مجموعة رسائل علمية

مقبل بن هادي الوادعي

الرسالة الأولى: شرعية الصلاة بالنعال

الرسالة الأولى: شرعية الصلاة بالنعال:

المقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم المقدمة إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. يا أيّها الّذين ءامنوا اتّقوا الله (¬1) الّذي تساءلون به والأرحام إنّ الله كان عليكم رقيبًا. يا أيّها الّذين ءامنوا اتّقوا الله حقّ تقاته ولا تموتنّ إلاّ وأنتم مسلمون يا أيّها الّذين ءامنوا اتّقوا الله وقولوا قولاً سديدًا يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزًا عظيمًا. أما بعد: فإن كثيرًا من السنن قد جهلها كثير من الناس ثم هجروها، ثم أصبحوا ينقمون على من عمل بها ويريد إحياءها، ويرمونه بالضلال البعيد. ومن هذه السنن الصلاة في النعال، فقد تواتر أنّ النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم صلى في نعليه، والله سبحانه وتعالى يقول: لقد كان لكم في رسول الله أسوة ¬

(¬1) الرواية هكذا كما في "سنن أبي داود" (ج2 ص203، 204) والتلاوة: ياأيّها النّاس اتّقوا ربّكم الّذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبثّ منهما رجالاً كثيرًا ونساءًً واتقوا الله .. .

حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر (¬1). وثبت أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أمر بالصلاة في النعال، والله سبحانه وتعالى يقول: وما ءاتاكم الرّسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا (¬2). ويقول: وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرًا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضلّ ضلالاً مبينًا (¬3). ويقول تعالى: فليحذر الّذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم (¬4). لذلك رأيت أن أجمع بعض ما وقفت عليه من الأحاديث في شرعية الصلاة في النعال. والله الموفق للصواب، وإليه المرجع والمآب. ¬

(¬1) سورة الأحزاب، الآية: 21. (¬2) سورة الحشر، الآية: 7. (¬3) سورة الأحزاب، الآية: 36. (¬4) سورة النور، الآية: 63.

الأدلة على شرعية الصلاة في النعال

الأدلة على شرعية الصلاة في النعال الحديث الأول: قال الإمام البخاري رحمه الله في "صحيحه" (ج1 ص494): حدثنا آدم ابن أبي إياس، قال: ثنا شعبة، قال أخبرنا أبومسلمة سعيد بن يزيد الأزدي قال: سألت أنس بن مالك: أكان النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم يصلّي في نعليه؟ قال: نعم. الحديث رواه مسلم (ج5 ص42) -مع "النووي"- والترمذي (ج1 ص310) -مع "تحفة الأحوذي"- وقال: حسن صحيح، والعمل عليه عند أهل العلم، والنسائي (ج2 ص58)، وابن الجارود ص (68)، وأحمد (ج3 ص100، 166، 189)، وأبوداود الطيالسي (ج1 ص84)، والدارمي (ج1 ص320)، وابن سعد (ج1 ص511)، والبيهقي (ج2 ص431). الحديث الثاني: قال الإمام مسلم في "صحيحه" (ج1 ص390) رقم (554): حدثنا عبيد الله بن معاذ العنبري حدثنا أبي حدثنا كهمس عن يزيد بن عبد الله بن الشّخّير عن أبيه قال: صلّيت مع رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فرأيته تنخّع فدلكها بنعله. وحدثني يحيى بن يحيى أخبرنا يزيد بن زريع عن الجريري عن أبي العلاء يزيد بن عبد الله بن الشّخّير عن أبيه، أنّه صلّى مع النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: فتنخّع فدلكها بنعله اليسرى.

الحديث الثالث: قال عبد الرزاق في "المصنف" (ج1 ص384): عن معمر عن سعيد الجريري عن أبي العلاء (¬1) بن عبد الله بن الشخير عن أبيه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يصلّي في نعليه. الحديث رجاله رجال الصحيح. الحديث الرابع: قال ابن ماجه (ج1 ص330): حدثنا أبوبكر بن أبي شيبة ثنا غندر عن شعبة عن النعمان بن سالم عن ابن أبي أوس قال: كان جدّي أوس أحيانًا يصلّي فيشير إليّ وهو في الصّلاة فأعطيه نعليه ويقول: رأيت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يصلّي في نعليه. قال البوصيري في "مصباح الزجاجة" ص (125): هذا إسناد صحيح. ورواه ابن أبي شيبة (ج2 ص415)، والطحاوي (ج1 ص 512)، وأحمد (ج4 ص 8، 9، 10). وقال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (ج2 ص55): رواه الطبراني في "الكبير" ورجاله ثقات. الحديث الخامس: قال أحمد (ج2 ص422): حدثنا عفان قال: حدثنا أبوعوانة قال: ثنا عبد الملك بن عمير عن رجل من بني الحارث بن كعب قال: كنت جالسًا عند أبي هريرة، فأتاه رجل فسأله فقال: يا أبا هريرة أنت نهيت النّاس أن يصوموا يوم الجمعة؟ قال: لا لعمر الله، غير أنّي وربّ هذه الحرمة لقد ¬

(¬1) هو يزيد بن عبد الله بن الشخير، من رجال الجماعة.

سمعت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقول: ((لا يصومنّ أحدكم يوم الجمعة إلا في أيّام يصومه فيها)) فجاء آخر فقال: يا أبا هريرة أنت نهيت النّاس أن يصلّوا في نعالهم؟ قال: لا لعمر الله، غير أنّي وربّ هذه الحرمة لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يصلّي إلى هذا المقام وإنّ عليه نعليه، ثمّ انصرف وهما عليه صلى الله عليه وعلى آله وسلم. الحديث أخرجه أيضًا في مواضع ص (348، 365، 377، 458 537)، وفي بعض الطرق التصريح بالمبهم أنه (أبوالأوبر زياد الحارثي)، وأخرجه عبد الرزاق (ج1 ص385)، وابن أبي شيبة (ج2 ص415)، والطحاوي (ج1 ص511). الحديث رجاله رجال الصحيح إلا زياد الحارثي أبا الأوبر، وقد وثقه ابن معين وابن حبان كما في "تعجيل المنفعة". وأما قول الحافظ الهيثمي رحمه الله في "مجمع الزوائد" (ج2 ص54): (رجاله ثقات، خلا زياد الأوبر الحارثي، فإني لم أجد من ترجمه بثقة ولا بضعف) فهو متعقّب بما ذكره الحافظ ابن حجر في "تعجيل المنفعة" من توثيق ابن معين وابن حبان له. الحديث السادس: قال ابن ماجه (ج1 ص330): حدثنا علي بن محمد ثنا يحيى بن آدم ثنا زهير عن أبي إسحاق عن علقمة عن عبد الله قال: لقد رأينا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يصلّي في النّعلين والخفّين. الحديث رواه أيضًا أبوداود الطيالسي (ج1 ص84)، وابن أبي شيبة (ج2 ص416) وأحمد (ج1 ص461)، والطحاوي (ج1 ص 511). وعند بعضهم التصريح أن أبا إسحاق لم يسمعه من علقمة. قال البوصيري في "مصباح الزجاجة في زوائد ابن ماجه" ص (125): هذا إسناد فيه أبوإسحاق السبيعي اختلط بآخره، وزهير هو ابن معاوية بن خديج، روى عنه في اختلاطه، قاله أبوزرعة.

فالحديث بهذا السند ضعيف، لكنه يصلح للاستشهاد به. الحديث السابع: قال أبوداود (ج1 ص247، 248): حدثنا مسلم بن إبراهيم ثنا علي ابن المبارك عن حسين المعلم عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يصلّي حافيًا ومنتعلاً. الحديث أخرجه ابن ماجه (ج1 ص330) وأحمد (ج2 ص174، 178، 179، 190، 215)، وابن أبي شيبة (ج2 ص415)، وابن سعد (ج1 ق2 ص168)، والطحاوي (ج1 ص512)، والبيهقي (ج1 ص421). والحديث حسن (¬1). الحديث الثامن: قال أحمد (ج4 ص307): حدثنا وكيع حدثنا سفيان عن السدي عن من سمع عمرو بن حريث قال: صلّى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم في نعليه -وفي طريق أخرى- في نعلين مخصوفين. الحديث أخرجه الترمذي في "الشمائل" ص (62)، وعبد الرزاق (ج1 ص386)، وابن أبي شيبة (ج2 ص415)، وابن سعد (ج1 ق2 ص167)، والطحاوي (ج1 ص512). والحديث في سنده مبهم. قال الشارح للشمائل: قال القسطلاني: ولم أر في رواية التصريح باسم من حدّث ¬

(¬1) لأن عمرو بن شعيب إذا صح السند إليه، فحديثه حسن، وقد صح السند إليه.

السّدي (¬1)، وأظنه عطاء بن السائب، فإنه اختلط آخرًا، والسّدي ممن سمع منه بعد الاختلاط، فأبْهمه لئلا يفطن له. الحديث التاسع: قال البيهقي (ج2 ص420): أنبأ أبوبكر بن الحارث الفقيه أنبأ أبومحمد ابن حيان ثنا علي بن سعيد ثنا محمد بن سنان القزاز (¬2) ثنا أبوغسان العنبري ثنا شعبة عن حميد بن هلال عن عبد الله بن الصامت عن أبي ذر قال: رأيت النبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم يصلّي في نعلين مخصوفتين من جلود البقر. الحديث قال البيهقي: تفرّد به أبوغسان يحيى بن كثير العنبري كما أعلم. الحديث العاشر: قال أحمد (ج3 ص502): حدثنا يونس بن محمد قال: ثنا العطاف قال: حدثني مجمع بن يعقوب عن غلام من أهل قباء أنه أدركه شيخًا أنه قال: جاءنا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم بقباء فجلس في فيء الأحمر، واجتمع إليه ناس، فاستسقى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فسقي فشرب وأنا عن يمينه، وأنا أحدث القوم فناولني فشربت وحفظت أنّه صلّى بنا يومئذ الصّلاة وعليه نعلاه لم ينْزعهما. الحديث أخرجه أيضًا (ج4 ص221، 334)، وأخرجه الطحاوي (ج1 ص512) وذكر بين مجمع بن يعقوب والصحابيّ محمد بن إسماعيل، وسمى الصحابيّ عبد الله بن أبي حبيبة، وابن سعد (ج1 ق2 ص167). ¬

(¬1) السّدي هنا هو الكبير إسماعيل بن عبد الرحمن من رجال مسلم، وأما السّدي الصغير، فهو حفيد إسماعيل، واسمه محمد بن مروان، وهو متّهم كما في "التقريب". (¬2) محمد بن سنان القزاز ضعيف، كما في "التقريب".

وقال الحافظ الهيثمي في "مجمع الزوائد" (ج2 ص53): رواه أحمد، وسماه عبد الله بن أبي حبيبة في رواية أخرى، وكذلك رواه الطبراني في "الكبير"، ورجال أحمد موثقون. الحديث الحادي عشر: قال البيهقي (ج2 ص431): أنبأ أبوالحسين بن بشران العدل ببغداد أنبأ إسماعيل بن محمد الصفار ثنا سعدان بن نصر ثنا أبوبدر عن زياد بن خيثمة عن عبد الله بن عيسى عن عبد الله بن عطاء عن عائشة رضي الله عنها قالت: رأيت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يصلّي حافيًا ومنتعلاً، ويشرب قائمًا وقاعدًا، وينصرف عن يمينه وعن شماله، ولا يبالي أيّ ذلك كان. الحديث قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (ج2 ص55): رواه الطبراني في "الأوسط" ورجاله ثقات. إلا أن في "المجمع" بدل: (وينصرف عن يمينه) .. إلى آخره، (وينفتل). الحديث الثاني عشر: قال الطحاوي (ج1 ص512): حدثنا إبراهيم بن مرزوق قال: ثنا أبوربيعة قال: ثنا حماد بن سلمة عن الحجاج بن أرطأة عن عبد الملك عن سعيد بن فيروز عن أبيه، أنّ وفد ثقيف قدموا على رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم قالوا: فرأيناه يصلّي، وعليه نعلان مقابلتان (¬1). الحديث في سنده الحجاج بن أرطاة وهو مدلس. لكن قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (ج2 ص55): رواه الطبراني في "الأوسط" ورجاله ثقات. فلينظر هل له طريق أخرى؟ أم صرح الحجاج بالتحديث؟ أم تساهل ¬

(¬1) وفي نسخة: متقابلتان.

الحافظ الهيثمي رحمه الله (¬1). الحديث الثالث عشر: قال عبد الرزاق (ج1 ص386): عن عبد الله بن عبد الرحمن (¬2) بن يزيد قال: حدثني محمد بن عباد بن جعفر عن شيخ منهم قال: رأيت النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم يصلّي في نعليه، وأشار إلى المقام. الحديث الرابع عشر: قال أبوداود (ج1 ص247): حدثنا قتيبة بن سعيد ثنا مروان بن معاوية الفزاري عن هلال بن ميمون الرملي عن يعلى بن شداد بن أوس عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((خالفوا اليهود، فإنّهم لا يصلّون في نعالهم ولا خفافهم)). الحديث رواه ابن حبان كما في "موارد الظمآن" ص (107) وفيه زيادة: ((والنصارى))، والبيهقي (ج2 ص432)، والحاكم (ج1 ص26) قال: هذا حديث صحيح الاسناد ولم يخرجاه. وسكت عنه الذهبي. وقال الحافظ العراقي: إنّ سنده حسن. كما في "فيض القدير". وأخرجه الطبراني في "الكبير" (ج7 ص348) بلفظ: ((صلّوا في نعالكم ولا تشبّهوا باليهود)). الحديث الخامس عشر: قال الحاكم (ج1 ص139): حدثنا محمد بن صالح وإبراهيم بن عصمة قالا: حدثنا السري بن خزيمة ثنا موسى بن إسماعيل. وأنبأ أبوالوليد الفقيه ¬

(¬1) الحديث في "المعجم الأوسط" للطبراني (ق29/ب) -من "زوائد المعجمين"- وسقط من إسناده: حجاج بن أرطأة، فلعل الهيثمي لأجل ذلك حكم عليه بما علمت، والله أعلم. (¬2) أثبتنا عبد الله بن عبد الرحمن من التعليق على "المصنف".

ثنا الحسن بن سفيان ثنا إبراهيم بن الحجاج قالا: ثنا عبد الله بن المثنى الأنصاري عن ثمامة عن أنس أنّ النّبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لم يخلعْ نعليه في الصّلاة قطّ، إلاّ مرّةً واحدةً، خلع فخلع النّاس، فقال: ((ما لكم))؟ قالوا: خلعت فخلعنا. فقال: ((إنّ جبرئيل أخبرني أنّ فيهما قذرًا أو أذًى)). الحديث قال الحاكم: صحيح على شرط البخاري، فقد احتج بعبد الله بن المثنى ولم يخرجاه. وسكت عنه الذهبي. وقال الحافظ الهيثمى في "مجمع الزائد" (ج2 ص56): رواه الطبراني في "الأوسط"، ورجاله رجال الصحيح، ورواه البزار باختصار. الحديث السادس عشر: قال الحاكم (ج1 ص181): حدثنا أبوجعفر محمد بن محمد بن عبد الله البغدادي ثنا المقدام بن داود عن تليد الرعيني ثنا عبد الغفار بن داود الحراني ثنا حماد بن سلمة عن عبيد الله بن أبي بكر وثابت عن أنس أنّ رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: ((إذا توضّأ أحدكم ولبس خفّيه فليصلّ فيهما، وليمسحْ عليهما، ثمّ لا يخلعهما إن شاء إلاّ من جنابة)). هذا إسناد صحيح على شرط مسلم، وعبد الغفار بن داود ثقة، غير أنه ليس عند أهل البصرة عن حماد. اهـ الحديث أخرجه البيهقي (ج1 ص279) وذكر لعبد الغفار متابعًا، وهو أسد بن موسى الذي يقال له: أسد السنة. والحديث شاذ. قال الحافظ البيهقي: قال ابن صاعد: وما علمت أحدًا جاء به إلا أسد بن موسى. قال البيهقي رحمه الله: وقد تابعه في الحديث المسند عبد الغفار بن داود الحراني، وليس عند أهل البصرة عن حماد، وليس بمشهور والله أعلم. اهـ

هذا وقد تركت جملةً من الأحاديث الدالة على شرعية الصلاة في النعال من "مجمع الزوائد" و"مصنف عبد الرزاق" وغيرهما لما فيهما من الكلام، على أن بعضها يصلح في الشواهد والمتابعات. ولا سيّما وقد صرح الطحاوي في "معاني الآثار" (ج1 ص511) أنّ الأحاديث الدالة على شرعية الصلاة في النعال متواترة، فقال: فقد جاءت الآثار أن الأحاديث الدالة على شرعية الصلاة -أي في النعال- متواترة عن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم بما ذكر عنه من صلاته فى نعليه، ومن خلعه إياهما في وقت ما خلعهما للنجاسة التي كانت فيهما، ومن إباحة الصلاة في النعال. اهـ والعلماء رحمهم الله تعالى لا يشترطون في المتواتر أن تكون كلّ طريق صحيحةً أو حسنةً، بل يذكرون ما ورد من صحيح وحسن وضعيف.

باب المصلي إذا خلع نعليه أين يضعهما؟

باب المصلي إذا خلع نعليه أين يضعهما؟ الحديث الأول: قال أبوداود (ج2 ص248): حدثنا الحسن بن علي ثنا عثمان بن عمر ثنا صالح بن رستم أبوعامر عن عبد الرحمن بن قيس (¬1) عن يوسف بن ماهك عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: ((إذا صلّى أحدكم فلا يضع نعليه عن يمينه ولا عن يساره، فتكون عن يمين غيره، إلا أن لا يكون عن يساره أحد، وليضعهما بين رجليه)). الحديث أخرجه ابن حبان كما في "موارد الظمآن" ص (107)، والحاكم (ج1 ص259) وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. والبيهقي (ج2 ص432). الحديث الثاني: قال أبوداود (ج1 ص246): حدثنا مسدد ثنا يحيى عن ابن جريج حدثني محمد بن عباد بن جعفر عن ابن سفيان (¬2) عن عبد الله بن السائب قال: رأيت النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم يصلّي يوم الفتح ووضع نعليه عن يساره. ¬

(¬1) عبد الرحمن بن قيس: هو العتكي أبوروح، وثّقه ابن حبان، وقال المنذري في "مختصر السنن": يشبه أن يكون الزعفراني، وليس كما ظن، فإن الزعفراني يصغر عن إدراك يوسف ابن ماهك، وأيضًا فقد ذكره ابن حبان، وأما الزعفراني فواهي الحديث. اهـ مختصرًا من "تهذيب التهذيب". (¬2) ابن سفيان هو عبد الله بن سفيان.

الحديث رجاله رجال الصحيح. وأخرجه النسائي (ج2 ص58)، وابن ماجه (ج1 ص416)، وابن أبي شيبة (ج2 ص418)، والحاكم (ج1 ص259)، والبيهقي (ج2 ص432). الحديث الثالث: قال أبوداود (ج1 ص248): حدثنا عبد الوهاب بن نجدة ثنا بقية وشعيب بن إسحاق عن الأوزاعي حدثني محمد بن الوليد عن سعيد بن أبي سعيد عن أبيه عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: ((إذا صلّى أحدكم فخلع نعليه، فلا يؤذ بهما أحدًا، ليجعلهما بين رجليه أو ليصلّ فيهما)). الحديث أخرجه ابن أبي شيبة (ج2 ص418)، والطبراني في "الصغير" (ج2 ص8)، والحاكم (ج1 ص259)، والبيهقي (ج2 ص432). وقال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه. وسكت عنه الذهبي. الحديث الرابع: قال ابن أبي شيبة (ج2 ص418): حدثنا عفان قال: ثنا حماد بن سلمة قال: ثنا أبونعامة السعدي عن أبي نضرة عن أبي سعيد قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يصلّي، فخلع نعليه فوضعهما عن يساره. الحديث على شرط مسلم.

باب طهارة الخف والنعل

باب طهارة الخف والنعل الحديث الأول: قال أبوداود (ج1 ص148): حدثنا أحمد بن إبراهيم حدثني محمد بن كثير -يعني الصنعاني- عن الأوزاعي عن ابن عجلان عن سعيد بن أبي سعيد عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: ((إذا وطئ الأذى بخفّيه فطهورهما التّراب)). الحديث أخرجه ابن خزيمة (ج1 ص148)، وابن حبان كما في "موارد الظمآن" ص (85)، والحاكم (ج1 ص11) وقال: حديث صحيح على شرط مسلم. والبيهقي (ج2 ص430)، وابن حزم في "المحلى" (ج1 ص93) (¬1). الحديث الثاني: قال أبوداود (ج1 ص247): حدثنا موسى بن إسماعيل ثنا حماد بن زيد عن أبي نعامة السعدي عن أبي نضرة عن أبي سعيد الخدري قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يصلّي بأصحابه إذ خلع نعليه فوضعهما عن يساره، فلمّا رأى ذلك القوم ألقوا نعالهم، فلمّا قضى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم صلاته، قال: ((ما ¬

(¬1) فائدة: قال صاحب "عون المعبود": قلت: ومحمد بن كثير وإن ضعّف، لكن تابعه على هذا أبوالمغيرة، والوليد بن مزيد، وعمر بن عبد الواحد، عن الاوزاعي، وكلهم ثقات، ومحمد بن عجلان وإن ضعّفه بعضهم، لكن الأكثرين على توثيقه، ثم ذكر له شاهدًا الحديث الآتي.

حملكم على إلقائكم نعالكم))؟ قالوا: رأيناك ألقيت نعليك فألقينا نعالنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((إنّ جبريل عليه السّلام أتاني فأخبرني أنّ فيهما قذرًا أو قال: أذًى)) وقال: ((إذا جاء أحدكم إلى المسجد، فلينظر، فإن رأى في نعليه قذرًا أو أذًى فليمسحه وليصلّ فيهما)). الحديث أخرجه ابن خزيمة في "صحيحه" (ج1 ص384)، وابن حبان كما في "موارد الظمآن" ص (107)، وأحمد في "المسند" (ج3 ص20)، والحاكم (ج1 ص260)، وعبد الرزاق (ج1 ص388)، وابن أبي شيبة (ج2 ص416)، وأبوداود الطيالسي (ج1 ص84)، والدارمي (ج1 ص32)، والطحاوي (ج1 ص511)، والبيهقي (ج2 ص431)، وابن حزم في "المحلى" (ج1 ص93). وقال الحاكم: صحيح على شرط مسلم، وسكت عنه الذهبي (¬1). ¬

(¬1) فائدة: في التعليق على "المحلى": إن الطيالسي والحاكم والبيهقي رووه عن حماد بن سلمة، ورواه أبوداود عن حماد بن زيد، وهذا في رأينا خطأ لاتفاق هؤلاء على أنه حماد بن سلمة، ولأنه لم يذكر عن أبي نعامة حماد بن زيد وكذلك لم تذكر رواية لموسى بن إسماعيل عن حماد بن زيد، بل هو يروي عن حماد بن سلمة، ولعل الخطأ من أبي داود أو من رواة كتابه، وقد صححه الحاكم على شرط مسلم. اهـ مختصرًا

أضرار ترك الصلاة في النعال

أضرار ترك الصلاة في النعال أولاً: من أعظم أضرار ترك الصلاة في النعال، أن أكثر المسلمين أصبحوا جاهلين بهذه السنة، ويرون أن الذي يصلي في نعليه قد ارتكب جرمًا عظيمًا، ويستحلّون منه ما يستحلّون من ذوي الجرائم الكبرى. ولقد سمعت وأنا باليمن سادن (¬1) مسجد يقول: إن رجلاً كان في السعودية، ثم عاد إلى البلاد، فهو يريد أن يدخل المسجد، قال: فقلت: والله لو تدخل المسجد بنعليك لكسرت رجلك. وهو يدّعي أنه من أهل العلم، مع أنه جاهل بمذهبه. فقد قال الشوكاني رحمه الله (¬2) في الكلام على شرعية الصلاة فى النعال: وممن ذهب إلى الإستحباب: الهادوية، وإن أنكر ذلك عوامهم. قال الإمام المهدي في "البحر": مسألة: وتستحب في النعل الطاهر لقوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((صلّوا في نعالكم))، الخبر. اهـ ورأيت جماعةً في الحرم المكي قد اجتمعوا على رجل تحت المكبّرة ينكرون عليه صلاته في النعال، فقال أحدهم: هذا شيطان -يعني المصلي في نعليه-. وللأسف إن ذلك القائل من المحافظين على الجماعة في الحرم، ولا ¬

(¬1) سادن المسجد: خادمه والقائم على شؤونه. (¬2) في "نيل الأوطار" (ج2 ص135).

شك أنه لو يعلم أنّها سنة لما تجرّأ على أخيه المسلم يقول له إنه شيطان. ورأيت وأنا ببيشة رجلاً عليه سيما الخير والصلاح ينكر على من يصلي في نعليه، فقيل له: إنّها سنة! فقال: أعوذ بالله من هذه السنة. وأعظم من هذا كله أن بعض الإخوان في الله أراد أن يعمل بهذه السنة في الحرم المدني، فأنكر الناس عليه إنكارًا شديدًا (¬1). وهذا كله بسبب عدم عمل أهل العلم بهذه السنة، ولو عمل أهل العلم بها لما احتجنا إلى جمع هذه الاحاديث، ونشرها بين الناس. وسببه أيضًا إعراض الناس عن كتب السنة، ولو رجعوا إليها لما خالطهم شك في شرعية الصلاة في النعال، وأنّها سنة مأمور بها. ثانيًا: ومن أضرار ترك الصلاة في النعال أن بعض المصلين يجمعونها في موضع، فربما كانت سببًا لتعويج الصفوف المأمور بتسويتها، والمتوعّد على اعوجاجها، وقد شاهدنا اعوجاج الصفوف في صحن الحرم المكي، من أجل تكويم النعال، لأنه لم يجد موضعًا في الصف لكثرة الناس. ثالثًا: ومنها: أن كثيرًا من المصلين يتركون النظر فيها عند أبواب المساجد، لأنّهم لا يريدون الصلاة فيها، فربما أدخل بعضهم الأذى في نعليه، فإذا وضعها في المسجد تساقط في المسجد، وكل هذا بسبب ترك السنة، وهو النظر فيها عند الباب، ومسحها بالتراب إن كان بها أذى. رابعًا: إنّ المصلي قد يخاف على نعليه أن تسرق، فيتشوش وهو في ¬

(¬1) وأخذ إلى دار الحرم، وأخذ عليه التعهد على أن لا يصلي في نعليه.

صلاته تشويشًا يذهب الخشوع، والخشوع هو لبّ الصلاة، كما قال الله تعالى: قد أفلح المؤمنون الّذين هم في صلاتهم خاشعون (¬1). وقد وردت أحاديث في الحث على إزالة ما يشوش على المصلين: روى مسلم في "صحيحه" عن عائشة رضي الله عنها أنّ النّبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: ((لا صلاة بحضرة طعام، ولا هو يدافعه الأخبثان)). وأخرج البخاري ومسلم في "صحيحيهما" عن أنس رضي الله عنه أنّ رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: ((إذا قدّم العشاء فابدءوا به قبل أن تصلّوا المغرب)). قال هذا صلى الله عليه وعلى آله وسلم من أجل المحافظة على الخشوع. ¬

(¬1) سورة المؤمنون، الآية: 1 - 2.

شبه المنكرين للصلاة في النعال

شبه المنكرين للصلاة في النعال للمنكرين للصلاة في النعال شبه لا بد من الكلام عليها حتى يتضح الحق إن شاء الله. على أني ما سمعت عالمًا قط يحتج بشبههم، والجهال ليسوا بحجة على الشرع المطهر. فأما شبههم فمنها: الشبهة الأولى: إن المساجد قد زيّنت وفرشت، وليست كالمساجد على عهد رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم. فالجواب: أن الخير فيما كان عليه النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ولو بقيت المساجد على ما كانت عليه في عصر النبوة لكان خيرًا، وأما زخرفة المساجد وتزيينها فقد ورد النهي عنهما. فقد أخرج أبوداود (ج1 ص171)، وابن ماجة (ج1 ص244) والدارمي (ج1 ص327)، وأحمد (ج3 ص134، 145، 152، 230، 283)، وابن حبان كما في "موارد الظمآن": عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((لا تقوم السّاعة حتّى يتباهى النّاس فى المساجد)).

وفي بعض الطرق: (نهى أن يتباهى النّاس بالمساجد) (¬1) وأخرج أبوداود (ج1 ص170): عن ابن عبّاس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((ما أمرت بتشييد (¬2) المساجد))، قال ابن عبّاس رضي الله عنهما: لتزخرفنّها كما زخرفت اليهود والنّصارى. رجاله رجال الصحيح إلا شيخ أبي داود محمد بن الصبّاح بن سفيان وهو صدوق. قال الصنعاني رحمه الله (¬3): قال المهدي في "البحر": إن تزيين الحرمين لم يكن برأي ذي حلّ وعقد، ولا سكوت رضا، أي: من العلماء، وانما فعله أهل الدول الجبابرة من غير مؤاذنة لأحد من أهل الفضل، وسكت المسلمون من غير رضا. وهو كلام حسن. اهـ أقول: وأما فرش المسجد بالسجاد فلا شك أنه يشغل المصلي، ويلهيه عن الصلاة، فقد روى البخاري ومسلم في "صحيحيهما" عن عائشة أنّ النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم صلّى في خميصة لها أعلام، فنظر إلى أعلامها فلمّا انصرف ¬

(¬1) قال المناوي في "فيض القدير" في الكلام على هذا الحديث: يتفاخر الناس في عمارة المساجد ونقشها وتزويقها، كفعل أهل الكتاب بكنائسهم وبيعهم، وقيل: المراد عمارتها بالصلاة لا بنيانها. اهـ قلت: التباهي مطلق يشمل هذين وغيرهما. (¬2) قال الخطابي: التشييد رفع البناء وتطويله "عون المعبود". وذكر ابن الأثير في "النهاية" نحوه ثم قال: ويقال: شاد البنيان يشيده إذا جصصه وعمله بالشيد، وهوكل ما طليت به الحائط من جص وغيره. اهـ (¬3) في "سبل السلام" (ج1 ص158).

قال: ((اذهبوا بخميصتي هذه إلى أبي جهم وأتوني بأنبجانيّة أبي جهم فإنّها ألهتني آنفًا عن صلاتي)) وفي رواية: ((كنت أنظر إلى أعلامها وأنا في الصّلاة، فأخاف أن تفتنني)). هذا لفظ البخاري. وأخرج البخاري عن أنس رضي الله عنه قال: كان قرام لعائشة سترت به جانب بيتها، فقال النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((أميطي عنّي قرامك هذا فإنّه لا تزال تصاويره تعرض لي في صلاتي)). وأخرج أيضًا عن عقبة بن عامر قال: أهدي إلى النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم فرّوج حرير، فلبسه، فصلّى فيه ثمّ انصرف فنزعه نزعًا شديدًا كالكاره له، وقال: ((لا ينبغي هذا للمتّقين)). قال الصنعاني في "سبل السلام" في الكلام على حديث عائشة في قصة الخميصة: وفي الحديث دليل على كراهة ما يشغل عن الصلاة من النقوش ونحوها مما يشغل القلب، وفيه مبادرته صلى الله عليه وعلى آله وسلم إلى صيانة الصلاة عما يلهي، وإزالة ما يشغل عن الإقبال عليها. قال الطيبي: فيه إيذان بأن للصور Sوالأشياء الظاهرة تأثيرًا في القلوب الطاهرة، والنفوس الزكية، فضلاً عما دونها، وفيه كراهة الصلاة على المفارش والسجاجيد المنقوشة، وكراهة نقش المساجد ونحوه. اهـ كلامه رحمه الله. الشبهة الثانية: وربما استدل بعضهم بقوله سبحانه وتعالى آمرًا لموسى عليه السلام:

فاخلع نعليك إنّك بالواد المقدّس طوًى (¬1). وهذا استدلال في غاية من البعد، ورحم الله ابن مسعود رضي الله عنه إذ يقول لأبي موسى الأشعري لمّا أمّهم فخلع نعليه: لم خلعت نعليك؟ أبالوادي المقدس أنت (¬2)؟. قال أبومحمد بن حزم رحمه الله في كتابه "الإحكام في أصول الأحكام": ومن شرائع موسى عليه السلام قوله تعالى: فاخلع نعليك إنّك بالواد المقدّس طوًى، ونحن لا نحلع نعالنا في الأرض المقدسة. اهـ يريد رحمه الله أننا لسنا متعبّدين بشرع من قبلنا، هذا وإنني لا أعلم شبهة ينبغي أن تذكر، وأما هوس الجهال واستحساناتهم، فلا ينفع فيها إلا عمل أهل العلم بالسنة، وهم إذا رأوا أهل العلم يعملون بالسنة سيعملون بها. ¬

(¬1) سورة طه، الآية: 12. (¬2) رواه عبد الرزاق (ج1 ص386)، وابن أبي شيبة (ج2 ص418) ورجاله رجال الصحيح.

الإنكار على من رد السنن بالرأي والاستحسان

الإنكار على من رد السنن بالرأي والاستحسان لما كان كثير من الناس يردون السنن بالرأي والإستحسان، ومن هذه السنن التي يردّونها شرعية الصلاة في النعال، رأيت أن أذكر من الأدلة ومن كلام أهل العلم ما يبين فساد هذه الطريقة، ويبين ضررها على الدين: الحديث الأول: عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم قضى في امرأتين من هذيل اقتتلتا، فرمت إحداهما الأخرى بحجر فأصاب بطنها وهي حامل فقتلت ولدها الّذي في بطنها، فاختصموا إلى النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقضى أنّ دية ما في بطنها غرّة، عبد أو أمة، فقال وليّ المرأة الّتي غرمت: كيف أغرم يا رسول الله من لا شرب ولا أكل؟ ولا نطق ولا استهلّ؟ فمثل ذلك يطلّ (¬1)، فقال النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((إنّما هذا من إخوان الكهّان)). رواه البخاري: (ج12 ص328). ومسلم: (ج11 ص177)، وفيه زيادة بعد قوله: ((إنّما هذا من إخوان الكهّان)) (من أجل سجعه الّذي سجع). وأخرجه أبوداود (ج4 ص318)، والنسائي (ج8 ص43)، وابن ماجة (ج2 ص882). ¬

(¬1) يطل: يهدر، كما في "فتح الباري".

الحديث الثاني: عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه: أنّ امرأةً قتلت ضرّتها بعمود فسطاط، فأتي فيه رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فقضى على عاقلتها بالدّية، وكانت حاملاً، فقضى في الجنين بغرّة، فقال بعض عصبتها: أندي من لا طعم ولا شرب؟ ولا صاح فاستهلّ؟ ومثل ذلك يطلّ. قال: فقال: ((سجع كسجع الأعراب)). رواه مسلم (ج11 ص179)، والنسائي (ج8 ص44). فأنت ترى أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنكر عليه معارضته لحديثه برأيه وقال: ((إنّما هذا من إخوان الكهّان))، من أجل سجعه. الحديث الثالث: عن عبد الله بن أبي مليكة قال: كاد الخيّران أن يهلكا، أبوبكر وعمر رضي الله عنهما، رفعا أصواتهما عند النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم حين قدم عليه ركب بني تميم، فأشار أحدهما بالأقرع بن حابس أخي بني مجاشع، وأشار الآخر برجل آخر -قال نافع: لا أحفظ اسمه- فقال أبوبكر لعمر: ما أردت إلا خلافي. قال: ما أردت خلافك. فارتفعت أصواتهما في ذلك، فأنزل الله سبحانه: يا أيّها الّذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم الآية. قال ابن الزّبير: فما كان عمر يسمع رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم بعد هذه الآية حتّى يستفهمه. ولم يذكر ذلك عن أبيه -يعني- أبا بكر. أخرجه البخاري (ج10 ص212، 214) وفيه رواية ابن أبي مليكة عن عبد الله بن الزبير و (ج17 ص39). وأخرجه الترمذي (ج4 ص185) وعنده تصريح عبد الله بن أبي مليكة أن عبد الله بن الزبير حدثه به.

وأحمد (ج4 ص6). والطبري (ج26 ص119) وفيه قول نافع: حدثني ابن أبي مليكة عن ابن الزبير، فعلم اتصال الحديث كما أشار إليه الحافظ في "الفتح" (ج10 ص212). الحديث الرابع: عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال في مرضه: ((مروا أبابكْر فليصلّ بالنّاس)) قالت عائشة: فقلت: إنّ أبا بكر إذا قام في مقامك لم يسمع النّاس من البكاء، فمر عمر فليصلّ. فقال: ((مروا أبابكر فلْيصلّ بالنّاس)) قالت عائشة: فقلت لحفْصة: قولي: إنّ أبا بكر إذا قام في مقامك لم يسمع النّاس من البكاء، فمر عمر فليصلّ بالنّاس، ففعلت حفصة، فقال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((إنّكنّ لأنتنّ صواحب يوسف، مروا أبابكر فليصلّ بالنّاس)) قالت حفصة لعائشة: ما كنت لأصيب منك خيرًا. رواه البخاري (ج17 ص39)، ومسلم (ج5 ص140، 141). الحديث الخامس: عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقول: ((إنّ الله لا ينْزع العلم بعد أن أعطاكموه انتزاعًا، ولكن ينْزعه منهم مع قبض العلماء بعلمهم، فيبقى ناس جهّال يستفتون فيفتون برأيهم، فيضلّون ويضلّون)). رواه البخاري (ج17 ص45)، ومسلم، واللفظ للبخاري.

آثار عن السلف

آثار عن السلف وأما الآثار عن السلف رحمهم الله، فأكثر من أن تحصر، ولكن أشير إلى بعضها: الأثر الأول: عن عليّ رضي الله عنه أنه قال: لو كان الدّين بالرّأي لكان أسفل الخفّ أولى بالمسح من أعلاه، وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يمسح على ظاهر خفّيه. رواه أبوداود (ج1 ص63) ورجاله رجال الصحيح إلا عبدخير، وهو ثقة كما في "التقريب". وقال الحافظ ابن حجر في "بلوغ المرام": إنّ سنده حسن، وقال في "التلخيص": رواه أبوداود، وإسناده صحيح. الأثر الثاني: الحديث عن عبد الله بن عمر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقول: ((لا تمنعوا نساءكم المساجد إذا استأذنّكم)) قال: فقال بلال بن عبد الله: والله لنمنعهنّ، قال (¬1): فأقبل عليه عبد الله فسبّه سبًّا سيّئًا ما سمعته سبّه مثله، وقال: أخبرك عن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وتقول: والله لنمنعهنّ. ¬

(¬1) قائل (قال) هو سالم بن عبد الله بن عمر، الراوي لهذا الحديث عن أبيه عبد الله بن عمر.

رواه مسلم (ج4 ص161)، وفي "جامع بيان العلم وفضله" (ج2 ص139) للحافظ ابن عبد البر أنه قال له: لعنك الله، لعنك الله، أقول: رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم أمر أن لا يمنعن. وقام مغضبًا. الأثر الثالث: عن عبد الله بن المغفل أنّه رأى رجلاً يخذف فقال له: لا تخذف، فإنّ رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم نهى عن الخذف، أو كان يكره الخذف، وقال: ((إنّه لا يصاد به صيد، ولا ينكى به عدوّ، ولكنّها قد تكسر السّنّ وتفقأ العين))، ثمّ رآه بعد ذلك يخذف، فقال له: أحدّثك عن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنّه ينهى عن الخذف، وأنت تخذف، لا أكلّمك كذا وكذا. رواه البخاري (ج12 ص26)، ومسلم (ج13 ص105، 106) وفيه: لا أكلمك أبدًا. الأثر الرابع: عن أبي قتادة تميم بن نذير العدوي أنّه قال: كنّا عند عمران بن حصين في رهط، وفينا بشير بن كعب فحدّث عمران يومئذ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((الحياء خير كلّه)) فقال بشير بن كعب: إنّا لنجد في بعض الكتب: أنّ منه سكينةً ووقارًا ومنه ضعف. فغضب عمران حتّى احمرّت عيناه، وقال: ألا أراني أحدّثك عن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وتعارض فيه، قال: فأعاد عمران الحديث، قال: فأعاد بشير، فغضب عمران، قال: فما زلنا نقول فيه: إنّه منّا يا أبا نجيد، إنّه لا بأس به. رواه مسلم (ج2 ص7)، وأحمد (ج4 ص427، 436، 440، 442، 445)، والطيالسي (ج2 ص41).

الأثر الخامس: عن ابن أبي مليكة أن عروة بن الزبير قال لابن عباس: أضللت الناس، قال: وما ذاك يا عريّة؟ قال: تأمر بالعمرة في هؤلاء العشر وليستْ فيهنّ عمرة! فقال: أولا تسأل أمّك عن ذلك؟ فقال عروة: فإنّ أبابكر وعمر لم يفعلا ذلك، فقال ابن عبّاس: هذا الّذي أهلككم، والله ما أرى إلاّ سيعذّبكم، إنّي أحدّثكم عن النّبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وتجيئوني بأبي بكر وعمر ... رواه أحمد (ج1 ص337). وإسحاق بن راهويه كما في "المطالب العالية" (ج1 ص360) وفيه: نجيئكم برسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وتجيئوني بأبي بكر وعمر؟. والخطيب في "الفقيه والمتفقه" (ج1 ص 145)، والسياق له، وابن حزم في "حجة الوداع" ص (268، 269) من طرق إلى ابن عباس. وابن عبد البر في "جامع بيان العلم وفضله" (ج2 ص239،240). الأثر السادس: قال الخطيب في "الفقيه والمتفقه" (ج1 ص150): أنا محمد بن أحمد بن رزق أنا عثمان بن أحمد الدقاق نا محمد بن إسماعيل الرقي أنا الربيع بن سليمان قال: سمعت الشّافعي وسأله رجل عن مسألة فقال: يروى فيها كذا وكذا عن النّبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فقال له السّائل: يا أبا عبد الله ما تقول فيه؟ فرأيت الشّافعي أرعد وانتفض، فقال: ما هذا؟ أيّ أرض تقلّني، وأيّ سماء تظلني، إذا رويت عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم حديثًا فلم أقلْ به؟ نعم على السّمع والبصر، نعم على السّمع والبصر. وقال: أنا الربيع قال: سمعت الشّافعي وقد روى حديثًا وقال له بعض من حضر: تأخذ بهذا؟ فقال: إذا رويت عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم حديثًا صحيحًا

فلم آخذْ به، فأنا أشهدكم أنّ عقلي قد ذهب، ومدّ يديه. وأخرج الأثرين: الحافظ البيهقي في "مناقب الشافعي" (ج1 ص474، 475)، وأبونعيم في "الحلية" (ج9 ص106). وقد ذكر الحافظ الخطيب في كتابه "الفقيه والمتفقه" كلامًا حسنًا في الرد على أهل الرأي فقال رحمه الله (ج1 ص152): ولعمري إن السنن ووجوه الحق لتأتي كثيرًا على خلاف الرأي ومجانبته خلافًا بعيدًا، فما يرى المسلمون بدًا من اتّباعها والانقياد لها، ولمثل ذلك ورع أهل العلم والدين فكفهم عن الرأي ودلهم على عوره وغوره أنه يأتي الحق على خلافه في وجوه متعددة، من ذلك: أن قطع أصابع اليد، مثل قطع اليد من المنكب، أي ذلك أصيب ففيه ستة الآف. ومن ذلك: أن قطع الرجل في قلة ضررها، مثل قطع الرجل من الورك، أي ذلك أصيب ففيه ستة الآف. ومن ذلك: أن في العينين إذا فقئتا مثل ما في قطع أشراف الأذنين في قلة ضررها، أي ذلك أصيب ففيه اثنا عشرألفًا. ومن ذلك: أن في شجتين موضحتين صغيرتين مائتي (¬1) دينار، وما بينهما صحيح، فإن جرح ما بينهما حتى تقام إحداهما إلى الأخرى، كان أعظم للجرح بكثير، ولم يكن فيها حينئذ إلا خمسون دينارًا. ومن ذلك: أنّ المرأة الحائض تقضي الصيام، ولا تقضي الصلاة. ¬

(¬1) كذا في الأصل، ولعل الصواب: مائة.

ومن ذلك: رجلان: قطعت أذنا أحدهما جميعًا، يكون له اثنا عشر ألفًا، وقتل الآخر فذهبت أذناه وعيناه ويداه ورجلاه وذهبت نفسه، ليس ذلك له إلا اثنا عشر ألفًا، مثل ذلك الذي لم يصب إلا شراف أذنيه. في أشباه هذا غير واحد فهل وجد المسلمون بداً من لزوم هذا؟ وأي هذه الوجوه يستقيم على الرأي أو يخرج في التفكير؟ ... إلى آخر كلامه رحمه الله. وفي كتاب أبي محمد بن حزم رحمه الله "الإحكام في أصول الأحكام" من هذا الكثير الطيب فأنصح مريد الحق بقراءته. وبهذا ينتهي ما أردناه، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه.

الرسالة الثانية: تحريم الخضاب بالسواد

الرسالة الثانية: تحريم الخضاب بالسواد:

بسم الله الرحمن الرحيم المقدمة الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمدًا عبده ورسوله. أما بعد: فإن الله سبحانه وتعالى يقول: {ياأيّها الّذين ءامنوا ادخلوا في السّلم كافّةً (¬1)}، أي: خذوا الإسلام من جميع جوانبه. وقال تعالى: {قل ياأهل الكتاب لستم على شيء حتّى تقيموا التّوراة والإنجيل وما أنزل إليكم من ربّكم (¬2)}. وقال الإمام البخاري رحمه الله (ج14 ص113) طبعة حلبية: باب مايتّقى من محقّرات الذّنوب: حدثنا أبوالوليد حدثنا مهدي عن غيلان عن أنس رضي الله عنه قال: إنّكم لتعملون أعمالاً هي أدقّ في أعينكم من الشّعر، إن كنّا لنعدّها على عهد النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم من الموبقات. ¬

(¬1) سورة البقرة، الآية: 208. (¬2) سورة المائدة، الآية: 68.

قال أبوعبد الله: يعني بذلك: المهلكات. قال الحافظ رحمه الله: التعبير بالمحقرات، وقع في حديث سهل بن سعد رفعه: ((إيّاكم ومحقّرات الذّنوب، فإنّ مثل محقّرات الذّنوب، كمثل قوم نزلوا في بطن واد، فجاء ذا بعود، وجاء ذا بعود، حتّى جمعوا ما أنضجوا به خبزهم، وإنّ محقّرات الذّنوب متى يؤخذ بها صاحبها أهلكتْه)). أخرجه أحمد بسند صحيح، ونحوه عند أحمد والطبراني من حديث ابن مسعود، وعند النسائي وابن ماجه عن عائشة أنّ النبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: ((ياعائشة، إيّاك ومحقّرات الذّنوب، فإنّ لها من الله عزّ وجلّ طالبًا)). وصححه ابن حبان. اهـ ومن الذنوب التي يحتقرها كثير من الناس، ويجهل حكمها آخرون الخضاب بالسواد. وكنت وأنا بمكة قد رأيت بعض طلبة العلم يخضب بالسواد، فنصحته بترك ذلك فأبى، وقال: أنه ليس بمحرم، وكان من أصحابه رجل من العلماء، فقلت لذلك العالم ينصحه، فقال: إنه ليس بمحرم. بل قال: لا شيء فيه، فقلت له: حديث جابر في "صحيح مسلم" وفيه: ((وجنّبوه السّواد))، فقال: هي مدرجة. فقلت له: فحديث ابن عباس الذي رواه أبوداود، والإمام أحمد، وفيه وعيد شديد. فقال: إنه حديث لا يثبت. والرجل محدث ولكني لم أقتنع بكلامه ودفعني هذا إلى جمع هذه الرسالة. ومما دفعني أيضًا إلى جمع هذه الرسالة، أنّ بعض أهل العلم، وهكذا أيضًا بعض الزعماء والمسؤولين، وبعض مشايخ القبائل يخضبون بالسواد، هؤلاء

الذين لا يتجرأون على لحاهم بالحلق. أما الذين يتجرّأون ويحلقونها ويخالفون أمر رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم بإعفائها وبتوفيرها، ورضوا بالتشبّه بأعداء الإسلام، والنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقول: ((من تشبّه بقوم فهو منهم)). رواه أحمد بسند جيد كما قال شيخ الإسلام في "اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم". ونحن إذا التقينا بهم يكون هناك من الكبائر التي توجد في المجتمع أكبر من الخضاب بالسواد، من أجل ذلك رأيت أن تطبع هذه الرسالة حتى يطّلع على ما فيها من الأحاديث وكل امرئ حجيج نفسه. ولست أقول كما يقول بعض جهلة الإخوان المسلمين: إنّ هذا من القشور. ولكني أقول: إنه يجب على المسلم أن يلتزم بشرع الله، في حدود ما يستطيع، فإن الله عز وجل يقول لنبيه محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم: {فاستقمْ كما أمرت}. ويقول لنا أيها المسلمون: {فاسْتقيموا إليه} ويقول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لرجل وقد طلب منه أن يوصيه فقال له: ((قل آمنت بالله ثمّ اسْتقم)) رواه مسلم. وقد ذكرت جملة من هذا في "المخرج من الفتنة". وعلى كل فالمسلم لا ينبغى له أن يستهين بشيء من الذنوب، فربّ ذنب يكون سببًا لزيغ القلب. يقول الله سبحانه وتعالى: {فلمّا زاغوا أزاغ الله قلوبهم (¬1)}. أعاذنا الله وإياكم من زيغ القلوب، وثبت قلوبنا على الحق. آمين. ¬

(¬1) سورة الصف، الآية: 5.

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمدًا عبده ورسوله. وبعد: فهذه بعض الأحاديث الواردة في الخضاب نقلتها ليتضح خطأ من يخضب بالسواد لما فيه من الغش، ولا أنقل إلا ما كان من حديث رسول الله، إذ لا حجة إلا في كتاب الله أو سنة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم. قال الامام البخاري رحمه الله في "صحيحه" (ج12 ص476) مع "الفتح": حدثنا الحميدي حدثنا سفيان حدثنا الزهري عن أبي سلمة وسليمان بن يسار عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((إنّ اليهود والنّصارى لا يصبغون فخالفوهم)). ورراه مسلم (ج2 ص44) من طريق سفيان بن عيينة به. هذا الحديث مطلق يتناول أي صباغ، لكنه قيّد بما رواه الإمام مسلم رحمه الله (ج2 ص44) قال رحمه الله: حدثني أبوالطاهر أخبرنا عبد الله بن وهب عن ابن جريج عن أبي الزبير عن جابر بن عبد الله قال: أتي بأبي قحافة يوم فتح مكّة ورأسه ولحيته كالثّغامة بياضًا فقال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((غيّروا هذا بشيء، واجتنبوا السّواد)). ولم يصب من زعم أن قوله: ((واجتنبوا السّواد)). مدرجة إذ الأصل عدم الإدراج، وأما ما رواه الإمام أحمد من أن زهير بن معاوية سأل أبا الزبير لما

حدثه بهذا الحديث قال: قلت لأبي الزبير: قال: ((جنّبوه السّواد))؟ قال: لا. فمبنيّ على أن أبا الزبير قد نسي وكم من محدث قد نسي حديثه بعد ما حدث به، وهذا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلميقول: ((رحم الله فلانًا لقد ذكّرني آية كذا كنت أنسيتها))، وقد صرح الحافظ في "النخبة" أنّ الصحيح أنه لا يرد الحديث لنسيان الشيخ، إلا أن يقول: كذب عليّ، لم أحدثه بهذا، ثم إنه قد تابع ابن جريج ليث كما عند ابن ماجة والإمام أحمد، وهو ليث بن أبي سليم مختلط، لكنه يصلح في الشواهد والمتابعات. وللحديث شاهد صحيح، قال الإمام أحمد رحمه الله (ج3 ص160): ثنا محمد بن سلمة الحراني عن هشام (¬1) عن محمد بن سيرين قال: سئل أنس ابن مالك عن خضاب رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقال: إنّ رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم لم يكن شاب إلاّ يسيرًا، ولكنّ أبا بكر وعمر بعده خضبا بالحنّاء والكتم، قال: وجاء أبوبكر بأبيه أبي قحافة إلى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يوم فتح مكّة يحمله، حتّى وضعه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم لأبي بكر: ((لو أقررت الشّيخ في بيته لأتيناه)) تكرمةً لأبي بكر، فأسلم ولحيته ورأسه كالثّغامة بياضًا، فقال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((غيّروهما، وجنّبوه السّواد (¬2)). قال الهيثمي في "المجمع" بعد ذكره هذا الحديث (ج5 ص160): رواه أحمد وأبويعلى، والبزار باختصار، وفي الصحيح طرف منه، ورجال أحمد رجال الصحيح. ¬

(¬1) هشام هو ابن حسان، روى له أصحاب الأمهات كلهم، وهو من أثبت الناس في ابن سيرين. (¬2) حديثٌ صحيحٌ على شرط مسلم.

