مجموعة رسائل العلامة قاسم بن قطلوبغا
ابن قُطْلُوْبَغَا
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
جَمِيعُ الحقُوقِ مَحْفوظَة الطَّبْعَةُ الأُولَى 1434 هـ - 2013 م ردمك: 0 - 35 - 482 - 9933 - 978 ISBN دَارُ النَّوادِرِ سورية - لبنان - الكويت مؤسسة دَارُ النَّوادِرِ م. ف - سُورية * شركَة دَار النَّوَادِر اللبنانية ش. م. م - لبنان * شركَة دَار النَّوَادِر الكويتية ذ. م. م - الكويت سورية - دمشق - ص. ب: 34306 - هَاتِف: 2227001 - فاكس: 2227011 (0096311) لبنان - بيروت - ص. ب: 14/ 5180 - هَاتِف: 652528 - فاكس: 652529 (009611) الكويت - الصالحية - برج السَّحَاب - ص. ب: 4316 حَولي - الرَّمْز البريدي: 32046 هَاتِف: 22273725 - فاكس: 22273726 (00965) [email protected] www.daralnawader.com أسسها سنة: 1426 هـ - 2006 م نور الدّين طَالب المدير الْعَام والرئيس التنفيذي
[مقدمة التحقيق]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مَدخَل فَنّ الرسائل والمسائل من الأمور الهامة التي تكشفُ حقيقةَ المجتمع ومسيرهِ، إذ هي مُوَقّعةٌ على دَرَجِ الأحوال والحوادث التي جرت خلاَلَها. وبها نستطيع أن نتعرّفَ على أسلوب ومنهج العلماء والمفكرين الذين كانت لهم غايات وأهداف في رعاية المجتمع وصيانته وحفظه. وما نشاهدهُ في هذه الرسائل ينبعُ من معينِ الشّريعة ومقاصدها العامّةِ، ليحقّقَ الأمنَ والسَّكينةَ للأفراد والمجتمعِ. حيثُ نشاهدُ: من خلالِ هذه المسائل أنَّ المسلمين جميعًا أمةٌ واحدة، باختلاف مذاهبهم الفقهية؛ لأنّ هدفَهم واحدٌ، وصراطهم وطريقهم واحدٌ، ودستورهم واحدٌ، وهم جميعًا متساوون، لا فضل بينهم إلَّا بالتقوى، ولا ميزة لأحدهم بسبب لونٍ أو جنسٍ أو وطنٍ. فنقل لنا المؤلّف الأحكام الفقهية مع استدلاله بالمذاهبِ وما له عليها من قَبُولٍ أو رفضٍ، من غير تحيّزٍ أو تعصُّبٍ، رغبةً منهُ لوصل الصلة بين المسلم والمسلم بمنعِ الإيذاء والاعتداء وتحريم الغش وغيره، وتبيين الصَّواب في البيوع والنّكاح. ومنع أكل مال المسلم بغير حق أو التعدي على الوقف بأيّ حيلةٍ مهما كانت.
وهذا العمل يُحقّق زيادة الرّابطة بينَ المسلمين، ببيانِ ما يصلح لهم ويُصلحهم. وهذا يُعرّفنا بأهميّة النصح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي لَمَسنَاهُ في رسائله وتوجيهاته، لأن التواصي بالحق والالتزامَ به، ومحاولة إلزام الآخرين به تقويمًا للاعوجاج ما وُجدَ إلى ذلك سبيلٌ، لتستقيم الأمة كلها على كلمة سواء وجادة بيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلَّا هالك. وبهذا: يحافظُ المجتمعُ على استقامته وبقائهِ، وهو هدفٌ أرادهُ المصلحون، إبقاءً على نقاءِ وسلامة العلاقات بين الأفراد والجماعات. إنه سبيل العدل ودفع الظلم بكل أنواعه وأشكاله وفي كل أحواله، بضبط العلاقة بين الإنسان والإنسان، ولم يترك هذا للاجتهاد الشخصي، بل أقام الحقوق والواجبات في كل عقد مما يحتاجه الناس في حياتهم كعقود البيع والإجارة والمزارعة والزواج والطلاق، وغير ذلك. وهنا نلمس الحفاظ على الضّرورات التي جاءت بها الشريعة المطهرة، لإنتاج مجتمعٍ سليمٍ معافًى من الآفات، ووجود الحلول النّاجعة لها، كـ: الدين؛ وهذا الكتاب مقصودهُ: رعاية أحكام هذا الدين، مثل رسائله: - رفع الاشتباه عن مسائل المياه. - أحكام الصلاة على الجنازة في المسجد. - في التراويح والوتر. - الفوائد الجلّة في مسألة اشتباه القبلة. - أحكام القهقهة.
- تحرير الأقوال في صوم الست من شوال. - الأسوس في كيفية الجلوس بين السجدتين. النفس؛ حيثُ بحثَ فيما يخدمها، ويبعدها عن ما فيه ضررٌ كرسالة: - أحكام الفأرة إذا وقعت في الزيت. - في حفر المربعات. النسل؛ حيث ذكر أبحاثًا تتعلق بالإرث والتلاعن وأحكام النكاح والطلاق والعدة وغير ذلك. - القول القائم في بيان تأثير حكم الحاكم. - رسالة فيها أجوبة عن بعض مسائل وقعت. - مسائل في الشيوع. - سؤالات وأجوبة عنها. - في العدّة. - في طلاق المريض زوجته. - حكم الخلع وحكم الحنبلي فيه. العقل؛ وما يحافظ عليه، ويبين مكانته كرسالة: - أحكام الشهادة والتزكية. المال؛ وذكر فيه ما يتعلق بالقضاء وفصل الخصومات فيما يتعلق بالمال وغيره. - رسالة في قضاء القاضي.
- ما ينقض من القضاء. - تحرير الأقوال في مسألة الاستبدال. - في الوقف واشتراط النظر للأرشد فالأرشد. - في حطّ الثمن والإبراء منه وصحّة ذلك. وتتداخل هذه المقاصد في الرّسالة الواحدة، ويأتي بعضها عرضًا، وهو في ذلك كلّه يرتبط بقاعدةٍ عامّةٍ أصَّلَ لها عنوانها: اليُسر وعدم المشقة وانظر ذلك في (تحرير الأقوال في صوم الست من شوّال). وقد أخذ ذلك من نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن التشبّه بالتبتّل بصوم الدّهر لما فيهِ من الضَّعف، وإن أراد استغراق الزمان بالطّاعة، فجعل العبادةَ العاريةَ عن المشقّة المرهقة محصّلةً للمقصود حيث ذكر حديث: "مَنْ صَامَ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ كَانَ كَصِيَامِ الدَّهرِ". ولعله يأتي من يبحث في رعاية المقاصد عند المؤلف ليقدم لنا بحثًا ممتعًا. . . ونأمل أن ينال الكتاب إعجاب العلماء والباحثين، وأن يكتب لنا الأجر والمثوبة، ويحقق ما فيه الخير والبركة لنا وللمسلمين جميعًا. والحمد لله رب العالمين المحقّق
الكتاب
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الكِتَاب الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث لعموم الثقلين، سيدنا محمّدٍ وعلى آله الطيبين الطاهرين، وأصحابه الغر الميامين. أمّا بعد: فإن خيرَ ما يُعملُ به، ويحق له العناية هو الفقه الإسلامي، الذي من خلاله تتعبّد الطريق لسلوك الحياة الصحيح، إذ هو مناط الحياة، وسُلّم الوصول إلى بوابة الآخرة، ليكون متتبعها من الذين تفتّح لهم الأبواب الثمانية، فيدخلونها دخول الكرام لينالوا مرتبة قوله تعالى: {ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ}. إذ بالفقه تتفتّق الأذهان الخاملة، وبالنظر إليه تتفتّح أشرعة العقل لتتلقّى وتحلل، لأنهم المبشرون من الأخيار المصطفين في الدنيا، لهذا قال - صلى الله عليه وسلم -: "مَنِ يُرِدِ اللهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّههُ في الدِّينِ". وانطلاقًا من قوله - صلى الله عليه وسلم -، كان الدين الإسلامي الحنيف، يتجدد بتجدد الأزمان، ولا يتجدد إلَّا بتجدّد الوقائع الطارئة من المعاملات الحياتية. ومن هنا: كان لا بد لنا من السعي الحثيث لتتبع آثار السلف الصالح، وما صنّفوه لنا من مسائل حدثت في عصرهم الذي ذهب بذهابهم، لكن بقي خالدًا بما سطروه لنا من مسائل فقهية يحتاج إليها السائل عنها في كلّ زمانٍ، من حين خرجت فتاواهم إلى يومنا حيث تجلس تحت المجهر للتحليل
والمناقشة لإثراء الواقع المعاش الجديد الذي يتوافق مع الحياة المنشودة لطالب السعادة في الدارين. ومن هذا الباب وجدنا مجموعًا فقهيًّا لطيفًا لأحد الفقهاء الأحناف، مذيلًا في نهايته رسالةً لأحد أصدقائه في المذهب. ولعلّ هذا المجموع الذي يحمل في طياته بعض المسائل والرسائل التي خطّها مصنفها، تبرز لنا مدى اطّلاعه، ورحب آفاقه، فَنتَعَرّف من خلال هذا المجموع: - بعض أسماء كتبه المؤلفة. - بعض إقراءاته. كقوله: (وقد كنت أقرأت شرح الزيلعي في سنة إحدى وأربعين، ولي فيه تقريرٌ وتحريرٌ). -كما يورد لنا بعض أسماء شيوخه الذين أخذ بآرائهم، واستفاد منهم في بحثه، ومنهج فكره، كابن الهمام وغيره، فهو يقول: (شيخنا العلامة كمال الدين). - ونتعرف على نقولات فقهية لم تكن ميسرة في أيدي الباحثين. - تبرز شخصيته كفقيهٍ مجتهدِ في أصول مذهبه، لا يتعداها إلَّا في القليل النّادر، وتنمُّ عن إمكانات عُليا طَبَعَته بطابعها. وكمؤرخٍ في نقله وفيات الأئمة الذين نُقِلَت عنهم الفتاوى وأراد أن يبين السّابق من اللاحق. وكمحدّثٍ وعالم في الجرح والتعديل في مراجعاته لطرق الحديث النبوي التي تعرض في الرسائل إذا كان المقام يقتضيها.
وكشاعر له الموهبة الشعرية التي يحملها في جوانح عقله ولبه، المتناسبة مع ثقافته العامة، حيث ذكر بعض الأبيات. - ثقة الناس به وبعلمه حيثُ وردت عليه أسئلة من بلدانٍ متعددة كـ: دمشق، وغزة. . . إلخ. من أناس متعددين أمراء كـ: (قراجا الظّاهري) وغيرهم. - وكان شديد النقد لمن يجده شاذًّا عن القواعد والأصول كـ (جلال الدين التباني في رسالة تحرير الأقوال في صوم الست من شوّال). وإن كان يحترم العلماء من المذاهب كافة كابن تيمية وقال عنه: شيخ الإسلام. كما كان يختار ما كان صحيحًا ولو خالف مشايخه، كعلامة الزمان ابن الهمام، كما قال. - نقله بعض المسائل والأقوال عن معاصريه كالأقصرائي وابن طيبغا. . . إلخ. فبالجملة: هو مجموعٌ جميلٌ في مضمونه، جيّدٌ في نسخه، إلَّا أنه يعتريه بعض التشويش في الكلام.
وصف المخطوط
وَصفُ المَخْطُوطِ المخطوط من محفوظات مكتبة برنستون نيوجيرسي - أمريكا. مؤلف من (240 ق) تحت رقم (جاريت 3393 Y). بخط جميل نسخي، مقروء، عناوين الرسائل مكتوبة بالحمرة، وفيه الكثير من التحريف والتصحيف، استدرك أكثره من المصادر التي نقل عنها المؤلف، أو الكتب التي نقلت عنه كحاشية ابن عابدين مثلًا. وقد كتب على هامش الفهرست في بداية المخطوط أنه: (من كتب الفقير الحقير الراجي عفو ربه الكريم، المعترف بالذنب والتقصير، مصطفى ابن المرحوم الشيخ محمد صادق أفندي، نجل العلامة الهمام عمري زاده الشيخ محمد سعدي أفندي الحنفي مذهبًا وعملًا، الدمشقي بلدًا ومولدًا بالشراء الشرعي من تركة والدي المذكور وذلك في ختام شهر محرم الحرام الذي هو من شهور سنة 1296 وبثمن قدره لذلك عشرين غرش وربع فقط م). (ثمن هذا الكتاب عشرين غرش فقط لا غير بالشراء الشرعي من تركة والدي محمد صادق العمري 22 م 96 يوم الأربعاء) وعليه ختمه. لم يُذكر اسم الناسخ أو ما يدل عليه وإن تعاقب على نسخها اثنان -والله أعلم- بسبب اختلاف خط بعض الورقات.
وعليه بعض التصحيحات المشار إليها لتدخل في النص، وذكر الناسخ تعقيبًا على مسألة أوردها المؤلف لا ندري من صاحبها. هل هو الناسخ أم نقلها عن النسخة التي نقل منها. ولعلها من منسوخات القرن الحادي عشر الهجري. وليس لها في حدود علمي أي نسخة أخرى في مكتبات العالم يُستأنس بها في المقابلة. وهي على ما فيها من تحريفاتٍ وتصحيفات ذات قيمة عالية لنُدرتها.
صحة نسبة المجموع
صِحَّةُ نِسْبَةِ المَجمُوع لم يُسَمّ المجموع باسمٍ خاص في بدايته، وإنما ذكر فهرست ما في هذا المجموع من الرسائل. وسماه من نقل منه: فتاوى العلامة قاسم. وذكر أسماء الكثير من هذه الرسائل في ترجمته عند السخاوي. ولا شك أنّ هذا المجموع من تأليف العلامة ابن قطلوبغا. ويدل على ذلك: أسلوب المؤلف في طريقة عرضه للمسائل التي أوردها وهي تتشابه مع منهجه في كتبه المطبوعة وإشاراته فيها إلى أسماء بعض كتبه المؤلفة (ككتابه شرح مقدمة الفرائض)، وإقراءاته، وأسماء بعض شيوخه. والإشارات والنقولات من هذا المجموع عند من جاء بعده، كأمثال: البحر الرائق في شرح كنز الدقائق (4/ 423 - 424) حيث قال: رَأَيْت في فتاوَى الْعَلَّامَةِ قَاسِمٍ مَا صُورَتُهُ. . . وحاشية رد المحتار (4/ 343): سُئِلَ الْعَلَّامَةُ قَاسِمٌ في فَتَاوَاهُ. علمًا أن حاشية رد المحتار ذكرت بعض الرسائل بأسمائها (8/ 35 - 36):. . وَتَمَامُ ذَلِكَ في رِسَالَةِ تَحْرِيرِ الأَقْوَالِ في صَوْمِ السِّتِّ مِنْ شَوَّالٍ لِلعَلّامَةِ قَاسِمٍ.
وقال أيضًا عن رسالة قضاء القاضي (21/ 395 - . . .):. . . وَقَدْ ألَّفَ فِيهَا الْعَلَّامَةُ الْمُحَقِّقُ الشَّيْخُ قَاسِمٌ رِسَالَةً. وقال أيضًا عن رسالة القول القائم في بيان حكم الحاكم (21/ 427): مِنْ رِسَالَةِ الْعَلَّامَةِ قَاسِمٍ الْمُؤَلَّفَةِ في هَذه الْمَسْأَلَةِ.
مصادر المجموع
مَصَادِر المَجْمُوع اعتمد الإمام قاسم بن قطلوبغا على كثيرٍ من كتب الفقه والحديث وكتب التخريج والجرح والتعديل، وقد حاولت وسعي إخراج المصادر التي اعتمد عليها من بين دفتي هذا المجموع، مما يعطينا مؤشرًا يدل على سعة اطلاع هذا الإمام، وطول باعه في فنون الدين. وقد اعتمد -رحمه الله- على مصادر السنة الأصلية وأمهات المراجع المعتمدة. وفيما يلي عرض للمصادر الوارد ذكرها والتي منها: -كتاب الآثار. تأليف الحافظ محمد بن الحسن الشيباني المتوفى سنة 189 هـ. - الأحكام. تأليف عبد الله بن عبد الرحمن بن الفضل بن بهرام الدارمي المتوفى سنة 255 هـ. - أحكام القرآن. تأليف أبو بكر أحمد بن علي الرازي الجصاص المتوفى سنة 370 هـ. - أحكام القرآن. تأليف أبو بكر محمد بن عبد الله المعروف بابن العربي المالكي المتوفى سنة 543 هـ. - الأحكام الكبرى. تأليف عبد الحق بن عبد الرحمن بن سعيد الإشبيلي المتوفى سنة 582 هـ.
- أحكام الأوقاف. تأليف أبو بكر أحمد بن عمرو الشيباني المعروف بالخصاف المتوفى سنة 261 هـ. - الاختيار لتعليل المختار. تأليف أبو الفضل عبد الله بن محمود بن مودود ابن محمود الموصلي المتوفى سنة 683 هـ. - أدب القاضي. تأليف أبو بكر أحمد بن عمرو الشيباني المعروف بالخصاف المتوفى سنة 261 هـ. - أدب القاضي والفتوى. تأليف تقي الدين أبو عمرو عثمان ابن المفتي صلاح الدين عبد الرحمن بن عثمان بن موسى الكردي الشهرزوري الموصلي الشافعي. - الاستذكار. تأليف أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر المتوفى سنة 463 هـ. - إشارات الجامع. تأليف أبو الفضل عبد الرحمن الكرماني المتوفى سنة 543 هـ. - الأصل. تأليف الإمام محمد بن الحسن الشيباني المتوفى سنة 189 هـ. - الأم. تأليف محمد بن إدريس بن العباس القرشي الشافعي المتوفى سنة 204 هـ. - الإملاء. أملاه أبو يوسف. - الإمام في شرح الإلمام. تأليف تقي الدين محمد بن علي المعروف بابن دقيق العيد الشافعي المتوفى سنة 702 هـ.
- إنباء الغمر بأبناء العمر. تأليف أحمد بن علي بن محمد بن حجر المتوفى سنة 852 هـ. - الإيضاح. تأليف ركن الدين عبد الرحمن بن محمد المعروف بابن أمير ويه الكرماني الحنفي المتوفى سنة 543 هـ. - بدائع الصنائع. تأليف أبو بكر بن مسعود بن أحمد الكاشاني المتوفى سنة 587 هـ. - البداية مختصر الوقاية. - بيان الوهم والإيهام في الحديث. تأليف أبو الحسن علي بن محمد ابن عبد الملك الفاسي المعروف بابن القطان المتوفى سنة 629 هـ. - تاتارخانية في الفتاوى. تأليف عالم بن علاء الحنفي المتوفى سنة 286 هـ. - تاريخ بغداد. تأليف أبي بكر أحمد بن علي الخطيب البغدادي المتوفى سنة 463 هـ. - تاريخ يحيى بن معين المتوفى سنة 233 هـ. - التاريخ الكبير. تأليف محمد بن إسماعيل البخاري المتوفى سنة 256 هـ. - التجريد. تأليف أبو الحسين أحمد بن محمد بن جعفر البغدادي القدوري المتوفى 428 هـ. - التجريد الركني في الفروع. تأليف ركن الدين عبد الرحمن بن محمد المعروف بابن أميرويه الكرماني الحنفي المتوفى سنة 543 هـ.
- التحرير في أصول الفقه. تأليف كمال الدين ابن همام الحنفي المتوفى سنة 861 هـ. - التمهيد. تأليف أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر المتوفى سنة 463 هـ. - تتمة الفتاوى. تأليف برهان الدين محمود بن أحمد بن عبد العزيز الحنفي المتوفى سنة 616 هـ. - تحفة الفقهاء. تأليف محمد بن أحمد بن أبي أحمد أبو منصور السمرقندي المتوفى نحو 575 هـ. - التحقيق. تأليف صلاح الدين. ولم أعرفه. - تفسير البغوي (المشهور بمعالم التنزيل). تأليف أبو محمد الحسين ابن مسعود الفراء البغوي المتوفى سنة 516 هـ. - التقريب. تأليف أبو الحسين بن أبي بكر الفقيه البغدادي المعروف بالقدوري المتوفى سنة 428 هـ. - تنقيح التحقيق في أحاديث التعليق. تأليف شمس الدين محمد بن أحمد ابن عبد الهادي الحنبلي المتوفى سنة 744 هـ. - الثقات لابن حبان. تأليف محمد بن حبان أبو حاتم البستي المتوفى سنة 354 هـ. - جامع الأمهات. تأليف ابن الحاجب المتوفى سنة 646 هـ. - الجامع. تأليف نوح بن أبي مريم المتوفى سنة 173 هـ.
- الجامع الصغير في الفقه. تأليف عبد الرحمن بن محمد بن جسكا المتوفى سنة 374 هـ. - الجامع الكبير في فروع الحنفية. تأليف أبو الحسن عبيد الله بن حسين الكرخي الحنفي المتوفى سنة 340 هـ. - الجواهر. تأليف جلال الدين أبو محمد عبد الله بن نجم بن شاس بن نزار بن عشائر بن شاس الجذامي المالكي المتوفى سنة 616 هـ. - الحاوي القدسي في الفروع. تأليف القاضي جمال الدين أحمد بن محمد بن نوح القابسي الغزنوي الحنفي، المتوفى في حدود سنة 600 هـ. - خلاصة الفتاوى. تأليف طاهر بن محمد بن أحمد بن عبد الرشيد البخاري المتوفى سنة 542 هـ. - الخلاصة في أحاديث الأحكام. تأليف أبو زكريا يحيى بن شرف النووي المتوفى سنة 676 هـ. - درر البحار. تأليف شمس الدين القونوي المتوفى سنة 788 هـ. - الذخيرة. لعلها: لصاحب المحيط البرهاني المعروف بابن مازه المتوفى سنة 616 هـ. - راوي كتاب الفقه الأكبر عن أبي حنيفة. أبو مطيع البلخي الحكم بن عبد الله ابن سلمة بن عبد الرحمن القاضي الفقيه المتوفى سنة 197 هـ. - الروض الأنف في شرح غريب السيرة. تأليف عبد الرحمن بن عبد الله ابن أحمد السهيلي المتوفى سنة 581 هـ. - الروضة. تأليف أبو زكريا يحيى بن شرف النووي المتوفى سنة 676 هـ.
- السير. تأليف الإمام محمد بن الحسن الشيباني المتوفى سنة 189 هـ. - سنن سعيد بن منصور. تأليف سعيد بن منصور الخراساني المكي المتوفى سنة 227 هـ. - السنن. تأليف أحمد بن محمد بن هاني الخراساني الحنبلي. المتوفى سنة 270 هـ. - سنن ابن ماجه. تأليف محمد بن يزيد القزويني المتوفى سنة 273 هـ. - سنن أبي داود. تأليف سليمان بن الأشعث السجستاني المتوفى سنة 275 هـ. - سنن الترمذي. تأليف محمد بن عيسى بن سورة الترمذي المتوفى سنة 279 هـ. - سنن الدارقطني. تأليف علي بن عمر الدارقطني المتوفى سنة 385 هـ. - سنن الدارمي. تأليف عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي المتوفى سنة 255 هـ. - السنن الكبرى. تأليف أحمد بن الحسين بن علي بن عبد الله البيهقي المتوفى سنة 458 هـ. - سنن النسائي. تأليف أحمد بن شعيب بن علي بن سنان النسائي المتوفى سنة 303 هـ. - شراح الكنز. (هكذا جاء). - شرح الإيضاح. تأليف أبو الفضل عبد الرحمن الكرماني المتوفى سنة 543 هـ.
- شرح بيت المنظومة. تأليف محمد بن محمود بن محمد تاج الدين أبو المفاخر بن أبي القاسم السديدي الزوزني. - شرح الخرقي. تأليف الزركشي. - شرح صحيح مسلم. تأليف أبو الفضل عياض بن موسى بن عياض المتوفى سنة 544 هـ. - شرح الزيادات. تأليف الحسن بن منصور بن أبي القاسم محمود بن عبد العزيز الأوزجندي الفرغاني (قاضي خان) المتوفى سنة 592 هـ. - شرح القدوري. - شرح مجمع البحرين. تأليف الشيخ عبد اللطيف ابن فرشته. - شرح المشارق. تأليف محمد بن محمد بن محمود أكمل الدين البابرتي المتوفى سنة 786 هـ. - شرح المنار. تأليف عبد اللطيف بن فرشته. - شرح هداية أبي الخطاب. تأليف عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم ابن تيمية الحراني المتوفى سنة 652 هـ. - شرح مشكل الآثار. تأليف أحمد بن محمد بن سلامة الأزدي الطحاوي المتوفى سنة 321 هـ. - شرح معاني الآثار. تأليف أحمد بن محمد بن سلامة الأزدي الطحاوي المتوفى سنة 321 هـ. - شرح المهذب. تأليف أبو زكريا يحيى بن شرف النووي المتوفى سنة 676 هـ.
- شرح الوجيز. تأليف الرافعي المتوفى سنة 623 هـ. - صحيح البخاري. تأليف محمد بن إسماعيل البخاري المتوفى سنة 256 هـ. - صحيح مسلم. تأليف مسلم بن الحجاج القشيري النيسابوري المتوفى سنة 261 هـ. - صحيح ابن حبان. تأليف محمد بن حبان أبو حاتم البستي المتوفى سنة 354 هـ. - صحيح ابن خزيمة. تأليف محمد بن إسحاق بن خزيمة النيسابوري المتوفى سنة 311 هـ. - الضعفاء الكبير. تأليف محمد بن عمرو بن موسى بن حماد العقيلي المكي المتوفى سنة 322 هـ. - الطبقات الكبرى. تأليف محمد بن سعد بن منيع الهاشمي المتوفى سنة 230 هـ. - العارضة. تأليف أبو بكر محمد بن عبد الله المعروف بابن العربي المالكي المتوفى سنة 543 هـ. - علل الحديث. تأليف عبد الرحمن بن أبي حاتم محمد بن إدريس بن المنذر الرازي المتوفى سنة 327 هـ. - العمد. تأليف أحمد بن محمد بن عمر أبو العباس الناطفي المتوفى سنة 446 هـ. - عمدة الفتاوى. تأليف: الصدر الشهيد المتوفى سنة 536 هـ.
- غريب الحديث. تأليف أبو سليمان أحمد بن محمد بن إبراهيم الخطابي البستي المتوفى سنة 388 هـ. - الغاية. تأليف محمد بن علي السروجي المتوفى سنة 744 هـ. - فتاوى جمال الإسلام. - الفتاوى الصغرى. تأليف حسام الدين الشهيد المتوفى سنة 536 هـ. - فتاوى الظهيرية. تأليف أبو محمد، ظهير الدين أحمد بن أبي ثابت إسماعيل بن محمد أيدغمش الحنفي المتوفى سنة 600 هـ. - الفتاوى الفيريقية. - فتاوى قاضي خان وتسمّى: الفتاوى الخانية. تأليف الحسن بن منصور ابن أبي القاسم محمود بن عبد العزيز الأوزجندي الفرغاني المتوفى سنة 592 هـ. - فتاوى الملا الأعلى. - فتح القدير شرح الهداية. تأليف كمال الدين محمد بن عبد الواحد الشهير بابن الهمام المتوفى سنة 861 هـ. - الفروع. تأليف برهان الدين إبرهيم بن محمد بن عبد الله بن مفلح الحنبلي المتوفى سنة 884 هـ. - فصول الأسروشني. تأليف مجد الدين أبي الفتح محمد بن محمود الأسروشني الحنفي المتوفى سنة نيف وثلاثين وست مئة هجرية. - فصول العمادي في فروع الحنفية تأليف جمال الدين بن عماد الدين الحنفي.
- الفوائد. تأليف أبو حفص السفكردي. - قنية المنية على مذهب أبي حنيفة. تأليف أبي الرجاء نجم الدين مختار ابن محمود الزاهدي الحنفي المتوفى سنة 658 هـ. -كتاب حافظ الدين النسفي. هو: عمر بن محمد بن أحمد بن إسماعيل ابن محمد بن علي بن لقمان، نجم الدين، أبو حفص النسفي، له كتاب: طلبة الطلبة في اللغة على ألفاظ كتب فقه الحنفية، ونظم الجامع الصغير المتوفى سنة 537 هـ. -كتاب نظام الدين. - الكافي شرح الوافي. تأليف عبد الله بن أحمد بن محمود النسفي المتوفى سنة 710 هـ. - الكامل. تأليف أبو أحمد عبد الله بن عدي الجرجاني المتوفى سنة 365 هـ. - لسان العرب لابن منظور. - المبسوط. تأليف محمد بن أحمد بن أبي سهل السرخسي المتوفى سنة 483 هـ. - المبسوط. تأليف أبو بكر محمد بن الحسين بن محمد بن الحسن البخاري المعروف خواهر زاده المتوفى سنة 483 هـ. - مجمع البحرين. تأليف أحمد بن علي بن تغلب بن أبي الضياء البغدادي البعلبكي الأصل المنعوت بمظفر الدين المعروف بابن الساعاتي المتوفى سنة 690 هـ.
- المجموع شرح المهذب. تأليف أبو زكريا يحيى بن شرف النووي المتوفى سنة 676 هـ. - المحيط. تأليف برهان الدين ابن مازه المتوفى سنة 616 هـ. - المختصر. تأليف عبيد الله بن الحسين بن دلال بن دلهم، أبو الحسن الكرخي، المتوفى سنة 340 هـ. - المصفى شرح المنظومة النسفية. تأليف عبد الله بن أحمد بن محمود النسفي المتوفى سنة 710 هـ. - المحلى. تأليف أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم المتوفى سنة 456 هـ. - المسائل. تأليف أبو الفضل عبد الرحمن الكرماني المتوفى سنة 543 هـ. - المستدرك. تأليف أبو عبد الله محمد بن عبد الله المعروف بالحاكم النيسابوري المتوفى سنة 405 هـ. - مسند أبي يعلى الموصلي. تأليف أحمد بن علي بن المثنى التميمي الموصلي المتوفى سنة 307 هـ. - مسند الإمام أحمد. تأليف أحمد بن محمد بن حنبل المتوفى سنة 241 هـ. - مسند إسحاق بن راهويه. تأليف إسحاق بن إبراهيم بن راهويه المروزي المتوفى سنة 238 هـ. - مسند البزار. تأليف أحمد بن عمرو بن عبد الخالق البزار المتوفى سنة 292 هـ.
- مسند الشافعي. تأليف محمد بن إدريس الشافعي المتوفى سنة 204 هـ. - مسند الطيالسي. تأليف أبو داود الطيالسي سليمان بن داود البصري المتوفى سنة 204 هـ. - مسند الشاميين. تأليف سليمان بن أحمد الطبراني المتوفى سنة 360 هـ. - مصنف عبد الرزاق. تأليف عبد الرزاق بن همام الصنعاني المتوفى سنة 211 هـ. - مصنف ابن أبي شيبة. تأليف عبد الله بن محمد بن أبي شيبة الكوفي المتوفى سنة 235 هـ. - معاجم الطبراني. تأليف سليمان بن أحمد الطبراني المتوفى سنة 360 هـ. - معرفة السنن والآثار. تأليف أحمد بن الحسين بن علي بن عبد الله البيهقي المتوفى سنة 458 هـ. - المفيد والمزيد. تأليف تاج الدين عبد الغفار بن لقمان الكردي الحنفي المتوفى سنة 562 هـ. - المغني. تأليف موفق الدين أبو محمد عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة الحنبلي المتوفى سنة 620 هـ. - المنتظم في تاريخ الأمم. تأليف أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن الجوزي المتوفى سنة 597 هـ. - المنتخب في أصول المذهب. تأليف حسام الدين محمد بن محمد ابن عمر الأخسيكثي المتوفى سنة 644 هـ.
- المنتقى من أخبار المصطفى - صلى الله عليه وسلم -. تأليف مجد الدين أبو البركات عبد السلام بن عبد الله بن تيمية الحراني المتوفى سنة 652 هـ. - منظومة جلال الدين التباني. تأليف جلال بن أحمد بن يوسف بن طوع رسلان الثيري. - الموطأ. تأليف مالك بن أنس المتوفى سنة 179 هـ. - النهاية شرح الهداية. تأليف حسام الدين المعروف بالصغناقي الحنفي، المتوفى سنة 710 هـ. - النهاية في غريب الحديث. تأليف ابن الأثير الجزري المتوفى سنة 606 هـ. - النوادر. تأليف محمد بن شجاع الثلجي ويقال البلخي المتوفى سنة 266 هـ. - النوادر. تأليف هشام. (لم أعرفه). - النوادر. تأليف أبو عبد الله محمد بن سماعة بن عبيد بن هلال بن وكيع ابن بشر التيمي المتوفى سنة 233 هـ. - النوازل. تأليف هو نصر بن محمد بن أحمد بن إبراهيم السمرقندي المتوفى سنة 373 هـ. - الهداية في الفروع. تأليف برهان الدين علي بن أبي بكر المرغيناني المتوفى سنة 593 هـ. - الوافي في الفروع. تأليف عبد الله بن أحمد بن محمود النسفي المتوفى سنة 710 هـ.
- الواقعات. تأليف الحسام الشهيد. - وقاية الرواية في مسائل الهداية. تأليف برهان الشريعة محمود العبادي المحبوبي البخاري. - الوقف (تقدم بأحكام الوقف). تأليف أبو بكر أحمد بن عمرو الشيباني المعروف بالخصاف المتوفى سنة 261 هـ. - الينابيع في معرفة الأصول والتفاريع. تأليف أبو عبد الله محمد بن رمضان.
عملنا في المجموع
عَمَلُنَا فِي المَجْمُوعِ - نسخ المجموع. - وصف المخطوط. - صحة نسبة المجموع. - مصادر المجموع. - ترجمة ابن قطلوبغا. - ترجمة ابن أمير الحاج الحلبي. - ضبط الآيات القرآنية بالشكل. - ضبط الأحاديث النبوية بالشكل. - تخريج الآيات القرآنية الشريفة. - تخريج الأحاديث والآثار الشريفة. - ترجمة الأعلام الوارد اسمهم في المجموع قدر الإمكان. - شرح غريب الكلام. - مقابلة النصوص على أصولها حسب القدرة. - فهرس موضوعات المجموع.
ترجمة العلامة قاسم بن قطلوبغا
تَرْجَمَةُ العلَّامة قَاسِم بن قُطْلُوبغَا * اسمه ونسبه: هو الزين أبو العدل قاسم بن قُطْلُوبغا بن عبد الله المصري المشهور بقاسم الحنفي السودوني -نسبة لمعتق أبيه سودون الشيخوني- الجمالي. وجاء في هامش أمن القول المبتكر: قطلوبغا: لفظة تركية مركبة من: قطلو ومعناه: المبارك. وبغا ومعناه: الولد. وقطلو بضم القاف وسكون الطاء المهملة وضم اللام. * مولده: قال السخاوي: ولد فيما قاله في المحرم سنة اثنتين وثمان مئة بالقاهرة. * صفته: كان صابرًا متواضعًا متصوفًا ناب صوفية الأشرفية. وكان كثير العيال والأولاد فقد تزوج أكثر من مرة. * العلوم التي برع فيها: العربية والقراءات والتفسير والحديث ونقد الرجال والفقه والأصول والمنطق والكلام وسائر العلوم. وقد رزقه الله حافظة نادرة جعلته درة في جبين
مذهبه
ذلك العصر حيث قيل إنه أفرد زوائد متون الدارقطني أو رجاله على الستة عن ظهر قلب من غير نظر في كتاب. * مذهبه: كان مذهبه هو مذهب أبي حنيفة النعمان رحمه الله تعالى. * المناصب التي وليها: درس الحديث وعلومه بقبة البيبرسية عقب ابن حسان، ثم رغب عنه بعد ذلك وقرره جانبك الجداوي في مشيخة مدرسته التي أنشأها بباب القرافة ثم صرفه وقرر فيها غيره. ثم عين لمشيخة الشيخونية عند توعك الكافيجي بسفارة المنصور حين كان بالقاهرة عند الأشرف قاتيباي لكنه توفي قبل ذلك. وعين على قضاء الحنفية. * رحلاته العلمية: رحل إلى الشام والإسكندرية ومكة وبيت المقدس. * شيوخه: تتلمذ على علية القوم منهم الحافظ ابن حجر والتاج أحمد الفرغاني وابن الجزري والشهاب الواسطي والزين الزركشي والشمس ابن المصري والبدر حسين البوصيري والتقي المقريزي والعز ابن جماعة وعائشة الحنبلية والعز بن عبد السلام والشرف السبكي وغيرهم. * تلاميذه: تتلمذ على يديه الكثير نذكر من مشاهيرهم: الإمام السخاوي والبقاعي ومحب الدين ابن الشحنة وأبو الفضل العراقي.
ثناء العلماء عليه
* ثناء العلماء عليه: وصفه شيخه الحافظ ابن حجر بالإمام العلامة المحدث الفقيه الحافظ. قال السخاوي في وصفه: إمام علامة، طلق اللسان، قادر على المناظرة، مغرم بالانتقاد ولو لمشايخه، مع شائبة دعوى ومساجحة. ووصفه ابن الديري: بالشيخ العالم الزكي. وقال الزين رضوان في بعض مجاميعه: من حذاق الحنفية. وقال ابن العماد: العلامة المفنن. وقال البقاعي: الإمام العلامة المفنن. وقال ابن إياس: كان عالمًا فاضلًا فقيهًا محدثًا كثير النوادر. * مصنفاته: زادت مؤلفاته على التسعين ولم يقتصر على نوع واحد من التأليف بل حلق في أجواء متعددة في جميع العلوم: - القرآن وعلومه: 1 - تعليق على قطعة تفسير البيضاوي. 2 - غريب القرآن. 3 - القراءات العشر. 4 - رسالة في شرح البسملة. 5 - جواهر القرآن. - التخريج: 1 - إتحاف (تحفة) الأحياء بما فات من تخريج أحاديث الإحياء.
- الرجال وعلومه
2 - بغية الرائد في تخريج أحاديث شرح العقائد النسفية. 3 - تخريج أحاديث عوارف المعارف. 4 - تخريج أحاديث كنز الوصول إلى معرفة الأصول. 5 - تخريج أحاديث تفسير أبي الليث السمرقندي. 6 - تخريج أحاديث الأربعين في أصول الدين للغزالي. 7 - تخريج أحاديث جواهر القرآن للغزالي. 8 - تخريج أحاديث بداية الهداية للغزالي. 9 - تخريج أحاديث منهاج العابدين للغزالي. 10 - تخريج أحاديث الشفا للقاضي عياض. 11 - تخريج أحاديث عوالي القاضي بكار بن قتيبة. 12 - تخريج أحاديث شرح مختصر القدوري. 13 - تخريج أحاديث الكتب العشرة. [ذكره في التعريف]. 14 - التعريف والإخبار بتخريج أحاديث الاختيار (طبع في ثلاث مجلدات بتحقيق أستاذنا الشيخ: عبد الله محمد الدرويش). 15 - منية الألمعي فيما فات في تخريج أحاديث الهداية للزيلعي. - الرجال وعلومه: 1 - الاهتمام الكلي بإصلاح ثقات العجلي. 2 - تاج التراجم في طبقات الحنفية. 3 - تراجم مشايخ شيوخ العصر.
- الحديث وعلومه
4 - تراجم مشايخ المشايخ. 5 - ترتيب التمييز للجوزقاني. 6 - ترتيب الإرشاد في علماء البلاد للقزويني. 7 - تقويم اللسان في الضعفاء. 8 - الثقات ممن لم يقع في الكتب الستة. 9 - جمع أسئلة الحاكم للدارقطني. 10 - حاشية على التقريب لابن حجر. 11 - حاشية على المشتبه لابن حجر. 12 - رجال الموطأ برواية محمد بن الحسن. 13 - رجال الآثار لمحمد بن الحسن. 14 - رجال مسند أبي حنيفة لابن المقرئ. 15 - زوائد رجال الموطأ. 16 - زوائد رجال مسند الشافعي. 17 - زوائد رجال العجلي. 18 - معجم شيوخه. 19 - من روى عن أبيه، عن جده. 20 - الواقعات. - الحديث وعلومه: 1 - الأمالي على مسند أبي حنيفة.
- الفقه وعلومه
2 - ترتيب مسند أبي حنيفة على أبواب الفقه. 3 - ترصيع الجوهر النقي في تلخيص سنن البيهقي. 4 - ترجمة ذو النون المصري. 5 - تعليق على مسند الفردوس. 6 - حاشية على نزهة النظر لابن حجر. 7 - حاشية على شرح نخبة الفكر لتقي الدين الشمني. 8 - حاشية على شرح الألفية للعراقي. 9 - زوائد سنن الدارقطني على الستة. 10 - شرح كتاب جامع المسانيد لأبي المؤيد الخوارزمي. 11 - شرح غريب أحاديث شرح الأقطع على القدوري. 12 - شرح مصابيح السنة للبغوي. 13 - شرح القصيدة الغرامية. 14 - شرح منظومة ابن الجزري في علوم الحديث. 15 - عوالي الليث بن سعد. 16 - عوالي أبي جعفر الطحاوي. 17 - مسند عقبة بن عامر. 18 - منتقى من منتقى ابن الجارود. - الفقه وعلومه: 1 - إجازة الإقطاع.
2 - أحكام الشهادة والتزكية. 3 - أحكام الصلاة على الجنازة في المسجد. 4 - أحكام الفأرة إذا وقعت في الزيت. 5 - أحكام القهقهة. 6 - الأسوس في كيفية الجلوس بين السجدتين. 7 - الأصل في بيان الفصل والوصل. 8 - تحرير الأقوال في صوم الست من شوال. 9 - تحرير الأقوال في مسألة الاستبدال. 10 - الترجيح والتصحيح على القدوري. 11 - جامعة الأصول في الفرائض. 12 - حط الثمن والإبراء منه. 13 - حفر المربعات. 14 - حكم الإسلام في لحوم الخيل. 15 - حكم الخلع وحكم الحنبلي فيه. 16 - دفع المضرات عن الأوقاف والخيرات. 17 - رد القول الخائب في القضاء على الغائب. 18 - رسالة في قضاء القاضي. 19 - رفع الاشتباه عن مسائل المياه. 20 - رسالة في التراويح والوتر.
21 - رسالة في استبدال الوقف وشروط جوازه. 22 - رسالة فيها أجوبة عن بعض مسائل وقعت. 23 - شرح درر البحار في اختلاف المذاهب الأربعة للقونوي. 24 - شرح رسالة السيد في الفرائض. 25 - شرح فرائض السجاوندي. 26 - شرح فرائض مجمع البحرين لابن الساعاتي. 27 - شرح فرائض الكافي. 29 - (*) شرح المختار في فروع الحنفية لأبي الفضل الموصلي. 30 - شرح مختصر الطحاوي في الفروع. 31 - شرح مختصر الكافي في الفرائض لابن المجدي. 32 - شرح النقابة مختصر الوقاية في الفروع. 33 - طلاق المريض زوجته. 34 - العصمة عن الخطأ في نقض القسمة. 35 - الفوائد الجلة في مسألة اشتباه القبلة. 36 - في العدة. 37 - الفتاوى القاسمية. 38 - القول القائم في بيان تأثير حكم الحاكم. 39 - القول المتبع في أحكام الكنائس والبيع. 40 - القمقمة في مسألتي الجزء والقمقمة.
- أصول الفقه
41 - ما ينقض من القضاء. 42 - من يكفر ولا يشعر. 43 - موجبات الأحكام وواقعات الأيام. 44 - النجدات في السهو عن السجدات. 45 - نزهة الرائض في أدلة الفرائض. 46 - الوقف واشتراط النظر للأرشد فالأرشد. - أصول الفقه: 1 - الأجوبة عن اعتراضات العز ابن جماعة عن أصول الحنفية. 2 - تحرير الأنظار في أجوبة ابن العطار. 3 - حاشية على شرح تنقيح الأصول لنقره كار. 4 - حاشية على شرح منار الأنوار لابن ملك. 5 - خلاصة الأفكار شرح مختصر المنار لابن حبيب الحلبي. 6 - شرح الورقات لإمام الحرمين. - السيرة: 1 - تلخيص السيرة النبوية لمغلطاي. 2 - حاشية على مشارق الأنوار من صحاح الأخبار المصطفوية للإمام الصنعاني. 3 - منتقى من درر الأسلاك في قضاة مصر. 4 - تلخيص دولة الأتراك.
- النقد
- النقد: 1 - الأجوبة على اعتراضات ابن أبي شيبة على أبي حنيفة. 2 - تبصرة الناقد في كيد الحاسد في الدفع عن أبي حنيفة. - اللغة العربية: 1 - حاشية على حاشية التفتازاني. 2 - شرح مخمسة العز بن عبد العزيز الديريني. 3 - فصول اللسان. 4 - مختصر تلخيص المفتاح في البلاغة. 5 - تعليقة على الأندلسية في العروض. - علم الكلام: 1 - المسامرة بشرح المسايرة لابن الهمام. 2 - شرح منار النظر في المنطق لابن سينا. * مرضه ووفاته: أصيب بعسر البول ثم سلس البول. توفي -رحمه الله- بحارة الديلم ليلة الخميس رابع ربيع الأول سنة تسع وسبعين وثمان مئة وصلي عليه في الغد تجاه جامع المارداني في مشهد حافل ودفن على باب المشهد المنسوب لعقبة عند أبويه وأولاده. رحمه الله تعالى
مصادر الترجمة
* مصادر الترجمة: - الأعلام 5/ 180. - البدر الطالع 2/ 45. - شذرات الذهب 7/ 326. - الضوء اللامع 6/ 184 - 190.
ترجمة شمس الدين ابن أمير حاج الحلبي
تَرْجَمَةُ شَمْس الدِّين ابن أَمِيْر حَاج الحَلَبِيِّ (825 - 879 هـ = 1422 - 1474 م) * اسمه: محمد بن محمد بن حسن بن سليمان بن عمر بن محمد بن الحلبي الحنفي، شمس الدين بن أمير حاج، عالم البلاد الحلبية. * أولاده: - محمد المعروف بالموقت. - وابن أمير حاج (حفيده). * صفته: كان فاضلًا في فنون من العلم. * المناصب التي تولاها: أصبح مدرسًا بالجردكية، بارعًا في الوقت. ولذا: باشره بجامع بلده الكبير؛ وانتقلت وظيفة التوقيت والتدريس بعده لولده. * تصانيفه: 1 - تعريف المسترشد في حكم الغراس في المسجد. 2 - التقرير والتحبير، ثلاث مجلدات في شرح التحرير في أصول الفقه لابن الهمام. 3 - حلية المجلي في الفقه.
وفاته
4 - ذخيرة القصر في تفسير سورة {وَاَلعَصْرِ}. * وفاته: مات في رجب سنة تسع وسبعين وثمان مئة. * مصادر ترجمته: - الأعلام للزركلي (7/ 49). - الرسالة المستطرفة للكتاني (ص 196). - الضوء اللامع للسخاوي (9/ 210). - نظم العقيان في أعيان الأعيان للسيوطي (ص 54 ترجمة رقم 169).
صُوَر المَخْطُوطَات
صفحة المخطوط الأولى
صفحة المخطوط الثانية
صفحة المخطوط قبل الأخيرة
صفحة المخطوط الأخيرة
مَجْمُوعَةُ رَسَائِل العَلَّامَة قَاسِم بْنِ قُطْلُوبُغَا تَأْلِيفُ العَلَّامَة قَاسِم بْنِ قُطْلُوبُغَا الحَنَفِيّ المولود سَنَة 802 هـ والمتوفى سَنة 879 هـ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى حَقَّقَ نُصُوصِهِ وَخَرَّجَ أَحَادِيثِهِ وَعَلَّقَ عَلَيْهِ عبد الحميد محمد الدرويش عبد العليم محمد الدرويش
{كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو (¬1) الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} [الرحمن: 26، 27] فِهْرِسْت مَا في هذا المجموعُ مِن الرَّسَائِل تَأليفُ الشيخ قَاسِم بنِ قُطْلُوبغَا الحَنَفِيِّ -رحمه الله تعالى ونفعنا بعلومه في الدنيا والآخرة- * رفع (¬2) الاشتباه عن (¬3) مسائل المياه. * رسالة فيها أجوبة عن بعض مسائل وقعت. * أحكام الفأرة إذا وقعت في الزيت. * أحكام الصلاة على الجنازة في المسجد. * في التراويح والوتر. * الفوائد الجلّة (¬4) في مسألة اشتباه القبلة. * أحكام القهقهة -وقد أجاد فيها-. * الأصل في بيان الفصل والوصل. * الأسوس في كيفية الجلوس بين السجدتين. * تحرير الأقوال في صوم الست من شوال. ¬
* رسالة في قضاء القاضي. * في العدّة. * في حطّ الثمن والأبراء منه وصحّة ذلك. * مسائل في الشيوع. * أحكام الشهادة والتزكية. * القول القائم في بيان تأثير حكم الحاكم. * ما ينقض من القضاء. * تحرير الأقوال في مسألة الاستبدال. * في الوقف واشتراط النظر للأرشد فالأرشد. * سؤالات وأجوبة عنها. * في طلاق المريض زوجته. * في حفر المربعات. * حكم الخلع وحكم الحنبلي فيه. * تعريف المسترشد في حكم الغراس في المسجد للشيخ شمس الدين ابن أمير حاج الحلبي. تمّت فهرست الرسائل بحمد الله تعالى وعونه وحسن توفيقه ورضاه [1]. * * *
(1) رفع الاشتباه عن مسائل المياه
مَجْمُوعَةُ رَسَائِل العَلَّامَة قَاسِم بن قُطْلُوبُغَا [1] رَفْعُ الاشْتِبَاهِ عَنْ مَسَائِلِ المِيَاهِ تَأْلِيفُ العَلَّامَة قَاسِم بْنِ قُطْلُوبُغَا الحَنَفِي المولود سَنَة 802 هـ والمتوفى سَنة 879 هـ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -
بداية رفع الاشتباه
(1) رَفْعُ الاشْتِبَاهِ عَنْ (¬1) مَسَائِلِ المِيَاهِ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ربّ يسر ولا تعسر يا كريم ربّ تيمم بالخير الحمد لله، وبه أكتفي، وسلام على عباده الذين اصطفى، وَبَعْدُ: فإن سَيِّدَنَا وشيخنا صاحب التّقرير والتّحرير، مُنَقِّحَ أَغْصَانِ الفُروع والأُصُول، ومعدل عنوان المعقول والمنقول، أبو المعالي، زين الملّة والدين، شرف الدين، قاسم بن قطلوبغا الحنفي، عامله الله بلطفه الخفي، وأدامَ النَّفْعَ بِهِ بِمُحَمَّدٍ وَآلِهِ قَالَ: لما منع علماؤنا - رضي الله عنهم -، من كان له أهلية النظر من مَحْضِ تقليدهم على ما رواه الشيخ الإمام العالم العلامة أبو إسحاق إبراهيم بن يوسف قال: حدثنا أبو يوسف، عن أبي حنيفة -رحمه الله- أنه قال: لاَ يَحِلُّ لأَحَدٍ أَنْ يُفْتِي بِقَوْلنَا مَا لَمْ يَعْرِفْ مِنْ أَيْنَ قُلْنَاهُ (¬2). وَتتبَّعْتُ مآخذهم (¬3) وحصلت منها بحمد الله تعالى على الكثير، ولم أقنع ¬
بتقليد ما في صحف كثيرة من المصنفين، فاتفق وقوع كلامٍ عَلَى مسألة البئر مع بعضٍ، فذكرت شيئًا من إثبات تحقيق المناط (¬1)، فلم يكن عند التكلم معي شعور بحقيقة الحال، ورأى أن أحدًا في هذا العصر لا يصحُّ منه. قلتُ: الصحيح (؟). فنظر في كتب الأصحاب، وتتبع ما أمكنه فعلهُ، ثم جاء محتجًّا عليَّ بقول صاحب الاختيار "والأصل: أن الماء القليل ينجس بوقوع النجاسة فيه، والكثير: لا". ولقوله عليه السلام في البحر: " هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُه" (¬2). واعتبرناه، فوجدناه ¬
ما لا يخلص بعضه إلى بعض. فنقولُ: كل ما لا يخلص بعضه إلى بعض لا ينجس بوقوع النجاسة فيه، فهذا معنى قولهم: لا يتحرك طرفيه بتحريك الطرف الآخر. واعتبر المشايخ الخلُوصَ بالمساحةِ فوجدوه عشراً في عشر، فقد رووه بذلك تيسيرًا. وقال أبو مطيع (¬1): إذا كان خمسة عشر في خمسة عشر لا يتخلص. أما عشرون في عشرين لا أرى في نفسي منه شيئًا، وإن كان له طول ولا عرض له. فالأصح: أنه لو كان بحال لو ضم طوله إلى عرضه يصير عشرًا في عشر، فهو يصير عشرًا في عشر، فهو كثير. والمختار في العمق: ما لا ينحسر أسفله بالغرف، ثم إن كانت النجاسة مرئية لا يتوضأ من موضع الوقوع المتيقن بالنجاسة برؤية عينها، وإن كانت غير مرئية، فلو توضأ منها جاز لعدم التيقن بالنجاسة لاحتمال انتقالها. ¬
الماء القليل ينجس بوقوع النجاسة فيه، والكثير: لا
ومنهم من قال: لا يجوز أيضًا؛ لأن الظاهر بقاؤها في الحال. انتهى. فذكرت له ما في هذا من الفساد. فأجاب: بأن هذا رجلًا متقدم مصنف، فاختصرت الكلام عند ظهور المقام، ثم سألني من يتعين إجابته أن كتب له ما صدر مني في بيان فساد الكلام المتقدم، وما لي في المسألة من تحقيقٍ، وما كنت ذكرت له من مسألة: الماء المستعمل. وقلت مستعيناً بالله سبحانه وتعالى إنه حسبي ونعم الوكيل: قوله: والكثير لا، باطل لإجماع الأمة على الماء الكثير، إن يتغير بنجسٍ ينجس. قوله: كل ما لا يخلص بعضه إلى بعض لا ينجس بوقوع النجاسة فيه. هذا باطلٌ [بإجماعِ الأمة] (¬1) بما تقدّم. ومنقوض بما ذكره بعدُ من قوله: ثم إن كانت النجاسة مرئية لا يتوضأ من موضع الوقوع للتيقن بالنجاسة برؤية عينها. ومما ذكره بعد ذلك أيضًا، من قوله: ولو وقعت جيفة في نهرٍ كبيرٍ لا يتوضأ من أسفل الجانب الذي فيه الجيفة. وهذا أبلغ؛ لأنه مع الكثرة جاز قوله. وهذا معنى قولهم: لا يتحرك أحد طرفيه بتحريك الطرف الآخر. يتوقف بيان فساده على مقدمة وهو: أن الكلام ليس في بيان نهاية الكثرة؛ لأن أكثر ما لا يخلص بعضه إلى بعض، وأكثر ما لا يتحرك أحد طرفيه بتحرك الطرف الآخر، إنما تحقق في نحو الطرفان، بل الكلام في أقل ما لا يخلص بعضه إلى بعض ليكون مبتدأ حد الكثرة، ويتحقق مقابلة الذي هو نهاية حد ¬
روايات اعتبار التحريك
القلة، وأنه قد روي في اعتبار التحريك ثلاث روايات: أحدها: عدم التحريك بالاغتسال [2/ ب]. وهي رواية أبي يوسف، عن أبي حنيفة. ثانيها: عدم التحريك بالوضوء. وهي رواية محمَّد، عن أبي حنيفة. ثالثها: عدم التحريك الكثير. إذا عرف هذا فيقال: إن كان أقل ما لا يخلص بعضه إلى بعض هو أقل ما لا يتحرك بالاغتسال يكون بالضرورة أقل ما لا يتحرك بالتوضؤ مما يخلص، فيكون في حد القلة، والرواية مبدأ حد الكثرة. وكذا أقل ما لا يتحرك بالتوضؤ يكون مما يتحرك بالاغتسال بالضرورة، وكذا أقل ما لا يتحرك بغسل اليد يكون ما لا يتحرك بالتوضؤ، فلا يتصور أن يكون أقل ما لا يخلص بعضه إلى بعض هو أقل ما لا يتحرك أحد طرفيه بتحرك الطرف الآخر على اعتبار الروايات كلها للتنافي، وإن كان على اعتبار التحريك بأحد الروايات فليس في الكلام ما يفيده، ولا يصح له وجهٌ؛ لأنه امتحان أمرٍ حسيٍّ بأمرٍ حسيٍّ. قوله: وامتحن المشايخ الخلوص بالمساحة فوجدوه عشراً في عشر. يتأتى في فساده ما تقدم؛ لأنهم إن كانوا امتحنوا ما لا يخلص بحركة الاغتسال ورد عليه رواية التوضع، وغسل اليد إلخ ما قدمناه. وفيه: مخالفة لما ذكروه في عامة الكتب المطولات، عن محمَّد -رحمه الله-: أنه سئل عن الغدير العظيم. فقال: قدر مسجدي هذا، وذرع (¬1) فكان عشراً في عشر من خارج الجدار إلى آخره. ¬
ولما قاله نوح الجامع (¬1) في جامعه، عن محمَّد -رحمه الله-: أنه كان يوقت عشرًا في عشر. ولفظ المشايخ في عرفهم يراد به من بعد أبي حنيفة وصاحبيه. وإذا كانت المسألة منصوصة عن أحد الثلاثة، لا يقال فيها: امتحن المشايخ. . . إلخ. قوله: وقال أبو مطيع: إذا كان خمسة عشر في خمسة عشر لا يخلص. يقال للمصنف: لو كان امتحان المشايخ على ما ذكرت لم يتصور أن يقع فيه خلاف؛ لأن ما وجد على كمية مخصوصة لا يعقل مخالفته، وإن كان قول أبي مطيع على اعتبار التحريك بالاغتسال [3/ أ]. وقول المشايخ الذي نسب إليهم الامتحان بعشر على اعتبار غير الاغتسال نفى قوله. وهذا معنى قولهم: لا يتحرك. . . إلى آخره إلباسٌ. وعلى هذا: فالخمسة عشر أعلى الاعتبارات، فما معنى قوله بعد ذلك: أما العشرون في العشرين فلا أجد في نفسي منه شيئًا؟. ¬
قوله: وإن كان له طول ولا عرض له، فالأصح: أنه لو كان بحال لو ضم طوله إلى عرضه يصير عشرًا في عشر، فهو كثير مبني على أنّ للكثرة أثرًا، وسيأتي ما يظهر به فساده. قوله: والمختار في العمق ما لا ينحسر أسفله بالغرف، مقابل هذا المختار: ذراع وشبر وعرض السيال وما يستر وجه الأرض. وفيه دليل على فساد ما تقدم، وذلك: أن امتحان الخلوص بالاغتسال، لا يتصور في حد العمق، ولا يمكن أن يقال فيه بطريق الفرض؛ لأن الكلام في أنهم امتحنوا ما لا يخلص بنفسه بفعل حسّي وهو الاغتسال على زعمه، ثم ذرعوا ما لا يتحرك فوجدوه عشراً في عشر. هذا ظاهر كلامه على ما لا يخفى. قوله: ثم إن كانت النجاسة مرئية، لا يتوضأ من موضع الوقوع. يقال له: إذا كان الحكم هذا، فأين الأصل الذي ادعيته؟! وهو: أن الكثير لا ينجس, وكيف خرج هذا عن دليل الأصل الذي أوردته وهو الحديث به، فيلزمك أحد أمرين: إما عدم صحة الأصل الذي ادعيته. أو عدم صحة دلالة الحديث عليه، أو مخالفة الحديث بالرأي. قوله: لاحتمال انتقالها. إذا كان فرض المسألة في نجاسة مائعة وقعت في ماءٍ راكدٍ، فأين تنتقل، وهل لا يجري هذا الاحتمال في البئر إذا وقعت فيها نجاسة مائعة ونزح بعضها.
قوله: ومنهم من قال: لا يجوز أيضًا؛ لأن الظاهر بقاؤها في الحال طاهر السوق. إن هذا مرجوح بالنسبة إلى المتقدّم، وقد صرّح بذلك صاحب التحفة والبدائع (¬1) على ما يأتي (¬2)، فقال له: قد علم أن الحكم يكون مع الظاهر، إلا أن يقوم دليل يخالفه، فكيف [3/ ب] كان الراجح هنا بخلاف الظاهر بلا دليل. واحتمال الانتقال، قد علمت ما فيه، ثم مفهوم قوله: بقاؤها في الحال: أنه إذا أتى عليها زمان، بأن يجوز بلا خلاف ولم يظهر له وجه؛ لأنه متى حكم بنجاسته في الحال للاختلاط لا يحكم بطهارته بعد الاستهلاك، وهذا الكلام وإن كان قد سبق إليه الشيخ علاء الدين السمرقندي (¬3) في التحفة (¬4)، حيث قال: وأما إذا كان الماء راكداً، [فقدِ] (¬5) اختلف العلماء [فيه] (¬6). ¬
الروايات في تحديد الكثير
قال أصحاب الظواهر: بأن الماء لا ينجس بوقوع النجاسة فيه كيفما كان، لقوله عليه السلام: "خُلِقَ الْمَاءُ طَهُوراً (¬1) لاَ يُنَجِّسُهُ شَيءٌ" (¬2). وقال عامّة العلماء: إن كان الماء قليلاً ينجس, وإن كان كثيرًا لا ينجس. واختلفوا في الحد الفاصل بينهما: فقال مالك: إن كان بحال يتغيّر طعمه، أو لونه، أو ريحه، فهو قليلٌ (¬3)، وإن كان لا يتغيّر فهو كثيرٌ. وقال الشافعي: إذا بلغ الماء قلتين، فهو كثيرٌ لا يحمل (¬4) الخبثَ، لورود الحديث. ¬
وقال العلماء - رضي الله عنهم - (¬1): إن كان الماء بحالٍ يخلص بعضه إلى بعض، فهو قليلٌ، وإن كان لا يخلص [بعضه إلى بعض] (¬2)، فهو كثيرٌ. واختلفوا في تفسير الخلوص: اتفقت الروايات عن أصحابنا (¬3) المتقدمين: أنه يعتبر بالتحريك، فإن تحرك طرفٌ منه بتحريك (¬4) الجانب الآخر، فهذا مما يخلص، وإن كان لا يتحرك فهو مِمَّا لا يخلص. ولكن في رواية أبي يوسف، عن أبي حنيفة: يعتبر التحريك بالاغتسال. وفي رواية محمَّد: [يُعتَبَرُ التحريك] (¬5) بالوضوء. والمشايخ المتأخرون اعتبر بعضهم الخلوص بالصبغ، بالتحريك (¬6)، بالتكدير. وقال بعضهم (¬7): بالمساحة إن كان عشراً في عشر، فهو مما لا يخلص، وإن كان دونه فهو مما يخلص، وبه أخذ مشايخ بَلْخٍ (¬8). ¬
ثم إن كانت النجاسة [غير] (¬1) مرئية، مثل أن يبول (¬2) فيه إنسان، أو اغتسل فيه جنبٌ، اختلف المشايخ فيه: قال مشايخ العراق: بأن حكم المرئية وغير المرئية سواء، فإنه (¬3) لا يتوضأ من الجانب الذي وقعت [4/ أ] فيه النجاسة، وإنما يتوضأ من الجانب الآخر، بخلاف الماء الجاري. ومشايخنا فصلوا بين الأمرين، كما قالوا جميعًا في الماء الجاري، وهو الأصح. انتهى (¬4). وتبعه الشيخ الإِمام أبو بكر الكَاسَانِيُّ (¬5). . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
في البدائع (¬1) فقال: فإن (¬2) كان راكدًا، فقد اختلفَ فيهِ: قال أصحاب الظَّواهر: إنَّ الماء لا ينجس بوقوع النَّجاسة فيه أَصلًا، سواءٌ كان جارياً أَوْ راكدًا، وسواءٌ كان قليلًا أو كثيراً، تغَيَّر لونه، أو طعمه، أو ريحه، أو لم يتغيَّر. وقال عامَّة العُلماءِ: إن كان الماء قليلًا ينجسُ، وإن كان كثيرًا لا ينجسُ، لكونهم (¬3) اختلفوا في الحدّ الفاصل بين القليل وَالكثير. قال مالكٌ: إن تغيَّر لونه أو طعمه أو ريحه فهو قليل، وإن لم يتغيَّر فهو كثير. وقال الشَّافعيُّ: إذا بلغ الماء قلَّتين، فهو كثيرٌ. والقلَّتان عنده: خمس قِرَبِ، كلُّ قِربَةِ خمسون مَنًّا، فيكون جملته: ¬
مئتينِ وخمسين منًّا. وقال أصحابنا: إن كان بحالٍ، يخلص بعضه إلى بعضٍ، فهو قليلٌ، وإن كان لا يخلص فهو كثيرٌ. فأَمَّا أصحاب الظواهر، فاحتجوا بظاهر قول النَّبي - صلى الله عليه وسلم -: "الْمَاءُ طَهُوْرٌ لاَ يُنَجِّسُهُ شَيءٌ" (¬1). [واحتجَّ مالكٌ بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "خُلِقَ الْمَاءُ طَهُوراً لاَ يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ] (¬2)، إلاَّ مَا غَيّرَ لَوْنَهُ، أَوْ طَعْمَهُ، أَوْ ريحَه" (¬3)، أو بني (¬4) العامَّ على الخاصِّ عملًا بالدَّليلين (¬5). واحتجَّ الشَّافعي - رضي الله عنه - يقول النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم -: "إِذَا بَلَغَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ لاَ يَحْمِلُ خَبَثاً" (¬6). أَيْ: يدفعُ الخبث عن نفسه. ¬
وقال (¬1) الشَّافعيُّ: قال ابن جريج: أراد بالقلَّتينِ: قِلاَلَ هَجَرَ، كلُّ قُلَّةٍ تسع فيها قربتين وشيئًا (¬2) (¬3). قال الشَّافعيُّ: و [هو] (¬4) شيءٌ مجهولٌ، فقدَّرته بالنِّصف احتيَاطًا. ولنا: ما روي عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال: "إذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدَكُمْ مِنْ مَنَامِهِ، فَلاَ يَغْمِسْ (¬5) يَدَهُ في الإنَاءَ حَتَّى يَغْسِلَهَا ثَلاثاً، فَإِنهُ لاَ يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ" (¬6). ولو كان الماء لا ينجس بالغمس، لم يكن للنَّهي والاحتياط؛ لوَهمِ (¬7) النَّجاسة معنًى، وكذا الأخبَار مستفيضة (¬8) في الأمر (¬9) [4/ ب] ¬
بغسل [الإناءِ] (¬1) من ولوغ الكلبِ، مع أنَّه لا يغيِّر لونه، ولا طعمه، ولا ريحه. وروي عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال: "لاَ يَبُولُ أَحَدَكُمْ في الْمَاءِ الرَّاكِدِ، وَلاَ يَغْتَسِلُ (¬2) فِيهِ مِنْ جَنَابَةٍ" (¬3)، من غير فصلٍ [بَيِّنٍ] (¬4) بينَ دائمٍ ودائمٍ. وهذا نَهيٌ عن تنجُّس (¬5) الماء؛ لأنَّ البول والاغتسال فيما لا يتنجَّس (¬6) لكثرته ليس بنهيٍ (¬7)، فدلَّ على كون الماء الدَّائم مطلقًا محتملاً للنَّجاسة (¬8)، إذ النَّهي عن تنجُّس (¬9) ما لا يحتمل النَّجاسة ضربٌ من السَّفَهِ (¬10). ¬
وكذا الماء الَّذي يمكن الاغتسال فيه يكون أكثر من قلَّتينِ، والبَولُ (¬1) والاغتسال فيه لا يغيِّر لونه، ولا طعمهُ، ولا ريحهُ. وعن ابن عبَّاسِ وابن الزُّبير - رضي الله عنهم - (¬2): أنَّهُما أَمَرَا في زِنْجِيٍّ وَقَعَ في بِئْرِ ¬
زَمْزَمَ بِنَزْحِ (¬1) مَاءِ البِئرِ كُلِّهِ، وَلَمْ يَظْهَرْ أثرُه (¬2) في الْمَاءِ وكَانَ الْمَاءُ أكثَرَ مِنْ قُلَّتَيْنِ، وذلك بمحضرٍ من الصَّحابة - رضي الله عنهم -، ولم ينكر عليهما أحدٌ، فانعقدَ الإجماع من الصَّحابة على ما قلنَا. وعرف بهذا الإجماع: أنَّ المُراد بما رواه مالكٌ: هو الماء الكثير الجاري (¬3). وبه تبيَّن: أن ما رواه الشافعيُّ غير ثابتٍ؛ لكونه مخالفًا لإجماع الصحابة - رضي الله عنهم -. وخبرُ الواحدِ إذا ورد مخالفًا للإجماع يردُّ. [يدلُّ] (¬4) عليه: أنَّ علي بن المديني قال: لا يثبت هذا الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬5). وقال أبو داود (¬6): لا يكادُ يصحُّ لواحدٍ من الفريقين حديثٌ عن النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - ¬
في تقدير الماء (¬1). ولهذَا: رجع أصحابنا في التَّقدير إلى الدَّلائل الحسِّيَّة دون الدَّلائل (¬2) السَّمعيَّة، ثمَّ اختلفوا في تفسير الخلوص، فاتَّفقت الرِّوايات عن أَصْحابنا: أنه يعتبر الخلوص بالتَّحريك، وهو: أنَّه إن كان بحالِ لو حرِّك طَرَفٌ منه يتحرَّك (¬3) الطَّرف الآخرُ، فهو ممَّا يخلص. وإن كان لا يتحرَّك فهو ممّا لا يخلص، وإنَّما اختلفوا في جهة التَّحريك: فروي عن أبي يوسف (¬4)، عن أبي حنيفة: أنَّه يعتبر التَّحريك بالاغتسال من غير عنف. وروى محمَّد عنه: أنَّه يعتبر التَّحريك بالوضوء. وفي روايةِ: باليد من غير [5/ أ] اغتسالٍ ولا وضوءٍ. واختلف المشايخ: فالشَّيخ أبو حفص الكبير البخاريُّ (¬5): اعتبر الخلوص بالصَّبغ. ¬
وأبو نصرٍ (¬1) محمَّد بن محمَّد بن سلاَّم: اعتبره بالتَّكدير (¬2). وأبو سليمان الجوزجانيُّ (¬3): اعتبره بالمساحة، فقال: إن كان عشرًا (¬4) في عشرٍ، فهو ممَّا لا يخلص، وإن كان دونه فهو ممَّا يخلص. وعبد الله بن المبارك: اعتبره بالعشرة أوَّلاً، ثم بخمسة عشر. وإليه ذهب أبو مطيع البلخيّ (¬5)، فقال: إن كان خمسة عشر في خمسة عشر أرجو أن يجوز، وإن كان عشرين في عشرين لا أجد في قلبي شيئًا. وروي عن محمَّد: أنَّه قدَّره بمسجده، فكان مسجده ثمانٍ في ثمانٍ. وبه أخذ محمد بن سلمة. وقيل: كان مسجده عشرًا في عشرٍ. وقيل: مسح مسجده فوجد داخله ثمانٍ في ثمانٍ،. . . . . . . . . . . . ¬
وخارجه عشرًا في عشرِ (¬1). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
إلى أن قال (¬1): ثم إنَّ النَّجاسة إذا وقعت في الحوض الكبير كيف يتوضَّأ منه؟ فنقول: النَّجاسة لا تخلو، إمَّا أن تكون مرئيَّة، أو غير مرئيَّةٍ، فإن كانت مرئيةً كالجيفة ونحوها، ذكر في ظاهر الرِّواية: أنَّه لا يتوضَّأ من الجانب الَّذي فيه الجيفة (¬2)، و [لكن] (¬3) يتوضَّأ من الجانب الآخر، ومعناه: أنَّه يترك من موضع النّجاسة بقدر حوض صغيرٍ (¬4) ثم يتوضَّأ، كذا فسَّره في الإملاء عن أبي حنيفة؛ لأنَّا تيقَّنَّا بالنَّجاسة في ذلك الجانب وشككنا فيما وراءه (¬5). وروي عن أبي يوسف: أنَّه يجوز التَّوضُّؤ من أيِّ جانبٍ كان إلَّا إذا تغيَّر لونهُ، أو طعمهُ، أو ريحهُ؛ لأنَّ حكمهُ حكمُ الماء الجاري. ولو وقعت الجيفة في وسط الحوض -على قياس ظاهر الرِّواية- إن كان بين الجيفة وبين كلِّ جانبٍ من الحوض مقدار ما لا يخلص بعضه إلى بعضٍ، يجوز التَّوضُّؤ فيه وإلاَّ فلا؛ لما ذكرنا. ¬
وإن كانت غير مرئيَّةٍ بأن بال فيها (¬1) إنسانٌ أو اغتسل جنبٌ، اختلف المشايخُ فيه (¬2): قال مشايخ العراق: إنَّ حكمه حكم المرئيَّة، حتَّى لا يتوضَّأ من ذلك الجانب، وإنَّما يتوضَّأ من الجانب الآخر لما ذكرنا [5/ ب] في المرئيَّة بخلاف الماء الجاري؛ لأنَّه ينقل النَّجاسة من موضعٍ إلى موضعٍ، فلم يستيقن (¬3) بالنَّجاسة في موضع الوضوء ومشايخنا بما (¬4) وراء النَّهر فصلوا بينهما، ففي (¬5) غير المرئيَّة: أنّه يتوضَّأ من أني جانبٍ كان، كما قالوا جميعًا في الماء الجاري، وهو الأصحّ؛ لأنَّ غير المرئيَّة لا يستقرّ [في مكان واحدِ بل ينتقل لكونه مائعًا سيَّالًا بطبعه، فلم نستيقن بالنَّجاسة] (¬6) في الجانب الَّذي يتوضَّأ منه، فلا نحكم بنجاسته (¬7) بالشَّكِّ على الأصل المعهود: إن اليقين لا يزول بالشَّكِّ -بخلاف المرئية-. انتهى (¬8). وكان قبل هذا قال (¬9): فإن وقع في الماء، فإن كان جارياً، فإن كان ¬
النَّجس غير مرئيٍّ كالبول والخمر ونحوهما لا ينجس, ما لم يتغيَّر لونه أو طعمه أو ريحه، ويتوضَّأ منه من أيِّ موضعٍ كان من الجانب الَّذي وقع فيه النَّجس أو من الجانب الآخر (¬1). كذا ذكره محمَّد في كتاب الأشربة: لو أنَّ رجلًا صبَّ خابيةً من خمرٍ في الفرات (¬2)، ورجلٌ آخر -أسفل منهُ- يتوضَّأ به إن تغيَّر لونه أو طعمه أو ريحه لا يجوز، وإن لم يتغيَّر يجوز. وعن أبِي حنِيفة في جاهِلٍ (¬3) بال في الماءِ الجارِي، ورجلٌ أسفل منه يتوضَّأ بِهِ قال: لا بأس بِهِ؛ وهذا لأنَّ الماء الجارِي مِمَّا لا يخلص بعضه إلى بعض، فالماء الَّذي يتوضَّأ به يحتمل أنَّه نجس, ويحتمل أنَّه طاهر، والماء طاهر في الأصل فلا نحكُم (¬4) بنجاسته بالشَّكِّ، وإن كانت النَّجاسة مرئيَّة كالجيفة ونحوِها، فإن كان جميع الماء يجري على الجيفة لا يجوز الوضوء (¬5) من أسفل الجِيفةِ؛ لأنَّه (¬6) نجس بيقين، والنَّجس لا يطهر بالجريان، وإن كان أكثره يجري على الجيفة فكذلك؛ لأنَّ العبرة لِلغالب، وإن كان أقلُّه يجري على الجِيفةِ، والأكثرُ يجري على الطَّاهِر يجوز التَّوضُّؤ به من أسفل ¬
الجِيفة؛ لأنَّ المغلوب (¬1) ملحقٌ بالعدمِ في أحكام الشَّرع، وإن كان يجري عليها النِّصف أو دون النِّصف. فالقياس: أن يجوز التَّوضؤ به؛ لأنَّ الماء كان طاهرًا (¬2) بيقين، فلا يحكم بكونه (¬3) نجساً بالشَّكِّ. وفي الاستحسان: لا يجوز [6/ أ] احتياطًا. انتهى (¬4). وفيه: ما في الأول وزيادة، وأنا أبيَّن لك ذلك. قوله: وقال أصحاب الظواهر: إن الماء لا ينجس بوقوع النجاسة. يتبادر منه: أنه يجوز استعماله عندهم، حيث لم يحكم بتنجيسه، وليس كذلك. بل قالوا: لا تنجس الجواهر المائية في نفسها, ولكن لا تستعمل لاتصال النجاسة بها، وعدم إمكان تمييزها من النجاسة. قال الحافظ علي بن حَزم في كتابه المسمَّى بالمحلَّى (¬5): وأمَّا إذا تغيَّر لونُ الحلال الطَّاهر بما مازجه (¬6) من نجسٍ أو حرامٍ وتغيَّر (¬7) طعمه بذلك، ¬
أو تغيَّر ريحه بذلك، فإنَّا (¬1) حينئذِ لا نقدرُ (¬2) على استعمالِ الحلال إلَّا باستعمال الحرام، واستعمال الحرام في الأكل والشُّرب وفي الصَّلاة حرامٌ (¬3) كما قلنا, ولذلك (¬4) وجب الامتناع منه، لا لأنَّ الحلال الطَّاهر حرِّم و [لا] (¬5) تنجَّست عينه، ولو قدرنا على تخليص الحلال الطَّاهر من الحرام والنَّجس (¬6)، لكان حلالًا بحسبه (¬7). قوله: وإن كان كثيرًا لا ينجس هذا لم يقل به العامة. هكذا به قيّد، ولا بعدم التغير. فقالوا: لا ينجس ما لم يتغير. قوله: وقال أصحابنا: إن كان بحال يخلص بعضه إلى بعض فهو قليل، وإن كان لا يخلص فهو كثيرٌ. هذا يوهم: أن أصحابنا يقولون في الكثير: أنه لا ينجس جميعه، وليس كذلك، وفروعهم ناطقة بأنه ينجس كله التقديري، وبعضه الحقيقي كما مر. وسنحقق هذا إن شاء الله تعالى. وأما مساق حدثنا المستيقظ ففيه ما قاله شيخنا في شرح الهداية (¬8): ¬
قلنا: ليس فيه تصريحٌ بتنجس الماء بتقدير كون اليد نجسة، بل ذلك تعليل منّا للنهي المذكور، وهو غير لازم، أعني: تعليله بتنجس الماء عينًا بتقدير نجاستها بجواز كونه أعم من النجاسة والكراهة. فنقول: نهى لتنجس الماء بتقدير كونها متنجسة بما يغيّر، والكراهة بتقدير كونها بما لا يغير. انتهى. ¬
قوله: وكذا الأخبار مستفيضة في الأمر بغسل الآثار من ولوغ الكلب فيه: أن الأمر بالغسل لا يلزم، وأن يكون للنجاسة [6/ ب] لجواز أن يكون لمنع تعدي خبث الطبع. قوله: وروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنهّ قال: "لاَ يبولَنَّ أَحَدَكُمْ في الْمَاءِ الدَّائِم، وَلاَ يَغْتَسِلُ فِيهِ" (¬1) مِنْ نَجَاسَةٍ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَين دَائِمٍ وَدائِمٍ. يقال عليه: انظر هل أنت من أكبر مخالفي هذا الحديث حيث قلت أنت ومشايخك: إنه يتوضأ من الجانب الآخر في المرئية، ويتوضأ من أيّ جانبٍ كانَ في غير المرئية، كما إذا بالَ فيه إنسان أو اغتسل جنبٌ أم أنت من العاملين ¬
به، فإنه لا أعجب ممن يستدل بحديثٍ هو أحد من خالفه!!. قوله: وعن ابن عبّاسٍ، وابن الزبير - رضي الله عنهما -: أنهما أمرا في زنجيٍّ وقع في بئر زمزمٍ بنَزح الماءِ كلّه، ولم يظهر أثره في الماء (¬1). قوله من قبل نفسهِ (¬2)، لاَ من الأثر المروي. قاله الشافعي في القديم (¬3). قد رويتم عن ابن عبّاس رفعه: "الْمَاءُ لاَ يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ" (¬4). أفترى أنَّ ابن عبَّاسٍ يروي عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - خبرًا ويتركه، إن كانت هذه روايته. وتروون عنه: أَنَّهُ تَوَضَّأَ مِنْ غَدِيرٍ يُدَافعُ جِيفَةً. ¬
وتروون عنه: "الْمَاءُ لاَ يَنْجُسُ" (¬1). فإن كان شيء (¬2) من هذا صحيحًا فهو يدلُّ على أنَّه لم ينْزَح زمزم للنَّجاسة ولكن للتَّنظيف، إن كان فعل، وزمزم للشُّرب وقد يكون الدَّم ظهر على الماء حتَّى رئي فيه. انتهى. قوله: ولم يُنكر عليهما أحد، فانعقد الإجماع من الصحابة على ما قلنا. يقال عليه: من حضر ذلك من الصحابة حتى يقال هذا. وإذا كان من يرى أنها لا تنجس يرى بجواز ذلك للتنظيف والتطيّب، كيف ينكر؟! قوله: وعرف بهذا الإجماع: أن المراد مما رواه مالك هوَ: الماء الكثير البخاري. فيقال: فإذا كان المراد الكثير والبخاري فكيف ساغ مخالفته في الجيفة الواقعة في الماء الجاري أو الكثير الراكد. قوله: وبه تبيّن: أن ما رواه الشافعي غير ثابت لكونه مخالفًا لإجماع الصحابة. فيه ما تقدم. قوله: ولهذا: رجع أصحابنا في التقدير إلى الدلائل الحسية [7/ أ]. قلت: لم يجعل أحد من علمائنا الثلاثة الأمور الحسية المذكورة دليلاً ¬
على الكثرة، وإنما جعلوا ذلك دليلاً على سريان النجاسة، وليس عند أبي حنيفة: أن الكثير لا ينجس جميعه، بل فروعه ناطقة بخلافه. قال الإِمام محمَّد بن الحسن في الأصل: إذا وقعت الجيفة أو غيرها من النجاسات في حوضٍ صغيرٍ لم يخلص بعضه إلى بعض، لم يستعمل، وإن كان كبيرًا لا يخلص بعضه إلى بعض، فلا بأس بأن يتوضأ من ناحية أخرى. وقال الإِمام أبو يوسف في الإملاء: قال أبو حنيفة في حوض مسبغة إذا حرّك ناحيةً منهُ لم تضطرب الناحية الأخرى، فهذا لا ينجسه بولٌ يقع فيه أو دمٌ أو جيفةٌ إلاّ ذلك الموضع. وإذا كان يرى بتنجس موضع الوقوع من الماء الكثير، كيف يكون قائلًا بأن الكثير لا ينجس كالشافعي -رحمه الله- في القلتين، ومالك في ما يكون بحالٍ لا يتغير بالاختلاط، ينجس, وسأنبهك على يسر المسألة عنده إن شاء الله تعالى. قوله: ثم اختلفوا في تفسير الخلوص إلخ. هذا ظاهرٌ في أنّ مراده خلوص الماء بعضه إلى بعض، وليس هو المنظور إليه لذاته عند أبي حنيفة -رحمه الله تعالى-، وإنما المنظور إليه عنده في نفس الأمر: الشيوع بالنجاسة، إلا أنه لما كان في غير المرئية أمراً خفيّاً نظر إلى ما يدل عليه وهو: إما خلوص الماء بنفسه أو الحركة بما ذكر. وغيره استدل على خلوصها الباطن بالصبغ الظاهر أو التكدير مما نقل. وبعضهم خمّن: أنها لا تخلص إلى مقدار عشرة أذرع. وبعضهم: خمسة عشر. كما نقلت عنهم. وهذا مما وعدتك بالتنبيه عليه.
قال شيخ الإِسلام أبو بكر خُواهَر زاذَهْ (¬1) في كتابه المسمّى بالمبسوط: واختلفوا بعد هذا بأيّ سببٍ يعرف خلوص النجاسة إلى الجانب، فاتفقت الروايات عن علمائنا الثلاثة: أنه يعتبر بالتحريك. واختلفوا في سببه. وبهذا تبين ما قدمته [7/ ب] لكَ من أن الدلائل المذكورة دلائل خلوص النجاسة، لا دلائل الكثرة التي لا يكون معها التنجس إلا بالظهور، كما زعم من لم يحقق سر المسألة عند أبي حنيفة -رحمه الله تعالى-. وعبارة الاختيار والتحفة والبدائع ومن تبعهما صريحة في أن المراد: خلوص الماء إلى الجانب الآخر، وأنه دليل الكثرة. وحيث علمت هذا علمت أن نظر الإِمام بعد سطح الماء لا إلى العمق فظهر عدم صحة ما صححه من أنه إذا لم يكن له عرض إلخ. رُدّ عند تقارب الجوانب، يعمُّ السريان. والله أعلم. وممن ظنّ صحة هذا التقسيم المذكور في أول المسألة: قال شيخنا في شرح الهداية (¬2): فما استدل به المصنف للمذهب من ¬
قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لاَ يبوْلَنَّ أَحَدَكُمْ في الْمَاءٍ الرَّاكِدِ" الحديث. لاَ يَمسُّ مَحَلّ الخلاف. وهذا لأن حقيقة الخلاف، إنما هو في تقدير الكثير الذي يتوقف تنجّسه على تغيّره. انتهى. وأنا أقول: إن هذا التقدير لا يعرف عن أبي حنيفة -رحمه اللهُ- النَّظَرُ إليه بوجهٍ، وإنما حقيقة مذهبه: ما قاله الرازي (¬1) في أحكام القرآن من سورة الفرقان وهو قوله: وأمَّا الماءُ الذي خالطته نجاسة، فإن مذهب أصحابنا فيه: أن كل ما تيقنّا فيه جزءًا من النجاسة أو غلب في الظنّ ذلك، لم يجز استعماله، ولا يختلف في هذا الحد: مَاءُ البحرِ، وماءُ البئرِ، والغديرِ، والماءُ الراكد، والماء الجاري؛ لأن ماء البحر لو وقعت فيه نجاسة لم يجز استعمال الماء الذي فيه النجاسة، وكذلك الماء الجاري. ¬
وأما اعتبار أصحابنا للغدير (¬1) إذا حرّك أحد طرفيه، لَم يتحرك الطرف الآخر، فإنما هو كلام في جهة تغليب الظن في بلوغ النجاسة الواقعة في أحد طرفيه إلى طرف (¬2) الآخر، وليس هذا كلاماً في أن بعض المياه الذي فيه النجاسة قد يجوز استعماله، وبعضها لا يجوز استعماله. ولذلك قالوا: لا يجوز استعمال الماء الذي في الناحية التي فيها النجاسة (¬3). انتهى. وهو صريحٌ فيما قلت بخلاف ما زعمه من قدمنا ذكره. قوله: النجاسة لا تخلو إما أن تكون مرئية أو غير مرئية. فإن كانت مرئية كالجيفة ونحوها. ذكر في ظاهر [8/ أ] الرواية: أنه لا يتوضأ من الجانب الذي فيه الجيفة، ويتوضأ من الجانب الآخر. هذا خارجٌ عن الأصل الذي قرره وهو: أن الكثير لا ينجس, ومخالفٌ لمحمدٍ للحديث (¬4) عنده حيث قال: إن المراد من الكثير البخاري (¬5). وكذا قوله: ولو وقعت الجيفة في وسط الحوض. وكذا قوله: وإن كانت غير مرئية على كلا القولين المذكورين لمشايخ العراق، ومشايخ ما وراء النهر. ¬
وكذا التفصيل المذكور في الجيفة الواقعة في النهر الكبير والصغير كل مخالفٌ للأصل المذكور والحديث. قوله: لأن غير المرئية لا تستقر في الجانب الذي يتوضأ منه، فلا يحكم بنجاسته بالشك على الأصل المعهود. وإن اليقين لا يزول بالشك بخلاف المرئية. هذا إنما يتصور لو كانت النجاسة مستجدة متجسدة. وأما إذا كانت مائعة فهي لمخالطتها الماء في موضع الوقوع، نجسة. وانتشرت في غيره، وماس المتنجّس غيره، فنجّسه، ولا يبقى اليقين بطهارة الماء مع العلم باختلاطه بالنجاسة وفرض المسألة في الماء الراكد تمنع تجوّز انتقال النجاسة، بما خالطته. ومع تقدير التحريك والاضطراب، يختلط (¬1) المتنجس بالطاهر، فيبطل هذا التمويه، ولو كان ثَمَّ يقينٌ لما احتمل جواز النقيض. ثم محل الأصل المعهود الذي أشار إليه: أن يكون الطارئُ على الأصل مجرّد التجويز من غير مزيةِ. قال محمَّد بن الحسن -رحمه الله تعالى-: إذا علم المتوضِّئ دخوله الخلاء للحاجة، وشكَّ في قضائها قبل خروجه، فعليه الوضوء (¬2)، وفيما نحن فيه طرأ على يقينِ الطّهارة، يقين اختلاط النجاسة بموضع الوقوع، فكيف يتصور ما ذكر قوله؛ وإن الماء الجاري مما لا يخلص بعضه إلى بعض إلخ. ¬
هذا مما لا يكاد يفهم، والله سبحانه أعلمُ. ومن نظر تدافع أمواج الأنهار لما فيها من المريبات جزم بخلاف مقتضى هذه العبارات. والعلّة عند غيره: أن النجاسة لا تستقر مع الجريان، فما لم يجد فيما يقترفه أثر النجاسة، يعلم أنها لم تكن فيه. وها هنا بحثٌ آخر من وجوه: أحدها: أنهم قالوا في اختلاط الماء المطلق [8/ ب] بالمعاب المشكوك في طهارته ونجاسته: إنه لا يطهر، ولم يجوز فيه احتمال الانتقال، ولا ننظر إلى أن الأصل في الماء الطهارة، فلا يزول باختلاط المشكوك فيه، ويكون مطهراً على حاله. بل قالوا: عند تبعية الأصول، كان الماء طاهرًا بيقين، فلا ينجس بالشك، وكان الحدث ثابتًا بيقين، فلا يزول بالشك، وهذا الماء الذي يشك في تنجسه أولًا بالمنع من التطهرية من ذلك وأولى أن يقال فيه: كان الحدث ثابتًا بيقين، فلا يرتفع بالشك، ولم يرو عنهم اختصاص مسألة السؤر بنحو ماء الأواني لتفارق ما نحن فيه. الثاني: أنهّم قالوا في علة البطن من التطهير بالماء المستعمل: إنه بواسطة استعمالٍ، لم يبق في معنى المنْزل من السماء. وهذا أولى أن يقال فيه: إنه بعدَ اختلاط النجاسة، لم يبق في معنى المنَزّل من السماء. الثالث: أن هذا الاحتمال المذكور يجري مثله في قطرة بول أو خمر وقعت في حوض طوله تسعة أذرع ونصف وربع وعرضه كذلك ونحو ذلك مما يتحرك أحد طرفيه بتحرك الطرف الآخر، بل يجري فيما هو أصغر من هذا. والله أعلم.
