". وقال أبو المثنى الأموي (*): إن في النار أقوامًا، يربطون بنواعير من نار، تدور بهم النواعير، وما لهم فيها راحة ولا فترة. ... ¬

_ (¬1) قصبه: أمعاءه. (¬2) أخرجه البخاري (3521)، ومسلم (2856) من حديث أبي هريرة. وأخرجه مسلم (904) من حديث جابر. (¬3) أخرجه البخاري (3267)، ومسلم (2989). (¬4) الاندلاق: خروج الشيء من مكانه، والأقتاب: الأمعاء. (*) وفي حاشية الأصل: "الأملوكي".

فصل ومن أهل النار من يلقى في مكان ضيق لا يتمكن فيه من الحركة

فصل ومن أهل النار من يلقى في مكان ضيق لا يتمكن فيه من الحركة ومنهم من يلقى في مكان ضيق، لا يتمكن فيه من الحركة لضيقه. قَالَ الله عز وجل: {وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا} [الفرقان: 13]. قَالَ كعب: "إن في جهنم تنانير، ضيقها كضيق زج أحدكم، ثم يطبق عَلَى قوم بأعمالهم" (¬1). وقد سبق ذكره. قَالَ آدم بن أبي إياس: أنبأنا المسعودي، عن يونس بن خباب، عن ابن مسعود، قَالَ: إذا بقي في النار من يخلد فيها، جعلوا في توابيت من نار، فيها مسامير من نار، ثم جعلت تلك التوابيت في توابيت من نار، ثم قذفوا في نار الجحيم، فيرون أنّه لا يعذب في النار غيرهم، ثم تلا ابن مسعود: {لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لَا يَسْمَعُونَ} [الأنبياء: 100] (¬2). وخرّجه ابن أبي حاتم من وجه آخر، عن ابن مسعود (¬3)، وعنده: فلا يرى ¬

_ (¬1) أخرجه أبو نعيم في "الحلية" (5/ 371). (¬2) وأخرجه الطبري (17/ 95) من طريق المسعودي بنحوه. (¬3) كما في تفسير ابن كثير (3/ 198) قَالَ ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا علي ابن محمد الطنافسي، حدثنا ابن فضيل، حدثنا عبد الرحمن -يعني: المسعودي- عن أبيه قَالَ. قَالَ ابن مسعود: "إذا بقي من يخلد في النار، جعلوا في توابيت من نار، فيها مسامير من نار، فلا يرى أحد منهم أنّه يعذب في النار غيره، ثم تلا عبد الله: {لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لَا يَسْمَعُونَ} [الأنبياء: 100]. قَالَ ابن كثير: ورواه ابن جرير من حديث حجاج بن محمد، عن المسعودي، عن يونس بن خباب، عن ابن مسعود ... فذكره.

أن أحدًا يعذب في النار غيره. وروى المنهال بن عمرو، عن نعيم -وقيل: إنه ابن الدجاجة (*) -عن سويد ابن غفلة، قَالَ: إذا أراد الله أن ينسى أهل النار، جعل للرجل صندوقًا عَلَى قدره من النار، ولا ينبض عرق إلاَّ فيه مسمار من نار، ثم تضرم فيه النار، ثم يقفل بقفل من نار، ثم يجعل ذلك الصندوق في صندوق من نار، ثم تضرم بينهما نار ثم يقفل ثم يطرح -أو يلقى- في النار، فذلك قوله تعالى: {لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ} [الزمر: 16]. وقوله تعالى: {لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لَا يَسْمَعُونَ} [الأنبياء: 100]. قَالَ: فما يرى أن أحدًا في النار غيره، خرّجه البيهقى (¬1). وخرّجه أبو نعيم (¬2)، إلاَّ أن عنده عن المنهال عن خيثمة عن سويد فذكره. ... ¬

_ (*) في الأصل: "الدجاحة"، وما نقلته من الحاشية. (¬1) في "البعث والنشور" (592) من طريق المنهال بن عمرو قَالَ: حدّثت نعيمًا بحديث شاذان، عن البراء في القبر، فَقَالَ: ألا أحدثك بما هو أعظم من ذلك، ثنا سويد بن غفلة ... فذكره. ثم قَالَ: قاله أبو خالد: نعيم بن أبي هند. فَقَالَ: ما حدثني أو ما حدثته، فظننا أنّه نعيم بن دجاجة. (¬2) في "الحلية" (4/ 176).

فصل

فصل وربما يبتلى أهل النار بأنواع من الأمراض الحادثة عليهم: وقد سبق عن شفي بن ماتع قَالَ: إن في جهنم لسبعين داء، كل داء بمثل جزء من أجزاء جهنم. وقال الأعمش عن مجاهد: يلقى الجرب عَلَى أهل النار، فيحتكون حتى تبدو العظام. فيَقُولُونَ: بما أصابنا هذا؟ فيقال: بأذاكم المؤمنين (¬1). ورواه شعبة، عن منصور، عن مجاهد، عن يزيد بن شجرة (¬2) فذكره بمعناه. ... ¬

_ (¬1) أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف" (13/ 161)، وهناد في "الزهد" (274). (¬2) أخرجه ابن المبارك في "الزهد - زوائد نعيم" (330) من طريق مجاهد، عن يزيد ابن شجرة قَالَ: وكان معاوية بعثه عَلَى الجيوش فلقي عدوًا ... ثم ساق حديثًا في: "فإذا ألقوا فيها سلط عليهم الجرب فيحك أحدهم جلده حتى يبدو عظمُهُ، وإن جلد أحدهم لأربعون ذراعًا. قَالَ: يقال: يا فلان! هل تجد هذا يؤذيك؟ فيقول: وأي أذى أشد من هذا؟ فيقول: هذا ما كنت تؤذي المؤمنين ... ".

فصل ومن أهل النار من يتأذى بعذابه أهل النار، إما من نتن ريحه، أو غيره:

فصل ومن أهل النار من يتأذى بعذابه أهل النار، إما من نتن ريحه، أو غيره: قَالَ صالح بن حيان، عن ابن بريدة، عن أبيه، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم: "إن ريح فروج أهل الزنا يؤذي أهل النار". وقال أبو بكر بن عياش: أنبأنا رجل عن مكحول رفعه، قَالَ: "تروح أهل النار برائحة، فيَقُولُونَ: ربنا ما وجدنا ريحًا، منذ دخلنا النار، أنتن من هذه الرائحة، فيقول: هذه ريح فروج الزناة". وروى إسماعيل بن عياش، عن ثعلبة بن مسلم الخثعمي، عن أيوب بن بشير العجلي، عن شفي بن ماتع، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم، قَالَ: "أربعة يؤذون أهل النار، عَلَى ما بهم من الأذى، يسعون ما بين الجحيم والحميم، يدعون بالويل والثبور"، ويقول أهل النار بعضهم لبعض: ما بال هؤلاء قد آذونا عَلَى ما بنا من الأذى؟! قَالَ: فرجل مغلق عليه تابوت من جمر، ورجل يجر أمعاءه، ورجل يسيل فوه (*) قيحًا ودمًا، ورجل يأكل لحمه، فيقال لصاحب التابوت: ما بال الأبعد قد آذانا عَلَى ما بنا من الأذى؟ فيقول: إن الأبعد مات وفي عنقه أموال الناس، ثم يقال للذي يجر أمعاءه: ما بال الأبعد قد آذانا عَلَى ما بنا من الأذى؟ فيقول: إن الأبعد كان لا يبالي أين أصاب البول منه لا يغسله. ثم يقال للذي يسيل فوه قيحًا ودمًا: ما بال الأبعد قد آذانا عَلَى ما بنا من الأذى؟ فيقول: إن الأبعد كان ينظر إِلَى كلمة [خبيثة فيستلذها] (**) كما يستلذ ¬

_ (*) في الأصل: "فاه"، والمثبت من المطبوع. (**) من المطبوع.

الرفث. ثم يقال للذي يأكل لحمه: ما بال الأبعد قد آذانا عَلَى ما بنا من الأذى؟ قَالَ: إن الأبعد كان يأكل لحوم الناس. خرّجه الحافظ أبو نعيم (¬1)، وقال: شفي بن ماتع مختلف فيه. وقيل: إن له صحبة. وخرّجه أيضاً (¬2) بإسناد آخر إِلَى إسماعيل بن عياش، وفي لفظه قَالَ: "في عنقه أموال الناس، مات ولم يدع لها وفاء ولا قضاء! وقال -:يعمد إِلَى كل كلمة خبيثة قذعة فيستلذها- وقال: -كان يأكل لحوم الناس (¬3) ويمشي بالنميمة". وروى الإمام أحمد بإسناده إِلَى منصور بن زاذان، قَالَ: نبئت أن بعض من يلقى في النار يتأذى أهل النار بريحه، فيقال له: ويلك! ما كنت تعمل؟ أما يكفينا ما نحن فيه من الشر حتى ابتلينا بك ونتن ريحك؟ فيقول: كنت عالماً فلم أنتفع بعلمي. ... ¬

_ (¬1) في "الحلية" (5/ 167 - 168). قَالَ شيخنا الحويني "حفظه الله" في تخريجه للزهد لأسد بن موسى (40): وشفي بن ماتع مختلف في صحبته كما قَالَ الطبراني وابن الأثير، ويظهر أن أبا نعيم اعتمد صحبته، ولكن جزم البخاري وأبو حاتم وابن حبان بأنه تابعي، فالحديث ضعيف لإرساله. وأيوب بن بشير العجلي ترجمه ابن أبي حاتم (1/ 1/ 242) ولم يذكر فيه جرحًا ولا تعديلاً، فهو مجهول الحال. وصرح الذهبي في "الميزان" (1/ 284) بأنه مجهول، وكذا في "الضعفاء"، وهذا هو الصواب وإن وثقه ابن حبان (6/ 58) كعادته. (¬2) في الحلية (5/ 168). (¬3) كناية عن الغيبة، قَالَ الله تعالى: {أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ} [الحجرات: 12].

فصل في تفسير قوله تعالى: ويأتيه الموت من كل مكان

فصل في تفسير قوله تعالى: ويأتيه الموت من كل مكان قَالَ الله تعالى: {وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ} [إبراهيم: 17]. قَالَ إبراهيم في قوله: {وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ} حتى من تحت كل شعرة في جسده. وقال الضحاك: حتى من إبهام رجله. والمعنى: أنّه يأتيه مثل شدة الموت وألمه من كل جزء من أجزاء بدنه، حتى شعره وظفره، وهو مع هذا لا تخرج نفسه فيستريح. قَالَ ابن جريج: تعلق نفسه عند حنجرته، فلا تخرج من فيه فيستريح، ولا ترجع إِلَى مكانها من جوفه. وتأول جماعة من المفسرين عَلَى ذلك قوله تعالى: {ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى} [الأعلى: 13]. قَالَ الأوزاعي، عن بلال بن سعد: تنادي النار يوم القيامة: يا نار أحرقي، يا نار اشتفي، يا نار انضجي، كلي ولا تقتلي. ***

فصل وعذاب الكفار في النار، لا يفتر عنهم، ولا ينقطع، ولا يخفف، بل هو متواصل أبدا

فصل وعذاب الكفار في النار، لا يفتر عنهم، ولا ينقطع، ولا يخفف، بل هو متواصل أبدًا قَالَ الله عز وجل: {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (74) لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ} (¬1) [الزخرف: 74 - 75]. وقال تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا} [فاطر: 36]. وقال تعالى: {فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُم الْعَذَابُ وَلا هُمْ يُنصَرُونَ} [البقرة: 86]. وقال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ (49) قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ} [غافر: 49، 50]. وقالَ أحمدُ بنُ أبي الحواريِّ: سمعتُ إسحاقَ بنَ إبراهيمَ يقولُ - على منبرِ دمشقَ -: لا يأتي على صاحبِ الجنَّةِ ساعةٌ إلا وهو يزدادُ ضِعفًا من النَّعيم لم يكنْ يعرفُه، ولا يأتي على صاحبِ النَارِ ساعةٌ إلا وهو مستنكرٌ لنوع من العذابِ لم يكنْ يعرفُه. قالَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ: {فَذُوقُوا فَلَن نَّزِيدَكمْ إِلاَّ عَذَابًا} [النبأ: 30]. قالَ جِسرُ بنُ فَرْقَدٍ عن الحسنِ: سألتُ أبا بَرْزةَ، عن أشدِّ آيةٍ في كتابِ الله على أهلِ النَارِ، قال: سمعتُ رسولَ اللَّه - صلى الله عليه وسلم - قرأ: {فَذُوقُوا فَلَن نَزِيدَكمْ إِلاَّ عَذَابًا} ¬

_ (¬1) مبلسون: أي ساكنون أو محزونون من شدة اليأس.

[النبأ: 30]. [فقالَ: "أُهلِكَ القومُ بمعاصيهم للهِ تعالى". خرَّجَه ابنُ أبي حاتمٍ (¬1)، وجِسرٌ ضعيفٌ. وخرَّجَه البيهقيُّ (¬2)، ولمْ يرفعْهُ، ولفظُهُ: سألت أبا برزةَ عن أشدِّ آيةٍ على أهلِ النارِ، قال: قولُه عزَّ وجلَّ: {فَذُوقُوا فَلَن نَّزِيدَكمْ إِلاَّ عَذَابًا} [النبأ: 30]. وقالَ مجاهدٌ: بلغني أنَّ استراحةَ أهلِ النَّارِ أنْ يضعَ أحدُهم يدَهُ على خاصِرَتِهِ، ولأهل النَّارِ أنواعٌ من العذابِ لم يطلع اللَّهُ خلقَهُ عليها في الدنيا. قال مباركٌ عن الحسنِ: ذكرَ اللَّهُ السلاسلَ والأغلالَ والنَّارَ وما يكونُ في الدنيا، ثم قرأ: {وَآخَرُ مِن شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ} [ص: 58]. قال: {آخرُ} لا يرى في الدنيا. خرَّجَهُ ابنُ أبي حاتمٍ. وقال أبو يعلى الموصلي (¬3): حدثنا سريج، حدثنا إبراهيم بن سليمان، عن الأعمش، عن الحسن، عن ابن عباس، في قوله تعالى: {زِدْنَاهُم عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ} [النحل: 88] قَالَ: هي خمسة أنهار تحت العرش، يعذبون ببعضها في الليل، وببعضها في النار. ... ¬

_ (¬1) راجع تفسير ابن أبي حاتم المطبوع (10/ 3395) برقم (19103). وقد أورده موقوفًا عَلَى أبي برزة. (¬2) في "البعث والنشور" (635). (*) من المطبوع. (¬3) في "مسنده" (2660). قَالَ الهيثمي في المجمع (10/ 390): رواه أبو يعلى، ورجاله رجال الصحيح.

فصل

فصل وأعظم عذاب أهل النار حجابهم عن الله عز وجل، وبعدهم عنه، وإعراضه عنهم، وسخطه عليهم. كما أن رضوان الله عَلَى أهل الجنة أفضل من كل نعيم الجنة، وتجليه لهم ورؤيتهم إياه أعظم من جميع أنواع نعيم الجنة، قَالَ الله تعالى: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14) كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ (16) ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} [المطففين: 14 - 17]. فذكر الله تعالى لهم ثلاثة أنواع من العذاب: حجابهم عنه، ثم صليهم الجحيم، ثم توبيخهم بتكذيبهم به في الدُّنْيَا، ووصفهم بالران عَلَى قلوبهم، وهو صدى الذنوب الَّذِي سود قلوبهم، فلم يصل إليها بعد ذلك في الدُّنْيَا شيء من معرفة الله ولا من إجلاله ومهابته وخشيته ومحبته، فكما حجبت قلوبهم في الدُّنْيَا عن الله حجبوا في الآخرة عن رؤيته، وهذا بخلاف حال أهل الجنة، قَالَ الله تعالى {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ} [يونس: 26]. والذين أحسنوا هم أهل الإحسان، والإحسان أن يعبد العبد ربه كأنه يراه، كما فسره النبيّ صلّى الله عليه وسلم، لما سأله عنه جبريل عليه السلام (¬1)، فجعلى جزاء الإحسان الحسنى] (*)، وهي الجنة، والزيادة، هي النظر إِلَى وجه الله عز وجل، كما فسره بذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلم، في حديث صهيب (¬2) وغيره. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (50)، ومسلم (9، 10) من حديث أبي هريرة، وأخرجه مسلم (8) من حديث عمر بن الخطاب. (*) من المطبوع. (¬2) أخرجه مسلم (181).

قَالَ جعفر بن سليمان: سمعت أبا عمران الجوني قَالَ: إن الله لم ينظر إِلَى إنسان قط إلاَّ رحمه، ولو نظر إِلَى أهل النار لرحمهم، ولكن قضى أن لا ينظر إليهم. وقال أحمد بن أبي الحواري: حدثنا أحمد بن موسى، عن أبي مريم، قَالَ: يقول أهل النار: إلهنا، ارض عنا وعذبنا بأي نوع شئت من عذابك، فإن غضبك أشد علينا من العذاب الَّذِي نحن فيه!! قَالَ أحمد: فحدثت به سليمان بن أبي سليمان، فَقَالَ: ليس هذا كلام أهل النار، هذا كلام المطيعين لله، قَالَ: فحدثت به أبا سليمان، فَقَالَ: صدق سليمان بن أبي سليمان -وسليمان هو ولد أبي سليمان الداراني وأن عارفًا كبير القدر رحمه الله- وما قاله حق، فإن أهل النار جهال لا يتفطنون لهذا، وإن أن في نفسه حقًّا، وإنما يعرف هذا من عرف الله وأطاعه، ولعل هذا يصدر من بعض من يدخل النار من عصاة الموحدين، كما أن بعضهم يستغيث بالله لا يستغيث بغيره فيخرج منها، وبعضهم يخرج منها برجائه لله وحده، وبعض من يؤمر به إِلَى النار يتشفع إِلَى الله بمعرفته فينجيه منها. قَالَ أبو العباس بن مسروق: سمعت سويد بن سعيد، يقول: سمعت الفضيل ابن عياض، يقول: يوقف رجل بين يدي الله عز وجل، لا يكون معه حسنة، فيقول الله عز وجل: اذهب، هل تعرف أحدًا من الصالحين أغفر لك بمعرفته؟ فيذهب، فيدور مقدار ثلاثين سنة، فلا يرى أحدًا يعرفه، فيرجع إِلَى الله عز وجل، فيقول: يا رب، لا أرى أحدًا!! فيقول الله عز وجل: "اذهبوا به إِلَى النار". فتتعلق به الزبانية يجرونه، فيقول: يا رب، إن كنت تغفر لي بمعرفة المخلوقين فإني بوحدانيتك أنت أحق أن تغفر لي. فيقول الله للزبانية: ردوا عارفي، إنه كان يعرفني، واخلعوا عليه خلع كرامتي، ودعوه يتبحبح في رياض الجنة، فإنَّه عارف بي، وأنا له معروف.

فصل فيما يتحف به أهل النار عند دخولهم إليها -أجارنا الله منها

فصل فيما يتحف به أهل النار عند دخولهم إليها -أجارنا الله منها قَالَ الله عز وجل: {ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ (51) لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ (52) فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ (53) فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ (54) فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ (55) هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ (56) نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلَا تُصَدِّقُونَ} [الواقعة: 51 - 56]. والنزل: هو ما يعد للضيف عند قدومه، فدلت هذه الآيات، عَلَى أن أهل النار، يتحفون عند دخولها، بالأكل من شجرة الزقوم، والشرب من الحميم، وهم إِنَّمَا يساقون إِلَى جهنم عطاشًا، كما قَالَ تعالى: {وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا} [مريم: 86]. قَالَ أبو عمران الجوني: بلغنا أن أهل النار، يبعثون عطاشًا، ثم يقفون مشاهد القيامة عطاشًا، ثم قرأ: {وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا}. قَالَ مجاهد في تفسير هذه الآية: متقطعة أعناقهم عطشًا. وقال مطر الوراق: عطاشًا ظماء. وفي الصحيحين (¬1)، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم، في حديث الشفاعة الطويل: إنه يقال لليهود والنصارى: ماذا تبغون؟ فيَقُولُونَ: "عطشنا ربنا فاسقنا، فيشار إليهم ألا تردون؟ فيحشرون إِلَى جهنم كأنها سراب، يحطم بعضها بعضًا، فيتساقطون في النار". وقال أيوب عن الحسن: ما ظنك بقوم قاموا عَلَى أقدامهم، خمسين ألف ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (4581) ومسلم (183) من حديث أبي سعيد الخدري.

144) سنة، لم يأكلوا فيها أكلة، ولم يشربوا فيها شربة، حتى انقطعت أعناقهم عطشًا، وأحرقت أجوافهم جوعًا، ثم انصرف بهم إِلَى النار، فيسقون من عين آنية، قد أن حرها، واشتد نضجها. وروى ابن المبارك (¬1) بإسناده عن كعب، قَالَ: إن الله ينظر إِلَى عبده، يوم القيامة، وهو غضبان فيقول: خذوه، فيأخذه مائة ألف ملك أو يزيدون، فيجمعون بين ناصيته وقدميه غضبًا لغضب الله، فيسحبونه عَلَى وجهه إِلَى النار، قَالَ: فالنار أشد عليه غضبًا من غضبهم سبعين ضعفًا، قَالَ: فيستغيث بشربة، فيسقى شربة يسقط منها لحمه وعصبه، ثم يركس (¬2) أو يدكس في النار، فويل له من النار. قَالَ ابن المبارك: حدثت عن بعض أهل المدينة، أنّه يتفتت في أيديهم إذا أخذوه، فيقول: ألا ترحموني؟ فيَقُولُونَ: كيف نرحمك ولم يرحمك أرحم الراحمين؟!. وروى الأعمش، عن مالك بن الحارث، قَالَ: إذا طرح الرجل في النار، هوى فيها، فَإِذَا انتهى إِلَى بعض أبوابها، قيل: مكانك حتى تتحف. قَالَ: فيسقى كأسًا من سم من الأساود والعقارب. قَالَ: فيتميز الجلد عَلَى حدة، والشعر عَلَى حدة، والعصب عَلَى حدة، والعروق عَلَى حدة، خرّجه ابن أبي حاتم. وروى محمد بن سليمان بن الأصبهاني، عن أبي سنان ضرار بن مرة، عن عبد الله بن أبى الهذيل، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم، قَالَ: "إن جهنم لما سيق إليها أهلها، تلقتهم فلفحتهم لفحة، فلم تدع لحمًا عَلَى عظم إلاَّ ألقته عَلَى العرقوب" (¬3). خرّجه الطبراني (¬4) ورفعه منكر، فقد رواه ابن عيينة، عن ¬

_ (¬1) في "الزهد" (286) قَالَ: أنا عنبسة بن سعيد، عن يزيد بن عبد الله بن الحارث، عن كعب ... فذكره. (¬2) يركس: أي يرد ويرجع. (¬3) العرقوب: هو الوتر الَّذِي خلف الكعبين بين مفصل القدم والساق من ذوات الأربع، وهو من الإنسان فوق العقب. (¬4) في "المعجم الأوسط" (278، 9365) وقال: لم يرو هذا الحديث عن عبد الله بن أبي الهذيل إلاَّ أبو سنان، تفرد به محمد بن سليمان الأصبهاني. وقال الهيثمي في=

أبي سنان، عن عبد الله بن أبي الهذيل أو غيره، من قوله لم يرفعه. ورواه محمد بن فضيل، عن أبي سنان، عن عبد الله بن أبي الهذيل، عن أبي هريرة، من قوله، في قوله تعالى: {لَوَّاحَةٌ للْبَشَرِ} قَالَ: تلقاهم جهنم يوم القيامة فتلفحهم لفحة، فلا تترك لحمًا عَلَى عظم إلاَّ وضعته عَلَى العراقيب. ... ¬

_ =المجمع (10/ 389): وفيه محمد بن سليمان بن الأصبهاني وهو ضعيف. وأخرجه أبو نعيم في "الحلية" (4/ 363) وقال: لم يروه مرفوعًا متصلاً عن أبي سنان، عن عبد الله، إلاَّ محمد بن سليمان بن الأصبهاني، ورواه ابن عيينة وابن فضيل وجرير عن أبي سنان، فاختلفوا، فأوقفه ابن فضيل عَلَى أبي هريرة. وأخرجه أبو نعيم في "الحلية" (5/ 93) وقال: لم يجود إلاَّ عن محمد بن سليمان عنه -أي عن أبي سنان- ورواه ابن عيينة أو جرير فوقفاه عَلَى ابن أبي الهذيل. وأورده المنذري في الترغيب والترهيب (4/ 267 - 268) موقوفًا عَلَى أبي هريرة وقال: رواه الطبراني في الأوسط والبيهقي مرفوعًا، ورواه غيرهما موقوفًا عليه، وهو أصح.

الباب الثاني والعشرون في ذكر بكاء أهل النار وزفيرهم وشهيقهم وصراخهم ودعائهم الذي لا يستجاب لهم

الباب الثاني والعشرون في ذكر بكاء أهل النار وزفيرهم وشهيقهم وصراخهم ودعائهم الَّذِي لا يستجاب لهم قَالَ الله تعالى: {لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لا يَسْمَعُونَ} [الأنبياء: 100]. وقال تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ} [هود: 106]. قَالَ الربيع بن أنس: الزفير في الحلق، والشهيق في الصدر. وقال معمر عن قتادة: صوت الكافر في النار كمثل صوت الحمار، أوله زفير، وآخره شهيق، وقال تعالى: {وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ (¬1) فِيهَا} [فاطر: 37]. وفي حديث حارثة: وكأني أنظر إِلَى أهل النار، يتعاوون فيها، وقد سبق. وروى معاوية بن صالح، عن سليم بن عامر، عن أبي أمامة، عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: "رأيت رؤيا" فذكر حديثًا طويلاً، وفيه قَالَ: ثم انطلقنا، فَإِذَا نحن نرى دخانًا، ونسمع عواء". قلت: ما هذا؟ قَالَ: "هذه جهنم". خرّجه الطبراني (¬2) وغيره (¬3). ¬

_ (¬1) وهم يصطرخون: أي يستغيثون ويصيحون بشدة. (¬2) في "المعجم الكبير" (8/ 7666)، وفي مسند الشاميين (577) وقال الهيثمي في المجمع (1/ 76): ورجاله رجال الصحيح. (¬3) وأخرجه ابن خزيمة (1986)، وابن حبان (1800) والحاكم (1/ 595)، (2/ 228) وقال: هذا حديث صحيح عَلَى شرط مسلم ولم يخرجاه، وقد احتج البخاري بجميع رواته غير سليم بن عامر، وقد احتج به مسلم، وأخرجه البيهقي أيضاً في "السنن الكبير" (4/ 216).

وروى الأعمش، عن يزيد الرقاشي، عن أنس، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم، قَالَ: "يلقى البكاء عَلَى أهل النار، فيبكون، حتى تنقطع الدموع، ثم يبكون الدم، حتى يصير في وجوههم كهيئة الأخدود، ولو أرسلت فيه السفن لجرت". خرّجه ابن ماجه (¬1). ورُوي عن الأعمش، عن عمرو بن مرة ويزيد الرقاشي، عن أنس، موقوفًا، من قوله. ورواه سعيد بن سلمة، عن يزيد الرقاشي، قَالَ: بلغنا هذا الكلام، ولم يسنده، ولم يرفعه. وروى سلام بن مسكين، عن قتادة، عن أبي بردة بن أبي موسى، عن أبيه، قَالَ: إن أهل النار ليبكون الدموع في النار، حتى لو أجريت السفن في دموعهم لجرت، ثم إنهم ليبكون بالدم بعد الدموع، ولمثل ما هم فيه فليبك (¬2). وقال صالح المري: بلغني أنهم يصرخون في النار، حتى تنقطع أصواتهم، فلا يبقى منهم إلاَّ كهيئة الأنين من المدنف (¬3). وقال ابن إسحاق، عن محمد بن كعب: زفروا في جهنم فزفرت النار، وشهقوا، فشهقت النار بما استحلوا من محارم الله، قَالَ: والزفير من النفس، والشهيق من البكاء. وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس، في قوله تعالى: {لَهم فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ} [هود: 106] قَالَ: صوت شديد، وصوت ضعيف (¬4). وروى مالك، عن زيد بن أسلم، في قوله عز وجل: {سَوَاءٌ عَلَينَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا ما لَنَا مِن مَحِيصٍ} [إبراهيم: 21] قَالَ زيد: صبروا مائة عام، ثم بكوا مائة ¬

_ (¬1) برقم (4324) وقال البوصيري في "الزوائد": في إسناده يزيد الرقاشي، وهو ضعيف. (¬2) أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف (34131)، وأبو نعيم في "الحلية" (1/ 261) وقال أبو نعيم: رواه يزيد الرقاشي عن صبيح عن أبي موسى مثله. (¬3) الدَّنف: المرض اللازم المخامر، وقيل: هو المرض ما كان. ورجل مدنف: براه المرضُ حتى أشفى عَلَى الموت. (¬4) أخرجه الطبري في "تفسيره" (12/ 116).

عام، ثم قالوا: {سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِن مَحِيصٍ} [إبراهيم: 12]. وروى الوليد بن مسلم، عن أبي سلمة الدوسي -واسمه ثابت بن سرح- عن سالم بن عبد الله، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم، أنّه كان يدعو: "اللهم ارزقني عينين هطالتين، يشفيان القلب بذروف الدموع من خشيتك، قبل أن يكون الدمع دمًا، والأضراس جمرًا" (¬1). سالم بن عبد الله، هو المحاربي، وحديثه مرسل. وظن بعضهم، أنّه سالم بن عبد الله بن عمر، وزاد بعضهم في الإسناد: عن أبيه، ولا يصح ذلك كله. وروى الوليد بن مسلم أيضاً، عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، عن إسماعيل بن عبيد الله، قَالَ: إن داود عليه السلام، قَالَ: "ربي ارزقني عينين هطالتنن يبكيان بذروف الدموع، وشفياني من خشيتك، قبل أن يعود الدمع دمًا، والأضراس جمرًا". قال: وكان داودُ - عليه السلامُ -، يعاتَبُ في كثرةِ البكاءِ، فيقولُ: دعُوني أبْكِي، قبلَ يوم البكاءِ، قبل تحريقِ العظامِ واشتعالِ اللِّحى، وقبل أن يأمر بي {مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} (¬2) [التحريم: 6]. وروى يونس بن ميسرة، عن أبي إدريس الخولاني، وإن داود عليه السلام، قَالَ: ابكي نفسي قبل يوم البكاء، ابكي نفسي قبل أن لا ينفع البكاء، ثم دعا بجمر، فوضع يده عليه، حتى أذاه حره رفعها، وقال: أوه لعذاب الله، أوه، أوه ¬

_ (¬1) أخرجه ابن المبارك في "الزهد" (480)، وأحمد في "الزهد" (1/ 42)، وابن أبي الدُّنْيَا في "صفة النار" (220)، وفي "الرقة والبكاء" (44)، وأبو نعيم في "الحلية" (2/ 196) وقال أبو نعيم: رواه دحيم عن الوليد، ولم يجاوز به سالمًا. (¬2) أخرجه ابن أبي الدُّنْيَا في "صفة النار" (221)، وفي "الرقة والبكاء" (371) دون شطره الأول.

قبل أن لا ينفع أوه. وروى ثابت البناني، عن صفوان بن محرز، قَالَ: كان لداود عليه السلام، يوم يتأوه فيه يقول: أوه أوه من عذاب الله عز وجل، قبل أن لا ينفع أوه، قَالَ: فذكرها صفوان ذات يوم في مجلس، فبكى حتى غلبه البكاء، فقام (¬1). وقال عبد الله بن رباح الأنصاري سمعت كعبًا يقول: {إِنَّ إِبْرَاهيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ} [هود: 75]، قَالَ: كان إذا ذكر النار قَالَ: أوه من النار أوه من النار (¬2). وعن أبي الجوزاء وعبيد بن عمير نحو ذلك. وروى ابن أبي الدُّنْيَا، بإسناد له، عن رياح القيسي، أنّه مر بصبي يبكي، فوقف عليه يسأله: ما يبكيك يا بني؟! وجعل الصبي لا يحسن يجيبه، ولا يرد عليه شيئًا، فبكى رياح، ثم قَالَ: ليس لأهل النار راحة ولا معول إلاَّ البكاء، وجعل يبكي. وبإسناد له آخر، وإن رياحًا القيسي، زار قومًا، فبكى صبي لهم من الليل، فبكى رياح لبكائه حتى أصبح، فسئل بعد ذلك عن بكائه، فَقَالَ: ذكرت ببكاء الصبي بكاء أهل النار في النار ليس لهم من نصير، ثم بكى. ... ¬

_ (¬1) أخرجه ابن أبي الدُّنْيَا فى "صفة النار" (222)، وفي "الرقة والبكاء" (365). (¬2) أخرجه ابن أبي الدُّنْيَا في "صفة النار" (225).

فصل في طلب أهل النار الخروج منها

فصل في طلب أهل النار الخروج منها قَالَ الله عز وجل: {قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ (106) رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ (107) قَالَ اخْسَئُوا (¬1) فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون: 106 - 108]. وقال تعالى: {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكم مَّاكِثُونَ} [الزخرف: 77]. وقال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ (49) قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ} [غافر: 49، 50]. وقال تعالى: {وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ} [فاطر: 37]. وفي حديثِ الأعمشِ، عن شمرِ بنِ عطية، عن شهرِ بنِ حوشب، عن أمِّ الدَّرداءِ، عن أبي الدَّرداءِ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، في ذكرِ أهلِ النَّارِ قال: "فيقُولونَ: ادعُوا خزنةَ جهنمَ" فيقُولونَ: {أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ} [غافر: 50]. قال: "فيقُولونَ ادعُوا مالكاً، فيقُولُونَ": {يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ} [الزخرف: 77]. قال الأعمشُ، نُبئتُ أنَّ بينَ دُعائِهم وبين إجابةِ مالكٍ لهم ألفَ عامٍ، قال: فيقُولُون: ادعُوا ربَّكم فلا أحد خير من ربكم فيقُولُون: (رَبَّنَا غَلَبَتْ ¬

_ (¬1) {اخسؤوا} أي امكثوا فيها صاغرين مهانين أذلاء.

عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ (106) رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ} [المؤمن: 106، 107]. قال فيُجِيبُهم: {قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون: 108]. قَالَ: فعند ذلك، يئسوا من كل خير، وعند ذلك، يأخذون في الحسرة والزفير والويل". خرّجه الترمذي (¬1) موقوفًا عَلَى أبي الدرداء. وروى أبو معشرٍ، عن محمدِ بن كعبٍ القُرظى، قال: لأهلِ النارِ خمسُ دعواتٍ، يكلَّمونَ في أربع منها، ويُسكتُ عنهم في الخامسةِ، فلا يكلَّمونَ، يقولون: {رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ} [غافر: 11]. فيردُّ عليهم: {ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا} [غافر: 12]. ثمَّ يقولون: {رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ} [السجدة: 12]. فيردُّ عليهم: {وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُل نَفْسٍ هُدَاهَا} [السجدة: 13] إلى آخر الآيتين. ثمَّ يقولون: {رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ} [إبراهيم: 44]. فيردُّ عليهم: {أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ} [إبراهيم: 44]. ¬

_ (¬1) برقم (2586) مرفوعًا وقال الترمذي: قَالَ عبد الله بن عبد الرحمن -يعني الدارمي-: والناس لا يعرفون هذا الحديث، قَالَ: إِنَّمَا رُوي هذا الحديث عن الأعمش، عن شمر ابن عطية، عن شهر بن حوشب، عن أم الدرداء، عن أبي الدرداه قوله، وليس بمرفوع. وأخرجه موقوفًا عَلَى أبي الدرداء ابن أبي الدُّنْيَا في "صفة النار" (84) من طريق الأعمش، عن عمرو بن مرة، عن شهر بن حوشب، عن أبي الدرداء قوله.

ثم يَقُولُونَ: {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ} [فاطر: 37]. فيرد عليهم: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ} [فاطر: 37]. ثم يَقُولُونَ: {رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ (106) رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ} [المؤمنون: 106، 107]. فيرد عليهم: {اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ} إلى قولِهِ: {وكنتُم مِّنْهُمْ تَضْحَكُونَ} [المؤمنون: 108 - 110]. قَالَ: فلا يتكلمون بعد ذلك، خرّجه آدم بن أبي إياس وابن أبي حاتم. وخرج ابن أبي حاتم، من رواية قتادة، عن أبي أيوب العتكي، عن عبد الله بن عمرو، قَالَ: نادى أهل النار {يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّك} [الزخرف: 77] قَالَ: فخلى عنهم أربعين عامًا، ثم أجابهم: {إِنَّكُم ماكِثُونَ}. فقالوا: {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ}. قَالَ: فخلى عنهم مثل الدُّنْيَا، ثم أجابهم: {اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون: 108]. قَالَ: فأطبقت عليهم، فيئس القوم بعد تلك الكلمة، وإن كان إلاَّ الزفير والشهيق (¬1). وعن عطاء بن السائب، عن الحسن، عن ابن عباس، في قوله تعالى: {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا ربُّكَ} قَالَ: فيتركهم ألف سنة، ثم يقول: قال: فيتركُهم ألفَ سنةٍ ثم يقولُ: {إِنَّكُم مَّاكثونَ}. وخرَّجهُ البيهقيُّ (¬2) وعندَه عن عطاءٍ، عن عكرمةَ عن ابنِ عباسٍ. وقال سُنَيدٌ في "تفسير": حدثنا حجاج، عن ابنِ جريج قال: نادَى أهلُ النَّارِ ¬

_ (¬1) وأخرجه ابن أبي شيبة في المصنف (13/ 152 - 153) برقم (15969)، وهناد في "الزهد" (214). (¬2) في "البعث والنشور" (645).

خزنةَ جهنمَ أنْ {ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِّنَ الْعَذَابِ} [غافر: 49] فلم يجيبُوهم ما شاءَ اللَّهُ، ثُمَّ أجابُوهم بعدَ حينٍ وقالُوا لهُم: {فَادْعُوا وَمَا دُعَاء الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ} [غافر: 50] ثمَّ نادَوا: {يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} [الزخرف: 77] فيسكُتُ عنهم مالكٌ، خازنُ جهنمَ، أربعينَ سنةً، ثمَّ أجابَهم: {إِنَّكُم مَّاكِثونَ} [الزخرف: 77] ثُمَّ نادَى الأشقياء ربَّهم: {قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتنَا} [المؤمنون: 106] الآيتين، فسكتَ عنهم مثلَ مقدارِ الدنيا، ثمَّ أجابَهم بعدُ: {اخْسَئوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمونِ} [المؤمنون: 108]. ورَوى صفوانُ بنُ عمرٍو، قال: سمعتُ أيفعَ بنَ عبدٍ الكُلاعي، يقولُ: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا دخلَ أهلُ الجنةِ الجنةَ، وأهلُ النَّارِ النارَ"، قالَ اللَهُ: يا أهلَ الجنةِ، {قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (112) قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} [المؤمنون: 112، 113] قال: نعم ما اتجرتُم في يوم أو بعضِ يوم رحمتي ورضواني وجنتي، امكُثوا فيها خالدين مخلدينَ، ثم يقولُ لأهلِ النَّارِ: {كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (112) قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} فيقول: بئسَ ما اتَجرتُم به في يوم أو بعضِ يومٍ، سخطِي، ومعصيتي، ونارِي، امكُثُوا فيها خالدين مخلدينَ، فيقولون: {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ} [المؤمنون: 107] فيقولُ: {اخْسَئوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون: 108] فيكونُ ذلك آخرُ عهدهِم بكلام ربهم عزَّ وجل. خرَّجَه أبو نُعيمٍ (¬1)، وكذا رواه أيفعُ مرسلاً. وقال أبو الزعْراءِ، عن ابنِ مسعودِ: إذا أرادَ اللَهُ أن لا يُخرِجَ منها أحدًا، غيرَ وجوهِهِم وألوانِهم، فيجيءُ الرجلُ من المؤمنين، فيشفعُ فيقولُ: يا ربِّ، فيقال: من عرف أحدًا فليخرجه، قَالَ: فيجيء الرجل من المؤمنين، فينظر فلا يعرف أحدًا، فيناديه الرجل فيقول: يا فلان أنا فلان، فيقول: ما أعرفك! قَالَ: فعند ذلك يَقُولُونَ في النار: {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ} [المؤمنون: 107] فيقولُ عندَ ذلك: {اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون: 108]، فإذا قال ذلك أُطبِقَتْ عليهم، فلم يخْرجْ منهم أحدٌ. ¬

_ (¬1) في "الحلية" (5/ 132) وقال: وأسنده أيفع عن معاوية بن أبي سفيان وغيره.

وفي روايةٍ، قال ابنُ مسعودٍ: ليسَ بعدَ هذه الآيةِ خروجٌ: {اخْسئُوا فِيهَا وَلا تكَلِّمُونِ}. وذكَرَ عبدُ الرزاقِ في تفسيرِهِ، عن عبدِ اللهِ بنِ عيسى، عن زيادٍ الخُرسانيِّ، أسندَهُ إلى بعضِ أهلِ العلم، قال: إذا قيلَ لهم: {اخْسَئوا فِيهَا وَلا تكَلِّمُونِ} سكتُوا، فلا يُسمَعُ لهم فيها حسٌّ إلا كطنينِ الطِّستِ. * * *

فصل

فصل ولا يزال أهل جهنم في رجاء الفرج إِلَى أن يذبح الموت، فحينئذ يقع منهم الإياس، وتعظم عليهم الحسرة والحزن. وفي الصحيحين (¬1)، عن أبي سعيد، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم، قَالَ: "يجاء بالموت يوم القيامة، كأنه كبش أملح، فيوقف بين الجنة والنار"، فيقال: يا أهل الجنة هل تعرفون هذا؟ فيشرئبونَ وينظرونَ، ويقولونَ: نعم، هذا الموتُ، ويقال: يا أهل النار، هل تعرفون هذا؟ فيشرئبونَ وينظرونَ، ويقولون: نعم هذا الموتُ، قال: فيؤمرُ به فيذبحُ، ثم يقالُ: يا أهل الجنةِ خلود فلا موت، ويا أهل النارِ خلود فلا موت، ثم قرأ رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - {وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [مريم: 39]. وخرَّجه الترمذيُّ (¬2) بمعناه وزادَ: "فلولا أنَّ اللَّهَ قضى لأهل الجنة بالحياةِ والبقاءِ، لماتُوا فرحًا، [ولولا أن اللَّه قضى لأهلِ النارِ بالحياةِ والبقاءِ، لماتُوا فرَحًا"] (*). وخرج الإمام أحمد (¬3) والترمذي (¬4) وابن ماجه (¬5) معناه، من حديث أبي ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (4730)، ومسلم (2849). (¬2) برقم (3156) وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. (*) من المطبوع. (¬3) (2/ 261). (¬4) برقم (2557) وقال: هذا حديث حسن صحيح. (¬5) برقم (4327).

هريرة، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وقال فيه: "إنَّ أهلَ الجنةِ يطلعون، خائفينَ وجلينَ أن يخرجُوا من مكانِهِم الذي هُم فيه، وإنَّ أهلَ النارِ يطلعُون، فرحينَ مستبشرينَ أن يخرجُوا من مكانِهِم الذي هم فيه". وفي رواية الترمذي: "مستبشرين يرجون الشفاعة". وخرَّجاه في الصحيحينِ (¬1) من حديثِ ابنِ عمرَ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - بمعناه، وفي "حديثِه فيزدادُ أهل الجنةِ فرحًا إلى فرحِهِم، ويزدادُ أهلُ النارِ حزنًا إلى حزنهِم". وخرَّجه الترمذيُّ (¬2)، من حديثِ أبي سعيدٍ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - مختصرًا، وفيه: "لو أنَّ أحدًا مات فرحًا لماتَ أهلُ الجنةِ، ولو أنَّ أحدًا ماتَ حزنًا لماتَ أهلُ النارِ حزنا". وخرّجه ابن أبي حاتم (¬3)، بإسنادِهِ، عن ابنِ مسعودٍ، من قولِهِ نحوَ هذا المعنى غير مرفوع، وزادَ: "أنه ينادَى أهلُ الجنةِ وأهلُ النارِ: هو الخلودُ أبدَ الآبدينَ". قال: فيفرحُ أهلُ الجنةِ فرحةً، لو كان أحد ميتًا من فرحه لماتُوا، ويشهقُ أهلُ النارِ شهقةً، لو كان أحدٌ ميتًا من شهقِهِ لماتُوا، فذلك قولُه تعالى: {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ} [مريم: 39]. ورَوى ابنُ أبي الدنيا بإسنادِهِ عن هشامِ بنِ حسانَ، قالَ: مرَ عمرُ بنُ الخطابِ - رضي الله عنه - بكثيبٍ من رملٍ فبكى، فقيلَ له: ما يبكيكَ يا أمير المؤمنينَ؟ قال: ذكرتُ أهلَ النارِ، فلو كانُوا مخلدينَ في النارِ بعددِ هذا الرملِ، كانَ لهم أمد يمدون إليه أعناقَهُم، ولكنَّه الخلودُ أبدًا. وقد رُوي عن ابنِ مسعودٍ هذا المعنى أيضًا مرفوعًا، وموقوفًا، وسنذكره فيما بعدُ إن شاءَ اللَّهُ تعالى. ... ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (6548)، ومسلم (2850). (¬2) برقم (2558) وقال حديث حسن صحيح. (¬3) راجع تفسير ابن أبي حاتم المطبوع (7/ 2409 - 2410) رقم (13136).

فصل وأما عصاة الموحدين، فربما ينفعهم الدعاء في النار

فصل وأما عصاة الموحدين، فربما ينفعهم الدعاء في النار خرج الإمام أحمد (¬1)، من حديث أبي ظلال، عن أنس بن مالك، عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: "إنَّ عبدًا في جهنَّم لينادِي ألفَ سنةٍ: يا حنانُ يا منانُ، فيقولُ اللَّهُ عزَّ وجلَّ لجبريلَ عليه السلامُ: اذهب فائتني بعبدِي هذا، فيذهبُ فينطلق جبريلُ، فيجدُ أهلَ النارِ منكبينَ يبكونَ، فيرجعُ إلى اللَّهِ عزَّ وجلَّ فيخبره، فيقولُ: ائتني به، فإنَّه في مكانِ كذا وكذا، فيجيءُ به، فيقفُهُ على ربِّه، فيقولُ له: يا عبدي، كيفَ وجدتَ مكانَكَ؟ فيقولُ: يا ربِّ، شرُّ مكانٍ، وشرُّ مقيلٍ، فيقولُ: ردُّوا عبدي. فيقولُ: يا ربِّ ما كنتُ أرجُو إذ أخرجْتَني منها أن تردَّني، فيقولُ: دعُوا عبدِي". أبو ظلالٍ اسمُهُ هلالٌ؛ ضعفوه. ¬

_ (¬1) (3/ 230). قَالَ ابن حجر في القول المسدد ص34: أورده ابن الجوزي في "الموضوعات" من طريق المسند أيضًا وقال: هذا حديث ليس بصحيح، قَالَ ابن معين: أبو ظلال ليس بشيء، وقال ابن حبان: كان مغفلاً يروي عن أنس ما ليس من حديثه، لا يجوز الاحتجاج به بحال. قلت: قد أخرج له الترمذي وحسن له بعض حديثه، وعلق له البخاري حديثًا. وأخرج هذا الحديث ابن خزيمة في كتاب التوحيد من صحيحه، إلاَّ أنّه ساقه بطريقة له تدل عَلَى أنّه ليس عَلَى شرطه في الصحة. وفي الجملة ليس هو موضوعًا. وأخرجه البيهقي في "الأسماء والصفات" له من وجه آخر عن سلام بن مسكين، وأبو ظلال قد قَالَ فيه البخاري: إنه مقارب. وقال أبو بكر الآجري في أواخر طريق حديث الإفك له: حدثنا عبد الله بن عبد الحميد، ثنا زياد بن أيوب، ثنا مروان بن معاوية، ثنا مالك بن أبي الحسن عن الحسن قَالَ: "يخرج من النار بعد ألف عام، فَقَالَ الحسن: ليتني كنت ذلك الرجل" انتهى. فهذا شاهد لبعض حديث أنس. وفي "الغريبين" لأبي عبيد الهروي عن ابن الأعرابي قَالَ: الحنان من صفات الله الرحيم، والله أعلم. ا. هـ.

وخرج الترمذي (¬1)، من طريق رشدين بن سعد، حدثني ابن أنعم -هو الإفريقي، عن أبي عثمان، أنه حدثه عن أبي هريرة، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم، قَالَ: "إن رجلين ممن دخل النار، اشتد صياحهما، فَقَالَ الرب عز وجل: أخرجوهما، فلما خرجا، قَالَ لهما: لأي شيء اشتد صياحكما، قالا: فعلنا ذلك لترحمنا، قَالَ: رحمتي لكما أن تنطلقا فتلقيا أنفسكما حيث كنتما من النار، قَالَ: فينطلقان، فيلقي أحدهما نفسه، فيجعلها عليه بردًا وسلامًا، ويقوم الآخر، فلا يلقي نفسه، فيقول له الرب عز وجل: ما منعك أن تلقي نفسك كما ألقى صاحبك؟ فيقول: إني لأرجو أن لا تعيدني فيها بعد ما أخرجتني. فيقول له الرب عز وجل: لك رجاؤك، فيدخلا الجنة جميعًا، برحمة الله عز وجل" قَالَ الترمذي: إسناد هذا الحديث ضعيف. وفي صحيح مسلم (¬2)، عن أنس، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم، قَالَ: "يخرج من النار أربعة، فيعرضون عَلَى الله عز وجل، فيلتفت أحدهم، فيقول: أي رب، إذ أخرجتني منها فلا تعدني فيها، قَالَ: فينجيه الله منها". وخرّجه ابن حبان في صحيحه (¬3)، وعنده: فيلتفت فيقول: يا رب، ما كان هذا رجائي فيك. فيقول: ما كان رجاؤك؟! ¬

_ (¬1) برقم (2599) وقال الترمذي: إسناد هذا الحديث ضعيف، لأنّه عن رشدين بن سعد، ورشدين بن سعد هو ضعيف عند أهل الحديث، عن ابن أنعم وهو الإفريقي، والإفريقي ضعيف عند أهل الحديث. وأخرجه ابن الجوزي في "العلل المتناهية" (2/ 939) وقال إسناد هذا الحديث لا يثبت، أما رشدين بن سعد فَقَالَ يحيى بن معين: ليس بشيء، وقال النسائي: متروك الحديث. وأما ابن أنعم فاسمه عبد الرحمن بن زياد، قَالَ أحمد: نحن لا نروي عنه شيئًا، وقال ابن حبان: يروي الموضوعات عن الثقات. (¬2) برقم (192). (¬3) برقم (632 - إحسان) من طريق حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس مرفوعًا.

قال: كانَ رجائِي إذ أخرجتني منها أن لا تعيدني فيها، فيرحمَهُ اللَّهُ فيدخلهُ الجنةَ". وخرج الإمام أحمد (¬1)، من رواية علي بن زيد بن جدعان، عن ابن المسيب، عن أبي سعيد وأبي هريرة، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم، قَالَ: "إن آخر رجلين يخرجان من النار، فيقول الله عز وجل لأحدهما: يا ابن آدم، ما أعددت لهذا اليوم؟ هل عملت خيرًا قط أو رجوتني؟ فيقول: لا أي رب، فيؤمر به إِلَى النار، فهو أشد أهل النار حسرة. ويقول للآخر: ما أعدت لهذا اليوم؟ هل عملت خيرًا قط أو رجوتني؟ فيقول: لا أي رب، إلاَّ أني كنت أرجوك، قَالَ: فيرفع له شجرة" وذكر الحديث، في دخوله الجنة وما يعطى فيها. وخرج هناد بن السري (¬2)، من طريق أبي هارون العبدي، وفيه ضعف شديد، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم: "أن رجالاً يدخلهم الله النار، فيحرقهم بها، حتى يكونوا فحمًا أسود، وهم أعلى أهل النار، فيجأرون إِلَى الله عز وجل يدعونه، فيَقُولُونَ: ربنا أخرجنا منها، فاجعلنا في أصل هذا الجدار، فَإِذَا جعلهم في أصل الجدار رأوا أنّه لا يغني عنهم شيئًا، قالوا: ربنا اجعلنا من وراء هذا السور ولا نسألك شيئًا بعده، قَالَ: فيرفع لهم شجرة حتى تذهب عنهم سخنة النار أو سحنة النار" (*) وذكر الحديث. ... ¬

_ (¬1) (3/ 74) وقال الهيثمي في المجمع (10/ 400) بعد أن عزاه لأحمد والبزار: ورجاله رجال الصحيح، غير علي بن زيد، وقد وثق عَلَى ضعف فيه. (¬2) في "الزهد" (210). (*) في زهد هناد: "سخنة النار، أو سخنة أهل النار".

الباب الثالث والعشرون في ذكر نداء أهل النار أهل الجنة، وأهل الجنة أهل النار وكلام بعضهم بعضا

الباب الثالث والعشرون في ذكر نداء أهل النار أهل الجنة، وأهل الجنة أهل النار وكلام بعضهم بعضًا قَالَ الله تعالى: {وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ} الآيات إِلَى قوله: {وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ} [الأعراف: 44 - 50]. قَالَ سفيان (¬1)، عن عثمان الثقفي، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، في هذه الآية قَالَ: ينادي الرجل أخاه: إني قد احترقت، فأفض علي من الماء، فيقال: أجبه، فيقول: {إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ} [الأعراف: 50]. وقال سنيد، في تفسيره: حدثنا حجاج عن أبي بكر بن عبد الله، قَالَ: [ينادون] (*) أهل النار: أهل الجنة، أن يا أهل الجنة فلا يجيبونهم ما شاء الله، ثم يقال: أجيبوهم، وقد قطع الرحم والرحمة، فيقول أهل الجنة: يا أهل النار، عليكم لعنة الله، يا أهل النار، عليكم غضب الله، يا أهل النار، لا لبيكم ولا سعديكم، ماذا تقولون؟ فيَقُولُونَ: ألم نكن في الدُّنْيَا آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وعشيرتكم؟ فيَقُولُونَ بلى، فيَقُولُونَ: {أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ} [الأعراف: 50]. قَالَ الله عز وجل: {فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (50) قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ (51) يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ} [الصافات: 50 - 52]. ¬

_ (¬1) في "تفسيره" ص 113 برقم (288). (*) كذا بالأصل والصواب: ينادي.

قَالَ خليد العصري في قوله تعالى: {فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ} [الصافات: 55] قَالَ: في وسطها، ورأى جماجم تغلي، فَقَالَ فلان: والله، لولا أن الله عز وجل عرفه إياه لما عرفه، لقد تغير حبره وسبره (¬1)، فعند ذلك يقول: {إِن كِدتَّ لَتُرْدِينِ} [الصافات: 56]. وقال تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38) إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ (39) فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ (40) عَنِ الْمُجْرِمِينَ (41) مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ} الآيات [المدثر: 38 - 43]. روى أبو الزعراء، عن ابن مسعود، لا يترك في النار غير هؤلاء الأربعة، قَالَ: وليس فيهم من خير. وفي حديث مسكين أبي فاطمة، عن اليمان بن يزيد، عن محمد بن حمير، عن محمد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم، في خروج أهل التوحيد من النار، قَالَ: "ثم يقول الله لأهل الجنة: اطلعوا إِلَى من بقي في النار، فيطلعون إليهم فيَقُولُونَ: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ} [المدثر: 42، 43]. أي إنا لم نك منهم، لو كنا لخرجنا معهم". خرّجه الإسماعيلي وغيره، وهو منكر كما سبق ذكره. قَالَ الإمام أحمد: حدثنا علي بن حفص، حدثنا الثوري، عن أبي خالد، عن الشعبي، قَالَ: يشرف قوم في الجنة عَلَى قوم في النار، فيَقُولُونَ ما لكم في النار، وإنما كنا نعمل بما كنتم تعلمونا؟ فيَقُولُونَ: إنا كنا نعلمكم ولا نعمل به. وقال سعيد بن بشير: عن قتادة: إن في الجنة كوى (¬2) إِلَى النار، فيطلع أهل الجنة من تلك الكوى إِلَى النار، فيَقُولُونَ: ما بال الأشقياء، وإنما دخلنا الجنة بفضل تأديبكم؟ فقالوا: إنا كنا نأمركم [ولا نأتمر،] (*) وننهاكم ولا ننتهي. ¬

_ (¬1) الحبر: أثر الجَمَال والهيئة الحسنة، والسبر: حسن الهيئة والجمال. (¬2) الكوة: الحرق في الحائط، والثقب في البيت. (*) من المطبوع.

وقال معمر، عن قتادة، قَالَ كعب: إن بين أهل النار وأهل الجنة كوى، لا يشاء رجل من أهل الجنة أن ينظر إِلَى عدوه من أهل النار إلاَّ فعل. وقال أحمد بن أبي الحواري: حدثنا عبد الله بن عتاب، عن الفزاري، قَالَ: لكل مؤمن في الجنة أربعة أبواب، باب يدخل عليه زواره من الملائكة، وباب يدخل عليه أزواجه من الحور العين، وباب مقفل في ما بينه وبين أهل النار، يفتحه إذا شاء أن ينظر إليهم لتعظم النعمة عليه، وباب فيما بينه وبين دار السلام، يدخل فيه عَلَى ربه إذا شاء. وخرج ابن أبي حاتم بإسناده، عن الضحاك، في قوله تعالى: {فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (34) عَلَى الأَرَائِكِ} [المطففين: 34، 35]. من الدر والياقوت {يَنظُرُون}. يعني عَلَى السرر ينظرون، كان ابن عباس يقول: السرر بين الجنة والنار، فيفتح أهل الجنة الأبواب، فينظرون عَلَى السرر إِلَى أهل النار كيف يعذبون، ويضحكون منهم، ويكون ذلك مما يقر الله به أعينهم، أن ينظروا إِلَى عدوهم كيف ينتقم الله منه. وخرج البيهقي (¬1) وغيره (¬2) من حديثِ عليِّ بنِ أبي سارةَ، عن ثابتٍ، عن أنسٍ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: "أن رجلاً من أهل الجنةِ يشرفُ يومَ القيامةِ على أهلِ النارِ، فيناديه رجلٌ من أهلِ النارِ: يا فلانُ هل تعرفُني؟ فيقولُ: لا واللهِ، لا أعرفُك من أنتَ؟ فيقولُ: أنا الذي مررتَ بي في دارِ الدنيا فاستسقيتني شربةَ ماء فسقيتُك، قال: قد عرفتُ،، قَالَ: فاشفع لي بها عند ربك، قَالَ: فيسأل الله عز وجل ويقول: "شفعني فيه. فيؤمر به فليخرج من النار". ¬

_ (¬1) عزاه المنذري في الترغيب (2/ 39 - علمية) للبيهقي في "الشعب". (¬2) وأخرجه أبو يعلى في "مسنده" (3490)، وابن عدي في "الكامل" (5/ 202) وقال ابن عدي. وهذه الأحاديث التي ذكرتها لعلي بن أبي سارة عن ثابت كلها غير محفوظة، وله غير ذلك عن ثابت مناكير أيضاً.

الباب الرابع والعشرون في ذكر خزنة جهنم وزبانيتها

الباب الرابع والعشرون في ذكر خزنة جهنم وزبانيتها قَالَ الله عز وجل: {عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ (30) وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا} [المدثر: 30 - 31]. قَالَ آدم بن أبي إياس: حدثنا حماد بن سلمة، حدثنا الأزرق بن قيس، عن رجل من بني تيم، قَالَ: كنا عند أبي العوام، فقرأ هذه الآية {عليها تسعة عشر} فَقَالَ: ما يَقُولُونَ أتسعة عشر ملكًا؟ قلنا: بل تسعة عشر ألفًا، فَقَالَ: ومن أين علمت ذلك، قَالَ: قلت: لأنّ الله تعالى يقول: {وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلَّذينَ كَفَروا} قَالَ أبو العوام، صدقت، وبيد كل [واحد] (*) منهم مرزبة (¬1) من حديد لها شعبتان، فيضرب بها الضربة يهوي بها سبعين ألفًا، بين منكبي كل ملك منهم مسيرة كذا وكذا. فعلى قول أبي العوام ومن وافقه، الفتنة للكفار، [إِنَّمَا] (*) جاءت من ذكر العدد الموهم للقلة حيث لم يذكر المميز له. ويشبه هذا ما روى سعيد بن بشير، عن قتادة، في قوله تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ جنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ} [المدثر: 31] أي من كثرتهم. وكذلك روى إبراهيم بن الحكم بن أبان، وفيه ضعف، عن أبيه، عن عكرمة قَالَ: إن أول من وصل إِلَى النار من أهل النار، وجدوا عَلَى الباب أربعمائة ألف من خزنة جهنم مسودة وجوههم كالحة أنيابهم، قد نزع الله الرحمة من قلوبهم، ليس في قلب واحد منهم مثقال ذرة من الرحمة، لو طيّر الطائر من منكب أحدهم ¬

_ (*) من المطبوع. (¬1) المرزبة: المطرقة الكبيرة تكسر بها الحجارة.

لطار شهرين قبل أن يبلغ منكبه الآخر، ثم يجدون عَلَى الباب التسعة عشر، عرض صدر أحدهم سبعون خريفًا، ثم يهوون من باب إِلَى باب خمسمائة سنة حتى يأتون الباب، ثم يجدون عَلَى كل باب منها من الخزنة مثل ما وجدوا عَلَى الباب الأول، حتى ينتهوا إِلَى آخرها. خرّجه ابن أبي حاتم. وهذا يدل عَلَى أن كل باب من أبواب جهنم تسعة عشر خازنًا هم رؤس الخزنة، وتحت يد كل واحد [منهم] (*) أربعمائة ألف. والمشهور بين السَّلف والخلف، وإن الفتنة إِنَّمَا جاءت من حيث ذكر عدد الملائكة الذين اغتر الكفار بقتلهم، وظنوا أنهم يمكنهم مدافعتهم وممانعتهم، ولم يعلموا أن كل واحد من الملائكة لا يمكن البشر كلهم مقاومته، ولهذا قَالَ الله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا} إلى قوله: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} [المدثر: 31]. قَالَ السدي: إن رجلاً من قريش، يقال له أبو الأشدين، قَالَ: يا معشر قريش، لا يهولنكم التسعة عشر، أنا أدفع عنكم بمنكبي الأيمن عشرة من الملائكة وبمنكبي الأيسر التسعة [الباقية] (*)، ثم تمرون إِلَى الجنة -يقوله مستهزئًا- فَقَالَ الله عز وجل: {وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا} [المدثر: 31]. وقال قتادة: ذكر لنا أن أبا جهل، حين نزلت هذه الآية، قَالَ: يا معشر قريش، أما يستطيع كل عشرة منكم أن يأخذوا واحدًا من خزنة النار وأنتم الدهم (¬1)، وصاحبكم هذا يزعم أنهم تسعة عشر؟!. وقال قتادة: في التوراة والإنجيل أن خزنة النار تسعة عشر. وروى حريث عن الشعبي، عن البراء، في قول الله عز وجل: {عَلَيهَا تِسْعَةَ عَشَرَ} قَالَ: إن رهطًا من يهود، سألوا رجلاً من أصحاب النبيّ صلّى الله عليه وسلم، عن خزنة جهنم، فَقَالَ: "الله ورسوله أعلم، فجاء رجل، فأخبر النبيّ صلّى الله عليه وسلم، فأنزل الله ¬

_ (*) من المطبوع. (¬1) الدهم: العدد الكثير.

[عليه] (*) ساعتئذ {عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ} فأخبر أصحابه، وقال: ادعهم، فجاؤوا فسألوه عن خزنة جهنم، فأهوى بأصابع كفيه مرتين، وأمسك الإبهام في الثانية. خرّجه ابن أبي حاتم (¬1) وحريث هو ابن أبي مطر، وفيه ضعف. وخرّجه الترمذي (¬2)، من طريقِ مجالدٍ عن الشعبيِّ، عن جابر قال: "قال ناس من اليهودِ لأناسٍ من أصحابِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: هل يعلمُ نبيكم عددَ خزنة جهنَّم؟ قالُوا: لا ندري حتى نسأله، فجاء رجل إلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فقالَ: يا محمدُ غُلِبَ أصحابُك اليومَ، قال: وما غُلِبُوا؟ قال: سألتْهُم يهودُ: هل يعلم نبيُّكم عددَ خزنةِ جهنَّم؟ قال: فما قالوا؟ قالوا: لا ندري حتى نسأل نبيَّنا - صلى الله عليه وسلم -، فقال: أيغلبُ قومٌ سئِلوا عمَّا لا يعلمون، فقالُوا لا نعلمُ حتى نسأل نبيَّنا؟ لكنَّهم قد سألُوا نبيَّهم، فقالُوا: أرِنَا اللَّهَ جهرة، علي بأعداءِ الله [إني سائلهم عن تربة الجنة وهي الدرمك] (¬3) فلما جاءوا قالُوا: يا أبا القاسم، كم عددُ خزنةِ جهنم؟ قال: هكذا أو هكذا في مرةٍ عشرة وفي مرةٍ تسعة، قالُوا: نعم"، وهذا أصحُّ من حديثِ حريثٍ المتقدمِ، قاله البيهقي وغيرُهُ. وخرج الإمام أحمد (¬4)، من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص، قَالَ: خرج علينا رسول الله صلّى الله عليه وسلم يومًا كالمودع، فَقَالَ: "أنا محمد النبي الأمي ثلاث مرات ولا نبي بعدي، أوتيت فواتح الكلم وخواتمه وجوامعه، وعلمت كم خزنة النار وحملة العرش" وذكر بقية الحديث. ¬

_ (*) من المطبوع. (¬1) أورده ابن كثير في تفسيره (4/ 444) قَالَ: قَالَ ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زرعة، حدثنا إبراهيم بن موسى، حدثنا ابن أبي زائدة حريث عن عامر عن البراء ... فذكره. قَالَ ابن كثير: هكذا وقع عند ابن أبي حاتم عن البراء، والمشهور عن جابر بن عبد الله كما قَالَ الحافظ أبو بكر البزار في "مسنده"، ثم ذكر إسناده ومتنه. (¬2) برقم (3327) وقال: هذا حديث غريب إِنَّمَا نعرفه من هذا الوجه من حديث مجالد. (¬3) أي: الدقيق الناعم، والتراب الناعم. (¬4) (2/ 172، 212) وقال الهيثمي في المجمع (1/ 169): وفيه ابن لهيعة وهو ضعيف.

فصل وقد وصف الله الملائكة الذين على النار، بالغلظة والشدة

فصل وقد وصف الله الملائكة الذين عَلَى النار، بالغلظة والشدة قَالَ الله تعالى: {عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم: 6]. وروى أبو نعيم (¬1) بإسناده، عن كعب، قَالَ: إن الخازن من خزان جهنم، مسيرة ما بين منكبيه سنة، وإن مع كل واحد منهم لعمودًا، له شعبتان من حديد، يدفع بها الدفعة فيكب به في النار سبعمائة ألف. وروى عبد الله بن الإمام أحمد بإسناده، عن أبي عمران الجوني، قَالَ: بلغنا أن الملك من خزنة جهنم، ما بين منكبيه مسيرة خريف، فيضرب الرجل من أهل الضار الضربة فيتركه طحينًا من لدن قرنه إِلَى قدمه. وفي رواية أخرى له، قَالَ: بلغنا أن خزنة النار تسعة عشر، ما بين منكبي أحدهم مسيرة خريف، وليس في قلوبهم رحمة، إِنَّمَا خلقوا للعذاب. وروى الجوزجاني بإسناده، عن صالح أبي الخليل، قَالَ: ليلة أسري بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، بعث الله إِلَيْه نفرًا من الرسل، فتلقوه بالفرح والبشر، وفي ناحية المسجد مصل يصل لا يلتفت إِلَيْهِ، [فقام إِلَيْهِ] (*)، فَقَالَ النبيّ صلّى الله عليه وسلم: "ما منكم من أحد إلاَّ قد رأيت منه البشر والفرح، غير صاحب هذه الزاوية". فقِيلَ لَهُ: "أما إنه قد فرح بك كما فرحنا، ولكنه خازن من خزان جهنم". ¬

_ (¬1) في "الحلية" (5/ 369). (*) من المطبوع.

وروى بكر بن خُنيس، عن عبد الله الجسري عن الحسن، أن جبريل قَالَ للنبي -صلّى الله عليه وسلم-: "لو أنا خازنًا من خزان جهنم، أشرف عَلَى أهل الأرض، لمات أهل الأرض، مما يرون من تشويه خلقه" مرسل ضعيف. ***

فصل في تفسير قوله تعالى: ونادوا يا مالك

فصل في تفسير قوله تعالى: وَنَادَوْا يَا مَالِكُ قَالَ الله تعالى: {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكم مَّاكِثُونَ} [الزخرف: 77]. ومَالِكٌ هو خازنُ جهنَّم، [وهو كبيرُ الخزنةِ] (*) ورئيسهم، وقدْ رآه النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - ليلةَ الإسراءِ، وبدأَهُ مالكٌ بالسلامِ. خرّجه مسلم من حديث أنس (¬1). ورآه النبيّ صلّى الله عليه وسلم في منامه، وهو كريه المرآة -أي كرية المنظر- كأكره ما أنت راء من الرجال. وقد سبق هذا من حديث سمرة بن جندب (¬2). ... ¬

_ (*) من المطبوع. (¬1) برقم (163)، وكذا البخاري (349). (¬2) أخرجه البخاري (845) وفيه: "فانطلقتُ فأتينا عَلَى رجلٍ كريه المرآة، كأكرَهَ ما أنت راءٍ، فإذا هو عند نارٍ يحشها ويسعى حولها. قَالَ: قلت: ما هذا؟ قالا لي: انطلق انطلق، وفي آخر الحديث قالا: "فأما الرجل الكريه المرآةِ الَّذِي عند النار يحشها ويسعى حولها فإنه مالك خازن جهنم".

