مجموعة الرسائل والمسائل النجدية (الجزء الرابع، القسم الثاني)

مجموعة من المؤلفين

النبذة الشريفة النفيسة في الرد على القبوريين للشيخ حمد بن ناصر

النبذة الشريفة النفيسة في الرد على القبوريين للشيخ حمد بن ناصر ... النبذة الشريفة النفيسة في الرد على القبوريين من فتاوى "العلامة مفتي الديار النجدية وعالم الطائفة السلفية" الشيخ حمد بن ناصر بن عثمان بن معمر الحنبلي رحمه الله تعالى إطلاق الكفر بدعاء غير الله بسم الله الرحمن الر حيم {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} 1 وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولا ند ولا معين، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، أرسله رحمة للعالمين، وحجة على الكافرين، صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليما، وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد: فإنه ما كان منتصف جمادى الثانية من شهور سنة سبع عشرة بعد المائتين والألف وصلت إلينا رسالة من محمد بن أحمد الحفظي اليمني، يسأل فيها عن مسائل أوردها عليه بعض المجادلين، فطلب منا الجواب عليها. منها زعم أن إطلاق الكفر بدعاء غير الله غير مسلم لوجوه: "الوجه الأول" عدم النص الصريح على ذلك بخصوصه. "الثاني" أنه إن نظر فيه من حيثية القول فهو كالحلف بغير الله، وقد ورد أنه شرك وكفر، ثم أولوه بالأصغر، وإما نظر فيه من حيثية الاعتقاد فهو كالطيرة وهي من الأصغر. "الثالث" أنه قد ورد في الحديث -أي حديث الضرير- قوله: "يا محمد إني أتوجه بك"2 الخ، وفي الجامع الكبير وعزاه للطبراني: "فمن انفلتت عليه دابته قال: يا عباد الله احبسوا" وهذا دعاء ونداء لغير الله. "الجواب" وبالله التوفيق والتأييد، ومنه أستمد العون والتسديد. اعلم أن دعاء غير الله وسؤاله نوعان: "أحدهما" سؤال الحي الحاضر ما يقدر عليه، مثل سؤاله أن يدعو له أو ينصره أو يعينه بما يقدر عليه، فهذا جائز كما كان الصحابة -رضي الله عنهم- يستشفعون بالنبي صلى الله عليه وسلم في حياته فيشفع لهم، ويسألونه الدعاء فيدعو لهم. فالمخلوق يطلب منه من هذه

_ 1 سورة الفاتحة آية:2: 4. 2 الترمذي: الدعوات "3578" , وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها "1385" , وأحمد "4/138".

الأمور ما يقدر عليه منها، كما قال تعالى في قصة موسى: {فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ} 1 وقال تعالى: {وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ} 2 وكما ورد في الصحيحين: أن الناس يوم القيامة يستشفعون بآدم، ثم بنوح، ثم بإبراهيم، ثم بموسى، ثم بعيسى، ثم بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم. وفي سنن أبي داود "أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم إنا نستشفع بالله عليك ونستشفع بك على الله فقال: شأن الله أعظم من ذلك، إنه لا يستشفع به على أحد من خلقه"فأقره علىقوله: نستشفع بك على الله، وأنكر قوله: نستشفع بالله عليك؛ فالصحابة -رضي الله عنهم- كانوا يطلبون منه الدعاء، ويستشفعون به في حياته صلى الله عليه وعلى آله وصحبه. "النوع الثاني" سؤال الميت والغائب وغيرهما مما لا يقدر عليه إلا الله مثل سؤال قضاء الحاجات، وتفريج الكربات، وإغاثة اللهفات، فهذا من المحرمات المنكرة باتفاق أئمة المسلمين، لم يأمر الله به ولا رسوله، ولا فعله أحد من الصحابة، ولا التابعين لهم بإحسان، ولا استحسنه أحد من أئمة المسلمين، وهذا مما يعلم بالاضطرار أنه ليس من دين الإسلام. فإنه لم يكن أحد منهم إذا نزل به شدة أو عرضت له حاجة يقول: يا سيدي فلان اقض حاجتي أو اكشف شدتي، وأنا في حسبك، وأنا مستشفع بك إلى ربي. كما يقوله بعض هؤلاء المشركين لمن يدعونهم من الموتى والغائبين، ولا أحد من الصحابة استغاث بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد موته، ولا بغيره من الأنبياء عند قبورهم، ولا إذا أبعدوا عنهم، فإن هذا من الشرك الأكبر الذي كفر الله به المشركين. فإن المشركين الذين كفرهم النبي صلى الله عليه وسلم واستباح دماءهم وأموالهم لم يقولوا: إن آلهتهم شاركت الله تعالى في خلق العالم، أو أنها تنزل المطر وتنبت النبات بل

_ 1 سورة القصص آية: 15. 2 سورة الأنفال آية: 72.

كانوا مقرين بذلك لله وحده، كما قال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} 1 الآية وقال تعالى: {قُلْ لِمَنِ الأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَِ} 2 إلى قوله: {سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} 3 وقال تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} 4. قال طائفة من السلف في تفسير هذه الآية: كانوا إذا سئلوا من خلق السماوات والأرض؟ قالوا: الله. وهم يعبدون غيره، ففسروا الإيمان في الآية بإقرارهم بتوحيد الربوبية، وفسروا الإشراك بإشراكهم في توحيد الإلهية الذي هو توحيد العبادة. تعريف العبادة والدعاء والعبادة اسم جامع لما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال، من ذلك الدعاء بما لا يقدر على جلبه أو دفعه إلا الله، فمن طلب من غيره أو استعانه فيه فقد عبده به، والدعاء من أفضل العبادة وأجل الطاعات، قال الله تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} 5. وفي الترمذي عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الدعاء مخ العبادة" 6 وللترمذي والنسائي وابن ماجه من حديث النعمان بن بشير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن الدعاء هو العبادة ثم قرأ: " {وقال ربكم ادعوني أستجب لكم} إلى آخر الآية"7 قال الترمذي: حديث حسن صحيح. قال الشارح: معنى قوله: "الدعاء هو العبادة" 8 أي أعظمها فهو كقوله: "الحج عرفة " 9 أي: ركنه الأعظم. ومعنى قوله: "الدعاء مخ العبادة" 10 أي: خالصها؛ لأن الداعي إنما يدعو الله عند انقطاع أمله مما سواه. وذلك حقيقة التوحيد والإخلاص. انتهى. والدعاء في القرآن يتناول معنيين "أحدهما" دعاء العبادة وهو دعاء الله لامتثال أمره في قوله: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} 11. "الثاني" دعاء المسألة، وهو دعاؤه سبحانه في جلب المنفعة ودفع المضرة، وبقطع النظر عن الامتثال فقد فسرقوله تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ

_ 1 سورة لقمان آية: 25. 2 سورة المؤمنون آية: 84، 85. 3 سورة المؤمنون آية: 89. 4 سورة يوسف آية: 106. 5 سورة غافر آية: 60. 6 الترمذي: الدعوات "3371". 7 الترمذي: تفسير القرآن "2969 ,3247" والدعوات "3372" , وأبو داود: الصلاة "1479" , وابن ماجه: الدعاء "3828" , وأحمد "4/267 ,4/271 ,4/276". 8 الترمذي: تفسير القرآن "3247" , وابن ماجه: الدعاء "3828". 9 الترمذي: الحج "889" , والنسائي: مناسك الحج "3044" , وأبو داود: المناسك "1949" , وابن ماجه: المناسك "3015" , وأحمد "4/309 ,4/335" , والدارمي: المناسك "1887". 10 الترمذي: الدعوات "3371". 11 سورة غافر آية: 60.

