مجموعة رسائل في الحجاب والسفور

مجموعة من المؤلفين

حجاب المرأة ولباسها في الصلاة

[حجاب المرأة ولباسها في الصلاة] [محتويات الكتاب] [اللباس في الصلاة مجموعة رسائل في الحجاب والسفور] هذا الكتاب يحتوي على مجموعة رسائل: - حجاب المرأة ولباسها في الصلاة تأليف / شيخ الإسلام ابن تيمية "رحمه الله" - حكم السفور والحجاب لسماحة الشيخ / عبد العزيز بن عبد الله بن باز - حكم مصافحة المرأة المسلمة للرجال الأجانب الدكتور / محمد تقي الدين الهلالي الحسيني - رسالة الحجاب تأليف / فضيلة الشيخ محمد بن صالح بن عثيمين

حجاب المرأة ولباسها في الصلاة تأليف شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله

بسم الله الرحمن الرحيم اللباس في الصلاة وهو أخذ الزينة عند كل مسجد، الذي يسميه الفقهاء: " باب ستر العورة في الصلاة " فإن طائفة من الفقهاء ظنوا أن الذي يستر في الصلاة هو الذي يستر عن أعين الناظرين وهو العورة، وأخذوا ما يستر في الصلاة من قوله: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} [النور: 31] ثم قال: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ} [النور: 31] يعنى الباطنة {إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ} [النور: 31] (¬1) الآية، فقالوا: يجوز لها في الصلاة أن تبدي الزينة الظاهرة دون الباطنة. والسلف قد تنازعوا في الزينة الظاهرة على قولين: 1 - فقال ابن مسعود ومن وافقه: هي الثياب. 2 - وقال ابن عباس ومن وافقه: هو ما في الوجه ¬

(¬1) سورة النور آية: 31.

واليدين، مثل الكحل والخاتم. وعلى هذين القولين تنازع الفقهاء في النظر إلى المرأة الأجنبية. فقيل: يجوز النظر لغير شهوة إلى وجهها ويديها، وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي، وقول في مذهب أحمد. وقيل لا يجوز، وهو ظاهر مذهب أحمد. قال: كل شيء منها عورة حتى ظفرها، وهو قول مالك. وحقيقة الأمر أن الله جعل الزينة زينتين: زينة ظاهرة، وزينة غير ظاهرة. وجوز لها إبداء زينتها الظاهرة لغير الزوج، وذوي المحارم. وأما الباطنة، فلا تبديها إلا للزوج، وذوي المحارم. وكانوا قبل أن تنزل آية الحجاب، كان النساء يخرجن بلا جلباب، يرى الرجال وجهها ويديها، وكان إذ ذاك يجوز لها أن تظهر الوجه والكفين، وكان حينئذ يجوز

النظر إليها، لأنه يجوز إظهاره. ثم لما أنزل الله عز وجل آية الحجاب بقوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [الأحزاب: 59] (¬1) حجب النساء عن الرجال. وكان ذلك لما تزوج النبي - صلى الله عليه وسلم - زينب بنت جحش، فأرخى النبي - صلى الله عليه وسلم - الستر، ومنع أنساً أن ينظر. ولما اصطفى صفية بنت حيي بعد ذلك، عام خيبر، قالوا: إن حجبها فهي من أمهات المؤمنين، وإلا فهي مما ملكت يمينه، فحجبها. فلما أمر الله أن لا يسألن إلا من وراء حجاب، وأمر أزواجه وبناته ونساء المؤمنين أن يدنين عليهن من جلابيبهن. والجلباب: هو الملاءة، وهو الذي يسمّيه ¬

(¬1) سورة الأحزاب آية: 59.

ابن مسعود وغيره: الرداء، وتسميه العامة: الإزار - وهو الإزار الكبير الذي يغطى رأسها وسائر بدنها. وقد حكى عبيدة وغيره أنها تدنيه من فوق رأسها فلا تظهر إلا عينيها، ومن جنسه النقاب. فكن النساء ينتقبن. وفي " الصحيح ": «أن المحرمة لا تنتقب ولا تلبس القفازين» . فإذا كن مأمورات بالجلباب لئلا يعرفن، وهو ستر الوجه، أو ستر الوجه بالنقاب. كان حينئذ الوجه واليدان من الزينة التي أمرت أن لا تظهرها للأجانب. فما بقي يحل للأجانب النظر إلا الثياب الظاهرة. فابن مسعود ذكر آخر الأمرين وابن عباس أول الأمرين. وعلى هذا قوله: {أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ} [النور: 31] (¬1) يدل على أن لها أن تبدى الزينة الباطنة ¬

(¬1) سورة النور آية: 31.

لمملوكها. وفيه قولان: - 1 - قيل: المراد الإماء، أو الإماء الكتابيات، قاله ابن المسيب، ورجحه أحمد وغيره. 2 - وقيل: هو المملوك الرجل، قاله ابن عباس وغيره، وهذا مذهب الشافعي وغيره، وهو الرواية الأخرى عن أحمد، فهذا يقتضي جواز نظر العبد إلى مولاته. وقد جاءت بذلك أحاديث، وهذا لأجل الحاجة، لأنها محتاجة إلى مخاطبة عبدها أكثر من حاجتها إلى رؤية الشاهد والعامل والخاطب. فإذا جاز نظر أولئك، فنظر العبد أولى. وليس في هذا ما يوجب أن يكون محرما يسافر بها، كغير أولي الإربة، فإنهم يجوز لهم النظر، وليسوا محارم يسافرون بها. فليس كل من جاز له النظر، جاز له السفر بها، ولا الخلوة بها، بل عبدها ينظر إليها للحاجة، وإن كان لا يخلو بها ولا يسافر بها، فإنه لم يدخل في قوله صلى الله

عليه وسلم: «لا تسافر المرأة إلا مع زوج أو ذي محرم» فإنه يجوز له أن يتزوجها إذا عتق. كما يجوز لزوج أختها أن يتزوجها إذا طلق أختها. والمحرم: من تحرم عليه على التأبيد، ولهذا قال ابن عمر: سفر المرأة مع عبدها ضيعة. فالآية رخصت في إبداء الزينة لذوي المحارم وغيرهم، وحديث السفر ليس فيه إلا ذووا المحارم، وذكر في الآية {نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ} [النور: 31] (¬1) و {غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ} [النور: 31] (¬2) وهي لا تسافر معهم. وقوله: {أَوْ نِسَائِهِنَّ} [النور: 31] (¬3) قالوا: احتراز عن النساء المشركات، فلا تكون المشركة قابلة للمسلمة، ولا تدخل المشركة معهن الحمام. لكن قد كن النسوة اليهوديات يدخلن على عائشة وغيرها، فأين وجهها ويديها، بخلاف الرجال، فيكون هذا في الزينة الظاهرة في حق النساء الذميات، وليس ¬

(¬1) سورة النور آية: 31. (¬2) سورة النور آية: 31. (¬3) سورة النور آية: 31.

للذميات أن يطلعن على الزينة الباطنة، ويكون الظهور والبطون بحسب ما يجوز لها إظهاره. ولهذا كان أقاربها تبدي لهن الباطنة، وللزوج خاصة ما ليس للأقارب. وقوله: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} [النور: 31] (¬1) دليل على أنها تغطي العنق، فيكون من الباطن - لا الظاهر - ما فيه من القلادة وغيرها. ¬

(¬1) سورة النور آية: 31.

فصل في ستر النساء عن الرجال وستر الرجال عن الرجال والنساء عن النساء

[فصل في ستر النساء عن الرجال وستر الرجال عن الرجال والنساء عن النساء] [ستر العورة في الصلاة وخارجها] فصل فهذا ستر النساء عن الرجال، وستر الرجال عن الرجال، والنساء عن النساء في العورة الخاصة، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: «لا ينظر الرجل إلى عورة الرجل، ولا تنظر المرأة إلى عورة المرأة» وقال: «احفظ عورتك إلا عن زوجتك أو ما ملكت يمينك» قلت: فإذا كان القوم بعضهم في بعض؟ قال: «إن استطعت أن لا يرينها أحد فلا يرينها» . قلت: فإذا كان أحدنا خاليا؟ قال: «فالله أحق أن يستحيا منه» و «نهى أن يفضي الرجل إلى الرجل في ثوب واحد، والمرأة إلى المرأة في ثوب واحد» وقال عن الأولاد: «مروهم بالصلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشر، وفرقوا بينهم في المضاجع» .

فهذا نهي عن النظر واللمس لعورة النظير، لما في ذلك من القبح والفحش، وأما الرجال مع النساء، فلأجل شهوة النكاح، فهذان نوعان. وفي الصلاة نوع ثالث، فإن المرأة لو صلت وحدها، كانت مأمورة بالاختمار، وفي غير الصلاة يجوز لها كشف رأسها في بيتها، فأخذ الزينة في الصلاة لحق الله، فليس لأحد أن يطوف بالبيت عريانا ولو كان وحده بالليل. ولا يصلي عريانا ولو كان وحده، فعلم أن أخذ الزينة في الصلاة لم يكن لتحتجب عن الناس، فهذا نوع، وهذا نوع. وحينئذ فقد يستر المصلي في الصلاة ما يجوز إبداؤه في غير الصلاة، وقد يبدي في الصلاة ما يستره عن الرجال. فالأول مثل المنكبين، فإن النبي نهى أن يصلى الرجل في الثوب الواحد ليس على عاتقه منه شيء فهذا لحق الصلاة، ويجوز له كشف منكبيه للرجال خارج

الصلاة. وكذلك المرأة الحرة تختمر في الصلاة، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار» وهى لا تختمر عند زوجها ولا عند ذوي محارمها، فقد جاز لها إبداء الزينة الباطنة لهؤلاء، ولا يجوز لها في الصلاة أن تكشف رأسها لا لهؤلاء ولا لغيرهم. وعكس ذلك الوجه واليدان والقدمان، ليس لها أن تبدي ذلك للأجانب على أصح القولين، بخلاف ما كان قبل النسخ، بل لا تبدي إلا الثياب. وأما ستر ذلك في الصلاة، فلا يجب باتفاق المسلمين، بل يجوز لها كشف الوجه بالإجماع، وإن كان من الزينة الباطنة. وكذلك اليدان يجوز إبداؤهما في الصلاة عند جمهور العلماء، كأبي حنيفة والشافعي وغيرهما، وهو إحدى الروايتين عن أحمد، وكذلك القدم يجوز إبداؤه عند أبي حنيفة، وهو الأقوى، فإن عائشة جعلته من الزينة الظاهرة. قالت: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النور: 31] (¬1) ¬

(¬1) سورة النور آية: 31.

قالت: الفتخ: حلق من فضة تكون في أصابع الرجلين. رواه ابن أبي حاتم، فهذا دليل على أن النساء كن يظهرن أقدامهن أولاً، كما يظهرن الوجه واليدين، فإنهن كن يرخين ذيولهن، فهي إذا مشت قد يظهر قدمها. فإنهن لم يكنّ يمشين في خفاف وأحذية. وتغطية هذا في الصلاة فيه حرج عظيم، وأم سلمة قالت: تصلي المرأة في ثوب سابغ يغطى ظهور قدميها، فهي إذا سجدت قد يبدو باطن القدم. وبالجملة فقد ثبت بالنص والإجماع أنه ليس عليها في الصلاة أن تلبس الجلباب الذي يسترها إذا كانت في بيتها، وإنما ذلك إذا خرجت، وحينئذ فتصلي في بيتها، وإن بَدا وجهها ويداها وقدماها. كما كن يمشين أولاً قبل الأمر بإدناء الجلابيب عليهن، فليست العورة في الصلاة مرتبطة بعورة النظر، لا طردا ولا عكسا.

وابن مسعود - رضي الله عنه - لما قال: الزينة الظاهرة هي الثياب، لم يقل: إنها كلها عورة حتى ظفرها. بل هذا قول أحمد، يعني به أنها تستره في الصلاة، فإن الفقهاء يسمون ذلك " باب ستر العورة " وليس هذا من ألفاظ الرسول، ولا في الكتاب والسنة أن ما يستره المصلى فهو عورة، بل قال تعالى: {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف: 31] (¬1) . ونهى النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يطوف بالبيت عريانا فالصلاة أولى. وسئل عن الصلاة في الثوب الواحد، فقال: «أو لِكُلِّكُم ثوبان؟» . وقال في الثوب الواحد: «إن كان واسعا فالتحف به، وإن كان ضيقا فاتزر به» ونهى أن يصلي الرجل في ثوب واحد وليس على عاتقه منه شيء فهذا دليل على أنه يؤمر في الصلاة بستر العورة، الفخذ وغيره، وإن جوزنا للرجل النظر إلى ذلك. ¬

(¬1) سورة الأعراف: 31.