فصل تفسير قوله تعالى فليدع ناديه * سندع الزبانية

فصل تفسير قوله تعالى فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ * سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ قَالَ الله تعالى: {فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ (17) سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ} [العلق: 17، 18]. قَالَ أبو هريرة: الزبانية: الملائكة. وقال عطاء: هم الملائكة الغلاظ الشداد. وقال مقاتل: هم خزنة جهنم. وقال قتادة: الزبانية في كلام العرب: الشرط. قَالَ عبد الله بن الحارث: الزبانية رؤسهم في الأرض وأرجلهم في السماء، خرّجه ابن أبي حاتم. وخرج أيضاً بإسناده عن المنهال بن عمرو قَالَ: إذا قَالَ الله تعالى: {خُذُوهُ فَغلُّوهُ} [الحاقة: 30] ابتدرهُ سبعونَ ألفَ ملك، [وإن الملكَ] (*) منهم ليقولُ هكذا -يعني: يفتحُ يديهِ- فيلقي سبعينَ ألفًا في النارِ. ... ¬

_ (*) من المطبوع.

الباب الخامس والعشرون في ذكر مجيء النار يوم القيامة وخروج عنق منها يتكلم

الباب الخامس والعشرون في ذكر مجيء النار يوم القيامة وخروج عنق منها يتكلم قَالَ الله عز وجل: {كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (¬1) (21) وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22) وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى (23) يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي} [الفجر: 21 - 24]. وقال الله تعالى: {فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ (¬2) الْكُبْرَى (34) يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ مَا سَعَى (35) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى} [النازعات: 34 - 36]. [وقال الربيع بن أنس في قوله: {وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى}] (*) [النازعات: 36] قَالَ: كشف عنها غطاؤها. وقال تعالى: {كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (5) لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (6) ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ} [التكاثر: 5 - 7]. وروى العلاء بن خالد الكاهلي، عن أبي وائل، عن ابن مسعود، عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: "يؤتى يومئذ بجهنم، لها سبعون ألف زمام، مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها". خرّجه مسلم (¬3)، من طريق حفص بن غياث، عن العلاء به، وخرّجه الترمذي (¬4) من طريق سفيان، عن العلاء، موقوفًا عَلَى ابن مسعود، ورجح وقفه العقيلي (¬5) والدارقطني (¬6). ¬

_ (¬1) {دكت}: أي دقت وكسرت بالزلازل. {دكًّا دكًّا}: أى دكًّا متتابعًا حتى صارت هباءً. (¬2) {والطامة الكبرى}: أي الداهية العظمى أي يوم القيامة. (*) من المطبوع. (¬3) برقم (2842). (¬4) برقم (2573). (¬5) في "الضعفاء الكبير" (3/ 344) أورد الحديث موقوفًا وقال: هذا أولى. (¬6) في التتبع ص 329 قَالَ: رفعه وهم، رواه الثوري ومروان وغيرهما عن العلاء بن=

وخرج ابن أبي حاتم، من طريق عبيد الله بن الوليد الوصافي، عن عطية، عن أبي سعيد الخدري، قَالَ: لما نزلت هذه الآية: {وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ} [الفجر: 23]. تغير لون النبيّ صلّى الله عليه وسلم، وعرف من وجهه، حتى اشتد ذلك عَلَى أصحابه، فسألوه فَقَالَ: "جبريل جاء فأقرأني هذه الآية، قَالَ: كيف يجاء بها؟ قَالَ: يجيء بها سبعون ألف ملك، يقودونها بسبعين ألف زمام تسرد سردة، لو تركت لأحرقت هل الجمع ومن عليه، ثم تعرض [جهنم] (*) فتقول: ما لي ولك يا محمد لقد حرم الله لحمك علي، فلا يبقى أحد إلاَّ قَالَ: نفسي نفسي، ومحمد، يقول: أمتي أمتي". الوصافي شيخ صالح لا يحفظ، فكثرت المناكير في حديثه. وخرج أبو يعلى الموصلي (¬1)، من حديث أبي الهيثم، عن أبي سعيد الخدري، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم، قَالَ: "إذا جمع الله الناس في صعيد واحد يوم القيامة، أقبلت النار يركب بعضها بعضًا، وخزنتها يكفونها، وهي تقول: وعزة ربي لتخلن بيني وبين أزواجي، أو لأغشين الناس عنقًا واحدًا، فيَقُولُونَ: من أزواجك؟ فتقول: كل متكبر جبار". وخرج الإمام أحمد (¬2) والترمذي (¬3)، من حديث الأعمش، عن أبي صالح، ¬

_ = خالد موقوفًا. وقال الدارقطني في العلل (5/ 86) برقم (732): يرويه العلاء بن خالد عن أبي وائل، واختلف عنه فرفعه عمر بن حفص بن غياث عن أبيه عن العلاء، ووقفه غيره، والموقوف أصح عندي، وإن كان مسلم قد أخرج حديث عمر بن حفص في الصحيح. انظر كتابي الجامع الصحيح في أهوال النار وسبل النجاة منها ص 33 - طبعة دار الضياء بطنطا. (*) من المطبوع. (¬1) في "مسنده" (1145) وقال الهيثمي في المجمع (10/ 392): ورجاله وثقوا، إلاَّ أن ابن إسحاق مدلس. (¬2) (2/ 336). (¬3) برقم (2574) وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب صحيح، وقد رواه بعضهم =

عن أبي هريرة، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم، قَالَ: "يخرج عنق من النار يوم القيامة، له عينان تبصران، وأذنان تسمعان، ولسان ينطق، يقول: إني وكلت بثلاثة: بكل جبار عنيد، وبكل من دعا مع الله إلهًا آخر، وبالمصورين". وصححه الترمذي. وقد قيل: إنه ليس بمحفوظ بهذا الإسناد، وإنما يرويه الأعمش، عن عطية، عن أبي سعيد. فقد روى الأعمش وغير واحد عن عطية، عن أبي سعيد، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم، قَالَ: "يخرج عنق من النار يتكلم، يقول: وكلت اليوم بثلاثة: بكل جبار عنيد، ومن دعا مع الله إلهًا آخر، ومن قتل نفسًا بغير نفس، فتنطوي عليهم، فتقذفهم في غمرات جهنم". خرّجه الإمام أحمد (¬1). وخرّجه البزار (¬2)، ولفظه: "يخرج عنق من النار، يتكلم بلسان طلق ذلق (¬3)، لها عينان تبصر بهما، ولها لسان تكلم به، فتقول: إني أمرت بمن جعل مع الله إلهًا آخر، وبكل جبار [عنيد، وبكل] (*) من قتل نفسًا، فتنطلق بهم قبل سائر الناس بخمسمائة عام". وقد رُوي عن عطية، عن أبي سعيد موقوفًا. وروى ابن لهيعة، عن خالد بن أبي عمران، عن القاسم، عن عائشة، عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: يخرج عنق من النار، فتنطوي عليهم وتتغيظ، ويقول ذلك العنق: وكلت بثلاثة، وكلت بمن دعا مع الله إلهًا آخر، ووكلت بمن لا يؤمن بيوم الحساب، ووكلت بكل جبار عنيد، فتنطوي عليهم، فتطرحهم في غمرات جهنم". خرّجه الإمام أحمد (¬4). ¬

_ = عن الأعمش عن عطية عن أبي سعيد عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم. وروى أشعث بن سوار عن عطية عن أبي سعيد الخدري عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم. (¬1) (3/ 40). (¬2) أورده الهيثمي في المجمع (10/ 392) وقال: رواه البزار واللفظ له، وأحمد باختصار وأبو يعلى بنحوه، والطبراني في الأوسط، وأحد إسنادي الطبراني رجاله رجال الصحيح. (¬3) أي: فصيح بليغ. (*) من المطبوع. (¬4) (6/ 110).

ورُوي عن شهر بن حوشب عن أسماء بنت يزيد، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم، قَالَ: "يخرج عنق من النار، فيظل الخلائق كلهم، فيقول: أمرت بكل جبار عنيد، ومن زعم أنّه عزيز كريم، ومن دعا مع الله إلهًا آخر". ورواه أبو المنهال، سيار بن سلامة، عن شهر بن حوشب، عن ابن عباس موقوفًا، قَالَ: إذا كان [يوم] (*) القيامة، خرج عنق من النار، فأشرفت عَلَى الخلائق، لها عينان تبصران ولسان فصيح، تقول: إلي وكلت بكل جبار عنيد، فتلقطهم من الصفوف، فتحسبهم في نار جهنم، ثم تخرج ثانيًا فتقول: إني وكلت بمن آذى الله ورسوله، فتلقطهم من الصفوف، فتحبسهم في نار جهنم، ثم تخرج ثالثة، قَالَ أبو المنهال: أحسب أنها قالت: إني وكلت اليوم بأصحاب التصاوير، فتلقطهم من الصفوف، فتحسبهم في نار جهنم (¬1). وفي حديث الصور الطويل، الَّذِي خرّجه إسحاق بن راهويه، وأبو يعلى الموصلي وغيرهما (¬2)، بإسناده فيه ضعيف، عن أبي هريرة، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم: يأمر الله تعالى جهنم، فيخرج منها عنق ساطع مظلم، فيقول: {وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ (59) أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (60) وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (61) وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (62)} [يس: 59 - 62]. ¬

_ (*) من المطبوع. (¬1) أخرجه ابن المبارك في الزهد (353)، وابن جرير في "تفسيره" (30/ 185 - 186) ضمن حديث طويل. (¬2) وأخرجه الطبري في "تفسيره" (23/ 22) من طريق إسماعيل بن رافع عمن حديثه عن محمد بن كعب القرظي عن أبي هريرة ... فذكره. وأخرجه أبو الشيخ في العظمة (386) مطولاً جدًّا من طريق إسماعيل بن رافع عن محمد ابن يزيد عن محمد بن كعب ... فذكره. وفي إسناده محمد بن يزيد بن أبي زياد وهو مجهول.

وخرج ابن أبي الدُّنْيَا (¬1)، من طريق الشعبي، عن أبي هريرة قَالَ: يؤتى بجهنم، تقاد بسبعين ألف زمام، آخذ بكل زمام سبعون ألف ملك، وهي تمايل عليهم، حتى توقف عن يمين العرش، ويلقي الله عليها الذل يومئذ، فيوحي الله إليها: ما هذا الذل؟] (*) فتقول: يا رب، أخاف أن يكون لك في نقمة، فيوحي الله إليها: إِنَّمَا خلقتك نقمة، وليس لي فيك نقمة، ويوحي الله إليها، فتزفر زفرة، لا تبقى دمعة في عين إلاَّ جرت، ثم تزفر أخرى فلا يبقى ملك مقرب، ولا نبي مرسل، إلاَّ صعق، إلا نبيكم نبي الرحمة صلّى الله عليه وآله وسلم، يقول: يا رب أمتي أمتي". وروى عبد الله بن الإمام أحمد بإسناده، عن أبي عبد الله الجدلي، عن عبادة ابن الصامت وكعب، قالا: يخرج عنق من النار فتقول: أمرت بثلاثة: بمن جعل مع الله إلهًا آخر، وبكل جبار عنيد، وبكل معتد، إلا إني أعرف بالرجل من الوالد بولده، والمولود بوالده. ... ¬

_ (¬1) "في صفة النار" (182). (*) من المطبوع، وهو الموافق لسياق ابن أبي الدُّنْيَا المطبوع.

الباب السادس والعشرون في ضرب الصراط على متن جهنم وهو جسر جهنم ومرور الموحدين عليه

الباب السادس والعشرون في ضرب الصراط عَلَى متن جهنم وهو جسر جهنم ومرور الموحدين عليه روى زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدري، عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، فذكر حديثًا طويلاً، قَالَ: "ثم يضرب الجسر عَلَى جهنم، وتحل الشفاعة، فيَقُولُونَ: اللهم سلم سلم". قيل: يا رسول الله صلّى الله عليه وسلم وما الجسر؟ قَالَ: "دحض مزلة فيه خطاطيف وكلاليب وحسك تكون بنجد فيها شويكة، يقال لها السعدان، فيمر المؤمنون كطرف العين، وكالبرق وكالريح وكالطير، وكأجاود الخيل والركاب، فناج مُسَلَّمٌ، ومخدوش مرسل، ومكدوس في النار" خرجاه في الصحيحين (¬1). وفي رواية للبخاري (2) "حتى يمر آخرهم يسحب سحبًا". وفي رواية لمسلم (3) قَالَ أبو سعيد الخدري بلغني أن الجسر أدق من الشعر وأحد من السيف. وروى آدم بن أبي إياس، في تفسيره: "أنبأنا [أبو عمر] (*) الصنعاني، عن زيد ابن أسلم، فذكر الحديث، ولفظه: "يمر المؤمنون عَلَى الصراط بنورهم، فمنهم من يمر كطرف العين (¬4) " وذكر الحديث. وخرجاه في الصحيحين (¬5) أيضاً، من حديث الزهري، عن عطاء بن يزيد، عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، فذكر الحديث، وفيه قَالَ: ويضرب الجسر بين ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (7439)، ومسلم (183). (2، 3) نفس الحديث السابق. (*) في الأصل: أبو عمران، والصواب ما أثبتناه، وهي كنية حفص بن ميسرة. (¬4) وأخرجه الطبري في "تفسيره" (16/ 113) من طريق يزيد بن أبي هلال عن زيد ابن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري مرفوعًا. (¬5) أخرجه البخاري (6573)، ومسلم (182).

ظهراني جهنم، فأكون أنا وأمتي أول من يجيزه، ولا يتكلم يومئذ إلاَّ الرسل، ودعوى الرسل يومئذ: اللهم سلم سلم، وفي جهنم كلاليب مثل شوك السعدان، هل رأيتم السعدان؟ قالوا: "نعم يا رسول الله. قَالَ: فإنَّه مثل شوك السعدان، غير أنّه لا يعلم قدر عظمها إلاَّ الله عز وجل، تخطف الناس بأعمالهم، [فمنهم الموبق بعمله]، ومنهم المجازى حتى ينجى". وذكر الحديث. وفي آخره قَالَ: وأبو سعيد الخدري مع أبي هريرة لا يرد عليه من حديثه شيئًا. وخرج مسلم (¬1)، من حديث أبي مالك الأشجعي، عن أبي حازم، عن أبي هريرة، وأبي مالك، عن ربعي، عن حذيفة، كلاهما عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم، فذكر حديث الشفاعة، وفيه قَالَ: فيأتون محمدًا - صلى الله عليه وسلم - فيقوم، ويؤذن له، وترسل معه الأمانة والرحم، فيقومان جنبتي الصراط يمينًا وشمالاً، فيمر أولكم كالبرق قَالَ: قلت بأبي أنت وأمي، أي شيء كمر البرق؟ قَالَ: ألم تروا إِلَى البرق كيف يمر ويرجع في طرفة عين؟! ثم كمر الريح، ثم كمر الطير، وأشد الرجال تجري بهم أعمالهم، ونبيكم - صلى الله عليه وسلم -، قائم عَلَى الصراط يقول: "رب سلم سلم، حتى تعجز أعمال العباد، وحتى يجيء الرجل فلا يستطيع السير إلاَّ زحفًا قَالَ: وفي حافتي الصراط كلاليب معلقة، مأمورة بأخذ من أمرت بأخذه، فمخدوش ناج، ومكردس في النار. والذي نفس أبي هريرة بيده إن قعر جهنم لسبعين خريفًا". وفي حديث الصور الطويل، الَّذِي سبقت الإشارة إِلَيْهِ، عن أبي هريرة، عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: "ويضرب الصراط بين ظهراني جهنم، كَقَدْر الشَّعْرَة أو كحد السيف، له كلاليب وخطاطيف، وحسك كحسك السعدان، دونه جسر دحض مزلقة". وهو يشعر بالتفريق بين الجسر والصراط، والأحاديث الصحيحة السابقة تدل عَلَى أنهما واحد. وروى أبو خالد الدالاني، عن المنهال بن عمرو، عن أبي عبيدة، عن مسروق، عن عبد الله، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم، فذكر حديثًا طويلاً، وفيه قَالَ: والصراط ¬

_ (¬1) برقم (195).

كحد السيف، دحض مزلة قَالَ: فيَقُولُونَ: "انجوا عَلَى قدر نوركم، فمنهم من يمر كانقضاض الكوكب، ومنهم من يمر كالطرف، ومنهم من يمر كالريح، ومنهم من يمر كأشد الرجال ويرمل رملاً، فيمرون عَلَى قدر أعمالهم، حتى يمر الَّذِي نوره عَلَى إبهام قدمه، تخر يد وتتعلق يد، وتخر رجل وتعلق رجل، فتصيب جوانبه النار". خرّجه الحاكم (¬1) وصححه هو وغيره من الحفاظ. وفي سنن أبي داود (¬2)، عن الحسن، عن عائشة رضي الله عنها، أنها ذكرت النار فبكت، فَقَالَ لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: مالك يا عائشة؟ قالت: ذكرت النار فبكيت، فهل تذكرون أهليكم يوم القيامة؛ فَقَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أما في ثلاثة مواطن فلا يذكر أحد أحدًا: عند الميزان حتى يعلم أيخف ميزإنه أم يثقل؟ وعند الكتب حين يقال: {هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ} [الحاقة: 19]، حتى يعلم أين يقع كتابه أفي يمينه أو من وراء ظهره؟ وعند الصراط إذا وضع بين ظهراني جهنم حافتاه كلاليب كثيرة وحسك كثيرة، يحبس الله بها من شاء من خلقه، حتى يعلم أينجو أم لا؟. وروى ابن لهيعة، عن خالد بن أبي عمران، عن القاسم، عن عائشة رضي الله عنها، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم نحوه. إلاَّ أنّه ذكر الميزان وتطاير الكتب وخروج عنق من النار، وقال: "لجهنم جسر أدق من الشعر وأحد من السيف، وعليه كلاليب وحسك تأخذ من شاء الله، والناس عليه كالطرف وكالبرق وكالريح وكأجاود الخيل والركاب، والملائكة يَقُولُونَ: رب سلم سلم، فناج مسلم، ومخدوش مسلم، ومكور في النار عَلَى وجهه" خرّجه الإمام أحمد (¬3). وروى أبو سلام الدمشقي: حدثني عبد الرحمن، حدثني رجل من كندة، قال: أتيت عائشة، فقلت: حدثك رسول الله صلّى الله عليه وسلم، أنّه يأتي عليه ساعة لا يملك ¬

_ (¬1) في "المستدرك" (2/ 376 - 377). وقال الهيثمي في المجمع (10/ 340 - 343): رواه الطبراني من طرق، ورجال أحدهما رجال الصحيح غير أبي خالد الدالاني، وهو ثقة. (¬2) برقم (4755). (¬3) (6/ 110).

لأحد فيها شفاعة؟ قالت: [لقد] (*) سألته عن هذا، قَالَ: نعم، حين يوضع الصراط، لا أملك لأحد فيه شفاعة، حتى أعلم أين يسلك بي؟ ويوم تبيض وجوه وتسود وجوه، حتى أنظر ماذا يفعل بي أوقال: يوحى إلي؟ وعند الجسر، حين يستحد ويستحر. قلت: وما يستحد ويستحر؟ قَالَ: يستحد حتى يكون مثل شفرة السيف، ويستحر حتى يكون مثل الجمرة، فأما المؤمن، فيجيزه ولا يضره، وأما المنافق، فيتعلق، حتى إذا بلغ وسطه، خر من قدميه، [فهوى بيده إِلَى قدميه. قالت: فهل رأيت من يسعى حافيًا، فتأخذه شوكة حتى كادت تنفذ قدميه؟!] (*) فإنها كذلك، يهوي بيده ورأسه إِلَى قدميه، فتضربه الزبانية بخطاف في ناصيته وقدميه، فتقذفه في جهنم، فيهوي فيها مقدار خمسين عامًا. قلت: وما ثقل الرجل؟ قَالَ: ثقل عشر خلفات سمان فيومئذ: {يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ} [الرحمن: 41]. خرّجه بقي بن مخلد في "مسنده" وابن أبي حاتم في "تفسيره" (¬1) وفي إسناده جهالة، وفي بعض ألفاظه نكارة. والأحاديث الصحيحة تدل عَلَى أن الصراط، إِنَّمَا يوضع بعد الإذن في الشفاعة كما سبق. وخرج الإمام أحمد (¬2)، من حديث أبي بكرة، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم، قَالَ: "يحمل ¬

_ (*) من المطبوع. (¬1) وأورده ابن كثير في تفسيره (4/ 276) قَالَ: وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا أبو توبة الربيع بن نافع، حدثنا معاوية بن سلام، عن أخيه زيد بن سلام أنّه سمع أبا سلام -يعني: جده- أخبرني عبد الرحمن، حدثني رجل من كنده .. فذكره. قَالَ ابن كثير: غريب جدًّا، وفيه ألفاظ منكر رفعها، وفي الإسناد من لم يسم، ومثله لا يحتج به والله أعلم. (¬2) (5/ 43) وقال الهيثمي في المجمع (10/ 359): رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح، ورواه الطبراني في "الصغير" و"الكبير" بنحوه. ورواه البزار أيضاً، ورجاله رجال الصحيح.

الناس عَلَى الصراط يوم القيامة، فتتقاذع بهم جنبتا الصراط، تقاذع الفراش في النار، فينجي الله برحمته من يشاء". وخرج الحاكم (¬1)، من حديث سلمان الفارسي، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم، قَالَ: يوضع الصراط مثل حد الموسى، فتقول الملائكة: من ينجو عَلَى هذا؟ فيقول: "من شئت من خلقي فيَقُولُونَ: سبحانك ما عبدناك حق عبادتك". وقال: صحيح. قلت: المعروف أنّه موقوف عَلَى سلمان الفارسي، من قوله. وخرج الحاكم (¬2) أيضاً، من حديث أبي رزين العقيلي، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم، قَالَ: "فتسلكون جسرًا من النار، يطأ أحدكم الجمرة، فيقول: حس حس، فيقول ربك: ادنه". وخرج البيهقي، من حديث زياد النميري، عن أنس، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم، قَالَ: "الصراط كحد الشفرة أو كحد السيف، وإن الملائكة ينجون المؤمنين والمؤمنات، وإن جبريل لآخذ بحجزتي، وإني لأقول: "يا رب سلم سلم، فالزالون والزالات يومئذ كثير". وخرج أيضاً (¬3)، من حديث سعيد بن زربي، عن يزيد الرقاشي، عن أنس، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم، قَالَ: "عَلَى جهنم جسر مجسور، أدق من الشعر وأحد من السيف، أعلاه نحو الجنة دحض مزلة، بجنبتيه كلاليب وحسك النار، يحبس الله بها من يشاء من عباده، الزالون والزالات يومئذ كثيرٌ، والملائكة بجانبيه قيام ينادون: اللهم سلم سلم، فمن جاء بحق يوم القيامة جاز، ويعطون النور يومئذ عَلَى قدر إيمانهم وعمالهم، فمنهم من يمضي عليه كلمح البرق، ومنهم من يمضي ¬

_ (¬1) في "المستدرك" (4/ 586) وقال: صحيح عَلَى شرط مسلم ولم يخرجاه. (¬2) في "المستدرك" (4/ 606) مطولاً جدًّا وقال: حديث جامع في الباب صحيح الإسناد كلهم مدنيون، ولم يخرجاه. (¬3) في "شعب الإيمان" (1/ 331 - 332 - دار الكتب العلمية) وقال البيهقي: وهذا إسناد ضعيف، غير أن معنى بعض ما روى فيه موجود في الأحاديث الصحيحة التي وردت في ذكر الصراط.

عليه كمر الريح، ومنهم من يمضي عليه كمر الفرس السابقة، ومنهم من يشتد عليه شدًّا، ومنهم من يهرول، ومنهم من يعطى نوره إِلَى موضع قدميه، ومنهم من يحبو حبوًا، وتأخذ النار منهم بذنوب أصابوها، فعند ذلك يقول المؤمنون: "بسم الله حس حس ويلتوي، وهي تحرق من شاء الله منهم عَلَى قدر ذنوبهم". ثم قَالَ البيهقى في زياد النميري ويزيد الرقاشي وسعيد بن زربي: ليسوا بأقوياء. وخرج أيضاً (¬1) من حديث "عبيد بن عمير"، عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: "الصراط عَلَى جهنم مثل حرف السيف، بجنبتيه الكلاليب والحسك، فيركبه الناس، فيختطفون، والذي نفسي بيده، إنه ليؤخذ بالكلوب الواحد أكثر من ربيعة ومضر". وهذا مرسل. وخرّجه من وجه آخر موقوفًا عَلَى عبيد بن عمير مختصرًا. وخرج أيضاً (¬2) بإسناده، عن ابن مسعود رضي الله عنه، قَالَ: "الصراط عَلَى جهنم مثل حد السيف". وخرج الترمذي (¬3)، بإسناد فيه ضعف، عن المغيرة بن شعبة، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم، قَالَ: "شعار المؤمنين عَلَى الصراط رب سلم سلم". ويروى نحوه من حديث أنس مرفوعًا بإسناد لا يصح. وروى منصور بن عمار، عن ابن لهيعة، عن أبي قبيل، عن عبد الله بن عمرو، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم، قَالَ: "شعار أمتي إذا حملوا عَلَى الصراط: لا إله إلاَّ أنت" (¬4). وهذا فيه نكارة، والله أعلم. ¬

_ (¬1) عزاه المنذري في "الترغيب" (4/ 232 - دار الكتب العلمية) للبيهقي قَالَ: مرسلاً وموقوفًا عَلَى عبيد بن عمير. (¬2) عزاه المنذري في "الترغيب" (2/ 232) لابن أبي الدُّنْيَا والطبراني والحاكم، ولم يعزه للبيهقي. (¬3) برقم (2432) وقال الترمذي! هذا حديث غريب من حديث المغيرة بن شعبة لا نعرفه إلاَّ من حديث عبد الرحمن بن إسحاق، وفي الباب عن أبي هريرة. (¬4) أخرجه ابن عدي (6/ 395) في ترجمة منصور بن عمار السري وترجم له بأنه منكر الحديث.

وفي صحيح مسلم (¬1) "عن مسروق، عن عائشة رضي الله عنها، أنها سألت النبيّ صلّى الله عليه وسلم: "أين يكون الناس يوم تبدل الأرض غير الأرض والسموات؟ قَالَ: عَلَى الصراط". وفيه أيضاً (¬2) عن ثوبان، أن حبرًا من اليهود، سأل النبيّ صلّى الله عليه وسلم: أين يكون الناس يوم تبدل الأرض غير الأرض والسموات؟ قَالَ: "هم في الظلمة دون الجسر. قَالَ: فمن أول الناس إجازة؟ فَقَالَ: فقراء المهاجرين" وذكر الحديث. ويمكن الجمع بين الحديثين، بأن الظلمة دون الجسر حكمها حكم الجسر، وفيها تقسيم الأنوار للجواز عَلَى الجسر، فقد يقع تبدل الأرض والسموات وطي السماء، من حين وقوع الناس في الظلمة، ويمتد ذلك إِلَى حال المرور عَلَى الصراط، والله أعلم. واعلم أن الناس منقسمون إِلَى مؤمن يعبد الله وحده لا شريك به شيئًا، ومشرك يعبد مع الله غيره، فأما المشركون فإنهم لا يمرون عَلَى الصراط إِنَّمَا يقمعون في النار قبل وضع الصراط، ويدل عَلَى ذلك ما في الصحيحين" (¬3) عن أبي هريرة، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم، قَالَ: "يجمع الله الناس يوم القيامة، فيقول: من كان يعبد شيئًا فليتبعه، فيتبع من كان يعبد الشمس الشمس، ويتبع من كان يعبد القمر القمر، ويتبع من كان يعبد الطواغيت الطواغيت، وتبقى هذه الأمة فيها منافقوها، فذكر الحديث إِلَى أن قَالَ: ويضرب الصراط بين ظهراني جهنم، فأكون أنا وأمتي أول من يجيزه". وفيهما أيضاً (¬4)، عن أبي سعيد الخدري، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم، قَالَ: "إذا كان يوم القيامة، أذن مؤذن: لتتبع كل أمة ما كانت تعبد، فلا يبقى أحد كان يعبد غير الله ¬

_ (¬1) برقم (2791). (¬2) برقم (315) وهو قطعة من حديث طويل. (¬3) أخرجه البخاري (7437) ومسلم (182) وتقدم تخريجه. (¬4) أخرجه البخاري (4581)، ومسلم (183).

من الأصنام والأنصاب إلاَّ يتساقطون فى النار، حتى إذا لم يبق إلاَّ من كان يعبد الله من بر وفاجر، وغُبَّرِ أهل الكتاب، فيدعى اليهود، فيقال: ما كنتم تعبدون؟ قالوا: كنا نعبد عزير ابن الله. قَالَ لهم: كذبتم، ما اتخذ الله من صاحبة ولا ولد، فماذا تبغون؟ قالوا: عطشنا يا ربنا فاسقنا، فيشار إليهم ألا تردون؟ فيحشرون إِلَى النار، كأنها سراب، يحطم بعضها بعضًا، فيتساقطون في النار، ثم يدعى النصارى، فيقال لهم: ما كنتم من تعبدون؟ قالوا: كنا نعبد المسيح ابن الله، فيقال لهم: كذبتم، ما اتخذ الله من صاحبة ولا ولد. فيقال لهم: ماذا تبغون؟ فيَقُولُونَ: عطشنا يا ربنا فاسقنا. قَالَ: فيشار إليهم ألا تردون؟ فيحشرون إِلَى جهنم، كأنها سراب، يحطم بعضها بعضًا، فيتساقطون في النار حتى إذا لم يبق إلاَّ من كان يعبد الله تعالى من بر وفاجر، أتاهم رب العالمين". فذكر الحديث إِلَى أن قَالَ: "فيكشف عن ساق، فلا يبقى من كان يسجد لله من تلقاء نفسه إلاَّ أذن الله له بالسجود، ولا يبقى إلاَّ من كان يسجد اتقاء ورياء، إلاَّ جعل الله ظهره طبقًا واحدًا، كما أراد أن يسجد، خر عَلَى قفاه، ثم يرفعون رءوسهم، وقد تحول من صورته التي رأوه فيها أول مرة، فيقول: "أنا ربكم. فيَقُولُونَ: أنت ربنا. ثم يضرب الجسر عَلَى جهنم". وذكر الحديث. وعند البخاري (¬1) في رواية "ثم يؤتى بجهنم، تعرض كأنها السراب، فيقال لليهود: ما كنتم تعبدون؟ " وذكر الباقي بمعناه. فهذا الحديث صريح في أن كل من أظهر عبادة شيء سوى الله، كالمسيح وعزير من أهل الكتاب، فإنه يلحق بالمشركين في الوقوع في النار قبل نصب الصراط، إلاَّ أن عباد الأصنام والشمس والقمر وغير ذلك من المشركين تتبع كل فرقة منهم ما كانت تعبد في الدُّنْيَا، فترد النار مع معبودها أولاً، وقد دلّ القرآن ¬

_ (¬1) برقم (7439).

عَلَى هذا المعنى، في قوله تعالى في شأن فرعون: {يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ} [هود: 98]. وأما من عبد المسيح والعزير من أهل الكتاب، فإنهم يتخلفون مع أهل الملل المنتسبين إِلَى الأنبياء، ثم يردون النار بعد ذلك. وقد ورد في حديث آخر: "أن من كان يعبد المسيح، يمثل له شيطان المسيح فيتبعونه، وكذلك من كان يعبد العزير". وفي حديث الصور أنّه. "يمثل لهم ملك عَلَى صورة المسيح، وملك عَلَى صورة العزير، ولا يبقى بعد ذلك إلاَّ من كان لا يعبد غير الله وحده في الظاهر، سواء كان صادقًا ومنافقًا من هذه الأمة وغيرها، ثم يتميز المنافقون عَلَى المؤمنين بامتناعهم من السجود، وكذلك يمتازون عنهم بالنور الَّذِي يقسم للمؤمنين". وقد اختلف السَّلف، هل يقسم للمنافق نور مع المؤمنين ثم يطفأ، أو لا يقسم له نور بالكلية، عَلَى قولين: فَقَالَ أحدهما: إنه لا يقسم له نور بالكلية. قَالَ صفوان بن عمرو: حدثني سليم بن عامر، سمع أبا أمامة يقول: يغشى الناس ظلمة شديدة -يعني يوم القيامة- ثم يقسم النور، فيعطى المؤمن نورًا، ويترك الكافر والمنافق، فلا يعطيان شيئًا، وهو المثل الَّذِي ضربه الله في كتابه قَالَ تعالى: {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [النور: 40] فلا يستضيء الكافر والمنافق بنور المؤمن، كما لا يستضيء الأعمى ببصر البصير، و {يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا} [الحديد: 13]. قَالَ: وهي خدعة الله التي خدع بها المنافقين، قَالَ عز وجل: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} فيرجعون إِلَى المواضع التي قسم فيها النور، فلا يجدون شيئًا، فينصرفون إليهم {فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ} إِلَى قوله: {وَبِئْسَ الْمَصِيرُ}

[الحديد: 13 - 15] قَالَ سليم: فما يزال المنافق مغترًّا، حتى يقسم النور، ويميز الله بين سبيل المؤمن والمنافق. خرّجه ابن أبي حاتم (¬1). وخرج أيضاً من رواية مقاتل بن حيان والضحاك، عن ابن عباس (¬2)، ما يدل عَلَى مثل هذا القول أيضاً، ولكنه منقطع. والقول الثاني: أنّه يقسم للمنافقين النور مع المؤمنين كما كانوا مع المؤمنين في الدُّنْيَا، ثم يطفأ نور المنافقين إذ بلغ السور. قاله مجاهد. وروى عتبة بن يقظان، عن عكرمة، عن ابن عباس، قَالَ: ليس أحد من أهل التوحيد إلاَّ يعطى نورًا يوم القيامة، فأما المنافقين فيطفأ نوره، فالمؤمن يشفق مما يرى من إطفاء نور المنافق فهم: {يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا} [التحريم: 8]. وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد نحوه. وكذا روى جويبر عن الضحاك. وسنذكره في الباب الآتي إن شاء الله، من حديث جابر، عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، ما يدل عَلَى صحة هذا القول. وقال آدم بن أبي إياس: "أنبأنا المبارك بن فضالة، عن الحسن"، قَالَ: قَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يدفع يوم القيامة إِلَى كل مؤمن نور، وإلى كل منافق نور، فيمشون معه، فبينا نحن عَلَى الصراط إذ غشينا ظلمة، فيطفأ نور المنافق، ويضيء نور المؤمن، فعند ذلك {يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا} [التحريم: 8] حين طفئ نور المنافقين" (¬3). وقد سبق صفة مشي المنافق عَلَى الصراط في حديث عائشة، وإن كان في إسناده ضعف. وروى بشر بن شغاف، عن عبد الله بن سلام، قَالَ: "يوضع الجسر عَلَى ¬

_ (¬1) في "تفسيره" كما في تفسير ابن كثير (4/ 309). (¬2) كما في تفسير ابن كثير (4/ 310) قَالَ: وقال العوفي والضحاك وغيرهما عن ابن عباس. (¬3) مرسل منقطع، ومراسيل الحسن البصري كالريح، وهي ضعيفة جدًّا.