حيث أسمعتك عن بعضهم ما يتمثلوا له يقول الْمَعَريّ (¬1): وغَدت حُججُ الكلام (¬2) حَجا غَديرٍ ... وشيكًا يَنعَقِدْنَ وَيَنتَقِضْنَه (¬3) فأورد ذلك تحقيق مذاهبهم مثلًا عن ضباطها وأوضح حججها عند محققيها ومختاري منها، وحججي على مختاري، وأجوبتي عما خالفها. واللهُ المستعان. وأقول: قال الكرخي في المختصر: وما كان من المياه في الأواني فوقعت فيه نجاسة مائعة، فهو نجس. ويغسل الإناء ثلاثًا، ما صغر من الأواني، وما كبر غلب على لون الماء وطعمه وريحه، أو لم يغلب على شيءِ من ذلك. لما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في وضوء الكلب، وما أمر به من أنها قدرُ ما عده فيه الفأرة، إذا كان مائعًا ويطرحها وما حولها إذا كان جامدًا. قلت: هذا هو المعتمد عندي في تنجس القليل، وإن لم يتغير. قال: ولنهيه - صلى الله عليه وسلم -[9/ أ] عن البول في الماء الدائم، وإن لم يغتسل فيه من جَنَابةٍ. قلت: وهذا عندي بالاعتضاد في المنع عن تنجس الماء في الجملة. قال: وأمره المستيقظ من منامه يغسل يده ثلاثًا قبل أن يدخلها الإناء؛ لأنه لا يدري أين باتت يده. ¬
قلت: وهذا الاعتضاد الأول على بعض الاحتمالات. قال: فليس في جميع ذلك ما يغير لونًا أو طعمًا أو رائحة. وما كان من المياه من المصاح (¬1) والغدران أو في مستنقع من الأرض وقعت فيه نجاسة. نظر المستعمل في ذلك، فإن كان في غالب رأيه أن النجاسة لم يختلط بجمعه بكثرته، توضأ من الجانب الذي هو طاهرٌ عنده في غالب رأيهِ، واجتنب الباقي؛ لأن هذين ماءٌ نجسٌ وطاهرٌ يستعمل غالب رأيه في إصابة الطاهر منه، وليس هذا تنجيسًا بالماء بالشك؛ لأن ها هنا نجاسة حاصلة متيقنة، وما كان قليلاً يحصِّل (¬2) العلم: أن النجاسة قد حصلت إلى جميعه، ولو كان ذلك في غالب رأيه لم يتوضأ منه، وإذا أمر شيء قد تغير ولا يعلم أنه يغير النجاسة؛ لا بأس بالوضوء؛ لأنه قد يتغير بطول المُكث. انتهى. وقد روي اعتبارُ خلوص النجاسة بخلوص الماء لنفسه، وبالتحريك على ما قدمت لك من عبارة الأصل وَإِلاّ فلا. وقال شمس الأئمَّة (¬3): المذهبُ الظَّاهرُ التَّحرِّي والتَّفويض إلى رأي ¬
المبتلى من غير حكمٍ بالتَّقدير، فإن غلب على الظَّنِّ وصولها تنجَّس (¬1)، وإن غلب عدم وصولها لم ينجس, وهذا هو الأصحّ. انتهى. وصحّحه في الغاية وغيرها، ووجه أصحيته: أن المعتبرَ سريان النجاسة وهو يختلف باختلاف كثرتها وقلّتها، فقد لا يسري كون خمرٍ إلى طرفي غديرٍ على نهاية ما يتحرك. وقال ركن الإِسلام أبو الفضل عبد الرحمن الكرماني (¬2) في شرح الإيضاح (¬3): كل ما تيقن حصول النجاسة فيه أو [9/ ب] غلبَ على ظننا، فإنه لا يجوز الوضوء قليلاً كان أو كثيرًا، جارياً كانَ أو راكداً. وإنما اعتبر غلبة الظن ¬
لا تجري مجرى اليقين في وجوب العمل كما لو أخبر واحدٌ بنجاسة الماء، وجب العمل به، والنائم يقدر اليقين. وتقدمت عبارة الرازي بهذا. قال الكرماني: وأما الماء إذا كان كثيرًا لا يخلص بعضه إلى بعضٍ إذا وقعت النجاسة في طرفٍ منه، جازَ أن يتوضأ من الجانب الآخر. وروي عن أبي يوسف أنه قال في الماء الجاري: إنه لا ينجس إلا بظهور النجاسة فيه. واختلفت الروايات في تحديد الكثير: مراده: أن عند أبي حنيفة، ليكون (¬1) له حكمُ القلتين عند الشافعي، بل المرادُ: كثيرٌ يحتاج إلى النظر في خلوص النجاسة فيه. والحكم المصحح عنه مصرّحٌ. واختلفت الروايات في الكثير (¬2)، فالظاهر عند محمَّد: أنهّ عشرٌ في عشر، والصحيح عن أبي حنيفة -رحمه الله تعالى- أنه قد يؤقت في ذلك بشيءٍ، وإنما هو موكولٌ إلى غلبة الظن في خلوص النجاسة. وروي عن أبي يوسف: أنه اعتبر الغدير بالماء الجاري. وقال: لا ينجس إلا بظهور النجاسة؛ لأن الضرورة تقتضي العفو عن ذلك. وقال الحاكم الشهيد (¬3) في الكافي: قال أبو عصمة: كانَ محمّد بن ¬
الحسن يؤقت في ذلك عشرة في عشرة، ثم رجعَ إلى قول أبي حنيفة. وقال: لا أؤقت فيه شيئًا. انتهى. فالحاصل: أن ماءَ الأواني ينجس بوقوع النجاسة فيه وإن لم يتغير، ولا ينظر فيه بغلبة الظن الخلوص ولا بغيره. انتهى. وأمّا المصانع والغدران يعمل فيه بغلبة الظّن على الصحيح عند أبي حنيفة. وما روي عن أبي يوسف: أن ما لا يخلص كالجاري لا ينجس إلَّا بظهور النجاسة فيه. هو المختارُ عندي، وأرى قول محمَّد مثله. قال محمَّد في كتاب الآثار (¬1): أخبرنا أبو حنيفة قال: حدثنا الهيثم بن أبي الهيثم، عن ابن عباس قال: أرْبَعَةٌ لاَ يُنَجِّسُهَا شَيءٌ: الْجَسَدُ، وَالثَّوْبُ، وَالْمَاء وَالأَرْضُ (¬2). قال محمَّد: ويعتبر ذلك عندنا (¬3): أن ذلك إذا أصابه القذّر فَغُسِلَ، ذهبَ ذلك عنه، فلم يحمل قذراً، وإنما معناهُ: في الماء إذا كان كثيرًا، ¬
أو جاريا، أنّه لم يحمل خبثًا (¬1). هذا في [10/ أ] الرّاكد. وأمَّا الجاري: قال محمَّد في كتاب الأشربة في الأصل (¬2): ولو صبَّ رجلٌ خابية خمرٍ في نهرٍ مثل الفرات، أو أصغر منه، ورجلٌ أسفل منه، فمرَّ به الخمر، فلا بأس بأن يشرب من ذلك الماء، إلَّا أن يجد فيه ريحها أو طعمها، فلا يحل له حينئذٍ. هذا لفظه. وإن كانوا كلّهم قالوا: ورجلٌ يتوضأ إلخ ما قدّمته عنهم. وتقدّم عن أبي حنيفة في الجاهل يبولُ في الماء الجاري: أنه لا بأس بالوضوء من أسفل منه، فصار الاتفاق: على أن الجاري لا ينجس إلا بظهور النجاسة فيه إذا كانت غير مرئية. وأمّا المرئية؛ فقال الشيخ الإِمام أبو عبد الله محمَّد بن رمضان (¬3) في كتابه المسمّى بالينابيع: وقال أبو يوسف في ساقيةٍ صغيرةٍ فيها كلبٌ ميّتٌ قد سد عرضها، فيجري الماء فوقه وتحته، أنه لا بأس بالوضوء أسفل من الكلب وهذا هو المختار أيضًا. وتقدمت التفاصيل في مثل هذا على قول أبي حنيفة، فاستدلوا في كثيرٍ من الكتب يقول أبي حنيفة ممّا قدمت بطلانه. ¬
وقال الرازي (¬1) في أحكام القرآن: والذي يحتج به لقول أصحابنا قوله تعالى: {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف: 157]، والنجاسة لا محالة من الخبائث. وقال: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ [وَالدَّمَ]} [البقرة: 173، النحل: 115]. وقال في الخمر: {رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ} [المائدة: 90]. ومرَّ النَّبي - صَلَّى الله عليه وسلم - بقبرين، فقال: "إنَّهُمَا يُعَذَّبَانِ وَمَا يُعَذَّبَانِ فِي كبِيرٍ. أَمَّا أَحَدُهُمَا: فَكَانَ لاَ يَسْتَبْرِأُ (¬2) مِنَ الْبَوْلِ، وَأَمَّا الآخَرُ (¬3): كَانَ يَمْشِي بِالنَّمِيمَةِ" (¬4). فحرَّمَ الله هذه الأشياءَ تحريماً منهما، ولَم يفرق بين اختلاطها وانفرادها (¬5) بالماء، فوجبَ تحريمُ استعمالٍ كُل مَا تيقن (¬6) فيه جزءًا من النجاسة، ويكون جهة الحظر من طريق النجاسة أولى من جهةِ الإباحةِ من طريق الماء المُبَاحِ في الأصلِ، بأنُّهُ (¬7) مَتَى اجتمع في شيءٍ جهةُ الحظر ¬
والإباحة (¬1)، فجهة الحظر أولى، ألا ترى أن الجارية بين رجلين لو كان لأحدهما فيها مئة جزء وللآخرِ جزءٌ واحدٌ، إنّ جهة الحظر (¬2) فيها أولى من جهة الإباحة، وأنّه غير جائزٍ لواحدٍ منهما وَطْؤُهَا (¬3). وأيضاً: لا نعلم خلافًا بين الفقهاء في سائر المائعاتِ، إذا خالطه اليسير من النجاسات كَالبِنِّ (¬4) والإِدهَان (؟) [10/ ب] والخمرِ ونحوها، إن حكم اليسير في ذلك كحكم الكثير (¬5)، وأنه محظورٌ عليه أكل ذلك وشربه، والدلالة من هذا الأصل على ما ذكرنا من وجهين: أحدهما: لزوم اجتناب النجاسات بالعموم الذي قدمنا في حال المخالطة والانفراد. والآخر: أن حكمَ الحظر وهو النجاسة كان أغلب من حكم الإباحة وهو الذي خالطه من الأشياء الطاهرة ولا فرق في ذلك من أن يكون الذي خالطه من ذلك ماءٌ أو غيرهُ إذا كان عموم الرأي والسُّنن شاملةً لهُ. وإذا كان المعنى وجود النجاسة فيه، وحظر استعمالها، ويدل على صحة قولنا من جهة السنة: ¬
قوله -عليه السلام-: "لاَ يبولَنَّ أَحَدُكُمْ فِي الْمَاءِ الدَّائِم، ثُمَّ يَغْتَسِلُ فيهِ منَ الجنَابةِ" (¬1). وفي لفظٍ آخرَ: "لاَ يبولَنَّ أَحَدكمْ فِي الْمَاءِ الدَّائِم، وَلاَ يَغْتَسِلُ فِيهِ مِنْ جَنَابةٍ" (¬2). ومعلومٌ: إذا البول القليل في الماء الكثير لا يغير طعمه ولا لونه ولا ريحه، وقد منع النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - منه. قال: ويدلُّ عليه قوله -عليه السلام-: "إذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدكمْ مِنْ مَنَامِهِ فَليَغْسِلْ يَدَهُ ثَلاَثاً قَبْلَ أَنْ يُدْخِلَهَا الإنَاءَ، فَإِنَّهُ لاَ يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ" (¬3). فأمرَ بغسل اليد احتياطًا من نجاسةٍ أصابته من موضع الاستنجاء. ومعلومٌ: أن مثلها إذا حلَّت الماء لم تغيره، ولو أنهّا تفسده لما كان الأمر بالاحتياط معنًى. وحكم النَّبيُّ - صَلَّى الله عليه وسلم - بنجاسةِ ولوغِ الكلبِ لقوله: "طُهُورُ إنَاء أَحَدِكُمْ إِذَا وَلَغَ الْكَلْبُ فِيهِ: أَنْ يُغْسَلَ سَبْعاً" (¬4) وَهُوَ لاَ يُغَيِّرُهُ. ¬
قلت: تقدّم أن هذا هو المعتمد عندي، وأنّ ما سواه ما جاء تقدم. ثم قال: وأيضاً العلم بوجود النجاسة فيه كمشاهدتنا، كما أن علمنا بوجودها في سائر المائعات كمشاهدتنا، هذا حاصلُ ما استدل به، وهو أبسط مما في كتب الفقه، وهو منتهضٌ على من يرى: أن الماء لا ينجس إلَّا بظهور النجاسة فيه، قليلاً كان أو كثيرًا، وعلي ما زعموه من مذهب أصحاب الظاهر. واستدلوا يقول أبي يوسف، بما تقدم، من أن الضرورة تقتضي العفو. وأقول: يدلُّ عليه: ما روى الدارقطني (¬1)، عن ثوبان قال: قال رسول - صلى الله عليه وسلم -[11 / أ]: "الْمَاءُ طَهُورٌ، إِلَّا مَا غَلَبَ عَلَى رِيحِهِ، أَوْ طَعْمِهِ". وفيه: رشدين بن سعد (¬2). ورواه: راشد بن سعد قال: قال رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم -: "لاَ يُنَجّسُ الْمَاءَ إِلاَّ مَا غَيَّرَ طَعْمَهُ أَوْ رِيحَهُ" (¬3). وَهَذا مرسلٌ. وصلهُ رشدين بن سعد (¬4)، عن معاوية بن صالح، عن راشد بن سعد، ¬
عن أبي أمامة الباهلي، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "لاَ يُنَجِّسُ الْمَاءَ شَيءٌ إِلاَّ مَا غَيَّرَ طَعْمَهُ أَوْ رِيحَهُ" (¬1). ورواه موقوفًا على راشد بن سعد: أبو عون (¬2). وحاصل ما فيه: ضعف راشد بن سعد، والإرسال، وكلاهما غير مضرّ عندنا؛ لأنّ علماءنا - رضي الله عنهم - قد احتجّوا لمن هو أضعف من راشد بن سعد، وعملوا بالمرسل والمنقطع على أن لرشدين متابعاً عند البيهقي. فقد أخرجه (¬3) من طريق عطية بن بَقِيّة (¬4)، عن أبيه، عن ثور (¬5)، عن راشد بن سعد، عن أبي أمامة، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّهُ قال: "إِنَّ الْمَاءَ طَاهِرٌ، إِلاَّ أَنْ يُغَيّرَ (¬6) رِيحَهُ، أَوْ طَعْمَهُ، أَوْ لَوْنَهُ، بِنَجَاسَةٍ تَحْدُثُ فِيهِ". ولصدره شاهدٌ من حديث أبي سعيد الخدري في بئرِ بُضاعة. ولفظه: "الْمَاءُ طَهُورٌ لاَ يُنَجِّسُهُ شَيءٌ" (¬7). قال التِّرمذيُّ: حديثٌ حسنٌ. ¬
وقد جوّده أبو أمامة، وصحّحه أحمد، وابن مَعِين، وأبو محمد ابن حزم. وقال ابن القطّان: لهُ طريقٌ حسنٌ. وأورده من طريق سهل بن سعد (¬1). وعلي عجزه انعقد الإجماعُ. نقله البيهقي في المعرفة (¬2) عن الشافعي. وليس فيه تخصيص بجانبٍ دون جانبٍ، ولا قام دليلٌ على اجتنابِ جانبٍ الوقوع من غير تغييرٍ، ليحمل عليه. فإن قلت: إنه عامٌّ. وأبو يوسف لا يقول بعمومه. قلتُ: قد عارضه حديث الولوغ، والاستدلال به بلفظ: "طُهُورُ إِنَاءِ أَحَدِكُمْ إِذَا وَلغ الْكَلْبُ فِيهِ أَنْ يَغْسِلَهُ سَبْعاً". لا كما ذكرهُ صاحب البدائع. وهذه رواية مسلم في صحيحه (¬3). وحديث المستيقظ، فإنّهما يدلان على أنَّ ماء الأواني [11 / ب] يَنْجُسُ وإن لم يتغير. فبقي محمولاً على ماء الغدران والمصانع. ¬
وقد صرّح الشافعي (¬1): بأن ماء بئر بضاعة كان كبيرًا. والله أعلمُ. ويدلُّ عليه: ما رواه ابن ماجه (¬2)، [عن] جابرٍ - رضي الله عنه - قال: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فِي سَفَرٍ، فَانتبَهْنَا إِلَى غَدِيرٍ فِيهِ جِيفَةٌ، فَكَفَفْنَا، وَكَفَّ النَّاسُ، حَتَّى أتانَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: "مَا لَكُمْ لاَ تَسْتَقُونَ؟! ". فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ! هَذِهِ الْجِيفَةُ؟ فَقَالَ: "اسْتَقُوا. فَإنَّ الْمَاءَ لاَ يُنَجِّسُهُ شَيءٌ". فَاسْتَقَيْنَا (¬3)، وَارْتَوَيْنَا. وَرَوَاهُ أَبُو يعلى الموصلي (¬4)، من حديث أبي سعيدٍ. وفيهِ: "أُرَهَا جَمَل". يعني: الجيفة. وهذا كما ترى، ليس فيه بيان اجتناب جانب الجيفة، ولو كانت لتوفرت الدعاوي على نقله. ¬
ويدلّ عليه: ما أخرجه ابن أبي شيبة (¬1)، عن عكرمة قالَ: مَرَّ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى الله عليه وسلم - بِغَدِيرٍ. فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ الكِلاَبَ تَلِغُ فِيهِ، وَالسِّبَاعُ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى الله عليه وسلم -: "لِلْسَّبُعٍ مَا أَخَذَ فِي بَطْنِهِ، وَلِلْكَلْبِ مَا أَخَذَ فِي بَطْنِهِ، فَاشْرَبُوْا، وَتَوَضَّؤُوْا". قَالَ: فشَرِبُوا، وَتَوَضَّؤُوا. وأصحابنا - رضي الله عنهم -: يحتجون بالمرسل. قال الأخسيكثي (¬2) في منتخب الأصول: إنه فوق المسند. ويدلُّ عليه: ما أخرجه عبد الرَّزاق (¬3)، عن إبراهيم بن محمد الأسلمي، عن داود بن حصين، عن أبيه، عن جابرٍ قلتُ: يا رسولَ اللهِ! أَنتَوَضَّأُ مِنْ مَا أَفْضَلَتِ الْحُمُرُ (¬4)؟ قَالَ: "وَبِمَا أَفْضَلَتْهُ السِّبَاعُ كُلُّهَا". وإبراهيم يضعّف (¬5)، إلَّا أنّ محمد بن الحسن قد احتجّ به. ورواه مشايخ. ¬
ورواه الشافعي (¬1)، من حديث ابن أبي ذئب، من حديث ابن أبي (¬2) حبيبة، عن داود. وله شاهد: من حديث أبي سعيد. رواه ابن ماجه (¬3). وأخرجه الدارقطني (¬4)، عن ابن عمر قال: خَرَجَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - في بَعْضِ أَسْفَارِهِ، فَخَرَجَ لَيْلاً، فَمَرُّوْا عَلَى رَجُلٍ جَالِسٍ عِنْدَ مِقْرَاةٍ لَهُ. فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: يَا صَاحِبَ الْمِقْرَاةِ (¬5)! أَوَلَغْنَ السِّبَاعُ اللَّيْلَةَ فِي مِقْرَاتِكَ؟ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى الله عليه وسلم -: "يَا صَاحِبَ الْمِقْرَاةِ لاَ تُخْبِرْه هَذَا [12 / أ] فَكَلَّفَ لَهَا مَا حَمَلَتْ فِي بُطُونهَا، وَلنا مَا بقِيَ شَرَابٌ وَطَهُورٌ". وطريقُ الاستدلال بهما على نحو ما تقدم في حديث: "الْمَاءُ طَهُورٌ". ¬
ويدلّ عليه: ما رواه ابن أبي شيبة (¬1)، عن عمر بن الخطاب: أنَّهُ مَرَّ بِحَوْضِ مَجَنَّة (¬2). فَقَالَ: اسْتَقُوا مِنْهُ. فَقَالُوا: إِنَّهُ تَرِدُهُ السِّبَاعُ [وَ] الْكِلاَبُ، وَالْحَمِيرُ. فَقَالَ: لَهَا مَا حَمَلَتْ فِي بُطُوبهَا، وَمَا بَقِيَ فَهُوَ لَنَا شَرَابٌ وَطَهُورٌ. وأخرجه من طريقٍ آخرَ (¬3)، عن عكرمة: أنَّ عمر بن الخطاب، أتَى على حوضٍ من الحياض، فأراد أن يتوضأ ويشربَ. فقالَ أهل الحوض: أنا يلغُ (¬4) فِيهِ الكلابُ والسِّباعُ. فقال عُمَرُ: إن لها ما بلغت (¬5) في بطونها. قال: فشربَ وتوضأ. وعن أم سلمة: أنَّهَا كَانَتْ تَمُرُّ بِالْغَدِيرِ، فيه الجُعْلانُ (¬6) والبُعُر، فيستقى لها منه فنتوضأ ونشرب (¬7). ¬
وقال (¬1): حدّثنا ابن عُلَيَّة، عن حبيب بن شهاب، عن أبيه: أنّهُ سأل أبا هريرة عن سُؤْرِ الحوضِ تردهُ السِّباعُ، وتشربُ منه الحُمُرُ (¬2). فقال: لا يحرمُ الماء شيء. وهذا إسنادٌ صحيحٌ لاتصالهِ، وثقة رجاله. فابن عُلَيَّة (¬3): ثِقَة حَافِظٌ، أشهر من أن يُذكر. أخرج له الشيخان، محتجيّن به. وحبيب بن شهاب بن مدلج: قال ابن معين (¬4): ثقة. وقال النَّسائيّ (¬5): ثقة. ¬
وقال أحمد بن حنبل (¬1): لا بأس. وذكره ابن حبان في ثقاته (¬2). وقد سمع أباه. وأبوه (¬3) شهاب بن مدلج. سمع: أبا هريرة، وابن عباس، وأبا موسى. قال أبو زرعة الرازي (¬4): ثقة. وقاله النَّسائيّ. وذكره ابن حبان في ثقاته (¬5). وأبو هريرة: هو من جملة من روى عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنّه قال: "لاَ يَبُولَنَّ أَحَدُكُمْ فِي الْمَاءِ الدَّائِم" (¬6). الحديث. وقال (¬7): حدّثنا ابن عُلَيَّة، عن إسرائيل، عن الزبرقان قال: حدّثنا كعب ¬
ابن عبد الله قال: كُنَّا مع حذيفة، فانتهينا إلى غديرٍ فيه الميتة، وتغتسل فيه الحائضُ. فقال: الماءُ لاَ يَخْبُثُ (¬1). وقال (¬2): حدّثنا وكيع، عن الأعمش، عن أَبِي عمر البَهْرَانِيّ (¬3)، عن ابن عبّاس قال: الْمَاءُ طَهُورٌ لاَ يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ. وقد تقدم تفسيرهُ عن محمد بن الحسن في كتاب الآثار. وأخرج (¬4) عن الحسن: في الجُبِّ يقطر فيه القطرة من الخمر أو الدم. قال: يُهْرَاقُ. وعن طاوس: أنَّهُ كرهه (¬5). ¬
فثبت: أن ماء الأواني تنجس بوقوع النجاسة، وإن لم يتغير. وماء الغدران ونحوها لا ينجس إلَّا بالتغيير [12 / ب] سواءٌ كان الواقع فيه مرئياً أو غير مرئي. فالجاري أولى. وما كان في غديرٍ أو مستنقعٍ وهو نحو ماء الأواني، فهو ملحق بها إذ لا أثر للمحل. والله أعلم. فإن قلت: لم أطلق ماء الغدران مع ما ورد من تقديره شرعًا بالقلتين. وحديث القلتين: قد صَحَّحه ابن حبان (¬1)، وابن خزيمة (¬2)، والحاكم (¬3)؟. قلت: من صحّحه اعتد بعض طرقه، ولم ينظر إلى ألفاظه ومفهومها، إذ ليس وظيفة المحدث. والنظر في ذلك من وظيفة الفقيه، إذ غرضه بعد صحة الثبوت: الفتوى والعمل بالمدلول. وقد أعلّ حديث القلتين من الجهتين. وأنا أورد ذلك مستعيناً بالله. فأقول: قال ابن عبد البر في التمهيد (¬4): هذا حديثٌ يرويه محمد بن إسحاق، والوليد بن كثير [جميعاً، عن محمد بن جعفر بن الزُّبير، وبعض رواة الوليد ابن كثير يقول فيه: عنه، عن محمد بن عباد بن جعفر (¬5)، ولم ¬
يختلف عن الوليد ابن كثير] (¬1) أنَّه قال فيه: عن عبد الله بن عبد الله بن عمر، عن (¬2) أبيه يرفعه. ومحمد بن إسحاق يقول فيه: عن محمد بن جعفر بن الزُّبير، عن عبد الله (¬3) بن عبد الله بن عمر، عن أبيه مرفوعًا [وعاصم] (¬4) أيضًا. فالوليد يجعله عن عبد الله بن عبد الله، ومحمد بن إسحاق يجعله عن عبيد الله بن عبد الله. ورواه عاصم بن المنذر (¬5)، [عن عبيد الله بن عبد الله بن عمر، عن أبيه] (¬6)، فاختلف [فيه] (¬7) عليه أيضًا. [فقال حماد بن سلمة، عن عاصم بن المنذر، عن عبيد الله بن عبد الله ابن عمر، عن أبيه. وقال فيه حماد بن زيد، عن عاصم بن المنذر، عن أبي بكر بن عبيد الله، عن عبد الله بن عمر] (¬8). ¬
وقال (¬1) فيه حماد بن سلمة: إذا كانَ المَاءُ قُلّتين أو ثلاثًا، لم يُنَّجِّسهُ شيءٌ. وبعضهم يقول [فيه] (¬2): إذا كان [الماء] (¬3) قلتين، لم يحمل (¬4) الخبث. وهذا لفظٌ (¬5) محتمل للتأويل، ومثل هذا الاضطراب في الإسناد، يوجب التوقف عن القول بهذا الحديث، على (¬6) أنّ القلتين غير معروفتين، ومُحالٌ أن يتعبّد الله عبادهُ بما لا يعرفونه. انتهى (¬7). قلتُ: قد تكلّف بعض النَّاس لرفع اضطراب السند باحتمال أن يكون الحديث عند كل راوٍ اختلف عليه من جميع من اختلف عليه فيه، لوروده عن بعض رواته بالوجهين جميعًا. لكن بقي هنا شيءٌ آخر، وهو ما أشار إليه ابن عبد البر: أنّ القلتين غير معروفتين. قال الدارقطني (¬8): قال ابن عرفة، وسمعت هُشَيماً (¬9) يقول: تفسير القلتين يعني: الجرتين الكبار. ¬
وروى إسحاق بن راهويه -ومن طريقه الدارقطني-، عن عاصم بن المنذر قال: القِلاَلُ: الخوابي العظام (¬1). وعاصم بن المنذر، هو: راوِي الحديث عن عبيد الله، عن عبد الله ابن عمر. وأخرج أبو قاسم [13/ أ] البغوي (¬2)، عن مجاهد، أنّه قال: الْقُلَّتَانِ: الجَرَّتَانِ. وأخرج عن ابن إسحاق راوي الحديث: أنّه سَئلَ: القلتين. فقال: هذه الجرار الذي يُسْقَى فِيهَا الْمَاءُ، وَالدَّوَارِيقُ (¬3). وروى البيهقي، عن وكيعٍ: القلّة: الجَرّة (¬4). وروى الشّافعي، عن ابن جريج: أنَّ كلّ قلّة تأخذ قلتين وشيئاً (¬5). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
وفيه بحث آخر. قال الحافظ أبو العباس ابن تيميّة (¬1): يشبه أن يكون الوليد بن كثير ¬
غلطَ في رفع الحديث. ويدلّ على أنَّ هذا لم يكن عن ابن عمر، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: أنَّ هذا الغسل من الماء من الحلال والحرام من أعظم الأمور التي يحتاج النَّاس إليها في دينهم لحاجتهم إلى الماء في طهورهم وشرابهم، والنّاس أحوج إلى الماء منهم في سائر الأشياء، ووقوع النجاسة فيه من الأمور الغالبة، وابن عمر دائماً يفتي النَّاس ويحدثهم عن النَّبيِّ - صَلَّى الله عليه وسلم -، والسنن التي رواها معروفة عند أهل ¬
المدينة وغيرهم لاسيما عند سالم ابنه، ونافع مولاهم. لا العمل به مذهب أحد من أهل المدينة، بل قولهم المستفيض عنهم مُخالفٌ لهم. ثم ذكر: أن إسماعيل بن إسحاق القاضي روى بإسناده، عن القاسم بن محمد ابن أبي بكر الصِّديق، وسالم بن عبد الله بن عمر: أنهمَا سُئِلاَ عنِ الماءِ الذي يجري، تموتُ فيه الدّابة، هل يشرب منه، ويُغتسلُ، وتُغسلُ فيه الثياب. فقال: لاَ. إنّ الماء إذا كان لا يدنسه ما وقع فيه، فنرجو أن لا يكون به بأس (¬1). وروى ابن وهب، عن يونس (¬2)، عن ابن شهاب أنّه قال: كل ما فيه ¬
فضلٌ عما يصيبه من الأذى حتَّى لا يُغيِّر ذلك طَعمَه ولا رِيحَهُ ولا لونه طَاهِرٌ يُتَوَضَّأ بِهِ (¬1). قال: وابن شهاب من أخصّ النَّاس بسالِمٍ، وأعلم النَّاس بحديثه وحديث أبيه. وهذه فتياه وفتيا سالمٍ. وروى إسماعيل باسناده، عن داود بن أبي هند، عن سعيد بن المسيب في هذه الآية: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} [الفرقان: 48]. قال: أنزل الله الماء طهوراً [13/ ب] لا يُنَجِّسُهُ شيءٌ (¬2). ¬
قال: والآثار بذلك معروفة عن أهل المدينة، ولم يعرف أحدٌ من متقدميهم ولا متأخريهم فرقًا بين الماء الذي ينجس ولا يتنجّس بقدر القلتين، فكيف يكون هذه سنةً لرسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم - من عموم البلوى بها، ولا ينقلها عنه أحدٌ عن أصحابه ولا التابعين لهم بإحسانٍ إلاّ رواية مختلفة مضطربة عنِ ابن عمرَ، لم يعمل بها أحدٌ من أهل المدينة، ولا عمل بها أهل البصرة، بل مذهب أهل البصرة: أن قليله وكثيره لا ينجس إلَّا بالتغيير، ولا أهل الشام عملوا به، ولا أهل الكوفة. وأطال الكلام رحمه الله بما لا يتحمله هذا الموضع. قلت: وقد أخرجه الدارقطني (¬1)، من طريق الزُّهريّ، عن عبيد الله (¬2) ابن عبد الله بن عمر، عن أبي هريرة. وقال (¬3): المحفوظ عن ابن عياش (¬4)، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن جعفر [بن الزُّبير]، عن عبيد الله، عن أبيه. وأخرجه (¬5) من طريق عبد الوهاب بن عطاء، عن ابن إسحاق، عن الزُّهريّ، عن سالم، عن أبيه. وكأن الحافظ لم يعتبر هذا للضعف. وفيه: أن جابراً رواه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: "إِذَا بَلَغَ الْمَاءُ أَرْبَعِينَ قُلّةً ¬
لا يَحْمِلُ خَبَثاً". رواه الدارقطني (¬1). قال (¬2): وهمَ القاسم العمري في إسناده وخالفه روح بن القاسم، وسفيان الثوري، ومعمر بن راشد. رووه عن ابن المنكدر من قوله، لَم يجاوزه (¬3). ثم أخرجه (¬4) من طريق من تقدم ذكرهم. ورواه (¬5) عن أبي هريرة بلفظ: "إِنْ كَانَ الْمَاءُ أَرْبَعِينَ قُلّةً لَمْ يَحْمِلْ خَبثاً". وقد خالفه غير واحدٍ فقالوا: أربعين غرباً. وظهر ما قال الحافظ (¬6): الغَرْبُ (¬7). والله أعلم. فإن قلت: أليس أن الطّحاوي (¬8) والرازي (¬9) أجابا عن حديث بئر بضاعة ¬
بأنهّا كانت طريقاً للماء إلى البساتين؟!. وروى ذلك الطحاوي عن الواقدي. قلت: الواقدي ضعيف (¬1). والعبرة: بعموم اللفظ لا لخصوص السبب والمحل، ونحن جعلنا حديث بئر بضاعة شاهدًا لصدر حديث ثوبان، وأبي أمامة. والله أعلم. فإن قلت: إن الرازي (¬2) قد قال: وأمّا قصّة الغدير، فجائزٌ أن [14/ أ] تكون الجيفة في جانبٍ منه، فأباح - عَليه السلام - الوضوء من الجانب الآخر (¬3). قلت: أما تجويز أن يكون في جانب منه، فمسلَّم، بل جاء ذلك في رواية ابن أبي شيبة. وأمّا أنه أباح لهم من جانب آخر، فليس في الحديث، ولو كان لتوفرت الدواعي على نقله، فلمَّا لم يرووا لنا أنه أمرهم بجانب دون جانب، كان على إطلاقه. ¬
فإن قلت: قال الرازي قوله: "الْمَاءُ طَهُور لاَ يُنَجسُهُ شَيء"، لا دلالة له فيه على جواز استعماله، وإنّما كلامنا في جواز استعماله بعد حلول النجاسة فيه، فليس يجوز الاعتياض (¬1) به على موضع الخلاف؛ لأناّ نقول: إنّ الماء طهور لا ينجسه شيء، ومع ذلك: لا يجوز استعماله إذا حلت نجاسته (¬2)، ولم يقل النَّبيّ - صَلَّى الله عليه وسلم -: إن الماء إذا وقعت فيه نجاسة، فاستعملوه حتَّى يحتج (¬3) به (¬4). قلت: هذا إنما يتوجه منه على من يقول: بأن الماء لا ينجس بوقوع النجاسة فيه، قليلاً كان أو كثيرًا؛ لأنَّه يقول: يجوز استعمال الجانب الآخر، ثم هو قاصر على لفظ حديث بئر بضاعة، ولا يتوجه عليه لفظ حديث الغدير، حيث قال - صلى الله عليه وسلم -: "اسْتَقُوا، فَإن الْمَاءَ لاَ يُنَجسُهُ شَيء". فإن قلت: ما الفرق بين الماء والمائعات التي قاس عليها الرازي، وإن كان كلامه مع من ذكر؟ قلت: الفرق من جهة المعنى بعد ورود النص: أن المائعات تصانُ بالأواني، فلم يكن فيها ضرورة بخلاف ماء الغدران ونحوها. وقد علمت أن قوله: عِلْمُنا بوجود النجاسة كمشاهدتنا لها، إنما يتوجه على من زعموه مذهباً لأصحاب الظاهر. وعليه مالك في القليل، فإن ألزِمنَا به في ماء الغدران عارضناه بالنص. ¬
وأما الماء المستعملُ، فهو كل ما أسقط فرض التطهير عن عضوٍ واستعمل على وجه القربة. قال شمس الأئمة السَّرخسِيّ (¬1)، وأبو عبد الله الجرجاني (¬2): لا خلاف بين الثلاثة في هذا. واختلف في صفته: فروى الحسن بن زياد، عن أبي حنيفة - رضي الله عنه - أن: مُغَلَّظُ النَّجَاسَةِ (¬3). وروى أبو يوسف [14/ ب] عنه أن: مُخَفَّفَهَا (¬4). وروى محمدٌ عنه: أنه طاهرٌ غير طهورٍ. وبه يفتي مشايخ العراق، لم يحققوا الخلاف فقالوا: طاهرٌ غير مطهّرٍ عند أصحابنا. وهو اختيار المحققين من مشايخ ما وراء النهر (¬5). ¬
قال القاضي أبو حازم (¬1): أرجو أن رواية التنجس لم تثبت، وإنما يأخذ الماء حكم الاستعمال بعد انفصاله عن أعضاء المتطهر في الصحيح، ولسنا بصدد الوجوه في هذه الرسالة، وإنما المراد: بيان الأحكام. فإذا عرفت أن الفتوى على طهارته. فاعلم أنه إذا اختلط بالمطلق لا يقيده ما لم يغلب على المطلق. قال في البدائع (¬2): في الكلام على حديث: "لاَ يَبُولَنَّ أَحَدكمْ فِي الْمَاءَ الدَّائِم". لا يقال: [إنَّه يحتمل] (¬3) أنّه نهيٌ (¬4) لما فيه من إخراج الماء من أن يكون مطهِّراً من غير ضرورةٍ، وذلك حرامٌ؛ لأنَّا نقول: الماء القليل إنَّما يخرج عن كونه مطهِّراً باختلاط غير المطهر به إذا كان غير المطهر غالبًا [عليه]، كماء الورد واللَّبن ونحو ذلك، فأما إذا كان مغلُوباً فلا. ¬
وهاهنا الماء المستعمل ما يلاقي البدن، ولا شكَّ أنَّ ذلك أقلُّ من غير المستعمل، فكيف يخرج به من أن يكون مطهّراً؟. انتهى. وقال (¬1) في موضعٍ آخر فيمن وقع في البئر: فإن كان على بدنه نجاسةٌ حكميَّةٌ بأن كان محدثًا أو جُنُباً أو حائضًا أو نُفساء، فعلى قول من لا يجعل هذا الماء (¬2) [مستعملاً] لا ينْزح شيءٌ؛ لأنَّه طهور، وكذا قولُ من جعله مستعملاً وجعل الماء المستعمل طاهراً؛ لأنَّ غير المستعمل أكثر، فلا يخرج عن كونه طهوراً، أمَّا إذا لم (¬3) يكن المستعمل غالبًا عليه، كما لو صبَّ اللبن في البئر بالإجماع أو بالت شاة (¬4) فيها عند محمَّد. انتهى. وقال في موضع (¬5): ولو اختلط الماء المستعمل بالماء القليل؟. قال بعضهم: لا يجوز التوضُّؤ به، وإن قلَّ. وهذا (¬6) فاسدٌ. أمَّا عند محمَّدٍ: فلأنَّه طاهرٌ لم يغلب على الماء المطلق، فلا يغيره عن صفة الطَّهورية كاللبن. ¬
وأمَّا عندهما: فلأنَّ القليل ممَّا لا يمكنُ التَّحرُّزُ عنه، [يجعلُ] عفواً (¬1). ثم الكثير عند محمدٍ ما يغلب على الماء المطلق. وعندهما [15/ أ]: أن يستبين موضع (¬2) القطرة في الإناء. انتهى. وقد علمت: أن الصحيح المُفَتَى بِهِ: رواية محمد، عن أبي حنيفة - رحمهما الله تعالى -. وقال محمد في كتاب الآثار، بعد رواية حديث عائشة: ولا بأس أن يغتسل الرجل مع المرأة، بدأت قبله أو بدأ قبلها (¬3). إذا عرفت هذا لم يتأخر عن الحكم بصحّة الوضوء في الفساقي الموضوعة في المدارس عند عدم غلبة الظن بغلبة الماء المستعمل، أو وقوع نجاسة في الصغار منها. فإن قلت: إذا تكرر الاستعمال هل يمنع ويجمع؟ قلت: الظاهر اعتبار هذا المعنى في النجس. فكيف بالطاهر. ¬
قال في المنتقى: قومٌ يتوضؤون صفًّا على شط نهرٍ جارٍ، فكذا في الحوض؛ لأنَّ ماء الحوض في ماءٍ جارٍ. انتهى. وقد روي عن ابن أبي شيبة (¬1)، عن الحسن: في الجنب يُدخلُ يده في الإناءِ قبل أن يغسلها. قال: يتوضأ إن شاء. وعن سعيد بن المسيب: لا بأسَ أن يغمس الجنب يده في الإناء قبل أن يغسلها (¬2). وعن عائشة بنت سعد قالت: كان سعدٌ يأمرُ الجارية فتناوله الطهور من الجرة (¬3)، فتغمس يدها فيه. فيقال: إنها (¬4) حائضٌ. فيقول: إنَّ حيضها (¬5) ليست في يدها (¬6). وعن عامر قال: كان أصحاب النَّبيّ - صَلَّى الله عليه وسلم - يُدخلون أيديهم في الإناء وهم جنبٌ، والنساء وهنَ حيّضٌ لا يرون بذلك بأساً - يعني: قبل أن يغسلوها - (¬7). وعن ابن عبّاس - رضي الله عنهما - في الرجل يغتسل منَ الجنابة، فينضح في إنائه من ¬
غسله؟ فقال: لا بأس به (¬1). وعن الحسن (¬2) وإبراهيم (¬3) والزهري (¬4) وأبي جعفر (¬5) وابن سيرين (¬6) نحوه. فإن قلت: فما محلُّ حديث: "لاَ يَبُولَنَّ أَحَدكمْ فِي المَاء الدّائم، وَلاَ يَغْتَسِلُ فِيهِ مِنَ الجَنَابَةِ؟ ". قلتُ: استدلّ به الكرخيّ على عدم جواز التطهير بالمستعمل، ولا يطابق عمومه فروعهم المذكورة في الماء الكثير. فيحمل على الكراهة. وبذلك أخبر راوِي الحديث. وأخرج ابن أبي شيبة (¬7)، عن جابرِ بن عبد الله قال: كُنا نستحبُّ أن نأخذ من ماء الغديرِ [15/ ب] ونغتسل به ناحيته (¬8). وما ذكر من الفروع مخالفًا لهذا فبناء على رواية النجاسة، كقولهم: لو أدخل جنبٌ أو محدثٌ أو حائض يدهُ في الإناء قبل أن يغسلها، فالقياس: أن يفسد الماء. ¬
سئلت عن مسائل وأجوبتها منقولة فلا بأس نذكرها تتميما
وفي الاستحسان: لا يفسد للاحتياج إلى الاغتراف حتَّى لو أدخل رجله يفسد الماء لانعدام الحاجة. ولو أدخلها في البئر لم يفسد؛ لأنَّه يحتاج إلى ذَلِكَ (¬1) في البئر لطلب الدلو، فجعل عفواً. ولو أدخل في الإناء أو البئر لم يفسد؛ لأنَّه يحتاج إلى ذلك في البئر، [ولو أدخل من] جسده، سوى اليد، والرجل أفسده؛ لأنَّه لا حاجة إليه. وأمثال هذه. * * * وقد سئلت عن مسائل وأجوبتها منقولة فلا بأس نذكرها تتميماً: منها: قال في البدائع: وأمَّا حوض الحمَّام الَّذي يخلص بعضه إلى بعضٍ إذا وقعت فيه النَّجاسةُ [أو توضَّأَ إنسَانٌ]. روي عن أبي يوسف: أنَّه إن كان الماء يجري من الميزاب والنَّاس يغترفون منه، لا يصير نجساً. وهكذا روى الحسن، عن أبي حنيفة؛ لأنَّه بمنْزلة الماء الجاريّ (¬2). وذكر في المنية (¬3) اختلافاً في اشتراط تدارُك الغرف، لكن عن المتأخرين ¬
وفي كتب الفروع، وَألحَقُوا بِالْجَارِي حَوْضَ الْحَمَّامِ حتَّى لو أدخلت القصعة النجسة أو اليد النجسة فيه، لا ينجس. ويتوضَّأ من الحوض الَّذي يخاف فيه قذراً ولا يتيقَّنه (¬1)، ولا يجب أن يسأل (¬2). وكذا إذا وجده متغيراً ما لم يعلم أنه من نجاسته. وكذا البئر إذا يدلى فيها الدلاء والجرار الدنسةُ يحملها الصغار والعبيد الذين لا يعلمون الأحكام، ويمسها الرستاقيون بالأيدي الدنسة ما لم يعلم يقينًا النجاسة. ولا بأس بالتَّوضُّؤ من حب يوضع كوزه (¬3) في نواحي الدَّار ويشرب منه ما لم يعلم به قذرٌ (¬4). ويكره للرَّجل أن يستخلص لنفسه إناءً يتوضأ منه ولا يتوضَّأ منه غيره (¬5). وذكر بعضهم: أنه يكره استعمال ما مسه الصغير. وفيه تأمُّل. ¬
روى ابن أبي شيبة (¬1)، عن مُزَاحِم (¬2) قال: قلت للشعبي: أكوزُ عجوزِ مخمرٌ [16/ أ] أحبُّ إليكَ أن تتوضأ منه أو المطهرة التي يدخل [فيها] الجزار يدهُ؟ قال: من المطهرة التي يدخل الجزار فيها يده. وعن رجاء قال: [رأيت] البراء بن عازب بالَ ثُمَّ جاء إلى مطهرة المسجد، فتوضأ منها (¬3). وعن ابن جريج: قلت لعطاء: أرأيت (¬4) رجلًا يتوضأ في ذلك الحوض متكشفاً (¬5)؟ فقال: لا بأس به، قد جعله ابن عباس، وقد علم أنه يتوضأ منه الأبيض والأسود (¬6). وفي رواية: وكان ينسكب من وضوء النَّاس في جوفها (¬7). وكأنهم رأوا حديث المستيقظ خاصاً به أو أنه أمرٌ تعبُّدي. على أنّ ابن أبي شيبة قد روى عن أَبِي (¬8) معاوية، عن الأعمش، عن إبراهيم قال: كان أصحاب عبد الله إذا ذكر عندهم حديث أبي هريرة قالوا: ¬
كَيْفَ يَصْنعُ أبو هُرَيْرَةَ بِالْمِهْرَاسِ الَّتِي بِالْمَدِينَةِ (¬1). والله سبحانه وتعالى أعلم. تمت الرسالة الموسومة بـ: رفع الاشتباه عن مسائل (¬2) المياه والله أعلم * * * ¬
(2) رسالة فيها أجوبة عن بعض مسائل وقعت
مَجْمُوعَةُ رَسَائِل العَلَّامَة قَاسِم بن قُطْلُوبُغَا [2] رِسَالَةٌ فِيهَا أَجْوِبَةٌ عَنْ بَعْضِ مَسَائِلَ وَقَعَتْ تَأْلِيفُ العَلَّامَة قَاسِم بْنِ قُطْلُوبُغَا الحَنَفِي المولود سَنَة 802 هـ والمتوفى سَنة 879 هـ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -
بداية الرسالة
(2) رِسَالَةٌ فِيهَا أَجْوِبَةٌ عَنْ بَعْضِ مَسَائِلَ وَقَعَتْ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وبه نستعين الحمد لله وكفى، وسلامٌ على عباده الذين اصطفى. وبعد: فإن الفقير إلى رحمة ربه الغني، قاسم الحنفي يقول: هذا ذكر جوابي عن بعض مسائل وقعت. منها: ما [حكم البئر الذي يسقط فيه عظمٌ]؟ (¬1). الجواب: الحمد لله، ربّ زدني علماً. إن كان عظم خنزير، فإنّه ينجس البئر، ويجب نزح ما فيها بعد إخراجه، وإن كان عظم غير الخنزير، فإن كان عليه دمٌ أو دسمٌ، فإنّه ينجّس البئر، وإن لم يكن عليه شيءٌ من ذلك، لا ينجّسها. والله أعلم. ومنها: في رجلٍ أصاب ثوبه من النبيذ، وصلّى فيه، هل عليه إعادة أم لا؟. الجواب: إن كان ما أصابه مسكراً، أو نقيع زبيبٍ قد غَلاَ واشتد، وَقَذَفَ بالزبَدِ، وكان أقل من ربع ثوبٍ أصابه، فلا إعادة عليه. ¬
إذا أصابوا في البئر فأرة متفسخة، وكانوا قبل ذلك قد طبخوا أو عجنوا من مائها، هل يؤكل
وإن كان قدر الربع أو أكثر فعليه الإعادة، وإن كان ما أصابه منصف أو معتق، فاختار أبو يوسف: أن [16 / ب] صلاته تامَّة، قَلَّ ما أصابه، أو كثر (¬1). وعلى قياس ما ذكر خُواهَر زَاذَهْ (¬2): إن كان الْمُنَصَّفُ (¬3) حلواً فصلاته تامّة، وإن كان قد غلا واشتدّ، فحكمه حكم المسكر المتقدم. والله أعلم. ومنها: إذا أصابوا في البئر فأرة متفسخة، وكانوا قبل ذلك قد طبخوا أو عجنوا من مائها، هل يؤكل؟. الجواب: لا يؤكل على قول أبي حنيفة. وهو الصحيح. والله أعلم. ومنها: في رجل يمسح على خرقة على جراحةٍ بيده، سقطت الخرقة عن الجراحة، وهو في الصلاة، فمضى في صلاته. هل تجزئه؟. الجواب: إن كانت على حالة وقت سقوط الخرقة مثل الحالة التي مسح فيها أجزأته، ولا يحتاج إلى تجديد مسحٍ. وإن كان يقدر على المسح على الجراحة بغير خرقة لم تجز صلاته. وعليه: أن يمسح الجراحة. والله أعلم. ومنها: في رجلٍ أخرس، أدرك بعض صلاة الإمام وفاته البعض؟. الجواب: صلاته فاسدةٌ عند الإمام، جائزةٌ عند أبي يوسف، وقول أبي حنيفة هو الصَّحيح. والله أعلم (¬4). ¬
رجل أخرس، أدرك بعض صلاة الإمام وفاته البعض؟
ومنها: في رجلٍ صلّى الظهر، فشكّ وهو في الصلاة أنه على وضوءٍ أم لا، ما الفعلُ؟. الجوابُ: إن كان ذلك أول ما عرض له أعاد الوضوءَ والصلاة، وإن كان يعرض له كثيرًا، مضى في صلاته. والله أعلم. ومنها: أنِّي سُئِلْتُ عما ذكر في (¬1) شرح القدوري: أنه إذا تعمَّد ترك الواجب أو تأخيره، لم يجب عليه سجود السهو في شيئين (¬2). ذكرها الأستاذ فخر الإسلام البديع: إذا ترك القعدة الأولى، وإذا شكَّ في بعض صلاته، فتفكَّر عمدًا حتَّى شغله ذلك عن ركنٍ. ثم قال (¬3): قلت له: كيف يجب سجود السَّهو بالعمد؟ قال: ذلك سجود العذر لا سجود السَّهو (¬4). أما حصره: فممنوع بما ذكر في الينابيع: أنه لو أخّر إحدى سجدتي الركعة الأولى إلى آخر صلاته، أو ترك القعدة الأولى، فإنّه يجب عليه سجود ¬
السهو، سواءٌ كان عامدًا أو ساهياً. ذكره الناطفي (¬1) [17/ أ] مستشهداً في الأجناس. انتهى (¬2). فوافق في ترك القعدة، وزاد تأخير السجدة. وأمَّا قول النَّاطفيِّ في العمد، وقول البديع: أن هذا سجود العذرِ، فممَّا (¬3) لم نعلم له أصلًا في الرِّواية، ولا وجهًا في الدِّراية، ويُخالفه قوله في المحيط، ولا يجب بتركه أو بتغييره عمدًا؛ لأنَّ السَّجدة شرعت جابرةً، نظرًا للمعذور لا للمتعمِّد، ولما اتَّفقوا عليه من أنَّ سبب وجوبه ترك الواجب الأصليِّ، أو تغييره ساهياً، وهذا (¬4) هو الَّذي يعتمد للفتوى والعمل (¬5). ¬
قال أبو اللَّيث (¬1) - رحمه الله - في كتاب النَّوازل (¬2): سئل أبو نصرٍ عن مسألةٍ وردت عليه: ما تقول رحمك [الله]، وقعت علينا (¬3) كتب أربعةٌ: كتاب إبراهيم بن رستم (¬4)، [و] أدب القاضي عن الخصَّاف، [و] كتاب المجرَّد، وكتاب النَّوادر، من جهة هشامٍ، هل (¬5) يجوز لنا أن نفتي منها أو لا؟ وهذه الكتب محمودةٌ عندك؟. قال (¬6): ما صحَّ عن أصحابنا فذلك علم محبوبٌ (¬7) مرغوبٌ فيه ¬
مرضيُّ (¬1) به. وأمَّا الفتيا؛ فإنِّي لا أرى لأحدٍ أن يفتي بشيءٍ لا يفقهه (¬2) ولا يتحمَّل أثقال النَّاس، فإن كانت مسائل قد اشتهرت وظهرت وانجلت عن أصحابنا، رجوت أن يسع الاعتماد عليها في النَّوازل. انتهَى. وأمّا ما ذكره من التفكّر، ففيه تفصيلٌ وخلاف، وله صورة مشهورة. أما التفصيل: فقال في البدائع (¬3): وإذا شكَّ في شيءٍ من صلاته فتفكَّر في ذلك حتَّى استيقن، فهو (¬4) على وجهين: إمَّا إن شكَّ في شيءٍ من هذه الصَّلاة الَّتي هو فيها، فتفكَّر في ذلك. وإمَّا إن شكَّ في صلاةٍ قبل هذه الصَّلاة فتفكَّر في ذلك، وهي هذه (¬5). وكلُّ وجهٍ على وجهين: أمَّا إن طال تفكُّره، بأن كان مقدار ما يمكنه أن يؤدِّي فيه ركناً من أركان ¬
الصَّلاة، كالرُّكوع والسُّجود، أو لم يطل، فإن لم تطل (¬1) فلا سهو عليه، سواء كان تفكُّره في غير هذه الصَّلاة أو في هذه الصَّلاة؛ لأنَّه إذا لم يطل لم يوجد (¬2) سبب الوجوب [الأصليِّ]، وهو ترك واجبٍ أو تأخيره (¬3) أو تغيير ركنٍ (¬4) أو واجبٍ عن وقته الأصليِّ، [و] لأنَّ الفكر القليل [17 / ب] ممَّا لا يمكن التَّحرُّز (¬5) عنه، فكان عفواً دفعًا للحرج. وإذا (¬6) طال تفكُّره؛ فإن كان تفكُّره في غير هذه الصَّلاة، فلا سهو عليه، وإن كان في هذه [الصَّلاة] فكذلك (¬7) في القياس، وفي الاستحسان عليه السَّهو. وجه القياس: أنَّ الموجب للسَّهو يمكن (¬8) النُّقصان في الصَّلاة ولم يوجد؛ لأنَّ الكلام فيما إذا تذكَّر أنَّه (¬9) أدَّاها، فبقي مجرَّد الفكر وأنَّه لا يوجب السَّهو كالفكر القليل. ¬
وكما لو شكَّ في صلاةٍ أخرى وهو في هذه الصَّلاة، ثم تذكَّر أنَّه أدَّاها، لا سهو عليه، وإن طال تفكُّره (¬1). كذا هذا. وجه الاستحسان أنَّ الفكر الطَّويل في هذه الصَّلاة ممّا يؤخِّر الأركان عن أدائها (¬2)، فيوجما تمكُّن النُّقصان في الصَّلاة، فلا بُدَّ من جبره بسجدتي السَّهو، بخلاف الفكر القصير، وبخلاف ما إذا شك في صلاةٍ أخرى، وهو في هذه الصَّلاة؛ لأنَّ الموجب للسُّجود (¬3) في هذه الصَّلاة سهو هذه الصَّلاة لا سهو صلاةٍ أخرى. انتهى. وذكر هذا في الذخيرة بزيادة بيانٍ فقال (¬4): وإذا شك في صلاته، ولم ¬
يدرِ أثلاثًا صلّى أمْ أربعاً، وتفكر في ذلك تفكراً، ثم استيقن: أنه صلّى ثلاث ركعات، فإن لم يَصِل تفكره حتَّى لم يشغله تفكره عن أداء ركنٍ بأن يصلِّي ويتفكر، فليس عليه سجود السهو؛ لأنَّه لم يؤخر ركناً، ولم يترك واجبًا، ولم يؤخر، وإن طال تفكره حتَّى شغله عن ركعة أو سجدة أو يكون في ركوعٍ أو سجودٍ فيطول في تفكره، وتغيير حاله بالتفكر، فعليه سجود السهو استحساناً. وفي القياس: لا سهو عليه؛ لأنَّ تفكره ليس إلَّا إطالة القيام أو الركوع أو السجود. وهذه الأذكار سنة، وتأخير الأركان بسبب إقامة السنة لا يوجب سجود السهو، كما لا يوجب الإساءة إذا كان عمدًا. وجه الاستحسان: أنه أخو واجبًا، أو ركناً ساهياً، لا بسبب إقامة السنة، بل بسبب التفكر، وليس التفكر من أعمال الصلاة، فيلزمه سجود السهو كما لو زاد ركوعاً أو سجوداً في صلاته، بخلاف ما إذا طال الركوع أو السجود [18 / أ] أو القيام ساهياً حيث لا يلزمه سجود السهو؛ لأنَّ التأخير حصل بفعلٍ هو من أفعال الصلاة، وذلك سنة إذا لم يكن واجباً وتأخير الركن أو الواجب متى كان بسبب إقامة فعلٍ من أفعال الصلاة ساهياً، لا يوجب سجدتي السهو. انتهى. وأما الاختلاف، فقال أبو نصر الصفّار (¬1): هذا كله إذا كان التفكير يمنعه عن التسبيح، أما إذا كان لا يمنعه عن التسبيح، بأن كان يسبح ويتفكر ويقرأ ¬
لا يلزمه سجود السهو في الأحوال كلها (¬1). وخالفه شمس الأئمة (¬2) فقال: ما قال في الكتاب: وإن شغله تفكرهُ. ليس يريد به أنه شغله التفكير عن ركنٍ أو واجبٍ، فإن كان يوجب سجدتي السهو بالإجماع، ولكن أراد به شغل قلبه بعد أن تكون جوارحه مشغولة بأداء الأركان على نحو ما بينّا في المسألة المتقدمة (¬3). انتهى. ويوافق الأول ما ذكر في غريب الرواية عن البلخيّ (¬4) في نوادره، عن أبي حنيفة: أنَّ من شكَّ في صلاته فأطال تفكُّره، إن كان ذلك في قيامه أو ركوعه أو سجوده أو قومته أو قعدته الأخيرة لا سهو عليه، وإن كان في جلوسه بين ¬
السَّجدتين فعليه السَّهو؛ لأنَّ له أن يطيل اللُّبث في جميع ما ذكرنا إلَّا فيما بين السَّجدتين والقعود في وسط الصَّلاة (¬1). ويوافق الثاني تعليل المسألة، وبه تخريج الجواب عن هذا التعليل. والله أعلم. ومنه قوله: وإن كان تفكره في غير هذه الصلاة إلخ. جعله في المحيط بعض رواياتٍ فقال: شك في صلاةٍ صلاّها قبل ذلك فتفكر، فطال تفكره. ذكر في بعض الروايات: لا سجدة عليه؛ لأنَّه لم يسهُ عن هذه الصلاة؛ لأنَّه لم ينسَ شيئًا من أفعال هذه الصلاة، فلا تلزمه السجدة، وإن أخّر فعلًا كسهوٍ عن أمرٍ من أمور الدنيا فتفكر حتّى أخّر ركناً أو واجبًا في بعض الروايات: أنه يلزمه السهو؛ لأنّ هذا السهو أخّر ركناً أو واجبًا، فتمكن النقص في صلاته، كما تمكّن بالسهو في فعلٍ من أفعال هذه الصلاة، بخلاف السهو في أعمال الدنيا؛ لأنَّه لم يجب عليه حفظها في الصلوات إنمّا يجب عليه حفظ أعمال هذه الصلاة (¬2). انتهى. ¬
وهذا ترجيحٌ بخلاف ما في البدائع والذخيرة. والله أعلم. أمَّا صوره المشهورة: ففي فتاوى قاضي خان (¬1): ولو افتتح الصلاة، ثم شكَّ أنَّه هل كبّر للافتتاح، ثم تذكَّر أنَّه كان كبَّر، شغله [18 / ب] التَّفكُّر عن أداء شيءٍ من الصلاة، كان عليه السهو، وإلَّا فلا. وفي الذخيرة: شكّ في حال القيام أو بعده أنه هل كبَّر للافتتاح أم ¬
لا، وطال تفكّره فيه فعلم أنه قد كبّر فبنى أو ظنّ أنه لم يكبّر فكبّر، وقرأ بناءً عليه، فعليه سجدتا السهو. وفي الظهيرية (¬1): المصلِّي إذا فرغ من القراءة وتأنّى وتفكر أيّ سورة يقرأ أو مكث مقدار ما يؤدي ركناً فعليه السهو. وفي قاضي خان: ولو شكّ في ركوعه وسجوده وطال تفكّره كان عليه السهو. وهذا يوافق ما قال شمس الأئمة. وقد قدّمنا عنه في غريب الرواية: وإن كان في جلوسه بين السجدتين فعليه السهو. وفي البدائع (¬2): ثم لا فرق، بين ما (¬3) إذا شكَّ في خلال صلاته، فتفكَّر حتَّى استيقن، وبين ما إذا شكَّ في آخرها (¬4) بعدما قعد قدر التَشهُّد الأخير، ثم استيقن في حق وجوب السَّجدة؛ لأنَّه أخَّر الواجب وهو السَّلام (¬5). وكذا لا فرق بينه وبين ما إذا سبقه الحدث في الصَّلاة، فذهب الوضوء ¬
المسبوق إذا سلم مع الإمام ساهيا، هل تبطل صلاته؟
فشكَّ أنه صلّى ثلاثًا أو أربعًا وشغله ذلك عن وضوئه ساعة، ثم استيقن، فأتمَّ وضوءه أو شَكَّ بعد الوضوء قبل أن يعود إلى الصَّلاة، فتفكَّر ساعةً، ثم استيقن، حتَّى يجب عليه سجود السَّهو في الحالين إذا طال تفكُّره؛ لأنَّه في حرمة الصَّلاة، وإن كان غير مؤدٍّ لها (¬1). والله أعلم. ومنها: المسبوق إذا سلَّم مَعَ الإمام ساهيًا، هل تبطل صلاته؟. فأجبت: أنها لا تبطل، بل يبني على ما مضى. فقيل: إنَّ بعض من ينسب إلى الفقه قال: إِنه تبطل صلاته، وإنَّ هذا حكم النَّاس عنه غافلون، وأنهّ قياس مسائل ذكرها. فقلت: هذا ممَّا لا يعرفه في هذا المذهب. وهاك النقل. قلت: قال الإمام الكرخي (¬2) في المختصر: وإن سلّم المسبوق حين سلم الإمام ساهياً، فإنهّ يبني على صلاته، وعليه سجدتا السهو؛ لأنَّه سهى وقد خرج من صلاته (¬3). ¬
وقال في الإيضاح: وإن سلّم - يعني المسبوق - ساهياً حين سلّم الإمام، بنى على صلاته، وعليه سجود السهو؛ لأنَّ سلام السّاهي لا يخرجه من الصَّلاة؛ لأنَّه من جنس ما شرع في الصَّلاة. وقال في [19 / أ] البدائع: ثم المسبوق إنّما يتابع الإمام في السهو دون السلام، فإن سلَّم مع الإمام، فإن كان ذاكرًا لما عليه من القضاء، فسدت صلاته؛ لأنَّه سلام عمد، وإن لم يكن ذاكرًا لم تفسد؛ لأنَّه سلام سهو، فلا يخرجه عن الصَّلاة، وهل يلزمه سجود سهو لأجل سلامه ينظر إن سلّم قبل تسليم الإمام أو معه لا يلزمه؛ لأنَّ سهوه سهو مقتدٍ، وسهو المقتدي متعطّلٌ. وإن سلّم بعد تسليم الإمام يلزمه؛ لأنَّ سهوه سهو منفردٍ، فيقضي ما فاته، ثم يسجد للسهو في آخر صلاته. انتهى. وقال في المحيط (¬1): ولو سلم المسبوق إن كان عامدًا، تفسد صلاته، ¬
وإن كان ساهياً إن سلَّم مع الإمام لا يلزمه السجود؛ لأنَّه مقتدٍ به، وإن سلم بعده يلزمه؛ لأنَّه منفردٌ. انتهى. وقال في الذخيرة: المسبوق بركعةٍ إذا سلّم مع الإمام ساهياً لا يلزمه سجود السهو؛ لأنَّه مقتدٍ بعد، وإن سلّم بعد الإمام كان عليه؛ لأنَّه منفرد. وقال في الينابيع: يتابع الإمام ولا يسلم معه، ولو سلّم معه إن كان ذاكرًا لما عليه من القضاء، فسدت صلاته، وإن كان ناسياً لم تفسد. وقال في شرح المجمع لابن فرشته (¬1): ولو سلم المسبوق إن كان عامدًا تفسد صلاته، وإن كان ساهياً إن سلّم مع الإمام لا يلزمه السجود؛ لأنَّه مقتدٍ به. وإن سلّم بعده يلزمه؛ لأنَّه منفردٌ. فهذا نقل أرباب المذهب من الصَّدر الأول منهم، وإلى هلمَّ جرًّا على ما أجبت. ولله الحمد. فلا يلتفت إلى قول من لا روايةً له، ولا دراية. والله أعلم. ومنها: إذا قرأ جماعة آية السجدة، وسمعها بعضهم من بعض؟. فأجبت: بأنه يجب سجدة واحدة على كل واحدٍ، لاتحاد المجلس. وأورد عليّ: بأن التداخل يكون في السبب الواحد إذا تكرر. وهنا السبب ¬
إذا قرأ جماعة آية السجدة، وسمعها بعضهم من بعض؟
مختلف، فكان هنا كما لو أقر الإنسان بالدراهم ولآخر بدنانير. ولعبده بالعتق في مجلسٍ واحدٍ، فإنّه لا يجمع. فأجبت بأن هذه الأسباب لما اتّحد سببها، كان الثاني مؤكداً بخلاف ما ذكر. يدلّ عليه قوله في البدائع (¬1) [19/ ب]: ولو اجتمع سبباً الوجوب وهما (¬2): التِّلاوة والسَّماع، بأن تلا آية السجدة ثم سمعها، أو سمعها ثم تلاها، أو تكرَّر أحدهما. فالأصلُ: أنَّ السَّجدة لا يتكرَّر (¬3) وجوبها إلَّا بأحد أمورٍ ثلاثةٍ: إمَّا باختلاف المجلس، أو التِّلاوة، أو السَّماع. وقولهم: روي أنَّ جبريل - عَليهِ السَّلام - كَانَ يَنزِلُ بِالوَحْيِ، فَيقرَأ آيَةَ السَّجدَةِ عَلَى رَسُولِ اللهِ - صَلَّى الله عليه وسلم - وَرَسُولُ اللهِ - صَلَّى الله عليه وسلم -، كَانَ يَسمَعُ وَيتَلَقَّنُ، ثُمَّ يَقرَأُ عَلَى الصَّحَابَةِ، وَكَانَ لاَ يَسْجُدُ إلَّا مَرةً وَاحِدَةً (¬4). والله أعلم. ومنها: رجلٌ معهُ سطلُ ماءٍ يشربُ منه النَّاس يوم الجمعة، والإمام يخطب. الجواب: قلت: روى المعلّى، عن أبي يوسف، عن أبي حنيفة: أكرهُ شربَ الماء والإمام يخطب يوم الجمعة (¬5). والله أعلم. ¬
رجل معه سطل ماء يشرب منه الناس يوم الجمعة، والإمام يخطب
ومنها: رجلٌ أجَّرَ دارًا من رجلٍ بألف درهم، فحال الحول بعد ذلك بأيامٍ يسيرة، ولكلٍّ من المؤجّر والمستأجر مال، يجب فيه الزكاة، فماذا عليها؟. الجواب: إن كان المؤجر قد قبض الألف، فزكاتها عليه، وإن لم يكن قبض فعليه بقدر ما يسكن المستأجر. والله أعلم. ومنها: رجلٌ له ثلاث مئة قد حال عليها الحول، فخلطها بخمس مئة، ثم ضاع من المال كله خمس مئة. الجواب: يجب عليه خمسة عشر درهمًا وربع نصف ثمن درهم؛ لأنَّ الرواية أن يقسم ما ضاع على كل المال، فما أصاب الثلاث مئة يُهدرُ. وما أصاب الباقي يزكي. والله أعلم. ومنها: في رجلٍ صائم قال له آخر: امرأته طالق إن لم يفطر، هل يسعه أن لا يفطر، وتطلق امرأة الرجل؟. الجواب: إن كان صائمًا عن قضاء رمضان، وسعه أن لا يفطر وإن كان صائمًا متطوعاً. فيفطر. والله أعلم. ومنها: ما معنى قولهم: ويكرهُ التقبيل الفاحش؟ الجواب: هو أن يمضغ شفة المرأة (¬1). والله أعلم. تمت * * * ¬
(3) النجدات ببيان السهو في السجدات
مَجْمُوعَةُ رَسَائِل العَلَّامَة قَاسِم بن قُطْلُوبُغَا [3] النَّجَدَات بِبَيَانِ السَّهْوِ في السَّجْدَاتِ تَأْلِيفُ العَلَّامَة قَاسِم بْنِ قُطْلُوبُغَا الحَنَفِي المولود سَنَة 802 هـ والمتوفى سَنة 879 هـ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -
بداية الرسالة
(3) النَّجَدَات بِبَيَانِ السَّهْوِ في السَّجْدَاتِ قال - رحمه الله تعالى -: هذا تعليقٌ وضعته لبيان السهو في السَّجدات حسب بعض الراغبين من السادات علم [20/ أ] الله ما لم يعلم، ونفعه بما تعلم، ومسائله على قسمين: الأوّل: فيما إذا علم عدد السَّجدات التي سهى عنها وعلي محلّها من الصَّلاة. والثاني: فيما إذا علم عددها، ولم يدرِ محلّها. إذا علمت هذا، فنقول: [القسم الأول]: إذا تذكر أنه إذا ترك سجدة من الركعة الأولى من صلاة الفجر، سواء كانت السجدة الأولى أو الثَّانية على تقديرٍ أو في زعمه، فإنّه يسجدها بنية القضاء. ويتشهد ويسلّم ويسجد للسهو على ما عرف؛ لأنَّه أتى بأكثر أفعال الصَّلاة ينفلون (¬1) لكن القضاء وليس التَّرتيب بين السجدتين بفرض، فلذا: يصح القضاء. ولو تذكر أنه ترك سجدةً من الركعة الثَّانية سجدها وأتم كما مرَّ. ولو تذكر أنه ترك سجدتي الركعة الأولى يصلِّي ركعة ويتشهد ويسلّم ويسجد للسهو؛ لأنَّه لما قرأ وركع في الأولى حصل هذا الركوع في محله، ¬
ويوقف على أن يتقيد بالسجود، فلما قام وقرأ وركع وقع هذا تكراراً وَلا يعتد به، ولا يفسد، لأنَّه من جنس الصَّلاة، فلما سجد يفسد به الركوع الأول، فلم يكن صَلَّى سوى ركعة واحدة. فلذا قلنا: يضم إليها أخرى إلى آخر ما ذكرنا، ولو تذكر أنه ترك سجدتي الركعة الثَّانية سجدها وأتم كما مرّ. ولو تذكر أنه ترك سجدةً من الأولى وسجد في الثَّانية سجد ثلاث سجدات ينوي بالأولى القضاء، ويتم، كما مر، وعكس هذه سجد سجدة، ويصلي ركعة، ويتم. ولو تذكّر أنه لم يسجد شيئاً في الركعتين سجد سجدتين. ثم يقوم فيصلي ركعة أخرى، ويتم للوجه الذي ذكرناه. ولو تذكر أنه ترك سجدة من أول الظهر أو ثانيتها أو ثالثتها أو رابعتها سجدها وأتم، وينوي القضاء فيما سوى الرابعة. ولو تذكر أنه ترك من الأولى سجدة، ومن الثَّانية سجدة سجدهما بنية القضاء. ولو تذكر أنه ترك سجدة من الأولى وسجدة من الثَّانية، وسجدة من الثالثة، سجد ثلاث سجدات بنية القضاء. ولو تذكر أنه ترك أربع سجدات من كل ركعة سجدة سجد أربعاً ينوي القضاء في ثلاث لأنهن فوائت، والقضاء لا يتأدّى إلَّا بالنية [20 / ب] المعينة بخلاف الرابعة؛ لأنّها في محلّها. فعلمَ: أن الرّكعة تتقيد بسجدة، وأن السَّجدة (¬1) ¬
تصير فائتة عن محلّها إن تخلل بينها وبين محلّها ركعةً تامّة؛ لأنّ ما دون الرّكعة يحتمل الرفض فيرتفض، وتلحق بمحلها. ولو تذكّر أنه ترك سجدتي أولى الظهر قام فصلّى ركعةَ، وأتمَّ. ولو تذكّر أنه ترك سجدتي أولى الظهر، وسجد من الثَّانية أو عكسه سجد سجدة، ثم قام فصلّى ركعة. ولو تذكّر أن ترك سجدات الشفع الأولى، قام وصلّى وأتمّ. ولو تذكّر أنه ترك الأولى وسجدات الثَّانية والثالثة أو واحدةً من الثَّانية وسجدات الأولى والثالثة سجد سجدة وصلى ركعتين، ثم صلّى ركعتين وأتمَّ. ولو تذكّر أنه سجد سجدة في الأخيرة فقط سجد أخرى، ثم قام فصلّى ركعة، وتشهد، ثم صلّى ركعتين وأتمَّ. وكذا لو تذكّر أنه سجد في الأولى سجدةً واحدةً، ولم يسجد فيما عداها. وكذا لو تذكّر أنه سجد في الثَّانية أو الثالثة. ولو تذكّر أنه ترك جميع السَّجدات في جميع الركعات سجد سجدتين، ثم يصلِّي ركعةً، ثم يتشهد، ثم يصلِّي ركعتين ويُتم العصر والمغرب والعشاء في هذا سواء. القسم الثاني: لو تذكّر أنه ترك ترك سجدة من الفجر، ولم يدرِ محلها سجد سجدةً ينوي بها ما عليه لاحتمال أنه تركها من الأولى، ويتشهد ويسلم، ويسجد للسهو كما عُلمَ. ولو تذكّر أنه ترك سجدتين سجد سجدتين أوّلاً لاحتمال أنه تركها من
الركعتين، ويقعد قدر التشهد لاحتمال أنهما من الثَّانية، ثم يقوم ويصلي ركعة لاحتمال أنهما من الأولى، ثم يتم. وإن تذكّر أنه ترك ثلاث سجداتٍ فيسجد ثلاث سجداتٍ، ينوي بواحدةٍ قضاء ما عليه، لاحتمال أنه ترك واحدةً من الأولى، وسجدتي الثَّانية. ويتشهد لهذا الاحتمال، ثم يقوم ويصلي ركعةً لاحتمال أنه ترك سجدتي الأولى وواحدة من الثَّانية، ثم يتشهد ويسلم، ويسجد للسهو. ولو تذكّر أنه ترك سجدةً من المغرب [21 / أ] سجدها وينوي ما عليه. ولو تذكّر أنه ترك سجدتين، يسجد سجدتين، ويتشهد لاحتمال أنهما من ركعتين، أو من الأخيرة، ثم يقوم فيصلي ركعةً لاحتمال أنها من ركعة غيرها. ولو تذكّر أنه ترك منها ثلاث سجدات سجد ثلاثًا. ينوي بها ما عليه، ويتشهد لاحتمال أنه ترك على الولاء واحدة من الثَّانية، وثنتين من الثالثة. ولاحتمال أنه ترك من كل ركعةٍ سجدة، وصلّى ركعة لاحتمال أن يكون ترك واحدة من الأولى وسجدتي الثَّانية، فيكون قد تقيدت الأولى بالسجدة، ووقع ركوع الثَّانية في غير محلّه، ووقع ركوع الثالثة مكرراً، فيقيد الركوع الثاني بسجود الأخيرة. فلذا قلنا: يتشهد ويصلّي ركعة، ويحتمل أنه ترك سجود الأولى، وواحدة من الثَّانية، فيكون ركوع الأولى حصل في محلّه، وركوع الثَّانية مكرراً، فيقيد ركوع الأولى بالسجدة في الثَّانية، ولا يختلف الحال. ولو تذكّر أنه ترك أربع سجدات سجد سجدتين، ولا يقعد ويصلي ركعتين، ويقعد بينهما. ويحتمل: أنه أتى بهما في ركعتين فعليه سجدتان
وركعة إلَّا أنّ الركعة داخلة في الرّكعتين. ولو تذكّر أنه ترك خمسًا سجد سجدةً ينوي بها عن الركعة التي قيدها بالسجدة، ثم يصلِّي ركعتين يقعد بينهما؛ لأنَّه أتى بسجدة، فيحتمل أنها من الأولى فتتقيد بها، ولا تلغوا. فلذا يسجد سجدةً، ثم يصلِّي ركعتين يقعد بينهما ويحتمل (أنّه) (¬1) منَ الثَّانية. فيكون ركوع الأولى معتدًا به، وركوع الثَّانية مكرراً. فتتقيد الأولى بالسجدة التي في الثَّانية، فلم يكن صَلَّى سوى ركعة بسجدة، فلذا يسجد سجدةً، ثم يصلِّي ركعتين، كما ذكرنا. ويحتمل أنها من الأخيرة، فلا يختلف الحال. ولو تذكّر أنه ترك من الظهر سجدةً، سجدها. ينوي بها ما عليه لاحتمال أنهّا من غير الأخيرة. فلو تذكّر أنه ترك سجدتين سجدهما. ينوي ما عليه لاحتمال أنهّا من ركعتين، وإن كانتا من الأخيرة، فلا يضره النية، ثم يصلِّي ركعةً لاحتمال [21 / ب] أنهّا من ركعةٍ واحدةٍ غير الأخيرة. ولو تذكّر أنه ترك ثلاث سجدات، سجد ثلاثًا. ينوي بها ما عليه لاحتمال أنهّا من ثلاث ركعات أو من الثالثة أو واحدة وسجدتا الرابعة، ثم يقعد قدر التشهد بهذا الاحتمال، ثم يصلِّي ركعةً لاحتمال أنه ترك واحدةً من ركعة، وثنتين من ركعة. ولو تذكّر أنه ترك أريعاً سجد أريعاً، ويقعد قدر التشهد، ويختلف الحال لاحتمال أنه ترك من كل ركعةٍ سجدة، ثم يصلِّي ركعتين ويقعد قدر التشهد، ولا يختلف الحال لو كان ترك سجدتي الأولى وواحدة من الثَّانية وواحدة من ¬
الثالثة أو واحدة من الأولى وسجد في الثَّانية وواحدة من الثالثة أو الرابعة أو واحدة من الأولى وسجدتي الثالثة وواحدة من الرابعة أو واحدة من الأولى وواحدة من الثَّانية أو الثالثة وسجدتي الرابعة. ولو تذكّر أنه ترك خمسًا سجد ثلاثًا، ولا يقعد بعدها، لأنَّ القعدة، ترددت بين السنة والبدعة. وما كان كذلك فسبيله الترك بثباته أنه أتى بثلاث سجدات، فيحتمل أنه سجد سجدتي الركعة الأولى وسجد في الثَّانية سجدةً واحدةً أو العكس، فتكون القعدة سنة. ويحتمل أنه سجد في ثلاث ركعاتٍ، فتكون القعدة بدعة، ثم يصلِّي ركعتين لاحتمال الأولى، ويقعد بينهما قدر التشهد للاحتمال الثاني. وإن تذكّر أنه ترك ستاً سجد سجدتين، ثم يصلِّي ركعتين، ويقعد قدر التشهد، ثم يصلِّي ركعةً ثالثة ويقعد ويتشهد؛ لأنَّه أتى بسجدتين، فإن كان أتى بهما في ركعتين فعليه سجدتان وركعتان أو في ركعة، فعليه ثلاث ركعات فيجمع بينهما. وإن تذكّر أنه ترك سبعاً سجد سجدةً ينوي بها ما عليه من الركعة التي سجد فيها، ثم يصلِّي ركعةً ويقعد قدر التشهد، ثم يتم ركعتين ولا يتصور لنا: أن نترك ثمانياً؛ لأنَّه لا يدري محلها. وفي الباب فروعٌ أُخَرُ [22 / أ] يُعْرَفُ مِنْ هذا بأدنى تأمُّلٍ. والله الموفق. * * *
(4) أحكام الفأرة إذا وقعت في الزيت ونحوه
مَجْمُوعَةُ رَسَائِل العَلَّامَة قَاسِم بن قُطْلُوبُغَا [4] أَحْكَامُ الفَأْرَة إِذَا وَقَعَتْ فِي الزَّيتِ وَنَحْوِه تَأْلِيفُ العَلَّامَة قَاسِم بْنِ قُطْلُوبُغَا الحَنَفِي المولود سَنَة 802 هـ والمتوفى سَنة 879 هـ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -
بداية الرسالة
(4) أَحْكَامُ الفَأْرَة إِذَا وَقَعَتْ فِي الزَّيتِ وَنَحْوِه قال - رحمهُ اللهُ -: قد سألني بعض المشتغلينَ عن الفأرةِ إذا ماتت في الزيت ونحوه. فقلتُ: عن علمائنا - رحمهم الله تعالى - يتنجَّس فلا يؤكل ويراقُ أو ينتفع به في غير الأكل. هكذا وردت عنهم إطلاقات لم يذكر معها مفسد بمقدارٍ. وروي عنهم: أن المائع كالماء في القلة والكثرة. قال شيخنا في شرح الهداية: يَعْنِي كُلُّ مِقْدَارٍ لَوْ كَانَ مَاءً يَنْجُس، فَإِذَا كَانَ غَيَّرَهُ يُنَجَّسُ (¬1). انتهى. وقول علمائنا في الماء: إن القليل كماء الأواني والحياض الصغيرة، ينجّس بمخالطة النجاسة وإن قلّت تغير أو لم يتغير. وإن ماء الغدران والمصانع والحياض الكبيرة ينجس منه ما غلب على ظن المبتلى به وصول النجاسة إليه. وروي اعتبارٌ بالحركة، فما تحرك أحد طرفيه بتحريك الآخر فهو ممَّا يخلص للنجاسة إلى طرفه، وما لا فلا. ¬
واختلف في الحركة: بماذا هي؟. فقيل: بالغسل. وقيل: بالوضوء. وقيل: بغسل اليد. ورجّح الوسط. وروي عن محمد اعتبار ذلك بالمساحة، وصحّح أنها عشرٌ في عشرٍ. وروي عن أبي يوسف: أنّ ما لا يتحرك أحد طرفيه بتحرك الآخر كثيرٌ لا ينجس إلَّا بالتغير (¬1). ¬
تنجس الدهن
قال القدوري في التقريب: قال يعقوب: في المصانع يكون فيها الجيفة، وهي لا يتحرك طرفٌ منها بتحريك الآخر، جاز الوضوء منها، إلاّ أن يرى الجيفة، وكذا الماء الجاري. وقال الشيخ أبو عبد الله محمد بن رمضان في كتابه المسمّى بالينابيع (¬1): قال أبو يوسف فِي ساقيةٍ صغيرةٍ فيها كلب ميِّتٌ قد سدَّ عرضها فتجرِي الماءُ فوقهُ، وتحتهُ أنَّه لا بأس بالوضوء من أسفل الكلبِ. انتهى. وهذا اختيارٌ لصحّة دليله، وتوافق فروعه، بخلاف غيره. والله أعلم. وإذا تنجّس الدهن: روي عن أبي يوسف: أنه إذا جعل في إناءٍ ثُمَّ صُبَّ عليه الماء فإذا (¬2) علا الدهن، رُفِعَ بشيءٍ، ثم يفعل هكذا ثلاثًا، فيطهر. وبهذا يفتي، فلو تعسّر هذا أو لم يفعل جازَ الانتفاع به نجساً في غير الأكل، ولو بيع [22/ ب] جازَ البيع، فإن كان المشتري عالمًا بذلك فلا خيار له، وإلاَّ فله الخيار. ولو اتخذ صابوناً كان الصّابون طاهراً على قياس قول محمد في طهارة النجس إذا استحال. وبه يفتي. وهذه عبارات علمائنا رحمهم الله في ذلك، أوردها تبركاً بها، وردًّا على من يستبعد ذلك، ممَّا لا علمَ له. ¬