لَكُمْ} 1 بالوجهين: "أحدهما" ما هو معلوم من الدعاء وغيره، وهو العبادة وامتثال الأمر له سبحانه، فيكون معنى قوله: {أَسْتَجِبْ لَكُمْ} 2 أثبكم كما قال في الآية الأخرى: {وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} 3 أي: يثيبهم على أحد التفسيرين. "الثاني" ما هو خاص: معناه سلوني أعطكم، كما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ينزل ربنا كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر، فيقول: من يدعوني فاستجيب له، من يسألني فأعطيه، من يستغفرني فأغفر له" 4 فذكر أولا لفظ الدعاء، ثم السؤال، ثم الاستغفار، والمستغفر سائل، كما أن السائل داع، فعطف السؤال على الدعاء والاستغفار، فهو من عطف الخاص على العام، وهذا المعنى الثاني هو الإخلاص لوجهين: "أحدهما" ما في حديث النعمان بن بشير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الدعاء هو العبادة ثم قرأ: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} " 5 فاستدلاله صلى الله عليه وسلم بالآية على الدعاء دليل على أن المراد منها سلوني، وخطاب الرب -سبحانه وتعالى- عباده المكلفين بصيغة الأمر منصرف إلى الوجوب ما لم يقم دليل يصرفه إلى الاستحباب، فيفيد قصور نقله على الله، فلا يجعل لغيره؛ لأنه عبادة، ولهذا أمر الله الخلق بسؤاله فقال: {وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِه} 6. وفي الترمذي عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم "سلوا الله من فضله فإن الله يحب أن يسأل" 7 وله عن أبي هريرة مرفوعا: "من لم يسأل الله يغضب عليه" 8 وله أيضا: "إن الله يحب الملحين في الدعاء". فتبين بهذا أن الدعاء من أفضل العبادات وأجل الطاعات. "الوجه الثاني" أنه سبحانه قال: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} 9 والسائل راغب راهب، وكل سائل راغب راهب فهو عابد للمسئول، وكل عابد فهو أيضا راغب راهب، يرجو رحمته ويخاف عذابه،

_ 1 سورة غافر آية: 60. 2 سورة غافر آية: 60. 3 سورة الشورى آية: 26. 4 البخاري: التوحيد "7494" , ومسلم: صلاة المسافرين وقصرها "758" , والترمذي: الدعوات "3498" , وأبو داود: الصلاة "1315" والسنة "4733" , وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها "1366" , وأحمد "2/258 ,2/264 ,2/267 ,2/282 ,2/383 ,2/419 ,2/487 ,2/504" , ومالك: النداء للصلاة "496" , والدارمي: الصلاة "1479". 5 الترمذي: تفسير القرآن "3247" , وابن ماجه: الدعاء "3828". 6 سورة النساء آية: 32. 7 الترمذي: الدعوات "3571". 8 الترمذي: الدعوات "3373" , وابن ماجه: الدعاء "3827". 9 سورة البقرة آية: 186.

وكل عابد سائل، وكل سائل فهو عابد لله، قال تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً} 1 ولا يتصور أن يخلو داع لله دعاء عبادة أو دعاء مسألة من الرغب والرهب والخوف والطمع. دعاء العبادة ودعاء المسألة فدعاء العبادة ودعاء المسألة كلاهما عبادة لله، لا يجوز صرف شيء منهما إلى غيره؛ فلا يجوز أن يطلب من مخلوق ميت أو غائب قضاء حاجة، أو تفريج كربة، بل ما لا يقدر عليه إلا الله لا يجوز أن يطلب إلا من الله؛ فمن دعا ميتا أو غائبا فقال: يا سيدي فلان أغثني أو انصرني أو ارحمني أو اكشف عني شدتي ونحو ذلك؛ فهو كافر مشرك يستتاب فإن تاب وإلا قتل. وهذا مما لا خلاف فيه بين العلماء، فإن هذا هو شرك المشركين الذين قاتلهم النبي –صلى الله عليه وسلم - فإنهم لم يكونوا يقولون: إنها تخلق وترزق وتدبر أمر من دعاها، بلكانوا يعلمون أن ذلك لله وحده كما حكاه عنهم في غير موضع من كتابه، وإنما كانوا يفعلون عندها ما يفعله إخوانهم من المشركين اليوم من دعائها والاستغاثة بها، والذبح لها، والنذر لها، يزعمون أنها وسائط بينهم وبين الله تعالى تقربهم إليه، وتشفع لهم لديه، كما حكاه عنهم في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} 2 وقال تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} 3. فقاتلهم الرسول صلى الله عليه وسلم ليكون الدعاء كله لله، والذبح كله لله، والاستغاثة كلها بالله، وجميع العبادات لله، والله سبحانه قد بين في غير موضع من كتابه أن الدعاء عبادة، فقال تعالى حاكيا عن خليله إبراهيم - عليه السلام-: {وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيّاً فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} 4 الآية. وقال تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ

_ 1 سورة الأنبياء آية: 90. 2 سورة الزمر آية: 3. 3 سورة يونس آية: 18. 4 سورة مريم آية: 48، 49.

كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} 1. فأخبر سبحانه أنه لا أضل من هذا الداعي، وأن المدعو لا يستجيب له، وأن ذلك عبادة سيكفر بها المعبود يوم القيامة. كقوله تعالى: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزّاً كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً} 2. الدعاء من أفضل العبادات وأجل الطاعات وقد سمى الله سبحانه الدعاء دينا في غير موضع، وأمرنا أن نخلصه له، وأخبر أن المشركين يخلصون له في الشدائد فقال تعالى: {وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} 3 وقال تعالى: {حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} 4 وقال تعالى: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} 5. فأخبر سبحانه أنهم عند الاضطرار يدعونه وحده لا شريك له، مخلصين في تلك الحال، لا يستغيثون بغيره فيها، فلما نجاهم من تلك الشدة إذا هم يشركون في دعائهم. ولهذا قال: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ} 6 أي أنه سبحانه لما نجاكم إلى البر أعرضتم أي: نسيتم ما عرفتم من توحيده، وأعرضتم عن دعائه وحده لا شريك له. وقال تعالى: {فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} 7 وقال تعالى: {هُوَ الْحَيُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} 8. فالدعاء من أفضل العبادات، وأجل الطاعات؛ ولهذا أخبر أنه الدين، فذكره معرفا بالألف واللام، وأخبر أن المشركين يخلصونه له في الشدائد، وأنهم في الرخاء يشركون معه غيره، فيدعون من لا ينفعهم ولا يضرهم، ولا يسمع دعاءهم فصاروا بذلك كافرين. شرك المشركين كان في الدعاء والذبح ومن تأمل الكتاب والسنة علم أن شرك المشركين الذين كفرهم النبي صلى الله عليه وسلم

_ 1 سورة الأحقاف آية: 5، 6. 2 سورة مريم آية:81، 82. 3 سورة لقمان آية: 32. 4 سورة يونس آية: 22. 5 سورة العنكبوت آية: 65. 6 سورة الإسراء آية: 67. 7 سورة غافر آية: 14. 8 سورة غافر آية: 65.

إنما هو في الدعاء والذبح والنذر والتوكل والالتجاء ونحو ذلك. فإن جادل مجادل وزعم أنه ليس هذا، قيل له: فأخبرنا عما كانوا يفعلون عند آلهتهم، وما الذي يريدون وما هذا الشرك الذي حكاه الله عنهم؟. فإن قال: شركهم عبادة غير الله. قيل له: وما معنى عبادتهم لغير الله؟ أتظن أنهم يعتقدون أن تلك الأخشاب والأحجار تخلق وترزق، وتدبر أمر من دعاها؟ فهذا يكذبه القرآن؛ لأن الله عزوجل ذ أخبر عنهم أنهم مقرون بذلك لله وحده. فإن قال: إنهم يريدون منهم النفع والضر من دون الله، فهذا يكذبه القرآن أيضا؛ لأن الله أخبر أنهم لم يريدوا إلا التقرب بهم إلى الله، وشفاعتهم عنده كما قال تعالى حاكيا عنهم: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} 1 وقال تعالى: {وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} 2. وأخبر تعالى عن شركهم في غير آية من كتابه كقوله: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً} 3 أي: لا يدفعونه بالكلية، ولا يحولونه من حال إلى حال. ثم قال: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً} 4. قال طائفة من السلف: كان أقوام يدعون المسيح والعزير والملائكة فبين الله لهم أن هؤلاء عبادي كما أنتم عبادي، يرجون رحمتي كما ترجون رحمتي، ويخافون عذابي كما تخافون عذابي، وأخبر أنهم لا يملكون كشف الضر عن الداعين ولا تحويله، وهذا هو الإغاثة. والمشركون يزعمون أن آلهتهم تشفع لهم بالسؤال عند الله والطلب منه فيقضي الله لهم تلك الحاجات؛ فأبطل هذه الشفاعة التي يظنها المشركون، وبين أنه لا يشفع أحد عنده إلا بإذنه فقال: {وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} 5 وقال: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلا بِإِذْنِهِ} 6.