جهنم، ثم ينادي مناد: أين أحمد وأمته؟ فيقوم، فتتبعه أمته برها وفاجرها، قَالَ: فيأخذون الجسر فيطمس الله أبصار أعدائه، فيتهافتون فيها من شمال ويمين وينجو النبيّ صلّى الله عليه وسلم والصالحون معه، ثم ينادي مناد: أين عيسى وأمته؟ فيقوم، ويتبعه أمته برها وفاجرها، فيأخذون الجسر، فيطمس الله أبصار أعدائه، فيتهافتون فيها من شمال ويمين، وينجو النبيّ صلّى الله عليه وسلم والصالحون معه، ويتبعهم الأنبياء والأمم، حتى يكون آخرهم نوح، رحم الله نوح". خرّجه ابن خزيمة وغيره (¬1). وقد تبين بما ذكرنا في هذا الباب، من حديث ابن مسعود وأنس وغيرهما أن اقتسام المؤمنين الأنوار، عَلَى حسب إيمانهم وأعمالهم الصالحة، وكذلك مشيهم عَلَى الصراط في السرعة والإبطاء. وهذا أيضاً مذكور في حديث حذيفة وأبي هريرة وغيرهما. وروى أبو الزعراء، عن ابن مسعود، قَالَ: يأمر الله بالصراط، فيضرب عَلَى جهنم، فيمر الناس عَلَى قدر أعمالهم زمرًا زمرًا، أوائلهم كلمح البرق، ثم كمر الريح، ثم كمر الطير، ثم كمر البهائم، حتى يمر الرجل سعيًا، وحتى يمر الرجل مشيًا، وحتى يجيء آخرهم يتلبط عَلَى بطنه، فيقول: يا رب لم أبطأت بي؟ فيقول: "إني لم أبطئ بك، إِنَّمَا أبطأ بك عملك" (¬2). وذلك لأنّ الإيمان والعمل الصالح في الدُّنْيَا هو الصراط المستقيم في الدُّنْيَا [الَّذِي أمر الله العباد بسلوكه والاستقامة عليه، وأمرهم بسؤال الهداية إِلَيْهِ، فمن استقام سيره عَلَى هذا المستقيم في الدُّنْيَا] (*) ظاهرًا وباطنًا، استقام مشيه عَلَى ذلك الصراط المنصوب عَلَى متن جهنم، و [من] (*) لم يستقم سيره عَلَى هذا الصراط المستقيم في الدُّنْيَا بل انحرف عنه إما إِلَى فتنة الشبهات أو إِلَى فتنة ¬

_ (¬1) وأخرجه البيهقي في "الشعب" (366). (¬2) أخرجه محمد بن نصر المروزي في تعظيم "قدر الصلاة" (282)، والحاكم في "المستدرك" (4/ 641) وقال: هذا حديث صحيح عَلَى شرط الشيخين، ولم يخرجاه. (*) من المطبوع.

الشهوات، كان اختطاف الكلاليب له عَلَى متن جهنم بحسب اختطاف الشبهات أو الشهوات له عن هذا الصراط المستقيم، كما في حديث أبي هريرة: "إنها تخطف الناس بأعمالهم" (¬1). وروى الأعمش، عن سالم بن أبي الجعد، عن عبد الله، في قوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} [الفجر: 14] قَالَ: من وراء الصراط ثلاثة جسور، جسر عليه الأمانة، وجسر عليه الرحم، وجسر عليه الرب تبارك وتعالى. وقال أيفع بن عَبْدٍ الكلاعي: لجهنم سبع قناطر، والصراط عليها، وذكر أنّه يحبس الخلق عند القنطرة الأولى، فيسألون عن الصلاة، فيهلك من يهلك وينجو من ينجو ويحبسون عند القنطرة الثانية، فيسألون الأمانة، هل أدوها أم أضاعوها فيهلك من يهلك، وينجو من ينجو، ثم يحبسون عند الثالثة، فيسألون عن الرحم. وقد ذكرنا فيما تقدم غير حديث في حبس الولاة عَلَى جسر جهنم، وتزلزل الجسر بهم. وخرج أبو داود (¬2) من حديث معاذ بن أنس الجهني، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم، قَالَ: "من رمى مسلمًا بشيء يريد به تشيينه، حبسه الله عَلَى جسر جهنم حتى يخرج مما قَالَ". وقد رُوي بلفظ آخر وهو "من قَالَ في مؤمن ما لا يعلم، حبسه الله عَلَى جسر جهنم، حتى يخرج مما قَالَ" (¬3). وروى ابن أبي الدُّنْيَا بإسناده، عن أبي سليمان الداراني، قَالَ: وصفت لأختي عبدة قنطرة من قناطر جهنم، فأقامت يومًا وليلة في صيحة واحدة ما ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (182) وتقدم تخريجه. (¬2) برقم (4883). (¬3) أخرجه أبو نعيم في الحلية (8/ 188 - 189) من حديث معاذ بن أنس الجهني، عن أبيه مرفوعًا. قَالَ أبو نعيم: وهو حديث غريب، تفرد به إسماعيل عن سهل.

تسكت، ثم انقطع عنها بعد، فكلما ذكرت لها صاحت. قِيلَ لَهُ: من أي شيء كان صياحها؟ قَالَ: مثلت في نفسها عَلَى القنطرة وهي تكفأ بها. وكان أبو سليمان يقول: إذا سمعت الرجل يقول لآخر: بيني وبينك الصراط فإنه لا يعرف الصراط فإنه لا يعرف الصراط ولا يدري ما هو، لو عرف الصراط أَحَبّ أن لا يتعلَّق بأحد ولا يتعلَّق به أحد. وكان أبو مسلم الخولاني يقول لامرأته: يا أم مسلم، شدي رحلك، فليس عَلَى جسر جهنم معبر. وروى ابن أبي الدُّنْيَا، من طريق معاوية بن صالح، عن أبي اليمان، وإن رجلاً كان شابًّا أسود الرأس واللحية، فنام ليلة، فرأى في منامه، كان الناس حشروا، وإذا بنهر من لهب نار، وإذا جسر يجوز الناس عليه، يدعون بأسمائهم، فإذا دعي الرجل أجاب، فناج وهالك، قَالَ: فدعي باسمي، فدخلت في الجسر، فإذا حده كحد السيف، يمور بي يمينًا وشمالاً، قَالَ: فأصبح الرجل أبيض اللحية والرأس مما رأى. وسمع أسود بن سالم رجلاً ينشد هذين البيتين: أمامي موقوف قدام ربي ... فيسألني وينكشف الغطاء وحسبي أن أمر عَلَى صراط ... كحد السيف أسفله لظاء فغشي عليه. ورُوي عن بشر بن الحارث، قَالَ: قَالَ لي فضيل بن عياض: يا بشر، مسيرة الصراط مسيرة خمسة عشر ألف فرسخ، فانظر كيف نكون عَلَى الصراط. وقال محمد بن السماك سمعت رجلاً من زهاد أهل البصرة يقول: الصراط ثلاثة آلاف سنة، [ألف سنة] (*) يصعدون [فيه] (*)، وألف سنة يستوي بهم، ¬

_ (*) من المطبوع.

وألف سنة يهبطون منه. وروى فيض بن إسحاق، عن الفضيل، قَالَ: الصراط [أربعون] (*) ألف فرسخ. وروى ابن أبي الدُّنْيَا، في "كتاب الأولياء"، من حديث جعفر بن سليمان، قَالَ: سمعت مالك بن دينار يسأل علي بن زيد -وهو يبكي- فَقَالَ: يا أبا الحسن، كم بلغك أن ولي الله يحبس عَلَى الصراط؟ قَالَ: كقدر رجل في صلاة مكتوبة، أتم ركوعها وسجودها. قَالَ فهل بلغك أن الصراط يتسع لأولياء الله؟ قَالَ: نعم. ومن حديث رشدين بن سعد، عن عمرو بن الحارث، عن سعيد ابن أبي هلال، قَالَ: [بلغنا] (*) أن الصراط يكون عَلَى بعض الناس أدق من الشعر، وعلى بعض الناس مثل الوادي الواسع. وقال سهل التستري، من دق عليه الصراط في الدُّنْيَا عرض عليه في الآخرة، ومن عرض عليه الصراط في الدُّنْيَا دق عليه في الآخرة. ومعنى هذا، أن من ضيق عَلَى نفسه في الدُّنْيَا، باتباع الأمر واجتناب النهي، وهو حقيقة الاستقامة عَلَى الصراط المستقيم [في الدُّنْيَا] (*)، كان جزاؤه أن يتسع له الصراط في الآخرة، ومن وسع عَلَى نفسه في الدُّنْيَا، باتباع الشهوات المحرمة، والشبهات المضلة، حتى خرج عن الصراط المستقيم، ضاق عليه الصراط في الآخرة بحسب ذلك، والله أعلم. رأى بعض السَّلف رجلاً يضحك، فَقَالَ له: ما أضحكك؟ ليس تقر عينك أبدًا أو تخلف جهنم وراءك. ¬

_ (*) من المطبوع.

وقال أحمد بن أبي الحواري: حدثنا يونس الحذاء، عن أبي حمزة البيساني، عن معاذ بن جبل يرفعه، قَالَ: "إن المؤمن لا تسكن روعته، ولا يأمن أضرابه، حتى يخلف جسر جهنم خلف ظهره". خرّجه ابن أبي حاتم، وقال: أبو حمزة مجهول، ويونس الحذاء، قَالَ: وأبو حمزة عن معاذ مرسل، والله أعلم. ***

الباب السابع والعشرون - في ذكر ورود النار نجانا الله منها بفضله ورحمته

الباب السابع والعشرون - في ذكر ورود النار نجانا الله منها بفضله ورحمته قَالَ الله تعالى: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا (71) ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا} [مريم: 71 - 72]. روى إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس بن أبي حازم، قَالَ: بكى عبد الله بن رواحة، فبكت امرأته، فَقَالَ لها: ما يبكيك؟ قالت: رأيتك تبكي فبكيت، قَالَ: إني ذكرت هذه الآية {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} وقد علمت أني داخلها، فلا أدري، أناج منها أم لا؟ (¬1). وروى ابن المبارك (¬2)، عن عباد المنقري، عن بكر المزني، قَالَ: لما نزلت هذه الآية {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} [مريم: 71] ذهب ابن روحة إِلَى بيته فبكى، فجاءت المرأة فبكت، وجاءتِ الخادمُ فبكتْ، وجاء أهل البيت فجعلوا يبكون، فلما انقطعت عبرته قَالَ: يا أهلاه، ما يبكيكم؟ قالوا: لا ندري، ولكنا رأيناك بكيت فبكينا، قَالَ: آية نزلت عَلَى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ينبئني فيها ربي أني وارد النار، ولم ينبئني أني صادر عنها [فذلك الَّذِي أبكاني] (¬3). وقال موسى بن عقبة، في "مغازيه": زعموا أن ابن رواحة بكى حين أراد الخروج إِلَى مؤتة، فبكى أهله حين رأوه يبكي، فَقَالَ: والله ما بكيت [جزعًا] من الموت ولا صبابة لكم، ولكني بكيت [جزعًا] (*) من قول الله عز وجل: ¬

_ (¬1) أخرجه عبد الرازق في "تفسيره" (1779). (¬2) في "الزهد" (309). (¬3) زيادة من الزهد لابن المبارك. (*) من المطبوع.

{وِإن مِّنكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} فأيقنت أني واردها، ولا أدري أنجو منها أم لا؟ (¬1). وقال حفص بن حميد، عن شمر بن عطية: كان عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، إذا قرأ هذه الآية يبكي، ويقول: رب، ممن تنجي؟ أو ممن تذر فيها جثيًّا؟!. وروى أبو إسحاق عن أبي ميسرة أنّه كان إذا أوى إِلَى فراشه، قَالَ: يا ليت أمي لم تلدني، فقالت له امرأته: يا أبا ميسرة، إن الله قد أحسن إليك هداك للإسلام، فَقَالَ: أجل، إن الله يبين لنا أنا واردو النار، ولم يبين لنا أنا صادرون منها. وروينا من طريق سفيان بن حسين، عن الحسن، قَالَ: كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، إذا التقوا يقول الرجل منهم لصاحبه: هل أتاك أنك وارد النار، فيقول: نعم، فيقول: هل أتاك أنك خارج منها؟ فيقول: لا، فيقول: ففيم الضحك إذًا؟ وقال ابن عيينة عن رجل، عن الحسن: قَالَ رجل لأخيه، يا أخي، هل أتاك أنك وارد النار؟ قَالَ: نعم، قَالَ: هل أتاك أنك خارج منها؟ قَالَ، لا، قَالَ: ففيم الضحك إذًا؟ قَالَ: فما رؤي ضاحكًا حتى مات. وقال الإمام أحمد: حدثثا هاشم بن القاسم، حدثنا المبارك بن فضالة، عن الحسن في قوله عز وجل: {وِإن مِّنكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} [مريم: 17] قَالَ: قَالَ رجل لأخيه: قد جاءك عن الله أنك وارد في جهنم؟ قَالَ: نعم، قَالَ: فأيقنت بالورود؟ قَالَ: نعم، قَالَ: فأيقنت وصدقت بذلك؟ قَالَ: نعم، وكيف لا أصدق وقد قَالَ الله عز وجل: {وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كانَ عَلَى رَبِّكَ حَتما مَّقْضِيًّا} [مريم: 71] قَالَ: فأيقنت أنك صادر عنها؟ قَالَ: والله ما أدري لأصدر عنها أم لا؟ قَالَ: ففيم التثاقل ففيم الضحك؟ ففيم اللعب؟ قَالَ أحمد: وحدثنا خلف بن الوليد، أنبأنا المبارك، قَالَ: سمعت الحسن ¬

_ (¬1) أخرجه أبو نعيم في "الحلية" (1/ 118) بنحوه.

يقول: لا والله، إن أصبح فيها مؤمن إلاَّ حزينًا، وكيف لا يحزن المؤمن، وقد جاءه عن الله، أنّه وارد جهنم، ولم يأته أنّه صادر عنها؟ قَالَ أحمد: وأنبأنا حسين بن محمد، حدثنا ابن عياش، عن عبد الله بن دينار، وإن لقمان، قَالَ لابنه: يا بني، كيف يأمن النار من هو واردها؟ وقد اختلف الصحابة ومن بعدهم في تفسير الورود، فقالت طائفة: الورود هو المرور عَلَى الصراط، وهذا قول ابن مسعود وجابر والحسن وقتادة وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم والكلبي وغيرهم. وروى إسرائيل عن السدي، قَالَ: سألت مرة الهمداني، عن قول الله عز وجل: {وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا} فحدثني عن ابن مسعود أنّه حدثهم، قَالَ: قَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يرد الناس النار، ثم يصدرون [منها] (*) بأعمالهم، فأولهم كلمح البرق، ثم كالريح، ثم كحضر الفرس، ثم كالراكب في رحله، ثم كسير الرجل، ثم كمشيه" خرّجه الترمذي (¬1) وقال: حديث حسن. وخرج الإمام أحمد (¬2) أوله، وخرّجه الحاكم (¬3) وقال: صحيح، ورواه شعبة، عن السدي، عن مرة، عن عبد الله موقوفًا، ولم يرفعه شعبة، مع أنّه أقر بأن السدي حدثه به مرفوعًا. قَالَ الدارقطني: يحتمل أن يكون مرفوعًا. قلت: ورواه أسباط، عن مرة الهمداني، عن عبد الله موقوفًا أيضاً، فَقَالَ: يرد الناس الصراط جميعًا، وورودهم قيامهم حول النار، ثم يصدرون عن الصراط بأعمالهم، فمنهم من يمر كالبرق فذكر الحديث بطوله، وفي آخره: حتى إن آخرهم مرَّا، رجل نوره عَلَى إبهامي قدميه، يتكفأ به الصراط ¬

_ (*) من سنن الترمذي. (¬1) برقم (3159) وقال أيضاً: ورواه شعبة عن السدي، فلم يرفعه. (¬2) (1/ 433) موقوفًا عن عبد الله بن مسعود، قَالَ عبد الله بن أحمد: قلت له: إسرائيل حدثه عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم قَالَ: نعم هو عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم أو كلامًا هذا معناه. وأخرجه أيضًا (1/ 435) موقوفًا. (¬3) في "المستدرك" (2/ 375).

والصراط دحض مزلة، عليه حسك كحسك القتاد، حافتاه ملائكة معهم كلاليب من نار، يختطفون بها الناس وذكر بقية الحديث، خرّجه ابن أبي حاتم (¬1). ورواه الحكم بن ظهير عن السدي، عن مرة، عن عبد الله، فرفع آخر الحديث، ولفظ حديثه قَالَ عبد الله: الورود ليس بالدخول فيها، ولكنه حضورها والوقوف عليها، مثل الدابة ترد الماء ولا تدخله، ثم قَالَ عبد الله: قَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يضع الله الصراط عَلَى جهنم، فيجوز العباد عليه وذكر الحديث بطوله، وفي آخره: ولو قيل لأهل النار: إنكم ماكثون في النار عدد كل حصاة في الدُّنْيَا سنة لرجوا، وقالوا: لا بد أنا مخرجون، ولو قيل لأهل الجنة: إنكم ماكثون في الجنة عدد كل حصاة في الدُّنْيَا سنة حزنوا، وقالوا: لا بد أنا مخرجون، ولكن الله جعل لهم الأبد، ولم يجعل لهم الأمد. والحكم بن ظهير ضعيف. ولعل هذا الكلام في آخر الحديث موقوف عَلَى ابن مسعود، فإنه روى عنه موقوفًا، من وجه آخر بإسناد جيد. قَالَ أبو الحسن بن البراء العبدي في كتاب "الروضة" له: حدثنا أحمد بن خالد هو الخلال، حدثنا عثمان بن عمر، أنبأنا إسرائيل، عن أبي إسحاق عن عمرو بن ميمون، عن عبد الله، قَالَ: لو أن أهل جهنم وعدوا يومًا من أبد أو عدد أيام الدُّنْيَا لفرحوا بذلك اليوم، لأنّ كل ما هو آت قريب. وقد رُوي أول الحديث من طريق أبي إسحاق موقوفًا أيضاً لكن بمخالفة في الإسناد. فروى عمرو بن طلحة القناد عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص، عن عبد الله {وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا}: قَالَ: الصراط عَلَى جهنم مثل حد السيف، فتمر الطائفة الأولى كالبرق، والثانية كالريح، والثالثة كأجود الخيل، والرابعة كأجود الإبل والبهائم، ثم يمرون والملائكة يَقُولُونَ: رب سلم سلم. ¬

_ (¬1) انظر تفسير ابن كثير (3/ 133) فقد أورده عن السدي عن مرة عن عبد الله بن مسعود، وعزاه لابن أبي حاتم.

خرّجه الحاكم (¬1) وقال: صحيح عَلَى شرط الشيخين. وكذا خرّجه آدم بن أبي إياس في "تفسيره" عن إسرائيل. وخرج مسلم في صحيحه (¬2) من حديث روح بن عبادة، أنبأنا ابن جريج، أخبرني أبو الزبير، أنّه سمع جابر بن عبد الله يسأل عن الورود، فَقَالَ: نحن (يوم القيامة عن كذا وكذا، انظر أي ذلك فوق الناس) (*)، قَالَ فتدعى الأمم بأوثانها وما كانت تعبد الأول فالأول، ثم يأتينا ربنا بعد ذلك، فيقول: من تنتظرون؟ فنقول: ننتظر ربنا، فيقول: أنا ربكم، فيَقُولُونَ: حتى ننظر إليك، فيتجلى لهم يضحك، قَالَ: فينطلق بهم ويتبعونه، ويعطي كل إنسان منهم منافق أو مؤمن نورًا، ثم يتبعونه وعلى جسر جهنم كلاليب وحسك تأخذ من شاء الله، ثم يطفأ نور المنافقين، ثم ينجو المؤمنون، فينجو أول زمرة وجوههم كالقمر، وذكر بقية الحديث. كذا خرّجه مسلم عن عبيد الله بن سعيد -وهو الأشج- وإسحاق بن منصور، وكلاهما عن روح به. وخرّجه الإمام أحمد (¬3)، عن روح به، وزاد فيه بعد قوله: فيتجلى لهم ¬

_ (¬1) في "المستدرك" (2/ 375 - 376)، وأورد ابن كثير في "تفسير" (3/ 133) رواية الطبري من طريق النضر حدثنا إسرائيل به. وقال ابن كثير: ولهذا شواهد في الصحيحين وغيرهما من رواية أنس، وأبي سعيد، وأبي هريرة، وجابر موقوفًا، وغيرهم من الصحابة رضي الله عنهم. (¬2) برقم (191). (*) قَالَ النّووي عن هذه العبارة: هكذا وقع هذا اللفظ في جميع الأصول من صحيح مسلم، واتفق المتقدمون والمتأخرون عَلَى أنّه تصحيف وتغسر واختلاط في اللفظ. قَالَ الحافظ عبد الحق في كتابه "الجمع بين الصحيحين". هذا الَّذِي وقع في كتاب مسلم تخليط من أحد الناسخين أو كيف كان. وقال القاضي عياض: هذه صورة الحديث في جميع النسخ، وفيه تغيير كثير وتصحيف، قَالَ: وصوابه: "نجيء يوم القيامة عَلَى كوم ... ". وانظر كلام ابن رجب في الصفحة القادمة. (¬3) (3/ 283).

يضحك قَالَ: سمعت النبيّ صلّى الله عليه وسلم، قال "فينطلق بهم فيتبعونه"، وساق الحديث، فجعله من هذا الموضع مرفوعًا، وما قبله موقوفًا. وقد روى محمد بن شرحبيل الصنعاني عن ابن جريح هذا الحديث، فرفع أوله أيضًا وهو ذكر التجلي والضحك. ورواه عبد الرزاق، عن رباح بن زيد، عن ابن جريج، عن زياد بن سعد، عن أبي الزبير، عن جابر، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم في ذكر التجلي. ورُوي عنه الحديث كله أيضاً بهذا الإسناد. وهذا يدل عَلَى أن أول الحديث لم يكن عند ابن جريج عن أبي الزبير مرفوعًا، وإنما كان عنده كله مرفوعًا، [عن زياد بن سعد، عن أبي الزبير. وكذلك رواه أبو قرة، عن مالك، عن زياد بن سعد، عن أبي الزبير، عن جابر، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم، قَالَ: "إذا كان يوم القيامة جمعت الأمم" فذكره كله مرفوعًا (*)] (¬1). وكذا رواه ابن لهيعة، عن أبي الزبير، قَالَ سمعت جابرًا يسأل عن الورود، فَقَالَ: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: "نحن يوم القيامة عَلَى كوم" (¬2) وذكر الحديث كله مرفوعًا، وفي حديثه زيادة بعد قوله: "ويعطى كل إنسان منهم منافق ¬

_ (*) ما بين المعقوفتين من المطبوع. (¬1) أخرج أبو نعيم في "ذكر أخبار أصبهان" (1/ 91) من طريق ابن جريج، أنا زياد ابن سعد به. ولفظه: "إذا كان يوم القيامة جمعت الأمم ودُعي كل أناس بإمامهم، جئنا آخر الناس، فيقول قائل الناس: من هذه الأمة؟ ... الحديث". (¬2) أخرجه الطبراني في "الأوسط" (9075) من طرق عن ابن لهيعة به .. فذكره. وقال ابن كثير في "تفسيره" (1/ 192): وروى الحافظ أبو بر بن مردويه وابن أبي حاتم من حديث عبد الواحد بن زياد، عن أبي مالك الأشجعي، عن المغيرة بن عتيبة بن نهاس، حدثني مكتب لنا، عن جابر بن عبد الله، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم قَالَ: "أنا وأمتي يوم القيامة عَلَى كوم مشرفين عَلَى الخلائق ما من الناس أحد إلاَّ ود أنّه منا، وما من نبي كذبه قومه إلاَّ ونحن نشهد أنّه قد بلغ رسالة ربه عز وجل".

أو مؤمن نورًا أو يغشاه ظلمة". وقوله في هذه الرواية: "نحن يوم القيامة عَلَى كوم" هذه الرواية الصحيحة. وأما ما ورد في رواية روح، عن ابن جريج، عن كذا وكذا، فإن أصله تصحيف من الراوي للفظة "كوم" فكتب عليه كذا وكذا، لإشكال فهمه عليه، ثم كتب انظر، أي ذلك يأمر الناظر فيه بالتروي والفكر في صحة لفظه، فأدخل ذلك كله في الرواية قديمًا، ولم يقع ذلك من نسخ "صحيح مسلم" كما يظنه بعضهم فإن الحديث في مسند الإمام أحمد (¬1) وكتاب "السنة" لابنه عبد الله (¬2) كذلك. وخرّجه الطبراني في كتاب "السنة"، من طريق أبي عاصم، عن ابن جريج، أخبرني أبو الزبير، أنّه سمع جابرًا يسأل عن الورود، فَقَالَ: نحن يوم القيامة عَلَى كوم فوق الناس، فتدعى الأمم بأوثانها وذكر الحديث إِلَى قوله: فيتجلى لهم يضحك قَالَ: فسمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: "حتى يبدو كذا وكذا، فينطلق بهم ويتبعونه" وذكر الحديث بتمامه. وفي سياقه أيضًا "وتغشى المنافقين ظلمة"، فظهر بهذه الرواية أن الشك والتصحيف إِنَّمَا جاء من جهة روح ابن عبادة ولعله وقع في كتابه كذلك، فحدث به كما في كتابه، والله أعلم. لكن قد رواه محمد بن يحيى المازني عن ابن جريج، كما رواه عنه روح. خرّجه من طريقه الخلال. ومما يستدل به عَلَى أن الورود ليس هو الدخول ما خرّجه مسلم (¬3)، من حديث أبي الزبير، عن جابر، قَالَ: أخبرتني أم مبشر، أنها سمعت النبيّ صلّى الله عليه وسلم يقول عند حفصة: "لا يدخل النار إن شاء الله من أصحاب الشجرة أحد الذين بايعوا تحتها" قالت: بلى يا رسول الله، فانتهرها، فقالت حفصة: {وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ ¬

_ (¬1) (3/ 345). (¬2) برقم (457). (¬3) برقم (2496).

وَارِدُهَا} [مريم: 71] فَقَالَ النبيّ صلّى الله عليه وسلم: قد قَالَ الله عز وجل: {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا} [مريم: 72]. ورواه الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر، عن أم مبشر بنحوه (¬1). وفي بعض روايات الأعمش: فَقَالَ رسول الله صلّى الله عليه وسلم: "يردونها، ثم يصدرون عنها بالأعمال". وقالت طائفة: الورود هو الدخول، وهذا هو المعروف عن ابن عباس (¬2): رُوي عنه من غير وجه، وكان يستدل لذلك بقوله تعالى في فرعون: {يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ} [هود: 98]. وبقوله: {وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا} [مريم: 86]. وكذلك قوله تعالى: {لَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا} [الأنبياء: 99]. وقد سبق عن عبد الله بن رواحة نحو هذا، إلاَّ أن الروايات عنه منقطعة. وروى مسلم الأعور عن مجاهد "وإن منكم إلاَّ واردها" قَالَ: داخلها. وسئل كعب عن الورود المذكور فى الآية، فَقَالَ: تمسك النار عن الناس، كأنها متن إهالة، حتى تسوى عليها أقدام الخلق كلهم برهم وفاجرهم، ثم يقول لها الرب عز وجل: خذي أصحابك ودعي أصحابي، فتخسف بكل ولي لها، وينجي الله المؤمنين ندية ثيابهم. قَالَ كعب: ألم تر إِلَى القدر الكثيرة الودك إذا بردت استوت بيضاء كالشحم؟ فإذا أوقدن النار تحتها انخسف الودك في القدر من هاهنا وهاهنا (¬3). ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد (6/ 362) من هذا الطريق قالت أم مبشر -امرأة زيد بن حارثة- كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بيت حفصة فَقَالَ: "لا يدخل النار أحد شهد بدر أو الحديبية". قالت حفصة: أليس الله عز رجل يقول: {وِإن مِّنكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} [مريم: 71] قالت: قَالَ رسول الله صلّى الله عليه وسلم: "فمه، ثم ننجي الذين اتقوا". (¬2) أخرجه الطبري (16/ 110) من طريق مجاهد عنه. (¬3) أخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفة" (7/ 55) برقم (34172)، وأبو نعيم في "الحلية" (5/ 368)، والبيهقي في "الشعب" (372) مع اختلاف في بعض الألفاظ.

وفي رواية عنه قَالَ: فهي أعرف بهم من الوالد بولده. وقال ثور بن يزيد، عن خالد بن معدان: إذا دخل أهل الجنة الجنة، قالوا: ألم يعدنا ربنا أنا نرد النار؟ قالوا: بلى، ولكن مررتم عليها وهي خامدة. وفي رواية عنه قَالَ: إذا جاز المؤمنون الصراط نادى بعضهم بعضًا: ألم يعدنا ربنا أن نمر عَلَى جسر جهنم؟. قَالَ: فيقول: بلى ولكن مررتم عليها وهي خامدة. وقال مسكين: سمعت أشعث الحداني يقول: بلغني أن أهل الإيمان إذا مروا بصراط جهنم، قَالَ: تقول لهم جهنم: جوزوا عني، قد بردتم وهجي، ذروني وأهلي. ولكن هذا والذي قبله قد يدلان عَلَى أن الورود هو المرور عَلَى الصراط كالقول الأول. وروى كثير بن زياد البرساني، عن أبي سمية، قَالَ: اختلفنا في الورود، فَقَالَ بعضنا: لا يدخلها مؤمن. وقال بعضهم: يدخلونها جميعًا، وينجي الله الذين اتقوا، فلقيت جابر بن عبد الله، فقلت له: إنا اختلفنا في الورود، فَقَالَ [بعضنا] (¬1) يردونها جميعًا. وقال سليم بن مرة: يدخلونها، وقال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "لا يبقى بر ولا فاجر إلاَّ دخلها، فتكون عَلَى المؤمنين بردًا وسلامًا كما كانت عَلَى إبراهيم، حتى إن للنار ضجيجًا من بردهم، ثم ينجي الله الذين اتقوا ويذر الظالمين فيها جثيًّا خرّجه الإمام أحمد (¬2)، وأبو سمية لا ندري من هو. وفي الصحيحين (¬3)، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم، قَالَ: ¬

_ (¬1) من المسند. (¬2) (3/ 328) قَالَ: ثنا سليمان بن حرب، ثنا غالب بن سليمان أبو صالح، عن كثير بن زياد البرساني به ... الحديث. (¬3) أخرجه البخاري (1251) ومسلم (2632).

"لا يموت لأحد من المسلمين ثلاثة من الولد، فتمسه النار، إلاَّ تحلة القسم". وقد فسر عبد الرزاق وغيره تحلة القسم بالورورد لقوله: {وِإن مِّنكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا}. وظاهر هذا يقتضي أن الورود هو مس النار. وفي رواية: "فيلج النار إلاَّ تحلة القسم" (¬1) فجعله مستثنى من ولوجها. وروى عبد الملك بن عمير، عن عبد الرحمن بن بشير الأنصاري، قَالَ: قَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من مات له ثلاثة أولاد، لم يبلغوا الحنث، لم يرد النار إلاَّ عابر سبيل" (¬2). وخرج الإمام أحمد (¬3)، من حديث ابن لهيعة ورشدين بن سعد، كلاهما عن زبان بن فائد، عن سهل بن معاذ بن أنس، عن أبيه، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم، قَالَ: "من حرس وراء المسلمين في سبيل الله متطوعًا، لا يأخذه سلطان، لم يرد النار إلاَّ تحلة القسم"، فإن الله يقول: {وِإن مِّنكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} إسناده ضعيف. وخرج الطبراني (¬4)، من حديث الواقدي، حدثنا شعيب بن طلحة بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر، حدثنا أبي، عن أبيه، عن جده، عن أبيه أبي بكر الصديق، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم، قَالَ: "إِنَّمَا حر جهنم عَلَى أمتي كحر الحمام". الواقدي متروك. وروى منصور بن عمار، عن بشير بن طلحة، عن خالد بن دريك، عن يعلى بن منية، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم: "تقول جهنم للمؤمن: جز يا مؤمن فقد أطفأ نورك لهبي" (¬5) غريب وفيه نكارة. ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (2632). (¬2) ذكره الهيثمي في المجمع (3/ 6 - 7) وقال: ورجاله موثقون خلا شيخ الطبراني أحمد بن مسعود المقدسي، ولم أجد من ترجمه. (¬3) (3/ 437) قَالَ الهيثمي في المجمع (5/ 287 - 288): رواه أحمد وأبو يعلي والطبراني، وفي أحد إسنادي أحمد ابن لهيعة، وهو أحسن حالاً من رشدين. (¬4) في "الأوسط" برقم (6603). وقال الهيثمي في المجمع (10/ 360): وفيه محمد بن عمر الواقدي، وهو ضعيف جدًّا. (¬5) أخرجه الطبراني في "الكبير" (22/ 668)، والبيهفي في "الشعب" (375) =

وقد فسر بعضهم الورود بالحمى في الدُّنْيَا، روى مجاهد وعثمان بن الأسود، وفيه حديث مرفوع: الحمى حظ المؤمن من النار. وإسناده ضعيف. وقالت طائفة: الورود: ليس عامًا، وإنما هو خاص بالمحضرين حوله جهنم، المذكورين في قوله تعالى: {فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا} إِلَى قوله: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} [مريم: 68: 71]: كأنه يقال لهؤلاء الموصوفين: وإن منكم إلاَّ واردها. رُوي هذا التأويل عن زيد بن أسلم، وهو بعيد جدًّا. وعن عكرمة، أنّه كان يقرأ: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} ويقول: الضمير يعود إِلَى الظلمة، كذلك كنا نقرؤها. ورُوي هذا القول، من ابن عباس من وجه منقطع. والصحيح عنه ما سبق. ¬

_ =وقال: تفرد به سليم بن منصور، وهو منكر. وأخرجه أبو نعيم في "الحلية" (9/ 329) من طريق محمد بن جعفر -صاحب منصور بن عمار- ثنا بشير بن طلحة به. وقال أبو نعيم: حدثنا سليمان بن أحمد ثنا عَلَى بن سعيد الرازى، ثنا سليم بن منصور بن عمار، ثنا أبي مثله. وأخرجه الخطيب في "تاريخه" (5/ 193) وقال: هكذا قَالَ -أي أبو السري- عن منصور بن عمار عن خالد بن دريك. وروى هذا الحديث سليم بن منصور بن عمار، عن أبيه، واختلف عليه، فَقَالَ إسحاق بن الحسن الحربي، عن سليم عن أبيه، عن بشير بن طلحة، عن خالد بن دريك، عن يعلى، ورواه أحمد بن الحسين بن إسحاق الصوفي، عن سليم، عن أبيه، عن هقل بن زياد، عن الأوزاعي، عن خالد بن الدريك، عن بشير بن طلحة، عن يعلي بن منية، والله أعلم. وأخرجه الخطيب أيضاً (9/ 232) وذكر خلافًا أيضًا. وقال الهيثمي في المجمع (10/ 360): رواه الطبراني وفيه سليم بن منصور بن عمار وهو ضعيف. وقال العجلوني في "كشف الخفاء" (1/ 373 - 374). رواه الطبراني في "الكبير" عن يعلي بن منية رفعه، وفي سنده منصور بن عمار الواعظ ليس بالقوي، ورواه ابن عدي عن يعلى، وقال: منكر.