وآخر حسن: [قال ابن سعد في "طبقاته" (ج5 ص333 - 334): أخبرنا عبد الرحمن بن محمد المحاربي عن محمد بن إسحاق قال حدثني يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير عن أبيه عن أسماء قالت: لمّا دخل رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم مكّة واطمأّنّ وجلس في المسجد أتاه أبوبكر بأبي قحافة فلمّا رآه رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: ((يا أبا بكر ألا تركت الشّيخ حتّى أكون أنا الّذي أمشي إليه؟)) قال: يا رسول الله هو أحقّ أن يمشي إليك، من أن تمشي إليه. فأجلسه رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم بين يديه، ثمّ قال: ((يا أبا قحافة أسلم تسلم)) قال: فأسلم وشهد شهادة الحقّ، قال: وأدخل عليه رأسه ولحيته كأنّهما ثغامة، فقال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((غيّروا هذا الشّيب وجنّبوه السّواد)). أخرجه أيضًا الإمام أحمد (ج6 ص349) مطولاً، وابن حبان (1700) "موارد"، والحاكم (ج3 ص46).] اهـ رازحي. هذا وقد جاء الوعيد الشديد لمن يخضب بالسواد، روى الإمام أحمد في "مسنده" عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: ((يكون قوم في آخر الزّمان يخضبون بالسّواد كحواصل الحمام لا يريحون رائحة الجنّة)). قال صاحب "الفتح الرباني" في تعليقه على "ترتيب المسند" (ج17 ص319): سنده صحيح، ومن الغريب أن ابن الجوزي أورده في "الموضوعات" وهو من الأحاديث التي ذبّ عنها الحافظ ابن حجر في كتابه "القول المسدد في الذب عن مسند أحمد". قال رحمه الله بعد ذكر سنده ومتنه: أورده ابن الجوزي في "الموضوعات" من طريق أبي القاسم البغوي عن هاشم بن الحارث عن عبيد الله بن عمرو به. وقال: حديث لايصح عن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم. المتّهم به عبد الكريم بن أبي المخارق أبوأمية البصري، ثم نقل تجريحه

عن جماعة، قال الحافظ: وأخطأ في ذلك، فإن الحديث من رواية عبد الكريم الجزري الثقة المخرّج له في "الصحيح"، وقد أخرج الحديث من هذا الوجه أبوداود والنسائي وابن حبان في "صحيحه" وغيرهم. قال أبوداود في كتاب (الترجل): حدثنا أبوتوبة حدثنا عبيد الله عن عبد الكريم عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((يكون قوم يخضبون في آخر الزّمان بالسّواد كحواصل الحمام لا يريحون رائحة الجنّة)). وأخرجه النسائي في الزينة وابن حبان والحاكم في "صحيحيهما" من هذا الوجه، وقال أبويعلى في "مسنده": حدثنا زهير حدثنا عبيد الله بن جعفر، هو الرقي به، وأخرجه الحافظ ضياء الدين المقدسي في "المختارة مما ليس في الصحيحين" من هذا الوجه أيضًا. اهـ كلام الحافظ. قال المعلق على "ترتيب المسند": قلت: وبهذا تعرف أن الحديث صحيح لا مطعن فيه. اهـ قلت: ومما يزيدنا وضوحًا أنّ الذي في سند هذا الحديث عبد الكريم الجزري وليس بابن أبي المخارق أن الحديث في "سنن أبي داود" وعبد الكريم ابن أبي المخارق ليس من رجال أبي داود كما في "تهذيب التهذيب" و"الميزان" وغيرهما من كتب الرجال، نعم روى له أبوداود خارج "السنن" كما في "تهذيب الكمال" فإنه رمز "لمسائل أحمد" وأما في "السنن" فلا. هذا وإنني ذاكر ما وجدته من الشواهد للأحاديث المتقدمة، قال الامام أحمد رحمه الله تعالى "ترتيب المسند" (ج17 ص319): حدثنا قتيبة أنا ابن

لهيعة عن خالد بن أبي عمران عن سعد بن إسحاق بن كعب بن عجرة عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((غيّروا الشّيب ولا تقرّبوه السّواد)). ابن لهيعة فيه ضعف، ولا يمنع من الاستشهاد بحديثه. وقال البيهقي رحمه الله في "السنن الكبرى" (ج7 ص311): أخبرنا أبوالحسن محمد بن الحسين بن داود العلوي أنا أحمد بن محمد بن الحسن الحافظ نا الحسن بن هارون ثنا مكي بن إبراهيم نا عبد العزيز بن أبي رواد عن محمد بن زياد عن أبي هريرة رضي الله عنه ذكر رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: ((غيّروا الشّيب، ولاتشبّهوا باليهود، واجتنبوا السّواد)) اهـ وعبد العزيز بن أبي روّاد فيه كلام، والحسن بن هارون: قال أبوحاتم: لا أعرفه. كما في "لسان الميزان". وفي "مجمع الزوائد" (ج5 ص160): وعن أبي أمامة رضي الله عنه قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم على مشيخة من الأنصار بيض لحاهم فقال: ((يا معشر الأنصار حمّروا أو صفّروا، وخالفوا أهل الكتاب)) فذكر الحديث. رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح، وفي "الصحيح" طرف منه، ورجال أحمد رجال الصحيح، خلا القاسم وهو ثقة وفيه كلام لا يضر. قال أبوعبد الرحمن: القاسم هو ابن عبد الرحمن أبوعبد الرحمن الأموي، مختلف فيه وهو إلى الضعف أقرب، ولا يمنع من الاستشهاد بحديثه. ثم قال الهيثمي: وعن أنس أنّ النبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: ((غيّروا الشّيب وإنّ أحسن ما غيّرتم به الشّيب: الحنّاء والكتم)). رواه البزار وفيه سعيد بن بشير وهو ثقة وفيه ضعف، وعن أنس بن

مالك قال: كنّا يومًا عند النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم فدخلت عليه اليهود فرآهم بيض الّلحى، فقال: ((ما لكم لا تغيّرون))؟ فقيل: إنّهم يكرهون، فقال النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((لكنّكم غيّروا وإيّاي والسّواد)). رواه الطبراني في "الأوسط" وفيه: ابن لهيعة، وبقية رجاله ثقات وهو حديث حسن. وعن ابن عباس أنّ النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلمقال: ((يكون في آخر الزّمان قوم يسوّدون أشعارهم، لا ينظر الله إليهم)). قلت: رواه أبوداود، خلا قوله: ((لا ينظر الله إليهم)). رواه الطبراني في "الأوسط" وإسناده جيد. اهـ المراد من "مجمع الزوائد". وقال الإمام الترمذي رحمه الله في "جامعه" (ج3 ص55) مع "تحفة الأحوذي" طبعة هندية: حدثنا سويد بن نصر ثنا ابن المبارك عن الأجلح عن عبد الله بن بريدة عن أبي الأسود عن أبي ذر رضي الله عنه عن النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: ((إنّ أحسن ما غيّر به الشّيب الحنّاء والكتم)). هذا حديث حسن صحيح. الحديث عزاه المجد في "المنتقى" للخمسة يعني أصحاب "السنن" وأحمد. وقال النسائي رحمه الله (ج8 ص139): حدثنا محمد بن مسلم حدثنا يحيى بن يعلى حدثنا به أبي عن غيلان عن أبي إسحاق عن ابن أبي ليلى عن أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: ((أفضل ما غيّرتم به الشّمط: الحنّاء والكتم)). قلت: رجاله رجال مسلم غير محمد بن مسلم بن عثمان أبوعبد الله بن واره، قال الحافظ فيه: ثقة حافظ. وأبوإسحاق هو السبيعي، ثقة مدلس وقد

عنعن، فهو لابأس به في الشواهد. وله شاهد من حديث ابن عباس عند أبي يعلى (ج3 ص27)، والطبراني (ج11 ص 258)، قال أبويعلى رحمه الله: حدثنا بشر بن سيحان حدثنا يزيد بن زريع عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن عكرمة عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: ((أحسن ما غيّرْتم به الشّيب، الحنّاء والكتم)). الحديث رجاله رجال الشيخين، خلا بشر بن سيحان، قال فيه أبوحاتم: ما به بأس كان من العباد. وقال أبوزرعة: شيخ بصري صالح. اهـ "الجرح والتعديل" (ج2 ص 358). هذا ولهم شبه لا بأس ببيانها، لكي تنقطع حجتهم: منها: حديث ابن ماجة، قال رحمه الله (ج2 ص1197): حدثنا أبوهريرة الصيرفي محمد بن فراس حدثنا عمر بن الخطاب بن زكريا الراسبي حدثنا دفّاع بن دغفل السدوسي عن عبد الحميد بن صيفي عن أبيه عن جده صهيب الخير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((إنّ أحسن ما اختضبتم به لهذا السّواد أرغب لنسائكم فيكم وأهيب لكم في صدور عدوّكم)). إني لأعجب ممن يعارض الحديث الصحيح الذي رواه مسلم في "صحيحه"، والحديث الصحيح الذي رواه أحمد في "مسنده" والحديث الصحيح الذي رواه الترمذي في "جامعه"، وقال: حديث حسن صحيح؛ بمثل هذا الحديث الذي اجتمع فيه النكارة والضعف والإنقطاع، أما نكارته فظاهرة، وهو مخالفته لما اشتهر عنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم من نهيه عن السواد، وأما ضعفه فقد قال الإمام الذهبي في "الميزان" في ترجمة دفّاع بن دغفل: ضعفه أبوحاتم

ووثقه ابن حبان. اهـ، وليس له في الأمهات إلا هذا الحديث رواه ابن ماجة، وقد قال المزي رحمه الله: أن الغالب فيما تفرد به ابن ماجة الضعف. ذكره المناوي في "فيض القدير" (ج1 ص25) وذكره صاحب "تحفة الأحوذي" في المقدمة ص (66) طبعة هندية. وأما توثيق ابن حبان له فهو معروف بالتساهل، وقد كثر توثيقه للمجهولين، كما بينه الشيخ الألباني في تعليقه على "التنكيل" (ج1 ص438) وذكره الحافظ في "مقدمة لسان الميزان". وقد يذكر الرجل في كتاب "الثقات" وفي كتاب "الضعفاء" كما ذكره المعلمي رحمه الله (ج1 ص436) من "التنكيل". وأما انقطاع الحديث فقد قال الذهبي رحمه الله في "الميزان": عبد الحميد ابن زياد بن صيفي بن صهيب قال البخاري: لا يعرف سماع بعضهم من بعض. اهـ وقال الحافظ في "تهذيب التهذيب": قال أبوحاتم: شيخ روى له ابن ماجة حديثًا واحدًا. ثم قال الحافظ: قلت: وذكره ابن حبان في "الثقات".اهـ هذا وقد تقدم الكلام على ما انفرد به ابن ماجة، وأنه لا يعبأ بتوثيق ابن حبان إذا انفرد. ولهم حديث آخر يمكن أن يموهوا به على من لا معرفة له بعلم الحديث، وهو حديث: ((إذا خطب أحدكم المرأة وهو يخضب بالسّواد فليعلمها أنّه يخضب)). قال السيوطي في "الجامع الصغير": رواه الديلمي في "مسند الفردوس"

عن عائشة، ورمز لضعفه، وقال المناوي في "فيض القدير": رواه عنها أيضًا البيهقي وزاد بعد قوله: ((فليعلمها ولا يغرّها))، وفيه عيسى بن ميمون قال البيهقي: ضعيف، وقال الذهبي: متروك. اهـ هذا ولهم شبهة أخرى، وهو فعل بعض السلف رحمهم الله، وما كنت أظن أن يتجاسر مؤمن يؤمن بالله وبقوله تعالى: {لا تقدّموا بين يدي الله ورسوله (¬1)}. وقوله: {فليحذر الّذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم (¬2)}. ما كنت أظن أن يتجاسر من يعرف هاتين الآيتين أن يعارض قول رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم بقول فلان وفعل فلان، فإنا لله وإنا إليه راجعون، وحسبنا الله ونعم الوكيل، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه. انتهى،،،،،،، ¬

(¬1) سورة الحجرات، الآية: 1. (¬2) سورة النور، الآية: 63.

الرسالة الثالثة: الجمع بين الصلاتين في السفر

الرسالة الثالثة: الجمع بين الصلاتين في السفر:

المقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم المقدمة الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. أما بعد: فإن شيخنا محمد الأمين المصرى رحمه الله قد طلب منا ونحن في الدراسات العليا في الجامعة الإسلامية أن نكتب في حديث قتيبة بن سعيد الآتي إن شاء الله، ذلك لأنه اختلف أهل العلم رحمهم الله في صحته وضعفه، بل حكم عليه الحاكم رحمه الله بالوضع. فرأيت أن أضمّ إلى المسألة الحديثية مسائل فقهيةً، فقد روى البخاري ومسلم في صحيحيهما عن معاوية رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((من يرد الله به خيرًا يفقّهه في الدّين)). والفقه فى الدين هو فهم الكتاب والسنة على ما أراده الله بحسب الطاقة البشرية. فجمعت ما تيسر لي في هذا الموضوع. وبما أن حكم بعض المسائل الفقهية يخفى على كثير من الناس، بل ربما يحصل خصام بين سائق السيارة وبعض الركاب من أجل النزول للصلاة في أول الوقت، وأكثرهم لا يدري

أن الجمع جائز في السفر، بل هو السنة إذا جدّ به السير على ما سيأتي تفصيله إن شاء الله. بما أن الأمر كذلك؛ رأيت أنْ أضمّ إلى هذه الفائدة الحديثية بعض الفوائد الفقهية وأنشرها بين الناس. أسأل الله أن ينفع بها الإسلام والمسلمين، وأن يجعل عملي خالصًا لوجهه الكريم إنه جواد كريم. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه.

الجمع بين الصلاتين في السفر

الجمع بين الصلاتين في السفر 1 - قال الإمام البخاري رحمه الله (ج3ص236) مع "الفتح": حدثنا إسحاق قال أخبرنا عبد الصمد قال حدثنا حرب قال حدثنا يحيى قال حدثني حفص بن عبد الله بن أنس أن أنسًا رضي الله عنه حدثه أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: كان يجمع بين الصّلاتين في السّفر يعني المغرب والعشاء. تخريج الحديث: أخرجه عبد الرزاق (ج2 ص545)، وأحمد (ج3 ص138، 151) والطحاوي في "شرح معاني الآثار" (ج1 ص162). 2 - قال البخاري رحمه الله تعالى (ج3 ص233): حدثنا علي بن عبد الله قال حدثنا سفيان قال سمعت الزهري، عن سالم، عن أبيه، قال: كان النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم يجمع بين المغرب والعشاء إذا جدّ به السّير. تخريج الحديث: أخرجه مسلم (ج5 ص214) مع النووي، ومالك في "الموطأ" من حديث نافع عن ابن عمر به (ج1 ص161) مع "تنوير الحوالك"، وابن الجارود ص (87)، وابن خزيمة (ج2 ص81)، والدارمي (ج1 ص335)، وأحمد (ج2 ص7) من حديث نافع عن ابن عمر به، وص (8، 63، 102، 106، 148)، والنسائي (ج1 ص133) وابن أبي شيبة، وعبد الرزاق (ج2 ص544)، والطحاوي في "معاني الآثار" (ج1 ص161)، والبيهقي (ج3 ص159)، وأبونعيم في "الحلية" (ج9 ص161)، والخطيب (ج7 ص27).

وللحافظ العراقي رحمه الله كلام نفيس في شرح حديثي ابن عمر وأنس

هذا وللحافظ العراقي رحمه الله كلام نفيس في شرح حديثي ابن عمر وأنس فدونكه، قال رحمه الله في كتابه "طرح التثريب في شرح التقريب" (ج3 ص121): باب الجمع في السفر عن سالم، عن أبيه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يجمع بين المغرب والعشاء إذا جدّ به السّير. وعن نافع عن ابن عمر قال: كان رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم إذا عجل به السّير جمع بين المغرب والعشاء. فيه فوائد: الأولى: أخرجه من الطريق الأولى الشيخان والنسائي من طريق سفيان ابن عيينة بهذا اللفظ، والبخاري أيضًا من طريق شعيب بن أبي حمزة، ومسلم من طريق يونس بن يزيد بلفظ: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم إذا أعجله السّير في السّفر يؤخّر المغرب حتّى يجمع بينها وبين العشاء)، ثلاثتهم عن الزهري، عن سالم. وأخرجه الزهري (¬1) من طريق كثير بن قاووند، عن سالم، عن أبيه في جمعه بين الظّهر والعصر، حين كان بين الصّلاتين بين المغرب والعشاء، حين اشتبكت النجوم. وفيه: فقال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((إذا حضر أحدكم الأمر الّذي يخاف فوته، فليصلّ هذه الصّلاة)). ¬

(¬1) صوابه: النسائي. كما في تحفة الأشراف".

وأخرجه من الطريق الثانية مسلم، والنسائيّ من طريق مالك، عن نافع. وأخرجه مسلم أيضًا من طريق يحيى القطان، والترمذي من طريق عبدة ابن سليمان، كلاهما عن عبيد الله عن نافع: أنّ ابن عمر كان إذا جدّ به السّير جمع بين المغرب والعشاء بعد أن يغيب الشّفق. ويقول: إنّ رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم كان إذا جدّ به السّير جمع بين المغرب والعشاء. لفظ مسلم. ولفظ الترمذي: إنّه استغيث على بعض أهله فجدّ به السّير، وأخّر المغرب حتّى غاب الشّفق، ثمّ نزل فجمع بينهما، ثمّ أخبرهم أنّ رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم كان يفعل ذلك إذا جدّ به السّير. وقال: حسن صحيح. ورواه أبوداود من طريق أيوب، عن نافع: أنّ ابن عمر استصرخ على صفيّة وهو بمكّة، فسار حتّى غربت الشّمس وبدت النّجوم، فقال: إنّ النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم كان إذا عجل به أمر في سفر، جمع بين هاتين الصّلاتين فسار حتّى غاب الشّفق، فنزل فجمع بينهما. رواه النسائي من طريق موسى بن عقبة عن نافع عن ابن عمر قال: كان رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم إذا جدّ به السّير، أو حزبه أمر، جمع بين المغرب والعشاء. ومن طريق ابن جابر، عن نافع، عن ابن عمر في خروجه معه إلى صفية بنت أبي عبيد، وفيه: حتّى إذا كان في آخر الشّفق نزل فصلّى المغرب، ثمّ أقام العشاء وقد توارى الشّفق فصلّى بنا، ثمّ أقبل علينا فقال: إنّ رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم كان إذا عجل به السّير صنع هكذا. ومن طريق إسماعيل بن عبد الرحمن شيخ من قريش، عن ابن عمر في

جمعه بين المغرب والعشاء حين ذهب بياض الأفق وفحمة العشاء، ثم قال: هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يفعل. وأخرجه البخاري في (الحج والجهاد) في "صحيحه"، من طريق زيد بن أسلم عن أبيه، قال: كنت مع ابن عمر رضي الله عنهما بطريق مكّة، فبلغه عن صفيّة بنت أبي عبيد شدّة وجع، فأسرع السّير، حتّى كان بعد غروب الشّفق نزل فصلّى المغرب والعتمة، جمع بينهما، ثمّ قال: إنّي رأيت النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم إذا جدّ به السّير أخّر المغرب وجمع بينهما. الثانية: قوله في الرواية الأولى: (جدّ به السّير)، أي: اشتدّ به السير. قال في "المحكم": جدّ به الأمر، أي: اشتد. وقال القاضي عياض في "المشارق": جدّ به السّير، أي أسرع وعجل في الأمر الذى يريده. انتهى. وما ذكرته أولى لأنّ الذي في الحديث نسبة الجدّ إلى السير، وفي كلام القاضي نسبة الجد إلى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فاللفظ الواقع في الحديث إمّا أن يراد به الاشتداد كما نقلته عن صاحب "المحكم"، وإمّا أن ينسب الجد إلى السير على سبيل التوسع، والإسراع في الحقيقة إنما هو من النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ويكون هذا على حد قولهم: (نهاره صائم، وليله قائم)، فينسب الصيام إلى النهار، والقيام إلى الليل لوقوعه فيهما، وفي الحقيقة إنما هو من الفاعل. فمعنى قوله: (جدّ به السير) جدّ في السير. ويوافق هذا قوله في رواية أخرى: إذا جدّ في السير. قال في "الصحاح": الجدّ: الاجتهاد في الأمور، تقول منه: جدّ في الأمر

يجدّ ويجدّ، أي: بكسر الجيم وضمها، وأجدّ في الأمر مثله. قال الأصمعي: يقال: إنّ فلانًا لجادّ مجدّ باللغتين جميعًا. وقال في "المحكم": جدّ في أمره يجدّ ويجدّ جدًّا وأجدّ حقق. وقال في "المشارق": الجدّ المبالغة في الشيء. انتهى. ويأتي هذان الاحتمالان في قوله في الرواية الثانية: (عجل به السير). إمّا أن يضمّن (عجل) معنى اشتد، وإمّا أن تكون نسبة العجل الى إلسير مجازًا وتوسعًا. والأصل: (عجل في السير). الثالثة: فيه جواز الجمع بين صلاتي المغرب والعشاء في هذه الحالة، وهي الجدّ في السفر والاستعجال فيه. وتقدم من "سنن النسائي": الجمع بين الظهر والعصر أيضًا، وفي "الصحيحين" عن أنس رضي الله عنه، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشّمس أخّر الظّهر إلى وقت العصر، ثمّ نزل فجمع بينهما، فإن زاغت قبل أن يرتحل صلّى الظّهر ثمّ ركب. وفي رواية للبخاري: كان النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم يجمع بين صلاة المغرب والعشاء في السّفر. وفى رواية لمسلم: كان النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم إذا أراد أن يجمع بين الصّلاتين في السّفر، أخّر الظّهر حتّى يدخل أوّل وقت العصر، ثمّ يجمع بينهما. وفي رواية له: إذا عجل عليه السّير، يؤخّر الظّهر إلى أوّل وقت العصر، فيجمع بينهما ويؤخّر المغرب حتّى يجمع بينها وبين العشاء حين يغيب الشّفق. وفي "صحيح البخاري" تعليقًا، و"صحيح مسلم" موصولاً عن ابن عباس:

كان رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يجمع بين صلاة الظّهر والعصر إذا كان على ظهر سير ويجمع بين المغرب والعشاء. لفظ البخاري. ولم يقل مسلم: إذا كان على ظهر سير، وزاد: (قال سعيد بن جبير: فقلت لابن عباس: ما حمله على ذلك؟ قال: أراد أن لا يحرج أمّته). فزاد في حديثي أنس وابن عباس: الجمع بين الظهر والعصر، وأما اقتصار ابن عمر رضي الله عنهما في الرواية المشهورة عنه على ذكر الجمع بين المغرب والعشاء فسببه أنه ذكر ذلك جوابًا لقضية وقعتْ له، فإنه استصرخ على زوجته فذهب مسرعًا، وجمع بين المغرب والعشاء، فذكر ذلك بيانًا لأنه فعله على وفق السنة. فلا دلالة فيه لعدم الجمع بين الظهر والعصر. فقد رواه أنس وابن عباس ومعاذ وغيرهم من الصحابة رضي الله عنهم. وفي "صحيح مسلم" وغيره عن معاذ بن جبل رضي الله عنه، قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم في غزوة تبوك، فكان يصلّي الظّهر والعصر جميعًا، والمغرب والعشاء جميعًا. وفي لفظ له: جمع رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم في غزوة تبوك بين الظّهر والعصر، وبين المغرب والعشاء. زاد في "الموطأ" و"سنن أبي داود" و"النسائي" و"صحيح ابن حبان": فأخّر الصّلاة يومًا، ثمّ خرج فصلّى الظّهر والعصر جميعًا، ثمّ دخل، ثمّ خرج فصلّى المغرب والعشاء جميعًا. قال ابن عبد البر: هذا حديث صحيح ثابت الإسناد. وفي "سنن أبي داود" و"الترمذي" و"صحيح ابن حبان" وغيرها، عن معاذ أنّ النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم كان في غزوة تبوك إذا ارتحل قبل زيغ الشّمس، أخّر الظّهر

إلى العصر فيصلّيهما جميعًا، وإذا ارتحل بعد زيغ الشّمس عجّل العصر إلى الظهر وصلى الظهر والعصر جميعًا، ثم سار، وكان إذا ارتحل قبل المغرب أخّر المغرب حتّى يصلّيها مع العشاء، وإذا ارتحل بعد المغرب عجّل العشاء، فصلاها مع المغرب. قال الترمذي: حديث حسن. وقال البيهقي: هو محفوظ صحيح. انتهى. ففي حديث معاذ الجمع بين الظهر والعصر أيضًا، ولم يقيد ذلك بأن يعجل به السفر بل صرّح في رواية "الموطأ" وأبي داود وغيرهما بالجمع وهو غير سائر، بل نازل ماكث في خبائه، يخرج فيصلي الصلاتين جميعًا، ثم ينصرف إلى خبائه. قال الشافعي رحمه الله في "الأم" بعد ذكره هذه الرواية: هذا وهو نازل غير سائر لأن قوله: (دخل ثم خرج)، لا يكون إلا وهو نازل، فللمسافر أن يجمع نازلاً ومسافرًا. انتهى. وفي رواية أبي داود والترمذي وغيرهما التصريح بجمع التقديم والتأخير فى الظهر والعصر، وفي المغرب والعشاء، وقد كانت غزوة تبوك في أواخر الأمر سنة تسع من الهجرة. وقد اختلف العلماء فى هذه المسألة على أقوال: أحدها: جواز الجمع بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء بعذر السفر، جمع تقديم في وقت الأولى منهما، وجمع تأخير في وقت الثانية منهما. وبه قال مالك، والشافعي، وأحمد في المشهور عنه، والجمهور، إلا أن المشهور من مذهب مالك اختصاص الجمع بحالة الجد فى السير، لخوف

فوات الأمر أو لإدراك مهمّ، وبه قال أشهب. وقال ابن الماجشون وابن حبيب وأصبغ: إنّ الجدّ لمجرد قطع السفر مبيح للجمع. وروى ابن أبي شيبة في "مصنفه" الجمع بين الصلاتين في السفر عن سعد ابن أبي وقاص، وسعيد بن زيد، وأبي موسى الأشعري، وأسامة بن زيد، وغيرهم. وحكاه ابن المنذر عن ابن عباس، وابن عمر، وطاوس، ومجاهد، وعكرمة، وأبي ثور، وإسحاق، قال: وبه أقول. وقال البيهقي: الجمع بين الصلاتين بعذر السفر من الأمور المشهورة المستعملة فيما بين الصحابة والتابعين رضي الله عنهم أجمعين، مع الثابت عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ثم عن أصحابه، ثم ما أجمع عليه المسلمون من جميع الناس بعرفة ثم بالمزدلفة، وروى في ذلك عن عمر، وعثمان، ثم روى عن زيد بن أسلم، وربيعة، ومحمد بن المنكدر، وأبي الزناد أنّهم كانوا يجمعون بين الظهر والعصر، إذا زالت الشمس. وحكاه ابن عبد البر عن عطاء بن أبي رباح، وسالم بن عبد الله، وجمهور علماء المدينة. وحكاه ابن بطال عن جمهور العلماء. وحكاه ابن قدامة في "المغني" عن أكثر أهل العلم. وحكاه أبوالعباس القرطبي عن جماعة السلف وفقهاء المحدثين. القول الثاني: اختصاص ذلك بحالة الجد في السفر لخوف فوات أمر أو لإدراك مهم، وهو المشهور عن مالك، كما تقدم. وتمسك هؤلاء بظاهر حديث ابن عمر هذا، وجوابه أن في حديث غيره زيادة يجب الأخذ بها

وهي الجمع من غير جدّ في السفر. قال ابن عبد البر بعد ذكر حديث معاذ الذي سبق ذكره من "الموطأ" وغيره: في هذا أوضح الدلائل، وأقوى الحجج في الرد على من قال: لا يجمع المسافر بين الصلاتين إلا إذا جدّ به السير. وهو قاطع للإلتباس، قال: وليس فيما روي عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه كان إذا جدّ به السير جمع بين المغرب والعشاء ما يعارضه لأنه إذا كان له الجمع نازلاً غير سائر، فالذي يجد به السير أحرى بذلك، وإنما يتعارضان لو كان في أحدهما أنه قال: لا يجمع المسافر بين الصلاتين إلا أن يجد به السير. وفي الآخر: أنه جمع نازلاً غير سائر، فإما أن يجمع وقد جدّ به السير، ويجمع وهو نازل لم يجد به السير. فليس هذا بمتعارض عند أحد له فهم. قال: وقد أجمع المسلمون على الجمع بين الصلاتين بعرفة ومزدلفة، فكل ما اختلفت فيه من مثله فمردود إليه. وروى مالك عن ابن شهاب أنه قال: سألت سالم بن عبد الله هل يجمع بين الظهر والعصر في السفر؟ فقال: نعم، لا بأس بذلك. ألم تر إلى صلاة الناس بعرفة. فهذا سالم قد نزع بما ذكرنا وهو أصل صحيح لمن ألهم رشده، ولم تمل به العصبية إلى المعاندة. انتهى. وحكى أبوالعباس القرطبي عدم اشتراط الجد في السفر عن جمهور السلف، وعلماء الحجاز، وفقهاء المحدثين، وأهل الظاهر. القول الثالث: كالذي قبله في الاختصاص بحالة الجدّ في السفر لكن لا يختص ذلك بأن يكون سبب الجد خوف فوات أمر أو إدراك مهم، بل لو كان الجد لمجرد قطع المسافة كان الحكم كذلك، وهذا قول جماعة من

المالكية، كما تقدم. وفي "مصنف ابن أبي شيبة" عن أسامة بن زيد أنّه كان إذا عجل به السّير جمع بين الصّلاتين. وعن سالم بن عبد الله بن عمر أنّه سئل عن الجمع بين الصّلاتين في السّفر فقال: لا، إلاّ أن تعجلني سير. وحكى ابن عبد البر عن الليث بن سعد أنه لا يجمع إلا من جدّ به السير. وقال أبوبكر بن العربي: إن قول ابن حبيب هذا هو قول الشافعي لأن السفر نفسه إنما هو لقطع الطريق. انتهى. وفيما قاله نظر فإنّ الماكث في المنْزلة ليس قاطعًا للطريق، وكذلك من هو سائر إلا أنه لا استعجال به، بل هو يسير على هينته، فهو أن يجوّز الشافعي لهما الجمع ولا يجوّزه لهما ابن حبيب ومن قال بقوله، ولعل صاحب هذا القول أسعد بحديث ابن عمر من القول الذي قبله، فإن الذي في حديث ابن عمر اعتبار الجد في السفر من غير سبب مخصوص لذلك، ولا يقال: إنما يكون الجد لخوف فوات أمر أو إدراك مهم، فقد يكون الجد لمجرد قطع المسافة والاستراحة من متاعب السفر. وقد قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((فإذا قضى أحدكم نهمته من سفره فليعجّل إلى أهله))، لكن زاد حديث معاذ على ذلك ببيان الجمع في زمن الإقامة التي لا تقطع اسم السفر فوجب الأخذ به كما تقدم. والله أعلم. القول الرابع: أنه لا يجمع بين الصلاتين إلا من عذر، رواه ابن أبي شيبة عن الحسن البصري، وعمر بن عبد العزيز. وحكاه ابن عبد البر عن الأوزاعي وقال: لأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم كان إذا جدّ به

السير جمع. قال: وعن الثوري نحو هذا، وعنه أيضًا ما يدل على الجواز، وإن لم يجد السير. انتهى. وفي "مصنف ابن أبي شيبة" عن جابر بن زيد: ما أرى أنْ يجمع بين الصّلاتين إلاّ من أمر. فجعل صاحب هذا القول الجد في السير مثالاً للعذر، والاعتبار بالعذر بأيّ وجه كان، ويقول الجمهور: السفر نفسه عذر ومظنة للرخصة فنيط الحكم بمجرده. والله أعلم. القول الخامس: منع الجمع بعذر السفر مطلقًا وإنما يجوز للنسك بعرفة ومزدلفة، وهذا قول الحنفية، بل زاد أبوحنيفة على صاحبيه وقال: لا يجمع للنسك إلا إذا صلى في الجماعة، فإن صلى منفردًا صلى كل صلاة في وقتها. وقال أبويوسف ومحمد: المنفرد في ذلك كالمصلي جماعة. وحكى ابن قدامة في "المغني" هذا عن رواية ابن القاسم عن مالك واختياره. وروى ابن أبي شيبة في "مصنفه" عن إبراهيم النخعي قال: كان الأسود وأصحابه ينْزلون عند وقت كل صلاة في السفر، فيصلون المغرب لوقتها، ثم يتعشون، ثم يمكثون ساعة، ثم يصلون العشاء. وعن الحسن وابن سيرين أنّهما قالا: ما نعلم من السنة الجمع بين الصلاتين في حضر ولا سفر، إلا بين الظهر والعصر بعرفة، وبين المغرب والعشاء بجمع. وعن عمر وأبي موسى أنّهما قالا: الجمع بين الصلاتين بغير عذر من الكبائر. وروي هذا مرفوعًا من حديث ابن عباس، رواه الترمذي، وهو ضعيف. وأجاب هؤلاء عن أحاديث الجمع بأن المراد بها أن يصلي الأولى في

آخر وقتها، والأخرى في أول وقتها وهذا مردود بوجهين: أحدهما: أنه وردت الروايات مصرّحةً بالجمع في وقت إحداهما. فمنها ما تقدم من "صحيح مسلم" من حديث ابن عمر: جمع بيْن المغْرب والعشاء بعْد أن يغيب الشّفق. ومنها قوله في حديث أنس: أخّر الظّهر حتّى يدخل أوّل وقت العصر، ثمّ يجمع بينهما. وحديث معاذ صريح في جمعي التقديم والتأخير في الظهر والعصر، وفي المغرب والعشاء. وهذه الأحاديث لا يمكن معها التأويل الذي ذكروه. الثاني: أن الجمع رخصة فلو كان على ما ذكروه، لكان أشد ضيقًا وأعظم حرجًا من الإتيان بكل صلاة في وقتها، لأنّ الإتيان بكل صلاة في وقتها أوسع من مراعاه طرفي الوقتين، بحيث لا يبقى من وقت الأولى إلا قدر فعلها، ومن تدبر هذا وجده واضحًا كما وصفنا، ثم لو كان الجمع هكذا لجاز الجمع بين العصر والمغرب، والعشاء والصبح. ولا خلاف بين الأمة في تحريم ذلك، والعمل بالأحاديث على الوجه السابق إلى الفهم منها أولى من هذا التكلف الذى لا حاجة إليه. واحتج هؤلاء بما رواه الشيخان من حديث ابن مسعود رضي الله عنه، قال: ما صلّى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم قطّ صلاةً لغير وقتها إلا ّالمغرب والصّبح بالمزدلفة، فإنّه أخّر المغرب حتّى جمعها مع العشاء، وصلّى الصّبح قبل الفجر. وقالوا: إن مواقيت الصلاة تثبت بالتواتر فلا يجوز تركها بخبر واحد، والجواب عن حديث ابن مسعود أنه متروك الظاهر بالإجماع من وجهين: أحدهما: أنه قد جمع بين الظهر والعصر بعرفة بلا شك، وقد ورد

التصريح بذلك في بعض طرق حديث ابن مسعود فلم يصح هذا الحصر. وثانيهما: أنه لم يقل أحد بظاهره في إيقاع الصبح قبل الفجر، والمراد أنه بالغ في التعجيل، حتى قارب ذلك ما قبل الفجر، ثم إنّ غير ابن مسعود حفظ عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم الجمع بين الصلاتين في السفر بغير عرفة ومزدلفة، ومن حفظ حجة على من لم يحفظ، ولم يشهد. وقد روى أبويعلى الموصلي في "مسنده" بإسناد جيد (¬1) عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يجمع بين الصّلاتين في السّفر. والجواب عن قولهم: لا يترك المتواتر بالآحاد، بأنّا لم نتركها وإنما خصصناها، وتخصيص المتواتر بالآحاد جائز بالإجماع وقد جاز تخصيص الكتاب بخبر الواحد إجماعًا، فتخصيص السنة بالسنة أولى بالجواز، والله أعلم. وذكر الشافعي قول عمر: جمع الصلاتين من غير عذر من الكبائر. وقال: العذر يكون بالسفر والمطر. وليس هذا ثابتًا عن عمر وهو مرسل. القول السادس: جواز التأخير ومنع جمع التقديم. وهو رواية عن أحمد. قال ابن قدامة: وروي نحوه عن سعد، وابن عمر، وعكرمة. قال ابن بطال: وهو قول مالك في "المدونة"، وبهذا قال ابن حزم الظاهري، بشرط الجد في السفر، واعتماد هؤلاء على أن جمع التقديم لم يذكر في حديثي ابن عمر وأنس وإنما ذكر فيهما جمع التأخير، وتأكد ذلك بقوله في حديث أنس: ¬

(¬1) سيأتي إن شاء الله مع الحكم عليه بأنه ضعيف.

فإن زاغت قبل أن يرتحل صلّى الظّهر، ثمّ ركب. ولم يذكر صلاة العصر. وجوابه: أنه لا يلزم من عدم ذكرها أن لا يكون صلاها مع الظهر. وقد ورد التصريح بجمع التقديم في حديث معاذ وغيره، فوجب المصير إليه، وحمل بعضهم حديث أنس على أنّ معناه صلى الظهر والعصر، قال: لأنه عليه السلام إنما كان يؤخر الظهر إلى العصر إذا لم تزغ الشمس، فكذلك يقدم العصر إلى الظهر إن زاغت الشمس، ذكره ابن بطال. وقد ورد التصريح بذلك من حديث أنس بسند لا بأس به في "معجم الطبراني الأوسط"، ولفظه: إذا كان في سفر فزاغت الشّمس جمع بينهما في أوّل وقت العصر، وكان يفعل ذلك في المغرب والعشاء. وحكى ابن العربي أن اللؤلؤي حكى عن أبي داود أنه قال: ليس في تقديم الوقت حديث قائم. . وليس ذلك في روايتنا "لسنن أبي داود" من طريق اللؤلؤي، وضعف ابن حزم حديث معاذ في جمع التقديم، وقد بسطت الرد عليه في ذلك في كراسة كتبتها قديمًا سميتها "الدليل القويم على صحة جمع التقديم". الرابعة: غاية ما دلّ عليه هذا الحديث جواز الجمع، فأما رجحانه وكونه أفضل (¬1) من إيقاع كل صلاة في وقتها، فلا دلالة فيه عليه، فلعله عليه الصلاة والسلام بيّن بذلك الجواز أو فعله على سبيل الترخيص والتوسع، وإن كان الأفضل خلافه. وقد صرح أصحابنا الشافعية بذلك، وقالوا: إنّ ترك الجمع أفضل. وقال الغزالي: إنه لا خلاف في المذهب فيه. ¬

(¬1) الذي يظهر لي أن الجمع أفضل، لأنه الوارد عن النبي إذا جدَّ به السير.

وعللوه بالخروج من الخلاف فإن أباحنيفة وجماعة من التابعين لا يجوزونه، وعن أحمد بن حنبل في ذلك روايتان، وزاد مالك رحمه الله على ما قاله أصحابنا من أنّ الأفضل ترك الجمع فقال: إن الجمع مكروه. رواه المصريون عنه، كما قاله ابن العربي، واحتجّ له بتعارض الأدلة وقال ابن شاس في "الجواهر": وقع في "العتبية": (قال مالك: أكره جمع الصلاتين في السفر)، فحمله بعض المتأخرين على إيثار الفضل لئلا يتسهل فيه من لا يشق عليه. وقال ابن الحاجب في "مختصره": لا كراهة على المشهور. وحكى أبوالعباس القرطبي عن مالك رواية أخرى أنه كره الجمع للرجال دون النساء. وقال الخطابي: كان الحسن ومكحول يكرهان الجمع في السفر بين الصلاتين. انتهى. فإن أراد بالكراهة التحريم، فهو القول الخاص المحكي في الفائدة الثالثة. وإن أراد التنْزيه فهو موافق لهذا المحكي عن مالك. الخامسة: لم يبيّن في حديث ابن عمر ولا في غيره من الأحاديث هل كان يفعل ذلك في كل سفر، أو كان يخص به السفر الطويل، وهو سفر القصر، لكن قد يقال: إن الظاهر من الجدّ في السفر أنه إنما يكون فى الطويل، والحقّ أن هذه واقعة عين محتملة، فلا يجوز الجمع في السفر القصير، مع الشك في ذلك. ومذهب مالك أنه لا يختص ذلك بالطويل، ومذهب أحمد بن حنبل اختصاصه به، وللشافعي في ذلك قولان أصحهما اختصاصه بالطويل والله أعلم. كلامه رحمه الله. ولنرجع إلى سرد الأدلة بأسانيدها إن شاء الله:

3 - مسلم (ج5 ص215 و216): حدثنا يحيى بن حبيب الحارثي حدثنا خالد -يعني ابن الحارث- حدثنا قرة حدثنا أبوالزبير حدثنا سعيد بن جبير حدثنا ابن عباس أنّ رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم جمع بين الصّلاة في سفرة سافرها في غزوة تبوك، فجمع بين الظّهر والعصر، والمغْرب والعشاء، قال سعيد: فقلْت لابن عبّاس: ما حمله على ذلك؟ قال: أراد أن لا يحْرج أمّته. تخريج الحديث: ذكره ابن خزيمة (ج2 ص82) عقب حديث فيه الجمع، ثم قال بمثل ذلك. وأبوداود (ج1 ص276)، وأحمد (ج1 ص217و351)، والبخاري تعليقًا (ج3 ص234) قال: وقال إبراهيم بن طهمان عن حسين المعلم، عن يحيى بن أبي كثير، عن عكرمة، عن ابن عباس به. وقد وصله البيهقي (ج3 ص164). 4 - مالك في "الموطأ" (ج1 ص160): عن داود بن الحصين، عن الأعرج، عن أبي هريرة، أنّ رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم كان يجْمع بين الظّهر والعصر في سفره إلى تبوك. تخريج الحديث: أخرجه عبد الرزاق (ج2 ص545). والحديث رجاله رجال الصحيح إلا أنه اختلف في وصله وإرساله، كما في "تنوير الحوالك". وقد قال ابن عبد البر في "التمهيد" (ج2 ص337): حديث رابع لداود مرسل من وجه، متصل من وجه صحيح، ثم ذكره مرسلاً ومتصلاً. فهو رحمه الله في الترجمة يحكم له بالصحة. 5 - مسلم (ج5 ص216): حدثني يحيى بن حبيب حدثنا خالد -يعني ابن الحارث- حدثنا قرة بن خالد حدثنا أبوالزبير حدثنا عامر بن واثلة أبوالطفيل حدثنا معاذ بن جبل، قال: جمع رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم في غزْوة تبوك بيْن الظّهر والعصر، وبين المغرب والعشاء، قال: فقلْت: ما حمله

على ذلك؟ قال: فقال: أراد أن لا يحْرج أمّته. تخريج الحديث: أخرجه ابن خزيمة (ج2 ص81)، وابن حبان (ج3 ص89)، وعبد الرزاق (ج2 ص545)، والطيالسي (ج1 ص126) من "ترتيب المسند"، وابن أبي شيبة (ج2 ص456)، وابن ماجة (ج1 ص340)، وأحمد (ج5 ص229 و230 و236)، والبيهقي (ج3 ص 162)، والطحاوي في "معاني الآثار" (ج1 ص160). 6 - قال الإمام أبوبكر بن أبي شيبة في "المصنف" (ج2 ص458): حدثنا بكر بن عبد الرحمن قال ثنا عيسى بن المختار عن ابن أبي ليلى عن أبي قيس، عن هزيل، عن عبد الله بن مسعود، أنّ النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم جمع بين الصّلاتين في السّفر. هذا حديث ضعيف، في سنده محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى القاضي وقد ضعّف من أجل سوء حفظه. تخريج الحديث: أخرجه أبويعلى في "المسند" (ج9 ص284) وسقط من سنده هزيل الراوي عن ابن مسعود، جزمنا بأنه سقط، لأن الحديث مرويّ من طريق أبي بكر ابن أبي شيبة. وأخرجه البزار كما في "كشف الأستار" (ج1 ص330). وأخرجه أبوداود الطيالسي ص (49)، قال: حدثنا شعبة، عن أبي قيس قال: سمعت الهزيل، قال: كان النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم في سفر فأخّر الظّهر، وعجّل العصر، وجمع بينهما، وأخّر المغرب، وعجّل العشاء، وجمع بينهما. لم يقل شعبة فيه: (عن عبد الله). قال: وروى عن ابن أبي ليلى أنه وصله إلى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم. قال أبوعبد الرحمن: فإرسال شعبة للحديث يزيد حديث ابن أبي ليلى

الموصول ضعفًا، إذ وصْله يعتبر منكرًا، وأما قول الحافظ الهيثمي في "مجمع الزوائد" (ج2 ص159): (إنّ رجال أبي يعلى رجال الصحيح) فوهم واضح، لأنّ محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى ليس من رجال الصحيح كما في "تهديب التهذيب" و"الميزان"، وما رمزا له إلا "بالسنن".

جواز الجمع بين الصلاتين وإن لم يجد به السير

جواز الجمع بين الصلاتين وإن لم يجد به السير تقدمت الأحاديث الدالة على جواز الجمع، وسيأتي مزيد لها إن شاء الله، وقد ورد في السنة المطهرة مايدل على جواز الجمع وإن كان نازلاً. قال الإمام مسلم رحمه الله (ج15 ص40): حدثنا عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي حدثنا أبوعلي الحنفي حدثنا مالك وهو ابن أنس عن أبي الزبير المكي أنّ أبا الطفيل عامر بن واثلة أخبره أن معاذ بن جبل أخبره قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم عام غزوة تبوك، فكان يجمع الصّلاة، فصلّى الظّهر والعصر جميعًا، والمغرب والعشاء جميعًا، حتّى إذا كان يومًا أخّر الصّلاة، ثمّ خرج فصلّى الظّهر والعصر جميعًا، ثمّ دخل، ثمّ خرج بعد ذلك فصلّى المغرب والعشاء جميعًا، ثمّ قال: ((إنّكم ستأتون غدًا إن شاء الله عين تبوك، وإنّكم لن تأتوها حتّى يضحي النّهار، فمن جاءها منكم فلا يمسّ من مائها شيئًا حتّى آتي))، فجئناها وقد سبقنا إليها رجلان، والعين مثل الشّراك تبضّ (¬1) بشيء من ماء، قال: فسألهما رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((هل مسستما من مائها شيئًا))؟ قالا: نعم، فسبّهما النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم وقال لهما ما شاء الله أن يقول، قال: ثمّ غرفوا بأيديهم من العين قليلاً قليلاً، حتّى اجتمع في شيء، قال: وغسل رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فيه يديه ووجهه، ثمّ أعاده فيها، ¬

(¬1) تبض: تسيل، وضبطه عياض: تبص، أي: تبرق وتلمع.

فجرت العين بماء منهمر، أو قال: غزير -شكّ أبوعليّ أيّهما قال- حتّى استقى النّاس، ثمّ قال: ((يوشك يا معاذ إن طالت بك حياة أن ترى ما هاهنا قد ملئ جنانًا)). تخريج الحديث: الحديث أخرجه ابن خزيمة (ج2 ص82)، وابن حبان (ج3 ص92)، والنسائي (ج1 ص229)، ومالك (ج1 ص160)، والدارمي (ج1 ص356)، والشافعي في "الأم" (ج1 ص66)، وعبد الرزاق (ج2 ص545)، وأحمد (ج5 ص237)، والبيهقي (ج3 ص162). بعض هؤلاء اقتصر على حكم الجمع بين الصلاتين وهو نازل، وبعضهم ذكر الحديث بتمامه. ونقل الحافظ العراقي رحمه الله في "شرح التقريب" (ج3 ص124و 125) كلامًا حسنًا، وقد تقدم، والحمد لله.

جمع التأخير

جمع التأخير 1 - قال الإمام البخاري رحمه الله تعالى (ج3 ص226): حدثنا أبواليمان قال أخبرنا شعيب عن الزهري قال أخبرني سالم عن عبد الله ابن عمر رضي الله عنهما قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم إذا أعجله السّير في السّفر يؤخّر المغرب حتّى يجمع بينها وبين العشاء. تخريج الحديث: أخرجه مسلم (ج5 ص214)، وابن خزيمة من حديث نافع بمعناه، والنسائي (ج1 ص229)، والترمذي من حديث نافع به، والشافعي في "الأم" (ج1 ص67) من حديث إسماعيل بن عبد الرحمن بن أبي ذئب الأسدي عن ابن عمر به، وعبد الرزاق (ج2 ص546، 547) من طرق عن نافع به، وأحمد (ج2 ص4، 12، 51، 54، 77، 85، 150)، والطحاوي (ج1 ص162)، والدارقطني (ج1 ص319)، والبيهقي (ج3 ص159 و160). وجملة الذين رووه عن عبد الله بن عمر فيما اطلعت عليه: (1) سالم (2) نافع (3) إسماعيل بن عبد الرحمن (4) أسلم مولى عمر (5) عبد الله بن دينار والمعنى واحد. 2 - قال البخاري رحمه الله (ج1 ص236): حدثنا حسان الواسطي قال حدثنا الفضل بن فضالة، عن عقيل، عن ابن شهاب عن أنس بن مالك قال: كان النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشّمس أخّر الظّهر إلى

وقت العصر، ثمّ يجمع بينهما، وإذا زاغت صلّى الظّهر ثمّ ركب. تخريج الحديث: أخرجه مسلم (ج5 ص214)، وابن خزيمة (ج2 ص83)، وابن حبان (ج3 ص90) وعنده: (وإذا زاغتْ قبل أن يرتحل صلّى ثم رحل)، وأبوداود (ج1 ص278)، والنسائي (ج1 ص229)، وأحمد (ج3 ص247و265)، وأبونعيم في "الحلية" (ج8 ص321)، والدارقطني (ج1 ص390)، والبيهقي (ج3 ص161). 3 - قال البخاري رحمه الله (ج4 ص270): حدثنا عبد الله بن يوسف أخبرنا مالك، عن موسى بن عقبة، عن كريب، عن أسامة بن زيد رضى الله عنهما أنه يقول: دفع رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم من عرفة، فنزل الشّعب، فبال ثمّ توضّأ، ولم يسبغ الوضوء، فقلت له: الصّلاة؟ فقال: ((الصّلاة أمامك)) فجاء المزدلفة نزل فتوضّأ فأسبغ، ثمّ أقيمت الصّلاة، فصلّى المغرب، ثمّ أناخ كلّ إنسان بعيره في منْزله، ثمّ أقيمت الصّلاة فصلّى، ولم يصلّ بينهما. تخريج الحديث: أخرجه مسلم (ج9 ص3) وأبوداود (ج1 ص447) والنسائي (ج5 ص209). هذا والأحاديث في جمعه صلى الله عليه وعلى آله وسلم بمزدلفة عن جماعة من الصحابة منهم: أبوأيوب وابن عمر كما في "الصحيح" فشهرتها تغني عن تخريجها.

جمع التقديم

جمع التقديم 4 - قال الإمام البخاري رحمه الله في "صحيحه" (ج4 ص260): باب الجمع بين الصّلاتين بعرفة، وكان ابن عمر رضي الله عنهما إذا فاتته الصّلاة مع الإمام جمع بينهما. وقال الليث (¬1): حدثني عقيل عن ابن شهاب قال: أخبرني سالم أنّ الحجّاج بن يوسف عام نزل بابن الزّبير رضي الله عنهما، سأل عبد الله رضي الله عنه كيف تصنع في الموقف يوم عرفة؟ فقال سالم: إن كنت تريد السّنّة فهجّر بالصّلاة يوم عرفة، فقال عبد الله بن عمر: صدق، إنّهم كانوا يجمعون بين الظّهر والعصر في السّنّة. فقلت لسالم: أفعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم؟ فقال سالم: وهل تتّبعون في ذلك إلا سنّته؟. 5 - أبوداود (ج1 ص445): حدثنا أحمد بن حنبل ثنا يعقوب ثنا أبي عن ابن إسحاق حدثني نافع، عن ابن عمر قال: غدا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم من منًى حين صلّى الصّبح صبيحة يوم عرفة، حتّى أتى عرفة فنزل بنمرة، وهي منْزل الإمام الّذي ينْزل به بعرفة، حتّى إذا كان عند صلاة الظّهر راح رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم مهجّرًا، فجمع بين الظّهر والعصر، ثمّ ¬

(¬1) قال الحافظ في الفتح": وصله الإسماعيلي من طريق يحيى بن بكير، وأبي صالح جميعًا عن الليث.

خطب النّاس، ثمّ راح فوقف على الموقف من عرفة. هذا حديث حسن لتصريح ابن إسحاق بالتحديث. 6 - قال الإمام مسلم في "صحيحه" (ج8 ص170): حدثنا أبوبكر بن أبي شيبة وإسحاق بن إبراهيم جميعًا عن حاتم قال أبوبكر حدثنا حاتم ابن إسماعيل المدني عن جعفر بن محمد عن أبيه قال: دخلنا على جابر بن عبد الله. وذكر الحديث وفيه صفة حجة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وفيه: حتّى أتى عرفة فوجد القبّة قد ضربت له بنمرة، فنزل بها، حتّى إذا زاغت الشّمس أمر بالقصواء فرحلت له، فأتى بطْن الوادي فخطب النّاس -وذكر الخطبة، وبعدها:- فأذّن ثمّ أقام فصلّى الظّهر، ثمّ أقام فصلّى العصر ولم يصلّ بينهما شيئًا. وذكر الحديث. فلو لم يكن في الباب إلا هذه الأحاديث لكانت كافية في جمع التقديم، كيف وقد تقدم عمومات في الفصل الأول. وستأتي أحاديث صريحة إن شاء الله في ذلك. 7 - قال الإمام أحمد بن الحسين البيهقي رحمه الله في "سننه" (ج3 ص162): حدثنا أبوعمرو الأديب حدثنا أبوبكر الإسماعيلي أنبأ جعفر الفريابي حدثنا إسحاق بن راهويه أنبأ شبابة بن سوار عن ليث بن سعد، عن عقيل، عن ابن شهاب، عن أنس بن مالك كان رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم إذا كان في سفر فزالت الشّمس صلّى الظّهر والعصر جميعًا ثمّ ارتحل. قال الحافظ في "التلخيص" (ج2 ص49): وإسناده صحيح قاله النووي.

