مجموعة رسائل العلامة قاسم بن قطلوبغا

ابن قُطْلُوْبَغَا

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

جَمِيعُ الحقُوقِ مَحْفوظَة الطَّبْعَةُ الأُولَى 1434 هـ - 2013 م ردمك: 0 - 35 - 482 - 9933 - 978 ISBN دَارُ النَّوادِرِ سورية - لبنان - الكويت مؤسسة دَارُ النَّوادِرِ م. ف - سُورية * شركَة دَار النَّوَادِر اللبنانية ش. م. م - لبنان * شركَة دَار النَّوَادِر الكويتية ذ. م. م - الكويت سورية - دمشق - ص. ب: 34306 - هَاتِف: 2227001 - فاكس: 2227011 (0096311) لبنان - بيروت - ص. ب: 14/ 5180 - هَاتِف: 652528 - فاكس: 652529 (009611) الكويت - الصالحية - برج السَّحَاب - ص. ب: 4316 حَولي - الرَّمْز البريدي: 32046 هَاتِف: 22273725 - فاكس: 22273726 (00965) [email protected] www.daralnawader.com أسسها سنة: 1426 هـ - 2006 م نور الدّين طَالب المدير الْعَام والرئيس التنفيذي

[مقدمة التحقيق]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مَدخَل فَنّ الرسائل والمسائل من الأمور الهامة التي تكشفُ حقيقةَ المجتمع ومسيرهِ، إذ هي مُوَقّعةٌ على دَرَجِ الأحوال والحوادث التي جرت خلاَلَها. وبها نستطيع أن نتعرّفَ على أسلوب ومنهج العلماء والمفكرين الذين كانت لهم غايات وأهداف في رعاية المجتمع وصيانته وحفظه. وما نشاهدهُ في هذه الرسائل ينبعُ من معينِ الشّريعة ومقاصدها العامّةِ، ليحقّقَ الأمنَ والسَّكينةَ للأفراد والمجتمعِ. حيثُ نشاهدُ: من خلالِ هذه المسائل أنَّ المسلمين جميعًا أمةٌ واحدة، باختلاف مذاهبهم الفقهية؛ لأنّ هدفَهم واحدٌ، وصراطهم وطريقهم واحدٌ، ودستورهم واحدٌ، وهم جميعًا متساوون، لا فضل بينهم إلَّا بالتقوى، ولا ميزة لأحدهم بسبب لونٍ أو جنسٍ أو وطنٍ. فنقل لنا المؤلّف الأحكام الفقهية مع استدلاله بالمذاهبِ وما له عليها من قَبُولٍ أو رفضٍ، من غير تحيّزٍ أو تعصُّبٍ، رغبةً منهُ لوصل الصلة بين المسلم والمسلم بمنعِ الإيذاء والاعتداء وتحريم الغش وغيره، وتبيين الصَّواب في البيوع والنّكاح. ومنع أكل مال المسلم بغير حق أو التعدي على الوقف بأيّ حيلةٍ مهما كانت.

وهذا العمل يُحقّق زيادة الرّابطة بينَ المسلمين، ببيانِ ما يصلح لهم ويُصلحهم. وهذا يُعرّفنا بأهميّة النصح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي لَمَسنَاهُ في رسائله وتوجيهاته، لأن التواصي بالحق والالتزامَ به، ومحاولة إلزام الآخرين به تقويمًا للاعوجاج ما وُجدَ إلى ذلك سبيلٌ، لتستقيم الأمة كلها على كلمة سواء وجادة بيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلَّا هالك. وبهذا: يحافظُ المجتمعُ على استقامته وبقائهِ، وهو هدفٌ أرادهُ المصلحون، إبقاءً على نقاءِ وسلامة العلاقات بين الأفراد والجماعات. إنه سبيل العدل ودفع الظلم بكل أنواعه وأشكاله وفي كل أحواله، بضبط العلاقة بين الإنسان والإنسان، ولم يترك هذا للاجتهاد الشخصي، بل أقام الحقوق والواجبات في كل عقد مما يحتاجه الناس في حياتهم كعقود البيع والإجارة والمزارعة والزواج والطلاق، وغير ذلك. وهنا نلمس الحفاظ على الضّرورات التي جاءت بها الشريعة المطهرة، لإنتاج مجتمعٍ سليمٍ معافًى من الآفات، ووجود الحلول النّاجعة لها، كـ: الدين؛ وهذا الكتاب مقصودهُ: رعاية أحكام هذا الدين، مثل رسائله: - رفع الاشتباه عن مسائل المياه. - أحكام الصلاة على الجنازة في المسجد. - في التراويح والوتر. - الفوائد الجلّة في مسألة اشتباه القبلة. - أحكام القهقهة.

- تحرير الأقوال في صوم الست من شوال. - الأسوس في كيفية الجلوس بين السجدتين. النفس؛ حيثُ بحثَ فيما يخدمها، ويبعدها عن ما فيه ضررٌ كرسالة: - أحكام الفأرة إذا وقعت في الزيت. - في حفر المربعات. النسل؛ حيث ذكر أبحاثًا تتعلق بالإرث والتلاعن وأحكام النكاح والطلاق والعدة وغير ذلك. - القول القائم في بيان تأثير حكم الحاكم. - رسالة فيها أجوبة عن بعض مسائل وقعت. - مسائل في الشيوع. - سؤالات وأجوبة عنها. - في العدّة. - في طلاق المريض زوجته. - حكم الخلع وحكم الحنبلي فيه. العقل؛ وما يحافظ عليه، ويبين مكانته كرسالة: - أحكام الشهادة والتزكية. المال؛ وذكر فيه ما يتعلق بالقضاء وفصل الخصومات فيما يتعلق بالمال وغيره. - رسالة في قضاء القاضي.

- ما ينقض من القضاء. - تحرير الأقوال في مسألة الاستبدال. - في الوقف واشتراط النظر للأرشد فالأرشد. - في حطّ الثمن والإبراء منه وصحّة ذلك. وتتداخل هذه المقاصد في الرّسالة الواحدة، ويأتي بعضها عرضًا، وهو في ذلك كلّه يرتبط بقاعدةٍ عامّةٍ أصَّلَ لها عنوانها: اليُسر وعدم المشقة وانظر ذلك في (تحرير الأقوال في صوم الست من شوّال). وقد أخذ ذلك من نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن التشبّه بالتبتّل بصوم الدّهر لما فيهِ من الضَّعف، وإن أراد استغراق الزمان بالطّاعة، فجعل العبادةَ العاريةَ عن المشقّة المرهقة محصّلةً للمقصود حيث ذكر حديث: "مَنْ صَامَ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ كَانَ كَصِيَامِ الدَّهرِ". ولعله يأتي من يبحث في رعاية المقاصد عند المؤلف ليقدم لنا بحثًا ممتعًا. . . ونأمل أن ينال الكتاب إعجاب العلماء والباحثين، وأن يكتب لنا الأجر والمثوبة، ويحقق ما فيه الخير والبركة لنا وللمسلمين جميعًا. والحمد لله رب العالمين المحقّق

الكتاب

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الكِتَاب الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث لعموم الثقلين، سيدنا محمّدٍ وعلى آله الطيبين الطاهرين، وأصحابه الغر الميامين. أمّا بعد: فإن خيرَ ما يُعملُ به، ويحق له العناية هو الفقه الإسلامي، الذي من خلاله تتعبّد الطريق لسلوك الحياة الصحيح، إذ هو مناط الحياة، وسُلّم الوصول إلى بوابة الآخرة، ليكون متتبعها من الذين تفتّح لهم الأبواب الثمانية، فيدخلونها دخول الكرام لينالوا مرتبة قوله تعالى: {ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ}. إذ بالفقه تتفتّق الأذهان الخاملة، وبالنظر إليه تتفتّح أشرعة العقل لتتلقّى وتحلل، لأنهم المبشرون من الأخيار المصطفين في الدنيا، لهذا قال - صلى الله عليه وسلم -: "مَنِ يُرِدِ اللهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّههُ في الدِّينِ". وانطلاقًا من قوله - صلى الله عليه وسلم -، كان الدين الإسلامي الحنيف، يتجدد بتجدد الأزمان، ولا يتجدد إلَّا بتجدّد الوقائع الطارئة من المعاملات الحياتية. ومن هنا: كان لا بد لنا من السعي الحثيث لتتبع آثار السلف الصالح، وما صنّفوه لنا من مسائل حدثت في عصرهم الذي ذهب بذهابهم، لكن بقي خالدًا بما سطروه لنا من مسائل فقهية يحتاج إليها السائل عنها في كلّ زمانٍ، من حين خرجت فتاواهم إلى يومنا حيث تجلس تحت المجهر للتحليل

والمناقشة لإثراء الواقع المعاش الجديد الذي يتوافق مع الحياة المنشودة لطالب السعادة في الدارين. ومن هذا الباب وجدنا مجموعًا فقهيًّا لطيفًا لأحد الفقهاء الأحناف، مذيلًا في نهايته رسالةً لأحد أصدقائه في المذهب. ولعلّ هذا المجموع الذي يحمل في طياته بعض المسائل والرسائل التي خطّها مصنفها، تبرز لنا مدى اطّلاعه، ورحب آفاقه، فَنتَعَرّف من خلال هذا المجموع: - بعض أسماء كتبه المؤلفة. - بعض إقراءاته. كقوله: (وقد كنت أقرأت شرح الزيلعي في سنة إحدى وأربعين، ولي فيه تقريرٌ وتحريرٌ). -كما يورد لنا بعض أسماء شيوخه الذين أخذ بآرائهم، واستفاد منهم في بحثه، ومنهج فكره، كابن الهمام وغيره، فهو يقول: (شيخنا العلامة كمال الدين). - ونتعرف على نقولات فقهية لم تكن ميسرة في أيدي الباحثين. - تبرز شخصيته كفقيهٍ مجتهدِ في أصول مذهبه، لا يتعداها إلَّا في القليل النّادر، وتنمُّ عن إمكانات عُليا طَبَعَته بطابعها. وكمؤرخٍ في نقله وفيات الأئمة الذين نُقِلَت عنهم الفتاوى وأراد أن يبين السّابق من اللاحق. وكمحدّثٍ وعالم في الجرح والتعديل في مراجعاته لطرق الحديث النبوي التي تعرض في الرسائل إذا كان المقام يقتضيها.

وكشاعر له الموهبة الشعرية التي يحملها في جوانح عقله ولبه، المتناسبة مع ثقافته العامة، حيث ذكر بعض الأبيات. - ثقة الناس به وبعلمه حيثُ وردت عليه أسئلة من بلدانٍ متعددة كـ: دمشق، وغزة. . . إلخ. من أناس متعددين أمراء كـ: (قراجا الظّاهري) وغيرهم. - وكان شديد النقد لمن يجده شاذًّا عن القواعد والأصول كـ (جلال الدين التباني في رسالة تحرير الأقوال في صوم الست من شوّال). وإن كان يحترم العلماء من المذاهب كافة كابن تيمية وقال عنه: شيخ الإسلام. كما كان يختار ما كان صحيحًا ولو خالف مشايخه، كعلامة الزمان ابن الهمام، كما قال. - نقله بعض المسائل والأقوال عن معاصريه كالأقصرائي وابن طيبغا. . . إلخ. فبالجملة: هو مجموعٌ جميلٌ في مضمونه، جيّدٌ في نسخه، إلَّا أنه يعتريه بعض التشويش في الكلام.

وصف المخطوط

وَصفُ المَخْطُوطِ المخطوط من محفوظات مكتبة برنستون نيوجيرسي - أمريكا. مؤلف من (240 ق) تحت رقم (جاريت 3393 Y). بخط جميل نسخي، مقروء، عناوين الرسائل مكتوبة بالحمرة، وفيه الكثير من التحريف والتصحيف، استدرك أكثره من المصادر التي نقل عنها المؤلف، أو الكتب التي نقلت عنه كحاشية ابن عابدين مثلًا. وقد كتب على هامش الفهرست في بداية المخطوط أنه: (من كتب الفقير الحقير الراجي عفو ربه الكريم، المعترف بالذنب والتقصير، مصطفى ابن المرحوم الشيخ محمد صادق أفندي، نجل العلامة الهمام عمري زاده الشيخ محمد سعدي أفندي الحنفي مذهبًا وعملًا، الدمشقي بلدًا ومولدًا بالشراء الشرعي من تركة والدي المذكور وذلك في ختام شهر محرم الحرام الذي هو من شهور سنة 1296 وبثمن قدره لذلك عشرين غرش وربع فقط م). (ثمن هذا الكتاب عشرين غرش فقط لا غير بالشراء الشرعي من تركة والدي محمد صادق العمري 22 م 96 يوم الأربعاء) وعليه ختمه. لم يُذكر اسم الناسخ أو ما يدل عليه وإن تعاقب على نسخها اثنان -والله أعلم- بسبب اختلاف خط بعض الورقات.

وعليه بعض التصحيحات المشار إليها لتدخل في النص، وذكر الناسخ تعقيبًا على مسألة أوردها المؤلف لا ندري من صاحبها. هل هو الناسخ أم نقلها عن النسخة التي نقل منها. ولعلها من منسوخات القرن الحادي عشر الهجري. وليس لها في حدود علمي أي نسخة أخرى في مكتبات العالم يُستأنس بها في المقابلة. وهي على ما فيها من تحريفاتٍ وتصحيفات ذات قيمة عالية لنُدرتها.

صحة نسبة المجموع

صِحَّةُ نِسْبَةِ المَجمُوع لم يُسَمّ المجموع باسمٍ خاص في بدايته، وإنما ذكر فهرست ما في هذا المجموع من الرسائل. وسماه من نقل منه: فتاوى العلامة قاسم. وذكر أسماء الكثير من هذه الرسائل في ترجمته عند السخاوي. ولا شك أنّ هذا المجموع من تأليف العلامة ابن قطلوبغا. ويدل على ذلك: أسلوب المؤلف في طريقة عرضه للمسائل التي أوردها وهي تتشابه مع منهجه في كتبه المطبوعة وإشاراته فيها إلى أسماء بعض كتبه المؤلفة (ككتابه شرح مقدمة الفرائض)، وإقراءاته، وأسماء بعض شيوخه. والإشارات والنقولات من هذا المجموع عند من جاء بعده، كأمثال: البحر الرائق في شرح كنز الدقائق (4/ 423 - 424) حيث قال: رَأَيْت في فتاوَى الْعَلَّامَةِ قَاسِمٍ مَا صُورَتُهُ. . . وحاشية رد المحتار (4/ 343): سُئِلَ الْعَلَّامَةُ قَاسِمٌ في فَتَاوَاهُ. علمًا أن حاشية رد المحتار ذكرت بعض الرسائل بأسمائها (8/ 35 - 36):. . وَتَمَامُ ذَلِكَ في رِسَالَةِ تَحْرِيرِ الأَقْوَالِ في صَوْمِ السِّتِّ مِنْ شَوَّالٍ لِلعَلّامَةِ قَاسِمٍ.

وقال أيضًا عن رسالة قضاء القاضي (21/ 395 - . . .):. . . وَقَدْ ألَّفَ فِيهَا الْعَلَّامَةُ الْمُحَقِّقُ الشَّيْخُ قَاسِمٌ رِسَالَةً. وقال أيضًا عن رسالة القول القائم في بيان حكم الحاكم (21/ 427): مِنْ رِسَالَةِ الْعَلَّامَةِ قَاسِمٍ الْمُؤَلَّفَةِ في هَذه الْمَسْأَلَةِ.

مصادر المجموع

مَصَادِر المَجْمُوع اعتمد الإمام قاسم بن قطلوبغا على كثيرٍ من كتب الفقه والحديث وكتب التخريج والجرح والتعديل، وقد حاولت وسعي إخراج المصادر التي اعتمد عليها من بين دفتي هذا المجموع، مما يعطينا مؤشرًا يدل على سعة اطلاع هذا الإمام، وطول باعه في فنون الدين. وقد اعتمد -رحمه الله- على مصادر السنة الأصلية وأمهات المراجع المعتمدة. وفيما يلي عرض للمصادر الوارد ذكرها والتي منها: -كتاب الآثار. تأليف الحافظ محمد بن الحسن الشيباني المتوفى سنة 189 هـ. - الأحكام. تأليف عبد الله بن عبد الرحمن بن الفضل بن بهرام الدارمي المتوفى سنة 255 هـ. - أحكام القرآن. تأليف أبو بكر أحمد بن علي الرازي الجصاص المتوفى سنة 370 هـ. - أحكام القرآن. تأليف أبو بكر محمد بن عبد الله المعروف بابن العربي المالكي المتوفى سنة 543 هـ. - الأحكام الكبرى. تأليف عبد الحق بن عبد الرحمن بن سعيد الإشبيلي المتوفى سنة 582 هـ.

- أحكام الأوقاف. تأليف أبو بكر أحمد بن عمرو الشيباني المعروف بالخصاف المتوفى سنة 261 هـ. - الاختيار لتعليل المختار. تأليف أبو الفضل عبد الله بن محمود بن مودود ابن محمود الموصلي المتوفى سنة 683 هـ. - أدب القاضي. تأليف أبو بكر أحمد بن عمرو الشيباني المعروف بالخصاف المتوفى سنة 261 هـ. - أدب القاضي والفتوى. تأليف تقي الدين أبو عمرو عثمان ابن المفتي صلاح الدين عبد الرحمن بن عثمان بن موسى الكردي الشهرزوري الموصلي الشافعي. - الاستذكار. تأليف أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر المتوفى سنة 463 هـ. - إشارات الجامع. تأليف أبو الفضل عبد الرحمن الكرماني المتوفى سنة 543 هـ. - الأصل. تأليف الإمام محمد بن الحسن الشيباني المتوفى سنة 189 هـ. - الأم. تأليف محمد بن إدريس بن العباس القرشي الشافعي المتوفى سنة 204 هـ. - الإملاء. أملاه أبو يوسف. - الإمام في شرح الإلمام. تأليف تقي الدين محمد بن علي المعروف بابن دقيق العيد الشافعي المتوفى سنة 702 هـ.

- إنباء الغمر بأبناء العمر. تأليف أحمد بن علي بن محمد بن حجر المتوفى سنة 852 هـ. - الإيضاح. تأليف ركن الدين عبد الرحمن بن محمد المعروف بابن أمير ويه الكرماني الحنفي المتوفى سنة 543 هـ. - بدائع الصنائع. تأليف أبو بكر بن مسعود بن أحمد الكاشاني المتوفى سنة 587 هـ. - البداية مختصر الوقاية. - بيان الوهم والإيهام في الحديث. تأليف أبو الحسن علي بن محمد ابن عبد الملك الفاسي المعروف بابن القطان المتوفى سنة 629 هـ. - تاتارخانية في الفتاوى. تأليف عالم بن علاء الحنفي المتوفى سنة 286 هـ. - تاريخ بغداد. تأليف أبي بكر أحمد بن علي الخطيب البغدادي المتوفى سنة 463 هـ. - تاريخ يحيى بن معين المتوفى سنة 233 هـ. - التاريخ الكبير. تأليف محمد بن إسماعيل البخاري المتوفى سنة 256 هـ. - التجريد. تأليف أبو الحسين أحمد بن محمد بن جعفر البغدادي القدوري المتوفى 428 هـ. - التجريد الركني في الفروع. تأليف ركن الدين عبد الرحمن بن محمد المعروف بابن أميرويه الكرماني الحنفي المتوفى سنة 543 هـ.

- التحرير في أصول الفقه. تأليف كمال الدين ابن همام الحنفي المتوفى سنة 861 هـ. - التمهيد. تأليف أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر المتوفى سنة 463 هـ. - تتمة الفتاوى. تأليف برهان الدين محمود بن أحمد بن عبد العزيز الحنفي المتوفى سنة 616 هـ. - تحفة الفقهاء. تأليف محمد بن أحمد بن أبي أحمد أبو منصور السمرقندي المتوفى نحو 575 هـ. - التحقيق. تأليف صلاح الدين. ولم أعرفه. - تفسير البغوي (المشهور بمعالم التنزيل). تأليف أبو محمد الحسين ابن مسعود الفراء البغوي المتوفى سنة 516 هـ. - التقريب. تأليف أبو الحسين بن أبي بكر الفقيه البغدادي المعروف بالقدوري المتوفى سنة 428 هـ. - تنقيح التحقيق في أحاديث التعليق. تأليف شمس الدين محمد بن أحمد ابن عبد الهادي الحنبلي المتوفى سنة 744 هـ. - الثقات لابن حبان. تأليف محمد بن حبان أبو حاتم البستي المتوفى سنة 354 هـ. - جامع الأمهات. تأليف ابن الحاجب المتوفى سنة 646 هـ. - الجامع. تأليف نوح بن أبي مريم المتوفى سنة 173 هـ.

- الجامع الصغير في الفقه. تأليف عبد الرحمن بن محمد بن جسكا المتوفى سنة 374 هـ. - الجامع الكبير في فروع الحنفية. تأليف أبو الحسن عبيد الله بن حسين الكرخي الحنفي المتوفى سنة 340 هـ. - الجواهر. تأليف جلال الدين أبو محمد عبد الله بن نجم بن شاس بن نزار بن عشائر بن شاس الجذامي المالكي المتوفى سنة 616 هـ. - الحاوي القدسي في الفروع. تأليف القاضي جمال الدين أحمد بن محمد بن نوح القابسي الغزنوي الحنفي، المتوفى في حدود سنة 600 هـ. - خلاصة الفتاوى. تأليف طاهر بن محمد بن أحمد بن عبد الرشيد البخاري المتوفى سنة 542 هـ. - الخلاصة في أحاديث الأحكام. تأليف أبو زكريا يحيى بن شرف النووي المتوفى سنة 676 هـ. - درر البحار. تأليف شمس الدين القونوي المتوفى سنة 788 هـ. - الذخيرة. لعلها: لصاحب المحيط البرهاني المعروف بابن مازه المتوفى سنة 616 هـ. - راوي كتاب الفقه الأكبر عن أبي حنيفة. أبو مطيع البلخي الحكم بن عبد الله ابن سلمة بن عبد الرحمن القاضي الفقيه المتوفى سنة 197 هـ. - الروض الأنف في شرح غريب السيرة. تأليف عبد الرحمن بن عبد الله ابن أحمد السهيلي المتوفى سنة 581 هـ. - الروضة. تأليف أبو زكريا يحيى بن شرف النووي المتوفى سنة 676 هـ.

- السير. تأليف الإمام محمد بن الحسن الشيباني المتوفى سنة 189 هـ. - سنن سعيد بن منصور. تأليف سعيد بن منصور الخراساني المكي المتوفى سنة 227 هـ. - السنن. تأليف أحمد بن محمد بن هاني الخراساني الحنبلي. المتوفى سنة 270 هـ. - سنن ابن ماجه. تأليف محمد بن يزيد القزويني المتوفى سنة 273 هـ. - سنن أبي داود. تأليف سليمان بن الأشعث السجستاني المتوفى سنة 275 هـ. - سنن الترمذي. تأليف محمد بن عيسى بن سورة الترمذي المتوفى سنة 279 هـ. - سنن الدارقطني. تأليف علي بن عمر الدارقطني المتوفى سنة 385 هـ. - سنن الدارمي. تأليف عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي المتوفى سنة 255 هـ. - السنن الكبرى. تأليف أحمد بن الحسين بن علي بن عبد الله البيهقي المتوفى سنة 458 هـ. - سنن النسائي. تأليف أحمد بن شعيب بن علي بن سنان النسائي المتوفى سنة 303 هـ. - شراح الكنز. (هكذا جاء). - شرح الإيضاح. تأليف أبو الفضل عبد الرحمن الكرماني المتوفى سنة 543 هـ.

- شرح بيت المنظومة. تأليف محمد بن محمود بن محمد تاج الدين أبو المفاخر بن أبي القاسم السديدي الزوزني. - شرح الخرقي. تأليف الزركشي. - شرح صحيح مسلم. تأليف أبو الفضل عياض بن موسى بن عياض المتوفى سنة 544 هـ. - شرح الزيادات. تأليف الحسن بن منصور بن أبي القاسم محمود بن عبد العزيز الأوزجندي الفرغاني (قاضي خان) المتوفى سنة 592 هـ. - شرح القدوري. - شرح مجمع البحرين. تأليف الشيخ عبد اللطيف ابن فرشته. - شرح المشارق. تأليف محمد بن محمد بن محمود أكمل الدين البابرتي المتوفى سنة 786 هـ. - شرح المنار. تأليف عبد اللطيف بن فرشته. - شرح هداية أبي الخطاب. تأليف عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم ابن تيمية الحراني المتوفى سنة 652 هـ. - شرح مشكل الآثار. تأليف أحمد بن محمد بن سلامة الأزدي الطحاوي المتوفى سنة 321 هـ. - شرح معاني الآثار. تأليف أحمد بن محمد بن سلامة الأزدي الطحاوي المتوفى سنة 321 هـ. - شرح المهذب. تأليف أبو زكريا يحيى بن شرف النووي المتوفى سنة 676 هـ.

- شرح الوجيز. تأليف الرافعي المتوفى سنة 623 هـ. - صحيح البخاري. تأليف محمد بن إسماعيل البخاري المتوفى سنة 256 هـ. - صحيح مسلم. تأليف مسلم بن الحجاج القشيري النيسابوري المتوفى سنة 261 هـ. - صحيح ابن حبان. تأليف محمد بن حبان أبو حاتم البستي المتوفى سنة 354 هـ. - صحيح ابن خزيمة. تأليف محمد بن إسحاق بن خزيمة النيسابوري المتوفى سنة 311 هـ. - الضعفاء الكبير. تأليف محمد بن عمرو بن موسى بن حماد العقيلي المكي المتوفى سنة 322 هـ. - الطبقات الكبرى. تأليف محمد بن سعد بن منيع الهاشمي المتوفى سنة 230 هـ. - العارضة. تأليف أبو بكر محمد بن عبد الله المعروف بابن العربي المالكي المتوفى سنة 543 هـ. - علل الحديث. تأليف عبد الرحمن بن أبي حاتم محمد بن إدريس بن المنذر الرازي المتوفى سنة 327 هـ. - العمد. تأليف أحمد بن محمد بن عمر أبو العباس الناطفي المتوفى سنة 446 هـ. - عمدة الفتاوى. تأليف: الصدر الشهيد المتوفى سنة 536 هـ.

- غريب الحديث. تأليف أبو سليمان أحمد بن محمد بن إبراهيم الخطابي البستي المتوفى سنة 388 هـ. - الغاية. تأليف محمد بن علي السروجي المتوفى سنة 744 هـ. - فتاوى جمال الإسلام. - الفتاوى الصغرى. تأليف حسام الدين الشهيد المتوفى سنة 536 هـ. - فتاوى الظهيرية. تأليف أبو محمد، ظهير الدين أحمد بن أبي ثابت إسماعيل بن محمد أيدغمش الحنفي المتوفى سنة 600 هـ. - الفتاوى الفيريقية. - فتاوى قاضي خان وتسمّى: الفتاوى الخانية. تأليف الحسن بن منصور ابن أبي القاسم محمود بن عبد العزيز الأوزجندي الفرغاني المتوفى سنة 592 هـ. - فتاوى الملا الأعلى. - فتح القدير شرح الهداية. تأليف كمال الدين محمد بن عبد الواحد الشهير بابن الهمام المتوفى سنة 861 هـ. - الفروع. تأليف برهان الدين إبرهيم بن محمد بن عبد الله بن مفلح الحنبلي المتوفى سنة 884 هـ. - فصول الأسروشني. تأليف مجد الدين أبي الفتح محمد بن محمود الأسروشني الحنفي المتوفى سنة نيف وثلاثين وست مئة هجرية. - فصول العمادي في فروع الحنفية تأليف جمال الدين بن عماد الدين الحنفي.

- الفوائد. تأليف أبو حفص السفكردي. - قنية المنية على مذهب أبي حنيفة. تأليف أبي الرجاء نجم الدين مختار ابن محمود الزاهدي الحنفي المتوفى سنة 658 هـ. -كتاب حافظ الدين النسفي. هو: عمر بن محمد بن أحمد بن إسماعيل ابن محمد بن علي بن لقمان، نجم الدين، أبو حفص النسفي، له كتاب: طلبة الطلبة في اللغة على ألفاظ كتب فقه الحنفية، ونظم الجامع الصغير المتوفى سنة 537 هـ. -كتاب نظام الدين. - الكافي شرح الوافي. تأليف عبد الله بن أحمد بن محمود النسفي المتوفى سنة 710 هـ. - الكامل. تأليف أبو أحمد عبد الله بن عدي الجرجاني المتوفى سنة 365 هـ. - لسان العرب لابن منظور. - المبسوط. تأليف محمد بن أحمد بن أبي سهل السرخسي المتوفى سنة 483 هـ. - المبسوط. تأليف أبو بكر محمد بن الحسين بن محمد بن الحسن البخاري المعروف خواهر زاده المتوفى سنة 483 هـ. - مجمع البحرين. تأليف أحمد بن علي بن تغلب بن أبي الضياء البغدادي البعلبكي الأصل المنعوت بمظفر الدين المعروف بابن الساعاتي المتوفى سنة 690 هـ.

- المجموع شرح المهذب. تأليف أبو زكريا يحيى بن شرف النووي المتوفى سنة 676 هـ. - المحيط. تأليف برهان الدين ابن مازه المتوفى سنة 616 هـ. - المختصر. تأليف عبيد الله بن الحسين بن دلال بن دلهم، أبو الحسن الكرخي، المتوفى سنة 340 هـ. - المصفى شرح المنظومة النسفية. تأليف عبد الله بن أحمد بن محمود النسفي المتوفى سنة 710 هـ. - المحلى. تأليف أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم المتوفى سنة 456 هـ. - المسائل. تأليف أبو الفضل عبد الرحمن الكرماني المتوفى سنة 543 هـ. - المستدرك. تأليف أبو عبد الله محمد بن عبد الله المعروف بالحاكم النيسابوري المتوفى سنة 405 هـ. - مسند أبي يعلى الموصلي. تأليف أحمد بن علي بن المثنى التميمي الموصلي المتوفى سنة 307 هـ. - مسند الإمام أحمد. تأليف أحمد بن محمد بن حنبل المتوفى سنة 241 هـ. - مسند إسحاق بن راهويه. تأليف إسحاق بن إبراهيم بن راهويه المروزي المتوفى سنة 238 هـ. - مسند البزار. تأليف أحمد بن عمرو بن عبد الخالق البزار المتوفى سنة 292 هـ.

- مسند الشافعي. تأليف محمد بن إدريس الشافعي المتوفى سنة 204 هـ. - مسند الطيالسي. تأليف أبو داود الطيالسي سليمان بن داود البصري المتوفى سنة 204 هـ. - مسند الشاميين. تأليف سليمان بن أحمد الطبراني المتوفى سنة 360 هـ. - مصنف عبد الرزاق. تأليف عبد الرزاق بن همام الصنعاني المتوفى سنة 211 هـ. - مصنف ابن أبي شيبة. تأليف عبد الله بن محمد بن أبي شيبة الكوفي المتوفى سنة 235 هـ. - معاجم الطبراني. تأليف سليمان بن أحمد الطبراني المتوفى سنة 360 هـ. - معرفة السنن والآثار. تأليف أحمد بن الحسين بن علي بن عبد الله البيهقي المتوفى سنة 458 هـ. - المفيد والمزيد. تأليف تاج الدين عبد الغفار بن لقمان الكردي الحنفي المتوفى سنة 562 هـ. - المغني. تأليف موفق الدين أبو محمد عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة الحنبلي المتوفى سنة 620 هـ. - المنتظم في تاريخ الأمم. تأليف أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن الجوزي المتوفى سنة 597 هـ. - المنتخب في أصول المذهب. تأليف حسام الدين محمد بن محمد ابن عمر الأخسيكثي المتوفى سنة 644 هـ.

- المنتقى من أخبار المصطفى - صلى الله عليه وسلم -. تأليف مجد الدين أبو البركات عبد السلام بن عبد الله بن تيمية الحراني المتوفى سنة 652 هـ. - منظومة جلال الدين التباني. تأليف جلال بن أحمد بن يوسف بن طوع رسلان الثيري. - الموطأ. تأليف مالك بن أنس المتوفى سنة 179 هـ. - النهاية شرح الهداية. تأليف حسام الدين المعروف بالصغناقي الحنفي، المتوفى سنة 710 هـ. - النهاية في غريب الحديث. تأليف ابن الأثير الجزري المتوفى سنة 606 هـ. - النوادر. تأليف محمد بن شجاع الثلجي ويقال البلخي المتوفى سنة 266 هـ. - النوادر. تأليف هشام. (لم أعرفه). - النوادر. تأليف أبو عبد الله محمد بن سماعة بن عبيد بن هلال بن وكيع ابن بشر التيمي المتوفى سنة 233 هـ. - النوازل. تأليف هو نصر بن محمد بن أحمد بن إبراهيم السمرقندي المتوفى سنة 373 هـ. - الهداية في الفروع. تأليف برهان الدين علي بن أبي بكر المرغيناني المتوفى سنة 593 هـ. - الوافي في الفروع. تأليف عبد الله بن أحمد بن محمود النسفي المتوفى سنة 710 هـ.

- الواقعات. تأليف الحسام الشهيد. - وقاية الرواية في مسائل الهداية. تأليف برهان الشريعة محمود العبادي المحبوبي البخاري. - الوقف (تقدم بأحكام الوقف). تأليف أبو بكر أحمد بن عمرو الشيباني المعروف بالخصاف المتوفى سنة 261 هـ. - الينابيع في معرفة الأصول والتفاريع. تأليف أبو عبد الله محمد بن رمضان.

عملنا في المجموع

عَمَلُنَا فِي المَجْمُوعِ - نسخ المجموع. - وصف المخطوط. - صحة نسبة المجموع. - مصادر المجموع. - ترجمة ابن قطلوبغا. - ترجمة ابن أمير الحاج الحلبي. - ضبط الآيات القرآنية بالشكل. - ضبط الأحاديث النبوية بالشكل. - تخريج الآيات القرآنية الشريفة. - تخريج الأحاديث والآثار الشريفة. - ترجمة الأعلام الوارد اسمهم في المجموع قدر الإمكان. - شرح غريب الكلام. - مقابلة النصوص على أصولها حسب القدرة. - فهرس موضوعات المجموع.

ترجمة العلامة قاسم بن قطلوبغا

تَرْجَمَةُ العلَّامة قَاسِم بن قُطْلُوبغَا * اسمه ونسبه: هو الزين أبو العدل قاسم بن قُطْلُوبغا بن عبد الله المصري المشهور بقاسم الحنفي السودوني -نسبة لمعتق أبيه سودون الشيخوني- الجمالي. وجاء في هامش أمن القول المبتكر: قطلوبغا: لفظة تركية مركبة من: قطلو ومعناه: المبارك. وبغا ومعناه: الولد. وقطلو بضم القاف وسكون الطاء المهملة وضم اللام. * مولده: قال السخاوي: ولد فيما قاله في المحرم سنة اثنتين وثمان مئة بالقاهرة. * صفته: كان صابرًا متواضعًا متصوفًا ناب صوفية الأشرفية. وكان كثير العيال والأولاد فقد تزوج أكثر من مرة. * العلوم التي برع فيها: العربية والقراءات والتفسير والحديث ونقد الرجال والفقه والأصول والمنطق والكلام وسائر العلوم. وقد رزقه الله حافظة نادرة جعلته درة في جبين

مذهبه

ذلك العصر حيث قيل إنه أفرد زوائد متون الدارقطني أو رجاله على الستة عن ظهر قلب من غير نظر في كتاب. * مذهبه: كان مذهبه هو مذهب أبي حنيفة النعمان رحمه الله تعالى. * المناصب التي وليها: درس الحديث وعلومه بقبة البيبرسية عقب ابن حسان، ثم رغب عنه بعد ذلك وقرره جانبك الجداوي في مشيخة مدرسته التي أنشأها بباب القرافة ثم صرفه وقرر فيها غيره. ثم عين لمشيخة الشيخونية عند توعك الكافيجي بسفارة المنصور حين كان بالقاهرة عند الأشرف قاتيباي لكنه توفي قبل ذلك. وعين على قضاء الحنفية. * رحلاته العلمية: رحل إلى الشام والإسكندرية ومكة وبيت المقدس. * شيوخه: تتلمذ على علية القوم منهم الحافظ ابن حجر والتاج أحمد الفرغاني وابن الجزري والشهاب الواسطي والزين الزركشي والشمس ابن المصري والبدر حسين البوصيري والتقي المقريزي والعز ابن جماعة وعائشة الحنبلية والعز بن عبد السلام والشرف السبكي وغيرهم. * تلاميذه: تتلمذ على يديه الكثير نذكر من مشاهيرهم: الإمام السخاوي والبقاعي ومحب الدين ابن الشحنة وأبو الفضل العراقي.

ثناء العلماء عليه

* ثناء العلماء عليه: وصفه شيخه الحافظ ابن حجر بالإمام العلامة المحدث الفقيه الحافظ. قال السخاوي في وصفه: إمام علامة، طلق اللسان، قادر على المناظرة، مغرم بالانتقاد ولو لمشايخه، مع شائبة دعوى ومساجحة. ووصفه ابن الديري: بالشيخ العالم الزكي. وقال الزين رضوان في بعض مجاميعه: من حذاق الحنفية. وقال ابن العماد: العلامة المفنن. وقال البقاعي: الإمام العلامة المفنن. وقال ابن إياس: كان عالمًا فاضلًا فقيهًا محدثًا كثير النوادر. * مصنفاته: زادت مؤلفاته على التسعين ولم يقتصر على نوع واحد من التأليف بل حلق في أجواء متعددة في جميع العلوم: - القرآن وعلومه: 1 - تعليق على قطعة تفسير البيضاوي. 2 - غريب القرآن. 3 - القراءات العشر. 4 - رسالة في شرح البسملة. 5 - جواهر القرآن. - التخريج: 1 - إتحاف (تحفة) الأحياء بما فات من تخريج أحاديث الإحياء.

- الرجال وعلومه

2 - بغية الرائد في تخريج أحاديث شرح العقائد النسفية. 3 - تخريج أحاديث عوارف المعارف. 4 - تخريج أحاديث كنز الوصول إلى معرفة الأصول. 5 - تخريج أحاديث تفسير أبي الليث السمرقندي. 6 - تخريج أحاديث الأربعين في أصول الدين للغزالي. 7 - تخريج أحاديث جواهر القرآن للغزالي. 8 - تخريج أحاديث بداية الهداية للغزالي. 9 - تخريج أحاديث منهاج العابدين للغزالي. 10 - تخريج أحاديث الشفا للقاضي عياض. 11 - تخريج أحاديث عوالي القاضي بكار بن قتيبة. 12 - تخريج أحاديث شرح مختصر القدوري. 13 - تخريج أحاديث الكتب العشرة. [ذكره في التعريف]. 14 - التعريف والإخبار بتخريج أحاديث الاختيار (طبع في ثلاث مجلدات بتحقيق أستاذنا الشيخ: عبد الله محمد الدرويش). 15 - منية الألمعي فيما فات في تخريج أحاديث الهداية للزيلعي. - الرجال وعلومه: 1 - الاهتمام الكلي بإصلاح ثقات العجلي. 2 - تاج التراجم في طبقات الحنفية. 3 - تراجم مشايخ شيوخ العصر.

- الحديث وعلومه

4 - تراجم مشايخ المشايخ. 5 - ترتيب التمييز للجوزقاني. 6 - ترتيب الإرشاد في علماء البلاد للقزويني. 7 - تقويم اللسان في الضعفاء. 8 - الثقات ممن لم يقع في الكتب الستة. 9 - جمع أسئلة الحاكم للدارقطني. 10 - حاشية على التقريب لابن حجر. 11 - حاشية على المشتبه لابن حجر. 12 - رجال الموطأ برواية محمد بن الحسن. 13 - رجال الآثار لمحمد بن الحسن. 14 - رجال مسند أبي حنيفة لابن المقرئ. 15 - زوائد رجال الموطأ. 16 - زوائد رجال مسند الشافعي. 17 - زوائد رجال العجلي. 18 - معجم شيوخه. 19 - من روى عن أبيه، عن جده. 20 - الواقعات. - الحديث وعلومه: 1 - الأمالي على مسند أبي حنيفة.

- الفقه وعلومه

2 - ترتيب مسند أبي حنيفة على أبواب الفقه. 3 - ترصيع الجوهر النقي في تلخيص سنن البيهقي. 4 - ترجمة ذو النون المصري. 5 - تعليق على مسند الفردوس. 6 - حاشية على نزهة النظر لابن حجر. 7 - حاشية على شرح نخبة الفكر لتقي الدين الشمني. 8 - حاشية على شرح الألفية للعراقي. 9 - زوائد سنن الدارقطني على الستة. 10 - شرح كتاب جامع المسانيد لأبي المؤيد الخوارزمي. 11 - شرح غريب أحاديث شرح الأقطع على القدوري. 12 - شرح مصابيح السنة للبغوي. 13 - شرح القصيدة الغرامية. 14 - شرح منظومة ابن الجزري في علوم الحديث. 15 - عوالي الليث بن سعد. 16 - عوالي أبي جعفر الطحاوي. 17 - مسند عقبة بن عامر. 18 - منتقى من منتقى ابن الجارود. - الفقه وعلومه: 1 - إجازة الإقطاع.

2 - أحكام الشهادة والتزكية. 3 - أحكام الصلاة على الجنازة في المسجد. 4 - أحكام الفأرة إذا وقعت في الزيت. 5 - أحكام القهقهة. 6 - الأسوس في كيفية الجلوس بين السجدتين. 7 - الأصل في بيان الفصل والوصل. 8 - تحرير الأقوال في صوم الست من شوال. 9 - تحرير الأقوال في مسألة الاستبدال. 10 - الترجيح والتصحيح على القدوري. 11 - جامعة الأصول في الفرائض. 12 - حط الثمن والإبراء منه. 13 - حفر المربعات. 14 - حكم الإسلام في لحوم الخيل. 15 - حكم الخلع وحكم الحنبلي فيه. 16 - دفع المضرات عن الأوقاف والخيرات. 17 - رد القول الخائب في القضاء على الغائب. 18 - رسالة في قضاء القاضي. 19 - رفع الاشتباه عن مسائل المياه. 20 - رسالة في التراويح والوتر.

21 - رسالة في استبدال الوقف وشروط جوازه. 22 - رسالة فيها أجوبة عن بعض مسائل وقعت. 23 - شرح درر البحار في اختلاف المذاهب الأربعة للقونوي. 24 - شرح رسالة السيد في الفرائض. 25 - شرح فرائض السجاوندي. 26 - شرح فرائض مجمع البحرين لابن الساعاتي. 27 - شرح فرائض الكافي. 29 - (*) شرح المختار في فروع الحنفية لأبي الفضل الموصلي. 30 - شرح مختصر الطحاوي في الفروع. 31 - شرح مختصر الكافي في الفرائض لابن المجدي. 32 - شرح النقابة مختصر الوقاية في الفروع. 33 - طلاق المريض زوجته. 34 - العصمة عن الخطأ في نقض القسمة. 35 - الفوائد الجلة في مسألة اشتباه القبلة. 36 - في العدة. 37 - الفتاوى القاسمية. 38 - القول القائم في بيان تأثير حكم الحاكم. 39 - القول المتبع في أحكام الكنائس والبيع. 40 - القمقمة في مسألتي الجزء والقمقمة.

_ (*) قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة: كذا الترقيم بالمطبوع

- أصول الفقه

41 - ما ينقض من القضاء. 42 - من يكفر ولا يشعر. 43 - موجبات الأحكام وواقعات الأيام. 44 - النجدات في السهو عن السجدات. 45 - نزهة الرائض في أدلة الفرائض. 46 - الوقف واشتراط النظر للأرشد فالأرشد. - أصول الفقه: 1 - الأجوبة عن اعتراضات العز ابن جماعة عن أصول الحنفية. 2 - تحرير الأنظار في أجوبة ابن العطار. 3 - حاشية على شرح تنقيح الأصول لنقره كار. 4 - حاشية على شرح منار الأنوار لابن ملك. 5 - خلاصة الأفكار شرح مختصر المنار لابن حبيب الحلبي. 6 - شرح الورقات لإمام الحرمين. - السيرة: 1 - تلخيص السيرة النبوية لمغلطاي. 2 - حاشية على مشارق الأنوار من صحاح الأخبار المصطفوية للإمام الصنعاني. 3 - منتقى من درر الأسلاك في قضاة مصر. 4 - تلخيص دولة الأتراك.

- النقد

- النقد: 1 - الأجوبة على اعتراضات ابن أبي شيبة على أبي حنيفة. 2 - تبصرة الناقد في كيد الحاسد في الدفع عن أبي حنيفة. - اللغة العربية: 1 - حاشية على حاشية التفتازاني. 2 - شرح مخمسة العز بن عبد العزيز الديريني. 3 - فصول اللسان. 4 - مختصر تلخيص المفتاح في البلاغة. 5 - تعليقة على الأندلسية في العروض. - علم الكلام: 1 - المسامرة بشرح المسايرة لابن الهمام. 2 - شرح منار النظر في المنطق لابن سينا. * مرضه ووفاته: أصيب بعسر البول ثم سلس البول. توفي -رحمه الله- بحارة الديلم ليلة الخميس رابع ربيع الأول سنة تسع وسبعين وثمان مئة وصلي عليه في الغد تجاه جامع المارداني في مشهد حافل ودفن على باب المشهد المنسوب لعقبة عند أبويه وأولاده. رحمه الله تعالى

مصادر الترجمة

* مصادر الترجمة: - الأعلام 5/ 180. - البدر الطالع 2/ 45. - شذرات الذهب 7/ 326. - الضوء اللامع 6/ 184 - 190.

ترجمة شمس الدين ابن أمير حاج الحلبي

تَرْجَمَةُ شَمْس الدِّين ابن أَمِيْر حَاج الحَلَبِيِّ (825 - 879 هـ = 1422 - 1474 م) * اسمه: محمد بن محمد بن حسن بن سليمان بن عمر بن محمد بن الحلبي الحنفي، شمس الدين بن أمير حاج، عالم البلاد الحلبية. * أولاده: - محمد المعروف بالموقت. - وابن أمير حاج (حفيده). * صفته: كان فاضلًا في فنون من العلم. * المناصب التي تولاها: أصبح مدرسًا بالجردكية، بارعًا في الوقت. ولذا: باشره بجامع بلده الكبير؛ وانتقلت وظيفة التوقيت والتدريس بعده لولده. * تصانيفه: 1 - تعريف المسترشد في حكم الغراس في المسجد. 2 - التقرير والتحبير، ثلاث مجلدات في شرح التحرير في أصول الفقه لابن الهمام. 3 - حلية المجلي في الفقه.

وفاته

4 - ذخيرة القصر في تفسير سورة {وَاَلعَصْرِ}. * وفاته: مات في رجب سنة تسع وسبعين وثمان مئة. * مصادر ترجمته: - الأعلام للزركلي (7/ 49). - الرسالة المستطرفة للكتاني (ص 196). - الضوء اللامع للسخاوي (9/ 210). - نظم العقيان في أعيان الأعيان للسيوطي (ص 54 ترجمة رقم 169).

صُوَر المَخْطُوطَات

صفحة المخطوط الأولى

صفحة المخطوط الثانية

صفحة المخطوط قبل الأخيرة

صفحة المخطوط الأخيرة

مَجْمُوعَةُ رَسَائِل العَلَّامَة قَاسِم بْنِ قُطْلُوبُغَا تَأْلِيفُ العَلَّامَة قَاسِم بْنِ قُطْلُوبُغَا الحَنَفِيّ المولود سَنَة 802 هـ والمتوفى سَنة 879 هـ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى حَقَّقَ نُصُوصِهِ وَخَرَّجَ أَحَادِيثِهِ وَعَلَّقَ عَلَيْهِ عبد الحميد محمد الدرويش عبد العليم محمد الدرويش

{كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو (¬1) الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} [الرحمن: 26، 27] فِهْرِسْت مَا في هذا المجموعُ مِن الرَّسَائِل تَأليفُ الشيخ قَاسِم بنِ قُطْلُوبغَا الحَنَفِيِّ -رحمه الله تعالى ونفعنا بعلومه في الدنيا والآخرة- * رفع (¬2) الاشتباه عن (¬3) مسائل المياه. * رسالة فيها أجوبة عن بعض مسائل وقعت. * أحكام الفأرة إذا وقعت في الزيت. * أحكام الصلاة على الجنازة في المسجد. * في التراويح والوتر. * الفوائد الجلّة (¬4) في مسألة اشتباه القبلة. * أحكام القهقهة -وقد أجاد فيها-. * الأصل في بيان الفصل والوصل. * الأسوس في كيفية الجلوس بين السجدتين. * تحرير الأقوال في صوم الست من شوال. ¬

_ (¬1) في المخطوط: (ذي). (¬2) تحرف في المخطوط إلى: (رافع). (¬3) تحرف في المخطوط إلى: (من). (¬4) تحرف في المخطوط إلى: (الجلية). وجاء صحيحًا أول الرسالة ضمن المجموع.

* رسالة في قضاء القاضي. * في العدّة. * في حطّ الثمن والأبراء منه وصحّة ذلك. * مسائل في الشيوع. * أحكام الشهادة والتزكية. * القول القائم في بيان تأثير حكم الحاكم. * ما ينقض من القضاء. * تحرير الأقوال في مسألة الاستبدال. * في الوقف واشتراط النظر للأرشد فالأرشد. * سؤالات وأجوبة عنها. * في طلاق المريض زوجته. * في حفر المربعات. * حكم الخلع وحكم الحنبلي فيه. * تعريف المسترشد في حكم الغراس في المسجد للشيخ شمس الدين ابن أمير حاج الحلبي. تمّت فهرست الرسائل بحمد الله تعالى وعونه وحسن توفيقه ورضاه [1]. * * *

(1) رفع الاشتباه عن مسائل المياه

مَجْمُوعَةُ رَسَائِل العَلَّامَة قَاسِم بن قُطْلُوبُغَا [1] رَفْعُ الاشْتِبَاهِ عَنْ مَسَائِلِ المِيَاهِ تَأْلِيفُ العَلَّامَة قَاسِم بْنِ قُطْلُوبُغَا الحَنَفِي المولود سَنَة 802 هـ والمتوفى سَنة 879 هـ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -

بداية رفع الاشتباه

(1) رَفْعُ الاشْتِبَاهِ عَنْ (¬1) مَسَائِلِ المِيَاهِ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ربّ يسر ولا تعسر يا كريم ربّ تيمم بالخير الحمد لله، وبه أكتفي، وسلام على عباده الذين اصطفى، وَبَعْدُ: فإن سَيِّدَنَا وشيخنا صاحب التّقرير والتّحرير، مُنَقِّحَ أَغْصَانِ الفُروع والأُصُول، ومعدل عنوان المعقول والمنقول، أبو المعالي، زين الملّة والدين، شرف الدين، قاسم بن قطلوبغا الحنفي، عامله الله بلطفه الخفي، وأدامَ النَّفْعَ بِهِ بِمُحَمَّدٍ وَآلِهِ قَالَ: لما منع علماؤنا - رضي الله عنهم -، من كان له أهلية النظر من مَحْضِ تقليدهم على ما رواه الشيخ الإمام العالم العلامة أبو إسحاق إبراهيم بن يوسف قال: حدثنا أبو يوسف، عن أبي حنيفة -رحمه الله- أنه قال: لاَ يَحِلُّ لأَحَدٍ أَنْ يُفْتِي بِقَوْلنَا مَا لَمْ يَعْرِفْ مِنْ أَيْنَ قُلْنَاهُ (¬2). وَتتبَّعْتُ مآخذهم (¬3) وحصلت منها بحمد الله تعالى على الكثير، ولم أقنع ¬

_ (¬1) تحرف في المخطوط إلى: (رافع الاشتباه من). (¬2) انظر البحر الرائق في شرح كنز الدقائق (13/ 300 و 360 و 17/ 362). (¬3) في المخطوط: (ما أخذهم).

بتقليد ما في صحف كثيرة من المصنفين، فاتفق وقوع كلامٍ عَلَى مسألة البئر مع بعضٍ، فذكرت شيئًا من إثبات تحقيق المناط (¬1)، فلم يكن عند التكلم معي شعور بحقيقة الحال، ورأى أن أحدًا في هذا العصر لا يصحُّ منه. قلتُ: الصحيح (؟). فنظر في كتب الأصحاب، وتتبع ما أمكنه فعلهُ، ثم جاء محتجًّا عليَّ بقول صاحب الاختيار "والأصل: أن الماء القليل ينجس بوقوع النجاسة فيه، والكثير: لا". ولقوله عليه السلام في البحر: " هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُه" (¬2). واعتبرناه، فوجدناه ¬

_ (¬1) قال الآمدي في الأحكام (3/ 335): تحقيق المناط: هو النظر في معرفة وجود العلة في آحاد الصور بعد معرفتها في نفسها، وسواء كانت معروفة بنص أو إجماعٍ أو استنباطٍ. (¬2) أخرجه مالك (1/ 22 رقم: 12) والشافعي في الأم (1/ 16) والمسند (8/ 335) وابن أبي شيبة (1/ 131) وأحمد (2/ 237 و 361 و 393) وأبو عبيد في الطهور (231 و 232) والدارمي (730) وأبو داود (83) والترمذي (69) والنسائي (1/ 176) وابن ماجه (386) والدارقطني (1/ 36 و 37) والحاكم في المستدرك (1/ 140 و 141) والبيهقي في الكبرى (1/ 3) وفي معرفة السنن والآثار (1/ 154) عن أبي هريرة. وأخرجه الدارقطني (1/ 35) والحاكم في المستدرك (1/ 143) عن علي. وأخرجه أحمد (3/ 373) وابن ماجه (388) والدارقطني (1/ 34) عن جابر. وأخرجه أبو عبيد في الطهور (238) عن أبي بكر الصديق. وأخرجه ابن المنذر في الأوسط (1/ 248) وأبو عبيد في الطهور (245) عن عقبة ابن عامر. وقال أبو عبيد في الطهور (ص 303 - 304): والقول المعمول به عندنا الأخذ =

ما لا يخلص بعضه إلى بعض. فنقولُ: كل ما لا يخلص بعضه إلى بعض لا ينجس بوقوع النجاسة فيه، فهذا معنى قولهم: لا يتحرك طرفيه بتحريك الطرف الآخر. واعتبر المشايخ الخلُوصَ بالمساحةِ فوجدوه عشراً في عشر، فقد رووه بذلك تيسيرًا. وقال أبو مطيع (¬1): إذا كان خمسة عشر في خمسة عشر لا يتخلص. أما عشرون في عشرين لا أرى في نفسي منه شيئًا، وإن كان له طول ولا عرض له. فالأصح: أنه لو كان بحال لو ضم طوله إلى عرضه يصير عشرًا في عشر، فهو يصير عشرًا في عشر، فهو كثير. والمختار في العمق: ما لا ينحسر أسفله بالغرف، ثم إن كانت النجاسة مرئية لا يتوضأ من موضع الوقوع المتيقن بالنجاسة برؤية عينها، وإن كانت غير مرئية، فلو توضأ منها جاز لعدم التيقن بالنجاسة لاحتمال انتقالها. ¬

_ = بسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أنه الطهور ماؤه الحل ميتته. ثم ما أفتى به علماء أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذين ذكرنا ثم أخذ العلماء الذين سمينا قبله أنه طاهر لا كراهة فيه ولا يحتاج معه إلى تيمم ولا غيره ... (¬1) قال المصنف في تاج التراجم (ص 29): أبو مطيع البلخي، راوي كتاب الفقه أكبر عن أبي حنيفة، قلت: هو الحكم بن عبد الله بن سلمة بن عبد الرحمن القاضي الفقيه، يروي عن: أبي عون، وهشام بن حسان، ومالك بن أنس، وإبراهيم بن طهمان. وعنه: أحمد بن منيع، وغيره. تفقه عليه أهل بلاده، وكان ابن المبارك يجلّه لدينه وعلمه، مات سنة سبع وتسعين ومئة عن أربع وثمانين سنة، بعد ما ولي قضاء بلخ.

الماء القليل ينجس بوقوع النجاسة فيه، والكثير: لا

ومنهم من قال: لا يجوز أيضًا؛ لأن الظاهر بقاؤها في الحال. انتهى. فذكرت له ما في هذا من الفساد. فأجاب: بأن هذا رجلًا متقدم مصنف، فاختصرت الكلام عند ظهور المقام، ثم سألني من يتعين إجابته أن كتب له ما صدر مني في بيان فساد الكلام المتقدم، وما لي في المسألة من تحقيقٍ، وما كنت ذكرت له من مسألة: الماء المستعمل. وقلت مستعيناً بالله سبحانه وتعالى إنه حسبي ونعم الوكيل: قوله: والكثير لا، باطل لإجماع الأمة على الماء الكثير، إن يتغير بنجسٍ ينجس. قوله: كل ما لا يخلص بعضه إلى بعض لا ينجس بوقوع النجاسة فيه. هذا باطلٌ [بإجماعِ الأمة] (¬1) بما تقدّم. ومنقوض بما ذكره بعدُ من قوله: ثم إن كانت النجاسة مرئية لا يتوضأ من موضع الوقوع للتيقن بالنجاسة برؤية عينها. ومما ذكره بعد ذلك أيضًا، من قوله: ولو وقعت جيفة في نهرٍ كبيرٍ لا يتوضأ من أسفل الجانب الذي فيه الجيفة. وهذا أبلغ؛ لأنه مع الكثرة جاز قوله. وهذا معنى قولهم: لا يتحرك أحد طرفيه بتحريك الطرف الآخر. يتوقف بيان فساده على مقدمة وهو: أن الكلام ليس في بيان نهاية الكثرة؛ لأن أكثر ما لا يخلص بعضه إلى بعض، وأكثر ما لا يتحرك أحد طرفيه بتحرك الطرف الآخر، إنما تحقق في نحو الطرفان، بل الكلام في أقل ما لا يخلص بعضه إلى بعض ليكون مبتدأ حد الكثرة، ويتحقق مقابلة الذي هو نهاية حد ¬

_ (¬1) ما بين معكوفتين: قد شطب عليه في المخطوط.

روايات اعتبار التحريك

القلة، وأنه قد روي في اعتبار التحريك ثلاث روايات: أحدها: عدم التحريك بالاغتسال [2/ ب]. وهي رواية أبي يوسف، عن أبي حنيفة. ثانيها: عدم التحريك بالوضوء. وهي رواية محمَّد، عن أبي حنيفة. ثالثها: عدم التحريك الكثير. إذا عرف هذا فيقال: إن كان أقل ما لا يخلص بعضه إلى بعض هو أقل ما لا يتحرك بالاغتسال يكون بالضرورة أقل ما لا يتحرك بالتوضؤ مما يخلص، فيكون في حد القلة، والرواية مبدأ حد الكثرة. وكذا أقل ما لا يتحرك بالتوضؤ يكون مما يتحرك بالاغتسال بالضرورة، وكذا أقل ما لا يتحرك بغسل اليد يكون ما لا يتحرك بالتوضؤ، فلا يتصور أن يكون أقل ما لا يخلص بعضه إلى بعض هو أقل ما لا يتحرك أحد طرفيه بتحرك الطرف الآخر على اعتبار الروايات كلها للتنافي، وإن كان على اعتبار التحريك بأحد الروايات فليس في الكلام ما يفيده، ولا يصح له وجهٌ؛ لأنه امتحان أمرٍ حسيٍّ بأمرٍ حسيٍّ. قوله: وامتحن المشايخ الخلوص بالمساحة فوجدوه عشراً في عشر. يتأتى في فساده ما تقدم؛ لأنهم إن كانوا امتحنوا ما لا يخلص بحركة الاغتسال ورد عليه رواية التوضع، وغسل اليد إلخ ما قدمناه. وفيه: مخالفة لما ذكروه في عامة الكتب المطولات، عن محمَّد -رحمه الله-: أنه سئل عن الغدير العظيم. فقال: قدر مسجدي هذا، وذرع (¬1) فكان عشراً في عشر من خارج الجدار إلى آخره. ¬

_ (¬1) في هامش المخطوط: (فزرع).

ولما قاله نوح الجامع (¬1) في جامعه، عن محمَّد -رحمه الله-: أنه كان يوقت عشرًا في عشر. ولفظ المشايخ في عرفهم يراد به من بعد أبي حنيفة وصاحبيه. وإذا كانت المسألة منصوصة عن أحد الثلاثة، لا يقال فيها: امتحن المشايخ. . . إلخ. قوله: وقال أبو مطيع: إذا كان خمسة عشر في خمسة عشر لا يخلص. يقال للمصنف: لو كان امتحان المشايخ على ما ذكرت لم يتصور أن يقع فيه خلاف؛ لأن ما وجد على كمية مخصوصة لا يعقل مخالفته، وإن كان قول أبي مطيع على اعتبار التحريك بالاغتسال [3/ أ]. وقول المشايخ الذي نسب إليهم الامتحان بعشر على اعتبار غير الاغتسال نفى قوله. وهذا معنى قولهم: لا يتحرك. . . إلى آخره إلباسٌ. وعلى هذا: فالخمسة عشر أعلى الاعتبارات، فما معنى قوله بعد ذلك: أما العشرون في العشرين فلا أجد في نفسي منه شيئًا؟. ¬

_ (¬1) قال المصنف في تاج التراجم (ص 7): الجامع، لقب أبي عصمة، نوح بن أبي مريم ابن جمونة الموزي، لقّب بذلك؛ لأنه أول من جمع فقه أبي حنيفة، وقيل: لأنه كان جامعاً بين العلوم، له أربعة مجالس: مجلس للأثر، ومجلس لأقاويل أبي حنيفة، ومجلس للنحو، ومجلس للشعر. روى عن: الزهريّ، ومقاتل بن حيّان، مات سنة ثلاث وسبعين ومئة، وكان على قضاء مرو لأبي جعفر المنصور. أقول: لكنه متروك الحديث، بل رمي بالوضع. قال ابن حجر في التقريب (ص 567): كذّبوه في الحديث، وقال ابن المبارك: كان يضع. وانظر الجرح والتعديل لابن أبي حاتم (8/ 484) والمجروحين لابن حبان (3/ 48) والكامل لابن عدي (7/ 40) وتهذيب الكمال (30/ 56).

قوله: وإن كان له طول ولا عرض له، فالأصح: أنه لو كان بحال لو ضم طوله إلى عرضه يصير عشرًا في عشر، فهو كثير مبني على أنّ للكثرة أثرًا، وسيأتي ما يظهر به فساده. قوله: والمختار في العمق ما لا ينحسر أسفله بالغرف، مقابل هذا المختار: ذراع وشبر وعرض السيال وما يستر وجه الأرض. وفيه دليل على فساد ما تقدم، وذلك: أن امتحان الخلوص بالاغتسال، لا يتصور في حد العمق، ولا يمكن أن يقال فيه بطريق الفرض؛ لأن الكلام في أنهم امتحنوا ما لا يخلص بنفسه بفعل حسّي وهو الاغتسال على زعمه، ثم ذرعوا ما لا يتحرك فوجدوه عشراً في عشر. هذا ظاهر كلامه على ما لا يخفى. قوله: ثم إن كانت النجاسة مرئية، لا يتوضأ من موضع الوقوع. يقال له: إذا كان الحكم هذا، فأين الأصل الذي ادعيته؟! وهو: أن الكثير لا ينجس, وكيف خرج هذا عن دليل الأصل الذي أوردته وهو الحديث به، فيلزمك أحد أمرين: إما عدم صحة الأصل الذي ادعيته. أو عدم صحة دلالة الحديث عليه، أو مخالفة الحديث بالرأي. قوله: لاحتمال انتقالها. إذا كان فرض المسألة في نجاسة مائعة وقعت في ماءٍ راكدٍ، فأين تنتقل، وهل لا يجري هذا الاحتمال في البئر إذا وقعت فيها نجاسة مائعة ونزح بعضها.

قوله: ومنهم من قال: لا يجوز أيضًا؛ لأن الظاهر بقاؤها في الحال طاهر السوق. إن هذا مرجوح بالنسبة إلى المتقدّم، وقد صرّح بذلك صاحب التحفة والبدائع (¬1) على ما يأتي (¬2)، فقال له: قد علم أن الحكم يكون مع الظاهر، إلا أن يقوم دليل يخالفه، فكيف [3/ ب] كان الراجح هنا بخلاف الظاهر بلا دليل. واحتمال الانتقال، قد علمت ما فيه، ثم مفهوم قوله: بقاؤها في الحال: أنه إذا أتى عليها زمان، بأن يجوز بلا خلاف ولم يظهر له وجه؛ لأنه متى حكم بنجاسته في الحال للاختلاط لا يحكم بطهارته بعد الاستهلاك، وهذا الكلام وإن كان قد سبق إليه الشيخ علاء الدين السمرقندي (¬3) في التحفة (¬4)، حيث قال: وأما إذا كان الماء راكداً، [فقدِ] (¬5) اختلف العلماء [فيه] (¬6). ¬

_ (¬1) تحفة الفقهاء للسمرقندي وشرحها بدائع الصناع لأبي بكر بن مسعود الكاشاني. (¬2) في المخطوط: (علي ماتي) خطأ. (¬3) قال المصنف في تاج التراجم (ص 20): محمَّد بن أحمد بن أبي أحمد، الإِمام علاء الدين، أبو منصور السمرقندي، تفقّه عليه الإِمام أبو بكر بن مسعود الكاشاني وغيره، وله كتاب: تحفة الفقهاء، واللباب في الأصول، وغير ذلك. وترجمه تلميذه أبو بكر بن مسعود بن أحمد الكاشاني، الذي تزوج ابنة الإِمام علاء الدين السمرقندي من أجل أنه شرح كتاب التحفة، وسماه: بدائع الصنائع، وجعل الكتاب مهر ابنة الإِمام فاطمة، فقال الفقهاء: شرح تحفته، وزوج ابنته. تاج التراجم (ص 28). (¬4) تحفة الفقهاء (1/ 56 - 58). (¬5) ما بين معكوفتين: من تحفة الفقهاء. (¬6) ما بين معكوفتين: من تحفة الفقهاء.

الروايات في تحديد الكثير

قال أصحاب الظواهر: بأن الماء لا ينجس بوقوع النجاسة فيه كيفما كان، لقوله عليه السلام: "خُلِقَ الْمَاءُ طَهُوراً (¬1) لاَ يُنَجِّسُهُ شَيءٌ" (¬2). وقال عامّة العلماء: إن كان الماء قليلاً ينجس, وإن كان كثيرًا لا ينجس. واختلفوا في الحد الفاصل بينهما: فقال مالك: إن كان بحال يتغيّر طعمه، أو لونه، أو ريحه، فهو قليلٌ (¬3)، وإن كان لا يتغيّر فهو كثيرٌ. وقال الشافعي: إذا بلغ الماء قلتين، فهو كثيرٌ لا يحمل (¬4) الخبثَ، لورود الحديث. ¬

_ (¬1) قال تعالى: {وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ} [الأنفال: 11]. (¬2) في تحفة الفقهاء: (الماء طهورٌ لا ينجسه شيء). ولم أجده باللفظ نفسه في كتب الحديث، ولكنه ومن الغريب أن أكثر كتب الفقه ذكروه بهذا اللفظ، وقال الماوردي في الحاوي الكبير (1/ 43): رواه راشد بن سعدٍ، عن أبي أمامة، أنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "خلق الماء طهوراً لا ينجّسه شيءٌ إلاّ ما غيّر لونه أو طعمه أو ريحه". اهـ. وأخرجه ابن ماجه (521) عن أبي أمامة بلفظ: "إنّ الماء لا ينجّسه شيء، إلَّا ما غلب على ريحه، وطعمه، ولونه". وأخرجه أحمد (3/ 31 و 86) وأبو داود (66 و 67) والترمذي (66) والنسائي (1/ 174) عن أبي سعيدٍ قال: قيل: يا رسول الله! أنتوضأ من بئر بضاعة، وهي بئر يطرح فيها لحوم الكلاب، والحيض، والنتن؟ فقال: "الماء طهور، لا ينجّسه شيءٌ". (¬3) تحرف في المخطوط إلى: (دليل). (¬4) في تحفة الفقهاء: (يحتمل).

وقال العلماء - رضي الله عنهم - (¬1): إن كان الماء بحالٍ يخلص بعضه إلى بعض، فهو قليلٌ، وإن كان لا يخلص [بعضه إلى بعض] (¬2)، فهو كثيرٌ. واختلفوا في تفسير الخلوص: اتفقت الروايات عن أصحابنا (¬3) المتقدمين: أنه يعتبر بالتحريك، فإن تحرك طرفٌ منه بتحريك (¬4) الجانب الآخر، فهذا مما يخلص، وإن كان لا يتحرك فهو مِمَّا لا يخلص. ولكن في رواية أبي يوسف، عن أبي حنيفة: يعتبر التحريك بالاغتسال. وفي رواية محمَّد: [يُعتَبَرُ التحريك] (¬5) بالوضوء. والمشايخ المتأخرون اعتبر بعضهم الخلوص بالصبغ، بالتحريك (¬6)، بالتكدير. وقال بعضهم (¬7): بالمساحة إن كان عشراً في عشر، فهو مما لا يخلص، وإن كان دونه فهو مما يخلص، وبه أخذ مشايخ بَلْخٍ (¬8). ¬

_ (¬1) في تحفة الفقهاء: (وقال علماؤنا). (¬2) ما بين معكوفتين: من تحفة الفقهاء. (¬3) في المخطوط: (أصحاب). والمثبت من تحفة الفقهاء. (¬4) في المخطوط: (بتحرك). والمثبت من تحفة الفقهاء. (¬5) ما بين معكوفتين: من تحفة الفقهاء. (¬6) في تحفة الفقهاء: (وبعضهم) بدل: (بالتحريك). ولعله الصواب. (¬7) في تحفة الفقهاء: (وبعضهم). (¬8) ولإتمام الفائدة، سنذكر هنا كلام صاحب التحفة المحذوف من هنا: (وذكر الشيخ =

ثم إن كانت النجاسة [غير] (¬1) مرئية، مثل أن يبول (¬2) فيه إنسان، أو اغتسل فيه جنبٌ، اختلف المشايخ فيه: قال مشايخ العراق: بأن حكم المرئية وغير المرئية سواء، فإنه (¬3) لا يتوضأ من الجانب الذي وقعت [4/ أ] فيه النجاسة، وإنما يتوضأ من الجانب الآخر، بخلاف الماء الجاري. ومشايخنا فصلوا بين الأمرين، كما قالوا جميعًا في الماء الجاري، وهو الأصح. انتهى (¬4). وتبعه الشيخ الإِمام أبو بكر الكَاسَانِيُّ (¬5). . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = أبو الحسن الكرخي في الكتاب وقال: لا عبرة للتقدير في الباب، ولكن يتحرى في ذلك إن كان أكبر رأيه أن النجاسة وصلت إلى هذا الموضع الذي يتوضأ منه، لا يجوز، وإن كان أكبر رأيه أنها لم تصل: يجوز التوضئة به؛ لأن غالب الرأي دليل عند عدم اليقين. هذا إذا كان له طول وعرض. فأما إذا كان له طول بلا عرض كالأنهار التي فيها مياه راكدة، فإنه لا ينجس بوقع النجاسة فيه. وعن أبي جعفر الهنداوي: إن كان بحال لو رفع إنسان الماء بكفيه ينحسر أسفله فهذا ليس بعميق، وإن كان لا ينحسر، فهو عميق. وقيل: مقدار شبر. وقيل: مقدار ذراع). (¬1) ما بين معكوفتين: من تحفة الفقهاء. (¬2) في تحفة الفقهاء: (بأن بال). (¬3) في تحفة الفقهاء: (في أنه). (¬4) إلى هنا انتهى كلام صاحب التحفة. (¬5) الكاساني والكاشاني يروى بكليهيما كما قال ذلك خير الدين الزركلي في الأعلام (2/ 70).=

في البدائع (¬1) فقال: فإن (¬2) كان راكدًا، فقد اختلفَ فيهِ: قال أصحاب الظَّواهر: إنَّ الماء لا ينجس بوقوع النَّجاسة فيه أَصلًا، سواءٌ كان جارياً أَوْ راكدًا، وسواءٌ كان قليلًا أو كثيراً، تغَيَّر لونه، أو طعمه، أو ريحه، أو لم يتغيَّر. وقال عامَّة العُلماءِ: إن كان الماء قليلًا ينجسُ، وإن كان كثيرًا لا ينجسُ، لكونهم (¬3) اختلفوا في الحدّ الفاصل بين القليل وَالكثير. قال مالكٌ: إن تغيَّر لونه أو طعمه أو ريحه فهو قليل، وإن لم يتغيَّر فهو كثير. وقال الشَّافعيُّ: إذا بلغ الماء قلَّتين، فهو كثيرٌ. والقلَّتان عنده: خمس قِرَبِ، كلُّ قِربَةِ خمسون مَنًّا، فيكون جملته: ¬

_ = وقال المصنف في تاج التراجم (ص 28): أبو بكر بن مسعود بن أحمد الكاشاني، علاء الدين، ملك العلماء، صاحب كتاب بدائع الصنائع، تفقه على علاء الدين محمَّد بن أحمد بن أبي أحمد السمرقندي، وتزوج ابنته فاطمة الفقيهة من أجل أنه شرح كتاب التحفة [تحرف في المطبوع إلى: التحفية] للسمرقندي هذا، وسماه البدائع، فجعله مهر ابنته، فقال فقهاء العصر: شرح تحفته وزوج ابنته. وقدم حلب رسولاً من صاحب الروم إلى نور الدين الشهيد، فولاّه تدريس الحلاوية عوضًا عن الرضي السرخسي بعد وفاته، وصنف أيضًا كتاب السلطان المبين في أصول الدين، ومات يوم الأحد عاشر رجب سنة سبع وثمانين وخمس مئة بحلب. (¬1) بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع شرح تحفة الفقهاء (1/ 317 - 325). (¬2) في البدائع: (وإن). (¬3) في البدائع: (لكنهم).

مئتينِ وخمسين منًّا. وقال أصحابنا: إن كان بحالٍ، يخلص بعضه إلى بعضٍ، فهو قليلٌ، وإن كان لا يخلص فهو كثيرٌ. فأَمَّا أصحاب الظواهر، فاحتجوا بظاهر قول النَّبي - صلى الله عليه وسلم -: "الْمَاءُ طَهُوْرٌ لاَ يُنَجِّسُهُ شَيءٌ" (¬1). [واحتجَّ مالكٌ بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "خُلِقَ الْمَاءُ طَهُوراً لاَ يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ] (¬2)، إلاَّ مَا غَيّرَ لَوْنَهُ، أَوْ طَعْمَهُ، أَوْ ريحَه" (¬3)، أو بني (¬4) العامَّ على الخاصِّ عملًا بالدَّليلين (¬5). واحتجَّ الشَّافعي - رضي الله عنه - يقول النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم -: "إِذَا بَلَغَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ لاَ يَحْمِلُ خَبَثاً" (¬6). أَيْ: يدفعُ الخبث عن نفسه. ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه. (¬2) ما بين معكوفتين: من بدائع الصنائع. (¬3) تقدم تخريجه. (¬4) في المخطوط: (بني). (¬5) في المخطوط: (بالدليل). (¬6) أخرج أحمد (2/ 12) عن ابن عمر قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يسأل عن الماء يكون في الفلاة من الأرض وما ينوبه من السباع والدواب، فقال: "إذا كان الماء قلتين لم يحمل الخبث". أخرج الشافعي في الأم (1/ 8) والمسند (ص 7) وأحمد (2/ 23 و 27 و 107) وأبو عبيد في الطهور (166) وأبو داود (63) والنسائي (/ 175) وابن ماجه (1/ 172) وابن خزيمة (92) والدارقطني (1/ 13 - 23) عن عاصم بن المنذر قال: كنت مع عبيد الله بن عبد الله بن عمر بن الخطاب فقام إلى ماء فتوضأ منه، وفيه جلد =

وقال (¬1) الشَّافعيُّ: قال ابن جريج: أراد بالقلَّتينِ: قِلاَلَ هَجَرَ، كلُّ قُلَّةٍ تسع فيها قربتين وشيئًا (¬2) (¬3). قال الشَّافعيُّ: و [هو] (¬4) شيءٌ مجهولٌ، فقدَّرته بالنِّصف احتيَاطًا. ولنا: ما روي عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال: "إذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدَكُمْ مِنْ مَنَامِهِ، فَلاَ يَغْمِسْ (¬5) يَدَهُ في الإنَاءَ حَتَّى يَغْسِلَهَا ثَلاثاً، فَإِنهُ لاَ يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ" (¬6). ولو كان الماء لا ينجس بالغمس، لم يكن للنَّهي والاحتياط؛ لوَهمِ (¬7) النَّجاسة معنًى، وكذا الأخبَار مستفيضة (¬8) في الأمر (¬9) [4/ ب] ¬

_ = بعير، أحسبه قال: ميت، فقلت: أتوضأ من هذا؟ فقال: حدثني أبي قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا بلغ الماء قلتين أو ثلاثًا لم ينجسه شيء". (¬1) في البدائع: (قال). (¬2) في البدائع: (يسع فيها قربتان وشيءٌ). (¬3) أخرجه الدارقطني في سننه (32) والبيهقي في المعرفة (1894) عن ابن جريج قال: أخبرني محمَّد أن يحيى بن عقيل أخبره أن يحيى بن يعمر أخبره أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال. . . (¬4) ما بين معكوفتين: من البدائع. (¬5) في البدائع: "يغمسنّ". (¬6) أخرجه أحمد (2/ 241) ومسلم (278) والنسائي (1/ 6 و 7) وابن حبان (1562) والبيهقي في سننه الكبرى (1/ 45) وفي معرفة السنن والآثار (1/ 195) عن أبي هريرة. (¬7) في المخطوط: (نزهه). (¬8) تحرف في المخطوط: (الإخبار ومستفيدة). والمثبت من البدائع. (¬9) في البدائع: (بالأمر).

بغسل [الإناءِ] (¬1) من ولوغ الكلبِ، مع أنَّه لا يغيِّر لونه، ولا طعمه، ولا ريحه. وروي عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال: "لاَ يَبُولُ أَحَدَكُمْ في الْمَاءِ الرَّاكِدِ، وَلاَ يَغْتَسِلُ (¬2) فِيهِ مِنْ جَنَابَةٍ" (¬3)، من غير فصلٍ [بَيِّنٍ] (¬4) بينَ دائمٍ ودائمٍ. وهذا نَهيٌ عن تنجُّس (¬5) الماء؛ لأنَّ البول والاغتسال فيما لا يتنجَّس (¬6) لكثرته ليس بنهيٍ (¬7)، فدلَّ على كون الماء الدَّائم مطلقًا محتملاً للنَّجاسة (¬8)، إذ النَّهي عن تنجُّس (¬9) ما لا يحتمل النَّجاسة ضربٌ من السَّفَهِ (¬10). ¬

_ (¬1) ما بين معكوفتين: من البدائع. (¬2) في المخطوط: (تغسل). (¬3) في البدائع: "لا يبولنّ أحدكم في الماء الدّائم، ولا يغتسلن فيه من جنابةٍ". رواه ابن أبي شيبة (1503) وعنه ابن ماجه (344) عن أبي هريرة قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا يبول أحدكم في الماء الدائم، ولا يغتسل فيه من جنابة". والحديث عند ابن ماجه مختصرٌ. ورواه أحمد (2/ 433) وأبو داود (70) وابن حبان (1257) والبيهقي (1/ 238) عن أبي هريرة بلفظ: "لا يبل أحدكم في الماء الدائم، ولا يغتسل فيه من الجنابة". (¬4) ما بين معكوفتين: من البدائع. (¬5) في البدائع: (تنجيس). (¬6) في المخطوط: (ينجسه). (¬7) في البدائع: (بمنهيٍّ). (¬8) في المخطوط: (محتمة النجاسة لاحتمام النجاسة). (¬9) في البدائع: (تنجيس). (¬10) لعلها: السعة.

وكذا الماء الَّذي يمكن الاغتسال فيه يكون أكثر من قلَّتينِ، والبَولُ (¬1) والاغتسال فيه لا يغيِّر لونه، ولا طعمهُ، ولا ريحهُ. وعن ابن عبَّاسِ وابن الزُّبير - رضي الله عنهم - (¬2): أنَّهُما أَمَرَا في زِنْجِيٍّ وَقَعَ في بِئْرِ ¬

_ (¬1) (والبول) غير موجودة في البدائع. (¬2) قال المصنف في التعريف والإخبار: (روى الدارقطني [في سننه (1/ 33)] عن ابن سيرين: أن زنجيًا وقع في زمزم -يعني: فمات- فأمر ابن عباس فأخرج، وأمر بها أن تنزح. قال: فغلبتهم حين جاءت من الركن فدست بالقباطي والمطارف حتى نزحوها، فلما نزحوها انفرجت عليهم. وهذا مرسل فإن ابن سيرين لم ير ابن عباس. ورواه ابن أبي شيبة [المصنف (1722)] عن قتادة، عن ابن عباس، قال البيهقي: وهذا أيضًا بلاغ فإنه لم يلق ابن عباس. وأما ما عن ابن الزبير: فقد رواه الطحاوي بسندٍ لا انقطاع فيه، عن صالح بن عبد الرحمن، عن سعيد بن منصور، حدثنا هشيم، حدثنا منصور، عن عطاء: أن حبشيًّا وقع في زمزم فمات فأمر ابن الزبير فنزح ماؤها، فجعل الماء لا ينقطع، فنظروا فإذا عين تجري من قبل الركن الأسود، فقال ابن الزبير: حسبكم. ورواه ابن أبي شيبة [(1721)] , حدثنا هشيم، عن منصور، عن عطاء- فذكره). وقال المصنف في التعريف والإخبار: (لما روي عن علي - رضي الله عنه -: إذا ماتت في البئر فأرة ينزح منها عشرون دلوًا. وعن أنس: عشرون دلوًا. وعن النخعي كذلك. قلت: قال مخرجو أحاديث الهداية: لم نر هذه الآثار. وأمّا قول الشيخ علاء الدين عند ذكر هذه الآثار: وآثار الآبار رواها الطحاوي. فيقتضي أنه روى هذه، وليس كذلك، بل روى آثار الآبار من حيث هي لا هذه المطلوب تخريجها. والذي رواه الطحاوي -رحمه الله تعالى- مخالف لما نصوا عليه. فإنه قال: حدثنا محمَّد بن خزيمة، عن حجاج بن المنهال، عن حماد بن سلمة، عن عطاء بن السائب، عن ميسرة: أن عليًّا - رضي الله عنه - قال في بئر وقعت فيها فأرة فماتت. قال: ينزح ماؤها. وروي =

زَمْزَمَ بِنَزْحِ (¬1) مَاءِ البِئرِ كُلِّهِ، وَلَمْ يَظْهَرْ أثرُه (¬2) في الْمَاءِ وكَانَ الْمَاءُ أكثَرَ مِنْ قُلَّتَيْنِ، وذلك بمحضرٍ من الصَّحابة - رضي الله عنهم -، ولم ينكر عليهما أحدٌ، فانعقدَ الإجماع من الصَّحابة على ما قلنَا. وعرف بهذا الإجماع: أنَّ المُراد بما رواه مالكٌ: هو الماء الكثير الجاري (¬3). وبه تبيَّن: أن ما رواه الشافعيُّ غير ثابتٍ؛ لكونه مخالفًا لإجماع الصحابة - رضي الله عنهم -. وخبرُ الواحدِ إذا ورد مخالفًا للإجماع يردُّ. [يدلُّ] (¬4) عليه: أنَّ علي بن المديني قال: لا يثبت هذا الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬5). وقال أبو داود (¬6): لا يكادُ يصحُّ لواحدٍ من الفريقين حديثٌ عن النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - ¬

_ = أيضًا عن محمَّد بن حميد بن هشام الرعيني، عن علي بن معبد، عن موسى بن أعين، عن عطاء بن ميسرة، وزاد: إن علي بن أبي طالب قال: إذا سقطت الفأرة أو الدابة في البئر فانزحها حتى يغلبك الماء). (¬1) في المخطوط: (نزح). (¬2) في المخطوط: (أثر). (¬3) في البدائع: (والبخاري). (¬4) ما بين معكوفتين: من البدائع. (¬5) انظر أيضًا في البحر الرائق شرح كنز الدقائق (1/ 305) وعمدة القاري شرح صحيح البخاري للعيني (5/ 129). (¬6) في البدائع: (وذكر أبو داود السجستاني وقال).

في تقدير الماء (¬1). ولهذَا: رجع أصحابنا في التَّقدير إلى الدَّلائل الحسِّيَّة دون الدَّلائل (¬2) السَّمعيَّة، ثمَّ اختلفوا في تفسير الخلوص، فاتَّفقت الرِّوايات عن أَصْحابنا: أنه يعتبر الخلوص بالتَّحريك، وهو: أنَّه إن كان بحالِ لو حرِّك طَرَفٌ منه يتحرَّك (¬3) الطَّرف الآخرُ، فهو ممَّا يخلص. وإن كان لا يتحرَّك فهو ممّا لا يخلص، وإنَّما اختلفوا في جهة التَّحريك: فروي عن أبي يوسف (¬4)، عن أبي حنيفة: أنَّه يعتبر التَّحريك بالاغتسال من غير عنف. وروى محمَّد عنه: أنَّه يعتبر التَّحريك بالوضوء. وفي روايةِ: باليد من غير [5/ أ] اغتسالٍ ولا وضوءٍ. واختلف المشايخ: فالشَّيخ أبو حفص الكبير البخاريُّ (¬5): اعتبر الخلوص بالصَّبغ. ¬

_ (¬1) انظر أيضًا في البحر الرائق شرح كنز الدقائق (1/ 305) وعمدة القاري شرح صحيح البخاري للعيني (5/ 129). (¬2) في المخطوط: (دليل). (¬3) في المخطوط: (بتحرك). (¬4) في البدائع: (فروى أبو يوسف). (¬5) قال المصنف في تاج التراجم (ص 1): أحمد بن حفص، أبو حفص الكبير، أخذ عن: محمَّد بن الحسن، وله أصحاب كثيرة ببخارى، في زمن محمَّد بن إسماعيل البخاري صاحب الصحيح. قال: لو أن رجلًا عَبَدَ الله خمسين سنة، ثم أهدى لرجل =

وأبو نصرٍ (¬1) محمَّد بن محمَّد بن سلاَّم: اعتبره بالتَّكدير (¬2). وأبو سليمان الجوزجانيُّ (¬3): اعتبره بالمساحة، فقال: إن كان عشرًا (¬4) في عشرٍ، فهو ممَّا لا يخلص، وإن كان دونه فهو ممَّا يخلص. وعبد الله بن المبارك: اعتبره بالعشرة أوَّلاً، ثم بخمسة عشر. وإليه ذهب أبو مطيع البلخيّ (¬5)، فقال: إن كان خمسة عشر في خمسة عشر أرجو أن يجوز، وإن كان عشرين في عشرين لا أجد في قلبي شيئًا. وروي عن محمَّد: أنَّه قدَّره بمسجده، فكان مسجده ثمانٍ في ثمانٍ. وبه أخذ محمد بن سلمة. وقيل: كان مسجده عشرًا في عشرٍ. وقيل: مسح مسجده فوجد داخله ثمانٍ في ثمانٍ،. . . . . . . . . . . . ¬

_ = مشرك بيضة يوم النوروز، يريد به تعظيم ذلك اليوم، فقد كفر وأحبط عمله. (¬1) في المخطوط: (قصير). (¬2) في المخطوط: (بالتكرير). (¬3) تحرف في المخطوط إلى: (الجوزاني). قال الذهبي في سير أعلام النبلاء (10/ 194 - 195): العلامة الإِمام، أبو سليمان، موسى بن سليمان الجوزجاني الحنفي، صاحب أبي يوسف ومحمد، حدّث عنهما، وعن ابن المبارك. كان صدوقاً محبوبًا إلى أهل الحديث. قال ابن أبي حاتم: كان يكفر القائلين بخلق القرآن. وقيل: إن المأمون عرض عليه القضاء فامتنع، واعتل بأنه ليس بأهل لذلك، فأعفاه، ونبل عند الناس لامتناعه. وله تصانيف. (¬4) في المخطوط: (عشر). (¬5) مرت ترجمته.

وخارجه عشرًا في عشرِ (¬1). ¬

_ (¬1) ولإتمام الفائدة، سأذكر هنا كلام الكاساني صاحب البدائع: (وذكر الكرخي وقال: لا عبرة للتقدير في الباب، وإنما المعتبر هو التحري، فإن كان كبر رأيه أن النّجاسة خلصت إلى هذا الموضع الذي يتوضّأ منه لا يجوز، وإن كان أكبر رأيه أنّها لم تصل إليه يجوز؛ لأن العمل بغالب الرأي، وأكبر الظن في الأحكام واجبٌ، ألا يرى أن خبر الواحد العدل يقبل في نجاسة الماء وطهارته، وإن كان لا يفيد بردّ اليقين، وكذلك قال أصحابنا في الغدير العظيم الذي لو حرّك طرف منه لا يتحرّك الطرف الآخر إذا وقعت فيه النّجاسة: إنّه إن كان في غالب الرّأي أنّها وصلت إلى الموضع الذي يتوضأ منه لا يجوز، وإن كان فيه أنّها لم تصل يجوز، وذكر في كتاب الصّلاة في الميزاب: إذا سأل على إنسانِ أنّه إن كان غالب ظنّه أنه نجس يجب غسله وإلَّا فلا، وإن لم يستقرّ قلبه على شيء لا يجب غسله في الحكم، ولكن المستحبّ أن يغسل وأمّا حوض الحمام الذي يخلص بعضه إلى بعضٍ إذا وقعت فيه النّجاسة أو توضأ إنسان، روي عن أبي يوسف: أنه إن كان الماء يجري من الميزاب والناس يغترفون منه لا يصير نجسا، وهكذا روى الحسن عن أبي حنيفة؛ لأنّه بمنزلة الماء الجاري، ولو تنجّس الحوض الصَّغير بوقوع النّجاسة فيه، ثمّ بسط ماؤه حتى صار لا يخلص بعضه إلى بعضٍ فهو نجسن؛ لأن المبسوط هو الماء النّجس وقيل في الحوض الكبير وقعت فيه النّجاسة، ثمّ قل ماؤه، حتى صار يخلص بعضه إلى بعضٍ: إنّه طاهرٌ؛ لأن المجتمع هو الماء الطاهر، هكذا ذكره أبو بكرٍ الإسكاف واعتبر حالة الوقوع. ولو وقع في هذا القليل نجاسة، ثمّ عاوده الماء، حتى امتلأ الحوض ولم يخرج منه شيءٌ قال أبو القاسم الصفار: لا يجوز التّوضؤ به؛ لأنّه كلَّما دخل الماء فيه صار نجسًا. ولو أن حوضين صغيرين يخرج الماء من أحدهما ويدخل في الآخر فتوضأ منه إنسان في خلال ذلك جاز؛ لأنّه ماءٌ جارٍ حوضٌ حكم بنجاسته، ثمّ نصّب ماؤه وجفّ =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = أسفله، حتى حكم بطهارته ثمّ دخل فيه الماء ثانيًا هل يعود نجسًا؟ فيه روايتان عن أبي حنيفة، وكذا الأرض إذا أصابتها النّجاسة فجفّت وذهب أثرها، ثمّ عاودها الماء، وكذا المنى إذا أصاب الثوب فجفّ وفرك، ثمّ أصابه بللٌ، وكذا جلد الميتة إذا دبغ دباغةَ حكميّة بالتشميس والترتيب، ثمّ أصابه الماء ففي هذه المسائل كلها روايتان عن أبي حنيفة. وأمّا البئر إذا تنجّست فغار ماؤها وجفت أسفلها، ثمّ عاودها الماء فقال نصير بن يحيى: هو طاهرٌ. وقال محمّد بن سلمة: هو نجسٌ. وكذا روي عن أبي يوسف، وجه قول نصيرِ: أن تحت الأرض ماء جارٍ فيختلط الغائر به، فلا يحكم يكون العائد نجسا بالشك. وجه قول محمد بن سلمة: أن ما نبع يحتمل أنّه ماءٌ جديدٌ، ويحتمل أنّه الماء النجس فلا يحكم بطهارته بالشكّ؛ وهذا القول أحوط، والأول أوسع، هذا إذا كان الماء الرّاكد له طولٌ وعرضٌ، فإن كان له طول بلا عرضٍ كالأنهار التي فيها مياهٌ راكدةٌ لم يذكر في ظاهر الرواية, وعن أبي نصرِ محمد بن محمد بن سلامِ: أنّه إن كان طول الماء ممّا لا يخلص بعضه إلى بعضٍ يجوز التوضؤ به، وكان يتوضأ في نهر بلخٍ ويحرّك الماء بيده ويقول: لا فرق بين إجرائي إياه، وبين جريانه بنفسه، فعلى قوله لو وقعت فيه نجاسة لا ينجس ما لم يتغير لونه أو طعمه أو ريحه. وعن أبي سليمان الجوزجاني أنّه قال: لا يجوز التوضؤ فيه، وعلى قوله لو وقعت فيه نجاسةٌ أو بال فيه إنسانٌ أو توضأ، إن كان في أحد الطرفين ينجس مقدار عشرة أذرعٍ، وإن كان في وسطه ينجس من كل جانبِ مقدار عشرة أذرعٍ فما ذهب إليه أبو نصرٍ أقرب إلى الحكم؛ لأنّ اعتبار العرض يوجب التنجيس واعتبار الطّول لا يوجب، فلا ينجس بالشكّ، وما قاله أبو سليمان أقرب إلى الاحتياط لأن اعتبار الطول إن كان لا يوجب التنجيس فاعتبار العرض يوجب، فيحكم بالنّجاسة احتياطًا، وأمّا العمق فهل يشترط مع الطول والعرض؟ عن أبي سليمان الجوزجانيّ أنّه قال: إن أصحابنا اعتبروا البسط دون العمق، وعن الفقيه أبي جعفرِ الهندوانيّ إن كان =

إلى أن قال (¬1): ثم إنَّ النَّجاسة إذا وقعت في الحوض الكبير كيف يتوضَّأ منه؟ فنقول: النَّجاسة لا تخلو، إمَّا أن تكون مرئيَّة، أو غير مرئيَّةٍ، فإن كانت مرئيةً كالجيفة ونحوها، ذكر في ظاهر الرِّواية: أنَّه لا يتوضَّأ من الجانب الَّذي فيه الجيفة (¬2)، و [لكن] (¬3) يتوضَّأ من الجانب الآخر، ومعناه: أنَّه يترك من موضع النّجاسة بقدر حوض صغيرٍ (¬4) ثم يتوضَّأ، كذا فسَّره في الإملاء عن أبي حنيفة؛ لأنَّا تيقَّنَّا بالنَّجاسة في ذلك الجانب وشككنا فيما وراءه (¬5). وروي عن أبي يوسف: أنَّه يجوز التَّوضُّؤ من أيِّ جانبٍ كان إلَّا إذا تغيَّر لونهُ، أو طعمهُ، أو ريحهُ؛ لأنَّ حكمهُ حكمُ الماء الجاري. ولو وقعت الجيفة في وسط الحوض -على قياس ظاهر الرِّواية- إن كان بين الجيفة وبين كلِّ جانبٍ من الحوض مقدار ما لا يخلص بعضه إلى بعضٍ، يجوز التَّوضُّؤ فيه وإلاَّ فلا؛ لما ذكرنا. ¬

_ = بحالٍ لو رفع إنسانٌ الماء بكفّيه انحسر أسفله، ثمّ اتصل لا يتوضّأ به، وإن كان بحالٍ لا ينحسر أسفله لا بأس بالوضوء منه. وقيل: مقدار العمق أن يكون زيادةً على عرض الدّرهم الكبير المثقال، وقيل: أن يكون قدر شبرٍ، وقيل: قدر ذراعٍ). (¬1) أي: أبو بكر بن مسعود صاحب بدائع الصنائع. (¬2) في بدائع الصنائع: (الذي وقعت فيه النجاسة). (¬3) ما بين معكوفتين: من بدائع الصنائع. (¬4) في بدائع الصنائع: (قدر الحوض الصغير). (¬5) زاد صاحب بدائع الصنائع: (وعلى هذا قالوا فيمن استنجى في موضعٍ من حوض الحمام: لا يجزيه أن يتوضأ من ذلك الموضع قبل تحريك الماء).

وإن كانت غير مرئيَّةٍ بأن بال فيها (¬1) إنسانٌ أو اغتسل جنبٌ، اختلف المشايخُ فيه (¬2): قال مشايخ العراق: إنَّ حكمه حكم المرئيَّة، حتَّى لا يتوضَّأ من ذلك الجانب، وإنَّما يتوضَّأ من الجانب الآخر لما ذكرنا [5/ ب] في المرئيَّة بخلاف الماء الجاري؛ لأنَّه ينقل النَّجاسة من موضعٍ إلى موضعٍ، فلم يستيقن (¬3) بالنَّجاسة في موضع الوضوء ومشايخنا بما (¬4) وراء النَّهر فصلوا بينهما، ففي (¬5) غير المرئيَّة: أنّه يتوضَّأ من أني جانبٍ كان، كما قالوا جميعًا في الماء الجاري، وهو الأصحّ؛ لأنَّ غير المرئيَّة لا يستقرّ [في مكان واحدِ بل ينتقل لكونه مائعًا سيَّالًا بطبعه، فلم نستيقن بالنَّجاسة] (¬6) في الجانب الَّذي يتوضَّأ منه، فلا نحكم بنجاسته (¬7) بالشَّكِّ على الأصل المعهود: إن اليقين لا يزول بالشَّكِّ -بخلاف المرئية-. انتهى (¬8). وكان قبل هذا قال (¬9): فإن وقع في الماء، فإن كان جارياً، فإن كان ¬

_ (¬1) في بدائع الصنائع: (فيه). (¬2) في بدائع الصنائع: (فيه المشايخ). (¬3) في المخطوط: (يتيقن). (¬4) في المخطوط: (مما). (¬5) في المخطوط: (في). (¬6) ما بين معكوفتين: من بدائع الصنائع. (¬7) في المخطوط: (يحكم بنجاسة). (¬8) انتهى كلام صاحب بدائع الصنائع. (¬9) بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع (1/ 316 - 317).

النَّجس غير مرئيٍّ كالبول والخمر ونحوهما لا ينجس, ما لم يتغيَّر لونه أو طعمه أو ريحه، ويتوضَّأ منه من أيِّ موضعٍ كان من الجانب الَّذي وقع فيه النَّجس أو من الجانب الآخر (¬1). كذا ذكره محمَّد في كتاب الأشربة: لو أنَّ رجلًا صبَّ خابيةً من خمرٍ في الفرات (¬2)، ورجلٌ آخر -أسفل منهُ- يتوضَّأ به إن تغيَّر لونه أو طعمه أو ريحه لا يجوز، وإن لم يتغيَّر يجوز. وعن أبِي حنِيفة في جاهِلٍ (¬3) بال في الماءِ الجارِي، ورجلٌ أسفل منه يتوضَّأ بِهِ قال: لا بأس بِهِ؛ وهذا لأنَّ الماء الجارِي مِمَّا لا يخلص بعضه إلى بعض، فالماء الَّذي يتوضَّأ به يحتمل أنَّه نجس, ويحتمل أنَّه طاهر، والماء طاهر في الأصل فلا نحكُم (¬4) بنجاسته بالشَّكِّ، وإن كانت النَّجاسة مرئيَّة كالجيفة ونحوِها، فإن كان جميع الماء يجري على الجيفة لا يجوز الوضوء (¬5) من أسفل الجِيفةِ؛ لأنَّه (¬6) نجس بيقين، والنَّجس لا يطهر بالجريان، وإن كان أكثره يجري على الجيفة فكذلك؛ لأنَّ العبرة لِلغالب، وإن كان أقلُّه يجري على الجِيفةِ، والأكثرُ يجري على الطَّاهِر يجوز التَّوضُّؤ به من أسفل ¬

_ (¬1) في بدائع الصنائع: (جانب آخر). (¬2) في المخطوط الفراق، صحح من بدائع الصنائع: (الخمر في الفرات). والفَرقُ -ويحرك-: مكيال بالمدينة يسع ثلاثة آصع أو ستة عشر رطلًا. القاموس. (¬3) في بدائع الصنائع: (الجاهل). (¬4) في بدائع الصنائع: (يحكم). (¬5) في بدائع الصنائع: (التوضؤ). (¬6) في المخطوط: (لا).

الجِيفة؛ لأنَّ المغلوب (¬1) ملحقٌ بالعدمِ في أحكام الشَّرع، وإن كان يجري عليها النِّصف أو دون النِّصف. فالقياس: أن يجوز التَّوضؤ به؛ لأنَّ الماء كان طاهرًا (¬2) بيقين، فلا يحكم بكونه (¬3) نجساً بالشَّكِّ. وفي الاستحسان: لا يجوز [6/ أ] احتياطًا. انتهى (¬4). وفيه: ما في الأول وزيادة، وأنا أبيَّن لك ذلك. قوله: وقال أصحاب الظواهر: إن الماء لا ينجس بوقوع النجاسة. يتبادر منه: أنه يجوز استعماله عندهم، حيث لم يحكم بتنجيسه، وليس كذلك. بل قالوا: لا تنجس الجواهر المائية في نفسها, ولكن لا تستعمل لاتصال النجاسة بها، وعدم إمكان تمييزها من النجاسة. قال الحافظ علي بن حَزم في كتابه المسمَّى بالمحلَّى (¬5): وأمَّا إذا تغيَّر لونُ الحلال الطَّاهر بما مازجه (¬6) من نجسٍ أو حرامٍ وتغيَّر (¬7) طعمه بذلك، ¬

_ (¬1) في بدائع الصنائع: (الغالب). (¬2) في المخطوط: (كله طاهرٌ). (¬3) في المخطوط: (بقوله). (¬4) انتهى كلام أبو بكر بن مسعود الكاشاني. (¬5) (1/ 247). (¬6) تحرف في المخطوط إلى: (بماء ما وجه). (¬7) في المحلى: (أو تغير).

أو تغيَّر ريحه بذلك، فإنَّا (¬1) حينئذِ لا نقدرُ (¬2) على استعمالِ الحلال إلَّا باستعمال الحرام، واستعمال الحرام في الأكل والشُّرب وفي الصَّلاة حرامٌ (¬3) كما قلنا, ولذلك (¬4) وجب الامتناع منه، لا لأنَّ الحلال الطَّاهر حرِّم و [لا] (¬5) تنجَّست عينه، ولو قدرنا على تخليص الحلال الطَّاهر من الحرام والنَّجس (¬6)، لكان حلالًا بحسبه (¬7). قوله: وإن كان كثيرًا لا ينجس هذا لم يقل به العامة. هكذا به قيّد، ولا بعدم التغير. فقالوا: لا ينجس ما لم يتغير. قوله: وقال أصحابنا: إن كان بحال يخلص بعضه إلى بعض فهو قليل، وإن كان لا يخلص فهو كثيرٌ. هذا يوهم: أن أصحابنا يقولون في الكثير: أنه لا ينجس جميعه، وليس كذلك، وفروعهم ناطقة بأنه ينجس كله التقديري، وبعضه الحقيقي كما مر. وسنحقق هذا إن شاء الله تعالى. وأما مساق حدثنا المستيقظ ففيه ما قاله شيخنا في شرح الهداية (¬8): ¬

_ (¬1) في المحلى: (فإننا). (¬2) في المخطوط: (يقدر). (¬3) في المخطوط: (حركه). (¬4) في المخطوط: (وكذلك). (¬5) ما بين معكوفتين: من المحلى. (¬6) في المخطوط: (الحرام النجس). (¬7) انتهى كلام ابن حزم إمام أهل الظاهر. (¬8) قال ابن الهمام في فتح القدير (1/ 135 - 136) (باب: في الماء الذي يجوز به): قلنا: ورد في بئر بضاعة على ما تقدّم وماؤها كان جاريًا في البساتين كما رواه الطّحاويّ =

قلنا: ليس فيه تصريحٌ بتنجس الماء بتقدير كون اليد نجسة، بل ذلك تعليل منّا للنهي المذكور، وهو غير لازم، أعني: تعليله بتنجس الماء عينًا بتقدير نجاستها بجواز كونه أعم من النجاسة والكراهة. فنقول: نهى لتنجس الماء بتقدير كونها متنجسة بما يغيّر، والكراهة بتقدير كونها بما لا يغير. انتهى. ¬

_ = عن ابن أبي عمران عن أبي عبد الله محمد بن شجاع الثّلجي بالمثلّثة عن الواقدي قال: كانت بئر بضاعة طريقًا للماء إلى البساتين، وهذا تقوم به الحجة عندنا إذا وثّقنا الواقديّ، أمَّا عند المخالف فلا لتضعيفه إياه مع أنّه أرسل هذا خصوصًا مع ادعائهم أن المشهور من حال بئر بضاعة في الحجاز غير هذا، ثمّ لو تنزّلوا عن هذه الأمور المختلفة كان العبرة لعموم اللفظ لا لخصوص السبب. والجواب بأن هذا من باب العمل لدفع التعارض لا ينتهض، إذ لا تعارض لأن حاصل النهي عن البول في الماء الدائم تنجس الماء الدائم في الجملة. وحاصل: الماء طهورٌ لا ينجّسه شيءٌ عدم تنجسٍ إلاّ بالتّغير بحسب ما هو المراد المجمع عليه، ولا تعارض بين مفهومي هاتين القضيتين. فإن قيل: هنا معارضٌ آخر يوجب العمل المذكور وهو حديث المستيقظ من منامه وقد خرّجناه. قلنا: ليس فيه تصريح بتنجّس الماء بتقدير كون اليد نجسةً، بل ذلك تعليلٌ منّا للنّهي المذكور وهو غير لازمٍ: أعني تعليله بتنجس الماء عينًا بتقدير نجاستها لجواز كونه الأعمّ من النّجاسة والكراهة فنقول: نهى لتنجس الماء بتقدير كونها متنجّسةً بما يغيّر أو الكراهة بتقدير كونها بما لا يغيّر، وأين هو من ذلك الصّريح الصّحيح لكن يمكن إثبات المعارض بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "طهور إناء أحدكم إذا ولغ الكلب فيه. . . الحديث"، فإنّه يقتضي نجاسة الماء ولا تغيّر بالولوغ فتعين ذلك الحمل، والله سبحانه وتعالى أعلم. وانظر البحر الرائق شرح كنوز الدقائق (1/ 304).

قوله: وكذا الأخبار مستفيضة في الأمر بغسل الآثار من ولوغ الكلب فيه: أن الأمر بالغسل لا يلزم، وأن يكون للنجاسة [6/ ب] لجواز أن يكون لمنع تعدي خبث الطبع. قوله: وروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنهّ قال: "لاَ يبولَنَّ أَحَدَكُمْ في الْمَاءِ الدَّائِم، وَلاَ يَغْتَسِلُ فِيهِ" (¬1) مِنْ نَجَاسَةٍ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَين دَائِمٍ وَدائِمٍ. يقال عليه: انظر هل أنت من أكبر مخالفي هذا الحديث حيث قلت أنت ومشايخك: إنه يتوضأ من الجانب الآخر في المرئية، ويتوضأ من أيّ جانبٍ كانَ في غير المرئية، كما إذا بالَ فيه إنسان أو اغتسل جنبٌ أم أنت من العاملين ¬

_ (¬1) لم أجده بهذا اللفظ. رواه أحمد (2/ 259) والنسائي (1/ 49) من طريق عوف بن أبي جميلة الأعرابي [ثقة] , عن خلاس بن عمرو [قال: عوف الأعرابي: خلاس لم يسمع من أبي هريرة] , عن أبي هريرة بلفظ: "لا يبولنّ أحدكم في الماء الدّائم، ثمّ يتوضأ منه". ورواه أحمد والنسائي وابن حبان (1251) والبيهقي (1/ 238 - 239) من طريق عوف، عن ابن سيرين، عن أبي هريرة به. ورواه عبد الرزاق (302) وأحمد (2/ 394 و 464) والطحاوي في شرح معاني الآثار (1/ 14) من طريق سفيان الثوري، عن أبي زناد، عن موسى بن أبي عثمان، عن أبيه، عن أبي هريرة بلفظ: "لا يبال في الماء الذي لا يجري، ثم يغتسل منه". ورواه الشافعي (1/ 22) والحميدي (969) والنسائي (1/ 125 و 197) وابن خزيمة (66) وابن حبان (1254) والبيهقي (1/ 256 و 238) من طريق سفيان بن عيينة، عن أبي الزناد، بهذا الإسناد. ورواه مسلم (282) والنسائي (1/ 125) عن أبي هريرة بلفظ: "لا يبولن أحدكم في الماء الراكد [مسلم: الدائم] , ثم يغتسل منه".

به، فإنه لا أعجب ممن يستدل بحديثٍ هو أحد من خالفه!!. قوله: وعن ابن عبّاسٍ، وابن الزبير - رضي الله عنهما -: أنهما أمرا في زنجيٍّ وقع في بئر زمزمٍ بنَزح الماءِ كلّه، ولم يظهر أثره في الماء (¬1). قوله من قبل نفسهِ (¬2)، لاَ من الأثر المروي. قاله الشافعي في القديم (¬3). قد رويتم عن ابن عبّاس رفعه: "الْمَاءُ لاَ يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ" (¬4). أفترى أنَّ ابن عبَّاسٍ يروي عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - خبرًا ويتركه، إن كانت هذه روايته. وتروون عنه: أَنَّهُ تَوَضَّأَ مِنْ غَدِيرٍ يُدَافعُ جِيفَةً. ¬

_ (¬1) مرّ قبل قليل. (¬2) تحرف في المخطوط إلى: (قيل: تفسد). (¬3) قال البيهقي في معرفة السنن والآثار (2/ 95 - 96) الأرقام (1918 - 1923) وفي السنن الكبرى (1/ 266): قال الشافعي في كتاب القديم: قد رويتم عن سماك بن حرب، عن عكرمة، عن ابن عباس، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: في الماء لا ينجسه شيء". أفتَرى أن ابن عباس يرويه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - خبراً، ونتركه إن كانت هذه روايته. أخبرنا أبو عبد الله الحافظ قال: أخبرنا أبو بكر بن إسحاق قال: حدثنا محمَّد بن غالب قال: حدثنا أبو حذيفة قال: حدثنا سفيان، عن سماك بن حرب، فذكره بإسناده. قال الشافعي: ويروون عنه: أنه توضأ من غدير يدافع جيفةً. ويروون عنه: "الماء لا ينجس"، فإن كان شيء من هذا صحيحًا، فهو يدل على أنّه لم ينزح زمزم للنجاسة، ولكن للتنظيف، إن كان فعل، وزمزم للشرب، وقد يكون الدم ظهر على الماء حتى رئي فيه. (¬4) أخرجه أبو داود (68) والترمذي (65) وابن ماجه (370) وابن حبان (1241 و 1242) و 1269) والحاكم (1/ 159) والبيهقي في السنن الكبرى (1/ 189 و 267) ومعرفة السنن والآثار (2/ 95).

وتروون عنه: "الْمَاءُ لاَ يَنْجُسُ" (¬1). فإن كان شيء (¬2) من هذا صحيحًا فهو يدلُّ على أنَّه لم ينْزَح زمزم للنَّجاسة ولكن للتَّنظيف، إن كان فعل، وزمزم للشُّرب وقد يكون الدَّم ظهر على الماء حتَّى رئي فيه. انتهى. قوله: ولم يُنكر عليهما أحد، فانعقد الإجماع من الصحابة على ما قلنا. يقال عليه: من حضر ذلك من الصحابة حتى يقال هذا. وإذا كان من يرى أنها لا تنجس يرى بجواز ذلك للتنظيف والتطيّب، كيف ينكر؟! قوله: وعرف بهذا الإجماع: أن المراد مما رواه مالك هوَ: الماء الكثير البخاري. فيقال: فإذا كان المراد الكثير والبخاري فكيف ساغ مخالفته في الجيفة الواقعة في الماء الجاري أو الكثير الراكد. قوله: وبه تبيّن: أن ما رواه الشافعي غير ثابت لكونه مخالفًا لإجماع الصحابة. فيه ما تقدم. قوله: ولهذا: رجع أصحابنا في التقدير إلى الدلائل الحسية [7/ أ]. قلت: لم يجعل أحد من علمائنا الثلاثة الأمور الحسية المذكورة دليلاً ¬

_ (¬1) رواه الإِمام أحمد (3120) عن ابن عباس قال: أجنب النبي - صلى الله عليه وسلم - وميمونة، فاغتسلت ميمونة في جفنة، وفضلت فضلة، فأراد النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يغتسل منها، فقالت: يا رسول الله! إني قد اغتسلت منه؟! فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إن الماء ليست عليه جنابة - أو قال:- إن الماء لا ينجس". وهو صحيح لغيره، وهذا إسنادٌ ضعيف لضعف شريك بن عبد الله، واضطراب سماك في عكرمة. (¬2) تحرف في المخطوط إلى: (شيئًا).

على الكثرة، وإنما جعلوا ذلك دليلاً على سريان النجاسة، وليس عند أبي حنيفة: أن الكثير لا ينجس جميعه، بل فروعه ناطقة بخلافه. قال الإِمام محمَّد بن الحسن في الأصل: إذا وقعت الجيفة أو غيرها من النجاسات في حوضٍ صغيرٍ لم يخلص بعضه إلى بعض، لم يستعمل، وإن كان كبيرًا لا يخلص بعضه إلى بعض، فلا بأس بأن يتوضأ من ناحية أخرى. وقال الإِمام أبو يوسف في الإملاء: قال أبو حنيفة في حوض مسبغة إذا حرّك ناحيةً منهُ لم تضطرب الناحية الأخرى، فهذا لا ينجسه بولٌ يقع فيه أو دمٌ أو جيفةٌ إلاّ ذلك الموضع. وإذا كان يرى بتنجس موضع الوقوع من الماء الكثير، كيف يكون قائلًا بأن الكثير لا ينجس كالشافعي -رحمه الله- في القلتين، ومالك في ما يكون بحالٍ لا يتغير بالاختلاط، ينجس, وسأنبهك على يسر المسألة عنده إن شاء الله تعالى. قوله: ثم اختلفوا في تفسير الخلوص إلخ. هذا ظاهرٌ في أنّ مراده خلوص الماء بعضه إلى بعض، وليس هو المنظور إليه لذاته عند أبي حنيفة -رحمه الله تعالى-، وإنما المنظور إليه عنده في نفس الأمر: الشيوع بالنجاسة، إلا أنه لما كان في غير المرئية أمراً خفيّاً نظر إلى ما يدل عليه وهو: إما خلوص الماء بنفسه أو الحركة بما ذكر. وغيره استدل على خلوصها الباطن بالصبغ الظاهر أو التكدير مما نقل. وبعضهم خمّن: أنها لا تخلص إلى مقدار عشرة أذرع. وبعضهم: خمسة عشر. كما نقلت عنهم. وهذا مما وعدتك بالتنبيه عليه.

قال شيخ الإِسلام أبو بكر خُواهَر زاذَهْ (¬1) في كتابه المسمّى بالمبسوط: واختلفوا بعد هذا بأيّ سببٍ يعرف خلوص النجاسة إلى الجانب، فاتفقت الروايات عن علمائنا الثلاثة: أنه يعتبر بالتحريك. واختلفوا في سببه. وبهذا تبين ما قدمته [7/ ب] لكَ من أن الدلائل المذكورة دلائل خلوص النجاسة، لا دلائل الكثرة التي لا يكون معها التنجس إلا بالظهور، كما زعم من لم يحقق سر المسألة عند أبي حنيفة -رحمه الله تعالى-. وعبارة الاختيار والتحفة والبدائع ومن تبعهما صريحة في أن المراد: خلوص الماء إلى الجانب الآخر، وأنه دليل الكثرة. وحيث علمت هذا علمت أن نظر الإِمام بعد سطح الماء لا إلى العمق فظهر عدم صحة ما صححه من أنه إذا لم يكن له عرض إلخ. رُدّ عند تقارب الجوانب، يعمُّ السريان. والله أعلم. وممن ظنّ صحة هذا التقسيم المذكور في أول المسألة: قال شيخنا في شرح الهداية (¬2): فما استدل به المصنف للمذهب من ¬

_ (¬1) في المخطوط: (زاده). قال المصنف في تاج التراجم (ص 46): محمَّد بن الحسين بن محمَّد بن الحسن البخاري المعروف بأبي بكر خواهر زاذه قال السمعاني: كان إمامًا فاضلاً نحويًّا، وله طريقة حسنة مفيدة جمع فيها من كل فن، وله كتاب المبسوط، توفي في جمادى الأولى سنة ثلاث وثمانين وأربع مئة. وانظر الأنساب للسمعاني (5/ 201) وسير أعلام النبلاء (19/ 14 - 15). (¬2) قال ابن الهمام في فتح القدير (1/ 133 - 134): وفي البدائع عن ابن المديني: لا يثبت حديث القلتين فوجب العدول عنه، وإذا ثبت هذا فما استدل به المصنف =

قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لاَ يبوْلَنَّ أَحَدَكُمْ في الْمَاءٍ الرَّاكِدِ" الحديث. لاَ يَمسُّ مَحَلّ الخلاف. وهذا لأن حقيقة الخلاف، إنما هو في تقدير الكثير الذي يتوقف تنجّسه على تغيّره. انتهى. وأنا أقول: إن هذا التقدير لا يعرف عن أبي حنيفة -رحمه اللهُ- النَّظَرُ إليه بوجهٍ، وإنما حقيقة مذهبه: ما قاله الرازي (¬1) في أحكام القرآن من سورة الفرقان وهو قوله: وأمَّا الماءُ الذي خالطته نجاسة، فإن مذهب أصحابنا فيه: أن كل ما تيقنّا فيه جزءًا من النجاسة أو غلب في الظنّ ذلك، لم يجز استعماله، ولا يختلف في هذا الحد: مَاءُ البحرِ، وماءُ البئرِ، والغديرِ، والماءُ الراكد، والماء الجاري؛ لأن ماء البحر لو وقعت فيه نجاسة لم يجز استعمال الماء الذي فيه النجاسة، وكذلك الماء الجاري. ¬

_ = للمذهب من قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يبولن أحدكم في الماء الدّائم ولا يغتسلن فيه من الجنابة" كما هو رواية أبي داود، أو: "ثمّ يغتسل منه أو فيه" كما هو روايتا الصحيحين، لا يمس محل النزاع، وهذا لأن حقيقة الخلاف إنّما هو في تقدير الكثير الذي يتوقف تنجسه على تغيره للإجماع على أن الكثير لا ينجس إلَّا به. (¬1) قال المصنف في تاج التراجم (ص 2): أحمد بن علي أبو بكر الرازي، المعروف بالجصّاص، ولد سنة خمس وثلاث مئة، وسكن بغداد، وانتهت إليه رياسة الحنفية، وسئل العمل في القضاء، فامتنع، تفقه على أبي الحسن الكرخي وتخرّج به، وكان على طريقة من الزهد والورع، وخرج إلى نيسابور ثم عاد وتفقه عليه جماعة، وروى عن: عبد الباقي بن قانع، وله كتاب أحكام القرآن، وشرح مختصر الكرخي، وشرح مختصر الطحاوي، وشرح الجامع لمحمد بن الحسن، وشرح الأسماء الحسنى، وله كتاب في أصول الفقه، وكتاب جوابات مسائل، توفي يوم الأحد سابع ذي الحجة سنة سبعين وثلاث مئة ببغداد، وقد وهم من جعل الجصاص غير أبي بكر الرازي بل هما واحد.

وأما اعتبار أصحابنا للغدير (¬1) إذا حرّك أحد طرفيه، لَم يتحرك الطرف الآخر، فإنما هو كلام في جهة تغليب الظن في بلوغ النجاسة الواقعة في أحد طرفيه إلى طرف (¬2) الآخر، وليس هذا كلاماً في أن بعض المياه الذي فيه النجاسة قد يجوز استعماله، وبعضها لا يجوز استعماله. ولذلك قالوا: لا يجوز استعمال الماء الذي في الناحية التي فيها النجاسة (¬3). انتهى. وهو صريحٌ فيما قلت بخلاف ما زعمه من قدمنا ذكره. قوله: النجاسة لا تخلو إما أن تكون مرئية أو غير مرئية. فإن كانت مرئية كالجيفة ونحوها. ذكر في ظاهر [8/ أ] الرواية: أنه لا يتوضأ من الجانب الذي فيه الجيفة، ويتوضأ من الجانب الآخر. هذا خارجٌ عن الأصل الذي قرره وهو: أن الكثير لا ينجس, ومخالفٌ لمحمدٍ للحديث (¬4) عنده حيث قال: إن المراد من الكثير البخاري (¬5). وكذا قوله: ولو وقعت الجيفة في وسط الحوض. وكذا قوله: وإن كانت غير مرئية على كلا القولين المذكورين لمشايخ العراق، ومشايخ ما وراء النهر. ¬

_ (¬1) زاد في المطبوع من أحكام القرآن: (الذي). (¬2) في أحكام القرآن: (الطرف). (¬3) أحكام القرآن (5/ 204 تحقيق محمَّد الصادق قمحاوي). (¬4) في المخطوط: (الحديث). (¬5) في المخطوط: (والجاري).

وكذا التفصيل المذكور في الجيفة الواقعة في النهر الكبير والصغير كل مخالفٌ للأصل المذكور والحديث. قوله: لأن غير المرئية لا تستقر في الجانب الذي يتوضأ منه، فلا يحكم بنجاسته بالشك على الأصل المعهود. وإن اليقين لا يزول بالشك بخلاف المرئية. هذا إنما يتصور لو كانت النجاسة مستجدة متجسدة. وأما إذا كانت مائعة فهي لمخالطتها الماء في موضع الوقوع، نجسة. وانتشرت في غيره، وماس المتنجّس غيره، فنجّسه، ولا يبقى اليقين بطهارة الماء مع العلم باختلاطه بالنجاسة وفرض المسألة في الماء الراكد تمنع تجوّز انتقال النجاسة، بما خالطته. ومع تقدير التحريك والاضطراب، يختلط (¬1) المتنجس بالطاهر، فيبطل هذا التمويه، ولو كان ثَمَّ يقينٌ لما احتمل جواز النقيض. ثم محل الأصل المعهود الذي أشار إليه: أن يكون الطارئُ على الأصل مجرّد التجويز من غير مزيةِ. قال محمَّد بن الحسن -رحمه الله تعالى-: إذا علم المتوضِّئ دخوله الخلاء للحاجة، وشكَّ في قضائها قبل خروجه، فعليه الوضوء (¬2)، وفيما نحن فيه طرأ على يقينِ الطّهارة، يقين اختلاط النجاسة بموضع الوقوع، فكيف يتصور ما ذكر قوله؛ وإن الماء الجاري مما لا يخلص بعضه إلى بعض إلخ. ¬

_ (¬1) في المخطوط: (تخليص)؟. (¬2) انظر فتح القدير (1/ 83).

هذا مما لا يكاد يفهم، والله سبحانه أعلمُ. ومن نظر تدافع أمواج الأنهار لما فيها من المريبات جزم بخلاف مقتضى هذه العبارات. والعلّة عند غيره: أن النجاسة لا تستقر مع الجريان، فما لم يجد فيما يقترفه أثر النجاسة، يعلم أنها لم تكن فيه. وها هنا بحثٌ آخر من وجوه: أحدها: أنهم قالوا في اختلاط الماء المطلق [8/ ب] بالمعاب المشكوك في طهارته ونجاسته: إنه لا يطهر، ولم يجوز فيه احتمال الانتقال، ولا ننظر إلى أن الأصل في الماء الطهارة، فلا يزول باختلاط المشكوك فيه، ويكون مطهراً على حاله. بل قالوا: عند تبعية الأصول، كان الماء طاهرًا بيقين، فلا ينجس بالشك، وكان الحدث ثابتًا بيقين، فلا يزول بالشك، وهذا الماء الذي يشك في تنجسه أولًا بالمنع من التطهرية من ذلك وأولى أن يقال فيه: كان الحدث ثابتًا بيقين، فلا يرتفع بالشك، ولم يرو عنهم اختصاص مسألة السؤر بنحو ماء الأواني لتفارق ما نحن فيه. الثاني: أنهّم قالوا في علة البطن من التطهير بالماء المستعمل: إنه بواسطة استعمالٍ، لم يبق في معنى المنْزل من السماء. وهذا أولى أن يقال فيه: إنه بعدَ اختلاط النجاسة، لم يبق في معنى المنَزّل من السماء. الثالث: أن هذا الاحتمال المذكور يجري مثله في قطرة بول أو خمر وقعت في حوض طوله تسعة أذرع ونصف وربع وعرضه كذلك ونحو ذلك مما يتحرك أحد طرفيه بتحرك الطرف الآخر، بل يجري فيما هو أصغر من هذا. والله أعلم.

حيث أسمعتك عن بعضهم ما يتمثلوا له يقول الْمَعَريّ (¬1): وغَدت حُججُ الكلام (¬2) حَجا غَديرٍ ... وشيكًا يَنعَقِدْنَ وَيَنتَقِضْنَه (¬3) فأورد ذلك تحقيق مذاهبهم مثلًا عن ضباطها وأوضح حججها عند محققيها ومختاري منها، وحججي على مختاري، وأجوبتي عما خالفها. واللهُ المستعان. وأقول: قال الكرخي في المختصر: وما كان من المياه في الأواني فوقعت فيه نجاسة مائعة، فهو نجس. ويغسل الإناء ثلاثًا، ما صغر من الأواني، وما كبر غلب على لون الماء وطعمه وريحه، أو لم يغلب على شيءِ من ذلك. لما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في وضوء الكلب، وما أمر به من أنها قدرُ ما عده فيه الفأرة، إذا كان مائعًا ويطرحها وما حولها إذا كان جامدًا. قلت: هذا هو المعتمد عندي في تنجس القليل، وإن لم يتغير. قال: ولنهيه - صلى الله عليه وسلم -[9/ أ] عن البول في الماء الدائم، وإن لم يغتسل فيه من جَنَابةٍ. قلت: وهذا عندي بالاعتضاد في المنع عن تنجس الماء في الجملة. قال: وأمره المستيقظ من منامه يغسل يده ثلاثًا قبل أن يدخلها الإناء؛ لأنه لا يدري أين باتت يده. ¬

_ (¬1) ديوان أبي العلاء المعري (ص 1382). (¬2) تحرف في المخطوط إلى: (الكلى). (¬3) تحرف في المخطوط إلى: (وشكًا ينعقدا وينتقضه).

قلت: وهذا الاعتضاد الأول على بعض الاحتمالات. قال: فليس في جميع ذلك ما يغير لونًا أو طعمًا أو رائحة. وما كان من المياه من المصاح (¬1) والغدران أو في مستنقع من الأرض وقعت فيه نجاسة. نظر المستعمل في ذلك، فإن كان في غالب رأيه أن النجاسة لم يختلط بجمعه بكثرته، توضأ من الجانب الذي هو طاهرٌ عنده في غالب رأيهِ، واجتنب الباقي؛ لأن هذين ماءٌ نجسٌ وطاهرٌ يستعمل غالب رأيه في إصابة الطاهر منه، وليس هذا تنجيسًا بالماء بالشك؛ لأن ها هنا نجاسة حاصلة متيقنة، وما كان قليلاً يحصِّل (¬2) العلم: أن النجاسة قد حصلت إلى جميعه، ولو كان ذلك في غالب رأيه لم يتوضأ منه، وإذا أمر شيء قد تغير ولا يعلم أنه يغير النجاسة؛ لا بأس بالوضوء؛ لأنه قد يتغير بطول المُكث. انتهى. وقد روي اعتبارُ خلوص النجاسة بخلوص الماء لنفسه، وبالتحريك على ما قدمت لك من عبارة الأصل وَإِلاّ فلا. وقال شمس الأئمَّة (¬3): المذهبُ الظَّاهرُ التَّحرِّي والتَّفويض إلى رأي ¬

_ (¬1) المصانع، جمع مصنع ومصنع، وهو الصّنع أيضًا، وجمعه أصناع، وهو شبه الصّهريج أو الحوض يتخذ للماء، يجمع فيه ماء المطر، وهو أيضًا ما يصنعه الناس من الآبار، ويقال أيضًا للقصور والأبنية: مصانع، قال لبيد: بلينا وما تبلى النجوم الطوالع ... وتبقى الديار بعدنا والمصانع (¬2) في المخطوط: (بحط). (¬3) قال المصنف في تاج التراجم (ص 12): عبد العزيز بن أحمد بن نصر بن صالح، شمس الأئمة الحلواني، نسبة لبيع الحلواء، صاحب المبسوط، إمام الحنفية في وقته ببخارى، حدّث عن: أبي عبد الله عنجار، وتفقه على جماعته، توفي سنة ثمان =

المبتلى من غير حكمٍ بالتَّقدير، فإن غلب على الظَّنِّ وصولها تنجَّس (¬1)، وإن غلب عدم وصولها لم ينجس, وهذا هو الأصحّ. انتهى. وصحّحه في الغاية وغيرها، ووجه أصحيته: أن المعتبرَ سريان النجاسة وهو يختلف باختلاف كثرتها وقلّتها، فقد لا يسري كون خمرٍ إلى طرفي غديرٍ على نهاية ما يتحرك. وقال ركن الإِسلام أبو الفضل عبد الرحمن الكرماني (¬2) في شرح الإيضاح (¬3): كل ما تيقن حصول النجاسة فيه أو [9/ ب] غلبَ على ظننا، فإنه لا يجوز الوضوء قليلاً كان أو كثيرًا، جارياً كانَ أو راكداً. وإنما اعتبر غلبة الظن ¬

_ = أو تسع وأربعين وأربع مئة بكش، ودفن ببخارى. قلت [أي: ابن قطلوبغا]: تفقه على القاضي أبي الحسين ابن الخضر النسفي، وأبي الفضل الزرنجري، وتفقه عليه الأزرقي، وسمع منه شمس الأئمة السرخسي. قال أبو العلاء الفرضي: مات ببخارى في شعبان سنة ست وخمسين وأربع مئة. وقال البخشي في معجمه: مات سنة اثنتين وخمسين. وقال الذهبي: سنة ست أصح، فإنه بخط شيخنا الفرضي. انظر فتح القدير (1/ 134) وتبيين الحقائق شرح كنوز الدقائق (1/ 93). (¬1) في فتح القدير: (تنجّس). (¬2) تحرف في المخطوط إلى: (القرماني). قال المصنف في تاج التراجم (ص 11): عبد الرحمن بن محمَّد بن أميرويه بن محمَّد بن إبراهيم، ركن الدين، أبو الفضل الكرماني، ولد بكرمان في شوال سنة سبع وخمسين وأربع مئة، وقدم مرو فتفّقه وبرع حتى صار إمام الحنفية بخراسان، وله: كتاب شرح الجامع الكبير، وكتاب التجريد، وشرحه بكتاب سماه الإيضاح، ومات بمرو ليلة العشرين من ذي القعدة سنة ثلاث وأربعين وخمس مئة. (¬3) تحرف في المخطوط إلى: (الإيضاحي).

لا تجري مجرى اليقين في وجوب العمل كما لو أخبر واحدٌ بنجاسة الماء، وجب العمل به، والنائم يقدر اليقين. وتقدمت عبارة الرازي بهذا. قال الكرماني: وأما الماء إذا كان كثيرًا لا يخلص بعضه إلى بعضٍ إذا وقعت النجاسة في طرفٍ منه، جازَ أن يتوضأ من الجانب الآخر. وروي عن أبي يوسف أنه قال في الماء الجاري: إنه لا ينجس إلا بظهور النجاسة فيه. واختلفت الروايات في تحديد الكثير: مراده: أن عند أبي حنيفة، ليكون (¬1) له حكمُ القلتين عند الشافعي، بل المرادُ: كثيرٌ يحتاج إلى النظر في خلوص النجاسة فيه. والحكم المصحح عنه مصرّحٌ. واختلفت الروايات في الكثير (¬2)، فالظاهر عند محمَّد: أنهّ عشرٌ في عشر، والصحيح عن أبي حنيفة -رحمه الله تعالى- أنه قد يؤقت في ذلك بشيءٍ، وإنما هو موكولٌ إلى غلبة الظن في خلوص النجاسة. وروي عن أبي يوسف: أنه اعتبر الغدير بالماء الجاري. وقال: لا ينجس إلا بظهور النجاسة؛ لأن الضرورة تقتضي العفو عن ذلك. وقال الحاكم الشهيد (¬3) في الكافي: قال أبو عصمة: كانَ محمّد بن ¬

_ (¬1) لعله أراد: (ما يكون له). (¬2) أضاف في هامش المخطوط: (تحديد) وكتب: صح. وهو تكرار. (¬3) هو محمَّد بن محمَّد الحاكم الشهيد.

الحسن يؤقت في ذلك عشرة في عشرة، ثم رجعَ إلى قول أبي حنيفة. وقال: لا أؤقت فيه شيئًا. انتهى. فالحاصل: أن ماءَ الأواني ينجس بوقوع النجاسة فيه وإن لم يتغير، ولا ينظر فيه بغلبة الظن الخلوص ولا بغيره. انتهى. وأمّا المصانع والغدران يعمل فيه بغلبة الظّن على الصحيح عند أبي حنيفة. وما روي عن أبي يوسف: أن ما لا يخلص كالجاري لا ينجس إلَّا بظهور النجاسة فيه. هو المختارُ عندي، وأرى قول محمَّد مثله. قال محمَّد في كتاب الآثار (¬1): أخبرنا أبو حنيفة قال: حدثنا الهيثم بن أبي الهيثم، عن ابن عباس قال: أرْبَعَةٌ لاَ يُنَجِّسُهَا شَيءٌ: الْجَسَدُ، وَالثَّوْبُ، وَالْمَاء وَالأَرْضُ (¬2). قال محمَّد: ويعتبر ذلك عندنا (¬3): أن ذلك إذا أصابه القذّر فَغُسِلَ، ذهبَ ذلك عنه، فلم يحمل قذراً، وإنما معناهُ: في الماء إذا كان كثيرًا، ¬

_ (¬1) (1/ 32) رقم (24). (¬2) رواه البيهقي في السنن الكبرى (1/ 267) ومعرفة السنن والآثار (2/ 96) رقم (1925 و 1926) قال: أخبرنا أبو سعيد الخطيب قال: أخبرنا أبو بكر البربهاري قال: حدثنا بشر بن موسى قال: حدثنا الحميدي قال: حدثنا سفيان قال: حدثنا زكريا، عن الشعبي، عن ابن عباس: "أربع لا ينجسن: الإنسان، والماء، والثوب، والأرض". رواه الشافعي في بعض كتبه، عن سفيان بن عيينة، وقال: "أربع لا يجنبن". فذكر: "الماء، والأرض". (¬3) في الآثار: (وتفسير ذلك عندنا).

أو جاريا، أنّه لم يحمل خبثًا (¬1). هذا في [10/ أ] الرّاكد. وأمَّا الجاري: قال محمَّد في كتاب الأشربة في الأصل (¬2): ولو صبَّ رجلٌ خابية خمرٍ في نهرٍ مثل الفرات، أو أصغر منه، ورجلٌ أسفل منه، فمرَّ به الخمر، فلا بأس بأن يشرب من ذلك الماء، إلَّا أن يجد فيه ريحها أو طعمها، فلا يحل له حينئذٍ. هذا لفظه. وإن كانوا كلّهم قالوا: ورجلٌ يتوضأ إلخ ما قدّمته عنهم. وتقدّم عن أبي حنيفة في الجاهل يبولُ في الماء الجاري: أنه لا بأس بالوضوء من أسفل منه، فصار الاتفاق: على أن الجاري لا ينجس إلا بظهور النجاسة فيه إذا كانت غير مرئية. وأمّا المرئية؛ فقال الشيخ الإِمام أبو عبد الله محمَّد بن رمضان (¬3) في كتابه المسمّى بالينابيع: وقال أبو يوسف في ساقيةٍ صغيرةٍ فيها كلبٌ ميّتٌ قد سد عرضها، فيجري الماء فوقه وتحته، أنه لا بأس بالوضوء أسفل من الكلب وهذا هو المختار أيضًا. وتقدمت التفاصيل في مثل هذا على قول أبي حنيفة، فاستدلوا في كثيرٍ من الكتب يقول أبي حنيفة ممّا قدمت بطلانه. ¬

_ (¬1) انتهى كلام محمَّد بن الحسن الشيباني في الآثار. (¬2) بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع للكاشاني (1/ 316) والمحيط البرهاني لبرهان الدين مازه (1/ 83). (¬3) قال المصنف في تاج التراجم: المعروف أن الينابيع لمحمد بن رمضان، وهذا شافعي المذهب.

وقال الرازي (¬1) في أحكام القرآن: والذي يحتج به لقول أصحابنا قوله تعالى: {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف: 157]، والنجاسة لا محالة من الخبائث. وقال: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ [وَالدَّمَ]} [البقرة: 173، النحل: 115]. وقال في الخمر: {رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ} [المائدة: 90]. ومرَّ النَّبي - صَلَّى الله عليه وسلم - بقبرين، فقال: "إنَّهُمَا يُعَذَّبَانِ وَمَا يُعَذَّبَانِ فِي كبِيرٍ. أَمَّا أَحَدُهُمَا: فَكَانَ لاَ يَسْتَبْرِأُ (¬2) مِنَ الْبَوْلِ، وَأَمَّا الآخَرُ (¬3): كَانَ يَمْشِي بِالنَّمِيمَةِ" (¬4). فحرَّمَ الله هذه الأشياءَ تحريماً منهما، ولَم يفرق بين اختلاطها وانفرادها (¬5) بالماء، فوجبَ تحريمُ استعمالٍ كُل مَا تيقن (¬6) فيه جزءًا من النجاسة، ويكون جهة الحظر من طريق النجاسة أولى من جهةِ الإباحةِ من طريق الماء المُبَاحِ في الأصلِ، بأنُّهُ (¬7) مَتَى اجتمع في شيءٍ جهةُ الحظر ¬

_ (¬1) هو الجصَّاص. مرّت ترجمته. (¬2) في المخطوط: (يستنهز). (¬3) في أحكام القرآن: (والآخر). (¬4) أخرجه أحمد (1/ 225) وعبد بن حميد (620) والدارمي (745) والبخاري (218 و 1361) ومسلم (292) وأبو داود (20) والترمذي (70) والنسائي (1/ 28 و 29 و 106) وابن ماجه (347) وابن خزيمة (56) والبيهقي في السنن الكبرى (1/ 104) وفي إثبات عذاب القبر (117 و 118) عن ابن عباس - رضي الله عنهما -. (¬5) في أحكام القرآن: (بين حال انفرادها واختلاطها). (¬6) في أحكام القرآن: (تيقنا). (¬7) في أحكام القرآن: (لأنه).

والإباحة (¬1)، فجهة الحظر أولى، ألا ترى أن الجارية بين رجلين لو كان لأحدهما فيها مئة جزء وللآخرِ جزءٌ واحدٌ، إنّ جهة الحظر (¬2) فيها أولى من جهة الإباحة، وأنّه غير جائزٍ لواحدٍ منهما وَطْؤُهَا (¬3). وأيضاً: لا نعلم خلافًا بين الفقهاء في سائر المائعاتِ، إذا خالطه اليسير من النجاسات كَالبِنِّ (¬4) والإِدهَان (؟) [10/ ب] والخمرِ ونحوها، إن حكم اليسير في ذلك كحكم الكثير (¬5)، وأنه محظورٌ عليه أكل ذلك وشربه، والدلالة من هذا الأصل على ما ذكرنا من وجهين: أحدهما: لزوم اجتناب النجاسات بالعموم الذي قدمنا في حال المخالطة والانفراد. والآخر: أن حكمَ الحظر وهو النجاسة كان أغلب من حكم الإباحة وهو الذي خالطه من الأشياء الطاهرة ولا فرق في ذلك من أن يكون الذي خالطه من ذلك ماءٌ أو غيرهُ إذا كان عموم الرأي والسُّنن شاملةً لهُ. وإذا كان المعنى وجود النجاسة فيه، وحظر استعمالها، ويدل على صحة قولنا من جهة السنة: ¬

_ (¬1) في أحكام القرآن: (الحظر وجهة الإباحة). (¬2) في أحكام القرآن: (الحظر). (¬3) أحكام القرآن (5/ 205). (¬4) البن: الموضع المنتن الرائحة. تاج العروس (18/ 71). (¬5) قال الجصَّاص في أحكام القرآن (5/ 208): فحكم النجاسة إذا حلَّت الماء حكم سائر المائعات إذا خالطته. . . وقد اتفقنا على أن مخالطة النجاسة اليسيرة سائر المائعات غير الماء تفسدها، ولم يكن للغلبة معها حكمٌ بل كان الحكم لها دون الغالب عليها من غيرها.

قوله -عليه السلام-: "لاَ يبولَنَّ أَحَدُكُمْ فِي الْمَاءِ الدَّائِم، ثُمَّ يَغْتَسِلُ فيهِ منَ الجنَابةِ" (¬1). وفي لفظٍ آخرَ: "لاَ يبولَنَّ أَحَدكمْ فِي الْمَاءِ الدَّائِم، وَلاَ يَغْتَسِلُ فِيهِ مِنْ جَنَابةٍ" (¬2). ومعلومٌ: إذا البول القليل في الماء الكثير لا يغير طعمه ولا لونه ولا ريحه، وقد منع النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - منه. قال: ويدلُّ عليه قوله -عليه السلام-: "إذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدكمْ مِنْ مَنَامِهِ فَليَغْسِلْ يَدَهُ ثَلاَثاً قَبْلَ أَنْ يُدْخِلَهَا الإنَاءَ، فَإِنَّهُ لاَ يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ" (¬3). فأمرَ بغسل اليد احتياطًا من نجاسةٍ أصابته من موضع الاستنجاء. ومعلومٌ: أن مثلها إذا حلَّت الماء لم تغيره، ولو أنهّا تفسده لما كان الأمر بالاحتياط معنًى. وحكم النَّبيُّ - صَلَّى الله عليه وسلم - بنجاسةِ ولوغِ الكلبِ لقوله: "طُهُورُ إنَاء أَحَدِكُمْ إِذَا وَلَغَ الْكَلْبُ فِيهِ: أَنْ يُغْسَلَ سَبْعاً" (¬4) وَهُوَ لاَ يُغَيِّرُهُ. ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه. (¬2) تقدم تخريجه. (¬3) تقدم تخريجه. وجاء في هامش المخطوط: (فائدة: قال الشرف المناوي على الجامع الصغير: قال النووي في بستانه، عن محمد بن الفضل التَّيميُّ في شرحه لمسلم: أن بعض المبتدعة لما سمع بهذا الحديث قال متهكماً: أنا أدري أين باتت يدي، باتت في الفراش، فأصبح وقد أدخلت يده في دبره إلى ذراعه. قال ابن طاهر: فليتق أمر الاستخفاف بالسنن ومواقع التوقيف لئلا يسرع إليه شؤم فعله). (¬4) رواه مسلم (279) (92) عن أبي هريرة بلفظ: "طهور إناء أحدكم إذا ولغ الكلب فيه أن يغسله سبع مرات". ولألفاظه راجع الأرقام (89 و 90 و 91).

قلت: تقدّم أن هذا هو المعتمد عندي، وأنّ ما سواه ما جاء تقدم. ثم قال: وأيضاً العلم بوجود النجاسة فيه كمشاهدتنا، كما أن علمنا بوجودها في سائر المائعات كمشاهدتنا، هذا حاصلُ ما استدل به، وهو أبسط مما في كتب الفقه، وهو منتهضٌ على من يرى: أن الماء لا ينجس إلَّا بظهور النجاسة فيه، قليلاً كان أو كثيرًا، وعلي ما زعموه من مذهب أصحاب الظاهر. واستدلوا يقول أبي يوسف، بما تقدم، من أن الضرورة تقتضي العفو. وأقول: يدلُّ عليه: ما روى الدارقطني (¬1)، عن ثوبان قال: قال رسول - صلى الله عليه وسلم -[11 / أ]: "الْمَاءُ طَهُورٌ، إِلَّا مَا غَلَبَ عَلَى رِيحِهِ، أَوْ طَعْمِهِ". وفيه: رشدين بن سعد (¬2). ورواه: راشد بن سعد قال: قال رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم -: "لاَ يُنَجّسُ الْمَاءَ إِلاَّ مَا غَيَّرَ طَعْمَهُ أَوْ رِيحَهُ" (¬3). وَهَذا مرسلٌ. وصلهُ رشدين بن سعد (¬4)، عن معاوية بن صالح، عن راشد بن سعد، ¬

_ (¬1) أخرجه الدارقطني (45) والزيلعي في نصب الراية: (1/ 95). (¬2) في المخطوط: (رشيد بن أبي سعد) والصحيح: هو رشدين بن سعد كما في سنن الدارقطني. (¬3) رواه عبد الرَّزاق (264) والدارقطني (1/ 29) والطحاوي في شرح معاني الآثار (ص 9) والبيهقي في معرفة السنن والآثار (2/ 83) من طريق عيسى بن يونس وأبي معاوية وأبي إسماعيل المؤدب، كلهم عن الأحوص بن حكيم، عن راشد مرسلاً. وقال الزيلعي في نصب الراية (1/ 95): الأحوص فيه مقال. (¬4) تحرف في المخطوط إلى: (رشيد بن أبي سعد).

عن أبي أمامة الباهلي، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "لاَ يُنَجِّسُ الْمَاءَ شَيءٌ إِلاَّ مَا غَيَّرَ طَعْمَهُ أَوْ رِيحَهُ" (¬1). ورواه موقوفًا على راشد بن سعد: أبو عون (¬2). وحاصل ما فيه: ضعف راشد بن سعد، والإرسال، وكلاهما غير مضرّ عندنا؛ لأنّ علماءنا - رضي الله عنهم - قد احتجّوا لمن هو أضعف من راشد بن سعد، وعملوا بالمرسل والمنقطع على أن لرشدين متابعاً عند البيهقي. فقد أخرجه (¬3) من طريق عطية بن بَقِيّة (¬4)، عن أبيه، عن ثور (¬5)، عن راشد بن سعد، عن أبي أمامة، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّهُ قال: "إِنَّ الْمَاءَ طَاهِرٌ، إِلاَّ أَنْ يُغَيّرَ (¬6) رِيحَهُ، أَوْ طَعْمَهُ، أَوْ لَوْنَهُ، بِنَجَاسَةٍ تَحْدُثُ فِيهِ". ولصدره شاهدٌ من حديث أبي سعيد الخدري في بئرِ بُضاعة. ولفظه: "الْمَاءُ طَهُورٌ لاَ يُنَجِّسُهُ شَيءٌ" (¬7). قال التِّرمذيُّ: حديثٌ حسنٌ. ¬

_ (¬1) رواه ابن ماجه في سننه (521) والطبراني في الكبير (7503) والدارقطني (1/ 29) والبيهقي في سننه (1/ 259) ومعرفة السنن والآثار (2/ 82) رقم (1846). وقال الدارقطني: لم يرفعه غير رشدين بن سعد، وليس بالقوي. (¬2) هذا قول لعله تصحيف من الناسخ، لأنَّ أبا أسامة رواه عن الأحوص بن حكيم، عن أبي عون وراشد بن سعد من قولهما. كما في سنن الدارقطني (1/ 29) وسنن البيهقي (1/ 259) ومعرفة السنن والآثار (2/ 83) رقم (1849). (¬3) رواه البيهقي في سننه (1/ 259) ومعرفة السنن والآثار له (2/ 83) رقم (1847). (¬4) تحرف في المخطوط إلى: (تعبة). وهو عطية بن بقية بن الوليد. (¬5) هو ثور بن يزيد. (¬6) في سنن البيهقي: (تغيّر). (¬7) أخرجه أحمد (3/ 31 و 86) وأبو داود (66 و 67) والترمذي (66) والنسائي =

وقد جوّده أبو أمامة، وصحّحه أحمد، وابن مَعِين، وأبو محمد ابن حزم. وقال ابن القطّان: لهُ طريقٌ حسنٌ. وأورده من طريق سهل بن سعد (¬1). وعلي عجزه انعقد الإجماعُ. نقله البيهقي في المعرفة (¬2) عن الشافعي. وليس فيه تخصيص بجانبٍ دون جانبٍ، ولا قام دليلٌ على اجتنابِ جانبٍ الوقوع من غير تغييرٍ، ليحمل عليه. فإن قلت: إنه عامٌّ. وأبو يوسف لا يقول بعمومه. قلتُ: قد عارضه حديث الولوغ، والاستدلال به بلفظ: "طُهُورُ إِنَاءِ أَحَدِكُمْ إِذَا وَلغ الْكَلْبُ فِيهِ أَنْ يَغْسِلَهُ سَبْعاً". لا كما ذكرهُ صاحب البدائع. وهذه رواية مسلم في صحيحه (¬3). وحديث المستيقظ، فإنّهما يدلان على أنَّ ماء الأواني [11 / ب] يَنْجُسُ وإن لم يتغير. فبقي محمولاً على ماء الغدران والمصانع. ¬

_ = (1/ 174) عن أبي سعيدٍ قال: قيل: يا رسول الله! أتتوضأ من بئر بضاعة، وهي بئر يطرح فيها لحوم الكلاب، والحيض، والنتن؟ فقال: "الماء طهورٌ، لا ينجّسه شيءٌ". (¬1) رواه الدارقطني (1/ 29) رقم (48) من طريق أبي حازم، عن سهل بن سعد مرفوعًا قال: "الماء لا ينجسه شيء". (¬2) انظر المعرفة (2 / و 95). (¬3) رواه أحمد (2/ 314) ومسلم (279) (92) وابن حبان (1295) والبيهقي في السنن الكبرى (1/ 240) عن أبي هريرة. واللفظ قد تقدم ذكره.

وقد صرّح الشافعي (¬1): بأن ماء بئر بضاعة كان كبيرًا. والله أعلمُ. ويدلُّ عليه: ما رواه ابن ماجه (¬2)، [عن] جابرٍ - رضي الله عنه - قال: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فِي سَفَرٍ، فَانتبَهْنَا إِلَى غَدِيرٍ فِيهِ جِيفَةٌ، فَكَفَفْنَا، وَكَفَّ النَّاسُ، حَتَّى أتانَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: "مَا لَكُمْ لاَ تَسْتَقُونَ؟! ". فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ! هَذِهِ الْجِيفَةُ؟ فَقَالَ: "اسْتَقُوا. فَإنَّ الْمَاءَ لاَ يُنَجِّسُهُ شَيءٌ". فَاسْتَقَيْنَا (¬3)، وَارْتَوَيْنَا. وَرَوَاهُ أَبُو يعلى الموصلي (¬4)، من حديث أبي سعيدٍ. وفيهِ: "أُرَهَا جَمَل". يعني: الجيفة. وهذا كما ترى، ليس فيه بيان اجتناب جانب الجيفة، ولو كانت لتوفرت الدعاوي على نقله. ¬

_ (¬1) نقله عنه البيهقي في معرفة السنن والآثار (2/ 80 - 81) رقم (1836 - 1839) قال: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ قال: حدّثنا أبو العباس قال: أخبرنا الرَّبيع قال: قال الشافعي: بئر بضاعة كثيرة الماء واسعة، كان يطرح فيها من الأنجاس ما لا يغيّر لها لوناً، ولا طعماً، ولا يظهر فيها ريح، وقال النَّبيُّ - صَلَّى الله عليه وسلم - مجيبًا: "الماء لا ينجسه شيء"، يعني: في الماء مثلها، واستدل على ذلك بحديث أبي هريرة في الولوغ. (¬2) رواه ابن ماجه (520) قال: حدّثنا أحمد بن سنان، حدّثنا يزيد بن هارون، حدّثنا شريك، عن طريف بن شهاب قال: سمعت أبا نضرة يحدث عن جابر بن عبد الله قال: انتهينا إلى غدير، فإذا فيه جيفة حمار، قال: فكففنا عنه حتَّى انتهى إلينا رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم - فقال: "إن الماء لا ينجسه شيء"، فاستقينا وأروينا وحملنا. وطريف ابن شهاب: ضعيف، قال ابن عبد البر: أجمعوا على أنه ضعيف. (¬3) تحرف في المخطوط إلى: (فاستبقنا). (¬4) لم أجده.

ويدلّ عليه: ما أخرجه ابن أبي شيبة (¬1)، عن عكرمة قالَ: مَرَّ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى الله عليه وسلم - بِغَدِيرٍ. فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ الكِلاَبَ تَلِغُ فِيهِ، وَالسِّبَاعُ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى الله عليه وسلم -: "لِلْسَّبُعٍ مَا أَخَذَ فِي بَطْنِهِ، وَلِلْكَلْبِ مَا أَخَذَ فِي بَطْنِهِ، فَاشْرَبُوْا، وَتَوَضَّؤُوْا". قَالَ: فشَرِبُوا، وَتَوَضَّؤُوا. وأصحابنا - رضي الله عنهم -: يحتجون بالمرسل. قال الأخسيكثي (¬2) في منتخب الأصول: إنه فوق المسند. ويدلُّ عليه: ما أخرجه عبد الرَّزاق (¬3)، عن إبراهيم بن محمد الأسلمي، عن داود بن حصين، عن أبيه، عن جابرٍ قلتُ: يا رسولَ اللهِ! أَنتَوَضَّأُ مِنْ مَا أَفْضَلَتِ الْحُمُرُ (¬4)؟ قَالَ: "وَبِمَا أَفْضَلَتْهُ السِّبَاعُ كُلُّهَا". وإبراهيم يضعّف (¬5)، إلَّا أنّ محمد بن الحسن قد احتجّ به. ورواه مشايخ. ¬

_ (¬1) المصنف لابن أبي شيبة (1507). (¬2) تحرف في المخطوط إلى: (الأخسيتكي). قال صاحب كشف الظنون (2/ 1848): المنتخب في أصول المذهب لحسام الدين محمد بن محمد بن عمر الأخسيكثي الحنفي، المتوفى سنة أربع وأربعين وست مئة. أقول: في كتاب الطبقات السنية في تراجم الحنفية (1/ 260): هذه النسبة إلى أَخْسِيكَث -بالفتح، ثم السكون، وكسر السين المهملة، وياء ساكنة، وكاف مفتوحة، وثاء مثلثة، وبعضهم يقول بالمثناة-: مدينة بما وراء النهر، وهي قصبة ناحية فرغانة، وهي من أنزه بلاد ما وراء النهر، وقد خرج منها جماعة من أهل العلم والأدب. (¬3) لم أجده في المطبوع من مصنفه، وأشار إلى رواية عبد الرَّزاق البيهقي في سننه (1/ 249) باب سؤر الحيوانات. (¬4) في المخطوط: (من ماء أفضل الخمر). (¬5) هو إبراهيم بن محمد بن أبي يحيى الأسلمي، أبو إسحاق المدني، مات سنة 184 هـ أو 191 هـ. قال الحافظ ابن حجر في التقريب (ص 93): متروك. وانظر الأقوال =

ورواه الشافعي (¬1)، من حديث ابن أبي ذئب، من حديث ابن أبي (¬2) حبيبة، عن داود. وله شاهد: من حديث أبي سعيد. رواه ابن ماجه (¬3). وأخرجه الدارقطني (¬4)، عن ابن عمر قال: خَرَجَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - في بَعْضِ أَسْفَارِهِ، فَخَرَجَ لَيْلاً، فَمَرُّوْا عَلَى رَجُلٍ جَالِسٍ عِنْدَ مِقْرَاةٍ لَهُ. فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: يَا صَاحِبَ الْمِقْرَاةِ (¬5)! أَوَلَغْنَ السِّبَاعُ اللَّيْلَةَ فِي مِقْرَاتِكَ؟ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى الله عليه وسلم -: "يَا صَاحِبَ الْمِقْرَاةِ لاَ تُخْبِرْه هَذَا [12 / أ] فَكَلَّفَ لَهَا مَا حَمَلَتْ فِي بُطُونهَا، وَلنا مَا بقِيَ شَرَابٌ وَطَهُورٌ". وطريقُ الاستدلال بهما على نحو ما تقدم في حديث: "الْمَاءُ طَهُورٌ". ¬

_ = فيه في تهذيب الكمال للمزي (2/ 184 - 191). (¬1) رواه البيهقي في سننه (1/ 249) قال: أخبرنا أبو سعيد بن أبي عمرِو، حدّثنا أبو العبّاس محمد بن يعقوب، أخبرنا الرّبيع بن سليمان، أخبرنا الشّافعيّ، أخبرنا إبراهيم ابن أبي يحيى، عن داود بن الحصين، عن أبيه، عن جابر بن عبد الله قال: قيل: يا رسول الله، أنتوضّأ بما أفضلت الحمر؟ قال: "نعم وبما أفضلت السِّباع كلّها". وفي غير روايتنا، قال الشافعي: وأخبرنا عن ابن أبي ذئبٍ، عن داود بن الحصين بمثله. وانظر مسند الشافعي (1/ 8). (¬2) تحرف في المخطوط إلى: (أبو). (¬3) رواه ابن ماجه (519) عن أبي سعيد الخدري: أن النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - سئل عن الحياض التي بين مكّة والمدينة، تردها السِّباع والكلاب والحمر، وعن الطهارة منها؟ فقال: "لها ما حملت في بطونها، ولنا ما غبر طهورٌ". (¬4) أخرجه الدارقطني في سننه (34) ومالك في الموطأ (1/ 23 - 24). (¬5) القرو: حوضٌ طويلٌ ترده الإبل. القاموس.

ويدلّ عليه: ما رواه ابن أبي شيبة (¬1)، عن عمر بن الخطاب: أنَّهُ مَرَّ بِحَوْضِ مَجَنَّة (¬2). فَقَالَ: اسْتَقُوا مِنْهُ. فَقَالُوا: إِنَّهُ تَرِدُهُ السِّبَاعُ [وَ] الْكِلاَبُ، وَالْحَمِيرُ. فَقَالَ: لَهَا مَا حَمَلَتْ فِي بُطُوبهَا، وَمَا بَقِيَ فَهُوَ لَنَا شَرَابٌ وَطَهُورٌ. وأخرجه من طريقٍ آخرَ (¬3)، عن عكرمة: أنَّ عمر بن الخطاب، أتَى على حوضٍ من الحياض، فأراد أن يتوضأ ويشربَ. فقالَ أهل الحوض: أنا يلغُ (¬4) فِيهِ الكلابُ والسِّباعُ. فقال عُمَرُ: إن لها ما بلغت (¬5) في بطونها. قال: فشربَ وتوضأ. وعن أم سلمة: أنَّهَا كَانَتْ تَمُرُّ بِالْغَدِيرِ، فيه الجُعْلانُ (¬6) والبُعُر، فيستقى لها منه فنتوضأ ونشرب (¬7). ¬

_ (¬1) في المصنف (1508) قال: حدّثنا وكيع، عن سفيان، عن حبيب، عن ميمون بن أبي شبيب، أن عمر بن الخطاب مر بحوض مجنة، فقال: اسقوني منه. فقالوا: إنه ترده السباع والكلاب والحمير! فقال: لها ما حملت في بطونها، وما بقي فهو لنا طهور وشراب. وانظر الروايات عن عمر في تهذيب الآثار لابن جرير (مسند ابن عباس) رقم (1078 - 1081 و 1084). (¬2) تحرف في المخطوط إلى: (مجبنه). (¬3) المصنف (1509). (¬4) في المصنف: (إنه تلغ). (¬5) في المصنف: (ولغت). (¬6) تحرف في المخطوط إلى: (الجفلات). (¬7) رواه ابن أبي شيبة في المصنف (1510) قال: حدّثنا ابن عيينة، عن منبوذ، عن أمه: أنها كانت تسافر مع ميمونة، فتمر بالغدير فيه الجعلان والبعر، فيستقى لها منه، فتتوضأ وتشرب. =

وقال (¬1): حدّثنا ابن عُلَيَّة، عن حبيب بن شهاب، عن أبيه: أنّهُ سأل أبا هريرة عن سُؤْرِ الحوضِ تردهُ السِّباعُ، وتشربُ منه الحُمُرُ (¬2). فقال: لا يحرمُ الماء شيء. وهذا إسنادٌ صحيحٌ لاتصالهِ، وثقة رجاله. فابن عُلَيَّة (¬3): ثِقَة حَافِظٌ، أشهر من أن يُذكر. أخرج له الشيخان، محتجيّن به. وحبيب بن شهاب بن مدلج: قال ابن معين (¬4): ثقة. وقال النَّسائيّ (¬5): ثقة. ¬

_ = ورواه إسحاق بن راهويه في مسنده (2027) قال: أخبرنا سفيان، عن منبوذ، عن أمه قالت: كنا نسافر مع ميمونة، فننزل على الغدران، فيها الجعلان والبعر، فنستقي لها منه، لا يرى بذلك بأساً. أقول: منبوذ هو ابن أبي سليمان المكيِّ، قال ابن حجر في التقريب: مقبول. وأمه: قال عنها ابن حجر في التقريب: مقبول. (¬1) ابن أبي شيبة في المصنف (1511). ورواه أيضًا من الطريق نفسه: ابن جرير في تهذيب الآثار (مسند ابن عباس) (2 / رقم 1083). (¬2) في المصنف: (ويشرب منه الحمار). (¬3) هو إسماعيل بن إبراهيم بن مقسم الأسدي، أسد خزيمة مولاهم، أبو بشر البصري، أصله من الكوفة، ولد سنة 110 هـ ومات سنة 193 هـ. تهذيب الكمال (3/ 23). (¬4) الجرح والتعديل لابن أبي حاتم (3/ 103) الترجمة (479). (¬5) قال ابن حجر في تعجيل المنفعة (ص 84): نقل ابن خلف عن التمييز للنسائي أنه وثقه.

وقال أحمد بن حنبل (¬1): لا بأس. وذكره ابن حبان في ثقاته (¬2). وقد سمع أباه. وأبوه (¬3) شهاب بن مدلج. سمع: أبا هريرة، وابن عباس، وأبا موسى. قال أبو زرعة الرازي (¬4): ثقة. وقاله النَّسائيّ. وذكره ابن حبان في ثقاته (¬5). وأبو هريرة: هو من جملة من روى عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنّه قال: "لاَ يَبُولَنَّ أَحَدُكُمْ فِي الْمَاءِ الدَّائِم" (¬6). الحديث. وقال (¬7): حدّثنا ابن عُلَيَّة، عن إسرائيل، عن الزبرقان قال: حدّثنا كعب ¬

_ (¬1) قال في العلل (3192): حبيب بن شهاب، ليس به بأس. وقال عبد الله في العلل (3511): سألته -يعني: أباه- عن حبيب بن شهاب بن مدلج العنبري؟ قال: روى عنه يحيى بن سعيد. (¬2) قال في الثقات (6/ 180) الترجمة (7256): حبيب بن شهاب العنبري، من أهل البصرة، يروي عن أبيه، روى عنه: يحيى القطان. قال في الثقات (4/ 363) الترجمة (3359): شهاب بن مدلج العنبري التميمي، بصري، يروي عن: ابن عباس، وأبي موسى. روى عنه ابنه: حبيب بن شهاب. (¬3) تحرف في المخطوط إلى: (أبو). وله ترجمة في طبقات ابن سعد (7/ 140) والتاريخ الكبير للبخاري (4/ 235). (¬4) الجرح والتعديل لابن أبي حاتم (4/ 361) الترجمة (1581) وتعجيل المنفعة لابن حجر (ص 179) الترجمة (456). (¬5) قال في الثقات (4/ 363) الترجمة (3359): شهاب بن مدلج العنبري التميمي، بصري، يروي عن: ابن عباس، وأبي موسى. روى عنه ابنه: حبيب بن شهاب. (¬6) تقدم تخريجه. (¬7) ابن أبي شيبة في المصنف (1512).

ابن عبد الله قال: كُنَّا مع حذيفة، فانتهينا إلى غديرٍ فيه الميتة، وتغتسل فيه الحائضُ. فقال: الماءُ لاَ يَخْبُثُ (¬1). وقال (¬2): حدّثنا وكيع، عن الأعمش، عن أَبِي عمر البَهْرَانِيّ (¬3)، عن ابن عبّاس قال: الْمَاءُ طَهُورٌ لاَ يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ. وقد تقدم تفسيرهُ عن محمد بن الحسن في كتاب الآثار. وأخرج (¬4) عن الحسن: في الجُبِّ يقطر فيه القطرة من الخمر أو الدم. قال: يُهْرَاقُ. وعن طاوس: أنَّهُ كرهه (¬5). ¬

_ (¬1) في المصنف: (يجنب). (¬2) ورواه ابن أبي شيبة (1511) قال: حدّثنا وكيع قال: حدّثنا الأعمش، عن يحيى ابن عبيد البهراني قال: سألت ابن عباس عن ماء الحمام؟ فقال: الماء لا يجنب. ورواه عبد الرَّزاق (1144) عن يحيى بن العلاء، عن الأعمش، عن ابن عمر قال: سئل ابن عباس عن حوض الحمام يغتسل منه الجنب وغير الجنب؟ فقال: إن الماء لا يجنب. ورواه البيهقي في سننه (1/ 267) قال: أخبرنا أبو بكر بن الحسن أخبرنا أبو جعفر ابن دحيمِ حدّثنا إبراهيم بن عبد الله أخبرنا وكيعٌ عن الأعمش عن يحيى بن عبيد قال: سألت ابن عبّاس عن ماء الحمَّام فقال: الماء لا يجنب. (¬3) تحرف في المخطوط إلى: (ابن عمرو النهواني). وهو يحيى بن عبيد -بغير إضافة-، أبو عمر البهراني، الكوفيِّ. قال ابن حجر في التقريب: صدوق. (¬4) رواه ابن أبي شيبة (1772 و 24090) عن يزيد بن هارون، عن هشام، عن الحسن. (¬5) رواه ابن أبي شيبة في المصنف (1771) عن طاوس في قطرة خمر وقعت في ماء، فكرهه.

فثبت: أن ماء الأواني تنجس بوقوع النجاسة، وإن لم يتغير. وماء الغدران ونحوها لا ينجس إلَّا بالتغيير [12 / ب] سواءٌ كان الواقع فيه مرئياً أو غير مرئي. فالجاري أولى. وما كان في غديرٍ أو مستنقعٍ وهو نحو ماء الأواني، فهو ملحق بها إذ لا أثر للمحل. والله أعلم. فإن قلت: لم أطلق ماء الغدران مع ما ورد من تقديره شرعًا بالقلتين. وحديث القلتين: قد صَحَّحه ابن حبان (¬1)، وابن خزيمة (¬2)، والحاكم (¬3)؟. قلت: من صحّحه اعتد بعض طرقه، ولم ينظر إلى ألفاظه ومفهومها، إذ ليس وظيفة المحدث. والنظر في ذلك من وظيفة الفقيه، إذ غرضه بعد صحة الثبوت: الفتوى والعمل بالمدلول. وقد أعلّ حديث القلتين من الجهتين. وأنا أورد ذلك مستعيناً بالله. فأقول: قال ابن عبد البر في التمهيد (¬4): هذا حديثٌ يرويه محمد بن إسحاق، والوليد بن كثير [جميعاً، عن محمد بن جعفر بن الزُّبير، وبعض رواة الوليد ابن كثير يقول فيه: عنه، عن محمد بن عباد بن جعفر (¬5)، ولم ¬

_ (¬1) التقاسيم والأنواع لابن حبان (1249 و 1253 الإحسان). (¬2) صحيح ابن خزيمة (92). (¬3) المستدرك على الصحيحين (1/ 224 و 252 و 226 و 227). (¬4) التمهيد (1/ 329). (¬5) هو محمد بن عباد بن جعفر بن رفاعة بن أميَّة بن عائذ بن عبد الله بن عمر بن مخزوم المخزومي المكيِّ. قال ابن حجر في التقريب: ثقة.

يختلف عن الوليد ابن كثير] (¬1) أنَّه قال فيه: عن عبد الله بن عبد الله بن عمر، عن (¬2) أبيه يرفعه. ومحمد بن إسحاق يقول فيه: عن محمد بن جعفر بن الزُّبير، عن عبد الله (¬3) بن عبد الله بن عمر، عن أبيه مرفوعًا [وعاصم] (¬4) أيضًا. فالوليد يجعله عن عبد الله بن عبد الله، ومحمد بن إسحاق يجعله عن عبيد الله بن عبد الله. ورواه عاصم بن المنذر (¬5)، [عن عبيد الله بن عبد الله بن عمر، عن أبيه] (¬6)، فاختلف [فيه] (¬7) عليه أيضًا. [فقال حماد بن سلمة، عن عاصم بن المنذر، عن عبيد الله بن عبد الله ابن عمر، عن أبيه. وقال فيه حماد بن زيد، عن عاصم بن المنذر، عن أبي بكر بن عبيد الله، عن عبد الله بن عمر] (¬8). ¬

_ (¬1) ما بين معكوفتين: زيادة من التمهيد. (¬2) في المخطوط: (أن). والتصحيح من التمهيد. (¬3) في التمهيد: (عبيد الله). (¬4) ما بين معكوفتين: من التمهيد. و (مرفوعاً) لم ترد في التمهيد. (¬5) هو عاصم بن المنذر بن الزُّبير بن العوام الأسدي المدني. قال ابن حجر في التقريب: صدوق. (¬6) ما بين معكوفتين: من التمهيد. (¬7) ما بين معكوفتين: من التمهيد. (¬8) ما بين معكوفتين: من التمهيد.

وقال (¬1) فيه حماد بن سلمة: إذا كانَ المَاءُ قُلّتين أو ثلاثًا، لم يُنَّجِّسهُ شيءٌ. وبعضهم يقول [فيه] (¬2): إذا كان [الماء] (¬3) قلتين، لم يحمل (¬4) الخبث. وهذا لفظٌ (¬5) محتمل للتأويل، ومثل هذا الاضطراب في الإسناد، يوجب التوقف عن القول بهذا الحديث، على (¬6) أنّ القلتين غير معروفتين، ومُحالٌ أن يتعبّد الله عبادهُ بما لا يعرفونه. انتهى (¬7). قلتُ: قد تكلّف بعض النَّاس لرفع اضطراب السند باحتمال أن يكون الحديث عند كل راوٍ اختلف عليه من جميع من اختلف عليه فيه، لوروده عن بعض رواته بالوجهين جميعًا. لكن بقي هنا شيءٌ آخر، وهو ما أشار إليه ابن عبد البر: أنّ القلتين غير معروفتين. قال الدارقطني (¬8): قال ابن عرفة، وسمعت هُشَيماً (¬9) يقول: تفسير القلتين يعني: الجرتين الكبار. ¬

_ (¬1) في المخطوط: (قال). والزيادة من التمهيد. (¬2) ما بين معكوفتين: من التمهيد. (¬3) ما بين معكوفتين: من التمهيد. (¬4) في التمهيد: (يحصل). (¬5) في التمهيد: (اللفظ). (¬6) في التمهيد: (إلى). (¬7) انتهى كلام ابن عبد البر. (¬8) سننه (1/ 19 - 20) وسنن البيهقي (1/ 264). (¬9) تحرف في المخطوط إلى: (هيثماً).