فإذا قلنا على أحد القولين، وهو إحدى الروايتين عن أحمد: أن العورة هي السوأتان، وأن الفخذ ليس بعورة، فهذا في جواز نظر الرجل إليها، ليس هو في الصلاة والطواف، فلا يجوز أن يصلي الرجل مكشوف الفخذين، سواء قيل: هما عورة أو لا، ولا يطوف عريانا، بل عليه أن يصلى في ثوب واحد، ولا بد من ذلك، إن كان ضيقا اتّزر به، وإن كان واسعا التحف به، كما أنه لو صلى وحده في بيت كان عليه تغطية ذلك باتفاق العلماء. وأما صلاة الرجل بادي الفخذين مع القدرة على الإزار، فهذا لا يجوز، ولا ينبغي أن يكون في ذلك خلاف، ومن بنى هذا على الروايتين في العورة، كما فعله طائفة فقد غلطوا. ولم يقل أحمد ولا غيره: إن المصلي يصلى على هذه الحال، كيف وأحمد يأمره بستر المنكبين؟ فكيف يبيح له كشف الفخذ؟! فهذا هذا.

وقد اختلف في وجوب ستر العورة إذا كان الرجل خاليا، ولم يختلف في أنه في الصلاة لا بد من اللباس، (وأنه) لا تجوز الصلاة عريانا مع القدرة على اللباس باتفاق العلماء، ولهذا جوز أحمد وغيره للعراة أن يصلوا قعودا ويكون إمامهم وسطهم، بخلاف خارج الصلاة، هذا الستر لحرمة الصلاة، لا لأجل النظر، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده لما قَال: «قلت يا رسول الله، فإذا كان أحدنا خاليا؟ قال: فالله أحقُّ أن يستحيا منه من الناس.» فإذا كان هذا خارج الصلاة، فهو في الصلاة أحق أن يستحيا منه، فتؤخذ الزينة لمناجاته سبحانه وتعالى، ولهذا قال ابن عمر لغلامه نافع لما رآه يصلي حاسراً: " أرأيت لو خرجت إلى الناس، كنت تخرج هكذا؟ " قال: لا. قال: فالله أحق من يتجمل له. وفي الحديث الصحيح لما قيل للنبي - صلى الله عليه وسلم -

: «الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنا ونعله حسنا؟ فقال: إن الله جميل يحب الجمال.» وهذا كما أمر المصلي بالطهارة والنظافة والطيب، فقد أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - «أن تتخذ المساجد في البيوت وتنظف وتطيب» وعلى هذا، فيستتر في الصلاة أبلغ مما يستتر الرجل من الرجل، والمرأة من المرأة. ولهذا أمرت المرأة أن تختمر في الصلاة. وأما وجهها ويداها وقدماها، فهي إنما نهيت عن إبداء ذلك للأجانب، لم تنه عن إبدائه للنساء، ولا لذوي المحارم فعلم أنه ليس من جنس عورة الرجل مع الرجل، والمرأة مع المرأة التي نهى عنها لأجل الفحش وقبح كشف العورة، بل هذا من مقدمات الفاحشة، فكان النهي عن إبدائها نهيا عن مقدمات الفاحشة، كما قال في الآية: {ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ} [النور: 30] (¬1) وقال في آية الحجاب: {ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} [الأحزاب: 53] (¬2) فنهى عن هذا ¬

(¬1) سورة النور آية: 30. (¬2) سورة الأحزاب آية: 53.

سدا للذريعة، لا أنه عورة مطلقة، لا في الصلاة ولا في غيرها، فهذا هذا. وأمر المرأة في الصلاة بتغطية يديها بعيد جدا، واليدان تسجدان كما يسجد الوجه. والنساء على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما كان لهن قمص، وكن يصنعن الصنائع والقمص عليهن، فتبدي المرأة يديها إذا عجنت وطحنت وخبزت، ولو كان ستر اليدين في الصلاة واجبا لبينه النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكذلك القدمان، وإنما أمر بالخمار فقط مع القميص، فكنَّ يصلين في قمصهن وخمرهن. وأما الثوب الذي كانت المرأة ترخيه، وسألن عن ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: «شبرًا فقلن: إذاً تبدو سوقهن؟ فقال: ذراع لا يزدن عليه» . وقول عمر ابن ربيعة: كتب القتل والقتال علينا ... وعلى الغانيات جر الذيول فهذا كان إذا خرجن من البيوت، ولهذا سئل عن

المرأة تجر ذيلها على المكان القذر؟ فقال: «يطهره ما بعده» . وأما في نفس البيت فلم تكن تلبس مثل ذلك. كما أن الخفاف اتخذها النساء بعد ذلك لستر السوق إذا خرجن، وهن لا يلبسنها في البيوت، ولهذا قلن: إذاً تبدو سوقهن، وكأن المقصود تغطية السوق، لأن الثوب إذا كان فوق الكعبين بدا الساق عند المشي. وقد روي: «أعروا النساء يلزمن الحجال» يعنى إذا لم يكن لها ما تلبسه في الخروج لزمت بيتها. وكنَّ نساء المسلمين يصلين في بيوتهن، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا تمنعوا إماء الله مساجد الله، وبيوتهن خير لهن» ولم يؤمرن مع القُمُص إلا بالخمر، لم تؤمر بما يغطي رجليها، لا خف ولا جورب. ولا بما يغطي يديها، لا بقفازين ولا غير ذلك. فدل على أنه لا يجب عليها في الصلاة ستر ذلك إذا لم يكن عندها رجال أجانب. وقد روي أن الملائكة لا تنظر إلى الزينة الباطنة. فإذا وضعت خمارها أو

الخلاف في وجه المرأة

قميصها، لم ينظر إليها. وروي في ذلك حديث عن خديجة، فهذا القدر - القميص والخمار - وهو المأمور به لحق الصلاة. كما يؤمر الرجل إذا صلى. في ثوب واحد واسع أن يلتحف به، فيغطى عورته ومنكبيه. والمنكبان في حقه، كالرأس في حق المرأة، لأنه يصلي في قميص، أو ما يقوم مقام القميص. وهو في الإحرام لا يلبس على بدنه ما يقدر له. كالقميص والجبة، كما أن المرأة لا تنتقب، ولا تلبس القفازين، وأما رأسه فلا يخمره. [الخلاف في وجه المرأة] ووجه المرأة فيه قولان في مذهب أحمد وغيره: 1 - قيل: إنه كرأس الرجل فلا يغطى. 2 - وقيل: إنه كيديه، فلا يغطى بالنقاب، والبرقع ونحو ذلك مما صنع على قدره، وهذا هو الصحيح، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم ينه إلا عن القفازين والنقاب.

وكن النساء يدنين على وجوههن ما يسترها من الرجال من غير وضع ما يجافيها عن الوجه، فعلم أن وجهها كيدي الرجل ويديها، وذلك أن المرأة كلها عورة كما تقدم، فلها أن تغطى وجهها ويديها، ولكن بغير اللباس المصنوع بقدر العضو، كما أن الرجل لا يلبس السراويل، ويلبس الإزار، والله سبحانه أعلم. ومن كلامه رحمه الله تعالى- في جوابه واستنباطه من معاني سورة النور - في معنى ما تقدم قوله المرأة يجب أن تصان وتحفظ بما لا يجب مثله في الرجل ولهذا خصت بالاحتجاب، وترك إبداء الزينة، وترك التبرج. فيجب في حقها الاستتار باللباس والبيوت ما لا يجب في حق الرجل، لأن ظهور النساء سبب الفتنة، والرجال قوامون عليهن. قال تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ} [النور: 30]

الآية إلى قوله: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور: 31] (¬1) فأمر الله سبحانه الرجال والنساء بالغض من البصر، وحفظ الفرج، كما أمرهم جميعا بالتوبة. وأمر النساء خصوصا بالاستتار، وأن لا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن، ومن استثناه الله تعالى في الآية، فما ظهر من الزينة هو الثياب الظاهرة. فهذا لا جناح عليها في إبدائها. إذا لم يكن في ذلك محذور آخر، فإن هذه لا بد من إبدائها. وهذا قول ابن مسعود وغيره، وهو المشهور عن أحمد. وقال ابن عباس: الوجه واليدان من الزينة الظاهرة. وهي الرواية الثانية عن أحمد، وهو قول طائفة من العلماء، كالشافعي وغيره. وأمر سبحانه وتعالى بإرخاء الجلابيب لئلا يعرفن ولا يؤذين، وهذا دليل على القول الأول. وقد ذكر ¬

(¬1) سورة النور 30 - 31.

عبيدة السلماني وغيره: أن نساء المؤمنين كن يدنين عليهن الجلابيب من فوق رؤوسهن حتى لا يظهر إلا عيونهن لأجل رؤية الطريق. وثبت في " الصحيح " أن المرأة المحرمة تنهى عن الانتقاب والقفازين، وهذا مما يدل على أن النقاب والقفازين كانا معروفين في النساء اللائي لم يحرمن، وذلك يقتضي ستر وجوههن وأيديهن. وقد نهى الله تعالى عما يوجب العلم بالزينة الخفية بالسمع أو غيره. فقال: {وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ} [النور: 31] وقال: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} [النور: 31] (¬1) فلما نزل ذلك عمد نساء المؤمنين إلى خمرهن، فشققنهن وأرخينها على أعناقهن. والجيب: هو شق في طول القميص، فإذا ضربت ¬

(¬1) سورة النور آية 31.

المرأة بالخمار على الجيب، سترت عنقها. وأمرت بعد ذلك أن ترخي من جلبابها. والإرخاء إنما يكون إذا خرجت من البيت، فأما إذا كانت في البيت فلا تؤمر بذلك. وقد ثبت في " الصحيح " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما دخل بصفية، قال أصحابه: إن رخى عليها الحجاب فهي مما ملكت يمينه. فضرب عليها الحجاب. وإنما ضرب الحجاب على النساء لئلا تُرى وجوههن وأيديهن. والحجاب مختص بالحرائر دون الإماء، كما كانت سنة المؤمنين في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - وخلفائه، إن الحرة تحتجب، والأمة تبرز، وكان عمر - رضي الله عنه - إذا رأى أمة مختمرة ضربها وقال: أتتشبهين بالحرائر أي لكاع! فيظهر من الأمة رأسها ويداها ووجهها. وقال تعالى:

{وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ} [النور: 60] (¬1) فرخص للعجوز التي لا تطمع في النكاح أن تضع ثيابها، فلا تلقي عليها جلبابها ولا تحتجب، وإن كانت مستثناة من الحرائر لزوال المفسدة الموجودة في غيرها، كما استثنى التابعين غير أولي الإربة من الرجال في إظهار الزينة لهم في عدم الشهوة التي تتولد من الفتنة. وكذلك الأمة إذا كان يخاف بها الفتنة، كان عليها أن ترخي من جلبابها وتحتجب، ووجب غض البصر عنها ومنها. وليس في الكتاب والسنة إباحة النظر إلى عامة الإماء، ولا ترك احتجابهن وإبداء زينتهن، ولكن القرآن لم يأمرهن بما أمر الحرائر. والسنة فرقت بالفعل بينهن وبين الحرائر ولم تفرق بينهن وبين الحرائر بلفظ عام. بل كانت عادة المؤمنين، أن تحتجب منهم الحرائر دون ¬

(¬1) سورة النور آية 60.