_ 1 سورة الزمر آية: 3. 2 سورة يونس آية: 18. 3 سورة الإسراء آية: 56. 4 سورة الإسراء آية: 57. 5 سورة سبأ آية: 23. 6 سورة البقرة آية: 255.

هذا فهو كافر مشرك. إطلاق الكفر بدعاء غير الله إذا تقرر هذا فنقول: قول القائل: "إن إطلاق الكفر بدعاء غير الله غير مسلم لوجوه الوجه الأول: عدم النص الصريح على ذلك بخصوصه". كلام باطل، بل النصوص صريحة في كفر من دعا غير الله، وجعل لله ندا من خلقه يدعوه كما يدعو الله، ويرجوه كما يرجو الله، ويتوكل عليه في أموره كلها. قال الله تعالى: {ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} 1 وقال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} 2 إلى قوله: {وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} 3 فمن أحب مخلوقا كما يحب الله، أو رجاه كما يرجو الله؛ فقد جعله ندا لله، وصار من الخالدين في النار. وفي صحيح البخاري عن ابن مسعود –رضي الله عنه- قال: قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم -: "من مات وهو يدعو لله ندا دخل النار "4. وفي الصحيحين "أنه صلى الله عليه وسلم سئل: أي الذنب أعظم؟ قال: "أن تجعل لله ندا وهو خلقك" 5 والند المثل، قال الله تعالى: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} 6 وقال تعالى عن أهل النار: {تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} 7 ومعلوم أنهم ما يساوونهم به في الخلق والرزق والإحياء والإماتة، وإنما يساوونهم به في الدعاء والخوف والرجاء والمحبة والتعظيم والإجلال. وقال تعالى: {وَإِذَا مَسَّ الْأِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَاداً لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ} 8 وقال تعالى: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ

_ 1 سورة الأنعام آية: 1. 2 سورة البقرة آية: 165. 3 سورة البقرة آية: 167. 4 البخاري: تفسير القرآن "4497" , وأحمد "1/374 ,1/402 ,1/407 ,1/462 ,1/464". 5 البخاري: الأدب "6001" , ومسلم: الإيمان "86" , والترمذي: تفسير القرآن "3182 ,3183" , والنسائي: تحريم الدم "4013 ,4014 ,4015" , وأبو داود: الطلاق "2310" , وأحمد "1/380 ,1/431 ,1/434 ,1/462 ,1/464". 6 سورة البقرة آية: 22. 7 سورة الشعراء آية: 97، 98. 8 سورة الزمر آية: 8.

رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} 1. فصرح بكفره وقال تعالى: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَاداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ} 2 إلى قوله: {وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} 3 فبين أن اتخاذ الملائكة والنبيين أربابا كفر. وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} 4 وقال فيما حكاه عن المسيح: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ} 5 وقال: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ} 6. فدلت الآية الكريمة على أن أعظم شركهم إنما هو دعاء غير الله، فأخبر أنهم لا يملكون من قطمير، وهو القشر الذي يكون على ظهر النواة، أي ليس لهم من الأمر شيء، وإن قل. ثم أخبر أنهم لا يسمعون دعاءهم، وأنهم لو سمعوا ما استجابوا لهم، وهذا صريح في دعاء المسألة. ثم أخبر أن هذا شرك يكفرون به يوم القيامة فقال: {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ} 7 كقوله: {كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً} 8 وكقوله: {وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} 9. والله سبحانه قد أرسل رسله، وأنزل كتبه ليعبدوه وحده، ويكون الدين كله له، ونهى أن يشرك به أحد من خلقه، وأخبر أن الرسالة عمت كل أمة، وأن دين الرسل واحد، وهو الأمر بعبادته وحده لا شريك له، وأنه لا يشرك به أحد سواه كما قال: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا} الطَّاغُوتَ} 10 وقال: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} 11 وأخبر أنه لا يغفر أن يشرك به، وأن من أشرك فقد حبط عمله وصار من

_ 1 سورة المؤمنون آية: 117. 2 سورة آل عمران آية: 79. 3 سورة آل عمران آية: 80. 4 سورة النساء آية: 48. 5 سورة المائدة آية: 72. 6 سورة فاطر آية: 13، 14. 7 سورة فاطر آية: 14. 8 سورة مريم آية: 82. 9 سورة الأحقاف آية: 6. 10 سورة النحل آية: 36. 11 سورة الأنبياء آية: 25.

الخالدين في النار، كما قال تعالى: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ} 1 فيقال لمن أنكر أن يكون دعاء الموتى والاستغاثة بهم في الشدائد شركا أكبر: أَخْبِرْنَا عن هذا الشرك الذي عظَّمَه الله، وأخبر أنه لا يغفره، أتظن أن الله يحرمه هذا التحريم ولا يبينه لنا؟ بيان القرآن للشرك واستحالة تركه بغير بيان ومعلوم أن الله سبحانه- أنزل كتابه تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين. وقد أخبر في كتابه أنه أكمل لنا الدين، وأتم علينا النعمة، ورضي لنا الإسلام دينا. فكيف يجوز أن يترك بيان الشرك الذي هو أعظم ذنب عُصِيَ الله به سبحانه-؟. فإذا أصغى الإنسان إلى كتاب الله وتدبره وجد فيه الهدى والشفاء {مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هَادِيَ لَه} 2 {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} 3 ويقال أيضا: قد أمرنا الله بدعائه وسؤاله، وأخبر أنه يجيب دعوة الداعي إذا دعاه، وأمرنا أن ندعوه خوفا وطمعا، فإذا سمع الإنسان قوله تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} 4 وقوله: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً} 5. فمعلوم أن هذا عبادة، فيقال: فإن دعا في تلك الحاجة نبيا أو ملكا، أوعبدا صالحا، هل أشرك في هذه العبادة؟. فلا بد أن يقر بذلك، إلا أن يكابر ويعاند. ويقال أيضا: إذا قال الله: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} 6 وأطعت الله ونحرت له، هل هذا عبادة؟ فلا بد أن يقول: نعم. فيقال له: فإذا ذبحت لمخلوق نبي، أوملك، أوعبد أو غيرهما، هل أشركت في هذه العبادة؟ فلا بد أن يقول: نعم، إلا أن يكابر ويعاند، وكذلك السجود عبادة، فلو سجد لغير الله لكان مشركا في هذه العبادة. دعاء الموتى ومعلوم أن الله سبحانه- ذكر في كتابه من النهي عن دعاء غيره، وتكاثرت

_ 1 سورة التوبة آية: 17. 2 سورة الأعراف آية: 186. 3 سورة النور آية: 40. 4 سورة غافر آية: 60. 5 سورة الأعراف آية: 55. 6 سورة الكوثر آية: 2.