وروى إسحاق بن راهويه -ومن طريقه الدارقطني-، عن عاصم بن المنذر قال: القِلاَلُ: الخوابي العظام (¬1). وعاصم بن المنذر، هو: راوِي الحديث عن عبيد الله، عن عبد الله ابن عمر. وأخرج أبو قاسم [13/ أ] البغوي (¬2)، عن مجاهد، أنّه قال: الْقُلَّتَانِ: الجَرَّتَانِ. وأخرج عن ابن إسحاق راوي الحديث: أنّه سَئلَ: القلتين. فقال: هذه الجرار الذي يُسْقَى فِيهَا الْمَاءُ، وَالدَّوَارِيقُ (¬3). وروى البيهقي، عن وكيعٍ: القلّة: الجَرّة (¬4). وروى الشّافعي، عن ابن جريج: أنَّ كلّ قلّة تأخذ قلتين وشيئاً (¬5). ¬

_ (¬1) رواه الدارقطني في سننه (1/ 27) والبيهقي في سننه (1/ 264) عن عاصم بن المنذر قال: القلال: الخوابي العظام. (¬2) رواه أبو القاسم عبد الله بن محمد البغوي في الجعديات (2110) عن مجاهد قال: إذا كان الماء قلتين لم ينجسه شيء. قال: فقلت: ما القلتان؟ قال: الجرتان. (¬3) رواه البيهقي في سننه (1/ 264) عن عبد الله بن عمر قال: قال عبد الرحيم -يعني: ابن سليمان-: سألنا ابن إسحاق -يعني: محمد بن إسحاق بن يسارٍ- عن القلّتين؟ فقال: هذه الجرار الّتي يستقى فيها الماء والدّواريق. (¬4) رواه البيهقي في سننه (1/ 264) عن محمّد بن إسماعيل الحسانيّ قال: قال وكيع: يعني بالقلة: الجرّة. وأخبرنا أبو عبد الله الحافظ، أخبرنا أبو الوليد، حدّثنا أحمد بن محمد بن عمار، حدّثنا محمد بن رافع قال: قال يحيى بن آدم: القلة الجرة. (¬5) رواه الشافعي في مسنده (799) والبيهقي في معرفة السنن والآثار رقم (500 و 501) =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = عن ابن جريج، بإسناد لا يحضرني حفظه، أن رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم - قال: "إذا كان الماء قلتين لم يحمل نجساً". قال: وفي الحديث: "بقلال هجر". قال ابن جريج: قد رأيت قلال هجر، والقلة تسع قربتين، أو قربتين وشيئاً. قال الشافعي: وقرب الحجاز قديماً وحديثاً كبار لحجز الماء بها، فإذا كان الماء خمس قرب كبار لم يحمل نجساً، وذلك قلتان بقلال هجر. هذا قوله على الحديث، في كتاب اختلاف الأحاديث. فأما قوله عليه في كتابه الطهارة فقد خرجناه في كتاب السنن. وهذا الحديث رواه غيره، عن ابن جريج قال: أخبرني محمد، أن يحيى بن عقيل أخبره، أن يحيى بن يعمر أخبره، أن النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا كان الماء قلتين لم يحمل نجساً ولا بأساً". قال: فقلت ليحيى بن عقيل: قلال هجر، قال: قلال هجر. أخبرنا أبو بكر بن الحارث الفقيه قال: أخبرنا عليّ بن عمر الحافظ قال: حدّثنا أبو بكر بن زياد النيسابوري قال: حدّثنا أبو حميد المصيصي قال: حدّثنا حجاج قال: حدّثنا ابن جريج، فذكره. وأخبرنا أبو حازم الحافظ قال: أخبرنا أبو أحمد الحافظ قال: أخبرنا أبو العباس السجستاني قال: حدّثنا محمد بن يوسف قال: حدّثنا أبو قرة، عن ابن جريج قال: أخبرني محمد، فذكره. قال محمد: قلت ليحيى بن عقيل: أي قلال؟ قال: قلال هجر. قال محمد: فرأيت قلال هجر، فأظن كل قلة تأخذ قربتين. قال أبو أحمد الحافظ: محمد هذا الذي حدث عنه ابن جريج، هو محمد بن يحيى، يحدث عن يحيى بن أبي كثير، ويحيى بن عقيل. قال أحمد: وقلال هجر كانت مشهورة عند أهل الحجاز، ولشهرتها عندهم شبه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما رأى ليلة المعراج من نبق سدرة المنتهى بقلال هجر، فقال فيما روى عنه مالك بن صعصعة: "رفعت إلى سدرة المنتهى، فإذا ورقها مثل آذان الفيلة، وإذا نبقها مثل قلال هجر". واعتذار الطحاوي في ترك الحديث أصلًا، بأنه لا يعلم مقدار القلتين، لا يكون عذراً عند من أعلّه، وكذلك ترك القول ببعض الحديث بالإجماع، لا يوجب تركه، فيما لم يجمع عليه، وتوفيته بالقلتين يمنع من حمله على الماء الجاري على أصله، وبالله التوفيق. ورواه البيهقي في سننه (1/ 263) عن يحيى بن يعمر: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا كان الماء قلتين لم يحمل نجساً ولا بأساً". قال: فقلت ليحيى بن عقيلٍ: قلال هجر؟ =

وفيه بحث آخر. قال الحافظ أبو العباس ابن تيميّة (¬1): يشبه أن يكون الوليد بن كثير ¬

_ = قال: قلال هجر. قال: فأظنّ أن كلّ قلّةِ تأخذ فرقين. زاد أحمد بن عليّ في روايته: والفرق ستة عشر رطلاً. وقال أيضًا (1/ 264) عن ابن جريجٍ قال: أخبرني محمد فذكره. قال محمد: قلت ليحيى بن عقيلٍ: أي قلالٍ؟ قال: قلال هجر. قال محمد: فرأيت قلال هجر، فأظن كلُّ قلةٍ تأخذ قربتين. كذا في كتاب شيخي: قربتين، وهذا أقرب ممّا قال مسلم بن خالدٍ، والإسناد الأول أحفظ والله أعلم. قال أبو أحمد الحافظ: محمد هذا الَّذي حدّث عنه ابن جريجٍ، هو محمد بن يحيى يحدث عن يحيى بن أبي كثيرٍ ويحيى ابن عقيل. (¬1) لم أجده في مجموع الفتاوى. وانظر كلام ابن قطلوبغا في البحر الرائق. وسئل - رحمه الله - كما في المجموع (21/ 41 - 43) عن القلتين: هل حديثه صحيح أم لا؟ ومن قال: إنه قلة الجبل؛ وفي سؤر الهرة إذا أكلت نجاسة ثم شربت من ماء دون القلتين، هل يجوز الوضوء به، أم لا؟ فأجاب: الحمد لله، قد صحّ عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنه قيل له: إنك تتوضأ من بئر بضاعة، وهي بئر يلقى فيها الحيض ولحوم الكلاب والنتن؟ فقال: "الماء طهور لا ينجسه شيء". وبئر بضاعة باتفاق العلماء وأهل العلم بها هي بئر ليست جارية، وما يذكر عن الواقدي من أنها جارية: أمر باطل؛ فإن الواقدي لا يحتج به باتفاق أهل العلم، ولا ريب أنه لم يكن بالمدينة على عهد رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم - ماء جار، وعين الزرقاء وعيون حمزة محدثة بعد النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم -، وبئر بضاعة باقية إلى اليوم في شرقي المدينة، وهي معروفة. وأما حديث القلتين فأكثر أهل العلم بالحديث على أنه حديث حسن يحتج به، وقد أجابوا عن كلام من طعن فيه، وصنف أبو عبد الله محمد بن عبد الواحد المقدسي جزءًا ردّ فيه ما ذكره ابن عبد البر وغيره. =

غلطَ في رفع الحديث. ويدلّ على أنَّ هذا لم يكن عن ابن عمر، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: أنَّ هذا الغسل من الماء من الحلال والحرام من أعظم الأمور التي يحتاج النَّاس إليها في دينهم لحاجتهم إلى الماء في طهورهم وشرابهم، والنّاس أحوج إلى الماء منهم في سائر الأشياء، ووقوع النجاسة فيه من الأمور الغالبة، وابن عمر دائماً يفتي النَّاس ويحدثهم عن النَّبيِّ - صَلَّى الله عليه وسلم -، والسنن التي رواها معروفة عند أهل ¬

_ = وأما لفظ القلة، فإنّه معروف عندهم: أنه الجرة الكبيرة كالحب، وكان - صلى الله عليه وسلم - يمثل بهما، كما في الصحيحين أنه قال في سدرة المنتهى: "وإذا ورقها مثل آذان الفيلة، وإذا نبقها مثل قلال هجر". وهي قلال معروفة الصفة والمقدار؛ فإن التمثيل لا يكون بمختلف متفاوت. وهذا مما يبطل كون المراد قلة الجبل؛ لأنَّ قلال الجبال فيها الكبار والصغار، وفيها المرتفع كثيرًا، وفيها ما هو دون ذلك، وليس في الوجود ماء يصل إلى قلال الجبل إلَّا ماء الطوفان، فحمل كلام النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - على مثل هذا يشبه الاستهزاء بكلامه. ومن عادته - صلى الله عليه وسلم - أنه يقدر المقدرات بأوعيتها، كما قال: "ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة"، والوسق: حمل الجمل، وكما كان يتوضأ بالمد ويغتسل بالصاع، وذلك من أوعية الماء، وهكذا تقدير الماء بالقلال مناسب، فإن القلة وعاء الماء. وأما الهرة فقد ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "إنها ليست بنجسة، إنها من الطوافين عليكم والطوافات". وتنازع العلماء فيما إذا أكلت فأرة ونحوها، ثم ولغت في ماء قليل على أربعة أقوال في مذهب أحمد وغيره: قيل: إن الماء طاهر مطلقًا. وقيل: نجس مطلقًا حتَّى تعلم طهارة فمها. وقبل: إن غابت غيبة يمكن فيها ورودها على ما يطهر فمها كان طاهراً، وإلا فلا. وهذه الأوجه في مذهب الشافعي وأحمد وغيرهما. وقيل: إن طال الفصل كان طاهراً، جعلا لريقها مطهراً لفمها لأجل الحاجة، وهذا قول طائفة من أصحاب أبي حنيفة وأحمد، وهو أقوى الأقوال. والله أعلم.

المدينة وغيرهم لاسيما عند سالم ابنه، ونافع مولاهم. لا العمل به مذهب أحد من أهل المدينة، بل قولهم المستفيض عنهم مُخالفٌ لهم. ثم ذكر: أن إسماعيل بن إسحاق القاضي روى بإسناده، عن القاسم بن محمد ابن أبي بكر الصِّديق، وسالم بن عبد الله بن عمر: أنهمَا سُئِلاَ عنِ الماءِ الذي يجري، تموتُ فيه الدّابة، هل يشرب منه، ويُغتسلُ، وتُغسلُ فيه الثياب. فقال: لاَ. إنّ الماء إذا كان لا يدنسه ما وقع فيه، فنرجو أن لا يكون به بأس (¬1). وروى ابن وهب، عن يونس (¬2)، عن ابن شهاب أنّه قال: كل ما فيه ¬

_ (¬1) ذكره سحنون في المدونة الكبرى (1/ 131) قال: قال ابن وهب، عن ابن لهيعة، عن خالد بن أبي عمران، أنه سأل القاسم وسالماً عن الماء الذي لا يجري، تموت فيه الدابة، أيشرب منه ويغسل منه الثياب؟ فقالا: أنزله إلى نظرك بعينك، فإن رأيت ماء لا يدنسه ما وقع، فنرجو أن لا يكون به بأس. وقال الحطاب في مواهب الجليل في شرح مختصر الشيخ خليل بن إسحاق (1/ 276): قال ابن رشد: سئل ابن وهبٍ، عن الجب من ماء السماء تموت فيه الدابة وتنشق والماء كثيرٌ لم يتغير منه إلَّا ما كان قريبًا منها، فلمّا أخرجت وحرك الماء ذهبت الرائحة هل يتوضأ به ويشرب؟ قال: إذا خرجت الميتة فلينزح منه حتَّى يذهب دسمها والرائحة واللون إن كان به لونٌ إذا كان الماء كثيرًا على ما وصفت، طاب إذا فعل ذلك به. قال ابن القاسم: لا خير فيه ولم أسمع مالكاً رخص فيه قطّ. قال ابن رشدِ: قول ابن وهبٍ هو الصحيح على أصل مذهب مالكٍ، الَّذي رواه المدنيون عنه، أن الماء لا ينجّسه إلَّا ما غير أحد أوصافه على ما جاء عنه عليه الصّلاة والسلام في بئر بضاعة. وقد روى ابن وهبٍ وابن أبي أويس، عن مالكٍ في جباب تحفر بالمغرب فتسقط فيها الميتة فيتغير لون الماء وريحه ثمّ يطيب بعد ذلك، أنَّهُ لا بأس به. انتهى. (¬2) هو يونس بن يزيد بن أبي النجاد الأيلي، ثقة.

فضلٌ عما يصيبه من الأذى حتَّى لا يُغيِّر ذلك طَعمَه ولا رِيحَهُ ولا لونه طَاهِرٌ يُتَوَضَّأ بِهِ (¬1). قال: وابن شهاب من أخصّ النَّاس بسالِمٍ، وأعلم النَّاس بحديثه وحديث أبيه. وهذه فتياه وفتيا سالمٍ. وروى إسماعيل باسناده، عن داود بن أبي هند، عن سعيد بن المسيب في هذه الآية: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} [الفرقان: 48]. قال: أنزل الله الماء طهوراً [13/ ب] لا يُنَجِّسُهُ شيءٌ (¬2). ¬

_ (¬1) رواه ابن جرير الطبري في تهذيب الآثار (مسند ابن عباس) (2/ رقم 1116) قال: حدثني يونس بن عبد الأعلى قال: أخبرنا ابن وهب قال: أخبرني يونس بن يزيد، عن ابن شهاب، أنه قال في الماء الراكد: كل ما فيه فضل عما يصيبه من الأذى حتَّى لا يغير ذلك طعمه، ولا لونه، ولا ريحه، طاهر يتوضأ منه. (¬2) رواه ابن أبي شيبة (1518) قال: حدّثنا ابن علية، عن داود، عن ابن المسيب قال: أنزل الله الماء طهوراً فلا ينجّسه شيء، وربما قال: لا ينجسه شيء. قال داود: وذلك أننا سألناه عن الغدران والحياض تلغ فيها الكلاب. ورواه ابن جرير الطبري في تهذيب الآثار (مسند ابن عباس) رقم (1064 و 1065) قال: حدثني يعقوب بن إبراهيم قال: حدّثنا إسماعيل، عن داود قال: قال سعيد ابن المسيب: أنزل الله الماء طهوراً، فلا ينجّسه شيء. حدّثنا ابن المثنى قال: حدّثنا عبد الوهاب، عن داود، عن سعيد بن المسيب قال: أنزل الله الماء طهوراً، لا ينجّسه شيء. وانظر الأرقام (1066 - 1068). وعزاه السيوطي في الدر المنثور (6/ 263) لعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم والدارقطني عن سعيد بن المسيب. وذكره أبو بكر الجصاص في أحكام القرآن (5/ 204).

قال: والآثار بذلك معروفة عن أهل المدينة، ولم يعرف أحدٌ من متقدميهم ولا متأخريهم فرقًا بين الماء الذي ينجس ولا يتنجّس بقدر القلتين، فكيف يكون هذه سنةً لرسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم - من عموم البلوى بها، ولا ينقلها عنه أحدٌ عن أصحابه ولا التابعين لهم بإحسانٍ إلاّ رواية مختلفة مضطربة عنِ ابن عمرَ، لم يعمل بها أحدٌ من أهل المدينة، ولا عمل بها أهل البصرة، بل مذهب أهل البصرة: أن قليله وكثيره لا ينجس إلَّا بالتغيير، ولا أهل الشام عملوا به، ولا أهل الكوفة. وأطال الكلام رحمه الله بما لا يتحمله هذا الموضع. قلت: وقد أخرجه الدارقطني (¬1)، من طريق الزُّهريّ، عن عبيد الله (¬2) ابن عبد الله بن عمر، عن أبي هريرة. وقال (¬3): المحفوظ عن ابن عياش (¬4)، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن جعفر [بن الزُّبير]، عن عبيد الله، عن أبيه. وأخرجه (¬5) من طريق عبد الوهاب بن عطاء، عن ابن إسحاق، عن الزُّهريّ، عن سالم، عن أبيه. وكأن الحافظ لم يعتبر هذا للضعف. وفيه: أن جابراً رواه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: "إِذَا بَلَغَ الْمَاءُ أَرْبَعِينَ قُلّةً ¬

_ (¬1) في سننه (1/ 21). (¬2) في المخطوط: (عبيد) فقط. (¬3) في سننه (1/ 21). (¬4) تحرف في المخطوط إلى: (عباس). وهو إسماعيل بن عياش. (¬5) في سننه (1/ 21).

لا يَحْمِلُ خَبَثاً". رواه الدارقطني (¬1). قال (¬2): وهمَ القاسم العمري في إسناده وخالفه روح بن القاسم، وسفيان الثوري، ومعمر بن راشد. رووه عن ابن المنكدر من قوله، لَم يجاوزه (¬3). ثم أخرجه (¬4) من طريق من تقدم ذكرهم. ورواه (¬5) عن أبي هريرة بلفظ: "إِنْ كَانَ الْمَاءُ أَرْبَعِينَ قُلّةً لَمْ يَحْمِلْ خَبثاً". وقد خالفه غير واحدٍ فقالوا: أربعين غرباً. وظهر ما قال الحافظ (¬6): الغَرْبُ (¬7). والله أعلم. فإن قلت: أليس أن الطّحاوي (¬8) والرازي (¬9) أجابا عن حديث بئر بضاعة ¬

_ (¬1) أخرجه الدارقطني في سننه (1/ 26) والبيهقي في سننه (1/ 262). وقال البيهقي: فهذا حديثٌ تفرّد به القاسم العمريّ هكذا، وقد غلط فيه، وكان ضعيفاً في الحديث، جرحه أحمد بن حنبلٍ ويحيى بن معينٍ والبخاريُّ وغيرهم من الحفّاظ. (¬2) لفظ الدارقطني في سننه (1/ 26): رواه القاسم [بن عبد الله] العمري، عن ابن المنكدر، عن جابر، ووهم في إسناده، وكان ضعيفاً كثير الخطأ، وخالفه روح بن القاسم وسفيان الثوري ومعمر بن راشد، رواه عن محمد بن المنكدر، عن عبد الله، عن عمر موقوفًا. ورواه أيوب السختياني، عن ابن المنكدر من قوله لم يجاوزه. (¬3) تحرف في المخطوط إلى: (نجاريه). (¬4) سنن الدارقطني (1/ 27). وانظر مصنف ابن أبي شيبة (1527 أو 1533). (¬5) أخرجه الدارقطني (1/ 27). (¬6) لعله أراد ما نقله عن الحافظ ابن تيمية، ولم يتمه، ولم تكن فيما نقله هذه العبارة. (¬7) الغرب: الراوية والدلو العظيمة. (¬8) شرح معاني الآثار (1/ 12). (¬9) أحكام القرآن له (5/ 209).

بأنهّا كانت طريقاً للماء إلى البساتين؟!. وروى ذلك الطحاوي عن الواقدي. قلت: الواقدي ضعيف (¬1). والعبرة: بعموم اللفظ لا لخصوص السبب والمحل، ونحن جعلنا حديث بئر بضاعة شاهدًا لصدر حديث ثوبان، وأبي أمامة. والله أعلم. فإن قلت: إن الرازي (¬2) قد قال: وأمّا قصّة الغدير، فجائزٌ أن [14/ أ] تكون الجيفة في جانبٍ منه، فأباح - عَليه السلام - الوضوء من الجانب الآخر (¬3). قلت: أما تجويز أن يكون في جانب منه، فمسلَّم، بل جاء ذلك في رواية ابن أبي شيبة. وأمّا أنه أباح لهم من جانب آخر، فليس في الحديث، ولو كان لتوفرت الدواعي على نقله، فلمَّا لم يرووا لنا أنه أمرهم بجانب دون جانب، كان على إطلاقه. ¬

_ (¬1) رواه البيهقي في معرفة السنن والآثار أيضًا رقم (487) وقال: زعم أبو جعفر الطحاوي، أن بئر بضاعة كانت طريقًا للماء إلى البساتين، فكان الماء لا يستقر فيها، وحكاه عن الواقدي. ومحمد بن عمر الواقدي، رحمنا الله وإياه، لا يحتج بروايته فيما يسنده، فكيف بما يرسله. ضعفه يحيى بن معين، وكذبه أحمد بن حنبل، وقال البُخاريّ: محمد بن عمر الواقدي، متروك الحديث. وأخبرنا أبو عبد الله الحافظ قال: أخبرني أبو أحمد بن أبي الحسن قال: أخبرنا عبد الرحمن بن محمد الحنظلي قال: حدّثنا يونس بن عبد الأعلى قال: قال لي الشافعي: كتب الواقدي كذب. وقال البيهقي: وذلك لكثرة ما وجد في رواياته من مخالفة الثقات، وهذا الذي حكي عنه في بئر بضاعة من ذلك، فمشهور فيما بين أهل الحجاز حال بئر بضاعة بخلاف ما حكي عنه. (¬2) هو أبو بكر أحمد بن عليّ الجصّاص. مرَّت ترجمته. (¬3) أحكام القرآن (5/ 209).

فإن قلت: قال الرازي قوله: "الْمَاءُ طَهُور لاَ يُنَجسُهُ شَيء"، لا دلالة له فيه على جواز استعماله، وإنّما كلامنا في جواز استعماله بعد حلول النجاسة فيه، فليس يجوز الاعتياض (¬1) به على موضع الخلاف؛ لأناّ نقول: إنّ الماء طهور لا ينجسه شيء، ومع ذلك: لا يجوز استعماله إذا حلت نجاسته (¬2)، ولم يقل النَّبيّ - صَلَّى الله عليه وسلم -: إن الماء إذا وقعت فيه نجاسة، فاستعملوه حتَّى يحتج (¬3) به (¬4). قلت: هذا إنما يتوجه منه على من يقول: بأن الماء لا ينجس بوقوع النجاسة فيه، قليلاً كان أو كثيرًا؛ لأنَّه يقول: يجوز استعمال الجانب الآخر، ثم هو قاصر على لفظ حديث بئر بضاعة، ولا يتوجه عليه لفظ حديث الغدير، حيث قال - صلى الله عليه وسلم -: "اسْتَقُوا، فَإن الْمَاءَ لاَ يُنَجسُهُ شَيء". فإن قلت: ما الفرق بين الماء والمائعات التي قاس عليها الرازي، وإن كان كلامه مع من ذكر؟ قلت: الفرق من جهة المعنى بعد ورود النص: أن المائعات تصانُ بالأواني، فلم يكن فيها ضرورة بخلاف ماء الغدران ونحوها. وقد علمت أن قوله: عِلْمُنا بوجود النجاسة كمشاهدتنا لها، إنما يتوجه على من زعموه مذهباً لأصحاب الظاهر. وعليه مالك في القليل، فإن ألزِمنَا به في ماء الغدران عارضناه بالنص. ¬

_ (¬1) في أحكام القرآن: (الاعتراض). (¬2) في أحكام القرآن: (حلته نجاسة). (¬3) في أحكام القرآن: (تحتج). (¬4) أحكام القرآن (5/ 209).

وأما الماء المستعملُ، فهو كل ما أسقط فرض التطهير عن عضوٍ واستعمل على وجه القربة. قال شمس الأئمة السَّرخسِيّ (¬1)، وأبو عبد الله الجرجاني (¬2): لا خلاف بين الثلاثة في هذا. واختلف في صفته: فروى الحسن بن زياد، عن أبي حنيفة - رضي الله عنه - أن: مُغَلَّظُ النَّجَاسَةِ (¬3). وروى أبو يوسف [14/ ب] عنه أن: مُخَفَّفَهَا (¬4). وروى محمدٌ عنه: أنه طاهرٌ غير طهورٍ. وبه يفتي مشايخ العراق، لم يحققوا الخلاف فقالوا: طاهرٌ غير مطهّرٍ عند أصحابنا. وهو اختيار المحققين من مشايخ ما وراء النهر (¬5). ¬

_ (¬1) قال المصنف في تاج التراجم (ص 18): محمد بن أحمد بن أبي سهل، أبو بكر السرخسي، شمس الأئمة، صاحب المبسوط، تخرج بعبد العزيز الحلواني، وأملى المبسوط وهو في السجن، تفقه عليه: أبو بكر محمد بن إبراهيم الحصيري، وغيره، مات في حدود الخمس مئة، وكان عالماً أصوليًا مناظراً. وقد شاع عنه أنه أملى المبسوط من حفظه، وشرح مختصر الطحاوي رأيت منه قطعة، وشرح كتاب الكسب لمحمد بن الحسن، جزء لطيف. (¬2) قال المصنف في تاج التراجم (ص 27): يوسف بن عليّ بن محمد الجرجاني، أبو عبد الله، صاحب خزانة الأكمل في الفقه في ست مجلدات، تفقه على أبي الحسن الكرخي. قلت: قد نسبت خزانة الأكمل في هذه التراجم إلى ثلاثة أنفس: يوسف هذا، وقيل لأبي اللَّيث السمر قندي، وقيل:. . . والصحيح إنها لهذا. والله أعلم. (¬3) فتح القدير (1/ 152). (¬4) فتح القدير (1/ 152). (¬5) فتح القدير (1/ 152). وقال ابن الهمام في فتح القدير: وعليه الفتوى.

قال القاضي أبو حازم (¬1): أرجو أن رواية التنجس لم تثبت، وإنما يأخذ الماء حكم الاستعمال بعد انفصاله عن أعضاء المتطهر في الصحيح، ولسنا بصدد الوجوه في هذه الرسالة، وإنما المراد: بيان الأحكام. فإذا عرفت أن الفتوى على طهارته. فاعلم أنه إذا اختلط بالمطلق لا يقيده ما لم يغلب على المطلق. قال في البدائع (¬2): في الكلام على حديث: "لاَ يَبُولَنَّ أَحَدكمْ فِي الْمَاءَ الدَّائِم". لا يقال: [إنَّه يحتمل] (¬3) أنّه نهيٌ (¬4) لما فيه من إخراج الماء من أن يكون مطهِّراً من غير ضرورةٍ، وذلك حرامٌ؛ لأنَّا نقول: الماء القليل إنَّما يخرج عن كونه مطهِّراً باختلاط غير المطهر به إذا كان غير المطهر غالبًا [عليه]، كماء الورد واللَّبن ونحو ذلك، فأما إذا كان مغلُوباً فلا. ¬

_ (¬1) قال المصنف في تاج التراجم (ص 11): عبد الحميد بن عبد العزيز القاضي، أبو حازم، أصله من البصرة، وأخذ الفقه عن البكير العمي، وتفقَّه عليه أبو جعفر الطحاوي، ولي قضاء الشام والكوفة والكرخ من بغداد، مات سنة اثنين وتسعين ومئتين، وله كتاب المحاضر والسجلات، وكتاب أدب القاضي، وكتاب الفرائض، وكان ورعاً عالمًا بمذهب أبي حنيفة، وبالفرائض، والحساب، والذرع، والقسمة، والجبر، والمقابلة، وحساب الدور، وغامض الوصايا والمناسخات. (¬2) بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع (1/ 304 - 305). وانظر البحر الرائق شرح كنز الدقائق (1/ 265). (¬3) ما بين معكوفتين: من بدائع الصنائع. (¬4) تحرف في المخطوط إلى: (مبني).

وهاهنا الماء المستعمل ما يلاقي البدن، ولا شكَّ أنَّ ذلك أقلُّ من غير المستعمل، فكيف يخرج به من أن يكون مطهّراً؟. انتهى. وقال (¬1) في موضعٍ آخر فيمن وقع في البئر: فإن كان على بدنه نجاسةٌ حكميَّةٌ بأن كان محدثًا أو جُنُباً أو حائضًا أو نُفساء، فعلى قول من لا يجعل هذا الماء (¬2) [مستعملاً] لا ينْزح شيءٌ؛ لأنَّه طهور، وكذا قولُ من جعله مستعملاً وجعل الماء المستعمل طاهراً؛ لأنَّ غير المستعمل أكثر، فلا يخرج عن كونه طهوراً، أمَّا إذا لم (¬3) يكن المستعمل غالبًا عليه، كما لو صبَّ اللبن في البئر بالإجماع أو بالت شاة (¬4) فيها عند محمَّد. انتهى. وقال في موضع (¬5): ولو اختلط الماء المستعمل بالماء القليل؟. قال بعضهم: لا يجوز التوضُّؤ به، وإن قلَّ. وهذا (¬6) فاسدٌ. أمَّا عند محمَّدٍ: فلأنَّه طاهرٌ لم يغلب على الماء المطلق، فلا يغيره عن صفة الطَّهورية كاللبن. ¬

_ (¬1) بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع (1/ 327). وانظر البحر الرائق شرح كنز الدقائق (1/ 265). (¬2) تحرف في المخطوط إلى: (المسافر). (¬3) في بدائع الصنائع: (ما لم). (¬4) تحرف في المخطوط إلى: (بالرشاه). (¬5) بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع (1/ 307). وانظر البحر الرائق في شرح كنز الدقائق (1/ 265). (¬6) تحرف في المخطوط إلى: (فهنا).

وأمَّا عندهما: فلأنَّ القليل ممَّا لا يمكنُ التَّحرُّزُ عنه، [يجعلُ] عفواً (¬1). ثم الكثير عند محمدٍ ما يغلب على الماء المطلق. وعندهما [15/ أ]: أن يستبين موضع (¬2) القطرة في الإناء. انتهى. وقد علمت: أن الصحيح المُفَتَى بِهِ: رواية محمد، عن أبي حنيفة - رحمهما الله تعالى -. وقال محمد في كتاب الآثار، بعد رواية حديث عائشة: ولا بأس أن يغتسل الرجل مع المرأة، بدأت قبله أو بدأ قبلها (¬3). إذا عرفت هذا لم يتأخر عن الحكم بصحّة الوضوء في الفساقي الموضوعة في المدارس عند عدم غلبة الظن بغلبة الماء المستعمل، أو وقوع نجاسة في الصغار منها. فإن قلت: إذا تكرر الاستعمال هل يمنع ويجمع؟ قلت: الظاهر اعتبار هذا المعنى في النجس. فكيف بالطاهر. ¬

_ (¬1) زاد في بدائع الصنائع: (ولهذا قال ابن عبّاسٍ - رضي الله عنهما - حين سئل عن القليل منه: لا بأس به. وسئل الحسن البصريّ عن القليل؟ فقال: ومن يملك نشر الماء؟ وهو ما تطاير منه عند الوضوء وانتشر. أشار إلى تعذر التحرز عن القليل، فكان القليل عفواً، ولا تعذر في الكثير فلا يكون عفواً). (¬2) في بدائع الصنائع: (يتبيّن مواقع). (¬3) قال محمد بن الحسن في كتاب الآثار (1/ 64) رقم (47): قال: أخبرنا أبو حنيفة، عن حماد، عن إبراهيم، عن عائشة أم المؤمنين - رضي الله عنهما -، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يغتسل هو وبعض أزواجه من إناء واحد، يتنازعان الغسل جميعًا. قال محمد: وبه نأخذ، لا نرى بأساً بغسل المرأة مع الرجل، بدأت قبله أو بدأ قبلها، وهو قول أبي حنيفة - رضي الله عنه -.

قال في المنتقى: قومٌ يتوضؤون صفًّا على شط نهرٍ جارٍ، فكذا في الحوض؛ لأنَّ ماء الحوض في ماءٍ جارٍ. انتهى. وقد روي عن ابن أبي شيبة (¬1)، عن الحسن: في الجنب يُدخلُ يده في الإناءِ قبل أن يغسلها. قال: يتوضأ إن شاء. وعن سعيد بن المسيب: لا بأسَ أن يغمس الجنب يده في الإناء قبل أن يغسلها (¬2). وعن عائشة بنت سعد قالت: كان سعدٌ يأمرُ الجارية فتناوله الطهور من الجرة (¬3)، فتغمس يدها فيه. فيقال: إنها (¬4) حائضٌ. فيقول: إنَّ حيضها (¬5) ليست في يدها (¬6). وعن عامر قال: كان أصحاب النَّبيّ - صَلَّى الله عليه وسلم - يُدخلون أيديهم في الإناء وهم جنبٌ، والنساء وهنَ حيّضٌ لا يرون بذلك بأساً - يعني: قبل أن يغسلوها - (¬7). وعن ابن عبّاس - رضي الله عنهما - في الرجل يغتسل منَ الجنابة، فينضح في إنائه من ¬

_ (¬1) المصنف (893) قال: حدّثنا ابن إدريس، عن هشام، عن الحسن: في الجنب يدخل يده في الإناء قبل أن يغسلها، أو الرجل يقوم من منامه فيدخل يده في الإناء قبل أن يغسلها؟ قال: إن شاء توضأ وإن شاء أهراقه. (¬2) المصنف (894). (¬3) تحرف في المخطوط إلى: (الحيض). صحح من المصنف لابن أبي شيبة. (¬4) في المصنف: (أنها). (¬5) في المصنف: (حيضتها). (¬6) المصنف (895). (¬7) المصنف: (896).

غسله؟ فقال: لا بأس به (¬1). وعن الحسن (¬2) وإبراهيم (¬3) والزهري (¬4) وأبي جعفر (¬5) وابن سيرين (¬6) نحوه. فإن قلت: فما محلُّ حديث: "لاَ يَبُولَنَّ أَحَدكمْ فِي المَاء الدّائم، وَلاَ يَغْتَسِلُ فِيهِ مِنَ الجَنَابَةِ؟ ". قلتُ: استدلّ به الكرخيّ على عدم جواز التطهير بالمستعمل، ولا يطابق عمومه فروعهم المذكورة في الماء الكثير. فيحمل على الكراهة. وبذلك أخبر راوِي الحديث. وأخرج ابن أبي شيبة (¬7)، عن جابرِ بن عبد الله قال: كُنا نستحبُّ أن نأخذ من ماء الغديرِ [15/ ب] ونغتسل به ناحيته (¬8). وما ذكر من الفروع مخالفًا لهذا فبناء على رواية النجاسة، كقولهم: لو أدخل جنبٌ أو محدثٌ أو حائض يدهُ في الإناء قبل أن يغسلها، فالقياس: أن يفسد الماء. ¬

_ (¬1) المصنف (784). (¬2) المصنف (787). (¬3) المصنف (786). (¬4) المصنف (789). (¬5) المصنف (788). (¬6) المصنف (785). (¬7) المصنف (1499). (¬8) في المصنف: (في ناحية).

سئلت عن مسائل وأجوبتها منقولة فلا بأس نذكرها تتميما

وفي الاستحسان: لا يفسد للاحتياج إلى الاغتراف حتَّى لو أدخل رجله يفسد الماء لانعدام الحاجة. ولو أدخلها في البئر لم يفسد؛ لأنَّه يحتاج إلى ذَلِكَ (¬1) في البئر لطلب الدلو، فجعل عفواً. ولو أدخل في الإناء أو البئر لم يفسد؛ لأنَّه يحتاج إلى ذلك في البئر، [ولو أدخل من] جسده، سوى اليد، والرجل أفسده؛ لأنَّه لا حاجة إليه. وأمثال هذه. * * * وقد سئلت عن مسائل وأجوبتها منقولة فلا بأس نذكرها تتميماً: منها: قال في البدائع: وأمَّا حوض الحمَّام الَّذي يخلص بعضه إلى بعضٍ إذا وقعت فيه النَّجاسةُ [أو توضَّأَ إنسَانٌ]. روي عن أبي يوسف: أنَّه إن كان الماء يجري من الميزاب والنَّاس يغترفون منه، لا يصير نجساً. وهكذا روى الحسن، عن أبي حنيفة؛ لأنَّه بمنْزلة الماء الجاريّ (¬2). وذكر في المنية (¬3) اختلافاً في اشتراط تدارُك الغرف، لكن عن المتأخرين ¬

_ (¬1) تحرف في المخطوط إلى: (غير). (¬2) بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع (1/ 321). (¬3) هو الفقيه الحنفي يوسف بن أحمد السجستاني، من آثاره: منية المفتي في فروع الفقه، وغنية الفقهاء، توفي بسيواس بتركيا بعد سنة 638 هـ. انظر الأعلام للزركلي (8/ 214) ومعجم المؤلفين (13/ 270).

وفي كتب الفروع، وَألحَقُوا بِالْجَارِي حَوْضَ الْحَمَّامِ حتَّى لو أدخلت القصعة النجسة أو اليد النجسة فيه، لا ينجس. ويتوضَّأ من الحوض الَّذي يخاف فيه قذراً ولا يتيقَّنه (¬1)، ولا يجب أن يسأل (¬2). وكذا إذا وجده متغيراً ما لم يعلم أنه من نجاسته. وكذا البئر إذا يدلى فيها الدلاء والجرار الدنسةُ يحملها الصغار والعبيد الذين لا يعلمون الأحكام، ويمسها الرستاقيون بالأيدي الدنسة ما لم يعلم يقينًا النجاسة. ولا بأس بالتَّوضُّؤ من حب يوضع كوزه (¬3) في نواحي الدَّار ويشرب منه ما لم يعلم به قذرٌ (¬4). ويكره للرَّجل أن يستخلص لنفسه إناءً يتوضأ منه ولا يتوضَّأ منه غيره (¬5). وذكر بعضهم: أنه يكره استعمال ما مسه الصغير. وفيه تأمُّل. ¬

_ (¬1) في المخطوط: (يتقه). (¬2) البحر الرائق في شرح كنز الدقائق (1/ 332 و 333) ورد المحتار (2/ 42) والمحيط لبرهان الدين النجاري (1/ 99) وفتح القدير (1/ 145). (¬3) في المخطوط: (جب موضع كورة). (¬4) انظر فتح القدير (1/ 145) والبحر الرائق في شرح كنز الدقائق (1/ 333). (¬5) انظر فتح القدير (1/ 145) والبحر الرائق في شرح كنز الدقائق (1/ 333) ومراقي الفلاح (ص 39).

روى ابن أبي شيبة (¬1)، عن مُزَاحِم (¬2) قال: قلت للشعبي: أكوزُ عجوزِ مخمرٌ [16/ أ] أحبُّ إليكَ أن تتوضأ منه أو المطهرة التي يدخل [فيها] الجزار يدهُ؟ قال: من المطهرة التي يدخل الجزار فيها يده. وعن رجاء قال: [رأيت] البراء بن عازب بالَ ثُمَّ جاء إلى مطهرة المسجد، فتوضأ منها (¬3). وعن ابن جريج: قلت لعطاء: أرأيت (¬4) رجلًا يتوضأ في ذلك الحوض متكشفاً (¬5)؟ فقال: لا بأس به، قد جعله ابن عباس، وقد علم أنه يتوضأ منه الأبيض والأسود (¬6). وفي رواية: وكان ينسكب من وضوء النَّاس في جوفها (¬7). وكأنهم رأوا حديث المستيقظ خاصاً به أو أنه أمرٌ تعبُّدي. على أنّ ابن أبي شيبة قد روى عن أَبِي (¬8) معاوية، عن الأعمش، عن إبراهيم قال: كان أصحاب عبد الله إذا ذكر عندهم حديث أبي هريرة قالوا: ¬

_ (¬1) المصنف (1375) وعبد الرَّزاق في المصنف (242) ورواه عبد الرَّزاق (239) من طريق آخر. (¬2) تحرف في المخطوط إلى: (مجاهد). وهو مزاحم بن زفر. (¬3) رواه ابن أبي شيبة في المصنف (1371). (¬4) في المخطوط: (رأيت). والتصحيح من المصنف. (¬5) في المصنف: (منكشفاً). (¬6) رواه ابن أبي شيبة في المصنف (1377). (¬7) رواه ابن أبي شيبة في المصنف (1370). (¬8) تحرف في المخطوط إلى: (ابن). وهو أبو معاوية محمد بن خازم الضرير.

كَيْفَ يَصْنعُ أبو هُرَيْرَةَ بِالْمِهْرَاسِ الَّتِي بِالْمَدِينَةِ (¬1). والله سبحانه وتعالى أعلم. تمت الرسالة الموسومة بـ: رفع الاشتباه عن مسائل (¬2) المياه والله أعلم * * * ¬

_ (¬1) رواه ابن أبي شيبة في المصنف (1052). وتابع أبا معاوية الضرير: أبو بدرٍ شجاع بن الوليد كما في سنن البيهقي (1/ 47). (¬2) تحرف في المخطوط إلى: (مسألة).

(2) رسالة فيها أجوبة عن بعض مسائل وقعت

مَجْمُوعَةُ رَسَائِل العَلَّامَة قَاسِم بن قُطْلُوبُغَا [2] رِسَالَةٌ فِيهَا أَجْوِبَةٌ عَنْ بَعْضِ مَسَائِلَ وَقَعَتْ تَأْلِيفُ العَلَّامَة قَاسِم بْنِ قُطْلُوبُغَا الحَنَفِي المولود سَنَة 802 هـ والمتوفى سَنة 879 هـ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -

بداية الرسالة

(2) رِسَالَةٌ فِيهَا أَجْوِبَةٌ عَنْ بَعْضِ مَسَائِلَ وَقَعَتْ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وبه نستعين الحمد لله وكفى، وسلامٌ على عباده الذين اصطفى. وبعد: فإن الفقير إلى رحمة ربه الغني، قاسم الحنفي يقول: هذا ذكر جوابي عن بعض مسائل وقعت. منها: ما [حكم البئر الذي يسقط فيه عظمٌ]؟ (¬1). الجواب: الحمد لله، ربّ زدني علماً. إن كان عظم خنزير، فإنّه ينجس البئر، ويجب نزح ما فيها بعد إخراجه، وإن كان عظم غير الخنزير، فإن كان عليه دمٌ أو دسمٌ، فإنّه ينجّس البئر، وإن لم يكن عليه شيءٌ من ذلك، لا ينجّسها. والله أعلم. ومنها: في رجلٍ أصاب ثوبه من النبيذ، وصلّى فيه، هل عليه إعادة أم لا؟. الجواب: إن كان ما أصابه مسكراً، أو نقيع زبيبٍ قد غَلاَ واشتد، وَقَذَفَ بالزبَدِ، وكان أقل من ربع ثوبٍ أصابه، فلا إعادة عليه. ¬

_ (¬1) لم يذكر السؤال في المخطوط.

إذا أصابوا في البئر فأرة متفسخة، وكانوا قبل ذلك قد طبخوا أو عجنوا من مائها، هل يؤكل

وإن كان قدر الربع أو أكثر فعليه الإعادة، وإن كان ما أصابه منصف أو معتق، فاختار أبو يوسف: أن [16 / ب] صلاته تامَّة، قَلَّ ما أصابه، أو كثر (¬1). وعلى قياس ما ذكر خُواهَر زَاذَهْ (¬2): إن كان الْمُنَصَّفُ (¬3) حلواً فصلاته تامّة، وإن كان قد غلا واشتدّ، فحكمه حكم المسكر المتقدم. والله أعلم. ومنها: إذا أصابوا في البئر فأرة متفسخة، وكانوا قبل ذلك قد طبخوا أو عجنوا من مائها، هل يؤكل؟. الجواب: لا يؤكل على قول أبي حنيفة. وهو الصحيح. والله أعلم. ومنها: في رجل يمسح على خرقة على جراحةٍ بيده، سقطت الخرقة عن الجراحة، وهو في الصلاة، فمضى في صلاته. هل تجزئه؟. الجواب: إن كانت على حالة وقت سقوط الخرقة مثل الحالة التي مسح فيها أجزأته، ولا يحتاج إلى تجديد مسحٍ. وإن كان يقدر على المسح على الجراحة بغير خرقة لم تجز صلاته. وعليه: أن يمسح الجراحة. والله أعلم. ومنها: في رجلٍ أخرس، أدرك بعض صلاة الإمام وفاته البعض؟. الجواب: صلاته فاسدةٌ عند الإمام، جائزةٌ عند أبي يوسف، وقول أبي حنيفة هو الصَّحيح. والله أعلم (¬4). ¬

_ (¬1) انظر المحيط لبرهان الدين مازه محمود بن أحمد بن الصدر الشهيد النجاري (2/ 216). (¬2) تحرف في المخطوط إلى: (جواهر زاده). مرَّت ترجمته. (¬3) هو ما ذهب نصفه بالطبخ وغلا واشتدّ. مجمع الأنهر في شرح ملتقى الأبحر (7/ 413). (¬4) قال في رد المحتار (4/ 343): سئل العلاّمة قاسم في فتاواه: عن رجلٍ أخرس =

رجل أخرس، أدرك بعض صلاة الإمام وفاته البعض؟

ومنها: في رجلٍ صلّى الظهر، فشكّ وهو في الصلاة أنه على وضوءٍ أم لا، ما الفعلُ؟. الجوابُ: إن كان ذلك أول ما عرض له أعاد الوضوءَ والصلاة، وإن كان يعرض له كثيرًا، مضى في صلاته. والله أعلم. ومنها: أنِّي سُئِلْتُ عما ذكر في (¬1) شرح القدوري: أنه إذا تعمَّد ترك الواجب أو تأخيره، لم يجب عليه سجود السهو في شيئين (¬2). ذكرها الأستاذ فخر الإسلام البديع: إذا ترك القعدة الأولى، وإذا شكَّ في بعض صلاته، فتفكَّر عمدًا حتَّى شغله ذلك عن ركنٍ. ثم قال (¬3): قلت له: كيف يجب سجود السَّهو بالعمد؟ قال: ذلك سجود العذر لا سجود السَّهو (¬4). أما حصره: فممنوع بما ذكر في الينابيع: أنه لو أخّر إحدى سجدتي الركعة الأولى إلى آخر صلاته، أو ترك القعدة الأولى، فإنّه يجب عليه سجود ¬

_ = أدرك بعض صلاة الإمام وفاته البعض؟ فأجاب: بأن صلاته فاسدةٌ عند الإمام، جائزةٌ عند أبي يوسف، وقول الإمام هو الصَّحيح. اهـ. ثمّ رأيت المسألة في الذخيرة وفرضها في الأمّيّ. (¬1) في المخطوط: (عما ذكر الزافي). (¬2) انظر حاشية الطحاوي على مراقي الفلاح (2/ 459) والعناية شرح الهداية (2/ 282) ودرر الحكم شرح غرر الأحكام (2/ 193) ومجمع الأنهر في شرح ملتقى الأبحر (1/ 469). (¬3) أي: فخر الإسلام البديعي. (¬4) نقله عن فخر الإسلام: في البحر الرائق شرح كنز الدقائق (4/ 421).

السهو، سواءٌ كان عامدًا أو ساهياً. ذكره الناطفي (¬1) [17/ أ] مستشهداً في الأجناس. انتهى (¬2). فوافق في ترك القعدة، وزاد تأخير السجدة. وأمَّا قول النَّاطفيِّ في العمد، وقول البديع: أن هذا سجود العذرِ، فممَّا (¬3) لم نعلم له أصلًا في الرِّواية، ولا وجهًا في الدِّراية، ويُخالفه قوله في المحيط، ولا يجب بتركه أو بتغييره عمدًا؛ لأنَّ السَّجدة شرعت جابرةً، نظرًا للمعذور لا للمتعمِّد، ولما اتَّفقوا عليه من أنَّ سبب وجوبه ترك الواجب الأصليِّ، أو تغييره ساهياً، وهذا (¬4) هو الَّذي يعتمد للفتوى والعمل (¬5). ¬

_ (¬1) قال المصنف في تاج التراجم (ص 3): أحمد بن محمد بن عمر، أبو العباس الناطفي، أحد الفقهاء الكبار، له كتاب الأجناس والفروق في مجلد، والواقعات في مجلدات، توفي بالرَّيِّ سنة ست وأربعين وأربع مئة، والناطفي: نسبة إلى عمل الناطف وبيعه. (¬2) قال في البحر الرائق (4/ 421): في الينابيع عن النّاطفيّ: لا يجب سجود السهو في العمد إلَّا في موضعين: الأول: تأخير إحدى سجدتي الرّكعة الأولى إلى آخر الصّلاة، والثّاني: ترك القعدة الأولى. اهـ. وانظر مجمع الأنهر في شرح ملتقى الأبحر (1/ 469). (¬3) في المخطوط: (فما). (¬4) في المخطوط: (وكذا). (¬5) قال في البحر الرائق في شرح كنز الدقائق (4/ 423 - 424): رأيت في فتاوى العلاّمة قاسمٍ ما صورته: وأمّا قول النّاطفيّ في العمد وقول البديع: أن هذا سجود العذر، فممّا لم نعلم له أصلًا في الرواية، ولا وجهاً في الدِّراية، ويخالفه قوله في المحيط، ولا يجب بتركه أو بتغييره عمدًا؛ لأنَّ السّجدة شرعت جابرةً، نظرًا للمعذور لا للمتعمِّد، ولمّا اتّفقوا عليه من أنّ سبب وجوبه ترك الواجب الأصليِّ أو تغييره =

قال أبو اللَّيث (¬1) - رحمه الله - في كتاب النَّوازل (¬2): سئل أبو نصرٍ عن مسألةٍ وردت عليه: ما تقول رحمك [الله]، وقعت علينا (¬3) كتب أربعةٌ: كتاب إبراهيم بن رستم (¬4)، [و] أدب القاضي عن الخصَّاف، [و] كتاب المجرَّد، وكتاب النَّوادر، من جهة هشامٍ، هل (¬5) يجوز لنا أن نفتي منها أو لا؟ وهذه الكتب محمودةٌ عندك؟. قال (¬6): ما صحَّ عن أصحابنا فذلك علم محبوبٌ (¬7) مرغوبٌ فيه ¬

_ =ساهياً، وهذا هو الَّذي يعتمد للفتوى والعمل. اهـ. (¬1) قال المصنف في تاج التراجم (ص 27): نصر بن محمد بن أحمد بن إبراهيم، أبو اللَّيث السمرقندي، إمام الهدى، له تفسير القرآن، وكتاب النوازل في الفقه، وخزانة الأكمل، وتنبيه الغافلين، وكتاب بستان العارفين، توفي ليلة الثلاثاء لإحدى عشرة ليلة خلت من جمادى الآخرة، سنة ثلاث وتسعين وثلاث مئة. قلت [أي: ابن قطلوبغا]: تفقّه أبو اللَّيث على أبي جعفر الهنداوي، وله من المصنفات غير ما ذكر: كتاب عيون المسائل، وكتاب تأسيس النظائر، ومقدمة الصلوة المشهورة، وفي هذا الحرف. (¬2) نقله عنه صاحب البحر الرائق شرح كنز الدقائق (1/ 286). (¬3) في البحر الرائق: (عندك). (¬4) قال المصنف في تاج التراجم (ص 1): إبراهيم بن رستم، أبو بكر المروزي، أحد الأعلام، تفقّه على محمد بن الحسن، وروى عنه النوادر، وروى عن: أبي عصمة نوح بن أبي مريم. (¬5) في البحر الرائق: (فهل). (¬6) في البحر الرائق: (فقال). (¬7) في المخطوط: (مجيب).

مرضيُّ (¬1) به. وأمَّا الفتيا؛ فإنِّي لا أرى لأحدٍ أن يفتي بشيءٍ لا يفقهه (¬2) ولا يتحمَّل أثقال النَّاس، فإن كانت مسائل قد اشتهرت وظهرت وانجلت عن أصحابنا، رجوت أن يسع الاعتماد عليها في النَّوازل. انتهَى. وأمّا ما ذكره من التفكّر، ففيه تفصيلٌ وخلاف، وله صورة مشهورة. أما التفصيل: فقال في البدائع (¬3): وإذا شكَّ في شيءٍ من صلاته فتفكَّر في ذلك حتَّى استيقن، فهو (¬4) على وجهين: إمَّا إن شكَّ في شيءٍ من هذه الصَّلاة الَّتي هو فيها، فتفكَّر في ذلك. وإمَّا إن شكَّ في صلاةٍ قبل هذه الصَّلاة فتفكَّر في ذلك، وهي هذه (¬5). وكلُّ وجهٍ على وجهين: أمَّا إن طال تفكُّره، بأن كان مقدار ما يمكنه أن يؤدِّي فيه ركناً من أركان ¬

_ (¬1) في المخطوط: (موسى). (¬2) في البحر الرائق: (يفهمه). (¬3) بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع (2/ 150 - 151). وانظر المبسوط للسرخسي (1/ 218) والبحر الرائق شرح كنز الدقائق (4/ 450) والمحيط لبرهان الدين مازه (2/ 254) والمبسوط لمحمد بن الحسن الشيباني (1/ 136). (¬4) في البدائع: (وهو). (¬5) في البدائع: (وهو في هذه).

الصَّلاة، كالرُّكوع والسُّجود، أو لم يطل، فإن لم تطل (¬1) فلا سهو عليه، سواء كان تفكُّره في غير هذه الصَّلاة أو في هذه الصَّلاة؛ لأنَّه إذا لم يطل لم يوجد (¬2) سبب الوجوب [الأصليِّ]، وهو ترك واجبٍ أو تأخيره (¬3) أو تغيير ركنٍ (¬4) أو واجبٍ عن وقته الأصليِّ، [و] لأنَّ الفكر القليل [17 / ب] ممَّا لا يمكن التَّحرُّز (¬5) عنه، فكان عفواً دفعًا للحرج. وإذا (¬6) طال تفكُّره؛ فإن كان تفكُّره في غير هذه الصَّلاة، فلا سهو عليه، وإن كان في هذه [الصَّلاة] فكذلك (¬7) في القياس، وفي الاستحسان عليه السَّهو. وجه القياس: أنَّ الموجب للسَّهو يمكن (¬8) النُّقصان في الصَّلاة ولم يوجد؛ لأنَّ الكلام فيما إذا تذكَّر أنَّه (¬9) أدَّاها، فبقي مجرَّد الفكر وأنَّه لا يوجب السَّهو كالفكر القليل. ¬

_ (¬1) في البدائع: (يطل تفكره). (¬2) تحرف في المخطوط إلى: (يوجه). (¬3) في البدائع: (وهو ترك الواجب). (¬4) في البدائع: (فرضٍ). (¬5) في البدائع: (الاحتراز). (¬6) في البدائع: (وإن). (¬7) في المخطوط: (فلذلك). (¬8) في المخطوط: (تمكن). (¬9) في المخطوط: (فيما يذكر إن).

وكما لو شكَّ في صلاةٍ أخرى وهو في هذه الصَّلاة، ثم تذكَّر أنَّه أدَّاها، لا سهو عليه، وإن طال تفكُّره (¬1). كذا هذا. وجه الاستحسان أنَّ الفكر الطَّويل في هذه الصَّلاة ممّا يؤخِّر الأركان عن أدائها (¬2)، فيوجما تمكُّن النُّقصان في الصَّلاة، فلا بُدَّ من جبره بسجدتي السَّهو، بخلاف الفكر القصير، وبخلاف ما إذا شك في صلاةٍ أخرى، وهو في هذه الصَّلاة؛ لأنَّ الموجب للسُّجود (¬3) في هذه الصَّلاة سهو هذه الصَّلاة لا سهو صلاةٍ أخرى. انتهى. وذكر هذا في الذخيرة بزيادة بيانٍ فقال (¬4): وإذا شك في صلاته، ولم ¬

_ (¬1) في البدائع: (فكره). (¬2) في البدائع: (أوقاتها). (¬3) في البدائع: (للسهو). (¬4) قال برهان الدين مازه في المحيط (2/ 25): في نوادر ابن سماعة عن محمد رحمهما الله: فيمن نسي ثلاث سجدات أو أكثر من صلاته، فإن كان ذلك أول ما وقع له في صلاته استقبلها، وإن كان يقع له ذلك كثيرًا مضى على أكثر رأيه فيه، وإن لم يكن له في ذلك رأي أعاد الصلاة، هكذا ذكر ها هنا، قال الحاكم أبو الفضل - رحمه الله -: هذا خلاف ما ذكره محمد - رحمه الله - في كتاب الصلاة، وإذا شك في صلاته فلم يدر أثلاثاً صَلَّى أم أربعاً وتفكر في ذلك تفكراً ثم استيقن أنه صَلَّى ثلاث ركعات فإن لم يطل تفكره حتَّى لم يشغله تفكره عن أداء ركن بأن يصلِّي ويتفكر فليس عليه سجود السهو؛ لأنه لم يؤخر ركناً ولم يترك واجبًا لم يؤخره وإن طال تفكره حتَّى شغله عن ربيعة أو سجدة أو يكون في ركوع أو في سجود فيطول في تفكره ذلك، ويعبر عن حاله بالتفكير فعليه سجود السهو استحساناً. وفي القياس: لا سهو عليه؛ لأنَّ تفكره ليس إلَّا إقامة القيام أو الركوع أو السجود، =

يدرِ أثلاثًا صلّى أمْ أربعاً، وتفكر في ذلك تفكراً، ثم استيقن: أنه صلّى ثلاث ركعات، فإن لم يَصِل تفكره حتَّى لم يشغله تفكره عن أداء ركنٍ بأن يصلِّي ويتفكر، فليس عليه سجود السهو؛ لأنَّه لم يؤخر ركناً، ولم يترك واجبًا، ولم يؤخر، وإن طال تفكره حتَّى شغله عن ركعة أو سجدة أو يكون في ركوعٍ أو سجودٍ فيطول في تفكره، وتغيير حاله بالتفكر، فعليه سجود السهو استحساناً. وفي القياس: لا سهو عليه؛ لأنَّ تفكره ليس إلَّا إطالة القيام أو الركوع أو السجود. وهذه الأذكار سنة، وتأخير الأركان بسبب إقامة السنة لا يوجب سجود السهو، كما لا يوجب الإساءة إذا كان عمدًا. وجه الاستحسان: أنه أخو واجبًا، أو ركناً ساهياً، لا بسبب إقامة السنة، بل بسبب التفكر، وليس التفكر من أعمال الصلاة، فيلزمه سجود السهو كما لو زاد ركوعاً أو سجوداً في صلاته، بخلاف ما إذا طال الركوع أو السجود [18 / أ] أو القيام ساهياً حيث لا يلزمه سجود السهو؛ لأنَّ التأخير حصل بفعلٍ هو من أفعال الصلاة، وذلك سنة إذا لم يكن واجباً وتأخير الركن أو الواجب متى كان بسبب إقامة فعلٍ من أفعال الصلاة ساهياً، لا يوجب سجدتي السهو. انتهى. وأما الاختلاف، فقال أبو نصر الصفّار (¬1): هذا كله إذا كان التفكير يمنعه عن التسبيح، أما إذا كان لا يمنعه عن التسبيح، بأن كان يسبح ويتفكر ويقرأ ¬

_ = وهذه الأذكار سنّة، وتأخير الأركان بسبب إقامة السُّنّة لا توجب السهو كما لا يوجب الإساءة إذا كان عمدًا. (¬1) تحرف في المخطوط إلى: (الصقار).

لا يلزمه سجود السهو في الأحوال كلها (¬1). وخالفه شمس الأئمة (¬2) فقال: ما قال في الكتاب: وإن شغله تفكرهُ. ليس يريد به أنه شغله التفكير عن ركنٍ أو واجبٍ، فإن كان يوجب سجدتي السهو بالإجماع، ولكن أراد به شغل قلبه بعد أن تكون جوارحه مشغولة بأداء الأركان على نحو ما بينّا في المسألة المتقدمة (¬3). انتهى. ويوافق الأول ما ذكر في غريب الرواية عن البلخيّ (¬4) في نوادره، عن أبي حنيفة: أنَّ من شكَّ في صلاته فأطال تفكُّره، إن كان ذلك في قيامه أو ركوعه أو سجوده أو قومته أو قعدته الأخيرة لا سهو عليه، وإن كان في جلوسه بين ¬

_ (¬1) قال برهان الدين مازه في المحيط (2/ 26): قال الشيخ الإمام الزَّاهد الصفار - رحمه الله -: هذا كله إذا كان التفكر يمنعه من التسبيح، فأما إذا كان لا يمنعه من التسبيح فإن سبح ويتفكر ويقرأ ويتفكر لا يلزمه سجود السهو في الآخرين كلها، وإن شك لو شك في صلاة صلاها وهو في صلاة أخرى قد صلاها قبل هذه الصلاة فيتفكر في ذلك، وهو في هذه الصلاة لم يكن عليه سجود السهو وإن شغله تفكره؛ لأنَّه لم يشك في هذه الصلاة، ولأن المصلي لا يخلو من هذا النوع من الشك، فلا يجب سجود السهو بهذا. (¬2) هو عبد العزيز بن أحمد بن نصر بن صالح، شمس الأئمة الحلواني. مرّت ترجمته. (¬3) قال برهان الدين مازه في المحيط (2/ 26): قال شمس الأئمة - رحمه الله -: ما قال في الكتاب: وإن شغله تفكره ليس يريد به أنه شغله الشك عن ركن أو واجب فإن ذلك يوجب سجدتي السهو بالإجماع، ولكن أراد به شغل قلبه بعد أن كانت جوارحه مشغولة بأداء الأركان على نحو ما بينا في المسألة المتقدمة. وانظر البحر الرائق شرح كنز الدقائق (4/ 456) وحاشية رد المحتار (2/ 100). (¬4) تحرف في المخطوط إلى: (الثلجي).

السَّجدتين فعليه السَّهو؛ لأنَّ له أن يطيل اللُّبث في جميع ما ذكرنا إلَّا فيما بين السَّجدتين والقعود في وسط الصَّلاة (¬1). ويوافق الثاني تعليل المسألة، وبه تخريج الجواب عن هذا التعليل. والله أعلم. ومنه قوله: وإن كان تفكره في غير هذه الصلاة إلخ. جعله في المحيط بعض رواياتٍ فقال: شك في صلاةٍ صلاّها قبل ذلك فتفكر، فطال تفكره. ذكر في بعض الروايات: لا سجدة عليه؛ لأنَّه لم يسهُ عن هذه الصلاة؛ لأنَّه لم ينسَ شيئًا من أفعال هذه الصلاة، فلا تلزمه السجدة، وإن أخّر فعلًا كسهوٍ عن أمرٍ من أمور الدنيا فتفكر حتّى أخّر ركناً أو واجبًا في بعض الروايات: أنه يلزمه السهو؛ لأنّ هذا السهو أخّر ركناً أو واجبًا، فتمكن النقص في صلاته، كما تمكّن بالسهو في فعلٍ من أفعال هذه الصلاة، بخلاف السهو في أعمال الدنيا؛ لأنَّه لم يجب عليه حفظها في الصلوات إنمّا يجب عليه حفظ أعمال هذه الصلاة (¬2). انتهى. ¬

_ (¬1) ذكره صاحب رد المحتار (3/ 464) فقال: رأيت في سجود السَّهو من الحلية عن الذّخيرة والتّتمّة نقلًا عن غريب الرّواية. . . فذكره. وقال ابن عابدين في حاشية رد المحتار على الدر المختار شرح تنوير الأبصار في فقه مذهب الإمام أبي حنيفة النَّعمان (1/ 507): قوله: "لا سهو عليه" مخالف للمشهور في كتب المذهب، ولكن هذه رواية غريبة نادرة، فليتأمل. ورأيت في البحر في باب الوتر عند قول الكنز: ويتبع المؤتم قانت الوتر لا الفجر أن طول القيام في الرفع من الركوع ليس بمشروع. (¬2) قال ابن عابدين في حاشية رد المحتار (2/ 100): والحاصل أنه اختلف في التفكر الموجب للسهو، فقيل ما لزم منه تأخير الواجب أو الركن عن محله بأن قطع الاشتغال =

وهذا ترجيحٌ بخلاف ما في البدائع والذخيرة. والله أعلم. أمَّا صوره المشهورة: ففي فتاوى قاضي خان (¬1): ولو افتتح الصلاة، ثم شكَّ أنَّه هل كبّر للافتتاح، ثم تذكَّر أنَّه كان كبَّر، شغله [18 / ب] التَّفكُّر عن أداء شيءٍ من الصلاة، كان عليه السهو، وإلَّا فلا. وفي الذخيرة: شكّ في حال القيام أو بعده أنه هل كبَّر للافتتاح أم ¬

_ = بالركن أو الواجب قدر أداء ركن وهو الأصح، وقيل مجرد التفكر الشاغل للقلب وإن لم يقطع الموالاة، وهذا كله إذا تفكر في أفعال هذه الصلاة، أما لو تفكر في صلاة قبلها هل صلاها أم لا: ففي المحيط أنه ذكر في بعض الروايات أنه لا سهو عليه وإن أخو فعلًا، كما لو تفكر في أمر من أمور الدنيا حتَّى أخر ركنًا، وفي رواية: يلزمه لتمكن النقص في صلاته لأنَّه يجب عليه حفظ تلك الصلاة حتّى يعلم جواز صلاته هذه، بخلاف أعمال الدنيا فإنّه لم يجب عليه حفظها. واستظهر في الحلية هذه الرواية، وأنه لو لزم ترك الواجب بالتفكر في أمور الدنيا يلزمه السجود أيضًا. واستظهر أيضًا القول الأول بأن الملزم للسجود ما كان فيه تأخير الواجب أو الركن عن محله، إذ ليس في مجرد التفكر مع الأداء ترك واجب، وتمام الكلام فيها في فتاوى العلامة قاسم. (¬1) قال المصنف في تاج التراجم (ص 8): الحسن بن منصور بن أبي القاسم محمود ابن عبد العزيز الأوزجندي الفرغاني، المعروف بقاضي خان فخر الدين، تفقه على: أبي إسحاق إبراهيم بن إسماعيل بن أبي نصر الصفاري، وظهير الدين أبي الحسن عليّ بن عبد العزيز المرغيناني وغيرهما، وله الفتاوي في أربعة أسفار، وشرح الجامع الصغير، وشرح الزيادات، وشرح أدب القاضي للخصاف، توفي ليلة النصف من رمضان سنة اثنتين وتسعين وخمس مئة.

لا، وطال تفكّره فيه فعلم أنه قد كبّر فبنى أو ظنّ أنه لم يكبّر فكبّر، وقرأ بناءً عليه، فعليه سجدتا السهو. وفي الظهيرية (¬1): المصلِّي إذا فرغ من القراءة وتأنّى وتفكر أيّ سورة يقرأ أو مكث مقدار ما يؤدي ركناً فعليه السهو. وفي قاضي خان: ولو شكّ في ركوعه وسجوده وطال تفكّره كان عليه السهو. وهذا يوافق ما قال شمس الأئمة. وقد قدّمنا عنه في غريب الرواية: وإن كان في جلوسه بين السجدتين فعليه السهو. وفي البدائع (¬2): ثم لا فرق، بين ما (¬3) إذا شكَّ في خلال صلاته، فتفكَّر حتَّى استيقن، وبين ما إذا شكَّ في آخرها (¬4) بعدما قعد قدر التَشهُّد الأخير، ثم استيقن في حق وجوب السَّجدة؛ لأنَّه أخَّر الواجب وهو السَّلام (¬5). وكذا لا فرق بينه وبين ما إذا سبقه الحدث في الصَّلاة، فذهب الوضوء ¬

_ (¬1) قال صاحب كشف الظنون (2/ 1221): فتاوى التُّمرتاشي، هو الشيخ الإمام، أبو محمد، ظهير الدين، أحمد بن أبي ثابت إسماعيل بن محمد أيدغمش الحنفي، مفتي خوارزم، المتوفى سنة 600 هـ، كذا سمّى نفسه في أول شرحه للجامع الصغير. (¬2) بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع (2/ 152 - 153). (¬3) تحرف في المخطوط إلى: (بينهما). (¬4) في البدائع: (آخر الصلاة). (¬5) وزاد في البدائع: (ولو شكّ بعد ما سلّم تسليمةً واحدةً، ثمْ استيقن لا سهو عليه؛ لأنة بالتسليمة الأولى خرج عن الصّلاة وانعدمت الصّلاة فلا يتصوَّر تنقيصها بتفويت واجبٍ منها، فاستحال إيجاب الجابر).

المسبوق إذا سلم مع الإمام ساهيا، هل تبطل صلاته؟

فشكَّ أنه صلّى ثلاثًا أو أربعًا وشغله ذلك عن وضوئه ساعة، ثم استيقن، فأتمَّ وضوءه أو شَكَّ بعد الوضوء قبل أن يعود إلى الصَّلاة، فتفكَّر ساعةً، ثم استيقن، حتَّى يجب عليه سجود السَّهو في الحالين إذا طال تفكُّره؛ لأنَّه في حرمة الصَّلاة، وإن كان غير مؤدٍّ لها (¬1). والله أعلم. ومنها: المسبوق إذا سلَّم مَعَ الإمام ساهيًا، هل تبطل صلاته؟. فأجبت: أنها لا تبطل، بل يبني على ما مضى. فقيل: إنَّ بعض من ينسب إلى الفقه قال: إِنه تبطل صلاته، وإنَّ هذا حكم النَّاس عنه غافلون، وأنهّ قياس مسائل ذكرها. فقلت: هذا ممَّا لا يعرفه في هذا المذهب. وهاك النقل. قلت: قال الإمام الكرخي (¬2) في المختصر: وإن سلّم المسبوق حين سلم الإمام ساهياً، فإنهّ يبني على صلاته، وعليه سجدتا السهو؛ لأنَّه سهى وقد خرج من صلاته (¬3). ¬

_ (¬1) الذي في بدائع الصنائع: وكذا لا فرق بينه وبين ما إذا سبقه الحدث في الصَّلاة فعاد إلى الوضوء، ثمّ شكّ قبل أن يعود إلى الصَّلاة فتفكر ثمّ استيقن حتَّى يجب عليه سجود السَّهو في الحالين جميعًا إذا طال تفكُّره؛ لأنة في حرمة الصَّلاة وإن كان غير مؤدٍّ لها. والله أعلم، هذا الَّذي ذكرنا حكم الشّكّ في الصَّلاة فيما يرجع إلى سجود السّهو. وانظر تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق (2/ 418). (¬2) أقحم في المخطوط: (في الكرخي). (¬3) قال ابن الهمام في فتح القدير (2/ 264): ولو سلَّم المسبوق مع الإمام ساهياً لا سهو عليه، وإن سلَّم بعده فعليه لتحقّق سهوه بعد انفراده، ولو سلَّم على ظنّ أنّ عليه أن يسلّم معه فهو سلام عمدٍ يمنع البناء، ولو ظن الإمام أن عليه سهوًا فسجد =

وقال في الإيضاح: وإن سلّم - يعني المسبوق - ساهياً حين سلّم الإمام، بنى على صلاته، وعليه سجود السهو؛ لأنَّ سلام السّاهي لا يخرجه من الصَّلاة؛ لأنَّه من جنس ما شرع في الصَّلاة. وقال في [19 / أ] البدائع: ثم المسبوق إنّما يتابع الإمام في السهو دون السلام، فإن سلَّم مع الإمام، فإن كان ذاكرًا لما عليه من القضاء، فسدت صلاته؛ لأنَّه سلام عمد، وإن لم يكن ذاكرًا لم تفسد؛ لأنَّه سلام سهو، فلا يخرجه عن الصَّلاة، وهل يلزمه سجود سهو لأجل سلامه ينظر إن سلّم قبل تسليم الإمام أو معه لا يلزمه؛ لأنَّ سهوه سهو مقتدٍ، وسهو المقتدي متعطّلٌ. وإن سلّم بعد تسليم الإمام يلزمه؛ لأنَّ سهوه سهو منفردٍ، فيقضي ما فاته، ثم يسجد للسهو في آخر صلاته. انتهى. وقال في المحيط (¬1): ولو سلم المسبوق إن كان عامدًا، تفسد صلاته، ¬

_ = وتابعه المسبوق ثمّ علم أن لا سهو عليه فيه روايتان، وبناءً عليهما اختلف المشايخ. وأشبههما فساد صلاة المسبوق. وقال أبو حفصٍ الكبير لا، وبه أخذ الصَّدر الشهيد، والأوّل بناء على أن زيادة سجدتين كزيادة الرّكعة مفسدٌ على ما يعرف في مسائل السَّجدات، وبناءً على ذلك قالوا: لو تابع المسبوق الإمام في السّجدتين بعدما قيّد بالسّجدة فسدت صلاته كزيادة ركعةٍ. والحقّ أنّ الفساد ليس لذلك لأنَّ من الفقهاء من قال: لا تفسد بزيادة سجدتين، بل الموجب للفساد الاقتداء في موضعٍ عليه الانفراد فيه؛ ألا ترى أن اللاحق إذا سجد لسهو الإمام مع الإمام تكون زيادة سجدتين فإنَّه لا يعتدَّ بهما حتَّى يجب عليه أن يسجد في آخر صلاته مع أنَّهُ لا تفسد صلاته بذلك. (¬1) قال برهان الدين مازه في المحيط (2/ 20): وإذا سلم المسبوق حتَّى سلم الإمام =

وإن كان ساهياً إن سلَّم مع الإمام لا يلزمه السجود؛ لأنَّه مقتدٍ به، وإن سلم بعده يلزمه؛ لأنَّه منفردٌ. انتهى. وقال في الذخيرة: المسبوق بركعةٍ إذا سلّم مع الإمام ساهياً لا يلزمه سجود السهو؛ لأنَّه مقتدٍ بعد، وإن سلّم بعد الإمام كان عليه؛ لأنَّه منفرد. وقال في الينابيع: يتابع الإمام ولا يسلم معه، ولو سلّم معه إن كان ذاكرًا لما عليه من القضاء، فسدت صلاته، وإن كان ناسياً لم تفسد. وقال في شرح المجمع لابن فرشته (¬1): ولو سلم المسبوق إن كان عامدًا تفسد صلاته، وإن كان ساهياً إن سلّم مع الإمام لا يلزمه السجود؛ لأنَّه مقتدٍ به. وإن سلّم بعده يلزمه؛ لأنَّه منفردٌ. فهذا نقل أرباب المذهب من الصَّدر الأول منهم، وإلى هلمَّ جرًّا على ما أجبت. ولله الحمد. فلا يلتفت إلى قول من لا روايةً له، ولا دراية. والله أعلم. ومنها: إذا قرأ جماعة آية السجدة، وسمعها بعضهم من بعض؟. فأجبت: بأنه يجب سجدة واحدة على كل واحدٍ، لاتحاد المجلس. وأورد عليّ: بأن التداخل يكون في السبب الواحد إذا تكرر. وهنا السبب ¬

_ =ساهيًا بنى على صلاته، وعليه سجود السهو، أما البناء؛ فلأن هذا سلام سهو، وأنه لا يخرجه عن حرمة الصَّلاة، وأما وجوب سجدة السهو فلأنه متى سلم الإمام صار هو كالمنفرد وقد سها حتَّى سلم قبل هذا فتلزمه سجدة السهو قبل هذا إذا سلم بعد الإمام، فأما إذا سلم مع الإمام فلا سهو عليه؛ لأنَّ الإمام لم يخرج عن الصَّلاة بعد، فكان كأنه سها خلف الإمام. (¬1) لم أجد له ترجمة.

إذا قرأ جماعة آية السجدة، وسمعها بعضهم من بعض؟

مختلف، فكان هنا كما لو أقر الإنسان بالدراهم ولآخر بدنانير. ولعبده بالعتق في مجلسٍ واحدٍ، فإنّه لا يجمع. فأجبت بأن هذه الأسباب لما اتّحد سببها، كان الثاني مؤكداً بخلاف ما ذكر. يدلّ عليه قوله في البدائع (¬1) [19/ ب]: ولو اجتمع سبباً الوجوب وهما (¬2): التِّلاوة والسَّماع، بأن تلا آية السجدة ثم سمعها، أو سمعها ثم تلاها، أو تكرَّر أحدهما. فالأصلُ: أنَّ السَّجدة لا يتكرَّر (¬3) وجوبها إلَّا بأحد أمورٍ ثلاثةٍ: إمَّا باختلاف المجلس، أو التِّلاوة، أو السَّماع. وقولهم: روي أنَّ جبريل - عَليهِ السَّلام - كَانَ يَنزِلُ بِالوَحْيِ، فَيقرَأ آيَةَ السَّجدَةِ عَلَى رَسُولِ اللهِ - صَلَّى الله عليه وسلم - وَرَسُولُ اللهِ - صَلَّى الله عليه وسلم -، كَانَ يَسمَعُ وَيتَلَقَّنُ، ثُمَّ يَقرَأُ عَلَى الصَّحَابَةِ، وَكَانَ لاَ يَسْجُدُ إلَّا مَرةً وَاحِدَةً (¬4). والله أعلم. ومنها: رجلٌ معهُ سطلُ ماءٍ يشربُ منه النَّاس يوم الجمعة، والإمام يخطب. الجواب: قلت: روى المعلّى، عن أبي يوسف، عن أبي حنيفة: أكرهُ شربَ الماء والإمام يخطب يوم الجمعة (¬5). والله أعلم. ¬

_ (¬1) بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع (2/ 207). وانظر تحفة الفقهاء (1/ 236) ورد المحتار (2/ 123) وحاشية رد المحتار (5/ 468). (¬2) في المخطوط: (وهم). (¬3) في المخطوط: (تكرر). (¬4) انتهى كلام أبو بكر الكاشاني في البدائع. (¬5) عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا قلت لصاحبك أنصت يوم الجمعة =

رجل معه سطل ماء يشرب منه الناس يوم الجمعة، والإمام يخطب

ومنها: رجلٌ أجَّرَ دارًا من رجلٍ بألف درهم، فحال الحول بعد ذلك بأيامٍ يسيرة، ولكلٍّ من المؤجّر والمستأجر مال، يجب فيه الزكاة، فماذا عليها؟. الجواب: إن كان المؤجر قد قبض الألف، فزكاتها عليه، وإن لم يكن قبض فعليه بقدر ما يسكن المستأجر. والله أعلم. ومنها: رجلٌ له ثلاث مئة قد حال عليها الحول، فخلطها بخمس مئة، ثم ضاع من المال كله خمس مئة. الجواب: يجب عليه خمسة عشر درهمًا وربع نصف ثمن درهم؛ لأنَّ الرواية أن يقسم ما ضاع على كل المال، فما أصاب الثلاث مئة يُهدرُ. وما أصاب الباقي يزكي. والله أعلم. ومنها: في رجلٍ صائم قال له آخر: امرأته طالق إن لم يفطر، هل يسعه أن لا يفطر، وتطلق امرأة الرجل؟. الجواب: إن كان صائمًا عن قضاء رمضان، وسعه أن لا يفطر وإن كان صائمًا متطوعاً. فيفطر. والله أعلم. ومنها: ما معنى قولهم: ويكرهُ التقبيل الفاحش؟ الجواب: هو أن يمضغ شفة المرأة (¬1). والله أعلم. تمت * * * ¬

_ = والإمام يخطب، فقد لغوت". رواه البُخاريّ (892) ومسلم (851). ومعنى "فقد لغوت"، أي: قلت اللغو، وهو الكلام الملغي الساقط الباطل المردود. (¬1) وهذا الحكم عندما يكون الإنسان صائمًا. انظر مراقي الفلاح (ص 256).

(3) النجدات ببيان السهو في السجدات

مَجْمُوعَةُ رَسَائِل العَلَّامَة قَاسِم بن قُطْلُوبُغَا [3] النَّجَدَات بِبَيَانِ السَّهْوِ في السَّجْدَاتِ تَأْلِيفُ العَلَّامَة قَاسِم بْنِ قُطْلُوبُغَا الحَنَفِي المولود سَنَة 802 هـ والمتوفى سَنة 879 هـ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -

بداية الرسالة

(3) النَّجَدَات بِبَيَانِ السَّهْوِ في السَّجْدَاتِ قال - رحمه الله تعالى -: هذا تعليقٌ وضعته لبيان السهو في السَّجدات حسب بعض الراغبين من السادات علم [20/ أ] الله ما لم يعلم، ونفعه بما تعلم، ومسائله على قسمين: الأوّل: فيما إذا علم عدد السَّجدات التي سهى عنها وعلي محلّها من الصَّلاة. والثاني: فيما إذا علم عددها، ولم يدرِ محلّها. إذا علمت هذا، فنقول: [القسم الأول]: إذا تذكر أنه إذا ترك سجدة من الركعة الأولى من صلاة الفجر، سواء كانت السجدة الأولى أو الثَّانية على تقديرٍ أو في زعمه، فإنّه يسجدها بنية القضاء. ويتشهد ويسلّم ويسجد للسهو على ما عرف؛ لأنَّه أتى بأكثر أفعال الصَّلاة ينفلون (¬1) لكن القضاء وليس التَّرتيب بين السجدتين بفرض، فلذا: يصح القضاء. ولو تذكر أنه ترك سجدةً من الركعة الثَّانية سجدها وأتم كما مرَّ. ولو تذكر أنه ترك سجدتي الركعة الأولى يصلِّي ركعة ويتشهد ويسلّم ويسجد للسهو؛ لأنَّه لما قرأ وركع في الأولى حصل هذا الركوع في محله، ¬

_ (¬1) في المخطوط: (ينغلونا).

ويوقف على أن يتقيد بالسجود، فلما قام وقرأ وركع وقع هذا تكراراً وَلا يعتد به، ولا يفسد، لأنَّه من جنس الصَّلاة، فلما سجد يفسد به الركوع الأول، فلم يكن صَلَّى سوى ركعة واحدة. فلذا قلنا: يضم إليها أخرى إلى آخر ما ذكرنا، ولو تذكر أنه ترك سجدتي الركعة الثَّانية سجدها وأتم كما مرّ. ولو تذكر أنه ترك سجدةً من الأولى وسجد في الثَّانية سجد ثلاث سجدات ينوي بالأولى القضاء، ويتم، كما مر، وعكس هذه سجد سجدة، ويصلي ركعة، ويتم. ولو تذكّر أنه لم يسجد شيئاً في الركعتين سجد سجدتين. ثم يقوم فيصلي ركعة أخرى، ويتم للوجه الذي ذكرناه. ولو تذكر أنه ترك سجدة من أول الظهر أو ثانيتها أو ثالثتها أو رابعتها سجدها وأتم، وينوي القضاء فيما سوى الرابعة. ولو تذكر أنه ترك من الأولى سجدة، ومن الثَّانية سجدة سجدهما بنية القضاء. ولو تذكر أنه ترك سجدة من الأولى وسجدة من الثَّانية، وسجدة من الثالثة، سجد ثلاث سجدات بنية القضاء. ولو تذكر أنه ترك أربع سجدات من كل ركعة سجدة سجد أربعاً ينوي القضاء في ثلاث لأنهن فوائت، والقضاء لا يتأدّى إلَّا بالنية [20 / ب] المعينة بخلاف الرابعة؛ لأنّها في محلّها. فعلمَ: أن الرّكعة تتقيد بسجدة، وأن السَّجدة (¬1) ¬

_ (¬1) تحرف في المخطوط إلى: (السجدة أنها تصير).

تصير فائتة عن محلّها إن تخلل بينها وبين محلّها ركعةً تامّة؛ لأنّ ما دون الرّكعة يحتمل الرفض فيرتفض، وتلحق بمحلها. ولو تذكّر أنه ترك سجدتي أولى الظهر قام فصلّى ركعةَ، وأتمَّ. ولو تذكّر أنه ترك سجدتي أولى الظهر، وسجد من الثَّانية أو عكسه سجد سجدة، ثم قام فصلّى ركعة. ولو تذكّر أن ترك سجدات الشفع الأولى، قام وصلّى وأتمّ. ولو تذكّر أنه ترك الأولى وسجدات الثَّانية والثالثة أو واحدةً من الثَّانية وسجدات الأولى والثالثة سجد سجدة وصلى ركعتين، ثم صلّى ركعتين وأتمَّ. ولو تذكّر أنه سجد سجدة في الأخيرة فقط سجد أخرى، ثم قام فصلّى ركعة، وتشهد، ثم صلّى ركعتين وأتمَّ. وكذا لو تذكّر أنه سجد في الأولى سجدةً واحدةً، ولم يسجد فيما عداها. وكذا لو تذكّر أنه سجد في الثَّانية أو الثالثة. ولو تذكّر أنه ترك جميع السَّجدات في جميع الركعات سجد سجدتين، ثم يصلِّي ركعةً، ثم يتشهد، ثم يصلِّي ركعتين ويُتم العصر والمغرب والعشاء في هذا سواء. القسم الثاني: لو تذكّر أنه ترك ترك سجدة من الفجر، ولم يدرِ محلها سجد سجدةً ينوي بها ما عليه لاحتمال أنه تركها من الأولى، ويتشهد ويسلم، ويسجد للسهو كما عُلمَ. ولو تذكّر أنه ترك سجدتين سجد سجدتين أوّلاً لاحتمال أنه تركها من

الركعتين، ويقعد قدر التشهد لاحتمال أنهما من الثَّانية، ثم يقوم ويصلي ركعة لاحتمال أنهما من الأولى، ثم يتم. وإن تذكّر أنه ترك ثلاث سجداتٍ فيسجد ثلاث سجداتٍ، ينوي بواحدةٍ قضاء ما عليه، لاحتمال أنه ترك واحدةً من الأولى، وسجدتي الثَّانية. ويتشهد لهذا الاحتمال، ثم يقوم ويصلي ركعةً لاحتمال أنه ترك سجدتي الأولى وواحدة من الثَّانية، ثم يتشهد ويسلم، ويسجد للسهو. ولو تذكّر أنه ترك سجدةً من المغرب [21 / أ] سجدها وينوي ما عليه. ولو تذكّر أنه ترك سجدتين، يسجد سجدتين، ويتشهد لاحتمال أنهما من ركعتين، أو من الأخيرة، ثم يقوم فيصلي ركعةً لاحتمال أنها من ركعة غيرها. ولو تذكّر أنه ترك منها ثلاث سجدات سجد ثلاثًا. ينوي بها ما عليه، ويتشهد لاحتمال أنه ترك على الولاء واحدة من الثَّانية، وثنتين من الثالثة. ولاحتمال أنه ترك من كل ركعةٍ سجدة، وصلّى ركعة لاحتمال أن يكون ترك واحدة من الأولى وسجدتي الثَّانية، فيكون قد تقيدت الأولى بالسجدة، ووقع ركوع الثَّانية في غير محلّه، ووقع ركوع الثالثة مكرراً، فيقيد الركوع الثاني بسجود الأخيرة. فلذا قلنا: يتشهد ويصلّي ركعة، ويحتمل أنه ترك سجود الأولى، وواحدة من الثَّانية، فيكون ركوع الأولى حصل في محلّه، وركوع الثَّانية مكرراً، فيقيد ركوع الأولى بالسجدة في الثَّانية، ولا يختلف الحال. ولو تذكّر أنه ترك أربع سجدات سجد سجدتين، ولا يقعد ويصلي ركعتين، ويقعد بينهما. ويحتمل: أنه أتى بهما في ركعتين فعليه سجدتان

وركعة إلَّا أنّ الركعة داخلة في الرّكعتين. ولو تذكّر أنه ترك خمسًا سجد سجدةً ينوي بها عن الركعة التي قيدها بالسجدة، ثم يصلِّي ركعتين يقعد بينهما؛ لأنَّه أتى بسجدة، فيحتمل أنها من الأولى فتتقيد بها، ولا تلغوا. فلذا يسجد سجدةً، ثم يصلِّي ركعتين يقعد بينهما ويحتمل (أنّه) (¬1) منَ الثَّانية. فيكون ركوع الأولى معتدًا به، وركوع الثَّانية مكرراً. فتتقيد الأولى بالسجدة التي في الثَّانية، فلم يكن صَلَّى سوى ركعة بسجدة، فلذا يسجد سجدةً، ثم يصلِّي ركعتين، كما ذكرنا. ويحتمل أنها من الأخيرة، فلا يختلف الحال. ولو تذكّر أنه ترك من الظهر سجدةً، سجدها. ينوي بها ما عليه لاحتمال أنهّا من غير الأخيرة. فلو تذكّر أنه ترك سجدتين سجدهما. ينوي ما عليه لاحتمال أنهّا من ركعتين، وإن كانتا من الأخيرة، فلا يضره النية، ثم يصلِّي ركعةً لاحتمال [21 / ب] أنهّا من ركعةٍ واحدةٍ غير الأخيرة. ولو تذكّر أنه ترك ثلاث سجدات، سجد ثلاثًا. ينوي بها ما عليه لاحتمال أنهّا من ثلاث ركعات أو من الثالثة أو واحدة وسجدتا الرابعة، ثم يقعد قدر التشهد بهذا الاحتمال، ثم يصلِّي ركعةً لاحتمال أنه ترك واحدةً من ركعة، وثنتين من ركعة. ولو تذكّر أنه ترك أريعاً سجد أريعاً، ويقعد قدر التشهد، ويختلف الحال لاحتمال أنه ترك من كل ركعةٍ سجدة، ثم يصلِّي ركعتين ويقعد قدر التشهد، ولا يختلف الحال لو كان ترك سجدتي الأولى وواحدة من الثَّانية وواحدة من ¬

_ (¬1) يوجد فراغ في المخطوط بمقدار كلمة.

الثالثة أو واحدة من الأولى وسجد في الثَّانية وواحدة من الثالثة أو الرابعة أو واحدة من الأولى وسجدتي الثالثة وواحدة من الرابعة أو واحدة من الأولى وواحدة من الثَّانية أو الثالثة وسجدتي الرابعة. ولو تذكّر أنه ترك خمسًا سجد ثلاثًا، ولا يقعد بعدها، لأنَّ القعدة، ترددت بين السنة والبدعة. وما كان كذلك فسبيله الترك بثباته أنه أتى بثلاث سجدات، فيحتمل أنه سجد سجدتي الركعة الأولى وسجد في الثَّانية سجدةً واحدةً أو العكس، فتكون القعدة سنة. ويحتمل أنه سجد في ثلاث ركعاتٍ، فتكون القعدة بدعة، ثم يصلِّي ركعتين لاحتمال الأولى، ويقعد بينهما قدر التشهد للاحتمال الثاني. وإن تذكّر أنه ترك ستاً سجد سجدتين، ثم يصلِّي ركعتين، ويقعد قدر التشهد، ثم يصلِّي ركعةً ثالثة ويقعد ويتشهد؛ لأنَّه أتى بسجدتين، فإن كان أتى بهما في ركعتين فعليه سجدتان وركعتان أو في ركعة، فعليه ثلاث ركعات فيجمع بينهما. وإن تذكّر أنه ترك سبعاً سجد سجدةً ينوي بها ما عليه من الركعة التي سجد فيها، ثم يصلِّي ركعةً ويقعد قدر التشهد، ثم يتم ركعتين ولا يتصور لنا: أن نترك ثمانياً؛ لأنَّه لا يدري محلها. وفي الباب فروعٌ أُخَرُ [22 / أ] يُعْرَفُ مِنْ هذا بأدنى تأمُّلٍ. والله الموفق. * * *

(4) أحكام الفأرة إذا وقعت في الزيت ونحوه

مَجْمُوعَةُ رَسَائِل العَلَّامَة قَاسِم بن قُطْلُوبُغَا [4] أَحْكَامُ الفَأْرَة إِذَا وَقَعَتْ فِي الزَّيتِ وَنَحْوِه تَأْلِيفُ العَلَّامَة قَاسِم بْنِ قُطْلُوبُغَا الحَنَفِي المولود سَنَة 802 هـ والمتوفى سَنة 879 هـ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -

بداية الرسالة

(4) أَحْكَامُ الفَأْرَة إِذَا وَقَعَتْ فِي الزَّيتِ وَنَحْوِه قال - رحمهُ اللهُ -: قد سألني بعض المشتغلينَ عن الفأرةِ إذا ماتت في الزيت ونحوه. فقلتُ: عن علمائنا - رحمهم الله تعالى - يتنجَّس فلا يؤكل ويراقُ أو ينتفع به في غير الأكل. هكذا وردت عنهم إطلاقات لم يذكر معها مفسد بمقدارٍ. وروي عنهم: أن المائع كالماء في القلة والكثرة. قال شيخنا في شرح الهداية: يَعْنِي كُلُّ مِقْدَارٍ لَوْ كَانَ مَاءً يَنْجُس، فَإِذَا كَانَ غَيَّرَهُ يُنَجَّسُ (¬1). انتهى. وقول علمائنا في الماء: إن القليل كماء الأواني والحياض الصغيرة، ينجّس بمخالطة النجاسة وإن قلّت تغير أو لم يتغير. وإن ماء الغدران والمصانع والحياض الكبيرة ينجس منه ما غلب على ظن المبتلى به وصول النجاسة إليه. وروي اعتبارٌ بالحركة، فما تحرك أحد طرفيه بتحريك الآخر فهو ممَّا يخلص للنجاسة إلى طرفه، وما لا فلا. ¬

_ (¬1) انظر رد المحتار (2/ 41) وحاشية رد المحتار (1/ 200) والبحر الرائق شرح كنز الدقائق (1/ 297).

واختلف في الحركة: بماذا هي؟. فقيل: بالغسل. وقيل: بالوضوء. وقيل: بغسل اليد. ورجّح الوسط. وروي عن محمد اعتبار ذلك بالمساحة، وصحّح أنها عشرٌ في عشرٍ. وروي عن أبي يوسف: أنّ ما لا يتحرك أحد طرفيه بتحرك الآخر كثيرٌ لا ينجس إلَّا بالتغير (¬1). ¬

_ (¬1) قال ابن الهمام في فتح القدير شرح الهداية (1/ 141): قال: (والغدير العظيم الّذي لا يتحرّك أحد طرفيه بتحريك الطرف الآخر إذا وقعت نجاسةٌ في أحد جانبيه جاز الوضوء من الجانب الآخر لأنَّ الطاهر أن النّجاسة لا تصل إليه) إذ أثر التّحريك في السّراية فوق أثر النّجاسة. ثمّ عن أبي حنيفة - رحمه الله -: أنّه يعتبر التّحريك بالاغتسال، وهو قول أبي يوسف - رحمه الله -، وعنه التحريك باليد، وعن محمّدٍ - رحمه الله - بالتّوضّي. ووجه الأول أنّ الحاجة إلى الاغتسال في الحياض أشدّ منها إلى التّوضّي، وبعضهم قدّروا بالمساحة عشراً في عشرٍ بذراع الكرباس توسعةً للأمر على النّاس، وعليه الفتوى، والمعتبر في العمق أن يكون بحالٍ لا ينحسر بالاغتراف هو الصّحيح. وقوله في الكتاب وجاز الوضوء من الجانب الآخر، إشارةٌ إلى أنَّهُ ينجس موضع الوقوع وعن أبي يوسف - رحمه الله -: أنّه لا ينجس إلاّ بظهور أثر النّجاسة فيه كالماء البُخاريّ. وانظر الهداية (1/ 20) والعناية شرح الهداية (1/ 105) ورد المحتار (2/ 61) وحاشية رد المحتار (1/ 207) ودرر الحكام في غرر الأحكام (1/ 199) والجوهرة =

تنجس الدهن

قال القدوري في التقريب: قال يعقوب: في المصانع يكون فيها الجيفة، وهي لا يتحرك طرفٌ منها بتحريك الآخر، جاز الوضوء منها، إلاّ أن يرى الجيفة، وكذا الماء الجاري. وقال الشيخ أبو عبد الله محمد بن رمضان في كتابه المسمّى بالينابيع (¬1): قال أبو يوسف فِي ساقيةٍ صغيرةٍ فيها كلب ميِّتٌ قد سدَّ عرضها فتجرِي الماءُ فوقهُ، وتحتهُ أنَّه لا بأس بالوضوء من أسفل الكلبِ. انتهى. وهذا اختيارٌ لصحّة دليله، وتوافق فروعه، بخلاف غيره. والله أعلم. وإذا تنجّس الدهن: روي عن أبي يوسف: أنه إذا جعل في إناءٍ ثُمَّ صُبَّ عليه الماء فإذا (¬2) علا الدهن، رُفِعَ بشيءٍ، ثم يفعل هكذا ثلاثًا، فيطهر. وبهذا يفتي، فلو تعسّر هذا أو لم يفعل جازَ الانتفاع به نجساً في غير الأكل، ولو بيع [22/ ب] جازَ البيع، فإن كان المشتري عالمًا بذلك فلا خيار له، وإلاَّ فله الخيار. ولو اتخذ صابوناً كان الصّابون طاهراً على قياس قول محمد في طهارة النجس إذا استحال. وبه يفتي. وهذه عبارات علمائنا رحمهم الله في ذلك، أوردها تبركاً بها، وردًّا على من يستبعد ذلك، ممَّا لا علمَ له. ¬

_ = النيرة (1/ 47) والبحر الرائق شرح كنز الدقائق (1/ 291). (¬1) انظر فتح القدير (1/ 138) والبحر الرائق شرح كنز الدقائق (1/ 321) والمحيط لبرهان الدين مازه (1/ 85). (¬2) تحرف في المطبوع إلى (فلا).

قال الشيخ الإمام العالم العلاّمة أبو الحسن عبيد الله بن الحسين (¬1) الكرخي في كتابه المسمّى بالمختصر: وما وقع في الماء الذي يكون في الأواني ممَّا له دمٌ سائلٌ وهو ممَّا لا يعيش في الماء، فماتَ فيها، فسبيله سبيل النجاسة المائية في تنجّس الماء، وغسل الماء ثلاثًا. فإن كان الذي مات فيه شيئًا غير الماء، فإن كان جامداً، ألقي وما حوله، وإن كان مائعاً، نجس وأريق كله، وغسل الإناء ثلاثًا، ولا بأس أن ينتفع بالجامد الملقى والمائع من ذلك في الاستصباح به، والانتفاع به من غير أن يأكل ذلك أو يأكل ما يقع فيه. انتهى. وقال الشيخ الإمام العالم العلامة أبو عبد الله محمد بن رمضان في كتابه المسمّى بالينابيع في معرفة الأصول والتفاريع: وروي عن أبي يوسف في دهنٍ أصابته النجاسة، بأنه يجعل في إناءٍ، فيصب عليه الماء، فيعلو الدهن على الماء، فيرفعه بشيءٍ، فإذا فعل ذلك ثلاث مرات يطهر في المرة الثالثة. ¬

_ (¬1) تحرف في المخطوط إلى: (عبد الله بن الحسني). قال المصنف في تاج التراجم (ص 13): عبيد الله بن الحسين بن دلال بن دلهم، أبو الحسن الكرخي، من كرخ جدان، انتهت إليه رياسة الحنفية بعد أبي حازم وأبي سعبد البرعي، وانتشرت أصحابه، تفقه عليه: أبو بكر الرازي، وأبو عبد الله الدامغاني، وأبو عليّ الشاشي، وأبو القاسم التنوخي، وكان كثير الصوم والصلاة، صبوراً على الفقر والحاجة، واسع العلم والرواية، صنف المختصر والجامع الكبير والجامع الصغير، وأودعها الفقه والحديث والآثار المخرّجة بأسانيدها، أصابه الفالج في آخر عمره، فكتب أصحابه إلى سيف الدولة ابن حمدان، فلما علم الكرخي بذلك بكى، وقال: اللهم لا تجعل رزقي إلَّا من حيث عودتني، فمات قبل أن تصل إليه صلة سيف الدولة، وكانت عشرة آلاف درهم، وكان من تولى القضاء من أصحابه هجره، مولده سنة ستين ومئتين، ووفاته ليلة النصف من شعبان سنة أربعين وثلاث مئة. وانظر الجامع الصغير (ص 46).

ولو أنّ فأرةً ماتت في السّمن، إن كان السَّمن جامداً، يقوّر (¬1) ما حوله، ويؤكل الباقي. وإن كان مائعاً، لم يؤكل وينتفع به في غير أكل كالاستصباح، ودبغ الجلود وغيرها. وله أن يبيع ويبيِّن ما فيه من العيب، فإن لم يبيِّن ذلك، فالمشتري بالخيار: إن شاء ردّه على البائع، وإن شاء أمسكه. والجامد ما إذا قدره بقي المقدّر على حاله، وإن لم يبقَ المقدر على حاله فهو مائعٌ. ولو أنّ دناً من خمرٍ وقعت فيه فأرةٌ، وماتت، ثم أخرجت الفأرة، وصار الخمر خلاً. قال بعضهم: يحل أكلهُ، وإن تفسخت لا يحل. وهذا القول أصحُّ. وقال نصيرٌ: سألت شداد عن حوضٍ فيه عصيرٌ مقداره عشرة في عشرة، فبال إنسانٌ فيه. فقال: هو كالجاري يفسد [23 / أ] ما يفسد الماء (¬2). وقال الشيخ الإمام شمس الدين القونوي في كتابه المسمّى بدرر البحار: ولا يطهر - يعني: أبا يوسف - ما استحال بالنار ونحوها وطهّره - يعني: محمد - فقوي معنى، وهو المفتى به. ¬

_ (¬1) تحرف في المخطوط إلى: (يقوم). (¬2) قال الولوالجيّ - رحمه الله - كما في تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق (1/ 99): حوضٌ فيه عصير وقع فيه البول إن كان عشراً في عشرٍ لا يفسد؛ لأنّه لو كان ماءً لا يفسد فكذا إذا كان عصيرًا، ولو كان أقل من عشرٍ في عشرٍ يفسد فكذا في كلّ ما لو كان ماءً يفسد فإذا كان عصيراً يفسد. وانظر فتح القدير (1/ 389).

وقال الإمام القدوري في كتابه المسمّى بالتقريب: وذكر الطحاوي عن أصحابنا في النجاسة: إذا احترقت طهرت، ولم يحكِ خلافًا. وذكر ابن رستم الخلاف قال: يطهر عند محمد (¬1). وعند يعقوب لا يطهر. وذكر ابن شجاع، عن أبي يوسف روايتين، وظاهر مذهب الإمام كقول محمّدٍ. وعلي هذا الاختلاف: الخنزيرُ إذا وقع في الملاَّحةِ، فصار ملحاً. والجلالة إذا دفنت فانقلبت وصارت أرضًا. وقال في الحصر: احترق الروث فصار رماداً، أو وقعت العذرة في البئرِ فصارت عرور كعرور الرماد حمأة، أو الحمار في المملحة فصار بمضي الزمان ¬

_ (¬1) قال صاحب البحر الرائق شرح كنز الدقائق (2/ 389): في المجتبى: جعل الدّهن النّجس في صابونٍ يفتى بطهارته؛ لأنّه تغيّر، والتغيير يطهّر عند محمّدٍ، ويفتى به للبلوى. وفي الظّهيريّة: ورماد السّرقين طاهر عند أبي يوسف خلافًا لمحمّدٍ، والفتوى على قول أبي يوسف، وهو عكس الخلاف المنقول، فإنَّه يقتضي أن الرّماد طاهر عند محمّدٍ، نجسٌ عند أبي يوسف، كما لا يخفى، وفيها أيضًا: العذرات إذا دفنت في موضعٍ حتَّى صارت تراباً، قيل: تطهر كالحمار الميّت إذا وقع في المملحة فصار ملحاً، يطهر عند محمّدٍ. وفي الخلاصة: فأرةٌ وقعت في دنّ خمرٍ فصار خلاً يطهر إذا رمى بالفأرة قبل التّخلّل، وإن تفسّخت الفأرة فيها لا يباح، ولو وقعت الفأرة في العصير ثمّ تخمّر العصير ثمّ تخلّل، وهو لا يكون بمنزلة ما لو وقعت في الخمر هو المختار، وكذا لو ولغ الكلب في العصير، ثمّ تخمّر، ثمّ تخلّل لا يطهر. اهـ. وانظر مجمع الأنهر شرح ملتقى الأبحر (1/ 147) ورد المحتار (2/ 465) وحاشية رد المحتار (1/ 341).

ملحاً، طهر عند محمد خلافًا ليعقوب (¬1). وعلي قول محمَّدٍ فرَّعوا الحكم بطهارة صابونٍ صنع من زيتٍ نجسٍ (¬2). وذكره شيخنا في شرح الهداية قال: وكثيرٌ من المشايخ اختاروا قول محمّدٍ، وهو المختار. انتهى. قلتُ: وجعله شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيميّة أصحّ قول العلماء (¬3)، واختاره أبو محمد ابن حزم وانتصرَ لهُ. واللهُ الموفق. ¬

_ (¬1) انظر فتح القدير (1/ 379) والبحر الرائق شرح كنز الدقائق (2/ 389) ومجمع الأنهر في شرح ملتقى الأبحر (1/ 146). (¬2) انظر بدائع الصنائع (1/ 368) والمحيط لبرهان الدين مازه (1/ 273) والمغني لابن قدامة (1/ 89). (¬3) سئل شيخ الإسلام كما في مجموع الفتاوى (21/ 488 - 518) عن الزيت إذا وقعت فيه النجاسة مثل الفأرة ونحوها، وماتت فيه، هل ينجس أم لا؟ وإذا قيل: ينجس، فهل يجوز أن يكاثر بغيره حتَّى يبلغ قلتين أم لا؟ وإذا قيل: تجوز المكاثرة، هل يجوز إلقاء الطاهر على النجس، أو بالعكس، أو لا فرق؟ وإذا لم تجز المكاثرة، وقيل بنجاسته، هل لهم طريق في الانتفاع به مثل الاستصباح به أو غسله، إذا قيل يطهر بالغسل أم لا؟ وإذا كانت المياه النجسة اليسيرة تطهر بالمكاثرة، هل تطهر سائر المائعات بالمكاثرة أم لا؟. فأجاب: الحمد لله، أصل هذه المسألة أن المائعات إذا وقعت فيها نجاسة فهل تنجس، وإن كانت كثيرة فوق القلتين، أو تكون كالماء فلا تنجس مطلقًا إلَّا بالتغير، أو لا ينجس الكثير إلَّا بالتغير، كما إذا بلغت قلتين، فيه عن أحمد ثلاث روايات: إحداهن: أنها تنجس ولو مع الكثرة، وهو قول الشافعي وغيره. والثانية: أنها كالماء سواء كانت مائية أو غير مائية. وهو قول طائفة من السلف والخلف كابن مسعود وابن عباس والزهري وأبي ثور وغيرهم. وهو قول أبي ثور، نقله المروذي عن أبي ثور. ويحكى ذلك لأحمد فقال: إن أبا ثور شبهه بالماء. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = ذكر ذلك الخلَّال في جامعه، عن المروذي. وكذلك ذكر أصحاب أبي حنيفة: أن حكم المائعات عندهم حكم الماء، ومذهبهم في المائعات معروف فيه، فإذا كانت منبسطة بحيث لا يتحرك أحد طرفيها بتحرك الطرف الآخر لم تنجس، كالماء عندهم، وأما أبو ثور فإنّه يقول بالعكس: بالقلتين كالشافعي. والقول أنها كالماء، يذكر قولًا في مذهب مالك. وقد ذكر أصحابه عنه في يسير النجاسة إذا وقعت في الطعام الكثير روايتين، وروي عن أبي نافع من المالكية في الحباب التي بالشام للزيت، تموت فيه الفأرة: إن ذلك لا يضر الزيت، قال: وليس الزيت كالماء. وقال ابن الماجشون في الزيت وغيره: تقع فيه الميتة ولم تغير أوصافه، وكان كثيرًا لم ينجس، بخلاف موتها فيه، ففرق بين موتها فيه ووقوعها فيه. ومذهب ابن حزم وغيره من أهل الظاهر: أن المائعات لا تنجس بوقوع النجاسة إلَّا السمن، إذا وقعت فيه فأرة، كما يقولون: أن الماء لا ينجس إلَّا إذا بال فيه بائل. والثالثة: يفرق بين المائع المائي كخل الخمر، وغير المائي كخل العنب، فيلحق الأول بالماء دون الثاني. وفي الجملة للعلماء في المائعات ثلاثة أقوال: أحدها: أنها كالماء. والثاني: أنها أولى بعدم التنجس من الماء؛ لأنها طعام وإدام، فإتلافها فيه فساد، ولأنها أشد إحالة للنجاسة من الماء، أو مباينة لها من الماء. والثالث: أن الماء أولى بعدم التنجس منها لأنه طهور. وقد بسطنا الكلام على هذه المسألة في غير هذا الموضع، وذكرنا حجة من قال بالتنجيس، وأنهم احتجّوا يقول النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم -: "إن كان جامداً فألقوها وما حولها، وكلوا سمنكم، وإن كان مائعاً فلا تقربوه". رواه أبو داود وغيره؛ وبيَّنا ضعف هذا الحديث، وطعن البُخاريّ والترمذي وأبو حاتم الرازي والدارقطني وغيرهم فيه، وأنهم بيَّنوا أنه غلط فيه معمر على الزُّهريّ. قال أبو داود (باب في الفأرة تقع في السمن): حدّثنا مسدد، حدّثنا سفيان، حدّثنا الزُّهريّ، عن عبيد الله ابن عبد الله، عن ابن عباس، عن ميمونة: أن فأرة وقعت في سمن، فأخبر النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - فقال: "ألقوها وما حولها، وكلوه". وقال: حدّثنا أحمد ابن صالح والحسين بن عليّ - واللفظ للحسين - قالا: حدّثنا عبد الرَّزاق =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = قال: أنبأنا معمر، عن الزُّهريّ، عن سعيد ابن المسيب، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا وقعت الفأرة في السمن، فإن كان جامداً فألقوها وما حولها، وإن كان مائعاً فلا تقربوه". قال الحسن: قال عبد الرَّزاق: ربما حدّث به معمر، عن الزُّهريّ، عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس، عن ميمونة، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -. قال أبو داود: قال أحمد بن صالح: قال عبد الرَّزاق قال: أخبرنا عبد الرحمن بن مردويه، عن معمر، عن الزُّهريّ، عن عبيد الله ابن عبد الله، عن ابن عباس، عن ميمونة، عن النَّبيِّ - صَلَّى الله عليه وسلم - بمثل حديث الزُّهريّ، عن سعيد بن المسيب. وقال أبو عيسى التِّرمذيُّ في جامعه (باب ما جاء في الفأرة تموت في السمن): حدّثنا سعيد بن عبد الرحمن وأبو عمار قالا: حدّثنا سفيان، عن الزُّهريّ، عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس، عن ميمونة: أن فأرة وقعت في سمن فماتت، فسئل عنها النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم -؟ فقال: "ألقوها وما حولها وكلوه". قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح، وقد روي هذا الحديث عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس: أن النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - سئل، ولم يذكروا فيه عن ميمونة، وحديث ابن عباس عن ميمونة أصح. وروى معمر، عن الزُّهريّ، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - نحوه، وهو حديث غير محفوظ. قال: سمعت محمد بن إسماعيل يقول: حديث معمر، عن الزُّهريّ، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في هذا خطأ. قال: والصحيح: حديث الزُّهريّ، عن عبيد الله، عن ابن عباس، عن ميمونة. قلت: وحديث معمر هذا الذي خطأه البُخاريّ، وقال التِّرمذيُّ: إنه غير محفوظ، هو الذي قال فيه: "إن كان جامداً فألقوها وما حولها، وإن كان مائعاً فلا تقربوه"، كما رواه أبو داود وغيره، وكذلك الإمام أحمد - رضي الله عنه - في مسنده وغيره، وقد ذكر عبد الرَّزاق: أن معمراً كان يرويه أحياناً من الوجه الآخر، فكان يضطرب في إسناده، كما اضطرب في متنه، وخالف فيه الحفَّاظ الثقات الذين رووه بغير اللفظ الذي رواه معمر. ومعمر كان معروفاً بالغلط، وأما الزُّهريّ فلا يعرف منه غلط، فلهذا بيّن البُخاريّ من كلام الزُّهريّ ما دل على خطأ معمر في هذا الحديث. قال البُخاريّ في صحيحه (باب إذا وقعت الفأرة في السمن الجامد أو الذائب): حدّثنا الحميدي، حدّثنا سفيان، =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = حدّثنا الزُّهريّ، أخبرني عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، أنه سمع ابن عباس يحدث عن ميمونة: أن فأرة وقعت في سمن فماتت، فسئل النَّبيّ - صَلَّى الله عليه وسلم - عنها؟ فقال: "ألقوها وما حولها وكلوه". قيل لسفيان: فإن معمراً يحدثه عن الزُّهريّ، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة. قال: ما سمعت الزُّهريّ يقوله إلَّا عن عبيد الله، عن ابن عباس، عن ميمونة، عن النَّبيِّ - صَلَّى الله عليه وسلم -، ولقد سمعته منه مراراً. حدّثنا عبدان، حدّثنا عبد الله - يعني: ابن المبارك -، عن يونس، عن الزُّهريّ: أنه سئل عن الدابة تموت في الزيت أو السمن وهو جامد أو غير جامد - الفأرة أو غيرها - قال: بلغنا أن رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم - أمر بفأرة ماتت في سمن، فأمر بما قرب منها فطرح، ثم أكل" من حديث عبيد الله بن عبد الله، ثم رواه من طريق مالك، كما رواه من طريق ابن عيينة. وهذا الحديث رواه النَّاس عن الزُّهريّ، كما رواه ابن عيينة بسنده ولفظه، وأما معمر فاضطرب فيه في سنده ولفظه، فرواه تارة عن ابن المسيب، عن أبي هريرة، وقال فيه: "وإن كان جامداً فألقوها وما حولها، وإن كان مائعاً فلا تقربوه". وقيل عنه: "وإن كان مائعاً فاستصبحوا به". واضطرب على معمر فيه، وظن طائفة من العلماء: أن حديث معمر محفوظ، فعملوا به، وممن يثبته: محمد بن يحيى الذهلي فيما جمعه من حديث الزُّهريّ، وكذلك احتجّ به أحمد لما أفتى بالفرق بين الجامد والمائع، وكان أحمد يحتجّ أحياناً بأحاديث، ثم يتبين له أنها معلولة، كاحتجاجه بقوله: "لا نذر في معصية، وكفارته كفارة يمين"، ثم تبين له بعد ذلك أنه معلول، فاستدل بغيره. وأما البُخاريّ والترمذي وغيرهما، فعلّلوا حديث معمر، وبيَّنوا غلطه، والصواب معهم. فذكر البُخاريّ هنا عن ابن عيينة أنه قال: سمعته من الزُّهريّ مراراً، لا يرويه إلَّا عن عبيد الله بن عبد الله، وليس في لفظه إلَّا قوله: "ألقوها وما حولها وكلوه". وكذلك رواه مالك وغيره، وذكر من حديث يونس: أن الزُّهريّ سئل عن الدابة تموت في السمن الجامد وغيره؟ فأفتى بأن النَّبيَّ - صَلَّى الله عليه وسلم - أمر بفأرة ماتت في سمن، فأمر بما قرب منها فطرح. فهذه فتيا الزُّهريّ في الجامد وغير الجامد، فكيف يكون قد روى في هذا الحديث الفرق بينهما، وهو يحتجّ على استواء حكم النوعين بالحديث، ورواه بالمعنى. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = والزهري أحفظ أهل زمانه، حتَّى يقال: إنه لا يعرف له غلط في حديث ولا نسيان، مع أنه لم يكن في زمانه أكثر حديثاً منه، ويقال: إنه حفظ على الأمة تسعين سنة، لم يأت بها غيره، وقد كتب عنه سليمان بن عبد الملك كتاباً من حفظه، ثم استعاده منه بعد عام، فلم يخط منه حرفاً، فلو لم يكن في الحديث إلَّا نسيان الزُّهريّ أو معمر، لكان نسبة النسيان إلى معمر أولى باتفاق أهل العلم بالرجال، مع كثرة الدلائل على نسيان معمر، وقد اتفق أهل المعرفة بالحديث على أن معمراً كثير الغلط على الزُّهريّ. قال الإمام أحمد - رضي الله عنه - فيما حديثه به محمد بن جعفر غندر، عن معمر، عن الزُّهريّ، عن سالم، عن أبيه: أن غيلان بن سلمة أسلم وتحته ثماني نسوة. فقال أحمد: هكذا حدّث به معمر بالبصرة، وحدثهم بالبصرة من حفظه، وحدث به باليمن عن الزُّهريّ بالاستقامة. وقال أبو حاتم الرازي: ما حدّث به معمر بن راشد بالبصرة ففيه أغاليط، وهو صالح الحديث، وأكثر الرواة الذين رووا هذا الحديث عن معمر، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة، هم البصريون، كعبد الواحد ابن زياد، وعبد الأعلى بن عبد الأعلى الشَّاميُّ، والاضطراب في المتن ظاهر؛ فإن هذا يقول: "إن كان ذائباً أو مائعاً لم يؤكل"، وهذا يقول: "وإن كان مائعاً فلا تنتفعوا به، واستصبحوا به"، وهذا يقول: "فلا تقربوه"، وهذا يقول: "فأمر بها أن تؤخذ وما حولها فتطرح"، فأطلق الجواب ولم يذكر التفصيل. وهذا يبين أنه لم يروه من كتاب بلفظ مضبوط، وإنما رواه بحسب ما ظنه من المعنى فغلط، وبتقدير صحة هذا اللفظ وهو قوله: "وإن كان مائعاً فلا تقربوه"، فإنما يدل على نجاسة القليل الذي وقعت فيه النجاسة، كالسمن المسؤول عنه، فإنّه من المعلوم أنه لم يكن عند السائل سمن فوق قلتين يقع فيه فأرة، حتَّى يقال فيه: ترك الاستفصال في حكاية الحال، مع قيام الاحتمال، ينزل منزلة العموم في المقال، بل السمن الذي يكون عند أهل المدينة في أوعيتهم يكون في الغالب قليلاً، فلو صحّ الحديث لم يدل إلَّا على نجاسة القليل؛ فإن المائعات الكثيرة إذا وقعت فيها نجاسة فلا يدل على نجاستها لا نص صحيح ولا ضعيف ولا إجماع ولا قياس صحيح. وعمدة من ينجسه، يظن أن النجاسة إذا وقعت في ماء أو مائع سرت فيه كله =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = فنجسته، وقد عرف فساد هذا، وأنه لم يقل أحد من المسلمين بطرده، فإن طرده يوجب نجاسة البحر، بل الذين قالوا هذا الأصل الفاسد، منهم من استثنى ما لا يتحرك أحد طرفيه بتحرك الآخر، ومنهم من استثنى في بعض النجاسات ما لا يمكن نزحه، ومنهم من استثنى ما فوق القلتين، وعلّل بعضهم المستثنى بمشقة التنجيس، وبعضهم بعدم وصول النجاسة إلى الكثير، وبعضهم بتعذر التطهير، وهذه العلل موجودة في الكثير من الأدهان؛ فإنّه قد يكون في الحب العظيم قناطير مقنطرة من الزيت، ولا يمكنهم صيانته عن الواقع، والدور والحوانيت مملوءة ممَّا لا يمكن صيانته كالسكر وغيره، فالعسر والحرج بتنجيس هذا عظيم جداً. ولهذا لم يرد بتنجيس الكثير أثر عن النَّبيِّ - صَلَّى الله عليه وسلم -، ولا عن أصحابه، واختلف كلام أحمد - رحمه الله - في تنجيس الكثير، وأما القليل فإنّه ظن صحّة حديث معمر فأخذ به، وقد اطلع غيره على العلّة القادحة فيه، ولو اطلع عليها لم يقل به، ولهذا نظائر كان يأخذ بحديث، ثم يتبيّن له ضعفه، فيترك الأخذ به، وقد يترك الأخذ به قبل أن تتبين صحّته، فإذا تبيّن له صحّته أخذ به، وهذه طريقة أهل العلم والدين - رضي الله عنهم -. ولظنه صحّته عدل إليه عما رآه من آثار الصحابة رضي الله عنهم أجمعين، فروى صالح بن أحمد في مسائله عن أبيه أحمد بن حنبل: حدّثنا أبي، حدّثنا إسماعيل، حدّثنا عمارة بن أبي حفصة، عن عكرمة: أن ابن عباس سئل عن فأرة ماتت في سمن؟ قال: تؤخذ الفأرة وما حولها. قلت: يا مولانا فإن أثرها كان في السمن كله! قال: عضضت بهَنَّ أبيك، إنما كان أثرها بالسمن وهي حيَّة، وإنما ماتت حيث وجدت. حدّثنا أبي، حدّثنا وكيع، حدّثنا النضر بن عربي، عن عكرمة قال: جاء رجل إلى ابن عباس فسأله عن جر فيه زيت وقع فيه جرذ؟ فقال ابن عباس: خذه وما حوله فألقه، وكله. قلت: أليس جال في الجر كله؟! قال: إنه جال وفيه الروح، فاستقر حيث مات. وروى الخلال عن صالح قال: حدّثنا أبي، حدّثنا وكيع، حدّثنا سفيان، عن حمران بن أعين، عن أبي حرب بن أبي الأسود الدؤلي قال: سئل ابن مسعود عن فأرة وقعت في سمن؟ فقال: إنما حرّم من الميتة لحمها ودمها. قلت: فهذه فتاوى ابن عباس، وابن مسعود، والزهري، مع أن ابن عباس هو راوي =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = حديث ميمونة، ثم إن قول معمر في الحديث الضعيف: "فلا تقربوه"، متروك عند عامة السلف والخلف من الصحابة والتابعين والأئمة، فإن جمهورهم يجوزون الاستصباح به، وكثير منهم يجوز بيعه أو تطهيره، وهذا مخالف لقوله: "فلا تقربوه". ومن نصر هذا القول يقول قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "الماء طهور لا ينجسه شيء"، احتراز عن الثوب والبدن والإناء، ونحو ذلك ممَّا يتنجس، والمفهوم لا عموم له، وذلك لا يقتضي أن كل ما ليس بماء يتنجس، فإن الهواء ونحوه لا يتنجس وليس بماء، كما أن قوله: إن الماء لا يجنب احتراز عن البدن فإنّه يجنب، ولا يقتضي ذلك أن كل ما ليس بماء يجنب، ولكن خصّ الماء بالذكر في الموضعين للحاجة إلى بيان حكمه، فإن بعض أزواجه اغتسلت فجاء النَّبيّ - صَلَّى الله عليه وسلم - ليتوضأ بسؤرها، فأخبرته أنها كانت جنباً، فقال: "إن الماء لا يجنب"، مع أن الثوب لا يجنب، والأرض لا تجنب، وتخصيص الماء بالذكر لمفارقة البدن، لا لمفارقة كل شيء، وكذلك قالوا له: أنتوضأ من بئر بضاعة، وهي بئر يلقى فيها الحيض ولحوم الكلاب والنتن؟ فقال: "الماء طهور لا ينجسه شيء"، فنفى عنه النجاسة للحاجة إلى بيان ذلك، كما نفى عنه الجنابة للحاجة إلى بيان ذلك، والله سبحانه قد أباح لنا الطيبات، وحرّم علينا الخبائث، والنجاسات من الخبائث، فالماء إذا تغيَّر بالنجاسة حرم استعماله؛ لأنَّ ذلك استعمال للخبيث. وهذا مبني على أصل، وهو: أن الماء الكثير إذا وقعت فيه النجاسة، فهل مقتضى القياس تنجسه لاختلاط الحلال بالحرام إلى حيث يقوم الدليل على تطهيره، أو مقتضى القياس طهارته إلى أن تظهر فيه النجاسة الخبيثة التي يحرم استعمالها للفقهاء من أصحاب أحمد وغيرهم، في هذا الأصل قولان: أحدهما: قول من يقول: الأصل النجاسة، وهذا قول أصحاب أبي حنيفة، ومن وافقهم من أصحاب الشافعي وأحمد، بناء على أن اختلاط الحلال بالحرام يوجب تحريمهما جميعًا. ثم إن أصحاب أبي حنيفة طردوا ذلك فيما إذا كان الماء يتحرك أحد طرفيه =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = بتحرك الطرف الآخر، قالوا: لأنَّ النجاسة تبلغه، إذا بلغته الحركة، ولم يمكنهم طرده فيما زاد على ذلك، وإلا لزم تنجيس البحر، والبحر لا ينجسه شيء بالنص والإجماع، ولم يطردوا ذلك فيما إذا كان الماء عميقاً ومساحته قليلة، ثم إذا تنجس الماء: فالقياس عندهم يقتضي أن لا يطهر بنزح، فيجب طم الآبار المتنجسة، وطرد هذا القياس بشر المريسي. وأما أبو حنيفة وأصحابه فقالوا: بالتطهير بالنزح استحساناً، إما بنزح البئر كلها إذا كبر الحيوان أو تفسخ، وإما بنزح بعضها إذا صغر بدلاء ذكروا عددها، فما أمكن طرد ذلك القياس. وكذلك أصحاب الشافعي وأحمد قالوا: بطهارة ما فوق القلتين؛ لأنَّ ذلك يكون في الفلوات والغدران التي لا يمكن صيانتها عن النجاسة، فجعلوا طهارة ذلك رخصة لأجل الحاجة على خلاف القياس، وكذلك من قال من أصحاب أحمد: إن البول والعذرة الرطبة لا ينجس بهما إلَّا ما أمكن نزحه، ترك طرد القياس؛ لأنَّ ما يتعذر نزحه يتعذر تطهيره، فجعل تعذّر التطهير مانعًا من التنجس. فهذه الأقوال وغيرها من مقالات القائلين بهذا الأصل: تبيّن أنه لم يطرده أحد من الفقهاء، وإن كلهم خالفوا فيه القياس رخصة، وأباحوا ما تخالطه النجاسات من المياه لأجل الحاجة الخاصة. وأما القول الثاني: فهو قول من يقول: القياس أن لا ينجس الماء حتَّى يتغير، كما قاله من قاله من فقهاء الحجاز والعراق، وفقهاء الحديث وغيرهم كمالك وأصحابه، ومن وافقهم من أصحاب الشافعي وأحمد، وهذه طريقة القاضي أبي يعلى بن القاضي أبي حازم، مع قوله: إن القليل ينجس بالملاقاة. وأما ابن عقيل وابن المنى وابن المظفر وابن الجوزي وأبو نصر وغيرهم من أصحاب أحمد فنصروا هذا أنه لا ينجس إلَّا بالتغير، كالرواية الموافقة لأهل المدينة، وهو قول أبي المحاسن الروياني، وغيره من أصحاب الشافعي. وقال الغزالي: وددت أن مذهب الشافعي في المياه كان كمذهب مالك. وكلام أحمد وغيره موافق لهذا القول؛ فإنّه لما سئل عن الماء إذا وقعت فيه نجاسة =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = فغيرت طعمه أو لونه بأي شيء ينجس؟ والحديث المروي في ذلك وهو قوله: "الماء طهور لا ينجسه شيء إلَّا ما غير لونه أو طعمه أو ريحه"، ضعيف. فأجاب: بأن الله حرم الميتة، والدم، ولحم الخنزير، فإذا ظهر في الماء طعم الدم، أو الميتة، أو لحم الخنزير، كان المستعمل لذلك مستعملاً لهذه الخبائث، ولو كان القياس عنده التحريم مطلقًا لم يخص صورة التحريم باستعمال النجاسة. وفي الجملة: فهذا القول هو الصواب؛ وذلك أن الله حرم الخبائث التي هي الدم والميتة ولحم الخنزير، ونحو ذلك، فإذا وقعت هذه في الماء أو غيره، واستهلكت لم يبق هناك دم ولا ميتة ولا لحم خنزير أصلًا، كما أن الخمر إذا استهلكت في المائع لم يكن الشارب لها شارباً للخمر، والخمرة إذا استحالت بنفسها وصارت خلاً كانت طاهرة باتفاق العلماء، وهذا على قول من يقول: إن النجاسة إذا استحالت طهرت أقوى كما هو مذهب أبي حنيفة وأهل الظاهر وأحد القولين في مذهب مالك وأحمد، فإن انقلاب النجاسة ملحاً ورماداً ونحو ذلك، هو كانقلابها ماء، فلا فرق بين أن تستحيل رماداً أو ملحاً أو تراباً أو ماءً أو هواءً ونحو ذلك، والله تعالى قد أباح لنا الطيبات. وهذه الأدهان والألبان والأشربة الحلوة والحامضة، وغيرها من الطيبات والخبيثة، قد استهلكت واستحالت فيها، فكيف يحرم الطيب الذي أباحه الله تعالى، ومن الذي قال: إنه إذا خالطه الخبيث واستهلك فيه، واستحال قد حرم، وليس على ذلك دليل لا من كتاب ولا من سنة ولا إجماع ولا قياس، ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم - في حديث بئر بضاعة، لما ذكر له أنها يلقى فيها الحيض ولحوم الكلاب والنتن، فقال: "الماء طهور لا ينجسه شيء". وقال في حديث القلتين: "إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث". وفي اللفظ الآخر: "لم ينجسه شيء". رواه أبو داود وغيره. فقوله: لم يحمل الخبث بيّن أن تنجيسه بأن يحمل الخبث، أي: بأن يكون الخبث فيه محمولاً، وذلك يبين أنه مع استحالة الخبث لا ينجس الماء. فصل: وإذا عرف أصل هذه المسألة، فالحكم إذا ثبت بعلةٍ زال بزوالها، كالخمر لما كان الموجب لتحريمها ونجاستها هي الشدة المطربة، فإذا زالت =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = بفعل الله طهرت، بخلاف ما إذا زالت بقصد الآدمي على الصحيح، كما قال عمر ابن الخطاب - رضي الله عنه -: "لا تأكلوا خل خمرٍ إلَّا خمرًا بدأ الله بفسادها"، ولا جناح على مسلم أن يشتري خل خمر من أهل الكتاب، ما لم يعلم أنهم تعمدوا فسادها؛ وذلك لأنَّ اقتناء الخمر محرّم، فمتى قصد باقتنائها التخليل كان قد فعل محرماً، والفعل المحرم لا يكون سببًا للحل والإباحة، وأما إذا اقتناها لشربها واستعمالها خمرًا فهو لا يريد تخليلها، وإذا جعلها الله خلاً كان معاقبة له بنقيض قصده، فلا يكون في حلها وطهارتها مفسدة. وأما سائر النجاسات فيجوز التعمد لإفسادها؛ لأنَّ إفسادها ليس بمحرم، كما لا يحد شاربها؛ لأنَّ النفوس لا يخاف عليها بمقاربتها المحظور كما يخاف من مقاربة الخمر، ولهذا جوز الجمهور أن تدبغ جلود الميتة، وجوزوا أيضًا إحالة النجاسة بالنار وغيرها، والماء لنجاسته سببان: أحدهما: متفق عليه، والآخر مختلف فيه. فالمتفق عليه التغير بالنجاسة، فمتى كان الموجب لنجاسته التغير فزال التغير، كان طاهراً، كالثوب المضمخ بالدم إذا غسل عاد طاهراً. والثاني: القلة، فإذا كان الماء قليلاً ووقعت فيه نجاسةٌ، ففي نجاسته قولان للعلماء: فمذهب الشافعي وأحمد في إحدى الروايات عنه: أنه ينجس ما دون القلتين، وأحمد في الرواية المشهورة عنه يستثني البول والعذرة المائعة، فيجعل ما أمكن نزحه نجساً بوقوع ذلك فيه. ومذهب أبي حنيفة ينجس ما وصلت إليه الحركة. ومذهب أهل المدينة وأحمد في الرواية الثالثة: أنه لا ينجس، ولو لم يبلغ قلتين. واختار هذا القول بعض الشافعية كإحدى الروايات، وقد نصر هذه الرواية بعض أصحاب الشافعي، كما نصر الأولى طائفةٌ كثيرة من أصحاب أحمد، لكن طائفة من أصحاب مالك قالوا: إن قليل الماء ينجس بقليل النجاسة، ولم يحدوا ذلك بقلتين. وجمهور أهل المدينة أطلقوا القول، فهؤلاء لا ينجسون شيئًا إلَّا بالتغير، ومن سوّى بين الماء والمائعات كإحدى الروايتين عن أحمد، وقال بهذا القول الذي هو رواية عن أحمد، قال في المائعات كذلك، كما قاله الزُّهريّ وغيره، فهؤلاء لا ينجسون =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = شيئًا من المائعات إلَّا بالتغير، كما ذكره البُخاريّ في صحيحه، لكن على المشهور عن أحمد: اعتبار القلتين في الماء. وكذلك في المائعات إذا سويت به، فنقول: إذا وقع في المائع القليل نجاسة فصبّ عليه مائع كثير، فيكون الجميع طاهراً، إذا لم يكن متغيرًا، وإن صب عليه ماء قليل دون القلتين، فصار الجميع كثيرًا فوق القلتين، ففي ذلك وجهان في مذهب أحمد: أحدهما - وهو مذهب الشافعي في الماء -: إن الجميع طاهر. والوجه الثاني: أنه لا يكون طاهراً حتَّى يكون المضاف كثيرًا. والمكاثرة المعتبرة: أن يصب الطاهر على النجس، ولو صب النجس على الطاهر الكثير كان كما لو صب الماء النجس على ماءٍ كثيرٍ طاهرٍ أيضًا، وذلك مطهر له إذا لم يكن متغيراً، وإن صب القليل الذي لاقته النجاسة على قليل لم تلاقه النجاسة - وكان الجميع كثيرًا فوق القلتين - كان كالماء القليل إذا ضمِّ إلى القليل، وفي ذلك الوجهان المتقدمان. وهذا القول الذي ذكرناه، من أن المائعات كالماء أولى بعدم التنجيس من الماء، هو الأظهر في الأدلة الشرعية، بل لو نجس القليل من الماء لم يلزم تنجيس الأشربة والأطعمة، ولهذا أمر مالك بإراقة ما ولغ فيه الكلب من الماء القليل، كما جاء في الحديث، ولم يأمر بإراقة ما ولغ فيه الكلب من الأطعمة والأشربة، واستعظم إراقة الطعام والشراب بمثل ذلك، وذلك لأنَّ الماء لا ثمن له في العادة، بخلاف أشربة المسلمين وأطعمتهم؛ فإن في نجاستها من المشقة والحرج والضيق ما لا يخفى على النَّاس، وقد تقدم أن جميع الفقهاء يعتبرون رفع الحرج في هذا الباب، فإذا لم ينجسوا الماء الكثير رفعًا للحرج، فكيف ينجسون نظيره من الأطعمة والأشربة؟ والحرج في هذا أشق، ولعل أكثر المائعات الكثيرة لا تكاد تخلو من نجاسة. فإن قيل: الماء يدفع النجاسة عن غيره، فعن نفسه أولى وأحرى، بخلاف المائعات. قيل: الجواب عن ذلك من وجوه: أحدها: أن الماء إنما دفعها عن غيره؛ لأنَّه يزيلها عن ذلك المحل وتنتقل معه، فلا يبقى على المحل نجاسة، وأما إذا وقعت فيه، فإنما كان طاهراً لاستحالتها فيه لا لكونه أزالها عن نفسه، ولهذا يقول أصحاب أبي حنيفة: إن المائعات كالماء =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = في الإزالة، وهي كالماء في التنجيس، وإذا كان كذلك لم يلزم من كون الماء يزيلها إذا زالت معه أن يزيلها إذا كانت فيه، ونظير الماء الذي فيه النجاسة الغسالة المنفصلة عن المحل، وتلك نجسة قبل طهارة المحل، وفيها بعد طهارة المحل ثلاثة أوجه: هل هي طاهرة، أو مطهرة، أو نجسة؟ وأبو حنيفة نظر إلى هذا المعنى، فقال: الماء ينجس بوقوعها فيه، وإن كان يزيلها عن غيره لما ذكرنا، فإذا كانت النصوص وقول الجمهور على أنها لا تنجس بمجرد الوقوع مع الكثرة، كما دلّ عليه قول النَّبيّ - صَلَّى الله عليه وسلم -: "الماء طهور لا ينجسه شيء"، وقوله: "إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث"، فإنّه إذا كان طهوراً يطهر به غيره، علم أنه لا ينجس بالملاقاة، إذ لو نجس بها، لكان إذا صبَّ عليه النجاسة ينجس بملاقاتها، فحينئذ لا ينجس بوقوع النجاسة فيه، لكن إن بقيت عين النجاسة حرمت، وإن استحالت زالت. فدل ذلك على أن استحالة النجاسة بملاقاته لها فيه لا ينجس، وإن لم تكن قد زالت كما زالت عن المحل، فإن من قال أنه يدفعها عن نفسه كما يزيلها عن غيره فقد خالف المشاهدة، وهذا المعنى يوجد في سائر المائعات من الأشربة وغيرها. الوجه الثاني: أن يقال: غاية هذا أن يقتضي أنه يمكن إزالة النجاسة بالمائع، وهذا أحد القولين في مذهب أحمد ومالك، كما هو مذهب أبي حنيفة وغيره، وأحمد جعله لازمًا لمن قال: إن المائع لا ينجس بملاقاة النجاسة، وقال: يلزم على هذا أن تزال به النجاسة، وهذا لأنه إذا دفعها عن نفسه دفعها عن غيره، كما ذكروه في الماء، فيلزم جواز إزالته بكل مائع طاهر مزيل للعين قلاع للأثر على هذا القول، وهذا هو القياس، فنقول به على هذا التقدير، وإن كان لا يلزم من دفعها عن نفسه دفعها عن غيره، لكون الإحالة أقوى من الإزالة، فيلزم من قال: أنه يجوز إزالة النجاسة بغير الماء من المائعات، أن تكون المائعات كالماء، فإذا كان الصحيح في الماء: أنه لا ينجس إلَّا بالتغير، إما مطلقًا، وإما مع الكثرة، فكذلك الصواب في المائعات. وفي الجملة: التسوية بين الماء والمائعات ممكن على التقديرين، وهذا مقتضى النص والقياس في مسألة إزالة النجاسات، وفي مسألة ملاقاتها للمائعات الماء، وغير الماء. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = ومن تدبر الأصول المنصوصة المجمع عليها، والمعاني الشرعية المعتبرة في الأحكام الشرعية، تبيّن له أن هذا هو أصوب الأقوال، فإن نجاسة الماء والمائعات بدون التغير بعيد عن ظواهر النصوص والأقيسة، وكون حكم النجاسة يبقى في مواردها بعد إزالة النجاسة بمائع أو غير مائع بعيد عن الأصول، وموجب القياس. ومن كان فقيهاً خبيراً بمآخذ الأحكام الشرعية، وأزال عنه الهوى، تبيّن له ذلك، ولكن إذا كان في استعمالها فسادٌ فإنّه ينهى عن ذلك، كما ينهى عن ذبح الخيل التي يجاهد عليها، والإبل التي يحج عليها، والبقر التي يحرث عليها، ونحو ذلك، لما في ذلك من الحاجة إليها لا لأجل الخبث، كما ثبت في الصحيح عن النبي - صَلَّى الله عليه وسلم - لما كان في بعض أسفاره مع أصحابه فنفدت أزوادهم، فاستأذنوه في نحر الظهر، فأذن لهم، ثم أتى عمر فسأله أن يجمع الأزواد فيدعو الله بالبركة فيها، ويبقى الظهر، ففعل ذلك. فنهيه لهم عن نحر الظهر كان لحاجتهم إليه للركوب، لا لأن الإبل محرمة. فهكذا ينهى فيما يحتاج إليه من الأطعمة والأشربة عن إزالة النجاسة بها، كما ينهى عن الاستنجاء بما له حرمة من طعام الإنس والجن، وعلف دواب الإنس والجن، ولم يكن ذلك لكون هذه الأعيان لا يمكن الاستنجاء بها، بل لحرمتها، فالقول في المائعات كالقول في الجامدات. الوجه الثالث: أن يقال: إحالة المائعات للنجاسة إلى طبعها أقوى من إحالة الماء، وتغير الماء بالنجاسات أسرع من تغير المائعات، فإذا كان الماء لا ينجس بما وقع فيه من النجاسة لاستحالتها إلى طبيعته، فالمائعات أولى وأحرى. الوجه الرابع: أن النجاسة إذا لم يكن لها في الماء والمائع طعم ولا لون ولا ريح، فلا نسلم أن يقال بنجاسته أصلًا، كما في الخمر المنقلبة أو أبلغ، وطرد ذلك في جميع صور الاستحالة؛ فإن الجمهور على أن المستحيل من النجاسات طاهر كما هو المعروف عن الحنفية والظاهرية، وهو أحد القولين في مذهب مالك وأحمد، ووجه في مذهب الشافعي. الوجه الخامس: أن دفع المائعات للنجاسة عن نفسها كدفع الماء لا يختص بالماء، بل هذا الحكم ثابت في التراب وغيره؛ فإن العلماء اختلفوا في النجاسة =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = إذا أصابت الأرض وذهبت بالشمس أو الريح أو الاستحالة، هل تطهر الأرض على قولين: أحدهما: تطهر، وهو مذهب أبي حنيفة، وأحد القولين في مذهب الشافعي وأحمد، وهو الصحيح في الدليل؛ فإنّه ثبت عن ابن عمر - رضي الله عنهما - أنه قال: كانت الكلاب تقبل وتدبر وتبول في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولم يكونوا يرشون شيئًا من ذلك. وفي السنن: أنه قال: "إذا أتى أحدكم المسجد فلينظر في نعليه، فإن كان فيهما أذى فليدلكهما في التراب، فإن التراب لهما طهور". وكان الصحابة كعلي بن أبي طالب وغيره يخوضون في الوحل، ثم يدخلون يصلون بالناس، ولا يغسلون أقدامهم. وأَوْكَدُ من هذا قوله - صلى الله عليه وسلم - في ذيول النساء إذا أصابت أرضًا طاهرة بعد أرض خبيثة: "تلك بتلك"، وقوله: "يطهره ما بعده". وهذا هو أحد القولين في مذهب أحمد وغيره، وقد نصّ عليه أحمد في رواية إسماعيل بن سعيد الشالنجي التي شرحها إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني، وهي من أجل المسائل؛ وهذا لأن الذيول تتكرر ملاقاتها للنجاسة، فصارت كأسفل الخف، ومحل الاستنجاء، فإذا كان الشارع قد جعل الجامدات تزيل النجاسة عن غيرها لأجل الحاجة، كما في الاستنجاء بالأحجار، وجعل الجامد طهوراً، علم أن ذلك وصف لا يختص بالماء. وإذا كانت الجامدات لا تنجس بما استحال إليها من النجاسة، فالمائعات أولى وأحرى؛ لأنَّ إحالتها أشدّ وأسرع، ولبسط هذه المسائل وما يتعلق بها مواضع غير هذا. وأما من قال: أن الدهن ينجس بما يقع فيه، ففي جواز الاستصباح به قولان في مذهب مالك والشافعي وأحمد، أظهرهما: جواز الاستصباح به، كما نقل ذلك عن طائفة من الصحابة. وفي طهارته بالغسل وجهان في مذهب مالك والشافعي وأحمد: أحدهما: يطهر بالغسل كما، اختاره ابن شريح، وأبو الخطاب، وابن شعبان، وغيرهم، وهو المشهور من مذهب الشافعي وغيره. والثاني: لا يطهر بالغسل، وعليه أكثرهم، وهذا النزاع يجري في الدهن المتغيّر بالنجاسة، فإنّه نجس بلا ريب، ففي جواز الاستصباح به هذا النزاع، وكذلك في غسله هذا النزاع. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = وأما بيعه؛ فالمشهور أنه لا يجوز بيعه، لا من مسلم ولا من كافر، وهو المشهور في مذهب الشافعي وغيره، وعن أحمد: أنه يجوز بيعه من كافر إذا أعلم بنجاسته، كما روي عن أبي موسى الأشعري. وقد خرج قول له بجواز بيعه منهم، من خرجه على جواز الاستصباح به، كما فعل أبو الخطاب وغيره، وهو ضعيف؛ لأنَّ أحمد وغيره من الأئمة فرّقوا بينهما. ومنهم من خرج جواز بيعه على جواز تطهيره؛ لأنَّه إذا جاز تطهيره صار كالثوب النجس والإناء النجس، وذلك يجوز بيعه وفاقاً، وكذلك أصحاب الشافعي لهم في جواز بيعه، إذا قالوا: بجواز تطهيره وجهان، ومنهم من قال يجوز بيعه مطلقاً. والله أعلم. فصل: وأما المائعات كالزيت والسمن وغيرهما من الأدهان، كالخل واللبن وغيرهما، إذا وقعت فيه نجاسة مثل الفأرة الميتة، ونحوها من النجاسات، ففي ذلك قولان للعلماء: أحدهما: أن حكم ذلك حكم الماء. هذا قول الزُّهريّ وغيره من السلف، وهو إحدى الروايتين عن أحمد، ويذكر رواية عن مالك في بعض المواضع، وهذا هو أصل قول أبي حنيفة، حيث قاس الماء على المائعات. والثاني: أن المائعات تنجس بوقوع النجاسة فيها، بخلاف الماء فإنّه يفرق بين قليله وكثيره. وهذا مذهب الشافعي، وهو الرواية الأخرى عن مالك وأحمد. وفيها قول ثالث: هو رواية عن أحمد، وهو الفرق بين المائعات المائية وغيرها، فخل التمر يلحق بالماء، وخل العنب لا يلحق به. وعلي القول الأول إذا كان الزيت كثيرًا مثل أن يكون قلتين، فإنّه لا ينجس إلَّا بالتغير، كما نص على ذلك أحمد في كلب ولغ في زيت كثير، فقال: لا ينجس. وإن كان المائع قليلاً انبنى على النزاع المتقدم في الماء القليل، فمن قال: إن القليل لا ينجس إلَّا بالتغير، قال ذلك في الزيت وغيره، وبذلك أفتى الزُّهريّ لما سئل عن الفأرة أو غيرها من الدواب تموت في سمن أو غيره من الأدهان؟ فقال: تلقى، وما قرب منها ويؤكل، سواء كان قليلاً أو كثيرًا، وسواء كان جامداً أو مائعاً، وقد ذكر ذلك البُخاريّ عنه في صحيحه لمعنى سنذكره إن شاء الله. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = ومن قال: إن المائع القليل ينجس بوقوع النجاسة، قال: إنه كالماء فإنّه يطهر بالمكاثرة كما يطهر الماء بالمكاثرة، فإذا صبّ عليه زيت كثير طهر الجميع، والقول بأن المائعات لا تنجس كما لا ينجس الماء، هو القول الراجح، بل هي أولى بعدم التنجيس من الماء، وذلك لأنَّ الله أحل لنا الطيبات، وحرّم علينا الخبائث والأطعمة والأشربة من الأدهان والألبان والزيت والخلول، والأطعمة المائعة هي من الطيبات التي أحلها الله لنا، فإذا لم يظهر فيها صفة الخبث: لا طعمه، ولا لونه، ولا ريحه، ولا شيء من أجزائه، كانت على حالها في الطيب، فلا يجوز أن تجعل من الخبيث المحرمة مع أن صفاتها صفات الطيب لا صفات الخبائث، فإن الفرق بين الطيبات والخبائث بالصفات المميزة بينهما. ولأجل تلك الصفات حرّم هذا، وأحلّ هذا، وإذا كان هذا الحبّ وقع فيه قطرة دم، أو قطرة خمر، وقد استحالت، واللبن باق على صفته، والزيت باق على صفته، لم يكن لتحريم ذلك وجه، فإن تلك قد استهلكت واستحالت، ولم يبق لها حقيقة من الأحكام يترتب عليها شيء من أحكام الدم والخمر، وإنما كانت أولى بالطهارة من الماء؛ لأنَّ الشارع رخّص في إراقة الماء وإتلافه حيث لم يرخص في إتلاف المائعات، كالاستنجاء فإنّه يستنجي بالماء دون هذه، وكذلك إزالة سائر النجاسات بالماء. وأما استعمال المائعات في ذلك فلا يصح، سواء قيل تزول النجاسة، أو لا تزول، ولهذا قال من قال من العلماء: أن الماء يراق إذا ولغ فيه الكلب، ولا تراق آنية الطعام والشراب. وأيضًا فإن الماء أسرع تغيراً بالنجاسة من الملح، والنجاسة أشدّ استحالة في غير الماء منها في الماء، فالمائعات أبعد عن قبول التنجيس حساً وشرعاً من الماء، فحيث لا ينجس الماء، فالمائعات أولى أن لا تنجس. وأيضًا فقد ثبت في صحيح البُخاريّ وغيره عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنه سئل عن فأرة وقعت في سمن؟ فقال: "ألقوها وما حولها وكلوا سمنكم". فأجابهم النَّبيّ - صَلَّى الله عليه وسلم - جواباً عامًا مطلقًا، بأن يلقوها وما حولها، وأن يأكلوا سمنهم، ولم يستفصلهم: هل كان مائعاً =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = أو جامداً، وترك الاستفصال في حكاية الحال مع قيام الاحتمال، ينزل منزلة العموم في المقال، مع أن الغالب على سمن الحجاز أن يكون ذائباً، وقد قيل: أنه لا يكون إلَّا ذائباً، والغالب على السمن أنه لا يبلغ القلتين، مع أنه لم يستفصل هل كان قليلاً أو كثيراً. فإن قيل: فقد روي في الحديث: "إن كان جامداً فألقوها وما حولها، وكلوا سمنكم، وإن كان مائعاً فلا تقربوه". رواه أبو داود وغيره؟! قيل: هذه الزيادة هي التي اعتمد عليها من فرّق بين المائع والجامد، واعتقدوا أنها ثابتة من كلام النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم -، وكانوا في ذلك مجتهدين قائلين بمبلغ علمهم واجتهادهم، وقد ضعّف محمد بن يحيى الذهلي: حديث الزُّهريّ، وصحّح هذه الزيادة؛ لكن قد تبيّن لغيرهم أن هذه الزيادة وقعت خطأ في الحديث، ليست من كلام النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم -. وهذا هو الذي تبيّن لنا ولغيرنا، ونحن جازمون بأن هذه الزيادة ليست من كلام النَّبيّ - صَلَّى الله عليه وسلم -، فلذلك رجعنا عن الإفتاء بها، بعد أن كنّا نفتي بها أولاً، فإن الرجوع إلى الحق خيرٌ من التمادي في الباطل. والبخاري والترمذي رحمة الله عليهما وغيرهما من أئمة الحديث قد بيّنوا لنا: أنها باطلة، وأن معمراً غلط في روايته لها عن الزُّهريّ، وكان معمر كثير الغلط، والأثبات من أصحاب الزُّهريّ كـ: مالك، ويونس، وابن عيينة، خالفوه في ذلك، وهو نفسه اضطربت روايته في هذا الحديث، إسناداً ومتناً، فجعله عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة، وإنما هو عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس، عن ميمونة. وروي عنه في بعض طرقه، أنه قال: "إن كان مائعاً فاستصبحوا به"، وفي بعضها: "فلا تقربوه". والبخاري بيّن غلطه في هذا، بأن ذكر في صحيحه عن يونس، عن الزُّهريّ نفسه، أنه سئل عن فأرة وقعت في سمن؟ فقال: "إن كان جامداً أو مائعاً قليلاً أو كثيرًا تلقى وما قرب منها ويؤكل، لأنَّ النَّبيّ - صَلَّى الله عليه وسلم - سئل عن فأرة وقعت في سمن؟ فقال: "ألقوها وما حولها، وكلوا سمنكم". فالزهري الذي مدار الحديث عليه، قد أفتى في المائع والجامد، بأن تلقى الفأرة وما قرب منها، ويؤكل واستدل بهذا الحديث، كما رواه عنه جمهور أصحابه، فتبيّن أن من ذكر عنه الفرق بين النوعين فقد غلط. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = وأيضًا فالجمود والميعان أمرٌ لا ينضبط، بل يقع الاشتباه في كثيرٍ من الأطعمة: هل تلحق بالجامد أو المائع؟ والشارع لا يفصل بين الحلال والحرام إلَّا بفصلٍ مبيّنٍ لا اشتباه فيه، كما قال تعالى {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ} [التوبة: 115]، والمحرمات ممَّا يتقون، فلا بدّ أن يبين لهم المحرمات بياناً فاصلاً بينها وبين الحلال، وقد قال تعالى: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ} [الأنعام: 119]. وأيضًا فإذا كانت الخمر التي هي أم الخبائث، إذا انقلبت بنفسها حلّت باتفاق المسلمين، فغيرها من النجاسات أولى أن تطهر بالانقلاب، وإذا قدر أن قطرة خمر وقعت في خلّ مسلم بغير اختياره، فاستحالت كانت أولى بالطهارة. فإن قيل: الخمر لما نجست بالاستحالة طهرت بالاستحالة؛ بخلاف غيرها، والخمر إذا قصد تخليلها لم تطهر؟. قيل: في الجواب عن الأول: أن جميع النجاسات نجست بالاستحالة، فإن الإنسان يأكل الطعام ويشرب الشراب وهي طاهرة، ثم تستحيل دمًا وبولاً وغائطاً فتنجس. وكذلك الحيوان يكون طاهراً فإذا مات احتبست فيه الفضلات، وصار حاله بعد الموت خلاف حاله في الحياة فينجس، ولهذا يطهر الجلد بعد الدباغ عند الجمهور، سواء قيل: إن الدباغ كالحياة، أو قيل أنه: كالذكاة فإن؛ في ذلك قولين مشهورين للعلماء، والسنة تدل على أن الدباغ كالذكاة. وأما ما قصد تخليله؛ فذلك لأنَّ حبس الخمر حرام، سواء حبست لقصد التخليل أو لا، والطهارة نعمة، فلا تثبت النعمة بالفعل المحرم. وسئل شيخ الإسلام كما في مجموع الفتاوى (21/ 524 - 528) عن رجل عنده ستون قنطار زيت بالدمشقي، وقعت فيه فأرة في بئر واحدة، فهل ينجس بذلك أم لا؟ وهل يجوز بيعه أو استعماله أم لا؟ أفتونا مأجورين. فأجاب: الحمد لله، لا ينجس بذلك، بل يجوز بيعه واستعماله إذا لم يتغير في إحدى الروايتين عن أحمد، وحكم المائعات عنده حكم الماء في إحدى الروايتين، فلا ينجس إذا بلغ القلتين إلَّا بالتغير، لكن تلقى النجاسة وما حولها، وقد ذهب إلى أن حكم المائعات حكم الماء طائفة من العلماء كالزهري والبخاري صاحب الصحيح. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = وقد ذكر ذلك رواية عن مالك، وهو أيضًا مذهب أبي حنيفة، فإنّه سوّى بين الماء والمائعات بملاقاة النجاسة، وفي إزالة النجاسة، وهو رواية عن أحمد في الإزالة، لكن أبو حنيفة رأى مجرّد الوصول منجساً، وجمهور الأئمة خالفوا في ذلك، فلم يروا الوصول منجساً مع الكثرة وتنازعوا في القليل. إذ من الفقهاء من رأى أن مقتضى الدليل أن الخبث إذا وقع في الطيب أفسده، ومنهم من قال: إنما يفسده إذا كان قد ظهر أثره، فأما إذا استهلك فيه واستحال، فلا وجه لإفساده، كما لو انقلبت الخمرة خلاً بغير قصد آدمي، فإنها طاهرةٌ حلالٌ باتفاق الأئمة، لكن مذهبه في الماء معروف، وعلي هذا أدلة قد بسطناها في غير هذا الموضع، ولا دليل على نجاسته لا في كتاب الله ولا سنة رسوله. وعمدة الذين نجّسوه، احتجاجهم بحديث رواه أبو داود وغيره، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنه سئل عن فأرة وقعت في سمن؟ فقال: وإن كان جامداً فألقوها وما حولها، وكلوا سمنكم، وإن كان مائعاً فلا تقربوه". وهذا الحديث إنما يدلّ لو دلّ على نجاسة السمن الذي وقع فيه الفأرة، فكيف والحديث ضعيف؟! بل باطلٌ، غلط فيه معمر على الزُّهريّ غلطًا معروفاً عند النقاد الجهابذة، كما ذكره التِّرمذيُّ عن البُخاريّ. ومن اعتقد من الفقهاء أنه على شرط الصحيح، فلم يعلم العلّة الباطنة فيه التي توجب العلم ببطلانه، فإنَّ عِلْمَ العلل من خواصّ علم أئمة الحديث، ولهذا بيَّن البُخاريّ في صحيحه ما يوجب فساد هذه الرواية، وأن الحديث الصحيح هو على طهارته أدل منه على النجاسة، فقال (باب إذا وقعت الفأرة في السمن الجامد أو الذائب): حدّثنا عبدان قال: حدّثنا عبد الله - يعني: ابن المبارك -، عن يونس، عن الزُّهريّ، أنه سئل عن الدابة التي تموت في الزيت أو السمن وهو جامد أو غير جامد الفأرة أو غيرها؟ قال: بلغنا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر بفأرة ماتت في سمن فأمر بما قرب منها فطرح، ثم أكل. وفي حديث عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس، عن ميمونة قال: سئل النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - عن فأرة وقعت في سمن؟ فقال: "ألقوها وما حولها، وكلوه". فذكر البُخاريّ عن ابن شهاب الزُّهريّ، أعلم الأمة بالسنَّة في زمانه، أنه أفتى في الزيت والسمن الجامد وغير الجامد إذا ماتت فيه الفأرة: أنها تطرح وما قرب منها. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = واستدل بالحديث الذي رواه عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس، أن النَّبيَّ - صَلَّى الله عليه وسلم - سئل عن فأرة وقعت في سمن؟ فقال: "ألقوها وما حولها، وكلوه"، ولم يقل النَّبيّ - صَلَّى الله عليه وسلم -: "إن كان مائعاً فلا تقربوه"، بل هذا باطلٌ، فذكر البُخاريّ أبو هذا ليبيّن أن من ذكر عن الزُّهريّ أنه روى في هذا الحديث هذا التفصيل فقد غلط عليه، فإنّه أجاب بالعموم في الجامد والذائب، مستدلاً بهذا الحديث بعينه، لا سيما والسمن بالحجاز يكون ذائباً أكثر ممَّا يكون جامداً، بل قيل: إنه لا يكون بالحجاز جامداً بحال. فإطلاق النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - الجواب من غير تفصيل يوجب العموم، إذ السؤال كالمعاد في الجواب، فكأنه قال: إذا وقعت الفأرة في السمن فألقوها وما حولها، وكلوا سمنكم، وترك الاستفصال في حكاية الحال مع قيام الاحتمال ينزل منزلة العموم في المقال. هذا إذا كان السمن بالحجاز يكون جامداً ويكون ذائباً، فأما إن كان وجود الجامد نادرًا أو معدوماً كان الحديث نصًا في أن السمن الذائب إذا وقعت فيه الفأرة، فإنها تلقى وما حولها ويؤكل. وبذلك أجاب الزُّهريّ، فإن مذهبه: أن الماء لا ينجس قليله ولا كثيره إلَّا بالتغير. وقد ذكر البُخاريّ في أوائل الصحيح: التسوية بين الماء والمائعات. وقد بسطنا الكلام في هذه المسألة ودلائلها، وكلام العلماء فيها في غير هذا الموضع، كيف وفي تنجيس مثل ذلك وتحريمه من فساد الأطعمة العظيمة، وإتلاف الأموال العظيمة القدر، ما لا تأتي بمثله الشريعة الجامعة للمحاسن كلها، والله سبحانه إنّما حرّم علينا الخبائث تنزيهًا لنا عن المضار، وأباح لنا الطيبات كلها، لم يحرم علينا شيئًا من الطيبات، كما حرم على أهل الكتاب - بظلمهم - طيباتٍ أحلّت لهم، ومن استقرأ الشريعة في مواردها ومصادرها واشتمالها على مصالح العباد في المبدأ والمعاد، تبيّن له من ذلك ما يهديه الله إليه {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ}، والله سبحانه أعلم، والحمد لله وحده، وصلاته على محمد وآله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً. وسئل شيخ الإسلام كما في مجموع الفتاوى (21/ 528 - 529) عن الزيت إذا كان في بئر، ووقعت فيه نجاسة، مثل الفأرة والحية ونحوهما، وماتا فيه، فما الحكم إذا كان دون القلتين؟ وإذا ولغ الكلب في الزيت أو اللبن فما الحكم فيه؟ =

وأمّا مذهب مالك: فقال ابن الحاجب: "وفي قليل النَّجاسة في كثير الطَّعام المائع قولان" (¬1). ¬

_ = فأجاب - رحمه الله -: إذا كان أكثر من القلتين فهو طاهر عند جمهور العلماء، كمالك والشافعي وأحمد وغيرهم، وإن كان دون القلتين، ففيه قولان في مذهب أحمد وغيره، ومذهب المدنيين وكثير من أهل الحديث: أنه طاهر كإحدى الروايتين عن أحمد، وهو اختيار طائفة من أصحابه: كابن عقيل، وغيره، وكذلك المائع إذا وقعت فيه نجاسة ولم تغيره فيه نزاع معروف، وقد بسط في موضع آخر. والأظهر: أنه إذا لم يكن للنجاسة فيه أثرٌ، بل استهلكت فيه ولم تغير له لوناً ولا طعماً ولا ريحاً، فإنّه لا ينجس. والله سبحانه أعلم. وانظر أيضًا مجموع الفتاوى (20/ 24 - و 515 - 522). (¬1) جامع الأمهات لابن الحاجب (1/ 3). وقال في مواهب الجليل شرح مختصر خليل (1/ 364 - 365): قال ابن الإمام في شرح قول ابن الحاجب: "وفي قليل النّجاسة في كثير الطعام المائع قولان" ما نصُّه: المشهور نجسٌ وهو ظاهر المدوّنة فيما ماتت فيه دابهٌ من عسلٍ ذائبٍ لإطلاقه لا يؤكل ولا يباع دون تقييدٍ بكونه قليلاً، وهو قول ابن القاسم فيمن فرّغ عشر جرار سمنٍ في ستين زقًّا ثمّ وجد في جرّةٍ منها فأرةً يابسةً لا يدري في أي الزّقاق فرّغها، أنَّهُ يحرّم عليه أكل جميعها وبيعه. وقول الجمهور أيضًا، قال ابن بطّالٍ: لا خلاف بين أئمّة الفتوى: أنَّهُ لا يؤكل سمنٌ مائعٌ وزيتٌ وخلٌّ ونحوه يقع فيه الميتة، وقد حكى ابن عبد البرّ إجماع العلماء على نجاسة السّمن الذائب وشبهه قليلاً كان، أو كثيرًا إذا ماتت فيه فأرةٌ، أو وقعت ميّتةً قال: وشذّ قومٌ ممن لا يعدّ عند أهل العلم خلافاً فجعلوا المائع كلّه كالماء وفيه نظرٌ؛ لأنَّ مالكاً قال: إذا أخرجت الفأر من الزّيت حين ماتت، أو علم أنّه لم يخرج منها شيءٌ فيه لكنّي أخاف فلا أحبُّ أكله. قال سحنونٌ في زيتٍ وجدت فيه فأرةٌ يابسةٌ ذلك خفيفٌ؛ لأنَّ يبسها دلٌّ على أنّها لم تمت فيه وإنّما صبّ عليها وهي يابسةٌ إلَّا أن يحمل ما حكي على طول مقامها في الحالين ولا اعتراض يقول سحنونٍ =

قال الشيخ خليل في شرحه: أي: وفي تأثير قليل النجاسة فعدم التأثير كالماء. والتأثير لأنَّ الماء له مزية بتطهير العين الباقي. والمشهور: التأثير. قال ابن دقيق العيد: ولو فرَّق بين ما يعسر الاحتراز منه (¬1) كروثِ الفأرة فيعفى [عنه]، وبين ما لا يعسر كبول ابن آدم، فينجِّس لما بعد (¬2). ¬

_ = على هذا لدلالة يبسها على موتها قبل صبّه لامتناع يبسها مع موتها فيه، وعلى أنّها أخرجت بقرب صبّه وإلَّا امتنع كونها يابسةً، أو لأنَّه أراد بالعلماء من ليس بمقلّدٍ فلا اعتراض بقوله وعلى هذا فلا اعتراض يقول ابن نافعٍ الَّذي يأتي انتهى. وقوله: فيه نظرٌ يعني ما حكاه ابن عبد البرّ، وقوله: إلَّا أن يحمل يعني ما حكاه ابن عبد البرّ فتأمّله. قال الباجيّ في كتاب الجامع من المنتقى: لمَّا تكلّم على مسألة الفأرة تقع في الدين وذكر عن ابن حبيبٍ أنها إذا ماتت فيه وكان ذائباً لا يحل أكله؛ لأنَّ موتها فيه ينجّسه وذكر عن الموّازيَة نحو ما ذكره ابن الإمام عن مالكٍ أنَّهُ قال: إذا أخرجت حين ماتت، أو علم أنَّهُ لم يخرج منها فيه شيءٌ، ولكني أخاف فلا أحبُّ أكله، وهذا الّذي قاله ابن حبيبٍ هو مذهب ابن الماجشون ويرى أن لموت الحيوان في الزّيت وسائر المائعات مزيّةً في تنجيسه. وما رواه ابن الموّاز عن مالكٍ أنَّهُ حكم بنجاسته لما خاف أن يخرج منه في الزّيت والقولان فيهما نظرٌ، وذلك أنّ الموت عرضٌ لا يؤثر في طهارةٍ ولا نجاسةٍ ولا يوصف بهما، وكذلك أيضًا ما يخرج من الحيوان عند موته، أو بعد ذلك لا يكون أشدّ نجاسةً من الميتة، وقد تنجّس الزّيت بمجاورتها، وهذا هو المشهور من مذهب مالكٍ وأصحابه. انتهى. (¬1) في المخطوط: (عنه). (¬2) ذكره صاحب مواهب الجليل في شرح مختصر الشيخ خليل (1/ 360) وقال في نسبته: قال في التوضيح قال شيخنا:. . . فذكره.

ويفهم من قوله: "قليل"، أنّ النَّجاسة لو كانت كثيرة أفسدت، وإن كان الطعام كثيرًا. "وأمّا الجامد كالعسل والسّمن الجامدين فينجس ما مرت (¬1) به خاصّة قليلة أو كثيرة، فيلقى (¬2)، وما [23/ ب] حولها بطول (¬3) مكثها وقصره" (¬4). قال ابن الحاجب: "وفي استعمال النجس لغير أكل كالوقود وعلف الدواب والنّحل (¬5) قولان" (¬6). قال الشيخ خليل: والمشهور من القولين: الجواز. والوقود مقيّد بغير المساجد. قال ابن الحاجب: "وفي طهارة الزيت النجس ونحوه قولان" (¬7). قال الشيخ خليل: قال ابن بشير: المشهور في ذلك كله؛ لأنَّه لا يطهر. وقال ابن الحاجب (¬8): وهما جاريان في كل نجاسة، تغيرت أعراضها ¬

_ (¬1) في جامع الأمهات: (سرت). (¬2) في جامع الأمهات: (فتلقى). (¬3) في جامع الأمهات: (بحسب طول). (¬4) جامع الأمهات لابن الحاجب (1/ 3). (¬5) في المخطوط: (والنخل). (¬6) جامع الأمهات لابن الحاجب (1/ 3) وزاد: (بخلاف شحم الميتة والعذرة على الأشهر). (¬7) جامع الأمهات لابن الحاجب (1/ 3). (¬8) جامع الأمهات لابن الحاجب (1/ 3) قريبٌ منه.

كرماد الميتة - يعني: القولين المتقدمين - في لبن الجلاّلة جريان فيما ذكر. ويرجّح غيره عدم الطهارة. وأمّا مذهب أحمد بن حنبل: فقال الزركشي في شرح الخرقي (¬1): إذا وقعت (¬2) النجاسة في مائعٍ، ففي أحد الروايات: أنه ينجسٌ قلَّ أو كثرَ. وهي اختيار عامّة الأصحاب. الثَّانية: حكم الماءِ حكم المائعِ. اختارها أبو العباس. الثالثة: ما أصله الماء كالحل ونحوه. حكمه حكم الماء، وما لا فلا. وقال في الزيت النجس: ويجوز الاستصباح به في أشهر الروايتين. وهي اختيار الخرقي. والثانية: لا يجوزُ. ومنع أحمد من دهن الجلود به، ولا يحل أكله ولا بيعه. هو المشهور المجزوم به، عند عامّة الأصحاب. وعنه رواية: أنه يجوز بيعه لكافرٍ يعلم بنجاسته. وخرَّج أبو الخطاب وغيره قولًا بجواز بيعه مطلقًا من رواية: الاستصباح؛ لأنَّه إذاً مُنْتَفَعٌ (¬3) به. ¬

_ (¬1) انظر مختصر الخرقي (1/ 143) والمغني لابن قدامة (11/ 87) وكشف القناع عن متن الأقناع (2/ 19). (¬2) تحرف في المخطوط إلى: (وقت). (¬3) تحرف في المخطوط إلى: (امتنع).

وخرَّجَ أبو البركات ذلك على القول بتطهيره بالغسل؛ لأنَّه إذًا كالثَّوب المتنجّس. وهذا أصحُّ إلَّا أنَّهُ بناءٌ على ضعيفٍ. انتهى. قال الشيخ العلامة ابن مفلح الحنبلي في كتابه المسمّى بالفروع (¬1): ولا باستحالة ذي رأي لا يطهر شيءٌ باستحالة ونارٍ. وعنه: بل بقي عن الإمام أحمد رواية أخرى: أنه يطهر بالاستحالة والنار. قال: وعليهما (¬2) يتخرج عمل زيتٍ نجسٍ صابوناً ونحوه. انتهى. فقد علمت: أن عن الإمام مالك وأحمد كقولنا. وإنما الاختلاف في ترجيح أحد القولين. وهنا أنا أذكر لك ما حضرني من الأدلة على محلّ النّزاع، والله [24/ أ] ولي الإعانة. روى الطحاوي في المشكل (¬3)، والحاكم في. . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ (¬1) الفروع (1/ 241 عالم الكتب ط 4 سنة 1985 هـ) قريبٌ منه. (¬2) في المخطوط: (وعليها). والمثبت من الفروع. (¬3) رواه الطحاوي في مشكل الآثار (12/ 21) رقم (4664) قال: حدّثنا فهد بن سليمان قال: حدّثنا الحسن بن الرَّبيع قال: حدّثنا عبد الواحد بن زياد، عن معمر، عن الزُّهريّ، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة، عن النَّبيِّ - صَلَّى الله عليه وسلم -: "أنه سئل عن فأرة وقعت في سمن قال: إن كان جامداً فخذوها وما حولها فألقوه، وإن كان ذائباً، أو مائعاً، فاستصبحوا به، أو فاستنفعوا به". فكان في هذا الحديث إباحة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الاستصباح، أو الاستنفاع بالسمن النجس، ولا نعلم أحداً ممن يحتج بروايته روى في هذا المعنى حديثاً بين فيه هذا المعنى، كما بينه معمر في حديثه هذا فقال قائل فإن محمد بن دينار الطاحي قد روى هذا الحديث عن معمر بغير هذه الألفاظ، =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = فذكر (4665) ما قد حدّثنا محمد بن خزيمة قال: حدّثنا مسلم بن إبراهيم الأزدي قال: حدّثنا محمد بن دينار الطاحي قال: حدّثنا معمر، عن الزُّهريّ، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة، عن النَّبيِّ - صَلَّى الله عليه وسلم - في الفأرة تقع في السمن قال: "إن كان مائعاً أهريق، وإذا كان جامداً أخذت وما حولها، وأكل الآخر" فكان جوابنا له في ذلك بتوفيق الله - صَلَّى الله عليه وسلم - وعونه: أن كل واحد من عبد الواحد بن زياد، ومن محمد بن دينار لو تفرد بحديث لكان مقبولًا منه، ومن كان كذلك، فانفرد بزيادة في حديث، كانت تلك الزيادة مقبولة منه قال: فقد روى هذا الحديث عن الزُّهريّ غير معمر، وهو ابن عيينة، ومالك، فخالفا معمراً في إسناده وفي متنه. ورواه في بيان مشكل الآثار (13/ 211) رقم (5354) قال: حدّثنا فهد بن سليمان قال: حدّثنا الحسن بن الرَّبيع قال: حدّثنا عبد الواحد بن زياد، عن معمر، عن الزُّهريّ، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنه سئل عن فأرة وقعت في سمن؟ قال: "إن كان جامداً فخذوها وما حولها فألقوه، وإن كان ذائباً أو مائعاً فاستصبحوا به، أو فاستنفعوا به". وقال الطحاوي: فكان في هذا الحديث إباحة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الاستصباح أو الاستنفاع بالسمن النجس ولا نعلم أحدًا ممن يحتج بروايته روى في هذا المعنى حديثاً بيَّن فيه هذا المعنى كما بيَّنه معمر في حديثه هذا، فقال قائل فإن محمد بن دينار الطاحي قد روى هذا الحديث عن معمر بغير هذه الألفاظ فذكر (5355) ما قد حدّثنا محمد بن خزيمة قال: حدّثنا مسلم بن إبراهيم الأزدي قال: حدّثنا محمد بن دينار الطاحي قال: حدّثنا معمر عن الزُّهريّ عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة عن النَّبيِّ - صَلَّى الله عليه وسلم - في الفأرة تقع في السمن قال: إن كان مائعاً أهريق وإذا كان جامداً أخذت وما حولها وأكل الآخر. فكان جوابنا له في ذلك بتوفيق الله - عَزَّ وَجَلَّ - وعونه أن كل واحد من عبد الواحد بن زياد ومن محمد بن دينار لو تفرد بحديث لكان مقبولاً منه ومن كان كذلك فانفرد بزيادة في حديث كانت تلك الزيادة مقبولة منه، قال فقد روى هذا الحديث عن الزُّهريّ غير معمر وهو ابن عيينة ومالك فخالفا معمراً في إسناده وفي متنه فذكر (5356) ما قد حدّثنا يونس قال: حدّثنا سفيان عن الزُّهريّ عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس عن ميمونة زوج النَّبيّ - صَلَّى الله عليه وسلم - قالت سئل رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم - عن فأرة وقعت في سمن فماتت فقال ألقوها =

المستدرك (¬1)، عن أبي هريرة: قال رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم -: "إِذَا وَقَعَتِ الفَأرَةُ فِي السَّمْنِ، فَإِنْ كَانَ جَامِداً فَألْقُوْهَا وَمَا حَولَهَا، وَإنْ كَانَ ذَائِباً فَاسْتَصْبِحُوا - أَوْ: فَانتفِعُوا - بِهِ". قال الحاكم: صحيح على شرطهما. وقال الإمام الحافظ أبو بكر بن أبي شيبة في مصنفه (¬2): حدّثنا عبد الوهاب الثَّقفيُّ، عن برد، عن مكحولٍ: أَنَّ فَأرَةً وَقَعَتْ فِي زيتٍ، فَسَألوا النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم -؟ قَالَ: "اسْتَصْبِحُوا بِهِ وَلاَ تأكلُوه". وكانَ مكحولٌ يقولُ: إِذَا وَقَعَتْ فِي السَّمْنِ وَكَانَ (¬3) جَامِداً أُلقيَ وَمَا حَوْلَهُ، وَأكُلَ مَا سِوَى ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ ذَائِباً لَمْ (¬4) يُؤْكَلْ مِنْهُ شَيءٌ. ¬

_ = وما حولها وكلوه حدّثنا جويرية بن أسماء عن مالك عن الزُّهريّ أن عبيد الله بن عبد الله أخبره أن ابن عباس أخبره أن ميمونة سألت رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم - فقالت يا رسول الله فأرة وقعت في سمن فماتت فقال خذوها وما حولها من السمن فاطرحوه. (5359) وما قد حدّثنا ابن أبي داود قال حدّثنا سعيد بن أبي مريم قال أخبرنا مالك وابن عيينة عن الزُّهريّ عن عبيد الله عن ابن عباس عن ميمونة عن النَّبيِّ - صَلَّى الله عليه وسلم - مثله. فكان جوابنا له في ذلك بتوفيق الله - عَزَّ وَجَلَّ - وعونه أنه قد يحتمل أن يكون كان عند الزُّهريّ في هذا الباب عن سعيد بن المسيب ما رواه عنه معمر وعن عبيد الله ما رواه عنه ابن عيينة ومالك فلا نجعل إحدى الروايتين دافعة للأخرى ولكن نصححهما جميعاً ونعمل بما فيهما فقال هذا القائل فقد وجدناكم تروون عن رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم - المنع ممَّا أطلقه هذا الحديث الذي رويتموه عن معمر من إباحته الاستصباح بما أباح الاستصباح به فيه. (¬1) لم أجده في المستدرك. (¬2) المصنف (24406). (¬3) في المصنف: فكان. (¬4) في المخطوط: (ما). والمثبت من المصنف.