الإماء. واستثنى القرآن من النساء الحرائر القواعد، فلم يجعل عليهن احتجابا. واستثنى بعض الرجال، وهم غير أولي الإربة، فلم يمنع من إبداء الزينة الخفية لهم لعدم الشهوة في هؤلاء وهؤلاء. فأن يستثنى بعض الإماء أولى وأحرى، وهن من كانت الشهوة والفتنة حاصلة بترك احتجابها وإبداء زينتها، وكما أن المحارم أبناء أزواجهن ونحوه ممن فيهن شهوة وشغف لم يجز إبداء الزينة الخفية له. فالخطاب خرج عاما على العادة، فما خرج به عن العادة خرج به عن نظائره. فإذا كان في ظهور الأمة والنظر إليها فتنة، وجب المنع من ذلك، كما لو كانت في غير ذلك. وهكذا الرجل مع الرجال، والمرأة مع النساء. لو كان في المرأة فتنة للنساء، وفي الرجل فتنة للرجال، لكان الأمر بالغض للناظر من بصره متوجها، كما يتوجه إليه الأمر بحفظ فرجه. فالإماء والصبيان إذا كن حسانا تخشى الفتنة بالنظر

إليهم، كان حكمهم كذلك، كما ذكر ذلك العلماء. قال المروذي: قلت لأبي عبد الله - يعنى أحمد بن حنبل: - الرجل ينظر إلى المملوك؟ قال: إذا خاف الفتنة لم ينظر إليه، كم نظرة ألقت في قلب صاحبها البلاء. وقال المروذي: قلت لأبي عبد الله: الرجل تاب وقال: لو ضرب ظهري بالسياط ما دخلت في معصية، إلا أنه لا يدع النظر. فقال: أي توبة هذه؟! قال جرير: «سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن نظرة الفجأة. فقال: اصرف بصرك» . وقال ابن أبي الدنيا: حدثني أبي وسويد، قالا: حدثنا إبراهيم بن هراسة، عن عثمان بن صالح، عن الحسن، عن ذكوان قال: لا تجالسوا أولاد الأغنياء، فإن لهم صورا كصور النساء، وهم أشد فتنة من العذارى. وهذا الاستدلال والقياس، والتنبيه بالأدنى على الأعلى. . . إلى أن قال: كذلك المرأة مع المرأة،

وكذلك محارم المرأة مع ابن زوجها، وابنه، وابن أخيها، وابن أختها، ومملوكها عند من يجعله محرما متى كان يخاف عليه الفتنة أو عليها، توجه الاحتجاب، بل وجب. وهذه المواضع التي أمر الله بالاحتجاب فيها، مظنة الفتنة، ولهذا قال تعالى: {ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ} [النور: 30] فقد تحصل الزكاة والطهارة بدون ذلك، لكن هذا أزكى. وإذا كان النظر والبروز قد انتفى فيه الزكاة والطهارة لما يوجد في ذلك من شهوة القلب واللذة بالنظر. كان ترك النظر والاحتجاب أولى بالوجوب. وروى الجماعة إلا مسلما، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - «لعن المخنثين من الرجال والمترجلات من النساء وقال: أخرجوهم من بيوتكم، وأخرجوا فلانا وفلانا يعني المخنثين» ، وقد ذكر بعضهم أنهم كانوا ثلاثة، بيم، وهيت، وماتع على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولم يكونوا يرمون بالفاحشة الكبرى. إنما كان تخنيثهم وتأنيثهم ليناً في

القول، وخضابا في الأيدي، والأرجل، كخضاب النساء، ولعبا كلعبهن. وفي " سنن أبي داود " عن أبي يسار القرشي عن أم هاشم، عن أبي هريرة، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - «أتى بمخنث وقد خضب رجليه ويديه بالحناء، فقال: ما بال هذا؟ فقيل: يا رسول الله يتشبه بالنساء فأمر به فنفي إلى النقيع فقيل: يا رسول الله؟ ألا تقتله؟ فقال: إني نهيت عن قتل المصلين» . فإذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - قد أمر بإخراج مثل هؤلاء من البيوت، فمعلوم أن الذي يمكن الرجال من نفسه، والاستمتاع به، وبما يشاهدونه من محاسنه، وفعل الفاحشة الكبرى به، شر من هؤلاء، وهذا أحق بالنفي من بين أظهر المسلمين وإخراجه عنهم. فإن المخنث فيه إفساد للرجال والنساء، لأنه تشبه بالنساء، فقد تعاشره النساء ويتعلمن منه، وهو رجل فيفسدهن، ولأن الرجال إذا مالوا إليه، فقد يعرضون عن

غض البصر وأنواعه

النساء، ولأن المرأة إذا رأت الرجل يتخنث فقد تترجل هي، وَتَتَشَبهُ بالرجال، فتعاشر الصنفين، وتختار هي مجامعة النساء، كما يختار هو مجامعة الرجال. [غض البصر وأنواعه] والله سبحانه قد أمر في كتابه بغض البصر، وهو نوعان: غض البصر عن العورة، وغضها عن محل الشهوة. فالأول: كغض الرجل بصره عن عورة غيره. كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا ينظر الرجل إلى عورة الرجل، ولا المرأة إلى عورة المرأة» . ويجب على الإنسان أن يستر عورته، كما قال لمعاوية بن حيدة: «احفظ عورتك إلا من زوجتك، أو ما ملكت يمينك. قلت: فإذا كان أحدنا مع قومه؟ قال: إن استطعت أن لا يرينها أحد فلا يرينها. قلت: فإذا كان أحدنا خاليا؟ قال: فالله أحق

أن يستحيا منه من الناس.» ويجوز كشفها بقدر الحاجة، كما تنكشف عند التخلي. ولهذا إذا اغتسل الرجل وحده، بحيث يجد ما يستره، فله أن يغتسل عريانا، كما اغتسل موسى عريانا وأيوب، وكما في اغتساله - صلى الله عليه وسلم - يوم الفتح واغتساله في حديث ميمونة. وأما النوع الثاني من النظر، كالنظر إلى الزينة الباطنة من المرأة الأجنبية، فهذا أشد من الأول. كما أن الخمر أشدّ من الميتة والدم ولحم الخنزير، وعلى صاحبها الحد. وتلك المحرمات إذا تناولها مستحلا لها كان عليه التعزير، لأن هذه المحرمات لا تشتهيها النفوس كما تشتهي الخمر، وكذلك النظر إلى عورة الرجل، لا يشتهى كما يشتهى النظر إلى النساء ونحوهن، وكذلك النظر إلى الأمرد بشهوة، هو من هذا الباب.

النظر إلى المردان ثلاثة أقسام

وقد اتفق العلماء على تحريم ذلك، كما اتفقوا على تحريم النظر للأجنبية وذوات المحارم بشهوة. . إلى أن قال: [النظر إلى المردان ثلاثة أقسام] فصار النظر إلى المردان ثلاثة أقسام: أحدها: ما تقترن به الشهوة، فهو محرم بالاتفاق. والثاني: ما يجزم أنه لا شهوة معه، كنظر الرجل الورع إلى ابنه الحسن، وابنته الحسنة، وأمه الحسنة، فهذا لا تقترن به شهوة، إلا أن يكون الرجل من أفجر الناس، ومتى اقترن به الشهوة، حرم. وعلى هذا نظر من لا يميل قلبه إلى المردان، كما كان الصحابة، وكالأمم الذين لا يعرفون هذه الفاحشة، فإن الواحد من هؤلاء لا يفرق من هذا الوجه بين نظره إلى ابنه، وابن جاره، وصبي أجنبي، لا يخطر بقلبه شيء من الشهوة، لأنه لم يعتد ذلك، وهو سليم القلب من قبل ذلك. وقد كانت الإماء على عهد الصحابة يمشين في الطرقات متكشفات الرؤوس، ويخدمن الرجال مع

سلامة القلوب. فلو أراد الرجل أن يترك الإماء التركيات الحسان يمشين بين الناس في مثل هذه البلاد والأوقات، كما كان أولئك الإماء يمشين، كان هذا من باب الفساد. وكذلك المرد الحسان لا يصلح أن يخرجوا في الأمكنة والأزقة التي يخاف فيها الفتنة بهم، إلا بقدر الحاجة، فلا يمكن الأمرد الحسن من التبرج، ولا من الجلوس في الحمام بين الأجانب، ولا من رقصه بين الرجال، ونحو ذلك مما فيه فتنة للناس، والنظر إليه كذلك. وإنما وقع النزاع بين العلماء في القسم الثالث من النظر، وهو النظر إليه بغير شهوة، لكن مع خوف ثورانها، ففيه وجهان في مذهب أحمد: أصحهما وهو المحكي عن نص الشافعي وغيره: أنه لا يجوز. والثاني: يجوز، لأن الأصل عدم ثورانها، فلا يحرم بالشك، بل قد يكره. والأول هو الراجح، كما أن الراجح في مذهب الشافعي وأحمد: أن النظر إلى وجه الأجنبية من غير

حاجة لا يجوز، وإن كانت الشهوة منتفية، لكن لأنه نخاف ثورانها، ولهذا حرم الخلوة بالأجنبية، لأنها مظنة الفتنة. والأصل أن ما كان سببا للفتنة فإنه لا يجوز. فإن الذريعة إلى الفساد يجب سدها إذا لم يعارضها مصلحة راجحة. ولهذا كان النظر الذي قد يفضي إلى الفتنة محرما، إلا إذا كان لحاجة راجحة، مثل نظر الخاطب والطبيب وغيرهما. فإنه يباح النظر للحاجة، لكن مع عدم الشهوة. وأما النظر لغير حاجة إلى محيط الفتنة، فلا يجوز. وأما الأبصار فلا بد من فتحها والنظر بها، وقد يفجأ الإنسان ما ينظر إليه بغير قصد فلا يمكن غضها مطلقا، ولهذا أمر تعالى عباده بالغض منها، كما أمر لقمان ابنه بالغض من صوته. وأما قوله: {إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ} [الحجرات: 3]

(¬1) الآية، فإنه مدحهم على غض الصوت عند رسوله مطلقا. فهم مأمورون بذلك، ينهون عن رفع الصوت عنده - صلى الله عليه وسلم - وأما غض الصوت مطلقا عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهو غض خاص ممدوح، ويمكن العبد أن يغض صوته مطلقا في كل حال، ولم يؤمر العبد به، بل يؤمر برفع الصوت في مواضع. إما أمر إيجاب، أو استحباب. فلهذا قال: {وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ} [لقمان: 19] (¬2) فإن الغض في الصوت والبصر: جماع ما يدخل إلى القلب ويخرج منه. فبالسمع يدخل القلب، وبالصوت يخرج منه، كما جمع العضوين في قوله: {أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ - وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ} [البلد: 8 - 9] (¬3) فبالعين والنظر يعرف القلب الأمور. واللسان والصوت يخرجان من عند القلب الأمور، هذا رائد القلب وصاحب خبره ¬

(¬1) سورة الحجرات آية 3. (¬2) سورة لقمان آية 19. (¬3) سورة البلد آية 8-9.

وجاسوسه، وهذا ترجمانه. ثم قال تعالى: {ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ} [النور: 30] (¬1) وقال تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة: 103] (¬2) وقال: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} [الأحزاب: 33] (¬3) وقال في آية الاستئذان: {وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ} [النور: 28] (¬4) وقال: {فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} [الأحزاب: 53] (¬5) وقال: {فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ} [المجادلة: 12] (¬6) وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «اللهم طهر قلبي من خطاياي ¬

(¬1) سورة النور آية 30. (¬2) سورة التوبة آية: 103. (¬3) سورة الأحزاب آية: 33. (¬4) سورة النور آية: 28. (¬5) سورة الأحزاب آية: 53. (¬6) سورة المجادلة آية: 12.

بالماء والثلج والبرد» وقال في دعاء الجنازة: «واغسله بماء وثلج وبرد، ونقه من خطاياه كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس» . فالطهارة - والله أعلم - هي من الذنوب التي هي رجس. والزكاة تتضمن معنى الطهارة التي هي عدم الذنوب. ومعنى النماء بالأعمال الصالحة، مثل المغفرة والرحمة، ومثل النجاة من العذاب، والفوز بالثواب، ومثل عدم الشر وحصول الخير. وأما نظرة الفجأة، فهو عفو إذا صرف بصره، كما ثبت في " الصحاح " عن جرير قال: «سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن نظرة الفجأة فقال: اصرف بصرك» وفي " السنن " أنه قال لعلي رضي الله عنه: «يا علي لا تتبع النظرة النظرة، فإنما لك الأولى وليست لك الثانية» وفي الحديث الذي في " المسند " وغيره: «النظر سهم مسموم من سهام إبليس» وفيه:

فوائد غض البصر

«من نظر إلى محاسن امرأة ثم غض بصره، أورث الله قلبه حلاوة عبادة يجدها إلى يوم القيامة» أو كما قال. [فوائد غض البصر] ولهذا يقال: إن غض البصر عن الصورة التي ينهى عن النظر إليها، كالمرأة والأمرد الحسن، يورث ذلك ثلاث فوائد جليلة القدر: - إحداها: حلاوة الإيمان ولذته التي هي أحلى وأطيب مما تركه لله فإن " «من ترك شيئا لله، عوضه الله خيرا منه» ". وأما الفائدة الثانية من غض البصر: فهو يورث نور القلب والفراسة قال تعالى عن قوم لوط: {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الحجر: 72] (¬1) فالتعلق بالصور يوجب فساد العقل، وعمى البصيرة، وسكر القلب، بل جنونه. وذكر الله سبحانه آية النور عقيب آيات غض ¬

(¬1) الحجر: 72.

البصر فقال: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [النور: 35] (¬1) وكان شاه بن شجاع الكرماني لا تخطئ له فراسة. وكان يقول: " من عمر ظاهره باتباع السنة، وباطنه بدوام المراقبة، وغض بصره من المحارم، وكف نفسه عن الشهوات، وذكر خصلة خامسة- أظنه- هو أكل الحلال، لم تخطئ له فراسة ". والله تعالى يجزي العبد على عمله بما هو من جنس عمله، فيطلق نور بصيرته، ويفتح عليه باب العلم والمعرفة، والكشوف، ونحو ذلك مما ينال ببصيرة القلب. الفائدة الثالثة: قوة القلب وثباته وشجاعته، فيجعل الله له سلطان البصيرة مع سلطان الحجة، فإن الرجل الذكي يخالف هواه، يفرق الشيطان من ظله. ولهذا يوجد في المتبع هواه من ذل النفس وضعفها ومهانتها ما جعله الله لمن عصاه. ¬

(¬1) سورة النور آية: 35.