وفي ذهني أن أبا داود أنكره على إسحاق. وعزاه في "بلوغ المرام" إلى أبي نعيم في "المستخرج" ثم قال في "التلخيص" بعد قوله (في ذهني أنّ أبا داود أنكره على إسحاق): ولكن له متابع رواه الحاكم في "الأربعين" عن أبي العباس محمد بن يعقوب عن محمد بن إسحاق الصغاني عن حسان بن عبد الله، عن المفضل بن فضالة، عن عقيل، عن ابن شهاب، عن أنس أنّ النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم كان إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشّمس أخّر الظّهر إلى وقت العصر، ثمّ نزل فجمع بينهما فإن زاغت الشّمس قبل أن يرتحل صلّى الظّهر والعصر، ثمّ ركب. وهو في "الصحيحين" من هذا الوجه بغير هذا السياق وليس فيهما: (والعصر)، وهي زيادة غريبة صحيحة الإسناد، وقد صححه المنذري من هذا الوجه، والعلائي، وتعجب من الحاكم كونه لم يورده في "المستدرك". وقال في "بلوغ المرام": وللحاكم في "الأربعين" بإسناد صحيح، فذكره، وهذا يدل على جزمه بصحة ما في "الأربعين" للحاكم. وأما في "الفتح" (ج3 ص237) فقد تردد في ثبوتها، فلعله اطلع على سندها بعد ذلك بدليل جزمه في "بلوغ المرام" وفي "التلخيص". ثم قال في "التلخيص": وله طريق رواه الطبراني في "الأوسط". حدثنا محمد بن إبراهيم بن نصر بن شبيب الأصبهاني حدثنا هارون بن عبد الله الحمال حدثنا يعقوب بن محمد الزهري حدثنا محمد بن سعد ثنا ابن عجلان عن عبد الله بن الفضل، عن أنس بن مالك أنّ النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم كان إذا

كان في سفر فزاغت الشّمس قبل أن يرتحل صلّى الظّهر والعصر جميعًا، وإن ارتحل قبل أن تزيغ الشّمس جمع بينهما في أوّل العصر، وكان يفعل ذلك في المغرب والعشاء. وقال: تفرد به يعقوب بن محمد (¬1). 8 - قال الإمام الترمذي رحمه الله (ج1 ص386): حدثنا قتيبة حدثنا الليث بن سعد عن يزيد بن أبي حبيب، عن أبي الطفيل، عن معاذ بن جبل أنّ النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم كان في غزوة تبوك إذا ارتحل قبل زيغ الشّمس، أخّر الظّهر إلى أن يجمعها إلى العصر فيصلّيهما جميعًا، وإذا ارتحل بعد زيغ الشّمس، عجّل العصر إلى الظّهر، وصلّى الظّهر والعصر جميعًا، ثمّ سار، وكان إذا ارتحل قبل المغرب أخّر المغرب حتّى يصلّيها مع العشاء، وإذا ارتحل بعد المغرب عجّل العشاء فصلاها مع المغرب. قال: وفي الباب عن عليّ، وابن عمر، وأنس، وعبد الله بن عمرو، وعائشة، وابن عبّاس، وأسامة بن زيد، وجابر بن عبد الله. قال أبوعيسى: وروى عليّ بن المديني عن أحمد بن حنبل عن قتيبة هذا الحديث، وحديث معاذ حديث حسن غريب تفرد به قتيبة عن الليث، ولا نعرف أحدًا رواه عنه غيره، وحديث الليث عن يزيد بن أبي حبيب عن أبي ¬

(¬1) قال الحافظ الهيثمي في مجمع الزوائد" (ج2 ص160) رجاله موثقون. وأقول: يعقوب بن محمد، قال ابن سعد: جالس العلماء وكان حافظًًا. وقال ابن معين: ما حدث عن الثقات فاكتبوه. وقال أبوزرعة: ليس بشيءٍ يقارب الواقدي. وقال حجاج بن الشاعر: غير ثقةٍ. وقال أبوحاتم: هو على يدي عدل. وقال أحمد: ليس بشيءٍ لا يساوي حديثه شيئًا. إلى آخر ما في الميزان" وأما شيخه محمد بن سعدان، فقال أبوحاتم: شيخٌ، كما في الجرح والتعديل" لابنه.

فائدة

الطفيل عن معاذ حديث غريب. والمعروف عند أهل العلم حديث معاذ من حديث أبي الزبير، عن أبي الطفيل، عن معاذ، أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم جمع في غزوة تبوك بين الظّهر والعصر وبين المغرب والعشاء. رواه قرة بن خالد، وسفيان الثوري، ومالك، وغير واحد عن أبي الزبير المكي. تخريج الحديث: أخرجه أبوداود (ج1 ص278)، وقال: لم يرو هذا إلا قتيبة وحده. وابن حبان (ج3 ص91)، وقال عقبه: سمعت محمد بن إسحاق الثقفي يقول: سمعت قتيبة بن سعيد يقول: عليه علامة الحفاظ، كتبوا عني هذا الحديث أحمد بن حنبل، ويحيى بن معين، والحميدي، وأبوبكر بن أبي شيبة، وأبوخيثمة، حتى عدّ سبعة (¬1). وأخرجه أحمد (ج5 ص241)، والدارقطني (ج1 ص392)، والبيهقي (ج3 ص163) وذكر عقبه ما سنذكره إن شاء الله من كلام البخاري رحمه الله، والطبراني في "الصغير" (ج ص234) وقال: لا يروى هذا الحديث عن معاذ إلا بهذا الإسناد تفرد به قتيبة. فائدة: قال المباركفوري رحمه الله في حديث عبد الله بن عمرو: فلينظر من أخرجه؟ فوجدته في مسند أحمد (ج2 ص181) وص (204)، وفي "مصنف ابن أبي شيبة" (ج2 ص458) من طريق حجاج أيضًا. وقال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (ج2 ص108): فيه الحجاج بن أرطأة وفيه كلام. ¬

(¬1) قال الخطيب في التاريخ" (ج12 ص466): وعندي أن الرجلين اللذين أغفلهما أبوزرعة: عبد الله بن عبد الكريم الرازي، وأبوالحسين مسلم بن الحجاج النيسابوري.

الطاعنون في حديث قتيبة

الطاعنون في حديث قتيبة 1 - تقدم قول الترمذي رحمه الله تعالى: والمعروف عند أهل العلم حديث معاذ من حديث أبي الزبير إلى آخر كلامه رحمه الله. 2 - ذكر الحافظ في "التلخيص" (ج2 ص49) أن أبا داود قال: إنه حديث منكر وليس في جمع التقديم حديث قائم. وأقول: ينظر في صحة هذا عن أبي داود فإن الأحاديث الثابتة في جمعه صلى الله عليه وعلى آله وسلم يوم عرفة في الصحيحين وغيرهما. 3 - قال الحافظ في "التلخيص": وقال أبوسعيد بن يونس: لم يحدثْ بهذا الحديث إلا قتيبة، ويقال: إنه غلط فيه، فغير بعض الأسماء وإن موضع يزيد بن حبيب، أبوالزبير. 4 - الحاكم أبوعبد الله جعله مثالاً للشاذ، فقال رحمه الله بعد ذكره بالسند المتقدم: هذا حديث رواية أئمة ثقات، وهو شاذ الإسناد والمتن لا نعرف له علة نعلله بها، ولو كان الحديث عند الليث عن أبي الزبير عن أبي الطفيل لعللنا به الحديث، ولو كان عند يزيد بن أبي حبيب عن أبي الزبير لعللنا به، فلما لم نجد له العلتين خرج عن أن يكون معلولاً، ثم نظرنا فلم نجدْ ليزيد بن أبي حبيب عن أبي الطفيل روايةً، ولا وجدنا هذا المتن بهذه السياقة عند أحد من أصحاب أبي الطفيل، ولا عند

أحد ممن رواه عن معاذ غير (¬1) أبي الطفيل فقلنا: الحديث شاذ. ثم ذكر نحو ما تقدم عن ابن حبان من أنه كتب هذا الحديث عن قتيبة سبعة وأن علامتهم عليه، ثم قال: قائمة الحديث إنما سمعوه من قتيبة تعجبًا من إسناده ومتنه ثم لم تبلغنا عن واحد منهم أنه ذكر للحديث علة. وقد قرأ علينا أبوعلي الحافظ هذا الباب، وحدثنا به عن أبي عبد الرحمن النسائي وهو إمام عصره عن قتيبة بن سعيد، ولم يذكر أبوعبد الرحمن ولا أبوعلي للحديث علة فنظرنا فإذا الحديث موضوع وقتيبة بن سعيد ثقة مأمون. حدثني أبوالحسن محمد بن موسى بن عمران الفقيه قال: حدثنا محمد ابن إسحاق بن خزيمة قال سمعت صالح بن حفصويه النيسابوري قال أبوبكر وهو صاحب حديث يقول: سمعت محمد بن إسماعيل البخاري يقول: قلت لقتيبة بن سعيد: مع من كتبت عن الليث بن سعد حديث يزيد بن أبي حبيب عن أبي الطفيل؟ فقال: كتبته مع خالد المدائني (¬2). قال البخاري: وكان خالد المدائني يدخل الأحاديث على الشيوخ. 5 - ابن أبي حاتم قال رحمه الله في "العلل" (ج1 ص91): سمعت أبي يقول: كتبت عن قتيبة حديثًا عن الليث بن سعد لم أصبه بمصر عن الليث، عن يزيد بن أبي حبيب، عن أبي الطفيل، عن معاذ عن النّبي ¬

(¬1) في الأصل: عن، وهو تصحيف. (¬2) هو خالد بن القاسم، وترجمته في ميران الإعتدال". قال الأزدي: أجمعوا على تركه.

صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنّه كان في سفر فجمع بين الصّلاتين. وقال أبي: لا أعرفه من حديث يزيد، والذي عندي أنه دخل له حديث في حديث. حدثنا أبوصالح: قال حدثنا الليث عن هشام بن سعد، عن أبي الزبير، عن أبي الطفيل، عن معاذ بن جبل عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بهذا الحديث. 6 - الحافظ أحمد بن علي بن ثابت الخطيب ذكر الحديث بأسانيد إلى قتيبة ثم ذكر كلام البخاري من طريق الحاكم ثم عقّبه بقوله: قلت: لم يرو حديث يزيد بن حبيب عن أبي الطفيل عن الليث غير قتيبة وهو منكر جدًا من حديثه ويرون أن خالدًا المدائني أدخله على الليث وسمعه قتيبة معه فالله أعلم. (ج12 ص467). 7 - الحافظ أبومحمد علي بن أحمد بن حزم رحمه الله قال في "المحلى" (ج3 ص174) بعد ذكره هذا الحديث من طريق الليث بن سعد به: فإن هذا الحديث أردى حديث في الباب لوجوه، أولها: أنه لم يأت هكذا إلا من طريق يزيد بن أبي حبيب عن أبي الطفيل، ولا يعلم أحد من أصحاب الحديث ليزيد سماعًا من أبي الطفيل. والثاني: أن أبا الطفيل (¬1) صاحب راية المختار، وذكر أنه كان يقول بالرجعة. والثالث: أننا روينا عن محمد بن إسماعيل البخاري مؤلف "الصحيح" أنه قال: قلت لقتيبة ... وذكر القصة المتقدمة. ¬

(¬1) أبوالطفيل صحابي، ولم يثبت أنه كان يؤمن بالرجعة، والواجب هو الإمساك عن مساوئ السلف.

8 - الشافعي رحمه الله: قال رحمه الله: ليس الشاذ من الحديث ما يرويه الثقة ولا يرويه غيره، ولكن الشاذ ما يرويه الثقة ويخالفه عمل الناس مثل حديث معاذ في غزوة تبوك في الجمع بين الصلاتين. من "طبقات الشافعية" لأبي عاصم محمد بن أحمد العبادي ص (19). حاصل ما قاله أهل العلم في هذا الحديث: 1 - صحيح عند ابن حبان. 2 - حسن عند الترمذي. 3 - منكر عند الخطيب وأبي داود إن ثبت عنه. 4 - موضوع عند الحاكم.

الجواب عن هذه المطاعن

الجواب عن هذه المطاعن الجواب عن المطاعن الثلاث الأولى هو: أن قتيبة رحمه الله تعالى لم ينفرد به بل قد رواه هشام بن سعد كما سيأتي إن شاء الله. وأما قول أبي سعيد بن يونس: يقال: إن قتيبة غلط فيه إلخ كلامه. فهذا لا يثبت إلا ببرهان. وأما القصة التي ساقها الحاكم والخطيب واعتمد عليها ابن حزم، فإنّها تدور على شيخ الحاكم محمد بن موسى بن عمران. قال الحافظ في "لسان الميزان": وكان له فهم، ولكنه كان مغفلاً، ذكره الحاكم. وصالح بن حفصويه راوي القصة عن البخاري ما وجدت ترجمته، ولا نكتفي بقول الإمام ابن خزيمة: وكان صاحب حديث. فثبوت القصة متوقف على صحة السند إلى البخاري رحمه الله. ويبقى على الحديث ثبوت سماع يزيد بن أبي حبيب من أبي الطفيل، فإنه ممكن لأن أبا الطفيل توفي سنة (100) وولد يزيد بن أبي حبيب سنة (53) لكنه لم يأت في حديث آخر ولم يصرح في هذا الحديث بالسماع، وهو يرسل فينبغي أن نتوقف فى سماعه من أبي الطفيل. وأما قول الحاكم رحمه الله: (فهؤلاء الأئمة ماكتبوه عن قتيبة إلا تعجبًا من سنده ومتنه) فدعوى فإن أئمة الحديث رحمهم الله قد يكتبون الحديث ليتخذوه حجة عند الله، وللتوقف فيه حتى يحصل له عاضد، وللنظر في

مذهب المحدث، والظاهر هنا الأول، ذلك لأنّهم لو علموا أن قتيبة واهم في هذا لراجعوه. كيف ويحيى بن معين قد اختبر شيخه أبا نعيم الفضل بن دكين، والبخاري قد رد على بعض شيوخه، كما في مقدمة "الفتح"، وقد ساق الخطيب بسنده إلى قتيبة أنه قال لأحمد بن محمد: ما رأيت في كتابي من علامات الحمرة فهو علامة أحمد بن حنبل، وما رأيت فيه من الخضرة فهو علامة يحيى بن معين. وأما أبوحاتم رحمه الله فإنه اعتمد على شيئين: أحدهما: أنه لم يجد الحديث في مصر، وإنما حدثه به قتيبة وهذا لا يمنع أن يتفرد قتيبة بحديث عن الليث، والثاني: أنه عللها برواية أبي صالح عن الليث، عن هشام بن سعد. وأبوصالح هو عبد الله بن صالح كاتب الليث، والكلام فيه معروف، وهشام هو ابن سعد مختلف فيه والراجح ضعفه إلا إذا روى عن زيد بن أسلم فهذه الرواية لا تصلح أن تكون معلة لتلك الرواية. هذا والجواب عن بقية المطاعن تؤخذ مما تقدم، وعلى كل فليس الاعتماد في المسألة على حديث قتيبة ولكن على الأحاديث المتقدمة. وبعد: فقد ترجح لي ضعف حديث قتيبة لإنكار كبار المحدثين على قتيبة وتوهيمه، ويغني عنه ما تقدم أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم جمع جمْع تقديم بعرفة، ولأدلة أخر. والحمد لله رب العالمين.

متابعات وشواهد

متابعات وشواهد قال الإمام أبوداود رحمه الله في "سننه" (ج1 ص 27): حدثنا يزيد بن خالد بن يزيد بن عبد الله بن موهب الرملي حدثنا المفضل بن فضالة والليث ابن سعد عن هشام بن سعد، عن أبي الزبير، عن أبي الطفيل عن معاذ بن جبل أنّ رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم كان في غزوة تبوك إذا زاغت الشّمس قبل أن يرتحل جمع بين الظّهر والعصر، وإن يرتحل قبل أن تزيغ الشّمس أخّر الظّهر حتّى ينْزل للعصر وفي المغرب مثل ذلك إن غابت الشّمس قبل أن يرتحل جمع بين المغرب والعشاء، وإن يرتحل قبل أن تغيب الشّمس أخّر المغرب حتّى ينْزل للعشاء ثمّ جمع بينهما. تخريج الحديث: أخرجه الدارقطني (ج1 ص362)، والبيهقي (ج3 ص 162) وأبونعيم في "الحلية" (ج8 ص322). والحديث في سنده هشام بن سعد، وهو ضعيف، وقد خالفه الحفاظ من أصحاب أبي الزبير كمالك والثوري، وقرة بن خالد وغيرهم فلم يذكروا في روايتهم جمع التقديم قاله الحافظ في "الفتح". وأما قول الحافظ في "التلخيص": فقد خالفه أوثق الناس في أبي الزبير وهو الليث بن سعد، فينظر فإنه وإن خالفه في المتن من طريق أخرى فقد

روى عنه هذه الطريق كما عند أبي داود. هذا وفي الباب جملة أحاديث كما في "التلخيص"، و"زاد المعاد" (ج1 ص163) وليس لدي وقت لذكرها بأسانيدها، ولكني أعرّج عليها مع بيان ما يظهر لي فيها: 1 - ما رواه أحمد والدارقطني والبيهقي من حديث ابن عباس وفيه حسين ابن عبد الله الهاشمي ضعيف جدًا، وقد اتّهم بالزندقة كما في "ميزان الاعتدال"، وقد اختلف عليه فيه. 2 - كذلك ما رواه يحيى بن عبد الحميد الحمّاني في "مسنده"، عن أبي خالد الأحمر، عن الحجاج، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس. ويحيى بن عبد الحميد الحمّاني حافظ منكر الحديث، وقد وثّقه ابن معين وغيره. وقال أحمد: كان يكذب جهارًا. وقال النسائي: ضعيف (¬1). وحجاج هو ابن أرطأة ضعيف. والحكم هو ابن عتيبة، لم يسمع من مقسم إلا خمسة أحاديث كما في "تهذيب التهذيب" ليس هذا منها. وذكره ابن أبي حاتم في "العلل" (ج1 ص183) وقال: قال أبوزرعة: هو خطأ إنما هو أبوخالد عن ابن عجلان، عن الحسين بن عبد الله، عن عكرمة، عن ابن عباس. 3 - وروى إسماعيل القاضي في "الأحكام" عن إسماعيل بن أبي أويس، عن أخيه، عن سليمان بن بلال، عن هشام بن عروة، عن كريب، عن ابن ¬

(¬1) كذا في المغني" للحافظ الذهبي.

الجمع بين الصلاتين

عباس نحوه. وهذا أمثلها وإن كان قد تكلّم في إسماعيل بن أبي أويس. 4 - عبد الله بن أحمد كما في "زوائد المسند" (ج1 ص136): قال عبد الله: حدثني أبوبكر بن أبي شيبة حدثنا أبوأسامة عن عبد الله بن محمد بن عمر ابن علي بن أبي طالب، عن أبيه، عن جده، أن عليًا رضي الله عنه كان يسير حتى إذا غربت الشمس وأظلم، نزل فصلى المغرب، ثم العشاء على أثرها، ثم يقول: هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يصنع. الحديث أخرجه أبوبكر بن أبي شيبة (ج2 ص458). الكلام على بعض رجال السند: عبد الله بن محمد بن عمر: قال الحافظ في "التقريب": مقبول من السادسة. وقال الحافظ الذهبي في "الميزان": قال ابن المديني: هو وسط. وقال غيره: صالح الحديث. وقال ابن سعد: يلقب دافن. وقال الحافظ في ترجمة والده محمد بن عمر بن علي بن أبي طالب: صدوق من السادسة، وروايته عن جده مرسلة. وقال في ترجمة عمر بن علي: ثقة. فهذا الحديث أقل أحواله أن يكون حسنًا لغيره. وبهذا يتضح ثبوت الأحاديث في جمع التقديم. هذا وأما ما يفعله بعض الناس ممن لا يبالي بدينه من الجمع بين الصلاتين في الحضر من أجل القات، إنما يفعله من لا يبالي بدينه فإن الله

عز وجل يقول: {إنّ الصّلاة كانت على المؤمنين كتابًا موقوتًا} (¬1). وفي "الصحيحين" من حديث ابن مسعود رضي الله عنه: أنّ النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم سئل أيّ الأعمال أفضل؟ قال: ((الصّلاة لوقتها)). وقد روى الإمام أحمد، والنسائي، والترمذي، عن جابر رضي الله عنه أنّ النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم جاءه جبريل فقال: قم فصلّه. فصلّى الظّهر حين زالت الشّمس، ثمّ جاءه العصر، فقال: قم فصلّه. فصلّى العصر حين صار ظلّ كلّ شيء مثله، ثمّ جاءه المغرب فقال: قم فصلّه. فصلّى المغرب حين وجبت الشّمس، ثمّ جاءه العشاء فقال: قم فصلّه. فصلّى العشاء حين غاب الشّفق، ثمّ جاءه الفجر فقال: قم فصلّه. فصلّى حين برق الفجر، أو قال: حين سطع الفجر، ثمّ جاءه من الغد للظّهر فقال: قم فصلّه. فصلّى الظّهر حين صار ظلّ كلّ شيء مثله، ثمّ جاءه للعصر فقال: قم فصلّه، فصلّى العصر حين صار ظلّ كلّ شيء مثليه، ثمّ جاءه للمغرب المغرب وقتًا واحدًا لم يزل عنه، ثمّ جاءه العشاء حين ذهب نصف اللّيل، أو قال: ثلث اللّيل فصلّى العشاء، ثمّ جاءه حين أسفر جدًّا، فقال: قم فصلّه. فصلّى الفجر. وقال الترمذي: إنّ البخاري قال: إنه أصح شيء في الباب. "نيل الأوطار". وروى الإمام أحمد، ومسلم، وأبوداود، والنسائي عن أبي موسى، عن النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: وأتاه سائل يسأله عن مواقيت الصّلاة، فلم يردّ عليه شيئًا، وأمر بلالاً فأقام الفجر حين انشقّ الفجر، والنّاس لا يكاد يعرف بعضهم ¬

(¬1) سورة النساء، الآية: 103.

بعضًا، ثمّ أمره فأقام الظّهر حين زالت الشّمس، والقائل يقول: انتصف النّهار أو لم وكان أعلم منهم، ثمّ أمره فأقام العصر والشّمس مرتفعة، ثمّ أمره فأقام المغرب حين وقبت الشّمس، ثمّ أمره فأقام العشاء حين غاب الشّفق، ثمّ أخّر الفجر من الغد حتّى انصرف منها والقائل يقول: طلعت الشّمس أو كادت، وأخّر الظّهر حتّى كان قريبًا من وقت العصر بالأمس، ثمّ أخّر العصر فانصرف منها، والقائل يقول: قد احمرّت الشّمس، ثمّ أخّر المغرب حتّى كان عند سقوط الشّفق، وفي لفظ: فصلّى المغرب قبل أن يغيب الشّفق، أخّر العشاء حتّى كان ثلث اللّيل الأوّل، ثمّ أصبح فدعا السّائل فقال: ((الوقت فيما بين هذين)). قال صاحب "منتقى الأخبار": وروى الجماعة إلا البخاري نحوه من حديث بريدة الأسلمي. قال الشوكاني رحمه الله: حديث بريدة صححه الترمذي ولفظه: أنّ رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم عن وقت الصّلاة، فقال له: ((صلّ معنا هذين الوقتين)) فلمّا زالت الشّمس أمر بلالاً فأذّن، ثمّ أمره فأقام الظّهر، ثمّ أمره فأقام العصر والشّمس مرتفعة بيضاء نقيّة، ثمّ أمره فأقام المغرب حين غابت الشّمس، ثمّ أمره فأقام العشاء حين غاب الشّفق، ثمّ أمره فأقام الفجر حين طلع الفجر، فلمّا أن كان اليوم الثّاني أمره فأبرد بالظّهر، أو أنعم أن يبرد بها، وصلّى العصر والشّمس مرتفعة أخّرها فوق الّذي كان، وصلّى المغرب قبل أن يغيب الشّفق، وصلّى العشاء بعدما ذهب ثلث اللّيل، وصلّى الفجر فأسفر بها، ثمّ قال: ((أين السّائل عن وقت الصّلاة))؟ فقال الرّجل: أنا يا رسول الله، قال: ((وقت صلاتكم بين ما رأيتم)).

فهذه الأحاديث تدل على أن الله جعل لكل صلاة وقتًا. وقد قال محمد بن إسماعيل الأمير الصنعاني: وأمّا الجمع في الحضر فقال الشارح (¬1) بعد ذكر أدلة القائلين بجوازه فيه: إنه ذهب أكثر الأئمة إلى أنه لا يجوز الجمع في الحضر لما تقدم من الأحاديث المبيّنة لأوقات الصلاة، ولما تواتر من محافظة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم على أوقاتها، حتى قال ابن مسعود: ما رأيت النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم صلى صلاة لغير ميقاتها، إلا صلاتين جمع بين المغرب والعشاء بجمع، وصلى الفجر يومئذ قبل ميقاتها. وأما حديث ابن عباس عند مسلم: أنّه جمع (¬2) بين الظّهر والعصر، والمغرب والعشاء بالمدينة من غير خوف ولا مطر. قيل لابن عبّاس: ما أراد إلى ذلك؟ قال: أراد ألاّ يحرج أمّته. فلا يصح الاحتجاج به لأنه غير معين لجمع التقديم والتأخير كما هو ظاهر رواية مسلم، وتعيّن واحد منهما تحكّم فوجب العدول عنه إلى ما هو واجب من البقاء على العموم في حديث الأوقات للمعذور وغيره، وتخصيص المسافر لثبوت المخصّص وهذا هو الجواب الحاسم. وأما ما يروى من الآثار عن الصحابة والتابعين بغير حجة إذ للاجتهاد في ذلك مسرح، وقد أوّل بعضهم حديث ابن عباس بالجمع الصوري واستحسنه القرطبي ورجحه، وجزم به ابن الماجشون، والطحاوي، وقوّاه ¬

(¬1) هو القاضي حسين المغربي صاحب (لاعة)، أحد علماء اليمن شرح بلوغ المرام" واسم شرحه البدر التمام". (¬2) يعني النبي.

ابن سيد الناس لما أخرجه الشيخان عن عمرو بن دينار -راوي الحديث- عن أبي الشعثاء قال: قلت: يا أبا الشعثاء أظنه أخر الظهر وعجل العصر، وأخر المغرب وعجل العشاء. قال: وأنا أظنه. قال ابن سيد الناس: وراوي الحديث أدرى هو بالمراد منه من غيره وإن لم يجزم أبوالشعثاء بذلك. وأقول (¬1): إنما هو ظن من الراوي، والذى يقال فيه: (أدرى بما روى) إنما يجري في تفسيره للفظ مثلاً. على أن في هذه الدعوى نظر فإن قول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((فربّ حامل فقه إلى من هو أفقه منه)). يرد عمومها، نعم يتعين هذا التأويل، فإنه صرح به النسائي في أصل حديث ابن عباس ولفظه: صلّيت مع النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم بالمدينة ثمانيًا جمعًا، وسبْعًا جمعًا، أخّر الظّهْر وعجّل العصْر، وأخّر المغرب وعجّل العشاء. والعجب من النووي كيف ضعف هذا التأويل وغفل (¬2) عن متن الحديث المروي، والمطلق في رواية يحمل على المقيّد إذا كانا في قصة واحدة، كما في هذا. والقول بأن قوله: (أراد ألاّ يحرج أمّته)، يضعّف هذا الجمع الصوري لوجود الحرج فيه. مدفوع بأن ذلك أيسر من التوقيت، إذ يكفي للصلاتين تأهب واحد، وقصد واحد إلى المسجد، ووضوء واحد بحسب الأغلب، بخلاف الوقتين فالحرج في هذا الجمع لا شك أخف، وأما قياس ¬

(¬1) الذي يظهر أن القائل: (وأقول) هو الشارح. (¬2) الاستدلال برواية النسائي متوقفٌ على جمع الطرق، إذ الرواية في الصحيح" ليس فها الجمع الصوري مرفوعًا، والمَخرَجُ واحد، فيُخشى أن يكون أدرجه بعضهم والله أعلم. ولو قيل إن النبي فعله في النادر فلا بأس بفعله في النادر لكان أقرب. والله أعلم

الحاضر على المسافر كما قيل فوهم، لأن العلة في الأصل هي السفر، وهي غير موجود في الفرع، وإلا لزم مثله في القصر والقطر. قال الصنعاني رحمه الله: قلت: وهو كلام رصين وقد كنا ذكرنا ما يلاقيه في رسالتنا "اليواقيت في المواقيت" قبل الوقوف على كلام الشارح، رحمه الله وجزاه خيرًا، ثم قال -أي الشارح-: واعلم أن جمع التقديم فيه خطر عظيم، وهو كمن صلى الصلاة قبل دخول وقتها، فيكون حال الفاعل كما قال الله: {وهمْ يحسبون أنّهم يحْسنون صنعًا} (¬1) الآية. من ابتدائها وهذه الصلاة المقدمة لا دلالة عليها بمنطوق ولا مفهوم ولا عموم ولا خصوص. وذكر العلامة الشوكاني في "نيل الأوطار" نحو ذلك. ولكن الاستدلال برواية النسائي التي ذكرت الجمع الصوري متوقف على جمع الطرق، إذ الرواية في "الصحيح" ليس فها الجمع الصوري مرفوعًا، والمخرج واحد، فيخشى أن يكون أدرجه بعضهم والله أعلم. فالراجح أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فعله في النادر، وعليه فلا بأس بفعله في النادر لا كما يفعل أصحاب القات. فجدير بأسارى القات المضيعين للصلوات الذين يخشى أن يصدق على كثير منهم قوله تعالى: {فخلف من بعدهم خلْف أضاعوا الصّلاة واتّبعوا الشّهوات فسوف يلْقون غيًّا} (¬2). وقوله تعالى: {فويل للمصلّين الّذين ¬

(¬1) سورة الكهف، الآية: 104. (¬2) سورة مريم، الآية: 59.

هم عن صلاتهم ساهون} (¬1). جدير بهم أن يستفيدوا من كلام هؤلاء العلماء اليمنيين وأن يصلّوا كل صلاة في وقتها. وإن تعجب فعجب أن ترى من أهل العلم من يدافع عن هذه الشجرة الأثيمة التى ألهت كثيرًا من المجتمع اليمني عن أداء الصلوات في أوقاتها، وأضرّت باقتصادهم وبعقولهم، فكم من مجنون يصل إلى الأطباء ويقول الطبيب: سببه القات. نعم، وضيّعت أوقاتهم، فنصف الوقت للقات، تجدهم في مجالسهم يقضمونه كما تقضم المعزى المرعى، ولقد أحسن من قال: إنّما القات حشيش أخضر ... فإذا ما أكلته أمّة ... ليس يحتاج إليه البشر فاعذروهم إنّما هم بقر ولأخينا في الله عائض مسمار رسالة في بيان أضرار القات أنصح بقراءتها. ¬

(¬1) سورة الماعون، الآية: 3 - 4.

الصلاتان اللتان تجمعان لهما أذان واحد ولكل واحد منهما إقامة

الصلاتان اللتان تجمعان لهما أذان واحد ولكل واحد منهما إقامة قال الإمام مسلم رحمه الله (ج8 ص170): حدثنا أبوبكر بن أبي شيبة وإسحاق بن إبراهيم جميعًا عن حاتم قال أبوبكر حدثنا حاتم بن إسماعيل المدني عن جعفر بن محمد، عن أبيه قال: دخلنا على جابر بن عبد الله، ثم ذكر لهم جابر بن عبد الله حديثه الطويل في صفة حجة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وفيه في عرفة: ثمّ أذّن، ثمّ أقام، فصلّى الظّهر، ثمّ أقام فصلّى العصر، ولم يصلّ بينهما شيئًا. وفيه: حتّى أتى المزدلفة فصلّى بها المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين ولم يسبّح بينهما شيئًا. واعلم أنّها قد اختلفت الأحاديث في الأذان والإقامة للصلاتين اللتين تجمعان. قال ابن القيم رحمه الله في "تهذيب السنن" (ج2 ص400): وذهب سفيان الثوري وجماعة إلى أنه يصليهما بإقامة واحدة لهما، كما جاء في بعض روايات حديث ابن عمر. قال ابن عبد البر: وهو محفوظ من روايات الثقات: أنّ النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم صلّى المغرب والعشاء بجمع، بإقامة واحدة. قلت: وقد ثبت ذلك عن ابن عباس أنّ النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم صلّى الصّلاتين بالمزدلفة بإقامة واحدة.

وقال مالك: يصليهما بأذانين وإقامتين، وهو مذهب ابن مسعود. وفي "صحيح البخاري" من حديث ابن مسعود أنه صلى الصلاتين كل واحدة وحدها بأذان وإقامة. قال ابن المنذر: روي هذا عن عمر رضي الله عنه. قال ابن عبد البر: ولا أعلم في ذلك حديثًا مرفوعًا إلى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بوجه من الوجوه، ولكنه روي عن عمر بن الخطاب أنه صلاهما بالمزدلفة كذلك. ومذهب إسحاق وسالم والقاسم: أنه يصليهما بإقامتين فقط. وحجّتهم: حديث ابن عمر المتقدم، وهو رواية عن أحمد. ومذهب أحمد، والشافعي في الأصح عنه، وأبي ثور، وعبد الملك الماجشون، والطحاوي أنه يصليهما بأذان واحد وإقامتين وحجتهم: حديث جابر الطويل. وقد تكلّف قوم الجمع بين هذه الأحاديث بضروب من التكلف. وعن ابن عمر في ذلك ثلاث روايات. إحداهن: أنه جمع بينهما بإقامتين فقط. والثانية: أنه جمع بينهما بإقامة واحدة لهما. وقد ذكر أبوداود الروايتين. والثالثة: أنه صلاهما بلا أذان ولا إقامة، ذكر ذلك البغوي: حدثنا الحجاج بن المنهال حدثنا حماد بن سلمة، عن أنس بن سيرين قال: وقفت مع ابن عمر بعرفة وكان يكثر أن يقول: لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كلّ شيء قدير. فلمّا أفضْنا من عرفة دخل الشعب فتوضأ ثم جاء إلى جمع فعرض راحلته ثم قال: الصّلاة. فصلّى المغرب ولم يؤذّنْ ولم يقمْ، ثم سلّم، ثم قال: الصّلاة. ثم صلى العشاء ولم

يؤذّن ولم يقمْ. والصحيح في ذلك كله: الأخذ بحديث جابر، وهو الجمع بينهما بأذان وإقامتين لوجهين اثنين: أحدهما: أن الأحاديث سواه مضطربة مختلفة، فهذا حديث ابن عمر في غاية الاضطراب كما تقدم، فروي عن ابن عمر من فعله: الجمع بينهما بلا أذان ولا إقامة، وروي عنه الجمع بينهما بإقامة واحدة، وروي عنه الجمع بينهما بأذان واحد وإقامة واحدة، وروي عنه مسندًا إلى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: الجمع بينهما بإقامة واحدة. وروي عنه مرفوعًا: الجمع بينهما بإقامتين، وعنه أيضًا مرفوعًا الجمع بينهما بأذان واحد وإقامة واحدة لهما، وعنه مرفوعا الجمع بينهما دون ذكر أذان ولا إقامة، وهذه الروايات صحيحة عنه فيسقط الأخذ بها لاختلافها واضطرابها. وأما حديث ابن مسعود فإنه موقوف عليه من فعله. وأما حديث ابن عباس فغايته أن يكون شهادة على نفي الأذان والإقامة الثابتين، ومن أثبتهما فمعه زيادة علم وقد شهد على أمر ثابت عاينه وسمعه. وأما حديث أسامة فليس فيه الإتيان بعدد الإقامة لهما، وسكت عن الأذان وليس سكوته عنه مقدمًا على حديث من أثبته سماعًا صريحًا، بل لو نفاه جملة لقدّم عليه حديث من أثبته لتضمنه زيادة علم خفيت على النافي. الوجه الثاني: أنه قد صح من حديث جابر في جمعه صلى الله عليه وعلى آله وسلم بعرفة: أنه جمع بينهما بأذان وإقامتين، ولم يأت في حديث ثابت قط خلافه، والجمع بين الصلاتين بمزدلفة كالجمع بينهما بعرفة، لا يفترقان إلا في التقديم

والتأخير، فلو فرضنا تدافع أحاديث الجمع بمزدلفة جملةً لأخذنا حكم الجمع من الجمع في عرفة.

مسائل وفوائد يحتاجها المسافر

مسائل وفوائد يحتاجها المسافر الأولى: كثيرًا ما يسأل عن صلاة المسافر خلف المقيم هل يقصر أو يتم؟ فالجواب: أنه يتابع الإمام، لما رواه الإمام أحمد في "مسنده" بسند حسن عن موسى بن سلمة قال: كنّا مع ابن عبّاس بمكّة، فقلت: إنّا إذا كنّا معكم صلّينا أربعًا، وإذا رجعْنا إلى رحالنا صلّينا ركعتين، قال: تلك سنّة أبي القاسم صلى الله عليه وعلى آله وسلم. وأصل الحديث في "صحيح مسلم". الثانية: قصر الرباعية إلى ركعتين واجب. قال ابن القيم رحمه الله في "زاد المعاد" (ج1 ص158): فصل في صلاته صلى الله عليه وعلى آله وسلم في السفر وكان يقصر الرباعية فيصليها ركعتين من حين خرج مسافرًا إلى أن يرجع إلى المدينة، ولم يثبت عنه أنه أتم الرباعية في سفره البتة، وأما حديث عائشة: أنّ النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم كان يقصر في السّفر ويتمّ، ويفطر ويصوم. فلا يصح. وسمعت شيخ الاسلام ابن تيمية يقول: هو كذب على رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم. انتهى. وقد روي: (كان يقصر وتتمّ) الأول بالياء، والثاني بالتاء المثناة من فوق،

وكذا (يفطر وتصوم)، أي: تأخذ هي بالعزيمة في الموضعين، قال شيخنا ابن تيمية: وهذا باطل ما كانت أم المؤمنين لتخالف رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وجميع أصحابه فتصلي خلاف صلاتهم، كيف والصحيح عنها: (أنّ الله فرض الصّلاة ركعتين ركعتين، فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم إلى المدينة زيد في صلاة الحضر وأقرّت صلاة السفر). فكيف يظن بها مع ذلك أن تصلي خلاف صلاة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم والمسلمين معه. قلت: وقد أتمت عائشة بعد موت النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال ابن عباس وغيره إنّها تأولت كما تأول عثمان، وإن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم كان يقصر دائمًا، فركّب بعض الرواة من الحديثين حديثًا وقال: (فكان رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقصر وتتمّ هي). فغلط بعض الرواة فقال: (كان يقصر ويتمّ)، أي: هو. والتأويل الذي تأولته قد اختلف فيه فقيل: ظنّت أن القصر مشروط بالخوف في السفر، فإذا زال الخوف زال سبب القصر، وهذا التأويل غير صحيح فإن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم سافر آمنًا وكان يقصر الصلاة. والآية قد أشكلت على عمر رضي الله عنه وعلى غيره، فسأل عنها رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فأجابه بالشفاء، وأن هذا صدقة من الله وشرع للأمة، وكان هذا بيان أن حكم المفهوم غير مراد، وأن الجناح مرتفع في قصر الصلاة عن الآمن والخائف، وغايته أنّه نوع تخصيص للمفهوم، أو رفع له، وقد يقال: إن الآية اقتضت قصرًا يتناول قصر الأركان بالتخفيف، وقصر العدد بنقصان ركعتين، وقيد ذلك بأمرين: الضرب بالأرض والخوف، فإذا وجد الأمران أبيح القصران فيصلون صلاة الخوف مقصورةً عددها وأركانها، وإن انتفى الأمران فكانوا آمنين مقيمين انتفى القصران فيصلون صلاة تامة كاملة، وإن وجد أحد

السببين ترتب عليه قصره وحده، فإذا وجد الخوف والإقامة قصرت الأركان واستوفى العدد، وهذا نوع قصر، وليس بالقصر المطلق في الآية، فإنْ وجد السفر والأمن، قصر العدد واستوفى الأركان، وسميت صلاة أمن، وهذا نوع قصر وليس بالقصر المطلق، وقد تسمى هذه الصلاة مقصورةً باعتبار نقصان العدد، وقد تسمى تامةً باعتبار إتمام أركانها، وأنّها لم تدخل في قصر الآية، والأول: اصطلاح كثير من الفقهاء المتأخرين، والثاني: يدلّ عليه كلام الصحابة كعائشة وابن عباس وغيرهما. قالت عائشة: فرضت الصّلاة ركعتين ركعتين فلمّا هاجر رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم إلى المدينة زيد في صلاة الحضر، وأقرّتْ صلاة السفر. فهذا يدل على أن صلاة السفر عندها غير مقصورة من أربع، وإنما هي مفروضة كذلك، وأنّ فرض المسافر ركعتان. وقال ابن عباس: فرض الله الصلاة على لسان نبيكم في الحضر أربعًا، وفي السفر ركعتين وفي الخوف ركعة. متفق على حديث عائشة، وانفرد مسلم بحديث ابن عباس. وقال عمر رضي الله عنه: صلاة السفر ركعتان، والجمعة ركعتان، والعيد ركعتان، تمام غير قصر على لسان محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم وقد خاب من افترى. وهذا ثابت عن عمر رضى الله عنه (¬1) وهو الذي سأل النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ما بالنا ¬

(¬1) بل قال الدارقطنى في العلل" وقد سئل عنه فقال: يرويه زبيد بن الحارث الأيامي عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، واختلف عنه فرواه يزيد بن زياد بن أبي الجعد عن زبيد عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن كعب بن عجرة عن عمر. وخالفه سفيان الثوري، وقد اختلف= = عنه، فقال معاذ بن معاذ عن الثوري عن زبيد عن ابن أبي ليلى عن أبيه عن عمر. وخالفهما أصحاب الثوري فرواه زايدة، وأبونعيم، ووكيع، وعبد الرحمن بن مهدي، وعبد الله ابن الوليد العدني، ومهران بن أبي عمر، وأبوحمزة السكري، وغيرهم عن الثوري عن زبيد عن ابن أبي ليلى عن عمر لم يذكروا بينهما أحدًا وقال يزيد بن هارون: عن الثوري عن زبيد عن ابن أبي ليلى سمعت عمر ولم يتابع يزيد بن هارون على قوله هذا ورواه شعبة، وعمرو بن قيس الملائي، وشريك بن عبد الله، ومحمد بن طلحة، وقيس بن الربيع، وأبووكيع بن مليح، وعلي بن صالح بن حيي، وسعيد بن سماك بن حرب، وعبد الله بن ميمون الطهوي، وياسين الزيات، عن زبيد عن ابن أبي ليلى عن عمر. وقال يزيد بن أبي حكيم عن ياسين الزيات عن الأعمش عن زيد بن وهب عن عمر، والمحفوظ عن ياسين عن زبيد عن ابن أبي ليلى عن عمر، وهو الصواب إن شاء الله تعالى. قال أبوعبد الرحمن: فعلى هذا يكون الحديث ضعيفًا لأنه منقطع.

نقصر وقد أمنّا؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((صدقة تصدّق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته)). ولا تناقض بين حديثيه فإن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لما أجابه بأن هذه صدقة الله عليكم ودينه اليسر السمح. علم عمر أنه ليس المراد من الآية قصر العدد كما فهمه كثير من الناس فقال: صلاة السفر ركعتان تمام غير قصر. وعلى هذا فلا دلالة في الآية على أن قصر العدد مباح منفيّ عنه الجناح، فإن شاء المصلي فعله، وإن شاء أتم. وكان رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يواظب في أسفاره على ركعتين ركعتين، ولم يربّعْ قط إلا شيئًا فعله في بعض صلاة الخوف كما سنذكره هناك ونبين ما فيه إن شاء الله تعالى. وقال أنس: خرجنا مع النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم من المدينة إلى مكّة، فكان يصلّي

الثالثة

ركعتين ركعتين، حتّى رجعنا إلى المدينة. متفق عليه. ولما بلغ عبد الله بن مسعود أن عثمان بن عفان صلى بمنىً أربع ركعات قال: إنّا لله وإنّا إليه راجعون، صلّيت مع رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم بمنًى ركعتين، ومع أبي بكر بمنًى ركعتين، ومع عمر بن الخطّاب ركعتين، فليْت حظّي منْ أرْبع ركْعات ركعتان متقبّلتان. متفق عليه. ولم يكن ابن مسعود ليسترجع من فعل عثمان أحد الجائزين المخير بينهما، بل الأولى على قول، وإنما استرجع لما شاهده من مداومة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وخلفائه على صلاة ركعتين في السفر. الفائدة الثالثة: قال ابن القيم رحمه الله في "زاد المعاد" (ج1 ص161): وكان من هديه صلى الله عليه وعلى آله وسلم الاقتصار على الفرض، ولم يحفظ عنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه صلى سنة الصلاة قبلها ولا بعدها، إلا ما كان من الوتر وسنة الفجر، فإنه لم يكن ليدعها حضرًا ولا سفرًا. قال ابن عمر: وقد سئل عن ذلك فقال: صحبت النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فلم أره يسبح في السفر، وقال الله عز وجل: {لقد كان لكم في رسول الله أسْوة حسنة (¬1)} ومراده بالتسبيح السنة الراتبة. وإلا فقد صح عنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه كان يسبح على ظهر راحلته حيث كان وجهه. وفي "الصحيحين" عن ابن عمر قال: كان رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يصلّي في السّفر على راحلته حيث توجّهت به، يومئ إيماءً صلاة اللّيل إلاّ الفرائض، ويوتر على راحلته. ¬

(¬1) سورة الأحزاب، الآية: 21.

قال الشافعي رحمه الله: وثبت عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه كان يتنفّل ليلاً وهو يقصر. وفي "الصحيحين" عن عامر بن ربيعة: أنّه رأى النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم يصلّي السّبْحة باللّيل في السّفر على ظهْر راحلته. فهذا قيام الليل. وسئل الإمام أحمد رحمه الله عن التطوع في السفر؟ فقال: أرجو أن لا يكون بالتطوع في السفر بأس. وروي عن الحسن قال: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يسافرون فيتطوعون قبل المكتوبة وبعدها. وروي هذا عن عمر، وعلي، وابن مسعود، وجابر، وأنس، وابن عباس، وأبي ذر. وأما ابن عمر فكان لا يتطوع قبل الفريضة ولا بعدها، إلاّ من جوف الليل مع الوتر. وهذا هو الظاهر من هدي النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه كان لا يصلي قبل الفريضة المقصورة ولا بعدها شيئًا، ولكن لم يكن يمنع من التطوع قبلها ولا بعدها، فهو كالتطوع المطلق لا أنه سنة راتبة للصلاة، كسنة صلاة الإقامة. ويؤيد هذا أن الرباعية قد خففت إلى ركعتين تخفيفًا على المسافر فكيف يجعل لها سنة راتبة يحافظ عليها، وقد خفف الفرض إلى ركعتين، فلولا قصد التخفيف على المسافر، وإلا كان الإتمام أولى به. ولهذا قال عبد الله بن عمر: لو كنْت مسبحًا لأتممت. وقد ثبت عنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه صلى يوم الفتح ثماني ركعات ضحًى وهو إذ ذاك مسافر. وأما مارواه أبوداود في "السنن" من حديث الليث، عن صفوان بن سليم، عن أبي بسرة الغفاري، عن البراء بن عازب قال: سافرت مع رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ثمانية عشر سفرًا، فلم أره ترك ركعتين عند زيغ الشّمس

الرابعة

قبل الظّهر. قال الترمذي: هذا حديث غريب. قال: وسألت محمدًا عنه فلم يعرفه إلا من حديث الليث بن سعد، ولم يعرف اسم أبي بسْرة، ورآه حسنًا. وبسرة: بالباء الموحدة المضمومة وسكون السين المهملة. وأما حديث عائشة رضي الله عنها أن النبى صلى الله عليه وعلى آله وسلم كان لا يدع أربعًا قبل الظهر وركعتين بعدها. فرواه البخاري في "صحيحه"، ولكنه ليس بصريح لفعله ذلك في السفر، ولعلها أخبرتْ عن أكثر أحواله وهو الإقامة، والرجال أعلم بسفره من النساء، وقد أخبر ابن عمر أنه لم يزد على ركعتين، ولم يكن ابن عمر يصلي قبلها ولا بعدها شيئًا. والله أعلم. الفائدة الرابعة: قال ابن القيم رحمه الله في "زاد المعاد" (ج1 ص162): فصل في صلاة التطوع على الراحلة، وكان من هديه صلى الله عليه وعلى آله وسلم صلاة التطوع على راحلته حيث توجهت به، وكان يومئ إيماءً برأسه في ركوعه، وسجوده أخفض من ركوعه. وروى أحمد وأبوداود عنه من حديث أنس أنه كان يستقبل بناقته القبلة عند تكبيرة الإفتتاح، ثم يصلي سائر الصلاة حيث توجهت به. وفي هذا الحديث نظر، وسائر من وصف صلاته صلى الله عليه وعلى آله وسلم على راحلته أطلقوا أنه كان يصلي عليها قبل أي جهة توجهت به، ولم يستثنوا من ذلك تكبيرة الإحرام ولا غيرها، كعامر بن ربيعة، وعبد الله بن عمر، وجابر بن عبد الله، وأحاديثهم أصح من حديث أنس هذا، والله أعلم. وصلى على الراحلة وعلى الحمار إن صح عنه. وقد رواه مسلم في

الخامسة

"صحيحه (¬1) " من حديث ابن عمر، وصلى الفرض بهم على الرواحل لأجل المطر والطين إن صح الخبر بذلك. وقد رواه أحمد والترمذي والنسائي أنه عليه الصلاة والسلام انتهى إلى مضيق هو وأصحابه وهو على راحلته، والسماء من فوقهم، والبلة من أسفل منهم، فحضرت الصلاة، فأمر المؤذن فأذن وأقام، ثم تقدم رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم على راحلته فصلى بهم يومئ إيماءً، فجعل السجود أخفض من الركوع. قال الترمذي: حديث غريب تفرد به عمر بن الرماح، وثبت ذلك عن أنس من فعله. الفائدة الخامسة: المسافر المستمر في السفر كالسائق، حكمه حكم المسافر غير المستمر، لعموم الأدلة، فيجب عليه أن يقصر، وله أن يفطر في رمضان كما يقول الله سبحانه وتعالى: {فمن كان منكم مريضًا أو على سفر فعدّة من أيّام أخر (¬2)}. ¬

(¬1) الحديث معل: قال الدارقطني في التتبع" ص (443) وأخرج مسلم حديث عمرو بن يحيى عن أبي الحباب عن ابن عمر: صلى على حماره. وخالفه أبوبكر ابن عمر عن أبي الحباب فقال: على البعير. وكذلك قال جابر وغيره عن النبي وأخرجهما مسلم. ولم يخرج البخاري حديث عمرو بن يحيى وأخرج الآخر، ومن روى أن النبي صلى على حماره فهو وهم. والصواب من فعل أنسٍ. والله أعلم. (¬2) سورة البقرة، الآية: 184.

حد السفر الذي يجب به القصر ويباح به الإفطار

حد السفر الذي يجب به القصر ويباح به الإفطار قال شيخ الإسلام رحمه الله كما في (ج24 ص38) من "مجموع الفتاوى": وهذا مما اضطرب الناس فيه. قيل: ثلاثة أيام، وقيل: يومين قاصدين. وقيل: أقل من ذلك. حتى قيل: ميل. والذين حددوا ذلك بالمسافة منهم من قال: ثمانية وأربعون ميلاً. وقيل: ستة وأربعون ميلاً. وقيل: خمسة وأربعون. وقيل: أربعون، وهذه أقوال عن مالك. وقد قال أبومحمد المقدسي: لا أعلم لما ذهب إليه الأئمة وجهًا، وهو كما قال رحمه الله فإن التحديد بذلك ليس ثابتًا بنص ولا إجماع ولا قياس. وعامة هؤلاء يفرقون بين السفر الطويل والقصير، ويجعلون ذلك حدًا للسفر الطويل، ومنهم من لا يسمي سفرًا إلا ما بلغ هذا الحد وما دون ذلك لا يسميه سفرًا. فالذين قالوا: ثلاثة أيام، احتجوا بقوله: ((يمسح المسافر ثلاثة أيام ولياليهن)). وقد ثبت عنه في "الصحيحين" أنه قال: ((لا تسافر امرأة مسيرة ثلاثة أيّام إلا ومعها ذو محرم)). وقد ثبت عنه في "الصحيحين" أنه قال: ((مسيرة يومين)). وثبت في "الصحيح": ((مسيرة يوم))، وفي "السنن": ((بريدًا)) فدل على أن ذلك كله سفر، وإذنه له في المسح ثلاثة أيام إنما هو تجويز لمن سافر ذلك، وهو لا يقتضي أن ذلك أقل السفر، كما أذن للمقيم أن يمسح يومًا وليلة وهو لا يقتضي أن ذلك أقل الإقامة.

والذين قالوا: يومين، اعتمدوا على قول ابن عمر، وابن عباس. والخلاف في ذلك مشهور عن الصحابة حتى عن ابن عمر، وابن عباس. وما روي: ((ياأهل مكّة لا تقصروا في أقلّ من أربعة برد من مكة إلى عسفان)). إنما هو من قول ابن عباس. ورواية ابن خزيمة وغيره له مرفوعًا إلى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم باطل بلا شك عند أئمة أهل الحديث. وكيف يخاطب النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أهل مكة بالتحديد، وإنما أقام بعد الهجرة زمنًا يسيرًا، وهو بالمدينة لا يحد لأهلها حدًا كما حده لأهل مكة، وما بال التحديد يكون لأهل مكة دون غيرهم من المسلمين. وأيضًا فالتحديد بالأميال والفراسخ يحتاج إلى معرفة مقدار مساحة الأرض، وهذا أمر لا يعلمه إلا خاصة الناس، ومن ذكره فإنما يخبر به عن غيره تقليدًا وليس هو مما يقطع به، والنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لم يقدر الأرض بمساحة أصلاً فكيف يقدر الشارع لأمته حدًا لم يجر له ذكر في كلامه وهو مبعوث إلى جميع الناس، فلا بد أن يكون مقدار السفر معلومًا علمًا عامًا، وذرع الأرض مما لا يمكن، بل هو إما متعذر وإما متعسر، لأنه إذا أمكن الملوك ونحوهم مسح طريق فإنما يمسحونه على خط مستو أو خطوط منحنية انحناءً مضبوطًا، ومعلوم أن المسافرين قد يعرفون غير تلك الطريق، وقد يسلكون غيرها وقد يكون في المسافة صعود، وقد يطول سفر بعضهم لبطء حركته، ويقصر سفر بعضهم لسرعة حركته، والسبب الموجب هو نفس السفر لا نفس مساحة الأرض. والموجود في كلام النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم والصحابة في تقدير الأرض بالأزمنة كقوله في الحوض: ((طوله شهر وعرضه شهر)) وقوله: ((بين السّماء والأرض

خسمائة سنة (¬1)) وفى حديث آخر: ((إحدى أو اثنتان أو ثلاث وسبعون سنة))، فقيل: الأول: بالسير المعتاد سير الإبل والأقدام، والثاني: سير البريد، فإنه في العادة يقطع بقدر المعتاد سبع مرات. وكذلك الصحابة يقولون: يوم تام، ويومان. ولهذا قال من حده بثمانية وأربعين ميلاً: مسيرة يومين قاصدين بسير الإبل والأقدام، لكن هذا لا دليل عليه. وإذا كان كذلك فنقول: كل اسم ليس له حدّ في اللغة ولا في الشرع فالمرجع فيه إلى العرف. فما كان سفرًا في عرف الناس فهو السفر الذى علق به الشارع الحكم، وذلك مثل سفر أهل مكة إلى عرفة، فإن هذه المسافة بريد وهذا سفر ثبت فيه جواز القصر والجمع بالسنة والبريد هو نصف يوم بسير الإبل والأقدام وهو ربع مسافة يومين وليلتين، وهو الذي قد يسمى مسافة القصر، وهو الذي يمكن الذاهب إليها أن يرجع من يومه. وأما ما دون هذه المسافة إن كانت مسافة القصر محدودة بالمساحة فقد قيل: يقصر في ميل، وروي عن ابن عمر أنه قال: لو سافرت ميلاً لقصرت. قال ابن حزم: لم نجد أحدًا يقصر في أقل من ميل، ووجد ابن عمر وغيره يقصرون في هذا القدر، ولم يحد الشارع في السفر حدًا. فقلنا بذلك اتباعًا للسنة المطلقة، ولم نجد أحدًا يقصر بما دون الميل، ولكن هو على أصله، وليس هذا إجماعًا فإذا كان ظاهر النص يتناول ما دون ذلك. لم يضره أن يعرف أحدًا ذهب إليه كعادته في أمثاله. ¬

(¬1) هو حديثٌ ضعيفٌ، ولم يثبت شيءٌٌ عن النبي في تقدير ما بين السماء والأرض، ولا في تقدير ما بين كل سماءين.