قال الشيخ الإمام العالم العلاّمة أبو الحسن عبيد الله بن الحسين (¬1) الكرخي في كتابه المسمّى بالمختصر: وما وقع في الماء الذي يكون في الأواني ممَّا له دمٌ سائلٌ وهو ممَّا لا يعيش في الماء، فماتَ فيها، فسبيله سبيل النجاسة المائية في تنجّس الماء، وغسل الماء ثلاثًا. فإن كان الذي مات فيه شيئًا غير الماء، فإن كان جامداً، ألقي وما حوله، وإن كان مائعاً، نجس وأريق كله، وغسل الإناء ثلاثًا، ولا بأس أن ينتفع بالجامد الملقى والمائع من ذلك في الاستصباح به، والانتفاع به من غير أن يأكل ذلك أو يأكل ما يقع فيه. انتهى. وقال الشيخ الإمام العالم العلامة أبو عبد الله محمد بن رمضان في كتابه المسمّى بالينابيع في معرفة الأصول والتفاريع: وروي عن أبي يوسف في دهنٍ أصابته النجاسة، بأنه يجعل في إناءٍ، فيصب عليه الماء، فيعلو الدهن على الماء، فيرفعه بشيءٍ، فإذا فعل ذلك ثلاث مرات يطهر في المرة الثالثة. ¬
ولو أنّ فأرةً ماتت في السّمن، إن كان السَّمن جامداً، يقوّر (¬1) ما حوله، ويؤكل الباقي. وإن كان مائعاً، لم يؤكل وينتفع به في غير أكل كالاستصباح، ودبغ الجلود وغيرها. وله أن يبيع ويبيِّن ما فيه من العيب، فإن لم يبيِّن ذلك، فالمشتري بالخيار: إن شاء ردّه على البائع، وإن شاء أمسكه. والجامد ما إذا قدره بقي المقدّر على حاله، وإن لم يبقَ المقدر على حاله فهو مائعٌ. ولو أنّ دناً من خمرٍ وقعت فيه فأرةٌ، وماتت، ثم أخرجت الفأرة، وصار الخمر خلاً. قال بعضهم: يحل أكلهُ، وإن تفسخت لا يحل. وهذا القول أصحُّ. وقال نصيرٌ: سألت شداد عن حوضٍ فيه عصيرٌ مقداره عشرة في عشرة، فبال إنسانٌ فيه. فقال: هو كالجاري يفسد [23 / أ] ما يفسد الماء (¬2). وقال الشيخ الإمام شمس الدين القونوي في كتابه المسمّى بدرر البحار: ولا يطهر - يعني: أبا يوسف - ما استحال بالنار ونحوها وطهّره - يعني: محمد - فقوي معنى، وهو المفتى به. ¬
وقال الإمام القدوري في كتابه المسمّى بالتقريب: وذكر الطحاوي عن أصحابنا في النجاسة: إذا احترقت طهرت، ولم يحكِ خلافًا. وذكر ابن رستم الخلاف قال: يطهر عند محمد (¬1). وعند يعقوب لا يطهر. وذكر ابن شجاع، عن أبي يوسف روايتين، وظاهر مذهب الإمام كقول محمّدٍ. وعلي هذا الاختلاف: الخنزيرُ إذا وقع في الملاَّحةِ، فصار ملحاً. والجلالة إذا دفنت فانقلبت وصارت أرضًا. وقال في الحصر: احترق الروث فصار رماداً، أو وقعت العذرة في البئرِ فصارت عرور كعرور الرماد حمأة، أو الحمار في المملحة فصار بمضي الزمان ¬
ملحاً، طهر عند محمد خلافًا ليعقوب (¬1). وعلي قول محمَّدٍ فرَّعوا الحكم بطهارة صابونٍ صنع من زيتٍ نجسٍ (¬2). وذكره شيخنا في شرح الهداية قال: وكثيرٌ من المشايخ اختاروا قول محمّدٍ، وهو المختار. انتهى. قلتُ: وجعله شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيميّة أصحّ قول العلماء (¬3)، واختاره أبو محمد ابن حزم وانتصرَ لهُ. واللهُ الموفق. ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
وأمّا مذهب مالك: فقال ابن الحاجب: "وفي قليل النَّجاسة في كثير الطَّعام المائع قولان" (¬1). ¬
قال الشيخ خليل في شرحه: أي: وفي تأثير قليل النجاسة فعدم التأثير كالماء. والتأثير لأنَّ الماء له مزية بتطهير العين الباقي. والمشهور: التأثير. قال ابن دقيق العيد: ولو فرَّق بين ما يعسر الاحتراز منه (¬1) كروثِ الفأرة فيعفى [عنه]، وبين ما لا يعسر كبول ابن آدم، فينجِّس لما بعد (¬2). ¬
ويفهم من قوله: "قليل"، أنّ النَّجاسة لو كانت كثيرة أفسدت، وإن كان الطعام كثيرًا. "وأمّا الجامد كالعسل والسّمن الجامدين فينجس ما مرت (¬1) به خاصّة قليلة أو كثيرة، فيلقى (¬2)، وما [23/ ب] حولها بطول (¬3) مكثها وقصره" (¬4). قال ابن الحاجب: "وفي استعمال النجس لغير أكل كالوقود وعلف الدواب والنّحل (¬5) قولان" (¬6). قال الشيخ خليل: والمشهور من القولين: الجواز. والوقود مقيّد بغير المساجد. قال ابن الحاجب: "وفي طهارة الزيت النجس ونحوه قولان" (¬7). قال الشيخ خليل: قال ابن بشير: المشهور في ذلك كله؛ لأنَّه لا يطهر. وقال ابن الحاجب (¬8): وهما جاريان في كل نجاسة، تغيرت أعراضها ¬
كرماد الميتة - يعني: القولين المتقدمين - في لبن الجلاّلة جريان فيما ذكر. ويرجّح غيره عدم الطهارة. وأمّا مذهب أحمد بن حنبل: فقال الزركشي في شرح الخرقي (¬1): إذا وقعت (¬2) النجاسة في مائعٍ، ففي أحد الروايات: أنه ينجسٌ قلَّ أو كثرَ. وهي اختيار عامّة الأصحاب. الثَّانية: حكم الماءِ حكم المائعِ. اختارها أبو العباس. الثالثة: ما أصله الماء كالحل ونحوه. حكمه حكم الماء، وما لا فلا. وقال في الزيت النجس: ويجوز الاستصباح به في أشهر الروايتين. وهي اختيار الخرقي. والثانية: لا يجوزُ. ومنع أحمد من دهن الجلود به، ولا يحل أكله ولا بيعه. هو المشهور المجزوم به، عند عامّة الأصحاب. وعنه رواية: أنه يجوز بيعه لكافرٍ يعلم بنجاسته. وخرَّج أبو الخطاب وغيره قولًا بجواز بيعه مطلقًا من رواية: الاستصباح؛ لأنَّه إذاً مُنْتَفَعٌ (¬3) به. ¬
وخرَّجَ أبو البركات ذلك على القول بتطهيره بالغسل؛ لأنَّه إذًا كالثَّوب المتنجّس. وهذا أصحُّ إلَّا أنَّهُ بناءٌ على ضعيفٍ. انتهى. قال الشيخ العلامة ابن مفلح الحنبلي في كتابه المسمّى بالفروع (¬1): ولا باستحالة ذي رأي لا يطهر شيءٌ باستحالة ونارٍ. وعنه: بل بقي عن الإمام أحمد رواية أخرى: أنه يطهر بالاستحالة والنار. قال: وعليهما (¬2) يتخرج عمل زيتٍ نجسٍ صابوناً ونحوه. انتهى. فقد علمت: أن عن الإمام مالك وأحمد كقولنا. وإنما الاختلاف في ترجيح أحد القولين. وهنا أنا أذكر لك ما حضرني من الأدلة على محلّ النّزاع، والله [24/ أ] ولي الإعانة. روى الطحاوي في المشكل (¬3)، والحاكم في. . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
المستدرك (¬1)، عن أبي هريرة: قال رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم -: "إِذَا وَقَعَتِ الفَأرَةُ فِي السَّمْنِ، فَإِنْ كَانَ جَامِداً فَألْقُوْهَا وَمَا حَولَهَا، وَإنْ كَانَ ذَائِباً فَاسْتَصْبِحُوا - أَوْ: فَانتفِعُوا - بِهِ". قال الحاكم: صحيح على شرطهما. وقال الإمام الحافظ أبو بكر بن أبي شيبة في مصنفه (¬2): حدّثنا عبد الوهاب الثَّقفيُّ، عن برد، عن مكحولٍ: أَنَّ فَأرَةً وَقَعَتْ فِي زيتٍ، فَسَألوا النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم -؟ قَالَ: "اسْتَصْبِحُوا بِهِ وَلاَ تأكلُوه". وكانَ مكحولٌ يقولُ: إِذَا وَقَعَتْ فِي السَّمْنِ وَكَانَ (¬3) جَامِداً أُلقيَ وَمَا حَوْلَهُ، وَأكُلَ مَا سِوَى ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ ذَائِباً لَمْ (¬4) يُؤْكَلْ مِنْهُ شَيءٌ. ¬
وهذا حديثٌ مرسلٌ، والمرسلُ عندنا حجّة، وكذلك عند مالك، وروايةٌ عن أحمد. وقد بيَّنتُ أرجحية القول بقبول الْمُرْسَلِ فِي مقدمة شرح القدوري، ونزهة الرائض فليطلبه ثمّة من أراد الوقوف عليه، ومن يرد المرسل يقبله إذا جاء موصولًا من طريقٍ أخرى. وهذا كذلك. فإن طريق الطحاوي والحاكم غير هذه، فإنّها عن (¬1) عبد الواحد بن زياد، عن معمر، عن الزُّهريّ، عن سعيد بن المسيّب، عن أبي هريرة، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -. قال ابن أبي شيبة: حدّثنا هشام، عن أبي بشر، عن نافع: أنَّ جرذاً وقعَ في قدرٍ؛ لآلِ ابْنِ عُمَرَ، فَسُئِلَ؟ فقال: انتُفِعُوا بهِ، وادْهَنُوا بِهِ الأُدْم (¬2) (¬3). حدّثنا ابن علية، عن أيوب، عن نافعٍ، عن صفية بنت أبي عبيدٍ: أنَّ جرّاً لآل ابن عمر، فيه عشرون فرقاً من سمنٍ أو زيادة، وقعت فيه فأرةٌ فماتت، فأمرهم ابن عمر أن يستصبحوا به (¬4). حدّثنا زياد بن الحباب، عن حميد بن عبيد الطَّائي، حدّثنا ثمامة بن عبد الله بن أنس، عن جدّه أنس: أنه سُئِلَ (¬5) عن الفأرة تقع في الزيت أو ¬
السمن (¬1)؟ قال: إِنْ كَانَ جَامِدًا أخذت وما حولها فألقي وأكل ما بقي، وإن كان ذائبًا استصبحوا به (¬2) (¬3). حدثنا عبد الله بن نمير، عن عبد الملك [24/ ب] عن عطاء قال: إن كَانَ جامدًا فألقوها وما يليها، وكل ما بقي، وإن كان ذائبًا فاستصبح به ولا تأكله (¬4). حدثنا هشام (¬5)، عن يونس، عن ابن سيرين: أنَّ الأشعري سُئِلَ عن سمنٍ مَاتَ فيها وزغٌ؟ فقال: بيعوه بيعًا، ولا تبيعوه من مُسْلِمٍ (¬6). انتهى. وقول الصحابي والتابعي الذي زاحم الصحابة في الفتوى، حُجّةٌ عندنا. ولهذا شاهدٌ صحيح؛ أخرجه الشيخان في صحيحيهما (¬7)، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في العَجِيْنِ الذي عُجِنَ بماءٍ، مِنْ آبَارِ ثَمُودَ، أنَّهُ نهَاهُمْ عَنْ أَكْلِهِ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَعْلِفُوهُ النَّوَاضحَ (¬8). وإذا جازَ الاستصباح، ودهن الجلود، جاز عندهما من وجوهٍ الانتفاعُ إلّا للأكل، لخروجه بالنص. ¬
فإن قيل: قد روى أبو داود (¬1)، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قالَ في فَأرَةٍ وقعت في سمنٍ: "فإنْ كَانَ مَائِعًا فَلاَ تَقْرَبُوه". قلت: قد صرَّح الحفاظ بأن معمرًا غلط فيه عن الزهري. قال شيخ الإسلام أبو العباس أحمد بن تيمية (¬2): وأمَّا الزيادة التي رواها أبو داود وغيره: "إن كان جامدًا فألقوها وما حولها، وان كان مائعًا فلا تقربوه"، فهيَ غلطٌ كما بيّن ذلك البخاري. وذكره الترمذي (¬3) وقالوا: غلط معمرٌ في هذا. ومما استدل به البخاري في صحيحه (¬4): أن الزهري نفسه أفتى في المائع إذا وقعت فيه الفأرة أو غيرها جامدًا أو مائعًا، قليلًا كانَ أو كثيرًا، أن يلقي النّجاسة ويؤكل. واحتجّ الزّهري بهذا الحديث. فتبيّن بهذا: أن سائر أصحابه حفظوه عنه، وغلط عليه معمر لا سيّما فيما حدّث به معمرٌ للبصريين عنه، فإنه غلط فيه في مواضع. انتهى. قلت: في رواية الطحاوي والحاكم يكون من الاختلاف على معمرٍ. والله أعلم. ¬
وعلى التنزّل: فإعمال الدليلين أولى من إهمال أحدهما إذا أمكنَ، وقد أمكنَ بحمل القربان النهي عنه، عن الأكل. وقد أطلق القربان في لسان الشرع، وأريدَ به غير مطلق الدنوّ مما يقتضيه المقام. قال الله تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} [البقرة: 222]. {وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [الأنعام: 152, الإسراء: 34]. وإذا ثبت جواز الانتفاع صح [25/ أ] البيعُ إلَّا أن يقومَ مانعٌ. وأمَّا دليلُ طهارة ما استحال إلى عين طهارةٍ فهوَ: أنَّ الشارعَ رتّب وصف النجاسة على تلك الحقيقة. والحقيقة تنتفي بانتفاء بعض أجزاء مفهومها. فبالكل أولى. وقد روى حربٌ الكرماني مسألةً بإسناده إلى أنس بن مالكٍ: أنهُ سئلَ عن تنّورٍ شويَ فيه خنزيرٌ. قال: يسجره مرةً أخرى. وفي روايةٍ: حتّى يبيض (¬1). وقد أطنب شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيميّة في تقريره هذا وإيضاحه فقال في مسألة ملاقاة النجاسة: الظاهر الصحيح من قول العلماء، وهو أحد القولين في مذهب أبي حنيفة ومالك وأحمد. ووجه في مذهب الشافعي (¬2): أنّ النّجاسة إذا صارت رمادًا أو ¬
قصر ملا (¬1) كانَ ذلكَ طاهرًا، وكذلك إذا صار ملحًا أو نشادرًا أو دخانًا أو فطرويًا أو غير ذلك من الأعيان الطّاهرة. وتراب القبور المنبوشة وإن كان مستحيلًا عن صديدِ الموتى. وقد ثبت في الصحيح (¬2): أن مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان مقبرةً للمشركين، وكان فيه نخلٌ وخروبٌ، فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالقبور فنبشت، وبالنّخل فقطعت، وبالخروب فسويت، ولم يأمر بنقل التراب القديم الذي كان في المقبرة، وهي مقبرة المشركين. فما الظن بمقابر المسلمين. ومن ظنّ من الفقهاء: أنه إنما نهى عن الصلاة في المقبرة لأجل النجاسة، فظنّهُ مخطئٌ، بل العلّة التي بينّها - صلى الله عليه وسلم - إنما هي مشابهة المشركين. وساق الأدلة. ووجهها إلى أن قال: ¬
وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "جُعِلَتْ لِيَ الأَرْضُ مَسْجدًا وَجُعِلَتْ تُرْبتُهَا طَهُورًا" (¬1). يتناول الذي عند القبور وغيره. ومن قال: إن ذلك أو غيره نجسٌ لا مستحيل عن نجاسةٍ. فيقال له: هذا المعنى لا يوجب تحريمه لا بنص ولا قياس، فإنّ هذا لم يدخل في ألفاظ النصوص، فإنه تراب، وإنما حرّم الله الخبائث لما فيها من الخبث. وهذا المعنى منتفٍ فيه، وقد اتفق [25/ ب] العلماء على أن الخمر إذا بدأ الله بفسادها، طهرت مع أنه إنما تغير بعض صفاتها، لكن لما زال ما فيها من المعنى المسكر حلّتْ. ومعلومٌ: أن استحالة بقية الخبائث ملحًا وترابًا وبخارًا أبلغ من استحالة الخمر، فهي أولى بالتطهير، وقد فرق من فرق بين الخمر وغيره من أصحاب الشافعي وأحمد وغيرهم: بأن الخمرة حلت بالاستحالة، وطهرت بالاستحالة، بخلاف غيرها. فيقالُ لهم: هذا الفرقُ فاسدٌ بوجهين: أحدهما: أن هذا تسليمٌ ما. والاستحالة تؤثر في انقلاب حكم العين، فإذا كانت تجعل الطيب خبيثًا، والخبيث طيبًا. عُلِمَ: أن هذا حكمها في الطرفين جميعًا. الثاني: أن جميع الخبائث كذلك، إنما صارت نجسةً بالاستحالة، فإنّ الإنسانَ يشربُ الماء الطّاهر فيستحيل بولًا، ودمًا. ¬
ويأكل الطعام فيستحيل عذرةً. والخنزيرُ مخلوقٌ من الماء والتراب، وهما طاهران (¬1). انتهى. ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
وربما يؤدي النظر في دليل الطهارة بالاستحالة إلى أنّ المائع إذا كان كثيرًا، وكانت النجاسة الواقعة بحيث تستهلك فيه أو بعضها لا ينجس ولا يحرم ¬
تناوله بعين ما تقدم من دليلهم؛ ولأنّ التحريم في كتاب الله تعالى وسنّة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تتعلق بأسماءٍ ولها معانٍ. والتحليل كذلك، فإنّ الله تعالى أحلَّ اللبنَ والعسلَ والدّهنَ ونحوها. وحرّم الميتة والدّم والخمر والخبائث من غيرها. والنجس المستهلك في الزيت لا يتناوله لفظ التحريم، ولا معناه. والمستهلك فيه لم يثبت له اسم الخبث، بل هذا المائع الذي استهلك فيه الخبث، إنّما يُسمَّى لبنًا وعسلًا وزيتًا مثلًا، ولا يُسَمَّى باسم الخبث، يكون قد تناوله نصوص التحليل دون التحريم، فيكون طاهرًا حلالًا لا حرامًا نجسًا. وفي هذا تكريرُ الاستدلال للتوضيح. وكذا لو شرب زيتًا استهلكت فيه الخمر لا يجلد ولو شرب الصبي في زمن الرضاع لبنًا مغلوبًا بغيره، لا يثبت حرمة الرضاع [26/ أ] وحينئذٍ إن لم يكن محل إطلاقِ المشايخ التنجيس والحرمة والأمر بالإراقة أو الاستصباح والبيع بالمعنى المذكور. والتطهير بالطريق المذكور: أنَّ ما يكون في الأواني بل هو أعمّ من ذلك، فالترجيح عندي لما قال شداد: المائع كالماء وإن كان مرادهم ما يكون في الأواني كما تقتضيه عبارة الكرخي. فالقولان متوافقان، ويحمل رواية أبي داود على تقدير الثبوت على أنها خرجت مخرج العادة. ومثلها: مرسلُ مكحولٍ، وأقوالُ الصحابة والتابعين المذكورين، وهو ظاهر. وفي خصوص ما نحن فيه:
ما رواه ابن أبي شيبة (¬1): حدثنا وكيع، عن سفيان، عن عمران بن أعين، عن أبي حرب بن أبي الأسود قال: سُئِلَ ابنُ مسعودٍ في فأرة وقعت في سمنٍ فماتت. فقال: إِنَّمَا حَرَّمَ اللهُ من الْمَيْتَةِ لَحْمَهَا وَدَمَهَا. وفتوى الزهري المتقدّمة، والكلُّ في الماءِ جارٍ على قول أبي يوسف الذي أخبرناه، كما قدمنا نقله. والله أعلم. * * * ¬
(5) أحكام الصلاة على الجنازة في المسجد
مَجْمُوعَةُ رَسَائِل العَلَّامَة قَاسِم بن قُطْلُوبُغَا [5] أَحْكَامُ الصَّلَاةِ عَلَى الجَنَازَةِ فِي المَسْجِدِ تَأْلِيفُ العَلَّامَة قَاسِم بْنِ قُطْلُوبُغَا الحَنَفِي المولود سَنَة 802 هـ والمتوفى سَنة 879 هـ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -
بداية الرسالة
(5) أَحْكَامُ الصَّلَاةِ عَلَى الجَنَازَةِ فِي المَسْجِدِ قال - رحمه الله -: قد ظنَّ بعضُ الناس من صلاةِ شيخ الإسلام سعد الدين الديري (¬1) على إبراهيم بن الجيعان (¬2) في الجامع الأزهر: أنَّهُ لاَ كَرَاهَةَ ¬
لذلك عندنا، وأنّه لا معنى لتركه لذلك، وصلاتي على بعض الناس في الرّحاب، فسألني؟ فقلت: المنقولُ: المنعُ. قال الإمام محمَّد بن الحسن في مُوَطَّئِهِ (¬1): لا يصلَّى على جنازةٍ في مسجدٍ. وقال الإمام الطحاوي في معاني الآثار (¬2): النَّهي عن الصَّلاة على ¬
الجنازة في المسجد وكراهيتها، هو قول أبي حنيفة ومحمَّدٍ، وهو قول أبي يوسف أيضًا، غير أنّ أصحاب الإملاءِ رووا عنه (¬1) أنّه قالَ: إذا كان مسجدٌ قد أُفْرِدَ للصلاة على الجنائز، فلا بأس بأن يصلّى على الجنائز فيه (¬2) (¬3). ¬
وقول صاحب الهداية في مختارات النوازل: ولا يصلّي صلاة الجنازة في مسجدِ يصلّي فيه الجماعة عندنا للحدث، وسواء كان الميت في المسجد أو خارجًا منه في ظاهر الرواية. وفي رواية: إذا كان الميِّت خارجَ المسجد، لا يكرهُ (¬1). وقال في المحيط: وتكره صلاة الجنازة في المسجد خلافًا للشافعي. والصحيح: قولنا: لما روى - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَنْ صَلَّى عَلَى الْجَنَازَةِ فِي الْمَسْجدِ فَلاَ [26/ ب] شَيءَ لَهُ" (¬2). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
لو وضعت الجنازة خارج المسجد والإمام خارج المسجد، ومعه صف والباقي في المسجد
ولأنَّ تنزيه المسجد واجبٌ، وفي إدخال الميت المسجد احتمالُ وقوع النّجاسةِ فيه، فيكره كما يكره إدخال الصبي والمجنون المسجد؛ لأنه لا يؤمن من تلويث المسجد، فكذا هذا. ولو وضعت الجنازة خارج المسجد والإمام خارج المسجد، ومعه صفٌّ والباقي في المسجد. اختلفوا فيه: قيل: لا تكره الصلاة عليه. وهكذا روي عن أبي يوسف في النوازل: ¬
أنّه ليس له فيه احتمال تلويث المسجد (¬1). وقيل: يكرهُ؛ لأنّ المسجد أعدَّ لأداء المكتوبات، فلا يقام فيه غيرها قصدًا إلّا بعذرٍ. وقال في شرح القدوري: المسمّى بالمضمرات في قوله: ولا يصلى على ميتٍ في مسجدٍ جماعةٍ. يُكرهُ أن يصلى على الميت في المسجد سواءٌ كانت الجنازة في المسجد أو هي خارج المسجد، والإمام في المسجد. وفي النسفية: سئل عن صلاة لجنازة وهي خارج المسجد والناس في المسجد، هل يكرهُ؟ فقال: كان المشايخ أهل سمرقند لا يكرهون ذلك، ويصلون في المسجد والجنّازة على باب المسجد حتّى ورد عليهم السيد أبو شجاع، فرأى منهم ذلك فقال: ما لكم تصلون على الجنازة في المسجد؟. قالوا: إنّ مشايخنا أجازوا ذلك. قال: قد تقدمهم مشايخ أخر لم يجوزوه. قالوا: ومن هم؟. قال: إمام الأئمة أبو حنيفة، ومن تبعه. ونصّوا على كراهة ذلك في كتبهم، فاتفقوا على أنْ بنوا وراء المقصورة سقيفةً يوضع الميت فيها، وصفوفٌ منَ النّاس في هذه السقيفة، ثم يتّصل منه الصفوف التي في الجامع. ¬
قال: فالحاصل أنّ إدخال الجنازة في المسجد والصلاة عليها في المسجد مكروهٌ عندنا. وفي وضع الجنازة على باب المسجد والإمام والقوم في المسجد اختلافُ المشايخ، ووضع الجنازة خارج المسجد. وقيام الناس معه خارج المسجد، ثم اتصال الصفوف بهم غير مكروهٍ. وأمّا الحجاج: فقال محمّد في الموطّأ (¬1): حدثنا مالك، حدثنا نافع، عن ابن عمر: أنّه قال: ما صُلِّيَ على عمرٍ إلَّا في المسجد. وقال محمد (¬2): لا يصلَّى على جنازةٍ [في المسجد]، وكذلك (¬3) بلغنا عن أبي هريرة، وموضع الجنازة بالمدينة خارج [من] المسجد، وهو الموضع الذي كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي [27/ أ] على الجنائز فيه. فأفاد: أنّ (¬4) عمل النبي - صلى الله عليه وسلم - كان على خلاف ما وقع في الصّلاةِ على أمير المؤمنين عمر بن الخطّاب - رضي الله عنه -، فيحملُ على العذرِ. وبه قال في المحيط، ولفظه: فلا يقام فيه - أي: المسجد - غيرها - أي: غير الصلاة - قصدًا إلّا لعذرٍ. وهذا تأويلُ حديث عمرَ: أنَّهُ لَمَّا قتلَ صُلِّيَ عَلَيْهِ في المسجدِ؛ لأنَّهُ كَانَ ¬
لعذرٍ. وهو خوف الفتنة والصَّدِّ عَنِ الدَّفنِ عند النبي - صلى الله عليه وسلم -. وروى الإمام الطحاوي (¬1)، عن عائشة: أَنَّها حين توفي سعد بن أبي وقاص قالت: ادْخُلُوا به المسجدَ حَتَّى أُصَلِّيَ عَلَيْهِ. فأنكَرَ ذلكَ النَّاسُ عَلَيْهَا. فقالت: لقد صَلَّى رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلى سُهَيلِ (¬2) بْنِ بَيْضَاءَ فِي الْمَسْجِدِ. قال (¬3): فذهب قومٌ إلى هذا الحديث، فقالوا: لا بأسَ بالصَّلاة على الجنازة في المساجد. واحتجُّوا أيضًا بما روي عن ابن عمر: أنَّ عمر صُلِّيَ عليه في المسجد. وخالفهم في ذلك آخرون، فكرهوا الصَّلاة على الجنازة في المساجد. واحتجُّوا [في ذلك] بما حدَّثنا. . . إلخ. فروى عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنَّهُ قالَ: "مَنْ صلَّى عَلَى جَنَازَةٍ فِي مَسْجدٍ، فَلاَ شَيْءَ لَهُ" (¬4). قال (¬5): فلمَّا اختلفت الروايات عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في هذا الباب، (فكان فيما روينا في الفصل الأوَّل إباحة الصَّلاة على الجنائز في المساجد، وفيما ¬
روينا في الفصل الثَّاني كراهة ذلك، احتجنا إلى كشف ذلك) (¬1) لنعلم المتأَخِّر من الحديثين، فنجعله ناسخًا للمتقدِّم منهما. فوجدنا في حديث عائشة دليلًا على أنَّهم [قد] كانوا تركوا الصَّلاة على الجنائز في المسجد، بعد أن كانت تفعل فيه، وارتفع (¬2) ذلك من فعلهم، ¬
وذهب معرفته عن عائشة، فلم يكن ذلك عندها لكراهية حديث بأركان الأمر عندها على أنّهم كانوا يصلّون عليها في المسجد لو شاؤوا. لذلك أمرت به حتى أنكر ذلك الناس عليها، وهم أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعلمهم بما غاب عنها، فبان بذلك: أنّ الإباحة للصلاة عليها في المسجد هي المتقدمة على ما في حديث عائشةَ (¬1) من صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على سهيل بن البيضاء في المسجد، وأنّ الترك للصلاة عليها في المسجد هو المتأخر عن ذلك [27/ ب] على ما في حديث أبي هريرة. وإن حديث أبي هريرة ناسخٌ لحديث عائشة. وهذا الذي ذكرناه من النهي عن الصلاة على الجنائز في المسجد، وكراهيتها. هو قول أبي حنيفة، ومحمد. وهو قول أبي يوسف أيضًا. غير أنّ أصحاب الإملاء رووا عنه أنه قال: إذا كان مسجدٌ قد أفرد للصَّلاة على الجنازة، فلا بأس بأن يصلَّى عَلَى الجنائز فيه. انتهى. وما نقله عن أبي يوسف. قال في المحيط: اختلفوا: هل له حكم المسجد؟ والصحيح: أنَّه ليس بمسجدٍ؛ لأنه (¬2) ما أعدَّ للصَّلاة حقيقةً؛ لأنَّ صلاة الجنازة ليست بصلاةٍ ¬
حقيقيَّةٍ، ولهذا: يجوز إدخال الميِّت فيه، وحاجة النَّاس ماسَّةٌ إلى أنه لم يكن مسجدًا توسعَةً للأمر عليهم (¬1). انتهى. وقال الإمام أبو الحسين القدوري في التجريد: قال أصحابنا: تكرهُ الصلاة على الموتى في مسجد الجماعة. وقال الشافعي (¬2): يجوز لنا حديث أبي هريرة: أَنَّ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: ¬
"مَنْ صَلَّى عَلَى مَيِّتٍ فِي الْمَسْجدِ فَلاَ شَيْءَ لَهُ". ذكرهُ أبو داود (¬1). قلت: ورواه عن ابن أبي شيبة (¬2) بلفظ: "مَنْ صلَّى عَلَى جَنَازَة فِي الْمَسْجدِ فَلاَ صَلاَةَ (¬3) لَهُ". قَالَ (¬4): وَكانَ أصحاب رسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إذا ضاق بهم المكان رجعوا ولم يصلوا. وسيأتي له لفظٌ آخرَ. والله أعلمُ. قال (¬5): ولا يقال: إنه متروك الظاهر، لأننا اجتمعنا على استحقاقه الثواب بسقوط الفرض، لأنّ الفرض وإن سقط فيجوز أن لا يحصل له الثواب، وسقوط الفرض لا يوصف أنه له من غير فواتٍ. ¬
ورويَ: أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - لَمَّا نعَى النَّجَاشِيَّ إِلَى أَصْحَابِهِ خَرَجَ فَصَلَّى عَلَيْهِ فِي الْمُصَلَّى (¬1). ولو كانَ تَجُوز الصلاة في المسجد، لم يكن للخروج معنًى (¬2). ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "جَنّبوا مَسَاجِدكُمْ صِبْيانكُمْ وَمَجَانِينَكُمْ. . . " (¬3). وكان المعنى فيهِ: أنهُ لا يؤمنُ تلويثُ المسجد منهم، وهذا موجودٌ في الميت. ولأنَّ الناس أفردوا للجنائز مسجدًا في سائر الأعصار. ولو جاز في المسجد، لم يكن لإفراد موضع لها معنًى. ¬
واحتجوا: بأنّ عائشةَ لمّا مات سعد بن أبي وقاص قالت: أدخلوهُ المسجدَ لأُصلِّي عليهِ. فأُنكرَ عليهَا ذلكَ. فقالت: ما صلَّى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - على سهيل [28/ أ] ابن البَيْضَاءِ إلّا في المسجد (¬1). والجواب: أنَّ إِنكارهم دلّ على أنّ الظاهر في الشرع خلافُ ذلكَ؛ ولأنهم لا ينكرون ما يسوغ فيه الاجتهاد. وقولها: ما صلَّى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - على ابنِ البَيْضاءِ إلّا في المسجد. دلالة عليهم؛ لأنه لو كان يجوز ذلك لصلّى على جميع الناس، ولم يخصه بابن البيضاء. ولأنه يجوز أن يكون صلّى عليه لعذرٍ من مطرٍ أو غيرهِ. ويجوز أن تكون الجنازة وضعت خارج المسجد، وصلّى عليه في المسجد. فظنّت عائشة: أن النّاس أنكروا عليها فعلَ الصلاة. وما روي عن عمرَ أنه صلى على أبي بكرٍ في المسجد (¬2)، وصلّى صُهيبٌ على عمرَ في المسجد (¬3). ¬
يجوز أن يكونَ في مسجدٍ الجنازة. قلتُ: وربما يقوّي هذا: أنّها - رضي الله عنهما -، لم تحتج عليهم بفعلهم في عمرَ؛ فإنّ وفاته سنة ثلاثةٍ وعشرين. ووفاة سعدٍ سنة خمسٍ وخمسين أو ستٍ أو سبعٍ. قال: ولأنه لا يثبت به إجماعٌ مع إنكارِ من أنكر على عائشة، قالوا: صلاةٌ شرعيةٌ، فلم يكره فعلها في المسجد كسائر الصلوات. قلنا: نقولُ بموجبه؛ لأنّ الصلاة لا تكرهُ عندنا، وانّما يكرهُ إدخال الميت، ولأنّ سائر الصلوات يؤمنُ فيها تلويث المسجد، وتبطل بصلاة المستحاضة، ومن بهِ سلس البول. قالوا: المسجدُ أنظف من غيره من البقاع، وكانت الصلوات فيه أفضلُ. قلنا: من أصلكم: أنَّ صلاة الاستسقاء والعيدين في غير المسجد أفضلُ. وإنْ كانَ المسجد أفضل البقاع. انتهى. فإن قيل: قال شرف الأئمة العقيلي: إنّ الصلاة على الجنازة في المسجد مكروهٌ كراهة تنزيهٍ. قلت: الأظهرُ قول شرف الأئمة المكي: أنّها كراهة تحريمٍ كما سمعت من قول محمد، فإن أسلوبه في إطلاق المنع كذلك، ولما سمعت من نسخ الإباحة وظواهر الاستدلال. قد روى الطيالسي (¬1): حدثنا ابن أبي ذئبٍ، عن صالحٍ مولى التوأمة ¬
قالَ: أدركتُ رجالًا ممن أدركُوا (¬1) النبي - صلى الله عليه وسلم - وَأَبَا بكرٍ، إذا جاؤوا فلم يجدوا إلَّا أَنْ يُصَلُّوا في المسجدِ رجعوا فلم [28/ ب] يُصَلُّوْا. وَاللهُ أَعْلَمُ. * * * ¬
(6) [رسالة في] التراويح والوتر
مَجْمُوعَةُ رَسَائِل العَلَّامَة قَاسِم بن قُطْلُوبُغَا [6] [رِسَالَةٌ فِي] التَّرَاوِيحِ وَالوِتْرِ تَأْلِيفُ العَلَّامَة قَاسِم بْنِ قُطْلُوبُغَا الحَنَفِي المولود سَنَة 802 هـ والمتوفى سَنة 879 هـ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -
بداية الرسالة
(6) [رِسَالَةٌ فِي] التَّرَاوِيحِ وَالوِتْرِ قال - رحمهُ اللهُ -: قد سألني الولد العاقل محمد بدر الدين بن الأخ محمد شمس الدين بن خير الدين، عن الصلاة بعد الوتر. وذكرَ: أنه وقع الكلام في ذلك بينه وبينَ جماعةٍ من أفاضل الطلبة، ويعض المشايخ، ولم يستحضر أحدٌ منهم منقولًا. وإنمّا جوّزوا الكراهة أخذًا من قوله: "وَلْيَجْعَلْ آخِرَ صَلاَتِهِ مِنَ اللَّيْلِ وِتْرًا" (¬1). فقلتُ: قد كتب الإمام حسام الدين في التراويح، والإمام الطحاوي في الوتر. فسألني أن أكتب له ذلك. فقلتُ: قال الإمام حسام الدين الشهيد (¬2) - رحمه الله تعالى -: اختلف ¬
المشايخ - رحمهم الله - في التراويح، هل تُسَمَّى سُنة (¬1)؟ قال بعضهم: لاَ. وهي من النوافل. وقال بعضهم: تسمّى سنة. وهو الصحيح. وانقطع الخلاف برواية الحسن، عن أبي حنيفة بأنّها سنة (¬2). وهذا: لأنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قد أقامها في بعض الليالي وتركها في البعض. وبيّنَ العذر في ترك المواظبة عليها، وهو خشية أن تكتب علينا، ثم واظبَ عليها الخلفاء الراشدون. وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: "عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي، وَسُنَّةِ الْخُلَفَاء مِنْ بَعْدِي" (¬3). ¬
وسنِّيتها: ما روى الحسن، عن أبي حنيفة أنّه قال: القيامُ في شهرِ رمضان سُنةٌ لاَ يَنْبَغِي تركها أو ينبغي لأهل كل مسجدٍ أن يصلُّوا في مسجدهم كل ليلةٍ خمس ترويحات يؤمهم رجل يقرأُ في كلّ ركعةٍ عشر آياتٍ أو نحوها يسلّم من كل ركعتين، وكُلّما يصلي ترويحة انتظر بين الترويحتين قدر الترويحة، وينتظر بعد الخامسة قدر الترويحة، ثم يوتر بهم، فتصير عشرين ركعةً سوى الوتر. وهذا مذهب أصحابنا - رحمهم الله -. وقال مالك: يقومون ستًّا وثلاثين ركعةً اتباعًا لعمر وعلي. وإِنا نقول: إنّ في ذلك غير مشهور منها (¬1). ¬
فإن زادوا ستّ عشر ركعة، فهذا على وجهين: إنْ أرادوا الترويحات منفردين بغير جماعةٍ، ولا بأسَ به. وهو مستحبٌّ أيضًا. وإن صلّوا بجماعةٍ [29/ أ] كَمَا هوَ مذهب مالكٍ، كُرِهَ لأنَّ النوافلَ بالجماعةِ لو كانت مستحبةً لكانت أفضل كالمكتوبات. ولو كانت أفضل لكان المجتهدون القائمون بالليل يجتمعون فيصلون جماعةً طلبًا للفضيلة. فلمّا لم يرو ذلك عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وعن الصحابة: أنّه لا فضلَ في ذلك لو ثبت الفضل ثبت لمكان التراويح، ولم يثبت ذلك. وذكر الطحاوي - رحمه الله - في اختلاف العلماء: عن المعلى (¬1)، عن أبي يوسف أنّه قال: من قدر أن يصلّي في بيته كما يصلّي مع الإمام في شهرِ رمضان، فأَحبُّ إليَّ أن يصلِّي في البيت (¬2). وهذا خلافُ ظاهرِ الرواية. ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
فصل من ترك التراويح في الجماعة وصلاها في البيت
فصلٌ ومن ترك التراويح في الجماعة وصلّاها في البيت (¬1)؟ ¬
اختلف المشايخ - رحمهم الله - فيه: منهم من قال: يكونُ تاركًا للسنة وهو مسيءٌ. لما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنّه قدر ما صلَّى التَّراويح صلَّى بجماعةٍ. وهكذا نقل عن أصحابه، وعليه اتفاق فقهاء الأمصار. ومنهم من قال: كان تاركًا للفضيلة، ولا بأس به لما روي عن عمر وسالمٍ ونافعٍ: أنّهم كانوا ينصرفون ولا يقومون. عُلِمَ: أن الجماعة فضيلة. والصَّحيحُ: أنّ إقامتها بالجماعة سنّة على الكفاية حتى لو ترك أهل المسجد كلهم الجماعة، فقد تركوا السنة، وأساؤوا في ذلك وإن أقيمت التراويح بالجماعةِ في المسجد. فمن تخلّفَ عنها من أفراد الناس، وصلّى في بيته، فقد ترك الفضيلة، وإن لم يكن مسيئًا. وإن صلّوها بالجماعة في البيت، فقد اختلفوا فيه. والصحيح: أنّ للجماعة فضيلة، وللجماعة في المسجد فضيلة أخرى. فهنا قد حاز إحدى الفضيلتين، وترك الأخرى. وهذا في المكتوبات. * * * ¬
فصل الانتظار من كل ترويحتين قدر الترويحة
فصلٌ الانتظار من كل ترويحتين قدر الترويحة مستحبٌ. كما ذكرنا من رواية الحسن، عن أبي حنيفة (¬1). وهذا: لأن في ذلك تحقيق اسم الصّلاة. وهيَ: التّراويح. ولأنها مأخوذةٌ عن السلف. وأهل الحرمين مجمعون على الانتظار بين كل ترويحتين. أما أهل مكّة: فإنهّم يطوفون بين كل ترويحتين أسبوعًا. وأمّا أهل [29/ ب] المدينة: فإنهم يصلون أربعًا. ولهذا: صارت تراويح أهل مكة مع الوتر ثلاثًا وعشرين. وتراويح أهل المدينة: تسعًا وثلاثين. وهكذا أهل كل بلدٍ يسبحون أو يصلّون أو ينتظرون سكوتًا. ذلك القدر. وأمّا الاستراحة: على خمس تسليماتٍ. اختلف المشايخ فيه: قال بعضهم: لا بأس به. وقال أكثرهم: لا يستحبُّ. وهذا هو الصحيح. فإنّ الصحيح: أنه ¬
فصل نية التراويح
لا يستحبّ إِلّا عند تمام كل ترويحةٍ. وهي خمس ترويحاتٍ؛ لأنَّ ذلك مخالف عمل أهل الحرمين وغيرهم. * * * فصلٌ وأمّا نية التراويح (¬1): فإنْ نوى التراويح أو سنّة الوقت أو قيام الليل في الشهر جاز كما إذا نوى الظُّهرَ، أو فرض الوقت جازَ. فإن نوى صلاةً مطلقةً أو نوى تطوعًا فحسب. اختلف المشايخ فيه: ذكر بعض المتقدمين: أنّ الأصحّ أنه لا يجوز؛ لأنهّا سنة. والسنة لا تتأدّى بنية التطوع أو بنية الصلاة. كما روى الحسن، عن أبي حنيفة في ركعتي الفجر، وهذا: لأنها صلاة مخصوصة كالمكتوبات، فلا تتأدّى بمطلق النية. وذكر أكثر المتأخرين: أنّ التراويح وسائر السنن تتأدّى بمطلق النية؛ ¬
فصل وقدر القراءة في التراويح
لأنهّا نوافل. والنوافل تتأذى بمطلق النية. لكن واظب عليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فالاحتياط: أن ينوي التراويح أو سنة الوقت، أو قيام الليل في شهر رمضان. وفي سائر السنن ينوي السنة، أو ينوي الصلاة متابعًا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليكون أبعد عن الاختلاف. والله أعلم. * * * فصل وقدر القراءة في التراويح (¬1): اختلف المشايخ فيه: قال بعضهم: يقرأ كما يقرأ في المغرب؛ لأنهّا أخفّ من أخفّ المكتوبات. ¬
وهذا غير سديد؛ لأنه لا يقع بذلك الختم في شهر رمضان. وقال بعضهم: يقرأ كما يقرأ في العشاء؛ لأنها تبع للعشاء في وقتها. وقال بعضهم: يقرأ في كل ركعةٍ من عشرين إلى ثلاثين آية. لما روي: أنَّ عُمَرَ بنَ الخطَّابِ - رضي الله عنه - دَعَا ثَلاَثَةً مِنَ الأَئِمَّةِ، فَاسْتَقْرَأَهُمْ، وَأَمَرَ أَحَدَهُمْ أَنْ يَقْرَأَ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ ثَلاَثِينَ آيَةً. وَأَمَرَ الثَّانِي أَنْ يَقْرَأ [30/أ] فِي كُلِّ ركعةٍ خمسًا وعشرين آية. وأمرَ الثَّالثَ أَنْ يقرأ في كلّ ركعةِ عشرينَ آيةً. وروى الحسن، عن أبي حنيفة: أنه يقرأُ في كل ركعةٍ عشر آياتٍ ونحوها. فَمَا قاله عمرُ فضيلةٌ، وما قالهُ أبو حنيفة سنةٌ. وهذا: لأنهم اتفقوا على أنّ السنة الختم مرّة. والفضيلة: الختم مرتين. والختم مرتين يقع بما أمرَ به عمر. والختم مرة يقع بما أمر به أبو حنيفة. لأنّ عدد ركعات التراويح ست مئة. وآياتُ القرآن ستة آلاف ومئتي. فيكون في كل ركعةٍ: عشر آياتٍ. ومن المتقدمين من مشايخنا: قال في الحاوي القدسي (¬1): وإن خافَ أن يثقل على القوم، لا يزيد ¬
فصل تعديل القراءة بين التسليمات
في القعدة على قدر التشهد. وفي القراءة على الفاتحة وثلاث آياتٍ قصارٍ. والإخلاصُ ونحوها. الذي قال: إِنَّ الأصحَّ أنّ التراويح لا يجوز بمطلق النية قال: الأفضل أن يقرأ في كل ركعةٍ ثلاثين آيةً، ويختم في كل عشرٍ ختمة؛ لأنَّ كل عشرٍ من الشهر متميّزٌ مخصوصٌ. واللهُ أعلمُ. * * * فصلٌ والأفضلُ: تعديل القراءة بين التسليمات. كما روى الحسن، عن أبي حنيفة. وجاء عن عمر. وإن خالف فلا بأس به. وأمّا التسليمة الواحدة؛ فإنه لا يستحب تطويل القراءة في الثانية بلا خلاف، كما في سائر الصلوات. وإن طوّل القراءة في الأولى على الثانية لا بأس به. وأمّا المختار: فإنه يجب أن يكون على الخلاف عند أبي حنيفة، وأبي يوسف يكون المختار التسوية بين الركعتين. كما رواه الحسن، عن أبي حنيفة. ¬
فصل إذا صلى الإمام التراويح قاعدا لعذر أو لغير عذر والقوم قيام
ويكون المختار عند محمّد: تطويل الأولى على الثّانية، كاختلافهم في قراءة الظهر والعصر. والله أعلم. * * * فصلٌ إذا صلّى الإمام التراويح قاعدًا لعذرٍ أو لغير عذرٍ والقوم قيام. الكلام في هذا الفصل في موضعين: في الجواز، وفي الاستحباب. أما الكلام في الجواز: اختلف المشايخ فيه. منهم من قال: جاز عند أبي حنيفة وأبي يوسف، ولم يجز عند محمّد اعتبارًا بالفرض. وقال بعضهم: يجوز عندهم جميعًا. وهذا هو الصّحيح؛ لأنهم لو قعدوا جاز. فإذا قاموا كان أولى بالجواز. ولا كذلك الفرض. وإنّما نشأ الخلاف بين المشايخ على قول محمّد، عن رواية أبي سليمان، كما نبين إن شاء الله تعالى. وأمّا الاستحباب: عن أبي حنيفة وأبي يوسف: المستحبُّ: أن يقوم القوم إِلَّا لعذرٍ؛ لأنّه جاز لهم القيام والقعود. فالقيام أفضل لا محالة. وعند محمّد: المستحب: أن يقوم؛ لأن هذا الاختلاف معتبرٌ حتّى منع
فصل وإذا صلى التراويح قاعدا من غير عذر
الفرض من الجواز. وكذا منع النفل من الاستحباب. ذكر أبو سليمان، عن محمّد، عن رجل أَمَّ قومًا في شهر رمضان جالسًا: أيقومون؟ قال؛ نعم. في قول أبي حنيفة وأبي يوسف. خصَّ قول أبي حنيفة وأبي يوسف من المشايخ من قال: إنّما خصّ؛ لأنه لا يستحب عنده. وهذا هو الصّحيح. والله أعلم. * * * فصلٌ وإذا صلَّى التراويح قاعدًا من غير عذرٍ (¬1): الكلام في هذا الفصل أيضًا في موضعين: في الجواز والاستحباب. وأما الكلام في الجواز: اختلف المشايخ فيه: منهم من قال: لا يجوز. ومنهم من قال: يجوز. وهذا هو الصّحيح. وأجمعوا على أن ركعتي الفجر قاعدًا من غير عذرٍ لا يجوز. ¬
فصل إذا صلى التراويح مقتديا بمن يصلي المكتوبة، أو وترا، أو نافلة غير التراويح
هكذا روى الحسن، عن أبي حنيفة نصًّا. أمّا من قال: لا يجوز. قال: لأنّ هذا سنّة شابهت ركعتي الفجر. وأمّا من قال: يجوز. قال: لأنّ هذه نافلة لم يختص بزيادة تأكيد، فصارت كسائر النوافل. والدليل عليه: رواية أبي سليمان، عن أبي حنيفة، وأبي يوسف، ومحمد، ولم يفصلوا بين العذر وغير العذر. وأمّا الكلام في الاستحباب: فالصحيح: أنّه لا يستحبُّ؛ لأنه يخالف المتواتر وعمل السّلف - رحمهم الله تعالى -. * * * فصلٌ إذا صلّى التراويح مقتديًا بمن يصلي المكتوبة، أو وترًا، أو نافلة غير التراويح. اختلف المشايخ فيه (¬1): ¬
منهم من بنى هذا الاختلاف على الاختلاف في النية. من قال من المشايخ: أنّ التراويح لا تتأدّى بالنية المطلقة حتّى ينويها. يقول هنا: لا يصحُّ؛ لأنهّا لا تتأدّى إِلَّا بنيّتها، فلا تتأدّى بنية الإمام، بخلاف نيته. ومن قال من المشايخ: أنّها تتأذى بمطلق النية. ينبغي أن يقول هنا: أنه يصحُّ. والأصحُّ: أنه لا يصح الاقتداءُ. وعلى هذا الاختلاف: إذا لم يسلم من العِشَاءِ حتّى بَنا عليها التّراويح. والأصحُّ: أنه لا يصحُّ. وهذا أظهرُ؛ لأنه مكروهٌ. فعلى هذا الاختلاف: إذا بناها على السنة بعد العِشَاء. والصّحيح: أنّه لا يصحُّ، وإن اقتدى في التسليمة الأولى أو الثّانية بمن يصلّي التسليمة الخامسة أو العاشرة. اختلف المشايخ فيه: والصَّحيحُ: أنّه يصحُّ؛ لأنَّ الصَّلاةَ واحدة. ونيّة الثّانية أوِ الأولى لغوٌ. ألَا ترى أنه لو نوى الثّالثة بعد الأولى، لم يكن إِلَّا الثَّانية. والدّليل عليه: أنه لو اقتدى في الرّكعتين بعد الظّهر، بمن يصلّي الأربع قبل الظّهر. يجوزُ. فهذا أولى. * * * ¬
فصل إذا صلى ترويحة واحدة بتسليمة واحدة، وقد قعد في الثانية قدر التشهد
فَصْلٌ إذا صلَّى ترويحةً واحدةً بتسليمةٍ واحدةٍ، وقد قعد في الثّانية قدر التشهد. اختلف المشايخ فيه (¬1): ¬
قال بعضهم: لا يجزئه الأربع إلّا عن تسليمةٍ واحدةٍ. وقال أكثرهم: يجزئهُ عن تسليمتين وهو الصّحيح؛ لأنه قد أكمل، ولم يُخِلَّ بشيءٍ إلّا أنّه جمعَ بين المتفرق واستدام التحريمة، فكان أولى بالجواز، وإنْ صلّى ستًا أو ثمانيًا أو عشرًا بتسليمةٍ واحدةٍ. وقعد على رأس كلّ ركعتين. فعلى قول الأولين: لم يجز إِلَّا عَنْ رَكْعَتَيْنِ. واختلف المشايخ المتأخرون فيه: قال عامّة المتأخرين: كان كلّ ركعتين عن تسليمةٍ. وهو الصّحيح؛ لأنّه قيّد كلّ شفع بالقعودِ بسائرِ الأفعال. والتسليمةُ: قطعٌ وخروجٌ، فلا يكون من تمام الصّلاة. وفرّق بعض المتأخرين بين هذه المسألة وبين الّتي قبلها. فقال: متى ¬
فصل إذا صلى ترويحة بتسليمة، ولم يقعد في الركعة الثانية
ما عدّو ما هي مستحبّة في صلاةٍ، فكلّ ركعتين من ذلك يجريان عن تسليمةٍ، ومتى لم يكن كذلك لم يجز إلّا عن قدر المستحبّ؛ لأنّ في الزّيادة كراهة. وفي استحبابه خلافٌ. ففي هذا اختلافٌ أيضًا. فعلى هذا: إذا صلّى ستًا تجزئ عن ثلاثِ تسليماتٍ، عند أبي حنيفة، وعند صاحبيه عن تسليمتين. فإن صلّى عشرًا، فعندهما تجزئ تسليمتين. وعنده في الرِّواية الشّاذة: عن خمس تسليماتٍ. وفي روايةِ الأصل: وَإِلَّا فلَا. عن أربعِ تسليماتٍ. وفي رواية الجامع الصغير: عن ثلاثِ تسليماتٍ، وَإِن صَلَّى التّراويح كلها بتسليمةٍ واحدةٍ عمدًا، وقعدَ في كلّ ركعتين. فعلى قول الأولين: جاز عن تسليمةٍ واحدةٍ. وعلى قول عامّة المتأخرين: جازت عن الكل على قول بعض المتأخرين على الاختلاف الّذي حكينا. والصَّحيحُ قول العامّة. * * * فصلٌ وإذا صلّى ترويحةً بتسليمةٍ، ولم يقعد في الرّكعة الثّانية. فالقياس وهو قول محمّد وزفر، وهو رواية عن أبي حنيفة: أنّه تفسد
صلاته، ويلزمه قضاءُ هذه التسليمة، ولا يجوز ذلك عن شيئين. وفي الاستحسان: وهو قول أبي حنيفة، وأبي يوسف. يجوز. ثمّ اختلف المشايخ فيه على قولهما. قال بعضهم: يجزئه عن تسليمةٍ واحدةٍ. وهو الصّحيح؛ لأنه أكمل الأريع بتسليمةٍ واحدةٍ فحسب. بخلاف ما إذا قعد في الثّانية؛ لأنه أكمل كلّ شفعٍ بالقعود. وإن صلّى ثلاث ركعات بتسليمةٍ واحدةٍ، ولم يقعد في الثّانية ساهيًا، أو عامدًا، فلا شك: أن صلاته باطلة في القياس. وهو قول محمّد وزفر. وهو رواية عن أبي حنيفة. وعليه قضاء ركعتين فحسب. وأمّا في الاستحسان وهو قول أبي حنيفة، وأبي يوسف. اختلف المشايخ فيه: قال بعضهم: يجزئه عن تسليمةٍ واحدةٍ. وقال بعضهم: لا يجزئه عن شيءٍ أصلًا. وكذا الخلاف في غير التّراويح إذا تنفّل بثلاث ركعات، ولم يقعد إِلّا في آخرها جاز عند الأولين، ولم يجز عند الآخرين. أما من قال: يجوزُ يقول: الفرض يجوز. بمثل هذه الصّفة. وهو المغرب. فكذا النّفل، ويجب أن يجوز، وإذا جاز النّفل جازت التّراويح؛ لأنها نافلة. فصار هذا كما لو صلَّى الأريع بقعدةٍ واحدةٍ. وذلك: يجوز عن تسليمةٍ واحدةٍ. فكذا هذا. وأمَّا من قال: لا يجوز؛ فإنه يقولُ: إن القعدةَ المشروعة قد
تركها. والتي فعلها في غير موضعها؛ لأنهّا لم تشرع في النّوافل في الثّالثةِ، فصار كأنّه لم يقعد فيها أصلًا، ولو لم يقعد فيها أصلًا، لا يجوز، وإذا لم يجز النفل، لم تجز التراويح؛ لأنّها نافلة بخلاف الأربع؛ لأنّ القعدة في آخرها قعدة في موضعها. ثمّ على قول أولئك إذا جازت هذه الثّلاثة عن تسليمةٍ، هل يلزمه شيءٌ آخرَ لأجل الثّالثة إن كان ساهيًا؛ لَا لأَنّه شروعٌ في مظنونٍ وإن كان عامدًا، يلزمه ركعتان في قول أبي حنيفة، وأبي يوسف؛ لأنّه قد صحّت الثّالثة حيث حكم بصحّة التحريمة حين قعد في آخر الصّلاة، ولم يكملها بضمِّ أخرى إليها، فيلزمه القضاءُ على قول هؤلاء إذا لم تجزئ الثلاث عن شيءٍ أصلًا. فيلزمه قضاء الأوليين. وهل يلزمه قضاء الثالثة: فعلى وجهين: إن كان ساهيًا فلا يلزمه لما قلنا، وإن كان عامدًا لزمه ركعتان في قول أبي يوسف. وفي قول أبي حنيفة: لا يلزم؛ لأنّ التحريمة قد فسدت حتّى لم يقعد على رأس الىانية، ولم يأتِ بالرّابعة. فإذا قام إلى الثَّالثةِ فقد شرع في الثّالثة بتحريمةٍ فاسدةٍ. وهذا موجبٌ للقضاءِ عند أبي يوسف، وعند أبي حنيفة: لا، في الصّحيح من مذهبه. فعلى هذا: إذا صلّى التّراويح عشر تسليماتٍ، كلّ تسليمة ثلاث ركعاتٍ، ولم يقعد إلّا في آخرها.
ففي القياس: وهو قول محمّد وزفر وهو رواية عن أبي حنيفة: عليهِ قضاءُ التراويح كلِّها، ولا شيءَ عليه سوى ذلك. وفي الاستحسان: وهو قول أبي حنيفة، وأبي يوسف على قول أولئك. جازت التراويح، ولا شيءَ عليه، إن كان قام ساهيًا، وإن قام عامدًا، فعليه أيضًا قضاء عشرين ركعة. وعلى قول هؤلاء: عليه قضاء التراويح كلها كما في القياس، ولا شيء عليه سوى ذلك في قول أبي حنيفة كيفما كان. وفي قول أبي يوسف: إن كانَ ساهيًا فهو كذلك. وإن كان عامدًا فعليه مع التراويح قضاء عشرين ركعة أخرى. وإن صلّى التراويح كلها بتسليمةٍ واحدةٍ عمدًا ولم يقعد إلّا في آخرها. ففي القياس: وهو قول محمّد وزفر روايةً عن أبي حنيفة: لم يجزِئ عن شيء، وعليه قضاء ركعتين فحسب. وفي الاستحسان: وهو قول أبي حنيفة، وأبي يوسف. اختلف المشايخ فيه: قال بعضهم: يجزئه عن التراويح كلها. وقال بعضهم: يجزئه عن تسليمةٍ واحدةٍ كما ذكرنا من الاختلاف، فيما إذا صلّى ترويحة بتسليمةٍ ولم يقعد على رأس الرّكعتين. وقال بعضهم: يُنظر إلى قدر المستحبّ، فكل ركعتين من المستحب تجزئ عن تسليمةٍ كما قال هذا القائل فيما إذا صلّى ستًّا أو ثمانيًا فقعد على رأس كلّ ركعتين.
فصل وقت التراويح
والصّحيح: أن قول هذا القائل فيما إذا قعد على رأس كلّ ركعتين. أما هنا: الصّحيح ما قال بعض المشايخ: أنه يجزئ عن تسليمةٍ واحدةٍ. والله أعلم. * * * فصلٌ وأمّا وقت التّراويح (¬1): فقد اختلف المشايخ فيه: قال الشّيخ الإمام إسماعيل الزّاهد وجماعة: اللّيل كلّهُ إلى طلوع الفجر وقتٌ لها قبل العشاء وبعدها. وقبل الوتر وبعدها؛ لأنّها قيام اللّيل، فكان شرطها: اللّيل فحسب. ¬
فصل إذا فاتت التراويح، هل تقضى بعد وقتها بالجماعة
وقال عامّةُ مشايخ بلخ وبخارى: وقتها ما بين العشاء والوتر، ولو صلّاها قبل العشاء أو بعد الوتر، لم يؤدّها في وقتها؛ لأنّ الآثار كذا وردت. وإنّما تشيع في التّراويح الآثار. والصّحيح: أن وقتها ما بين العشاء إلى طلوع الفجر، حتّى لو صلّاها بعد الوتر يجوز. ولو صلّاها قبل العشاء لا يجوز؛ لأنّها نوافل سنّت بعد العشاء. فاشبهت التطوع المسنون بعد العشاء في غير شهر رمضان. والله أعلم. * * * فصلٌ وإذا فاتت التراويح، هل تقضى بعد وقتها بالجماعة، وغير الجماعة. اختلف المشايخ فيه: قال بعضهم: يقضي من الغد ما لم يدخل وقت تراويح أخرى. وقال بعضهم: تُقْضَى ما لم يمض شهر رمضان. وقال بعضهم: لا تُقْضَى أصلًا. وهو الصّحيح؛ لأنّها ليست بآكد من سنّة المغرب والعشاء، وتلك لا تُقْضَى وحدها عند أصحابنا، فكذلك هذه (¬1). والدّليل عليه أنّها لا تُقْضَى بالجماعة: بالإجماع. ولو كانت تُقْضَى ¬
فصل إذا شكوا أنهم صلوا تسع تسليمات أو عشرا
لقضيت كما فاتت، فإنّ قضاءها منفردًا كان مستحبًّا كسنّة المغرب إذا قضاها. والله أعلمُ. * * * فصلٌ وإذا شكّوا أنهم صلوا تسع تسليماتٍ أو عشرًا. اختلف المشايخ فيه (¬1): قال بعضهم: أعادوا تسليمةً واحدةً بالجماعة احتياطًا. وإذا قال بعضهم: هل يزيدون؛ لأنّ الزيادة عن التراويح بالشك لا يجوزُ. والصَّحيحُ: أنَّهَا يُصَلّون تسليمةً أخرى فُرَادَى حَتَّى يَقع الاحتياط في فصل السّنة بإتمامها. ويقع الاحتراز عن أداء النّافلة بالجماعة غير التّراويح. والله أعلم. * * * * فصلٌ وإذا صلّى التّرويحة الواحدة إِمامًا، فكلُّ واحدٍ منهما بتسليمةٍ. اختلف المشايخُ فيه (¬2): ¬
فصل استيعاب أكثر الليل بالصلاة، والانتظار
قال بعضهم: لا بأسَ به. والصحيحُ: أنّه لا يستحبُّ ذلكَ. ولكن كلّ ترويحةِ يؤدِّيها إمامٌ واحدٌ وعليه عمل أهل الحرمين وغيرهم، ويكون تبديل الإمام بمنْزلة الانتظارِ. والله أعلم. * * * فصلٌ الأفضل: استيعابُ أكثر اللّيل بالصّلاة، والانتظار. وبعض مشايخنا قالوا: إذا أخّروها إلى ما بعد نصف اللّيل، لم يستحب، وشبّهها بتأخير العشاء. والصّحيح: أنّه لا بأس به. وهو المستحب والأفضل؛ لأنّها قيام اللّيل، وقيام اللّيل في آخر اللّيل أفضل. ¬
وقال الإمام أبو جعفر الطحاوي في معاني الآثار (¬1): باب التَّطوُّع بعد الوتر. . . ثمّ روى حديث ثمّ انتهى (¬2)، وقرَّه إلى السَّحر. ثمّ قال: وذهب قومٌ إلى أنَّه لا يتطوَّع بعد الوتر، وأنَّ من تطوَّع بعده فقد نقضه، وعليه أن يعيد وترًا آخر (¬3). ثمّ قال: وخالفهم في ذلك آخرون،. . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
وقالوا (¬1): لا بأس بالتَّطوُّع بعد الوتر، ولا يكون ذلك نقضًا (¬2) للوترِ (¬3). ثمّ ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
قال: وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد - رحمهم الله تعالى - (¬1). والله أعلمُ. * * * ¬
(7) الفوائد الجلة في مسألة اشتباه القبلة
مَجْمُوعَةُ رَسَائِل العَلَّامَة قَاسِم بن قُطْلُوبُغَا [7] الفَوَائِدُ الجُلَّةُ فِي مَسْأَلَةِ اشْتِبَاهِ القِبْلَةِ تَأْلِيفُ العَلَّامَة قَاسِم بْنِ قُطْلُوبُغَا الحَنَفِي المولود سَنَة 802 هـ والمتوفى سَنة 879 هـ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -
بداية الرسالة
(7) الفَوَائِدُ الجُلَّةُ فِي مَسْأَلَةِ اشْتِبَاهِ القِبْلَةِ قال - رحمه الله تعالى - بعد البسملة والحمدلة: أمّا بعد: فقد قال في كتاب الوقاية (¬1) فيمن اشتبهت عليه القبلة: وإن شرعَ بلا تحري لم تجز وإن أصاب (¬2). وقال في شرحها: لأنَّ قبلتهُ جهةُ تحرِّيه (¬3)،. . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
ولم يوجد (¬1). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
وقال في البداية مختصر الوقاية: ولم يعد مخطئ النوازل لو صلّى بلا تحري، لا يجوز لتركه الواجب عليه. وهو التّحرِّي وإن أصاب. وفيه خلافُ أبي يوسف. انتهى بالحروف من كلٍّ منهما. قلتُ: المفهوم من هذه العبارات: ما هو الظّاهر منها. وهو: أنّ من اشتبهت عليه القبلة فصلّى بغير تحرّي، ثمّ علمَ بعد الفراغ أنّه أصاب القبلة، لم تجز صلاته، وعليه الإعادة. قيل: هذه العبارات إنّما هي فيما إذا شرع بلا تحرٍّ علم في أثناء صلاته: أنّه أصابَ؛ لأنّ صاحب الوقاية قال: قيلَ ذلكَ، فإنّه جهلها وعدم من يساله تحرّ، ولم يعد أن أخطأ وإن علم به مصليًّا أو تحول رأيه إلى أخرى استدار. ¬
وإن شرعَ بلا تحرٍّ إلخ؛ لأنه قال في الكافي: وإن شرع بلا تحرٍّ، علم أنّه أصاب. قال أبو يوسف: يمضي فيها. وقالا؛ يستأنف. وقال في الاختيار (¬1) وكثيرٌ من المصنّفات: من صلّى بغير اجتهادٍ، ثمّ علمَ (¬2) بعد الفراغ: أنّه أصاب، فلا إعادةَ لوجود التوجه إلى القبلة، إذ التّحرِّي فرضٌ. هو وسيلة. فإذا حصل المقصود به، فلا يضر عدمه كالسعي إلى الجمعةٍ. قلتُ: ليس في عبارة الوقاية دلالةٌ على هذا المراد بوجهٍ من وجوهِ الدلالات. ولو كان فرض هذه المسألةُ فيما علم بالإصابة والخطأ في أثناء الصّلاة، للزم التكرار في بعض نظر، حيث قال: وإن علم به مصلّيًّا أو تحوّل رأيه إلى أخرى استدار وهو بعيدٌ من مثل برهان الشّريعة. وإن قيل: إنّ قوله يصيب، لم يتحرّ مسألة برأسها. فليكن قوله: وإن شرع بلا تحرٍّ مسألة برأسها أيضًا. وإن كان تقدّم قوله: وإن تحوّل رأيه استدار، دليلٌ على أنّه فيمن علمَ بحاله في أثناء صلاته، فليكن بآخره في عبارات النقاية دليلًا على خلافه. وبالجملة: فليس هذا الاستدلال بظاهرٍ. ¬
وأمّا ما كان في الكافي فهي مسألةٌ أخرى لا دلالة على أن لا خلاف فيه عندنا، إِلاّ هي. وهي نفسها قد اختلف الوضع فيها فذكرها في المختصر كما في الكافي. وذكرها في الإيضاح كما في المجمع، وهي: أنّه لو تحرى وعدل عن جهة تحرّيه. وقال صاحب المجمع: وما في الحصرِ فرعٌ على ما في الإيضاح؛ لأنّ هذه تستلزم تلك. وتلك لا تستلزم هذه. فلا بدّ أنّه ليس في المذهب غيرها. وأما ما في الاختيار من التصريح بخلاف ما في الوقاية، وإن ذكر في كتب ظاهر الرِّواية، لكن دليله المذكور مشكلٌ بالنّظر إلى دليل قولهما. وصورة الخلافية: ما إذا تحرّى وعدلَ عن جهة تحريه أو شرع بلا تحرٍّ وعَلِمَ في أثناء صلاته أنه أصاب. قال أبو يوسف: يمضي. وقالا: يستأنف. قال شارح المجمع: في هذه الصورة لأبي يوسف: أنه أتى بما وجب عليه وهو: استقبال القبلة. فأفاد هذا: أنّ المقصود هو الاستقبال، وقد وجد، وإذا حصل المقصود فلا يضر عدم ما هو وسيلة إليه. واستدل لهما: أنّه مأمورٌ بالتحري لا بالإصابة؛ لأنها ليست في وسعه، فلم يأتِ بما أمر به، فلم يخرج عن العهدة. ففي قوله: إنّه مأمورٌ بالتحري إلى آخره. أفاده: أن المفروض في حالة الاشتباه: التّحرِّي ولم يأت به. ومن كان كذلك، لم يخرج عن العهدة، ومن لم يخرج عن العهدة تلزمه الإعادة للخروج عن العهدة.
وفي قوله: لا بالإصابة. أفاده: أنّه ما أتى به في هذه الحالة ليس هو المفروض عليه، فلا يكفيه في الخروج عن العهدة. وفيه: نفيٌ لقول أبي يوسف: أنّه أتى بما وجب عليه. وهذا إطنابٌ مني في هذا المقام، وإلّا فلا يخفى هذا على مُحصّلٍ. ونحو هذا: ما ذكره الزّوزني (¬1) في شرح بيت المنظومة حيث قال: ولهما أن شرط انعقاد ما أتى به جزءٌ لفرض الوقت قد فات فلا ينعقد جزاءً له، لاستحالة وجود المشروط بدون شرطه، فكيف يبني عليه ويتمه فرضًا. وهذا لأنّ التوجه إلى جهةٍ يقع إليها تحريه شرط وقوع ما أتى به جزء الفرض الوقت. لانعقاد الإجماع على وجوب التوجه إلى ما يقع تحريه إليه. انتهى. فنقول في مسألتنا: شرط انعقاد ما أتى به فرض الوقت قد فات، فلا ينعقد ما أتى به فرضًا. إلخ. إن شرط جزء الصّلاة شرطُ كلّها، إِلَّا أنه إنّما ذكره في صورة ما إذا علمها لإصابةٍ في أثناء صلاته. وقال شيخنا العلّامة كمال الدين في شرح الهداية فيما ذكر في الاختيار وغيره (¬2): إِنّهُ مشكلٌ على قولهما فيما إذا عَلِمَ بالإصابة في أثناءِ ¬
الصّلاة، حيث قالا: يستأنف؛ لأنّ تعليلهما في هذه الخلافية هو: أنّ القبلة في حقّه جهة التّحرِّي، وقد تركها. يقتضي الفساد مطلقًا في صورة ترك التّحرِّي؛ لأنّ ترك جهة التّحرِّي يصدق مع ترك التّحرِّي وتعليلهم في تلك، بأنّ ما فرض لغيره يشترط مجرّد حصوله كالسعي يقتضي الصحّة في هذه. انتهى. ¬
قلتُ: لكن الأقوى: دليل الخلافية للتصريح فيه، بأنّ الإصابة ليست بفرض حالة الاشتباه. . . إلخ. وما يقالُ مِنْ أنّ [مَنْ] (¬1) تحرّى وعَدَلَ عن جِهَةِ تحرّيه، ففي اعتقاده: أنَّهُ صلّى إلى غير القبلة. ومن كان كذلك لم تجز صلاته بخلاف من شك، ولم يتحرَّ وصلّى، فإنّه لم يجزم بأنه إلى غير القبلة، لكن لا يحكم بالجواز ابتداءً لاشتباه أمره على الشك، وإذا ظهر الخطأ أو الصّواب تيقّن ثبت حكمه، ويبطل حكم الشّك. يقالُ عليه: إن الحكم إن كان تابعًا لما عنده فقط من غير أن يكون لظهور صوابه أثرٌ فيلزم: أن ما أدّاه بالشك لا يصحّ؛ لأنّ الفرض ثابتٌ في ذمّته بيقينٍ، فلا يسقط بالشّكّ على أن عبارتهم تقتضي تأثير ظهور صوابه وخطأه فيما إذا شرع بالشّك، وأتمّ، ثمّ ظهرَ صوابه حيث صرّح في الاختيار بأنّه لا إعادةً عليه لوجود التوجه ونحو ذلك. وشرح في البدائع (¬2) أيضًا: أنّه لو ظهر خطؤهُ بعد الفراغ أعاد، وصرّحوا ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
فيما إذا شرع بلا تحرٍّ، ثم ظهر في أثناء الصلاة: أنّه أصاب بلزوم الإعادة؛ لأنه قوّى حاله. ونبأ القوي على الضعيف لا يجوزُ، ولم يقتصروا في هذه المسائل على ما في خاطر المصلّي مع النّظرِ في عدم كونه مستقبلًا القبلة موجودةً في صورة الشّك، ولا يخلص إلاّ بادّعاءٍ: أنّ الحكم ما يتبع ما عنده، غير أنّه إن كان عن دليلٍ شرعي، فلا تأثير لظهور صوابه وخطئهِ فيما مضى مبنيًّا على ذلك، وإن لم يكن عن دليلٍ أثر. وها أنَا بأساطير الضَّراعةِ والمسكنةِ إلى أستاذي وإخواني الفضلاء في الوقوف على هذه الرُّقومِ، وتحريرها إسعافاَ إِلَيَّ، واغتنامَ أجرِ ودعاءٍ، وهو سبحانهُ حسبي ونعم الوكيل. وهذه صورة ما كتبه الشيخ الإمام العالم العلامة كمال الدين ابن الهمام - تغمده الله برحمته -: الحمدُ لله الفتاح العليم، وصلَّى الله على سيدنا محمَّدِ عبدهُ ورسولهُ، النَّبيّ الأمّيّ، وعلى آله وصحبه وسلم. لا ريبَ في أن مؤدّى اللّفظ المنقول، من المواضع الثلاثة: لزوم الإعادة عند عدم التحري في الاشتباه بعد تبين الآية، أعمّ من كون ذلك في الصلاة أو بعدها. وفهم ذلك فهم مدلولِ اللفظ قطعًا، لا ينسبُ لفاهمه تقصيرٌ فلا يخطئه. وإنّما الذي ينسب إليهم التقصير إن لم يعن بهم المسطرون لهذا الحكم في الكتب، على أنّه المذهبُ، فإنّهم بصدد التضعيف في مذهب أبي حنيفة. فكلُّ ما أطلقوه من الأحكام ساكتين عن إفادة أنّها اختيار المشايخ على خلاف قول أهل المذهب - أعني: الثلاثة -، لم يفهم منه إلا أنّه بيانٌ لمذهبهم، ولا شكّ أنّ كلام أهل المذهب أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد المنقول من لفظ محمّدٍ في هذه المسألة عدم الإعادة عند ظهور الإصابة بعد الفراغ، كما
هو المذكور في الأصل وغيره من غير حكاية الخلاف. وقد عرف قول محمد لهم: إنّه ما لم يجد فيه خلافًا، فهو قولهم جميعًا. قال الحاكم أَبو الفضل في الكافي الذي هو مجموع كلام محمد في جميع كتبه، على ما ذكره في أوّله، ولو كان حين انتهى إلى موضع الصلاة. شكَّ. فلم يدرِ أينَ القبلة، فلم يتحرّ حتّى صلّى إلى بعض تلك الوجوه بغير تحرٍّ ولا أكبرَ رأي. فعليه: أن يعيد صلاته إلاّ أن يعلم أنّه صلّى للقبلة، إلاّ أنّ ذلك إنّما كان بعد دخوله في صلاته، لم تجز تلك الصلاة حتى يستقبلها بتكبير مستقبلٍ؛ لأن الواجب كان عليه أن يتحرّى، ثم يفتتح. فهذا نصُّ محمّدٍ في الأصل الذي هو شرح المبسوط، عدم الإعادة من غير خلافٍ. فإطلاقُ بعض المصنفين: لزوم الإعادة، إفادة بغير ما يتم بصدده من إفادة مذهب أبي حنيفة وأصحابه، فأمرٌ دائرٌ بين أمورٍ، إمّا قصدهم يؤدي ظاهر عبارتهم، فيحكم عليهم بالخطأ، إذ ليس ذلك قول أهل المذهب المقتدى بهم. وَإِمَّا إرادتهم كان ذلك فيما إذا ظهر الخطأ في الصّلاة، فيحكمُ بخطئهم بالتعبير إذا كان لفظهم أعمّ من مرادهم، فيوقع في التجهيل لا التعليم. وأمّا اطّلاعهم عن بعض رواياتٍ عنهم في ذلك، فيحكم عليهم بأخفّ من ذلك الخطأ، فإنّ إطلاق ذلك من غير بيانٍ: أنّها شذوذٌ من الروايات، اختاروها وتركوا المعروف عنهم. يعطي أنه المذهب المعروف، والفرض أنّ الظّاهر عنهم خلاف ذلك، فكان الواجبُ: بيان كون ذلك خلاف الظّاهر لا إرساله هكذا في مقام كتابة مذهب الأئمة. والله أعلمُ. وأمّا بمقام الاستدلال على لزوم الإعادة في ظهور الخطأ في الصّلاة دون
صورة ما كتبه المرحوم الشيخ العلامة يحيى بن محمد الأقصرائي الحنفي
ما بعدها مع لزومها بعد ظهور الصّواب في صورة التحري، ثم العدول من جهته شيءٌ آخر. وقد استودعناه في موضعٍ آخر. والله الموفق. قال ذلك وكتبه محمد بن همام الدين. والله أعلم بالصّواب. وهذه صورة ما كتبه المرحوم الشيخ العلامة يحيى بن محمد الأقصرائي الحنفي (¬1): الحمد لله رب العالمين، الميسّر لكل عسير، وصلاته وسلامه على سيدنا محمّدٍ وآله وصحبه أجمعين. ظاهرُ عبارة الكتب الثلاثة: الإطلاق. ومفهومه: عدم الصّحة، ولزوم الإعادة عند وجود الاشتباه. وعدم التحري عند الشروع، ظهرَ إصابة الشّارع في الصلاة حال كونه فيها، أو بعد ¬
الفراغ منها، أو لم يظهر. وإن كان ذلك مخالفًا لما ذكره صاحب الاختيار، والبعض ممن تقدمه من عدم الإعادة عند العلم بعد الفراغ. ففيه اختلاف الروايتين، ويكون مختار صاحب الوقاية. ومن أطلق أحد الروايتين وما ذكره من الاستدلالات والمنقول والأبحاث فيها، فأفاد وأجاد في ذلك. والله سبحانه وتعالى أعلم. قاله يحيى بن محمد الأقصرائي الحنفي عفى الله عنه.
(8) أحكام القهقهة
مَجْمُوعَةُ رَسَائِل العَلَّامَة قَاسِم بن قُطْلُوبُغَا [8] أَحْكَامُ القَهْقَهةِ تَأْلِيفُ العَلَّامَة قَاسِم بْنِ قُطْلُوبُغَا الحَنَفِي المولود سَنَة 802 هـ والمتوفى سَنة 879 هـ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -
بداية الرسالة
(8) أَحْكَامُ القَهْقَهةِ قال - رحمه الله -: إنهّ قد رفع إليَّ سؤالٌ، صورته: ما الجواب رضيَ اللهُ عنكم، وأدام النفع بكم بمحمَّدٍ وآلهِ، عن ما نقله الإمام الزركشي في حواشيه على الرافعي فقال: سؤالٌ على الحنفية وهو: أنَّ حديث القهقهة ورد في صلاة الفرض، فقاسوا عليه النفل دون الجنازة. فإمّا أن يكون ذلك تعبّدًا، فكيف يقاس عليه النفل. وإمّا أن يكون معلّلًا، فكيف لم يُقس عليه الجنازة، وعليه جوابٌ صورته: الحمدُ لله المنعم بالصّواب. نقول ذلك تعبّدًا، وإلحاق الصلاة النافلة بطريق الدلالة لا القياس؛ لأنّها صلاةٌ حقيقةً حيث كانت أركانها أركان الصلاة وغير ذلك، بخلاف صلاة الجنازة، فهي ليست بصلاةٍ حقيقةً، أو قاصرةً، فلا يلحق بالفرض. وقال علماؤنا - رحمهم الله تعالى -: إنّ الصلاة النّافلة بمجرد الشروع فيها تصير واجبةً لازمةً، فتعامل معاملة الفرض دون غيرها. والحالة هذه.