نصوص القرآن في النهي عن ذلك أعظم مما ورد في النهي عن السجود لغير الله والذبح لغير الله، فإذا كان من سجد لقبر نبي أو ملك أو عبد صالح لا يشك أحد في كفره، وكذلك لو ذبح القُرْبَان لم يشك أحد في كفره؛ لأنه أشرك في عبادة الله غيره، فيقال: السجود عبادة، وذبح القربان عبادة، والدعاء عبادة؛ فما الفارق بين السجود والذبح وبين الدعاء، إذ الكل عبادة؟ وما الدليل على أن السجود لغير الله، والذبح لغيره شرك أكبر؟ والدعاء بما لا يقدر عليه إلا الله شرك أصغر؟. ويقال أيضا: قد ذكر أهل العلم من أهل كل مذهب باب حكم المرتد، وذكروا فيه أنواعا كثيرة، كل نوع منها يكفر به الرجل، ويحل دمه وماله، ولم يرد في واحد منها، ما ورد في الدعاء؛ بل لا نعلم نوعا من أنواع الكفر والردة ورد فيه من النصوص مثل ما ورد في دعاء غير الله بالنهي عنه، والتحذير من فعله، والوعيد عليه، ولا يشتبه هذا إلا على مَن لم يعرف حقيقة ما بعث الله به محمدا صلى الله عليه وسلم من التوحيد، ولم يعرف حقيقة شرك المشركين الذين كفَّرَهم النبي صلى الله عليه وسلم وأحَلَّ دماءهم وأموالهم، وأمره الله أن يقاتلهم حتى لا تكون فتنة؛ أي: لا يكون شرك {وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} 1. فمن أصغى إلى كتاب الله عَلِمَ علمًا ضروريا أن دعاء الموتى من أعظم الشرك الذي كَفَّرَ الله به المشركين، فكيف يَسُوغُ لمن عرف التوحيد الذي بعث الله به محمدا صلى الله عليه وسلم - أن يجعل ذلك من الشرك الأصغر ويقول: قد عدم النص الصريح على كفر فاعله. فإن الأدلة القرآنية، والنصوص النبوية قد دلت على ذلك دلالة ظاهرة ليست خفية، ومن أعمى الله بصيرته فلا حيلة فيه: {مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} 2. وأيضا فإن كثيرا من المسائل التي ذكرها العلماء في مسائل الكفر والردة، وانعقد عليها الإجماع: لم يرد فيها نصوص صريحة بتسميتها كفرا، وإنما يستنبطها

_ 1 سورة الأنفال آية: 39. 2 سورة الأعراف آية: 186.

العلماء من عمومات النصوص، كما إذا ذبح المسلم نسكا متقربا به إلى غير الله: فإن هذا كفر بالإجماع، كما نص على ذلك النووي وغيره. وكذلك لو سجد لغير الله، فإذا قيل: هذا شرك؛ لأن الذبح عبادة والسجود عبادة، فلا يجوز لغير الله كما دل على ذلك قوله تعالى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} 1 وقوله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ} 2 فهذا صريح في الأمر بهما، وأنه لا يجوز صرفهما لغيره. فيبقى أن يقال: فأين الدليل المُصَرِّح بأن هذا كفرٌ بعينه؟ ولازمُ هذه المجادلة الإنكارُ على العلماء في كل مسألة من مسائل الكفر، والردة التي لم يرد فيها نص بعينها، مع أن هذه المسألة المسئول عنها قد وجدت فيها النصوص الصريحة من كلام الله وكلام رسوله، وأوردنا من ذلك ما فيه الهدى لمن هداه الله. نصوص الفقهاء في شرك من يدعو غير الله بالإجماع وأما كلام العلماء فنشير إلى قليل من كثير، ونذكر كلام من حكى الإجماع على ذلك، قال في الإقناع وشرحه: من جعل بينه وبين الله وسائط يدعوهم ويتوكل عليهم ويسألهم كَفَرَ إجماعا؛ لأن هذا كفعل عابدي الأصنام قائلين: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} 3 انتهى. وقال الشيخ تقي الدين -رحمه الله-: وقد سئل عن رجلين تناظرا فقال أحدهما: لا بد لنا من واسطة بيننا وبين الله؛ فإنا لا نقدر أن نصل إليه إلا بذلك. فأجاب بقوله: إن أراد بذلك أنه لا بد من واسطة تبلغنا أمر الله: فهذا حق؛ فإن الخلق لا يعلمون ما يحبه الله ويرضاه، وما أمر به، وما نهى عنه إلا بالرسل الذين أرسلهم إلى عباده، وهذا مما أجمع عليه أهل الملل من المسلمين واليهود والنصارى؛ فإنهم يثبتون الوسائط بين الله وبين عباده، وهم الرسل الذين بلغوا عن الله أوامره ونواهيه. قال الله تعالى: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ} 4 ومن أنكر هذه الوسائط، فهو كافر بإجماع أهل الملل،

_ 1 سورة الكوثر آية: 2. 2 سورة الأنعام آية: 162، 163. 3 سورة الزمر آية: 3. 4 سورة الحج آية: 75.

وإن أراد بالواسطة أنه لا بد من واسطة يتخذه العباد بينهم وبين الله في جلب المنافع، ودفع المضار مثل: أن يكون واسطة في رزق العباد ونصرهم وهداهم يسألونه ذلك، ويرجعون إليه فيه، فهذا من أعظم الشرك الذي كَفَّرَ الله به المشركين حيث اتخذوا من دون الله أولياء وشفعاء يجتلبون بهم المنافع، ويدفعون بهم المَضَارّ، لكن الشفاعة لمن يأذن الله له فيها. قال تعالى: {مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ} 1 وقال: {وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ} 2 وقال: {وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ} 3 وقال: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} 4. وقال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً} 5 إلى قوله: {إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُور} 6. قال طائفة من السلف: كان أقوام من الكفار يدعون عيسى والعزير والملائكة والأنبياء، فبيَّن الله لهم أن الملائكة والأنبياء لا يملكون كشف الضر عنهم ولا تحويله، وأنهم يتقربون إليه ويرجون رحمته ويخافون عذابه. وقال تعالى: {وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} 7 فبيَّن -سبحانه وتعالى- أن اتخاذ الملائكة والنبيين أربابا كفر. فمن جعل الملائكة والأنبياء وسائط يدعوهم ويتوكل عليهم، ويسألهم جلب المنافع ودفع المضار، مثل أن يسألهم غفران الذنوب وهداية القلوب، وتفريج الكُرُبَات وسد الفَاقَات فهو: كافر بإجماع المسلمين. وقد قال تعالى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ

_ 1 سورة السجدة آية: 4. 2 سورة الأنعام آية: 51. 3 سورة الأنعام آية: 70. 4 سورة سبأ آية: 22، 23. 5 سورة الإسراء آية: 56. 6 سورة الإسراء آية: 57. 7 سورة آل عمران آية: 80.

ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} 1 إلى قوله: {كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} 2 وقال: {لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ} 3 الآية، وقال: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} 4 الآية، وقال: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} 5.وقال تعالي {إِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ} (1) اتخاذ الوسائط في عبادة الله فمن أثبت الوسائط بين الله وبين خلقه كالحجاب بين الملك ورعيته بحيث يكونون هم يرفعون إلى الله حوائج خلقه، وأن الله -تعالى- إنما يهدي عباده ويرزقهم وينصرهم بتوسطهم، بمعنى أن الخلق يسألونهم، وهم يسألون الخالق، كما أن الوسائط عند الملوك يسألون الملوك حوائج الناس؛ لقربهم منهم والناس يسألونهم، أدبا منهم أن يباشروا سؤال الملك؛ أو لأن طلبهم من الوسائط: أنفع لهم من طلبهم من الملك لكونهم أقرب إلى الملك من الطالب، فمن أثبتهم وسائط على هذا الوجه فهو كافر مشرك يجب أن يستتاب، فإن تاب وإلا قتل. وهؤلاء مُشَبِّهُون، شبَّهُوا الخالقَ بالمخلوق، وجعلوا لله أندادا، وفي القرآن من الرد على هؤلاء ما لا تتسع له هذه الفتوى، فإن هذا دين المشركين، عُبَّاد الأوثان، كانوا يقولون: إنها تماثيل الأنبياء والصالحين، وإنها وسائل يتقربون بها إلى الله تعالى- وهو من الشرك الذي أنكره الله تعالى- على النصارى حيث قال: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّه} 6 الآية، وقال تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي} 7 أي فليستجيبوا إذا دعوتهم بالأمر والنهي، وليؤمنوا بي: أني أجيب دعاءهم لي بالمسألة والتضرع، وقال: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} 8. وقد بين الله هذا التوحيد في كتابه، وحسم موادَّ الإشراك به حيث لا يخاف

_ 1 سورة الأنبياء آية: 26: 28. 2 سورة الأنبياء آية: 26. 3 سورة النساء آية: 172. 4 سورة النجم آية 26 5 سورة البقرة آية 255. 6 سورة التوبة آية: 31. 7 سورة البقرة آية: 186. 8 سورة الشرح آية: 7، 8.