فصل إذا وقف العبد بين يدي الله تستقبله النار

فصل إذا وقف العبد بين يدي الله تستقبله النار وقد أخبر النبيّ صلّى الله عليه وسلم: أن العبد إذا وقف بين يدي ربه للحساب، فإنه تستقبله النار تلقاء وجهه، وأخبر أن الصدقة تقي صاحبها من النار. ففي الصحيحين (¬1) عن عدي بن حاتم، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم، قَالَ: "ما منكم من أحد إلاَّ سيكلمه ربه، ليس بينه وبينه ترجمان، فينظر أيمن منه، فلا يرى إلاَّ ما قدم، وينظر أشأم منه، فلا يرى إلاَّ ما قدم، وينظر بين يديه، فلا يرى إلاَّ النار تلقاء وجهه، فاتقوا النار ولو بشق تمرة". وفي "صحيح مسلم" (¬2) عنه، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم، قَالَ: "من استطاع منكم، أن يستتر من النار، ولو بشق تمرة، فليفعل". وفي "صحيح البخاري" (¬3) عنه، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم، قَالَ: "ليقفن أحدكم، بين يدي الله عز وجل، ليس بينه وبينه حجاب، ولا ترجمان يترجم له، ثم ليقولن له: ألم أوتك مالاً؟ فليقولن: بلى، ثم ليقولن: ألم أرسل إليك رسولاً؟ فيقولن: "بلى، فينظر عن يمينه، فلا يرى إلاَّ النار، ثم ينظر عَلَى شماله، فلا يرى إلاَّ النار، فليتقين أحدكم النار، ولو بشق تمرة، فإن لم يجد، فبكلمة طيبة". وفي حديث عبد الرحمن بن سمرة، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم، أنّه خرج يومًا، فقال: "رأيت الليلة عجبًا، فذكر حديثًا طويلاً وفيه: ورأيت رجلاً من أمتي، يتقي وهج النار وشررها بيديه من وجهه، فجاءته صدقته، فصارت سترًا عَلَى رأسه، وظلاًّ عَلَى وجهه" (¬4). ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه. (¬2) برقم (1016). (¬3) برقم (1413). (¬4) تقدم تخريجه.

الباب الثامن والعشرون في ذكر حال الموحدين في النار وخروجهم منها برحمة أرحم الراحمين وشفاعة الشافعين

الباب الثامن والعشرون في ذكر حال الموحدين في النار وخروجهم منها برحمة أرحم الراحمين وشفاعة الشافعين قد تقدم في الأحاديث الصحيحة، أن الموحدين يمرون عَلَى الصراط فينجو منهم من ينج، ويقع منهم من يقع في النار، فَإِذَا دخل أهل الجنة الجنّة، فقدوا من وقع من إخوانهم الموحدين في النار، فيسألون الله عز وجل إخراجهم منها. روى زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدري، عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، في حديث طويل سبق منه ذكر المرور عَلَى الصراط، ثم قَالَ: "حتى إذا خلص المؤمنون من النار، فوالَّذِي نفسي بيده، ما من أحد منكم، بأشد مناشدة لله، في استيفاء الحق من المؤمنين يوم القيامة لإخوانهم الذين في النار، يَقُولُونَ: ربنا كانوا يصومون ويصلون معنا ويحجون، فيقال لهم: أخرجوا من عرفتم، فتحرم صورهم عَلَى النار، فيُخرجون خلقا كثيرًا، قد أخذت النار إِلَى أنصاف ساقيه وإلى ركبتيه، فيَقُولُونَ: ربنا ما بقي فيها أحد ممن أمرتنا به، فيقول لهم: ارجعوا، فمن وجدتم في قلبه مثقال دينار من خير فأخرجوه، فيخرجون خلقا كثيرًا، ثم يَقُولُونَ: ربنا لم نذر فيها ممن أمرتنا به أحدًا، فيقول: ارجعوا، فمن وجدتم في قلبه مثقال نصف دينار من خير فأخرجوه، فيخرجون خلقًا كثيرًا، ثم يَقُولُونَ: ربنا لم نذر فيها ممن أمرتنا أحدًا، فيقول: ارجعوا، فمن وجدتم في قلبه مثقال ذرة من خير فأخرجوه، فيخرجون خلقًا كثيرًا، ثم يَقُولُونَ: ربنا لم نذر فيها خيرًا. وكان أبو سعيد يقول: إن لم تصدقوني بهذا الحديث، فاقرءوا إن شئتم: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 40]. فيقول الله عز وجل: "شفعت الملائكة، وشفع النبيون، وشفع المؤمنون، ولم

يبق إلاَّ أرحم الراحمين، فيقبض قبضة من النار، فيخرج بها قومًا لم يعملوا خيرًا قط، قد عادوا حممًا، فيلقيهم في نهر في أفواه الجنة، يقال له نهر الحياة، فيخرجون كما تخرج الحبة في حميل السيل"، وذكر بقية الحديث. خرجاه في الصحيحين (¬1)، ولفظه لمسلم. والمراد بقوله: "لم يعملوا خيرًا قط" من أعمال الجوارح، وإن كان أصل التوحيد معهم، ولهذا جاء في حديث الَّذِي أمر أهله أن يحرقوه بعد موته بالنار، إنه لم يعمل خيرًا قط غير التوحيد. خرجه الإمام أحمد، من حديث أبي هريرة مرفوعًا (¬2)، ومن حديث ابن مسعود موقوفًا (¬3). ويشهد لهذا ما في حديث أنس، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، في حديث الشفاعة، قَالَ: فأقول: "يا رب، ائذن لي فيمن يقول لا إله إلاَّ الله، فيقول: "وعزتي وجلالي، وكبريائي وعظمتي، لأخرجن من النار من قَالَ: لا إله إلاَّ الله". خرجاه في الصحيحين (¬4). وعند مسلم: (¬5) "فيقول: ليس ذلك لك، أو ليس ذلك إليك". وهذا يدل عَلَى أن الذين يخرجهم الله برحمته، من غير شفاعة مخلوق، هم أهل كلمة التوحيد، الذين لم يعملوا معها خيرًا قط بجوارحهم، والله أعلم. وروى أبو الهيثم، عن أبي سعيد الخدري، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: "يوضع الصراط بين ظهراني جهنم، عليه حسك كحسك السعدان، ثم يستجيز الناس، فناج مسلم، ومجروح به ناج، ومحتبس منكوس فيها، فَإِذَا فرغ الله من القضاء بين العباد، وتفقد المؤمنون رجالاً في الدُّنْيَا، كانوا يصلون بصلاتهم، ويزكون بزكاتهم، ويصومون بصيامهم، ويحجون بحجهم، ويغزون بغزوهم، فيَقُولُونَ: أي ربنا، عباد ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (4581)، ومسلم (183). (¬2) في "المسند" (2/ 269)، وأخرجه البخاري (348)، ومسلم (2756). (¬3) في "المسند" (1/ 398). (¬4) أخرجه (7510)، ومسلم (193/ 326). (¬5) برقم (193/ 326).

من عبادك، كانوا معنا في الدُّنْيَا، يصلون بصلاتنا، ويزكون زكاتنا، ويصومون صيامنا، ويحجون حجنا، ويغزون غزونا لا نراهم"؟ قَالَ الله عز وجل: اذهبوا إِلَى النار، [فمن وجدتموه فيها، فأخرجوه، قَالَ: فيجدونهم، وقد أخذتهم النار] (*) عَلَى قدر أعمالهم، فمنهم من أخذته إِلَى قدميه، منهم من أخذته إِلَى ركبتيه، ومنهم من [أخذته] (**) إِلَى أزرته، ومنهم من أخذته إِلَى ثدييه، ومنهم من أخذته إِلَى عنقه، ولم تغش الوجوه، قَالَ: فيستخرجونهم، ثم يطرحون في ماء الحياة. قيل: يا نبي الله، وما ماء الحياة؟ قَالَ: غسل أهل الجنة قَالَ: فينبتون فيها، كما تنبت الزرعة في غثاء السيل، ثم تشفع الأنبياء، في كل من كان يشهد أن لا إله إلاَّ الله مخلصًا، فيستخرجونهم منها، ثم يتحنن الله برحمته، عَلَى من فيها، فما يترك فيها عبدًا، في قلبه مثقال ذرة من الإيمان، إلاَّ أخرجه منها". خرّجه الحاكم (¬1)، وقال: صحيح الإسناد. وخرجاه في الصحيحين (¬2)، من حديث مالك، عن عمرو بن يحيى المازني، عن أبيه، عن أبي سعيد الخدري، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم، قَالَ: "يدخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار، ثم يقول الله عز وجل: أخرجوا من كان في قلبه مثقال ذرة -أو حبة من خردل- من إيمان، فيخرجون منها، قد اسودوا، فيلقون في نهر الحياة أو الحياء شك مالك فينبتون، كما تنبت الحبة في جانب السيل، ألم تر أنها تخرج صفراء ملتوية؟ ". ولفظه للبخاري. وعند مسلم: "فيخرجون منها حممًا قد امتحشوا". وفي الصحيحين (¬3) أيضاً، عن الزهري، عن عطاء بن يسار، عن أبي هريرة، ¬

_ (*) من المستدرك. (**) من المطبوع. (¬1) في "المستدرك" (4/ 585 - 586) وقال: صحيح عَلَى شرط مسلم، ولم يخرجاه. (¬2) أخرجه البخاري (22)، ومسلم (184). (¬3) أخرجه البخاري (806)، ومسلم (182).

عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: "يجمع الله الناس يوم القيامة، فذكر الحديث بطوله، وفيه ذكر جواز الناس عَلَى الصراط، ثم قَالَ: حتى إذا فرغ الله من القضاء بين العباد، وأراد أن يخرج برحمته من أراد من أهل الكبائر من النار، أمر الملائكة أن يخرجوا من النار من كان لا يشرك بالله شيئًا، ممن دخل النار، [يعرفونهم] (*) بأثر السجود، تأكل النار من ابن آدم إلاَّ أثر السجود، حرم الله عَلَى النار أن تأكل أثر السجود، فيخرجون من النار، قد امتحشوا، فيصب عليهم ماء الحياة، فينبتون منه، كما تنبت الحبة في حميل السيل" وذكر بقية الحديث. وخرج مسلم (¬1)، من حديث يزيد الفقير، عن جابر، قَالَ: قَالَ: رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن قومًا يخرجون من النار، يحترقون فيها، إلاَّ دارات وجوههم، حتى يدخلوا الجنة". وخرج أيضاً (¬2)، من حديث أبي نضرة، عن أبي سعيد، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم، قَالَ: "أما أهل النار، الذين هم أهلها، فلا يموتون فيها ولا يحيون، ولكن ناس أصابتهم النار بذنوبهم -أو قال بخطاياهم- فأماتهم الله إماتة، حتى إذا كانوا فحمًا، أذن في الشفاعة، فجيء بهم ضبابير ضبابير، فبثوا عَلَى أنهار الجنة، ثم قيل: يا أهل الجنة: أفيضوا عليهم، فينبتون نبات الحبة في حميل السيل". وظاهر الحديث، يدل عَلَى أن هؤلاء يموتون حقيقة، وتفارق أرواحهم أجسادهم. ويدل عَلَى ذلك، ما خرّجه البزار (¬3)، من حديث عبد الله بن رجاء، حدثنا سعيد بن مسلمة، أنبأنا موسى بن جبير، عن أبي أمامة بن سهل، عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: "إن أدنى أهل الجنة حظًّا -أو نصيبًا- قوم يخرجهم الله من النار، فيرتاح لهم الرب تعالى، إنهم كانوا لا يشركون بالله شيئًا، فينبذون بالعراء، فينبتون كما ينبت البقل، حتى إذا دخلت الأرواح أجسادهم، قالوا: ربنا، كما ¬

_ (*) من الصحيحين. (¬1) برقم (191/ 319). (¬2) برقم (185). (¬3) برقم (3554 - كشف)، وقال الهيثمي (10/ 401): رجاله ثقات.

أخرجتنا من النار، ورجعت الأرواح إِلَى أجسادنا، فاصرف وجوهنا في النار، فتصرف وجوههم عن النار". وروى مسكين أبو فاطمة، حدثني اليمان بن يزيد، عن محمد بن حمير، عن محمد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم: "إن أصحاب الكبائر، من موحدي الأمم كلها، إذا ماتوا عَلَى كبائرهم، غير نادمين ولا تائبين، من دخل النار منهم، في الباب الأول من جهنم، لا تزرق أعينهم، ولا تسود وجوههم، ولا يقرنون بالشياطين، ولا يغلون بالسلاسل، ولا يجرعون الحميم، ولا يلبسون القطران في النار، حرم الله أجسادهم عَلَى الخلود من أجل التوحيد، وصورهم عَلَى النار من أجل السجود، منهم من تأخذه النار إِلَى قدميه، ومنهم من تأخذه النار إِلَى حجزته، ومنهم من تأخذه النار إِلَى عنقه، عَلَى قدر ذنوبهم وأعمالهم، ومنهم من يمكث فيها شهرًا، ثم يخرج: ومنهم من يمكث فيها سنة، ثم يخرج منها، وأطولهم فيها مكثًا، بقدر الدُّنْيَا منذ يوم خلقت إِلَى أن تفنى، فَإِذَا أراد الله أن يخرجوا منها، قالت اليهود والنصارى ومن في النار من أهل الأديان والأوثان لمن في النار من أهل التوحيد: آمنتم بالله وكتبه ورسله، فنحن وأنتم اليوم في النار سواء، فيغضب الله لهم غضبًا لم يغضبه لشيء مما مضى، فيخرجهم إِلَى عين في الجنة، وهو قوله تعالى: {رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ} [الحجر: 2]: خرّجه ابن أبي حاتم وغيره. وخرّجه الإسماعيلي مطولاً. وقال الدارقطني في كتاب "المختلق" هو حديث منكر، واليمان مجهول، ومسكين ضعيف، ومحمد بن حمير لا أعرفه إلاَّ في هذا الحديث. انتهى. وقد سبق حديث أنس، في الَّذِي ينادي في النار ألف سنة: يا حنان يا منان ثم يخرج منها. وروينا من طريق محمد بن معاوية، حدثنا حازم، عن الحسن، قَالَ: أهل التوحيد في النار لا يقيدون، فتقول الخزنة بعضهم لبعض: ما بال هؤلاء يقيدون وهؤلاء لا يقيدون؟! فناداهم مناد: إن هؤلاء كانوا يمشون في ظلام الليل إِلَى المساجد. وقال مروان بن معاوية، عن مالك بن أبي الحسن، عن الحسن، قَالَ: يخرج رجل من النار بعد ألف عام، قَالَ الحسن: ليتني ذلك الرجل.

فصل حسن الظن بالله تعالى

فصل حسن الظن بالله تعالى قَالَ أحمد بن أبي الحواري: دخلت عَلَى أبي سليمان وهو يبكي، فقلت: ما يبكيك؟ قَالَ: لئن طالبني بذنوبي لأطالبنه بعفوه، ولئن طالبني ببخلي لأطالبنه بجوده، ولئن أدخلني النار لأخبرن أهل النار أني كنت أحبه. وروى ابن أبي الدُّنْيَا في كتاب حسن الظن بالله" (¬1) بإسناده، عن علي بن بكار، أنّه سئل عن حسن الظن بالله، قَالَ: أن لا يجمعنك والفجار دار واحدة. وعن سليمان بن الحكم بن عوانة، وإن رجلاً دعا بعرفات، فَقَالَ: لا تعذبنا بالنار بعد أن أسكنت توحيدك قلوبنا. قَالَ: ثم بكى، وقال: ما إخالك تفعل بعفوك، ثم بكى، وقال: ولئن فعلت: فبذنوبنا. لا تجمعن بيننا وبين أقوام ظلماء، عاديناهم فيك (¬2). وعن حكيم بن جابر، قَالَ: قَالَ إبراهيم عليه السلام: اللهم لا تشرك من كان يشرك بك بمن كان لا يشرك بك. قَالَ ابن أبي الدُّنْيَا (¬3): وحدثني أبو حفص الصيرفي، وإن عمر بن [ذر] (*)، رضي الله عنه، كان إذا تلا: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ} ¬

_ (¬1) برقم (12). (¬2) أخرجه ابن أبي الدُّنْيَا في "حسن الظن بالله" (12). (*) في الأصل والمطبوع (الخطاب) وهو خطأ، والتصويب من كتاب "حسن الظن بالله"، وأبو حفص هنا هو الصيرفي شيخ ابن أبي الدُّنْيَا، وهي كنية عمر بن الخطاب -رضي الله عنه أيضاً، فظن بعض النساخ أنّه أمير المؤمنين عمر، والله أعلم. (¬3) في كتاب "حسن الظن بالله" (15).

[النحل: 38] قَالَ: "ونحن نقسم بالله جهد أيماننا، ليبعثن الله من يموت، أتراك تجمع بين القسمين في دار واحدة"؟! ثم بكى أبو حفص بكاء شديدًا. وروى أبو نعيم بإسناده، عن عون بن عبد الله، قَالَ: "ما كان الله لينقذنا من شر، ثم يعيدنا فيه: {وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا} [آل عمران: 103] وما كان الله ليجمع أهل قسمين في النار: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ} [النحل: 38]، ونحن نقسم بالله جهد أيماننا ليبعثن الله من يموت. وقال محمد بن إسحاق السراج: أنبأنا حماد بن المؤمل الكلبي، حدثني بعض أصحابنا، عن ابن السماك، قَالَ: لما طلبني هارون الرشيد قَالَ: تكلم وادع، فدعوت بدعاء فأعجبه، وقلت في دعائي: اللهم إنك قلت: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ} [النحل: 38] اللهم إنا نقسم بالله جهد أيماننا لتبعثن من يموت، أفتراك يا رب، تجمع بين أهل القسمين في مكان واحد؟ وهارون يبكي. ***

الباب التاسع والعشرون في ذكر أكثر أهل النار

الباب التاسع والعشرون في ذكر أكثر أهل النار أهل النار الذين هم أهلها عَلَى الحقيقة، هم الذين يخلدون فيها، ولهم أعدت، كما قَالَ تعالى: {أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [القرآن: 24]. وقد ذكرنا فيما تقدم، حديث أبي سعيد، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم، قَالَ: "أما أهل النار الذين هم أهلها، فلا يموتون فيها، ولا يحيون". وهؤلاء أهلها الخالدون فيها، هم أكثر ممن يدخلها من عصاة الموحدين، الذين يخرجون منها بعد أن يهذبوا وينقوا. ويدل عَلَى ذلك ما روى أبو سعيد الخدري، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم، قَالَ: "يقول الله عز وجل يوم القيامة: يا آدم، فيقول: لبيك وسعديك، فَيُنَادَى بصوت، إن الله يأمرك أن تخرج بعث النار، قَالَ: يا رب، وما بعث النار؟ قَالَ: "من كل ألف، أراه قَالَ: تسعمائة وتسعة وتسعين، فحينئذ تضع الحامل، ويشيب الوليد: {وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الحج: 2]. فشق ذلك عَلَى الناس، حتى تغيرت وجوههم، فقول النبيّ صلّى الله عليه وسلم: من يأجوج ومأجوج تسعمائة وتسعة وتسعين، ومنكم واحد، ثم أنتم في الناس، كالشعرة السوداء [في جنب الثور الأبيض، أو كالشعرة البيضاء] (*) في جنب الثور الأسود إني لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة. فكبرنا، ثم قَالَ: ثلث أهل الجنة، فكبرنا، فَقَالَ: "شطر أهل الجنة، فكبرنا"، خرجاه في الصحيحين (¬1) ولفظه للبخاري. روى هلال بن خباب، عن عكرمة، عن ابن عباس، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم هذا المعنى ¬

_ (*) من صحيح البخاري. (¬1) أخرجه البخاري (3348)، ومسلم (222).

وفي حديثه: "إِنَّمَا أنتم جزء من ألف جزء" خرّجه الإمام أحمد (¬1) والحاكم (¬2) وصححه. وخرج الإمام أحمد (¬3) والترمذي (¬4) من حديث الحسن، عن عمران بن حصين، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم هذا المعنى أيضًا، وفي حديثه قَالَ النبيّ صلّى الله عليه وسلم: "قاربوا وسددوا، فإنها لم تكن نبوة قط، إلاَّ كان بين يديها جاهلية، فيؤخذ العدد من الجاهلية، فإن تمت إلا كملت من المنافقين، وما مثلكم والأمم إلاَّ كمثل الرقمة في ذراع الدابة، أو كالشامة في [جلد] (¬5) البعير". وفي رواية قَالَ: "اعملوا وأبشروا، فوالذي نفس محمد بيده، إنكم لمع خليقتين، ما كانتا في شيء إلاَّ كثرتاه، يأجوج ومأجوج، ومن هلك من بني آدم وبني إبليس" (¬6). وخرج ابن أبي حاتم، من حديث أنس، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم نحوه وفي حديثه: "ومن هلك من كفرة الجن والإنس" (¬7). فهذه الأحاديث وما في معناها، تدل عَلَى أن أكثر بني آدم من أهل النار، وتدل أيضاً عَلَى أن أتباع الرسل قليل بالنسبة إِلَى غيرهم، وغير أتباع الرسل كلهم ¬

_ (¬1) لم أجده في "المسند"، ولم يذكره ابن جحر في إطراف المسند المعتلي بأطراف المسند الحنبلي في رواية هلال بن خباب عن عكرمة عن ابن عباس. (¬2) في "المستدرك" (4/ 568). (¬3) (4/ 432). (¬4) برقم (3168) وقال: هذا حديث حسن صحيح، قد رُوي من غير وجه عن عمران ابن حصين عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم". (¬5) في الحاشية: جنب: "نسخة". (¬6) أخرجها أحمد (4/ 435)، والترمذي (3169) وقال: هذا حديث حسن صحيح. (¬7) وأخرجه الطبري في "تفسيره" (17/ 112) وابن حبان (1752 - موارد)، والحاكم في "المستدرك" (4/ 610) وقال الحاكم: هذا إسناد صحيح عَلَى شرط الشيخين، ولم يخرجاه. وصححه الضياء في "المختارة" (2483).

في النار، إلاَّ من لم تبلغه الدعوة، أو لم يتمكن من فهمها، عَلَى ما جاء فيهم من الاختلاف، والمنتسبون إِلَى اتباع الرسل، كثير منهم من تمسك بدين منسوخ، وكتاب مبدل، وهم أيضاً من أهل النار، كما قَالَ تعالى: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ} [هود: 17]. وأما المنتسبون إِلَى الكتاب المحكم، والشريعة المؤيدة، والدين الحق، فكثير منهم من أهل النار أيضاً، وهم المنافقون الذين هم في الدرك الأسفل من النار، وأما المنتسبون إِلَيْه ظاهرًا وباطنًا، فكثير منهم فتن بالشبهات، وهم أهل البدع والضلال. وقد وردت الأحاديث بأن هذه الأمة ستفترق عَلَى بضع وسبعين فرقة، كلها في النار إلاَّ فرقة واحدة، وكثير منهم أيضًا فق بالشهوات المحرمة المتوعد عليها بالنار -وإن لم يقتض ذلك الخلود فيها- فلم ينج من الوعيد بالنار، ويستحق الوعد المطلق بالجنة من هذه الأمة، إلاَّ فرقة واحدة، وهي من كان عَلَى ما كان عليه النبيّ صلّى الله عليه وسلم وأصحابه ظاهرًا وباطنًا، وسلم من فتنة الشهوات والشبهات، وهؤلاء قليل جدًّا، لا سيما في الأزمان المتأخرة والقرآن يدل عَلَى أن أكثر الناس هم أهل النار، وهم الذين اتبعوا الشيطان، كما قَالَ تعالى: {وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [سبأ: 20]. وقال تعالى: {لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص: 85]. فأما عصاة الموحدين، فأكثر من يدخل النار منهم النساء، كما في الصحيحين (¬1)، عن ابن عباس، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم، أنّه قَالَ في خطبة الكسوف: "رأيت النار، ورأيت أكثر أهلها النساء، بكفرهن، قيل: أيكفرون بالله؟! قَالَ: يكفرن العشير، ويكفرن الإحسان، لو أحسنت إِلَى إحداهن الدهر، ثم رأت منك شيئًا، قالت: "ما رأيت منك خيرًا قط". ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (29)، ومسلم (907).

وفي صحيح مسلم (¬1) "عن ابن عباس، عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: اطلعت في النار فرأيت أكثر أهلها النساء". وخرج البخاري (¬2)، من حديث عمران بن حصين، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم مثله. وخرجا في الصحيحين (¬3)، من حديث أبي سعيد الخدري، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم، أنّه قَالَ: "يا معشر النساء، تصدقن، فإني رأيتكن أكثر أهل النار"، فقلن: "ولم ذاك يا رسول الله"؟ قَالَ: "تكثرن [اللعن] (*) وتكفرن العشير، ما رأيت من ناقصات عقل ودين، أذهب للب الرجل الحازم من إحداكن". وخرج مسلم، من حديث جابر (¬4) وابن عمر (¬5) وأبي هريرة (¬6)، عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - بنحوه. وخرجا في الصحيحين (¬7)، من حديث أسامة بن زيد رضي الله عنه، عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: "قمت عَلَى باب الجنة، فكان عامة من دخلها المساكين، وأصحاب الجد محبوسون، غير أن أهل النار قد أمر بهم إِلَى النار، وقمت عَلَى باب النار، فَإِذَا عامة من دخلها النساء". وخرج الإمام أحمد (¬8)، من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص، عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: "اطلعت في الجنة، فرأيت [أكثر] (**) أهلها الفقراء، واطلعت في ¬

_ (¬1) برقم (2737). (¬2) برقم (3241). (¬3) أخرجه البخاري (304)، ومسلم (889) بنحوه. (*) في الأصل: "الشكاية" وما نقلته من صحيح البخاري، وقد وردت في أحد طرق حديث جابر عند مسلم برقم (885/ 4) بلفظ: "الشكاة". (¬4) برقم (885). (¬5) برقم (79). (¬6) برقم (80) عن أبي سعيد وأبي هريرة. (¬7) أخرجه البخاري (5196)، ومسلم (2736). (¬8) (2/ 173) وقال الهيثمي في المجمع (10/ 261): رواه أحمد، وإسناده جيد. (**) من المسند.

النار فرأيت [أكثر] (*) أهلها الأغنياء والنساء". وفي صحيح مسلم (¬1)، عن عمران بن حصين، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم، قَالَ: "إن أقل ساكني الجنة النساء". وقد أشكل عَلَى بعض الناس الجمع بين هذا الحديث، وبين حديث أبي هريرة عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم، أنّه قَالَ في أهل الجنة: "لكل واحد منهم زوجتان". وفي صحيح مسلم (¬2)، عن أيوب، عن ابن سيرين، قَالَ: إما تفاخروا، وإما تذاكروا، الرجال في الجنة أكثر أم النساء؟ فَقَالَ أبو هريرة: ألم يقل أبو القاسم، - صلى الله عليه وسلم -: "إن أول زمرة تدخل الجنة، عَلَى صورة القمر ليلة البدر، والتي تليها عَلَى أضوء كوكب دري في السماء، لكل واحد منهم زوجتان اثنتان يرى مخ سوقهما من وراء اللحم، وما في الجنة أعزب". فرام بعضهم الجمع بين الحديثين، بأن قلة النساء في الجنة، إِنَّمَا هو قبل خروج عصاة الموحدين من النار، فَإِذَا خرجوا منها كان النساء حينئذ أكثر، والصحيح أن أبا هريرة أراد أن جنس النساء في الجنة أكثر من جنس الرجال، لأنّ كل رجل منهم له زوجتان، ولم يرد أن النساء من ولد آدم أكثر من الرجال. ويدل عَلَى هذا، أنّه ورد في بعض روايات حديث أبي هريرة هذا الصحيحة: "لكل واحد منهم زوجتان من الحور العين". كذلك رواه يونس، عن محمد، عن أبي هريرة، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم خرّجه من طريقه الإمام أحمد (¬3). وكذا رواه هشام، عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم، خرج حديثه البيهقي (¬4). ¬

_ (*) من المسند. (¬1) برقم (2738). (¬2) برقم (2834) بمثله، وأخرجه البخاري (3246) من طريق أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة، دون قول ابن سيرين وأبي هريرة الَّذِي في حديث مسلم. (¬3) (2/ 507) من طريق هشام عن محمد به. (¬4) في "البعث والنشور" (370).

وخرج هذه اللفظة البخاري (¬1) في صحيحه، من حديث عبد الرحمن بن أبي عمرة، عن أبي هريرة، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم. ويشهد لذلك، وإن في بعض ألفاظ روايات حديث أبي هريرة هذا، المخرجة في الصحيح أيضاً (¬2): "وأزواجهم الحور العين" بدل قوله: "لكل واحد منهم زوجتان"، فهاتان الزوجتان من الحور العين، لا بد لكل رجل دخل الجنة منهم، وأما الزيادة عَلَى ذلك، فتكون بحسب الدرجات والأعمال، ولم يثبت في حصر الزيادة عَلَى الزوجتين شيء. ويدل أيضاً عَلَى ما ذكرناه، ما خرّجه مسلم في صحيحه (¬3)، من حديث أبي سعيد، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم، قَالَ: "أدنى أهل الجنة منزلة، رجل صرف الله وجهه عن النار قبل الجنة، فذكر الحديث، وفي آخره قَالَ: ثم يدخل بيته، فيدخل عليه زوجتان من الحور العين .. " وذكر الحديث. وكذلك ورد في الشهيد، إذا استشهد أنه "يبتدره زوجتان من الحور العين"، فدل هذا عَلَى أن لكل رجل من أهل الجنة زوجتين من الحور العين (¬4)، ولو كان أدنى أهل الجنة منزلة، والله أعلم. وروى عبد الله بن الإمام أحمد بإسناده، عن أبي صالح، قَالَ: بلغنا أن أكثر ذنوب أهل النار في النساء، كأنه يشير في الزنا ومتعلقاته. وروى ابن أبي الدُّنْيَا، بإسناد منقطع، عن ابن مسعود، قَالَ: "ذنبان لا يغفران، فذكر أحدهما، رجل زين له سوء عمله فرآه حسنًا، فإن هذه التي يهلك فيها من يهلك من هذه الأمة". يشير إِلَى الشبهات المضلة، والله أعلم. ... ¬

_ (¬1) برقم (3254). (¬2) أخرجه البخاري (3327)، ومسلم (2834). (¬3) برقم (188). (¬4) أخرجه أحمد (2/ 297، 427)، وابن ماجه (2798) وقال في الزوائد: هذا إسناد ضعيف، لضعف هلال بن أبي ذئب.

الباب الثلاثون في ذكر صفات أهل النار وأصنافهم وأقسامهم

الباب الثلاثون في ذكر صفات أهل النار وأصنافهم وأقسامهم قد سبق قول ابن مسعود، أنّه لا يترك في النار سوى أربعة، وليس فيهم خير، وأخذه من قوله تعالى: {قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ (45) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ} [المدثر: 44 - 46]. وفي الصحيحين (¬1)، عن "حارثة بن وهب، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم، قَالَ: ألا أخبركم بأهل الجنة؟ كل ضعيف متضعف، لو أقسم عَلَى الله لأبره، ألا أخبركم بأهل النار؟: كل عتل جواظ مستكبر". والعتل قَالَ مجاهد وعكرمة: هو القوي. وقال أبو رزين: هو الصحيح. وقاله عطاء بن يسار: عن وهب الذماري، قَالَ: تبكي السماء والأرض من رجل ألم الله خلقه، وأرحب جوفه، وأعطاه معظمًا من الدُّنْيَا، ثم يكون ظلومًا غشومًا للناس، وذلك العتل الزنيم. قَالَ إبراهيم النخعي: العتل: الفاجر، والزنيم: اللئيم في أخلاق الناس. وروى شهر بن حوشب، عن عبد الرحمن بن غنم، وإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: "لا يدخل الجنة جواظ ولا جعظري ولا العتل الزنيم. فَقَالَ رجل من المسلمين: ما الجواظ الجعظري والعتل الزنيم"؟ فَقَالَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: الجواظ: الَّذِي جمع ومنع، وأما الجعظري: فالفظ ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (4918)، ومسلم (2853).

الغليظ، قَالَ الله تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران: 159]، وأما العتل الزنيم: فشديد الخلق، رحيب الجوف، مصحح، أكول شروب، واجد للطعام والشراب، ظلوم للناس" (¬1). وروى معاوية بن صالح، عن كثير بن الحارث، عن القاسم مولى معاوية، قَالَ: سئل رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن العتل الزنيم، قَالَ: "هو الفاحش اللئيم". قَالَ معاوية: وحدثني عياض بن عبد الله الفهري، عن موسى بن عقبة، عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - بذلك. خرّجه له ابن أبي حاتم. وأما المستكبر، فهو الَّذِي يتعاطى التكبر عَلَى الناس والتعاظم عليهم، وقد قَالَ تعالى: {أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ} [الزمر: 60]. وقد ذكرنا فيما سبق حديث "يحشر المتكبرون يوم القيامة أمثال الذر، يساقون إِلَى سجن في النار، يقال له: بولس، نعلوهم نار الأنيار، يغشاهم الذل من كل مكان" (¬2). فإن عقوبة التكبر الهوان والذل، كما قَالَ الله تعالى: {فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} [الأحقاف: 20]. وفي الحديث الصحيح، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم، فيما يحكيه عن ربه عز وجل، قَالَ: "الكبرياء ردائي، والعظمة إزاري، فمن نازعني واحدًا منهن ألقيته في جهنم" (¬3). وفي الصحيحين (¬4)، عن أبي هريرة، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم، قَالَ: "تحاجت الجنة والنار، فقالت النار: أوثرت بالمتكبرين والمتجبرين، وقالت الجنة: لا يدخلني إلاَّ ¬

_ (¬1) قَالَ الهيثمي في المجمع (10/ 393): رواه أحمد، وإسناده حسن وإلاَّ أن ابن غنم لم يسمع من النبي - صلى الله عليه وسلم -. (¬2) سبق تخريجه (¬3) أخرجه مسلم (2620) بنحوه. (¬4) أخرجه البخاري (4850)، ومسلم (2846).