وإن الله جعل العزة لمن أطاعه، والذلة لمن عصاه. قال الله تعالى: {يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون: 8] (¬1) وقال تعالى: {وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 139] (¬2) . ولهذا كان من كلام الشيوخ: الناس يطلبون العز بأبواب الملوك، ولا يجدونه إلا في طاعة الله. وكان الحسن البصري يقول: وإن هملجت بهما البراذين، وطقطقت بهم البغال، فإن ذل المعصية في رقابهم، أبى الله إلا أن يذل من عصاه، ومن أطاع الله فقد والاه فيما أطاعه فيه، ومن عصاه ففيه قسط من فعل من عاداه بمعصيته. وفي دعاء القنوت: " «إنه لا يذل من واليت، ولا يعز من عاديت» ". وأما أهل الفواحش الذين لا يغضون أبصارهم، ولا ¬

(¬1) سورة المنافقون آية 8. (¬2) سورة آل عمران آية 139.

يحفظون فروجهم، فقد وصفهم الله بضد ذلك، من السكرة، والعمه، والجهالة، وعدم العقل، وعدم الرشد، والبغض، وطمس الأبصار. هذا مع ما وصفهم به من الخبث، والفسوق، والعدوان، والإسراف، والسوء، والفحش، والفساد، والإجرام. فقال عن قوم لوط: {بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} [النمل: 55] (¬1) فوصفهم بالجهل وقال: {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الحجر: 72] (¬2) وقال: {أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ} [هود: 78] (¬3) وقال: {لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ} [يس: 66] (¬4) وقال: {بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ} [يس: 19] (¬5) وقال: {فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ} [الأعراف: 84] (¬6) وقال: {إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ} [الأنبياء: 74] (¬7) وقال: {أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ} [العنكبوت: 29] ¬

(¬1) سورة النمل آية 55. (¬2) سورة الحجر آية 72. (¬3) سورة هود آية 78. (¬4) سورة يس آية 66. (¬5) سورة يس آية 19. (¬6) سورة الأعراف آية 84. (¬7) سورة الأنبياء آية 74.

(¬1) إلى قوله: {انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ} [العنكبوت: 30] (¬2) إلى قوله: {بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} [العنكبوت: 34] (¬3) وقوله: {مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ} [الذاريات: 34] (¬4) . بل قد ينتهي النظر والمباشرة بالرجل إلى الشرك، كما قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} [البقرة: 165] (¬5) . ولهذا لا يكون عشق الصور إلا من ضعف محبة الله، وضعف الإيمان. والله تعالى إنما ذكره في القرآن عن امرأة العزيز المشركة، وعن قوم لوط المشركين. والعاشق المتيم يصير عبداً لمعشوقه، منقاداً إليه، أسير القلب له. والله أعلم، وصلى الله على محمد. ¬

(¬1) سورة العنكبوت آية 29. (¬2) سورة العنكبوت آية 30. (¬3) سورة العنكبوت آية 34. (¬4) سورة الذاريات آية 34. (¬5) سورة البقرة آية 165.

حكم السفور والحجاب

[حكم السفور والحجاب] [الأمر بالحجاب والنهي عن السفور] حكم السفور والحجاب لسماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز

بسم الله الرحمن الرحيم من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى من يراه من المسلمين سلك الله بي وبهم سبيل الاستقامة وأعاذني وإياهم من أسباب الخزي والندامة آمين. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته أما بعد: فلا يخفى عليكم أيها المسلمون ما عمت به البلوى في كثير من البلدان من تبرج الكثير من النساء وسفورهن وعدم تحجبهن من الرجال وإبداء الكثير من زينتهن التي حرم الله عليهن إبداءها، ولا شك أن ذلك من المنكرات العظيمة والمعاصي الظاهرة ومن أعظم أسباب حلول العقوبات ونزول النقمات لما يترتب على التبرج والسفور من ظهور الفواحش وارتكاب الجرائم وقلة الحياء وعموم الفساد. فاتقوا الله أيها المسلمون وخذوا على أيدي سفهائكم وامنعوا نساءكم مما حرم الله عليهن وألزموهن

التحجب والتستر واحذروا غضب الله سبحانه وعظيم عقوبته فقد صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه أوشك أن يعمهم الله بعقابه» وقد قال الله سبحانه فيِ كتابه الكريم {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ - كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المائدة: 78 - 79] (¬1) وفي المسند وغيره عن ابن مسعود رضى الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - «تلا هذه الآية ثم قال: والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ولتأخذن على يد السفيه ولتأطرنه على الحق أطراً أو ليضربن الله بقلوب بعضكم على بعض ثم يلعنكم كما لعنهم» وصح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال «من رأى منكم منكراً فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك ¬

(¬1) المائدة آية 78- 79.

أضعف الإيمان» وقد أمر الله سبحانه في كتابه الكريم بتحجب النساء ولزومهن البيوت وحذر من التبرج والخضوع بالقول للرجال صيانة لهنً عن الفساد وتحذيرا لهن من أسباب الفتنة فقال تعالى {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلا مَعْرُوفًا - وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [الأحزاب: 32 - 33] (¬1) . نهى سبحانه في هذه الآيات نساء النبي الكريم أمهات المؤمنين وهن من خير النساء وأطهرهن عن الخضوع بالقول للرجال وهو تليين القول لئلا يطمع فيهن من في قلبه مرض شهوة الزنا يوافقنه على ذلك وأمر بلزومهن البيوت ونهاهن عن تبرج الجاهلية وهو إظهار الزينة والمحاسن كالرأس ¬

(¬1) الأحزاب آية 32 - 33.

والوجه والعنق والصدر والذراع والساق ونحو ذلك من الزينة لما في ذلك من الفساد العظيم والفتنة الكبيرة وتحريك قلوب الرجال إلى تعاطي أسباب الزنا، وإذا كان الله سبحانه يحذر أمهات المؤمنين من هذه الأشياء المنكرة مع صلاحهن وإيمانهن وطهارتهن فغيرهن أولى وأولى بالتحذير والإنكار والخوف عليهن من أسباب الفتنة عصمنا الله وإياكم من مضلات الفتن. ويدل على عموم الحكم لهن ولغيرهن قوله سبحانه في هذه الآية {وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [الأحزاب: 33] فإن هذه الأوامر أحكام عامة لنساء النبي - صلى الله عليه وسلم - وغيرهن وقال عز وجل {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} [الأحزاب: 53] (¬1) فهذه الآية الكريمة نص واضح في وجوب تحجب النساء عن الرجال وتسترهن منهم وقد أوضح الله سبحانه في هذه الآية ¬

(¬1) الأحزاب آية 53.

أن التحجب أطهر لقلوب الرجال والنساء وأبعد عن الفاحشة وأسبابها وأشار سبحانه إلى أن السفور وعدم التحجب خبث ونجاسة وأن التحجب طهارة وسلامة. فيا معشر المسلمين تأدبوا بتأديب الله وامتثلوا أمر الله وألزموا نساءكم بالتحجب الذي هو سبب الطهارة ووسيلة النجاة والسلامة. وقال عز وجل {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ (¬1) ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [الأحزاب: 59] (¬2) . أمر الله سبحانه جميع نساء المؤمنين بإدناء جلابيبهن على محاسنهن من الشعور والوجه وغير ذلك حتى يعرفن بالعفة فلا يفتتن ولا يفتن غيرهن فيؤذيهن. قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس أمر الله نساء المؤمنين إذا خرجن من بيوتهن في حاجة أن ¬

(¬1) جمع جلباب وهو ما تضعه المرأة على رأسها للتحجب والتستر به. (¬2) الأحزاب آية 59.

يغطين وجوههن من فوق رؤوسهن بالجلابيب ويبدين عينا واحدة. وقال محمد بن سيرين: سألت عبيدة السلماني عن قول الله عز وجل {يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ} [الأحزاب: 59] فغطى وجهه ورأسه وأبرز عينه اليسرى. . ثم أخبر الله سبحانه أنه غفور رحيم عما سلف من التقصير في ذلك قبل النهي والتحذير منه سبحانه. وقال تعالى {وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [النور: 60] (¬1) يخبر سبحانه أن القواعد من النساء - وهن العجائز اللاتي لا يرجون نكاحا - لا جناح عليهن أن يضعن ثيابهن عن وجوههن وأيديهن إذا كن غير متبرجات بزينة، فعلم بذلك أن المتبرجة الزينة ليس لها أن تضع ثوبها عن وجهها ويديها وغير ذلك من زينتها، وأن عليها جناحا في ذلك ولو كانت ¬

(¬1) النور آية 60.

عجوزاً، لأن كل ساقطة لها لاقطة، ولأن التبرج يفضي إلى الفتنة بالمتبرجة ولو كانت عجوزاً فكيف يكون الحال بالشابة والجميلة إذا تبرجت؟ لا شك أن إثمهما أعظم والجناح عليها أشد والفتنة بها أكبر وشرط سبحانه في حق العجوز أن لا تكون ممن يرجو النكاح وما ذلك - والله أعلم - إلا لأن رجاءها النكاح يدعوها إلى التجمل والتبرج بالزينة طمعا في الأزواج فنهيت عن وضع ثيابها عن محاسنها لها ولغيرها من الفتنة. ثم ختم الآية سبحانه بتحريض القواعد على الاستعفاف، وأوضح أنه خير لهن، وإن لم يتبرجن. فظهر بذلك فضل التحجب والتستر بالثياب، ولو من العجائز وأنه خير لهن من وضع الثياب، فوجب أن يكون التحجب والاستعفاف عن إظهار الزينة خير للشابات من باب أولي وأبعد لهن عن أسباب الفتنة. وقال تعالى:

{قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ - وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور: 30 - 31] (¬1) أمر الله سبحانه في هاتين الآيتين الكريمتين المؤمنين والمؤمنات بغض الأبصار وحفظ الفروج وما ذاك إلا لعظم فاحشة الزنا وما يترتب عليها من الفساد الكبير بين المسلمين ولأن إطلاق البصر من وسائل مرض القلب ووقوع الفاحشة وغض البصر من أسباب ¬

(¬1) النور آية 30 - 31.

السلامة من ذلك ولهذا قال سبحانه: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} [النور: 30] فغض البصر وحفظ الفرج أزكى للمؤمن في الدنيا والآخرة، وإطلاق البصر والفرج من أعظم أسباب العطب والعذاب في الدنيا والآخرة. نسأل الله العافية من ذلك. وأخبر عز وجل أنه خبير بما يصنعه الناس وأنه لا يخفى عليه خافية، وفى ذلك تحذير للمؤمنين من ركوب ما حرم الله عليهم، والإعراض عما شرع الله لهم وتذكير لهم بأن الله سبحانه يراهم ويعلم أفعالهم الطيبة وغيرها كما قال تعالى: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [غافر: 19] (¬1) . ¬

(¬1) غافر آية 19.

وقال تعالى: {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ} [يونس: 61] (¬1) فالواجب على العبد أن يحذَرَ ربه وأن يستحي منه أن يراه على معصيته أو يفقده من طاعته التي أوجب عليه ثم قال سبحانه {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ} [النور: 31] فأمر المؤمنات بغض البصر وحفظ الفرج كما أمر المؤمنين بذلك صيانة لهن من أسباب الفتنة وتحريضا لهن على أسباب العفة والسلامة ثم قال سبحانه {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النور: 31] قال ابن مسعود رضى الله عنه: (مَا ظَهَرَ مِنْهَا) يعني بذلك ما ظهر من اللباس فإن ذلك معفو عنه ومراده بذلك - رضي الله عنه - الملابس التي ليس فيها تبرج وفتنة. وأما ما يروى عن ابن عباس - رضى الله عنهما - أنه فسر (مَا ظَهَرَ مِنْهَا) بالوجه والكفين فهو ¬

(¬1) يونس آية 61.