وهذا حديثٌ مرسلٌ، والمرسلُ عندنا حجّة، وكذلك عند مالك، وروايةٌ عن أحمد. وقد بيَّنتُ أرجحية القول بقبول الْمُرْسَلِ فِي مقدمة شرح القدوري، ونزهة الرائض فليطلبه ثمّة من أراد الوقوف عليه، ومن يرد المرسل يقبله إذا جاء موصولًا من طريقٍ أخرى. وهذا كذلك. فإن طريق الطحاوي والحاكم غير هذه، فإنّها عن (¬1) عبد الواحد بن زياد، عن معمر، عن الزُّهريّ، عن سعيد بن المسيّب، عن أبي هريرة، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -. قال ابن أبي شيبة: حدّثنا هشام، عن أبي بشر، عن نافع: أنَّ جرذاً وقعَ في قدرٍ؛ لآلِ ابْنِ عُمَرَ، فَسُئِلَ؟ فقال: انتُفِعُوا بهِ، وادْهَنُوا بِهِ الأُدْم (¬2) (¬3). حدّثنا ابن علية، عن أيوب، عن نافعٍ، عن صفية بنت أبي عبيدٍ: أنَّ جرّاً لآل ابن عمر، فيه عشرون فرقاً من سمنٍ أو زيادة، وقعت فيه فأرةٌ فماتت، فأمرهم ابن عمر أن يستصبحوا به (¬4). حدّثنا زياد بن الحباب، عن حميد بن عبيد الطَّائي، حدّثنا ثمامة بن عبد الله بن أنس، عن جدّه أنس: أنه سُئِلَ (¬5) عن الفأرة تقع في الزيت أو ¬

_ (¬1) في المخطوط: (من). (¬2) تحرف في المخطوط إلى: (ادّهنوا به الأرم قال أبو شيبة: وحدثنا هيثم، عن أبي بشر، عن نافع: أنّ جرذاً وقع في قدرٍ؛ لأنَّ عمر. فقال: انتفعوا به). (¬3) المصنف (24396). (¬4) المصنف (24397). وانظر المصنف لعبد الرَّزاق (286). (¬5) في المخطوط: (سأل).

السمن (¬1)؟ قال: إِنْ كَانَ جَامِدًا أخذت وما حولها فألقي وأكل ما بقي، وإن كان ذائبًا استصبحوا به (¬2) (¬3). حدثنا عبد الله بن نمير، عن عبد الملك [24/ ب] عن عطاء قال: إن كَانَ جامدًا فألقوها وما يليها، وكل ما بقي، وإن كان ذائبًا فاستصبح به ولا تأكله (¬4). حدثنا هشام (¬5)، عن يونس، عن ابن سيرين: أنَّ الأشعري سُئِلَ عن سمنٍ مَاتَ فيها وزغٌ؟ فقال: بيعوه بيعًا، ولا تبيعوه من مُسْلِمٍ (¬6). انتهى. وقول الصحابي والتابعي الذي زاحم الصحابة في الفتوى، حُجّةٌ عندنا. ولهذا شاهدٌ صحيح؛ أخرجه الشيخان في صحيحيهما (¬7)، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في العَجِيْنِ الذي عُجِنَ بماءٍ، مِنْ آبَارِ ثَمُودَ، أنَّهُ نهَاهُمْ عَنْ أَكْلِهِ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَعْلِفُوهُ النَّوَاضحَ (¬8). وإذا جازَ الاستصباح، ودهن الجلود، جاز عندهما من وجوهٍ الانتفاعُ إلّا للأكل، لخروجه بالنص. ¬

_ (¬1) في المصنف: (في السمن والزيت). (¬2) في المصنف: (استصبحوها). (¬3) المصنف (24400). (¬4) المصنف (24405). وليراجع مصنف عبد الرزاق (284 و 288 و 289). (¬5) تحرف في المخطوط إلى: (هيثم). (¬6) المصنف (24395). (¬7) رواه البخاري (3199) ومسلم (2981) (40) عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما -. (¬8) أي: الإبل.

فإن قيل: قد روى أبو داود (¬1)، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قالَ في فَأرَةٍ وقعت في سمنٍ: "فإنْ كَانَ مَائِعًا فَلاَ تَقْرَبُوه". قلت: قد صرَّح الحفاظ بأن معمرًا غلط فيه عن الزهري. قال شيخ الإسلام أبو العباس أحمد بن تيمية (¬2): وأمَّا الزيادة التي رواها أبو داود وغيره: "إن كان جامدًا فألقوها وما حولها، وان كان مائعًا فلا تقربوه"، فهيَ غلطٌ كما بيّن ذلك البخاري. وذكره الترمذي (¬3) وقالوا: غلط معمرٌ في هذا. ومما استدل به البخاري في صحيحه (¬4): أن الزهري نفسه أفتى في المائع إذا وقعت فيه الفأرة أو غيرها جامدًا أو مائعًا، قليلًا كانَ أو كثيرًا، أن يلقي النّجاسة ويؤكل. واحتجّ الزّهري بهذا الحديث. فتبيّن بهذا: أن سائر أصحابه حفظوه عنه، وغلط عليه معمر لا سيّما فيما حدّث به معمرٌ للبصريين عنه، فإنه غلط فيه في مواضع. انتهى. قلت: في رواية الطحاوي والحاكم يكون من الاختلاف على معمرٍ. والله أعلم. ¬

_ (¬1) رواه أحمد (2/ 32 و 265 و 490) وأبو داود (3842) عن أبي هريرة قال: سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن فأرةٍ وقعت في سمنٍ فماتت؟ قال: "إن كان جامدًا فخذوها وما حولها، ثم كلوا ما بقي، وإن كان مائعًا فلا تأكلوه". (¬2) مرّ قبل قليل كلام شيخ الإسلام كاملًا في هامش الكتاب. (¬3) (1798). (¬4) الصحيح (5219).

وعلى التنزّل: فإعمال الدليلين أولى من إهمال أحدهما إذا أمكنَ، وقد أمكنَ بحمل القربان النهي عنه، عن الأكل. وقد أطلق القربان في لسان الشرع، وأريدَ به غير مطلق الدنوّ مما يقتضيه المقام. قال الله تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} [البقرة: 222]. {وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [الأنعام: 152, الإسراء: 34]. وإذا ثبت جواز الانتفاع صح [25/ أ] البيعُ إلَّا أن يقومَ مانعٌ. وأمَّا دليلُ طهارة ما استحال إلى عين طهارةٍ فهوَ: أنَّ الشارعَ رتّب وصف النجاسة على تلك الحقيقة. والحقيقة تنتفي بانتفاء بعض أجزاء مفهومها. فبالكل أولى. وقد روى حربٌ الكرماني مسألةً بإسناده إلى أنس بن مالكٍ: أنهُ سئلَ عن تنّورٍ شويَ فيه خنزيرٌ. قال: يسجره مرةً أخرى. وفي روايةٍ: حتّى يبيض (¬1). وقد أطنب شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيميّة في تقريره هذا وإيضاحه فقال في مسألة ملاقاة النجاسة: الظاهر الصحيح من قول العلماء، وهو أحد القولين في مذهب أبي حنيفة ومالك وأحمد. ووجه في مذهب الشافعي (¬2): أنّ النّجاسة إذا صارت رمادًا أو ¬

_ (¬1) قال ابن قدامة في المغني (1/ 89): نهى إمامنا - رحمه الله - عن الخبز في تنور شوي فيه خنزير. (¬2) قال النووي في المجموع شرح المهذب (2/ 579): مذهبنا: أنه لا يطهر السرجين،=

قصر ملا (¬1) كانَ ذلكَ طاهرًا، وكذلك إذا صار ملحًا أو نشادرًا أو دخانًا أو فطرويًا أو غير ذلك من الأعيان الطّاهرة. وتراب القبور المنبوشة وإن كان مستحيلًا عن صديدِ الموتى. وقد ثبت في الصحيح (¬2): أن مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان مقبرةً للمشركين، وكان فيه نخلٌ وخروبٌ، فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالقبور فنبشت، وبالنّخل فقطعت، وبالخروب فسويت، ولم يأمر بنقل التراب القديم الذي كان في المقبرة، وهي مقبرة المشركين. فما الظن بمقابر المسلمين. ومن ظنّ من الفقهاء: أنه إنما نهى عن الصلاة في المقبرة لأجل النجاسة، فظنّهُ مخطئٌ، بل العلّة التي بينّها - صلى الله عليه وسلم - إنما هي مشابهة المشركين. وساق الأدلة. ووجهها إلى أن قال: ¬

_ = والعذرة، وعظام الميتة، وسائر الأعيان النجسة بالإحراق بالنار، وكذا لو وقعت هذه الأشياء في مملحة، أو وقع كلب ونحوه، وانقلبت ملحًا، ولا يطهر شيءٌ من ذلك عندنا، وبه قال مالك وأحمد وإسحاق وداود، وحكى أصحابنا عن أبي حنيفة طهارة هذا كله، وحكاه صاحب العدة والبيان وجها لأصحابنا. وقال إمام الحرمين: قال أبو زيد والخضري من أصحابنا: كل عين نجسة رمادها طاهرٌ تفريعًا على القديم، إذ الشمس والريح والنار تطهر الأرض النجسة، وهذا ليس بشيء، وقد فرّق المصنف بينها، وبين الخمر إذا تخللت. والله أعلم. (¬1) (قصر ملا) كذا في المخطوط. (¬2) رواه البخاري (418 و 1769 و 2000 و 2619 و 2622 و 2627 و 3717) عن أنس - رضي الله عنه -.

وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "جُعِلَتْ لِيَ الأَرْضُ مَسْجدًا وَجُعِلَتْ تُرْبتُهَا طَهُورًا" (¬1). يتناول الذي عند القبور وغيره. ومن قال: إن ذلك أو غيره نجسٌ لا مستحيل عن نجاسةٍ. فيقال له: هذا المعنى لا يوجب تحريمه لا بنص ولا قياس، فإنّ هذا لم يدخل في ألفاظ النصوص، فإنه تراب، وإنما حرّم الله الخبائث لما فيها من الخبث. وهذا المعنى منتفٍ فيه، وقد اتفق [25/ ب] العلماء على أن الخمر إذا بدأ الله بفسادها، طهرت مع أنه إنما تغير بعض صفاتها، لكن لما زال ما فيها من المعنى المسكر حلّتْ. ومعلومٌ: أن استحالة بقية الخبائث ملحًا وترابًا وبخارًا أبلغ من استحالة الخمر، فهي أولى بالتطهير، وقد فرق من فرق بين الخمر وغيره من أصحاب الشافعي وأحمد وغيرهم: بأن الخمرة حلت بالاستحالة، وطهرت بالاستحالة، بخلاف غيرها. فيقالُ لهم: هذا الفرقُ فاسدٌ بوجهين: أحدهما: أن هذا تسليمٌ ما. والاستحالة تؤثر في انقلاب حكم العين، فإذا كانت تجعل الطيب خبيثًا، والخبيث طيبًا. عُلِمَ: أن هذا حكمها في الطرفين جميعًا. الثاني: أن جميع الخبائث كذلك، إنما صارت نجسةً بالاستحالة، فإنّ الإنسانَ يشربُ الماء الطّاهر فيستحيل بولًا، ودمًا. ¬

_ (¬1) رواه مسلم (522) عن حذيفة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "فضلنا على الناس بثلاث: جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة، وجعلت لنا الأرض كلها مسجدًا، وجعلت تربتها لنا طهورًا إذا لم نجد الماء"، وذكر خصلة أخرى.

ويأكل الطعام فيستحيل عذرةً. والخنزيرُ مخلوقٌ من الماء والتراب، وهما طاهران (¬1). انتهى. ¬

_ (¬1) قال شيخ الإسلام كما في مجموع الفتاوى (21/ 319 - 333) (رسالة في الحمام): فصل: الماء الجاري في أرض الحمام، خارجًا منها، أو نازلًا في بلاليعها، لا يحكم بنجاسته، بل بطهارته، إلا أن تعلم نجاسة شيءٍ منه، ولهذا كان ظاهر مذهب أحمد: أن الحمام لم ينه عن الصلاة فيها لكونها مظنة النجاسة، كما ذهب إليه طائفة من الفقهاء، وهو وجه في مذهب أحمد، ومن قال هذا قال: إذا غسلنا موضعًا منها، أو تيقنا طهارته، جازت الصلاة فيه. وأما على من قال بالنهي مطلقًا كما في حديث أبي سعيد الذي في سنن أبي داود وغيره - وقد صحّحه من صحّحه من الحفاظ، وبينوا أن رواية من أرسله لا تنافي الرواية المسندة الثابتة - أن النبي قال: "الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام"، فاستثنى الحمام مطلقًا، فيتناول الاسم ما دخل في المسمى، فلهم طريقان: أحدهما: أن النهي تعبد، لا يعقل معناه، كما ذهب إليه طائفة من أصحاب أحمد، وغيرهم كأبي بكر والقاضي أبي يعلى وأتباعه. والثاني: أن ذلك لأنها مأوى الشياطين، كما في الحديث الذي رواه الطبراني، عن ابن عباس، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أن الشيطان قال: يا رب اجعل لي بيتًا، قال: بيتك الحمام. قال: اجعل لي قرآنا. قال: قرآنك الشعر. قال: اجعل لي مؤذنًا. قال: مؤذنك المزمار". وهذا التعليل كتعليل النهي عن الصلاة في أعطان الإبل بنحو ذلك، كما في الحديث: "إن على ذروة كل بعير شيطان، وإنها جن خلقت من جن"، إذ لا يصح التعليل هناك بالنجاسة؛ لأنه فرق بين أعطان الإبل ومبارك الغنم، وكلاهما في الطهارة والنجاسة سواء، كما لا يصح تعليل الأمر بالوضوء من لحومها؛ بأنه لأجل مسّ النار، مع تفريقه بين لحوم الإبل ولحوم الغنم، وكلاهما في مس النار وعدمه سواء. وكذلك تعليل النهي عن الصلاة في المقبرة بنجاسة التراب هو ضعيف، فإن النهي عن المقبرة مطلقًا، وعن اتخاذ القبور مساجد، ونحو ذلك، مما يبين أن النهي لما فيه من مظنة الشرك، ومشابهة المشركين. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = وأيضًا فنجاسة تراب المقبرة فيه نظر، فإنه مبني على مسألة الاستحالة، ومسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد كان مقبرة للمشركين، وفيه نخل وخرب، فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالنخل فقطعت، وجعلت قبلة المسجد، وأمر بالخرب فسويت، وأمر بالقبور فنبشت فهذه، مقبرة منبوشة، كان فيها المشركون، ثم لما نبش الموتى جعلت مسجدًا مع بقاء ما بقي فيها من التراب، ولو كان ذلك التراب نجسًا لوجب أن ينقل من المسجد التراب النجس، لا سيما إذا اختلط الطاهر بالنجس، فإنه ينبغي أن ينقل ما يتيقن به زوال النجاسة، ولم يفعل ذلك، ولم يؤمر باجتناب ذلك التراب، ولا بإزالة ما يصيب الأبدان والثياب منه. فتبين أن الحكم معلّقٌ بظهور القبور، لا بظن نجاسة التراب؛ وأيضًا من علل ذلك بالنجاسة، فإن غايته أن يكره الصلاة عند الاحتمال، كما قاله من كره الصلاة في المقبرة والحمام والأعطان، ولم يحرمها كما ذهب إليه طائفة من العلماء، لكن هذا قول ضعيف؛ لأن السنة فرّقت بين معاطن الإبل ومبارك الغنم، ولأنه استثنى كونها مسجدًا، فلم تبق محلًا للسجود، ولأنه نهى عن ذلك نهيًا مؤكدا بقوله قبل أن يموت بخمس: "إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك". ولأنه لعن على ذلك بقوله: "لعن الله اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد"، يحذر ما فعلوا، ولأنه جعل مثل هؤلاء شرار الخليقة، بقوله: "إن أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدًا، وصوّروا فيه تلك التصاوير، أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة". وأيضًا فإنه قد ثبت بسنته أن احتمال نجاسة الأرض لا يوجب كراهة الصلاة فيها، بل ثبت بسنته أن الأرض تطهر بما يصيبها من الشمس والريح والاستحالة، كما هو قول طؤائف من العلماء، كأبي حنيفة والشافعي في قول، ومالك في قول، وهو أحد القولين في مذهب أحمد؛ فإنه ثبت أن الكلاب كانت تقبل وتدبر وتبول في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولم يكونوا يرشون شيئًا من ذلك. وثبت في الصحيح عنه: أنه كان يصلي في نعليه. وفي السنن عنه، أنه قال: "إن اليهود لا يصلون في نعالهم، فخالفوهم". وقال: "إذا أتى أحدكم المسجد فلينظر في نعليه، فإن كان فيهما أذى=

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = فليدلكهما بالتراب، فإن التراب لهما طهور"، فإذا كان قد جعل التراب يطهر أسفل الخف؛ فلأن يطهر نفسه أولى وأحرى. وأيضًا فمن المعلوم: أن غالب طرقات الناس تحتمل من النجاسة نحو ما تحتمله المقبرة والحمام، أو نحو ذلك أو أكثر من ذلك، فلو كان ذلك سبب النهي لنهى عن الصلاة في النعال مطلقًا؛ لأن هذا الاحتمال فيها أظهر، فهذه السنن تبطل ذلك التعليل من وجهين: من جهة أن هذا الاحتمال لم يلتفت إليه، ومن جهة أن التراب مطهر لما يلاقيه في العادة. والمقصود هنا: الكلام في الماء الجاري في الحمام، فنقول: إن كراهة هذا الماء وتوقيه، وكسل ما يصيب البدن والثوب منه، إما أن يكون على جهة الاستقذار، وإما أن يكون على جهة النجاسة. أما الأول فكما يغسل الإنسان بدنه وثيابه من الوسخ والدنس، ومن الوحل الذي يصيبه، ومن المخاط والبصاق، ومن المني على القول بطهارته، وأشباه ذلك. ومثل هذا قد يكون في المياه المتغيزة بمقرّها وممازجها، ونحو ذلك. وهذا نوع غير النوع الذي نتكلم فيه الآن. وأما اجتناب ذلك على جهة تنجيسه، فحجّته أن يقال: إن هذا الماء في مظنة أن تخالطه النجاسة، وهو ما يكون في الحمام من القيء والبول؛ فإن هذه النجاسة التي قد تكون في الحمام، فأما العذرة أو الدم أو غير ذلك، فلا تكاد تكون في الحمام، وإن كان فيها نادرًا تميز وظهر. وأيضًا فقد يزال به نجاسة تكون على البدن أو الثياب، فإن كثيرًا ممن يدخل الحمام يكون على بدنه نجاسة، إما من تخلي، وإما من مرض، وإما غير ذلك، فيغسلها في الحمام، وكذلك بعض الآنية قد يكون نجسًا، وقد يكون بعض ما يغسل فيها من الثياب نجسًا. وأيضًا فهذا الماء كثيرًا ما يكون فيه الماء المستعمل في رفع الحدث، وهو نجس عند من يقول بنجاسته، فهذه الحجة المعتمدة. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = والجواب عنها مبني على أصول ثلاثة: أحدها: الجواب فيه من وجوه: أحدها: أن يقال: الماء الفائض من حياض الحمام والمصبوب على أبدان المغتسلين أو على أرض الحمام، طاهر بيقين، وما ذكر مشكوك في إصابته لهذا الماء المعين، فإنه وإن تيقن أن الحمام يكون فيه مثل هذا، فلم يتيقن أن هذا الماء المعين أصابه هذا، واليقين لا يزول بالشك. الوجه الثاني: أن يقال: هذا بعينه وارد في طين الشوارع لكثرة ما يصيبه من أبوال الدواب، وقد قال أصحاب أحمد وغيرهم: بطهارته، بل النجاسة في طين الشوارع أكثر وأثبت؛ فإن الحمام وإن خالط بعض مياهها نجاسة فإنه يندفع ولا يثبت بخلاف طين الشوارع. الوجه الثالث: أن يقال: كما أن الأصل عدم النجاسة، فالظاهر موافق للأصل، وذلك أنا إذا اعتبرنا ما تلاقيه النجاسة في العادة، وما لا تلاقيه كان ما لا تلاقيه أكثر بكثير، فإن غالب المياه الجارية في أرض الحمام لا يلاقيها في العادة نجاسة، وإذا اتفق الأصل والظاهر، لم تبق المسألة من موارد النزاع، بل من مواقع الإجماع، ولهذا قلت: أنه لا يستحب غسل ذلك تنجسًا، فإنه وسواس. ولنا فيما إذا شك في نجاسة الماء: هل يستحب البحث عن نجاسته؟ وجهان: أظهرهما: لا يستحب البحث، لحديث عمر. وذلك لأن حكم الغائب إنما يثبت بعد العلم في الصحيح، الذي هو ظاهر مذهب أحمد ومذهب مالك وغيرهما، ولا إعادة على من لم يعلم أن عليه نجاسة، وهذا وإن كان في اجتنابها في الصلاة، فمسألة إصابتها لنا فيها أيضًا وجهان. الوجه الرابع: أنا إذا قدرنا أن الغالب التنجس، فقد يعارض الأصل والظاهر، وفي مثل هذا كثيرًا ما يجيء قولان في مذهب الشافعي وأحمد وغيرهما، كثياب الكفار ونحو ذلك، لكن مع مشقة الاحتراز كطين الشوارع، يرجحون الطهارة، وإذا قيل بالتنجيس في مثل هذا عفي عن يسيره. الأصل الثاني: أن نقول: هب أن هذا الماء خالطته نجاسة، لكنه ماء جار، فإنه ساحٌّ على وجه الأرض، والماء الجاري إذا خالطته نجاسة، ففيه للعلماء قولان: أحدهما: أنه لا ينجس إلا بالتغير بالنجاسة، وهذا أصح القولين، وهو مذهب مالك وأحمد=

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = في أحد القولين اللذين يدل عليهما نصه، وهو مذهب أبي حنيفة - مع شدة قوله في الماء الدائم -، وهو القول القديم للشافعي، ونهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن البول في الماء الدائم والاغتسال فيه دليلٌ على أن الجاري بخلاف ذلك، وهو دليلٌ على أنه لا يضره البول فيه والاغتسال فيه. وأيضًا فإنه طاهر لم يتغير بالنجاسة، وليس في الأدلة الشرعية ما يوجب تنجيسه، فإن الذين يقولون: إن الماء الجاري كالدائم تعتبر فيه القلتان، فإذا كانت الجرية أقل من قلتين، نجسته. كما هو الجديد من قولي الشافعي، وأحد القولين في مذهب أحمد؛ فانه لا حجّة لهم في هذا، ولا أثر عن أحد من السلف، إلا التمسك بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث"، وقياس الجاري على الدائم، وكلاهما لا حجة فيه. أما الحديث فمنطوقه لا حجة فيه، وإنما الحجة في مفهومه، ودلالة مفهوم المخالفة لا تقتضي عموم مخالفة المنطوق في جميع صور المسكوت، بل تقتضي أن المسكوت ليس كالمنطوق، فإذا كان بينهما نوع فرق ثبت أن تخصيص أحد النوعين بالذكر مع قيام المقتضي للتعميم كان لاختصاصه بالحكم، فإذا قال: "إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث"، دلّ أنه إذا لم يبلغ قلتين لم يكن حكمه كذلك، فإذا كان ما لم يبلغ فرق فيه بين الماء الجاري والدائم حصل المقصود، لا سيما والحديث ورد جوابًا عن سؤالهم عن الماء الدائم الذي يكون بأرض الفلاة، وما ينوبه من السباع والدواب، فيبقى قوله: "الماء طهور لا ينجسه شيء" الوارد في بئر بضاعة متناولًا للجاري. والفرق: أن الجاري له قوة دفع النجاسة عن غيره، فإنه إذا صبّ على الأرض النجسة طهّرها ولم يتنجس، فكيف لا يدفعها عن نفسه؟! ولأن الماء الجاري يحيل النجاسة بجريانه. وأيضًا فإن القياس: هل هو تنجيس الماء بمخالطة النجاسة، أو عدم تنجيسه حتى تظهر النجاسة؟ فيه قولان للأصحاب وغيرهم. فمن قال بالأول، قال: العفو عما فوق القلتين، كان للمشقة؛ لأنه يشق حفظه من وقوع النجاسة فيه، لأنه غالبًا يكون في الحياض والغدران والآبار، بخلاف القليل=

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = فإنه يكون في الأواني، وهذا المعنى موجود في الجاري، فإن حفظه من النجاسة أصعب من حفظ الدائم الكثير. ومن قال بالثاني، وأن الأصل الطهارة حتى تظهر النجاسة، كان التطهير على قوله أوكد، فإن القليل الدائم نجسٌ؛ لأنه قد يحمل الخبث، كما نبّه عليه الحديث. وأما الجاري فإنه بقوة جريانه يحيل الخبث فلا يحمله، كما لا يحمله الكثير. وإذا كان كذلك؛ فهذه المياه الجارية في حمام إذا خالطها بول أو قيء أو غيرهما، كانت نجاسة قد خالطت ماءً جاريًا فلا ينجس إلا بالتغير، والكلام فيما لم تظهر فيه النجاسة. وإن قيل: إن ماء الحمام يخالطه السدر والخطمي والتراب، وغير ذلك مما يغسل به الرأس، والأشنان والصابون والحناء، وغير ذلك من الطاهرات التي تختلط به، حتى لا تظهر فيه النجاسة. قيل: إذا جاز أن تكون النجاسة ظاهرة فيه، وجاز أن لا تكون ظاهرة، فالأصل عدم ظهورها، وإذا كان قد علم أنه تخالطه الطاهرات، ورأيناه متغيرًا، أحلنا التغير على مخالطة الطاهرات، إذ الحكم الحادث يضاف إلى السبب المعلوم، لا إلى المقدر المظنون. بل قد ثبت النص بذلك فيما أصله الحظر، كالصيد إذا جرح وغاب؛ فإنه ثبت بالنص إباحته، وإن جاز أن يكون قد زهق بسبب آخر أصابه، فزهوقه إلى السبب المعلوم، وهو جرح الصائد أو كلبه، وإن كان في المسألة أقوال متعددة، فهذا هو الصواب الذي ثبت بالنصّ الصحيح الصريح. الأصل الثالث: أن نقول: هب أن الماء تنجس، فإنه صار نجاسة على الأرض، والنجاسة إذا كانت على الأرض بولًا كانت أو غير بول، فإنه يطهر بصبّ الماء عليها، إذا لم تبق عينها، كما أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك في حديث الأعرابي الذي بال في المسجد، حيث قال: "لا تزرموه"، أي: لا تقطعوا عليه بوله. "فصبوا على بوله ذنوبًا من ماء". وقال: "إنما بعثتم ميسرين، ولم تبعثوا معسرين". ولهذا قال أصحاب أحمد وغيره: إن نجاسة الأرض والبرك والحياض المبنية ونحو ذلك، مما لا ينقل ويحول، يخالف النجاسة على المنقول من الأبدان=

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = والثياب والآنية، من ثلاثة أوجه: أحدها: أنه لا يشترط فيها العدد، لا من ولوغ الكلب ولا غيره. الثاني: أنه لا يشترط فيها الانفصال عن موضع النجاسة. الثالث: أن الغسالة طاهرة قبل انفصالها عن موضع النجاسة. وإذا كان كذلك، فنقول: ما كان على أرض الحمام من بول وغيره، فإنه قد جرى عليه الماء بعد ذلك، فطهرت الأرض مع طهارة الغسالة، وإذا كانت غسالة الأرض طاهرة زالت الشبهة بالكلية، فإنه إن قال قائل: قد يكون من الماء ما تزال به نجاسة عن البدن أو آنية أو ثوب. قيل له: فهذه إذا كانت نجسة وأصابت الأرض لم تكن أعظم من البول المصيب الأرض، وإذا كانت تلك النجاسة تزول مع طهارة الغسالة قبل الانفصال، فهذه أولى، وليس له أن يقول النجاسة منتفية، ومرور الماء المطهر مشكوك فيه، لا سيما وقد يكون ذلك الماء المار مما لا يزيل النجاسة، لكونه مستعملًا، أو لتغيره بالطاهرات؛ لأنه يقال له: ليس الكلام في نجاسة معينة منتفية مشكوك في زوالها، وإنما الكلام فيما يعتاد. ومن المعلوم بالعادات: أن الماء المطهر، والجاري على أرض الحمام، أكثر من النجاسات بكثير كثير. فيكون ذلك الماء قد طهر ما مرّ عليه من نجس، فإنّ اغتسال الناس من غير حدثٍ ولا نجسٍ في الحمامات أكثر من اغتسالهم من إحدى هاتين الطهارتين، وهم يصبّون على أبدانهم من الماء القراح الذي ينفصل غير متغير أكثر من غيره، وإن كان فيه تغير يسير بيسير السدر والأشنان، فهذا لا يخرجه عن كونه مطهرًا، بل الراجح من القولين - وهو إحدى الروايتين عن أحمد - التي نصها في أكثر أجوبته: أن الماء المتغيّر بالطاهر كالحمص والباقلاء، لا يخرج عن كونه طهورًا، ما دام اسم الماء يتناوله، كالماء المتغير بأصل الخلقة، كماء البحر وغيره، وما تغير بما يشق صونه عنه من الطحلب وورق الشجر وغيرهما، فإن شمول اسم الماء في اللغة لهذه الأصناف الثلاثة واحد. فإن كان لفظ الماء في قوله: (فلم تجدوا ماء) يتناول أحد هذه الأصناف،=

وربما يؤدي النظر في دليل الطهارة بالاستحالة إلى أنّ المائع إذا كان كثيرًا، وكانت النجاسة الواقعة بحيث تستهلك فيه أو بعضها لا ينجس ولا يحرم ¬

_ = فقد تناول الآخرين، وقد ثبت أنه متناول للمتغير ابتداءً وطردًا لما يشق الاحتراز عنه، فيتناول الثالث، إذ الفرق إنما يعود إلى أمر معهود، وهو أن هذا يمكن الاحتراز عنه، وهذا لا يمكن، وهذا الفرق غير مؤثر في اللغة، ويتناول اللفظ لمعناه، وشمول الاسم مسماه، فيحتاج المفرق إلى دليل منفصل، وقد ثبت بالسنة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في الذي وقصته ناقته: "اغسلوه بماء وسدر". وكذلك قال للاَّتي غسلن ابنته: "اغسلنها بماء وسدر". وللذي أسلم: "اغتسل بماء وسدر"، وهذا فيه كلام ليس هذا موضعه. وإذا تبيّن ما ذكرناه ظهر عظيم البدعة، وتغيير السنة والشرعة، فيما يفعله طوائف من المنتسبين إلى العلم والدين من فرط الوسوسة في هذا الباب، حتى صاروا إنما يفعلونه مضاهين لليهود، بل للسامرية الذين يقولون: لا مساس. وياب التحليل والتحريم - الذي منه باب التطهير والتنجيس - دين الإسلام فيه وسط بين اليهود والنصارى، كما هو وسط في سائر الشراح، فلم يشدد علينا في أمر التحريم والنجاسة كما شدّد على اليهود، الذين حرمت عليهم طيبات أحلت لهم بظلمهم وبغيهم، بل وضعت عنا الآصار والأغلال التي كانت عليهم، مثل قرض الثوب ومجانبة الحائض في المؤاكلة والمضاجعة وغير ذلك، ولم تحلل لنا الخبائث كما استحلها النصارى، الذين لا يحرمون ما حرم الله ورسوله، ولا يدينون دين الحق، فلا يجتنبون نجاسة، ولا يحرمون خبيثًا، بل غاية أحدهم أن يقول: طهّر قلبك وصل. واليهودي إنما يعتني بطهارة ظاهره لا قلبه، كما قال تعالى عنهم: {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ}. وأما المؤمنون، فإن الله طهّر قلوبهم وأبدانهم من الخبائث، وأما الطيبات فأباحها لهم، والحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، كما يحبّ ربنا ويرضى. وانظر مجموع الفتاوى (22/ 179 - 185).

تناوله بعين ما تقدم من دليلهم؛ ولأنّ التحريم في كتاب الله تعالى وسنّة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تتعلق بأسماءٍ ولها معانٍ. والتحليل كذلك، فإنّ الله تعالى أحلَّ اللبنَ والعسلَ والدّهنَ ونحوها. وحرّم الميتة والدّم والخمر والخبائث من غيرها. والنجس المستهلك في الزيت لا يتناوله لفظ التحريم، ولا معناه. والمستهلك فيه لم يثبت له اسم الخبث، بل هذا المائع الذي استهلك فيه الخبث، إنّما يُسمَّى لبنًا وعسلًا وزيتًا مثلًا، ولا يُسَمَّى باسم الخبث، يكون قد تناوله نصوص التحليل دون التحريم، فيكون طاهرًا حلالًا لا حرامًا نجسًا. وفي هذا تكريرُ الاستدلال للتوضيح. وكذا لو شرب زيتًا استهلكت فيه الخمر لا يجلد ولو شرب الصبي في زمن الرضاع لبنًا مغلوبًا بغيره، لا يثبت حرمة الرضاع [26/ أ] وحينئذٍ إن لم يكن محل إطلاقِ المشايخ التنجيس والحرمة والأمر بالإراقة أو الاستصباح والبيع بالمعنى المذكور. والتطهير بالطريق المذكور: أنَّ ما يكون في الأواني بل هو أعمّ من ذلك، فالترجيح عندي لما قال شداد: المائع كالماء وإن كان مرادهم ما يكون في الأواني كما تقتضيه عبارة الكرخي. فالقولان متوافقان، ويحمل رواية أبي داود على تقدير الثبوت على أنها خرجت مخرج العادة. ومثلها: مرسلُ مكحولٍ، وأقوالُ الصحابة والتابعين المذكورين، وهو ظاهر. وفي خصوص ما نحن فيه:

ما رواه ابن أبي شيبة (¬1): حدثنا وكيع، عن سفيان، عن عمران بن أعين، عن أبي حرب بن أبي الأسود قال: سُئِلَ ابنُ مسعودٍ في فأرة وقعت في سمنٍ فماتت. فقال: إِنَّمَا حَرَّمَ اللهُ من الْمَيْتَةِ لَحْمَهَا وَدَمَهَا. وفتوى الزهري المتقدّمة، والكلُّ في الماءِ جارٍ على قول أبي يوسف الذي أخبرناه، كما قدمنا نقله. والله أعلم. * * * ¬

_ (¬1) المصنف (24398).

(5) أحكام الصلاة على الجنازة في المسجد

مَجْمُوعَةُ رَسَائِل العَلَّامَة قَاسِم بن قُطْلُوبُغَا [5] أَحْكَامُ الصَّلَاةِ عَلَى الجَنَازَةِ فِي المَسْجِدِ تَأْلِيفُ العَلَّامَة قَاسِم بْنِ قُطْلُوبُغَا الحَنَفِي المولود سَنَة 802 هـ والمتوفى سَنة 879 هـ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -

بداية الرسالة

(5) أَحْكَامُ الصَّلَاةِ عَلَى الجَنَازَةِ فِي المَسْجِدِ قال - رحمه الله -: قد ظنَّ بعضُ الناس من صلاةِ شيخ الإسلام سعد الدين الديري (¬1) على إبراهيم بن الجيعان (¬2) في الجامع الأزهر: أنَّهُ لاَ كَرَاهَةَ ¬

_ (¬1) هو سعد بن محمد بن عبد الله بن سعد بن أبي بكر بن مصلح بن أبي بكر بن سعد، قاضي القضاة، شيخ الإسلام، علامة الدنيا، وحيد دهره وفريد عصره، ابن قاضي القضاة شمس الدين العبسي الديري المقدسي الحنفي، مولده ببيت المقدس المبارك في سابع عشر شهر رجب سنة ثمان وستين وسبع مئة، وبها نشأ، برع في الفقه والعربية والتفسير والأصول والوعظ، وأفتى ودرّس، وتولى بعد موت والده تدريس الجامع المؤيدي ومشيخة الصوفية بها، وصار إمام عصره ووحيد دهره. انتهت إليه رئاسة السادة الحنفية في زمانه شرقًا وغربًا، بلا مدافعة، هذا مع الديانة والصيانة وكثرة الحفظ لمختصرات مذهبه، بل وللمطولات أيضًا، ولمتون الحديث. وأما استحضاره لتفسير القرآن العزيز؛ فغاية لا تدرك، ومات سنة 868 هـ. المنهل الصافي والمستوفى بعد الوافي (1/ 455 -). (¬2) قال السخاوي في الضوء اللامع (1/ 41): إبراهيم بن عبد الغني بن شاكر بن ماجد ابن عبد الوهاب بن يعقوب، سعد الدين بن فخر الدين، الدِّمياطي الأصل، القاهري، ويعرف كسلفه بابن الجيعان، ناظر الخزانة وكاتبها، وأصغر إخوته الخمسة الأشقاء، أمهم ابنة المجد كاتب المماليك في أيام الناصر، كان رئيسًا عاقلًا، محتشمًا، وقورًا، محبًا في العلماء، مكرمًا لهم، وله مآثر حسنة، منها: جامع بولاق بالقرب من منظرة الحجازية، وجعل فيه شيخًا، وصوفية قضاء الشام بعد، ثم رغب عنها لشيخ المكان، واتفق لكل من الأولين ماجرية في ذلك، أودعتها في الحوادث، وبالقرب منه له=

لذلك عندنا، وأنّه لا معنى لتركه لذلك، وصلاتي على بعض الناس في الرّحاب، فسألني؟ فقلت: المنقولُ: المنعُ. قال الإمام محمَّد بن الحسن في مُوَطَّئِهِ (¬1): لا يصلَّى على جنازةٍ في مسجدٍ. وقال الإمام الطحاوي في معاني الآثار (¬2): النَّهي عن الصَّلاة على ¬

_ = عمائر هائلة، بل ملك منظرة البراحية وغيرها مما صار وقفًا عليه، وحجّ غير مرة، وزار بيت المقدس والخليل، وتقدم في الرياسة، وصاهر الجمالي ابن كاتب حكم على أخته، فاستولدها شقرا تزوجها ابن خالها الكمالي ناظر الجيش، ثم خلفه عليها حفيد عمها البدري أبو البقاء، ولم يكن للجمالي مع صاحب الترجمة أمر، وله ابنة أكبر منها تزوجها بعض من بني مخاطة، وهي من سرية له زوجها في حياته بعض أخصائهم الخيار، وماتت تحته بالمدينة النبوية. ومات في ليلة الجمعة ثالث عشر ربيع الأول سنة أربع وستين، ودفن من الغد بتربة أخيه المجد عبد الرحمن، قريبًا من تربة الأشرف برسباي من الصحراء، بعد أن صلى عليه بعد صلاة الجمعة بالأزهر، ويقال: إنه لم يبلغ الستين - رحمه الله - وعفا عنه. (¬1) (2/ 101) رقم (313). (¬2) (1/ 492) رقم (2600) قال: حدثنا سليمان بن شعيب قال: حدثنا أسد قال: حدثنا ابن أبي ذئب، عن صالح مولى التوأمة (ح). وحدثنا أحمد بن داود قال: حدثنا يعقوب بن حميد قال: حدثنا معن بن عيسى، عن ابن أبي ذئب، عن صالح بن أبي صالح، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من صلى على جنازة في مسجد فلا شيء له". فلما اختلفت الروايات عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في هذا الباب، فكان فيما روينا في الفصل الأول، إباحة الصلاة على الجنائز في المساجد، وفيما روينا في الفصل الثاني كراهة ذلك، احتجنا إلى كشف ذلك، لنعلم المتأخر منه، فنجعله ناسخًا لما تقدّم من ذلك، فلما كان حديث عائشة فيه دليلًا على أنهم قد كانوا تركوا الصلاة على الجنائز في المسجد، بعد أن كانت تفعل فيه حتى ارتفع ذلك من فعلهم،=

الجنازة في المسجد وكراهيتها، هو قول أبي حنيفة ومحمَّدٍ، وهو قول أبي يوسف أيضًا، غير أنّ أصحاب الإملاءِ رووا عنه (¬1) أنّه قالَ: إذا كان مسجدٌ قد أُفْرِدَ للصلاة على الجنائز، فلا بأس بأن يصلّى على الجنائز فيه (¬2) (¬3). ¬

_ = وذهبت معرفة ذلك من عامّتهم، فلم يكن ذلك عندها لكراهة حدثت، ولكن كان ذلك عندها؛ لأن لهم أن يصلوا في المسجد على جنائزهم، ولهم أن يصلوا عليها في غيره، ولا يكون صلاتهم في غيره دليلًا على كراهة الصلاة فيه، كما لم تكن صلالهم فيه دليلًا على كراهة الصلاة في غيره، فقالت بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم مات سعد ما قالت لذلك، وأنكر عليها ذلك الناس، وهم أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومن تبعهم، وكان أبو هريرة - رضي الله عنه - قد علم من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نسخ الصلاة عليهم في المسجد بقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي سمعه منه في ذلك، وأن ذلك الترك الذي كان من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للصلاة على الجنائز في المسجد بعد أن كان يفعلها فيه، ترك نسخ، فذلك أولى من حديث عائشة؛ لأن حديث عائشة - رضي الله عنها - إخبار عن فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حال الإباحة التي لم يتقدمها نهي، وفي حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - إخبار عن نهي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي قد تقدمته الإباحة، فصار حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أولى من حديث عائشة - رضي الله عنها -؛ لأنه ناسخٌ له، وفي إنكار من أنكر ذلك على عائشة - رضي الله عنها - وهم يومئذ أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دليلٌ على أنهم قد كانوا علموا في ذلك خلاف ما علمت، ولولا ذلك لما أنكروا ذلك عليها، وهذا الذي ذكرنا من النهي عن الصلاة. . . فذكره. (¬1) أي: أبو يوسف. (¬2) تحرف في المخطوط إلى: (إذا كان مسجدًا فرد للصلاة على الجنائز فيه، يصلي على الجنائز فيه، فلا بأس أن). والمثبت من شرح معاني الآثار. (¬3) قال صاحب رد المحتار (6/ 338): مطلبٌ في كراهة صلاة الجنازة في المسجد: (قوله: وقيل تنزيهًا) رجّحه المحقّق ابن الهمام وأطال؛ ووافقه تلميذه العلّامة ابن أمبر حاجٍّ، وخالفه تلميذه الثّاني الحافظ الزّينيّ قاسمٌ في فتواه برسالةٍ خاصّةٍ،=

وقول صاحب الهداية في مختارات النوازل: ولا يصلّي صلاة الجنازة في مسجدِ يصلّي فيه الجماعة عندنا للحدث، وسواء كان الميت في المسجد أو خارجًا منه في ظاهر الرواية. وفي رواية: إذا كان الميِّت خارجَ المسجد، لا يكرهُ (¬1). وقال في المحيط: وتكره صلاة الجنازة في المسجد خلافًا للشافعي. والصحيح: قولنا: لما روى - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَنْ صَلَّى عَلَى الْجَنَازَةِ فِي الْمَسْجدِ فَلاَ [26/ ب] شَيءَ لَهُ" (¬2). ¬

_ = فرجّح القول الأوّل لإطلاق المنع في قول محمَّدٍ في موطئه: لا يصلّى على جنازةٍ في مسجدٍ. وقال الإمام الطحاوي: النهي عنها وكراهيتها، قول أبي حنيفة ومحمدٍ، وهو قول أبي يوسف أيضًا وأطال، وحقق أن الجواز كان ثمّ نسخ وتبعه في البحر، وانتصر له أيضًا سيّدي عبد الغني في رسالةٍ سمّاها نزهة الواجد في حكم الصّلاة على الجنائز في المساجد. وانظر حاشية رد المحتار (2/ 243). (¬1) انظر رد المحتار (6/ 338). (¬2) رواه الطيالسي (2310) وعبد الرزاق (6579) والإمام أحمد (9730 و 9865 و 10561) وانظر مسائل الإمام أحمد رواية ابنه عبد الله (2/ 481 - 482) وابن أبي شيبة (3/ 364 - 365) وابن ماجه (1517) وأبو داود (3191) وأبو القاسم البغوي في الجعديات (2846 و 2848) والطحاوي في شرح معاني الآثار (1/ 492) وابن حبان في المجروحين (1/ 366) وابن الأعرابي في معجمه (1211) وابن شاهين في ناسخ الحديث ومنسوخه (346 و 347 و 348 و 349) وأبو نعيم في الحلية (7/ 93) وابن عدي في الكامل (4/ 1374) والبيهقي (4/ 52) ومعرفة السنن والآثار له (2309) وأبو محمد البغوي في شرح السنة (1493) وابن الجوزي في العلل المتناهية (696) من طرقٍ عن ابن أبي ذئب، عن صالح مولى التوأمة، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - به.=

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = صالح مولى التوأمة، هو صالح بن نبهان مولى التوأمة بنت أمية، هو في الأصل حسن الحديث، قد حسّن القول فيه جماعة، وضعّفه آخرون بسبب اختلاطه، وكان قد اختلط اختلاطًا فاحشًا، حتى قال ابن حبان في المجروحين (1/ 366): تغيّر في سنة 125 هـ، وجعل يأتي بالأشياء التي تشبه الموضوعات عن الأئمة الثقات، فاختلط حديثه الأخير بحديثه القديم ولم يتميّز، فاستحق الترك. وقال أحمد بن حنبل: كان مالك أدركه وقد اختلط، فمن سمع منه فذلك، وقد روى عنه أكابر أهل المدينة، وهو صالح الحديث ما أعلم به بأسًا. وقال أحمد بن سعيد ابن أبي مريم: سمعت ابن معين يقول: صالح مولى التوأمة ثقة حجة. قلت له: إن مالكًا ترك السماع منه! قال: إن مالكًا إنما أدركه بعدما كبر وخرف، والثوري إنما أدركه بعدما خرف، وسمع منه أحاديث منكرات، ولكن ابن أبي ذئب سمع منه قبل أن يخرف. وقال الجوزجاني: تغير أخيرًا، فحديث ابن أبي ذئب عنه مقبول لسنه، وسماعه القديم. قال ابن عدي: لا بأس به إذا روى عنه القدماء، مثل: ابن أبي ذئب، وابن جريج، وزياد بن سعد. أقول: سماع ابن أبي ذئب من صالح قديم قبل أن يتغير، باتفاق أهل العلم على ذلك، لكن لا يبعد أن يكون قد سمع منه بعد الاختلاط أيضًا، لاجتماع دارهما ومكثهما فيها، وهي مدينة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وقال ابن حبان: خبر باطل، وردّ بحديث عائشة. وقال ابن المنذر في الأوسط (9/ 303): لا يصح عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وقال البيهقي: هذا الحديث يعدّ في أفراد صالح، وحديث عائشة أصحّ منه، وصالح مولى التوأمة مختلف في عدالته، كان مالك بن أنس يجرّحه. وقال ابن الجوزي: لا يصح. وقال ابن عبد البر في الاستذكار (8/ 273): وفي هذا الباب عن النبي - صلى الله عليه وسلم - حديثان: أحدهما حديث عائشة، والثاني حديث يروى عن أبي هريرة لا يثبت عنه: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:. . . فذكره، ثم قال: وقد يحتمل قوله في حديث أبي هريرة هذا: "فلا شيء له"، أي: فلا شيء عليه، كما قال الله عز وجل: {إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} [الإسراء: 7]، بمعنى عليها. =

لو وضعت الجنازة خارج المسجد والإمام خارج المسجد، ومعه صف والباقي في المسجد

ولأنَّ تنزيه المسجد واجبٌ، وفي إدخال الميت المسجد احتمالُ وقوع النّجاسةِ فيه، فيكره كما يكره إدخال الصبي والمجنون المسجد؛ لأنه لا يؤمن من تلويث المسجد، فكذا هذا. ولو وضعت الجنازة خارج المسجد والإمام خارج المسجد، ومعه صفٌّ والباقي في المسجد. اختلفوا فيه: قيل: لا تكره الصلاة عليه. وهكذا روي عن أبي يوسف في النوازل: ¬

_ = وسئل أحمد بن حنبل - وهو إمام أهل الحديث والمقدّم في معرفة علل النّقل فيه - عن الصلاة على الجنازة في المسجد؟ فقال: لا بأس بذلك، وقال بجوازه. فقيل: فحديث أبي هريرة؟ فقال: لا يثبت - أو قال: حتى يثبت -. ثم قال: رواه صالح مولى التوأمة، وليس بشيء فيما انفرد به. فقد صحّح أحمد بن حنبل السنة في الصلاة على الجنائز في المسجد، وقال بذلك. وهو قول الشافعى وجمهور أهل العلم، وهي السنة المعمول بها في الخليفتين بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، صلّى عمر على أبي بكر الصديق في المسجد، وصلّى صهيبٌ على عمر في المسجد بمحضر كبار الصحابة وصدر السلف من غير نكير، وما أعلم من ينكر ذلك إلا ابن أبي ذئب. ورويت كراهية ذلك عن ابن عباس من وجوه لا تصحّ ولا تثبت، وعن بعض أصحاب مالك. ورواه ابن القاسم عن مالك، وقد روي عنه جواز ذلك من رواية أهل المدينة وغيرهم. وانظر تتمة كلام ابن عبد البر في الاستذكار، والتمهيد له (21/ 217 - 223). أقول: وقد قوّى أمر هذا الحديث جماعةٌ، ورأوا العمل به، انظر زاد المعاد لابن قيّم الجوزية (1/ 501 - 552) والجوهر النقي لابن التركماني (4/ 52) وإعلام السنن للتهانوي (8/ 228 - 230).

أنّه ليس له فيه احتمال تلويث المسجد (¬1). وقيل: يكرهُ؛ لأنّ المسجد أعدَّ لأداء المكتوبات، فلا يقام فيه غيرها قصدًا إلّا بعذرٍ. وقال في شرح القدوري: المسمّى بالمضمرات في قوله: ولا يصلى على ميتٍ في مسجدٍ جماعةٍ. يُكرهُ أن يصلى على الميت في المسجد سواءٌ كانت الجنازة في المسجد أو هي خارج المسجد، والإمام في المسجد. وفي النسفية: سئل عن صلاة لجنازة وهي خارج المسجد والناس في المسجد، هل يكرهُ؟ فقال: كان المشايخ أهل سمرقند لا يكرهون ذلك، ويصلون في المسجد والجنّازة على باب المسجد حتّى ورد عليهم السيد أبو شجاع، فرأى منهم ذلك فقال: ما لكم تصلون على الجنازة في المسجد؟. قالوا: إنّ مشايخنا أجازوا ذلك. قال: قد تقدمهم مشايخ أخر لم يجوزوه. قالوا: ومن هم؟. قال: إمام الأئمة أبو حنيفة، ومن تبعه. ونصّوا على كراهة ذلك في كتبهم، فاتفقوا على أنْ بنوا وراء المقصورة سقيفةً يوضع الميت فيها، وصفوفٌ منَ النّاس في هذه السقيفة، ثم يتّصل منه الصفوف التي في الجامع. ¬

_ (¬1) انظر تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق (3/ 197).

قال: فالحاصل أنّ إدخال الجنازة في المسجد والصلاة عليها في المسجد مكروهٌ عندنا. وفي وضع الجنازة على باب المسجد والإمام والقوم في المسجد اختلافُ المشايخ، ووضع الجنازة خارج المسجد. وقيام الناس معه خارج المسجد، ثم اتصال الصفوف بهم غير مكروهٍ. وأمّا الحجاج: فقال محمّد في الموطّأ (¬1): حدثنا مالك، حدثنا نافع، عن ابن عمر: أنّه قال: ما صُلِّيَ على عمرٍ إلَّا في المسجد. وقال محمد (¬2): لا يصلَّى على جنازةٍ [في المسجد]، وكذلك (¬3) بلغنا عن أبي هريرة، وموضع الجنازة بالمدينة خارج [من] المسجد، وهو الموضع الذي كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي [27/ أ] على الجنائز فيه. فأفاد: أنّ (¬4) عمل النبي - صلى الله عليه وسلم - كان على خلاف ما وقع في الصّلاةِ على أمير المؤمنين عمر بن الخطّاب - رضي الله عنه -، فيحملُ على العذرِ. وبه قال في المحيط، ولفظه: فلا يقام فيه - أي: المسجد - غيرها - أي: غير الصلاة - قصدًا إلّا لعذرٍ. وهذا تأويلُ حديث عمرَ: أنَّهُ لَمَّا قتلَ صُلِّيَ عَلَيْهِ في المسجدِ؛ لأنَّهُ كَانَ ¬

_ (¬1) (2/ 101) رقم (313). (¬2) (2/ 101) رقم (313). (¬3) في المخطوط: (ولذلك). (¬4) تحرف في المخطوط إلى: (فأما وأن).

لعذرٍ. وهو خوف الفتنة والصَّدِّ عَنِ الدَّفنِ عند النبي - صلى الله عليه وسلم -. وروى الإمام الطحاوي (¬1)، عن عائشة: أَنَّها حين توفي سعد بن أبي وقاص قالت: ادْخُلُوا به المسجدَ حَتَّى أُصَلِّيَ عَلَيْهِ. فأنكَرَ ذلكَ النَّاسُ عَلَيْهَا. فقالت: لقد صَلَّى رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلى سُهَيلِ (¬2) بْنِ بَيْضَاءَ فِي الْمَسْجِدِ. قال (¬3): فذهب قومٌ إلى هذا الحديث، فقالوا: لا بأسَ بالصَّلاة على الجنازة في المساجد. واحتجُّوا أيضًا بما روي عن ابن عمر: أنَّ عمر صُلِّيَ عليه في المسجد. وخالفهم في ذلك آخرون، فكرهوا الصَّلاة على الجنازة في المساجد. واحتجُّوا [في ذلك] بما حدَّثنا. . . إلخ. فروى عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنَّهُ قالَ: "مَنْ صلَّى عَلَى جَنَازَةٍ فِي مَسْجدٍ، فَلاَ شَيْءَ لَهُ" (¬4). قال (¬5): فلمَّا اختلفت الروايات عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في هذا الباب، (فكان فيما روينا في الفصل الأوَّل إباحة الصَّلاة على الجنائز في المساجد، وفيما ¬

_ (¬1) (1/ 492). (¬2) تحرف في المخطوط إلى: (سهل). (¬3) أي: الطحاوي في شرح معاني الآثار (1/ 492). (¬4) شرح معاني الآثار (1/ 492). (¬5) شرح معاني الآثار (1/ 492).

روينا في الفصل الثَّاني كراهة ذلك، احتجنا إلى كشف ذلك) (¬1) لنعلم المتأَخِّر من الحديثين، فنجعله ناسخًا للمتقدِّم منهما. فوجدنا في حديث عائشة دليلًا على أنَّهم [قد] كانوا تركوا الصَّلاة على الجنائز في المسجد، بعد أن كانت تفعل فيه، وارتفع (¬2) ذلك من فعلهم، ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين في المخطوط: (نظرنا في ذلك). (¬2) في شرح معاني الآثار: حتى ارتفع ذلك من فعلهم، وذهبت معرفة ذلك من عامّتهم. فلم يكن ذلك عندها، لكراهةٍ حدثت، ولكن كان ذلك عندها، لأنّ لهم أن يصلّوا في المسجد على جنائزهم، ولهم أن يصلّوا عليها في غيره. ولا يكون صلاتهم في غيره دليلًا على كراهة الصّلاة فيه. كما لم تكن صلاتهم فيه دليلًا على كراهة الصّلاة في غيره. فقالت بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم مات سعدٌ ما قالت لذلك. وأنكر عليها ذلك النّاس، وهم أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومن تبعهم. وكان أبو هريرة - رضي الله عنه - قد علم من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نسخ الصلاة عليهم في المسجد بقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الّذي سمعه منه في ذلك، وأن ذلك التّرك الذي كان من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للصلاة على الجنائز في المسجد، بعد أن كان يفعلها فيه، ترك نسخٍ. فذلك أولى من حديث عائشة؛ لأنّ حديث عائشة - رضي الله عنه - إخبارٌ عن فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حال الإباحة التي لم يتقدّمها نهيٌ. وفي حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - إخبارٌ عن نهي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي قد تقدّمته الإباحة. فصار حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أولى من حديث عائشة - رضي الله عنهما -، لأنة ناسخ له. وفي إنكار من أنكر ذلك على عائشة - رضي الله عنهما -، وهم يومئذٍ أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دليل على أنهّم قد كانوا علموا في ذلك، خلاف ما علمت، ولولا ذلك لما أنكروا ذلك عليها. =

وذهب معرفته عن عائشة، فلم يكن ذلك عندها لكراهية حديث بأركان الأمر عندها على أنّهم كانوا يصلّون عليها في المسجد لو شاؤوا. لذلك أمرت به حتى أنكر ذلك الناس عليها، وهم أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعلمهم بما غاب عنها، فبان بذلك: أنّ الإباحة للصلاة عليها في المسجد هي المتقدمة على ما في حديث عائشةَ (¬1) من صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على سهيل بن البيضاء في المسجد، وأنّ الترك للصلاة عليها في المسجد هو المتأخر عن ذلك [27/ ب] على ما في حديث أبي هريرة. وإن حديث أبي هريرة ناسخٌ لحديث عائشة. وهذا الذي ذكرناه من النهي عن الصلاة على الجنائز في المسجد، وكراهيتها. هو قول أبي حنيفة، ومحمد. وهو قول أبي يوسف أيضًا. غير أنّ أصحاب الإملاء رووا عنه أنه قال: إذا كان مسجدٌ قد أفرد للصَّلاة على الجنازة، فلا بأس بأن يصلَّى عَلَى الجنائز فيه. انتهى. وما نقله عن أبي يوسف. قال في المحيط: اختلفوا: هل له حكم المسجد؟ والصحيح: أنَّه ليس بمسجدٍ؛ لأنه (¬2) ما أعدَّ للصَّلاة حقيقةً؛ لأنَّ صلاة الجنازة ليست بصلاةٍ ¬

_ = وهذا الّذي ذكرنا من النّهي عن الصَّلاة على الجنازة في المسجد، وكراهتها، قول أبي حنيفة، ومحمّدٍ، وأبي يوسف - رضي الله عنهم -. غير أن أصحاب الإملاء رووا عن أبي يوسف - رضي الله عنه - في ذلك أنّه قال: إذا كان مسجدٌ قد أفرد للصّلاة على الجنازة، فلا بأس بأن يصلّى على الجنائز فيه. (¬1) رواه الإمام أحمد (6/ 79) ومسلم (973). (¬2) في المخطوط: (لأن).

حقيقيَّةٍ، ولهذا: يجوز إدخال الميِّت فيه، وحاجة النَّاس ماسَّةٌ إلى أنه لم يكن مسجدًا توسعَةً للأمر عليهم (¬1). انتهى. وقال الإمام أبو الحسين القدوري في التجريد: قال أصحابنا: تكرهُ الصلاة على الموتى في مسجد الجماعة. وقال الشافعي (¬2): يجوز لنا حديث أبي هريرة: أَنَّ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: ¬

_ (¬1) في تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق (3/ 197): في المحيط: واختلفوا في الموضع الذي اتخذ لصلاة الجنازة: هل له حكم المسجد؟ فالصّحيح أنه ليس بمسجدٍ؛ لأنه ما أعدّ للصلاة حقيقةً؛ لأن صلاة الجنازة ليست بصلاةٍ حقيقية، وهذا يجوز إدخال الميت فيه، وحاجة النّاس ماسّةٌ إلى أنّه لم يكن مسجدًا توسعةً للأمر عليهم، واختلفوا أيضًا في مصلّى العيد أنه هل هو مسجدٌ، والصحيح أنه مسجدٌ في حقّ جواز الاقتداء، وإن انفصلت الصّفوف؛ لأنه أعدّ للصلاة حقيقةً. (¬2) قال الشافعي في الأم (7/ 222) (باب الصلاة على الميت في المسجد): أخبرنا مالك، عن أبي النضر مولى عمر بن عبيد الله، عن عائشة أم المؤمنين أنها قالت: ما صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على سهيل بن بيضاء إلا في المسجد. قلت للشافعي: فإنا نكره الصلاة على الميت في المسجد؟ فقال: أرويتم هذا أنه صلى على عمر في المسجد، فكيف كرهتم الأمر فيه، وقد ذكره صاحبكم، أذكر حديثًا خالفه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فاخترتم أحد الحديثين على الآخر. فقلت: ما ذكر فيه شيئًا علمناه. قال الشافعي - رحمه الله تعالى -: فكيف يجوز أن تدعوا ما رويتم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وعن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - أنهم فعلوه بعمر، وهذا عندكم عمل مجتمع عليه؛ لأنه لا نرى من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - أحدًا حضر موت عمر، فتخلف عن جنازته، فتركتم هذا بغير شيء رويتموه، وكيف أجزتم أن ينام في المسجد ويمر فيه الجنب طريقًا، ولا يجوز أن يصلى فيه على ميت. أخبرنا الربيع: مات سعيد فخرج أبو يعقوب البويطي وخرجنا معه فصف بنا وكبر أربعًا وصلينا عليه، وكان أبو يعقوب الإمام فأنكر الناس ذلك علينا وما بالينا.

"مَنْ صَلَّى عَلَى مَيِّتٍ فِي الْمَسْجدِ فَلاَ شَيْءَ لَهُ". ذكرهُ أبو داود (¬1). قلت: ورواه عن ابن أبي شيبة (¬2) بلفظ: "مَنْ صلَّى عَلَى جَنَازَة فِي الْمَسْجدِ فَلاَ صَلاَةَ (¬3) لَهُ". قَالَ (¬4): وَكانَ أصحاب رسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إذا ضاق بهم المكان رجعوا ولم يصلوا. وسيأتي له لفظٌ آخرَ. والله أعلمُ. قال (¬5): ولا يقال: إنه متروك الظاهر، لأننا اجتمعنا على استحقاقه الثواب بسقوط الفرض، لأنّ الفرض وإن سقط فيجوز أن لا يحصل له الثواب، وسقوط الفرض لا يوصف أنه له من غير فواتٍ. ¬

_ (¬1) رواه الطيالسي (2310) وعبد الرزاق (6579) والإمام أحمد (9730 و 9865 و 10561) وانظر مسائل الإمام أحمد رواية ابنه عبد الله (2/ 481 - 482) وأبو داود (3191) وابن ماجه (1517) وأبو القاسم البغوي في الجعديات (2846 و 2848) والطحاوي في شرح معاني الآثار (1/ 492) وابن حبان في المجروحين (1/ 366) وابن الأعرابي في معجمه (1211) وابن شاهين في ناسخ الحديث ومنسوخه (346 و 347 و 348 و 349) وأبو نعيم في الحلية (7/ 93) وابن عدي في الكامل (4/ 1374) والبيهقي (4/ 52) ومعرفة السنن والآثار له (2309) وأبو محمد البغوي في شرح السنة (1493) وابن الجوزي في العلل المتناهية (696) من طرقٍ عن ابن أبي ذئب، عن صالح مولى التوأمة، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - به. (¬2) المصنف (11972). (¬3) في المصنف: (فلا شيء). (¬4) يعني: أبا هريرة - رضي الله عنه -. (¬5) لعله القدوري؟.

ورويَ: أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - لَمَّا نعَى النَّجَاشِيَّ إِلَى أَصْحَابِهِ خَرَجَ فَصَلَّى عَلَيْهِ فِي الْمُصَلَّى (¬1). ولو كانَ تَجُوز الصلاة في المسجد، لم يكن للخروج معنًى (¬2). ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "جَنّبوا مَسَاجِدكُمْ صِبْيانكُمْ وَمَجَانِينَكُمْ. . . " (¬3). وكان المعنى فيهِ: أنهُ لا يؤمنُ تلويثُ المسجد منهم، وهذا موجودٌ في الميت. ولأنَّ الناس أفردوا للجنائز مسجدًا في سائر الأعصار. ولو جاز في المسجد، لم يكن لإفراد موضع لها معنًى. ¬

_ (¬1) رواه البخاري (1188) عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نعى النجاشي في اليوم الذي مات فيه، خرج إلى المصلى، فصف بهم وكبر أربعًا. وانظر (1255 و 1263 و 1268 و 3667 و 3668) ومسلم (951). (¬2) قال صاحب رد المحتار (6/ 340): لا يخفى أن الصَّلاة على الميّت فعلٌ لا أثر له في المفعول، وإنما يقوم بالمصلّي، فقوله من صلى على ميّتٍ في مسجدٍ يقتضي كون المصلّي في المسجد سواءٌ كان الميت فيه أو لا، فيكره ذلك أخذًا من منطوق الحديث، ويؤيّده ما ذكره العلّامة قاسمٌ في رسالته من أنّه روي: أن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - لمّا نعى النّجاشيّ إلى أصحابه، خرج فصلى عليه في المصلّى. قال: ولو جازت في المسجد لم يكن للخروج معنًى. اهـ. مع أنّ الميّت كان خارج المسجد. (¬3) رواه ابن ماجه (750) عن واثلة بن الأسقع: "جنبّوا مساجدكم: صبيانكم، ومجانينكم، وشراءكم، وبيعكم، وخصوماتكم، ورفع أصواتكم، وإقامة حدودكم، وسلّ سيوفكم، واتخذوا على أبوابها المطاهر، وجمّروها في الجمع". وفي الزوائد: إسناده ضعيف؛ لأن الحارث بن نبهان متفقٌ على ضعفه. ورواه أيضًا الطبراني في الكبير (22/ رقم 136) ومسند الشاميين (3385). أقول: وروي مرفوعًا عن أبي الدرداء وأبي أمامة وواثلة عند الطبراني في الكبير (7601) ومسند الشاميين (3436) والبيهقي في سننه (2/ 340).

واحتجوا: بأنّ عائشةَ لمّا مات سعد بن أبي وقاص قالت: أدخلوهُ المسجدَ لأُصلِّي عليهِ. فأُنكرَ عليهَا ذلكَ. فقالت: ما صلَّى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - على سهيل [28/ أ] ابن البَيْضَاءِ إلّا في المسجد (¬1). والجواب: أنَّ إِنكارهم دلّ على أنّ الظاهر في الشرع خلافُ ذلكَ؛ ولأنهم لا ينكرون ما يسوغ فيه الاجتهاد. وقولها: ما صلَّى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - على ابنِ البَيْضاءِ إلّا في المسجد. دلالة عليهم؛ لأنه لو كان يجوز ذلك لصلّى على جميع الناس، ولم يخصه بابن البيضاء. ولأنه يجوز أن يكون صلّى عليه لعذرٍ من مطرٍ أو غيرهِ. ويجوز أن تكون الجنازة وضعت خارج المسجد، وصلّى عليه في المسجد. فظنّت عائشة: أن النّاس أنكروا عليها فعلَ الصلاة. وما روي عن عمرَ أنه صلى على أبي بكرٍ في المسجد (¬2)، وصلّى صُهيبٌ على عمرَ في المسجد (¬3). ¬

_ (¬1) تقدم. (¬2) مرّ قبل قليل أنه في الموطأ برواية محمد بن الحسن (2/ 101) رقم (313). وروى ابن أبي شيبة (11967) قال: حدثنا حفص، عن هشام بن عروة، عن أبيه قال: ما صلي على أبي بكر إلا في المسجد. وقال (11968): حدثنا وكيع، عن كثير بن زيد، عن المطلب بن عبد الله بن حنطب قال: صلي على أبي بكر وعمر تجاه المنبر. (¬3) انظر الاستذكار لابن عبد البر (8/ 273) والاستيعاب له (2/ 472) وطبقات ابن سعد (3/ 147) وحلية الأولياء لأبي نعيم (4/ 96) والبداية والنهاية لابن كثير (1/ 98) وتاريخ الخلفاء للسيوطي (ص 136) والرياض النضرة (1/ 418).

يجوز أن يكونَ في مسجدٍ الجنازة. قلتُ: وربما يقوّي هذا: أنّها - رضي الله عنهما -، لم تحتج عليهم بفعلهم في عمرَ؛ فإنّ وفاته سنة ثلاثةٍ وعشرين. ووفاة سعدٍ سنة خمسٍ وخمسين أو ستٍ أو سبعٍ. قال: ولأنه لا يثبت به إجماعٌ مع إنكارِ من أنكر على عائشة، قالوا: صلاةٌ شرعيةٌ، فلم يكره فعلها في المسجد كسائر الصلوات. قلنا: نقولُ بموجبه؛ لأنّ الصلاة لا تكرهُ عندنا، وانّما يكرهُ إدخال الميت، ولأنّ سائر الصلوات يؤمنُ فيها تلويث المسجد، وتبطل بصلاة المستحاضة، ومن بهِ سلس البول. قالوا: المسجدُ أنظف من غيره من البقاع، وكانت الصلوات فيه أفضلُ. قلنا: من أصلكم: أنَّ صلاة الاستسقاء والعيدين في غير المسجد أفضلُ. وإنْ كانَ المسجد أفضل البقاع. انتهى. فإن قيل: قال شرف الأئمة العقيلي: إنّ الصلاة على الجنازة في المسجد مكروهٌ كراهة تنزيهٍ. قلت: الأظهرُ قول شرف الأئمة المكي: أنّها كراهة تحريمٍ كما سمعت من قول محمد، فإن أسلوبه في إطلاق المنع كذلك، ولما سمعت من نسخ الإباحة وظواهر الاستدلال. قد روى الطيالسي (¬1): حدثنا ابن أبي ذئبٍ، عن صالحٍ مولى التوأمة ¬

_ (¬1) مسند أبي داود الطيالسي (2310).

قالَ: أدركتُ رجالًا ممن أدركُوا (¬1) النبي - صلى الله عليه وسلم - وَأَبَا بكرٍ، إذا جاؤوا فلم يجدوا إلَّا أَنْ يُصَلُّوا في المسجدِ رجعوا فلم [28/ ب] يُصَلُّوْا. وَاللهُ أَعْلَمُ. * * * ¬

_ (¬1) في المخطوط: (أدرك).

(6) [رسالة في] التراويح والوتر

مَجْمُوعَةُ رَسَائِل العَلَّامَة قَاسِم بن قُطْلُوبُغَا [6] [رِسَالَةٌ فِي] التَّرَاوِيحِ وَالوِتْرِ تَأْلِيفُ العَلَّامَة قَاسِم بْنِ قُطْلُوبُغَا الحَنَفِي المولود سَنَة 802 هـ والمتوفى سَنة 879 هـ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -

بداية الرسالة

(6) [رِسَالَةٌ فِي] التَّرَاوِيحِ وَالوِتْرِ قال - رحمهُ اللهُ -: قد سألني الولد العاقل محمد بدر الدين بن الأخ محمد شمس الدين بن خير الدين، عن الصلاة بعد الوتر. وذكرَ: أنه وقع الكلام في ذلك بينه وبينَ جماعةٍ من أفاضل الطلبة، ويعض المشايخ، ولم يستحضر أحدٌ منهم منقولًا. وإنمّا جوّزوا الكراهة أخذًا من قوله: "وَلْيَجْعَلْ آخِرَ صَلاَتِهِ مِنَ اللَّيْلِ وِتْرًا" (¬1). فقلتُ: قد كتب الإمام حسام الدين في التراويح، والإمام الطحاوي في الوتر. فسألني أن أكتب له ذلك. فقلتُ: قال الإمام حسام الدين الشهيد (¬2) - رحمه الله تعالى -: اختلف ¬

_ (¬1) رواه البخاري (460) عن ابن عمر قال: سأل رجل النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو على المنبر: ما ترى في صلاة الليل؟ قال: "مثنى مثنى، فإذا خشي الصبح صلّى واحدة، فأوترت له ما صلى". وإنه كان يقول: اجعلوا آخر صلاتكم وترًا، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر به. ورواه أحمد (2/ 20 و 102 و 143) وابن أبي شيبة (6702) والبخاري (953) ومسلم (751) وأبو داود (1438) وابن خزيمة (1082) عن عبد الله بن عمر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "اجعلوا آخر صلاتكم من الليل وترًا". (¬2) قال المصنف في تاج التراجم (ص 16): عمر بن عبد العزيز بن عمر بن مازه، برهان الأئمة، أبو محمد، المعروف بالحسام الشهيد، تفقه على أبيه، وصنف الفتاوى الصغرى والفتاوى الكبرى، والجامع الصغير المطول، وهو أستاذ صاحب المحيط،=

المشايخ - رحمهم الله - في التراويح، هل تُسَمَّى سُنة (¬1)؟ قال بعضهم: لاَ. وهي من النوافل. وقال بعضهم: تسمّى سنة. وهو الصحيح. وانقطع الخلاف برواية الحسن، عن أبي حنيفة بأنّها سنة (¬2). وهذا: لأنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قد أقامها في بعض الليالي وتركها في البعض. وبيّنَ العذر في ترك المواظبة عليها، وهو خشية أن تكتب علينا، ثم واظبَ عليها الخلفاء الراشدون. وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: "عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي، وَسُنَّةِ الْخُلَفَاء مِنْ بَعْدِي" (¬3). ¬

_ = ولد في صفر سنة ثلاث وثمانين وأربع مئة، واستشهد في سنة ست وثلاثين وخمس مئة، وعنه أخذ صاحب الهداية. قلت [أي: ابن قطلوبغا]: ومن مصنفاته المبسوط في الخلافيات، وقال أمير كاتب: إن جدّه هو صاحب المحيط. والله أعلم. (¬1) قال أبو بكر الكاشاني في بدائع الصنائع (3/ 141): وأمّا الذي هو سنن الصّحابة، فصلاة التراويح في ليالي رمضان، والكلام في صلاة التّراويح في مواضع: في بيان وقتها، وفي بيان صفتها، وفي بيان قدرها، وفي سننها، وفي بيان أنّها إذا فاتت عن وقتها هل تقضى أم لا؟. أمّا صفتها فهي سنةٌ، كذا روى الحسن عن أبي حنيفة أنه قال: القيام في شهر رمضان سنةٌ لا ينبغي تركها. وكذا روي عن محمدٍ أنّه قال: التّراويح سنةٌ إلا أنّها ليست بسنّة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنّ سنّة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما واظب عليه ولم يتركه إلّا مرّة أو مرتين لمعنى من المعاني، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما واظب عليها بل أقامها في بعض اللّيالي، روي أنّه صلّاها لليلتين بجماعةٍ ثمّ ترك وقال: أخشى أن تكتب عليكم. لكن الصَّحابة واظبوا عليها فكانت سنّة الصّحابة. (¬2) انظر المبسوط للسرخسي (2/ 145 دار الحديث). (¬3) رواه الدارمي (95) والإمام أحمد (4/ 126) وأبو داود (4607) والترمذي (2676) وابن ماجه (42 و 43) وابن حبان (5) والطبراني في الكبير (18/ رقم 617 - 624=

وسنِّيتها: ما روى الحسن، عن أبي حنيفة أنّه قال: القيامُ في شهرِ رمضان سُنةٌ لاَ يَنْبَغِي تركها أو ينبغي لأهل كل مسجدٍ أن يصلُّوا في مسجدهم كل ليلةٍ خمس ترويحات يؤمهم رجل يقرأُ في كلّ ركعةٍ عشر آياتٍ أو نحوها يسلّم من كل ركعتين، وكُلّما يصلي ترويحة انتظر بين الترويحتين قدر الترويحة، وينتظر بعد الخامسة قدر الترويحة، ثم يوتر بهم، فتصير عشرين ركعةً سوى الوتر. وهذا مذهب أصحابنا - رحمهم الله -. وقال مالك: يقومون ستًّا وثلاثين ركعةً اتباعًا لعمر وعلي. وإِنا نقول: إنّ في ذلك غير مشهور منها (¬1). ¬

_ = و 642) والأوسط (66) ومسند الشاميين (437 و 697 و 786 و 1180 و 1379 و 2017) والبيهقي (2/ 422) عن العرباض بن سارية - رضي الله عنه -. (¬1) قال الطحاوي في مختصر اختلاف العلماء (1/ 121): فيمن افتتح الصلاة قائمًا ثم قعد، قال أبو حنيفة ومالك والثوري والشافعي: يجوز أن يقعد. وقال الحسن ابن حي وأبو يوسف ومحمد: يصلي قائمًا ولا يجلس في عدد قيام رمضان. قال أصحابنا والشافعي: يقومون بعشرين ركعة سوى الوتر. وقال مالك: تسع وثلاثون ركعة بالوتر، ست وثلاثون، والوتر. وقال: هذا الأمر القديم الذي لم يزل الناس عليه. عن السائب بن يزيد: أنهم كانوا يقومون في رمضان بعشرين ركعة، وأنهم كانوا يعتمدون على العصي في زمن عمر بن الخطاب. الحسن بن حي عن عمرو ابن قيس عن أبي الحسناء: أن علي بن أبي طالب أمر رجلًا أن يصلي بهم في شهر رمضان بعشرين ركعة. وقال أبو بكر الكاشاني في بدائع الصنائع (3/ 142): فصلٌ: وأمّا قدرها: فعشرون ركعةً في عشر تسليماتٍ، في خمس ترويحاتٍ كل تسليمتين ترويحةٌ وهذا قول عامّة العلماء. =

فإن زادوا ستّ عشر ركعة، فهذا على وجهين: إنْ أرادوا الترويحات منفردين بغير جماعةٍ، ولا بأسَ به. وهو مستحبٌّ أيضًا. وإن صلّوا بجماعةٍ [29/ أ] كَمَا هوَ مذهب مالكٍ، كُرِهَ لأنَّ النوافلَ بالجماعةِ لو كانت مستحبةً لكانت أفضل كالمكتوبات. ولو كانت أفضل لكان المجتهدون القائمون بالليل يجتمعون فيصلون جماعةً طلبًا للفضيلة. فلمّا لم يرو ذلك عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وعن الصحابة: أنّه لا فضلَ في ذلك لو ثبت الفضل ثبت لمكان التراويح، ولم يثبت ذلك. وذكر الطحاوي - رحمه الله - في اختلاف العلماء: عن المعلى (¬1)، عن أبي يوسف أنّه قال: من قدر أن يصلّي في بيته كما يصلّي مع الإمام في شهرِ رمضان، فأَحبُّ إليَّ أن يصلِّي في البيت (¬2). وهذا خلافُ ظاهرِ الرواية. ¬

_ = وقال مالكٌ في قولٍ: ستّةٌ وثلاثون ركعةً. وفي قولٍ: ستةٌ وعشرون ركعةً. والصّحيح قول العامّة، لما روي أن عمر - رضي الله عنه - جمع أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في شهر رمضان على أبيّ بن كعبٍ، فصلّى بهم في كل ليلةٍ عشرين ركعةً، ولم ينكر أحدٌ عليه فيكون إجماعًا منهم على ذلك. (¬1) تحرف في المخطوط إلى: (المصلي). (¬2) قال الطحاوي في مختصر اختلاف العلماء (1/ 122 - 123) ونقله عنه صاحب المحيط برهان الدين مازه (2/ 182): القيام مع الناس أفضل، أو التفرد؟ روى المعلى عن أبي يوسف قال من قدر أن يصلي في بيته كما يصلي مع الإمام في رمضان فأحبُّ إليَّ أن يصلي في البيت. وكذلك قال مالك، وقال مالك: كان ربيعة وغير واحد من علمائنا ينصرفون ولا يقومون مع الناس. قال مالك: وأنا أفعل ذلك، وما قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا في بيته. وقال الشافعي: صلاة المنفرد في قيام رمضان=

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = أحب إلي. وقال الليث: لو أن الناس في رمضان قاموا لأنفسهم ولأهليهم كلهم حتى يترك المسجد لا يقوم فيه أحد كان ينبغي أن يخرجوا من بيوتهم إلى المسجد حتى يقوموا فيه؛ لأن قيام الناس في شهر رمضان من الأمر الذي لا ينبغي تركه وهو مما سن عمر بن الخطاب للمسلمين وجمعهم عليه. وقال الليث: فأما إذا كانت الجماعة في المسجد فلا بأس أن يقوم الرجل في بيته أو لأهل بيته، وقال أبو جعفر وكل من اختار التفرد فينبغي أن يكون ذلك على أن لا يقطع معه القيام في المساجد، فأما التفرد الذي يقطع معه القيام في المساجد فلا، وقد قال قوم إن الجماعة في ذلك أفضل منهم عيسى بن أبان وبكار بن قتيبة والمزني وأحمد بن أبي عمران واحتج ابن أبي عمران بحديث أبي ذر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خرج لما بقي سبع من الشهر فصلى بهم حتى مضى ثلث الليل، ثم لم يصل بهم السادسة، ثم خرج الليلة الخامسة فصلى بنا حتى مضى شطر الليل، فقلنا: يا رسول الله! لو نفلتنا، فقال: إن القوم إذا صلوا مع الإمام حتى ينصرف كتب لهم قيام تلك الليلة، ثم خرج الليلة الثالثة فصلى بنا حتى خشينا أن يفوتنا الفلاح؛ يعني: السحور. واحتج آخرون بحديث موسى بن عقبة، عن أبي النضر، عن بشر بن سعيد، عن زيد ابن ثابت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - احتجر حجرة في المسجد من حصير، فصلى فيها رسول الله ليالي حتى اجتمع إليه ناس، ثم فقدوا صوته فظنوا أنه قد نام فجعل بعضهم يتنحنح ليخرج إليهم فقال: ما زال بكم الذي رأيت من صنيعكم منذ الليلة حتى خشيت أن يكتب عليكم قيام الليل، ولو كتب عليكم ما قمتم به فصلوا أيها الناس في بيوتكم، فإن أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة، فأخبر أن التطوع في البيت أفضل منه في المسجد، لا سيما مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مسجده، وقد روي عن ابن عمر وإبراهيم والقاسم وسالم ونافع إنهم كانوا ينصرفون ولا يقومون مع الناس. قال أبو جعفر: قد أجمعوا أنه لا يجوز للناس تعطيل المساجد عن قيام رمضان، وكان هذا القيام واجبًا على الكفاية فمن فعله كان أفضل ممن انفرد به كالفروض التي هي الكفاية من فعلها أسقط فرضًا وكان فعلها أفضل من تركها. وقال محمد بن فرامرز بن عليّ في درر الحكام شرح غرر الأحكام (2/ 39):=

فصل من ترك التراويح في الجماعة وصلاها في البيت

فصلٌ ومن ترك التراويح في الجماعة وصلّاها في البيت (¬1)؟ ¬

_ = (والجماعة فيها)؛ أي: التراويح (سنةٌ على الكفاية) حتّى لو ترك أهل مسجدٍ أساؤوا، ولو أقامها البعض فالمتخلّف تاركٌ للفضيلة ولم يكن مسيئًا إذ قد تخلّف بعض الأصحاب. وعن أبي يوسف: من قدر على أن يصلّي في بيته كما يصلّي مع الإمام فصلاته في بيته أفضل، والصّحيح أنّ للجماعة في البيت فضيلةً، وللجماعة في المسجد فضيلةٌ أخرى فهو حاز إحدى الفضيلتين، وترك الفضيلة الزّائدة، كذا في الكافي. وقال برهان الدين مازه في المحيط (2/ 182): في نوادر هشام قال: سألت محمدًا - رحمه الله - عن القيام في شهر رمضان في المسجد أحب إليك أم في البيت؟ قال: إن كان عمله يقتدى به فصلاته في المسجد أحب إليّ، وقال أبو سليمان كان محمد ابن الحسين - رحمه الله - يصلي مع الناس التراويح ويؤم ثم يرجع، وهكذا كان يفعل أبو مطيع وخلف وشداد وإبراهيم بن يوسف رحمهم الله، فمن المشايخ من قال: من صلى التراويح منفردًا كان تاركًا للسنّة، وهو مسيء، وبه كان يعني ظهير الدين المرغيناني - رحمه الله - لما روي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قدر ما صلى التراويح صلى بجماعة، وهكذا نقل عن الصحابة رضون الله عليهم، ومن المشايخ من قال يكون تاركًا لفضيلة، فلا بأس به، فقد صح عن ابن عمر وسالم ونافع أنهم كانوا ينصرفون، ولا يقومون، فدل عن الجماعة، وليست السنّة ولكن المشايخ على أن إقامتها بالجماعة سنّة على سبيل ثبوته حتى لو ترك أهل مسجد كلهم إقامتها بالجماعة، فقد أساؤوا وتركوا السنّة. (¬1) قال الكاشاني في بدائع الصنائع (3/ 145): فصل: وأمّا سننها: فمنها الجماعة والمسجد؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قدر ما صلى من التراويح صلى بجماعةٍ في المسجد، فكذا الصحابة - رضي الله عنهم - صلّوها بجماعةٍ في المسجد فكان أداؤها بالجماعة في المسجد سنة، ثم اختلف المشايخ في كيفية سنة الجماعة والمسجد، أنها سنة عينٍ أم سنة كفايةٍ؟ قال بعضهم: إنها سنةٌ على سبيل الكفاية إذا قام بها بعض أهل المسجد في المسجد بجماعةٍ سقط عن الباقين. =

اختلف المشايخ - رحمهم الله - فيه: منهم من قال: يكونُ تاركًا للسنة وهو مسيءٌ. لما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنّه قدر ما صلَّى التَّراويح صلَّى بجماعةٍ. وهكذا نقل عن أصحابه، وعليه اتفاق فقهاء الأمصار. ومنهم من قال: كان تاركًا للفضيلة، ولا بأس به لما روي عن عمر وسالمٍ ونافعٍ: أنّهم كانوا ينصرفون ولا يقومون. عُلِمَ: أن الجماعة فضيلة. والصَّحيحُ: أنّ إقامتها بالجماعة سنّة على الكفاية حتى لو ترك أهل المسجد كلهم الجماعة، فقد تركوا السنة، وأساؤوا في ذلك وإن أقيمت التراويح بالجماعةِ في المسجد. فمن تخلّفَ عنها من أفراد الناس، وصلّى في بيته، فقد ترك الفضيلة، وإن لم يكن مسيئًا. وإن صلّوها بالجماعة في البيت، فقد اختلفوا فيه. والصحيح: أنّ للجماعة فضيلة، وللجماعة في المسجد فضيلة أخرى. فهنا قد حاز إحدى الفضيلتين، وترك الأخرى. وهذا في المكتوبات. * * * ¬

_ = ولو ترك أهل المسجد كلهم إقامتها في المسجد بجماعةٍ فقد أساؤوا وأثموا، ومن صلّاها في بيته وحده أو بجماعةٍ لا يكون له ثواب سنّة التّراويح لتركه ثواب سنّة الجماعة والمسجد. وقال السرخسي في المبسوط (2/ 145): ولو صلى إنسان في بيته لا يأثم، هكذا كان يفعله ابن عمر وإبراهيم والقاسم وسالم الصواف رضي الله عنهم أجمعين، بل الأولى أداؤها بالجماعة كما بيّنا.

فصل الانتظار من كل ترويحتين قدر الترويحة

فصلٌ الانتظار من كل ترويحتين قدر الترويحة مستحبٌ. كما ذكرنا من رواية الحسن، عن أبي حنيفة (¬1). وهذا: لأن في ذلك تحقيق اسم الصّلاة. وهيَ: التّراويح. ولأنها مأخوذةٌ عن السلف. وأهل الحرمين مجمعون على الانتظار بين كل ترويحتين. أما أهل مكّة: فإنهّم يطوفون بين كل ترويحتين أسبوعًا. وأمّا أهل [29/ ب] المدينة: فإنهم يصلون أربعًا. ولهذا: صارت تراويح أهل مكة مع الوتر ثلاثًا وعشرين. وتراويح أهل المدينة: تسعًا وثلاثين. وهكذا أهل كل بلدٍ يسبحون أو يصلّون أو ينتظرون سكوتًا. ذلك القدر. وأمّا الاستراحة: على خمس تسليماتٍ. اختلف المشايخ فيه: قال بعضهم: لا بأس به. وقال أكثرهم: لا يستحبُّ. وهذا هو الصحيح. فإنّ الصحيح: أنه ¬

_ (¬1) قال الكاشاني في بدائع الصنائع (3/ 157): ومنها [أي: سنن التراويح]: أن الإمام كلّما صلى ترويحةً قعد بين الترويحتين قدر ترويحةٍ يسبّح، ويهلّل ويكبّر، ويصلّي على النبي - صلى الله عليه وسلم - ويدعو وينتظر أيضًا بعد الخامسة قدر ترويحةٍ؛ لأنه متوارثٌ من السّلف، وأمّا الاستراحة بعد خمس تسليماتٍ فهل يستحبّ؟ قال بعضهم: نعم. وقال بعضهم: لا يستحبّ وهو الصحيح؛ لأنه خلاف عمل السّلف. والله الموفق.

فصل نية التراويح

لا يستحبّ إِلّا عند تمام كل ترويحةٍ. وهي خمس ترويحاتٍ؛ لأنَّ ذلك مخالف عمل أهل الحرمين وغيرهم. * * * فصلٌ وأمّا نية التراويح (¬1): فإنْ نوى التراويح أو سنّة الوقت أو قيام الليل في الشهر جاز كما إذا نوى الظُّهرَ، أو فرض الوقت جازَ. فإن نوى صلاةً مطلقةً أو نوى تطوعًا فحسب. اختلف المشايخ فيه: ذكر بعض المتقدمين: أنّ الأصحّ أنه لا يجوز؛ لأنهّا سنة. والسنة لا تتأدّى بنية التطوع أو بنية الصلاة. كما روى الحسن، عن أبي حنيفة في ركعتي الفجر، وهذا: لأنها صلاة مخصوصة كالمكتوبات، فلا تتأدّى بمطلق النية. وذكر أكثر المتأخرين: أنّ التراويح وسائر السنن تتأدّى بمطلق النية؛ ¬

_ (¬1) قال الكاشاني في بدائع الصنائع (3/ 146): ومنها [أي: سنن التراويح]: نيّة التراويح أو نية قيام رمضان، أو نية سنّة الوقت. ولو نوى الصلاة مطلقًا، أو نوى التطوّع، قال بعض المشايخ: لا يجوز؛ لأنها سنة والسنة لا تتأذى بنية مطلق الصلاة، أو نية التطوع واستدلّوا بما روى الحسن عن أبي حنيفة: أن ركعتي الفجر لا تتأذى إلا بنية السنة. وقال عامّة مشايخنا: إن التراويح وسائر السنن تتأذى بمطلق النية؛ ولأنها وإن كانت سنةً لا تخرج عن كونها نافلةً، والنوافل تتأذى بمطلق النية إلّا أن الاحتياط أن ينوي التراويح، أو سنة الوقت، أو قيام رمضان احترازًا عن موضع الخلاف.

فصل وقدر القراءة في التراويح

لأنهّا نوافل. والنوافل تتأذى بمطلق النية. لكن واظب عليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فالاحتياط: أن ينوي التراويح أو سنة الوقت، أو قيام الليل في شهر رمضان. وفي سائر السنن ينوي السنة، أو ينوي الصلاة متابعًا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليكون أبعد عن الاختلاف. والله أعلم. * * * فصل وقدر القراءة في التراويح (¬1): اختلف المشايخ فيه: قال بعضهم: يقرأ كما يقرأ في المغرب؛ لأنهّا أخفّ من أخفّ المكتوبات. ¬

_ (¬1) قال الكاشاني في بدائع الصنائع (3/ 150): ومنها [أي: سنن التراويح]: أن يقرأ في كل ركعةٍ عشر آياتٍ، كذا روى الحسن عن أبي حنيفة. وقيل: يقرأ فيها كما يقرأ في أخفّ المكتوبات وهي المغرب. وقيل: يقرأ كما يقرأ في العشاء؛ لأنها تبعٌ للعشاء. وقيل: يقرأ في كلّ ركعةٍ من عشرين إلى ثلاثين؛ لأنه روي أن عمر - رضي الله عنه - دعا بثلاثةٍ من الأئمّة فاستقرأهم، وأمر أوّلهم أن يقرأ في كلّ ركعةٍ بثلاثين آيةً، وأمر الثاني أن يقرأ في كلّ ركعةٍ خمسةً وعشرين آيةً، وأمر الثّالث أن يقرأ في كل ركعةٍ عشرين آيةً. وما قاله أبو حنيفة سنةٌ إذ السّنة أن يختم القرآن مرةً في التّراويح، وذلك فيما قاله أبو حنيفة، وما أمر به عمر فهو من باب الفضيلة، وهو أن يختم القرآن مرتين أو ثلاثًا وهذا في زمانهم. وأما في زماننا فالأفضل أن يقرأ الإمام على حسب حال القوم من الرّغبة والكسل، فيقرأ قدر ما لا يوجب تنفير القوم عن الجماعة؛ لأن تكثير الجماعة أفضل من تطويل القراءة، والأفضل تعديل القراءة في الترويحات كلّها، وإن لم يعدّل فلا بأس به، وكذا الأفضل تعديل القراءة في الرّكعتين في التسليمة الواحدة عند أبي حنيفة، وأبي يوسف، وعند محمد يطوّل الأولى على الثانية كما في الفرائض.

وهذا غير سديد؛ لأنه لا يقع بذلك الختم في شهر رمضان. وقال بعضهم: يقرأ كما يقرأ في العشاء؛ لأنها تبع للعشاء في وقتها. وقال بعضهم: يقرأ في كل ركعةٍ من عشرين إلى ثلاثين آية. لما روي: أنَّ عُمَرَ بنَ الخطَّابِ - رضي الله عنه - دَعَا ثَلاَثَةً مِنَ الأَئِمَّةِ، فَاسْتَقْرَأَهُمْ، وَأَمَرَ أَحَدَهُمْ أَنْ يَقْرَأَ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ ثَلاَثِينَ آيَةً. وَأَمَرَ الثَّانِي أَنْ يَقْرَأ [30/أ] فِي كُلِّ ركعةٍ خمسًا وعشرين آية. وأمرَ الثَّالثَ أَنْ يقرأ في كلّ ركعةِ عشرينَ آيةً. وروى الحسن، عن أبي حنيفة: أنه يقرأُ في كل ركعةٍ عشر آياتٍ ونحوها. فَمَا قاله عمرُ فضيلةٌ، وما قالهُ أبو حنيفة سنةٌ. وهذا: لأنهم اتفقوا على أنّ السنة الختم مرّة. والفضيلة: الختم مرتين. والختم مرتين يقع بما أمرَ به عمر. والختم مرة يقع بما أمر به أبو حنيفة. لأنّ عدد ركعات التراويح ست مئة. وآياتُ القرآن ستة آلاف ومئتي. فيكون في كل ركعةٍ: عشر آياتٍ. ومن المتقدمين من مشايخنا: قال في الحاوي القدسي (¬1): وإن خافَ أن يثقل على القوم، لا يزيد ¬

_ (¬1) قال صاحب كشف الظنون (1/ 627): الحاوي القدسي في الفروع للقاضي جمال الدين أحمد بن محمد بن نوح القابسي الغزنوي الحنفي، المتوفى في حدود سنة ست مئة، ذكره ابن الشحنة في هوامش الجواهر المضية قال: وإنما قيل فيه القدسي؛ =

فصل تعديل القراءة بين التسليمات

في القعدة على قدر التشهد. وفي القراءة على الفاتحة وثلاث آياتٍ قصارٍ. والإخلاصُ ونحوها. الذي قال: إِنَّ الأصحَّ أنّ التراويح لا يجوز بمطلق النية قال: الأفضل أن يقرأ في كل ركعةٍ ثلاثين آيةً، ويختم في كل عشرٍ ختمة؛ لأنَّ كل عشرٍ من الشهر متميّزٌ مخصوصٌ. واللهُ أعلمُ. * * * فصلٌ والأفضلُ: تعديل القراءة بين التسليمات. كما روى الحسن، عن أبي حنيفة. وجاء عن عمر. وإن خالف فلا بأس به. وأمّا التسليمة الواحدة؛ فإنه لا يستحب تطويل القراءة في الثانية بلا خلاف، كما في سائر الصلوات. وإن طوّل القراءة في الأولى على الثانية لا بأس به. وأمّا المختار: فإنه يجب أن يكون على الخلاف عند أبي حنيفة، وأبي يوسف يكون المختار التسوية بين الركعتين. كما رواه الحسن، عن أبي حنيفة. ¬

_ = لأنه صنفه في القدس، نقلته من خط تلميذه حسن بن علي النحوي. انتهى. ثم رأيت في ظهر نسخة منه أن مصنفه الشيخ الإمام محمد الغزنوي والله سبحانه وتعالى أعلم. وانظر هداية العارفين (1/ 46).

فصل إذا صلى الإمام التراويح قاعدا لعذر أو لغير عذر والقوم قيام

ويكون المختار عند محمّد: تطويل الأولى على الثّانية، كاختلافهم في قراءة الظهر والعصر. والله أعلم. * * * فصلٌ إذا صلّى الإمام التراويح قاعدًا لعذرٍ أو لغير عذرٍ والقوم قيام. الكلام في هذا الفصل في موضعين: في الجواز، وفي الاستحباب. أما الكلام في الجواز: اختلف المشايخ فيه. منهم من قال: جاز عند أبي حنيفة وأبي يوسف، ولم يجز عند محمّد اعتبارًا بالفرض. وقال بعضهم: يجوز عندهم جميعًا. وهذا هو الصّحيح؛ لأنهم لو قعدوا جاز. فإذا قاموا كان أولى بالجواز. ولا كذلك الفرض. وإنّما نشأ الخلاف بين المشايخ على قول محمّد، عن رواية أبي سليمان، كما نبين إن شاء الله تعالى. وأمّا الاستحباب: عن أبي حنيفة وأبي يوسف: المستحبُّ: أن يقوم القوم إِلَّا لعذرٍ؛ لأنّه جاز لهم القيام والقعود. فالقيام أفضل لا محالة. وعند محمّد: المستحب: أن يقوم؛ لأن هذا الاختلاف معتبرٌ حتّى منع

فصل وإذا صلى التراويح قاعدا من غير عذر

الفرض من الجواز. وكذا منع النفل من الاستحباب. ذكر أبو سليمان، عن محمّد، عن رجل أَمَّ قومًا في شهر رمضان جالسًا: أيقومون؟ قال؛ نعم. في قول أبي حنيفة وأبي يوسف. خصَّ قول أبي حنيفة وأبي يوسف من المشايخ من قال: إنّما خصّ؛ لأنه لا يستحب عنده. وهذا هو الصّحيح. والله أعلم. * * * فصلٌ وإذا صلَّى التراويح قاعدًا من غير عذرٍ (¬1): الكلام في هذا الفصل أيضًا في موضعين: في الجواز والاستحباب. وأما الكلام في الجواز: اختلف المشايخ فيه: منهم من قال: لا يجوز. ومنهم من قال: يجوز. وهذا هو الصّحيح. وأجمعوا على أن ركعتي الفجر قاعدًا من غير عذرٍ لا يجوز. ¬

_ (¬1) قال الكاشاني في بداع الصنائع (3/ 156): ويجوز التّراويح قاعدًا من غير عذرٍ؛ لأنه تطوّعٌ إلّا أنّه لا يستحبّ؛ لأنه خلاف السّنّة المتوارثة. وروى الحسن عن أبي حنيفة: أن من صلّى ركعتي الفجر قاعدًا من غير عذرٍ لا يجوز. وكذا لو صلّاها على الدَّابّة من غير عذرٍ وهو يقدر على النّزول، لاختصاص هذه السّنّة بزيادة توكيدٍ وترغيبٍ بتحصيلها، وترهيبٍ وتحذيرٍ على تركها فالتحقت بالواجبات كالوتر.

فصل إذا صلى التراويح مقتديا بمن يصلي المكتوبة، أو وترا، أو نافلة غير التراويح

هكذا روى الحسن، عن أبي حنيفة نصًّا. أمّا من قال: لا يجوز. قال: لأنّ هذا سنّة شابهت ركعتي الفجر. وأمّا من قال: يجوز. قال: لأنّ هذه نافلة لم يختص بزيادة تأكيد، فصارت كسائر النوافل. والدليل عليه: رواية أبي سليمان، عن أبي حنيفة، وأبي يوسف، ومحمد، ولم يفصلوا بين العذر وغير العذر. وأمّا الكلام في الاستحباب: فالصحيح: أنّه لا يستحبُّ؛ لأنه يخالف المتواتر وعمل السّلف - رحمهم الله تعالى -. * * * فصلٌ إذا صلّى التراويح مقتديًا بمن يصلي المكتوبة، أو وترًا، أو نافلة غير التراويح. اختلف المشايخ فيه (¬1): ¬

_ (¬1) قال الكاشاني في بدائع الصنائع (3/ 147): ولو اقتدى من يصلّي التّراويح بمن يصلّي المكتوبة أو النّافلة. قيل: يصحّ اقتداؤه ويكون مؤدّيًا التراويح. وقيل: لا يصحّ اقتداؤه به، وهو الصّحيح؛ لأنّه مكروهٌ لكونه مخالفًا لعمل السّلف. وقال (3/ 148): ولو اقتدى من يصلّي التّسليمة الأولى بمن يصلّي التّسليمة الثّانية، =

منهم من بنى هذا الاختلاف على الاختلاف في النية. من قال من المشايخ: أنّ التراويح لا تتأدّى بالنية المطلقة حتّى ينويها. يقول هنا: لا يصحُّ؛ لأنهّا لا تتأدّى إِلَّا بنيّتها، فلا تتأدّى بنية الإمام، بخلاف نيته. ومن قال من المشايخ: أنّها تتأذى بمطلق النية. ينبغي أن يقول هنا: أنه يصحُّ. والأصحُّ: أنه لا يصح الاقتداءُ. وعلى هذا الاختلاف: إذا لم يسلم من العِشَاءِ حتّى بَنا عليها التّراويح. والأصحُّ: أنه لا يصحُّ. وهذا أظهرُ؛ لأنه مكروهٌ. فعلى هذا الاختلاف: إذا بناها على السنة بعد العِشَاء. والصّحيح: أنّه لا يصحُّ، وإن اقتدى في التسليمة الأولى أو الثّانية بمن يصلّي التسليمة الخامسة أو العاشرة. اختلف المشايخ فيه: والصَّحيحُ: أنّه يصحُّ؛ لأنَّ الصَّلاةَ واحدة. ونيّة الثّانية أوِ الأولى لغوٌ. ألَا ترى أنه لو نوى الثّالثة بعد الأولى، لم يكن إِلَّا الثَّانية. والدّليل عليه: أنه لو اقتدى في الرّكعتين بعد الظّهر، بمن يصلّي الأربع قبل الظّهر. يجوزُ. فهذا أولى. * * * ¬

_ =قيل: لا يجوز اقتداؤه. وقيل: يجوز وهو الصّحيح؛ لأنّ الصّلاة متّحدةٌ فكان نيّة الأولى والثّانية لغوًا، ولهذا صحَّ اقتداء مصلِّي الرَّكعتين بمصلِّي الأربع قبله فكذا هذا.

فصل إذا صلى ترويحة واحدة بتسليمة واحدة، وقد قعد في الثانية قدر التشهد

فَصْلٌ إذا صلَّى ترويحةً واحدةً بتسليمةٍ واحدةٍ، وقد قعد في الثّانية قدر التشهد. اختلف المشايخ فيه (¬1): ¬

_ (¬1) قال الكاشاني في بدائع الصنائع (3/ 151 - 152): ومنها [أي: سنن التراويح]: أن يصلِّي كلّ ركعتين بتسليمةٍ على حدةٍ. ولو صلّى ترويحةً بتسليمةٍ واحدةٍ وقعد في الثّانية قدر التّشهّد، لا شكّ أنّه يجوز على أصل أصحابنا أنّ صلواتٍ كثيرةً تتأدّى بتحريمةٍ واحدةٍ بناءً على أن التّحريمة شرطٌ وليست بركنٍ عندنا خلافًا للشافعى، لكن اختلف المشايخ أنّه هل يجوز عن تسليمتين أو لا يجوز إِلَّا عن تسليمةٍ واحدةٍ؟ قال بعضهم: لا يجوز إِلَّا عن تسليمةٍ واحدةٍ؛ لأنّه خالف السّنّة المتوارثة بترك التسليمة، والتحريمة، والثنّاء، والتّعوّذ والتّسمية فلا يجوز إِلَّا عن تسليمةٍ واحدةٍ. وقال عامّتهم: إنّه يجوز عن تسليمتين وهو الصّحيح، وعلى هذا لو صلّى التّراويح كلّها بتسليمةٍ واحدةٍ وقعد في كلّ ركعتين. أنّ الصّحيح أنّه يجوز عن الكلّ؛ لأنّه قد أتى بجميع أركان الصّلاة وشرائطها؛ لأنّ تجديد التّحريمة لكلّ ركعتين ليس بشرطٍ عندنا، هذا إذا قعد على رأس الرّكعتين قدر التّشهّد، فأمّا إذا لم يقعد فسدت صلاته عند محمّدٍ، وعند أبي حنيفة، وأبي يوسف يجوز، وأصل المسألةُ يصلّي التّطوّع أربع ركعاتٍ إذا لم يقعد في الثّانية قدر التّشهّد وقام وأتمّ صلاته أنّه يجوز استحسانًا عندهما، ولا يجوز عند محمّدٍ قياسًا، ثمّ إذا جاز عندهما فهل يجوز عن تسليمتين أو لا يجوز إلّا عن تسليمةٍ واحدةٍ، الأصحّ أنّه لا يجوز إِلَّا عن تسليمةٍ واحدةٍ؛ لأنّ السّنّة أن يكون الشّفع الأوّل كاملًا، وكماله بالقعدة ولم توجد والكامل لا يتأدّى بالنّاقص. ولو صلّى ثلاث ركعاتٍ بتسليمةٍ واحدةٍ ولم يقعد في الثّانية، قال بعضهم: لا يجزئه أصلًا بناءً على أن من تنفّل بثلاث ركعاتٍ، ولم يقعد إلّا في آخرها جاز عند بعضهم؛ لأنّه لو كان فرضًا وهو المغرب جاز، فكذا النّفل، ولا يجوز عند بعضهم؛ لأنّ القعدة =

قال بعضهم: لا يجزئه الأربع إلّا عن تسليمةٍ واحدةٍ. وقال أكثرهم: يجزئهُ عن تسليمتين وهو الصّحيح؛ لأنه قد أكمل، ولم يُخِلَّ بشيءٍ إلّا أنّه جمعَ بين المتفرق واستدام التحريمة، فكان أولى بالجواز، وإنْ صلّى ستًا أو ثمانيًا أو عشرًا بتسليمةٍ واحدةٍ. وقعد على رأس كلّ ركعتين. فعلى قول الأولين: لم يجز إِلَّا عَنْ رَكْعَتَيْنِ. واختلف المشايخ المتأخرون فيه: قال عامّة المتأخرين: كان كلّ ركعتين عن تسليمةٍ. وهو الصّحيح؛ لأنّه قيّد كلّ شفع بالقعودِ بسائرِ الأفعال. والتسليمةُ: قطعٌ وخروجٌ، فلا يكون من تمام الصّلاة. وفرّق بعض المتأخرين بين هذه المسألة وبين الّتي قبلها. فقال: متى ¬

_ = على رأس الثّالثة في النّوافل غير مشروعةٍ بخلاف المغرب فصار كأنّه لم يقعد فيها، ولو لم يقعد فيها لم تجز النّافلة فكذا في التراويح، ثمَّ إن كان ساهيًا في الثّالثة لا يلزمه قضاء شيءٍ؛ لأنّه شرع في صلاةٍ مظنونةٍ؛ ولأنّه لا يوجب القضاء عند أصحابنا الثّلاثة، وإن كان عمدًا فعلى قول من قال بالجواز يلزمه ركعتان؛ لأنّ الرَّكعة الثّانية قد صحّت لبقاء التّحريمة، وإن لم يكملها يضّم ركعةً أخرى إليها فيلزمه القضاء، وعلى قول من قال بعدم الجواز يلزمه ركعتان عند أبي يوسف، وعند أبي حنيفة لا يلزمه شيءٌ؛ لأنّ التّحريمة قد فسدت بترك القعدة في الرّكعة الثّانية فشرع في الثّالثة بلا تحريمةٍ، وأنّه لا يوجب القضاء عند أبي حنيفة، وعلى هذا لو صلّى عشر تسليماتٍ كلّ تسليمةٍ بثلاث ركعاتٍ بقعدةٍ واحدةٍ. ولو صلّى التراويح كلّها بتسليمةٍ واحدةٍ ولم يقعد إلّا في آخرها، قال بعضهم: يجزئه عن التّراويح كلّها. وقال بعضهم: لا يجزئه إِلَّا عن تسليمةٍ واحدةٍ، وهو الصّحيح؛ لأنّه أخلّ بكلّ شفعٍ بترك القعدة.

فصل إذا صلى ترويحة بتسليمة، ولم يقعد في الركعة الثانية

ما عدّو ما هي مستحبّة في صلاةٍ، فكلّ ركعتين من ذلك يجريان عن تسليمةٍ، ومتى لم يكن كذلك لم يجز إلّا عن قدر المستحبّ؛ لأنّ في الزّيادة كراهة. وفي استحبابه خلافٌ. ففي هذا اختلافٌ أيضًا. فعلى هذا: إذا صلّى ستًا تجزئ عن ثلاثِ تسليماتٍ، عند أبي حنيفة، وعند صاحبيه عن تسليمتين. فإن صلّى عشرًا، فعندهما تجزئ تسليمتين. وعنده في الرِّواية الشّاذة: عن خمس تسليماتٍ. وفي روايةِ الأصل: وَإِلَّا فلَا. عن أربعِ تسليماتٍ. وفي رواية الجامع الصغير: عن ثلاثِ تسليماتٍ، وَإِن صَلَّى التّراويح كلها بتسليمةٍ واحدةٍ عمدًا، وقعدَ في كلّ ركعتين. فعلى قول الأولين: جاز عن تسليمةٍ واحدةٍ. وعلى قول عامّة المتأخرين: جازت عن الكل على قول بعض المتأخرين على الاختلاف الّذي حكينا. والصَّحيحُ قول العامّة. * * * فصلٌ وإذا صلّى ترويحةً بتسليمةٍ، ولم يقعد في الرّكعة الثّانية. فالقياس وهو قول محمّد وزفر، وهو رواية عن أبي حنيفة: أنّه تفسد

صلاته، ويلزمه قضاءُ هذه التسليمة، ولا يجوز ذلك عن شيئين. وفي الاستحسان: وهو قول أبي حنيفة، وأبي يوسف. يجوز. ثمّ اختلف المشايخ فيه على قولهما. قال بعضهم: يجزئه عن تسليمةٍ واحدةٍ. وهو الصّحيح؛ لأنه أكمل الأريع بتسليمةٍ واحدةٍ فحسب. بخلاف ما إذا قعد في الثّانية؛ لأنه أكمل كلّ شفعٍ بالقعود. وإن صلّى ثلاث ركعات بتسليمةٍ واحدةٍ، ولم يقعد في الثّانية ساهيًا، أو عامدًا، فلا شك: أن صلاته باطلة في القياس. وهو قول محمّد وزفر. وهو رواية عن أبي حنيفة. وعليه قضاء ركعتين فحسب. وأمّا في الاستحسان وهو قول أبي حنيفة، وأبي يوسف. اختلف المشايخ فيه: قال بعضهم: يجزئه عن تسليمةٍ واحدةٍ. وقال بعضهم: لا يجزئه عن شيءٍ أصلًا. وكذا الخلاف في غير التّراويح إذا تنفّل بثلاث ركعات، ولم يقعد إِلّا في آخرها جاز عند الأولين، ولم يجز عند الآخرين. أما من قال: يجوزُ يقول: الفرض يجوز. بمثل هذه الصّفة. وهو المغرب. فكذا النّفل، ويجب أن يجوز، وإذا جاز النّفل جازت التّراويح؛ لأنها نافلة. فصار هذا كما لو صلَّى الأريع بقعدةٍ واحدةٍ. وذلك: يجوز عن تسليمةٍ واحدةٍ. فكذا هذا. وأمَّا من قال: لا يجوز؛ فإنه يقولُ: إن القعدةَ المشروعة قد

تركها. والتي فعلها في غير موضعها؛ لأنهّا لم تشرع في النّوافل في الثّالثةِ، فصار كأنّه لم يقعد فيها أصلًا، ولو لم يقعد فيها أصلًا، لا يجوز، وإذا لم يجز النفل، لم تجز التراويح؛ لأنّها نافلة بخلاف الأربع؛ لأنّ القعدة في آخرها قعدة في موضعها. ثمّ على قول أولئك إذا جازت هذه الثّلاثة عن تسليمةٍ، هل يلزمه شيءٌ آخرَ لأجل الثّالثة إن كان ساهيًا؛ لَا لأَنّه شروعٌ في مظنونٍ وإن كان عامدًا، يلزمه ركعتان في قول أبي حنيفة، وأبي يوسف؛ لأنّه قد صحّت الثّالثة حيث حكم بصحّة التحريمة حين قعد في آخر الصّلاة، ولم يكملها بضمِّ أخرى إليها، فيلزمه القضاءُ على قول هؤلاء إذا لم تجزئ الثلاث عن شيءٍ أصلًا. فيلزمه قضاء الأوليين. وهل يلزمه قضاء الثالثة: فعلى وجهين: إن كان ساهيًا فلا يلزمه لما قلنا، وإن كان عامدًا لزمه ركعتان في قول أبي يوسف. وفي قول أبي حنيفة: لا يلزم؛ لأنّ التحريمة قد فسدت حتّى لم يقعد على رأس الىانية، ولم يأتِ بالرّابعة. فإذا قام إلى الثَّالثةِ فقد شرع في الثّالثة بتحريمةٍ فاسدةٍ. وهذا موجبٌ للقضاءِ عند أبي يوسف، وعند أبي حنيفة: لا، في الصّحيح من مذهبه. فعلى هذا: إذا صلّى التّراويح عشر تسليماتٍ، كلّ تسليمة ثلاث ركعاتٍ، ولم يقعد إلّا في آخرها.

ففي القياس: وهو قول محمّد وزفر وهو رواية عن أبي حنيفة: عليهِ قضاءُ التراويح كلِّها، ولا شيءَ عليه سوى ذلك. وفي الاستحسان: وهو قول أبي حنيفة، وأبي يوسف على قول أولئك. جازت التراويح، ولا شيءَ عليه، إن كان قام ساهيًا، وإن قام عامدًا، فعليه أيضًا قضاء عشرين ركعة. وعلى قول هؤلاء: عليه قضاء التراويح كلها كما في القياس، ولا شيء عليه سوى ذلك في قول أبي حنيفة كيفما كان. وفي قول أبي يوسف: إن كانَ ساهيًا فهو كذلك. وإن كان عامدًا فعليه مع التراويح قضاء عشرين ركعة أخرى. وإن صلّى التراويح كلها بتسليمةٍ واحدةٍ عمدًا ولم يقعد إلّا في آخرها. ففي القياس: وهو قول محمّد وزفر روايةً عن أبي حنيفة: لم يجزِئ عن شيء، وعليه قضاء ركعتين فحسب. وفي الاستحسان: وهو قول أبي حنيفة، وأبي يوسف. اختلف المشايخ فيه: قال بعضهم: يجزئه عن التراويح كلها. وقال بعضهم: يجزئه عن تسليمةٍ واحدةٍ كما ذكرنا من الاختلاف، فيما إذا صلّى ترويحة بتسليمةٍ ولم يقعد على رأس الرّكعتين. وقال بعضهم: يُنظر إلى قدر المستحبّ، فكل ركعتين من المستحب تجزئ عن تسليمةٍ كما قال هذا القائل فيما إذا صلّى ستًّا أو ثمانيًا فقعد على رأس كلّ ركعتين.

فصل وقت التراويح

والصّحيح: أن قول هذا القائل فيما إذا قعد على رأس كلّ ركعتين. أما هنا: الصّحيح ما قال بعض المشايخ: أنه يجزئ عن تسليمةٍ واحدةٍ. والله أعلم. * * * فصلٌ وأمّا وقت التّراويح (¬1): فقد اختلف المشايخ فيه: قال الشّيخ الإمام إسماعيل الزّاهد وجماعة: اللّيل كلّهُ إلى طلوع الفجر وقتٌ لها قبل العشاء وبعدها. وقبل الوتر وبعدها؛ لأنّها قيام اللّيل، فكان شرطها: اللّيل فحسب. ¬

_ (¬1) قال أبو بكر الكاشاني في بدائع الصنائع (3/ 143): وأما وقتها: فقد اختلف مشايخنا فيه: قال بعضهم: وقتها ما بين العشاء والوتر، فلا تجوز قبل العشاء ولا بعد الوتر. وقال عامّتهم؛ وقتها ما بعد العشاء إلى طلوع الفجر فلا تجوز قبل العشاء؛ لأنّها تبعٌ للعشاء فلا تجوز قبلها كسنَّة العشاء. وذكر النّاطفيّ في إمامٍ صلَّى بقومٍ صلاة العشاء على غير وضوءٍ ناسيًا، ثمّ صلّى بهم إمامٌ آخر التّراويح متوضّئًا، ثمَّ علم أن الأوّل كان على غير وضوءٍ؟ أن عليهم أن يعيدوا العشاء والتّراويح جميعًا: أمّا العشاء فلا شكّ فيها. وأمّا التّراويح؛ فلأنّها تصلّى إلى طلوع الفجر؛ لأنّ ذلك وقتها. وقال (3/ 144): وهل يكره تأخيرها إلى نصف اللّيل؟ قال بعضهم: يكره؛ لأنّها تبعٌ للعشاء، ويكره تأخير العشاء إلى نصف اللّيل فكذا تأخيرها، والصّحيح: أنّه لا يكره؛ لأنها قيام اللّيل، وقيام اللّيل في آخر اللّيل أفضل.

فصل إذا فاتت التراويح، هل تقضى بعد وقتها بالجماعة

وقال عامّةُ مشايخ بلخ وبخارى: وقتها ما بين العشاء والوتر، ولو صلّاها قبل العشاء أو بعد الوتر، لم يؤدّها في وقتها؛ لأنّ الآثار كذا وردت. وإنّما تشيع في التّراويح الآثار. والصّحيح: أن وقتها ما بين العشاء إلى طلوع الفجر، حتّى لو صلّاها بعد الوتر يجوز. ولو صلّاها قبل العشاء لا يجوز؛ لأنّها نوافل سنّت بعد العشاء. فاشبهت التطوع المسنون بعد العشاء في غير شهر رمضان. والله أعلم. * * * فصلٌ وإذا فاتت التراويح، هل تقضى بعد وقتها بالجماعة، وغير الجماعة. اختلف المشايخ فيه: قال بعضهم: يقضي من الغد ما لم يدخل وقت تراويح أخرى. وقال بعضهم: تُقْضَى ما لم يمض شهر رمضان. وقال بعضهم: لا تُقْضَى أصلًا. وهو الصّحيح؛ لأنّها ليست بآكد من سنّة المغرب والعشاء، وتلك لا تُقْضَى وحدها عند أصحابنا، فكذلك هذه (¬1). والدّليل عليه أنّها لا تُقْضَى بالجماعة: بالإجماع. ولو كانت تُقْضَى ¬

_ (¬1) قال الكاشاني في بدائع الصنائع (3/ 158): فصلٌ: وأمّا بيان أدائها إذا فاتت عن وقتها، هل تقضى أم لا؟ فقد قيل: إنها تقضى، والصّحيح: أنها لا تقضى؛ لأنها ليست بآكد من سنّة المغرب والعشاء، وتلك لا تقضى فكذلك هذه.

فصل إذا شكوا أنهم صلوا تسع تسليمات أو عشرا

لقضيت كما فاتت، فإنّ قضاءها منفردًا كان مستحبًّا كسنّة المغرب إذا قضاها. والله أعلمُ. * * * فصلٌ وإذا شكّوا أنهم صلوا تسع تسليماتٍ أو عشرًا. اختلف المشايخ فيه (¬1): قال بعضهم: أعادوا تسليمةً واحدةً بالجماعة احتياطًا. وإذا قال بعضهم: هل يزيدون؛ لأنّ الزيادة عن التراويح بالشك لا يجوزُ. والصَّحيحُ: أنَّهَا يُصَلّون تسليمةً أخرى فُرَادَى حَتَّى يَقع الاحتياط في فصل السّنة بإتمامها. ويقع الاحتراز عن أداء النّافلة بالجماعة غير التّراويح. والله أعلم. * * * * فصلٌ وإذا صلّى التّرويحة الواحدة إِمامًا، فكلُّ واحدٍ منهما بتسليمةٍ. اختلف المشايخُ فيه (¬2): ¬

_ (¬1) انظر رد المحتار (5/ 246) وحاشية رد المحتار (2/ 48) والبحر الرائق شرح كنز الدقائق (4/ 314). (¬2) قال الكاشاني في بدائع الصنائع (3/ 153): ومنها [أي: سنن التراويح]:=

فصل استيعاب أكثر الليل بالصلاة، والانتظار

قال بعضهم: لا بأسَ به. والصحيحُ: أنّه لا يستحبُّ ذلكَ. ولكن كلّ ترويحةِ يؤدِّيها إمامٌ واحدٌ وعليه عمل أهل الحرمين وغيرهم، ويكون تبديل الإمام بمنْزلة الانتظارِ. والله أعلم. * * * فصلٌ الأفضل: استيعابُ أكثر اللّيل بالصّلاة، والانتظار. وبعض مشايخنا قالوا: إذا أخّروها إلى ما بعد نصف اللّيل، لم يستحب، وشبّهها بتأخير العشاء. والصّحيح: أنّه لا بأس به. وهو المستحب والأفضل؛ لأنّها قيام اللّيل، وقيام اللّيل في آخر اللّيل أفضل. ¬

_ = أن يصلّي كلّ ترويحةٍ إمامٌ واحدٌ، وعليه عمل أهل الحرمين، وعمل السّلف، ولا يصلّي الترويحة الواحدة إمامان؛ لأنّه خلاف عمل السّلف، ويكون تبديل الإمام بمنزلة الانتظار بين التّرويحتين، وأنّه غير مستحبٌّ. وقال (3/ 154): ولا يصلّي إمامٌ واحدٌ التّراويح في مسجدين في كلّ مسجدٍ على الكمال ولا له فعلٌ، ولا يحتسب التّالي من التراويح، وعلى القوم أن يعيدوا؛ لأنّ صلاة إمامهم نافلةٌ، وصلاتهم سنّةٌ، والسّنّة أقوى، فلم يصحّ الاقتداء؛ لأنّ السّنّة لا تتكرّر في وقتٍ واحدٍ، وما صلّى في المسجد الأوّل محسوبٌ، وليس على القوم أن يعيدوا ولا بأس لغير الإمام أن يصلّي التراويح في مسجدين؛ لأنّه اقتداء المتطوّع بمن يصلّي السّنّة، وأنه جائزٌ كما لو صلّى المكتوبة ثمَّ أدرك الجماعة ودخل فيها والله أعلم.

وقال الإمام أبو جعفر الطحاوي في معاني الآثار (¬1): باب التَّطوُّع بعد الوتر. . . ثمّ روى حديث ثمّ انتهى (¬2)، وقرَّه إلى السَّحر. ثمّ قال: وذهب قومٌ إلى أنَّه لا يتطوَّع بعد الوتر، وأنَّ من تطوَّع بعده فقد نقضه، وعليه أن يعيد وترًا آخر (¬3). ثمّ قال: وخالفهم في ذلك آخرون،. . . . . . . . . . . . . ¬

_ (¬1) شرح معاني الآثار (1/ 340 - 341). (¬2) قال: حَدَّثَنَا ربيعٌ المؤذّن قال: حَدَّثَنَا أسدٌ قال: حَدَّثَنَا أسباطٌ، عن مطرّفٍ، عن أبي إسحاق، عن عاصم بْن ضمرة، عن عليٍّ - رضى الله عنه - قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أوّل اللّيل وفي وسطه وفي آخره، ثمّ ثبت له الوتر في آخره. حَدَّثَنَا ابن مرزوقٍ قال: حَدَّثَنَا سعيد بْن عامرٍ وعفان قالا: حَدَّثَنَا شعبة، قال أبو إسحاق: أنبأني غير مرّةٍ قال: سمعت عاصم بْن ضمرة يحدَّث عن عليٍّ - رضي الله عنه -، عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم -. حَدَّثَنَا ربيعٌ الجيزيّ قال: حَدَّثَنَا يعقوب بْن إسحاق بْن أبي عيّادٍ قال: حَدَّثَنَا إبراهيم ابن طهمان، عن أبي إسحاق، فذكر بإسناده مثله. حَدَّثَنَا أبو أميّة قال: حَدَّثَنَا عبيد الله بْن موسى قال: أَخْبَرَنَا إسرائيل - وقال مرّةً أخرى: أَخْبَرَنَا أبو إسرائيل -، عن السَّدِّيِّ، عن عبد خيرٍ قال: خرج علينا عليٌّ - رضي الله عنه - ونحن في المسجد، فقال: أين السّائل عن الوتر؟ فانتهينا إليه فقال: إنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يوتر أوّل اللّيل ثمّ بدا له فأوتر وسطه ثمَّ ثبت له الوتر في هذه السّاعة، قال: وذاك عند طلوع الفجر. وهذا عندنا على قرب طلوع الفجر قبل أن يطلع حتّى يستوي معنى هذا الحديث، ومعنى حديث عاصم بْن ضمرة. (¬3) زاد الطحاوي: واحتجّوا في ذلك بتأخير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الوتر إلى آخر اللّيل، وبما روي عن جماعةٍ من أصحابه من بعده أنهم كانوا يرون من تطوّع بعد وترٍ فقد نقضه. وذكروا في ذلك ما حَدَّثَنَا أبو بكرة قال: حَدَّثَنَا مؤملٌ قال: حَدَّثَنَا حماد بْن سلمة، =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = عن عبد الملك بْن عميرٍ، عن موسى بْن طلحة، أن عثمان - رضي الله عنه - قال: إنِّي أوتر أوّل اللَّيل، فإذا قمت من آخر اللَّيل صفيت ركعةً فما شبّهتها إِلَّا بقلوصٍ أضمّها إلى الإبل. حَدَّثَنَا ابن مرزوقٍ قال: حَدَّثَنَا وهبٌ قال: حَدَّثَنَا شعبة، عن عبد الملك بْن عميرٍ، فذكر بإسناده مثله. حَدَّثَنَا أبو بكرة قال: حَدَّثَنَا أبو عامرٍ قال: حَدَّثَنَا ابن أبي ذئبٍ، عن عمران بْن بشيرٍ، عن أبيه، عن سعيد بْن المسيَّب: أن أبا بكرٍ كان يفعل ذلك. حَدَّثَنَا ابن مرزوقٍ قال: حَدَّثَنَا وهبٌ قال: حَدَّثَنَا شعبة، عن أبي هارون الغنويّ، عن حطّان بْن عبد الله قال: سمعت عليًّا - رضى الله عنه - يقول: الوتر على ثلاثة أنواعٍ: رجلٌ أوتر أول اللَّيل ثمَّ استيقظ فصلَّى ركعتين، ورجلٌ أوتر أوّل اللَّيل فاستيقظ فوصل إلى وتره ركعةً فصلّى ركعتين ركعتين ثمَّ أوتر، ورجلٌ أخّر وتره إلى آخر اللَّيل. حَدَّثَنَا محمّد بْن بحرٍ قال: حَدَّثَنَا يزيد بْن هارون قال: حَدَّثَنَا همّامٌ، عن قتادة ومالك ابن دينارٍ، عن جلاسٍ قال: كنت جالسًا عند عمّارٍ فأتاه رجلٌ فقال له: كيف توتر؟ قال: أترضى بما أصنع؟ قال: نعم. قال: أحسب قتادة قال في حديثه: فإني أوتر بليلٍ بخمس ركعاتٍ، ثمَّ أرقد فإذا قمت من اللَّيل شفعت. حَدَّثَنَا أبو بكرة قال: حَدَّثَنَا أبو عامرٍ قال: حَدَّثَنَا ابن أبي ذئبٍ، عن يزيد بْن عبد الله ابن قسيطٍ، عن أبي سلمة ومحمّد بْن عبد الرحمن بْن ثوبان، عن ابن عمر - رضي الله عنه - قال: من أوتر فبدا له أن يصلِّي فليشفع إليها بأخرى حتّى يوتر بعد. حَدَّثَنَا أبو بكرة قال: حَدَّثَنَا أبو داود قال: حَدَّثَنَا زهير بْن معاوية قال: حَدَّثَنَا أبو إسحاق، عن مسروقٍ قال: قال ابن عمر - رضي الله عنه -: شيءٌ أفعله برأيي لا أرويه، ثمَّ ذكر نحو ذلك. قال مسروقٌ: وكان أصحاب ابن مسعودٍ، يتعجّبون من صنع ابن عمر - رضي الله عنهما -. حَدَّثَنَا أبو بكرة قال: حَدَّثَنَا أبو داود قال: حَدَّثَنَا حرب بْن شدّادٍ، عن يحيى بْن أبي كثيرٍ، عن أبي الحارث الغفاريِّ، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن رجلًا استفتاه عن رجلٍ أوتر أوّل اللَّيل ثمَّ نام ثمَّ قام كيف يصنع؟ قال: يتمّها عشرًا. وقد روي عن أبي هريرة - رضى الله عنه - خلاف هذا القول. وسنذكره بعد هذا إن شاء الله تعالى. . .

وقالوا (¬1): لا بأس بالتَّطوُّع بعد الوتر، ولا يكون ذلك نقضًا (¬2) للوترِ (¬3). ثمّ ¬

_ (¬1) في شرح معاني الآثار: فقالوا. (¬2) في شرح معاني الآثار: ناقضًا. (¬3) زاد الطحاوي: ورووا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ذلك ما: حَدَّثَنَا فهدٌ، قال: حَدَّثَنَا يحيى ابن عبد الله البابلتيّ، قال: حَدَّثَنَا الأوزاعيّ قال: حَدَّثَنَا يحيى بْن أبي كثيرٍ، عن أبي سلمة، عن عائشة - رضي الله عنها -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ركع ركعتين بعد الوتر قرأ فيهما، وهو جالسٌ فلمّا أراد أن يركع قام فركع. وقد ذكرنا مثل ذلك أيضًا، عن عائشة - رضي الله عنهما - في (باب الوتر) في حديث سعد بْن هشامٍ. حَدَّثَنَا فهدٌ قال: حَدَّثَنَا أبو غسّان قال: حَدَّثَنَا عمارة بْن زاذان، عن ثابتٍ البنانيّ، عن أنسٍ - رضي الله عنهما -: أن النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - كان يقرأ في الرَّكعتين بعد الوتر بـ {الرَّحَمَنِ} و {الْوَاقِعَةُ}. حَدَّثَنَا ابن أبي داود قال: حَدَّثَنَا عبد الرّحمن بْن المبارك قال: حَدَّثَنَا عبد الوارث، عن أبي غالب، عن أبي أمامة: أنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - كان يصلِّيهما بعد الوتر، وهو جالسٌ يقرأ فيهما {إِذَا زُلْزِلَتِ} و {قُل يَأَيُّهَا الْكَفِرُونَ}. حَدَّثَنَا فهدٌ قال: حَدَّثَنَا عبد الله بْن صالحٍ قال: حدّثني معاوية بْن صالحٍ، عن شريح ابن عبيدٍ، عن عبد الرّحمن بْن جبير بْن نفيرٍ، عن أبيه، عن ثوبان مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: كنّا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سفرٍ، فقال: "إنّ هذا السّفر جهدٌ وثقلٌ، إذا أوتر أحدكم فليركع ركعتين، فإن استيقظ وإلَّا كانتا له". فهذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد تطوّع بعد الوتر بركعتين وهو جالسٌ ولم يكن ذلك ناقضًا لوتره المتقدّم، فهذا أولى ممّا تأوّله أهل المقالة الأولى وادّعوه من معنى حديث عليٍّ: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتره إلى السّحر. مع أن ذلك أيضًا ليس به خلافٌ عندنا لهذا، لأنّه قد يجوز أن يكون وتره ينتهي إلى السّحر ثمَّ يتطوّع بعده قبل طلوع الفجر. فإن قال قائلٌ: يحتمل أن يكون تينك الرَّكعتان هما ركعتا الفجر، فلا يكون ذلك من صلاة اللّيل. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = قيل له: لا يجوز ذلك من جهتين أما أحدهما: فلأنّ سعد بْن هشامٍ إنّما سأل عائشة - رضي الله عنها -، عن صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - باللّيل، فكان ذلك منها جوابًا لسؤاله وإخبارًا منها إيّاه، عن صلاته باللّيل كيف كانت. والجهة الأخرى: أنّه ليس لأحدٍ أن يصلّي ركعتي الفجر جالسًا، وهو يطيق القيام؛ لأنه بذلك تارك لقيامها، وإنّما يجوز أن يصلِّي قاعدًا وهو يطيق القيام ما له أن لا يصلّيه ألبتّة، ويكون له تركه، فهو كما له تركه بكماله، يكون له ترك القيام فيه. فأمّا ما ليس له تركه فليس له ترك القيام فيه. فثبت بذلك أنّ تينك الرّكعتين اللّتين تطوّع بهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد الوتر كانتا من صلاة اللَّيل، وفي ذلك ما وجب به قول الّذين لم يروا بالتّطوّع في اللَّيل بعد الوتر بأسًا ولم ينقضوا به الوتر. وقد روي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ذلك من قوله ما يدلُّ على هذا أيضًا ما قد ذكرناه عنه في حديث ثوبان. وقد حَدَّثَنَا عمران بْن موسى الطّائيّ وابن أبي داود قالا: حَدَّثَنَا أبو الوليد (ح). وحدَّثنا ابن أبي عمران قال: حَدَّثَنَا عليّ بْن الجعد قالا: أَخْبَرَنَا أيّوب بْن عتبة، عن قيس بْن طلقٍ، عن أبيه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا وتران في ليلةٍ". حَدَّثَنَا ابن أبي داود قال: حَدَّثَنَا أبو الوليد قال: حَدَّثَنَا ملازم بْن عمرٍو قال: حدثني عبد الله بْن بدرٍ، عن قيس بْن طلقٍ، عن أبيه، عن النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - مثله. حَدَّثَنَا أبو أمية قال: حَدَّثَنَا أبو نعيمٍ وأبو الوليد قالا: حَدَّثَنَا ملازمٌ، عن عبد الله بْن بدرٍ، فذكر بإسناده مثله. حَدَّثَنَا أبو بكرة قال: حَدَّثَنَا أبو داود قال: حَدَّثَنَا زائدة، عن عبد الله بْن محمّد بْن عقيلٍ، عن جابر بْن عبد الله - صلى الله عليه وسلم -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لأبي بكرٍ: "متى توتر؟ " قال: أوّل اللّيل بعد العتمة، قال: "أخذت بالوثقى". ثمَّ قال لعمر: "متى توتر؟ " قال: آخر اللَّيل. قال: "أخذت بالقوّة". حَدَّثَنَا يونس قال: حَدَّثَنَا يحيى بْن عبد الله بْن بكيرٍ قال: حدثني اللَّيث، عن ابن شهابٍ، عن ابن المسيَّب: أنّ أبا بكرٍ وعمر - رضي الله عنهما - تذاكرا الوتر عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = فقال أبو بكرٍ - رضى الله عنه -: أمّا أنا فأصلِّي ثمّ أنام على وترٍ، فإذا استيقظت صلَّيت شفعًا حتّى الصّباح. فقال عمر - رضي الله عنه -: لكنّي أنام على شفعٍ، ثمَّ أوتر من آخر السّحر. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأبي بكرٍ - رضي الله عنه -: "حذر هذا". وقال لعمر - رضى الله عنه -: "قوي هذا". فدلّ قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا وتران في ليلةٍ" على ما ذكرنا من نفي إعالة الوتر، ووافق ذلك قول أبي بكرٍ - رضي الله عنه -: أمّا أنا فأوتر أول اللّيل، فإذا استيقظت صلّيت شفعًا حتّى الصّباح. وترك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - النّكير عليه دليلٌ على أن حكم ذلك كما كان يفعل، وأنّ الوتر لا ينقضه النّوافل الّتي يتنفّل بها بعده. وقد روي ذلك أيضًا عن جماعةٍ من أصحاب النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -. حَدَّثَنَا أبو بكرة قال: حَدَّثَنَا وهب بْن جريرٍ قال: حَدَّثَنَا شعبة، عن أبي جمرة قال: سألت ابن عبّاس - رضي الله عنه - عن الوتر؟ فقال: إذا أوترت أول اللّيل فلا توتر آخره، وإذا أوترت آخره فلا توتر أوّله. قال: وسألت عائذ بْن عمرٍو؟ فقال مثله. حَدَّثَنَا ابن مرزوقٍ قال: حَدَّثَنَا أبو عامرٍ العقديّ قال: حَدَّثَنَا شعبة، عن قتادة ومالك ابن دينارٍ، أنّهما سمعا خلاسًا قال: سمعت عمّار بن ياسرٍ - وسأله رجلٌ عن الوتر؟ - فقال: أمّا أنا فأوتر ثمَّ أنام، فإن قمت، صلّيت ركعتين ركعتين. وهذا - عندنا - معنى حديث همّامٍ، عن قتادة الّذي ذكرناه في الفصل الأوّل؛ لأنّ في ذلك، فإذا قمت شفعت. فاحتمل ذلك أن يكون يشفع بركعةٍ كما كان ابن عمر - رضي الله عنهما - يفعل، ويحتمل أن يكون يصلِّي شفعًا شفعًا. ففي حديث شعبة ما قد بيّن أن معنى قول: "شفعت"، أي: صلّيت شفعًا شفعًا، ولم أنقض الوتر. حَدَّثَنَا أبو بكرة قال: حَدَّثَنَا أبو داود قال: حَدَّثَنَا شعبة، عن أبي بشرٍ، عن سعيد بْن جبيرٍ قال: ذكر عند عائشة - رضي الله عنها - نقض الوتر، فقالت: لا وتران في ليلةٍ. حَدَّثَنَا أبو بكرة قال: حَدَّثَنَا عبد الله بْن حمران قال: حَدَّثَنَا عبد الحميد بْن جعفرٍ، عن عمران بْن أبي أنسٍ، عن عمر بْن الحكم، أن أبا هريرة - رضى الله عنه - قال: لو جئت بثلاث أبعرةٍ فأنختها، ثمَّ جئت ببعيرين فأنختهما، أليس كان يكون ذلك وترًا؟ قال: وكان =

قال: وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد - رحمهم الله تعالى - (¬1). والله أعلمُ. * * * ¬

_ = يضربه مثلا لنقض الوتر. وهذا - عندنا - كلامٌ صحيحٌ، ومعناه: أنّ ما صلّيت بعد الوتر من الأشفاع، فهو مع الوتر الّذي أوترته وترًا. حَدَّثَنَا يونس قال: أَخْبَرَنَا ابن وهبٍ، أن مالكًا حدَّثه، عن زيد بْن أسلم، عن أبي مرّة مولى عقيل بْن أبي طالبٍ - رضي الله عنهما -، أنه سأل أبا هريرة - رضي الله عنه -: كيف كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوتر؛ فقال: إن شئت أخبرتك كيف أصنع أنا؟ قلت: أخبرني. قال: إذا صلّيت العشاء، صلّيت بعدها خمس ركعاتٍ، ثمّ أنام، فإن قمت من اللّيل، صلّيت مثنى مثنى، وإن أصبحت، أصبحت على وترٍ. فهذا ابن عبّاسٍ - رضي الله عنه -، وعائذ بْن عمرٍو، وعمّارٌ، وأبو هريرة - رضي الله عنه -، وعائشة - رضي الله عنها -، لا يرون التطوع بعد الوتر، ينقض الوتر. فهذا أولى - عندنا - مما روي عمّن خالفهم، إذ كان ذلك موافقًا لما روي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فعله وقوله. والّذي روي عن الآخرين أيضًا فليس له أصلٌ في النطر، لأنهم كانوا إذا أرادوا أن يتطوَّعوا، صلّوا ركعةً، فيشفعون بها وترًا متقدِّمًا، قد قطعوا فيما بينه وبين ما شفعوا به، بكلامٍ، وعملٍ، ونومٍ، وهذا لا أصل له أيضًا في الإجماع، فيعطف عليه هذا الاختلاف. فلما كان ذلك كذلك، وخالفه من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، من ذكرنا، وروي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أيضًا خلافه، انتفى ذلك، ولم يجز العمل به. (¬1) العبارة في شرح معاني الآثار: (وهذا القول الذي بيّنّا، قول أبي بكرة، وأبي يوسف، ومحمّدٍ).

(7) الفوائد الجلة في مسألة اشتباه القبلة

مَجْمُوعَةُ رَسَائِل العَلَّامَة قَاسِم بن قُطْلُوبُغَا [7] الفَوَائِدُ الجُلَّةُ فِي مَسْأَلَةِ اشْتِبَاهِ القِبْلَةِ تَأْلِيفُ العَلَّامَة قَاسِم بْنِ قُطْلُوبُغَا الحَنَفِي المولود سَنَة 802 هـ والمتوفى سَنة 879 هـ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -

بداية الرسالة

(7) الفَوَائِدُ الجُلَّةُ فِي مَسْأَلَةِ اشْتِبَاهِ القِبْلَةِ قال - رحمه الله تعالى - بعد البسملة والحمدلة: أمّا بعد: فقد قال في كتاب الوقاية (¬1) فيمن اشتبهت عليه القبلة: وإن شرعَ بلا تحري لم تجز وإن أصاب (¬2). وقال في شرحها: لأنَّ قبلتهُ جهةُ تحرِّيه (¬3)،. . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ (¬1) وقاية الرِّواية في مسائل الهداية للإمام برهان الشّريعة محمود بْن صدر الشّريعة أحمد ابن عبيد الله جمال الدين العبادي المحبوبي البخاريّ، أخو تاج الشّريعة، صنّفه لأجل ابن بنته صدر الشّريعة. انظر كشف الظنون (2/ 2020). (¬2) جاء في هامش المخطوط: (تحري بل مصيب. لم يتحر. وقال صاحب الهداية في كتابه: مختارات. صح). (¬3) قال شمس الأئمة أبو بكر السرخسي في المبسوط (6/ 144): اعلم بأن التّحرِّي لغة، هو: الطلب والابتغاء، كقول القائل لغيره: أتحرى مسرتك، أي: أطلب مرضاتك. قال تعالى: {فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا} [الجن: 14]، وهو والتَّوَخي سواء، إِلَّا أن لفظ التَّوَخي يستعمل في المعاملات، والتحري في العبادات. قال - صلى الله عليه وسلم - للرجلين الذين اختصما في المواريث إليه: "إذهبا وتوخيا واستهما وليحلل كلّ واحد منكما صاحبه". وقال - صلى الله عليه وسلم - في العبادات: "إذا شكّ أحدكم في صلاته فليتحر الصواب". وفي الشّريعة: عبارة عن طلب الشيء بغالب الرأي عند تعذر الوقوف على حقيقته، وقد منع بعض النَّاس العمل بالتحري؛ لأنه نوع ظن، والظن لا يغني من الحق شيئًا، =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = ولا ينتفي الشكّ به من كلّ وجه، ومع الشك لا يجوز العمل، ولكنا نقول: التّحرِّي غير الشك والظن، فالشك أن يستوي طرف العلم بالشيء والجهل به، والظن أن يترجح أحدهما بغير دليل، والتحري: أن يترجح أحدهما بغالب الرأي، وهو دليلٌ يتوصل به إلى طرف العلم، وإن كان لا يتوصل به إلى ما يوجب حقيقة العلم، ولأجله سمّي تحريًّا، فالحر: اسم لجبل على طرف المفاوز، والدّليل على ما قلنا الكتاب والسُّنَّة، أما الكتاب: فقوله تعالى: {فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ} [الممتحنة: 10]، وذلك بالتحري وغالب الرأي، فقد أطلق عليه العلم. والسُّنَّة: قوله - صلى الله عليه وسلم -: "المؤمّن ينظر بنور الله". وقال - صلى الله عليه وسلم -: "فراسة المؤمّن لا تخطيء". وقال - صلى الله عليه وسلم - لوابصة: "ضع يدك على صدرك، فالإثم ما حاك في قلبك، وإن أفتاك النَّاس". وشيء من المعقول يدلُّ عليه، فإن الاجتهاد في الأحكام الشرعية جائر للعمل به، وذلك عمل بغالب الرأي، ثمّ جعل مدركًا من مدارك أحكام الشّرع، وإن كان لا يثبت به ابتداء، فكذلك التّحرِّي مدرك من مدارك التوصل إلى أداء العبادات، وإن كانت العبادة لا تثبت به ابتداء، والدّليل عليه أمر الحروب، فإنه يجوز العمل فيها بغالب الرأي مع ما فيها من تعريض النفس المحترمة للهلاك. فإن قيل ذلك من حقوق العباد، وتتحقق الضّرورة لهم في ذلك، كما في قيم المتلفات ونحوها، ونحن إنّما أنكرنا هذا في العبادات الّتي هي حق الله تعالى. قلنا في هذا أيضًا: معنى حق العبد، وهو التوصل إلى إسقاط ما لزمه أداؤه، وكذلك في أمر القبلة، فإن التّحرِّي لمعرفة حدود الأقاليم، وذلك من حق العبد، وفي الزَّكاة التّحرِّي لمعرفة صفة العبد في الفقر والغنى، فيجوز أن يكون غالب الرأي طريقًا للوصول إليه، إذا عرفنا هذا، فنقول بدأ الكتاب بمسائل الزَّكاة، وكان الأولى أن يبدأ بمسائل الصّلاة؛ لأنها مبتدأة في القرآن، وكأنه إنّما فعل ذلك لأنّ معنى حق العبد في الصَّدقة أكثر، فإنه يحصل بها سدّ خلّة المحتاج، أو لأنه وجد في باب الصَّدقة نصًا، وهو حديث يزيد السلمي على ما بينه، فبدأ بما وجد فيه النص، ثمّ عطف عليه ما كان مجتهدًا فيه، ومسألة الزَّكاة على أربعة أوجه: أحدها: أن يعطي زكاة ماله رجلًا من غير شك ولا تحر ولا سؤال فهذا يجزيه =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = ما لم يتبين أنه غني لأنّ مطلق فعل المسلم محمول على ما يصح شرعًا وعلى ما يصحَّ فيه تحصيل مقصوده وعلى ما هو المستحق عليه حتّى يتبين خلافه فإن الفقر في القابض أصل فإن الإنسان يولد ولا شيء له والتمسك بالأصل حتّى يظهر خلافه جائز شرعا فالمعطى في الإعطاء يعتمد دليلًا شرعيًا فيقع المؤدى موقعه ما لم يعلم أنه غنى فإذا علم ذلك فعليه الإعادة لأنّ الجواز كان باعتبار الظّاهر ولا معتبر بالظاهر إذا تبين الأمر بخلافه، فإن شُكَّ في أمره بأن كان عليه هيئة الأغنياء أو كان في أكبر رأيه أنه غني ومع ذلك دفع إليه فإنّه لا يجزيه ما لم يعلم أنه فقير؛ لأنّ بعد الشك لزمه التّحرِّي. و [الثّاني]: فإذا ترك التّحرِّي بعد ما لزمه لم يقع المؤدى موقع الجواز إِلَّا أن يعلم أنه فقير فحينئذٍ يجوز لأنّ التّحرِّي كان لمقصود وقد حصل ذلك المقصود بدونه، فسقط وجوب التّحرِّي كالسعي إلى الجمعة واجب لمقصود وهو أداء الجمعة فإذا توصل إلى ذلك بأن حمل إلى الجامع مكرهًا سقط عنه فرض السعي. والثّالث: أنه يتحرى بعد الشك ويقع في أكبر رأيه أنه غني فدفع إليه مع ذلك فهذا لا يشكل أنه لا يجزيه ما لم يعلم بفقره، فإذا علم فهو جائز وهو الصّحيح، وقد زعم بعض مشايخنا - رحمهم الله تعالى - أن عند أبي حنيفة ومحمد - رحمهما الله تعالى - أنه لا يجزيه على قياس ما نبينه في الصّلاة، والأصح هو الفرق فإن الصّلاة لغير القبلة مع العلم لا تكون طاعة فإذا كان عنده أن فعله معصية لا يمكن إسقاط الواجب عنه، فأمَّا التصدق على الغني صحيح ليس فيه معنى المعصية فيمكن إسقاط الواجب بفعله، هذا إذا تبين وصول الحق إلى متسحقه بظهور فقر القابض. والفصل الرّابع: أن يتحرى ويقع في أكبر رأيه أنه فقير فدفع إليه فإذا ظهر أنه فقير أو لم يظهر من حاله شيء جاز بالاتفاق، وإن ظهر أنه كان غنيا فكذلك في قول أبي حنيفة ومحمد وهو قول أبي يوسف - رحمه الله تعالى - الأوّل، وفي قوله الآخر تلزمه الإعادة وهو قول الشّافعيّ - رحمه الله تعالى - وكذلك لو كان جالسًا في صف الفقراء يصنع صنيعهم أو كان عليه زي الفقراء أو سأله فأعطاه فهذه الأسباب بمنزلة التّحرِّي، وجه قول أبي يوسف - رحمه الله تعالى - أنه تبين له الخطأ في اجتهاده بيقين فسقط اعتبار اجتهاده كمن توضأ بماء وصلّى ثمّ تبين له أنه كان نجسًا، أو صلّى في ثوب =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = ثمّ علم أنه كان نجسًا، أو القاضي قضى في حادثة بالاجتهاد ثمّ ظهر نصّ بخلافه، وبيانه أن صفة الفقر والغنى يوقف عليهما حقيقة فإن الشّرع علّق بهما أحكامًا من النفقة وضمان العتق وغير ذلك، وإنّما تتعلّق الأحكام الشرعية بما يوقف عليه، وإذا ثبت الوصف فتأثيره أن المقصود ليس هو عين الاجتهاد بل المقصود إيصال الحق إلى المستحق، فإذا تبين أنه لم يوصله إلى مستحقه صار اجتهاده وجودًا وعدمًا بمنزلة؛ لأنّ غالب الرأي معتبر شرعًا في حقه ولكن لا يسقط به الحق المستحق عليه لغيره، والزكاة صلة مستحقة للمحاويج على الأغنياء فلا يسقط ذلك بعذر في جانبه إذا لم يوصل الحق إلى مستحقه، وبه فارق الصّلاة على أصل أبي يوسف - رحمه الله تعالى - لأنّ فريضة التوجه إلى القبلة لحق الشّرع وهو معذور عند الاشتباه، فيمكن إقامة الاجتهاد مقام ما هو المستحق عليه في حق الشّرع، وحجة أبي حنيفة ومحمد - رحمهما الله تعالى - أنه مؤد لما كلف فيسقط به الواجب كما لو لم يظهر شيء من حال المصروف إليه، وبيانه أنه مأمور بالأداء إلى من هو فقير عنده لا إلى من هو فقير حقيقة؛ لأنه لا طريق إلى معرفة ذلك حقيقة، فالإنسان قد لا يعرف من نفسه حقيقة الفقر والغنى فكيف يعرفه من غيره، والتكليف يثبت بحسب الوسع والذي في وسعه الاستدلال على فقره بدليل ظاهر من سؤال أو هيئة عليه أو جلوس في صف الفقراء، وعند انعدام ذلك كله المصير إلى غالب الرأي وقد أتى بذلك، وإنما يكتفي بهذا القدر لمعنى الضّرورة ولا يرتفع ذلك بظهور حاله بعد الأداء؛ لأنه ليس له أن يسترد المقبوض من القابض ولا أن يضمنه بالاتفاق، فلو لم يُجْزِ عنه ضاع ماله فلبقاء الضّرورة قلنا يجعل المؤدي مجزيًا عنه. ولأنه لا يعلم حقيقة غناه وإنّما يعرف ذلك بالاجتهاد وما أمضى بالاجتهاد لا ينقض باجتهاد مثله، وتعلّق الأحكام الشرعية بالغنى لا يدلُّ على أنه يعرف صفة الغني حقيقة؛ لأنّ الأحكام تنبني على ما يظهر لنا كما ينبني الحكم على صدق الشهود وإن كان لا يعلم حقيقة، وبه فارق النص لأنه يوقف عليه حقيقة فكان المجتهد مطالبًا بالوصول إليه، وإن كان قد تعذر إذا كان يلحقه الحرج في طلبه فإذا ظهر بطل حكم الاجتهاد، وكذلك نجاسة الماء ونجاسة الثّوب يعرف حقيقة فيبطل بظهور النّجاسة حكم =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = الاجتهاد في الطّهارة، ولا نقول في الزَّكاة حق الفقراء بل هي محض حق الله تعالى، والفقير مصرف لا مستحق كالكعبة لأداء الصّلاة جهة تستقبل عند أدائها والصلاة تقع لله تعالى ثمّ هناك يسقط عنه الواجب إذا أتى بما في وسعه، ولا معتبر بالتبين بعد ذلك بخلافه فكذلك هنا، ولو تبين أن المدفوع إليه كان أبا الدافع أو ابنه فهو على هذا الاختلاف أيضًا، وذكر ابن شجاع عن أبي حنيفة - رحمه الله تعالى - أنه لا يجزئه هنا كما هو قول أبي يوسف - رحمه الله تعالى - أما طريق أبي يوسف - رحمه الله تعالى - أنه من لا يكون مصرفًا للصدقة مع العلم بحاله لا يكون مصرفًا عند الجهل بحاله إذا تبين الأمر بخلافه. وجه رواية ابن شجاع أن النسب ممّا يعرف حقيقة ولهذا لو قال لغيره لستَ لأبيك لا يلزم الحدّ، والحد يدرأ بالشبهة فكان ظهور النسب بمنزلة ظهور النص بخلاف الاجتهاد. وجه ظاهر الرِّواية ما احتج به في الكتاب فإنّه روى عن إسرائيل عن أبي الجويرية عن معن بْن يزيد السلمي قال: خاصمت أبي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقضى لي عليه، وذلك أن أبي أعطى صدقته لرجل في المسجد وأمره بأن يتصدق بها فأتيته فأعطانيها، ثمّ أتيت أبي فعلم بها، فقال: والله يا بني! ما إياك أردت بها، فاختصمنا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "يا يزيد لك ما نويت ويا معن لك ما أخذت" ولا معنى لحمله على التطوع لأنّ ترك الاستفسار من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دليل على أن الحكم في الكل واحد مع أن مطلق الصَّدقة ينصرف إلى الواجب، وفي بعض الروايات قال صدقة ماله وهو تنصيص على الواجب. وكان المعنى فيه: أن الواجب فعل هو قربة في محل يجري فيه الشح والضن وهو المال باعتبار مصرف ليس بينهما ولاد ثمّ عند الاشتباه والحاجة أقام الشّرع أكثر هذه الأوصاف مقام الكل في حكم الجواز والحاجة ماسة لتعذر استرداد المقبوض من القابض وبهذا يستدل في المسألةُ الأولى أيضًا فإن الصَّدقة على الغني فيها معنى القربة كالتصدق على الولد ولهذا لا رجوع فيه فيقام أكثر الأوصاف مقام الكل في حق الجواز ثمّ طريق معرفة البنوة الاجتهاد ألَّا ترى أنه لما نزل قوله تعالى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ}. قال عبد الله بْن سلام - رضي الله عنه -: والله إنِّي بنبوته أعرف مني بولدي فإني أعرفه نبيًّا حقًّا ولا أدري ماذا أحدث النِّساء بعدي وإذا كان طريق المعرفة =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = الاجتهاد كان هذا والأول سواء من حيث أنه لا ينتقض الاجتهاد باجتهاد مثله فإن تبين أنه هاشمي فكذلك الجواب في ظاهر الراوية لأنّ المنع من جواز صرف الواجب إليه باعتبار النسب مع أن التصدق عليه قربة فهو وفصل الأب سواء، وفي جامع البرامكة روى أبو يوسف عن أبي حنيفة - رحمهما الله تعالى - أنه يلزمه الإعادة لأنّ كونه من بني هاشم ممّا يوقف عليه في الجملة ويصير كالمعلوم حقيقة، فكان هذا بمنزلة ظهور النص بخلاف الاجتهاد، ودليله أنه لو قال لهاشمي لست بهاشمي فإنّه يحد أو يعزر على حسب ما اختلفوا فيه، ولو تبين أن المدفوع إليه ذمي فهو على هذا الخلاف أيضًا. وفي الأمالي روى أبو يوسف عن أبي حنيفة - رحمهما الله تعالى - أنه لا يجزئه لأنّ الكفر ممّا يوقف عليه، ولهذا لو ظهر أن الشهود كفار بطل قضاء القاضي، وفي ظاهر الرِّواية قال: ما يكون في الاعتقاد فطريق معرفته الاجتهاد، والتصدق على أهل الذِّمَّة قربة فهو وما سبق سواء، وفي الكتاب قال: أعطى ذميًّا أخبره أنه مسلم أو كان عليه سيما المسلمين، وفي هذا دليل أنه يجوز تحكيم السيما في هذا الباب قال تعالى: {يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ} [الرحمن: 41]. وقال تعالى: {تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ} [البقرة: 273]. وفيه دليل: أن الذمي إذا قال أنا مسلم لا يصير مسلمًا؛ لأنه قال أخبره أنه مسلم ثمّ علم أنه ذمي وهذا لأنّ قوله أنا مسلم؛ أي: منقاد للحق مستسلم وكل أحد يدير ذلك فيما يعتقده، وقد قال بعض المتأخرين المجوسي إذا قال أنا مسلم يحكم بإسلامه لأنهم يتشاءمون بهذا اللّفظ ويتبرؤن منه بخلاف أهل الكتاب. وإن تبين أن المدفوع إليه مستأمن حربي فهو جائز على ما ذكر في كتاب الزَّكاة، وفي جامع البرامكة روى أبو يوسف عن أبي حنيفة - رحمهما الله تعالى - الفرق بين الذمي والحربي المستأمن فقال: قد نهينا عن البرّ مع من يقاتلنا في ديننا فلا يكون فعله في ذلك، قربة وبدون فعل القربة لا يتأدى الواجب، ولم ننه عن المبرة مع من لا يقاتلنا قال تعالى: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ} فيكون فعله في حق الذمي قربة يتأدى به الواجب عند الاشتباه، ولو تبين أنه المدفوع إليه عبده أو مكاتبه لا يجزئه لقصور فعله؛ فإن الواجب عليه بالنص الإيتاء وذلك لا يكون إِلَّا بإخراجه عن ملكه =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = وجعله لله تعالى خالصًا، وكسب العبد مملوك له وله في كسب المكاتب حق الملك فبقاء حقه يمنع جعله لله تعالى خالصًا، وهذا بخلاف ما لو تبين أن المدفوع إليه عبد الغني أو مكاتب له فإنه يجزئه، وفي حق المكاتب مع العلم أيضًا ولا ينظر إلى حال المولى لأنّ إخراجه من ملكه وبقاء حقه يمنعه أن يصير لله تعالى خالصا فلهذا لا يسقط به الواجب، والأصل في فريضة التوجه إلى الكعبة للصلاة قوله تعالى: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة: 144]. وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمكة يصلّي إلى بيت المقدس ويجعل البيت بينه وبين بيت المقدس، وكان يحب أن تكون الكعبة قبلته كما كانت قبلة إبراهيم - صلوات الله عليه - فسأل جبريل - عليه السلام - أن يسأل الله له في ذلك، وكان يديم النظر إلى السَّماء رجاء أن يأتيه جبريل - عليه السلام - بذلك فانزل الله تعالى: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا} الآية، ثمّ لا خلاف في حق من هو بمكة أن عليه التوجه إلى عين الكعبة، فأمَّا من كان خارجًا من مكّة فقد كان أبو عبد الله الجرجاني يقول: الواجب عليه التوجه إلى عين الكعبة أيضًا لظاهر الآية؛ ولأن وجوب ذلك لإظهار تعظيم البقعة فلا يختلف بالقرب منه والبعد. وغيره من مشايخنا - رحمهم الله تعالى - يقول الواجب في حق من هو خارج عن مكّة التوجه إلى الجهة؛ لأنّ ذلك في وسعه والتكليف بحسب الوسع ومعرفة الجهة إمّا بدليل يدلُّ عليه أو بالتحري عند انقطاع الأدلة، فمن الدّليل المحاريب المنصوبة في كلّ موضع لأنّ ذلك كان باتِّفاق من الصّحابة - رضي الله عنهم - ومن بعدهم فإن الصّحابة - رضي الله عنهم - فتحوا العراق وجعلوا القبلة ما بين المشرق والمغرب ثمّ فتحوا خراسان وجعلوا قبلة أهلها ما بين المغربين مغرب الشتاء ومغرب الصيف، فكانوا يصلون إليها ولما ماتوا جعلت قبورهم إليها أيضًا من غير نكير منكر من أحد منهم، وكفى بإجماعهم حجة وقد كانت عنايتهم في أمر الدين أظهر من عناية من كان بعدهم فيلزمنا اتباعهم في ذلك. ومن الدّليل السؤال في كلّ موضع ممّن هو من أهل ذلك الموضع لأنّ أهل كلّ موضع أعرف بقبلتهم من غيرهم عادة، وقال تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43]. ومن الدّليل النجوم أيضًا على ما حُكِيَ عن عبد الله بْن =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = المبارك - رضي الله عنه - أنه قال أهل الكوفة يجعلون الجدي خلف القفا في استقبال القبلة، ونحن نجعل الجدي خلف الأذن اليمنى وكان الشّيخ أبو منصور الماتريدي - رحمه الله تعالى - يقول السبيل في معرفة الجهة أن ينظر إلى مغرب الصيف في أطول أيّام السنة فيعينه ثمّ ينظر إلى مغرب الشّمس في أقصر أيّام الشتاء فيعينه ثمّ يدع الثلثين على يمينه والثلث على يساره فيكون مستقبلًا للجهة إذا واجه ذلك الموضع، ولا معنى للإنحراف إلى جانب الشمال بعد هذا لأنه إذا مال بوجهه يكون إلى حد غروب الشّمس في أقصر أيّام السنة أو يجاوز ذلك فلا يكون مستقبلًا للقبلة ولا للحرم أيضًا على ما حكي عن الفقيه أبي جعفر الهنداوني - رحمه الله تعالى - أن الحرم من جانب الشمال ستة أميال ومن الجانب الآخر اثنى عشر ميلا ومن الجانب الآخر ثمانية عشر ميلًا ومن الجانب الآخر أربعة وعشرون ميلًا، وقيل: قبلة أهل الشّام الركن الشامي وقبلة أهل المدينة موضع الحطيم والميزاب من جدار البيت، وقبلة أهل اليمن الركن اليماني، وما بين الركن اليماني إلى الحجر قبلة أهل الهند وما يتصل بها، وقبلة أهل خراسان والمشرق الباب ومقام إبراهيم عليه وعلى نبيّنا الصّلاة والسلام، فإذا انحرف بعد هذا وإن قل انحرافه يصير غير مستقبل للقبلة، وعند انقطاع الأدلة فرضه التّحرِّي، وزعم بعض أصحابنا - رحمهم الله - أن الجهة الّتي يؤدِّيه إليها تحريه تكون قبلة حقيقة في حقه؛ لأنه أتى بما في وسعه والتكليف بحسب الوسع، وهذا غير مرضي ففيه قول بأن كلّ مجتهد مصيب ولكنه مؤد لما كلف وإنّما كلف طلب الجهة على رجاء الإصابة والمقصود ليس عين الجهة إنّما المقصود وجه الله تعالى كما قال: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة: 115]. ولا جهة لوجه الله تعالى إِلَّا أنا لو قلنا يتوجه إلى جانب شاء انعدم الابتلاء، وإنّما يتحقق معنى العبادة إذا كان فيه معنى الابتلاء فإنّما نوجب عليه التّحرِّي لرجاء الإصابة لتحقيق الابتلاء، وإذا فعل ذلك كان مؤديًا لما عليه وإن لم يكن مصيبًا للجهة حقيقة، والدّليل على أن الصّحيح هذا ما بيَّنَّا في كتاب الصّلاة أن المصلّين بالتحري إذا أمهم أحدهم فصلاة من يعلم أنه مخالف للإمام في الجهة فاسدة، ولو انتصب ما ظن الإمام إليه قبلة حقيقة يصح اقتداء هذا الرَّجل به وإن خالفه في الجهة، كما إذا صلوا في جوف الكعبة. إذا عرفنا هذا نقول من اشتبه عليه القبلة في السَّفر في ليلة مظلمة =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = واحتاج إلى أداء الصّلاة فعليه التّحرِّي، ثمّ المسألة على أربعة أوجه: فإما أن يصلّي إلى جهة من غير شك ولا تحر، أو يثك ثمّ يصلّى إلى جهة من غير تحر، أو يتحرى فيصلّى إلى جهة التّحرِّي، أو يرض عن الجهة الّتي أدى إليها اجتهاده فيصلّى إلى جهة أخرى. فأمَّا بيان الفصل الأوّل: أنه إذا صلّى من غير شك ولا تحر فإن تبين أنه أصاب أو أكبر رأيه أنه أصاب أو لم يتبين من حاله شيء بأن ذهب من ذلك الموضع فصلاته جائزة لأنّ فعل المسلم محمول على الصِّحَّة ما أمكن فكل من قام لأداء الصّلاة يجعل مستقبلًا للقبلة في أدائها باعتبار الظّاهر، وحمل أمره على الصِّحَّة حتّى يتبين خلافه وإن تبين أنه أخطأ القبلة فعليه إعادة الصّلاة لأنّ الظّاهر يسقط اعتباره إذا تبين الحال بخلافه؛ لأنّ الحكم بجواز الصّلاة هنا لانعدام الدّليل المفسد لا للعلّم بالدّليل المجوز فإذا ظهر الدّليل المفسد وجب الإعادة، وكذلك إن كان أكبر رأيه أنه أخطأ فعليه الإعادة لأنّ أكبر الرأي كاليقين خصوصًا فيما يبني على الاحتياط. وأما إذا شك ولم يتحر ولكن صلّى إلى جهة فإن تبين أنه أخطأ القبلة، أو أكبر رأيه أنه أخطأ، أو لم يتبين من حاله شيء فعليه الإعادة؛ لأنه لمَّا شك فقد لزمه التّحرِّي لأجل هذه الصّلاة، وصار التّحرِّي فرضًا من فرائض صلاته، فإذا ترك هذا الفرض لا تجزيه صلاته بخلاف الأوّل؛ لأنّ التّحرِّي إنّما يفترض عليه إذا شك ولم يشكّ في الفصل الأوّل، فأمّا إذا تبين أنه أصاب القبلة جازت صلاته لأنّ فريضة التّحرِّي لمقصود وقد توصل إلى ذلك المقصود بدونه فسقطت فريضة التّحرِّي عنه، وإن كان أكبر رأيه أنه أصاب فكان الشّيخ الإمام الزاهد أبو بكر محمّد بْن حامد - رحمهم الله تعالى - يفتي بالجواز هنا أيضًا؛ لأنّ أكبر الرأي بمنزلة اليقين فيما لا يتوصل إلى معرفته حقيقة والأصح أنه لا يجزيه لأنّ فرض التّحرِّي لزمه يقين فلا يسقط اعتباره إِلَّا بمثله ولأن غالب الرأي يجعل كاليقين احتياطًا والاحتياط هنا في الإعادة. فأمَّا إذا شك وتحرى وصلّى إلى الجهة الّتي أدى إليها اجتهاده فإن تبين أنه أصاب أو أكبر رأيه أنه أصاب أو لم يتبين من حاله شيء فصلاته جائزة بالاتفاق، وكذلك إن تبين أنه أخطأ فصلاته جائزة عندنا، وقال الشّافعيّ - رحمه الله تعالى - إن تبين =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = أنه تيامن أو تياسر فكذلك الجواب، وإن تبين أنه استدبر الكعبة فصلاته فاسدة وعليه الإعادة في أحد القولين؛ لأنه تبين الخطأ في اجتهاده فيسقط اعتبار اجتهاده كالقاضي فيما يقضي باجتهاده إذا ظهر النص بخلافه، والمتوضئ بماء إذا علم بنجاسته بخلاف ما إذا تيامن أو تياسر لأنّ هناك لا يتيقن بالخطأ فإن وجه المرء مقوس فإن عند التيامن أو التياسر يكون أحد جوانب وجهه إلى القبلة وأما عند الاستدبار لا يكون شيء من وجهه إلى الكعبة فيتيقن بالخطأ به. وحجتنا في ذلك قوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ} [البقرة: 115]، الآية وفي سبب نزولها حديثان: أحدهما ما روي عن عبد الله بْن عامر - رحمه الله تعالى - قال: كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سفر في ليلة طحياء مظلمة فاشتبهت علينا القبلة فتحرى كلّ واحد منا وخط بين يديه خطًّا، فلما أصبحنا إذا الخطوط على غير القبلة فلما رجعنا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سألناه عن ذلك فنزلت الآية فقال - صلى الله عليه وسلم -: "أجزأتكم صلاتكم". وفي حديث جابر - رضي الله عنه - قال: كنا في سفر في يوم ذي ضباب فاشتبهت علينا القبلة فتحرى وصلّى كلّ واحد منا إلى جهة فلما انكشف الضباب فمنا من أصاب ومنا من أخطأ فسألنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك فنزلت الآية ولم يأمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بإعادة الصّلاة. وقال علي - رضي الله عنه - قبلة المتحري جهة قصده معناه تجوز صلاته إذا توجه إلى جهة قصده والمعنى فيه أنه مؤد لما كلف فيسقط عنه الفرض مطلقًا كما لو تيامن أو تياسر، وبيان الوصف ما قررناه فيما سبق أن المقصود من طلب الجهة ليست عين الجهة إنّما المقصود وجه الله تعالى إِلَّا أنه يؤمر بطلب الجهة لتحقيق معنى الابتلاء وما هو المقصود وهو الابتلاء، قد تم بتحريه فيسقط عنه ما لزمه من الفرض، ألَّا ترى أن في التيامن والتياسر على وجه لا يجوز مع العلم يحكم بجواز صلاته عند التّحرِّي للمعنى الّذي قلنا فكذلك في الاستدبار، وإيضاح ما قلنا فيما نقل عن بعض العارفين قال: قبلة البشر الكعبة وقبلة أهل السَّماء البيت المعمور وقبلة الكروبين الكرسي، وقبلة حملة العرش العرش، ومطلوب الكل وجه الله تعالى وهذا بخلاف ما إذا ظهرت النّجاسة في الثّوب أو في الماء لما قلنا أن ذلك ممّا يمكن الوقوف على حقيقته؛ ولأن التوضؤ =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = بالماء النجس ليس بقربة فلا يمكن أداء الواجب به بحال، فأمَّا الصّلاة إلى غير القبلة قربة ألَّا ترى أن الراكب يتطوع على دابته حيث ما توجهت به اختيارًا. ويؤدِّي الفرض كذلك عند العذر أيضًا، وبنحو هذا فرق في الزَّكاة أيضًا أن التصدق على الأب وعلى الغني قربة ولهذا لا يثبت له حق الاسترداد كما قررنا، فأمَّا إذا أعرض عن الجهة الّتي أدى إليها اجتهاده وصلّى إلى جهة أخرى ثمّ تبين أنه أصاب القبلة فعليه إعادة الصّلاة في قول أبي حنيفة ومحمد - رحمهما الله - وقد روي عن أبي حنيفة - رحمه الله تعالى - قال: أخشى عليه الكفر لإعراضه عن القبلة عنده. وروي عنه أيضًا أنه قال: أما يكفيه أن لا يحكم بكفره. وقال أبو يوسف - رحمه الله تعالى - تجوز صلاته لأنّ لزوم التّحرِّي كان لمقصود وقد أصاب ذلك المقصود بغيره فكان هذا وما لو أصابه بالتحري سواء، وهذا على أصله مستقيم لأنه يسقط اعتبار التّحرِّي إذا تبين الأمر بخلافه كما قال في الزَّكاة، وإذا سقط اعتبار التّحرِّي فكأنه صلّى إلى هذه الجهة من غير تحر وقد تبين أنه أصاب فتجوز صلاته. وجه قول أبي يوسف ومحمد - رحمهما الله تعالى -: أنه اعتقد فساد صلاته لأنّ عنده أنه صلّى إلى غير القبلة فلا يجوز الحكم بجواز صلاته مع اعتقاده الفساد فيه كما لو اقتدى بالإمام وهو يصلّي إلى غير جهته لم تجز صلاته إذا علم لاعتقاده أن إمامه على الخطأ، يوضحه أن الجهة الّتي أدى إليها اجتهاده صارت بمنزلة القبلة في حقه عملًا حتّى لو صلّى إليها جازت صلاته، وإن تبين الأمر بخلافه فصار هو في الإعراض عنها بمنزلة ما لو كان معاينًا الكعبة فأعرض عنها وصلّى إلى جهة أخرى فتكون صلاته فاسدة ولهذا لا يحكم بكفره لأنّ تلك الجهة ما انتصبت قبلة حقيقة في حق العلم وإن انتصبت قبلة في حق العمل، فإن كان تبين الحال له في خلال الصّلاة فنقول: أما في هذا الفصل فعليه استقبال الصّلاة لأنه لو تبين له بعد الفراغ لزمه الإعادة، فإذا تبين في خلال الصّلاة أولى، ولم يرو عن أبي يوسف - رضي الله عنه - خلاف هذا وينبغي أن يكون هذا مذهبه أيضًا؛ لأنه قد يقول قوي حاله بالتيقن بالإصابة في خلال الصّلاة ولا ينبني القوي على الضعيف كالمومئ إذا قدر على الركوع والسجود في خلال الصّلاة، فأمَّا إذا كان مصلّيا إلى الجهة الّتي أدى إليها اجتهاده فتبين أنه أخطأ فعليه أن يتحول إلى جهة =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = الكعبة ويبني على صلاته؛ لأنه لو تبين له بعد الفراغ لم يلزمه الإعادة فكذلك إذا تبين له في خلال الصّلاة. وهذا لأنّ افتتاحه إلى جهة تلك الجهة قبلة في حقه عملًا فيكون حاله كحال أهل قباء حين كانوا يصلون إلى بيت المقدس فأتاهم آت وأخبرهم أن القبلة حولت إلى الكعبة فاستداروا كهيئتهم وهم ركوع ثمّ جوز رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاتهم، وعلى هذا قالوا لو صلّى بعض الصّلاة إلى جهة بالتحري ثمّ تحول رأيه إلى جهة أخرى يستقبل تلك الجهة ويتم صلاته؛ لأنّ الاجتهاد لا ينقض بمثله. ولكن في المستقبل يبني على ما أدى إليه اجتهاده حتّى روي عن محمّد أنه قال: لو صلّى أربع ركعات إلى أربع جهات بهذه الصِّفَة يجوز. واختلف المتأخرون فيما إذا تحول رأيه إلى الجهة الأولى فمنهم من يقول يستقبل تلك الجهة أيضًا فتتم صلاته جريًا على طريقة القياس. ومنهم من يستقبح هذا ويقول إذا آل الأمر إلى هذا فعليه استقبال الصّلاة؛ لأنه كان أعرض عن هذه الجهة في هذه الصّلاة فليس له أن يستقبلها في هذه الصّلاة أيضًا، فأمَّا إذا افتتح الصّلاة مع الشك من غير تحر ثمّ تبين له في خلال الصّلاة أنه أصاب القبلة أو أكبر رأيه أنه أصاب فعليه الاستقبال لأنّ افتتاحه كان ضعيفًا حتّى لا يحكم بجواز صلاته ما لم يعلم بالإصابة، فإذا علم في خلال الصّلاة فقد تقوى حاله وبناء القوي على الضعيف لا يجوز فيلزمه الاستقبال بخلاف ما إذا علم بعد الفراغ فإنّه لا يحتاج إلى البناء، ونظيره في المومئ والمتيمم وصاحب الجرح السائل يزول ما بهم من العذر، وإذا كان بعد الفراغ لا يلزمهم الإعادة وإن كان في خلال الصّلاة يلزمهم الاستقبال، فأمَّا إذا كان افتتحها من غير شك وتحر فإن تبين في خلال الصّلاة أنه أخطأ فعليه الاستقبال وإن تبين أنه أصاب فهذا الفصل غير مذكور في الكتاب. وكان الشّيخ أبو بكر محمّد بْن الفضل - رحمهم الله تعالى - يقول: يلزمه الاستقبال أيضًا لأنّ افتتاحه كان ضعيفًا، ألَّا ترى أنه إذا تبين الخطأ تلزمه الإعادة، فإذا تبين الصواب في خلال الصّلاة فقد تقوى حاله فيلزمه الاستقبال. وكان الشّيخ الإمام أبو بكر محمّد بْن حامد - رحمه الله تعالى - يقول: لا يلزمه الاستقبال وهو الأصح؛ لأنّ صلاته هنا في الابتداء كانت صحيحة لانعدام الدّليل المفسد فبالتبين لا تزداد =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = القوة حكمًا فلا يلزمه الانتقال بخلاف ما بعد الشك لأنّ هناك صلاته ليست بصحيحة إِلَّا بالتيقن بالإصابة، فإذا تبين أنه أصاب فقد تقوى حاله حكمًا فلهذا لزم مع الاستقبال. رجل دخل مسجدًا لا محراب فيه وقبلته مشكلة، وفيه قوم من أهله، فتحرى القبلة وصلّى، ثمّ علم أنه أخطأ القبلة فعليه أن يعيد الصّلاة؛ لأنّ التّحرِّي حصل في غير أوانه، فإن أوان التّحرِّي ما بعد انقطاع الأدلة، وقد بقي هنا دليل له وهو السؤال، فكان وجود التّحرِّي كعدمه فيصير كأنه صلّى بعد الشك من غير التّحرِّي، فلا تجزيه صلاته إِلَّا إذا تبين أنه أصاب، فكذا هذا عليه الإعادة لما تبين أنه أخطأ، فإن تبين أنه أصاب فصلاته جائزة، واستشهد لهذا بمن أتى ماء من المياه أو حيًّا من الأحياء، وطلب الماء فلم يجده فتيمم وصلّى ثمّ وجده، فإن كان في الحي قوم من أهله ولم يسألهم حتّى تيمم وصلّى ثمّ سألهم فأخبروه لم تجز صلاته، وإن سألهم فلم يخبروه أو لم يكن بحضرته من يسأله أجزأته صلاته، وكذلك لو افتتح الصّلاة بالتيمُّم ثمّ رأى إنسانًا فظن أن عنده خبر الماء يتم صلاته ثمّ يسأله فإن أخبره أن الماء قريب منه يعيد الصّلاة، فإن لم يعلم من خبر الماء شيئًا فليس عليه إعادة الصّلاة. وقد بيَّنَّا في كتاب الصّلاة هذه الفصول والفرق بينها وبين ما إذا سأله في الابتداء فلم يخبره حتّى صلّى بالتيمُّم ثمّ أخبره فليس عليه إعادة الصّلاة، فأمر القبلة كذلك. ولم يذكر في الكتاب أن هذا الاشتباه لو كان له بمكة ولم يكن بحضرته من يسأله فصلّى بالتحري ثمّ تبين أنه أخطأ هل يلزمه الإعادة، فقد ذكر ابن رستم عن محمّد - رحمهما الله تعالى - أنه لا إعادة عليه. وهذا هو الأقيس لأنه لما كان محبوسًا في بيت وقد انقطعت عنه الأدلة ففرضه التّحرِّي، ويحكم بجواز صلاته بالتحري فلا تلزمه الإعادة كما لو كان خارج مكّة، وكان أبو بكر الرَّازيُّ - رحمه الله تعالى - يقول هنا تلزمه الإعادة لأنه تيقن بالخطأ إذا كان بمكة. قال: (وكذلك إذا كان بالمدينة) لأنّ القبلة بالمدينة مقطوع بها فإنّه إنّما نصبها رسول اللُّه - صلى الله عليه وسلم - بالوحي بخلاف سائر البقاع؛ ولأن الاشتباه بمكة يندر والحكم لا ينبني على النادر فلا يندر تحريه للحكم بالجواز هنا، بخلاف سائر البقاع فإن الاشتباه يكثر =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = فيها والأصل في المسائل بعد هذا أن الحكم للغالب؛ لأنّ المغلوب يصير مستهلكًا في مقابلة الغالب، والمستهلك في حكم المعدوم، ألَّا ترى أن الاسم للغالب فإن الحنطة لا تخلو من حبات الشعير ثمّ يطلق على الكل اسم الحنطة، وعلى هذا قالوا في قرية عامة أهلها المجوس: لا يحل لأحد أن يشتري لحمًا ما لم يعلم أنه ذبيحة مسلم، وفي القرية الّتي عامة أهلها مسلمون يحل ذلك بناء للحكم على الغالب، ويباح لكل أحد الرمي في دار الحرب إلى كلّ من يراه من بعد ما لم يعلم أنه مسلم أو ذمي، ولا يحل له ذلك في دار الإسلام ما لم يعلم أنه حربي، ولو أن أهل الحرب دخلوا قرية من قرى أهل الذِّمَّة لم يجز استرقاق واحد منهم إِلَّا من يعلم بعينه أنه حربي؛ لأنّ الغالب في هذه المواضع أهل الذِّمَّة ولو دخل قوم من أهل الذِّمَّة قرية من قرى أهل الحرب جاز للمسلمين استرقاق أهل تلك القرية إِلَّا من يعلم أنه ذمي. ثمّ المسائل نوعان: مختلط منفصل الأجزاء ومختلط متصل الأجزاء، فمن المختلط الّذي هو منفصل الأجزاء مسألة المساليخ، وهي تنقسم إلى ثلاثة أقسام: إمّا أن تكون الغلبة للحلال، أو للحرام، أو كانا متساويين، وفيه حالتان: حالة الضّرورة بأن كان لا يجد غيرها، وحالة الاختيار ففي حالة الضّرورة يجوز له التّحرِّي في الفصول كلها لأنّ تناول الميِّتة عند الضّرورة جائز له شرعًا فلأن يجوز له التّحرِّي عند الضّرورة وإصابة الحلال بتحريه مأمول كأن أولى، وأما في حالة الاختيار فإن كانت الغلبة للحلال بأن كانت المساليخ ثلاثة: أحدها ميتة جاز له التّحرِّي أيضًا، لأنّ الحلال هو الغالب والحكم للغالب فإذا الطريق جاز له التناول. منها إِلَّا ما يعلم أنه ميتة فالسبيل أن يوقع تحريه على أحدها أما ميتة فيتجنبها ويتناول ما سوى ذلك لا بالتحري بل بغلبة الحلال وكون الحكم له، وإن كان الحرام غالبًا فليس له أن يتحرى عندنا وله ذلك عند الشّافعيّ لأنه يتيقن بوجود الحلال فيها ويرجو إصابته بالتحري فله أن يتحرى كما في الفصل الأوّل، وهذا لأنّ الحرمة في الميِّتة محض حق الشرع والعمل بغالب الرأي جائز في مثله كما في استقبال القبلة فإن جهات الخطأ هناك تغلب على جهات الصواب ولم يمنعه ذلك من العمل بالتحري فهذا مثله. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = وحجتنا في ذلك: أن الحكم للغالب وإذا كان الغالب هو الحرام كان الكل حرامًا في وجوب الاجتناب عنها في حالة الاختيار؛ وهذا لأنه لو تناول شيئًا منها إنّما يتناول بغالب الرأي وجواز العمل بغالب الرأي للضرورة، ولا ضرورة في حالة الاختيار بخلاف ما إذا كان الغالب الحلال فإن حل التناول هناك ليس بغالب الرأي كما قررنا، وهذا بخلاف أمر القبلة لأنّ الضّرورة هناك قد تقررت عند انقطاع الأدلة عنده، فوزانه أن لو تحققت الضّرورة هنا بأن لم يجد غيرها جهة الكعبة قربة جائزة في حالة الاختيار وهو التطوع على الدابة، وتناول الميِّتة لا يجوز مع الاختيار بحال ولهذا لا يجوز له العمل بغالب الرأي هنا في حالة الاختيار. وكذلك إن كانا متساويين لأنّ عند المساواة يغلب الحرام شرعًا، قال - صلى الله عليه وسلم -: "ما اجتمع الحرام والحلال في شيء إِلَّا غلب الحرام الحلال". ولأن التحرز عن تناول الحرام فرض وهو مخير في تناول الحلال إن شاء أصاب من هذا وإن شاء أصاب من هذا كان شاء أصاب من غيره، ولا يتحقق المعارضة بين الفرض والمباح فيترجح جانب الفرض وهو الاجتناب عن الحرام ما لم يعلم الحلال بعينه أو بعلامة يستدل بها عليه، ومن العلّامة أن الميِّتة إذا ألقيت في الماء تطفوا لما بقى من الدِّم فيها، والذكية ترسب وقد يعرف النَّاس ذلك بكثرة النشيش وشرعة الفساد إليها، ولكن هذا كله ينعدم إذا كان الحرام ذبيحة المجوسي أو ذبيحة مسلم ترك التّسمية عمدًا. ومن المختلط الّذي هو متصل الأجزاء: مسألة الدهن إذا اختلط به ودك الميِّتة أو شحم الخنزير، وهي تنقسم ثلاثة أقسام: فإن كان الغالب ودك الميِّتة لم يجز الانتفاع بشيء منه لا بكل ولا بغيره من وجوه الانتفاع لأنّ الحكم للغالب، وباعتبار الغالب هذا محرم العين غير منتفع به فكان الكل ودك الميِّتة، واستدل عليه بحديث جابر - رضي الله عنه - قال: جاء نفر إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقالوا: إن لنا سفينة في البحر وقد احتاجت إلى الدهن فوجدنا ناقة كثيرة الشحم ميتة افندهنها بشحمها فقال - صلى الله عليه وسلم -: "لا تنتفعوا من الميِّتة بشيء". وكذلك إن كانا متساويين لأنّ عند المساواة يغلب الحرام فكان هذا كالأول، فأمَّا إذا كان الغالب هو الزيت فليس له أن يتناول شيئًا منه في حالة الاختيار لأنّ ودك الميِّتة وإن كان مغلوبّا مستهلكًا حكمًا فهو موجود في هذا المحل حقيقة، وقد تعذر =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = تمييز الحلال من الحرام ولا يمكنه أن يتناول جزءًا من الحلال إِلَّا بتناول جزء من الحرام، وهو ممنوع شرعًا من تناول الحرام ويجوز له أن يتتفع بها من حيث الاستصباح ودبغ الجلود بها. فإن الغالب هو الحلال فالانتفاع إنّما يلاقي الحلال مقصودًا وقد روينا في كتاب الصلاة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وعن علي رضي الله تعالى عنه: جواز الانتفاع بالدهن النجس لأنه قال: وإن كان مائعًا فانتفعوا به دون الأكل. وكذلك يجوز بيعه مع بيان العيب عندنا، ولا يجوز عند الشّافعيّ - رحمه الله تعالى - لأنه نجس العين كالخمر ولكنا نقول النّجاسة للجار لا لعين الزيت فهو كالثوب النجس يجوز بيعه وإن كان لا تجوز الصّلاة فيه؛ وهذا لأنّ إلى العباد أحداث المجاورة بين الأشياء لا تقليب الأعيان، وإن كان التنجس يحصل بفعل العباد عرفنا أن عين الطّاهر لا يصير نجسًا، وقد قررنا هذا الفصل. في كتاب الصّلاة فإن باعه ولم يبين عيبه فالمشتري بالخيار إذا علم به لتمكن الخلل في مقصوده حين ظهر أنه محرم الأكل وإن دبغ به الجلد فعليه أن يغسله ليزول بالغسل ما على الجلد من أثر النّجاسة، وما يشرب فيه فهو عفو. ومن المختلط الّذي هو منفصل الأجزاء مسألة الموتى إذا اختلط موتى المسلمين بموتى الكفار وهي تنقسم ثلاثة أقسام أيضًا: فإن كانت الغلبة لموتى المسلمين فإنّه يصلّي عليهم ويدفنون في مقابر المسلمين؛ لأنّ الحكم للغالب والغالب موتى المسلمين إِلَّا أنه ينبغي لمن يصلّي عليهم أن ينوي بصلاته المسلمين خاصّة؛ لأنه لو قدر على التمييز فعلًا كان عليه أن يخص المسلمين بالصلاة عليهم، فإذا عجز عن ذلك كان له أن يخص المسلمين بالنية؛ لأنّ ذلك في وسعه، والتكليف بحسب الوسع. ونظيره ما لو تترس المشركون بأطفال المسلمين فعلى من يرميهم أن يقصد المشركين وإن كان يعلم أنه يصيب المسلم، وإن كان الغالب موتى الكفار لا يصلّي على أحد منهم إِلَّا من يعلم أنه مسلم بالعلّامة لأنّ الحكم للغالب والغلبة للكفار هنا، وإن كانا متساويين فكذلك الجواب لأنّ الصّلاة على الكافر لا تجوز بحال قال الله تعالى: {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا} [التوبة: 84]. ويجوز ترك الصّلاة على بعض المسلمين كأهل البغي وقطاع الطريق، فعند المساواة يغلب ما هو الأوجب وهو =