ضعفاء الناس وسقطهم، قَالَ الله عز وجل للجنة: أنت رحمتي، أرحم بك من أشاء من عبادي،، وقال للنار: إِنَّمَا أنت عذابي، أعذب بك من أشاء من عبادي، ولكل واحدة منكما ملؤها، وأما النار فلا تمتلئ حتى يضع عليها رجله، فتقول قط قط، فهنالك تمتلئ، وينزوي بعضها إِلَى بعض، ولا يظلم الله من خلقه أحدًا، وأما الجنة، فإن الله ينشيء لها خلقًا". وفي رواية خرجها ابن أبي حاتم: فقالت النار: "مالي لا يدخلني إلاَّ الجبارون والمتكبرون والأشراف وأصحاب الأموال؟ ". وخرج الإمام أحمد (¬1)، من حديث أبي سعيد، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم، قَالَ: "افتخرت الجنة والنار، فقالت النار: يا رب، يدخلني الجبابرة والمتكبرون والملوك والأشراف، وقالت الجنة: أي رب، يدخلني الضعفاء والفقراء والمساكين" وذكر الحديث بمعنى ما تقدّم. وسبب هذا، وإن الله عز وجل، حف الجنة بالمكاره، وحف النار بالشهوات، كما قَالَ تعالى: {فَأَمَّا مَنْ طَغَى (37) وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى (39) وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات: 37 - 41]. وفي صحيح البخاري (¬2)، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم، قَالَ: "حجبت الجنة بالمكاره، وحجبت النار بالشهوات". وخرّجه مسلم (¬3)، ولفظه: "حفت الجنة بالمكاره، وحفت النار بالشهوات". وخرّجه أيضاً من حديث أنس (¬4)، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم. ¬

_ (¬1) (3/ 13، 78) قَالَ الهيثمي في "المجمع" (7/ 112): في الصحيح بعضه محالا عَلَى أبي هريرة، رواه أحمد، ورجاله ثقات، لأن حماد بن سلمة روى عن عطاء بن السائب قبل الاختلاط. (¬2) برقم (6487). (¬3) برقم (2823). (¬4) برقم (2822).

وخرّجه الإمام أحمد (¬1) وأبو داود (¬2) والترمذي (¬3) من حديث أبي هريرة، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم، قَالَ: "لما خلق الله الجنة والنار، أرسل جبريل إِلَى الجنة"، فَقَالَ: انظر إليها وإلى ما أعددت لأهلها فيها، قَالَ: فجاءها، فنظر إليها وإلى ما أعد لأهلها، قَالَ فرجع إِلَيْهِ، فَقَالَ: وعزتك، لا يسمع بها أحد إلاَّ دخلها، فأمر بها فحفت بالمكاره، فَقَالَ: ارجع إليها، فانظر إِلَى ما أعددت لأهلها، قَالَ: فرجع إليها، فَإِذَا هي قد حفت بالمكاره فرجع إِلَيْهِ، فَقَالَ: وعزتك، لقد خفت إلا يدخلها أحد، قَالَ: فاذهب إِلَى النار فانظر إِلَى ما أعددت لأهلها، قَالَ: فجاءها فنظر إليها فإذا هي يركب بعضها بعضًا، فرجع إِلَيْه فقال: وعزتك، لا يسمع بها أحد فيدخلها، فأمر بها فحفت بالشهوات، فَقَالَ: ارجع إليها فرجع إليها فَقَالَ: وعزتك، لقد خشيت ألا ينجو منها أحد إلاَّ دخلها". فتبين بهذا، أن صحة الجسد وقوته وكثرة المال والتنعم بشهوات الدُّنْيَا والتكبر والتعاظم عَلَى الخلق، وهي صفات أهل النار التي ذكرت في حديث حارثة بن وهب، هي جماع الطغيان والبغي، كما قَالَ تعالى: {كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} [العلق: 6 - 7]. والطغيان وإيثار الحياة الدُّنْيَا وشهواتها من موجبات النار، كما قَالَ تعالى: {وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى (39) وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى} [النازعات: 38 - 40]. وأما الضعيف في البدن، والاستضعاف في الدُّنْيَا من قلة المال والسلطان، مع الإيمان فهو جماع كل خير، ولهذا يقال: من العصمة أن لا تجد، فهذه صفات أهل الجنة، التي ذكرت في حديث حارثة. وقد رُوي نحو حديث حارثة، من وجوه متعددة، وفي بعضها زيادات. خرج الإمام أحمد (¬4) من حديث أبي هريرة، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم، قَالَ: ¬

_ (¬1) (2/ 332 - 333، 354). (¬2) برقم (4744). (¬3) برقم (2560). (¬4) (2/ 508).

ألا أنبئكم بأهل الجنة؟ قالوا: بلى يا رسول الله. قَالَ: الضعفاء المغلوبون، ألا أنبئكم بأهل النار؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قَالَ: كل شديد جعظري، هم الذين لا يألمون رؤوسهم". ومن حديث سراقة بن مالك بن جعشم، أن النبيّ صلّى الله عليه وسلم، قَالَ له: "يا سراقة، ألا أخبرك بأهل الجنة وأهل النار؟ قَالَ: بلى يا رسول الله، قَالَ: أما أهل النار فكل جعظري جواظ مستكبر، وأما أهل الجنة فالضعفاء المغلوبون" (¬1). ومن حديث عبد الله بن عمر، وعن النبيّ صلّى الله عليه وسلم، قَالَ: "أهل النار كل جعظري جواظ مستكبر جماع مناع، وأهل الجنة الضعفاء المغلوبون" (¬2). ومن حديث أنس، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم، قَالَ: "ألا أخبركم بأهل الجنة وأهل النار؟ أما أهل الجنة، فكل ضعيف متضعف أشعث، ذو طمرين لو أقسم عَلَى الله لأبره، وأما أهل النار، فكل جعظري جواظ جماع مناع ذي تبع (¬3) ". وقد سبق تفسير الجعظري بالفظ الغليظ الجافي. وخرج الطبراني (¬4) من حديث أبي هريرة، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم، قَالَ: ألا أخبركم بصفة أهل النار وأهل الجنة"؟ قلنا: بلى يا رسول الله، قَالَ: "كل ضعيف متضاعف، ذي طمرين، لو أقسم عَلَى الله لأبره، ألا أنبئكم بصفة أهل النار"؟ قلنا: بلى يا رسول الله، قَالَ: "كل جظ جعظ مستكبر. قَالَ: فسألته ما الجظ؟ قَالَ: الضخم، أما الجعظر قَالَ: العظيم في نفسه". ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد (4/ 175) وقال الهيثمي في المجمع (10/ 393): ورجاله رجال الصحيح، إلاَّ أن فيه روا لم يسم. (¬2) أخرجه أحمد (2/ 214) وقال الهيثمي في المجمع (10/ 393): ورجاله رجال الصحيح. (¬3) أخرجه أحمد (3/ 145): وقال الهيثمي في المجمع (10/ 264): وفيه ابن لهيعة، وحديثه يعتضد (¬4) في "المعجم الأوسط" (4263) وقال الهيثمي في المجمع (10/ 265): رواه الطبراني في الأوسط عن شيخه عبد الله بن محمد بن أبي مريم، وهو ضعيف.

وروى عثمان بن أبي العاتكة، عن أبي جعفر الحنفي، عن أبي هريرة، عن النبيّ -صلى الله عليه وسلم-، قَالَ: "ألا أنبئكم بأهل النار"؟ قالوا: بلى، قَالَ: كل سمين ليس طيب الريح". وروى سليم بن عامر، عن فرات البهراني، عن أبي عامر الأشعري، أن رجلاً سأل رسول الله صلّى الله عليه وسلم أهل النار؟ فَقَالَ: "لقد سألت عن عظيم، كل شديد قعبري" فَقَالَ: وما القعبري يا رسول الله؟ قَالَ: "الشديد عَلَى العشيرة، الشديد عَلَى الأهل، الشديد عَلَى الصاحب، قَالَ: فمن أهل الجنة يا رسول الله؟ فَقَالَ: "سبحان الله! لقد سألت عن عظيم، كل ضعيف مزهد" (¬1). وفي المعنى أحاديث أخر. وفي صحيح مسلم (¬2) عن عياض بن حمار، أن النبيّ صلّى الله عليه وسلم، قَالَ في خطبته: "وأهل الجنة ثلاثة: ذو سلطان مقسط متصدق، ورجل رحيم رقيق القلب لكل ذي قربى، ومسلم عفيف متعفف ذو عيال، وأهل النار خمسة: الضعيف الَّذِي لا زَبْرَ له (¬3) الذين هم فيكم تبع لا يغون أهلاً ولا مالاً، والخائن الَّذِي لا يخفى له طمع وإن دق إلاَّ خانه، ورجل لا يصبح ولا يمسي إلاَّ وهو يخادعك عن أهلك ومالك" وذكر البخل والكذب والشنظير الفاحش. وفي هذا الحديث جعل النبيّ صلّى الله عليه وسلم أهل الجنة ثلاثة أصناف: أحدها: ذو السلطان المقسط المتصدق، وهو من كان له سلطان عَلَى الناس فسار في سلطانه بالعدل، ثم ارتقى إِلَى درجة الفضل. والثاني: الرحيم الرقيق القلب الَّذِي لا يخص برحمته قرابته، بل يرحم ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في "التاريخ الكبير" (7/ 128)، وابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" (2802). (¬2) برقم (2865). (¬3) أي: لا عقل له يزبره ويمنعه مما لا ينبغي. وقيل: هو الَّذِي لا مال له. وقيل: الَّذِي ليس عنده ما يعتمده. "نووي".

المسلمين [عموماً] (*) فهذان القسمان أهل الفضل والإحسان. والثالث: العفيف المتعفف ذو العيال. وهو من يحتاج إِلَى ما عند الناس وهو يتعفف عنهم، وهذا أحد نوعي الجود، أعني العفة عما في أيدي الناس، لا سيما مع الحاجة. وقد وصف الله في كتابه أهل الجنة ببذل الندى وكف الأذى، ولو كان الأذى بحق فَقَالَ: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران: 133 - 134]. فهذا حال معاملتهم للخلق ثم وصف قيامهم بحق الحق فَقَالَ: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ} إِلَى آخر الآيتين [آل عمران: 135 - 136]. فوصفهم الله عند الذنوب بالاستغفار، وعدم الإصرار وهو حقيقة التوبة النصوح. وقريب من هذه الآية قوله تعالى: {فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ (12) فَكُّ رَقَبَةٍ (13) أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ (15) أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ (16) ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (17) أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ} [البلد: 11 - 18]. والعقبة قد فسرها ابن عباس بالنار، وفسرها ابن عمر بعقبة في النار كما تقدم، فأخبر سبحانه أن اقتحامها، وهو قطعها ومجاوزتها، يحصل بالإحسان إِلَى الخلق، إما بعتق الرقبة، وإما بالإطعام في المجاعة، والمُطْعَمُ إما يتيم من ذوي القربى أو مسكين قد لصق بالتراب فلم يبق له شيء، ولا بد مع الإحسان أن يكون من أهل الإيمان، والآمر لغيره بالعدل والإحسان، وهو التواصي بالصبر والتواصي بالمرحمة، وأخبر سبحانه أن هذه الأوصاف أوصاف أهل الميمنة. وأما أهل النار، فقد قسمهم النبيّ صلّى الله عليه وسلم خمسة أصناف: ¬

_ (*) من المطبوع.

الصنف الأول: الضعيف الَّذِي لا زبر له: ويعني بالزبر القوة والحرص عَلَى ما ينتفع به في الآخرة من التقوى والعمل الصالح. وخرج العقيلي (¬1) من حديث أبي هريرة مرفوعًا "إن الله يبغض المؤمن الَّذِي لا زبر له". قَالَ بعض رواة الحديث: يعني الشدة في الحق. ولما حدث مطرف بن عبد الله بحديث عياض بن حمار هذا وبلغ إِلَى قوله: "الضعيف الَّذِي لا زبر له" فقِيلَ لَهُ: أو يكون هذا؟ قَالَ: نعم، والله لقد أدركتهم في الجاهلية، وإن الرجل ليرعى عَلَى الحي [ماله] (*) إلاَّ وليدتهم يطؤها. وقال ابن شوذب: يقال: إن عامة أهل النار كل ضعيف لا زبر له، الذين هم من اليوم تبع لا يبغون أهلاً ولا مالاً، خرّجه عبد الله بن الإمام أحمد في الزهد. وهذا القسم شر أقسام الناس، ونفوسهم ساقطة، لأنّه ليس لهم همم في طلب الدُّنْيَا ولا الآخرة، وإنما همة أحدهم شهوة بطنه وفرجه كيف اتفق له، وهو تبع للناس خادم لهم أو طواف عليهم سائل لهم. الصنف الثاني: الخائن الَّذِي لا يخفى له طمع وإن دق إلاَّ خانه: يعني لا يقدر عَلَى خيانة ولو كانت حقيرة يسيرة إلاَّ بادر إليها واغتنمها، ويدخل في ذلك التطفيف في المكيال والميزان لحقر التافه، وكذلك الخيانة في الأمانات القليلة كالودائع وأموال اليتامى وغير ذلك وهي من خصال النفاق، وربما يدخل في الخيانة من خان الله ورسوله في ارتكاب المحارم سرًّا مع إظهار اجتنابها. قَالَ كثير من السَّلف: كنا نحدث أن صاحب النار من لا تمنعه خشية الله من ¬

_ (¬1) في "الضعفاء الكبير" (4/ 246) وقال العقيلي عن مسمع بن محمد الأشعري: لا يتابع عليه بهذا الإسناد، ولا أحفظ هذا اللفظ إلاَّ في حديث عياض بن حمار المجاشعي قَالَ النبيّ صلّى الله عليه وسلم: "أهل النار خمسة: الضعيف الَّذِي لا زبر له". ونقل ابن حجر في اللسان (7/ 96 - طبعة الفاروق الحديثة) عن العقيلي أنّه قَالَ عن مسمع: لا يتابع فيه، ولا يعرف بالنقل. (*) في الأصل: مابه، وما نقلته من المطبوع.

شيء [خفي له] (*). الصنف الثالث: المخادع الَّذِي دأبه صباحًا ومساءً مخادعة الناس عَلَى أهليهم وأموالهم: والخداع من أوصاف المنافقين، كما وصفهم الله تعالى بذلك، ومعناه إظهار الخير وإضمار الشر، لقصد التواصل إِلَى أموال الناس وأهاليهم والانتفاع بذلك، وهو من [جملة] (*) المكر والحيل المحرمة، وفي حديث ابن مسعود عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم -: "من غشنا فليس منا، والمكر والخداع في النار" (¬1). المصنف الرابع: الكذب والبخل: ولم يحفظ الراوي ما قاله - صلى الله عليه وسلم - في هذا حفظًا جيِّدًا، والكذب والبخل خصلتان. وفي مسند الإمام أحمد (¬2) في هذا الحديث الكذب أو البخل بالشك، وقد قيل: إنه عدهما واحدًا، كذا قاله مطر الورق وهو أحد رواة هذا الحديث. والكذب والبخل، كلاهما ينشأ عن الشح، كما جاء في الحديث، والشح هو شدة حرص الإنسان عَلَى ما ليس له من الوجوه المحرمة، وينشأ عنه البخل، وهو إمساك الإنسان ما في يده والامتناع من إخراجه في وجوهه التي أمر بها، فالمخادع الَّذِي سبق ذكره هو الشحيح، وهذا المصنف هو البخيل، فالشحيح آخذ المال بغير حقه، والبخل منعه من حقه، كذلك رُوي تفسير الشح والبخل عن ابن مسعود وطاووس وغيرهما من السَّلف. ¬

_ (*) من المطبوع. (¬1) أخرجه ابن حبان (567، 5559 - إحسان)، والطبراني في "الكبير" (10/ 10234)، وفي "الصغير" (2/ 37) برقم (738) وقال الطبراني: لم يروه عن عاصم إلاَّ الهيثم بن الجهم، ولا عنه إلاَّ ابنه عثمان. وأخرجه أبو نعيم في "الحلية" (4/ 189) وقال: غريب من حديث عاصم، تفرد به عثمان ولم نكتبه إلاَّ من حديث الفضل بن الحباب. (¬2) (4/ 162).

وفي الأثر إن الشيطان قَالَ: مهما غلبني ابن آدم فلم يغلبني بثلاث: يأخذ المال من غير حله، أو ينفقه في غير وجهه، أو يمنعه من حقه. وينشأ عن الشح أيضاً، الكذب والمخادعة والتحيل عَلَى ما لا يستحقه الإنسان بالطرق الباطلة المحرمة. وفي الصحيح (¬1) عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم، قَالَ: "إن الكذب يهدي إِلَى الفجور، والفجور يهدي إِلَى النار". وفي "المسند" (¬2) عن عبد الله بن عمر، وقَالَ: سئل النبيّ صلّى الله عليه وسلم ما عمل أهل النار؟ قَالَ: "الكذب، إذا كذب العبد فجر، وإذا فجر كفر وإذا كفر دخل النار". الصنف الخامس: الشنظير: وقد فسر بسيء الخلق، والفحاش هو الفاحش المتفحش، وفي الصحيحين (¬3) عن عائشة رضي الله عنها، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم، قَالَ: "إن من شر الناس منزلة عند الله يوم القيامة من تركه الناس اتقاء فحشه". وفي الترمذي (¬4)، عن ابن مسعود، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم "إن الله يبغض الفاحش البذيء". والبذيء هو الَّذِي يجري عَلَى لسانه بالسفه ونحوه من لغو الكلام. وفي "المسند" (¬5) عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم، قَالَ: "بحسب امرئ من الشر أن يكون فاحشًا بذيئًا بخيلاً جبانًا". فالفاحش هو الَّذِي يفحش في منطقه ويستقبل الرجال بقبيح الكلام من السب ونحوه، ويأتي في كلامه بالسخف وما يفحش ذكره. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (694) مطولا، ومسلم (2607). (¬2) (2/ 176). (¬3) خرّجه البخاري (6034)، ومسلم (591). (¬4) برقم (1977) بلفظ: "ليس المؤمن بالطعان، ولا اللعان، ولا الفاحش، ولا البذىء" وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب، وقد رُوي عن عبد الله من غير هذا الوجه. (¬5) (4/ 145، 158).

فصل في ذكر أول من يدخل النار من عصاة الموحدين

فصل في ذكر أول من يدخل النار من عصاة الموحدين خرج الإمام أحمد (¬1) من حديث أبي هريرة، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم، قَالَ: "عرض علي أول ثلاثة يدخلون الجنة، وأول ثلاثة يدخلون النار، فأما أول ثلاثة يدخلون الجنة فالشهيد، وعبد مملوك لا يشغله رق الدُّنْيَا عن طاعة ربه، وفقير متعفف ذو عيال، وأول ثلاثة يدخلون النار: فأمير متسلط، وذو ثروة من مال لا يؤدي حق الله في ماله، وفقير فخور". وخرج الترمذي (¬2) أوله وقال: حديث حسن. فهؤلاء الأصناف الثلاثة من أهل النار، وضد الأصناف الثلاثة من أهل الجنة المذكورين في حديث عياض بن حمار، فإن السلطان المسلط ضد العادل المحسن، والغني الَّذِي يمنع حق الله ضد الرحيم الرقيق القلب بذي القربى وكل مسلم، والفقير الفخور ضد المتعفف الصابر عَلَى شدة الفقر وضره. وأوصاف هؤلاء الثلاثة هي: الظلم، والبخل، والكبر، والثلاثة ترجع إِلَى الظلم، لأنّ المسلط يظلم الناس بيده، والبخيل يظلم الفقراء بمنع حقوقهم الواجبة في ماله، والفقير الفخور يظلم الناس بفخره عليهم، بقوله، وأذاه لهم بلسانه. وفي صحيح مسلم (¬3)، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم، في حديث طويل ذكر فيه المقاتل والقارئ والمتصدق الذين يراءون بأعمالهم، ¬

_ (¬1) (2/ 425، 479). (¬2) برقم (1642). (¬3) برقم (1905).

وقال: "أولئك أول خلق الله تسعر بهم النار يوم القيامة يا أبا هريرة". فقد يجمع بين هذا الحديث والذي قبله، بأن هؤلاء الثلاثة أول من تسعر بهم النار، وأولئك الثلاثة أول من يدخل النار وتسعير النار أخص من دخولها، فإن تسعيرها يقتضي تلهيبها وإيقادها، وهذا قدر زائد عَلَى مجرد الدخول، وإنما زاد عذاب أهل الرياء عَلَى سائر العصاة، لأنّ الرياء هو الشرك الأصغر، والذنوب المتعلقة بالشرك أعظم من المتعلقة بغيره. وقد ورد أن فسقة القراء يبدأ بهم قبل المشركين، فروى عبد الملك بن إبراهيم الجدي، حدثنا عبد الله بن عبد العزيز العمري، عن أبي طوالة، عن أنس، عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: "الزبابية أسرع إِلَى فسقة القراء منهم إِلَى عبدة الأوثان"، فيَقُولُونَ: "يبدأ بنا قبل عبدة الأوثان؟ فيقال لهم: ليس من علم كمن لا يعلم". خرّجه الطبراني (¬1) وأبو نعيم (¬2) وقال: غريب من حديث أبي طوالة، تفرد به عنه العمري، انتهى. والعمري هذا هو أبو عبد الرحمن الزاهد رحمه الله. وقد ذكرنا، في الباب الخامس والعشرين، أحاديث متعددة في خروج عنق من النار يوم القيامة، تتكلم، وأنها تلتقط من صفوف الخلق: المشركين والمتكبرين وأصحاب التصاوير، وفي رواية "ومن قتل نفسًا بغير نفس، فينطلق بهم قبل سائر الناس بخمسمائة عام". وروى ابن عباس وغيره من السَّلف، وإن ذلك يكون قبل نشر الدواوين ونصب الموازين. ¬

_ (¬1) قَالَ ابن حبان في المجروحين (1/ 210): وهذا خبر باطل، ما قاله رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا أنس رواه، وأبو طوالة اسمه عبد الله بن الرحمن بن عمرو بن حزم الأنصاري، من ثقات أهل المدينة، ليس هذا من حديثه، فكان إِلَى أنّه معمول أميل. (¬2) في "الحلية" (8/ 286). وقال العجوني في "كشف الخفاء" (1/ 533) رواه الطبراني وأبو نعيم في "الحلية" عن أنس رضي الله عنه، والحديث منكر أو موضوع. وحكم عَلَى الحديث بالنكارة الذهبي في الميزان (6/ 561 - علمية).

وجاء في حديث مرفوع، وإن ذلك يكون قبل حساب الناس، والله سبحانه وتعالى أعلم. تم الكتاب بحمد الله وحسن توفيقه، فالحمد لله، ولا إله إلاَّ الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلاَّ بالله العلي العظيم. وقد وقع الفراغ من نسخه صبح الخميس رابع يوم من شهر ربيع الآخر من سنة خمس وخمسين وثلاثمائة وألف من الجرة النبوية، عَلَى مهاجرها أفضل الصلاة والسلام، عَلَى يد الفقير إِلَى ربه، المقر بالذنب والتقصير الراجي عفو ربه وإحسانه صالح بن عبد العزيز بن مرشد، غفر الله له ذنوبه، وثبته عَلَى دينه، وأحسن له الخاتمة، وغفر لوالديه وذريته وإخوانه وقرابته وجميع المسلمين والمؤمنات، وصلى الله عَلَى نبينا محمد وعلى آله وصحه أجمعين، وسلم تسليمًا كثيرًا، والحمد لله رب العالمين حمدًا كثيرًا. ***

38 - المحجة في سير الدلجة

المحجة في سير الدلجة

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ خرَّج البخاري -رحمه الله- في "صحيحه" (¬1) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لن يُنَجِّيَ أحدًا منكم عملُه". قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قَالَ: "ولا أنا إلاَّ أن يَتَغَمَّدَنِيَ اللَّهُ برحمتِهِ، سَدِّدوا وقاربوا واغدوا ورُوحوا وشيءٌ من الدُّلجة، والقصدَ القصدَ تبلغوا". وخرَّجه أيضاً (¬2) في "موضع آخر" (*) في كتابه، ولفظه: "إن هذا الدِّين يُسر، ولن يشادَّ الدينَ أحدٌ إلاَّ غلبه، فسددوا وقاربوا وأبشروا، واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة". وخرج أيضاً (¬3) من حديث عائشة رضي الله عنها عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم أنّه قَالَ: "سدّدوا وقاربوا وأبشروا، فإنَّه (لا يُدخل الجنةَ أحدًا عملُه) (**) ". قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قَالَ: "ولا أنا إلاَّ أن يَتَغَمَّدَنِيَ اللَّهُ برحمتِهِ" ( ... ) ". وخرج أيضاً (¬4) من حديثها عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم قَالَ: "سدّدوا وقاربوا واعلموا أنّه لن يُدخل أحدَكم عملُه الجنة، وإنَّ أحبَّ الأعمال إِلَى الله أدومها وإنْ قلَّ". اشتملت هذه الأحاديثُ الشريفةُ عَلَى أصلٍ عظيمٍ، وقاعدةٍ مهمةٍ. ويتفرع عليها مسائلُ شتَّى من مسائِل السير والسلوك إلى الله تعالى في طريقه الموصل إِلَيْهِ. ¬

_ (¬1) برقم (6463). (¬2) برقم (39). (*) مواضع آخر: "نسخة". (¬3) برقم (6467). (**) (لن يَدخلَ الجنةَ أحد بعمله): "نسخة". ( ... ) بمغفرته ورحمته: "نسخة". (¬4) برقم (6464).

الأصل العظيم

الأصل العظيم أمَّا الأصلُ (فهو أنَّ عمل الإنسان لا يُنْجِيه) (*) من النَّار ولا يُدْخِله الجنَّة، وإنَّ ذلك كلَّه إِنَّمَا يحصل بمغفرة الله ورحمته. وقد دلَّ القرآن العزيز عَلَى هذا المعنى في مواضع كثيرة كقوله تعالى: {فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} [آل عمران: 195]. وقوله: {يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ} [التوبة: 21]، وقوله: {تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (11) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} [الصف: 11 - 12]. فَقَرَن بين دخول الجنة والنجاة من النار وبينَ المغفرة والرحمة فدلَّ عَلَى أنّه لا يُنال شيء من ذلك بدون مغفرة الله ورحمته. قَالَ بعض السَّلف: الآخرة إمَّا عفو الله أو النار، والدنيا إما عصمة الله أو الهلكة. وكان محمد بن واسع يودع أصحابه عند موته ويقول: عليكم السلام إِلَى النار أو يعفو الله. ... ¬

_ (*) فإن الإنسان لا ينجيه عمله: "نسخة".

بيان معنى الباء في الآية والحديث

بيان معنى الباء في الآية والحديث فأما قوله تعالى: {وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الزخرف: 72]، وقوله: {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ} [الحاقة: 24]، فقد اختلف العُلَمَاء في معنى ذلك عَلَى قولين: أحدهما: أنَّ دخول الجنة (برحمته) (*)، ولكن انقسام المنازل بحسب الأعمال. قَالَ ابن عيينة: كانوا يرون النجاة من النار بعفو الله ودخول الجنة بفضله واقتسام المنازل بالأعمال. والثاني: أنَّ الباء المثبتة، في قوله تعالى: {بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} وقوله {بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ}، باء السببية، وقد جعل الله العمل سببًا لدخول الجنة. والباء المنفية في قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لن يَدخلَ أحدٌ الجنة بعمله"، باء المقابلة والمعاوضة، والتقديرُ لن يستحقَّ أحدُ دخول الجنة بعمل يعمله. فأزال بذلك توهم من يتوهم أنَّ الجنة ثمن الأعمال، وأنَّ صاحب العمل يستحق عَلَى الله دخول الجنة كما يستحق من دفع ثمن سلعة إِلَى صاحبها تسليم سلعته، فنفى بذلك هذا التوهم، وبيَّن أن العمل وإن كان سببًا لدخول الجنة، فإنما هو من فضل الله ورحمته. فصار الدخول مضافًا إِلَى فضل الله ورحمته ومغفرته؛ لأنّه هو المتفضل بالسبب والمسيَّب المرتَّب عليه، ولم يبق الدخول مرتبًا عَلَى العمل نفسه. في "الصحيح" (¬1) عن النبى -صلى الله عليه وسلم-: "إن الله تعالى يقول للجنة: أنتِ ¬

_ (*) برحمة الله: "نسخة". (¬1) أخرجه البخاري (4850)، ومسلم (2846).

رحمتي أرحمُ بكَ مَنْ أشاء مِنْ عبادي". ما للعباد عليه حقٌّ واجب ... كلا ولا (سعي) (*) لديه ضائع إن عُذِّبو فبعدلِهِ أو نُعِّمُوا ... فبفضله وهو الكريمُ الواسع ... ¬

_ (*) فضل: "نسخة".

الحمد لله ثمن كل نعمة

الحمد لله ثمن كل نعمة فإن قيل: فقد روى حبيب بن الشهيد عن الحسن أنّه قَالَ: "الحمد لله ثمن كل نعمة، ولا إله إلاّ الله ثمن الجنة". ورُوي هذا المعنى مرفوعًا من حديث أنس (¬1) وأبي ذر وغيرهما، وإن كان في (أسانيدها) (*) ضعف. ويشهد لذلك قوله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة: 111]. فجعل الجنة ثمنًا للنفوس والأموال. فالجواب أنَّ الله سبحانه وتعالى بفضله ورحمته وكرمه، ومنِّه وطَوْله، خاطب عباده بما ندبهم إِلَيْه من طاعته عَلَى حسب ما يتعارفونه بينهم في تصرفاتهم المعهودة المألوفة لهم. وجعل نفسه مشتريًا منهم ومستقرضًا وجعلهم بائعين له ومقرضين ليكون ذلك أدعى إِلَى (استجابتهم) (**) لدعوته ومبادرتهم إِلَى طاعته، وإلاَّ ففي الحقيقة الكلُّ له (ومِلْكه) ( ... ) ومن فضله وإحسانه ورحمته. فالنفوسُ والأموالُ كلُّها ملكٌ له، كما أمرنا عند المصائب أن نقول: {إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة: 156]. ومع هذا فقد مدح من بذل له نفسه وماله وجعله بائعًا له ومقرضًا، كالذي ¬

_ (¬1) أورده الديلمي في مسند الفردوس (2548)، ولم أقف عليه عن أبي ذر. (*) إسنادهما: "نسخة". (**) استجلابهم: "نسخة". ( ... ) ملك: "نسخة".

له ملكٌ يبيعه ويقرضه لغيره مِمَّن لا يملكه عليه كذلك الأعمالُ كلُّها من فضله ورحمته، وقد مدح عليها ونسبها إِلَى عاملها وجعلها شكرًا منهم لنعمه ومكافأة لها. ***

بيان معنى النعم وأن الحمد منها

بيان معنى النعم وأنّ الحمد منها وقد روى ابن ماجه (¬1) من حديث أنس مرفوعًا: "ما أنعم الله عَلَى عبدٍ نعمةً فَقَالَ: الحمد لله إلاَّ كان ما أُعْطِي أفضلَ مما أخذ". وكذا قَالَ عمر بن عبد العزيز والحسن وغيرهما من السَّلف. وأُشكل ذلك عَلَى كثير من العُلَمَاء قديمًا وحديثًا، وعلى ما قررناه معناه ظاهرٌ، فإنَّ المراد بالنعم: النعم الدنيوية، والحمد: من النعم الدينية. والنعم الدينية أفضل من النعم الدنيوية، ولكن لما كان الحمد منسوبًا إِلَى العبد لفعله له، وقيامه به، جعله الله معطيًا لأعظم النعمتين، مكافئًا بها للنعمة الأخرى. ولهذا جاء في الأثر "الحمد لله حمدًا يوافي نعمه ويدافع نقمه ويكافئ مزيده" (¬2). فبهذا الاعتبار يكون الحمد ثمنًا للجنة. ... ¬

_ (¬1) برقم (3805) وقال في الزوائد: إسناده حسن، شبيب بن بشر مختلف فيه. (¬2) أورده المنذري في التركيب (2428 - دار الكتب العلمية) بلفظ: روي، وعزاه للبخاري في "الضعفاء".

الجنة والعمل من فضل الله تعالى

الجنة والعمل من فضل الله تعالى وعند تحقيق النظر فالجنة والعمل كلاهما من فضل الله ورحمته عَلَى عباده المؤمنين؛ ولهذا يقول أهل الجنة عند دخولها: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ} [الأعراف: 43]. فلما اعترفوا لله بنعمته عليهم بالجنة وبأسبابها من الهداية، وحمدوا الله عَلَى ذلك كله جُوزُوا بأَنْ نُودُوا: {أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الأعراف: 43] فأضيف العمل إليهم وشُكروا عليه. ونظير هذا ما قاله بعض السَّلف: إنَّ العبد إذا أذنب ثم قَالَ: يا رب أنت قضيت عَلَيَّ، قَالَ له ربه: أنتَ أذنبت وأنت عصيت، فإن قَالَ العبد: يا رب أنا أخطأت وأنا أسأت، وأنا أذنبت. قَالَ الله: أنا قضيت عليك وقدرت، وأنا أغفر لك. ***

الشقاء والسعادة بعدله ورحمته جل وعلا

الشقاء والسعادة بعدله ورحمته جلَّ وعلا ومما يتحقق به معنى قول النبيّ صلّى الله عليه وسلم: "لَنْ يدخلَ أحدٌ الجنةَ بِعملِهِ"، أو "لَنْ ينجّيَ أحدًا عملُهُ"، أن مضاعفة الحسنات إِنَّمَا هي من فضل الله عز وجل وإحسانه، حيث جازى بالحسنة عشرًا ثم ضاعفها إِلَى سبعمائة ضعف إِلَى أضعاف كثيرة. فهذا كله فضل منه -عز وجل-، ولو جازى بالحسنة مثلها كالسيئات لم تقوَ الحسنات عَلَى إحباط السيئات، فكان يهلك صاحبُ العمل لا محالة. كما قَالَ ابن مسعود -رضي الله عنه- في صفة الحسنات: إن كان وليًّا لله فَفَضل له مثقال ذرة ضاعفها الله له حتى يُدخله بها الجنة، وإن كان شقيًّا قَالَ المَلَك: يا رب فَنِيت حسناته وبقي له طالبون كثير؟ قَالَ: خذوا من سيئاتهم فأضيفوها إِلَى سيئاته ثم صكوا له صكًّا إِلَى النار (¬1). فتبيَّن بهذا أن من أراد اللهُ سعادَتَهُ أضعفَ اللهُ له حسناته حتى يستوفي (منها) (*) الغرماء، ويبقي له منها مثقال ذرة فتضاعف له ويدخل بها الجنة، وذلك من فضل الله ورحمته. ومن أراد الله شقاوته وله غرماء لم تضاعف حسناته كما تضاعف لمن أراد الله سعادته، بل يضاعفها عشرًا فتقسم عَلَى الغرماء فيستوفونها كلها، وتبقى لهم عليه مظالم فيطرح عليه من سيئاتهم فيدخل بها النار، قهذا عدله (وذاك) فضله (**). ومن هنا قَالَ يحيى بن معاذ: إذا بسط فضله لم يبق لأحد سيئة، وإذا جاء ¬

_ (¬1) أخرجه ابن المبارك في الزهد (1416)، والطبري في تقسيره (5/ 89 - 90)، (19/ 54 - 55)، وعزاه ابن كثير (1/ 498) لابن أبى حاتم والطبري وقال: ولبعض هذا الأثر شاهد في الحديث الصحيح. (*) منه: "نسخة". (**) وذلك: "نسخة".