أحدٌ غيرَ الله ولا يرجو سواه، ولا يتوكل إلا عليه قال تعالى: {فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ} 1 {فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} 2 وقال: {وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ} 3 وقال: {مَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} 4 فبين أن الطاعة لله والرسول، وأما الخشية والتقوى فللَّه وحده. وقال تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ} 5 فبيَّن أن الإتيان لله والرسول؛ وأما التحسب فهو لله وحده كما قالوا: {حَسْبُنَا اللَّهُ} 6 ولم يقولوا: حسبنا الله ورسوله، ونظيره قوله تعالى: {زَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} 7. تحقيق النبي لمعنى التوحيد وبيان كلمته وحسم الشركة وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يحقق هذا التوحيد لأمته، ويحسم عنهم مواد الشرك؛ إذ هذا تحقيق قولنا: "لا إله إلا الله" فإن الإله هو الذي تَأْلَهُهُ القلوبُ بالمحبة والتعظيم والإجلال والإكرام والخوف، حتى قال لهم: "لا تقولوا: ما شاء الله وشاء محمد، ولكن قولوا: ما شاء الله، ثم شاء محمد" 8 وقال لرجل قال له: ما شاء الله وشئت فقال: "أجعلتني لله ندا؟ بل ما شاء الله وحده" 9. وقال لابن عباس: "إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله" 10 وقال: "لا تُطْرُونِي كما أَطْرَت النصارى ابن مريم، فإنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله" 11 وقال: "لا تتخذوا قبري عيدا، وصلوا عليَّ حيثما كنتم فإن صلاتكم تبلغني" 12 وقال -في مرضه الذي مات فيه-: "لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد "13 يحذر ما صنعوا. قالت عائشة: ولولا ذلك لأبرز قبره ولكن خشي أن يتخذ مسجدا. وهذا باب واسع. انتهى ما لخصته من كلام الشيخ ابن تيمية في مسألة الوسائط. وقال -رحمه الله في موضع آخر-: والله سبحانه- لم يجعل أحدا من الأنبياء والمؤمنين واسطة في شيء من الربوبية والإلهية، مثل ما ينفرد به من الخلق والرزق

_ 1 سورة المائدة آية: 44. 2 سورة آل عمران آية: 175. 3 سورة التوبة آية: 18. 4 سورة النور آية: 52. 5 سورة التوبة آية: 59. 6 سورة التوبة آية: 59. 7 سورة آل عمران آية: 173. 8 ابن ماجه: الكفارات "2118" , وأحمد "5/72" , والدارمي: الاستئذان "2699". 9 أحمد "1/283". 10 الترمذي: صفة القيامة والرقائق والورع "2516" , وأحمد "1/293 ,1/303 ,1/307". 11 البخاري: أحاديث الأنبياء "3445" , وأحمد "1/23 ,1/24". 12 أبو داود: المناسك "2042" , وأحمد "2/367". 13 البخاري: الصلاة "436" , ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة "531" , والنسائي: المساجد "703" , وأحمد "1/218 ,6/34 ,6/80 ,6/121 ,6/146 ,6/252 ,6/255 ,6/274" , والدارمي: الصلاة "1403".

وإجابة الدعاء، والنصر على الأعداء، وقضاء الحاجات، وتفريج الكربات، بل غاية ما يكون العبد سببا مثل أن يدعو ويشفع، والله -تعالى- يقول: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} 1 وقال تعالى: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} 2 وقال تعالى: {وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} 3. أقسام الناس في الشفاعة فبيَّن سبحانه- أن اتخاذ الملائكة والنبيين أربابا كفر؛ ولهذا كانوا في الشفاعة على ثلاثة أقسام: فالمشركون أثبتوا الشفاعة التي هي شرك، كشفاعة المخلوق عند المخلوق، كما يشفع عند ملوك خواصّهم؛ لحاجة الملوك إلى ذلك، فيسألونهم بغير إذنهم، ويجيب الملوك سؤالهم؛ لحاجتهم إليهم، فالذين أثبتوا مثل هذه الشفاعة عند الله: مشركون كفار؛ لأن الله -تعالى- لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه، ولا يحتاج إلى أحد من خلقه، بل من رحمته وإحسانه: إجابة دعاء الشافعين؛ ولهذا قال:. {مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ} 4 وقال: {أمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً} 5. وقال عن صاحب يس {أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ} 6. وأما الخوارج والمعتزلة 7 فإنهم أنكروا شفاعة نبينا صلى الله عليه وسلم في أهل الكبائر من أمته، وهؤلاء مبتدعة ضُلال مخالفون للسنة المستفيضة عن النبي صلى الله عليه وسلم ولإجماع خير القرون. {القسم الثالث} أهل السنة والجماعة وهم سلف الأمة وأئمتها ومن اتبعهم بإحسان، أثبتوا ما أثبته الله في كتابه وسنة رسوله، ونفوا ما نفاه، فالشفاعة التي أثبتوها: هي التي جاءت بها الأحاديث. وأما الشفاعة التي نفاها القرآن كما عليه

_ 1 سورة البقرة آية: 255. 2 سورة النجم آية: 26. 3 سورة آل عمران آية: 80. 4 سورة السجدة آية: 4. 5 سورة الزمر آية: 43، 44. 6 سورة يس آية: 23. 7 هؤلاء هم القسم الثاني في الشفاعة.

المشركون والنصارى ومن ضَاهَاهُم من هذه الأمة، فينفيها أهل العلم والإيمان مثل: أنهم يطلبون من الأنبياء، والصالحين الغائبين والميتين قضاء حوائجهم ويقولون: إنهم إذا أرادوا ذلك قضوها، ويقولون: إنهم عند الله كخواصّ الملوك عند الملوك، يشفعون بغير إذن الملوك، ولهم على الملوك إِدْلالٌ يقضون به حوائجهم فيجعلونهم لله بمنزلة شركاء الملك، والله تعالى- قد نَزَّهُ نفسه عن ذلك. انتهى. كلام ابن القيم في الشرك الأصغر والأكبر وقال ابن القيم -رحمه الله تعالى-: وأما الشرك فنوعان: أكبر وأصغر. فالأكبر لا يغفره الله إلا بالتوبة منه، وهو أن يتخذ من دون الله ندا يحبه كما يحب الله، وهو الشرك الذي يتضمن تسوية آلهة المشركين برب العالمين. ولهذا قالوا لآلهتهم في النار:. {تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} 1 مع إقرارهم بأن الله هو الخالق وحده، خالق كل شيء ومليكه، وأن آلهتهم لا تخلق ولا ترزق، ولا تحيي ولا تميت، وإنما كانت هذه التسوية في المحبة والتعظيم والعبادة كما هو حال أكثر مشركي العالم؛ بل كلهم يحبون معبوديهم ويعظمونها ويوالونها من دون الله، وكثير منهم بل أكثرهم يحبون آلهتهم أعظم من محبة الله، ويستبشرون بذكرهم أعظم من استبشارهم إذا ذكر الله وحده. ويغضبون إذا انتقص أحدٌ معبودَهم وآلهتهم من المشايخ أعظم مما يغضبون إذا انتقص أحدٌ ربَّ العالمين. وإذا انتقص حرمة من حُرُمَات آلهتهم ومعبوداتهم غضبوا غضب الليث إذا حرب، وإذا انتُهكت حُرُمَات الله: لم يغضبوا لها، بل إذا قام المُنْتَهِكُ لها بإطعامهم شيئا رضوا عنه، ولم تُنْكِر له قلوبهم، وقد شاهدنا هذا منهم نحن وغيرنا. وترى أحدهم قد اتخذ ذكر إلهه ومعبوده من دون الله على لسانه، إن قام، وإن قعد، وإن عثر، وإن مرض، فذكر إلهه ومعبوده من دون الله هو الغالب على لسانه، وهو لا ينكر ذلك ويزعم أنه باب حاجته إلى الله وشفيعه عنده ووسيلته إليه، وهكذا كان عُبَّاد الأصنام سواء.