وأيضًا فليس في قول ابن عمر أنه لا يقصر في أقل من ذلك. وأيضًا فقد ثبت عن ابن عمر أنه كان لا يقصر في يوم أو يومين، فإما أن تتعارض أقواله أو تحمل على اختلاف الأحوال، والكلام في مقامين: المقام الأول: أن من سافر مثل سفر أهل مكة إلى عرفات يقصر، وأما إذا قيل: ليست محدودة بالمسافة، بل الاعتبار بما هو سفر، فمن سافر ما يسمى سفرًا، قصر، وإلا فلا. وقد يركب الرجل فرسخًا يخرج به لكشف أمر وتكون المسافة أميالاً، ويرجع في ساعة أو ساعتين، ولا يسمى مسافرًا، وقد يكون غيره في مثل تلك المسافة مسافرًا بأن يسير على الإبل والأقدام سيرًا، لا يرجع فيه ذلك اليوم إلى مكانه، والدليل على ذلك من وجوه: أحدها: أنه قد ثبت بالنقل الصحيح المتفق عليه بين علماء أهل الحديث أنّ النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في حجة الوداع كان يقصر الصلاة بعرفة ومزدلفة، وفي أيام منى، وكذلك أبوبكر وعمر بعده، وكان يصلي خلفهم أهل مكة ولم يأمروهم بإتمام الصلاة، ولا نقل أحد لا بإسناد صحيح ولا ضعيف أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال لأهل مكة لما صلى بالمسلمين ببطن عرنة الظهر ركعتين قصرًا وجمعًا ثم العصر ركعتين: ياأهل مكة أتموا صلاتكم. ولا أمرهم بتأخير صلاة العصر، ولا نقل أحد أن أحدًا من الحجيج لا أهل مكة ولا غيرهم صلى خلف النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم خلاف ما صلى بجمهور المسلمين، أو نقل أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أو عمر قال في هذا اليوم: ياأهل مكة أتموا صلاتكم، فإنا قوم سفر. فقد

غلط وإنما نقل أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال هذا في جوف مكة (¬1) لأهل مكة عام الفتح. وقد ثبت أن عمر بن الخطاب قاله لأهل مكة لما صلى في جوف مكة، ومن المعلوم أنه لو كان أهل مكة قاموا فأتموا وصلوا أربعًا، وفعلوا ذلك بعرفة ومزدلفة وبمنى أيام منى لكان مما تتوفر الهمم والدواعي على نقله بالضرورة، بل لو أخروا صلاة العصر ثم قاموا دون سائر الحجاج فصلوها قصرًا لنقل ذلك، فكيف إذا أتموا الظهر أربعًا من دون المسلمين. وأيضًا فإنّهم إذا أخذوا في إتمام الظهر والنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قد شرع في العصر لكان إما أن ينتظرهم فيطيل القيام، وإما أن يفوتهم معه بعض العصر، بل أكثرها، فكيف إذا كانوا يتمّون الصلوات، وهذا حجة على كل أحد وهو على من يقول: إن أهل مكة جمعوا معه أظهر، وذلك أن العلماء تنازعوا في أهل مكة يقصرون ويجمعون بعرفة على ثلاثة أقوال: فقيل لا يقصرون ولا يجمعون، وهذا هو المشهور عند أصحاب الشافعي وطائفة من أصحاب أحمد كالقاضي في "المجرد" وابن عقيل في "الفصول" لاعتقادهم أن ذلك معلق بالسفر الطويل وهذا قصير. والثاني: أنّهم يجمعون ولا يقصرون. هذا مذهب أبي حنيفة وطائفة من أصحاب أحمد، ومن أصحاب الشافعي والمنقولات عن أحمد توافق هذا، فإنه أجاب في غير موضع بأنّهم لا يقصرون، ولم يقل: لا يجمعون. وهذا هو الذي رجّحه أبومحمد المقدسي في الجمع، وأحسن في ذلك. ¬

(¬1) لم يثبت هذا، وثبت عن عمر، كما ذكره شيخ الإسلام رحمه الله.

والثالث: أنّهم يجمعون ويقصرون، وهذا مذهب مالك. وإسحاق بن راهويه، وهو قول طاووس وابن عيينة وغيرهما من السلف، وقول طائفة من أصحاب أحمد والشافعي كأبي الخطاب في "العبادات الخمس" وهو الذي رجّحه أبومحمد المقدسي وغيره من أصحاب أحمد، فإن أبا محمد وموافقيه رجّحوا الجمع للمكي بعرفة. وأما القصر فقال أبومحمد: الحجة مع من أباح القصر لكل مسافر إلا أن ينعقد الإجماع على خلافه، والمعلوم أن الإجماع لم ينعقد على خلافه. وهو اختيار طائفة من علماء أصحاب أحمد، كان بعضهم يقصر الصلاة في مسيرة بريد وهذا هو الصواب الذي لا يجوز القول بخلافه لمن تبين السنة وتدبّرها، فإن من تأمّل الأحاديث في حجة الوداع وسياقها، علم علمًا يقينًا أن الذين كانوا مع النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم من أهل مكة وغيرهم صلوا بصلاته قصرًا وجمعًا، ولم يفعلوا خلاف ذلك، ولم ينقل أحد قط عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه قال بعرفة ولا مزدلفة ولا منًى: ((يا أهل مكّة أتمّوا صلاتكم، فإنّا قوم سفر)). وإنما نقل أنه قال ذلك في نفس مكة كما رواه أهل السنن عنه (¬1). وقوله في ذلك في داخل مكة دون عرفة ومزدلفة ومنى، دليل على الفرق، وقد روي من جهة أهل العراق عن عمر أنه كان يقول بمنى: يا أهل مكة أتموا صلاتكم فإنا قوم سفر. وليس له إسناد. وإذا ثبت ذلك فالجمع بين الصلاتين قد يقال إنه لأجل النسك، كما ¬

(¬1) تقدم أنه لا يثبت عن النبي لأنه من طريق علي بن زيد بن جدعان. مختلفٌ فيه والراجح ضعفه، وقد ثبت عن عمر رضي الله عنه أنه قال لأهل مكة بمكة كما تقدم.

تقوله الحنفية وطائفة من أصحاب أحمد، وهو مقتضى نصه فإنه يمنع المكي من القصر بعرفة، ولم يمنعه من الجمع. وقال في جمع المسافر: إنه يجمع في الطويل كالقصر عنده، وإذا قيل: الجمع لأجل النسك، ففيه قولان: أحدهما: لا يجمع إلا بعرفة ومزدلفة، كما تقوله الحنفية. والثاني: أنه يجمع لغير ذلك من الأسباب المقتضية للجمع، وإن لم يكن سفرًا وهو مذهب الثلاثة: مالك، والشافعي، وأحمد. وقد يقال: لأن ذلك سفر قصير، وهو يجوز الجمع في السفر القصير، كما قال هذا بعض الفقهاء من أصحاب مالك والشافعي وأحمد، فإن الجمع لا يختص بالسفر، والنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لم يجمع في حجته إلا بعرفة ومزدلفة، ولم يجمع بمنى، ولا في ذهابه وإيابه، ولكن جمع قبل ذلك في غزوة تبوك، والصحيح أنه لم يجمع بعرفة لمجرد السفر، كما قصر للسفر بل لاشتغاله باتصال الوقوف عن النْزول، ولاشتغاله بالمسير إلى مزدلفة، وكان جمع عرفة لأجل العبادة، وجمع مزدلفة لأجل السير الذي جد فيه، وهو سيره إلى مزدلفة، وكذلك كان يصنع في سفره، كان إذا جدّ به السير أخّر الأولى إلى وقت الثانية، ثم ينْزل فيصليهما جميعا، كما فعل بمزدلفة، وليس في شريعته ما هو خارج عن القياس، بل الجمع الذي جمعه هناك يشرع أن يفعل نظيره، كما يقول الأكثرون. ولكن أبوحنيفة يقول: هو خارج عن القياس، وقد علم أن تخصيص العلة إذا لم تكن لفوات شرط، أو وجود مانع دل على فسادها، وليس فيما جاء من عند الله اختلاف ولا تناقض، بل حكم الشيء حكم مثله، والحكم إذا ثبت بعلة ثبت بنظيرها. وأما القصر فلا ريب أنه من خصائص السفر، ولا تعلق له بالنسك، ولا

مسوغ لقصر أهل مكة بعرفة وغيرها إلا أنّهم بسفر، وعرفة عن المسجد بريد، كما ذكره الذين مسحوا ذلك. وذكره الأزرقي في "أخبار مكة". فهذا قصر في سفر قدره بريد، وهم لما رجعوا إلى منى كانوا في الرجوع من السفر، وإنما كان غاية قصدهم بريدًا، وأي فرق بين سفر أهل مكة إلى عرفة وبين سفر سائر المسلمين إلى قدر ذلك من بلادهم. والله لم يرخص في الصلاة ركعتين إلا لمسافر، فعلم أنّهم كانوا مسافرين، والمقيم إذا اقتدى بمسافر فإنه يصلي أربعًا. كما قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لأهل مكة في مكة: ((أتمّوا صلاتكم فأنّا قوم سفر (¬1)). وهذا مذهب الأئمة الأربعة وغيرهم من العلماء، ولكن في مذهب مالك نزاع. الدليل الثاني: أنه قد نهى أن تسافر المرأة إلا مع ذي محرم أو زوج: تارةً يقدر وتارةً يطلق. وأقل ماروي في التقدير بريد، فدل ذلك على أن البريد يكون سفرًا، كما أن الثلاثة الأيام تكون سفرًا، واليومين تكون سفرًا: واليوم يكون سفرًا. هذه الأحاديث ليس لها مفهوم بل نهى عن هذا وهذا وهذا. الدليل الثالث: أن السفر لم يحده الشارع، وليس له حد في اللغة، فرجع فيه إلى ما يعرفه الناس ويعتادونه، فما كان عندهم سفرًا فهو سفر. والمسافر يريد أن يذهب إلى مقصده ويعود إلى وطنه، وأقل ذلك مرحلة يذهب في نصفها، ويرجع في نصفها، وهذا هو البريد وقد حدوا بهذه المسافة الشهادة على الشهادة، وكتاب القاضي إلى القاضي، والعدو على الخصم، والحضانة، ¬

(¬1) تقدم أنه لا يثبت مرفوعًا.

وغير ذلك مما هو معروف في موضعه، وهو أحد القولين في مذهب أحمد. فلو كانت المسافة محدودة لكان حدها بالبريد أجود، لكن الصواب أن السفر ليس محددًا بمسافة بل يختلف، فيكون مسافرًا في مسافة بريد، وقد يقطع أكثر من ذلك ولا يكون مسافرًا. الدليل الرابع: أن المسافر رخص الله له أن يفطر في رمضان، وأقل الفطر يوم، ومسافة البريد يذهب إليها ويرجع في يوم، فيحتاج إلى الفطر فى شهر رمضان، ويحتاج أن يقصر الصلاة بخلاف ما دون ذلك، فإنه قد لا يحتاج فيه إلى قصر ولا فطر إذا سافر أول النهار ورجع قبل الزوال، وإذا كان غدوه يومًا، ورواحه يومًا، فإنه يحتاج إلى القصر والفطر، وهذا قد يقتضي أنه قد يرخص له أن يقصر ويفطر في بريد، وإن كان قد لا يرخص له في أكثر منه إذا لم يعد مسافرًا. الدليل الخامس: أنه ليس تحديد من حدّ المسافة بثلاثة أيام بأولى ممن حدها بيومين، ولا اليومان بأولى من يوم، فوجب أن لا يكون لها حد بل كل ما يسمى سفرًا يشرع. وقد ثبت بالسنة القصر في مسافة بريد، فعلم أن في الأسفار ما قد يكون بريدًا، وأدنى ما يسمى سفرًا في كلام الشارع البريد، وأما ما دون البريد كالميل فقد ثبت في "الصحيحين" من حديث النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه كان يأتي قباء كل سبت وكان يأتيه راكبًا وماشيًا، ولا ريب أن أهل قباء وغيرهم من أهل العوالي كانوا يأتون إلى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ولم يقصروا الصلاة هو ولا هم. وقد كانوا يأتون الجمعة من نحو ميل وفرسخ ولا يقصرون الصلاة، والجمعة على من سمع النداء، والنداء قد يسمع من فرسخ، وليس كل من

وجبت عليه الجمعة أبيح له القصر، والعوالي بعضها من المدينة وإن كان اسم المدينة يتناول جميع المساكن كما قال تعالى: {وممّن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة مردوا على النّفاق} (¬1) وقال: {ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أنْ يتخلّفوا عن رسول الله} (¬2). وأما ما نقل عن ابن عمر، فينظر فيه هل هو ثابت أم لا؟ فإن ثبت فالرواية عنه مختلفة وقد خالفه غيره من الصحابة، ولعله أراد إذا قطعت من المسافة ميلاً ولاريب أن قباء من المدينة أكثر من ميل، وما كان ابن عمر ولا غيره يقصرون الصلاة إذا ذهبوا إلى قباء. فقصر أهل مكة الصلاة بعرفة، وعدم قصر أهل المدينة الصلاة إلى قباء ونحوها مما حول المدينة دليل على الفرق. والله أعلم. وقال رحمه الله تعالى في ص (131): وفي "صحيح مسلم" حدثنا ابن أبي شيبة وابن بشار كلاهما عن غندر، عن شعبة، عن يحيى بن يزيد الهنائي: سألت أنس بن مالك عن قصر الصّلاة؟ فقال: كان رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم إذا خرج مسيرة ثلاثة أميال، أو ثلاثة فراسخ -شعْبة الشّاكّ- صلّى ركعتين. ولم ير أنس أن يقطع من المسافة الطويلة هذا؟ لأن السائل سأله عن قصر الصلاة، وهو سؤال عما يقصر فيه ليس سؤالاً عن أول صلاة يقصرها، ثم إنه لم يقل أحد إن أول صلاة لا يقصرها إلا في ثلاثة أميال أو أكثر من ذلك، فليس في هذا جواب لو كان المراد ذلك، ولم يقل ذلك أحد، فدل ¬

(¬1) سورة التوبة، الآية: 101. (¬2) سورة التوبة، الآية: 120.

على أن أنسًا أراد أنه من سافر هذه المسافة قصر، ثم ما أخبر به عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فعل من النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لم يبين هل كان ذلك الخروج هو السفر، أو كان ذلك هو الذي قطعه من السفر، فإن كان أراد به أن ذلك كان سفره فهو نص، وإن كان ذلك الذي قطعه من السفر فأنس بن مالك استدل بذلك على أنه يقصر إليه إذا كان هو السفر، يقول: إنه لا يقصر إلا في السفر، فلولا أن قطع هذه المسافة سفر لما قصر. وهذا يوافق قول من يقول: لا يقصر حتى يقطع مسافة تكون سفرًا، لا يكفي مجرد قصده المسافة التي هي سفر، وهذا قول ابن حزم وداود وأصحابه. وابن حزم يحد مسافة القصر بميل، ولكن داود وأصحابه يقولون: لا يقصر إلا فى حج أو عمرة أو غزو. وابن حزم يقول: إنه يقصر في كل سفر. وابن حزم عنده أنه لا يفطر إلا في هذه المسافة، وأصحابه يقولون: إنه يفطر في كل سفر بخلاف القصر، لأن القصر ليس عندهم فيه نص عام عن الشارع، وإنما فيه فعله أنه قصر في السفر، ولم يجدوا أحدًا قصر فيما دون ميل، ووجدوا الميل منقولاً عن ابن عمر. وابن حزم يقول: السفر هو البروز من محلة الإقامة، لكن قد علم أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم خرج إلى البقيع لدفن الموتى، وخرج إلى الفضاء للغائط والناس معه فلم يقصروا، ولم يفطروا. فخرج هذا عن أن يكون سفرًا، ولم يجدوا أقل من ميل يسمى سفرًا، فإن ابن عمر قال: لو خرجت ميلاً لقصرت الصلاة. فلما ثبت أن هذه المسافة جعلها سفرًا، ولم نجد أعلى منها يسمى سفرًا جعلنا هذا هو الحد. قال: وما دون الميل من آخر بيوت قريته له حكم الحضر، فلا يقصر فيه ولا يفطر، وإذا بلغ الميل فحينئذ صار له سفر يقصر فيه الصلاة ويفطر فيه، فمن حينئذ

يقصر ويفطر، وكذلك إذا رجع فكان على أقل من ميل فإنه يتم ليس في سفر يقصر فيه. قلت: جعل هؤلاء السفر محدودًا في اللغة. قالوا: وأقل ما سمعنا أنه يسمى سفرًا هو الميل، وأولئك جعلوه محدودًا بالشرع، وكلا القولين ضعيف. أما الشارع فلم يحده. وكذلك أهل اللغة لم ينقل أحد عنهم أنّهم قالوا: الفرق بين ما يسمى سفرًا، وما لا يسمى سفرًا هو مسافة محدودة، بل نفس تحديد السفر بالمسافة باطل في الشرع واللغة، ثم لو كان محدودًا بمسافة ميل فإن أريد أن الميل يكون من حدود القرية المختصة به فقد كان النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يخرج أكثر من ميل من محله في الحجاز ولا يقصر ولا يفطر، وإن أراد من المكان المجتمع الذي يشمله اسم مدينة ميلاً فقيل له: فلا حجة لك في خروجه إلى المقابر والغائط، لأن تلك لم تكن خارجًا عن آخر المدينة. ففي الجملة كان يخرج إلى العوالي وإلى أحد، كما كان يخرج إلى المقابر والغائط، وفي ذلك ما هو أبعد من ميل، وكان النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وأصحابه يخرجون من المدينة إلى أكثر من ميل، ويأتون إليها أبعد من ميل، ولا يقصرون، كخروجهم إلى قباء، والعوالي وأحد، ودخولهم للجمعة وغيرهما من هذه الأماكن. وكان كثير من مساكن المدينة عن مسجده أبعد من ميل، فإن حرم المدينة بريد في بريد، حتى كان الرجلان من أصحابه لبعد المكان يتناوبان الدخول يدخل هذا يومًا، وهذا يومًا، كما كان عمر بن الخطاب وصاحبه الأنصاري يدخل هذا يومًا وهذا يومًا. وقول ابن عمر: لو خرجت ميلاً قصرت الصلاة. هو كقوله: إني لأسافر الساعة من النهار فأقصر. وهذا إما

أن يريد به ما يقطعه من المسافة التى يقصدها، فيكون قصده إني لا أوخر القصر إلى أن أقطع مسافةً طويلة. وهذا قول جماهير العلماء إلا من يقول: إذا سافر نهارًا لم يقصر إلى الليل. وقد احتج العلماء على هؤلاء بأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم صلى الظهر بالمدينة أربعًا، والعصر بذي الحليفة ركعتين. وقد يحمل حديث أنس بن مالك على هذا، لكن فعله يدل على المعنى الأول أو يكون مراد ابن عمر: من سافر قصر ولو كانت قصده هذه المسافة، إذا كان في صحراء بحيث يكون مسافرًا لا يكون متنقلاً بين المساكن، فإن هذا ليس بمسافر باتفاق الناس، وإذا قدر أن هذا مسافر، فلو قدر أنه مسافر أقل من الميل بعشرة أذرع فهو أيضًا مسافر، فالتحديد بالمسافة لا أصل له في شرع، ولا لغة، ولا عرف، ولا عقل، ولا يعرف عموم الناس مساحة الأرض، فلا يجعل ما يحتاج إليه عموم المسلمين معلقًا بشيء لا يعرفونه، ولم يمسح أحد الأرض على عهد النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ولا قدّر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم الأرض بالأميال ولا فراسخ، والرجل قد يخرج من القرية إلى صحراء لحطب يأتي به فيغيب اليومين والثلاثة فيكون مسافرًا، وإن كانت المسافة أقل (¬1) من ميل بخلاف من يذهب ويرجع من يومه، فإنه لا يكون في ذلك مسافرًا، فإن الأول يأخذ الزاد والمزاد، بخلاف الثاني فالمسافة ¬

(¬1) الظاهر أنه لا يسمى مسافرًا لا لغةً ولا شرعًا، وأعدل الأقوال ما تقدم لشيخ الإسلام رحمه الله أنه إذا خرج مسافة نصف يومٍ يسمى مسافرًا، وكما تقدم أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لم يأمر أهل مكة أن يتموا بعرفة، وهكذا في مزدلفة ومنى، ولكن مزدلفة ومنى عند الذهاب إلى عرفة لأنَّهم متوجهون إلى سفرٍ، وعند الرجوع لأنَّهم راجعون من سفرٍ كما تقدم عن شيخ الإسلام رحمه الله.

القريبة في المدة الطويلة تكون سفرًا، والمسافة البعيدة في المدة القليلة لا تكون سفرًا. فالسفر يكون بالعمل الذى سمي سفرًا لأجله، والعمل لا يكون إلا في زمان، فإذا طال العمل وزمانه فاحتاج إلى ما يحتاج إليه المسافر من الزاد والمزاد سمي مسافرًا، وإن لم تكن المسافة بعيدة، وإذا قصر العمل والزمان بحيث لا يحتاج إلى زاد ومزاد، لم يسم سفرًا، وإن بعدت المسافة فالأصل هو العمل الذى يسمى سفرًا، ولا يكون العمل إلا في زمان فيعتبر العمل الذي هو سفر، ولا يكون ذلك إلا في مكان يسفر عن الأماكن، وهذا مما يعرفه الناس بعاداتهم، ليس له حد في الشرع، ولا اللغة، بل ماسمّوه سفرًا فهو سفر.

مسألة: لا يثبت حديث في الجمع في المطر، وقد جاء حديث مرسل، والمرسل من قسم الضعيف. وأما حديث ابن عباس أنّ النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم جمع في المدينة من غير خوف ولا مطر. فليس بصريح في الجمع في المطر. وقد شرع لنا أن نصلي في رحالنا في المطر كما في حديث ابن عباس وابن عمر وغيرهما: أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أمر أن يقول المؤذن في الأذان بدل حي على الصلاة حي على الصلاة: صلوا في رحالكم، صلوا في رحالكم. وفي حديث ابن عمر أنّها تقال بعد الأذان، وحديث ابن عباس متفق عليه، وحديث ابن عمر متفق عليه. وبهذا ينتهي ما يسر الله جمعه، فله الحمد والمنة. ونسأله المزيد من فضله، إنه جواد كريم.

الخاتمة

الخاتمة مسألة الجمع بين الصلاتين في السفر من المسائل الفقهية التى يحتاج إليها كل مسلم، وبحمد الله قد حرصت على جمع الأدلة وذكر أقوال أهل العلم رحمهم الله، وأضفت إليها فوائد يحتاج إليها المسافر، وبحمد الله قد راجعت كثيرًا من كتب الحديث، ومن كتب الفقهاء رحمهم الله، ومن الكذب المفضوح والبهتان الواضح قول بعض الجاهلين: إنني أحرّم قراءة كتاب "المغني" لابن قدامة وكتاب "المجموع" للنووي. فنحن نقول لكم أيها الجاهلون الحاقدون الحاسدون: نحن نستفيد من كتب علمائنا المحدثين، والمفسرين، والفقهاء، غير مقلدين، وقل أن تعرض مسألة إلا وأنا أرجع إلى "المغني" و"المجموع" لأنظر ماذا قال العلماء رحمهم الله، ولكن إذا رأيت في المسألة آية قرانية أو حديثًا نبويًا أستغني بهما عن قول فلان وفلان، وإذا لم أجد فلست ملزمًا بنقل أقوال الفقهاء رحمهم الله، ولكننا نستعين بالله ثم بأفهامهم على فهم بعض الأدلة، غير مقلدين لهم، لأننا نعتقد أن التقليد حرام. قال الله سبحانه وتعالى: {اتّبعوا ما أنزل إليكم من ربّكم ولا تتّبعوا من دونه أولياء قليلاً ما تذكّرون} (¬1). وهذه المسألة من تلكم المسائل قد رجعت بحمد الله إلى "المغني" وإلى ¬

(¬1) سورة الأعراف، الآية: 3.

"المجموع" ولكني رأيت في الأدلة وفي "زاد المعاد" و"فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية" ما يغني والحمد لله.

الرسالة الرابعة: إيضاح المقال في أسباب الزلزال والرد على الملاحدة الضلال

الرسالة الرابعة: إيضاح المقال في أسباب الزلزال والرد على الملاحدة الضلال:

المقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم المقدمة الحمد لله المعز لأوليائه، والمنتقم من أعدائه، وصلى الله وسلّم على نبينا محمد وآله وصحبه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمداً عبده ورسوله. أما بعد: فقد جرت سنة الله في خلقه أن جعل بعض خلقه لبعض فتنة فجعل منهم المؤمن والكافر، والغني والفقير، والعاقل والسفيه، فكان ذلك من أعظم الأسباب لاختلافهم، كما قال ربنا عز وجل في كتابه الكريم: {ولا يزالون مختلفين إلاّ من رحم ربّك ولذلك خلقهم} (¬1). وقد اختلفوا في الأفهام وفي العلم، وكان مما اختلف فيه أهل العلم وذوي الجهل والزيغ مسألة الزلزال، فأهل العلم قالوا عند أن حدث الزلزال بذمار: ماقررناه في الكتاب، وذوو الجهل والزيغ قالوا: إنه أمر طبيعي. من أجل ذلك ألقيت بعض الخطب ثم رأيت أن أخرجها في رسالة ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حيّ عن بينة. إنّ القائلين بأنه أمر طبيعي يبطلون انتقام الله لأوليائه، قال سبحانه ¬

(¬1) سورة هود، آية: 118 - 119.

وتعالى في قوم صالح في سورة الأعراف: {فعقروا النّاقة وعتوا عن أمر ربّهم وقالوا يا صالح ائتنا بما تعدنا إن كنت من المرسلين * فأخذتْهم الرّجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين * فتولّى عنهم وقال يا قوم لقد أبلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم ولكن لا تحبّون النّاصحين} (¬1). وقال في قوم شعيب في سورة الأعراف: {وقال الملأ الّذين كفروا من قومه لئن اتّبعتم شعيبًا إنّكم إذاً لخاسرون * فأخذتْهم الرّجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين * الّذين كذبوا شعيبًا كأن لم يغنوا فيها الّذين كذبوا شعيبًا كانوا هم الخاسرين * فتولّى عنهم وقال ياقوم لقد أبلغتكم رسالات ربي ونصحت لكم فكيف آسى على قوم كافرين} (¬2). وقال في سورة العنكبوت في قوم شعيب: {فكذبوه فأخذتْهم الرّجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين (¬3)}. وقال تعالى في قوم موسى في سورة الأعراف: {واختار موسى قومه سبعين رجلاً لميقاتنا فلمّا أخذتْهم الرّجفة قال رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإيّاي أتهلكنا بما فعل السّفهاء منّا إن هي إلا فتنتك تضلّ بها من تشاء وتهدي من تشاء أنت وليّنا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الغافرين (¬4)}. وقال سبحانه وتعالى في يوم القيامة: {يوم ترجف الأرض والجبال ¬

(¬1) الآية: 77 - 79. (¬2) الآية:90 - 93. (¬3) الآية:37. (¬4) الآية: 155.

وكانت الجبال كثيبًا مهيلاً (¬1)}. وقال سبحانه تعالى: {يوم ترجف الرّاجفة (¬2)}. وقال سبحانه وتعالى: {إذا زلزلت الأرض زلزالها * وأخرجت الأرض أثقالها* وقال الإنسان ما لها * يومئذ تحدّث أخبارها * بأنّ ربّك أوحى لها * يومئذ يصدر النّاس أشتاتًا ليروا أعمالهم * فمن يعمل مثقال ذرّة خيرًا يره * ومن يعمل مثقال ذرّة شرًّا يره}. وقال سبحانه وتعالى في أول سورة الحج: {ياأيّها النّاس اتّقوا ربّكم إنّ زلزلة السّاعة شيء عظيم * يوم ترونها تذهل كلّ مرضعة عمّا أرضعت وتضع كلّ ذات حمل حملها وترى النّاس سكارى وما هم بسكارى ولكنّ عذاب الله شديد}. أبعد هذه الأدلة يجوز للمسلم أن يصغي إلى قول أولئك الملاحدة الذين يعترضون على قدرة الله وحكمته وعدله، آمنا بالله وكفرنا بقول الملاحدة وأذنابهم، وحسبنا الله ونعم الوكيل، نعم المولى ونعم النصير، والحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله. ¬

(¬1) سورة المزمل، الآية:14. (¬2) سورة النازعات، الآية:6.

بسم الله الرحمن الرحيم إن الحمد لله نحمده ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتدي، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. {ياأيّها الّذين آمنوا اتّقوا الله حقّ تقاته ولا تموتنّ إلا وأنتم مسلمون}. {ياأيّها النّاس اتّقوا ربّكم الّذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبثّ منهما رجالا كثيرًا ونساءً واتّقوا الله الّذي تساءلون به والأرحام إنّ الله كان عليكم رقيبًا}. {ياأيّها الّذين آمنوا اتّقوا الله وقولوا قولا سديدًا * يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزًا عظيمًا}. أما بعد: فيقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {وما أرسلنا في قرية من نبيّ إلا أخذنا أهلها بالبأساء والضّرّاء لعلّهم يضّرّعون * ثمّ بدّلنا مكان السّيّئة الحسنة حتّى عفوا وقالوا قد مسّ آباءنا الضّرّاء والسّرّاء فأخذناهم بغتةً وهم لا يشعرون * ولو أنّ أهل القرى آمنوا واتّقوا لفتحنا عليهم بركات من السّماء والأرض ولكن كذّبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون * أفأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا بياتًا وهم نائمون * أو أمن

أهل القرى أن يأتيهم بأسنا ضحًى وهم يلعبون * أفأمنوا مكر الله فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون (¬1)}. وقال سبحانه وتعالى: {وكذلك أخْذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إنّ أخْذه أليم شديد (¬2)}. وفي "الصحيحين" عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((إنّ الله ليملي للظّالم حتّى إذا أخذه لم يفلتْه)) قال: ثمّ قرأ: {وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إنّ أخذه أليم شديد}. وقال سبحانه وتعالى: {وإن من قرية إلا نحن مهلكوها قبل يوم القيامة أو معذّبوها عذابًا شديدًا كان ذلك في الكتاب مسطورًا * وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أنْ كذب بها الأوّلون وآتينا ثمود النّاقة مبصرةً فظلموا بها وما نرسل بالآيات إلا تخويفًا} (¬3). وقال سبحانه وتعالى: {ربّكم الّذي يزجي لكم الفلك في البحْر لتبتغوا من فضله إنّه كان بكم رحيمًا * وإذا مسّكم الضّرّ في البحر ضلّ من تدعون إلاّ إيّاه فلمّا نجّاكم إلى البرّ أعرضتم وكان الإنسان كفورًا * أفأمنتم أن يخْسف بكم جانب البرّ أو يرسل عليكم حاصبًا ثمّ لا تجدوا لكم وكيلاً * أمْ أمنتم أن يعيدكم فيه تارةً أخرى فيرسل عليكم قاصفًا من ¬

(¬1) سورة الأعراف، آية: 94 - 99. (¬2) سورة هود، الآية: 102. (¬3) سورة الإسراء، الآية: 58 - 59.

الريح فيغرقكم بما كفرتم ثمّ لا تجدوا لكم علينا به تبيعًا (¬1)}. وقال سبحانه وتعالى: {أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الّذين من قبلهم وكانوا أشدّ منهم قوّة وما كان الله ليعجزه من شيء في السّموات ولا في الأرض إنّه كان عليمًا قديرًا * ولو يؤاخذ الله النّاس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابّة ولكن يؤخّرهم إلى أجل مسمًّى فإذا جاء أجلهم فإنّ الله كان بعباده بصيرًا} (¬2). وقال سبحانه وتعالى: {وإذا أردنا أن نهلك قريةً أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحقّ عليها القول فدمّرناها تدميرًا} (¬3). قص الله سبحانه وتعالى علينا في هؤلاء الآيات شأن المكذّبين بالرسل، وما فعل الله بهم، وما ظلمهم الله ولكن كانوا أنفسهم يظلمون. وفي "الصحيحين" عن جابر رضي الله عنه قال: لمّا نزلت هذه الآية: {قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابًا من فوقكم} قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((أعوذ بوجهك))، قال: {أو من تحت أرجلكم} قال: ((أعوذ بوجهك))، {أو يلبسكم شيعًا ويذيق بعضكم بأس بعض} قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((هذا أهون أو هذا أيسر)). ولا تزال العبر تتجدّد وتحدث منذ خلق الله سبحانه وتعالى الأرض إلى زمننا هذا. ¬

(¬1) سورة الإسراء، آية: 66 - 69. (¬2) سورة فاطر، آية: 44 - 45. (¬3) سورة الإسراء، الآية: 16.

وفي هؤلاء الآيات التهديد الأكيد، والوعيد الشديد لمن أعرض عن ما جاء به الرسل صلوات الله وسلامه عليهم. ونحن لا نزال كما قلنا قبل نرى العبر، ونسمع الآيات، ونسمع الحوادث التي تزعج المسلمين، ولكن أعداء الإسلام يجعلون الحوادث حوادث طبيعية من أجل أن يبطلوا آيات الأنبياء، وأن يبطلوا انتقام الله لأنبيائه. يقول الله سبحانه وتعالى: {إنّ قارون كان من قوم موسى فبغى عليهم وآتيناه من الكنوز ما إنّ مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوّة إذ قال له قومه لا تفرحْ إنّ الله لا يحبّ الفرحين * وابتغ فيما آتاك الله الدّار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدّنيا وأحسن كما أحسن الله إليك ولا تبغ الفساد في الأرض إنّ الله لا يحبّ المفسدين * قال إنّما أوتيته على علم عندي أولمْ يعلم أنّ الله قد أهْلك من قبله من القرون من هو أشدّ منه قوّة وأكثر جمعًا ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون * فخرج على قومه في زينته قال الّذين يريدون الحياة الدّنيا ياليت لنا مثل ما أوتي قارون إنّه لذو حظّ عظيم * وقال الّذين أوتوا العلم ويلكم ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحًا ولا يلقّاها إلا الصّابرون * فخسفنا (¬1) به وبداره الأرض فما كان له من فئة ينصرونه من دون الله وما كان من المنتصرين * وأصبح الّذين تمنّوا مكانه بالأمس يقولون ويْكأنّ الله يبسط الرّزق لمن يشاء من عباده ويقدر لولا أن ¬

(¬1) وفي الصحيح عن النبي أنه قال: بَينَمَا رَجُلٌ يَتَبَختَرُ يَمشِي فِي بُردَيهِ قَد أعجَبَتهُ نَفسُهُ، فَخَسَفَ الله بِهِ الأَرضَ فَهُوَ يَتَجَلجَلُ فِيهَا إلَى يَومِ القِيَامَةِ.

منّ الله علينا لخسف بنا ويْكأنّه لا يفلح الكافرون (¬1)}. وفي "الصحيحين" عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه سمع النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقول: ((إنّ ثلاثةً في بني إسرائيل أبرص وأقرع وأعمى، بدا لله عزّ وجلّ أن يبتليهم، فبعث إليهم ملكًا فأتى الأبرص فقال: أيّ شيء أحبّ إليك؟ قال: لون حسن وجلد حسن قد قذرني النّاس. قال: فمسحه فذهب عنه، فأعطي لونًا حسنًا وجلدًا حسنًا، فقال: أيّ المال أحبّ إليك؟ قال: الإبل أو قال: البقر -هو شكّ في ذلك إنّ الأبرص والأقرع قال أحدهما: الإبل وقال الآخر: البقر- فأعطي ناقةً عشراء فقال: يبارك لك فيها، وأتى الأقرع فقال: أيّ شيء أحبّ إليك؟ قال: شعر حسن ويذهب عنّي هذا، قد قذرني النّاس. قال: فمسحه فذهب وأعطي شعرًا حسنًا. قال: فأيّ المال أحبّ إليك؟ قال: البقر، قال: فأعطاه بقرة حاملاً، وقال: يبارك لك فيها، وأتى الأعمى فقال: أيّ شيء أحبّ إليك؟ قال: يردّ الله إليّ بصري، فأبصر به النّاس. قال: فمسحه فردّ الله إليه بصره، قال: فأيّ المال أحبّ إليك؟ قال: الغنم، فأعطاه شاة والدًا، فأنتج هذان، وولّد هذا، فكان لهذا واد من إبل، ولهذا واد من بقر، ولهذا واد من غنم، ثمّ إنّه أتى الأبرص في صورته وهيئته، فقال: رجل مسكين تقطّعت بي الحبال في سفري، فلا بلاغ اليوم إلا بالله ثمّ بك، أسألك بالّذي أعطاك اللّون الحسن والجلد الحسن والمال، بعيرًا أتبلّغ عليه في سفري. فقال له: إنّ الحقوق كثيرة، فقال له: كأنّي أعرفك، ألم تكن أبرص يقذرك النّاس فقيرًا، فأعطاك الله! فقال: لقد ورثت ¬

(¬1) سورة القصص، آية: 76 - 82.

لكابر عن كابر، فقال: إن كنت كاذبًا فصيّرك الله إلى ما كنت، وأتى الأقرع في صورته وهيئته، فقال له مثل ما قال لهذا، فردّ عليه مثل ما ردّ عليه هذا. فقال: إن كنت كاذبًا فصيّرك الله إلى ما كنت، وأتى الأعمى في صورته: فقال رجل مسكين وابن سبيل، وتقطّعت بي الحبال في سفري، فلا بلاغ اليوم إلا بالله ثمّ بك، أسألك بالّذي ردّ عليك بصرك شاةً أتبلّغ بها في سفري. فقال: قد كنت أعمى فردّ الله بصري، وفقيرًا فقد أغناني، فخذ ما شئت فوالله لا أجهدك اليوم بشيء أخذته لله. فقال: أمسك مالك فإنّما ابتليتم، فقد رضي الله عنك وسخط على صاحبيك)). ويقول الله سبحانه وتعالى: {ياأيّها النّاس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغنيّ الحميد * إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد وما ذلك على الله بعزيز (¬1)}. ورب العزة عند أن ذكر في سورة (اقتربت الساعة) الأنبياء وتكذيب أممهم وما فعل الله بهم من الدّمار، قال: {أكفّاركم خير من أولئكم أم لكم براءة في الزّبر (¬2)}. ونحن نستطيع أن نقول للشيوعيّين وللبعثيّين وللناصريّين، وللحداثيّين وللعلمانيّين: أكفاركم خير من أولئكم أم لكم براءة في الزبر؟!. ويقول سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {فكلاً أخذنا بذنبه فمنهم من أرسلنا عليه حاصبًا ومنهم من أخذته الصّيحة ومنهم من خسفنا به الأرض ¬

(¬1) سورة فاطر، آية: 15 - 17. (¬2) سورة القمر، الآية: 43.

ومنهم من أغرقنا وما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون (¬1)}. ونحن في بلدنا، وفي يمننا لم تنته بعد فجيعة الزّلزال وضحايا الزّلزال بذمار، ثم في هذه الأيام الزّلزال بالعدين (¬2). إن المنكرات الموجودة بالعدين هي موجودة بصعدة. وإن المنكرات الموجودة بالعدين هي المنكرات الموجودة بصنعاء. وإن المنكرات الموجودة بالعدين هي المنكرات الموجودة بعدن، وبحضرموت، وبغيرها من البلاد، ولكن الله سبحانه وتعالى جعل لنا عبرةً في بلد إخواننا العدينيّين. وكثرة الزلازل في آخر الزّمان، تعتبر علمًا من أعلام النبوة، كما أخبر بذلك النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم كما في حديث سلمة بن نفيل رضي الله عنه (¬3). والشأن كل الشأن: هل اعتبرنا؟ وهل رجعنا إلى الله؟ أم صرنا كما يقول ربنا عز وجل: {أولا يرون أنّهم يفتنون في كلّ عام مرّة أو مرّتين ثمّ لا يتوبون ولا هم يذّكّرون (¬4)}. فهل أنكر اليمنيون (مصنع الخمر)؟ وهل تبرّؤا من الحزبيّة؟ وهل تبرّؤا ¬

(¬1) سورة العنكبوت، الآية:40. (¬2) وقبل مدة الزلزال الإيراني كانت ضحاياه نحو خمسين ألفًا، وكل هذا بسبب الإعراض عن الله والإعراض عن شرع الله، ربنا لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا، وارحمنا برحمتك يا أرحم الراحمين. (¬3) وكذا في حديث أبي هريرة رضي الله عنه المتفق عليه. (¬4) سورة التوبة، الآية: 26.

من الديمقراطية؟ وهل تبرّؤا من الفساد الموجود بين أظهرهم؟ بل هل تبرّؤا من الوحدة مع الشيوعيّين؟ فالأمر يحتاج إلى توبة، وإلى رجوع إلى الله عز وجل: {واتّقوا فتنةً لا تصيبنّ الّذين ظلموا منكم خاصّةً واعلموا أنّ الله شديد العقاب (¬1)}. يقول بعض الملاحدة: لا تقل إن الزلزال بسبب الذنوب، فسيصير اليمنيون مذنبين ورب العزة يقول في كتابه الكريم: {وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير (¬2)}. ويقول سبحانه وتعالى: {ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إنّ ذلك على الله يسير * لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم والله لا يحبّ كلّ مختال فخور (¬3)}. ويقول: {ما أصاب من مصيبة إلا بإذن الله ومن يؤْمن بالله يهْد قلْبه والله بكلّ شيْء عليم (¬4)}. والزّلزال قد يكون للابتلاء كما قال الله تعالى: {ياأيّها الّذين آمنوا استعينوا بالصّبر والصّلاة إنّ الله مع الصّابرين * ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات بل أحياء ولكن لا تشعرون * ولنبلونّكم بشيء من ¬

(¬1) سورة الأنفال، الآية: 25. (¬2) سورة الشورى، الآية: 30. (¬3) سورة الحديد، آية: 22 - 23. (¬4) سورة التغابن، الآية: 11.

الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثّمرات وبشّر الصّابرين * الّذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنّا لله وإنّا إليه راجعون * أولئك عليهم صلوات من ربّهم ورحمة وأولئك هم المهتدون (¬1)}. فهل نحن معصومون من الخطأ؟ وهل ننزّل أنفسنا منْزلة الملائكة الذين لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون؟ بل المنكرات طافحة في المجتمع، وصدق الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم إذ يقول كما في "صحيح البخاري" من حديث النعمان بن بشير: ((مثل القائم على حدود الله والواقع فيها، كمثل قوم استهموا على سفينة فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، فكان الّذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مرّوا على من فوقهم، فقالوا: لوأنّا خرقنا في نصيبنا خرقًا ولم نؤذ من فوقنا، فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعًا، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعًا)). فالمنكرات والفساد موجودان في البلاد اليمنية، كل يوم وهي تتجسّد، فإنا لله وإنا إليه راجعون، وقد يقول بعض المنحرفين: فما ذنب الأطفال؟ نقول: لقد أخذوا بذنب آبائهم وأهليهم. ففي "الصحيح" عن عائشة رضي الله عنها، أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: ((يغزو جيش الكعبة فإذا كانوا ببيداء من الأرض يخسف بأوّلهم وآخرهم)) قالت: قلت: يا رسول الله كيف يخسف بأوّلهم وآخرهم، وفيهم أسواقهم ومن ليس منهم؟ قال: ((يخسف بأوّلهم وآخرهم، ثمّ يبعثون على نيّاتهم)). وفي "الصحيح" أيضًا من حديث زينب بنت جحش أنّها قالت: استيقظ ¬

(¬1) سورة البقرة، آية: 53 - 57.

رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم من نومه وهو محمرّ وجهه وهو يقول: ((لا إله إلا الله ويل للعرب من شر قد اقترب فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج)) وعقد بيديه عشرة قالت زينب: قلت: يا رسول الله أنهلك وفينا الصّالحون؟ قال: ((إذا كثر الخبث)). ويقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {واسألهم عن القرية الّتي كانت حاضرة البحر إذ يعدون في السّبت إذ تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرّعًا ويوم لا يسبتون لا تأتيهم كذلك نبلوهم بما كانوا يفسقون * وإذ قالتْ أمّة منهم لم تعظون قومًا الله مهلكهم أو معذّبهم عذابًا شديدًا قالوا معذرةً إلى ربكم ولعلّهم يتّقون * فلمّا نسوا ما ذكّروا به أنجينا الّذين ينهون عن السّوء وأخذنا الّذين ظلموا بعذاب بئيس بما كانوا يفسقون * فلمّا عتوا عن ما نهوا عنه قلنا لهم كونوا قردة خاسئين * وإذ تأذن ربّك ليبعثنّ عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب إنّ ربّك لسريع العقاب وإنّه لغفور رحيم * وقطّعناهم في الأرض أممًا منهم الصّالحون ومنهم دون ذلك وبلوناهم بالحسنات والسّيّئات لعلّهم يرجعون} (¬1) (¬2). فقد كثر الخبث: مصنع الخمر، والتبرّج والسفور، فالله أعلم ما سيحدث، دع عنك الخصام بين القبائل الذين لا يحكّمون كتاب الله، ولا سنة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم. ¬

(¬1) وجه الاستدلال بِهؤلاء الآيات: أنّ ارتكاب المنكر يكون سببًا للهلاك، والصحيح من أقوال العلماء أن الذي مُسِخ هي الطائفة المرتكبة للمنكر فحسب. (¬2) سورة الأعراف، آية: 163 - 168.

أما الذي يسند الأمور إلى الطبيعة ويقول: حوادث طبيعية، فإذا أراد أن الطبيعة هي المتصرفة فهو كافر. ففي "الصحيحين" عن زيد بن خالد الجهنيّ أنه قال: صلّى لنا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم صلاة الصّبح بالحديبية على إثر سماء كانت من اللّيلة، فلمّا انصرف النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم أقبل على النّاس فقال: ((هل تدرون ماذا قال ربّكمْ))؟ قالوا: الله ورسوله أعلم؟ قال: ((أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر، فأمّا من قال: مطرنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب، وأمّا من قال: بنوء كذا وكذا فذلك كافر بي مؤمن بالكوكب)). وفي "الصحيحين" عن عائشة وابن عباس وغيرهما رضي الله عنهم، أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: ((إنّ الشّمس والقمر لا يكسفان لموت أحد ولا لحياته، ولكنّهما من آيات الله يخوّف الله بهما عباده، فإذا رأيتم كسوفًا فاذكروا الله حتّى ينجليا)). ورب العزة يقول في كتابه الكريم: {إنّ الله يمسك السّماوات والأرض أن تزولا ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده إنّه كان حليمًا غفورًا} (¬1). فهل تستطيع أمريكا أن توقف الزّلزال، أو توقف الفيضانات المائيّة، أو تستطيع أن توقف المطر؟ بل لم تستطع في أهون من هذا، وهو علاج مرض ¬

(¬1) سورة فاطر، الآية: 41.

(الإيدز) وعلاج بعض الأمراض الحديثة. وحسبنا الله ونعم الوكيل ونعم المولى ونعم النصير.

الرد على الملاحدة الذين يسندون الحوادث إلى الطبيعة

الرد على الملاحدة الذين يسندون الحوادث إلى الطبيعة قال الله سبحانه وتعالى: {إنّ في خلق السّموات والأرض واختلاف اللّيل والنّهار والفلك الّتي تجري في البحر بما ينفع النّاس وما أنزل الله من السّماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبثّ فيها من كلّ دابّة وتصريف الرياح والسّحاب المسخّر بين السّماء والأرض لآيات لقوم يعقلون (¬1)}. وقال سبحانه وتعالى: {إنّ في خلق السّموات والأرض واختلاف اللّيل والنّهار لآيات لأولي الألباب} (¬2). وقال سبحانه وتعالى: {إذ قال الله ياعيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك إذ أيّدتّك بروح القدس تكلّم النّاس في المهد وكهلاً وإذ علّمتك الكتاب والحكمة والتّوراة والإنجيل وإذ تخلق من الطّين كهيئة الطّير بإذني فتنفخ فيها فتكون طيرًا بإذني وتبرئ الأكمه والأبرص بإذني وإذ تخرج الموتى بإذني وإذ كففت بني إسرائيل عنك إذ جئتهم بالبيّنات فقال الّذين كفروا منهم إن هذا إلا سحر مبين (¬3)}. وقال تعالى: {وهو الّذي أنشأ جنّات معروشات وغير معروشات ¬

(¬1) سورة البقرة، الآية: 164. (¬2) سورة آل عمران، الآية: 90. (¬3) سورة المائدة، الآية:110.

والنّخل والزّرع مختلفًا أكله والزّيتون والرّمّان متشابهًا وغير متشابه كلوا من ثمره إذا أثمر وآتوا حقّه يوم حصاده ولا تسرفوا إنّه لا يحبّ المسرفين (¬1)}. وقال تعالى: {إنّ ربّكم الله الّذي خلق السّموات والأرض في ستّة أيّام ثمّ استوى على العرش يغشي اللّيل النّهار يطلبه حثيثًا والشّمس والقمر والنّجوم مسخّرات بأمره ألا له الخلق والأمر تبارك الله ربّ العالمين (¬2)}. وقال تعالى: {وهو الّذي أنزل من السّماء ماءً فأخرجنا به نبات كلّ شيء فأخرجنا منه خضرًا نخرج منه حبًّا متراكبًا ومن النّخل من طلعها قنوان دانية وجنّات من أعناب والزّيتون والرّمّان مشتبهًا وغير متشابه انظروا إلى ثمره إذا أثمر وينعه إنّ في ذلكم لآيات لقوم يؤمنون} (¬3). وقال تعالى: {وهو الّذي يرسل الرياح بشرًا بين يدي رحمته حتّى إذا أقلّت سحابًا ثقالاً سقناه لبلد ميّت فأنزلنا به الماء فأخرجنا به من كلّ الثّمرات كذلك نخرج الموتى لعلّكم تذكّرون (¬4)}. وقال تعالى: {الله الّذي رفع السّموات بغير عمد ترونها ثمّ استوى على العرش وسخّر الشّمس والقمر كلّ يجري لأجل مسمًّى يدبر الأمر يفصّل الآيات لعلّكم بلقاء ربكم توقنون * وهو الّذي مدّ الأرض وجعل فيها ¬

(¬1) سورة الأنعام، الآية: 141. (¬2) سورة الأعراف، الآية: 154. (¬3) سورة الأنعام، الآية: 99. (¬4) سورة الأعراف، الآية: 57 - 58.

رواسي وأنْهارًا ومن كلّ الثّمرات جعل فيها زوجين اثنين يغشي اللّيل النّهار إنّ في ذلك لآيات لقوم يتفكّرون * وفي الأرض قطع متجاورات وجنّات من أعناب وزرع ونخيل صنوان وغير صنوان يسقى بماء واحد ونفضّل بعضها على بعض في الأكل إنّ في ذلك لآيات لقوم يعقلون} (¬1). وقال تعالى: {والله أنزل من السّماء ماءً فأحيا به الأرض بعد موتها إنّ في ذلك لآيةً لقوم يسمعون * وإنّ لكم في الأنعام لعبرةً نسقيكم ممّا في بطونه من بين فرث ودم لبنًا خالصًا سائغًا للشّاربين * ومن ثمرات النّخيل والأعناب تتّخذون منه سكرًا (¬2) ورزقًا حسنًا إنّ في ذلك لآيةً لقوم يعقلون * وأوحى ربّك إلى النّحل أن اتّخذي من الجبال بيوتًا ومن الشّجر وممّا يعرشون * ثمّ كلي من كلّ الثّمرات فاسلكي سبل ربك ذللاً يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للنّاس إنّ في ذلك لآيةً لقوم يتفكّرون (¬3)}. وقال تعالى: {وهو الله لا إله إلا هو له الحمد في الأولى والآخرة وله الحكم وإليه ترجعون * قل أرأيتم إن جعل الله عليكم اللّيل سرمدًا إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بضياء أفلا تسمعون * قل أرأيتم إن جعل الله عليكم النّهار سرمدًا إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بليل تسكنون فيه أفلا تبصرون * ومن رحمته جعل لكم اللّيل والنّهار لتسكنوا فيه ¬

(¬1) سورة الرعد، آية: 2 - 4. (¬2) هذا قبل تحريم الخمر. (¬3) سورة النحل، آية: 65 - 69.

ولتبتغوا من فضله ولعلّكم تشكرون (¬1)}. وقال سبحانه وتعالى: {ومن آياته أن خلقكم من تراب ثمّ إذا أنتم بشر تنتشرون * ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجًا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودّة ورحمةً إنّ في ذلك لآيات لقوم يتفكّرون * ومن آياته خلق السّموات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إنّ في ذلك لآيات للعالمين * ومن آياته منامكم باللّيل والنّهار وابتغاؤكم من فضله إنّ في ذلك لآيات لقوم يسمعون * ومن آياته يريكم البرق خوفًا وطمعًا وينزّل من السّماء ماءً فيحي به الأرض بعد موتها إنّ في ذلك لآيات لقوم يعقلون} (¬2). وقال تعالى: {أولم يهد لهم كم أهلكنا من قبلهم من القرون يمشون في مساكنهم إنّ في ذلك لآيات أفلا يسمعون * أولم يروا أنّا نسوق الماء إلى الأرض الجرز فنخرج به زرعًا تأكل منه أنعامهم وأنفسهم أفلا يبصرون (¬3)}. وقال تعالى: {والله خلقكم من تراب ثمّ من نطفة ثمّ جعلكم أزواجًا وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه وما يعمّر من معمّر ولا ينقص من عمره إلا في كتاب إنّ ذلك على الله يسير * وما يستوي البحران هذا عذب فرات سائغ شرابه وهذا ملح أجاج ومن كلّ تأكلون لحمًا طريًّا ¬

(¬1) سورة القصص، آية:70 - 73. (¬2) سورة الروم، آية:20 - 24. (¬3) سورة السجدة، آية: 26 - 27.