عدله لم يبق لأحد حسنة. وأيضاً، فقد ثبت عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم أنّه قَالَ: "من نُوقش الحساب هلك" (¬1)، وفي رواية "عُذِّب" (¬2)، وفي رواية "خصم" (¬3). وخرَّج أبو نعيم (¬4) من حديث علي رضي الله عنه مرفوعًا: "أوحى الله إِلَى نبي من أنبياء بني إسرائيل: قُلْ لأهل طاعتي من أمتك لا يتكلوا عَلَى أعمالهم فإني لا (أقاص) (*) عبدًا الحساب يوم القيامة أشاء أن أعذبه إلاَّ عذبته. وقل لأهل معصيتي من أمتك: لا يلقوا بأيديهم، فإني أغفر الذنب العظيم ولا أبالي. وقال عبد العزيز بن أبي روّاد: أوحى الله إِلَى داود عليه السلام: يا داود بشِّر المذنبين وأنذر المُصَّدقين: فكأنه عَجِبَ، فَقَالَ: يا رب، أبشر المذنبين وأنذر (المُصَّدقين) (**)؟! قَالَ: نعم، بشِّر المذنبين أنّه لا يتعاظمني ذنب أغفره، وأنذر المصدقين أني لا أضع عدلي وحسابي عَلَى (عبد) ( ... ) إلاَّ هلك (¬5). قَالَ ابن عيينة: المناقشة سوء الاستقصاء حتى لا يترك منه شيء. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (4939)، ومسلم (2876/ 80). (¬2) أخرجه البخاري (6536)، ومسلم (2876/ 79). (¬3) أخرجه الحاكم في المستدرك (4/ 623). (¬4) في "الحلية" (4/ 195) وقال: غريب من حديث أبي عبد الرحمن، لم نكتبه إلاَّ من حديث أبي داود الضمري، تفرد به مختار، وأخرجه الطبراني في الأوسط (4844)، وقال: لا يروي هذا الحديث عن أبي عبد الرحمن السلمي، إلاَّ عبد الأعلى، تفرد به عيسى بن مسلم، ولا يروى عن علي إلاَّ بهذا الإسناد. وقال الهيثمي في المجمع (10/ 307): وفيه عيسى بن مسلم الطهوي، قَالَ أبو زرعة: لين، وقال أبو حاتم: ليس بالقوي يكتب حديثه، وبقية رجاله ثقات إن شاء الله. (*) من "الحلية"، وفي نسخة: "أناضل" وعلى حاشيتها: "أناقش". وفي نسخة: "أناض" وعلى حاشيتها: لعل الصواب "أقاضي". (**) الصادقين: "نسخة". ( ... ) أحد: "نسخة". (¬5) أخرجه أبو نعيم في الحلية (8/ 195) وبين ابن أبي رواد وداود عليه السلام مفاوز تنقطع فيها أعناق المطي.

وقال ابن زيد: الحساب الشديد الَّذِي ليس فيه شيء من العفو، والحساب اليسير الَّذِي تغفر ذنوبه وتقبل حسناته. فتبين بهذا أنّه لا نجاة للعبد بدون المغفرة والعفو والرحمة والتجاوز، وأنه متى أقيم العدل المحض عَلَى عبد هَلك. ومما يبين ذلك أيضًا قوله تعالى: {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} [التكاثر: 8]، فهذا يدلُّ عَلَى أن الناسُ يسألون عن النعيم في الدُّنْيَا، وهل قاموا بشكره أم لا؟ فمن طولب بالشكر عَلَى كل نعمة من عافية وستر وصحةِ جسم وسلامة حواسٍّ وطيب عيش واستُقصي (ذلك عليه) (*)، لم تَفِ أعمالُهُ كلُّها بشكر بعض هذه النعم، وتبقى سائر النعم غير مقابلة بشكر فيستحق صاحبها العذاب بذلك. وخرَّج الخرائطي في "كتاب الشكر" (¬1) من حديث عبد الله بن عمرو مرفوعًا: "يؤتى بعبد يوم القيامة فيوقفُ بين يدي الله عز وجل (فيقول الله للملائكة) (**): انظروا في عمل عبدي (ونعمتي) ( ... ) عليه. فينظرون فيَقُولُونَ: ولا بقدر نعمةٍ واحدةٍ من نعمك عليه. فيقول: انظروا في عمله سيِّئه وصالحه. فينظرون فيجدونه كفافًا، فيقول: عبدي قد قبلتُ حسناتِكَ وغفرتُ لك سيئاتِكَ، وقد وهبت لك (نعمي) (****) فيما بين ذلك". وخرَّج الطبراني (¬2) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما مرفوعًا: "إنَّ الرجلَ يأتي يوم القيامة بالعمل لو وُضِعَ عَلَى جبلٍ لأثقله، فَتَقْدُم النعمة من نعم الله ¬

_ (*) عَلَى ذلك: "نسخة". (¬1) وأورده ابن رجب في "جامع العلوم والحكم" (ص 244) بقوله: وروى الخرائطي بإسناد فيه نظر. (**) فيقول لملائكته: "نسخة". ( ... ) ونعمي: "نسخة". (****) نعمتي: "نسخة". (¬2) في "المعجم الكبير" (12/ 13595)، وقال الهيثمي (10/ 420): فيه أيوب ابن عتبة، وهو ضعيف.

فتكاد أن تستنفد ذلك، إلاَّ أن يتطاول الله برحمته". وخرَّج ابن أبي الدُّنْيَا (¬1) من حديث أنس رضي الله عنه مرفوعًا: "يؤتى (بالنعم) (*) يوم القيامة ويؤتى بالحسنات والسيئات فيقول الله لنعمة من نعمه: خذي حقَّك من حسناته، فما تترك له حسنة إلاَّ ذهبت بها". وبإسناده عن وهب بن مُنَبِّه قَالَ: عَبَدَ عابدٌ خمسين (عامًا) (**)، فأوحى الله إِلَيْهِ: إني قد غفرت لك. قَالَ: يا رب (ولم لا) ( ... ) تغفر لي ولم أذنب؟ فأذن الله لِعرق في عنقه فضرب عليه فلم ينم ولم يصلِّ، ثم سكن (ونام) (****) فأتاه ملك فشكى إِلَيْه ما لقي من ضربان العرق، فَقَالَ المَلك: إن ربك عز وجل يقول: عبادتك خمسين سنة تعدل سكون (ذا) (*****) العرق. وفي صحيح (¬2) الحاكم عن جابر رضي الله عنه مرفوعًا عن جبريل عليه السلام: "إنَّ عابدًا عَبَدَ الله -عز وجل- عَلَى رأس جبلٍ في البحر خمسمائة سنة، ثم سأل ربه أن يَقْبِضَه ساجدًا. قَالَ جبريل: فنحن نمر عليه إذا هبطنا وإذا عرجنا، ونجد في العِلْم أنّه (يُبعث) (******) يوم القيامة فيوقف بين يدي الله عز وجل فيقول الرب عز وجل: أدخلوا عبدي الجنة برحمتي. ¬

_ (¬1) في "كتاب الشكر" (24)، وأورده ابن رجب في "جامع العلوم والحكم" (ص 243) بقوله: بإسناد فيه ضعف. (*) بالنعيم: "نسخة". (**) سنة: "نسخة". ( ... ) وما: "نسخة". (****) وقام: "نسخة". (*****) ذلك: "نسخة". (¬2) أخرجه الحاكم في المستدرك (4/ 250 - 251) وقال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد، فإن سليمان بن هرم العابد من زهاد أهل الشام، والليث بن سعد لا يروي عن المجهولين. وتعقبه الذهبي نقال: لا والله، وسليمان غير معتمد. (******) إذا بعث: "نسخة".

فيقول العبد: بعملي يا رب، يفعل ذلك ثلاث مراتٍ. ثم يقول الله تعالى للملائكة: قايسوا عبدي بنعمي عليه وبعمله، فيجدون نعمة البصر قد أحاطت (بعبادته) (*) خمسمائة سنة، وبقيت نعم الجسد له. فيقول: أدخلوا عبدي النار. فيُجر إِلَى النار فينادي (برحمتك يا رب أدخلني الجنة) (**)، فيدخله الجنة. قَالَ جبريل: إِنَّمَا الأشياء برحمة الله يا محمد". ... ¬

_ (*) بعبادة: "نسخة". (**) برحمتك أدخلني الجنة، برحمتك أدخلني الجنة: "نسخة".

ما يجب على العبد معرفته

ما يجب عَلَى العبد معرفته فمن حقق معرفة هذه الأمور، عَرَفَ أنَّ العمل وإنْ عظم فإنَّه لا يستقل بنجاة العبد، ولا يستحق به عَلَى الله دخول الجنة، ولا النجاة من النار. وحينئذٍ فيفلس العبد من عمله وييأس من الاتكال عليه ومن النظر إِلَيْه وإن كثر العمل وحسن. فكيف بمن ليس له (كثير عملٍ) (*)، وليس له عملٌ حسنٌ؟ فإن هذا ينبغي أن يشغله الفكر في التقصير في عمله، ويشتغل بالتوبة من تقصيره والاستغفار منه. ... ¬

_ (*) عمل كثير: "نسخة".

الاشتغال بالشكر أعظم النعم

الاشتغال بالشكر أعظم النعم فأما من حَسُن عمله وكثر، فإنه ينبغي له أن يشتغل بالشكر عليه فإن ذلك من أعظم نعم الله عَلَى عبده. فيجب مقابلته بالشكر عليه وبرؤية التقصير في القيام بشكره. كما كان وهيب بن الورد إذا سُئل عن أجْر عمل من الأعمال يَقُول: لا تسألوا عن أجرِهِ ولكن سلوا عما يجب عَلَى من هدي له من الشكر عليه. وكان أبو سليمان يقول: كيف يعجب عاقل بعمله؟ وإنَّما يُعد العمل نعمةً من نعم الله عز وجل، وإنما ينبغي له أن يشكر ويتواضع، إِنَّمَا يعجب بعمله القدرية. يعني: الذين لا يرون أن أعمال العباد مخلوقةٌ لله عز وجل. ***

العمل لا يوجب النجاة

العمل لا يوجب النجاة وما أحسن ما قَالَ أبو بكر النهشلي يوم مات داود الطائي وقام ابن -السمَّاك بعد دفنه يثني عليه بصالح عمله ويبكي، والناس يبكونه ويصدقونه عَلَى مقالته ويشهدون بما يثني به عليه، فقام أبو بكر النهشلي فَقَالَ: الفهم اغفر له وارحمه ولا تكله إِلَى عمله. وفي "سنن أبي داود" (¬1) عن زيد بن ثابت رضي الله عنه مرفوعًا: "لو عَذَّب الله أهل سماواته وأهل أرضه لعذبهم وهو غير ظالمٍ لهم، ولو رحمهم لكانت رحمته خيرًا لهم من أعمالهم". وفي "صحيح الحاكم" (¬2) عن جابرٍ رضي الله عنه: أن رجلاً جاء إِلَى النبيّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: واذُنوباه واذُنوباه. قالها مرتين أو ثلاثًا. فَقَالَ رسول الله صلّى الله عليه وسلم: "قل: اللَّهم مغفرتُك أوسعُ لى من ذنوبي، ورحمتُكَ أرجى عندي من عملي". فقالها، ثم قَالَ: "عد" فعاد، ثم قَالَ: "عد" فعاد فَقَالَ له: "قم فقد غُفِرَ لك". ذنوبي إن فكَّرتُ فيها كثيرةٌ ... ورحمةُ ربي مِنْ ذنوبي أوسعُ وما طمعي في صالحٍ قد عملتُهُ ... ولكنني في رحمةِ اللهِ أطمعُ ... ¬

_ (¬1) برقم (4699). (¬2) أخرجه الحاكم في "المستدرك" (1/ 543 - 544). وقال: حديث رواته عن آخرهم مدنيون ممن لا يعرف واحد منهم بجرح، ولم يخرجاه.

الاعتراف بفضل الله عز وجل

الاعتراف بفضل الله عز وجل فَإِذَا تقرر (هذا) (*) الأصل الشريف العظيم، وعُلم أنَّ العمل بنفسه لا يوجب النجاة من النار ولا دخول الجنة، فضلاً عن أن يوجب بنفسه الوصولَ إِلَى أعلى ما في الجنة من منازل المقربين، والنظرَ إِلَى وجه ربِّ العالمين، وإنما ذلك كله برحمة الله وفضله ومغفرته. فذلك يوجب عَلَى المؤمن أن يقطع نظره عن عمله بالكلية، وأن لا ينظر إلاَّ إِلَى فضل الله ومنّته عليه. كما سُئل بعض العارفين: أي الأعمال أفضل؟ قَالَ: رؤية فضل الله عز وجل، وأنشد: إنَّ المقادير إذا ساعدتْ ... ألحَقَت العاجزَ بالحازمِ ... ¬

_ (*) ذلك: "نسخة".

ما على العبد للفوز والنجاة

ما عَلَى العبد للفوز والنجاة فيتعين حينئذٍ عَلَى العبد المؤمن الطالب للنجاة من النار ولدخول الجنة، وللقرب من مولاه والنظر إِلَيْه في دار كرامته، وإن يطلب ذلك بالأسباب الموصلة إِلَى رحمة الله وعفوه ومغفرته ورضاه ومحبته. فبها ينال ما عند الله من الكرامة. إذ الله سبحانه وتعالى قد جعل للوصول إِلَى ذلك أسبابًا من الأعمال التي جعلها موصلة إليها، وليس ذلك موجودًا إلاَّ فيما شرعه الله لعباده عَلَى لسان رسوله، وأخبر عنه رسوله أنّه يقرِّب إِلَى الله ويوجب رضوانه ومغفرته، وأنه مما يحبُّه الله، أو أنّه من أحبَّ الأعمال إِلَى الله عز وجل، فقد قَالَ تعالى: {إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الأعراف: 56]. وقال تعالى: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ} [الأعراف: 156]. فالواجب عَلَى العبد البحثُ عن خصالِ التقوى وخصال الإِحسان التي شرعها الله في كتابه، أو عَلَى لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم -، والتقرب بذلك إِلَى الله عز وجل فإنه لا طريق للعبد يوصله إِلَى رضى مولاه وقربه ورحمته وعفوه ومغفرته سوى ذلك. ***

بيان أحب الأعمال إلى الله

بيان أَحَبِّ الأعمال إِلَى الله وقد أشار النبيّ صلّى الله عليه وسلم في هذه الأحاديث المُشار إليها في أول الجزء من رواية عائشة وأبي هريرة رضي الله عنهما إِلَى أنَّ أحبَّ الأعمال إِلَى الله عز وجل، شيئان: أحدهم: ما داوم عليه صاحبه وإن كان قليلاً. وهكذا كان عمل النبيّ صلّى الله عليه وسلم وعمل آله وأزواجه من بعده، وكان ينهى عن قطع العمل. وقال لعبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: "لا تكُنْ مثلَ فلانٍ كان يقومُ الليلَ فترك قيام الليل" (¬1). وقال: "يُستجاب لأحدكم ما لم يَعْجَلْ فيقول: قد دعوت فلم يُسْتجب لي فيستحسر عنيد ذلك ويَدَع الدعاء" (¬2). قَالَ الحسن: إذا نظر إليك الشيطان فرآك مداومًا عَلَى طاعة الله عز وجل فبغاك وبغاك، فرآك مداومًا مَلَّكَ ورفضك، وإذا رآك مرةً هكذا ومرةً هكذا طمع فيك. والثاني: أنَّ أحبَّ الأعمال إِلَى الله ما كان عَلَى وجه السداد والاقتصاد والتيسير دون ما كان عَلَى وجه التكلف والاجتهاد والتعسير. كما قَالَ تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185]. وقال تعالى: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ} [المائدة: 6]. وقال تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78]. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (1152)، ومسلم (1159/ 185). (¬2) أخرجه البخاري (6340)، ومسلم (2735/ 92).

وكان النبيّ صلّى الله عليه وسلم يقول: "يسِّروا ولا تعسِّروا" (¬1). وقال: "إِنَّمَا بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين" (¬2). وفي "المسند" (¬3) عن ابن عباس قيل لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أيُّ الأديان أحبُّ إِلَى الله عز وجل؟ قَالَ: "الحنيفية السمحة". وفيه أيضاً (¬4) عن مِحْجَن بن الأدرع أن النبيّ صلّى الله عليه وسلم دخل إِلَى المسجد فرأى رجلاً قائمًا يصلّي فَقَالَ: "أتراه صادقًا؟ ". فقيل: يا نبي الله هذا فلان، هذا من أحسن أهل المدينة، ومن أكثر أهل المدينة صلاة. فَقَالَ: (لا تُسْمِعه) (*) فتُهلكه -مرتين أو ثلاثًا- إنكلم أمة أُريد بكم اليسر". وفي رواية أخرى له (¬5) قَالَ: "إن خير دينكم أيسره". وفي رواية أخرى له (¬6) قَالَ: "إنكم لن تنالوا هذا الأمر بالمغالبة". وخرجه حميد بن زنجويه وزاد فيه فَقَالَ: "واكلفوا من العمل ما تطيقون فإن الله لا يملُّ حتى تملُّوا، وعليكم بالغدوة والروحة وشيءٍ من الدلجة". وفي "المسند" (¬7) عن بُريدة قَالَ: خرجتُ فإذا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يمشي، ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (69)، ومسلم (1734) عن أنس مرفوعًا. (¬2) أخرجه البخاري (220) عن أبي هريرة مرفوعًا. (¬3) (1/ 236)، وقال الهيثمي في المجمع (1/ 60): رواه أحمد والطبراني في "الكبير"، و"الأوسط"، والبزار وفيه ابن إسحاق، وهو مدلس ولم يصرح بالسماع. (¬4) في "المسند" (5/ 32). (*) لا تسمعوه: "نسخة". (¬5) في "المسند" (4/ 338). (¬6) في "المسند" (4/ 337). وقال الهيثمي (9/ 369): رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح. (¬7) (5/ 350)، وقال الهيثمي (1/ 62): رواه أحمد ورجاله موثقون.

فلحقته فإذا نحن بين (أيدينا برجلٍ) (*) يصلّي يكثر الركوع والسجود. قَالَ. "أتراه يرائي؟ " قلت: الله ورسوله أعلم. قَالَ: (فترك) (**) يدي من يده ثم جمع بين يديه فجعل يصوّبهما ويرفعهما ويقول: "عليكم هديًا قاصدًا، عليكم هديًا قاصدًا، عليكم هديًا قاصدًا فإنَّه من يشادَّ هذا الدين يغلبه". وقد رُوي من وجه آخر مرسلاً، وفيه أن النبيّ صلّى الله عليه وسلم قَالَ: "إن هذا آخذ بالعسر ولم يأخذ باليسر" ثم دفع في صدره فخرج من المسجد ولم يُر فيه بعد ذلك. وقد أنكر النبيّ صلّى الله عليه وسلم عَلَى من عزم عَلَى التبتل والاختصاء وقيام الليل، وصيام النهار، وقراءة القرآن كل ليلة، كعبد الله بن عمرو بن العاص وعثمان بن مظعون والمقداد وغيرهم، وقال: "ولكني أصومُ وأفطرُ، وأقومُ وأنامُ، وأتزوجُ النِّساءَ، فمن رَغِبَ عن سُنَّتي فليس منِّي" (¬1). وانتهى بعبد الله بن عمرو أن يقرأ القرآن في كل سبع، وفي رواية أنّه انتهى به إِلَى قراءته في كل ثلاث، وقال: "لا يفقه من قرأه في أقل من ثلاث"، وانتهى به في الصيام إِلَى صيام داود، وقال: "لا صيام أفضل من ذلك"، وفي القيام إِلَى قيام داود عليه السلام (¬2). ... ¬

_ (*) يدي رجل: "نسخة". (**) غير واضحة بالنسختين الخطيتين، ونقلتها من المسند. (¬1) أخرجه البخاري (5063)، ومسلم (1401). (¬2) أخرجه البخاري (5052)، ومسلم (1159).

معنى سددوا وقاربوا

معنى سدِّدوا وقاربوا فقوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أبي هريرة وعائشة: "سدِّدوا وقاربوا" المراد بالتسديد: العمل بالسِّداد، وهو القصد، والتوسط في العبادة فلا يقصِّر فيما أُمر به، ولا يتحمل منها ما لا يطيقه. قَالَ النضر بن شميل: السداد القصد في الدين والسبيل. وكذلك المقاربة المرادُ بها التوسط بين التفريط والإِفراط فهما كلمتان بمعنى واحدٍ أو متقارب. وهو المراد بقوله في الرواية الأخرى: "وعليكم هديًا قاصدًا". قوله: "وأبشروا" يعني أن من مشى في طاعة الله عَلَى التسديد والمقاربة فليبشر، فإنه يصل ويسبق الدائب المجتهد في الأعمال. فإن طريقَ الاقتصاد والمقاربة أفضلُ من غيرها، فمن سلكها فليبشر بالوصول فإنَّ الاقتصادَ في سنة خيرٌ من الاجتهاد في غيرها، وخير الهدي هدي محمد - صلى الله عليه وسلم -، فمن سلك طريقه كان أقرب إِلَى الله من غيره. وليست الفضائلُ بكثرة، الأعمال البدنية، لكن بكونها خالصةً لله عز وجل، صوابًا عَلَى متابعة السنة. وبكثرة معارف القلوب وأعمالها. فمن كان بالله أعرف وبدينه وأحكامه وشرائعه، وله أخوف وأحبَّ وأرجى فهو أفضلُ ممن ليس كذلك، وإن كان أكثر منه عملاً بالجوارح. وإلى هذا المعنى الإِشارة في حديث عائشة رضي الله عنها بقول النبيّ صلّى الله عليه وسلم: "سدِّدوا وقاربوا واعلموا أنّه لن يُدْخِل أحدًا منكم عملُه الجنةَ، وإن أَحَبَّ الأعمال إِلَى الله أدومها وإنْ قل" (¬1). فأمر بالاقتصاد في العمل وأن يضم إِلَى ذلك العِلْم بأحبِّ الأعمال إِلَى الله، وبأن العمل وحده لا يدخل الجنة. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (6464).

بيان ما تفوق به الصحابة

بيان ما تفوَّق به الصحابة ولهذا قَالَ بعض السَّلف: ما سبقهم أبو بكر بكثرة صوم ولا صلاة ولكن بشيء وقر في صدره. وقال بعضهم: الَّذِي كان في صدر أبي بكر رضي الله عنه المحبة لله ورسوله والنصيحة لعباده. وقال طائفة من العارفين: ما بلغ من بلغ بكثرة (صيام) (*) ولا صلاةٍ ولكن بسخاوة (الأنفس) (**) وسلامة الصدور والنصيحة للأمة. زاد بعضهم: وبذم نفوسهم. وقال آخر منهم: إِنَّمَا تفاوتوا بالإرادات ولم يتفاوتوا بكثرة الصيام والصلوات. وذُكر لأبي سليمان طولُ أعمار بني إسرائيل وضدة اجتهادهم في الأعمال، وأنَّ من الناس من غبطهم بذلك. فَقَالَ: إِنَّمَا يريد الله منكم صدق النية فيما عنده. أو كما قَالَ. وقال ابن مسعود لأصحابه: أنتم أكثر صومًا وصلاةً من أصحاب محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، وهم كانوا خيرًا منكم. قالوا: وبما ذاك؟ قَالَ: كانوا أزهد منكم في الدُّنْيَا وأرغب في الآخرة (¬1). ¬

_ (*) صوم: "نسخة". (**) النفوس: "نسخة". (¬1) أخرجه ابن المبارك في "الزهد" (501)، والحاكم في "مستدركه" (4/ 350) وقال: صحيح عَلَى شرط الشيخين ولم يخرجاه، والبيهقي في الشعب (7/ 374).

يُشير إِلَى أن الصحابة فاقوا من بعدهم بشدة تعلق قلوبهم بالآخرة ورغبتهم فيها وإعراضهم عن الدُّنْيَا بتحقيرها وتصغيرها، وإن كانت في أيديهم، فكانت قلوبُهُم منها فارغةً، وبالآخرة ممتلئةً. وهذه الحال ورثوها من نبيهم - صلى الله عليه وسلم -، فإنَّهُ كان أشدَّ الخَلْقِ فراغًا بقلبه من الدُّنْيَا، وتعلقًا بالله وبالدار الآخرة مع ملابسته للخلق بظاهره، وقيامه بأعباء النبوة وسياسة الدين والدنيا. وكذلك خلفاؤه الراشدون بعده، وكذلك أعيان التابعين لهم بإحسان كالحسن وعمر بن عبد العزيز، وقد كان في زمانهم من هو أكثر منهم صومًا وصلاةً، ولكن لم يصل قلبُهُ إِلَى ما وصلت إِلَيْه قلوب هؤلاء من ارتحالها عن الدُّنْيَا وتوطُنها الآخرة. ***

قاعدة جليلة

قاعدة جليلة فأفضل الناس من سلك طريق النَّبيّ صلّى الله عليه وسلم وخواص أصحابه في الاقتصاد في العبادة البدنية والاجتهاد في الأحوال القلبية، فإنَّ سفر الآخرة يقطع بسير القلوب لا بسير الأبدان. جاء رجلٌ إِلَى بعض العارفين فَقَالَ له: قطعتُ إليك مسافةً، فَقَالَ له: ليس هذا الأمر بقطع المسافات، فارِق نفسك بخطوةٍ وقد حصل لك مقصودك. وقال أبو يزيد: رأيت ربَّ العزة في المنام فقلت له: يا ربِّ كيف الطريق إليك؟ قال: اترك نفسك وتعالَ. ما أُعْطِيتْ أمَّة ما أعطيت هذه الأمة ببركة متابعة نبيها - صلى الله عليه وسلم - حيث كان أفضل الخلق، وهديه أكمل الهدي، مع ما يسر الله عَلَى يديه من دينه ووضع به من الآصار والأغلال عن أمته. فمن أطاعه فقد أطاع الله، وأحبه الله واهتدى بهدى الله. ***

بيان جملة من التيسير في التشريع

بيان جملة من التيسير في التشريع فمن جملة ما حصل لأمته ببركته وتيسير شريعته أنَّ: "من صلّى منهم العشاء في جماعةٍ فكأنما قام نصف الليل، ومن صلّى الفجر في جماعة فكأنما قام الليل كله" (¬1). فيكتب له قيام ليلة وهو نائم عَلَى فراشه، لا سيما إن نام عَلَى طُهرٍ وذِكرٍ حتى تغلبه عيناه. و"من صام منهم ثلاثة أيام من كل شهر فكأنما صام الشهر كله" (¬2)، فهو صائم [لبقية] (*) الشهر في مضاعفة الله، ومفطر له في رخصة الله، و"الطاعم الشاكرُ له أجرُ الصائِم الصَّابِر" (¬3). ومن نوى أن يقومَ من الليل فغلبته عيناه فنام كُتبَ له ما نوى، وكان نومه عليه صدقةً. وقال أبو الدرداء: يا حبذا نوم الأكياس وفطرهم كيف يسبقون سهر الجاهلين وصيامهم (¬4). ولهذا جاء في الحديث الصحيح: "رُبَّ قائم حظُّه من قيامه السهر، وصائم ¬

_ (¬1) أخرجه "مسلم" (656) عن عثمان بن عفان مرفوعًا. (¬2) أخرجه البخاري (1979)، ومسلم (1159/ 187) بنحوه عن عبد الله بن عمرو مرفوعًا. (*) في الأصل: "لنفسه"، والمثبت من المطبوع. (¬3) أخرجه أحمد (2/ 289) والترمذي (2486) وابن ماجه (1764) وابن خزيمة (1899) عن أبي هريرة. وأخرجه أحمد (4/ 343)، والدارمي (2030)، وابن ماجه (1765) عن سنان بن سنة مرفوعًا أيضاً. (¬4) أخرجه أبو نعيم في "الحلية" (1/ 211).

حظه من صيامه الجوع والعطش" [رواه الطبراني (¬1) وأحمد بن حنبل] (¬2) (*). وقال بعضهم: كم من مستغفر ممقوت وساكت مرحوم هذا مستغفر وقلبه فاجر، وهذا ساكت وقلبه ذاكر. وقال بعضهم: ليس الشأنُ فيمن يقوم الليل، إنَّما الشأن فيمن ينام عَلَى فراشه ثم يصبح وقد سبق الركب. وفي ذلك قيل: من لي بمثل سيركَ المدللِ ... تمشي رويدًا وتجي في الأولِ ... ¬

_ (¬1) أخرجه الطبراني في "الكبير" (12/ 13413)، وقال الهيثمي (3/ 202): رواه الطبراني في "الكبير" ورجاله موثقون. (¬2) في "مسنده" (2/ 373). (*) من المطبوع.

معنى الغدوة والروحة وأوقاتها وفضائلها

معنى الغدوة والروحة وأوقاتها وفضائلها قوله - صلى الله عليه وسلم -: "اغدوا ورُوحوا وشيء من الدُّلجة"، كقوله في الرواية الأخرى: "استعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة". يعني أن هذه الأوقات الثلاثة تكون أوقات السير إِلَى الله بالطاعات وهي آخر الليل وأول النهار وآخره. وقد ذكر الله سبحانه وتعالى هذه الأوقات في قوله تعالى: {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (25) وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا} [الإنسان: 25 - 26]. وقال تعالى: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى} [طه: 130]. وقال تعالى: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ (39) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ} [ق: 39 - 40]. وذكَرَ الله تعالى الذِّكر في طرفي النهار في مواضع كثيرة من كتابه، كقوله تعالي: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} [الأحزاب: 41 - 42]. وقال تعالى: {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ} [غافر: 55]. وقال تعالى: {وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} [الأنعام: 52]. وقال تعالى -في ذكر زكريا عليه السلام: {فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا} [مريم: 11] وقال تعالى: {وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ} [آل عمران: 41]. فهذه الأوقات الثلاثة منها وقتان وهما أول النهار وآخره يجتمع في كل من هذين الوقتين عمل واجب وعمل تطوع، فأما العمل الواجب فهو صلاة الصبح وصلاة العصر وهما أفضل الصلوات الخمس، وهما البردان اللذان من حافظ

عليهما دخل الجنة، وقد قيل في كل منهما أنها الصلاة الوسطى. وأما عمل التطوع فهو ذكر الله بعد صلاة الصبح حتى تطلع الشمس وبعد العصر حتى تغرب الشمس. وقد ورد في فضله نصوص كثيرة وكذلك وردت النصوص الكثيرة فى أذكار الصباح والمساء، وفي فضل من ذَكَر اللهَ حين يصبح وحين يمسي. وقد رُوي من حديث ابن عمر مرفوعًا: "ابن آدم اذكرني ساعةً من أول النهار وساعةً من آخره أغفر لك ما بين ذلك إلاَّ الكبائر أو تتوب منها" (¬1). وكان السَّلف لآخِرِ النهار أشد تعظيمًا من أوَّله. قَالَ ابن المبارك: بلغنا أنّه من ختم نهاره بذكر الله كُتب نهاره كله ذكرًا. وقال أبو الجَلْد: بلغنا أنَّ الله تعالى ينزل مساءً كل يوم إِلَى السماء الدُّنْيَا ينظر إِلَى أعمال بني آدم. ورأى بعض السَّلف أبا جعفر القارئ في المنام فَقَالَ له: قل لأبي حازم - يعني الأعرج الزاهد الكَيِّس إنَّ الله وملائكته يتراؤن مجلسك بالعشيات. والظاهر أن أبا حازم كان يقصُّ عَلَى النّاس آخر النهار. وقد جاء في الحديث: "إنَّ الذِّكر بعد الصبح (أحبُّ) (*) من أربع رقابٍ، وبعد العصر أَحَبُّ من ثمان رقابٍ" (¬2). وأيضاً فيوم الجمعة آخره أفضل من أوله لِمَا يُرجى في آخره من ساعة الإجابة. ¬

_ (¬1) لم أقف عليه. (*) أفضل: "نسخة". (¬2) أخرجه البيهقي في "الشعب" (562)، (563) عن أنس مرفوعًا، وعن رجل من أهل بدر (564) بنحوه. وأخرجه أحمد (5/ 253، 255) والطبراني في الكبير (8/ 8028) عن أبي أمامة مرفوعًا بنحوه. وقال الهيثمي (10/ 104): رواه أحمد والطبراني وأسانيده حسنة.