محمول على حالة النساء قبل نزول آية الحجاب. وأما بعد ذلك فقد أوجب الله عليهن ستر الجميع كما سبق في الآيات الكريمات من سورة الأحزاب وغيرها. ويدل على أن ابن عباس أراد ذلك ما رواه علي بن أبي طلحة عنه أنه قال: أمر الله نساء المؤمنين إذا خرجن من بيوتهن في حاجة أن يغطين وجوههن من فرق رؤوسهن بالجلابيب، ويبدين عينا واحدة. وقد نبه على ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره من أهل العلم، والتحقيق. وهو الحق الذي لا ريب فيه. وأما ما رواه أبو داود في سننه عن عائشة - رضى الله عنها - «أن أسماء بنت أبي بكر - رضى الله عنهما - دخلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعليها ثياب رقاق فأعرض عنها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال: "يا أسماء إن المرأة إذا بلغت المحيض لم يصلح أن يرى منها إلا هذا وهذا " وأشار إلى وجهه وكفيه.» فهو حديث ضعيف الإسناد لا يصح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - لأنه من رواية خالد بن دريك عن عائشة وهو لم يسمع منها فهو منقطع ولهذا قال أبو داود

ما يترتب على ظهور الوجه والكفين من الفساد والفتنة

بعد روايته لهذا الحديث هذا مرسل، خالد لم يدرك عائشة. . ولأن في إسناده سعيد بن بشير وهو ضعيف لا يحتج بروايته. . وفيه علة أخرى ثالثة وهي: عنعنة قتادة عن خالد بن دريك وهو مدلس. [ما يترتب على ظهور الوجه والكفين من الفساد والفتنة] ومعلوم ما يترتب على ظهور الوجه والكفين من الفساد والفتنة وقد تقدم (¬1) قوله تعالى {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} [الأحزاب: 53] ولم يستثن شيئا وهي آية محكمة فوجب الأخذ بها والتعويل عليها وحمل ما سواها عليها والحكم فيها عام في نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - وغيرهن من نساء المؤمنين. وتقدم (¬2) في سورة النور ما يرشد إلى ذلك وهو ما ذكره الله سبحانه في حق القواعد وتحريم وضعهن الثياب إلا بشرطين: أحدهما كونهن لا يرجون النكاح. والثاني عدم التبرج بالزينة وسبق الكلام على ¬

(¬1) صفحة 54. (¬2) صفحة 55.

ذلك وأن الآية المذكورة حجة ظاهرة، وبرهان قاطع على تحريم سفور النساء وتبرجهن بالزينة. ولا يخفى ما وقع فيه النساء اليوم من التوسع في التبرج وإبداء المحاسن فوجب سد الذرائع وحسم الوسائل المفضية إلى الفساد وظهور الفواحش. ومن أعظم أسباب الفساد: خلوة الرجال بالنساء وسفرهم بهن من دون محرم. وقد صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «لا تسافر امرأة إلا مع ذي محرم ولا يخلون رجل بامرأة إلا ومعها ذو محرم» وقال - صلى الله عليه وسلم -: «لا يخلون رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما» وقال - صلى الله عليه وسلم -: «لا يبيتَنّ رجل عند امرأة إلا أن يكون زوجاً أو ذا محرم» رواه مسلم في صحيحه. فاتقوا الله أيها المسلمون وخذوا على أيدي نسائكم، وامنعوهن مما حرم الله عليهن من السفور والتبرج، وإظهار المحاسن، والتشبه بأعداء الله من اليهود والنصارى وسائر الكفرة ومن تشبه بهم، واعلموا أن السكوت عنهن مشاركة لهن في الإثم وتعرض لغضب الله وعموم عقابه عافانا الله وإياكم من شر

ذلك. ومن أعظم الواجبات تحذير الرجال من الخلوة بالنساء والدخول عليهن والسفر بهن بدون محرم لأن ذلك من وسائل الفتنة والفساد وقد صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «ما تركت بعدى فتنة أضر على الرجال من النساء» وقال - صلى الله عليه وسلم -: «إن الدنيا حلوة خضرة وأن الله مستخلفكم فيها فناظر كيف تعملون؟ فاتقوا الدنيا، واتقوا النساء فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء» وقال عليه الصلاة والسلام: «رب كاسية في الدنيا عارية في الآخرة» وقال - صلى الله عليه وسلم -: «صنفان من أهل النار لم أرهما بعد نساء كاسيات عاريات مائلات مميلات رؤوسهن كأسنمة البخت المائلة، لا يدخلن الجنة، ولا يجدن ريحها ورجال بأيديهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس» وهذا تحذير شديد من التبرج والسفور ولبس الرقيق والقصير من الثياب، والميل عن الحق والعفة وإمالة الناس إلى الباطل وتحذير شديد من ظلم الناس والتعدي عليهم ووعيد لمن فعل ذلك بحرمان دخول الجنة. نسأل الله العافية

من ذلك. ومن أعظم الفساد تشبه الكثير من النساء بنساء الكفار من اليهود والنصارى ومَنْ تشبه بهم في لبس القَصير والرقيق من الثياب وإبداء الشعور والمحاسن. وقد قال - صلى الله عليه وسلم - «من تشبه بقوم فهو منهم» ومعلوم ما يترتب على هذا التشبه وهذه الملابس القصيرة التي تجعل المرأة شبه عارية، من الفساد، والفتنة، ورقة الدين، وقلة الحياء. فالواجب الحذر من ذلك غاية الحذر ومنع النساء منه والشدة في ذلك لأن عاقبته وخيمة وفساده عظيم، ولا يجوز التساهل في ذلك مع البنات الصغار لأن تربيتهن عليه يفضي إلى اعتيادهن له وكراهتهن لما سواه إذا كبرن فيقع بذلك الفساد والفجور والفتنة المخوفة التي وقع فيها الكبيرات من النساء. فاتقوا الله عباد الله واحذروا ما حرم الله عليكم وتعاونوا على البر والتقوى وتواصوا بالحق والصبر عليه. واعلموا أن الله سبحانه سائلكم عن ذلك ومحاسبكم على أعمالكم، وهو سبحانه مع الصابرين، ومع

المتقين، والمحسنين، فاصبروا وصابروا واتقوا الله وأحسنوا إن الله يحب المحسنين. ولا ريب أن الواجب على ولاة الأمور من الأمراء والقضاة والعلماء ورؤساء الهيئات وأعضاء الهيئات أكبر من الواجب على غيرهم، والخطر عليهم أشد، والفتنة في سكوت من سكت منهم عظيمة، ولكن ليس إنكار المنكر خاصا بهم، بل الواجب على جميع المسلمين ولا سيما أعيانهم وكبارهم، وبالأخص أولياء النساء وأزواجهن إنكار هذا المنكر والغلظة فيه والشدة على من تساهل في ذلك لعل الله سبحانه يرفع عنا ما نزل من البلاء ويهدينا ونساءنا إلى سواء السبيل. وصح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «ما بعث الله من نبي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته، ويهتدون بأمره، ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل» .

وأسأل الله أن ينصر دينه ويعلي كلمته وأن يصلح ولاة أمورنا ويقمع بهم الفساد وينصر بهم الحق، ويصلح لهم البطانة وأن يوفقنا وإياكم وإياهم وسائر المسلمين لما فيه صلاح العباد والبلاد في المعاش والميعاد إنه على كل شيء قدير وبالإجابة جدير وحسبنا الله ونعم الوكيل ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد وآله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

حكم مصافحة المرأة المسلمة للرجال الأجانب

[حكم مصافحة المرأة المسلمة للرجال الأجانب] حكم مصافحة المرأة المسلمة للرجال الأجانب الدكتور محمد تقي الدين الهلالي الحسيني

بسم الله الرحمن الرحيم مقدمة الحمد لله الذي جعل من كل شيء تشتهيه نفس الإنسان حلالا وحراما، فأحل الحلال وحرم الحرام، وجعل تحريمه لزاما. فقال تعالى: {وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ - مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النحل: 116 - 117] (من سورة النحل) . وصل اللهم على عبدك ورسولك محمد الذي أخرجت به عبادك المؤمنين من الظلمات إلى النور، وأمرتهم بالاقتصار على الحلال، وبينت لهم ما فيه من الأجور، وعلى آله وأصحابه الذين هم القدوة في جميع الأمور. أما بعد: فيقول العبد الفقير، إلى الكبير المتعالي،

محمد تقي الدين الحسيني الهلالي، سألني أحد الإخوان الصادقين، المتبعين للنبي الأمين، عن حكم الله في مصافحة المرأة المسلمة للرجال الأجانب، الذين لا يحرم عليهم التزوج بها تحريما مطلقا. فأقول وبالله التوفيق: أجمع المسلمون من السلف والخلف على أن لمس المرأة الأجنبية في أي موضع من جسمها حرام ومعصية لله، وقد وقعت لي في ذلك قصة عجيبة في بلاد الهند، كان لي تلميذ وهو الشيخ عبد الباري الزواوي من أهل مسقط في عمان، كنت رئيسا لأساتذة الأدب العربي في ندوة العلماء بالهند، فقال لي: إن أخي يسكن مدينة كراتشي وهو من التجار الكبار، فأرجو منك إذا مررت بكراتشي أن تنزل عنده، ولا تنزل في أحد الفنادق وأعطاني عنوانه، فبحثت عنه فوجدته، ورأيته محافظا على الصلاة في أوقاتها فسرني ذلك، ثم ركبنا السيارة وسار بنا إلى بيته، وإذا

هو قصر عظيم تحيط به حديقة، فجلست في الحديقة على كرسي أقرأ في صحيفة، فشعرت بشيء وقف أمامي، فرفعت بصري فإذا الرجل تقف إلى جنبه امرأة مكشوفة الصدر والعنق والرأس والذراعين والساقين، فمدت إلي يدها للمصافحة، فلففت طرف طيلساني على يدي، ومددت يدي إليها، وقبضت يدها وغضبت وانصرفت، فقال لي بعلها: كيف تهين زوجتي؟ فقلت: إن كانت هناك إهانة فأنت الذي أهانها. فقال لي: لماذا امتنعت من مصافحتها هل في يدها جرب، فقلت له: لا تغالط. إن جسم المرأة كله يحرم لمسه على الأجنبي (¬1) وليس فيه موضع يجوز ¬

(¬1) ظاهر هذا العمل من الدكتور جواز مصافحة النساء من وراء حائل وفيه نظر والأظهر المنع من ذلك مطلقا عملا بعموم الحديث الشريف وهو قوله - صلى الله عليه وسلم -: إني لا أصافح النساء وسدا للذريعة والله أعلم - عبد العزيز بن عبد الله بن باز.

لمسه وموضع لا يجوز، فأخذ يجادلني حتى انقطع. والآن ينبغي أن أذكر الدليل على ما أفتيت به هنا. ليهلك من هلك عن بينة، ويحيى من حيي عن بينة. قال الحافظ ابن كثير - رحمه الله - في تفسيره في آخر سورة الممتحنة عند قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ} [الممتحنة: 12] الآية ما نصه: روى البخاري، عن عروة أن عائشة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - أخبرته «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يمتحن من هاجر إليه من المؤمنات بهذه الآية: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ} [الممتحنة: 12] إلى قوله {غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الممتحنة: 12] قال عروة: قالت عائشة: فمن أقر بهذا الشرط من المؤمنات قال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: قد بايعتك كلاما، ولا والله ما مست يده يد امرأة في المبايعة قط، ما يبايعهن إلا بقوله: قد بايعتك على ذلك» هذا لفظ البخاري. وررى الإمام أحمد، عن

أمية بنت رقيقة قالت: «أتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في نساء لنبايعه، فأخذ علينا ما في القرآن {أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ} [يوسف: 38] الآية، وقال: فيما استطعتن وأطقتن قلنا الله ورسوله أرحم بنا من أنفسنا، قلنا: يا رسول الله ألا تصافحنا؟ قال: إني لا أصافح النساء إنما قولي لامرأة واحدة قولي لمائة امرأة.» وعن سلمى بنت قيس - وكانت إحدى خالات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد صلت معه إلى القبلتين، قالت: «جئت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، نبايعه في نسوة من الأنصار، فلما شرط علينا ألا نشرك بالله شيئا ولا نسرق ولا نزني ولا نقتل أولادنا، ولا نأتي ببهتان نفتريه بين أيدينا وأرجلنا، ولا نعصيه في معروف قال: ولا تغششن أزواجكن قالت: فبايعناه، ثم انصرفنا، فقلت لامرأة منهن: ارجعي فسلي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما غش أزواجنا؟ قالت، فسألته فقال: تأخذ ماله فتحابي به غيره.»

وقال الإمام أحمد عن عائشة بنت قدامة - يعنى ابن مظعون - قالت: «أنا مع أمي رائطة ابنة سفيان الخزاعية والنبي - صلى الله عليه وسلم - يبايع النسوة ويقول: أبايعكن على أن لا تشركن بالله شيئا ولا تسرقن ولا تزنين ولا تقتلن أولادكن، ولا تأتين ببهتان تفترينه بين أيديكن وأرجلكن، ولا تعصينني في معروف - قلن نعم- فيما استطعن فكن يقلن وأقول معهن وأمي تقول لي: أي بنية نعم، فكنت أقول كما يقلن» " وقال البخاري، عن أم عطية قالت: «بايعنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقرأ علينا {أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا} [الممتحنة: 12] ونهانا عن النياحة فقبضت امرأة يدها، قالت: أسعدتني فلانة، فأريد أن أجزيها، فما قال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيئا، فانطلقت ورجعت فبايعها» ، وفي رواية: «فما وفى منهن امرأة غيرها وغير أم سليم ابنة ملحان» . وقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتعاهد النساء بهذه البيعة يوم العيد، كما روى البخاري، عن ابن عباس، قال: «شهدت الصلاة يوم الفطر مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبى بكر وعمر وعثمان،

فكلهم يصليها قبل الخطبة ثم يخطب بعد. فنزل نبي الله - صلى الله عليه وسلم - فكأني أنظر إليه حين يُجلس الرجال بيده، ثم أقبل يشقهم حتى أتى النساء مع بلال فقال، {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ} [الممتحنة: 12] حتى فرغ من الآية كلها، ثم قال حين فرغ: " أنتن على ذلك؟ " فقالت امرأة واحدة ولم يجبه غيرها: نعم يا رسول الله، لا يدري حسن من هي، قال: فتصدقن، قال: وبسط بلال ثوبه، فجعلن يلقين الفتخ (¬1) والخواتيم في ثوب بلال.» وعن عبادة بن الصامت قال: «كنا عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مجلس فقال: تبايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئا ولا تسرقوا ولاتزنوا ولا تقتلوا أولادكم- قرأ الآية التي أخذت على النساء {إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ} [الممتحنة: 12] ¬

(¬1) الفتخ: مفرد فتخة وهي الخواتيم الكبار تجعلها النساء في أصابعها.