_ 1 سورة الشعراء آية: 97، 98.

وهذا القدر هو الذي قام بقلوبهم يتوارثه المشركون بحسب اختلاف آلهتهم؛ فأولئك كانت آلهتهم من الحجر، وغيرهم اتخذوها من البشر، قال تعالى حاكيا عن أسلاف هؤلاء المشركين {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} 1 ثم شهد عليهم بالكذب والكفر، وأخبر أنه لا يهديهم فقال: {إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} 2. فهذا حال من اتخذ دون الله وليا، يزعم أنه يقربه إلى الله، وما أعز مَن يُخْلُصُ مِن هذا، بل ما أعز مَن لا يعادي من أنكره، والذي في قلوب هؤلاء المشركين وسلفهم: أن آلهتهم تشفع لهم عند الله، وهذا عين الشرك، وقد أنكره الله عليهم في كتابه، وأبطله وأخبر أن الشفاعة كلها له، وأنه لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه لمن رضي قوله وعمله، وهم أهل التوحيد الذين لم يتخذوا من دون الله شفعاء- ثم ساق كلاما طويلا، وقرره أحسن تقرير. فتأمل كلامه -رحمه الله- وهذا حيث قرر أن الذي يفعله مشركو زمانه هو عين الشرك الذي فعله المشركون الأولون، ثم قال: وما أعز من يخلص من هذا، بل ما أعز مَن لا يعادي مَن أنكره، ففي هذا شاهدٌ لصحة الحديث الوارد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدا" 3 وقوله فيما صح عنه صلى الله عليه وسلم "لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه" 4 قالوا يا رسول الله: اليهود والنصارى؟ قال: "فمن؟ " خَرَّجَاه في الصحيحين. كلام ابن تيمية في الشرك وقال الشيخ أبو العباس ابن تيمية في الرسالة السنية، لما تكلم على الخوارج: فإذا كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه ممن انتسب إلى الإسلام مَن قد مرق من الدين مع عبادته العظيمة، فليعلم أن المنتسب إلى الإسلام في هذا الزمان قد يمرق أيضا،

_ 1 سورة الزمر آية: 3. 2 سورة الزمر آية: 3. 3 مسلم: الإيمان "145" , وابن ماجه: الفتن "3986" , وأحمد "2/389". 4 البخاري: أحاديث الأنبياء "3456" , ومسلم: العلم "2669" , وأحمد "3/84 ,3/89 ,3/94".

وذلك بأمور منها: الغلو الذي ذمه الله كالغلو في بعض المشايخ كالشيخ عدي، بل الغلو في علي بن أبي طالب، بل الغلو في المسيح، فكل من غلا في نبي أو رجل صالح وجعل فيه نوعا من الإلهية، مثل أن يدعوه من دون الله، بأن يقول: يا سيدي فلان أغثني، أو أنا في حسبك، فكل هذا شرك وضلالة يستتاب صاحبه، فإن تاب وإلا قتل، فإن الله أرسل الرسل، وأنزل الكتب ليُعْبَدَ وحده، ولا يجعل معه إله آخر، والذين يجعلون معه آلهة أخرى مثل الملائكة والمسيح والعزير والصالحين أو قبورهم لم يكونوا يعتقدون أنها تخلق وترزق، وإنما كانوا يدعونهم يقولون: هؤلاء شفعاؤنا عند الله، فبعث الله الرسل تَنْهَى أن يُدْعَى أحدٌ من دونه، لا دعاء عبادة ولا دعاء استعانة. انتهى. كلام ابن عقيل في الشرك وقال أبو الوفاء ابن عقيل -رحمه الله-: لما صعبت التكاليف على الجُهَّال والطغام عدلوا عن أوضاع الشرع إلى أوضاع وضعوها لأنفسهم، فسهلت عليهم؛ إذ لم يدخلوا بها تحت أمر غيرهم. قال: وهم عندي كفار بهذه الأوضاع، مثل تعظيم القبور، وإكرامها بما نهى عنه الشرع من إيقاد السُّرُج وتقبيلها وتخليقها، وخطاب الموتى بالحوائج، وكتب الرقاع فيها بأمور: أن افعل بي كذا وكذا، وأخذ تربتها تبركا، وإفاضة الطيب على القبور وشد الرحال إليها، وإلقاء الخِرَق على الشجر اقتداء بمن عبد اللات والعزى. والويل عندهم لمن لم يقبل مشهد الكفر ولم يتمسح بالآجر يوم الأربعاء، ولم يقل الحَمَّالون على جنازته: الصديق أبو بكر أو محمد، وعليّ، أو لم يعقد على قبر أبيه أزجا بالجص والآجر، ولم يخرق ثيابه، ولم يُرِقْ ماء الورد على القبر. اهـ كلامه. فتأمل رحمك الله- ما ذكره هذا الإمام وما كشفه من الأمور التي يفعلها الخواص من الأنام، فضلا عن النساء والغوغاء والعوام مع كونه في سادس القرون، والناس لما ذكره يفعلون، وجهابذة العلماء والنقدة لذلك مشاهدون، وحظهم من النهي مرتبته الثانية فهم بها قائمون، يتضح لك فساد ما زخرفه المبطلون ومَوَّهَ به المتعصبون والملحدون.

دعاء غير الله شرك لا كالحلف والطيرة وأما قوله الثاني: {إن نظر فيه من حيثية القول فهو كالحلف بغير الله، وقد ورد أنه شرك، وكفر، ثم أوَّلوه بالأصغر. وإن نظر فيه من حيثية الاعتقاد فهو كالطيرة، وهي من الأصغر". فنقول: هذا كلام باطل، وليس يخفى ما بينهما من الفرق، فأيّ مشابهة بين من وَحَّدَ الله وعبده، ولم يشرك معه أحدا من خلقه، وأنزل حاجاته كلها بالله، واستغاث به في تفريج كُرُبَاته وإغاثة لهفاته، لكنه حلف بغير الله يمينا مجردة لم يقصد بها تعظيمه على ربه، ولم يسأله، ولم يستغث به، وبين من استغاث بغير الله، وسأله جلب الفوائد، وكشف الشدائد، فإن هذا صَرَفَ مُخَّ العبادة -الذي هو لبها وخالصها- لغير الله، وأشرك مع الله غيره في أجلّ العبادات وأفضل القُرُبَات التي أمر الله به في غير موضع من كتابه، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه هو العبادة كما تقدم في حديث النعمان بن بشير: " أن الدعاء هو العبادة" 1 وفي حديث أنس: "إن الدعاء مخ العبادة" 2 وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم "أن الله يحب المُلِحِّين فيه"وأن "من لم يسأل الله يغضب عليه" 3 وفي الترمذي عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم " سلوا الله من فضله، فإن الله يحب أن يُسْأَل" 4 وفيه أيضا: "إن الله يحب الملحين في الدعاء" وفيه أيضا: "من لم يسأل الله يغضب عليه" 5 وفي الترمذي وابن ماجه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ليس شيء على الله أكرم من الدعاء" 6. وأما الحلف فلم يأمرنا الله به بل أمرنا بحفظه فقال: {وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ} 7 قيل: المعنى لا تحلفوا، وقيل: لا تحنثوا، ولا يرد على هذا ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه حلف في مواضع، فإن اليمين تستحب إذا كان فيها مصلحة راجحة. وعلى هذا حمل العلماء ما روي في ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم فهو يحلف لمصالح مطلوبة للأمة، كزيادة إيمانهم وطمأنينة قلوبهم، كما أمره الله بذلك في ثلاثة مواضع

_ 1 الترمذي: تفسير القرآن "2969" , وابن ماجه: الدعاء "3828". 2 الترمذي: الدعوات "3371". 3 الترمذي: الدعوات "3373" , وابن ماجه: الدعاء "3827". 4 الترمذي: الدعوات "3571". 5 الترمذي: الدعوات "3373" , وابن ماجه: الدعاء "3827". 6 الترمذي: الدعوات "3370" , وابن ماجه: الدعاء "3829". 7سورة المائدة آية: 89.