ولم يوجد (¬1). ¬

_ = الامتناع عن الصّلاة على الكفار، ولا يجوز المصير إلى التّحرِّي هنا عندنا لما بيَّنَّا أن العمل بغالب الرأي في موضع الضّرورة ولا تتحقق الضّرورة هنا. وذكر في ظاهر الرِّواية أنهم يدفنون في مقابر المشركين؛ لأنّ في حكم ترك الصّلاة عليه جعل كأنّهم كفار كلهم فكذلك في حكم الدفن. هذا قول محمّد - رحمه الله تعالى - فأمَّا على قول أبي يوسف - رحمه الله - ينبغي أن يدفنوا في مقابر المسلمين مراعاة لحرمة المسلم منهم، فإن الإسلام يعلو ولا يعلى، ودفن المسلم في مقابر المشركين لا يجوز بحال، وقيل: بل يتخذ لهم مقبرة على حدة لا من مقابر المسلمين ولا من مقابر المشركين فيدفنون فيها. وأصل هذا الخلاف بين الصّحابة - رضي الله عنهم - في نظير هذه المسألةُ وهو أن النصرانية إذا كانت تحت مسلم فماتت وهي حبلى فإنه لا يصلّي عليها لكفرها. ثمّ تدفن في مقابر المشركين عند علي وابن مسعود - رضي الله عنهما -. ومنهم من يقول تدفن في مقابر المسلمين لأنّ الولد الّذي في بطنها مسلم، ومنهم من يقول يتخذ لها مقبرة على حدة فهذا مثله، وهذا كله إذا تعذر تمييز المسلم بالعلّامة فإن أمكن ذلك وجب التمييز، ومن العلّامة للمسلمين الختان والخضاب ولبس السواد، فأمَّا الختان فلأنه من الفطرة كما قال - صلى الله عليه وسلم -: "عشر من الفطرة وذكر من جملتها الختان". إِلَّا أن من أهل الكتاب من يختتن فإنّما يمكن التمييز بهذه العلّامة إذا اختلط المسلمون بقوم من المشركين يعلم أنهم لا يختتنون، وأما الخضاب فهو من علامات المسلمين قال - صلى الله عليه وسلم -: "غيرو الشيب ولا تتشبهوا باليهود". وكان أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - يختضب بالحناء والكتم حتّى قال الراوي: رأيت ابن أبي قحافة - رضي الله عنه - على منبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولحيته كأنّها ضرام عرفج. واختلفت الرِّواية في أن النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - هل فعل ذلك في عمره والأصح أنه لم يفعل، ولا خلاف أنه لا بأس للغازي أن يختضب في دار الحرب ليكون أهيب في عين قرنه، وأما من اختضب لأجل التزين للنساء والجواري فقد منع من ذلك بعض العلماء - رحمهم الله تعالى -. (¬1) قال محمّد بْن فرامرز بْن عليّ في درر الحكام شرح غرر الأحكام (1/ 272 - 274): (ومنها)؛ أي: من الشّروط (استقبال عين الكعبة للمكّيّ) إجماعًا حتّى لو صلّى في =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = بيته يجب أن يصلّي بحيث لو أزيل الجدران وقع الاستقبال على عين الكعبة. (و) استقبال (جهتها لغيره) وهو الآفاقيّ فإنّ الموانع لو أزيلت لم يجب أن يقع الاستقبال على عينها بل على جهتها في الصّحيح إذ ليس التكليف إِلَّا بحسب الوسع، وقيل: يجب على الآفاقيّ أيضًا استقبال عينها. قالوا: فائدة الخلاف تظهر في اشتراط نيّة عين الكعبة، فعنده يشترط، وعند غيره لا، وجهتها أن يصل الخطّ الخارج من جبين المصلّي إلى الخطّ المارّ بالكعبة على استقامةٍ بحيث يحصل قائمتان، أو نقول: هو أن تقع الكعبة فيما بين خطّين يلتقيان في الدّماغ فيخرجان إلى العينين كساقي مثلّثٍ. كذا قال النِّحرير التَّفتازانيّ في شرح الكشاف، فيعلم منه أنّه لو انحرف عن العين انحرافًا لا يزول به المقابلة بالكفية جاز، يؤيده ما قال في الظّهيريّة: إذا تيامن أو تياسر يجوز؛ لأنّ وجه الإنسان مقوّسٌ فعند التيامن أو التياسر يكون أحد جوانبه إلى القبلة. وعن بعض العارفين أنّه قال: قبلة البشر الكعبة، وقبلة أهل السّماء البيت المعمور، وقبلة الكروبيّين الكرسيّ، وقبلة حملة العرش العرش، ومطلوب الكل وجه الله تعالى. كذا في الظّهيريّة (وقبلة العاجز) عن التّوجيه إلى القبلة مع علمه بجهتها بأن خاف من عدوٍّ أو سبعٍ أو مرضٍ ولا يجد من يحوّله إليها أو كان على خشب في البحر (جهة قدرته)؛ أي: يصلّي إلى أيّ جهةٍ قدر عليها (ويتحرّى المصلّي) التّحرّي: بذل المجهود لنيل المقصود (للاشتباه)؛ أي: اشتباه القبلة عليه بانطماس الأعلام أو تراكم الظّلام أو تطامّ الغمام (وعدم المخبر بها) فإنّ الأصحاب رضوان الله عليهم أجمعين تحرّوا وصلّوا، ولم ينكر عليهم الرّسول - صلى الله عليه وسلم -، والتقرير دليل الجواز (ولم يعد) الصّلاة (إن أخطأ)؛ لأنّ التكليف بحسب الوسع ولا وسع في إصابة الجهة حقيقةً فصارت جهة التّحرِّي هنا كجهة الكعبة للغائب عنها، وقد قيل قوله تعالى {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ}؛ أي: قبلة اللُّه، نزلت في الصّلاة حال الاشتباه (وفسدت إن شرع) فيها (بلا تحرٍّ)؛ لأنّ قبلته جهة تحرّيه ولم يوجد (وإن علم فيها)؛ أي: في الصّلاة (إصابته)؛ لأنّ بناء القويّ على الضّعيف فاسدٌ، وحاله بعد العلم أقوى من حاله قبله (ولو علم) إصابته (بعدها)؛ أي: بعد الصّلاة (صحّت) صلاته لحصول المقصود؛ لأنّ ما وجب لغيره لا يعتبر حصوله بل حصول الغير كالسّعي إلى الجمعة (ولو علم =

وقال في البداية مختصر الوقاية: ولم يعد مخطئ النوازل لو صلّى بلا تحري، لا يجوز لتركه الواجب عليه. وهو التّحرِّي وإن أصاب. وفيه خلافُ أبي يوسف. انتهى بالحروف من كلٍّ منهما. قلتُ: المفهوم من هذه العبارات: ما هو الظّاهر منها. وهو: أنّ من اشتبهت عليه القبلة فصلّى بغير تحرّي، ثمّ علمَ بعد الفراغ أنّه أصاب القبلة، لم تجز صلاته، وعليه الإعادة. قيل: هذه العبارات إنّما هي فيما إذا شرع بلا تحرٍّ علم في أثناء صلاته: أنّه أصابَ؛ لأنّ صاحب الوقاية قال: قيلَ ذلكَ، فإنّه جهلها وعدم من يساله تحرّ، ولم يعد أن أخطأ وإن علم به مصليًّا أو تحول رأيه إلى أخرى استدار. ¬

_ = خطأه فيها)؛ أي: في الصّلاة (أو تحوّل رأيه) بعد الشّروع بالتّحرِّي (استدار) في الأوّل إلى جهة الصّواب وفي الثّاني إلى جهة تحوّل رأيه إليها (تحرّى كلٌّ) من المصلّين (جهةً)؛ يعني: أن رجلًا أمّ قومًا في ليلةٍ مظلمةٍ فتحرّى وصلّى إلى جهةٍ، وتحرى القوم وصلّى كلّ واحدٍ منهم إلى جهةٍ (إن لم يعلم) المقتدي (مخالفة إمامه ولم يتقدّمه)؛ أي: المقتدي الإمام في الواقع (جاز) فعل كلّ واحدٍ؛ لأنّ قبلتهم جهات تحرّيهم ولم تضرّه المخالفة كجوف الكعبة (وإلَّا)؛ أي: وإن علم أنّه مخالفٌ لإمامه أو تقدّم عليه في الواقع (فلا) يجوز فعله أمّا الأوّل فلأنّه اعتقد إمامه على الخطأ بخلاف جوف الكعبة؛ لأنّ الكلّ قبلةٌ. وأما الثّاني: فلتركه فرض المقام كما إذا وقع في جوف الكعبة، والظّاهر: أنّ مراد صاحب الوقاية بقوله: وهم خلفه، بيان كونهم خلفه في الواقع لا أنّهم يعلمون أنّهم خلفه فيحمل قوله على التّساهل كما حمله صدر الشّريعة عليه، نعم في قوله: لا لمن علم تساهلٌ؛ لأنّ علمه بحاله لا يفيد عدم الجواز بل لا بدّ أن يعلم مخالفته للإمام ولهذا غيّرت العبارة إلى ما ترى.

وإن شرعَ بلا تحرٍّ إلخ؛ لأنه قال في الكافي: وإن شرع بلا تحرٍّ، علم أنّه أصاب. قال أبو يوسف: يمضي فيها. وقالا؛ يستأنف. وقال في الاختيار (¬1) وكثيرٌ من المصنّفات: من صلّى بغير اجتهادٍ، ثمّ علمَ (¬2) بعد الفراغ: أنّه أصاب، فلا إعادةَ لوجود التوجه إلى القبلة، إذ التّحرِّي فرضٌ. هو وسيلة. فإذا حصل المقصود به، فلا يضر عدمه كالسعي إلى الجمعةٍ. قلتُ: ليس في عبارة الوقاية دلالةٌ على هذا المراد بوجهٍ من وجوهِ الدلالات. ولو كان فرض هذه المسألةُ فيما علم بالإصابة والخطأ في أثناء الصّلاة، للزم التكرار في بعض نظر، حيث قال: وإن علم به مصلّيًّا أو تحوّل رأيه إلى أخرى استدار وهو بعيدٌ من مثل برهان الشّريعة. وإن قيل: إنّ قوله يصيب، لم يتحرّ مسألة برأسها. فليكن قوله: وإن شرع بلا تحرٍّ مسألة برأسها أيضًا. وإن كان تقدّم قوله: وإن تحوّل رأيه استدار، دليلٌ على أنّه فيمن علمَ بحاله في أثناء صلاته، فليكن بآخره في عبارات النقاية دليلًا على خلافه. وبالجملة: فليس هذا الاستدلال بظاهرٍ. ¬

_ (¬1) انظر العناية شرح الهداية (3/ 213). (¬2) جاء في هامش المخطوط: (الّذي هو علمه. مجاله في أثناء الصّلاة).

وأمّا ما كان في الكافي فهي مسألةٌ أخرى لا دلالة على أن لا خلاف فيه عندنا، إِلاّ هي. وهي نفسها قد اختلف الوضع فيها فذكرها في المختصر كما في الكافي. وذكرها في الإيضاح كما في المجمع، وهي: أنّه لو تحرى وعدل عن جهة تحرّيه. وقال صاحب المجمع: وما في الحصرِ فرعٌ على ما في الإيضاح؛ لأنّ هذه تستلزم تلك. وتلك لا تستلزم هذه. فلا بدّ أنّه ليس في المذهب غيرها. وأما ما في الاختيار من التصريح بخلاف ما في الوقاية، وإن ذكر في كتب ظاهر الرِّواية، لكن دليله المذكور مشكلٌ بالنّظر إلى دليل قولهما. وصورة الخلافية: ما إذا تحرّى وعدلَ عن جهة تحريه أو شرع بلا تحرٍّ وعَلِمَ في أثناء صلاته أنه أصاب. قال أبو يوسف: يمضي. وقالا: يستأنف. قال شارح المجمع: في هذه الصورة لأبي يوسف: أنه أتى بما وجب عليه وهو: استقبال القبلة. فأفاد هذا: أنّ المقصود هو الاستقبال، وقد وجد، وإذا حصل المقصود فلا يضر عدم ما هو وسيلة إليه. واستدل لهما: أنّه مأمورٌ بالتحري لا بالإصابة؛ لأنها ليست في وسعه، فلم يأتِ بما أمر به، فلم يخرج عن العهدة. ففي قوله: إنّه مأمورٌ بالتحري إلى آخره. أفاده: أن المفروض في حالة الاشتباه: التّحرِّي ولم يأت به. ومن كان كذلك، لم يخرج عن العهدة، ومن لم يخرج عن العهدة تلزمه الإعادة للخروج عن العهدة.

وفي قوله: لا بالإصابة. أفاده: أنّه ما أتى به في هذه الحالة ليس هو المفروض عليه، فلا يكفيه في الخروج عن العهدة. وفيه: نفيٌ لقول أبي يوسف: أنّه أتى بما وجب عليه. وهذا إطنابٌ مني في هذا المقام، وإلّا فلا يخفى هذا على مُحصّلٍ. ونحو هذا: ما ذكره الزّوزني (¬1) في شرح بيت المنظومة حيث قال: ولهما أن شرط انعقاد ما أتى به جزءٌ لفرض الوقت قد فات فلا ينعقد جزاءً له، لاستحالة وجود المشروط بدون شرطه، فكيف يبني عليه ويتمه فرضًا. وهذا لأنّ التوجه إلى جهةٍ يقع إليها تحريه شرط وقوع ما أتى به جزء الفرض الوقت. لانعقاد الإجماع على وجوب التوجه إلى ما يقع تحريه إليه. انتهى. فنقول في مسألتنا: شرط انعقاد ما أتى به فرض الوقت قد فات، فلا ينعقد ما أتى به فرضًا. إلخ. إن شرط جزء الصّلاة شرطُ كلّها، إِلَّا أنه إنّما ذكره في صورة ما إذا علمها لإصابةٍ في أثناء صلاته. وقال شيخنا العلّامة كمال الدين في شرح الهداية فيما ذكر في الاختيار وغيره (¬2): إِنّهُ مشكلٌ على قولهما فيما إذا عَلِمَ بالإصابة في أثناءِ ¬

_ (¬1) تحرف في المخطوط إلى: (الزوزلي). قال المصنِّف في تاج التراجم (ص 22): محمّد بْن محمود بْن محمّد تاج الدين أبو المفاخر بْن أبي القاسم السديدي الزوزني، شرح المنظومة وزاد عليها، وشرح الريادات وسماه: ملتقى البحار من منتقى الأخبار، تفقه على الإمام محمود المروزي، وتفقه عليه: ابن عبد العزيز. والله أعلم. (¬2) قال في فتح القدير (2/ 19 - 20): حكم المسألةُ: فلو صلّى من اشتبهت عليه القبلة بلا تحرٍّ، فعليه الإعادة إِلَّا إن علم بعد الفراغ أنّه أصاب، لأنّ ما افترض لغيره يشترط حصوله لا غير كالسّعي، وإن علم في الصّلاة أنّه أصاب يستقبل، وعند أبي يوسف يبني لما ذكرنا، ولأنَّه لو استقبل استقبل بهذه الجهة فلا فائدة. =

الصّلاة، حيث قالا: يستأنف؛ لأنّ تعليلهما في هذه الخلافية هو: أنّ القبلة في حقّه جهة التّحرِّي، وقد تركها. يقتضي الفساد مطلقًا في صورة ترك التّحرِّي؛ لأنّ ترك جهة التّحرِّي يصدق مع ترك التّحرِّي وتعليلهم في تلك، بأنّ ما فرض لغيره يشترط مجرّد حصوله كالسعي يقتضي الصحّة في هذه. انتهى. ¬

_ =قلنا: حالته قوّيت بالعلّم، وبناء القويّ على الضّعيف لا يجوز فصار كالأميّ إذا تعلّم سورةً، والمومئ إذا قدر على الأركان فيها تفسد وبعدها تصحّ، أما لو تحرى وصلّى إلى غير جهة التّحري لا يجزئه وإن أصاب مطلقًا، خلافًا لأبي يوسف - رحمه الله - وهي مشكلةٌ على قولهما لأنّ تعليلهما في هذه، وهو أنّ القبلة في حقّه جهة التّحرِّي، وقد تركها يقتضي الفساد مطلقًا في صورة ترك التّحرِّي، لأنّ ترك جهة التّحري يصدق مع ترك التّحري، وتعليلهما في تلك بأن ما فرض لغيره يشترط مجرَّد حصوله كالسّعي يقتضي الصّحّة في هذه، وعلى هذا لو صلّى في ثوبٍ وعنده أنّه نجسٌ ثمّ ظهر أنّه طاهرٌ، أو صلّى وعنده أنّه محدثٌ فظهر أنّه متوضّئٌ، أو صلّى الفرض وعنده أنّ الوقت لم يدخل فظهر أنّه كان قد دخل لا يجزئه لأنّه لمّا حكم بفساد صلاته بناءً على دليلٍ شرعيٍّ وهو تحرّيه فلا ينقلب جائزًا إذا ظهر خلافه، وهذا التّعليل يجري في مسألة العدول عن جهة التّحرّي إذا ظهر صوابه. وبه يندفع الإشكال الّذي أورده لأنّ الدّليل الشّرعيّ على الفساد هو التّحرّي أو اعتقاد الفساد عن التّحرِّي، فإذا حكم بالفساد دليلٌ شرعيٌّ لزم، وذلك منتفٍ في صورة ترك التّحرّي فكان ثبوت الفساد فيها قبل ظهور الصّواب إنّما هو لمجرّد اعتقاده الفساد مؤاخذةً باعتقاده الّذي هو ليس بدليلٍ إذ لم يكن عن تحرٍّ، والله أعلم. وفي فتاوى العتّابيّ: تحرّى فلم يقع تحرِّيه على شيءٍ قيل يؤخّر، وقيل يصلّي إلى أربع جهاتٍ، وقيل يخيّر، هذا كلّه إذا اشتبه، فإن صلّى في الصّحراء إلى جهةٍ من غير شكٍّ ولا تحرٍّ، إن تبيّن أنه أصاب أو كان كبر رأيه أو لم يظهر من حاله شيءٌ حتّى ذهب عن الموضع فصلاته جائزةٌ، وإن تبيّن أنّه أخطأ أو كان أكبر رأيه فعليه الإعادة. وانظر البحر الرائق شرح كنز الدقائق (3/ 137).

قلتُ: لكن الأقوى: دليل الخلافية للتصريح فيه، بأنّ الإصابة ليست بفرض حالة الاشتباه. . . إلخ. وما يقالُ مِنْ أنّ [مَنْ] (¬1) تحرّى وعَدَلَ عن جِهَةِ تحرّيه، ففي اعتقاده: أنَّهُ صلّى إلى غير القبلة. ومن كان كذلك لم تجز صلاته بخلاف من شك، ولم يتحرَّ وصلّى، فإنّه لم يجزم بأنه إلى غير القبلة، لكن لا يحكم بالجواز ابتداءً لاشتباه أمره على الشك، وإذا ظهر الخطأ أو الصّواب تيقّن ثبت حكمه، ويبطل حكم الشّك. يقالُ عليه: إن الحكم إن كان تابعًا لما عنده فقط من غير أن يكون لظهور صوابه أثرٌ فيلزم: أن ما أدّاه بالشك لا يصحّ؛ لأنّ الفرض ثابتٌ في ذمّته بيقينٍ، فلا يسقط بالشّكّ على أن عبارتهم تقتضي تأثير ظهور صوابه وخطأه فيما إذا شرع بالشّك، وأتمّ، ثمّ ظهرَ صوابه حيث صرّح في الاختيار بأنّه لا إعادةً عليه لوجود التوجه ونحو ذلك. وشرح في البدائع (¬2) أيضًا: أنّه لو ظهر خطؤهُ بعد الفراغ أعاد، وصرّحوا ¬

_ (¬1) ما بين معكوفتين زيادة ليست في الأصل. (¬2) قال في بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع (1/ 479 - 487): (ومنها) استقبال القبلة لقوله تعالى: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة: 144]. وقول النبيّ - صلى الله عليه وسلم -: لا يقبل الله صلاة امرئٍ حتّى يضع الطّهور مواضعه، وششقبل القبلة، ويقول: الله أكبر"، وعليه إجماع الأمّة، والأصل: أنّ استقبال القبلة للصّلاة شرطٌ زائدٌ لا يعقل معناه، بدليل أنّه لا يجب الاستقبال فيما هو رأس العبادات وهو الإيمان، وكذا في عامّة العبادات من الزّكاة والصّوم والحجّ، وإنمّا عرف شرطًا في باب الصّلاة شرعًا فيجب اعتباره بقدر ما ورد الشّرع به، وفيما وراءه يردّ إلى أصل القياس، ثمّ جملة الكلام في هذا الشرط أن المصلّي لا يخلو إمّا إن كان قادرًا على =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = الاستقبال أو كان عاجزًا عنه فإن كان قادرًا يجب عليه التوجّه إلى القبلة إن كان في حال مشاهدة الكعبة فعلى عينها، أي: أن جهةٍ كانت من جهات الكعبة، حتّى لو كان منحرفًا عنها غير متوجّهٍ إلى شيءٍ منها لم يجز، لقوله تعالى: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} وفي وسعه تولية الوجه إلى عينها فيجب ذلك، وإن كان نائيًا عن الكعبة غائبًا عنها يجب عليه التوجّه إلى جهتها، وهي المحاريب المنصوبة بالأمارات الدّالّة عليها لا إلى عينها، وتعتبر الجهة دون العين. كذا ذكر الكرخيّ والرّازي، وهو قول عامّة مشايخنا بما وراء النّهر، وقال بعضهم: المفروض إصابة عين الكعبة بالاجتهاد والتّحرّي، وهو قول أبي عبد الله البَصْريُّ حتّى قالوا: (إنّ نيةّ الكعبة شرطٌ) وجه قول هؤلاء قوله تعالى: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ}، من غير فصلٍ بين حال المشاهدة والغيبة؛ ولأنّ لزوم الاستقبال لحرمة البقعة، وهذا المعنى في العين لا في الجهة؛ ولأنّ قبلته لو كانت الجهة لكان ينبغي له إذا اجتهد فأخطأ الجهة يلزمه الإعادة لظهور خطئه في اجتهاده بيقينٍ، ومع ذلك لا تلزمه الإعادة بلا خلافٍ بين أصحابنا، فدلّ أنّ قبلته في هذه الحالة عين الكعبة بالاجتهاد والتّحرّي. (وجه) قول الأوّلين أن المفروض هو المقدور عليه، وإصابة العين غير مقدورٍ عليها فلا تكون مفروضةً، ولأنّ قبلته لو كانت عين الكعبة في هنه الحالة بالتّحرّي والاجتهاد لتردّدت صلاته بين الجواز والفساد؛ لأنّه إن أصاب عين الكعبة بتحرّيه جازت صلاته، وإن لم يصب عين الكعبة لا تجوز صلاته؛ لأنة ظهر خطؤه بيقينٍ، إِلَّا أن يجعل كلّ مجتهدٍ مصيبًا وإنّه خلاف المذهب الحقّ. وقد عرف بطلانه في أصول الفقه، أمّا إذا جعلت قبلته الجهة وهي المحاريب المنصوبة لا يتصوّر ظهور الخطأ، فنزلت الجهة في هذه الحالة منزلة عين الكعبة في حال المشاهدة، ولله تعالى أن يجعل أيّ جهةٍ شاء قبلةً لعباده على اختلاف الأحوال، وإليه وقعت الإشارة في قوله تعالى: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}؛ ولأنّهم جعلوا عين الكعبة قبلةً في هذه الحالة بالتّحرّي، وأنّه مبنيٌّ على تجرّد شهادة القلب =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = من غير أمارةٍ، والجهة صارت قبلةً باجتهادهم المبنيّ على الأمارات الدّالّة عليها من النّجوم والشّمس والقمر وغير ذلك، فكان فوق الاجتهاد بالتّحرّي، ولهذا إنّ من دخل بلدةً وعاين المحاريب المنصوبة فيها يجب عليه التّوجّه إليها، ولا يجوز له التّحري، وكذا إذا دخل مسجدًا لا محراب له وبعضرته أهل المسجد - لا يجوز له التّحرِّي، بل يجب عليه السّؤال من أهل المسجد؛ لأنّ لهم علمًا بالجهة المبنيّة على الأمارات فكان فوق الثّابت بالتَّحرِّي، وكذا لو كان في المفازة، والسّماء مصحيةٌ، وله علمٌ بالاستدلال بالنّجوم على القبلة - لا يجوز له التّحرِّي؛ لأنّ ذلك فوق التّحرِّي. وبه تبيّن أنّ نيّة الكعبة ليست بشرطٍ، بل الأفضل أن لا ينوي الكعبة لاحتمال أن لا تحاذي هذه الجهة الكعبة فلا تجوز صلاته ولا حجّة لهم في الآية لأنّها تناولت حالة القدرة، والقدرة حال مشاهدة الكعبة لا حال البعد عنها، وهو الجواب عن قولهم: إنّ الاستقبال لحرمة البقعة، أنّ ذلك حال القدرة على الاستقبال إليها دون حال العجز عنه. وأمّا إذا كان عاجزًا فلا يخلو إمّا أَنْ كان عاجزًا بسبب عذرٍ من الأعذار مع العلم بالقبلة. وأمّا أن كان عجزه بسبب الاشتباه، فإن كان عاجزًا لعذرٍ مع العلم بالقبلة فله أن يصلّي إلى أن جهةٍ كانت ويسقط عنه الاستقبال، نحو أن يخاف على نفسه من العدوّ في صلاة الخوف، أو كان بحالٍ لو استقبل القبلة يثب عليه العدوِّ، أو قطّاع الطّريق، أو السّبع، أو كان على لوحٍ من السّفينة في البحر لو وجّهه إلى القبلة يغرق غالبًا، أو كان مريضًا لا يمكنه أن يتحوّل بنفسه إلى القبلة وليس بحضرته من يحوِّله إليها، ونحو ذلك؛ لأنّ هذا شرط زائدٌ فيسقط عند العجز وإن كان عاجزًا بسبب الاشتباه، وهو أن يكون في المفازة في ليلةٍ مظلمةٍ، أو لا علم له بالأمارات الدّالّة على القبلة، فإن كان بحضرته من يسأله عنها لا يجوز له التّحرّي لما قلنا، بل يجب عليه السُّؤال، فإن لم يسأل وتحرّى وصلّى فإن أصاب جاز، وإلَّا فلا. فإن لم يكن بحضرته أحدٌ جاز له التّحرّي؛ لأنّ التلكليف بحسب الوسع والإمكان، وليس في وسعه إِلَّا التّحرِّي فتجوز له الصّلاة بالتّحري لقوله تعالى: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = وروي أنّ أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تحرُّوا عند الاشتباه وصلّوا ولم ينكر عليهم النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - فدل على الجواز فإذا صلّى إلى جهةٍ من الجهات فلا يخلو إمّا أَنْ صلّى إلى الجهة بالتَّحرِّي أو بدون التّحري فإن صلّى بدون التَّحرِّي، فلا يخلو من أوجهٍ: أما إن كان لم يخطر بباله شيءٌ ولم يشكّ في جهة القبلة، أو خطر بباله وشكّ في جهة القبلة وصلّى من غير تحرٍّ، أو تحرّى ووقع تحرِّيه على جهةٍ فصلَّى إلى جهةٍ أخرى لم يقع عليها التحرِّي. أما إذا لم يخطر بباله شيءٌ ولم يشكّ وصلَّى إلى جهةٍ من الجهات فالأصل هو الجواز؛ لأنّ مطلق الجهة قبلةٌ بشرط عدم دليلٍ يوضله إلى جهة الكعبة من السُّؤال أو التّحرِّي، ولم يوجد؛ لأنّ التّحرِّي لا يجب عليه إذا لم يكن شاكًّا، فإذا مضى على هذه الحالة ولم يخطر بباله شيءٌ صارت الجهة الّتي صلّى إليها قبلةً له ظاهرًا، فإن ظهر أنّها جهة الكعبة تقرّر الجواز، فأمّا إذا ظهر خطؤه بيقينٍ بأن انجلى الظّلام وتبين أنّه صلّى إلى غير جهة الكعبة، أو تحرّى ووقع تحرِّيه على غير الجهة الّتي صلّى إليها إن كان بعد الفراغ من الصّلاة يعيد، وإن كان في الصّلاة يستقبل؛ لأنّ ما جعل حجّةً بشرط عدم الأقوى يبطل عند وجوده، كالاجتهاد إذا ظهر نصٌّ بخلافه. وأمّا إذا شكّ ولم يتحرَّ وصلّى إلى جهةٍ من الجهات فالأصل هو الفساد، فإذا ظهر أن الصّواب في غير الجهة الّتي صلّى إليها إمّا بيقينٍ أو بالتّحرِّي تقرّر الفساد، وإن ظهر أن الجهة الّتي صلّى إليها قبلةٌ إن كان بعد الفراغ من الصّلاة أجزأه ولا يعيد؛ لأنَّه إذا شكّ في جهة الكعبة وبنى صلاته على الشكّ احتمل أن تكون الجهة الّتي صلّى إليها قبلةً واحتمل أن لا تكون، فإن ظهر أنّها لم تكن قبلةً يظهر أنّه صلّى إلى غير القبلة، وإن ظهر أنّها كانت قبلةً يظهر أنّه صلّى إلى القبلة فلا يحكم بالجواز في الابتداء بالشكّ والاحتمال، بل يحكم بالفساد بناءً على الأصل وهو العدم بحكم استصحاب الحال، فإذا تبيّن أنّه صلّى إلى القبلة بطل الحكم باستصحاب الحال وثبت الجواز من الأصل. وأما إذا ظهر في وسط الصّلاة روي عن أبي يوسف أنّه يبني على صلاته لما قلنا، وفي ظاهر الرّواية يستقبل؛ لأنّ شروعه في الصّلاة بناءً على الشّك، ومتى ظهرت =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = القبلة إمّا بالتّحرِّي أو بالسّؤال من غيره صارت حالته هذه أقوى من الحالة الأولى، ولو ظهرت في الابتداء لا تجوز صلاته إِلَّا إلى هذه الجهة، فكذا إذا ظهرت في وسط الصّلاة وصار كالمومئ إذا قدر على القيام في وسط الصّلاة أنه يستقبل لما ذكرنا، كذا هذا. وأما إذا تحرّى ووقع تحرّيه إلى جهةٍ فصلّى إلى جهةٍ أخرى من غير تحرِّ فإن أخطأ لا تجزيه بالإجماع، وإن أصاب فكذلك في ظاهر الرّواية. وروي عن أبي يوسف: أنه يجوز. ووجهه: أن المقصود من التّحرِّي هو الإصابة وقد حصل هذا المقصود فيحكم بالجواز، كما إذا تحرّى في الأواني فتوضّأ بغير ما وقع عليه التَّحرِّي ثمَّ تبيّن أنه أصاب يجزيه، كذا هذا. (وجه): ظاهر الرّواية أن القبلة حالة الاشتباه هي الجهة الّتي مال إليها المتحرّي، فإذا ترك الإقبال إليها فقد أعرض عمّا هو قبلته مع القدرة عليه فلا يجوز، كمن ترك التّوجّه إلى المحاريب المنصوبة مع القدرة عليه، بخلاف الأواني؛ لأنّ الشّرط هو التّوضّؤ بالماء الطّاهر حقيقةً وقد وجد. فأمّا إذا صلّى إلى جهةٍ من الجهات بالتحرّي ثمَّ ظهر خطؤه فإن كان قبل الفراغ من الصّلاة استدار إلى القبلة، وأتمّ الصّلاة، لما روي أن أهل قباء لما بلغهم نسخ القبلة إلى بيت المقدس استداروا كهيئتهم وأتمّوا صلاتهم، ولم يأمرهم رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - بالإعادة؛ ولأنّ الصّلاة المؤدّاة إلى جهة التّحرِّي مؤدّاةٌ إلى القبلة؛ لأنها هي القبلة حال الاشتباه، فلا معنى لوجوب الاستقبال؛ ولأنّ تبدّل الرّأي في معنى انتساخ النّصّ، وذا لا يوجب بطلان العمل بالمنسوخ في زمان ما قبل النّسخ، كذا هذا. وإن كان بعد الفراغ من الصّلاة فإن ظهر أنه صلّى يمنةً أو يسرةً يجزيه ولا يلزمه الإعادة بلا خلافٍ، وإن ظهر أنه صلّى مستدبر الكعبة يجزيه عندنا، وعند الشّافعيّ لا يجزيه، وعلى هذا إذا اشتبهت القبلة على قومٍ فتحرّوا وصلّوا بجماعةٍ جازت صلاة الكل عندنا إِلَّا صلاة من تقدّم على إمامه أو علم بمخالفته إيّاه. (وجه): قول الشّافعيّ أنه صلّى إلى القبلة بالاجتهاد. وقد ظهر خطؤه بيقينٍ فيبطل، كما إذا تحرّى وصلّى في ثوبٍ على ظنِّ أنه طاهرٌ ثمّ تبيّن أنه نجسٌ أنه لا يجزيه وتلزمه الإعادة، كذا هاهنا. (ولنا): أن قبلته حال الاشتباه هي الجهة الّتي تحرّى إليها. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = وقد صلّى إليها فتجزيه كما إذا صلّى إلى المحاريب المنصوبة، والدّليل على أن قبلته هي جهة التّحرّي النّصّ والمعقول. أما النّصّ فقوله تعالى: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ}، قيل في بعض وجوه التّأويل: ثمّة قبلة الله، وقيل: ثمّة رضاء الله، وقيل: ثمّة وجه الله الّذي وجّهكم إليه إذ لم يجيء منكم التّقصير في طلب القبلة، وأضاف التوجّه إلى نفسه؛ لأنّهم وقعوا في ذلك بفعل الله تعالى بغير تقصيرٍ كان منهم في الطّلب ونظيره قول النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - لمن أكل ناسيًا لصومه تمّ على صومك: "فإنّما أطعمك الله وسقاك". وإن وجد الأكل من الصّائم حقيقةً لكن لمّا لم يكن قاصدًا فيه أضاف فعله إلى الله تعالى وصيّره معذورًا كأنّه لم يأكل، كذلك هاهنا إذا كان توجّهه إلى هذه الجهة من غير قصدٍ منه حيث أتى بجميع ما في وسعه وإمكانه، أضاف الرّبّ - صلى الله عليه وسلم - ذلك إلى ذاته وجعله معذورًا كأنّه توجّه إلى القبلة. وأمّا المعقول: فما ذكرنا أنّه لا سبيل له إلى إصابة عين الكعبة ولا إلى إصابة جهتها في هذه الحالة لعدم الدّلائل الموصّلة إليها، والكلام فيه، والتكليف بالصّلاة متوجّهٌ، وتكليف ما لا يحتمله الوسع ممتنعٌ، وليس في وسعه إلا الصّلاة إلى جهة التّحري فتعيّنت هذه قبلةً له شرعًا في هذه الحالة، فنزلت هذه الجهة حالة العجز منزلة عين الكعبة، والمحراب حالة القدرة، وإنّما عرف التّحرّي شرطًا نصًّا بخلاف القياس لا لإصابة القبلة، وبه تبيّن أنّه ما أخطأ قبلته؛ لأن قبلته جهة التّحرّي وقد صلّى إليها، بخلاف مسألة الثّوب؛ لأنّ الشّرط هناك هو الصّلاة بالثّوب الطاهر حقيقةً لكنّه أمر بإصابته بالتّحرّي، فإذا لم يصب انعدم الشّرط فلم يجز، أنها هاهنا فالشّرط استقبال القبلة، وقبلته هذه في هذه الحالة. وقد استقبلها، فهو الفرق والله أعلم ويخرج على ما ذكرنا الصّلاة بمكّة خارج الكعبة: أنّه إن كان في حال مشاهدة الكعبة لا تجوز صلاته إلا إلى عين الكعبة؛ لأن قبلته حالة المشاهدة عين الكعبة بالنّصّ، ويجوز إلى أيِّ الجهات من الكعبة شاء بعد أن كان مستقبلًا لجزءٍ منها لوجود تولية الوجه شطر الكعبة، فإن صلّى منحرفًا عن الكعبة غير مواجهِ لشيءٍ منها لم يجز؛ لأنهّ ترك التّوجّه إلى قبلته مع القدرة عليه، وشرائط الصّلاة لا تسقط من غير عذرٍ.

فيما إذا شرع بلا تحرٍّ، ثم ظهر في أثناء الصلاة: أنّه أصاب بلزوم الإعادة؛ لأنه قوّى حاله. ونبأ القوي على الضعيف لا يجوزُ، ولم يقتصروا في هذه المسائل على ما في خاطر المصلّي مع النّظرِ في عدم كونه مستقبلًا القبلة موجودةً في صورة الشّك، ولا يخلص إلاّ بادّعاءٍ: أنّ الحكم ما يتبع ما عنده، غير أنّه إن كان عن دليلٍ شرعي، فلا تأثير لظهور صوابه وخطئهِ فيما مضى مبنيًّا على ذلك، وإن لم يكن عن دليلٍ أثر. وها أنَا بأساطير الضَّراعةِ والمسكنةِ إلى أستاذي وإخواني الفضلاء في الوقوف على هذه الرُّقومِ، وتحريرها إسعافاَ إِلَيَّ، واغتنامَ أجرِ ودعاءٍ، وهو سبحانهُ حسبي ونعم الوكيل. وهذه صورة ما كتبه الشيخ الإمام العالم العلامة كمال الدين ابن الهمام - تغمده الله برحمته -: الحمدُ لله الفتاح العليم، وصلَّى الله على سيدنا محمَّدِ عبدهُ ورسولهُ، النَّبيّ الأمّيّ، وعلى آله وصحبه وسلم. لا ريبَ في أن مؤدّى اللّفظ المنقول، من المواضع الثلاثة: لزوم الإعادة عند عدم التحري في الاشتباه بعد تبين الآية، أعمّ من كون ذلك في الصلاة أو بعدها. وفهم ذلك فهم مدلولِ اللفظ قطعًا، لا ينسبُ لفاهمه تقصيرٌ فلا يخطئه. وإنّما الذي ينسب إليهم التقصير إن لم يعن بهم المسطرون لهذا الحكم في الكتب، على أنّه المذهبُ، فإنّهم بصدد التضعيف في مذهب أبي حنيفة. فكلُّ ما أطلقوه من الأحكام ساكتين عن إفادة أنّها اختيار المشايخ على خلاف قول أهل المذهب - أعني: الثلاثة -، لم يفهم منه إلا أنّه بيانٌ لمذهبهم، ولا شكّ أنّ كلام أهل المذهب أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد المنقول من لفظ محمّدٍ في هذه المسألة عدم الإعادة عند ظهور الإصابة بعد الفراغ، كما

هو المذكور في الأصل وغيره من غير حكاية الخلاف. وقد عرف قول محمد لهم: إنّه ما لم يجد فيه خلافًا، فهو قولهم جميعًا. قال الحاكم أَبو الفضل في الكافي الذي هو مجموع كلام محمد في جميع كتبه، على ما ذكره في أوّله، ولو كان حين انتهى إلى موضع الصلاة. شكَّ. فلم يدرِ أينَ القبلة، فلم يتحرّ حتّى صلّى إلى بعض تلك الوجوه بغير تحرٍّ ولا أكبرَ رأي. فعليه: أن يعيد صلاته إلاّ أن يعلم أنّه صلّى للقبلة، إلاّ أنّ ذلك إنّما كان بعد دخوله في صلاته، لم تجز تلك الصلاة حتى يستقبلها بتكبير مستقبلٍ؛ لأن الواجب كان عليه أن يتحرّى، ثم يفتتح. فهذا نصُّ محمّدٍ في الأصل الذي هو شرح المبسوط، عدم الإعادة من غير خلافٍ. فإطلاقُ بعض المصنفين: لزوم الإعادة، إفادة بغير ما يتم بصدده من إفادة مذهب أبي حنيفة وأصحابه، فأمرٌ دائرٌ بين أمورٍ، إمّا قصدهم يؤدي ظاهر عبارتهم، فيحكم عليهم بالخطأ، إذ ليس ذلك قول أهل المذهب المقتدى بهم. وَإِمَّا إرادتهم كان ذلك فيما إذا ظهر الخطأ في الصّلاة، فيحكمُ بخطئهم بالتعبير إذا كان لفظهم أعمّ من مرادهم، فيوقع في التجهيل لا التعليم. وأمّا اطّلاعهم عن بعض رواياتٍ عنهم في ذلك، فيحكم عليهم بأخفّ من ذلك الخطأ، فإنّ إطلاق ذلك من غير بيانٍ: أنّها شذوذٌ من الروايات، اختاروها وتركوا المعروف عنهم. يعطي أنه المذهب المعروف، والفرض أنّ الظّاهر عنهم خلاف ذلك، فكان الواجبُ: بيان كون ذلك خلاف الظّاهر لا إرساله هكذا في مقام كتابة مذهب الأئمة. والله أعلمُ. وأمّا بمقام الاستدلال على لزوم الإعادة في ظهور الخطأ في الصّلاة دون

صورة ما كتبه المرحوم الشيخ العلامة يحيى بن محمد الأقصرائي الحنفي

ما بعدها مع لزومها بعد ظهور الصّواب في صورة التحري، ثم العدول من جهته شيءٌ آخر. وقد استودعناه في موضعٍ آخر. والله الموفق. قال ذلك وكتبه محمد بن همام الدين. والله أعلم بالصّواب. وهذه صورة ما كتبه المرحوم الشيخ العلامة يحيى بن محمد الأقصرائي الحنفي (¬1): الحمد لله رب العالمين، الميسّر لكل عسير، وصلاته وسلامه على سيدنا محمّدٍ وآله وصحبه أجمعين. ظاهرُ عبارة الكتب الثلاثة: الإطلاق. ومفهومه: عدم الصّحة، ولزوم الإعادة عند وجود الاشتباه. وعدم التحري عند الشروع، ظهرَ إصابة الشّارع في الصلاة حال كونه فيها، أو بعد ¬

_ (¬1) قال صاحب نظم العقيان في أعيان الأعيان (1/ 61): يحيى بن محمد بن إبراهيم ابن أحمد، شيخ الإسلام، أمين الدين بن الشيخ شمس الدين الأقصرائي الحنفي، ولد سنة خمس وتسعين وسبع مئة، وأجازت له عائشة بنت عبد الهادي وجماعة، وأخذ الفقه والأصول عن أخيه بدر الدين بن الأقصرائي، والسراج قارئ الهداية، وابن الغزي. ولازم العز ابن جماعة، وولي مشيخة الأشرفية والصرغتمشية، وتدريس التفسير والطحاوي وبالمؤيدية، وغير ذلك، وانتهت إليه رياسة الحنفية في عصره، مع الدين المتين، والصلاح المفرط، ومساعدة الفقراء، وطلبة العلم، والقيام في نصرة الدين، وإبطال المظالم، ومراجعة الملوك في ذلك، وهم يعظمونه ويقبلون قوله، مات في أواخر المحرم سنة ثمانين وثمان مئة. وله ترجمة في الضوء اللامع للسخاوي (5/ 135 - 136). وقام في كشف كنائس اليهود والنصارى. . . انظر إنباء الغمر لأبناء العمر لابن حجر (2/ 188).

الفراغ منها، أو لم يظهر. وإن كان ذلك مخالفًا لما ذكره صاحب الاختيار، والبعض ممن تقدمه من عدم الإعادة عند العلم بعد الفراغ. ففيه اختلاف الروايتين، ويكون مختار صاحب الوقاية. ومن أطلق أحد الروايتين وما ذكره من الاستدلالات والمنقول والأبحاث فيها، فأفاد وأجاد في ذلك. والله سبحانه وتعالى أعلم. قاله يحيى بن محمد الأقصرائي الحنفي عفى الله عنه.

(8) أحكام القهقهة

مَجْمُوعَةُ رَسَائِل العَلَّامَة قَاسِم بن قُطْلُوبُغَا [8] أَحْكَامُ القَهْقَهةِ تَأْلِيفُ العَلَّامَة قَاسِم بْنِ قُطْلُوبُغَا الحَنَفِي المولود سَنَة 802 هـ والمتوفى سَنة 879 هـ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -

بداية الرسالة

(8) أَحْكَامُ القَهْقَهةِ قال - رحمه الله -: إنهّ قد رفع إليَّ سؤالٌ، صورته: ما الجواب رضيَ اللهُ عنكم، وأدام النفع بكم بمحمَّدٍ وآلهِ، عن ما نقله الإمام الزركشي في حواشيه على الرافعي فقال: سؤالٌ على الحنفية وهو: أنَّ حديث القهقهة ورد في صلاة الفرض، فقاسوا عليه النفل دون الجنازة. فإمّا أن يكون ذلك تعبّدًا، فكيف يقاس عليه النفل. وإمّا أن يكون معلّلًا، فكيف لم يُقس عليه الجنازة، وعليه جوابٌ صورته: الحمدُ لله المنعم بالصّواب. نقول ذلك تعبّدًا، وإلحاق الصلاة النافلة بطريق الدلالة لا القياس؛ لأنّها صلاةٌ حقيقةً حيث كانت أركانها أركان الصلاة وغير ذلك، بخلاف صلاة الجنازة، فهي ليست بصلاةٍ حقيقةً، أو قاصرةً، فلا يلحق بالفرض. وقال علماؤنا - رحمهم الله تعالى -: إنّ الصلاة النّافلة بمجرد الشروع فيها تصير واجبةً لازمةً، فتعامل معاملة الفرض دون غيرها. والحالة هذه.

وكتبت: الحمدُ لله. ربّ زدني علمًا. الجواب: إنّه تعبّد ولم يقس النفل، وإنمّا عملنا بعموم لفظ الصّلاة من قوله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ ضَحِكَ فِي الصَّلاَةِ قَهْقَهَةً، فَلْيُعِدِ الْوُضُوءَ وَالصَّلاَةَ" (¬1). كما هي رواية ابن عدي (¬2)، وغيره. ونحوها من الروايات، ولم تدخل الجنازة؛ لأنهّا ليست بمطلقة. ولا يتصوّر: أن يكون النفل ملحقًا بطريق الدلالة؛ لأنّ النّص الذي يكون له الدلالة نصٌّ يفهم المعنى الذي لأجله الحكم المذكور فيه على الوجه المصرّح به في الأصول. وحديثُ القهقهة (¬3): اتفق على أنه يقصر على فهم المعنى الذي لأجله ¬

_ (¬1) رواه عبد الرزاق (3763) عن الثوري، عن خالد، عن أم الهذيل، عن أبي العالية قال: بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بالناس، إذ جاء رجل في بصره سوء، فوقع في بئر عند المسجد، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم من ضحك، فليعد الوضوء، وليعد الصلاة. وانظره وطرقه وشواهده في سنن الدارقطني (1/ 162). وانظره أيضًا في معرفة السنن والآثار للبيهقي رقم (337 - و 5203) وسننه (1/ 147). (¬2) الكامل في الضعفاء (3/ 167 و 168 و 5/ 110). (¬3) قال صاحب كتاب اللباب في الجمع بين السنة والكتاب (1/ 116 - 117) (باب القهقهة تنقض الوضوء): الدارقطني عن أبي العالية الرياحي أن أعمى تردى في بئر والنبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي بأصحابه، فضحك بعض من كان يصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم من كان ضحك منهم أن يعيد الوضوء والصلاة جميعًا؛ فإن قيل: هذا الحديث مرسل أرسله أَبو العالية الرياحي، وقد قيل: إنه كان لا يبالي من أين كان يأخذ الحديث. وقال ابن عدي: إنما قيل في أبي العالية ما قيل لهذا الحديث، =

الحكم المذكور فيه لكلّ مجتهدٍ. وكان العهد قد بعد بدلالة النصّ، فيذكر بها من بعض مختصراتنا. فنقول: قال الشيخ الإمام نظام الدين في كتابه: وأمّا دلالة النّص، فهي ما علم علّة الحكم المنصوص عليه لغةً، لا اجتهادًا واستنباطًا. مثاله: قوله تعالى: {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا} [الإسراء: 23]. فإنّ للتأفيف صورة معلومة، ومعنًى لأجله ثبت الحكم، وهو الأذى المعلوم بالنّصِّ لغةً يفهمه كل من فهم اللغة. ¬

_ = وإلا فسائر أحاديثه صالحة. قيل له: روى البيهقي، عن ابن شهاب، أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر رجلًا ضحك في الصلاة أن يعيد الوضوء والصلاة. قال الشافعي - رضي الله عنه -: لم نقبله؛ لأنه مرسل، فلم يذكر فيه علّة سوى الإرسال، فدلّ على صحة إرساله، وأما أَبو العالية: فهو عدل ثقة، وقد اتفق على إرسال هذا الحديث: معمر، وأبو عوانة، وسعيد بن أبي عروية، وسعيد بن أبي بشير، فرووه عن قتادة، عن أبي العالية، وتابعهم عليه: ابن أبي الذيال، وهؤلاء خمس ثقات؛ فإن صحّ عن أبي العالية أنه كان لا يبالي من أين أخذ الحديث! قلنا: لكنه إذا أرسل الحديث لا يرسله إلا عمن تقبل روايته؛ لأن المقصود من رواية الحديث ليس إلا التبليغ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخاصّة إذا تضمن حكما شرعيًا، فإذا أرسل الحديث ولم يذكر من أرسله عنه، مع علمه أو ظنّه بعدم عدالته، كان غاشًا للمسلمين وتاركًا لنصيحتهم، فتسقط عدالته ويدخل في قوله عليه السلام: "من غش فليس منا". وقد ثبتت عدالته، ورواه الثقات عنه مرسلًا، فدل على أنه أرسله عن عدل، ولأن المرسل شاهدٌ على الرسول - صلى الله عليه وسلم - بإضافة الخبر إليه، فلو لم يكن ثابتًا عنه بطريق تقارب العلم، لما أرسله، ولكان أسنده لتكون العهدة على غيره، وهذه عادةٌ غير مدفوعة، أن من قوي ظنّه بوجود شيء أعرض عن إسناده، فهذه مسألة تفرّد بها أصحابنا اتباعًا لهذا الحديث، وتركوا القياس من أجله، وهذه شهادةٌ ظاهرةٌ لهم، أنهم يقدمون الحديث على القياس، وهم أتبع للحديث من سائر الناس.

وعلى هذا: أوجبنا حد قطاع الطريق على الرّد بدلالة النّص؛ لأنّ العادة المجازية، وصورة ذلك بمباشرة القتال. ومعناها لغةً: نهي العدو، والتخويف على جهة ينقطع بها الطريق. وهذا معنى معلوم بالمحاربة لغةً. والرّدُّ مباشرٌ كذلك كالمقاتل. ولهذا: اشتركوا في الغنيمة، فيقام الحدّ على الرّدّ بدلالة النّصِّ من هذه الوجوه. وحاصله أمران: التنبيه بالأدنى على الأعلى، أو بالشيء على ما يساويه. أمّا على الأعلى: فنوعان: قطعيٌّ جليٌّ إن اتفق على طريق تعين مناطه. وظنيٌّ خفيٌّ، إن اختلف فيه. أمّا القطعي: فمن أمثلة ما فهم من حرمة التأفيف، حرمة الضرب، كما مر. وهما معلومان لغةً صورةً ومعنًى. وصورة التأفيف: التصويت بالشفتين عند الكراهة. ومعناه: المقصود الأدنى المتحقق. ومثله: ما فهم من قوله تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا

يَرَهُ} [الزلزلة: 7]. جزاء ما فوقها. ومن {بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ} [آل عمران: 75]. بأدائه ما دونه. وأمّا الظَّنِّيُّ: فكما في إيجاب الكفارة على المفطر في رمضان بالأكل والشرب خلافًا للشّافعي، بدلالة سؤال الأعرابي بقوله: وَاقَعْتُ امْرَأَتِي فِي نَهَارِ رَمَضَانَ عَامِدًا، مرتبًا عليه قوله: هَلَكْتُ وَأَهْلَكْت (¬1). عن الجناية على الصّوم، بتفويت ركعةٍ التي هي معنى الموافقة، لا عن الوقاع من حيث هو. وذا مما يفهم لغة. فكذا جوابه - صلى الله عليه وسلم - عن حكم الجناية لوجوب التطابق خصوصًا عن أفصح النّاس، والوقوع إليها متحققة فيها، بل أولى لكون خوض الصّائم عليها أشد. وسوقه إليهما أحد بمصادقة شرع الصوم. وفيهما الغالبُ، وكونه وجاء. فالظّن من اختلافهم: أنّ طريق فهم المناط يفضي إلى أنه الجناية المطلقة والمقيدة. ¬

_ (¬1) رواه الدارمي (1716) عن أبي هريرة قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل فقال: هلكت. فقال: "وما أهلكك؟ ". قال: واقعت امرأتي في شهر رمضان. قال: "فأعتق رقبةً". قال: ليس عندي. قال: "فصم شهرين متتابعين". قال: لا أستطيع. قال: "فأطعم ستّين مسكينًا". قال: لا أجد. قال: فأتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعرقٍ فيه تمرٌ، فقال: "أين السّائل؟ تصدّق بهذا". فقال: أعلى أفقر من أهلي يا رسول الله!، فوالله ما بين لابتيها أهل بيتٍ أفقر منًا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فأنتم إذًا"، وضحك حتّى بدت أنيابه. ورواه عبد الرزاق (7457) والإمام أحمد (2/ 281) والبخاري (1834 و 1835 و 2460 و 5053 و 5737 و 5812 و 6331 و 6333 و 6435) ومسلم (1111) وأبو داود (2395) والترمذي (724) والنسائي في الكبرى (3117) وابن ماجه (1671) وابن خزيمة (1944 و 1949) وابن حبان (3524).

تتمة

وأمّا على المساوي، فكإيجاب الكفّارة على المراد، لتحقق الجناية. وكونه معنًى مطّردًا منقولًا لغةً. وكإثبات حكم النسيان الوارد في الأكل والشرب والوقاع بمعنى كونه مساويًا محمولًا عليه طبعًا، وذا مفهومه لغة. وميل الطبع إليها مساوٍ. وكان نظيرهما وشمول كلٍّ منهما قصورًا، وكمالًا، فلهما مزية في أسباب الدعوة، وقصور في حالهما، إذ لا يغلبان البشر، وهو بالعكس، تحقق المساواة. ومن هنا لم يمكن الجماعُ ناسيًا في الصوم كالأكل ناسيًا في الصلاة. فإن قيل: اشتبه الفهم في هذه المسائل على فقيهٍ تبرز في طرق الفقه بعد أن بلغه الأدلة. فكيف يكون مفهومًا لغويًا ومناطًا قطعيًا صالحًا لإثبات ما يندرئ بالشبهات. أجيب: بأنّ معنى لغويته عدم توقف فهم مناطه على مقدمة شرعية من تأثير نوعٍ أو جنسه في نوع الحكم أو جنسه شرعًا بخلاف القياس؛ لا فهم كل أحد المعنى. ومعنى قطعيته: قطعية مفهوميته بالمعنى المذكور كالجناية من سؤال الأعرابي، لا قطعية دليل مناطيته ولا قطعية تعدي الحكم إلى الملحق، ولا قطعية كونه أجلى أو مساويًا. * تتمة: قال بعض الأصوليين: ليس للأدلة عمومٌ؛ لأنّ معنى النّص إذا ثبت علةً لا يحتمل أن لا يكون علّة، والإشارة تصلح لهُ. ومعناهُ: أن العلّة لا تخصص؛ لأنّها مدار الحكم وملزومه، فلو وجد دليل العرض عليها لجاز نسخًا لا تخصيصًا. وكذا الإشارة عند بعضٍ. منهم: أَبو زيدٍ، لما لم يسق الكلام. والأصحُّ: أنّها قد تخصص. كما

فائدة في التوكيل في النكاح

مال الإمام الشافعي بتخصيص إشارة قوله تعالى في حقّ الشهداء: {بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ} [آل عمران: 169]. إِلَى أن لا يصلي عليهم في حقّ حمزة حيث صلى عليه - صلى الله عليه وسلم - حين استشهد سبعين مرة. وألحقَ هنا الفرق على أن العموم للمنطوق لا للمفهوم. وعليه: قبول التخصيص. والله أعلم. * فائدة: في التوكيل في النكاح، وفيما لا يضاف إليه، ليس للوكيل أن يضيف القبول فيه إلى نفسه؛ لأنه متى أضافه إلى نفسه انعقد له؛ لأنّه عقدٌ لازمٌ، لا يقبل الانتقال، ولا يتخلّف الحكم عن سببه، فيلزمه إذًا جميع ما يترتب عليه ذلك من الحقوق. والمخلص من هذا، والطريق الصحيح: أن يقول: زوّجت موكلتي نفسها من موكّلك فلانٍ الفلاني على صَداقٍ مبلغه. كذا حالًا أو مؤجّلًا. فيقول الوكيل: قبلَ موكّلي هذا النكاح بهذا الصَّداق على حكمه ورضي به. وسئل - رحمه الله - عن رجلٍ، اشترى من آخرَ صابونًا، وقد أحضر البائع عينًا، أيّ: أنموذجًا. فابتاع منه مقدارًا. فأجاب: إن كان أشار إلى الصابون صحّ في قدره. وإن لم يكن أشار إليه، فإن عين مكانًا من الأمكنة به صابون. صحّ. وللمشتري خيار الرؤية وإن لم يكن كذلك، فالبيع باطلٌ. والله أعلم. * * *

(9) الأصل في بيان الفصل والوصل

مَجْمُوعَةُ رَسَائِل العَلَّامَة قَاسِم بن قُطْلُوبُغَا [9] الأَصْلُ فِي بَيَانِ الفَصْلِ والوَصْلِ تَأْلِيفُ العَلَّامَة قَاسِم بْنِ قُطْلُوبُغَا الحَنَفِي المولود سَنَة 802 هـ والمتوفى سَنة 879 هـ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -

بداية الرسالة

(9) الأَصْلُ فِي بَيَانِ الفَصْلِ والوَصْلِ قال - رحمه الله -: قد سألني بعض أجلاّء مشايخي من غير أرباب المذهب، عن وصل التطوع بالفريضة. وذكر لي: أن بعض علماء الحنفية ذكر له: أنما ذلك اختيار الإمام حافظ الدين النسفي، ولا يعرف لمن تقدمه من أئمتنا. فقلت: إن المسألة مسطورة في كتب جماعةٍ قبل النسفي. فسألني: أن أكتب له ذلك. فقلت مستعينًا بالله سبحانه وتعالى: قال الإمام محمد بن الحسن في الأصل: وإذا سلّم الإمام من الظّهر أو المغرب أو العشاء، كرهتُ له المكث قاعدًا. ولم أكرهه في الفجر والعصر، فإن شاء أن يصلي تطوعًا في الظهر والمغرب والعشاء لم يصلّ في مكانه بل يتأخر فيصلي خلف المقام أو حيث أحبّ من المسجد، خلا مكان الإمام. وساقه في خلاصة الفتاوى (¬1) وبلفظٍ آخرَ، فقال: وإذا سلَّم الإمام من ¬

_ (¬1) قال المصنف في تاج التراجم (ص 10): طاهر بن محمد بن أحمد بن عبد الرشيد البخاري، له كتاب الواقعات، وكتاب النصاب، وكتاب خلاصة الفتاوى. =

الظُّهر أو المغرب أو العشاء كرهت له المكث قاعدًا لكنَّه يقوم إلى التَّطوُّع، ولا يتطوَّع في مكان الفريضة ولكن ينحرف يمنةً أو يسرةً أو يتأَخَّر، وإن شاء رجع إلى بيته يتطوَّع وإن كان مقتديًا، أو يصلِّي وحدهُ إن لبث في مكانه يدعو جاز. وكذا إن قام إلى التَّطوُّع في مكانه أو تقدَّم أو تأخَّر أو انحرف يمنةً أو يسرةَ جاز والكلُّ سواءٌ (¬1). ¬

_ = وقال صاحب كشف الظنون (1/ 718): خلاصة الفتاوي للشيخ الإمام طاهر بن أحمد بن عبد الرشيد البخاري، المتوفى: سنة اثنتين وأربعين وخمس مئة، وهو كتاب مشهور معتمد في مجلد، ذكر في أوله: أنه كتب في هذا الفن خزانة الواقعات، وكتاب النصاب، فسأل بعض إخوانه تلخيص نسخة قصيرة يمكن ضبطها، فكتب الخلاصة جامعة للرواية خالية عن الزوائد، مع بيان مواضع المسائل، وكتب فهرست الفصول والأجناس على رأس كل كتاب، ليكون عونًا لمن ابتلي بالفتوى، وللزيلعي المحدّث تخريج أحاديثه. (¬1) قال ابن الهمام في فتح القدير (2/ 388 - 390): الذي ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يؤخر السّنّة عنه من الأذكار، وهو ما روى مسلمٌ والترمذيّ عن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سلّم لم يقعد إلا مقدار ما يقول: "اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام". فهذا نصٌّ صريحٌ في المراد، وما يتخايل أنّه يخالفه لم يقو قوّته، أو لم تلزم دلالته على ما يخالفه فوجب اتّباع هذا النّصّ. واعلم: أنّ المذكور في حديث عائشة رضي الله عنها هذا هو قولها لم يقعد إلا مقدار ما يقول، وذلك لا يستلزم سنّية أن يقول ذلك بعينه في دبر كلّ صلاةٍ، إذ لم تقل إلا حتّى يقول أو إلى أن يقول، فيجوز كونه - صلى الله عليه وسلم - كان مرّةً يقوله ومرّةً يقول غيره ممّا ذكرنا من قول لا إله إلا الله وحده لا شريك له. . . إلخ، وما ضمّ إليه في بعض الرّوايات ممّا ذكرنا من قوله لا إله إلا الله ولا حول ولا قوة إلا بالله. . . إلخ، ومقتضى العبارة حينئذ: أنّ السّنّة أن يفصل بذكرِ قدر ذلك، وذلك يكون تقريبًا، فقد يزيد قليلًا وقد ينقص قليلًا، وقد يدرج وقد يرتّل، فأمّا ما يكون زيادةً غير مقاربةٍ مثل العدد السّابق من =

وقال في البدائع (¬1): وروي عن محمَّدٍ أنه قال: يستحبُّ للقوم أيضًا أن ينقضوا [الصُّفوف] ويتفرَّقوا. ¬

_ = التّسبيحات والتّحميدات والتكبيرات فينبغي استنان تأخيره عن السّنّة ألبتّة، وكذا آية الكرسيّ، على أنّ ثبوت ذلك عنه - صلى الله عليه وسلم - مواظبةَ لا أعلمه، بل الثّابت ندبه إلى ذلك، وليس يلزم من ندبه إلى شيءٍ مواظبته عليه وإلا لم يفرّق حينئذٍ بين السّنّة والمندوب، وكان يستدلّ بدليل النّدب على السّنّيّة وليس هذا على أصولنا. وقول الحلوانيّ: عندي أنّه حكمٌ آخر لا يعارض القولين؛ لأنّه إنّما قال: لا بأس. . . إلخ، والمشهور في هذه العبارة كونه لما خلافه أَوْلى فكان معناها أنّ الأولى أن لا يقرأ الأوراد قبل السّنّة، ولو فعل لا بأس به فأفاد عدم سقوط السّنّة بذلك حتّى إذا صلّى بعد الأوراد يقع سنّةً مؤداةً لا على وجه السّنّة، وإذا قالوا لو تكلّم بعد الفرض لا تسقط السّنّة لكن ثوابها أقلّ فلا أقلّ من كون قراءة الأوراد لا تسقطها، وقد قيل في الكلام أنّه يسقطها، والأوّل أولى، ففي البخاريّ وأبي داود والتّرمذيّ عن عائشة - رضي الله عنها -: كان النّبيّ صلى الله عليه وسلم إذا صلّى ركعتي الفجر، فإن كنت مستيقظةً حدّثني، وإلا اضطجع حتّى يؤذّن بالصّلاة. واعلم أنّ هذا الّذي عن الحلوانيّ يوافقه ما عن أبي حنيفة في المقتدي والمنفرد، وذكر في حقّ الإمام خلافه، وعبارته في الخلاصة هكذا: إذا سلّم الإمام من الظّهر أو المغرب أو العشاء كرهت له المكث قاعدًا لكنّه يقوم إلى التّطوّع، ولا يتطوّع في مكان الفريضة ولكن ينحرف يمنةً أو يسرةً أو يتأخّر، وإن شاء رجع إلى بيته يتطوّع وإن كان مقتديًا، أو يصلّي وحده إن لبث في مصلاه يدعو جاز. وكذا إن قام إلى التّطوّع في مكانه أو تقدّم أو تأخّر أو انحرف يمنةً أو يسرةً جاز والكلّ سواءٌ، وفي الصلاة التي لا يتطوّع بعدها يكره المكث في مكانه قاعدًا مستقبلًا، ثمّ هو بالخيار إن شاء ذهب وإن شاء جلس في محرابه إلى طلوع الشمس وهو أفضل، ويستقبل القوم بوجهه إذا لم يكن بحذائه مسبوقٌ، فإن كان ينحرف يمنةً أو يسرةً والصّيف والشتاء سواءٌ هذا هو الصّحيح، هذا حال الإمام. وقوله (الكلّ سواءٌ): يعني: في إقامة السّنّة. (¬1) بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع (2/ 135).

وقال فِي شرح الشَّهيد: القيام إلى السُّنَّة متَّصلٌ بالفرضِ مسنُونٌ (¬1). وكذا قال البَقَّالِيّ (¬2). وقال في الذخيرة: وإذا فرغ الإمام من صلاته: أجمعوا على أنه لا يمكث في مكانه مستقبل القبلة سائر الصلوات في ذلكَ سواءً. وبعد ذلك ينظر إن كانت صلاة لا تطوع بعدها، يتخير إن انحرف عن يمينه أو يساره، وإن شاء ذهبَ في حوائجه، وإن شاء استقبل الناس بوجهه إذا لم يجد أيّة رجلٍ يصلي، ولم يفصل فيما إذا كان المصلي في الصف الأول أو الأخير. وهذا ظاهر المذهب. وأمّا إن كانت صلاة بعدها تطوع كالظهر والمغرب والعشاء، يقوم للتطوع، ويكرهُ له تأخير التطوع عن حالٍ أداء الفريضة. وإذا قام إلى التطوع لا يصلي في المكان الذي صلّى فيه المكتوبة. بل يتقدم أو يتأخر أو ينحرف يمينًا أو شمالًا أو يذهب إلى بيته فيتطوع. ثَمَّة قال شيخ الأئمة الحلواني (¬3): وهذا إذا لم يكن من قصده الاشتغال ¬

_ (¬1) نقله عنه ابن الهمام في فتح القدير (2/ 386). (¬2) هو محمد بن أبي القاسم. انظر تاج التراجم للمصنف (ص 31). (¬3) قال المصنف في تاج التراجم (ص 12): عبد العزيز بن أحمد بن نصر بن صالح، شمس الأئمة، الحلواني، نسبة لبيع الحلواء، صاحب المبسوط، إمام الحنفية في وقته ببخارى، حدّث عن: أبي عبد الله غنجار، وتفقه على جماعته، توفي سنة ثمان أو تسع وأربعين وأربع مئة بكش، ودفن ببخارى. قلت [يعني: ابن قطلوبغا]: تفقه على القاضي أبي الحسين ابن الخضر النسفي، وأبي الفضل الزرنجري، وتفقه عليه: الأزرقي، وسمع منه: شمس الأئمة السرخسي. قال أَبو العلاء الفرضي: مات =

بالدعاء، فإن كان له وردٌ يقضيه بعد المكتوبات، فأراد أن يقضي ورده قبل أن يشتغل بالتطوع، فإنه يقوم عن مصلاه، فيقضي ورده. وإن شاء جلس في ناحية من المسجد فقضى ورده، ثم قام إلى التطوع. فمن الصحابة من كان يقضي ورده قائمًا. ومنهم من كان يجلس في ناحيةٍ من المسجد فيقضي ورده، ثم يقوم إلى التطوع. فالأمر فيه واسعٌ. وهذه من شرح الحلواني. وما ذكرهُ شمس الأئمة (¬1) دليل جواز تأخير السنن، عن أداء الفريضة. هذا الذي ذكرنا في حق الإمام. وأمّا المنفرد والمقتدي: فإن أتيا بالتطوع في مصلاهما ويدعوان جاز. وإن أقاما التطوع في مكانهما، وإن تراخيا عن مكانهما وأقاما في مكانٍ آخرَ، جازَ. انتهى. وصرّح بكراهة تأخير التطوع عن الفريضة في الاختيار وشرح المختار. وقال: لأنهّ - صلى الله عليه وسلم - كانَ لا يمكث إلاَّ قدر أن يقول: "اللَّهُمَّ أَنْتَ السَّلاَمُ، وَمِنْكَ السَّلاَمُ، تَبَاركْتَ يَا ذَا الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ" (¬2). وقاله في الشافي. ¬

_ = ببخارى في شعبان سنة ست وخمسين وأربع مئة. وقال البخشي في معجمه: مات سنة اثنتين وخمسين. وقال الذهبي: سنة ست أصح؛ فإنه بخط شيخنا الفرضي. (¬1) هو الحلواني. (¬2) رواه الطيالسي (1558) وأحمد (6/ 62) ومسلم (592) وأبو داود (1512) والترمذي (299) والنسائي (3/ 69) وفي عمل اليوم والليلة (95 - 97) وابن ماجه (924) وابن حبان (2000 و 2001) والبيهقي في السنن الكبرى (2/ 183) عن عائشة. وأخرجه النسائي في عمل اليوم والليلة (98) وابن حبان (2002) وابن خزيمة (736) عن ابن مسعود.

وقال في البدائع (¬1): إذا فرغ الإمامُ من الصَّلاة فلا يخلُو (¬2): إمَّا أن كانت صلاةً لا يصلَّى (¬3) بعدها سنَّةٌ: كالفجر والعصر، فإن شاء الإمام قام وإن شاء قعد في مكانه يشتغل بالدُّعاء؛ لأَنَّه لا تطوُّع بعد هاتين (¬4) الصَّلاتين [فلا بأس] بالقعود، إلاَّ أنَّه يكرهُ له ذلك المكث على هيئته (¬5) مستقبلَ القبلة، لما روي عن عائشة رضي الله عنها: أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كاَنَ إذَا فَرَغَ مِن الصَّلاةِ لاَ يَمْكُثُ فِي مَكَانِهِ إلاَّ مِقْدَارَ مَا يَقُولَ: "اللَّهُمَّ أَنْتَ السَّلاَمُ، وَمِنْكَ السَّلاَمُ. تَبَاركْتَ يَا ذَا الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ" (¬6). وروي: [أنَّ] جلوس [الإمام] في مصلاَّه بعد الفراغ مستقبل القبلة بدعةٌ؛ ولأنَّ مكثه يوهم الدَّاخل أنَّه في الصَّلاة فيقتدي به فيفسد اقتداؤه، وكان (¬7) المكث تعريضًا لفساد (¬8) اقتداء غيره به فلا يمكث، ولكنَّه يستقبل ¬

_ (¬1) بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع (2/ 134 - 135). (¬2) تحرف في المخطوط إلى: (نج). والمثبت من البدائع. (¬3) في بدائع الصنائع: (تصلّى). (¬4) تحرف في المخطوط إلى: (بعدها بين). (¬5) تحرف في المخطوط إلى: (هيية). (¬6) رواه الدارمي (1347) والطيالسي (1558) والإمام أحمد (6/ 62 و 184 و 235) وابن أبي شيبة (1/ 352 و 304) ومسلم (592) وأبو داود (1512) والترمذي (298 و 299) والنسائي في المجتبى (1337) والكبرى (1/ 1261) وعمل اليوم والليلة (95 - 97) وابن ماجه (924) وابن حبان (200 و 2001) وأبو عوانة (2/ 241 و 242) والبيهقي (2/ 183) والبغوي في شرح السنة (713) عن عائشة رضي الله عنها. (¬7) في البدائع: (فكان). (¬8) في المخطوط: (لفساده).

القوم (¬1) بوجهه إن شاء، إن لم يكن بحذائه أحدٌ يصلِّي، لما روي: أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ إذَا فَرَغَ مِنْ صَلاةِ الْفَجْرِ اسْتَقْبَلَ بِوَجْهِهِ أَصْحَابَهُ، وَقَالَ: "هَلْ رَأَى أَحَدُكُمْ رُؤْيَا؟ " (¬2)، كَأَنَّهُ [كَانَ] يَطْلُبُ رُؤيا فِيهَا بُشْرَى فَتْحِ (¬3) مَكَّةَ. فإن كان بحذائه أحدٌ يصلِّي لا يستقبل القوم بوجهه؛ لأنَّ استقبال الصُّورة في الصَّلاة مكروهٌ، لما روي: أَنَّ عُمَرَ [- رضي الله عنه -] رَأَى رَجُلًا يُصَلِّي إلَى وَجْهِ غَيْرِهِ، فَعَلاهُمَا بِالدِّرَّةِ. وَقَالَ لِلْمُصَلِّي: أَتَسْتَقْبِلُ (¬4) الصُّورَةَ؟ وَلِلآخَرِ: أَتَسْتَقْبِلُ (¬5) الْمُصَلِّي بِوَجْهِكَ؟ (¬6). وإن شاء انحرف؛ لأنَّ بالانحراف يزول الاشتباه كما يزول بالاستقبال. ثم اختلف المشايخ في كيفية الانحراف: قال بعضهم: ينحرف إلى يمين القبلة تبرُّكًا بالتَّيامن (¬7). وقال بعضهم: ينحرف إلى اليسار ليكون يساره إلى اليمين. وقال بعضهم: هو مخيَّر، إن شاء انحرف يمنةً، وإن شاء يسرةً، وهو ¬

_ (¬1) في المخطوط: (القبلة). (¬2) رواه الإمام أحمد (5/ 8 و 14) والبخاري (1320 و 6640) ومسلم (2275) والترمذي (2294) والنسائي في الكبرى (7658 و 11226) عن سمرة بن جندب - رضي الله عنه -. (¬3) في البدائع: بفتح. (¬4) في المخطوط: (استقبل). (¬5) في المخطوط: (استقبل). (¬6) لم أجده في الكتب المسندة. وانظره في المبسوط للسرخسي (1/ 35) والعناية شرح الهداية (2/ 167). (¬7) تحرف في المخطوط إلى: (بالقياس).

الصَّحيحُ؛ لأنَّ ما هو المقصود من الانحراف (¬1)، وهو: زوال الاشتباه يحصل بالأمرين جميعًا. وإن كانت صلاةً بعدها سنَّةٌ يكره له المكث قاعدًا. وكراهة القعود مرويَّة عن الصَّحابة [- رضي الله عنهم -]. روي عن أبي بكرٍ وعمر - رضي الله عنهما -: أَنَّهُمَا كَانَا إذَا فَرَغَا مِن الصَّلاةِ قَامَا كَأَنَّهُمَا عَلَى الرَّضْفِ (¬2). ¬

_ (¬1) تحرف في المخطوط إلى: (المقصود والانحراف). (¬2) تحرف في المخطوط إلى: (الرصف). والرّضف: الحجارة المحماة على النار، واحدتها رضفة. ورواه عبد الرزاق (3214) عن معمر والثوري، عن حمّاد وجابر وأبي الضحى، عن مسروق: أن أبا بكر كان إذا سلم عن يمينه وعن شماله قال: السلام عليكم ورحمة الله، ثم انفتل ساعتئذٍ، كأنما كان جالسًا على الرضف. و (3215) عن معمر، عن قتادة قال: كان أَبو بكر إذا سلم كأنه على الرضف حتى ينهض. انظر سنن البيهقي (2/ 232). وقال أَبو يوسف في الآثار (1/ 161) رقم (154) عن أبيه، عن أبي حنيفة، عن حمّاد، عن أبي الضحى، عن مسروق، عن أبي بكر - رضي الله عنه - أنه كان إذا فرغ من صلاته وسلّم، فكأنما هو على الرضف حتى ينحرف. ورواه محمد بن الحسن في الآثار (1/ 139) رقم (104) قال: أخبرنا أَبو حنيفة، عن حمّاد، عن أبي الضحى، عن مسروق: أن أبا بكر الصديق - رضي الله عنه - كان إذا سلم في الصلاة، كأنه على الرضف حتى ينفتل. قال محمد: وبه نأخذ، وهو قول أبي حنيفة - رضي الله عنه -. ورواه الطحاوي في شرح معاني الآثار (1/ 270) رقم (1497) قال: حدثنا حسين ابن نصر وعلي بن شيبة قال: حدثنا أَبو نعيم قال: حدثنا سفيان، عن حمّاد، =

ولأنَّ المكث يوجب اشتباه الأمر على الدَّاخل فلا يمكث، ولكن يقوم ويتنحَّى عن ذلك المكان، ثم ينتقل (¬1)؛ لما روي: عن أبي هريرة [- رضي الله عنه -]، عن النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال: "أَيَعْجِزُ أَحَدُكُمْ إذَا فَرَغَ مِنْ صَلاتِهِ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ" (¬2). وعن ابن عمر [- رضي الله عنه -]: أَنَّهُ كَرِهَ لِلإِمَامِ أَنْ يَتَنَفَّلَ فِي الْمَكَانِ الَّذِي صَلَّى (¬3) فِيهِ. ولأنَّ ذلك يؤدِّي إلى اشتباه الأمر على الدَّاخل، فينبغي أن يتنحَّى إزالةً للاشتباه أو استكثارًا من شهوده (¬4) على ما روي: أَنَّ مَكَانَ الْمُصَلّي يَشْهَدُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. ¬

_ = عن أبي الضحى، عن مسروق قال: كان أَبو بكر - رضي الله عنه - يسلم عن يمينه وعن شماله، ثم ينتقل ساعتئذٍ كأنه على الرضف. (¬1) في المخطوط: (يتنفل). (¬2) رواه الإمام أحمد (2/ 425) وابن أبي شيبة (2/ 208) - وعنه ابن ماجه (1427) - والبخاري في التاريخ الكبير (1/ 340) وأبو داود (1006) والبيهقي (2/ 190) والبغوي (706) من طرق عن ليث بن أبي سليم [ضعيف]، عن الحجاج بن عبيد [مجهول]، عن إبراهيم بن إسماعيل [مجهول]، عن أبي هريرة. أقول: وذكره البخاري من طرق أخرى، وأسانيد الحديث فيها اضطراب. وقال البخاري بعد هذه الأسانيد: لم يثبت هذا الحديث. وقال في صحيحه (1/ 214) (كتاب الأذان/ باب مكث الإمام في مصلاه): وقال لنا آدم: حدثنا شعبة، عن أيوب، عن نافع قال: كان ابن عمر يصلّي في مكانه الذي صلى فيه الفريضة، وفعله القاسم [أي: ابن محمد بن أبي بكر الصديق]، ويذكر عن أبي هريرة رفعه: لا يتطوّع الإمام في مكانه. ولم يصحّ. اهـ. (¬3) في البدائع: (أمّ). (¬4) في المخطوط: (الاشتباه واستكثارًا من شهوره).

وأمَّا المُقتَدُونَ (¬1): فبعض مشايخنا قال (¬2): لا حرج عليهم في ترك الانتقال (¬3) لانعدام الاشتباه على الدَّاخل عند معاينة فراغ مكان الإمام عنه. وروي عن محمَّدٍ أنَّه قال: يستحبُّ للقوم أيضًا: أن ينقضوا الصُّفُوف ويتفرَّقُوا ليزول الاشتباهُ على الدَّاخل المعاين الكلَّ في الصَّلاة البعيدة عن الإمام، ولما روينا من حديث أبي هريرة [- رضي الله عنه -]. انتهى. وقال حافظ الدين (¬4) في كتابه: أمّا السنن التي بعد الفريضة فيأتي بها في المسجد في مكانٍ صلّى فيه فرضه بالأولى أن يتنحّى خطوة، والإمام يتأخّر عن مكانٍ صلّى فيه فرضه لا محالة. انتهى. وهذا لا يستلزم الوصل، فظهرَ: أنّ ما عُزِيَ للنسفي ليس صريحًا عنه. وأن المسألة صريحةٌ عن من هو أقدم منه. فموت النسفي بعد العشر وسبع مئة. وموت صاحب الاختيار في تاسع عشر المحرم سنة ثلاثة وثمانين وست مئة. وموت الحسام الشهيد سنة ست وثلاثين وخمس مئة. وموت صاحب البدائع سنة سبع وثمانين وخمس مئة. ¬

_ (¬1) في البدائع: (المأمومون). (¬2) في البدائع: (قالوا). (¬3) في المخطوط: (الاستقبال). (¬4) هو النسفي.

وموت البقالي: سنة اثنين وسبعين وخمس مئة. وموت الحلواني سنة ثمانية وأربعين وأربع مئة. وأمّا ما حكاه الحلواني، عن الصّحابة. فلم أقف عليه. وأمّا حديث عائشة الذي أخرجه صاحب البدائع: فأخرجه مسلم، والترمذي (¬1). وأمّا قوله: ورويَ [أنَّ] جلوس [الإمام] في مصلاَّهُ. . . إلخ. فأخرجه ابن أبي شيبة (¬2)، عن عمر: أنّه قال: جلوسُ الإمامِ بعد السّلام بدعة. وأمّا حديث: كان إذا فرغ من صلاة الفجر. . . فمتفقٌ عليه (¬3). وفي الباب: ما هو أعمّ منه. وهو ما روى سَمُرة قال: كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا صَلَّى صَلاَةً أَقْبَلَ عَلَيْنَا بِوَجْهِهِ. أخرجه البخاري (¬4). وأمّا قول: لما روي: أنّ عمرَ: أنّه رأى رجلًا يُصَلِّي، وَوَجْهُهُ إِلَى غَيْرِهِ. فَلَمْ أَرَهُ فِي الْبَابِ. ¬

_ (¬1) رواه مسلم (592) والترمذي (298). (¬2) المصنف (3083) قال: حدثنا ابن مسهر، عن ليث، عن مجاهد قال: قال عمر: جلوس الإمام بعد التسليم بدعة. (¬3) تقدّم تخريجه. (¬4) رواه الإمام أحمد (5/ 14) والبخاري (809 و 1092 و 1320 و 1979 و 2638 و 3064 و 3176 و 4397 و 5745 و 6640).

ما رواه ابن أبي شيبة في مصنّفه (¬1)، عن عطاء بن يسار (¬2): قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لاَ يَسْتَقْبِلُ الصُّورَةَ". وما رواه الدارقطني (¬3)، عن ابن الحنفية: أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - رَأَى رَجُلًا يُصَلِّي إِلَى رَجُلٍ، فَأَمَرَه (¬4) أَنْ يُعِيدَ الصَّلاَةَ. فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ! إِنِّي قَدْ أَتْمَمْتُ الصَّلاَةَ. فَقَالَ: "إِنَّكَ قَدْ صَلَّيْتَ وَأَنْتَ تَنْظُرُ إلَيْهِ مُسْتَقْبِلَهُ". وقد جاء في الانحراف: ما رواه الأثر، عن يزيد بن الأسود قال: صلّيتُ مَعَ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - الفجرَ، فَلَمَّا سلَّمَ انْحَرَفَ (¬5). وعن ابن مسعودٍ أَنَّهُ قالَ: لاَ يَجْعَلُ أَحَدُكُمْ حَظًّا لِلْشَّيْطَانِ مِنْ صَلاَتِهِ، يَرَى حَقًّا عَلَيْهِ: أَنْ لاَ يَنْصَرِفَ إِلاَّ عَنْ يَمِيْنَهُ، لَقَدْ رَأَيْتُ رَسُوْلَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أَكْثَرَ مَا يَنْصَرِفُ عَنْ شِمَالِهِ. رواهُ مسلم (¬6). ¬

_ (¬1) رواه ابن أبي شيبة (7388) قال: حدثنا وكيع، عن خارجة بن مصعب، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تستقبل الصورة الصورة". (¬2) تحرف في المخطوط إلى: (ياسر). (¬3) (2/ 85). (¬4) في المخطوط: (فأمر). (¬5) رواه ابن أبي شيبة (3093) قال: حدثنا هشيم قال: أخبرنا يعلى بن عطاء، عن جابر ابن يزيد الأسود العامري، عن أبيه قال: صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الفجر فلما سلم انحرف. (¬6) رواه البخاري (814) قال: حدثنا أبو الوليد قال: حدثنا شعبة، عن سليمان، عن عمارة بن عمير، عن الأسود قال: قال عبد الله: لا يجعل أحدكم للشيطان شيئًا =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = من صلاته يرى أن حقًا عليه أن لا ينصرف إلا عن يمينه، لقد رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - كثيرًا ينصرف عن يساره. ورواه مسلم (707) قال: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا أَبو معاوية ووكيع، عن الأعمش، عن عمارة، عن الأسود، عن عبد الله قال: لا يجعلن أحدكم للشيطان من نفسه جزءًا لا يرى إلا أن حقًا عليه أن لا ينصرف إلا عن يمينه، أكثر ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينصرف عن شماله. ورواه الشافعي (291 ترتيب السندي) وعبد الرزاق (3208) والحميدي (127) والدارمي (1350) والإمام أحمد (3631 و 3872 و 4084 و 4383 و 4384 و 4426) وابن أبي شيبة في مسنده (251) والمصنف (1/ 304 - 305) والنسائي في الكبرى (1283) والمجتبى (3/ 81) وابن ماجه (930) وأبو يعلى (5174) وابن خزيمة (1714) وابن حبان (1997) وأبو عوانة (2/ 250) والشاشي (418 و 425 و 421 و 423 و 424) والطبراني في الكبير (10161 - 10165) والبيهقي (2/ 477 و 478) والبغوي في شرح السنة (702). وقد جاء عن أنس - رضي الله عنه - عند مسلم (708) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان ينصرف عن يمينه. والجمع بين الحديثين: قال النووي في شرحه لمسلم: وجه الجمع بينهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعل تارة هذا وتارة هذا، فأخبر كل واحدٍ بما اعتقد أنه الأكثر فيما يعلمه، فدلّ على جوازهما، ولا كراهة في واحد منهما، وأما الكراهة التي اقتضاها كلام ابن مسعود، فليست بسبب أصل للانصراف عن اليمين أو الشمال، وإنما هي في حق من يرى أن ذلك لا بد منه، فإن من اعتقد وجوب واحد من الأمرين مخطئ، ولهذا قال: (يرى أن حقًا عليه)، فإنما ذمّ من رآه حقًا عليه، ومذهبنا أنه لا كراهة في واحد من الأمرين، لكن يستحب أن ينصرف في جهة حاجته سواء، كانت عن يمينه أو شماله، فإن استوى الجهتان في الحاجة وعدمها، فاليمين أفضل لعموم الأحاديث المصرحة بفضل اليمين في باب المكارم ونحوها، هذا صواب الكلام في هذين الحديثين، وقد يقال فيهما خلاف الصواب. والله أعلم. وقال ابن حجر في فتح الباري (2/ 338): ويمكن أن يجمع بينهما بوجهٍ آخر، =

ولأبي داود (¬1)، عَنْ هلب: أنّهُ صَلَّى مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَكَانَ يَنْصَرِفُ عَنْ شِقَّيْهِ. وأمّا ما روي عن أبي بكرٍ وعمر: فروى الطبراني (¬2)، عن أنس بن مالكٍ قالَ: صَلَّيْتُ مَعَ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، ¬

_ = وهو أن يحمل حديث ابن مسعود على حالة الصلاة في المسجد؛ لأن حجرة النبي صلى الله عليه وسلم كانت من جهة يساره، ويحمل حديث أنس على ما سوى ذلك كحال السفر، ثم إذا تعارض اعتقاد ابن مسعود وأنس رجح ابن مسعود؛ لأنه أعلم وأسنّ وأجلّ وأكثر ملازمة للنبي - صلى الله عليه وسلم - وأقرب إلى موقفه في الصلاة من أنس، وبأن في إسناد حديث أنس من تكلّم فيه، وهو السدّي، وبأنه متفق عليه بخلاف حديث أنس في الأمرين، وبأن رواية ابن مسعود توافق ظاهر الحال؛ لأن حجرة النبي صلى الله عليه وسلم كانت على جهة يساره كما تقدم، ثم ظهر لي [أي: للحافظ ابن حجر] أنه يمكن الجمع بين الحديثين بوجه آخر، وهو أن من قال: كان أكثر انصرافه عن يساره نظر إلى هيئته في حال الصلاة، ومن قال: كان أكثر انصرافه عن يمينه نظر إلى هيئته في حالة استقباله القوم بعد سلامه من الصلاة، فعلى هذا لا يختص الانصراف بجهة معينة، ومن ثم قال العلماء: يستحب الانصراف إلى جهة حاجته، لكن قالوا: إذا استوت الجهتان في حقه، فاليمين أفضل لعموم الأحاديث المصرحة بفضل التيامن، كحديث عائشة المتقدم في كتاب الطهارة. قال ابن المنير: فيه أن المندوبات قد تقلب مكروهات إذا رفعت عن رتبتها، لأن التيامن مستحب في كل شيء - أي: من أمور العبادة - لكن لما خشي ابن مسعود أن يعتقدوا وجوبه أشار إلى كراهته. والله أعلم. أقول: وروي عن ابن عمرو - رضي الله عنهما -: أنه كان ينصرف عن يمينه وعن يساره. رواه أحمد (6627). (¬1) رواه الطيالسي (1087) وأبو داود في سننه (1041) وابن حبان (1998 الإحسان) (520 موارد الظمآن). (¬2) قال الهيثمي في مجمع الزوائد (2886): عن أنس بن مالك قال: صليت مع =

فكان ساعةَ يسلّمُ. يقوم: ثم صلّيت مع أبي بكرٍ، فكان ساعةَ يصلي يقوم، ثم صلّيت مع عمر، فكان إذا سلّم وثب كأنّه يقوم من رضفةٍ (¬1). ورأى ذلك فيما بعد التشهّد الأوّل. ¬

_ = رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكان ساعة يسلم يقوم، ثم صليت مع أبي بكر، فكان إذا سلم وثب كأنه يقوم عن رضفة. رواه الطبراني في الكبير، وفيه: عبد الله بن فروخ، قال إبراهيم الجوزجاني: أحاديثه مناكير. وقال ابن أبي مريم: هو أرضى أهل الأرض عندي. ووثقه ابن حبان وقال: ربما خالف، وبقية رجاله ثقات. ورواه ابن خزيمة (1717) قال: حدثنا محمد بن يحيى قال: حدثنا سعيد بن أبي مريم قال: أخبرنا ابن فروخ. وحدثنا علي بن عبد الرحمن بن المغيرة قال: حدثنا عمرو بن الربيع بن طارق قال: أخبرنا عبدالله بن فروخ قال: حدثني ابن جريج، عن عطاء، عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخف الناس صلاة في إتمام. قال: صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان ساعة يسلم يقوم، ثم صليت مع أبي بكر فكان إذا سلم وثب مكانه كأنه يقوم عن رضف. لم يذكر علي بن عبد الرحمن: كان أخف الناس صلاة. وقال ابن خزيمة: هذا حديث غريب، لم يروه غير عبد الله بن فروخ. ورواه الحاكم (1/ 295) رقم (784) وعنه البيهقي في سننه (2/ 232) قال: أخبرنا أَبو جعفر محمد بن محمد البغدادي، حدثنا يحيى بن أبي أيوب، حدثنا سعيد ابن أبي مريم، أنبأنا عبد الله بن فروخ، أنبأنا ابن جريج، عن عطاء، عن أنس بن مالك قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أخف الناس صلاة في تمام. قال: وصليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان ساعة يسلم يقوم، ثم صليت مع أبي بكر فكان إذا سلم وثب كأنه يقوم عن رضف. وقال الحاكم: هذا حديث صحيح، رواته غير عبد الله بن فروخ فإنهما لم يخرجاه لا لجرح فيه، وهذه سنة مستعملة لا أحفظ لها غير هذا الإسناد. (¬1) تحرف في المخطوط إلى: (رصفة).

روى ابن أبي شيبة (¬1)، من طريق تميم بن سلمة: كَانَ أَبُو بَكْرٍ إِذَا جَلَسَ فِي الرَّكْعَتَيْنِ كَأَنَّهُ عَلَى الرضف (¬2) - يعني: حتى يقوم -. وأخرجه من طريقٍ آخرَ (¬3) بلفظ: وَكَانَ في الرَّكْعَتَيْنِ الأُولَتَيْنِ كَأَنَّهُ عَلَى الْجَمْرِ حَتَى يَقُومَ. وأمّا حديث أبي هريرة: فأخرجه أَبو داود، وابن ماجه (¬4). وهو عامٌّ. والذي يخصُّ الإمام: ما رواه أَبو داود، وابن ماجه، عن المغيرة بن شعبة: أَن النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "لاَ يُصَلِّي الإمَامُ فِي مَقَامِهِ الَّذِي يُصَلِّي فِيهِ الْمَكْتُوبَةَ حَتَّى يَتَنَحَّى عَنْهُ" (¬5). ¬

_ (¬1) رواه ابن أبي شيبة (3017) قال: حدثنا جرير، عن منصور، عن تميم بن سلمة قال: كان أبو بكر إذا جلس في الركعتين كأنه على الرضف يعني: حتى يقوم. (¬2) تحرف في المخطوط إلى: (الوصف). (¬3) رواه ابن أبي شيبة في المصنف (3018) قال: حدثنا غندر، عن شعبة، عن الحكم، عن إبراهيم، عن رجل صلى خلف أبي بكر، فكان في الركعتين الأوليين، كأنه على الجمر حتى يقوم. ورواه أَبو القاسم البغوي في الجعديات (204) قال: حدثنا علي، أخبرنا شعبة، عن الحكم، عن إبراهيم، عن رجل صلى خلف أبي بكر الصديق، فكان في الركعتين الأوليين، كأنه على الرضف حتى يقوم. (¬4) تقدّم تخريجه. (¬5) رواه ابن ماجه (1428) وهذا لفظ ابن ماجه، وفيه: "الذي صلى فيه". ورواه أَبو داود (616) ومن طريقه البيهقي (2/ 286) ولفظه: "لا يصلّ الإمام في الموضع الّذي صلّى فيه حتى يتحوّل". وقال أَبو داود: عطاءٌ الخراسانيّ لم يدرك المغيرة بن شعبة.

وفيه: لفظ: "فَلاَ يَتَطَوع الإمام في مكانه الّذي صلّى فيه بالنّاس" (¬1). أَمَّا أثرُ ابن عمر: فأخرجه ابن أبي شيبة، عن عطاء: [أن] ابن عبّاس وابن الزّبير وأبا (¬2) سعيد وابن عمر كَانُوا يَقُولُونَ: لاَ يَتَطَوَّعُ حَتّى يَتحَوّلَ مِنْ مَكَانِهِ الَّذِي صَلَّى فِيْهِ الْفَرِيضَةَ (¬3). وفي سنده: رجلٌ متّهم. وأخرج (¬4)، عن ابن عليّة، عن أيوب، عن نافعٍ، عن ابن عمرَ: أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي سُبحته (¬5) مَكَانَهُ. وأخرج من طريقٍ آخر (¬6)، عن نَافعٍ: أنَّ ابن عمرَ كَانَ لا يرى بذلك بأسًا. وأمَّا أنّ مكان المصلي يشهد لهُ: فلم أقف عليه. وإنّما روى الإمام أحمد، والترمذي، عن أبي هريرة قال: قرأ ¬

_ (¬1) لم أجده. (¬2) تحرف في المخطوط إلى: (وأبي). (¬3) رواه ابن أبي شيبة في المصنف (6012) عن ابن علية، عن أيوب، عن عطاء. . . (¬4) رواه ابن أبي شيبة في المصنف (6016). (¬5) تحرف في المخطوط إلى: (سنته). (¬6) رواه ابن أبي شيبة في المصنف (6017) قال: حدثنا معتمر، عن عبيدالله بن عمر قال: رأيت القاسم وسالمًا يصليان الفريضة، ثم يتطوعان في مكانهما. قال: وأنبأني نافع: أن ابن عمر كان لا يرى به بأسًا.

رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: {يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا} [الزلزلة: 4]. قال: "أَتَدْرُونَ مَا أَخْبَارُهَا؟ ". قالوا: اللهُ ورسولهُ أعلمُ. قال: "وَإِنَّ أَخْبَارَهَا: أَنْ تَشْهَدَ عَلَى كُلِّ عَبْدٍ أَوْ أَمَةٍ بِمَا عَمِلَ عَلَى ظَهْرِهَا، [أَنْ] تَقُولَ: عَمِلَ كَذَا وَكَذَا في يَوْمِ كَذَا، فَهَذِهِ (¬1) أَخْبارُهَا" (¬2). والحاصل: استحباب تبدّل هيئة الإمام بعد الفراغ، وكراهة بقائها، واستحباب ذلك للقوم أيضًا. والتخيير بين التطوع في المسجد وعدمه عقيب الفرض. هذا ما ورد عن المتقدمين، وكراهة تأخير التطوع عن الفريضة وسنّة المتأخرين، ولم أرَ لهم دليلًا على ذلك إلاّ ظاهر حديث أنس المتقدم، وما يشير إليه حديث أبي هريرة: أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "أَيَعْجَزُ أَحَدَكُمْ إذَا صَلَّى أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ أَوْ عَنْ يَمِينِهِ أَوْ عَنْ يَسَارِهِ" (¬3). رواه أَبو داود، وابن ماجه. ¬

_ (¬1) تحرف في المخطوط إلى: (فهذا). (¬2) رواه ابن المبارك في مسنده (93) والإمام أحمد (2/ 374) والترمذي (2429 و 3353) والنسائي في الكبرى (11693) وابن حبان (7360) والحاكم (2/ 256) والبيهقي في الشعب (7298) والبغوي في شرح السنة (4308) والتفسير له (4/ 15) من طرقٍ عن ابن المبارك، ورواه الحاكم (2/ 532) من طريق عبد الله بن يزيد المقرئ، كلاهما عن سعيد بن أبي أيوب، عن يحيى بن أبي سليمان، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة. ويحيى بن أبي سليمان، قال البخاري: منكر الحديث. وقال ابو حاتم: مضطرب الحديث، ليس بالقوي، يكتب حديثه - يعني للمتابعات -. وقال ابن خزيمة: لا أعرفه بعدالة ولا جرح. ورواه البيهقي في الشعب (7296) عن أنس بن مالك. وفيه: يحيى بن أبي سليمان أيضًا. (¬3) تقدم تخريجه.

ويردّ عليه: ما رواه مسلم في صحيحه (¬1)، عن السائب (¬2) بن أخت نَمِر: أَنَّهُ قالَ: إِنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أَمَرَنَا أَنْ لاَ نُوصِلَ صَلاَةً حَتَّى نَتَكَلَّمَ أَوْ نَخْرُجَ (¬3). وما روى أَبُو داود (¬4)، عَنْ أَبَي رِمْثَةَ قَالَ: صَلَّيْتُ هَذِهِ الصَّلاةَ [أَوْ مِثْلَ ¬

_ (¬1) رواه مسلم (883) والبيهقي (2/ 291) ومعرفة السنن والآثار (5/ 187) رقم (1818). (¬2) تحرف في المخطوط إلى: (الثابت). (¬3) تحرف في المخطوط إلى: (يخرج). (¬4) رواه أَبو داود (1007) عن الأزرق بن قيسٍ قال: صلّى بنا إمامٌ لنا يكنى: أبا رمثة فقال: صلّيت هذه. . . وقال أَبو داود: وقد قيل: أَبو أميّة مكان أبي رمثة. ورواه الطبراني في الكبير (22/ رقم 728) قال: حدثنا محمد بن راشد الأصبهاني، حدثنا إبراهيم بن عبد الله بن خالد المصيصي، حدثنا أشعث بن شعبة، بهذا الإسناد. ورواه في الأوسط (2088) قال: حدثنا أحمد بن زهير قال: حدثنا أحمد بن منصور الرمادي قال: حدثنا عبد الصمد بن النعمان قال: حدثنا المنهال بن خليفة، بهذا الإسناد. وقال الطبراني: لا يروى هذا الحديث عن أبي رمثة إلا بهذا الإسناد، تفرّد به المنهال. ورواه (22/ رقم 727) قال: حدثنا إبراهيم بن متويه الأصبهاني، حدثنا سليمان بن حبيب المصيصي، حدثنا أشعث، مختصرًا. ورواه في الأوسط (6903) قال: حدثنا محمد بن عبد الله بن عبد السلام البيروتي، حدثنا اليمان بن سعيد المصيصي، حدثنا أشعث بن شعبة، بهذا الإسناد مختصرًا، وقال الطبراني: لا يروى هذا الحديث عن أبي رمثة إلا بهذا الإسناد، تفرّد به أشعث بن شعبة. وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (2/ رقم 2881) عن الرواية المختصرة: رواه الطبراني في الأوسط، وفيه: منهال بن خليفة، ضعّفه ابن معين والنسائي وابن حبان، ووثقه أَبو حاتم، وقال البخاري: صالحٌ، فيه نظر. =

هَذِهِ الصَّلاةِ] مَعَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ يَقُومَانِ فِي الصَّفِّ الْمُقَدَّمِ عَنْ يَمِينِهِ، وَكَانَ رَجُلٌ قَدْ شَهِدَ تَكْبِيرَةَ الأُولَى مِنَ الصَّلاةِ، فَصَلَّى رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - صَلاَةً، ثُمَّ سَلَّمَ عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ يَسَارِه، حَتَّى رَأَيْنَا بَيَاضَ خَدَّيْهِ، ثُمَّ انْفَتَلَ كَانْفِتَالِ أَبِي رِمْثَةَ - يَعْنِي: نَفْسَهُ -، فَقَامَ الرَّجُلُ الَّذِي أَدْرَكَ مَعَهُ التَّكْبِيرَةَ (¬1) الأُولَى (مِنْ الصَّلاةِ يَشْفَعُ) (¬2) فَوَثَبَ [إِلَيْهِ] عُمَرُ فَأَخَذَ بِمَنْكِبِهِ فَهَزَّهُ، ثُمَّ قَالَ: اجْلِسْ، فَإِنَّهُ لَمْ يُهْلِكْ أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ أَنَّهُم (¬3) لَمْ يَكُنْ بَيْنَ صَلَوَاتِهِمْ (¬4) فَصْلٌ، فَرَفَعَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - رَأْسَهُ (¬5)، فَقَالَ: "أَصَابَ اللهُ بِكَ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ". فَإِنّ أخذ الفصل باستدلالهم بحديث عائشة اندفع هذا، وأنّ المنع مقدّم على الإباحة عند التعارض؛ لأن ذلك صريح فكيف وهو محتمل مع ما فيه من التكلّف. وورد لنا عن أبي هريرة: أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال لِفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ: "أَلاَ أُعَلِّمُكُمْ ¬

_ = ورواه الحاكم (1/ 366) رقم (996) وعنه البيهقي في سننه (2/ 289) قال: أخبرنا جعفر بن محمد بن نصير الخلدي، حدثنا أحمد بن علي الجزار، حدثنا عبد الوهاب ابن نجدة، حدثنا أشعث بن شعبة، بهذا الإسناد. وقال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه. وتعقّبه الذهبي فقال: المنهال ضعّفه ابن معين، وأشعث فيه لين، والحديث منكر. (¬1) تحرف في المخطوط إلى: (التكبير). (¬2) ما بين معكوفتين: من سنن أبي داود، وفي المخطوط: (للشفع). (¬3) في سنن أبي داود: (أنه). (¬4) في المخطوط: (لم يكن لهم من صلاتهم). (¬5) في سنن أبي داود: (بصره).

شَيْئًا تُدْرِكُونَ بِهِ مَنْ سَبّقَكُمْ، وَتَسْبِقُونَ بِهِ مَنْ بَعْدكُمْ؟ وَلاَ يَكُونُ أَحَدٌ أَفْضَلَ مِنْكُمْ إِلاَّ مَنْ صَنَعَ مِثْلَ مَا صَنَعْتُمْ: تُسَبِحُونَ وَتَحْمَدُونَ وَتُكَبِّرُونَ دُبُرَ كُلِّ صَلاَةٍ ثَلاَثًا وَثَلاَثِينَ [مَرَّةً]. . . الحديث". أخرجاه (¬1). فإن قيل: هذا يصدق بما إذا قال عقب السنة من غير اشتغالٍ بما هو من توابع الصلاة. قلت: نعم. إذا ورد ما يقتضي الوصل أو كراهة الفصل حمل على ذلك. أمّا إذا لم يرد فلا يصرف عن حقيقته. وبالجملة: فالرّاجح عندي: ما روي عن المتقدمين وكراهة الوصل والإباحة مع الفصل بنحو ما ورد كحديث ثوبان قَالَ: كَانَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا انصرفَ من صلاته: استغفر الله ثلاثًا. وقال: "اللَّهُمَّ أَنْتَ السَّلاَمُ، وَمِنْكَ السَّلاَمُ، تَبَارَكْتَ يَا ذَا الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ". رواهُ الجماعة إِلاَّ البخاري (¬2). وحديث عبد الله بن الزبير: أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ في دُبُرِ كُلِّ صَلاَةٍ حِينَ يُسَلّمُ: ¬

_ (¬1) رواه البخاري (843 و 6329) ومسلم (595) والنسائي في عمل اليوم والليلة (145 و 146) وابن خزيمة (749) وابن حبان (2014) وأبو عوانة (2/ 248 و 249) والبغوي في شرح السنة (717 و 720) والبيهقي (2/ 186) عن أبي هريرة - رضي الله عنه -. (¬2) رواه الدارمي (1348) وأحمد (5/ 275 و 279) ومسلم (591) وأبو داود (1513) والترمذي (300) والنسائي في المجتبى (1336) والكبرى (1260/ 1) وعمل اليوم والليلة (139) وابن ماجه (928) وابن خزيمة (737 و 738) وابن حبان (2003) وأبو عوانة (2/ 242) والبيهقي (2/ 183) والبغوي في شرح السنة (714) عن ثوبان - رضي الله عنه -.

"لاَ إِلَهَ إلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيْرٌ. وَلاَ حَوْلَ وَلاَ قُوّةَ إِلاَّ باللهِ، [لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ] وَلاَ نعبُدُ إِلاَّ إِيَّاهُ، لَهُ النِّعْمَةُ وَلَهُ الْفَضْلُ، وَلَهُ الثَّنَاءُ الْحَسَنُ الْجَمِيلُ (¬1). لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الكَافِرُونَ". قَالَ: وَكَانَ رَسُوْلُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يُهَلِّلُ (¬2) بِهِنَّ دُبُرَ كُلِّ صلاَةٍ. رَوَاهُ أَحمد، ومسلم، وأبو داود، والنَّسَائي (¬3). وحديث المغيرة: أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَقُولُ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلاَةٍ مَكْتُوبَةٍ: "لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى [كُلِّ] شَيْءٍ قَدِيرٌ. اللَّهُمَّ لاَ مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ، وَلاَ مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ، وَلاَ يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْكَ الْجَدُّ". متّفقٌ عليه (¬4). وحديث سعد بن أبي وقاص: أنَّهُ كَانَ يُعَلِّمُ بَنِيهِ هَؤُلاَءِ الْكَلِمَاتِ، كَمَا ¬

_ (¬1) (الجميل) لم ترد عند أحمد ومسلم وغيرهم. (¬2) في المخطوط: (يهل). (¬3) رواه الإمام أحمد (4/ 4) وابن أبي شيبة (10/ 232) ومسلم (594) وأبو داود (1506 و 1507) والنسائي في المجتبى (1338 و 1339) والكبرى (1262 و 1263/ 1) وابن خزيمة (741) وابن حبان (2008 - 2010) وأبو عوانة (2/ 245 و 246) والبيهقي (2/ 185) والبغوي في شرح السنة (717) عن عبد الله بن الزبير - رضي الله عنهما -. (¬4) رواه عبد الرزاق (4224) والإمام أحمد 4/ 245 و 247 و 250 و 254 و 255) وابن أبي شيبة (10/ 231) والحميدي (762) والبخاري (844 و 1477 و 2408 و 5975 و 6330 و 6473 و 6615 و 7292) ومسلم (593) وأبو داود (1505) والنسائي في المجتبى (1345 و 1341) والكبرى (1264 و 1265) وعمل اليوم والليلة (129 و 130) وابن خزيمة (742) وابن حبان (2005 - 2007) وأبو عوانة (2/ 243 و 244) والطبراني في الكبير (906) والبيهقي (2/ 185) والبغوي في شرح السنة (715) عن المغيرة بن شعبة - رضي الله عنه -.

يُعَلِّمُ الْمُعَلِّمُ الْغِلْمَانَ الْكِتَابَةَ. وَيَقُولُ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَتَعَوَّذُ بِهِنَّ دُبُرَ الصَّلاَةِ: "اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ البُخْلِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ الْجُبْنِ، وَأَعُوذُ بِكَ أَنْ أُرَدَّ إِلَى أَرْذَلِ العُمُرِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الدُّنْيَا، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ". رواه البخاري، والترمذي وصحّحه (¬1). ولا يشبه الوصل، وكراهة التّأخير. كما قيل. وهذه الأحاديث كلها واردة على ظاهره، ولا يندفع إلا على ما ذكرت. وكيف؛ وقد روى الترمذي (¬2)، عن أبي أمامة: قيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ! أيّ الدُّعاءِ أَسْمَعُ؟ قَالَ: "جَوْفُ اللَّيْلِ الآخِرِ (¬3)، وَدُبُرُ الصَّلَوَاتِ الْمَكْتُوبَاتِ". وهذا صريحٌ في ردّ ما في الخلاصة من قوله: الاشتغال بالدعاء ¬

_ (¬1) رواه الإمام أحمد (1/ 183 و 186) رقم (1585 و 1621) والدورقي في مسند سعد (53) وابن أبي شيبة (3/ 376 و 10/ 188) والبخاري (2822 و 6365 و 6370 و 6374 و 6390) والترمذي (3567) والنسائي في [المجتبى (8/ 256 و 257 و 266 و 271 - 272) وعمل اليوم والليلة (131 و 132) والبزار (1141 - 1144) وابن خزيمة (746) وأبو يعلى (716 و 771) وابن حبان (1004) وأبو القاسم البغوي في الجعديات (532) والشاشي (79) والخرائطي في مكارم الأخلاق (ص 93) والطبراني في الدعاء (661 و 662) والبيهقي في إثبات عذاب القبر (183) عن سعد ابن أبي وقاص - رضي الله عنه -. (¬2) رواه الترمذي (3499) والنسائي في الكبرى (9936) عن أبي أمامة - رضي الله عنه -. وقال الترمذي: هذا حديث حسن، وقد روي عن أبي ذر وابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "جوف الليل الآخر الدعاء فيه أفضل أو أرجى أو نحو هذا". (¬3) تحرف في المخطوط إلى: (الأخير).

عقيب الصّلاة بِدْعَةٌ. وأرى أنّ قوله في الخلاصة: لكنّه يقوم إلى التطوع من إدراج المصنّف لا كلام الإمام محمد. والله أعلم. إني ولله الحمد، أقول كما (¬1) قال الطحاوي لابن حَرْبُويَه (¬2): لا يقلِّد إلاَّ عصبيٌّ (¬3) أو غبيٌّ. {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [النور: 40]. والحمد لله وحده. * * * ¬

_ (¬1) تحرف في المخطوط إلى: (هما). (¬2) تحرف في المخطوط إلى: (ولا يرجو يومه). والتصحيح من كتاب قواعد التحديث من فنون مصطلح الحديث للشيخ جمال الدين القاسمي (ص 70 مطبعة ابن زيدون بدمشق 1925 هـ). وابن حربويه، هو: القاضي العلامة، المحدث الثبت، قاضي القضاة، أَبو عبيد، علي بن الحسين بن حرب بن عيسى البغدادي، ولي قضاء مصر، ومات سنة 319 هـ. سير أعلام النبلاء (14/ 536). (¬3) في المخطوط: (عصبية). وهو من قول ابن حربويه أيضًا كما جاء في سير أعلام النبلاء (14/ 537 - 538).

(10) الأسوس في كيفية الجلوس

مَجْمُوعَةُ رَسَائِل العَلَّامَة قَاسِم بن قُطْلُوبُغَا [10] الأُسُوس في كَيْفَّيةِ الجُلُوسِ تَأْلِيفُ العَلَّامَة قَاسِم بْنِ قُطْلُوبُغَا الحَنَفِي المولود سَنَة 802 هـ والمتوفى سَنة 879 هـ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -

بداية الرسالة

(10) الأُسُوس في كَيْفَّيةِ الجُلُوسِ قال - رحمهُ اللهُ -: إن بعض إخواني الأفاضل سألني عن كيفية الجلوس بين السجدتين عند علمائنا، فأجبتهُ: بأنّها كجلسة التشهد. فقال: إن فقهاء بعض العصر قال: إنَّ كيفيّتها: أن ينصبَ قدميه كما في السجود، ويجلس عقبيه. فقلت: هي أنواعٌ من الإقعاء (¬1)، وقد نصّوا على كراهيته. يسأل القائل ذلك: أنىّ ذكر هذا في علمائنا. فقال: إنه لا يعلم ذلك في كتابٍ، وإنما سمع ذلك من سيدنا المرحوم الشيخ سراج الدين قارئ الهداية. وسألني الأخ المذكور: أن أكتب له من ذلك ما تيسر نقلًا ودليلًا. فقلتُ وبالله التوفيق والعصمة: للجلوس هيآت: منها: التربع. ومنها: أن يضجع قدميه ويجلس عليهما. ¬

_ (¬1) الإقعاء: أن يلصق الرجل أليتيه بالأرض، وينصب ساقيه وفخذيه، ويضع يديه على الأرض كما يقعي الكلب.

ومنها: أن ينصب قدميه، والجلوس بأليته على عقبيه. وهذا نوعٌ من الإقعاء. ومنها: أن ينصب ساقيه، ويلزق أليته بالأرض ويديه. وهذا هو الإقعاء المشهور. ومنها: أن ينصب رجله اليمنى، ويؤخر اليسرى، ويجلس على الأرض. وهذا هو التورك. ومنها: أن ينصب قدمه اليمنى ويفترش اليسرى، ويجلس عليها. وهذا هو الافتراش. والجلسات في الصلوات بين السجدتين وبعد السجدة الثانية عند القيام إلى الثالثة وبعد السجدة الثانية عند القيام إلى السجدة الثالثة للتشهد الأوّل في الثلاثية والرباعية وبعد الرفع من السجدة الثانية في الركعة الثالثة عند القيام إلى الرابعة، وعند الرفع من الأخيرة للتشهد الأخير. فأمّا التربع فمكروه في جميع الجلسات، إلاّ من عذرٍ من غير خلافٍ نعلمه. وفي عامّة الكتب: ولا يتربع إلا من عذرٍ. وقال ابن عبد البر في الاستذكار (¬1): والتربع في الصلاة لا يجوز، ¬

_ (¬1) قال ابن عبد البر في الاستذكار (1/ 479): التربع لا يجوز للجالس في صلاته من الرجال إذا كانوا أصحاء. واختلف فيه للنساء ودليل ذلك أن ابن عمر نهى عن ذلك ابنه عبد الله، وقال له: سنة الصلاة أن تنصب رجلك اليمنى وتثني رجلك اليسرى. فقال له: إنك تفعل ذلك - وكان يتربع في الصلاة إذا جلس -! فقال ابن عمر: إن رجلي لا تحملاني.

وليس من سننها. وعلى هذا جماعة، فلا وجه للإكثار فيه. وقد روي عن ابن عبّاس وأنس ومجاهد وجعفر بن محمد بن علي وسالم وابن سيرين وبكر المزني أنهّم كانوا يصلّون متربعين. وهذا عند أهل العلم على أنهم كانوا يصلون جلوسًا عند عدم القوة إلى القيام، أو كانوا متنفلين جلوسًا؛ لأنهم كلهم قد روي عنهم التربع في الصلاة، لا يجوز إلاّ لمن اشتكى أو يتنفل. وأمّا الصحيح فلا يجوز له التربع في الصلاة بإجماعٍ من العلماء. وكذلك أجمعوا على أن من لم يقدر على هيئة الجلوس في الصلوات أتى على حسب ما يقدر، {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286]. وأمّا إضجاع القدمين: فمكروهٌ في جميع الجلسات من غير خلافٍ نعلمه، إلاّ ما حكاه النووي في الروضة (¬1) وجهًا ضعيفًا شاذًّا في الجلوس بين السجدتين. ووجه الكراهة فيه: ترك الجلسة المسنونة من غير عذرٍ بالاتفاق. وأمّا نصب القدمين والجلوس على الأليتين: فمكروهٌ في جميع الجلسات من غير خلافٍ نعرفه إلاّ ما ذكره الشيخ محيي الدين النووي في شرح المهذّب، عن الشافعي في قوله له: إنه يستحب الجلوس بين السجدتين بهذه الصفة (¬2). ¬

_ (¬1) روضة الطالبين وعمدة المفتين (1/ 95). (¬2) المجموع شرح المهذب (3/ 439). وقال صاحب رد المحتار (5/ 24): قال العلامة قاسم في فتاواه: وأمّا نصب القدمين =

قال محمّد في موطئه (¬1): لا ينبغي أن يجلس على عقبيه (¬2) بين السجدتين، ولكنه يجلس بينهما كجلوسه في صلاته. وهو قول أبي حنيفة. وذكره الطحاوي (¬3): عن (¬4) أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد. وقال ابن عبد البر في التمهيد (¬5): اختلف الفقهاء في هيئة الجلوس [وكيفيته في الصلاة المكتوبة]، فقال مالكٌ: يقعد بأليتيه إلى الأرض، وينصب رجله اليمنى، ويثني رجله اليسرى. وهكذا (¬6) عنده في كل جلوسٍ في الصلاة. والرجل والمرأة في ذلك [كلّه] عنده سواء. وقال ابن شاسٍ المالكي (¬7) في كتابه المسمّى بالجواهر: المستحب في ¬

_ = والجلوس على العقبين فمكروهٌ في جميع الجلسات بلا خلافٍ نعرفه إلاّ ما ذكره النّوويّ عن الشّافعيّ في قولٍ له: إنّه يستحبّ بين السّجدتين. (¬1) (1/ 240) عقب حديث رقم (154) عن المغيرة بن حكيم قال: رأيت ابن عمر يجلس على عقبيه بين السجدتين في الصلاة، فذكرت له، فقال: إنما فعلته منذ اشتكيت. (¬2) عقبيه - بفتح العين وكسر القاف وبفتح عين وكسرها مع سكون القاف -: مؤخر القدم إلى موضع الشراك. (¬3) شرح معاني الآثار (1/ 260). (¬4) تحرف في المخطوط إلى: (وعن). (¬5) التمهيد (19/ 247). (¬6) في التمهيد: وهذا كله عنده. وفي نسخة: وهذا عنده. (¬7) قال الذهبي في سير أعلام النبلاء (22/ 98 - 99): الشيخ الإمام العلامة، شيخ المالكية، جلال الدين، أَبو محمد عبد الله بن نجم بن شاس بن نزار بن عشائر بن شاس الجذامي السعدي المصري المالكي، مصنف كتاب الجواهر الثمينة في فقه =

صفة الجلوس كله الأول والأخير وبين السجدتين أن يكون توركًا. وقال الشيخ محيي الدين النووي في الروضة في الجلوس بين السجدتين: السنة أن يجلس مفترشًا على المشهور (¬1). واحترز بالمشهور بما قدمناه: أن يجلس على العقبين. وقال ابن قدامة الحنبلي في المغني (¬2): السنة: أن يجلس بين السجدتين مفترشًا، وهو: أن يثني رجله اليسرى فيبسطها ويجلس عليها، وينصب رجله اليمنى ويخرجها من تحته، ويجعل بطون أصابعه (¬3) على الأرض معتمدًا عليها، لتكون (¬4) أطراف أصابعها إلى القبلة. وجه قولنا ومن وافقه: ما روى أَبو حميدٍ في صفة صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ثُمَّ يهوي إلى الأرض، ويجافي بدنه عن جنبيه، ثم يرفع رأسه، ويثني رجله اليسرى، فيبسطها ¬

_ = أهل [مشهور بـ عالم] المدينة. سمع من عبد الله بن بري النحوي، ودرس بمصر، وأفتى، وتخرح به الأصحاب، وكتابه المذكور وضعه على ترتيب الوجيز للغزالي. وجوّده ونقّحه، وسارت به الركبان، وكان مقبلًا على الحديث، مدمنًا للتفقه فيه، ذا ورع، وتحرٍّ، وإخلاص، وتأله، وجهاد. وبعد عوده من الحج امتنع من الفتوى إلى حين وفاته، وكان من بيت حشمة وإمرة. حدث عنه الحافظ المنذري، ووصفه بأكثر من هذا، وقال: مات غازيا بثغر دمياط في جمادي الآخرة أو في رجب سنة ست عشرة وست مئة. (¬1) روضة الطالبين وعمدة المفتين (1/ 95). (¬2) المغني (1/ 598). (¬3) في المخطوط: (أصابعها). (¬4) في المخطوط: (فيكون).

ويعتمد عليها. الحديث. متفق عليه (¬1). وعن ميمونة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - قالت: كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إذا سجدَ خَوَّى (¬2) بيديه حتّى يُرَى وَضَحُ إِبْطَيْهِ (¬3) مِنْ وَرَائِهِ، وإِذَا قَعَدَ اطْمَأَنَ عَلَى فَخِذِهِ اليُسْرى. رواه النسائي (¬4). واستدلّ بقول الشافعي، بما في مسلمٍ (¬5)، عن طاوس: قلنا لابن عبّاس ¬

_ (¬1) رواه الدارمي (1396) وعبد الرزاق (3046) والإمام أحمد (5/ 424) وابن أبي شيبة (1/ 235 و 288) رقم (2438 و 2964) والبخاري (828) وأبو داود (730 و 731 و 733 - 735 و 963 - 967) وابن ماجه (803 و 862 و 863 و 1061) والتّرمذي (260 و 270 و 293 و 304 و 305) والنّسائي (2/ 187 و 211 و 3/ 2 و 34) والكبرى (631 و 692 و 1105 و 1186) وابن خزيمة (587 - 589 و 608 و 625 و 637 و 643 و 651 و 652 و 677 و 685 و 689 و 700) وابن حبان (1865 - 1871 و 1876) عن أبي حميد الساعدي - رضي الله عنه -. (¬2) في المخطوط: (حوى). وخوّى: بالفتح المعجمة وتشديد الواو، ففرج وجنّح وخوّى بمعنى واحد، ومعناه كله: باعد مرفقيه وعضديه عن جنبيه. (¬3) بفتح الضاد، أي: بياضهما. (¬4) رواه الدارمي (1330 و 1332) والإمام أحمد (6/ 333) ومسلم (497) والنسائي في المجتبى (1147) عن أم المؤمنين ميمونة بنت الحارث - رضي الله عنهما -. (¬5) رواه مسلم (536) قال: حدثنا إسحاق بن إبراهيم، أخبرنا محمّد بن بكرِ قال: (ح). وحدّثنا حسنٌ الحلوانيّ، حدّثنا عبد الرّزاق - وتقاربا في اللّفظ - قالا جميعًا: أخبرنا ابن جريجٍ، أخبرني أَبو الزّبير، أنّه سمع طاوسًا يقول: قلنا لابن عبّاسِ في الإقعاء على القدمين؟ فقال: هي السّنّة. فقلنا له: إناّ لنراه جفاءً بالرّجل. فقال ابن عبّاسٍ: بل هي سنّة نبيّك - صلى الله عليه وسلم -. ورواه عبد الرزاق (3030 و 3033 و 3035) والإمام أحمد (1/ 313) وابن أبي =

في الإِقعاء على القدمين؟ فقال: هي سنّة نبيّك. ¬

_ = شيبة (1/ 285) والترمذي (283) وابن خزيمة (680) والطبراني في الكبير (10950 و 11010 و 11015) والبيهقي (2/ 119). وقال النووي في شرحه لمسلم عقب رقم (536): اعلم أن الأقعاء ورد فيه حديثان: ففي هذا الحديث أنه سنة، وفي حديث آخر النهي عنه، رواه الترمذي وغيره من رواية علي، وابن ماجه من رواية أنس، وأحمد بن حنبل - رحمه الله تعالى - من رواية سمرة وأبي هريرة، والبيهقي من رواية سمرة وأنس، وأسانيدها كلها ضعيفة. وقد اختلف العلماء في حكم الإقعاء وفي تفسيره اختلافاً كثيراً لهذه الأحاديث، والصواب الذي لا معدل عنه، أن الإقعاء نوعان: أحدهما: أن يلصق إليتيه بالأرض وينصب ساقيه ويضع يديه على الأرض كإقعاء الكلب. هكذا فسّره أبو عبيدة معمر بن المثنى وصاحبه أبو عبيد القاسم بن سلاّم وآخرون من أهل اللغة، وهذا النوع هو المكروه الذي ورد فيه النهي. والنوع الثاني: أن يجعل إليتيه على عقبيه بين السجدتين، وهذا هو مراد ابن عباس بقوله: سنة نبيكم - صلى الله عليه وسلم -. وقد نصّ الشافعي - رضي الله عنه - في البويطي والإملاء على استحبابه في الجلوس بين السجدتين، وحمل حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - عليه جماعات من المحققين منهم: البيهقي والقاضي عياض وآخرون رحمهم الله تعالى. قال القاضي عياض: وقد روي عن جماعة من الصحابة والسلف أنهم كانوا يفعلونه، قال: وكذا جاء مفسراً عن ابن عباس - رضي الله عنهما -: (من السنة أن تمس عقبيك إلييك) هذا هو الصواب في تفسير حديث ابن عباس. وقد ذكرنا أن الشافعي - رضي الله عنه - على استحبابه في الجلوس بين السجدتين، وله نص آخر وهو الأشهر: أن السنة فيه الافتراش، وحاصله أنهما سنتان وأيهما أفضل؟ فيه قولان؛ وأما جلسة التشهد الأول وجلسة الاستراحة فسنتهما الافتراش، وجلسة التشهد الأخير السنة فيه التورك. هذا مذهب الشافعي - رضي الله عنه -، وقد سبق بيانه مع مذاهب العلماء رحمهم الله تعالى.

ورواه أبو داود (¬1)، وزاد بعد قوله: على القدمين في السجود. وبما رواه ابن [أبي] شيبةَ (¬2)، عن عطية قال: رأيتُ العَبَادِلَةَ يُقْعُونَ في الصَّلاَةِ بين السَّجدتين. وعورضَ بما رواه مسلم (¬3)، عن عائشة: أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ نهى عَنْ ¬

_ (¬1) رواه أبو داود (845). (¬2) رواه ابن أبي شيبة في المصنف (2943) وجاء في آخره: يعني: عبد الله بن الزبير وابن عمر وابن عباس. وروى البيهقي في معرفة السنن والآثار (903) قال: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ قال: حدثنا أبو العباس بن يعقوب قال: حدثنا يحيى بن أبي طالب قال: أخبرنا عبد الوهاب، عن عطاء قال: أخبرنا هشام بن حسان، عن عطاء ابن أبي رياح قال: كانت العبادلة الثلاثة يقعون في الصلاة: عبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمر، وعبد الله ابن الزبير. قال: وأظن منهم عبد الله بن صفوان. وقال البيهقي: وقد روينا عن عائشة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، أنه كان ينهى عن عقب الشيطان. وروينا عن سمرة وغيره: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الإقعاء في الصلاة، ويحتمل أن يكون حديث عائشة في القعود للتشهد، وحديث سمرة وغيره في الإقعاء الدي فسّره أبو عبيد حكاية عن أبي عبيدة، وهو جلوس الإنسان على أليتيه ناصباً فخذيه مثل إقعاء الكلب والسبع، والمراد بما روينا عن ابن عباس، أن يضع أطراف أصابع رجليه على الأرض ويضع أليتيه على عقبيه، ويضع ركبتيه بالأرض، وفي هذا جمع بين الأخبار. وروى أبو يوسف في الآثار (1/ 290) رقم (282) حدثنا يوسف بن أبي يوسف، عن أبيه، عن أبي حنيفة، عن حماد قال: رأيت مجاهداً وعطاء وطاوساً يقعون في الصلاة، فسألتهم عن ذلك؟ فقالوا: رأينا ابن عمر يقعي في الصلاة. فذكرت ذلك لإبراهيم فقال: صدقوا، قد فعل ذلك بعد ما كبر، قال: فأخبرني من رآه وهو شاب أنه كان يكرهه وينهى عنه. (¬3) تحرف في المخطوط إلى: (مسلمة).

عُقْبَةِ (¬1) الشَّيْطَانِ (¬2). قال ابن الأثير في النهاية في غريب الحديث (¬3): عُقْبة الشَّيطانِ: أَنْ يَجْلِسَ عَلَى قَدَمَيْهِ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ. وقاله في لسان العرب. وإذا تعارض النهي والفعل قدّم النهي (¬4). ¬

_ (¬1) قال النووي في شرحه لمسلم عقب رقم (498): (عقبة الشيطان) بضم العين، وفي الرواية الأخرى: (عقب الشيطان) بفتح العين وكسر القاف، هذا هو الصحيح المشهور فيه. وحكى القاضي عياض عن بعضهم بضم العين وضعّفه، وفسره أبو عبيدة وغيره بالإقعاء المنهي عنه، وهو أن يلصق ألييه بالأرض وينصب ساقيه، ويضع يديه على الأرض كما يفرش الكلب وغيره من السباع. (¬2) رواه الطيالسي (1547) والإمام أحمد (6/ 31 و 194) وابن أبي شيبة (1/ 229 و 284 و 285) ومسلم (498) وأبو داود (783) وابن ماجه (812 و 869 و 893) وابن حبان (1768) والبيهقي (2/ 15 و 85 و 172). (¬3) (3/ 526) وفيه: هو أن يضع أليتيه على عقبيه بين السّجدتين وهو الذي يجعله بعض الناس الإقعاء. وقيل: هو أن يترك عقبيه غير مغسولين في الوضوء. (¬4) قال صاحب البحر الرائق شرح كنز الدقائق (4/ 123): قوله: (وهو عقب الشيطان. . . إلخ)؛ أي: الإقعاء على التَّفسير الثاني الّذي قاله الكرخي، هو المراد بعقب الشيطان المنهي عنه في الحديث الآخر، وهذا موافق لما سيأتي عن المغرب، لكن نقل العلامة قاسمٌ في فتاواه عن لسان العرب والنهاية لابن الأثير: أن عقبة الشيطان أن يجلس على قدميه بين السجدتين. اهـ. مع أنّ الإقعاء مكروهٌ في التّشهّدين أيضاً. قال العلاّمة قاسم: من غير خلافٍ نعلمه بين أصحاب المذاهب نصّ على كراهته من علمائنا الكرخيّ في المختصر. اهـ. فليتأمل.=

قال البيهقي (¬1): يحتمل أنه ورد في الجلوس للتشهد، فلا يكون منافياً. قلتُ: هذا لا دليل عليه بعد بيان أهل اللسان، كيف وقد روى أبو حميد، في صفة صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنَّه كَانَ يَهْوِي إِلَى الأَرضِ، فَيُجَافِي يَدَيْهِ عَنْ جَنْبَيْهِ، ثُمَّ يَرفَعُ رَأْسَهُ، وَيثنِي رِجْلَهُ اليُسْرَى. . . الحديث. رواه البخاري في صحيحه (¬2). ووفّق النووي في شرح المهذب: بأنّ هذا هو الذي كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يواظبُ عليه لتصديق عشرةٍ من الصّحابة أبا حميدٍ على ذلك (¬3). وما رواه ابن عبّاس، كان بما فعل قليلاً لبيان الجواز والرّخصة. وغلط الخطابي في دعواه نسخ ما رواه ابن عباس، وزعمه: أنّ الأحاديث متعارضة تعارضاً لا يمكن معه الجمع. قلتُ: فيما قاله النووي نظرٌ من وجهين: ¬

_ = (قوله: والحق أن هذا الجواب ليس لأئمّتنا. . . إلخ) يؤيّده ما قاله العلاّمة قاسمٌ في فتاويه: وأمّا نصب القدمين والجلوس على العقبين فمكروهٌ في جميع الجلسات من غير خلافٍ نعرفه إلَّا ما ذكره الشَّيخ محيي الدّين النووي عن الشافعي في قولٍ له: أنّه يستحب الجلوس بين السجدتين بهذه الصّفة. قال محمَّدٌ - رحمه الله - في موطئه: لا ينبغي أن يجلس على عقبيه بين السجدتين، ولكنّه يجلس بينهما كجلوسه في صلاته، وهو قول أبي حنيفة - رحمه الله -. وذكره الطحاويّ عن أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد - رحمهم الله -. (¬1) السنن الكبرى (2/ 408) قال: يحتمل أن يكون وارداً في الجلوس للتشهدّ الأخير فلا يكون منافياً. (¬2) تقدّم. (¬3) المجموع شرح المهذب (3/ 439 و 451).

الأول: أن الجمع المذكور لا يتأتّى مع ما رواه ابن ماجه (¬1)، عن على: أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال له: "إِنِّي أُحِبُّ لَكَ مَا أُحِبُّهُ لِنَفْسِي، وَأكرَهُ لَكَ مَا كرَهُ لِنَفْسِي، لاَ تَقْعُ (¬2) بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ". الثاني: أن بهذا التقدير يصير الدليل مخالفاً للدعوى. وذلك: أن الدّعوى استحباب الجلوس على تلك الهيئة من السجدتين، كما صرّح به البويطي. وإلا فلا. ومقتضى الدليل على ما ذكر مطلق الجواز. والله أعلم. هذا فيما بين السجدتين. وأمّا بعد السجدة الثانية عند القيام إلى الثالثة أو الرّابعة فليس فيه جلوسٌ عندنا على ما سنذكر. ولم يقل بالجلوس إلاّ الشافعي وحده. قال علماؤنا في عامّة كتبهم: في هذا المحلّ ينهض على صدور قدميه، ولا يقعد ولا يعتمد بيديه على الأرض. وقال الشافعي: إن الجلوس هنا سنّة، وتسمّى جلسة الاستراحة (¬3). ¬

_ (¬1) رواه الطيالسي (182) وعبد الرزاق (2822) وعبد بن حميد (67) والإمام أحمد (1/ 146) رقم (1244) وابن ماجه (894) والترمذي (282) من طريق إسرائيل ابن يونس، عن أبي إسحاق، عن الحارث الأعور [ضعيف]، عن علي - رضي الله عنه -. وهو منقطع: أبو إسحاق لم يسمع هذا الحديث من الحارث فيما قاله أبو داود في سننه. ورواه عبد الرزاق (2836 و 2993) وأبو داود (958) والبزار (854) من طريقين عن أبي إسحاق، عن الحارث، عن علي - رضي الله عنه -. (¬2) في المخطوط: (يقع). (¬3) انظر روضة الطالبين وعمدة المفتين (1/ 96).=

وقال النووي في الرّوضة (¬1): والسُّنّة فيها: الافتراش. واستدل له: بما في البخاري (¬2)، من حديث مالك بن الحويرث: أنّه رأى النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يصلّي، فإذا كان في وترٍ من صلاته لم ينهض حتى يستوي [قاعداً]. قال القاضي عياض في شرح مسلم بعد حكايته هذا عن الشافعي: وقال مالك: وكافّة الفقهاء ألاّ يجلس ولكن ينهض كما هو. وحملوا حديث مالك بن الحويرث: أنّه كان مرّة من فعله ليدل على الجواز أو الشكوى به. انتهى. قلت: ويدلّ: ما رواه البخاري في حديث أبي حميدٍ. ثم يقول: الله أكبرُ. ويرفع - يعني: من السجدة الأولى - ويثني رجله اليسرى فيقعد عليها حتى يرجع كل عظيم إلى موضعه. . . الحديث. ودليل مذهبنا ومن وافقه: ما رواه الترمذي (¬3)، عن أبي هريرة: أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَنهضُ فِي ¬

_ = وروى البخاري (786) عن البراء قال: كان سجود النبي - صلى الله عليه وسلم - وركوعه وقعوده بين السجدتين قريباً من السواء. (¬1) انظر المجموع شرح المهذب (3/ 443). (¬2) (789). (¬3) رواه الترمذي (288) وقال: حدثنا يحيى بن موسى، حدثنا أبو معاوية، حدثنا خالد ابن إلياس، عن صالح مولى التوأمة، عن أبي هريرة قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - ينهض في الصلاة على صدور قدميه. وقال الترمذي: حديث أبي هريرة عليه العمل عند أهل العلم، يختارون أن ينهض الرجل في الصلاة على صدور قدميه، وخالد بن إلياس ضعيف عند أهل الحديث، وصالح مولى التوأمة هو صالح بن أبي صالح، وأبو صالح اسمه نبهان مدني.=

الصَّلاَةِ عَلَى صُدُوْرِ قَدَمَيْهِ. وفيه: خالد بن إلياس. فيه مقال. ألاَ ترى أن الترمذي قال: العمل على هذا عند أهل العلم. وما روى أحمد (¬1)، والطبراني (¬2)، عن أبي مالك الأشعري: أنَّهُ جمع قومه فقال: يا معشر الأشعريين! اجتمعوا واجمعوا نساءكم وأبناءكم أعلّمكم صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فاجتمعوا وجمعوا نساءهم وأبناءهم وأراهم كيف يتوضأ فأحصى الوضوء أَماكنهُ، فلمّا أن فَاء الفيءُ وانكسرَ الظّل، قامَ فأذّن وصفّ الرّجال في أدنى الصّفّ، وصفّ الولدان خلفهم، وصفّ النساء خلف الولدان، ثم أقام الصلاة، فتقدم، فرفع الولدان خلفه وصفّ النساء خلف الولدان، ثم أقام الصلاة، ورفع يديه وكبّر. وفيه: ثم كبّر وخرّ ساجداً، ثم كبّر فرفع رأسه، ثم كبّر فسجد، ثم كبّر فنهض قائماً. الحديث. وفيه: شهر بن حوشب: صدوق. وروى أبو داود (¬3)، عن وائل بن حجر: أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - لما سجد وقعت ركبتاه على الأرض قبل أن يقع كفّاه. فلمّا سجد وضع جبهته بين كفيه، وجافى عن إبطيه. وإذا نهضَ نهضَ على ركبتيه، واعتمد على فخذيه. ¬

_ = ورواه أيضاً الطبراني في الأوسط (3280). (¬1) رواه ابن المبارك في الزهد (714) وأحمد (5/ 341 و 343) وأبو داود (677). (¬2) رواه الطبراني في الكبير (3436). (¬3) أخرجه أبو داود (838 و 839).

وما روى ابن أبي شيبة (¬1)، عن ابن مسعودٍ: وأنهّ كان نهضَ على صدور قدميه، ولم يجلس. وعن عمر وعلي وابن عمر (¬2) وابن الزبير (¬3) نحوه. وأخرج (¬4) من طريق الشعبي قال: كان عمر وعلي والصَّحابة (¬5) ينهضون في الصّلاة على صدور أقدامهم. وعن النعمان بن أبي عيّاش (¬6): أدركتُ غير واحدٍ من الصحابة ¬

_ (¬1) رواه ابن أبي شيبة (3979) قال: حدثنا أبو خالد الأحمر، عن الأعمش، عن عمارة، عن عبد الرحمن بن يزيد قال: كان عبد الله ينهض في الصلاة على صدور قدميه. ورواه عبد الرزاق (2966 و 2967) والطبراني في الكبير (9328 و 9329) والبيهقي (2/ 435) عن ابن مسعود. (¬2) رواه مالك في الموطأ (296) و (200 رواية يحيى الليثي) و (154 رواية محمد بن الحسن) عن صدقة بن يسارٍ، عن المغيرة بن حكيمٍ، أنّه رأى عبد الله بن عمر يرجع في سجدتين في الصّلاة على صدور قدميه، فلمّا انصرف ذكر له ذلك؟ فقال: إنّها ليست سنة الصّلاة. وانظر المصنف لعبد الرزاق (3044). ورواه ابن أبي شيبة (3985) قال: حدثنا وكيع، عن أسامة والعمري، عن نافع، عن ابن عمر أنه كان ينهض في الصلاة على صدور قدميه. (¬3) رواه ابن أبي شيبة (3983) قال: حدثنا حميد بن عبد الرحمن، عن هشام بن عروة، عن وهب بن كيسان قال: رأيت ابن الزبير إذا سجد السجدة الثانية قام كما هو على صدور قدميه. و (3984) قال: حدثنا وكيع، عن هشام، عن وهب بن كيسان، عن ابن الزبير بنحوه. (¬4) رواه ابن أبي شيبة (3982). (¬5) في المصنف: وأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. (¬6) تحرف في المخطوط إلى: (عباس). وهو الزّرقي الأنصاري، أبو سلمة المدني، ثقة.

فَكان (¬1) أحدهم إذا رفع رأسه من السجدة الثانية في الركعة الأولى والثانية نهض كما هو ويجلس (¬2). وأخرج حرب الكرماني في مسائله، عن أبي سعيدٍ الخدري، وابن عباس، وابن الزبير: أنهم كانوا ينهضون على صدور أقدامهم. قال الشيخ الإمام مجد الدين عبد السلام بن تيمية الحراني في شرح هداية أبي الخطّاب: وقد أجمع الصّحابة على ذلك فلا جرم حمل حديث مالك بن الحويرث. وما في معناه على ما ذكر القاضي عياض، عن كافة الفقهاء. وأمّا في التشهدين فمكروه من غير خلاف نعلمه بين أصحاب المذاهب، نصّ على كراهته من علمائنا: الكرخي في المختصر. وقال ابن قدامة في المغني (¬3): ¬

_ (¬1) تحرف في المخطوط إلى: (مكان). (¬2) رواه ابن أبي شيبة في المصنف (3989) قال: حدثنا أبو خالد الأحمر، عن محمد ابن عجلان، عن النعمان بن أبي عياش قال: أدركت غير واحد من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، فكان إذا رفع رأسه من السجدة في أول ركعة، والثالثة قام كما هو ولم يجلس. (¬3) المغني (1/ 598) قال: ويكره الإقعاء، وهو أن يفرش قدميه ويجلس على عقبيه. بهذا وصفه أحمد، قال أبو عبيد: هذا قول أهل الحديث، والإقعاء عند العرب: جلوس الرجل على أليتيه، ناصباً فخذيه مثل إقعاء الكلب والسبع، ولا أعلم أحداً قال باستحباب الإقعاء على هذه الصفة، فأما الأول: فكرهه علي، وأبو هريرة، وقتادة، ومالك، والشافعي، وأصحاب الرأي، وعليه العمل عند أكثر أهل العلم. وفعله ابن عمر، وقال: لا تقتدوا بي؛ فإني قد كبرت. وقد نقل مهنا عن أحمد أنه قال: لا أفعله، ولا أعيب من فعله. وقال: العبادلة كانوا يفعلونه. وقال طاوس: رأيت العبادلة يفعلونه: ابن عمر، وابن عباس، وابن الزبير. وعن ابن عباس أنه قال:=

ويكره (¬1) الإقعاء، وهو: أن يفترش (¬2) قدميه، ويجلس على عقبيه. وكرهه علىّ، وأبو هريرة، وقتادة، ومالك، والشافعي، وأصحاب الرأي، وعليه العمل عند أكثر أهل العلم. ودليل كراهته: ما فيه من ترك الجلسة المسنونة عند الكل على ما سيأتي بيانه. وأمّا نصب السّاقين. . . إلخ. فمكروهٌ في الصلاة كلّها من غير شكِّ خلافٍ نعلمه. قال عامّة الأصحاب في كتبهم: لا يقعي المصلي في صلاته. وفسّروه بهذا. ونصّ على كراهته الشافعي. ذكره الشيخ محيي الدين النووي في شرح المهذّب (¬3). ¬

_ = من السنة أن تمس أليتيك قدميك. وقال طاوس: قلنا لابن عباس في الإقعاء على القدمين في السجود؟ فقال: هي السنة. قال: قلنا: إنا لنراه جفاء بالرجل؟! فقال: هي سنة نبيك. رواه مسلم وأبو داود. ولنا: ما روى الحارث عن علي قال: قال رسول الله عليه - صلى الله عليه وسلم -: "لا تُقْع بين السجدتين". وعن أنس قال: قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا رفعت رأسك من السجود، فلا تقع كما يقعي الكلب". رواهما ابن ماجه. وفي صفة جلوس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أبي حميد: ثم ثنى رجله اليسرى وقعد عليها. وفي حديث عائشة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يفترش رجله اليسرى، وينصب اليمنى، وينهى عن عقبة الشيطان. وهذه الأحاديث أكثر وأصحّ فتكون أولى، وأما ابن عمر فإنه كان يفعل ذلك لكبره ويقول: لا تقتدوا بي. (¬1) تحرف في المخطوط إلى: (ويكون). (¬2) في المغني: (يفرش). (¬3) تحرف في المخطوط إلى: (المذهب).

وقال القاضي عياض: وكره الإقعاء سائر أئمة الفتوى. وقال ابن قدامة في المغني (¬1): ويكرهُ الإقعاء. ودليل الكراهة: ما رواه أحمد، وابن أبي شيبة، عن أبي هريرة قال: نهانِي رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ ثَلاَثة: نقرَةٍ كَنَقْرَةِ الديكِ، وَإِقْعَاءٍ كَإِقْعَاءِ [القِرد]، وَالْتِفَاتٍ كَالْتِفَاتِ الثَّغلَبِ (¬2). ¬

_ (¬1) المغني (1/ 598). (¬2) رواه الطيالسي (2593) عن أبي هريرة قال: أمرني خليلي - صلى الله عليه وسلم - بثلاث، ونهاني عن ثلاث: أمرني بركعتي الضحى، وصوم ثلاثة أيام من الشهر، والوتر قبل النوم. ونهاني عن ثلاث: عن الالتفات في الصلاة كالتفات الثعلب، وإقعاء كإقعاء القرد، ونقر كنقر الديك. ورواه الإمام أحمد (2/ 265) عن أبي هريرة قال: أوصاني خليلي - صلى الله عليه وسلم - بثلاثٍ، ونهاني عن ثلاثٍ: أوصاني بالوتر قبل النوم، وصيام ثلاثة أيام من كل شهر، وركعتي الضحى. قال: ونهاني عن الالتفات، وإقعاءِ كإقعاء القرد، ونقرٍ كنقر الدّيك. و (2/ 311) عن أبي هريرة قال: أمرني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بثلاثٍ، ونهاني عن ثلاثٍ: أمرني بركعتي الضحى كل يوم، والوتر قبل النوم، وصيام ثلاثة أيام من كل شهر، ونهاني عن نقرةٍ كنقرة الدّيك، وإقعاة كإقعاء الكلب، والتفاتٍ كالتفات الثعْلب. ورواه ابن أبي شيبة (2932) عن أبي هريرة قال: نهاني خليلي أن أقعي كإقعاء القرد. ورواه أبو يعلى (2619) عن أبي هريرة قال: نهاني خليلي عن ثلاث، وأمرني بثلاث: نهاني أن أنقر نقر الديك، وأن ألتفت التفات الثعلب، أو أقعي إقعاء السبع، وأمرني بالوتر قبل النوم، وصوم ثلاثة أيام من كل شهر، وصلاة الضحى. ورواه البيهقي (2/ 407) عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: أمرني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بثلاثٍ، ونهاني عن ثلاثٍ، أمرني بصيام ثلاثة أيامٍ من كل شهرٍ، وأن لا أنام إلَّا على وترٍ، =

وما تقدم من حديث: أنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَنْهى عَنْ عُقْبَةِ الشَّيْطَانِ عَلَى مَا فَسَّرَهُ عَلِيّ: أَنَّ عُقْبَةَ الشَّيْطَانِ: الإِقْعَاءُ. رواه ابن أبي شيبة (¬1)، عنه. وفي الباب: عن أنس، وسمرة، ولأنّ فيه ترك الجلسة المسنونة عند الكُلّ. وأمّا التّورك: فعندنا مكروه في الصلاة كلها. قال الطّحاوي (¬2) بعدما ذكر الافتراش: فَلَم يَجُزْ خِلافُهُ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَبِي يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٍ. وقال مالك: هو سنّة الجلوس في الصّلاة كلها، كما قدّمناه عن ابن عبد البرّ وابن شاس. وقال الشافعي: هو في كل تشهيد يعقبه التسليم بسلام. قال النووي في الروضة (¬3): والسنة في قعود آخر الصلاة: التورك، وفي أثنائها: الافتراش. وقال أحمد بن حنبل: هو سنة في كلّ تشهدٍ ثان كالمغرب، ورباعية الحاضر. ¬

_ = وركعتي الضّحى، ونهاني عن الالتفات في صلاتي التفات الثعلب، أو أقعي إقعاء القرد، أو أنقر نقر الدّيك. (¬1) رواه ابن أبي شيبة (2933) عن على: أنّه كره الإقعاء في الصّلاة، وقال: عقبة الشيطان. و (2934) عن عليٍّ: أنّه كره الإقعاء فى الصَّلاة. (¬2) شرح معاني الآثار (1/ 260). (¬3) روضة الطالبين وعمدة المفتين (1/ 96) والمجموع شرح المهذب (3/ 450) والمنهاج له (ص 31).

قال ابن قدامة في المغني (¬1): وجميع جلسات الصلاة لا يتورك فيها ¬

_ (¬1) (1/ 613) قال: مسألة وفصل: مواضع التورك في الصلاة. مسألة: قال: ولا يتورك إلا في صلاة فيها تشهدان في الأخير منهما. وجملته: أن جميع جلسات الصلاة لا يتورك فيها إلا في تشهدٍ ثان. وقال الشافعي: يسن التورك في كل تشهد يسلم فيه، وإن لم يكن ثانيًا كتشهد الصبح والجمعة وصلاة التطوع؛ لأنه تشهد، يسن تطويله فسن فيه التورك كالثاني. ولنا: حديث وائل بن حجر: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما جلس للتشهد افترش رجله اليسرى ونصب رجله اليمنى ولم يفرق بين ما يسلم فيه وما لا يسلم. وقالت عائشة: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول في كل ركعتين التحية، وكان يفرش رجله اليسرى وينصب اليمنى. رواه مسلم. وهذان يقضيان على كل تشهد بالافتراش إلا ما خرج منه لحديث أبي حميد في التشهد الثاني، فيبقى فيما عداه على قضية الأصل، ولأن هذا ليس بتشهد ثان فلا يتورك فيه كالأول، وهذا لأن التشهد الثاني إنما تورك فيه للفرق بين التشهدين، وما ليس فيه إلا تشهد واحد لا اشتباه فيه فلا حاجة إلى الفرق، وما ذكروه من المعنى إن صحّ فيضم إليه هذا المعنى الذي ذكرناه، ونعلل الحكم بهما، والحكم إذا علل بعلتين لم يجز تعديه؛ لتعدي أحدهما دون الآخر. والله أعلم. فصل: قيل لأبي عبد الله: فما تقول في تشهد سجود السهو؟ فقال: يتورك فيه أيضا هو من بقية الصلاة - يعني: إذا كان من السجود - في صلاة رباعية؛ لأن تشهدها يتورك فيه، وهذا تابع له. وقال القاضي: يتورك في كل تشهد لسجود السهو بعد السلام سواء كانت الصلاة رباعية أو ركعتين لأنه تشهد ثان في الصلاة ويحتاج إلى الفرق بينه وبين تشهد صلب الصلاة. وقال الأثرم قلت لأبي عبد الله: الرجل يجيء فيدرك مع الإمام ركعة فيجلس الإمام في الرابعة أيتورك معه الرجل الذي جاء في هذه الجلسة؟ فقال: إن شاء تورك، قلت: فإذا قام يقضي يجلس في الرابعة هو فينبغي له أن يتورك؟ فقال نعم يتورك هذا لأنه هي الرابعة له نعم يتورك ويطيل الجلوس في التشهد الأخير. قال القاضي: قوله إن شاء تورك على سبيل الجواز لأنه مسنون وقد صرح في رواية مهنا فيما أدرك من صلاة الظهر ركعتين لا يتورك إلا في الأخيرتين ويحتمل أن يكون هذا روايتين.

إلاّ في تشهدٍ ثانٍ. واستدل مالكٌ مما رواه في الموطأ (¬1)، عن يحيى بن سعيد: أنَّ القاسم ابن محمَّدٍ أراهم الجلوس كذلك. وحدّث به عن ابن عمر. واستدلّ الشافعي: بما في البخاري (¬2)، من حديث أبي حميد في صفة صلاته - صلى الله عليه وسلم - حيث قال: وَإِذَا جَلَسَ في الرّكعة الأخيرة قدّم رجلهُ اليسرى ونصب الأخرى، وقعد على مقعدته. ودليل علمائنا على الكراهة: أنّ فيه ترك الجلسة المسنونة عندهم على ما نبيّن. وأمّا الافتراش: فهو سنّة الجلوس في جميع الصلاة. نصّ عليه الطحاوي وغير واحدٍ. وقال الشافعي وأحمد: هو سنّة في القعدة الأولى فقط. لما في البخاري (¬3)، من حديث أبي حميدٍ في صفة صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم -. حديث قال: وإذا جلس في الرّكعة الأخيرة قدّم رجله اليسرى، فإذا جلس في الرّكعتين جلس على رجله اليسرى، ونصب اليمنى. ¬

_ (¬1) رواه مالك في الموطأ (298) عن يحيى بن سعيدٍ: أن القاسم بن محمدٍ أراهم الجلوس في التّشهد، فنصب رجله اليمنى، وثنى رجله اليسرى في التشهد، وجلس على وركه الأيسر، ولم يجلس على قدمه، ثنم قال: أراني هذا عبد الله بن عبد الله بن عمر، وحدّثني أن أباه كان يفعل ذلك. (¬2) صحيح البخاري (1/ 221) في باب: يستقبل بأطراف رجليه القبلة. ورفع اليدين (3 و 4). (¬3) رواه البخاري (828).