وتستخرجون حليةً تلبسونها وترى الفلك فيه مواخر لتبتغوا من فضله ولعلّكم تشكرون} (¬1). وقال تعالى: {وآية لهم الأرض الميتة أحييناها وأخرجنا منها حبًّا فمنه يأكلون * وجعلنا فيها جنّات من نخيل وأعناب وفجّرنا فيها من العيون ليأكلوا من ثمره وما عملته أيديهم أفلا يشكرون * سبحان الّذي خلق الأزواج كلّها ممّا تنبت الأرض ومن أنفسهم وممّا لا يعلمون * وآية لهم اللّيل نسلخ منه النّهار فإذا هم مظلمون * والشّمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم * والقمر قدّرناه منازل حتّى عاد كالعرجون القديم * لا الشّمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا اللّيل سابق النّهار وكلّ في فلك يسبحون * وآية لهم أنّا حملنا ذريّتهم في الفلك المشحون * وخلقنا لهم من مثله ما يركبون * وإن نشأ نغرقهم فلا صريخ لهم ولا هم ينقذون إلا رحمةً منّا ومتاعًا إلى حين} (¬2). وقال تعالى: {هو الّذي خلقكم من تراب ثمّ من نطفة ثمّ من علقة ثمّ يخرجكم طفلاً ثمّ لتبلغوا أشدّكم ثمّ لتكونوا شيوخًا ومنكم من يتوفّى من قبل ولتبلغوا أجلاً مسمًّى ولعلّكم تعقلون (¬3)}. وقال تعالى: {ومن آياته أنّك ترى الأرض خاشعةً فإذا أنزلنا عليها الماء ¬

(¬1) سورة فاطر، آية: 11 - 12. (¬2) سورة يس، آية: 33 - 44. (¬3) سورة غافر، الآية: 67.

اهتزّت وربتْ إنّ الّذي أحياها لمحيي الموتى إنّه على كلّ شيء قدير} (¬1). وقال تعالى: {إنّ في السّموات والأرض لآيات للمؤمنين * وفي خلقكم وما يبثّ من دابّة آيات لقوم يوقنون * واختلاف اللّيل والنّهار وما أنزل الله من السّماء من رزق فأحيا به الأرض بعد موتها وتصريف الرياح آيات لقوم يعقلون (¬2)}. وقال تعالى: {الّذي خلق سبْع سموات طباقًا ما ترى في خلق الرّحمن من تفاوت فارجع البصر هل ترى من فطور * ثمّ ارجع البصر كرّتين ينقلبْ إليك البصر خاسئًا وهو حسير * ولقد زيّنّا السّماء الدّنيا بمصابيح وجعلناها رجومًا للشّياطين وأعتدنا لهم عذاب السّعير} (¬3). وقال تعالى: {إنّ الله يمْسك السّموات والأرض أن تزولا ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده إنّه كان حليمًا غفورًا (¬4)}. وقال تعالى: {أولم يروا إلى الطّير فوقهم صافّات ويقْبضن ما يمسكهنّ إلا الرّحمن إنّه بكلّ شيء بصير (¬5)}. وقال سبحانه وتعالى: {فلينظر الإنسان إلى طعامه * أنّا صببنا الماء صبًّا * ثمّ شققنا الأرض شقًّا * فأنبتنا فيها حبًّا * وعنبًا وقضبًا * ¬

(¬1) سورة فصلت، الآية: 39. (¬2) سورة الجاثية، آية: 3 - 5. (¬3) سورة الملك، الآية: 3 - 5. (¬4) سورة فاطر، الآية: 41. (¬5) سورة الملك، الآية: 9.

وزيتونًا ونخلاً * وحدائق غلبًا * وفاكهةً وأبًّا * متاعًا لكم ولأنعامكم (¬1)} (¬2). إنك إذا تدبّرت هذه الآيات علمت أن الملاحدة ليسوا بعقلاء ولا بذوي سمع وبصر وفكر، ويقال للملاحدة الذين يسندون الأشياء إلى الطبيعة: هل هذه الطبيعة خالقة أم مخلوقه؟ قال الله سبحانه وتعالى: {أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون (¬3)}. لما كان العرب الذين نزل القرآن في عصرهم يفهمون الألفاظ العربية، قال جبير بن مطعم -وكان آنذاك مشركًا-: لما سمعت النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقرأ: {أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون}. قال: كاد قلبي أن يطير، وفي رواية: فوقع الإيمان في قلبي. أما هؤلاء فذاك أعجميّ، وذاك مخمور العقل، وذاك مخدّر بآلات الّلهو والطّرب، وذاك مخدّر بالفتيات الفاتنات، وذاك بليد، وذاك مشغول ببطنه، وصدق الله إذ يقول في وصفهم بأنّهم لا يعقلون ولا يسمعون ولا يهتدون ولا يتفكرون. إنه يقال لهم: مال هذه الطبيعة لا تخلق الآن جبالاً، ولا تخلق للناس زرعًا عند حاجتهم إليه؟ {كبرت كلمةً تخرج من أفواههم إن يقولون إلاّ ¬

(¬1) في الآيات القرآنية دليل أن هذا الكون صنع خالقٍ عليمٍ حكيمٍ خبير يصرَّفه كيف يشاء تعالى الله عما يقول الملاحدة علوًا كبيرًا. (¬2) سورة عبس، آية: 24 - 32. (¬3) سورة الطور، الآية: 35.

كذبًا (¬1)}. أليس البعرة تدل على البعير؟ والأثر يدل على المسير؟ فسماء ذات أبراج وأرض ذات فجاج لا تدل على اللطيف الخبير؟! ونسألهم: هل تستطيع الطبيعة أن تعلم ما في صدر المخلوق؟ وهل تستجيب للدعاء؟ أما الله سبحانه وتعالى فإنه يخبر نبيّه ببعض ما في صدور عباده، كما في دلائل النبوة. والمسلم يدعو الله فيستجيب له ويرى الإجابة أمامه. فهل تستطيع الطبيعة أن تجيب الدعاء؟ وهل تستطيع الطبيعة أن تكثّر الماء القليل الذي هو قدر صاع حتى يروي ويتوضأ منه الخلق الكثير؟ وهل تستطيع الطبيعة أن تكثّر الطعام القليل الذي لا يكفي ثلاثة فيكفي الخلق الكثير، وقد أجْري هذا الخير الكثير وغيره على يدي نبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم كما ذكرناه في "الصحيح المسند من دلائل النبوة. هل تستطيع الطبيعة أن تخالف سنة الله أو أن تخلق إنسانًا لا ينام؟ هؤلاء الطبائعيون أشبه بالحمر. ورب العزة يقول في كتابه الكريم: {وفي أنفسكم أفلا تبصرون (¬2)}. فهم لو نظروا في تصرف الله فيهم، وفي قلوبهم وإرادتهم لما كابروا، فليأمروا الطبيعة أن تخلق لنا إنسانًا لا يبول ولا يتغوط!! أولست تريد أمرًا وتصمم عليه ويريد الله أمرًا غيره فتنصرف إلى ما يريده الله؟ وهذا أمر يحس ¬

(¬1) سورة الكهف، الآية: 5. (¬2) سورة الذاريات، الآية: 21.

به كل أحد منا، ولكن صدق الله إذ يقول: {فإنّها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب الّتي في الصّدور} (¬1). العاقل تتوارد على قلبه الدلائل الإلهية حتى إنه لا يدري بأيّها يبدأ كما قيل: فيا عجبًا كيف يعصى الإله وفي كلّ شيء ... له آية ... أم كيف يجحده الجاحد تدلّ ... على أنه ... الواحد نحن نأسف لبعض الملاحدة المخذولين الذين منّ الله عليهم وجعلهم من ذوي اللسان العربي ثم لا يشكرون الله على هذه النعمة، ويتّبعون أناسًا كالأنعام بل هم أضل، ذاك كوبي، وذاك روسي، أعاجم لا يفهمون الإسلام على حقيقته ولا يفهمون قول الله ولا قول رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ولعل بعضهم لم يبلغه الإسلام على حقيقته. جدير بأبناء اليمن أن لا يودّعوا عقولهم لماركس ولينين ومن جرى مجراهم من أئمة الضلال، فأنتم أيها اليمنيون لكم مواقف طيّبة في الدفاع عن الإسلام في عهد رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وفي الفتوحات الإسلامية، ثم بعد هذا تلحقون بأنفسكم الخزي وتحرمون نعيم الجنة التي فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر. أي خير تحرمونه أيها الملاحدة؟ وأي خطر تعرّضون له أنفسكم؟ إنّها النار التي وقودها الناس والحجارة، وهناك لا تنفع المكابرة ولا ينفعك ¬

(¬1) سورة الحج، الآية: 46.

ماركس ولينين، بل يكونان أمامك في النار أعاذنا الله وإياكم من عمى البصيرة، وثبّتنا بالقول الثابت في الدنيا والآخرة وهو حسبنا ونعم الوكيل. والملاحدة الذين يقولون: حوادث طبيعية. ينكرون القيامة، كبرت كلمةً تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبًا. قال الله سبحانه وتعالى: {ويسألونك عن الجبال فقل ينسفها ربي نسفًا * فيذرها قاعًا صفصفًا * لا ترى فيها عوجًا ولا أمتًا (¬1)}. وقال سبحانه وتعالى: {بسم الله الرحمن الرحيم * إذا زلزلت الأرض زلزالها * وأخرجت الأرض أثقالها * وقال الإنسان ما لها * يومئذ تحدّث أخبارها * بأنّ ربّك أوحى لها * يومئذ يصدر النّاس أشتاتًا ليروا أعمالهم * فمن يعمل مثقال ذرّة خيرًا يره * ومن يعمل مثقال ذرّة شرًّا يره}. وقال سبحانه وتعالى: {ياأيّها النّاس إن كنتم في ريب من البعث فإنّا خلقناكم من تراب ثمّ من نطفة ثمّ من علقة ثمّ من مضغة مخلّقة وغير مخلّقة لنبيّن لكم ونقرّ في الأرحام ما نشاء إلى أجل مسمًّى ثمّ نخرجكم طفلاً ثمّ لتبلغوا أشدّكم ومنكم من يتوفّى ومنكم من يردّ إلى أرذل العمر لكيلا يعلم من بعد علم شيئًا وترى الأرض هامدة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزّت وربتْ وأنبتت من كلّ زوج بهيج * ذلك بأنّ الله هو الحقّ وأنّه يحي الموتى وأنّه على كلّ شيء قدير * وأنّ السّاعة آتية لا ريب فيها وأنّ الله يبعث من في القبور * ومن النّاس من يجادل في الله بغير علم ولا ¬

(¬1) سورة طه، آية: 105 - 107.

هدًى ولا كتاب منير * ثاني عطفه ليضلّ عن سبيل الله له في الدّنيا خزي ونذيقه يوم القيامة عذاب الحريق (¬1)}. وقال سبحانه وتعالى: {ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين * ثمّ جعلناه نطفةً في قرار مكين * ثمّ خلقنا النّطفة علقةً فخلقنا العلقة مضغةً فخلقنا المضغة عظامًا فكسونا العظام لحمًا ثمّ أنشأناه خلقًا آخر فتبارك الله أحسن الخالقين * ثمّ إنّكم بعد ذلك لميّتون * ثمّ إنّكم يوم القيامة تبعثون (¬2)}. وقال سبحانه وتعالى: {أولم ير الإنسان أنّا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم مبين * وضرب لنا مثلاً ونسي خلقه قال من يحي العظام وهي رميم * قل يحييها الّذي أنشأها أوّل مرّة وهو بكلّ خلق عليم * الّذي جعل لكم من الشّجر الأخضر نارًا فإذا أنتم منه توقدون * أوليس الّذي خلق السّموات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم بلى وهو الخلاّق العليم * إنّما أمره إذا أراد شيئًا أن يقول له كن فيكون * فسبحان الّذي بيده ملكوت كلّ شيء وإليه ترجعون} (¬3). وقال سبحانه وتعالى: {بسم الله الرحمن الرحيم * ق * والقرآن المجيد * بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم فقال الكافر ون هذا شيء عجيب * أئذا متنا وكنّا ترابًا ذلك رجع بعيد * قد علمنا ما تنقص الأرض منهم ¬

(¬1) سورة الحج، آية:5 - 9. (¬2) سورة المؤمنون، آية: 12 - 16. (¬3) سورة يس، آية: 77 - 83.

وعندنا كتاب حفيظ * بل كذّبوا بالحقّ لمّا جاءهم فهم في أمر مريج * أفلم ينظروا إلى السّماء فوقهم كيف بنيناها وزيّنّاها وما لها من فروج * والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كلّ زوج بهيج * تبصرة وذكرى لكلّ عبد منيب * ونزّلنا من السّماء ماءً مباركًا فأنبتنا به جنّات وحبّ الحصيد * والنّخل باسقات لها طلع نضيد * رزقًا للعباد وأحيينا به بلدةً ميتًا كذلك الخروج (¬1)}. وقال سبحانه وتعالى: {وكانوا يقولون أئذا متنا وكنّا ترابًا وعظامًا أئنّا لمبعوثون * أو آباؤنا الأوّلون * قل إنّ الأوّلين والآخرين * لمجموعون إلى ميقات يوم معلوم * ثمّ إنّكم أيّها الضّالّون المكذّبون * لآكلون من شجر من زقّوم * فمالئون منها البطون * فشاربون عليه من الحميم * فشاربون شرب الهيم * هذا نزلهم يوم الدّين * نحن خلقناكم فلولا تصدّقون * أفرأيتم ما تمنون * أأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون * نحن قدّرنا بينكم الموت وما نحن بمسبوقين * على أن نبدّل أمثالكم وننشئكم في ما لا تعلمون * ولقد علمتم النّشأة الأولى فلولا تذكّرون * أفرأيتم ما تحرثون * أأنتم تزرعونه أم نحن الزّارعون * لو نشاء لجعلناه حطامًا فظلتم تفكّهون * إنّا لمغرمون * بل نحن محرومون * أفرأيتم الماء الّذي تشربون * أأنتم أنزلتموه من المزن أم نحن المنزلون * لو نشاء جعلناه أجاجًا فلولا تشكرون * أفرأيتم النّار الّتي تورون * أأنتم أنشأتم شجرتها أم نحن المنشئون * نحن جعلناها تذكرة ومتاعًا للمقوين * ¬

(¬1) سورة ق، آية: 1 - 11.

فسبّح باسم ربّك العظيم (¬1)}. وقال سبحانه وتعالى: {فلولا إذا بلغت الحلقوم * وأنتم حينئذ تنظرون * ونحن أقرب إليه منكم ولكن لا تبصرون * فلولا إن كنتم غير مدينين * ترجعونها إن كنتم صادقين (¬2)}. وقال سبحانه وتعالى: {بسم الله الرحمن الرحيم * لا أقسم بيوم القيامة * ولا أقسم بالنّفس اللّوّامة * أيحسب الإنسان ألّن نجمع عظامه * بلى قادرين على أن نسوّي بنانه * بل يريد الإنسان ليفجر أمامه * يسأل أيّان يوم القيامة * فإذا برق البصر * وخسف القمر * وجمع الشّمس والقمر * يقول الإنسان يومئذ أين المفرّ * كلا لاوزر * إلى ربّك يومئذ المستقرّ * ينبّأ الإنسان يومئذ بما قدّم وأخّر (¬3)}. وقد سمّى الله القيامة بالحاقة، والواقعة، والطامة، والصاخة، والنبأ العظيم. ولو حصرتْ آيات البعث لكانت كتابًا مستقلاً، وما أحوج القارئ إلى تدبّرها من كتاب الله، وأما السّنة فقد ألّف الحافظ البيهقي كتابًا في البعث. فالمؤمن إذا آمن بالبعث وبالميزان والصراط والجنة والنار، وعلم أنه مسئول عن عمله؟ انكفّ عن المعاصي وأقبل على الطاعات، وأيضًا يصبر على المظالم إذا ظلم ويعلم أن تلك المظالم ستلقاه عند الله. أما الملاحدة فإنّهم ينكرون البعث لإشباع رغباتهم البهيمية، وأيضًا ¬

(¬1) سورة الواقعة، آية: 47 - 74. (¬2) سورة الواقعة، آية: 83 - 87. (¬3) سورة القيامة، آية: 1 - 13.

البعث يدعو إلى الإيمان بالله وهم لا يريدون أن يؤمنوا إلا بالإلحاد. قتلوا الأنفس البريئة المسلمة، وأخذوا أموال المسلمين ظلمًا وقهرًا، وهتكوا الأعراض، وأفسدوا البلاد والعباد، وهم أيضًا يزيّنون ذلك، وإذا عجزوا عن مقاومة قبيلة أرسلوا من يسمّم لهم المياه، فتنوا بحب السلطة الجائرة الظالمة، وغطّى الخمر على عقولهم عن تدبر الآيات التي فيها البعث والجزاء والحساب، ثم يشكّكون الناس بشبه داحضة من تلبيس إبليس، فإبليس في هذا الموضع أقل منهم مكابرة: {قال ربّ فأنظرني إلى يوم يبعثون * قال فإنّك من المنظرين * إلى يوم الوقت المعلوم} (¬1). ويقول الشيطان يوم القيامة ما حكاه الله عنه بقوله: {وقال الشّيطان لمّا قضي الأمر إنّ الله وعدكم وعد الحقّ ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخيّ إنّي كفرت بما أشركتموني من قبل إنّ الظّالمين لهم عذاب أليم} (¬2). والملاحدة الذين لا يؤمنون بالبعث أقل من القليل، وغالب أتباعهم إمّا أن يتّبعوهم خوفًا منهم، وإمّا عدم مبالاة بالدّين، إني أذكّر الجميع بقوله تعالى: {وبرزوا لله جميعًا فقال الضّعفاء للّذين استكبروا إنّا كنّا لكم تبعًا فهل أنتم مغنون عنّا من عذاب الله من شيء قالوا لو هدانا الله لهديناكم ¬

(¬1) سورة الحجر، آية: 36 - 38. (¬2) سورة إبراهيم، الآية: 22.

سواء علينا أجزعنا أم صبرنا ما لنا من محيص} (¬1). وبقوله تعالى: {ولو ترى إذ الظّالمون موقوفون عند ربّهم يرجع بعضهم إلى بعض القول يقول الّذين استضعفوا للّذين استكبروا لولا أنتم لكنّا مؤمنين * قال الّذين استكبروا للّذين استضعفوا أنحن صددناكم عن الهدى بعد إذ جاءكم بل كنتم مجرمين * وقال الّذين استضعفوا للّذين استكبروا بل مكر اللّيل والنّهار إذ تأمروننا أن نكفر بالله ونجعل له أندادًا وأسرّوا النّدامة لمّا رأوا العذاب وجعلنا الأغلال في أعناق الّذين كفروا هل يجزون إلا ما كانوا يعملون} (¬2). وقال تعالى: {ولو يرى الّذين ظلموا إذ يرون العذاب أنّ القوّة لله جميعًا وأنّ الله شديد العذاب * إذ تبرّأ الّذين اتّبعوا من الّذين اتّبعوا ورأوا العذاب وتقطّعت بهم الأسباب * وقال الّذين اتّبعوا لو أنّ لنا كرّة فنتبرّأ منهم كما تبرّؤا منّا كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم وما هم بخارجين من النّار} (¬3). هؤلاء الملاحدة رءوس الكفر والضلال سيتبرّءون من أتباعهم يوم القيامة. والآيات التي ذكرناها في البعث والنشور كافية لمن أراد الله هدايته، ومن يضلل فما له من هاد. ¬

(¬1) سورة إبراهيم، الآية: 21. (¬2) سورة سبأ، آية: 31 - 33. (¬3) سورة البقرة، آية:165 - 167.

ثم وجدت للحافظ ابن القيم رحمه الله كلامًا قيمًا حول الطبيعة في "مفتاح دار السعادة (ج2 ص 194) بتحقيق أخينا الفاضل: علي بن حسن بن علي بن عبد الحميد حفظه الله، قال رحمه الله: كرر النظر في نفسك فارجع الآن إلى نفسك، وكرر النظر فيك، فهو يكفيك. وتأمل أعضاءك وتقدير كل عضو منها للأرب والمنفعة المهيأ لها: فاليدان للعلاج والبطش والأخذ والإعطاء والمحاربة والدفع، والرجلان لحمل البدن والسعي والركوب وانتصاب القامة، والعينان للاهتداء والجمال والزينة والملاحة ورؤية ما في السموات والأرض وآياتهما وعجائبهما، والفم للغذاء والكلام والجمال وغير ذلك، والأنف للنّفس وإخراج فضلات الدماغ وزينةً للوجه، واللسان للبيان والترجمة عنك، والأذنان صاحبتا الأخبار تؤدّيانها إليك، واللسان يبلّغ عنك، والمعدة خزانة يستقر فيها الغذاء فتنضجه وتطبخه، وتصلحه إصلاحًا آخر وطبخًا آخر غير الإصلاح والطبخ الذي توليته من خارج، فأنت تعاني إنضاجه وطبخه وإصلاحه حتى تظن أنه قد كمل، وأنه قد استغنى عن طبخ آخر وإنضاج آخر، وطبّاخه الداخل ومنضجه يعاني من نضجه وطبخه ما لا تهتدي إليه ولا تقدر عليه، فهو يوقد عليه نيرانًا تذيب الحصى وتذيب ما لا تذيبه النار، وهي في ألطف موضع منك لا تحرقك ولا تلتهب عليك، وهي أشد حرارةً من النار، وإلا فما يذيب هذه الأطعمة الغليظة الشديدة جدًّا حتى يجعله ماءً ذائبًا! وجعل الكبد للتّخليص وأخذ صفو الغذاء وألطفه، ثم رتّب منها مجاري وطرق يسوق بها الغذاء إلى كل عضو وعظم وعصب ولحم وشعر وظفر، وجعل

المنافذ والأبواب لإدخال ما ينفعك وإخراج ما يضرك. وجعل الأوعية المختلفة خزائن تحفظ مادة حياتك: فهذه خزانة للطعام، وهذه خزانة للحرارة، وهذه خزائن للدم، وجعل منها خزائن مؤديات لئلا تختلط بالخزائن الأخر، فجعل خزائن للمرة السوداء، وأخرى للمرة الصفراء، وأخرى للبول، وأخرى للمني. فتأمل حال الطعام في وصوله إلى المعدة، وكيف يسري منها في البدن، فإنه إذا استقر فيها اشتملت عليه وانضمت، فتطبخه وتجيد صنعتة، ثم تبعثه إلى الكبد في مجار دقاق، وقد جعل بين الكبد وبين تلك المجاري غشاء كالمصفاة الضيّقة الأبخاش تصفّيه، فلا يصل إلى الكبد منة شيء غليظ خشن، فينكؤها لأن الكبد رقيقة لا تحمل الغليظ، فإذا قبلته الكبد أنفذته إلى البدن كله في مجار مهيأة له بمنْزلة المجاري المعدة للماء ليسلك في الأرض فيعمها بالسقي، ثم يبعث ما بقي من الخبث والفضول إلى مغايض ومصارف قد أعدّت لها، فما كان من مرّة صفراء بعثت به إلى المرارة، وما كان من مرّة سوداء بعثت به إلى الطحال، وما كان من الرطوبة المائية بعثت به إلى المثانة. فمن ذا الذي تولى ذلك كله وأحكمه ودبّره وقدّره فأحسن تقديره؟. وكأني بك أيها المسكين تقول: هذا كله من فعل الطبيعة، وفي الطبيعة عجائب وأسرار فلو أراد الله أن يهديك لسألت نفسك بنفسك، وقلت: أخبريني عن هذه الطبيعة، أهي ذات قائمة بنفسها لها علم وقدرة على هذه الأفعال العجيبة؟ أم ليست كذلك؟ بل عرض وصفة قائمة بالمطبوع تابعة له محمولة فيه.

فإن قالت لك: بل من ذات قائمة بنفسها، لها العلم التام والقدرة والإرادة والحكمة. فقل لها: هذا هو الخالق البارئ المصوّر، فلم تسمّيه طبيعةً!؟ ويالله من (¬1) ذكر الطبائع ومن يرغب فيها! فهلاّ سميته بما سمّى به نفسه على ألسن رسله ودخلت في جملة العقلاء والسعداء، فإن هذا الذي وصفت به الطبيعة صفته تعالى. وإن قالت لك: بل الطبيعة عرض محمول مفتقر إلى حامل، وهذا كله فعلها بغير علم منها ولا إرادة ولا قدرة ولا شعور أصلاً، وقد شوهد من آثارها ما شوهد! فقل لها: هذا ما لا يصدقه ذو عقل سليم، كيف تصدر هذه الأفعال العجيبة والحكم الدقيقة التي تعجز عقول العقلاء عن معرفتها وعن القدرة عليها ممن لا عقل (¬2) له ولا قدرة ولا حكمة ولا شعور؟ وهل التصديق بمثل هذا إلا دخول في سلك المجانين والمبرسمين (¬3). ثم قل لها بعد: ولو ثبت لك ما ادّعيت، فمعلوم أن مثل هذه الصفة ليست بخالقة لنفسها ولا مبدعة لذاتها، فمن ربها ومبدعها وخالقها؟ ومن طبعها وجعلها تفعل ذلك؟ فهي إذاً من أدلّ الدلائل على بارئها وفاطرها ¬

(¬1) في الأصل: (يالله عن ذكر الطبائع يرغب فيها)، والمثبت من نسخة أخرى. (¬2) في الأصل: فعل، والمثبت من نسخة أخرى. (¬3) من البرسام، وهو التهاب في الغشاء المحيط بالرئة. المعجم الوجيز ص (45)، يريد: من به مرض.

وكمال قدرته وعلمه وحكمته، فلم يجد بك تعطيلك رب العالم وجحْدك لصفاته وأفعاله إلا مخالفتك العقل والفطرة. ولو حاكمناك إلى الطبيعة لأريناك أنك خارج عن موجبها، فلا أنت مع موجب العقل ولا الفطرة ولا الطبيعة ولا الإنسانية أصلاً، وكفى بذلك جهلاً وضلالاً، فإن رجعت إلى العقل وقلت: لا يوجد حكمة إلا من حكيم قادر عليم، ولا تدبير متقن إلا من صانع قادر مختار مدبّر عليم بما يريد قادر عليه، لا يعجزه ولا يصعب عليه ولا يؤوده. قيل لك: فإذا أقررت -ويحك- بالخلاّق العظيم الذي لا إله غيره، ولا رب سواه فدع تسميته طبيعة أو عقلاً فعالاً أو موجبًا بذاته، وقل: هذا هو الله الخالق البارئ المصور رب العالمين وقيّوم السموات والأرضين ورب المشارق والمغارب الذي أحسن كل شيء خلقه وأتقن ما صنع، فما لك جحدت أسماءه وصفاته بل وذاته. وأضفت صنعه إلى غيره وخلقه إلى سواه، مع أنك مضطّر إلى الإقرار به وإضافة الإبداع والخلق والربوبية والتدبير إليه ولا بد، فالحمد لله رب العالمين. على أنك لو تأملت قولك: (طبيعة) ومعنى هذه اللفظة، لدلك على الخالق البارئ لفظها كما دل العقول عليه معناها، لأن (طبيعة) فعيلة بمعنى مفعولة، أي: مطبوعة، ولا يحتمل غير هذا البتّة، لأنّها على بناء الغرائز التي ركّبت في الجسم ووضعت فيه كالسجيّة والغريزة والبحيرة والسليقة والطبيعة، فهي التي طبع عليها الحيوان وطبعت فيه.

ومعلوم أن طبيعةً من غير طابع لها محال، فقد دل لفظ الطبيعة على الباري تعالى كما دل معناها (¬1) عليه. والمسلمون يقولون: إن الطبيعة خلق من خلق الله مسخّر مربوب، وهي سنته في خليقته التي أجراها عليه، ثم إنه يتصرف فيها كيف شاء وكما شاء، فيسلبها تأثيرها إذا أراد ويقلب تأثيرها إلى ضده إذا شاء ليري عباده أنه وحده البارئ المصور، وأنه يخلق ما يشاء كما يشاء: {إنّما أمره إذا أراد شيئًا أن يقول له كن فيكون (¬2)}. وأن الطبيعة التي انتهى نظر الخفافيش إليها إنما هي خلق من خلقه بمنزلة سائر مخلوقاته. فكيف يحسن بمن له حظ من إنسانية أو عقل أن ينسى من طبعها وخلقها ويحيل الصنع والإبداع عليها؟! ولم يزل الله سبحانه يسلبها قوتها ويحيلها ويقلبها إلى ضد ما جعلت له حتى يري عباده أنّها خلقه وصنعه مسخرة بأمره: {ألا له الخلق والأمر تبارك الله ربّ العالمين (¬3)}. اهـ وقال رحمه الله (ج2 ص213): من أين للطبيعة هذا الاختلاف والفرق الحاصل في النوع الإنساني بين ¬

(¬1) وهذه مناقشة قديمة لـ (الدهرية) القدماء، و (الملاحدة) الجدد، المسمين حينًا بـ (الشيوعيين) وآخر بـ (الإشتراكيين). (¬2) سورة يس، الآية:82. (¬3) سورة الأعراف، الآية: 54.

صورهم؟ فقلّ أن يرى اثنان متشابهان من كل وجه، وذلك من أندر ما في العالم، بخلاف أصناف الحيوان كالنعم والوحوش والطير وسائر الدواب، فإنك ترى السّرب من الظّباء، والثلّة من الغنم، والذود من الإبل، والصوار من البقر، تتشابه حتى لا يفرق بين أحد منها وبين الآخر إلا بعد طول تأمّل أو بعلامة ظاهرة، والناس مختلفة صورهم وخلقتهم، فلا يكاد اثنان منهم يجتمعان في صفة واحدة وخلقة واحدة، بل ولا صوت واحد ولا حنجرة واحدة. والحكمة البالغة في ذلك أن الناس يحتاجون إلى أن يتعارفوا بأعيانهم وحلاهم، لما يجري بينهم من المعاملات، فلولا الفرق والاختلاف في الصور لفسدت أحوالهم، وتشتت نظامهم، ولم يعرف الشاهد من المشهود عليه، ولا المدين من ربّ الدّيْن، ولا البائع من المشتري، ولا كان الرجل يعرف عرْسه (¬1) من غيرها للاختلاط، ولا هي تعرف بعلها من غيره، وفي ذلك أعظم الفساد والخلل، فمن الذي ميّز بين حلاهم وصورهم وأصواتهم، وفرّق بينها بفروق لا تنالها العبارة ولا يدركها الوصف؟! فسل المعطل: أهذا فعل الطبيعة؟ وهل في الطبيعة اقتضاء هذا الاختلاف والافتراق في النوع؟ وأين قول الطبائعيين: إن فعلها متشابه لأنّها واحدة في نفسها، لا تفعل بإرادة ولا مشيئة، فلا يمكن اختلاف أفعالها! فكيف يجمع المعطل بين هذا وهذا؟! ¬

(¬1) أي: زوجه.

{فإنّها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب الّتي في الصّدور} (¬1). وربما وقع في النوع الإنساني تشابه بين اثنين لا يكاد يميز بينهما، فتعظم عليهم المؤنة في معاملتهما، وتشتد الحاجة إلى تمييز المستحق منهما والمؤاخذ بذنبه ومن عليه الحق، وإذا كان (¬2) يعرض هذا في التشابه في الأسماء كثيرًا ويلقى الشاهد والحاكم من ذلك ما يلقى، فما الظن لو وضع التشابه في الخلقة والصورة؟! ولما كان الحيوان البهيم والطير والوحوش لا يضرها هذا التشابه شيئًا لم تدع الحكمة إلى الفرق بين كل زوجين منها، فتبارك الله أحسن الخالقين الذي وسعت حكمته كل شيء. اهـ ¬

(¬1) سورة الحج، الآية: 46. (¬2) لا يوجد في الأصل: (كان)، وأثبتناها من نسخة أخرى.

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، وصلى الله وسلّم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه وسلّم تسليمًا كثيرًا، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. أما بعد: فإن في قصص المتقدمين، وما أنزل الله بهم من غضبه وعقابه بسبب إعراضهم عن ما جاءت به رسلهم عبرةً وعضة. يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {وكأيّن من قرية عتت عن أمْر ربّها ورسله فحاسبناها حسابًا شديدًا وعذّبناها عذابًا نكرًا} (¬1). ويقول سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {فأمّا ثمود فأهلكوا بالطّاغية * وأمّا عاد فأهلكوا بريح صرصر عاتية * سخّرها عليهم سبع ليال وثمانية أيّام حسومًا فترى القوم فيها صرعى كأنّهم أعجاز نخل خاوية * فهل ترى لهم من باقية (¬2)}. وقال تعالى حاكيًا عن موسى: {وقال موسى ربّنا إنّك آتيت فرعون وملأه زينةً وأموالاً في الحياة الدّنيا ربّنا ليضلّوا عن سبيلك ربّنا اطمس على أموالهم واشْدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتّى يروا العذاب الأليم (¬3)}. ¬

(¬1) سورة الطلاق، الآية: 8. (¬2) سورة الحاقة، الآية: 5 - 8. (¬3) سورة يونس، الآية: 88.

وقال تعالى حاكيًا عن قوم يونس: {فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس لمّا آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدّنيا ومتّعناهم إلى حين (¬1)}. وقال تعالى: {ونخوّفهم فما يزيدهم إلا طغيانًا كبيرًا (¬2)}. فقصص الأولين تعتبر عبرة لنا وزاجرًا لنا، أن نرد شيئًا مما جاء به نبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فعلينا أن نتوب إلى الله. وقصة الثلاثة النفر الذين انطبقت عليهم الصخرة ثم فرجت عنهم بسبب أن تضرعوا إلى الله سبحانه وتعالى بصالح أعمالهم. ففي "الصحيحين" عن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما أنّ رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: ((بينما ثلاثة نفر ممّن كان قبلكم، إذ أصابهم مطر، فأووا إلى غار فانطبق عليهم. فقال بعضهم لبعض: إنّه والله يا هؤلاء لا ينجيكم إلا الصّدق، فليدْع كلّ رجل منكم بما يعلم أنّه قد صدق فيه. فقال واحد منهم: اللهمّ إن كنت تعلم أنّه كان لي أجير عمل لي على فرق من أرزّ فذهب وتركه، وأنّي عمدّت إلى ذلك الفرق فزرعته فصار من أمره أنّي اشتريت منه بقرًا، وأنّه أتاني يطلب أجره، فقلت له: اعمد إلى تلك البقر فسقها، فقال لي: إنّما لي عندك فرق من أرزّ. فقلت له: اعمد إلى تلك البقر، فإنّها من ذلك الفرق، فساقها. فإن كنت تعلم أنّي فعلت ذلك من خشيتك ففرج عنّا. فانساخت عنهم الصّخرة. فقال الآخر: اللهمّ إن ¬

(¬1) سورة يونس، الآية: 98. (¬2) سورة الإسراء، الآية:60.

كنت تعلم أنّه كان لي أبوان شيخان كبيران، فكنت آتيهما كلّ ليلة بلبن غنم لي، فأبطأت عليهما ليلةً فجئت وقد رقدا، وأهلي وعيالي يتضاغون من الجوع، فكنت لا أسقيهم حتّى يشرب أبواي، فكرهت أن أوقظهما، وكرهت أن أدعهما فيستكنّا لشربتهما، فلم أزل أنتظر حتّى طلع الفجر. فإن كنت تعلم أنّي فعلت ذلك من خشيتك ففرج عنّا. فانساخت عنهم الصّخرة حتّى نظروا إلى السّماء. فقال الآخر: اللهمّ إن كنت تعلم أنّه كان لي ابنة عمّ من أحبّ النّاس إليّ، وأنّي راودّتها عن نفسها فأبت إلا أن آتيها بمائة دينار، فطلبتها حتّى قدرْت فأتيتها بها، فدفعتها إليها، فأمكنتني من نفسها، فلمّا قعدت بين رجليها فقالت: اتّق الله ولا تفضّ الخاتم إلا بحقّه، فقمت وتركت المائة الدينار. فإن كنت تعلم أنّي فعلت ذلك من خشيتك ففرج عنّا. ففرّج الله عنهم فخرجوا)). فعلينا أن نتضرّع إلى الله أن يحفظ بلدنا، وعلينا أن نتضرّع إلى الله أن ينتقم ممن يريد نشر الفساد والفتن في بلدنا. فبلاد المسلمين كلها على خطر، والفساد فيها منتشر. أما أولئك الذين قدّر الله عليهم في هذا الزّلزال بالهدم فإنّهم إذا كانوا صالحين ولم يكونوا شيوعيّين، ولا بعثيّين، ولا ناصريّين، ولا حداثيّين، ولا علمانيّين، فإنّهم شهداء، ففي "الصحيحين" عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((الشّهداء خمسة -وذكر منهم:- صاحب الهدم)). لكن من كان متعلقًا بحزبيّة خبيثة كالشيوعيّين وغيرهم، أو كانت له نيّة

سوء، فإنه يبعث على نيّته الخبيثة. فعلينا أن نتوب وأن نرجع إلى الله سبحانه وتعالى، فإن الله يقبل التوبة من عبده، وأن نعلن الكفر بما أتانا من قبل أعداء الإسلام مما يخالف دين الإسلام. فيجب ألا نكون إمّعة، فقد أصبح المسلمون إمّعة، أصبحوا تبعًا: إما لحكامهم، وإما لعلماء السوء: {اتبعوا ما أنزل إليكم من ربّكم ولا تتّبعوا من دونه أولياء قليلاً ما تذكّرون (¬1)}. وفق الله الجميع لما يحب ويرضى. ¬

(¬1) سورة الأعراف، الآية: 13.

بسم الله الرحمن الرحيم إن الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فهو المهتدي، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. {ياأيّها الّذين آمنوا اتّقوا الله حقّ تقاته ولا تموتنّ إلا وأنتم مسلمون} {ياأيّها النّاس اتّقوا ربّكم الّذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبثّ منهما رجالا كثيرًا ونساءً واتّقوا الله الّذي تساءلون به والأرحام إنّ الله كان عليكم رقيبًا}. {ياأيّها الّذين آمنوا اتّقوا الله وقولوا قولا سديدًا يصلح لكم أعمالكم ويغفرْ لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزًا عظيمًا}. أما بعد: فيقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {ولقد أخذنا آل فرعون بالسّنين ونقص من الثّمرات لعلّهم يذكّرون * فإذا جاءتْهم الحسنة قالوا لنا هذه وإن تصبهم سيّئة يطّيّروا بموسى ومن معه ألا إنّما طائرهم عند الله ولكنّ أكثرهم لا يعلمون * وقالوا مهما تأتنا به من آية لتسحرنا بها فما نحن لك بمؤمنين * فأرسلنا عليهم الطّوفان والجراد والقمّل والضّفادع

والدّم آيات مفصّلات فاستكبروا وكانوا قومًا مجرمين (¬1)}. في هؤلاء الآيات المباركات بيان انتقام الله سبحانه وتعالى من الظالمين، إنّها سنة الله في خلقه وإن لله جنودًا: {وما يعلم جنود ربّك إلا هو (¬2)}. فجميع ما خلقه الله سبحانه وتعالى هو مسخر لإرادة الله وتحت أمره، فقد يبتلي الله سبحانه وتعالى الناس بالجوع، وأنت إذا قرأت في "المدهش" ص (64 - 70) لابن الجوزي رحمه الله وجدت أممًا تموت من الجوع. وفي "مسند الإمام أحمد" عن صهيب رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم إذا صلّى همس شيئًا لا نفهمه، ولا يحدّثنا به. قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((فطنتم لي))؟ قال قائل: نعم. قال: ((فإنّي قد ذكرت نبيًّا من الأنبياء أعطي جنودًا من قومه فقال: من يكافئ هؤلاء، أو من يقوم لهؤلاء، قال: فأوحى الله إليه: اختر لقومك بين إحدى ثلاث: إمّا أن أسلّط عليهم عدوًّا من غيرهم أو الجوع أو الموت. قال: فاستشار قومه في ذلك. فقالوا: أنت نبيّ الله نكل ذلك إليك فخر لنا. قال: فقام إلى صلاته. قال: وكانوا يفزعون إذا فزعوا إلى الصّلاة. قال: فصلّى. قال: أمّا عدوّ من غيرهم فلا، أو الجوع فلا، ولكن الموت. قال: فسلّط عليهم الموت ثلاثة أيّام فمات منهم سبعون ألفًا. فهمسي الّذي ترون أنّي أقول: اللهمّ يا ربّ بك أقاتل وبك أصاول ولا حول ولا قوّة إلا بالله)). فإذا قرأت في التاريخ تجد أممًا قد ماتت من الجوع، وربما ينتهي بهم ¬

(¬1) سورة الأعراف، الآية: 130 - 133. (¬2) سورة المدثر، الآية:31.

الحال إلى أن يأكل بعضهم بعضًا، ومن الذي يستطيع أن يقاوم الله؟ وأن يفرض إرادته على الله سبحانه وتعالى؟! ومن الأمم أيضًا: من مات بسبب المرض، أو بسبب من الأسباب، بل ربما تنْزل حجارةً من السماء، وكل هذا بسبب الذنوب. يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {وضرب الله مثلاً قريةً كانت آمنةً مطمئنّةً يأتيها رزقها رغدًا من كلّ مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون (¬1)}. إن هذه الأمة قد ارتكبت الجرائم التي ارتكبتها الأم المتقدمة. فعلينا أن نرجع إلى الله سبحانه وتعالى لعله يرحمنا. ويقول سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {لقد كان لسبإ في مسكنهم آية جنّتان عن يمين وشمال كلوا من رزق ربّكم واشكروا له بلدة طيّبة وربّ غفور * فأعرضوا فأرسلنا عليهم سيل العرم وبدّلناهم بجنّتيهم جنّتين ذواتي أكل خمط وأثل وشيء من سدر قليل (¬2)}. نذكر هذا حتى لا يغتر أحد بما آتاه الله سبحانه وتعالى: {قل أرأيتم إن أصبح ماؤكم غورًا فمن يأتيكم بماء معين (¬3)}. {وأحيط بثمره فأصبح يقلّب كفّيه على ما أنفق فيها وهي خاوية على ¬

(¬1) سورة النحل، الآية: 112. (¬2) سورة سبأ: 15، الآية-16. (¬3) سورة الملك، الآية: 30.

عروشها (¬1)}. وهكذا أيضًا جنة أصحاب (ن) وما حدث لها. فعلينا أن نرجع إلى الله سبحانه وتعالى، فإن عذاب الله شديد، وانتقام الله شديد، فهو وإن كان غفورًا رحيمًا فإنّه شديد العقاب. علينا أن نرجع إلى الله تعالى قبل أن يحلّ بنا ما حلّ بغيرنا. فإخواننا (بالعدين) أصبحوا مصرفًا للزكاة، وأصبحوا محتاجين إلى مد يد العون، ولكن أن ترسل مع يد أمينة، أو تذهب بما أعطاك الله من المال إلى أولئك المنكوبين الذين قد حلّت لهم المسألة. فإن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقول: ((إن المسألة لا تحلّ إلاّ لثلاثة -وذكر-: رجلاً أصابته جائحة)). فقد أصابتهم جائحة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه. وهذا أمر يعتبر موعظة وذكرى، وهو أن ترى البيوت المهدمة والمشققة إلى غير ذلك، فإن الله سبحانه وتعالى ينتقم لنفسه، فقد أصبح الناس لا ينتقمون لدين الله، ولكن ينتقمون لأنفسهم فالحدود معطلّة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر معطّل في كثير من البلاد الإسلامية الذي يقول فيه النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم كما في "سنن أبي داود" من حديث أبي بكر الصديق رضي الله عنه: ((ما من قوم يعمل فيهم بالمعاصي، ثمّ يقدرون على أن يغيّروا، ثمّ لا يغيّروا، إلا يوشك أن يعمّهم الله منه بعقاب)). وقد أخبرت أن في بعض البلاد المجاورة إذا كان الشخص عنده حملة ¬

(¬1) سورة الكهف، الآية: 42.

حطب، قد وضعها عند الباب، أو عنده كبش من الغنم، أو عنده سيارة إلى غير ذلك، فإنه يحتاج إلى أن يحرس هذا، فقلت للأخ: لعلها عصابة؟ قال: لا، ولكن عصابة الجوع. فعلينا أن نحمد الله سبحانه وتعالى، وأن نؤدي الزكاة، وأن نصل الرحم، ونساعد المنكوب، علينا أن نتقي الله، حتى يحفظنا الله سبحانه وتعالى في أنفسنا وأموالنا، وأولادنا وديننا، لا تقل: أنا ارتكبت ذنبًا صغيرًا ففي الناس من يرتكب الكبائر، لا، ولكن عليك نفسك وإصلاح نفسك، ثم أن تحاول إصلاح الآخرين: {ولولا دفع الله النّاس بعضهم ببعض لهدّمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرًا ولينصرنّ الله من ينصره إنّ الله لقويّ عزيز * الّذين إن مكّنّاهم في الأرض أقاموا الصّلاة وآتوا الزّكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور (¬1)}. فهل هذه الخصال متوفرة فينا؟ وهل هي متوفرة في مسئولينا؟ وهل هي متوفرة في مجتمعاتنا؟: {الّذين إن مكّنّاهم في الأرض أقاموا الصّلاة} فربما تقوم تصلي، وولدك نائم بين الفراش، {وآتوا الزّكاة}، صرفوها في مصارفها الثمانية: {وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر (¬2)} الأمر بالمعروف الذي يعتبر قطب رحى الإسلام، والرحى دائرة عليه، فقد أصبح ميّتا ومعدومًا في يمننا، ولو أنك أمرت بمعروف أو نهيت عن منكر، فأول من يعارضك الشيعة هداهم الله، أو قطع دابرهم. ¬

(¬1) سورة الحج، الآية: 40 - 41. (¬2) سورة الحج، الآية: 41.

وسأذكر قصة لا بد من ذكرها، فقد كان الأخ (محمد القعيصي) يدعو يهوديًّا إلى الإسلام، فجاء شاب شيعيّ يدخل بينه وبين اليهودي، والناس مجتمعون، والعساكر محيطون، وإذا هو يريد أن يعارض (القعيصي) فأخذ يده ولطمه حتى خرّ على قفاه، وانتقده الحاضرون كلهم، وقالوا: هذا اللئيم يسوؤه أن يسلم اليهودي. اللهم عليك بالشيعة فإنّهم وقفوا في وجه الدعوة، وأخّروا الدعوة إلى الله، فإنا لله وإنا إليه راجعون. فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يعتبر أمانًا لمجتمعاتنا أصبح ميّتًا، وأصبحت الشيعة يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف. فهم يأمرون بمحاربة أهل السنة وهو منكر، فماذا عمل بهم أهل السنة؟ وهم ينهون عن المعروف الذي هو دعوة أهل السنة إلى كتاب الله، وإلى سنة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم. ولسنا ننافسهم على كراسيهم، ولسنا نستحل دماءهم، ولا أعراضهم، ولا أموالهم. فإنا لله وإنا إليه راجعون.

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه وسلّم تسليمًا كثيرًا. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمدًا عبده ورسوله. أما بعد: فيقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فأخذناهم بالبأساء والضّرّاء لعلّهم يتضرّعون * فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرّعوا ولكن قست قلوبهم وزيّن لهم الشّيطان ما كانوا يعملون * فلمّا نسوا ما ذكّروا به فتحنا عليهم أبواب كلّ شيء حتّى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتةً فإذا هم مبلسون * فقطع دابر القوم الّذين ظلموا والحمد لله ربّ العالمين (¬1)}. إننا نخشى معشر المسلمين أن يكون ما فتحه الله سبحانه وتعالى على كثير من البلاد استدراجًا من الله سبحانه وتعالى، هل نشكر نعمته أم نكفرها؟ إن المسلمين الآن أصبحوا يهرولون بعد أعداء الإسلام، ويظنون أن أعداء الإسلام تقدّموا بسبب الكفر والإلحاد، وبسبب المعاصي، والواقع أن أعداء الإسلام تقدّموا بسبب جدّهم واجتهادهم. ¬

(¬1) سورة الأنعام، الآية: 42 - 45.