وكتبت: الحمدُ لله. ربّ زدني علمًا. الجواب: إنّه تعبّد ولم يقس النفل، وإنمّا عملنا بعموم لفظ الصّلاة من قوله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ ضَحِكَ فِي الصَّلاَةِ قَهْقَهَةً، فَلْيُعِدِ الْوُضُوءَ وَالصَّلاَةَ" (¬1). كما هي رواية ابن عدي (¬2)، وغيره. ونحوها من الروايات، ولم تدخل الجنازة؛ لأنهّا ليست بمطلقة. ولا يتصوّر: أن يكون النفل ملحقًا بطريق الدلالة؛ لأنّ النّص الذي يكون له الدلالة نصٌّ يفهم المعنى الذي لأجله الحكم المذكور فيه على الوجه المصرّح به في الأصول. وحديثُ القهقهة (¬3): اتفق على أنه يقصر على فهم المعنى الذي لأجله ¬
الحكم المذكور فيه لكلّ مجتهدٍ. وكان العهد قد بعد بدلالة النصّ، فيذكر بها من بعض مختصراتنا. فنقول: قال الشيخ الإمام نظام الدين في كتابه: وأمّا دلالة النّص، فهي ما علم علّة الحكم المنصوص عليه لغةً، لا اجتهادًا واستنباطًا. مثاله: قوله تعالى: {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا} [الإسراء: 23]. فإنّ للتأفيف صورة معلومة، ومعنًى لأجله ثبت الحكم، وهو الأذى المعلوم بالنّصِّ لغةً يفهمه كل من فهم اللغة. ¬
وعلى هذا: أوجبنا حد قطاع الطريق على الرّد بدلالة النّص؛ لأنّ العادة المجازية، وصورة ذلك بمباشرة القتال. ومعناها لغةً: نهي العدو، والتخويف على جهة ينقطع بها الطريق. وهذا معنى معلوم بالمحاربة لغةً. والرّدُّ مباشرٌ كذلك كالمقاتل. ولهذا: اشتركوا في الغنيمة، فيقام الحدّ على الرّدّ بدلالة النّصِّ من هذه الوجوه. وحاصله أمران: التنبيه بالأدنى على الأعلى، أو بالشيء على ما يساويه. أمّا على الأعلى: فنوعان: قطعيٌّ جليٌّ إن اتفق على طريق تعين مناطه. وظنيٌّ خفيٌّ، إن اختلف فيه. أمّا القطعي: فمن أمثلة ما فهم من حرمة التأفيف، حرمة الضرب، كما مر. وهما معلومان لغةً صورةً ومعنًى. وصورة التأفيف: التصويت بالشفتين عند الكراهة. ومعناه: المقصود الأدنى المتحقق. ومثله: ما فهم من قوله تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا
يَرَهُ} [الزلزلة: 7]. جزاء ما فوقها. ومن {بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ} [آل عمران: 75]. بأدائه ما دونه. وأمّا الظَّنِّيُّ: فكما في إيجاب الكفارة على المفطر في رمضان بالأكل والشرب خلافًا للشّافعي، بدلالة سؤال الأعرابي بقوله: وَاقَعْتُ امْرَأَتِي فِي نَهَارِ رَمَضَانَ عَامِدًا، مرتبًا عليه قوله: هَلَكْتُ وَأَهْلَكْت (¬1). عن الجناية على الصّوم، بتفويت ركعةٍ التي هي معنى الموافقة، لا عن الوقاع من حيث هو. وذا مما يفهم لغة. فكذا جوابه - صلى الله عليه وسلم - عن حكم الجناية لوجوب التطابق خصوصًا عن أفصح النّاس، والوقوع إليها متحققة فيها، بل أولى لكون خوض الصّائم عليها أشد. وسوقه إليهما أحد بمصادقة شرع الصوم. وفيهما الغالبُ، وكونه وجاء. فالظّن من اختلافهم: أنّ طريق فهم المناط يفضي إلى أنه الجناية المطلقة والمقيدة. ¬
تتمة
وأمّا على المساوي، فكإيجاب الكفّارة على المراد، لتحقق الجناية. وكونه معنًى مطّردًا منقولًا لغةً. وكإثبات حكم النسيان الوارد في الأكل والشرب والوقاع بمعنى كونه مساويًا محمولًا عليه طبعًا، وذا مفهومه لغة. وميل الطبع إليها مساوٍ. وكان نظيرهما وشمول كلٍّ منهما قصورًا، وكمالًا، فلهما مزية في أسباب الدعوة، وقصور في حالهما، إذ لا يغلبان البشر، وهو بالعكس، تحقق المساواة. ومن هنا لم يمكن الجماعُ ناسيًا في الصوم كالأكل ناسيًا في الصلاة. فإن قيل: اشتبه الفهم في هذه المسائل على فقيهٍ تبرز في طرق الفقه بعد أن بلغه الأدلة. فكيف يكون مفهومًا لغويًا ومناطًا قطعيًا صالحًا لإثبات ما يندرئ بالشبهات. أجيب: بأنّ معنى لغويته عدم توقف فهم مناطه على مقدمة شرعية من تأثير نوعٍ أو جنسه في نوع الحكم أو جنسه شرعًا بخلاف القياس؛ لا فهم كل أحد المعنى. ومعنى قطعيته: قطعية مفهوميته بالمعنى المذكور كالجناية من سؤال الأعرابي، لا قطعية دليل مناطيته ولا قطعية تعدي الحكم إلى الملحق، ولا قطعية كونه أجلى أو مساويًا. * تتمة: قال بعض الأصوليين: ليس للأدلة عمومٌ؛ لأنّ معنى النّص إذا ثبت علةً لا يحتمل أن لا يكون علّة، والإشارة تصلح لهُ. ومعناهُ: أن العلّة لا تخصص؛ لأنّها مدار الحكم وملزومه، فلو وجد دليل العرض عليها لجاز نسخًا لا تخصيصًا. وكذا الإشارة عند بعضٍ. منهم: أَبو زيدٍ، لما لم يسق الكلام. والأصحُّ: أنّها قد تخصص. كما
فائدة في التوكيل في النكاح
مال الإمام الشافعي بتخصيص إشارة قوله تعالى في حقّ الشهداء: {بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ} [آل عمران: 169]. إِلَى أن لا يصلي عليهم في حقّ حمزة حيث صلى عليه - صلى الله عليه وسلم - حين استشهد سبعين مرة. وألحقَ هنا الفرق على أن العموم للمنطوق لا للمفهوم. وعليه: قبول التخصيص. والله أعلم. * فائدة: في التوكيل في النكاح، وفيما لا يضاف إليه، ليس للوكيل أن يضيف القبول فيه إلى نفسه؛ لأنه متى أضافه إلى نفسه انعقد له؛ لأنّه عقدٌ لازمٌ، لا يقبل الانتقال، ولا يتخلّف الحكم عن سببه، فيلزمه إذًا جميع ما يترتب عليه ذلك من الحقوق. والمخلص من هذا، والطريق الصحيح: أن يقول: زوّجت موكلتي نفسها من موكّلك فلانٍ الفلاني على صَداقٍ مبلغه. كذا حالًا أو مؤجّلًا. فيقول الوكيل: قبلَ موكّلي هذا النكاح بهذا الصَّداق على حكمه ورضي به. وسئل - رحمه الله - عن رجلٍ، اشترى من آخرَ صابونًا، وقد أحضر البائع عينًا، أيّ: أنموذجًا. فابتاع منه مقدارًا. فأجاب: إن كان أشار إلى الصابون صحّ في قدره. وإن لم يكن أشار إليه، فإن عين مكانًا من الأمكنة به صابون. صحّ. وللمشتري خيار الرؤية وإن لم يكن كذلك، فالبيع باطلٌ. والله أعلم. * * *
(9) الأصل في بيان الفصل والوصل
مَجْمُوعَةُ رَسَائِل العَلَّامَة قَاسِم بن قُطْلُوبُغَا [9] الأَصْلُ فِي بَيَانِ الفَصْلِ والوَصْلِ تَأْلِيفُ العَلَّامَة قَاسِم بْنِ قُطْلُوبُغَا الحَنَفِي المولود سَنَة 802 هـ والمتوفى سَنة 879 هـ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -
بداية الرسالة
(9) الأَصْلُ فِي بَيَانِ الفَصْلِ والوَصْلِ قال - رحمه الله -: قد سألني بعض أجلاّء مشايخي من غير أرباب المذهب، عن وصل التطوع بالفريضة. وذكر لي: أن بعض علماء الحنفية ذكر له: أنما ذلك اختيار الإمام حافظ الدين النسفي، ولا يعرف لمن تقدمه من أئمتنا. فقلت: إن المسألة مسطورة في كتب جماعةٍ قبل النسفي. فسألني: أن أكتب له ذلك. فقلت مستعينًا بالله سبحانه وتعالى: قال الإمام محمد بن الحسن في الأصل: وإذا سلّم الإمام من الظّهر أو المغرب أو العشاء، كرهتُ له المكث قاعدًا. ولم أكرهه في الفجر والعصر، فإن شاء أن يصلي تطوعًا في الظهر والمغرب والعشاء لم يصلّ في مكانه بل يتأخر فيصلي خلف المقام أو حيث أحبّ من المسجد، خلا مكان الإمام. وساقه في خلاصة الفتاوى (¬1) وبلفظٍ آخرَ، فقال: وإذا سلَّم الإمام من ¬
الظُّهر أو المغرب أو العشاء كرهت له المكث قاعدًا لكنَّه يقوم إلى التَّطوُّع، ولا يتطوَّع في مكان الفريضة ولكن ينحرف يمنةً أو يسرةً أو يتأَخَّر، وإن شاء رجع إلى بيته يتطوَّع وإن كان مقتديًا، أو يصلِّي وحدهُ إن لبث في مكانه يدعو جاز. وكذا إن قام إلى التَّطوُّع في مكانه أو تقدَّم أو تأخَّر أو انحرف يمنةً أو يسرةَ جاز والكلُّ سواءٌ (¬1). ¬
وقال في البدائع (¬1): وروي عن محمَّدٍ أنه قال: يستحبُّ للقوم أيضًا أن ينقضوا [الصُّفوف] ويتفرَّقوا. ¬
وقال فِي شرح الشَّهيد: القيام إلى السُّنَّة متَّصلٌ بالفرضِ مسنُونٌ (¬1). وكذا قال البَقَّالِيّ (¬2). وقال في الذخيرة: وإذا فرغ الإمام من صلاته: أجمعوا على أنه لا يمكث في مكانه مستقبل القبلة سائر الصلوات في ذلكَ سواءً. وبعد ذلك ينظر إن كانت صلاة لا تطوع بعدها، يتخير إن انحرف عن يمينه أو يساره، وإن شاء ذهبَ في حوائجه، وإن شاء استقبل الناس بوجهه إذا لم يجد أيّة رجلٍ يصلي، ولم يفصل فيما إذا كان المصلي في الصف الأول أو الأخير. وهذا ظاهر المذهب. وأمّا إن كانت صلاة بعدها تطوع كالظهر والمغرب والعشاء، يقوم للتطوع، ويكرهُ له تأخير التطوع عن حالٍ أداء الفريضة. وإذا قام إلى التطوع لا يصلي في المكان الذي صلّى فيه المكتوبة. بل يتقدم أو يتأخر أو ينحرف يمينًا أو شمالًا أو يذهب إلى بيته فيتطوع. ثَمَّة قال شيخ الأئمة الحلواني (¬3): وهذا إذا لم يكن من قصده الاشتغال ¬
بالدعاء، فإن كان له وردٌ يقضيه بعد المكتوبات، فأراد أن يقضي ورده قبل أن يشتغل بالتطوع، فإنه يقوم عن مصلاه، فيقضي ورده. وإن شاء جلس في ناحية من المسجد فقضى ورده، ثم قام إلى التطوع. فمن الصحابة من كان يقضي ورده قائمًا. ومنهم من كان يجلس في ناحيةٍ من المسجد فيقضي ورده، ثم يقوم إلى التطوع. فالأمر فيه واسعٌ. وهذه من شرح الحلواني. وما ذكرهُ شمس الأئمة (¬1) دليل جواز تأخير السنن، عن أداء الفريضة. هذا الذي ذكرنا في حق الإمام. وأمّا المنفرد والمقتدي: فإن أتيا بالتطوع في مصلاهما ويدعوان جاز. وإن أقاما التطوع في مكانهما، وإن تراخيا عن مكانهما وأقاما في مكانٍ آخرَ، جازَ. انتهى. وصرّح بكراهة تأخير التطوع عن الفريضة في الاختيار وشرح المختار. وقال: لأنهّ - صلى الله عليه وسلم - كانَ لا يمكث إلاَّ قدر أن يقول: "اللَّهُمَّ أَنْتَ السَّلاَمُ، وَمِنْكَ السَّلاَمُ، تَبَاركْتَ يَا ذَا الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ" (¬2). وقاله في الشافي. ¬
وقال في البدائع (¬1): إذا فرغ الإمامُ من الصَّلاة فلا يخلُو (¬2): إمَّا أن كانت صلاةً لا يصلَّى (¬3) بعدها سنَّةٌ: كالفجر والعصر، فإن شاء الإمام قام وإن شاء قعد في مكانه يشتغل بالدُّعاء؛ لأَنَّه لا تطوُّع بعد هاتين (¬4) الصَّلاتين [فلا بأس] بالقعود، إلاَّ أنَّه يكرهُ له ذلك المكث على هيئته (¬5) مستقبلَ القبلة، لما روي عن عائشة رضي الله عنها: أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كاَنَ إذَا فَرَغَ مِن الصَّلاةِ لاَ يَمْكُثُ فِي مَكَانِهِ إلاَّ مِقْدَارَ مَا يَقُولَ: "اللَّهُمَّ أَنْتَ السَّلاَمُ، وَمِنْكَ السَّلاَمُ. تَبَاركْتَ يَا ذَا الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ" (¬6). وروي: [أنَّ] جلوس [الإمام] في مصلاَّه بعد الفراغ مستقبل القبلة بدعةٌ؛ ولأنَّ مكثه يوهم الدَّاخل أنَّه في الصَّلاة فيقتدي به فيفسد اقتداؤه، وكان (¬7) المكث تعريضًا لفساد (¬8) اقتداء غيره به فلا يمكث، ولكنَّه يستقبل ¬
القوم (¬1) بوجهه إن شاء، إن لم يكن بحذائه أحدٌ يصلِّي، لما روي: أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ إذَا فَرَغَ مِنْ صَلاةِ الْفَجْرِ اسْتَقْبَلَ بِوَجْهِهِ أَصْحَابَهُ، وَقَالَ: "هَلْ رَأَى أَحَدُكُمْ رُؤْيَا؟ " (¬2)، كَأَنَّهُ [كَانَ] يَطْلُبُ رُؤيا فِيهَا بُشْرَى فَتْحِ (¬3) مَكَّةَ. فإن كان بحذائه أحدٌ يصلِّي لا يستقبل القوم بوجهه؛ لأنَّ استقبال الصُّورة في الصَّلاة مكروهٌ، لما روي: أَنَّ عُمَرَ [- رضي الله عنه -] رَأَى رَجُلًا يُصَلِّي إلَى وَجْهِ غَيْرِهِ، فَعَلاهُمَا بِالدِّرَّةِ. وَقَالَ لِلْمُصَلِّي: أَتَسْتَقْبِلُ (¬4) الصُّورَةَ؟ وَلِلآخَرِ: أَتَسْتَقْبِلُ (¬5) الْمُصَلِّي بِوَجْهِكَ؟ (¬6). وإن شاء انحرف؛ لأنَّ بالانحراف يزول الاشتباه كما يزول بالاستقبال. ثم اختلف المشايخ في كيفية الانحراف: قال بعضهم: ينحرف إلى يمين القبلة تبرُّكًا بالتَّيامن (¬7). وقال بعضهم: ينحرف إلى اليسار ليكون يساره إلى اليمين. وقال بعضهم: هو مخيَّر، إن شاء انحرف يمنةً، وإن شاء يسرةً، وهو ¬
الصَّحيحُ؛ لأنَّ ما هو المقصود من الانحراف (¬1)، وهو: زوال الاشتباه يحصل بالأمرين جميعًا. وإن كانت صلاةً بعدها سنَّةٌ يكره له المكث قاعدًا. وكراهة القعود مرويَّة عن الصَّحابة [- رضي الله عنهم -]. روي عن أبي بكرٍ وعمر - رضي الله عنهما -: أَنَّهُمَا كَانَا إذَا فَرَغَا مِن الصَّلاةِ قَامَا كَأَنَّهُمَا عَلَى الرَّضْفِ (¬2). ¬
ولأنَّ المكث يوجب اشتباه الأمر على الدَّاخل فلا يمكث، ولكن يقوم ويتنحَّى عن ذلك المكان، ثم ينتقل (¬1)؛ لما روي: عن أبي هريرة [- رضي الله عنه -]، عن النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال: "أَيَعْجِزُ أَحَدُكُمْ إذَا فَرَغَ مِنْ صَلاتِهِ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ" (¬2). وعن ابن عمر [- رضي الله عنه -]: أَنَّهُ كَرِهَ لِلإِمَامِ أَنْ يَتَنَفَّلَ فِي الْمَكَانِ الَّذِي صَلَّى (¬3) فِيهِ. ولأنَّ ذلك يؤدِّي إلى اشتباه الأمر على الدَّاخل، فينبغي أن يتنحَّى إزالةً للاشتباه أو استكثارًا من شهوده (¬4) على ما روي: أَنَّ مَكَانَ الْمُصَلّي يَشْهَدُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. ¬
وأمَّا المُقتَدُونَ (¬1): فبعض مشايخنا قال (¬2): لا حرج عليهم في ترك الانتقال (¬3) لانعدام الاشتباه على الدَّاخل عند معاينة فراغ مكان الإمام عنه. وروي عن محمَّدٍ أنَّه قال: يستحبُّ للقوم أيضًا: أن ينقضوا الصُّفُوف ويتفرَّقُوا ليزول الاشتباهُ على الدَّاخل المعاين الكلَّ في الصَّلاة البعيدة عن الإمام، ولما روينا من حديث أبي هريرة [- رضي الله عنه -]. انتهى. وقال حافظ الدين (¬4) في كتابه: أمّا السنن التي بعد الفريضة فيأتي بها في المسجد في مكانٍ صلّى فيه فرضه بالأولى أن يتنحّى خطوة، والإمام يتأخّر عن مكانٍ صلّى فيه فرضه لا محالة. انتهى. وهذا لا يستلزم الوصل، فظهرَ: أنّ ما عُزِيَ للنسفي ليس صريحًا عنه. وأن المسألة صريحةٌ عن من هو أقدم منه. فموت النسفي بعد العشر وسبع مئة. وموت صاحب الاختيار في تاسع عشر المحرم سنة ثلاثة وثمانين وست مئة. وموت الحسام الشهيد سنة ست وثلاثين وخمس مئة. وموت صاحب البدائع سنة سبع وثمانين وخمس مئة. ¬
وموت البقالي: سنة اثنين وسبعين وخمس مئة. وموت الحلواني سنة ثمانية وأربعين وأربع مئة. وأمّا ما حكاه الحلواني، عن الصّحابة. فلم أقف عليه. وأمّا حديث عائشة الذي أخرجه صاحب البدائع: فأخرجه مسلم، والترمذي (¬1). وأمّا قوله: ورويَ [أنَّ] جلوس [الإمام] في مصلاَّهُ. . . إلخ. فأخرجه ابن أبي شيبة (¬2)، عن عمر: أنّه قال: جلوسُ الإمامِ بعد السّلام بدعة. وأمّا حديث: كان إذا فرغ من صلاة الفجر. . . فمتفقٌ عليه (¬3). وفي الباب: ما هو أعمّ منه. وهو ما روى سَمُرة قال: كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا صَلَّى صَلاَةً أَقْبَلَ عَلَيْنَا بِوَجْهِهِ. أخرجه البخاري (¬4). وأمّا قول: لما روي: أنّ عمرَ: أنّه رأى رجلًا يُصَلِّي، وَوَجْهُهُ إِلَى غَيْرِهِ. فَلَمْ أَرَهُ فِي الْبَابِ. ¬
ما رواه ابن أبي شيبة في مصنّفه (¬1)، عن عطاء بن يسار (¬2): قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لاَ يَسْتَقْبِلُ الصُّورَةَ". وما رواه الدارقطني (¬3)، عن ابن الحنفية: أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - رَأَى رَجُلًا يُصَلِّي إِلَى رَجُلٍ، فَأَمَرَه (¬4) أَنْ يُعِيدَ الصَّلاَةَ. فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ! إِنِّي قَدْ أَتْمَمْتُ الصَّلاَةَ. فَقَالَ: "إِنَّكَ قَدْ صَلَّيْتَ وَأَنْتَ تَنْظُرُ إلَيْهِ مُسْتَقْبِلَهُ". وقد جاء في الانحراف: ما رواه الأثر، عن يزيد بن الأسود قال: صلّيتُ مَعَ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - الفجرَ، فَلَمَّا سلَّمَ انْحَرَفَ (¬5). وعن ابن مسعودٍ أَنَّهُ قالَ: لاَ يَجْعَلُ أَحَدُكُمْ حَظًّا لِلْشَّيْطَانِ مِنْ صَلاَتِهِ، يَرَى حَقًّا عَلَيْهِ: أَنْ لاَ يَنْصَرِفَ إِلاَّ عَنْ يَمِيْنَهُ، لَقَدْ رَأَيْتُ رَسُوْلَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أَكْثَرَ مَا يَنْصَرِفُ عَنْ شِمَالِهِ. رواهُ مسلم (¬6). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
ولأبي داود (¬1)، عَنْ هلب: أنّهُ صَلَّى مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَكَانَ يَنْصَرِفُ عَنْ شِقَّيْهِ. وأمّا ما روي عن أبي بكرٍ وعمر: فروى الطبراني (¬2)، عن أنس بن مالكٍ قالَ: صَلَّيْتُ مَعَ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، ¬
فكان ساعةَ يسلّمُ. يقوم: ثم صلّيت مع أبي بكرٍ، فكان ساعةَ يصلي يقوم، ثم صلّيت مع عمر، فكان إذا سلّم وثب كأنّه يقوم من رضفةٍ (¬1). ورأى ذلك فيما بعد التشهّد الأوّل. ¬
روى ابن أبي شيبة (¬1)، من طريق تميم بن سلمة: كَانَ أَبُو بَكْرٍ إِذَا جَلَسَ فِي الرَّكْعَتَيْنِ كَأَنَّهُ عَلَى الرضف (¬2) - يعني: حتى يقوم -. وأخرجه من طريقٍ آخرَ (¬3) بلفظ: وَكَانَ في الرَّكْعَتَيْنِ الأُولَتَيْنِ كَأَنَّهُ عَلَى الْجَمْرِ حَتَى يَقُومَ. وأمّا حديث أبي هريرة: فأخرجه أَبو داود، وابن ماجه (¬4). وهو عامٌّ. والذي يخصُّ الإمام: ما رواه أَبو داود، وابن ماجه، عن المغيرة بن شعبة: أَن النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "لاَ يُصَلِّي الإمَامُ فِي مَقَامِهِ الَّذِي يُصَلِّي فِيهِ الْمَكْتُوبَةَ حَتَّى يَتَنَحَّى عَنْهُ" (¬5). ¬
وفيه: لفظ: "فَلاَ يَتَطَوع الإمام في مكانه الّذي صلّى فيه بالنّاس" (¬1). أَمَّا أثرُ ابن عمر: فأخرجه ابن أبي شيبة، عن عطاء: [أن] ابن عبّاس وابن الزّبير وأبا (¬2) سعيد وابن عمر كَانُوا يَقُولُونَ: لاَ يَتَطَوَّعُ حَتّى يَتحَوّلَ مِنْ مَكَانِهِ الَّذِي صَلَّى فِيْهِ الْفَرِيضَةَ (¬3). وفي سنده: رجلٌ متّهم. وأخرج (¬4)، عن ابن عليّة، عن أيوب، عن نافعٍ، عن ابن عمرَ: أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي سُبحته (¬5) مَكَانَهُ. وأخرج من طريقٍ آخر (¬6)، عن نَافعٍ: أنَّ ابن عمرَ كَانَ لا يرى بذلك بأسًا. وأمَّا أنّ مكان المصلي يشهد لهُ: فلم أقف عليه. وإنّما روى الإمام أحمد، والترمذي، عن أبي هريرة قال: قرأ ¬
رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: {يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا} [الزلزلة: 4]. قال: "أَتَدْرُونَ مَا أَخْبَارُهَا؟ ". قالوا: اللهُ ورسولهُ أعلمُ. قال: "وَإِنَّ أَخْبَارَهَا: أَنْ تَشْهَدَ عَلَى كُلِّ عَبْدٍ أَوْ أَمَةٍ بِمَا عَمِلَ عَلَى ظَهْرِهَا، [أَنْ] تَقُولَ: عَمِلَ كَذَا وَكَذَا في يَوْمِ كَذَا، فَهَذِهِ (¬1) أَخْبارُهَا" (¬2). والحاصل: استحباب تبدّل هيئة الإمام بعد الفراغ، وكراهة بقائها، واستحباب ذلك للقوم أيضًا. والتخيير بين التطوع في المسجد وعدمه عقيب الفرض. هذا ما ورد عن المتقدمين، وكراهة تأخير التطوع عن الفريضة وسنّة المتأخرين، ولم أرَ لهم دليلًا على ذلك إلاّ ظاهر حديث أنس المتقدم، وما يشير إليه حديث أبي هريرة: أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "أَيَعْجَزُ أَحَدَكُمْ إذَا صَلَّى أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ أَوْ عَنْ يَمِينِهِ أَوْ عَنْ يَسَارِهِ" (¬3). رواه أَبو داود، وابن ماجه. ¬
ويردّ عليه: ما رواه مسلم في صحيحه (¬1)، عن السائب (¬2) بن أخت نَمِر: أَنَّهُ قالَ: إِنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أَمَرَنَا أَنْ لاَ نُوصِلَ صَلاَةً حَتَّى نَتَكَلَّمَ أَوْ نَخْرُجَ (¬3). وما روى أَبُو داود (¬4)، عَنْ أَبَي رِمْثَةَ قَالَ: صَلَّيْتُ هَذِهِ الصَّلاةَ [أَوْ مِثْلَ ¬
هَذِهِ الصَّلاةِ] مَعَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ يَقُومَانِ فِي الصَّفِّ الْمُقَدَّمِ عَنْ يَمِينِهِ، وَكَانَ رَجُلٌ قَدْ شَهِدَ تَكْبِيرَةَ الأُولَى مِنَ الصَّلاةِ، فَصَلَّى رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - صَلاَةً، ثُمَّ سَلَّمَ عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ يَسَارِه، حَتَّى رَأَيْنَا بَيَاضَ خَدَّيْهِ، ثُمَّ انْفَتَلَ كَانْفِتَالِ أَبِي رِمْثَةَ - يَعْنِي: نَفْسَهُ -، فَقَامَ الرَّجُلُ الَّذِي أَدْرَكَ مَعَهُ التَّكْبِيرَةَ (¬1) الأُولَى (مِنْ الصَّلاةِ يَشْفَعُ) (¬2) فَوَثَبَ [إِلَيْهِ] عُمَرُ فَأَخَذَ بِمَنْكِبِهِ فَهَزَّهُ، ثُمَّ قَالَ: اجْلِسْ، فَإِنَّهُ لَمْ يُهْلِكْ أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ أَنَّهُم (¬3) لَمْ يَكُنْ بَيْنَ صَلَوَاتِهِمْ (¬4) فَصْلٌ، فَرَفَعَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - رَأْسَهُ (¬5)، فَقَالَ: "أَصَابَ اللهُ بِكَ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ". فَإِنّ أخذ الفصل باستدلالهم بحديث عائشة اندفع هذا، وأنّ المنع مقدّم على الإباحة عند التعارض؛ لأن ذلك صريح فكيف وهو محتمل مع ما فيه من التكلّف. وورد لنا عن أبي هريرة: أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال لِفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ: "أَلاَ أُعَلِّمُكُمْ ¬
شَيْئًا تُدْرِكُونَ بِهِ مَنْ سَبّقَكُمْ، وَتَسْبِقُونَ بِهِ مَنْ بَعْدكُمْ؟ وَلاَ يَكُونُ أَحَدٌ أَفْضَلَ مِنْكُمْ إِلاَّ مَنْ صَنَعَ مِثْلَ مَا صَنَعْتُمْ: تُسَبِحُونَ وَتَحْمَدُونَ وَتُكَبِّرُونَ دُبُرَ كُلِّ صَلاَةٍ ثَلاَثًا وَثَلاَثِينَ [مَرَّةً]. . . الحديث". أخرجاه (¬1). فإن قيل: هذا يصدق بما إذا قال عقب السنة من غير اشتغالٍ بما هو من توابع الصلاة. قلت: نعم. إذا ورد ما يقتضي الوصل أو كراهة الفصل حمل على ذلك. أمّا إذا لم يرد فلا يصرف عن حقيقته. وبالجملة: فالرّاجح عندي: ما روي عن المتقدمين وكراهة الوصل والإباحة مع الفصل بنحو ما ورد كحديث ثوبان قَالَ: كَانَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا انصرفَ من صلاته: استغفر الله ثلاثًا. وقال: "اللَّهُمَّ أَنْتَ السَّلاَمُ، وَمِنْكَ السَّلاَمُ، تَبَارَكْتَ يَا ذَا الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ". رواهُ الجماعة إِلاَّ البخاري (¬2). وحديث عبد الله بن الزبير: أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ في دُبُرِ كُلِّ صَلاَةٍ حِينَ يُسَلّمُ: ¬
"لاَ إِلَهَ إلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيْرٌ. وَلاَ حَوْلَ وَلاَ قُوّةَ إِلاَّ باللهِ، [لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ] وَلاَ نعبُدُ إِلاَّ إِيَّاهُ، لَهُ النِّعْمَةُ وَلَهُ الْفَضْلُ، وَلَهُ الثَّنَاءُ الْحَسَنُ الْجَمِيلُ (¬1). لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الكَافِرُونَ". قَالَ: وَكَانَ رَسُوْلُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يُهَلِّلُ (¬2) بِهِنَّ دُبُرَ كُلِّ صلاَةٍ. رَوَاهُ أَحمد، ومسلم، وأبو داود، والنَّسَائي (¬3). وحديث المغيرة: أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَقُولُ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلاَةٍ مَكْتُوبَةٍ: "لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى [كُلِّ] شَيْءٍ قَدِيرٌ. اللَّهُمَّ لاَ مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ، وَلاَ مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ، وَلاَ يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْكَ الْجَدُّ". متّفقٌ عليه (¬4). وحديث سعد بن أبي وقاص: أنَّهُ كَانَ يُعَلِّمُ بَنِيهِ هَؤُلاَءِ الْكَلِمَاتِ، كَمَا ¬
يُعَلِّمُ الْمُعَلِّمُ الْغِلْمَانَ الْكِتَابَةَ. وَيَقُولُ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَتَعَوَّذُ بِهِنَّ دُبُرَ الصَّلاَةِ: "اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ البُخْلِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ الْجُبْنِ، وَأَعُوذُ بِكَ أَنْ أُرَدَّ إِلَى أَرْذَلِ العُمُرِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الدُّنْيَا، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ". رواه البخاري، والترمذي وصحّحه (¬1). ولا يشبه الوصل، وكراهة التّأخير. كما قيل. وهذه الأحاديث كلها واردة على ظاهره، ولا يندفع إلا على ما ذكرت. وكيف؛ وقد روى الترمذي (¬2)، عن أبي أمامة: قيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ! أيّ الدُّعاءِ أَسْمَعُ؟ قَالَ: "جَوْفُ اللَّيْلِ الآخِرِ (¬3)، وَدُبُرُ الصَّلَوَاتِ الْمَكْتُوبَاتِ". وهذا صريحٌ في ردّ ما في الخلاصة من قوله: الاشتغال بالدعاء ¬
عقيب الصّلاة بِدْعَةٌ. وأرى أنّ قوله في الخلاصة: لكنّه يقوم إلى التطوع من إدراج المصنّف لا كلام الإمام محمد. والله أعلم. إني ولله الحمد، أقول كما (¬1) قال الطحاوي لابن حَرْبُويَه (¬2): لا يقلِّد إلاَّ عصبيٌّ (¬3) أو غبيٌّ. {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [النور: 40]. والحمد لله وحده. * * * ¬
(10) الأسوس في كيفية الجلوس
مَجْمُوعَةُ رَسَائِل العَلَّامَة قَاسِم بن قُطْلُوبُغَا [10] الأُسُوس في كَيْفَّيةِ الجُلُوسِ تَأْلِيفُ العَلَّامَة قَاسِم بْنِ قُطْلُوبُغَا الحَنَفِي المولود سَنَة 802 هـ والمتوفى سَنة 879 هـ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -
بداية الرسالة
(10) الأُسُوس في كَيْفَّيةِ الجُلُوسِ قال - رحمهُ اللهُ -: إن بعض إخواني الأفاضل سألني عن كيفية الجلوس بين السجدتين عند علمائنا، فأجبتهُ: بأنّها كجلسة التشهد. فقال: إن فقهاء بعض العصر قال: إنَّ كيفيّتها: أن ينصبَ قدميه كما في السجود، ويجلس عقبيه. فقلت: هي أنواعٌ من الإقعاء (¬1)، وقد نصّوا على كراهيته. يسأل القائل ذلك: أنىّ ذكر هذا في علمائنا. فقال: إنه لا يعلم ذلك في كتابٍ، وإنما سمع ذلك من سيدنا المرحوم الشيخ سراج الدين قارئ الهداية. وسألني الأخ المذكور: أن أكتب له من ذلك ما تيسر نقلًا ودليلًا. فقلتُ وبالله التوفيق والعصمة: للجلوس هيآت: منها: التربع. ومنها: أن يضجع قدميه ويجلس عليهما. ¬
ومنها: أن ينصب قدميه، والجلوس بأليته على عقبيه. وهذا نوعٌ من الإقعاء. ومنها: أن ينصب ساقيه، ويلزق أليته بالأرض ويديه. وهذا هو الإقعاء المشهور. ومنها: أن ينصب رجله اليمنى، ويؤخر اليسرى، ويجلس على الأرض. وهذا هو التورك. ومنها: أن ينصب قدمه اليمنى ويفترش اليسرى، ويجلس عليها. وهذا هو الافتراش. والجلسات في الصلوات بين السجدتين وبعد السجدة الثانية عند القيام إلى الثالثة وبعد السجدة الثانية عند القيام إلى السجدة الثالثة للتشهد الأوّل في الثلاثية والرباعية وبعد الرفع من السجدة الثانية في الركعة الثالثة عند القيام إلى الرابعة، وعند الرفع من الأخيرة للتشهد الأخير. فأمّا التربع فمكروه في جميع الجلسات، إلاّ من عذرٍ من غير خلافٍ نعلمه. وفي عامّة الكتب: ولا يتربع إلا من عذرٍ. وقال ابن عبد البر في الاستذكار (¬1): والتربع في الصلاة لا يجوز، ¬
وليس من سننها. وعلى هذا جماعة، فلا وجه للإكثار فيه. وقد روي عن ابن عبّاس وأنس ومجاهد وجعفر بن محمد بن علي وسالم وابن سيرين وبكر المزني أنهّم كانوا يصلّون متربعين. وهذا عند أهل العلم على أنهم كانوا يصلون جلوسًا عند عدم القوة إلى القيام، أو كانوا متنفلين جلوسًا؛ لأنهم كلهم قد روي عنهم التربع في الصلاة، لا يجوز إلاّ لمن اشتكى أو يتنفل. وأمّا الصحيح فلا يجوز له التربع في الصلاة بإجماعٍ من العلماء. وكذلك أجمعوا على أن من لم يقدر على هيئة الجلوس في الصلوات أتى على حسب ما يقدر، {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286]. وأمّا إضجاع القدمين: فمكروهٌ في جميع الجلسات من غير خلافٍ نعلمه، إلاّ ما حكاه النووي في الروضة (¬1) وجهًا ضعيفًا شاذًّا في الجلوس بين السجدتين. ووجه الكراهة فيه: ترك الجلسة المسنونة من غير عذرٍ بالاتفاق. وأمّا نصب القدمين والجلوس على الأليتين: فمكروهٌ في جميع الجلسات من غير خلافٍ نعرفه إلاّ ما ذكره الشيخ محيي الدين النووي في شرح المهذّب، عن الشافعي في قوله له: إنه يستحب الجلوس بين السجدتين بهذه الصفة (¬2). ¬
قال محمّد في موطئه (¬1): لا ينبغي أن يجلس على عقبيه (¬2) بين السجدتين، ولكنه يجلس بينهما كجلوسه في صلاته. وهو قول أبي حنيفة. وذكره الطحاوي (¬3): عن (¬4) أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد. وقال ابن عبد البر في التمهيد (¬5): اختلف الفقهاء في هيئة الجلوس [وكيفيته في الصلاة المكتوبة]، فقال مالكٌ: يقعد بأليتيه إلى الأرض، وينصب رجله اليمنى، ويثني رجله اليسرى. وهكذا (¬6) عنده في كل جلوسٍ في الصلاة. والرجل والمرأة في ذلك [كلّه] عنده سواء. وقال ابن شاسٍ المالكي (¬7) في كتابه المسمّى بالجواهر: المستحب في ¬
صفة الجلوس كله الأول والأخير وبين السجدتين أن يكون توركًا. وقال الشيخ محيي الدين النووي في الروضة في الجلوس بين السجدتين: السنة أن يجلس مفترشًا على المشهور (¬1). واحترز بالمشهور بما قدمناه: أن يجلس على العقبين. وقال ابن قدامة الحنبلي في المغني (¬2): السنة: أن يجلس بين السجدتين مفترشًا، وهو: أن يثني رجله اليسرى فيبسطها ويجلس عليها، وينصب رجله اليمنى ويخرجها من تحته، ويجعل بطون أصابعه (¬3) على الأرض معتمدًا عليها، لتكون (¬4) أطراف أصابعها إلى القبلة. وجه قولنا ومن وافقه: ما روى أَبو حميدٍ في صفة صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ثُمَّ يهوي إلى الأرض، ويجافي بدنه عن جنبيه، ثم يرفع رأسه، ويثني رجله اليسرى، فيبسطها ¬
ويعتمد عليها. الحديث. متفق عليه (¬1). وعن ميمونة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - قالت: كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إذا سجدَ خَوَّى (¬2) بيديه حتّى يُرَى وَضَحُ إِبْطَيْهِ (¬3) مِنْ وَرَائِهِ، وإِذَا قَعَدَ اطْمَأَنَ عَلَى فَخِذِهِ اليُسْرى. رواه النسائي (¬4). واستدلّ بقول الشافعي، بما في مسلمٍ (¬5)، عن طاوس: قلنا لابن عبّاس ¬
في الإِقعاء على القدمين؟ فقال: هي سنّة نبيّك. ¬
ورواه أبو داود (¬1)، وزاد بعد قوله: على القدمين في السجود. وبما رواه ابن [أبي] شيبةَ (¬2)، عن عطية قال: رأيتُ العَبَادِلَةَ يُقْعُونَ في الصَّلاَةِ بين السَّجدتين. وعورضَ بما رواه مسلم (¬3)، عن عائشة: أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ نهى عَنْ ¬
عُقْبَةِ (¬1) الشَّيْطَانِ (¬2). قال ابن الأثير في النهاية في غريب الحديث (¬3): عُقْبة الشَّيطانِ: أَنْ يَجْلِسَ عَلَى قَدَمَيْهِ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ. وقاله في لسان العرب. وإذا تعارض النهي والفعل قدّم النهي (¬4). ¬
قال البيهقي (¬1): يحتمل أنه ورد في الجلوس للتشهد، فلا يكون منافياً. قلتُ: هذا لا دليل عليه بعد بيان أهل اللسان، كيف وقد روى أبو حميد، في صفة صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنَّه كَانَ يَهْوِي إِلَى الأَرضِ، فَيُجَافِي يَدَيْهِ عَنْ جَنْبَيْهِ، ثُمَّ يَرفَعُ رَأْسَهُ، وَيثنِي رِجْلَهُ اليُسْرَى. . . الحديث. رواه البخاري في صحيحه (¬2). ووفّق النووي في شرح المهذب: بأنّ هذا هو الذي كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يواظبُ عليه لتصديق عشرةٍ من الصّحابة أبا حميدٍ على ذلك (¬3). وما رواه ابن عبّاس، كان بما فعل قليلاً لبيان الجواز والرّخصة. وغلط الخطابي في دعواه نسخ ما رواه ابن عباس، وزعمه: أنّ الأحاديث متعارضة تعارضاً لا يمكن معه الجمع. قلتُ: فيما قاله النووي نظرٌ من وجهين: ¬
الأول: أن الجمع المذكور لا يتأتّى مع ما رواه ابن ماجه (¬1)، عن على: أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال له: "إِنِّي أُحِبُّ لَكَ مَا أُحِبُّهُ لِنَفْسِي، وَأكرَهُ لَكَ مَا كرَهُ لِنَفْسِي، لاَ تَقْعُ (¬2) بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ". الثاني: أن بهذا التقدير يصير الدليل مخالفاً للدعوى. وذلك: أن الدّعوى استحباب الجلوس على تلك الهيئة من السجدتين، كما صرّح به البويطي. وإلا فلا. ومقتضى الدليل على ما ذكر مطلق الجواز. والله أعلم. هذا فيما بين السجدتين. وأمّا بعد السجدة الثانية عند القيام إلى الثالثة أو الرّابعة فليس فيه جلوسٌ عندنا على ما سنذكر. ولم يقل بالجلوس إلاّ الشافعي وحده. قال علماؤنا في عامّة كتبهم: في هذا المحلّ ينهض على صدور قدميه، ولا يقعد ولا يعتمد بيديه على الأرض. وقال الشافعي: إن الجلوس هنا سنّة، وتسمّى جلسة الاستراحة (¬3). ¬
وقال النووي في الرّوضة (¬1): والسُّنّة فيها: الافتراش. واستدل له: بما في البخاري (¬2)، من حديث مالك بن الحويرث: أنّه رأى النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يصلّي، فإذا كان في وترٍ من صلاته لم ينهض حتى يستوي [قاعداً]. قال القاضي عياض في شرح مسلم بعد حكايته هذا عن الشافعي: وقال مالك: وكافّة الفقهاء ألاّ يجلس ولكن ينهض كما هو. وحملوا حديث مالك بن الحويرث: أنّه كان مرّة من فعله ليدل على الجواز أو الشكوى به. انتهى. قلت: ويدلّ: ما رواه البخاري في حديث أبي حميدٍ. ثم يقول: الله أكبرُ. ويرفع - يعني: من السجدة الأولى - ويثني رجله اليسرى فيقعد عليها حتى يرجع كل عظيم إلى موضعه. . . الحديث. ودليل مذهبنا ومن وافقه: ما رواه الترمذي (¬3)، عن أبي هريرة: أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَنهضُ فِي ¬
الصَّلاَةِ عَلَى صُدُوْرِ قَدَمَيْهِ. وفيه: خالد بن إلياس. فيه مقال. ألاَ ترى أن الترمذي قال: العمل على هذا عند أهل العلم. وما روى أحمد (¬1)، والطبراني (¬2)، عن أبي مالك الأشعري: أنَّهُ جمع قومه فقال: يا معشر الأشعريين! اجتمعوا واجمعوا نساءكم وأبناءكم أعلّمكم صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فاجتمعوا وجمعوا نساءهم وأبناءهم وأراهم كيف يتوضأ فأحصى الوضوء أَماكنهُ، فلمّا أن فَاء الفيءُ وانكسرَ الظّل، قامَ فأذّن وصفّ الرّجال في أدنى الصّفّ، وصفّ الولدان خلفهم، وصفّ النساء خلف الولدان، ثم أقام الصلاة، فتقدم، فرفع الولدان خلفه وصفّ النساء خلف الولدان، ثم أقام الصلاة، ورفع يديه وكبّر. وفيه: ثم كبّر وخرّ ساجداً، ثم كبّر فرفع رأسه، ثم كبّر فسجد، ثم كبّر فنهض قائماً. الحديث. وفيه: شهر بن حوشب: صدوق. وروى أبو داود (¬3)، عن وائل بن حجر: أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - لما سجد وقعت ركبتاه على الأرض قبل أن يقع كفّاه. فلمّا سجد وضع جبهته بين كفيه، وجافى عن إبطيه. وإذا نهضَ نهضَ على ركبتيه، واعتمد على فخذيه. ¬
وما روى ابن أبي شيبة (¬1)، عن ابن مسعودٍ: وأنهّ كان نهضَ على صدور قدميه، ولم يجلس. وعن عمر وعلي وابن عمر (¬2) وابن الزبير (¬3) نحوه. وأخرج (¬4) من طريق الشعبي قال: كان عمر وعلي والصَّحابة (¬5) ينهضون في الصّلاة على صدور أقدامهم. وعن النعمان بن أبي عيّاش (¬6): أدركتُ غير واحدٍ من الصحابة ¬
فَكان (¬1) أحدهم إذا رفع رأسه من السجدة الثانية في الركعة الأولى والثانية نهض كما هو ويجلس (¬2). وأخرج حرب الكرماني في مسائله، عن أبي سعيدٍ الخدري، وابن عباس، وابن الزبير: أنهم كانوا ينهضون على صدور أقدامهم. قال الشيخ الإمام مجد الدين عبد السلام بن تيمية الحراني في شرح هداية أبي الخطّاب: وقد أجمع الصّحابة على ذلك فلا جرم حمل حديث مالك بن الحويرث. وما في معناه على ما ذكر القاضي عياض، عن كافة الفقهاء. وأمّا في التشهدين فمكروه من غير خلاف نعلمه بين أصحاب المذاهب، نصّ على كراهته من علمائنا: الكرخي في المختصر. وقال ابن قدامة في المغني (¬3): ¬
ويكره (¬1) الإقعاء، وهو: أن يفترش (¬2) قدميه، ويجلس على عقبيه. وكرهه علىّ، وأبو هريرة، وقتادة، ومالك، والشافعي، وأصحاب الرأي، وعليه العمل عند أكثر أهل العلم. ودليل كراهته: ما فيه من ترك الجلسة المسنونة عند الكل على ما سيأتي بيانه. وأمّا نصب السّاقين. . . إلخ. فمكروهٌ في الصلاة كلّها من غير شكِّ خلافٍ نعلمه. قال عامّة الأصحاب في كتبهم: لا يقعي المصلي في صلاته. وفسّروه بهذا. ونصّ على كراهته الشافعي. ذكره الشيخ محيي الدين النووي في شرح المهذّب (¬3). ¬
وقال القاضي عياض: وكره الإقعاء سائر أئمة الفتوى. وقال ابن قدامة في المغني (¬1): ويكرهُ الإقعاء. ودليل الكراهة: ما رواه أحمد، وابن أبي شيبة، عن أبي هريرة قال: نهانِي رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ ثَلاَثة: نقرَةٍ كَنَقْرَةِ الديكِ، وَإِقْعَاءٍ كَإِقْعَاءِ [القِرد]، وَالْتِفَاتٍ كَالْتِفَاتِ الثَّغلَبِ (¬2). ¬
وما تقدم من حديث: أنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَنْهى عَنْ عُقْبَةِ الشَّيْطَانِ عَلَى مَا فَسَّرَهُ عَلِيّ: أَنَّ عُقْبَةَ الشَّيْطَانِ: الإِقْعَاءُ. رواه ابن أبي شيبة (¬1)، عنه. وفي الباب: عن أنس، وسمرة، ولأنّ فيه ترك الجلسة المسنونة عند الكُلّ. وأمّا التّورك: فعندنا مكروه في الصلاة كلها. قال الطّحاوي (¬2) بعدما ذكر الافتراش: فَلَم يَجُزْ خِلافُهُ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَبِي يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٍ. وقال مالك: هو سنّة الجلوس في الصّلاة كلها، كما قدّمناه عن ابن عبد البرّ وابن شاس. وقال الشافعي: هو في كل تشهيد يعقبه التسليم بسلام. قال النووي في الروضة (¬3): والسنة في قعود آخر الصلاة: التورك، وفي أثنائها: الافتراش. وقال أحمد بن حنبل: هو سنة في كلّ تشهدٍ ثان كالمغرب، ورباعية الحاضر. ¬
قال ابن قدامة في المغني (¬1): وجميع جلسات الصلاة لا يتورك فيها ¬
إلاّ في تشهدٍ ثانٍ. واستدل مالكٌ مما رواه في الموطأ (¬1)، عن يحيى بن سعيد: أنَّ القاسم ابن محمَّدٍ أراهم الجلوس كذلك. وحدّث به عن ابن عمر. واستدلّ الشافعي: بما في البخاري (¬2)، من حديث أبي حميد في صفة صلاته - صلى الله عليه وسلم - حيث قال: وَإِذَا جَلَسَ في الرّكعة الأخيرة قدّم رجلهُ اليسرى ونصب الأخرى، وقعد على مقعدته. ودليل علمائنا على الكراهة: أنّ فيه ترك الجلسة المسنونة عندهم على ما نبيّن. وأمّا الافتراش: فهو سنّة الجلوس في جميع الصلاة. نصّ عليه الطحاوي وغير واحدٍ. وقال الشافعي وأحمد: هو سنّة في القعدة الأولى فقط. لما في البخاري (¬3)، من حديث أبي حميدٍ في صفة صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم -. حديث قال: وإذا جلس في الرّكعة الأخيرة قدّم رجله اليسرى، فإذا جلس في الرّكعتين جلس على رجله اليسرى، ونصب اليمنى. ¬
ودليلنا: ما رواه مسلم (¬1)، عن عائشة في صفة صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكان يفترش رجله اليسرى، وينصب اليمنى. وما رواه النسائي (¬2)، عن ميمونة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - قالت: كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إذا سجدَ خَوَّى (¬3) بيده حتّى يُرَى وَضَحُ إِبْطَيْهِ (¬4) مِنْ وَرَائِهِ، وإِذَا قَعَدَ اطْمَأَنَّ عَلَى فَخِذه اليُسْرَى. وعن عبد الله بن عمر أنّه قال: إِنَّ مِنْ سنّة الصّلاة: أَنْ يَنْصُبَ القَدَمَ الْيُمنَى واستقباله بأصابعها القبلة، والجلوس على اليسرى. رواه النسائي (¬5). وعن عبد الله بن مسعودٍ: أَنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يتشهّد في الصّلاة، إذا جلس على وَرْكِهِ اليسرى. رواه الطبراني (¬6). وعنه قال: علّمني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - التشهّد في وسط الصلاة، وفي آخرها، فكان يقول إذا جلس في وسط الصلاة وفي آخرها على وركه اليسرى: ¬
"التَّحِيَّاتُ للهِ. . . الحديث". رواه أحمد ورجاله ثقات (¬1). وروى سعيد بن منصور في سننه (¬2)، عن وائل بن حجر قال: صلَّيت خلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلمّا قعدَ وتشهّد فرش رجله اليسرى، وجلس عليها. وأخرج أحمد، وأبو داود، في حديث المسيء صلاته: "فإِذَا صَلَّيْتَ فَاجْلِسْ عَلَى فَخِذِكَ الْيُسْرَى" (¬3). وفي حديثه في الصحيحين (¬4): "وَافْعَلْ ذَلِكَ فِي صَلاَتِكَ كُلِّها". وعن إبراهيم النخعي قال: كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا جَلَسَ فِي الصَّلاَةِ افْتَرَشَ ¬
رِجْلَهُ اليُسْرى حَتَّى اسْوَدَّ ظَهْرُ قَدَمَيْهِ. رواه ابن أبي شيبة (¬1) بسند الصحيحين. وأخرج (¬2) عن يزيد بن قسيط (¬3) قال: كَانَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يفترشُ رجلهُ اليسرى، وينصب اليمنى. وعن عليّ: أَنَّهُ كانَ يفترشُ اليسرى، وينصب اليمنى (¬4). وعن كعبٍ أنّه قالَ: كانَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: "إِذَا قَعدتَ فَافْتَرِشْ رِجْلَكَ الْيُسْرَى، فَإنَّهُ أَقْوَمُ لِصَلاَتِكَ" (¬5). وروى الأثرم، عن عبد الرحمن بن يزيد قال: كنّا نعلم إذا جلسنا في الصّلاة أن يفترش الرّجل منّا قدمه اليسرى، وينصب قدمه اليمنى على صدور قدميه، فَإنّه كانت إبهام أحدنا تُثْنَى، فيدخل يده حتّى يعدلها. والجواب عمّا استدل به مالك: ما في الموطّأ (¬6)، عن ابن عمر: أنّه كان يفعل ما ذكر، ويقول: إِنَّ رِجْلَيَّ (¬7) لا تَحمِلانِي. ¬
وقال ابن قدامة (¬1) عنه: أنّه كان يقول: لا تقتدوا بي، فإنِّي كبرت. وما قدّمنا عنه: أنّ من سنّة الصّلاة: أن ينصب اليمنى، والجلوس على اليسرى. وقد روى البزار في مسنده (¬2): أخبرنا هارون بن سفيان (¬3)، حدثنا يحيى ابن إسحاق (¬4)، حدثنا حماد بن سلمة، عن قتادة، عن أنس: أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - نهُى عَنِ الإِقْعَاءِ والتورك في الصّلاة. وهذا إسنادٌ حسنٌ. وقال أيضاً: حدثنا إبراهيم بن الْمُسْتَمِر (¬5)، حدثنا محمد بن بكّار (¬6)، ¬
حدثنا سعيد بن بشير (¬1)، عن قتادة، عن الحسن، عن سمرة: أنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - نهى عَنِ الإِقْعَاءِ وَالتَّوَرُّكِ، وَأَنْ نستَوْفزَ (¬2) فِي صَلاَتِنَا (¬3). وسعيد بن بشير (¬4): فيه مقال. ¬
والجواب عما استدل به الشافعي، وأحمد: أن حديث أبي حميد كما روي على ما ذكرنا. قال أبو داود (¬1): حدثنا أحمد بن حنبل، حدثنا عبد الملك بن ¬
عمرو (¬1)، أخبرنا فليح، أخبرني (¬2) عبّاس بن سهل [قَالَ]: اجتمع أبو حميد وأبو أسيد (¬3) وسهل بن سعد ومحمد ابن مسلمة (¬4). . . وذكر الحديث، وفيه: حتى فرغ، ثم جلس وافترش رجله اليسرى، وأقبل بصدر اليمنى على قبلته. ¬
وبهذا اللفظ: أخرجه البيهقي (¬1)، وهي الرواية أولى؛ لأنّ الراوي هو الذي حضر القصة. والراوي للأولى لم يحضرها. وذلك: أنَّ البخاري (¬2) أخرجها من حديث محمد بن عمرو بن عطاء: أنه كان جالساً مع نفر. الحديث. وأخرجه ابن حبان (¬3) في صحيحه (¬4) فقال: عن محمد بن عمرو بن عطاء، عن عباس بن سهل الساعدي، أنّه كان في مجلسٍ فيه أبوه، وأبو هريرة، وأبو أسيد، وأبو حميد. وكذا أخرجه غير واحدٍ؛ لأنَّها على وفق غيرها من حديث وائل، وعائشة، وابن مسعود. فأمّا أن يوافق: بأنّ أبا حميدٍ حكى الأمرين جميعاً. والرواة رووا هذا تارةً، وهذا أخرى. والترجيح لما قدمنا، بما قلنا. وبأن حديث من ذكرنا يدلّ على المواظبة، كما يعطيه جوهر لفظه، أو أن هذا محمول على حالة الكبر كما قال في الهداية جمعاً بين الأول، فيكون المشروع الأصلي: الافتراش. وهذا العارض أو يقول: إن هذا قد اضطرب. ¬
والأخذ برواية من لم يختلف عليه أولى. أو نقول: إذا تعارضت روايتا فعله كما مَرَّ بنا، أو نقول: إذا تعارض القول والفعل قدم القول. وقد قال: ما ذكرنا على أنه يلزم الشافعي أن يكون ما ذكرنا فرضاً عنده؛ لأنه استدل على افتراض الفاتحة في كل ركعةٍ بقوله - صلى الله عليه وسلم - للمسيء صلاته، وافعل ذلك في صلاتك كلّها، ومرجع الإشارة ما تقدم لتعليمه إيّاه له، وبما علمه ما ذكرناه، ويلزمه الجواب عن مذهب أحمد، فإنه يقول: حديث وائل وعائشة يقضيان على كل تشهّدٍ بالافتراش، إلاّ ما خرج عنه بحديث أبي حميد. وحديث أبي حميد في تشهّدٍ ثانٍ على ما تقدم. فبقي فيما عداه على قصّة الأصل. قال ابن قريعة (¬1): فإن قالوا هذا من تطويله. فيتورك كالثاني. قيل لهم: هذا ليس بتشهّدٍ ثانٍ، فلا يتورك فيه كالأوّل، وهذا لأن التشهد ¬
الثاني إنّما تورّك فيه للفرق بين التشهدين، وما فيه إلا تشهدٌ واحد لا اشتباه فيه، فلا حاجة إلى الفرق. وما ذكروه من المعنى إن صحّ، فيضم إليه هذا المعنى الذي ذكرنا. ومعلّل الحكم بهذا. والحكم إذا علّل بهما بعلتين لم يجز تعديته لتعدية أحدهما دون الأخرى. والله سبحانه وتعالى أعلم.
(11) تحرير الأقوال في صوم الست من شوال
مَجْمُوعَةُ رَسَائِل العَلَّامَة قَاسِم بن قُطْلُوبُغَا [11] تَحْرِيرُ الأَقْوَالِ في صَوْمِ السِّتِّ مِن شَوَّال تَأْلِيفُ العَلَّامَة قَاسِم بْنِ قُطْلُوبُغَا الحَنَفِي المولود سَنَة 802 هـ والمتوفى سَنة 879 هـ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -
بداية الرسالة
(11) تَحْرِيرُ الأَقْوَالِ في صَوْمِ السِّتِّ مِن شَوَّال قال - رحمه الله -: قد رُفع إلى العدل الفاضل أبي عبد الله محمد بن طيبغا الحنفي (¬1)، قول الشيخ جلال الدين التباني (¬2) في منظومته: ¬
وَفِي صِيَام السّت من شَوَّال. . . كَراهة عِندَ أولي الأَفَاضِل وقوله في شرحها: أي: يكره صوم الست من شوَّال متتابعاً ومتفرّقاً عند أبي حنيفة (¬1). ¬
وعن أبي يوسف: يكره متتابعاً لا متفرّقاً (¬1). وقال مالك: يكرهُ على كل حالٍ (¬2)، وهذا وظيفة الجهال، وكل حديث فيه فهو موضوع، ذكره في كتاب التفسير، وصوم شهر رمضان نسخ كل صوم كان قبله (¬3)، والأضحية نسخت كل دمٍ كان قبلها كالعتيرة، وإلاَّ كره. وقيل: لا يكرهُ. وهو قول محمّد. والأوّل أصح لما فيه من التشبيه بأهل الكتاب؛ ¬
فائدة
لأنهّم يلحقون بالفرض ما ليس منه. انتهى بحروفه حرفاً بحرفٍ. حتى قوله: وصفه. فقلت: هو أرجل قد عمدَ إلى تعطيل ما فيه الثواب الجزيل بدعوى كاذبة بلا دليلٍ، واعتمد الضعيف والمؤوّل. وترك ما عليه المعوّل. وصحح ما لم يسبق إلى تصحيحه، ولا عوّل أحدٌ عليه مع النقل المخلّ، والألفاظ الزائدة. وذكر ما ليس له في هذا المحل. * فائدة: وبيان ذلك: أن في قوله: يكره صوم السبت. إلى قوله: بكلّ حالٍ. تكرّر بلا فائدة. وقوله عند أبي حنيفة هذا مما عُزيَ إلى المحيط الكبير. وأمّا المحيط البرهاني والذخيرة البرهانية بصيغة تدل على أنه خلاف الأصول. وعقّبه في الذخيرة: بأنّ الصحيح خلافه. وفي المحيط كذلك كما سيأتي. وأمّا قوله: وعن أبي يوسف. . . الخ. فنقل مختل، فقد اتفقت عبارات الكتب على أنّ المنقول عن أبي يوسف ما هو في رواية الكرخي: كانوا يكرهون أنّه يُتْبِعُوا رمضان صياماً، خوفاً أن يلحق ذلك بالفريضة. فهم منهم صاحب الحقائق: أنّه كرة التتابع. فهذا تأويله عنده. وقال صاحب البدائع (¬1): الإتباع المكروه: أن يصوم يوم العيدِ، وخمسةً ¬
بعدهُ. فهذا معنى قول أبي يوسف عنده. وقد أخذ هذا من إملاء الحسن بن زياد كما سأذكر. وهذا معنى قولي: اعتمد الضعيف والمأوّل. وأمّا أنه ما ترك ما عليه المعوّل، فأسوقه لك من عهد أصحاب أبي حنيفة، وإلى زمان مشايخنا قرناً بعدَ قرنٍ. فقال: إنَّه قولٌ وفعلٌ في الغايةِ عن الحسنِ ابن زياد: أنّه كان لا يرى بصومها بأساً. ويقول: كفى يوم الفطر مفرّقاً بينهنّ وبين رمضان. ومحمد والحسن بن زياد من أصحاب أبي حنيفة، وكان وفاة محمد سنة 189 (¬1)، ووفاة الحسن سنة 204 (¬2). ¬
وذكر الطحاوي (¬1) حديث: "مَنْ صَامَ رَمَضَانَ وَأتبَعَهُ سِتًّا مِنْ شَوَّالٍ". من طرقٍ وافرةٍ. فكانت وفاته سنة إحدى وعشرين وثلاث مئة، ومولده سنة تسعٍ وعشرين ومئتين (¬2). وقال أبو الليث (¬3) في كتاب النوازل: صوم الستة بعد الفطر متتابعة، منهم من كرهه، والمختار: أنه لا بأس به؛ لأنَّ الكراهة إنما كانت لأنَّه لا يؤمن من أن يعد ذلك من رمضان. فيكون تشبّهاً بالنصارى. والآن قد زال هذا المعنى، وكانت وفاته ثلاث وسبعين وثلاث مئة. وقال الحسام الشهيد (¬4) في الواقعات: صوم الست من شوال متتابعة بعد الفطر كرهه بعضهم. والمختار: أنّه لا بأس به. ووفاته سنة ست وثلاثين وخمس مئة. وقال أبو حفص عمر النسفي: بعد صوم رمضان إتباع ستة من شوَّال ¬
عند مالكٍ: يُكرهُ. وعندنا: لا يكرهُ. فعدّه مذهباً نصب فيه الخلاف، ووفاته سنة 537 (¬1). وقال صاحب الهداية في التجنيس: صوم الست من شوال متصلاً بيوم الفطر يكرهُ عند مالكٍ، وعندنا لا يكرهُ. وإن اختلف مشايخنا في الأفضل. كذا في المختلف. وعن أبي يوسف: أنّه كرهه متتابعاً. والمختار: أنّه لا بأس به؛ لأنّ الكراهة إنّما كانت؛ لأنه لا يؤمن أن يعدّ ذلك من رمضان فيكون تشبّهاً بالنصارى، والآن زال هذا المعنى. ¬
وقال قاضي خان سنة 592 (¬1)، ووفاة صاحب الحقائق (¬2) سنة إحدى وسبعين وست مئة. وقال الإمام الزوزني السديدي (¬3): صوم الست من شوّال عندنا لا يكرهُ. واختلف مشايخنا في الأفضل؟. فقال بعضهم: والأفضل: أنه يأتي بستة أيّام متفرقات في الحول. ¬
وقال بعضهم: في شوال. وقال في المحيط (¬1): قال أبو يوسف: يكرهُ أن يوصل برمضان صوم ستة أيامٍ من شوَّال خوفاً من أن يلحق بالفريضة. وهو قول مالكٍ. والأصحّ: أنّه لا بأس به. والكراهة إنمّا كانت خوفاً من أن يعدّ ذلك من رمضان فيكون تشبيهاً بالنَّصارى. واليوم زال ذلك المعنى. فلا يكرهُ. ¬
ونحوه في الذخيرة. وقال في الينابيع: ولا يكره الستة المتتابعة عقيب الفطر. وقيل: يكرهُ. والأوّل أصح. وذكر في عمدة الفتاوى (¬1): المفتى أنه قيل: الصحيح إذا صام متتابعًا ولم يجعل اليوم الثامن عيدأ لا يكرهُ، وإلاّ فمكروهٌ. وبه نأخذُ. وقال المرغيناني: فالمرغوياتُ: صوم المحرم، ورجب، وشعبان، وستة أيّامٍ متتابعة مِنْ شوّال. وقيل: يستحبُّ متفرّقة في الأسبوع يوماً. وقال أبو بكر الإسماعيلي، والفقيه محمد بن حامد: التتابع فيه أفضل للأخبار. وقال صاحب المنتقى: يكره صوم ستة من شوال عند أبي يوسف. والأصح: أنّه لا بأس به. والأصل: تفريقها في الحول. وقيل: في شوال يوزع عليه. وقال في الوافي والكافي والمصفّى (¬2): يكرهُ عند مالكٍ، وعندنا لا يكره. ¬
وقال صاحب المجمع (¬1): ولم يكرهوا إتباع الفطر بستٍّ من شوّال. وكانت وفاته بعد تسعين وست مئة (¬2). وقال في الغاية: عامَّة المتأخرين لم يروا به بأساً، واختلفوا: هل الأفضل التفريق أو التتابع؟ وكانت [وفاته] في رجب سنة 710 (¬3). ¬
وقال خاتمة المتأخرين العلامة أكمل الدين (¬1) في شرح المشارق: وقد اختلف العلماء في صفة هذا الصوم، فذهب مالكٌ: إلى أنه إذا كان متتابعاً يكرهُ. وذهب الأكثرون إلى عدم الكراهة عملاً بظاهر الحديث. وإذا كان متفرقاً في شوّال فهو أبعد عن الكراهة والتشبه بالنّصارى. وكانت وفاته في رمضان سنة ستًّ وثمانين وسبع مئة. هذا ما حضرني الآن من منصوصاتٍ كتب (¬2) علمائنا. وبه تبين: أنّ أحداً ممن تقدم هذا القائل لم يقل: إن الكراهة مطلقاً الأصح. وأمّا الكلام الذي لا فائدة له في هذا المحل فقوله: نسخ رمضان كلّ صومٍ. إلخ. وقوله: وهذا وظيفة الجهّال. ليس من كلام مالكٍ. وإنمّا هو أوّل كلام ¬
نفسه، وهو كلامٌ مردودٌ عليه، شاهدٌ عليه، مما لا يخفى. فقد قال في المغني والغاية: إنّ هذا الصوم مستحبٌّ عند كثير من أهل العلم، روي ذلك عن كعب الأحبار، والشعبي، وميمون بن مِهْرَان (¬1). وَبِهِ قال عبد الله بن المبارك، والشافعي، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، ومَنْ عَدّدنا من علمائنا. فكعب الأحبار (¬2): تابعيٌّ كبيرٌ، روى عن عمر بن الخطاب وجماعة من الصَّحابة. والشعبي: أدرك خمس مئة صحابي، وسمع من ثمانية وأربعين منهم. وميمون بن مِهْران: تابعيٌّ أيضاً، وهو قاضي عمر بن عبد العزيز على الجزيرة. وممن بعدهم من الأئمة المذكورين مشهور عِلْمُهم، واجتهادهم، وقولهم. وكلُّ حديث فيه فهو موضوع، دعوى كاذبة: فقد قال (¬3) الإمام أحمد بن حنبل: هو من ثلاثة أوجه عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. يريد: أنه روي من حديث أبي أيوب، ومن حديث ثوبان، ومن حديث جابر. فحديث أبي أيوب: رواه مسلمٌ في صحيحه، والترمذي - وقال: حسنٌ -، وأبو داود، وابن ماجه، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ صَامَ رَمَضَانَ، ثُمَّ أتبَعَهُ ¬
سِتًّا مِنْ شَوَّال، كَانَ كصِيَامِ الدَّهْرِ" (¬1). ¬
وقد أَغنِي بصحيح مسلم وتَحسين الترمذي، من أجل (¬1) السند. وحديث ثوبان: رواه أبو داود، والترمذي، والنّسائي، عن الربيع بن سفيان، عن يحيى بن حسان، عن يحيى بن حمزة (¬2)، عن يحيى بن الحارث، عن أبي أسماء الرّحبي، عن ثوبان (¬3). ¬
وعن محمود (¬1) بن خالد، عن محمد بن شُعيب بن شابُور (¬2)، عن يحيى ابن الحارث، عن أبي أسماء الرحبي، عن ثوبان (¬3). وابن ماجه (¬4): عن هشام بن عمار (¬5)، [عن بقية]، عن صدقة بن خالد، عن يحيى بن الحارث، عن أبي أسماء، عن ثوبان. والطّبراني (¬6)، عن المقدام بن داود، عن أسد بن موسى، حدثنا الوليد ابن مسلم، حدثنا ثور (¬7) بن يزيد، عن يحيى بن الحارث، عن أبي أسماء، عن ثوبان، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "مَنْ صَامَ رَمَضَانَ، ثُمَّ أتبَعَهُ ستّاً مِنْ شَوّالَ، ¬
فَإِنَّ ذَلِكَ صيَامُ سَنَةٍ". ورواه سعيد بن منصور (¬1): "مَنْ صَامَ رَمَضَانَ شَهْراً بِعَشْرَةِ أَشْهُرٍ، وَصِيامُ سِتَّة أيامٍ بعدَ الْفِطْرِ، ذَلِكَ إِتْمَامُ سَنَةٍ". ويحيى بن الحارث، وأبو (¬2) أسماء الرَّحَبِيّ (¬3): شرط الحديث. وحديث جابرٍ: رواه الإمام أحمد (¬4)، من طريق عمرو بن جابر الحضرمي، عن جابرٍ (¬5) ابن عبد الله: أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "مَنْ صَامَ رَمَضَانَ وَسِتّةً مِنْ شَوَّالٍ، فَكأَنَّمَا صَامَ السَّنَةَ كُلَّهَا". وعمرو (¬6) بن جابر تكلّم فيه، لكن المعنى ثابتٌ بنص الكتاب. ¬
قال القاضي أبو بكر بن العربي في كتاب العارضة (¬1): مَنْ صامَ رَمَضَانَ وَسِتَّةَ أيّامٍ منْ شَوَّالَ بعدَ الْفِطْرِ، لَهُ صَوْمُ الدَّهْرِ. قَطْعاً بِالْقُرآنِ. {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} [الأنعام: 160]، شهرٌ بعشرة، وستّة أيّامٍ بشهرين فهذا صوم الدّهرِ. وفي هذا سؤالان مشهوران: أحدهما: عند الإمام الطّحاوي في (¬2) كتاب. . . . . . . . . . . . . . . . ¬
مشكل الآثار (¬1) قال: وقد قالَ قائلٌ: إنّ مثل هذا لا ينبغي أن يقبلَ لِمَا فيه من أنّ صوم غير رمضان يعدل صومَ رمضان، ولا خلافَ في أنّه لا صومَ أفضلَ من صوم رمضانَ. فالجواب عن ذلك: أنّ صوم رمضان فضيلة. كما ذكره. من ذلك: ما روي: أَنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَاناً وَاحتِسَاباً غفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبهِ" (¬2). وقد روي: "مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَاناً وَاحْتِسَاباً غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ" (¬3). وروي أيضاً: "مَنْ صَامَ رَمَضَانَ وَقَامَهُ إيْمَاناً وَاحتِسَاباً غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ" (¬4). [فدلّ ذلك أن] حَقِيْقَةَ الحديث على: الصيام، والقيام. والله أعلم. وَإذَا كانَ صيامُ رمضانَ مفروضاً، وقيامه مسنوناً، والله - عز وجل - يجود على عباده من الثواب على أداء الفريضة بما شاء، فقد يكون الله - عز وجل - يكفّر عن صيام رمضان مع ذلك ما يكون منه في بقية عشرة أشهرٍ، وعلى صومِ ستّة أيّامٍ من شوّال لتكون الحسنة بعشر أمثالها. كما قال الله تعالى في كتابه، فيكون ذلك مع ما جاد به - عز وجل - لمن يصوم شهر رمضان كفّارة للسّنة كلّها. وبالله التوفيق. ¬
والثاني: أورده في المغني، ونقله عن الغاية. فهو: فإن قيل: لا دليلَ في الحديث على فضيلتها؛ لأنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - شبّه صيامها بصيامِ الدّهر، وهو مكروهٌ. والجواب: أنّه كَرِة صوم الدهر، لما فيه من الضعف، والتشبيه بالتبتل، لولا ذلك لكان فضلاً عظيماً لاستغراقه الزمان بالعبادة والطّاعة. والمراد بالخبر: التشبّه في حصول العبادة على وجه عُري عن المشقة، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ صَامَ ثَلاَثَة أيامٍ مِنْ كُلِّ شَهرٍ كَانَ كمَنْ صَامَ الدَّهْر" (¬1). ذكر ذلك: حثاً على صيامها وبيان فضلها، ولا خلاف في استحبابها. ونهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عبد الله بن عمرو عن قراءةِ القرآن أقلَّ من ثلاثٍ (¬2). وقال - صلى الله عليه وسلم -: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} فَكَأَنَّمَا قَرَأَ ثُلُثَ الْقُرآنِ" (¬3). ¬
أراد التشبيه بثلث القرآن في الفضلِ لا في كراهة (¬1) الزيادة عليه. قال صاحب المغني (¬2): إذا ثبت هذا فلا فرق بين كونها متتابعة أو متفرقة في أوّل الشهر (¬3) أو في آخره؛ لأنّ الحديثَ وردَ [بِها] مُطلقًا من غير تقيّيدٍ (¬4) لأفضلها (¬5)، لكونها تصير مع الشهر ستة (¬6) وثلاثين يوماً، والحسنة بعشر أمثالها، فيكون ذلك كثلاث مئة وستين يوماً، وهي (¬7) السنة كلها، فإذا وجد ذلك في [كلّ] سنة صار كصيام الدّهر [كُلّه]، وهذا المعنى يحصل مع التفريق. والله أعلم. ¬
(12) رسالة في قضاء القاضي
مَجْمُوعَةُ رَسَائِل العَلَّامَة قَاسِم بن قُطْلُوبُغَا [12] رِسَالَةٌ في قَضَاءِ القَاضِي تَأْلِيفُ العَلَّامَة قَاسِم بْنِ قُطْلُوبُغَا الحَنَفِي المولود سَنَة 802 هـ والمتوفى سَنة 879 هـ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -
بداية الرسالة
(12) رَسَالَةٌ في قَضَاءِ القَاضِي قال - رحمه الله -: قد سئلت عن قاضٍ مالكي قال: ثبت عندي: أنّ ذمّة فلانٍ كانت مشغولةً بالديون المستغرقة حال وقفه للأماكن المذكورة. وسألت الحاكم الحنفي الذي حكم بصحّة الوقف، ولزومه ونفوذه، هل من مذهبكم الشريف أنّ أحكامكم بصحّه الأوقاف مانعة عن الحكم بمقتضى مذهب من يرى: أنّ وقفَ المديون المشغولة ذمّته بالديون المستغرقة، لا يصحّ. فأجابَ: بأنّ الأحكام المذكورة غير نافذة؛ لأني قصدت المتفق عليه، فحصل حكمي في محلٍّ مختلفٍ فيه، وهو وقف المديون، فلم تبعد، وحيمئذ: فلا مانع للحاكم الذي يرى عدم صحّة الوقف أن يحكم بما يراه، فهل ما ذكره الحاكم الحنفي صحيحٌ معتبرٌ أم لا؟. فكتبتُ: الحمد لله، ربِّ زدني علماً. ليس ما زعمه الحاكم الحنفي من عدم إحكام نفاذه بصحيح، وما علّل به من أنه قصد المتّفق عليه، فحصل حكمه في محلٍّ مختلفٍ فيه، فلم ينفذ زلة عالمٍ خرق بها إجماع المسلمين، واستبيح بها الفروج المحرّمة، والأموال
المحترمة، وقطع بها حقوق الأنام والفقراء وطلبة العلم والعلماء، وعمل بها في هذا بالتشهي الحرام الخارق لإجماع أمّة محمّدٍ خير الأنامِ عليه أفضل الصّلاة والسّلام. أعاذنا الله من ذلك بحوله وقوته، إنهّ هو العلي العظيم. وبيان ذلك: أن وضع المسألة في قضاء القاضي المجتهد في حادثةٍ له فيها رأيٌ مقدّرٌ قبل قضائه في تلك الحالة التي قصد فيها المتفق عليها، فحصل حكمه في المحل المختلف فيه، وهو لا يعلم، وهي القضاء بصحّة وقف المديون، ثم بان أنّ قضاءه هذا على خلف رأي المقر. وقبل هذه الحادثة. والجواب حينئذٍ فيها: أنّه لم ينعقد قضاؤه. وهذا ضابطٌ أخذ من فرع وقع فيه القضاء على خلاف رأيه السابق، وصرّح به في الفصول. فقال القاضي: إذا قضى في محل الاجتهاد، وهو يرى خلافَ ذلك. ذكر في بعض المواضع: أنه لا ينفذ. الخ. وقد أغفلوا وهو يرى خلف ذلك في يمعمر من المواضع، وهو مرادٌ بدليل تعليلهم بالفرع الذي أخذ منه هذا كما سيأتي هذا. وأمّا أنّه إذا وافق قضاؤه رأيه في المسألة وهو لا يعلم حالة قضائه في أنّ المسألة خلافٌ. فالقول: بأنه لم ينفذ قضاؤه كما زعم هذا القاضي، لم يصرّح به أحدٌ من علماء الإسلام، ولم ينظر في شيء من كتب المسلمين فيما نعلم. واللهُ أعلمُ. ولا يعقلُ له معنى؛ لأنه إنّما نصّ على العلم أو عدمه فيما إذا قضى على
خلاف رأيه السّابق؛ لأنَّه إذا كان عالماً بالخلاف، وقضى على خلف رأيه المقرر. وقيل: حمل على أنه تبدّل اجتهاده فينفذ. وإذا لم يعلم عمل على بقائه على الاجتهاد السّابق، فلم ينفذ. وقوله في الفصول: ينبغي أن يكون عالماً بمواضع الخلاف. إلخ. فهذا الذي ذكرنا لا للعلم. وبيان هذا بالنّصوص الصّريحة في ذلك. منها: قول الإمام حسام الدين الشهيد في الفتاوى الصغرى: إذا قضى في فصلٍ مجتهدٍ فيه، وهو لا يعلمُ بذلك، لا ينفّذ؛ لأنَّه ذكر في السِّير الكبير: رجلٌ مات وله مدبَّرون حتَّى عتقُوا، ثم جاء رجلٌ وأثبت (¬1) ديناً على الميت، فباعهم القاضي على ظنّ أنَّهم عبيدٌ، وقضى بجوازه، ثم ظهر أنَّهم مدبَّرون، كان قضاؤه بذلك باطلاً، وإن قضى في فصلٍ مجتهدٍ فيه، وهو: جواز بيع المدبَّرِ، لكن لما لم يعلم بذلك كان باطلاً. انتهى (¬2). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
فعلم أنَّ الضَّابط أخذَ من فرعٍ وقع فيه القضاءُ على خلاف رأي القاضي المقرر قبل هذه الحادثة، وهو: أنَّ المدبَّر لا (¬1) يباعُ وهو حرٌّ من الثلث، فإن ¬
لم يكن للسيد مال لزمته السعاية، فلهذا: كان جواب المسألة: أنّ قضاءه باطلٌ، وكان عدم العلم دليل بقاء رَأْيِهِ السَّابِقِ حتى قال: إنّ البيع صادف الأحرار؛ لأنهم عُتِقُوا بموته. أمّا لو كان عالماً، وقضى على خلاف رأيه السابق، حمل على تبدّل الاجتهاد بدليل تمام الكلام في هذه المسألة. فإنه قال فِي السِّير الكبير في باب الفداء الَّذي يرجعُ إلى أهله: مات وله رقيقٌ، وعليهِ دينٌ كثيرٌ فباعَ القاضي رقيقه، وقضى دينهُ، ثم قامت البيِّنة لبعضهم: أنَّ مولاه كان دبره (¬1)، فإنَّ بيع القاضي فيه يكونُ باطلاً، ولو كان القاضي عالماً بتدبيره، واجتهد وأبطل تدبيرهُ لكونهِ (¬2) وصيّة وباعه في الدَّين، ثم ولّي قاضٍ آخر يرى أنَّ ذلك خطأ، فإنَّه ينفذ قضاء الأوَّل. . . إلخ. فعلم: أنَّ عدم النَّفاذ ليس هو لعدم العلم، بل لكونه بيع الحرِّ. ولهذا قال الشهيد: والاستدلال بمسألة السير لا يستقيم؛ لأنّ عدم النفاد ما كان لعدم العلم بكون الفصل مجتهداً فيه، وإنّما كان؛ لأنّ البيع صادفَ الأحرار لأنهم عتقوا بموته. أكثر ما في الباب: أنه يجب عليهم السعاية، لكن ذلك لا يمنع وقوع العتق. انتهى. فترك القاضي ذلك وأخذ بقوله، وهو لا يعلم بذلك. لا ينفذ. فشهد على نفسه بالجهالة. والله أعلم. ¬
وقال الحسام أيضاً: قال في كتاب الرُّجوع عن الشَّهادة: إذا قضى القاضي بشهادة شاهدين محدودين في قذفٍ، وهو لا يعلم بذلك، ثم ظهر، لا ينفذ قضاؤه، وعليه أن يرد قضاءه، ويأخذ من المال المقضي له، وهو محمولٌ على محدودين شهدا بعد التَّوبة، فإنَّه ذكر في أوَّل قضاء شرح الجامع: إذا قضى القاضي بشهادة محدودين في قذف قد تابا. . . إلخ. ومن المعلوم: أنَّ قضاءه هذا على خلاف رأيه (¬1) المقرَّر قبل ذلك فلهذا كان الجواب: أنّه لا ينفذ، فعدم النَّفاذ لعدم صحَّة الشَّهادة، لا لعدم العلم. وقال الحسام الشهيد أيضاً: إذا قضى القاضي في فصلٍ مجتهدٍ فيه، وهو يقصد المتفق، فوافق قضاؤه المحلّ المختلف، نفذ قضاؤه. وذكر محمّد في كتاب الإكراه: لو شهد شاهدان على رجلٍ أنّه قذفَ امرأته فلانة. فلاعنَ الزوج امرأته من غير إكراهِ القاضي وحبسه، وفرّق القاضي بينهما، ثم تبيّن: أن الشهود عبيدٌ، فإن قضاء القاضي بالتفريق صحيحٌ؛ لأنّ باللعان في المرّة الأولى لما قال: أشهد بالله إني لصادقٌ فيما رميتها من الزنا، صارَ مقراً بالقذف. قلت: تبيَّن أن قذف الزوج كان لم يثبت بشهادة الشهود، يثبت بإقراره طائعاً. قال: فإذا لاعنَ بعد ذلك ثلاث مرّات. وفرّق القاضي بينهما. فقد قضى في التفريق في محلّ يسوغّ الاجتهاد فيه. وهو التفريق بعد اللعان ثلاث مرّات. ¬
قال الولوالجي (¬1): لأنهّ أقام أكثر مقام الكل، وأكثر الشيء أقيم مقام الكل في كثيرٍ من المواضع والأحكام، فهذا إذا أقام كان اجتهاداً في محّله، فينفذ قضاؤه حتى لو التعن مرتين، ففرّق القاضي بينهما، فتفريقه باطلٌ؛ لأنه قضى بالاجتهاد في غير محلّه، فإنَّه أقام الأقل مقام الكل، وهذا مما لا نظير له في الأصول. انتهى. قلت: فنفاد قضائه ليس لعدم العلم، وإنما هو لرأيٍ صحيحٍ حصل له في المسألة. فلهذا قال الولوالجي هنا: فدلّت المسألة على أن القاضي متى قضى في محلَّ سوغّ فيه الاجتهاد كان لم يعلم هو أنه قضى في محل الاجتهاد وقصده المتفق عليه في هذه المسألة هو: أنّ الشهادة شهادة الأحرار. وقوله: فوافقَ قضاؤه. المحل المختلف ليس هو محل قصده المتفق عليه، وهو الاتفاق والاختلاف في شهادة العبيد، وإنما هو محل اختلاف من جهةٍ أخرى. وليس للمجتهد قول في عين المسألة قبل هذا الحكم، فلم يكن ضده مقابلة المسألة الأولى. وفي هذه كلامٌ، وهو: أنّ محل الاجتهاد هل يشترط أن يكون وقع فيه خلاف أو أنّه قابل للخلاف. فقال في الأحكام: بما ¬
هي مقابله لا ينقض، وإن حكم في السكوت عنه بما هو خلاف القواعد ينقض، ولا فرق في عدم النقض بين المسكوت عنه وبين ما وقع الخلاف فيه. انتهى. ولما تبين أنّ هذا في قضاء القاضي المجتهد، وأنّ اعتبار العلم وعدمه إنما هو للدلالة على البقاء على الاجتهاد الأوّل أو تبدله، وأنهّ لو كان وفق رأيه نفذ، وإن لم يعلم بالخلاف بالنقل، وبدلالة الإجماع الذي حكاه في كتاب الأحكام، ظهر أنّ اعتبار هذا في قضاء القاضي المقلّد زلة عالمٍ وجهالةٌ فاحشةٌ بالمسألة، وخرق لما اجتمعت عليه علماء الأمّة في أنّ القاضي المقلّد إذا قضى يقول إمامه الذي لا يخالف نص كتابه، ولا سنّةً مشهورةً، ولا إجماعاً مستوفي الشروط بعد قضائه. عُلِمَ: أنّ في المسألة خلافاً أو لم يعلم، وصار المختلف فيه بقضائه متفقاً عليه، كما صرّحت به نصوص المختصرات والمطوّلات، وامتنع نقضه بإجماع المسلمين، نصّ على الإجماع الشيخ الإمام أبو العباس في كتاب الأحكام وقال: إنّ في مسائل الخلاف إذا حكم فيها الحاكم ما تعين من النقض بالإجماع، وما هو في معنى النّص الخاص الوارد في تلك الواقعة. قال: وتقرير هذا: أن الله جعل للحاكم أن يحكم في مسائل الاجتهاد بأحد القولين، فإذا حكموا بأحدهما كان ذلك حكماً من الله - عز وجل - في تلك الواقعة. وإخبار الحاكم: أنه يحكم فيها كنصٍّ من الله تعالى ورد خاصاً بتلك الواقعة. انتهى. وأمّا أنه استبيح بها الفروج المحرّمة، فقد قالوا في ابنه محمد بن أينال زوج فرجٍ بن أزومر وقد خلعها من عصمته مدّةً. ولم يحكم في الخلع بشيءٍ،
ثم تزوج، ثم طلّقها طلقةً صريحة راجعها، ثم طلَّقها، ثم رفع إلى القاضي نور الدين بن البرقي وادّعى عنده: أنّه طلَّقها آخر الطلقات، وحكم بوقوع الحرمة الغليظة، وأن لا تعود إليه حتى تنكحَ زوجاً غيره. إن هذا القاضي قصد المتفق عليه ظناً منه: أنّ الثلاث صرائح، ولم يعلم بالخلع، فحصل حكمه في محل مختلفٍ فيه، وهو الخلع الأوّل، فلم ينفذ قضاؤه في الحرمة الغليظة. فذهب إلى حاكمٍ حنبليٍّ فيحكم بأن الخلع فسخٌ لا ينقص العدد، وتعود إلى زوجها من غير محلّلٍ، وتبقى معه بما بقي من الطّلقات. هذا ما اطّلعت. والله أعلم بما لم يبلغني. وأمّا أنه استبيح به الأموال المحرّمة فأعاد الأوقاف التي أبينت بهذه الطريق الباطل. وأمّا أنّه قطع بها حقوق الأيتام والفقراء والطلبة والعلماء فله خروج الأوقاف بهذه الطريقة الباطلة. وأمّا أنّه عمل فيها على زعمهم بالتشهي الحرام، فلأنه قال في الفتاوى الولوالجية: إن القاضي إذا قضى في محلٍّ يسوغ فيه الاجتهاد وينفذ قضاؤه وإن لم يعلوه أنه قضى في محلّ الاجتهاد، فعملهم بالأوَّل دون هذا عملٌ بالتشهي؛ لأنهّم ليسوا من أهل الاجتهاد، ولا الترجيح. وقد قال في كتاب الأحكام: وليس للقاضي أن ينشئ حكماً بالهوى واتباع الشهوات، بل لا بد أن يكون ذلك القول الذي حكم به، قال به إمامٌ معتبرٌ بدليلٍ معتبرٍ. وأمّا اتباع الهوى في الحكم فحرامٌ إجماعاً.
وأمّا أنه خارقٌ لإجماع أمّة محمّدٍ - صلى الله عليه وسلم -. فقال أبو عَمرو الشهرزوري (¬1) في كتاب أدب القاضي والفتوى (¬2): واعلم أنّ من يكتفي أن يكون فتواه وعمله موافقاً لقولٍ أو وجهٍ في المسألةِ، ويعمل بما شاء من الأقوال أو الوجوه من غير نظرٍ في الترجيح، فقد جهل وخرق الإجماع. انتهى. فهذا قوله فيمن عمل بقولٍ، ووجهٍ في المسألة. وما نحن فيه، وهو قضاء القاضي المقلّد مستوفياً للشروط، موافقاً لقول إمامه: ليس فيه قولان ولا وجهان ولا ما يصلح بسمته. وقول الموثق مع العلم بخلاف عملٍ الآن، لاَ ما كانَ. إذا عرف هذا. فنقُولُ الحاكم الحنفي الحاكم بالوقف: أنّ قضاءه لم ينفذ لعدم العلم به باطلٌ. والبيع النَّاشئُ عن قوله هذا باطل، والحكم به باطل، والوقف وقفٌ على حاله، ولكلّ حكمٍ من حكّام الشريعة المطهّرة اتصل به هذا رفعُه. والحاكم باستمرار الوقف الأوّل دفعاً للفساد من بين العباد. والله سبحانه وتعالى أعلمُ. ¬
(13) [رسالة في] العدة
مَجْمُوعَةُ رَسَائِل العَلَّامَة قَاسِم بن قُطْلُوبُغَا [13] [رِسَالَةٌ فِي] العِدَّةِ تَأْلِيفُ العَلَّامَة قَاسِم بْنِ قُطْلُوبُغَا الحَنَفِي المولود سَنَة 802 هـ والمتوفى سَنة 879 هـ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -
بداية الرسالة
(13) [رِسَالَةٌ فِي] العِدَّةِ قال - رحمه الله -: قد سئلتُ عن امرأةٍ طلَّقها زوجها طلاقاً رجعيًّا في مرض موته، ثم مضى عليها ثلاثة أشهرٍ وثلاثة عشر يومًا، ثم مات، فأقرَّت أنّها حاضت في هذه المدّة ثلاث حيضٍ، فهل تورث بعد هذا الإقرار أم لا؟. فأجبته: أنها لا تورث في هذه الصورة. والله أعلمُ. وكتب على هذه بعض مشايخ العصر ما صورته: الحمد لله المنعم بالصّواب. إذا كان الطّلاق رجعيا، ترثُ منه ما دامت الوفاة قائمة. والله أعلم. ثم بلغني: أنّ بعض قضاتنا استشكل جواب الشيخ، وأن بعض العدول من طلبتي احتجّ عليه يقول ابن فرشته في شرح المجمع في فصل طلاق الغاز: إنَّما قيّد بإطلاقها بالبينونة؛ لأنه إذا كان رجعيا فعليها عدة الوفاة اتفاقاً. وإن القاضي المستشكل: أخرج في تتمة الفتاوى (¬1) لينظر تحقيق هذا ¬
القول، فقلت: المستشكل معذورٌ لإطلاق الأصحاب؛ لأنها إنما ترث إذا كانت العدّة قائمة، والمتشبّث بما قال ابن فرشته معذورٌ أيضاً لإطلاق قوله: إذا كان رجعياً فعليها عدة الوفاة، ولم يعلم أنّ مراده: إذا مات وهي في العدّة لقوله في الأصل: فعليها أربعة أشهرٍ وعشراً. وبطل عنها الحيض. انتهى. وإنما تبطل إذا كان قائماً لا المنقضي. وقال شارحه: إذا طلّق امرأته، ثم مات، فإن كان الطلاق رجعياً انقلبت عدتها إلى عدة الوفاة سواء طلّقها في حالة المرض أو حالة الصّحة، وانهدمت عدة الطلاق، وعليها أن تستأنف عدة الوفاة في قولهم جميعاً؛ لأنّها زوجته بعد الطلاق، إذ الطلاق الرجعي لا يوجب زوال الزوجية، وموت الزوج يوجب على زوجته عدة الوفاة لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة: 234]. كما لو مات قبل الطلاق. فقولهم: انتقلت وانهدمت، وما عدلوا به من أنّها زوجته إلخ. صريحٌ فيما ذكرت. وكذا قوله في المحيط: المطلقة الرجعية إذا مات زوجها تعتد للوفاة أربعة أشهرٍ [و] عشراً لقيام النكاح. قلت: ولا قيام للنكاح بعد العدة. وكذا قوله في الإيضاح: لأن النكاح قد بقيَ. ¬
قلت: ولا بقاء للنكاح بعد العدة. وفي الذخيرة: وإذا كان الطلاق رجعياً في صحة أو مرض فعدّتها أربعة أشهرٍ وعشراً. فقد بطل عنها الحيض في قولهم جميعًا؛ لأنّ الطلاق الرجعي لا يقطع النكاح عندنا. فكانت الزوجية قائمة. والله أعلم. جعل كل الواجب على المرأة عند موت الزوج: التربص بأربعة أشهرٍ وعشراً. وكانت من ضرورة سقوط الاعتداد بالحيض. انتهى. ففي صورتنا لم تكن الزوجية قائمة وقت الموت، فلم يجب عليها بموته شيءٌ. ألا ترى أنها لو تزوجت قبل موته كان النّكاح صحيحاً. وفي شرح الهداية: ودخلت في عدة الطلاق، ثم مات الزوج، فإنّها تنتقل عدتها إلى عدّة الوفاة. وهذا يفيد: أنّها دخلت ولم يخرج بعد حتى مات. فتنتقل العدة القائمة. وفيه شاهدٌ؛ أنَّها تبطل لا تنتقل. وقول شراح الكنْز: لبقاء الزوجية من كل وجهٍ قبل الموت، فيوهموا أنّ عدتها بعد انقضاء عدتها بالأقراء بقية عدة الوفاة. وهذا وهمٌ في الوهم للأوَّل؛ لأن أصحابنا إنمّا قالوا في تلك الصورة: أنها تستأنف العدة من حين موته، فتتربص أربعة أشهرٍ وعشراً. والله سبحانه وتعالى أعلمُ.
[فتوى عن القصر والإتمام]
[فَتْوَى عَنِ القَصْرِ وَالإتْمَامِ] وسئل - رحمه الله -: عن رجلٍ خرج من مصر؛ قاصداً مِصراً آخر بينهما أكثر من مسيرة السفر، فسار يوماً، ثم رجع إلى مِصْرهِ، ولم يكن صلّى في ذلك اليوم شيئاً لعذرٍ منعه من ذلك، فهل يقضي صلاة ذلك اليوم قصراً أو إتمامًا لكونه رجع قبل تقرر المغيّر للأحكام؟ أفتونا مأجورين. فأجاب - رحمه الله -: الحمد لله، ربِّ زدني علماً. إذا قصد ترك السفر فيقضي ما فات قبل ذلك قصراً. وتقرير السفر المغير للأحكام بنية سفرٍ مدة السفر ومفارقة عمران بلدهِ من الجهة التي خرج منها لا وجود السفر تمام المدة. والله أعلم.
(14) مسألة في حط الثمن والإبراء منه وصحة ذلك
مَجْمُوعَةُ رَسَائِل العَلَّامَة قَاسِم بن قُطْلُوبُغَا [14] مَسْأَلَةٌ فِي حَطِّ الثَّمَنِ وَالإِبْرَاءِ مِنْهُ وَصَحَّةِ ذَلكَ تَأْلِيفُ العَلَّامَة قَاسِم بْنِ قُطْلُوبُغَا الحَنَفِي المولود سَنَة 802 هـ والمتوفى سَنة 879 هـ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -
بداية الرسالة
(14) مَسْأَلَةٌ فِي حَطِّ الثَّمَنِ وَالإِبْرَاءِ مِنْهُ وَصَحَّةِ ذَلكَ قال - رحمه الله -: إنّي سئلت عن الإبراء عن الثّمن في مجلس العقد، هل يفسد البيع أم لا؟. فقلت: لا يفسد. فقال السائل: إني سألت بعض أهل العلم من الحنفية فقال: إنه يفسد العقد. والمسألة في هذا الكتاب، وأشار إلى كتابِ عندهُ. قال السَّائلُ: واستحييت أن أطلب منه الكتاب لأقف على سورة النقل. فقلت الذي أحفظه هو ما قلت لك. ثم بعد مدّةِ لقيني السائل فقال لي: إنَّ المسألة في شرح الكنْز للزيلعي، فأنكرت أن يكون هذا من مذهبنا، ثم استحضرته شرح الكنز للزيلعي، فأراني قول المصنف والزيادة فيه، والحط منه بخلاف حط الكل؛ لأنَّه سريا إلى أصله؛ لأنه ينقلب هبةً أو بيعًا بلا ثمنٍ، فيفسد. وقد كانَ من قصدهما التجارة بعقدٍ مشروعٍ من كل وجهٍ. فالالتحاق به يؤدي إلى تبديله، فلا يلتحق به. فقلت: هذا استنباط مقلوبٌ، هذا شاهدٌ لنا. أقول: لأنَّ ما يظنّ صاحب الكتاب الذي أشار إليه.
قيل: وإذا لم يلتحق به لا يفسد العقد، وقد صرّح بذلك في شرح الهداية فقال بخلاف حط الكل؛ لأنَّه تبديلٌ لأصله، لا يعتبر لوصفه فلا يلتحق به؛ لأنَّه لو التحق باصل العقد يفسد العقد؛ لأنه يبقى بيعاً بلا ثمنٍ، فكان يعتبر العقد من وصفٍ مشروعٍ إلى وصفٍ غير مشروعٍ. وهذا ما تصرّف فيه الزيلعي، وأسقط منه قوله: لأنهّ لو التحقَ بأصل العقد، يفسد العقد. والذي قلت له: إني أحفظه هو ما قاله في الذخيرة، إذا حط كل الثمن أو وهبَ كل الثمن أو أبرأه منه عن كل الثمن، فإن كان ذلك قَبْلَ قبضِ الثمن صحَّ الكل، ولا يلتحق بأصل العقد وما قاله في البدائع في الشفعة: ولو حظه جميعاً فأخذ الشفيع بجميع الثمن، ولا يسقط عنه شيءٌ؛ لأنّ حطَّ كل الثمن لا يلتحق بأصل العقد؛ لأنه لو التحق لبطل البيع؛ لأنَّه يكون بيعاً بلا ثمنٍ، فلم يصحّ الحطّ في حق الشفيع، والتحق في حقّه بالعدم، فيأخذ بجميع الثمن، وصحّ في حق المشتري، وكان أبرأ له عن الثمن. وما في المحيط في الشفعة أيضاً. وأمّا حط الكل فلا يلتحق باصل العقد؛ لأنه متى التحق بأصل العقد بطل العقد؛ لأنّ العقد يصير لغير ثمنٍ، فيظهر أن المحطوط لم يكن ثمناً. بقي العقد بجميع الثمن، إلاّ أنه يصحّ الكلّ في حقّ المشتري؛ لأنه لاقى ديناً قائماً في ذمّته. وما قال في الذخيرة في الشفعة أيضاً: أما إذا حطّ الكل أو أبرأه عن الكل أو وهب الكل، صحّ في حق المشتري؛ لأنّه لاقى ديناً قائماً، ولكن لا يظهر في حق الشفيع حتّى يأخذ الشفيع الدّار بجميع الثمن؛ لأن هذا الحطّ
لا يلتحق بأصل العقد؛ لأنَّه لو التحق يبطل من حيث صحَّ؛ لأنَّ العقد يكون بغير ثمنٍ باطلٌ، ولم يكن المحطوط ثمناً، فلا يلتحق بأصل العقد، وبقي العقد في حقّ المشتري بجميع الثمن، كما كان قبل ذلك. وقال في خبر مطلوبٍ في كتاب الشفعة: ولو حطّ كل الثّمن يأخذ بالكل لتعذر الإلحاق، فيجعل هبةً مبتدأةً. وقال في الهداية: في الشفعة: بخلاف حطِّ الكلِّ؛ لأنَّه لا يلتحق بأصل العقد بحالٍ، وقد بيَّنَّاه في البيوع (¬1). قال في الهداية: وذلك لأنَّ حطّ جميع الثمن لو التحق بأصل العقد. وإمّا أن يصير العقد هبةً ولا شفعة للشفيع في الهبة أو يصير بيعاً بلا (¬2) ثمنٍ، فيكون فاسداً، ولا شفعة في البيع الفاسد. فعرفنا: أنّه لا يمكن إلحاق حطّ الجميع بأصل العقد في حق الشفيع. وقال في الغاية: بخلاف ما إذا حط جميع الثمن، حيث لا يلتحق بالعقد، فلا يسقط عن الشفيع شيءٌ، فلا جرم يأخذ بجميع الثمن؛ لأنّه لو التحق بأصل العقد يخرج العقد عن موضوعه؛ لأنه يصيرُ هبةً، لا يبقى تمليكاً بلا عوضي ولا شفعة في الهبة إلخ. وقال في شرح مجمع البحرين للشيخ عبد اللطيف: قيّدنا بحط البعض؛ ¬
لأنّه حط كل الثمن غير ملحق بالعقد اتفاقًا؛ لأنّه لو بقي العقد بلا ثمنٍ وهو غير مشروعٍ. وقال في العقد: لو حطّ البائع كل الثمن لم يسقط، ولا يلتحق ذلك بأصل العقد اتفاقاً؛ لأنَّه لو بقي العقد بلا ثمنٍ وهو غير مشروعٍ، ولو حطّ البائع التحق صارَ بيعاً بلا ثمنٍ، وأنّه باطلٌ. وقال في الاختيار: وإن حطّ الجميع لم يلتحق؛ لأنَّه يصير الثمن كأن لم يكن، فيبطل الحط. وقال في الشفعة: ألا ترى أنه لو حط الجميع ابتداءً لا يسقط عن الشفيع؛ لأنه لا يلتحق بأصل العقد، بل يكون هبةً، فلا يسقط عن الشفيع. وعلى هذا تظافرت عبارات المختصرات والمطولات.
(15) من مسائل الشيوع
مَجْمُوعَةُ رَسَائِل العَلَّامَة قَاسِم بن قُطْلُوبُغَا [15] مِن مَسَائِلِ الشُّيُوع تَأْلِيفُ العَلَّامَة قَاسِم بْنِ قُطْلُوبُغَا الحَنَفِي المولود سَنَة 802 هـ والمتوفى سَنة 879 هـ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -
بداية الرسالة
(15) مِن مَسَائِلِ الشُّيُوع قال - رحمه الله -: سئلتُ عن بيع حصّةٍ شائعةٍ من عقارٍ. فأجبت: بالجواز. ثم أخبرت عن بعض من يزعم العلم بالفقه: أنّ ذلك غير جائزٍ. فقلتُ: لا أعلم خلافاً في المذهب فيما ذكرت. وإنما اختلف في بيع الحصة الشائعة من العمارة. والصحيح: الجواز. قال جمال الإسلام في فتاويه: أرضٌ بين رجلين أثلاثًا، والزّرع فيها نصفان، فباع صاحب الثلث نصيبه مع نصف الزرع مشاعاً من أجنبيٍّ، صحّ في الأرض دون الزرع. وقال: ثوب بينهما، باعَ أحدهما بغير إذن شريكه، ولم يجز الشريك. لزم في نصيب البائع. ومثل ذلك في العبيد المشتركة. وقال: باع نصف حبّة مقلوعةٍ أو نصف عمامةٍ، أو مشيدٍ مشاعاً، جازَ. وإن كان في قسمتها صورتين. قال: وأمّا بيع نصف العمارة مشاعاً. ففيها اختلاف الروايتين. والمشايخ:
الجواز أصح وأرفق. انتهى. قلت: العمارة: البناء في الضيعة والرقبة للوالي. قالوا: لأنّ العمارة تبقى، فأشبهت الرقبة. وفي الصّغرى: بناء بين رجلين باع أحدهما نصيبه من أجنبي بغير إذن شريكه، لم يجز. وكذا الشجرة والزرع. ولو باع من شريكه جاز. وفي المحيط (¬1)، عن نوادر بشر، عن أبي يوسف: رجلان بينهما دار فباع أحدهما نصف بيت منها شائعًا في البيت، والبيت معلوم. فإن أبا حنيفة قال: لا يجوز؛ لأن فيه ضرراً على شريكه في تقطيعه (¬2) نصيبه عليه عند القسمة. قال: أرأيت لو باع نصف كل بيتٍ من الدّار، لم يتقطع (¬3) نصيب شريكه. قال: وكذلك الأرض. ولو كان بينهما عشر ثيابٍ هروية (¬4)، مما يقسم باع أحدهما نصف ثوب بعينه من رجلٍ، فإن أبا حنيفة قال: هذا جائز. وكذا (¬5) الغنم. وهذا لا يشبه (¬6) الدّار الو احدة. ¬
وقال أبو يوسف: ينبغي أن يكون هذا والدار سواء في قوله، ألا ترى أنه لو باع من كل شاةٍ نصفها من إنسانٍ على حدةٍ (¬1) لم يستطع شريكه أن يجمع له نصيبه فيها، فقد دخل (¬2) عليه ضرر، ويتقطع (¬3) نصيبه، [فكيف يختلفان]. ولو كان بينهما (¬4) أرض ونخلٌ باع أحدهما نصف نخله معينة بأصلها (¬5) من رجلٍ لم يجز في قول أبي حنيفة. [وهذا كالبيت الذي وصفنا، ولو باع أحدهما نصف الأرض واشترى نصف النخيل بأصله، فإن هذا مثل ذلك في قياس قول أبي حنيفة]. وكذلك لو باع (¬6) نصف الدار شائعاً إلاّ (¬7) بيتاً معلوماً منها، لم يدخل في البيع. وقال أبو يوسف: إناّ نرى كل هذا جائزاً لا أنقض بيعاً من أجل قسمة لا ندري (¬8) أتكون أم لا تكون، ولا يُدرى لعلّها إذا كانت لا يدخل (¬9) ¬
أقسام الشيوع
في القسمة ضرر من قبل [هذا] البيع (¬1). قلت: وحيث خفي حكم المشاع من العقار، فلا بأس بالإسعاف ببيان ذلك فيما يقع فيه، وقد ضبط الإمام العلامة حسام الدين برهان الأئمة عمر بن عبد العزيز - رحمه الله - فقال: تفصيل ما اختلف في مسائل الشيوع وما اتفق عليه، فالكلام في معرفة مسائل الشيوع في أربعة فصول: [الفصل] الأوّل: في معرفة أقسام الشيوع. والفصل الثاني: في معرفة عدد مسائل الشيوع. والفصل الثالث: في معرفة مذاهب السلف في مسائل الشيوع. والفصل الرابع: في معرفة طرقهم في مسائل الشيوع. أما الفصل الأوّل: فنقول: الشائع ينقسم إلى قسمين: شائع يحتمل القسمة كنصف الدار، ونصف البيت الكبير. وشائع لا يحتمل القسمة كنصف العبد ونصف الحمام ونصف الثوب ونصف البيت الصغير. والفاصل بين القسمين: حرفٌ واحدٌ وهو: أن ينظر لو كان بين اثنين وطلب أحدهما القسمة وأبى الآخر؛ فإن أجبره القاضي على القسمة كان من القسم الأول، وإن لم يجبره كان من القسم الثاني إذ الجبر مطرد، فإنه نص في الكتاب: أنه إذا وهبَ نصف عبدين من إنسانٍ جازَ بالإجماع على الفعل محل أنه قبول المحل ذلك الفعل، فإن قيل: هذا الحرف غير وهذا آية أنه من القسم الثاني والعبد لو كان بين اثنين فطلب أحدهما القسمة وأبى الآخر قسم القاضي بينهما عند أبي يوسف ومحمد وهذا ¬
الفصل الثاني
أنه آية من القسم الأوَّل عندهما. قيل له عندهما: إنه يقسم القاضي بينهما إذا رأى الصّلاح في القسمة، فكانت قسمة القاضي مقيدة بهذا الشرط. وهذا الشرط غير ثابت وقت العقد، فكان وقت العقد من القسم الثاني. وأمّا الفصل الثاني: فنقول: أمّهات مسائل الشيوع سبع: بيع الشائع، وإجازة الشائع، وإعارة الشائع، وهبة الشائع، وصدقة الشائع، ووقف الشائع، ورهن الشائع. وأما الفصل الثالث: فنقول: إذا باع الشائع فهذا على قسمين: إمّا أنْ يحتمل القسمة أو لا يحتمل القسمة. وكل قسمةٍ على وجهين: إمَّا إن باع من أجنبي أو من شريكه. والوجه الأوّل وهو البيع من الأجنبي على صنفين. أمَّا إنْ كان الكل له فباع النصف، أو كان بين اثنين فباع أحدهما نصيبه والبيع جائز في المواضع أجمع. وأمّا أجرُ الشّائع وهذا أيضاً على قسمين: إمّا أن يحتمل القسمة أو لا يحتمل. وكل قسمٍ على وجهين: إما إن أجِّر من أجنبي أو من شريكه. والوجه الأول وهو الإجارة من الأجنبي على وجهين (¬1). إمَّا أنْ كان الكل له فأجر النصف. أو كان بين اثنين فأجر أحدهما نصيبه من الأجنبي. والجواب في القسمين واحد، وهو ما يحتمل القسمة وما لا يحتمل القسمة. ¬
فنقول في الصنف الأول من الوجه الأول، وهو ما إذا كان الكل له، فأجر النصف من الأجنبي، فعند أبي حنيفة لا يجوز. وعن أبي يوسف ومحمد يجوز (¬1). واختلف المشايخ على قول أبي حنيفة. منهم من قال: لا ينعقد. فلا يجب الأجر أصلاً. ومنهم من قال: بأنه ينعقد فاسداً حتى يجب أجر المثل. وهو الصحيح. وفي الصنف الثاني من الوجه الأوّل وهو ما إذا كان بينهما فأجَّر أحدهما النصف. اختلف المشايخ على قول أبي حنيفة. حكى أبو طاهرٍ الدبّاس: أنه يجوز. وحكى عنه غيره: أنّه لا يجوز. وإليه مال شمس الأئمة أبو بكر محمد ابن أبي سهل السرخسي، والشيخ الإمام برهان الأئمة. قلت: قال الإمام الكرخي في جامعه (¬2): نص أبو حنيفة: أنه إذا أجّر بعض ملكه أو أجّر أحد الشريكين نصيبه من أجنبي، فهو فاسدٌ، سواء فيما يقسم وفيما لا يقسم. ¬
وقال في الصغرى والتتمة (¬1) وقاضي خان والحقائق: الفتوى على قول أبي حنيفة. قال: وفي الوجه الثاني وهو ما إذا أجر من شريكه جاز بالاتفاق في ظاهر الرواية. وروي عن أبي حنيفة: أنه لا يجوز. هذا هو الكلام في الشيوع المقارن. وأمّا الشيوع الطارئ: ففي ظاهر الرواية: لا يفسد. وروى خالد بن صبيح، عن أبي حنيفة أنه يفسد. قلت: فإذا مات أحد الأجيرين أو المستأجرين تنقضي الإجارة في نصيب الميت، ويبقى في نصيب الحي في ظاهر الرواية مع الشيوع الطارئ. قال: هذا إذا أجّر النصف من واحدٍ. أنها إذا أجّر الكلّ من اثنين، فهذا على وجهين. أمّا إذا أجمل بأن قال: أجرت الدار منكما أو فصّل. والتفصيل لائح لما إذا كان تفضّلاً بالتنصيف بأن قال: نصفها منك ونصفها منك أو بالأثلاث بأن قال: ثلثها منك وثلثيها منك. ففي الوجه الأوّل وهو الإجمال جاز بالاتفاق. وفي التفضيل بالتنصيف أو بالأثلاث. يجب أن تكون المسألة على قول أبي حنيفة على الاختلاف الذي حكيناه ¬
قرض المشاع
في النصف الثاني من الوجه الأوّل، وهو ما إذا كان الكل بين اثنين، وأجر النصف أحدهما. وأمّا إذا أعار الشائع جازت الإعارة في الوجوه كلها. قلت: وهذا يكون مع الشريك ووديعة المشاع أيضاً جائزة. ذكرها ظهير الدين في فتاويه. ويكون أيضاً مع الشريك. وقرض المشاع جائزٌ قضاءً. ذكره في الهداية. قال في الشرح: كما إذا دفع ألفاً. وقال: خمس مئة منه قرض، وخمس مئة شركة. وغصب المشاع. ذكر أبو الفضل الكرماني في إشارات الجامع: أنّه لا يتحقق. وذكر الصّدر الشهيد: أنه يتصور. وفي البزدوي (¬1) -وعليه الفتوى-: وذكر له صوراً في الفصول. والله أعلم. وأمّا إذا وهب الشائع. فهذا أيضاً على قسمين: ¬
الشيوع الطارئ
إمّا أن يحتمل القسمة أو لا يحتمل. وكل قسمٍ على وجهين: أمّا إن وهب من أجنبي، أو من شريكه. والوجه الأوّل: وهو ما إذا وهب من أجنبي على صنفين. أمّا إذا كان الكل له فوهب النصف من أجنبي أو كان بين اثنين فوهب النصف أحدهما. والجواب في القسمين يختلف. ففيما لا يحتمل القسمة يجوز الهبة في المواضع أجمع. وفيما يحتمل القسمة. ففي الوجه الأول: لا تجوز الهبة عندنا في المصنفين جميعاً. وفي الوجه الثاني: كذلك. هذا هو الكلام في الشيوع المقارن. وأمّا الشيوع الطارئ: لا تفسد الهبة بالاتفاق. هذا كله إذا وهب النصف من واحدٍ. أمّا إذا وهب الكل من اثنين فهذا على وجهين: أمّا إن بان. قال: وهبت الدار منكما أو فصل والفصل لائحٌ. إمّا أن يكون بالتنصيف بأن قال: نصفها منك ونصفها منك أو بالأثلاث بأن قال: ثلثها منك وثلثيها منك. وفي الوجه الأول: لا يجوز عند أبي حنيفة، وجاز عند أبي يوسف ومحمّد. وفي الوجه الثاني: إن كان بالأثلاث. فعند أبي حنيفة وأبي يوسف لا يجوز. وعند محمّدٍ يجوز. وأمّا إذا تصدّق بالشّائع. فهذا وهبه الشاع في جميع ما ذكرنا سواء إلَّا في خصلةٍ واحدةٍ وهو: أنه إذا وهبَ الكلّ من اثنين وسلم إليهما عند أبي
وقف الشائع
حنيفة: لا يجوز رواية واحدة من غير اختلافٍ. وفي التصدق اختلف المشايخ: منهم من قال: لا يجوز أيضًا. ومنهم من قال: في المسألة روايتان. على رواية الأصل لا يجوز. وعلى رواية الجامع يجوز. وهو الصحيح. وأمّا إذا وقف الشائع: لا يجوز عند محمد، وعند أي يوسف: يجوز. قلت: قال في الهداية (¬1): هذا فيما يحتمل القسمة، فأمَّا ما لا يحتمل القسمة فيجوز مع الشُّيوع عند محَمَّدٍ. انتهى. وفي الحقائق والكبرى والتجنيس: الفتوى على قول محمد. وبقول أبي يوسف، أخذ الصغار. واختاره مشايخ بلخٍ. وأمّا إذا رهنَ الشائع. فهذا أيضاً على وجهين: إما أن يحتمل القسمة، أو لا يحتمل. وكل قسم على وجهين: أمَّا إن رهن من أجنبي أو من شريكه والأوجه الأول على صنفين. إمَّا أن يكون الكل له، فرهن النصف، وأمّا إن كان الكل بين اثنين فرهن أحدهما النصف. فالجواب: في المواضع أجمع عندنا: لا يجوز. وعند الشافعي: يجوز. ¬
الفصل الرابع
واختلف المشايخ في قول علمائنا: إنَّه لا ينعقد أو ينعقد فاسداً على حسب اختلافهم على قول أبي حنيفة في الإجارة. هذا هو الكلام في الشيوع المقارن. وأمّا الشيوع الطارئ: ففيه روايتان: في روايةٍ: لا يفسد. وفي رواية: بأن التنصيف يفسد هذا كله إذا رهن النصف من واحدٍ. أمَّا إذا رهن الكل من اثنين فهذا على وجهين: أمّا إن أجمل بأن قال: وهبت الدار منكما أو فصل والتفصيل لائحٌ. إما أن يكون بالتنصيف بأن قال: نصفها منك ونصفها منك. وبالأثلاث بأن قال: ثلثها منك وثلثيها منك. ففي الوجه الأول: جاز بالاتفاق. وفي الوجه الثاني: لا يجوزُ. كان التفصيل بالتنصيف أو بالأثلاث. وأمّا الفصل الرابع: فنقول: الشيوع في البيع غير مانع بالاتفاق، وطريق عمل البيع في الشائع أنه يفيد الملك في الشائع، لكن الملك لا يراد لعينه (¬1)، وإنما يراد لغيره، وهو: الانتفاع. والانتفاع إنما يكون بالمفرز، والمفرز إنما يحصل بالقسمة. فتصير القسمة ملحقة بالملك. ويصير الحاصل من النصف المفرز نصف غير حقه، ¬
إجارة المشاع
ونصف بدل حقه. فيصير العقد الوارد على الشائع مطلقاً له الانتفاع بالمفرز بواسطة القسمة. وأمّا إجارة المشاع: فالشيوع عند أبي يوسف ومحمد: غير مانع جوازها. وطريق عمل الإجارة في الشائع عندهما ما هو طريق عمل البيع في الشائع بالاتفاق. وأمّا عند أبي حنيفة: فالشيوع فيها مانعٌ جوازها؛ لأنه لا يمكن طريق عمل البيع في الشائع بالاتفاق. وأمّا عند أبي حنيفة فالشيوع فيها مانع جوازها؛ لأنه لا يمكن سد طريق عمل البيع في الإجارة من تحقيق المبادلة؛ لأنّ ذلك إنما يكون بين ملك المتملك وبين ملك المالك. وهذا لا يمكن تحقيقه في الإجارة على ما ذكر في المسألة، ثم بعد هذا لأبي حنيفة وجهان: أحدهما: أن الحكم يدور مع الشائع. فعلى هذا: يمتنع جوازها في النصف الثاني من الوجه الأوّل. وهو ما إذا أجّر أحد الشريكين نصيبه من أجنبي. قال شمس الأئمة الحلواني والشيخ الإمام برهان الأئمة: ويمنع جواز الإجارة في الوجه الثاني وهو ما إذا أجّر من شريكه. وفي الشيوع الطارئ: يتخير: إن شاء يمنع وإن شاء يسلم. والوجه الثاني: أن الحكم يدور مع المانع. فعلى هذا الوجه يسلم جوازها في النصف الثاني من الوجه الأوّل وهو ما إذا أجّر أحد الشريكين نصيبه من
الإعارة في الشائع
الأجنبي كما حكى أبو طاهر الدباس. ويسلم جوازها في الوجه الثاني وهو ما إذا أجر من شريكه. وفي الشيوع الثاني: يتخير أيضاً. وأمّا الإعارة في الشائع: فعلى الوجه الأوّل. يفرق أبو حنيفة فيقول: الحكم يدور مع الشيوع في عقدٍ يتصور المانع. وفي الإعارة: لا يتصور المانع وهو العجز من التسليم مع توجه الخطاب بالتسليم. وعلى الوجه الثاني: يفرق أيضاً ويقول: لا مانع هنا. وفي الإجارة: أبو يوسف ومحمد فرّقا. والفرق: أنّ في الإجارة لا مانع. وهنا مانع. قلت: يعني في الهبة. وذلك أحد أمرين. أمّا لزوم ضمان القسمة، وإمّا يمكن النقصان في القبض. والمانع: هو الشيوع المتمكن وقت التسليم. والحكم فيها يدور مع الشيوع حتى لم يجز في الصنف الثاني من الوجه الأول وهو ما إذا كان الكل بين اثنين فوهب أحدهما نصيبه، ولم يجز أيضاً في الوجه الثاني، وهو ما إذا وهبَ من شريكه. فإن قيل: لو كان الحكم فيها يدور مع الشيوع وجب أن لا يختلف الجواب بين القسمين وهو ما يحتمل القسمة وما لا يحتمل كما في الإجارة. لم يختلف. قيل له: الحكم يدور مع الشيوع لكن في تحمّلٍ يتصور المانع وهو ضمان القيمة أو نقصان القبض بعد اشتراط الكمال، وكلاهما لا يتصور فيما لا يحتمل القسمة. فإن قيل: لو كان الحكم يدور مع الشيوع في محل القصور المانع وجب
أن يجوّز الإجارة في النصف الثاني من الوجه الأوَّل وهو ما إذا أجّر أحد الشريكين نصيبه من الأجنبي. وقد قلت: إنه لا يجوز على الأوّل وهو إرادة الحكم مع الشيوع. قيل له: نعم. وقد عجز الأجر عن تسليم هذا النصف إلى المستأجر متصورٍ بأسبابٍ، فإذا كان المحل يتصوّر فيه عجز آخر، عن التسليم. دار الحكم مع الشيوع في محلٍّ يتصور هذا المانع. وأبو حنيفة سوَّى بين الهبة والإجارة على الوجه الأوّل في الإجارة وهو إدارة الحكم مع الشيوع. وفرّق على الوجه الثاني. والفرق: أن الشيوعَ في الهبة سبب لذلك المعنى المانع؛ لأن تمليك الشائع سببٌ لثبوت الملك في الشائع. والملك في الشائع سبب المطالبة بالقسمة. فكان تمليك الشائع سبباً لذلك المعنى. والمعنى يدور مع السبب كما دارت الرخصة في السفر. فأمَّا الشيوع في الإجارة: فإنه ليس بسبب المعنى، لكن قد يتحقق ذلك المعنى المانع وقد لا، فلا يدور الحكم في الشيوع، ثم الطريق في الهبة عند أبي يوسف ومحمد: أن الشيوع المتمكن في العقد وقت التسليم مانعٌ. فإذا وهب الكل من رجلين وسلم إليهما، لم يتمكن الشيوع في العقد وقت القبض، فجاز عندهما. وكذا إذ فصّل بالتنصيف؛ لأن التفصيل بالتنصيف في العقد لم يصح؛ لأنه لو صحّ إنما صحّ لفائدةٍ. وفائدة العقد: الحكم. وحكم هذا العقد حال الإجمال والتفصيل بالتنصيف سواء، فلم يفد، فلم يصح، فلم يتمكن الشيوع في العقد وقت التسليم، فلم يجز.