ودليلنا: ما رواه مسلم (¬1)، عن عائشة في صفة صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكان يفترش رجله اليسرى، وينصب اليمنى. وما رواه النسائي (¬2)، عن ميمونة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - قالت: كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إذا سجدَ خَوَّى (¬3) بيده حتّى يُرَى وَضَحُ إِبْطَيْهِ (¬4) مِنْ وَرَائِهِ، وإِذَا قَعَدَ اطْمَأَنَّ عَلَى فَخِذه اليُسْرَى. وعن عبد الله بن عمر أنّه قال: إِنَّ مِنْ سنّة الصّلاة: أَنْ يَنْصُبَ القَدَمَ الْيُمنَى واستقباله بأصابعها القبلة، والجلوس على اليسرى. رواه النسائي (¬5). وعن عبد الله بن مسعودٍ: أَنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يتشهّد في الصّلاة، إذا جلس على وَرْكِهِ اليسرى. رواه الطبراني (¬6). وعنه قال: علّمني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - التشهّد في وسط الصلاة، وفي آخرها، فكان يقول إذا جلس في وسط الصلاة وفي آخرها على وركه اليسرى: ¬

_ (¬1) رواه مسلم (1138). (¬2) رواه الدارمي (1330 و 1332) والإمام أحمد (6/ 333) ومسلم (497) والنسائي في المجتبى (1147) عن أم المؤمنين ميمونة بنت الحارث - رضي الله عنهما -. (¬3) تحرف في المخطوط إلى: (حو). وخوّى: بالفتح المعجمة وتشديد الواو، ففرج وجنح وخوّى بمعنى واحد، ومعناه كله: باعد مرفقيه وعضديه عن جنبيه. (¬4) بفتح الضاد، أي: بياضهما. (¬5) رواه النسائي في الكبرى (744) والمجتبى (1158). ورواه مالك (297) والبخاري (793) وأبو داود (958 و 959) والنسائي في الكبرى (743) والمجتبى (1157). (¬6) رواه الطبراني في الكبير (9932). وانظر مجمع الزوائد (2/ رقم 2851).

"التَّحِيَّاتُ للهِ. . . الحديث". رواه أحمد ورجاله ثقات (¬1). وروى سعيد بن منصور في سننه (¬2)، عن وائل بن حجر قال: صلَّيت خلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلمّا قعدَ وتشهّد فرش رجله اليسرى، وجلس عليها. وأخرج أحمد، وأبو داود، في حديث المسيء صلاته: "فإِذَا صَلَّيْتَ فَاجْلِسْ عَلَى فَخِذِكَ الْيُسْرَى" (¬3). وفي حديثه في الصحيحين (¬4): "وَافْعَلْ ذَلِكَ فِي صَلاَتِكَ كُلِّها". وعن إبراهيم النخعي قال: كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا جَلَسَ فِي الصَّلاَةِ افْتَرَشَ ¬

_ (¬1) رواه الإمام أحمد (1/ 459) رقم (4382) وابن خزيمة (702 و 708) والطحاوي في شرح معاني الآثار (1/ 262). (¬2) لم أجده في السنن المطبوعة. ورواه الطحاوي في شرح معاني الآثار (1/ 259) قال: حدثنا صالح بن عبد الرحمن وروح بن الفرج قالا: حدثنا يوسف بن عدي قال: حدثنا أبو الأحوص، عن عاصم ابن كليب الجرمي، عن أبيه، عن وائل بن حجر الحضرمي قال: صليت خلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلت: لأحفظن صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: فلما قعد للتشهد فرش رجله اليسرى، ثم قعد عليها، ووضع كفه اليسرى على فخذه اليسرى، ووضع مرفقه الأيمن على فخذه اليمنى، ثم عقد أصابعه، وجعل حلقه الإبهام والوسطى، ثم جعل يدعو بالأخرى. وانظره في مسند الإمام أحمد (4/ 316) رقم (18850). (¬3) رواه الإمام أحمد (4/ 345) وأبو داود (859 و 860) من حديث رفاعة بن رافع الزرقي - رضي الله عنه -. (¬4) رواه البخاري (724 و 760 و 5897 و 6290) ومسلم (397) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -.

رِجْلَهُ اليُسْرى حَتَّى اسْوَدَّ ظَهْرُ قَدَمَيْهِ. رواه ابن أبي شيبة (¬1) بسند الصحيحين. وأخرج (¬2) عن يزيد بن قسيط (¬3) قال: كَانَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يفترشُ رجلهُ اليسرى، وينصب اليمنى. وعن عليّ: أَنَّهُ كانَ يفترشُ اليسرى، وينصب اليمنى (¬4). وعن كعبٍ أنّه قالَ: كانَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: "إِذَا قَعدتَ فَافْتَرِشْ رِجْلَكَ الْيُسْرَى، فَإنَّهُ أَقْوَمُ لِصَلاَتِكَ" (¬5). وروى الأثرم، عن عبد الرحمن بن يزيد قال: كنّا نعلم إذا جلسنا في الصّلاة أن يفترش الرّجل منّا قدمه اليسرى، وينصب قدمه اليمنى على صدور قدميه، فَإنّه كانت إبهام أحدنا تُثْنَى، فيدخل يده حتّى يعدلها. والجواب عمّا استدل به مالك: ما في الموطّأ (¬6)، عن ابن عمر: أنّه كان يفعل ما ذكر، ويقول: إِنَّ رِجْلَيَّ (¬7) لا تَحمِلانِي. ¬

_ (¬1) المصنف (2925). (¬2) المصنف (2926). (¬3) تحرف في المخطوط إلى: (قسط). وهو يزيد بن عبد الله بن قسيط. (¬4) رواه ابن أبي شيبة في المصنف (2929). (¬5) رواه ابن أبي شيبة (2928) قال: حدثنا عبد الأعلى، عن الجريري، عن أبي نضرة، عن كعب قال: إذا قعدت فافرش رجلك اليسرى؛ فإنه أقوم لصلاتك ولصلبك. (¬6) (297). (¬7) في المخطوط: (رجلاي).

وقال ابن قدامة (¬1) عنه: أنّه كان يقول: لا تقتدوا بي، فإنِّي كبرت. وما قدّمنا عنه: أنّ من سنّة الصّلاة: أن ينصب اليمنى، والجلوس على اليسرى. وقد روى البزار في مسنده (¬2): أخبرنا هارون بن سفيان (¬3)، حدثنا يحيى ابن إسحاق (¬4)، حدثنا حماد بن سلمة، عن قتادة، عن أنس: أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - نهُى عَنِ الإِقْعَاءِ والتورك في الصّلاة. وهذا إسنادٌ حسنٌ. وقال أيضاً: حدثنا إبراهيم بن الْمُسْتَمِر (¬5)، حدثنا محمد بن بكّار (¬6)، ¬

_ (¬1) المغني (1/ 598). (¬2) أخرجه البزار (549). وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (2/ رقم 2467): رواه البزار عن شيخه هارون بن سفيان، ولم أجد من ذكره، وبقية رجاله رجال الصحيح. ورواه البيهقي في سننه (2/ 406) عن أنسٍ: أنّ النّبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الإقعاء، والتّورك في الصّلاة. (¬3) في المخطوط: (سليمان). وفي هامش المخطوط: (سفيان). وانظر تاريخ الإسلام للذهبي (وفيات 247 هـ) (ص 514) و (وفيات 251 هـ) (ص 359 - 360). (¬4) هو يحيى بن إسحاق البجلي، أبو زكريا، ويقال: أبو بكر، السّيلحيني - بمهملة ممالة، وقد تصير ألفاً، وفتح اللام وكسر المهملة، ثم تحتانية ساكنة ثم نون -، نزيل بغداد، مات في شعبان سنة 210 هـ في دار الرقيق ببغداد في خلافة المأمون. قال الإمام أحمد: صالح، ثقة، صدوق. (¬5) تحرف في المخطوط إلى: (المستمير). وهو إبراهيم بن المستمر الهذلي النّاجيّ العروقيّ العصفريّ، أبو إسحاق البصري، صاحب العروق. قال النسائي: صدوق. وفي موضع آخر: ليس به بأس. تهذيب الكمال للمزي (2/ 201). وقال ابن حجر في التقريب: صدوقٌ يغرب. (¬6) هو محمد بن بكّار بن بلال العامليّ.

حدثنا سعيد بن بشير (¬1)، عن قتادة، عن الحسن، عن سمرة: أنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - نهى عَنِ الإِقْعَاءِ وَالتَّوَرُّكِ، وَأَنْ نستَوْفزَ (¬2) فِي صَلاَتِنَا (¬3). وسعيد بن بشير (¬4): فيه مقال. ¬

_ (¬1) تحرف في المخطوط إلى: (بشر). وهو سعيد بن بشير الأزدي، ويقال: النضريّ، أبو عبد الرحمن، ويقال: أبو سلمة الشامي، أصله من البصرة، ويقال: من واسط، وقيل: إنه من أهل دمشق، حمله أبوه إلى البصرة، فسمع بها ثم رجع إلى دمشق، مات سنة 168 أو 169 هـ. (¬2) تحرف في المخطوط إلى: (نستوفر). أي: لا نتعجل، وتكون العجلة سبباً في عدم الطمأنينة. (¬3) قال الهيثمي في مجمع الزوائد (2/ رقم 2468): رواه البزار والطبراني في الأوسط، وفيه: سعيد بن بشير، وفيه كلام. ورواه الإمام أحمد (5/ 10) والطبراني في الكبير (6883) عن سمرة قال: أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نعتدل في الجلوس، وأن لا نستوفز. ورواه الطبراني في الكبير (6884) ومسند الشاميين (2649) عن سمرة قال: أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نعتدل في السجود، ولا نستوفز. ورواه الطبراني في الكبير (7020) عن سمرة قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأمرنا إذا كنا في الصلاة ورفعنا من رؤوسنا من السجود أن نطمئن على الأرض جلوساً، ولا نستوفز على أطراف الأقدام. ورواه الحاكم (1/ 271) وعنه البيهقي في سننه (2/ 370) عن سمرة بن جندب قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يستوفز الرجل في صلاته. وقال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط البخاري، ولم يخرجاه. (¬4) تحرف في المخطوط إلى: (بشر). قال أبو حاتم الرازي: قلت لأحمد بن صالح: سعيد بن بشير شامي دمشقي، كيف هذه الكثرة عن قتادة؛ قال: كان أبوه بشير شريكًا لأبي عروبة، فأقدم بشير ابنه سعيداً البصرة، فبقي بالبصرة يطلب الحديث مع سعيد ابن أبي عروبة. =

والجواب عما استدل به الشافعي، وأحمد: أن حديث أبي حميد كما روي على ما ذكرنا. قال أبو داود (¬1): حدثنا أحمد بن حنبل، حدثنا عبد الملك بن ¬

_ = وقال شعبة بن الحجاج: صدوق الحديث. وفي رواية أخرى: ذاك صدوق اللسان. وقال سفيان بن عيينة: كان حافظًا. وقال أبو مسهر: لم يكن في جندنا أحفظ منه، وهو ضعيف منكر الحديث. وقال الإمام أحمد: كان عبد الرحمن بن مهدي يحدِّث عنه، ثم تركه. وقال ابن معين: ضعيف. وقال البخاري: يتكلمون في حفظه. وقال النسائي: ضعيف. وقال أبو عبد الله الحاكم: اختلفت الأقاويل فيه. وقال أبو أحمد ابن عدي: له عند أهل دمشق تصانيف، لأنه سكنها، وهو بصري، ورأيت له تفسيراً مصنفاً من راوية الوليد عنه، ولا أرى بما يروي عن سعيد بن بشير بأساً، ولعلّه يهم في الشيء بعد الشيء ويغلط، والغالب على حديثه الاستقامة، والغالب عليه الصدق. تهذيب الكمال للمزي (10/ 348). وقال ابن حجر في التقريب: ضعيف. (¬1) رواه أبو داود (734) عن عباس بن سهل قال: اجتمع أبو حميد وأبو أسيد وسهل ابن سعد ومحمد بن مسلمة، فذكروا صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال أبو حميد: أنا أعلمكم بصلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فذكر بعض هذا قال: ثم ركع فوضع يديه على ركبتيه كأنه قابض عليهما، ووتر يديه فتجافى عن جنبيه، قال: ثم سجد فأمكن أنفه وجبهته، ونحى يديه عن جنبيه، ووضع كفيه حذو منكبيه، ثم رفع رأسه حتى رجع كل عظم في موضعه، حتى فرغ، ثم جلس فافترش رجله اليسرى، وأقبل بصدر اليمنى على قبلته، ووضع كفه اليمنى على ركبته اليمنى، وكفه اليسرى على ركبته اليسرى، وأشار بإصبعه. وقال أبو داود: روى هذا الحديث عتبة بن أبي حكيم، عن عبد الله بن عيسى، عن العباس بن سهل، لم يذكر التورك، وذكر نحو حديث فليح، وذكره الحسن ابن الحرّ نحو جلسة حديث فليح وعتبة. ورواه أبو داود (967) عن عباس بن سهل قال: اجتمع أبو حميد وأبو أسيد وسهل ابن سعد ومحمد بن مسلمة، فذكر هذا الحديث ولم يذكر الرفع إذا قام من ثنتين=

عمرو (¬1)، أخبرنا فليح، أخبرني (¬2) عبّاس بن سهل [قَالَ]: اجتمع أبو حميد وأبو أسيد (¬3) وسهل بن سعد ومحمد ابن مسلمة (¬4). . . وذكر الحديث، وفيه: حتى فرغ، ثم جلس وافترش رجله اليسرى، وأقبل بصدر اليمنى على قبلته. ¬

_ = ولا الجلوس قال: حتى فرغ ثم جلس فافترش رجله اليسرى وأقبل بصدر اليمنى على قبلته. ورواه الترمذي (293) عن عباس بن سهل الساعدي قال: اجتمع أبو حميد وأبو أسيد وسهل بن سعد ومحمد بن مسلمة، فذكروا صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال أبو حميد: أنا أعلمكم بصلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جلس - يعني للتشهد - فافترش رجله اليسرى، وأقبل بصدر اليمنى على قبلته، ووضع كفه اليمنى على ركبته اليمنى، وكفه اليسرى على ركبته اليسرى، وأشار بإصبعه - يعني: السبابة -. وقال الترمذي: وهذا حديث حسن صحيح، ويه يقول بعض أهل العلم، وهو قول الشافعي وأحمد وإسحاق، قالوا: يقعد في التشهد الآخر على وركه، واحتجوا بحديث أبي حميد، وقالوا: يقعد في التشهد الأول على رجله اليسرى وينصب اليمنى. ورواه ابن ماجه (863) عن عباس بن سهل الساعدي قال: اجتمع أبو حميد وأبو أسيد الساعدي وسهل بن سعد ومحمد بن مسلمة، فذكروا صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال أبو حميد: أنا أعلمكم بصلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قام فكبر ورفع يديه، ثم رفع حين كبر للركوع، ثم قام فرفع يديه، واستوى حتى رجع كل عظم إلى موضعه. (¬1) تحرف في المخطوط إلى: (مالك بن عمرو). (¬2) تحرف في المخطوط إلى: (أبا). (¬3) تحرف في المخطوط إلى: (وأبو سعيد). (¬4) تحرف في المخطوط إلى: (سلمة).

وبهذا اللفظ: أخرجه البيهقي (¬1)، وهي الرواية أولى؛ لأنّ الراوي هو الذي حضر القصة. والراوي للأولى لم يحضرها. وذلك: أنَّ البخاري (¬2) أخرجها من حديث محمد بن عمرو بن عطاء: أنه كان جالساً مع نفر. الحديث. وأخرجه ابن حبان (¬3) في صحيحه (¬4) فقال: عن محمد بن عمرو بن عطاء، عن عباس بن سهل الساعدي، أنّه كان في مجلسٍ فيه أبوه، وأبو هريرة، وأبو أسيد، وأبو حميد. وكذا أخرجه غير واحدٍ؛ لأنَّها على وفق غيرها من حديث وائل، وعائشة، وابن مسعود. فأمّا أن يوافق: بأنّ أبا حميدٍ حكى الأمرين جميعاً. والرواة رووا هذا تارةً، وهذا أخرى. والترجيح لما قدمنا، بما قلنا. وبأن حديث من ذكرنا يدلّ على المواظبة، كما يعطيه جوهر لفظه، أو أن هذا محمول على حالة الكبر كما قال في الهداية جمعاً بين الأول، فيكون المشروع الأصلي: الافتراش. وهذا العارض أو يقول: إن هذا قد اضطرب. ¬

_ (¬1) معرفة السنن والآثار (827 و 897) والسنن الكبرى (2/ 170 و 347 و 2/ 413 و 452). (¬2) صحيح البخاري (794) وصحيح ابن حبان (1869). (¬3) تحرف في المخطوط إلى: (حيان). (¬4) صحيح ابن حبان (1866).

والأخذ برواية من لم يختلف عليه أولى. أو نقول: إذا تعارضت روايتا فعله كما مَرَّ بنا، أو نقول: إذا تعارض القول والفعل قدم القول. وقد قال: ما ذكرنا على أنه يلزم الشافعي أن يكون ما ذكرنا فرضاً عنده؛ لأنه استدل على افتراض الفاتحة في كل ركعةٍ بقوله - صلى الله عليه وسلم - للمسيء صلاته، وافعل ذلك في صلاتك كلّها، ومرجع الإشارة ما تقدم لتعليمه إيّاه له، وبما علمه ما ذكرناه، ويلزمه الجواب عن مذهب أحمد، فإنه يقول: حديث وائل وعائشة يقضيان على كل تشهّدٍ بالافتراش، إلاّ ما خرج عنه بحديث أبي حميد. وحديث أبي حميد في تشهّدٍ ثانٍ على ما تقدم. فبقي فيما عداه على قصّة الأصل. قال ابن قريعة (¬1): فإن قالوا هذا من تطويله. فيتورك كالثاني. قيل لهم: هذا ليس بتشهّدٍ ثانٍ، فلا يتورك فيه كالأوّل، وهذا لأن التشهد ¬

_ (¬1) قال الذهبي في سير أعلام النبلاء (16/ 326): القاضي أبو بكر، محمد بن عبد الرحمن البغدادي الظريف، قاضي السندية، كان مزّاحا خفيف الروح، أديباً فاضلاً، ذكياً، سريع الجواب، أخذ عن أبي بكر بن الأنباري، وغيره. وقريعة - بقاف - قيّده ابن ماكولا، وكان ملازماً للوزير المهلبي في مجالس اللهو، وله أجوبة بليغة مسكتة، كان الوزير يغري به الرؤساء فيباسطونه، كتب له رئيس: ما يقول القاضي في يهودي زنى بنصرانية، فولدت ابناً جسمه للبشر ووجهه للبقر؟ فأجاب: هذا من أعدل الشهود على الخبثاء اليهود، أشربوا العجل في صدورهم حتى خرج من أيورهم فلينط برأس اليهودي رأس العجل، ويصلب على عنق النصرانية الرأس والرجل، ويسحبا على الأرض، وينادى عليهما: ظلمات بعضها فوق بعض، مات سنة سبع وستين وثلاث مئة.

الثاني إنّما تورّك فيه للفرق بين التشهدين، وما فيه إلا تشهدٌ واحد لا اشتباه فيه، فلا حاجة إلى الفرق. وما ذكروه من المعنى إن صحّ، فيضم إليه هذا المعنى الذي ذكرنا. ومعلّل الحكم بهذا. والحكم إذا علّل بهما بعلتين لم يجز تعديته لتعدية أحدهما دون الأخرى. والله سبحانه وتعالى أعلم.

(11) تحرير الأقوال في صوم الست من شوال

مَجْمُوعَةُ رَسَائِل العَلَّامَة قَاسِم بن قُطْلُوبُغَا [11] تَحْرِيرُ الأَقْوَالِ في صَوْمِ السِّتِّ مِن شَوَّال تَأْلِيفُ العَلَّامَة قَاسِم بْنِ قُطْلُوبُغَا الحَنَفِي المولود سَنَة 802 هـ والمتوفى سَنة 879 هـ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -

بداية الرسالة

(11) تَحْرِيرُ الأَقْوَالِ في صَوْمِ السِّتِّ مِن شَوَّال قال - رحمه الله -: قد رُفع إلى العدل الفاضل أبي عبد الله محمد بن طيبغا الحنفي (¬1)، قول الشيخ جلال الدين التباني (¬2) في منظومته: ¬

_ (¬1) قال السخاوي في الضوء اللامع (4/ 42) الترجمة (706): محمد بن طيبغا، الشمس القاهري الحنفي، اشتغل ولازم الزين قاسماً الحنفي، وقرأ على القول البديع، وارتياح الأكباد، وغيرها من تصانيفي وغيرها، بل سمع قبل ذلك على شيخنا، والبدر العيني، وجماعة، وكتب بخطه جملة، وتكسب بالشهادة دهره، وابتنى بالقرب من قنطرة أمير حسين داراً، وكان يجلس هو ورفيقه على بابها، ولم يكن بالبارع ولا بالمتقن في شهاداته، مات سنة أربع وثمانين - رحمه الله وعفا عنه -. وقال (5/ 375): ابن طيبغا: محمد. (¬2) تحرف في المخطوط إلى: (الغياني). قال ابن حجر في إنباء الغمر بأبناء العمر (1/ 160): جلال بن أحمد بن يوسف بن طوع رسلان الثيري - بكسر المثلثة وسكون التحتانية بعدها راء -، الشيخ العلامة جلال الدين التباني، وقيل: اسمه: رسولًا، قدم القاهرة قديمًا، وذلك في أواخر دولة الناصر، وأقام بمسجد بالتبانة، فغلبت عليه النسبة إليها، وكان يذكر أنه سمع صحيح البخاري على علاء الدين التركماني، وتلمذ للشيخين جمال الدين ابن هشام، وبهاء الدين ابن عقيل، فبرع في العربية وصنَّف فيها وتفقه على القوَّام الأتقاني، والقوّام الكاشي، وانتصب للإفادة مدّة، وشرح المنار، ونظم في الفقه منظومة، وشرحها في أربع مجلدات، وعلَّق على البزودي، واختصر شرح البخاري لمغلطاي،=

وَفِي صِيَام السّت من شَوَّال. . . كَراهة عِندَ أولي الأَفَاضِل وقوله في شرحها: أي: يكره صوم الست من شوَّال متتابعاً ومتفرّقاً عند أبي حنيفة (¬1). ¬

_ = وعلّق على المشارق والتلخيص، وصنّف في منع تعدد الجمعة، وفي أن الإيمان يزيد وينقص، ودرس بالصرغتمشية والألجهية وغير ذلك، وعرض عليه القضاء مراراً فامتنع، وأصرّ على الامتناع، ومات في ثالث عشر شهر رجب، وهو والد صاحبنا العلامة شرف الدين يعقوب. وانظرها في الدرر الكامنة (1/ 186) والمنهل الصافي والمستوفي بعد الوافي (1/ 398 - 399). (¬1) قال صاحب رد المحتار (8/ 35 - 36): مطلب في صوم الشتّ من شوّالٍ: (قوله وندب. . . إلخ) ذِكْرُ هذه المسألة بين مسائل النَّذر غير مناسبٍ، وإن تبع فيه صاحب الدَّرر (قوله على المختار) قال صاحب الهداية في كتابه التجنيس: إن صوم الستة بعد الفطر متتابعةً، منهم مَنْ كرهه، والمختار أنّه لا بأس به؛ لأن الكراهة إنما كانت لأنَّه لا يُؤْمَن من أن يعذ ذلك من رمضان، فيكون تشبها بالنَّصارى، والآن زال ذلك المعنى. اهـ. ومثله في كتاب النَّوازل لأبي اللَّيث، والواقعات للحسام الشهيد، والمحيط البرهاني، والذخيرة؛ وفي الغاية عن الحسن بن زيادٍ: أنّه كان لا يرى بصومها بأساً، ويقول: كفى بيوم الفطر مفرّقا بينهنّ وبين رمضان. اهـ وفيها أيضاً عامّة المتأخرين لم يروا به بأساً. واختلفوا هل الأفضل التفريق أو التَّتابع. اهـ. وفي الحقائق: صومها متصلاً بيوم الفطر، يكره عند مالكٍ، وعندنا لا يكره، وإن اختلف مشايخنا في الأفضل. وعن أبي يوسف: أنّه كرهه متتابعاً، والمختار لا بأس به. اهـ. وفي الوافي والكافي والمصفّى: يكره عند مالكٍ، وعندنا لا يكره، وتمام ذلك في رسالة تحرير الأقوال في صوم السّتّ من شوّالٍ للعلاّمة قاسم، وقد ردّ فيها على ما في منظومة التبَّاني وشرحها، من عزوه الكراهة مطلقاً إلى أبي حنيفة، وأنَّه الأصح بأنه على غير رواية الأصول، وأنَّه صحّح ما لم يسبقه أحدٌ إلى تصحيحه، وأنَّه صحّح =

وعن أبي يوسف: يكره متتابعاً لا متفرّقاً (¬1). وقال مالك: يكرهُ على كل حالٍ (¬2)، وهذا وظيفة الجهال، وكل حديث فيه فهو موضوع، ذكره في كتاب التفسير، وصوم شهر رمضان نسخ كل صوم كان قبله (¬3)، والأضحية نسخت كل دمٍ كان قبلها كالعتيرة، وإلاَّ كره. وقيل: لا يكرهُ. وهو قول محمّد. والأوّل أصح لما فيه من التشبيه بأهل الكتاب؛ ¬

_ = الضَّعيف، وعمد إلى تعطيل ما فيه الثَّواب الجزيل، بدعوى كاذبةٍ بلا دليلٍ، ثمّ ساق كثيراً من نصوص كتب المذهب، فراجعها فافهم (قوله: والإتباع المكروه. . . إلخ) العبارة لصاحب البدائع. وهذا تأويلٌ لما روي عن أبي يوسف على خلاف ما فهمه صاحب الحقائق كما في رسالة العلَّامة قاسم، لكن ما مرّ عن الحسن بن زياد يشير إلى أن المكروه عند أبي يوسف تتابعها، وإن فصل بيوم الفطر فهو مؤيدٌ لما فهمه في الحقائق تأمُّل. وانظر حاشية رد المحتار (2/ 479). (¬1) انظر البحر الرائق شرح كنز الدقائق (6/ 133) وتبيين الحقائق شرح كنز الدقائق (4/ 128). (¬2) انظر منح الجليل شرح مختصر خليل (4/ 16 - 18). وقال صاحب التاج والإكليل لمختصر خليل (3/ 204): مطرّفٌ: إنَّما كره مالكٌ صيام ستة أيامٍ من شوَّالٍ لذي الجهل لا من رغب في صيامها لما جاء فيها من الفضل. المازريّ عن بعض الشيوخ: لعل الحديث لم يبلغ مالكًا، ومال اللّخميّ لاستحباب صومها. (¬3) روى ابن شاهين في ناسخ الحديث ومنسوخه (373) قال: حدثنا محمد بن محمد ابن سليمان الباغندي وما كتبته إلا عنه قال: حدثنا علي بن سعد بن مسروق الكندي قال: حدثنا المسيب بن شريك، عن عبيد المكتب، عن عامر، عن مسروق، عن علي كرم الله وجهه قال: حدثنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "نسخ رمضان كل صوم". و (374) حدثنا يحيى بن محمد بن صاعد قال: حدثنا أبو عبيد الله المخزومي قال: قال سفيان ابن عيينة: نسخ شهر رمضان كل صوم.

فائدة

لأنهّم يلحقون بالفرض ما ليس منه. انتهى بحروفه حرفاً بحرفٍ. حتى قوله: وصفه. فقلت: هو أرجل قد عمدَ إلى تعطيل ما فيه الثواب الجزيل بدعوى كاذبة بلا دليلٍ، واعتمد الضعيف والمؤوّل. وترك ما عليه المعوّل. وصحح ما لم يسبق إلى تصحيحه، ولا عوّل أحدٌ عليه مع النقل المخلّ، والألفاظ الزائدة. وذكر ما ليس له في هذا المحل. * فائدة: وبيان ذلك: أن في قوله: يكره صوم السبت. إلى قوله: بكلّ حالٍ. تكرّر بلا فائدة. وقوله عند أبي حنيفة هذا مما عُزيَ إلى المحيط الكبير. وأمّا المحيط البرهاني والذخيرة البرهانية بصيغة تدل على أنه خلاف الأصول. وعقّبه في الذخيرة: بأنّ الصحيح خلافه. وفي المحيط كذلك كما سيأتي. وأمّا قوله: وعن أبي يوسف. . . الخ. فنقل مختل، فقد اتفقت عبارات الكتب على أنّ المنقول عن أبي يوسف ما هو في رواية الكرخي: كانوا يكرهون أنّه يُتْبِعُوا رمضان صياماً، خوفاً أن يلحق ذلك بالفريضة. فهم منهم صاحب الحقائق: أنّه كرة التتابع. فهذا تأويله عنده. وقال صاحب البدائع (¬1): الإتباع المكروه: أن يصوم يوم العيدِ، وخمسةً ¬

_ (¬1) قال في بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع (4/ 149): إتباع رمضان بستٍّ من شوَّالٍ كذا قال أبو يوسف: كانوا يكرهون أن يتبعوا رمضان صوماً خوفًا أن يلحق ذلك بالفرضية. وكذا روي عن مالكٍ أنّه قال: أكره أن يتبع رمضان بستٍّ من شوَّالٍ،=

بعدهُ. فهذا معنى قول أبي يوسف عنده. وقد أخذ هذا من إملاء الحسن بن زياد كما سأذكر. وهذا معنى قولي: اعتمد الضعيف والمأوّل. وأمّا أنه ما ترك ما عليه المعوّل، فأسوقه لك من عهد أصحاب أبي حنيفة، وإلى زمان مشايخنا قرناً بعدَ قرنٍ. فقال: إنَّه قولٌ وفعلٌ في الغايةِ عن الحسنِ ابن زياد: أنّه كان لا يرى بصومها بأساً. ويقول: كفى يوم الفطر مفرّقاً بينهنّ وبين رمضان. ومحمد والحسن بن زياد من أصحاب أبي حنيفة، وكان وفاة محمد سنة 189 (¬1)، ووفاة الحسن سنة 204 (¬2). ¬

_ = وما رأيت أحداً من أهل الفقه والعلم يصومها، ولم يبلغنا عن أحدٍ من السلف، وإنّ أهل العلم يكرهون ذلك ويخافون بدعته، وأن يلحق أهل الجفاء برمضان ما ليس منه، والإتباع المكروه هو: أن يصوم يوم الفطر، ويصوم بعده خمسة أيّامٍ. فأمَّا إذا أفطر يوم العيد ثمّ صام بعده ستة أيام: فليس بمكروه، بل هو مستحبٌّ وسنَّةٌ. (¬1) هو الفقيه العلاّمة، مفتي العراقيين، محمد بن الحسن بن فرقد الشيباني، أبو عبد الله الكوفي. قال الإمام أحمد: كان أبو يوسف منصفاً في الحديث، وأما محمد فكان مخالفاً للأثر - يعني: يخالف الأحاديث ويأخذ بعموم القرآن -. وقال الذهبي: كان - رحمه الله تعالى - آيةً في الذكاء، ذا عقل تامّ، وسؤدد، وكثرة تلاوة للقرآن. تاريخ الإسلام (وفيات 189) (ص 358 - 362). (¬2) تحرف في المخطوط إلى: (24). قال المصنف في تاج التراجم (ص 7): الحسن ابن زياد اللؤلؤي، ولي القضاء ثم استعفى عنه، وكان يكسو مماليكه كما يكسو نفسه، وكان يختلف إلى أبي يوسف، وإلى زفر. قال يحيى بن آدم: ما رأيت أفقه من الحسن=

وذكر الطحاوي (¬1) حديث: "مَنْ صَامَ رَمَضَانَ وَأتبَعَهُ سِتًّا مِنْ شَوَّالٍ". من طرقٍ وافرةٍ. فكانت وفاته سنة إحدى وعشرين وثلاث مئة، ومولده سنة تسعٍ وعشرين ومئتين (¬2). وقال أبو الليث (¬3) في كتاب النوازل: صوم الستة بعد الفطر متتابعة، منهم من كرهه، والمختار: أنه لا بأس به؛ لأنَّ الكراهة إنما كانت لأنَّه لا يؤمن من أن يعد ذلك من رمضان. فيكون تشبّهاً بالنصارى. والآن قد زال هذا المعنى، وكانت وفاته ثلاث وسبعين وثلاث مئة. وقال الحسام الشهيد (¬4) في الواقعات: صوم الست من شوال متتابعة بعد الفطر كرهه بعضهم. والمختار: أنّه لا بأس به. ووفاته سنة ست وثلاثين وخمس مئة. وقال أبو حفص عمر النسفي: بعد صوم رمضان إتباع ستة من شوَّال ¬

_ = ابن زياد. وقال محمد بن سماعة: سمعت الحسن بن زياد يقول: كتبت عن ابن جريج اثني عشر ألف حديث كلها يحتاج إليها الفقهاء. قال في المبسوط: صنف كتاب المقالات، توفي سنة أربع ومئتين. وانظر ميزان الاعتدال للذهبي (1/ 491) الترجمة (1849) وفيه مقال، قيل عنه: كذاب. (¬1) شرح مشكل الآثار رقم (1939). (¬2) في المخطوط: (ومائين). وهو تصحيف، وسنة موته الصحيحة: سنة ثمان وثلاثين ومئتين، وقال السمعاني: سنة تسع. (¬3) هو نصر بن محمد بن أحمد بن إبراهيم السمرقندي الحنفي. (¬4) مرّت ترجمته.

عند مالكٍ: يُكرهُ. وعندنا: لا يكرهُ. فعدّه مذهباً نصب فيه الخلاف، ووفاته سنة 537 (¬1). وقال صاحب الهداية في التجنيس: صوم الست من شوال متصلاً بيوم الفطر يكرهُ عند مالكٍ، وعندنا لا يكرهُ. وإن اختلف مشايخنا في الأفضل. كذا في المختلف. وعن أبي يوسف: أنّه كرهه متتابعاً. والمختار: أنّه لا بأس به؛ لأنّ الكراهة إنّما كانت؛ لأنه لا يؤمن أن يعدّ ذلك من رمضان فيكون تشبّهاً بالنصارى، والآن زال هذا المعنى. ¬

_ (¬1) قال المصنف في تاج التراجم (ص 16): عمر بن محمد بن أحمد بن إسماعيل بن محمد بن علي بن لقمان، نجم الدين، أبو حفص النسفي، سمع الحديث، له كتاب طلحة الطلبة في اللغة على ألفاظ كتب فقه الحنفية، ونظم الجامع الصغير، وكتب مجاميع حديثية كثيرة التصحيف والخطأ وتغيير الأسماء وإسقاط بعضها، وله كتاب تطويل الأسفار لتحصيل الأخبار، روى فيه عن خمس مئة وخمسين شيخاً، وله كتاب القند في علماء سمرقند، وله شعر حسن، وله المنظومة، وجمع أسماء شيوخه، وكان فقيهاً عارفاً بالمذهب والأدب، ولد سنة إحدى أو اثنتين وستين وأربع مئة، وتوفي بسمرقند ليلة الخميس ثامن عشر جمادى الأولى سنة سبع وثلاثين وخمس مئة. قلت: قال السمعاني: كان إماماً فاضلاً مبرزاً متفننًا، صنف في كل نوع من العلم، في التفسير والحديث والشروط، وصنف قريباً من مئة مصنف، وقد استقرأت عدّة كتب مما صنفه وجمعه، فرأيت فيها أوهاماً كثيرة، فعرفت أنه كان ممن أحب الحديث وطلبه، ولم يرزق فهمه التحرير، وكان له شعر حسن. قلت: ومن ذا يسلم من ذا والله أعلم، ومن مشاهير كتبه: الفتاوى، والحصن، والتفسير، وفيه حوالة على تفسير كبير.

وقال قاضي خان سنة 592 (¬1)، ووفاة صاحب الحقائق (¬2) سنة إحدى وسبعين وست مئة. وقال الإمام الزوزني السديدي (¬3): صوم الست من شوّال عندنا لا يكرهُ. واختلف مشايخنا في الأفضل؟. فقال بعضهم: والأفضل: أنه يأتي بستة أيّام متفرقات في الحول. ¬

_ (¬1) قال الذهبي في سير أعلام النبلاء (21/ 231 - 232): قاضي خان، هو العلامة شيخ الحنفية، أبو المحاسن حسن بن منصور بن محمود البخاري الحنفي، الأوزجندي، صاحب التصانيف. سمع الكثير من الإمام ظهير الدين الحسن بن علي ابن عبد العزيز. ومن إبراهيم بن عثمان الصفاري وطائفة. وأملى مجالس كثيرة رأيتها. روى عنه: العلامة جمال الدين محمود بن أحمد الحصيري، أحد تلامذته. بقي إلى سنة تسع وثمانين وخمس مئة، فإنه أملى في هذا العام. وذكر ابن العماد في الشذرات (4/ 308) واللكنوي في الفوائد (64) أن وفاته سنة 592 هـ. (¬2) قال المصنف في تاج التراجم (ص 24): محمود بن محمد بن داود، أبو المحامد الأفسنجي اللولوي البخاري، مولده ببخارى سنة سبع وعشرين وست مئة، وتفقه على الإمام أبي عبد الله محمد بن أحمد بن عبد المجيد القرشي، وكان إماماً فاضلاً، شيخًا صالحاً، عارفاً بالمذهب والتفسير، صنف شرحاً على منظومة الإمام النسفي وسماه: الحقائق، واستشهد في وقعة التتار ببخارى سنة إحدى وسبعين وست مئة. (¬3) تحرف في المخطوط إلى: (السيدي). قال المصنف في تاج التراجم (ص 22): محمد بن محمود بن محمد تاج الدين أبو المفاخر بن أبي القاسم السديدي الزوزني، شرح المنظومة وزاد عليها، وشرح الزيادات وسماه: ملتقى البحار من منتقى الأخبار، تفقه على الإمام محمود المروزي، وتفقه عليه: ابن عبد العزيز. والله أعلم.

وقال بعضهم: في شوال. وقال في المحيط (¬1): قال أبو يوسف: يكرهُ أن يوصل برمضان صوم ستة أيامٍ من شوَّال خوفاً من أن يلحق بالفريضة. وهو قول مالكٍ. والأصحّ: أنّه لا بأس به. والكراهة إنمّا كانت خوفاً من أن يعدّ ذلك من رمضان فيكون تشبيهاً بالنَّصارى. واليوم زال ذلك المعنى. فلا يكرهُ. ¬

_ (¬1) قال برهان الدين مازه في المحيط البرهاني (2/ 655 - 656): صوم لست من شوال مكروه عند أبي حنيفة - رحمه الله - متفرقًا كان أو متتابعًا. وقال أبو يوسف: كانوا يكرهون أن يتبعوا رمضان صياماً خوفاً من أن يلحق بالفريضة. وعن مالك قال: ما رأيت أحداً من أهل الفقه يصومها، ولم يبلغنا عن أحد من السلف، قال: وكان أهل العلم يكرهون ذلك، ويخافون أن يلحق برمضان ما ليس منه إذا رأوا في ذلك رخصة عند أهل العلم، ورأوهم يفعلون ذلك، فلفظ مالك ولفظ أبي يوسف دليل على أن الكراهة في حق الجهال الذين لا يميزون. وعن أبي يوسف أنه قال: أكره متتابعاً ولا أكره متفرقاً. ومن المشايخ من قال: ينبغي للعالم أن يصوم سراً، وينهى الجهال عنه، وذكر شمس الأئمة الحلواني في شرح كتاب الصوم: كراهته، وفي نسخة أخرى لشمس الأئمة - رحمه الله - أن الكراهة في المتصل برمضان، أما إذا أكل بعد العيد أياماً، ثم صام لا يكره بل يستحب. قال الحاكم الشهيد في "المنتقى": وجدت عن الحسن: أنه كان لا يرى لصوم ستة أيام متتابعاً بعد الفطر بأساً، وكان يقول: كفى بيوم الفطر مفرّقا بينهن وبين شهر رمضان. وعامة المتأخرين لم يروا به بأسًا، واختلفوا فيما بينهم الأفضل هو التفرق أو التتابع، قال القدوري: ورد النهي عن صوم الوصال، وهو أن يصوم ولا يفطر، واختيار الصدر الشهيد في صوم الوصال أنه إن كان يفطر في الأيام المنهية لا يكره، وكان يقول: تأويل النهي أن يصوم جميع الأيام ولا يفطر الأيام المنهية.

ونحوه في الذخيرة. وقال في الينابيع: ولا يكره الستة المتتابعة عقيب الفطر. وقيل: يكرهُ. والأوّل أصح. وذكر في عمدة الفتاوى (¬1): المفتى أنه قيل: الصحيح إذا صام متتابعًا ولم يجعل اليوم الثامن عيدأ لا يكرهُ، وإلاّ فمكروهٌ. وبه نأخذُ. وقال المرغيناني: فالمرغوياتُ: صوم المحرم، ورجب، وشعبان، وستة أيّامٍ متتابعة مِنْ شوّال. وقيل: يستحبُّ متفرّقة في الأسبوع يوماً. وقال أبو بكر الإسماعيلي، والفقيه محمد بن حامد: التتابع فيه أفضل للأخبار. وقال صاحب المنتقى: يكره صوم ستة من شوال عند أبي يوسف. والأصح: أنّه لا بأس به. والأصل: تفريقها في الحول. وقيل: في شوال يوزع عليه. وقال في الوافي والكافي والمصفّى (¬2): يكرهُ عند مالكٍ، وعندنا لا يكره. ¬

_ (¬1) قال صاحب كشف الظنون (2/ 1169): عمدة الفتاوى للصدر الشهيد، ذكره ابن نجيم في البحر الرائق، أوله: (الحمد لله خالق الأشياء ورازق الأحياء. . . إلخ)، ذكر أنه: قسم الكتاب على قسمين، ووزعه على الثلاثة والثلاثين، وأدرج فيه: ما يعم وقوعه. . . إلخ، وهو مختصر في مجلد صغير. (¬2) الوافي في الفروع والكافي شرح الوافي والمصفى شرح المنظومة النسفية لحافظ الدين عبد الله بن أحمد بن محمود أبي البركات النسفي، المتوفى سنة 710 هـ. هداية العارفين (1/ 241).

وقال صاحب المجمع (¬1): ولم يكرهوا إتباع الفطر بستٍّ من شوّال. وكانت وفاته بعد تسعين وست مئة (¬2). وقال في الغاية: عامَّة المتأخرين لم يروا به بأساً، واختلفوا: هل الأفضل التفريق أو التتابع؟ وكانت [وفاته] في رجب سنة 710 (¬3). ¬

_ (¬1) قال عبد الرحمن بن الشيخ محمد بن سليمان المدعوّ بشيخ زاده المتوفى سنة 1078 هـ في مجمع الأنهر شرح ملتقى الأبحر (2/ 373): (ولا يكره إتباع الفطر بصوم ستةٍ من شوَّالِ) في المختار؛ لأنَّه وقع الفصل بيوم الفطر فلا يلزم التشبّه بأهل الكتاب فليس بمكروه، بل هو مستحبٌّ وسنةٌ لورود الحديث في هذا الباب. والإتباع المكروه وهو: أن يصوم يوم الفطر ويصوم بعده خمسة أيامٍ (وتفريقها) أي: صوم الستّة أفضل؛ لأنّه (أبعد عن الكراهة والتشبّه بالنّصارى) في زيادة صيام أيّامٍ على صيامهم. (¬2) لعله الذي ترجمه قال المصنف في تاج التراجم (ص 2): أحمد بن علي بن تغلب بن أبي الضياء، مظفر الدين، ابن الساعاتي، البغدادي الأصل البعلبكي، سكن ببغداد، ونشأ بها، وبرع في الفقه، وكتب الخط المنسوب، وصنف كتاب مجمع البحرين، جمع فيه بين مختصر القدوري والمنظومة مع زوائد، أحسن وأبدع في اختصاره وشرحه في مجلدين، وله كتاب البديم في الأصول، جمع فيه بين أصول فخر الإسلام علي البزدوي والأحكام للآمدي. قلت: وله الدر المنضود في الرد على فيلسوف اليهود؛ يعني: ابن كمونة، وكان - رحمه الله - موجوداً سنة تسعين وست مئة. (¬3) قال المصنف في تاج التراجم (ص 4): أحمد بن إبراهيم بن عبد الغني، قاضي القضاة، شمس الدين، أبو العباس السروجي، تفقه على الصدر سليمان بن أبى العز، ونجم الدين أبي ظاهر إسحاق بن علي بن يحيى، ولي القضاء بالديار المصرية، وصنف، وأفتى، ووضع شرحاً على كتاب الهداية، سماه: الغاية، انتهى فيه إلى كتاب الإيمان في ست مجلدات ضخمة، توفي بالمدرسة السيوفية بالقاهرة، في=

وقال خاتمة المتأخرين العلامة أكمل الدين (¬1) في شرح المشارق: وقد اختلف العلماء في صفة هذا الصوم، فذهب مالكٌ: إلى أنه إذا كان متتابعاً يكرهُ. وذهب الأكثرون إلى عدم الكراهة عملاً بظاهر الحديث. وإذا كان متفرقاً في شوّال فهو أبعد عن الكراهة والتشبه بالنّصارى. وكانت وفاته في رمضان سنة ستًّ وثمانين وسبع مئة. هذا ما حضرني الآن من منصوصاتٍ كتب (¬2) علمائنا. وبه تبين: أنّ أحداً ممن تقدم هذا القائل لم يقل: إن الكراهة مطلقاً الأصح. وأمّا الكلام الذي لا فائدة له في هذا المحل فقوله: نسخ رمضان كلّ صومٍ. إلخ. وقوله: وهذا وظيفة الجهّال. ليس من كلام مالكٍ. وإنمّا هو أوّل كلام ¬

_ = يوم الخميس ثاني عشر رجب سنة عشر وسبع مئة، ودفن بتربته بجوار قبة الإمام الشافعي - رضي الله عنه -، ومولده سنة سبع وثلاثين وست مئة. (¬1) قال المصنف في تاج التراجم (ص 22): محمد بن محمد بن محمود، علامة المتأخرين، وخاتمة المحققين، أكمل الدين البابرتي، ورع وساد وأفتى، ودرّس وأفاد، وصنف فأجاد، فمن ذلك: شرح مشارق الأنوار، وشرح الهداية المسمى بالعناية، وشرح أصول البزدوي المسمى بالتقرير، وشرح المنار المسمى بالأنوار، وشرح ألفية ابن معطي، وشرح التلخيص في المعاني والبيان، وشرح مختصر ابن الحاجب الأصلي، وشرح السراجية، ومقدمة في الفرائض، وشرح تلخيص الخلاطي للجامع الكبير قطعتين لم يكمل، وشرح تجريد النصير الطوسي لم يكمل، وحاشية على الكشاف إلى تمام الزهراوين، وكانت وفاته ليلة الجمعة تاسع عشر رمضان المعظم سنة ست وثمانين وسبع مئة. (¬2) في المخطوط: (الكتب).

نفسه، وهو كلامٌ مردودٌ عليه، شاهدٌ عليه، مما لا يخفى. فقد قال في المغني والغاية: إنّ هذا الصوم مستحبٌّ عند كثير من أهل العلم، روي ذلك عن كعب الأحبار، والشعبي، وميمون بن مِهْرَان (¬1). وَبِهِ قال عبد الله بن المبارك، والشافعي، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، ومَنْ عَدّدنا من علمائنا. فكعب الأحبار (¬2): تابعيٌّ كبيرٌ، روى عن عمر بن الخطاب وجماعة من الصَّحابة. والشعبي: أدرك خمس مئة صحابي، وسمع من ثمانية وأربعين منهم. وميمون بن مِهْران: تابعيٌّ أيضاً، وهو قاضي عمر بن عبد العزيز على الجزيرة. وممن بعدهم من الأئمة المذكورين مشهور عِلْمُهم، واجتهادهم، وقولهم. وكلُّ حديث فيه فهو موضوع، دعوى كاذبة: فقد قال (¬3) الإمام أحمد بن حنبل: هو من ثلاثة أوجه عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. يريد: أنه روي من حديث أبي أيوب، ومن حديث ثوبان، ومن حديث جابر. فحديث أبي أيوب: رواه مسلمٌ في صحيحه، والترمذي - وقال: حسنٌ -، وأبو داود، وابن ماجه، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ صَامَ رَمَضَانَ، ثُمَّ أتبَعَهُ ¬

_ (¬1) تحرف في المخطوط إلى: (مهراد). (¬2) تحرف في المخطوط إلى: (فكيف الأخيار). (¬3) في المخطوط: (قام).

سِتًّا مِنْ شَوَّال، كَانَ كصِيَامِ الدَّهْرِ" (¬1). ¬

_ (¬1) رواه الدارمي (1754) والطيالسي (594) وعبد الرزاق (7918) والإمام أحمد (5/ 417 و 419) وابن أبي شيبة (3/ 97) ومسلم (1164) وأبو داود (2433) والترمذي (759) والنسائي في الكبرى (2862 - 2865) وابن ماجه (1716) وابن خزيمة (2114) وابن حبان (3634) والشاشي (1065) والبيهقي (4/ 292) والبغوي في شرح السنة (1780) من حديث أبي أيوب الأنصاري - رضي الله عنه -. قال الترمذي: حديث أبي أيوب حديث حسن صحيح، وقد استحب قوم صيام ستة أيام من شوال بهذا الحديث. قال ابن المبارك: هو حسن، هو مثل صيام ثلاثة أيام من كل شهر. قال ابن المبارك: ويروى في بعض الحديث، ويلحق هذا الصيام برمضان. واختار ابن المبارك أن تكون ستة أيام في أول الشهر، وقد روي عن ابن المبارك أنه قال: إن صام ستة أيام من شوال متفرقًا، فهو جائز. قال: وقد روى عبد العزيز بن محمد، عن صفوان بن سليم وسعد بن سعيد، عن عمر بن ثابت، عن أبي أيوب، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا، وروى شعبة، عن ورقاء بن عمر، عن سعد بن سعيد هذا الحديث، وسعد بن سعيد هو أخو يحيى بن سعيد الأنصاري، وقد تكلّم بعض أهل الحديث في سعد بن سعيد من قبل حفظه. حدثنا هناد قال: أخبرنا الحسين ابن علي الجعفي، عن إسرائيل أبي موسى، عن الحسن البصري قال: كان إذا ذكر عنده صيام ستة أيام من شوال، فيقول: والله لقد رضي الله بصيام هذا الشهر عن السنة كلها. تنبيه: في إسناد مسلم: سعد بن سعيد بن قيس، ضعيف لسوء حفظه، تابعه صفوان ابن سليم في رواية الدارمي وأبي داود والنسائي وابن حبان وغيرهم، وصفوان بن سليم، ثقة. والله أعلم. وقال النووي في شرحه لمسلم عقب رقم (1164): فيه دلالة صريحة لمذهب الشافعي وأحمد وداود وموافقيهم في استحباب صوم هذه الستة، وقال مالك وأبو حنيفة: يكره ذلك. قال مالك في الموطأ: ما رأيت أحداً من أهل العلم يصومها. =

وقد أَغنِي بصحيح مسلم وتَحسين الترمذي، من أجل (¬1) السند. وحديث ثوبان: رواه أبو داود، والترمذي، والنّسائي، عن الربيع بن سفيان، عن يحيى بن حسان، عن يحيى بن حمزة (¬2)، عن يحيى بن الحارث، عن أبي أسماء الرّحبي، عن ثوبان (¬3). ¬

_ = قالوا: فيكره لئلا يظن وجوبه. ودليل الشافعي وموافقيه: هذا الحديث الصحيح الصريح، وإذا ثبتت السنة لا تترك لترك بعض الناس، أو كثرهم، أو كلهم لها، وقولهم: قد يظن وجوبها، ينتقض بصوم عرفة وعاشوراء وغيرهما من الصوم المندوب. قال أصحابنا: والأفضل: أن تصام الستة متوالية عقب يوم الفطر، فإن فرّقها أو أخّرها عن أوائل شوال إلى أواخره، حصلت فضيلة المتابعة، لأنه يصدق أنه أتبعه ستاً من شوال. قال العلماء: وإنما كان ذلك كصيام الدهر، لأن الحسنة بعشر أمثالها، فرمضان بعشرة أشهر، والستة بشهرين، وقد جاء هذا في حديث مرفوع في كتاب النسائي. (¬1) في المخطوط: (عن أبي). وهو تصحيف. وتبيّن لماذا قال المصنف ذلك. (¬2) تحرف في المخطوط إلى: (همزة). وهو يحيى بن حمزة بن واقد الحضرمي، أبو عبد الرحمن الدمشقي القاضي، مات سنة 183 هـ على الصحيح، وله ثمانون سنة. قال ابن حجر في التقريب: ثقة رمي بالقدر. (¬3) تنبيه: لم أجده في سنن أبي داود وسنن الترمذي. ولعله سبق قلمٍ من المصنف أو الناسخ. والله أعلم. ورواه أحمد (5/ 280) والدارمي (1755) والنسائي في الكبرى (2860) وابن خزيمة (2115) والطحاوي في مشكل الآثار (2348) والطبراني في مسند الشاميين (903) وابن حبان (3635) والبيهقي في السنن (4/ 293) وفي الشعب (3736) وابن المقرئ في معجمه (1229) عن ثوبان: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "صيام شهر بعشرة أشهر، وستة أيام بعدهن بشهرين، فذلك تمام سنة - يعني: شهر رمضان، وستة أيام بعده".

وعن محمود (¬1) بن خالد، عن محمد بن شُعيب بن شابُور (¬2)، عن يحيى ابن الحارث، عن أبي أسماء الرحبي، عن ثوبان (¬3). وابن ماجه (¬4): عن هشام بن عمار (¬5)، [عن بقية]، عن صدقة بن خالد، عن يحيى بن الحارث، عن أبي أسماء، عن ثوبان. والطّبراني (¬6)، عن المقدام بن داود، عن أسد بن موسى، حدثنا الوليد ابن مسلم، حدثنا ثور (¬7) بن يزيد، عن يحيى بن الحارث، عن أبي أسماء، عن ثوبان، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "مَنْ صَامَ رَمَضَانَ، ثُمَّ أتبَعَهُ ستّاً مِنْ شَوّالَ، ¬

_ (¬1) تحرف في المخطوط إلى: (محمد). (¬2) تحرف في المخطوط إلى: (سابون). وهو الأموي الدمشقي، نزيل بيروت، مات سنة 200 هـ. قال ابن حجر في التقريب: صدوق صحيح الكتاب. (¬3) رواه النسائي في الكبرى (2861) وعنه الطحاوي في مشكل الآثار (2349) عن ثوبان مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "جعل الله الحسنة بعشر، فشهر بعشرة أشهر، وستة أيام بعد الفطر تمام السنة". (¬4) رواه ابن ماجه (1715) عن ثوبان مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "من صام ستة أيام بعد الفطر كان تمام السنة، من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها". (¬5) تحرف في المخطوط إلى: (حماد). (¬6) رواه الطبراني في الكبير (1451) وفي مسند الشاميين (485) عن ثوبان، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من صام رمضان ثم أتبعه بست من شوال، فإن ذلك صيام سنة". ورواه أيضاً في مسند الشاميين (898) عن ثوبان مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من صام رمضان، وستاً من شوال، فهو كصيام سنة كلها. قال الله - عز وجل -: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} [الأنعام: 160] ". وسويد بن عبد العزيز، ضعيف. (¬7) تحرف في المخطوط إلى: (موز).

فَإِنَّ ذَلِكَ صيَامُ سَنَةٍ". ورواه سعيد بن منصور (¬1): "مَنْ صَامَ رَمَضَانَ شَهْراً بِعَشْرَةِ أَشْهُرٍ، وَصِيامُ سِتَّة أيامٍ بعدَ الْفِطْرِ، ذَلِكَ إِتْمَامُ سَنَةٍ". ويحيى بن الحارث، وأبو (¬2) أسماء الرَّحَبِيّ (¬3): شرط الحديث. وحديث جابرٍ: رواه الإمام أحمد (¬4)، من طريق عمرو بن جابر الحضرمي، عن جابرٍ (¬5) ابن عبد الله: أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "مَنْ صَامَ رَمَضَانَ وَسِتّةً مِنْ شَوَّالٍ، فَكأَنَّمَا صَامَ السَّنَةَ كُلَّهَا". وعمرو (¬6) بن جابر تكلّم فيه، لكن المعنى ثابتٌ بنص الكتاب. ¬

_ (¬1) لم أجده في المطبوع من سننه. وأشار إلى رواية سعيد ابن قدامة عن ثوبان هذه في المغني (كتاب الصيام). (¬2) تحرف في المخطوط إلى: (وابن). (¬3) تحرف في المخطوط إلى: (الرحيمه). (¬4) رواه الإمام أحمد (3/ 308 و 324 و 344) قال: حدثنا أبو عبد الرحمن عبد الله بن يزيد المقرئ، حدثنا سعيد بن أبي أيوب، حدثني عمرو بن جابر الحضرمي [ضعيف] قال: سمعت جابر بن عبد الله الأنصاري يقول: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "من صام رمضان وستاً من شوال، فكأنما صام السنة كلها". ورواه عبد بن حميد (1116) والحارث بن أبي أسامة (334 زوائد) والطحاوي في مشكل الآثار (2350) والبيهقي (4/ 292) وشعب الإيمان (3734). ورواه الطبراني في الأوسط (7607) من طريقٍ آخر عن جابر - رضي الله عنه -. (¬5) تحرف في المخطوط إلى: (عمر بن جابر، عن جابر الحضرمي). (¬6) تحرف في المخطوط إلى: (عمر).

قال القاضي أبو بكر بن العربي في كتاب العارضة (¬1): مَنْ صامَ رَمَضَانَ وَسِتَّةَ أيّامٍ منْ شَوَّالَ بعدَ الْفِطْرِ، لَهُ صَوْمُ الدَّهْرِ. قَطْعاً بِالْقُرآنِ. {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} [الأنعام: 160]، شهرٌ بعشرة، وستّة أيّامٍ بشهرين فهذا صوم الدّهرِ. وفي هذا سؤالان مشهوران: أحدهما: عند الإمام الطّحاوي في (¬2) كتاب. . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ (¬1) قال ابن العربي في أحكام القرآن (1/ 141 - 142): كره علماء الذين أن تصام الأيّام السّتة الّتي قال النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - فيها: "من صام رمضان وستاً من شوّالٍ، فكأنّما صام الدّهر كلّه" متّصلةً برمضان، مخافة أن يعتقد أهل الجهالة أنّها من رمضان، ورأوا أنّ صومها من ذي القعدة إلى شعبان أفضل؛ لأنّ المقصود منها حاصلٌ بتضعيف الحسنة بعشرة أمثالها متى فعلت؛ بل صومها في الأشهر الحرم وفي شعبان أفضل، ومن اعتقد أنّ صومها مخصوصٌ بثاني يوم العيد فهو مبتدعٌ سالكٌ سنن أهل الكتاب في الزّيادات، داخلٌ في وعيد الشّرع حيث قال: "لتركبن سنن من كان قبلكم. . . الحديث". وقال (4/ 15): رأى قومٌ من أهل الجفاء أن يصوموا ثاني عيد الفطر ستّة أيّامٍ متوالياتٍ إتماماً لرمضان، لما روي في الحديث: "من صام رمضان وستّاَ من شوّالٍ فكأنّما صام الدّهر". خرّجه مسلمٌ. وهذه الأيّام متى صيمت متّصلةً كان احتذاءً لفعل النّصارى، والنّبيّ - صلى الله عليه وسلم - لم يرد هذا، إنّما أراد أن من صام رمضان فهو بعشرة أشهرٍ، ومن صام ستة أيّامٍ فهي بشهرين، وذلك الدّهر. ولو كانت من غير شوّالٍ لكان الحكم فيها كذلك، وإنّما أشار النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - بذكر شوّالٍ لا على طريق التّعيين؛ لوجوب مساواة غيرها لها في ذلك؛ وإنمّا ذكر شوَّال على معنى التمثيل، وهذا من بديع النّظر فاعلموه. (¬2) تحرف في المخطوط إلى: (وفي).

مشكل الآثار (¬1) قال: وقد قالَ قائلٌ: إنّ مثل هذا لا ينبغي أن يقبلَ لِمَا فيه من أنّ صوم غير رمضان يعدل صومَ رمضان، ولا خلافَ في أنّه لا صومَ أفضلَ من صوم رمضانَ. فالجواب عن ذلك: أنّ صوم رمضان فضيلة. كما ذكره. من ذلك: ما روي: أَنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَاناً وَاحتِسَاباً غفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبهِ" (¬2). وقد روي: "مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَاناً وَاحْتِسَاباً غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ" (¬3). وروي أيضاً: "مَنْ صَامَ رَمَضَانَ وَقَامَهُ إيْمَاناً وَاحتِسَاباً غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ" (¬4). [فدلّ ذلك أن] حَقِيْقَةَ الحديث على: الصيام، والقيام. والله أعلم. وَإذَا كانَ صيامُ رمضانَ مفروضاً، وقيامه مسنوناً، والله - عز وجل - يجود على عباده من الثواب على أداء الفريضة بما شاء، فقد يكون الله - عز وجل - يكفّر عن صيام رمضان مع ذلك ما يكون منه في بقية عشرة أشهرٍ، وعلى صومِ ستّة أيّامٍ من شوّال لتكون الحسنة بعشر أمثالها. كما قال الله تعالى في كتابه، فيكون ذلك مع ما جاد به - عز وجل - لمن يصوم شهر رمضان كفّارة للسّنة كلّها. وبالله التوفيق. ¬

_ (¬1) مشكل الآثار (5/ 326). (¬2) رواه البخاري (38 و 1802 و 1910) ومسلم (760) عن أبي هريرة - رضي الله عنه -. (¬3) رواه البخاري (37 و 1904 و 1905) ومسلم (759) عن أبي هريرة - رضي الله عنه -. (¬4) رواه الإمام أحمد (2/ 503) والترمذي (683) وابن ماجه (1326) عن أبي هريرة - رضي الله عنه -.

والثاني: أورده في المغني، ونقله عن الغاية. فهو: فإن قيل: لا دليلَ في الحديث على فضيلتها؛ لأنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - شبّه صيامها بصيامِ الدّهر، وهو مكروهٌ. والجواب: أنّه كَرِة صوم الدهر، لما فيه من الضعف، والتشبيه بالتبتل، لولا ذلك لكان فضلاً عظيماً لاستغراقه الزمان بالعبادة والطّاعة. والمراد بالخبر: التشبّه في حصول العبادة على وجه عُري عن المشقة، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ صَامَ ثَلاَثَة أيامٍ مِنْ كُلِّ شَهرٍ كَانَ كمَنْ صَامَ الدَّهْر" (¬1). ذكر ذلك: حثاً على صيامها وبيان فضلها، ولا خلاف في استحبابها. ونهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عبد الله بن عمرو عن قراءةِ القرآن أقلَّ من ثلاثٍ (¬2). وقال - صلى الله عليه وسلم -: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} فَكَأَنَّمَا قَرَأَ ثُلُثَ الْقُرآنِ" (¬3). ¬

_ (¬1) رواه الإمام أحمد (5/ 145) وابن ماجه (1708) والترمذي (762) والبزار في مسنده (3904) والنسائي (4/ 219) وابن عدي (6/ 2431) والبغوي في شرح السنة (1801) من حديث أبي ذر الغفاري - رضي الله عنه -. (¬2) رواه الدارمي (1/ 350) والإمام أحمد (2/ 164 و 193 و 195) وأبو داود (1394) والترمذي (2947 و 2950) وابن ماجه (1347) عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يفقه من قرأ القرآن في أقلّ من ثلاث". وقال رجلٌ لإبراهيم النخعي: إني أختم القرآن كل ثلاث، قال: ليتك تختمه كل ثلاثين وتدري أي شيءٍ تقرأ. العقد الفريد لابن عبد ربه (2/ 88). (¬3) رواه بهذا اللفظ: النسائي في الكبرى (9946) عن أبي أيوب - رضي الله عنه -. ورواه أيضاً (10521) عن أُبَيّ بن كعب، عن رجل من الأنصار. و (10522) عن أبي بن كعب - رضي الله عنه -.=

أراد التشبيه بثلث القرآن في الفضلِ لا في كراهة (¬1) الزيادة عليه. قال صاحب المغني (¬2): إذا ثبت هذا فلا فرق بين كونها متتابعة أو متفرقة في أوّل الشهر (¬3) أو في آخره؛ لأنّ الحديثَ وردَ [بِها] مُطلقًا من غير تقيّيدٍ (¬4) لأفضلها (¬5)، لكونها تصير مع الشهر ستة (¬6) وثلاثين يوماً، والحسنة بعشر أمثالها، فيكون ذلك كثلاث مئة وستين يوماً، وهي (¬7) السنة كلها، فإذا وجد ذلك في [كلّ] سنة صار كصيام الدّهر [كُلّه]، وهذا المعنى يحصل مع التفريق. والله أعلم. ¬

_ = رواه أبو محمد الخلال في فضائل سورة الإخلاص (1) عن عبد الله بن ألى فروة. و (2) الطبراني في الكبير (13493) عن ابن عمر - رضي الله عنهما -. و (3) عن ابن مسعود. (¬1) في المخطوط: (الكراهة) ولكن شطب الناسخ على (ال). (¬2) المغني شرح مختصر الخرقي لموفق الدين ابن قدامة (3/ 112). (¬3) تحرف في المخطوط إلى: (النهار). والتصحيح من المغني. (¬4) تحرف في المخطوط إلى: (تقيد). (¬5) في المغني: فضيلتها، بدل: (ولا فضلها). (¬6) تحرف في المخطوط إلى: (ست). (¬7) في المغني: (وهو).

(12) رسالة في قضاء القاضي

مَجْمُوعَةُ رَسَائِل العَلَّامَة قَاسِم بن قُطْلُوبُغَا [12] رِسَالَةٌ في قَضَاءِ القَاضِي تَأْلِيفُ العَلَّامَة قَاسِم بْنِ قُطْلُوبُغَا الحَنَفِي المولود سَنَة 802 هـ والمتوفى سَنة 879 هـ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -

بداية الرسالة

(12) رَسَالَةٌ في قَضَاءِ القَاضِي قال - رحمه الله -: قد سئلت عن قاضٍ مالكي قال: ثبت عندي: أنّ ذمّة فلانٍ كانت مشغولةً بالديون المستغرقة حال وقفه للأماكن المذكورة. وسألت الحاكم الحنفي الذي حكم بصحّة الوقف، ولزومه ونفوذه، هل من مذهبكم الشريف أنّ أحكامكم بصحّه الأوقاف مانعة عن الحكم بمقتضى مذهب من يرى: أنّ وقفَ المديون المشغولة ذمّته بالديون المستغرقة، لا يصحّ. فأجابَ: بأنّ الأحكام المذكورة غير نافذة؛ لأني قصدت المتفق عليه، فحصل حكمي في محلٍّ مختلفٍ فيه، وهو وقف المديون، فلم تبعد، وحيمئذ: فلا مانع للحاكم الذي يرى عدم صحّة الوقف أن يحكم بما يراه، فهل ما ذكره الحاكم الحنفي صحيحٌ معتبرٌ أم لا؟. فكتبتُ: الحمد لله، ربِّ زدني علماً. ليس ما زعمه الحاكم الحنفي من عدم إحكام نفاذه بصحيح، وما علّل به من أنه قصد المتّفق عليه، فحصل حكمه في محلٍّ مختلفٍ فيه، فلم ينفذ زلة عالمٍ خرق بها إجماع المسلمين، واستبيح بها الفروج المحرّمة، والأموال

المحترمة، وقطع بها حقوق الأنام والفقراء وطلبة العلم والعلماء، وعمل بها في هذا بالتشهي الحرام الخارق لإجماع أمّة محمّدٍ خير الأنامِ عليه أفضل الصّلاة والسّلام. أعاذنا الله من ذلك بحوله وقوته، إنهّ هو العلي العظيم. وبيان ذلك: أن وضع المسألة في قضاء القاضي المجتهد في حادثةٍ له فيها رأيٌ مقدّرٌ قبل قضائه في تلك الحالة التي قصد فيها المتفق عليها، فحصل حكمه في المحل المختلف فيه، وهو لا يعلم، وهي القضاء بصحّة وقف المديون، ثم بان أنّ قضاءه هذا على خلف رأي المقر. وقبل هذه الحادثة. والجواب حينئذٍ فيها: أنّه لم ينعقد قضاؤه. وهذا ضابطٌ أخذ من فرع وقع فيه القضاء على خلاف رأيه السابق، وصرّح به في الفصول. فقال القاضي: إذا قضى في محل الاجتهاد، وهو يرى خلافَ ذلك. ذكر في بعض المواضع: أنه لا ينفذ. الخ. وقد أغفلوا وهو يرى خلف ذلك في يمعمر من المواضع، وهو مرادٌ بدليل تعليلهم بالفرع الذي أخذ منه هذا كما سيأتي هذا. وأمّا أنّه إذا وافق قضاؤه رأيه في المسألة وهو لا يعلم حالة قضائه في أنّ المسألة خلافٌ. فالقول: بأنه لم ينفذ قضاؤه كما زعم هذا القاضي، لم يصرّح به أحدٌ من علماء الإسلام، ولم ينظر في شيء من كتب المسلمين فيما نعلم. واللهُ أعلمُ. ولا يعقلُ له معنى؛ لأنه إنّما نصّ على العلم أو عدمه فيما إذا قضى على

خلاف رأيه السّابق؛ لأنَّه إذا كان عالماً بالخلاف، وقضى على خلف رأيه المقرر. وقيل: حمل على أنه تبدّل اجتهاده فينفذ. وإذا لم يعلم عمل على بقائه على الاجتهاد السّابق، فلم ينفذ. وقوله في الفصول: ينبغي أن يكون عالماً بمواضع الخلاف. إلخ. فهذا الذي ذكرنا لا للعلم. وبيان هذا بالنّصوص الصّريحة في ذلك. منها: قول الإمام حسام الدين الشهيد في الفتاوى الصغرى: إذا قضى في فصلٍ مجتهدٍ فيه، وهو لا يعلمُ بذلك، لا ينفّذ؛ لأنَّه ذكر في السِّير الكبير: رجلٌ مات وله مدبَّرون حتَّى عتقُوا، ثم جاء رجلٌ وأثبت (¬1) ديناً على الميت، فباعهم القاضي على ظنّ أنَّهم عبيدٌ، وقضى بجوازه، ثم ظهر أنَّهم مدبَّرون، كان قضاؤه بذلك باطلاً، وإن قضى في فصلٍ مجتهدٍ فيه، وهو: جواز بيع المدبَّرِ، لكن لما لم يعلم بذلك كان باطلاً. انتهى (¬2). ¬

_ (¬1) تحرف في المخطوط إلى: (وأبت). (¬2) نسب صاحب البحر الرائق شرح كنز الدقائق (17/ 488 - 489) هذا الكلام لصاحب كتاب منية المفتي. وقال صاحب رد المحتار (21/ 395): مطلب: ما ينفذ من القضاء وما لا ينفذ. (قوله: إذ حكم نفسه قبل ذلك)؛ أي: قبل الرّفع إليه كذلك، أي: كحكم قاضٍ آخر في أنّه ينفذه إذا رفع إليه ويكون هذا رافعاً للخلاف فيه، ولا يحتاج في نفوذه على المخالف إلى قاضٍ آخر، لكن ذكر ذلك ابن الغرس سؤالاً وأجاب عنه بأنّه لا يصحّ؛ لأنّه غير ممكنٍ شرعاً، إذ القاضي لا يفضي لنفسه بالإجماع، والحكم به حكمٌ بصحة فعل نفسه فيلغو. اهـ. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = قلت: هذا ظاهرٌ بالنسبة إلى رفع الخلاف، أمّا بالنسبة إلى منع الخصم وإلزامه به فلا تأمُّل. (قوله: نفّذه)؛ أي: يجب عليه تنفيذه. (قوله: لو مجتهداً فيه) بنصب مجتهداً خبراً لكان المقدّرة بعد لو واسمها ضميرٌ عائدٌ إلى حكم العائد إليه ضمير نفّذه. ثمّ اعلم أنّهم قسّموا الحكم ثلاثة أقسامٍ، قسمٌ يردّ بكل حالٍ وهو ما خالف النصن أو الإجماع كما يأتي، وقسَّم يمضي بكلّ حالٍ، وهو الحكم في محلّ الاجتهاد، بأن يكون الخلاف في المسألة وسبب القضاء، وأمثلته كثيرةٌ منها لو قضى بشهادة المحدودين بالقذف بعد التوبة، وكان يراه كشافعى، فإذا رفع إلى قاض آخر لا يراه كحنفيٍّ يمضيه ولا يبطله، وكذا لو قضى لامرأةٍ بشهادة زوجها وآخر أجنبي، فرفع لمن لا يجيز هذه الشهادة أمضاه؛ لأنّ الأوَّل قضى بمجتهدٍ فيه فينفذ؛ لأنّ المجتهد فيه سبب القضاء، وهو أن شهادة هؤلاء هل تصير حجّةً للحكم أم لا فالخلاف في المسألة وسبب الحكم لا في نفس الحكم، وكذا لو سمع البينة على الغائب بلا وكيلٍ عنه، وقضى بها ينفذ؛ لأن المجتهد فيه سبب القضاء، وهو أنّ النبينة هل تكون حجّة بلا خصمٍ حاضر، فإذا رآه صحّ، وسيأتي اختلاف الترجيح في الأخيرة. وقسمٌ اختلفوا فيه: وهو الحكم المجتهد فيه وهو ما يقع الخلاف فيه بعد وجود الحكم فقيل: ينفذ، وقيل: يتوقّف على إمضاء قاضٍ آخر، وهو الصحيح كما في الزيلعي وغيره، وبه جزم في الخانية، وحكى ابن الشّحنة في رسالته المؤلّفة في الشهادة على الخطّ عن جذه ترجيح الأوّل، فإذا رفع إلى الثّاني فأمضاه يصير كأن القاضي الثاني حكم في فصلٍ مجتهدٍ فيه فليس للثالث نقضه ولو أبطله الثاني وبطل، وليس لأحدٍ أن يجيزه كما لو قضى لولده على أجنبى أو لامرأته أو كان القاضي محدوداً في قذفٍ؛ لأن نفس القضاء مختلفٌ فيه وسيشير الشَّارح إلى القسم الأخير وتمام الكلام على ذلك في رسالة ابن الشحنة المذكورة والبرازية وسيأتي له مزيد تحقيقٍ. (قوله: عالماً) حالٌ من قول المصنّف قاضٍ آخر، وساغ مجيء الحال منه وهو نكرةٌ لتخضصها بالوصف، وهو آخر ولا يصحّ كونه خبراً بعد خبر لكان المقدّرة بعد لو في قوله لو مجتهداً فيه؛ لأنَّ الضمير المستتر فيها عائدٌ إلى الحكم كما علمت،=

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = فيلزم أن يكون الضَّمير المستتر في عالماً عائداً إلى الحكم أيضاً ولا يصحّ مطلبٌ مهما في قولهم يشترط كون القاضي عالماً باختلاف الفقهاء. (قوله: عالماً باختلاف الفقهاء فيه. . . إلخ) أقول: ذكر ذلك أيضاً في البحر، فذكر أنّ هذا شرط نفاذ القضاء في ظاهر المذهب ثمّ ذكر عبارة الخلاصة ثمّ قال: والتحقيق المعتمد أن علمه بكون ما حكم به مجتهداً فيه شرط، وأمّا علمه بكون المسألة اجتهاديةً، فلا، ويدل عليه ما في الفتاوى الضغرى. اهـ. ثمّ ذكر مسألة قضاء القاضي مخالفاً لرأيه، وأطال الكلام عليها. وسيذكرها المصنف في قول (قضى في مجتهدِ فيه بخلاف رأيه. . . إلخ) ويأتي الكلام عليها، وهذه غير مسألة اشتراط العلم التي نحن فيها ولم يوفها صاحب البحر حقها، حتى اشتبهت على بعض المحشّين فتكلم عليها بما قالوه في المسألة الثانية الآتية، مع أنهما مسألتان متغايرتان فافهم، ومسألة اشتراط العلم وقع فيها نزاعٌ، وقد ألف فيها العلامة المحقّق الشّيخ قاسمٌ رسالةً: حاصلها: أن وضع المسألة المذكورة في قضاء القاضي المجتهد في حادثةٍ له فيها رأيٌ مقررٌ قبل قضائه في تلك الحادثة التي قصد فيها المتفق عليه، فحصل حكمه في المحل المختلف فيه، وهو لا يعلم ثمّ بأن أن قضاءه هذا على خلف رأيه المقرر قبل هذه الحادثة، فحينئذ لا ينفذ قضاؤه. وأمّا إذا وافق قضاؤه رأيه في المسألة ولم يعلم حال قضائه أن فيها خلافاً، فلم يقل أحد من علماء الإسلام بانة لا ينفذ قضاؤه، خلافًا لمن زعم ذلك، وبيان ذلك بالنصوص الصريحة منها قول الإمام حسام الذين الشهيد في الفتاوى الصّغرى: إذا قضى في فصلٍ مجتهدٍ فيه، وهو لا يعلم بذلك لا ينفذ، فإنّه ذكر في السير الكبير: رجل مات وله مدبّرون حتى عتقوا، ثمّ جاء رجلٌ وأثبت دينًا على الميت، فباعهم القاضي على ظن أنفم عبيا وقضى بجوازه، ثمّ ظهر أنهم مدبرون كان قضاؤه بذلك باطلاً، وإن مضى في فصلٍ مجتهدٍ فيه، وهو جواز بيع المدبّر، لكن لمّا لم يعلم بذلك كان باطلاً. اهـ. فعلم أن الضابط أخذ من فرعٍ وقع فيه القضاء على خلف رأيه السابق، وهو أن المدبّر لا يباع؛ فلذا كان قضاؤه باطلاً وعدم العلم دليل بقاء رأيه السابق، وأمّا لو كان عالماً =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = وقضى على خلاف رأيه السّابق حمل على تبدّل اجتهاده، بدليل ما في السّير الكبير في باب الفداء الذي يرجع إلى أهله حيث قال: مات وله رقيق، وعليه دينٌ كثيرٌ فباع القاضي رقيقه، وقضى دينه ثمّ قامت البينّة لبعضهم: أن مولاه كان دبره، فإنّ بيع القاضي فيه يكون باطلاً، ولو كان القاضي عالماً بتدبيره واجتهد وأبطل تدبيره لكونه وصيّة وباعه في الذين، ثمّ ولي قاضٍ آخر يرى ذلك خطاً، فإنّه ينفذ قضاء الأوّل. . . إلخ، فعلم أن عدم الأخذ ليس هو لعدم العلم بل لكونه بيع الحرّ. وقال الحسام أيضاً قال في كتاب الرّجوع عن الشهادة: إذا قضى القاضي بشهادة محدودين في قذف، وهو لا يعلم بذلك ثمّ ظهر لا ينفذ قضاؤه، وهو محمولٌ على محدودين شهدا بعد التّوبة كما في قضاء شرح الجامع، ومن المعلوم: أن قضاء هذا على خلاف رأيه المقرّر قبل ذلك فلذا لم ينفذ، فعدم النفاذ لعدم صحة الشهادة لا لعدم العلم، فإذا ظهر أنّ هذا في قضاء القاضي المجتهد، وأن اعتبار العلم وعدمه إنّما هو للدّلالة على البقاء على الاجتهاد الأول أو تبدّله، وأنَّه لو كان على وفق رأيه نفذ وإن لم يعلم بالخلاف ظهر لك أنّ اعتبار هذا في القاضي المقلّد جهالةٌ فاحشةٌ، وخرقٌ لما أجمعت عليه الأمّة في أنّ المقلّد إذا قضى يقول إمامه مستوفياً للشّروط نفذ قضاؤه، سواءٌ علم أنّ في المسألة خلافاً أو لا، وصار المختلف فيه بقاؤه متفقاً عليه كما صرّحت به نصوص المختصرات والمطوّلات وامتنع نقضه بالإجماع. هذا خلاصة ما في تلك الرّسالة. وحاصله: أن اشتراط كون القاضي المجتهد عالماً بالخلاف، إنَّما هو لبيان أنّ الموضع المختلف فيه الّذي لم يقصد الحكم به لعدم علمه به كصحّة بيع المدبّر، وقبول شهادة المحدود لا يصير محكوماً به في ضمن الحكم الّذي قصده وهو بيع عبد المديون لقضاء دينه، وقبول شهادة العدل في الصورتين السابقتين ونحوهما، إذ لا وجه لصيرورته محكوماً به مع عدم علمه به وقصدٍ له، ومع كونه مخالفاً لرأيه، بخلاف ما إذا كان عالماً به، وقصد الحكم به، فإنّه كان خالف رأيه يصحّ حكمه به، ويكون ذلك رجوعًا عن رأيه السّابق لتغيّر اجتهاده فينفذ وإذا رفع إلى قاضٍ آخر أمضاه، وهذا كلامٌ في غاية التّحقيق، وحيث كان هذا هو ظاهر الرّواية فلا يعدل عنه =

فعلم أنَّ الضَّابط أخذَ من فرعٍ وقع فيه القضاءُ على خلاف رأي القاضي المقرر قبل هذه الحادثة، وهو: أنَّ المدبَّر لا (¬1) يباعُ وهو حرٌّ من الثلث، فإن ¬

_ = وكأنّ صاحب الخلاصة فهم أنّ المراد اشتراط علمه بالخلاف فيما قصد الحكم به أو لم يقصد فلذا قال: ويفتى بخلافه ولا سيّما إن كان فهم أيضاً أنّه شرط في المجتهد وغيره إذ لا شكّ في عسر ذلك ولا سيّما على قضاة زماننا فافهم. والله سبحانه أعلم. (قوله: بعد دعوى صحيحةٍ. . . إلخ) الظّرف متعلّق بحكمٍ في قوله: حكم قاضٍ أو بمحذوفٍ خبر أيضاً لكان المقدّرة بعد لو في قوله لو مجتهداً فيه. قال في البحر أوّل كتاب القضاء: فإن فقد هذا الشرط لم يكن حكمًا، وإنّما هو إفتاءٌ صرّح به الإمام السّرخسيّ، وبأنّه شرط لنفاد القضاء في المجتهدات. ونقل الشّيخ قاسمٌ في فتاواه الإجماع عليه، ثمّ قال هنا في البحر: فالحاصل: أنّ الحكم المرفوع لا بدّ أن يكون في حادثةٍ وخصومةٍ صحيحةٍ كما صرّح به العماديّ والبرازيّ وقالا حتّى لو فات هذا الشّرط لا ينفذ القضاء؛ لأنهّ فتوى فلو رفع إلى حنفي قضاء مالكي بلا دعوى، لم يلتفت إليه ويحكم بمقتضى مذهبه، ولا بدّ في إمضاء الثّاني لحكم الأوّل من الدّعوى أيضًا كما سمعت. اهـ. أي: لا بدّ في حكم الثّاني إذا رفع إليه حكم الأوّل، من أن يكون أيضاً بعد دعوى صحيحةٍ كما نقله عن البزّازيّة، وهذه الدّعوى والخصومة تسمّى الحادثة لحدوثها عند القاضي ليحكم بها، بخلاف ما كان من لوازم تلك الحادثة فإنّه لم يحدث بدون الخصومة فيه، فلذا لم يصحّ حكمه به قبلها كما يأتي بيانه في الموجب قريباً، ثمّ اعلم أن اشتراط تقدّم الدّعوى إنّما هو في القضاء القصديّ القوليّ دون الضّمنيّ والفعليّ كما سنحقّقه فى الفروع، وكذا ما تسمع فيه الدّعوى حسبةً ومنه الوقف كما يأتي قريباً. (قوله: وإلَّا لا)؛ أي: وإن لم يكن حكم الأوّل بعد دعوى صحيحةٍ لم يكن قضاءً صحيحاً، بل كان إفتاءً؛ أي: بياناً لحكم الحادثة، وإذا كان إفتاء لم يلزم القاضي الثّاني تنفيذه بل يحكم بمقتضى مذهبه وافق حكم الأوّل أو خالفه فافهم. . . (¬1) أقحم في المخطوط: (لا).

لم يكن للسيد مال لزمته السعاية، فلهذا: كان جواب المسألة: أنّ قضاءه باطلٌ، وكان عدم العلم دليل بقاء رَأْيِهِ السَّابِقِ حتى قال: إنّ البيع صادف الأحرار؛ لأنهم عُتِقُوا بموته. أمّا لو كان عالماً، وقضى على خلاف رأيه السابق، حمل على تبدّل الاجتهاد بدليل تمام الكلام في هذه المسألة. فإنه قال فِي السِّير الكبير في باب الفداء الَّذي يرجعُ إلى أهله: مات وله رقيقٌ، وعليهِ دينٌ كثيرٌ فباعَ القاضي رقيقه، وقضى دينهُ، ثم قامت البيِّنة لبعضهم: أنَّ مولاه كان دبره (¬1)، فإنَّ بيع القاضي فيه يكونُ باطلاً، ولو كان القاضي عالماً بتدبيره، واجتهد وأبطل تدبيرهُ لكونهِ (¬2) وصيّة وباعه في الدَّين، ثم ولّي قاضٍ آخر يرى أنَّ ذلك خطأ، فإنَّه ينفذ قضاء الأوَّل. . . إلخ. فعلم: أنَّ عدم النَّفاذ ليس هو لعدم العلم، بل لكونه بيع الحرِّ. ولهذا قال الشهيد: والاستدلال بمسألة السير لا يستقيم؛ لأنّ عدم النفاد ما كان لعدم العلم بكون الفصل مجتهداً فيه، وإنّما كان؛ لأنّ البيع صادفَ الأحرار لأنهم عتقوا بموته. أكثر ما في الباب: أنه يجب عليهم السعاية، لكن ذلك لا يمنع وقوع العتق. انتهى. فترك القاضي ذلك وأخذ بقوله، وهو لا يعلم بذلك. لا ينفذ. فشهد على نفسه بالجهالة. والله أعلم. ¬

_ (¬1) في المخطوط: (دبر). (¬2) في المخطوط: (لأنه).

وقال الحسام أيضاً: قال في كتاب الرُّجوع عن الشَّهادة: إذا قضى القاضي بشهادة شاهدين محدودين في قذفٍ، وهو لا يعلم بذلك، ثم ظهر، لا ينفذ قضاؤه، وعليه أن يرد قضاءه، ويأخذ من المال المقضي له، وهو محمولٌ على محدودين شهدا بعد التَّوبة، فإنَّه ذكر في أوَّل قضاء شرح الجامع: إذا قضى القاضي بشهادة محدودين في قذف قد تابا. . . إلخ. ومن المعلوم: أنَّ قضاءه هذا على خلاف رأيه (¬1) المقرَّر قبل ذلك فلهذا كان الجواب: أنّه لا ينفذ، فعدم النَّفاذ لعدم صحَّة الشَّهادة، لا لعدم العلم. وقال الحسام الشهيد أيضاً: إذا قضى القاضي في فصلٍ مجتهدٍ فيه، وهو يقصد المتفق، فوافق قضاؤه المحلّ المختلف، نفذ قضاؤه. وذكر محمّد في كتاب الإكراه: لو شهد شاهدان على رجلٍ أنّه قذفَ امرأته فلانة. فلاعنَ الزوج امرأته من غير إكراهِ القاضي وحبسه، وفرّق القاضي بينهما، ثم تبيّن: أن الشهود عبيدٌ، فإن قضاء القاضي بالتفريق صحيحٌ؛ لأنّ باللعان في المرّة الأولى لما قال: أشهد بالله إني لصادقٌ فيما رميتها من الزنا، صارَ مقراً بالقذف. قلت: تبيَّن أن قذف الزوج كان لم يثبت بشهادة الشهود، يثبت بإقراره طائعاً. قال: فإذا لاعنَ بعد ذلك ثلاث مرّات. وفرّق القاضي بينهما. فقد قضى في التفريق في محلّ يسوغّ الاجتهاد فيه. وهو التفريق بعد اللعان ثلاث مرّات. ¬

_ (¬1) في المخطوط: (رأي).

قال الولوالجي (¬1): لأنهّ أقام أكثر مقام الكل، وأكثر الشيء أقيم مقام الكل في كثيرٍ من المواضع والأحكام، فهذا إذا أقام كان اجتهاداً في محّله، فينفذ قضاؤه حتى لو التعن مرتين، ففرّق القاضي بينهما، فتفريقه باطلٌ؛ لأنه قضى بالاجتهاد في غير محلّه، فإنَّه أقام الأقل مقام الكل، وهذا مما لا نظير له في الأصول. انتهى. قلت: فنفاد قضائه ليس لعدم العلم، وإنما هو لرأيٍ صحيحٍ حصل له في المسألة. فلهذا قال الولوالجي هنا: فدلّت المسألة على أن القاضي متى قضى في محلَّ سوغّ فيه الاجتهاد كان لم يعلم هو أنه قضى في محل الاجتهاد وقصده المتفق عليه في هذه المسألة هو: أنّ الشهادة شهادة الأحرار. وقوله: فوافقَ قضاؤه. المحل المختلف ليس هو محل قصده المتفق عليه، وهو الاتفاق والاختلاف في شهادة العبيد، وإنما هو محل اختلاف من جهةٍ أخرى. وليس للمجتهد قول في عين المسألة قبل هذا الحكم، فلم يكن ضده مقابلة المسألة الأولى. وفي هذه كلامٌ، وهو: أنّ محل الاجتهاد هل يشترط أن يكون وقع فيه خلاف أو أنّه قابل للخلاف. فقال في الأحكام: بما ¬

_ (¬1) قال المصنف في تاج التراجم (ص 12): عبد الرشيد بن أبي حنفية بن عبد الرزاق بن عبد الله الولوالجي، أبو الفتح، من ولوالج [تحرف في المطبوع إلى: والوالج]، بلدة من طخارستان، سكن سمرقند، إمام فاضل، حسن السيرة، وتفقه على جماعة، وكتب الأمالي، وولد في جمادى الأول سنة سبع وستين وأربع مئة، ومات بعد الأربعين وخمس مئة. قلت [أي: ابن قطلوبغا]: وذكره الذهبي في هذه الطبقة من الذين لم تعرف وفاتهم.

هي مقابله لا ينقض، وإن حكم في السكوت عنه بما هو خلاف القواعد ينقض، ولا فرق في عدم النقض بين المسكوت عنه وبين ما وقع الخلاف فيه. انتهى. ولما تبين أنّ هذا في قضاء القاضي المجتهد، وأنّ اعتبار العلم وعدمه إنما هو للدلالة على البقاء على الاجتهاد الأوّل أو تبدله، وأنهّ لو كان وفق رأيه نفذ، وإن لم يعلم بالخلاف بالنقل، وبدلالة الإجماع الذي حكاه في كتاب الأحكام، ظهر أنّ اعتبار هذا في قضاء القاضي المقلّد زلة عالمٍ وجهالةٌ فاحشةٌ بالمسألة، وخرق لما اجتمعت عليه علماء الأمّة في أنّ القاضي المقلّد إذا قضى يقول إمامه الذي لا يخالف نص كتابه، ولا سنّةً مشهورةً، ولا إجماعاً مستوفي الشروط بعد قضائه. عُلِمَ: أنّ في المسألة خلافاً أو لم يعلم، وصار المختلف فيه بقضائه متفقاً عليه، كما صرّحت به نصوص المختصرات والمطوّلات، وامتنع نقضه بإجماع المسلمين، نصّ على الإجماع الشيخ الإمام أبو العباس في كتاب الأحكام وقال: إنّ في مسائل الخلاف إذا حكم فيها الحاكم ما تعين من النقض بالإجماع، وما هو في معنى النّص الخاص الوارد في تلك الواقعة. قال: وتقرير هذا: أن الله جعل للحاكم أن يحكم في مسائل الاجتهاد بأحد القولين، فإذا حكموا بأحدهما كان ذلك حكماً من الله - عز وجل - في تلك الواقعة. وإخبار الحاكم: أنه يحكم فيها كنصٍّ من الله تعالى ورد خاصاً بتلك الواقعة. انتهى. وأمّا أنه استبيح بها الفروج المحرّمة، فقد قالوا في ابنه محمد بن أينال زوج فرجٍ بن أزومر وقد خلعها من عصمته مدّةً. ولم يحكم في الخلع بشيءٍ،

ثم تزوج، ثم طلّقها طلقةً صريحة راجعها، ثم طلَّقها، ثم رفع إلى القاضي نور الدين بن البرقي وادّعى عنده: أنّه طلَّقها آخر الطلقات، وحكم بوقوع الحرمة الغليظة، وأن لا تعود إليه حتى تنكحَ زوجاً غيره. إن هذا القاضي قصد المتفق عليه ظناً منه: أنّ الثلاث صرائح، ولم يعلم بالخلع، فحصل حكمه في محل مختلفٍ فيه، وهو الخلع الأوّل، فلم ينفذ قضاؤه في الحرمة الغليظة. فذهب إلى حاكمٍ حنبليٍّ فيحكم بأن الخلع فسخٌ لا ينقص العدد، وتعود إلى زوجها من غير محلّلٍ، وتبقى معه بما بقي من الطّلقات. هذا ما اطّلعت. والله أعلم بما لم يبلغني. وأمّا أنه استبيح به الأموال المحرّمة فأعاد الأوقاف التي أبينت بهذه الطريق الباطل. وأمّا أنّه قطع بها حقوق الأيتام والفقراء والطلبة والعلماء فله خروج الأوقاف بهذه الطريقة الباطلة. وأمّا أنّه عمل فيها على زعمهم بالتشهي الحرام، فلأنه قال في الفتاوى الولوالجية: إن القاضي إذا قضى في محلٍّ يسوغ فيه الاجتهاد وينفذ قضاؤه وإن لم يعلوه أنه قضى في محلّ الاجتهاد، فعملهم بالأوَّل دون هذا عملٌ بالتشهي؛ لأنهّم ليسوا من أهل الاجتهاد، ولا الترجيح. وقد قال في كتاب الأحكام: وليس للقاضي أن ينشئ حكماً بالهوى واتباع الشهوات، بل لا بد أن يكون ذلك القول الذي حكم به، قال به إمامٌ معتبرٌ بدليلٍ معتبرٍ. وأمّا اتباع الهوى في الحكم فحرامٌ إجماعاً.

وأمّا أنه خارقٌ لإجماع أمّة محمّدٍ - صلى الله عليه وسلم -. فقال أبو عَمرو الشهرزوري (¬1) في كتاب أدب القاضي والفتوى (¬2): واعلم أنّ من يكتفي أن يكون فتواه وعمله موافقاً لقولٍ أو وجهٍ في المسألةِ، ويعمل بما شاء من الأقوال أو الوجوه من غير نظرٍ في الترجيح، فقد جهل وخرق الإجماع. انتهى. فهذا قوله فيمن عمل بقولٍ، ووجهٍ في المسألة. وما نحن فيه، وهو قضاء القاضي المقلّد مستوفياً للشروط، موافقاً لقول إمامه: ليس فيه قولان ولا وجهان ولا ما يصلح بسمته. وقول الموثق مع العلم بخلاف عملٍ الآن، لاَ ما كانَ. إذا عرف هذا. فنقُولُ الحاكم الحنفي الحاكم بالوقف: أنّ قضاءه لم ينفذ لعدم العلم به باطلٌ. والبيع النَّاشئُ عن قوله هذا باطل، والحكم به باطل، والوقف وقفٌ على حاله، ولكلّ حكمٍ من حكّام الشريعة المطهّرة اتصل به هذا رفعُه. والحاكم باستمرار الوقف الأوّل دفعاً للفساد من بين العباد. والله سبحانه وتعالى أعلمُ. ¬

_ (¬1) تحرف في المخطوط إلى: (أبو عمر الشهروردي). وهو الإمام، الحافظ، العلامة، شيخ الإسلام، تقي الدين، أبو عمرو عثمان ابن المفتي صلاح الدين عبد الرحمان ابن عثمان بن موسى الكردي الشهرزوري الموصلي الشافعي، صاحب علوم الحديث. سير أعلام النبلاء للذهبي (23/ 140). (¬2) مطبوع باسم: أدب المفتي والمستفتي، حققه د. محيي الدين هلال السرحان.

(13) [رسالة في] العدة

مَجْمُوعَةُ رَسَائِل العَلَّامَة قَاسِم بن قُطْلُوبُغَا [13] [رِسَالَةٌ فِي] العِدَّةِ تَأْلِيفُ العَلَّامَة قَاسِم بْنِ قُطْلُوبُغَا الحَنَفِي المولود سَنَة 802 هـ والمتوفى سَنة 879 هـ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -

بداية الرسالة

(13) [رِسَالَةٌ فِي] العِدَّةِ قال - رحمه الله -: قد سئلتُ عن امرأةٍ طلَّقها زوجها طلاقاً رجعيًّا في مرض موته، ثم مضى عليها ثلاثة أشهرٍ وثلاثة عشر يومًا، ثم مات، فأقرَّت أنّها حاضت في هذه المدّة ثلاث حيضٍ، فهل تورث بعد هذا الإقرار أم لا؟. فأجبته: أنها لا تورث في هذه الصورة. والله أعلمُ. وكتب على هذه بعض مشايخ العصر ما صورته: الحمد لله المنعم بالصّواب. إذا كان الطّلاق رجعيا، ترثُ منه ما دامت الوفاة قائمة. والله أعلم. ثم بلغني: أنّ بعض قضاتنا استشكل جواب الشيخ، وأن بعض العدول من طلبتي احتجّ عليه يقول ابن فرشته في شرح المجمع في فصل طلاق الغاز: إنَّما قيّد بإطلاقها بالبينونة؛ لأنه إذا كان رجعيا فعليها عدة الوفاة اتفاقاً. وإن القاضي المستشكل: أخرج في تتمة الفتاوى (¬1) لينظر تحقيق هذا ¬

_ (¬1) قال صاحب كشف الظنون (1/ 343): تتمة الفتاوى للإمام برهان الدين محمود ابن أحمد بن عبد العزيز الحنفي صاحب المحيط، المتوفى سنة 616 هـ. هذا كتاب جمع فيه الصدر الشهيد حسام الدين ما وقع إليه من الحوادث والواقعات، وضم إليها: ما في الكتب من المشكلات، واختار في كل مسألة فيها روايات مختلفة،=

القول، فقلت: المستشكل معذورٌ لإطلاق الأصحاب؛ لأنها إنما ترث إذا كانت العدّة قائمة، والمتشبّث بما قال ابن فرشته معذورٌ أيضاً لإطلاق قوله: إذا كان رجعياً فعليها عدة الوفاة، ولم يعلم أنّ مراده: إذا مات وهي في العدّة لقوله في الأصل: فعليها أربعة أشهرٍ وعشراً. وبطل عنها الحيض. انتهى. وإنما تبطل إذا كان قائماً لا المنقضي. وقال شارحه: إذا طلّق امرأته، ثم مات، فإن كان الطلاق رجعياً انقلبت عدتها إلى عدة الوفاة سواء طلّقها في حالة المرض أو حالة الصّحة، وانهدمت عدة الطلاق، وعليها أن تستأنف عدة الوفاة في قولهم جميعاً؛ لأنّها زوجته بعد الطلاق، إذ الطلاق الرجعي لا يوجب زوال الزوجية، وموت الزوج يوجب على زوجته عدة الوفاة لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة: 234]. كما لو مات قبل الطلاق. فقولهم: انتقلت وانهدمت، وما عدلوا به من أنّها زوجته إلخ. صريحٌ فيما ذكرت. وكذا قوله في المحيط: المطلقة الرجعية إذا مات زوجها تعتد للوفاة أربعة أشهرٍ [و] عشراً لقيام النكاح. قلت: ولا قيام للنكاح بعد العدة. وكذا قوله في الإيضاح: لأن النكاح قد بقيَ. ¬

_ = وأقاويل متباينة، ما هو أشبه بالأصول، غير أنه لم يرتب المسائل ترتيباً، وبعد ما أكرم بالشهادة، قام واحد من الأحدوثة بترتيبها وتبويبها، وبنى لها أساساً، وجعلها أنواعاً وأجناساً، ثم إن العبد الراجي: محمود بن أحمد بن عبد العزيز زاد على كل جنس ما يجانسه، وذيّل على كل نوع ما يضاهيه. انتهى.

قلت: ولا بقاء للنكاح بعد العدة. وفي الذخيرة: وإذا كان الطلاق رجعياً في صحة أو مرض فعدّتها أربعة أشهرٍ وعشراً. فقد بطل عنها الحيض في قولهم جميعًا؛ لأنّ الطلاق الرجعي لا يقطع النكاح عندنا. فكانت الزوجية قائمة. والله أعلم. جعل كل الواجب على المرأة عند موت الزوج: التربص بأربعة أشهرٍ وعشراً. وكانت من ضرورة سقوط الاعتداد بالحيض. انتهى. ففي صورتنا لم تكن الزوجية قائمة وقت الموت، فلم يجب عليها بموته شيءٌ. ألا ترى أنها لو تزوجت قبل موته كان النّكاح صحيحاً. وفي شرح الهداية: ودخلت في عدة الطلاق، ثم مات الزوج، فإنّها تنتقل عدتها إلى عدّة الوفاة. وهذا يفيد: أنّها دخلت ولم يخرج بعد حتى مات. فتنتقل العدة القائمة. وفيه شاهدٌ؛ أنَّها تبطل لا تنتقل. وقول شراح الكنْز: لبقاء الزوجية من كل وجهٍ قبل الموت، فيوهموا أنّ عدتها بعد انقضاء عدتها بالأقراء بقية عدة الوفاة. وهذا وهمٌ في الوهم للأوَّل؛ لأن أصحابنا إنمّا قالوا في تلك الصورة: أنها تستأنف العدة من حين موته، فتتربص أربعة أشهرٍ وعشراً. والله سبحانه وتعالى أعلمُ.

[فتوى عن القصر والإتمام]

[فَتْوَى عَنِ القَصْرِ وَالإتْمَامِ] وسئل - رحمه الله -: عن رجلٍ خرج من مصر؛ قاصداً مِصراً آخر بينهما أكثر من مسيرة السفر، فسار يوماً، ثم رجع إلى مِصْرهِ، ولم يكن صلّى في ذلك اليوم شيئاً لعذرٍ منعه من ذلك، فهل يقضي صلاة ذلك اليوم قصراً أو إتمامًا لكونه رجع قبل تقرر المغيّر للأحكام؟ أفتونا مأجورين. فأجاب - رحمه الله -: الحمد لله، ربِّ زدني علماً. إذا قصد ترك السفر فيقضي ما فات قبل ذلك قصراً. وتقرير السفر المغير للأحكام بنية سفرٍ مدة السفر ومفارقة عمران بلدهِ من الجهة التي خرج منها لا وجود السفر تمام المدة. والله أعلم.

(14) مسألة في حط الثمن والإبراء منه وصحة ذلك

مَجْمُوعَةُ رَسَائِل العَلَّامَة قَاسِم بن قُطْلُوبُغَا [14] مَسْأَلَةٌ فِي حَطِّ الثَّمَنِ وَالإِبْرَاءِ مِنْهُ وَصَحَّةِ ذَلكَ تَأْلِيفُ العَلَّامَة قَاسِم بْنِ قُطْلُوبُغَا الحَنَفِي المولود سَنَة 802 هـ والمتوفى سَنة 879 هـ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -

بداية الرسالة

(14) مَسْأَلَةٌ فِي حَطِّ الثَّمَنِ وَالإِبْرَاءِ مِنْهُ وَصَحَّةِ ذَلكَ قال - رحمه الله -: إنّي سئلت عن الإبراء عن الثّمن في مجلس العقد، هل يفسد البيع أم لا؟. فقلت: لا يفسد. فقال السائل: إني سألت بعض أهل العلم من الحنفية فقال: إنه يفسد العقد. والمسألة في هذا الكتاب، وأشار إلى كتابِ عندهُ. قال السَّائلُ: واستحييت أن أطلب منه الكتاب لأقف على سورة النقل. فقلت الذي أحفظه هو ما قلت لك. ثم بعد مدّةِ لقيني السائل فقال لي: إنَّ المسألة في شرح الكنْز للزيلعي، فأنكرت أن يكون هذا من مذهبنا، ثم استحضرته شرح الكنز للزيلعي، فأراني قول المصنف والزيادة فيه، والحط منه بخلاف حط الكل؛ لأنَّه سريا إلى أصله؛ لأنه ينقلب هبةً أو بيعًا بلا ثمنٍ، فيفسد. وقد كانَ من قصدهما التجارة بعقدٍ مشروعٍ من كل وجهٍ. فالالتحاق به يؤدي إلى تبديله، فلا يلتحق به. فقلت: هذا استنباط مقلوبٌ، هذا شاهدٌ لنا. أقول: لأنَّ ما يظنّ صاحب الكتاب الذي أشار إليه.

قيل: وإذا لم يلتحق به لا يفسد العقد، وقد صرّح بذلك في شرح الهداية فقال بخلاف حط الكل؛ لأنَّه تبديلٌ لأصله، لا يعتبر لوصفه فلا يلتحق به؛ لأنَّه لو التحق باصل العقد يفسد العقد؛ لأنه يبقى بيعاً بلا ثمنٍ، فكان يعتبر العقد من وصفٍ مشروعٍ إلى وصفٍ غير مشروعٍ. وهذا ما تصرّف فيه الزيلعي، وأسقط منه قوله: لأنهّ لو التحقَ بأصل العقد، يفسد العقد. والذي قلت له: إني أحفظه هو ما قاله في الذخيرة، إذا حط كل الثمن أو وهبَ كل الثمن أو أبرأه منه عن كل الثمن، فإن كان ذلك قَبْلَ قبضِ الثمن صحَّ الكل، ولا يلتحق بأصل العقد وما قاله في البدائع في الشفعة: ولو حظه جميعاً فأخذ الشفيع بجميع الثمن، ولا يسقط عنه شيءٌ؛ لأنّ حطَّ كل الثمن لا يلتحق بأصل العقد؛ لأنه لو التحق لبطل البيع؛ لأنَّه يكون بيعاً بلا ثمنٍ، فلم يصحّ الحطّ في حق الشفيع، والتحق في حقّه بالعدم، فيأخذ بجميع الثمن، وصحّ في حق المشتري، وكان أبرأ له عن الثمن. وما في المحيط في الشفعة أيضاً. وأمّا حط الكل فلا يلتحق باصل العقد؛ لأنه متى التحق بأصل العقد بطل العقد؛ لأنّ العقد يصير لغير ثمنٍ، فيظهر أن المحطوط لم يكن ثمناً. بقي العقد بجميع الثمن، إلاّ أنه يصحّ الكلّ في حقّ المشتري؛ لأنه لاقى ديناً قائماً في ذمّته. وما قال في الذخيرة في الشفعة أيضاً: أما إذا حطّ الكل أو أبرأه عن الكل أو وهب الكل، صحّ في حق المشتري؛ لأنّه لاقى ديناً قائماً، ولكن لا يظهر في حق الشفيع حتّى يأخذ الشفيع الدّار بجميع الثمن؛ لأن هذا الحطّ

لا يلتحق بأصل العقد؛ لأنَّه لو التحق يبطل من حيث صحَّ؛ لأنَّ العقد يكون بغير ثمنٍ باطلٌ، ولم يكن المحطوط ثمناً، فلا يلتحق بأصل العقد، وبقي العقد في حقّ المشتري بجميع الثمن، كما كان قبل ذلك. وقال في خبر مطلوبٍ في كتاب الشفعة: ولو حطّ كل الثّمن يأخذ بالكل لتعذر الإلحاق، فيجعل هبةً مبتدأةً. وقال في الهداية: في الشفعة: بخلاف حطِّ الكلِّ؛ لأنَّه لا يلتحق بأصل العقد بحالٍ، وقد بيَّنَّاه في البيوع (¬1). قال في الهداية: وذلك لأنَّ حطّ جميع الثمن لو التحق بأصل العقد. وإمّا أن يصير العقد هبةً ولا شفعة للشفيع في الهبة أو يصير بيعاً بلا (¬2) ثمنٍ، فيكون فاسداً، ولا شفعة في البيع الفاسد. فعرفنا: أنّه لا يمكن إلحاق حطّ الجميع بأصل العقد في حق الشفيع. وقال في الغاية: بخلاف ما إذا حط جميع الثمن، حيث لا يلتحق بالعقد، فلا يسقط عن الشفيع شيءٌ، فلا جرم يأخذ بجميع الثمن؛ لأنّه لو التحق بأصل العقد يخرج العقد عن موضوعه؛ لأنه يصيرُ هبةً، لا يبقى تمليكاً بلا عوضي ولا شفعة في الهبة إلخ. وقال في شرح مجمع البحرين للشيخ عبد اللطيف: قيّدنا بحط البعض؛ ¬

_ (¬1) انظر فتح القدير لابن الهمام (21/ 335) والعناية شرح الهداية (9/ 280 و 283 و 13/ 466) وتبيين الحقائق شرح كنز الدقائق (11/ 125 و 16/ 15) والبحر الرائق شرح كنز الدقائق (16/ 240 و 244 و 21/ 367). (¬2) جاء في هامش المخطوط: (بغير).

لأنّه حط كل الثمن غير ملحق بالعقد اتفاقًا؛ لأنّه لو بقي العقد بلا ثمنٍ وهو غير مشروعٍ. وقال في العقد: لو حطّ البائع كل الثمن لم يسقط، ولا يلتحق ذلك بأصل العقد اتفاقاً؛ لأنَّه لو بقي العقد بلا ثمنٍ وهو غير مشروعٍ، ولو حطّ البائع التحق صارَ بيعاً بلا ثمنٍ، وأنّه باطلٌ. وقال في الاختيار: وإن حطّ الجميع لم يلتحق؛ لأنَّه يصير الثمن كأن لم يكن، فيبطل الحط. وقال في الشفعة: ألا ترى أنه لو حط الجميع ابتداءً لا يسقط عن الشفيع؛ لأنه لا يلتحق بأصل العقد، بل يكون هبةً، فلا يسقط عن الشفيع. وعلى هذا تظافرت عبارات المختصرات والمطولات.

(15) من مسائل الشيوع

مَجْمُوعَةُ رَسَائِل العَلَّامَة قَاسِم بن قُطْلُوبُغَا [15] مِن مَسَائِلِ الشُّيُوع تَأْلِيفُ العَلَّامَة قَاسِم بْنِ قُطْلُوبُغَا الحَنَفِي المولود سَنَة 802 هـ والمتوفى سَنة 879 هـ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -

بداية الرسالة

(15) مِن مَسَائِلِ الشُّيُوع قال - رحمه الله -: سئلتُ عن بيع حصّةٍ شائعةٍ من عقارٍ. فأجبت: بالجواز. ثم أخبرت عن بعض من يزعم العلم بالفقه: أنّ ذلك غير جائزٍ. فقلتُ: لا أعلم خلافاً في المذهب فيما ذكرت. وإنما اختلف في بيع الحصة الشائعة من العمارة. والصحيح: الجواز. قال جمال الإسلام في فتاويه: أرضٌ بين رجلين أثلاثًا، والزّرع فيها نصفان، فباع صاحب الثلث نصيبه مع نصف الزرع مشاعاً من أجنبيٍّ، صحّ في الأرض دون الزرع. وقال: ثوب بينهما، باعَ أحدهما بغير إذن شريكه، ولم يجز الشريك. لزم في نصيب البائع. ومثل ذلك في العبيد المشتركة. وقال: باع نصف حبّة مقلوعةٍ أو نصف عمامةٍ، أو مشيدٍ مشاعاً، جازَ. وإن كان في قسمتها صورتين. قال: وأمّا بيع نصف العمارة مشاعاً. ففيها اختلاف الروايتين. والمشايخ:

الجواز أصح وأرفق. انتهى. قلت: العمارة: البناء في الضيعة والرقبة للوالي. قالوا: لأنّ العمارة تبقى، فأشبهت الرقبة. وفي الصّغرى: بناء بين رجلين باع أحدهما نصيبه من أجنبي بغير إذن شريكه، لم يجز. وكذا الشجرة والزرع. ولو باع من شريكه جاز. وفي المحيط (¬1)، عن نوادر بشر، عن أبي يوسف: رجلان بينهما دار فباع أحدهما نصف بيت منها شائعًا في البيت، والبيت معلوم. فإن أبا حنيفة قال: لا يجوز؛ لأن فيه ضرراً على شريكه في تقطيعه (¬2) نصيبه عليه عند القسمة. قال: أرأيت لو باع نصف كل بيتٍ من الدّار، لم يتقطع (¬3) نصيب شريكه. قال: وكذلك الأرض. ولو كان بينهما عشر ثيابٍ هروية (¬4)، مما يقسم باع أحدهما نصف ثوب بعينه من رجلٍ، فإن أبا حنيفة قال: هذا جائز. وكذا (¬5) الغنم. وهذا لا يشبه (¬6) الدّار الو احدة. ¬

_ (¬1) المحيط البرهان لبرهان الدين مازه (7/ 323 - 324). (¬2) في المخطوط: (لقطته). (¬3) في المخطوط: (ينقطع). (¬4) في المحيط: (ولو كان بين رجلين عشر من الغنم وعشرة أثواب مروية). الأثواب نسبة إلى بلدانها: هراة ومرو. (¬5) في المحيط: (وكذلك). (¬6) في المحيط: (ولا يشبه هذا).

وقال أبو يوسف: ينبغي أن يكون هذا والدار سواء في قوله، ألا ترى أنه لو باع من كل شاةٍ نصفها من إنسانٍ على حدةٍ (¬1) لم يستطع شريكه أن يجمع له نصيبه فيها، فقد دخل (¬2) عليه ضرر، ويتقطع (¬3) نصيبه، [فكيف يختلفان]. ولو كان بينهما (¬4) أرض ونخلٌ باع أحدهما نصف نخله معينة بأصلها (¬5) من رجلٍ لم يجز في قول أبي حنيفة. [وهذا كالبيت الذي وصفنا، ولو باع أحدهما نصف الأرض واشترى نصف النخيل بأصله، فإن هذا مثل ذلك في قياس قول أبي حنيفة]. وكذلك لو باع (¬6) نصف الدار شائعاً إلاّ (¬7) بيتاً معلوماً منها، لم يدخل في البيع. وقال أبو يوسف: إناّ نرى كل هذا جائزاً لا أنقض بيعاً من أجل قسمة لا ندري (¬8) أتكون أم لا تكون، ولا يُدرى لعلّها إذا كانت لا يدخل (¬9) ¬

_ (¬1) في المحيط: (ألا ترى أنه لو باع نصف كل شاة منها من رجل على هذه). (¬2) في المخطوط: (عليه). (¬3) في المخطوط: (وينقطع). (¬4) في المخطوط: (منها). (¬5) في المحيط: (نخل بعينه بأصله). (¬6) في المحيط: (باعه). (¬7) في المحيط: (أن). (¬8) في المحيط: (يدري). (¬9) في المحيط: (تدخل).

أقسام الشيوع

في القسمة ضرر من قبل [هذا] البيع (¬1). قلت: وحيث خفي حكم المشاع من العقار، فلا بأس بالإسعاف ببيان ذلك فيما يقع فيه، وقد ضبط الإمام العلامة حسام الدين برهان الأئمة عمر بن عبد العزيز - رحمه الله - فقال: تفصيل ما اختلف في مسائل الشيوع وما اتفق عليه، فالكلام في معرفة مسائل الشيوع في أربعة فصول: [الفصل] الأوّل: في معرفة أقسام الشيوع. والفصل الثاني: في معرفة عدد مسائل الشيوع. والفصل الثالث: في معرفة مذاهب السلف في مسائل الشيوع. والفصل الرابع: في معرفة طرقهم في مسائل الشيوع. أما الفصل الأوّل: فنقول: الشائع ينقسم إلى قسمين: شائع يحتمل القسمة كنصف الدار، ونصف البيت الكبير. وشائع لا يحتمل القسمة كنصف العبد ونصف الحمام ونصف الثوب ونصف البيت الصغير. والفاصل بين القسمين: حرفٌ واحدٌ وهو: أن ينظر لو كان بين اثنين وطلب أحدهما القسمة وأبى الآخر؛ فإن أجبره القاضي على القسمة كان من القسم الأول، وإن لم يجبره كان من القسم الثاني إذ الجبر مطرد، فإنه نص في الكتاب: أنه إذا وهبَ نصف عبدين من إنسانٍ جازَ بالإجماع على الفعل محل أنه قبول المحل ذلك الفعل، فإن قيل: هذا الحرف غير وهذا آية أنه من القسم الثاني والعبد لو كان بين اثنين فطلب أحدهما القسمة وأبى الآخر قسم القاضي بينهما عند أبي يوسف ومحمد وهذا ¬

_ (¬1) انتهى كلام المحيط.

الفصل الثاني

أنه آية من القسم الأوَّل عندهما. قيل له عندهما: إنه يقسم القاضي بينهما إذا رأى الصّلاح في القسمة، فكانت قسمة القاضي مقيدة بهذا الشرط. وهذا الشرط غير ثابت وقت العقد، فكان وقت العقد من القسم الثاني. وأمّا الفصل الثاني: فنقول: أمّهات مسائل الشيوع سبع: بيع الشائع، وإجازة الشائع، وإعارة الشائع، وهبة الشائع، وصدقة الشائع، ووقف الشائع، ورهن الشائع. وأما الفصل الثالث: فنقول: إذا باع الشائع فهذا على قسمين: إمّا أنْ يحتمل القسمة أو لا يحتمل القسمة. وكل قسمةٍ على وجهين: إمَّا إن باع من أجنبي أو من شريكه. والوجه الأوّل وهو البيع من الأجنبي على صنفين. أمَّا إنْ كان الكل له فباع النصف، أو كان بين اثنين فباع أحدهما نصيبه والبيع جائز في المواضع أجمع. وأمّا أجرُ الشّائع وهذا أيضاً على قسمين: إمّا أن يحتمل القسمة أو لا يحتمل. وكل قسمٍ على وجهين: إما إن أجِّر من أجنبي أو من شريكه. والوجه الأول وهو الإجارة من الأجنبي على وجهين (¬1). إمَّا أنْ كان الكل له فأجر النصف. أو كان بين اثنين فأجر أحدهما نصيبه من الأجنبي. والجواب في القسمين واحد، وهو ما يحتمل القسمة وما لا يحتمل القسمة. ¬

_ (¬1) جاء في هامش المخطوط: (صنفين).

فنقول في الصنف الأول من الوجه الأول، وهو ما إذا كان الكل له، فأجر النصف من الأجنبي، فعند أبي حنيفة لا يجوز. وعن أبي يوسف ومحمد يجوز (¬1). واختلف المشايخ على قول أبي حنيفة. منهم من قال: لا ينعقد. فلا يجب الأجر أصلاً. ومنهم من قال: بأنه ينعقد فاسداً حتى يجب أجر المثل. وهو الصحيح. وفي الصنف الثاني من الوجه الأوّل وهو ما إذا كان بينهما فأجَّر أحدهما النصف. اختلف المشايخ على قول أبي حنيفة. حكى أبو طاهرٍ الدبّاس: أنه يجوز. وحكى عنه غيره: أنّه لا يجوز. وإليه مال شمس الأئمة أبو بكر محمد ابن أبي سهل السرخسي، والشيخ الإمام برهان الأئمة. قلت: قال الإمام الكرخي في جامعه (¬2): نص أبو حنيفة: أنه إذا أجّر بعض ملكه أو أجّر أحد الشريكين نصيبه من أجنبي، فهو فاسدٌ، سواء فيما يقسم وفيما لا يقسم. ¬

_ (¬1) في المخطوط: (لا يجوز) وهو سبق قلم من الناسخ. والله أعلم. (¬2) الجامع الكبير في فروع الحنفية لأبي الحسن عبيد الله بن حسين الكرخي الحنفي، المتوفى سنة 340 هـ. قال صاحب كشف الظنون (1/ 570): ذكره في مختصره، وقال: من أراد مجاوزة ما في هذا الكتاب - يعني: المختصر - فلينظر في الجامع الصغير الذي ألفناه، وإن أراد أكثر من ذلك فالكبير يستغرق ذلك كله.

وقال في الصغرى والتتمة (¬1) وقاضي خان والحقائق: الفتوى على قول أبي حنيفة. قال: وفي الوجه الثاني وهو ما إذا أجر من شريكه جاز بالاتفاق في ظاهر الرواية. وروي عن أبي حنيفة: أنه لا يجوز. هذا هو الكلام في الشيوع المقارن. وأمّا الشيوع الطارئ: ففي ظاهر الرواية: لا يفسد. وروى خالد بن صبيح، عن أبي حنيفة أنه يفسد. قلت: فإذا مات أحد الأجيرين أو المستأجرين تنقضي الإجارة في نصيب الميت، ويبقى في نصيب الحي في ظاهر الرواية مع الشيوع الطارئ. قال: هذا إذا أجّر النصف من واحدٍ. أنها إذا أجّر الكلّ من اثنين، فهذا على وجهين. أمّا إذا أجمل بأن قال: أجرت الدار منكما أو فصّل. والتفصيل لائح لما إذا كان تفضّلاً بالتنصيف بأن قال: نصفها منك ونصفها منك أو بالأثلاث بأن قال: ثلثها منك وثلثيها منك. ففي الوجه الأوّل وهو الإجمال جاز بالاتفاق. وفي التفضيل بالتنصيف أو بالأثلاث. يجب أن تكون المسألة على قول أبي حنيفة على الاختلاف الذي حكيناه ¬

_ (¬1) تتمة الفتاوى للإمام برهان الدين محمود بن أحمد بن عبد العزيز الحنفي صاحب المحيط، المتوفى سنة 616 هـ. تقدّم الكلام عنه.

قرض المشاع

في النصف الثاني من الوجه الأوّل، وهو ما إذا كان الكل بين اثنين، وأجر النصف أحدهما. وأمّا إذا أعار الشائع جازت الإعارة في الوجوه كلها. قلت: وهذا يكون مع الشريك ووديعة المشاع أيضاً جائزة. ذكرها ظهير الدين في فتاويه. ويكون أيضاً مع الشريك. وقرض المشاع جائزٌ قضاءً. ذكره في الهداية. قال في الشرح: كما إذا دفع ألفاً. وقال: خمس مئة منه قرض، وخمس مئة شركة. وغصب المشاع. ذكر أبو الفضل الكرماني في إشارات الجامع: أنّه لا يتحقق. وذكر الصّدر الشهيد: أنه يتصور. وفي البزدوي (¬1) -وعليه الفتوى-: وذكر له صوراً في الفصول. والله أعلم. وأمّا إذا وهب الشائع. فهذا أيضاً على قسمين: ¬

_ (¬1) قال المصنف في تاج التراجم (ص 14): علي بن محمد بن الحسين بن عبد الكريم ابن موسى بن عيسى بن مجاهد، أبو الحسن، فخر الإسلام، البزدوي، الفقيه بما وراء النهر، صاحب الطريقة على مذهب الإمام أبي حنيفة، توفي يوم الخميس خامس رجب سنة اثنين وثمانين وأربع مئة، ودفن بسمرقند، له كتاب المبسوط أحد عشر مجلداً، وشرح الجامع الكبير، وشرح الجامع الصغير، وكتابه في أصول الفقه مشهور. قلت [ابن قطلوبغا]: قد خرجت أحاديثه، ولم أسبق إلى ذلك، والله الموفق. قال الذهبي: وكان مولده في حدود الأربع مئة، روى عنه: أبو المعالي محمد بن نصر الخطيب.

الشيوع الطارئ

إمّا أن يحتمل القسمة أو لا يحتمل. وكل قسمٍ على وجهين: أمّا إن وهب من أجنبي، أو من شريكه. والوجه الأوّل: وهو ما إذا وهب من أجنبي على صنفين. أمّا إذا كان الكل له فوهب النصف من أجنبي أو كان بين اثنين فوهب النصف أحدهما. والجواب في القسمين يختلف. ففيما لا يحتمل القسمة يجوز الهبة في المواضع أجمع. وفيما يحتمل القسمة. ففي الوجه الأول: لا تجوز الهبة عندنا في المصنفين جميعاً. وفي الوجه الثاني: كذلك. هذا هو الكلام في الشيوع المقارن. وأمّا الشيوع الطارئ: لا تفسد الهبة بالاتفاق. هذا كله إذا وهب النصف من واحدٍ. أمّا إذا وهب الكل من اثنين فهذا على وجهين: أمّا إن بان. قال: وهبت الدار منكما أو فصل والفصل لائحٌ. إمّا أن يكون بالتنصيف بأن قال: نصفها منك ونصفها منك أو بالأثلاث بأن قال: ثلثها منك وثلثيها منك. وفي الوجه الأول: لا يجوز عند أبي حنيفة، وجاز عند أبي يوسف ومحمّد. وفي الوجه الثاني: إن كان بالأثلاث. فعند أبي حنيفة وأبي يوسف لا يجوز. وعند محمّدٍ يجوز. وأمّا إذا تصدّق بالشّائع. فهذا وهبه الشاع في جميع ما ذكرنا سواء إلَّا في خصلةٍ واحدةٍ وهو: أنه إذا وهبَ الكلّ من اثنين وسلم إليهما عند أبي

وقف الشائع

حنيفة: لا يجوز رواية واحدة من غير اختلافٍ. وفي التصدق اختلف المشايخ: منهم من قال: لا يجوز أيضًا. ومنهم من قال: في المسألة روايتان. على رواية الأصل لا يجوز. وعلى رواية الجامع يجوز. وهو الصحيح. وأمّا إذا وقف الشائع: لا يجوز عند محمد، وعند أي يوسف: يجوز. قلت: قال في الهداية (¬1): هذا فيما يحتمل القسمة، فأمَّا ما لا يحتمل القسمة فيجوز مع الشُّيوع عند محَمَّدٍ. انتهى. وفي الحقائق والكبرى والتجنيس: الفتوى على قول محمد. وبقول أبي يوسف، أخذ الصغار. واختاره مشايخ بلخٍ. وأمّا إذا رهنَ الشائع. فهذا أيضاً على وجهين: إما أن يحتمل القسمة، أو لا يحتمل. وكل قسم على وجهين: أمَّا إن رهن من أجنبي أو من شريكه والأوجه الأول على صنفين. إمَّا أن يكون الكل له، فرهن النصف، وأمّا إن كان الكل بين اثنين فرهن أحدهما النصف. فالجواب: في المواضع أجمع عندنا: لا يجوز. وعند الشافعي: يجوز. ¬

_ (¬1) انظر فتح القدير لابن الهمام (14/ 78) والعناية شرح الهداية (8/ 329).

الفصل الرابع

واختلف المشايخ في قول علمائنا: إنَّه لا ينعقد أو ينعقد فاسداً على حسب اختلافهم على قول أبي حنيفة في الإجارة. هذا هو الكلام في الشيوع المقارن. وأمّا الشيوع الطارئ: ففيه روايتان: في روايةٍ: لا يفسد. وفي رواية: بأن التنصيف يفسد هذا كله إذا رهن النصف من واحدٍ. أمَّا إذا رهن الكل من اثنين فهذا على وجهين: أمّا إن أجمل بأن قال: وهبت الدار منكما أو فصل والتفصيل لائحٌ. إما أن يكون بالتنصيف بأن قال: نصفها منك ونصفها منك. وبالأثلاث بأن قال: ثلثها منك وثلثيها منك. ففي الوجه الأول: جاز بالاتفاق. وفي الوجه الثاني: لا يجوزُ. كان التفصيل بالتنصيف أو بالأثلاث. وأمّا الفصل الرابع: فنقول: الشيوع في البيع غير مانع بالاتفاق، وطريق عمل البيع في الشائع أنه يفيد الملك في الشائع، لكن الملك لا يراد لعينه (¬1)، وإنما يراد لغيره، وهو: الانتفاع. والانتفاع إنما يكون بالمفرز، والمفرز إنما يحصل بالقسمة. فتصير القسمة ملحقة بالملك. ويصير الحاصل من النصف المفرز نصف غير حقه، ¬

_ (¬1) في المخطوط: (لمعينة).

إجارة المشاع

ونصف بدل حقه. فيصير العقد الوارد على الشائع مطلقاً له الانتفاع بالمفرز بواسطة القسمة. وأمّا إجارة المشاع: فالشيوع عند أبي يوسف ومحمد: غير مانع جوازها. وطريق عمل الإجارة في الشائع عندهما ما هو طريق عمل البيع في الشائع بالاتفاق. وأمّا عند أبي حنيفة: فالشيوع فيها مانعٌ جوازها؛ لأنه لا يمكن طريق عمل البيع في الشائع بالاتفاق. وأمّا عند أبي حنيفة فالشيوع فيها مانع جوازها؛ لأنه لا يمكن سد طريق عمل البيع في الإجارة من تحقيق المبادلة؛ لأنّ ذلك إنما يكون بين ملك المتملك وبين ملك المالك. وهذا لا يمكن تحقيقه في الإجارة على ما ذكر في المسألة، ثم بعد هذا لأبي حنيفة وجهان: أحدهما: أن الحكم يدور مع الشائع. فعلى هذا: يمتنع جوازها في النصف الثاني من الوجه الأوّل. وهو ما إذا أجّر أحد الشريكين نصيبه من أجنبي. قال شمس الأئمة الحلواني والشيخ الإمام برهان الأئمة: ويمنع جواز الإجارة في الوجه الثاني وهو ما إذا أجّر من شريكه. وفي الشيوع الطارئ: يتخير: إن شاء يمنع وإن شاء يسلم. والوجه الثاني: أن الحكم يدور مع المانع. فعلى هذا الوجه يسلم جوازها في النصف الثاني من الوجه الأوّل وهو ما إذا أجّر أحد الشريكين نصيبه من

الإعارة في الشائع

الأجنبي كما حكى أبو طاهر الدباس. ويسلم جوازها في الوجه الثاني وهو ما إذا أجر من شريكه. وفي الشيوع الثاني: يتخير أيضاً. وأمّا الإعارة في الشائع: فعلى الوجه الأوّل. يفرق أبو حنيفة فيقول: الحكم يدور مع الشيوع في عقدٍ يتصور المانع. وفي الإعارة: لا يتصور المانع وهو العجز من التسليم مع توجه الخطاب بالتسليم. وعلى الوجه الثاني: يفرق أيضاً ويقول: لا مانع هنا. وفي الإجارة: أبو يوسف ومحمد فرّقا. والفرق: أنّ في الإجارة لا مانع. وهنا مانع. قلت: يعني في الهبة. وذلك أحد أمرين. أمّا لزوم ضمان القسمة، وإمّا يمكن النقصان في القبض. والمانع: هو الشيوع المتمكن وقت التسليم. والحكم فيها يدور مع الشيوع حتى لم يجز في الصنف الثاني من الوجه الأول وهو ما إذا كان الكل بين اثنين فوهب أحدهما نصيبه، ولم يجز أيضاً في الوجه الثاني، وهو ما إذا وهبَ من شريكه. فإن قيل: لو كان الحكم فيها يدور مع الشيوع وجب أن لا يختلف الجواب بين القسمين وهو ما يحتمل القسمة وما لا يحتمل كما في الإجارة. لم يختلف. قيل له: الحكم يدور مع الشيوع لكن في تحمّلٍ يتصور المانع وهو ضمان القيمة أو نقصان القبض بعد اشتراط الكمال، وكلاهما لا يتصور فيما لا يحتمل القسمة. فإن قيل: لو كان الحكم يدور مع الشيوع في محل القصور المانع وجب

أن يجوّز الإجارة في النصف الثاني من الوجه الأوَّل وهو ما إذا أجّر أحد الشريكين نصيبه من الأجنبي. وقد قلت: إنه لا يجوز على الأوّل وهو إرادة الحكم مع الشيوع. قيل له: نعم. وقد عجز الأجر عن تسليم هذا النصف إلى المستأجر متصورٍ بأسبابٍ، فإذا كان المحل يتصوّر فيه عجز آخر، عن التسليم. دار الحكم مع الشيوع في محلٍّ يتصور هذا المانع. وأبو حنيفة سوَّى بين الهبة والإجارة على الوجه الأوّل في الإجارة وهو إدارة الحكم مع الشيوع. وفرّق على الوجه الثاني. والفرق: أن الشيوعَ في الهبة سبب لذلك المعنى المانع؛ لأن تمليك الشائع سببٌ لثبوت الملك في الشائع. والملك في الشائع سبب المطالبة بالقسمة. فكان تمليك الشائع سبباً لذلك المعنى. والمعنى يدور مع السبب كما دارت الرخصة في السفر. فأمَّا الشيوع في الإجارة: فإنه ليس بسبب المعنى، لكن قد يتحقق ذلك المعنى المانع وقد لا، فلا يدور الحكم في الشيوع، ثم الطريق في الهبة عند أبي يوسف ومحمد: أن الشيوع المتمكن في العقد وقت التسليم مانعٌ. فإذا وهب الكل من رجلين وسلم إليهما، لم يتمكن الشيوع في العقد وقت القبض، فجاز عندهما. وكذا إذ فصّل بالتنصيف؛ لأن التفصيل بالتنصيف في العقد لم يصح؛ لأنه لو صحّ إنما صحّ لفائدةٍ. وفائدة العقد: الحكم. وحكم هذا العقد حال الإجمال والتفصيل بالتنصيف سواء، فلم يفد، فلم يصح، فلم يتمكن الشيوع في العقد وقت التسليم، فلم يجز.

الصدقة

وقال محمد: إن أفاد من حيث وصف التفصيل لم يفد من حيث أصل التفصيل، فيقع الشك في الجهة، فلا يصح، فلا يتمكن الشيوع في العقد. والطريق لأبي حنيفة. ما هو الطريق عندهما، لكنه قال حال الإجماع: يمكن الشيوع في العقد وقت التسليم بدلالة: أن الحكم في المجمل والمتصل بالتنصيف سواء، ولم يتمكن الشيوع في العقد حال الإجمال، لم يكن الحكم فيهما على السواء كما في الرهن. وأمّا الصّدقة: فالطريق فيها ما هو الطريق في الهبة، إلَّا أنه إذا تصدّق بالكل على اثنين جاز عند أبي حنيفة على رواية الجامع الصغير (¬1)، والهبة لم تجز. والفرق: أن في صدقة الشيوع، لم يتمكن وقت العقد؛ لأنّها إخراج المال إلى الله تعالى، لم يصر الفقر من الله. وأمّا الوقف: فالكلام فيه تبين على حرفٍ، وهو: أن التسليم إلى المتولي عند محمد شرطٌ فيتصور أحد المانعين وهو تمكن النقصان في القبض فيقام الشيوع مقامه. وأمّا الرهن: فالشيوع فيه مانعٌ جوازه عندنا. فبعد ذلك لنا طريقان: أحدهما: أن الحكم يدور مع الشيوع حتى لم يجز في النصف الثاني من الوجه الأوّل وهو ما إذا رهن من شريكه. ويستوي الجواب في القسمين وهو الشائع الذي يحتمل أوْ لا يحتمل القسمة. فإن قيل: هلاّ فرّقت بين القسمين بما فرقت به بينهما في الهبة. وإن كان ¬

_ (¬1) انظر الجامع الصغير (1/ 435).

الحكم في الهبة أيضاً دائر مع الشيوع. قلنا: في الهبة للقسم الثاني وهو الشائع الذي لا يحتمل القسمة ما هو المانع: لا يتصور قط هنا. يتصوّر كما نبين. والوجه الثاني: أن الحكم يدور مع المانع وهو تأقيت العقد، فلم يجز في النصف الثاني من الوجه الأوّل وهو: ما إذا رهن أحد الشريكين نصيبه من الأجنبي، ولم يجز في الوجه الثاني، وهو ما إذا رهن من شريكه؛ لأن ما هنا المانع هنا متحققٌ وهو تأقيت العقد. ويستوي الجواب في القسمين وهو الشائع الذي يحتمل القسمة، والذي لا يحتمل القسمة؛ لأنّ ما هو الماح يشمل القسمين، وهو تأقيت العقد على ما علم. والله سبحانه وتعالى أعلم.

(16) أحكام التزكية والشهادة

مَجْمُوعَةُ رَسَائِل العَلَّامَة قَاسِم بن قُطْلُوبُغَا [16] أَحْكَامُ التَّزْكِيَةِ وَالشَّهَادَةِ تَأْلِيفُ العَلَّامَة قَاسِم بْنِ قُطْلُوبُغَا الحَنَفِي المولود سَنَة 802 هـ والمتوفى سَنة 879 هـ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -

بداية الرسالة

(16) أَحْكَامُ التَّزْكِيَةِ وَالشَّهَادَةِ قال - رحمه الله تعالى -: سئلتُ عن رجل شهدَ عليه عند قاضٍ مالكي المذهب: ما يوجب الكفر والعياذ بالله. فأراد القاضي قبول المشهود، وعسر عليه تعديل الشهود، فأرسلها إلى قاضيى حنفي يشهدا عنده في شيءٍ فيقبلهما. ويخبر القاضي المالكي بذلك ففعل. ما الحكم في هذه الشهادة؟. فأجبت: أن القاضيين قد شاطا بدم الرجل، فصنع المالكي دليل تحامله. والحنفي أخطا محل الفتوى والعمل. فقد قال الإمامان أبو يوسف ومحمد: لا بأس أن يسأل الشهود في السر والعلانية. قال الإسبيجاني (¬1) وصاحب الينابيع والصّدر الشهيد في الفتاوى الكبرى ¬

_ (¬1) تحرف في المخطوط إلى: (الاسبجاني). وهو الفقيه الحنفي، علي بن محمد بن إسماعيل، بهاء الدين الإسبيجاني السمرقندي، ولد سنة 454 هـ، ينعت بشيخ الإسلام، وهو من أهل سمرقند، وبها وفاته سنة 535 هـ، له كتب، منها: الفتاوى وشرح مختصر الطحاوي. الأعلام للزركلي (4/ 329).

صورة التزكية

والزّوزني في شرح المنظومة وقاضي خان والزاهدي والنسفي في الكافي وصاحب الهداية فيها وفي مختارات النوازل وبرهان الشريعة وصدر الشريعة وأبو الفضل الموصلي في الاختيار: الفتوى على قولهما في المسألة عن الشهود. طعن الخصم أو لم يطعن. ثم إنّ هذا القاضي لا يعلم مسائل التزكية وهي من المهمّات التي كتب فيها الإمام محمد بن الحسن، وتكلّم عليها الصّدر حسام الدين فقال: يحتاج إلى معرفة كتاب سورة المزكي، وصورة التزكية، فصورة المزكي هو الضعيف في نفسه، أمين من أمناء البلدة بإمرة القاضي يتعرف حال من لا تعرف عدالته من الشهود. وصورة التزكية: أنه إذا شهد الشهود بين يدي القاضي. فالقاضي يكتب أسماءهم وأنسابهم وأسماء آبائهم وأجدادهم وحليتهم ومحلاتهم ومصلاّهم. ويبعث ذلك مختوماً على يدٍ أمينةٍ إلى المزكي لينظر المزكي في حالهم، فإن وجدهم عدولاً كتب في آخر الكتاب أنّهم عدول عندي جائزي الشهادة، وإن وجدهم خلاف ذلك كتب: أنهم غير جائزي الشهادة. ثم التزكية نوعان: تزكية في السر. وتزكية في العلانية. فالتزكية في السّر: أن يسأل المزكي عن الشهود حال غيبتهم ويزكيهم بالكتاب إلى القاضي حال غيبتهم. والتزكية في العلانية: أن يقول من يعرف حال الشهود للمزكي حال حضرته. هذا عدل؛ لأن المزكي إنما عرف الشاهد بالاسم والنسب والحلية.

وهذا لا يقطع التزكية من كل وجهٍ، فيجب أن يزكيه في العلانية بالإشارة حتى تنقطع التزكية من كل وجهٍ. ثم المزكي بعد ذلك بين يدي القاضي يشير إلى الشهود فيقول: إنهم عدولٌ؛ لأنّ القاضي إنما عرف تزكية المزكي بالاسم والنسب والحلية. وهذا لا يقطع التزكية من كل وجهٍ. فيعرف القاضي: أن المزكي إنما عدل أولئك الذين شهدوا عنده من كل وجهٍ، لكن لعدم التزكية في السّر على التزكية في العلانية؛ لأنّه أحوط؛ لأن المزكي إذا سأل عن حال الشاهد في العلانية ربما يكون الشّاهد فاسقًا، فلا يجد من يعرفه إمّا سترًا عليه، وإمّا خوفًا منه. وكذلك: إذا سأل القاضي المزكي عن حال الشهود (¬1) في العلانية. وللقاضي الخيار: إن شاء جمع بينهما؛ لأنّه أحوط؛ لأنه يزول الالتباس وتنقطع التزكية عنه عند المزكي والقاضي جميعًا من كل وجهٍ. وإن شاء اكتفى بالتزكية سرًا. واليوم في ديارنا اختار القضاة الاكتفاء بالتزكية سرًّا لأحد الأمرين: إما لكيلا يعرف المزكي فلا يخدع لتغيير أحوال النَّاس ولكيلا يخاف المزكي من جرحٌ الشهود. قال محمد - رحمه الله - في الكتاب: والتزكية في العلانية هي التزكية الأولى وهو حسنة جميلة يريد به أن المشروع في الابتداء: التزكية العلانية، وإنما أحد توابعه ذلك التزكية سرًا. والدليل عليه: ما ذكر محمد في الكتاب قال: بلغنا أن شريحًا كان يقبل ¬

_ (¬1) جاء في هامش المخطوط: (الشاهد).

التزكية في العلانية، ثم أحدث تزكية السر. فقيل له: يا أبا [أمية] (¬1). أحدثت ما لم نكن نعرفه. فقال شريح: إنّ النَّاس أحدثوا فأحدثنا لهم. وفي الكتاب ثلاث مسائل: إحداها: أنه هل للقاضي أن يقضي بظاهر العدالة من غير سؤالٍ إذا كان هذا الشاهد مستور الحال، وقد قدّمت الشهادة على حق ثبت مع الشبهات. الثانية: أن العدد في المزكي والمترجم هل هو شرط. الثالثة: أن المدعى عليه متى أقام البينة على ما يبطل شهادة الشهود، فيما إذا تقبل، وفيما إذا لا تقبل. إذا عرفنا هذا جئنا إلى ما افتتح محمد - رحمه الله - الكتاب به. * [المسالة الأولى]: قال أبو حنيفة ومحمد: إذا تقدم بين يدي القاضي رجلان فادّعى أحدهما على صاحبه حقًا، وأنكر ذلك صاحبه، فأقام المدعي شاهدان على المدعى عليه وهما مستوران. فأراد القاضي أن يقضي بظاهر العدالة قبل أن يسأل عن حالهما. قال أبو حنيفة: له أن يقضي بذلك إذا لم يطعن الخصم فيهم. والمشهود به حق ثبت مع الشبهات. وقال أبو يوسف ومحمد: ليس له أن يقضي، وأجمعوا على أن المدعى به إذا كان حقًا لا يثبت مع الشبهات كالحدود والقصاص. ليس للقاضي ¬

_ (¬1) ما بين معكوفتين: فراغ في المخطوط استدرك من المبسوط - كتاب أدب القاضي، ومن تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق.

أن يقضي. وأجمعوا على أنه إذا طعن الخصم في الشهود بأن جرحهم ليس له أن يقضي ما لم يسأل عنهم. واختلف المشايخ: منهم من قال: بأنّ هذا الاختلاف تفسير وزمانٌ، لا خلاف حجة وبرهان؛ وإن أبا حنيفة إنما قال ذلك في أوّل زمانه؛ وإن تعديل أهل زمانه إنما ثبت من جهة النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنه كان في القرن الثالث. وقد أفتى النبي - صلى الله عليه وسلم - على القرن الثالث بالخيرية. فإنه قال: "خَيْرُ الْقُرُونِ الَّذِي أَناَ فِيهِمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونهمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونهمْ، ثُمَّ يَفْشُو الْكَذِبُ" (¬1). الحديث. ومتى ثبت تعديل أهل زمانه من جهة النبي - صلى الله عليه وسلم - استغنى القاضي عن تعديل المزكي، وأبو يوسف ومحمد إنّما قالا ذلك في أهل زمانهما؛ وإن تعديل أهل زمانهما لم يثبت من جهة النبي - صلى الله عليه وسلم -، فاحتاج القاضي إلى تعديل المزكي. إِلاَّ أن هذا غير سديد. والاعتراض عليه: أن في زمن أبي حنيفة إنما كان للقاضي أن يقضي بظاهر العدالة ما لم يطعن الخصم فيهم، فإذا طعن لم يكن له أن يقضي، وإن لم يطعن الخصم فيهم فيما لا يثبت مع الشبهات وهو الحدود والقصاص. ولو كان المعنى هذا، فإذا عدّلهم النبي - صلى الله عليه وسلم - كان له أن يقضي، وإن طعن الخصم فيهم، وفيما ثبت مع الشبهات. ¬

_ (¬1) رواه مسلم (2533) عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "خير أمتي القرن الذين يلوني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يجئ قوم تسبق شهادة أحدهم يمينه ويمينه شهادته ".

ومنهم من قال: لا، بل هذا الخلاف اختلاف حجة وبرهان. وهو الصحيح. هما يقولان: إنّ العدالة ثابتة باستصحاب الحال. والثابت باستصحاب الحال يصلح حجّةً لإبقاء ما كان ثابتًا، ولا يصلح لإثبات ما لم يكن، وهو الأخذ بالشّفعة، والحق لم يكن ثابتًا كالملك الثابت بظاهر النّص يصلح للدفع إِيقاعًا ما كان ثابتًا، ولا يصلح لإثبات ما لم يكن. وهو الأخذ بالشفعة. والحق لم يكن ثابتًا على المشهور عليه قبل الشهادة. فلا يثبت بالعدالة الثابتة باستصحاب الحال. وأبو حنيفة احتجّ بما روى محمد في أدب القاضي، عن عمر بن الخطاب أنّه قال: الْمُسْلِمُونَ عُدُلٌ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، إِلاَّ مَجْلُودٌ حَدًّا، أَوْ مُجَرّباً عَلَيْهِ شَهَادَةً زُورًا، أَوْ ظِنِّينًا فِي وَلاَءٍ أَوْ قَرَابَةٍ (¬1). فهذا القول نقل عنه، ولم ينقل عن غيره خلاف ذلك. فحلّ محلّ الإجماع. والفقه فيه: أنّ العدالة ثابتة باستصحاب الحال. والثَّابت: باستصحابٍ يصلح حجّة لإثبات ما لم يكن ثابتًا حال عدم المنازعة كالملك الثابت بظاهرٍ إليه يصلح حجّة لاستحقاق الشفعة حال عدم منازعة المشتري. وهنا لم توجد ¬

_ (¬1) رواه البيهقي في السنن (2/ 24) ومعرفة السنن والآثار (6146) أن عمر كتب به إلى أبي موسى الأشعري. وانظره في فتح القدير لابن الهمام (17/ 61 و 114 و 22/ 146) وبدائع الصنائع للكاشاني (14/ 433) والعناية شرح الهداية (10/ 389 و 392) وتبيين الحقائق شرح كنز الدقائق (12/ 217 و 288).

المنازعة من الخصم؛ لأنّه لم يطعن، فصلح، فإن قيل: هذا إذا كان الخصم مختارًا في ترك المنازعة، وهنا هو مضطرٌّ؛ لأنّه إنما ترك الطعن. إمّا احتشامًا من الشهود لا خوفًا منهم. وإمّا تحرزًا عن هتك الستر عليهم، وإمّا جهلًا منهم أنّ الطّعن شرطٌ، وكان مضطرًا في ترك المنازعة بخلاف مسألة الشفيع. فإنّ المشتري غير مضطر في ترك المنازعة، فإنه متى أنكر المشتري ملك الشفيع، لا يخاف منه، ولا يهتك ستره، فكان مختارًا. والدليل عليه: الحدود والقصاص. قيلَ له: الخصم هنا مختارًا في ترك المنازعة؛ لأنّه يمكنه أن يطعن في الشهود وبين يدي القاضي سرًّا متى خاف منهم، وتحرزًا عن هتك الستر، والجهل لا يكون عذرًا؛ لأنه في دار الإسلام بخلاف الحدود والقصاص؛ فإنهّا تندرئ بالشبهات. والنّصّ والظّاهر: أنّ حال ترك المنازعة، لا يخلو عن وقوع شبهةٍ واحتمال. قلت: الإمام روى عن عمر بن الخطاب ما تقدم. وقد أفتى بخلاف ظاهر ما روي، فكانت العبرة لفتواه؛ لأنه أعلم بتأويله، إذ لا يترك إلَّا بعلمه بالحال لاَ لرأيهِ بخلافه. فقد روى الخصّاف، عن محمد بن أبي بكر الصديق قال: قالَ عمر: إِنَّك لاَ تَقْبَلُ إِلاَّ العَدْلَ (¬1). ¬

_ (¬1) لم أجده.