ويوم عرفة آخره أفضل من أوله؛ لأنّه وقت الوقوف، وكذلك آخر الليل أفضل من أوله. كذا قَالَ السَّلف، واستدلوا بحديث النزول الإلهي (¬1). وهذا كله مما يُرجح به قول من قَالَ إن صلاة العصر هي الوسطى. وأما الوقت الثالث فهو الدُّلجة. والإِدلاج: سير آخر الليل، والمراد به ها هنا العمل في آخر الليل وهو وقت الاستغفار، كما قَالَ تعالى: {وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ} [آل عمران: 17]، وقال تعالى: {وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذاريات: 18]. وهو آخر أوقات النزول الإلهي المتضمن لاستعراض حوائج السائلين، واستغفار المذنبين، وتوبة التائبين، وسط الليل للمحبين للخلوة بحبيبهم، وآخر الليل للمذنبين يستغفرون (من ذنوبهم) (*). من عجز عن مشاركة المحبين في الجري معهم في ذلك المضمار فلا أقلَّ من مشاركة المذنبين في الاعتذار. ورد في بعض الآثار: أن العرش يهتز من السَّحَر. قَالَ طاووس: ما كنت أظن أن أحدًا ينام في السحر. وفي الحديث الَّذِي خرَّجه الترمذي (¬2): "من خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل". سير الدلجة آخر الليل يقطع به سفر الدُّنْيَا. ولهذا في الحديث الَّذِي خرّجه مسلم (¬3): "إذا سافرتم فعليكم بالدُّلجة فإنَّ ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (1145)، ومسلم (758) عن أبو هريرة مرفوعًا: "ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إِلَى السماء الدنيا حتى يبقى ثلث الليل الآخر يقول: من يدعوني فأستجيب له، منع يسألني فأعطيه، من يستغفرني فأغفر له". (*) لذنوبهم: "نسخة". (¬2) برقم (2450) وقال: هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث أبي النضر. (¬3) لم أجده في مسلم، وأخرجه أبو داود (2571)، وابن خزيمة (2555) عن أنس مرفوعًا. وأخرجه أحمد (3/ 305، 381)، وأبو داود (2570)، والنسائي في "عمل اليوم والليلة" (955)، وابن ماجه (329)، (3772)، وابن=

الأرض تطوى بالليل". قَالَ بعض الفضلاء: اصبر عَلَى مضض الإِدلاج في السَّحَر ... وفي الرَّواح عَلَى الطاعات والبُكَرِ لا تَضجَرَنَّ ولا يُعجزكَ مطلبها ... فالهمُّ يتلَف بين اليأس والضجَرِ إني رأيتُ وفي الأيام تجربةٌ ... للصبر عاقبةٌ محمودة الأثرِ وقل مَنْ جَدَّ وفي أَمْرٍ تَطلبَّه ... واستَصْحَبَ الصَّبر إلاَّ فازَ بالظفرِ وقد رُوي أن الأشتر دخل عَلَى علي بن أبي طالب رضي الله عنه بعد هدأة من الليل وهو قائم يصلّي. فَقَالَ: يا أمير المؤمنين صوم بالنهار وسهر بالليل وتعب فيما بين ذلك! فلما فرغ من صلاته قَالَ: سفر الآخرة طويلٌ يحتاج إِلَى قطعه بسير الليل وهو الإدلاج. كانت امرأةٍ حبيب بن محمد الفارسي توقظه بالليل وتقول: قم يا حبيب؛ فإنَّ الطريق بعيدٌ وزادنا قليلٌ، وقوافل الصالحين قد سارت من بين أيدينا ونحن قد بقينا. يا نائمًا بالليل كم ترقد ... قُم يا حبيبي قد دنا الموعدُ وخُذ من الليل أوقاته ... وردًا إذا ما هَجَعَ الرُّقَّدُ من نام حتى ينقضي ليله ... لم يبلغ المنزل لو يجهدُ ... ¬

_ =خزيمة (2548)، (2549)، عن جابر مرفوعًا ضمن حديث طويل.

معنى القصد في السير

معنى القصد في السير وقول - صلى الله عليه وسلم -: "القصد القصد تبلغوا" حثٌّ عَلَى الاقتصاد فى العبادة والتوسط فيها بين الغلو والتقصير، ولذلك كرره مرةٌ بعد مرةٍ. وفي "مسند البزَّار" (¬1) من حديث حذيفة رضي الله عنه مرفوعًا: "ما أحسن القصد في الفقر، وما أحسن القصد في الغني، وما أحسن القصد في العبادة". وكان لمُطَرِّف بن عبد الله بن الشِّخِّير ابنٌ قد اجتهد في العبادة، فَقَالَ له أبوه: خير الأمور أوسطها، الحسنة بين السيئتين، وشرُّ السير الحقحقة. قَالَ أبو عبيد: يعني أن الغلوَّ في العبادة سيئة، والتقصير سيئة والاقتصاد بينهما حسنةٌ. قَالَ: والحقحقة أن يلحَّ في شدة السير حتى تقوم عليه راحلته وتعطب فيبقى منقطعًا به سفره، انتهى. ويشهد لهذا المعنى الحديث المروي عن عبد الله بن عمرو مرفوعًا: "إنَّ هذا الدينَ متينٌ فأوغلْ فيه برفقٍ ولا تبغض إِلَى نفسك عبادة الله، فإنَّ المنبتَّ لا سفرًا قطع ولا ظهرًا أبقى، فاعمل عمل امرئ يظن أنّه لن يموت إلاَّ هَرِمًا، واحذر حذر امرئ (يخشى) (*) أن يموت غدًا". أخرجه حميد بن ¬

_ (¬1) برقم (2946)، وقال: وهذا الكلام لا نعلمه يروى عن حذيفة إلاَّ بهذا الإسناد. وقال الهيثمي في المجمع (10/ 252): رواه البزار من رواية سعيد بن حكيم عن مسلم بن حبيب، ومسلم هذا لم أجد من ذكره إلاَّ ابن حبان في ترجمة سعيد الرواي عنه، وبقية رجاله ثقات. (*) يحذر: "نسخة".

زنجويه (¬1) وغيره. وفي تكرير أمره بالقصد إشارة (إِلَى) (**) المداومة عليه، فإن شدة السير والاجتهاد مظنةُ السامة والانقطاع، والقصد أقرب إِلَى الدوام، ولهذا جعل عاقبةَ القصد البلوغَ كما قَالَ: "من أدلج بلغ المنزل". فالمؤمن في الدنيا يسيرُ إِلَى ربه حتى يبلغَ إِلَيْهِ، كما قَالَ تعالى: {يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ} [الانشقاق: 6]، وقال تعالى: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر: 99]. قَالَ الحسن: يا قوم، المداومةَ المداومةَ فإنَّ الله يجعل لعمل المؤمن أجلاً دون الموت، ثم تلا هذه الآية. وقال أيضاً: نفوسكم مطاياكم فأصلحوا مطاياكم تُبلِّغكم إِلَى ربكم عز وجل. والمرادُ بصلاح المطايا: الرفقُ بها، وتعاهُدها بما يصلحها من قوتها والرفق بها في سيرها، فإذا أحسَّ منها بتوقفٍ في السير تعاهدها تارةً بالتشويق، وتارةً بالتخويف حتى تسير. قَالَ بعض السَّلف: الرجاء قائدٌ والخوف سائقٌ، والنفس بينهما كالدابة الحَرُون (¬2). فمتى فتر قائدها وقصَّر سائقها وقفت فتحتاج إِلَى الرفق بها والحدو لها حتى يطيب لها السير. كما قَالَ حادي الإِبل بالبوادي: بَشَّرها دليلها وقال لها ... غدًا ترَيْن الطلح والجبالا ¬

_ (¬1) وأخرجه البيهقي في "السنن الكبير" (3/ 19). (**) عَلَى: "نسخة". (¬2) الدابة الحرون: هي التي إذا استدر جريها وققت لسان العرب (13/ 110).

ولما كان الخوف كالسَّوط فمتى ألحَّ بالضرب بالسوط عَلَى الدابة تلفت، فلا بد لها الضرب من حادي الرجاء، يطيِّب لها السير بحدائه حتى تقطع. قَالَ أبو يزيد: ما زلت (أقودُ) (*) نفسي إِلَى الله وهي تبكي حتى سُقتُها وهي تضحك. كما قيل: إذا شكتْ من كَلالِ السير أو عدها ... روحَ القدومِ فتحيا عندَ ميعادِ ... ¬

_ (*) أسوق: "نسخة".

سلوك صراط الله عز وجل

سلوك صراط الله عز وجل قَالَ خليدٌ العَصَريُّ: إنَّ كلَّ حبيبٍ يحب أنْ يلقى حبيبه، فأحبوا ربكم وسيروا إِلَيْه سيرًا جميلاً لا مصعدًا ولا مميلا. فغاية السير يوصل المؤمن إِلَى ربه، ومن لا يعرف الطريق إِلَى ربه لم يسلك إِلَيْه فيه، فهو والبهيمة سواء. قَالَ ذو النون: السفلة من لا يعرف الطريق إلى الله ولا يتعرَّفه. والطريقُ إِلَى اللهِ هو سلوكُ صراطه المستقيمِ، الَّذِي بعث الله به (رسوله) (*) وأنزل به (كتابه) (**)، وأمر الخلق كلهم بسلوكه والسير فيه. قَالَ ابن مسعود رضي الله عنه: الصراط المستقيم، تركنا محمد - صلى الله عليه وسلم - في أدناه، وطرفه الجنة، وعن يمينه جَوَادُّ، وعن يساره جَوَادُّ، وثم رجال يدعون من مرَّ بهم، فمن أخذ في تلك الجَوَادِّ انتهت به إلى النار، ومن أخذ عَلَى الصراط انتهى به إِلَى الجنة. ثم قرأ: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ} [الأنعام: 153] خرّجه ابن جرير (¬1) وغيره (¬2). فالطريقُ الموصلُ إلى الله واحدٌ، وهو صراطُهُ المستقيمُ، وبقيَّةُ السُّبلِ كلِّها سبل الشيطان، مَنْ سلكها قطعت به عن الله، وأوصلته إِلَى دار سَخَطه وغضبه وعقابه. ... ¬

_ (*) رسله: "نسخة". ( ... ) كتبه: "نسخة". (¬1) في تفسيره (8/ 89). (¬2) وأخرجه أحمد (1/ 435، 465)، وابن ماجه (11) والحاكم (2/ 318).

الأعمال بالخواتيم

الأعمال بالخواتيم فربما سلك الإنسان في أول أمره عَلَى الصراط المستقيم، ثم ينحرف عنه في آخر عُمُره فيسلك بعض سبل الشيطان فينقطع عن الله فيهلك، "إنَّ أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكونَ بينه وبينها إلاَّ ذراعٌ أو باعٌ، فيعمل بعمل أهل النار فيدخل النار" (¬1). وربما سلك الرجل أولاً بعض سبل الشيطان ثم تدركه السعادة فيسلك الصراط المستقيم في آخر عمره فيصل به إِلَى الله. والشأن كل الشأن في الاستقامة عَلَى الصراط المستقيم من أول السير إِلَى آخره، {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ} [الجمعة: 4]. {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [يونس: 25]. ما أكثر من يرجع أثناء الطريق أو ينقطع، فإنَّ القلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن، {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ} [إبراهيم: 27]. خَلِيليَّ قُطَّاع (الفيافي إِلَى الحما) (*) ... كثير وأما الواصلون قليل ... ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (3208)، ومسلم (2643). (*) الطريق إليكما: "نسخة".

فضل تقرب العبد إلى الله عز وجل

فضل تقرب العبد إِلَى الله عز وجل وفي الحديث الصحيح الإلهي يقول الله عز وجل: "من تقرّب مني شبرًا تقربت منه ذراعًا، ومن تقرب مني ذراعًا تقربت منه باعًا، ومن أتاني يمشي أتيته هرولة" (¬1). وفي "المسند" (¬2): "والله أعلى وأجل، والله أعلى وأجل، والله أعلى وأجل". وفيه أيضاً (¬3)، يقول الله: "يابن آدم قم إِلَيَّ أمشِ إليك، وامش إليّ أهرول إليك". مَنْ أَقْبَلَ إلينا تَلَقَّيناه من بعيد ... ومن أراد مرادنا أردنا ما يُريد ومن سَأَلنا أعطيناه فوق المزيد ... ومن عمل بقوَّتنا ألنَّا له الحديد يا هذا لو أنك قصدت باب والي الشُّرطة، لَمَا أقبل إليك ولا تلقَّاك، وربما حجبك عن الوصول إِلَيْه وأقصاك، وملك الملوك يقول: "من أتاني يمشي أتيته (هرولة) (*) ". وأنت عنه معرضٌ وعلى غيره مقبلٌ، لقد غُبنت أفحشَ الغبن وخسرت أكبر الخسران. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (7405)، ومسلم (2675). (¬2) أخرجه أحمد في مسنده (5/ 155) وهو ضمن الحديث السابق: "من تقرب إلى الله عز وجل شبرًا .. الحديث". وقال الهيثمي (10/ 197): رواه أحمد والطبراني وإسنادهما حسن. (¬3) (3/ 478) بإسناده عن شريح قَالَ: سمعت رجلاً من أصحاب النبيّ صلّى الله عليه وسلم يقول: قَالَ النبيّ - صلى الله عليه وسلم -: قَالَ الله تعالى: ... فذكره. وقال الهيثمي (10/ 196 - 197): رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح، غير شريح ابن الحارث، وهو ثقة. (*) أهرول: "نسخة".

واللهِ ما جئتكم زائرًا ... إلاَّ وجدتُ الأرض تُطوى لي ولا ثَنيت العزم عن بابكم ... إلاَّ تعثرتُ بأذيالي يا معشر المريدين قد وضح الطريق فما هذا التأخر عن السلوك والتعويق؟ لقد وضح الطريق إليك حقًّا ... فما خَلْقٌ أرادكَ يستدل {أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ} [إبراهيم: 10]. {يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ} [الأحقاف: 31]. يا نفسُ ويحك قد أتاكِ هداكِ ... أجيبي فهذا داعي الله قد ناداك كم قد دعيتِ إِلَى الرشاد فتُعْرضي ... وأجبتِ داعي الغيِّ حين دعاكِ ***

أنواع الوصول إلى الله تعالى

أنواع الوصول إِلَى الله تعالى الوصول إِلَى الله نوعان: أحدهما في الدُّنْيَا، والثاني في الآخرة. فأما الوصول الدنيوي فالمراد به: أن القلوبَ تصل إِلَى معرفته، فإذا عرفته أحبته، وأنِست به، فوجدته منها قريبًا ولدعائها مجيبًا. كما في بعض الآثار: "ابن آدم اطلبني تجدني فإن وجدتني وجدتَ كلَّ شيء، وإن فِتُّكَ فاتك كل شيء. برزَ المرسوم منّا ... لا نُخيب قَط ظنا فاطلبونا تجدونا ... في قلوب قد تسعنا صابرات راضيات ... بالذي قد يصدر عنّا كان ذو النون يخرج بالليل فيردد نظره في السماء ويردد هذه الأبيات حتى يصبح وهي هذه: اطلبوا لأنفسكم ... مثل ما وجدت أنا قد وجدتُ سكنًا ... ليس في هواه عَنَا إنْ بعدتُ قربني ... أو قربت منه دنا وأما الوصولُ الأخرويُّ فالدخولُ إِلَى الجنة التي هي دارُ كرامةِ الله لأوليائه. ولكنهم في درجاتها متفاوتون في القرب بحسب تفاوت قلوبهم في الدُّنْيَا في القرب والمشاهد بحسب تفاوت قلوبهم في الدُّنْيَا في القرب والمشاهدة. قَالَ تعالى: {وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً (7) فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (8) وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (9) وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ}

[الواقعة: 7 - 11]. كان الشبلي يهيج في داره وينشد يقول: عَلَى بُعدكم لا صبر ... عَلَى مَنْ عادته القربُ ولا يقوى عَلَى حجبك ... من تيَّمه الحبُّ فإنْ لم تَرَكَ العين ... فقد (أبصركَ) (*) القلبُ ... ¬

_ (*) يبصرك: "نسخة".

حال من التزم الإسلام أو الإيمان أو الإحسان

حال من التزم الإِسلام أو الإِيمان أو الإِحسان الصراط المستقيم في الدُّنْيَا يشمل عَلَى ثلاثة درجات: درجة الإِسلام، ودرجة الإِيمان، ودرجة الإِحسان. فمن سلك درجة الإسلام إِلَى أن يموت عليها منعته من الخلود في النار، ولم يكن له بُدَّ من دخول الجَنة، وإن أصابه قبل ذلك ما أصابه. ومن سلك عَلَى درجة الإيمان إِلَى أن يموت عليها منعته من دخول النار بالكلية، فإنَّ نورَ الإيمان يطفئ لهب نار جهنم حتى تقول: "يا مؤمن جُز فقد أطفأ نورُك لهب" (¬1). وفي "المسند" (¬2) عن جابر مرفوعًا: "لا يبقي بَرٌّ ولا فاجر إلاَّ دخلها، فتكون عَلَى المؤمن بردًا وسلامًا كما كانت عَلَى إبراهيم حتى أن للنار ضجيجًا من بردهم". هذا ميراثٌ رثه المحبوب من حال أبيهم إبراهيم عليه السلام. ففي فؤاد المحبِّ نارُ (هوى) (*) ... حر نارِ الجحيم أبردُها ومن سلك عَلَى درجة الإحسان إِلَى أن يموت عليها، صل بعد ¬

_ (¬1) أخرجه الطبراني في الكبير (22/ 668) عن يعلى بن منية مرفوعًا. وقاله الهيثمي في المجمع (10/ 360): رواه الطبراني وفيه سليم بن منصور بن عمار وهو ضعيف. وقال المصنف في "التخويف من النار" ص 184: غريب وفيه نكارة. وقد سبق تخريجه في موضعين آخرين. (¬2) (3/ 328 - 329)، وقال الهيثمي (7/ 55): ورجاله ثقات، وقال ابن كثير في "تفسيره": غريب ولم يخرجوه وضعفه الألباني في ضعيف الجامع (6156). (*) جوى: "نسخة".

الموت إِلَى الله {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس: 26]. وفي الحديث الصحيح: "إذا دخل أهلُ الجنةِ الجنةَ نادي منادٍ: يا أهلَ الجنةِ إنَّ لكم عندَ اللهِ موعدًا يريد أن ينجزكموه. فيقولون: ما هو؟ ألم يبيِّض وجوهنا؟ ألم يثقِّل موازيننا؟ ألم يدخلنا الجنة ويجرنا من النار؟ فيَكْشِف الحجاب فينظرون إِلَيْهِ، فواللهِ ما أعطاهم الله شيئًا أحبّ إليهم، ولا أقرَّ لأعينهم من النظر إِلَيْه". وهو الزيادة ثم تلا: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} (¬1). كلُّ أهل الجنة يشتركون في الرؤية لكن يتفاوتون فى القرب فى حال الرؤية وفي أوقات الرؤيا. عموم أهل الجنة يرون يوم المزيد وهو يوم الجمعة، وخواصهم (ينظرون إِلَى وجه الله) (*) كل يوم مرتين بكرةً وعشيًّا. عموم أهل الجنة لهم رزقهم فيها بكرةً وعشيًّا، وخواصهم يرون الله بكرةً وعشيًّا. العارفون لا (يسليهم) (**) عن محبوبهم قصرٌ ولا يرويهم دونه نهرٌ. كان بعضهم يقول: إذا جعتُ فَذِكْرُهُ زادي، إذا عطَشتُ فمشاهدته سُؤْلي ومرادي. رُؤي بعض الصالحين في المنام بعد موته فسئل عن حال رجلين من العُلَمَاء؟ فَقَالَ: تركتهما الآن بين يدي الله عز وجل يأكلان ويشربان ويتنعمان. قِيلَ لَهُ فأنت؟ قَالَ: عَلِمَ قلة رغبتي في الطعام فأباحني النظرَ إِلَيْهِ. ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (181) بنحوه، والترمذي (2552)، وابن ماجه (187) بلفظه. (*) يرون وجهه: "نسخة". (**) يلهيهم:"نسخة".

أنت ربِّي إذا ظمأت إِلَى الماء ... وقوتي إذا أردت الطعاما وفي "المسند" (¬1) عن ابن عمر مرفوعًا "إنَّ أدنى أهلِ الجنةِ منزلةً لمن ينظر في ملكه ألفي سنة يرى أقصاه كما يرى أدناه، ينظر إِلَى أزواجه وخدمه، وإن أفضلهم منزلةً لينظر إِلَى وجه الله تبارك وتعالى كلَّ يومٍ مرتين". وخرَّجه الترمذي (¬2) ولفظه. "إنَّ أدنى أهلِ الجنة منزلةً لَمَن ينظر إِلَى جنانه وأزواجه (ونعيمه) (*) وخدمه وسرره مسيرة ألف سنة، وأكرمُهُم عَلَى الله من ينظر إِلَى وجهه غدوة وعشيًّا"، ثم قرأ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 22 - 23]. ولهذا المعنى قَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فِي الحديث الصحيح، عن جرِير بن عبد الله البَجَلي: "إنكم لترون ربكم يومَ القيامةِ كما ترون هذا القمرَ ليلةَ البدرِ لا تُضامون في رؤيته". قَالَ: "فإن استطعتم أن لا تُغلبوا عن صلاة قبل طلوعِ الشمسِ وقبل غروبها فافعلوا". ثم قرأ {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ} [ق: 39] (¬3). ... ¬

_ (¬1) (2/ 13)، وقال الهيثمي (1/ 401): رواه أحمد وأبو يعلى والطبراني وفي أسانيدهم ثوير بن أبي فاختة وهو مجمع عَلَى ضعفه. (¬2) برقم (2553) وقال: وقد رُوي هذا الحديث من غير وجه عن إسرائيل، عن ثور عن ابن عمر مرفوعًا. ورواه عبد الملك بن أبجر عن ثوير عن ابن عمر موقوفًا. ورواه عبيد الله الأشجعي عن سفيان عن ثوير عن مجاهد عن ابن عمر قوله ولم يرفعه اهـ. ورواه الترمذي أيضاً (3330) وقال: هذا حديث غريب. (*) ونعمه: "نسخة". (¬3) أخرجه البخاري (7434)، ومسلم (633).

فضل وقتي الغداة والعشي والمقصود بهما

فضل وَقْتَي الغَدّاة والعَشِي والمقصود بهما لمَّا كان هذان الوقتان في الجنة وقتين للرؤية في حقِّ خواصِّ أهلِ الجنة، حضَّ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى المحافظة عَلَى الصلاة في هذين الوقتين في الدُّنْيَا. فمن حافظ على هاتين الصلاتين في الدُّنْيَا في هذين الوقتين وصلاَّهما عَلَى أكمل وجوههما وخشوعهما وحضورهما وآدابهما، فإنَّه يرجى له أن يكون ممن يرى اللهَ في هذينِ الوقتين في الجنة. لا سيما إنْ حافظ بعدهما عَلَى الذكر وأنواع العبادات حتى تطلع الشمس أو تغرب، فإن وصل العبدُ ذلك بدلجةِ آخرِ الليلِ فقد اجتمع له السير في الأوقات الثلاثة، وهي: الدلجة، والغدوة، والروحة فيوشك أن يعقبه الصدق في هذا السير، الوصول الأعظم إِلَى ما يطلبه {فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} [القمر: 55]. من لزم الصدق في طلبه أدّاه الصدقُ إِلَى مقعدِ الصدق وبأكثر {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ} [يونس: 2]. المحبُّ لا يقطع السؤال عمن يحب، ويتجسس الأخبار، (ويتنسم) (*) الرياح، ويستدل بالآثار لسلوكِ الطريق إِلَى محبوبه أسائلكم عنها فهل من مخبر ... فما لي بنعم بعد مكثنا علم فلو كنتُ أدري أين خيَّم أهلها ... وأَيُّ بلادِ الله إذا ظعنوا أمُّوا إذًا لسلكنا مسلك الريح خلفَها ... ولو أصبحت نعم ومن دونها النجمُ لقد كبرت همةٌ (اللهُ مطلوبُهَا) (**)، وشرُفت نفسٌ اللهُ محبوبُهَا: {وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} [الأنعام: 52]. ما للمحب سوى إرادة حُبِّه ... إنَّ المحبَّ بكلِّ بر يضرع ¬

_ (*) ويشم: "نسخة". (**) مع الله مطلبها "نسخة".

حال من ركن إلى الآخرة ومن ركن إلى الدنيا

حال من ركن إِلَى الآخرة ومن ركن إِلَى الدُّنْيَا قيمة كل امرئ ما يطلب، فمر كان يطلب الله فلا قيمة له من طلب الله فهو أجلْ من أن يقوَّم، ومن طلب غيره فهو أخس من أن يكون له قيمة. قَالَ الشُّبْلي: منْ ركن إِلَى الدُّنْيَا أحرقته بنارها فصار رمادًا (تذروه) (*) الرياح، ومن ركن إِلَى الآخرة أحرقته بنورها فصار سبيكة ذهب يُنتفع به، ومن ركن إِلَى الله أحرقه بنور التوحيد فصار جوهرًا لا قيمة له. له همم لا منتهى لكبارها ... وهمته الصغرى أجلُّ من الدهر وسُئل الشبلي: هل يقنع المحبُّ بشيءٍ من حبيبه قبل مشاهدته؟ فأنشد: والله لو أنك توجتني ... بتاج كسرى ملك المشرِقِ ولو بأموال الورى جُدت لي ... أموال من بادَ ومن قد بقي وقلتَ لي لا نلتقي ساعةً ... اخترت يا مولاي أن نلتقي من كبرت همته لم يرض بطلب شيءٍ سوى الله سبحانه وتعالى كلُّ غدوي ورواحي ... في مسائي وصباحي وكذا ذكرك روحي ... ثم ريحاني وراحي أنت سؤلي ونصيبي ... ومرادي ونجاحي يا غياثي وملاذي ... لرشادي وصلاحي ... ¬

_ (*) تذره "نسخة".

فصل في قوله تعالى: {وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون} [الزمر: 47]

فصل في قوله تعالى: {وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} [الزمر: 47] هذه الآية ُكانت تشتدُّ عَلَى الخائفين في العارفين، فإنها تقتضي أنَّ من العباد من يبدو له عند لقاء الله ما لم يكن يحتسب، مثل أن يكون غافلاً عما بين يديه معرضًا عنه غير عامل ولا يحتسب له، فإذا كُشف الغطاء عاين تلك الأهوال الفظيعة، فبدا له ما لم يكن في حسابه. ولهذا قَالَ عمر رضي الله عنه: لو أن لي ملء الأرض ذهبًا لافتديت به من هول المطلع (¬1). وفي الحديث: "لا تَمنَّوا الموت فإن هول المطلع شديد، وإنَّ من سعادة (المرء) (*) أن يطول عمره ويرزقه الله الإنابة" (¬2). وقال بعضُ حكماءِ السَّلف: كم من موقف خزي يوم القيامة لم يخطر عَلَى بالك قط. ونظير هذا قوله تعالي: {لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} [ق: 22]. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو يعلي (2731)، وقال الهيثمي (9/ 77) رجاله رجال الصحيح. وأخرجه الطبراني في الأوسط (579) وقال: لم يرو هذا الحديث عن عبد الله بن عمر إلاَّ مبارك بن فضالة، وقال الهيثمي (9/ 76): إسناده حسن. وأخرجه ابن حبان (6891 - إحسان)، والحاكم في "مستدركه" (3/ 98)، وأبو نعيم في "الحلية" (3/ 355). (*) العبد: "نسخة". (¬2) أخرجه أحمد في "مسنده" (3/ 332)، وعبد بن حميد (1155)، والبيهقي في "الشعب" (10589). وقال الهيثمي (10/ 203): رواه أحمد والبزار وإسناده حسن.

بيان ما يصير هباء منثورا من الأعمال

بيان ما يصير هباء منثورًا من الأعمال النوع الأول: ويشتمل عَلَى ما هو أعم من ذلك وهو أن يكون له أعمالٌ يرجو بها الخير فتصير هباءً منثورًا وتبدل سيئات. وقد قَالَ تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ} [النور: 39]. وقال تعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [الفرقان: 23]. قَالَ الفضيل في هذه الآية: {وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} [الزمر: 47] قَالَ: عملوا أعمالاً وحسبوا أنها حسنات فإذا هي سيئات. النوع الثاني: وقريب من هذا أن يعملَ الإنسانُ ذنبًا يحتقره، ويستهون به فيكون هو سبب هلاكه، كما قَالَ تعالى: {وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ} [النور: 15]. وقال بعض الصحابة: إنكم تعلمون أعمالاً هي أدقُّ في أعينكم من الشعر، كنا نعدها عَلَى عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من المُوبقات (¬1). النوع الثالث: وأصعب من هذا من زُيّن له سوء عمله فرآه حسنًا قَالَ تعالى: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} [الكهف: 103 - 104]. قَالَ ابن عُيَيْنَة: لما حضرت محمدَ بنَ المُنكَدر الوفاةُ جزع فَدَعوا له أبا حازم فجاء، فَقَالَ له ابن المنكدر: إنَّ الله يقول: {وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (6492) عن أنس.

النوع الرابع:

{يَحْتَسِبُونَ} [الزمر: 47]، فأخافُ أن يبدو لي من الله ما لم أكن أحتسب. فجعلا يبكيان جميعًا. خرَّجه ابن أبي الدُّنْيَا وابن أبي حاتم. وزاد ابن أبي الدُّنْيَا: فَقَالَ له أهله: دعوناكَ لتخفِّف عليه فزدته فأخبرهم بما قَالَ. وقال الفُضَيْل بن عِيَاض: أُخْبِرتُ عن سليمان التيمي أنّه قِيلَ لَهُ: أنتَ أنتَ ومن مُثلك؟ فَقَالَ: مه، لا تقوّلوا هذا، لا أدري ما يبدو لي من الله، سمعت الله يقول: {وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} [الزمر: 47]. النوع الرابع: وكان سفيان الثوري يقول عند هذه الآية: ويلٌ لأهل الرياء من هذه الآية. وهذا كما في حديث الثلاثة الذين هم أول من تسعر بهم النار، العالم، والمتصدِّق والمجاهد (¬1). النوع الخامس وكذلك من عمل أعمالاً صالحةً وكانت عليه مظالم فهو يظنُّ أنَّ أعماله تنجيه فيبدو له من الله ما لم يكن يحتسب، فيقتسم الغرماء أعماله كلها ثم يفضل لهم فضل فيطرح من سيئاتهم عليه ثم يطرح في النار. النوع السادس وقد يُنَاقَشُ الحساب فيُطلب منه شكر النعم، فأصغرها تستوعب أعماله كلها، وتبقى بقية النعم، فيُطالَب شكرها فيعذَّب، ولهذا قَالَ عليه الصلاة والسلام: "من نوقش الحساب عُذِّب أو هَلَك" (¬2). ¬

_ (¬1) أخرجه سلم (1905) عن أبي هريرة مرفوعًا. (¬2) سبق تخريجه.

النوع السابع

النوع السابع وقد يكون له سيئات تحبط بعض أعماله وأعمال جوارحه سوى التوحيد فيدخل النار. وفي "سنن ابن ماجه" (¬1) من رواية ثوبان مرفوعًا: "إنَّ مِنْ أمتي من يجيء بأعمال أمثال الجبال فيجعلها الله هباءً منثورًا". وفيه: "هم قومٌ من جلدتكم (ويتكلمون بألسنتكم) (¬2) ويأخذون من الليل كما تأخذون ولكنهم إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها". وخرَّج يعقوب بن شيبة وابن أبي الدُّنْيَا من حديث سالم مولى أبي حذيفة مرفوعًا: "لَيجيء يوم القيامة أقوامٌ معهم من الحسنات مثل جبال تِهامَةَ، حتى إذا جيء بهم جعل الله أعمالهم هباءً ثم أكبَّهم في النار". قَالَ سالم: خشيت أن أكون منهم. قَالَ: "أما إنَّهم كانوا يصومون ويصلون ويأخذون هنيهة من الليل، لعلهم كانوا إذا عرض لهم شيء من الحرام أخذوه، فأدحض الله أعمالهم" (¬3). وقد يحبط العمل بآفة من رياء خفيٍّ وعُجْب به ونحو ذلك ولا يشعر به صاحبه. ... ¬

_ (¬1) برقم (4245) قَالَ في الزوائد هذا إسناد صحيح، رجاله ثقات، وأبو عامر الألهاني اسمه عبد الله بن غابر. (¬2) ليست هذه العبارة في ابن ماجه. (¬3) وأخرجه أبو نعيم في "الحلية" (1/ 178).

هم الدنيا وشقاء الآخرة

هم الدُّنْيَا وشقاء الآخرة قَالَ ضيغم العابد: إن لم تأت الآخرةُ المؤمنَ بالسرور، لقد اجتمع عليه همان، همُّ الدُّنْيَا وشقاء الآخرة. فقِيلَ لَهُ: كيف (لا) (*) تأتيه الآخرة بالسرور وهو يتعب في دار الدُّنْيَا ويدأب؟ قَالَ: كيف بالقبول، كيف بالسلامة؟ كم (من) (*) رجل يرى أنّه قد أصلح همته يُجمع ذلك كله يوم القيامة ثم يضرب به وجهه. ومن هنا كان عامر بن عبد قيس وغيره يقلقون من هذه الآية: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة: 27]. وقال ابن عون: لا تثق بكثرة العمل، فإنك لا تدري أيُقبل منك أم لا، ولا تأمن ذنوبك فإنّك لا تدري هل كُفِّرت عنك أم لا؟ لأنّ عملك مُغَيَّبٌ عنك كله لا تدري ما الله صانع به. وبكى النخعيُّ عند الموت وقال أنتظرُ رسول ربي ما أدري أَيُبشرني بالجنة أم بالنار؟. وجزع غيره عند الموت، فقِيلَ لَهُ: لم تجزع؟ قَالَ: إِنَّمَا هي ساعة ولا أدري أين يُسلك بي؟. وجزع بعض الصحابة عند موته، فسئل عن حاله فَقَالَ: إن الله قبض خلقه قبضتين قبضة للجنة، وقبضة للنار، ولست أري في أي القبضتين أنا؟ (¬1). ¬

_ (*) من المطبوع. (¬1) أخرجه الطبراني في "الكبير" (20/ 365) عن معاذ بن جبل، وقال الهيثمي (7/ 187): رواه الطبراني وفيه البراء بن عبد الله الغنوي وهو ضعيف، والحسن لم يدرك معاذًا. وأخرجه أحمد (4/ 176 - 177)، (5/ 168) عن رجل من أصحاب النبيّ - صلى الله عليه وسلم - فذكره وقال الهيثمي: رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح.

الحذر ... الحذر

الحذر ... الحذر ومن تأمل هذا حقَّ التأمل أوجب له القلق. فإنَّ ابن آدم متعرض، لأهوال عظيمةٍ من الموت وأهوال القبر والبرزخ وأهوال الموقف، والصراط والميزان. وأعظم من ذلك الوقوف بين يدي الله عز وجل ودخول النار، ويخشى عَلَى نفسه الخلود فيها بأن يُسلب إيمانه عند الموت، ولم يأمن المؤمن شيئًا من هذه الأمور {فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف: 99]. فتحقيق هذا يمنعُ ابن آدم القرار. رأى بعضهم قائلاً يقول له: وكيف تنام العين وهي قريرة ... ولم تدر في أيّ المحلين تنزل وسئل بعض الموتى وأن عابدًا مجتهدًا عن حاله، فأنشد يقول: وليس يعلم ما في القبر داخله ... إلاَّ الإِله وساكن الأجداث وقال غيره: أمَا والله لو علم الأنام ... لما خُلقوا لما غفلوا وناموا لقد خلقوا لما لو أَبْصَرَتْه ... عيون قلوبهم تاهوا وهاموا مَمَاتٌ ثم قبر ثم حشر ... وتوبيخ وأهوال عظامُ ليوم الحشر قد عملت رجال ... فصلوا من مخافته وصاموا ونحن إذا أمرنا أو نهينا ... كأهل الكهف أيقاظ نيامُ آخرة والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم عَلَى عبده ورسوله محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. تم بقلم العبد الفقير المقر بالذنب والتقصير، راجي عفو ربه المنان سليمان بن عبد

الرحمن العمري، غفر الله له ولوالديه ولمشايخه وإخوانه وذريته، ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين، آمين. وذلك في 8 من شوال سنة 1333 هجرية.

§1/1