الصدقة
وقال محمد: إن أفاد من حيث وصف التفصيل لم يفد من حيث أصل التفصيل، فيقع الشك في الجهة، فلا يصح، فلا يتمكن الشيوع في العقد. والطريق لأبي حنيفة. ما هو الطريق عندهما، لكنه قال حال الإجماع: يمكن الشيوع في العقد وقت التسليم بدلالة: أن الحكم في المجمل والمتصل بالتنصيف سواء، ولم يتمكن الشيوع في العقد حال الإجمال، لم يكن الحكم فيهما على السواء كما في الرهن. وأمّا الصّدقة: فالطريق فيها ما هو الطريق في الهبة، إلَّا أنه إذا تصدّق بالكل على اثنين جاز عند أبي حنيفة على رواية الجامع الصغير (¬1)، والهبة لم تجز. والفرق: أن في صدقة الشيوع، لم يتمكن وقت العقد؛ لأنّها إخراج المال إلى الله تعالى، لم يصر الفقر من الله. وأمّا الوقف: فالكلام فيه تبين على حرفٍ، وهو: أن التسليم إلى المتولي عند محمد شرطٌ فيتصور أحد المانعين وهو تمكن النقصان في القبض فيقام الشيوع مقامه. وأمّا الرهن: فالشيوع فيه مانعٌ جوازه عندنا. فبعد ذلك لنا طريقان: أحدهما: أن الحكم يدور مع الشيوع حتى لم يجز في النصف الثاني من الوجه الأوّل وهو ما إذا رهن من شريكه. ويستوي الجواب في القسمين وهو الشائع الذي يحتمل أوْ لا يحتمل القسمة. فإن قيل: هلاّ فرّقت بين القسمين بما فرقت به بينهما في الهبة. وإن كان ¬
الحكم في الهبة أيضاً دائر مع الشيوع. قلنا: في الهبة للقسم الثاني وهو الشائع الذي لا يحتمل القسمة ما هو المانع: لا يتصور قط هنا. يتصوّر كما نبين. والوجه الثاني: أن الحكم يدور مع المانع وهو تأقيت العقد، فلم يجز في النصف الثاني من الوجه الأوّل وهو: ما إذا رهن أحد الشريكين نصيبه من الأجنبي، ولم يجز في الوجه الثاني، وهو ما إذا رهن من شريكه؛ لأن ما هنا المانع هنا متحققٌ وهو تأقيت العقد. ويستوي الجواب في القسمين وهو الشائع الذي يحتمل القسمة، والذي لا يحتمل القسمة؛ لأنّ ما هو الماح يشمل القسمين، وهو تأقيت العقد على ما علم. والله سبحانه وتعالى أعلم.
(16) أحكام التزكية والشهادة
مَجْمُوعَةُ رَسَائِل العَلَّامَة قَاسِم بن قُطْلُوبُغَا [16] أَحْكَامُ التَّزْكِيَةِ وَالشَّهَادَةِ تَأْلِيفُ العَلَّامَة قَاسِم بْنِ قُطْلُوبُغَا الحَنَفِي المولود سَنَة 802 هـ والمتوفى سَنة 879 هـ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -
بداية الرسالة
(16) أَحْكَامُ التَّزْكِيَةِ وَالشَّهَادَةِ قال - رحمه الله تعالى -: سئلتُ عن رجل شهدَ عليه عند قاضٍ مالكي المذهب: ما يوجب الكفر والعياذ بالله. فأراد القاضي قبول المشهود، وعسر عليه تعديل الشهود، فأرسلها إلى قاضيى حنفي يشهدا عنده في شيءٍ فيقبلهما. ويخبر القاضي المالكي بذلك ففعل. ما الحكم في هذه الشهادة؟. فأجبت: أن القاضيين قد شاطا بدم الرجل، فصنع المالكي دليل تحامله. والحنفي أخطا محل الفتوى والعمل. فقد قال الإمامان أبو يوسف ومحمد: لا بأس أن يسأل الشهود في السر والعلانية. قال الإسبيجاني (¬1) وصاحب الينابيع والصّدر الشهيد في الفتاوى الكبرى ¬
صورة التزكية
والزّوزني في شرح المنظومة وقاضي خان والزاهدي والنسفي في الكافي وصاحب الهداية فيها وفي مختارات النوازل وبرهان الشريعة وصدر الشريعة وأبو الفضل الموصلي في الاختيار: الفتوى على قولهما في المسألة عن الشهود. طعن الخصم أو لم يطعن. ثم إنّ هذا القاضي لا يعلم مسائل التزكية وهي من المهمّات التي كتب فيها الإمام محمد بن الحسن، وتكلّم عليها الصّدر حسام الدين فقال: يحتاج إلى معرفة كتاب سورة المزكي، وصورة التزكية، فصورة المزكي هو الضعيف في نفسه، أمين من أمناء البلدة بإمرة القاضي يتعرف حال من لا تعرف عدالته من الشهود. وصورة التزكية: أنه إذا شهد الشهود بين يدي القاضي. فالقاضي يكتب أسماءهم وأنسابهم وأسماء آبائهم وأجدادهم وحليتهم ومحلاتهم ومصلاّهم. ويبعث ذلك مختوماً على يدٍ أمينةٍ إلى المزكي لينظر المزكي في حالهم، فإن وجدهم عدولاً كتب في آخر الكتاب أنّهم عدول عندي جائزي الشهادة، وإن وجدهم خلاف ذلك كتب: أنهم غير جائزي الشهادة. ثم التزكية نوعان: تزكية في السر. وتزكية في العلانية. فالتزكية في السّر: أن يسأل المزكي عن الشهود حال غيبتهم ويزكيهم بالكتاب إلى القاضي حال غيبتهم. والتزكية في العلانية: أن يقول من يعرف حال الشهود للمزكي حال حضرته. هذا عدل؛ لأن المزكي إنما عرف الشاهد بالاسم والنسب والحلية.
وهذا لا يقطع التزكية من كل وجهٍ، فيجب أن يزكيه في العلانية بالإشارة حتى تنقطع التزكية من كل وجهٍ. ثم المزكي بعد ذلك بين يدي القاضي يشير إلى الشهود فيقول: إنهم عدولٌ؛ لأنّ القاضي إنما عرف تزكية المزكي بالاسم والنسب والحلية. وهذا لا يقطع التزكية من كل وجهٍ. فيعرف القاضي: أن المزكي إنما عدل أولئك الذين شهدوا عنده من كل وجهٍ، لكن لعدم التزكية في السّر على التزكية في العلانية؛ لأنّه أحوط؛ لأن المزكي إذا سأل عن حال الشاهد في العلانية ربما يكون الشّاهد فاسقًا، فلا يجد من يعرفه إمّا سترًا عليه، وإمّا خوفًا منه. وكذلك: إذا سأل القاضي المزكي عن حال الشهود (¬1) في العلانية. وللقاضي الخيار: إن شاء جمع بينهما؛ لأنّه أحوط؛ لأنه يزول الالتباس وتنقطع التزكية عنه عند المزكي والقاضي جميعًا من كل وجهٍ. وإن شاء اكتفى بالتزكية سرًا. واليوم في ديارنا اختار القضاة الاكتفاء بالتزكية سرًّا لأحد الأمرين: إما لكيلا يعرف المزكي فلا يخدع لتغيير أحوال النَّاس ولكيلا يخاف المزكي من جرحٌ الشهود. قال محمد - رحمه الله - في الكتاب: والتزكية في العلانية هي التزكية الأولى وهو حسنة جميلة يريد به أن المشروع في الابتداء: التزكية العلانية، وإنما أحد توابعه ذلك التزكية سرًا. والدليل عليه: ما ذكر محمد في الكتاب قال: بلغنا أن شريحًا كان يقبل ¬
التزكية في العلانية، ثم أحدث تزكية السر. فقيل له: يا أبا [أمية] (¬1). أحدثت ما لم نكن نعرفه. فقال شريح: إنّ النَّاس أحدثوا فأحدثنا لهم. وفي الكتاب ثلاث مسائل: إحداها: أنه هل للقاضي أن يقضي بظاهر العدالة من غير سؤالٍ إذا كان هذا الشاهد مستور الحال، وقد قدّمت الشهادة على حق ثبت مع الشبهات. الثانية: أن العدد في المزكي والمترجم هل هو شرط. الثالثة: أن المدعى عليه متى أقام البينة على ما يبطل شهادة الشهود، فيما إذا تقبل، وفيما إذا لا تقبل. إذا عرفنا هذا جئنا إلى ما افتتح محمد - رحمه الله - الكتاب به. * [المسالة الأولى]: قال أبو حنيفة ومحمد: إذا تقدم بين يدي القاضي رجلان فادّعى أحدهما على صاحبه حقًا، وأنكر ذلك صاحبه، فأقام المدعي شاهدان على المدعى عليه وهما مستوران. فأراد القاضي أن يقضي بظاهر العدالة قبل أن يسأل عن حالهما. قال أبو حنيفة: له أن يقضي بذلك إذا لم يطعن الخصم فيهم. والمشهود به حق ثبت مع الشبهات. وقال أبو يوسف ومحمد: ليس له أن يقضي، وأجمعوا على أن المدعى به إذا كان حقًا لا يثبت مع الشبهات كالحدود والقصاص. ليس للقاضي ¬
أن يقضي. وأجمعوا على أنه إذا طعن الخصم في الشهود بأن جرحهم ليس له أن يقضي ما لم يسأل عنهم. واختلف المشايخ: منهم من قال: بأنّ هذا الاختلاف تفسير وزمانٌ، لا خلاف حجة وبرهان؛ وإن أبا حنيفة إنما قال ذلك في أوّل زمانه؛ وإن تعديل أهل زمانه إنما ثبت من جهة النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنه كان في القرن الثالث. وقد أفتى النبي - صلى الله عليه وسلم - على القرن الثالث بالخيرية. فإنه قال: "خَيْرُ الْقُرُونِ الَّذِي أَناَ فِيهِمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونهمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونهمْ، ثُمَّ يَفْشُو الْكَذِبُ" (¬1). الحديث. ومتى ثبت تعديل أهل زمانه من جهة النبي - صلى الله عليه وسلم - استغنى القاضي عن تعديل المزكي، وأبو يوسف ومحمد إنّما قالا ذلك في أهل زمانهما؛ وإن تعديل أهل زمانهما لم يثبت من جهة النبي - صلى الله عليه وسلم -، فاحتاج القاضي إلى تعديل المزكي. إِلاَّ أن هذا غير سديد. والاعتراض عليه: أن في زمن أبي حنيفة إنما كان للقاضي أن يقضي بظاهر العدالة ما لم يطعن الخصم فيهم، فإذا طعن لم يكن له أن يقضي، وإن لم يطعن الخصم فيهم فيما لا يثبت مع الشبهات وهو الحدود والقصاص. ولو كان المعنى هذا، فإذا عدّلهم النبي - صلى الله عليه وسلم - كان له أن يقضي، وإن طعن الخصم فيهم، وفيما ثبت مع الشبهات. ¬
ومنهم من قال: لا، بل هذا الخلاف اختلاف حجة وبرهان. وهو الصحيح. هما يقولان: إنّ العدالة ثابتة باستصحاب الحال. والثابت باستصحاب الحال يصلح حجّةً لإبقاء ما كان ثابتًا، ولا يصلح لإثبات ما لم يكن، وهو الأخذ بالشّفعة، والحق لم يكن ثابتًا كالملك الثابت بظاهر النّص يصلح للدفع إِيقاعًا ما كان ثابتًا، ولا يصلح لإثبات ما لم يكن. وهو الأخذ بالشفعة. والحق لم يكن ثابتًا على المشهور عليه قبل الشهادة. فلا يثبت بالعدالة الثابتة باستصحاب الحال. وأبو حنيفة احتجّ بما روى محمد في أدب القاضي، عن عمر بن الخطاب أنّه قال: الْمُسْلِمُونَ عُدُلٌ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، إِلاَّ مَجْلُودٌ حَدًّا، أَوْ مُجَرّباً عَلَيْهِ شَهَادَةً زُورًا، أَوْ ظِنِّينًا فِي وَلاَءٍ أَوْ قَرَابَةٍ (¬1). فهذا القول نقل عنه، ولم ينقل عن غيره خلاف ذلك. فحلّ محلّ الإجماع. والفقه فيه: أنّ العدالة ثابتة باستصحاب الحال. والثَّابت: باستصحابٍ يصلح حجّة لإثبات ما لم يكن ثابتًا حال عدم المنازعة كالملك الثابت بظاهرٍ إليه يصلح حجّة لاستحقاق الشفعة حال عدم منازعة المشتري. وهنا لم توجد ¬
المنازعة من الخصم؛ لأنّه لم يطعن، فصلح، فإن قيل: هذا إذا كان الخصم مختارًا في ترك المنازعة، وهنا هو مضطرٌّ؛ لأنّه إنما ترك الطعن. إمّا احتشامًا من الشهود لا خوفًا منهم. وإمّا تحرزًا عن هتك الستر عليهم، وإمّا جهلًا منهم أنّ الطّعن شرطٌ، وكان مضطرًا في ترك المنازعة بخلاف مسألة الشفيع. فإنّ المشتري غير مضطر في ترك المنازعة، فإنه متى أنكر المشتري ملك الشفيع، لا يخاف منه، ولا يهتك ستره، فكان مختارًا. والدليل عليه: الحدود والقصاص. قيلَ له: الخصم هنا مختارًا في ترك المنازعة؛ لأنّه يمكنه أن يطعن في الشهود وبين يدي القاضي سرًّا متى خاف منهم، وتحرزًا عن هتك الستر، والجهل لا يكون عذرًا؛ لأنه في دار الإسلام بخلاف الحدود والقصاص؛ فإنهّا تندرئ بالشبهات. والنّصّ والظّاهر: أنّ حال ترك المنازعة، لا يخلو عن وقوع شبهةٍ واحتمال. قلت: الإمام روى عن عمر بن الخطاب ما تقدم. وقد أفتى بخلاف ظاهر ما روي، فكانت العبرة لفتواه؛ لأنه أعلم بتأويله، إذ لا يترك إلَّا بعلمه بالحال لاَ لرأيهِ بخلافه. فقد روى الخصّاف، عن محمد بن أبي بكر الصديق قال: قالَ عمر: إِنَّك لاَ تَقْبَلُ إِلاَّ العَدْلَ (¬1). ¬
وروي عن حبيب بن أبي ثابت قال: سأل عمر رجلًا عن رجلٍ؟ فقال: لاَ نَعْلَمُ إِلاَّ خَيْرًا. فقال عمر: حسبكَ (¬1). وروي عن عمر بن الخطّاب أَنّه قَال: لاَ تَجُوزُ شهادة العبدِ (¬2). وروي عن عليٍّ: أَنَّهُ ردَّ شهادة الأعمى (¬3). ¬
وروي عن ابن عبّاسٍ: لاَ تَجُوزُ شَهَادَةُ الأَقْلَفِ (¬1). فلم يعمل السلف بعمومه فيما عدا المستثنى، فكان الحكم على الغالب حينئذٍ. والله أعلم. فالحق: أنه اختلاف عصرٍ كما صرّح به الإمام أبو بكر الرّازيّ (¬2) - وهذا ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
الْمصنف في غير هذه الكتب -، وقاضي خان في أوّل فتاويه، وغيره. والجواب كما ذكر: أنّ الاعتراض المذكور لازمٌ عليه، فيما استدل به لأبي حنيفة، فإنهّم كانوا عدولًا بذاك الأثر كان له أن يقضي وإن طعنَ الخصم فيما لا يثبت مع الشبهات، ويختار لهما اختلاف استصحاب الحال الذي ذكره، وهو كما علمنا من أحوال الناس ما علمنا بأن أكثر من التزم الإسلام لم يجتنب محارمه. فلم يبقَ مجرّد التزام الإسلام مظّنة العدالة. وكان الظّاهر الثّابت بالغالب بلا معارضٍ. والله أعلم. وعن هذا ذهب من ذكرنا: أنّ الفتوى على قولهما. قال هذا إذا سكت المدّعى عليه عن الطعن أو طعن، فأمّا إذاعة الشهود فقال: هم عدولٌ. فهذا على ثلاثة أنواعٍ: أمَّا إذا قال: هم عدولٌ صدقوا. أو قال: عدول: أخطأوا. ¬
أو قال: عدول وسكت. ففي النوع الأوّل: يقضي من غير سؤالٍ؛ لأنه أقرّ. فيقضي بإقراره. وفي النوع الثاني والثالث: المسألة على ثلاثة أوجهٍ: أمّا إنْ كان المدعى عليه عدلًا ممن يسأل عنه الشهود. أو كان مستورًا أو فاسقًا. ففي الوجه الأوّل: المسألة على قسمين: إِمّا أن يسكت عن جحود دعوى المدّعي وإقراره، أو جحد. ففي القسم الأول: قال أبو حنيفة وأبو يوسف: للقاضي أن يقضي بهذه الشهادة قبل السّؤال من المزكي سواء كان المدعى به حقًا يثبت مع الشبهات أو حقًا لا يثبت مع الشبهات. وقال محمّد: لا يقضي ما لم يسأل عن المزكي آخر، بناءً على أن العدد في المزكي عند أبي حنيفة وأبي يوسف ليس بشرط لإثبات العدالة. وعند محمّدٍ هو شرط. وفي القسم الثاني: فكذلك. كذا ذكر في هذا الكتاب. فإنه ذكر في هذا الكتاب الخلاف مطلقًا ولم يفصل بين القسمين. ونصّ في الجامع الصغير في باب القضاء: أنّه لا يقضي. فإنه قال في قول من رأى: أن يسأل عن الشهود يريد به أبا يوسف ومحمد: لا يقبل قول الخصم أنّه عدلٌ يريد به تعديله؛ لأنّ من زعم المدعي شهوده: أنّ المدعى عليه في الجحود كاذب، فكان في زعمه: أنّه فاسقٌ، فلا يصحّ تعديله. وفي الوجه الثالث والثاني: لا يقضي؛ وإن تعديل المستور والفاسق
لا يكفي. فإن قيل: وجب أن يكفي؛ لأنه إقرارٌ على نفسه، وإقرار المستور والفاسق على نفسه صحيحٌ. قيل له: هذا إقرارٌ على نفسه وعلى القاضي يوجب القضاء عليه. فإن صحّ إقراره على نفسه لا يصحّ إقراره على القاضي. فإن قيل: هلاّ جعل قول المدعى عليه: هم عدولٌ. إقرارٌ منه بالحقّ على نفسه. فيقضي بالإقرار كما لو قال: إنهّم عدولٌ. صدقوا كما في النوع الأول. قيل له: إقرار المدعي يكون الشاهد عدلاً لا يكون إقرارًا بوجوب الحق على نفسه لا محالة لجواز أن يكون عدلاً، إلاّ أنه أخطأ في شهادته بأن ظنّ. والأمر بخلاف ما ظن. ولهذا: لو شهد عليه واحدٌ بالحقّ فقال المشهود عليه: هو عدلٌ لا يقضى عليه، ولو كان التعديل إقرارًا. وجب أن يقضي كما لو قال لهذا الواحد قد صدق. وذكر في الكتاب في القسم الثاني والثالث وهو ما إذا كان مستورًا أو فاسقًا. إذا لم يثبت العدالة في النوع الثالث وهو ما إذا قال: هم عدولٌ وسكت. فسأله القاضي: صدقوا أم كذبوا، فإن قال: صدّقوا يقضي عليه بإقراره. وإن قال: كذبوا. لا يقضي. وإن قال: قد أخطأوا وهو النوع الثاني. فالقاضي: لا يقضي. * المسألة الثانية: العدد في المزكي، وفي المترجم عن الشّاهد الأعجمي، وعن الخصم الأعجمي عند أبي حنيفة وأبي يوسف ليس بشرط. والواحد يكفي.
العدالة
وعند محمّد: شرط. ويكفيه اثنان إن كان المشهود به حقًّا يثبت بشهادة رجلين عدلين. وإن كان غير حق لا يثبت إلاّ بشهادة أربعة. يشترط الأربعة، وأجمعوا على أنّ ما عدا العدد من سائر شروط الشهادة سوى التلفظ بلفظ الشهادة من العدالة والبلوغ عن عقل والحرية والبصر، وأن لا يكون محدودًا في قذف شرطٍ. وأجمعوا على أنّ لفظة الشهادة ليست بشرط محمد. يقول: بأن التزكية والترجمة شهادة، يعني: لأن القضاء لا يجب إلا بهما؛ لأنّ العلم للقاضي لا يحصل إلا بهما. فكانت شهادة - يعني: فيعتبر بالشهادة والأثبات - شرط في بعض الحقوق. والأربعة شط في البعض في الشهادة. فكذلك في التزكية والترجمة وأبو حنيفة وأبو يوسف يقولان: بأنّ التزكية والترجمة شهادة - يعني: من حيث أن القضاء لا يجب إلاّ بهما - كما لا يجب إلَّا بالشّهادة، ولكنّها خبرٌ من حيث الحقيقة. لهذا: لا يشترط لفظة الشهادة وهو قوله: اشهدوا. فعلمنا بهما من حيث أنهّما شرط شهادة معنى، فشرط فيهما جمع شرائط الشهادة ما عدا العدد. ومن حيث أنهما خبر حقيقة، لم يشترط فيهما العدد عملًا بهما جميعًا. وتحقيقه: إنّ اشتراط سائر الشّرائط ما عدا العدد من العقل والبلوغ والحرية في الشرائط موافقٌ للقياس. أما العدالة: فلأنها يترجّح بها الصّدق. ولهذا شرط العدالة في سائر الإخبارات. وأمّا البلوغ عن عقل والحرية، فإن الشهادة ولاية على الغير؛ ولأنّها
البصر
تتفرع من ولايته على نفسه. والولاية على نفسه لا تثبت إلاّ بالبلوغ عن عقل، والحرية. وأمّا البصر: فلأنّ القدرة على التمييز تثبت به. دلَّ أنّ اشتراط هذه الشرائط في الشهادة موافقٌ للقياس، فيشرط فيما هو في معناها قياسًا عليها. وأمّا العدد في الشهادة: فهو شرط مخالف للقياس. ولهذا لا يشترط في سائر الإخبارات فيقتصر عليها إذا ثبتت هذه المسألة. فيبتني عليها مسائل منها: إذا زكاهم واحد وجرحهم واحد. فعند أبي حنيفة وأبي يوسف: الجرح أولى؛ وإن عندهما الجرح والتعديل يثبت يقول الواحد، فكان الجواب عندهما كالجواب عندهم فيما إذا عدله اثنان وجرحه اثنان. وعند محمّد: الشهادة موقوفة على حالها لا ترد، ولا تجاب حتّى يجرحه آخر ويعدّله آخر؛ وإن عنده الجرح والتعديل سواء في أن لا يثبت يقول الواحد. فإن جرحه آخر ثبت الجرح فيرد، فإن لم يجرحه آخر وعدّله آخر ثبتت العدالة، فيجاب، فإن جرحه واحد وعدّله اثنان فالتعديل أولى بالإجماع. أمّا عند محمد، فلأن الجرح لم يثبت. وأمّا عند أبي حنيفة وأبي يوسف فلأن العدالة تثبت بما هو حجة في الأحكام كلها. فإن قول الاثنين حجّة في أمور الدين، وليس بحجة في حقوق العيان. فإن قيل: ترجح التعديل من هذا الوجه، وترجح الجرح من وجهٍ آخر؛ لأنّ الجارح فيما جرح يعتمد ما يمكن الوقوف عليه من حيث العيان. فإنّ أسباب الجرح: ارتكاب كبيرة هي محظور دينه. وهذا مما يمكن الوقوف عليه
من حيث العيان. والمعدّل فيما عدّل يعتمد ما لا يمكن الوقوف عليه إلا من حيث الظّاهر؛ وإن العدالة لا تثبت إلاّ بالأثر. جاز عن جميع المحظورات وهذا مما لا يوقف عليه إلَّا من حيث الظّاهر فاستوى الخبران من هذا الوجه. ولهذا: لو عدَّله اثنان وجرحه اثنان كان الجرح أولى. قيل له: الواجب من وجهين: أحدهما: أنه إذا وقعت المعارضة بين الخبرين يتساقطان بحكم المعارضة. فيبقى ما كان على ما كان. والأصل: هو العدالة؛ إلَّا أن هذا غير سديد لأنه حينئذٍ يكون قضاءً بغير العدالة، فيجب أن يختصن به أبو حنيفة ويختص الجواب بحقٍّ يثبت مع الشبهات. وليس كذلك الثاني وهو الصحيح: أن الجارح وإن اعتمد ما يمكن الوقوف عليه من حيث العيان؛ إلاّ أنه لم يجعل خبره حجّة في جميع الأحكام، وإن كان يعتمد ما لا يمكن الوقوف عليه من حيث العيان. عُلِمَ أنه لا يساوي بين هذين المعنيين حيث ترجح هذا في حقوق العباد مع وجود هذا المعنى. فترجّح هذا ضرورةً، وإن جرّحه اثنان وعدّله عشرة. فالجرح أولى؛ لأن الزيادة في العدد على اثنين مما لا يترجح بها ما كان شهادة حقيقةً. ومعنى فلانٌ لا يترجح بها، ما كان خبرًا أو شهادة معنى كان أولى وإن عدّله وهو محدود في القذف لا يصح؛ وإن عدم كونه محدود في القذف شرط وإن عدّله وهو أعمى لا يصح؛ لأن كونه غير أعمى شرطٌ. وإن كان بصيرًا، ثم أعمى، ثم عدل. فعلى الاختلاف الذي عرفَ في الشهادة. قال أبو حنيفة: إن شهد الشهود على رجلٍ بمالٍ أو دمٍ فسمع القاضي شهادتهم، فطعن فيهم الخصم. فإنّ القاضي لا يقضي بشهادتهم حتى يسأل
عن حالهم. فإن سأل عن حالهم وزكوا في السر والعلانية فأراد القاضي أن يقضي. فقال المشهود: أنا أجرحهم وأقيم البينة على ذلك. هل يقبل ذلك منهم؟ وتبطل شهادة شهود المدعي. فهذا على وجهين: أمّا إن أقام البينة على جرح مفردٍ لا يدخل تحت حكم الحاكم. نحو إن قال المدعى عليه: أنا أقيم البينة أنهم فسقة أو زناة أو على إقرارهم: أنّ المدعي استأجرهم على هذه الشهادة أو على إقرارهم أنهم قالوا: لا شهادة عندنا للمدعي على المدّعى عليه في هذه الحادثة أو على إقرارهم أنهم قالوا: إن المدعي مبطل في هذه الدعوى، أو على إقرارهم أنهم قالوا: إنهّم شهدوا بالزور. أو على إقرارهم أنهم قالوا: لم يحضروا المجلس الذي كان فيه هذا الأمر أو أقام البينة على جرحٍ يدخل تحت حكم الحاكم بأن قال المدعى عليه: أنا أقيم البينة على أن الشهود زنوا ووضعوا ذلك أو على أن الشهود شربوا الخمر أو على أن الشهود سرقوا مني كذا أو على أن الشهود شركاء في المشهود به. أو على أنّ الشهود صالحوه على كذا درهمًا على أن لا يشهدوا عليَّ. ودفعت لهم ذلك أو على أنهم عبيدٌ أو محدودون في قذفٍ أو على أن المدعي أقرّ أن الشهود شهدوا بالزور أو على أن المدعي أقر أنّه استأجره على هذه الشهادة أو على إقرارهم أنهم لم يحضروا المجلس الذي كان هذا الأمر فيه. ففي الوجه الأول: وهو الجرح المجرّد الذي لا يدخل تحت حكم الحاكم لا تقبل هذه البينة عند علمائنا. وقال ابن أبي ليلى وهو مذهب الشافعي: تقبل. وفي الوجه الثاني: تقبل بالاتفاق. وذكر الخصّاف: أن الشهادة على الجرح المفرد تقبل. وقد ذكرنا شيئًا
من ذلك في شرح الجامع الصغير. وتمام ذلك في شرح أدب القاضي المنسوب إلى الخصّاف، في باب: القاضي يَرِدُ عليه كتاب من قاض آخر. هما يقولان هذه البينة قامت على الجرح. والمدّعى عليه يحتاج إلى إثباته لتندفع عنه خصومة المدعي. فوجب أن يقبل قياسًا على الوجه الثاني. ولعلمائنا في المسألة ثلاث طرق، أشار إلى جميع ذلك محمد في الكتاب: الأول: أن يقول: إن هذه شهادة قامت لا على خصم؛ لأنه لم يدع على الشاهد شيئًا يقضي القاضي بذلك على الشاهد حتى يصير الشاهد خصمًا له. الدليل عليه: أن المدعي قبله إذا قال: لا بينة في على ما ادّعيت. وطلب منه القاضي أن يستحلف الشهود على ذلك. فإنّ القاضي لا يستحلفهم على ذلك؛ إلاّ أن هذه الطريق غير سديدة. فإن المدّعى عليه لو أقام البينة على أنهم محدودون في قذفٍ يقبل. وهذه شهادة قامت لا على الخصم؛ فإنه لا يدعي عليهم حقًّا. يقضي القاضي بذلك على الشهود حتى يصير الشاهد خصمًا. ألا ترى أنه إذا لم يكن له بينة على ما ادّعى، فأراد أن يستحلفَ الشهود لم يكن له ذلك. فكذلك لو أقام البينة على إقرار المدعي أنّهم فسقة. وما شاكل ذلك تقبل. وقد قامت لا على خصمٍ. فَعُلِمَ: أن هذا الطريق غير سديد. والثاني: أنه لو قبلت شهادة المدعي قبله على أن شهود المدعي فسقة أو زناة كان للمدعي أن يقيم بينته: أن شهود المدعى عليه شهود فسقة أو زناة أيضًا ثم. وثم. فيؤدي إلى التهاتر، إلاّ أن هذا الطريق غير سديد. فإنّ المدعي قبله لو أقام البينة على أنهم محدودون في قذفٍ. تقبل. وكذا لو أقام البينة
على أنهم محدودون في قذفٍ تقبل. كذا لو أقام البينة على أنهم زنوا أو وضعوا أو سرقوا مني. تقبل مع ما يؤدي إلى التهاتر. فَعُلِمَ: أن هذا الطريق غير سديدٍ. والثالث وهو السديد: وهو الذي اختاره القاضي الإمام صاعد (¬1) وهو: أن الشّاهد بالشهادة على الجرح المفرد صار فاسقًا؛ لأنه ارتكب كبيرةً ألحق بفاعله الوعيد في الدنيا والآخرة بنصّ القرآن المعظّم؛ لأنه أظهر الفاحشة من غير ضرورة. وإظهار الفاحشة من غير ضرورةٍ حرامٌ بنصّ القرآن. قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا} [النور: 19] الآية. فعلمَ: أن الشاهد صار فاسقًا. والمشهود به لا يثبت بشهادة الفاسق. فإن قيل في إظهار الفاحشة ضرورة رفع الخصومة عن المدعى عليه. وصار كما لو أقام البينة على جرحٍ يدخل تحت حكم الحاكم. قيل له: لا ضرورة منها؛ وإن الضرورة تندفع بأن يقول سرًّا للمدعي ¬
أو للقاضي، ولا يظهر ذلك في مجلس الحكم بخلاف أنّهم ما إذا شهدوا أنهم زنوا ووضعوا أو شربوا الخمر أو سرقوا مني؛ وإن في إظهار الفاحشة ثمّة ضرورة وهي إقامة الحدّ على الشهود بخلاف ما إذا شهدوا على أنهم شركاء في المشهود به؛ لأنّه ليس في ذلك إظهار الفاحشة من جهة الشاهد. وإنما حكى إظهار الفاحشة عن غيره. وهو شهود القذف إذ القاضي أو الحاكم لإظهار الفاحشة من غيره لا يكون مظهرًا للفاحشة. فلم يكن فاسقًا فيثبت المشهود به بخلاف ما إذا شهدوا على إقرار المدعي أنهم فسقة وما شاكل ذلك؛ لأنه ما شهد بإظهار الفاحشة وإنما حكى إظهار الفاحشة من غيره وهو المدعي فلم يصر فاسقًا فيثبت المشهود به. أمَّا إذا أقام البينة: أنّي صافحتهم على ذلك. فإنّ القاضي يسأل المدعى عليه. فإن قال: أعطيتهم المال قبلت البينة. وإن كان فيه إظهار الفاحشة؛ ولأن فيه ضرورة ليصل إلى المال. وإن قال: لم أعطهم لم يقبل؛ وإن فيه إظهار الفاحشة من غير ضرورة. فدل على أن هذه الطريق غير سديد. وقد جمع محمد بين الطرق الثلاث، وإن كان البعض سديدًا والبعض غير سديد ليتميز السديد من غير السديد بالتأمّل والتفكر. فلهذا جمع ذلك. والله سبحانه وتعالى أعلم. * * *
مسائل التزكية
مَسَائِلُ التَّزْكِيَة وهذه مسائل التزكية من المنتقى، أضيفت إلى هذا الكتاب لشبهها بتأليفه جمعًا بينهما. قال محمد: التزكية: جودٌ، وهنا معاداة وبلاء على الناس. ولا ينبغي للقاضي أن يعرف له صاحب مسألة ولا تعديل. وقال: ومن وقّت في التزكية فهو مخطئٌ وهذا على ما يقع في القلب؛ لأنَّه ربما يعرف الرجل الرّجل في شهرين وآخر لا يعرفه في سنة؛ لأنّه يُرائي ويتصنّع. قال رجلٌ عدلٌ عند القاضي: وأنا لا أعرفه إلاّ أنّه وصف في هل يسعني أن أزكيه. وقد عرفت أن القاضي زكّاه. قال: لا يسعه أن تعدّله أنت. قال محمّد: كم من رجل أقبل شهادته ولا أقبل تعديله؛ لأنه يحسن أن يؤدي ما سمع، ولا يحسن التعديل. قال: وينبغي للقاضي أن يحضر في مجلس قضائه أبدًا رجلان يسمعان إقرار من يقر ويشهدان على ذلك، فينفذ الحكم عليه بشهادة منه وممن حضره. وينبغي له [أن] يبحث في المسألة عن الشهود بمحضر من رجلين يحضران أيضًا تزكية من أرسله في المسألة عن الشاهد. قال: ولا يجوز للقاضي أن يقول: قد سألت عنها في السر والعلانية فزكيا
وعدّلا. هذا بمنزلة قوله: أقر عندي بكذا. قال: إذا سأل القاضي عن الشهود في السر فلم يعدّلوا، ثم أتاه الشهود له بعدلين يعدلان شهوده. قال: لا يقبل ذلك. والمسألة مسألة السر. وقال أبو يوسف: إذا عدل الشاهد في السر فقال المشهود عليه: أنا أجيءُ بالبينة في العلانية على أنه صاحب كذا. الشيء إذا كان كذلك لم يقبل شهادته. فإنيّ لا أقبل ذلك من المدعي قبل إذا عدل في السر. وكان أبو حنيفة يقول: ينبغي للقاضي أن يلي مسائل الشهود بنفسه، فإن قوي على أن يكتب القصص بنفسه فهو أفضل. ولو شهدوا على رجلٍ بمالٍ فلم يعدلوا به فسأل المشهود عليه الحاكم أن يرد شهادتهم، فإنه يتخوف أن يشهدوا بهذه الشهادة عليه عند قاضٍ آخر غيره فيجيزها عليه. فإنه ينبغي أن يرد حينئذٍ شهادتهم. فإن قال: اشهدوا أني قد رددت شهادتهم أو قد قضيت برد شهادتهم المتهمة في هذه الشهادة أو لأنهم غير عدول في شهادتهم أو سمع ذلك منه ولم يقبل شهدوا، ثم شهدوا بها بعد ذلك عند حاكمٍ. فيسأل المطلوب الحاكم الأوّل أن يكتب له إلى الحاكم ما كان منه في رد شهادتهم. فإنه يكتب له بذلك. وينبغي للثاني: أن يردّها وإن كان الأوّل سأل عنهم، فلم يعدلوا، فلم يرد شهادتهم حتى شهدوا عليه بها عند حاكمٍ آخر. فسأل عنهم فعدلوا. فإنّ الثاني يمضيها. وهذا كان الأوّل أعاد المسألة عنهم فعدلوا. وقال محمّد: أقبل شهادة الشاهدين على شهادة شاهدٍ قد عرفاه باسمه ونسبه، وإن لم يعدلاه وقالا: لا معرفةً لنا بصلاحه. واسأل عن الشهود على شهادته. فإن عدل أجزت ذلك، وإن شهدوا على شهادته وأنه
عدلٌ وليس بالمصر من يعرفه، فإن كان موضوعًا للمسألة دعوتهما في السر، فسألتهما عنه. أو بعثت إليهما فيسألا عنه في السّرِّ، فإنّ عدّلاه قبلت ولا أكتفي بما أخبرني به من عدالته في العلانية إذا شهد شاهدان على شهادة شاهدين بألا يعرفانهما بعدلٍ ولا جرحٍ. قال محمد: قد اتسقا في ذلك. وينبغي للقاضي أن يسأل عنهم جميعًا. وقال: رجلان شهدا على شهادة رجلٍ وقد عرف القاضي أنّهما عدلانِ فعدلا المشهود عليه. قال: سألهما أيضًا في السّرِّ ولو قال حين شهدا: إنه لا خير فيه. وزكّاه عشرةٌ لم تقبل شهادته، ولو جرّحه أحد الشّاهدين لم يلتفت القاضي إلى جرحٌ واحدٍ. قال: إذا قال المشهود عليه هذا الشاهد عبدٌ وزعم الشاهد أنّه حرّ الأصل سألت عنه في السر، فإن قالوا: هذا حرّ الأصل أجزت شهادته. وإن قالوا: أجري عليه الرّقّ لم أقبل شهادته حتى يقيم البينة على أنه حرٌّ. هذا في الشهادة. فأمّا إذا قتل رجلًا أو قطع يده أو قدَمه، وادّعى الفاعل أنه المفعول به، لم أقتله، ولم أقطعه، ولم أحدّه، حتى يقيم الطالب البينة أنّه حرٌّ. وكذلك لو قال الفاعل: إنّي عبد والمفعول به حرٌّ. قال محمد عن أبي حنيفة: إذا طعن الخصم في الشّاهدين. قال: هما مملوكان. فسألهما، وقالا: حرًّا الأصل، فإنّي أسأل عنهما في السّرِّ. وأكتفي بها، فإن جاءني على ذلك أجزت شهادتهما وهو قول محمّد. قال هشام: سألت محمدًا عن المشهود عليه: إن ادّعى أن الشّاهدين
عبدان. قال: أسأل الذي ادّعى شهادتهما، فإن قالا كَانَا مملوكين فَأعتقا. سألتهما البينة على ذلك. وروى ابن سَمَاعة (¬1)، عن أبي يوسف قال: لا أجيز شهادة من شتم أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ وإن هذا مجونٌ وسفهٌ. وأقبل شهادة الذي تبرأ منهم؛ لأن هذا منه تدينٌ. ¬
وقال: من أحبّ الشطرنج فكان يتشاغل بها عن الصّلاة أو يقامرُ بها، فإنّي لا أقبل شهادته وأن لا يشغل عن الصلاة ولا يقامر بها قبلت شهادته، ولا أقبل شهادة من يلعب بالحمام وبغيرها. وأقبل شهادة من اتخذها مقصصةً ولا يقامر بها. ومن سأل عنه فقالوا: نتهمه بشتم أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، فإنه لا يقبله حتى يقولوا سمعناه يشتم. وإن قالوا: نتهمه بالفسق والفجور، ونظن به ذلك، ولم يره. فإني أقبل ذلك ولا أجيز شهادته. وقال رجلٌ ادّعى داراً في يد رجلٍ وأقام عليه شاهدين بأنّها له. فقال المشهود عليه: أنا أقيم البينة على أن الشاهد كان يدّعيها ويزعم أنّها له. قال: هذا جرحٌ إن عدلت البينة عليه بذلك. وذكر هشام في نوادره قال: سمعت أبا يوسف يقول: لا أقبل تزكية العلانية حتى يزكّى في السّرِّ. وإذا عرفت هذا لم أسال عنهم أحدًا. وقال أبو يوسف: إذا سألوا عن الشهود فقالوا: لا نعلمه إلّا خيرًا فهو جائزٌ - يعني: أنّها تزكية -. وروى إبراهيم، عن محمد: أنّه إذا قال المزكي: لا أعلم منه إلا خيرًا. قال: تقبلُ منه إذا كان عالمًا، بصيرًا. وإن لم يكن فقيهًا يوقف ذلك. قال: وينبغي للقاضي أن يسأل المزكي عن الجرح إلا أن يكونا عالمين. فيكتفي بقولهما لا خير فيه. وقال أبو يوسف: أقبل شهادة الشّاعر ما لم يقذف في شعره المحصنات.
قال هشام: سألت محمّدًا عن رجلٍ له مقبل شرب قناةٍ أو نهر أجره شهرًا أو سنةً وقد أعلموه أن هذا مكروه فلا ينتهي. هل يزكّى أن يشهد بشهادةٍ ولا يعلمون عنه إلاّ خيرًا ما عدا بيع الماءِ. قال محمد: هذا مما يختلف فيه الناس، وفيه شبهة. فإذا فعل ذلك على وجه شبهة أجزنا شهادته. قال: وسألت عن رجلٍ ليس له أصلٌ، ولكنه استأجر ماءً شهرًا أو سنةً لزرعٍ له. فيفضل منه فضلة فيبيعها أو لا يكون له زرعٌ فيستأجر هذا الماء لينجر فيه للبيع. ماذا ترى في تزكيته للشهادة؟. قال: إذا كان لا بأس به في غير هذا لا تبطل شهادته. قال محمد: موسرٌ لم يحج، ولم يؤدّ زكاة ماله. إن كان صالحًا لم تجرح شهادته بهذا؛ لأنّ الحج ليس لهُ وقتٌ. والزّكاة إذا وجبت ليس لها وقت. قال: وما كان له وقتٌ فأخّره لم أقبل شهادته. قلت: وعلى قول أبي حنيفة وأبي يوسف: الفورية واجبة، فيأثم بالتأخير، ويفسق. وترد شهادته. هكذا في شرح الهداية. والله أعلم. قال هشام: سألته عن الرجل يشهد على شهادة أبيه، أو يُزكّي أباه. قال: جاز. وله أن يزكي أباه حيًّا وميتًا. قال: وسألته عن الغريب ينزل بين أظهر قومٍ لا يعرفونه ثم شهد بشهادة ما يقول فيمن قال: إذا نزل بين أظهرهم ستة أشهرٍ وهو غريب، فلم يروا منه إلاّ خيرًا. إنهّم يعدّلونه. فإنّ محمدًا لا يعرف وقت السّتة أشهر. قلت: أفقاله أحدٌ من أصحابك؟ قال: أظنّ أبا يوسف قال شيئًا من ذلك.
قلت له: فما تقول أنت؟ قال: على قدر ما يقع في قلوبهم - يعني: صلاحه - فإنه لا يكاد يخفى. وقال أبو يوسف: إذا عرف الرجل باسمه ونسبه، فإن لم يكن له بدينه علمٌ فلا تزكه في الشهادة، فإن علمت منه خيرًا في يومٍ أو شهرٍ فلا تزكه وأدنى ما تزكيه فيه ستة أشهرٍ فصاعدًا تعرفه بالصلاح. وكذلك إذا كان يغيب ويحضر. فإذا كان جميع ما رأيته ستّة أشهر عرفته فيها بالصّلاح زكّيته وشهدت على شهادته. وقال أبو يوسف: لا تزكية إلاّ بعد معرفة سنةٍ. قال هشام: قلت لمحمّد: فإذا شهدَ بشهادة فعدل فيها، ثم شهد بشهادةٍ فقال: إذا كان قريبًا اكتفوا بالتعديل الأوّل. قلت: قال في الصغرى: تكلموا فيه. والصحيح قولان: أحدهما: مفوّض إلى رأي القاضي. والثاني: لو تخلل ستّة أشهرٍ يحتاج أشهرًا وإِلَّا فلا. قال: نصراني شهد شهادة، ثم أسلم. قال: إن كان عدل قبل أن يسلم قبلت شهادته، وإن كان لم يعدل حتى أسلم سألت عنه. هل كان يعدل في النصرانية، فإن كان يعدل في النصرانية قبلت شهادته. قال: وسألته عن مشركين شهدا على مشركٍ فعدلا في شركهم، فلم يوجه القضاء حتى أسلم المشهود عليه، فلو أسلم الشاهدان مكانهما. قال: أسأل الشاهدين أن يعيدا الشهادة عليه. قلت له: أفتسأل عن تعديلهما؟.
قال: لا. لأنهما قد عدلا عن الشرك. قلت: فلم لا يؤخر أمرهما حتى ينظر كيف قولهما الإسلام ولفرائضه. قال: إذا عدلا في الشرك فهما عدلان. قلت: فمسألة الشرك من يسأل عنهما مسلمون أو مشركون. قال: بل مسلمون. قلت: فإن لم يعرفهم المسلمون. قال: يسأل هؤلاء المسلمون عن عدولٍ من المشركين، ثم أولئك (¬1) عن الشهود. قال: وسألته عن الشاهدين إذا رجعت مسألتهما أنهّما عدلان، ولكن أوهما فيما شهدا عليه. فقال: لا أقبل هذا حتى أبعث إلى الذين عدلا فأسألهما ما هذا الذي أوهما فيه. قلت: فترى لهما إذا عرف الشهود عدول، وأن الذي شهدا عليه وهم منهما: إن اتفقا فلا يجرحا ولا يعدلا؟. قال: لا. ولكن أحب إليَّ أن يخبرا أنّهما عدلان إلا أنهما أوهما في كذا. قال هشام: أرى أن يتفقا إذا كان هكذا. قال محمّد: إذا زكى الشهود عليه الشاهدين. قال: أسأله: أصدقا؟ فإن قال: أوهما، ولكنهما صالحان. قال: لا أقضي عليه؛ لأنه حيث قال أوهما فلم يزكهما. قال هشام: قلت لمحمد: غريب شهد ولا يعرف إذا سئل عنه في السرِّ؟. ¬
قال: أسأله عن معارفه في السر، فإذا عدلوا سألتهم عنه، فإن عدلوه قبلت ذلك. وقال محمّد في رجلٍ شهد عند قاضي مِصر فلم يعرفه أحدٌ. فقال المشهود له: إنّ شاهدي ما يعرف إلَّا في مصري. فاكتب إلى قاضي مصر كذا، فإنه يعرفه أو يعرف في مصره. قال: يكتب له. قال: إذا سأل الرجل عن تعديل الرجل، فإن كان هناك من يعدله سواه أوسعه أن لا يجيب فيه، وإن أجاب فيه كان أفضل، وإن لم يكن هناك من يجيب فيه، لم يسعه إلاّ أن يقول فيه الحق، وإلاّ فإنه هو الذي أبطل حقه. وسألته عن رجلٍ رأى منه وافية، وإنسان يشهد له بالزّور على دراهم. فقال: أجعل لك كذا درهمًا على أن تشهد لي بكذا. فاستزاده الشاهد حتى اتفقا وقد أقعد الذي سأله قومًا عدولًا، ثم شهد له الشاهد عند ذلك القاضي. وشهد شهود عدول على مراضاته هل يصنع به القاضي ما يصنع بشاهد الزور من العقوبة؟. قال: ولكنه يسأل عنه. فإن عدل أمضى شهادته ولا أقبل هذا؛ لأنه من التهاتر عند محمّد، لو شهد بشهادة عند قاضٍ فعدّل، ثم أتاه قوم علانية فقالوا: رأيناه أمس سكران أو جامع بالزنا أو شرب الخمر. قال: إن كان شيئًا يلزمه فيه حق من حدٍّ أو ماله يرده على صاحبه. أبطلت شهادته، وإن كان إنما يراد بهذا إبطال شهادته، لا يراد بذلك حقٌّ يلزمه. سألت عنه، فإذا عدّل قبلت شهادته، ولم ألتفت إلى شهادتهم. وإذا أقام المدّعى عليه البينة على إقرار المدّعي: أن شهوده شهدوا بزورٍ،
أو أنهم لم يحضروا المجلس الذي كان فيه هذا الأمر، أو بعض ما وضعت لك من الجرح الذي لا يقبل على الشهود، فإنه يقبل وتبطل شهادة شهود المدعي. ولو قال المدّعي قبله: أنا أقيم البينة على الشهود بالزنا أو شرب الخمر فأحضر شهوده. قبلت شهادتهم، وأمضيت الحد عليهم، وأبطلت الشهادة الأولى؛ لأنهم أوجبوا عليه حدًّا. وإنّما الذي لا يقبل أن يردوا إبطال الشهادة فقط. قلت: فقدم في الوجه الثاني، وفي هذا زيادة أن إبطال الشهادة بعد إمضاء الحد. قال محمد: كان أبو حنيفة يقبل تعديل المرأة والأعمى والعبد. وقال محمّد: لا يجوز تعديل الأعمى ولا المرأة ولا العبد. قال: سألت محمدًا، عن شاهدين عدلين شهدا عند رجلٍ: أنّ فلانًا هذا عدل، هل يسعه إذا سأل عنه في شهادته أن يعدله وهو لا يعرفه؟. قال: إذا كان الذين عدّلاه يُعرفا في التعديل، ويبقى أن يعدله ولا يجيز، وإن أُجيزَ فقال: يشهد عندي شاهدان بذلك. جاز أيضًا في قياس قول أبي حنيفة؛ لأنه يجيز تعديل الواحد. وفي قول محمد: هو معدّل واحدٍ حتى يجيء معه معدّل آخر. قلت له: فاسق أشهد رجلين على شهادته، ثم صلح. قال: لا يشهد الشاهدان بتلك الشهادة، إلاّ أن يشهدها ثانيًا بعدما صلح. ولو أشهدهما وهو عدلٌ، ثم فسد، لا يسعهما أن يمضيا عليه.
وقال: لا تقبل شهادة من يجلس مجالس الفجور والمجانة على الشّراب، وإن لم يسكر. وإذا سلم الرجل من الفواحش التي فيها الحدود وما يشبه ذلك من العظائم، ثم نظر في معارضته وفي طاعته، فإن كان يؤدي الفرائض وأخلاق البر فيه أكثر من المعاصي قبلنا شهادته؛ لأنه لا يسلم عبدٌ من ذنبٍ، وإذا ترك الصلاة في الجماعة والجمع استخفافًا بها أو مجانةً، فلا شهادة له. وإن كان تركه على تأويل الهوى، وكان عدلًا فيما سوى ذلك قبلت شهادته. رجل شهد وهو فاسق، ثم تاب وصلح قبل أن يمضي الحكم. لا ينبغي للقاضي أن يمضي تلك الشهادة. وقال: إذا كان مقيمًا على كبيرةٍ لا تقبل شهادته. قلت: فإن غنّى بغناءٍ فيه فحشٌ وهو في غير ذلك لا بأس به. قال: لا تبطل شهادته؛ لأنه إنما يحكي ذلك الغناء عن غيره. وذكر ابن سَمَاعة (¬1) في نوادره: عن أبي يوسف قال: أجيز في التزكية سرًّا تزكية العبد والمرأة والأعمى والمحدود إذا كانوا عدولًا، فزكوا لي رجلًا في السر. قبلت منهم. وأجزت قولهم. وليست هذه شهادة إنما كان هذا الدين. ولو كان عبدًا يزكي رجلًا في العلانية له، أقبل تزكيته. وكذلك الأعمى والمحدود لا أقبل في تزكية العلانية إلا ما كنت أقبله في الشهادة. فأمّا تزكية السر، فإنّ ذلك ليس بشهادة. ¬
قال أبو يوسف: لا أجيز شهادة الذي إذا سكر. . . (¬1). قال إبراهيم: سألت محمدًا عن الرجل يشهد عند القاضي، وهو على رأس خمسين فرسخًا، فيبعث القاضي أمينًا على جُعْلٍ يسأل المعدل عن الشاهدين، على من يكون الجعل. قال: على المدعي ألا ترى أنّ الصّحيفة التي يكتب فيها قضية عليه. وقال في رجلٍ أعمى: صوّامٌ قوّامٌ مغفل. يخشى عليه أن يلقن فيأخذ به. قال: هذا أشد من الفاسق في الشهادة. وسئل عن العدل في الشهادة؟ قال: الذي لم يظهر منه ريبةٌ. وقال: من شرب النّبيذ ولعب بالشطرنج وهو متأوّل: أقبل شهادته. وروى أبو سعيد، عن محمد في كتاب التزكية: أن أبا حنيفة قال في شهود القصاص والحدود، وفي شهود المال: إذا طعن المشهود عليه فيهم، لم يقبل القاضي شهادتهم حتى يعدلوا عنده سرًّا وعلانيةً. وكذلك قال أبو يوسف ومحمّد في جميع الشهود، وإن لم يطعن فيهم الخصم. قلت: قد تقدّم: أنّ الفتوى على قولهما كما صرّح به في غاية الكتب المصنفات. قال: فإن قال الشهود عليه: هو عدلٌ ممن يسأل عن الشهود، هم عدول. ولكنهم قد أوهموا في شهادتهم. ¬
قال محمد: هذا كأنه قد زكاهم واحدٌ، فمن قبل تزكية رجلٍ واحدٍ قضى بهذه الشهادة. وهو قول أبي يوسف. وأمّا في قول محمّد: فإنه ينبغي للقاضي أن يسأل رجلًا آخر أيضًا. وقد مرّت رواية محمّدٍ بخلاف هذا. قلت: ذاك أولى؛ لأنه مصرّحٌ فيه أنه قال: وهذا مخرج. قال: وإذا عدلَ المشهود عليه الشهود بعدما شهدوا عليه، ثم طعن فيهم، لم يقبل طعنه وقضى عليه. وإن كان عدلهم قبل أن يشهدوا عليه، فلما شهدوا عليه طعن فيهم، لم يقض عليه بتعديله إيّاهم قبل أن يشهدوا عليه. قال: وإذا زكّى الشهود واحد وردهم آخرُ، لم تجز شهادتهم في قول أبي حنيفة وأبي يوسف. والرّد أولى. وقال محمّد: الشهادة موقوفة على حالها حتى يعدل آخر، ويردّه آخر. قلت: قد تقدّمت هذه في كلام الصّدر الشهيد. وقولهما أولى على ما ذكر قاضي خان في أوّل فتاويه. قال محمّد: لا أقبل في تزكية القابلة إذا شهدت على الولادة أقلّ من تزكية رجلين أو رجلٍ وامرأتين في قول محمّد. ولا أقبل إِلاَّ تزكية من إذا شهد مع غيره على ذلك. قبلت شهادته، ولا تقبل تزكية الأعمى في قول أبي حنيفة. وتقبل عند أبي يوسف - رحمه الله -؛ لأنه يرى قبول شهادته فيما شهد عليه قبل أن يعمى. قال أبو حنيفة: لا يجوز تزكية المرأة في الحدود.
وقال محمّد: لا يجوز في تزكية الزّنا إلّا الأربعة كإشهاده. قلت: وقد مرّت. وقد آثرنا ذكر جميع ما قيل، وإن تكرر كما فعل الإمام جمال الدين الْحَصِيريّ (¬1). ولهذا: تبيّن صدق قولي في شأن القاضي الذي سئلت عن صنعه. والله سبحانه وتعالى أعلم. ¬
(17) القول القائم في بيان تأثير حكم الحاكم
مَجْمُوعَةُ رَسَائِل العَلَّامَة قَاسِم بن قُطْلُوبُغَا [17] القَوْلُ القَائِم في بَيَانِ تَأْثِيرِ حُكْمِ الحَاكِمِ تَأْلِيفُ العَلَّامَة قَاسِم بْنِ قُطْلُوبُغَا الحَنَفِي المولود سَنَة 802 هـ والمتوفى سَنة 879 هـ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -
بداية الرسالة
(17) القَوْلُ القَائِم في بَيَانِ تَأْثِيرِ حُكْمِ الحَاكِمِ قال - رحمه الله -: قد كان جرى بيني وبين علماء العصر المذاكرة ببعض المسائل الفقهية، وكان منها مسألة قضاء القاضي بشهادة في العقود والفسوخ، وكنت ذكرت له ما حضرني في ذلك، ثم بعد مدّة سألني مرّةً أن أكتب له ما كان شيء في ذلك المجلس على وجه التحقيق. فقلت مستعينًا بالله، إنه حسبي ونعم الوكيل: إذا قضى القاضي بشهادة الزور في العقود والفسوخ ينفُذ ظاهرًا وباطنًا عند أبي حنيفة، وهو قول أبي يوسف أوّلًا. وقال أبو يوسف في قوله الآخر: ينفذ ظاهرًا لا باطنًا. وهو قول محمد. وحكى الطحاوي (¬1) قول محمّدٍ مع أبي حنيفة، ومعنى نفوذه ظاهرًا: ¬
نفوذه فيما بيننا كثبوت التمكين والنفقة والقسم في النكاح ونحو ذلك. ومعنى نفوذه باطنًا: ثبوت الحل عند الله تعالى. وشرط ذلك: أن يكون الدعوى بسببٍ معيّنٍ كنكاحٍ أو بيعٍ أو طلاقٍ أو إعتاق. وفي الأملاك المرسلة ينفذ ظاهرًا فقط باتفاقهم. وكذا فيما لم يكن إنشاؤه كنكاح المنكوحة والمعتدة. فمن العقود: ما إذا ادّعى رجلٌ على امرأةٍ نكاحًا، وأنكرت، فأقام عليها شاهدي زورٍ، وقضى القاضي بالنكاح بينهما، حلّ للزوج وطؤها، وحل للمرأة التمكين على قول أبي حنيفة. وهو قول أبي يوسف الأوّل خلافًا لمحمّد وزفر. وهو قول أبي يوسف الآخر. وكذا إذا ادّعت المرأة على رجلٍ نكاحًا وأنكره. ومنها: ما إذا قضى القاضي بالبيع بشهادة الزور سواء كانت الدعوى من جهة المشتري مثل ما إذا قال: بِعني هذه الجارية، أو البائع مثل أن يقول: اشتريت مني هذه الجارية، فإنه يحل للمشتري وطؤها في الوجهين جميعًا. واختلف المشايخ: هل يشترط في النكاح أن يكون بحضرة من يصلح شاهدًا فيه أم لا. وفي البيع هل يكون بما لم يتغابن بمثله في الثمن أم لا. فوجه من شرط حضور الشهود: أنّ الشهادة شرط صحة العقد، فلا بد من ذلك ووجهه في البيع:. . . . . . . . . . . . . . . ¬
أن القاضي يصير مُنْشِئًا (¬1)، وإنما يصير مُنْشِئًا في ما لَهُ ولاية الإنشاء وليس له البيع بغبنٍ فاحشٍ؛ لأنه تبرّع. ووجه قوله: أن يشترط ذلك: أن الشهادة شرط لإنشاء النكاح قصدًا والإنشاء هنا اقتضاءٌ فلا يشترط، وإن البيع بغبنٍ فاحشٍ مبادلة. وهكذا يملكه العبد المأذون له، والمكاتب وإن لم يملكا التبرع، فكان كسائر المبدلات. ومن الفسوخ مثلًا: إذا ادّعى أحد المتعاقدين فسخ العقد في الجارية، وأقام شاهدي [زور] ففسخ القاضي. حلّ للبائع وطؤها. ومنها: ما إذا ادّعت على زوجها أنّه طلّقها ثلاثًا فأقامت شاهدي زورٍ وقضى القاضي بالفرقة، وتزوجت بزوجٍ آخرَ بعد انقضاء العدة حلّ للزوج الثاني وطؤها ظاهرًا وباطنًا. عُلِمَ أنّ الزوج الأول لم يطلقها بأن كان أحد الشاهدين علم أو لم يعلم بذلك. وقال أبو يوسف ومحمد: إن كان عالمًا بحقيقة الحال لا يحل له الوطءُ عندهما. لم تقع باطنًا، وإن لم يعلم بها حل له ذلك. وأمّا الزوج [الأول] فلا يحل له الوطء عند أبي يوسف [آخرًا] وإن كانت الفرقة لم تقع باطنًا؛ لأن قول أبي حنيفة أورث شبهةً؛ ولأنه لو فعل ذلك كان زانيا عند الناس فيحدّونه. وقال شيخ الإسلام: إنّ على قول أبي يوسف يحل وطؤها سرًّا. وعلى قول محمّد: لا يحل للأوّل وطؤها ما لم يدخل بها الثاني. فإن ¬
دخل بها لا يحلّ سواء علم الثاني بحقيقة الحال أو لم يعلم. هذه نبذة مما يظهر فيه الخلاف، وبقولهما قال مالك والشافعي وأحمد في أحد الروايتين. قال القاضي عياض في شرح مسلم: مذهبنا: أن حكم الحاكم لا يحل الحرام سواء الدماء والأموال والفروج. وعند أبي حنيفة: يحل في الفروج. واحتجّ أصحابنا عليه بعموم الحديث. يعني حديث أمّ سلمة: أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "إنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ، وَإِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ، وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ (¬1) بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ فَأَقْضِي لَهُ عَلَى نَحْوِ مَا أَسْمَعُ مِنْهُ، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بِشَيءٍ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ فَلاَ يَأْخُذْ مِنْهُ شَيْئًا، فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ". متّفقٌ عليه (¬2). ¬
وبهذا الحديث تمسّك الشافعي أيضًا. قال البيهقي في كتاب المعرفة (¬1): حدثنا أبو عبد الله وأبو بكر وزكريا وأبو سعيد قالوا: حدثنا أبو العباس (¬2) محمّد بن يعقوب، حدثنا الربيع بن سليمان، حدثنا الشافعي، حدثنا مالكٌ، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن زينب بنت أبي سلمة، عن أمّ سلمة: أنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قال: "إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ". الحديث. قال الشافعي في رواية أبي سعيدٍ (¬3): فَبِهَذَا نقُولُ، وفي هذا البيان الذي لا إشكال معه - بحمد الله ونعمته- على عالم، فنقول: وَلِيُّ السرائر الله تبارَكَ وتعالى، فالحلال والحرام ما يعلمه الله (¬4)، والحكم على ظاهر الأمر، وافقَ ذلك السرائرَ أو خالفها، فلو أن رجلًا أقام (¬5) بيّنةً على آخر، فشهدوا أنّ له عليه مئة دينارٍ، فقضى بها القاضي، لم يحلّ للمقضي له أن يَأْخُذَهَا إذا علمها باطلًا، ولا (¬6) يحلّ حكم القاضي (¬7) على المقضيّ له والمقضي عليه، ولا يجعل الحلال على كل واحدٍ منهما حرامًا، ولا الحرام ¬
لواحدٍ (¬1) منهما حلالًا. ثم ساق الكلام في الطلاق والبيع، وغير ذلك على هذا القياس. قال (¬2): وروينا عن ابن سيرين، عن شريحٍ: أنّه كان يقول للرّجل: إنّي لأقضي (¬3) لك، وإنّي لأظنّك ظالمًا، ولكن لا يسعني أن لا أقضي إلّا بما يحضرني من البيّنة (¬4)، وإنّ قضائي لا يحلّل حرامًا. انتهى. وقال الرافعي في شرح الوجيز: حكم القاضي على وجهين: أحدهما: ما ليس بإنشاء، وإنما هو تنفيذٌ لما قامت الحجّة عليه. وهذا ينفذ ظاهرًا لا باطنًا سواء كان بمالٍ أو نكاحٍ. الثاني: الإنشاءات كالتفريق بين المتلاعنين، وفسخ النكاح بالعنّة. وهذا فيه وجهان: أحدهما: المنع. وبه قال الأستاذ أبو إسحاق. ¬
الثاني: أنه ينفذ باطنًا. وجهٌ ثالثٌ: وهو التفريق بين من يعتقد حكمه من الخصمين. والأصحّ عند جماعةٍ: ينفذ في حق من يعتقد. وفي حقّ من لا يعتقد. واحتجّ بالحديث المتقدم. وبه احتجّ ابن قدامة في المغني لمذهب أحمد. ثم قال بعد ذكره: وهذا يدخل فيه ما إذا ادّعى أنه اشترى منه شيئًا، فحكم له؛ ولأنه حكم بشهادة زورٍ فلا يحلّ له ما كان محرّمًا عليه، كالمال المطلق. وللرافعي نحو هذا القياس أيضًا. وتمسك بهذا الحديث أيضًا أهل الظّاهر كما ذكره الحافظ علي بن حزم بعد روايته له من طريق عبد الرزاق. واستدلّ به الطحاوي لأبي يوسف، إذ كان عنده أن محمدًا مع أبي حنيفة. واستدلّ به لهما من جعله مع أبي يوسف. واستدل لهما أيضًا: بأن شهادة الزور حجّة ظاهرًا لا باطنًا، فصار كما إذا كان الشهود كفّارًا أو عبيدًا، فإنه ينفذ ظاهرًا لا باطنًا، وبأنّ القضاء إظهار ما هو ثابتٌ، لا إثبات ما لم يكن ثابتًا. فلا ينفذ باطنًا. واستدلّ لأبي حنيفة: بأنه لما كان إظهار ما ليس بثابتٍ حالاًّ. وقد كلّف الإظهار، فيجب إثباته اقتضاءً لئلا يكون تكليف ما ليس في الوسع، وأنّه ممكن. فالقاضي نائبٌ عن الله، ولله ولاية الإثبات، فصار كأنّ الشارع قال: أثبت الحكم بينهما، ويجوز ذلك وإن لم يوجد الرضا؛ لأنّ للمولى ولاية إجبارِ
العبد، وكلّنا عبيدهُ وإماؤه. وبهذا يخرج الجواب عن التعليل الأخير لهما. واستدلّ لهما أيضًا: بأنّ الشهودَ صَدَقَةٌ عند القاضى؛ لأنّ الغرض أن لا يطّلع على شيءٍ مما يجرحهم. ومثل هذه الشهود هو الحجّة المعتبرة في الشّرع لتعذّر الوقوف على الصّدق حقيقة؛ لأنّ ذلك أمرٌ باطنٌ لا يعلمه إلا الله. فلو اشترط للقضاء لما أمكن القضاء أصلًا. وإذا وجدت الحجّة الشّرعيّة، فعند الحاكم ظاهرًا وباطنًا بخلاف الكفر والرق؛ لأن الوقوف عليهما متعسرٌ بالأمارات. وهذان الطريقان للمتأخرين. واستدلّ في الأصل (¬1) فقال: بلغنا عن عليٍّ كرَّم الله وجهه: أَنَّ رَجُلًا أَقَامَ عِنْدَهُ بَيِّنَةً عَلَى امْرَأَةٍ أنَّهُ تَزَوَّجَهَا، فَأَنْكَرَتْ، فَقَضَى (¬2) لَهُ بِالْمَرْأَةِ. فَقَالَتْ: إِنَّهُ لَمْ يَتَزَوَّجْنِي، فَأَمَّا (¬3) إذَا قَضَيْت عَلَيَّ فَجَدِّدْ نِكَاحِي. فَقَالَ: لا أُجَدِّدُ نِكَاحَك، الشَّاهِدَانِ زَوَّجَاكِ. قال: وبهذا نأخذ، فلو لم ينعقد النِّكاح بينهما باطنًا بالقضاء لما امتنع من تجديد العقد عند طلبها، ورغبة الزَّوج فيها، وقد كان في ذلك تحصينها من الزِّنا، وصيانة مائه (¬4). ¬
واستدل الطحاوي (¬1) بما رواه، عن يونس، حدثنا سفيان، عن عمرو ابن دينار، عن سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عمر قال: فَرّق النبي - صلى الله عليه وسلم - بينَ أخوي بني عجلان وقال لهما: "حِسَابُكُمَا عَلَى اللهِ، [الله] يَعْلَمُ أَنَّ أَحَدَكُمَا كَاذِبٌ لاَ سَبِيلَ لَكَ عَلَيْهَا". الحديث. حدثنا يونس، حدثنا سفيان، عن الزهري، سمع سهل بن سعدٍ السّاعدي يقول: شهدتُ النبي - صلى الله عليه وسلم - فرّق بين المتلاعنين فقال: يا رسول الله! كذبت عليها إن أمسكتها. قال: "هِيَ طَالِقٌ ثَلاَثًا" (¬2). حدثنا يونس، حدثنا ابن وهب، حدثنا مالك (¬3)، عن ابن شهاب: أنّ سهلَ بن سعدٍ الساعدي أخبره: أنَّ عويمرًا العجلاني أتى عاصم بن عدي الأنصاري. فذكره (¬4). حدثنا أحمد بن أبي داود، حدثنا الوهبي، حدثنا الماجشون، عن الزهري، عن سهل بن سعد، عن عاصم بن عدي قال: جاء (¬5) عويمر. فذكر مثله (¬6). ¬
قال: فقد علما: أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - لو علم الكاذب منهما بعينه لم يفرّق بينهما، ولم يلاعن. ولو علم أنّ امرأةً صادقة يحدّ الزوج لها بقذفه إيّاها. ولو علم أنّ الزوج صادقٌ لحدّ المرأة للزنا الذي كان منها. فلما خفي الصادق منهما على الحاكم، وجب حكم آخر، بحرمة الفرج على الزوج في الباطن والظّاهر، ولم يرد ذلك إلى حكم الباطن. فكما ثبت هذا في المتلاعنين، ثبت أن الفِرَقَ كلها، والقضاء مما ليس فيه تمليك أموال أنه على حكم الظاهر، لا على حكم الباطن، وإن حكم القاضي يحدث في ذلك التحريم والتحليل في الظاهر والباطن جميعًا، وأنَّه على خلاف الأموال (¬1) التي يقضي بها الظّاهر وهي في الباطن على خلاف ذلك. فتكون الآثار الأول على القضاء بالأموال، والآثار الأخر على القضاء بغير الأموال (¬2) من إثبات العقود وحلها حتى يتبين (¬3) وجوه الآثار والأحكام والقضاء (¬4). وحكم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المتبايعين إذا اختلفا في الثمن والسلعة قائمة: أنهّما يتحالفان ويترادّان. فتعود الجارية للبائع، ويحلّ له فرجها، ويحرم على المشتري. ¬
ولو علم الكاذب منهما بعينه إذًا لقضى (¬1) بما يقول الصّادق، ولم يقض بفسخ البيع، ولا بوجوب حرمة فرج الجارية المبيعة على المشتري، فلما كان على ما وصفنا، كان كذلك كل قضاءٍ بتحريمٍ أو تحليلٍ، أو عقد نكاحٍ [أَوْ حِلِّهِ] على ما حكم القاضي فيه في الظاهر، لا على حكمه في الباطن. وهذا قول أبي حنيفة ومحمد بن الحسن (¬2). انتهى. وبجوابه المذكور هنا من حديث أم سلمة: أجاب جماعةٌ من المتأخرين، وأجاب في البدائع بجوابٍ آخر وهو: أنَّ حديث أم سلمة ورد في مواريث دَرَسَتْ. والميراث ومطلق الملك سواء في الدعوى. وبه نقول. قلت: قد روى ذلك الطحاوي (¬3)، عن الربيع المؤذن، عن أسدٍ، حدثنا ¬
وكيع، عن أسامة بن زيد (¬1)، سمع عبد الله بن رافع (¬2) مولى أم سلمة، [عَنْ أُمّ سَلَمَة] قالت: جاءَ رجلانِ من الأنصار يختصمان في مواريث بينهما قد دَرَسَتْ، ليست فيها بيّنة (¬3). فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّكمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ، وَإِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ، وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ، وإِنَّمَا أَقْضِي بَيْنَكُمْ عَلَى نحوِ مَا أَسْمَعُ مِنْكُمْ، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ بِشَيْءٍ فَلاَ يَأْخُذْهُ، فَإنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ يَأتِي بِهَا إسْطَامًا (¬4) في عُنُقِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ". قال: ¬
فبكى الرّجلان. فقال كلُّ واحدٍ منهما: حَقِّي لأخي. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَمَّا إِذَا فَعَلْتُمَا، فَاذْهَبَا، فَاقْتَسِمَا، وَتَوَخَّيَا الْحَقَّ" (¬1). انتهابًا ثُمّ يحلل كلّ واحدٍ منهما صاحبه. وفرّقوا بين العقود والفسوخ، وبين الأملاك المرسلة، عن إثبات سببٍ ثانٍ في الأسباب كثرةً، ولا يمكن القاضي تعيين شيءٍ منها بدون الحجة، فلا يكون مخاطبًا بالقضاء، بالملك، وإنّما هو مخاطبٌ بقصر يد المدّعى عليه عن المدعي. وذلك نافذٌ منه، ظاهرًا. فإمّا أن ينفذ باطنًا بمنزلة إنشاءٍ جديدٍ، فليس بقادرٍ عليه بلا سببٍ شرعي. وأجاب الحافظ موفق الدين ابن قدامة في كتابه المغني عمّا استدل به لأبي حنيفة فقال (¬2): أمّا الخبر عن عليٍّ إن صحَّ، فلا حجّة فيه؛ لأنّه أضاف ¬
التزويج إلى الشاهدين لا إلى حكمه، ولم يجبها إلى التزويج، فإن (¬1) فيه طعنًا على الشهود، وأمّا (¬2) اللعان: فإنّما حصلت الفرقة به، لا بصدق الزوج (¬3)، ولهذا لو قامت البيّنة [به] لم ينفسخ النكاح. انتهى. قلت: يُجاب عن جوابه: بأنّ إضافته التزويج إلى الشهود، فإنهم هم الذين الجؤوه إلى الحكم. وذلك لا يمنع ما قلنا. وأمّا اللعان: فمن رد الحلف إلى المختلف، وذلك: أن الفرقة عندنا إنّما تقع بحكم الحاكم لا باللعان. وعند أحمد على أشهر الروايتين: يقع بلعانهما قبل الحكم. وكذا عند مالكٍ. وعند الشافعي بعد فراغ لعان الزوج. قال الرّافعي: هذه الأحكام تترتّب بمجرّد لعان الزّوج، ولا يتوقّف على شيءٍ من ذلك على لعانهما، ولا على قضاء القاضي. وقال في المغني (¬4): فيه روايتان: ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
الأولى: يعتبر قضاء القاضي. والثانية: تقع الفرقة بفراغها من اللعان. واختار الثانية. قال: ووجّها ما روي عن ابن عبّاسٍ: أنه يقع قبل الحكم. وروي عن عمر أنّه قال: المتلاعنانِ يفرّق بينهما ولا يجتمعان أبدًا. رواه سعيد بن منصور (¬1). ولأنه معنى يقتضي التحريم المؤبّد، فلا يقف على حكم الحاكم كالرّضاع؛ ولأنّ الفرقة لو لم تحصل إلا بحكم الحاكم لساغ ترك التفريق إذا كرهاه. ويوجب أن الحاكم إذا لم يفرق أن يبقى النكاح مستمرًّا. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لَا سَبِيلَ لَكَ عَلَيْهَا" (¬2) يدلُّ على هذا، وتفريقه بينهما بمعنى ¬
إعلامه لهما بحصول الفرقة. انتهى. ووجه قولنا: ما روي عن ابن عمر: أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - لاَعَنَ بَيْنَ رَجُلٍ وَامْرَأَتِهِ، وَانتُفَى مِنْ وَلَدِهَا، فَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا (¬1). وعن سهل بن سعدٍ السّاعدي: وَألحقَ الولدَ بأمّهِ. رواه البخاري (¬2) وهذا لفظه. وعند مسلمٍ (¬3): أنّ رجلًا لاعنَ امرأته على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ففرّق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بينهما، وألحق الولد بأمّه. وفي لفظٍ متَّفقٍ عليهِ في خبر (¬4) المُتَلاَعِنَيْنِ: ثُمَّ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا. وعن سهل بن سعد السّاعدي: أنّ عويمرًا العجلاني أتَى رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رَسُولَ اللهِ! أَرَأَيْتَ رَجُلًا وَجَدَ عِنْدَ امْرَأَتِهِ رَجُلًا أَيَقْتُلَهُ فَيُقْتَلُ بِهِ، أَمْ كَيْفَ يَفْعَلُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "فَقَدْ نزَلَ فِيكَ وَفِي صَاحِبَتِكَ، فَاذْهَبْ فَأْتِ ¬
بِهَا". قال سهل: فَتَلاَعَنَا وَأَنَا مَعَ النّاسِ عندَ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -. فلمَّا فرغَا قَالَ عُوَيْمرٌ: كَذَبْتُ عَلَيْهَا يَا رَسُولَ اللهِ إِنْ أَنَا أُمْسِكُهَا. فَطَلَّقَهَا ثَلاَثًا قَبْلَ أَنْ يَأْمُرَهُ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -. قال ابن شهاب: وكانت سنّة المتلاعنين. رواه الجماعة (¬1)، إلا الترمذي. وفي روايةٍ متَّفقٍ عليها (¬2): فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "فَذَلِكُمُ التَّفْرِيقُ بَيْنَ كُلِّ مُتَلاعِنَيْن". وفي لفظ لأحمد (¬3) ومسلم (¬4): فَكَانَ فِرَاقُهُ إيَّاهَا سُنَّة فِي المُتَلاعِنينِ. ورواه أبو داود (¬5) بلفظ: فَطَلَّقَهَا ثَلاثَ تَطْلِيقَاتٍ [عِنْدَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -]، فَأَنْفَذَهُ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، وَكَانَ مَا صُنِعَ عِنْدَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - سُنَّةٌ. قَالَ سَهْلٌ: حَضَرْتُ هَذَا عِنْدَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فَمَضَتْ السُّنَّةُ بَعْدُ فِي الْمُتَلاعِنَيْنِ أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَهُمَا، ثُمَّ لا يَجْتَمِعَانِ أَبَدًا. فدلّت هذه الأحاديث الصّحاح: على عدم وقوع الفرقة بتمام تلاعنهما حتى يفرق بينهما. وكذا النفاذ طلاقه الثلاث وتقديره على إيقاعه؛ ولأنّها فرقة ¬
يختص بسببها بحضرة الحاكم، فوجب أن لا يقع بغير تفريق، أصله فرقة العنة، إلّا أنها تفارق فرقة العنة في أنّها هنا من حقوق الله، وسببها من حقوق الآدمي وفرقة الآدَمِي. والجواب: عمّا استدلّ به الحافظ: أنّ الرواية عن ابن عباس بغير سندٍ. وقد روى الدارقطني عنه خلافه بسندٍ صحيحٍ. وإنّ الرواية عن عمر حجّة لنا، فإنهّا صريحة في عدم الاجتماع بعد التفريق، وإنّ ما نحن فيه يفارق الرضاع في أنّ سببه لا يختص ثبوته بحضرة الحاكم. وأنّ التفريق مع الإصرار حقّ الشرع، فلهذا لا يسوغ تركه إلا إذا كرهاه، وإنّ الاستمرار ممكن إذا كذب فعله، وإنّ حقيقة إحداث فرقٍ إحداث الفرقة لا إظهارها. والأصل في الإطلاق الحقيقة، ولو كان المراد الإظهار لما صحّ قول الرّاوي الشاهد للقصّة فأنفذه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. هذا ما تيّسر لي في هذه المسألة. وقال السهيلي في الروض الأنف (¬1): وعندي: أنّ أبا حنيفة إنما بنى هذه المسألة على مذهبه في طلاق المكره، فإنّ عنده لازمٌ، فإذا أكُره الرّجل على الطّلاق وقلنا يلزم الطّلاق له، فقد حرّمت المرأة عليه، وإذا حرّمت عليه جاز أن ينكحها من (¬2) شاء، فالإثم إنّما يتعلّق في هذه (¬3) بالشهادة دون النكاح، وقد خالفه فقهاءُ الحجاز في طلاق المكره، وقولهم يعضّده الأثر، ¬
وقول أبي حنيفة يعضّده النّظر. انتهى. قلت: بل الأثر يعضد قوله. فقد روى محمد بن الحسن في الأصل، عن إسماعيل بن عيَّاش (¬1)، عن الغاز بن جبلة (¬2)، عن صفوان بن عِمْران (¬3): أنّ رجلًا كانَ نائمًا، فقامت امرأته، فأخذت سكينًا، فجلست على صدره، فقالت: طلقني ثلاثًا أو لأذبحنّك، فناشدها الله، فأبت. فطلّقها ثلاثًا، ثم أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فذكر له ذلك، فقال: "لاَ قَيْلُولَةَ فِي الطَّلاَقِ". رواه العقيلي من هذا الوجه (¬4). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
ومن طريقٍ آخرَ عن صفوان، عن رجل من الصّحابة: أَن رجلًا. . . الحديث. قال البخاري: غازي حديثه منكرٌ (¬1) في الطلاق (¬2). وهذا جرحٌ مبهم. وقد جاء من طريقٍ آخر كما أخرجه العقيلي (¬3)، وأخرجه محمّد أيضًا، عن فرج (¬4) بن فضالة، عن عمرو بن شرحبيل: أنّ امرأةً كانت مُبْغِضَةً لزوجها، فراودته على الطّلاق، فأبى، فلما رأته نائمًا قامت إلى سيفه ووضعته على ¬
بطنه، ثم حرّكته برجلها، فاستيقظ. فقالت: لأقتلنّك أو تطلقني، فطلّقها، وأتى عمر فأمضى طلاقه. وروى عبد الرزاق (¬1)، عن ابن عمرَ: أنّه أجازَ طلاَقَ المُكره. وروى عن الشعبي (¬2) والنخعي (¬3) وأبي قلابة (¬4) والزهري وقتادة (¬5): أنهم أجازوه. وأخرجه ابن أبي شيبة عن الثلاثة الأولين، وابن المسيب (¬6). وأخرجه (¬7) عن عمر بن الخطاب: أربعٌ جائزاتٌ عَلَى كُلِّ حالٍ: الْعِتْقُ، والطَّلاَقُ، والنِّكَاحُ، والنُّذُورُ. ورواه محمَّد في الأصل بلفظ: أربعٌ. . .، وأجاز على من تكلّم بهنَّ. ورواه عنه، من وجهٍ آخر بلفظ: أَرْبَعٌ مُبْهَمَاتٌ مُقْفَلاتٌ (¬8) لَيْسَ ¬
فِيهِنَّ ردّ يدي:. . . (¬1). وما رواه أبو داود (¬2)، من حديث عائشة: أنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "لاَ طَلاَقَ ¬
وَلاَ عِتَاقَ فِي إِغْلاَقٍ (¬1) ". واختلف في معناه اختلافًا لا يقوم معه حجّة فيما نحن فيه. وما رواه ابن ماجه (¬2)، عن ابن عبّاسٍ: أنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "إِنَّ اللهَ وَضَعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ". قال ابن أبي حاتم (¬3): قال أبي (¬4): هذه الأحاديث منكرةٌ، كأنَّها موضوعةٌ، ولا يصحُّ هذا الحديث، ولا يثبت إسناده. وكذا ما رواه ابن عدي (¬5)، من حديث أبي بكرة، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ¬
"رَفَعَ اللهُ عَنْ هَذِهِ الأُمَّةِ ثَلاَثًا: الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ وَمَا اسْتكْرِهُوا عَلَيْهِ". في سنده: جعفر بن جسر (¬1) بن فرقد، عن أبيه. وفي أبيه مقالٌ. والمرفوع الحكم الأخروي، ألا ترى: أن الحكم الدنيوي لم يرفع في قبل الخطأ، وجعل ذلك فيما يكون بالنسيان تخصيصٌ بلا مخصص، فتمّ أمر هذا الحكم من جميع الوجوه، إلّا أنّ لي فيه إشكالًا لم أسبق إليه، وهو: أنّهم قد اعترفوا بوقوع حرمة الاستمتاع بمجرّد اللعان قبل تفريق حكم الحاكم. قال في الهداية: فإذا التعَنَا لا تقع الفرقة حتّى يفرق الحاكم بينهما. وقال زفر: يقع بتلاعنهما؛ لأنه يثبت الحرمة المؤبدة بالحديث. ولنا: أن ثبوت الحرمة يفوّت الإمساك بالمعروف، فلزمه التسريح بالإحسان، فإذا امتنع، ناب القاضي منابه دفعًا للظلم عنها. والحديث المشار إليه، هو قوله - صلى الله عليه وسلم -: "المُتَلاَعِنَانِ لاَ يَجْتَمِعَانِ أَبَدًا" (¬2). قال في النهاية (¬3) والغاية: قوله: فإذا التعنا لا تقع الفرقة حتى يفرّق الحاكم بينهما. ¬
يفيد: أنّه لو مات أحدهما بعد الفراغ من التلاعن قبل تفريق الحاكم توارثا. وقال زفر: تقع الفرقة بتلاعنهما؛ لأنه يثبت الحرمة المؤبدة بالحديث، يعني: قوله - صلى الله عليه وسلم -: "الْمُتَلاَعِنَانِ لاَ يَجْتَمِعَانِ أَبَدًا". ففي الاجتماع بعد التلاعن، قبل تفريق الحاكم متوارثان، وهو تنصيصٌ على وقوع الفرقة بينهما بالتلاعن. ولنا قوله تعالى: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229]. ووجه الاستدلال: أنّ ثبوت الحرمة تفوّت الإمساك بالمعروف، فيلزمه التسريح بالإحسان. فإذا امتنع ناب القاضي منابه، منعًا للظّلم. وقال في الغاية: قال في الذخيرة: وحكمه حرمة الاستمتاع إذا فرغا من اللعان من غير حكم القاضي حتّى أن بعد التلاعن لا يحل لأحدهما الاستمة ع بالآخر. والحرمة بقوله - عليه السلام -: "المُتَلاَعِنَانِ لاَ يَجْتَمِعَانِ أَبَدًا". وفي إباحة الاستمتاع اجتماعهما فيحرم. وقال في الاختيار: ولأنّ حرمة الاستمتاع تثبت باللعان. إنّ الغضب واللعن ترك بأحدهما بيقينٍ، وأثره بطلاق النعمة، وحلّ الاستمتاع نعمة، والزوجية نعمة، وحل الاستمتاع أقلهما، فيحرم. وهذه الحرمة جَاءت من قبله؛ لأنّها بسبب قذفه فقد فَوّت عليها الإمساك بالمعروف، فيجب عليه التسريح بالإحسان، فإذا لم يسرّحها وهو قادرٌ عليه، كان ظالمًا فينوب القاضي منابه دفعًا للظّلم. وقال في الكافي: وعند زفرٍ: تقع الفرقة بينهما، بلعانهما لقوله - عليه السلام -:
"الْمُتَلاَعِناَنِ لاَ يَجْتَمِعَانِ أَبَدًا". فنفي الاجتماع بعد التلاعن تنصيصٌ على وقوع الفرقة بينهما. ولنا: أنّه لما ثبت حرمة الاستمتاع بينهما فات الإمساك بالمعروف. ومن لا يمسك امرأته بالمعروف لا تقع الفرقة بنفس الامتناع عن الإمساك بالمعروف بل يجب عليه أن يسرّح، فإذا لم يسرّح ناب القاضي منابه في التسريح؛ لأنه نُصِبَ لدفع الظلم. وقال في شرح المنظومة: وقوله - عليه السلام -: "الْمُتَلاَعِنَانِ لاَ يَجْتَمِعَانِ أَبَدًا". محمولٌ على بيان حرمة الاستمتاع دون وقوع الفرقة عملًا بالحديث كأحد الزوجين المجوسيين إذا أسلم ثبتت حرمة الاستمتاع في الحال، ولا تقع الفرقة ما لم يطلقها أو يفرق القاضي بينهما. وحين اعترفوا بثبوت الحرمة قبل التفريق بطل تمسكهم بالحديث في أنّ القضاء يثبت الحرمة، وإذا بطل تمسكهم بهذا الحديث، يقال: ما ذكره في مقابلة الحديث الصحيح، إذ الموقوف لا يعارض المرفوع، وتجديد النكاح احتياطي لا لزومي، فجاز أن يولهم الإمام ما تولوا، ولو نفذ الحكم ظاهرًا وباطنًا، أو ثبت عقد مفيد للحل اقتضاءً، صارَ كأنّ الشارع أثبته، لم يكن قطعة من النّار. وقولكم: إنهّ خاص بالأحكام المرسلة. قلنا: كان ذلك للجمع والتوفيق بينه وبين أحاديث اللعان. أمّا إذا بطل تمسككم بأحاديث اللعان بقي عموم الأحاديث في جميع الحقوق على ما كان عليه. وقولكم: إنه ورد في الميراث إلخ. قلنا: العبرة لعموم اللفظ وإطلاقه لا لخصوص السبب وحله بالخروج
عن التقليد والنظر في الأدلة على وجه التحقيق، وذلك: جعل القول بالحرمة المذكورة مذهب محمد بن الحسن. فإنه ذكر في النسفي عنه، فأحلّه. قال ذلك على أصله من أنّ القضاء لا يحلّ ولا يحرم. وإن كانت الفرقة تتوقف عليه كما تقدم. وإنّ أبا حنيفة لا يقوله. ومن تأمّل قول أبي حنيفة في باب الرجوع عن الشهادة من كتاب الأصل، علمَ أنّه إنما يضيف الحل والحرمة للقضاء. وهو صريح عبارة الطحاوي، وقد نسب ذلك إلى أبي حنيفة - رحمه الله - ففي الكلام على ادعاء أن دليل الحرمة. الحديث المذكور. فنقول: لا سبيل إلى الثلاثة إلى القول بنفي الاجتماع الحكمي مطلقًا بعد التلاعن. قيل: الحكم لقولهم ببقاء الزوجية حتى اتفقوا محلى جواز ظهاره (¬1). . . (¬2) وطلاقه وجريان التوارث بعد اللعان قبل الحكم للأحاديث الدّالة على بقاء الزوجية. والحلّ حكم من أحكام الزوجية مطلقًا، فينفى بنفيها حتى يقوم دليل على بقائها بدونه. وما ذكروا من الحديث مقتضاه نفي الاجتماع مطلقًا، ولم يعملوا به. فإن قيل في إثبات الحرمة المذكورة، عمل به من وجه. قلنا في حمله على ¬
بيان حكم البقاء عمل به من كل وجهٍ. كيف وقد روي كذلك. فأخرجه الدّارقطني (¬1)، عن [ابن] عمر بن الخطاب قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الْمُتَلَاعِنَانِ إِذَا تَفَرَّقَا لَا يَجْتَمِعَانِ أَبَدًا". وإسنادهُ لا بأس به. والعائب باللعان: أسباب المودة وحسن العشرة. وحينئذٍ يفوت الإمساك بالمعروف. فينوب القاضي منابه في التسريح بالإحسان، وإن لم تثبت حرمته قبل ذلك. هذا ما سنح في هذا المقام. والله ولي التوفيق. والحمد لله وحده. ¬
(18) [رسالة في] ما ينقض من القضاء
مَجْمُوعَةُ رَسَائِل العَلَّامَة قَاسِم بن قُطْلُوبُغَا [18] [رِسَالَةٌ في] مَا يُنقَضُ مِنَ القَضَاءِ تَأْلِيفُ العَلَّامَة قَاسِم بْنِ قُطْلُوبُغَا الحَنَفِي المولود سَنَة 802 هـ والمتوفى سَنة 879 هـ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -
بداية الرسالة