فمن وفى منكما فأجره على الله، ومن أصاب من ذلك شيئا فعوقب به فهو كفارة له، ومن أصاب من ذلك شيئا فستره الله عليه فهو إلى الله إن شاء غفر له وإن شاء عذبه» وقد روى ابن جرير، عن ابن عباس «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر عمر بن الخطاب فقال: " قل لهن إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يبايعكن على أن لا تشركن بالله شيئا " وكانت (هند بنت عتبة بن ربيعة) التي شقت بطن حمزة متنكرة في النساء، فقالت هند وهي متنكرة: كيف تقبل من النساء شيئا لم تقبله من الرجال؟ فنظر إليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال لعمر: قل لهن، ولا يسرقن قالت هند: والله إني لأصيب من أبي سفيان الهنات (¬1) ما أدري أيحلهن لي أم لا، قال أبو سفيان: ما أصبت من شيء مضى أو قد بقي فهو لك حلال، فضحك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعرفها، فقال: ¬

(¬1) الهنات: مفردها هنة: أى آخد من ماله أحيانا شيئا قليلا بدون إذنه.

{وَلَا يَزْنِينَ} [الممتحنة: 12] فقالت: يا رسول الله وهل تزني امرأة حرة؟ قال: لا والله ما تزني الحرة، قال: {وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ} [الممتحنة: 12] قالت: هند: أنت قتلتهم يوم بدر فأنت وهم أبصر، قال: {وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ} [الممتحنة: 12] قَالَ: {وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ} [الممتحنة: 12] قال: منعهن أن ينحن (¬1) » وكان نساء الجاهلية يمزقن الثياب، ويخدشن الوجوه، ويقطعن الشعور، ويدعون بالويل والثبور. قال محمد تقي الدين من المعلوم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - معصوم من الذنوب، وأن المبايعة وهي المعاهدة كان الرجال يصافحونه عندها، فامتنع النبي - صلى الله عليه وسلم - من مصافحة النساء حتى يبين أن مصافحة الرجال للنساء حرام، وحتى لا يقتدي به الخلفاء الذين يجيئون من بعده، ثم إن مصافحة الرجال للنساء الأجنبيات مأخوذ من الأوروبيين النصارى، وقد أمرنا بمخالفتهم، وهم لا ¬

(¬1) النياحة: البكاء برفع الصوت على الميت وتعداد محاسنه.

يكتفون بالمصافحة بل يرقص الرجل مع المرأة بطنا لبطن، فمن تشبه بهم فهو منهم كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -. فالواجب على المرأة المسلمة أن لا تسمح لرجل أجنبي أن يلمس شيئا من جسمها، لا اليدين ولا غيرهما، إلا إذا كانت مريضة، ولم تجد امرأة تداويها، فحينئذ يجوز للطبيب (. . . .) (¬1) أن يداويها ولو لمس جسمها ولا يستثنى من ذلك زوج الأخت، ولا حمو المرأة وهو أخ زوجها، ولا ابن عمها، ولا ابن خالها، لأنهم أجانب شرعا. والله يوفقنا جميعا للعمل بما أمرنا به وترك ما نهانا عنه أو نهى عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. والحمد لله رب العالمين. وكان الفراغ منه بعد العصر يوم الخميس سابع ذي الحجة سنة 1400هـ للهجرة. ¬

(¬1) كذا في الأصل فراغ.

رسالة الحجاب

[رسالة الحجاب] [أدلة القرآن على وجوب احتجاب المرأة عن الرجال الأجانب وتغطية وجهها] رسالة الحجاب تأليف فضيلة الشيخ محمد بن صالح بن عثيمين غفر الله له ولوالديه ولجميع المسلمين

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ به من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان وسلم تسليما كثيرا. أما بعد: فلقد بعث اللَه تعالى محمدا صلى الله عليه وسلم ودين الحق ليخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد، بعثه الله لتحقيق عبادة الله تعالى وذلك بتمام الذل والخضوع له تبارك وتعالى بامتثال أوامره واجتناب نواهيه وتقديم ذلك على هوى النفس وشهواتها. وبعثه الله متمما لمكارم الأخلاق، داعيا إليها بكل وسيلة وهادما لمساوئ الأخلاق محذرا عنها بكل وسيلة، فجاءت شريعته صلى الله عليه وسلم كاملة من جميع الوجوه لا تحتاج إلى مخلوق في تكميلها أو

تنظيمها فإنها من لدن حكيم خبير عليم بما يصلح عباده رحيم بهم. وإن من مكارم الأخلاق التي بعث بها محمد صلى الله عليه وسلم ذلك الخلق الكريم خلق الحياء الذي جعله النبي صلى الله عليه وسلم من الإيمان وشعبة من شعبه، ولا ينكر أحد أن من الحياء المأمور به شرعا وعرفا احتشام المرأة وتخلقها بالأخلاق التي تبعدها عن مواقع الفتن ومواضع الريب، وإن مما لا شك فيه أن احتجابها بتغطية وجهها ومواضع الفتنة منها لهو من أكبر احتشام تفعله وتتحلى به لما فيه من صونها وإبعادها عن الفتنة. ولقد كان الناس في هذه البلاد المباركة بلاد الوحي والرسالة والحياء والحشمة كانوا على طريق الاستقامة في ذلك، فكان النساء يخرجن متحجبات متجلببات بالعباءة أو نحوها بعيدات عن مخالطة الرجال الأجانب، ولا تزال الحال كذلك في كثير من بلدان المملكة ولله الحمد، لكن لما حصل ما حصل من الكلام حول الحجاب ورؤية من لا

يفعلونه ولا يرون بأسا بالسفور صار عند بعض الناس شك في الحجاب وتغطية الوجه هل هو واجب أو مستحب أو شيء يتبع العادات والتقاليد ولا يحكم عليه بوجوب ولا استحباب في حد ذاته، ولإزالة هذا الشك وجلاء حقيقة الأمر أحببت أن أكتب ما تيسر لبيان حكمه راجيا من الله تعالى أن يتضح به الحق وأن يجعلنا من الهداة المهتدين الذين رأوا الحق واتبعوه ورأوا الباطل باطلا فاجتنبوه فأقول وبالله التوفيق. اعلم أيها المسلم أن احتجاب المرأة عن الرجال الأجانب وتغطية وجهها أمر واجب دل على وجوبه كتاب ربك تعالى وسنة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم والاعتبار الصحيح والقياس المطرد. فمن أدلة القرآن: الدليل الأول: قوله تعالى:

{وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور: 31] (¬1) . وبيان دلالة هذه الآية على وجوب الحجاب على المرأة عن الرجال الأجانب من وجوه: 1 - أن الله تعالى أمر المؤمنات بحفظ فروجهن والأمر بحفظ الفرج أمر به وبما يكون وسيلة إليه ولا يرتاب عاقل أن من وسائله تغطية الوجه لأن كشفه سبب للنظر إليها وتأمل محاسنها والتلذذ بذلك ¬

(¬1) سورة النور آية 31.

وبالتالي إلى الوصول والاتصال، وفي الحديث: «العينان تزنيان وزناهما النظر» إلى أن قال: «والفرج يصدق ذلك أو يكذبه» فإذا كان تغطية الوجه من وسائل حفظ الفرج كان مأمورا به لأن الوسائل لها أحكام المقاصد. 2 - قوله تعالى: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} [النور: 31] فإن الخمار ما تخمر به المرأة رأسها وتغطيه به كالغدفة فإذا كانت مأمورة بأن تضرب بالخمار على جيبها كانت مأمورة بستر وجهها أما لأنه من لازم ذلك أو بالقياس فإنه إذا وجب ستر النحر والصدر كان وجوب ستر الوجه من باب أولى لأنه موضع الجمال والفتنة فإن الناس الذين يتطلبون جمال الصورة لا يسألون إلا عن الوجه فإذا كان جميلا لم ينظروا إلى ما سواه نظرا ذا أهمية ولذلك إذا قالوا فلانة جميلة لم يفهم من هذا الكلام إلا جمال الوجه فتبين أن الوجه هو موضع الجمال طلبا وخبرا فإذا كان كذلك فكيف يفهم أن هذه الشريعة الحكيمة تأمر بستر

الصدر والنحر ثم ترخص في كشف الوجه. 3 - إن الله تعالى نهى عن إبداء الزينة مطلقا إلا ما ظهر منها وهى التي لا بد من أن تظهر كظاهر الثياب؛ ولذلك قال إلا ما ظهر منها لم يقل إلا ما أظهرن منها ثم نهى مرة أخرى عن إبداء الزينة إلا لمن استثناهم، فدل هذا على أن الزينة الثانية غير الزينة الأولى؛ فالزينة الأولى هي الزينة الظاهرة التي تظهر لكل أحد ولا يمكن إخفاؤها، والزينة الثانية هي الزينة الباطنة التي لا يجوز إبداؤها إلا لأناس مخصوصين سواء كانت من صنع الله تعالى كالوجه أم من صنع الآدميين كثياب الجمال الباطنة التي يتزين بها، ولو كانت هذه الزينة جائزة لكل أحد لم يكن للتعميم في الأولى والاستثناء في الثانية فائدة معلومة. 4 - إن الله تعالى يرخص بإبداء الزينة الباطنة للتابعين غير أولى الإربة من الرجال وهم الخدم الذين لا شهوة لهم وللطفل الصغير الذي لم يبلغ الشهوة ولم

يطلع على عورات النساء فدل هذا على أمرين. أحدهما: أن إبداء الزينة الباطنة لا يحل لأحد من الأجانب إلا لهذين الصنفين. الثاني: أن علة الحكم ومداره على خوف الفتنة بالمرأة والتعلق بها، ولا ريب أن الوجه مجمع الحسن وموضع الفتنة فيكون ستره واجبا لئلا يفتتن به أولو الإربة من الرجال. 5 - قوله تعالى: {وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ} [النور: 31] يعنى لا تضرب المرأة برجلها فيعلم ما تخفيه من الخلاخيل ونحوها مما تتحلى به للرجل، فإذا كانت المرأة منهية عن الضرب بالأرجل خوفا من افتتان الرجل بما يسمع من صوت خلخالها ونحوه فكيف بكشف الوجه. فأيهما أعظم فتنة أن يسمع الرجل خلخالا بقدم

امرأة لا يدري ما هي وما جمالها لا يدرى أشابة هي أم عجوز ولا يدري أشوهاء هي أم حسناء أيهما أعظم فتنة هذا أو أن ينظر إلى وجه سافر جميل ممتلئ شبابا ونضارة وحسنا وجمالا وتجميلا بما يجلب الفتنة ويدعو إلى النظر إليها إن كل إنسان له إربة في النساء ليعلم أي الفتنتين أعظم وأحق بالستر والإخفاء. الدليل الثاني: قوله تعالى: {وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [النور: 60] وجه الدلالة من هذه الآية الكريمة أن الله تعالى نفى الجناح وهو الإثم عن القواعد وهن العجائز اللاتي لا يرجون نكاحا لعدم رغبة الرجال بهن لكبر سنهن نفى الله الجناح عن هذه العجائز في وضع ثيابهن بشرط أن لا يكون الغرض من ذلك التبرج بالزينة ومن المعلوم بالبداهة أنه ليس المراد بوضع الثياب أن يبقين عاريات، وإنما المراد وضع الثياب التي تكون فوق الدرع ونحوه مما لا يستر ما يظهر غالبا

كالوجه والكفين فالثياب المذكورة المرخص لهذه العجائز في وضعها هي الثياب السابغة التي تستر جميع البدن وتخصيص الحكم بهؤلاء العجائز دليل على أن الشواب اللاتي يرجون النكاح يخالفنهن في الحكم، ولو كان الحكم شاملا للجميع في جواز وضع الثياب ولبس درع ونحره لم يكن لتخصيص القواعد فائدة، ومن قوله تعالى: {غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ} [النور: 60] دليل آخر على وجوب الحجاب على الشابة التي ترجو النكاح لأن الغالب عليها إذا كشفت وجهها أنها تريد التبرج بالزينة وإظهار جمالها وتطلع الرجال لها ومدحهم إياها ونحو ذلك ومن سوى هذه نادرة والنادر لا حكم له. الدليل الثالث: قوله تعالي: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [الأحزاب: 59] (¬1) . ¬

(¬1) الأحزاب- آية 59.