وروي عن حبيب بن أبي ثابت قال: سأل عمر رجلًا عن رجلٍ؟ فقال: لاَ نَعْلَمُ إِلاَّ خَيْرًا. فقال عمر: حسبكَ (¬1). وروي عن عمر بن الخطّاب أَنّه قَال: لاَ تَجُوزُ شهادة العبدِ (¬2). وروي عن عليٍّ: أَنَّهُ ردَّ شهادة الأعمى (¬3). ¬

_ (¬1) رواه ابن أبي شيبة (21745) قال: حدثنا وكيع، عن مسعر، عن حبيب قال: سأل عمر رجلًا عن رجل؟ فقال: لا نعلم إلا خيرًا. فقال عمر: حسبك. (¬2) فيمن قال لا تجوز شهادة العبد: ابن عباس، كما في مصنف ابن أبي شيبة (20286). وعطاء (20287 و 20289). ومكحول (20288). وعامر (20291) وعبد الرزاق (15387). والشعبي (20292). وسفيان (20293). وقال البيهقي في سننه (2/ 269): قال أبو يحيى السّاجي: روي عن عليّ والحسن والنخعي والزهري ومجاهدٍ وعطاءٍ: لا تجوز شهادة العبيد. وقال البخاري - رحمه الله - في الترجمة: قال أنسٌ: شهادة العبد جائزةٌ إذا كان عدلًا وأجازها شريحٌ وزرارة بن أوفى. وقال ابن سيرين: شهادته جائزةٌ إلَّا العبد لسيّده. وأجازها الحسن وإبراهيم في الشيء التافه. وقال شريحٌ: كلكم بنو عبيدٍ وإماءٍ. وروى مالك في الموطأ (2667): أنّه بلغه أن عمر بن الخطاب قال: لا تجوز شهادة خصمٍ ولا ظنينٍ. وروى عبد الرزاق (15383) عن شريح قال: لا تجوز شهادة العبد لسيده، ولا الأجير لمن استأجره، ولا الشريك. قال معمر في حديثه: وكان شريح يجيز شهادة العبد في الشيء القليل. و (15384) عن شريح قال: لا تجوز شهادة العبد لسيده، ولا الأجير لمن استأجره. و (15385) عن إبراهيم قال: لا تجوز شهادة السيد لعبده، ولا العبد لسيده، ولا شريك لشريكه في الشيء إذا كان بينهما، فأما فيما سوى ذلك فشهادته جائزة. (¬3) روى عبد الرزاق (15380) قال: أخبرنا ابن عيينة، عن الأسود بن قيس، عن أشياخهم: أن عليًا لم يجز شهادة أعمى في سرقة.=

وروي عن ابن عبّاسٍ: لاَ تَجُوزُ شَهَادَةُ الأَقْلَفِ (¬1). فلم يعمل السلف بعمومه فيما عدا المستثنى، فكان الحكم على الغالب حينئذٍ. والله أعلم. فالحق: أنه اختلاف عصرٍ كما صرّح به الإمام أبو بكر الرّازيّ (¬2) - وهذا ¬

_ = وقال البخاري في صحيحه (5/ 167): (باب شهادة الأعمى وأمره ونكاحه وإنكاحه ومبايعته وقبوله في التأذين وغيره وما يعرف بالأصوات) وأجاز شهادته قاسمٌ، والحسن، وابن سيرين، والزّهريّ، وعطاءٌ. وقال الشعبيّ: تجوز شهادته إذا كان عاقلًا. وقال الحكم: ربِّ شيءٍ تجوز فيه. (¬1) رواه ابن أبي شيبة (23333 و 23334). وانظر: العناية شرح الهداية (14/ 135). وكذلك علي بن أبي طالب لم يجز شهادته كما في سنن البيهقي (2/ 96). والأقلف: هو من لم يختن. وورد قبول شهادته كما في: فتح القدير (17/ 162) والاختيار لتعليل المختار (1/ 23) والجوهرة النيرة (5/ 467) والمحيط (9/ 182 و 579). (¬2) قال أبو بكر الجصاص في أحكام القرآن (2/ 221 - 247): باب الشهود: قوله - عز وجل -: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة: 282]، قال أبو بكر: لما كان ابتداء الخطاب للمؤمنين في قوله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ} [البقرة: 282]، ثم عطف عليه قوله تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} دل ذلك على معنيين: أحدهما: أن يكون من صفة الشهود؛ لأن الخطاب توجه إليهم بصفة الإيمان، ولما قال في نسق الخطاب: {مِنْ رِجَالِكُمْ} كان كقوله: من رجال المؤمنين، فاقتضى ذاك كون الإيمان شرطًا في الشهادة على المسلمين، والمعنى الآخر الحرية، وذلك لما في فحوى الخطاب من الدلالة من وجهين: أحدهما: قوله تعالى: {إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ} [البقرة: 282] إلى قوله تعالى: {وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ}، وذلك في الأحرار دون العبيد، والدليل عليه: أن العبد لا يملك عقود المداينات، وإذا أقرّ بشيء لم يجز إقراره إلا بإذن مولاه، والخطاب إنما توجه إلى من يملك ذلك على الإطلاق من غير إذن الغير،=

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = فدل ذلك على أن من شرط هذه الشهادة الحرية، والمعنى الآخر من دلالة الخطاب قوله تعالى: {مِنْ رِجَالِكُمْ}، فظاهر هذا اللفظ يقتضي الأحرار، كقوله تعالى: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ} [النور: 32]؛ يعني: الأحرار، ألا ترى أنه عطف عليه قوله تعالى: {وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} [النور: 32] فلم يدخل العبيد في قوله تعالى: {مِنْكُمْ}. وفي ذلك دليلٌ على أن من شرط هذه الشهادة: الإسلام، والحرية جميعًا، وأن شهادة العبد غير جائزة؛ لأن أوامر الله تعالى على الوجوب، وقد أمر باستشهاد الأحرار فلا يجوز غيرهم. وقد روى عن مجاهد في قوله تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة: 282] قال: الأحرار. فإن قيل: إن ما ذكرت إنما يدلّ على أن العبد غير داخل في الآية، ولا دلالة فيها على بطلان شهادته. قيل له: لما ثبت بفحوى خطاب الآية، أن المراد بها الأحرار، كان قوله تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} أمرًا مقتضيًا للإيجاب، وكان بمنزلة قوله تعالى: واستشهدوا رجلين من الأحرار، فغير جائز لأحد إسقاط شرط الحرية؛ لأنه لو جاز ذلك لجاز إسقاط العدد. وفي ذلك دليل على أن الآية قد تضمنت بطلان شهادة العبيد. واختلف أهل العلم في شهادة العبيد: فروى قتادة، عن الحسن، عن علي قال: شهادة الصبي على الصبي، والعبد على العبد، جائزة. وحدثنا عبد الرحمن بن سيما قال: حدثنا عبد الله بن أحمد قال: حدثني أبي قال: حدثنا عبد الرحمن بن همام قال: سمعت قتادة يحدث أن عليًا - رضي الله عنه - كان يستثبت الصبيان في الشهادة. وهذا يوهن الحديث الأول. وروى حفص بن غياث، عن المختار بن فلفل، عن أنس قال: ما أعلم أحدًا ردّ شهادة العبد. وقال عثمان البتي: تجوز شهادة العبد لغير سيّده. وذكر أن ابن شبرمة كان يراها جائزةً. يأثر ذلك عن شريح. وكان ابن أبي ليلى لا يقبل شهادة العبيد، وظهرت الخوارج على الكوفة، وهو يتولى=

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = القضاء بها، فأمروه بقبول شهادة العبيد، وبأشياء ذكروها له من آرائهم، كان على خلافها، فأجابهم إلى امتثالها، فأقرّوه على القضاء، فلما كان في الليل ركب راحلته، ولحق بمكة، ولما جاءت الدولة الهاشمية ردّوه إلى ما كان عليه من القضاء على أهل الكوفة. وقال الزهريّ، عن سعيد بن المسيب قال: قضى عثمان بن عفان أن شهادة المملوك جائزة بعد العتق إذا لم تكن ردّت قبل ذلك. وروى شعبة، عن المغيرة قال: كان إبراهيم يجيز شهادة المملوك في الشيء التافه. وروى شعبة أيضًا، عن يونس، عن الحسن مثله. وروي عن الحسن: أنها لا تجوز. وروي عن حفص، عن حجاج، عن عطاء، عن ابن عباس قال: لا تجوز شهادة العبد. وقال أبو حنيفة، وأبو يوسف، ومحمد، وزفر، وابن شبرمة في إحدى الروايتين، ومالك، والحسن بن صالح، والشافعي: لا تقبل شهادة العبيد في شيء. قال أبو بكر: وقد قدّمنا ذكر الدلالة من الآية على أن الشهادة المذكورة فيها مخصوصة بالأحرار دون العبيد، ومما يدلّ من الآية على نفي شهادة العبد، قوله تعالى: {وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا}، فقال بعضهم: إذا دعي فليشهد. وقال بعضهم: إذا كان قد أشهد. وقال بعضهم: هو واجب في الحالين، والعبد ممنوع من الإجابة لحق المولى وخدمته، وهو لا يملك الإجابة، فدلّ أنه غير مأمور بالشهادة، ألا ترى أنه ليس له أن يشتغل عن خدمة مولاه بقراءة الكتاب وإملائه والشهادة، ولما لم يدخل في خطاب الحج والجمعة لحق المولى، فكذلك الشهادة إذ كانت الشهادة غير متعينة على الشهداء، وإنما هي فرض كفاية، وفرض الجمعة والحج يتعين على كل أحدٍ في نفسه، فلما لم يلزمه فرض الحج والجمعة مع الإمكان لحق المولى، فهو أولى أن لا يكون من أهل الشهادة لحق المولى، ومما يدل على ذلك أيضًا، قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ} [الطلاق: 2]. وقال أيضا: {كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ} [النساء: 135] إلى قوله تعالى: {فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا} [النساء: 135]، فجعل الحاكم=

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = شاهدًا لله كما جعل سائر الشهود شهداء لله بقوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ} [الطلاق: 2]، فلما لم يجز أن يكون العبد حاكمًا لم يجز أن يكون شاهدًا، إذ كان كل واحد من الحاكم والشاهد به ينفذ الحكم ويثبت. ومما يدل على بطلان شهادة العبد: قوله تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى} [النحل: 75]، وذلك لأنه معلوم أنه لم يرد به نفي القدرة؛ لأن الرّق والحرية لا تختلف بهما القدرة، فدل على أن مراده نفي حكم أقواله وعقوده وتصرفه وملكه، ألا ترى أنه جعل ذلك مثل للأصنام التي كانت تعبدها العرب على وجه المبالغة في نفي الملك والتصرف، وبطلان أحكام أقواله فيما يتعلق بحقوق العباد. وقد روي عن ابن عباس: أنه استدل بهذه الآية على أن العبد لا يملك الطلاق. ولولا احتمال اللفظ لذلك لما تأوله ابن عباس عليه، فدل ذلك على: أن شهادة العبد كلا شهادة كعقده وإقراره وسائر تصرفاته التي هي من جهة القول، فلما كانت شهادة العبد قوله وجب أن ينتفي وجوب حكمه بظاهر الآية، ومما يدل على بطلان شهادة العبيد: أن الشهادة فرضٌ على الكفاية، كالجهاد، فلما لم يكن العبد من أهل الخطاب بالجهاد ولو حصره وقاتل لم يسهم له وجب أن لا يكون من أهل الخطاب بالشهادة، ومتى شهد لم تقبل شهادته، ولم يكن له حكم الشهود، كما لم يثبت له حكم، وإن شهد القتال في استحقاق السهم، ويدل عليه: أنه لو كان من أهل الشهادة لوجب أن لو شهد بها فحكم بشهادته، ثم رجع عنها، أنه يلزمه غرم ما شهد به؛ لأن ذلك من حكم الشهادة، كما أن نفاذ الحكم بها إذا أنفذها الحاكم من حكمها، فلما لم يجز أن يلزمه الغرم بالرجوع علمنا أنه ليس من أهلها، وإن الحكم بشهادته غير جائز، وأيضًا فإنا وجدنا ميراث الأنثى على النصف من ميراث الذكر، وجعلت شهادة امرأتين بشهادة رجل، فكانت شهادة المرأة نصف شهادة الرجل، وميراثها نصف ميراثه، فوجب أن يكون العبد من حيث لم يكن من أهل الميراث رأسًا أن لا يكون من أهل الشهادة؛ لأنا وجدنا لنقصان الميراث تأثيرًا في نقصان الشهادة، فوجب أن يكون نفي الميراث موجبًا لنفي الشهادة. وما روي عن علي بن أبي طالب في جواز شهادة العبد؛ فإنه لا يصح من طريق النقل،=

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = ولو صحّ كان مخصوصًا في العبد إذا شهد على العبد، ولا نعلم خلافًا بين الفقهاء: أن العبد والحر سواء فيما تجوز الشهادة فيه، فإن قيل: لما كان خبر العبد مقبولًا إذا رواه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن رقه مانعًا من قبول خبره، كذلك لا يمنع من قبول شهادته. قيل له: ليس الخبر أصلًا للشهادة، فلا يجوز اعتبارها به، ألا ترى أن خبر الواحد مقبول في الأحكام، ولا تجوز شهادة الواحد فيها، وأنه يقبل فيه فلان عن فلان، ولا يقبل في الشهادة إلا على جهة الشهادة على الشهادة، وأنه يجوز قبول خبره إذا قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا تجوز شهادة الشاهد إلا أن يأتي بلفظ الشهادة والسماع والمعاينة لما يشهد به، فإن الرجل والمرأة متساويان في الأخبار، مختلفان في الشهادة؛ لأن شهادة امرأتين بشهادة رجل، وخبر الرجل والمرأة سواء، فلا يجوز الاستدلال بقبول خبر العبد على قبول شهادته. قال أبو بكر: قال محمد بن الحسن: لو أن حاكمًا حكم بشهادة عبد، ثم رفع إلي، أبطلت حكمه؛ لأن ذلك مما أجمع الفقهاء على بطلانه. وقد اختلف الفقهاء في شهادة الصبيان: فقال أبو حنيفة، وأبو يوسف، ومحمد، وزفر: لا تجوز شهاده الصبيان في شيء. وهو قول ابن شبرمة، والثوري، والشافعي. وقال ابن أبي ليلى: تجوز شهادة بعضهم على بعض. وقال مالك: تجوز شهادة الصبيان فيما بينهم في الجراح، ولا تجوز على غيرهم، وإنما تجوز بينهم في الجراح وحدها، قبل أن يتفرقوا ويجيئوا ويعلموا، فإن افترقوا فلا شهادة لهم، إلا أن يكونوا قد أشهدوا على شهادتهم قبل أن يتفرقوا، وإنما تجوز شهادة الأحرار الذكور منهم، ولا تجوز شهادة الجواري من الصبيان والأحرار. قال أبو بكر: روي عن ابن عباس، وعثمان، وابن الزبير، إبطال شهادة الصبيان. وروي عن علي إبطال شهادة بعضهم على بعض. وعن عطاء مثله. وروى عبد الله بن حبيب بن أبي ثابت قال: قيل للشعبي: إن إياس بن معاوية لا يرى بشهادة الصبيان بأسًا. فقال الشعبي: حدثني مسروق: أنه كان عند علي كرم الله وجهه إذ جاءه خمسة غلمة فقالوا: كنا ستة نتغاط في الماء فغرق منا غلام، فشهد الثلاثة على الإثنين: أنهما غرقاه، وشهد الإثنان أن الثلاثة غرقوه، فجعل على الإثنين ثلاثة =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = أخماس الدية، وعلى الثلاثة خمسي الدية. إلا أن عبد الله بن حبيب غير مقبول الحديث عند أهل العلم، ومع ذلك فإن معنى الحديث مستحيلٌ لا يصدّق مثله عن عليّ - رضي الله عنه -؛ لأن أولياء الغريق إن ادعوا على أحد الفريقين فقد أكذبوهم في شهادتهم على غيرهم، وإن ادّعوا عليهم كلهم فهم يكذبون الفريقين جميعًا. فهذا غير ثابت عن علي كرم الله وجهه. ومما يدل على بطلان شهادة الصبيان، قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} [البقرة: 282] وذلك خطاب للرجال البالغين لأن الصبيان لا يملكون عقود المداينات وكذلك قوله تعالى: {وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ} [البقرة: 282] لم يدخل فيه الصبي لأن إقراره لا يجوز وكذلك قوله: {وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا} [البقرة: 282] لا يصح أن يكون خطابًا للصبي لأنه ليس من أهل التكليف فيلحقه الوعيد ثم قوله: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة: 282] وليس الصبيان من رجالنا ولما كان ابتداء الخطاب بذكر البالغين كان قوله من رجالكم عائدًا عليهم ثم قوله: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: 282] يمنع أيضًا جواز شهادة الصبي وكذلك قوله: {وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} [البقرة: 282] هو نهي وللصبي أن يأبى من إقامة الشهادة وليس للمدعي إحضاره لها ثم قوله: {وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} [البقرة: 283] غير جائز أن يكون خطابًا للصغار، فلا يلحقهم المأثم بكتمانها. ولما لم يجز أن يلحقه ضمان بالرجوع دل على أنه ليس من أهل الشهادة؛ لأن كل من صحت شهادته لزمه الضمان عند الرجوع. وأما إجازة شهادتهم في الجراح خاصة وقبل أن يتفرقوا ويجيئوا، فإنه تحكم بلا دلالة وتفرقة بين من لا فرق فيه في أثر ولانظر؛ لأن في الأصول أن كل من جازت شهادته في الجراح فهي جائزة في غيرها وأما اعتبار حالهم قبل أن يتفرقوا ويجيئوا فإنه لا معنى له لأنه جائز أن يكون هؤلاء الشهود هم الجناة ويكون الذي حملهم على الشهادة الخوف من أن يؤخذوا به. وهذا معلوم من عادة الصبيان إذا كان منهم جناية إحالته بها على غيره خوفاً من أن يؤخذ بها وأيضًا لما شرط الله في الشهادة العدالة وأوعد شاهد الزور ما أوعده به ومنع من قبول شهادة الفساق ومن لا يزع عن الكذب احتياطًا لأمر الشهادة فكيف تجوز شهادته من هو غير مأخوذ بكذبه. وليس له حاجز يحجزه =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = عن الكذب ولا حياء يردعه ولا مروءة تمنعه وقد يضرب الناس المثل بكذب الصبيان فيقولون: هذا أكذب من صبيٍّ. فكيف يجوز قبول شهادة من هذا حاله فإن كان إنما اعتبر حالهم قبل تفرقهم وقبل أن يعلمهم غيرهم؛ لأنه لا يتعمد الكذب دون تلقين غيره، فليس ذلك كما ظن، لأنهم يتعمدون الكذب من غير مانع يمنعهم، وهم يعرفون الكذب كما يعرفون الصدق إذا كانوا قد بلغوا الحد الذي يقومون بمعنى الشهادة والعبارة: عما شهدوا. وقد يتعمدون الكذب لأسبابٍ عارضة منها خوفهم من أن تنسب إليهم الجناية أو قصدًا للمشهود عليه بالمكروه. ومعانٍ غير ذلك معلومة من أحوالهم، فليس لأحدٍ أن يحكم لهم بصدق الشّهادة قبل أن يتفرقوا، كما لا يحكم لهم بذلك بعد التفرق، وعلى أنه لو كان كذلك، وكان العلم حاصلًا بأنهم لا يكذبون ولا يتعمدون لشهادة الزور فينبغي أن تقبل شهادة الإناث كما تقبل شهادة الذكور، وتقبل شهادة الواحد كما تقبل شهادة الجماعة، فإذا اعتبر العدد في ذلك وما يجب اعتباره في الشهادة من اختصاصها في الجراح بالذكور دون الإناث فواجب أن يستوفى لها سائر شروطها من البلوغ والعدالة، ومن حيث أجازوا شهادة بعضهم على بعضٍ فواجبٌ إجازتها على الرجال؛ لأن شهادة بعضهم على بعضٍ ليست بآكد منها على الرجال إذ هم في حكم المسلمين عند قائل هذا القول والله الموفق. واختلف في شهادة الأعمى: فقال أبو حنيفة ومحمد: لا تجوز شهادة الأعمى بحالٍ. وروي نحوه عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -. وروى عمرو بن عبيد، عن الحسن قال: لا تجوز شهادة الأعمى بحالٍ. وروي عن أشعث مثله إلا أنه قال: إلاّ أن تكون في شيءٍ رآه قبل أن يذهب بصره. وروى ابن لهيعة، عن أبي طعمة، عن سعيد بن جبير قال: لا تجوز شهادة الأعمى. وحدثنا عبد الرحمن بن سيما قال: حدثنا عبد الله بن أحمد قال: حدثني أبي قال: حدثني حجاج بن جبير بن حازم، عن قتادة قال: شهد أعمى عند إياس بن معاوية على شهادةٍ فقال له إياس: لا نرد شهادتك، إلاّ أن لا تكون عدلًا ولكنك أعمى لا تبصر. قال: فلم يقبلها. وقال أبو يوسف وابن أبي ليلى والشافعي: إذا علمه قبل العمى جازت، وما علمه في حال العمى لم تجز. وقال شريح والشعبي: شهادة الأعمى جائزة. وقال مالك والليث بن سعد: شهادة الأعمى جائزة وإن علمه في حال العمى إذا عرف الصوت في الطلاق والإقرار =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = ونحوه، وإن شهد على زنا أو حد القذف لم تقبل شهادته. والدليل على بطلان شهادة الأعمى: ما حدثنا عبد الباقي بن قانع قال: حدثنا عبد الله بن محمد بن ميمون البلخي الحافظ قال: حدثنا يحيى بن موسى يعرف بخت قال: حدثنا محمد بن سليمان بن مسمول قال: حدثنا عبد الله بن سلمة بن وهرام، عن أبيه، عن طاوس، عن ابن عباس قال: سئل - صلى الله عليه وسلم - عن الشهادة فقال: "ترى هذه الشمس فاشهد وإلّا فدع". فجعل من شرط صحة الشهادة: معاينة الشاهد لما شهد به، والأعمى لا يعاين المشهود عليه، فلا تجوز شهادته. ومن جهة أخرى: أن الأعمى يشهد بالاستدلال فلا تصح شهادته، ألا ترى: أن الصوت قد يشبه الصوت، وإن المتكلم قد يحاكي صوت غيره ونغمته حتى لا يغادر منها شيئًا، ولا يشك سامعه إذا كان بينه وبينه حجابٌ أنه المحكي صوته فغير جائزٍ قبول شهادته على الصوت، إذ لا يرجع منه إلى يقينٍ، وإنما يبنى أمره على غالب الظن. وأيضًا: فإن الشاهد مأخوذ عليه بأن يأتي بلفظ الشهادة ولو عبر بلفظ غير لفظ الشهادة بأن يقول: أعلم أو أتيقن لم تقبل شهادته فعلمت أنها حين كانت مخصوصة بهذا اللفظ. وهذا اللفظ يقتضي مشاهدة المشهود به، ومعاينته. فلم تجز شهادة من خرج من هذا الحد وشهد عن غير معاينة، فإن قال قائلٌ: يجوز للأعمى إقدامه على وطء امرأته إذا عرف صوتها، فعلمنا: أنه يقينٌ ليس بشكٍّ إذ غير جائزِ لأحدٍ الأقدام على الوطء بالشك. قيل له: يجوز له الإقدام على وطء امرأته بغالب الظّنّ بأن زفت إليه امرأة. وقيل له: هذه امرأتك، وهو لا يعرفها، يحل له وطؤها. وكذلك جائزٌ له قبول هدية جارية يقول الرسول، ويجوز له الإقدام على وطئها ولو أخبره مخبرٌ عن زيدٍ بإقرارٍ أو بيعٍ أو قذفٍ، لما جاز له إقامة الشّهادة على المخبر عنه؛ لأن سبيل الشهادة: اليقين والمشاهدة. وسائر الأشياء التي ذكرت، يجوز فيها استعمال غالب الظن، وقبول قول الواحد، فليس ذلك إذًا أصلًا للشّهادة. وأما إذا استشهد وهو بصيرٌ، ثم عمي فإنما لم نقبله من قبل أنا قد علمنا أن حال تحمل الشهادة أضعف من حال الأداء. والدليل عليه: أنه غير جائزٍ أن يتحمل الشهادة وهو كافر أو عبد أو صبي، ثم يؤديها وهو حرٌّ مسلمٌّ بالغٌ تقبل شهادته ولو أداها وهو صبي أو عبد أو كافر لم =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = تجز فعلمنا: أن حال الأداء أولى بالتأكيد من حال التحمل، فإذا لم يصح تحمل الأعمى للشهادة وكان العمى مانعًا من صحة التحمل وجب أن يمنع صحة الأداء. وأيضًا لو استشهده وبينه وبينه حائل لما صحت شهادته وكذلك لو أداها وبينهما حائل لم تجز شهادته، والعمى حائل بينه وبين المشهود عليه فوجب أن لا تجوز. وفرق أبو يوسف بينهما بأن قال: يصح أن يتحمل الشهادة بمعاينته، ثم يشهد عليه وهو غائبٌ أو ميّت، فلا يمنع ذلك جوازها، فكذلك عمى الشاهد بمنزلة موت المشهود عليه أو غيبته، فلا يمنع قبول شهادته. والجواب عن ذلك من وجهين: أحدهما: أنه إنما يجب اعتبار الشاهد في نفسه فإن كان من أهل الشهادة قبلناها، وإن لم يكن من أهل الشهادة لم نقبلها. والأعمى قد خرج من أن يكون من أهل الشهادة بعماه، فلا اعتبار بغيره. وأما الغائب والميت، فإن شهادة الشاهد عليهما صحيحة إذ لم يعترض فيه ما يخرجه من أن يكون من أهل الشهادة وغيبة المشهود عليه وموته لا تؤثر في شهادة الشاهد، فلذلك جازت شهادته. والوجه الآخر: أنا لا نجيز الشهادة على الميت والغائب إلا أن يحضر عنه خصم فتقع الشهادة عليه فيقوم حضوره مقام حضور الغائب والميت والأعمى في معنى من يشهد على غير خصم حاضر فلاتصح شهادته، فإن احتجوا بقوله تعالى: {إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ} [البقرة: 282] إلى قوله تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة: 282]. وقوله تعالى: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: 282]. والأعمى قد يكون مرضيًا وهو من رجالنا الأحرار، فظاهر ذلك يقتضي قبول شهادته. قيل له: ظاهر الآية يدل: على أن الأعمى غير مقبول الشهادة؛ لأنه قال: {وَاسْتَشْهِدُوا}. والأعمى لا يصح استشهاده؛ لأن الاستشهاد هو إحضار المشهود عليه ومعاينته إياه وهو غير معاين ولا مشاهد لمن يحضره؛ لأن العمى حائل بينه وبين ذلك كحائطٍ لو كان بينهما، فيمنعه ذلك من مشاهدته، ولما كانت الشهادة إنما هي مأخوذة من مشاهدة المشهود عليه ومعاينته على الحال التي تقتضي الشهادة إثبات الحق عليه وكان ذلك معدومًا في الأعمى، وجب أن تبطل شهادته فهذه الآية؛ لأن تكون دليلًا على بطلان شهادته أولى من أن تدل على إجازتها. وقال زفر: لا تجوز شهادة الأعمى إذا شهد بها قبل العمى أو بعده إلاّ في النسب أن يشهد =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = أن فلانًا ابن فلان. قال أبو بكر: يشبه أن يكون ذهب في ذلك إلى أن النسب قد تصح الشهادة عليه بالخبر المستفيض وإن لم يشاهده الشّاهد، فلذلك جائز إذا تواتر عند الأعمى الخبر بأنّ فلانًا ابن فلان أن يشهد به عند الحاكم، وتكون شهادته مقبولة. ويستدل على صحة ذلك: بأن الأعمى والبصير سواء فيما ثبت حكمه عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - من طريق التواتر وإن لم يشاهد المخبرين من طريق المعاينة، وإنما يسمع أخبارهم فكذلك جائزٌ أن يثبت عنده علم صحة النسب من طريق التواتر وإن لم يشاهد المخبرين، فتجوز إقامة الشهادة به، وتكون شهادته مقبولة فيه، إذ ليس شرط هذه الشهادة معاينة المشهود به. واختلف في شهادة البدوي على القروي: فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر والليث والأوزاعي والشافعي: هي جائزة إذا كان عدلاً. وروي نحوه عن الزهريّ. وروى ابن وهب، عن مالكٍ قال: لا تجوز شهادة بدوي على قروي إلَّا في الجراح. وقال ابن القاسم عنه: لا تجوز شهادة بدوي على قروي في الحضر إلاّ في وصية القروي في السفر أو في بيعٍ فتجوز إذا كانوا عدولاً. قال أبو بكرٍ: جميع ما ذكرنا من دلائل الآية على قبول شهادة الأحرار البالغين يوجب التسوية بين شهادة القروي والبدوي؛ لأن الخطاب توجه إليهم بذكر الإيمان بقوله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ} [البقرة: 282] وهؤلاء من جملة المؤمنين. ثم قال تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة: 282]؛ يعني: من رجال المؤمنين الأحرار، وهذه صفة هؤلاء. ثم قال: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: 282] إذا كانوا عدولاً فهم مرضيون. وقال في آيةٍ أخرى في شأن الرجعة والفراق: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2]. وهذه الصفة شاملة للجميع إذا كانوا عدولاً. وفي تخصيص القروي بها دون البدوي: ترك العموم بغير دلالةٍ، ولم يختلفوا أنهم مرادون بقوله: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة: 282] وبقوله: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: 282] أنهم يجيزون شهادة البدوي على بدويٍّ مثله على شرط الآية وإذا كانوا مرادين بالآية فقد اقتضت جواز شهادتهم على القروي من حيث اقتضت جواز شهادة بعضهم على بعضٍ، ومن حيث اقتضت جواز شهادة القروي على البدوي فإن احتجوا بما حدثنا عبد الباقي بن قانع قال: حدثنا حسين بن إسحاق التستري قال: حدثنا حرملة بن يحيى قال: حدثنا ابن =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = وهب قال: حدثنا نافع بن يزيد بن الهادي، عن محمد بن عمرو، عن عطاء بن يسار، عن أبي هريرة، أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "لا تجوز شهادة بدوي على صاحب قرية". فإن مثل هذا الخبر لا يجوز الاعتراض به على ظاهر القرآن، مع أنه ليس فيه ذكر الفرق بين الجراح وفي غيرها، ولا بين أن يكون القروي في السفر أو في الحضر. فقد خالف المحتج به ما اقتضاه عمومه. وقد روى سماك بن حرب، عن عكرمة، عن ابن عباسٍ قال: شهد أعرابيٌّ عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في رؤية الهلال فأمر بلالاً ينادي في الناس فليصوموا غدًا. فقبل شهادته وأمر الناس بالصيام. وجائزٌ أن يكون حديث أبي هريرة في أعرابيٍّ شهد شهادةً عند النبي - صلى الله عليه وسلم -، وعلم النبي - صلى الله عليه وسلم - خلافها مما يبطل شهادته، فأخبر به. فنقله الراوي من غير ذكر السبب. وجائزٌ أن يكون قاله في الوقت الذي كان الشرك والنفاق غالبين على الأعراب كما قال - صلى الله عليه وسلم -: {وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ} [التوبة: 98]. فإنما منع قبول شهادة من هذه صفته من الأعراب. وقد وصف الله قومًا آخرين من الأعراب بعد هذه الصفة ومدحهم بقوله: {وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ} [التوبة: 99] الآية. فمن كانت هذه صفته فهو مرضي عند الله وعند المسلمين، مقبول الشهادة، ولا يخلو البدوي من أن يكون غير مقبول الشهادة على القروي إما لطعنٍ في دينه أو جهلٍ منه بأحكام الشهادات. وما يجوز أداؤها منها مما لا يجوز، فإن كان لطعنٍ في دينه فإن هذا غير مختلفٍ في بطلان شهادته، ولا يختلف فيه حكم البدوي والقروي. وإن كان لجهلٍ منه بأحكام الشهادات فواجب أن لا تقبل شهادته على بدويّ مثله، وأن لا تقبل شهادته في الجراح، ولا على القروي في السفر، كما لا تقبل شهادة القروي إذا كان بهذه الصفة. ويلزمه أن يقبل شهادة البدوي إذا كان عدلاً عالمًا بأحكام الشهادة على القروي وعلى غيره لزوال المعنى الذي من أجله امتنع من قبول شهادته، وأن لا يجعل لزوم سمة البدو إياه والنسبة إليه علة لرد شهادته كما لا تجعل نسبة القروي إلى القرية علة لجواز شهادته إذا كان مجانبًا للصفات المشروطة لجواز الشهادة قوله - عزوجل -: {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} [البقرة: 282]. فقال أبو بكر: أوجب اَبدويًا استشهاد شهيدين، وهما الشاهدان؛ لأن الشهيد والشاهد واحد =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = كما أن عليم وعالم واحد، وقادر وقدير واحد، ثم عطف عليه قوله: {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ} [البقرة: 282]؛ يعني: إن لم يكن الشهيدان رجلين {فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} [البقرة: 282]. فلا يخلو قوله: {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ} [البقرة: 282] من أن يريد به: فإن لم يوجد رجلان فرجل وامرأتان. كقوله: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا} [النساء: 43]ـ. وكقوله: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} [المجادلة: 3] ثم قال: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ} [النساء: 92] إلى قوله تعالى: {فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا} [المجادلة: 4]. وما جرى مجرى ذلك في الأبدال التي أقيمت مقام أصل الفرض عند عدمه أو أن يكون مراده فإن لم يكن الشهيدان رجلين فالشهيدان رجل وامرأتان. فأفادنا إثبات هذا الاسم للرجل والمرأتين حتى يعتبر عمومه في جواز شهادتهما مع الرجل في سائر الحقوق إلَّا ما قام دليله، فلما اتفق المسلمون على جواز شهادة رجلِ وامرأتين مقام رجلين عند عدم الرجلين فثبت الوجه الثاني وهو: أنه أراد تسمية الرجل والمرأتين شهيدين، فيكون ذلك اسمًا شرعيًا يجب اعتباره فيما أمرنا فيه باستشهاد شهيدين إلاّ موضعًا قام الدليل عليه، فيصح الاستدلال بعمومه في قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " لا نكاح إلا بولي وشاهدين". وإثبات النكاح والحكم بشهادة رجلٍ وامرأتين إذ قد لحقهم اسم شهيدين. وقد أجاز النبي - صلى الله عليه وسلم - النكاح بشهادة شاهدين. وقد اختلف أهل العلم في شهادة النساء مع الرجال في غير الأموال فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر وعثمان البتي: لا تقبل شهادة النساء مع الرجال في الحدود، ولا في القصاص. وتقبل فيما سوى ذلك من سائر الحقوق. وحدثنا عبد الباقي بن قانع قال: حدثنا بشر بن موسى قال: حدثنا يحيى بن عبادة قال: حدثنا شعبة، عن الحجاج بن أرطاة، عن عطاء بن أبي رباح: أنّ عمر أجاز شهادة رجلٍ وامرأتين في نكاحٍ. وروى جرير بن حازم، عن الزبير بن الخريت، عن أبي لبيد: أن عمر أجاز شهادة النساء في طلاق. وروى إسرائيل، عن عبد الأعلى، عن محمد ابن الحنفية، عن علي - رضي الله عنه - قال: تجوز شهادة النساء في العقد. وروى حجاج، عن عطاء: أن ابن عمر كان يجيز شهادة النساء مع الرجل في النكاح. وروي عن عطاء: أنه كان يجيز شهادة النساء في الطلاق. وروي عن عون، عن الشعبي، عن شريح: أنه أجاز شهادة رجل وامرأتين في عتقٍ وهو قول الشعبي في الطلاق. وروي عن =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = الحسن والضحاك قالا: لا تجوز شهادتهن إلَّا في الدين والولد. وقال مالك: لا تجوز شهادة النساء مع الرجال في الحدود والقصاص ولا في الطلاق ولا في النكاح ولا في الأنساب ولا في الولاء ولا الإحصان. وتجوز في الوكالة والوصية إذا لم يكن فيها عتق. وقال الثَّوريُّ: تجوز شهادتهن في كل شيءِ إلاّ الحدود. وروي عنه: أنها لا تجوز في القصاص أيضًا. وقال الحسن بن حي: لا تجوز شهادتهن في الحدود. وقال الأوزاعي: لا تجوز شهادة رجلِ وامرأتين في نكاح. وقال الليث: تجوز شهادة النساء في الوصية والعتق، ولا تجوز في النكاح ولا الطلاق ولا الحدود ولا قتل العمد الذي يقاد منه. وقال الشافعي: لا تجوز شهادة النساء مع الرجال في غير الأموال، ولا يجوز في الوصية إلا الرجل وتجوز في الوصية بالمال. قال أبو بكر: ظاهر هذه الآية يقتضي جواز شهادتهن مع الرجل في سائر عقود المداينات وهي كل عقدٍ واقعٍ على دينٍ سواء كان بدله مالًا أو بضعًا أو منفع أو دم عمدٍ؛ لأنه عقد فيه دين، إذ المعلوم: أنه ليس مراد الآية في قوله تعالى: {إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} [البقرة: 282] أن يكون المعقود عليهما من البدلين دينين لامتناع جواز ذلك إلى أجلٍ مسمى. فثبت: أن المراد وجود دين عن بدل أي دينٍ كان. فاقتضى ذلك: جواز شهادة النساء مع الرجل على عقد نكاح فيه مهر مؤجل إذا كان ذلك عقد مداينة، وكذلك الصلح من دم العمد، والخلع على مال، والإجارات فمن ادعى خروج شيء من هذه العقود من ظاهر الآية لم يسلم له ذلك إلَّا بدلالة إذ كان العموم مقتضيًا لجوازها في الجميع، ويدل على جواز شهادة النساء في غير الأموال، ما حدثنا عبد الباقي بن قانع قال: حدثنا أحمد بن القاسم الجوهري قال: حدثنا محمد بن إبراهيم أخو أبي معمر قال: حدثنا محمد بن الحسن بن أبي يزيد، عن الأعمش، عن أبي وائل، عن حذيفة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أجاز شهادة القابلة. والولادة ليست بمالٍ. وأجاز شهادتها عليها. فدل ذلك: على أن شهادة النساء ليست مخصوصة بالأموال، ولا خلاف في جواز شهادة النساء على الولادة، وإنما الاختلاف في العدد. وأيضًا لما ثبت: أن اسم الشهيدين واقعٌ في الشرع على الرجل والمرأتين. وقد ثبت: أن اسم البينة يتناول الشهيدين وجب بعموم قوله: "البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه ". القضاء بشهادة =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = الرجل والمرأتين في كل دعوى إذ قد شملهم اسم البينة. ألا ترى أنها بينة في الأموال، فلما وقع عليها الاسم وجب بحق العموم قبولها لكل مدّعٍ إلاّ أن تقوم الدلالة على تخصيص شيءٍ منه، وإنما خصصنا الحدود والقصاص، لما روى الزهريّ قال: مضت السَّنة من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والخليفتين من بعده: أن لا تجوز شهادة النساء في الحدود، ولا في القصاص. وأيضًا: لما اتفق الجميع على قبول شهادتهن مع الرجل في الديون وجب قبولها في كل حق لا تسقطه الشبهة إذا كان الدين حقًا، لا يسقط بالشبهة. ومما يدل على جوازها في غير الأموال من الآية: أن الله تعالى قد أجازها في الأجل بقوله: {إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} [البقرة: 282] ثم قال: {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} [البقرة: 282] فأجاز شهادتها مع الرجل على الأجل وليس بمالٍ كما أجازها في المال. فإن قيل: الأجل لا يجب إلاّ في المال قيل له: هذا خطأ؛ لأن الأجل قد يجب في الكفالة بالنفس وفي منافع الأحرار التي ليست بمالٍ. وقد يؤجله الحاكم في إقامة البينة على الدم وعلى دعوى العفو منه بمقدار ما يمكن التقدم إليه. فقولك: إن الأجل لا يجب إلا في المال خطأ ومع ذلك: فالبضع لا يستحق إلَّا بمال، ولا يقع النكاح إلا بمال. فينبغي أن تجيز فيه شهادة النساء قوله تعالى: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: 282]. قال أبو بكر: لما كانت معرفة ديانات الناس وأماناتهم وعدالتهم إنما هي من طريق الظاهر دون الحقيقة إذ لا يعلم ضمائرهم ولا خبايا أمورهم غير الله تعالى، ثم قال الله تعالى فيما أمرنا باعتباره من أمر الشهود: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: 282] دل ذلك: على أن أمر تعديل الشهود موكولاً إلى اجتهاد رأينا، وما يغلب في ظنوننا من عدالتهم وصلاح طرائقهم. وجائزٌ أن يغلب في ظن بعض الناس عدالة شاهدٍ وأمانته فيكون عنه رضى ويغلب في ظن غيره أنه ليس يرضى فقوله: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: 282] مبني على غالب الظن، وأكثر الرأي والذي بني عليه أمر الشهادة أشياء ثلاثة: أحدها: العدالة. والآخر: نفي التهمة وإن كان عدلاً. والثالث: التيقظ والحفظ وقلة الغفلة. أما العدالة: فأصلها الإيمان واجتناب الكبائر، ومراعاة حقوق الله - عز وجل - في الواجبات والمسنونات، وصدق اللهجة والأمانة. وأن لا يكون محدودًا في قذفٍ. وأما نفي التهمة فأن لا يكون المشهود له والدًا=

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = ولا ولدًا أو زوجًا وزوجة، وأن لا يكون قد شهد بهذه الشهادة فردت لتهمة، فشهادة هؤلاء غير مقبولة لمن ذكرنا وإن كانوا عدولًا مرضيين. وأما التيقظ والحفظ وقلة الغفلة: فأن لا يكون غفولًا غير مجرب للأمور، فإن مثله ربما لقن الشيء فتلقنه، وربما جوز عليه التزوير فشهد به. قال ابن رستم عن محمد بن الحسن في رجل أعجميٍّ صوام قوام مغفل يخشى عليه أن يلقن فيأخذ به قال: هذا أشر من الفاسق في شهادته. وحدثنا عبد الرحمن بن سيما المحبر قال: حدثنا عبد الله بن أحمد قال: حدثني أبي قال: حدثنا أسود بن عامر قال: حدثنا ابن هلال، عن أشعث الحداني قال: قال رجلٌ للحسن: يا أبا سعيدٍ إن إياسًا رد شهادتي، فقام معه إليه فقال: يا ملكعان لم رددت شهادته أو ما بلغك عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "من استقبل قبلتنا وأكل من ذبيحتنا فذلك المسلم الذي له ذمة الله وذمة رسوله". فقال: أيها الشيخ، أما سمعت الله يقول: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: 282]. وإن صاحبك هذا ليس نرضاه. وحدثنا عبد الباقي بن قانع قال: حدثنا أبو بكر محمد بن عبد الوهاب قال: حدثنا السري بن عاصم بإسنادٍ ذكره: أنه شهد عند إياس بن معاوية رجل من أصحاب الحسن فرد شهادته فبلغ الحسن وقال: قوموا بنا إليه. قال: فجاء إلى إياس فقال: يا لكع ترد شهادة رجل مسلم. فقال: نعم. قال الله تعالى: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: 282] وليس هو ممن أرضى. قال: فسكت الحسن. فقال خصم الشيخ: فمن شرط الرضا للشهادة أن يكون الشاهد متيقظًا حافظًا لما يسمعه، متقنًا لما يؤديه. وقد ذكر بشر ابن الوليد، عن أبي يوسف في صفة العدل أشياء: منها: أنه قال: من سلم من الفواحش التي تجب فيها الحدود وما يشبه ما تجب فيه من العظائم وكان يؤدي الفرائض وأخلاق البر فيه أكثر من المعاصي الصغار قبلنا شهادته؛ لأنه لا يسلم عبدٌ من ذنبٍ وإن كانت ذنوبه أكثر من أخلاق البر رددنا شهادته، ولا تقبل شهادة من يلعب بالشطرنج، يقامر عليها، ولا من يلعب بالحمام ويطيرها، وكذلك من يكثر الحلف بالكذب لا تجوز شهادته. قال: وإذا ترك الرجل الصلوات الخمس في الجماعة استخفافًا بذلك أو مجانة أو فسقًا فلا تجوز شهادته وإن تركها على تأويلٍ، وكان عدلًا فيما سوى ذلك قبلت شهادته. قال: وإن داوم على ترك ركعتي الفجر لم تقبل شهادته وإن كان معروفًا =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = بالكذب الفاحش لم أقبل شهادته وإن كان لا يعرف بذلك، وربما ابتلي بشيء منه، والخير فيه أكثر من الشر قبلت شهادته، ليس يسلم أحدٌ من الذنوب. قال: وقال أبو حنيفة وأبو يوسف وابن أبي ليلى: شهادة أهل الأهواء جائزةٌ إذا كانوا عدولاً إلَّا صنفًا من الرافضة يقال لهم: الخطابية، فإنه بلغني أن بعضهم يصدق بعضًا فيما يدعي إذا حلف له، ويشهد بعضهم لبعضٍ، فلذلك أبطلت شهادتهم. وقال أبو يوسف: أيما رجلٍ أظهر شتيمة أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - لم أقبل شهادته؛ لأن رجلًا لو كان شتامًا للناس والجيران لم أقبل شهادته، فأصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - أعظم حرمةً. وقال أبو يوسف: ألا ترى أن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد اختلفوا واقتتلوا. وشهادة الفريقين جائزة؛ لأنهم اقتتلوا على تأويلٍ فكذلك أهل الأهواء من المتأولين. قال أبو يوسف: ومن سألت عنه؟ فقالوا: إنا نتهمه بشتم أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإني لا أقبل هذا حتى يقولوا: سمعناه يشتم. قال: فإن قالوا نتهمه بالفسق والفجور ونظن ذلك به ولم نره، فإني أقبل ذلك ولا أجيز شهادته. والفرق بينهما: إن الذين قالوا: نتهمه بالشتم. قد أثبتوا له الصلاح وقالوا: نتهمه بالشتم. فلا يقبل هذا إلا بسماعٍ. والذين قالوا: نتهمه بالفسق والفجور، ونظن ذلك به، ولم نره، فإني أقبل ذلك، ولا أجيز شهادته، أثبتوا له صلاحًا وعدالة. وذكر ابن رستم، عن محمدٍ أنه قال: لا أقبل شهادة الخوارج إذ كانوا قد خرجوا يقاتلون المسلمين وإن شهدوا. قال: قلت: ولم لا تجيز شهادتهم وأنت تجيز شهادة الحرورية. قال: لأنهم لا يستحلون أموالنا ما لم يخرجوا، فإذا خرجوا استحلوا أموالنا فتجوز شهادتهم ما لم يخرجوا. وحدثنا أبو بكر مكرم بن أحمد قال: حدثنا أحمد بن عطية الكوفي قال: سمعت محمد بن سماعة يقول: سمعت أبا يوسف يقول: سمعت أبا حنيفة يقول: لا يجب على الحكم أن يقبل شهادة بخيلٍ، فإن البخيل يحمله شدة بخله على التقصي، فيأخذ فوق حقه مخافة الغبن. ومن كان كذلك لم يكن عدلاً. سمعت حماد بن أبي سليمان يقول: سمعت إبراهيم يقول: قال علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -: أيها الناس كونوا وسطاً لا تكونوا بخلاء ولا سفلة، فإن البخيل والسفلة الذين إن كان عليهم حقٌ لم يؤدوه، وإن كان لهم حقٌ استقصوه. قال: وقال: ما من طباع المؤمن التقصي ما استقصى كريم قط =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = قال الله تعالى: {عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ} [التحريم: 3]. وحدثنا مكرم بن أحمد قال: حدثنا أحمد بن محمد بن المغلس قال: سمعت الحماني يقول: سمعت ابن المبارك يقول: سمعت أبا حنيفة يقول: من كان معه بخيل لم تجز شهادته يحمله البخل على التقصي، فمن شدة تقصيه يخاف الغبن فيأخذ فوق حقه مخافة الغبن، فلا يكون هذا عدلاً. وقد روي نظير ذلك: عن إياس بن معاوية. ذكر ابن لهيعة، عن أبي الأسود محمد ابن عبد الرحمن قال: قلت لإياس بن معاوية: أخبرت أنك لا تجيز شهادة الأشراف بالعراق، ولا البخلاء، ولا التجار الذين يركبون البحر قال: أجل. أما الذين يركبون إلى الهند حتى يغرروا بدينهم، ويكثروا عدوهم من أجل طمع الدنيا، فعرفت أن هؤلاء لو أعطي أحدهما درهمين في شهادة لم يتحرج بعد تغريره بدينه. وأما الذين يتجرون في قرى فارس فإنهم يطعمونهم الربا وهم يعلمون، فأبيت أن أجيز شهادة آكل الربا. وأما الأشراف: فإن الشريف بالعراق إذا نابت أحدًا منهم نائبة أتى إلى سيد قومه فيشهد له ويشفع فكنت أرسلت إلى عبد الأعلى بن عبد الله بن عامر: أن لا يأتيني بشهادةٍ. وقد روي عن السلف رد شهادة قومٍ ظهر منهم أمورٌ لا يقطع فيها بفسق فاعليها إلَّا أنها تدل على سخفٍ أو مجونٍ فرأوا رد شهادة أمثالهم منه. ما حدثنا عبد الرحمن بن سيما قال: حدثنا عبد الله بن أحمد قال: حدثنا محمود بن خداش قال: حدثنا زيد بن الحباب قال: أخبرني داود بن حاتم البصري: أن بلال بن أبي بردة وكان على البصرة كان لا يجيز شهادة من يأكل الطين، وينتف لحيته. وحدثنا عبد الباقي بن قانع قال: حدثنا حماد بن محمد قال: حدثنا شريح قال: حدثنا يحيى ابن سليمان، عن ابن جريج: أن رجلًا كان من أهل مكة شهد عند عمر بن عبد العزيز وكان ينتف عنفقته ويحفي لحيته وحول شاربيه فقال: ما اسمك؟ قال: فلانٌ. قال: بل اسمك ناتف ورد شهادته. وحدثنا عبد الباقي قال: حدثنا عبد الله بن أحمد بن سعدٍ قال: حدثنا إسحاق بن إبراهيم قال: حدثنا عبد الرحمن بن محمد، عن الجعد بن ذكوان قال: دعا رجل شاهدًا له عند شريح اسمه ربيعة فقال: يا ربيعة يا ربيعة فلم يجب، فقال: يا ربيعة الكويفر. فأجاب فقال له: قم. وقال لصاحبه: هات غيره. وحدثنا عبد الباقي قال: حدثنا عبد الله بن أحمد قال: حدثني أبي قال: حدثنا إسماعيل=

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = ابن إبراهيم قال: حدثنا سعيد بن أبي عروية، عن قتادة، عن جابر بن زيد، عن ابن عباسٍ قال: الأقلف لا تجوز شهادته. وروى حماد بن أبي سلمة، عن أبي المهزم، عن أبي هريرة: لا تجوز شهادة أصحاب الحمر - يعني: النخاسين -. وروي عن شريح أنه كان لا يجيز شهادة صاحب حمام ولا حمام. وروى مسعر: أن رجلًا شهد عند شريح وهو ضيق كم القبا فرد شهادته وقال: كيف يتوضأ وهو على هذه الحال. وحدثنا عبد الباقي بن قانع قال: حدثنا معاذ بن المثنى قال: حدثنا سليمان بن حرب قال: حدثنا جرير بن حازم، عن الأعمش، عن تميم بن سلمة قال: شهد رجلٌ عند شريح فقال: أشهد بشهادة الله فقال: شهدت بشهادة الله لا أجيز لك اليوم شهادة. قال أبو بكر: لما رآه تكلف من ذلك ما ليس عليه لم يره أهلًا لقبول شهادته، فهذه الأمور التي ذكرناها عن هؤلاء السلف من رد الشهادة مَنْ أجلها غير مقطوع فيها بفسق فاعليها ولا سقوط العدالة، وإنما دلهم ظاهرها على سخف من هذه حاله فردوا شهادتهم من أجلها؛ لأن كلًّا منهم تحرى موافقة ظاهر قوله تعالى: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: 282] على حسب ما أداه إليه اجتهاده. فمن غلب في ظنه سخف من الشاهد أو مجونه أو استهانته بأمر الدين أسقط شهادته. قال محمد في كتاب آداب القاضي: من ظهرت منه مجانة لم أقبل شهادته. قال: ولا تجوز شهادة المخنث، ولا شهادة من يلعب بالحمام يطيرها. وقد حكي عن سفيان بن عيينة: أنّ رجلًا شهد عند ابن أبي ليلى فرد شهادته قال: فقلت لابن أبي ليلى مثل فلان. وحاله كذا وحال ابنه كذا ترد شهادته. فقال: أين يذهب بك؟ إنه فقيرٌ. فكان عنده: أن الفقر يمنع الشهادة إذ لا يؤمن به أن يحمله الفقر على الرغبة في المال، وأقام شهادة بما لا تجوز. وقال مالك بن أنس: لا تجوز شهادة السؤال في الشيء الكثير، وتجوز في الشيء التافه، إذا كانوا عدولًا. فشرط مالكٍ مع الفقر المسألة ولم يقبلها في الشيء الكثير للتهمة. وقبلها في اليسير لزوال التهمة. وقال المزني والربيع، عن الشافعي: إذا كان الأغلب على الرجل والأظهر من أمره الطاعة والمروءة قبلت شهادته، وإذا كان الأغلب من حاله المعصية وعدم المروءة ردت شهادته. وقال محمد بن عبد الله بن عبد الحكم، عن الشافعي: إذا كان أكثر أمره الطاعة ولم يقدم على كبيرة فهو عدلٌ فأما شرط =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = المروءة فإن أراد به التصاون والصمت والحسن وحفظ الحرمة وتجنب السخف والمجون فهو مصيبٌ وإن أراد به نظافة الثوب وفراهة المركوب وجودة الآلة والشارة الحسنة فقد أبعد. وقال غير الحق؛ لأن هذه الأمور ليست من شرائط الشهادة عند أحد من المسلمين. قال أبو بكر: جميع ما قدمنا من ذكر أقاويل السلف وفقهاء الأمصار واعتبار كل واحدِ منهم في الشهادة ما حكينا عنه يدل على: أن كلاّ منهم بنى قبول أمر الشهادة على ما غلب في اجتهاده واستولى على رأيه أنه ممن يرضى ويؤتمن عليها وقد اختلفوا في حكم من لم تظهر منه ريبة، هل يسأل عنه الحاكم إذا شهد، فروي عن عمر بن الخطاب في كتابه الذي كتبه إلى أبي موسى في القضاء: والمسلمون عدول بعضهم على بعض إلا مجلودًا في حدٍّ أو مجربًا عليه شهادة زورٍ أو ظنينًا في ولاء أو قرابة. وقال منصور: قلت لإبراهيم: وما العدل في المسلمين؟ قال: من لم تظهر منه ريبة. وعن الحسن البصري والشعبي مثله. وذكر معمر، عن أبيه قال: لما ولي الحسن القضاء كان يجيز شهادة المسلمين، إلا أن يكون الخصم يجرح الشاهد. وذكر هشيم قال: سمعت ابن شبرمة يقول: ثلاث لم يعمل بهن أحدٌ قبلي، ولن يتركهن أحدٌ بعدي. المسألة عن الشهود وإثبات حجج الخصمين وتحلية الشهود في المسألة. وقال أبو حنيفة: لا أسأل عن الشهود إلَّا أن يطعن فيهم الخصم المشهود عليه، فإن طعن فيهم سألت عنهم في السر والعلانية وزكيتهم في العلانية إلَّا شهود الحدود والقصاص، فإني أسأل عنهم في السر وأزكيهم في العلانية. وقال محمد يسأل عنهم وإن لم يطعن فيهم. وروى يوسف بن موسى القطان، عن علي بن عاصم، عن ابن شبرمة قال: أول من سأل في السر أنا كان الرجل يأتي القوم إذا قيل له هات من يزكيك فيقول: قومي يزكونني فيستحي القوم فيزكونه، فلما رأيت ذلك سألت في السر، فإذا صحت شهادته قلت: هات من يزكيك في العلانية. وقال أبو يوسف ومحمد: يسأل عنهم في السر والعلانية، ويزكيهم في العلانية، وإن لم يطعن فيهم الخصم. وقال مالك ابن أنس: لا يقضي بشهادة الشهود حتى يسئل عنهم في السر. وقال الليث: أدركت =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = الناس، ولا تلتمس من الشاهدين تزكية، وإنما كان الوالي يقول للخصم: إن كان عندك من يجرح شهادتهم فأت به وإلا أجزنا شهادته عليك. وقال الشافعي: يسأل عنهم في السر، فإذا عدل سأل عن تعديله علانيةً، ليعلم أن المعدل هو هذا لا يوافق اسم اسمًا، ولا نسب نسبًا. قال أبو بكر: ومن قال من السلف بتعديل من ظهر إسلامه، فإنما بنى ذلك على ما كانت عليه أحوال الناس من ظهور العدالة في العامة، وقلة الفساق فيهم؛ ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد شهد بالخير والصلاح للقرن الأول والثاني والثالث. حدثنا عبد الرحمن بن سيما قال: حدثنا عبد الله بن أحمد قال: حدثني أبي قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي قال: حدثنا سفيان، عن منصور، عن إبراهيم، عن عبيدة، عن عبد الله، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم - ثلاث أو أربع -، ثم يجيء قومٌ سبق شهادة أحدهم يمينه، ويمينه شهادته". قال: وكان أصحابنا يضريوننا على الشهادة والعهد، ونحن صبيان. وإنما حمل السلف ومن قال من فقهاء الأمصار مما وصفنا أمر المسلمين في عصرهم على العدالة وجواز الشهادة لظهور العدالة فيهم، وإن كان فيهم صاحب ريبةٍ وفسق كان يظهر النكير عليه، ويتبين أمره وأبو حنيفة كان في القرن الثالث الذين شهد لهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بالخير والصلاح فتكلم على ما كانت الحال عليه. وأما لو شهد أحوال الناس بعد لقال يقول الآخرين في المسألة عن الشهود، ولما حكم لأحدٍ منهم بالعدالة إلَّا بعد المسألة. وقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال للأعرابي الذي شهد على رؤية الهلال: أتشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله. قال: نعم. فأمر الناس بالصيام بخبره ولم يسأل عن عدالته بعد ظهور إسلامه لما وصفنا، مثبت بما وصفنا: أن أمر التعديل وتزكية الشهود وكونهم مرضيين مبنيٌّ على اجتهاد الرأي، وغالب الظن، لاستحالة إحاطة علومنا بغيب أمور الناس. وقد حذرنا الله الاغترار بظاهر حال الإنسان والركون إلى قوله: مما يدعيه لنفسه من الصلاح والأمانة. فقال: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [البقرة: 204] الآية. ثم أخبر عن مغيب أمره وحقيقة حاله فقال: {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا} [البقرة: 205] الآية. فأعلمنا ذلك من حال بعض من يعجب ظاهر قوله. وقال أيضًا في صفة قومٍ آخرين: {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ} [المنافقون: 4] الآية. فحذر=

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = نبيه - صلى الله عليه وسلم - الاغترار بظاهر حال الإنسان، وأمرنا بالاقتداء به. فقال: واتبعوه. وقال: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21] فغير جائز إذا كان الأمر على ما وصفنا: الركون إلى ظاهر أمر الإنسان دون التثبت في شهادته، والبحث عن أمره حتى إذا غلب في ظنه عدالته قبلها، وقد وصف الله تعالى الشهود المقبولين بصفتين: إحداهما: العدالة في قوله تعالى: {اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} [المائدة: 106] وقوله: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] والأخرى: أن يكونوا مرضيين لقوله: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: 282] والمرضيون: لا بد أن تكون من صفتهم: العدالة. وقد يكون عدلًا غير مرضيِّ في الشهادة، وهو: أن يكون غمرًا مغفلاً يجوز عليه التزوير والتمويه. فقوله: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: 282] قد انتظم الأمرين من العدالة والتيقظ وذكاء الفهم، وشدة الحفظ، وقد أطلق الله ذكر الشهادة في الزنا غير مقيد بذكر العدالة وهي من شرطها العدالة والرضى جميعًا. وذلك لقوله - عز وجل -: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات: 6] وذلك عموم في إيجاب التثبت في سائر أخبار الفساق. والشهادة خبرٌ، فوجب التثبت فيها إذا كان الشاهد فاسقًا، فلما نص الله على التثبت في خبر الفاسق وأوجب علينا قبول شهادة العدول المرضيين وكان الفسق قد يعلم من جهة اليقين والعدالة لا تعلم من جهة اليقين دون ظاهر الحال، علمنا: أنها مبنية على غالب الظن وما يظهر من صلاح الشاهد وصدق لهجته وأمانته. وهذا وإن كان مبنيًا على أكثر الظن فهو ضربٌ من العلم. كما قال تعالى في المهاجرات: {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ} [الممتحنة: 10] وهذا هو علم الظاهر دون الحقيقة، فكذلك الحكم بعدالة الشاهد. طريقه: العلم الظاهر دون المغيب الذي لا يعلمه إلَّا الله تعالى. وهذا أصلٌ كبير في الدلالة على صحة القول باجتهاد الرأي في أحكام الحوادث إذ كانت الشهادات من معالم أمور الدين والدنيا وقد عقد بها مصالح الخلق في وثائقهم وإثبات حقوقهم وأملاكهم وإثبات الأنساب والدماء والفروج وهي مبنية على غالب الظن وأكثر الرأي إذ لا يمكن أحدًا من الناس إمضاء حكمِ بشهادة شهودٍ من طريق حقيقة العلم بصحة المشهود به وهو يدل على بطلان القول بإمامٍ معصومٍ في كل زمانٍ واحتجاج من يحتج فيه بأن أمور الدين كلها ينبغي أن تكون مبنية على ما يوجب العلم الحقيقي دون غالب الظن.=

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = وأكثر الرأي: وأنه متى لم يكن إمام بهذه الصفة لم يؤمن الخطأ فيها؛ لأن الرأي يخطئ ويصيب؛ لأنه لو كان كما زعموا لوجب أن لا تقبل شهادة الشهود إلاّ أن يكونوا معصومين مأمونًا عليهم الخطأ والزلل، فلما أمر الله تعالى بقبول شهادة الشهود إذا كانوا مرضيين في ظاهر أحوالهم دون العلم بضيقة مغيب أمورهم مع جواز الكذب والغلط عليهم ثبت بطلان الأصل الذي بنوا عليه أمر النص، فإن قالوا: الإمام يعلم صدق الشهود من كذبهم قيل لهم فواجب أن لا يسمع شهادة الشهود غير الإمام وأن لا يكون لإمام قاض ولا أمين إلا أن يكون بمنزلته في العصمة وفي العلم بمغيب أمر الشهود. ويجب أن لا يكون أحد من أعوان الإمام إلَّا معصومًا مأمون الزلل والخطأ لما يتعلق به من أحكام الدين، فلما جاز أن يكون للإمام حكام وشهود وأعوانٌ بغير هذه الصفة ثبت بذلك جواز كثيرٍ من أمور الدين مبنيًا على اجتهاد الرأي وغالب الظن. وفيما ذكرناه مما تعبدنا الله به في هذه الآية من اعتبار أحوال الشهود بما يغلب في الظن من عدالتهم وصلاحهم دلالة على بطلان قول نفاة القياس والاجتهاد في الأحكام التي لا نصوص فيها ولا إجماع لأن الدماء والفروج والأموال والأنساب من الأمور التي قد عقد بهما مصالح الدين والدنيا، وقد أمر الله فيها يقول شهادة الشهود الذين لا نعلم مغيب أمورهم، وإنما نحكم بشهاداتهم بغالب الظن وظاهر أحوالهم مع تجويز الكذب والخطأ والزلل والسهو عليهم فثبت بذلك تجويز الاجتهاد واستعمال غلبة الرأي فيما لا نص فيه من أحكام الحوادث. ولا اتفاق. وفيه الدلالة على جواز قبول الأخبار المقصرة عن إيجاب العلم بمخبراتها من أمور الديانات عن الرسول - صلى الله عليه وسلم -؛ لأن شهادة الشهود غير موجبة للعلم بصحة المشهود به. وقد أمرنا بالحكم بها مع تجويز أن يكون الأمر في المغيب بخلافه فبطل بذلك قول من قال: أنه غير جائز قبول خبر من لا يوجب العلم بخبره في أمور الدين. وقد دل أيضًا على بطلان قول من يستدل على رد أخبار الآحاد بأنا لو قبلناها لكنا قد جعلنا منزلة المخبر أعلى من منزلة النبي - صلى الله عليه وسلم -، إذ لم يجب في الأصل قبول خبر النبي - صلى الله عليه وسلم - إلَّا بعد ظهور المعجزات الدالة على صدقه؛ لأن الله تعالى قد أمرنا بقبول شهادة الشهود الذين ظاهرهم العدالة وإن لم يكن معها علم معجزة يدل على صدقهم. وأما ما ذكرنا من اعتبار نفي التهمة =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = عن الشهادة وإن كان الشاهد عدلاً، فإن الفقهاء متفقون على بعضها، ومختلفون في بعضها، فمما اتفق عليه فقهاء الأمصار: بطلان شهادة الشاهد لولده ووالده إلاّ شيء يحكى عن عثمان البتي قال: تجوز شهادة الولد لوالديه، وشهادة الأب لابنه ولامرأته إذا كانوا عدولاً مهذبين معروفين بالفضل ولا يستوي الناس في ذلك ففرق بينهما لوالده وبينها للأجنبي. فأما أصحابنا ومالك والليث والشافعي والأوزاعي: فإنهم لا يجيزون شهادة واحدٍ منهما للآخر. فقد حدثنا عبد الرحمن بن سيما قال: حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل قال: حدثني أبي قال: حدثنا وكيع، عن سفيان، عن جابر، عن الشعبي، عن شريح قال: لا تجوز شهادة الابن لأبيه، ولا الأب لابنه، ولا المرأة لزوجها، ولا الزوج لامرأته. وروي عن إياس بن معاوية أنه أجاز شهادة رجل لابنه حدثنا عبد الرحمن بن سيما قال: حدثنا عبد الله بن أحمد قال: حدثني أبي قال: حدثنا عفان قال: حدثنا حماد بن زيد قال: حدثنا خالد الحذاء، عن إياس ابن معاوية بذلك. والذي يدل على بطلان شهادته لابنه قوله - عز وجل -: {. . . حَرَجٌ وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ} [النور: 61] ولم يذكره بيوت الأبناء؛ لأن قوله تعالى: {مِنْ بُيُوتِكُمْ} قد انتظمها إذ كانت منسوبة إلى الآباء فاكتفى بذكر بيوتهم عن ذكر بيوت أبنائهم وقال - صلى الله عليه وسلم -: "أنت ومالك لأبيك". فأضاف الملك إليه وقال: "إن أطيب ما أكل الرجل من كسبه، وإن ولده من كسبه فكلوا من كسب أولادكم". فلما أضاف ملك الابن إلى الأب، وأباح أكله له وسماه له كسبًا، كان المثبت لابنه حقًا بشهادته بمنزلة مثبته لنفسه. ومعلومٌ: بطلان شهادته لنفسه، فكذلك لابنه، وإذا ثبت ذلك في الابن كان ذلك حكم شهادة الابن لأبيه إذ لم يفرق أحد بينهما، فإن قيل: إذا كان الشاهد عدلاً فواجبٌ قبول شهادته لهؤلاء، كما نقبلها لأجنبي، وإن كانت شهادته لهؤلاء غير مقبولةٍ لأجل التهمة، فغير جائز قبولها للأجنبي؛ لأن من كان متهمًا في الشهادة لابنه، بما ليس يحق له فجائزة عليه مثل هذه التهمة للأجنبي. قيل له: ليست التهمة المانعة من قبول شهادته لابنه، ولأبيه تهمة فسق ولا كذب، وإنما التهمة فيه من قبل أنه يصير فيها بمعنى المدعي لنفسه. ألا ترى: أن أحدًا من الناس وإن ظهرت أمانته وصحت عدالته لا يجوز أن يكون =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = مصدقًا فيما يدعيه لنفسه لا على جهة تكذيبه ولكن من جهة أن كل ماع لنفسه فدعواه غير ثابتة إلا ببينة تشهد له بها. فالشاهد لابنه بمنزلة المدعي لنفسه لما بينا وكذلك قال أصحابنا: إن كل شاهد يجر بشهادته إلى نفسه مغنمًا أو يدفع بها عن نفسه مغرمًا فغير مقبول الشهادة؛ لأنه حينئذٍ يقوم مقام المدعي. والمدعي لا يجوز أن يكون شاهدًا فيما يدعيه، ولا أحد من الناس أصدق من نبي الله - صلى الله عليه وسلم - إذ دلت الأعلام المعجزة على أنه لا يقول إلا حقًا، وإن الكذب غير جائز عليه مع وقوع العلم لنا بمغيب أمره وموافقة باطنه لظاهره، ولم يقتصر فيما ادعاه لنفسه على دعواه دون شهادة غيره حين طالبه الخصم بها وهو قصة خزيمة بن ثابت، حدثنا عبد الرحمن بن سيما قال: حدثنا عبد الله بن أحمد قال: حدثني أبي قال: حدثنا أبو اليمان قال: حدثنا شعيب، عن الزهريّ قال: حدثنا عمارة بن خزيمة الأنصاري: أن عمّه حدثه وهو من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ابتاع فرسًا من أعرابي وذكر القصة وقال: فطلّق الأعرابي يقول: هلم شهيدًا يشهد أني قد بايعتك. فقال خزيمة: أنا أشهد أنك بايعته، فأقبل النبي - صلى الله عليه وسلم - على خزيمةً فقال: بم تشهد؟ فقال: بتصديقك يا رسول الله. فجعل النبي - صلى الله عليه وسلم - شهادة خزيمة بشهادة رجلين، فلم يقتصر النبي - صلى الله عليه وسلم - في دعواه على ما تقرر وثبت بالدلائل والأعلام أنه لا يقول إلَّا حقًّا ولم يقل للأعرالي حين قال: هلم شهيدًا، أنه لا بينة عليه، وكذلك سائر المدعين، فعليهم: إقامة بينة لا يَجُرُّ بها إلى نفسه مغنمًا، ولا يدفع بها عنها مغرمًا. وشهادة الوالد لولده يجز بها إلى نفسه أعظم المغنم كشهادته لنفسه. والله تعالى أعلم. ومن هذا الباب أيضًا: شهادة أحد الزوجين للآخر. وقد اختلف الفقهاء فيها: فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر ومالك والأوزاعي والليث: لا تجوز شهادة واحدٍ منهما للآخر. وقال الثَّوريُّ: تجوز شهادة الرجل لامرأته. وقال الحسن بن صالح: لا تجوز شهادة المرأة لزوجها. وقال الشافعي: تجوز شهادة أحد الزوجين للآخر. قال أبو بكر: هذا نظير شهادة الوالد للولد والولد للوالد وذلك من وجوه: أحدها: أنه معلوم تبسط كل واحدٍ من الزوجين في مال الآخر في العادة، وأنه كالمباح الذي لا يحتاج فيه إلى الاستئذان، فما يثبته الزوج لامرأته =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = بمنزلة ما يثبته لنفسه، وكذلك ما تثبته المرأة لزوجها. ألا ترى: أنه لا فرق في المعتاد بين تبسطه في مال الزوج والزوجة وبينه في مال أبيه وابنه. ولما كان كذلك وكانت شهادته لوالده وولده غير جائزةٍ كان كذلك حكم شهادة الزوج والزوجة. وأيضًا: فإن شهادته لزوجته بمالٍ توجب زيادة قيمة البضع الذي في ملكه؛ لأن مهره مثلها يزيد بزيادة مالها، فكان شاهدًا لنفسه بزيادة قيمة ما هو ملكه. وقد روي عن عمر ابن الخطاب أنه قال لعبد الله بن عمرو بن الحضرمي لما ذكر له أن عبده سرق مرة لامرأته: عبدكم سرق مالكم، لا قطع عليه. فجعل مال كل واحدٍ منهما مضافًا إليهما بالزوجية التي بينهما، فما يثبته كل واحدٍ لصاحبه، فكأنه يثبته لنفسه. ومن جهةٍ أخرى: أنه كما أكثر مال الزوج كانت النفقة التي تستحقها أكثر، فكأنها شاهدة إذ كانت مستحقة للنفقة بحق الزوجية في حالي الفقر والغنى. فإن قال قائل: فالأخت الفقيرة والأخ الزمن يستحقان للنفقة على أخيهما إذا كان غنيًا ولم يمنع ذلك جواز شهادتهما له. قيل له: ليست الأخوة موجبة للاستحقاق؛ لأن الغني لا يستحقها مع وجود النسب، والفقير لا تجب عليه مع وجود الأخوة، والزوجية سبب لاستحقاقها فقيرًا كان الزوج أو غنيًا، فكانت المرأة مثبتةً بشهادتها لنفسها زيادة النفقة مع وجود الزوجية الموجبة لها، والنسب ليس كذلك؛ لأنه غير موجب للنففة لوجوده بينهما فلذلك اختلفا. ومن هذا الباب أيضًا: شهادة الأجير. وقد ذكر الطحاوي، عن محمد بن سنان، عن عيسى، عن محمد، عن أبي يوسف، عن أبي حنيفة: أن شهادة الأجير غير جائزةٍ لمستأجره في شيءِ وإن كان عدلاً لا استحسانًا. قال أبو بكر: روى هشام وابن رستم، عن محمد: أن شهادة الأجير الخاص غير جائزة لمستأجره، وتجوز شهادة الأجير المشترك له، ولم يذكر خلافًا عن أحدٍ منهم. وهو قول: عبيد الله بن الحسن. وقال مالك: لا تجوز شهادة الأجير لمن استأجره إلَّا أن يكون مبرزًا في العدالة، وإن كان الأجير في عياله، لم تجز شهادته له. وقال الأوزاعي: لا تجوز شهادة الأجير =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = لمستأجره. وقال الثَّوريُّ: شهادة الأجير جائزة إذا كان لا يجرّ إلى نفسه. حدثنا عبد الباقي بن قانع قال: حدثنا معاذ بن المثنى قال: حدثنا أبو عمر الحوضي قال: حدثنا محمد بن راشد، عن سليمان بن موسى، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ردّ شهادة الخائن والخائنة، وشهادة ذي الغمر على أخيه، ورد القانع لأهل البيت، وأجازها على غيرهم. وحدثنا محمد بن بكر قال: حدثنا حفص بن عمر قال: حدثنا محمد بن راشد بإسناده مثله. إلا أنه قال: ورد شهادة القانع لأهل البيت. قال أبو بكر: قوله: القانع لأهل البيت، يدخل فيه: الأجير الخاص؛ لأن معناه: التابع لهم، والأجير الخاص: هذه صفته. وأما الأجير المشترك: فهو وسائر الناس في ماله بمنزلة، فلا يمنع ذلك جواز شهادته. وكذلك شريك العنان تجوز شهادته له في غير مال الشركة. وقال أصحابنا: كل شهادة ردت للتهمة لم تقبل أبدًا مثل شهادة أحد الزوجين للآخر، إذا ردت لفسقه، ثم تاب وأصلح فشهد بتلك الشهادة لم تقبل أبدًا. ومثل شهادة أحد الزوجين للآخر: إذا ردت ثم شهد بها بعد زوال الزوجية لم تقبل أبدًا. وقالوا: لو شهد عبد بشهادة، أو كافر، أو صبي، فردت، ثم أعتق العبد أو أسلم الكافر أو كبر الصبي أو عتق العبد وشهد بها لم تقبل أبدًا ولو لم تكن ردت قبل ذلك، فإنها جائزة. وروي عن عثمان بن عفان مثل قول مالك، وإنما قال أصحابنا: أنها إذا ردت لتهمة لم تقبل أبدًا من قبل أن الحاكم قد حكم بإبطالها. وحكم الحاكم: لا يجوز فسخه إلاّ بحكمٍ، ولا يصح فسخه بما لا يثبت من جهة الحكم، فلما لم يصح الحكم بزوال التهمة التي من أجلها ردت الشهادة، كان حكم الحاكم بإبطال تلك الشهادة ماضيًا لا يجوز فسخه أبدًا. وأما الرق والكفر والصغر، فإن المعاني التي ردت من أجلها وحكم الحاكم بإبطالها محكومٌ بزوالها؛ لأن الحرية والإسلام والبلوغ كل ذلك مما يحكم به الحاكم. فلما صح حكم الحاكم بزوال المعاني التي من أجلها بطلت شهادتهم، وجب أن تقبل. ولما لم يصح أن يحكم الحاكم بزوال التهمة؛ لأن ذلك=

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = معنى لا تقوم به البينة، ولا يحكم به الحاكم، كان حكم الحاكم بإبطالها ماضيًا إذا كان ما ثبت من طريق الحكم لا ينفسخ إلاّ من جهة الحكم فهذه الأمور الثلاثة التي ذكرناها من العدالة، ونفي التهمة، وقلة الغفلة هي من شرائط الشهادات وقد انتظمها قوله تعالى: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: 282] فانظر إلى كثره هذه المعاني والفوائد والدلالات على الأحكام التي في ضمن قوله تعالى: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: 282] مع قلة حروفه وبلاغة لفظه ووجازته اختصاره، وظهور فوائده. وجميع ما ذكرنا من عند ذكرنا لمعنى هذا اللفظ من أقاويل السلف والخلف واستنباط كل واحدٍ منهم ما في مضمونه وتحريم موافقته مع احتماله لجميع ذلك يدل على أنه كلام الله. ومن عنده تعالى، وتقدس إذ ليس في وسع المخلوقين إيراد لفظٍ يتضمن من المعاني والدلالات والفوائد والأحكام ما تضمنه هذا القول مع اختصاره وقلة عدد حروفه. وعسى أن يكون ما لم يحط به علمنا من معانيه مما لو كتب لطال وكثر. والله نسأل التوفيق، لنعلم أحكامه ودلائل كتابه، وأن يجعل ذلك خالصًا لوجهه. قوله تعالى - عز وجل -: {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى} [البقرة: 282] قرئ: فتذكر إحداهما الأخرى، بالتشديد. وقرئ: فتذكر إحداهما الأخرى، بالتخفيف. وقيل: إن معناهما قد يكون واحدًا. يقال: ذكَرْتُه وذكرْتُه. وروي ذلك: عن الربيع بن أنس، والسدي، والضحاك. وحدثنا عبد الباقي بن قانع قال: حدثنا أبو عبيد مؤمل الصيرفي قال: حدثنا أبو يعلى البصري قال: حدثنا الأصمعي، عن أبي عمرو قال: من قرأ: فتذكر. مخففة، أراد تجعل شهادتهما بمنزلة شهادة ذكرٍ. ومن قرأ: فتذكر. بالتشديد، أراد من جهة التذكير. وروي ذلك: عن سفيان بن عيينة. قال أبو بكر: إذا كان محتملاً للأمرين، وجب حمل كل واحدةٍ من القراءتين على معنًى وفائدة محددة، فيكون قوله تعالى: فتذكر. بالتخفيف. تجعلهما جميعا بمنزلة رجلٍ واحدٍ في ضبط الشهادة، وحفظها، وإتقانها. وقوله تعالى: {فَتُذَكِّرَ} [البقرة: 282] من التذكير عند النسيان. واستعمال كل واحدٍ منهما على موجب دلالتيهما أولى من الاقتصار بها على موجب دلالة أحدهما. ويدل على ذلك أيضًا: قول النبي - صلى الله عليه وسلم -:=

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = "ما رأيت ناقصات عقل ودين أغلب لعقول ذوي الألباب منهن". قيل: يا رسول الله! وما نقصان عقلهن؟ قال: "جعل شهادة امرأتين بشهادة رجلٍ ". فهذا موافق لمعنى من تأول: {فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى} [البقرة: 282] على أنهما تصيران في ضبط الشهادة وحفظها بمنزلة رجلٍ. وفي هذه الآية: دلالة على أنه غير جائزٍ لأحدٍ إقامة شهادة وإن عرف خطه إلاّ أن يكون ذاكرًا لها. ألا ترى: ذكر ذلك بعد الكتاب والإشهاد. ثم قال تعالى: {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى} [البقرة: 282]. فلم يقتصر بنا على الكتاب والخط دون ذكر الشهادة. وكذلك قوله تعالى: {ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا} [البقرة: 282]. فدل ذلك: على أن الكتاب إنما أمر به لتستذكر به كيفية الشهادة، وأنها لا تقام إلاّ بعد حفظها، وإتقانها. وفيها: الدلالة على أن الشاهد إذا قال: ليس عندي شهادة في هذا الحق. ثم قال: عندي شهادة فيه أنها مقبولة، لقوله تعالى: {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى} [البقرة: 282] فأجازها إذا ذكرها بعد نسيانها. وذكر ابن رستم، عن محمد - رحمه الله -: في رجلٍ سئل عن شهادة في أمر كان يعلمه؟ فقال: ليس عندي شهادة، ثم أنه شهد بها في ذلك عند القاضي. قال: تقبل منه. إذا كان عدلاً؛ لأنه يقول: نسيتبها. ثم ذكرتها. ولأن الحق ليس له. فيجوز قوله عليه: وإنما الحق لغيره. فكذلك تقبل شهادته فيه. قال أبو بكر: يعني: أنه ليس هذا مثل أن يقول المدعي: ليس في عنده هذا الحق، ثم يدعيه، فلا تقبل دعواه له بعد إقراره؛ لأنه أبرأه من الحق وأقرّ على نفسه، فجاز إقراره، فلا تقبل دعواه بعد ذلك لذلك الحق لنفسه؛ لأنه قد أبطلها بإقراره. وأما الشهادة: فإنما هي حق للغير فلا يبطلها قوله: ليس عندي شهادة. وقوله تعالى: {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى} [البقرة: 282] يدل على صحة هذا القول. وقد اختلف الفقهاء في الشهادة على الخط: فقال أبو حنيفة وأبو يوسف: لا يشهد بها حتى يذكرها، وهذا هو المشهور من قولهم. وروى ابن رستم قال: قلت لمحمد: رجل يشهد على شهادة وكتبها بخطه، وختمها، أو لم يختم عليها وقد عرف خطه. قال: إذا عرف خطه وسعه أن يشهد عليها، ختم عليه أو لم يختم. قال: فقلت: إن كان أميًا لا يقرأ. فكتب غيره له، قال: لا يشهد =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = حتى يحفظ ويذكرها. وقال أبو حنيفة: ما وجد القاضي في ديوانه لا يقضي به إلَّا أن يذكره. وقال أبو يوسف: يقضي به إذا كان في قمطره وتحت خاتمه؛ لأنه لو لم يفعله أضر بالناس، وهو قول محمد. ولا خلاف بينهم: أنه لا يمضي شيئًا منه إذا لم يكن تحت خاتمه، وأنه لا يمضي ما وجده في ديوانه غيره من القضاة إلا أن يشهد به الشهود على حكم الحاكم الذي قبله. وقال ابن أبي ليلى مثل قول أبي يوسف فيما يجده في ديوانه. وذكر أبو يوسف أيضًا: عن ابن أبي ليلى: إذا أقر عند القاضي لخصمه، فلم يثبته في ديوانه، ولم يقض به عليه، ثم سأله المقر له به أن يقضي له على خصمه، فإنه لا يقضي به عليه في قول ابن أبي ليلى. وقال أبو حنيفة وأبو يوسف: يقضي به عليه إذا كان يذكره. وقال مالك فيمن عرف خطه ولم يذكر الشهادة: أنه لا يشهد على ما في الكتاب. ولكن يؤدي شهادته إلى الحكم كما علم، وليس للحاكم أن يجيزها، {فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ} [البقرة: 282] شهادته على نفسه في ذكر الحق ومات الشهود، فأنكر، فشهد رجلان: أنه خط نفسه، فإنه يحكم عليه بالمال، ولا يستحلف ربِّ المال. وذكر أشهب عنه، فيمن عرف خطه ولا يذكر الشهادة: أنه يؤديها إلى السلطان، ويعلمه ليرى فيه رأيه. وقال الثَّوريُّ: إذا ذكر أنه شهد ولا يذكر عدد الدراهم، فإنه لا يشهد وإن كتبها عنده، ولم يذكر: إلَّا أنه يعرف الكتاب، فإنه إذا ذكر أنه شهد، وأنه قد كتبها، فأرى أن يشهد على الكتاب. وقال الليث: إذا عرف أنه خط يده، وكان ممن يعلم أنه لا يشهد إلَّا بحق فليشهد. وقال الشافعي: إذا ذكر إقرار المقرّ، حكم به عليه، أثبته في ديوانه أو لم يثبته؛ لأنه لا معنى للديوان إلَّا الذكر. وقال في كتاب المزني: أنه لا يشهد حتى يذكر. قال أبو بكر: قد ذكرنا دلالة قوله تعالى: {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى} [البقرة: 282]. ودلالة قوله تعالى بعد ذكر الكتاب: {ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا}. على أن من شرط جواز إقامة الشّهادة ذكر الشّاهد لها، وأنَّه لا يجوز الاقتصار فيها على الخط، إذ الخط والكتاب مأمور به لتذكر به الشهادة. ويدل عليه أيضًا قوله تعالى: {إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (86)} [الزخرف: 86]. فإذا لم يذكرها فهو غير عالمٍ بها. وقوله تعالى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء: 36]. يدل على ذلك، ويدل عليه: حديث ابن عباس، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال:=

الْمصنف في غير هذه الكتب -، وقاضي خان في أوّل فتاويه، وغيره. والجواب كما ذكر: أنّ الاعتراض المذكور لازمٌ عليه، فيما استدل به لأبي حنيفة، فإنهّم كانوا عدولًا بذاك الأثر كان له أن يقضي وإن طعنَ الخصم فيما لا يثبت مع الشبهات، ويختار لهما اختلاف استصحاب الحال الذي ذكره، وهو كما علمنا من أحوال الناس ما علمنا بأن أكثر من التزم الإسلام لم يجتنب محارمه. فلم يبقَ مجرّد التزام الإسلام مظّنة العدالة. وكان الظّاهر الثّابت بالغالب بلا معارضٍ. والله أعلم. وعن هذا ذهب من ذكرنا: أنّ الفتوى على قولهما. قال هذا إذا سكت المدّعى عليه عن الطعن أو طعن، فأمّا إذاعة الشهود فقال: هم عدولٌ. فهذا على ثلاثة أنواعٍ: أمَّا إذا قال: هم عدولٌ صدقوا. أو قال: عدول: أخطأوا. ¬

_ = "إذا رأيت مثل الشمس فاشهد، وإلا فدع". وقد تقدم ذكر سنده. وأما الخط: فقد يزور عليه، وقد يشتبه على الشاهد، فيظن: أنه خطه وليس بخطه، ولما كانت الشّهادة من مشاهدة الشيء، وحقيقة العلم به، فمن لا يذكر الشهادة فهو بخلاف هذه الصفة، فلا تجوز له إقامة الشهادة به. وقد أكّد أمر الشهادة حتّى صار، لا يقبل فيها إلاّ صريح لفظها، ولا يقبل ما يقوم مقامها من الألفاظ، فكيف يجوز العمل على الخط الذي يجوز عليه التزوير والتبديل. وقد روي عن أبي معاوية النخعي، عن الشعبي فيمن عرف الخط والخاتم: ولا يذكر الشهادة أنه لا يشهد به حتى يذكرها. وقوله تعالى: {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا} [البقرة: 282] معناه: أن ينساها؛ لأن الضلال هو الذهاب عن الشيء، فلما كان الناسي ذاهبًا عمّا نسيه، جاز أن يقال: ضلّ عنه. بمعنى: أنه نسيه. وقد يقال أيضًا: ضلّت عنه الشهادة، وضل عنها. والمعنى واحد. والله تعالى أعلم.

أو قال: عدول وسكت. ففي النوع الأوّل: يقضي من غير سؤالٍ؛ لأنه أقرّ. فيقضي بإقراره. وفي النوع الثاني والثالث: المسألة على ثلاثة أوجهٍ: أمّا إنْ كان المدعى عليه عدلًا ممن يسأل عنه الشهود. أو كان مستورًا أو فاسقًا. ففي الوجه الأوّل: المسألة على قسمين: إِمّا أن يسكت عن جحود دعوى المدّعي وإقراره، أو جحد. ففي القسم الأول: قال أبو حنيفة وأبو يوسف: للقاضي أن يقضي بهذه الشهادة قبل السّؤال من المزكي سواء كان المدعى به حقًا يثبت مع الشبهات أو حقًا لا يثبت مع الشبهات. وقال محمّد: لا يقضي ما لم يسأل عن المزكي آخر، بناءً على أن العدد في المزكي عند أبي حنيفة وأبي يوسف ليس بشرط لإثبات العدالة. وعند محمّدٍ هو شرط. وفي القسم الثاني: فكذلك. كذا ذكر في هذا الكتاب. فإنه ذكر في هذا الكتاب الخلاف مطلقًا ولم يفصل بين القسمين. ونصّ في الجامع الصغير في باب القضاء: أنّه لا يقضي. فإنه قال في قول من رأى: أن يسأل عن الشهود يريد به أبا يوسف ومحمد: لا يقبل قول الخصم أنّه عدلٌ يريد به تعديله؛ لأنّ من زعم المدعي شهوده: أنّ المدعى عليه في الجحود كاذب، فكان في زعمه: أنّه فاسقٌ، فلا يصحّ تعديله. وفي الوجه الثالث والثاني: لا يقضي؛ وإن تعديل المستور والفاسق

لا يكفي. فإن قيل: وجب أن يكفي؛ لأنه إقرارٌ على نفسه، وإقرار المستور والفاسق على نفسه صحيحٌ. قيل له: هذا إقرارٌ على نفسه وعلى القاضي يوجب القضاء عليه. فإن صحّ إقراره على نفسه لا يصحّ إقراره على القاضي. فإن قيل: هلاّ جعل قول المدعى عليه: هم عدولٌ. إقرارٌ منه بالحقّ على نفسه. فيقضي بالإقرار كما لو قال: إنهّم عدولٌ. صدقوا كما في النوع الأول. قيل له: إقرار المدعي يكون الشاهد عدلاً لا يكون إقرارًا بوجوب الحق على نفسه لا محالة لجواز أن يكون عدلاً، إلاّ أنه أخطأ في شهادته بأن ظنّ. والأمر بخلاف ما ظن. ولهذا: لو شهد عليه واحدٌ بالحقّ فقال المشهود عليه: هو عدلٌ لا يقضى عليه، ولو كان التعديل إقرارًا. وجب أن يقضي كما لو قال لهذا الواحد قد صدق. وذكر في الكتاب في القسم الثاني والثالث وهو ما إذا كان مستورًا أو فاسقًا. إذا لم يثبت العدالة في النوع الثالث وهو ما إذا قال: هم عدولٌ وسكت. فسأله القاضي: صدقوا أم كذبوا، فإن قال: صدّقوا يقضي عليه بإقراره. وإن قال: كذبوا. لا يقضي. وإن قال: قد أخطأوا وهو النوع الثاني. فالقاضي: لا يقضي. * المسألة الثانية: العدد في المزكي، وفي المترجم عن الشّاهد الأعجمي، وعن الخصم الأعجمي عند أبي حنيفة وأبي يوسف ليس بشرط. والواحد يكفي.

العدالة

وعند محمّد: شرط. ويكفيه اثنان إن كان المشهود به حقًّا يثبت بشهادة رجلين عدلين. وإن كان غير حق لا يثبت إلاّ بشهادة أربعة. يشترط الأربعة، وأجمعوا على أنّ ما عدا العدد من سائر شروط الشهادة سوى التلفظ بلفظ الشهادة من العدالة والبلوغ عن عقل والحرية والبصر، وأن لا يكون محدودًا في قذف شرطٍ. وأجمعوا على أنّ لفظة الشهادة ليست بشرط محمد. يقول: بأن التزكية والترجمة شهادة، يعني: لأن القضاء لا يجب إلا بهما؛ لأنّ العلم للقاضي لا يحصل إلا بهما. فكانت شهادة - يعني: فيعتبر بالشهادة والأثبات - شرط في بعض الحقوق. والأربعة شط في البعض في الشهادة. فكذلك في التزكية والترجمة وأبو حنيفة وأبو يوسف يقولان: بأنّ التزكية والترجمة شهادة - يعني: من حيث أن القضاء لا يجب إلاّ بهما - كما لا يجب إلَّا بالشّهادة، ولكنّها خبرٌ من حيث الحقيقة. لهذا: لا يشترط لفظة الشهادة وهو قوله: اشهدوا. فعلمنا بهما من حيث أنهّما شرط شهادة معنى، فشرط فيهما جمع شرائط الشهادة ما عدا العدد. ومن حيث أنهما خبر حقيقة، لم يشترط فيهما العدد عملًا بهما جميعًا. وتحقيقه: إنّ اشتراط سائر الشّرائط ما عدا العدد من العقل والبلوغ والحرية في الشرائط موافقٌ للقياس. أما العدالة: فلأنها يترجّح بها الصّدق. ولهذا شرط العدالة في سائر الإخبارات. وأمّا البلوغ عن عقل والحرية، فإن الشهادة ولاية على الغير؛ ولأنّها

البصر

تتفرع من ولايته على نفسه. والولاية على نفسه لا تثبت إلاّ بالبلوغ عن عقل، والحرية. وأمّا البصر: فلأنّ القدرة على التمييز تثبت به. دلَّ أنّ اشتراط هذه الشرائط في الشهادة موافقٌ للقياس، فيشرط فيما هو في معناها قياسًا عليها. وأمّا العدد في الشهادة: فهو شرط مخالف للقياس. ولهذا لا يشترط في سائر الإخبارات فيقتصر عليها إذا ثبتت هذه المسألة. فيبتني عليها مسائل منها: إذا زكاهم واحد وجرحهم واحد. فعند أبي حنيفة وأبي يوسف: الجرح أولى؛ وإن عندهما الجرح والتعديل يثبت يقول الواحد، فكان الجواب عندهما كالجواب عندهم فيما إذا عدله اثنان وجرحه اثنان. وعند محمّد: الشهادة موقوفة على حالها لا ترد، ولا تجاب حتّى يجرحه آخر ويعدّله آخر؛ وإن عنده الجرح والتعديل سواء في أن لا يثبت يقول الواحد. فإن جرحه آخر ثبت الجرح فيرد، فإن لم يجرحه آخر وعدّله آخر ثبتت العدالة، فيجاب، فإن جرحه واحد وعدّله اثنان فالتعديل أولى بالإجماع. أمّا عند محمد، فلأن الجرح لم يثبت. وأمّا عند أبي حنيفة وأبي يوسف فلأن العدالة تثبت بما هو حجة في الأحكام كلها. فإن قول الاثنين حجّة في أمور الدين، وليس بحجة في حقوق العيان. فإن قيل: ترجح التعديل من هذا الوجه، وترجح الجرح من وجهٍ آخر؛ لأنّ الجارح فيما جرح يعتمد ما يمكن الوقوف عليه من حيث العيان. فإنّ أسباب الجرح: ارتكاب كبيرة هي محظور دينه. وهذا مما يمكن الوقوف عليه

من حيث العيان. والمعدّل فيما عدّل يعتمد ما لا يمكن الوقوف عليه إلا من حيث الظّاهر؛ وإن العدالة لا تثبت إلاّ بالأثر. جاز عن جميع المحظورات وهذا مما لا يوقف عليه إلَّا من حيث الظّاهر فاستوى الخبران من هذا الوجه. ولهذا: لو عدَّله اثنان وجرحه اثنان كان الجرح أولى. قيل له: الواجب من وجهين: أحدهما: أنه إذا وقعت المعارضة بين الخبرين يتساقطان بحكم المعارضة. فيبقى ما كان على ما كان. والأصل: هو العدالة؛ إلَّا أن هذا غير سديد لأنه حينئذٍ يكون قضاءً بغير العدالة، فيجب أن يختصن به أبو حنيفة ويختص الجواب بحقٍّ يثبت مع الشبهات. وليس كذلك الثاني وهو الصحيح: أن الجارح وإن اعتمد ما يمكن الوقوف عليه من حيث العيان؛ إلاّ أنه لم يجعل خبره حجّة في جميع الأحكام، وإن كان يعتمد ما لا يمكن الوقوف عليه من حيث العيان. عُلِمَ أنه لا يساوي بين هذين المعنيين حيث ترجح هذا في حقوق العباد مع وجود هذا المعنى. فترجّح هذا ضرورةً، وإن جرّحه اثنان وعدّله عشرة. فالجرح أولى؛ لأن الزيادة في العدد على اثنين مما لا يترجح بها ما كان شهادة حقيقةً. ومعنى فلانٌ لا يترجح بها، ما كان خبرًا أو شهادة معنى كان أولى وإن عدّله وهو محدود في القذف لا يصح؛ وإن عدم كونه محدود في القذف شرط وإن عدّله وهو أعمى لا يصح؛ لأن كونه غير أعمى شرطٌ. وإن كان بصيرًا، ثم أعمى، ثم عدل. فعلى الاختلاف الذي عرفَ في الشهادة. قال أبو حنيفة: إن شهد الشهود على رجلٍ بمالٍ أو دمٍ فسمع القاضي شهادتهم، فطعن فيهم الخصم. فإنّ القاضي لا يقضي بشهادتهم حتى يسأل

عن حالهم. فإن سأل عن حالهم وزكوا في السر والعلانية فأراد القاضي أن يقضي. فقال المشهود: أنا أجرحهم وأقيم البينة على ذلك. هل يقبل ذلك منهم؟ وتبطل شهادة شهود المدعي. فهذا على وجهين: أمّا إن أقام البينة على جرح مفردٍ لا يدخل تحت حكم الحاكم. نحو إن قال المدعى عليه: أنا أقيم البينة أنهم فسقة أو زناة أو على إقرارهم: أنّ المدعي استأجرهم على هذه الشهادة أو على إقرارهم أنهم قالوا: لا شهادة عندنا للمدعي على المدّعى عليه في هذه الحادثة أو على إقرارهم أنهم قالوا: إن المدعي مبطل في هذه الدعوى، أو على إقرارهم أنهم قالوا: إنهّم شهدوا بالزور. أو على إقرارهم أنهم قالوا: لم يحضروا المجلس الذي كان فيه هذا الأمر أو أقام البينة على جرحٍ يدخل تحت حكم الحاكم بأن قال المدعى عليه: أنا أقيم البينة على أن الشهود زنوا ووضعوا ذلك أو على أن الشهود شربوا الخمر أو على أن الشهود سرقوا مني كذا أو على أن الشهود شركاء في المشهود به. أو على أنّ الشهود صالحوه على كذا درهمًا على أن لا يشهدوا عليَّ. ودفعت لهم ذلك أو على أنهم عبيدٌ أو محدودون في قذفٍ أو على أن المدعي أقرّ أن الشهود شهدوا بالزور أو على أن المدعي أقر أنّه استأجره على هذه الشهادة أو على إقرارهم أنهم لم يحضروا المجلس الذي كان هذا الأمر فيه. ففي الوجه الأول: وهو الجرح المجرّد الذي لا يدخل تحت حكم الحاكم لا تقبل هذه البينة عند علمائنا. وقال ابن أبي ليلى وهو مذهب الشافعي: تقبل. وفي الوجه الثاني: تقبل بالاتفاق. وذكر الخصّاف: أن الشهادة على الجرح المفرد تقبل. وقد ذكرنا شيئًا

من ذلك في شرح الجامع الصغير. وتمام ذلك في شرح أدب القاضي المنسوب إلى الخصّاف، في باب: القاضي يَرِدُ عليه كتاب من قاض آخر. هما يقولان هذه البينة قامت على الجرح. والمدّعى عليه يحتاج إلى إثباته لتندفع عنه خصومة المدعي. فوجب أن يقبل قياسًا على الوجه الثاني. ولعلمائنا في المسألة ثلاث طرق، أشار إلى جميع ذلك محمد في الكتاب: الأول: أن يقول: إن هذه شهادة قامت لا على خصم؛ لأنه لم يدع على الشاهد شيئًا يقضي القاضي بذلك على الشاهد حتى يصير الشاهد خصمًا له. الدليل عليه: أن المدعي قبله إذا قال: لا بينة في على ما ادّعيت. وطلب منه القاضي أن يستحلف الشهود على ذلك. فإنّ القاضي لا يستحلفهم على ذلك؛ إلاّ أن هذه الطريق غير سديدة. فإن المدّعى عليه لو أقام البينة على أنهم محدودون في قذفٍ يقبل. وهذه شهادة قامت لا على الخصم؛ فإنه لا يدعي عليهم حقًّا. يقضي القاضي بذلك على الشهود حتى يصير الشاهد خصمًا. ألا ترى أنه إذا لم يكن له بينة على ما ادّعى، فأراد أن يستحلفَ الشهود لم يكن له ذلك. فكذلك لو أقام البينة على إقرار المدعي أنّهم فسقة. وما شاكل ذلك تقبل. وقد قامت لا على خصمٍ. فَعُلِمَ: أن هذا الطريق غير سديد. والثاني: أنه لو قبلت شهادة المدعي قبله على أن شهود المدعي فسقة أو زناة كان للمدعي أن يقيم بينته: أن شهود المدعى عليه شهود فسقة أو زناة أيضًا ثم. وثم. فيؤدي إلى التهاتر، إلاّ أن هذا الطريق غير سديد. فإنّ المدعي قبله لو أقام البينة على أنهم محدودون في قذفٍ. تقبل. وكذا لو أقام البينة

على أنهم محدودون في قذفٍ تقبل. كذا لو أقام البينة على أنهم زنوا أو وضعوا أو سرقوا مني. تقبل مع ما يؤدي إلى التهاتر. فَعُلِمَ: أن هذا الطريق غير سديدٍ. والثالث وهو السديد: وهو الذي اختاره القاضي الإمام صاعد (¬1) وهو: أن الشّاهد بالشهادة على الجرح المفرد صار فاسقًا؛ لأنه ارتكب كبيرةً ألحق بفاعله الوعيد في الدنيا والآخرة بنصّ القرآن المعظّم؛ لأنه أظهر الفاحشة من غير ضرورة. وإظهار الفاحشة من غير ضرورةٍ حرامٌ بنصّ القرآن. قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا} [النور: 19] الآية. فعلمَ: أن الشاهد صار فاسقًا. والمشهود به لا يثبت بشهادة الفاسق. فإن قيل في إظهار الفاحشة ضرورة رفع الخصومة عن المدعى عليه. وصار كما لو أقام البينة على جرحٍ يدخل تحت حكم الحاكم. قيل له: لا ضرورة منها؛ وإن الضرورة تندفع بأن يقول سرًّا للمدعي ¬

_ (¬1) قال المصنف في تاج التراجم (ص 10): صاعد بن محمد بن أحمد بن عبد الله، أبو العلاء، عماد الإسلام، قاضي نيسابور الاستواي، تفقه على أبي نصر بن سهل، واختلف في الأدب إلى أبي بكر الخوازمي، له: كتاب الاعتقاد، ذكر فيه عبد الملك ابن أبي الوارث أنه أشار إلى قصرهم العتيق بالبصرة، وقال: وقد خرج من هذه الدار سبعون قاضيًا على مذهب أبي حنيفة، كلهم كانوا يرون إثبات القدر، وأن الله تعالى خلق الخير والشرّ، ويروون ذلك عن أبي حنفية وأبي يوسف ومحمد وزفر وأصحابهم. قال الخطيب: بلغنا أنه مات سنة اثنتين وثلاثين وأربع مئة. وقيل: سنة إحدى وثلاثين. وقال السمعاني: ولد في ربيع الأول سنة ثلاث وأربعين وثلاث مئة.

أو للقاضي، ولا يظهر ذلك في مجلس الحكم بخلاف أنّهم ما إذا شهدوا أنهم زنوا ووضعوا أو شربوا الخمر أو سرقوا مني؛ وإن في إظهار الفاحشة ثمّة ضرورة وهي إقامة الحدّ على الشهود بخلاف ما إذا شهدوا على أنهم شركاء في المشهود به؛ لأنّه ليس في ذلك إظهار الفاحشة من جهة الشاهد. وإنما حكى إظهار الفاحشة عن غيره. وهو شهود القذف إذ القاضي أو الحاكم لإظهار الفاحشة من غيره لا يكون مظهرًا للفاحشة. فلم يكن فاسقًا فيثبت المشهود به بخلاف ما إذا شهدوا على إقرار المدعي أنهم فسقة وما شاكل ذلك؛ لأنه ما شهد بإظهار الفاحشة وإنما حكى إظهار الفاحشة من غيره وهو المدعي فلم يصر فاسقًا فيثبت المشهود به. أمَّا إذا أقام البينة: أنّي صافحتهم على ذلك. فإنّ القاضي يسأل المدعى عليه. فإن قال: أعطيتهم المال قبلت البينة. وإن كان فيه إظهار الفاحشة؛ ولأن فيه ضرورة ليصل إلى المال. وإن قال: لم أعطهم لم يقبل؛ وإن فيه إظهار الفاحشة من غير ضرورة. فدل على أن هذه الطريق غير سديد. وقد جمع محمد بين الطرق الثلاث، وإن كان البعض سديدًا والبعض غير سديد ليتميز السديد من غير السديد بالتأمّل والتفكر. فلهذا جمع ذلك. والله سبحانه وتعالى أعلم. * * *

مسائل التزكية

مَسَائِلُ التَّزْكِيَة وهذه مسائل التزكية من المنتقى، أضيفت إلى هذا الكتاب لشبهها بتأليفه جمعًا بينهما. قال محمد: التزكية: جودٌ، وهنا معاداة وبلاء على الناس. ولا ينبغي للقاضي أن يعرف له صاحب مسألة ولا تعديل. وقال: ومن وقّت في التزكية فهو مخطئٌ وهذا على ما يقع في القلب؛ لأنَّه ربما يعرف الرجل الرّجل في شهرين وآخر لا يعرفه في سنة؛ لأنّه يُرائي ويتصنّع. قال رجلٌ عدلٌ عند القاضي: وأنا لا أعرفه إلاّ أنّه وصف في هل يسعني أن أزكيه. وقد عرفت أن القاضي زكّاه. قال: لا يسعه أن تعدّله أنت. قال محمّد: كم من رجل أقبل شهادته ولا أقبل تعديله؛ لأنه يحسن أن يؤدي ما سمع، ولا يحسن التعديل. قال: وينبغي للقاضي أن يحضر في مجلس قضائه أبدًا رجلان يسمعان إقرار من يقر ويشهدان على ذلك، فينفذ الحكم عليه بشهادة منه وممن حضره. وينبغي له [أن] يبحث في المسألة عن الشهود بمحضر من رجلين يحضران أيضًا تزكية من أرسله في المسألة عن الشاهد. قال: ولا يجوز للقاضي أن يقول: قد سألت عنها في السر والعلانية فزكيا

وعدّلا. هذا بمنزلة قوله: أقر عندي بكذا. قال: إذا سأل القاضي عن الشهود في السر فلم يعدّلوا، ثم أتاه الشهود له بعدلين يعدلان شهوده. قال: لا يقبل ذلك. والمسألة مسألة السر. وقال أبو يوسف: إذا عدل الشاهد في السر فقال المشهود عليه: أنا أجيءُ بالبينة في العلانية على أنه صاحب كذا. الشيء إذا كان كذلك لم يقبل شهادته. فإنيّ لا أقبل ذلك من المدعي قبل إذا عدل في السر. وكان أبو حنيفة يقول: ينبغي للقاضي أن يلي مسائل الشهود بنفسه، فإن قوي على أن يكتب القصص بنفسه فهو أفضل. ولو شهدوا على رجلٍ بمالٍ فلم يعدلوا به فسأل المشهود عليه الحاكم أن يرد شهادتهم، فإنه يتخوف أن يشهدوا بهذه الشهادة عليه عند قاضٍ آخر غيره فيجيزها عليه. فإنه ينبغي أن يرد حينئذٍ شهادتهم. فإن قال: اشهدوا أني قد رددت شهادتهم أو قد قضيت برد شهادتهم المتهمة في هذه الشهادة أو لأنهم غير عدول في شهادتهم أو سمع ذلك منه ولم يقبل شهدوا، ثم شهدوا بها بعد ذلك عند حاكمٍ. فيسأل المطلوب الحاكم الأوّل أن يكتب له إلى الحاكم ما كان منه في رد شهادتهم. فإنه يكتب له بذلك. وينبغي للثاني: أن يردّها وإن كان الأوّل سأل عنهم، فلم يعدلوا، فلم يرد شهادتهم حتى شهدوا عليه بها عند حاكمٍ آخر. فسأل عنهم فعدلوا. فإنّ الثاني يمضيها. وهذا كان الأوّل أعاد المسألة عنهم فعدلوا. وقال محمّد: أقبل شهادة الشاهدين على شهادة شاهدٍ قد عرفاه باسمه ونسبه، وإن لم يعدلاه وقالا: لا معرفةً لنا بصلاحه. واسأل عن الشهود على شهادته. فإن عدل أجزت ذلك، وإن شهدوا على شهادته وأنه

عدلٌ وليس بالمصر من يعرفه، فإن كان موضوعًا للمسألة دعوتهما في السر، فسألتهما عنه. أو بعثت إليهما فيسألا عنه في السّرِّ، فإنّ عدّلاه قبلت ولا أكتفي بما أخبرني به من عدالته في العلانية إذا شهد شاهدان على شهادة شاهدين بألا يعرفانهما بعدلٍ ولا جرحٍ. قال محمد: قد اتسقا في ذلك. وينبغي للقاضي أن يسأل عنهم جميعًا. وقال: رجلان شهدا على شهادة رجلٍ وقد عرف القاضي أنّهما عدلانِ فعدلا المشهود عليه. قال: سألهما أيضًا في السّرِّ ولو قال حين شهدا: إنه لا خير فيه. وزكّاه عشرةٌ لم تقبل شهادته، ولو جرّحه أحد الشّاهدين لم يلتفت القاضي إلى جرحٌ واحدٍ. قال: إذا قال المشهود عليه هذا الشاهد عبدٌ وزعم الشاهد أنّه حرّ الأصل سألت عنه في السر، فإن قالوا: هذا حرّ الأصل أجزت شهادته. وإن قالوا: أجري عليه الرّقّ لم أقبل شهادته حتى يقيم البينة على أنه حرٌّ. هذا في الشهادة. فأمّا إذا قتل رجلًا أو قطع يده أو قدَمه، وادّعى الفاعل أنه المفعول به، لم أقتله، ولم أقطعه، ولم أحدّه، حتى يقيم الطالب البينة أنّه حرٌّ. وكذلك لو قال الفاعل: إنّي عبد والمفعول به حرٌّ. قال محمد عن أبي حنيفة: إذا طعن الخصم في الشّاهدين. قال: هما مملوكان. فسألهما، وقالا: حرًّا الأصل، فإنّي أسأل عنهما في السّرِّ. وأكتفي بها، فإن جاءني على ذلك أجزت شهادتهما وهو قول محمّد. قال هشام: سألت محمدًا عن المشهود عليه: إن ادّعى أن الشّاهدين

عبدان. قال: أسأل الذي ادّعى شهادتهما، فإن قالا كَانَا مملوكين فَأعتقا. سألتهما البينة على ذلك. وروى ابن سَمَاعة (¬1)، عن أبي يوسف قال: لا أجيز شهادة من شتم أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ وإن هذا مجونٌ وسفهٌ. وأقبل شهادة الذي تبرأ منهم؛ لأن هذا منه تدينٌ. ¬

_ (¬1) قال المصنف في تاج التراجم (ص 19): محمد بن سماعة بن عبيد بن هلال بن وكيع ابن بشر التيمي، أبو عبد الله، حدّث عن: الليث بن سعد، وأبي يوسف، ومحمد ابن الحسن، وكتب النوادر عن أبي يوسف، ومحمد، وروى الكتب والأمالي. قال الصيمري: وهو من الحفاظ الثقات. وقال الخطيب: توفي سنة ثلاث وثلاثين ومئتين، وله مئة سنة وثلاث وستون سنة، كذا، كان مولده سنة ثلاثين ومئة، وروي: أنه بلغ ذلك السن، وهو يركب الخيل ويفض الأبكار. وقال ابن معين: لو كان أهل الحديث يصدقون في الحديث كما يصدق محمد بن سماعة في الرأي، لكانوا فيه على نهاية، وكان يصلي في كل يوم مئتي ركعة، وولي القضاء للمأمون ببغداد سنة اثنتين وتسعين ومئة بعد موت يوسف بن أبي يوسف، فلم يزل على القضاء إلى أن ضعف بصره، فعزل، وضم عمله إلى إسماعيل بن حماد بن أبي حنيفة، ولما مات قال ابن معين: اليوم مات ريحانة أهل الرأي. له كتاب أدب القاضي، وكتاب المحاضر والسجلات. وقال الصميري: سبب كتابة ابن سماعة للنوادر عن محمد ابن الحسن؛ أنه رآه في النوم كأنه يثقب البر، فاستعبر، فقيل له: هذا رجل ينطق بالحكمة، فاجتهد أن لا يفوتك من لفظه شيء، فبه أمسك. وكتب عنه النوادر. قال محمد بن عمران: سمعت ابن سماعة يقول: مكثت أربعين سنة لم تفتني التكبيرة الأولى مع الإمام، إلا يوم ماتت فيه أني، ففاتتني صلاة واحدة في الجماعة، فقمت فصليت خمسًا وعشرين صلاة، أريد بذلك التضعيف، فغلبتني عيني فأتاني آتٍ، فقال: يا محمد صليت خمسًا وعشرين صلاة، ولكن كيف بتأمين الملائكة. والله أعلم.

وقال: من أحبّ الشطرنج فكان يتشاغل بها عن الصّلاة أو يقامرُ بها، فإنّي لا أقبل شهادته وأن لا يشغل عن الصلاة ولا يقامر بها قبلت شهادته، ولا أقبل شهادة من يلعب بالحمام وبغيرها. وأقبل شهادة من اتخذها مقصصةً ولا يقامر بها. ومن سأل عنه فقالوا: نتهمه بشتم أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، فإنه لا يقبله حتى يقولوا سمعناه يشتم. وإن قالوا: نتهمه بالفسق والفجور، ونظن به ذلك، ولم يره. فإني أقبل ذلك ولا أجيز شهادته. وقال رجلٌ ادّعى داراً في يد رجلٍ وأقام عليه شاهدين بأنّها له. فقال المشهود عليه: أنا أقيم البينة على أن الشاهد كان يدّعيها ويزعم أنّها له. قال: هذا جرحٌ إن عدلت البينة عليه بذلك. وذكر هشام في نوادره قال: سمعت أبا يوسف يقول: لا أقبل تزكية العلانية حتى يزكّى في السّرِّ. وإذا عرفت هذا لم أسال عنهم أحدًا. وقال أبو يوسف: إذا سألوا عن الشهود فقالوا: لا نعلمه إلّا خيرًا فهو جائزٌ - يعني: أنّها تزكية -. وروى إبراهيم، عن محمد: أنّه إذا قال المزكي: لا أعلم منه إلا خيرًا. قال: تقبلُ منه إذا كان عالمًا، بصيرًا. وإن لم يكن فقيهًا يوقف ذلك. قال: وينبغي للقاضي أن يسأل المزكي عن الجرح إلا أن يكونا عالمين. فيكتفي بقولهما لا خير فيه. وقال أبو يوسف: أقبل شهادة الشّاعر ما لم يقذف في شعره المحصنات.

قال هشام: سألت محمّدًا عن رجلٍ له مقبل شرب قناةٍ أو نهر أجره شهرًا أو سنةً وقد أعلموه أن هذا مكروه فلا ينتهي. هل يزكّى أن يشهد بشهادةٍ ولا يعلمون عنه إلاّ خيرًا ما عدا بيع الماءِ. قال محمد: هذا مما يختلف فيه الناس، وفيه شبهة. فإذا فعل ذلك على وجه شبهة أجزنا شهادته. قال: وسألت عن رجلٍ ليس له أصلٌ، ولكنه استأجر ماءً شهرًا أو سنةً لزرعٍ له. فيفضل منه فضلة فيبيعها أو لا يكون له زرعٌ فيستأجر هذا الماء لينجر فيه للبيع. ماذا ترى في تزكيته للشهادة؟. قال: إذا كان لا بأس به في غير هذا لا تبطل شهادته. قال محمد: موسرٌ لم يحج، ولم يؤدّ زكاة ماله. إن كان صالحًا لم تجرح شهادته بهذا؛ لأنّ الحج ليس لهُ وقتٌ. والزّكاة إذا وجبت ليس لها وقت. قال: وما كان له وقتٌ فأخّره لم أقبل شهادته. قلت: وعلى قول أبي حنيفة وأبي يوسف: الفورية واجبة، فيأثم بالتأخير، ويفسق. وترد شهادته. هكذا في شرح الهداية. والله أعلم. قال هشام: سألته عن الرجل يشهد على شهادة أبيه، أو يُزكّي أباه. قال: جاز. وله أن يزكي أباه حيًّا وميتًا. قال: وسألته عن الغريب ينزل بين أظهر قومٍ لا يعرفونه ثم شهد بشهادة ما يقول فيمن قال: إذا نزل بين أظهرهم ستة أشهرٍ وهو غريب، فلم يروا منه إلاّ خيرًا. إنهّم يعدّلونه. فإنّ محمدًا لا يعرف وقت السّتة أشهر. قلت: أفقاله أحدٌ من أصحابك؟ قال: أظنّ أبا يوسف قال شيئًا من ذلك.

قلت له: فما تقول أنت؟ قال: على قدر ما يقع في قلوبهم - يعني: صلاحه - فإنه لا يكاد يخفى. وقال أبو يوسف: إذا عرف الرجل باسمه ونسبه، فإن لم يكن له بدينه علمٌ فلا تزكه في الشهادة، فإن علمت منه خيرًا في يومٍ أو شهرٍ فلا تزكه وأدنى ما تزكيه فيه ستة أشهرٍ فصاعدًا تعرفه بالصلاح. وكذلك إذا كان يغيب ويحضر. فإذا كان جميع ما رأيته ستّة أشهر عرفته فيها بالصّلاح زكّيته وشهدت على شهادته. وقال أبو يوسف: لا تزكية إلاّ بعد معرفة سنةٍ. قال هشام: قلت لمحمّد: فإذا شهدَ بشهادة فعدل فيها، ثم شهد بشهادةٍ فقال: إذا كان قريبًا اكتفوا بالتعديل الأوّل. قلت: قال في الصغرى: تكلموا فيه. والصحيح قولان: أحدهما: مفوّض إلى رأي القاضي. والثاني: لو تخلل ستّة أشهرٍ يحتاج أشهرًا وإِلَّا فلا. قال: نصراني شهد شهادة، ثم أسلم. قال: إن كان عدل قبل أن يسلم قبلت شهادته، وإن كان لم يعدل حتى أسلم سألت عنه. هل كان يعدل في النصرانية، فإن كان يعدل في النصرانية قبلت شهادته. قال: وسألته عن مشركين شهدا على مشركٍ فعدلا في شركهم، فلم يوجه القضاء حتى أسلم المشهود عليه، فلو أسلم الشاهدان مكانهما. قال: أسأل الشاهدين أن يعيدا الشهادة عليه. قلت له: أفتسأل عن تعديلهما؟.

قال: لا. لأنهما قد عدلا عن الشرك. قلت: فلم لا يؤخر أمرهما حتى ينظر كيف قولهما الإسلام ولفرائضه. قال: إذا عدلا في الشرك فهما عدلان. قلت: فمسألة الشرك من يسأل عنهما مسلمون أو مشركون. قال: بل مسلمون. قلت: فإن لم يعرفهم المسلمون. قال: يسأل هؤلاء المسلمون عن عدولٍ من المشركين، ثم أولئك (¬1) عن الشهود. قال: وسألته عن الشاهدين إذا رجعت مسألتهما أنهّما عدلان، ولكن أوهما فيما شهدا عليه. فقال: لا أقبل هذا حتى أبعث إلى الذين عدلا فأسألهما ما هذا الذي أوهما فيه. قلت: فترى لهما إذا عرف الشهود عدول، وأن الذي شهدا عليه وهم منهما: إن اتفقا فلا يجرحا ولا يعدلا؟. قال: لا. ولكن أحب إليَّ أن يخبرا أنّهما عدلان إلا أنهما أوهما في كذا. قال هشام: أرى أن يتفقا إذا كان هكذا. قال محمّد: إذا زكى الشهود عليه الشاهدين. قال: أسأله: أصدقا؟ فإن قال: أوهما، ولكنهما صالحان. قال: لا أقضي عليه؛ لأنه حيث قال أوهما فلم يزكهما. قال هشام: قلت لمحمد: غريب شهد ولا يعرف إذا سئل عنه في السرِّ؟. ¬

_ (¬1) في المخطوط فراغ بمقدار كلمتين.

قال: أسأله عن معارفه في السر، فإذا عدلوا سألتهم عنه، فإن عدلوه قبلت ذلك. وقال محمّد في رجلٍ شهد عند قاضي مِصر فلم يعرفه أحدٌ. فقال المشهود له: إنّ شاهدي ما يعرف إلَّا في مصري. فاكتب إلى قاضي مصر كذا، فإنه يعرفه أو يعرف في مصره. قال: يكتب له. قال: إذا سأل الرجل عن تعديل الرجل، فإن كان هناك من يعدله سواه أوسعه أن لا يجيب فيه، وإن أجاب فيه كان أفضل، وإن لم يكن هناك من يجيب فيه، لم يسعه إلاّ أن يقول فيه الحق، وإلاّ فإنه هو الذي أبطل حقه. وسألته عن رجلٍ رأى منه وافية، وإنسان يشهد له بالزّور على دراهم. فقال: أجعل لك كذا درهمًا على أن تشهد لي بكذا. فاستزاده الشاهد حتى اتفقا وقد أقعد الذي سأله قومًا عدولًا، ثم شهد له الشاهد عند ذلك القاضي. وشهد شهود عدول على مراضاته هل يصنع به القاضي ما يصنع بشاهد الزور من العقوبة؟. قال: ولكنه يسأل عنه. فإن عدل أمضى شهادته ولا أقبل هذا؛ لأنه من التهاتر عند محمّد، لو شهد بشهادة عند قاضٍ فعدّل، ثم أتاه قوم علانية فقالوا: رأيناه أمس سكران أو جامع بالزنا أو شرب الخمر. قال: إن كان شيئًا يلزمه فيه حق من حدٍّ أو ماله يرده على صاحبه. أبطلت شهادته، وإن كان إنما يراد بهذا إبطال شهادته، لا يراد بذلك حقٌّ يلزمه. سألت عنه، فإذا عدّل قبلت شهادته، ولم ألتفت إلى شهادتهم. وإذا أقام المدّعى عليه البينة على إقرار المدّعي: أن شهوده شهدوا بزورٍ،

أو أنهم لم يحضروا المجلس الذي كان فيه هذا الأمر، أو بعض ما وضعت لك من الجرح الذي لا يقبل على الشهود، فإنه يقبل وتبطل شهادة شهود المدعي. ولو قال المدّعي قبله: أنا أقيم البينة على الشهود بالزنا أو شرب الخمر فأحضر شهوده. قبلت شهادتهم، وأمضيت الحد عليهم، وأبطلت الشهادة الأولى؛ لأنهم أوجبوا عليه حدًّا. وإنّما الذي لا يقبل أن يردوا إبطال الشهادة فقط. قلت: فقدم في الوجه الثاني، وفي هذا زيادة أن إبطال الشهادة بعد إمضاء الحد. قال محمد: كان أبو حنيفة يقبل تعديل المرأة والأعمى والعبد. وقال محمّد: لا يجوز تعديل الأعمى ولا المرأة ولا العبد. قال: سألت محمدًا، عن شاهدين عدلين شهدا عند رجلٍ: أنّ فلانًا هذا عدل، هل يسعه إذا سأل عنه في شهادته أن يعدله وهو لا يعرفه؟. قال: إذا كان الذين عدّلاه يُعرفا في التعديل، ويبقى أن يعدله ولا يجيز، وإن أُجيزَ فقال: يشهد عندي شاهدان بذلك. جاز أيضًا في قياس قول أبي حنيفة؛ لأنه يجيز تعديل الواحد. وفي قول محمد: هو معدّل واحدٍ حتى يجيء معه معدّل آخر. قلت له: فاسق أشهد رجلين على شهادته، ثم صلح. قال: لا يشهد الشاهدان بتلك الشهادة، إلاّ أن يشهدها ثانيًا بعدما صلح. ولو أشهدهما وهو عدلٌ، ثم فسد، لا يسعهما أن يمضيا عليه.

وقال: لا تقبل شهادة من يجلس مجالس الفجور والمجانة على الشّراب، وإن لم يسكر. وإذا سلم الرجل من الفواحش التي فيها الحدود وما يشبه ذلك من العظائم، ثم نظر في معارضته وفي طاعته، فإن كان يؤدي الفرائض وأخلاق البر فيه أكثر من المعاصي قبلنا شهادته؛ لأنه لا يسلم عبدٌ من ذنبٍ، وإذا ترك الصلاة في الجماعة والجمع استخفافًا بها أو مجانةً، فلا شهادة له. وإن كان تركه على تأويل الهوى، وكان عدلًا فيما سوى ذلك قبلت شهادته. رجل شهد وهو فاسق، ثم تاب وصلح قبل أن يمضي الحكم. لا ينبغي للقاضي أن يمضي تلك الشهادة. وقال: إذا كان مقيمًا على كبيرةٍ لا تقبل شهادته. قلت: فإن غنّى بغناءٍ فيه فحشٌ وهو في غير ذلك لا بأس به. قال: لا تبطل شهادته؛ لأنه إنما يحكي ذلك الغناء عن غيره. وذكر ابن سَمَاعة (¬1) في نوادره: عن أبي يوسف قال: أجيز في التزكية سرًّا تزكية العبد والمرأة والأعمى والمحدود إذا كانوا عدولًا، فزكوا لي رجلًا في السر. قبلت منهم. وأجزت قولهم. وليست هذه شهادة إنما كان هذا الدين. ولو كان عبدًا يزكي رجلًا في العلانية له، أقبل تزكيته. وكذلك الأعمى والمحدود لا أقبل في تزكية العلانية إلا ما كنت أقبله في الشهادة. فأمّا تزكية السر، فإنّ ذلك ليس بشهادة. ¬

_ (¬1) مرّت ترجمته.

قال أبو يوسف: لا أجيز شهادة الذي إذا سكر. . . (¬1). قال إبراهيم: سألت محمدًا عن الرجل يشهد عند القاضي، وهو على رأس خمسين فرسخًا، فيبعث القاضي أمينًا على جُعْلٍ يسأل المعدل عن الشاهدين، على من يكون الجعل. قال: على المدعي ألا ترى أنّ الصّحيفة التي يكتب فيها قضية عليه. وقال في رجلٍ أعمى: صوّامٌ قوّامٌ مغفل. يخشى عليه أن يلقن فيأخذ به. قال: هذا أشد من الفاسق في الشهادة. وسئل عن العدل في الشهادة؟ قال: الذي لم يظهر منه ريبةٌ. وقال: من شرب النّبيذ ولعب بالشطرنج وهو متأوّل: أقبل شهادته. وروى أبو سعيد، عن محمد في كتاب التزكية: أن أبا حنيفة قال في شهود القصاص والحدود، وفي شهود المال: إذا طعن المشهود عليه فيهم، لم يقبل القاضي شهادتهم حتى يعدلوا عنده سرًّا وعلانيةً. وكذلك قال أبو يوسف ومحمّد في جميع الشهود، وإن لم يطعن فيهم الخصم. قلت: قد تقدّم: أنّ الفتوى على قولهما كما صرّح به في غاية الكتب المصنفات. قال: فإن قال الشهود عليه: هو عدلٌ ممن يسأل عن الشهود، هم عدول. ولكنهم قد أوهموا في شهادتهم. ¬

_ (¬1) يظهر - والله أعلم - وجود سقط.

قال محمد: هذا كأنه قد زكاهم واحدٌ، فمن قبل تزكية رجلٍ واحدٍ قضى بهذه الشهادة. وهو قول أبي يوسف. وأمّا في قول محمّد: فإنه ينبغي للقاضي أن يسأل رجلًا آخر أيضًا. وقد مرّت رواية محمّدٍ بخلاف هذا. قلت: ذاك أولى؛ لأنه مصرّحٌ فيه أنه قال: وهذا مخرج. قال: وإذا عدلَ المشهود عليه الشهود بعدما شهدوا عليه، ثم طعن فيهم، لم يقبل طعنه وقضى عليه. وإن كان عدلهم قبل أن يشهدوا عليه، فلما شهدوا عليه طعن فيهم، لم يقض عليه بتعديله إيّاهم قبل أن يشهدوا عليه. قال: وإذا زكّى الشهود واحد وردهم آخرُ، لم تجز شهادتهم في قول أبي حنيفة وأبي يوسف. والرّد أولى. وقال محمّد: الشهادة موقوفة على حالها حتى يعدل آخر، ويردّه آخر. قلت: قد تقدّمت هذه في كلام الصّدر الشهيد. وقولهما أولى على ما ذكر قاضي خان في أوّل فتاويه. قال محمّد: لا أقبل في تزكية القابلة إذا شهدت على الولادة أقلّ من تزكية رجلين أو رجلٍ وامرأتين في قول محمّد. ولا أقبل إِلاَّ تزكية من إذا شهد مع غيره على ذلك. قبلت شهادته، ولا تقبل تزكية الأعمى في قول أبي حنيفة. وتقبل عند أبي يوسف - رحمه الله -؛ لأنه يرى قبول شهادته فيما شهد عليه قبل أن يعمى. قال أبو حنيفة: لا يجوز تزكية المرأة في الحدود.

وقال محمّد: لا يجوز في تزكية الزّنا إلّا الأربعة كإشهاده. قلت: وقد مرّت. وقد آثرنا ذكر جميع ما قيل، وإن تكرر كما فعل الإمام جمال الدين الْحَصِيريّ (¬1). ولهذا: تبيّن صدق قولي في شأن القاضي الذي سئلت عن صنعه. والله سبحانه وتعالى أعلم. ¬

_ (¬1) تحرف في المخطوط إلى: (الحصري). وقال المصنف في تاج التراجم (ص 69): محمود بن أحمد بن عبد السيد بن عثمان ابن نصر بن عبد الملك جمال الدين أبو المحامد الحصيري البخاري، تفقه ببخارى على قاضي خان، وسمع من منصور الفراوي والمؤيد الطوسي بنيسابور، وبحلب من الشريف أبي هاشم، ودرّس بدمشق وأفتى وحدث، وتفقه عليه المعظم عيسى ابن أيوب وجماعة، وشرح الجامع الكبير، وكان كثير الصدقة غزير الدمعة نزهًا عفيفًا يكتب خطًامليحًا، توفي يوم الأحد ثامن من صفر سنة ست وثلاثين وست مئة بدمشق ومولده ببخارى في جمادى الأولى سنة ست وأربعين وخمس مئة، قلت: نسبته إلى محلة ببخارى ينسج بها الحصير واسم شرحه لجامع التحرير عدته ثمان مجلدات، وله آخر مختصر وكتاب آخر في مجلدين سماه خير مطلوب في الفقه. وانظر سير أعلام النبلاء (23/ 53 - 54).

(17) القول القائم في بيان تأثير حكم الحاكم

مَجْمُوعَةُ رَسَائِل العَلَّامَة قَاسِم بن قُطْلُوبُغَا [17] القَوْلُ القَائِم في بَيَانِ تَأْثِيرِ حُكْمِ الحَاكِمِ تَأْلِيفُ العَلَّامَة قَاسِم بْنِ قُطْلُوبُغَا الحَنَفِي المولود سَنَة 802 هـ والمتوفى سَنة 879 هـ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -

بداية الرسالة

(17) القَوْلُ القَائِم في بَيَانِ تَأْثِيرِ حُكْمِ الحَاكِمِ قال - رحمه الله -: قد كان جرى بيني وبين علماء العصر المذاكرة ببعض المسائل الفقهية، وكان منها مسألة قضاء القاضي بشهادة في العقود والفسوخ، وكنت ذكرت له ما حضرني في ذلك، ثم بعد مدّة سألني مرّةً أن أكتب له ما كان شيء في ذلك المجلس على وجه التحقيق. فقلت مستعينًا بالله، إنه حسبي ونعم الوكيل: إذا قضى القاضي بشهادة الزور في العقود والفسوخ ينفُذ ظاهرًا وباطنًا عند أبي حنيفة، وهو قول أبي يوسف أوّلًا. وقال أبو يوسف في قوله الآخر: ينفذ ظاهرًا لا باطنًا. وهو قول محمد. وحكى الطحاوي (¬1) قول محمّدٍ مع أبي حنيفة، ومعنى نفوذه ظاهرًا: ¬

_ (¬1) قال الطحاوي في شرح معاني الآثار (4/ 155) بعدما ذكر حديث أم سلمة: ذهب قوم إلى أن كل قضاء قضى به حاكم من تمليك مالٍ، أو إنابة ملكٍ عن مال، أو من إثبات نكاح، أو من حلّه بطلاق، أو بما أشبهه، أنّ ذلك كلّه على حكم الباطن، وأنّ ذلك في الباطن كهو في الظّاهر، وجب ذلك على ما حكم به الحاكم. وإن كان ذلك في الباطن على خلاف ما شهد به الشاهدان، وعلى خلاف ما حكم به بشهادتهما على الحكم الظاهر لم يكن قضاء القاضي موجبًا شيئًا، من تمليك، ولا تحريم، ولا تحليلٍ، واحتجوا بذلك بهذا الحديث. وممن قال بذلك أبو يوسف وخالفهم =

نفوذه فيما بيننا كثبوت التمكين والنفقة والقسم في النكاح ونحو ذلك. ومعنى نفوذه باطنًا: ثبوت الحل عند الله تعالى. وشرط ذلك: أن يكون الدعوى بسببٍ معيّنٍ كنكاحٍ أو بيعٍ أو طلاقٍ أو إعتاق. وفي الأملاك المرسلة ينفذ ظاهرًا فقط باتفاقهم. وكذا فيما لم يكن إنشاؤه كنكاح المنكوحة والمعتدة. فمن العقود: ما إذا ادّعى رجلٌ على امرأةٍ نكاحًا، وأنكرت، فأقام عليها شاهدي زورٍ، وقضى القاضي بالنكاح بينهما، حلّ للزوج وطؤها، وحل للمرأة التمكين على قول أبي حنيفة. وهو قول أبي يوسف الأوّل خلافًا لمحمّد وزفر. وهو قول أبي يوسف الآخر. وكذا إذا ادّعت المرأة على رجلٍ نكاحًا وأنكره. ومنها: ما إذا قضى القاضي بالبيع بشهادة الزور سواء كانت الدعوى من جهة المشتري مثل ما إذا قال: بِعني هذه الجارية، أو البائع مثل أن يقول: اشتريت مني هذه الجارية، فإنه يحل للمشتري وطؤها في الوجهين جميعًا. واختلف المشايخ: هل يشترط في النكاح أن يكون بحضرة من يصلح شاهدًا فيه أم لا. وفي البيع هل يكون بما لم يتغابن بمثله في الثمن أم لا. فوجه من شرط حضور الشهود: أنّ الشهادة شرط صحة العقد، فلا بد من ذلك ووجهه في البيع:. . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = في ذلك آخرون فقالوا: ما كان من ذلك من تمليك مالي، فهو في حكم الباطن كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من قضيت له بشيءٍ من حقّ أخيه فلا يأخذه فإنما أقطع قطعةً من نارٍ". وما كان من ذلك من قضاءٍ بطلاقٍ أو نكاح بشهود ظاهرهم العدالة وباطنهم الجرحة، فحكم الحاكم بشهادتهم على ظاهرهم الذي تعبّد الله أن يحكم بشهادة مثلهم معه، فذلك يحرم في الباطن كحرمته في الظّاهر.

أن القاضي يصير مُنْشِئًا (¬1)، وإنما يصير مُنْشِئًا في ما لَهُ ولاية الإنشاء وليس له البيع بغبنٍ فاحشٍ؛ لأنه تبرّع. ووجه قوله: أن يشترط ذلك: أن الشهادة شرط لإنشاء النكاح قصدًا والإنشاء هنا اقتضاءٌ فلا يشترط، وإن البيع بغبنٍ فاحشٍ مبادلة. وهكذا يملكه العبد المأذون له، والمكاتب وإن لم يملكا التبرع، فكان كسائر المبدلات. ومن الفسوخ مثلًا: إذا ادّعى أحد المتعاقدين فسخ العقد في الجارية، وأقام شاهدي [زور] ففسخ القاضي. حلّ للبائع وطؤها. ومنها: ما إذا ادّعت على زوجها أنّه طلّقها ثلاثًا فأقامت شاهدي زورٍ وقضى القاضي بالفرقة، وتزوجت بزوجٍ آخرَ بعد انقضاء العدة حلّ للزوج الثاني وطؤها ظاهرًا وباطنًا. عُلِمَ أنّ الزوج الأول لم يطلقها بأن كان أحد الشاهدين علم أو لم يعلم بذلك. وقال أبو يوسف ومحمد: إن كان عالمًا بحقيقة الحال لا يحل له الوطءُ عندهما. لم تقع باطنًا، وإن لم يعلم بها حل له ذلك. وأمّا الزوج [الأول] فلا يحل له الوطء عند أبي يوسف [آخرًا] وإن كانت الفرقة لم تقع باطنًا؛ لأن قول أبي حنيفة أورث شبهةً؛ ولأنه لو فعل ذلك كان زانيا عند الناس فيحدّونه. وقال شيخ الإسلام: إنّ على قول أبي يوسف يحل وطؤها سرًّا. وعلى قول محمّد: لا يحل للأوّل وطؤها ما لم يدخل بها الثاني. فإن ¬

_ (¬1) في المخطوط: متثبتًا والصواب ما أثبت صُحِّحَ من المحيط البرهاني وشرح الهداية.

دخل بها لا يحلّ سواء علم الثاني بحقيقة الحال أو لم يعلم. هذه نبذة مما يظهر فيه الخلاف، وبقولهما قال مالك والشافعي وأحمد في أحد الروايتين. قال القاضي عياض في شرح مسلم: مذهبنا: أن حكم الحاكم لا يحل الحرام سواء الدماء والأموال والفروج. وعند أبي حنيفة: يحل في الفروج. واحتجّ أصحابنا عليه بعموم الحديث. يعني حديث أمّ سلمة: أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "إنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ، وَإِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ، وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ (¬1) بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ فَأَقْضِي لَهُ عَلَى نَحْوِ مَا أَسْمَعُ مِنْهُ، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بِشَيءٍ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ فَلاَ يَأْخُذْ مِنْهُ شَيْئًا، فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ". متّفقٌ عليه (¬2). ¬

_ (¬1) أعرف بالحجّة وأفطن لها من غيره. (¬2) أخرجه مالك في الموطأ (2/ 719) رقم (448) والحميدي (296) والإمام أحمد (6/ 203 و 290 و 307 و 308 و 320) والشافعي في المسند (2/ 78 ترتيب السندي) والأم له (6/ 201 - 202 و 7/ 36) والبخاري (2680 و 6967 و 7169) ومسلم (1713) وأبو داود (3583) والترمذي (1339) والنسائي في الكبرى (5943 و 5956) وفي المجتبى (8/ 233 و 247) وابن ماجه (2317) وأبو عوانة (4/ 3 - 5) والطحاوي في شرح معاني الآثار (4/ 154) والحارث بن أبي أسامة (462 زوائد) وابن الجارود (999) وأبو يعلى (6880 و 6881 و 6994) وابن حبان (5070 و 5072) والطبراني في الكبير (23/ رقم 798 و 803 و 907) ومسند الشاميين (1271) والدارقطني في سننه (4/ 239) والبيهقي في السنن الكبرى (10/ 143 و 149) والخطيب في تاريخه (4/ 10 و 7/ 179) والبغوي في شرح السنة (2506) والروايات ألفاظها متقاربة.

وبهذا الحديث تمسّك الشافعي أيضًا. قال البيهقي في كتاب المعرفة (¬1): حدثنا أبو عبد الله وأبو بكر وزكريا وأبو سعيد قالوا: حدثنا أبو العباس (¬2) محمّد بن يعقوب، حدثنا الربيع بن سليمان، حدثنا الشافعي، حدثنا مالكٌ، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن زينب بنت أبي سلمة، عن أمّ سلمة: أنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قال: "إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ". الحديث. قال الشافعي في رواية أبي سعيدٍ (¬3): فَبِهَذَا نقُولُ، وفي هذا البيان الذي لا إشكال معه - بحمد الله ونعمته- على عالم، فنقول: وَلِيُّ السرائر الله تبارَكَ وتعالى، فالحلال والحرام ما يعلمه الله (¬4)، والحكم على ظاهر الأمر، وافقَ ذلك السرائرَ أو خالفها، فلو أن رجلًا أقام (¬5) بيّنةً على آخر، فشهدوا أنّ له عليه مئة دينارٍ، فقضى بها القاضي، لم يحلّ للمقضي له أن يَأْخُذَهَا إذا علمها باطلًا، ولا (¬6) يحلّ حكم القاضي (¬7) على المقضيّ له والمقضي عليه، ولا يجعل الحلال على كل واحدٍ منهما حرامًا، ولا الحرام ¬

_ (¬1) أخرجه البيهقي في المعرفة (19852). ومن نفس الطريق في السنن الكبرى (10/ 149) وليس فيه: "مثلكم". (¬2) أقحم في المخطوط: (حدثنا). (¬3) وانظره أيضا في الأم للشافعي (7/ 42) (باب في حكم الحاكم). (¬4) في المعرفة: (فالحلال والحرام على ما يعلم الله). (¬5) في المعرفة: (زوّر). (¬6) في المخطوط: (لا). (¬7) في المعرفة: (الحاكم).

لواحدٍ (¬1) منهما حلالًا. ثم ساق الكلام في الطلاق والبيع، وغير ذلك على هذا القياس. قال (¬2): وروينا عن ابن سيرين، عن شريحٍ: أنّه كان يقول للرّجل: إنّي لأقضي (¬3) لك، وإنّي لأظنّك ظالمًا، ولكن لا يسعني أن لا أقضي إلّا بما يحضرني من البيّنة (¬4)، وإنّ قضائي لا يحلّل حرامًا. انتهى. وقال الرافعي في شرح الوجيز: حكم القاضي على وجهين: أحدهما: ما ليس بإنشاء، وإنما هو تنفيذٌ لما قامت الحجّة عليه. وهذا ينفذ ظاهرًا لا باطنًا سواء كان بمالٍ أو نكاحٍ. الثاني: الإنشاءات كالتفريق بين المتلاعنين، وفسخ النكاح بالعنّة. وهذا فيه وجهان: أحدهما: المنع. وبه قال الأستاذ أبو إسحاق. ¬

_ (¬1) في المعرفة: (على واحد). (¬2) البيهقي في معرفة السنن والآثار (19855). ورواه البيهقي في السنن الكبرى (2/ 181) عن شريحٍ: أنّه كان يقول للرّجل: إنّى لأقضي لك وإنّي لأظنّك ظالمًا، ولكن لا يسعني إلّا أن أقضي بما يحضرني من البيّنة، وإنّ قضائي لا يحلّ لك حرامًا. ورواه ابن أبي شيبة (22977) عن محمد قال: كان شريح مما يقول للخصم: يا عبد الله، والله إني لأقضي لك، وإني لأظنك ظالمًا، ولكني لست أقضي بالظن، ولكن أقضي بما أحضرني، وإن قضائي لا يحل لك ما حرّم عليك. (¬3) تحرف في المخطوط إلى: (لا أقضي). (¬4) في المعرفة: (يسعني إلّا أن أقضي بما يحضرني من السنة).

الثاني: أنه ينفذ باطنًا. وجهٌ ثالثٌ: وهو التفريق بين من يعتقد حكمه من الخصمين. والأصحّ عند جماعةٍ: ينفذ في حق من يعتقد. وفي حقّ من لا يعتقد. واحتجّ بالحديث المتقدم. وبه احتجّ ابن قدامة في المغني لمذهب أحمد. ثم قال بعد ذكره: وهذا يدخل فيه ما إذا ادّعى أنه اشترى منه شيئًا، فحكم له؛ ولأنه حكم بشهادة زورٍ فلا يحلّ له ما كان محرّمًا عليه، كالمال المطلق. وللرافعي نحو هذا القياس أيضًا. وتمسك بهذا الحديث أيضًا أهل الظّاهر كما ذكره الحافظ علي بن حزم بعد روايته له من طريق عبد الرزاق. واستدلّ به الطحاوي لأبي يوسف، إذ كان عنده أن محمدًا مع أبي حنيفة. واستدلّ به لهما من جعله مع أبي يوسف. واستدل لهما أيضًا: بأن شهادة الزور حجّة ظاهرًا لا باطنًا، فصار كما إذا كان الشهود كفّارًا أو عبيدًا، فإنه ينفذ ظاهرًا لا باطنًا، وبأنّ القضاء إظهار ما هو ثابتٌ، لا إثبات ما لم يكن ثابتًا. فلا ينفذ باطنًا. واستدلّ لأبي حنيفة: بأنه لما كان إظهار ما ليس بثابتٍ حالاًّ. وقد كلّف الإظهار، فيجب إثباته اقتضاءً لئلا يكون تكليف ما ليس في الوسع، وأنّه ممكن. فالقاضي نائبٌ عن الله، ولله ولاية الإثبات، فصار كأنّ الشارع قال: أثبت الحكم بينهما، ويجوز ذلك وإن لم يوجد الرضا؛ لأنّ للمولى ولاية إجبارِ

العبد، وكلّنا عبيدهُ وإماؤه. وبهذا يخرج الجواب عن التعليل الأخير لهما. واستدلّ لهما أيضًا: بأنّ الشهودَ صَدَقَةٌ عند القاضى؛ لأنّ الغرض أن لا يطّلع على شيءٍ مما يجرحهم. ومثل هذه الشهود هو الحجّة المعتبرة في الشّرع لتعذّر الوقوف على الصّدق حقيقة؛ لأنّ ذلك أمرٌ باطنٌ لا يعلمه إلا الله. فلو اشترط للقضاء لما أمكن القضاء أصلًا. وإذا وجدت الحجّة الشّرعيّة، فعند الحاكم ظاهرًا وباطنًا بخلاف الكفر والرق؛ لأن الوقوف عليهما متعسرٌ بالأمارات. وهذان الطريقان للمتأخرين. واستدلّ في الأصل (¬1) فقال: بلغنا عن عليٍّ كرَّم الله وجهه: أَنَّ رَجُلًا أَقَامَ عِنْدَهُ بَيِّنَةً عَلَى امْرَأَةٍ أنَّهُ تَزَوَّجَهَا، فَأَنْكَرَتْ، فَقَضَى (¬2) لَهُ بِالْمَرْأَةِ. فَقَالَتْ: إِنَّهُ لَمْ يَتَزَوَّجْنِي، فَأَمَّا (¬3) إذَا قَضَيْت عَلَيَّ فَجَدِّدْ نِكَاحِي. فَقَالَ: لا أُجَدِّدُ نِكَاحَك، الشَّاهِدَانِ زَوَّجَاكِ. قال: وبهذا نأخذ، فلو لم ينعقد النِّكاح بينهما باطنًا بالقضاء لما امتنع من تجديد العقد عند طلبها، ورغبة الزَّوج فيها، وقد كان في ذلك تحصينها من الزِّنا، وصيانة مائه (¬4). ¬

_ (¬1) أي: محمد بن الحسن - رحمه الله تعالى -. (¬2) في المخطوط: (فقال). (¬3) تقرأ في المخطوط: (لم يفرق حتى قاما). (¬4) ذكر قول محمد في الأصل إلى هنا صاحب رد المحتار (21/ 427) وقال: من رسالة العلّامة قاسمٍ المؤلّفة في هذه المسألة، وقوله: وبهذا نأخذ دليلًا لما حكاه الطّحاويّ من أنّ قول محمّدٍ كقول أبي حنيفة.

واستدل الطحاوي (¬1) بما رواه، عن يونس، حدثنا سفيان، عن عمرو ابن دينار، عن سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عمر قال: فَرّق النبي - صلى الله عليه وسلم - بينَ أخوي بني عجلان وقال لهما: "حِسَابُكُمَا عَلَى اللهِ، [الله] يَعْلَمُ أَنَّ أَحَدَكُمَا كَاذِبٌ لاَ سَبِيلَ لَكَ عَلَيْهَا". الحديث. حدثنا يونس، حدثنا سفيان، عن الزهري، سمع سهل بن سعدٍ السّاعدي يقول: شهدتُ النبي - صلى الله عليه وسلم - فرّق بين المتلاعنين فقال: يا رسول الله! كذبت عليها إن أمسكتها. قال: "هِيَ طَالِقٌ ثَلاَثًا" (¬2). حدثنا يونس، حدثنا ابن وهب، حدثنا مالك (¬3)، عن ابن شهاب: أنّ سهلَ بن سعدٍ الساعدي أخبره: أنَّ عويمرًا العجلاني أتى عاصم بن عدي الأنصاري. فذكره (¬4). حدثنا أحمد بن أبي داود، حدثنا الوهبي، حدثنا الماجشون، عن الزهري، عن سهل بن سعد، عن عاصم بن عدي قال: جاء (¬5) عويمر. فذكر مثله (¬6). ¬

_ (¬1) أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار (4/ 155) وزاد: قال: يا رسول الله، صداقي الذي أصدقتها؟ قال: "لا مال لك عليها، إن كنت أصدقت عليها فهو بما استحللت من فرجها، وإن كنت كاذبًا عليها، فهو أبعد لك منه". (¬2) أخرجه أحمد (5/ 334 و 335 و 336) والدارمي (2235 و 2236) البخاري (4959) ومسلم (1492) وأبو داود (2245 و 2248 و 2251) والنسائي (6/ 143) وابن ماجه (2066) والطحاوي في شرح معاني الآثار (4/ 155). (¬3) في شرح المعاني: (هلال). (¬4) أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار (4/ 155). (¬5) في شرح معاني الآثار: (جاءني). (¬6) أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار (4/ 156).

قال: فقد علما: أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - لو علم الكاذب منهما بعينه لم يفرّق بينهما، ولم يلاعن. ولو علم أنّ امرأةً صادقة يحدّ الزوج لها بقذفه إيّاها. ولو علم أنّ الزوج صادقٌ لحدّ المرأة للزنا الذي كان منها. فلما خفي الصادق منهما على الحاكم، وجب حكم آخر، بحرمة الفرج على الزوج في الباطن والظّاهر، ولم يرد ذلك إلى حكم الباطن. فكما ثبت هذا في المتلاعنين، ثبت أن الفِرَقَ كلها، والقضاء مما ليس فيه تمليك أموال أنه على حكم الظاهر، لا على حكم الباطن، وإن حكم القاضي يحدث في ذلك التحريم والتحليل في الظاهر والباطن جميعًا، وأنَّه على خلاف الأموال (¬1) التي يقضي بها الظّاهر وهي في الباطن على خلاف ذلك. فتكون الآثار الأول على القضاء بالأموال، والآثار الأخر على القضاء بغير الأموال (¬2) من إثبات العقود وحلها حتى يتبين (¬3) وجوه الآثار والأحكام والقضاء (¬4). وحكم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المتبايعين إذا اختلفا في الثمن والسلعة قائمة: أنهّما يتحالفان ويترادّان. فتعود الجارية للبائع، ويحلّ له فرجها، ويحرم على المشتري. ¬

_ (¬1) تحرف في المخطوط إلى: (الإنزال) والمثبت من شرح المعاني. (¬2) تحرف في المخطوط إلى: (الأموات) والمثبت من شرح المعاني. (¬3) في شرح المعاني: (حتى تتفق معاني). (¬4) في شرح معاني الآثار: (ولا تضاد).

ولو علم الكاذب منهما بعينه إذًا لقضى (¬1) بما يقول الصّادق، ولم يقض بفسخ البيع، ولا بوجوب حرمة فرج الجارية المبيعة على المشتري، فلما كان على ما وصفنا، كان كذلك كل قضاءٍ بتحريمٍ أو تحليلٍ، أو عقد نكاحٍ [أَوْ حِلِّهِ] على ما حكم القاضي فيه في الظاهر، لا على حكمه في الباطن. وهذا قول أبي حنيفة ومحمد بن الحسن (¬2). انتهى. وبجوابه المذكور هنا من حديث أم سلمة: أجاب جماعةٌ من المتأخرين، وأجاب في البدائع بجوابٍ آخر وهو: أنَّ حديث أم سلمة ورد في مواريث دَرَسَتْ. والميراث ومطلق الملك سواء في الدعوى. وبه نقول. قلت: قد روى ذلك الطحاوي (¬3)، عن الربيع المؤذن، عن أسدٍ، حدثنا ¬

_ (¬1) في المخطوط: (إذ القضاء). (¬2) شرح معاني الآثار (4/ 156). (¬3) أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار (4/ 154 - 155) وشرح مشكل الآثار وقال في شرح المشكل (2/ 233 - 234): فقال قائلٌ ممن لا علم له بوجوه أحاديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: الذي في هذا الحديث مما أضيف إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أمر كلّ واحدٍ من الرجلين المذكورين فيه، بعد تقاسمهما ما اختصما إليه فيه بتحليل كل واحدٍ منهما صاحبه من حقٍّ إن كان له، فيما أخذه صاحبه بحق القسمة محالٌ؛ لأن التحليل إنما يعمل في ما كان في ذمم المحللين، لا فيما كان في أيديهم مما هو عرضٌ، أو حصة في عرضٍ، إلا أن رجلًا لو قال لرجل: قد حللتك من داري التي لي في يدك، أو من عبدي الذي لي في يدك أن ذلك التحليل لا يملك به المحلل شيئًا من رقبة تلك الدار، ولا من رقبة ذلك العبد، وهذا مما لا اختلاف فيه، وكيف يجوز أن تقبلوا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما قد رويتموه في هذا الحديث من أمره كل واحدٍ من الخصمين اللذين اختصما إليه بعد مقاسمته صاحبه بتحليله من حقٍّ إن كان له في يده. =

وكيع، عن أسامة بن زيد (¬1)، سمع عبد الله بن رافع (¬2) مولى أم سلمة، [عَنْ أُمّ سَلَمَة] قالت: جاءَ رجلانِ من الأنصار يختصمان في مواريث بينهما قد دَرَسَتْ، ليست فيها بيّنة (¬3). فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّكمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ، وَإِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ، وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ، وإِنَّمَا أَقْضِي بَيْنَكُمْ عَلَى نحوِ مَا أَسْمَعُ مِنْكُمْ، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ بِشَيْءٍ فَلاَ يَأْخُذْهُ، فَإنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ يَأتِي بِهَا إسْطَامًا (¬4) في عُنُقِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ". قال: ¬

_ = فكان جوابنا له: أن التحليل الذي في هذا الحديث لم يرد به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما توهّمه عليه، وإنما أراد به أن الشيء الذي يقتسمانه قد يكون فيما أخذه أحدهما حق لصاحبه، فيكون حرامًا عليه أخذه وحرامًا عليه الانتفاع به، وإذا حلّله منه، حلّ له الانتفاع به، وكان ذلك حرامًا عليه لو لم يكن ذلك التحليل، وكان ما هما فيه لا يقدر فيه على تخليص لهما من شيء من أسبابه خلاف ذلك؛ لأنهما لا يقدران على عقد بيع فيه، إذ كان كل واحدٍ منهما لا يدري ما يحاول بيعه من ذلك، وأن ذلك إذا كان في البيع غير مقدورٍ عليه كان في الهبة والصّدقة كذلك أيضًا، وكانت كل واحدةٍ منهما من العمل في ذلك أبعد من عمل البيع فيه، وكان المقدور عليه في ذلك التحليل من كونه في يد الذي ليس له، والانتفاع به، فأمرهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالمقدور عليه في ذلك، ونقلهما به من حال حرمة قد كانت قبله إلى حال حلّ خلفها، وكان ما كان منّة من الله عليه في ذلك حكمه، وبالله التوفيق. (¬1) تحرف في المخطوط إلى: (يزيد). وهو أسامة بن زيد الليثي، أبو زيد المدني، روى له مسلم في الشواهد، وهو حسن الحديث. وقال ابن حجر في التقريب: صدوق يهم. (¬2) تحرف في المطبوع من شرح المعاني إلى: (نافع). (¬3) في شرح معاني ومشكل الآثار: (بينهما). (¬4) السطام: المسعار، لحديدة مفطوحة يحرك بها النار. والإسطام: المسعار. القاموس المحيط.

فبكى الرّجلان. فقال كلُّ واحدٍ منهما: حَقِّي لأخي. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَمَّا إِذَا فَعَلْتُمَا، فَاذْهَبَا، فَاقْتَسِمَا، وَتَوَخَّيَا الْحَقَّ" (¬1). انتهابًا ثُمّ يحلل كلّ واحدٍ منهما صاحبه. وفرّقوا بين العقود والفسوخ، وبين الأملاك المرسلة، عن إثبات سببٍ ثانٍ في الأسباب كثرةً، ولا يمكن القاضي تعيين شيءٍ منها بدون الحجة، فلا يكون مخاطبًا بالقضاء، بالملك، وإنّما هو مخاطبٌ بقصر يد المدّعى عليه عن المدعي. وذلك نافذٌ منه، ظاهرًا. فإمّا أن ينفذ باطنًا بمنزلة إنشاءٍ جديدٍ، فليس بقادرٍ عليه بلا سببٍ شرعي. وأجاب الحافظ موفق الدين ابن قدامة في كتابه المغني عمّا استدل به لأبي حنيفة فقال (¬2): أمّا الخبر عن عليٍّ إن صحَّ، فلا حجّة فيه؛ لأنّه أضاف ¬

_ (¬1) لفظ شرح المعاني (4/ 154): فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنما أنا بشرٌ، وإنه يأتي الخصم، ولعل بعضكم أن يكون أبلغ من بعض، فأقضي له بذلك، وأحسب أنه صادقٌ، فمن قضيت له بحق مسلمٍ، فإنما هي قطعة من النّار، فليأخذها، أو ليدعها". فبكى الرجلان، وقال كل واحد منهما: حقّي لأخي. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أما إذ فعلتما هذا، فاذهبا، فاقتسما وتوخيا الحق، ثم استهما، ثم ليحلل كل واحدٍ منكما صاحبه". وجاء في شرح مشكل الآثار (758) بلفظ: فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنما أنا بشرٌ، وإنه يأتيني الخصم، ولعل بعضكم أن يكون أبلغ من بعض، فأقضي له بذلك، وأحسب أنه صادقٌ، فمن قضيت له بحق مسلمٍ، فإنما هي قطعة من النّار، فليأخذها، أو ليدعها". فبكى الرجلان، وقال كل واحد منهما: حقي لأخي. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أما إذ قد فعلتما هذا، فاذهبا، فاقتسما وتوخيا الحق، ثم استهما، ثم ليحلل كل واحدٍ منكما صاحبه". (¬2) (11/ 408).

التزويج إلى الشاهدين لا إلى حكمه، ولم يجبها إلى التزويج، فإن (¬1) فيه طعنًا على الشهود، وأمّا (¬2) اللعان: فإنّما حصلت الفرقة به، لا بصدق الزوج (¬3)، ولهذا لو قامت البيّنة [به] لم ينفسخ النكاح. انتهى. قلت: يُجاب عن جوابه: بأنّ إضافته التزويج إلى الشهود، فإنهم هم الذين الجؤوه إلى الحكم. وذلك لا يمنع ما قلنا. وأمّا اللعان: فمن رد الحلف إلى المختلف، وذلك: أن الفرقة عندنا إنّما تقع بحكم الحاكم لا باللعان. وعند أحمد على أشهر الروايتين: يقع بلعانهما قبل الحكم. وكذا عند مالكٍ. وعند الشافعي بعد فراغ لعان الزوج. قال الرّافعي: هذه الأحكام تترتّب بمجرّد لعان الزّوج، ولا يتوقّف على شيءٍ من ذلك على لعانهما، ولا على قضاء القاضي. وقال في المغني (¬4): فيه روايتان: ¬

_ (¬1) في المغني: (لأن). (¬2) في المغني: (فأما). (¬3) أقحم في المخطوط: (لا بصدق الزوج). (¬4) المغني (9/ 29) قال: (مسألة: قال: فمتى تلاعنا وفرق الحاكم بينهما لم يجتمعا أبدًا) في هذه المسألة مسألتان: المسألة الأولى: أن الفرقة بين المتلاعنين لا تحصل إلا بلعانهما جميعًا، وهل يعتبر تفريق الحاكم بينهما؟ فيه روايتان: إحداهما: أنه معتبر فلا تحصل الفرقة حتى يفرق الحاكم بينهما، وهو ظاهر كلام الخرقي، وقول أصحاب الرأي، لقول ابن عباس في حديثه: ففرق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بينهما، وهذا يقتضي أن الفرقة لم تحصل قبله. وفي حديث عويمر قال: كذبت عليها يا رسول الله! إن أمسكتها فطلقها ثلاثًا، قبل أن يأمره رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = وهذا يقتضي إمكان إمساكها، وأنه وقع طلاقه، ولو كانت الفرقة وقعت قبل ذلك، لما وقع طلاقه، ولا أمكنه إمساكها؛ ولأن سبب هذه الفرقة يقف على الحاكم، فالفرقة المتعلّقة به، لم تقع إلّا بحكم الحاكم كفرقة العنة. والرواية الثانية: تحصل الفرقة بمجرد لعانهما، وهي اختيار أبي بكر، وقول مالك، وأبي عبيد عنه، وأبي ثور، وداود، وزفر، وابن المنذر. وروي ذلك عن ابن عباس، لما روي عن عمر - رضي الله عنه - أنه قال: المتلاعنان يفرق بينهما ولا يجتمعان أبدًا. رواه سعيد. ولأنه معنى يقتضي التحريم المؤبد، فلم يقف على حكم الحاكم الرضاع؛ ولأن الفرقة لو لم تحصل إلا بتفريق الحاكم، لساغ ترك التفريق إذا كرهاه، كالتفريق للعيب والإعسار، ولوجب أن الحاكم إذا لم يفرق بينهما أن يبقى النكاح مستمرًا. وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا سبيل لك عليها" يدلّ على هذا، وتفريقه بينهما بمعنى إعلامه لهما بحصول الفرقة. وعلى كلتا الروايتين لا تحصل الفرقة قبل تمام اللعان منهما. وقال الشافعي - رحمه الله تعالى -: تحصل الفرقة بلعان الزوج وحده، وإن لم تلتعن المرأة؛ لأنها فرقة حاصلة بالقول، فتحصل بقول الزوج وحده، كالطلاق، ولا نعلم أحدًا وافق الشافعي على هذا القول، وحكي عن البتي: أنه لا يتعلق باللعان فرقة، لما روي أن العجلاني لما لاعن امرأته طلقها ثلاثًا، فأنفذه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولو وقعت الفرقة لما نفذ طلاقه، وكلا القولين لا يصحّ؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - فرّق بين المتلاعنين. رواه عبد الله بن عمر، وسهل بن سعد، وأخرجهما مسلم. وقال سهل: فكانت سنة لمن كان بعدهما، أن يفرق بين المتلاعنين. وقال عمر: المتلاعنان يفرق بينهما ثم لا يجتمعان أبدًا. وأما القول الآخر: فلا يصح؛ لأن الشرع إنما ورد بالتفريق بين المتلاعنين، ولا يكونان متلاعنين بلعان أحدهما، وإنما فرّق النبي - صلى الله عليه وسلم - بينهما بعد تمام اللعان منهما، فالقول بوقوع الفرقة قبله تَحَكُّمٌ يخالف مدلول السنة وفعل النبي - صلى الله عليه وسلم - ولأن لفظ اللعان لا يقتضي فرقة فإنه إما أيمان على زناها أو شهادة بذلك ولولا ورود الشرع بالتفريق بينهما لم يحصل التفريق وإنما ورد الشرع به بعد لعانهما فلا يجوز تعليقه على بعضه كما لم يجز تعليقه على بعض لعان الزوج؛ ولأنه فسخ ثبت بأيمان مختلفين فلم =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = يثبت بيمين أحدهما كالفسخ لتحالف المتبايعين عند الاختلاف ويبطل ما ذكروه بالفسخ بالعيب أو العتق وقول: الزوج اختاري، وأمرك بيدك، أو وهبتك، أو لنفسك وأشباه ذلك كثير إذا ثبت هذا فإن قلنا إن الفرقة تحصل بلعانهما فلا تحصل إلا بعد إكمال اللعان منهما وإن قلنا لا تحصل إلا بتفريق الحاكم لم يجز له أن يفرق بينهما إلا بعد كمال لعانهما فإن فرق قبل ذلك كان تفريقه باطلًا وجوده كعدمه وبهذا قال مالك وقال الشافعي: لا تقع الفرقة حتى يكمل الزوج لعانه. وقال أبو حنيفة ومحمد بن الحسن: إذا فرّق بينهما بعد أن لاعن كل واحد منهما ثلاث مرات أخطأ السنة والفرقة جائزة وإن فرق بينهما بأقل من ثلاث فالفرقة باطلة لأن من أتى بالثلاث فقد أتى بأكثر فيتعلق الحكم به. ولنا: أنه تفريق قبل تمام اللعان فلم يصح كما لو فرق بينهما لأقل من ثلاث أو قبل لعان المرأة ولأنها أيمان مشروعة لا يجوز للحاكم الحكم قبلها بالإجماع فإذا حكم لم يصح حكمه كأيمان المختلفين في البيع وكما قبل الثلاث؛ ولأن الشرع إنما ورد بالتفريق بعد كمال السبب، فلم يجز قبله كسائر الأسباب وما ذكروه تحكم لا دليل عليه ولا أصل له، ثم يبطل بما إذا شهد بالدين رجل وامرأة واحدة أو بمن توجهت عليه اليمين إذا أتى بأكثر حروفها وبالمسابقة إذا قال: من سبق إلى خمس إصابات فسبق إلى ثلاثة وبسائر الأسباب. فأما إذا تم اللعان فللحاكم أن يفرق بينهما من غير استئذانهما؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - فرق بين المتلاعنين ولم يستأذنهما. وروى مالك، عن نافع، عن ابن عمر: أن رجلًا لاعن امرأته في زمن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وانتفى من ولدها ففرق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين المتلاعنين. أخرجهما سعيد. ومتى قلنا إن الفرقة لا تحصل إلا بتفريق الحاكم فلم يفرق بينهما فالنكاح باقِ بحاله؛ لأن ما يبطل النكاح لم يوجد، فأشبه ما لو لم يلاعن. فصل: وفرقة اللعان فسخ وبهذا قال الشافعي، وقال أبو حنيفة: هي طلاق؛ لأنها فرقة من جهة الزوج تختص النكاح فكانت طلاقًا كالفرقة بقوله: أنت طالقٌ. ولنا: أنها فرقة توجب تحريمًا مؤبدًا، فكانت فسخًا كفرقة الرضاع؛ ولأن اللعان ليس بصريح في الطلاق، ولا نوى به الطلاق، فلم يكن طلاقًا كسائر ما ينفسخ به النكاح؛ ولأنه لو كان طلاقًا لوقع بلعان الزوج دون لعان المرأة. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = فصل: وذكر بعض أهل العلم: أن الفرقة إنما حصلت باللعان؛ لأن لعنة الله وغضبه قد وقع لأحدهما لتلاعنهما، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال عند الخامسة: أنها الموجبة؛ أي: إنها توجب لعنة الله وغضبه، ولا نعلم من هو منهما يقينًا، ففرقنا بينهما خشية أن يكون هو الملعون فيعلو امرأة غير ملعونة. وهذا لا يجوز، كما لا يجوز أن يعلو المسلمة كافر، ويمكن أن يقال على هذا: لو كان هذا الاحتمال مانعًا من دوام نكاحهما لمنعه من نكاح غيرها، فإن هذا الاحتمال متحققٌ فيه. ويحتمل أن يكون الموجب للفرقة: وقوع اللعنة والغضب بأحدهما غير معين، فيفضي إلى علو ملعون لغيرٍ أو إلى إمساكه لملعونة مغضوب عليها. ويحتمل: أن سبب الفرقة: النفرة الحاصلة من إساءة كل واحدٍ منهما إلى صاحبه، فإن الرجل إن كان صادقًا فقد أشاع فاحشتها وفضحها على رؤوس الأشهاد، وأقامها مقام خزي، وحقق عليها اللعنة والغضب، وقطع نسب ولدها. وإن كان كاذبًا فقد أضاف إلى ذلك بهتها وقذفها بهذه الفرية العظيمة. والمرأة إن كانت صادقةً فقد كذبته على رؤوس الأشهاد، وأوجبت عليه لعنة الله. وإن كانت كاذبة فقد أفسدت فراشه وخانته في نفسها وألزمته، الفضيحة وأحوجته إلى هذا المقام المخزي، فحصل لكل واحدٍ نفرة من صاحبه، لما حصل إليه من إساءته، لا يكاد يلتئم لهما معها حالٌ، فاقتضت حكمة الشارع انحتام الفرقة بينهما، وإزالة الصحبة المتمحضة مفسدةٌ؛ ولأنه إن كان كاذبًا عليها، فلا ينبغي أن يسلط على إمساكها مع ما صنع من القبيح إليها. وإن كان صادقًا فلا ينبغي أن يمسكها مع علمه بحالها. ولهذا: قال العجلاني: كذبت عليها إن أمسكتها. المسألة الثانية: أنها تحرم عليه باللعان تحريمًا مؤبدًا، فلا تحل له. وإن أكذب نفسه في ظاهر المذهب، ولا خلاف بين أهل العلم في أنه: إذا لم يكذب نفسه لا تحل له إلّا أن يكون قولًا شاذًا. وأما إذا أكذب نفسه: فالذي رواه الجماعة عن أحمد: أنها لا تحلّ له أيضًا. وجاءت الأخبار عن عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالبٍ، وابن مسعود - رضي الله عنهم -: أن المتلاعنين لا يجتمعان أبدًا. وبه قال الحسن، وعطاء، وجابر ابن زيد، والنخعي، والزهري، والحكم، ومالك، والثوري، والأوزاعي، والشافعي، وأبو عبيد، وأبو ثور، وأبو يوسف. وعن أحمد رواية أخرى: إن أكذب نفسه، حلت له. وعاد فراشه بحاله. وهي روايةٌ شاذةٌ شذّ بها حنبل عن أصحابه. قال أبو بكرٍ: =

الأولى: يعتبر قضاء القاضي. والثانية: تقع الفرقة بفراغها من اللعان. واختار الثانية. قال: ووجّها ما روي عن ابن عبّاسٍ: أنه يقع قبل الحكم. وروي عن عمر أنّه قال: المتلاعنانِ يفرّق بينهما ولا يجتمعان أبدًا. رواه سعيد بن منصور (¬1). ولأنه معنى يقتضي التحريم المؤبّد، فلا يقف على حكم الحاكم كالرّضاع؛ ولأنّ الفرقة لو لم تحصل إلا بحكم الحاكم لساغ ترك التفريق إذا كرهاه. ويوجب أن الحاكم إذا لم يفرق أن يبقى النكاح مستمرًّا. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لَا سَبِيلَ لَكَ عَلَيْهَا" (¬2) يدلُّ على هذا، وتفريقه بينهما بمعنى ¬

_ = لا نعلم أحدًا رواها غيره. وينبغي أن تحمل هذه الرواية على ما إذا لم يفرق بينهما الحكم. فأما مع تفريق الحاكم بينهما، فلا وجه لبقاء النكاح بحاله. وقد ذكرنا: أن مذهب البتي: أن اللعان لا يتعلق به فرقة. وعن سعيد بن المسيب: إن أكذب نفسه فهو خاطب من الخطاب. وبه قال أبو حنيفة، ومحمد بن الحسن؛ لأن فرفة اللعان عندهما طلاقٌ. وقال سعيد بن جبير: إن كذب ردت إليه ما دامت في العدة. ولنا: ما روى سهل بن سعدٍ قال: مضت السنة في المتلاعنين: أن يفرق بينهما، ثم لا يجتمعان أبدًا. رواه الجوزجاني في كتابه باسناده. وروي مثل هذا عن الزهري، ومالك. ولأنه تحريمٌ لا يرتفع قبل الحدّ والتكذيب، فلم يرتفع بهما كتحريم الرضاع. (¬1) رواه سعيد بن منصور في سننه (1561) قال: حدثنا أبو معاوية، حدثنا الأعمش، عن إبراهيم قال: قال عمر بن الخطاب: المتلاعنان يفرق بينهما ولا يجتمعان أبدًا. ورواه ابن أبي شيبة (17369) قال: حدثنا حفص، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن عمر قال: المتلاعنان يفرق بينهما ولا يجتمعان أبدًا. (¬2) رواه عبد الرزاق (12455) والشافعي في مسنده (1254) والإمام أحمد (2/ 11) =

إعلامه لهما بحصول الفرقة. انتهى. ووجه قولنا: ما روي عن ابن عمر: أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - لاَعَنَ بَيْنَ رَجُلٍ وَامْرَأَتِهِ، وَانتُفَى مِنْ وَلَدِهَا، فَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا (¬1). وعن سهل بن سعدٍ السّاعدي: وَألحقَ الولدَ بأمّهِ. رواه البخاري (¬2) وهذا لفظه. وعند مسلمٍ (¬3): أنّ رجلًا لاعنَ امرأته على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ففرّق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بينهما، وألحق الولد بأمّه. وفي لفظٍ متَّفقٍ عليهِ في خبر (¬4) المُتَلاَعِنَيْنِ: ثُمَّ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا. وعن سهل بن سعد السّاعدي: أنّ عويمرًا العجلاني أتَى رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رَسُولَ اللهِ! أَرَأَيْتَ رَجُلًا وَجَدَ عِنْدَ امْرَأَتِهِ رَجُلًا أَيَقْتُلَهُ فَيُقْتَلُ بِهِ، أَمْ كَيْفَ يَفْعَلُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "فَقَدْ نزَلَ فِيكَ وَفِي صَاحِبَتِكَ، فَاذْهَبْ فَأْتِ ¬

_ = وابن أبي شيبة (17382) والحميدي (671) والبخاري (5006 و 5035) ومسلم (1493) وأبو داود (2257) وسعيد بن منصور (1556) وأبو يعلى (5651) وابن حبان (4287) وابن الجارود (753) عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما -. (¬1) رواه الإمام أحمد (2/ 12 و 57 و 71) والبخاري (5009). ولفظ البخاري (5009): أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لاعن بين رجل وامرأته، فانتفى من ولدها، ففرق بينهما، وألحق الولد بالمرأة. (¬2) لم أجده عن سهل بن سعد عند البخاري. وهو عند أحمد (2/ 64) عن ابن عمر. (¬3) (1494) عن ابن عمر - رضي الله عنهما -. (¬4) تحرف في المخطوط إلى: (في أخير خير).

بِهَا". قال سهل: فَتَلاَعَنَا وَأَنَا مَعَ النّاسِ عندَ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -. فلمَّا فرغَا قَالَ عُوَيْمرٌ: كَذَبْتُ عَلَيْهَا يَا رَسُولَ اللهِ إِنْ أَنَا أُمْسِكُهَا. فَطَلَّقَهَا ثَلاَثًا قَبْلَ أَنْ يَأْمُرَهُ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -. قال ابن شهاب: وكانت سنّة المتلاعنين. رواه الجماعة (¬1)، إلا الترمذي. وفي روايةٍ متَّفقٍ عليها (¬2): فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "فَذَلِكُمُ التَّفْرِيقُ بَيْنَ كُلِّ مُتَلاعِنَيْن". وفي لفظ لأحمد (¬3) ومسلم (¬4): فَكَانَ فِرَاقُهُ إيَّاهَا سُنَّة فِي المُتَلاعِنينِ. ورواه أبو داود (¬5) بلفظ: فَطَلَّقَهَا ثَلاثَ تَطْلِيقَاتٍ [عِنْدَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -]، فَأَنْفَذَهُ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، وَكَانَ مَا صُنِعَ عِنْدَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - سُنَّةٌ. قَالَ سَهْلٌ: حَضَرْتُ هَذَا عِنْدَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فَمَضَتْ السُّنَّةُ بَعْدُ فِي الْمُتَلاعِنَيْنِ أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَهُمَا، ثُمَّ لا يَجْتَمِعَانِ أَبَدًا. فدلّت هذه الأحاديث الصّحاح: على عدم وقوع الفرقة بتمام تلاعنهما حتى يفرق بينهما. وكذا النفاذ طلاقه الثلاث وتقديره على إيقاعه؛ ولأنّها فرقة ¬

_ (¬1) رواه أحمد (5/ 334 و 335 و 336) والدارمي (2235 و 2236) البخاري (4959) ومسلم (1492) وأبو داود (2245 و 2248 و 2251) والنسائي (6/ 143) وابن ماجه (2566) والطحاوي في شرح معاني الآثار (4/ 155). (¬2) رواه البخاري (5003) بلفظ: "ذاك تفريقٌ بين كلِّ متلاعنين". ومسلم (1492) بلفظ: "ذاكم التّفريق بين كلّ متلاعنين". (¬3) مسند الإمام أحمد (5/ 337). (¬4) صحيح مسلم (1492). (¬5) سنن أبي داود (2250).

يختص بسببها بحضرة الحاكم، فوجب أن لا يقع بغير تفريق، أصله فرقة العنة، إلّا أنها تفارق فرقة العنة في أنّها هنا من حقوق الله، وسببها من حقوق الآدمي وفرقة الآدَمِي. والجواب: عمّا استدلّ به الحافظ: أنّ الرواية عن ابن عباس بغير سندٍ. وقد روى الدارقطني عنه خلافه بسندٍ صحيحٍ. وإنّ الرواية عن عمر حجّة لنا، فإنهّا صريحة في عدم الاجتماع بعد التفريق، وإنّ ما نحن فيه يفارق الرضاع في أنّ سببه لا يختص ثبوته بحضرة الحاكم. وأنّ التفريق مع الإصرار حقّ الشرع، فلهذا لا يسوغ تركه إلا إذا كرهاه، وإنّ الاستمرار ممكن إذا كذب فعله، وإنّ حقيقة إحداث فرقٍ إحداث الفرقة لا إظهارها. والأصل في الإطلاق الحقيقة، ولو كان المراد الإظهار لما صحّ قول الرّاوي الشاهد للقصّة فأنفذه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. هذا ما تيّسر لي في هذه المسألة. وقال السهيلي في الروض الأنف (¬1): وعندي: أنّ أبا حنيفة إنما بنى هذه المسألة على مذهبه في طلاق المكره، فإنّ عنده لازمٌ، فإذا أكُره الرّجل على الطّلاق وقلنا يلزم الطّلاق له، فقد حرّمت المرأة عليه، وإذا حرّمت عليه جاز أن ينكحها من (¬2) شاء، فالإثم إنّما يتعلّق في هذه (¬3) بالشهادة دون النكاح، وقد خالفه فقهاءُ الحجاز في طلاق المكره، وقولهم يعضّده الأثر، ¬

_ (¬1) (2/ 208). (¬2) في المخطوط: (متى). (¬3) في الروض: (هذا المذهب).

وقول أبي حنيفة يعضّده النّظر. انتهى. قلت: بل الأثر يعضد قوله. فقد روى محمد بن الحسن في الأصل، عن إسماعيل بن عيَّاش (¬1)، عن الغاز بن جبلة (¬2)، عن صفوان بن عِمْران (¬3): أنّ رجلًا كانَ نائمًا، فقامت امرأته، فأخذت سكينًا، فجلست على صدره، فقالت: طلقني ثلاثًا أو لأذبحنّك، فناشدها الله، فأبت. فطلّقها ثلاثًا، ثم أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فذكر له ذلك، فقال: "لاَ قَيْلُولَةَ فِي الطَّلاَقِ". رواه العقيلي من هذا الوجه (¬4). ¬

_ (¬1) تحرف في المخطوط إلى: (العباس). (¬2) تحرف في المخطوط إلى: (الغار بن جعلة). وهو الغاز بن جبلة الجبلاني. قال ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل (7/ 58) الترجمة (337): قال أبي: هو منكر الحديث، ولا أدري الإنكار منه، أو من صفوان الأصم الذي روى عنه حديثًا في طلاق المكره. وقال الدارقطني في المؤتلف والمختلف (4/ 1772): وأما غار بالراء، فهو فيما ذكر البخاري غار بن جبلة، حديثه منكر في طلاق المكره، كذا قال البخاري، وقال غيره بالزاي. (¬3) قال ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل (4/ 422) الترجمة (1851): صفوان بن عمران الأصم الطائي الحمصي، روى عن بعض أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - حديثًا منكرًا في طلاق المكره، روى عنه: الغاز بن جبلة الجبلاني، سمعت أبي يقول ذلك. وسألته عنه؟ فقال: يكتب حديثه، وليس بالقوي. وقال ابن أبي حاتم: روى عن أبي أمامة الباهلي، روى عنه إسماعيل بن عياش. (¬4) رواه سعيد بن منصور (1130) عن صفوان بن عمران الطائي: أن رجلًا كان نائمًا مع امرأته، فقامت فأخذت سكينًا، فجلست على صدره، ووضعت السكين على حلقه، وقالت: لتطلقني ثلاثًا ألبتة، وإلا ذبحتك، فناشدها الله، فأبت عليه، =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = فطلقها ثلاثًا، فذكر ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "لا قيلولة في الطلاق". و (1131) عن صفوان الأصم يقول: بينا رجل نائم لم يرعه إلا وامرأته جالسة على صدره، واضعة السكين على فؤاده، وهي تقول: لتطلقني أو لأقتلنك، فطلقها، ثم أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكر ذلك له فقال: "لا قيلولة في الطلاق، ولا قيلولة في الطلاق". وقال العقيلي في الضعفاء الكبير (2/ 211 - 212) الترجمة (745): صفوان الأصم عن بعض أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -. حدثني آدم بن موسى قال: سمعت البخاري قال: صفوان الأصم، عن بعض أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، روى عنه الغاز، ولا يتابع على حديثه، منكر في المكره، وهذا الحديث حدثناه يحيى بن عثمان قال: حدثنا نعيم بن حماد قال: حدثنا بقية، عن الغاز بن جبلة، عن صفوان بن الأصم الطائي، عن رجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -: أن رجلًا كان نائمًا مع امرأته، فقامت فأخذت سكينًا وجلست على صدره، ووضعت السكين على حلقه، فقالت له: طلقني أو لأذبحنك، فناشدها الله، فأبت، فطلقها ثلاثًا، فذكر ذاك للنبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "فلا قيلولة في الطلاق". حدثنا مسعدة بن سعد قال: حدثنا سعيد بن منصور قال: حدثنا إسماعيل ابن عياش قال: حدثني الغاز بن جبلة الجبلائي، عن صفوان بن عمران الطائي، أن رجلًا كان نائمًا مع امرأته، فقامت فأخذت سكينًا، فجلست على صدره، فوضعت السكين على حلقه، فقالت: لتطلقني ثلاثًا ألبتة، أو لأذبحنك، فناشدها الله فأبت عليه، فطلقها ثلاثًا، فذكر ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "لا قيلولة في الطلاق". حدثنا محمد بن علي قال: حدثنا سعيد بن منصور قال: حدثنا الوليد بن مسلم، عن الغاز ابن جبلة الجبلائي، أنه سمع صفوان بن الأصم يقول: بينا رجل نائمٌ لم يرعه إلا وامرأته جالسة على صدره، واضعة السكين على فؤاده، وهي تقول: لتطلقني أو لأقتلنك، فطلقها ثم أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فذكر ذلك له، فقال: "لا قيلولة في الطلاق، لا قيلولة في الطلاق، لا قيلولة في الطلاق". وقال (3/ 441 - 442) الترجمة (1489): غاز بن جبلة الجبلاني في طلاق المكره. حدثني آدم بن موسى قال: سمعت البخاري قال: غاز بن جبلة الجبلاني حديثه منكر في طلاق المكره. وهذا الحديث: حدثناه علي بن عبد العزيز، حدثنا أبو عبيد القاسم بن سلاّم، حدثنا =

ومن طريقٍ آخرَ عن صفوان، عن رجل من الصّحابة: أَن رجلًا. . . الحديث. قال البخاري: غازي حديثه منكرٌ (¬1) في الطلاق (¬2). وهذا جرحٌ مبهم. وقد جاء من طريقٍ آخر كما أخرجه العقيلي (¬3)، وأخرجه محمّد أيضًا، عن فرج (¬4) بن فضالة، عن عمرو بن شرحبيل: أنّ امرأةً كانت مُبْغِضَةً لزوجها، فراودته على الطّلاق، فأبى، فلما رأته نائمًا قامت إلى سيفه ووضعته على ¬

_ = إسماعيل بن عياش، عن الغاز بن جبلة الجبلاني، عن صفوان بن غزوان الطائي: أن رجلًا كان نائمًا مع امرأته، فقامت فأخذت سكينا على صدره، ووضعت السكين على حلقه، وقالت له: طلقني وإلا ذبحتك، فناشدها الله فأبت، فطلقها، فذكر ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا قيلولة في الطلاق". حدثنا بكر بن سهل، حدثنا عبد الله بن يوسف، حدثنا محمد بن حمير، حدثنا الغاز بن جبلة، حدثنا صفوان الأصم، أنه أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: إن امرأتي وضعت السكين على بطني،. . . فذكر نحوه. (¬1) تحرف في المخطوط إلى: (عادي حديثه منكرًا). (¬2) انظره في الكامل لابن عدي (6/ 9) والمؤتلف والمختلف للدارقطني (4/ 1772). (¬3) لم أجده في الضعفاء الكبير للعقيلي. ورواه سعيد بن منصور في سننه (1129) قال: حدثنا فرج بن فضالة قال: حدثني عمر بن شراحيل المعافري قال: كانت امرأة مبغضة لزوجها، فأرادته على الطلاق، فأبى، فجاءت ذات ليلة فلما رأته نائمًا، قامت وأخذت سيفه فوضعته على بطنه، ثم حركته برجلها، فقال: ويلك ما لك؟ قالت: والله لتطلقني وإلا أنفذتك به، فطلقها ثلاثًا، فرفع ذلك إلى عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، فأرسل إليها فشتمها فقال: ما حملك على ما صنعت؟ قالت: بغضي إياه، فأمضى طلاقها. (¬4) تحرف في المخطوط إلى: (فرح).

بطنه، ثم حرّكته برجلها، فاستيقظ. فقالت: لأقتلنّك أو تطلقني، فطلّقها، وأتى عمر فأمضى طلاقه. وروى عبد الرزاق (¬1)، عن ابن عمرَ: أنّه أجازَ طلاَقَ المُكره. وروى عن الشعبي (¬2) والنخعي (¬3) وأبي قلابة (¬4) والزهري وقتادة (¬5): أنهم أجازوه. وأخرجه ابن أبي شيبة عن الثلاثة الأولين، وابن المسيب (¬6). وأخرجه (¬7) عن عمر بن الخطاب: أربعٌ جائزاتٌ عَلَى كُلِّ حالٍ: الْعِتْقُ، والطَّلاَقُ، والنِّكَاحُ، والنُّذُورُ. ورواه محمَّد في الأصل بلفظ: أربعٌ. . .، وأجاز على من تكلّم بهنَّ. ورواه عنه، من وجهٍ آخر بلفظ: أَرْبَعٌ مُبْهَمَاتٌ مُقْفَلاتٌ (¬8) لَيْسَ ¬

_ (¬1) مصنف عبد الرزاق (11421). (¬2) رواه عبد الرزاق (11419) وابن أبي شيبة (18039) وسعيد بن منصور (1135). (¬3) رواه عبد الرزاق (11419) وابن أبي شيبة (18040 و 18041) وسعيد بن منصور (1134) عن إبراهيم النخعي. (¬4) تحرف في المخطوط إلى: (قبالة). لم أجده في مصنف عبد الرزاق. ورواه ابن أبي شيبة (18044). (¬5) رواه عبد الرزاق (11420) عن الزهري وقتادة. (¬6) رواه ابن أبي شيبة (18042). (¬7) رواه ابن أبي شيبة (18403) قال: حدثنا أبو معاوية، عن حجاج، عن سليمان بن سحيم، عن سعيد بن المسيب، عن عمر قال: أربع جائزة في كل حال: العتق، والطلاق، والنكاح، والنذر. (¬8) تحرف في المخطوط إلى: (أربع مبهم مفصلات).

فِيهِنَّ ردّ يدي:. . . (¬1). وما رواه أبو داود (¬2)، من حديث عائشة: أنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "لاَ طَلاَقَ ¬

_ (¬1) قال السرخسي في المبسوط (5/ 32): استكثر محمد من الاستدلال بالآثار في أول كتاب الإكراه، حتى روى عن عمر - رضي الله عنه - قال: أربع مبهمات مقفلات، ليس فيهن رد يد: النكاح، والطلاق، والعتاق، والصدقة. وانظره في فتح القدير لابن الهمام (7/ 497) وتبيين الحقائق شرح كنز الدقائق (15/ 251). ورواه سعيد بن منصور في سننه (1608) قال: حدثنا حفص بن ميسرة الصنعاني قال: [حدثنا] مسلم بن أبي مريم، عن سعيد بن المسيب قال: قال مروان على منبر النبي - صلى الله عليه وسلم -: أربع ليس فيهن ردّيدًا إلا الوفاء: الطلاق، والعتاق، والنكاح، والنذور. وانظر الأرقام (1607 و 1609 و 1610). ورواه البيهقي (2/ 9) من طريق ابن بكير، حدّثنا مالكٌ، عن يحيى بن سعيدٍ، عن سعيد بن المسيّب أنّه كان يقول: ثلاث ليس فيهنّ لعبٌ: النّكاح، والطّلاق، والعتق. (¬2) رواه الإمام أحمد (6/ 276) والبخاري في التاريخ الكبير (1/ 171 - 172) وابن أبي شيبة (5/ 49) (18038) وأبو داود (2193) وابن ماجه (2046) وأبو يعلى (4444 و 4570) والطحاوي في شرح مشكل الآثار (655) والدارقطني (4/ 36) والحاكم (2/ 198) والبيهقي في السنن (7/ 355 و 10/ 61) ومعرفة السنن والآثار (14809) من طرق عن محمد بن إسحاق، عن ثور بن يزيد الكلاعي، عن محمد ابن عبيد بن أبي صالح المكي [ضعيف] قال: حججت مع عدي بن عدي الكندي، فبعثني إلى صفية بنت شيبة بن عثمان صاحب الكعبة أسألها عن أشياء سمعتها من عائشة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم -. وقال ابن أبي حاتم في علل الحديث (1292): سألت أبي عن حديثٍ رواه محمّد ابن إسحاق، عن ثور بن زيد [كذا في المطبوع] الديلي، عن محمّد بن عبيدٍ، عن صفيّة بنت شيبة، عن عائشة، عن النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -، أنّه قال: "لا طلاق ولا عتاق في غلاقٍ". ورواه عطّاف بن خالدٍ قال: حدّثني محمّد بن عبيدٍ، عن عطاءٍ، عن عائشة، عن النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -. قلت: أيّهما الصّحيح؟ قال: حديث صفيّة أشبه. قيل لأبي: ما معنى =

وَلاَ عِتَاقَ فِي إِغْلاَقٍ (¬1) ". واختلف في معناه اختلافًا لا يقوم معه حجّة فيما نحن فيه. وما رواه ابن ماجه (¬2)، عن ابن عبّاسٍ: أنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "إِنَّ اللهَ وَضَعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ". قال ابن أبي حاتم (¬3): قال أبي (¬4): هذه الأحاديث منكرةٌ، كأنَّها موضوعةٌ، ولا يصحُّ هذا الحديث، ولا يثبت إسناده. وكذا ما رواه ابن عدي (¬5)، من حديث أبي بكرة، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ¬

_ = قول النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -: "لا طلاق ولا عتاق في غلاقٍ"؟ قال: يعني: في استكراهٍ. و (1300): سألت أبي عن حديثٍ رواه عطّاف بن خالدٍ، عن أبي صفوان، عن محمّد بن عبيدٍ، عن عطاء بن أبي رباحٍ، عن عائشة، عن النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا طلاق ولا عتاق في غلاقٍ". قال أبي: روى هذا الحديث محمّد بن إسحاق، عن ثور بن زيدٍ [كذا في المطبوع]، عن محمّد بن عبيدٍ يعني: ابن أبي صالحٍ، عن صفيّة بنت شيبة، عن عائشة، عن النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -. قلت لأبي: أيّهما أشبه؟ قال: أبو صفوان وابن إسحاق جميعًا ضعيفين. قلت لأبي: ما معنى غلاقٍ؟ قال: الإكراه. (¬1) أي: في إكراه؛ لأن المكره مغلق عليه في أمره ومضيّق عليه في تصرفه، كما يغلق الباب على أحد. وقال أبو داود بعد إيراده الحديث: الغلاق أظنه في الغضب. (¬2) رواه ابن ماجه (2045) والطبراني في الأوسط (8273). وبلفظ مقارب: رواه ابن حبان (7219) والدارقطني (4/ 175) والطبراني في الكبير (11274) والصغير (765) والطحاوي في شرح معاني الآثار (3/ 95). (¬3) في علل الحديث (1/ 431) رقم (1296). (¬4) تحرف في المخطوط إلى: (أن). (¬5) الكامل في الضعفاء (2/ 150) ولفظه: "رفع الله عن هذه الأمة ثلاثًا: الخطأ، والنسيان، والأمر يكرهون عليه".

"رَفَعَ اللهُ عَنْ هَذِهِ الأُمَّةِ ثَلاَثًا: الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ وَمَا اسْتكْرِهُوا عَلَيْهِ". في سنده: جعفر بن جسر (¬1) بن فرقد، عن أبيه. وفي أبيه مقالٌ. والمرفوع الحكم الأخروي، ألا ترى: أن الحكم الدنيوي لم يرفع في قبل الخطأ، وجعل ذلك فيما يكون بالنسيان تخصيصٌ بلا مخصص، فتمّ أمر هذا الحكم من جميع الوجوه، إلّا أنّ لي فيه إشكالًا لم أسبق إليه، وهو: أنّهم قد اعترفوا بوقوع حرمة الاستمتاع بمجرّد اللعان قبل تفريق حكم الحاكم. قال في الهداية: فإذا التعَنَا لا تقع الفرقة حتّى يفرق الحاكم بينهما. وقال زفر: يقع بتلاعنهما؛ لأنه يثبت الحرمة المؤبدة بالحديث. ولنا: أن ثبوت الحرمة يفوّت الإمساك بالمعروف، فلزمه التسريح بالإحسان، فإذا امتنع، ناب القاضي منابه دفعًا للظلم عنها. والحديث المشار إليه، هو قوله - صلى الله عليه وسلم -: "المُتَلاَعِنَانِ لاَ يَجْتَمِعَانِ أَبَدًا" (¬2). قال في النهاية (¬3) والغاية: قوله: فإذا التعنا لا تقع الفرقة حتى يفرّق الحاكم بينهما. ¬

_ (¬1) تحرف في المخطوط إلى: (حسن). (¬2) في مسند أبي حنيفة رقم (203): أخبرنا محمد بن المظفر إجازة، حدثنا أحمد بن علي بن شعيب، حدثنا أحمد بن عبد الله اللجلاج، حدثنا إبراهيم بن الجراح، عن أبي يوسف، عن أبي حنيفة، عن علقمة بن مرثد، عن سعيد بن المسيب، عن ابن عمر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "المتلاعنان لا يجتمعان أبدًا". (¬3) النهاية شرح الهداية، للإمام حسام الدين، حسين بن علي، المعروف بالصغناقي الحنفي، المتوفى سنة 710 هـ، وهو أول من شرحه، فرغ منه في شهر ربيع الأول سنة 700 هـ. كشف الظنون (2/ 2022).