(18) [رِسَالَةٌ في] مَا يُنقَضُ مِنَ القَضَاءِ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمّدٍ، وآله وصحبه أجمعين، وبعد: فإن الفقير إلى رحمة ربه الغني قاسم الحنفي يقول: قد أدّى نظر شيخنا العلامة كمال الدين فيما كتبته على الهداية إلى أنه لا ينقض حكم الحاكم لاقتضائه على ما اقتصر عليه البعض الكلام من المسائل ببسط الكلام يظهر المرام. فأقول: قال في البدائع (¬1) في شروط القضاء: منها: أن يكون بحقٍّ، وهو الثَّابت عند الله من حكم الحادثة: إمَّا قطعًا، بأن قام عليه دليلٌ (¬2) قطعيٌّ، وهو النَّصّ المفسَّر من الكتاب [الكريم]، أو الخبر المتواتر أو المشهور أو الإجماعُ (¬3). وإمَّا ظاهرًا، بأن قام عليه دليلٌ ظاهرٌ، يوجبُ علم غالب الرَّأي، وأكثر الظَّنِّ،. . . . . . . . . . . . . ¬
من (¬1) ظواهر الكتاب [الكريم] والخبر المتواتر والمشهور، وبخبر الواحد، والقياس الشَّرعيِّ، وذلك في المسائل الاجتهاديَّة الَّتي اختلف فيها الفقهاء -[رحمهم الله]- (¬2) أو الَّتي لا رواية في جوابها عن السَّلف، بأن لم تكن واقعة. انتهى. ولمّا كان هذا شأن عامّة الأحكام، وخلافه نادرٌ، أطلق الإمام أبو حنيفة القول بالإمضاء بناء على الأعمّ الأغلب. فقال في رواية الجامع الصغير (¬3): محمد، عن يعقوب، عن أبي حنيفة قال: ما اختلف فيه الفقهاء يقضي بها قاضٍ، ثم جاء قاضٍ آخر أمضاه. ويدل على أنّه أراد ما هو الحق في نظره، لا كل ما يقضي به القاضي. قوله: في جميع كلام الإمام: وإذا رفع قضاء قاضي بعد موته أو عزله إلى قاضٍ آخر يرى خلاف رأيه، فإن كان يختلف فيه الفقهاء أمضاه، وإن كان خطأً لا يختلف فيه الفقهاء أبطله. ثم جاء من جمع بين الأصل وما فيه الاستثناء وهو صاحب الهداية. فقال: وإذا رفع إلى القاضي حكم حاكمٍ أمضاه إلا أن يخالف الكتاب أو السنة أو الإجماع بأن يكون قولًا لا دليلًا عليه. وفي الجامع الصغير (¬4): وما اختلف فيه الفقهاء فقضى به القاضي، ثم جاء قاضٍ آخر يرى غير ذلك أمضاه. انتهى. ¬
قلت: لم يقع في رواية الجامع الصغير: يرى غير ذلك (¬1). وإنّما وقع هذا في روايتي لمختصر الحاكم بلفظ: يرى خلافه. ووقع في بعض نسخ القدوري: أو يكون قولًا لا دليل عليه. وقال في شرحه المسمّى بالجواهر: فإن قيل: لا فائدة فيه؛ لأنه يفهم من قوله: أو الإجماع. وأجاب بأنّ قوله: لا دليل عليه أعمّ. لأنه يمكن أن يكون القول ليس فيه نصٌّ. ويحكى عليه الإجماع، لكنه يدلّ عليه القياس الصحيح. ويكون هذا القول لا يدل القياس على صحته. فيكون مخالفًا للقاضي. كما قيل في المعتوه. رد خاطرٍ حين وقّت. قلت: عربية في خاطرتي، هكذا كان. وفي لغتهم: تقديم وتأخير. فتقديره: كان هكذا في خاطري. وهذا أراد أبو العباس بن إدريس في بيان سبب نقض الحكم بقوله: ومتى لم يكن هنا معارضٌ بل عدم بالكلية، بأن يكون الاجتهاد متوهمًا، وليس بواقعٍ في نفس الأمر. والله أعلم. قال شيخنا (¬2): قالوا: إنَّما أعاده - يعني: لفظ الجامع -؛ لأنَّ في عبارة الجامع فائدتين ليستا في القدوريِّ: ¬
إحداهما: تقييده بالفقهاء، أفاد أنَّه لو لم يكن عالمًا بالخلاف لا ينفذ. وقال شمس الأئمَّة: وهو ظاهر المذهب، لا ينفذ على قول الأكثر. [والثانية: التَّقييد بكون القاضي يرى غير ذلك، فإنَّ القدوري لم يتعرَّض لهذا فيحتمل أن يكون مراده أنَّه إذا كان رأيُه في ذلك موافقًا لحكم الأوَّل أمضاه، وإن كان مخالفًا له لا يمضيه، فأبانت رواية الجامع أنَّ الإمضاء عامٌّ فيما سوى المستثنيات سواءٌ كان ذلك مخالفًا لرأيه أو موافقًا: يعني بالطَّريق الأولى] (¬1)، ولا يخفى أنَّه لا دلالة في عبارة الجامع [على] كونه عالمًا بالخلاف، وإنَّما مفاده أنَّ ما اختلف فيه الفقهاء في نفس الأمر فقضى القاضِي بذلك الَّذي اختلف فيه عالمًا بأَنَّه مختلفٌ فيه، أو غير عالمٍ، فإنَّه أعمُّ من كونه عالمًا، ثم جاء قاضٍ [آخر] يرى خلاف ذلك الَّذي حكم به هذا أمضاه فربَّما يفيد أنَّ الثاني عالمٌ بالخلاف، وليس الكلام فيه فإنَّ هذا يرى اختلاف ذلك الذي حكم به، فإنّ هذا هو المنفِّذ، والكلام في القاضي الأوَّل الَّذي ينفِّذ هذا الآخر حكمه، وليس فيه دليلٌ على أنَّه كان عالمًا بالخلاف بطريقٍ [من طرق الدَّلالة. نعم في الجامع التَّنصيص على أنَّه ينفِّذه وإن كان خلاف رأيه، وكلام القدوريِّ] (¬2) يفيده أيضًا، فإنَّه قال: إذا رفع إليه حكم الحاكم أمضاه، وهو أعمُّ ينتظم ما إذا كان موافقًا لرأيه أو مخالفًا، وإنَّما (¬3) في الجامع الصَّغير النُّصوصيَّة (¬4) عليه إذا كان مخالفًا. انتهى. ¬
قلت: هذا صحيحٌ وهو بناء على ما وقع لصاحب الهداية من لفظ الجامع، لكن ما ذكر من الفائدة وهي أنّ القاضي إن لم يكن عالماً بالخلاف لا ينفذ قضاؤه. غير ظاهر الوجه. ومشكلٌ على الموجودين من قضاة العصر حتّى أدّى إلى كذب المسجلين، واستعمل ظاهره بعض القضاة في ما له فيه غرضٌ. فقال: قد قالوا: إنّ القاضي إذا قصد المتفق عليه فوافق قضاءه المختلف فيه لا ينفذ، وإذا شاء قال في رواية: ينفذ فقرأت في كتاب مشتري بستان بفم الجوز. كان قد وقفه زين الدين الأستادار (¬1) في حال أمر به، ثم صودر فأقر بدينٍ لبيت المال، وأراد بيعه، وشهد عليه فلانٌ القاضي أنه حال حكمه بالوقف كان يظن المتفق عليه. وهو: أنّ هذا وقف موسرٍ ليس عليه دينٌ، ثم تبيّن أنه وقع في المختلف، وهو: أنه وقف مديون فلم ينفذ حكمه. . . إلخ. وعندما أراده أن يرجع ابنة محمد بن إينال إلى زوجها أحمد بن أزدمر (¬2)، وكان طلقها طلقتين صريحتين وخالعها مرّة. وحكم القاضي نور الدين البرقي بالحرمة الغليظة. قالوا: ظنّ المتفق عليه، وهو: أنّه طلّقها ثلاثاً، ولم يعلم بالخلع. فوقع في المختلف، وهو: أن إحداهما خلع، وهو فسخٌ عند أحمد، وهم لذلك في خبط عشواء، لا يعلمون مبنى المسألة. وسؤال الأصحاب: أن القاضي المجتهد إذا قضى في فصل مجتهدٍ فيه ¬
في نفس الأمر ولكنه لم يعلم أنه مجتهد فيه، وإنما قصد على وجه الإجماع، فوافق قضاؤه خلاف رأيه المعروف. هل ينفذ قضاؤه ويكون هذا بمنزل تبدل رأيه حتى لا يبطله أم لا؟. فدلّ فرع من فروع الكتاب على النفاذ، فجعل رواية. ودلت فروعٌ أخر على عدم النفاذ. وهذا كما ترى ليس بما نحن فيه، فإنّ كلامنا في هذه القضايا في قضاء مقلّدٍ قضى يقول إمامه من غير علم بما حدث في المسألة، مما فيه خلافٌ. وهذا نافذٌ بالاتفاق. وجَعْلُه من ذلك الباب غلط فاحش، وإنما أتلو عليك عبارات العلماء لتعلم حقيقة ما قلت. فأقول: قال الإمام ظهير الدين: وإن قضى القاضي في فصل مجتهدٍ فيه وهو لا يعلم أنه مجتهدٌ فيه، وإنمّا قصد القضاء على وجه الإجماع. هل ينفذ قضاؤه؟. ذكر في كتاب الإكراه: أنه ينفذ. وذكر في الرجوع عن الشهادات: أنه لو قضى بشهادة المحدودين في قذفٍ وهو لا يعلم أنهّما محدودانٍ في قذفٍ، ثم علمَ، يردّ القضاء، ويأخذ المال من المقضي له. وذكر شمس الأئمة السرخسي في شرح الرجوع عن الشهادات (¬1): أنه إنما ينفذ إذا صدر عن اجتهادٍ. وأمّا إذا لم يكن عن اجتهادٍ فلا ينفذ. وذكر الخصّاف: أنه ينفذ على كلّ حالٍ. انتهى فيما ذكره في الإكراه. وهو قوله في باب اللعان: يقضي به القاضي، ثم تبين أنه كان باطلاً. وإذا ادّعت امرأة على زوجها قذفًا، وجحده الزوج، فأقامت البينّةَ عليه بذلك. ¬
وذكرا في السر والعلانية وأمر القاضي الزوج أن يلاعنها، فأبى أن يفعل وقال: لم أقذفها وشهدوا عليه بالزور. فإنّ القاضي يجبره على اللعان ويحبسه حتى يلاعن أو يهدده بالحبس حتى يلاعن. فقال: أشهد بالله أني لمن الصّادقين فيما رميتها به من الزنا، ثم شهدت المرأة أيضاً كما عليها. وفرّق القاضي بينهما، ثم اطّلع القاضي على الشهود عبيداً أو محدودين في القذف، أو بطلت شهادتهم بوجهٍ من الوجوه. فإنّ القاضي يبطل اللعان الذي بينهما ويردّ المرأة إليه؛ لأنّ إقراره عليها بالزنا في اللعان كان بإكراهٍ من القاضي. ولو لم يحبسه القاضي حتى يلاعنَ ولم يهدده بحبسٍ. ولكن قال له: قد شهدوا عليك بالقذف فقضيت عليك باللعان فالتَعِن (¬1) ولم يزده على ذلك، والْتَعَنَ كما وصفته. وفرّق القاضي بينهما، ثم تبين: أنّ الشهود كانوا عبيداً، فأبطل شهادتهم، فإنه يمضي اللعان والفرقة بينهما؛ لأنّه أقر بالقذف بغير إكراهٍ. انتهى. قلت: قال شمس الأئمة: الفتوى على عدم النفاذ. وأشار إلى أنّ هذا غير ظاهر المذهب. والله أعلم. وما ذكره في الرّجوع عن الشهادة ذاك هو قوله في آخر أبوابها: وإذا شهد محدودان في قذف (¬2) شهادةً ولم يعلم بذلك القاضي حتى [قضى] بشهادتهما، ثم علمَ بذلك وليس من رأيه إمضاؤه، فإنه يرد القضاء ويرتجع (¬3) المال من المقضي له. ¬
وكذلك لو علم أنهما عبدان أو كافران [أو أعميان] ردّ القضاء وأخذ المال من المقضي له في ذلك كله (¬1). قلت: قال شمس الأئمة السرخسي: إن هذا هو ظاهر المذهب، والفتوى عليه. والله أعلم. وقال الصّدر حسام الدين في فتاواه: إذا قضى في فصلٍ مجتهدٍ فيه، وهو لا يعلم بذلك، لا ينفذ؛ فإنَّه ذكر في السِّير الكبير: رجلٌ مات وله مدبَّرون حتَّى عتقُوا، ثم جاء رجلٌ وأثبت ديناً على الميت، فباعهم القاضي على ظنِّ أنَّهم عبيدٌ، وقضى بجوازه، ثم ظهر أنَّهم مدبَّرون، كان قضاؤه بذلك باطلاً (¬2). قال (¬3): والاستدلال بمسألة السير لا يستقيم؛ لأنّ عدم النفاذ ما كان لعدم العلم بكون الفصل مجتهداً [فيه]، وإنما كان؛ لأن البيع صادفَ الأحرار؛ لأنّهم عتقوا بموته، أكثر ما في الباب أنه يجب عليهم السعاية، لكن ذلك لا يمنع وقوع العتق. قال مولانا: وفي الطعن كلامٌ، فإنّ المذكور في باب من العبد الذي يرجع إلى أهله في السير الكبير (¬4): من مات وله رقيق، وعليه دين كثير، فباع القاضي رقيقه، وقضى دينه، ثم قامت البينة لبعضهم: أنَّ مولاه كان دبَّره، فإنَّ بيع القاضي فيه يكون باطلاً، ولو كان القاضي عالماً بتدبيره، واجتهد وأبطل تدبيره ¬
لكونه (¬1) وصيّةً وباعهُ في الدَّين، ثم ولِّي قاضٍ آخر يرى ذلك خطأ، فإنَّه ينفذ قضاءُ الأوَّل. وإن كان الثاني لا يعلم: أنّ الأوّل فعله عن اجتهادٍ، أو لأنه لم يعلم حقيقة الحال، فإنه ينفذ قضاؤه أيضاً؛ لأنّ تحسين الظّن بالقاضي واجبٌ، وقضاؤهُ محمولٌ على الصّحة ما أمكنَ، فيحمل على أنّه قضى بعد العلم عن اجتهاد، فقد نصّ على: أنّ امتناع النفاذ بعد العلم وبعد القضاء عند العلم أو احتمال العلم، دلّ على أنّ الاستدلال صحيح. والله أعلم. قلت: فعن هذا قال شمس الأئمة: إنهّ إنما ينفّذ إذا صدر عن اجتهادٍ، أمّا إذا لم يكن يصدر عن اجتهادٍ لا ينفذ، كما قدمته عنه. والله أعلم. ومن الغباوة: جعل هذا في نواب الحكم في هذا الزمان. رجعنا إلى ما في شرح الهداية. قال شيخنا (¬2): قوله: إلَّا أن يخالف. . . إلخ. حاصله: بيان شرط جواز الاجتهاد، ومنه يعلم كون المحلِّ مجتهداً فيه حتَّى تجوز (¬3) مخالفته أو لا، فشرطُ (¬4) حلِّ الاجتهاد: أن لا يكون مخالفاً للكتاب أو السُّنَّة - يعني: المشهورة - مثل: "الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدعي وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ" (¬5). ¬
قلت: لم يذكر. وإنَّما ذكر لبيان سبب بعض الحكم ومحلّه. فاللائق الحمل على هذا. ولهذا: قال الإمام الخصّاف: قالوا: سعى للقاضي أن ينفذ قضايا القضاة التي ترفع إليه، ويحكم بها، إلَّا أن تكون القضية جوازاً أو يكون على خلاف الكتاب أو السنة أو خلاف إجماع الأمة، فإن كان هذا فلا ينفذها، ولا يحكم بها، وكذلك إن كان القاضي الذي قضى بهذه القضية فاسقاً في نفسه أو محدوداً في قذفٍ أو من لا يجوز شهادته لو شهد. فإنّ قضية هذا إذا رفعت إلى هذا القاضي لا ينبغي له أن ينفذها ولا يحكم بها. وقال في آخر الباب: وكل ما قضى به قاضٍ مما يخالف فيه الكتاب والسنة فرفع إلى قاضٍ آخر يرى خلاف ذلك، فإنه ينفذه ويحكم به، وإن كان خلاف الكتاب والسنة أبطله. ليس ينفذ قضاء قاضٍ خالف الكتاب والسنة بحديثٍ شاذ أو خاصٍّ حتى يأتي به العامة، فإذا كان معروفاً في أيدي العامة، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فهو ناسخٌ يقول الله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} [الحشر: 7]. وإن يرى بعده شيء. فالتنزيل ناسخٌ. فالآخر من هذين الأمرين ناسخٌ للأول. انتهى. فاستفدنا منه: أنّ ما فيه معارضٌ ظاهر رجَحانه. فالمرجوح ينقض. وإليه أشار أبو العباس بن إدريس في سبب النقض فقال: أو يكون ثم معارضٌ مرجوح في حديث مضطرب الإسناد ونحوه، فإنه لا يفند به، وينقض ذلك الحكم لوقوعه على خلاف العارض الراجح. انتهى. قلت: وقوله: وكذلك إذا كان القاضي فاسقاً، هو اختياره واختيار الطحاوي أيضاً؛ لأنّ عندهما: الفاسق لا يصير قاضياً، فَلاَ ينفذ قضاؤه، وعامّة
المشايخ: على أنّ الفاسق يصلح أن يكون قاضياً، فإذا قضى ينفذ قضاؤه، لكن لقاضٍ آخر أن يبطله إذا رأى ذلك حسناً. ولو أبطله قاضٍ آخرَ ثم رفع إلى ثالثٍ ليس للثالث أن ينفذه. قال شيخنا (¬1): فلو قضى بشاهدٍ ويمينٍ لا ينفذ، ويتوقَّف على إمضاء قاضٍ آخر. ذكره في أقضية الجامع، وفي بعض المواضع ينفذ مطلقاً. قلت: قال الخصّاف: ولو أنّ قاضياً قضى بشاهدٍ ويمينٍ، فإنّ هذا مما لا ينبغي لهذا القاضي أن ينفذه من قبل أن الشاهد واليمين خلاف القرآن. وقال في الينابيع: قال محمّد: أفسخ (¬2) حكم الحاكم بشاهدٍ ويمينٍ. وقال أبو يوسف: لا أفسخ ذلك. وقول محمد أظهر. انتهى. قال شيخنا (¬3): ثم يراد بالكتاب المجمع على مراده، أو ما يكون مدلولٌ لفظه ولم (¬4) يثبت نسخه ولا تأويله بدليلٍ مجمعٍ عليه. فالأوَّل: مثل: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء: 23] الآية، حتَّى لو قضى قاضٍ بحلِّ أمّ امرأته كان باطلاً لا ينفذ. والثاني: مثل: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام: 121]، فلا ينفذ الحكم بحلّ متروك التسمية عمداً، وهذا لا ينضبطُ، فإنَّ النَّصَّ قد يكون ¬
مؤوَّلاً فيخرج عن ظاهره، فإذا منعناه يجاب بأنَّه مؤوَّلٌ بالمذبوح للأصنام (¬1) أيَّام الجاهليَّة، فيقع الخلاف في أنَّه مؤوَّلٌ أو ليس بمؤوَّلٍ (¬2)، فلا يكون حكم أحد المتناظرين بأنَّه غير مؤوَّلٍ قاضياً على غيره بمنع (¬3) الاجتهاد فيه. نعم، قد يترجَّح أحد القولين على الآخر بثبوت دليل التَّأويل، فيقع الاجتهاد في بعض أفراد هذا القسم أنَّه ممَّا يسوغ فيه الاجتهاد أو لا، ولذا نمنعُ نحن (¬4) نفاذ القضاء ببعض (¬5) الأشياء، ويجيزونه وبالعكس (¬6). ولقد نقل الخلاف [في الحلِّ] عندنا أيضاً، وإن كان كثير لم يحكوا الخلاف. ففي الخلاصة في رابع جنسٍ من الفصل الرَّابع من أدب القاضي [قال]: وأمَّا القضاء بحل متروك التَّسمية عمدًا فجائزٌ عندنا (¬7)، وعند أبي يوسف لا يجوز. انتهى. قلت: إما جاء عدم الانضباط من تغيره المراد بالكتاب. والذي يدل عليه عبارات الأصحاب: أنّه النّصُّ المفسر. فالظّاهر كما قدّمته في دليل الحق، وفي البدائع أيضاً. حتى لو قضى ¬
بما قال الدليل القطعي على خلافه لم يجز؛ لأنه قضى بالباطل قطعاً، وكذا لو قضى بالاجتهاد فيما فيه نصٌّ ظاهرٌّ بخلافه من الكتاب أو السنة، لم يجز قضاؤه؛ لأنّ القياس في مقابلة النص باطل سواء كان النص قاطعاً أو ظاهراً، ولم لا يقولون: إنّ كل ما فيه خلاف لظاهر نصٌّ يكون محلاًّ للاجتهاد فيما فيه نص بخلافه، إذ لولاه سوّغ فيه الاجتهاد، وإنما يقولون ذلك فيما لم يختلف فيه الصحابة ومن معهم؛ لأنهم يروه مخالفاً للإجماع، وما عداه. فيقال فيه: ما استفيد من عبارة الخصّاف. وصرّح ابن إدريس: من أنه معارضٌ مرجوح، فلا يعتد به. هذا حاصل معاني عباراتي. والله أعلم. وما نقل في الخلاصة: منقولٌ في غيرها، لكن اعتمد في شرح المختلف قول أبي يوسف. وجزم به في الينابيع. والله أعلم. قال شيخنا (¬1): ثم (¬2) قال المصنِّف: المعتبرُ الاختلاف في الصَّدر الأوَّل - يعني: أن يكون المحلُّ محلَّ اجتهادٍ - يتحقَّق الخلاف فيه بين (¬3) الصَّحابة. وقد يحتمل بعض العبارات ضمَّ التَّابعين. انتهى. قلت: الظّاهر: أنه عين في المعتبر هذا في كونه غير مخالفٍ للإجماع كما سيأتي. وهذا إذا لم يبرهن على ذلك، وغير المخالف للإجماع، وإن كان في محل الاجتهاد، ولكنه لم يذكروه لذلك. وبتقدير ما ذكر الشيخ - رحمه ¬
الله -: فالمراد: محل فيه ظاهر نص لا المحل مطلقاً، فإنه قد تقدم منه بيانه بقوله: ثم المجتهد فيه أن لا يكون مخالفاً لما ذكره. يعني: الكتاب والسنة والإجماع. ألا ترى إلى قول الخصاف: ولو أنّ قاضياً قضى بشاهدٍ ويمينٍ، أو يقبل بقسامةٍ أو بيعِ أمّ ولدٍ، ثم رجع إلى قاضٍ آخرَ، فإن هذا مما لا ينبغي لهذا القاضي أن ينفذه من قبل الشاهد واليمين، خلف المقر (¬1) وأم الولد ترك بيعها بما عليه جماعة من المسلمين. وأمّا القسامة: فإنما هو قضاء بقوله: لم يختلف أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ذلك. وقول الإمام أبي المعالي في شرح أدب القاضي: أنها الأوّل، فلأنّ القضاء مخالفٌ الكتاب وهو قوله تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة: 282] الآية. شرع فصل القضاء بشهادة رجلين أو رجل وامرأتين، فكان الفصل من القضاء بشاهدٍ ويمينٍ مخالفاً للكتاب. والحديث قيس شاذّ، لا يجوز العمل به على مخالفة كتاب الله تعالى، فلم يعتبر الخلاف فيه بيننا وبين الشافعي، وإنما اعتبر الخلاف بين المتقدمين، والمراد من المتقدمين الصحابة ومن تبعهم، وليس يقضي أحدٌ من المتقدمين بشاهدٍ ويمين الآخر. والثاني: الحكم وفعله مما لا يوجد به، فلا يكون هذا مجتهداً فيه. وأمّا الثاني: وهو القتل بالقسامة. يريد به: أن القتيل إذا وجد في محلّةٍ وبينه وبين أحدٍ من أهل المحلّة عداوةٌ ظاهرةٌ والعهد قريب من حين ¬
دخوله في المحلّة إلى أن وجد قتيلاً، فعين ولي القتيل من المحلّة رجلين، أنّهما قتلاه، ويحلف على ذلك. وعند مالك والشافعي في القديم: يقضي القاضي له بالقود. وعندنا: لا. فإذا قضى به، ثم يرفع إلى آخر ينقضه؛ لأنّ هذا يخالف الإجماع لهما، أنّ مالكاً لم يكن موجوداً في الصّحابة، فلا يكون قوله معتبراً. والدليل عليه: أنّ أوّل من قضى بالقود في القسامة معاوية، فلم يكن مختلفا بين الصّحابة، وكان القضاء مخالفًا لإجماع الأصحاب، فكان للثاني أن ينقضه. وقول صاحب المحيط (¬1): قضايا القضاة التي ترفع إلى القاضي على أربعة أوجهٍ: أمّا إن كان مخالفاً للكتاب أو السنة أو الإجماع. أو كان في محل الاجتهاد. ¬
أو كان في محلٍّ فيه قول مجهولٍ. أو كان نفس القضية مختلفاً فيها، بأن كان مخالفاً للكتاب أو السنة أو الإجماع. فالقاضي المرفوع إليه ينقضها، ولا ينفذها؛ لأنه متى خالف النص أو الإجماع كان باطلاً وضلالاً. مثاله: ما لو أن قاضياً قضى بشاهدٍ ويمينٍ، أو بقتل بقسامة، ثم ساق مثله سواء. وكذا في الذخيرة وغيرها، فلم يذكر الأصحاب اعتبار اختلاف الصّدر الأوّل إلا في هذا المحل. والله أعلم. قال شيخنا (¬1): وبناءً على اشتراط كون الخلاف في الصَّدر الأوَّل من (¬2) كون المحلِّ اجتهاديًّا. قال بعضهم: إنَّ للقاضي أن يبطل ما قضى به القاضي المالكيُّ والشَّافعيُّ برأيه، يعني: إنَّما يلزم إذا كان قولُ مالكٍ أو الشَّافعيِّ وافق قول بعض الصَّحابة أو التَّابعين المُختلفين، فلا ينقض باعتبار أنَّه مختلفٌ بين الصَّدر الأوَّل لا باعتبار أنَّه قول مالكٍ والشَّافعيِّ، فلو لم يكن فيها قول الصَّدر الأوَّل بل الخلاف مقتضبٌ فيها بين الإمامين للقاضي أن يبطله إذا خالف رأيهُ. [وعندي]: أنَّ هذا لا يعوَّل عليه، فإن صحَّ أنَّ مالكاً والشَّافعيَّ وأبا حنيفة مجتهدون، فلا شكَّ في كون المحلّ اجتهاديَّا، وإلاَّ فلا، ولا شكَّ أنَّهم أهلُ اجتهادٍ ورفعةٍ. انتهى. ¬
قلت: يعني برأيه في مخالفة ظاهر نصٍّ لا مطلقاً كما بينته، وكما سيأتي عن بيان المراد في قول هذا البعض المشار إليه. يعني: إنما يلزم إلخ. قلت: ظاهر صنيعهم خلاف هذا. وهو: أنه إذا اختلفوا، فمال اجتهاد مجتهدٍ بعدهم (¬1) إلى قول أحدهم، فقضى القاضي بذلك، ثم رفع قضاؤه إلى قاضٍ آخر يرى خلافه، ينفذه، كان أفاد الشارح حكماً، ولم يختلفوا فيه، ثم اختلف من بعدهم، فمن مالَ بظاهرٍ اعتبر قوله. ومن خالف لا يكون خلافه معتبراً إلى آخر التقدير. وهذا وإن كان مخالفاً للنص، ولكنهم يريدون أن يكون مخالفاً للإجماع أيضاً. كما صرّح به في المحيط. قال شيخنا: فلو لم يكن فيها قولُ الصَّدرِ الأوَّل، بل الخلافُ مُقتضبٌ فيها بين الإمامين للقاضي (¬2) أن يبطلهُ. قلنا: هذا التزاماً منه لظاهر العبارة، لا أنّ أحداً صرّح به كذلك. والله أعلم. وقول القائل الذي أشار إليه شيخنا - رحمه الله - لم يكن تأويله إلاّ ما قال من قبله، وإن كان ظاهره ما قال شيخنا - رحمه الله - بيان أنه قال قوله. والمعتبر الاختلاف في الصدر الأول، يريد به الاختلاف الواقع في قرن الصّحابة. ينتفي به اختلاف مالكٍ والشافعي: أنه ليس لمعتبرٍ؛ لأنهّما لم يكونا في زمن الصّحابة، وقد مرّ زيغانه قبل هذا. انتهى. فإذا حمل على اختلافهما فيما فيه ظاهر نصٍّ بخلافه، ولم يختلف فيه ¬
أهل الصّدر الأوّل رجع إلى ما قلنا. ويريد: أن هذا مراده قوله: وقد مرّ بيانه قبل هذا. والذي مرّ بيانه نحو ما قلنا عنه. والله أعلم. قال شيخنا (¬1): ولقد نرى في أثناء المسائل جعل المسألة اجتهاديَّةً، بخلافي بين المشايخ حتَّى ينفُذ القضاء بأحد القولين. قلت: لأن ما اختلفوا فيه من مجال الاجتهاد لا أنه لا يحلّ إلا هو كما بينّاه مكرراً. قال (¬2): وفي حيض - من منهاج الشَّريعة عن مالكٍ - فيمن طلَّقها فمرَّ عليها ستَّة أشهرٍ لم تر دماً فإنَّها تعتدُّ بعده (¬3) بثلاثة أشهرٍ، فإذا قضى بذلك قاضٍ ينبغي أن ينفِّذ؛ لأنَّه مجتهدٌ فيه، إلَّا أنَّه نقل مثله عن ابن عمر. قلت: هذا غلطٌ على مالكٍ وابن عمر فيما قالا: تتربص بعد الطلاق تسعة أشهرٍ، ثم تعتد بثلاثة أشهرٍ. والمسألة في المنظومة: لو طلّقت من طهرها، ممتد. فالأشهر التسعة مكث بعد. وبالمشهور بعدها تعتد. وفي مجمع البحرين: وأمروا ممتدة الطهر بالأقراء لا بثلاثة أشهر، تعد التسعة، فلو قضى القاضي بما في منهاج الشريعة لم ينفذ، فإن رفع إلى قاضٍ آخر، لم يبطله؛ لأنه خارج عن أقوال العلماء. والله أعلم. قال شيخنا (¬4): ثم ذكر في المنتقى: أنَّ العبرة في كون المحلِّ مجتهداً ¬
فيه اشتباه الدَّليل لا حقيقة الخلاف. ألا ترى أنَّ القاضي إذا قضى بإبطال طلاق المكره نفذ؛ لأنَّه مجتهدٌ فيه، لأنَّه موضع اشتباه الدَّليل إذ اعتبار (¬1) الطَّلاق بسائر تصرُّفاته ينفي حكمه، وكذا لو قضى في حدٍّ أو قصاصٍ بشهادة رجلٍ وامرأتين، ثم رفع بعد ذلك إلى قاضٍ آخر يرى خلف ذلك ينفِّذه، وليس طريق القضاء الأوَّل كونه في مختلفٍ فيه، لأنه لا اختلاف فيه، وإنَّما طريقه أنَّ القضاء الأوَّل حصل في موضع اشتباه الدَّليل؛ لأَنَّ المرأة من أهل الشَّهادة، بظاهر (¬2) قوله تعالى: {فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} [البقرة: 282]، [يدكُ على] جواز شهادتهنَّ مع الرِّجال مطلقاً، وإنْ وردت في المداينة؛ لأنَّ العبرة لعموم اللَّفظ، ولم يرد نصُّ قاطع في إبطال شهادة النِّساء في هذه الصُّورة؛ ولو قضى بجواز نكاحٍ بلا شهودٍ نفذ؛ لأنَّ المسألة مختلفٌ فيها، فمالكٌ وعثمان البتِّيُّ (¬3) يشترطان الإعلان لا الشُّهود، وقد اعتبر خلافهما؛ لأنَّ الموضع موضع اشتباه الدَّليل، إذ اعتبار النكاح بسائر التَّصرُّفات يقتضي أن لا تشترط (¬4) الشَّهادة. انتهى. قلت: حاصل هذا: أن سبب كون المحل مجتهداً فيه اشتباه الدليل القائم فيه، لا مجرد الاختلاف؛ لأنه يكون مجتهداً فيه مع الاختلاف وعدمه. فلما ثبت مع عدمه دلّ على أنّه ليس نفس السبب وهو ظاهرٌ وليس فيه ما يدل على ما قررنا به معنى قولهم. والمعتبر: الاختلاف في الصّدر الأوّل، ولا على ¬
ما قرره هو؛ لأنه يكون على قوله شرطاً بمعنى العلامة، لا بمعنى العلّة. والله أعلم. قال شيخنا (¬1): ولا يخفى أنَّه إذا كانت معارضة المعنى للدَّليل (¬2) السَّمعيِّ النَّصَّ، توجب (¬3) اشتباه الدَّليل، فيصير المحلُّ محلَّ اجتهادٍ ينفذ القضاء فيه، فكلُّ خلافٍ بين الشَّافعيِّ ومالكٍ أو بيننا وبينهما أو أحدهم، محلُّ اشتباه الدَّليل، حينئذٍ إذ لا يخلو عن مثل ذلك، فلا يجوز نقضه من غير توقُّفٍ على كونه بين الصَّدر الأوَّل. انتهى. قلت: معارضَةُ المعنى وحده للدَّليل السَّمعيِّ النصَّ في هذه المسألة ممنوعة؛ لأنّ فيها ظواهر نصوص. وهي قوله تعالى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 3]. من غير اشتراط شهادة. وفيها عمل صحابي، وهو ما روي عن ابن عمر: أنّه زوّج بغير شهودٍ، ثم خرج فأعلم. وفيها: قول تابعيٍّ كبير. وهو ما روي عن الحسن البصري، مثل ابن عمر. ولو كان المعنى وحده، لكان من المتفق على أنه يجب إبطاله كما تقدم مكرهاً من أنّ محلّ الاجتهاد ما لم يخالف السنة. وقوله: القياس في مقابلة النّص باطل إلخ. فتبين: أن هذا المصنف اقتصر على ما به يظهر محل الاشتباه لإتمام ما في المسألة وحينئذٍ ذهب على ما رتب ¬
على هذا الاشتباه، وأن ليس كل خلافٍ كذلك. والله أعلم. قال شيخنا - رحمه الله - (¬1): ولا [بأس] بذكر مواضع نصَّ فيها أهل المذهب بعينها إذا قضى [القاضي] بالقصاص يحلف (¬2) [المدَّعي]: أنَّ فلاناً قتله. وهناك لوثٌ من عداوة ظاهرة كقول مالكٍ ألا ينفذ، لمخالفة السّنَّة المشهورة: "الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي، وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ"، مع (¬3) أنَّ معه ظاهرًا في (¬4) حديث محيِّصَةُ وحُوَيِّصَةَ (¬5). قلت: تقدم عن صاحب المحيط وغيره: أنه مخالفٌ الإجماع أيضاً. ولو قضى بحل المطلقة ثلاثاً لمجرد عقد الثاني بلا دخول لقول سعيد بن المسيب: لا ينفذ بذلك أيضاً. وهو حديث العسيلة (¬6). وفي السِّير من الجامع الكبير (¬7): إذا قضى أنَّ الكفَّار لا يملكون ما استولوا ¬
عليه لا ينفذ، لأنَّه لم يثبت في [ذلك] اختلاف الصَّحابة، ولو قضى بنصف الجهاز فيمن طلّقت قبل الدخول، وقد قبضت المهر وتجهّزت به، لا ينفذ خلاف الجمهور. قلت: قال أبو المعالي: ومعادلة الكتاب وقوله تعالى: {فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [البقرة: 237]، الله تعالى أوجب نصفَ المفروض بالطلاق قبل الدخول، والمفروض هو المسمّى في العقد والجهاز ما كان مسمّى في العقد، ولا يتنصّف، فإذا قضى القاضي بذلك بطل قضاؤه، ولو رفع إلى قاضٍ آخر كانَ له أن يبطله، ويقضي عليها بنصف المفروض انتهى. قال: ولو قضى بعدم جواز الزوجية عن دم العبد بناءً على قول البعض: إنَّه لاحقّ لها في القصاص، لا ينفذ. قلت: قال أبو المعالي؛ لأن هذا لا يجوز. مخالفٌ لقول الجمهور ومخالفٌ للكتاب. قال الله تعالى: {وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ} [النساء: 12] الآية. أثبت لها الحق في ربع المتروك من غير فصل، فكان القضاء باطلاً. فكان للثاني أن يبطله. قال: وحكى في الفصول فيما إذا زنى بامرأة، ثم تزوج بنتها، فقضى بجوازه. فعند أبي يوسف: لا ينفّذ للنّص عليه. وعند الجمهور: يجوز. قلت التي قال فيها: للنّص عليه غير هذه الصورة.
فلفظه: ولو قضى بجواز نكاح مزنية الأب ومزنية الابن لا ينفذ عند أبي يوسف؛ لأنّ الحادثة منصوص عليها في الكتاب. وعند محمّد: ينفذ. وما روي عن ابن عبَّاسٍ موقوفاً ومرفوعاً أنه قال: "الْحَرَامُ لاَ يُحَرِّمُ الحَلاَلَ" (¬1). يؤيد قول محمد، فكان مجتهداً فيه، فينفذ حكمه. كذا ذكره في المحيط (¬2). ورأيت في بعض الفوائد: القاضي إذا قضى بجواز نكاح التي زني بأمّها أو بنتها نفذ عند محمد. وعند أبي يوسف: لا ينفذ. وذكر في المحيط (¬3): إذا زنى رجلٌ بأمّ امرأته، ولم يدخل بها، فرأى القاضي أنه لا يحرمها عليه، فأقرّها معه وقضى بذلك، فنفذ قضاؤه؛ لأنه قضاء في محلّ مجتهدٍ فيه. انتهى. قلت: وليس هذه من غرضي في هذا المقام، وإنمّا ذكرتها لتحرير العبارة. والله أعلم. ولو عقد مؤقتاً بلفظ المتعة، نحو: متعيني نفسك عشرة أيام. لا ينفذ. ¬
قلت: قال في المحيط (¬1): لأن هذا القضاء مخالفٌ للإجماع، فإنّ الصحابة أجمعت على فساده، وصحّ رجوع ابن عبّاسٍ - رضي الله عنهما - عنه. وروي عن عائشة: أنّها منسوخة. نسختها آية الطلاق، والعمل بالمنسوخ حرامٌ. وروي عن أبي يوسف: أنّ القضاء بالمتعة نافذٌ، لكن هو شاذٌّ لا يعمل به. انتهى. قال: ولو قضى بسقوط المهر بالتَّقادم بلا إقرارٍ ولا بيِّنةٍ، لم ينفذ. وكذا إذا قضى أن لا يؤجَّل العِنِّينُ (¬2). انتهى. قلت: وقال في الخصّاف: ولو أن قاضياً قضى بمال القسامة، لم يكن للقاضي أن ينفذ ذلك، بل يبطله، ولا ينفذه. قال أبو المعالي: يريد به: أنه مال الإنسان إذا تلفَ في محلّه فقضى قاضٍ بوجوب ضمان المال بالقسامة، وقاسه على النفس. فهذا القضاء باطلٌ؛ لأنه مخالفٌ للكتاب. قال تعالى: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164، الإسراء: 15، فاطر: 18، الزمر: 7]. وهذا القياسٌ فاسدٌ؛ لأنّ المال يتبدّل، والنفس لا تستبدل. فكان هذا القضاء مخالفاً للإجماع. فكان للثاني أن ينقضه. ¬
قال: ولو أنّ رجلاً عتق نصف عبده أو نصف أَمَتِهِ أو كانت أمةً بين اثنين فأعتقها أحدهما وهو معدمٌ، فقضى القاضي ببيع نصفه فباعه، ثم اختصما إلى قاضٍ لا يرى ذلك؛ فإنه يبطل البيع، ويبطل القضاء، لأن هذا القضاء مخالفٌ لإجماع الصحابة. فإنّ الصحابة رجعوا. لا يجوز استدامة الرق فيه، لكن اختلفوا. قال بعضهم: يخرج العتق بالسعاية. وإليه ذهب أبو حنيفة - رحمه الله -. وقال بعضهم: يعتق كله. وإليه ذهب أبو يوسف - رحمه الله -. وحينئذٍ: فكان هذا القضاء مخالفاً للإجماع، فكان باطلاً. فعلى القاضي الثاني أن ينقضه. وفي الظهيرية: أن شمس الأئمة قال عن المشايخ: إن هذا قول الخصاف، وليس فيه عن الأئمّة شيءٌ. ولولا قوله لقلنا: ينفذ قضاؤه؛ لأنه مجتهدٌ فيه. قال الخصّاف: ولو أنّ قاضياً قضى بخلاص دارٍ استحقّت، فأخذه القاضي بدارٍ وحكم بذلك عليه، فإن هذا إذا رفع إلى قاضٍ آخر أبطله ولم ينفذه. قلت: قال أبو المعالي: يرد، أن الإنسان يبيع داره من إنسانٍ ويضمن له الخلاص أو غير البائع يضمن له الخلاص. وتفسيره: أنه لو جاء مستحقٌّ فاستحقها، فهو ضامنٌ للخلاص، فيخلص الدار من يد المستحق إمّا بشراءٍ أو هبةٍ، أو بوجهٍ من الوجوه. فإذا ضمن الخلاص بهذه الصيغة، ثم ظهر الاستحقاق فرفع إلى قاضٍ
آخر يرى ذلك الضمان صحيحاً، فإنه يبطله، فإنّ هذا الضمان باطلٌ، فإنَّه شرطٌ لا يقدر على الوفاء به. فلا يصحّ. فإذا قضى بصحته، كان قضاءً بصحّة الباطل، لم يكن نافذاً. وهذا الذي ذكرنا من تفسير ضمان الخلاص قول أبي حنيفة وهو اختيار صاحب الكتاب. أمّا عند أبي يوسف ومحمد: تفسير ضمان الخلاص والدرك والعهد واحدٌ. وهو الرجوع بالثمن على البائع عند الاستحقاق. وعند أبي حنيفة تفسير ضمان الخلاص ما بينّا. وتفسير ضمان العهدة وضمان الصّك القديم الذي عند البائع. قال: وكذلك قاضٍ قضى بإبطال حقّ رجلٍ في دارٍ. وذلك أنه أقام سنين لم يبطله حقه، فأبطل القاضي حقّه من أجل ذلك، ثم رفع إلى قاضٍ آخر، فإنه يبطل قضاء القاضي بذلك، ويخلص الرجل على حقه في الدّار. ولو أنّ قاضيا قضى بردّه أمةً أو عبداً اشتراه مشترٍ وقبضه، ونقد الثمن فأصاب عنده عيب. فرد القاضي على البائع بذلك بغير إقرارٍ من البائع ولا بيّنةٍ شهدت عليه، ثم رفع إلى قاضٍ آخر أبطل ذلك ولم ينفذه ليس فيها أثرٌ يحتج به. وهذا اختلاف الآثار. وقال أبو المعالي: وخلاف الإجماع. وكذلك امرأة قد بلغت ولها زوجٌ فأعتقت رقيقاً لها أو أقرّت بذلك أو أوصت بوصايا بغير رضا زوجها. فأبى ذلك زوجها ورفعه إلى قاضٍ فأبطل فعلها، ثم ارتفعوا إلى قاضٍ آخر، فإنه ييطل حكم ذلك القاضي. وينفذ ما صنعت المرأة من ذلك كما ينفذ على الرجل. ألا ترى إلى قوله تعالى {فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء: 12].
فهذا حكمٌ يخالف التنزيل، فهو مردودٌ على من حكم به. وكذلك قاضٍ قضى بشهادة رجلٍ يشهد على حط أبيه. فهذا باطلٌ لا ينفذ حكم القاضي بذلك. قال أبو المعالي: هذا قولٌ لا يعتبر بمقالةٍ قول الجمهور من العلماء والكتاب وهو قوله تعالى: {الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [الزخرف: 86]. هذا لا يعلم. فإذا قضى القاضي بذلك كان القضاء باطلاً، فإذا رفع إلى قاضٍ آخر كان له أن يبطله. وكذلك رجلٌ طلّق امرأته ثلاثاً أو حائضاً أو قبل أن يدخل بها فقضى قاضٍ بإبطال ذلك أو أبطل بعضه أو رفع إلى قاضٍ آخر لا يرى ذلك؛ فإنه يبطل قضاء القاضي بذلك، وينفذ على الرجل ما كان منه. وقال في المحيط: بدل قوله: أو بعضه أو بوقوع واحدٍ؛ فإنه لا ينفذ؛ لأنه إن كان على قول أهل الزيغ إذ أوقع الثلاث في حالة الحيض أو في طهرٍ جامعها فيه، لا يقع أصلاً. وعلى قول الحسن البصري: إذا وقعَ الثلاث يقع واحدة. لكن كلا القولين باطلٌ؛ لأنه مخالفٌ لكتاب الله تعالى، وهو قوله تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ} [البقرة: 230]. فإنّ المراد منه: المطلقة الثلاثة. وفي المنتقى: ولو طلّق امرأته ثلاثاً بكلمةٍ واحدةٍ أو في طُهرٍ جامعها فيه. وقال في الينابيع: ومثال ما خالف الإجماع ما إذا حكم بجواز نكاح الجدة أو بنكاح امرأة الجدّ أو بنكاح الغافلة.
وكذلك لو أخرج الحرّ من العبيد بالقرعة، فرفع إلى قاضٍ يرى بطلان القرعة، ولو حكم بجواز نكاح ابنته من الزنا، فللثاني أن يبطل نكاحها. وفي الظهيرية: لوقوف القاضي بين الزوجين بشهادة امرأةٍ بالرّضاع. يرد قضاؤه. والقاضي إذا قضى لولده على أجنبيٍّ بشهادة الأجانب. لا يجوز. فإن رفع قضاؤه إلى قاضٍ آخر أبطله الثاني. ولو قضى بشهادة ولده لأجنبيٍّ في القذف وهو يرى ذلك فرفع ذلك إلى قاضٍ آخر لا يرى جوازه لا يبطله الثاني. وذكر شيخ الإسلام المعروف بِخُواهر زَاذَهْ (¬1): هذا إذا كان القاضي الثاني يعرف أنّ الأوّل يرى جوازه بأن قال الأوّل: لا. حينئذٍ لي ذلك. أما إذا علم أنّ الأوّل لا يرى جوازه. كان للثاني أن يبطله. وكذا وقع في أقضية الجامع. والله أعلم. قلت: فعلمَ من هذا: أن القضاء إذا أخطأ مذهبه لغيره أن يبطل قضاءه، وإن لم يكن من مقلدي إمامه كما قاله أبو عمرو ابن الصلاح الشافعي في فتاواه (¬2). الأول: ولو كان هو المحدود في القذف فيرفع حكمه إلى قاضٍ لا يرى جوازه أبطله. الثاني: لأن القضاء نفسه مختلفٌ فيه، وكذلك لو قضى لامرأته ¬
بشهادة رجلين: لا يجوز. وإذا قضى الأعمى في حادثةٍ، ثم رفع قضاؤه إلى من لا يرى قضاءه، فإنه يبطل قضاءه. وفي الفصول: إذا كان الزوج غائباً فرفعت الامرأة الأمر إلى القاضي وأقامت البينة: أنّ زوجها الغائب محاجز عن النفقة، وطلبت من القاضي أن يفرق بينهما، ففرّق بينهما. قال مشايخ سمرقند: جاز تفريقه. قال صاحب الذخيرة: الصحيحُ: أنه لا يصحُّ قضاؤه؛ لأن العجز لا يعرف حالة الغيبة، فإن رفع هذا القضاء إلى قاضٍ آخرَ فأجاز قضاءه. والصحيح: أنه لا ينفذ؛ لأنّ هذا القضاء ليس في فصل مجتهدٍ فيه لِما ذكرنا: أنّ العجزَ لم يثبت. قلت: فيؤخذ من هذا: أن للقاضي أن يبطل ما يقضي به بشهادة المحدودين. والله أعلم. وذكو فيها أيضاً: إذا تزوج امرأةً عشرة أيام، فأجاز قاضٍ من القضاة جازَ؛ لأنّ عند زفرٍ: إذا تزوج امرأة إلى شهر يصحُّ ويبطل ذكر الوقت. وفي فتاوى رشيد الدين: الثاني إذا طلّقها بعد، ثم تزوجها ثانياً وهي في العدة، ثم طلقها قبل فتزوجها الأول قبل انقضاء العدة، وحكم الحاكم بصحة هذا النكاح ينفذ؛ لأن للاجتهاد فيه مساغاً، وهو صريحٌ في النّص، وهو قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [إِذَا] نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ} [الأحزاب: 49] الآية.
وهو أيضاً مذهب زفر. قلت: لا يصح هذا من القاضي الحنفي؛ لأن الإمام إنّما ولاّه الحكم بمذهب أبي حنيفة وما نقل الأصحاب من أمثال هذا فهو فيما إذا ولّى الإمام القاضي المجتهد ولايةً مطلقةً مثل ما كان لأبي يوسف ونحوه. والله أعلم (¬1). ولو قضى بشهادة الابن لأبيه، وبشهادة الأب لابنه؛ لا ينفذ عند محمّدٍ خلافاً لأبي يوسف. قلت: الرجحان لقول محمّدٍ؛ لأن هذا قضاء مخالفٌ للسنة وهو حديث عائشة - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "لاَ تَجُوزُ (¬2) شَهادَةُ الْوَالِدِ لِوَلدهِ، وَلاَ الْوَلَدُ لِوَالِده" (¬3). ¬
وهو نحو حديث: "لاَ نِكَاحَ إِلاَّ بِشُهُودٍ" (¬1). والله أعلم. ولو قضى القاضي بجواز بيع الدرهم بالدّرهمين، فلمّا آخَرَ أن يبطله. ولو قضى بجواز بيع الشرب وحده ليس لغيره أن ينقضه. وإن نقض ليس لغيره أن يجيزه. وفي القضاء بجواز بيع أم الولد. روايات أظهرها: أنه لا ينفذ. وفي الخانية: إذا راجع الرجل امرأته بغير رضاها، ورفع الأمر إلى قاضٍ يرى أن رضا المرأة شرطٌ وأبطل الرجعة. قيل: ينبغي أن لا ينفذ قضاؤه. وأصحابنا يدّعون الإجماع في أنّ رضا المرأة ليس بشرطٍ بصحة الرّجعة. ويمنع أصحاب الشافعي. وهذا لا يُصَيِّر المحل مجتهداً فيه، فلا ينفذ قضاؤه. رجلان يشهدا على إقرار امرأة بأنّ زوجها بريء من كل شيءٍ كان لها عليه، فطلّقها. فقضى القاضي بأن الطلاقَ بائنٌ. قال: لا ينفذ. وهذا الحاكم جاهلٌ. وفي قضاء الجامع: أنه يتوقف على إمضاء قاضٍ آخر إن أمضى ذلك القاضي نفذ، كان أبطل بطل. وهذا أوجه الأقاويل، وإن كان أبرأ القاضي وصي ¬
اليتيم لم يجز قضاؤه له في أمر اليتيم؛ لأنّ حقّ القبض فيما يقضي به لليتيم يثبت للوصي، فيكون بمنزلة قضائه لابنه، ولو وَكَّلَ (¬1) رجل القاضي وقال له: ما صنعت من شيءٍ فهو جائز، فوكل القاضي وكيلاً يخاصم إليه، جاز التوكل؛ لأن الموكل أجاز صنعه على العموم، ولكن لا يجوز قضاءه للوكيل؛ لأنه يكون ذلك كقضائه لنفسه من وجهٍ؛ لأنه وكيله. وكذلك لو كان وكيل ابنه بعض من لا يجوّز شهادة له. ولو أنّ رجلاً أوصى للقاضي بثلث ماله أو أوصى إلى رجلٍ لم يجز قضاء القاضي لذلك الميت بشيءٍ من الأشياء؛ لأنّ له نصيباً فيما يقضي به للميت. وكذلك إذا كان القاضي أحد الورثة للميت؛ لأنه قضاء لنفسه. وكما لا يجوز أن يقضي عند دعوى القاضي، وكذلك عند دعوى الوكيل من الوصي. وكذلك إذا كان الموصى لابن القاضي أو امرأته. ألا ترى: أنه لا يصح (¬2) للشهادة فيما يدّعي للميت، فكذلك لا يصلح القضاء. وكذلك إذا كان للقاضي على الميت دينٌ؛ لأنّ بهذا القضاء يمهد محل حقّه. وفي الجامع الكبير: رجلٌ ماتَ وله على القاضي دَينٌ أو امرأته أو بعض أقاربه ممن لا يقبل شهادة القاضي له دينٌ وله وصيُّ فدفع مَنْ عليه الدين للوصي، ثم ادّعى الوصي الوصاية، وشهد رجلانٍ: أنّ الميت أوصى إليه فقضى ¬
بالوصاية. لا ينفذ، ولا يبرأ. فلو مات القاضي أو عُزلَ فجحدت الورثة الوصاية، فقامت البينة على القضاء بها، أبطل الثاني القضاء الأوَّل، وأخذ المال من القاضي أو ابنه. قال في التحرير (¬1): سوّى محمّد في الجامع في الجواب بين القاضي وبين امرأته وابنه. وقال مشايخنا: يجب أن يكون الجواب في امرأته وابنه خلاف الجواب في نفسه؛ لأن قضاء القاضي لنفسه باطلٌ بالإجماع، فلا يتوقف نفاذه على قضاء قاضٍ آخرَ. وأمّا قضاؤه لابنه وامرأته فمختلفٌ فيه، فمتوقفٌ على قضاء قاضٍ آخَرَ. ولو ادّعى رجلٌ: أنه ابن الميت ووارثه، لا وارث له غيره، فأمضى القاضي الدين، ثم قضى بالنسب بعد ذلك، لم يجز. ولو أمضى هذا القضاء قاضٍ آخرَ، لا ينفذ؛ لأنه قضى لنفسه والأمة مجمعة على بطلانه. وكذا لو كان الوارث غائبًا، ولم يدع وصياً، فدفع القاضي الدين للرجل، ثم نصبه وصياً. ولو غاب رب الدين وادّعى رجلٌ: أنه وكّله بقبض ديونه التي له بالكوفة. أو قال: يقبض ديونه التي له على القاضي أو على أحدٍ من قرابته وأقام البينة. وقضى القاضي بالوكالة، لم ينفذ قضاؤه، ولم يبرأ من الدين إذا دفع إليه. ولو مات أو عزل، ثم رفع ذلك إلى قاضٍ آخر، أبطل ذلك. ¬
فلو قضى بالوكالة، ثم دفع الدين، ثم رفع الأمر إلى قاضٍ آخر، فأمضاه وجؤزه، ثم رفع إلى قاضٍ آخر ثالث يرى القضاء الأوّل باطلاً، فإنه يجيز ما أمضاه القاضي الثاني، وليس له أن يبطله. علل في الكتاب فقال: لأنه أمضى فعلاً مختلفاً فيه. أشار بذلك إلى أن من الفقهاء من يجيز القضاء بالوكالة، كما يجيز بالوصاية؛ لأنّ الوصيّ كالوكيل بعد الوفاة. والوكيل قبل الوفاة وبعد الوفاة سواء، فإذا أمضى الثاني فقد أجاز قضاءً مختلفاً فيه بعد قضائه، فإذا رفع إلى ثالثٍ ليس له أن يبطله كان لم يكن مختلفاً فيه، فهو في محلّ الاجتهاد ليس بخلافه نصٌّ، ولا إجماعٌ، فينفذ على الكل، ولو كان القاضي الثاني أبطل القضاء الأول، لا يكون لغيره أن يجيزه بعد ذلك؛ لأنه أبطل فصلاً مجتهداً فيه، فينفذ على الكل. ولو أنه قضى الدين أوّلاً، ثم قضى بالوكالةِ، ثم رفع ذلك إلى قاضٍ آخر وأمضاه ورآه جائزاً، ثم رفع إلى قاضٍ ثالثٍ يرى ذلك باطلاً، فإنه يبطل ذلك كله ويرده؛ لأنّ الثاني أجاز قضاءً باطلاً؛ لأنّ القاضي قضى لنفسه من كلّ وجهٍ، فإنه مجتهدٌ فيه، وأنَّه باطل بالإجماع، فلم يصحّ إمضاؤه. فأمّا في الفصل الأوّل: لم يكن القضاء لنفسه من كل وجهٍ، فإنه مجتهدٌ فيه كالثاني أمضى قضاءً مجتهداً فيه. انتهى بتحرير التحرير على الجامع الكبير. وفي الخانية: القاضي إذا قضى بأقضيةٍ يختلف فيها الناس، أو قضى لرجلٍ على رجلٍ بحقٍّ وأشهد على قضائه شهوداً ولم يبين بأيّ وجهٍ قضى، ثم رفع ذلك إلى قاضٍ آخر فقال: اشهدوا أني قد أبطلت ما قضى فلان بن فلانٍ القاضي على فلانٍ بن فلان، ونقضت قضاءه للأمر. تحقق عندي إبطاله وقال:
اشهدوا أني قد أبطلت ما قضى فلانٌ على فلانٍ ولم يدل على ذلك شيءٌ، ثم رفع ذلك إلى قاضٍ ثالث، فإن الثالث ينقض الثاني، ويبطل ما أبطله الثاني. قال محمّد: والاثنان في ذلك سواء. وفي الينابيع: قاله أبو يوسف. وفي نوادر هشام: إذا كان الجور من القاضي غالباً ردت قضاياه وشهادته، وإن كان الغالب منه الخير، لم أرد. وقال أبو حنيفة: لو قضى القاضي زماناً بين الناس وأنفذ قضايا كثيرة، ثم علم أنه كان فاسقاً مرتشياً لم يرد ذلك منذ ولي القضاء. ينبغي للقاضي الذي يختصمون إليه أن يبطل كل قضية قضى بها. وفي التتارخانية (¬1)، عن التتمة (¬2): القاضي المقلّد إذا قضى على خلاف مذهبه لا ينفذ قضاؤه. ¬
ولله الحمد على ما أنعم وأولى في الآخرة والأولى. وصلى الله على سيدنا محمّد خاتم النبيين والمرسلين وآله وصحبه أجمعين. تمت عن خط من نسخة من نسخة الموفق (¬1) - رحمه الله تعالى -. ¬
(19) تحرير الأقوال في مسألة الاستبدال
مَجْمُوعَةُ رَسَائِل العَلَّامَة قَاسِم بن قُطْلُوبُغَا [19] تَحْرِيرُ الأَقْوَالِ في مَسْأَلَةِ الاسْتِبْدَالِ تَأْلِيفُ العَلَّامَة قَاسِم بْنِ قُطْلُوبُغَا الحَنَفِي المولود سَنَة 802 هـ والمتوفى سَنة 879 هـ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -
بداية الرسالة
(19) تَحْرِيرُ الأَقْوَالِ في مَسْأَلَةِ الاسْتِبْدَالِ قال - رحمه الله تعالى -: قد رفع إلي بعض أهل سؤالًا صورته في ناظر شرعيٍّ على قرية، والقرية وقفٌ على جهاتٍ معينة، في كتاب وقفه، فاستبدل القرية المذكورة بقطعةِ أرضٍ، على أنّ القطعة المذكورة أكثر غلّة وأقرب استغلالاً، وأن الغبطة والحظ والمصلحة لمستحقي ريع القرية المذكورة في استبدال القرية بالقطعة الأرض. وثبت ذلك على حاكمٍ يرى صحّة الاستبدال، وجواز العمل به على الوجه المشروح فيه، ونفذ ذلك الحكم على نصيحة المذاهب الثلاثة، ثم بعد ذلك تبين: أن القطعة المذكورة لم تكن أكثر غلّة، ولا أقرب استغلالاً، ولا غبطة، ولا مصلحةً لمستحقي ريع القرية المذكورة، وأنّ بعض القطعة المذكورة غرسٌ. وبعضها خوارٌ لا ينتفع بذلك. ولها عادة قديمة بنزول الجند فيها، يصلح فيها للزراعة، وزرعه من غير أجرةٍ. واستمرار ذلك بأيديهم بطريق الشوكة، وعادتهم المستقرة لهم في عرف الإطلاق. والقطعة المذكورة معروفة قديماً بأناسي، بمقتضى أنها منزلة باسمهم ووقفاً مجلياً عليهم في ديوان الاحتباس، شهد لهم بذلك الديوان والتواقيع التي بأيديهم إلى الآن، وكل وقتٍ ينازعون واضع اليد على القطعة المذكورة
صورة ما كتب
ويشكونه من أبواب الأمر أو غيرهم، فهل يكون هذا الاستبدال والحالة ما ذكر، وأنّ القرية المذكورة هي التي أكثر غلّة وأقرب استغلالاً باطلاً غير صحيح. ولا يعول عليه، ولو حكم به ونفّذ، وللنّاظر ومستحقي القرية المذكورة طلب الفسخ إذا أرادوا ذلك في الاستبدال المذكور واسترجاع القرية المذكورة، وردّ القطعة المذكورة أو طلب عوضٍ في مقابلة ذلك من أرضٍ أو بناءٍ أو ما يقوم مقام ذلك من النفع القائم مقام القرية المذكورة أم لا؟. فكتبت له ما صورته: الحمد لله. ربِّ زدني علماً. هذا الاستبدال باطلٌ لو كانت القطعة الأرض المذكورة أكثر غلّة وأقرب استغلالاً، وأقلّ كلفة، وأكثر خراجاً، وملكاً خاصًّا للمستبدل، إذ ليس شيء من ذلك مسوّغاً للاستبدال عند من يراه من علمائنا، وإنما يعتمد ذلك مسوّغاً جهلاً أو تلبيساً، ولا أثر للحكم بذلك، ولا للثناء فيه، ولا تحتاج إلى طلب الفسخ، بل القرية الموقوفة وقفاً على ما كانت عليه، ولا يصح طلب العوض عنها بوجهٍ، وعلى كلّ حاكمٍ رفع إليه هذا الأمر، رفع الأيدي عن القرية الوقف واسترجاع الأجر لمدةِ هذا الاستبدال الباطل إقامةً للقسط الذي أمر الله به بإجراء الأحكام الشرعية على وجهها، ورفع الأيدي المبطلة عن ملك الله - سبحانه وتعالى -. وتحصيل مقاصد الواقفين الذين صاروا إلى الله تعالى مفتقرين إلى ما يصل إليهم من ثواب ما قدّمت أيديهم، وثواب الفقراء المستحقين للريع، وتخليص المستبدل من أكل الحرام على ظنّ الحلال إن كان لا يعلم بحقيقة الحال، إلى غير ذلك من الوجوه التي ترتب عليها قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إن الْمُقْسِطِينَ فِي الدُّنْيا عَلَى مَنَابِرَ مِنْ نوُرٍ عَنْ يَمِينِ الرّحمَنِ، وكِلْتَا يَدَيْهِ يَمِينٌ الَّذِينَ يَعْدِلُونَ
فِي حُكْمِهِم وَأَهْلِهم وَمَا وُلّوا" (¬1). وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "أصحَابُ الْجَنِّةِ ثَلاَثةٌ (¬2): ذُوْ سُلْطَانٍ مُقْسِطٍ،. . . الحديث" (¬3). وقوله - صلى الله عليه وسلم - "إِنَّ أَحَبَّ النَّاسِ إِلَى اللهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَأدناَهُم مَجْلِساً مِنْهُ: إِمَامٌ عَادِلٌ" (¬4). وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "الْعَادِلُ فِي رَعِيَّتِهِ يَوْماً وَاحِداً أَفْضَلُ مِنْ عِبَادَةِ الْعَابِدِ فِي أَهْلِهِ مِئَةَ سَنَةٍ أَوْ خَمسِينَ سَنَةً" (¬5). . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
الشَّك من هشيم (¬1). وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "يَوْمٌ مِنْ إِمَامٍ عَادِلٍ أَفْضَلُ مِنْ عِبَادَةِ سِتِّينَ سَنَةً" (¬2). وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لاَ ظِلَّ إلَّا ظِلُّهُ: إِمَامٌ عَادِلٌ" (¬3) الحديث. فلما وقف على هذا، سألني عن حجتي على ما أجبته به، فكتبت له: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الحمد لله، وسلامٌ على عباده الذين اصطفى، وبعد: ¬
فيقول راجي عفو ربه الكريم قاسم بن قطلوبغا الحنفي: إنّك قد سألتني عن مستندي فيما كتبته لك من جواب فتياك في إبطال استبدال الأرض التي اعتمد الحاكم في جواز استبدالها على قول المشهور: إن المستبدل به أكثر غلّةً، وأيسر استغلالاً. . . إلخ. فأقول مستعينا بالله، إنه حسبي ونعم الوكيل: لا خلاف بين العلماء: أن هذه المسألة لا تتأتّى على قول أبي حنيفة؛ لأنه لا يرى لزوم الوقف، وإنما الجواب على قول صاحبيه. وقد اتفق فقهاء المذهب: على أنّ الأصل في الوقف: أن لا يوهبه، ولا يورث أصلاً، ولا يباع، ولا يستبدل به إلاّ بشرط الواقف ذلك لنفسه أو لغيره مرةً أو مراراً عند أبي يوسف، كان لم يشترط ذلك، ودعت الحالة إلى الاستبدال، وظهرت المصلحة فيه. قيل: روي عن أبي يوسف: أنّ ذلك جائز للحاكم. وعند محمّدٍ: لا عبرة بهذا الشرط، ولا يجوز الاستبدال إلا أن يكون بالعين الموقوفة خللٌ ظاهرٌ، وتظهر المصلحة في الاستبدال. ثم اختلفت الرواية عنه: هل يملك ذلك النّاظر والواقف أم الحاكم. وما قيل: إنّ للحاكم الاستبدال إذا رآه مصلحةً. فمعناه: عند حصول الخلل. ودليلي على هذه المسألة من المنقول: المذهبية والآثار السنية. ما قاله في الهداية وعامة الكتب: الوقف في الشرع على قولهما: حبس العين على حكم ملك الله تعالى، فيزول ملك الواقف إلى الله تعالى على وجهٍ
تعود منفعته إلى العباد، فيلزم ولا يباع ولا يورث. ثم قال: وإذا صحّ الوقف، لم يجز بيعه، ولا تمليكه. ثم قال: الواجب: أن يبدأ من ارتفاع الوقف بعمارته شرط ذلك الواقف أو لم يشترط؛ لأنّ قصد الواقف صرف الغلّة مؤبداً، ولا تبقى قائمة إلا بالعمارة ثم قال: إن كان الوقف على الفقراء؛ لأنه لا يظفر بهم، وأقرب أموالهم هذه الغلة، فيجب فيها، وإن كان الوقف على رجلٍ بعينه وآخره للفقراء فهو في ماله إن شاء في حال حياته، ولا يؤخذ من الغلة؛ لأنه معين يمكن مطالبته، وإنما يستحقّ العمارة عليه بقدر ما يبقى الموقوف على الصفة التي وقفه، فإن خرب يبنى على ذلك الوصف، ثم قال: فإن وقف داراً على سكنى ولده فالعمارة على من له السكنى، فإن امتنع عن ذلك أو كان فقيراً أجّرها الحاكم وعمّرها بأجرتها. ثم قال: ولا يجبر الممتنع ولا يكون امتناعه رضاءً منه ببطلان حقه. ثم قال: وما انهدم من بناءِ الوقف وآلته صرفه الحاكم في عمارةٍ إن احتاج، وإن استغنى عنه أمسكه حتى يحتاج إلى عمارةٍ فيصرفه فيها؛ لأنه لا بد من العمارة لتبقى على التأبيد فيحصل مقصود الواقف. وعلى هذا تواترت عباراتهم في عامّة الكتب. وقال هلالٌ في وقفه: قلت: أرأيت الصرفة إذا احتاجت إلى العمارة، ولم يكن عند القائم بها ما يعمرها. أترى له أن يستدين عليها؟. قال: لا. قال في الذخيرة بعد هذا: وعن الفقيه أبي جعفر: أن القياس هذا. لكن يترك القياس فيما فيه ضرورة نحو أن يكون في أرض الوقف زرعٌ فكلها الجراد، ويحتاج القسم إلى النفقة
لجمع الزرع أو طالبه السلطان جاز له الاستدانة؛ لأن القياس يترك بالضرورة. قال: والأحوط في هذه الضرورة: أن يكون بأمر الحاكم؛ لأن ولاية الحاكم أعمّ في مصالح المسلمين. ومن السنة والآثار: ما روى الجماعة (¬1)، عن ابن عمر: أَنْ عُمَرَ أَصَابَ أَرضاً مِنْ أَرضِ خَيْبَرَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ! أَصَبْتُ أَرضاً بِخَيْبَرَ، لَمْ أُصِبْ مَالاً قَطُّ أَنْفَسَ عِنْدِي مِنْهُ، فَمَا تأمُرُنِي؟ قَالَ: "إِنْ شِئْتَ حَبَسْتَ أَصلَها، وتَصَدَّقْتَ بِها". فَتَصَدَّقَ بِها عُمَرُ عَلَى أَنْ لا تُبَاعَ وَلاَ تُوهبُ وَلا تُورَثُ، [وَتَصَدَّقَ بِها] فِي الْفُقَرَاءِ، وَذِي الْقُرْبَى، وَ [فِي] الرّقَابِ، وَابْنِ السَّبِيلِ، لا (¬2) جُنَاحَ عَلَى مَنْ وَليَها أَنْ يَكلَ مِنْها بِالْمَعرُوفِ، ويطْعِمَ غَيْرَ مُتَمَوِّلٍ (¬3). وفي لفظٍ (¬4): غَيْرَ مُتَأَثِّلٍ (¬5) مَالاً. وفي لفظٍ: أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له: "احْبِس أَصلَها، وَسَبِّلْ ثَمَرتها". رواه ¬
النسائي (¬1)، وابن ماجه (¬2). وعزي للفظ البخاري (¬3): "تَصَدّق بأصلِهِ، لاَ يُبَاعُ وَلاَ يُوْهبُ، وَلاَ يُوْرَثُ، وَلَكِنْ يُنْفِقُ ثَمَرة (¬4) ". فتصدّق به عمر. وما روى الإمام أبو بكر الخصاف في كتاب الوقف (¬5) بإسناده نحو هذا. وما أخرج عن عنبسة (¬6) قال: تصدّق عثمان بن عفان لنا في أمواله على صدقة عمر. وما أخرج من طريق فروة بن أذينة قال: رأيت كتاباً عند عبد الرحمن ابن أبان فيه: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. هذا ما تصدّق به عثمان بن عفان في حياته، تصدّق بماله الذي بخيبر يدعا مال ابن أبي الحقيق على ابنه أبان بن عثمان صدقة بثلثه، لا يشتري أصلاً أبداً، ولا يوهب، ولا يورث. شهد علي ابن أبي طالب وأسامة بن زيد وكتب. وما أخرج، عن طريق عبد العزيز بن محمد، عن أبيه، عن علي بن [أبي] طالبٍ: أنّه تصدّق بما أقطعه عمر بن الخطاب مع ما اشتراه هو على الفقراء والمساكين، وفي سبيل الله وابن السبيل، القريب والبعيد، في السلم والحرب، ¬
ليصرف الله النار بها عن وجهه، يوم تبيضّ وجوه وتسودّ وجوه. وأخرجه من طريقٍ آخرَ: أنه تصدّق بأرضٍ له بإبلاً بيقي بها وجهه من جهنم، على مثل عمر. غير أنه لم يستثن منها للوالي شيئاً كما استثناه عمر. وما أخرجه، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن الزبير بن العوام: أنه جعل دوره على بنيه، لا تباع، ولا توهب، ولا تورث، وأن للمردودةِ من بناته أن تسكن غير مضرّةٍ ولا مضرّ بها، فإذا استغنت بزوجٍ فليس لها حقٌّ (¬1). وما أخرجه عن عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالكٍ وأبي قتادة قال: كان معاذ بن جبلٍ أوسع أنصاري بالمدينة ريعاً، فتصدق بداره التي يقال لها دار الأنصار اليوم، وكتب صدقته وذكر القصة. وما أخرجه عن خارجة بن زيد بن ثابت، عن أبيه قال: لم نرض خيراً للميت ولا للحي من هذه الحُبُس الموقوفة. أنها الميت: فيجري أجرها عليه. وأمّا الحي: فتحبس عليه لا تباع ولا توهب ولا تورث ولا يقدر على استهلاكها. وإنّ زيد بن ثابتٍ جعل صدقته التي وقفها على بنيه صدقة عمر بن الخطاب، وكتب كتاباً على كتابه. ¬
وما أخرج عن عائشة بنت سعد بن أبي وقاص قالت: صدقة أبي حَبْسٌ لا تباع ولا توهب ولا تورث، وإن للمردودة من ولده أن تسكن غير مضرّة ولا مضرٍّ بها حتى تستغنِي. الحديث. وما أخرج عن عبد الرحمن بن الحارث، عن أبيه: أن خالد بن الوليد حبس داره بالمدينة: لا تباع ولا تورث. وما أخرج عن يحيى بن عبد العزيز، عن أهله: أن سعد بن عبادة تصدق بصدقة عن أمه فيها سقي الماء، ثم حبس عليها مالاً من أمواله على أصله، لا تباع ولا توهب ولا تورث. وما أخرج عن أبي سعاد الجهني قال: شهدت عقبة بن عامرٍ الجهني على دارٍ تصدّق بها حبساً، ولا تباع ولا توهب ولا تورث على ولده وولد ولده، فإن اقترضوا فعلى أقرب الناس مني حتى يرث الله الأرض ومن عليها. وما أخرج عن أبي سودة قال: شهدت أبا أروى الدينوري تصدّق بأرضه، لا تباع ولا تورث أبداً. وما أخرج عن أسماء بنت أبي بكرٍ: أنها تصدقت بدارها صدقةَ حبسٍ لا تباع، ولا توهب، ولا تورث. وما أخرج عن موسى بن يعقوب، عن عمته، عن أمها قالت: شهدت صدقة أم سلمة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - صدقة حبساً لا تباع ولا توهب. وما أخرج عن عبد الله بن بسر قال: قرأت صدقة أم حبيبة بنت أبي سفيان زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - التي بالغابة، أنها تصدقت على مواليها وعلى أعقابها وأعقاب أعقابهم حبسٌ لا يباع ولا يوهب ولا يورث.
وعن منيب المزني قال: شهدت صدقة صفية بنت حيي بدارها لبني عبدان صدقة حبساً لا تباع ولا توهب ولا تورث حتى يرث الله الأرض ومن عليها. شهد على ذلك نفرٌ من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وأمّا شرط أبي يوسف: فعلى هلال الرّاوي تلميذ أبي يوسف في كتابٍ وقفه في باب الرجل يقف الأرض على أن يبيعها. قلت: أرأيت لو كان صدقةً موقوفةً لله إبراءً، ولم يشترط أن يبيعها، أله أن يبيعها أو يستبدل بها ما هو خيرٌ منها؟. قال: لا يكون له ذلك إلا أن يكون شَرَطَ البيع، وإلا فليس له أن يبيع. قلت: ولم لا يجوز ذلك وهو خيرٌ للوقف؟! قال: الوقف لا يطلب به التجارة ولا يطلب به الأرياح، وإنما سميت وقفاً لأنها لا تباع، وإنما جوزت ذلك إذا شرطت في غيره الوقف؛ لأنّ الواقف إنما وقف على مثل ذلك، ولو جاز له بيع الوقف بغير شرطٍ كان في أصله، كان له أن يبيع ما استبدل بالوقف، فيكون الوقف يباع في كل يومٍ، وليس هكذا. قلت: أرأيت لو كانت الأرض الموقوفة سبخةً لا ينتفع بها. قال: وإن كانت سبخةً لا ينتفع بها، ليس له أن يبيعها؛ إلا أن يشترط ذلك. وفي الخلاصة: ثم ليس له أن يستبدل الثانية بأرضٍ ثالثةٍ؛ لأنّ هذا الحكم يثبت الشرط والشرط وجد في الأولى دون الثانية، وصرّح به في وقف الخصاف. وذكر أنه إذا أراد ذلك أن يكون له مراراً كان له ذلك بأن يجعله شرطاً في أصل الوقف. وهكذا فعله الإمام أبو بكر الخصّاف في كتاب وقفه. وذكر الإمام أبو عبد الله محمد بن عبد الله الأنصاري البصري صاحب زفر في كتاب وقفه، وكذا الإمام رشيد الدين سعيد في مختصره، وقال في
جزءٍ: إنه الأكمل ولو لم يشترط البيع في الوقف، لا يصح بيعه ولا استبداله، وإن كان الثاني خيراً من الأوّل. وقال في الذخيرة والخلاصة وقاضي خان وغيرهم: إنّ هذا قول أبي يوسف وعليه الفتوى. وأمّا إذا لم يشترط الواقف ذلك. وفي أدب القاضي لأبي بكر الرازي: كان لم يشترط ذلك. قيل: للقاضي ولاية الاستبدال إذا رآه مصلحةً في رواية عن أبي يوسف. وليس لغير القاضي. وقيل: ليس للقاضي ذلك. وقال في الفتاوى التتارخانية (¬1): أما بدون شرطٍ. أشار في السير: إلى أنه لا يملك الاستبدال إلا القاضي إذا رأى المصلحة في ذلك. وأمّا شرط محمّد: فقال في الذخيرة، عن محمَّدٍ: إذا ضعفت الأرض الموقوفة عن الاستغلال، والقيِّمُ يجد بثمنها أرضاً أخرى أكثر ريعاً، له أن يبيع بها هذه الأرض، ويشتري بثمنها ما هو أكثر ريعاً. وقال قاضي خان: روي عن محمَّدِ: إذا ضعفت الأرض الموقوفة عن الاستغلال، والقيِّمُ يجد بثمنها أرضاً أخرى، وهي أنفع للفقراء وأكثر ريعاً، كان له أن يبيع هذه الأرض ويشتري بثمنها أرضاً أخرى (¬2). ¬
وعلى هذا: تواردت عبارة المصنفين. وأمّا الرواية الأخرى عن محمّد فقال في المنتقى، عن محمد: إذا صار الوقف بحالٍ لا ينتفع به المساكين فللقاضي أن يبيعه ويشتري بثمنه غيره. وليس ذلك إلاّ للقاضي. وقال في شرح السير الكبير: وعن الحسن البصري: لا بأس أن يستبدل بالحبس من علةٍ بهِ. ويكره من غير علّةٍ؛ لأنّ من حبسه رضي بحبسه لا بالاستبدال. وأمّا إذا كان بِغَلّةٍ، فإنّ قولهم: زوالها كالمرض. كره الاستبدال به عند أبي يوسف ومحمد. وعند أبي حنيفة: لا يكره؛ لأنّ الحبس عنده غير لازمٍ حتى جاز البيع والرجوع عنه. فكذا الاستبدال. وعندهما لازمٌ ليس لصاحبه أن يبيعه بعدما مرضَ. فكذا ليس لغيره إلَّا أن يصير بحيث لا يتوهم زوال العلّة نحو إن صار بحالٍ لا يستطاع القيام عليه أو كبرَ، فلا بأس بأن يباع ويشترى بثمنه حبساً مكانه إن أمكن تحصيلاً لغرض الحابس، وإلَّا غُري بالثمن عن صاحبه. وأمّا أن الرواية المطلقة مقيّدة بما ذكرت، فلما صرحوا به من أنّ الوقف لا يطلب به الاسترباح، وأن ليس الوقف.
(20) مسألة في الوقف واشتراط النظر للأرشد فالأرشد
مَجْمُوعَةُ رَسَائِل العَلَّامَة قَاسِم بن قُطْلُوبُغَا [20] مَسْأَلَةٌ فِي الوَقْفِ وَاشْتِرَاطِ النَّظَرِ لِلأَرْشَدِ فَالأَرْشَدِ تَأْلِيفُ العَلَّامَة قَاسِم بْنِ قُطْلُوبُغَا الحَنَفِي المولود سَنَة 802 هـ والمتوفى سَنة 879 هـ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -
بداية الرسالة
(20) مَسْأَلةٌ في الوَقْتِ وَاشْتِرَاطِ النَّظَرِ لِلأَرْشَدِ فَالأَرْشَدِ قال - رحمه الله تعالى -: وسئلت عن واقفٍ شرط أن يكون النظر للأرشد فالأرشد من أولاده وأولاد أولاده، وأثبتت بنت الواقف أنها أرشد الموجودين. وحكمَ لها بذلك، ثم بعد مدّةٍ أثبت ابن ابن الواقف أنه أرشد الموجودين، وحكم له أيضًا بذلك مع بقاء الحجة. فمن يستحق النظر أبنت الواقف لتقدم ثبوتها والحكم لها أو ابن ابن الواقف لوجود ثبوت الصفة المشروطة بعد ذلك؟ وهل يقاس على ما ذكره الخصّاف في أحكام الوقف؟. قلت: فإن قال على أن ولاية هذه الصدقة إلى الأفضل فالأفضل من ولدي. وتولاها أفضلهم، ثم صار في ولده من هو أفضل من الذي تولاها الأوّل أو يشتركان. أفتونا مأجورين وابسطوا في الجواب. فكتبت: الحمد لله. ربّ زدني علمًا. لم نقف لعلمائنا - رحمهم الله تعالى - على كلام في ولاية الأرشد على الوقف، والرشد عنهما: صلاح المال، ولا شكٌ إذ أرشد أفعل تفضيل. وفيه: لا بد أن يكون المفضل والمفضل عليه مما يصدق عليهما الاسم بالتواطؤ. ولأحدهما الزيادة فيه. هذا لصدق الاسم. وليس بكافٍ في الشرع كما نصّ
صورة سؤال ورد على الشيخ - رحمه الله - من دمشق
عليه علماؤنا من أنه لا بد مع ما يشرط الواقف، وأنه يراه القاضي موضعًا للولاية على الوقف. وليس ما ذكره الخصاف مما يثبت بالشهادة اليوم؛ لأنّ الذي ذكره الخصاف مصرّح بأن الثاني مشارك الأول في الزيادة التي كان لها أفضل وزاد عليه، أو أنّ الأول عرض له ما صار به مفضولاً. وأمّا الشهادة اليوم فليس فيها، وإنما يحكم بها من غير إفصاحٍ، فلا يتأتّى العمل بها إلاّ على قول بعض متأخري الشافعية من أن حكم الأول مستصحب إلى صدور الثانية، فيعارضها الثانية إلى آخرها. قال: وإنما قلت: بأنه يحكم بالشهادة من غير إفصاحٍ؛ لأنّ الشهادة بالأرشدية يحتاج أن يكون الأولاد وأولاد الأولاد محصورين معلومين حتى يكون المشهود له أرشد من باقيهم. ومن شرط الدعوى: سماع البينة في وجه الخصم. فالخصم قد يكون أجنبيًا لمطالبته بالأجرة ونحوها. فلا يكون إثبات الأرشدية بكون الخصم أحد الأولاد وأولاد الأولاد، فيكون إثبات الأرشدية والنظر متصور ولتقديمه على قرابته المشاركة له في الولاية. فإذا قامت بينة أخرى بالأرشدية لغيره فلا بد من تصريحها بأن هذا أمر تجدد وحينئذٍ يصير كما قال الخصاف. والله أعلم. * صورة سؤال ورد على الشيخ - رحمه الله - من دمشق: الوقف في الشرع ما يباع في كلّ يومٍ عند وجود ما هو أصلح منه، ولما سمعت من عدم جواز بيع حبس به علةً يرجى زوالها إلخ. وقال في الفتاوى الظهيرية: سئل شمس الأئمة الحلواني عن أوقاف
المساجد، إذا تعطلت وتعذّر استغلالها، هل للمتولي أن يبيعها ويشتري بثمنها مكانها أخرى؟ قال: نعم (¬1). قيل: إن لم يتعطل، ولكن يوجد بثمنها ما هو خيرٌ منها، هل له أن يبيعها؟ قال: لا. قال: ومن المشايخ من لم يجوز بيع الوقف تعطل أو لم يتعطل، ولم يجوز الاستبدال. وهكذا حكي عن شمس الأئمة السرخسي. وإليه رجع الظهير. ويؤيد صحّة هذا: ما ذكر قاضي القضاة فخر الدين أبو عمر عثمان بن إبراهيم التركماني النفي في جواز الاستبدال، فإني وإن كنت أعتقد صحّته حين يتعطل الوقف أو يؤل إليه لو ترك على حاله لما فيه من إحيائه وإبقائه مع استقرار البيع للموقوف عليهم، وتحصيل غرض الواقف. اعلم: أن بهذا الحق يتوصلون إلى الباطل. انتهى. فصار الحاصل المنع، والجواز بشرط أن يشترطه أو حصول خللٍ لا ينجبر بما ذكر من عمارته بأنه بمال من له المنفعة أو بإجارته أو استدامة لا وجود راغبٍ بما هو أنفع من غير ضرورة في الوقف. فقد صح أن ما اعتمده في الاستبدال مسوّغًا ليس بمسوغّ عند من يرى صحة الاستبدال، وحيث لم يوجد المسوغ بطل ما ابتنى عليه. وقد وجهوا المنع بظاهر الحديث المتقدم. والجواز عند الاشتراط بما قال في المحيط: قال أبو يوسف: إن اشتراط ¬
الاستبدال شرطٌ يقتضيه العقد؛ لأنه ريما تقع الضرورة إليه؛ لأن الأرض ريما لا يخرج منها بما لا يفضل من المُؤنِ فيؤدي إلى أن لا يصل في الموقوف عليهم شيءٌ لفسادٍ يحدث في الأرض وتكون الأرض الأخرى أصلح وأنفع للموقوف عليهم. فلهذه الضرورة جوّزنا شرط الاستبدال في الوقف. ومحمّدٌ جرى على أصله: من أنّ اشتراط شيءٍ للوقفِ يمنع الخلوص على ما عرف في موضعه، فلم يعتبر هذا الشرط، ووجه له: بأنّ في بيع ما ضعف من الوقف واستبداله بغيره عين مصلحته، ومراعاة بقائه، وإن أخّر حتى انعدمت منفعته بالكلية، ريما لا يرغب أحدٌ في شرائه ألبتّة، فيؤدي إلى استهلاكه وتعطيل منافعه. وفيه: إضاعة المال المنهي عنه شرعًا. فإن قلت: النصوص المتقدمة مطلقة، والمطلق يجري على إطلاقه. قلت: راوي الأصل قد أجاز النقل. فروى صالح بن أحمد بن حنبل، عن أبيه، ومن جهته: رواه الخلال. وعنه: رواه أبو بكر، عن القاسم قال: لما قَدِمَ عبدُ اللهِ بنُ مسعودٍ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ، وكان سَعْدُ بنُ مالكٍ قَدْ بَنَى القَصْرَ، واتّخذ مسجدًا عند أصحاب التَّمْرِ (¬1)، قَالَ: فَنَقِبَ بَيْتُ المَالِ، فَأخذَ الرّجلَ الّذي نقِبَهُ. فكتبَ إلى عمرَ ابن الخطّاب، فكتب عمر: أن لا يقطع الرّجل، وانقلِ المسجدَ، واجعل بيت المالِ في قبلته، فإنّه لا يزال في المسجد مصل. فَنَقَلَهُ عبدُ اللهِ، فَخَطّ له لهذه الخطة (¬2). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
مسألة مهمة
فإن قلت في هذا: إنه أمرَ بنقل المسجد، ولم يكن متعطلاً، فينفذ ما يدّعيه بعض الحنابلة. قلت: بل فيه إشارة إلى تعطيله، فإنه علل بأنه لا يزال في المسجد مُصَلٍّ. فلو كان الأوّل كالثاني لما صحَّ هذا التعطيل، غير أن التعطيل قد يكون من الجماعة وإن كان باقيًا على أصل بينته. وقد يكون بسبب خراب بعضه أو غير ذلك. والله أعلم. وهاهنا مسألةٌ مهمّةٌ وهي: ما إذا وجد مسوّغ البيع والاستبدال فباعه بثمنٍ يتغابن الناس فيه جازَ البيع، وإن كان لا يتغابن الناس فيه، فالبيع باطلٌ نصّ عليه في التتارخانية (¬1) وغيرها. وهاهنا مسألة أخرى: قال في القُنْيَة للعلامة (¬2) نجم الأئمة البخاري: مبادلة دار الوقف بدارٍ أخرى إنَّما يصحُّ إذا كانتا في محلَّةٍ واحدةٍ، أو يكون محلُّهُ المملوك خيرًا من محلِّهِ الموقوف، وعلى عكسه لا يجوز، وإن كانت المملوكة أكثر مساحةً وأكثر قيمةً وأجرةً لاحتمال خرابها في أدوَنِ المحلَّتين لدناءتها وقلَّة رغبات النَّاس فيها (¬3). ¬
ومسألة أخرى: وهي ما شرط الواقف أن لا يباع ولا يستبدل به، ولا يناقل إلخ. فعلى قول من لا يجوّز الاستبدال هاهنا من باب أولى. وكذا على قول من لا يجوّز إلاّ إذا شرطه. وأمّا على قول محمّدٍ: فينبغي أن يجوّز الاستبدال؛ لأنه تعارض فيه شرط الواقف ومصلحة الوقف. ومصلحته مقدّمٌ، كما إذا شرط أن لا يؤجّر أكثر من سنةٍ أو شَرَط أن لا يخرج عن النّاظر، وطرأ (¬1) عليه ما يوجب إخراجه. نصّ على الأوّل في الفتاوى الفيريقية، وعلى الثاني الكافي. والله أعلم. ثم أوقفني على أجرته أهل العصر من علمائنا الحنفية، فأجرها صورته هكذا: الاستبدالات الواقعة في هذا العصر لا يكاد يوجد فيها في شيءٌ من الشروط عند من يرى جوازها لا سيما بخبر المقوّمين الذين لا ينظرون إلى البدل والمبدل عنه، فضلاً عن تقويم منفعته، ورعاية جانب الوقف. وإذا تبيّن أن لا غبطة في الاستبدال حين وقوعه ببينةٍ معدّلةٍ سرًا وجهرًا عارضه لذلك نظر في أمر البينة المسوّغة لوقوعه. ومما يقوي النظر في أمرهم مما ذكر من الموانع الواقعة في البدل المفضية إلى سلب الانتفاع رأسًا. هذا ولا يمنع المستحقين الطلب واسترجاع حكم الحاكم. وعند تعذّر العقد يراعى المقصود من ذلك بما يحصل به لجهة الوقف ¬
ريعٌ مستمرٌّ ولا يضرُّ. والحالة هذه. ثانيهما: إذا تبينَ وتحقق بالشهادة المفيدة للعلم، وتصور القطعة الأرض عن قيمة المُقَرّ به وتفاوت ما بينهما التفاوت الفاحش الذي لا يختلف فيه المقومون، ولا يتوقف فيه النّاظرون. فهذا دليلٌ على كذب المقوم في تلبيسهم الأمر على الحاكم الذي حكم بالغبطة فلا يعمل بتلك الشهادة، ولا بما يترتب عليها، وإنما ينشأ من التقصير بعدم الاستقصاء بطل شروط الحكم أو بالاجتراء مع العلم بفوات الشروط أو بعضها فيجب على من تحقق ذلك أن يبني الأمر على ما حقق وحصل به لإنفاذه لا على ما ليس وقرّه به على الحاكم أو حصل به الاجتراء في الأحكام. ثالثها: عبارته: بطلان هذا الاستبدال إذا ثبت ما ذكر من عدم الغبطة والحظ والمصلحة على مذهب من لا يرى جواز الاستبدال في الوقف ظاهرٌ. أمّا على مذهب من يراه، وكذلك لانتفاء شرط صحته عنده، فالواجب على من ثبت ذلك عنده من الحاكم إبطال هذا الحكم، وإعادة الوقف إلى أهله بطريق الشرع، فيثاب بذلك الثواب الجزيل. والله سبحانه وتعالى أعلم. رابعها: هذا الاستبدال باطلٌ من وجوهٍ: الأوّل: عدم المسوّغ فيه على قول من يقول بذلك. الثاني: من جهة استهتار الشهود فيه. الثالث: من جهة استهتار القاضي الذي حكم به. الرابع: من جهة رغبة المستبدل فيه من حيث قال: إن القطعة التي هي البدل هي أكثر غلّةٌ وأقرب استبدالًا. فإذا كان كذلك فما الفائدة فيه: أن يعطي
بدلًا أكثر من ريع المستبدل. فهذا يدل على أنّ غرضه تلك القرية بهذه الحيازة. الخامس: أن الملكية في البدل لم تثبت. السّادس: أن المستفتي ذكر أن البدل كان مرصدًا في ديوان الأحباس. والذي يرصد في ديوان الأحباس على شرف الزوال، فلا يجوز جعله وقفًا، ولا يبدل وقفٌ إلاّ بعد الشكر من بيت المال على الوجه الشرعي. السّابع: أن الاستبدال في المقر به ليس كالاستبدال في الدور؛ لأنّ الاستبدال في الدور على قول من يرى بذلك، خوفًا من أن يؤل إلى الخراب، أو كان فيه بعض خرابٍ، والقرية ليس كذلك. فإِنّ أرضها لا تخرب أصلًا. الثامن: ظهور على المقر به أكثر من البدل. يدلّ على تكذيب الشهود وتهوير الحاكم. التاسع: ظهور بعض القطعة المذكورة خرسًا، فإنّ هذا أيضًا من أقوى الوجوه ليبطل هذا الاستبدال. العاشر: نزول الظلمة من الأجناد على القطعة المذكورة، وزرعهم فيها من غير أجرةٍ. فهذا الاستبدال باطلٌ من عشرة وجوه. فالحكم فيه: أن ترد القرية المذكورة إلى وقفية واقفها، ويلغى ما ذكر في ذلك من الحظ والمصلحة، فلا حظّ ولا مصلحة في ذلك. وأمّا ريعها الذي حصل، فإنه مضمونٌ. والله أعلم. خامسها: نعم هذا الاستبدال غير صحيحٍ. ولو حكم به، فإنّ الاستبدال في الوقف لا يصحُّ على المذهب إلاّ في رواية عن أبي يوسف بشرط حصول الغبطة للوقف وأن يكون برأي القاضي وتدبيره.