قال ابن عباس رضى الله عنهما: أمر الله نساء المؤمنين إذا خرجن من بيوتهن في حاجة أن يغطين وجوههن من فوق رؤوسهن بالجلابيب ويبدين عينا واحدة. وتفسير الصحابي حجة بل قال بعض العلماء: إنه في حكم المرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وقوله رضى الله عنه ويبدين عينا واحدة إنما رخص في ذلك لأجل الضرورة والحاجة إلى نظر الطريق فأما إذا لم يكن حاجة فلا موجب لكشف العين. والجلباب هو الرداء فوق الخمار بمنزلة العباءة قالت أم سلمة رضي الله عنها: لما نزلت هذه الآية خرج نساء الأنصار كأن على رؤوسهن الغربان من السكينة وعليهن أكسية سود يلبسنها. وقد ذكر أبو عبيدة السلماني وغيره أن نساء المؤمنين كن يدنين عليهن الجلابيب من فوق رؤوسهن حتى لا يظهر إلا عيونهن من أجل رؤية الطريق. الدليل الرابع: قوله تعالى

أدلة السنة على وجوب احتجاب المرأة عن الرجال الأجانب وتغطية وجهها

{لَا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ وَلَا أَبْنَائِهِنَّ وَلَا إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ أَخَوَاتِهِنَّ وَلَا نِسَائِهِنَّ وَلَا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا} [الأحزاب: 55] (¬1) . قال ابن كثير رحمه الله: لما أمر الله النساء بالحجاب عن الأجانب بين أن هؤلاء الأقارب لا يجب الاحتجاب عنهم كما استثناهم في سورة النور عند قوله تعالى: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ} [النور: 31] الآية فهذه أربعة أدلة من القرآن الكريم تفيد وجوب احتجاب المرأة عن الرجال الأجانب والآية الأولى تضمنت الدلالة على- ذلك من خمسة أوجه. [أدلة السنة على وجوب احتجاب المرأة عن الرجال الأجانب وتغطية وجهها] وأما أدلة السنة فمنها. الدليل الأول: قوله صلى الله عليه وسلم: «إذا خطب أحاكم امرأة فلا جناح عليه أن ينظر منها إذا كان إنما ينظر إليها لخطبة وإن كانت لا تعلم» رواه أحمد. قال في مجمع الزوائد رجاله رجال الصحيح وجه الدلالة منه أن النبي صلى الله عليه وسلم نفى الجناح وهو الإثم عن الخاطب خاصة إذا نظر من مخطوبته بشرط أن يكون نظره للخطبة فدل هذا على أن غير الخاطب آثم بالنظر إلى ¬

(¬1) سورة الأحزاب آية 55.

الأجنبية بكل حال وكذلك الخاطب إذا نظر لغير الخطبة مثل أن يكون غرضه لغير الخطبة مثل أن يكون غرضه بالنظر التلذذ والتمتع به ونحو ذلك فإن قيل ليس في الحديث بيان ما ينظر إليه فقد يكون المراد بذلك نظر الصدر والنحر فالجواب: إن كل أحد يعلم أن مقصود الخاطب المريد للجمال إنما هو جمال الوجه وما سواه تبع لا يقصد غالبا فالخاطب إنما ينظر إلى الوجه لأنه المقصود بالذات لمريد الجمال بلا ريب. الدليل الثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أمر بإخراج النساء إلى مصلى العيد قلن يا رسول الله إحدانا لا يكون لها جلباب فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لتلبسها أختها من جلبابها» رواه البخاري، ومسلم وغيرهما. فهذا الحديث يدل على أنْ المعتاد عند نساء الصحابة أن لا تخرج امرأة إلا بجلباب وأنها عند عدمه لا يمكن أن تخرج ولذلك ذكرن رضى الله عنهن هذا المانع لرسول الله صلى الله عليه وسلم حينما أمرهن بالخروج إلى مصلى العيد فبين النبي صلى الله عليه وسلم لهن حل هذا الإشكال بأن

تلبسها أختها من جلبابها ولم يأذن لهن بالخروج بغير جلباب مع أن الخروج إلى مصلى العيد مشروع مأمور به للرجال والنساء فإذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يأذن لهن بالخروج بغير جلباب فيما هو مأمور به فكيف يرخص لهن في ترك الجلباب لخروج غير مأمور به ولا محتاج إليه بل هو للتجول في الأسواق والاختلاط بالرجال والتفرج الذي لا فائدة منه وفي الأمر بلبس الجلباب دليل على أنه لابد من التستر والله أعلم. الدليل الثالث: ما ثبت في الصحيحين، عن عائشة رضى الله عنها قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الفجر فيشهد معه نساء من المؤمنات متلفعات بمروطهن ثم يرجعن إلى بيوتهن ما يعرفهن أحد من الغلس وقالت: لو رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم من النساء ما رأينا لمنعهن من المساجد كما منع بنوا إسرائيل نساءها» وقد روي نحو هذا عن ابن مسعود رضي الله عنه.

والدلالة في هذا الحديث من وجهين: أحدهما: أن الحجاب والتستر كان من عادة نساء الصحابة الذين هم خير القرون وأكرمها على الله عز وجل وأعلاها أخلاقا وآدابا وأكملها إيمانا وأصلحها عملا فهم القدوة الذين رضى الله عنهم وعمن اتبعوهم بإحسان كما قال تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة: 100] فإذا كانت تلك طريقة نساء الصحابة فكيف يليق بنا أن نحيد عن تلك الطريقة التي في اتباعها بإحسان رضي الله تعالى عمن سلكها واتبعها وقد قال الله تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء: 115] الثاني: أن عائشة أم المؤمنين وعبد الله بن مسعود

رضي الله عنهما وناهيك بهما علما وفقها وبصيرة في دين الله ونصحا لعباد الله أخبرا بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لو رأى من النساء ما رأياه لمنعهن من المساجد وهذا في زمان القرون المفضلة تغيرت الحال عما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم إلى حد يقتضي منعهن من المساجد فكيف بزماننا هذا بعد نحو ثلاثة عشر قرنا وقد اتسع الأمر وقل الحياء وضعف الدين في قلوب كثير من الناس. وعائشة، وابن مسعود رضي الله عنهما فهما ما شهدت به نصوص الشريعة الكاملة من أن كل أمر يترتب عليه محذور فهو محظور. الدليل الرابع: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة. فقالت أم سلمة: فكيف يصنع النساء بذيولهن قال: يرخينه شبرا قالت إذن تنكشف أقدامهن قال: يرخين ذراعا لا يزدن عليه» ففي هذا الحديث دليل على وجوب ستر قدم

المرأة وأنه أمر معلوم عند نساء الصحابة رضى الله عنهم والقدم أقل فتنة من الوجه والكفين بلا ريب فالتنبيه بالأدنى تنبيه على ما فوقه وما هو أولى منه بالحكم وحكمة الشرع تأبى أن يجب ستر ما هو أقل فتنة ويرخص في كشف ما هو أعظم منه فتنة فإن هذا من التناقض المستحيل على حكمة الله وشرعه. الدليل الخامس: قوله صلى الله عليه وسلم: «إذا كان لِإحداكن مكاتب وكان عنده ما يؤدي فلتحتجب منه» رواه الخمسة إلا النسائي وصححه الترمذي. . وجه الدلالة من هذا الحديث أنه يقتضي أن كشف السيدة وجهها لعبدها جائز ما دام في ملكها فإذا خرج منه وجب عليها الاحتجاب لأنه صار أجنبيا فدل على وجوب احتجاب المرأة من الرجل الأجنبي. الدليل السادس: عن عائشة رضي الله عنها قالت: «كان الركبان يمرون بنا ونحن محرمات مع الرسول صلى الله عليه وسلم فإذا حاذونا سدلت إحدانا جلبابها على وجهها

من رأسها فإذا جاوزونا كشفناه» رواه أحمد، وأبو داود، وابن ماجه. ففي قولها فإذا حاذونا تعني الركبان سدلت إحدانا جلبابها على وجهها دليل على وجوب ستر الوجه لأن المشروع في الإحرام كشفه فلولا وجود مانع قوي من كشفه حينئذ لوجب بقاؤه مكشوفاً حتى عند الركبان وبيان ذلك أن كشف الوجه في الإحرام واجب على النساء عند الأكثر من أهل العلم والواجب لا يعارضه إلا ما هو واجب فلولا وجوب الاحتجاب وتغطية الوجه عند الأجانب ما ساغ ترك الواجب من كشفه حال الإحرام وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما أن المرأة المحرمة تنهى عن النقاب والقفازين قال شيخ الإسلام ابن تيمية: وهذا مما يدل على أن النقاب والقفازين كانا معروفين في النساء اللاتي لم يحرمن وذلك يقتضي ستر وجوههن وأيديهن فهذه ستة أدلة من السنة على وجوب احتجاب المرأة وتغطية وجهها عن الرجال الأجانب أضف إليها أدلة القرآن الأربعة

تكن عشرة أدلة في الكتاب والسنة. الدليل الحادي عشر: الاعتبار الصحيح والقياس المطرد الذي جاءت به هذه الشريعة الكاملة وهو: إقرار المصالح ووسائلها والحث عليها وإنكار المفاسد ووسائلها والزجر عنها فكل ما كانت مصلحته خالصة أو راجحة على مفسدته فهو مأمور به أمر إيجاب أو أمر استحباب، وكل ما كانت مفسدته خالصة أو راجحة على مصلحته فهو منهي عنه نهي تحريم أو نهي تنزيه، وإذا تأملنا السفور وكشف المرأة وجهها للرجال الأجانب وجدناه يشتمل على مفاسد كثيرة، وإن قدر فيه مصلحة فهي يسيرة منغمرة في جانب المفاسد فمن مفاسده: 1 - الفتنة فإن المرأة تفتن نفسها بفعل ما يجمل وجهها ويبهيه ويظهره بالمظهر الفاتن وهذا أكبر دواعي الشر والفساد. 2 - زوال الحياء عن المرأة الذي هو من الإيمان

ومن مقتضيات فطرتها فقد كانت المرأة مضرب المثل في الحياء فيقال أحيي من العذراء في خدرها وزوال الحياء من المرأة نقص في إيمانها وخروج عن الفطرة التي خلقت عليها. 3 - افتتان الرجال بها لا سيما إذا كانت جميلة وحصل منها تملق وضحك ومداعبة كما في كثير من السافرات وقد قيل: نظرة فسلام كلام فموعد فلقاء والشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم فكم من كلام وضحك وفرح أوجب تعلق قلب الرجل بالمرأة وقلب المرأة بالرجل فحصل بذلك من الشر ما لا يمكن دفعه نسأل الله السلامة. 4 - اختلاط النساء بالرجال؛ فإن المرأة إذا رأت نفسها مساوية للرجل في كشف الوجه والتجول سافرة لم يحصل منها حياء ولا خجل من مزاحمته وفى ذلك فتنة كبيرة وفساد عريض، وقد خرج النبي صلى الله عليه وسلم ذات

يوم من المسجد وقد اختلط النساء مع الرجال في الطريق فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «استأخرن فإنه ليس لكن أن تحتضن الطريق عليكن بحافات الطريق» فكانت المرأة تلصق بالجدار حتى أن ثوبها ليتعلق به من لصوقها ذكره ابن كثير عند تفسير قوله تعالى {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ} [النور: 31] وقد نص شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله على وجوب احتجاب المرأة عن الرجال الأجانب فقال في الفتاوى والمطبوعة أخيرا ص 110 ج 2 من الفقه و 22 من المجموع وحقيقة الأمر أن الله جعل الزينة زينتين زينة ظاهرة وزينة غير ظاهرة ويجوز لها إبداء زينتها الظاهرة لغير الزوج وذوي المحارم وكانوا قبل أن تنزل آية الحجاب كان النساء يخرجن بلا جلباب يرى الرجل وجهها ويديها، وكان إذ ذاك يجوز لها أن تظهر الوجه والكفين وكان حينئذ يجوز النظر إليها لأنه يجوز لها إظهاره ثم لما أنزل الله آية الحجاب بقوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ} [الأحزاب: 59]