والمسلمون وخصوصا في الشعب اليمني، الثلثان من الوقت يضيّعونهما، لأن الطيّب منهم يشتغل إلى الظهر، ومن بعد الظهر على الشجرة الأثيمة (القات) إلى الساعة الرابعة من بعد العشاء وقد وجدت بعينيّ من يصلي المغرب والعشاء الساعة الرابعة بعد ما انتهى من مجلس القات ألستم مسئولين عن هذه الأوقات؟! إن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقول: ((لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتّى يسْأل عن أربع: عن عمره فيم أفناه، وعن جسده فيم أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم وضعه، وعن علمه ماذا عمل فيه)). ويقول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((احْرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجزْ)). فينبغي أن تحرص على ما ينفعك في أمر دينك ودنياك، وألاّ تكون كسولاً، وقد استعاذ النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بالله من العجز والكسل. شباب في خيرة أعمارهم يضيّعون أوقاتهم في هذه الشجرة الأثيمة. علينا أن نتقي الله، وأن نحرص على تعلّم العلم النافع، ونحرص على صلة الرحم، ونحرص على الإحسان إلى الجار، وقبل هذا كله على تعلم العقيدة الصحيحة. إذا أردتم أن يرفعكم الله فلا تكونوا إمّعة، فإن الذي يكون إمّعة لا يزال منهزمًا. انظروا إلى الذين صفّقوا (لصدام) أصبحوا منهزمين نفسيًا. إن تلك الشجرة الأثيمة أخذت عقول كثير من اليمنيين، وأنتم تعرفون، فبعضهم يذْهب به إلى (تعز) قد اختلّ عقله، وبعضهم يصبح مجنونًا، ينتظر

فصل في الجدوب وعموم الموت

متى يقتل شخصًا أو يقتل نفسه. شجرة خاطئة ابتلى الله اليمنيين بها، وابتلى الله الحبشة بها. فعلينا أن نصرف أوقاتنا فيما ينفعنا في طلب العلم حتى نعبد الله على بصيرة، وحتى نقول: نعم ولا، على بصيرة، فإذا قلت: نعم، تكون على بصيرة، وإذا قلت: لا، تكون على بصيرة. لا تكن إمّعة إن أحسن الناس أحسنّا وإن أساءوا أسأنا. فالشأن كل الشأن هو الرجوع إلى الله سبحانه وتعالى، حتى إذا حدثت حادثة أو آية من الآيات يصير الشخص إن نجا نجا، وإن لم ينج فإنه يبعث على نيّته، وقد كنت نقلت شيئًا من هذا في "المخرج من الفتنة" فيما ابتلى الله سبحانه وتعالى به أمة محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم من بعد نبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم إلى عصر ابن الجوزي، وهذا شيء قليل ذكره ابن الجوزي في المدهش" ولم يستوعب، وبقي من زمن ابن الجوزي إلى زمننا هذا لو أن شخصًا تتبّعه لكان أكثر وأكثر، ومما ينبغي أن يعلم أن الزّلزال لم يحدث على عهد النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ولا على عهد أبي بكر، وحدث على عهد عمر. قلنا: وقد سرد الحافظ ابن الجوزي رحمه الله تعالى في كتابه "المدهش" بعض الحوادث التي مرّت على أمة محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم من جوع وزلزال فرأيت إثباته لما فيه من العبرة قال رحمه الله: فصل في الجدوب وعموم الموت أجدبت الأرض في سنة ثماني عشرة، فكانت الريح تسفي ترابًا كالرّماد، فسمّي عام الرمادة، وجعلت الوحوش تأوي إلى الإنس، فآلى عمر ألاّ يذوق

سمنًا ولا لحمًا حتى يحيا الناس، واستسقى بالعباس فسقوا. وفيها كان طاعون عمواس، مات فيه أبوعبيدة، ومعاذ، وأنس. وفي سنة أربع وستين وقع طاعون بالبصرة، وماتت أم أميرهم فما وجدوا من يحملها. وفي سنة ست وتسعين كان طاعون الجارف، هلك في ثلاثة أيام سبعون ألفًا، ومات فيه لأنس ثمانون ولدًا، وكان يموت أهل الدار فيطيّن الباب عليهم-أي يصير البيت قبرًا لهم لأنه لا يوجد من يخرجهم إلى المقبرة ويحفر لهم قبرًا-. وفي سنة إحدى وثلاثين ومائة مات أول يوم في الطاعون سبعون ألفًا، وفي اليوم الثاني نيّف وسبعون ألفًا، وفي اليوم الثالث خمد الناس. وفي السنة التاسعة عشرة وثلاثمائة كثر الموت، وكان يدفن في القبر الواحد جماعة. وفي سنة أربع وثلاثين وثلاثمائة ذبح الأطفال، وأكلت الجيف، وبيع العقار برغفان، واشْتري لمعز الدولة كرّ دقيق بعشرين ألف درهم. وفي سنة أربع وأربعين وثلاثمائة عمّت الأمراض البلاد فكان يموت أهل الدار كلهم. وفي سنة ثمان وسبعين وثلاثمائة أصاب أهل البصرة حرّ فكانوا يتساقطون موتى في الطرقات. وفي سنة ثمان وأربعين وأربعمائة عم القحط فأكلت الميتة وبلغ المكوك -كتنور: مكيال- من برز البقلة سبعة دنانير والسفرجلة والرمانة دينارًا

فصل في الزلازل والآيات

والخيارة واللينوفرة دينارًا، وورد الخبر من (مصر) بأن ثلاثةً من اللصوص نقبوا دارًا فوجدوا عند الصباح موتى أحدهم على باب النقب والثاني على رأس الدرجة والثالث على الثياب المكورة. وفي السنة التي تليها وقع وباء فكانت تحفر زبية -بالضم: الرابية، وحفيرة الأسد- لعشرين وثلاثين فيلقون فيها، وتاب الناس كلهم وأراقوا الخمور ولزموا المساجد. وفي سنة ست وخمسين وأربعمائة وقع الوباء وبلغ الرطل من التمر الهندي أربعة دنانير. وفي سنة اثنتين وستين وأربعمائة اشتدّ الجوع والوباء بـ (مصر) حتى أكل الناس بعضهم بعضًا، وبيع اللوز والسكر بوزن الدراهم، والبيضة بعشرة قراريط، وخرج وزير صاحب (مصر) إليه فنزل عن بغلته فأخذها ثلاثة فأكلوها فصلبوا، فأصبح الناس لا يرون إلا عظامهم تحت خشبهم وقد أكلوا. وفي سنة أربع وستين وأربعمائة وقع الموت في الدواب، حتى إن راعيًا قام إلى الغنم وقت الصباح ليسوقها فوجدها كلها موتى. فصل في الزلازل والآيات زلزلت الأرض على عهد عمر في سنة عشرين. ودامت الزلازل في سنة أربع وتسعين، أربعين يومًا، ووقعت الأبنية الشاهقة، وتهدّمت (أنطاكية). وفي سنة أربع وعشرين ومائتين زلزلت (فرغانة) فمات فيها خمسة عشر

ألفًا. وفي السنة التي تليها رجفت (الأهواز) وتصدّعت الجبال، وهرب أهل البلد إلى البحر والسفن، ودامت ستة عشر يومًا. وفي السنة التي تليها مطر أهل (تيما) مطرًا وبردًا كالبيض، فقتل بها ثلاثمائة وسبعين إنسانًا، وسمع في ذلك صوت يقول: ارحم عبادك اعف عن عبادك، ونظروا إلى أثر قدم طولها ذراع، بلا أصابع، وعرضها شبر، ومن الخطوة إلى الخطوة خمسة أذرع أو ست، فاتبعوا الصوت فجعلوا يسمعون صوتًا ولا يرون شخصًا. وفي سنة ثلاث وثلاثين ومائتين رجفت (دمشق) رجفةً حتى انقضّت منها البيوت وسقطت على من فيها، فمات خلق كثير وانكفأت قرية في (الغوطة) على أهلها فلم ينج منهم إلا رجل واحد، وزلزلت (أنطاكية) فمات منها عشرون ألفًا. وفي السنة التي تليها هبّت ريح شديدة لم يعهد مثلها فاتّصلت نيفًا وخمسين يومًا، وشملت (بغداد) و (البصرة) و (الكوفة) و (واسط) و (عبّادان) و (الأهواز)، ثم ذهبت إلى (همذان) فأحرقت الزرع، ثم ذهبت إلى (الموصل) فمنعت الناس من السعي فتعطلت الأسواق، وزلزلت (هراة) فوقعت الدور. وفي سنة ثمان وثلاثين وجّه طاهر بن عبد الله إلى المتوكل حجرًا سقط بناحية (طبرستان) وزنه ثمانمائة وأربعون درهمًا أبيض فيه صدع، وذكروا أنه سمع لسقوطه هدة أربعة فراسخ في مثلها وأنه ساخ في الأرض خمسة

أذرع. وفي سنة أربعين ومائتين خرجت ريح من بلاد الترك فمرت بـ (مرو) فقتلت خلقًا كثيًرا بالزكام، ثم صارت إلى (نيسابور) وإلى (الرّي) ثم إلى (همذان) و (حلوان) ثم إلى (العراق)، فأصاب أهل (بغداد) و (سرمن رأى) حمّى وسعال وزكام، وجاءت كتب من المغرب أن ثلاث عشرة قرية من قرى (القيروان) خسف بها فلم ينج من أهلها إلا اثنان وأربعون رجلاً سود الوجوه، فأتوا القيروان فأخرجهم أهلها، وقالوا: أنتم مسخوط عليكم. فبنى لهم العامل حظيرةً خارج المدينة فنزلوها. وفي سنة احدى وأربعين ماجت النجوم في السماء وجعلت تتطاير شرقًا وغربًا كالجراد من قبل غروب الشمس إلى الفجر، ولم يكن مثل هذا إلا عند ظهور رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم. وفي السنة التي تليها رجمت قرية يقال لها: (السويدا) ناحية (مصر) بخمسة أحجار، فوقع حجر منها على خيمة أعرابي فاحترقت، ووزن منها حجر فكان فيه عشرة أرطال، وزلزلت (الرّي) و (جرجان) و (طبرستان) و (نيسابور) و (أصفهان) و (قم) و (قاشان) كلها في وقت واحد، وزلزلت (الدامغان) فهلك من أهلها خمسة وعشرون ألفًا، وتقطّعت جبال، ودنا بعضها من بعض، وسمع للسماء والأرض أصوات عالية فهلك من أهلها. وسار جبل باليمن عليه مزارع حتى أتى مزارع قوم آخرين، ووقع طائر أبيض دون الرّخمة وفوق الغراب على دلبة -شجرة - بـ (حلب) لسبع مضين من رمضان، فصاح: يا معشر الناس اتقوا الله الله الله حتى صاح

أربعين صوتًا ثم طار، وجاء من الغد فصاح أربعين صوتًا ثم طار، فكتب صاحب البريد بذلك، وأشهد خمسمائة إنسان سمعوه، ومات رجل في بعض (كور الأهواز) فسقط طائر أبيض على جنازته فصاح بالفارسية والخورية: إن الله قد غفر لهذا الميّت ولمن شهده. وفي سنة خمس وأربعين ومائتين زلزلت (أنطاكية) فسقط منها ألف وخمسمائة دار، ووقع من سورها نيّف وتسعون برجًا، وسمع أهلها أصواتًا هائلة من كوى المنازل، وسمع أهل (تنّيس) صيحةً هائلةً دامت فمات منها خلق كثير، وذهبت (جبلة) بأهلها. وفي سنة خمس وثلاثين ومائتين مطرت قرية حجارة بيضاء وسوداء. وفي سنة ثمان وثمانين زلزلت (دنبل) في الليل فأصبحوا ولم يبق من المدينة إلا اليسير، فأخرج من تحت الهدم خمسون ومائة ألف ميّت. وفي سنة تسع عشرة وثلاثمائة عدل حجاج عن الجادة خوفًا من العرب، فرأوا في البرية صور الناس من الحجارة، ورأوا امرأةً قائمة على تنور وهي من حجارة، والخبز الذي في التنور من حجارة. وفي سنة ثمان وسبعين وثلاثمائة هبّت ريح بـ (فم الصلح) شبهت بالتّنين، خرقت (دجلة)، حتى ذكر أنّها بانت أرضها وأهلكت خلقًا كثيرًا واحتملت زورقًا منحدرًا وفيه دواب فطرحته في أرض (جوخى) - قرية من عمل بغداد-. وفى سنة عشرين وأربعمائة جاء برد هائل، ووقعت بردة حزرت بمائة وخمسين رطلاً فكانت كالثور النائم.

وفي سنة أربع وثلاثين زلزلت (تبريز) فهدم سورها وقلعتها، وهلك تحت الهدم خمسون ألفًا. وفي سنة أربع وأربعين وأربعمائة كانت بـ (أذربيجان) زلازل انقطعت منها الحيطان، فحكى من يعتمد على قوله أنه كان قاعدًا في إيوان فانفرج حتى رأى السماء من وسطه ثم عاد. وفي سنة ستين وأربعمائة كانت زلزلة بـ (فلسطين) هلك فيها خمسة عشر ألفًا، وانشقت صخرة بيت المقدس، ثم عادت فالتأمت، وغاب البحر مسيرة يوم فساخ في الأرض فدخل الناس يلتقطون فرجع عليهم فأهلك خلقًا كثيرًا منهم. وفي سنة اثنتين وستين خسف بـ (أيلة) -بلد بين (ينبع) و (مصر) -. وفي سنة ست وخمسمائة سمع ببغداد صوت هدة عظيمة في أقطار بغداد في الجانبين، قال شيخنا أبوبكر بن عبد الباقي: أنا سمعتها، فظننت حائطًا قد وقع، ولم يعلم ما ذاك، ولم يكن في السماء غيم فيقال: رعد! وفي سنة سبع وقعت زلزلة بناحية الشام، ووقع من سور (الرهاء) -بلد بنواحي الشام- ثلاثة عشر برجًا، وخسف بـ (سميساط) -بلد على الفرات- وقلب بنصف القلعة. وفي سنة إحدى عشرة زلزلت الأرض ببغداد يوم عرفة فكانت الحيطان تمر وتجئ. وفي سنة خمس عشرة وقع الثلج ببغداد فامتلأت منه الشوارع والدروب ولم يسمع قبله بمثله.

وفي سنة ثلاث وثلاثين وخمسمائة كانت زلزلة بـ (جنزة) -بلدة عظيمة بإيران- أتت على مائتي ألف وثلاثين ألفًا فأهلكتهم، وكانت في مقدار عشرة فراسخ في مثلها. وفي السنة التي تليها خسف بـ (جنزة) وصار مكان البلد ماءً أسود، وقدم التجار من أهلها فلزموا المقابر يبكون على أهليهم. وزلزلت (حلوان) فتقطّع الجبل وهلك خلق كثير. وفي سنة اثنتين وخمسين وخمسمائة كانت زلازل بالشام في ثلاث عشر بلد من بلاد الإسلام، فمنها ما هلك كله ومنها ما هلك بعضه. اهـ ما ذكره رحمه الله. وقد ذكر الحافظ ابن كثير رحمه الله في كتاب "البداية" جلّ هذا مفرقًا على حوادث السنين وزاد عليه ما حدث بعد الحافظ ابن الجوزي رحمه الله. وفي هذا عبرة وذكرى فعسى الله أن يوفق المسلمين إلى الرجوع إلى الله، والتوبة الصادقة، ونبذ التقاليد الأجنبية المخالفة للكتاب والسنة. آمين. فائدة: كثرة الزلازل بضوران بذمار زمن الملك الظالم إسماعيل بن القاسم قال عبد الله بن علي الوزير في كتابه "طبق الحلوى" ص (311): وقبل ذلك اتفق بضوران خاصةً قريب من ثلاثين رجفة، قال بعض أقارب الإمام، وكان قد تضاعف على أهل اليمن الأسفل مطالب غير الزكاة والفطرة، والكفارة مثل مطلب الصلاة على المصلي وغيره، ومطلب

التنباق، ومطلب الرباح، ومطلب الرصاص والبارود، ومطلب سفرة الوالي، ومطلب العيد، فقال: وللإمام مندوحات (¬1) بما كان يأخذه، وقد كان حازمًا عالماً متيقّظًا فيحمل على السلامة، ولعل ذلك بسبب التظالم والمعاصي وقد ذكر السيوطي في كتاب "الصلصلة في الزلزلة" مايقضي بذلك، وقد وقع في القرآن العظيم ذكر الرجفة في قوم شعيب، وبعض أصحاب موسى وغيرهم لأسباب مختلفة يشملها سلوك ما لايرضاه الله حسبما تقضي به التفاسير. قال أبوعبد الرحمن: وهذا يدل على شؤم ذلك الملك الظالم كما قال ربنا عزوجل: {وكذلك أخْذ ربّك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إنّ أخذه أليم شديد (¬2)}. ¬

(¬1) أقول: لامندوحة له في استحلال أموال المسلمين، بل في طلبه منهم مالايطيقون فلا جزاه الله خيرًا. (¬2) سورة هود، الآية: 102.

الخاتمة تحصل مما تقدم أن الزّلزال قد يكون ابتلاءً من الله، وقد يكون بسبب الذنوب، ويكون مع هذا كله مقدرًا من الله، وقد تقدمت الأدلة على ذلك، والقائلون: إنّها براكين، إن أرادوا أنّها بقدر الله وبسبب الذنوب أو الابتلاء فلا تنافي بين هذا وما تقدم، وإن أرادوا أنّها حوادث طبيعية فهذا هو الذي يخالف الكتاب والسنة ويخالف أيضًا السنن الكونيّة في انتقامه سبحانه من أعدائه، وقد تقدم تفنيد ذلك وأنه إلحاد في آيات الله، وفي "الصحيحين" عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: ((إذا رأيتم الّذين يتّبعون ما تشابه منه، فأولئك الّذين سمّى الله فاحذروهم)). آمنا بالله وبكتابه وقدره، وكفرنا بما يقول الملحدون، وحسبنا الله ونعم الوكيل.

الرسالة الخامسة: ذم المسألة

الرسالة الخامسة: ذم المسألة

مقدمة الطبعة الثانية

بسم الله الرحمن الرحيم مقدمة الطبعة الثانية الحمد لله حمدًا مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لاشريك له، وأشهد أنّ محمدًا عبده ورسوله. أما بعد: فإني لما رأيت أقوامًا ممن يزعمون أنّهم دعاة إلى الله تخصصوا للتسول، وتركوا الإحتراف، فرب زرّاع يأكل أكلاً حلالاً من كسب يده، بل عمله من أفضل القربات، فقد روى البخاري ومسلم عن أنس عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه قال: ((ما من مسلم يغرس غرسًا، أو يزرع زرعًا، فيأكل منه طير، أو إنسان، أو بهيمة، إلاّ كان له به صدقة)). ورب شخص يعمل في التجارة، وهي أيضًا من أفضل القربات، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنّه سئل: أيّ الكسب أطيب؟ قال: ((عمل الرّجل بيده، وكلّ بيع مبرور)). بل ربما يكون الرجل بدويًّا يأكل مما تنتجه غنمه وإبله، فيرى المتسولين يفتحون المعارض، ويبنون العمائر، فيعفو لحيته ويتشبه بالدعاة إلى الله، ويحترف التسول، أفّ لها من وظيفة مشينة مزرية، وأقبح من هذا أن أناسًا يزعمون أنّهم دعاة إلى الله تخصّصوا للتسوّل باسم الدعوة، والله عزوجل يقول في نبيه محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم: {ولا يسألكم أموالكم * إن يسألكموها

فيحفكم تبخلوا ويخرج أضغانكم} (¬1). ويقول سبحانه وتعالى: {أم تسألهم أجرًا فهم من مغرم مثقلون} (¬2). ويقول سبحانه وتعالى حاكيًا عن بعض الصالحين إذ ينصح قومه: {اتّبعوا من لا يسألكم أجرًا وهم مهتدون} (¬3). ويقول سبحانه وتعالى حاكيًا عن نبي الله نوح عليه السلام: {وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلاّ على ربّ العالمين} (¬4). ويقول سبحانه وتعالى عن نبي الله هود عليه السلام: {وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلاّ على ربّ العالمين}. وهكذا حكى عن صالح، ولوط، وشعيب، عليهم السلام. هذا فما ظنك بمن لا تهمّه الدعوة، ولا يهمه إلا اختلاس الأموال والوثوب على مصارف الزكاة الثمانية، إنّها لأحدى الكبر. من الذي يظن أن محمدًا المهدي تهمّه الدعوة؟ وهو قد انسلخ من السنة، ويخشى عليه أن ينسلخ من الدين، وإليكم قضية حدثت في هذه الأيام، فقد حصل خصام بين فئتين، فانبرى محمد المهدي ومدير الناحية، وثالث يقال له: عبد الكريم، فحكموا بذبح أربعة أثوار عند المخطإ عليه، وهذا الذبح لغير الله حرام، وأكله حرام، لأنه ذبح لغير الله، فقيل: يا محمد ¬

(¬1) سورة محمد، الآية: 36 - 37. (¬2) سورة القلم، الآية: 46. (¬3) سورة يس، الآية: 21. (¬4) سورة الشعراء، الآية: 109.

نبذة من صبر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم والصحابة رضي الله عنهم على الفقر والجوع والعري

هذا حرام. قال: ما هو إلا صلح. وأخيرًا فإنني أنصح لأهل السنة أن يصبروا على الفقر، فهي الحال التي اختارها الله لنبيه محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ورب العزة يقول في كتابه الكريم: {ولنبلونّكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثّمرات وبشّر الصّابرين * الّذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنّا لله وإنّا إليه راجعون * أولئك عليهم صلوات من ربّهم ورحمة وأولئك هم المهتدون} (¬1). وإليك نبذة من صبر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم والصحابة رضي الله عنهم على الفقر والجوع والعري: 9 - قال الإمام مسلم رحمه الله (ج3 ص1609): حدثنا أبوبكر بن أبي شيبة حدثنا خلف بن خليفة عن يزيد بن كيسان عن أبي حازم عن أبي هريرة قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ذات يوم أو ليلة، فإذا هو بأبي بكر وعمر، فقال: ((ما أخرجكما من بيوتكما هذه السّاعة))؟ قالا: الجوع يا رسول الله، قال: ((وأنا، والّذي نفسي بيده، لأخرجني الّذي أخرجكما، قوموا))، فقاموا معه، فأتى رجلاً من الأنصار، فإذا هو ليس في بيته، فلمّا رأته المرأة قالت: مرحبًا وأهلاً، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((أين فلان))؟ قالت: ذهب يستعذب لنا من الماء. إذ جاء الأنصاريّ فنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وصاحبيه، ثمّ قال: الحمد لله، ما أحد اليوم أكرم أضيافًا منّي، قال: فانطلق فجاءهم بعذق فيه بسر، وتمر، ورطب، فقال: كلوا من هذه. ¬

(¬1) سورة البقرة، الآية: 155 - 157.

وأخذ المدية، فقال له رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((إيّاك والحلوب))، فذبح لهم فأكلوا من الشّاة، ومن ذلك العذق، وشربوا، فلمّا أن شبعوا ورووا، قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم لأبي بكر وعمر: ((والّذي نفسي بيده، لتسألنّ عن هذا النّعيم يوم القيامة، أخرجكم من بيوتكم الجوع، ثمّ لم ترجعوا حتّى أصابكم هذا النّعيم)). وحدثني إسحق بن منصور أخبرنا أبوهشام يعني المغيرة بن سلمة حدثنا عبد الواحد بن زياد حدثنا يزيد حدثنا أبوحازم قال سمعت أبا هريرة يقول: بينا أبوبكر قاعد وعمر معه، إذ أتاهما رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقال: ((ما أقعدكما هاهنا))؟ قالا: أخرجنا الجوع من بيوتنا والّذي بعثك بالحقّ. ثمّ ذكر نحو حديث خلف بن خليفة. 10 - قال البخاري رحمه الله (ج6 ص610): حدثنا محمد بن الحكم أخبرنا النضر أخبرنا إسرائيل أخبرنا سعد الطائي أخبرنا محل بن خليفة عن عدي بن حاتم قال: بينا أنا عند النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم إذ أتاه رجل فشكا إليه الفاقة، ثمّ أتاه آخر فشكا إليه قطع السّبيل، فقال: ((يا عديّ هل رأيت الحيرة))؟ قلت: لم أرها، وقد أنبئت عنها، قال: ((فإن طالت بك حياة لترينّ الظّعينة ترتحل من الحيرة، حتّى تطوف بالكعبة، لا تخاف أحدًا إلا الله))، قلت فيما بيني وبين نفسي: فأين دعّار طيّئ، الّذين قد سعّروا البلاد؟، ((ولئن طالت بك حياة لتفتحنّ كنوز كسرى)) قلت: كسرى بن هرمز؟ قال: ((كسرى ابن هرمز، ولئن طالت بك حياة لترينّ الرّجل يخرج ملء كفّه من ذهب أو فضّة، يطلب من يقبله منه، فلا يجد أحدًا يقبله منه، وليلقينّ الله أحدكم يوم يلقاه وليس بينه وبينه ترجمان، يترجم له، فليقولنّ له: ألم أبعث إليك

رسولاً فيبلّغك؟ فيقول: بلى، فيقول: ألم أعطك مالاً وأفضل عليك؟ فيقول: بلى، فينظر عن يمينه، فلا يرى إلا جهنّم، وينظر عن يساره، فلا يرى إلا جهنّم))، قال عديّ: سمعت النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقول: ((اتّقوا النّار ولو بشقّ تمرة، فمن لم يجد شقّ تمرة، فبكلمة طيّبة))، قال عديّ: فرأيت الظّعينة ترتحل من الحيرة حتّى تطوف بالكعبة، لا تخاف إلا الله، وكنت فيمن افتتح كنوز كسرى بن هرمز، ولئن طالت بكم حياة لترونّ ما قال النّبيّ أبوالقاسم صلى الله عليه وعلى آله وسلم يخرج ملء كفّه. 11 - قال الإمام الترمذي رحمه الله (ج7 ص33): حدثنا العباس بن محمد أخبرنا عبد الله بن يزيد المقرئ أخبرنا حيوة بن شريح حدثني أبوهانئ الخولاني أن أبا علي عمرو بن مالك الجنبي أخبره عن فضالة بن عبيد أنّ رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم كان إذا صلّى بالنّاس يخرّ رجال من قامتهم في الصّلاة من الخصاصة، وهم أصحاب الصّفّة، حتّى يقول الأعراب: هؤلاء مجانين، أو مجانون. فإذا صلّى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم انصرف إليهم، فقال: ((لو تعلمون ما لكم عند الله لأحببتم أن تزدادوا فاقةً وحاجةً)) قال فضالة: وأنا يومئذ مع رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم. هذا حديث حسن صحيح. 12 - قال مسلم رحمه الله (ج4 ص2278): حدثنا شيبان بن فروخ حدثنا سليمان بن المغيرة حدثنا حميد بن هلال عن خالد بن عمير العدوي قال: خطبنا عتبة بن غزوان فحمد الله وأثنى عليه، ثمّ قال: أمّا بعد فإنّ الدّنيا قد آذنت بصرم، وولّت حذّاء، ولم يبق منها إلا صبابة كصبابة الإناء يتصابّها صاحبها، وإنّكم منتقلون منها إلى دار لا زوال لها، فانتقلوا بخير

ما بحضرتكم، فإنّه قد ذكر لنا أنّ الحجر يلقى من شفة جهنّم فيهوي فيها سبعين عامًا لا يدرك لها قعرًا، ووالله لتملأنّ، أفعجبتم؟ ولقد ذكر لنا أنّ ما بين مصراعين من مصاريع الجنّة مسيرة أربعين سنةً، وليأتينّ عليها يوم وهو كظيظ من الزّحام، ولقد رأيتني سابع سبعة مع رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ما لنا طعام إلا ورق الشّجر حتّى قرحت أشداقنا. 13 - قال الإمام البخاري رحمه الله (ج13 ص303): حدثنا سليمان ابن حرب حدثنا حماد عن أيوب عن محمد قال: كنّا عند أبي هريرة، وعليه ثوبان ممشّقان من كتّان، فتمخّط، فقال: بخ بخ أبوهريرة يتمخّط في الكتّان! لقد رأيتني وإنّي لأخرّ فيما بين منبر رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم إلى حجرة عائشة مغشيًّا عليّ، فيجيء الجائي فيضع رجله على عنقي ويرى أنّي مجنون، وما بي من جنون ما بي إلا الجوع. وأخرجه الترمذي (ج7 ص33) وقال: هذا حديث حسن صحيح غريب. 14 - قال الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله (ج3 ص1625) بتحقيق محمد فؤاد عبد الباقي: حدثنا أبوبكر بن أبي شيبة حدثنا شبابة بن سوار حدثنا سليمان بن المغيرة عن ثابت عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن المقداد قال: أقبلت أنا وصاحبان لي، وقد ذهبت أسماعنا وأبصارنا من الجهد، فجعلنا نعرض أنفسنا على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فليس أحد منهم يقبلنا، فأتينا النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم فانطلق بنا إلى أهله، فإذا ثلاثة أعنز، فقال النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((احتلبوا هذا اللّبن بيننا)) قال: فكنّا نحتلب فيشرب كلّ إنسان منّا نصيبه، ونرفع للنّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم نصيبه، قال: فيجيء من اللّيل فيسلّم تسليمًا لا يوقظ نائمًا، ويسمع اليقظان، قال: ثمّ يأتي المسجد فيصلّي، ثمّ يأتي شرابه

فيشرب، فأتاني الشّيطان ذات ليلة وقد شربت نصيبي، فقال: محمّد يأتي الأنصار فيتحفونه، ويصيب عندهم، ما به حاجة إلى هذه الجرعة، فأتيتها فشربتها، فلمّا أن وغلت في بطني، وعلمت أنّه ليس إليها سبيل، قال: ندّمني الشّيطان، فقال: ويحك ما صنعت؟ أشربت شراب محمّد فيجيء فلا يجده، فيدعو عليك، فتهلك فتذهب دنياك وآخرتك. وعليّ شملة، إذا وضعتها على قدميّ خرج رأسي وإذا وضعتها على رأسي خرج قدماي، وجعل لا يجيئني النّوم، وأمّا صاحباي فناما، ولم يصنعا ما صنعت، قال: فجاء النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم فسلّم كما كان يسلّم، ثمّ أتى المسجد فصلّى، ثمّ أتى شرابه فكشف عنه فلم يجد فيه شيئًا، فرفع رأسه إلى السّماء، فقلت: الآن يدعو عليّ فأهلك، فقال: ((اللهمّ أطعم من أطعمني، وأسق من أسقاني))، قال: فعمدت إلى الشّملة فشددتها عليّ، وأخذت الشّفرة، فانطلقت إلى الأعنز أيّها أسمن، فأذبحها لرسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فإذا هي حافلة، وإذا هنّ حفّل كلّهنّ، فعمدت إلى إناء لآل محمّد صلى الله عليه وعلى آله وسلم ما كانوا يطمعون أن يحتلبوا فيه، قال: فحلبت فيه حتّى علته رغوة، فجئت إلى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقال: ((أشربتم شرابكم اللّيلة))، قال: قلت: يا رسول الله اشرب. فشرب، ثمّ ناولني، فقلت: يا رسول الله اشرب. فشرب، ثمّ ناولني، فلمّا عرفت أنّ النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم قد روي وأصبت دعوته، ضحكت، حتّى ألقيت إلى الأرض، قال: فقال النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((إحدى سوآتك يا مقداد)) فقلت: يا رسول الله كان من أمري كذا وكذا، وفعلت كذا. فقال النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((ما هذه إلا رحمة من الله، أفلا كنت آذنتني، فنوقظ صاحبينا فيصيبان منها)) قال: فقلت: والّذي بعثك بالحقّ ما أبالي إذا أصبتها وأصبتها معك، من أصابها

من النّاس. وحدثنا إسحاق بن إبراهيم أخبرنا النضر بن شميل حدثنا سليمان بن المغيرة بهذا الإسناد. 15 - قال البخاري رحمه الله (ج2 ص427) حدثنا سعيد بن أبي مريم قال حدثنا أبوغسان قال حدثني أبوحازم عن سهل قال: كانت فينا امرأة تجعل على أربعاء في مزرعة لها سلقًا، فكانت إذا كان يوم جمعة تنْزع أصول السّلق فتجعله في قدر، ثمّ تجعل عليه قبضةً من شعير تطحنها، فتكون أصول السّلق عرقه، وكنّا ننصرف من صلاة الجمعة فنسلّم عليها، فتقرّب ذلك الطّعام إلينا، فنلعقه، وكنّا نتمنّى يوم الجمعة لطعامها ذلك. 16 - قال البخاري رحمه الله (ج7 ص83): حدثنا عمرو بن عون حدثنا خالد بن عبد الله عن إسماعيل عن قيس قال: سمعت سعدًا رضي الله عنه يقول: إنّي لأوّل العرب رمى بسهم في سبيل الله، وكنّا نغزو مع النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم وما لنا طعام إلا ورق الشّجر، حتّى إنّ أحدنا ليضع كما يضع البعير أو الشّاة ما له خلط، ثمّ أصبحت بنو أسد تعزّرني على الإسلام، لقد خبت إذًا وضلّ عملي. وكانوا وشوا به إلى عمر، قالوا: لا يحسن يصلّي. 17 - قال الإمام مسلم رحمه الله (ج1 ص55): حدثنا أبوبكر بن النضر بن أبي النضر قال حدثني أبوالنضر هاشم بن القاسم حدثنا عبيد الله الأشجعي عن مالك بن مغول عن طلحة بن مصرف عن أبي صالح عن أبي هريرة قال: كنّا مع النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم في مسير، قال: فنفدت أزواد القوم، قال: حتّى همّ بنحر بعض حمائلهم، قال: فقال عمر: يا رسول الله لو جمعت

ما بقي من أزواد القوم، فدعوت الله عليها. قال: ففعل، قال: فجاء ذو البرّ ببرّه، وذو التّمر بتمره، -قال: وقال مجاهد-: وذو النّواة بنواه، قلت: وما كانوا يصنعون بالنّوى؟ قال: كانوا يمصّونه ويشربون عليه الماء، قال: فدعا عليها، حتّى ملأ القوم أزودتهم، قال: فقال عند ذلك: ((أشهد أن لا إله إلا الله، وأنّي رسول الله، لا يلقى الله بهما عبد غير شاكّ فيهما، إلا دخل الجنّة)). حدثنا سهل بن عثمان وأبوكريب محمد بن العلاء جميعًا عن أبي معاوية، قال أبوكريب: حدثنا أبومعاوية عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة أو عن أبي سعيد (¬1) -شك الأعمش- قال: لمّا كان غزوة تبوك أصاب النّاس مجاعة، قالوا: يا رسول الله لو أذنت لنا فنحرنا نواضحنا فأكلنا وادّهنّا. فقال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((افعلوا)) قال: فجاء عمر، فقال: يارسول الله إن فعلت قلّ الظّهر، ولكن ادعهم بفضل أزوادهم، ثمّ ادع الله لهم عليها بالبركة، لعلّ الله أن يجعل في ذلك، فقال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((نعم)) قال: فدعا بنطع فبسطه، ثمّ دعا بفضل أزوادهم، قال: فجعل الرّجل يجيء بكفّ ذرة، قال: ويجيء الآخر بكفّ تمر، قال: ويجيء الآخر بكسرة، حتّى اجتمع على النّطع من ذلك شيء يسير، قال: فدعا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم عليه بالبركة، ثمّ قال: ((خذوا في أوعيتكم))، قال: فأخذوا في أوعيتهم، حتّى ما تركوا في العسكر وعاءً إلا ملئوه، قال: فأكلوا حتّى شبعوا، ¬

(¬1) هذا التردد لا يضر الحديث، لأن الأشجعي قد جزم أنه أبوهريرة، وأيضًا الصحابة كلهم عدولٌ فلا يضر.

وفضلت فضلة، فقال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((أشهد أن لا إله إلا الله، وأنّي رسول الله، لا يلقى الله بهما عبد غير شاكّ فيحجب عن الجنّة)). 18 - قال البخاري رحمه الله (ج5 ص128): حدثنا بشر بن مرحوم حدثنا حاتم بن إسماعيل عن يزيد بن أبي عبيد عن سلمة رضي الله عنه قال: خفّت أزواد القوم وأملقوا، فأتوا النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم في نحر إبلهم، فأذن لهم، فلقيهم عمر فأخبروه، فقال: ما بقاؤكم بعد إبلكم؟ فدخل على النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقال: يا رسول الله ما بقاؤهم بعد إبلهم؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((ناد في النّاس فيأتون بفضل أزوادهم)) فبسط لذلك نطع، وجعلوه على النّطع، فقام رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فدعا وبرّك عليه، ثمّ دعاهم بأوعيتهم، فاحتثى النّاس حتّى فرغوا، ثمّ قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((أشهد أن لا إله إلا الله، وأنّي رسول الله)). 19 - قال البخاري رحمه الله (ج11 ص281): حدثني أبونعيم بنحو من نصف هذا الحديث حدثنا عمر بن ذر حدثنا مجاهد أنّ أبا هريرة كان يقول: والله الّذي لا إله إلا هو، إن كنت لأعتمد بكبدي على الأرض من الجوع، وإن كنت لأشدّ الحجر على بطني من الجوع، ولقد قعدت يومًا على طريقهم الّذي يخرجون منه، فمرّ أبوبكر فسألته عن آية من كتاب الله، ما سألته إلا ليشبعني، فمرّ ولم يفعل، ثمّ مرّ بي عمر فسألته عن آية من كتاب الله، ما سألته إلا ليشبعني، فمرّ فلم يفعل، ثمّ مرّ بي أبوالقاسم صلى الله عليه وعلى آله وسلم فتبسّم حين رآني، وعرف ما في نفسي، وما في وجهي، ثمّ قال: ((يا أبا هرّ))، قلت: لبّيك يا رسول الله. قال: ((الحقْ)) ومضى، فتبعته فدخل

فاستأذن فأذن لي، فدخل فوجد لبنًا في قدح، فقال: ((من أين هذا اللّبن))؟ قالوا: أهداه لك فلان، أو فلانة. قال: ((أبا هرّ)) قلت: لبّيك يا رسول الله. قال: ((الحق إلى أهل الصّفّة فادعهم لي))، قال: وأهل الصّفّة أضياف الإسلام لا يأوون إلى أهل ولا مال، ولا على أحد، إذا أتته صدقة بعث بها إليهم، ولم يتناول منها شيئًا، وإذا أتته هديّة أرسل إليهم وأصاب منها، وأشركهم فيها، فساءني ذلك، فقلت: وما هذا اللّبن في أهل الصّفّة، كنت أحقّ أنا أن أصيب من هذا اللّبن شربةً أتقوّى بها، فإذا جاء أمرني فكنت أنا أعطيهم، وما عسى أن يبلغني من هذا اللّبن، ولم يكن من طاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم بدّ، فأتيتهم فدعوتهم فأقبلوا، فاستأذنوا فأذن لهم، وأخذوا مجالسهم من البيت، قال: ((يا أبا هرّ)) قلت: لبّيك يا رسول الله، قال: ((خذ فأعطهم)) قال: فأخذت القدح فجعلت أعطيه الرّجل فيشرب حتّى يروى، ثمّ يردّ عليّ القدح، فأعطيه الرّجل فيشرب حتّى يروى، ثمّ يردّ عليّ القدح، فيشرب حتّى يروى، ثمّ يردّ عليّ القدح، حتّى انتهيت إلى النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم وقد روي القوم كلّهم، فأخذ القدح فوضعه على يده فنظر إليّ فتبسّم فقال: ((أبا هرّ))، قلت: لبّيك يا رسول الله. قال: ((بقيت أنا وأنت)) قلت: صدقت يا رسول الله. قال: ((اقعد فاشرب)) فقعدت فشربت، فقال: ((اشرب))، فشربت، فما زال يقول: ((اشرب))، حتّى قلت: لا والّذي بعثك بالحقّ ما أجد له مسلكًا. قال: ((فأرني)) فأعطيته القدح فحمد الله وسمّى، وشرب الفضلة. 20 - قال البخاري رحمه الله (ج9 ص226): وقال إبراهيم عن أبي عثمان واسمه الجعد عن أنس بن مالك قال: مرّ بنا في مسجد بني رفاعة،

فسمعته يقول: كان النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم إذا مرّ بجنبات أمّ سليم دخل عليها، فسلّم عليها، ثمّ قال: كان النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم عروسًا بزينب، فقالت لي أمّ سليم: لو أهدينا لرسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم هديّةً، فقلت لها: افعلي. فعمدت إلى تمر وسمن وأقط، فاتّخذت حيسةً في برمة، فأرسلت بها معي إليه، فانطلقت بها إليه. فقال لي: ((ضعها))، ثمّ أمرني، فقال: ((ادع لي رجالاً -سمّاهم- وادع لي من لقيت))، قال: ففعلت الّذي أمرني، فرجعت فإذا البيت غاصّ بأهله، فرأيت النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم وضع يديه على تلك الحيسة، وتكلّم بها ما شاء الله، ثمّ جعل يدعو عشرةً عشرةً، يأكلون منه، ويقول لهم: ((اذكروا اسم الله، وليأكل كلّ رجل ممّا يليه)) قال: حتّى تصدّعوا كلّهم عنها، فخرج منهم من خرج، وبقي نفر يتحدّثون، قال: وجعلت أغتمّ، ثمّ خرج النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم نحو الحجرات، وخرجت في إثره، فقلت: إنّهم قد ذهبوا فرجع، فدخل البيت وأرخى السّتر، وإنّي لفي الحجرة وهو يقول: {يا أيّها الّذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النّبيّ إلا أن يؤذن لكم إلى طعام غير ناظرين إناه ولكن إذا دعيتم فادخلوا فإذا طعمتم فانتشروا ولا مستأنسين لحديث إنّ ذلكم كان يؤذي النّبيّ فيستحيي منكم والله لا يستحيي من الحقّ} قال أبوعثمان: قال أنس: إنّه خدم رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم عشر سنين. 21 - قال البخاري رحمه الله (ج6 ص586): حدثنا عبد الله بن يوسف أخبرنا مالك عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة أنّه سمع أنس بن مالك يقول: قال أبوطلحة لأمّ سليم: لقد سمعت صوت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ضعيفًا، أعرف فيه الجوع، فهل عندك من شيء؟ قالت: نعم. فأخرجت أقراصًا من شعير، ثمّ أخرجت خمارًا لها، فلفّت الخبز ببعضه، ثمّ دسّته

تحت يدي ولاثتني ببعضه، ثمّ أرسلتني إلى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، قال: فذهبت به، فوجدت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم في المسجد ومعه النّاس، فقمت عليهم، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((آرسلك أبوطلحة))؟ فقلت: نعم، قال: ((بطعام))؟ فقلت: نعم. فقال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم لمن معه: ((قوموا)) فانطلق وانطلقت بين أيديهم حتّى جئت أبا طلحة فأخبرته، فقال أبوطلحة: يا أمّ سليم قد جاء رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم بالنّاس، وليس عندنا ما نطعمهم. فقالت: الله ورسوله أعلم، فانطلق أبوطلحة، حتّى لقي رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فأقبل رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وأبوطلحة معه، فقال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((هلمّي يا أمّ سليم ما عندك))، فأتت بذلك الخبز، فأمر به رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ففتّ وعصرت أمّ سليم عكّةً، فأدمته، ثمّ قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فيه ما شاء الله أن يقول، ثمّ قال: ((ائذن لعشرة))، فأذن لهم، فأكلوا حتّى شبعوا، ثمّ خرجوا، ثمّ قال: ((ائذن لعشرة))، فأذن لهم، فأكلوا حتّى شبعوا، ثمّ خرجوا، ثمّ قال: ((ائذن لعشرة))، فأذن لهم، فأكلوا حتّى شبعوا، ثمّ خرجوا، ثمّ قال: ((ائذن لعشرة))، فأكل القوم كلّهم وشبعوا، والقوم سبعون أو ثمانون رجلاً. أخرجه مسلم (ج3 ص1612). 22 - قال البخاري رحمه الله (ج7 ص395): حدثني عمرو بن علي حدثنا أبوعاصم أخبرنا حنظلة بن أبي سفيان أخبرنا سعيد بن ميناء قال سمعت جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: لمّا حفر الخندق رأيت بالنّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم خمصًا شديدًا، فانكفأت إلى امرأتي، فقلت: هل عندك شيء؟ فإنّي رأيت برسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم خمصًا شديدًا. فأخرجت إليّ جرابًا فيه صاع من شعير، ولنا بهيمة داجن فذبحتها، وطحنت الشّعير، ففرغتْ إلى فراغي

وقطّعتها في برمتها، ثمّ ولّيت إلى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فقالت: لا تفضحني برسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وبمن معه. فجئته فساررته، فقلت: يا رسول الله ذبحنا بهيمةً لنا، وطحنّا صاعًا من شعير كان عندنا، فتعال أنت ونفر معك. فصاح النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقال: ((ياأهل الخندق، إنّ جابرًا قد صنع سورًا، فحيّ هلاً بكم))، فقال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((لا تنْزلنّ برمتكم، ولا تخبزنّ عجينكم، حتّى أجيء)) فجئت وجاء رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقدم النّاس، حتّى جئت امرأتي، فقالت: بك وبك. فقلت: قد فعلت الّذي قلت، فأخرجت له عجينًا فبصق فيه وبارك، ثمّ عمد إلى برمتنا فبصق وبارك، ثمّ قال: ((ادع خابزةً فلتخبز معي، واقدحي من برمتكم، ولا تنْزلوها))، وهم ألف، فأقسم بالله لقد أكلوا حتّى تركوه، وانحرفوا، وإنّ برمتنا لتغطّ كما هي، وإنّ عجيننا ليخبز كما هو. قال البخاري رحمه الله (ج7 ص 395): حدثنا خلاد بن يحيى حدثنا عبد الواحد بن أيمن عن أبيه قال: أتيت جابرًا رضي الله عنه، فقال: إنّا يوم الخندق نحفر فعرضت كدية شديدة، فجاءوا النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقالوا: هذه كدية عرضت في الخندق، فقال: ((أنا نازل)) ثمّ قام وبطنه معصوب بحجر، ولبثنا ثلاثة أيّام لا نذوق ذواقًا، فأخذ النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم المعول، فضرب فعاد كثيبًا أهيل، أو أهيم، فقلت: يا رسول الله ائذن لي إلى البيت. فقلت لامرأتي: رأيت بالنّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم شيئًا ما كان في ذلك صبر، فعندك شيء؟ قالت: عندي شعير وعناق، فذبحت العناق، وطحنت الشّعير، حتّى جعلنا اللّحم في البرمة، ثمّ جئت النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم والعجين قد انكسر، والبرمة بين الأثافيّ قد كادت أن تنضج، فقلت: طعيّم لي، فقم أنت يا رسول الله ورجل أو

رجلان. قال: ((كم هو))؟ فذكرت له، قال: ((كثير طيّب))، قال: ((قل لها: لا تنْزع البرمة، ولا الخبز من التّنّور، حتّى آتي)) فقال: ((قوموا))، فقام المهاجرون والأنصار، فلمّا دخل على امرأته قال: ويحك، جاء النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم بالمهاجرين والأنصار ومن معهم، قالت: هل سألك؟ قلت: نعم. فقال: ((ادخلوا ولا تضاغطوا))، فجعل يكسر الخبز ويجعل عليه اللّحم ويخمّر البرمة والتّنّور إذا أخذ منه ويقرّب إلى أصحابه، ثمّ ينْزع فلم يزل يكسر الخبز ويغرف، حتّى شبعوا، وبقي بقيّة، قال: ((كلي هذا وأهدي، فإنّ النّاس أصابتهم مجاعة)). وأخرجه مسلم (ج3 ص1610). 23 - قال البخاري رحمه الله (ج5 ص128): حدثنا عبد الله بن يوسف أخبرنا مالك عن وهب بن كيسان عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أنّه قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم بعثًا قبل السّاحل، فأمّر عليهم أبا عبيدة بن الجرّاح، وهم ثلاث مائة، وأنا فيهم، فخرجنا، حتّى إذا كنّا ببعض الطّريق، فني الزّاد، فأمر أبوعبيدة بأزواد ذلك الجيش فجمع ذلك كلّه، فكان مزودي تمر، فكان يقوّتنا كلّ يوم قليلاً قليلاً، حتّى فني، فلم يكن يصيبنا إلا تمرة تمرة، فقلت: وما تغني تمرة؟، فقال: لقد وجدنا فقدها حين فنيت. قال: ثمّ انتهينا إلى البحر فإذا حوت مثل الظّرب، فأكل منه ذلك الجيش ثماني عشرة ليلةً، ثمّ أمر أبوعبيدة بضلعين من أضلاعه فنصبا، ثمّ أمر براحلة فرحلت، ثمّ مرّت تحتهما، فلم تصبهما. وأخرجه مسلم (ج3 ص 1536). 24 - قال البخاري رحمه الله (ج5 ص230): حدثنا أبوالنعمان حدثنا

المعتمر بن سليمان عن أبيه عن أبي عثمان عن عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنهما قال: كنّا مع النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ثلاثين ومائةً، فقال النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((هل مع أحد منكم طعام)) فإذا مع رجل صاع من طعام أو نحوه، فعجن ثمّ جاء رجل مشرك مشعانّ طويل بغنم يسوقها، فقال النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((بيعًا أم عطيّةً))؟ -أو قال: ((أم هبةً))؟ - قال: لا، بل بيع. فاشترى منه شاةً، فصنعت، وأمر النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم بسواد البطن أن يشوى، وايم الله ما في الثّلاثين والمائة، إلا قد حزّ النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم له حزّةً من سواد بطنها، إن كان شاهدًا أعطاها إيّاه، وإن كان غائبًا خبأ له، فجعل منها قصعتين، فأكلوا أجمعون وشبعنا، ففضلت القصعتان فحملناه على البعير. أو كما قال. وأخرجه مسلم (ج3 ص1637). 25 - قال البخاري رحمه الله (ج1 ص215): حدثنا أحمد بن أبي بكر أبومصعب قال حدثنا محمد بن إبراهيم بن دينار عن ابن أبي ذئب عن سعيد المقبريّ عن أبي هريرة قال: قلت: يا رسول الله إنّي أسمع منك حديثًا كثيرًا أنساه، قال: ((ابسط رداءك))، فبسطته، قال: فغرف بيديه ثمّ قال: ((ضمّه))، فضممته، فما نسيت شيئًا بعده. حدثنا إبراهيم بن المنذر قال حدثنا ابن أبي فديك بهذا أو قال: غرف بيده فيه. وقال رحمه الله (ج4 ص287): حدثنا أبواليمان حدثنا شعيب عن الزهريّ قال أخبرني سعيد بن المسيب وأبوسلمة بن عبد الرحمن أنّ أبا هريرة رضي الله عنه قال: إنّكم تقولون: إنّ أبا هريرة يكثر الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وتقولون: ما بال المهاجرين والأنصار لا يحدّثون عن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم بمثل حديث أبي هريرة، وإنّ إخوتي من المهاجرين، كان يشغلهم

صفق بالأسواق، وكنت ألزم رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم على ملء بطني، فأشهد إذا غابوا، وأحفظ إذا نسوا، وكان يشغل إخوتي من الأنصار عمل أموالهم، وكنت امرأً مسكينًا من مساكين الصّفّة أعي حين ينسون، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم في حديث يحدّثه: ((إنّه لن يبسط أحد ثوبه حتّى أقضي مقالتي هذه، ثمّ يجمع إليه ثوبه إلا وعى ما أقول))، فبسطت نمرةً عليّ حتّى إذا قضى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم مقالته جمعتها إلى صدري، فما نسيت من مقالة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم تلك من شيء. وأخرجه مسلم (ج4 ص1939، 1940). 26 - قال الإمام أحمد رحمه الله (ج3 ص417): حدثنا علي بن إسحاق أخبرنا عبد الله يعني ابن مبارك قال أخبرنا الأوزاعيّ قال حدثني المطلب بن حنطب المخزوميّ قال حدثني عبد الرحمن بن أبي عمرة الأنصاريّ حدثني أبي قال: كنّا مع رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم في غزاة فأصاب النّاس مخمصة، فاستأذن النّاس رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم في نحر بعض ظهورهم، وقالوا: يبلّغنا الله به، فلمّا رأى عمر بن الخطّاب أنّ رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم قد همّ أن يأذن لهم في نحر بعض ظهرهم، قال: يا رسول الله كيف بنا إذا نحن لقينا القوم غدًا جياعًا أرجالاً، ولكن إن رأيت يا رسول الله أن تدعو لنا ببقايا أزوادهم فتجمعها ثمّ تدعو الله فيها بالبركة، فإنّ الله تبارك وتعالى سيبلّغنا بدعوتك. أو قال: سيبارك لنا في دعوتك. فدعا النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ببقايا أزوادهم فجعل النّاس يجيئون بالحثية من الطّعام، وفوق ذلك، وكان أعلاهم من جاء بصاع من تمر، فجمعها رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ثمّ قام فدعا ما شاء الله أن يدعو، ثمّ دعا الجيش بأوعيتهم فأمرهم أن يحتثوا. فما بقي في الجيش وعاء إلا

ملئوه، وبقي مثله، فضحك رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم حتّى بدت نواجذه، فقال: ((أشهد أن لا إله إلا الله، وأنّي رسول الله لا يلقى الله عبد مؤمن بهما إلا حجبت عنه النّار يوم القيامة)). حديث صحيح ورجاله ثقات. 27 - قال الإمام ابن حبان رحمه الله كما في "الموارد" ص (418): أخبرنا عبد الله بن محمد بن سلم (¬1) حدثنا حرملة بن يحيى حدثنا ابن وهب أخبرني عمرو بن الحارث عن سعيد بن أبي هلال عن نافع بن جبير عن ابن عباس أنّه قيل لعمر بن الخطاب: حدّثنا عن شأن العسرة. قال: خرجنا إلى تبوك في قيظ شديد، فنزلنا منزلاً أصابنا فيه عطش، حتّى ظننّا أنّ رقابنا ستنقطع، حتّى إنْ كان الرّجل ليذهب يلتمس المًاء فلا يرجع حتّى نظنّ أنّ رقبته ستنقطع حتّى إنّ الرّجل لينحر بعيره فيعصر فرثه فيشربه، ويجعل مابقي على كبده، فقال أبوبكر الصّدّيق: يارسول الله قد عوّدك الله في الدّعاء خيرًا، فادع؟ قال: ((أتحبّ ذّلك))؟ قال: نعم. قال: فرفع يديه صلى الله عليه وعلى آله وسلمفلم يرجعها حتّى أطلّت سحابة ثمّ سكبت، فملأوا ما معهم، ثمّ ذهبنا ننظر فلم نجدها جاوزت العسكر. حديث صحيح، وحرملة بن يحيى أعلم الناس في ابن وهب قاله الدوري عن ابن معين كما في "تهذيب التهذيب". ¬

(¬1) لم أجد له ترجمة، وقد أكثر عنه ابن حبان رحمه الله، لكن في المقدمة للموارد أنه: المقدسي الخطيب، فرجعت إلى الأنساب فوجدته عبد الله بن سالم، فالظاهر أنه نُسب إلى جده، وتحرَّف سلمٌ إلى سالم، وقد وصِف بأنه مكثرٌ، وذكر من الرواة عنه ابن حبان.

28 - قال الإمام محمد بن حبان رحمه الله كما في "الموارد" ص (526): أنبأنا عمر بن محمد الهمداني (¬1) حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح حدثنا يحيى بن سليم حدثنا عبد الله بن عثمان بن خثيم عن أبي الطفيل عن ابن عباس أنّ رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم لمّا نزل مران حيث صالح قريشًا، بلغ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنّ قريشًا تقول: إنّما بايع أصحاب محمّد ضعفًا وهولاً (¬2) فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: لو نحرنا ظهرنا فأكلنا لحومها وشحومها، وحسونا من المرق، أصبحنا غدًا إذا غدونا عليهم وبنا جمام، قال: ((لا ولكن ائتوني بما فضل من أزوادكم))، فبسطوا أنطاعًا ثمّ صبّوا عليها مافضل من أزوادهم، فدعا لهم النّبيّصلى الله عليه وعلى آله وسلم بالبركة، فأكلوا حتّى تضلّعوا شبعًا، ثمّ كفتوا مافضل من أزوادهم في جربهم. هذا حديث حسن، ويحيى بن سليم قد تكلّم فيه، ولكنه قال الإمام أحمد: قد أتقن حديث ابن خثيم، كما في "تهذيب التهذيب" وخص النسائي ضعفه في عبيد الله بن عمر العمري كما في "تهذيب التهذيب)). 29 - قال الإمام أحمد رحمه الله (ج3 ص487): حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث قال حدثني أبي حدثنا داود يعني ابن أبي هند عن أبي حرب، أنّ طلحة حدّثه وكان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: أتيت المدينة وليس لي بها معرفة، فنزلت في الصّفّة مع رجل، فكان بيني وبينه كلّ يوم مدّ من تمر، فصلّى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ذات يوم، فلمّا انصرف، قال رجل من ¬

(¬1) هو عمر بن محمد بن بجير، وهو حافظٌ كبيرٌ كما في تذكرة الحفاظ. (¬2) كذا، فليراجع إن شاء الله مصدرٌ أخر، من أجل النظر لعل ماههنا محرف.

أصحاب الصّفّة: يا رسول الله أحرق بطوننا التّمر، وتخرّقت عنّا الخنف. فصعد رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فخطب ثمّ قال: ((والله لو وجدت خبزًا، أو لحمًا لاطعمتكموه، أما إنّكم توشكون أن تدركوا، ومن أدرك ذلك منكم أن يراح عليكم بالجفان، وتلبسون مثل أستار الكعبة))، قال: فمكثت أنا وصاحبي ثمانية عشر يومًا وليلةً، ما لنا طعام إلا البرير (¬1)، حتّى جئنا إلى إخواننا من الأنصار، فواسونا، وكان خير ما أصبنا هذا التّمر. حديث صحيح على شرط مسلم. 30 - قال الإمام أحمد رحمه الله (ج2 ص324): حدثنا عبد الصمد حدثني أبي ثنا الجريري عن عبد الله بن شقيق قال: أقمت بالمدينة مع أبي هريرة سنةً، فقال لي ذات يوم، ونحن عند حجرة عائشة: لقد رأيتنا وما لنا ثياب إلا البراد المفتّقة، وإنّه ليأتي على أحدنا الأيّام ما يجد طعامًا يقيم به صلبه، حتّى إن كان أحدنا ليأخذ الحجر فيشدّه على أخمص بطنه، ثمّ يشدّه بثوبه ليقيم به صلبه، فقسّم رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ذات يوم بيننا تمرًا، فأصاب كلّ إنسان منّا سبع تمرات فيهنّ حشفة، فما سرّني أنّ لي مكانها تمرةً جيّدةً، قال: قلت: لم، قال: تشدّ لي من مضغي. هذا حديث صحيح على شرط مسلم، والجريري هو: سعيد بن إياس مختلط، ولكن عبد الوارث بن سعيد، سمع منه قبل الإختلاط كما في "الكواكب النيرات". 31 - قال الإمام البخاري رحمه الله (ج2 ص298): حدثنا محمد بن كثير قال أخبرنا سفيان عن أبي حازم عن سهل بن سعد قال: كان النّاس ¬

(¬1) البرير: ثمر الأراك إذا اسودَّ وبلغ، وقيل: هو اسمٌ له في كل حال، النهاية.