يفيد: أنّه لو مات أحدهما بعد الفراغ من التلاعن قبل تفريق الحاكم توارثا. وقال زفر: تقع الفرقة بتلاعنهما؛ لأنه يثبت الحرمة المؤبدة بالحديث، يعني: قوله - صلى الله عليه وسلم -: "الْمُتَلاَعِنَانِ لاَ يَجْتَمِعَانِ أَبَدًا". ففي الاجتماع بعد التلاعن، قبل تفريق الحاكم متوارثان، وهو تنصيصٌ على وقوع الفرقة بينهما بالتلاعن. ولنا قوله تعالى: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229]. ووجه الاستدلال: أنّ ثبوت الحرمة تفوّت الإمساك بالمعروف، فيلزمه التسريح بالإحسان. فإذا امتنع ناب القاضي منابه، منعًا للظّلم. وقال في الغاية: قال في الذخيرة: وحكمه حرمة الاستمتاع إذا فرغا من اللعان من غير حكم القاضي حتّى أن بعد التلاعن لا يحل لأحدهما الاستمة ع بالآخر. والحرمة بقوله - عليه السلام -: "المُتَلاَعِنَانِ لاَ يَجْتَمِعَانِ أَبَدًا". وفي إباحة الاستمتاع اجتماعهما فيحرم. وقال في الاختيار: ولأنّ حرمة الاستمتاع تثبت باللعان. إنّ الغضب واللعن ترك بأحدهما بيقينٍ، وأثره بطلاق النعمة، وحلّ الاستمتاع نعمة، والزوجية نعمة، وحل الاستمتاع أقلهما، فيحرم. وهذه الحرمة جَاءت من قبله؛ لأنّها بسبب قذفه فقد فَوّت عليها الإمساك بالمعروف، فيجب عليه التسريح بالإحسان، فإذا لم يسرّحها وهو قادرٌ عليه، كان ظالمًا فينوب القاضي منابه دفعًا للظّلم. وقال في الكافي: وعند زفرٍ: تقع الفرقة بينهما، بلعانهما لقوله - عليه السلام -:

"الْمُتَلاَعِناَنِ لاَ يَجْتَمِعَانِ أَبَدًا". فنفي الاجتماع بعد التلاعن تنصيصٌ على وقوع الفرقة بينهما. ولنا: أنّه لما ثبت حرمة الاستمتاع بينهما فات الإمساك بالمعروف. ومن لا يمسك امرأته بالمعروف لا تقع الفرقة بنفس الامتناع عن الإمساك بالمعروف بل يجب عليه أن يسرّح، فإذا لم يسرّح ناب القاضي منابه في التسريح؛ لأنه نُصِبَ لدفع الظلم. وقال في شرح المنظومة: وقوله - عليه السلام -: "الْمُتَلاَعِنَانِ لاَ يَجْتَمِعَانِ أَبَدًا". محمولٌ على بيان حرمة الاستمتاع دون وقوع الفرقة عملًا بالحديث كأحد الزوجين المجوسيين إذا أسلم ثبتت حرمة الاستمتاع في الحال، ولا تقع الفرقة ما لم يطلقها أو يفرق القاضي بينهما. وحين اعترفوا بثبوت الحرمة قبل التفريق بطل تمسكهم بالحديث في أنّ القضاء يثبت الحرمة، وإذا بطل تمسكهم بهذا الحديث، يقال: ما ذكره في مقابلة الحديث الصحيح، إذ الموقوف لا يعارض المرفوع، وتجديد النكاح احتياطي لا لزومي، فجاز أن يولهم الإمام ما تولوا، ولو نفذ الحكم ظاهرًا وباطنًا، أو ثبت عقد مفيد للحل اقتضاءً، صارَ كأنّ الشارع أثبته، لم يكن قطعة من النّار. وقولكم: إنهّ خاص بالأحكام المرسلة. قلنا: كان ذلك للجمع والتوفيق بينه وبين أحاديث اللعان. أمّا إذا بطل تمسككم بأحاديث اللعان بقي عموم الأحاديث في جميع الحقوق على ما كان عليه. وقولكم: إنه ورد في الميراث إلخ. قلنا: العبرة لعموم اللفظ وإطلاقه لا لخصوص السبب وحله بالخروج

عن التقليد والنظر في الأدلة على وجه التحقيق، وذلك: جعل القول بالحرمة المذكورة مذهب محمد بن الحسن. فإنه ذكر في النسفي عنه، فأحلّه. قال ذلك على أصله من أنّ القضاء لا يحلّ ولا يحرم. وإن كانت الفرقة تتوقف عليه كما تقدم. وإنّ أبا حنيفة لا يقوله. ومن تأمّل قول أبي حنيفة في باب الرجوع عن الشهادة من كتاب الأصل، علمَ أنّه إنما يضيف الحل والحرمة للقضاء. وهو صريح عبارة الطحاوي، وقد نسب ذلك إلى أبي حنيفة - رحمه الله - ففي الكلام على ادعاء أن دليل الحرمة. الحديث المذكور. فنقول: لا سبيل إلى الثلاثة إلى القول بنفي الاجتماع الحكمي مطلقًا بعد التلاعن. قيل: الحكم لقولهم ببقاء الزوجية حتى اتفقوا محلى جواز ظهاره (¬1). . . (¬2) وطلاقه وجريان التوارث بعد اللعان قبل الحكم للأحاديث الدّالة على بقاء الزوجية. والحلّ حكم من أحكام الزوجية مطلقًا، فينفى بنفيها حتى يقوم دليل على بقائها بدونه. وما ذكروا من الحديث مقتضاه نفي الاجتماع مطلقًا، ولم يعملوا به. فإن قيل في إثبات الحرمة المذكورة، عمل به من وجه. قلنا في حمله على ¬

_ (¬1) في المخطوط: (طهارة). (¬2) يوجد في المخطوط فراغ بمقدار كلمتين.

بيان حكم البقاء عمل به من كل وجهٍ. كيف وقد روي كذلك. فأخرجه الدّارقطني (¬1)، عن [ابن] عمر بن الخطاب قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الْمُتَلَاعِنَانِ إِذَا تَفَرَّقَا لَا يَجْتَمِعَانِ أَبَدًا". وإسنادهُ لا بأس به. والعائب باللعان: أسباب المودة وحسن العشرة. وحينئذٍ يفوت الإمساك بالمعروف. فينوب القاضي منابه في التسريح بالإحسان، وإن لم تثبت حرمته قبل ذلك. هذا ما سنح في هذا المقام. والله ولي التوفيق. والحمد لله وحده. ¬

_ (¬1) رواه الدارقطني (3/ 276) قال: حدثنا محمد بن أحمد بن الحسن، حدثنا محمد ابن عثمان، حدثنا فروة بن أبي المغراء، حدثنا أبو معاوية، عن محمد بن زيد، عن سعيد بن جبير، عن ابن عمر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "المتلاعنان إذا تفرقا لا يجتمعان أبدًا".

(18) [رسالة في] ما ينقض من القضاء

مَجْمُوعَةُ رَسَائِل العَلَّامَة قَاسِم بن قُطْلُوبُغَا [18] [رِسَالَةٌ في] مَا يُنقَضُ مِنَ القَضَاءِ تَأْلِيفُ العَلَّامَة قَاسِم بْنِ قُطْلُوبُغَا الحَنَفِي المولود سَنَة 802 هـ والمتوفى سَنة 879 هـ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -

بداية الرسالة

(18) [رِسَالَةٌ في] مَا يُنقَضُ مِنَ القَضَاءِ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمّدٍ، وآله وصحبه أجمعين، وبعد: فإن الفقير إلى رحمة ربه الغني قاسم الحنفي يقول: قد أدّى نظر شيخنا العلامة كمال الدين فيما كتبته على الهداية إلى أنه لا ينقض حكم الحاكم لاقتضائه على ما اقتصر عليه البعض الكلام من المسائل ببسط الكلام يظهر المرام. فأقول: قال في البدائع (¬1) في شروط القضاء: منها: أن يكون بحقٍّ، وهو الثَّابت عند الله من حكم الحادثة: إمَّا قطعًا، بأن قام عليه دليلٌ (¬2) قطعيٌّ، وهو النَّصّ المفسَّر من الكتاب [الكريم]، أو الخبر المتواتر أو المشهور أو الإجماعُ (¬3). وإمَّا ظاهرًا، بأن قام عليه دليلٌ ظاهرٌ، يوجبُ علم غالب الرَّأي، وأكثر الظَّنِّ،. . . . . . . . . . . . . ¬

_ (¬1) بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع (14/ 414). وانظر البحر الرائق شرح كنز الدقائق (17/ 303). (¬2) تحرف في المخطوط إلى: (دليلي). (¬3) في البدائع: (المشهور والمتواتر والإجماع).

من (¬1) ظواهر الكتاب [الكريم] والخبر المتواتر والمشهور، وبخبر الواحد، والقياس الشَّرعيِّ، وذلك في المسائل الاجتهاديَّة الَّتي اختلف فيها الفقهاء -[رحمهم الله]- (¬2) أو الَّتي لا رواية في جوابها عن السَّلف، بأن لم تكن واقعة. انتهى. ولمّا كان هذا شأن عامّة الأحكام، وخلافه نادرٌ، أطلق الإمام أبو حنيفة القول بالإمضاء بناء على الأعمّ الأغلب. فقال في رواية الجامع الصغير (¬3): محمد، عن يعقوب، عن أبي حنيفة قال: ما اختلف فيه الفقهاء يقضي بها قاضٍ، ثم جاء قاضٍ آخر أمضاه. ويدل على أنّه أراد ما هو الحق في نظره، لا كل ما يقضي به القاضي. قوله: في جميع كلام الإمام: وإذا رفع قضاء قاضي بعد موته أو عزله إلى قاضٍ آخر يرى خلاف رأيه، فإن كان يختلف فيه الفقهاء أمضاه، وإن كان خطأً لا يختلف فيه الفقهاء أبطله. ثم جاء من جمع بين الأصل وما فيه الاستثناء وهو صاحب الهداية. فقال: وإذا رفع إلى القاضي حكم حاكمٍ أمضاه إلا أن يخالف الكتاب أو السنة أو الإجماع بأن يكون قولًا لا دليلًا عليه. وفي الجامع الصغير (¬4): وما اختلف فيه الفقهاء فقضى به القاضي، ثم جاء قاضٍ آخر يرى غير ذلك أمضاه. انتهى. ¬

_ (¬1) تحرف في المخطوط إلى: (وهو). (¬2) أقحم في المخطوط: (أو التي اختلف فيها الفقهاء). (¬3) (1/ 399). (¬4) الجامع الصغير (1/ 399).

قلت: لم يقع في رواية الجامع الصغير: يرى غير ذلك (¬1). وإنّما وقع هذا في روايتي لمختصر الحاكم بلفظ: يرى خلافه. ووقع في بعض نسخ القدوري: أو يكون قولًا لا دليل عليه. وقال في شرحه المسمّى بالجواهر: فإن قيل: لا فائدة فيه؛ لأنه يفهم من قوله: أو الإجماع. وأجاب بأنّ قوله: لا دليل عليه أعمّ. لأنه يمكن أن يكون القول ليس فيه نصٌّ. ويحكى عليه الإجماع، لكنه يدلّ عليه القياس الصحيح. ويكون هذا القول لا يدل القياس على صحته. فيكون مخالفًا للقاضي. كما قيل في المعتوه. رد خاطرٍ حين وقّت. قلت: عربية في خاطرتي، هكذا كان. وفي لغتهم: تقديم وتأخير. فتقديره: كان هكذا في خاطري. وهذا أراد أبو العباس بن إدريس في بيان سبب نقض الحكم بقوله: ومتى لم يكن هنا معارضٌ بل عدم بالكلية، بأن يكون الاجتهاد متوهمًا، وليس بواقعٍ في نفس الأمر. والله أعلم. قال شيخنا (¬2): قالوا: إنَّما أعاده - يعني: لفظ الجامع -؛ لأنَّ في عبارة الجامع فائدتين ليستا في القدوريِّ: ¬

_ (¬1) بل نقلها ابن الهمام في فتح القدير كما هي عن الجامع الصغير (16/ 415 و 416) وصاحب العناية شرح الهداية (10/ 276 و 277) وصاحب تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق (12/ 106) والبحر الرائق شرح كنز الدقائق (17/ 470 و 478) ورد المحتار (31/ 410). (¬2) يعني ابن الهمام في فتح القدير (16/ 416 - 417).

إحداهما: تقييده بالفقهاء، أفاد أنَّه لو لم يكن عالمًا بالخلاف لا ينفذ. وقال شمس الأئمَّة: وهو ظاهر المذهب، لا ينفذ على قول الأكثر. [والثانية: التَّقييد بكون القاضي يرى غير ذلك، فإنَّ القدوري لم يتعرَّض لهذا فيحتمل أن يكون مراده أنَّه إذا كان رأيُه في ذلك موافقًا لحكم الأوَّل أمضاه، وإن كان مخالفًا له لا يمضيه، فأبانت رواية الجامع أنَّ الإمضاء عامٌّ فيما سوى المستثنيات سواءٌ كان ذلك مخالفًا لرأيه أو موافقًا: يعني بالطَّريق الأولى] (¬1)، ولا يخفى أنَّه لا دلالة في عبارة الجامع [على] كونه عالمًا بالخلاف، وإنَّما مفاده أنَّ ما اختلف فيه الفقهاء في نفس الأمر فقضى القاضِي بذلك الَّذي اختلف فيه عالمًا بأَنَّه مختلفٌ فيه، أو غير عالمٍ، فإنَّه أعمُّ من كونه عالمًا، ثم جاء قاضٍ [آخر] يرى خلاف ذلك الَّذي حكم به هذا أمضاه فربَّما يفيد أنَّ الثاني عالمٌ بالخلاف، وليس الكلام فيه فإنَّ هذا يرى اختلاف ذلك الذي حكم به، فإنّ هذا هو المنفِّذ، والكلام في القاضي الأوَّل الَّذي ينفِّذ هذا الآخر حكمه، وليس فيه دليلٌ على أنَّه كان عالمًا بالخلاف بطريقٍ [من طرق الدَّلالة. نعم في الجامع التَّنصيص على أنَّه ينفِّذه وإن كان خلاف رأيه، وكلام القدوريِّ] (¬2) يفيده أيضًا، فإنَّه قال: إذا رفع إليه حكم الحاكم أمضاه، وهو أعمُّ ينتظم ما إذا كان موافقًا لرأيه أو مخالفًا، وإنَّما (¬3) في الجامع الصَّغير النُّصوصيَّة (¬4) عليه إذا كان مخالفًا. انتهى. ¬

_ (¬1) ما بين معكوفتين: من فتح القدير. (¬2) ما بين معكوفتين: من فتح القدير. (¬3) تحرف في المخطوط إلى: (قائمًا). (¬4) في المخطوط: (المنصوص).

قلت: هذا صحيحٌ وهو بناء على ما وقع لصاحب الهداية من لفظ الجامع، لكن ما ذكر من الفائدة وهي أنّ القاضي إن لم يكن عالماً بالخلاف لا ينفذ قضاؤه. غير ظاهر الوجه. ومشكلٌ على الموجودين من قضاة العصر حتّى أدّى إلى كذب المسجلين، واستعمل ظاهره بعض القضاة في ما له فيه غرضٌ. فقال: قد قالوا: إنّ القاضي إذا قصد المتفق عليه فوافق قضاءه المختلف فيه لا ينفذ، وإذا شاء قال في رواية: ينفذ فقرأت في كتاب مشتري بستان بفم الجوز. كان قد وقفه زين الدين الأستادار (¬1) في حال أمر به، ثم صودر فأقر بدينٍ لبيت المال، وأراد بيعه، وشهد عليه فلانٌ القاضي أنه حال حكمه بالوقف كان يظن المتفق عليه. وهو: أنّ هذا وقف موسرٍ ليس عليه دينٌ، ثم تبيّن أنه وقع في المختلف، وهو: أنه وقف مديون فلم ينفذ حكمه. . . إلخ. وعندما أراده أن يرجع ابنة محمد بن إينال إلى زوجها أحمد بن أزدمر (¬2)، وكان طلقها طلقتين صريحتين وخالعها مرّة. وحكم القاضي نور الدين البرقي بالحرمة الغليظة. قالوا: ظنّ المتفق عليه، وهو: أنّه طلّقها ثلاثاً، ولم يعلم بالخلع. فوقع في المختلف، وهو: أن إحداهما خلع، وهو فسخٌ عند أحمد، وهم لذلك في خبط عشواء، لا يعلمون مبنى المسألة. وسؤال الأصحاب: أن القاضي المجتهد إذا قضى في فصل مجتهدٍ فيه ¬

_ (¬1) انظر المنهل الصافي والمستوفى بعد الوافي (1/ 316 و 37). (¬2) قال ابن حجر في إنباء الغمر بأبناء العمر (1/ 36): أحمد بن أزدمر الجمالي، أحد أمراء طرابلس، كان ذا كرم ومروءة، وهو ابن أخي العلائي، أسمعه عمّ أبيه صلاح الدين العلائي على فاطمة بنت العز مشيخة أبي مسهر، ومات في ذي القعدة.

في نفس الأمر ولكنه لم يعلم أنه مجتهد فيه، وإنما قصد على وجه الإجماع، فوافق قضاؤه خلاف رأيه المعروف. هل ينفذ قضاؤه ويكون هذا بمنزل تبدل رأيه حتى لا يبطله أم لا؟. فدلّ فرع من فروع الكتاب على النفاذ، فجعل رواية. ودلت فروعٌ أخر على عدم النفاذ. وهذا كما ترى ليس بما نحن فيه، فإنّ كلامنا في هذه القضايا في قضاء مقلّدٍ قضى يقول إمامه من غير علم بما حدث في المسألة، مما فيه خلافٌ. وهذا نافذٌ بالاتفاق. وجَعْلُه من ذلك الباب غلط فاحش، وإنما أتلو عليك عبارات العلماء لتعلم حقيقة ما قلت. فأقول: قال الإمام ظهير الدين: وإن قضى القاضي في فصل مجتهدٍ فيه وهو لا يعلم أنه مجتهدٌ فيه، وإنمّا قصد القضاء على وجه الإجماع. هل ينفذ قضاؤه؟. ذكر في كتاب الإكراه: أنه ينفذ. وذكر في الرجوع عن الشهادات: أنه لو قضى بشهادة المحدودين في قذفٍ وهو لا يعلم أنهّما محدودانٍ في قذفٍ، ثم علمَ، يردّ القضاء، ويأخذ المال من المقضي له. وذكر شمس الأئمة السرخسي في شرح الرجوع عن الشهادات (¬1): أنه إنما ينفذ إذا صدر عن اجتهادٍ. وأمّا إذا لم يكن عن اجتهادٍ فلا ينفذ. وذكر الخصّاف: أنه ينفذ على كلّ حالٍ. انتهى فيما ذكره في الإكراه. وهو قوله في باب اللعان: يقضي به القاضي، ثم تبين أنه كان باطلاً. وإذا ادّعت امرأة على زوجها قذفًا، وجحده الزوج، فأقامت البينّةَ عليه بذلك. ¬

_ (¬1) المبسوط (6/ 390).

وذكرا في السر والعلانية وأمر القاضي الزوج أن يلاعنها، فأبى أن يفعل وقال: لم أقذفها وشهدوا عليه بالزور. فإنّ القاضي يجبره على اللعان ويحبسه حتى يلاعن أو يهدده بالحبس حتى يلاعن. فقال: أشهد بالله أني لمن الصّادقين فيما رميتها به من الزنا، ثم شهدت المرأة أيضاً كما عليها. وفرّق القاضي بينهما، ثم اطّلع القاضي على الشهود عبيداً أو محدودين في القذف، أو بطلت شهادتهم بوجهٍ من الوجوه. فإنّ القاضي يبطل اللعان الذي بينهما ويردّ المرأة إليه؛ لأنّ إقراره عليها بالزنا في اللعان كان بإكراهٍ من القاضي. ولو لم يحبسه القاضي حتى يلاعنَ ولم يهدده بحبسٍ. ولكن قال له: قد شهدوا عليك بالقذف فقضيت عليك باللعان فالتَعِن (¬1) ولم يزده على ذلك، والْتَعَنَ كما وصفته. وفرّق القاضي بينهما، ثم تبين: أنّ الشهود كانوا عبيداً، فأبطل شهادتهم، فإنه يمضي اللعان والفرقة بينهما؛ لأنّه أقر بالقذف بغير إكراهٍ. انتهى. قلت: قال شمس الأئمة: الفتوى على عدم النفاذ. وأشار إلى أنّ هذا غير ظاهر المذهب. والله أعلم. وما ذكره في الرّجوع عن الشهادة ذاك هو قوله في آخر أبوابها: وإذا شهد محدودان في قذف (¬2) شهادةً ولم يعلم بذلك القاضي حتى [قضى] بشهادتهما، ثم علمَ بذلك وليس من رأيه إمضاؤه، فإنه يرد القضاء ويرتجع (¬3) المال من المقضي له. ¬

_ (¬1) في المخطوط: فالتعنت. (¬2) في المبسوط: (بقذف). (¬3) في المبسوط: (ويأخذ).

وكذلك لو علم أنهما عبدان أو كافران [أو أعميان] ردّ القضاء وأخذ المال من المقضي له في ذلك كله (¬1). قلت: قال شمس الأئمة السرخسي: إن هذا هو ظاهر المذهب، والفتوى عليه. والله أعلم. وقال الصّدر حسام الدين في فتاواه: إذا قضى في فصلٍ مجتهدٍ فيه، وهو لا يعلم بذلك، لا ينفذ؛ فإنَّه ذكر في السِّير الكبير: رجلٌ مات وله مدبَّرون حتَّى عتقُوا، ثم جاء رجلٌ وأثبت ديناً على الميت، فباعهم القاضي على ظنِّ أنَّهم عبيدٌ، وقضى بجوازه، ثم ظهر أنَّهم مدبَّرون، كان قضاؤه بذلك باطلاً (¬2). قال (¬3): والاستدلال بمسألة السير لا يستقيم؛ لأنّ عدم النفاذ ما كان لعدم العلم بكون الفصل مجتهداً [فيه]، وإنما كان؛ لأن البيع صادفَ الأحرار؛ لأنّهم عتقوا بموته، أكثر ما في الباب أنه يجب عليهم السعاية، لكن ذلك لا يمنع وقوع العتق. قال مولانا: وفي الطعن كلامٌ، فإنّ المذكور في باب من العبد الذي يرجع إلى أهله في السير الكبير (¬4): من مات وله رقيق، وعليه دين كثير، فباع القاضي رقيقه، وقضى دينه، ثم قامت البينة لبعضهم: أنَّ مولاه كان دبَّره، فإنَّ بيع القاضي فيه يكون باطلاً، ولو كان القاضي عالماً بتدبيره، واجتهد وأبطل تدبيره ¬

_ (¬1) المبسوط (6/ 390). (¬2) مرّ في هذا المجموع. (¬3) أي: حسام الدين الشهيد. (¬4) مرّ في هذا المجموع.

لكونه (¬1) وصيّةً وباعهُ في الدَّين، ثم ولِّي قاضٍ آخر يرى ذلك خطأ، فإنَّه ينفذ قضاءُ الأوَّل. وإن كان الثاني لا يعلم: أنّ الأوّل فعله عن اجتهادٍ، أو لأنه لم يعلم حقيقة الحال، فإنه ينفذ قضاؤه أيضاً؛ لأنّ تحسين الظّن بالقاضي واجبٌ، وقضاؤهُ محمولٌ على الصّحة ما أمكنَ، فيحمل على أنّه قضى بعد العلم عن اجتهاد، فقد نصّ على: أنّ امتناع النفاذ بعد العلم وبعد القضاء عند العلم أو احتمال العلم، دلّ على أنّ الاستدلال صحيح. والله أعلم. قلت: فعن هذا قال شمس الأئمة: إنهّ إنما ينفّذ إذا صدر عن اجتهادٍ، أمّا إذا لم يكن يصدر عن اجتهادٍ لا ينفذ، كما قدمته عنه. والله أعلم. ومن الغباوة: جعل هذا في نواب الحكم في هذا الزمان. رجعنا إلى ما في شرح الهداية. قال شيخنا (¬2): قوله: إلَّا أن يخالف. . . إلخ. حاصله: بيان شرط جواز الاجتهاد، ومنه يعلم كون المحلِّ مجتهداً فيه حتَّى تجوز (¬3) مخالفته أو لا، فشرطُ (¬4) حلِّ الاجتهاد: أن لا يكون مخالفاً للكتاب أو السُّنَّة - يعني: المشهورة - مثل: "الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدعي وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ" (¬5). ¬

_ (¬1) في المخطوط: (لأنه). (¬2) يعني: ابن الهمام في فتح القدير (16/ 417). (¬3) في المخطوط: (يجوز). (¬4) في المخطوط: (شرط). (¬5) رواه الترمذي (1341) عن عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما -. وقال الترمذي: هذا حديث في إسناده مقال، ومحمد بن عبيد الله العرزمي يضعف في الحديث من قبل حفظه، ضعفه ابن المبارك وغيره.

قلت: لم يذكر. وإنَّما ذكر لبيان سبب بعض الحكم ومحلّه. فاللائق الحمل على هذا. ولهذا: قال الإمام الخصّاف: قالوا: سعى للقاضي أن ينفذ قضايا القضاة التي ترفع إليه، ويحكم بها، إلَّا أن تكون القضية جوازاً أو يكون على خلاف الكتاب أو السنة أو خلاف إجماع الأمة، فإن كان هذا فلا ينفذها، ولا يحكم بها، وكذلك إن كان القاضي الذي قضى بهذه القضية فاسقاً في نفسه أو محدوداً في قذفٍ أو من لا يجوز شهادته لو شهد. فإنّ قضية هذا إذا رفعت إلى هذا القاضي لا ينبغي له أن ينفذها ولا يحكم بها. وقال في آخر الباب: وكل ما قضى به قاضٍ مما يخالف فيه الكتاب والسنة فرفع إلى قاضٍ آخر يرى خلاف ذلك، فإنه ينفذه ويحكم به، وإن كان خلاف الكتاب والسنة أبطله. ليس ينفذ قضاء قاضٍ خالف الكتاب والسنة بحديثٍ شاذ أو خاصٍّ حتى يأتي به العامة، فإذا كان معروفاً في أيدي العامة، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فهو ناسخٌ يقول الله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} [الحشر: 7]. وإن يرى بعده شيء. فالتنزيل ناسخٌ. فالآخر من هذين الأمرين ناسخٌ للأول. انتهى. فاستفدنا منه: أنّ ما فيه معارضٌ ظاهر رجَحانه. فالمرجوح ينقض. وإليه أشار أبو العباس بن إدريس في سبب النقض فقال: أو يكون ثم معارضٌ مرجوح في حديث مضطرب الإسناد ونحوه، فإنه لا يفند به، وينقض ذلك الحكم لوقوعه على خلاف العارض الراجح. انتهى. قلت: وقوله: وكذلك إذا كان القاضي فاسقاً، هو اختياره واختيار الطحاوي أيضاً؛ لأنّ عندهما: الفاسق لا يصير قاضياً، فَلاَ ينفذ قضاؤه، وعامّة

المشايخ: على أنّ الفاسق يصلح أن يكون قاضياً، فإذا قضى ينفذ قضاؤه، لكن لقاضٍ آخر أن يبطله إذا رأى ذلك حسناً. ولو أبطله قاضٍ آخرَ ثم رفع إلى ثالثٍ ليس للثالث أن ينفذه. قال شيخنا (¬1): فلو قضى بشاهدٍ ويمينٍ لا ينفذ، ويتوقَّف على إمضاء قاضٍ آخر. ذكره في أقضية الجامع، وفي بعض المواضع ينفذ مطلقاً. قلت: قال الخصّاف: ولو أنّ قاضياً قضى بشاهدٍ ويمينٍ، فإنّ هذا مما لا ينبغي لهذا القاضي أن ينفذه من قبل أن الشاهد واليمين خلاف القرآن. وقال في الينابيع: قال محمّد: أفسخ (¬2) حكم الحاكم بشاهدٍ ويمينٍ. وقال أبو يوسف: لا أفسخ ذلك. وقول محمد أظهر. انتهى. قال شيخنا (¬3): ثم يراد بالكتاب المجمع على مراده، أو ما يكون مدلولٌ لفظه ولم (¬4) يثبت نسخه ولا تأويله بدليلٍ مجمعٍ عليه. فالأوَّل: مثل: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء: 23] الآية، حتَّى لو قضى قاضٍ بحلِّ أمّ امرأته كان باطلاً لا ينفذ. والثاني: مثل: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام: 121]، فلا ينفذ الحكم بحلّ متروك التسمية عمداً، وهذا لا ينضبطُ، فإنَّ النَّصَّ قد يكون ¬

_ (¬1) ابن الهمام في فتح القدير (16/ 417). (¬2) في المخطوط: (الفسخ). (¬3) ابن الهمام في فتح القدير (16/ 417 - 418). (¬4) في المخطوط: (لم).

مؤوَّلاً فيخرج عن ظاهره، فإذا منعناه يجاب بأنَّه مؤوَّلٌ بالمذبوح للأصنام (¬1) أيَّام الجاهليَّة، فيقع الخلاف في أنَّه مؤوَّلٌ أو ليس بمؤوَّلٍ (¬2)، فلا يكون حكم أحد المتناظرين بأنَّه غير مؤوَّلٍ قاضياً على غيره بمنع (¬3) الاجتهاد فيه. نعم، قد يترجَّح أحد القولين على الآخر بثبوت دليل التَّأويل، فيقع الاجتهاد في بعض أفراد هذا القسم أنَّه ممَّا يسوغ فيه الاجتهاد أو لا، ولذا نمنعُ نحن (¬4) نفاذ القضاء ببعض (¬5) الأشياء، ويجيزونه وبالعكس (¬6). ولقد نقل الخلاف [في الحلِّ] عندنا أيضاً، وإن كان كثير لم يحكوا الخلاف. ففي الخلاصة في رابع جنسٍ من الفصل الرَّابع من أدب القاضي [قال]: وأمَّا القضاء بحل متروك التَّسمية عمدًا فجائزٌ عندنا (¬7)، وعند أبي يوسف لا يجوز. انتهى. قلت: إما جاء عدم الانضباط من تغيره المراد بالكتاب. والذي يدل عليه عبارات الأصحاب: أنّه النّصُّ المفسر. فالظّاهر كما قدّمته في دليل الحق، وفي البدائع أيضاً. حتى لو قضى ¬

_ (¬1) في فتح القدير: (للأنصاب). (¬2) في المخطوط: (مؤول). (¬3) في المخطوط: (يمنع). (¬4) في المخطوط: (وكذا يمنع عن). (¬5) في فتح القدير: (في بعض). (¬6) في المخطوط: (ويجزؤنه بالعكس). (¬7) في فتح القدير: (عندهما).

بما قال الدليل القطعي على خلافه لم يجز؛ لأنه قضى بالباطل قطعاً، وكذا لو قضى بالاجتهاد فيما فيه نصٌّ ظاهرٌّ بخلافه من الكتاب أو السنة، لم يجز قضاؤه؛ لأنّ القياس في مقابلة النص باطل سواء كان النص قاطعاً أو ظاهراً، ولم لا يقولون: إنّ كل ما فيه خلاف لظاهر نصٌّ يكون محلاًّ للاجتهاد فيما فيه نص بخلافه، إذ لولاه سوّغ فيه الاجتهاد، وإنما يقولون ذلك فيما لم يختلف فيه الصحابة ومن معهم؛ لأنهم يروه مخالفاً للإجماع، وما عداه. فيقال فيه: ما استفيد من عبارة الخصّاف. وصرّح ابن إدريس: من أنه معارضٌ مرجوح، فلا يعتد به. هذا حاصل معاني عباراتي. والله أعلم. وما نقل في الخلاصة: منقولٌ في غيرها، لكن اعتمد في شرح المختلف قول أبي يوسف. وجزم به في الينابيع. والله أعلم. قال شيخنا (¬1): ثم (¬2) قال المصنِّف: المعتبرُ الاختلاف في الصَّدر الأوَّل - يعني: أن يكون المحلُّ محلَّ اجتهادٍ - يتحقَّق الخلاف فيه بين (¬3) الصَّحابة. وقد يحتمل بعض العبارات ضمَّ التَّابعين. انتهى. قلت: الظّاهر: أنه عين في المعتبر هذا في كونه غير مخالفٍ للإجماع كما سيأتي. وهذا إذا لم يبرهن على ذلك، وغير المخالف للإجماع، وإن كان في محل الاجتهاد، ولكنه لم يذكروه لذلك. وبتقدير ما ذكر الشيخ - رحمه ¬

_ (¬1) ابن الهمام في فتح القدير (16/ 419). (¬2) في المخطوط: (لم). (¬3) في المخطوط: (من).

الله -: فالمراد: محل فيه ظاهر نص لا المحل مطلقاً، فإنه قد تقدم منه بيانه بقوله: ثم المجتهد فيه أن لا يكون مخالفاً لما ذكره. يعني: الكتاب والسنة والإجماع. ألا ترى إلى قول الخصاف: ولو أنّ قاضياً قضى بشاهدٍ ويمينٍ، أو يقبل بقسامةٍ أو بيعِ أمّ ولدٍ، ثم رجع إلى قاضٍ آخرَ، فإن هذا مما لا ينبغي لهذا القاضي أن ينفذه من قبل الشاهد واليمين، خلف المقر (¬1) وأم الولد ترك بيعها بما عليه جماعة من المسلمين. وأمّا القسامة: فإنما هو قضاء بقوله: لم يختلف أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ذلك. وقول الإمام أبي المعالي في شرح أدب القاضي: أنها الأوّل، فلأنّ القضاء مخالفٌ الكتاب وهو قوله تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة: 282] الآية. شرع فصل القضاء بشهادة رجلين أو رجل وامرأتين، فكان الفصل من القضاء بشاهدٍ ويمينٍ مخالفاً للكتاب. والحديث قيس شاذّ، لا يجوز العمل به على مخالفة كتاب الله تعالى، فلم يعتبر الخلاف فيه بيننا وبين الشافعي، وإنما اعتبر الخلاف بين المتقدمين، والمراد من المتقدمين الصحابة ومن تبعهم، وليس يقضي أحدٌ من المتقدمين بشاهدٍ ويمين الآخر. والثاني: الحكم وفعله مما لا يوجد به، فلا يكون هذا مجتهداً فيه. وأمّا الثاني: وهو القتل بالقسامة. يريد به: أن القتيل إذا وجد في محلّةٍ وبينه وبين أحدٍ من أهل المحلّة عداوةٌ ظاهرةٌ والعهد قريب من حين ¬

_ (¬1) في المخطوط: (المقران).

دخوله في المحلّة إلى أن وجد قتيلاً، فعين ولي القتيل من المحلّة رجلين، أنّهما قتلاه، ويحلف على ذلك. وعند مالك والشافعي في القديم: يقضي القاضي له بالقود. وعندنا: لا. فإذا قضى به، ثم يرفع إلى آخر ينقضه؛ لأنّ هذا يخالف الإجماع لهما، أنّ مالكاً لم يكن موجوداً في الصّحابة، فلا يكون قوله معتبراً. والدليل عليه: أنّ أوّل من قضى بالقود في القسامة معاوية، فلم يكن مختلفا بين الصّحابة، وكان القضاء مخالفًا لإجماع الأصحاب، فكان للثاني أن ينقضه. وقول صاحب المحيط (¬1): قضايا القضاة التي ترفع إلى القاضي على أربعة أوجهٍ: أمّا إن كان مخالفاً للكتاب أو السنة أو الإجماع. أو كان في محل الاجتهاد. ¬

_ (¬1) قال صاحب رد المحتار (18/ 169): مطلبٌ قضايا القضاة على ثلائة أقسامٍ قال في جامع الفصولين: قضايا القضاة على ثلاثة أقسامٍ: الأوّل: حكمه بخلاف نصٍّ وإجماعٍ وهذا باطل، فلكلّ من القضاة نقضه إذا رفع إليه، وليس لأحدٍ أن يجيزه. الثّاني: حكمه فيما اختلف فيه وهو ينفذ وليس لأحدٍ نقضه. والثّالث: حكمه لشيءٍ يتعيّن فيه الخلاف بعد الحكم فيه.؛ أي: يكون الخلاف في نفس الحكم، فقيل: نفذ. وقيل: توقف على إمضاءٍ آخر، فلو أمضاه يصير كالقاضي الثّاني إذا حكم في مختلفٍ فيه فليس للثّاني نقضه، فلو أبطله الثّاني بطل، وليس لأحدٍ أن يجيزه. اهـ.

أو كان في محلٍّ فيه قول مجهولٍ. أو كان نفس القضية مختلفاً فيها، بأن كان مخالفاً للكتاب أو السنة أو الإجماع. فالقاضي المرفوع إليه ينقضها، ولا ينفذها؛ لأنه متى خالف النص أو الإجماع كان باطلاً وضلالاً. مثاله: ما لو أن قاضياً قضى بشاهدٍ ويمينٍ، أو بقتل بقسامة، ثم ساق مثله سواء. وكذا في الذخيرة وغيرها، فلم يذكر الأصحاب اعتبار اختلاف الصّدر الأوّل إلا في هذا المحل. والله أعلم. قال شيخنا (¬1): وبناءً على اشتراط كون الخلاف في الصَّدر الأوَّل من (¬2) كون المحلِّ اجتهاديًّا. قال بعضهم: إنَّ للقاضي أن يبطل ما قضى به القاضي المالكيُّ والشَّافعيُّ برأيه، يعني: إنَّما يلزم إذا كان قولُ مالكٍ أو الشَّافعيِّ وافق قول بعض الصَّحابة أو التَّابعين المُختلفين، فلا ينقض باعتبار أنَّه مختلفٌ بين الصَّدر الأوَّل لا باعتبار أنَّه قول مالكٍ والشَّافعيِّ، فلو لم يكن فيها قول الصَّدر الأوَّل بل الخلاف مقتضبٌ فيها بين الإمامين للقاضي أن يبطله إذا خالف رأيهُ. [وعندي]: أنَّ هذا لا يعوَّل عليه، فإن صحَّ أنَّ مالكاً والشَّافعيَّ وأبا حنيفة مجتهدون، فلا شكَّ في كون المحلّ اجتهاديَّا، وإلاَّ فلا، ولا شكَّ أنَّهم أهلُ اجتهادٍ ورفعةٍ. انتهى. ¬

_ (¬1) ابن الهمام في فتح القدير (16/ 419 - 420). (¬2) في فتح القدير: (في).

قلت: يعني برأيه في مخالفة ظاهر نصٍّ لا مطلقاً كما بينته، وكما سيأتي عن بيان المراد في قول هذا البعض المشار إليه. يعني: إنما يلزم إلخ. قلت: ظاهر صنيعهم خلاف هذا. وهو: أنه إذا اختلفوا، فمال اجتهاد مجتهدٍ بعدهم (¬1) إلى قول أحدهم، فقضى القاضي بذلك، ثم رفع قضاؤه إلى قاضٍ آخر يرى خلافه، ينفذه، كان أفاد الشارح حكماً، ولم يختلفوا فيه، ثم اختلف من بعدهم، فمن مالَ بظاهرٍ اعتبر قوله. ومن خالف لا يكون خلافه معتبراً إلى آخر التقدير. وهذا وإن كان مخالفاً للنص، ولكنهم يريدون أن يكون مخالفاً للإجماع أيضاً. كما صرّح به في المحيط. قال شيخنا: فلو لم يكن فيها قولُ الصَّدرِ الأوَّل، بل الخلافُ مُقتضبٌ فيها بين الإمامين للقاضي (¬2) أن يبطلهُ. قلنا: هذا التزاماً منه لظاهر العبارة، لا أنّ أحداً صرّح به كذلك. والله أعلم. وقول القائل الذي أشار إليه شيخنا - رحمه الله - لم يكن تأويله إلاّ ما قال من قبله، وإن كان ظاهره ما قال شيخنا - رحمه الله - بيان أنه قال قوله. والمعتبر الاختلاف في الصدر الأول، يريد به الاختلاف الواقع في قرن الصّحابة. ينتفي به اختلاف مالكٍ والشافعي: أنه ليس لمعتبرٍ؛ لأنهّما لم يكونا في زمن الصّحابة، وقد مرّ زيغانه قبل هذا. انتهى. فإذا حمل على اختلافهما فيما فيه ظاهر نصٍّ بخلافه، ولم يختلف فيه ¬

_ (¬1) تحرف في المخطوط إلى (بعضهم). (¬2) في المخطوط: (بالقاضي).

أهل الصّدر الأوّل رجع إلى ما قلنا. ويريد: أن هذا مراده قوله: وقد مرّ بيانه قبل هذا. والذي مرّ بيانه نحو ما قلنا عنه. والله أعلم. قال شيخنا (¬1): ولقد نرى في أثناء المسائل جعل المسألة اجتهاديَّةً، بخلافي بين المشايخ حتَّى ينفُذ القضاء بأحد القولين. قلت: لأن ما اختلفوا فيه من مجال الاجتهاد لا أنه لا يحلّ إلا هو كما بينّاه مكرراً. قال (¬2): وفي حيض - من منهاج الشَّريعة عن مالكٍ - فيمن طلَّقها فمرَّ عليها ستَّة أشهرٍ لم تر دماً فإنَّها تعتدُّ بعده (¬3) بثلاثة أشهرٍ، فإذا قضى بذلك قاضٍ ينبغي أن ينفِّذ؛ لأنَّه مجتهدٌ فيه، إلَّا أنَّه نقل مثله عن ابن عمر. قلت: هذا غلطٌ على مالكٍ وابن عمر فيما قالا: تتربص بعد الطلاق تسعة أشهرٍ، ثم تعتد بثلاثة أشهرٍ. والمسألة في المنظومة: لو طلّقت من طهرها، ممتد. فالأشهر التسعة مكث بعد. وبالمشهور بعدها تعتد. وفي مجمع البحرين: وأمروا ممتدة الطهر بالأقراء لا بثلاثة أشهر، تعد التسعة، فلو قضى القاضي بما في منهاج الشريعة لم ينفذ، فإن رفع إلى قاضٍ آخر، لم يبطله؛ لأنه خارج عن أقوال العلماء. والله أعلم. قال شيخنا (¬4): ثم ذكر في المنتقى: أنَّ العبرة في كون المحلِّ مجتهداً ¬

_ (¬1) ابن الهمام في فتح القدير (16/ 420). (¬2) ابن الهمام في فتح القدير (16/ 420). (¬3) تحرف في المخطوط إلى: (لم تلد ما فاتها بعده تعتد). (¬4) ابن الهمام في فتح القدير (16/ 420 - 421).

فيه اشتباه الدَّليل لا حقيقة الخلاف. ألا ترى أنَّ القاضي إذا قضى بإبطال طلاق المكره نفذ؛ لأنَّه مجتهدٌ فيه، لأنَّه موضع اشتباه الدَّليل إذ اعتبار (¬1) الطَّلاق بسائر تصرُّفاته ينفي حكمه، وكذا لو قضى في حدٍّ أو قصاصٍ بشهادة رجلٍ وامرأتين، ثم رفع بعد ذلك إلى قاضٍ آخر يرى خلف ذلك ينفِّذه، وليس طريق القضاء الأوَّل كونه في مختلفٍ فيه، لأنه لا اختلاف فيه، وإنَّما طريقه أنَّ القضاء الأوَّل حصل في موضع اشتباه الدَّليل؛ لأَنَّ المرأة من أهل الشَّهادة، بظاهر (¬2) قوله تعالى: {فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} [البقرة: 282]، [يدكُ على] جواز شهادتهنَّ مع الرِّجال مطلقاً، وإنْ وردت في المداينة؛ لأنَّ العبرة لعموم اللَّفظ، ولم يرد نصُّ قاطع في إبطال شهادة النِّساء في هذه الصُّورة؛ ولو قضى بجواز نكاحٍ بلا شهودٍ نفذ؛ لأنَّ المسألة مختلفٌ فيها، فمالكٌ وعثمان البتِّيُّ (¬3) يشترطان الإعلان لا الشُّهود، وقد اعتبر خلافهما؛ لأنَّ الموضع موضع اشتباه الدَّليل، إذ اعتبار النكاح بسائر التَّصرُّفات يقتضي أن لا تشترط (¬4) الشَّهادة. انتهى. قلت: حاصل هذا: أن سبب كون المحل مجتهداً فيه اشتباه الدليل القائم فيه، لا مجرد الاختلاف؛ لأنه يكون مجتهداً فيه مع الاختلاف وعدمه. فلما ثبت مع عدمه دلّ على أنّه ليس نفس السبب وهو ظاهرٌ وليس فيه ما يدل على ما قررنا به معنى قولهم. والمعتبر: الاختلاف في الصّدر الأوّل، ولا على ¬

_ (¬1) في المخطوط: (اعتبر). والمثبت من فتح القدير. (¬2) في فتح القدير: (إذ ظاهر). (¬3) تحرف في المخطوط إلى: (التيمي). (¬4) في المخطوط: (يشترط).

ما قرره هو؛ لأنه يكون على قوله شرطاً بمعنى العلامة، لا بمعنى العلّة. والله أعلم. قال شيخنا (¬1): ولا يخفى أنَّه إذا كانت معارضة المعنى للدَّليل (¬2) السَّمعيِّ النَّصَّ، توجب (¬3) اشتباه الدَّليل، فيصير المحلُّ محلَّ اجتهادٍ ينفذ القضاء فيه، فكلُّ خلافٍ بين الشَّافعيِّ ومالكٍ أو بيننا وبينهما أو أحدهم، محلُّ اشتباه الدَّليل، حينئذٍ إذ لا يخلو عن مثل ذلك، فلا يجوز نقضه من غير توقُّفٍ على كونه بين الصَّدر الأوَّل. انتهى. قلت: معارضَةُ المعنى وحده للدَّليل السَّمعيِّ النصَّ في هذه المسألة ممنوعة؛ لأنّ فيها ظواهر نصوص. وهي قوله تعالى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 3]. من غير اشتراط شهادة. وفيها عمل صحابي، وهو ما روي عن ابن عمر: أنّه زوّج بغير شهودٍ، ثم خرج فأعلم. وفيها: قول تابعيٍّ كبير. وهو ما روي عن الحسن البصري، مثل ابن عمر. ولو كان المعنى وحده، لكان من المتفق على أنه يجب إبطاله كما تقدم مكرهاً من أنّ محلّ الاجتهاد ما لم يخالف السنة. وقوله: القياس في مقابلة النّص باطل إلخ. فتبين: أن هذا المصنف اقتصر على ما به يظهر محل الاشتباه لإتمام ما في المسألة وحينئذٍ ذهب على ما رتب ¬

_ (¬1) ابن الهمام في فتح القدير (16/ 421). (¬2) في المخطوط: (الدليل). (¬3) في المخطوط: (يوجب).

على هذا الاشتباه، وأن ليس كل خلافٍ كذلك. والله أعلم. قال شيخنا - رحمه الله - (¬1): ولا [بأس] بذكر مواضع نصَّ فيها أهل المذهب بعينها إذا قضى [القاضي] بالقصاص يحلف (¬2) [المدَّعي]: أنَّ فلاناً قتله. وهناك لوثٌ من عداوة ظاهرة كقول مالكٍ ألا ينفذ، لمخالفة السّنَّة المشهورة: "الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي، وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ"، مع (¬3) أنَّ معه ظاهرًا في (¬4) حديث محيِّصَةُ وحُوَيِّصَةَ (¬5). قلت: تقدم عن صاحب المحيط وغيره: أنه مخالفٌ الإجماع أيضاً. ولو قضى بحل المطلقة ثلاثاً لمجرد عقد الثاني بلا دخول لقول سعيد بن المسيب: لا ينفذ بذلك أيضاً. وهو حديث العسيلة (¬6). وفي السِّير من الجامع الكبير (¬7): إذا قضى أنَّ الكفَّار لا يملكون ما استولوا ¬

_ (¬1) ابن الهمام في فتح القدير (16/ 421). (¬2) في المخطوط: (بحلف). (¬3) في المخطوط: (من). (¬4) في المخطوط: (ظاهر من). (¬5) وهما ابنا مسعود بن زيد. رواه مالك (1630 و 1631) والدارمي (2353) وعبد الرزاق (18258) والبخاري (3002 و 6769) ومسلم (1669) وأبو داود (4520 و 4521 و 4523) والترمذي (1422) وابن ماجه (2677) والنسائي في الكبرى (5988 و 6008 و 6009 و 6010 و 6913 و 6915 و 6916 و 6917 و 6918 و 6919 و 6920 و 6921) وابن حبان (6009) وابن الجارود (798 و 799 و 800). (¬6) رواه البخاري (4961) ومسلم (1433) والنسائي في الكبرى (5600 و 5605) وغيرهم عن عائشة - رضي الله عنهما -. (¬7) ذكره ابن الهمام في فتح القدير (16/ 421 - 422).

عليه لا ينفذ، لأنَّه لم يثبت في [ذلك] اختلاف الصَّحابة، ولو قضى بنصف الجهاز فيمن طلّقت قبل الدخول، وقد قبضت المهر وتجهّزت به، لا ينفذ خلاف الجمهور. قلت: قال أبو المعالي: ومعادلة الكتاب وقوله تعالى: {فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [البقرة: 237]، الله تعالى أوجب نصفَ المفروض بالطلاق قبل الدخول، والمفروض هو المسمّى في العقد والجهاز ما كان مسمّى في العقد، ولا يتنصّف، فإذا قضى القاضي بذلك بطل قضاؤه، ولو رفع إلى قاضٍ آخر كانَ له أن يبطله، ويقضي عليها بنصف المفروض انتهى. قال: ولو قضى بعدم جواز الزوجية عن دم العبد بناءً على قول البعض: إنَّه لاحقّ لها في القصاص، لا ينفذ. قلت: قال أبو المعالي؛ لأن هذا لا يجوز. مخالفٌ لقول الجمهور ومخالفٌ للكتاب. قال الله تعالى: {وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ} [النساء: 12] الآية. أثبت لها الحق في ربع المتروك من غير فصل، فكان القضاء باطلاً. فكان للثاني أن يبطله. قال: وحكى في الفصول فيما إذا زنى بامرأة، ثم تزوج بنتها، فقضى بجوازه. فعند أبي يوسف: لا ينفّذ للنّص عليه. وعند الجمهور: يجوز. قلت التي قال فيها: للنّص عليه غير هذه الصورة.

فلفظه: ولو قضى بجواز نكاح مزنية الأب ومزنية الابن لا ينفذ عند أبي يوسف؛ لأنّ الحادثة منصوص عليها في الكتاب. وعند محمّد: ينفذ. وما روي عن ابن عبَّاسٍ موقوفاً ومرفوعاً أنه قال: "الْحَرَامُ لاَ يُحَرِّمُ الحَلاَلَ" (¬1). يؤيد قول محمد، فكان مجتهداً فيه، فينفذ حكمه. كذا ذكره في المحيط (¬2). ورأيت في بعض الفوائد: القاضي إذا قضى بجواز نكاح التي زني بأمّها أو بنتها نفذ عند محمد. وعند أبي يوسف: لا ينفذ. وذكر في المحيط (¬3): إذا زنى رجلٌ بأمّ امرأته، ولم يدخل بها، فرأى القاضي أنه لا يحرمها عليه، فأقرّها معه وقضى بذلك، فنفذ قضاؤه؛ لأنه قضاء في محلّ مجتهدٍ فيه. انتهى. قلت: وليس هذه من غرضي في هذا المقام، وإنمّا ذكرتها لتحرير العبارة. والله أعلم. ولو عقد مؤقتاً بلفظ المتعة، نحو: متعيني نفسك عشرة أيام. لا ينفذ. ¬

_ (¬1) لم أجده مسنداً. وانظره في المبسوط للسرخسي (4/ 41) وفتح القدير لابن الهمام (6/ 373) والعناية شرح الهداية (6/ 2) وتبيين الحقائق شرح كنز الدقائق (5/ 245) ورد المحتار (18/ 178) والمحيط (8/ 519). (¬2) المحيط البرهاني لبرهان الدين مازه (8/ 519). (¬3) المحيط البرهاني لبرهان الدين مازه (8/ 519).

قلت: قال في المحيط (¬1): لأن هذا القضاء مخالفٌ للإجماع، فإنّ الصحابة أجمعت على فساده، وصحّ رجوع ابن عبّاسٍ - رضي الله عنهما - عنه. وروي عن عائشة: أنّها منسوخة. نسختها آية الطلاق، والعمل بالمنسوخ حرامٌ. وروي عن أبي يوسف: أنّ القضاء بالمتعة نافذٌ، لكن هو شاذٌّ لا يعمل به. انتهى. قال: ولو قضى بسقوط المهر بالتَّقادم بلا إقرارٍ ولا بيِّنةٍ، لم ينفذ. وكذا إذا قضى أن لا يؤجَّل العِنِّينُ (¬2). انتهى. قلت: وقال في الخصّاف: ولو أن قاضياً قضى بمال القسامة، لم يكن للقاضي أن ينفذ ذلك، بل يبطله، ولا ينفذه. قال أبو المعالي: يريد به: أنه مال الإنسان إذا تلفَ في محلّه فقضى قاضٍ بوجوب ضمان المال بالقسامة، وقاسه على النفس. فهذا القضاء باطلٌ؛ لأنه مخالفٌ للكتاب. قال تعالى: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164، الإسراء: 15، فاطر: 18، الزمر: 7]. وهذا القياسٌ فاسدٌ؛ لأنّ المال يتبدّل، والنفس لا تستبدل. فكان هذا القضاء مخالفاً للإجماع. فكان للثاني أن ينقضه. ¬

_ (¬1) المحيط البرهاني لبرهان الدين مازه (8/ 534). وانظر المبسوط (4/ 83) وبدائع الصنائع (5/ 462). (¬2) فتح القدير لابن الهمام (16/ 423). وانظر رد المحتار (18/ 163).

قال: ولو أنّ رجلاً عتق نصف عبده أو نصف أَمَتِهِ أو كانت أمةً بين اثنين فأعتقها أحدهما وهو معدمٌ، فقضى القاضي ببيع نصفه فباعه، ثم اختصما إلى قاضٍ لا يرى ذلك؛ فإنه يبطل البيع، ويبطل القضاء، لأن هذا القضاء مخالفٌ لإجماع الصحابة. فإنّ الصحابة رجعوا. لا يجوز استدامة الرق فيه، لكن اختلفوا. قال بعضهم: يخرج العتق بالسعاية. وإليه ذهب أبو حنيفة - رحمه الله -. وقال بعضهم: يعتق كله. وإليه ذهب أبو يوسف - رحمه الله -. وحينئذٍ: فكان هذا القضاء مخالفاً للإجماع، فكان باطلاً. فعلى القاضي الثاني أن ينقضه. وفي الظهيرية: أن شمس الأئمة قال عن المشايخ: إن هذا قول الخصاف، وليس فيه عن الأئمّة شيءٌ. ولولا قوله لقلنا: ينفذ قضاؤه؛ لأنه مجتهدٌ فيه. قال الخصّاف: ولو أنّ قاضياً قضى بخلاص دارٍ استحقّت، فأخذه القاضي بدارٍ وحكم بذلك عليه، فإن هذا إذا رفع إلى قاضٍ آخر أبطله ولم ينفذه. قلت: قال أبو المعالي: يرد، أن الإنسان يبيع داره من إنسانٍ ويضمن له الخلاص أو غير البائع يضمن له الخلاص. وتفسيره: أنه لو جاء مستحقٌّ فاستحقها، فهو ضامنٌ للخلاص، فيخلص الدار من يد المستحق إمّا بشراءٍ أو هبةٍ، أو بوجهٍ من الوجوه. فإذا ضمن الخلاص بهذه الصيغة، ثم ظهر الاستحقاق فرفع إلى قاضٍ

آخر يرى ذلك الضمان صحيحاً، فإنه يبطله، فإنّ هذا الضمان باطلٌ، فإنَّه شرطٌ لا يقدر على الوفاء به. فلا يصحّ. فإذا قضى بصحته، كان قضاءً بصحّة الباطل، لم يكن نافذاً. وهذا الذي ذكرنا من تفسير ضمان الخلاص قول أبي حنيفة وهو اختيار صاحب الكتاب. أمّا عند أبي يوسف ومحمد: تفسير ضمان الخلاص والدرك والعهد واحدٌ. وهو الرجوع بالثمن على البائع عند الاستحقاق. وعند أبي حنيفة تفسير ضمان الخلاص ما بينّا. وتفسير ضمان العهدة وضمان الصّك القديم الذي عند البائع. قال: وكذلك قاضٍ قضى بإبطال حقّ رجلٍ في دارٍ. وذلك أنه أقام سنين لم يبطله حقه، فأبطل القاضي حقّه من أجل ذلك، ثم رفع إلى قاضٍ آخر، فإنه يبطل قضاء القاضي بذلك، ويخلص الرجل على حقه في الدّار. ولو أنّ قاضيا قضى بردّه أمةً أو عبداً اشتراه مشترٍ وقبضه، ونقد الثمن فأصاب عنده عيب. فرد القاضي على البائع بذلك بغير إقرارٍ من البائع ولا بيّنةٍ شهدت عليه، ثم رفع إلى قاضٍ آخر أبطل ذلك ولم ينفذه ليس فيها أثرٌ يحتج به. وهذا اختلاف الآثار. وقال أبو المعالي: وخلاف الإجماع. وكذلك امرأة قد بلغت ولها زوجٌ فأعتقت رقيقاً لها أو أقرّت بذلك أو أوصت بوصايا بغير رضا زوجها. فأبى ذلك زوجها ورفعه إلى قاضٍ فأبطل فعلها، ثم ارتفعوا إلى قاضٍ آخر، فإنه ييطل حكم ذلك القاضي. وينفذ ما صنعت المرأة من ذلك كما ينفذ على الرجل. ألا ترى إلى قوله تعالى {فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء: 12].

فهذا حكمٌ يخالف التنزيل، فهو مردودٌ على من حكم به. وكذلك قاضٍ قضى بشهادة رجلٍ يشهد على حط أبيه. فهذا باطلٌ لا ينفذ حكم القاضي بذلك. قال أبو المعالي: هذا قولٌ لا يعتبر بمقالةٍ قول الجمهور من العلماء والكتاب وهو قوله تعالى: {الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [الزخرف: 86]. هذا لا يعلم. فإذا قضى القاضي بذلك كان القضاء باطلاً، فإذا رفع إلى قاضٍ آخر كان له أن يبطله. وكذلك رجلٌ طلّق امرأته ثلاثاً أو حائضاً أو قبل أن يدخل بها فقضى قاضٍ بإبطال ذلك أو أبطل بعضه أو رفع إلى قاضٍ آخر لا يرى ذلك؛ فإنه يبطل قضاء القاضي بذلك، وينفذ على الرجل ما كان منه. وقال في المحيط: بدل قوله: أو بعضه أو بوقوع واحدٍ؛ فإنه لا ينفذ؛ لأنه إن كان على قول أهل الزيغ إذ أوقع الثلاث في حالة الحيض أو في طهرٍ جامعها فيه، لا يقع أصلاً. وعلى قول الحسن البصري: إذا وقعَ الثلاث يقع واحدة. لكن كلا القولين باطلٌ؛ لأنه مخالفٌ لكتاب الله تعالى، وهو قوله تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ} [البقرة: 230]. فإنّ المراد منه: المطلقة الثلاثة. وفي المنتقى: ولو طلّق امرأته ثلاثاً بكلمةٍ واحدةٍ أو في طُهرٍ جامعها فيه. وقال في الينابيع: ومثال ما خالف الإجماع ما إذا حكم بجواز نكاح الجدة أو بنكاح امرأة الجدّ أو بنكاح الغافلة.

وكذلك لو أخرج الحرّ من العبيد بالقرعة، فرفع إلى قاضٍ يرى بطلان القرعة، ولو حكم بجواز نكاح ابنته من الزنا، فللثاني أن يبطل نكاحها. وفي الظهيرية: لوقوف القاضي بين الزوجين بشهادة امرأةٍ بالرّضاع. يرد قضاؤه. والقاضي إذا قضى لولده على أجنبيٍّ بشهادة الأجانب. لا يجوز. فإن رفع قضاؤه إلى قاضٍ آخر أبطله الثاني. ولو قضى بشهادة ولده لأجنبيٍّ في القذف وهو يرى ذلك فرفع ذلك إلى قاضٍ آخر لا يرى جوازه لا يبطله الثاني. وذكر شيخ الإسلام المعروف بِخُواهر زَاذَهْ (¬1): هذا إذا كان القاضي الثاني يعرف أنّ الأوّل يرى جوازه بأن قال الأوّل: لا. حينئذٍ لي ذلك. أما إذا علم أنّ الأوّل لا يرى جوازه. كان للثاني أن يبطله. وكذا وقع في أقضية الجامع. والله أعلم. قلت: فعلمَ من هذا: أن القضاء إذا أخطأ مذهبه لغيره أن يبطل قضاءه، وإن لم يكن من مقلدي إمامه كما قاله أبو عمرو ابن الصلاح الشافعي في فتاواه (¬2). الأول: ولو كان هو المحدود في القذف فيرفع حكمه إلى قاضٍ لا يرى جوازه أبطله. الثاني: لأن القضاء نفسه مختلفٌ فيه، وكذلك لو قضى لامرأته ¬

_ (¬1) تحرف في المخطوط إلى: (زاده). مرّت ترجمته. (¬2) (2/ 60).

بشهادة رجلين: لا يجوز. وإذا قضى الأعمى في حادثةٍ، ثم رفع قضاؤه إلى من لا يرى قضاءه، فإنه يبطل قضاءه. وفي الفصول: إذا كان الزوج غائباً فرفعت الامرأة الأمر إلى القاضي وأقامت البينة: أنّ زوجها الغائب محاجز عن النفقة، وطلبت من القاضي أن يفرق بينهما، ففرّق بينهما. قال مشايخ سمرقند: جاز تفريقه. قال صاحب الذخيرة: الصحيحُ: أنه لا يصحُّ قضاؤه؛ لأن العجز لا يعرف حالة الغيبة، فإن رفع هذا القضاء إلى قاضٍ آخرَ فأجاز قضاءه. والصحيح: أنه لا ينفذ؛ لأنّ هذا القضاء ليس في فصل مجتهدٍ فيه لِما ذكرنا: أنّ العجزَ لم يثبت. قلت: فيؤخذ من هذا: أن للقاضي أن يبطل ما يقضي به بشهادة المحدودين. والله أعلم. وذكو فيها أيضاً: إذا تزوج امرأةً عشرة أيام، فأجاز قاضٍ من القضاة جازَ؛ لأنّ عند زفرٍ: إذا تزوج امرأة إلى شهر يصحُّ ويبطل ذكر الوقت. وفي فتاوى رشيد الدين: الثاني إذا طلّقها بعد، ثم تزوجها ثانياً وهي في العدة، ثم طلقها قبل فتزوجها الأول قبل انقضاء العدة، وحكم الحاكم بصحة هذا النكاح ينفذ؛ لأن للاجتهاد فيه مساغاً، وهو صريحٌ في النّص، وهو قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [إِذَا] نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ} [الأحزاب: 49] الآية.

وهو أيضاً مذهب زفر. قلت: لا يصح هذا من القاضي الحنفي؛ لأن الإمام إنّما ولاّه الحكم بمذهب أبي حنيفة وما نقل الأصحاب من أمثال هذا فهو فيما إذا ولّى الإمام القاضي المجتهد ولايةً مطلقةً مثل ما كان لأبي يوسف ونحوه. والله أعلم (¬1). ولو قضى بشهادة الابن لأبيه، وبشهادة الأب لابنه؛ لا ينفذ عند محمّدٍ خلافاً لأبي يوسف. قلت: الرجحان لقول محمّدٍ؛ لأن هذا قضاء مخالفٌ للسنة وهو حديث عائشة - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "لاَ تَجُوزُ (¬2) شَهادَةُ الْوَالِدِ لِوَلدهِ، وَلاَ الْوَلَدُ لِوَالِده" (¬3). ¬

_ (¬1) جاء في هامش المخطوط: (أقول: في هذا الكلام بحثٌ؛ لأنه إذا أراد مذهب أبي حنيفة فقط. فقد رجّح المشايخ قولهما بل أقول: أحدهما. بل قول زفرِ وأفتوا بها وحكموا. والتقيد بالمجتهد أيضًا فيه كلامٌ، فلو ولى الإمام غير المجتهد وأذن له في الحكم بمثل هذا ينبغي أن يجوزاه). (¬2) في المخطوط: (يجوز). (¬3) قال ابن الهمام في فتح القدير (17/ 120): لكن الخصّاف وهو أبو بكرِ الرَّازيّ الذي شهد له أكابر المشايخ أنّه كبير في العلم رواه بسنده إلى عائشة - رضي الله عنهما -: حدثنا صالح بن زريقٍ - وكان ثقةً -، حدثنا مروان بن معاوية الفزاريّ، عن يزيد بن زيادٍ الشاميّ، عن الزهريّ، عن عروة، عن عائشة - رضي الله عنه -، عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - أنّه قال: "لا تجوز شهادة الوالد لولده، ولا الولد لوالده، ولا المرأة لزوجها، ولا الزوج لامرأته، ولا العبد لسيده، ولا السيد لعبده، ولا الشريك لشريكه، ولا الأجير لمن استأجره". وانظر بدائع الصنائع (14/ 334). وروى عبد الرزاق (15471) قال: أخبرنا ابن أبي سبرة، عن أبي الزناد، عن عبد الله ابن عامر بن ربيعة قال: قال عمر: تجوز شهادة الوالد لولده، والولد لوالده،=

وهو نحو حديث: "لاَ نِكَاحَ إِلاَّ بِشُهُودٍ" (¬1). والله أعلم. ولو قضى القاضي بجواز بيع الدرهم بالدّرهمين، فلمّا آخَرَ أن يبطله. ولو قضى بجواز بيع الشرب وحده ليس لغيره أن ينقضه. وإن نقض ليس لغيره أن يجيزه. وفي القضاء بجواز بيع أم الولد. روايات أظهرها: أنه لا ينفذ. وفي الخانية: إذا راجع الرجل امرأته بغير رضاها، ورفع الأمر إلى قاضٍ يرى أن رضا المرأة شرطٌ وأبطل الرجعة. قيل: ينبغي أن لا ينفذ قضاؤه. وأصحابنا يدّعون الإجماع في أنّ رضا المرأة ليس بشرطٍ بصحة الرّجعة. ويمنع أصحاب الشافعي. وهذا لا يُصَيِّر المحل مجتهداً فيه، فلا ينفذ قضاؤه. رجلان يشهدا على إقرار امرأة بأنّ زوجها بريء من كل شيءٍ كان لها عليه، فطلّقها. فقضى القاضي بأن الطلاقَ بائنٌ. قال: لا ينفذ. وهذا الحاكم جاهلٌ. وفي قضاء الجامع: أنه يتوقف على إمضاء قاضٍ آخر إن أمضى ذلك القاضي نفذ، كان أبطل بطل. وهذا أوجه الأقاويل، وإن كان أبرأ القاضي وصي ¬

_ = والأخ لأخيه إذا كانوا عدولًا، لم يقل الله حين قال: ممن ترضون من الشهداء، إلا أن يكون والداً أو ولداً أو أخاً. (¬1) انظر ما قاله الترمذي في سننه عقب رقم (1104). وروى ابن حبان (4075) من حديث عائشة - رضي الله عنهما -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل، وما كان من نكاح على غير ذلك فهو باطل، فإن تشاجروا فالسلطان ولي من لا ولي له".

اليتيم لم يجز قضاؤه له في أمر اليتيم؛ لأنّ حقّ القبض فيما يقضي به لليتيم يثبت للوصي، فيكون بمنزلة قضائه لابنه، ولو وَكَّلَ (¬1) رجل القاضي وقال له: ما صنعت من شيءٍ فهو جائز، فوكل القاضي وكيلاً يخاصم إليه، جاز التوكل؛ لأن الموكل أجاز صنعه على العموم، ولكن لا يجوز قضاءه للوكيل؛ لأنه يكون ذلك كقضائه لنفسه من وجهٍ؛ لأنه وكيله. وكذلك لو كان وكيل ابنه بعض من لا يجوّز شهادة له. ولو أنّ رجلاً أوصى للقاضي بثلث ماله أو أوصى إلى رجلٍ لم يجز قضاء القاضي لذلك الميت بشيءٍ من الأشياء؛ لأنّ له نصيباً فيما يقضي به للميت. وكذلك إذا كان القاضي أحد الورثة للميت؛ لأنه قضاء لنفسه. وكما لا يجوز أن يقضي عند دعوى القاضي، وكذلك عند دعوى الوكيل من الوصي. وكذلك إذا كان الموصى لابن القاضي أو امرأته. ألا ترى: أنه لا يصح (¬2) للشهادة فيما يدّعي للميت، فكذلك لا يصلح القضاء. وكذلك إذا كان للقاضي على الميت دينٌ؛ لأنّ بهذا القضاء يمهد محل حقّه. وفي الجامع الكبير: رجلٌ ماتَ وله على القاضي دَينٌ أو امرأته أو بعض أقاربه ممن لا يقبل شهادة القاضي له دينٌ وله وصيُّ فدفع مَنْ عليه الدين للوصي، ثم ادّعى الوصي الوصاية، وشهد رجلانٍ: أنّ الميت أوصى إليه فقضى ¬

_ (¬1) في المخطوط: (كان) وهو خطأ والصواب ما أثبت. (¬2) في المبسوط للسرخسي (ج 19/ 25): لا يصلح.

بالوصاية. لا ينفذ، ولا يبرأ. فلو مات القاضي أو عُزلَ فجحدت الورثة الوصاية، فقامت البينة على القضاء بها، أبطل الثاني القضاء الأوَّل، وأخذ المال من القاضي أو ابنه. قال في التحرير (¬1): سوّى محمّد في الجامع في الجواب بين القاضي وبين امرأته وابنه. وقال مشايخنا: يجب أن يكون الجواب في امرأته وابنه خلاف الجواب في نفسه؛ لأن قضاء القاضي لنفسه باطلٌ بالإجماع، فلا يتوقف نفاذه على قضاء قاضٍ آخرَ. وأمّا قضاؤه لابنه وامرأته فمختلفٌ فيه، فمتوقفٌ على قضاء قاضٍ آخَرَ. ولو ادّعى رجلٌ: أنه ابن الميت ووارثه، لا وارث له غيره، فأمضى القاضي الدين، ثم قضى بالنسب بعد ذلك، لم يجز. ولو أمضى هذا القضاء قاضٍ آخرَ، لا ينفذ؛ لأنه قضى لنفسه والأمة مجمعة على بطلانه. وكذا لو كان الوارث غائبًا، ولم يدع وصياً، فدفع القاضي الدين للرجل، ثم نصبه وصياً. ولو غاب رب الدين وادّعى رجلٌ: أنه وكّله بقبض ديونه التي له بالكوفة. أو قال: يقبض ديونه التي له على القاضي أو على أحدٍ من قرابته وأقام البينة. وقضى القاضي بالوكالة، لم ينفذ قضاؤه، ولم يبرأ من الدين إذا دفع إليه. ولو مات أو عزل، ثم رفع ذلك إلى قاضٍ آخر، أبطل ذلك. ¬

_ (¬1) لعله: التحرير في أصول الفقه، للعلامة كمال الدين ابن همام الحنفي.

فلو قضى بالوكالة، ثم دفع الدين، ثم رفع الأمر إلى قاضٍ آخر، فأمضاه وجؤزه، ثم رفع إلى قاضٍ آخر ثالث يرى القضاء الأوّل باطلاً، فإنه يجيز ما أمضاه القاضي الثاني، وليس له أن يبطله. علل في الكتاب فقال: لأنه أمضى فعلاً مختلفاً فيه. أشار بذلك إلى أن من الفقهاء من يجيز القضاء بالوكالة، كما يجيز بالوصاية؛ لأنّ الوصيّ كالوكيل بعد الوفاة. والوكيل قبل الوفاة وبعد الوفاة سواء، فإذا أمضى الثاني فقد أجاز قضاءً مختلفاً فيه بعد قضائه، فإذا رفع إلى ثالثٍ ليس له أن يبطله كان لم يكن مختلفاً فيه، فهو في محلّ الاجتهاد ليس بخلافه نصٌّ، ولا إجماعٌ، فينفذ على الكل، ولو كان القاضي الثاني أبطل القضاء الأول، لا يكون لغيره أن يجيزه بعد ذلك؛ لأنه أبطل فصلاً مجتهداً فيه، فينفذ على الكل. ولو أنه قضى الدين أوّلاً، ثم قضى بالوكالةِ، ثم رفع ذلك إلى قاضٍ آخر وأمضاه ورآه جائزاً، ثم رفع إلى قاضٍ ثالثٍ يرى ذلك باطلاً، فإنه يبطل ذلك كله ويرده؛ لأنّ الثاني أجاز قضاءً باطلاً؛ لأنّ القاضي قضى لنفسه من كلّ وجهٍ، فإنه مجتهدٌ فيه، وأنَّه باطل بالإجماع، فلم يصحّ إمضاؤه. فأمّا في الفصل الأوّل: لم يكن القضاء لنفسه من كل وجهٍ، فإنه مجتهدٌ فيه كالثاني أمضى قضاءً مجتهداً فيه. انتهى بتحرير التحرير على الجامع الكبير. وفي الخانية: القاضي إذا قضى بأقضيةٍ يختلف فيها الناس، أو قضى لرجلٍ على رجلٍ بحقٍّ وأشهد على قضائه شهوداً ولم يبين بأيّ وجهٍ قضى، ثم رفع ذلك إلى قاضٍ آخر فقال: اشهدوا أني قد أبطلت ما قضى فلان بن فلانٍ القاضي على فلانٍ بن فلان، ونقضت قضاءه للأمر. تحقق عندي إبطاله وقال:

اشهدوا أني قد أبطلت ما قضى فلانٌ على فلانٍ ولم يدل على ذلك شيءٌ، ثم رفع ذلك إلى قاضٍ ثالث، فإن الثالث ينقض الثاني، ويبطل ما أبطله الثاني. قال محمّد: والاثنان في ذلك سواء. وفي الينابيع: قاله أبو يوسف. وفي نوادر هشام: إذا كان الجور من القاضي غالباً ردت قضاياه وشهادته، وإن كان الغالب منه الخير، لم أرد. وقال أبو حنيفة: لو قضى القاضي زماناً بين الناس وأنفذ قضايا كثيرة، ثم علم أنه كان فاسقاً مرتشياً لم يرد ذلك منذ ولي القضاء. ينبغي للقاضي الذي يختصمون إليه أن يبطل كل قضية قضى بها. وفي التتارخانية (¬1)، عن التتمة (¬2): القاضي المقلّد إذا قضى على خلاف مذهبه لا ينفذ قضاؤه. ¬

_ (¬1) قال صاحب كشف الظنون (1/ 268): تاتار خانية في الفتاوى للإمام الفقيه عالم ابن علاء الحنفي، وهو كتاب عظيم في مجلدات، جمع فيه: مسائل المحيط البرهاني والذخيرة والخانية والظهيرية، وجعل الميم علامة للمحيط، وذكر اسم الباقي، وقدّم باباً في ذكر العلم، ثم رتّب على أبواب الهداية. وذكر أنه: أشار إلى جمعه الختان الأعظم: تاتار خان، ولم يسمّ، ولذلك اشتهر به. وقيل: إنه سماه: (زاد المسافر)، ثم إن الإمام: إبراهيم بن محمد العلي المتوفى سنة ست وخمسين وتسع مئة، لخصه في مجلد، وانتخب منه ما هو غرب أو كثير الوقوع وليس في الكتب المتداولة، والتزم بتصريح أسامي الكتب. وقال: متى أطلق الخلاصة فالمراد بها: شرح التهذيب، وأما المشهورة فتقيّد بالفتاوى. (¬2) تتمة الفتاوى للإمام برهان الدين محمود بن أحمد بن عبد العزيز الحنفي صاحب المحيط، المتوفى سنهّ 616 هـ. تقدّم الكلام عنه.

ولله الحمد على ما أنعم وأولى في الآخرة والأولى. وصلى الله على سيدنا محمّد خاتم النبيين والمرسلين وآله وصحبه أجمعين. تمت عن خط من نسخة من نسخة الموفق (¬1) - رحمه الله تعالى -. ¬

_ (¬1) لعلها تحريف عن: المؤلف.

(19) تحرير الأقوال في مسألة الاستبدال

مَجْمُوعَةُ رَسَائِل العَلَّامَة قَاسِم بن قُطْلُوبُغَا [19] تَحْرِيرُ الأَقْوَالِ في مَسْأَلَةِ الاسْتِبْدَالِ تَأْلِيفُ العَلَّامَة قَاسِم بْنِ قُطْلُوبُغَا الحَنَفِي المولود سَنَة 802 هـ والمتوفى سَنة 879 هـ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -

بداية الرسالة

(19) تَحْرِيرُ الأَقْوَالِ في مَسْأَلَةِ الاسْتِبْدَالِ قال - رحمه الله تعالى -: قد رفع إلي بعض أهل سؤالًا صورته في ناظر شرعيٍّ على قرية، والقرية وقفٌ على جهاتٍ معينة، في كتاب وقفه، فاستبدل القرية المذكورة بقطعةِ أرضٍ، على أنّ القطعة المذكورة أكثر غلّة وأقرب استغلالاً، وأن الغبطة والحظ والمصلحة لمستحقي ريع القرية المذكورة في استبدال القرية بالقطعة الأرض. وثبت ذلك على حاكمٍ يرى صحّة الاستبدال، وجواز العمل به على الوجه المشروح فيه، ونفذ ذلك الحكم على نصيحة المذاهب الثلاثة، ثم بعد ذلك تبين: أن القطعة المذكورة لم تكن أكثر غلّة، ولا أقرب استغلالاً، ولا غبطة، ولا مصلحةً لمستحقي ريع القرية المذكورة، وأنّ بعض القطعة المذكورة غرسٌ. وبعضها خوارٌ لا ينتفع بذلك. ولها عادة قديمة بنزول الجند فيها، يصلح فيها للزراعة، وزرعه من غير أجرةٍ. واستمرار ذلك بأيديهم بطريق الشوكة، وعادتهم المستقرة لهم في عرف الإطلاق. والقطعة المذكورة معروفة قديماً بأناسي، بمقتضى أنها منزلة باسمهم ووقفاً مجلياً عليهم في ديوان الاحتباس، شهد لهم بذلك الديوان والتواقيع التي بأيديهم إلى الآن، وكل وقتٍ ينازعون واضع اليد على القطعة المذكورة

صورة ما كتب

ويشكونه من أبواب الأمر أو غيرهم، فهل يكون هذا الاستبدال والحالة ما ذكر، وأنّ القرية المذكورة هي التي أكثر غلّة وأقرب استغلالاً باطلاً غير صحيح. ولا يعول عليه، ولو حكم به ونفّذ، وللنّاظر ومستحقي القرية المذكورة طلب الفسخ إذا أرادوا ذلك في الاستبدال المذكور واسترجاع القرية المذكورة، وردّ القطعة المذكورة أو طلب عوضٍ في مقابلة ذلك من أرضٍ أو بناءٍ أو ما يقوم مقام ذلك من النفع القائم مقام القرية المذكورة أم لا؟. فكتبت له ما صورته: الحمد لله. ربِّ زدني علماً. هذا الاستبدال باطلٌ لو كانت القطعة الأرض المذكورة أكثر غلّة وأقرب استغلالاً، وأقلّ كلفة، وأكثر خراجاً، وملكاً خاصًّا للمستبدل، إذ ليس شيء من ذلك مسوّغاً للاستبدال عند من يراه من علمائنا، وإنما يعتمد ذلك مسوّغاً جهلاً أو تلبيساً، ولا أثر للحكم بذلك، ولا للثناء فيه، ولا تحتاج إلى طلب الفسخ، بل القرية الموقوفة وقفاً على ما كانت عليه، ولا يصح طلب العوض عنها بوجهٍ، وعلى كلّ حاكمٍ رفع إليه هذا الأمر، رفع الأيدي عن القرية الوقف واسترجاع الأجر لمدةِ هذا الاستبدال الباطل إقامةً للقسط الذي أمر الله به بإجراء الأحكام الشرعية على وجهها، ورفع الأيدي المبطلة عن ملك الله - سبحانه وتعالى -. وتحصيل مقاصد الواقفين الذين صاروا إلى الله تعالى مفتقرين إلى ما يصل إليهم من ثواب ما قدّمت أيديهم، وثواب الفقراء المستحقين للريع، وتخليص المستبدل من أكل الحرام على ظنّ الحلال إن كان لا يعلم بحقيقة الحال، إلى غير ذلك من الوجوه التي ترتب عليها قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إن الْمُقْسِطِينَ فِي الدُّنْيا عَلَى مَنَابِرَ مِنْ نوُرٍ عَنْ يَمِينِ الرّحمَنِ، وكِلْتَا يَدَيْهِ يَمِينٌ الَّذِينَ يَعْدِلُونَ

فِي حُكْمِهِم وَأَهْلِهم وَمَا وُلّوا" (¬1). وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "أصحَابُ الْجَنِّةِ ثَلاَثةٌ (¬2): ذُوْ سُلْطَانٍ مُقْسِطٍ،. . . الحديث" (¬3). وقوله - صلى الله عليه وسلم - "إِنَّ أَحَبَّ النَّاسِ إِلَى اللهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَأدناَهُم مَجْلِساً مِنْهُ: إِمَامٌ عَادِلٌ" (¬4). وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "الْعَادِلُ فِي رَعِيَّتِهِ يَوْماً وَاحِداً أَفْضَلُ مِنْ عِبَادَةِ الْعَابِدِ فِي أَهْلِهِ مِئَةَ سَنَةٍ أَوْ خَمسِينَ سَنَةً" (¬5). . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ (¬1) رواه عبد الرزاق (20664) والإمام أحمد (6485 و 6492 و 6897) والحميدي (588) وحسين المروزي في زوائد زهد ابن المبارك (1484) وابن أبي شيبة (13/ 127) ومسلم (1827) والنسائي في المجتبى (8/ 221) وابن حبان (4484 و 4485) والآجري في الشريعة (ص 322) والحاكم (4/ 88) والبيهقي (10/ 87) والأسماء والصفات له (ص 324) والخطيب في تاريخ بغداد (5/ 367) والبغوي في شرح السنة (2470) عن عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنه -. (¬2) تحرف في المخطوط إلى: (ثلاث). والمثبت من مصادر التخريج. (¬3) رواه الطيالسي (1079) والإمام أحمد (4/ 162) ومسلم (2865) وابن حبان (653) والطبراني في الكبير (17/ رقم 992) والبزار في مسنده (2951) والبيهقي (9/ 20) من حديث عياض بن حمار - رضي الله عنه -. (¬4) رواه ابن المبارك في مسند (267) والإمام أحمد (3/ 22 و 55) والترمذي (1329) والقضاعي في مسند الشهاب (1305) وأبو يعلى (1003) وأبو القاسم البغوي في الجعديات (2004 و 2035) والبيهقي (10/ 88) والشعب له (7366) وأبو محمد البغوي في شرح السنة (2472) عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -. وفيه: عطية بن سعد العوفي، ضعيف. وقال الترمذي: حديثٌ حسن غريب، لا نعرفه إلا من هذا الوجه. (¬5) رواه الحارث بن أبي أسامة (597 زوائد) قال: حدثنا أبو عبيد القاسم بن سلام،=

الشَّك من هشيم (¬1). وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "يَوْمٌ مِنْ إِمَامٍ عَادِلٍ أَفْضَلُ مِنْ عِبَادَةِ سِتِّينَ سَنَةً" (¬2). وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لاَ ظِلَّ إلَّا ظِلُّهُ: إِمَامٌ عَادِلٌ" (¬3) الحديث. فلما وقف على هذا، سألني عن حجتي على ما أجبته به، فكتبت له: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الحمد لله، وسلامٌ على عباده الذين اصطفى، وبعد: ¬

_ = حدثنا هشيم، عن زياد بن مخراق، عن رجل، عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لعمل العادل في رعيته يوماً واحداً أفضل من عبادة العابد في أهله مئة عام أو خمسين عاماً" الشاك هشيم. وانظر المطالب العالية لابن حجر (2204 النسخة المسندة) وتخريج أحاديث العادلين للسخاوي رقم (10) والمقاصد الحسنة له (858). (¬1) تحرف في المخطوط إلى: (هيثم). (¬2) رواه الطبراني في الكبير (11932) والأوسط (4901) وأبو نعيم في فضيلة العادلين (16) والبيهقي في سننه (8/ 162) وشعب الإيمان (7379 مكرر) وابن عساكر في معجمه (1192) عن ابن عباس - رضي الله عنهما - وانظر تخريج الإمام السخاوي لأحاديث فضيلة العادلين (ص 52 - 58) رقم (8 و 9) ونصب الراية للزيلعي (4/ 67) وإتحاف السادة المتقين للزبيدي (5/ 314). وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (5/ رقم 9002)؛ رواه الطبراني في الكبير والأوسط، وفيه: سعد أبو غيلان الشيباني، ولم أعرفه، ويقية رجاله ثقات. وقال (6/ رقم 10586): رواه الطبراني في الأوسط، وقال: لا يروى عن ابن عباس إلا بهذا الإسناد، وفيه: زريق بن السحت، ولم أعرفه. (¬3) رواه مالك (3505) والبخاري (629 و 1357 و 6114 و 6421) ومسلم (1031) عن أبي هريرة - رضي الله عنه -.

فيقول راجي عفو ربه الكريم قاسم بن قطلوبغا الحنفي: إنّك قد سألتني عن مستندي فيما كتبته لك من جواب فتياك في إبطال استبدال الأرض التي اعتمد الحاكم في جواز استبدالها على قول المشهور: إن المستبدل به أكثر غلّةً، وأيسر استغلالاً. . . إلخ. فأقول مستعينا بالله، إنه حسبي ونعم الوكيل: لا خلاف بين العلماء: أن هذه المسألة لا تتأتّى على قول أبي حنيفة؛ لأنه لا يرى لزوم الوقف، وإنما الجواب على قول صاحبيه. وقد اتفق فقهاء المذهب: على أنّ الأصل في الوقف: أن لا يوهبه، ولا يورث أصلاً، ولا يباع، ولا يستبدل به إلاّ بشرط الواقف ذلك لنفسه أو لغيره مرةً أو مراراً عند أبي يوسف، كان لم يشترط ذلك، ودعت الحالة إلى الاستبدال، وظهرت المصلحة فيه. قيل: روي عن أبي يوسف: أنّ ذلك جائز للحاكم. وعند محمّدٍ: لا عبرة بهذا الشرط، ولا يجوز الاستبدال إلا أن يكون بالعين الموقوفة خللٌ ظاهرٌ، وتظهر المصلحة في الاستبدال. ثم اختلفت الرواية عنه: هل يملك ذلك النّاظر والواقف أم الحاكم. وما قيل: إنّ للحاكم الاستبدال إذا رآه مصلحةً. فمعناه: عند حصول الخلل. ودليلي على هذه المسألة من المنقول: المذهبية والآثار السنية. ما قاله في الهداية وعامة الكتب: الوقف في الشرع على قولهما: حبس العين على حكم ملك الله تعالى، فيزول ملك الواقف إلى الله تعالى على وجهٍ

تعود منفعته إلى العباد، فيلزم ولا يباع ولا يورث. ثم قال: وإذا صحّ الوقف، لم يجز بيعه، ولا تمليكه. ثم قال: الواجب: أن يبدأ من ارتفاع الوقف بعمارته شرط ذلك الواقف أو لم يشترط؛ لأنّ قصد الواقف صرف الغلّة مؤبداً، ولا تبقى قائمة إلا بالعمارة ثم قال: إن كان الوقف على الفقراء؛ لأنه لا يظفر بهم، وأقرب أموالهم هذه الغلة، فيجب فيها، وإن كان الوقف على رجلٍ بعينه وآخره للفقراء فهو في ماله إن شاء في حال حياته، ولا يؤخذ من الغلة؛ لأنه معين يمكن مطالبته، وإنما يستحقّ العمارة عليه بقدر ما يبقى الموقوف على الصفة التي وقفه، فإن خرب يبنى على ذلك الوصف، ثم قال: فإن وقف داراً على سكنى ولده فالعمارة على من له السكنى، فإن امتنع عن ذلك أو كان فقيراً أجّرها الحاكم وعمّرها بأجرتها. ثم قال: ولا يجبر الممتنع ولا يكون امتناعه رضاءً منه ببطلان حقه. ثم قال: وما انهدم من بناءِ الوقف وآلته صرفه الحاكم في عمارةٍ إن احتاج، وإن استغنى عنه أمسكه حتى يحتاج إلى عمارةٍ فيصرفه فيها؛ لأنه لا بد من العمارة لتبقى على التأبيد فيحصل مقصود الواقف. وعلى هذا تواترت عباراتهم في عامّة الكتب. وقال هلالٌ في وقفه: قلت: أرأيت الصرفة إذا احتاجت إلى العمارة، ولم يكن عند القائم بها ما يعمرها. أترى له أن يستدين عليها؟. قال: لا. قال في الذخيرة بعد هذا: وعن الفقيه أبي جعفر: أن القياس هذا. لكن يترك القياس فيما فيه ضرورة نحو أن يكون في أرض الوقف زرعٌ فكلها الجراد، ويحتاج القسم إلى النفقة

لجمع الزرع أو طالبه السلطان جاز له الاستدانة؛ لأن القياس يترك بالضرورة. قال: والأحوط في هذه الضرورة: أن يكون بأمر الحاكم؛ لأن ولاية الحاكم أعمّ في مصالح المسلمين. ومن السنة والآثار: ما روى الجماعة (¬1)، عن ابن عمر: أَنْ عُمَرَ أَصَابَ أَرضاً مِنْ أَرضِ خَيْبَرَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ! أَصَبْتُ أَرضاً بِخَيْبَرَ، لَمْ أُصِبْ مَالاً قَطُّ أَنْفَسَ عِنْدِي مِنْهُ، فَمَا تأمُرُنِي؟ قَالَ: "إِنْ شِئْتَ حَبَسْتَ أَصلَها، وتَصَدَّقْتَ بِها". فَتَصَدَّقَ بِها عُمَرُ عَلَى أَنْ لا تُبَاعَ وَلاَ تُوهبُ وَلا تُورَثُ، [وَتَصَدَّقَ بِها] فِي الْفُقَرَاءِ، وَذِي الْقُرْبَى، وَ [فِي] الرّقَابِ، وَابْنِ السَّبِيلِ، لا (¬2) جُنَاحَ عَلَى مَنْ وَليَها أَنْ يَكلَ مِنْها بِالْمَعرُوفِ، ويطْعِمَ غَيْرَ مُتَمَوِّلٍ (¬3). وفي لفظٍ (¬4): غَيْرَ مُتَأَثِّلٍ (¬5) مَالاً. وفي لفظٍ: أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له: "احْبِس أَصلَها، وَسَبِّلْ ثَمَرتها". رواه ¬

_ (¬1) رواه الإمام أحمد (4608 و 5179 و 5947 و 6078 و 6460) والبخاري (2737 و 2772 و 2773) ومسلم (1632 و 1633) وأبو داود (2878) والترمذي (1375) والنسائي في المجتبى (6/ 230 و 231) والكبرى (6424 - 6428) وابن ماجه (2396) وابن الجارود (368) وابن خزيمة (2483 - 2486) والطحاوي (4/ 95) وابن حبان (4901) والدارقطني (4/ 187 - 190) وأبو نعيم في الحلية (8/ 263) والبيهقي (6/ 158 - 159) والشعب (3446) وابن عبد البر في التمهيد (1/ 214) والبغوي في شرح السنة (2195). (¬2) تحرف في المخطوط إلى: (على). (¬3) تحرف في المخطوط إلى: (متموم). (¬4) من قول ابن سيرين. (¬5) تحرف في المخطوط إلى: (مقابل).

النسائي (¬1)، وابن ماجه (¬2). وعزي للفظ البخاري (¬3): "تَصَدّق بأصلِهِ، لاَ يُبَاعُ وَلاَ يُوْهبُ، وَلاَ يُوْرَثُ، وَلَكِنْ يُنْفِقُ ثَمَرة (¬4) ". فتصدّق به عمر. وما روى الإمام أبو بكر الخصاف في كتاب الوقف (¬5) بإسناده نحو هذا. وما أخرج عن عنبسة (¬6) قال: تصدّق عثمان بن عفان لنا في أمواله على صدقة عمر. وما أخرج من طريق فروة بن أذينة قال: رأيت كتاباً عند عبد الرحمن ابن أبان فيه: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. هذا ما تصدّق به عثمان بن عفان في حياته، تصدّق بماله الذي بخيبر يدعا مال ابن أبي الحقيق على ابنه أبان بن عثمان صدقة بثلثه، لا يشتري أصلاً أبداً، ولا يوهب، ولا يورث. شهد علي ابن أبي طالب وأسامة بن زيد وكتب. وما أخرج، عن طريق عبد العزيز بن محمد، عن أبيه، عن علي بن [أبي] طالبٍ: أنّه تصدّق بما أقطعه عمر بن الخطاب مع ما اشتراه هو على الفقراء والمساكين، وفي سبيل الله وابن السبيل، القريب والبعيد، في السلم والحرب، ¬

_ (¬1) الكبرى (6430 و 6432). (¬2) ابن ماجه (2397). (¬3) رواه البخاري (2764) والبيهقي (6/ 156) من طريق صخر بن جويرية، عن نافع، عن ابن عمر - رضي الله عنهما -. (¬4) في المخطوط: (ثمرته). والمثبت موافق لصحيح البخاري. (¬5) لم أستطع الحصول على نسخة من كتاب الوقف. (¬6) في المخطوط: (عنيسة).

ليصرف الله النار بها عن وجهه، يوم تبيضّ وجوه وتسودّ وجوه. وأخرجه من طريقٍ آخرَ: أنه تصدّق بأرضٍ له بإبلاً بيقي بها وجهه من جهنم، على مثل عمر. غير أنه لم يستثن منها للوالي شيئاً كما استثناه عمر. وما أخرجه، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن الزبير بن العوام: أنه جعل دوره على بنيه، لا تباع، ولا توهب، ولا تورث، وأن للمردودةِ من بناته أن تسكن غير مضرّةٍ ولا مضرّ بها، فإذا استغنت بزوجٍ فليس لها حقٌّ (¬1). وما أخرجه عن عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالكٍ وأبي قتادة قال: كان معاذ بن جبلٍ أوسع أنصاري بالمدينة ريعاً، فتصدق بداره التي يقال لها دار الأنصار اليوم، وكتب صدقته وذكر القصة. وما أخرجه عن خارجة بن زيد بن ثابت، عن أبيه قال: لم نرض خيراً للميت ولا للحي من هذه الحُبُس الموقوفة. أنها الميت: فيجري أجرها عليه. وأمّا الحي: فتحبس عليه لا تباع ولا توهب ولا تورث ولا يقدر على استهلاكها. وإنّ زيد بن ثابتٍ جعل صدقته التي وقفها على بنيه صدقة عمر بن الخطاب، وكتب كتاباً على كتابه. ¬

_ (¬1) علّقه البخاري في كتاب الوصايا/ باب: إذا وقف أرضاً أو بئراً. ورواه الدارمي (3300) عن هشامٍ، عن أبيه: أن الزبير جعل دوره صدقةً على بنيه، لا تباع، ولا تورّث، وأنّ للمردودة من بناته أن تسكن غير مضرَّةٍ، ولا مضارٍّ بها، فإن هي استغنت بزوجٍ فلا حقّ لها. ورواه البيهقي في سننه (6/ 166) عن هشام بن عروة: أن الزّبير جعل دوره صدقةً. قال: وللمردودة من بناته أن تسكن غير مضرةٍ ولا مضرٍّ بها، فإن استغنت بزوجٍ فلا شيء لها. قال أبو عبيدٍ: قال الأصمعيُّ: المردودة المطلّقة.

وما أخرج عن عائشة بنت سعد بن أبي وقاص قالت: صدقة أبي حَبْسٌ لا تباع ولا توهب ولا تورث، وإن للمردودة من ولده أن تسكن غير مضرّة ولا مضرٍّ بها حتى تستغنِي. الحديث. وما أخرج عن عبد الرحمن بن الحارث، عن أبيه: أن خالد بن الوليد حبس داره بالمدينة: لا تباع ولا تورث. وما أخرج عن يحيى بن عبد العزيز، عن أهله: أن سعد بن عبادة تصدق بصدقة عن أمه فيها سقي الماء، ثم حبس عليها مالاً من أمواله على أصله، لا تباع ولا توهب ولا تورث. وما أخرج عن أبي سعاد الجهني قال: شهدت عقبة بن عامرٍ الجهني على دارٍ تصدّق بها حبساً، ولا تباع ولا توهب ولا تورث على ولده وولد ولده، فإن اقترضوا فعلى أقرب الناس مني حتى يرث الله الأرض ومن عليها. وما أخرج عن أبي سودة قال: شهدت أبا أروى الدينوري تصدّق بأرضه، لا تباع ولا تورث أبداً. وما أخرج عن أسماء بنت أبي بكرٍ: أنها تصدقت بدارها صدقةَ حبسٍ لا تباع، ولا توهب، ولا تورث. وما أخرج عن موسى بن يعقوب، عن عمته، عن أمها قالت: شهدت صدقة أم سلمة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - صدقة حبساً لا تباع ولا توهب. وما أخرج عن عبد الله بن بسر قال: قرأت صدقة أم حبيبة بنت أبي سفيان زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - التي بالغابة، أنها تصدقت على مواليها وعلى أعقابها وأعقاب أعقابهم حبسٌ لا يباع ولا يوهب ولا يورث.

وعن منيب المزني قال: شهدت صدقة صفية بنت حيي بدارها لبني عبدان صدقة حبساً لا تباع ولا توهب ولا تورث حتى يرث الله الأرض ومن عليها. شهد على ذلك نفرٌ من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وأمّا شرط أبي يوسف: فعلى هلال الرّاوي تلميذ أبي يوسف في كتابٍ وقفه في باب الرجل يقف الأرض على أن يبيعها. قلت: أرأيت لو كان صدقةً موقوفةً لله إبراءً، ولم يشترط أن يبيعها، أله أن يبيعها أو يستبدل بها ما هو خيرٌ منها؟. قال: لا يكون له ذلك إلا أن يكون شَرَطَ البيع، وإلا فليس له أن يبيع. قلت: ولم لا يجوز ذلك وهو خيرٌ للوقف؟! قال: الوقف لا يطلب به التجارة ولا يطلب به الأرياح، وإنما سميت وقفاً لأنها لا تباع، وإنما جوزت ذلك إذا شرطت في غيره الوقف؛ لأنّ الواقف إنما وقف على مثل ذلك، ولو جاز له بيع الوقف بغير شرطٍ كان في أصله، كان له أن يبيع ما استبدل بالوقف، فيكون الوقف يباع في كل يومٍ، وليس هكذا. قلت: أرأيت لو كانت الأرض الموقوفة سبخةً لا ينتفع بها. قال: وإن كانت سبخةً لا ينتفع بها، ليس له أن يبيعها؛ إلا أن يشترط ذلك. وفي الخلاصة: ثم ليس له أن يستبدل الثانية بأرضٍ ثالثةٍ؛ لأنّ هذا الحكم يثبت الشرط والشرط وجد في الأولى دون الثانية، وصرّح به في وقف الخصاف. وذكر أنه إذا أراد ذلك أن يكون له مراراً كان له ذلك بأن يجعله شرطاً في أصل الوقف. وهكذا فعله الإمام أبو بكر الخصّاف في كتاب وقفه. وذكر الإمام أبو عبد الله محمد بن عبد الله الأنصاري البصري صاحب زفر في كتاب وقفه، وكذا الإمام رشيد الدين سعيد في مختصره، وقال في

جزءٍ: إنه الأكمل ولو لم يشترط البيع في الوقف، لا يصح بيعه ولا استبداله، وإن كان الثاني خيراً من الأوّل. وقال في الذخيرة والخلاصة وقاضي خان وغيرهم: إنّ هذا قول أبي يوسف وعليه الفتوى. وأمّا إذا لم يشترط الواقف ذلك. وفي أدب القاضي لأبي بكر الرازي: كان لم يشترط ذلك. قيل: للقاضي ولاية الاستبدال إذا رآه مصلحةً في رواية عن أبي يوسف. وليس لغير القاضي. وقيل: ليس للقاضي ذلك. وقال في الفتاوى التتارخانية (¬1): أما بدون شرطٍ. أشار في السير: إلى أنه لا يملك الاستبدال إلا القاضي إذا رأى المصلحة في ذلك. وأمّا شرط محمّد: فقال في الذخيرة، عن محمَّدٍ: إذا ضعفت الأرض الموقوفة عن الاستغلال، والقيِّمُ يجد بثمنها أرضاً أخرى أكثر ريعاً، له أن يبيع بها هذه الأرض، ويشتري بثمنها ما هو أكثر ريعاً. وقال قاضي خان: روي عن محمَّدِ: إذا ضعفت الأرض الموقوفة عن الاستغلال، والقيِّمُ يجد بثمنها أرضاً أخرى، وهي أنفع للفقراء وأكثر ريعاً، كان له أن يبيع هذه الأرض ويشتري بثمنها أرضاً أخرى (¬2). ¬

_ (¬1) للإمام الفقيه عالم بن علاء الحنفي. مرّ الكلام عنها. (¬2) البحر الرائق شرح كنز الدقائق (14/ 327 و 328 و 385) والمحيط (5/ 738).

وعلى هذا: تواردت عبارة المصنفين. وأمّا الرواية الأخرى عن محمّد فقال في المنتقى، عن محمد: إذا صار الوقف بحالٍ لا ينتفع به المساكين فللقاضي أن يبيعه ويشتري بثمنه غيره. وليس ذلك إلاّ للقاضي. وقال في شرح السير الكبير: وعن الحسن البصري: لا بأس أن يستبدل بالحبس من علةٍ بهِ. ويكره من غير علّةٍ؛ لأنّ من حبسه رضي بحبسه لا بالاستبدال. وأمّا إذا كان بِغَلّةٍ، فإنّ قولهم: زوالها كالمرض. كره الاستبدال به عند أبي يوسف ومحمد. وعند أبي حنيفة: لا يكره؛ لأنّ الحبس عنده غير لازمٍ حتى جاز البيع والرجوع عنه. فكذا الاستبدال. وعندهما لازمٌ ليس لصاحبه أن يبيعه بعدما مرضَ. فكذا ليس لغيره إلَّا أن يصير بحيث لا يتوهم زوال العلّة نحو إن صار بحالٍ لا يستطاع القيام عليه أو كبرَ، فلا بأس بأن يباع ويشترى بثمنه حبساً مكانه إن أمكن تحصيلاً لغرض الحابس، وإلَّا غُري بالثمن عن صاحبه. وأمّا أن الرواية المطلقة مقيّدة بما ذكرت، فلما صرحوا به من أنّ الوقف لا يطلب به الاسترباح، وأن ليس الوقف.

(20) مسألة في الوقف واشتراط النظر للأرشد فالأرشد

مَجْمُوعَةُ رَسَائِل العَلَّامَة قَاسِم بن قُطْلُوبُغَا [20] مَسْأَلَةٌ فِي الوَقْفِ وَاشْتِرَاطِ النَّظَرِ لِلأَرْشَدِ فَالأَرْشَدِ تَأْلِيفُ العَلَّامَة قَاسِم بْنِ قُطْلُوبُغَا الحَنَفِي المولود سَنَة 802 هـ والمتوفى سَنة 879 هـ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -

بداية الرسالة

(20) مَسْأَلةٌ في الوَقْتِ وَاشْتِرَاطِ النَّظَرِ لِلأَرْشَدِ فَالأَرْشَدِ قال - رحمه الله تعالى -: وسئلت عن واقفٍ شرط أن يكون النظر للأرشد فالأرشد من أولاده وأولاد أولاده، وأثبتت بنت الواقف أنها أرشد الموجودين. وحكمَ لها بذلك، ثم بعد مدّةٍ أثبت ابن ابن الواقف أنه أرشد الموجودين، وحكم له أيضًا بذلك مع بقاء الحجة. فمن يستحق النظر أبنت الواقف لتقدم ثبوتها والحكم لها أو ابن ابن الواقف لوجود ثبوت الصفة المشروطة بعد ذلك؟ وهل يقاس على ما ذكره الخصّاف في أحكام الوقف؟. قلت: فإن قال على أن ولاية هذه الصدقة إلى الأفضل فالأفضل من ولدي. وتولاها أفضلهم، ثم صار في ولده من هو أفضل من الذي تولاها الأوّل أو يشتركان. أفتونا مأجورين وابسطوا في الجواب. فكتبت: الحمد لله. ربّ زدني علمًا. لم نقف لعلمائنا - رحمهم الله تعالى - على كلام في ولاية الأرشد على الوقف، والرشد عنهما: صلاح المال، ولا شكٌ إذ أرشد أفعل تفضيل. وفيه: لا بد أن يكون المفضل والمفضل عليه مما يصدق عليهما الاسم بالتواطؤ. ولأحدهما الزيادة فيه. هذا لصدق الاسم. وليس بكافٍ في الشرع كما نصّ

صورة سؤال ورد على الشيخ - رحمه الله - من دمشق

عليه علماؤنا من أنه لا بد مع ما يشرط الواقف، وأنه يراه القاضي موضعًا للولاية على الوقف. وليس ما ذكره الخصاف مما يثبت بالشهادة اليوم؛ لأنّ الذي ذكره الخصاف مصرّح بأن الثاني مشارك الأول في الزيادة التي كان لها أفضل وزاد عليه، أو أنّ الأول عرض له ما صار به مفضولاً. وأمّا الشهادة اليوم فليس فيها، وإنما يحكم بها من غير إفصاحٍ، فلا يتأتّى العمل بها إلاّ على قول بعض متأخري الشافعية من أن حكم الأول مستصحب إلى صدور الثانية، فيعارضها الثانية إلى آخرها. قال: وإنما قلت: بأنه يحكم بالشهادة من غير إفصاحٍ؛ لأنّ الشهادة بالأرشدية يحتاج أن يكون الأولاد وأولاد الأولاد محصورين معلومين حتى يكون المشهود له أرشد من باقيهم. ومن شرط الدعوى: سماع البينة في وجه الخصم. فالخصم قد يكون أجنبيًا لمطالبته بالأجرة ونحوها. فلا يكون إثبات الأرشدية بكون الخصم أحد الأولاد وأولاد الأولاد، فيكون إثبات الأرشدية والنظر متصور ولتقديمه على قرابته المشاركة له في الولاية. فإذا قامت بينة أخرى بالأرشدية لغيره فلا بد من تصريحها بأن هذا أمر تجدد وحينئذٍ يصير كما قال الخصاف. والله أعلم. * صورة سؤال ورد على الشيخ - رحمه الله - من دمشق: الوقف في الشرع ما يباع في كلّ يومٍ عند وجود ما هو أصلح منه، ولما سمعت من عدم جواز بيع حبس به علةً يرجى زوالها إلخ. وقال في الفتاوى الظهيرية: سئل شمس الأئمة الحلواني عن أوقاف

المساجد، إذا تعطلت وتعذّر استغلالها، هل للمتولي أن يبيعها ويشتري بثمنها مكانها أخرى؟ قال: نعم (¬1). قيل: إن لم يتعطل، ولكن يوجد بثمنها ما هو خيرٌ منها، هل له أن يبيعها؟ قال: لا. قال: ومن المشايخ من لم يجوز بيع الوقف تعطل أو لم يتعطل، ولم يجوز الاستبدال. وهكذا حكي عن شمس الأئمة السرخسي. وإليه رجع الظهير. ويؤيد صحّة هذا: ما ذكر قاضي القضاة فخر الدين أبو عمر عثمان بن إبراهيم التركماني النفي في جواز الاستبدال، فإني وإن كنت أعتقد صحّته حين يتعطل الوقف أو يؤل إليه لو ترك على حاله لما فيه من إحيائه وإبقائه مع استقرار البيع للموقوف عليهم، وتحصيل غرض الواقف. اعلم: أن بهذا الحق يتوصلون إلى الباطل. انتهى. فصار الحاصل المنع، والجواز بشرط أن يشترطه أو حصول خللٍ لا ينجبر بما ذكر من عمارته بأنه بمال من له المنفعة أو بإجارته أو استدامة لا وجود راغبٍ بما هو أنفع من غير ضرورة في الوقف. فقد صح أن ما اعتمده في الاستبدال مسوّغًا ليس بمسوغّ عند من يرى صحة الاستبدال، وحيث لم يوجد المسوغ بطل ما ابتنى عليه. وقد وجهوا المنع بظاهر الحديث المتقدم. والجواز عند الاشتراط بما قال في المحيط: قال أبو يوسف: إن اشتراط ¬

_ (¬1) انظر مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية (31/ 212 - . . .) رسالة في إبدال الوقف، فإنها جديرة بالقراءة.

الاستبدال شرطٌ يقتضيه العقد؛ لأنه ريما تقع الضرورة إليه؛ لأن الأرض ريما لا يخرج منها بما لا يفضل من المُؤنِ فيؤدي إلى أن لا يصل في الموقوف عليهم شيءٌ لفسادٍ يحدث في الأرض وتكون الأرض الأخرى أصلح وأنفع للموقوف عليهم. فلهذه الضرورة جوّزنا شرط الاستبدال في الوقف. ومحمّدٌ جرى على أصله: من أنّ اشتراط شيءٍ للوقفِ يمنع الخلوص على ما عرف في موضعه، فلم يعتبر هذا الشرط، ووجه له: بأنّ في بيع ما ضعف من الوقف واستبداله بغيره عين مصلحته، ومراعاة بقائه، وإن أخّر حتى انعدمت منفعته بالكلية، ريما لا يرغب أحدٌ في شرائه ألبتّة، فيؤدي إلى استهلاكه وتعطيل منافعه. وفيه: إضاعة المال المنهي عنه شرعًا. فإن قلت: النصوص المتقدمة مطلقة، والمطلق يجري على إطلاقه. قلت: راوي الأصل قد أجاز النقل. فروى صالح بن أحمد بن حنبل، عن أبيه، ومن جهته: رواه الخلال. وعنه: رواه أبو بكر، عن القاسم قال: لما قَدِمَ عبدُ اللهِ بنُ مسعودٍ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ، وكان سَعْدُ بنُ مالكٍ قَدْ بَنَى القَصْرَ، واتّخذ مسجدًا عند أصحاب التَّمْرِ (¬1)، قَالَ: فَنَقِبَ بَيْتُ المَالِ، فَأخذَ الرّجلَ الّذي نقِبَهُ. فكتبَ إلى عمرَ ابن الخطّاب، فكتب عمر: أن لا يقطع الرّجل، وانقلِ المسجدَ، واجعل بيت المالِ في قبلته، فإنّه لا يزال في المسجد مصل. فَنَقَلَهُ عبدُ اللهِ، فَخَطّ له لهذه الخطة (¬2). ¬

_ (¬1) تحرف في المخطوط إلى: (النمر). (¬2) هذا الأثر غير موجود في مسائل صالح المطبوعة، لعله بسبب وجود سقط في المخطوطة. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = ورواه الطبراني في الكبير (8949) قال: حدثنا علي بن عبد العزيز، حدثنا أبو نعيم، حدثنا المسعودي، عن القاسم قال: قدم عبد الله وقد بنى سعد القصر، واتخذ مسجدًا في أصحاب التمر، فكان يخرج إليه في الصلوات، فلما ولي عبد الله بيت المال، نقب بيت المال، فأخذ الرجل، فكتب عبد الله إلى عمر، فكتب عمر: أن لا تقطعه، وانقل المسجد، واجعل بيت المال مما يلي القبلة، فإنه لا يزال في المسجد من يصلي، فنقله عبد الله، وخط هذه الخطة، وكان القصر الذي بنى سعد شاذر، وإن كان الإمام يقوم عليه، فأمر به عبد الله فنقض حتى استوى مقام الإمام مع الناس. وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (6/ رقم 10654): رواه الطبراني، والقاسم لم يسمع من جده، ورجاله رجال الصحيح. وروى الطبري في التاريخ (2/ 479) قال: كتب إليّ السري عن شعيب عن سيف عن محمد وطلحة والمهلب وعمرو وسعيد في قصة طويلة فيها: (. . . وقد بنى سعد في الذين خطوا للقصر بحيال محراب مسجد الكوفة اليوم، فشيده وجعل فيه بيت المال وسكن ناحيته، ثم إن بيت المال نقب عليه نقبًا وأخذ من المال، وكتب سعد بذلك إلى عمر، ووصف له موضع الدار وبيوت المال من الصّحن مما يلي ودعة الدار، فكتب إليه عمر أن انقل المسجد حتى تضعه إلى جنب الدار، واجعل الدار قبلة، فإن للمسجد اهلاً بالنهار وبالليل، وفيهم حصن لما لهم فنقل المسجد، وأراغ بنيانه. . .) وإسناده واهٍ، لا يصح. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية كما في مجموع الفتاوى (31/ 215 -): قال أبو بكر عبد العزيز في الشافي الذي اختصر منه زاد المسافر: حدثنا الخلال، حدثنا صالح ابن أحمد، حدثنا أبي، حدثنا يزيد بن هارون، حدثنا المسعودي، عن القاسم قال: لما قدم عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -. على بيت المال، كان سعد بن مالك قد بنى القصر، واتخذ مسجدًا عند أصحاب التمر، قال: فنقب بيت المال، فأخذ الرجل الذى نقبه، فكتب إلى عمر بن الخطاب، فكتب عمر: أن لا تقطع الرجل، وانقل المسجد، واجعل بيت المال في قبلته، فإنه لن يزال في المسجد مصل، فنقله عبد الله، فخط له هذه الخطة. قال صالح: قال أبي: يقال: إن بيت المال نقب من مسجد الكوفة، فحوّل عبد الله بن مسعود المسجد، فموضع التمارين اليوم في موضع المسجد=

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = العتيق. قال: وسألت أبي عن رجل بنى مسجدًا، ثم أراد تحويله إلى موضع آخر؟ قال: إن كان الذي بنى المسجد يريد أن يحوله خوفًا من لصوصٍ، أو يكون موضعه موضع قذر، فلا بأس أن يحوله، يقال: إن بيت المال نقب، وكان في المسجد، فحول ابن مسعود المسجد. حدثنا محمد بن علي، حدثنا أبو يحيى، حدثنا أبو طالب: سئل أبو عبد الله: هل يحول المسجد؟ قال: إذا كان ضيقًا لا يسع أهله، فلا بأس أن يجعل إلى موضع أوسع منه. حدثنا محمد بن علي، حدثنا عبد الله بن أحمد قال: سألت أبي عن مسجد خرب، ترى أن تباع أرضه، وتنفق على مسجد آخر أحدثوه؟ قال: إذا لم يكن له جيران، ولم يكن أحد يعمره، فلا أرى به بأسًا أن يباع وينفق على الآخر. حدثنا محمد بن عبد الله، حدثنا أبو داود قال: سمعت أحمد سئل عن مسجد فيه خشبتان لهما قيمة، وقد تشعثت، وخافوا سقوطه، أتباع هاتان الخشبتان، وينفق على المسجد، ويبدل مكانهما جذعين؟ قال: ما أرى به بأسًا، واحتج بدواب الحبيس التي لا ينتفع بها، تباع ويجعل ثمنها في الحبيس. ولا ريب أن في كلامه ما يبين جواز إبدال المسجد للمصلحة، وإن أمكن الانتفاع به؛ لكون النفع بالثاني أكمل، ويعود الأول طلقًا. وقال أبو بكر في زاد المسافر: قال أحمد في رواية صالح: نقب بيت المال بالكوفة، وعلى بيت المال ابن مسعود، فكتب إلى عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، فكتب إليه عمر: أن انقل المسجد، وصيّر بيت المال في قبلته، فإنه لن يخلو من مصل فيه. فنقله سعد إلى موضع التمارين اليوم، وصار سوق التمارين في موضعه، وعمل بيت المال في قبلته، فلا بأس أن تنقل المساجد إذا خربت. وقال في رواية أبي طالب: إذا كان المسجد يضيق بأهله، فلا بأس أن يحول موضع أوسع منه. جوّز تحويله لنقص الانتفاع بالأول لا لتعذره. وقال القاضي أبو يعلى: وقال في رواية صالح: يحوّل المسجد خوفًا من لصوص، وإذا كان موضعه قذرًا. وبالثاني قال القاضي أبو يعلى. وقال في رواية أبي داود: في مسجد أراد أهله أن يرفعوه من الأرض، ويجعل تحته سقاية وحوانيت، وامتنع بعضهم من ذلك؟ ينظر إلى قول أكثرهم. . . وانظر مطالب أولي النهى في شرح غاية المنتهى (12/ 451 - 452).

مسألة مهمة

فإن قلت في هذا: إنه أمرَ بنقل المسجد، ولم يكن متعطلاً، فينفذ ما يدّعيه بعض الحنابلة. قلت: بل فيه إشارة إلى تعطيله، فإنه علل بأنه لا يزال في المسجد مُصَلٍّ. فلو كان الأوّل كالثاني لما صحَّ هذا التعطيل، غير أن التعطيل قد يكون من الجماعة وإن كان باقيًا على أصل بينته. وقد يكون بسبب خراب بعضه أو غير ذلك. والله أعلم. وهاهنا مسألةٌ مهمّةٌ وهي: ما إذا وجد مسوّغ البيع والاستبدال فباعه بثمنٍ يتغابن الناس فيه جازَ البيع، وإن كان لا يتغابن الناس فيه، فالبيع باطلٌ نصّ عليه في التتارخانية (¬1) وغيرها. وهاهنا مسألة أخرى: قال في القُنْيَة للعلامة (¬2) نجم الأئمة البخاري: مبادلة دار الوقف بدارٍ أخرى إنَّما يصحُّ إذا كانتا في محلَّةٍ واحدةٍ، أو يكون محلُّهُ المملوك خيرًا من محلِّهِ الموقوف، وعلى عكسه لا يجوز، وإن كانت المملوكة أكثر مساحةً وأكثر قيمةً وأجرةً لاحتمال خرابها في أدوَنِ المحلَّتين لدناءتها وقلَّة رغبات النَّاس فيها (¬3). ¬

_ (¬1) للإمام الفقيه عالم بن علاء الحنفي. مرّ الكلام عنها. (¬2) تحرف في المخطوط إلى: (بعلامة). وهو الشيخ الإمام، أبي الرجاء، نجم الدين مختار بن محمود الزاهدي الحنفي، المتوفى سنة 658 هـ صاحب كتاب قنية المنية على مذهب أبي حنيفة. (¬3) البحر الرائق شرح كنز الدقائق (14/ 396) ومجمع الأنهار في شرح كنز الدقائق (5/ 45) ورد المحتار (17/ 335).

ومسألة أخرى: وهي ما شرط الواقف أن لا يباع ولا يستبدل به، ولا يناقل إلخ. فعلى قول من لا يجوّز الاستبدال هاهنا من باب أولى. وكذا على قول من لا يجوّز إلاّ إذا شرطه. وأمّا على قول محمّدٍ: فينبغي أن يجوّز الاستبدال؛ لأنه تعارض فيه شرط الواقف ومصلحة الوقف. ومصلحته مقدّمٌ، كما إذا شرط أن لا يؤجّر أكثر من سنةٍ أو شَرَط أن لا يخرج عن النّاظر، وطرأ (¬1) عليه ما يوجب إخراجه. نصّ على الأوّل في الفتاوى الفيريقية، وعلى الثاني الكافي. والله أعلم. ثم أوقفني على أجرته أهل العصر من علمائنا الحنفية، فأجرها صورته هكذا: الاستبدالات الواقعة في هذا العصر لا يكاد يوجد فيها في شيءٌ من الشروط عند من يرى جوازها لا سيما بخبر المقوّمين الذين لا ينظرون إلى البدل والمبدل عنه، فضلاً عن تقويم منفعته، ورعاية جانب الوقف. وإذا تبيّن أن لا غبطة في الاستبدال حين وقوعه ببينةٍ معدّلةٍ سرًا وجهرًا عارضه لذلك نظر في أمر البينة المسوّغة لوقوعه. ومما يقوي النظر في أمرهم مما ذكر من الموانع الواقعة في البدل المفضية إلى سلب الانتفاع رأسًا. هذا ولا يمنع المستحقين الطلب واسترجاع حكم الحاكم. وعند تعذّر العقد يراعى المقصود من ذلك بما يحصل به لجهة الوقف ¬

_ (¬1) في المخطوط: (طوى).

ريعٌ مستمرٌّ ولا يضرُّ. والحالة هذه. ثانيهما: إذا تبينَ وتحقق بالشهادة المفيدة للعلم، وتصور القطعة الأرض عن قيمة المُقَرّ به وتفاوت ما بينهما التفاوت الفاحش الذي لا يختلف فيه المقومون، ولا يتوقف فيه النّاظرون. فهذا دليلٌ على كذب المقوم في تلبيسهم الأمر على الحاكم الذي حكم بالغبطة فلا يعمل بتلك الشهادة، ولا بما يترتب عليها، وإنما ينشأ من التقصير بعدم الاستقصاء بطل شروط الحكم أو بالاجتراء مع العلم بفوات الشروط أو بعضها فيجب على من تحقق ذلك أن يبني الأمر على ما حقق وحصل به لإنفاذه لا على ما ليس وقرّه به على الحاكم أو حصل به الاجتراء في الأحكام. ثالثها: عبارته: بطلان هذا الاستبدال إذا ثبت ما ذكر من عدم الغبطة والحظ والمصلحة على مذهب من لا يرى جواز الاستبدال في الوقف ظاهرٌ. أمّا على مذهب من يراه، وكذلك لانتفاء شرط صحته عنده، فالواجب على من ثبت ذلك عنده من الحاكم إبطال هذا الحكم، وإعادة الوقف إلى أهله بطريق الشرع، فيثاب بذلك الثواب الجزيل. والله سبحانه وتعالى أعلم. رابعها: هذا الاستبدال باطلٌ من وجوهٍ: الأوّل: عدم المسوّغ فيه على قول من يقول بذلك. الثاني: من جهة استهتار الشهود فيه. الثالث: من جهة استهتار القاضي الذي حكم به. الرابع: من جهة رغبة المستبدل فيه من حيث قال: إن القطعة التي هي البدل هي أكثر غلّةٌ وأقرب استبدالًا. فإذا كان كذلك فما الفائدة فيه: أن يعطي

بدلًا أكثر من ريع المستبدل. فهذا يدل على أنّ غرضه تلك القرية بهذه الحيازة. الخامس: أن الملكية في البدل لم تثبت. السّادس: أن المستفتي ذكر أن البدل كان مرصدًا في ديوان الأحباس. والذي يرصد في ديوان الأحباس على شرف الزوال، فلا يجوز جعله وقفًا، ولا يبدل وقفٌ إلاّ بعد الشكر من بيت المال على الوجه الشرعي. السّابع: أن الاستبدال في المقر به ليس كالاستبدال في الدور؛ لأنّ الاستبدال في الدور على قول من يرى بذلك، خوفًا من أن يؤل إلى الخراب، أو كان فيه بعض خرابٍ، والقرية ليس كذلك. فإِنّ أرضها لا تخرب أصلًا. الثامن: ظهور على المقر به أكثر من البدل. يدلّ على تكذيب الشهود وتهوير الحاكم. التاسع: ظهور بعض القطعة المذكورة خرسًا، فإنّ هذا أيضًا من أقوى الوجوه ليبطل هذا الاستبدال. العاشر: نزول الظلمة من الأجناد على القطعة المذكورة، وزرعهم فيها من غير أجرةٍ. فهذا الاستبدال باطلٌ من عشرة وجوه. فالحكم فيه: أن ترد القرية المذكورة إلى وقفية واقفها، ويلغى ما ذكر في ذلك من الحظ والمصلحة، فلا حظّ ولا مصلحة في ذلك. وأمّا ريعها الذي حصل، فإنه مضمونٌ. والله أعلم. خامسها: نعم هذا الاستبدال غير صحيحٍ. ولو حكم به، فإنّ الاستبدال في الوقف لا يصحُّ على المذهب إلاّ في رواية عن أبي يوسف بشرط حصول الغبطة للوقف وأن يكون برأي القاضي وتدبيره.

فأيّ غبطةٍ في هذه الصورة المنصوصة أعلاه المشتملة على فاحش الغبن، بل على إعدام جهة الوقف. فالقرية واقعة على حكم الوقف ولا عبرة بمثل هذا الاستبدال ولا معوّل عليه. ولو حكم به مع اختلال شروطه، وكذب شهوده، وعدم القرية للاستبدال بمثل هذا البدل خصوصًا مع احتمال وقفيته فيتعين. ويجب على النّاظر السعي في رفع هذه المفسدة برفع أمره إلى الحكام وولاة أمور الاستبدال. ويتعين عليهم: إزالةُ هذا المنكر الشنيع، ويثابون على ذلك الثواب الجزيل ويصيرون شركاء الواقف في الأجر بالمساعدة في استرجاع القرية إلى مستحقيها. وليس للنّاظر طلب عوضٍ عن القطعة المذكورة من أرضٍ أو بناءٍ أو ما يقوم مقام ذلك، ففيه تقريرٌ للفساد. والله الموفق للعباد. سادسها: إذا ظهر يقينًا كون البدل دون الوقف، ظهر أنْ (¬1) لا أثرَ لذلك الحكم، كما لو حكم بموتِ رجلٍ، فجاء حيًّا، وإن لم يظهر الغبن فيه، فإن كان الواقف شرط أن يستبدل به إذا شاء المتولي أو كانت القرية ضعف نزلها وتوجه إليها الخراب جاز الاستبدال وإن لم يكن واحدًا إلا من أمرين لم يجز، وعلى النّاظر أن يخاصم في رفع ذلك. والله أعلم. وقال: ظاهر الأوّل: أنه يكتفي بشهادةٍ إذا كانوا عدولًا ولا عارفين في أنّ المبدل له أكثر قيمة ويكون ثبوت هذا مسوّغًا وهو خلاف ما نقلته لي من الكتب الذي سميت، فمن أين هذا؟. قلت: لا أعلم إلا ما نقلت لك. وعليك من تتبع الكتب وعندك من ¬

_ (¬1) في المخطوط تحرفت إلى: (إذ).

الأهلية ما يكفيك في معرفة الحق. قال: وظاهر قوله: وإذا تبين أن لا غبطةَ ببينة معدلة إلى آخره. إنّ طريق إبطال هذا الاستبدال معارضة البينة التي حكم بها في الاستبدال ببينةٍ أخرى يشهد أن لا غبطة. وترجّح هذه البينة بثبوت ما ذكر في السؤال وهو خلاف قواعد الشرع من أنّها شهادة في معارضة إثبات مؤيدة بحكمٍ. فكيف تسمع، ثم يطلب ترجيحها. وأيضًا: وإذا ثبتت الموانع التي أشار إليها أثبت كذب الشهود المسوّغ. وبطل الحكم المبني عليها، فأيّ حاجةٍ بعد ذلك إلى بينةٍ لا تسمع في الشرع. قال: وقوله: عند تعذّر العود. كيف يتصوّر هذا التعذّر فيما ذكر. قلت: ولا أنازع أهل الفتوى في معلوماتهم، وإنّما أذكر ما أعلمه. قال: وقول الثاني: إذا تبين إلخ. ظاهرٌ في أنّ طريق إبطال هذا الاستبدال أن يحمل القاضي إلى القطعة المستبدل بها ليشاهدها ويكون من أهل الخبرة بقيمة الأراضي، ثم يقضي بعلمه أن هذه دون تلك يبطلان هذا الاستبدال مع معارضة هذا للحكم المتقدّم المعتمد على البينة المقبولة عند الحاكم. وترجّح هذا. وفي هذا خلاف قواعد الشرع وعسر ظاهرٌ. وقد لا يرضى القاضي بذلك فيضيع الحق، ثم هو مخالفٌ لقول المفتي الأوّل: إذا ثبت بالبينة مع كونهما مقلدي إمامٍ واحدٍ، ثم هو مخالفٌ لما نقلت لي من الكتب الذي سميت: أنّ الشرط ما ذكرت. قلت: تقدم جوابي في مثل هذا، وأنت غنيٌّ عن إعادته. قال: فما معنى قوله: وإنّما ينشأ ذلك. . . إلخ؟.

قلت: علمي وعلمك فيه سواء، بل ينبغي أن تكون أجد مني بعلم ذلك، فإنّك قد باشرت الأحكام زمانًا مع دوام الدروس والمطالعة. قال: وما الحاجة إلى قول الثالث ببطلان هذا الاستبدال إلى قوله: أمّا على مذهب من يراه، فكذلك؟. قلت: تقدّم جوابي عن مثل هذا في الجواب الأوّل. قال: وقوله: لانتفاء شرط صحّته عنده ظاهرٌ في أنّه لو كان حكم القطعة كما ذكر شهود الاستبدال كان صحيحًا، وهو خلاف ما نقلت لي من الكتب التي سميت. قلت: تقدّم الجواب. والله أعلم بالصّواب. قال: فما معنى قوله: إبطال هذا الحكم؟. قلت: أن يحكم بأن ذلك باطلٌ لعدم شرط صحّته. قال: فما معنى قوله: وإعادته إلى أهله بالطريق الشرعي؟. قلت: تمكينهم منه بسبب حكمه وإبطال الحكم الأوّل. قال: قول الرابع هذا الاستبدال باطل الأول، عدم مسوّغٍ فيه. يدلُّ على أنه لو كانت القطعة المذكورة، كما ذكر الشهود. ويصح الاستبدال وهو خلاف ما نقلت لي من الكتب التي سمّيت. قلت: قد علمت جوابي، ولا أزيد عليه. قال: قوله الثاني من جهته استهتار القاضي ما معناه. قلت: الإفصاح على ما في كلٍّ جرى مما يقع للناس، فتح باب معاداتهم، ولا حاجة لي في ذلك، بل لم أزل سلمًا للكل. والله أعلم.

قال: قوله الرابع: من جهة رغبة المستبدل إلى آخره. يقتضي: أن أحدًا لا يستبدل وقفًا بما هو أنفع منه. فكيف نصّ الفقهاء على ما لم يقع. قلت: أنت خبيرٌ بعدم حصر القرض في الاسترباح، فلا يحتاج إلى الجواب عن مثل هذا. قال: فما الفرق بين الخامس والسادس؟. قلت: هو مثل ما بين الأوّل والثاني. قال: فما قوله بعد الشراء من بيت المال فيما هو وقفٌ محبس على معنى؟. قلت: مثلك لا يسأل عن معنى هذا أو صورته إذا مات يستحقه من ديوان الأحباس. وعادت الأرض إلى بيت المال، ثم ثبت والعياذ بالله حاجة بيت المال إلى بيع هذه الأرض فاشتراها، استحقوا، ثم لما ملكها تستبدل بها وقفًا. قال: قوله: الاستبدال في القرية ليس كالاستبدال في الدور. إنّ الاستبدال في الدور خوفًا من أن تؤول إلى الخراب. والقرية ليست كذلك؛ لأنّ أرضها لا تخرب أصلًا مخالفٌ لما نقلت لي عن محمّدٍ من قوله: وإذا ضعفت الأرض الموقوفةُ عن الاستغلال. إلخ. ولما في السؤال من قوله: في الأرض البدل بعضها خرسٌ إلى غير ذلك. فكيف قال هذا. قلت: - والله أعلم - بما يصوّره من معنى خراب الأرض.

قال: قوله: التاسع: ظهور بعض القطعة المذكورة خرسًا كيف يكون هذا الظّهور؟. قلت: على قول المعنى الأوّل بالبيّنة على قول المفتي الثاني بالمشاهدة وظاهرها مشاهدة الحاكمِ. قال: قوله: إن نزول الظَلَمَة في الأرض وزرعهم إياها بغير أجرةٍ كيف مبطلاً للاستبدال؟. قلت: لعلّه أراد: أن بهذا يمتنع تسليم البدل. والله أعلم. فالأبعد: التسليم. وهي مما يصح الاستبدال بها، لا يبطل الحكم بسبب تعدي متعدٍّ على ذلك. قال: فما معنى قوله: فالحكم فيه: أن ترد القرية إلى وقفية واقفها. وأنت قلت: فالقرية المذكورة وقفٌ على ما كانت عليه. قلت: معناه: أن يجري عليها حكم الوقف. والله أعلم. قال: وقول الخامس: الاستبدال لا يصحّ علي إلا في رواية عن أبي يوسف بشرط حصول الغبطة. إلخ. مخالفٌ لما نقلت لي عن قول أبي يوسف من الكتب التي سميت. قلت: لا. بل هو مطابقٌ بالمعنى لظاهر الرواية التي نسبت لأبي يوسف وهي التي نقلتها لك عن قاضي خان حيث قال: وأمّا بدون الشرط: أشار في السير إلى أنه لا يملك الاستبدال إلا القاضي إذا رأى المصلحة في ذلك. وهي التي نقلها أبو بكر الرازي في أدب القضاء حيث قال: وإن لم يشرط. قيل: للقاضي ولاية الاستبدال إذا رآه مصلحةً في

روايةٍ عن أبي يوسف. وقد علمت: أن أحدًا من أهل هذا القطر لا يشترط الاستبدال في وقفه بل ربما ينص على عدمه. فلهذا قال المفتي: إنه لا يصح إلا على رواية عن أبي يوسف إلخ. لكن هذا إذا حصل في الوقف خلل كما قدمت لك، فهذه الرواية في المعنى مطابقةً لرواية هشام عن محمد كما نقلته لك عن المنتقى. والله أعلم. قال: وأمّا الحاجة إلى قول السّادس: إذا ظهرَ يقينًا كون البدل دون الوقف ظهر أَنْ لا أثرَ لذلك الحكم مع قوله: وإن لم يظهر الغبن فيه، فإن كان الواقف شرط أن يستبدل به إذا شاء المتولي أو كانت القرية ضعف نزلها، وتوجه إليها الخراب. جاز الاستبدال وإن لم يكن واحد من الأمرين، لم يجز. فإنّ في هذا تصريحات شرط الاستبدال كما ذكر. وهو مفقود فيما اعتمده الحاكم بصحة الاستبدال. قلت: ذكر ذلك ليطابق السؤال، فإنّ في السؤال أنه تبين كذا وكذا. فقال: إن كان هذا صحيحًا كان الحكم كذا. ثم أفاد من قبل نفسه تبرعًا في الجواب: أنه إن لم يكن ما ذكر في السؤال صحيحًا أو تعذر ثبوته. فينظر: هل المسوّغ للاستبدال في نفس الأمر ثابتٌ أم لا؟ وأفاد ما هو المسوّغ في نفس الأمر وهو اشتراط الاستبدال عند أبي يوسف أو ضعف الوقف عما عليه من الريع والمُؤن، وتسارع الخراب على قول محمد. فهذا الجواب هو المشتمل على إصابة الصواب. والله أعلم.

(21) صورة سؤالات وأجوبة عنها

مَجْمُوعَةُ رَسَائِل العَلَّامَة قَاسِم بن قُطْلُوبُغَا [21] صُورَةُ سُؤَالَاتٍ وَأَجْوِبَةٍ عَنْهَا تَأْلِيفُ العَلَّامَة قَاسِم بْنِ قُطْلُوبُغَا الحَنَفِي المولود سَنَة 802 هـ والمتوفى سَنة 879 هـ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -

بداية الرسالة

(21) صُورَةُ سُؤَالَاتٍ وَأَجْوِبَةٍ عَنْهَا ورد على الشيخ - رحمه الله تعالى - من دمشقٍ: مَا تقولُ السّادة العلماء الحنفية أئمة الدين، وعلماء المسلمين رضي الله عنهم أجمعين في رجلٍ شافعي المذهب، عالمٍ بالفرائض، يرجع إليه في ذلك في بلده يقول: إنّ فرائض الحنفية ناقصة كثيرًا مما نصن عليه الجمهور من العلماء. من ذلك: أنهم لم يذكروا في باب الموانع: أنّ الدور الحكمي مانعٌ أم لا؟ وقد نصّ عليه الجمهور. ولم يذكروا في باب الردّ ما إذا كان في الورثة خنثى كأمّ وأختٍ لأبوين وخنثى لأب وزوجة وولد ابنٍ خنثى وأم أختٍ لأبوين، وأختٍ وخنثى وأمّ وولديها وأختٍ وخنثى لأب. ولم يذكروا في باب العول (¬1) ما إذا كان في الورثة خنثى مع مخالفة أبي يوسف لأبي حنيفة ومحمّد في صوابه. ولم يذكروا في باب المناسخات اختصارها وهو من المهمّات. ولا في باب الحمل ما إذا اختلف حال الحمل ومورثه في الدين ككافرٍ ماتَ عن كافرةٍ حاملٍ أو من غيره كزوجةِ ابنه، ثم أسلمت قبل الوضع. ¬

_ (¬1) في المخطوط: القول، والصواب ما أثبت.

ولا ما استهل أحد التوأمين وماتا ولم يعرف المستهل. وفيه تفصيلٌ وله أحكامٌ. ولا من مسائل الجهل بالسابق موتًا ما لو علمَ، ثم نسيَ. وأمّا فلم يتعرضوا فيما إذا أوصى بمثل النصيب وكان في الورثة خنثى أو خناثى ولا دوريات الأقرار ولا دوريات الوصايا ولا العين (¬1) والدين، ولا ما إذا اجتمع وصيّته لوارثٍ ولغير وارثٍ في جنسٍ مع إطناب السلف والخلف في كيفية القسمة في أمثال لذلك مما نصّ عليه المصنفون من أرباب المذاهب. وطالعت الكثير فلم أجد عينًا ولا أثرًا وراجعت الكثير، فلم أجد حسًّا ولا خبرًا، بل غايته كلام لا نقل ولا تخريج. هذا حاصل الكلام، وإن كانت العبارات مختلفة حتى اشتدّ بعض الناس. ألا يا تابعي النعمان نوحوا ... على علمائكم وأبدوا انتحابا فمنهم قد خلا شام ومصر ... فمعهد فضلكم أضحى خرابا أجاب الشيخ - رحمه الله تعالى -: الحمد لله، ربّ زدني علمًا. ليس الأمر كما زعم من نقص فرائضنا، وما ذكر من المسائل فموجودٌ في كتب علمائنا تنصيصًا وتأصيلًا، وغالب ما يوجد في كتب أئمة هذا القائل ¬

_ (¬1) في المخطوط: (نعين) والصواب ما أثبت.

فمبلغ علمائنا وهم السّابقون إلى استنباط الفقه، وتدوينه. وعنهم أخذ واقتفى. فقد دوّن الفقه عن إملاء أبي يوسف من قبل سنة 181 إحدى وثمانين ومئة. ودوّن الحسن بن زياد كتاب المقالات في حساب الوصايا وأعمال الدّور، وإخراج المجهولات في هذا التاريخ. ودوّن عن إملاء محمد والحسن: كتاب الخنثى، وكتاب فرائض الخنثى، وكتاب الدّور، وكتاب حساب الوصايا، قبل 189 تسعٍ وثمانين ومئة. وروينا في تاريخ الخطيب (¬1)، عن الشافعي أنه قال: أخذت عن محمّد ابن الحسن، وَقْرَ [بُخْتي] كتبًا (¬2). ورويناه في طبقات ابن سعدٍ (¬3)، عن الربيع وسليمان عنه ¬

_ (¬1) ترجمة الإمام محمد بن الحسن بن فرقد الشيباني في تاريخ بغداد (2/ 172). (¬2) قال الخطيب (2/ 176): أخبرنا محمد بن أحمد بن رزق قال: أنبأنا عثمان بن أحمد الدقاق قال: أنبأنا محمد بن إسماعيل التمار الرقي قال: حدثني الربيع قال: سمعت الشافعي يقول: حملت عن محمد بن الحسن وِقْرَ بُخْتي كتبًا. وانظر تاريخ الإسلام للذهبي (وفيات 189) (ص 359) والعبر له (1/ 302) والنجوم الزاهرة لابن تغري بردي (1/ 186). وانظره أيضًا في تهذيب الأسماء واللغات للنووي (1/ 81) وفيه: وقري بختي. وطبقات الشافعية لأبي إسحاق للشيرازي الفيروزآبادي (ص 135) وفيه: وقر بعير، وكذا في وفيات الأعيان (4/ 184). (¬3) لم أجده في الطبقات الكبرى لابن سعد. قال ابن سعد (7/ 336): محمد بن الحسن، ويكنى أبا عبد الله، مولى لبني شيبان، وكان أصله من أهل الجزيرة، وكان أبوه في جند أهل الشام، فقدم واسط، فولد محمد بها في سنة اثنتين وثلاثين ومئة، ونشأ بالكوفة، وطلب الحديث، وسمع سماعًا كثيرًا من: مسعر، ومالك بن مغول،=

ورويناه في بيان المنتظم. وقرأته على حافظ العصر أحمد بن علي بن حجر في كتاب الإنباء (¬1) من تصنيفه، وأجازني به في سابع عشر شهر رجب سنة خمسين وثلاثين وثمان مئة. وروينا في تاريخ الخطيب (¬2)، عن إبراهيم الحربي (¬3): قلت لأحمد بن حنبل: من أين لك هذه المسائل الدقاق؟ قال: من كتب محمد بن الحسن. وكذلك رواه ابن الجوزي في المنتظم (¬4)، وفيه: رويناه من طريق الخطيب هذا. ¬

_ = وعمر بن ذر، وسفيان الثوري، والأوزاعي، وابن جريج، ومحل الضبي، وبكر بن ماعز، وأبي حرة، وعيسى الخياط، وغيرهم، وجالس أبا حنيفة، وسمع منه، ونظر في الرأي، فغلب عليه، وعرف به، ونفذ فيه، وقدم بغداد فنزلها، واختلف إليه الناس، وسمعوا منه الحديث والرأي، وخرج إلى الرقة وهارون أمير المؤمنين بها، فولاه قضاء الرقة، ثم عزله، فقدم بغداد، فلما خرج هارون إلى الريّ الخرجة الأولى أمره، فخرج معه، فمات بالري سنة تسع وثمانين ومئة، وهو ابن ثمان وخمسين سنة. (¬1) تحرف في المخطوط إلى: (الانبار). ولعله: كتاب إنباء الغمر بأبناء العمر. (¬2) (2/ 177) قال: حدثني الخلال قال: حدثنا علي بن عمرو، أن علي بن محمد النخعي حدثهم قال: حدثنا أبو بكر القراطيسي قال: حدثنا إبراهيم الحربي قال: سألت أحمد بن حنبل قلت: هذه المسائل الدقائق من أين لك؟ قال: من كتب محمد بن الحسن. وانظره في تهذيب الأسماء واللغات للنووي (1/ 81 - 82) والنجوم الزاهرة لابن تغري بردي (1/ 186) وتاريخ الإسلام للذهبي (وفيات 189) (ص 360). (¬3) تحرف في المخطوط إلى: (الخبري). (¬4) لم أجده في المطبوع من المنتظم.

وأما النقل بالمسائل المذكورة، فقال محمَّدٌ في الإملاء: ولو كانت للرَّجل عمَّةٌ أو مولى نعمةٍ (¬1)، فأقرَّت العمَّة أو مولى النِّعمة (¬2) بأخٍ للميِّت من أبيه أو بأُمِّه أو بعمٍّ أو بابن عمٍّ، أخذ المقَرُّ [له] الميراث كلَّه، لأنّ الوارث المعروف أقرَّ بأنَّه (¬3) مقدَّمٌ عليه في استحقاق ماله، وإقراره حجَّةٌ على نفسه. انتهى. فلمَّا لم يكن في هذا دورٌ عندنا لم يذكر في الموانع وذكر في بابه (¬4). حتى ذكر في الملقبات: قال في الإسفار: ومنها أدخلني أخرجك. فذكر هذه المسألة. وأمّا إذا كان مع الجد أخوة وفيهم خنثى فهذه المسألة مأخوذٌ حكمها مما أصّل الأئمة. ¬

_ (¬1) في المخطوط: (عمة). (¬2) في المخطوط: (العمة). (¬3) في المخطوط: (بأن). (¬4) قال صاحب رد المحتار (23/ 231): قالوا: إنّ الإقرار بنسبٍ على غيره يصحّ في حق نفسه، حتى تلزمه الأحكام من النّفقة والحضانة لا في حقّ غيره، وقد رأيت المسألة منقولةً، ولله تعالى الحمد والمنّة في فتاوى العلاّمة قاسم بن قطلوبغا الحنفيّ، ونصّه: قال محمّد في الإملاء: ولو كانت للرّجل عمّةٌ أو مولى نعمةٍ فأقرّت العمّة أو مولى النّعمة بأخٍ للميّت من أبيه أو أمّه أو بعمٍّ أو بابن عمٍّ أخذ المقرّ له الميراث كلّه؛ لأن الوارث المعروف أقرّ بأنهّ مقدّمٌ عليه في استحقاق ماله وإقراره حجّةٌ على نفسه. اهـ هذا كلامه، ثمَّ قال: فلمّا لم يكن في هذا دور عندنا لم يذكر في الموانع وذكر في بابه. اهـ. وانظره أيضًا في حاشية رد المحتار (6/ 178) وتكملة حاشية رد المحتار (2/ 315).

باب العول

فأبو حنيفة يحجب الأخوة بالجد، فلا يتوجه على قوله سؤال. وعلى قولهما: إذا كانت المقاسمة خيرًا للجد فكان حينئدٍ. وكذا إذا استوى الثلث والقسامة. وإن كان الثلث خيرًا للجد فله الثلث. والباقي للأخوة كأن لم يكن جد، فإن كان معهم صاحب فرضٍ فله فرضه. والباقي على الحكم المعلوم بأن كان ثلث الباقي خيرًا له. فله ذلك. والباقي بينهم، كأن لم يكن جد. وإن كانت القسامة خيرًا فكما مرّ وإلاّ فله السدس الباقي. والباقي بينهم كأن لم يكن جد. وأمّا باب العول: فالنّقل فيه عن علمائنا في شرح العلامة محمود، عن الصّدر سليمان، مما أصّله عن محمد في الإملاء بلفظ: لو كان في مسائل الخنثي عولٌ كأبوين وبنتين وزوجة وهي المنبرية وأحد البنتين خنثى تعتبر الخنثى أنثى على قول أبي حنيفة؛ لأنه في حقّه ببابه أصلها على تقدير المذكورة من أربعة وعشرين. وتصحّ من اثنين وسبعين للأنثى منها ثلاثة عشر. وعلى تقدير الأنوثة لها ثمانية من سبعة وعشرين وهي أقل من الأولى وعلى قولهما. تصحّ من أربع مئة واثنين وثلاثين للخنثى مئة واثنان وأربعون؛ لأنه لو كان ذكرًا أخذ مئة وستة وخمسين. ولو كان أنثى أخذ مئة وثمانية وعشرين. وذلك مئتان وأربعة وثمانون ونصفها ما ذكرناه. هذا نصّه. وأمّا باب الرّدّ فنصّه فيه: لو كان في مسألةٍ ردٌّ كأخ لأم وولد أب وأم خنثى وولد أب على قول أبي حنيفة لولد الأب والأم النصف بيقين. ولولد الأم السدس بيقين، ثم إنّ ولد الأم يقول: إنمّا اثنتان والمال مورود على خمسة

ولي خمس المال ومعي السدس. يبقى لي ما بين السدس والخمس وهو ثلاثة عشر سهم من ثلاثين. فهذا السهم يدعيه الثلاثة فيكون بينهم أثلاثًا يبقى من المال خمس وعشر. وذلك تسعة لا دعوى فيها لولد الأم، ويدّعيها ولد الأب والأم وولد الأب فيكون بينهما نصفين. فقد حصل مع ولد الأم خمس وثلث من ثلاثين ومع ولد الأب والأم تسعة عشر ونصف وثلث. ومع ولد الأب أربعة ونصف فاضرب مخرج الثلث والنصف في الثلاثين يكن مئة وثمانين. انتهى. ولي فيه بحثٌ بيّنته في شرح مقدمة الفرائض للسيد. ثم قال: وعلى القول بالأحوال لو كانا ذكرين، كانت من ستة، ولو كانا اثنين كانت من خمسة، فاضرب خمسة في ستة تكن ثلاثين، ثم في اثنين تصير ستين لولد الأم في حالة السدس. وفي حالة الخمس خمسة وستة إحدى عشر من ستين والباقي لولد الأب والأم؛ لأنّ له في حالة خمس أسداس. وفي حالة: ثلاثة أخماس. وإن اجتمع مع من يرد عليه كامرأة وولد وخنثى وولد ابن خنثي فصَحِّحْ مسألة الخنثيين، واعرف قسمة المال بينهما، ثم اجعل قسمة المال من ثمانيةٍ لثمن المرأة، فأعطها منها واحدًا يبقى سبعة أقسمٍ على ما صحّت منه مسألة الخنثيين. انتهى. فإذا عرفت نصوص علمائنا وطريق العمل عندهم خرجت المسائل التي مثل بها السائل على ذلك. فالأولى: من خمسة عند الإمام. ومن اثنين وأربعين عند أبي يوسف. والثانية: من ثمانية بلا خلاف.

والثالثة: من ستة. والرابعة: كذلك عند الإمام، وعليه الفتوى. ولا يخفى طريق العمل بعد تقدير الأصول. وأمّا اختصار المناسخة: فبعض علمائنا فيها لفظه. وأمّا قطع المناسخة وهي: أن تطلب الموافقة بين نصيب كل جنسٍ من ورثة الأموات جمعًا، فإن وجدت فخذ جزء الموافقة من نصيبه قبل القطع. مثاله: مات وترك زوجة وأختًا لأبٍ وأم وجدّة وعمًّا، ثم الجدة ماتت وتركت ابنًا الذي هو عم الميت فصار للعم ثلاثة وللزوجة ثلاثة وبين الثلاثة والستة موافقة بالثلث فصار للأخت سهمان وللعم سهمٌ، وللزوجة سهمٌ. وأمّا إذا اختلف حال الحمل ومورثه في الدين فنصّ علماؤنا في ذلك المرتدة في ذلك وجاءت بولدٍ لأكثر من ستة أشهر إلى ستين ورث. وإن ولدت لأكثر منها لم يرث، فإنّ ارتدا معًا فولدت لأقل من ستة أشهر من حين الردة، ثم قبل الأب على الردة، ورث الصبي منه. وكذا لو مات المسلم عن امرأته الحامل فارتدت ولحقت بالدار وولدت فتبين أنه كان موجودًا قبل، تبين الدين ورث وإلاّ لا. وأمّا استهلال أحد التوأمين فنصّ علماؤنا فيه. مات عن ابن وامرأةٍ حامل فولدت ابنًا وبنتًا أحدهما ميّت والآخر استهلّ، ولا يدرى أيّهما استهلّ فللمرأة الثمن وللابن النصف ما بقي. وللمستهلّ ثلث ما بقي، وما زاد على الثلث إلى النصف بينهما. ولي في فيها بحثٌ جليل. . . . .

مع السَّجاوَندي (¬1) والسّرخسي وحيدر (¬2)، أوردته في شرحي لمقدمة الفرائض للسير، فمن أراد الوقوف عليه فليطالعه ثمّة. وأمّا إذا علم السّابق موتًا في نحو المتوفّى، ثم علم، فنصّ علماؤنا فيه: وإذا مات متوارثان أو أكثر في غرقٍ أو هدمٍ أو ازدحامٍ أو طاعونٍ أو تردٍّ أو قتالٍ ولم يعلم أيّ المتوارثين مات أوّلًا، وادّعت ورثة كلّ ميتٍ أنّ الآخرَ هو السّابق بالموت أو تعارضت بيّنتان أو مات أحدهما قبل الآخر أو أشكل السّابق أو علّمناه، ثم جهلناه، جعلوا كأنهم ماتوا معًا فمال كلّ واحدٍ لورثته إِلاّ حيًّا. ولا يرث بعض الأموات من بعضٍ. وأمّا إذا أوصى بمثل نصيب أحد الورثة، وفيهم خنثى أو خناثى، فيعلم بما أصّلوه في ذلك وهو: أن يجعل الموصى له، إمّا زائدًا على بني الميت حتى إذا كانوا ثلاثة كان له الربع، وقد ذكروا في هذا ما هو بالعطف. وما هو بالاستثناء في شرح الزيادات وغيره. وأمّا دوريات الإقرار: فقال في الإسعاد: ويلتحق بالوصايا الأقارير. ¬

_ (¬1) تحرف في المخطوط إلى: (الشجا وندي). وهو المفسر، الفقيه، الفرضي، الحاسب، محمد بن محمد بن عبد الرشيد السجاوندي، الحنفي، سراج الدين، أبو طاهر، كان حيًا حوالي 596 هـ وقيل مات في حدود سنة 600 هـ، من آثاره: السراجية في الفرائض، التجنيس في الحساب، رسالة في الجبر والمقابلة، عين المعاني في تفسير السبع المثاني، الوقف والابتداء، وذخائر نثار في أخبار السيد المختار - صلى الله عليه وسلم -. كشف الظنون لحاجي خليفة (353 و 852) والجواهر المضية للقرشي (2/ 119 و 120) وهدية العارفين للبغدادي (2/ 106). (¬2) لم أعرفه.

ويحتاج إلى معرفة ما فوق الكبير وما تحته إلى آخر الباب. وأمّا دوريات الوصايا، فقد صنّف محمّدٌ فيه ونصّه: باب العين والدين: وإذا مات الرّجل وترك ابنين له على أحدهما دين عشرة دراهم وترك عشرة دراهم عينًا ولا مال له غير ذلك، ولا وارث له غيرهما، فأوصى بالثلث، فإنّ الفريضة من ثلاثة إلى آخره وهو جزءٌ لطيفٌ. وأمّا اجتماع الوصيين في الحبس فنقول (¬1): على أن الحبس إن خرج من الثلث فما أصاب الوارث مما جعله له المحبس، قسم عليه وعلى بقية الورثة على قدر مواريثهم. وما أصاب غير الورثة سلم له، فإذا مات الوارث سلمت لمن ليس بوارثٍ على ما شرط المحبس. وإذا كانت لا تخرج من الثلث يكون ثلثاها ميراثًا. والثلث على ما تقدّم. والله سبحانه وتعالى أعلم. وأنشد الشيخ قاسم - رحمه الله تعالى -: الله أحمدُ إذْ أَبقى لنا كتبًا ... حوت علوم سراج الأمة الوسط هي الأوائل في التدوين قد برزت ... من حوز فكرته المأمونة الغلط منها استمد الذي قد جاء بعد كذا ... في كتبهم تُليت بالحرف والنّقط ¬

_ (¬1) في المخطوط: فقبول.

فائدة

فمعهد الفضل معمور بها وبمن ... قد حازها صدره حفظًا على النمط فلا ينوح بلا شكرٍ لبارئنا ... ونكثر الرّحمة السّحّاء على الفَرَط والله سبحانه وتعالى أعلمُ. * فائدة: ذكر في النوادر في باب الغصب: المعتوه: من كان قليل الفهم، مختلط الكلام فاسد التَّدبير، إلاَّ أنَّه لا يَضْرِب ولا يشتم كما يفعل المجنون (¬1). قيل في الحدّ الفاصل بين (¬2) المعتوه والمجنون والعاقل (¬3): إنَّ العاقل: من يستقيم كلامه وأفعاله، وغيره نادرٌ، والمجنون ضدُّه، والمعتوه: من يخالط كلامه وأفعاله، فيكون هذا غالبًا، وذاك غالبًا، فكانا سواء. قيل: المجنون من يفعل هذه الأفعال لا عن قصدٍ، والعاقلُ [قد] يفعل ¬

_ (¬1) رد المحتار (25/ 135) وحاشية رد المحتار (6/ 437) ودرر الحكام شرح غرر الأحكام (7/ 274) وتبيين الحقائق شرح كنز الدقائق (6/ 173 و 15/ 632) والبحر الرائق شرح كنز الدقائق (21/ 71) ومجمع الأنهر شرح ملتقى الأبحر (7/ 325). (¬2) تحرف في المخطوط إلى: (من). (¬3) انظره في تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق (6/ 173).

ما يفعله المجانينُ في الأحايين، لكن لا عن قصدٍ - يعني: يفعلُ على ظنِّ الصَّلاح، والمعتوه من يفعلُ ما يفعلهُ المجانينُ في الأحايين، لكن لا عن قصدٍ - يعني: يقصد فعله مع ظهور الفسادِ -. والله سبحانه وتعالى أعلم.

(22) مسألة تعليق الطلاق بالنكاح

مَجْمُوعَةُ رَسَائِل العَلَّامَة قَاسِم بن قُطْلُوبُغَا [22] مَسْأَلَةُ تَعْلِيقِ الطَّلاَق بِالنِّكاحِ تَأْلِيفُ العَلَّامَة قَاسِم بْنِ قُطْلُوبُغَا الحَنَفِي المولود سَنَة 802 هـ والمتوفى سَنة 879 هـ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -

بداية الرسالة

(22) مَسْأَلَةُ تَعْلِيقِ الطَّلاَق بِالنِّكاحِ قال - رحمه الله تعالى -: هذا تعليقٌ على مسألة تعليق الطلاق بالنكاح لما سأصرّح به من إشكال بعض المصنفين، وخبط بعض العصريين إلى غير ذلك مما توهّم من عبارة بعض المشايخ. والله ولي التوفيق وهو حسبي ونعم الوكيل. قال علماؤنا: إذا قال الرّجل لامرأةٍ إن تزوجتك فأنت طالقٌ. أو قال: إن تزوجت امرأةً فهي طالقٌ، أو كلّ امرأةِ تزوجتها فهي طالقٌ، أو كلّما تزوجت امرأة فهي طالقٌ. وقع الطّلاقُ عقيب النكاح. وهذا قول طائفةٍ من السلف. روى ابن أبي شيبة في مصنّفه، عن سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب، والقاسم بن محمّد، وعمر بن عبد العزيز (¬1)،. . . . . ¬

_ (¬1) رواه ابن أبي شيبة (17835) قال: حدثنا عبد الله بن نمير وأبو أسامة، عن يحيى بن سعيد قال: كان سالم، وقاسم، وعمر بن عبد العزيز يرونه جائزًا عليه. و (17842) قال: حدثنا حفص، عن حنظلة قال: سئل القاسم وسالم عن رجل قال: يوم أتزوج فلانة فهي طالق؟ قالا: هي كما قال. و (17843) قال: حدثتا حفص بن غياث، عن عبد الله بن عمر قال: سألت القاسم عن رجل قال: يوم أتزوج فلانة فهي طالق؟ قال: طالق. وسئل عمر: يوم أتزوج فلانة فهي عليّ كظهر أمي؟ قال: لا يتزوجها حتى يُكَفرِّ.

وعامر الشعبي، وإبراهيم النخعي (¬1)، والأسود (¬2)، وأبي بكر بن عبد الرحمن وأبي بكر بن عمرو بن حزم، وعبد الله بن عبد الرحمن (¬3)، والزهري (¬4)، ومكحول الشامي (¬5)، في رجلٍ قال: إن تزوّجت فلانةً فهي طالقٌ، أو يوم أزوّجها فهي طالقٌ، أو كل امرأةٍ أتزوجها فهي طالقٌ. قالوا: هو كما قال. وفي لفظٍ: يجوز عليه ذلك. ¬

_ (¬1) رواه ابن أبي شيبة (17837) قال: حدثنا وكيع، عن إسماعيل، عن الشعبي. وعن سفيان، عن منصور، عن إبراهيم قالا: إذا وقت وقع. و (17838) قال: حدثنا محمد بن فضيل، عن مطرف، عن الشعبي أنه سئل عن رجل قال لامرأته: كل امرأة تزوجتها عليك فهي طالق؟ قال: فكل امرأة يتزوجها عليها فهي طالق. و (17847) قال: حدثنا مروان بن معاوية، عن سويد بن نجيح الكندي قال: سألت الشعبي عن رجل قال: إن تزوجت فلانة فهي طالق، أو يوم أتزوج فلانة فهي طالق؟ قال الشعبي: هو كما قال. فقلت: إن عكرمة يزعم أن الطلاق بعد النكاح؟ فقال: جزم. (¬2) رواه ابن أبي شيبة (17844) قال: حدثنا وكيع، عن سفيان، عن محمد بن قيس، عن إبراهيم، عن الأسود: أنه طلق امرأة قبل أن يتزوجها، فسأل ابن مسعود، فقال: أعلمها بالطلاق، ثم تزوجها. (¬3) رواه ابن أبي شيبة (17845) قال: حدثنا أبو أسامة، عن عمر بن حمزة، أنه سأل سالمًا، والقاسم، وأبا بكر بن عبد الرحمن، وأبا بكر بن عمرو بن حزم، وعبد الله ابن عبد الرحمن، عن رجل قال: يوم أتزوج فلانة فهي طالق البتة؟ فقالوا كلهم: لا يتزوجها. (¬4) رواه ابن أبي شيبة (17845) قال: حدثنا حماد بن خالد، عن هشام بن سعد قال: قال الزهري: إذا وقع النكاح وقع الطلاق. (¬5) رواه ابن أبي شيبة (17855) قال: حدثنا عيسى بن يونس، عن الأوزاعي، عن الزهري ومكحول في الرجل يقول: كل امرأة أتزوجها فهي طالق؟ أنهما يوجبان ذلك عليه.

وقال الشافعي: لا يصحّ هذا التعليق، ولا يقع عليه الطلاق (¬1). لنا: أنّ هذا تعليقٌ لما يصحّ تعليقه، وهو الطلاق، فيلزم كالعتق والوكالة والإبراء، ولأنّ التعليق بالشرط يمنع اتصال الحكم بمحله. وبدون الاتصال بالمحلّ لا ينعقد سببًا. واستدلّ الشافعي: بما رواه أبو داود، والترمذي وحسّنه: أنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "لَا نذْرَ لابْنِ آدَمَ فِيمَا لاَ يَمْلِكُ، وَلاَ عِتْقَ لَهُ فِيمَا لاَ يَمْلِكُ، وَلاَ طَلاَقَ لَهُ فِيمَا لاَ يَمْلِكُ" (¬2). ¬

_ (¬1) قال الشافعي في الأم (7/ 168): إذا قال الرجل: كل امرأة أتزوجها فهي طالق، فإن أبا حنيفة كان يقول: هو كما قال. وأي امرأة تزوجها فهي طالق واحدة، وبهذا يأخذ. وكان ابن أبي ليلى يقول: لا يقع عليه الطلاق؛ لأنه عمّم، فقال: كل امرأة أتزوجها، فإذا سمّى امرأة مسماة، أو مصرًا بعينه، أو جعل ذلك إلى أجل، فقولهما فيه سواء، ويقع به الطلاق. (¬2) رواه عبد الرزاق (11456) وأحمد (6769 و 6780) وأبو داود (2190) وسعيد ابن منصور في سننه (1020) والترمذي في سننه (1181) وعلله الكبير (1/ 465) وابن ماجه (2047) والدارقطني (4/ 14 و 15) والحاكم (2/ 204 و 205) والبيهقي (7/ 318) عن عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنه -. وقال الترمذي: وفي الباب عن علي ومعاذ بن جبل وجابر وابن عباس وعائشة. حديث عبد الله بن عمرو حديث حسن صحيح، وهو أحسن شيء روي في هذا الباب، وهو قول أكثر أهل العلم من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وغيرهم، روي ذلك عن علي بن أبي طالب، وابن عباس، وجابر بن عبد الله، وسعيد بن المسيب، والحسن، وسعيد بن جبير، وعلي بن الحسين، وشريح، وجابر بن زيد، وغير واحد من فقهاء التابعين، وبه يقول الشافعي. وروي عن ابن مسعود أنه قال في المنصوبة: إنها تطلق. وقد روي عن إبراهيم النخعي، والشعبي، وغيرهما من أهل العلم، أنهم قالوا: إذا وقت=

وما في معناه. وأُجِيبَ: بأنّ هذا محمولٌ على نفي التخيير؛ لأنه هو الطّلاق لا تعليقه، فإنه لا يفهمه أهل اللغة ولا العرف ولا الشرع لما روى مالكٌ في موطئه (¬1): أنَّ سَعِيدَ بنَ عَمْرِو (¬2) بْنِ سُلَيْمٍ الزُّرَقِيِّ سَأَلَ الْقَاسِم (¬3) بْنَ مُحَمَّدٍ عَنْ رَجُل طَلَّقَ امْرَأَةً إنْ هُوَ تَزَوَّجَهَا؟ فَقَالَ الْقَاسِم (¬4): إِنَّ رَجُلًا جَعَلَ امْرَأَةً عَلَيْهِ كَظَهْرِ أُمِّهِ إِنْ هُوَ تَزَوَّجَهَا، فَأَمَرَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ إِنْ هُوَ تَزَوَّجَهَا أَنْ لا يَقْرَبَهَا حَتَّى يُكَفِّرَ كَفَّارَةَ الْمُتَظَاهِرِ (¬5). وروى عبد الرزاق عن (¬6) معمر، عن الزهري أنه قال في رجلٍ: كل امرأةٍ ¬

_ = نزل. وهو قول سفيان الثوري، ومالك بن أنس: أنه إذا سمى امرأة بعينها، أو وقف وقتًا، أو قال: إن تزوجت من كورة كذا، فإنه إن تزوج، فإنها تطلق. وأما ابن المبارك فشدّد في هذا الباب، وقال: إن فعل لا أقول: هي حرام. وقال أحمد: إن تزوج لا آمره أن يفارق امرأته. وقال إسحاق: أنا أجيز في المنصوبة لحديث ابن مسعود، وإن تزوجها لا أقول تحرم عليه امرأته. ووسّع إسحاق في غير المنصوية، وذكر عبد الله ابن المبارك: أنه سئل عن رجل حلف بالطلاق أنه لا يتزوج، ثم بدا له أن يتزوج هل له رخصة بأن يأخذ بقول الفقهاء الذين رخصوا في هذا؟ فقال عبد الله ابن المبارك: إن كان يرى هذا القول حقًا من قبل أن يبتلى بهذه المسألة، فله أن يأخذ بقولهم، فأما من لم يرض بهذا، فلما ابتلى أحب أن يأخذ بقولهم فلا أرى له ذلك. (¬1) (2057) وعنه عبد الرزاق (11550). (¬2) تحرف فى المخطوط إلى: (عمر). (¬3) تحرف في المخطوط إلى: (أبو القاسم). (¬4) تحرف في المخطوط إلى: (أبا قاسم). (¬5) تحرف في المخطوط إلى: (المظاهر). (¬6) تحرف في المخطوط إلى: (بن).

أتزوّجها فهيَ طالقٌ، وكلّ أمةٍ اشتريتها فهي حرّة. هو كما [قال]. قال له معمر: أو ليس قد جاء: "لاَ طَلاَقَ قَبْلَ نِكَاحٍ، وَلاَ عِتْقٍ إِلاَّ بَعْدَ ملكٍ"؟ قال: إنما ذلك أن يقول الرجل: امرأة فلانٍ طالقٌ، وعبدُ فلانٍ حرٌّ (¬1). قال الشيخ عبد اللطيف بن فرشته في شرح المنار: ولقائلٍ أن يقول: يشكل تعليق الطلاق والعتاق بالملك، لما روي عن عبد الله بن عمرو بن العاص: أنّه خطبَ امرأةً، فأبَوا أن يزوّجَهَا إِلاَّ بِزِيَادَةِ صَدَاقٍ. فَقَالَ: إِن تَزَوَّجْتُهَا فَهِيَ طَالِقٌ ثَلاثًا. فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: "لاَ طَلاَقَ قَبْلَ النِّكاحِ" (¬2). فإن الحديث مُفَسّرٌ لا يقبل التأويل، فلا بد أن يبيّن نسخه أو عدم صحّته. انتهى. وسئل عن هذا الشيخ محيى الدين الكَافِيَجي (¬3)، فأجاب: ¬

_ (¬1) رواه عبد الرزاق (11475) عن معمر، عن الزهري في رجل قال: كل امرأة أتزوجها فهي طالق، وكل أمة أشتريها فهي حرة. قال: هو كما قال. قال معمر: فقلت: أو ليس قد جاء عن بعضهم أنه قال: لا طلاق قبل النكاح، ولا عتاقة إلا بعد الملك؟ قال: إنما ذلك أن يقول الرجل: امرأة فلان طالق، وعبد فلان حر. (¬2) لم أجده عن عبد الله بن عمرو - رضي الله عنه -. (¬3) هو محمد بن سليمان بن سعد بن مسعود الرومي، الكافيجي، محيي الدين، أبو عبدا لله، فقيه، أصولي، محدث، نحوي، مفسر، صوفي، صرفي، بياني، منطقي، حكيم، رياضي، ولد بككجة كي من بلاد صروخان، واشتهر بمصر، ولازمه السيوطي، وولي وظائف منها: مشيخة الخانقاه بالشيخونية، وكان مولده سنة 788 هـ ووفاته سنة 879 هـ، وسمي بالكافيجي لكثرة اشتغاله بكتاب الكافية في النحو، من تصانيفه الكثيرة: شرح قواعد الإعراب لابن هشام، وجيز النظام في إظهار موارد الأحكام، حل الإشكال في مباحث الأشكال في الهندسة، الأنوار في علم=

الحمدُ لله الهادي للصّواب، الحديثُ محمولٌ على نفي تخيير الطلاق قبل النكاح. كذا ذكره أئمة الحديث والفقهاء على أنّه: لا يكون حجّةً علينا. لا ينفي التعليق كما ترى، فيكون نصب الدليل في غير محلّ النزاع، فإن قلت: الواقعة تشهد له بظاهرها، فلا يعدل عنه إلاّ بدليل، ولا دليل هنا. قلت: قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لاَ طَلاَقَ قَبْلَ النكِّاحِ". شاهدٌ لنا عليه، فلا بُدّ من صرفِ الواقعة عن ظاهرها بقرينةِ الجواب، كما هو المقرر في موضعه. فإن قلت: فليحمل قوله - صلى الله عليه وسلم - على نفي التعليق بقرينة الحادثة السابقة، كما هو المتبادر. قلت: حمل الكلام على حقيقةٍ واجبٌ مهما أمكنَ، لا سيما في كلام النبي - صلى الله عليه وسلم -. والحاصل: أنّ كلامه نصٌّ لا يقبل التّأويل. والكلام في الواقعة ظاهرٌ يقبل، فوجب تأويلها دونه من غايةٍ لقانون الشرع والأدب وترجيحًا لكلامه على كلام غيره، واكتفاء بتأويل كلام غيره عن تأويل كلامه، إذ لا ضرورة إليه. والحالة كذا. والله أعلم بالصّواب. كتبه محمد بن سليمان الكافيَجي الحنفي - عفى الله عنهما -. قلت: قد دخل على الذي أخذ منه ابن فرشته حديث في حديث. وذلك: أن الذي في كتب السنة وهو المحفوظ عند أهلها من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص، هو ما قدمته في الاستدلال للشافعي من عند ¬

_ = التوحيد الذي هو أشرف العلوم والأخبار، والتيسير في قواعد علم التفسير. معجم المؤلفين (10/ 51).

الترمذي بدون قصة. والقصّة إنّما تروى من حديث عبد الله بن عمر بن الخطاب، وأبي (¬1) ثعلبة الخُشَنِيّ. كما أخرج الدارقطني (¬2)، عن عبد الله بن عمر: أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - سئلَ عن رجلٍ قال: يوم أتزوّجُ فلانةً فهيَ طَالِقٌ ثلاثًا؟ قال النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "طَلَّقَ مَا لاَ يَمْلِكُ". وأخرج (¬3)، عن أبي ثعلبة الخشنيّ قالَ: قَالَ عَمٌّ لِي: اعْمَلْ عَمَلًا حَتَّى أُزَوِّجَكَ ابْنَتِي. فَقُلْتُ: إِنْ تَزَوَّجْتُهَا فَهِيَ طَالِقٌ (¬4)، ثُمَّ بَدَا لِي أَنْ أَتَزَوَّجَهَا، فَأتيْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ فسألته، فقال لي: "تَزَوَّجْهَا، فَإِنَّهُ لاَ طَلاَقَ إِلاَّ بَعْدَ النكِّاحِ (¬5) ". قَالَ: فتزوّجها (¬6)، فَوَلَدَت لي سعدًا وسعيدًا. انتهى. إذا عرف هذا: فالحديث أشكل. هو الذي فيه القصّة، ولم يقل عاقل: إنّه مؤوّلٌ بما ذكر. فقوله: إنّه محمولٌ على نفي التنجيز باطلٌ. وكذا قوله: نصب الدليل في غير محلّ النّزاع. والحاصل: أنه أخذ كلام المشايخ في الحديث الذي لم يذكر فيه قصّة. ¬

_ (¬1) في المخطوط: (ابن) خطأ. (¬2) رواه الدارقطني في سننه (3937) والعقيلي في الضعفاء الكبير (2/ 347). وانظر فتح الباري لابن حجر (9/ 383). (¬3) رواه الدارقطني في سننه (3987). (¬4) في سنن الدارقطني: (تزوّجنيها فهي طالقٌ ثلاثًا). (¬5) في سنن الدراقطني: "نكاح". (¬6) في سنن الدراقطني: (فتزوجتها).