من كتابه، وأما الحلف لغير مصلحة فليس مشروعا، بل يباح إذا كان صادقا. الدعاء يتضمن الرغبة والرهبة والتوكل على المدعو وأما الدعاء: فهو مشروع محبوب لله، بل سماه الله في كتابه الدين، وأمر بإخلاصه له، وسماه رسوله صلى الله عليه وسلم العبادة، ومخ العبادة، فكيف يقال: هو كالحلف؟ فمن صرف الدعاء لغير الله فقد أشرك في الدين الذي أمر الله بإخلاصه له-، وفي العبادة التي أمر الله بها. وأيضا فإن الداعي راغبٌ راهبٌ، فالعبد يدعو ربه رغبا ورهبا، ويتوكل عليه في حصول مطلوبه، ودفع مرهوبه، فإذا طلب فوائده، وكَشْفَ شدائده من غير الله فقد أشرك مع الله في الرغبة والرهبة والرجاء والتوكل، فإن هذا من لوازم الدعاء، وهو من العبادة التي أمر الله بها، كقوله تعالى: {وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} 1 وقوله تعالى: {وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} 2 وقال: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} 3. فمن استغاث بغير الله فهو راغب إليه في حصول مطلوبه رَاجٍ له، متوكل عليه، وذلك هو حقيقة العبادة التي لا تصلح إلا لله، وهو معنى لا إله إلا الله، فإن الإله هو الذي تألهه القلوب محبة ورجاء، وخوفا وتوكلا؛ ويقال أيضا: الذي يدعو غير الله في مهماته وكشف كرباته: قد رد على الله كلامه، وَكَذَّبَ بآياته، فإن الله عز وجل- أخبر أنه لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه، وأن الشفاعة كلها لله، وهذا زعم أن الميت يشفع له، وأخبر الله أن الأولياء والصالحين لا يملكون كشف الضر ولا تحويله، وأنهم لا ينفعون ولا يضرون، ولا يسمعون الدعاء ولا يستجيبون، وهذا زعم أنهم باب حوائجه إلى الله، وأنهم ينفعون ويشفعون، وللدعاء يسمعون، وله يستجيبون، فكذب على الله وكذَّب بآياته. فكيف يقال: إن هذا كالحلف بغير الله الذي أَوَّلُوهُ أن يكون شركا أصغر يُعَاقَب عليه، كما يعاقب الزاني وقاتل النفس وآكل الربا؛ لأنه ارتكب محرما غير مستحل له، نظير ما يفعله الزاني وقاتل النفس؟ فأما إن فعله مستحلا أو لكون

_ 1 سورة الشرح آية: 8. 2 سورة البقرة آية: 40. 3 سورة المائدة آية: 23.

المخلوق في قلبه أعظم من الخالق كان ذلك كفرا. قول ابن القيم في الشرك الأصغر قال ابن القيم -رحمه الله تعالى-: وأما الشرك الأصغر فكيسير الرياء والتَّصَنُّع للخلق، والحلف بغير الله، ونحو: ما لي إلا الله وأنت، وأنا متوكل على الله وعليك، ولولا أنت لم يكن كذا وكذا، وقد يكون هذا شركا أكبر بحسب حال قائله ومقصده. انتهى. ويقال أيضا: من المعلوم بالاضطرار من دين الإسلام أن الله تعالى- بعث محمدا صلى الله عليه وسلم يدعو إلى التوحيد وينهى عن الإشراك، فكان أول آية أرسله الله بها: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} 1 فأنذر عن الشرك، وهجر الأوثان، وكبرَ الله وعظمَه بالتوحيد، فاستجاب له من استجاب من المسلمين، وصبروا على الأذى من قومهم، وقاسوا الشدائد العظيمة فهاجروا وأُخْرِجُوا من ديارهم، وأُوذُوا في الله، وتَمَيَّزَ الكافر من المسلم، ومات من المسلمين مَن استوجب الجنة، ومات مِن الكفار مَن استحق النار، وهذا النهي كله قبل الحلف بغير الله. فالاستغاثة بأهل القبور واستنجادهم واستنصارهم لم يبح في شرائع الرسل كلهم، بل بعث الله جميع رسله بالنهي عن ذلك، والأمر بعبادته وحده لا شريك له. وأما الحلف فكان الصحابة يحلفون بآبائهم، ويحلفون بالكعبة وغير ذلك، ولم يُنْهَوْا عن ذلك إلا بعد مدة طويلة، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم "إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآباءكم" 2 وقال: "من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت" 3. ومن لا يميز الفرق بين دعاء الميت والحلف به: لا يعرف الشرك الذي بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم ينهى عنه ويقاتل أهله، وأيّ جامع بين الحلف والاستغاثة؟ فالمستغيث طالبٌ سائلٌ، والحالفُ لم يطلب ولم يسأل، فإن كان الجامع بينهما عند القائل باتحادهما: أن كلا منهما قولٌ باللسان؛ فيقال له: والأذكار والدعوات،

_ 1 سورة المدثر آية: 1: 5. 2 البخاري: الأدب "6108" , ومسلم: الأيمان "1646" , والترمذي: النذور والأيمان "1533 ,1534" , والنسائي: الأيمان والنذور "3766 ,3767 ,3768" , وأبو داود: الأيمان والنذور "3249" , وابن ماجه: الكفارات "2094" , وأحمد "2/7 ,2/8 ,2/11 ,2/17 ,2/20 ,2/69 ,2/76 ,2/86 ,2/98 ,2/142" , ومالك: النذور والأيمان "1037" , والدارمي: النذور والأيمان "2341". 3 البخاري: الشهادات "2679" , ومسلم: الأيمان "1646" , والترمذي: النذور والأيمان "1534" , وأبو داود: الأيمان والنذور "3249" , وأحمد "2/7 ,2/11 ,2/17 ,2/20 ,2/76 ,2/142" , ومالك: النذور والأيمان "1037" , والدارمي: النذور والأيمان "2341".