يصلّون مع النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم وهم عاقدو أزرهم من الصّغر على رقابهم، فقيل للنّساء: لا ترفعن رءوسكنّ حتّى يستوي الرّجال جلوسًا. قال الحافظ في "الفتح" (ج1 ص348): وفي رواية أبي داود من طريق وكيع عن الثوري: عاقدي أزرهم في أعناقهم من ضيق الأزر. اهـ المراد من "الفتح". 32 - قال الإمام أحمد رحمه الله (ج2 ص348): حدثنا سريج بن النعمان قال ثنا سفيان بن عيينة عن الزهري عن عروة عن أسماء بنت أبي بكر قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((يا معشر النّساء، من كان منكنّ تؤمن بالله واليوم الآخر، فلا ترفع رأسها حتّى يرفع الإمام رأسه))، من ضيق ثياب الرّجال. هذا حديث صحيح رجاله رجال الصحيح. 33 - قال الإمام البخاري رحمه الله (ج3 ص142): حدثنا محمد بن مقاتل أخبرنا عبد الله أخبرنا شعبة عن سعد بن إبراهيم عن أبيه إبراهيم أن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه أتي بطعام، وكان صائمًا، فقال: قتل مصعب بن عمير، وهو خير منّي، كفّن في بردة إن غطّي رأسه بدت رجلاه، وإن غطّي رجلاه بدا رأسه. وأراه قال: وقتل حمزة وهو خير منّي، ثمّ بسط لنا من الدّنيا ما بسط. أو قال: أعطينا من الدّنيا ما أعطينا، وقد خشينا أن تكون حسناتنا عجّلت لنا، ثمّ جعل يبكي، حتّى ترك الطّعام. 34 - قال الإمام البخاري رحمه الله (ج3 ص142): حدثنا عمر بن حفص بن غياث حدثنا أبي حدثنا الأعمش حدثنا شقيق حدثنا خباب رضي الله عنه قال: هاجرنا مع النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم نلتمس وجه الله، فوقع أجرنا على الله فمنّا من مات لم يأكل من أجره شيئًا، منهم: مصعب بن عمير،

ومنّا من أينعت له ثمرته فهو يهدبها، قتل يوم أحد فلم نجد ما نكفّنه، إلا بردةً، إذا غطّينا بها رأسه، خرجت رجلاه، وإذا غطّينا رجليه خرج رأسه، فأمرنا النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم أن نغطّي رأسه، وأن نجعل على رجليه من الإذخر. 35 - قال الإمام البخاري رحمه الله (ج10 ص322): حدثنا عبد الله ابن مسلمة حدثنا عبد العزيز بن أبي حازم أنّه سمع سهلاً يقول: جاءت امرأة إلى النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقالت: جئت أهب نفسي. فقامت طويلاً، فنظر وصوّب، فلمّا طال مقامها، فقال رجل: زوّجنيها إن لم يكن لك بها حاجة. قال: ((عندك شيء تصدقها))؟ قال: لا. قال: ((انظر)) فذهب، ثمّ رجع، فقال: والله إنْ وجدت شيئًا. قال: ((اذهب فالتمس ولو خاتمًا من حديد)) فذهب، ثمّ رجع قال: لا والله ولا خاتمًا من حديد. وعليه إزار ما عليه رداء، فقال: أصدقها إزاري؟ فقال النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((إزارك إن لبسته لم يكن عليك منه شيء، وإن لبسْته لم يكن عليها منه شيء))، فتنحّى الرّجل فجلس، فرآه النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم مولّيًا، فأمر به فدعي، فقال: ((ما معك من القرآن))؟ قال: سورة كذا وكذا، لسور عدّدها، قال: ((قد ملّكتكها بما معك من القرآن)). 36 - قال الإمام أبوداود رحمه الله (ج8 ص306): حدثنا أبوتوبة الربيع بن نافع أخبرنا معاوية بن سلاّم عن زيد أنّه سمع أبا سلاّم قال حدثني عبد الله (¬1) الهوزني قال: لقيت بلالاً مؤذّن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم بحلب، فقلت: يا بلال حدّثني كيف كانت نفقة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم؟ قال: ما كان له ¬

(¬1) هو عبد الله بن لحي الهوزني.

شيء، كنت أنا الّذي ألي ذلك منه منذ بعثه الله إلى أن توفّي، وكان إذا أتاه الإنسان مسلمًا فرآه عاريًا يأمرني فأنطلق فأستقرض فأشتري له البردة، فأكسوه، وأطعمه، حتّى اعترضني رجل من المشركين، فقال: يا بلال إنّ عندي سعةً فلا تستقرضْ من أحد إلاّ منّي. ففعلت فلمّا أن كان ذات يوم توضّأت ثمّ قمت لأؤذّن بالصّلاة، فإذا المشرك قد أقبل في عصابة من التّجّار، فلمّا أن رآني قال: يا حبشيّ. قلت: يا لبّاه. فتجهّمني، وقال لي قولاً غليظًا، وقال لي: أتدري كم بينك وبين الشّهر؟ قال: قلت: قريب. قال: إنّما بينك وبينه أربع، فآخذك بالّذي عليك فأردّك ترعى الغنم كما كنت قبل ذلك. فأخذ في نفسي ما يأخذ في أنفس النّاس، حتّى إذا صلّيت العتمة رجع رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم إلى أهله، فاستأذنت عليه فأذن لي، فقلت: يا رسول الله بأبي أنت وأمّي إنّ المشرك الّذي كنت أتديّن منه قال لي كذا وكذا، وليس عندك ما تقضي عنّي ولا عندي وهو فاضحي، فأذنْ لي أن آبق إلى بعض هؤلاء الأحياء الّذين قد أسلموا حتّى يرزق الله رسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ما يقضي عنّي. فخرجت حتّى إذا أتيت منْزلي فجعلت سيفي وجرابي ونعلي ومجنّي عند رأسي، حتّى إذا انشقّ عمود الصّبح الأوّل أردت أن أنطلق فإذا إنسان يسعى يدعو: يا بلال أجب رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم. فانطلقت، حتّى أتيته فإذا أربع ركائب مناخات عليهنّ أحمالهنّ، فاستأذنت فقال لي رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((أبشر فقد جاءك الله بقضائك)) ثمّ قال: ((ألم تر الرّكائب المناخات الأربع))؟ فقلت: بلى، فقال: ((إنّ لك رقابهنّ، وما عليهنّ، فإنّ عليهنّ كسوةً وطعامًا، أهداهنّ إليّ عظيم فدك، فاقبضهنّ واقض دينك))، ففعلت، فذكر الحديث: ثمّ انطلقت إلى المسجد فإذا

رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم قاعد في المسجد فسلّمت عليه، فقال: ((ما فعل ما قبلك))؟ قلت: قد قضى الله كلّ شيء كان على رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فلم يبق شيء، قال: ((أفضل شيء))؟ قلت: نعم، قال: ((انظر أن تريحني منه، فإنّي لست بداخل على أحد من أهلي حتّى تريحني منه))، فلمّا صلّى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم العتمة دعاني، فقال: ((ما فعل الّذي قبلك))؟ قال: قلت: هو معي لم يأتنا أحد، فبات رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم في المسجد، وقصّ الحديث: حتّى إذا صلّى العتمة -يعني- من الغد دعاني، قال: ((ما فعل الّذي قبلك))؟ قال: قلت: قد أراحك الله منه يا رسول الله، فكبّر وحمد الله شفقًا من أن يدركه الموت وعنده ذلك، ثمّ اتّبعته حتّى إذا جاء أزواجه فسلّم على امرأة امرأة حتّى أتى مبيته، فهذا الّذي سألتني عنه. هذا حديث صحيح ورواته ثقات. هذا وقد ذكرت بحمد الله في "ذم المسألة" آيات قرآنية، وأحاديث صحيحة بأسانيدها الصحيحة، ليهلك من هلك عن بينة، ويحيا من حيّ عن بينة. وبهذا تنتهي مقدمة الطبعة الثانية، وهي بحمد الله تعتبر متممة. والحمد لله رب العالمين.

مقدمة الطبعة الأولى

مقدمة الطبعة الأولى الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمدًا عبده ورسوله. أما بعد: فمن أعظم نعم الله على العبد نعمة المال. فبه يوصل الرحم، الذي يكون سببًا لطول العمر، والبركة في المال، كما قال صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((من أحبّ أن يبسط له في رزقه، وينسأ له في أثره، فليصل رحمه)). متفق عليه من حديث أنس، وأخرجه البخاري من حديث أبي هريرة. وبه ينال صاحبه إذا صرفه في مصارفه مخلصًا في ذلك الأجر العظيم، قال الله سبحانه وتعالى: {مثل الّذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبّة أنبتت سبع سنابل في كلّ سنبلة مائة حبّة والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم * الّذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ثمّ لا يتبعون ما أنفقوا منًّا ولا أذًى لهم أجرهم عند ربّهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون} (¬1) وقال سبحانه وتعالى: {الّذين ينفقون أموالهم باللّيل والنّهار سرًّا وعلانيةً فلهم أجرهم عند ربّهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون} (¬2). ¬

(¬1) سورة البقرة، الآية: 261 - 262. (¬2) سورة البقرة، الآية: 274.

وبه يتألّف الشارد والمعاند، فقد كان النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يعطي الرجل في حال كونه يبغض النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فما يأتى زمن إلا وهو أحب الخلق إليه. ذلكم المال الذي أساء التصرف فيه نوعان: أحدهما: التجار، فلا يتحرّون إنفاقه في مصارفه الشرعية، بل ربما بعضهم لا يؤدّي الزكاة، وبعضهم يصرفها في غير مصارفها الشرعية، فهو يدعم الحزبية التي شتتت المسلمين وأضعفت قواهم. والتجار بصنيعهم هذا لا يدرون أنّهم يعاونون على الباطل، وربما يعاونون على انتشار الصوفية، أو التشيع المبتدعين اللذيْن وقفا حجر عثرة في طريق سنة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم. والثاني: قوم يتلصّصون لأخذ الزكوات وليسوا مصرفًا، ثم يصرفونها في مصالحهم الشخصية. وأقبح من هذا ما يحصل من بعض طلبة العلم يضيع وقته، ويهين العلم والدعوة، ركضًا من أرض الحرمين إلى الكويت، إلى قطر، إلى أبي ظبي، مالك يا فلان؟ فيقول: عليّ دين، أو أريد أن أبني مسجدًا وسكنًا للإمام (وهو نفسه الإمام)، وأريد سيارةً للدعوة، وأريد أن أتزوج. آه آه، وإنّ طلب علم نهايته الشحاذة لا خير فيه: ولو أنّ أهل العلم صانوه صانهم ... ولو عظّموه في النّفوس لعظّما ولكن أهانوه فهان ودنّسوا ... محيّاه بالأطماع حتى تجهّما ولم أر أحدًا أبصر في التلصص لاستخراج المال، من الإخوان المفلسين، فهم يصورون للناس أن القضية التي يدعون إليها هي الإسلام، وإذا لم يبذل

المال في هذه القضية، انتصر الكفر على الإسلام، وهكذا القضية تلو القضية، وكلما انتهت تلك القضية ولم ير الناس لها أثرًا في نصرة الدين، بل ربما تكون عارًا على الإسلام، شغلوا الناس بقضية أخرى، فأين ثمرة تلكم المظاهرات التي يقلّدون فيها أعداء الإسلام، وأين ثمرات مؤتمر الوحدة والسلام؟ وأين ثمرات الانتخابات الطاغوتية؟ نحن نقول هذا حزنًا على الدين، وتألّمًا من قلب الحقائق، لا أننا نغبطهم على جمع الأموال، فهم سيسألون عنها يوم القيامة. وأخيرًا، فإني أنصح الذين يلهثون بعد جمع الأموال، فالذي لم يتزوج قد أرشده الله ماذا يعمل فقال: {وليستعفف الّذين لا يجدون نكاحًا حتّى يغنيهم الله من فضله} (¬1). وفي "الصحيحين" عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((يا معشر الشّباب، من استطاع الباءة فليتزوّج، فإنّه أغضّ للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصّوم فإنّه له وجاء)). على أني أنصح الأغنياء بمساعدته من غير أن يسأل، حتى يتفرغ للعلم والتعليم. والذي عليه دين أنصحه أن يعمل حتى يقضي الله دينه. وهكذا بناء المسجد لا يجوز أن يهين نفسه، ويهين العلم والدعوة، من أجل بناء مسجد، فالرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم لما أراد أن يبني مسجدًا قال: ((يا بني النّجّار ثامنوني بحائطكم))، أي: من أجل أن يبني فيه مسجدًا، فقالوا: بل ¬

(¬1) سورة النور، الآية: 33.

هو لله ولرسوله. على أنه يمكن أن يبني مسجدًا من الطين واللبن بنحو مائة ألف ريال يمني، والوقت الذي تصرفه في المسألة، يمكن أن تصرفه في عمارة المسجد والعمل فيه ودعوة الناس إلى العمل بأيديهم. فالأموال التي تكون فيها إهانة للعلم وللدعاة إلى الله، أو دعوة إلى حزبية، أو جعل المساجد للشحاذة، فلسنا بحاجتها. ويالله كم من داعية كبير تراه يحفظ الآيات التي فيها ترغيب في الصدقة، وينتقل من هذا المسجد إلى هذا المسجد: {وما تقدّموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله هو خيرًا وأعظم أجرًا} (¬1). وانقلب المسكين من داعية إلى شحاذ، وصدق الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم إذ يقول: ((لكلّ أمّة فتنةً، وفتنة أمّتي المال)). وتلكم الجمعيات التي لا يؤذن لها إلا بشروط أن تكون تحت رقابة الشئون الاجتماعية، وأن يكون فيها انتخابات، وأن يوضع مالها في البنوك الربوية، ثم يلبّس أصحابها على الناس ويقولون: هل بناء المساجد، وحفر الآبار، وكفالة اليتامى حرام؟ فيقال لهم: ياأيها الملبّسون: من قال لكم: إن هذه حرام؟ فالحرام هي الحزبية، وفرقة المسلمين، وضياع أوقاتكم في الشحاذة، ولقد انقلبت العمرة في رمضان إلى شحاذة: يا مشعر القراء ويا ملح البلد ... ما يصلح الملح إذا الملح فسد ¬

(¬1) سورة المزمل، الآية: 20.

وهناك غير واحد يركضون باسم دعوة أهل السنة بدماج، وذاك يطلب تزكية، وذاك يطلب شفاعة، وأنا بسبب كثرة شواغلي أشغل عن التفكير في التاريخ، فتبقى هذه الشفاعة صالحة لأي وقت، وربما صوّرت لآخر، وبعد اطلاعي على هذا التلاعب المخزي فإني أبطل كل الشفاعات السابقة وتنتهي من يومنا هذا (4/شهر ذي الحجة/ سنة 1413هـ) حتى لا نعين على إهانة الدعوة. ولا داعي لعرض ما يحصل من المتسولين باسم الدعوة، فذاك يزور له ختمًا، وذاك يركض إلى هنا وهناك وكأنه الوكيل الوحيد للدعوة. بلغنى ذلك عن شخص بالمدينة، وآخر بمكة، نسأل الله أن يهديهما وأن يتوب عليهما، فمن أجل هذه الدناءة رأيت أن أجمع رسالة في (ذم المسألة) ليعلم أنني بريء مما يحدث، وإني أنكره، ومن أجل أنّ أخوةً مستفيدين صرفوا عن مواصلة طلب العلم، وشغلوا، وأصبحوا يجرون بعد الدنيا، ويقولون: نحن من طلبة (الوادعي)، هدانا الله وإياهم. آمين. وبعد الانتهاء من المقدمة، فإلى الرسالة. والحمد لله.

فضل الصدقة

فضل الصدقة 37 - قال الإمام أحمد رحمه الله (ج3 ص321): ثنا عبد الرزاق أنا معمر عن ابن خثيم عن عبد الرحمن بن سابط (¬1) عن جابر بن عبد الله أنّ النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال لكعب بن عجرة: ((أعاذك الله من إمارة السّفهاء)) قال: وما إمارة السّفهاء؟ قال: ((أمراء يكونون بعدي، لا يقتدون بهديي، ولا يستنّون بسنّتي، فمن صدّقهم بكذبهم وأعانهم على ظلمهم، فأولئك ليسوا منّي ولست منهم، ولا يردوا عليّ حوضي، ومن لم يصدّقهم بكذبهم، ولم يعنهم على ظلمهم، فأولئك منّي، وأنا منهم، وسيردوا عليّ حوضي، يا كعب بن عجرة، الصّوم جنّة، والصّدقة تطفئ الخطيئة، والصّلاة قربان، -أو قال-: برهان، يا كعب بن عجرة إنّه لا يدخل الجنّة لحم نبت من سحت النّار أولى به، يا كعب بن عجرة النّاس غاديان، فمبتاع نفسه فمعتقها، وبائع نفسه فموبقها)). هذا حديث حسن، وإن كان ابن معين يقول: إنّ حديث عبد الرحمن بن سابط مرسل، كما في "تهذيب التهذيب"، فقد أثبت له ابن أبي حاتم السماع من جابر، والمثبت مقدم على النافي. ¬

(¬1) في الأصل: عبد الرحمن بن ثابت، والصواب ماأثبتناه.

وابن خثيم هو عبد الله بن عثمان بن خثيم، حسن الحديث. وأخرجه معمر في "الجامع" كما في آخر "مصنف عبد الرزاق" (ج11 ص345). وقال الإمام أحمد رحمه الله (ج3 ص 319): حدثنا وهيب حدثنا عبد الله بن عثمان ابن خثيم به. وقد وقع في هذا السند تخليط، ففيه: حدثنا وهيب، حدثنا عبد الله بن وهيب، حدثنا عبد الله بن عثمان بن خثيم، والصواب ما أثبتناه، فوهيب يرويه عن عبد الله بن عثمان كما في "كشف الأستار" (ج2 ص241). الحديث أخرجه البزار كما في كشف الأستار (ج2 ص241) فقال رحمه الله: حدثنا عمرو بن علي ثنا معلى بن أسد ثنا وهيب به. ثم قال: لا نعلمه بهذا اللفظ عن جابر إلاّ بهذا الإسناد. 38 - قال الإمام أحمد رحمه الله (ج3 ص147): ثنا علي بن إسحاق أنا عبد الله بن المبارك أنا حرملة بن عمران أنه سمع يزيد بن أبي حبيب يحدّث أنّ أبا الخير حدّثه أنّه سمع عقبة بن عامر يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقول: ((كلّ امرئ في ظلّ صدقته، حتّى يفصل بين النّاس -أو قال: يحكم- بين النّاس)) قال يزيد: وكان أبوالخير لا يخطئه يوم إلا تصدّق فيه بشيء، ولو كعكةً أو بصلةً، أو كذا. هذا حديث صحيح. الحديث أخرجه أبويعلى (ج2 ص301) فقال رحمه الله: حدثنا إبراهيم بن الحجاج السلمي حدثنا ابن المبارك به. وأخرجه الحاكم (ج1 ص416) وقال: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه. 39 - قال الإمام أحمد رحمه الله (ج5 ص72): ثنا عفان ثنا حماد بن سلمة ثنا الأزرق بن قيس عن يحيى بن يعمر عن رجل من أصحاب النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: ((أوّل ما يحاسب به العبد يوم القيامة صلاته، فإن أتمّها، كتبت

له تامّةً، وإن لم يكن أتمّها قال: انظروا تجدون لعبدي من تطوّع، فأكملوا ما ضيّع من فريضته، ثمّ الزّكاة، ثمّ تؤخذ الأعمال على حسب ذلك)). هذا حديث صحيح. 40 - قال أبوداود رحمه الله (ج7 ص256): حدثنا مؤمل بن الفضل الحراني أخبرنا الوليد أخبرنا ابن جابر عن زيد بن أرطأة الفزاري عن جبير ابن نفير الحضرمي أنّه سمع أبا الدرداء يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقول: ((ابغوني الضّعفاء، فإنّما ترزقون وتنصرون بضعفائكم)) قال أبوداود: زيد بن أرطاة أخو عديّ بن أرطاة. هذا حديث صحيح ورجاله ثقات. وأخرجه الترمذي (ج7 ص357) فقال: حدثنا أحمد بن محمد حدثنا ابن المبارك حدثنا عبد الرحمن بن يزيد بن جابر به. ثم قال: هذا حديث حسن صحيح. وأخرجه النسائي (ج6 ص45). 41 - قال الحاكم رحمه الله: حدثنا أبوالعباس محمد بن يعقوب ثنا الربيع بن سليمان ثنا عبد الله بن وهب أخبرني أبوهانئ عن عمرو بن مالك الجنبي عن فضالة بن عبيد عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه، أنّ رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم خرج ذات يوم على راحلته وأصحابه معه بين يديه، فقال معاذ بن جبل: يانبيّ الله أتأذن لي في أن أتقدّم إليك على طيبة نفس؟ قال: ((نعم))، فاقترب معاذ إليه فسارا جميعًا، فقال معاذ: بأبي أنت وأمّي يارسول الله أسأل الله أن يجعل يومنا قبل يومك، أرأيت إن كان شيء ولا نرى شيئًا إن شاء الله تعالى، فأيّ الأعمال نعملها بعدك؟ فصمت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقال: ((الجهاد في سبيل الله))، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((نعم الشّيء

الجهاد، والذّي بالنّاس أملك من ذلك فالصّيام والصّدقة -قال:- نعم الشّيء الصّيام والصّدقة)). فذكر معاذ كلّ خير يعمله ابن آدم، فقال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((وعاد بالنّاس خير من ذلك))؟ قال: فماذا بأبي أنت وأمّي عاد بالنّاس خير من ذلك؟ قال: فأشار رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم إلى فيه، قال: ((الصّمت إلاّ من خير)) قال: وهلْ نؤاخذ بما تكلّمت به ألسنتنا؟ فضرب رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فخذ معاذ ثمّ قال: ((يا معاذ ثكلتك أمّك -أو ما شاء الله أن يقول له من ذلك- وهل يكبّ الناس على مناخرهم في جهنّم إلاّ ما نطقت به ألسنتهم، فمن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليسكت عن شرّ، قولوا خيرًا تغنموا واسكتوا عن شرّ تسلموا)). هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. كذا قال، وهو صحيح، لكنه ليس على شرطهما، لأنّهما لم يخرجا لعمرو بن مالك الجنبي في "الصحيح". 42 - قال الإمام أحمد رحمه الله (ج3 ص146): حدثنا حسن ثنا حماد ابن سلمة عن ثابت عن أنس أنّ رجلاً قال: يا رسول الله إنّ لفلان نخلةً، وأنا أقيم حائطي بها، فأمره أن يعطيني حتّى أقيم حائطي بها، فقال له النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((أعطها إيّاه بنخلة في الجنّة))، فأبى، فأتاه أبوالدّحداح فقال: بعني نخلتك بحائطي، ففعل، فأتى النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقال: يا رسول الله إنّي قد ابتعت النّخلة بحائطي، قال: فاجعلها له، فقد أعطيتكها. فقال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((كم من عذق راح، لأبي الدّحداح في الجنّة))، قالها مرارًا، قال: فأتى امرأته فقال: ياأمّ الدّحداح اخرجي من الحائط، فإنّي قد بعته بنخلة في الجنّة، فقالت: ربح البيع. أو كلمةً تشبهها.

هذا حديث صحيح. الحديث أخرجه الحاكم (ج2 ص20): وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم. 43 - قال الترمذي رحمه الله (ج7 ص168): حدثنا محمد بن بشار أخبرنا يحيى بن سعيد عن سفيان عن أبي إسحاق عن أبي ميسرة عن عائشة، أنّهم ذبحوا شاةً، فقال النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((ما بقي منها))؟ قالت: ما بقي منها إلا كتفها. قال: ((بقي كلّها، غير كتفها)). هذا حديث صحيح. وأبوميسرة الهمداني اسمه عمرو بن شرحبيل. 44 - قال الإمام أحمد رحمه الله (ج5 ص196): حدثنا بهز وعفان قالا: حدثنا حماد بن سلمة عن إسحاق بن عبد الله عن عبد الرحمن بن أبي عمرة عن أبي هريرة أنّ رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: ((إنّ ملكًا بباب من أبواب السّماء يقول: من يقرض اليوم يجز غدًا، وملكًا بباب آخر، يقول: اللهمّ أعط منفقًا خلفًا، وعجّل لممسك تلفًا)). هذا حديث صحيح رجاله رجال الصحيح. وفي "الصحيحين" من حديث أبي هريرة بلفظ: ((ما من يوم يصبح العباد فيه، إلا ملكان ينْزلان، فيقول أحدهما: اللهمّ أعط منفقًا خلفًا، ويقول الآخر: اللهمّ أعط ممسكًا تلفًا)). 45 - قال أبوداود رحمه الله (ج5 ص66): حدثنا أحمد بن حنبل أخبرنا عبيدة بن حميد التيمي حدثني أبوالزعراء عن أبي الأحوص عن أبيه مالك بن نضلة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((الأيدي ثلاثة: فيد الله العليا، ويد المعطي الّتي تليها، ويد السّائل السّفلى، فأعط الفضل ولا تعجزْ عن

نفسك)). هذا حديث صحيح رجاله رجال الصحيح، إلاّ أبا الزعراء وهو عمرو بن عمرو الجشمي، وقد وثّقه أحمد وابن معين والنسائي، والحديث من الأحاديث التى ألزم الدارقطنيّ البخاريّ ومسلمًا أن يخرجاها. وأبوالأحوص هو عوف بن مالك. الحديث أخرجه ابن خزيمة في "التوحيد" (ج1 ص158) فقال رحمه الله: حدثنا الحسن بن محمد، قال: ثنا عبيدة بن حميد فذكره. ثم قال رحمه الله: أبوالزعراء هذا عمرو بن عمرو بن أخي أبي الأحوص، وأبوالزعراء الكبير الذى يروي عن ابن مسعود اسمه: عبد الله بن هانىء. وأخرجه الحاكم في "المستدرك" (ج4 ص408): ثم قال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. وقال الإمام أحمد رحمه الله (ج3 ص473): ثنا عبيدة بن حميد أبوعبد الرحمن التيمي قال: ثنا أبوالزعراء عن أبي الأحوص عن أبيه (¬1) قال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((الأيدي ثلاثة: فيد الله العليا، ويد المعطي الّتي تليها، ويد السّائل السّفلى، فأعط الفضل ولا تعجز عن نفسك)). هذا حديث صحيح رجاله رجال الصحيح، إلا أبا الزعراء عمرو بن عمرو الجشمي، وهو ثقة كما في "تهذيب التهذيب" عن أحمد وابن معين. قال البخاري رحمه الله (ج3 ص276): باب إنفاق المال في حقّه. 46 - حدثنا محمد بن المثنى حدثنا يحيى عن إسماعيل قال: حدثني قيس عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: سمعت النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقول: ((لا حسد إلاّ ¬

(¬1) أبوه مالك.

في اثنتين: رجل آتاه الله مالاً فسلّطه على هلكته في الحقّ، ورجل آتاه الله حكمةً، فهو يقضي بها ويعلّمها)). قال البخاري رحمه الله (ج3 ص304): باب قوله تعالى: باب قول الله تعالى: {فأمّا من أعطى واتّقى * وصدّق بالحسنى * فسنيسّره لليسرى * وأمّا من بخل واستغنى * وكذّب بالحسنى * فسنيسّره للعسرى} (¬1) اللهمّ أعط منفق مال خلفًا. 47 - حدثنا إسماعيل قال: حدثني أخي عن سليمان عن معاوية بن أبي مزرد عن أبي الحباب عن أبي هريرة رضي الله عنه أنّ النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: ((ما من يوم يصبح العباد فيه، إلا ملكان ينْزلان، فيقول أحدهما: اللهمّ أعط منفقًا خلفًا، ويقول الآخر: اللهمّ أعط ممسكًا تلفًا)). قال البخاري رحمه الله (ج3 ص277): باب الصّدقة من كسب طيّب، لقوله: {ويربي الصّدقات والله لا يحبّ كلّ كفّار أثيم (¬2)}. 48 - حدثنا عبد الله بن منير سمع أبا النضر حدثنا عبد الرحمن هو ابن عبد الله بن دينار عن أبيه عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: ((من تصدّق بعدل تمرة من كسب طيّب ولا يقبل الله إلا الطّيّب، وإنّ الله يتقبّلها بيمينه، ثمّ يربّيها لصاحبه كما يربّي أحدكم فلوّه، حتّى تكون مثل الجبل)). تابعه سليمان عن ابن دينار. وقال: ورقاء عن ابن دينار عن سعيد بن يسار عن أبي ¬

(¬1) سورة الليل، الآية: 5 - 10. (¬2) سورة البقرة، الآية:276.

هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم. ورواه مسلم بن أبي مريم، وزيد بن أسلم، وسهيل عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم. قال البخاري رحمه الله (ج3 ص282): باب: اتّقوا النّار ولو بشقّ تمرة، والقليل من الصّدقة، {ومثل الّذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضاة الله وتثبيتًا من أنفسهم (¬1)} الآية إلى قوله: {من كلّ الثّمرات}. 49 - حدثنا عبيد الله بن سعيد حدثنا أبوالنعمان الحكم هو ابن عبد الله البصري حدثنا شعبة عن سليمان عن أبي وائل عن أبي مسعود رضي الله عنه قال: لمّا نزلت آية الصّدقة، كنّا نحامل، فجاء رجل فتصدّق بشيء كثير، فقالوا: مرائي، وجاء رجل فتصدّق بصاع، فقالوا: إنّ الله لغنيّ عن صاع هذا، فنزلت: {الّذين يلمزون المطّوّعين من المؤمنين في الصّدقات والّذين لا يجدون إلاّ جهدهم (¬2)} الآية. حدثنا سعيد بن يحيى حدثنا أبي حدثنا الأعمش عن شقيق عن أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم إذا أمرنا بالصّدقة، انطلق أحدنا إلى السّوق، فيحامل فيصيب المدّ، وإنّ لبعضهم اليوم لمائة ألف. 50 - حدثنا سليمان بن حرب حدثنا شعبة عن أبي إسحاق قال سمعت عبد الله بن معقل قال: سمعت عدي بن حاتم رضي الله عنه يقول: سمعت ¬

(¬1) سورة البقرة، الآية:265. (¬2) سورة التوبة، الآية:79.

رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقول: ((اتّقوا النّار ولو بشقّ تمرة)). 51 - حدثنا بشر بن محمد أخبرنا عبد الله أخبرنا معمر عن الزهري قال: حدثني عبد الله بن أبي بكر بن حزم عن عروة عن عائشة رضي الله عنها قالت: دخلت امرأة معها ابنتان لها، تسأل فلم تجد عندي شيئًا غير تمرة، فأعطيتها إيّاها، فقسمتها بين ابنتيها، ولم تأكل منها، ثمّ قامت فخرجت، فدخل النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم علينا، فأخبرته فقال: ((من ابتلي من هذه البنات بشيء، كنّ له سترًا من النّار)). قال البخاري رحمه الله (ج3 ص305): باب مثل المتصدّق والبخيل. 52 - حدثنا موسى حدثنا وهيب حدثنا ابن طاوس عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((مثل البخيل والمتصدّق، كمثل رجلين عليهما جبّتان من حديد)). وحدثنا أبواليمان أخبرنا شعيب حدثنا أبوالزناد أنّ عبد الرحمن حدثه أنه سمع أبا هريرة رضي الله عنه أنّه سمع رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقول: ((مثل البخيل والمنفق، كمثل رجلين عليهما جبّتان من حديد من ثديّهما إلى تراقيهما، فأمّا المنفق فلا ينفق إلا سبغت -أو وفرت- على جلده، حتّى تخفي بنانه، وتعفو أثره، وأمّا البخيل فلا يريد أن ينفق شيئًا إلا لزقت كلّ حلقة مكانها، فهو يوسّعها ولا تتّسع)). تابعه الحسن بن مسلم عن طاوس: في ((الجبّتين)). وقال حنظلة عن طاوس: ((جنّتان)) وقال الليث: حدثني جعفر عن ابن هرمز سمعت أبا هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((جنّتان)). قال البخاري رحمه الله (ج3 ص284): باب فضل صدقة الشّحيح

الصّحيح لقوله: {وأنفقوا ممّا رزقناكم من قبل أن يأتي أحدكم الموت (¬1)} الآية. وقوله: {ياأيّها الّذين آمنوا أنفقوا ممّا رزقناكم من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه (¬2)} الآية. 53 - حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا عبد الواحد حدثنا عمارة بن القعقاع حدثنا أبوزرعة حدثنا أبوهريرة رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فقال: يا رسول الله أيّ الصّدقة أعظم أجرًا؟ قال: ((أن تصدّق وأنت صحيح شحيح، تخشى الفقر وتأمل الغنى، ولا تمهل، حتّى إذا بلغت الحلقوم، قلت: لفلان كذا، ولفلان كذا، وقد كان لفلان)). قال البخاري رحمه الله (ج3 ص267): باب البيعة على إيتاء الزّكاة {فإن تابوا وأقاموا الصّلاة وآتوا الزّكاة فإخوانكم في الدّين (¬3)}. 54 - حدثنا ابن نمير قال: حدثني أبي حدثنا إسماعيل عن قيس قال: قال جرير بن عبد الله: بايعت النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم على إقام الصّلاة، وإيتاء الزّكاة، والنّصح لكلّ مسلم. قال البخاري رحمه الله (ج3 ص301): باب الصّدقة فيما استطاع. 55 - حدثنا أبوعاصم عن ابن جريج. وحدثني محمد بن عبد الرحيم عن حجاج بن محمد عن ابن جريج قال: أخبرني ابن أبي مليكة عن عباد بن ¬

(¬1) سورة المنافقون، الآية: 10. (¬2) سورة البقرة، الآية:254. (¬3) سورة التوبة، الآية:11.

عبد الله بن الزبير أخبره عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما أنّها جاءت إلى النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقال: ((لا توعي، فيوعي الله عليك ارضخي ما استطعت)). الحديث أخرجه مسلم (ج2 ص714).

باب الشفاعة في الصدقة

باب الشفاعة في الصدقة قال الله سبحانه وتعالى: {من يشفع شفاعةً حسنةً يكن له نصيب منها ومن يشفع شفاعةً سيّئةً يكن له كفل منها} (¬1). وقال سبحانه وتعالى: {كلا بل لا تكرمون اليتيم * ولا تحاضّون على طعام المسكين} (¬2). وقال سبحانه وتعالى: {أرأيت الّذي يكذّب بالدّين * فذلك الّذي يدعّ اليتيم * ولا يحضّ على طعام المسكين} (¬3). 56 - قال الإمام البخاري رحمه الله (ج3 ص299) من "الفتح": حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا عبد الواحد حدثنا أبوبردة (¬4) بريد بن عبد الله ابن أبي بردة حدثنا أبوبردة بن أبي موسى عن أبيه رضى الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم إذا جاءه السّائل، أو طلبت إليه حاجة، قال: ((اشفعوا تؤجروا، ويقضي الله على لسان نبيّه -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- ما شاء)). ¬

(¬1) سورة النساء، الآية: 85. (¬2) سورة الفجر، الآية: 17 - 18. (¬3) سورة الماعون، الآية: 1 - 3. (¬4) في الأصل: أبوبريد بن عبد الله بن أبي بردة، والصواب ما أثبتناه.

الحض على الصدقة

الحض على الصدقة قال الله سبحانه وتعالى: {كلا بل لا تكرمون اليتيم * ولا تحاضّون على طعام المسكين} (¬1). وقال سبحانه وتعالى: {أرأيت الّذي يكذّب بالدّين * فذلك الّذي يدعّ اليتيم * ولا يحضّ على طعام المسكين} (¬2). 57 - قال البخاري رحمه الله (ج3 ص299): حدثنا صدقة بن الفضل أخبرنا عبدة عن هشام عن فاطمة عن أسماء رضي الله عنها قالت: قال لي النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((لا توكي، فيوكى عليك)) حدثنا عثمان بن أبي شيبة عن عبدة وقال: ((لا تحصي، فيحصي الله عليك)). الحديث أخرجه مسلم (ج2 ص713). 58 - قال أبوداود رحمه الله (ج5 ص116): حدثنا مسدد أخبرنا إسماعيل أنبأنا أيوب عن عبد الله بن أبي مليكة عن عائشة أنّها ذكرت عدّةً من مساكين، -قال أبوداود: وقال غيره: أو عدّةً من صدقة-، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((أعطي، ولا تحصي، فيحصى عليك)). هذا حديث صحيح على شرط الشيخين. ¬

(¬1) سورة الفجر، الآية: 17 - 18. (¬2) سورة الماعون، الآية: 1 - 3.

الحديث أخرجه النسائي (ج5 ص73): قال رحمه الله: أخبرني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم عن شعيب حدثني الليث قال: حدثنا خالد عن ابن أبي هلال عن أمية بن هند عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف قال: كنّا يومًا في المسجد جلوسًا، ونفر من المهاجرين والأنصار، فأرسلنا رجلاً إلى عائشة ليستأذن فدخلنا عليها قالت: دخل عليّ سائل مرّةً، وعندي رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فأمرت له بشيء ثمّ دعوت به، فنظرت إليه. فقال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((أما تريدين أن لا يدخل بيتك شيء، ولا يخرج إلا بعلمك))؟ قلت: نعم. قال: ((مهلاً يا عائشة، لا تحصي، فيحصي الله عزّ وجلّ عليك)). هذا السند فيه أمية بن هند، روى عنه اثنان كما في "تهذيب التهذيب" ولم يوثقه معتبر، فهو مستور الحال، يصلح حديثه فى الشواهد والمتابعات. 59 - قال الإمام أبوعبد الله بن ماجة (ج1 ص74): حدثنا عبد الوارث ابن عبد الصمد بن عبد الوارث حدثني أبي عن جدي (¬1) عن أيوب عن محمد ابن سيرين عن أبي هريرة قال: جاء رجل إلى النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم فحثّ عليه، فقال رجل: عندي كذا وكذا. قال: فما بقي في المجلس رجل إلا تصدّق عليه، بما قلّ أو كثر. فقال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((من استنّ خيرًا فاستنّ به، كان له أجره كاملاً، ومن أجور من استنّ به، ولا ينقص من أجورهم شيئًا، ومن استنّ سنّةً سيّئةً، فاستنّ به، فعليه وزره كاملاً، ومن أوزار الّذي استنّ به، ولا ينقص من أوزارهم شيئًا)). حديث حسن على شرط مسلم. ¬

(¬1) عن جدي زيادةٌ من تحفة الأشراف، وهو الصحيح.

الحديث أخرجه الإمام أحمد رحمه الله (ج2 ص520) فقال: ثنا عبد الصمد به. وهو بسند الإمام أحمد على شرط الشيخين. 60 - قال أبوداود رحمه الله (ج9 ص173): حدثنا مسدد أخبرنا أبومعاوية عن الأعمش عن أبي وائل عن قيس بن أبي غرزة قال: كنّا في عهد رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم نسمّى السّماسرة، فمرّ بنا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فسمّانا باسم هو أحسن منه، فقال: ((يامعشر التّجّار، إنّ البيع يحضره اللّغو والحلف، فشوبوه بالصّدقة)). حدثنا الحسين بن عيسى البسطامي وحامد بن يحيى وعبد الله بن محمد الزهري قالوا: أخبرنا سفيان عن جامع بن أبي راشد وعبد الملك بن أعين وعاصم عن أبي وائل عن قيس بن أبي غرزة بمعناه قال: ((يحضره الكذب والحلف)). وقال عبد الله الزهري: ((اللّغو والكذب)). هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، وهو من الأحاديث التي ألزم الدارقطنيّ البخاريّ ومسلمًا أن يخرجاها. كما في "الإلزامات" ص (140). الحديث رواه الترمذي (ج4 ص398) وقال: حديث قيس بن أبي غرزة حديث حسن صحيح، رواه منصور والأعمش وحبيب بن أبي ثابت وغير واحد عن قيس، ولا نعرف لقيس عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم غير هذا. ورواه النسائي (ج7 ص15 وص247)، وابن ماجة (ج2 ص725)، وابن أبي شيبة (ج7 ص21)، وأحمد (ج4 ص65). 61 - قال الإمام أحمد رحمه الله (ج4 ص174): ثنا وكيع ثنا إسماعيل عن قيس عن دكين بن سعيد الخثعمي قال: أتينا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ونحن أربعون وأربع مائة، نسأله الطّعام، فقال النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم لعمر: ((قم فأعطهم))، قال: يا رسول الله ما عندي إلا ما يقيظني والصّبية. -قال وكيع: القيظ في

كلام العرب: أربعة أشهر- قال: ((قم فأعطهم))، قال عمر: يارسول الله سمعًا وطاعةً. قال: فقام عمر وقمنا معه، فصعد بنا إلى غرفة له، فأخرج المفتاح من حجزته، ففتح الباب، -قال دكين- فإذا في الغرفة من التّمر شبيه بالفصيل الرّابض، قال: شأنكم، قال: فأخذ كلّ رجل منّا حاجته ما شاء، قال: ثمّ التفتّ وإنّي لمن آخرهم، وكأنّا لم نرزأ منه تمرةً. ثنا يعلى بن عبيد ثنا إسماعيل عن قيس عن دكين أبي سعيد المزني قال: أتينا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم أربعين راكبًا وأربع مائة، نسأله الطّعام، فقال لعمر: ((اذهب فأعطهم))، فقال: يا رسول الله ما بقي إلا آصع من تمر، ما أرى أن يقيظني، قال: ((اذهب فأعطهم))، قال: سمعًا وطاعةً، قال: فأخرج عمر المفتاح من حجزته، ففتح الباب، فإذا شبه الفصيل الرّابض من تمر، فقال: لتأخذوا، فأخذ كلّ رجل منّا ما أحبّ، ثمّ التفتّ وكنت من آخر القوم، وكأنّا لم نرزأ تمرةً. هذا حديث صحيح على شرط الشيخين. وأخرجه الحميدي (ج2 ص395) فقال رحمه الله: ثنا سفيان ثنا ابن أبي خالد به. 62 - قال الإمام أحمد رحمه الله (ج3 ص25): ثنا يحيى بن سعيد عن ابن عجلان ثنا عياض عن أبي سعيد قال: دخل رجل المسجد يوم الجمعة والنّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم على المنبر فدعاه فأمره أن يصلّي ركعتين، ثمّ دخل الجمعة الثّانية، ورسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم على المنبر، فدعاه، فأمره، ثمّ دخل الجمعة الثّالثة، فأمره أن يصلّي ركعتين، ثمّ قال: ((تصدّقوا))، ففعلوا، فأعطاه ثوبين ممّا تصدّقوا، ثمّ قال: ((تصدّقوا)) فألقى أحد ثوبيه، فانتهره رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وكره ما صنع، ثمّ قال: ((انظروا إلى هذا، فإنّه دخل المسجد في هيئة بذّة،

فدعوته فرجوت أن تعطوا له فتصدّقوا عليه وتكسوه، فلم تفعلوا، فقلت: تصدّقوا، فتصدّقوا، فأعطيته ثوبين ممّا تصدّقوا، ثمّ قلت: تصدّقوا، فألقى أحد ثوبيه. خذ ثوبك))، وانتهره. هذا حديث حسن، وليس صارفًا لأمره بالصلاة ركعتين الدال على الوجوب، والله أعلم. والحديث أخرجه الحميدي (ج2 ص326) فقال رحمه الله: ثنا سفيان قال: ثنا محمد بن عجلان به.

الصدقة ليست مختصة بالإعطاء

الصدقة ليست مختصة بالإعطاء 63 - قال الإمام أبوبكر بن أبي شيبة رحمه الله في "المصنف" (ج8 ص549): محمد بن بشر قال: حدثنا عبد الجبار بن عباس عن عدي بن ثابت عن عبد الله بن يزيد عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: ((كلّ معروف صدقة)). هذا حديث حسن. وقد أخرجه أحمد (ج4 ص307) فقال رحمه الله: ثنا محمد بن بشر به. وأخرجه ابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" (ج4 ص137) فقال رحمه الله: حدثنا أبوبكر (وهو ابن أبي شيبة) محمد بن بشر به. وهكذا هو في "مصنف ابن أبي شيبة" ليس فيه صيغة التحديث كما ترى، وتقدر: عن، أو حدثنا، أو سمعت، أو ما يصلح من صيغ التحديث اللائقة بابن أبي شيبة رحمه الله.

على كل مفصل صدقة

على كل مفصل صدقة 64 - قال الإمام أحمد رحمه الله (ج5 ص354): ثنا زيد حدثني حسين حدثني عبد الله بن بريدة سمعت أبي بريدة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقول: ((في الإنسان ستّون وثلاث مائة مفصل، فعليه أن يتصدّق عن كلّ مفصل منها صدقةً))، قالوا: فمن الّذي يطيق ذلك يا رسول الله؟ قال: ((النّخاعة في المسجد تدفنها، أو الشّيء تنحّيه عن الطّريق، فإن لم تقدر فركعتا الضّحى تجزئ عنك)). الحديث أخرجه أيضًا أحمد (ج5 ص259) فقال: ثنا علي بن الحسن بن شقيق أنا الحسين بن واقد فذكره. وأخرجه أبوداود (ج14 ص155) فقال: حدثنا أحمد بن محمد المروزي حدثني علي بن حسين حدثني أبي فذكره. هذا حديث صحيح. وأخرجه محمد بن نصر في "الصلاة" (ج2 ص822) فقال رحمه الله: حدثنا هارون ابن عبد الله ثنا علي بن الحسن بن شقيق ثنا الحسين بن واقد به.

فضل صدقة السر

فضل صدقة السر 65 - قال الإمام النسائي رحمه الله (ج5 ص80): أخبرنا محمد بن سلمة قال: حدثنا ابن وهب عن معاوية بن صالح عن بحير (¬1) بن سعد عن خالد بن معدان عن كثير بن مرة عن عقبة بن عامر أنّ رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: ((الجاهر بالقرآن، كالجاهر بالصّدقة، والمسرّ بالقرآن، كالمسرّ بالصّدقة)) هذا حديث حسن. الحديث أخرجه الإمام أحمد (ج4 ص151) فقال: حدثنا حماد بن خالد ثنا معاوية ابن صالح، عن بحير بن سعد به، ثم قال الإمام أحمد: كان حماد بن خالد حافظًا، وكان يحدثنا وكان يحفظ، كتبت عنه أنا ويحيى بن معين. وأخرجه أبويعلى (ج3 ص378) فقال رحمه الله: حدثنا زهير حدثنا معن بن عيسى حدثنا معاوية بن صالح عن بحير بن سعد به. وفي "الصحيحين" من حديث أبي هريرة قال: ((سبعة يظلّهم الله في ظلّه)) وذكر منهم: ((رجلاً تصدّق بصدقة فأخفاها، حتّى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه)). ¬

(¬1) في الأصل: يحيى بن سعيد، والصواب ما أثبتناه، بالباء الموحدة، وبعده حاء مهملة، ثم ياء مثناة من تحت ثم راء، وسعد بدون ياء قبل الدال.

ما جاء في جهد المقل

ما جاء في جهد المقل 66 - قال أبوداود رحمه الله (ج5 ص94): حدثنا قتيبة بن سعيد ويزيد بن خالد بن موهب الرملي قالا: أخبرنا الليث عن أبي الزبير عن يحيى ابن جعدة عن أبي هريرة أنه قال: يا رسول الله أيّ الصّدقة أفضل؟ قال: ((جهد المقلّ، وابدأ بمن تعول)). هذا حديث حسن، ورجاله رجال الصحيح، إلا يحيى بن جعدة وقد وثقه أبوحاتم والنسائي.

من بدأ بالصدقة فاقتدى به غيره

من بدأ بالصدقة فاقتدى به غيره 67 - قال الإمام أبوعبد الله بن ماجة (ج1 ص74): حدثنا عبد الوارث ابن عبد الصمد بن عبد الوارث حدثني أبي عن جدي (¬1) عن أيوب عن محمد ابن سيرين عن أبي هريرة قال: جاء رجل إلى النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم فحثّ عليه، فقال رجل: عندي كذا وكذا، قال: فما بقي في المجلس رجل إلا تصدّق عليه، بما قلّ أو كثر. فقال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((من استنّ خيرًا فاستنّ به، كان له أجره كاملاً، ومن أجور من استنّ به، ولا ينقص من أجورهم شيئًا، ومن استنّ سنّةً سيّئةً، فاستنّ به، فعليه وزره كاملاً، ومن أوزار الّذي استنّ به، ولا ينقص من أوزارهم شيئًا)). حديث حسن على شرط مسلم. الحديث أخرجه الإمام أحمد رحمه الله (ج2 ص520) فقال: ثنا عبد الصمد به. وهو بسند الإمام أحمد على شرط الشيخين. ¬

(¬1) عن جدي: زيادةٌ من تحفة الأشراف، وهو الصحيح.

من تصدق بجميع ماله إذا كان واثقا بالله

من تصدق بجميع ماله إذا كان واثقا بالله 68 - قال أبوداود رحمه الله (ج5 ص94): حدثنا أحمد بن صالح وعثمان بن أبي شيبة، وهذا حديثه قالا: أخبرنا الفضل بن دكين أخبرنا هشام بن سعد عن زيد بن أسلم عن أبيه قال: سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يومًا أن نتصدّق، فوافق ذلك مالاً عندي، فقلت: اليوم أسبق أبا بكر إن سبقته يومًا. فجئت بنصف مالي، فقال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((ماأبقيت لأهلك))؟ قلت: مثله. قال: وأتى أبوبكر رضي الله عنه بكلّ ما عنده فقال له رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((ما أبقيت لأهلك))؟ قال: أبقيت لهم الله ورسوله. قلت: لا أسابقك إلى شيء أبدًا. هذا حديث حسن. الحديث أخرجه الترمذي (ج10 ص161) وقال: هذا حديث حسن صحيح.

ابدأ بمن تعول

ابدأ بمن تعول 69 - قال الإمام النسائي رحمه الله (ج5 ص61): أخبرنا يوسف بن عيسى قال: أنبأنا الفضل بن موسى قال: حدثنا يزيد وهو ابن زياد بن أبي الجعد عن جامع بن شداد عن طارق المحاربي قال: قدمنا المدينة فإذا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم قائم على المنبر يخطب النّاس، وهو يقول: ((يد المعطي العليا، وابدأ بمن تعول، أمّك وأباك وأختك وأخاك، ثمّ أدناك أدناك)) مختصر. هذا حديث صحيح، وهو من الأحاديث التي ألزم الدارقطنيّ البخاريّ ومسلمًا أن يخرجاها. 70 - قال الإمام أحمد رحمه الله (ج3 ص330): ثنا روح ثنا ابن جريج أخبرني أبوالزبير أنه سمع جابر بن عبد الله يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ((أفضل الصّدقة عن ظهر غنًى، وابدأ بمن تعول، واليد العليا خير من اليد السّفلى)). هذا حديث حسن على شرط مسلم.

الصدقة عن ظهر غنى

الصدقة عن ظهر غنى 71 - قال أبوداود رحمه الله (ج5ص92): حدثنا إسحاق بن إسماعيل أخبرنا سفيان عن ابن عجلان عن عياض بن عبد الله سمع أبا سعيد الخدري يقول: دخل رجل المسجد، فأمر النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم أن يطرحوا ثيابًا، فطرحوا، فأمر له بثوبين، ثمّ حثّ على الصّدقة، فجاء فطرح أحد الثّوبين، فصاح به وقال: ((خذ ثوبك)). هذا حديث حسن. وقال الإمام النسائي رحمه الله (ج5 ص63): أخبرنا عمرو بن علي قال: حدثنا يحيى قال: حدثنا ابن عجلان عن عياض عن أبي سعيد أنّ رجلاً دخل المسجد يوم الجمعة ورسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يخطب، فقال: ((صلّ ركعتين))، ثمّ جاء الجمعة الثّانية والنّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم يخطب، فقال: ((صلّ ركعتين))، ثمّ جاء الجمعة الثّالثة، فقال: ((صلّ ركعتين))، ثمّ قال: ((تصدّقوا))، فتصدّقوا، فأعطاه ثوبين، ثمّ قال: ((تصدّقوا))، فطرح أحد ثوبيه، فقال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((ألم تروا إلى هذا، أنّه دخل المسجد بهيئة بذّة، فرجوت أن تفطنوا له (¬1)، فتتصدّقوا عليه، فلم تفعلوا، فقلت: تصدّقوا، فتصدّقتم، فأعطيته ¬

(¬1) هذا ليس صارفاً للأحاديث الدالة على وجوب تحية المسجد، ولكن القلد يتشبث بشبه أوهى من خيط العنكبوت.

ثوبين، ثمّ قلت: تصدّقوا، فطرح أحد ثوبيه، خذ ثوبك))، وانتهره. هذا حديث حسن. الحديث أخرجه الترمذي (ج3 ص30) فقال رحمه الله: حدثنا محمد بن أبي عمر أخبرنا سفيان بن عيينة عن محمد بن عجلان به. وقال: حديث حسن صحيح. وأخرجه الإمام أحمد (ج3 ص25) فقال: ثنا يحيى بن سعيد عن ابن عجلان ثنا عياض عن أبي سعيد به. وأخرجه الحميدي (ج2 ص326) فقال: ثنا سفيان قال ثنا محمد بن عجلان قال: ثنا عياض بن عبد الله بن سعد بن أبي سرح قال: رأيت أبا سعيد الخدريّ جاء ومروان ابن الحكم يخطب يوم الجمعة، فقام يصلّي الرّكعتين فجاء إليه الأحراس ليجلسوه فأبى أن يجلس، حتّى صلّى الرّكعتين، فلمّا قضى الصّلاة، أتيناه، فقلنا: يا أبا سعيد كاد هؤلاء أن يفعلوا بك. فقال أبوسعيد: ما كنت لأدعهما لشيء، بعد شيء رأيته من رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم. فذكر الحديث. وأخرجه أبويعلى رحمه الله (ج2 ص279) فقال: حدثنا أبوخيثمة حدثنا يحيى عن ابن عجلان أخبرنا عياض فذكره. قال البخاري رحمه الله (ج3 ص325): باب الزّكاة على الأقارب وقال النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((له أجران: أجر القرابة، والصّدقة)). 72 - حدثنا عبد الله بن يوسف أخبرنا مالك عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة أنه سمع أنس بن مالك رضي الله عنه يقول: كان أبوطلحة أكثر الأنصار بالمدينة مالاً من نخل، وكان أحبّ أمواله إليه بيرحاء، وكانت مستقبلة المسجد، وكان رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يدخلها ويشرب من ماء فيها طيّب، قال أنس: فلمّا أنزلت هذه الآية: {لن تنالوا البرّ حتّى تنفقوا ممّا

تحبّون (¬1)} قام أبوطلحة إلى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقال: يا رسول الله، إنّ الله تبارك وتعالى يقول: {لن تنالوا البرّ حتّى تنفقوا ممّا تحبّون} وإنّ أحبّ أموالي إليّ بيرحاء، وإنّها صدقة لله، أرجو برّها وذخرها عند الله، فضعها يا رسول الله حيث أراك الله. قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((بخ ذلك مال رابح، ذلك مال رابح، وقد سمعت ما قلت، وإنّي أرى أن تجعلها في الأقربين)) فقال أبوطلحة: أفعل يا رسول الله، فقسمها أبوطلحة في أقاربه وبني عمّه. تابعه روح وقال يحيى بن يحيى وإسماعيل عن مالك: ((رايح)). 73 - حدثنا ابن أبي مريم أخبرنا محمد بن جعفر: قال أخبرني زيد عن عياض بن عبد الله عن أبي سعيد الخدرى رضي الله عنه: خرج رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم في أضحًى أو فطر، إلى المصلّى ثمّ انصرف فوعظ النّاس، وأمرهم بالصّدقة، فقال: ((أيّها النّاس تصدّقوا))، فمرّ على النّساء، فقال: ((يا معشر النّساء تصدّقن، فإنّي رأيتكنّ أكثر أهل النّار))، فقلن: وبم ذلك يارسول الله؟ قال: ((تكثرن اللّعن، وتكفرن العشير، ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للبّ الرّجل الحازم من إحداكنّ يا معشر النّساء))، ثمّ انصرف، فلمّا صار إلى منْزله جاءت زينب امرأة ابن مسعود تستأذن عليه، فقيل: يارسول الله هذه زينب. فقال: ((أيّ الزّيانب))؟ فقيل: امرأة ابن مسعود. قال: ((نعم، ائذنوا لها))، فأذن لها، قالت: يانبيّ الله، إنّك أمرت اليوم بالصّدقة، وكان عندي حليّ لي فأردت أن أتصدّق به، فزعم ابن مسعود أنّه وولده ¬

(¬1) سورة آل عمران، الآية:92.