فأيّ غبطةٍ في هذه الصورة المنصوصة أعلاه المشتملة على فاحش الغبن، بل على إعدام جهة الوقف. فالقرية واقعة على حكم الوقف ولا عبرة بمثل هذا الاستبدال ولا معوّل عليه. ولو حكم به مع اختلال شروطه، وكذب شهوده، وعدم القرية للاستبدال بمثل هذا البدل خصوصًا مع احتمال وقفيته فيتعين. ويجب على النّاظر السعي في رفع هذه المفسدة برفع أمره إلى الحكام وولاة أمور الاستبدال. ويتعين عليهم: إزالةُ هذا المنكر الشنيع، ويثابون على ذلك الثواب الجزيل ويصيرون شركاء الواقف في الأجر بالمساعدة في استرجاع القرية إلى مستحقيها. وليس للنّاظر طلب عوضٍ عن القطعة المذكورة من أرضٍ أو بناءٍ أو ما يقوم مقام ذلك، ففيه تقريرٌ للفساد. والله الموفق للعباد. سادسها: إذا ظهر يقينًا كون البدل دون الوقف، ظهر أنْ (¬1) لا أثرَ لذلك الحكم، كما لو حكم بموتِ رجلٍ، فجاء حيًّا، وإن لم يظهر الغبن فيه، فإن كان الواقف شرط أن يستبدل به إذا شاء المتولي أو كانت القرية ضعف نزلها وتوجه إليها الخراب جاز الاستبدال وإن لم يكن واحدًا إلا من أمرين لم يجز، وعلى النّاظر أن يخاصم في رفع ذلك. والله أعلم. وقال: ظاهر الأوّل: أنه يكتفي بشهادةٍ إذا كانوا عدولًا ولا عارفين في أنّ المبدل له أكثر قيمة ويكون ثبوت هذا مسوّغًا وهو خلاف ما نقلته لي من الكتب الذي سميت، فمن أين هذا؟. قلت: لا أعلم إلا ما نقلت لك. وعليك من تتبع الكتب وعندك من ¬
الأهلية ما يكفيك في معرفة الحق. قال: وظاهر قوله: وإذا تبين أن لا غبطةَ ببينة معدلة إلى آخره. إنّ طريق إبطال هذا الاستبدال معارضة البينة التي حكم بها في الاستبدال ببينةٍ أخرى يشهد أن لا غبطة. وترجّح هذه البينة بثبوت ما ذكر في السؤال وهو خلاف قواعد الشرع من أنّها شهادة في معارضة إثبات مؤيدة بحكمٍ. فكيف تسمع، ثم يطلب ترجيحها. وأيضًا: وإذا ثبتت الموانع التي أشار إليها أثبت كذب الشهود المسوّغ. وبطل الحكم المبني عليها، فأيّ حاجةٍ بعد ذلك إلى بينةٍ لا تسمع في الشرع. قال: وقوله: عند تعذّر العود. كيف يتصوّر هذا التعذّر فيما ذكر. قلت: ولا أنازع أهل الفتوى في معلوماتهم، وإنّما أذكر ما أعلمه. قال: وقول الثاني: إذا تبين إلخ. ظاهرٌ في أنّ طريق إبطال هذا الاستبدال أن يحمل القاضي إلى القطعة المستبدل بها ليشاهدها ويكون من أهل الخبرة بقيمة الأراضي، ثم يقضي بعلمه أن هذه دون تلك يبطلان هذا الاستبدال مع معارضة هذا للحكم المتقدّم المعتمد على البينة المقبولة عند الحاكم. وترجّح هذا. وفي هذا خلاف قواعد الشرع وعسر ظاهرٌ. وقد لا يرضى القاضي بذلك فيضيع الحق، ثم هو مخالفٌ لقول المفتي الأوّل: إذا ثبت بالبينة مع كونهما مقلدي إمامٍ واحدٍ، ثم هو مخالفٌ لما نقلت لي من الكتب الذي سميت: أنّ الشرط ما ذكرت. قلت: تقدم جوابي في مثل هذا، وأنت غنيٌّ عن إعادته. قال: فما معنى قوله: وإنّما ينشأ ذلك. . . إلخ؟.
قلت: علمي وعلمك فيه سواء، بل ينبغي أن تكون أجد مني بعلم ذلك، فإنّك قد باشرت الأحكام زمانًا مع دوام الدروس والمطالعة. قال: وما الحاجة إلى قول الثالث ببطلان هذا الاستبدال إلى قوله: أمّا على مذهب من يراه، فكذلك؟. قلت: تقدّم جوابي عن مثل هذا في الجواب الأوّل. قال: وقوله: لانتفاء شرط صحّته عنده ظاهرٌ في أنّه لو كان حكم القطعة كما ذكر شهود الاستبدال كان صحيحًا، وهو خلاف ما نقلت لي من الكتب التي سميت. قلت: تقدّم الجواب. والله أعلم بالصّواب. قال: فما معنى قوله: إبطال هذا الحكم؟. قلت: أن يحكم بأن ذلك باطلٌ لعدم شرط صحّته. قال: فما معنى قوله: وإعادته إلى أهله بالطريق الشرعي؟. قلت: تمكينهم منه بسبب حكمه وإبطال الحكم الأوّل. قال: قول الرابع هذا الاستبدال باطل الأول، عدم مسوّغٍ فيه. يدلُّ على أنه لو كانت القطعة المذكورة، كما ذكر الشهود. ويصح الاستبدال وهو خلاف ما نقلت لي من الكتب التي سمّيت. قلت: قد علمت جوابي، ولا أزيد عليه. قال: قوله الثاني من جهته استهتار القاضي ما معناه. قلت: الإفصاح على ما في كلٍّ جرى مما يقع للناس، فتح باب معاداتهم، ولا حاجة لي في ذلك، بل لم أزل سلمًا للكل. والله أعلم.
قال: قوله الرابع: من جهة رغبة المستبدل إلى آخره. يقتضي: أن أحدًا لا يستبدل وقفًا بما هو أنفع منه. فكيف نصّ الفقهاء على ما لم يقع. قلت: أنت خبيرٌ بعدم حصر القرض في الاسترباح، فلا يحتاج إلى الجواب عن مثل هذا. قال: فما الفرق بين الخامس والسادس؟. قلت: هو مثل ما بين الأوّل والثاني. قال: فما قوله بعد الشراء من بيت المال فيما هو وقفٌ محبس على معنى؟. قلت: مثلك لا يسأل عن معنى هذا أو صورته إذا مات يستحقه من ديوان الأحباس. وعادت الأرض إلى بيت المال، ثم ثبت والعياذ بالله حاجة بيت المال إلى بيع هذه الأرض فاشتراها، استحقوا، ثم لما ملكها تستبدل بها وقفًا. قال: قوله: الاستبدال في القرية ليس كالاستبدال في الدور. إنّ الاستبدال في الدور خوفًا من أن تؤول إلى الخراب. والقرية ليست كذلك؛ لأنّ أرضها لا تخرب أصلًا مخالفٌ لما نقلت لي عن محمّدٍ من قوله: وإذا ضعفت الأرض الموقوفةُ عن الاستغلال. إلخ. ولما في السؤال من قوله: في الأرض البدل بعضها خرسٌ إلى غير ذلك. فكيف قال هذا. قلت: - والله أعلم - بما يصوّره من معنى خراب الأرض.
قال: قوله: التاسع: ظهور بعض القطعة المذكورة خرسًا كيف يكون هذا الظّهور؟. قلت: على قول المعنى الأوّل بالبيّنة على قول المفتي الثاني بالمشاهدة وظاهرها مشاهدة الحاكمِ. قال: قوله: إن نزول الظَلَمَة في الأرض وزرعهم إياها بغير أجرةٍ كيف مبطلاً للاستبدال؟. قلت: لعلّه أراد: أن بهذا يمتنع تسليم البدل. والله أعلم. فالأبعد: التسليم. وهي مما يصح الاستبدال بها، لا يبطل الحكم بسبب تعدي متعدٍّ على ذلك. قال: فما معنى قوله: فالحكم فيه: أن ترد القرية إلى وقفية واقفها. وأنت قلت: فالقرية المذكورة وقفٌ على ما كانت عليه. قلت: معناه: أن يجري عليها حكم الوقف. والله أعلم. قال: وقول الخامس: الاستبدال لا يصحّ علي إلا في رواية عن أبي يوسف بشرط حصول الغبطة. إلخ. مخالفٌ لما نقلت لي عن قول أبي يوسف من الكتب التي سميت. قلت: لا. بل هو مطابقٌ بالمعنى لظاهر الرواية التي نسبت لأبي يوسف وهي التي نقلتها لك عن قاضي خان حيث قال: وأمّا بدون الشرط: أشار في السير إلى أنه لا يملك الاستبدال إلا القاضي إذا رأى المصلحة في ذلك. وهي التي نقلها أبو بكر الرازي في أدب القضاء حيث قال: وإن لم يشرط. قيل: للقاضي ولاية الاستبدال إذا رآه مصلحةً في
روايةٍ عن أبي يوسف. وقد علمت: أن أحدًا من أهل هذا القطر لا يشترط الاستبدال في وقفه بل ربما ينص على عدمه. فلهذا قال المفتي: إنه لا يصح إلا على رواية عن أبي يوسف إلخ. لكن هذا إذا حصل في الوقف خلل كما قدمت لك، فهذه الرواية في المعنى مطابقةً لرواية هشام عن محمد كما نقلته لك عن المنتقى. والله أعلم. قال: وأمّا الحاجة إلى قول السّادس: إذا ظهرَ يقينًا كون البدل دون الوقف ظهر أَنْ لا أثرَ لذلك الحكم مع قوله: وإن لم يظهر الغبن فيه، فإن كان الواقف شرط أن يستبدل به إذا شاء المتولي أو كانت القرية ضعف نزلها، وتوجه إليها الخراب. جاز الاستبدال وإن لم يكن واحد من الأمرين، لم يجز. فإنّ في هذا تصريحات شرط الاستبدال كما ذكر. وهو مفقود فيما اعتمده الحاكم بصحة الاستبدال. قلت: ذكر ذلك ليطابق السؤال، فإنّ في السؤال أنه تبين كذا وكذا. فقال: إن كان هذا صحيحًا كان الحكم كذا. ثم أفاد من قبل نفسه تبرعًا في الجواب: أنه إن لم يكن ما ذكر في السؤال صحيحًا أو تعذر ثبوته. فينظر: هل المسوّغ للاستبدال في نفس الأمر ثابتٌ أم لا؟ وأفاد ما هو المسوّغ في نفس الأمر وهو اشتراط الاستبدال عند أبي يوسف أو ضعف الوقف عما عليه من الريع والمُؤن، وتسارع الخراب على قول محمد. فهذا الجواب هو المشتمل على إصابة الصواب. والله أعلم.
(21) صورة سؤالات وأجوبة عنها
مَجْمُوعَةُ رَسَائِل العَلَّامَة قَاسِم بن قُطْلُوبُغَا [21] صُورَةُ سُؤَالَاتٍ وَأَجْوِبَةٍ عَنْهَا تَأْلِيفُ العَلَّامَة قَاسِم بْنِ قُطْلُوبُغَا الحَنَفِي المولود سَنَة 802 هـ والمتوفى سَنة 879 هـ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -
بداية الرسالة
(21) صُورَةُ سُؤَالَاتٍ وَأَجْوِبَةٍ عَنْهَا ورد على الشيخ - رحمه الله تعالى - من دمشقٍ: مَا تقولُ السّادة العلماء الحنفية أئمة الدين، وعلماء المسلمين رضي الله عنهم أجمعين في رجلٍ شافعي المذهب، عالمٍ بالفرائض، يرجع إليه في ذلك في بلده يقول: إنّ فرائض الحنفية ناقصة كثيرًا مما نصن عليه الجمهور من العلماء. من ذلك: أنهم لم يذكروا في باب الموانع: أنّ الدور الحكمي مانعٌ أم لا؟ وقد نصّ عليه الجمهور. ولم يذكروا في باب الردّ ما إذا كان في الورثة خنثى كأمّ وأختٍ لأبوين وخنثى لأب وزوجة وولد ابنٍ خنثى وأم أختٍ لأبوين، وأختٍ وخنثى وأمّ وولديها وأختٍ وخنثى لأب. ولم يذكروا في باب العول (¬1) ما إذا كان في الورثة خنثى مع مخالفة أبي يوسف لأبي حنيفة ومحمّد في صوابه. ولم يذكروا في باب المناسخات اختصارها وهو من المهمّات. ولا في باب الحمل ما إذا اختلف حال الحمل ومورثه في الدين ككافرٍ ماتَ عن كافرةٍ حاملٍ أو من غيره كزوجةِ ابنه، ثم أسلمت قبل الوضع. ¬
ولا ما استهل أحد التوأمين وماتا ولم يعرف المستهل. وفيه تفصيلٌ وله أحكامٌ. ولا من مسائل الجهل بالسابق موتًا ما لو علمَ، ثم نسيَ. وأمّا فلم يتعرضوا فيما إذا أوصى بمثل النصيب وكان في الورثة خنثى أو خناثى ولا دوريات الأقرار ولا دوريات الوصايا ولا العين (¬1) والدين، ولا ما إذا اجتمع وصيّته لوارثٍ ولغير وارثٍ في جنسٍ مع إطناب السلف والخلف في كيفية القسمة في أمثال لذلك مما نصّ عليه المصنفون من أرباب المذاهب. وطالعت الكثير فلم أجد عينًا ولا أثرًا وراجعت الكثير، فلم أجد حسًّا ولا خبرًا، بل غايته كلام لا نقل ولا تخريج. هذا حاصل الكلام، وإن كانت العبارات مختلفة حتى اشتدّ بعض الناس. ألا يا تابعي النعمان نوحوا ... على علمائكم وأبدوا انتحابا فمنهم قد خلا شام ومصر ... فمعهد فضلكم أضحى خرابا أجاب الشيخ - رحمه الله تعالى -: الحمد لله، ربّ زدني علمًا. ليس الأمر كما زعم من نقص فرائضنا، وما ذكر من المسائل فموجودٌ في كتب علمائنا تنصيصًا وتأصيلًا، وغالب ما يوجد في كتب أئمة هذا القائل ¬
فمبلغ علمائنا وهم السّابقون إلى استنباط الفقه، وتدوينه. وعنهم أخذ واقتفى. فقد دوّن الفقه عن إملاء أبي يوسف من قبل سنة 181 إحدى وثمانين ومئة. ودوّن الحسن بن زياد كتاب المقالات في حساب الوصايا وأعمال الدّور، وإخراج المجهولات في هذا التاريخ. ودوّن عن إملاء محمد والحسن: كتاب الخنثى، وكتاب فرائض الخنثى، وكتاب الدّور، وكتاب حساب الوصايا، قبل 189 تسعٍ وثمانين ومئة. وروينا في تاريخ الخطيب (¬1)، عن الشافعي أنه قال: أخذت عن محمّد ابن الحسن، وَقْرَ [بُخْتي] كتبًا (¬2). ورويناه في طبقات ابن سعدٍ (¬3)، عن الربيع وسليمان عنه ¬
ورويناه في بيان المنتظم. وقرأته على حافظ العصر أحمد بن علي بن حجر في كتاب الإنباء (¬1) من تصنيفه، وأجازني به في سابع عشر شهر رجب سنة خمسين وثلاثين وثمان مئة. وروينا في تاريخ الخطيب (¬2)، عن إبراهيم الحربي (¬3): قلت لأحمد بن حنبل: من أين لك هذه المسائل الدقاق؟ قال: من كتب محمد بن الحسن. وكذلك رواه ابن الجوزي في المنتظم (¬4)، وفيه: رويناه من طريق الخطيب هذا. ¬
وأما النقل بالمسائل المذكورة، فقال محمَّدٌ في الإملاء: ولو كانت للرَّجل عمَّةٌ أو مولى نعمةٍ (¬1)، فأقرَّت العمَّة أو مولى النِّعمة (¬2) بأخٍ للميِّت من أبيه أو بأُمِّه أو بعمٍّ أو بابن عمٍّ، أخذ المقَرُّ [له] الميراث كلَّه، لأنّ الوارث المعروف أقرَّ بأنَّه (¬3) مقدَّمٌ عليه في استحقاق ماله، وإقراره حجَّةٌ على نفسه. انتهى. فلمَّا لم يكن في هذا دورٌ عندنا لم يذكر في الموانع وذكر في بابه (¬4). حتى ذكر في الملقبات: قال في الإسفار: ومنها أدخلني أخرجك. فذكر هذه المسألة. وأمّا إذا كان مع الجد أخوة وفيهم خنثى فهذه المسألة مأخوذٌ حكمها مما أصّل الأئمة. ¬
باب العول
فأبو حنيفة يحجب الأخوة بالجد، فلا يتوجه على قوله سؤال. وعلى قولهما: إذا كانت المقاسمة خيرًا للجد فكان حينئدٍ. وكذا إذا استوى الثلث والقسامة. وإن كان الثلث خيرًا للجد فله الثلث. والباقي للأخوة كأن لم يكن جد، فإن كان معهم صاحب فرضٍ فله فرضه. والباقي على الحكم المعلوم بأن كان ثلث الباقي خيرًا له. فله ذلك. والباقي بينهم، كأن لم يكن جد. وإن كانت القسامة خيرًا فكما مرّ وإلاّ فله السدس الباقي. والباقي بينهم كأن لم يكن جد. وأمّا باب العول: فالنّقل فيه عن علمائنا في شرح العلامة محمود، عن الصّدر سليمان، مما أصّله عن محمد في الإملاء بلفظ: لو كان في مسائل الخنثي عولٌ كأبوين وبنتين وزوجة وهي المنبرية وأحد البنتين خنثى تعتبر الخنثى أنثى على قول أبي حنيفة؛ لأنه في حقّه ببابه أصلها على تقدير المذكورة من أربعة وعشرين. وتصحّ من اثنين وسبعين للأنثى منها ثلاثة عشر. وعلى تقدير الأنوثة لها ثمانية من سبعة وعشرين وهي أقل من الأولى وعلى قولهما. تصحّ من أربع مئة واثنين وثلاثين للخنثى مئة واثنان وأربعون؛ لأنه لو كان ذكرًا أخذ مئة وستة وخمسين. ولو كان أنثى أخذ مئة وثمانية وعشرين. وذلك مئتان وأربعة وثمانون ونصفها ما ذكرناه. هذا نصّه. وأمّا باب الرّدّ فنصّه فيه: لو كان في مسألةٍ ردٌّ كأخ لأم وولد أب وأم خنثى وولد أب على قول أبي حنيفة لولد الأب والأم النصف بيقين. ولولد الأم السدس بيقين، ثم إنّ ولد الأم يقول: إنمّا اثنتان والمال مورود على خمسة
ولي خمس المال ومعي السدس. يبقى لي ما بين السدس والخمس وهو ثلاثة عشر سهم من ثلاثين. فهذا السهم يدعيه الثلاثة فيكون بينهم أثلاثًا يبقى من المال خمس وعشر. وذلك تسعة لا دعوى فيها لولد الأم، ويدّعيها ولد الأب والأم وولد الأب فيكون بينهما نصفين. فقد حصل مع ولد الأم خمس وثلث من ثلاثين ومع ولد الأب والأم تسعة عشر ونصف وثلث. ومع ولد الأب أربعة ونصف فاضرب مخرج الثلث والنصف في الثلاثين يكن مئة وثمانين. انتهى. ولي فيه بحثٌ بيّنته في شرح مقدمة الفرائض للسيد. ثم قال: وعلى القول بالأحوال لو كانا ذكرين، كانت من ستة، ولو كانا اثنين كانت من خمسة، فاضرب خمسة في ستة تكن ثلاثين، ثم في اثنين تصير ستين لولد الأم في حالة السدس. وفي حالة الخمس خمسة وستة إحدى عشر من ستين والباقي لولد الأب والأم؛ لأنّ له في حالة خمس أسداس. وفي حالة: ثلاثة أخماس. وإن اجتمع مع من يرد عليه كامرأة وولد وخنثى وولد ابن خنثي فصَحِّحْ مسألة الخنثيين، واعرف قسمة المال بينهما، ثم اجعل قسمة المال من ثمانيةٍ لثمن المرأة، فأعطها منها واحدًا يبقى سبعة أقسمٍ على ما صحّت منه مسألة الخنثيين. انتهى. فإذا عرفت نصوص علمائنا وطريق العمل عندهم خرجت المسائل التي مثل بها السائل على ذلك. فالأولى: من خمسة عند الإمام. ومن اثنين وأربعين عند أبي يوسف. والثانية: من ثمانية بلا خلاف.
والثالثة: من ستة. والرابعة: كذلك عند الإمام، وعليه الفتوى. ولا يخفى طريق العمل بعد تقدير الأصول. وأمّا اختصار المناسخة: فبعض علمائنا فيها لفظه. وأمّا قطع المناسخة وهي: أن تطلب الموافقة بين نصيب كل جنسٍ من ورثة الأموات جمعًا، فإن وجدت فخذ جزء الموافقة من نصيبه قبل القطع. مثاله: مات وترك زوجة وأختًا لأبٍ وأم وجدّة وعمًّا، ثم الجدة ماتت وتركت ابنًا الذي هو عم الميت فصار للعم ثلاثة وللزوجة ثلاثة وبين الثلاثة والستة موافقة بالثلث فصار للأخت سهمان وللعم سهمٌ، وللزوجة سهمٌ. وأمّا إذا اختلف حال الحمل ومورثه في الدين فنصّ علماؤنا في ذلك المرتدة في ذلك وجاءت بولدٍ لأكثر من ستة أشهر إلى ستين ورث. وإن ولدت لأكثر منها لم يرث، فإنّ ارتدا معًا فولدت لأقل من ستة أشهر من حين الردة، ثم قبل الأب على الردة، ورث الصبي منه. وكذا لو مات المسلم عن امرأته الحامل فارتدت ولحقت بالدار وولدت فتبين أنه كان موجودًا قبل، تبين الدين ورث وإلاّ لا. وأمّا استهلال أحد التوأمين فنصّ علماؤنا فيه. مات عن ابن وامرأةٍ حامل فولدت ابنًا وبنتًا أحدهما ميّت والآخر استهلّ، ولا يدرى أيّهما استهلّ فللمرأة الثمن وللابن النصف ما بقي. وللمستهلّ ثلث ما بقي، وما زاد على الثلث إلى النصف بينهما. ولي في فيها بحثٌ جليل. . . . .
مع السَّجاوَندي (¬1) والسّرخسي وحيدر (¬2)، أوردته في شرحي لمقدمة الفرائض للسير، فمن أراد الوقوف عليه فليطالعه ثمّة. وأمّا إذا علم السّابق موتًا في نحو المتوفّى، ثم علم، فنصّ علماؤنا فيه: وإذا مات متوارثان أو أكثر في غرقٍ أو هدمٍ أو ازدحامٍ أو طاعونٍ أو تردٍّ أو قتالٍ ولم يعلم أيّ المتوارثين مات أوّلًا، وادّعت ورثة كلّ ميتٍ أنّ الآخرَ هو السّابق بالموت أو تعارضت بيّنتان أو مات أحدهما قبل الآخر أو أشكل السّابق أو علّمناه، ثم جهلناه، جعلوا كأنهم ماتوا معًا فمال كلّ واحدٍ لورثته إِلاّ حيًّا. ولا يرث بعض الأموات من بعضٍ. وأمّا إذا أوصى بمثل نصيب أحد الورثة، وفيهم خنثى أو خناثى، فيعلم بما أصّلوه في ذلك وهو: أن يجعل الموصى له، إمّا زائدًا على بني الميت حتى إذا كانوا ثلاثة كان له الربع، وقد ذكروا في هذا ما هو بالعطف. وما هو بالاستثناء في شرح الزيادات وغيره. وأمّا دوريات الإقرار: فقال في الإسعاد: ويلتحق بالوصايا الأقارير. ¬
ويحتاج إلى معرفة ما فوق الكبير وما تحته إلى آخر الباب. وأمّا دوريات الوصايا، فقد صنّف محمّدٌ فيه ونصّه: باب العين والدين: وإذا مات الرّجل وترك ابنين له على أحدهما دين عشرة دراهم وترك عشرة دراهم عينًا ولا مال له غير ذلك، ولا وارث له غيرهما، فأوصى بالثلث، فإنّ الفريضة من ثلاثة إلى آخره وهو جزءٌ لطيفٌ. وأمّا اجتماع الوصيين في الحبس فنقول (¬1): على أن الحبس إن خرج من الثلث فما أصاب الوارث مما جعله له المحبس، قسم عليه وعلى بقية الورثة على قدر مواريثهم. وما أصاب غير الورثة سلم له، فإذا مات الوارث سلمت لمن ليس بوارثٍ على ما شرط المحبس. وإذا كانت لا تخرج من الثلث يكون ثلثاها ميراثًا. والثلث على ما تقدّم. والله سبحانه وتعالى أعلم. وأنشد الشيخ قاسم - رحمه الله تعالى -: الله أحمدُ إذْ أَبقى لنا كتبًا ... حوت علوم سراج الأمة الوسط هي الأوائل في التدوين قد برزت ... من حوز فكرته المأمونة الغلط منها استمد الذي قد جاء بعد كذا ... في كتبهم تُليت بالحرف والنّقط ¬
فائدة
فمعهد الفضل معمور بها وبمن ... قد حازها صدره حفظًا على النمط فلا ينوح بلا شكرٍ لبارئنا ... ونكثر الرّحمة السّحّاء على الفَرَط والله سبحانه وتعالى أعلمُ. * فائدة: ذكر في النوادر في باب الغصب: المعتوه: من كان قليل الفهم، مختلط الكلام فاسد التَّدبير، إلاَّ أنَّه لا يَضْرِب ولا يشتم كما يفعل المجنون (¬1). قيل في الحدّ الفاصل بين (¬2) المعتوه والمجنون والعاقل (¬3): إنَّ العاقل: من يستقيم كلامه وأفعاله، وغيره نادرٌ، والمجنون ضدُّه، والمعتوه: من يخالط كلامه وأفعاله، فيكون هذا غالبًا، وذاك غالبًا، فكانا سواء. قيل: المجنون من يفعل هذه الأفعال لا عن قصدٍ، والعاقلُ [قد] يفعل ¬
ما يفعله المجانينُ في الأحايين، لكن لا عن قصدٍ - يعني: يفعلُ على ظنِّ الصَّلاح، والمعتوه من يفعلُ ما يفعلهُ المجانينُ في الأحايين، لكن لا عن قصدٍ - يعني: يقصد فعله مع ظهور الفسادِ -. والله سبحانه وتعالى أعلم.
(22) مسألة تعليق الطلاق بالنكاح
مَجْمُوعَةُ رَسَائِل العَلَّامَة قَاسِم بن قُطْلُوبُغَا [22] مَسْأَلَةُ تَعْلِيقِ الطَّلاَق بِالنِّكاحِ تَأْلِيفُ العَلَّامَة قَاسِم بْنِ قُطْلُوبُغَا الحَنَفِي المولود سَنَة 802 هـ والمتوفى سَنة 879 هـ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -
بداية الرسالة
(22) مَسْأَلَةُ تَعْلِيقِ الطَّلاَق بِالنِّكاحِ قال - رحمه الله تعالى -: هذا تعليقٌ على مسألة تعليق الطلاق بالنكاح لما سأصرّح به من إشكال بعض المصنفين، وخبط بعض العصريين إلى غير ذلك مما توهّم من عبارة بعض المشايخ. والله ولي التوفيق وهو حسبي ونعم الوكيل. قال علماؤنا: إذا قال الرّجل لامرأةٍ إن تزوجتك فأنت طالقٌ. أو قال: إن تزوجت امرأةً فهي طالقٌ، أو كلّ امرأةِ تزوجتها فهي طالقٌ، أو كلّما تزوجت امرأة فهي طالقٌ. وقع الطّلاقُ عقيب النكاح. وهذا قول طائفةٍ من السلف. روى ابن أبي شيبة في مصنّفه، عن سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب، والقاسم بن محمّد، وعمر بن عبد العزيز (¬1)،. . . . . ¬
وعامر الشعبي، وإبراهيم النخعي (¬1)، والأسود (¬2)، وأبي بكر بن عبد الرحمن وأبي بكر بن عمرو بن حزم، وعبد الله بن عبد الرحمن (¬3)، والزهري (¬4)، ومكحول الشامي (¬5)، في رجلٍ قال: إن تزوّجت فلانةً فهي طالقٌ، أو يوم أزوّجها فهي طالقٌ، أو كل امرأةٍ أتزوجها فهي طالقٌ. قالوا: هو كما قال. وفي لفظٍ: يجوز عليه ذلك. ¬
وقال الشافعي: لا يصحّ هذا التعليق، ولا يقع عليه الطلاق (¬1). لنا: أنّ هذا تعليقٌ لما يصحّ تعليقه، وهو الطلاق، فيلزم كالعتق والوكالة والإبراء، ولأنّ التعليق بالشرط يمنع اتصال الحكم بمحله. وبدون الاتصال بالمحلّ لا ينعقد سببًا. واستدلّ الشافعي: بما رواه أبو داود، والترمذي وحسّنه: أنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "لَا نذْرَ لابْنِ آدَمَ فِيمَا لاَ يَمْلِكُ، وَلاَ عِتْقَ لَهُ فِيمَا لاَ يَمْلِكُ، وَلاَ طَلاَقَ لَهُ فِيمَا لاَ يَمْلِكُ" (¬2). ¬
وما في معناه. وأُجِيبَ: بأنّ هذا محمولٌ على نفي التخيير؛ لأنه هو الطّلاق لا تعليقه، فإنه لا يفهمه أهل اللغة ولا العرف ولا الشرع لما روى مالكٌ في موطئه (¬1): أنَّ سَعِيدَ بنَ عَمْرِو (¬2) بْنِ سُلَيْمٍ الزُّرَقِيِّ سَأَلَ الْقَاسِم (¬3) بْنَ مُحَمَّدٍ عَنْ رَجُل طَلَّقَ امْرَأَةً إنْ هُوَ تَزَوَّجَهَا؟ فَقَالَ الْقَاسِم (¬4): إِنَّ رَجُلًا جَعَلَ امْرَأَةً عَلَيْهِ كَظَهْرِ أُمِّهِ إِنْ هُوَ تَزَوَّجَهَا، فَأَمَرَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ إِنْ هُوَ تَزَوَّجَهَا أَنْ لا يَقْرَبَهَا حَتَّى يُكَفِّرَ كَفَّارَةَ الْمُتَظَاهِرِ (¬5). وروى عبد الرزاق عن (¬6) معمر، عن الزهري أنه قال في رجلٍ: كل امرأةٍ ¬
أتزوّجها فهيَ طالقٌ، وكلّ أمةٍ اشتريتها فهي حرّة. هو كما [قال]. قال له معمر: أو ليس قد جاء: "لاَ طَلاَقَ قَبْلَ نِكَاحٍ، وَلاَ عِتْقٍ إِلاَّ بَعْدَ ملكٍ"؟ قال: إنما ذلك أن يقول الرجل: امرأة فلانٍ طالقٌ، وعبدُ فلانٍ حرٌّ (¬1). قال الشيخ عبد اللطيف بن فرشته في شرح المنار: ولقائلٍ أن يقول: يشكل تعليق الطلاق والعتاق بالملك، لما روي عن عبد الله بن عمرو بن العاص: أنّه خطبَ امرأةً، فأبَوا أن يزوّجَهَا إِلاَّ بِزِيَادَةِ صَدَاقٍ. فَقَالَ: إِن تَزَوَّجْتُهَا فَهِيَ طَالِقٌ ثَلاثًا. فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: "لاَ طَلاَقَ قَبْلَ النِّكاحِ" (¬2). فإن الحديث مُفَسّرٌ لا يقبل التأويل، فلا بد أن يبيّن نسخه أو عدم صحّته. انتهى. وسئل عن هذا الشيخ محيى الدين الكَافِيَجي (¬3)، فأجاب: ¬
الحمدُ لله الهادي للصّواب، الحديثُ محمولٌ على نفي تخيير الطلاق قبل النكاح. كذا ذكره أئمة الحديث والفقهاء على أنّه: لا يكون حجّةً علينا. لا ينفي التعليق كما ترى، فيكون نصب الدليل في غير محلّ النزاع، فإن قلت: الواقعة تشهد له بظاهرها، فلا يعدل عنه إلاّ بدليل، ولا دليل هنا. قلت: قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لاَ طَلاَقَ قَبْلَ النكِّاحِ". شاهدٌ لنا عليه، فلا بُدّ من صرفِ الواقعة عن ظاهرها بقرينةِ الجواب، كما هو المقرر في موضعه. فإن قلت: فليحمل قوله - صلى الله عليه وسلم - على نفي التعليق بقرينة الحادثة السابقة، كما هو المتبادر. قلت: حمل الكلام على حقيقةٍ واجبٌ مهما أمكنَ، لا سيما في كلام النبي - صلى الله عليه وسلم -. والحاصل: أنّ كلامه نصٌّ لا يقبل التّأويل. والكلام في الواقعة ظاهرٌ يقبل، فوجب تأويلها دونه من غايةٍ لقانون الشرع والأدب وترجيحًا لكلامه على كلام غيره، واكتفاء بتأويل كلام غيره عن تأويل كلامه، إذ لا ضرورة إليه. والحالة كذا. والله أعلم بالصّواب. كتبه محمد بن سليمان الكافيَجي الحنفي - عفى الله عنهما -. قلت: قد دخل على الذي أخذ منه ابن فرشته حديث في حديث. وذلك: أن الذي في كتب السنة وهو المحفوظ عند أهلها من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص، هو ما قدمته في الاستدلال للشافعي من عند ¬
الترمذي بدون قصة. والقصّة إنّما تروى من حديث عبد الله بن عمر بن الخطاب، وأبي (¬1) ثعلبة الخُشَنِيّ. كما أخرج الدارقطني (¬2)، عن عبد الله بن عمر: أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - سئلَ عن رجلٍ قال: يوم أتزوّجُ فلانةً فهيَ طَالِقٌ ثلاثًا؟ قال النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "طَلَّقَ مَا لاَ يَمْلِكُ". وأخرج (¬3)، عن أبي ثعلبة الخشنيّ قالَ: قَالَ عَمٌّ لِي: اعْمَلْ عَمَلًا حَتَّى أُزَوِّجَكَ ابْنَتِي. فَقُلْتُ: إِنْ تَزَوَّجْتُهَا فَهِيَ طَالِقٌ (¬4)، ثُمَّ بَدَا لِي أَنْ أَتَزَوَّجَهَا، فَأتيْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ فسألته، فقال لي: "تَزَوَّجْهَا، فَإِنَّهُ لاَ طَلاَقَ إِلاَّ بَعْدَ النكِّاحِ (¬5) ". قَالَ: فتزوّجها (¬6)، فَوَلَدَت لي سعدًا وسعيدًا. انتهى. إذا عرف هذا: فالحديث أشكل. هو الذي فيه القصّة، ولم يقل عاقل: إنّه مؤوّلٌ بما ذكر. فقوله: إنّه محمولٌ على نفي التنجيز باطلٌ. وكذا قوله: نصب الدليل في غير محلّ النّزاع. والحاصل: أنه أخذ كلام المشايخ في الحديث الذي لم يذكر فيه قصّة. ¬
وأوردوه فيما ذكر بالقصّة الصّريحة في نفي التّأويل. يختار بيان عدم صحّته المذكور. والله أعلم. وإذا عُلم بطلان هذا الجواب، فنقول قوله، فلا بد أن يبين نسخه أو عدم صحّته. ففي إسناد حديث ابن عمر: ابن خالد الواسطي. عمرو بن خالد. قال فيه أحمد بن حنبل (¬1) ويحيى بن معين (¬2) وغيره (¬3): كذّاب. والدّارقطني (¬4): إِنّه كذاب. ¬
وقال وكيع (¬1): كان في جوارنا يضع الحديث، فلما فُطِنَ به تحوّل إلى واسط. وقال إسحاق بن راهويه وأبو زرعة الرازي (¬2): كان يضع الحديث. وفي الثاني: علي بن قَرِين: قال يحيى بن معين وغيره: كذاب. وضعّفه أحمد. وقال ابن عديّ: يسرق الحديث. وقال أبو بكر ابن العربي: ليس لهذه الأحاديث أصل في الصّحة. وقال ابن عبد الهادي (¬3): الحديثان باطلان. انتهى. وقال بعض من يزعم أنه يعلم من أهل الشّام: قد نقل الإمام حافظ الدين البرازي في مناقب أبي حنيفة في الفصل العاشر: أنّ رجلًا وامرأةً كانا يقعان في أبي حنيفة فوقع بينهما مشاجرة ذات ليلةٍ. فقال الزوج: إن سألتيني الليلة الطّلاق ولم أطلّقك فأنت ثلاثًا. وقالت المرأة: إن لم أسألكَ الليلة الطلاق ¬
فمالي صدقة. فلما سكت عنهما الغضب ذهبا إلى سفيان الثوري وابن أبي ليلى وابن أبي شبرمة، فلم يجدوا عندهم مخرجًا، فرجعا إلى أبي حنيفة مرعوبين فسألاه. فقال للمرأة. اسأليه الطلاق، فسألته، فقال للزوج: قل: أنت طالقٌ إن شئتِ. فقال لها: أنت طالق إن شئتِ. فقال للمرأة: قولي: لا أشاء. فقالت: لا أشاءُ. قال أبو حنيفة: اذهبا فقد بررتما. واتفقت كلمة أصحابنا في أصولهم: أنّ المعلّق بالشّرط لا ينعقد سببًا قبل وجود الشرط، فإن كان الزوج قد بَرّ في يمينه، فكيف ولم ينعقد المعلّق سببًا. وإن كان المعلّق لا ينعقد سببًا، فكيف بر. قلت: الجوابُ: إنّ قوله: أنت طالقٌ إن شئتِ تمليكٌ لا تعليقٌ. قال في الذخيرة: تعليق الزوج طلاقَ المرأة بصفة من صفات قلب غيره، تفويض تمليك معنى، فيقتصر على المجلس، وعلى هذا اتفق كلام الأصحاب. والله أعلمُ. ولما شاع هذا الجواب استبعد البِرّ بعض إخواني لخفاء وجهه عليه. فقلت: الوجه للبر أنّ الحالفَ إنما انعقد يمينه على الإيقاع لا الوقوع، وقد أوقع وإن أوصل به شيئًا آخرَ. ألا ترى إلى ما قال أبو يوسف، عن أبي حنيفة قال: قلت: أرأيتَ أنّ رجلًا طلّقَ امرأته ثلاثًا أو واحدة يقول لها: أنتِ طالقٌ. هل في ذلك حيلةٌ حتى لا يقع عليها الطّلاق، وترجع إليه. فتكون على حالها؟ قال: نعم. قلت: فما الحيلة في ذلك؟. قال: إذا قال أنت طالقٌ ثلاثًا أو واحدةً فقال: إن شاء الله تعالى. فوصل يمينه بالاستثناء. برّ.
قلت: وكذلك إن قال لعبده: أنتَ حرٌّ إن شاء الله. قال: نعم. قلت: ويقول هذا غيركم؟ قال: نعم. قد جاءت به الأحاديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قال أبو يوسف: حدثنا أبو حنيفة، عن الحكم بن عتيبة (¬1)، عن عبد الله، وعن علي بن أبي طالبٍ: أنهّما قالا: من حلف بطلاقٍ أو عِتَاقٍ فاسْتَثْنَى، فلهُ اسْتِثْنَاؤُهُ (¬2). وقال أبو يوسف: حدثنا محمد بن عبيد الله العَرْزَمِيّ (¬3)، عن عطاء بن أبي رياح، عن عبد الله بن عبّاس أَنا قال: مَنْ حَلَفَ بِطَلاَقٍ أَوْ عِتَاقٍ فَقَالَ: إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى، لَمْ يَقَعْ طَلاَقٌ وَلاَ عِتَاقٌ. وقال أبو يوسف: وحدثنا الحسن بن عُمارة (¬4)، عن الحكم (¬5)، ¬
عن إبراهيم (¬1) مثله. وحدثنا أبو حنيفة، عن حمّاد (¬2)، عن إبراهيم أنّهُ قال: مَنْ حَلَفَ بِطَلاَقٍ أَوْ عِتَاقٍ فَقَالَ: إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى لَمْ يَقَع طَلاَقٌ وَلاَ عِتَاقٌ، فَمَنْ حَلَفَ بِشَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الأَيْمَانِ فَقَالَ: إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى فَقَدْ بَرَّ وَخَرَجَ عَنْ يَمِينِهِ. حدثنا عبد الله بن عمر الحملي، عن ليث بن أبي سليم، عن طاوس قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَقَالَ: إِنْ شَاءَ اللهُ، فَقَدْ خَرَجَ عَنْ يَمِينِهِ" (¬3). قال ليث: فقلت لطاوس: وفي الطّلاق والعتاق؟ قال: نعم. وفي الطّلاق والعتق إِلاَّ مَا يَرْفَعُهُ إِلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فِي الطَّلاَقِ وَالْعِتَاقِ. قال: حدثنا الحسن بن عُمارة، عن الحكم، عن (¬4) عبد الله بن عباس أنّه قَالَ: مَنْ حَلَفَ (¬5) عَلَى يَمِيْنٍ فَقَالَ: إِنْ شَاءَ اللهُ فَلاَ حِنْثَ عَلَيْهِ وَلاَ كَفَّارَةَ. قال: وحدثنا أبو يحيى، عن أبيه البراء بن عازب، عن علي بن أبي طالبٍ قَالَ:. . . . . ¬
مَنِ اسْتَثْنَى فَلاَ حِنْثَ عَلَيْهِ (¬1). قال: عن أبي حنيفة، عن القاسم بن عبد الرحمن، عن عبد الله بن مسعودٍ أنّه قال: مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَقَالَ: إِنْ شَاءَ اللهُ فَقَدِ اسْتَثْنَى وَلاَ حِنْثَ عَلَيْهِ (¬2). قَالَ: وعن أبي حنيفة، عن حمّاد، عن إبراهيم أنّه قال في ذلك: خَرَجَ عن يمينه. ولمّا انتهى الكلام إلى المخارجِ فقبل في قول الرّجل كلّما تزوّجت امرأةً فهيَ طالقٌ. أو قال لامرأةٍ: كلّما تزوّجتك فأنتِ طالقٌ، فقد جعل المشايخ المخرجَ من ذلك طريقين: نكاح الفضول أو المرافعة إلى من يعتقد يمين بطلان اليمين فيفسخها. أمّا الأوّل: فقال في الينابيع: وإن لم تكن المرأة في نكاحه وقال لها: كلما تزوّجتك فأنت طالقٌ، فإنّها تطلق في كلّ مرةٍ يتزوجها أبدًا. فإن يتزوجها ولا يقع عليه الطلاق، فالحيلة في ذلك: أن يقول لمن يثق به من أحبابه وأصدقائه: إنِّي قد حلفت، أني كلّما تزوّجت امرأة أو كلّما تزوجت فلانةً فهي طالقٌ. فالآن إن يتزوجها طلقت وإن وكلّت رجلًا بأن يزوّجها مني طلّقت أيضًا. فإذا عرف المخاطب بأنّ له رغبة في تزوجها، فإنه يزوّجها منه، وهو فضولي في ذلك. فإذا علم الخلف ذلك نجيزه بالفعل، وذلك مثل أن يبعث إليها مهرها أو يظفر بها ويجامعها. ولو أجازه بالقول طلقت. وقال بعضهم: لا تطلق. والأوّل أصحّ. انتهى. ¬
وقال الإمام أبو الليث في حيل العيون عند ذكر هذه المسألة: وجعل الإجازة بالفعل أن يبعث إليها شيئًا من المهر أو النفقة أو يطأها أو يمسّها. وقال في الهادي: كان القاضي الإمام الزّاهد أبو المعالي صاحب المناقب (¬1) لا يجوّز نكاح الفضولي. كان القاضي الإمام مجد الدين لا يرى مخالفة أستاذه. وقال الإمام علي السُّغْدي (¬2): إنّي لا أجوّز نِكَاحَ الْفُضُوليِّ، ولا أفتي بالإجازة بالفعل والقول في نكاح الفضولي، وأجعل الإجازة بالفعل والقول سو اء. انتهى. قلت: وهذا غير معتمد لمخالفة الرواية والدراية. قال في شرح الزيادات: ولو حلف لا يتزوج، أو حلفت امرأة أن لا تتزوج، وقد كان زوّج أحدهما فضولي وأجاز بعد اليمين لا يحنث؛ لأن الشّرط التزوج والإجازة ليست بتزوج حتّى لا يراعي لها شرائط العقد من الشهود والولي وغير ¬
ذلك. وهذه المسألة تدلّ على أنّ من حلفَ أن لا يتزوّج فأجاز نكاح الفضولي بعد اليمين لا يحنث وهو رواية عن محمد. وبه قال: نفتي محمد بن سلمة. قلت: إلاّ أنّ هذا خلاف الأصحّ على ما قال في الينابيع؛ لأنّ عقد الفضولي ينتقل إليه عند الإجازة. وروى ابن سماعة، عن محمّد: أن عقد الفضولي إذا كان بعد اليمين فأجاز بالقول يحنث، وإن أجازه بالفعل لا يحنث. وقال قاضي خان في شرح الزيادات: وعليه أكثر المشايخ: لأنّ القول من جنس العقد من حيث أن العقد قول، فأمكن إلحاقها بالعقد. أمّا الفعل: لا يجانس العقد ولا يخالفه، فلا يمكن إلحاق الفعل بالعقد. قلت: وقد نقل في الينابيع: أنّ هذا هو الأصحّ. ومثله عن شمس الأئمة. قال: الأصحّ عندي لا يحنث؛ لأنّ عقد النّكاح يختص بالقول، فلا يمكن جعل المجيز بالفعل عاقدًا له. وقال في الهادي: والفتوى على أنّ نكاح الفضولي جائزٌ، فإن أجاز بالفعل لا يحنث لأنه حنث نفسه بالعقد وهو غير عاقدٍ. انتهى. وقال في الفصول: ذكرَ نجم الدين النسفي في الفتاوى: المختار في نكاح الفضولي في الطلاق المضاف إذا أجاز الحالف بالفعل لا يحنث. وبالقول: يحنث. قال بعض الإخوان: الإجازة بالفعل سوق المهر. قلت: قدّمت عن أبي الليث: أن يبعث شيئًا من المهر أو النفقة أو
يطأها أو يمسّها. وعن الينابيع: أن يبعث إليها مهرها أو يظفر بها ويجامعها. قال: قد قاله البزازي. قلت: لفظ البزازي: والإجازة بالفعل سَوْقُ المهرِ إليها لا الوطء والقبلة؛ لأنّه حرامٌ قبل نفوذ العقد. قلت: وهذا الإيجاز مخلٌّ؛ لأنّه مأخوذٌ من شرح الزيادات. ولفظه: لكن ذلك الفعل ينبغي أن يكون بسوق الصّداق إليها ونحو ذلك دون الوطء والتقبيل، فإنّ ذلك حرامٌ قبل نفوذ العقد، فحذف لفظة ينبغي. وكذلك قال الصّدر الشهيد حسام الدين في شرح الجامع الكبير: إنّ من احترز عن الطّلاق بأن علّق الطّلاقَ بالنّكاح. ينبغي أن يجيزه بتسليم المهر، أمّا بالموافقة، فلا. فهذا النفي للكراهة. قال في الفصول: ولو قبلها أو لمسها بشهوةٍ يكون إجازة بالفعل. ولكن يكرهُ كالرّجعة بالفعل. انتهى. قلت: وهذا نصّ ما أجبت به بلفظه. ولله الحمد. قلت: والكراهة لقرب نفوذ العقد من المحرم كما في دفع النّصاب إلى الفقير. قال قاضي خان: وإذا أراد الحالف أن يجيز عقد الفضولي بالفعل يجيزه سوق المهر ولا يقئبّل ولا يمس كيلَا يكون ابتداء الفعل قبل نفاذ النّكاح. وفي الظهيرية: الإجازة بالفعل أن يبعث إليها شيئًا من المهر، فإن دفع المأمور إليها لا شك أنه أجاز، وإن لم يدفع إليها، هل تكون الإجازة رواية
هل تكون الخلوة إجازة؟
لهذا في الكتاب؟!. وفي الفوائد: قال ظهير الدين: المراد بسوق المهر، الوصول لا عين السوق. وقال فخر الدين: لا يشترط؛ لأنّا نحتاج إلى الإجازة بالفعل. وقوله: ادفع الدّراهم إليها إجازة منه بالفعل وقد حصلت. ولو دفع إليها. وقال: هذا مهرك. قال ظهير الدين: يكون إجازةً بالقول، ولو كانت صغيرةً يبعث إلى وليّها، وإن بعث إليها بعطيّة أو هدية لم يكن ذلك إجازةً؛ لأنّ بعث الهدية والعطية ليست من خصائص النّكاح وأحكامه، فلم يكن إجازة بخلاف سوق المهر. وفي شرح الطحاوي: فيجيز بالفعل. وهو بعث الهدية وما أشبهه. قلت: القائل بالأوّل أكثر. والله أعلم. وهل تكون الخلوة إجازةً؟ قال في الفصول: ذكر شمس الأئمة السرخسي: إنه يكون إجازةً. لذا ذكره في فتاوى ظهير الدين إسحاق (¬1). وقال بعضهم: نفس الخلوة لا يكون إجازةً. وفيه: ولو أجاز في نكاح الفضولي بالكتابة يكون إجازةً بالقول أو بالفعل. ذكر في باب الكفّارات من أيمان الجامع في الفتاوى: إذا حلفَ ¬
هل للفضولي فسخ العقد قبل الإجازة؟
لا يكلم فلانًا أو قال: والله لا أقول لفلانٍ شيئًا، فكتب إليه كتابًا لا يحنث. وذكر ابن سماعة في نوادره: عن محمّدٍ: أنه يحنث. وهل للفضولي فسخ العقد قبل الإجازة؟ نقل عن الفضولي من شرح الطحاوي وغيره: أنه لا يملك الفسخ بالقول اتفاقًا. وفي الإجازة بالفعل بأن يزوّجه أختها خلافٌ. قال فخر الدين: يتوقف الثاني ولا يكون فسخًا. وقيل: يكون فسخًا. والله أعلم. وأمّا الثاني: فقال الإمام فخر الدين: أمّا طريق فسخ اليمين، لو أنّ حنفي المذهب قال: إن تزوّجت امرأة فهيَ طالقٌ ثلاثًا، ثم جاء إلى القاضي، وطلب منه فسخ اليمين، فإن كان القاضي حنفيًا لا ينبغي له أن يفسخ يمينه بخلاف رأيه. قلت: حتى لو قضى لا يصحّ. قال في الهادي: ولو ترافعا إلى قاضٍ حنفي فحكم بصحة هذا النّكاح، لا يصح إلا إذا اعتقد في هذه المسألة قول الشافعي وأدّى اجتهاده إلى ذلك. قال فخر الدين: لكن ينبغي للقاضي إن كان مأذونًا في الاستخلاف: أن يبعث الحالف إلى شافعي المذهب، ولا يأمر المبعوث إليه بفسخ اليمين؛ لأنّه كما يجوز للقاضي أن يحكم بخلاف رأيه، لا ينبغي له أن يأمر غيره بذلك، لكن يأمر المبعوث إليه أن يسمع خصومتهما ويقضي بينهما. قلت: قال في الهادي: فلو نصب القاضي الحنفي فقيهًا شفعويًّا للحكم،
وصحّة هذا النّكاح لا يصحّ؛ إلاّ أن ينصبه للحكم بما هو المذهب عنده. فحينئذٍ يجوز. قاله جلال. وقال غيرهُ: لو نصبه لهذه الحادثة خاصّة لا يجوز، ولو نصّبه قاضياً في محلّةٍ أو بلدةٍ جازَ. قلت: وهذا إذا كان الإمام أُذن له في الاستخلاف في كل المذاهب لما ذكرناه في غير هذا الكتاب بما يقع به الاختصاص في التقليد. قلت: وصورة الكتاب أطالَ اللهُ بقاء القاضي الإمام أُتيَ آخر ألقاهُ، رفعت إليَّ المسماة فلانة بنتَ فلانٍ بن فلانٍ. إنّ فلاناً تزوّجها وقد كان حلف قبل نكاحها بطلاق كلّ امرأةٍ يتزوّجها، ثم زوجني بعد هذا اليمين، ووقع الطلاق، فصرت محرّمة عليه بهذا السبب، وأنّها يمسكها حراماً ولا يقصر يده عنها، والتمست مني مكاتبةً في ذلك فأجبتها إلى ذلك، وكتبت هذا الكتاب إليه، فليتفضل بالإصغاء إلى هذه الخصومة الواقعة بينهما على ما يؤدِّي إليه اجتهاده، ويقع عليه رأيهُ وهو موفقٌ عن الله تعالى. قال الإمام فخر الدين: فعند ذلك إن كان القاضي الأوّل أو الثاني أخذ لذلك مالاً لا يصح فسخه عند الكلّ، ولا ينفّذ قضاؤه. وإن كان أخذ زيادة على أجر المثل فكذلك. قلت: وكذلك إن كان القضاء بالرشوة. قاله الإمام حافظ الدين النسفي. والله أعلم. قال فخر الدين: عقداً وأجّر المثل، فذلك لا يمنع صحة الفسخ. والأولى أن لا يأخذ. وإذا جاء الحالف إلى القاضي الثاني بكتاب القاضي الأول لا يسمع
الثاني كلامه ولا يفسخ إلاّ بمحضر من الخصم فيحضر مع نفسه المرأة التي تزوجها، فتدعي المرأة على الحالف أنّها امرأته وأنَّه تزوجها بمئة دينارٍ. وعليه أداء مهرها. والقيام بموجب النكاح من الثاني والنفقة وغير ذلك. فيقول: بلى تزوجتها بمئة دينارٍ إلا أنني حلفت قبل نكاحها إن تزوجت امرأةً فهي طالقٌ فتزوجتها ووقع عليها الطلاق قبل الدخول باليمين السابقة. فإذا سمع كلامهما وطلبت المرأة من القاضي الحكم ببقاء النكاح تقول: حكمت ببطلان اليمين الذي ذكرتها وبقاء النكاح بينكما، فينفذ قضاؤه، وتحل المرأة للحالف ولا يحتاج فسخه إلى إمضاء القاضي، وإن أمضى كان أحوط. قلت: وقد قال في الهادي: وكيفية قضاء القاضي: أن يتزوج الحالف امرأةً بنفسه، ثم يترافعا إلى قاضٍ يعتقد بطلان اليمين، وادّعت امرأةٌ أنه حلف بطلاق كل امرأة يتزوجها، فأنكر الزوج الوقوع، وأقامت المرأة شاهدين على أنه حالفٌ فيحكم القاضي بصحة هذا النكاح وإلغاء اليمين السابق على قول عبد الله بن عباس وابن مسعودٍ. ولو حكم الحاكم بإلغاء اليمين السابق قبل أن يتزوج الحالف امرأة، وأطلق للحالف أن يتزوج من شاء، فإنه لا يصح؛ لأنّ حكم الحاكم إنما يجوز بعد حكم النكاح، ودعوى المرأة بإيقاع الطّلاق. قلت: وقال ظهير الدين: رجلٌ حلفَ بطلاق كل امرأةٍ يتزوجها واحتاجَ الرّجل إلى فسخ هذا اليمين. ينبغي له: أن يتزوج امرأة بتزويج وليّها إياها، إن كان لها وليٌّ أو بتزوبج القاضي إيَّاها إن لم يكن لها وليٌّ حتى يصحّ النكاح بالإجماع، ثم ترفع المرأةُ الأمرَ إلى القاضي إلخ، وقال بعد كتاب القاضي في ذلك، ثم إذا وصل الكتاب
صورة السجل
إلى المكتوب إليه، تُدعى هذه الامرأة قبل المكتوب إليه، تدعى هذه الامرأة قبل المكتوب إليه على زوجها على نحو ما ذكرت للقاضي الكاتب - يعني: ما قدّمناه في صورة الكتاب - فيقر الزوج بهذه اليمين، وبهذا النكاح، إلاّ أنه يقول: إنها حلالٌ لي ولم يقع عليها الطلاق معللًا بعدم انعقاد اليمين، فيقضي المكتوب إليه ببطلان هذه اليمين، وبقيام النكاح بينهما أخذاً بقول من يقول ببطلان هذه اليمين من علماء السلف. وصورة السجل: يقول القاضي: فلان بن فلان. ورد في كتابٍ من القاضي فلانٍ المتولي لعمل القضاء والحكام بكور كذا ونواحيها من قبل السلطان فلانٍ مشتملًا على ما رفع إليه من الخصومة الواقعة بين فلانٍ بنت فلانٍ وبين فلانٍ بن فلانٍ في وقوع الطلاق بسبب اليمين المضافة إلى النكاح. وقد أمرني بالإصغاء إلى هذه الخصومة وفصلها واستماع البيّنة فيها والقضاء بما وقع في رأي واجتهادي فامتثلت أمرهُ وعقدت مجلسًا لذلك، فحضرت في مجلسي ذلك فلانة بنت فلان وأحضرت مع نفسها زوجها فلان بن فلان، فادّعت هذه التي حضرت على الذي أحضرته معها: أنّ هذا يطالبني بالطّاعةِ في أحكام النكاح زاعماً أني زوجته، وقد كان حلف قبل أن يتزوجني بطلاقِ كل امرأة يتزوجها، ثم تزوجني وقد وقع على الطّلاق، وحرمت عليه بهذا السبب والزَّوج أقر باليمين وبالنِّكاح وأنكر وقوع الطلاق بهذا السبب، ثم إنّ الزوج سألني الحكم بما يقع عليه رأي واجتهادي، فاجتهدت في ذلك وتأملت وتأنَّيت، ووقع رأيي على بطلان اليمين المضافة إلى النّكاح عملاً مني بقول من لا يرى صحّة اليمين المضافة إلى النكاح، فحكمت ببطلان هذه اليمين، ويحلّ هذه المرأة على هذا الزوج بهذا النّكاح،
وأمرتها بطاعة هذا الزّوج في أحكام النّكاح بحضرة هذين المخاصمين في وجهها حكماً أبرمته وقضاء أنفذته في مجلسِ حكمي هذا بين الناس على سبيل الشهرة والإعلان دون الخفية والكتمان. وكان ذلك بعد ما أطلق القاضي فلان ابن فلان الحكم في هذه الخصومة بما يقع عليه رأي واجتهادي وذلك في يوم كذا في شهر كذا من سنة كذا. قلت: بهذا تبيّن: أن طريق مشايخنا التصريح دون الإجمال، ولو فعل القوم إلى أن مثل هذا التبيين الحق من الباطل. والله أعلم. قال القاضي فخر الدين: فإن كان هذا الحالف عقد على هذه المرأة أيماناً بأن قال لها مراراً: إذا تزوجتك فأنت طالقٌ أو كُلّما تزوّجتك فأنت طالقٌ. أو قال: إذا تزوجت امرأةً فهي طالقٌ. قال ذلك مراراً، فإذا حكم بقيام نكاح هذه يفسخ الأيمان كلّها في قولهم. ولو كان قال لامرأةٍ: إذا تزؤجتك فأنت طالقٌ. ثم قال لامرأةٍ أخرى: إذا تزوجتك فأنت طالقٌ. فتزوج واحدةً منهما ففسخ في غير حقّها حتى لو تزوج أخرى يطلق في قولهم وكذا لو كان ذلك في نسوة، وإن عقد يميناً واحدةً على كل النّساء بأن قال: كل امرأةٍ تزوّجتها فهي طالقٌ ففسخ اليمين في امرأةٍ واحدةٍ جعلوا المسألة على الاختلاف قياساً على مسألة ذكرها في المنتقى: رجلٌ قال: كل عبدٍ أملكه فهو حرٌّ، فملك عبداً فأقام العبد بيّنةً على يمينه وحكم القاضي بيمينه وبعتق العبد، ثم ملك عبداً آخر هل يحتاج العبد الثاني إلى إقامة البيّنة على اليمين. قال: على قول محمّدٍ: لا يحتاجُ. وعلى قول أبي يوسف، وهو رواية عن أبي حنيفة: يحتاج.
وأكثر المشايخ في مسألة الطلاق: على قول محمّد. هذا كما لو ادّعى رجل على رجلٍ أنّه وكيلُ فلانٍ الغائب في جميع حقوقه وخصوماته مع الناس. وللغائب على المدّعى عليه كذا. وأقام البينة على ذلك، وقضى القاضي بالوكالة العامة؛ فإنه لا يحتاج إلى إثبات الوكالة على غريمٍ آخرَ. رجلٌ قال لامرأةٍ: إذا تزوّجتك فأنت طالق فتزوّجها وطلّقها ثلاثاً، ثم أنّها رفعت الأمر إلى القاضي ليفسخ اليمين، فإنّ القاضي لا يفسخ؛ لأنّه لو فسخ تطلقُ ثلاثاً بالتنجيز بعد النكاح فلا يفيد. فلو أنّ أجنبيًّا علق الطلاق بالتزويج فتزوّج امرأةً فلم يرفع الأمر إلى القاضي، لكن سأل شفعويًّا فأفتاهُ بعدم الوقوع. لا ينبغي للحالف أن يأخذ بفتواه، ويترك مذهبه؛ لأنّ عليه الأخذ بقول علمائه لا بقول أصحاب الشّافعي وفتواهم لا يكون حجّة في حقّه. ولو أنّ المرأة مع الرّجل حكّما رجلاً ليحكم بينهما في هذه الحادثة إن كان المحكم حنفيًّا لا ينفذ حكمه. وإن كان شافعيًّا: اختلفوا فيه. قال بعضهم: لا ينفذ حكمه؛ لأنّ حكمه بمنزلة الفتوى. والصّحيح: أن ينفذ حكمه عليهما. هكذا ذكره شمس الأئمة الحلواني. إن حكم المحكّم في المجتهدات نحو الكنايات والطلاق المضاف، وغير ذلك نافذ ليس لأحدهما أن يرجع عن حكمه بعد ذلك. قال - رحمه الله -: وهذا مما يعرف ولا يفتى به كيلا يتجاسر إليه العامّة؛ ولأجل ذلك امتنع المشايخ عن الفتوى في جواز حكم المحكم.
وإنّ حكّما رجلاً ولم يعلماه أنهما حكّماه في هذه الحادثة؛ إلاّ أنهّما اختصما إليه، فحكم المحكم بينهما فعلى قول مَنْ يُجَوِّز حكم المحكم يجوز؛ لأن التحكيم يثبت بدون العلم. وإن كان الحالف تزوّج امرأةً ولم يرفعا الأمر إلى القاضي حتى تزوّجت المرأة بزوجٍ آخرَ من غير علمِ الزّوج، ثم رفع الأمرَ إلى القاضي واختصما إليه، فقضى القاضي ببطلان اليمين وعدم وقوع الطلاق لا ينفذ حكمه؛ لأنّ نكاح الزوج الثاني يمنعه من القضاء للأوّل. وليس فسخ يمين الحالف أولى من إبطال نكاح الثاني. انتهى. وقال في الفصول: ثم نفاذ هذا القضاء في حكم المحكوم عليه. متفقٌ عليه. وفي حق المقضي له: إن كان عالمًا، فكذلك عندهما. وعند أبي يوسف: إذا كان المحكوم له يعتقد الحرمة. وقضى القاضي بالحلّ لا يترك رأي نفسه بإباحة القاضي. قلت: قال الإمام حسام الدين في الفتاوى الصغرى بعد ذكر الخلاف: وهذا الخلاف في غير رواية الأصول. أمّا جواب ظاهر الرواية: أنّه ينفذ ذكره في آخر كتابه الاستحسان. انتهى. قلت: ذكر الخلاف في النوادر. والمراد بكتاب الاستحسان: الاستحسان من الأصل. ولفظه فيه، وفي السير الكبير: إذا طلّقها بلفظ الكناية، فرفع إلى قاضٍ وهو يرى أن الكناية رواجع. وقضى له بالرّجعة. هل له أن يراجعها وإن كان رأيه خلاف ذلك. انتهى. ولم يذكر خلافاً. قال في المحيط: وظاهر المذهب ينفذ من غير خلافٍ.
تتميم
ولأبي يوسف في الخلافية: أنّ القضاء في حق المقضي له فتوى؛ لأنّه لا إلزام عليه؛ لأنه مخبر فيه إن شاء راجعَ وإن شاء لم يراجع. وبالفتوى: لا يصير الحرام حلالاً. والبائن رجعيًّا كما لو شهد شاهدان على رجلٍ أنه قتل ولي هذا عمد وقضى القاضي له عليه بالقَوَد. والولي يعرف أن الشّهود شهود زورٍ لا يحلّ له أن يقتله. فكذا هذا. ولهما: أنّ القضاء إلزامٌ في حقّ المقضي له من حيث الاعتقاد؛ لأنَّه التزم اعتقاد ثبوت الحلّ والرّجعة فيصير مقضيًّا عليه في حق الاعتقاد إن لم يكن مقضيًّا عليه في حق الاستيفاء. ولهذا: لو كان جاهلاً ينفذ. فكذا إذا كان عالماً؛ لأن القضاء يلزم في حقّ النّاس كافّةً بخلاف الفتوى؛ لأنّه ليس بملزمٍ لا من حيث الاعتقاد ولا من حيث الاستيفاء. انتهى. قال في الهادي: أمّا قضاء القاضي فقد اتفقوا على جوازه، ولم يقل أحدٌ أنه لا يجوز إلاّ في روايةٍ عن أبي يوسف أنّه قال: إذا كان الحالف فقيهاً حنفيأً يعتقد وقوع الطلاق، لا يجوز له أن يدعي رأي نفسه برأي القاضي فيما اعتقد حراماً، لكن حاصل المذهب عن أبي حنيفة ومحمّد: يجوز له أن يدّعي رأي نفسه برأي القاضي؛ لأن القاضي إنما يكون نائباً عن الحق أو الخلق. فإن كان نائبًا عن الحق، صار حكمه كالنَّص. وإن كان نائباً عن الخلق صار كأن الخلق كلهم أجمعوا على هذا، فيدّعي رأي نفسه لهذا. انتهى. * تتميم: إذا قال: كل امرأةٍ تدخل في نكاحي. أو قال: تصير حلالاً لي.
فهي طالقٌ ثلاثاً. اختلف المشايخ: فقال شمس الأئمة السرخسي، والإمام البزدوي (¬1) والسيد أبو قاسم: يحنثُ إذا عقد له الفضولي سواء أجاز بالقول أو بالفعل. وذكر الفقيه أبو جعفر ونجم الدين النسفي: أنّ هذا وكل امرأةٍ أتزوّجها سواء؛ لأنّ دخولها في نكاحه لا يكون إلاّ بالتزويج، فيكون ذكر الحكم ذكر سببه المختصّ به، فيصير في التقدير، كأنه قال: إن تزوّجتها. ويتزويج الفضولي لا يصير متزوّجًا بخلاف ما لو قال: كل عبدٍ دخل في ملكي، فإنَّه يحنث بعقد الفضولي هنا. فإنّ ملك اليمين لا يختص بالشراء. بل له أسبابٌ سواهُ. ولو قال: كل امرأةٍ أتزوّجها أو يزوّجها غيري لأجلي فهيَ طالقٌ ثلاثاً. فالوجه فيها: أن يزوّج الفضولي لأجله فيقع الطلاق الثلاث؛ لأنّ الشرط تزويج الغير له مطلقاً، ولكن لا يحرم عليها؛ لأنّها تطلق قبل دخولها في ملك الروج، فلا تحرم عليه. ألا ترى أنّ بعد عقد الفضولي لو طلّقها الزّوج ثلاثاً لا تحرم عليه، وإنمّا لا تحرم؛ لأنّ الطلاق إنما يقع قبل دخوله في ملك الزوج. فكذا هاهنا، إلاّ أنّه لا يقبل الإجازة؛ لأنّه صار مردوداً فيعقد الفضولي ثانياً لأجله، ويجيز هو بالفعل. قال صاحب المحيط: وعندي أنّ في الكرّة الثانية لا حاجة إلى عقد الفضولي، بل إذا تزوّج بنفسه لا تطلق؛ لأنّ اليمين انحلّت بتزوبج الفضولي ¬
له لا إلى جزاءٍ وليست بكلمة تقتضي التكرار. ولو قال: كلّ امرأةٍ أتزوجها أو تزوّجها غيري لأجلي وأجيزه فهي طالقٌ ثلاثاً. أو قال لامرأة: إن صرت زوجة لي، إمّا بعقدي أو عقد الفضولي، وإجازتي. اختلفت فيه الروايات. قيل: لا وجه لجوازه؛ لأنه شدد على نفسه. وفعل الفضولي لا يرفع الطلاق. وقال الفقيه أبو جعفر وصاحب الفصول: الحيلة فيه: أن يزوجه فضولي امرأة بغير أمره ويغير أمرها، ثم يجيز هو النكاح، فيقع الحنث قبل إجازة المرأة لا إلى جزاءٍ لعدم الملك، ثم تجيز المرأة النكاح فلا تعمل إجازتها، ثم يجددان النكاح بأنفسهما، ويكون هذا نكاحاً صحيحاً؛ لأن اليمين انعقدت على زوج واحد، إذ لفظه لا يقتضي التكرار. انتهى. واللهُ سبحانه وتعالى أعلم. * * *
(23) مسألة في طلاق المريض زوجته
مَجْمُوعَةُ رَسَائِل العَلَّامَة قَاسِم بن قُطْلُوبُغَا [23] مَسْأَلَةٌ في طَلَاقِ المَرِيضِ زَوْجَتهُ تَأْلِيفُ العَلَّامَة قَاسِم بْنِ قُطْلُوبُغَا الحَنَفِي المولود سَنَة 802 هـ والمتوفى سَنة 879 هـ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -
بداية الرسالة
(23) مَسْأَلَةٌ في طَلَاقِ المَرِيضِ زَوْجَتهُ قال - رحمه الله تعالى -: قد سئلتُ عن امرأة طلّقها زوجها طلاقاً رجعياً في مرض موته، ثم مضى عليه ثلاثة أشهر وثلاثة عشر يوماً، ثم مات، فأقرّت أنّها حاضت في هذه المدّة ثلاث حيض وانقضت عدتها منه قبل موته بخمسة أيّامٍ، فهل ترث مع الإقرار أم لا، فأجبت: أنها لا ترث في هذه الصّورة. والله أعلم بالصّواب. ثم وقعتُ على جواب لبعض المشايخ الحنفية صورته: الحمد لله المنعم بالصَّواب. إذا كان الطلاق رجعيًّا ترث منه ما دامت عدة الوفاة قائمة. والله أعلم. وأخبرني الذي أوقفني على هذا الجواب: أن مستند المجيب قول الشيخ عبد اللطيف بن فرشته في شرح المجمع في فصل طلاق الفارّ: قيدنا طلاقها بالبينونة؛ لأنه إذا كان رجعيًّا فعليها عدّة الوفاة أيضاً اتفاقاً. فقلت: لم يزل الفهم عزيزاً وبالوقوف على المأخذ يعضُّ عليها بالنواجذ، ما ذكره ابن فرشته فيما إذا مات وعدة الطلاق قائمة؛ لأنّها حينئذٍ زوجة. وعلى الزّوجة تربص أربعة أشهر وعشراً. أمّا إذا كانت العدة منقضية، فلم تكن زوجة فلا يجب عليها عدة ولا ترث عندنا. والله أعلم.
ثم أخبرني جمعٌ من أهل العلم: أن المجيب وقف على خطي بالجواب فقال: قد أجبته بأنّها ترث. وهذا وخاطره. فقلت: لم يكن هذا بخاطري ولا يحل هذا في دين الله لأمثالي، وإنمّا هذا مصرّحٌ به في كثيرٍ من المصنّفات. وفي بعضها مطلقٌ عن تعيين الطلاق. قال الكرخي: إذا طلّق الرَّجل امرأته طلاقاً رجعياً في مرضه الذي مات فيه، ثم مات وهي في العدة ورثته. وإن مات بعد انقضاء العدة لم ترثه. وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمّد وزفر والحسن بن زياد مصرّح فيه بأنّه ماتَ وهي في العدّة في كثيرٍ من المصنفات. وأشار إليه في عبارة بعضهم، وتعليل بعضٍ، وبهما معاً، وهو ما عنيته بقولي وبالوقوف على المأخذ يعضّ عليها بالنّواجذِ. أمّا الأوّل: فقال الإمام حسام الدين في فتاواه (¬1): وإن كان الطلاق من المريض رجعياً، أو كان طلّقها في الصّحّةِ رجعياً، ثم مات وهي في العدّة، فعدّتها عدة الوفاة لا غير. وبطل عنها الحيض في قولهم جميعاً. انتهى بحروفه. ونحوه في التتمة (¬2) والمنية (¬3). وقال الشيخ الإمام قاضي خان في فتاواه: والحرمة المطلقة إذا مات الزوج في العدّة، إن كان الطلاق رجعيًّا تنقلب عدّتها عدة الوفاة. انتهى بحروفه. وأمّا الثاني: فقال الكرخي في مختصره: وإن كان الطلاق رجعيًّا في ¬
صحّةٍ أو مرض فعليها: {أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة: 234]. وبطل عنها الحيض في قولهم جميعاً. انتهى. "فبطل": يشير إلى قيامها وقت الموت إذ المنقضي المعدوم لا يبطل. ونحو قولهم في شروح الهداية (¬1): أَمَّا إذا طلَّقها رجعيًّا، فعدَّتها عدَّة الوفاة، سواءٌ طلَّقها في مرضه أو في صحَّته، ودخلت في عدَّة الطَّلاق، ثم مات الزَّوج. وأمّا الثالث: فقال في الهداية (¬2): أمَّا إذا كان رجعيًّا، فعليها عدَّة الوفاة بالإجماع، بخلاف [غير] الرَّجعيِّ؛ لأنَّ النكاح باقٍ من كل وجبة. انتهى. ولا يبقى النكاح في الرجعي بعد ثلاث حيضٍ وخمسة أيّامٍ. وقال في شرح الكنز: بخلاف المطلّقة رجعيًّا حيث تكون عدّتها عدة الوفاة اتفاقاً لبقاء الزوجية من كلّ وجهٍ قبيل الموت وانقطاعه بالموت. فيجب عليها عدة الوفاة. انتهى. ومن حاضت ثلاث حيضٍ ومكثت بعدها خمسة أيام لا يكون زوجها قبل الموت وقد انقطعت الزوجية بانقضاء العدّة لا بالموت. وقال في الإيضاح: وإن كان الطلاق رجعيًّا في صحّة أو مرضٍ فعدتها أَرْبَعَةَ أَشْهُر وَعَشرا (¬3). بلا خلافٍ؛ لأن النكاح قد نفي. انتهى. ¬
ولا يبقى النكاح بعد انقضاء ثلاث حيضٍ وأيّامٍ. وقال في المحيط: المطلقة الرجعية إذا مات زوجها تعتد للوفاة أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشراً (¬1). لقيام النكاح. انتهى. ولا قيام للنكاح بعد مضي ثلاث حيضٍ. وأمّا الرّابع: فقال في البدائع (¬2): إذا طلَّق امرأتهُ ثم مات، فإن كان الطَّلاق رجعيًّا انتقلت عدَّتها إلى عدَّة الوفاة، سواءٌ طلَّقها في حالة المرض أم في حال الصِّحَّة، وانهدمت عدَّة الطَّلاق، فعليها أن تستأنف عدَّة الوفاة في قولهم جميعاً؛ لأنَّها زوجتُه (¬3) بعد الطَّلاق، إذ الطَّلاق الرَّجعيُّ لا يوجب زوال الزَّوجيَّة، وموت الزَّوج يوجب (¬4) على زوجته عدَّة الوفاة لقوله (¬5) تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة: 234] كما لو مات قبل الطَّلاق. انتهى. فقوله: انتقلت. . . وانهدمت. . . وأنّها زوجة، وموتُ الزَّوج يوجب على الزَّوجة عدَّة الوفاة. . . يشير إلى ما قلنا على ما تقدّم مكرّراً. وقال في الذخيرة (¬6): وإذا كان الطلاق رجعياً في صحّةٍ أو مرضٍ، فعدّتها أربعة أشهرٍ وعشراً، وقد بطل عنها الحيض في قولهم جميعاً؛ لأنّ الطّلاق ¬
فائدة
الرجعي لا يقطع النكاح عندنا، فكانت الزوجية قائمة [لدى الموت] (¬1)، والله تعالى (¬2) جعل كل الواجب على المرأة عند موت الزوج التربص بأربعة أشهر وعشراً (¬3)، وكان من ضرورته: سقوط الاعتداد بالحيض. انتهى. * فائدة: قال الشيخ الإمام قاضي خان في فتاواه: قالت بعد الطلاق: أيست، ثم مات زوجها بعدما مضت ثلاثة أشهر من وقت إقرارها (¬4) لا ميراث لها. * فائدة أخرى: قال في كتاب فصول (¬5) العمادي: رجلٌ طلّق زوجته في المرض، فمات الزوج بعد انقضاء العدة، كان المشكل من متاع البيت لوارث الزوج؛ لأنّها صارت أجنبية بانقطاع العدة، ولم يبق لها يد وإن مات قبل انقضاء العدة. كان الشكل للمرأة عند أبي حنيفة؛ لأنها قرّت فلم تكن أجنبية، وكان هذا بمنزلة ما لو مات الزوج قبل الطلاق. * نكتة: يلزم على ما فهموه من شرح المجمع، استحالة المسألة التي نصّ عليها: ¬
سئلت عن رجل طلق امرأته طلقتين وراجعها من الثانية
أبو حنيفة، وأبو يوسف، ومحمّد، وزفر، والحسن بن زياد، وتبديل حكمها الشرعي، وتحريم فرج حلال مدّة، وإباحة أكل مالين بالباطل، نفقة العدة بعد انقضائها إلى الموت والميراث. والله أعلم. تَمَّت * * * * قال - رحمه الله -: وسئلت عن رجلٍ طلّق امرأته طلقتين وراجعها من الثانية. ثم قال لها: أنت طالق ثلاثاً. أنت طالقٌ ثلاثاً، أنت طالق ثلاثاً. فقالت له امرأة حال قوله: أنت طالق ثلاثًا. قُل: إن شاء الله تعالى. فقال: إن شاء الله متصلاً بالمرة الثالثة، فهل يقع أم لا؟. فأجبت: نعم. وقع عليه الطلاق الثلاث في هذه الصورة. والله أعلم. ومستندي: قول علمائنا: إذا قال لها: أنت طالقٌ ثلاثاً، أنت طالقٌ إن شاء الله. يقع. وقوله: أنت طالق فاصل بين الثلاث. والاستثناء. وقولهم: إن المذكور في آخر الكلام إذا يقع به طلاق أو يجب به حد. فالاستثناء على الكل. والله أعلم. وسئلت عن وجه قوله في القنية بحينئذٍ أنت طالق بائنٌ إن شاء الله تعالى. لا يقع. أجبتُ: بأن الطلاق الصّريح رجعي، فوصفه به لغو، فيكون فاصلاً فيلحقه الاستثناء. والله أعلم. وأخذت هذا من قول علمائنا. لو قال لها: أنت طالقٌ ألبتة إن شاء الله.
سئل عن رجل حلف بالطلاق من زوجته
أو قال لها: أنت طالق بائنٌ إن شاء الله. فالاستثناء صحيح ولا يصير قول ألبتة فاصل؛ لأنّ الطلاق قد يكون بائنًا وقد يكون غير بائنٍ. فإذا قال: ألبتة. أو قال: بائن فقد وصف الطلاق بوصف يليق به، فلا يصير فاصلاً بخلاف ما إذا قال: أنت طالقٌ ثلاثاً ألبتة أو ثلاثاً بواوين معاً إن شاء الله. فإنّ هناك لا يصح الاستثناء ويصير قوله ألبتة بواوين فاصلاً على ظاهر الرواية؛ لأنّ الثلاث لا يكون إلا بواوين فيلغوا هذا الوصف ويصير فاصلاً. وعن محمّد: لا يصير فاصلاً. انتهى. والله سبحانه وتعالى أعلم. * وسئل عن رجلٍ حلف بالطلاق من زوجته ليضعن هذا الزيتون في هذا الصحن فكسرت زوجته الصحن من ساعته يحنث إن لم يوجد زمان يسع الفعل بعد اليمين. فأجاب: بأنه قد وقع الطلاق والله أعلم. ثم أحضر إليه السؤال. وعليه جواب صورته: لا حنث عليه. والحال هذه. والله أعلم. وإلى جانب الجواب سؤالٌ صورته: المسؤول. دليل هذا الجواب ليطمئن نفس الحالف. وعليه جواب صورته. قد قال علماؤنا - رحمهم الله تعالى -: إنّ زمن البر يستثنى من اليمين، فإذا حلف ليضعن هذا في هذا الإناء، فلا بد من تصوّر زمن البر، فإذا لم يتمكن من ضيق الزمان من الوضع فيه، لم يتصور، فلا يحنث إذا حصل الكسر قبل ذلك. والله أعلم. فخشي الشيخ - رحمه الله - من إباحة الفرج بهذه الشبهة. وكتبت: الحمد لله رب العالمين. ربّ زدني علماً.
سئل - رحمه الله تعالى -: عن امرأة
قد تقدم مني جواب في هذه الواقعة، يحنث الحالف؛ لأنّ هذه المسألة من فروع مسألة الكوز المطلقة عن الوقت. وفيها: يجب البر في الحال. فإذا فات المحل المحلوف عليه، حنث. وعلى هذا: ما قال في الذخيرة (¬1): والله لآكلنّ هذا الطّعام لو هلك من ساعته يحنث في يمينه. وفي فتاوى الملا الأعلى (¬2): ومن هذا الجنس: إن لم تذهبي وتأتي بذلك الحمام، فأنت طالقٌ، فذهبت لتأتي به فطار الحمام، يقع الطلاق، وما علل به لعدم الحنث ليس عبارة أحد من علمائنا، وإنما قالوا في مسائل الحلف على ترك ما هو متلبس به إن تحقق من البر مستثنى عن اليمين، وهذا ليس مما نحن فيه. ألا ترى أنهم لم يقولوا فيمن حلف: ليمسنّ السماء، إنّ زمن البر مستثنى، فلا يحنث حتى يمضي زمان يتمكن فيه زمن الفعل، وإنما قالوا: يحنث للعجز الحالي. وبالجملة: فليس لأحدٍ أن يفتي بضدّ المنقول. والله أعلم. * * * * سئل - رحمه الله تعالى -: عن امرأةٍ تسمّى وزيرة باعت أمةً لها تسمّى حسبيَ الله مع ابنةٍ لها تسمّى حريقة لامرأةٍ تسمّى فاطمة وكان البيع بحضور زوج وزيرة البائعة ويسمّى عُمر، ثم إنّ المرأة المذكورة جاءت بولدٍ وهي في ملك فاطمة وسمي شعبان، ثم إن فاطمة المذكورة باعت الأمة وولدها وسن ¬
الولد إذ ذاك نحو أربع سنين لرجل يقال له القاضي صدر الدين، فأقاموا في ملكه فبعد بلوغ شعبان كان معترفاً بالرّق لسيّده، ثم بعد ذلك ادّعى عُمر زوج وزيرة: أن شعبان ابنه وصدّقه الولد وأمه على ذلك. وذهبوا إليه. فهل يثبت نسبه بهذه الدعوى أم لا؟ وهل يستحق عمّن يملك الولد على السيّد أم لا؟ وهل يعتق بذلك أم لا؟ وهل للسيد التصرف بعد هذه الدعوى أم لا؛ أفتونا ماجورين. فأجاب - رحمه الله -: لا يثبت نسب الولد المذكور إلاّ أن يصدّقه المالك ولا يستحق المدعي ملكاً على السيّد بهذه الدّعوى، ولا يعتق العبد. وللمالك أن يتصرّف فيه بسائر التصرفات الشرعية ولا عبرة لتصديق الولد؛ ولا أمّه في هذه الحالة. والله أعلم. قال - رحمه الله -: ثم وقفت على السؤال وقد كتبت عليه: كل من يكتب على الفتوى في بلدنا من الحنفية: أنه يثبت نسب الولد بدون تصديق المالك. فكتبت: أمّا مستندي فيما كتبت فقول صاحب البدائع (¬1): وإن لم يكن الولد في يد نفسه، فإمّا أن يكون مملوكاً، وإمّا أن لم يكن، فإن كان ملك غيره وقت الدعوى، فإن كان علوقه في ملك المدعي يثبت نسبه بنفس الدعوى أيضًا. وإن لم يكن علوقه في ملكه لا يثبت النسب إلا بتصديق المالك على ما ذكرنا. والله أعلم. * * * ¬
سئل - رحمه الله -: عمن باع دارا بيع التقاضي وقبض بعض الثمن، ثم أقبض الباقي بعد هذه
"وسئل - رحمه الله - عمّن باع فضّة قرضٍ حجر بفلوسِ مؤجّلةٍ. فأجاب: بأنه لا يجوز لتصريح الأصحاب، بأنّ النقرة من جنس الثمن، وأصل الثمن وتصريحهم بأن الفلوس النافقة ثمن وبيع أحد الثمنين المختلفي الجنس بالآخر نسبة لا يجوز وإن جعلت الفلوس قروضاً لإقدامهما على تأجيلها على قول أبي حنيفة وأبي يوسف. فلا بد أن يجعل مسلماً فيها. وإذا قلنا بجواز السلم بلفظ البيع على الرّاجح فشرطه استيفاء شرائط السلم. كما قال في المنتقى: وينعقد السلم بلفظ البيع والشراء إذا وجد شرائط السلم ولم يستوف هنا قول الإمام وهو المفتى به. والله أعلم. * * * * وسئل - رحمه الله -: عمّن باع داراً بيع التقاضي وقبض بعض الثمن، ثم أقبض الباقي بعد هذه. ووقع التكاتب عند ذلك، وقد كان المشتري أباح شخصاً السكنى في الدار. فهل البيع صحيح أم لا؟ وهل يتوقف على الكتابة؟ وهل للبائع أو المشتري الرجوع على المباح له السكنى بأجرة المثل؟. وهل للذي أباح أن يرجع عن الإباحة أم لا؟. فأجاب: أن البيع صحيحٌ وإن لم يقبض كل الثمن. وأنه لا يتوقف على المكاتبة عند أحدٍ من علماء الأمّة. وليس للبائع ولا للمشتري رجوع على المباح السكنى بشيءٍ لا أجرةَ مثل ولا غيرها. وإن قلنا بصحة البيع ولا إن قلنا بعدم صحّته، وللمبيح الرجوع متى شاء. والله أعلم. وهذا بناء على الصحيح في صحّة بيع التعاطي والاكتفاء بقبض أحد البدلين. وأمّا عدم رجوع المبيع فظاهرٌ إذا قلنا بصحّة البيع.