وأوردوه فيما ذكر بالقصّة الصّريحة في نفي التّأويل. يختار بيان عدم صحّته المذكور. والله أعلم. وإذا عُلم بطلان هذا الجواب، فنقول قوله، فلا بد أن يبين نسخه أو عدم صحّته. ففي إسناد حديث ابن عمر: ابن خالد الواسطي. عمرو بن خالد. قال فيه أحمد بن حنبل (¬1) ويحيى بن معين (¬2) وغيره (¬3): كذّاب. والدّارقطني (¬4): إِنّه كذاب. ¬

_ (¬1) قال عبد الله بن أحمد بن حنبل، عن أبيه [العلل ومعرفة الرجال (1/ 56)]: متروك الحديث، ليس بشيء. وقال عبد الله عن أبيه [الضعفاء الكبير للعقيلي]: عمرو بن خالد ليس يسوي حديثه شيءٍ ليس بشيء. وقال أبو بكر الأثرم عن أحمد بن حنبل [الضعفاء الكبير للعقيلي]: كذاب، يروي عن زيد بن علي عن آبائه أحاديث موضوعة، يكذب. (¬2) قال عباس الدوري عن يحيى بن معين [تاريخه (2/ 442)]: كذّاب غير ثقة، ولا مأمون. وقال عباس عن ابن معين: ليس بثقة. وقال هاشم بن مرثد الطبراني عن ابن معين [تهذيب الكمال (21/ 605)]: كذاب، ليس بشيء. (¬3) قال ابن حبان في المجروحين (2/ 76): كان ممن يروي الموضوعات عن الأثبات حتى يسبق إلى القلب أنه كان المتعمد لها من غير أن يدلس. وقال ابن عدي في الكامل (2/ الورقة 234): عامة ما يرويه موضوعات. وقال ابن حجر في التقريب: متروك. وانظر تهذيب الكمال للمزي (21/ 603 - 607). (¬4) الضعفاء والمتروكين له (الترجمة 403). وقال في سؤالات البرقاني (الترجمة 373): متروك. وقال في السنن (1/ 227 و 2/ 121): متروك. وقال في السنن أيضًا (1/ 156): متروك الحديث كذاب.

وقال وكيع (¬1): كان في جوارنا يضع الحديث، فلما فُطِنَ به تحوّل إلى واسط. وقال إسحاق بن راهويه وأبو زرعة الرازي (¬2): كان يضع الحديث. وفي الثاني: علي بن قَرِين: قال يحيى بن معين وغيره: كذاب. وضعّفه أحمد. وقال ابن عديّ: يسرق الحديث. وقال أبو بكر ابن العربي: ليس لهذه الأحاديث أصل في الصّحة. وقال ابن عبد الهادي (¬3): الحديثان باطلان. انتهى. وقال بعض من يزعم أنه يعلم من أهل الشّام: قد نقل الإمام حافظ الدين البرازي في مناقب أبي حنيفة في الفصل العاشر: أنّ رجلًا وامرأةً كانا يقعان في أبي حنيفة فوقع بينهما مشاجرة ذات ليلةٍ. فقال الزوج: إن سألتيني الليلة الطّلاق ولم أطلّقك فأنت ثلاثًا. وقالت المرأة: إن لم أسألكَ الليلة الطلاق ¬

_ (¬1) حكاه عن وكيع: الحسن بن علي الواسطي. الكامل لابن عدي (2/ الورقة 234). وقال أيو عبيد الآجري في سؤالات أبي داود (5/ الورقة 41): سألت أبا داود عن عمرو بن خالد؟ فقال: ليس بشيء. قال وكيع: كان جارنا فظهرنا منه على كذب، فانتقل. قلت: كان واسطيًا؟ قال: نعم. (¬2) الجرح والتعديل لابن أبي حاتم (6/ الترجمة 1277)، وبقية كلام أبي زرعة: ولم يقرأ علينا حديثه، وقال: اضربوا عليه. (¬3) قال الزيلعي في نصب الراية (3/ 231): قال صاحب التنقيح: حديث باطل.

فمالي صدقة. فلما سكت عنهما الغضب ذهبا إلى سفيان الثوري وابن أبي ليلى وابن أبي شبرمة، فلم يجدوا عندهم مخرجًا، فرجعا إلى أبي حنيفة مرعوبين فسألاه. فقال للمرأة. اسأليه الطلاق، فسألته، فقال للزوج: قل: أنت طالقٌ إن شئتِ. فقال لها: أنت طالق إن شئتِ. فقال للمرأة: قولي: لا أشاء. فقالت: لا أشاءُ. قال أبو حنيفة: اذهبا فقد بررتما. واتفقت كلمة أصحابنا في أصولهم: أنّ المعلّق بالشّرط لا ينعقد سببًا قبل وجود الشرط، فإن كان الزوج قد بَرّ في يمينه، فكيف ولم ينعقد المعلّق سببًا. وإن كان المعلّق لا ينعقد سببًا، فكيف بر. قلت: الجوابُ: إنّ قوله: أنت طالقٌ إن شئتِ تمليكٌ لا تعليقٌ. قال في الذخيرة: تعليق الزوج طلاقَ المرأة بصفة من صفات قلب غيره، تفويض تمليك معنى، فيقتصر على المجلس، وعلى هذا اتفق كلام الأصحاب. والله أعلمُ. ولما شاع هذا الجواب استبعد البِرّ بعض إخواني لخفاء وجهه عليه. فقلت: الوجه للبر أنّ الحالفَ إنما انعقد يمينه على الإيقاع لا الوقوع، وقد أوقع وإن أوصل به شيئًا آخرَ. ألا ترى إلى ما قال أبو يوسف، عن أبي حنيفة قال: قلت: أرأيتَ أنّ رجلًا طلّقَ امرأته ثلاثًا أو واحدة يقول لها: أنتِ طالقٌ. هل في ذلك حيلةٌ حتى لا يقع عليها الطّلاق، وترجع إليه. فتكون على حالها؟ قال: نعم. قلت: فما الحيلة في ذلك؟. قال: إذا قال أنت طالقٌ ثلاثًا أو واحدةً فقال: إن شاء الله تعالى. فوصل يمينه بالاستثناء. برّ.

قلت: وكذلك إن قال لعبده: أنتَ حرٌّ إن شاء الله. قال: نعم. قلت: ويقول هذا غيركم؟ قال: نعم. قد جاءت به الأحاديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قال أبو يوسف: حدثنا أبو حنيفة، عن الحكم بن عتيبة (¬1)، عن عبد الله، وعن علي بن أبي طالبٍ: أنهّما قالا: من حلف بطلاقٍ أو عِتَاقٍ فاسْتَثْنَى، فلهُ اسْتِثْنَاؤُهُ (¬2). وقال أبو يوسف: حدثنا محمد بن عبيد الله العَرْزَمِيّ (¬3)، عن عطاء بن أبي رياح، عن عبد الله بن عبّاس أَنا قال: مَنْ حَلَفَ بِطَلاَقٍ أَوْ عِتَاقٍ فَقَالَ: إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى، لَمْ يَقَعْ طَلاَقٌ وَلاَ عِتَاقٌ. وقال أبو يوسف: وحدثنا الحسن بن عُمارة (¬4)، عن الحكم (¬5)، ¬

_ (¬1) تحرف في المخطوط إلى: (عينية). انظر ترجمته في تهذيب الكمال (7/ 114 - . . .). (¬2) روى الدارقطني (4/ 35) قال: حدثنا أبو العباس محمد بن موسى بن علي الدولابي ويعقوب بن إبراهيم قالا: حدثنا الحسن بن عرفة، حدثنا إسماعيل بن عياش، عن حميد بن مالك اللخمي، عن مكحول، عن معاذ بن جبل قال: قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يا معاذ، ما خلق الله شيئًا على وجه الأرض أحب إليه من العتاق، ولا خلق الله شيئًا على وجه الأرض أبغض إليه من الطلاق، فإذا قال الرجل لمملوكه: أنت حر إن شاء الله، فهو حر، ولا استثناء له، وإذا قال الرجل لامرأته: أنت طالق إن شاء الله، فله استثناؤه، ولا طلاق عليه". (¬3) تحرف في المخطوط إلى: (القزويني). انظر ترجمته في تهذيب الكمال (26/ 41 - . . .). (¬4) الحسن بن عُمارة البَجَليّ، مولاهم، أبو محمد الكوفي الفقيه، كان على قضاء بغداد في خلافة أبي جعفر المنصور، مات سنة 153 هـ. تهذيب الكمال (6/ 265 - . . .). (¬5) هو ابن عُتَيْبة الكندي الكوفي. قال عنه أحمد بن حنبل: أثبت الناس في إبراهيم. =

عن إبراهيم (¬1) مثله. وحدثنا أبو حنيفة، عن حمّاد (¬2)، عن إبراهيم أنّهُ قال: مَنْ حَلَفَ بِطَلاَقٍ أَوْ عِتَاقٍ فَقَالَ: إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى لَمْ يَقَع طَلاَقٌ وَلاَ عِتَاقٌ، فَمَنْ حَلَفَ بِشَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الأَيْمَانِ فَقَالَ: إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى فَقَدْ بَرَّ وَخَرَجَ عَنْ يَمِينِهِ. حدثنا عبد الله بن عمر الحملي، عن ليث بن أبي سليم، عن طاوس قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَقَالَ: إِنْ شَاءَ اللهُ، فَقَدْ خَرَجَ عَنْ يَمِينِهِ" (¬3). قال ليث: فقلت لطاوس: وفي الطّلاق والعتاق؟ قال: نعم. وفي الطّلاق والعتق إِلاَّ مَا يَرْفَعُهُ إِلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فِي الطَّلاَقِ وَالْعِتَاقِ. قال: حدثنا الحسن بن عُمارة، عن الحكم، عن (¬4) عبد الله بن عباس أنّه قَالَ: مَنْ حَلَفَ (¬5) عَلَى يَمِيْنٍ فَقَالَ: إِنْ شَاءَ اللهُ فَلاَ حِنْثَ عَلَيْهِ وَلاَ كَفَّارَةَ. قال: وحدثنا أبو يحيى، عن أبيه البراء بن عازب، عن علي بن أبي طالبٍ قَالَ:. . . . . ¬

_ = تهذيب الكمال (7/ 114 - . . .). (¬1) هو إبراهيم بن يزيد بن قيس النَّخَعيّ أبو عمران الكوفي، مات سنة 96 هـ. (¬2) هو حمّاد بن أبي سليمان. (¬3) روى الإمام أحمد (4510) وغيره بإسناد صحيح عن ابن عمر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من حلف فاستثنى، فهو بالخيار، إن شاء أن يمضي على يمينه، وإن شاء أن يرجع غير حنث" أو قال: "غير حرج". (¬4) تحرف في المخطوط إلى: (بن). والحكم هو ابن عتيبة الكندي الكوفي، ولد سنة 50 هـ ومات سنة 115 هـ. وابن عباس في مات سنة 68 هـ وقيل: 70 هـ. (¬5) تحرف في المخطوط إلى: (أنه من قال حلف).

مَنِ اسْتَثْنَى فَلاَ حِنْثَ عَلَيْهِ (¬1). قال: عن أبي حنيفة، عن القاسم بن عبد الرحمن، عن عبد الله بن مسعودٍ أنّه قال: مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَقَالَ: إِنْ شَاءَ اللهُ فَقَدِ اسْتَثْنَى وَلاَ حِنْثَ عَلَيْهِ (¬2). قَالَ: وعن أبي حنيفة، عن حمّاد، عن إبراهيم أنّه قال في ذلك: خَرَجَ عن يمينه. ولمّا انتهى الكلام إلى المخارجِ فقبل في قول الرّجل كلّما تزوّجت امرأةً فهيَ طالقٌ. أو قال لامرأةٍ: كلّما تزوّجتك فأنتِ طالقٌ، فقد جعل المشايخ المخرجَ من ذلك طريقين: نكاح الفضول أو المرافعة إلى من يعتقد يمين بطلان اليمين فيفسخها. أمّا الأوّل: فقال في الينابيع: وإن لم تكن المرأة في نكاحه وقال لها: كلما تزوّجتك فأنت طالقٌ، فإنّها تطلق في كلّ مرةٍ يتزوجها أبدًا. فإن يتزوجها ولا يقع عليه الطلاق، فالحيلة في ذلك: أن يقول لمن يثق به من أحبابه وأصدقائه: إنِّي قد حلفت، أني كلّما تزوّجت امرأة أو كلّما تزوجت فلانةً فهي طالقٌ. فالآن إن يتزوجها طلقت وإن وكلّت رجلًا بأن يزوّجها مني طلّقت أيضًا. فإذا عرف المخاطب بأنّ له رغبة في تزوجها، فإنه يزوّجها منه، وهو فضولي في ذلك. فإذا علم الخلف ذلك نجيزه بالفعل، وذلك مثل أن يبعث إليها مهرها أو يظفر بها ويجامعها. ولو أجازه بالقول طلقت. وقال بعضهم: لا تطلق. والأوّل أصحّ. انتهى. ¬

_ (¬1) رواه عبد الرزاق (16116) عن ابن عباس - رضي الله عنه -. (¬2) رواه عبد الرزاق (16115).

وقال الإمام أبو الليث في حيل العيون عند ذكر هذه المسألة: وجعل الإجازة بالفعل أن يبعث إليها شيئًا من المهر أو النفقة أو يطأها أو يمسّها. وقال في الهادي: كان القاضي الإمام الزّاهد أبو المعالي صاحب المناقب (¬1) لا يجوّز نكاح الفضولي. كان القاضي الإمام مجد الدين لا يرى مخالفة أستاذه. وقال الإمام علي السُّغْدي (¬2): إنّي لا أجوّز نِكَاحَ الْفُضُوليِّ، ولا أفتي بالإجازة بالفعل والقول في نكاح الفضولي، وأجعل الإجازة بالفعل والقول سو اء. انتهى. قلت: وهذا غير معتمد لمخالفة الرواية والدراية. قال في شرح الزيادات: ولو حلف لا يتزوج، أو حلفت امرأة أن لا تتزوج، وقد كان زوّج أحدهما فضولي وأجاز بعد اليمين لا يحنث؛ لأن الشّرط التزوج والإجازة ليست بتزوج حتّى لا يراعي لها شرائط العقد من الشهود والولي وغير ¬

_ (¬1) في المخطوط: (المناقبي). (¬2) السّغدي - بالضم وغين معجمة -: نسبة إلى سغد سمرقند، وهو مشتملٌ على عدة بلاد وقرى كثيرة، وهو مما يلي بخارى. توضيح المشتبه لابن ناصر الدين (5/ 99 - . . .). وقال المصنف في تاج التراجم (ص 14): علي بن حسين بن محمد السّغدي [تحرف في المطبوع (ص 14 و 31) إلى: السعدي]، شيخ الإسلام، أبو الحسن، قال السمعاني [الأنساب (7/ 86)]: سكن ببخارى، وكان إمامًا فاضلاً، وفقيهًا مناظرًا، وسمع الحديث، وروى عنه شمس الأئمة السرخسي السير الكبير، ومات ببخارى سنة إحدى وستين وأربع مئة، ومن تصانيفه: النتف، وشرح السير الكبير. قلت [ابن قطلوبغا]: وبأيدينا كتاب النتف يعزى إلى الغزنوي. والله أعلم.

ذلك. وهذه المسألة تدلّ على أنّ من حلفَ أن لا يتزوّج فأجاز نكاح الفضولي بعد اليمين لا يحنث وهو رواية عن محمد. وبه قال: نفتي محمد بن سلمة. قلت: إلاّ أنّ هذا خلاف الأصحّ على ما قال في الينابيع؛ لأنّ عقد الفضولي ينتقل إليه عند الإجازة. وروى ابن سماعة، عن محمّد: أن عقد الفضولي إذا كان بعد اليمين فأجاز بالقول يحنث، وإن أجازه بالفعل لا يحنث. وقال قاضي خان في شرح الزيادات: وعليه أكثر المشايخ: لأنّ القول من جنس العقد من حيث أن العقد قول، فأمكن إلحاقها بالعقد. أمّا الفعل: لا يجانس العقد ولا يخالفه، فلا يمكن إلحاق الفعل بالعقد. قلت: وقد نقل في الينابيع: أنّ هذا هو الأصحّ. ومثله عن شمس الأئمة. قال: الأصحّ عندي لا يحنث؛ لأنّ عقد النّكاح يختص بالقول، فلا يمكن جعل المجيز بالفعل عاقدًا له. وقال في الهادي: والفتوى على أنّ نكاح الفضولي جائزٌ، فإن أجاز بالفعل لا يحنث لأنه حنث نفسه بالعقد وهو غير عاقدٍ. انتهى. وقال في الفصول: ذكرَ نجم الدين النسفي في الفتاوى: المختار في نكاح الفضولي في الطلاق المضاف إذا أجاز الحالف بالفعل لا يحنث. وبالقول: يحنث. قال بعض الإخوان: الإجازة بالفعل سوق المهر. قلت: قدّمت عن أبي الليث: أن يبعث شيئًا من المهر أو النفقة أو

يطأها أو يمسّها. وعن الينابيع: أن يبعث إليها مهرها أو يظفر بها ويجامعها. قال: قد قاله البزازي. قلت: لفظ البزازي: والإجازة بالفعل سَوْقُ المهرِ إليها لا الوطء والقبلة؛ لأنّه حرامٌ قبل نفوذ العقد. قلت: وهذا الإيجاز مخلٌّ؛ لأنّه مأخوذٌ من شرح الزيادات. ولفظه: لكن ذلك الفعل ينبغي أن يكون بسوق الصّداق إليها ونحو ذلك دون الوطء والتقبيل، فإنّ ذلك حرامٌ قبل نفوذ العقد، فحذف لفظة ينبغي. وكذلك قال الصّدر الشهيد حسام الدين في شرح الجامع الكبير: إنّ من احترز عن الطّلاق بأن علّق الطّلاقَ بالنّكاح. ينبغي أن يجيزه بتسليم المهر، أمّا بالموافقة، فلا. فهذا النفي للكراهة. قال في الفصول: ولو قبلها أو لمسها بشهوةٍ يكون إجازة بالفعل. ولكن يكرهُ كالرّجعة بالفعل. انتهى. قلت: وهذا نصّ ما أجبت به بلفظه. ولله الحمد. قلت: والكراهة لقرب نفوذ العقد من المحرم كما في دفع النّصاب إلى الفقير. قال قاضي خان: وإذا أراد الحالف أن يجيز عقد الفضولي بالفعل يجيزه سوق المهر ولا يقئبّل ولا يمس كيلَا يكون ابتداء الفعل قبل نفاذ النّكاح. وفي الظهيرية: الإجازة بالفعل أن يبعث إليها شيئًا من المهر، فإن دفع المأمور إليها لا شك أنه أجاز، وإن لم يدفع إليها، هل تكون الإجازة رواية

هل تكون الخلوة إجازة؟

لهذا في الكتاب؟!. وفي الفوائد: قال ظهير الدين: المراد بسوق المهر، الوصول لا عين السوق. وقال فخر الدين: لا يشترط؛ لأنّا نحتاج إلى الإجازة بالفعل. وقوله: ادفع الدّراهم إليها إجازة منه بالفعل وقد حصلت. ولو دفع إليها. وقال: هذا مهرك. قال ظهير الدين: يكون إجازةً بالقول، ولو كانت صغيرةً يبعث إلى وليّها، وإن بعث إليها بعطيّة أو هدية لم يكن ذلك إجازةً؛ لأنّ بعث الهدية والعطية ليست من خصائص النّكاح وأحكامه، فلم يكن إجازة بخلاف سوق المهر. وفي شرح الطحاوي: فيجيز بالفعل. وهو بعث الهدية وما أشبهه. قلت: القائل بالأوّل أكثر. والله أعلم. وهل تكون الخلوة إجازةً؟ قال في الفصول: ذكر شمس الأئمة السرخسي: إنه يكون إجازةً. لذا ذكره في فتاوى ظهير الدين إسحاق (¬1). وقال بعضهم: نفس الخلوة لا يكون إجازةً. وفيه: ولو أجاز في نكاح الفضولي بالكتابة يكون إجازةً بالقول أو بالفعل. ذكر في باب الكفّارات من أيمان الجامع في الفتاوى: إذا حلفَ ¬

_ (¬1) فتاوى الولوالجي، لظهير الدين، أبي المكارم، إسحاق بن أبي بكر الحنفي، المتوفى سنة 710 هـ. انظر البحر الرائق شرح كنز الدقائق (10/ 42 و 12/ 495).

هل للفضولي فسخ العقد قبل الإجازة؟

لا يكلم فلانًا أو قال: والله لا أقول لفلانٍ شيئًا، فكتب إليه كتابًا لا يحنث. وذكر ابن سماعة في نوادره: عن محمّدٍ: أنه يحنث. وهل للفضولي فسخ العقد قبل الإجازة؟ نقل عن الفضولي من شرح الطحاوي وغيره: أنه لا يملك الفسخ بالقول اتفاقًا. وفي الإجازة بالفعل بأن يزوّجه أختها خلافٌ. قال فخر الدين: يتوقف الثاني ولا يكون فسخًا. وقيل: يكون فسخًا. والله أعلم. وأمّا الثاني: فقال الإمام فخر الدين: أمّا طريق فسخ اليمين، لو أنّ حنفي المذهب قال: إن تزوّجت امرأة فهيَ طالقٌ ثلاثًا، ثم جاء إلى القاضي، وطلب منه فسخ اليمين، فإن كان القاضي حنفيًا لا ينبغي له أن يفسخ يمينه بخلاف رأيه. قلت: حتى لو قضى لا يصحّ. قال في الهادي: ولو ترافعا إلى قاضٍ حنفي فحكم بصحة هذا النّكاح، لا يصح إلا إذا اعتقد في هذه المسألة قول الشافعي وأدّى اجتهاده إلى ذلك. قال فخر الدين: لكن ينبغي للقاضي إن كان مأذونًا في الاستخلاف: أن يبعث الحالف إلى شافعي المذهب، ولا يأمر المبعوث إليه بفسخ اليمين؛ لأنّه كما يجوز للقاضي أن يحكم بخلاف رأيه، لا ينبغي له أن يأمر غيره بذلك، لكن يأمر المبعوث إليه أن يسمع خصومتهما ويقضي بينهما. قلت: قال في الهادي: فلو نصب القاضي الحنفي فقيهًا شفعويًّا للحكم،

وصحّة هذا النّكاح لا يصحّ؛ إلاّ أن ينصبه للحكم بما هو المذهب عنده. فحينئذٍ يجوز. قاله جلال. وقال غيرهُ: لو نصبه لهذه الحادثة خاصّة لا يجوز، ولو نصّبه قاضياً في محلّةٍ أو بلدةٍ جازَ. قلت: وهذا إذا كان الإمام أُذن له في الاستخلاف في كل المذاهب لما ذكرناه في غير هذا الكتاب بما يقع به الاختصاص في التقليد. قلت: وصورة الكتاب أطالَ اللهُ بقاء القاضي الإمام أُتيَ آخر ألقاهُ، رفعت إليَّ المسماة فلانة بنتَ فلانٍ بن فلانٍ. إنّ فلاناً تزوّجها وقد كان حلف قبل نكاحها بطلاق كلّ امرأةٍ يتزوّجها، ثم زوجني بعد هذا اليمين، ووقع الطلاق، فصرت محرّمة عليه بهذا السبب، وأنّها يمسكها حراماً ولا يقصر يده عنها، والتمست مني مكاتبةً في ذلك فأجبتها إلى ذلك، وكتبت هذا الكتاب إليه، فليتفضل بالإصغاء إلى هذه الخصومة الواقعة بينهما على ما يؤدِّي إليه اجتهاده، ويقع عليه رأيهُ وهو موفقٌ عن الله تعالى. قال الإمام فخر الدين: فعند ذلك إن كان القاضي الأوّل أو الثاني أخذ لذلك مالاً لا يصح فسخه عند الكلّ، ولا ينفّذ قضاؤه. وإن كان أخذ زيادة على أجر المثل فكذلك. قلت: وكذلك إن كان القضاء بالرشوة. قاله الإمام حافظ الدين النسفي. والله أعلم. قال فخر الدين: عقداً وأجّر المثل، فذلك لا يمنع صحة الفسخ. والأولى أن لا يأخذ. وإذا جاء الحالف إلى القاضي الثاني بكتاب القاضي الأول لا يسمع

الثاني كلامه ولا يفسخ إلاّ بمحضر من الخصم فيحضر مع نفسه المرأة التي تزوجها، فتدعي المرأة على الحالف أنّها امرأته وأنَّه تزوجها بمئة دينارٍ. وعليه أداء مهرها. والقيام بموجب النكاح من الثاني والنفقة وغير ذلك. فيقول: بلى تزوجتها بمئة دينارٍ إلا أنني حلفت قبل نكاحها إن تزوجت امرأةً فهي طالقٌ فتزوجتها ووقع عليها الطلاق قبل الدخول باليمين السابقة. فإذا سمع كلامهما وطلبت المرأة من القاضي الحكم ببقاء النكاح تقول: حكمت ببطلان اليمين الذي ذكرتها وبقاء النكاح بينكما، فينفذ قضاؤه، وتحل المرأة للحالف ولا يحتاج فسخه إلى إمضاء القاضي، وإن أمضى كان أحوط. قلت: وقد قال في الهادي: وكيفية قضاء القاضي: أن يتزوج الحالف امرأةً بنفسه، ثم يترافعا إلى قاضٍ يعتقد بطلان اليمين، وادّعت امرأةٌ أنه حلف بطلاق كل امرأة يتزوجها، فأنكر الزوج الوقوع، وأقامت المرأة شاهدين على أنه حالفٌ فيحكم القاضي بصحة هذا النكاح وإلغاء اليمين السابق على قول عبد الله بن عباس وابن مسعودٍ. ولو حكم الحاكم بإلغاء اليمين السابق قبل أن يتزوج الحالف امرأة، وأطلق للحالف أن يتزوج من شاء، فإنه لا يصح؛ لأنّ حكم الحاكم إنما يجوز بعد حكم النكاح، ودعوى المرأة بإيقاع الطّلاق. قلت: وقال ظهير الدين: رجلٌ حلفَ بطلاق كل امرأةٍ يتزوجها واحتاجَ الرّجل إلى فسخ هذا اليمين. ينبغي له: أن يتزوج امرأة بتزويج وليّها إياها، إن كان لها وليٌّ أو بتزوبج القاضي إيَّاها إن لم يكن لها وليٌّ حتى يصحّ النكاح بالإجماع، ثم ترفع المرأةُ الأمرَ إلى القاضي إلخ، وقال بعد كتاب القاضي في ذلك، ثم إذا وصل الكتاب

صورة السجل

إلى المكتوب إليه، تُدعى هذه الامرأة قبل المكتوب إليه، تدعى هذه الامرأة قبل المكتوب إليه على زوجها على نحو ما ذكرت للقاضي الكاتب - يعني: ما قدّمناه في صورة الكتاب - فيقر الزوج بهذه اليمين، وبهذا النكاح، إلاّ أنه يقول: إنها حلالٌ لي ولم يقع عليها الطلاق معللًا بعدم انعقاد اليمين، فيقضي المكتوب إليه ببطلان هذه اليمين، وبقيام النكاح بينهما أخذاً بقول من يقول ببطلان هذه اليمين من علماء السلف. وصورة السجل: يقول القاضي: فلان بن فلان. ورد في كتابٍ من القاضي فلانٍ المتولي لعمل القضاء والحكام بكور كذا ونواحيها من قبل السلطان فلانٍ مشتملًا على ما رفع إليه من الخصومة الواقعة بين فلانٍ بنت فلانٍ وبين فلانٍ بن فلانٍ في وقوع الطلاق بسبب اليمين المضافة إلى النكاح. وقد أمرني بالإصغاء إلى هذه الخصومة وفصلها واستماع البيّنة فيها والقضاء بما وقع في رأي واجتهادي فامتثلت أمرهُ وعقدت مجلسًا لذلك، فحضرت في مجلسي ذلك فلانة بنت فلان وأحضرت مع نفسها زوجها فلان بن فلان، فادّعت هذه التي حضرت على الذي أحضرته معها: أنّ هذا يطالبني بالطّاعةِ في أحكام النكاح زاعماً أني زوجته، وقد كان حلف قبل أن يتزوجني بطلاقِ كل امرأة يتزوجها، ثم تزوجني وقد وقع على الطّلاق، وحرمت عليه بهذا السبب والزَّوج أقر باليمين وبالنِّكاح وأنكر وقوع الطلاق بهذا السبب، ثم إنّ الزوج سألني الحكم بما يقع عليه رأي واجتهادي، فاجتهدت في ذلك وتأملت وتأنَّيت، ووقع رأيي على بطلان اليمين المضافة إلى النّكاح عملاً مني بقول من لا يرى صحّة اليمين المضافة إلى النكاح، فحكمت ببطلان هذه اليمين، ويحلّ هذه المرأة على هذا الزوج بهذا النّكاح،

وأمرتها بطاعة هذا الزّوج في أحكام النّكاح بحضرة هذين المخاصمين في وجهها حكماً أبرمته وقضاء أنفذته في مجلسِ حكمي هذا بين الناس على سبيل الشهرة والإعلان دون الخفية والكتمان. وكان ذلك بعد ما أطلق القاضي فلان ابن فلان الحكم في هذه الخصومة بما يقع عليه رأي واجتهادي وذلك في يوم كذا في شهر كذا من سنة كذا. قلت: بهذا تبيّن: أن طريق مشايخنا التصريح دون الإجمال، ولو فعل القوم إلى أن مثل هذا التبيين الحق من الباطل. والله أعلم. قال القاضي فخر الدين: فإن كان هذا الحالف عقد على هذه المرأة أيماناً بأن قال لها مراراً: إذا تزوجتك فأنت طالقٌ أو كُلّما تزوّجتك فأنت طالقٌ. أو قال: إذا تزوجت امرأةً فهي طالقٌ. قال ذلك مراراً، فإذا حكم بقيام نكاح هذه يفسخ الأيمان كلّها في قولهم. ولو كان قال لامرأةٍ: إذا تزؤجتك فأنت طالقٌ. ثم قال لامرأةٍ أخرى: إذا تزوجتك فأنت طالقٌ. فتزوج واحدةً منهما ففسخ في غير حقّها حتى لو تزوج أخرى يطلق في قولهم وكذا لو كان ذلك في نسوة، وإن عقد يميناً واحدةً على كل النّساء بأن قال: كل امرأةٍ تزوّجتها فهي طالقٌ ففسخ اليمين في امرأةٍ واحدةٍ جعلوا المسألة على الاختلاف قياساً على مسألة ذكرها في المنتقى: رجلٌ قال: كل عبدٍ أملكه فهو حرٌّ، فملك عبداً فأقام العبد بيّنةً على يمينه وحكم القاضي بيمينه وبعتق العبد، ثم ملك عبداً آخر هل يحتاج العبد الثاني إلى إقامة البيّنة على اليمين. قال: على قول محمّدٍ: لا يحتاجُ. وعلى قول أبي يوسف، وهو رواية عن أبي حنيفة: يحتاج.

وأكثر المشايخ في مسألة الطلاق: على قول محمّد. هذا كما لو ادّعى رجل على رجلٍ أنّه وكيلُ فلانٍ الغائب في جميع حقوقه وخصوماته مع الناس. وللغائب على المدّعى عليه كذا. وأقام البينة على ذلك، وقضى القاضي بالوكالة العامة؛ فإنه لا يحتاج إلى إثبات الوكالة على غريمٍ آخرَ. رجلٌ قال لامرأةٍ: إذا تزوّجتك فأنت طالق فتزوّجها وطلّقها ثلاثاً، ثم أنّها رفعت الأمر إلى القاضي ليفسخ اليمين، فإنّ القاضي لا يفسخ؛ لأنّه لو فسخ تطلقُ ثلاثاً بالتنجيز بعد النكاح فلا يفيد. فلو أنّ أجنبيًّا علق الطلاق بالتزويج فتزوّج امرأةً فلم يرفع الأمر إلى القاضي، لكن سأل شفعويًّا فأفتاهُ بعدم الوقوع. لا ينبغي للحالف أن يأخذ بفتواه، ويترك مذهبه؛ لأنّ عليه الأخذ بقول علمائه لا بقول أصحاب الشّافعي وفتواهم لا يكون حجّة في حقّه. ولو أنّ المرأة مع الرّجل حكّما رجلاً ليحكم بينهما في هذه الحادثة إن كان المحكم حنفيًّا لا ينفذ حكمه. وإن كان شافعيًّا: اختلفوا فيه. قال بعضهم: لا ينفذ حكمه؛ لأنّ حكمه بمنزلة الفتوى. والصّحيح: أن ينفذ حكمه عليهما. هكذا ذكره شمس الأئمة الحلواني. إن حكم المحكّم في المجتهدات نحو الكنايات والطلاق المضاف، وغير ذلك نافذ ليس لأحدهما أن يرجع عن حكمه بعد ذلك. قال - رحمه الله -: وهذا مما يعرف ولا يفتى به كيلا يتجاسر إليه العامّة؛ ولأجل ذلك امتنع المشايخ عن الفتوى في جواز حكم المحكم.

وإنّ حكّما رجلاً ولم يعلماه أنهما حكّماه في هذه الحادثة؛ إلاّ أنهّما اختصما إليه، فحكم المحكم بينهما فعلى قول مَنْ يُجَوِّز حكم المحكم يجوز؛ لأن التحكيم يثبت بدون العلم. وإن كان الحالف تزوّج امرأةً ولم يرفعا الأمر إلى القاضي حتى تزوّجت المرأة بزوجٍ آخرَ من غير علمِ الزّوج، ثم رفع الأمرَ إلى القاضي واختصما إليه، فقضى القاضي ببطلان اليمين وعدم وقوع الطلاق لا ينفذ حكمه؛ لأنّ نكاح الزوج الثاني يمنعه من القضاء للأوّل. وليس فسخ يمين الحالف أولى من إبطال نكاح الثاني. انتهى. وقال في الفصول: ثم نفاذ هذا القضاء في حكم المحكوم عليه. متفقٌ عليه. وفي حق المقضي له: إن كان عالمًا، فكذلك عندهما. وعند أبي يوسف: إذا كان المحكوم له يعتقد الحرمة. وقضى القاضي بالحلّ لا يترك رأي نفسه بإباحة القاضي. قلت: قال الإمام حسام الدين في الفتاوى الصغرى بعد ذكر الخلاف: وهذا الخلاف في غير رواية الأصول. أمّا جواب ظاهر الرواية: أنّه ينفذ ذكره في آخر كتابه الاستحسان. انتهى. قلت: ذكر الخلاف في النوادر. والمراد بكتاب الاستحسان: الاستحسان من الأصل. ولفظه فيه، وفي السير الكبير: إذا طلّقها بلفظ الكناية، فرفع إلى قاضٍ وهو يرى أن الكناية رواجع. وقضى له بالرّجعة. هل له أن يراجعها وإن كان رأيه خلاف ذلك. انتهى. ولم يذكر خلافاً. قال في المحيط: وظاهر المذهب ينفذ من غير خلافٍ.

تتميم

ولأبي يوسف في الخلافية: أنّ القضاء في حق المقضي له فتوى؛ لأنّه لا إلزام عليه؛ لأنه مخبر فيه إن شاء راجعَ وإن شاء لم يراجع. وبالفتوى: لا يصير الحرام حلالاً. والبائن رجعيًّا كما لو شهد شاهدان على رجلٍ أنه قتل ولي هذا عمد وقضى القاضي له عليه بالقَوَد. والولي يعرف أن الشّهود شهود زورٍ لا يحلّ له أن يقتله. فكذا هذا. ولهما: أنّ القضاء إلزامٌ في حقّ المقضي له من حيث الاعتقاد؛ لأنَّه التزم اعتقاد ثبوت الحلّ والرّجعة فيصير مقضيًّا عليه في حق الاعتقاد إن لم يكن مقضيًّا عليه في حق الاستيفاء. ولهذا: لو كان جاهلاً ينفذ. فكذا إذا كان عالماً؛ لأن القضاء يلزم في حقّ النّاس كافّةً بخلاف الفتوى؛ لأنّه ليس بملزمٍ لا من حيث الاعتقاد ولا من حيث الاستيفاء. انتهى. قال في الهادي: أمّا قضاء القاضي فقد اتفقوا على جوازه، ولم يقل أحدٌ أنه لا يجوز إلاّ في روايةٍ عن أبي يوسف أنّه قال: إذا كان الحالف فقيهاً حنفيأً يعتقد وقوع الطلاق، لا يجوز له أن يدعي رأي نفسه برأي القاضي فيما اعتقد حراماً، لكن حاصل المذهب عن أبي حنيفة ومحمّد: يجوز له أن يدّعي رأي نفسه برأي القاضي؛ لأن القاضي إنما يكون نائباً عن الحق أو الخلق. فإن كان نائبًا عن الحق، صار حكمه كالنَّص. وإن كان نائباً عن الخلق صار كأن الخلق كلهم أجمعوا على هذا، فيدّعي رأي نفسه لهذا. انتهى. * تتميم: إذا قال: كل امرأةٍ تدخل في نكاحي. أو قال: تصير حلالاً لي.

فهي طالقٌ ثلاثاً. اختلف المشايخ: فقال شمس الأئمة السرخسي، والإمام البزدوي (¬1) والسيد أبو قاسم: يحنثُ إذا عقد له الفضولي سواء أجاز بالقول أو بالفعل. وذكر الفقيه أبو جعفر ونجم الدين النسفي: أنّ هذا وكل امرأةٍ أتزوّجها سواء؛ لأنّ دخولها في نكاحه لا يكون إلاّ بالتزويج، فيكون ذكر الحكم ذكر سببه المختصّ به، فيصير في التقدير، كأنه قال: إن تزوّجتها. ويتزويج الفضولي لا يصير متزوّجًا بخلاف ما لو قال: كل عبدٍ دخل في ملكي، فإنَّه يحنث بعقد الفضولي هنا. فإنّ ملك اليمين لا يختص بالشراء. بل له أسبابٌ سواهُ. ولو قال: كل امرأةٍ أتزوّجها أو يزوّجها غيري لأجلي فهيَ طالقٌ ثلاثاً. فالوجه فيها: أن يزوّج الفضولي لأجله فيقع الطلاق الثلاث؛ لأنّ الشرط تزويج الغير له مطلقاً، ولكن لا يحرم عليها؛ لأنّها تطلق قبل دخولها في ملك الروج، فلا تحرم عليه. ألا ترى أنّ بعد عقد الفضولي لو طلّقها الزّوج ثلاثاً لا تحرم عليه، وإنمّا لا تحرم؛ لأنّ الطلاق إنما يقع قبل دخوله في ملك الزوج. فكذا هاهنا، إلاّ أنّه لا يقبل الإجازة؛ لأنّه صار مردوداً فيعقد الفضولي ثانياً لأجله، ويجيز هو بالفعل. قال صاحب المحيط: وعندي أنّ في الكرّة الثانية لا حاجة إلى عقد الفضولي، بل إذا تزوّج بنفسه لا تطلق؛ لأنّ اليمين انحلّت بتزوبج الفضولي ¬

_ (¬1) مرّت ترجمته.

له لا إلى جزاءٍ وليست بكلمة تقتضي التكرار. ولو قال: كلّ امرأةٍ أتزوجها أو تزوّجها غيري لأجلي وأجيزه فهي طالقٌ ثلاثاً. أو قال لامرأة: إن صرت زوجة لي، إمّا بعقدي أو عقد الفضولي، وإجازتي. اختلفت فيه الروايات. قيل: لا وجه لجوازه؛ لأنه شدد على نفسه. وفعل الفضولي لا يرفع الطلاق. وقال الفقيه أبو جعفر وصاحب الفصول: الحيلة فيه: أن يزوجه فضولي امرأة بغير أمره ويغير أمرها، ثم يجيز هو النكاح، فيقع الحنث قبل إجازة المرأة لا إلى جزاءٍ لعدم الملك، ثم تجيز المرأة النكاح فلا تعمل إجازتها، ثم يجددان النكاح بأنفسهما، ويكون هذا نكاحاً صحيحاً؛ لأن اليمين انعقدت على زوج واحد، إذ لفظه لا يقتضي التكرار. انتهى. واللهُ سبحانه وتعالى أعلم. * * *

(23) مسألة في طلاق المريض زوجته

مَجْمُوعَةُ رَسَائِل العَلَّامَة قَاسِم بن قُطْلُوبُغَا [23] مَسْأَلَةٌ في طَلَاقِ المَرِيضِ زَوْجَتهُ تَأْلِيفُ العَلَّامَة قَاسِم بْنِ قُطْلُوبُغَا الحَنَفِي المولود سَنَة 802 هـ والمتوفى سَنة 879 هـ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -

بداية الرسالة

(23) مَسْأَلَةٌ في طَلَاقِ المَرِيضِ زَوْجَتهُ قال - رحمه الله تعالى -: قد سئلتُ عن امرأة طلّقها زوجها طلاقاً رجعياً في مرض موته، ثم مضى عليه ثلاثة أشهر وثلاثة عشر يوماً، ثم مات، فأقرّت أنّها حاضت في هذه المدّة ثلاث حيض وانقضت عدتها منه قبل موته بخمسة أيّامٍ، فهل ترث مع الإقرار أم لا، فأجبت: أنها لا ترث في هذه الصّورة. والله أعلم بالصّواب. ثم وقعتُ على جواب لبعض المشايخ الحنفية صورته: الحمد لله المنعم بالصَّواب. إذا كان الطلاق رجعيًّا ترث منه ما دامت عدة الوفاة قائمة. والله أعلم. وأخبرني الذي أوقفني على هذا الجواب: أن مستند المجيب قول الشيخ عبد اللطيف بن فرشته في شرح المجمع في فصل طلاق الفارّ: قيدنا طلاقها بالبينونة؛ لأنه إذا كان رجعيًّا فعليها عدّة الوفاة أيضاً اتفاقاً. فقلت: لم يزل الفهم عزيزاً وبالوقوف على المأخذ يعضُّ عليها بالنواجذ، ما ذكره ابن فرشته فيما إذا مات وعدة الطلاق قائمة؛ لأنّها حينئذٍ زوجة. وعلى الزّوجة تربص أربعة أشهر وعشراً. أمّا إذا كانت العدة منقضية، فلم تكن زوجة فلا يجب عليها عدة ولا ترث عندنا. والله أعلم.

ثم أخبرني جمعٌ من أهل العلم: أن المجيب وقف على خطي بالجواب فقال: قد أجبته بأنّها ترث. وهذا وخاطره. فقلت: لم يكن هذا بخاطري ولا يحل هذا في دين الله لأمثالي، وإنمّا هذا مصرّحٌ به في كثيرٍ من المصنّفات. وفي بعضها مطلقٌ عن تعيين الطلاق. قال الكرخي: إذا طلّق الرَّجل امرأته طلاقاً رجعياً في مرضه الذي مات فيه، ثم مات وهي في العدة ورثته. وإن مات بعد انقضاء العدة لم ترثه. وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمّد وزفر والحسن بن زياد مصرّح فيه بأنّه ماتَ وهي في العدّة في كثيرٍ من المصنفات. وأشار إليه في عبارة بعضهم، وتعليل بعضٍ، وبهما معاً، وهو ما عنيته بقولي وبالوقوف على المأخذ يعضّ عليها بالنّواجذِ. أمّا الأوّل: فقال الإمام حسام الدين في فتاواه (¬1): وإن كان الطلاق من المريض رجعياً، أو كان طلّقها في الصّحّةِ رجعياً، ثم مات وهي في العدّة، فعدّتها عدة الوفاة لا غير. وبطل عنها الحيض في قولهم جميعاً. انتهى بحروفه. ونحوه في التتمة (¬2) والمنية (¬3). وقال الشيخ الإمام قاضي خان في فتاواه: والحرمة المطلقة إذا مات الزوج في العدّة، إن كان الطلاق رجعيًّا تنقلب عدّتها عدة الوفاة. انتهى بحروفه. وأمّا الثاني: فقال الكرخي في مختصره: وإن كان الطلاق رجعيًّا في ¬

_ (¬1) في المخطوط: (فتواه). (¬2) تتمة الفتاوى للإمام برهان الدين محمود بن أحمد بن عبد العزيز الحنفي صاحب المحيط، المتوفى سنة 616 هـ. تقدّم الكلام عنه. (¬3) أي: منية المفتي ليوسف السجستاني الذي مرّت ترجمته.

صحّةٍ أو مرض فعليها: {أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة: 234]. وبطل عنها الحيض في قولهم جميعاً. انتهى. "فبطل": يشير إلى قيامها وقت الموت إذ المنقضي المعدوم لا يبطل. ونحو قولهم في شروح الهداية (¬1): أَمَّا إذا طلَّقها رجعيًّا، فعدَّتها عدَّة الوفاة، سواءٌ طلَّقها في مرضه أو في صحَّته، ودخلت في عدَّة الطَّلاق، ثم مات الزَّوج. وأمّا الثالث: فقال في الهداية (¬2): أمَّا إذا كان رجعيًّا، فعليها عدَّة الوفاة بالإجماع، بخلاف [غير] الرَّجعيِّ؛ لأنَّ النكاح باقٍ من كل وجبة. انتهى. ولا يبقى النكاح في الرجعي بعد ثلاث حيضٍ وخمسة أيّامٍ. وقال في شرح الكنز: بخلاف المطلّقة رجعيًّا حيث تكون عدّتها عدة الوفاة اتفاقاً لبقاء الزوجية من كلّ وجهٍ قبيل الموت وانقطاعه بالموت. فيجب عليها عدة الوفاة. انتهى. ومن حاضت ثلاث حيضٍ ومكثت بعدها خمسة أيام لا يكون زوجها قبل الموت وقد انقطعت الزوجية بانقضاء العدّة لا بالموت. وقال في الإيضاح: وإن كان الطلاق رجعيًّا في صحّة أو مرضٍ فعدتها أَرْبَعَةَ أَشْهُر وَعَشرا (¬3). بلا خلافٍ؛ لأن النكاح قد نفي. انتهى. ¬

_ (¬1) فتح القدير لابن الهمام (9/ 274). (¬2) الهداية (1/ 274) وفتح القدير لابن الهمام (9/ 273) والعناية شرح الهداية (6/ 103 و 104) ودرر الحكام شرح غرر الأحكام (4/ 404) ورد المحتار (11/ 459). (¬3) لقوله تعالى: {أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة: 234].

ولا يبقى النكاح بعد انقضاء ثلاث حيضٍ وأيّامٍ. وقال في المحيط: المطلقة الرجعية إذا مات زوجها تعتد للوفاة أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشراً (¬1). لقيام النكاح. انتهى. ولا قيام للنكاح بعد مضي ثلاث حيضٍ. وأمّا الرّابع: فقال في البدائع (¬2): إذا طلَّق امرأتهُ ثم مات، فإن كان الطَّلاق رجعيًّا انتقلت عدَّتها إلى عدَّة الوفاة، سواءٌ طلَّقها في حالة المرض أم في حال الصِّحَّة، وانهدمت عدَّة الطَّلاق، فعليها أن تستأنف عدَّة الوفاة في قولهم جميعاً؛ لأنَّها زوجتُه (¬3) بعد الطَّلاق، إذ الطَّلاق الرَّجعيُّ لا يوجب زوال الزَّوجيَّة، وموت الزَّوج يوجب (¬4) على زوجته عدَّة الوفاة لقوله (¬5) تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة: 234] كما لو مات قبل الطَّلاق. انتهى. فقوله: انتقلت. . . وانهدمت. . . وأنّها زوجة، وموتُ الزَّوج يوجب على الزَّوجة عدَّة الوفاة. . . يشير إلى ما قلنا على ما تقدّم مكرّراً. وقال في الذخيرة (¬6): وإذا كان الطلاق رجعياً في صحّةٍ أو مرضٍ، فعدّتها أربعة أشهرٍ وعشراً، وقد بطل عنها الحيض في قولهم جميعاً؛ لأنّ الطّلاق ¬

_ (¬1) لقوله تعالى: {أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة: 234]. (¬2) بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع (7/ 416). (¬3) في المخطوط: (زوجة). (¬4) في المخطوط: (توجب). (¬5) في المخطوط: (بقوله). (¬6) المحيط البرهاني لبرهان الدين مازه (4/ 77).

فائدة

الرجعي لا يقطع النكاح عندنا، فكانت الزوجية قائمة [لدى الموت] (¬1)، والله تعالى (¬2) جعل كل الواجب على المرأة عند موت الزوج التربص بأربعة أشهر وعشراً (¬3)، وكان من ضرورته: سقوط الاعتداد بالحيض. انتهى. * فائدة: قال الشيخ الإمام قاضي خان في فتاواه: قالت بعد الطلاق: أيست، ثم مات زوجها بعدما مضت ثلاثة أشهر من وقت إقرارها (¬4) لا ميراث لها. * فائدة أخرى: قال في كتاب فصول (¬5) العمادي: رجلٌ طلّق زوجته في المرض، فمات الزوج بعد انقضاء العدة، كان المشكل من متاع البيت لوارث الزوج؛ لأنّها صارت أجنبية بانقطاع العدة، ولم يبق لها يد وإن مات قبل انقضاء العدة. كان الشكل للمرأة عند أبي حنيفة؛ لأنها قرّت فلم تكن أجنبية، وكان هذا بمنزلة ما لو مات الزوج قبل الطلاق. * نكتة: يلزم على ما فهموه من شرح المجمع، استحالة المسألة التي نصّ عليها: ¬

_ (¬1) ما بين معكوفتين: من المحيط. (¬2) أقحم في المخطوط: (أعلم). (¬3) تحرف في المخطوط إلى: (أو عشرًا). (¬4) في المخطوط: (اقتراع) والصواب ما أثبت. (¬5) في المخطوط: (فصولي). قال في كشف الظنون (2/ 1270): فصول العمادي في فروع الحنفية، وهو: جمال الدين بن عماد الدين الحنفي، رتبها على أربعين فصلاً في المعاملات فقط. قال في أوله: وترجمت هذا المجموع بفصول الأحكام لأصول الأحكام.

سئلت عن رجل طلق امرأته طلقتين وراجعها من الثانية

أبو حنيفة، وأبو يوسف، ومحمّد، وزفر، والحسن بن زياد، وتبديل حكمها الشرعي، وتحريم فرج حلال مدّة، وإباحة أكل مالين بالباطل، نفقة العدة بعد انقضائها إلى الموت والميراث. والله أعلم. تَمَّت * * * * قال - رحمه الله -: وسئلت عن رجلٍ طلّق امرأته طلقتين وراجعها من الثانية. ثم قال لها: أنت طالق ثلاثاً. أنت طالقٌ ثلاثاً، أنت طالق ثلاثاً. فقالت له امرأة حال قوله: أنت طالق ثلاثًا. قُل: إن شاء الله تعالى. فقال: إن شاء الله متصلاً بالمرة الثالثة، فهل يقع أم لا؟. فأجبت: نعم. وقع عليه الطلاق الثلاث في هذه الصورة. والله أعلم. ومستندي: قول علمائنا: إذا قال لها: أنت طالقٌ ثلاثاً، أنت طالقٌ إن شاء الله. يقع. وقوله: أنت طالق فاصل بين الثلاث. والاستثناء. وقولهم: إن المذكور في آخر الكلام إذا يقع به طلاق أو يجب به حد. فالاستثناء على الكل. والله أعلم. وسئلت عن وجه قوله في القنية بحينئذٍ أنت طالق بائنٌ إن شاء الله تعالى. لا يقع. أجبتُ: بأن الطلاق الصّريح رجعي، فوصفه به لغو، فيكون فاصلاً فيلحقه الاستثناء. والله أعلم. وأخذت هذا من قول علمائنا. لو قال لها: أنت طالقٌ ألبتة إن شاء الله.

سئل عن رجل حلف بالطلاق من زوجته

أو قال لها: أنت طالق بائنٌ إن شاء الله. فالاستثناء صحيح ولا يصير قول ألبتة فاصل؛ لأنّ الطلاق قد يكون بائنًا وقد يكون غير بائنٍ. فإذا قال: ألبتة. أو قال: بائن فقد وصف الطلاق بوصف يليق به، فلا يصير فاصلاً بخلاف ما إذا قال: أنت طالقٌ ثلاثاً ألبتة أو ثلاثاً بواوين معاً إن شاء الله. فإنّ هناك لا يصح الاستثناء ويصير قوله ألبتة بواوين فاصلاً على ظاهر الرواية؛ لأنّ الثلاث لا يكون إلا بواوين فيلغوا هذا الوصف ويصير فاصلاً. وعن محمّد: لا يصير فاصلاً. انتهى. والله سبحانه وتعالى أعلم. * وسئل عن رجلٍ حلف بالطلاق من زوجته ليضعن هذا الزيتون في هذا الصحن فكسرت زوجته الصحن من ساعته يحنث إن لم يوجد زمان يسع الفعل بعد اليمين. فأجاب: بأنه قد وقع الطلاق والله أعلم. ثم أحضر إليه السؤال. وعليه جواب صورته: لا حنث عليه. والحال هذه. والله أعلم. وإلى جانب الجواب سؤالٌ صورته: المسؤول. دليل هذا الجواب ليطمئن نفس الحالف. وعليه جواب صورته. قد قال علماؤنا - رحمهم الله تعالى -: إنّ زمن البر يستثنى من اليمين، فإذا حلف ليضعن هذا في هذا الإناء، فلا بد من تصوّر زمن البر، فإذا لم يتمكن من ضيق الزمان من الوضع فيه، لم يتصور، فلا يحنث إذا حصل الكسر قبل ذلك. والله أعلم. فخشي الشيخ - رحمه الله - من إباحة الفرج بهذه الشبهة. وكتبت: الحمد لله رب العالمين. ربّ زدني علماً.

سئل - رحمه الله تعالى -: عن امرأة

قد تقدم مني جواب في هذه الواقعة، يحنث الحالف؛ لأنّ هذه المسألة من فروع مسألة الكوز المطلقة عن الوقت. وفيها: يجب البر في الحال. فإذا فات المحل المحلوف عليه، حنث. وعلى هذا: ما قال في الذخيرة (¬1): والله لآكلنّ هذا الطّعام لو هلك من ساعته يحنث في يمينه. وفي فتاوى الملا الأعلى (¬2): ومن هذا الجنس: إن لم تذهبي وتأتي بذلك الحمام، فأنت طالقٌ، فذهبت لتأتي به فطار الحمام، يقع الطلاق، وما علل به لعدم الحنث ليس عبارة أحد من علمائنا، وإنما قالوا في مسائل الحلف على ترك ما هو متلبس به إن تحقق من البر مستثنى عن اليمين، وهذا ليس مما نحن فيه. ألا ترى أنهم لم يقولوا فيمن حلف: ليمسنّ السماء، إنّ زمن البر مستثنى، فلا يحنث حتى يمضي زمان يتمكن فيه زمن الفعل، وإنما قالوا: يحنث للعجز الحالي. وبالجملة: فليس لأحدٍ أن يفتي بضدّ المنقول. والله أعلم. * * * * سئل - رحمه الله تعالى -: عن امرأةٍ تسمّى وزيرة باعت أمةً لها تسمّى حسبيَ الله مع ابنةٍ لها تسمّى حريقة لامرأةٍ تسمّى فاطمة وكان البيع بحضور زوج وزيرة البائعة ويسمّى عُمر، ثم إنّ المرأة المذكورة جاءت بولدٍ وهي في ملك فاطمة وسمي شعبان، ثم إن فاطمة المذكورة باعت الأمة وولدها وسن ¬

_ (¬1) انظر المحيط البرهاني لبرهان الدين مازه (4/ 662 و 663). (¬2) لعله: (الملا علي).

الولد إذ ذاك نحو أربع سنين لرجل يقال له القاضي صدر الدين، فأقاموا في ملكه فبعد بلوغ شعبان كان معترفاً بالرّق لسيّده، ثم بعد ذلك ادّعى عُمر زوج وزيرة: أن شعبان ابنه وصدّقه الولد وأمه على ذلك. وذهبوا إليه. فهل يثبت نسبه بهذه الدعوى أم لا؟ وهل يستحق عمّن يملك الولد على السيّد أم لا؟ وهل يعتق بذلك أم لا؟ وهل للسيد التصرف بعد هذه الدعوى أم لا؛ أفتونا ماجورين. فأجاب - رحمه الله -: لا يثبت نسب الولد المذكور إلاّ أن يصدّقه المالك ولا يستحق المدعي ملكاً على السيّد بهذه الدّعوى، ولا يعتق العبد. وللمالك أن يتصرّف فيه بسائر التصرفات الشرعية ولا عبرة لتصديق الولد؛ ولا أمّه في هذه الحالة. والله أعلم. قال - رحمه الله -: ثم وقفت على السؤال وقد كتبت عليه: كل من يكتب على الفتوى في بلدنا من الحنفية: أنه يثبت نسب الولد بدون تصديق المالك. فكتبت: أمّا مستندي فيما كتبت فقول صاحب البدائع (¬1): وإن لم يكن الولد في يد نفسه، فإمّا أن يكون مملوكاً، وإمّا أن لم يكن، فإن كان ملك غيره وقت الدعوى، فإن كان علوقه في ملك المدعي يثبت نسبه بنفس الدعوى أيضًا. وإن لم يكن علوقه في ملكه لا يثبت النسب إلا بتصديق المالك على ما ذكرنا. والله أعلم. * * * ¬

_ (¬1) انظر بدائع الصنائع (16/ 258 - . . .).

سئل - رحمه الله -: عمن باع دارا بيع التقاضي وقبض بعض الثمن، ثم أقبض الباقي بعد هذه

"وسئل - رحمه الله - عمّن باع فضّة قرضٍ حجر بفلوسِ مؤجّلةٍ. فأجاب: بأنه لا يجوز لتصريح الأصحاب، بأنّ النقرة من جنس الثمن، وأصل الثمن وتصريحهم بأن الفلوس النافقة ثمن وبيع أحد الثمنين المختلفي الجنس بالآخر نسبة لا يجوز وإن جعلت الفلوس قروضاً لإقدامهما على تأجيلها على قول أبي حنيفة وأبي يوسف. فلا بد أن يجعل مسلماً فيها. وإذا قلنا بجواز السلم بلفظ البيع على الرّاجح فشرطه استيفاء شرائط السلم. كما قال في المنتقى: وينعقد السلم بلفظ البيع والشراء إذا وجد شرائط السلم ولم يستوف هنا قول الإمام وهو المفتى به. والله أعلم. * * * * وسئل - رحمه الله -: عمّن باع داراً بيع التقاضي وقبض بعض الثمن، ثم أقبض الباقي بعد هذه. ووقع التكاتب عند ذلك، وقد كان المشتري أباح شخصاً السكنى في الدار. فهل البيع صحيح أم لا؟ وهل يتوقف على الكتابة؟ وهل للبائع أو المشتري الرجوع على المباح له السكنى بأجرة المثل؟. وهل للذي أباح أن يرجع عن الإباحة أم لا؟. فأجاب: أن البيع صحيحٌ وإن لم يقبض كل الثمن. وأنه لا يتوقف على المكاتبة عند أحدٍ من علماء الأمّة. وليس للبائع ولا للمشتري رجوع على المباح السكنى بشيءٍ لا أجرةَ مثل ولا غيرها. وإن قلنا بصحة البيع ولا إن قلنا بعدم صحّته، وللمبيح الرجوع متى شاء. والله أعلم. وهذا بناء على الصحيح في صحّة بيع التعاطي والاكتفاء بقبض أحد البدلين. وأمّا عدم رجوع المبيع فظاهرٌ إذا قلنا بصحّة البيع.

مسألة

ولو قيل بعدم صحة البيع على قول الكرخي فعنده: المنافع لا تضمن. والله أعلم. * * * * مسألة: رجل باع رجلاً سكراً ووزنه له، فألقى له ذهباً بمقدار الثمن، ونظر البائع إلى الذهب فوجد ديناراً منه ردياً. فقال له أبدله. فألقى له غيره ولم يأخذ الأول حتى ضاعا جميعاً. فما الحكم؟. أجباب: إن كان الدينار الذى ألقاه جيداً فهو للسكري من ثمن سكره. والله أعلم. * * * * وسئل عن رجل باع عن رجلٍ فصاً من ياقوت أحمر فى خاتم من ذهب بثمن معلوم ودفع للبائع الخاتم إلى المشتري وفيه الفصّ، فضاع عند المشتري فماذا يلزم المشتري. أجاب: إن كان الفصّ يمكن نزعه من غير ضررٍ فهذا قبض وعليه ثمن الفص ولا شيء عليه فى الخاتم. وإن كان لا يمكن نزعه إلا بضرر فليس هذا القبض بصحيحٍ. وقد أفسخ البيع قبل القبض بهلاك المبيع ولا شيء على المشتري. والله أعلم. * * * * وسئل عن رجلٍ باع ثوباً بَعْلَبَكياً معلوماً بينهما، وديناراً ذهباً بمئة وخسمين درهما إلى ستة أشهر.

سئل عن رجل باع دينارا

فأجاب: بأن البيع باطل بينهما جميعاً لا يجوز لا في الثوب ولا في الدينار. والله أعلم. * * * * وسئل عن رجلٍ باع ديناراً بخمسة وعشرين نصفاً من الفضة معاملة الآن، ثم اشترى منه منديلاً إسكندريًّا معلوماً بينهما بخمسة وعشرين نصفاً من الفضة معاملةً الآن، واشترى المنديل المذكور قبل بيع الدينار. فما الحكم؟. أجاب: إن كان الصّرف قد وقع أوّلاً لا يكون هذا قصاصاً. وإن تقابضا قبل الاقتراض بل على مشتري الدينار أن يدفع الفضة، فإذا قبضها البائع دفعها عن ثمن المنديل، وإن كان افترقا قبل هذا بطل الصّرف. ولبائع المنديل ثمنه عند مشتريه. ولمشتريه ديناره عند البائع، وإن لم يتقابضا بطل الصّرف وبقي البيع، وإن وقع بيع المنديل أوّلاً وتقابضا، وجعل مشتري الدينار الفضّة قصاصاً قبل أن ينصرفا، صار قصاصاً، وإن افترقا قبل أن يتقابضا بطل الصّرف وبقي البيع. والله أعلم. * * * * وسئل عن رجلٍ اشترى من صيّادِ سمكةً ودفع ثمنها. والحال: أن المشتري ناظر إلى العين المبيعة وهي بينهما، فاندفعت إلى البحر فهل يعد وزنها تسليماً حتى يكون من ضمان المشتري أو لا يكون تسليماً حتى تسلم باليد؟. فأجاب: الحمد لله رب العالمين. نعم. وزنها تسليم على قول بعض المشايخ على الصحيح. فهذه التخلية

الحاصلة بعد تمام العقد إلى اندفاعها في البحر كان يمكن المشتري قبضها فيها، فتكون التخلية تسليمًا، فتكون السمكة من ضامن المشتري. قال - رحمه الله -: ثم وقفت على جواب لبعض الحنفية صورته: الحمدُ لله الذي به أستعين، نعم المولى ونعم المعين. أقول - وبالله التوفيق -: لا يسمّى مثل هذا تسليماً حقيقةً، وإن حصلت التخلية بينه وبين المشتري صورة في الجملة فلا بد من تسليمه إيّاها باليد حقيقة لكونها بمنزلة السمكة في البحر حكمًا من حيث قيام المانع من التسليم، وله نظائر كثيرة مذكورةٌ في الفقه. وكتب الشيخ - رحمةُ الله عليه -: التسليم باليد ليس مذهب علمائنا، فلا يخفى بطلان ما ذكر على ذي لبٍّ والقواعد والنواظر ناطقةٌ بموافقة ما ذكرنا (¬1) ومخالفة ما ذكر. قال في الذخيرة (¬2): وتسليم المبيع: هو أن يخلي (¬3) بين المبيع وبين المشتري على وجه يتمكن المشتري من قبضه من غير حائلٍ (¬4)، وكذا التسليم في جانب الثمن. وقال الشَّافعي: التَّخلِيَةُ ليست بقبضٍ. والصحيح مذهبنا؛ لأنّ (¬5) التسليم مستحق على البائع، وما يستحق على ¬

_ (¬1) جاء في هامش المخطوط: (قلنا). (¬2) المحيط البرهاني لبرهان الدين مازه (6/ 230). (¬3) في المحيط: (يحل). (¬4) في المخطوط: (حامل). (¬5) في المخطوط: (لا).

الإنسان يجب أن يكون له طريق [الخروج] عن عهدته بنفسه، ولو توقف ذلك (¬1) على وجود الفعل من غيره، وذلك الغير مختارٌ (¬2) في الفعل يبقى هو في عهدة الواجب. انتهى بحروفه. وقال في السير الكبير: إذا ولّى الإمام رجلاً ببيع الغنائم، فجعل ذلك الأرماك (¬3) في حظيرة وباع رمكةً منها رجلاً وقال للمشتري ادخل الحظيرة واقبض الرمكة. قد خلّيت بينك وبينها. فدخل الحظيرة لقبض الرمكة فعالجها، فانفلتت منه، وخرجت من باب الحظيرة وذهبت ولا يدري أين ذهبت ينظر في ذلك، فإن كان المشتري لا يقدر على أخذها فالهلاك على البائع؛ لأن المشتري لم يصر قابضاً لها حقيقةً، وهذا ظاهر، ولا حكماً؛ لأنّه لم يتمكن من قبضها إذا كان لا يقدر على أخذها. وإن كان المشتري يقدر على أخذها فالهلاك على المشتري؛ لأنه صار قابضًا لها حكماً؛ لأنّ في هذا يستوي الجواب بينهما إذا كان المشتري يقدر على أخذها من غير كلفةٍ ومشقّةٍ. ففي الحالتين يصير قابضاً لها بالتخلية؛ لأنّ في هذا الباب للتمكّن من القبض لا غير، ثم قال: وقعت فتوى في زماننا: أن رجلاً اشترى بقرةً من رجلٍ وهي في المرعى. فقال له البائع: اذهب فاقبض البقرة. فأفتى بعض مشايخنا: أنّ البقرة إذا كانت بمرأى العين بحيث يمكن الإشارة إليها وهذا قبض وما لا فلا. ¬

_ (¬1) في المحيط: (لو قال لوقف ذلك). (¬2) في المخطوط: (مختاراً). (¬3) الأرماك: جمع الرمك، وهي الفرس والبرذونة تتخذ للنسل. القاموس.

سئل - رحمه الله -: عن رجل اقترض من رجل مالا على تركة فلان

وهذا الجواب ليس بصحيح. والصّحيح: أن البقرة إذا كان يتمكن المشتري من قبضها لو أراد، فهو قابضٌ لها بدليل مسألة الرمكة التي ذكرناها. انتهى. والله أعلم. * * * * وسئل - رحمه الله -: عن رجلٍ اقترض من رجلٍ مالاً على تركةِ فلان، ثم أحال المقرض على رجلٍ غائبٍ بالقدر الذي اقترضه، ثم بعد ذلك صدر بين المقرض والمقترض براءة جامعة وإقرار بعدم الاستحقاق محكوم بموجب ذلك من حاكمٍ حنفي فادّعى المحال عليه بأنّ الحوالة باطلة. وأجيب بذلك، فهل للمقرض الرجوع بعد البراءة والحكم بموجبها أم لا؟. والجواب: ملصق على الإقرار بالقرض والحكم. إلخ. وعليه جواب شافعي صورته إن كان اقترض على جهة التركة. فلا يصحّ القرض ولا الحوالة وله الرجوع على المقترض وتحته جواب الحنفي صورته ما لم يوجد القرض بشرطه والحوالة بشرطها فله الرجوع بطريقه شرعاً كما أفتى به فلان. وإلى جواب الكافيجي: عقد القرض ليس بلازمٍ لا سئما على التركة. كما لا يجوز القرض على الوقف. وله الرجوع بعد الحكم والإبراء مع كلام آخر غير معتبر. فكتب الشيخ - رحمه الله -: ليس له الرجوع وهذه الأجوبة كلها باطلة. أمّا الشافعي: فلأنه مسبوق بحكم الحنفي الذي شاهده. وكتب تحته من غير علمٍ بمذهب الحاكم.

وأمّا الحنفي: فقد أخطأ مذهبه. قال الإمام الأسروشني (¬1) في فصوله: رجلٌ أبرأ رجلاً عن الدّعاوى والخصومات، ثم ادّعى عليه مالاً بالإرث من أبيه إن مات أبوه قبل إبرائه، صح الإبراء ولا تسمع دعواه وإن لم يعلم هو بموت الأب عند الإبراء (¬2). وقال في فتاوى قاضي خان: اتفقت الروايات على أن المدعي لو قال: لا دعوى لي قبل فلانٍ ولا خصومة لي قبل فلانِ يصحّ حتى لا تسمع دعواه إلا في حق حادثٍ بعد البراءة. وهنا لم يكن كذلك؛ لأنّ الحوالة لم تنقل الدين من ذمة المقترض عندنا لغيبة المحال عليه وعدم رضاه ولا عبرة بظن المحتال وحيث كان المال في ذمّته فالبراءة صحيحة وإن لم يعرف المبرئ أن الذّمة مشغولة بالدين كما نقلناه. وقول المجيب الثالث: إن عقد القرض غير لازم خطأٌ لقول علمائنا: إنّ القرض يملك بالقبض عند أبي حنيفة وبالاستهلاك عند أبي يوسف. وقوله: كما لا يجوز القرض على الوقف خطأٌ أيضاً. لقولهم بجواز الاستدانة على الوقف بإذن الحاكم بلا خلاف، وبدون إذنه على الخلاف. وأمَّا قوله: إن له الرجوع فخطأ أيضاً. وقد علم وجه ذلك من الكلام على ما قبله. والله سبحانه وتعالى أعلم. ¬

_ (¬1) تحرف في المخطوط إلى: (الأستروشني). وهو الشيخ، الإمام، مجد الدين، أبي الفتح، محمد بن محمود الأسروشني الحنفي، المتوفى سنة نيف وثلاثين وست مئة. وأسروشنه - بضم الهمزة، والراء المهملة، وفتح الشين المعجمة، والنون -: اسم إقليم بما وراء النهر. انظر كشف الظنون (1/ 1). (¬2) ذكره صاحب تكملة حاشية رد المحتار (2/ 328 و 344) وعزاه لصاحب الخلاصة.

(24) [رسالة في] حفر المربعات

مَجْمُوعَةُ رَسَائِل العَلَّامَة قَاسِم بن قُطْلُوبُغَا [24] [رِسَالَةٌ في] حَفْرِ المُرَبَّعَاتِ تَأْلِيفُ العَلَّامَة قَاسِم بْنِ قُطْلُوبُغَا الحَنَفِي المولود سَنَة 802 هـ والمتوفى سَنة 879 هـ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -

بداية الرسالة

(24) [رِسَالَةٌ في] حَفْرِ المُرَبَّعَاتِ * سئل - رحمه الله تعالى - عن رجلٍ استأجر أُجراء يحفرون له مربعة عمقها قامتان وأزيد ليغرس فيها الكرم، فانهدمت حائط من حيطان المربعة على بعضهم في حالة الحفر، فمات فهل يهدر دمه أو يطالب به رفقته أو يطالب به المستأجر؟ وماذا يجب في ذلك؟. فأجاب: لا مطالبة على المستأجر وعلى الرفقة الذين يحصصهم وتقسط حصّة الميت. وهذا مما لا خلاف عندنا نعلمه في ذلك. فلفظ الرواية هكذا: ولو استأجر أربعة نفرٍ يحفرون له بئرًا فوقعت عليهم من حفرهم فمات أحدهم، فعلى كلّ واحدٍ من الثلاثة ربع الدّية وهدر الربع؛ لأنّه حصل بجنايتهم. والله أعلم. فأحضر إليه سؤال ثانٍ في رجلٍ استأجر ثمانية رجالٍ يحفرون له مربعة في رملٍ عمقها قامتان وأزيد ليغرس فيها الكرم، فانهدمت حائط من حوائطه الأربعة على اثنين منهم في حالة الحفر، فماتا. فهل يهدر دمهما أو يطالب به رفقتهما، أو يطالب به المستأجر. وماذا يجب في ذلك؟. وعليه جوابٌ صورته:

الحمدُ لله المنعم بالصّواب. لا ضمان على أحدٍ ممن ذكر في ذلك، ولا مطالبةَ فيه والحالة هذه. والله أعلم. قال الشيخ - رحمه الله -: فخشيت أن يخفى جوابي ويظهر هذا للحكام الذي يخفى عليهم بعض الأحكام الشرعية. فكتبت إلى جانب ذلك الجواب، ما صورته: الحمد لله. ربّ زدني علماً. {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [آل عمران: 8]. لا يهدر ذمّتهما، ويطالب رفقتهما بديتهما، فعليهم دية ونصف دية لأولياء كل واحدٍ منهما: ثلاثة أرباع دية، ويهدر ربع هذا مما لا خلاف فيه عندنا. وأمّا المستأجر فلا شيء عليه. والحالة هذه والله أعلم. وخشيت من أصحاب الأغراض الفاسدة أنهم يحتجون في مثل هذه الواقعة بذلك الجواب ويقولون: قد أجاب فلانٌ في مثل هذا بكذا، كما يقولون في أحكام بإجماع المسلمين صدرت من بعض الحكام: قد حكم فلانٌ في مثل هذا بكذا، فعلقت هذا التعليق وضفنته عبارات كتب علمائنا ليتمكّن القائم لله من الرّد على المبطلين. فعبارة التجريد والإيضاح والمفيد والمزيد (¬1): ولو استأجر أربعة نفرٍ ¬

_ (¬1) (التجريد الركني في الفروع) للإمام ركن الدين، عبد الرحمن بن محمد المعروف، بابن أميرويه الكرماني الحنفي، المتوفى سنة ثلاث وأربعين وخمس مئة، وشرحه =

يحفرون له بئراً، فوقعت عليهم من حفرهم، فمات أحدهم، فعلى كلِّ واحدٍ من الثَّلاثة ربع الدِّية (¬1)، وهدر الرُّبع؛ لأنّه حصل بجنايتهم جميعاً (¬2). انتهى بحروفه. وعبارة المبسوط (¬3): ولو كان الأجراء أربعة فوقع عليهم من حفرهم، فمات واحدٌ ضمن الثلاثة. كلّ واحدٍ ربع الدية (¬4) وهدر ربع الدية؛ لأن الأجراء مباشرون للإتلاف؛ لأنّ البئر إنما انهارت عليهم من حفرهم، فصارت كما لو استأجر أجراء لهدم حائط فسقط حالة الهدم من أيديهم شيءٌ على إنسافي ضمن الهادمُ؛ لأنّه مباشرٌ. فكذا هذا. والأمر سبب والضط ن على المباشر دون السبب. فقد تلفَ المقتول بجنايته وبجناية ثلاثة من أصحابه وجنايته مهدرة، وجناية أصحابه معتبرة. كما لو جرح نفسه جراحة وجراحة ¬

_ = وسمّاه: (الإيضاح)، وهو ثلاث مجلدات. وشرحه أيضاً: شمس الأئمة، تاج الدين، عبد الغفار بن لقمان الكردي الحنفي، المتوفى سنة اثنتين وستين وخمس مئة، وسماه: (المفيد والمزيد). كشف الظنون (1/ 345). وقال المصنف في تاج التراجم (ص 12): عبد الغفور بن لقمان بن محمد تاج الدين، أبو المفاخر الكردري، تفقه على: أبي الفضل عبد الرحمن الكرماني، وتولى قضاء حلب للعادل نور الدين محمود، وصنّف شرحاً على الأخسيكتي، وشرحاً على التجريد، وسمّاه: المفيد والمزيد، وشرح الجامع الصغير على طريق الجامع الكبير في تقرير أصول الأبواب، وكان على غاية من الزهد، توفي سنة اثنتين وخمسين، وقيل: اثنتين وستين وخمس مئة. (¬1) تحرف في المخطوط إلى: (الدرية). (¬2) انظر الجوهرة النيرة شرح مختصر القدوري (5/ 47). (¬3) انظر المبسوط للشيباني (3/ 47 - . . .) والمبسوط للسرخسي (7/ 422 - . . .). (¬4) تحرف في المخطوط إلى: (الدرية).

ثلاثة ضمنوا ثلاثة أرباع الدية. فكذا هذا. انتهى. وهذه عبارة المحيط والذخيرة أيضاً. وعبارة القاضي الإمام فخر الدين قاضي خان (¬1): رجلٌ استأجر أربعةَ رهطٍ يحفرون له بئراً فوقعت من حفرهم، فمات أحدهم، كان على كل واحدٍ من الثلاثة الباقين ربع دية الميت، وسقط ربعها، فبقي ثلاثة الأرباع. انتهى. وعبارة البدائع (¬2): ولو استأجر أربعة نفرٍ يحفرون له بئراً، فوقعت عليهم من حفرهم، فمات أحدهم، فعلى كلِّ واحدٍ من الثَّلاثة ربع الدِّية، وهدر الرّبم؛ لأنَّه مات من أربع جناياتٍ إلا أنَّ جناية المرءِ على نفسه هدرٌ، فبطل الرّبع، وتثبت جناية (¬3) أصحابه [عليه]، فتعتبر، ويجب عليهم ثلاث (¬4) أرباع الدِّية على كلِّ واحدٍ منهم الرّبع. وقد روى الشَّعبيُّ، عن علي - رضي الله عنه -: أَنَّه قَضَى عَلَى الْقَارِصَةِ وَالْقَامِصَةِ (¬5) وَالْوَاقِصَةِ بِالدِّيَة أثَلاثًا وَهُنَّ (¬6) ثَلاثُ جَوَارٍ، كبَتْ (¬7) إحْدَاهُنَّ الأُخْرى، فَقَرَصَتْ الثَّالِثة الْمَرْكُوبةَ فَقَمَصَتْ (¬8) فَسَقَطَتْ الرَّاكِبةُ فَقَضَى لِلَّتِي وَقَصَتْ بِثلثَيْ الدِّيَةِ عَلَى ¬

_ (¬1) مجمع الضمانات لابن غانم البغدادي (1/ 318 و 3/ 450) نقلاً عن قاضي خان. (¬2) بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع (16/ 437 - . . .). (¬3) في البدائع: (وبقي جنايات). (¬4) في المخطوط: (ثلاثة). (¬5) تحرف في المخطوط إلى: (والقانصة). (¬6) تحرف في المخطوط إلى: (بين). (¬7) تحرف في المخطوط إلى: (كتب). (¬8) تحرف في المخطوط إلى: (فقنصت).

سئل عن رجل استأجر جميع بستانين

صَاحِبَتِهَا، [وَأَسْقَطَ الثُّلُثَ]؛ لأَنَّ الْوَاقِصَةَ أَعَانَتْ عَلَى نَفْسِهَا (¬1). وَرُوِيَ: أَنَّ عَشَرَة مَدُّوا نَخْلَة فَسَقَطَتْ عَلَى أَحَدِهِمْ، فَمَاتَ، فَقَضَى عَلِي - رضي الله عنه - عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِعُشْرِ الدِّيَةِ، وَأَسقَطَ الْعُشْرَ؛ لأَنَّ الْمَقْتُولَ أَعَانَ عَلَى نَفْسِهِ (¬2). انتهى بحروفه. والله أعلم. * * * * وسئل عن رجلٍ استأجرَ جميع بستانين يعرف أحدهما بابن أبي الفرج والآخر بجنينة للنّصارى، وساقى على ما بالبستانين من النخيل والأشجار المساقاة الشرعية، على أن يقوم على النخيل والأشجار الكائنة بالبستانين المعلومة عندهما العلم الشرعي بنفسه، وبمن يستعين به من رجاله على ما يجوز عليه عقد المساقاة الشرعية من تنظيفٍ وتأبير وسقى على العادة في مثل ذلك، على أنّ مهما طلعه الله من ثمره في ذلك كانت مقسومة بينهما على مئة جزءٍ، وتسعةٍ وتسعين جزءاً للمساقي المذكور، وجزءٌ واحدٌ لربّ الأشجار المذكورة، ثم إن المستأجر المذكور أجّر البستان المعروف بجنينة النّصارى لرجل آخرَ، وساقاهُ كما في أبحاره، ومساقاته من غير زيادة، ثم إنّ المؤجّر الأوّل جافى غيبة المستأجر منه ووضع يده على جميع سواقط البستانين، وجميع ثمرة البستان المعروف بجنينة النّصارى، وباع ذلك وتصدّق فيه لنفسه. فماذا يجب عليه للمستأجر منه، وللمستأجر الآخر؟. فأجاب الشيخ - رحمه الله تعالى -: ¬

_ (¬1) لم أجده. (¬2) لم أجده.

الحمدُ لله. ربّ زدني علماً. لا يجب عليه لا للمستأجر منه ولا للمستأجر الثاني. وللمستأجر الثاني على الأجر أجرُ مثل عمله إن كان عمل، والحالة هذه. والله أعلم. ثم كتب على هذا جماعةٌ من أهل الديار المصرية من الحنفية ألواناً من الأجوبة بغير علمٍ. فواحدٌ كتب: الحمدُ لله الهادي للحقّ. يجب على المتعدي منعُ يدهِ مما هو كذلك مع المقابلة والضمان على الوجه الشرعي. وكتب آخر تحت خطه: الحمدُ لله، وبه توفيقي. إذا وقعت المساقاة للثاني بشروطها المعتبرة شرعاً، فهيَ صحيحةٌ. وعليه ما التزمه من العمل. وله المسمى من الخارج من ثمرة البستان، فإذا وضع أحدٌ يدهُ على الثمرة بغير إذنِ مالكها يكون متعدّياً، ويلزمه الضمان بطريقه الشّرعي. وكتب ثالثٌ: الحمدُ لله المنعمِ للصّواب. ما وضع المؤجّر الأوّل يده بغير طريقٍ شرعي، وتعدى فيه من ذلك، يلزمه قيمته للمستأجر منه، الذي يستحقه بطريقة شرعاً، ويزجر ويردع على تجرئه وتعديه. والحالة هذه.

وإنّما قال الشيخ - رحمه الله -: ما تقدّم؛ لأنّ لفظ الرواية والسواقط لصاحب النخيل؛ لأنّها ليست من الثّمرة، وإنّما هي بمنزلة النّخل نفسه. هذا لفظ علمائنا بحروفه. ولفظها في مسألة الثمرة والنخل لا يدفعها إلى غيره، إلاّ أن يقول له ربُّ النّخل: اعمل فيه برأيكَ. هذا لفظ أصل المبسوط (¬1). ولفظ التجريد والمفيد والمزيد والإيضاح (¬2): ولو دفع نخلاً معاملةً، ولم يقل: اعمل برأيك. فدفع العاملُ إلى غيره معاملةً فعمل فيه، فما (¬3) خرج فهو لصاحب النّخل، وللعامل الآخر على العامل أجر مثله؛ لأن العامل الأوّل لم يعمل، فلم يستحق شيئاً. والثاني عمل بحكم عقدٍ فاسدٍ؛ لأنّ العامل لا يملك أن يعامل غيره بدون الإذن. ولفظ البدائع (¬4): ومن أحكام المعاملة: أنَّ العامل لا يملك أن يدفع إلى غيره معاملةً، إلاَّ إذا قال له ربُّ النَّخل (¬5): اعمل فيه برأيك؛ لأنَّ الدَّفع ¬

_ (¬1) انظر: المبسوط للسرخسي (7/ 213 - . . .) ورد المحتار (26/ 127) وحاشية رد المحتار (6/ 598)، وتبيين الحقائق شرح كنز الدقائق (16/ 214)، والبحر الرائق (21/ 500). (¬2) (التجريد الركني في الفروع) للإمام ركن الدين، عبد الرحمن بن محمد المعروف، بابن أمير وبه الكرماني الحنفي، شرحه وسمّاه: (الإيضاح). و (المفيد والزيد) لشمس الأئمة، تاج الدين، عبد الغفار بن لقمان الكردي الحنفي. تقدّم الكلام عنهم. (¬3) في المخطوط: (فيما). والصواب ما أثبت. (¬4) بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع (14/ 31). (¬5) في البدائع: (الأرض).

إلى غيره لا يثبت (¬1) إثبات الشَّركة في مال غيره بغير إذنه فلا يصحُّ، وإذا قال له: اعمل أفيه، برأيك، فقد أذن له، فصحَّ، ولو لم يقل له: اعمل فيه برأيك، فدفع العامل إلى رجلٍ آخر معاملةً، فعمل فيه، فما خرج (¬2) فهو لصاحب النَّخل، ولا أجر للعامل الأوَّل؛ لأنَّ استحقاقه بالشَّرط - وهو شرط العمل - ولم يوجد العمل منه (¬3) بنفسه (¬4) ولا بغيره أيضاً؛ لأنَّ عقده معه لم يصحَّ، فلم يكن عمله مضافاً إليه، وله على العامل الأوَّل أجر مثل عمله [يوم عمل]؛ لأنَّه عمل له بأمره، فاستحقَّ أجر المثل. انتهى. ولفظ المحيط: دفع إلى رجلٍ نخلاً (¬5) له معاملة منه بالنصف، ولم يقل له: اعمل برأيك، فدفع العامل إلى غيره معاملةً، فالخارج كله لصاحب النّخل، وللعامل الآخر على الأوَّل أجرٌ مثل عمله، ولا أجرَ للأوّل على صاحب النّخل؛ لأنّ الأوّل صار مخالفًا غاصباً لما دفع نخل غيره إلى غيره وأشركه في الخارج بغير إذن صاحبه، فلا يستحقّ الأجر؛ لأنَّه غاصبٌ. وقد استأجر الثاني بشيءٍ بعينه وهو لا يملكه، وقد أوفى الثاني العمل فيستحقّ أجر المثل على الأوّل؛ لأنّ الخارج تولّد من النّخل، فيكون لصاحبه. انتهى. ولفظ الذخيرة: وإذا دفع إلى رجلٍ نخلاً معاملةً بالنّصف ولم يقل: اعمل برأيك، فدفع العامل إلى آخر معاملة يعمل فيه فما خرج فهو لصاحب النّخل. ¬

_ (¬1) (لا يثبت) غير موجودة في البدائع. (¬2) في البدائع: (فأخرج). (¬3) في البدائع: (منه العمل). (¬4) في المخطوط: (نفسه). (¬5) تحرف في المخطوط إلى: (دخلا).

سئل الشيخ من مدينة غزة

وللعامل الآخر على العامل الأول أجر مثله فيما عمل بالغاً ما بلغَ، ولا أجر للعامل الأوّل. أمّا لا أجرَ للعامل الأوّل؛ لأنّه يكون إيجاب الشركة في مال الغير. والعامل الأوّل لم يعملن بنفسه. وعمل الثاني غير مضافٍ إليه؛ لأن العقد الأوّل لم يتناوله، فلا يستحقّ أجر المثل، وإنّما للعامل الثاني أجر مثل عمله على الأوّل؛ لأنه أوفى العمل. وقد استأجره الأول فيستحقّ أجر المثل عليه. قالوا: وقوله: بالغاً ما بلغ. قول محمّدٍ. أمّا عند أبي يوسف فلا يتجاوز به ما سمّى. انتهى. والله سبحانه وتعالى أعلم. * * * * وسئل الشيخ من مدينة غزّة: هل يجوز للجندي أن يؤجر ما أقطعه الإمام الأعظم من أراضي بيت المال، ولا يجوز لكونه غير متمكنٍ من استمرار التسليم في جميع المدّة، لجواز أن يخرجه عنه في أثناء المدّة، وبكونه ملك منفعة ذلك لا في مقابلة مالٍ، فهل للجندي نظير المستأجر في أنّ له أن يؤجّر أو نظير المستعير في أنّه ليس له أن يؤجّر المستعار. فإن قيل لجواز الإجارة ولزومها، فهل إذا مات المؤجّر إن أخرج الإمام الأرض عنه، وأقطعها لغيره تنفسخ الإجارة أو لا؟. فإن قيل: بعدم انفساخها، فهل تبقى بأجر المثل أو بما سمّاه المؤجّر الأوّل. والحال: أنّ الأرض المؤجّرة لم يكن للمستأجر فيها بناءٌ ولا غرسٌ ولا نسبٌ. فأجاب:

الحمدُ لله. ربّ زدني علماً. نعم. لهُ أن يؤجّر ما أقطعه الإمام، ولا أثر لجواز إخراج الإمام له في أثناء المدّة، كما لا أثر لجواز موت المؤجّر في أثناء المدّة ما أجّرَ، ولا لكونه ملك منفعةً لا في مقابلة مالٍ لاتفاقهم على أنّ من صولح على خدمة عبدٍ سنة كان للمصالحِ أن يؤاجره إلى غير ذلك من النصوص الناطقة لجواز إيجار ما ملكه من المنافع لا في مقابلة مالٍ، فهو نظير المستأجر؛ لأنه ملك الإقطاع بمقابلة استعداده لما أعدّ له، لا نظير المستعير لما قلنا، وإذا مات المؤجّر أو أخرج الإمام الأرض عن المقطع تنفسخ الإجارة لانتفاء الملك إلى غير المؤجّر. كما لو انتقل الملك في النظائر التي خرج عليها إجارة الإقطاع، وهي إجارة المستأجر. وإجازة العبد الذي صولحَ على خدمة مدةً معلومةً، وإجازة الموقوف عليه الغلّة. وإجازة العبد المأذون، وما يجوز عليه الإجازة من مال التجارة، وإجازة أم الولد. والله أعلم. ثم وقف الشيخ على جواب لبعض الحنفية من أهل العصر صورته: الحمد لله المنعم للصّواب. نعم يجوز للجندي أن يؤجّر إقطاعه حيث كان، يتضمن إقطاعه له ملك المنفعة والتصرّف فيه في العرف العام بما يراه، وليس هذا نظير المستعير وتكون الإجارة من المقطع صحيحة لازمةً حيث كانت مشتملةً على شروطها شرعاً، ولا ينفسخ بالموت ولا بإقطاعه غيره. فإنّ الإمام جعله كالوكيل في ذلك. وتبقى بالمسمّى الذي وجد في شرط اللزوم، ويشهد لذلك؛ قواعد علمائنا والحالة هذه. قال الشيخ - رحمه الله تعالى -:

أسئلة وردت للشيخ من دمشق من قبل الأمير قراجا

قوله: في العرف العام. مستدرك لاستناده التصرف من ملك المنفعة، ولعدم صلاحيته؛ لأنه يكون وكيلاً. وقوله: إنه لا تنفسخ بالموت ولا بإخراج الإمام الإقطاع عنه. مخالفٌ لحكم النّظائر التي خرج جواز الإقطاع عليها، كما صرّحت بها. وقوله: إنّ الإمام جعله كالوكيل مخالفاً لما صدر به من أنّه ملك المنفعة والتصرّف بما يراه. وقوله: إنّ القواعد تشهد بذلك. من نوع فتاوى الرأي. حيث لا يتصور أن يكون مالك المنفعة على الانفراد وكيلاً في إيجارها عن غيرها. والله أعلم. * * * * قال - رحمه الله تعالى -: ورد علينا من دمشق من قبل الأمير قراجا الظّاهري (¬1) ثلاثة أسئلة: الأوّل (¬2): في قتيلٍ وجدَ في محلّةٍ أو بين قريتين أو بين طائفتين التقتا بالسيوف وغيرها، فأجلوا عن قتيلٍ وطلب أولياء القتيل ديَته من أهل المحلّة، أو أقرب القريتين، أو أحد الطائفتين، أو منهما جميعاً، وادّعوا عليهم فقضى لهم بالقسامة والدية عليهم، ودفعوا الدية إلى أولياء القتيل، ثم تصرّف الأولياء في الدّية، واقتسموها فيما بينهم، فهل يكون أخذ أولياء المقتول الدية وقبولها عفواً عن القاتل من القصاص؟. ¬

_ (¬1) انظر الضوء اللامع للسخاوي (3/ 273). (¬2) الذي ذكر في المخطوط المسألة الأولى والثالثة وربما يكون ذلك بسبب سقط من الناسخ.

وهل يكون العفو قبول الدية في قوله تعالى: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 178]. شاملاً لما ذكر سواءٌ كان القاتل معلوماً أو مجهولًا أم لا؟. ثم إذا ظهر القاتل بعد ذكرٍ هل يعود الأمر إلى القصاص، وينقض ما دفع من القسامة، وإعطاء الدية أم يبطل القصاص؟. وهل لأولياء القتيل أن يدّعوا بذلك على القاتل أم لا؟. وإذا بطل القصاص واستمر حكم الدية، وادّعى أهل المحلّة أو غيرهم على أولياء القتيل بالمال الذي أخذ منهم حيث ظهر القاتل؟. وهل لأولياء القتيل رد المال على أهل المحلّة أو غيرهم، بأنّ القتيل وجدَ بين ظهرانيكم، وقد أعطيتم الدية بحكم الشرع وجدًا لكم ما وقع منكم من التقصير في الحفظ والمنع من القتل، وكان ذلك بحيث عليكم أم ليس لهم ذلك؟. وهل للذين أخذ منهم الدية الرجوع على أولياء المقتول سواء كان منهم أو من غيرهم؛ وتؤخذ الدية من القاتل أو من عاقلة القاتل؛ وهل يكون حكم هذا القتل حكم الخطأ أو شبه العمد فتؤخذ الدية من القاتل مغلّظة أو من عاقلته أم يعود عمداً، ويقتص من القاتل ويبطل القضاء بالدية والقسامة؟. وهل يفرق العلم بالقاتل بإقراره أو بالبينة أم لا؟. وهل يسمع إقراره وقولهم: كنتم متبرعين في العطاء؟. أم هل تسمع هذه الشهادة بعدما ذكر أم لا؟. وهل يفرّق بين ما إذا كان الشهود من أهل المحلّة أو من غيرهم أم لا؟.

فأجاب - رحمهُ الله تعالى -: لا يكون أخذ الأولياء الدية وقبولها عفوًا عن القاتل؛ لأنّه لم يُعلم، والقصاص لم يثبت، وليس الآية الشريفة شاملة لما ذكر؛ لأنّ علماء الأمّة اختلفوا فيها على أقوالٍ: ليس هذا منها. وإذا علمَ القاتل بإقراره أو بالإخبار عنه، ولا تسمع للأولياء عليه دعوى؛ لأنّ الأولياء لما ادّعوا على أهل المحفة واختاروا من يحلف وحلفوا إلخ. فقد أبرؤوا غير أهل المحلّة عن القتل ونفوه عنه، فلا تسمع لهم دعوى على غيرهم بعد ذلك أصلاً. وقد أشار علماؤنا إلى ذلك بتعليل عكسه. فقالوا: إذا ادّعى الولي القتل على رجلٍ من غير أهل المحلّة يكون إبراء لهم عن القسامة والدّية؛ لأنه نفى القتل عنهم بدعواه على غيرهم. وإذا لم يسمع لهم دعوى لم يظهر القتيل عند الحكم من غير أهل المحلّة، لم يسمع لأهل المحلّة بدعوى على أولياء القتيل، ولا يسمع لهم وحدهم دعوى على القاتل، كما صرّح به في البدائع وشرح الطّحاوي وغيرهما. وحينئذٍ لا يتوجه شيءٌ بما ذكر. والله أعلم. وكتبَ حنفي: الحمدُ للهِ المنعمِ بالصّوابِ. لا يكون ما ذكر من أخذ الأولياء للمقتول الدية، ممن ذكر عفوًا عن القصاص في حقّ القاتل، حيث لم يجب شرعاً في مثل هذه الصورة المفروضة قودٌ حتى يكون قبولهم الدية عفواً عن القصاص. وقول العلماء: العفو قبول الدية في قوله تعالى: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 178] إلخ.

ليس شاملاً لذلك، فإنّ الآية الكريمة، إنّما هي في حقّ من ثبت له قصاصٌ، ثُمّ إنّ الولي أو أحد الأولياء إِذا رضيَ بأخذ الديةِ، تسقط المطالبة بالقصاص، ولم تثبت في شيءٍ من الصّور مطالبةً بقصاص على أحدٍ شرعاً. فإذا وقع من الأولياء ما ذكر، ثم ظهرَ بعد ذلك قاتل معيّن، وثبت بطريقة شرعاَ ذلك وتعين الحق عليه. تعود المطالبة عليه. وما فعل تبين أنّه لم يكن عليهم. فإذا عاد بالمطالبة الولي على معيّنٍ يرد ما أخذ من عاقلة أهل المَحِلّة عليهم. فإذا قال الأولياء: بأنّ القتيلَ وجدَ بين أظهركم، وقد أعطيتم بحكم الشرع وجداً. لخ. فللغارمين الدية أن يقولوا: إنّما دفعنا ذلك بناءً على الوجوب علينا شرعًا، وقد تبين عدم ذلك، فنحن نستردُّ ما أخذ منا لهم ذلك شرعاً، لكن بقيَ الكلام عند ثبوت القتل على شخص (¬1) معيّن عمداً، يتعلّق به القصاص بعد وجود ما تقدّم بأجمعه. والذي يظهر: تعلّق حق القصاص عيناً بالقاتل بعد وجود شروط ذلك شرعاً. ولا ينتقل الحكم إلى غيره إلاّ بالصّلح. وما وجبَ به المال لا يظهر في حق العاقلة. وكذلك إذا أقرّ إذا لم يصدّقوه ما لم يظهر من أقوال مشايخنا صريحاً: أنّ فيما تقدّم قبل ظهور القاتل المعيّن عمداً يكون شبهة في وجوب القصاص، ولم أقف عليه. ¬

_ (¬1) في المخطوط: (شخصين) والصواب ما أثبت.

وما نقل عن أبي حنيفة: أنّ شهادة بعض أهل المحلّة على قتل غيرهم أو واحدٍ منهم باطلة وإن خالفاه في الأولى، فإنمّا ذلك بناءً على أنّهم صاروا خصماً أو هم بعرضية أن يصيروا خصماً فقالَ بالأوّل. وقالا بالثّاني. وأمّا في الصّورة الواقعة: فهم نزلوا خصماً وألزموا الدية فلا يقبلون بلا خلاف. والحالة هذه. والله أعلم. فقال الشيخ - رحمه [الله]-: عندما وقف عليه قوله: ثم ظهر بعد ذلك قاتلٌ معيّنٌ، وثبت بطريقة شرعاً ذلك. إلخ. هو مبنيٌّ على ما ذكر بعده. وقد ثبت أنه لا طريق للثبوت شرعاً، فلا يصحّ شيءٌ مما ذكر، ولا يحتاج إلى فرضه. والله تعالى أعلمُ. والثَّالثُ في ميّتٍ مكفّنٍ موضوعٍ في مكانٍ، فجاء قومٌ وادّعوا بأنّه أبوهم (¬1)، وأثبتوا ذلك، وقد ترك مالاً كثيراً، فأراد كلّ واحدٍ منهما أن يكون الميراث له (¬2)، ثم بعد ذلك كشفوا عن الميت فإذا هو خنثى. هل تعتبر البيئتان أم لا؟. وهل يكون الميراث لهم بينهم أم لا؟. فأجاب الشيخ أمين الدين يحيى بن محمد الأقصرائي الحنفي (¬3): الحمدُ لله المنعم بالصّواب. بعد الموت إذا حصلت الدّعوى، فالمقصود منها المال. فيعمل بمقتضي البينتين عند التعارض وعدم المرجّح، فيكون المال بينهما. ونظير ذلك: ما قال ¬

_ (¬1) تحرف في المخطوط إلى: (أبوه). (¬2) في المخطوط: (لهم). (¬3) تقدّمت ترجمته.

مشايخنا في الأختين إذا ادّعت كل واحدة نكاح رجلٍ واحدٍ ولم يكن إحداهما مرجّحة على الأخرى في بيّنتها، ولا بمرجّحٍ آخرَ. ففي هذه الحالة تهاتر البيّنتان، ولا تعمل بيّنة منهما. وإذا كان بعد موته يعمل بهما، ويجعل الميراث بينهما نصفين، وذلك لأنّ بعد الموت مقصودهما المال. ومسائل كثيرة من هذا الباب إذا كانت الدّعوى من كلّ واحدة وواحدٍ بعد الموت يعمل بهما في قسمة الميراث بينهما، وإن تساقط قبل الموت إذا كانت الدعوى في الحياة والحالة هذه. ورفع إليَّ هذا على يد السيّد الأرميوني (¬1)، فكتبت: ¬

_ (¬1) قال السخاوي في الضوء اللامع (4/ 203): محمد بن علي بن محمد الشمس، أبو الوفاء بن النور، الحصني الأرميوني القاهري الحنفي الشريف، إمام القجماسية، ولد تقريباً سنة ثلاث وأربعين وثمان مئة بالقاهرة، ونشأ بها، فحظ القرآن والشاطبيتين والمجمع والمنار والعمدة للنسفي، وألفيتي الحديث والنحو، والتلخيص، والشمسية والتهذيب للتفتازاني، كلاهما في المنطق؛ وعرض على جماعة كابن الديري وابن الهمام والمناوي وأخذ القراءات عن الشهابين الشارمساحي والسكندري والشمس ابن العطار والزين ماهر وأبي القاسم النويري وابن كزلبغا فعلى الأول للعشر وعلى الثالث للسبع بعض ختم وعلى الثاني لنافع وابن كثير وغيرهما وعلى الأخير لنافع وابن كثير وأبي عمرو ثم للسبع إلى أثناء الحجر كلهم بالقاهرة وعن السيد الطباطبي للعشر بمكة ثم بعضه بجامع ابن الرفعة والفقه عن أبي العباس السريسي والزين قاسم بل والقاضي سعد الدين بن الديري وأكثر عنه والأصول عن أولهم وأصول الدين عن ابن الهمام والعربية عن الشرف موسى البرمكيني والجلال المرجوشي وألفية الحديث وغيرها بحثًا عن كاتبه في آخرين ممن حضر دروسهم كالأقصرائي والكافياجي وبرع في الفضائل؛ وناب في القضاء عن ابن الديري فمن بعده وناكده المحب بن =

الحمدُ لله، ربِّ زدني علماً. لم يضع الأئمة مسألة الميّت الملفوف على هذا الوجه المذكور في السؤال؛ لأنّه لا يحصل غرضهم، فإنّ غرضهم تصوير مسألة يجتمع منها جميع الورثة الخمسة عشر الذكور والعشر الإناث ومن عدا الزوجين يمكن اجتماعهم في أيّ ميّتٍ كانَ. وأمّا اجتماع الزَّوجين: لأنّ الأولاد. وعن هذا جاء تعارض البيّنتين. فالاعتبار الأوّل: ذكرت في الفرائض. ¬

_ = الشحنة لمزيد اختصاصه بابن الصواف وما نهض لترك استنابته ثم اقتفى أثره الأمشاطي بعد أن ولاه إلى أن أخلص هو في الترك، وحج غير مرة قبل ذلك وبعده وجاور وصحب عبد المعطي المغربي وعظم اختصاصه به وأخذ عنه التصوف وغيره، واستقر في تدريس الاينالية بالشارع، والإعادة بالمهمندارية مع نيابة نظرها برغبة البرهان الكركي له عنها، وفي التدريس بالفخرية ابن أبي الفرج، وبمسجد خان الخليلي بعد الشمس الأمشاطي، وفي الإمامة بالقصر ومرتب بالجوالي الطرابلسية بعد التاج عبد الوهاب الشامي، وفي تدريس القجماسية المستجدة وإمامتها وخزن كتبها فالتدريس بعد قاضي الحنفية ابن المغربي والإمامة والخزن بعد الشمس النوبي. وتصدى للإقراء في الفقه وأصوله والعربية والمعاني والبيان وغيرها كالقراءات بل وكتب على المجمع كتابة جامعة وصلى فيها إلى صلاة العيد فأكثر، ورزقه الله ملكة قوية في التعبير عن مراده مع مزيد حافظة وحسن تصور واستحضار لمحافيظه، واعتناء بزيارة الشافعي في كل جمعة وكونه يمشي لذلك من باب القرافة أدباً، وكثرة خضوعه للمنسوبين للصلاح وتراميه عليهم، بل عنده من التواضع والأدب والمداراة والتودد بالتردد لمن يالفه أو يترجى نفعه، وألفاظ بليغة ومعان جيدة يستعملها في مخاطباتهم لو كانت عن روية لحمدت مع بُعْدٍ تام عن دناءة النفس ومزيد رغبة في إظهار النعمة في ملبسه ونحوه وحشمة وافرة وموافاة تامة.

وبالاعتبار الثاني: ذكرت في أدب القاضي. ولم يجعلوها في باب دعوى الأختين كما زعم المجيب. وإنّما أجروها على القولين المشهورين في الخنثى. هل يبقى إشكاله بعد البلوغ أم لا؟. فالقائل بنفي الإشكال بعد البلوغ أعمل البيّنتين كما قال أبو سعيد الهروي في شرح أدب القضاء، عن أبي حنيفة أنّه قال: فيما إذا قام رجلٌ ببيّنة على ميّتٍ ملفوفٍ في كفنٍ أنّه امرأته وهؤلاء أولادهُ منها. وأقامت امرأة بيئة أنّه زوجها وهؤلاء أولادها منه، فكشف عنه، فإذا هو خنثى، له الآلتان: يقسم المال بينهما، فأعمل البينتين، وقسم المال بين الفريقين. وأمّا صفة القسمة: فللزوجة ما هو الأكثر وهو الربع (¬1)، ولا منازعة للزّوجة في أكثر من الثمن، فيسلّم الثمن للزوجة بلا منازعة واستوت منازعتهما في الثمن الآخر، فيكون لكلّ نصف ثمنٌ، ومخرجه من ستة عشر للزوج ثلاثة وللزوجة واحد والباقي للأولاد. فإن كان هناك أبوان، فلهما السدسان، ومخرج السدس من ستة، وبينهما موافقة بالنّصف فيضرب نصف أحدهما في كامل الآخر، يبلغ ثمانية وأربعين. للزوجة الربع اثنا عشر. وللزوج تسعة وللزوجة ثلاثة لما قدّمناه. وللأبوين السدسان ستة عشر لكل ثمانية والباقي وهو عشرون للأولاد إن كانوا ذكوراً أو إناثاً. الأوَّل من رؤوسهم. والثاني {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} [النساء: 11]. فإن انكسر صحح بطريقه، وإن كانوا إناثاً فقط فلهنّ الثلثان. فتعول ¬

_ (¬1) كرر في المخطوط عبارة: (ولا منازعة للزوجة ما هو الأكثر وهو الربع).

سئل - رحمه الله تعالى - عمن عليه دين مستغرق

المسألة إلى ستين للزوجة والأبوين ما قدمناه، والباقي وهو اثنان وثلاثون للبنات، فإن استقاموا وإلاّ صحح بطريقه. والقائل بانتفاء الإشكال بعد البلوغ يمنع من إعمال البيّنتين كما قال في فتاوى ملا الأعلى: وإن كان هذا الخُنثى المشكل مات قبل أن يظهر أمره، فأقام الرّجل البيّنة: أنّ أباه زوّجها إيّاه بألف درهم برضاها، وأنّها ولدت منهُ هذا الولد. قال: أُجيزُ بيّنته وأجعلها امرأته، وأجعل الولد ابنها، وإن أقامت المرأة البيّنة: أنّ أباها زوّجها إيّاه برضاها منه، وأنَّه دخل بها وأنّها ولدت منه هذا الولد. قال: تقبل بيّنتها، ويقضي بكون الخنثى رجلاً وألزمه الولد، فإن اجتمعت الدّعوتان جميعاً. وجاءت البيّنتان معاً ولم يوقّتا أو وقّتا على السّواءِ، فإنّه تتهاتر جميعاً. انتهى. وبعضهم ذهبَ إلى الترجيح فقال في فتاوى ش (¬1): لو شهدَ شهودٌ على خنثى أنه غلامٌ. وشهودٌ على أنّه جاريةٌ والمطلوب ميراثٌ، قضى بشهادة الغلام وإن قضى بأنّها جارية. انتهى. فظهر بهذا: المنقول في عين المسألة خلاف ما زعم المجيب من أنّها من باب دعوى الأختين. والله أعلم. * * * * وسئل - رحمه الله تعالى - عمّن عليه دَينٌ مستغرق وقد حكم بضرب ¬

_ (¬1) كذا في المخطوط.

سئل - رحمه الله - عن رجل عليه ديون

عنقه، فلما قدمَ لذلك، أعتق جميع ما يملكه من عبيدٍ وجوارٍ وكتب بعد ذلك عتائق بأيديهم وتزوّج بعض العبيد الجواري وليس للمعتق مالٌ سوى العبيد والجوار، فهل ينفذ العتق ويصح التزويج أم لا؟. فأجاب: نعم. ينفّذ العتق، ويصح التزويج إلا المستولدات، فبعد انقضاء عدّتهن وهي ثلاث حيضٍ. والله أعلم. قيل: قال في الفصول العمادية: المريض إذا أعتق في مرض موته ولا مال له سواه فعتقه موقوفٌ عند أبي حنيفة حتى لو شهد هذا المعتق، لا تقبل شهادته؛ لأنّه من التصرفات التي لا يحتمل الفسخ. فيتوقف وينظر في وصايا الصغرى. انتهى. قال الشيخ - رحمه الله -: هو كذلك في وصايا الصغرى معزوٌّ إلى الباب الثاني من الدّفتر الثاني في الزّيادات. وهذه الروايات في زيادات الزّيادات. ومعنى قوله: فيتوقف من العبد في الحال في أحكام الحرية من الشهادة وغيرها، فأبرأَ السيّد تبيّن أنّه حرٌّ من حين أعتق، وإن مات السيّد فالمعتق بمنزلة المكاتب إذا سعى في قول أبي حنيفة - رحمه الله تعالى -. * * * * وسئل - رحمهُ اللهُ - عن رجل عليه دُيونٌ، فرفع أمره إلى بعض القضاة لينظر في حاله، فعيّن القاضي أمره إلى بعض نوّابه وهو حنفيٌّ. والحال: أنّ المديون لم يقدر على وفاء الديون التي عليه، كما ذكر.

ثم إنه كتب فصل محضر بإعسارِه. وكتبه فيه أربعة شهود بارزي العدالة، ثم جاء بعض أصحاب الديون، فادّعى عليه بدينه. فأجاب: إنّه معسرٌ لا مال له، ثم قامت تلك البيّنة شهادتهم عند القاضي، وأعذر لصاحب الدين، وهو المدعي. فأجابَ: بعدم الدّافع والطعن لذلك. فسأل المديون القاضي بثبوت ما قامت به البيّنة والحكم بموجبه. فأجابه لذلك، فهل هذا الثبوت والحكم صحيحان؟. وهل ينفذ ذلك على بقية أصحاب الديون أو لا؟. فأجاب: رفع المديون أمره إلى القاضي، وتعيين القاضي أمره إلى بعض نوّابه، ليس له أصل في الشّرع عند علمائنا، لاتفاقهم على أنّ الحق لربّ الدين في المطالبة من أيّ حكام الشريعة يشاء، وكتابة المحضر وكتابة الشهود فيه قبل الحكم مما لا عبرة به في الشرع عندنا لاتفاق علمائنا على أنّه لا تسمع البيّنة إلّا في وجه من يكون أصلًا أو وكيلًا أو حكمًا إلّا في كتاب القاضي ولا تسمع البيّنة بالإعسار قبل الحبس في الصحيح. قال في المحيط: فإن أخبره عدلٌ أو اثنانِ بإعساره قبل الحبس. فيه روايتان: في روايةٍ: تقبلُ ولا يحبسه. وفي رواية الخصّاف: لا تقبل. وإليه ذهب عامّة مشايخنا. وهو الصحيح؛ لأن الحبس لم يشرع حجّة لإبطال حقوق العباد، والحبس حق العباد، فلا يبطل حقّه بمجرّد الخبر بدون

قرينةِ الصّدق، وبعد الحبس انضمّت إلى الخبر قرينة الصّدق وهو الحبس، بل لو شهد وأقبل مضى مدة الحبس. قال في مختارات النوازل: لا تقبل. وعليه عامّة المشايخ. وليس للقاضي المقلّد أن يحكم بالضّعيف؛ لأنّه ليس من أهل الترجيح، فلا يعدل عن الصحيح إلَّا القصد غير جميلٍ. ولو حكم لا ينفّذ؛ لأنّ قضاءه بغير الحق؛ لأنّ الحقّ هو الصحيح. وما وقع من أنّ القول الضعيف يتقوّى بالقضاء المراد به قضاء المجتهد، كما بيّن في موضعه لما لا يحتمله هذا الجواب (¬1). والله سبحانه وتعالى أعلمُ. * * * ¬

_ (¬1) قال صاحب رد المحتار (21/ 434): مطلب الحكم والفتوى بما هو مرجوحٌ خلاف الإجماع: قلت: وتقييد السّلطان له بذلك غير قيدٍ لما قاله العلامة قاسم في تصحيحه من أنّ الحكم والفتوى بما هو مرجوحٌ خلاف الإجماع. اهـ. وقال العلامة قاسمٌ في فتاواه: وليس للقاضي المقلّد أن يحكم بالضعيف؛ لأنَّه ليس من أهل الترجيح فلا يعدل عن الصّحيح إلا لقصدٍ غير جميلٍ ولو حكم لا ينفذ؛ لأن قضاءه قضاءً بغير الحقّ؛ لأن الحقّ هو الصّحيح وما وقع من أن القول الضعيف يتقوّى بالقضاء المراد به قضاء المجتهد كما بيّن في موضعه. اهـ. وقال ابن الغرس: وأمّا المقلّد المحض فلا يقضي إلا بما عليه العمل والفتوى. اهـ. وقال صاحب البحر في بعض رسائله: أمّا القاضي المقلّد فليس له الحكم إلا بالصّحيح المفتى به في مذهبه ولا ينفذ قضاؤه بالقول الضعيف. اهـ. ومثله ما قدّمه الشّارح أوّل كتاب القضاء وقال: وهو المختار للفتوى كما بسطه المصنّف في فتاويه وغيره وكذا ما نقله بعد أسطرٍ عن الملتقط.

سئل - رحمه الله -: عن رجل طلق زوجته البالغة طلاقا بائنا

* وسئل - رحمه الله -: عن رجلٍ طلّق زوجته البالغة طلاقًا بائنًا، ثم اتّفقا على العود، فامتنع أبوها. وقال للشّهود: حلفت بالطلاق أنني لا (¬1) أتكلم لها في شيءٍ. استأذنوها: إن رضيت فأنا راضٍ، تشهدوا عليه بذلك. واستأذنوها لعمّها وللحاكم الحنفي بتلك البلدة التي هم بها وحضروا إلى القاضي، وشهدوا عنده: أنّ فلانةً بنتَ فلانٍ أذنت لكم أن تزوّجها لمطلّقها فلان بن فلانٍ من غير ذكر جد لهما. فعقد القاضي العقد يحضره شهوده. وكتب على مسودته علامته واسمه والتاريخ، ثم اجتمع به أبو الزّوجة وقال له: ليس لي في الزّواج غرضٌ وأغصبوني. فقال القاضي للشّهود: ولمَ لا سميتم جدّها مذهبنا لا يصحّ النسب إلا بتسمية الجدّ. هذا تدليسٌ. فهل الأمر كما قال من جهة عدم الصحّة، وإنّ ذلك من الشهود تدليسٌ والعقدُ صحيحٌ وهو مفرّطٌ لعدم تنبيه الشهود على تسمية الجد مع عقده وكتابته على المسوّدة التي ليس فيها اسم الجدّ. وإذا قال: أنا فسخته لذلك، فهل للفسخ تأثيرٌ في قطع العصمة أم العصمة باقية ثابتة بمجرّد العقد؟ أفتونا مأجورين. فأجاب - رحمه الله -: العقد المذكورُ صحيحٌ، وليس من الشهود تدليسٌ ولا أثرٌ لفسخه في قطع العصمة. أمّا صحّة العقد: فلأن البالغة وليّة نفسها وولاية الأب ولاية استحبابٍ، فلا أثر لقوله: أغصبوني. والقاضي وكيلٌ عنها، ولا يشترط تسميةٌ مع معرفة ¬

_ (¬1) جاء في هامش المخطوط: (ما) وكتب تحتها: صح.

الشهود لها، وإنّما يشترط ذكر الجدّ من العاقد لا للشهود عند أبي حنيفة إذا لم يكونوا يعرفونها. وعند أبي يوسف ومحمّد: يكفب ذكر الأب. وإذا كانت الشهود تعرفها فيجوزُ، وإن لم يذكروا إلّا اسمها خاصّةً. قال في الينابيع: قال أبو القاسم: لو وكّلت المرأة رجلًا من أن يزوّجها من نفسه فقال في غيبتها للشهود: اشهدوا بأنّي تزوّجت فلانةً ولم يعرفها الشّهود، لا يجوز النّكاح حتى يذكر اسمها واسم أبيها على وجه يستدرك بذلك. قال الفقيه: وهذا قياس قول أبي حنيفة. فإنّ النكاح عنده لا يجوز حتى ينسبها إلى جدّها. وفي قياس قولهما: إذا سمّى اسم أبيها مع اسمها جازَ. قال الفقيه: هذا إذا لم يعرفوها. أمّا إذا عرّفوها جاز وإن لم يذكروا إلّا اسمها خاصّةً. انتهى بحروفه. والله سبحانه وتعالى أعلم.

(25) حكم الخلع وحكم الحنبلي فيه

مَجْمُوعَةُ رَسَائِل العَلَّامَة قَاسِم بن قُطْلُوبُغَا [25] حُكْمُ الخُلْعِ وَحُكْمُ الحَنْبَلي فِيهِ تَأْلِيفُ العَلَّامَة قَاسِم بْنِ قُطْلُوبُغَا الحَنَفِي المولود سَنَة 802 هـ والمتوفى سَنة 879 هـ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -

بداية الرسالة

(25) حُكْمُ الخُلْعِ وَحُكْمُ الحَنْبَلي فِيهِ قال - رحمه الله -: قد استشكل بعض من ينسب إلى العلم بمذاهبنا حل الزوجة بحكم الحنبلي: أنّ الخلع فسخٌ بعد تطليقتين؛ لأنّ الحكم يرفع نزاع المتنازعين. فامّا أن يرفع تعلّق الحل والحرمة بشيءٍ واحدٍ، فلا. فقلت: بل الحكم يرفع تعلّق الحلّ والحرمة بالشيء الواحدِ؛ لأنَّ ظنَّ المجتهد الذي يعمل به مقلّده، إنّما يفيد تعلّق الحكم بالشيء إذا لم يعارضه معارضٌ أقوى. وهنا قد عارضه وهو حكم الحاكم؛ لأن الشرع أوجبَ العملَ به. فالحادثة إن كانت نازلة بمجتهدٍ، فإن اختصّت به، يحمل على ما يؤذيه اجتهاده، فإن استوت الأمارات يخبر بشهادة القلب عندنا أو يعاود النّظر ليترجّح أحدهما، وإن تعلّقت بغير مجتهدٍ، فعند إمكان الصّلح اصطلحا أو رجعا إلى حاكمٍ إن وجدَ وإلّا فإلى محكّمٍ. وعند عدم إمكان الصّلح رجعا إلى الحاكم أو المحكم حتى لو كان حاكمًا ينصب من يفصل بينهما. وإن كانت النازلة بمقلّدٍ. فإن اختصّت عمل بموجب قول إمامه. فإن كان فيه قولًا عملَ بموجب الصحيح من مذهب مقلّده. فإن تعدد التصحيح عمل بفتوى الأعلم الأورع، وإن استوت خُيّر فيها عند الشّافعية. وعندنا تعرضُ على مفت ثالثٍ. فإن كان في بلدٍ آخر وإن تعلّقت بغيره فالأمر كما تقدم. وإمّا أن يصطلحا أو يرجعا إلى حكم حاكمٍ أو مُحكّمٍ.

وقال عبد السيد الحطيني (¬1): عمّن علّق الثلاث بتزوّجها. فقيل له: لا يحنثُ على قول الشّافعي. فاختارهُ: أنّ على الشافعي مجتهد يعتد به، فهل يسعه المقام معها. فقال على قول مشايخنا العراقيين: نعم. وعلى قول الخراسانيين: لا. قال مجد الأئمة التّرجماني: لا بأس بأن يؤخذ في هذا بقول الشافعي. لأنَّ كثيرًا من الصّحابة في جانبه. قال: فقلّت الشبهة. وصحّ القول بالحلّ، إذ لا يصل بحكم الحاكم بفسخ التعليق. وفيه رخصة عظيمة. واعلم: أنّ مشايخنا يطلقون لفظ المفتي على من له نوع اجتهادٍ في المذهب. ويطلقون على أمثالنا لفظ المتفقه. قال الإمام علاء الدين الزّاهدي (¬2): استفتى رجل (¬3) مفتيين حنفيين فأفتيا بالضدّين بالحلّ والحرمة، والصّحّة والفساد. فأخذ العامّي بفتوى الفساد في العبادات والصّحة في المعاملات. وقال ظهير الدين الْمَرْغِيْنَانِيّ (¬4): إن كان المستفتي مجتهدًا، يأخذ بقول من ترجّح عندهُ بدليل. والعامّي بقول من هو أفقه منهما عنده. وإن استويا ¬

_ (¬1) لم أعرفه. (¬2) لم أجد له ترجمة. (¬3) في المخطوط: رجلين. (¬4) منسوب إلى مرغينان من نواحي فرغانة، لذا يقال فيه: الفرغاني المرغيناني. وهو الإمام، ظهير الدين، الحسن بن علي بن عبد العزيز المرغيناني. الطبقات السنية في تراجم الحنفية (ترجمة رقم 725).

سئل - رحمه الله - عن زوجين اختصما بعد الفرقة في صغيرة بينهما

عنده يستفتي غيرهما ولو لم يوجد إلا في بلدٍ آخرَ. كذا كان يفعله الصّحابة والتّابعون. أمّا لو سأل متفقّهًا ففعل، ثم مفتيًا فأجابَ بعكسه. قضى صلاةً صلاّها بقول المتفقه، إن أفتا المفتي بالقضاء. قاله شرف الأئمة المكي - رحمهُ الله تعالى -. * * * * وسئل - رحمه الله - عن زوجين اختصما بعد الفرقة في صغيرةٍ بينهما، وذلك بعد فطامها، الأم تطلبها بالنفقة والأجرة، والأب يأبى ذلك ويقول: عندي أجنبية تربيها بغير أجرة. فهل تقدم الأجنبية على الأم أم لا؟. وهل تستحق الأم الأجرة على الحضانة أم لا؟. وإذا قلتم بعدم تقديم الأجنبية على الأم؟ فهل للأب أن يقيم من يخدم وليدته عند الأم ويتولّى هو الإنفاق على ولده أم لا؟. وما حكم الله في ذلك؟. فأجاب: الحمدُ لله ربّ العالمين. تقدّم الأجنبية بشرط: أن لا يمنع الأم من الولد ولا الولد من الأم. والله أعلم. وأجاب المرحوم (¬1) البدري محمّد بن عبيد الله: ¬

_ (¬1) المرحوم بإذن الله.

سئل - رحمه الله -: ما تقول في قول الخلاصة وغيره: إن الشاهدين إذا شهدا أن القاضي قضى لفلان على فلان بكذا

اللهم أرشدني للصّواب. ليس للحضانة أجرة عندنا، إذ هو حقٌّ لها، وليس للأجنبية ولا للأب أخذ الولد منها ما دام حقّها في الحضانة إلى أن تتزوّج بغير ذي رحمٍ محرم من الصغير. ولها أن تطلب النّفقة من الأب وتنفق هي على ولدها وتطلب أجرة الخدمة للولد، وإن أراد الأب أن يقيم من يخدم ولده عندها بأجرٍ. فالأمّ أحق بالأجر وإن كانت متبرعة بالخدمة، فإن تبرّعت الأم بالخدمة منعت الأجنبية وإلّا فلا إلّا أن يكون في ذلك إضرارٌ بها. والله أعلم. * * * * وسئل - رحمه الله -: ما تقول في قول الخلاصة وغيره: إنّ الشّاهدين إذا شهدا أنّ القاضي قضى لفلانٍ على فلانٍ بكذا. وقال القاضي: لم أقض. لا تجوز شهادتهما ويكون القول قول القاضي. هل هذا إذا لم ينفذ حكم الأول قاضٍ آخر أم مطلقًا ويمتنع العمل به عنده وعند المنفذ أو عنده؟. أفتونا مأجورين. فأجاب: نعم. هذا مطلقٌ سواء نفّذ حكم الأوّل أو لا. ويمتنع العملُ به عند المُنكر وعند غيره؛ لأنّ المصرّح به في الأصول الاتّفاق على سقوط العمل بالشّهادة المذكورة، فصار كما لو قال: شهدوا الأصل لا شهادة لنا، ولم يشهد هؤلاء. وقد صوّرها بعض شرّاح المغني: بأن ادّعى رجلٌ عند قاضٍ أنّه قضى له بحقٍّ على هذا الخصم، فأنكر القاضي قضاءه، فأقام المدّعي شاهدين

سئل - رحمه الله -: عن رجل وقف شيئا معينا من ماله على نفسه

على قضائه بهذه الصّفة. وعلى هذا فيبعد وقوع التنفيذ المصطلح عليه الآن في مثل هذه الصّورة؛ لأنّه يكون بعد شهادة الشّهود على ما نسبَ إلى القاضي في أسجاله. والله أعلم. * * * * وسئل - رحمه الله -: عن رجلٍ وقف شيئًا معيّنًا من ماله على نفسه، ثم من بعده على جهة معيّنة ولم يتصل بحاكمٍ شرعيٍّ، ثم من بعد ذلك وقف ذلك الشيء بعينه على نفسه، ثم من بعده على جهةٍ أخرى غير الجهة الأولى، وحكم بصحّة هذا الوقف الثاني ولزومه لدى حاكمٍ حنفيّ في وجه الواقف في ساعة الوقف، ولم يتّصل الوقف الأوّل بحاكمٍ أصلًا، ثم بعد موت الواقف وإيصال العين الموقوفة إلى الجهة الثانية حكم حاكم حنفي بصحّة الوقف الأوّل لعدم علمه بالوقف الثاني والحكم به. فأيّ الوقفين هو الصحيح المقول به؟. أفتوا مأجورين. فأجاب: الوقف الأول هو الصّحيح لاتفاق المشايخ على أنّ الفتوى على قولهما بلزوم الوقف، وحيث كان لازمًا فلا يصحّ تغييره بلا شرطٍ منه، ولا يضر في لزومه عدم اتّصاله بحاكم؛ لأن الحاكم ممنوع شرعًا أن يحكم بخلاف ما عليه الفتوى. والله أعلمُ. * * * * وسئل - رحمه الله -: في قول السّادة الحنفية، فيمن استأجر عبدًا للخدمة فسافر به بغير إذن مولاه، ثم ردّه إلى مولاه سالمًا لا أجر له عندنا.

هل المراد: لا أجر له قياسًا واستحسانًا أو قياسًا لا استحسانًا، كما هو الحكم فيمن استأجر حانوتًا فأسكن فيه حدّادًا بغير إذن مالكه، ثم ردّه إليه غير منهدمٍ؛ لأنه لا يلزم الأجر قياسًا. ويلزمه استحسانًا، كما صرّح به في معراج الدّراية وغيرها، على أنّهم قاسوا مسألة المسافرة بالعبد على مسألة إسكان الحداد، فهل سكتوا في مسألة المسافرة عن القياس والاستحسان اعتمادًا على ما قد مرّ في مسألة الحداد وبين المسألتين فرق في وجوب الأجر وعدمه، فإن كان بينهما فرق فبيّنوه للسائلين رضي الله عنكم؟. فأجاب: الحمدُ لله ربّ العالمين. اعلم: أن القياس والاستحسان إنما يجريان في بعض المسائل كمسألة الدّار دون مسألة بعض كمسألة العبد. فلا يقال له فيها: لا أجر له قياسًا واستحسانًا، ولا قياسًا فقط؛ لأنّهما مما لا يتأتّى فيها ذلك، ولم يقس علماؤنا مسألة المسافرة بالعبد على مسألة إسكان الحداد، وإنما وقع لبعض المصنفين تشبيهها بها في أنه لا يجوز ما لم يسأله الإطلاق إلّا بالشرط. وإنّما افترق الجوابان؛ لأنّ المعقود عليه في مسألة الدّار السُّكنى، وفي الحدادة السّكنى وزيادة، فقد استوفى المعقود عليه وزيادة، وسَلِمت العين من الزيادة، فوجب الأجر وسقط الضمان، وخدمة الحضر والسفر في حكم جنسين مختلفين فقد استوفى خلاف ما وقع عليه العقد، فلا أجر. وقد سلّمت العين بما استوفى، فسقط الضّمان. والله تعالى أعلم. قال - رحمه الله تعالى -:

قد وقفت في خلاصة الفتاوى (¬1) على قوله: قال الإمام أبو حفص السفكردي في فوائده: لا ينبغي للحنفي أن يزوّج بنته من شفعوي المذهب. وهكذا قال بعض مشايخنا، وإلى جانب هذا حاشية: إنّما لا ينبغي العكس، فإن الحنفية يستحسنون، ومن استحسن شرع. وذكر لي بعض خلفاء الحكم العزيز، وبعض الطّلبة: أنّ هذه الحاشية بخط البقاعي، وأنّه يحتج بذلك. فقلت: قد فضح نفسه وشهد عليها بالجهل المركّب، واستوجب التعزير الشديد والحبس المديد إلى أن يظهر توبته من القدح في أئمة الدين، ويذهب شيطان رأسه؛ لأن ما قاله الإمام أبو بكر بن الفضل والإمام السفكردي فقد صرّح به الإمام فخر الدين عن السّادة الشّافعية حيث قال: أمّا المقام الأوّل: فتقريره عند الإمام الشّافعي: أنّ الإيمان عندهُ عبارة عن مجموع الاعتقاد والإقرار والعمل، ولا شكّ أن كون الإنسان آتيًا بالأعمال الصّالحة مشكوكٌ فيها، والشك في أحد أجزاء الماهية يوجب الشّك في حصول تلك الماهية، فالإنسان وإن كان جازمًا بحصول الاعتقاد والإقرار، إلّا أنّه لما كان شاكًّا في حصول العمل، فإنّ هذا القدر يوجب كونه شاكًّا في حصول الإيمان. ¬

_ (¬1) قال المصنف في تاج التراجم (ص 10): طاهر بن محمد بن أحمد بن عبد الرشيد البخاري، له: كتاب الواقعات، وكتاب النصاب، وكتاب خلاصة الفتاوى. ولد سنة 482 هـ ومات سنة 542 هـ. انظر الأعلام للزركلي (3/ 220) ومعجم المؤلفين (5/ 33) والجواهر المضيئة للقرشي (1/ 265).

وأمّا عند الحنفية فلما كان الإيمان اسمًا للاعتقاد والقول، وكان العمل خارجًا عن مسمّى الإيمان، لم يلزم حصول الشّك في العمل حصول الشّك في الإيمان، فثبت: أنّ من كان قوله: أنّ الإيمان عبارة عن مجموع الأمور الثلاثة يلزم وقوع الشّك في الإيمان. ومن قال: العمل خارجٌ عن مسمّى الإيمان يلزمه نفي الشّك عن الإيمان. انتهى بحروفه. فظهر على هذا: عدم كفاءة الشّافعي لابنة الحنفي. والله أعلم. ولمّا لم يتعرض المتعرّض لدفع هذا ولا لتأويل الاستثناء في الإيمان كان قوله: وإنّما لا ينبغي العكس من قبيل فساد الوضع. وقوله: فإنّ الحنفية يستحسنون كذب وجهالة. أمّا كونه كذاب، فلأنه أخبر عن المنتسبين إلى مذهب أبي حنيفة وهم لم يفعلوا ذلك؛ لأنّه من حيث المجتهد، لا من صنيع الاتباع. وأمّا كونه جهالة، فإن المسألة في الاتباع فلم يوافق الدليل الدّعوى، ثم قصره على الحنفية جهالة بمذاهب العلماء أيضًا. وقوله: وعن استحسن فقد شرع. كذب وجهالة، وقدح في أئمة الدين؛ لأنّ الأئمة الأربعة رضوان الله عليهم قد ذهبوا إلى الاستحسان وحاشاهم أن يشرعوا في الدّين ما لم يأذن به الله. وبيان ذلك: أن الاستحسان كما قال الكرخي: قطع المسألة عن نظائرها، لما هو أقوى. وذلك الأقوى هو دليل يقابل القياس الجلي الذي يسبق إليه أفهام المجتهدين نصًا كان أو إجماعًا أو قياسًا خفيًّا، وهذا مما ذهب إليه جميع الأئمة

حتّى قال ابن الحاجب: لا يتحقق استحسان مختلفٌ فيه، وقد أطلقه الشافعي فقال في المتعة: أستحسن أن يكون ثلاثين درهمًا، وثبوت الشفعة في ثلاثة أيّام، وترك شيءٍ من الكتابةِ له، وأن لا يقطع يمين سارق أخرجَ يده اليسرى فقطعت. وقالوا في الشّركة: التشريك استحسان. وذهب إليه الشَّافعي. وقال الإمام أحمد بن حنبل في روايةٍ الميموني: أستحسن أن يتيمم لكلّ صلاةٍ. والقياس: أنّه بمنزلة الماء حتى يحدث أو يجد الماء. وقال في رواية بكر بن محمد فيمن غصب أرضًا فزرعها الزرع لرب الأرض وعليه النفقة، وليس هذا بشيءٍ يوافق القياس، ولكن أستحسن أن يدفع إليه نفقته. وقال في رواية صالح في المضارب: إذا خالف واشترى غير ما أمر به صاحب المال. ولهذا أجرُ مثله، إلّا أن يكون الرّبح يحيط بأجر مثله، فيذهبُ، وكنتُ أذهب إلى أن الرّبح لصاحب المال، ثم استحسن إلى آخره. وقال الإمام نجم الدين بن عبد القوي: وكتب أصحابه يسمّونه بالاستحسان. قال القاضي عبد الوهّاب: لم ينصّ عليه مالك. وكتب أصحابنا مملوءةً منه كابن القاسم، وأشهب وغيرهما. وقال ابن الحاجب: ولم يتحقق استحسان مختلف فيه، وقد تقدّم هذا في مختصره. وقال الإمام جمال الدين عبد الرحيم: اتّفقت الأمّة على امتناع القول

في الدين بالتشهي. فالاستحسان هو القول بأقوى الدليلين وذلك بترجيح أحد الدليلين على الآخر. ولفظ الاستحسان يؤيد هذا، فإنه اختيار الأحسن. وإنّما يكون في حسنين. وإنّما يوصف القول بالحسن إذا جاز العملُ به لو لم يعارض. ويؤيده قوله تعالى: {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} [الزمر: 18]. إذ هو يستدعي مقولًا حسنًا وأحسن. وذلك يستدعي دليلًا غير أحدهما، وليس إلّا الترجيح بدليلٍ. انتهى. فلما كانت الأحكام المستحسنة ثابتة بالسنة والإجماع والضرورة لدفع الحرج والقياس، لم يكن شرعًا جديدًا، كما زعمه الجاهل المتعولم. وكان المستنبط لها مأجورًا بالنّص لَا مُعابًا، فمن جعله مُعابًا وتنَزّه بذلك استوجب ما ذكرنا. والجاهلون لأهل العلم أعداء. وقد أخبرني علّامة زمانه كمال الدين ابن الهمام، عن شيخ الكل في الكل عزّ الدين ابن جماعة أنّه قال: النُّصرة بحسب القُدرة. وهذا ما أقدرني الله عليه الآن. وهو حسبي ونعم الوكيل. ولما ذكر لي بعض (¬1) طلبة العلم: أنّ هذا الطّاعن في أئمتنا من أخصّ النّاس لسيدنا ومولانا قاضي القضاة الحنفية. قلت: يقال له: إنّ الذي شرفت من أجله يزعمُ بهذا أنّه غائبٌ. ثم بلغني: أنّه بلغ القادح في أئمة الدين شيءٌ مما قلته. فقال: إنّ هذا الكلام قاله الإمام الشّافعي. فقلت: وهذا الكلام من هذا القائل من الجهل المركّب حيث ¬

_ (¬1) في المخطوط: (بعد). ولعله المثبت (بعض).

تصوّر كلام الإمام على خلاف ما هو به، ونزّله على ما لا يطابقه؛ لأنّ عاقلًا لا يقول بإرادة الإمام عموم المستحسنين للأشياء. وحيث لم يكن العموم مرادًا عقلًا لا يصحّ استدلاله عقلًا وما لا يصح عقلًا فهو من الجهل. فقيل لي: فما مراد الإمام؟. قلت: مرادهُ: من استحسن أمرًا من الدّين بلا دليلٍ فقد شرع ذلك الأمر، فلا يكون من مشروع الشّارع؛ لأنّ المشروع ما كان عن نصٍّ شرعي أو إجماعٍ أو قياس جَلِيٍّ أو خفيٍّ. أشار إلى ذلك علماء الشّافعية في شروح المنهاج. وعلماء الحنفية في أصولهم. قيل: فهل يحفظ شيئًا من نصوص أبي حنيفة وأصحابه في ذلك؟. فقلت: نعم. قال في الأهلاني: بئر وجدَ فيها دجاجة ميمة منتفخة على من توضّأ من ذلك الماء وصلّى أن يعيد الوضوء ويعيد صلاته ثلاثة أيّام ولياليهنّ. قلت: وهو لا يعلم متى وقعت؟ قال: أستحسن ذلك وآخذ بالثّقة لأنهّا صلاة. وأن يصلّي الرجل شيئًا قد صلاّه، وفرغَ منه أحبّ إليّ من أن يترك شيئًا واجبًا عليه. قلت: أرأيت قولك في الدّم إذا كان أكثر من قدر الدّرهم، أعاد الصّلاة لم قلته؟ قال: لأنّه بلغني عن إبراهيم النخعي أنّه قال: قدر الدّرهم، والدّرهم قد يكون أكثر من الدراهم، فوضعناه على أكبر ما يكون منها. أستحسن ذلك. قلت: فلمَ استحسنتَ في النوم إذا كان قاعدًا أو ساجدًا أو قائمًا أو راكعًا؟.

قال: جاء في ذلك أثر، وأخذتُ به، وأخذت في ذهاب العقل بالقياس؛ لأن ذهاب العقل أشدّ من الحدث. رجلٌ مكثَ في الصّلاة يتفكّر حتى شغله ذلك عن ركعةٍ أو سجدةٍ أو كان راكعًا أو ساجدًا فأطال الرّكوع والسّجود، ويتفكّر، ثم ظنّ أنّها الظّهر. هل يجب عليه في ذلك سجدتا الشهو؟. قال: إذا تغيّر عن حاله فتفكر، استحسنت أن أجعل عليه سجدتي السّهو. قلت: أرأيت مسافرًا افتتح الظّهر وصلّى ركعةً، ثم أحدثَ فانصرف ليتوضأ، فلم يجد الماء فتيمم بالصّعيد، ثم وجد الماء قبل أن يعود إلى مقامه، وبدأ المقام. قال: يتوضأ ويبني على صلاته ويكمل أربع ركعات. ورؤيته الماء في مقامه وقبل أن يقوم في مقامه أو في غير مقامه سواء في القياس غير أني استحسنت ذلك وآمُرُهُ أن يتوضأ ويبني على صلاته ما لم يرها بعدما يقوم في مقامه أو في غير مقامه. قلت: أرأيت إمامًا صلّى بقومٍ ركعة أو ركعتين، ثم أحدث، فلم يعلم أحدًا حتى خرج من المسجد. قال: صلاة القوم فاسدة وعليهم أن يستقبلوا الصلاة. قلت: لِم؟ قال: أستحسن ذلك. وأرى له فسخًا أن يكون قومٌ في الصّلاة في المسجد وإمامهم في أهله. قلت: أرأيت رجلًا دخل مع الإمام في الصّلاة وقد سبقه بركعةٍ، والرّجل أُمّي، فلما فرغَ الإمام من صلاته قامَ الرّجل ليقضي، أيجب عليه أن يقرأ فيما بقيَ؟ قال: نعم.

قلت: فإذا لم يحسن أن يقرأ. قال: أمّا في القياس: فإنّ صلاته فاسدة، ولكن أدع القياس وأستحسن أن يجزئه. قلت: لِمَ؟ قال: أرأيتَ لو كان: أخرس فسبقه الإمام بركعة فقام يقضي، أمَا كانَ تُجزئه صلاتهُ؟!. قلت: بلى. قال: هذا وذلك سواء. قلت: أرأيت رجلًا افتتح التطوع فصلّى أربع ركعاتٍ ولم يقعد في الثانية. قال: يجزئه. وعليه سجدتا السّهو إن كان فعل ذلك ناسيًا. قلت له: أليسَ قد أفسدت الأوليين حيث لم يقعد فيها. قال: أمّا في القياس فقد أفسدتهما، ولكن أدعُ القياس وأستحسن، فأجعلهما بمنزلة الفريضة ألَا ترى لو أنّ رجُلًا صلّى الطهر أربعًا، ولم يقعد في الثّانية وقعد في الرّابعة، وتشهّد أنّ صلاته تامّة، وعليه سجدتا السهو. فكذلك هذا. قلت: فإن كانت السجدة في وسط الصّلاة كيف يصنع لها؟ قال: يسجد لها، ثم يقوم فيقرأ ما بقيَ أو ما بدا له منها، ثم يركع. قلت: فإذا أراد الرّكوع بالسّجدة بعينها. هل يجزئه ذلك؟. قال: أمّا في القياس فالرّكعة في ذلك والسجدة سواء لأنّ كل ذلك صلاة. ألا ترى إلى قوله تعالى: {وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ} [ص: 24]. وتفسيرها: خرّ ساجدًا. فالرّكعة والسجدة سواء في القياس.

سئلت عن واقف وقف وقفا وشرط لنفسه التبديل والتغيير، فغير الوقف لزوجته

وأمّا في الاستحسان: فإنه ينبغي أن يسجدها. وبالقياس: نأخذ بهذه نبذة مما قيل فيه بالاستحسان. وقد تقدّم القياس على الاستحسان في بعضها، كما ذكر. وبه تبين جهل القادح في علماء المسلمين بما لا يعلم، وأنّ ما عيبَ غير ما ذهب إليه الأئمة. وقد أنشد الأمير حسام الدين ابن لالا: إِذَا كُنتَ لا تَدري. . . وَلَم تَكُ كالّذي يسأل الّذي يدري. . . فكيفَ إذًا تدري ومن عجبِ الأشياء. . . أنّك لا تدري وأنّك لا تدري. . . بأنّك لا تدري * * * * قال - رحمه الله -: سئلتُ عن واقفٍ وَقَفَ وقفًا وشرطَ لنفسهِ التبديل والتغيير، فغيّر الوقف لزوجته. فأجبت:

إنّي لم أقف على اعتبار هذا الشّرط في شيءٍ من كتب علمائنا، وليس للمفتي في زماننا إلّا نقل ما صحّ عن أهل مذهبه الذين يفتي بقولهم. ولأنّ المستفتي إنما يسأل عمّا ذهب إليه أئمّة ذلك المذهب، لا عمّا يخيل للمفتي. واللهُ أعلمُ. ثم بلغني: أنّ محيي الدين الكافيَجي وقفَ على جوابي، وقال: شرط الواقف كنصّ الشّارع، يجبُ العملُ به وإن لم يكن منصوصًا عليه. فأجبتُ: بأنّ هذا يقتضي خلافَ ما اجتمعت عليه الأمّة من أنّ من شروط الواقفين ما هو صحيحٌ معتبرٌ يُعملُ بهِ. ومنها: ما ليس كذلك. وخلاف ما نصّ الفقهاء عليه من معنى هذا الكلام. فقال في كتاب الوقف لأبي عبد الله الدمشقي، عن شيخه شيخ الإسلام قول الفقهاء نصوصه كنصوص الشّارع - يعني: في الفهم والدّلالة في وجوب العمل - مع أنّ التحقيق: أنّ لفظه ولفظ الموصي والحالف والنّاذر، وكلّ عاقدٍ يحمل على عادته في خطابه ولغته التي يتكلّم عليها، وافقت لغة العرب، ولغة الشّارع أوْ لا، ولا خلافَ أن من وقفَ على صلاة أو صيام أو قراءة أو جهادٍ غير شرير ونحوه لم يصحّ. والله أعلم. قلت: وإذا كان المعنى كما ذكر فما كان من عبارة الواقف من قبيل المفسر لا يحتمل تخصيصًا، ولا تأويلًا يُعملُ به. وما كان من قبيل الظّاهر كذلك، وما احتمل، وفيه قرينة، حُمِلَ عليها. وما كان مشتركًا لا يُعملُ به؛ لأنَّه لا عموم له عندنا، ولم يقع في نظر

لمجتهدٍ ليرجّح أحد مدلوليه، وكذلك ما كان من قبيل المجمل إذا مات الواقف، وإن كان حيًّا يرجع إلى بيانه. هذا معنى ما أفاده. والله أعلم (¬1). قال - رحمه الله -: أفادني الشيخ الإمام صلاح الدين الحنفي - سلّمهُ الله تعالى ونفعَ بعلومه -: أنّه وقعَ في خاطره الكريم أنّ ما استشهد به صاحب الهداية في باب قضاء الفوائت: على أنّ الأظهر عود الترتيب السّاقط بكثرة الفوائت يعوذها القلة. بقوله: فإنّه روي عن محمّدٍ فيمن ترك صلاة يومٍ وليلة وجعل يقضي من الغد مع كلّ وقتية فائتةً، فالفوائت جائزة على كلّ حالٍ. والوقتيات فاسدة ¬

_ (¬1) قال في البحر الرائق في شرح كنز الدقائق (14/ 488): قال العلاّمة قاسمٌ في فتاواه: أجمعت الأمّة أن من شروط الواقفين ما هو صحيحٌ معتبرٌ يعمل به ومنها ما ليس كذلك ونصّ أبو عبد الله الدّمشقيّ في كتاب الوقف عن شيخه شيخ الإسلام قول الفقهاء: نصوصه كنص الشّارع، يعني: في الفهم والدّلالة لا في وجوب العمل مع أن التحقيق أن لفظه ولفظ الموصي والحالف والنّاذر وكلّ عاقدٍ يحمل على عادته في خطابه ولغته الّتي يتكلّم بها وافقت لغة العرب ولغة الشّرع أم لا ولا خلاف أنّ من وقف على صلاةٍ أو صيامٍ أو قراءةٍ أو جهادٍ غير شرعيٍّ ونحوه لم يصحّ. اهـ. قال العلامة قاسمٌ: قلت: وإذا كان المعنى ما ذكر فما كان من عبارة الواقف من قبيل المفسّر لا يحتمل تخصيصًا ولا تأويلًا يعمل به وما كان من قبيل الظاهر كذلك وما احتمل وفيه قرينةٌ حمل عليها وما كان مشتركًا لا يعمل به لأنّه لا عموم له عندنا ولم يقع فيه نظر المجتهد لترجّح أحد مدلوليه وكذلك ما كان من قبيل المجمل إذا مات الواقف وإن كان حيًّا يرجع إلى بيانه هذا معنى ما أفاده. اهـ. قلت: فعلى هذا إذا ترك صاحب الوظيفة مباشرتها في بعض الأوقات المشروط عليه فيها العمل لا يأثم عند الله تعالى غايته أنّه لا يستحق المعلوم ومن الشّروط المعتبرة ما صرّح به الخصّاف لو شرط أن لا يؤجّر المتولّي.

إن قدّمها لدخول الفوائت في حدّ القلّة، وإن أخّرها فكذلك إلّا العشاء الآخرة. فإنَّه لا فائتة عليه في ظنّه حال أدائها، لا يدلّ على مقصوده لما علم من مذهب محمّد: أنّ الترتيب يسقط بدخول وقت السّادسة إلى آخره. وأنَّه سلّمه الله ونفع به ذَاكَرَ بذلك بعض أهل العلم من مذهبنا، فلم يذكروا له شيئًا. وأنَّه راجعَ كتبه فوجد هذا بعينه قد وقع للزّيلعي شارح الكنز حيث قال بعد ذلك ما قدّمناه عن صاحب الهداية. قال راجي عفو ربه الكريم: ليس فيه دلالة على عود الترتيب بعد سقوطه؛ لأنّ الترتيب لو سقط لجازت الوقتية التي بدأ بها كما ذكر في الجامع الصغير، وهو قوله: فإن فاته أكثر من صلاة يومٍ وليلة أجزأته التي بدأ بها؛ ولأنّ الترتيب إنما يسقط بخروج وقت السادسة، ولم يخرج هنا ولا يمكن حمله على ما روي عن محمّد: أنّ الترتيب يسقط بدخول وقت السادسة؛ لأن حكمه بفساد الوقتية التي بدأ بها يمنع من ذلك، إذ لو كان مراده على تلك الرواية لما فسدت التي بدأ أوّل مرّةٍ لسقوط الترتيب عنده. انتهى. قلت: وقد أخذ هذا شيخنا العلامة كمال الدين (¬1)، وأورده في شرحه على الهداية، وأقرّه فقال بعد تقرير قوله: (وَهُوَ الأَظْهَرُ): وفيه نظرٌ (¬2). ثم قال: ووجه النَّظر أنَّه لم يسقط التَّرتيب أصلًا، فإنَّ سقوطه بخروج ¬

_ (¬1) ابن الهمام في فتح القدير (3/ 12). (¬2) الذي في فتح القدير: (خلاف ما اختاره شمس الأئمّة وفخر الإسلام وصاحب المحيط وقاضي خان وصاحب المغني والكافي وغيرهم، وما استدلّ به عن محمّد فيه نظرٌ).

وقت السَّادسة وهو لم يخرج حتَّى صارت خمسًا بقضاء الفائتة، ولا يمكنُ تخريجه (¬1) على ما روي عن محمَّدٍ من اعتبار دخول وقت السَّادسة؛ لأنَّه لو كان كذلك لم تفسد (¬2) الوقتيَّات. انتهى. قلت: وقد كنت أقرأت شرح الزيلعي في سنة إحدى وأربعين، ولي فيه تقريرٌ وتحرير. ومن ذلك: أنّ قوله: ولا يمكن حملهُ على ما روي عن محمّد ممنوع بل هو يبنى عليه. فقد نصّ جماعة من محققي المشايخ على أنّ من أصل محمّد إذا دخل وقت السّادسة سقط الترتيب، إلّا أن سقوطه يتقرر بخروج وقت السادسة. فإذا أدّى وقتية توقف جوازها على قضاء الفائتة وعدمها. فإذا قضى دخلت الفوائت في القلّة، فبطلت الوقتية؛ لأنّها أديت عند ذكر الفائتة. وبهذا صرّح في رواية ابن سماعة، عن محمّد في تعليل ذلك بقوله؛ لأنَّه كلّما قضى فائتةً عادت الفوائت أربعًا، وفسدت الوقتية إلا العشاء، فإنّه صلاها. وعنده: أن جميع ما عليه قد قضاهُ فأشبه الناسي. انتهى. وقد انتصر شيخنا العلامة كمال الدين للعود بقوله بعدما ذكرناه عنه (¬3): لكنَّ الوجه يساعدُهُ بجعله (¬4) من قبيل انتهاء الحكم بانتهاء علَّته (¬5)، وذلك: ¬

_ (¬1) في المخطوط: (حجر). (¬2) في المخطوط: (تعد). (¬3) فتح القدير (3/ 12 - 13). (¬4) في المخطوط: (يجعله). (¬5) في المخطوط: (بأنها عليه).

أنَّ (¬1) سقوط التَّرتيب كان بعلَّة الكثرة المفضية إلى الحرج، أو أنَّها مظنَّة تفويت (¬2) الوقتيَّة، فلمَّا قَلَّت زالت العلَّة فعاد الحكم الَّذي كان قبل، وهذا مثل حقِّ الحضانة الثَّابت (¬3) لمحرم الصَّغير من النِّساء يسقط (¬4) بالتَّزوُّج، فإذا زال التَّزوُّجُ عاد لا أنَّه سقط فيكون متلاشيًا (¬5)، فلا يتصوَّر عوده إلَّا لسبب آخر. انتهى. قلت: قوله: فعاد الحكم. . . هو محلّ النّزاع، فلا يثبت بلا دليل. وقوله: وهذا مثل حقِّ الحضانة (¬6). . . ممنوع؛ لأنّ مسألة الحضانة ليست من قبيل انتهاء الحكم بانتهاء العلّة أصلًا، وإنّما هي من قبيل عروض المانع وزواله؛ لأنّ علّة حَقِّ الْحَضَانَةِ: القرابة المستلزمة للشفقة والتزوّج مانعٌ لما ذكروه من الاشتغال بخدمة الزّوج. . . إلخ. مع بقاء أصل العلّة. فإذا زال المانع ثبت المكنة من القيام بالحضانة. والله أعلم. ثم أفاد الشيخ صلاح الدين - سلّمه الله - ما ذكر في التحقيق: أن امتداد الأغماء أن يزيد على يومٍ وليلةٍ باعتبار الأوقات عند أبي حنيفة وأبي يوسف وباعتبار الصلاة عند محمّد فقلت: ما ذكر في التحقيق هو المذكور في الهداية وهو خلاف ما اعتبر كل منهم في قضاء الفوائت حتى قال شيخنا العلامة كمال ¬

_ (¬1) في المخطوط: (أنه). (¬2) في المخطوط: (وأنها مظنة تفوت). (¬3) في المخطوط: (الثابتة). (¬4) في فتح القدير: (ينتهي). (¬5) في المخطوط: (مثلا شيئا). (¬6) في المخطوط: (الحاضنة).

الدين - رحمه الله - في شرحه على الهداية (¬1): وكلٌّ مُطَالَبٌ بِالْفَرْقِ. وقلتُ فيما كتبته على الشرح المذكور: إِنّه قد اختلفت الروايات عن الثلاثة في كلا البابين. واتفق المشايخ على أنّه ظاهر الرواية. والصحيح في البابين واحدٌ وهو: أنّ العبرة لعدد الصّلوات. قاله في الذخيرة والبدائع والفتاوى الصغرى وغيرها. فلا احتياج إلى طلب الفرق. وأمّا الأثر الذي أشاروا إليه، فهو ما قال محمّد في كتاب الآثار (¬2): أخبرنا أبو حنيفة، عن حمّاد، عن إبراهيم، عن ابن عمر في المُغمى عليه يومًا وليلة؟ قال: يقضي. قال محمّد: وبه نأخذ، حتّى يُغمى عليه أكثر من ذلك، وهو قول أبي حنيفة - رحمه الله -. هذا ما تيسّر في هذا المقام (¬3). ¬

_ (¬1) فتح القدير (3/ 111). (¬2) الآثار (1/ 219) رقم (169). وانظر الآثار لأبي يوسف (1/ 286) رقم (278). (¬3) قال ابن الهمام في فتح القدير (3/ 111 - 112): (قوله: والقياس أن لا قضاء عليه إذا استوعب وقت صلاةٍ) وبه قال الشّافعيّ ومالكٌ، واستدلا بما روى الدّارقطنيّ عن عائشة - رضي الله عنها -: أنّها سألته عليه الصّلاة والسّلام عن الرّجل يغمى عليه فيترك الصّلاة؟ فقال: "ليس لشيءٍ من ذلك قضاءٌ إلا أن يغمى عليه في وقت صلاةٍ فيفيق فيه فإنّه يصلّيها". وهذا ضعيفٌ جدًّا، ففيه الحكم بن عبد الله بن سعدٍ الأيليّ. قال أحمد: أحاديثه موضوعةٌ. وقال ابن معينٍ: ليس بثقةٍ ولا مأمونٍ. وكذّبه أبو حاتمٍ وغيره، وقال البخاريّ: تركوه. ثمّ بقية السّند إلى الحكم هذا مظلمٌ كلّه. وقالت الحنابلة: يقضي ما فاته، وإن كان أكثر من ألف صلاةٍ؛ لأنّه مرضٌ، وتوسّط أصحابنا =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = فقالوا: إن كان أكثر من يومٍ وليلةٍ سقط القضاء، وإلّا وجب، والزّيادة على يومٍ وليلةٍ من حيث السّاعات. وهو روايةٌ عن أبي حنيفة، فإذا زاد على الدّورة ساعةٌ سقط. وعند محمّدٍ من حيث الأوقات فإذا زاد على ذلك وقت صلاةٍ كاملٌ سقط، وإلّا لا، وهو الأصحّ تخريجًا على ما مرّ في قضاء الفوائت، وإن كان محمّدٌ قال هناك بقولهما فكلٌّ من الثّلاثة مطالبٌ بالفرق إلا أنّهما يجيبان هنا بالتمسّك بالأثر عن عليٍّ وابن عمر على ما في الكتاب، لكنّ المذكور عن ابن عمر في كتب الحديث من رواية محمّد بن الحسن، عن أبي حنيفة، عن حمّاد بن أبي سليمان، عن إبراهيم النّخعيّ، عن ابن عمر أنّه قال في الّذي يغمى عليه يومًا وليلةً؟ قال: يقضي. وقال عبد الرّزّاق: أخبرنا الثّوريّ، عن ابن أبي ليلى، عن نافع، أنّ ابن عمر أغمي عليه شهرًا فلم يقض ما فاته. وروى إبراهيم الحربيّ في آخر كتابه غريب الحديث: حدّثنا أحمد بن يونس، حدّثنا زائدة، عن عبيد الله، عن نافعٍ قال: أغمي على عبد الله بن عمر يومًا وليلةً فأفاق فلم يقض ما فاته واستقبل. وفي كتب الفقه عنه: أنّه أغمي عليه أكثر من يومٍ وليلةٍ فلم يقض. وفي بعضها نصّ عليه، فقال: أغمي عليه ثلاثة أيّامِ فلم يقض. فقد رأيت ما هنا عن ابن عمر وشيء منها لا يدل على أنّ المعتبر في الزّيادة السّاعات إلا ما يتخايل من قوله أكثر من يومٍ وليلةٍ، وكلٌّ من روايتي الشّهر والثّلاثة الأيّام يصلح مفسّرًا لذلك الأكثر، ولو لم يكن وجب كون المراد به خاصًّا من الزّيادة؛ لأن المراد به ما دخل في الوجود ولا عموم فيه، وحمله على كون الأكثريّة بالسّاعة ليس بأولى من كونها وقتًا. وأمّا الرّواية عن عليٍّ فلم تعرف في كتب الحديث، والمذكور عنه في الفقه أنّه أغمي عليه أربع صلواتٍ فقضاهنّ، وأهل الحديث يروون هذا عن عمّارٍ، وروى الدّارقطنيّ عن يزيد مولى عمّار بن ياسرٍ: أن عمّار بن ياسرٍ أغمي عليه في الظّهر والعصر والمغرب والعشاء وأفاق نصف اللّيل فقضاهنّ. قال الشّافعيّ - رحمه الله -: ليس هذا بثابتٍ عن عمّارٍ، ولو ثبت فمحمولٌ على الاستحباب. =

والحمدُ لله ثانيًا. وصلّى الله على سيّدنا محمّدٍ وآله وصحبه. ¬

_ = وفرّق بين الإغماء والنّوم بأنّه عن اختيارٍ، بخلاف الإغماء. وجه قولنا: أنّ الإغماء مرضٌ يعجز به صاحب العقل عن استعماله مع قيامه حقيقةً فلا ينافي أهليّة الوجوب، بل الاختيار؛ لأنّه إنمّا يوجب خللًا في القدرة، وذلك يوجب التأخير لا سقوط أصل.

ملحق المجموع تعريف المسترشد في حكم الغراس في المسجد

مُلْحَق المَجْمُوعِ تَعْرِيفُ المُسْتَرْشِد في حُكْمِ الغِراسِ في المَسْجِدِ تَأْلِيفُ الشَّيْخ شَمْس الدِّين ابنِ أَمِير حَاج الحَلَبِيِّ

بداية الرسالة

تَعْرِيفُ المُسْتَرْشِد في حُكْمِ الغِرَاسِ في المَسْجِدِ هل يجوز إحداث غرس الأشجار في المسجد، ولا سيّما مع التهافت عليه والاستكثار منه، ولا ضرورة تدعو إليه من كون المسجد ذا بنى لا تثبت إسطواناته إلّا بذلك. وهل يفرق في ذلك بين الواسع والضيق وبين أن يكون ذلك المحل من المسجد، قد لا يصلّى فيه لسعته. وبين أن لا يكون كذلك؟ وإذا قلتم بعدم جواز إحداث ذلك فيه. هل يبقى أو يقلع؟. الجواب: لا يجوز إحداث غرسِ الأشجار في المسجد إذا لم تكن الضرورة المذكورة موجودة فيه، خصوصًا إذا تهافت النّاس عليه واستكثروا منه، ولا فرق في عدم جواز إحداثه فيه، بين أن يكون ضيّقًا أو واسعًا، وبين أن يكون محلّه قد لا يصلّى فيه لقلّة جماعته ونحو ذلك، وبين أن يكون محلّه يصلّى فيه دائمًا، أو غالبًا. وإذا أحدث فيه يقلع. والوجه في ذلك كله أظهر للتّأمّل في القواعد الشرعية. فإنّ من المعلوم عند أهل العلم: أنّ البقعة إذا صارت مسجدًا لله تعالى صار كل جزءٍ منها له حكم المسجد به من غير تفرقةٍ بين كونها واسعةً أو ضيّقة، وبين كون سعتها بحيث قد يستغني الناس عن إيقاع الصّلاة في ذلك المحلّ منها، وبين أن لا يكون كذلك. والحكمُ الثّابت لكون البقعة مسجدًا هو خلوصها لله تعالى. وكونها محلًّا للعبادة من صلاةٍ أو اعتكافٍ أو اقتداء بإمام

فيها تباعد ما بينه وبين المقتدين تباعدًا لو كان في غير المسجد لم يجز الاقتداء به ونحو ذلك. ومن المعلوم: أنّه ما دامت المسجدية قائمة، كان هذا الحكم ثابتًا لها، وأنه لا يجوز إبطاله والغرس في جزءٍ من المسجد كائنًا ما كان إبطالٌ لهذا الحكم فيه، فلا يجوز. وإذا لم يجز إحداث الغراس لا يجوز إبقاؤه لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لَيْسَ لِعِرْقٍ ظَالِمٍ حَقٌّ" (¬1). أخرجه أبو داود، والنّسائي، والترمذي وقال: حديثٌ حسنٌ غريب. وهذا كذلك؛ لأن الظّلم وضع الشيء في غير محلّه. وهذا كذلك، كما بَيّنًا. ولما تقرر من الأصل الذي لا يعلم له مخالفٌ من أنّ كل صفةٍ منافيةٍ لحكيمٍ يستوي فيه الابتداء والبقاء كالمحرميّة في باب النكاح، كما يمنع ابتداء النّكاح، بمنع بقائه. ولو كان عارضه عليه بعد ثبوته، ألا ترى لو كان الزّوجان صغيرين أو كبيرين، فمكنت الزّوجة ابن زوجها من نفسها ارتفع النّكاح في كلّ من هاتين الصّورتين بعد ثبوته. أمّا في الأولى: فبالإجماع. وأمّا في الثانية: فعند أصحابنا ومن وافقهم خلافًا للشّافعي ومن وافقه. نعم. اللهمّ إلّا أنْ يخرج شيء من هذا بالنّص كبقاء الصّلاة في حقّ من سبقه الحَدَث. حتى جاز له البناء، كما هو قول أصحابنا للنّص الوارد في ذلك. وهو ¬

_ (¬1) رواه أبو داود (3073) والترمذي (1378) والنسائي في الكبرى (5761) عن سعيد ابن زيد - رضي الله عنه -. وسنده صحيح. ورواه القضاعي في مسند الشهاب (1187) عن عائشة - رضي الله عنه -. وانظر فتح الباري لابن حجر (5/ 19).

تنبيه

قوله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ أَصَابَهُ قَيْءٌ أَوْ رُعَافٌ أَوْ قَلَسٌ أَوْ مَذْيٌ، فَلْيَنْصَرِفْ فَلْيَتَوَضَّأْ، ثُمَّ لِيَبْنِ عَلَى صَلَاتِهِ، وَهُوَ فِي ذَلِكَ لَا يَتَكَلَّمُ". رواه ابن ماجه، وغيرهُ (¬1). ولا نصَّ هنا على جواز البقاء مع صفة المسجدية، فيقلع. * تنبيه: وما ذكر غير واحدٍ من المشايخ من أنّه لو غرسَ شجرةً في المسجد للمسجد فهي للمسجد أو ثمرتها للمسجد ونحو هذا من العبارات المفيدة لهذا المعنى لا يفيد أنّه يحلّ غرس الأشجار فيه من غير حاجة شرعية؛ ولأنّه يحل إبقاؤها فيه كذلك. وإنمّا هو إفادة هذا الحكم له لو وقع، ولا يلزم من مجرّد الوقوع الحل الشرعي له، إذ ليس كل واقعٍ حلالًا. وكم في الفروع من نظائر له كإعطاء حكم الزيادة المتولدة من المغصوبة إذا أدّى قيمة العين الغاصب أنّها له أو لمالكٍ العين الأوّل، فإنّه لا يستدل على أنّ الغصب حلال إلى غير ذلك مما يطول تعداده على أنّه لو سلم إشعار المذكور يحل الإبقاء بالجملة. فليحمل المذكور على الواقع الجائز باقٍ كان في مسجد ذي نزٍّ والإسطوانات لا تثبت إلّا بذلك من باب عمارة المسجد. وتلك الأشجار لا تخرج حينئذٍ عن كونها زيادة في إسطوانات له محتاجٌ إليها فلا يشمله النّص المذكور ولا القاعدة الشائعة جمعًا بين إشارة كلامهم ¬

_ (¬1) رواه ابن ماجه (1221) عن عائشة - رضي الله عنها -. وفي إسناده: إسماعيل بن عياش، وقد روى عن الحجازيين، وروايته عنهم ضعيفة. وأجاب الزيلعي في نصب الراية (1/ 37) بأن إسماعيل بن عياش، قد وثقه ابن معين وزاد في الإسناد: عن عائشة، والزيادة من الثقة مقبولة.

وصريح عبارتهم. إذ هو أولى من إبطال أحدهما على أنّه لو ذهب ذاهبٌ إلى قيام التعارض مع عدم تأتي الجمع بينهما كما ذكرنا لقذم عدم الجواز على الإشارة وهي هنا الجواز، وخصوصًا في هذه المسألة، فإنّ العبادة على وقف يقتضي الدليل الشرعي بخلاف الإجازة. ثم مما أوضحناه من النّص والقاعدة عرف أنه لا يقال: لم لا يجوز البقاء نظرًا إلى ما يؤول إليه غرسها من انتفاع المسجد بثمرتها وإن كان الابتداء غير جائزٍ؟ مع أنّ هذا في نفسه كلامٌ فاسد الاعتبار كما يعرفه من يعرف الأصول. فإنّ من المعلوم: أنّ المسجد ما وضع للاستغلال وإن فعل هذا منافٍ لوصفه شرعًا على أنّه غير خافٍ بقليل تأمّل إن فتح هذا الباب قد يؤدي إلى استغراق المسجد أو أكثره بالغرس بواسطة كثرة نوادر الغارسين فيه فيؤدي إبقاء ذلك فيه إلى جعله بستانًا ونحوه. وما أظنّ أنّ أحدًا من أئمة الدين يقول به، ثم يلزم تعيّن هذا أنّه إذا بنى بانٍ في المسجد للمسجد ما يستغل منه من نحو دكانٍ أنّه يبقى فيه لهذا القصد، وأنّه إذا شغل شاغل بقعة منه بأمتعةٍ ونحوها أنّه يبقى ذلك بأجرة مثلها، فإنّ كلًّا من هذه الأمور لا يجوز إحداثه ابتداءً، وجث جاز البقاء في الأوّل للانتفاع بالثّمرة يجوز في هذين للانتفاع بالغلّة إذ المشاركة في الغلّة توجب المشاركة في الحكم بل يكون الجواب في هذين بطريق الأولى، فإنّ الثمرة موهمة الحصول في الشجرة بعد حين، فإنّ كثيرًا من الأشجار، لا يخرج الثمرة المعتبرة. وكثيرٌ منها: إن أخرجها لا يخرجها إلّا بعد سنين، ثم بعد ذلك قد تطرأ فيها آفةٌ من الآفات فيدخل هذا الوهم البعيد في حكم الفوات بخلاف هذين وخصوصًا الثاني منهما. وثبوت هذا الحكم فيها لا يقول به عاقلٌ مشرّعٌّ.

تذييل

ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. * تذييل: ومن العجب العجاب: ما فاه به وفيه بعض من أخطاء، فما الصّواب؟ وهجم على الإفتاء على مذهب الإمام أبي حنيفة، مما لا تقوم به رواية عن أحدٍ من الأصحاب ولا دراية عند أولي الألباب، فغضب من غير ما جرم عند العوامّ، زاعمًا جواز الغرس وحرمة القلع لعلّه يرى أنه من رؤى البعض، وَالإِلْزام. واستند في هذه الدّعاوى إلى ما قدّمناه في التنبيه. وقد أوضحنا فيه: أنّ كلًّا من عدم جواز إحداث الغرس ومن عدم جواز إبقائه هو القول الوجيه. وإلى ما في خلاصة الفتاوى وغرس الأشجار في المسجد لا بأس به إذا كان فيه نفع للمسجد بأن كان المسجد ذا نزٍّ والإسطوانات لا تستقر بدونها وبدون هذا لا يجوز. انتهى. فصحف ذا نزٍّ بالذال والنون والزاي المشددة. أي: صاحب نزٍّ. وفي الصَّحَاح: النَّز والنُّز ما يتحلّب من الأرض من الماء. وقد نزّت الأرض صارت ذات نزّ. انتهى إلى دثز بالدال المهملة والثاء المثلثة والزاي، أي: خرابٍ. فسجّل على نفسه بأنه كما لا يفهم المعنى قد صحّف المبنى، ثم هذا مع قوله: والإسطوانات لا تستقر بدونها في إفادة كون الضبط على ما ذكرناه وما له من المعنى من الوضوح بحيث لا تخفى على من له مَسْكة من فهم معنى أصل التركيب العربي كما هو وظيفة أدنى العوام، ثم حيث كان اللفظ على ما ذكره من التصحيف. فالواقعة التي هي مثالٌ، ذكر هذه المسألة، إنّما هي في عامر آهلٍ وهو المسجد الأقصى.

ومن المعلوم: إنّما يجوز في الخراب لا يلزم أن تجوز في العامر، وخصوصًا: إن خرج عن المسجدية بالدثور. كما هو أحد قولي العلماء فيه، ثم يا ليت شعري ما يصنع بقوله: وبدون هذا لا يجوز، فإنه نصٌّ مفسّر في إفادة أنه إذا لم يكن داثرٌ لا يجوز الغرس فيه كما هو الصّواب. وفي إفادة أنه إذا لم يكن خرابًا لا يجوز الغرس فيه على ما وقع من التصحيف. فكيف يستدل به على جواز الغرس إذا كان عامرًا آهلًا ليس بذي نزّ وإنّ هذا لجديرٌ. وكم من عائبٍ قولًا صحيحًا. . . وآفته من الفهم السقيم وبالمثل السّائر: سكت ألفًا وقال خلفًا. اللهم أعذنا من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، وتُب علينا توبةً نصوحًا، إنّك أنت التواب الرحيم، وأرنا الحقّ حقًا وارزقنا اتباعه، والباطل باطلًا وارزقنا اجتنابه، وعلّمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علّمتنا، إنّك سبحانك ذو الفضل العظيم. وحسبنا الله ونعم الوكيل. هذه المسألة من كلام المرحوم شمس الدين بن أمير حاج الحلبي، ألّفها بالقدس الشريف في عودةٍ من الحج سنة 879 هـ وقد سئل عن الغرس بالمسجد الأقصى. فأجاب بما ذكر، ووافقه الشيخ كمال الدين بن أبي شريف الشافعي (¬1). ¬

_ (¬1) قال السيوطي في نظم العقيان في أعيان الأعيان (ص 54) الترجمة (166): محمد ابن محمد بن أبي بكر بن علي بن مسعود بن رضوان المري القدسي، الشيخ كمال الدين أبو المعالي ابن أبي شريف الشافعي، ولد في ذي الحجة سنة اثنتين =

وخالفهما بعض الحنفية حين لجأ إليه العوام لما استبشعوا القلع معتمدًا كلام صاحب الخلاصة مع ما احتوى عليه من التصحيف. ومن الشافعية من يقصد خلاف ابن أبي شريف. تمت الفوائد بعون الله وكرمه وإحسانه وحسبنا الله ونعم الوكيل. ¬

_ = وعشرين وثمان مئة، وأخذ عن: الشهاب ابن رسلان، والحافظ ابن حجر، والشيخ عبد السلام البغدادي، والكمال بن الهمام، وغيرهم. ولازم خدمة العلم، فبرع في الفقه والأصلين، والعربية، وغيرها. وتصدّى للتدريس والإفتاء والتأليف. ومن تصانيفه: حاشية على شرح العقائد للتفتازاني، وحاشية على شرح جمع الجوامع للجلال المحلي، وشرح الإرشاد في الفقه لابن المقرئ. وانظر البدر الطالع بمحاسن من بعد القرن السابع (2/ 235).

§1/1