أحقّ من تصدّقت به عليهم. فقال النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((صدق ابن مسعود، زوجك وولدك أحقّ من تصدّقت به عليهم)). قال البخاري رحمه الله (ج3 ص328): باب الزّكاة على الزّوج والأيتام في الحجر، قاله أبوسعيد عن النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم. 74 - حدثنا عمر بن حفص حدثنا أبي حدثنا الأعمش قال: حدثني شقيق عن عمرو بن الحارث عن زينب امرأة عبد الله رضي الله عنهما قال: فذكرته لإبراهيم، ح فحدّثني إبراهيم عن أبي عبيدة عن عمرو بن الحارث عن زينب امرأة عبد الله بمثله سواءً، قالت: كنت في المسجد فرأيت النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقال: ((تصدّقن ولو من حليّكنّ))، وكانت زينب تنفق على عبد الله، وأيتام في حجرها، قال: فقالت لعبد الله سل رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: أيجزي عنّي أن أنفق عليك وعلى أيتام في حجري من الصّدقة؟ فقال: سلي أنت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم. فانطلقت إلى النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم فوجدت امرأةً من الأنصار على الباب، حاجتها مثل حاجتي، فمرّ علينا بلال، فقلنا: سل النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم: أيجزي عنّي أن أنفق على زوجي وأيتام لي في حجري؟ وقلنا: لا تخبر بنا، فدخل فسأله، فقال: ((من هما)) قال: زينب. قال: ((أيّ الزّيانب))؟ قال: امرأة عبد الله. قال: ((نعم، لها أجران: أجر القرابة، وأجر الصّدقة)). 75 - حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا عبدة عن هشام عن أبيه عن زينب بنت أم سلمة عن أم سلمة قالت: قلت: يا رسول الله ألي أجر أن أنفق على بني أبي سلمة، إنّما هم بنيّ؟ فقال: ((أنفقي عليهم، فلك أجر ماأنفقت عليهم)).

76 - قال الإمام أبوعبد الله بن ماجة رحمه الله (ج1 ص587): حدثنا أبوبكر بن أبي شيبة ثنا يحيى بن آدم ثنا حفص بن غياث عن هشام بن عروة عن أبيه عن زينب بنت أم سلمة عن أم سلمة قالت: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم بالصّدقة، فقالت زينب امرأة عبد الله: أيجزيني من الصّدقة أن أتصدّق على زوجي وهو فقير، وبني أخ لي أيتام، وأنا أنفق عليهم هكذا وهكذا، وعلى كلّ حال؟ قال: ((نعم))، قال: وكانت صناع اليدين (¬1). هذا حديث صحيح على شرط الشيخين. قال البخاري رحمه الله (ج3 ص327): باب الصّدقة على اليتامى. 77 - حدثنا معاذ بن فضالة حدثنا هشام عن يحيى عن هلال بن أبي ميمونة حدثنا عطاء بن يسار أنه سمع أبا سعيد الخدري رضي الله عنه يحدّث أنّ النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم جلس ذات يوم على المنبر، وجلسنا حوله، فقال: ((إنّ ممّا أخاف عليكم من بعدي، ما يفتح عليكم من زهرة الدّنيا وزينتها)) فقال رجل: يا رسول الله أويأتي الخير بالشّرّ؟ فسكت النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فقيل له: ما شأنك تكلّم النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ولا يكلّمك، فرأينا أنّه ينْزل عليه، قال: فمسح عنه الرّحضاء، فقال: ((أين السّائل))؟ وكأنّه حمده، فقال: ((إنّه لا يأتي الخير بالشّرّ، وإنّ ممّا ينبت الرّبيع يقتل أو يلمّ، إلا آكلة الخضراء، أكلت حتّى إذا امتدّت خاصرتاها استقبلت عين الشّمس فثلطت وبالت ورتعت، وإنّ هذا المال خضرة حلوة، فنعم صاحب المسلم ما أعطى منه المسكين واليتيم وابن السّبيل -أو كما قال النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم- وإنّه من يأخذه ¬

(¬1) أي: تصنع باليدين وتكتسب.

بغير حقّه، كالّذي يأكل ولا يشبع، ويكون شهيدًا عليه يوم القيامة)). قال البخاري رحمه الله (ج3 ص361): باب صلاة الإمام ودعائه لصاحب الصّدقة وقوله: {خذ من أموالهم صدقةً تطهّرهم وتزكّيهم بها وصلّ عليهم إنّ صلاتك سكن لهم (¬1)}. 78 - حدثنا حفص بن عمر حدثنا شعبة عن عمرو عن عبد الله بن أبي أوفى قال: كان النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم إذا أتاه قوم بصدقتهم قال: ((اللهمّ صلّ على آل فلان))، فأتاه أبي بصدقته فقال: ((اللهمّ صلّ على آل أبي أوفى)). قال البخاري رحمه الله (ج3 ص357): باب أخذ الصّدقة من الأغنياء وتردّ في الفقراء حيث كانوا. 79 - حدثنا محمد أخبرنا عبد الله أخبرنا زكريا بن إسحاق عن يحيى بن عبد الله بن صيفي عن أبي معبد مولى ابن عباس، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم لمعاذ بن جبل حين بعثه إلى اليمن: ((إنّك ستأتي قومًا أهل كتاب، فإذا جئتهم فادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأنّ محمّدًا رسول الله، فإن هم أطاعوا لك بذلك، فأخبرهم أنّ الله قد فرض عليهم خمس صلوات في كلّ يوم وليلة، فإن هم أطاعوا لك بذلك، فأخبرهم أنّ الله قد فرض عليهم صدقةً، تؤخذ من أغنيائهم فتردّ على فقرائهم، فإن هم أطاعوا لك بذلك، فإيّاك وكرائم أموالهم، واتّق دعوة ¬

(¬1) سورة التوبة، الآية:103.

المظلوم، فإنّه ليس بينها وبين الله حجاب)).

الكفاف والقناعة

الكفاف والقناعة 80 - قال الإمام مسلم رحمه الله (ج2 ص730): حدثنا أبوبكر بن أبي شيبة حدثنا أبوعبد الرحمن المقرئ عن سعيد بن أبي أيوب حدثني شرحبيل (وهو ابن شريك) عن أبي عبد الرحمن الحبلي عن عبد الله بن عمرو ابن العاص: أنّ رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: ((قد أفلح من أسلم، ورزق كفافًا، وقنّعه الله بما آتاه)). 81 - حدثنا أبوبكر بن أبي شيبة وعمرو الناقد وأبوسعيد الأشج قالوا: حدثنا وكيع حدثنا الأعمش (ح) وحدثني زهير بن حرب حدثنا محمد بن فضيل عن أبيه كلاهما عن عمارة بن القعقاع عن أبي زرعة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((اللهمّ اجعل رزق آل محمّد قوتًا)). قال البخاري رحمه الله (ج11 ص171): باب الغنى غنى النّفس، وقول الله تعالى: {أيحسبون أنّ ما نمدّهم به من مال وبنين} إلى قوله تعالى: {من دون ذلك هم لها عاملون (¬1)} قال ابن عيينة: لم يعملوها، لا بدّ من أن يعملوها. 82 - حدثنا أحمد بن يونس حدثنا أبوبكر حدثنا أبوحصين عن أبي ¬

(¬1) سورة المؤمنون، الآية: 55 - 63.

صالح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: ((ليس الغنى عن كثرة العرض، ولكنّ الغنى غنى النّفس)). قال البخاري رحمه الله (ج3 ص267): باب إثم مانع الزّكاة، وقول الله تعالى: {والّذين يكنزون الذّهب والفضّة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشّرهم بعذاب أليم * يوم يحمى عليها في نار جهنّم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون (¬1)}. 83 - حدثنا الحكم بن نافع أخبرنا شعيب حدثنا أبوالزناد أن عبد الرحمن بن هرمز الأعرج حدثه أنه سمع أبا هريرة رضي الله عنه يقول: قال النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((تأتي الإبل على صاحبها على خير ما كانت، إذا هو لم يعط فيها حقّها، تطؤه بأخفافها، وتأتي الغنم على صاحبها على خير ما كانت، إذا لم يعط فيها حقّها، تطؤه بأظلافها وتنطحه بقرونها))، وقال: ((ومن حقّها أن تحلب على الماء، قال: ولا يأتي أحدكم يوم القيامة بشاة يحملها على رقبته لها يعار، فيقول: يا محمّد. فأقول: لا أملك لك شيئًا، قد بلّغت. ولا يأتي ببعير يحمله على رقبته له رغاء، فيقول: يا محمّد. فأقول: لا أملك لك من الله شيئًا، قد بلّغت)). 84 - حدثنا علي بن عبد الله حدثنا هاشم بن القاسم حدثنا عبد الرحمن ابن عبد الله بن دينار عن أبيه عن أبي صالح السمان عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((من آتاه الله مالاً فلم يؤدّ زكاته، مثّل له ماله يوم القيامة شجاعًا أقرع، له زبيبتان، يطوّقه يوم القيامة، ثمّ يأخذ ¬

(¬1) سورة التوبة، الآية:25.

بلهزمتيه، يعني: بشدقيه، ثمّ يقول: أنا مالك، أنا كنْزك، ثمّ تلا: {لا يحسبنّ الّذين يبخلون} الآية. 85 - وقال الإمام مسلم رحمه الله (ج2 ص680): وحدثني سويد بن سعيد، حدثنا حفص (يعنى ابن ميسرة الصنعاني) عن زيد بن أسلم أن أبا صالح ذكوان أخبره أنه سمع أبا هريرة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((ما من صاحب ذهب ولا فضّة، لا يؤدّي منها حقّها، إلا إذا كان يوم القيامة صفّحت له صفائح من نار، فأحمي عليها في نار جهنّم فيكوى بها جنبه وجبينه وظهره، كلّما بردت أعيدت له، في يوم كان

مقداره خمسين ألف سنة، حتّى يقضى بين العباد، فيرى سبيله إمّا إلى الجنّة وإمّا إلى النّار))، قيل: يا رسول الله فالإبل؟ قال: ((ولا صاحب إبل لا يؤدّي منها حقّها، ومن حقّها حلبها يوم وردها، إلا إذا كان يوم القيامة بطح لها بقاع قرقر أوفر ماكانت، لايفقد منها فصيلاً واحدًا، تطؤه بأخفافها وتعضّه بأفواهها، كلّما مرّ عليه أولاها ردّ عليه أخراها، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، حتّى يقضى بين العباد، فيرى سبيله إمّا إلى الجنّة وإمّا إلى النّار))، قيل: يا رسول الله فالبقر والغنم؟ قال: ((ولا صاحب بقر ولا غنم، لا يؤدّي منها حقّها، إلا إذا كان يوم القيامة بطح لها بقاع قرقر، لايفقد منها شيئًا، ليس فيها عقصاء ولاجلحاء ولا عضباء، تنطحه بقرونها وتطؤه بأظلافها، كلّما مرّ عليه أولاها، ردّ عليه أخراها، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، حتّى يقضى بين العباد، فيرى سبيله إمّا إلى الجنّة وإمّا إلى النّار))، قيل: يا رسول الله فالخيل؟ قال: ((الخيل ثلاثة: هي لرجل وزر، وهي لرجل ستر، وهي لرجل أجر، فأمّا الّتي هي له وزر، فرجل ربطها رياءً وفخرًا

ونواءً، على أهل الإسلام، فهي له وزر، وأمّا الّتي هي له ستر، فرجل ربطها في سبيل الله، ثمّ لم ينس حقّ الله في ظهورها، ولا رقابها، فهي له ستر، وأمّا الّتي هي له أجر، فرجل ربطها في سبيل الله لأهل الإسلام، في مرج وروضة، فما أكلت من ذلك المرج أو الرّوضة من شيء إلا كتب له عدد ما أكلت حسنات، وكتب له عدد أرواثها وأبوالها حسنات، ولا تقطع طولها فاستنّت شرفًا أو شرفين، إلا كتب الله له عدد آثارها وأرواثها حسنات، ولا مرّ بها صاحبها على نهر فشربت منه، ولا يريد أن يسقيها إلا كتب الله له عدد ما شربت حسنات))، قيل: يا رسول الله فالحمر؟ قال: ((ما أنزل عليّ في الحمر شيء، إلا هذه الآية الفاذّة الجامعة: {فمن يعمل مثقال ذرّة خيرًا يره ومن يعمل مثقال ذرّة شرًّا يره (¬1))}. وحدثني يونس بن عبد الأعلى الصدفي أخبرنا عبد الله بن وهب حدثني هشام بن سعد عن زيد بن أسلم في هذا الإسناد بمعنى حديث حفص بن ميسرة، إلى آخره. غير أنه قال: ((ما من صاحب إبل لا يؤدّي حقّها))، ولم يقل: ((منها حقّها))، وذكر فيه: ((لا يفقد منها فصيلاً واحدًا))، وقال: ((يكوى بها جنباه وجبهته وظهره)). وحدثني محمد بن عبد الملك الأموي حدثنا عبد العزيز بن المختار حدثنا سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((ما من صاحب كنْز لا يؤدّي زكاته، إلاّ أحمي عليه في نار جهنّم فيجعل صفائح، فيكوى بها جنباه وجبينه، حتّى يحكم الله بين عباده، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، ثمّ يرى سبيله إمّا إلى الجنّة وإمّا إلى النّار، وما من صاحب إبل لا يؤدّي زكاتها، إلا بطح لها بقاع قرقر كأوفر ماكانت تستنّ عليه، كلّما مضى عليه أخراها، ردّت عليه أولاها، حتّى يحكم الله بين عباده، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، ثمّ يرى سبيله إمّا إلى الجنّة وإمّا إلى النّار، وما من صاحب غنم لا يؤدّي زكاتها، إلا بطح لها بقاع قرقر، كأوفر ما كانت، فتطؤه بأظلافها، وتنطحه بقرونها، ليس فيها عقصاء ولا جلحاء، كلّما مضى عليه أخراها، ردّت عليه أولاها، حتّى يحكم الله بين عباده، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة ممّا تعدّون، ثمّ يرى سبيله إمّا إلى الجنّة وإمّا إلى النّار))، قال سهيل: فلا أدري أذكر البقر أم لا؟ قالوا: ((فالخيل يا رسول الله))؟ قال: ((الخيل في نواصيها، -أو قال: الخيل معقود في نواصيها، قال سهيل: أنا أشكّ- الخير إلى يوم القيامة، الخيل ثلاثة: فهي لرجل أجر، ولرجل ستر، ولرجل وزر، فأمّا الّتي هي له أجر، فالرّجل يتّخذها في سبيل الله، ويعدّها له، فلا تغيّب شيئًا في بطونها إلا كتب الله له أجرًا، ولو رعاها في مرج ماأكلت من شيء إلا كتب الله له بها أجرًا، ولو سقاها من نهر كان له بكلّ قطرة تغيّبها في بطونها أجر، حتّى ذكر الأجر في أبوالها وأرواثها، ولو استنّت شرفًا أو شرفين كتب له بكلّ خطوة تخطوها أجر، وأمّا الّذي هي له ستر فالرّجل يتّخذها تكرّمًا وتجمّلاً، ولا ينسى حقّ ظهورها وبطونها في عسرها ويسرها، وأمّا الّذي عليه وزر، فالّذي يتّخذها أشرًا وبطرًا وبذخًا ورياء النّاس، فذاك الّذي هي عليه وزر))، قالوا: فالحمر يارسول الله؟ قال: ((ماأنزل الله عليّ فيها شيئًا، إلا هذه الآية الجامعة الفاذّة: {فمن يعمل مثقال ذرّة خيرًا يره ومن يعمل ¬

(¬1) سورة الزلزلة، الآية: 7 - 8.

مثقال ذرّة شرًّا يره))}. وحدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا عبد العزيز (يعني الدراوردي) عن سهيل بهذا الإسناد، وساق الحديث. وحدثنيه محمد بن عبد الله بن بزيع حدثنا يزيد بن زريع حدثنا روح بن القاسم حدثنا سهيل بن أبي صالح بهذا الإسناد، وقال: بدل: (عقصاء)، ((عضباء))، وقال: ((فيكوى بها جنبه وظهره))، ولم يذكر: ((جبينه)). وحدثني هارون بن سعيد الأيلي حدثنا ابن وهب أخبرني عمرو بن الحارث أن بكيرًا حدثه عن ذكوان عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنّه قال: ((إذا لم يؤدّ المرء حقّ الله أو الصّدقة في إبله)). وساق الحديث بنحو حديث سهيل عن أبيه. وحديث أبي هريرة قد أخرجه البخاري مفرقًا. من أجل هذا اخترت رواية مسلم. 86 - حدثنا إسحاق بن إبراهيم أخبرنا عبد الرزاق (ح) وحدثني محمد ابن رافع (واللفظ له) حدثنا عبد الرزاق أخبرنا ابن جريج أخبرني أبوالزبير أنه سمع جابر بن عبد الله الأنصاري يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقول: ((ما من صاحب إبل لا يفعل فيها حقّها، إلا جاءت يوم القيامة أكثر ما كانت قطّ، وقعد لها بقاع قرقر تستنّ عليه بقوائمها وأخفافها، ولا صاحب بقر لا يفعل فيها حقّها، إلا جاءت يوم القيامة أكثر ما كانت وقعد لها بقاع قرقر تنطحه بقرونها، وتطؤه بقوائمها، ولا صاحب غنم لا يفعل فيها حقّها، إلا جاءت يوم القيامة أكثر ما كانت، وقعد لها بقاع

قرقر، تنطحه بقرونها وتطؤه بأظلافها، ليس فيها جمّاء ولا منكسر قرنها، ولا صاحب كنْز لا يفعل فيه حقّه، إلا جاء كنْزه يوم القيامة شجاعًا أقرع، يتبعه فاتحًا فاه، فإذا أتاه فرّ منه فيناديه: خذ كنْزك الّذي خبأته، فأنا عنه غنيّ. فإذا رأى أن لا بدّ منه سلك يده في فيه فيقضمها قضم الفحل)). قال أبوالزبير: سمعت عبيد بن عمير يقول هذا القول، ثم سألنا جابر بن عبد الله عن ذلك؟ فقال مثل قول عبيد بن عمير. وقال أبوالزبير: سمعت عبيد بن عمير يقول: قال رجل: يا رسول الله ما حقّ الإبل؟ قال: ((حلبها على الماء، وإعارة دلوها، وإعارة فحلها، ومنيحتها، وحمل عليها في سبيل الله)). حدثنا محمد بن عبد الله بن نمير حدثنا أبي حدثنا عبد الملك عن أبي الزبير عن جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: ((ما من صاحب إبل ولا بقر ولا غنم، لا يؤدّي حقّها، إلا أقعد لها يوم القيامة بقاع قرقر، تطؤه ذات الظّلف بظلفها، وتنطحه ذات القرن بقرنها، ليس فيها يومئذ جمّاء ولا مكسورة القرن)) قلنا: يا رسول الله وما حقّها؟ قال: ((إطراق فحلها، وإعارة دلوها ومنيحتها، وحلبها على الماء، وحمل عليها في سبيل الله. ولا من صاحب مال لا يؤدّي زكاته، إلا تحوّل يوم القيامة شجاعًا أقرع، يتبع صاحبه حيثما ذهب، وهو يفرّ منه، ويقال: هذا مالك الّذي كنت تبخل به. فإذا رأى أنّه لا بدّ منه، أدخل يده في فيه، فجعل يقضمها كما يقضم الفحل)). 87 - قال معمر بن راشد في "جامعه" كما في "مصنف عبد الرزاق"

(ج11 ص351): عن معمر عن أبي عمران الجوني عن عبد الله بن الصامت وهو ابن أخي أبي ذر عن أبي ذر قال: كنت رديفًا خلف رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم على حمار، فلمّا جاوزنا بيوت المدينة، قال: ((كيف بك ياأبا ذر إذا كان بالمدينة جوع، تقوم عن فراشك، لاتبلغ مسجدك حتّى يجهدك الجوع))؟ قال: قلت: الله ورسوله أعلم. قال: ((تعفّفْ ياأبا ذر))، قال: ((كيف بك ياأبا ذر إذا كان بالمدينة موت يبلغ البيت العبد))، -يعني أنّه يباع القبر بالعبد- قلت: الله ورسوله أعلم. قال: ((تصبر))، قال: ((كيف بك ياأبا ذر إذا كان بالمدينة قتل تغمر الدّماء حجارة الزّيت))، قال: قلت: الله ورسوله أعلم. قال: ((تأتي من أنت منه))، قال: قلت: وألبس السّلاح؟ قال: ((شاركت القوم إذًا))، قلت: وكيف أصنع يارسول الله؟ قال: ((إنْ خشيت أن يبهرك شعاع السّيف، فألق ناحية ثوبك على وجهك، ليبوء بإثمك وإثمه)).

ما جاء في ذم البخل والتحذير منه

ما جاء في ذم البخل والتحذير منه 88 - قال الإمام البخاري رحمه الله في "الأدب المفرد" ص (111): حدثنا عبد الله بن أبي الأسود قال: حدثنا حميد بن الأسود عن الحجاج الصواف قال: حدثني أبوالزبير قال: حدثنا جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((من سيّدكم يابني سلمة))؟ قلنا: جدّ بن قيس، على أنّا نبخّله، قال: ((وأيّ داء أدوأ من البخل، بل سيّدكم عمرو بن الجموح)). وكان عمرو على أصنامهم في الجاهليّة، وكان يولم عن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم إذا تزوّج. هذا حديث حسن. 89 - وقال أبوداود رحمه الله (ج5 ص115): حدثنا حفص بن عمر أخبرنا شعبة عن عمرو بن مرة عن عبد الله بن الحارث عن أبي كثير عن عبد الله بن عمرو قال: خطب رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقال: ((إيّاكم والشّحّ، فإنّما هلك من كان قبلكم بالشّحّ، أمرهم بالبخل فبخلوا، وأمرهم بالقطيعة فقطعوا، وأمرهم بالفجور ففجروا)). هذا حديث صحيح رجاله رجال الصحيح، إلاّ أبا كثير الزبيدي وقد وثّقه النسائي. 90 - قال أبوداود رحمه الله (ج7 ص187): حدثنا عبد الله بن الجراح عن عبد الله بن يزيد عن موسى بن علي عن أبيه عن عبد العزيز بن مروان قال: سمعت أبا هريرة يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقول: ((شرّ ما في

رجل، شحّ هالع، وجبن خالع)). هذا حديث حسن. الحديث رواه الإمام أحمد (ج5 ص15 وص164) فقال: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي عن موسى يعني ابن علي عن أبيه به. وأبوبكر بن أبي شيبة (ج9 ص98) فقال رحمه الله: الفضل بن دكين عن موسى بن علي به. 91 - قال أبوداود رحمه الله (ج5 ص94): حدثنا قتيبة بن سعيد ويزيد بن خالد بن موهب الرملي قالا: أخبرنا الليث عن أبي الزبير عن يحيى ابن جعدة عن أبي هريرة أنه قال: يا رسول الله أيّ الصّدقة أفضل؟ قال: ((جهد المقلّ، وابدأ بمن تعول)). هذا حديث حسن، ورجاله رجال الصحيح، إلا يحيى بن جعدة وقد وثقه أبوحاتم والنسائي. 92 - قال الإمام أحمد رحمه الله (ج3 ص4): ثنا أسود بن عامر ثنا أبوبكر عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي سعيد الخدري قال: قال عمر: يارسول الله، لقد سمعت فلانًا وفلانًا يحسنان الثّناء، يذكران أنّك أعطيتهما دينارين، قال: فقال النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((لكنّ والله فلانًا ماهو كذلك، لقد أعطيته من عشرة إلى مائة، فما يقول ذاك، أما والله إنّ أحدكم ليخرج مسألته من عندي، يتأبّطها، يعني تكون تحت إبطه: يعني نارًا، قال: قال عمر: يا رسول الله لم تعطيها إيّاهم؟ قال: ((فما أصنع، يأبون إلا ذاك، ويأبى الله لي البخل)). هذا حديث صحيح رجاله رجال الصحيح.

وأخرجه الإمام أحمد أيضًا ص (16): فقال: ثنا يحيى بن آدم ثنا أبوبكر عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي سعيد الخدري قال: قال عمر: يا رسول الله سمعت فلانًا يقول خيرًا، ذكر أنّك أعطيته دينارين. قال: ((لكن فلان لا يقول ذلك، ولا يثني به، لقد أعطيته ما بين العشرة إلى المائة، أو قال: إلى المائتين، وإنّ أحدهم ليسألني المسألة فأعطيها إيّاه، فيخرج بها متأبّطها، وما هي لهم إلا نار))، قال عمر: يا رسول الله فلم تعطيهم؟ قال: ((إنّهم يأبون إلا أن يسألوني، ويأبى الله لي البخل)).

ما جاء في طول الأمل

ما جاء في طول الأمل 93 - قال البخاري رحمه الله (ج11 ص239): حدثنا علي بن عبد الله حدثنا أبوصفوان عبد الله بن سعيد أخبرنا يونس عن ابن شهاب قال: أخبرني سعيد بن المسيب أن أبا هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقول: ((لا يزال قلب الكبير شابًّا في اثنتين: في حبّ الدّنيا، وطول الأمل)). قال ليث: عن يونس -وابن وهب عن يونس- عن ابن شهاب قال: أخبرني سعيد وأبوسلمة. 94 - حدثنا مسلم بن إبراهيم حدثنا هشام حدثنا قتادة عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((يكبر ابن آدم ويكبر معه اثنان: حبّ المال، وطول العمر)). رواه شعبة عن قتادة. قال البخاري رحمه الله (ج11 ص252): باب ما يتّقى من فتنة المال، وقول الله تعالى: {إنّما أموالكم وأولادكم فتنة (¬1)}. 95 - حدثنا يحيى بن يوسف أخبرنا أبوبكر بن عياش عن أبي حصين عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ¬

(¬1) سورة التغابن، الآية: 15.

((تعس عبد الدّينار، والدّرهم، والقطيفة، والخميصة، إن أعطي رضي، وإن لم يعط لم يرض)). 96 - حدثنا أبوعاصم عن ابن جريج عن عطاء قال: سمعت ابن عباس رضي الله عنه يقول: سمعت النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقول: ((لو كان لابن آدم واديان من مال، لابتغى ثالثًا، ولا يملا جوف ابن آدم إلا التّراب، ويتوب الله على من تاب)). حدثني محمد أخبرنا مخلد أخبرنا ابن جريج قال: سمعت عطاء يقول: سمعت ابن عباس يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقول: ((لو أنّ لابن آدم ملْء واد مالاً، لأحبّ أنّ له إليه مثله، ولا يملأ عين ابن آدم إلا التّراب، ويتوب الله على من تاب)). قال ابن عبّاس: فلا أدري من القرآن هو أم لا؟ قال: وسمعت ابن الزّبير يقول ذلك على المنبر. 97 - حدثنا أبونعيم حدثنا عبد الرحمن بن سليمان بن الغسيل عن عباس بن سهل بن سعد قال: سمعت ابن الزّبير على المنبر بمكّة في خطبته يقول: يا أيّها النّاس إنّ النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم كان يقول: ((لو أنّ ابن آدم أعطي واديًا ملآن من ذهب، أحبّ إليه ثانيًا، ولو أعطي ثانيًا، أحبّ إليه ثالثًا، ولا يسدّ جوف ابن آدم إلا التّراب، ويتوب الله على من تاب)). 98 - حدثنا عبد العزيز بن عبد الله حدثنا إبراهيم بن سعد عن صالح عن ابن شهاب قال أخبرني أنس بن مالك أنّ رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: ((لو أنّ لابن آدم واديًا من ذهب، أحبّ أن يكون له واديان، ولن يملا فاه إلا

التّراب، ويتوب الله على من تاب)). وقال لنا أبوالوليد: حدثنا حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس عن أبيّ قال: كنّا نرى هذا من القرآن حتّى نزلت: {ألهاكم التّكاثر (¬1)} قال البخاري رحمه الله (ج3 ص337) باب من أعطاه الله شيئًا من غير مسألة ولا إشراف نفس، {وفي أموالهم حقّ للسّائل والمحروم}. 99 - حدثنا يحيى بن بكير حدثنا الليث عن يونس عن الزهري عن سالم أنّ عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت عمر يقول: كان رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يعطيني العطاء فأقول: أعطه من هو أفقر إليه منّي. فقال: ((خذه، إذا جاءك من هذا المال شيء، وأنت غير مشرف ولا سائل فخذه، وما لا فلا تتبعه نفسك)). 100 - قال الإمام أحمد رحمه الله (ج4 ص220): ثنا عبد الله بن يزيد ثنا سعيد بن أبي أيوب حدثني أبوالأسود عن بكير بن عبد الله عن بسر بن سعيد عن خالد بن عدي الجهني قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقول: ((من بلغه معروف عن أخيه من غير مسألة ولا إشراف نفس فليقبله، ولا يردّه، فإنّما هو رزق ساقه الله عزّ وجلّ إليه)). هذا حديث صحيح، وأبوالأسود هو محمد بن عبد الرحمن الملقب بيتيم عروة. الحديث أخرجه أبويعلى (ج2 ص226). قال البخاري رحمه الله (ج3 ص338): باب من سأل النّاس تكثّرًا. ¬

(¬1) سورة التكاثر، الآية: 1. ... سورة الذاريات، الآية:19.

101 - حدثنا يحيى بن بكير حدثنا الليث عن عبيد الله بن أبي جعفر قال: سمعت حمزة بن عبد الله بن عمر سمعت عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((ما يزال الرّجل يسأل النّاس، حتّى يأتي يوم القيامة ليس في وجهه مزعة لحم، وقال: إنّ الشّمس تدنو يوم القيامة حتّى يبلغ العرق نصف الأذن، فبينا هم كذلك استغاثوا بآدم، ثمّ بموسى، ثمّ بمحمّد)) صلى الله عليه وعلى آله وسلم. وزاد عبد الله: حدثني الليث حدثني ابن أبي جعفر: ((فيشفع ليقضى بين الخلق فيمشي حتّى يأخذ بحلقة الباب، فيومئذ يبعثه الله مقامًا محمودًا، يحمده أهل الجمع كلّهم)). وقال معلى: حدثنا وهيب، عن النعمان بن راشد عن عبد الله بن مسلم أخي الزهري عن حمزة سمع ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في المسألة. قال البخاري رحمه الله (ج3 ص335): باب الاستعفاف عن المسألة. 102 - حدثنا عبد الله بن يوسف أخبرنا مالك عن ابن شهاب عن عطاء ابن يزيد الليثي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنّ ناسًا من الأنصار سألوا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فأعطاهم، ثمّ سألوه فأعطاهم، ثمّ سألوه فأعطاهم، حتّى نفد ما عنده، فقال: ((ما يكون عندي من خير فلن أدّخره عنكم، ومن يستعفف يعفّه الله، ومن يستغن يغنه الله ومن يتصبّر يصبّره الله، وما أعطي أحد عطاءً خيرًا وأوسع من الصّبر)). 103 - حدثنا عبد الله بن يوسف أخبرنا مالك عن أبي الزناد عن الأعرج

عن أبي هريرة رضي الله عنه أنّ رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: ((والّذي نفسي بيده لأن يأخذ أحدكم حبله فيحتطب على ظهره، خير له من أن يأتي رجلاً فيسأله أعطاه أو منعه)). 104 - حدثنا موسى حدثنا وهيب حدثنا هشام عن أبيه عن الزبير بن العوام رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: ((لأنْ يأخذ أحدكم حبله، فيأتي بحزمة الحطب على ظهره فيبيعها، فيكفّ الله بها وجهه، خير له من أن يسأل النّاس، أعطوه أو منعوه)). 105 - حدثنا عبدان أخبرنا عبد الله أخبرنا يونس عن الزهري عن عروة ابن الزبير وسعيد بن المسيب أن حكيم بن حزام رضي الله عنه قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فأعطاني، ثمّ سألته فأعطاني، ثمّ سألته فأعطاني، ثمّ قال: ((ياحكيم، إنّ هذا المال خضرة حلوة، فمن أخذه بسخاوة نفس، بورك له فيه، ومن أخذه بإشراف نفس لم يبارك له فيه، كالّذي يأكل ولا يشبع، اليد العليا خير من اليد السّفلى))، قال حكيم: فقلت: يا رسول الله والّذي بعثك بالحقّ لا أرزأ أحدًا بعدك شيئًا، حتّى أفارق الدّنيا، فكان أبوبكر رضي الله عنه يدعو حكيمًا إلى العطاء فيأبى أن يقبله منه، ثمّ إنّ عمر رضي الله عنه دعاه ليعطيه، فأبى أن يقبل منه شيئًا، فقال عمر: إنّي أشهدكم يامعشر المسلمين على حكيم أنّي أعرض عليه حقّه من هذا الفيء، فيأبى أن يأخذه، فلم يرزأ حكيم أحدًا من النّاس بعد رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، حتّى توفّي.

أخذ البيعة على الناس على ألا يسألوا الناس شيئا

أخذ البيعة على الناس على ألا يسألوا الناس شيئًا 106 - قال الإمام مسلم رحمه الله (ج2 ص721): حدثني عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي وسلمة بن شبيب (قال سلمة: حدثنا، وقال الدارمي: أخبرنا مروان، وهو ابن محمد الدمشقي) حدثنا سعيد (وهو ابن عبد العزيز) عن ربيعة بن يزيد عن أبي إدريس الخولاني عن أبي مسلم الخولاني قال: حدثني الحبيب الأمين، أما هو فحبيب إليّ، وأما هو عندي فأمين، عوف بن مالك الأشجعي قال: كنّا عند رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسعةً، أو ثمانيةً، أو سبعةً، فقال: ((ألا تبايعون رسول الله))، وكنّا حديث عهد ببيعة، فقلنا: قد بايعناك يارسول الله. ثمّ قال: ((ألا تبايعون رسول الله))؟ فقلنا: قد بايعناك يارسول الله. ثمّ قال: ((ألا تبايعون رسول الله)) قال: فبسطنا أيدينا وقلنا: قد بايعناك يا رسول الله، فعلام نبايعك؟ قال: ((على أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئًا، والصّلوات الخمس، وتطيعوا))، وأسرّ كلمةً خفيّةً: ((ولا تسألوا النّاس شيئًا))، فلقد رأيت بعض أولئك النّفر يسقط سوط أحدهم، فما يسأل أحدًا يناوله إيّاه. قال البخاري رحمه الله (ج3 ص340): باب قول الله تعالى: {لا يسألون النّاس إلحافًا (¬1)} وكم الغنى، وقول النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((ولا يجد ¬

(¬1) سورة البقرة، الآية: 273.

غنًى يغنيه)) لقول الله تعالى: {للفقراء الّذين أحصروا في سبيل الله لا يستطيعون ضربًا في الأرض} إلى قوله: {فإنّ الله به عليم}. 107 - حدثنا حجاج بن منهال حدثنا شعبة أخبرني محمد بن زياد قال: سمعت أبا هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: ((ليس المسكين الّذي تردّه الأكلة والأكلتان، ولكن المسكين الّذي ليس له غنًى ويستحيي، أو لا يسأل النّاس إلحافًا)). 108 - حدثنا يعقوب بن إبراهيم حدثنا إسماعيل بن علية حدثنا خالد الحذاء عن ابن أشوع عن الشعبي حدّثه كاتب المغيرة بن شعبة قال: كتب معاوية إلى المغيرة بن شعبة: أن اكتب إليّ بشيء سمعته من النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم؟ فكتب إليه: سمعت النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((يقول إنّ الله كره لكم ثلاثًا: قيل، وقال، وإضاعة المال، وكثرة السّؤال)). 109 - حدثنا محمد بن غرير الزهري حدثنا يعقوب بن إبراهيم عن أبيه عن صالح بن كيسان عن ابن شهاب قال: أخبرني عامر بن سعد عن أبيه قال: أعطى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم رهطًا وأنا جالس فيهم، قال: فترك رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم منهم رجلاً لم يعطه، وهو أعجبهم إليّ، فقمت إلى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فساررته، فقلت: مالك عن فلان، والله إنّي لأراه مؤمنًا. قال: ((أو مسلمًا))، قال: فسكتّ قليلاً، ثمّ غلبني ما أعلم فيه، فقلت: يارسول الله ما لك عن فلان، والله إنّي لأراه مؤمنًا. قال: ((أومسلمًا))، قال: فسكتّ قليلاً، ثمّ غلبني ما أعلم فيه، فقلت: يارسول الله ما لك عن فلان، والله إنّي لأراه مؤمنًا. قال: ((أو مسلمًا)) يعني، فقال: ((إنّي لأعطي الرّجل وغيره أحبّ إليّ

منه، خشية أن يكبّ في النّار على وجهه)). وعن أبيه عن صالح عن إسماعيل بن محمد أنه قال: سمعت أبي يحدّث بهذا فقال في حديثه: فضرب رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم بيده، فجمع بين عنقي وكتفي، ثمّ قال: ((أقبل أي سعد، إنّي لأعطي الرّجل)). قال أبوعبد الله: (فكبكبوا): قلبوا، (مكبًّا) أكبّ الرّجل، إذا كان فعله غير واقع على أحد، فإذا وقع الفعل قلت: كبّه الله لوجهه، وكببته أنا. 110 - حدثنا إسماعيل بن عبد الله قال: حدثني مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه أنّ رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: ((ليس المسكين الّذي يطوف على النّاس، تردّه اللّقمة واللّقمتان، والتّمرة والتّمرتان، ولكن المسكين الّذي لا يجد غنًى يغنيه، ولا يفطن به فيتصدّق عليه، ولا يقوم فيسأل النّاس)). 111 - حدثنا عمر بن حفص بن غياث حدثنا أبي حدثنا الأعمش حدثنا أبوصالح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: ((لأن يأخذ أحدكم حبله، ثمّ يغدو -أحسبه قال-: إلى الجبل فيحتطب، فيبيع فيأكل ويتصدّق، خير له من أن يسأل النّاس)).

تحريم السؤال لغير حاجة 112 - قال الإمام أحمد رحمه الله (ج3 ص4): ثنا أسود بن عامر ثنا أبوبكر عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي سعيد الخدري قال: قال عمر: يا رسول الله لقد سمعت فلانًا وفلانًا يحسنان الثّناء، يذكران أنّك أعطيتهما دينارين. قال: فقال النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((لكنّ والله فلانًا ماهو كذلك، لقد أعطيته من عشرة إلى مائة فما يقول ذاك، أما والله إنّ أحدكم ليخرج مسألته من عندي يتأبّطها -يعني تكون تحت إبطه- نارًا)). قال: قال عمر: يا رسول الله لم تعطيها إيّاهم؟ قال: ((فما أصنع، يأبون إلا ذاك، ويأبى الله لي البخل)). هذا حديث صحيح، رجاله رجال الصحيح. وأخرجه الإمام أحمد أيضًا ص (16): فقال: ثنا يحيى بن آدم ثنا أبوبكر عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي سعيد الخدري قال: قال عمر: يا رسول الله سمعت فلانًا يقول خيرًا، ذكر أنّك أعطيته دينارين. قال: ((لكن فلان لا يقول ذلك، ولا يثني به، لقد أعطيته ما بين العشرة إلى المائة -أو قال: إلى المائتين- وإنّ أحدهم ليسألني المسألة فأعطيها إيّاه، فيخرج بها متأبّطها، وما هي لهم إلا نار))، قال عمر: يا رسول الله فلم تعطيهم؟ قال: ((إنّهم يأبون إلا أن يسألوني، ويأبى الله لي البخل)).

113 - قال الإمام أحمد رحمه الله (ج4 ص165): ثنا يحيى بن آدم ويحيى بن أبي بكير قال: ثنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن حبشي بن جنادة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((من سأل من غير فقر فكأنّما يأكل الجمر)). ثنا أبوأحمد الزبيري ثنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن حبشي بن جنادة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقول: ((من سأل من غير فقر))، فذكر مثله. هذا حديث صحيح. 114 - قال أبوداود رحمه الله (ج5 ص34): حدثنا عبد الله بن محمد النفيلي حدثنا مسكين (¬1) أخبرنا محمد بن المهاجر عن ربيعة بن يزيد عن أبي كبشة السلولي أخبرنا سهل بن الحنظلية قال: قدم على رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم عيينة بن حصن، والأقرع بن حابس، فسألاه فأمر لهما بما سألا، وأمر معاوية فكتب لهما بما سألا، فأمّا الأقرع فأخذ كتابه فلفّه في عمامته وانطلق، وأمّا عيينة فأخذ كتابه وأتى النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم مكانه، فقال: يامحمّد أتراني حاملاً إلى قومي كتابًا لا أدري ما فيه كصحيفة المتلمّس. فأخبر معاوية بقوله رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((من سأل وعنده ما يغنيه، فإنّما يستكثر من النّار)). وقال النفيلي في موضع آخر: ((من جمر جهنّم)) فقالوا: يارسول الله وما يغنيه؟. وقال النفيلي في موضع آخر: وما الغنى الّذي لا تنبغي معه المسألة؟ قال: ((قدر ما يغدّيه ويعشّيه)). وقال النفيلي في موضع آخر: أن يكون له شبع يوم وليلة، أو ليلة ويوم)). ¬

(¬1) هو ابن بكير.

وكان حدثنا به مختصرًا على هذه الألفاظ التى ذكرت. هذا حديث صحيح ورجاله رجال الصحيح. 115 - وقال الإمام أحمد رحمه الله (ج4 ص180): ثنا علي بن عبد الله حدثني الوليد بن مسلم حدثني عبد الرحمن بن يزيد بن جابر قال: حدثني ربيعة بن يزيد قال: حدثني أبوكبشة السلولي أنّه سمع سهل بن الحنظليّة الأنصاريّ صاحب رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنّ عيينة والأقرع سألا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم شيئًا، فأمر معاوية أن يكتب به لهما ففعل وختمها رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وأمر بدفعه إليهما، فأمّا عيينة فقال: ما فيه؟ قال: فيه الّذي أمرت به. فقبّله وعقده في عمامته، كان أحكم الرّجلين، وأمّا الأقرع فقال: أحمل صحيفةً لا أدري ما فيها كصحيفة المتلمّس. فأخبر معاوية رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم بقولهما، وخرج رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم في حاجة فمرّ ببعير مناخ على باب المسجد من أوّل النّهار، ثمّ مرّ به آخر النّهار وهو على حاله، قال: ((أين صاحب هذا البعير؟))، فابتغي فلم يوجد، فقال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((اتّقوا الله في هذه البهائم ثمّ اركبوها صحاحًا، واركبوها سمانًا -كالمتسخّط آنفًا- إنّه من سأل وعنده ما يغنيه فإنّما يستكثر من نار جهنّم)) قالوا: يارسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وما يغنيه؟ قال: ((ما يغدّيه أو يعشّيه)). هذا حديث صحيح. 116 - قال أبوداود رحمه الله (ج5 ص34): حدثنا قتيبة بن سعيد وهشام بن عمار قالا: أخبرنا عبد الرحمن بن أبي الرجال عن عمارة بن غزية عن عبد الرحمن بن أبي سعيد الخدري عن أبيه أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((من سأل وله قيمة أوقيّة، فقد ألحف))، فقلت: ناقتي الياقوتة، هي

خير من أوقيّة. قال هشام: خير من أربعين درهمًا، فرجعت فلم أسأله شيئًا، زاد هشام في حديثه: وكانت الأوقيّة على عهد رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم أربعين درهمًا. هذا حديث حسن رجاله رجال الصحيح، إلا عبد الرحمن بن أبي الرجال، وقد اختلف قول الأئمة فيه، والظاهر أنه لا ينْزل حديثه عن الحسن والله أعلم. الحديث أخرجه النسائي (ج5 ص98). 117 - قال الإمام الدارمي رحمه الله (ج1 ص474): أخبرنا محمد بن عبد الله الرقاشي ثنا يزيد هو ابن زريع ثنا سعيد عن قتادة عن سالم بن أبي الجعد عن معدان بن أبي طلحة عن ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنّ رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: ((من سأل النّاس مسألةً وهو عنها غنيّ، كانت شينًا في وجهه)). هذا حديث صحيح. وقد أخرجه الإمام أحمد (ج5 ص281). 118 - قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في "المطالب العالية" (ج3 ص 1044) بتحقيق الأخ: باسم بن طاهر حفظه الله: وقال أبوبكر: حدثنا عبيد الله بن موسى عن إسرائيل عن منصور عن سالم عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((إنّ الّرجل يأتيني منكم فيسألني فأعطيه، فينطلق وما يحمل في حضنه إلاّ النّار)). صحيح. اهـ. قال أبوعبد الرحمن: أبوبكر هو عبد الله بن محمد بن أبي شيبة. وسالم هو ابن أبي الجعد. 119 - قال الإمام مسلم رحمه الله (ج2 ص119) بشرح النووي:

حدثني أبوغسان المسمعي حدثنا معاذ وهو ابن هشام قال حدثني أبي عن يحيى بن أبي كثير قال حدثني أبوقلابة عن ثابت بن الضحاك عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: ((ليس على رجل نذر فيما لا يملك، ولعن المؤمن كقتله، ومن قتل نفسه بشيء في الدّنيا عذّب به يوم القيامة، ومن ادّعى دعوى كاذبةً ليتكثّر بها لم يزده الله إلاّ قلّةً، ومن حلف على يمين صبر فاجرة)).

فضل ترك السؤال 120 - قال أبوداود رحمه الله (ج5 ص57): حدثنا عبيد الله بن معاذ أخبرنا أبي أخبرنا شعبة عن عاصم (¬1) عن أبي العالية عن ثوبان قال: وكان ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم عن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: ((من تكفّل لي أن لا يسأل النّاس شيئًا، فأتكفّل له بالجنّة))؟ فقال ثوبان: أنا، فكان لا يسأل أحدًا شيئًا. هذا حديث صحيح على شرط الشيخين. الحديث أخرجه النسائي (ج5 ص96)، وابن ماجة (ج1 ص588). أخرجاه من طريق ابن أبي ذئب عن محمد بن قيس عن عبد الرحمن بن يزيد عن ثوبان به. 121 - قال الإمام أحمد رحمه الله (ج2 ص513): حدثنا ابن عامر أنا أبوبكر عن هشام عن محمد عن أبي هريرة قال: دخل رجل على أهله فلمّا رأى ما بهم من الحاجة خرج إلى البريّة، فلمّا رأت امرأته، قامت إلى الرّحى فوضعتها، وإلى التّنّور فسجرته، ثمّ قالت: اللهمّ ارزقنا. فنظرت فإذا الجفنة قد امتلأت، قال: وذهبت إلى التّنّور فوجدته ممتلئًا، قال: فرجع الزّوج، قال: أصبتم بعدي شيئًا؟ قالت امرأته: نعم من ربّنا. قام إلى الرّحى، فذكر ذلك للنّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقال: ((أما إنّه لو لم يرفعها، لم تزل تدور ¬

(¬1) عاصم بن سليمان الأحول. وأبوالعالية: هو رفيع بن مهران.

إلى يوم القيامة))، شهدت النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم وهو يقول: ((والله لأن يأتي أحدكم صبيرًا، ثمّ يحمله يبيعه، فيستعفّ منه، خير له من أن يأتي رجلاً يسأله)).

من تحل له المسألة 122 - قال الإمام مسلم رحمه الله (ج2 ص722): حدثنا يحيى بن يحيى وقتيبة بن سعيد كلاهما عن حماد بن زيد قال يحيى: أخبرنا حماد بن زيد عن هارون بن رياب حدثني كنانة بن نعيم العدوي عن قبيصة بن مخارق الهلالي قال: قال تحمّلت حمالةً، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم أسأله فيها، فقال: ((أقم حتّى تأتينا الصّدقة، فنأمر لك بها))، قال: ثمّ قال: ((ياقبيصة إنّ المسألة لا تحلّ إلا لأحد ثلاثة: رجل تحمّل حمالةً فحلّت له المسألة حتّى يصيبها، ثمّ يمسك، ورجل أصابته جائحة اجتاحت ماله، فحلّت له المسألة، حتّى يصيب قوامًا من عيش -أو قال: سدادًا من عيش- ورجل أصابته فاقة، حتّى يقوم ثلاثة من ذوي الحجا من قومه: لقد أصابت فلانًا فاقة. فحلّت له المسألة، حتّى يصيب قوامًا من عيش -أو قال: سدادًا من عيش- فما سواهنّ من المسألة ياقبيصة سحتًا، يأكلها صاحبها سحتًا)).

سؤال السلطان 123 - قال أبوداود رحمه الله (ج5 ص48): حدثنا حفص بن عمر النمري أخبرنا شعبة عن عبد الملك بن عمير عن زيد بن عقبة الفزاري عن سمرة عن النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: ((المسائل كدوح، يكدح بها الرّجل وجهه، فمن شاء أبقى على وجهه، ومن شاء ترك، إلا أن يسأل الرّجل ذا سلطان أو في أمر لا يجد منه بدًّا)). هذا حديث صحيح، ورجاله رجال الصحيح إلا عقبة بن زيد الفزاري، وقد وثقه النسائي. الحديث أخرجه الترمذي (ج3 ص358) وقال: هذا حديث حسن صحيح. وأخرجه النسائي (ج5 ص100).

من غضب إذا لم يعط

من غضب إذا لم يعط وقوله تعالى: {ومنهم من يلمزك في الصّدقات فإن أعطوا منها رضوا وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون * ولو أنّهم رضوا ماءاتاهم الله ورسوله وقالوا حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله ورسوله إنّا إلى الله راغبون (¬1)}. 124 - قال الإمام أحمد رحمه الله (ج2 ص219): حدثنا يعقوب حدثنا أبي عن ابن إسحاق حدثني أبوعبيدة بن محمد بن عمار بن ياسر عن مقسم أبي القاسم مولى عبد الله بن الحارث بن نوفل قال: خرجت أنا وتليد بن كلاب اللّيثيّ حتّى أتينا عبد الله بن عمرو بن العاص وهو يطوف بالبيت معلّقًا نعليه بيده فقلنا له: هل حضرت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم حين يكلّمه التّميميّ يوم حنين؟ قال: نعم، أقبل رجل من بني تميم يقال له: ذو الخويصرة، فوقف على رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وهو يعطي النّاس، قال: يامحمّد قد رأيت ماصنعت في هذا اليوم، فقال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((أجل، فكيف رأيت))؟ قال: لم أرك عدلت، قال: فغضب رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ثمّ قال: ((ويحك، إن لم يكن العدل عندي، فعند من يكون))؟ فقال عمر بن الخطّاب: يا رسول الله ألا نقتله؟ قال: ((لا، دعوه فإنّه سيكون له شيعة، ¬

(¬1) سورة التوبة، الآية: 58.

يتعمّقون في الدّين، حتّى يخرجوا منه، كما يخرج السّهم من الرّميّة، ينظر في النّصل فلا يوجد شيء، ثمّ في القدح فلا يوجد شيء، ثمّ في الفوق فلا يوجد شيء، سبق الفرث والدّم)). قال أبوعبد الرحمن (هو عبد الله بن أحمد): أبوعبيدة هذا اسمه محمد ثقة، وأخوه سلمة ابن محمد بن عمار، لم يرو عنه إلا علي بن زيد، ولا نعلم خبره، ومقسم ليس به بأس. هذا حديث حسن. 125 - قال أبوداود رحمه الله (ج5 ص32): حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن رجل من بني أسد أنه قال: نزلت أنا وأهلي ببقيع الغرقد، فقال لي أهلي، اذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فسله لنا شيئًا نأكله. فجعلوا يذكرون من حاجتهم، فذهبت إلى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فوجدت عنده رجلاً يسأله، ورسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقول: ((لا أجد ما أعطيك))، فتولّى الرّجل عنه وهو مغضب، وهو يقول: لعمري إنّك لتعطي من شئت. فقال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((يغضب عليّ أن لا أجد ماأعطيه، من سأل منكم وله أوقيّة أو عدلها، فقد سأل إلحافًا))، قال الأسديّ: فقلت: للقحة لنا خير من أوقيّة، والأوقيّة أربعون درهمًا، قال: فرجعت ولم أسأله، فقدم على رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم بعد ذلك شعير وزبيب، فقسم لنا منه، أو كما قال، حتّى أغنانا الله عزّ وجلّ. قال أبوداود: هكذا رواه الثوري، كما قال مالك. وتقدم حديث أبي هريرة: ((تعس عبد الدّينار، والدّرهم، والقطيفة، والخميصة، إن أعطي رضي، وإن لم يعط لم يرض)). وبعد فنصيحتي للدعاة إلى الله، أن يستعفّوا، ولأصحاب الأموال أن

يتحرّوا إنفاقها في مصارفها المشروعة، وهكذا نصيحتي للفقراء أن يصبروا، ولا يستثيرنّهم الشيوعيون على المجتمع، ويكونوا سببًا للفتن وسفك دماء المسلمين، وأنصحهم أن يسألوا الله من فضله، والأغنياء الذين لا يؤدون الزكاة أو يؤدونها ولكنها في غير مصرفها إما لضابط دائرة، أو مرور، من أجل إذا حدث عليه أمر يساعده، وهكذا لصوص الدعوة الذين يستغلون الأموال لصالح الحزبيّة. نسأل الله أن يرزقنا القناعة، وأن يغنينا من فضله، إنه جواد كريم.

§1/1