مسألة
ولو قيل بعدم صحة البيع على قول الكرخي فعنده: المنافع لا تضمن. والله أعلم. * * * * مسألة: رجل باع رجلاً سكراً ووزنه له، فألقى له ذهباً بمقدار الثمن، ونظر البائع إلى الذهب فوجد ديناراً منه ردياً. فقال له أبدله. فألقى له غيره ولم يأخذ الأول حتى ضاعا جميعاً. فما الحكم؟. أجباب: إن كان الدينار الذى ألقاه جيداً فهو للسكري من ثمن سكره. والله أعلم. * * * * وسئل عن رجل باع عن رجلٍ فصاً من ياقوت أحمر فى خاتم من ذهب بثمن معلوم ودفع للبائع الخاتم إلى المشتري وفيه الفصّ، فضاع عند المشتري فماذا يلزم المشتري. أجاب: إن كان الفصّ يمكن نزعه من غير ضررٍ فهذا قبض وعليه ثمن الفص ولا شيء عليه فى الخاتم. وإن كان لا يمكن نزعه إلا بضرر فليس هذا القبض بصحيحٍ. وقد أفسخ البيع قبل القبض بهلاك المبيع ولا شيء على المشتري. والله أعلم. * * * * وسئل عن رجلٍ باع ثوباً بَعْلَبَكياً معلوماً بينهما، وديناراً ذهباً بمئة وخسمين درهما إلى ستة أشهر.
سئل عن رجل باع دينارا
فأجاب: بأن البيع باطل بينهما جميعاً لا يجوز لا في الثوب ولا في الدينار. والله أعلم. * * * * وسئل عن رجلٍ باع ديناراً بخمسة وعشرين نصفاً من الفضة معاملة الآن، ثم اشترى منه منديلاً إسكندريًّا معلوماً بينهما بخمسة وعشرين نصفاً من الفضة معاملةً الآن، واشترى المنديل المذكور قبل بيع الدينار. فما الحكم؟. أجاب: إن كان الصّرف قد وقع أوّلاً لا يكون هذا قصاصاً. وإن تقابضا قبل الاقتراض بل على مشتري الدينار أن يدفع الفضة، فإذا قبضها البائع دفعها عن ثمن المنديل، وإن كان افترقا قبل هذا بطل الصّرف. ولبائع المنديل ثمنه عند مشتريه. ولمشتريه ديناره عند البائع، وإن لم يتقابضا بطل الصّرف وبقي البيع، وإن وقع بيع المنديل أوّلاً وتقابضا، وجعل مشتري الدينار الفضّة قصاصاً قبل أن ينصرفا، صار قصاصاً، وإن افترقا قبل أن يتقابضا بطل الصّرف وبقي البيع. والله أعلم. * * * * وسئل عن رجلٍ اشترى من صيّادِ سمكةً ودفع ثمنها. والحال: أن المشتري ناظر إلى العين المبيعة وهي بينهما، فاندفعت إلى البحر فهل يعد وزنها تسليماً حتى يكون من ضمان المشتري أو لا يكون تسليماً حتى تسلم باليد؟. فأجاب: الحمد لله رب العالمين. نعم. وزنها تسليم على قول بعض المشايخ على الصحيح. فهذه التخلية
الحاصلة بعد تمام العقد إلى اندفاعها في البحر كان يمكن المشتري قبضها فيها، فتكون التخلية تسليمًا، فتكون السمكة من ضامن المشتري. قال - رحمه الله -: ثم وقفت على جواب لبعض الحنفية صورته: الحمدُ لله الذي به أستعين، نعم المولى ونعم المعين. أقول - وبالله التوفيق -: لا يسمّى مثل هذا تسليماً حقيقةً، وإن حصلت التخلية بينه وبين المشتري صورة في الجملة فلا بد من تسليمه إيّاها باليد حقيقة لكونها بمنزلة السمكة في البحر حكمًا من حيث قيام المانع من التسليم، وله نظائر كثيرة مذكورةٌ في الفقه. وكتب الشيخ - رحمةُ الله عليه -: التسليم باليد ليس مذهب علمائنا، فلا يخفى بطلان ما ذكر على ذي لبٍّ والقواعد والنواظر ناطقةٌ بموافقة ما ذكرنا (¬1) ومخالفة ما ذكر. قال في الذخيرة (¬2): وتسليم المبيع: هو أن يخلي (¬3) بين المبيع وبين المشتري على وجه يتمكن المشتري من قبضه من غير حائلٍ (¬4)، وكذا التسليم في جانب الثمن. وقال الشَّافعي: التَّخلِيَةُ ليست بقبضٍ. والصحيح مذهبنا؛ لأنّ (¬5) التسليم مستحق على البائع، وما يستحق على ¬
الإنسان يجب أن يكون له طريق [الخروج] عن عهدته بنفسه، ولو توقف ذلك (¬1) على وجود الفعل من غيره، وذلك الغير مختارٌ (¬2) في الفعل يبقى هو في عهدة الواجب. انتهى بحروفه. وقال في السير الكبير: إذا ولّى الإمام رجلاً ببيع الغنائم، فجعل ذلك الأرماك (¬3) في حظيرة وباع رمكةً منها رجلاً وقال للمشتري ادخل الحظيرة واقبض الرمكة. قد خلّيت بينك وبينها. فدخل الحظيرة لقبض الرمكة فعالجها، فانفلتت منه، وخرجت من باب الحظيرة وذهبت ولا يدري أين ذهبت ينظر في ذلك، فإن كان المشتري لا يقدر على أخذها فالهلاك على البائع؛ لأن المشتري لم يصر قابضاً لها حقيقةً، وهذا ظاهر، ولا حكماً؛ لأنّه لم يتمكن من قبضها إذا كان لا يقدر على أخذها. وإن كان المشتري يقدر على أخذها فالهلاك على المشتري؛ لأنه صار قابضًا لها حكماً؛ لأنّ في هذا يستوي الجواب بينهما إذا كان المشتري يقدر على أخذها من غير كلفةٍ ومشقّةٍ. ففي الحالتين يصير قابضاً لها بالتخلية؛ لأنّ في هذا الباب للتمكّن من القبض لا غير، ثم قال: وقعت فتوى في زماننا: أن رجلاً اشترى بقرةً من رجلٍ وهي في المرعى. فقال له البائع: اذهب فاقبض البقرة. فأفتى بعض مشايخنا: أنّ البقرة إذا كانت بمرأى العين بحيث يمكن الإشارة إليها وهذا قبض وما لا فلا. ¬
سئل - رحمه الله -: عن رجل اقترض من رجل مالا على تركة فلان
وهذا الجواب ليس بصحيح. والصّحيح: أن البقرة إذا كان يتمكن المشتري من قبضها لو أراد، فهو قابضٌ لها بدليل مسألة الرمكة التي ذكرناها. انتهى. والله أعلم. * * * * وسئل - رحمه الله -: عن رجلٍ اقترض من رجلٍ مالاً على تركةِ فلان، ثم أحال المقرض على رجلٍ غائبٍ بالقدر الذي اقترضه، ثم بعد ذلك صدر بين المقرض والمقترض براءة جامعة وإقرار بعدم الاستحقاق محكوم بموجب ذلك من حاكمٍ حنفي فادّعى المحال عليه بأنّ الحوالة باطلة. وأجيب بذلك، فهل للمقرض الرجوع بعد البراءة والحكم بموجبها أم لا؟. والجواب: ملصق على الإقرار بالقرض والحكم. إلخ. وعليه جواب شافعي صورته إن كان اقترض على جهة التركة. فلا يصحّ القرض ولا الحوالة وله الرجوع على المقترض وتحته جواب الحنفي صورته ما لم يوجد القرض بشرطه والحوالة بشرطها فله الرجوع بطريقه شرعاً كما أفتى به فلان. وإلى جواب الكافيجي: عقد القرض ليس بلازمٍ لا سئما على التركة. كما لا يجوز القرض على الوقف. وله الرجوع بعد الحكم والإبراء مع كلام آخر غير معتبر. فكتب الشيخ - رحمه الله -: ليس له الرجوع وهذه الأجوبة كلها باطلة. أمّا الشافعي: فلأنه مسبوق بحكم الحنفي الذي شاهده. وكتب تحته من غير علمٍ بمذهب الحاكم.
وأمّا الحنفي: فقد أخطأ مذهبه. قال الإمام الأسروشني (¬1) في فصوله: رجلٌ أبرأ رجلاً عن الدّعاوى والخصومات، ثم ادّعى عليه مالاً بالإرث من أبيه إن مات أبوه قبل إبرائه، صح الإبراء ولا تسمع دعواه وإن لم يعلم هو بموت الأب عند الإبراء (¬2). وقال في فتاوى قاضي خان: اتفقت الروايات على أن المدعي لو قال: لا دعوى لي قبل فلانٍ ولا خصومة لي قبل فلانِ يصحّ حتى لا تسمع دعواه إلا في حق حادثٍ بعد البراءة. وهنا لم يكن كذلك؛ لأنّ الحوالة لم تنقل الدين من ذمة المقترض عندنا لغيبة المحال عليه وعدم رضاه ولا عبرة بظن المحتال وحيث كان المال في ذمّته فالبراءة صحيحة وإن لم يعرف المبرئ أن الذّمة مشغولة بالدين كما نقلناه. وقول المجيب الثالث: إن عقد القرض غير لازم خطأٌ لقول علمائنا: إنّ القرض يملك بالقبض عند أبي حنيفة وبالاستهلاك عند أبي يوسف. وقوله: كما لا يجوز القرض على الوقف خطأٌ أيضاً. لقولهم بجواز الاستدانة على الوقف بإذن الحاكم بلا خلاف، وبدون إذنه على الخلاف. وأمَّا قوله: إن له الرجوع فخطأ أيضاً. وقد علم وجه ذلك من الكلام على ما قبله. والله سبحانه وتعالى أعلم. ¬
(24) [رسالة في] حفر المربعات
مَجْمُوعَةُ رَسَائِل العَلَّامَة قَاسِم بن قُطْلُوبُغَا [24] [رِسَالَةٌ في] حَفْرِ المُرَبَّعَاتِ تَأْلِيفُ العَلَّامَة قَاسِم بْنِ قُطْلُوبُغَا الحَنَفِي المولود سَنَة 802 هـ والمتوفى سَنة 879 هـ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -
بداية الرسالة
(24) [رِسَالَةٌ في] حَفْرِ المُرَبَّعَاتِ * سئل - رحمه الله تعالى - عن رجلٍ استأجر أُجراء يحفرون له مربعة عمقها قامتان وأزيد ليغرس فيها الكرم، فانهدمت حائط من حيطان المربعة على بعضهم في حالة الحفر، فمات فهل يهدر دمه أو يطالب به رفقته أو يطالب به المستأجر؟ وماذا يجب في ذلك؟. فأجاب: لا مطالبة على المستأجر وعلى الرفقة الذين يحصصهم وتقسط حصّة الميت. وهذا مما لا خلاف عندنا نعلمه في ذلك. فلفظ الرواية هكذا: ولو استأجر أربعة نفرٍ يحفرون له بئرًا فوقعت عليهم من حفرهم فمات أحدهم، فعلى كلّ واحدٍ من الثلاثة ربع الدّية وهدر الربع؛ لأنّه حصل بجنايتهم. والله أعلم. فأحضر إليه سؤال ثانٍ في رجلٍ استأجر ثمانية رجالٍ يحفرون له مربعة في رملٍ عمقها قامتان وأزيد ليغرس فيها الكرم، فانهدمت حائط من حوائطه الأربعة على اثنين منهم في حالة الحفر، فماتا. فهل يهدر دمهما أو يطالب به رفقتهما، أو يطالب به المستأجر. وماذا يجب في ذلك؟. وعليه جوابٌ صورته:
الحمدُ لله المنعم بالصّواب. لا ضمان على أحدٍ ممن ذكر في ذلك، ولا مطالبةَ فيه والحالة هذه. والله أعلم. قال الشيخ - رحمه الله -: فخشيت أن يخفى جوابي ويظهر هذا للحكام الذي يخفى عليهم بعض الأحكام الشرعية. فكتبت إلى جانب ذلك الجواب، ما صورته: الحمد لله. ربّ زدني علماً. {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [آل عمران: 8]. لا يهدر ذمّتهما، ويطالب رفقتهما بديتهما، فعليهم دية ونصف دية لأولياء كل واحدٍ منهما: ثلاثة أرباع دية، ويهدر ربع هذا مما لا خلاف فيه عندنا. وأمّا المستأجر فلا شيء عليه. والحالة هذه والله أعلم. وخشيت من أصحاب الأغراض الفاسدة أنهم يحتجون في مثل هذه الواقعة بذلك الجواب ويقولون: قد أجاب فلانٌ في مثل هذا بكذا، كما يقولون في أحكام بإجماع المسلمين صدرت من بعض الحكام: قد حكم فلانٌ في مثل هذا بكذا، فعلقت هذا التعليق وضفنته عبارات كتب علمائنا ليتمكّن القائم لله من الرّد على المبطلين. فعبارة التجريد والإيضاح والمفيد والمزيد (¬1): ولو استأجر أربعة نفرٍ ¬
يحفرون له بئراً، فوقعت عليهم من حفرهم، فمات أحدهم، فعلى كلِّ واحدٍ من الثَّلاثة ربع الدِّية (¬1)، وهدر الرُّبع؛ لأنّه حصل بجنايتهم جميعاً (¬2). انتهى بحروفه. وعبارة المبسوط (¬3): ولو كان الأجراء أربعة فوقع عليهم من حفرهم، فمات واحدٌ ضمن الثلاثة. كلّ واحدٍ ربع الدية (¬4) وهدر ربع الدية؛ لأن الأجراء مباشرون للإتلاف؛ لأنّ البئر إنما انهارت عليهم من حفرهم، فصارت كما لو استأجر أجراء لهدم حائط فسقط حالة الهدم من أيديهم شيءٌ على إنسافي ضمن الهادمُ؛ لأنّه مباشرٌ. فكذا هذا. والأمر سبب والضط ن على المباشر دون السبب. فقد تلفَ المقتول بجنايته وبجناية ثلاثة من أصحابه وجنايته مهدرة، وجناية أصحابه معتبرة. كما لو جرح نفسه جراحة وجراحة ¬
ثلاثة ضمنوا ثلاثة أرباع الدية. فكذا هذا. انتهى. وهذه عبارة المحيط والذخيرة أيضاً. وعبارة القاضي الإمام فخر الدين قاضي خان (¬1): رجلٌ استأجر أربعةَ رهطٍ يحفرون له بئراً فوقعت من حفرهم، فمات أحدهم، كان على كل واحدٍ من الثلاثة الباقين ربع دية الميت، وسقط ربعها، فبقي ثلاثة الأرباع. انتهى. وعبارة البدائع (¬2): ولو استأجر أربعة نفرٍ يحفرون له بئراً، فوقعت عليهم من حفرهم، فمات أحدهم، فعلى كلِّ واحدٍ من الثَّلاثة ربع الدِّية، وهدر الرّبم؛ لأنَّه مات من أربع جناياتٍ إلا أنَّ جناية المرءِ على نفسه هدرٌ، فبطل الرّبع، وتثبت جناية (¬3) أصحابه [عليه]، فتعتبر، ويجب عليهم ثلاث (¬4) أرباع الدِّية على كلِّ واحدٍ منهم الرّبع. وقد روى الشَّعبيُّ، عن علي - رضي الله عنه -: أَنَّه قَضَى عَلَى الْقَارِصَةِ وَالْقَامِصَةِ (¬5) وَالْوَاقِصَةِ بِالدِّيَة أثَلاثًا وَهُنَّ (¬6) ثَلاثُ جَوَارٍ، كبَتْ (¬7) إحْدَاهُنَّ الأُخْرى، فَقَرَصَتْ الثَّالِثة الْمَرْكُوبةَ فَقَمَصَتْ (¬8) فَسَقَطَتْ الرَّاكِبةُ فَقَضَى لِلَّتِي وَقَصَتْ بِثلثَيْ الدِّيَةِ عَلَى ¬
سئل عن رجل استأجر جميع بستانين
صَاحِبَتِهَا، [وَأَسْقَطَ الثُّلُثَ]؛ لأَنَّ الْوَاقِصَةَ أَعَانَتْ عَلَى نَفْسِهَا (¬1). وَرُوِيَ: أَنَّ عَشَرَة مَدُّوا نَخْلَة فَسَقَطَتْ عَلَى أَحَدِهِمْ، فَمَاتَ، فَقَضَى عَلِي - رضي الله عنه - عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِعُشْرِ الدِّيَةِ، وَأَسقَطَ الْعُشْرَ؛ لأَنَّ الْمَقْتُولَ أَعَانَ عَلَى نَفْسِهِ (¬2). انتهى بحروفه. والله أعلم. * * * * وسئل عن رجلٍ استأجرَ جميع بستانين يعرف أحدهما بابن أبي الفرج والآخر بجنينة للنّصارى، وساقى على ما بالبستانين من النخيل والأشجار المساقاة الشرعية، على أن يقوم على النخيل والأشجار الكائنة بالبستانين المعلومة عندهما العلم الشرعي بنفسه، وبمن يستعين به من رجاله على ما يجوز عليه عقد المساقاة الشرعية من تنظيفٍ وتأبير وسقى على العادة في مثل ذلك، على أنّ مهما طلعه الله من ثمره في ذلك كانت مقسومة بينهما على مئة جزءٍ، وتسعةٍ وتسعين جزءاً للمساقي المذكور، وجزءٌ واحدٌ لربّ الأشجار المذكورة، ثم إن المستأجر المذكور أجّر البستان المعروف بجنينة النّصارى لرجل آخرَ، وساقاهُ كما في أبحاره، ومساقاته من غير زيادة، ثم إنّ المؤجّر الأوّل جافى غيبة المستأجر منه ووضع يده على جميع سواقط البستانين، وجميع ثمرة البستان المعروف بجنينة النّصارى، وباع ذلك وتصدّق فيه لنفسه. فماذا يجب عليه للمستأجر منه، وللمستأجر الآخر؟. فأجاب الشيخ - رحمه الله تعالى -: ¬
الحمدُ لله. ربّ زدني علماً. لا يجب عليه لا للمستأجر منه ولا للمستأجر الثاني. وللمستأجر الثاني على الأجر أجرُ مثل عمله إن كان عمل، والحالة هذه. والله أعلم. ثم كتب على هذا جماعةٌ من أهل الديار المصرية من الحنفية ألواناً من الأجوبة بغير علمٍ. فواحدٌ كتب: الحمدُ لله الهادي للحقّ. يجب على المتعدي منعُ يدهِ مما هو كذلك مع المقابلة والضمان على الوجه الشرعي. وكتب آخر تحت خطه: الحمدُ لله، وبه توفيقي. إذا وقعت المساقاة للثاني بشروطها المعتبرة شرعاً، فهيَ صحيحةٌ. وعليه ما التزمه من العمل. وله المسمى من الخارج من ثمرة البستان، فإذا وضع أحدٌ يدهُ على الثمرة بغير إذنِ مالكها يكون متعدّياً، ويلزمه الضمان بطريقه الشّرعي. وكتب ثالثٌ: الحمدُ لله المنعمِ للصّواب. ما وضع المؤجّر الأوّل يده بغير طريقٍ شرعي، وتعدى فيه من ذلك، يلزمه قيمته للمستأجر منه، الذي يستحقه بطريقة شرعاً، ويزجر ويردع على تجرئه وتعديه. والحالة هذه.
وإنّما قال الشيخ - رحمه الله -: ما تقدّم؛ لأنّ لفظ الرواية والسواقط لصاحب النخيل؛ لأنّها ليست من الثّمرة، وإنّما هي بمنزلة النّخل نفسه. هذا لفظ علمائنا بحروفه. ولفظها في مسألة الثمرة والنخل لا يدفعها إلى غيره، إلاّ أن يقول له ربُّ النّخل: اعمل فيه برأيكَ. هذا لفظ أصل المبسوط (¬1). ولفظ التجريد والمفيد والمزيد والإيضاح (¬2): ولو دفع نخلاً معاملةً، ولم يقل: اعمل برأيك. فدفع العاملُ إلى غيره معاملةً فعمل فيه، فما (¬3) خرج فهو لصاحب النّخل، وللعامل الآخر على العامل أجر مثله؛ لأن العامل الأوّل لم يعمل، فلم يستحق شيئاً. والثاني عمل بحكم عقدٍ فاسدٍ؛ لأنّ العامل لا يملك أن يعامل غيره بدون الإذن. ولفظ البدائع (¬4): ومن أحكام المعاملة: أنَّ العامل لا يملك أن يدفع إلى غيره معاملةً، إلاَّ إذا قال له ربُّ النَّخل (¬5): اعمل فيه برأيك؛ لأنَّ الدَّفع ¬
إلى غيره لا يثبت (¬1) إثبات الشَّركة في مال غيره بغير إذنه فلا يصحُّ، وإذا قال له: اعمل أفيه، برأيك، فقد أذن له، فصحَّ، ولو لم يقل له: اعمل فيه برأيك، فدفع العامل إلى رجلٍ آخر معاملةً، فعمل فيه، فما خرج (¬2) فهو لصاحب النَّخل، ولا أجر للعامل الأوَّل؛ لأنَّ استحقاقه بالشَّرط - وهو شرط العمل - ولم يوجد العمل منه (¬3) بنفسه (¬4) ولا بغيره أيضاً؛ لأنَّ عقده معه لم يصحَّ، فلم يكن عمله مضافاً إليه، وله على العامل الأوَّل أجر مثل عمله [يوم عمل]؛ لأنَّه عمل له بأمره، فاستحقَّ أجر المثل. انتهى. ولفظ المحيط: دفع إلى رجلٍ نخلاً (¬5) له معاملة منه بالنصف، ولم يقل له: اعمل برأيك، فدفع العامل إلى غيره معاملةً، فالخارج كله لصاحب النّخل، وللعامل الآخر على الأوَّل أجرٌ مثل عمله، ولا أجرَ للأوّل على صاحب النّخل؛ لأنّ الأوّل صار مخالفًا غاصباً لما دفع نخل غيره إلى غيره وأشركه في الخارج بغير إذن صاحبه، فلا يستحقّ الأجر؛ لأنَّه غاصبٌ. وقد استأجر الثاني بشيءٍ بعينه وهو لا يملكه، وقد أوفى الثاني العمل فيستحقّ أجر المثل على الأوّل؛ لأنّ الخارج تولّد من النّخل، فيكون لصاحبه. انتهى. ولفظ الذخيرة: وإذا دفع إلى رجلٍ نخلاً معاملةً بالنّصف ولم يقل: اعمل برأيك، فدفع العامل إلى آخر معاملة يعمل فيه فما خرج فهو لصاحب النّخل. ¬
سئل الشيخ من مدينة غزة
وللعامل الآخر على العامل الأول أجر مثله فيما عمل بالغاً ما بلغَ، ولا أجر للعامل الأوّل. أمّا لا أجرَ للعامل الأوّل؛ لأنّه يكون إيجاب الشركة في مال الغير. والعامل الأوّل لم يعملن بنفسه. وعمل الثاني غير مضافٍ إليه؛ لأن العقد الأوّل لم يتناوله، فلا يستحقّ أجر المثل، وإنّما للعامل الثاني أجر مثل عمله على الأوّل؛ لأنه أوفى العمل. وقد استأجره الأول فيستحقّ أجر المثل عليه. قالوا: وقوله: بالغاً ما بلغ. قول محمّدٍ. أمّا عند أبي يوسف فلا يتجاوز به ما سمّى. انتهى. والله سبحانه وتعالى أعلم. * * * * وسئل الشيخ من مدينة غزّة: هل يجوز للجندي أن يؤجر ما أقطعه الإمام الأعظم من أراضي بيت المال، ولا يجوز لكونه غير متمكنٍ من استمرار التسليم في جميع المدّة، لجواز أن يخرجه عنه في أثناء المدّة، وبكونه ملك منفعة ذلك لا في مقابلة مالٍ، فهل للجندي نظير المستأجر في أنّ له أن يؤجّر أو نظير المستعير في أنّه ليس له أن يؤجّر المستعار. فإن قيل لجواز الإجارة ولزومها، فهل إذا مات المؤجّر إن أخرج الإمام الأرض عنه، وأقطعها لغيره تنفسخ الإجارة أو لا؟. فإن قيل: بعدم انفساخها، فهل تبقى بأجر المثل أو بما سمّاه المؤجّر الأوّل. والحال: أنّ الأرض المؤجّرة لم يكن للمستأجر فيها بناءٌ ولا غرسٌ ولا نسبٌ. فأجاب:
الحمدُ لله. ربّ زدني علماً. نعم. لهُ أن يؤجّر ما أقطعه الإمام، ولا أثر لجواز إخراج الإمام له في أثناء المدّة، كما لا أثر لجواز موت المؤجّر في أثناء المدّة ما أجّرَ، ولا لكونه ملك منفعةً لا في مقابلة مالٍ لاتفاقهم على أنّ من صولح على خدمة عبدٍ سنة كان للمصالحِ أن يؤاجره إلى غير ذلك من النصوص الناطقة لجواز إيجار ما ملكه من المنافع لا في مقابلة مالٍ، فهو نظير المستأجر؛ لأنه ملك الإقطاع بمقابلة استعداده لما أعدّ له، لا نظير المستعير لما قلنا، وإذا مات المؤجّر أو أخرج الإمام الأرض عن المقطع تنفسخ الإجارة لانتفاء الملك إلى غير المؤجّر. كما لو انتقل الملك في النظائر التي خرج عليها إجارة الإقطاع، وهي إجارة المستأجر. وإجازة العبد الذي صولحَ على خدمة مدةً معلومةً، وإجازة الموقوف عليه الغلّة. وإجازة العبد المأذون، وما يجوز عليه الإجازة من مال التجارة، وإجازة أم الولد. والله أعلم. ثم وقف الشيخ على جواب لبعض الحنفية من أهل العصر صورته: الحمد لله المنعم للصّواب. نعم يجوز للجندي أن يؤجّر إقطاعه حيث كان، يتضمن إقطاعه له ملك المنفعة والتصرّف فيه في العرف العام بما يراه، وليس هذا نظير المستعير وتكون الإجارة من المقطع صحيحة لازمةً حيث كانت مشتملةً على شروطها شرعاً، ولا ينفسخ بالموت ولا بإقطاعه غيره. فإنّ الإمام جعله كالوكيل في ذلك. وتبقى بالمسمّى الذي وجد في شرط اللزوم، ويشهد لذلك؛ قواعد علمائنا والحالة هذه. قال الشيخ - رحمه الله تعالى -:
أسئلة وردت للشيخ من دمشق من قبل الأمير قراجا
قوله: في العرف العام. مستدرك لاستناده التصرف من ملك المنفعة، ولعدم صلاحيته؛ لأنه يكون وكيلاً. وقوله: إنه لا تنفسخ بالموت ولا بإخراج الإمام الإقطاع عنه. مخالفٌ لحكم النّظائر التي خرج جواز الإقطاع عليها، كما صرّحت بها. وقوله: إنّ الإمام جعله كالوكيل مخالفاً لما صدر به من أنّه ملك المنفعة والتصرّف بما يراه. وقوله: إنّ القواعد تشهد بذلك. من نوع فتاوى الرأي. حيث لا يتصور أن يكون مالك المنفعة على الانفراد وكيلاً في إيجارها عن غيرها. والله أعلم. * * * * قال - رحمه الله تعالى -: ورد علينا من دمشق من قبل الأمير قراجا الظّاهري (¬1) ثلاثة أسئلة: الأوّل (¬2): في قتيلٍ وجدَ في محلّةٍ أو بين قريتين أو بين طائفتين التقتا بالسيوف وغيرها، فأجلوا عن قتيلٍ وطلب أولياء القتيل ديَته من أهل المحلّة، أو أقرب القريتين، أو أحد الطائفتين، أو منهما جميعاً، وادّعوا عليهم فقضى لهم بالقسامة والدية عليهم، ودفعوا الدية إلى أولياء القتيل، ثم تصرّف الأولياء في الدّية، واقتسموها فيما بينهم، فهل يكون أخذ أولياء المقتول الدية وقبولها عفواً عن القاتل من القصاص؟. ¬
وهل يكون العفو قبول الدية في قوله تعالى: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 178]. شاملاً لما ذكر سواءٌ كان القاتل معلوماً أو مجهولًا أم لا؟. ثم إذا ظهر القاتل بعد ذكرٍ هل يعود الأمر إلى القصاص، وينقض ما دفع من القسامة، وإعطاء الدية أم يبطل القصاص؟. وهل لأولياء القتيل أن يدّعوا بذلك على القاتل أم لا؟. وإذا بطل القصاص واستمر حكم الدية، وادّعى أهل المحلّة أو غيرهم على أولياء القتيل بالمال الذي أخذ منهم حيث ظهر القاتل؟. وهل لأولياء القتيل رد المال على أهل المحلّة أو غيرهم، بأنّ القتيل وجدَ بين ظهرانيكم، وقد أعطيتم الدية بحكم الشرع وجدًا لكم ما وقع منكم من التقصير في الحفظ والمنع من القتل، وكان ذلك بحيث عليكم أم ليس لهم ذلك؟. وهل للذين أخذ منهم الدية الرجوع على أولياء المقتول سواء كان منهم أو من غيرهم؛ وتؤخذ الدية من القاتل أو من عاقلة القاتل؛ وهل يكون حكم هذا القتل حكم الخطأ أو شبه العمد فتؤخذ الدية من القاتل مغلّظة أو من عاقلته أم يعود عمداً، ويقتص من القاتل ويبطل القضاء بالدية والقسامة؟. وهل يفرق العلم بالقاتل بإقراره أو بالبينة أم لا؟. وهل يسمع إقراره وقولهم: كنتم متبرعين في العطاء؟. أم هل تسمع هذه الشهادة بعدما ذكر أم لا؟. وهل يفرّق بين ما إذا كان الشهود من أهل المحلّة أو من غيرهم أم لا؟.
فأجاب - رحمهُ الله تعالى -: لا يكون أخذ الأولياء الدية وقبولها عفوًا عن القاتل؛ لأنّه لم يُعلم، والقصاص لم يثبت، وليس الآية الشريفة شاملة لما ذكر؛ لأنّ علماء الأمّة اختلفوا فيها على أقوالٍ: ليس هذا منها. وإذا علمَ القاتل بإقراره أو بالإخبار عنه، ولا تسمع للأولياء عليه دعوى؛ لأنّ الأولياء لما ادّعوا على أهل المحفة واختاروا من يحلف وحلفوا إلخ. فقد أبرؤوا غير أهل المحلّة عن القتل ونفوه عنه، فلا تسمع لهم دعوى على غيرهم بعد ذلك أصلاً. وقد أشار علماؤنا إلى ذلك بتعليل عكسه. فقالوا: إذا ادّعى الولي القتل على رجلٍ من غير أهل المحلّة يكون إبراء لهم عن القسامة والدّية؛ لأنه نفى القتل عنهم بدعواه على غيرهم. وإذا لم يسمع لهم دعوى لم يظهر القتيل عند الحكم من غير أهل المحلّة، لم يسمع لأهل المحلّة بدعوى على أولياء القتيل، ولا يسمع لهم وحدهم دعوى على القاتل، كما صرّح به في البدائع وشرح الطّحاوي وغيرهما. وحينئذٍ لا يتوجه شيءٌ بما ذكر. والله أعلم. وكتبَ حنفي: الحمدُ للهِ المنعمِ بالصّوابِ. لا يكون ما ذكر من أخذ الأولياء للمقتول الدية، ممن ذكر عفوًا عن القصاص في حقّ القاتل، حيث لم يجب شرعاً في مثل هذه الصورة المفروضة قودٌ حتى يكون قبولهم الدية عفواً عن القصاص. وقول العلماء: العفو قبول الدية في قوله تعالى: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 178] إلخ.
ليس شاملاً لذلك، فإنّ الآية الكريمة، إنّما هي في حقّ من ثبت له قصاصٌ، ثُمّ إنّ الولي أو أحد الأولياء إِذا رضيَ بأخذ الديةِ، تسقط المطالبة بالقصاص، ولم تثبت في شيءٍ من الصّور مطالبةً بقصاص على أحدٍ شرعاً. فإذا وقع من الأولياء ما ذكر، ثم ظهرَ بعد ذلك قاتل معيّن، وثبت بطريقة شرعاَ ذلك وتعين الحق عليه. تعود المطالبة عليه. وما فعل تبين أنّه لم يكن عليهم. فإذا عاد بالمطالبة الولي على معيّنٍ يرد ما أخذ من عاقلة أهل المَحِلّة عليهم. فإذا قال الأولياء: بأنّ القتيلَ وجدَ بين أظهركم، وقد أعطيتم بحكم الشرع وجداً. لخ. فللغارمين الدية أن يقولوا: إنّما دفعنا ذلك بناءً على الوجوب علينا شرعًا، وقد تبين عدم ذلك، فنحن نستردُّ ما أخذ منا لهم ذلك شرعاً، لكن بقيَ الكلام عند ثبوت القتل على شخص (¬1) معيّن عمداً، يتعلّق به القصاص بعد وجود ما تقدّم بأجمعه. والذي يظهر: تعلّق حق القصاص عيناً بالقاتل بعد وجود شروط ذلك شرعاً. ولا ينتقل الحكم إلى غيره إلاّ بالصّلح. وما وجبَ به المال لا يظهر في حق العاقلة. وكذلك إذا أقرّ إذا لم يصدّقوه ما لم يظهر من أقوال مشايخنا صريحاً: أنّ فيما تقدّم قبل ظهور القاتل المعيّن عمداً يكون شبهة في وجوب القصاص، ولم أقف عليه. ¬
وما نقل عن أبي حنيفة: أنّ شهادة بعض أهل المحلّة على قتل غيرهم أو واحدٍ منهم باطلة وإن خالفاه في الأولى، فإنمّا ذلك بناءً على أنّهم صاروا خصماً أو هم بعرضية أن يصيروا خصماً فقالَ بالأوّل. وقالا بالثّاني. وأمّا في الصّورة الواقعة: فهم نزلوا خصماً وألزموا الدية فلا يقبلون بلا خلاف. والحالة هذه. والله أعلم. فقال الشيخ - رحمه [الله]-: عندما وقف عليه قوله: ثم ظهر بعد ذلك قاتلٌ معيّنٌ، وثبت بطريقة شرعاً ذلك. إلخ. هو مبنيٌّ على ما ذكر بعده. وقد ثبت أنه لا طريق للثبوت شرعاً، فلا يصحّ شيءٌ مما ذكر، ولا يحتاج إلى فرضه. والله تعالى أعلمُ. والثَّالثُ في ميّتٍ مكفّنٍ موضوعٍ في مكانٍ، فجاء قومٌ وادّعوا بأنّه أبوهم (¬1)، وأثبتوا ذلك، وقد ترك مالاً كثيراً، فأراد كلّ واحدٍ منهما أن يكون الميراث له (¬2)، ثم بعد ذلك كشفوا عن الميت فإذا هو خنثى. هل تعتبر البيئتان أم لا؟. وهل يكون الميراث لهم بينهم أم لا؟. فأجاب الشيخ أمين الدين يحيى بن محمد الأقصرائي الحنفي (¬3): الحمدُ لله المنعم بالصّواب. بعد الموت إذا حصلت الدّعوى، فالمقصود منها المال. فيعمل بمقتضي البينتين عند التعارض وعدم المرجّح، فيكون المال بينهما. ونظير ذلك: ما قال ¬
مشايخنا في الأختين إذا ادّعت كل واحدة نكاح رجلٍ واحدٍ ولم يكن إحداهما مرجّحة على الأخرى في بيّنتها، ولا بمرجّحٍ آخرَ. ففي هذه الحالة تهاتر البيّنتان، ولا تعمل بيّنة منهما. وإذا كان بعد موته يعمل بهما، ويجعل الميراث بينهما نصفين، وذلك لأنّ بعد الموت مقصودهما المال. ومسائل كثيرة من هذا الباب إذا كانت الدّعوى من كلّ واحدة وواحدٍ بعد الموت يعمل بهما في قسمة الميراث بينهما، وإن تساقط قبل الموت إذا كانت الدعوى في الحياة والحالة هذه. ورفع إليَّ هذا على يد السيّد الأرميوني (¬1)، فكتبت: ¬
الحمدُ لله، ربِّ زدني علماً. لم يضع الأئمة مسألة الميّت الملفوف على هذا الوجه المذكور في السؤال؛ لأنّه لا يحصل غرضهم، فإنّ غرضهم تصوير مسألة يجتمع منها جميع الورثة الخمسة عشر الذكور والعشر الإناث ومن عدا الزوجين يمكن اجتماعهم في أيّ ميّتٍ كانَ. وأمّا اجتماع الزَّوجين: لأنّ الأولاد. وعن هذا جاء تعارض البيّنتين. فالاعتبار الأوّل: ذكرت في الفرائض. ¬
وبالاعتبار الثاني: ذكرت في أدب القاضي. ولم يجعلوها في باب دعوى الأختين كما زعم المجيب. وإنّما أجروها على القولين المشهورين في الخنثى. هل يبقى إشكاله بعد البلوغ أم لا؟. فالقائل بنفي الإشكال بعد البلوغ أعمل البيّنتين كما قال أبو سعيد الهروي في شرح أدب القضاء، عن أبي حنيفة أنّه قال: فيما إذا قام رجلٌ ببيّنة على ميّتٍ ملفوفٍ في كفنٍ أنّه امرأته وهؤلاء أولادهُ منها. وأقامت امرأة بيئة أنّه زوجها وهؤلاء أولادها منه، فكشف عنه، فإذا هو خنثى، له الآلتان: يقسم المال بينهما، فأعمل البينتين، وقسم المال بين الفريقين. وأمّا صفة القسمة: فللزوجة ما هو الأكثر وهو الربع (¬1)، ولا منازعة للزّوجة في أكثر من الثمن، فيسلّم الثمن للزوجة بلا منازعة واستوت منازعتهما في الثمن الآخر، فيكون لكلّ نصف ثمنٌ، ومخرجه من ستة عشر للزوج ثلاثة وللزوجة واحد والباقي للأولاد. فإن كان هناك أبوان، فلهما السدسان، ومخرج السدس من ستة، وبينهما موافقة بالنّصف فيضرب نصف أحدهما في كامل الآخر، يبلغ ثمانية وأربعين. للزوجة الربع اثنا عشر. وللزوج تسعة وللزوجة ثلاثة لما قدّمناه. وللأبوين السدسان ستة عشر لكل ثمانية والباقي وهو عشرون للأولاد إن كانوا ذكوراً أو إناثاً. الأوَّل من رؤوسهم. والثاني {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} [النساء: 11]. فإن انكسر صحح بطريقه، وإن كانوا إناثاً فقط فلهنّ الثلثان. فتعول ¬
سئل - رحمه الله تعالى - عمن عليه دين مستغرق
المسألة إلى ستين للزوجة والأبوين ما قدمناه، والباقي وهو اثنان وثلاثون للبنات، فإن استقاموا وإلاّ صحح بطريقه. والقائل بانتفاء الإشكال بعد البلوغ يمنع من إعمال البيّنتين كما قال في فتاوى ملا الأعلى: وإن كان هذا الخُنثى المشكل مات قبل أن يظهر أمره، فأقام الرّجل البيّنة: أنّ أباه زوّجها إيّاه بألف درهم برضاها، وأنّها ولدت منهُ هذا الولد. قال: أُجيزُ بيّنته وأجعلها امرأته، وأجعل الولد ابنها، وإن أقامت المرأة البيّنة: أنّ أباها زوّجها إيّاه برضاها منه، وأنَّه دخل بها وأنّها ولدت منه هذا الولد. قال: تقبل بيّنتها، ويقضي بكون الخنثى رجلاً وألزمه الولد، فإن اجتمعت الدّعوتان جميعاً. وجاءت البيّنتان معاً ولم يوقّتا أو وقّتا على السّواءِ، فإنّه تتهاتر جميعاً. انتهى. وبعضهم ذهبَ إلى الترجيح فقال في فتاوى ش (¬1): لو شهدَ شهودٌ على خنثى أنه غلامٌ. وشهودٌ على أنّه جاريةٌ والمطلوب ميراثٌ، قضى بشهادة الغلام وإن قضى بأنّها جارية. انتهى. فظهر بهذا: المنقول في عين المسألة خلاف ما زعم المجيب من أنّها من باب دعوى الأختين. والله أعلم. * * * * وسئل - رحمه الله تعالى - عمّن عليه دَينٌ مستغرق وقد حكم بضرب ¬
سئل - رحمه الله - عن رجل عليه ديون
عنقه، فلما قدمَ لذلك، أعتق جميع ما يملكه من عبيدٍ وجوارٍ وكتب بعد ذلك عتائق بأيديهم وتزوّج بعض العبيد الجواري وليس للمعتق مالٌ سوى العبيد والجوار، فهل ينفذ العتق ويصح التزويج أم لا؟. فأجاب: نعم. ينفّذ العتق، ويصح التزويج إلا المستولدات، فبعد انقضاء عدّتهن وهي ثلاث حيضٍ. والله أعلم. قيل: قال في الفصول العمادية: المريض إذا أعتق في مرض موته ولا مال له سواه فعتقه موقوفٌ عند أبي حنيفة حتى لو شهد هذا المعتق، لا تقبل شهادته؛ لأنّه من التصرفات التي لا يحتمل الفسخ. فيتوقف وينظر في وصايا الصغرى. انتهى. قال الشيخ - رحمه الله -: هو كذلك في وصايا الصغرى معزوٌّ إلى الباب الثاني من الدّفتر الثاني في الزّيادات. وهذه الروايات في زيادات الزّيادات. ومعنى قوله: فيتوقف من العبد في الحال في أحكام الحرية من الشهادة وغيرها، فأبرأَ السيّد تبيّن أنّه حرٌّ من حين أعتق، وإن مات السيّد فالمعتق بمنزلة المكاتب إذا سعى في قول أبي حنيفة - رحمه الله تعالى -. * * * * وسئل - رحمهُ اللهُ - عن رجل عليه دُيونٌ، فرفع أمره إلى بعض القضاة لينظر في حاله، فعيّن القاضي أمره إلى بعض نوّابه وهو حنفيٌّ. والحال: أنّ المديون لم يقدر على وفاء الديون التي عليه، كما ذكر.
ثم إنه كتب فصل محضر بإعسارِه. وكتبه فيه أربعة شهود بارزي العدالة، ثم جاء بعض أصحاب الديون، فادّعى عليه بدينه. فأجاب: إنّه معسرٌ لا مال له، ثم قامت تلك البيّنة شهادتهم عند القاضي، وأعذر لصاحب الدين، وهو المدعي. فأجابَ: بعدم الدّافع والطعن لذلك. فسأل المديون القاضي بثبوت ما قامت به البيّنة والحكم بموجبه. فأجابه لذلك، فهل هذا الثبوت والحكم صحيحان؟. وهل ينفذ ذلك على بقية أصحاب الديون أو لا؟. فأجاب: رفع المديون أمره إلى القاضي، وتعيين القاضي أمره إلى بعض نوّابه، ليس له أصل في الشّرع عند علمائنا، لاتفاقهم على أنّ الحق لربّ الدين في المطالبة من أيّ حكام الشريعة يشاء، وكتابة المحضر وكتابة الشهود فيه قبل الحكم مما لا عبرة به في الشرع عندنا لاتفاق علمائنا على أنّه لا تسمع البيّنة إلّا في وجه من يكون أصلًا أو وكيلًا أو حكمًا إلّا في كتاب القاضي ولا تسمع البيّنة بالإعسار قبل الحبس في الصحيح. قال في المحيط: فإن أخبره عدلٌ أو اثنانِ بإعساره قبل الحبس. فيه روايتان: في روايةٍ: تقبلُ ولا يحبسه. وفي رواية الخصّاف: لا تقبل. وإليه ذهب عامّة مشايخنا. وهو الصحيح؛ لأن الحبس لم يشرع حجّة لإبطال حقوق العباد، والحبس حق العباد، فلا يبطل حقّه بمجرّد الخبر بدون
قرينةِ الصّدق، وبعد الحبس انضمّت إلى الخبر قرينة الصّدق وهو الحبس، بل لو شهد وأقبل مضى مدة الحبس. قال في مختارات النوازل: لا تقبل. وعليه عامّة المشايخ. وليس للقاضي المقلّد أن يحكم بالضّعيف؛ لأنّه ليس من أهل الترجيح، فلا يعدل عن الصحيح إلَّا القصد غير جميلٍ. ولو حكم لا ينفّذ؛ لأنّ قضاءه بغير الحق؛ لأنّ الحقّ هو الصحيح. وما وقع من أنّ القول الضعيف يتقوّى بالقضاء المراد به قضاء المجتهد، كما بيّن في موضعه لما لا يحتمله هذا الجواب (¬1). والله سبحانه وتعالى أعلمُ. * * * ¬
سئل - رحمه الله -: عن رجل طلق زوجته البالغة طلاقا بائنا
* وسئل - رحمه الله -: عن رجلٍ طلّق زوجته البالغة طلاقًا بائنًا، ثم اتّفقا على العود، فامتنع أبوها. وقال للشّهود: حلفت بالطلاق أنني لا (¬1) أتكلم لها في شيءٍ. استأذنوها: إن رضيت فأنا راضٍ، تشهدوا عليه بذلك. واستأذنوها لعمّها وللحاكم الحنفي بتلك البلدة التي هم بها وحضروا إلى القاضي، وشهدوا عنده: أنّ فلانةً بنتَ فلانٍ أذنت لكم أن تزوّجها لمطلّقها فلان بن فلانٍ من غير ذكر جد لهما. فعقد القاضي العقد يحضره شهوده. وكتب على مسودته علامته واسمه والتاريخ، ثم اجتمع به أبو الزّوجة وقال له: ليس لي في الزّواج غرضٌ وأغصبوني. فقال القاضي للشّهود: ولمَ لا سميتم جدّها مذهبنا لا يصحّ النسب إلا بتسمية الجدّ. هذا تدليسٌ. فهل الأمر كما قال من جهة عدم الصحّة، وإنّ ذلك من الشهود تدليسٌ والعقدُ صحيحٌ وهو مفرّطٌ لعدم تنبيه الشهود على تسمية الجد مع عقده وكتابته على المسوّدة التي ليس فيها اسم الجدّ. وإذا قال: أنا فسخته لذلك، فهل للفسخ تأثيرٌ في قطع العصمة أم العصمة باقية ثابتة بمجرّد العقد؟ أفتونا مأجورين. فأجاب - رحمه الله -: العقد المذكورُ صحيحٌ، وليس من الشهود تدليسٌ ولا أثرٌ لفسخه في قطع العصمة. أمّا صحّة العقد: فلأن البالغة وليّة نفسها وولاية الأب ولاية استحبابٍ، فلا أثر لقوله: أغصبوني. والقاضي وكيلٌ عنها، ولا يشترط تسميةٌ مع معرفة ¬
الشهود لها، وإنّما يشترط ذكر الجدّ من العاقد لا للشهود عند أبي حنيفة إذا لم يكونوا يعرفونها. وعند أبي يوسف ومحمّد: يكفب ذكر الأب. وإذا كانت الشهود تعرفها فيجوزُ، وإن لم يذكروا إلّا اسمها خاصّةً. قال في الينابيع: قال أبو القاسم: لو وكّلت المرأة رجلًا من أن يزوّجها من نفسه فقال في غيبتها للشهود: اشهدوا بأنّي تزوّجت فلانةً ولم يعرفها الشّهود، لا يجوز النّكاح حتى يذكر اسمها واسم أبيها على وجه يستدرك بذلك. قال الفقيه: وهذا قياس قول أبي حنيفة. فإنّ النكاح عنده لا يجوز حتى ينسبها إلى جدّها. وفي قياس قولهما: إذا سمّى اسم أبيها مع اسمها جازَ. قال الفقيه: هذا إذا لم يعرفوها. أمّا إذا عرّفوها جاز وإن لم يذكروا إلّا اسمها خاصّةً. انتهى بحروفه. والله سبحانه وتعالى أعلم.
(25) حكم الخلع وحكم الحنبلي فيه
مَجْمُوعَةُ رَسَائِل العَلَّامَة قَاسِم بن قُطْلُوبُغَا [25] حُكْمُ الخُلْعِ وَحُكْمُ الحَنْبَلي فِيهِ تَأْلِيفُ العَلَّامَة قَاسِم بْنِ قُطْلُوبُغَا الحَنَفِي المولود سَنَة 802 هـ والمتوفى سَنة 879 هـ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -
بداية الرسالة
(25) حُكْمُ الخُلْعِ وَحُكْمُ الحَنْبَلي فِيهِ قال - رحمه الله -: قد استشكل بعض من ينسب إلى العلم بمذاهبنا حل الزوجة بحكم الحنبلي: أنّ الخلع فسخٌ بعد تطليقتين؛ لأنّ الحكم يرفع نزاع المتنازعين. فامّا أن يرفع تعلّق الحل والحرمة بشيءٍ واحدٍ، فلا. فقلت: بل الحكم يرفع تعلّق الحلّ والحرمة بالشيء الواحدِ؛ لأنَّ ظنَّ المجتهد الذي يعمل به مقلّده، إنّما يفيد تعلّق الحكم بالشيء إذا لم يعارضه معارضٌ أقوى. وهنا قد عارضه وهو حكم الحاكم؛ لأن الشرع أوجبَ العملَ به. فالحادثة إن كانت نازلة بمجتهدٍ، فإن اختصّت به، يحمل على ما يؤذيه اجتهاده، فإن استوت الأمارات يخبر بشهادة القلب عندنا أو يعاود النّظر ليترجّح أحدهما، وإن تعلّقت بغير مجتهدٍ، فعند إمكان الصّلح اصطلحا أو رجعا إلى حاكمٍ إن وجدَ وإلّا فإلى محكّمٍ. وعند عدم إمكان الصّلح رجعا إلى الحاكم أو المحكم حتى لو كان حاكمًا ينصب من يفصل بينهما. وإن كانت النازلة بمقلّدٍ. فإن اختصّت عمل بموجب قول إمامه. فإن كان فيه قولًا عملَ بموجب الصحيح من مذهب مقلّده. فإن تعدد التصحيح عمل بفتوى الأعلم الأورع، وإن استوت خُيّر فيها عند الشّافعية. وعندنا تعرضُ على مفت ثالثٍ. فإن كان في بلدٍ آخر وإن تعلّقت بغيره فالأمر كما تقدم. وإمّا أن يصطلحا أو يرجعا إلى حكم حاكمٍ أو مُحكّمٍ.
وقال عبد السيد الحطيني (¬1): عمّن علّق الثلاث بتزوّجها. فقيل له: لا يحنثُ على قول الشّافعي. فاختارهُ: أنّ على الشافعي مجتهد يعتد به، فهل يسعه المقام معها. فقال على قول مشايخنا العراقيين: نعم. وعلى قول الخراسانيين: لا. قال مجد الأئمة التّرجماني: لا بأس بأن يؤخذ في هذا بقول الشافعي. لأنَّ كثيرًا من الصّحابة في جانبه. قال: فقلّت الشبهة. وصحّ القول بالحلّ، إذ لا يصل بحكم الحاكم بفسخ التعليق. وفيه رخصة عظيمة. واعلم: أنّ مشايخنا يطلقون لفظ المفتي على من له نوع اجتهادٍ في المذهب. ويطلقون على أمثالنا لفظ المتفقه. قال الإمام علاء الدين الزّاهدي (¬2): استفتى رجل (¬3) مفتيين حنفيين فأفتيا بالضدّين بالحلّ والحرمة، والصّحّة والفساد. فأخذ العامّي بفتوى الفساد في العبادات والصّحة في المعاملات. وقال ظهير الدين الْمَرْغِيْنَانِيّ (¬4): إن كان المستفتي مجتهدًا، يأخذ بقول من ترجّح عندهُ بدليل. والعامّي بقول من هو أفقه منهما عنده. وإن استويا ¬
سئل - رحمه الله - عن زوجين اختصما بعد الفرقة في صغيرة بينهما
عنده يستفتي غيرهما ولو لم يوجد إلا في بلدٍ آخرَ. كذا كان يفعله الصّحابة والتّابعون. أمّا لو سأل متفقّهًا ففعل، ثم مفتيًا فأجابَ بعكسه. قضى صلاةً صلاّها بقول المتفقه، إن أفتا المفتي بالقضاء. قاله شرف الأئمة المكي - رحمهُ الله تعالى -. * * * * وسئل - رحمه الله - عن زوجين اختصما بعد الفرقة في صغيرةٍ بينهما، وذلك بعد فطامها، الأم تطلبها بالنفقة والأجرة، والأب يأبى ذلك ويقول: عندي أجنبية تربيها بغير أجرة. فهل تقدم الأجنبية على الأم أم لا؟. وهل تستحق الأم الأجرة على الحضانة أم لا؟. وإذا قلتم بعدم تقديم الأجنبية على الأم؟ فهل للأب أن يقيم من يخدم وليدته عند الأم ويتولّى هو الإنفاق على ولده أم لا؟. وما حكم الله في ذلك؟. فأجاب: الحمدُ لله ربّ العالمين. تقدّم الأجنبية بشرط: أن لا يمنع الأم من الولد ولا الولد من الأم. والله أعلم. وأجاب المرحوم (¬1) البدري محمّد بن عبيد الله: ¬
سئل - رحمه الله -: ما تقول في قول الخلاصة وغيره: إن الشاهدين إذا شهدا أن القاضي قضى لفلان على فلان بكذا
اللهم أرشدني للصّواب. ليس للحضانة أجرة عندنا، إذ هو حقٌّ لها، وليس للأجنبية ولا للأب أخذ الولد منها ما دام حقّها في الحضانة إلى أن تتزوّج بغير ذي رحمٍ محرم من الصغير. ولها أن تطلب النّفقة من الأب وتنفق هي على ولدها وتطلب أجرة الخدمة للولد، وإن أراد الأب أن يقيم من يخدم ولده عندها بأجرٍ. فالأمّ أحق بالأجر وإن كانت متبرعة بالخدمة، فإن تبرّعت الأم بالخدمة منعت الأجنبية وإلّا فلا إلّا أن يكون في ذلك إضرارٌ بها. والله أعلم. * * * * وسئل - رحمه الله -: ما تقول في قول الخلاصة وغيره: إنّ الشّاهدين إذا شهدا أنّ القاضي قضى لفلانٍ على فلانٍ بكذا. وقال القاضي: لم أقض. لا تجوز شهادتهما ويكون القول قول القاضي. هل هذا إذا لم ينفذ حكم الأول قاضٍ آخر أم مطلقًا ويمتنع العمل به عنده وعند المنفذ أو عنده؟. أفتونا مأجورين. فأجاب: نعم. هذا مطلقٌ سواء نفّذ حكم الأوّل أو لا. ويمتنع العملُ به عند المُنكر وعند غيره؛ لأنّ المصرّح به في الأصول الاتّفاق على سقوط العمل بالشّهادة المذكورة، فصار كما لو قال: شهدوا الأصل لا شهادة لنا، ولم يشهد هؤلاء. وقد صوّرها بعض شرّاح المغني: بأن ادّعى رجلٌ عند قاضٍ أنّه قضى له بحقٍّ على هذا الخصم، فأنكر القاضي قضاءه، فأقام المدّعي شاهدين
سئل - رحمه الله -: عن رجل وقف شيئا معينا من ماله على نفسه
على قضائه بهذه الصّفة. وعلى هذا فيبعد وقوع التنفيذ المصطلح عليه الآن في مثل هذه الصّورة؛ لأنّه يكون بعد شهادة الشّهود على ما نسبَ إلى القاضي في أسجاله. والله أعلم. * * * * وسئل - رحمه الله -: عن رجلٍ وقف شيئًا معيّنًا من ماله على نفسه، ثم من بعده على جهة معيّنة ولم يتصل بحاكمٍ شرعيٍّ، ثم من بعد ذلك وقف ذلك الشيء بعينه على نفسه، ثم من بعده على جهةٍ أخرى غير الجهة الأولى، وحكم بصحّة هذا الوقف الثاني ولزومه لدى حاكمٍ حنفيّ في وجه الواقف في ساعة الوقف، ولم يتّصل الوقف الأوّل بحاكمٍ أصلًا، ثم بعد موت الواقف وإيصال العين الموقوفة إلى الجهة الثانية حكم حاكم حنفي بصحّة الوقف الأوّل لعدم علمه بالوقف الثاني والحكم به. فأيّ الوقفين هو الصحيح المقول به؟. أفتوا مأجورين. فأجاب: الوقف الأول هو الصّحيح لاتفاق المشايخ على أنّ الفتوى على قولهما بلزوم الوقف، وحيث كان لازمًا فلا يصحّ تغييره بلا شرطٍ منه، ولا يضر في لزومه عدم اتّصاله بحاكم؛ لأن الحاكم ممنوع شرعًا أن يحكم بخلاف ما عليه الفتوى. والله أعلمُ. * * * * وسئل - رحمه الله -: في قول السّادة الحنفية، فيمن استأجر عبدًا للخدمة فسافر به بغير إذن مولاه، ثم ردّه إلى مولاه سالمًا لا أجر له عندنا.
هل المراد: لا أجر له قياسًا واستحسانًا أو قياسًا لا استحسانًا، كما هو الحكم فيمن استأجر حانوتًا فأسكن فيه حدّادًا بغير إذن مالكه، ثم ردّه إليه غير منهدمٍ؛ لأنه لا يلزم الأجر قياسًا. ويلزمه استحسانًا، كما صرّح به في معراج الدّراية وغيرها، على أنّهم قاسوا مسألة المسافرة بالعبد على مسألة إسكان الحداد، فهل سكتوا في مسألة المسافرة عن القياس والاستحسان اعتمادًا على ما قد مرّ في مسألة الحداد وبين المسألتين فرق في وجوب الأجر وعدمه، فإن كان بينهما فرق فبيّنوه للسائلين رضي الله عنكم؟. فأجاب: الحمدُ لله ربّ العالمين. اعلم: أن القياس والاستحسان إنما يجريان في بعض المسائل كمسألة الدّار دون مسألة بعض كمسألة العبد. فلا يقال له فيها: لا أجر له قياسًا واستحسانًا، ولا قياسًا فقط؛ لأنّهما مما لا يتأتّى فيها ذلك، ولم يقس علماؤنا مسألة المسافرة بالعبد على مسألة إسكان الحداد، وإنما وقع لبعض المصنفين تشبيهها بها في أنه لا يجوز ما لم يسأله الإطلاق إلّا بالشرط. وإنّما افترق الجوابان؛ لأنّ المعقود عليه في مسألة الدّار السُّكنى، وفي الحدادة السّكنى وزيادة، فقد استوفى المعقود عليه وزيادة، وسَلِمت العين من الزيادة، فوجب الأجر وسقط الضمان، وخدمة الحضر والسفر في حكم جنسين مختلفين فقد استوفى خلاف ما وقع عليه العقد، فلا أجر. وقد سلّمت العين بما استوفى، فسقط الضّمان. والله تعالى أعلم. قال - رحمه الله تعالى -:
قد وقفت في خلاصة الفتاوى (¬1) على قوله: قال الإمام أبو حفص السفكردي في فوائده: لا ينبغي للحنفي أن يزوّج بنته من شفعوي المذهب. وهكذا قال بعض مشايخنا، وإلى جانب هذا حاشية: إنّما لا ينبغي العكس، فإن الحنفية يستحسنون، ومن استحسن شرع. وذكر لي بعض خلفاء الحكم العزيز، وبعض الطّلبة: أنّ هذه الحاشية بخط البقاعي، وأنّه يحتج بذلك. فقلت: قد فضح نفسه وشهد عليها بالجهل المركّب، واستوجب التعزير الشديد والحبس المديد إلى أن يظهر توبته من القدح في أئمة الدين، ويذهب شيطان رأسه؛ لأن ما قاله الإمام أبو بكر بن الفضل والإمام السفكردي فقد صرّح به الإمام فخر الدين عن السّادة الشّافعية حيث قال: أمّا المقام الأوّل: فتقريره عند الإمام الشّافعي: أنّ الإيمان عندهُ عبارة عن مجموع الاعتقاد والإقرار والعمل، ولا شكّ أن كون الإنسان آتيًا بالأعمال الصّالحة مشكوكٌ فيها، والشك في أحد أجزاء الماهية يوجب الشّك في حصول تلك الماهية، فالإنسان وإن كان جازمًا بحصول الاعتقاد والإقرار، إلّا أنّه لما كان شاكًّا في حصول العمل، فإنّ هذا القدر يوجب كونه شاكًّا في حصول الإيمان. ¬
وأمّا عند الحنفية فلما كان الإيمان اسمًا للاعتقاد والقول، وكان العمل خارجًا عن مسمّى الإيمان، لم يلزم حصول الشّك في العمل حصول الشّك في الإيمان، فثبت: أنّ من كان قوله: أنّ الإيمان عبارة عن مجموع الأمور الثلاثة يلزم وقوع الشّك في الإيمان. ومن قال: العمل خارجٌ عن مسمّى الإيمان يلزمه نفي الشّك عن الإيمان. انتهى بحروفه. فظهر على هذا: عدم كفاءة الشّافعي لابنة الحنفي. والله أعلم. ولمّا لم يتعرض المتعرّض لدفع هذا ولا لتأويل الاستثناء في الإيمان كان قوله: وإنّما لا ينبغي العكس من قبيل فساد الوضع. وقوله: فإنّ الحنفية يستحسنون كذب وجهالة. أمّا كونه كذاب، فلأنه أخبر عن المنتسبين إلى مذهب أبي حنيفة وهم لم يفعلوا ذلك؛ لأنّه من حيث المجتهد، لا من صنيع الاتباع. وأمّا كونه جهالة، فإن المسألة في الاتباع فلم يوافق الدليل الدّعوى، ثم قصره على الحنفية جهالة بمذاهب العلماء أيضًا. وقوله: وعن استحسن فقد شرع. كذب وجهالة، وقدح في أئمة الدين؛ لأنّ الأئمة الأربعة رضوان الله عليهم قد ذهبوا إلى الاستحسان وحاشاهم أن يشرعوا في الدّين ما لم يأذن به الله. وبيان ذلك: أن الاستحسان كما قال الكرخي: قطع المسألة عن نظائرها، لما هو أقوى. وذلك الأقوى هو دليل يقابل القياس الجلي الذي يسبق إليه أفهام المجتهدين نصًا كان أو إجماعًا أو قياسًا خفيًّا، وهذا مما ذهب إليه جميع الأئمة
حتّى قال ابن الحاجب: لا يتحقق استحسان مختلفٌ فيه، وقد أطلقه الشافعي فقال في المتعة: أستحسن أن يكون ثلاثين درهمًا، وثبوت الشفعة في ثلاثة أيّام، وترك شيءٍ من الكتابةِ له، وأن لا يقطع يمين سارق أخرجَ يده اليسرى فقطعت. وقالوا في الشّركة: التشريك استحسان. وذهب إليه الشَّافعي. وقال الإمام أحمد بن حنبل في روايةٍ الميموني: أستحسن أن يتيمم لكلّ صلاةٍ. والقياس: أنّه بمنزلة الماء حتى يحدث أو يجد الماء. وقال في رواية بكر بن محمد فيمن غصب أرضًا فزرعها الزرع لرب الأرض وعليه النفقة، وليس هذا بشيءٍ يوافق القياس، ولكن أستحسن أن يدفع إليه نفقته. وقال في رواية صالح في المضارب: إذا خالف واشترى غير ما أمر به صاحب المال. ولهذا أجرُ مثله، إلّا أن يكون الرّبح يحيط بأجر مثله، فيذهبُ، وكنتُ أذهب إلى أن الرّبح لصاحب المال، ثم استحسن إلى آخره. وقال الإمام نجم الدين بن عبد القوي: وكتب أصحابه يسمّونه بالاستحسان. قال القاضي عبد الوهّاب: لم ينصّ عليه مالك. وكتب أصحابنا مملوءةً منه كابن القاسم، وأشهب وغيرهما. وقال ابن الحاجب: ولم يتحقق استحسان مختلف فيه، وقد تقدّم هذا في مختصره. وقال الإمام جمال الدين عبد الرحيم: اتّفقت الأمّة على امتناع القول
في الدين بالتشهي. فالاستحسان هو القول بأقوى الدليلين وذلك بترجيح أحد الدليلين على الآخر. ولفظ الاستحسان يؤيد هذا، فإنه اختيار الأحسن. وإنّما يكون في حسنين. وإنّما يوصف القول بالحسن إذا جاز العملُ به لو لم يعارض. ويؤيده قوله تعالى: {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} [الزمر: 18]. إذ هو يستدعي مقولًا حسنًا وأحسن. وذلك يستدعي دليلًا غير أحدهما، وليس إلّا الترجيح بدليلٍ. انتهى. فلما كانت الأحكام المستحسنة ثابتة بالسنة والإجماع والضرورة لدفع الحرج والقياس، لم يكن شرعًا جديدًا، كما زعمه الجاهل المتعولم. وكان المستنبط لها مأجورًا بالنّص لَا مُعابًا، فمن جعله مُعابًا وتنَزّه بذلك استوجب ما ذكرنا. والجاهلون لأهل العلم أعداء. وقد أخبرني علّامة زمانه كمال الدين ابن الهمام، عن شيخ الكل في الكل عزّ الدين ابن جماعة أنّه قال: النُّصرة بحسب القُدرة. وهذا ما أقدرني الله عليه الآن. وهو حسبي ونعم الوكيل. ولما ذكر لي بعض (¬1) طلبة العلم: أنّ هذا الطّاعن في أئمتنا من أخصّ النّاس لسيدنا ومولانا قاضي القضاة الحنفية. قلت: يقال له: إنّ الذي شرفت من أجله يزعمُ بهذا أنّه غائبٌ. ثم بلغني: أنّه بلغ القادح في أئمة الدين شيءٌ مما قلته. فقال: إنّ هذا الكلام قاله الإمام الشّافعي. فقلت: وهذا الكلام من هذا القائل من الجهل المركّب حيث ¬
تصوّر كلام الإمام على خلاف ما هو به، ونزّله على ما لا يطابقه؛ لأنّ عاقلًا لا يقول بإرادة الإمام عموم المستحسنين للأشياء. وحيث لم يكن العموم مرادًا عقلًا لا يصحّ استدلاله عقلًا وما لا يصح عقلًا فهو من الجهل. فقيل لي: فما مراد الإمام؟. قلت: مرادهُ: من استحسن أمرًا من الدّين بلا دليلٍ فقد شرع ذلك الأمر، فلا يكون من مشروع الشّارع؛ لأنّ المشروع ما كان عن نصٍّ شرعي أو إجماعٍ أو قياس جَلِيٍّ أو خفيٍّ. أشار إلى ذلك علماء الشّافعية في شروح المنهاج. وعلماء الحنفية في أصولهم. قيل: فهل يحفظ شيئًا من نصوص أبي حنيفة وأصحابه في ذلك؟. فقلت: نعم. قال في الأهلاني: بئر وجدَ فيها دجاجة ميمة منتفخة على من توضّأ من ذلك الماء وصلّى أن يعيد الوضوء ويعيد صلاته ثلاثة أيّام ولياليهنّ. قلت: وهو لا يعلم متى وقعت؟ قال: أستحسن ذلك وآخذ بالثّقة لأنهّا صلاة. وأن يصلّي الرجل شيئًا قد صلاّه، وفرغَ منه أحبّ إليّ من أن يترك شيئًا واجبًا عليه. قلت: أرأيت قولك في الدّم إذا كان أكثر من قدر الدّرهم، أعاد الصّلاة لم قلته؟ قال: لأنّه بلغني عن إبراهيم النخعي أنّه قال: قدر الدّرهم، والدّرهم قد يكون أكثر من الدراهم، فوضعناه على أكبر ما يكون منها. أستحسن ذلك. قلت: فلمَ استحسنتَ في النوم إذا كان قاعدًا أو ساجدًا أو قائمًا أو راكعًا؟.
قال: جاء في ذلك أثر، وأخذتُ به، وأخذت في ذهاب العقل بالقياس؛ لأن ذهاب العقل أشدّ من الحدث. رجلٌ مكثَ في الصّلاة يتفكّر حتى شغله ذلك عن ركعةٍ أو سجدةٍ أو كان راكعًا أو ساجدًا فأطال الرّكوع والسّجود، ويتفكّر، ثم ظنّ أنّها الظّهر. هل يجب عليه في ذلك سجدتا الشهو؟. قال: إذا تغيّر عن حاله فتفكر، استحسنت أن أجعل عليه سجدتي السّهو. قلت: أرأيت مسافرًا افتتح الظّهر وصلّى ركعةً، ثم أحدثَ فانصرف ليتوضأ، فلم يجد الماء فتيمم بالصّعيد، ثم وجد الماء قبل أن يعود إلى مقامه، وبدأ المقام. قال: يتوضأ ويبني على صلاته ويكمل أربع ركعات. ورؤيته الماء في مقامه وقبل أن يقوم في مقامه أو في غير مقامه سواء في القياس غير أني استحسنت ذلك وآمُرُهُ أن يتوضأ ويبني على صلاته ما لم يرها بعدما يقوم في مقامه أو في غير مقامه. قلت: أرأيت إمامًا صلّى بقومٍ ركعة أو ركعتين، ثم أحدث، فلم يعلم أحدًا حتى خرج من المسجد. قال: صلاة القوم فاسدة وعليهم أن يستقبلوا الصلاة. قلت: لِم؟ قال: أستحسن ذلك. وأرى له فسخًا أن يكون قومٌ في الصّلاة في المسجد وإمامهم في أهله. قلت: أرأيت رجلًا دخل مع الإمام في الصّلاة وقد سبقه بركعةٍ، والرّجل أُمّي، فلما فرغَ الإمام من صلاته قامَ الرّجل ليقضي، أيجب عليه أن يقرأ فيما بقيَ؟ قال: نعم.
قلت: فإذا لم يحسن أن يقرأ. قال: أمّا في القياس: فإنّ صلاته فاسدة، ولكن أدع القياس وأستحسن أن يجزئه. قلت: لِمَ؟ قال: أرأيتَ لو كان: أخرس فسبقه الإمام بركعة فقام يقضي، أمَا كانَ تُجزئه صلاتهُ؟!. قلت: بلى. قال: هذا وذلك سواء. قلت: أرأيت رجلًا افتتح التطوع فصلّى أربع ركعاتٍ ولم يقعد في الثانية. قال: يجزئه. وعليه سجدتا السّهو إن كان فعل ذلك ناسيًا. قلت له: أليسَ قد أفسدت الأوليين حيث لم يقعد فيها. قال: أمّا في القياس فقد أفسدتهما، ولكن أدعُ القياس وأستحسن، فأجعلهما بمنزلة الفريضة ألَا ترى لو أنّ رجُلًا صلّى الطهر أربعًا، ولم يقعد في الثّانية وقعد في الرّابعة، وتشهّد أنّ صلاته تامّة، وعليه سجدتا السهو. فكذلك هذا. قلت: فإن كانت السجدة في وسط الصّلاة كيف يصنع لها؟ قال: يسجد لها، ثم يقوم فيقرأ ما بقيَ أو ما بدا له منها، ثم يركع. قلت: فإذا أراد الرّكوع بالسّجدة بعينها. هل يجزئه ذلك؟. قال: أمّا في القياس فالرّكعة في ذلك والسجدة سواء لأنّ كل ذلك صلاة. ألا ترى إلى قوله تعالى: {وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ} [ص: 24]. وتفسيرها: خرّ ساجدًا. فالرّكعة والسجدة سواء في القياس.
سئلت عن واقف وقف وقفا وشرط لنفسه التبديل والتغيير، فغير الوقف لزوجته
وأمّا في الاستحسان: فإنه ينبغي أن يسجدها. وبالقياس: نأخذ بهذه نبذة مما قيل فيه بالاستحسان. وقد تقدّم القياس على الاستحسان في بعضها، كما ذكر. وبه تبين جهل القادح في علماء المسلمين بما لا يعلم، وأنّ ما عيبَ غير ما ذهب إليه الأئمة. وقد أنشد الأمير حسام الدين ابن لالا: إِذَا كُنتَ لا تَدري. . . وَلَم تَكُ كالّذي يسأل الّذي يدري. . . فكيفَ إذًا تدري ومن عجبِ الأشياء. . . أنّك لا تدري وأنّك لا تدري. . . بأنّك لا تدري * * * * قال - رحمه الله -: سئلتُ عن واقفٍ وَقَفَ وقفًا وشرطَ لنفسهِ التبديل والتغيير، فغيّر الوقف لزوجته. فأجبت:
إنّي لم أقف على اعتبار هذا الشّرط في شيءٍ من كتب علمائنا، وليس للمفتي في زماننا إلّا نقل ما صحّ عن أهل مذهبه الذين يفتي بقولهم. ولأنّ المستفتي إنما يسأل عمّا ذهب إليه أئمّة ذلك المذهب، لا عمّا يخيل للمفتي. واللهُ أعلمُ. ثم بلغني: أنّ محيي الدين الكافيَجي وقفَ على جوابي، وقال: شرط الواقف كنصّ الشّارع، يجبُ العملُ به وإن لم يكن منصوصًا عليه. فأجبتُ: بأنّ هذا يقتضي خلافَ ما اجتمعت عليه الأمّة من أنّ من شروط الواقفين ما هو صحيحٌ معتبرٌ يُعملُ بهِ. ومنها: ما ليس كذلك. وخلاف ما نصّ الفقهاء عليه من معنى هذا الكلام. فقال في كتاب الوقف لأبي عبد الله الدمشقي، عن شيخه شيخ الإسلام قول الفقهاء نصوصه كنصوص الشّارع - يعني: في الفهم والدّلالة في وجوب العمل - مع أنّ التحقيق: أنّ لفظه ولفظ الموصي والحالف والنّاذر، وكلّ عاقدٍ يحمل على عادته في خطابه ولغته التي يتكلّم عليها، وافقت لغة العرب، ولغة الشّارع أوْ لا، ولا خلافَ أن من وقفَ على صلاة أو صيام أو قراءة أو جهادٍ غير شرير ونحوه لم يصحّ. والله أعلم. قلت: وإذا كان المعنى كما ذكر فما كان من عبارة الواقف من قبيل المفسر لا يحتمل تخصيصًا، ولا تأويلًا يُعملُ به. وما كان من قبيل الظّاهر كذلك، وما احتمل، وفيه قرينة، حُمِلَ عليها. وما كان مشتركًا لا يُعملُ به؛ لأنَّه لا عموم له عندنا، ولم يقع في نظر
لمجتهدٍ ليرجّح أحد مدلوليه، وكذلك ما كان من قبيل المجمل إذا مات الواقف، وإن كان حيًّا يرجع إلى بيانه. هذا معنى ما أفاده. والله أعلم (¬1). قال - رحمه الله -: أفادني الشيخ الإمام صلاح الدين الحنفي - سلّمهُ الله تعالى ونفعَ بعلومه -: أنّه وقعَ في خاطره الكريم أنّ ما استشهد به صاحب الهداية في باب قضاء الفوائت: على أنّ الأظهر عود الترتيب السّاقط بكثرة الفوائت يعوذها القلة. بقوله: فإنّه روي عن محمّدٍ فيمن ترك صلاة يومٍ وليلة وجعل يقضي من الغد مع كلّ وقتية فائتةً، فالفوائت جائزة على كلّ حالٍ. والوقتيات فاسدة ¬
إن قدّمها لدخول الفوائت في حدّ القلّة، وإن أخّرها فكذلك إلّا العشاء الآخرة. فإنَّه لا فائتة عليه في ظنّه حال أدائها، لا يدلّ على مقصوده لما علم من مذهب محمّد: أنّ الترتيب يسقط بدخول وقت السّادسة إلى آخره. وأنَّه سلّمه الله ونفع به ذَاكَرَ بذلك بعض أهل العلم من مذهبنا، فلم يذكروا له شيئًا. وأنَّه راجعَ كتبه فوجد هذا بعينه قد وقع للزّيلعي شارح الكنز حيث قال بعد ذلك ما قدّمناه عن صاحب الهداية. قال راجي عفو ربه الكريم: ليس فيه دلالة على عود الترتيب بعد سقوطه؛ لأنّ الترتيب لو سقط لجازت الوقتية التي بدأ بها كما ذكر في الجامع الصغير، وهو قوله: فإن فاته أكثر من صلاة يومٍ وليلة أجزأته التي بدأ بها؛ ولأنّ الترتيب إنما يسقط بخروج وقت السادسة، ولم يخرج هنا ولا يمكن حمله على ما روي عن محمّد: أنّ الترتيب يسقط بدخول وقت السادسة؛ لأن حكمه بفساد الوقتية التي بدأ بها يمنع من ذلك، إذ لو كان مراده على تلك الرواية لما فسدت التي بدأ أوّل مرّةٍ لسقوط الترتيب عنده. انتهى. قلت: وقد أخذ هذا شيخنا العلامة كمال الدين (¬1)، وأورده في شرحه على الهداية، وأقرّه فقال بعد تقرير قوله: (وَهُوَ الأَظْهَرُ): وفيه نظرٌ (¬2). ثم قال: ووجه النَّظر أنَّه لم يسقط التَّرتيب أصلًا، فإنَّ سقوطه بخروج ¬
وقت السَّادسة وهو لم يخرج حتَّى صارت خمسًا بقضاء الفائتة، ولا يمكنُ تخريجه (¬1) على ما روي عن محمَّدٍ من اعتبار دخول وقت السَّادسة؛ لأنَّه لو كان كذلك لم تفسد (¬2) الوقتيَّات. انتهى. قلت: وقد كنت أقرأت شرح الزيلعي في سنة إحدى وأربعين، ولي فيه تقريرٌ وتحرير. ومن ذلك: أنّ قوله: ولا يمكن حملهُ على ما روي عن محمّد ممنوع بل هو يبنى عليه. فقد نصّ جماعة من محققي المشايخ على أنّ من أصل محمّد إذا دخل وقت السّادسة سقط الترتيب، إلّا أن سقوطه يتقرر بخروج وقت السادسة. فإذا أدّى وقتية توقف جوازها على قضاء الفائتة وعدمها. فإذا قضى دخلت الفوائت في القلّة، فبطلت الوقتية؛ لأنّها أديت عند ذكر الفائتة. وبهذا صرّح في رواية ابن سماعة، عن محمّد في تعليل ذلك بقوله؛ لأنَّه كلّما قضى فائتةً عادت الفوائت أربعًا، وفسدت الوقتية إلا العشاء، فإنّه صلاها. وعنده: أن جميع ما عليه قد قضاهُ فأشبه الناسي. انتهى. وقد انتصر شيخنا العلامة كمال الدين للعود بقوله بعدما ذكرناه عنه (¬3): لكنَّ الوجه يساعدُهُ بجعله (¬4) من قبيل انتهاء الحكم بانتهاء علَّته (¬5)، وذلك: ¬
أنَّ (¬1) سقوط التَّرتيب كان بعلَّة الكثرة المفضية إلى الحرج، أو أنَّها مظنَّة تفويت (¬2) الوقتيَّة، فلمَّا قَلَّت زالت العلَّة فعاد الحكم الَّذي كان قبل، وهذا مثل حقِّ الحضانة الثَّابت (¬3) لمحرم الصَّغير من النِّساء يسقط (¬4) بالتَّزوُّج، فإذا زال التَّزوُّجُ عاد لا أنَّه سقط فيكون متلاشيًا (¬5)، فلا يتصوَّر عوده إلَّا لسبب آخر. انتهى. قلت: قوله: فعاد الحكم. . . هو محلّ النّزاع، فلا يثبت بلا دليل. وقوله: وهذا مثل حقِّ الحضانة (¬6). . . ممنوع؛ لأنّ مسألة الحضانة ليست من قبيل انتهاء الحكم بانتهاء العلّة أصلًا، وإنّما هي من قبيل عروض المانع وزواله؛ لأنّ علّة حَقِّ الْحَضَانَةِ: القرابة المستلزمة للشفقة والتزوّج مانعٌ لما ذكروه من الاشتغال بخدمة الزّوج. . . إلخ. مع بقاء أصل العلّة. فإذا زال المانع ثبت المكنة من القيام بالحضانة. والله أعلم. ثم أفاد الشيخ صلاح الدين - سلّمه الله - ما ذكر في التحقيق: أن امتداد الأغماء أن يزيد على يومٍ وليلةٍ باعتبار الأوقات عند أبي حنيفة وأبي يوسف وباعتبار الصلاة عند محمّد فقلت: ما ذكر في التحقيق هو المذكور في الهداية وهو خلاف ما اعتبر كل منهم في قضاء الفوائت حتى قال شيخنا العلامة كمال ¬
الدين - رحمه الله - في شرحه على الهداية (¬1): وكلٌّ مُطَالَبٌ بِالْفَرْقِ. وقلتُ فيما كتبته على الشرح المذكور: إِنّه قد اختلفت الروايات عن الثلاثة في كلا البابين. واتفق المشايخ على أنّه ظاهر الرواية. والصحيح في البابين واحدٌ وهو: أنّ العبرة لعدد الصّلوات. قاله في الذخيرة والبدائع والفتاوى الصغرى وغيرها. فلا احتياج إلى طلب الفرق. وأمّا الأثر الذي أشاروا إليه، فهو ما قال محمّد في كتاب الآثار (¬2): أخبرنا أبو حنيفة، عن حمّاد، عن إبراهيم، عن ابن عمر في المُغمى عليه يومًا وليلة؟ قال: يقضي. قال محمّد: وبه نأخذ، حتّى يُغمى عليه أكثر من ذلك، وهو قول أبي حنيفة - رحمه الله -. هذا ما تيسّر في هذا المقام (¬3). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
والحمدُ لله ثانيًا. وصلّى الله على سيّدنا محمّدٍ وآله وصحبه. ¬
ملحق المجموع تعريف المسترشد في حكم الغراس في المسجد
مُلْحَق المَجْمُوعِ تَعْرِيفُ المُسْتَرْشِد في حُكْمِ الغِراسِ في المَسْجِدِ تَأْلِيفُ الشَّيْخ شَمْس الدِّين ابنِ أَمِير حَاج الحَلَبِيِّ
بداية الرسالة
تَعْرِيفُ المُسْتَرْشِد في حُكْمِ الغِرَاسِ في المَسْجِدِ هل يجوز إحداث غرس الأشجار في المسجد، ولا سيّما مع التهافت عليه والاستكثار منه، ولا ضرورة تدعو إليه من كون المسجد ذا بنى لا تثبت إسطواناته إلّا بذلك. وهل يفرق في ذلك بين الواسع والضيق وبين أن يكون ذلك المحل من المسجد، قد لا يصلّى فيه لسعته. وبين أن لا يكون كذلك؟ وإذا قلتم بعدم جواز إحداث ذلك فيه. هل يبقى أو يقلع؟. الجواب: لا يجوز إحداث غرسِ الأشجار في المسجد إذا لم تكن الضرورة المذكورة موجودة فيه، خصوصًا إذا تهافت النّاس عليه واستكثروا منه، ولا فرق في عدم جواز إحداثه فيه، بين أن يكون ضيّقًا أو واسعًا، وبين أن يكون محلّه قد لا يصلّى فيه لقلّة جماعته ونحو ذلك، وبين أن يكون محلّه يصلّى فيه دائمًا، أو غالبًا. وإذا أحدث فيه يقلع. والوجه في ذلك كله أظهر للتّأمّل في القواعد الشرعية. فإنّ من المعلوم عند أهل العلم: أنّ البقعة إذا صارت مسجدًا لله تعالى صار كل جزءٍ منها له حكم المسجد به من غير تفرقةٍ بين كونها واسعةً أو ضيّقة، وبين كون سعتها بحيث قد يستغني الناس عن إيقاع الصّلاة في ذلك المحلّ منها، وبين أن لا يكون كذلك. والحكمُ الثّابت لكون البقعة مسجدًا هو خلوصها لله تعالى. وكونها محلًّا للعبادة من صلاةٍ أو اعتكافٍ أو اقتداء بإمام
فيها تباعد ما بينه وبين المقتدين تباعدًا لو كان في غير المسجد لم يجز الاقتداء به ونحو ذلك. ومن المعلوم: أنّه ما دامت المسجدية قائمة، كان هذا الحكم ثابتًا لها، وأنه لا يجوز إبطاله والغرس في جزءٍ من المسجد كائنًا ما كان إبطالٌ لهذا الحكم فيه، فلا يجوز. وإذا لم يجز إحداث الغراس لا يجوز إبقاؤه لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لَيْسَ لِعِرْقٍ ظَالِمٍ حَقٌّ" (¬1). أخرجه أبو داود، والنّسائي، والترمذي وقال: حديثٌ حسنٌ غريب. وهذا كذلك؛ لأن الظّلم وضع الشيء في غير محلّه. وهذا كذلك، كما بَيّنًا. ولما تقرر من الأصل الذي لا يعلم له مخالفٌ من أنّ كل صفةٍ منافيةٍ لحكيمٍ يستوي فيه الابتداء والبقاء كالمحرميّة في باب النكاح، كما يمنع ابتداء النّكاح، بمنع بقائه. ولو كان عارضه عليه بعد ثبوته، ألا ترى لو كان الزّوجان صغيرين أو كبيرين، فمكنت الزّوجة ابن زوجها من نفسها ارتفع النّكاح في كلّ من هاتين الصّورتين بعد ثبوته. أمّا في الأولى: فبالإجماع. وأمّا في الثانية: فعند أصحابنا ومن وافقهم خلافًا للشّافعي ومن وافقه. نعم. اللهمّ إلّا أنْ يخرج شيء من هذا بالنّص كبقاء الصّلاة في حقّ من سبقه الحَدَث. حتى جاز له البناء، كما هو قول أصحابنا للنّص الوارد في ذلك. وهو ¬
تنبيه
قوله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ أَصَابَهُ قَيْءٌ أَوْ رُعَافٌ أَوْ قَلَسٌ أَوْ مَذْيٌ، فَلْيَنْصَرِفْ فَلْيَتَوَضَّأْ، ثُمَّ لِيَبْنِ عَلَى صَلَاتِهِ، وَهُوَ فِي ذَلِكَ لَا يَتَكَلَّمُ". رواه ابن ماجه، وغيرهُ (¬1). ولا نصَّ هنا على جواز البقاء مع صفة المسجدية، فيقلع. * تنبيه: وما ذكر غير واحدٍ من المشايخ من أنّه لو غرسَ شجرةً في المسجد للمسجد فهي للمسجد أو ثمرتها للمسجد ونحو هذا من العبارات المفيدة لهذا المعنى لا يفيد أنّه يحلّ غرس الأشجار فيه من غير حاجة شرعية؛ ولأنّه يحل إبقاؤها فيه كذلك. وإنمّا هو إفادة هذا الحكم له لو وقع، ولا يلزم من مجرّد الوقوع الحل الشرعي له، إذ ليس كل واقعٍ حلالًا. وكم في الفروع من نظائر له كإعطاء حكم الزيادة المتولدة من المغصوبة إذا أدّى قيمة العين الغاصب أنّها له أو لمالكٍ العين الأوّل، فإنّه لا يستدل على أنّ الغصب حلال إلى غير ذلك مما يطول تعداده على أنّه لو سلم إشعار المذكور يحل الإبقاء بالجملة. فليحمل المذكور على الواقع الجائز باقٍ كان في مسجد ذي نزٍّ والإسطوانات لا تثبت إلّا بذلك من باب عمارة المسجد. وتلك الأشجار لا تخرج حينئذٍ عن كونها زيادة في إسطوانات له محتاجٌ إليها فلا يشمله النّص المذكور ولا القاعدة الشائعة جمعًا بين إشارة كلامهم ¬
وصريح عبارتهم. إذ هو أولى من إبطال أحدهما على أنّه لو ذهب ذاهبٌ إلى قيام التعارض مع عدم تأتي الجمع بينهما كما ذكرنا لقذم عدم الجواز على الإشارة وهي هنا الجواز، وخصوصًا في هذه المسألة، فإنّ العبادة على وقف يقتضي الدليل الشرعي بخلاف الإجازة. ثم مما أوضحناه من النّص والقاعدة عرف أنه لا يقال: لم لا يجوز البقاء نظرًا إلى ما يؤول إليه غرسها من انتفاع المسجد بثمرتها وإن كان الابتداء غير جائزٍ؟ مع أنّ هذا في نفسه كلامٌ فاسد الاعتبار كما يعرفه من يعرف الأصول. فإنّ من المعلوم: أنّ المسجد ما وضع للاستغلال وإن فعل هذا منافٍ لوصفه شرعًا على أنّه غير خافٍ بقليل تأمّل إن فتح هذا الباب قد يؤدي إلى استغراق المسجد أو أكثره بالغرس بواسطة كثرة نوادر الغارسين فيه فيؤدي إبقاء ذلك فيه إلى جعله بستانًا ونحوه. وما أظنّ أنّ أحدًا من أئمة الدين يقول به، ثم يلزم تعيّن هذا أنّه إذا بنى بانٍ في المسجد للمسجد ما يستغل منه من نحو دكانٍ أنّه يبقى فيه لهذا القصد، وأنّه إذا شغل شاغل بقعة منه بأمتعةٍ ونحوها أنّه يبقى ذلك بأجرة مثلها، فإنّ كلًّا من هذه الأمور لا يجوز إحداثه ابتداءً، وجث جاز البقاء في الأوّل للانتفاع بالثّمرة يجوز في هذين للانتفاع بالغلّة إذ المشاركة في الغلّة توجب المشاركة في الحكم بل يكون الجواب في هذين بطريق الأولى، فإنّ الثمرة موهمة الحصول في الشجرة بعد حين، فإنّ كثيرًا من الأشجار، لا يخرج الثمرة المعتبرة. وكثيرٌ منها: إن أخرجها لا يخرجها إلّا بعد سنين، ثم بعد ذلك قد تطرأ فيها آفةٌ من الآفات فيدخل هذا الوهم البعيد في حكم الفوات بخلاف هذين وخصوصًا الثاني منهما. وثبوت هذا الحكم فيها لا يقول به عاقلٌ مشرّعٌّ.
تذييل
ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. * تذييل: ومن العجب العجاب: ما فاه به وفيه بعض من أخطاء، فما الصّواب؟ وهجم على الإفتاء على مذهب الإمام أبي حنيفة، مما لا تقوم به رواية عن أحدٍ من الأصحاب ولا دراية عند أولي الألباب، فغضب من غير ما جرم عند العوامّ، زاعمًا جواز الغرس وحرمة القلع لعلّه يرى أنه من رؤى البعض، وَالإِلْزام. واستند في هذه الدّعاوى إلى ما قدّمناه في التنبيه. وقد أوضحنا فيه: أنّ كلًّا من عدم جواز إحداث الغرس ومن عدم جواز إبقائه هو القول الوجيه. وإلى ما في خلاصة الفتاوى وغرس الأشجار في المسجد لا بأس به إذا كان فيه نفع للمسجد بأن كان المسجد ذا نزٍّ والإسطوانات لا تستقر بدونها وبدون هذا لا يجوز. انتهى. فصحف ذا نزٍّ بالذال والنون والزاي المشددة. أي: صاحب نزٍّ. وفي الصَّحَاح: النَّز والنُّز ما يتحلّب من الأرض من الماء. وقد نزّت الأرض صارت ذات نزّ. انتهى إلى دثز بالدال المهملة والثاء المثلثة والزاي، أي: خرابٍ. فسجّل على نفسه بأنه كما لا يفهم المعنى قد صحّف المبنى، ثم هذا مع قوله: والإسطوانات لا تستقر بدونها في إفادة كون الضبط على ما ذكرناه وما له من المعنى من الوضوح بحيث لا تخفى على من له مَسْكة من فهم معنى أصل التركيب العربي كما هو وظيفة أدنى العوام، ثم حيث كان اللفظ على ما ذكره من التصحيف. فالواقعة التي هي مثالٌ، ذكر هذه المسألة، إنّما هي في عامر آهلٍ وهو المسجد الأقصى.
ومن المعلوم: إنّما يجوز في الخراب لا يلزم أن تجوز في العامر، وخصوصًا: إن خرج عن المسجدية بالدثور. كما هو أحد قولي العلماء فيه، ثم يا ليت شعري ما يصنع بقوله: وبدون هذا لا يجوز، فإنه نصٌّ مفسّر في إفادة أنه إذا لم يكن داثرٌ لا يجوز الغرس فيه كما هو الصّواب. وفي إفادة أنه إذا لم يكن خرابًا لا يجوز الغرس فيه على ما وقع من التصحيف. فكيف يستدل به على جواز الغرس إذا كان عامرًا آهلًا ليس بذي نزّ وإنّ هذا لجديرٌ. وكم من عائبٍ قولًا صحيحًا. . . وآفته من الفهم السقيم وبالمثل السّائر: سكت ألفًا وقال خلفًا. اللهم أعذنا من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، وتُب علينا توبةً نصوحًا، إنّك أنت التواب الرحيم، وأرنا الحقّ حقًا وارزقنا اتباعه، والباطل باطلًا وارزقنا اجتنابه، وعلّمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علّمتنا، إنّك سبحانك ذو الفضل العظيم. وحسبنا الله ونعم الوكيل. هذه المسألة من كلام المرحوم شمس الدين بن أمير حاج الحلبي، ألّفها بالقدس الشريف في عودةٍ من الحج سنة 879 هـ وقد سئل عن الغرس بالمسجد الأقصى. فأجاب بما ذكر، ووافقه الشيخ كمال الدين بن أبي شريف الشافعي (¬1). ¬
وخالفهما بعض الحنفية حين لجأ إليه العوام لما استبشعوا القلع معتمدًا كلام صاحب الخلاصة مع ما احتوى عليه من التصحيف. ومن الشافعية من يقصد خلاف ابن أبي شريف. تمت الفوائد بعون الله وكرمه وإحسانه وحسبنا الله ونعم الوكيل. ¬