حجب النساء عن الرجال ثم قال: والجلباب هو الملاءة وهو الذي يسميه ابن مسعود وغيره الرداء وتسميه العامة الإزار وهو الإزار الكبير الذي يغطى رأسها وسائر بدنها ثم قال: فإذا كن مأمورات بالجلباب لئلا يعرفن وهو ستر الوجه أو ستر الوجه بالنقاب كان الوجه واليدان من الزينة التي أمرت أن لا تظهرها للأجانب فما بقى يحل للأجانب النظر إلا إلى الثياب الظاهرة فابن مسعود ذكر آخر الأمرين وابن عباس ذكر أول الأمرين إلى أن قال: وعكس ذلك الوجه واليدان والقدمان ليس لها أن تبدي ذلك للأجانب على أصح القولين بخلاف ما كان قبل النسخ بل لا تبدي إلا الثياب وفي ص 117، 118 من الجزء المذكور وأما وجهها ويداها وقدماها فهي إنما نهيت عن إبداء ذلك للأجانب ولم تنه عن إبدائه للنساء ولا لذوي المحارم وفي ص 152 من هذا الجزء قال: وأصل هذا أن تعلم أن الشارع له مقصودان: أحدهما الفرق بين الرجال والنساء، الثاني احتجاب

النساء. هذا كلام شيخ الإسلام وأما كلام غيره من فقهاء أصحاب الإمام أحمد فأذكر المذهب عند المتأخرين. قال في المنتهى: ويحرم نظر خصي ومجبوب وممسوح إلى أجنبية. وقال في الإقناع: ويحرم نظر خصي ومجبوب إلى أجنبية نصا كفحل. وفي موضع آخر من- الإقناع: ولا يجوز النظر إلى الحرة الأجنبية قصدا ويحرم نظر شعرها. وقال في متن الدليل: والنظر ثمانية أقسام: الأول- نظر الرجل البالغ ولو مجبوبا للحرة البالغة الأجنبية لغير حاجة فلا يجوز له نظر شيء منها حتى شعرها المتصل اهـ. وأما كلام الشافعية فقالوا: إن كان النظر لشهوة أو خيفت الفتنة به فحرام قطعا بلا خلاف وإن كان النظر بلا شهوة ولا خوف فتنة ففيه قولان حكاهما في شرح الإقناع لهم. وقال: الصحيح يحرم كما في المنهاج كأصله ووجهه الإمام باتفاق المسلمين على

أدلة من أجاز نظر الوجه والكفين من الأجنبية ومناقشتها

منع النساء من الخروج سافرات الوجوه وبأن النظر مظنة الفتنة ومحرك للشهوة وقد قال الله تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} [النور: 30] واللائق بمحاسن الشريعة سد الباب والِإعراض عن تفاصيل الأحوال اهـ كلامه. (وفى نيل الأوطار شرح المنتقى ذكر اتفاق المسلمين على منع النساء أن يخرجن سافرات الوجوه لا سيما عند كثرة الفساق) . [أدلة من أجاز نظر الوجه والكفين من الأجنبية ومناقشتها] ولا أعلم لمن أجاز نظر الوجه والكفين من الأجنبية دليلا من الكتاب والسنة سوى ما يأتي: الأول: قوله تعالى: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النور: 31] حيث قال ابن عباس رضي الله عنهما هي وجهها وكفاها والخاتم قاله الأعمش عن سعيد بن جبير عنه وتفسير الصحابي حجة كما تقدم. الثاني- ما رواه أبو داود في سننه عن عائشة رضي الله عنها أن أسماء بنت أبي بكر دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليها ثياب رقاق فأعرض عنها وقال:

«أسماء إن المرأة إذا بلغت سن المحيض لم يصلح أن يرى منها إلا هذا وهذا وأشار إلى وجهه وكفيه» . الثالث- ما رواه البخاري وغيره عن ابن عباس رضى الله عنهما «أن أخاه الفضل كان رديفا للنبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع فجاءت امرأة من خثعم فجعل الفضل ينظر إليها وتنظر إليه فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يصرف وجه الفضل إلى الشق الآخر» ففي هذا دليل على أن هذه المرأة كاشفة وجهها. الرابع- ما أخرجه البخاري وغيره من حديث جابر بن عبد الله رضى الله عنه في صلاة النبي صلى الله عليه وسلم بالناس صلاة العيد ثم وعظ الناس وذكرهم ثم مضى حتى أتى النساء فوعظهن وذكرهن وقال: «يا معشر النساء تصدقن فإنكن أكثر حطب جهنم فقامت امرأة من سطة النساء سعفاء الخدين» الحديث ولولا أن وجهها مكشوف ما عرف أنها سعفاء الخدين هذا ما أعرفه من الأدلة التي يمكن أن يستدل بها على جواز كشف الوجه للأجانب من المرأة ولكن هذه الأدلة لا تعارض

ما سبق من أدلة وجوب ستره وذلك لوجهين. أحدهما: أن أدلة وجوب ستره ناقلة عن الأصل وأدلة جواز كشفه مبقية على الأصل والناقل عن الأصل مقدم كما هو معروف عند الأصوليين؛ وذلك لأن الأصل بقاء الشيء على ما كان عليه فإذا وجد الدليل الناقل عن الأصل دل ذلك على طروء الحكم على الأصل وتغييره له ولذلك نقول إن مع الناقل زيادة علم وهو إثبات تغيير الحكم الأصلي والمثبت مقدم على النافي. وهذا الوجه إجمالي ثابت حتى على تقدير تكافؤ الأدلة ثبوتا ودلالة. الثاني: أننا إذا تأملنا أدلة جواز كشفه وجدناها لا نكافئ أدلة المنع ويتضح ذلك بالجواب عن كل واحد منها بما يلي: 1 - عن تفسير ابن عباس من ثلاثة أوجه: أحدهما: محتمل أن مراده أول الأمرين قبل نزول آية لحجاب كما ذكره شيخ الإسلام ونقلنا كلامه آنفا. .

الثاني: يحتمل أن مراده الزينة التي نهى عن إبدائها كما ذكره ابن كثير في تفسيره ويؤيد هذين الاحتمالين تفسيره رضى الله عنه لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ} [الأحزاب: 59] كما سبق في الدليل الثالث من أدلة القرآن. الثالث: إذا لم نسلم أن مراده أحد هذين الاحتمالين فإن تفسيره لا يكون حجة يجب قبولها إلا إذا لم يعارضه صحابي آخر فإن عارضه صحابي آخر أخذ بما ترجحه الأدلة الأخرى وابن عباس رضى الله عنهما قد عارض تفسيره ابن مسعود رضي اللَه عنه حيث فسر قوله إلا ما ظهر منها بالرداء والثياب وما لابد من ظهوره فوجب طلب الترجيح والعمل بما كان راجحا من تفسيريهما. 2 - وعن حديِث عائشة بأنه ضعيف من وجهين: أحدهما: الانقطاع بين عائشة، وخالد بن دريك

الذي رواه عنه كما أعله بذلك أبو داود نفسه حيث قال: خالد بن دريك لم يسمع من عائشة وكذلك أعله أبو حاتم الرازي. الثاني: أن في إسناده سعيد بن بشير النصري نزيل دمشق تركه ابن مهدي وضعفه أحمد، وابن معين، وابن المديني، والنسائي وعلى هذا فالحديث ضعيف لا يقاوم ما تقدم من الأحاديث الصحيحة الدالة على وجوب الحجاب. وأيضا فإن أسماء بنت أبي بكر رضى الله عنها كان لها حين هجرة النبي صلى الله عليه وسلم سبع وعشرون سنة فهي كبيرة السن، فيبعد أن تدخل على النبي صلى الله عليه وسلم بثياب رقاق تصف منها ما سوى الوجه والكفين والله أعلم ثم على تقدير الصحة يحمل على ما قبل الحجاب؛ لأن نصوص الحجاب ناقلة عن الأصل فتقدم عليه. 3 - وعن حديث ابن عباس بأنه لا دليل فيه على جواز النظر إلى الأجنبية لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقر الفضل

على ذلك بل حرف وجهه إلى الشق الآخر ولذلك ذكر النووي في شرح صحيح مسلم بأن من فوائد هذا الحديث تحريم نظر الأجنبية وقال الحافظ ابن حجر في فتح الباري في فوائد هذا الحديث: وفيه منع النظر إلى الأجنبيات وغض البصر. قال عياض وزعم بعضهم أنه غير واجب إلا عند خشية الفتنة. قال: وعندي أن فعله صلى الله عليه وسلم إذ غطى وجه الفضل أبلغ من القول اهـ. وقوله: غطى وجه الفضل لعله حرف وجه الفضل كما في الرواية، فإن قيل: فلماذا لم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم المرأة بتغطية وجهها فالجواب أن الظاهر أنها كانت محرمة والمشروع في حقها أن لا تغطى وجهها إذا لم يكن أحد ينظر إلى وجهها من الأجانب أو يقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم أمرها بعد ذلك فإن عدم نقل أمره بذلك لا يدل على عدم الأمر إذ عدم النقل ليس نقلا للعدم. وروى مسلم، وأبي داود عن جرير بن عبد الله البجلى رضي الله عنه قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نظرة الفجاءة فقال: «اصرف بصرك أو قال فأمرني أن أصرف بصري» .

4 - وعن حديث جابر بأن لم يذكر متى كان ذلك فإما أن تكون هذه المرأة من القواعد اللاتي لا يرجون نكاحا فكشف وجهها مباح، ولا يمنع وجوب الحجاب على غيرها أو يكون قبل نزول آية الحجاب فإنها كانت في سورة الأحزاب سنة خمس أو ست من الهجرة وصلاة العيد شرعت في السنة الثانية من الهجرة، واعلم أننا إنما بسطنا الكلام في ذلك لحاجة الناس إلى معرفة الحكم في هذه المسألة الاجتماعية الكبيرة التي تناولها كثير ممن يريدون السفور فلم يعطوها حقها من البحث والنظر مع أن الواجب على كل باحث أن يتحرى العدل والإنصاف وأن لا يتكلم قبل أن يتعلم وأن يقف بين أدلة الخلاف موقف الحاكم من الخصمين فينظر بعين العدل ويحكم بطريق العلم فلا يرجح أحد الطرفين بلا مرجح بل ينظر في الأدلة من جميع النواحي ولا يحمله اعتقاد أحد القولين على المبالغة والغلو في إثبات حججه والتقصير والإهمال لأدلة خصمه ولذلك قال العلماء:

ينبغي أن يستدل قبل أن يعتقد ليكون اعتقاده تابعا للدليل لا متبوعا لأن من اعتقد قبل أن يستدل قد يحمله اعتقاده على رد النصوص المخالفة لاعتقاده أو تحريفها إذا لم يمكنه ردها، ولقد رأينا ورآى غيرنا ضرر استتباع الاستدلال للاعتقاد حيث حمل صاحبه على تصحيح أحاديث ضعيفة أو تحميل نصوص صحيحة ما لا تتحمله من الدلالة تثبيتا لقوله واحتجاجا له، فلقد قرأت مقالا لكاتب حول عدم وجوب الحجاب احتج بحديث عائشة الذي رواه أبو داود في قصة دخول أسماء بنت أبي بكر على النبي صلى الله عليه وسلم وقوله لها: «إن المرأة إذا بلغت سن المحيض لم يصلح أن يرى منها إلا هذا وهذا وأشار إلى وجهه وكفيه» وذكر هذا الكاتب أنه حديث صحيح متفق عليه. فانظر كيف حكم له بالصحة وهو ضعيف أعله أبو داود نفسه بالإرسال والانقطاع وفيه الراوي سعيد بن بشير النصري تقدم الكلام عليه وانظر كيف قال متفق عليه وليس كذلك لأنه إن أراد بمتفق عليه

الاصطلاح المشهور وهو ما رواه البخاري، ومسلم. فالبخاري، ومسلم لم يروياه وإن أراد بمتفق عليه أن العلماء متفقون على صحته فليس كذلك أيضا وكيف يتفقون على صحته وأبو داود راويه أعله بالإرسال وأحد رواته ضعفه الإمام أحمد وغيره من أئمة الحديث ولكن التعصب والجهل يحمل صاحبه على البلاء والهلاك. قال ابن القيم: وتعر من ثوبين من يلبسهما ... يلقى الردى بمذلة وهوان ثوب من الجهل المركب فوقه ... ثوب التعصب بئست الثوبان وتحل بالإنصاف أفخر حلة ... زينت بها الأعطاف والكتفان وليحذر الكاتب والمؤلف من التقصير في طلب الأدلة وتمحيصها والتسرع إلى القول بلا علم فيكون ممن قال الله فيهم:

{فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [الأنعام: 144] أو يجمع بين التقصير في طلب الدليل والتكذيب بما قام عليه الدليل فيكون منه شر على شر ويدخل في قوله تعالى: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ} [الزمر: 32] نسأل الله تعالى أن يرينا الحق حقا ويوفقنا لاتباعه ويرينا الباطل باطلا ويوفقنا لاجتنابه ويهدينا صراطه المستقيم إنه جواد كريم وصلى الله وسلم وبارك على نبيه محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه أجمعين. .

§1/1