وقول الزور، وقذف المحصنات؛ كل ذلك قولٌ باللسان، ولو قال أحدٌ: إنها ألفاظٌ متقاربةٌ لَعُدَّ من المجانين، وإن أراد هذا القائل اتحادَهما في المعنى، فهذا باطل كما تقدم بيانُهُ، وأيّ مشابهة بين من جعل لله ندا من خلقه يدعوه ويرجوه ويستنصر به، ويستغيث به، وبين مَن لا يدعو إلا الله وحده لا شريك له، وأخلص له في عبادته، فالأول أشرك مع الله في قوله وفعله واعتقاده، بخلاف الحالف، بل لو اعتقد الحالف تعظيم المخلوق على الخالق لصار شركا أكبر كما تقدم. حديث ذات الأنواط ومما يبين أيضا أن الرسول صلى الله عليه وسلم لَمَّا نهاهم عن الحلف بغير الله وحلف بعض الصحابة -حديثو العهد- فقال في حلفه: واللات. قال النبي صلى الله عليه وسلم "من حلف باللات فليقل: لا إله إلا الله"1؛ ولما قال له بعض الصحابة حديثو العهد بالكفر-: "اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط قال: "الله أكبر إنها السنن قلتم والذي نفسي بيده- كما قالت بنو إسرائيل لموسى: {اجعل لنا إلها كما لهم آلهة} لتركبن سنن من كان قبلكم" 2. فانظر كيف نهى الحالف وأرشده إلى الكفارة بأن يقول: لا إله إلا الله من غير التغليظ الشديد. والذين قالوا: اجعل لنا ذات أنواط غلظ عليهم التغليظ الشديد، وحلف لهم أن طِلبتهم كطِلبة بني إسرائيل، وأن قولهم: اجعل لنا ذات… كقول بني إسرائيل: {اجْعَلْ لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} 3 سواء بسواء، فهما متفقان معنًى، وإن اختلف اللفظ. وهذا مما يُبَيِّنُ لك شيئا من معنى لا إله إلا الله، فإذا كان اتخاذ الشجرة للعُكُوف حولها، وتعليق الأسلحة بها للتبرك اتخاذ إله مع الله مع أنهم لا يعبدونها، ولا يسألونها، فما الظن بالعكوف حول القبر ودعائه في إنزال الفوائد، والاستغاثة به في كشف الشدائد؟ وأخذ تربته تبركا؟ وإسراج القبر وتخليقه؟ وأيّ نسبة للفتنة بشجرة إلى الفتنة بالقبر، لو كان أهل الشرك والبدع يعلمون؟. قال بعض أهل العلم من أصحاب مالك: فانظروا رحمكم الله- أينما وجدتم سِدرة

_ 1 البخاري: تفسير القرآن "4860" والأدب "6107" والاستئذان "6301" والأيمان والنذور "6650" , ومسلم: الأيمان "1647" , والترمذي: النذور والأيمان "1545" , والنسائي: الأيمان والنذور "3775" , وأبو داود: الأيمان والنذور "3247" , وابن ماجه: الكفارات "2096" , وأحمد "2/309". 2 الترمذي: الفتن "2180" , وأحمد "5/218". 3 سورة الأعراف آية: 138.

أو شجرة يقصدها الناس ويعظمونها، ويرجون البِرّ والشفاء من قِبَلها، ويضربون بها المسامير والخِرَق فهي ذات أنواط فاقطعوها. انتهى. الفرق بين دعاء الأموات والاستغاثة والحلف بهم ومما يبيِّنُ الفرق بين دعاء الأموات والاستغاثة بهم وبين الحلف بهم: أن العلماء قسموا الشرك إلى: أكبر وأصغر، جعلوا دعاء الأموات والاستغاثة بهم -فيما لا يقدر عليه إلا رب الأرض والسماوات- هو عين شرك المشركين الذين كفَّرهم الله في كتابه، وجعلوا الحلف بغير الله شركًا أصغر، فيذكرون الأول في باب حكم المرتد. وأن من أشرك بالله فقد كفر، ويستدلون بقوله تعالى:. {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} 1 ويفسرون هذا الشرك بما ذكرنا. ويذكرون الثاني في كتاب الأيْمَان، فيفرقون بين هذا وهذا، ولم نعلم أن أحدا من العلماء الذين لهم لسان صدق في الأمة قال: إن طلب الحوائج من الموتى والاستغاثة بهم: شرك أصغر، ولا قال: إن ذلك كالحلف بغير الله، اللهم إلا أن يكون بعض المنتسبين إلى العلم من المتأخرين الضالين الذين قرَّرُوا الشركَ وحَسَّنُوهُ للناس نَظْمًا وَنَثْرًا، وصار لهم نصيب من قوله عزوجل {لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ} 2. شرك الطيرة وكونه من خرافات الجاهلية وأما قوله: "وإن نظر فيه من جهة الاعتقاد فهو كالطِّيَرَة: فهو باطل أيضا يظهر بطلانُهُ مما تقدم". فيقال: وأين الجامع بين شرك مَن جعل بينه وبين الله واسطة: يدعوه ويسأله قضاء حاجاته وكشف كرباته ويقول: هذا وسيلتي إلى الله، وباب حاجتي إليه، وبين مَن عبد الله وحده لا شريك له ودعاه خوفا وطمعا، وأنزل حاجاته كلها به، وكشف كرباته، وتبرأ من عبادة كل معبود سواه، ولكن وقع في قلبه شيء من الطِّيَرَة. فالأول هو: دين أبي جهل وأصحابه، وهو دين أعداء الرسل من نوح إلى يومنا هذا. وأما الطِّيَرة فتقع على المؤمنين الموحدين كما في الحديث المرفوع عن ابن مسعود:

_ 1 سورة النساء آية: 48. 2 سورة النساء آية: 50.

"والطيرة شرك وما منا إلا.... ولكن الله يُذْهِبه بالتوكل" 1 رواه أبو داود ورواه الترمذي وصححه وجعل آخرَه من قول ابن مسعود. وفي مراسيل أبي داود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ليس عبد إلا سيدخل قلبه طيرة، فإذا أحس بذلك، فليقل: أنا عبد الله، ما شاء الله، لا قوة إلا بالله، لا يأتي بالحسنات إلا الله، ولا يذهب بالسيئات إلا الله، أشهد أن الله على كل شيء قدير. ثم يمضي لوجهه". وفي مسند الإمام أحمد عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أرجعته الطِّيَرَة عن حاجته: فقد أشرك، وكفارة ذلك أن يقول أحدهم: اللهم لا طير إلا طيرك، ولا خير إلا خيرك، ولا إله غيرك" 2. وفي صحيح ابن حبان عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا طيرة، والطيرة على من تَطَيَّرَ". ومعنى هذا أن مَن تَطَيَّرَ تطيُّرًا مَنْهِيًّا عنه بأن يعتمد على ما يسمعه، أو يراه من الأمور التي يتطير بها حتى يمنعه عما يريد من حاجته: فإنه قد يصيبه ما يكرهه، وأما من توكل على الله، ولم ينظر إلى الأسباب المخوفة، وقال ما أُمِرَ به من هذه الكلمات ومضى فإنه لا يضره ذلك، فإذا كان هذا حال الطيرة، فأين الجامع بينها وبين الشرك الأكبر في الاعتقاد؟. فإن أراد السائل أن المُتَطَيِّرَ إذا زَجَرَ الطير أو تَطَيَّرَ بما يراه من علم النجوم وغيره، أو بما يسمعه من الكلام يعتقد أن ذلك من علم الغيب، وأن الطير تخبره عما هو صائر إليه في المستقبل، أو أن الأفلاك تُدَبِّر أمرَ الخلائق؛ فليس هذا من الشرك الأصغر، بل هذا من الشرك الأكبر نظير شرك عُبَّاد الكواكب. فصل في الدعاء والنداء لغير الله دعاء الميت والغائب لم ينقل عن صحابي ولا تابعي وأما قول القائل: {الثالث أنه قد ورد في حديث الضرير قوله يا محمد، وفي الجامع الكبير، وعزاه للطبراني فيمن انفلتت عليه دابته قال: "يا عباد الله احبسوا" وهذا دعاء ونداء لغير الله".

_ 1 الترمذي: السير "1614" , وأبو داود: الطب "3910" , وابن ماجه: الطب "3538" , وأحمد "1/389 ,1/438 ,1/440 2 أحمد "2/220"

فنقول -وبالله التوفيق-: اعلم أن الله -سبحانه وتعالى- بعث محمدا صلى الله عليه وسلم بالدعوة إلى التوحيد، والنهي عن الشرك، فحَمَى حِمَى التوحيد، وسَدَّ كل طريق يوصل إلى الشرك حتى في الألفاظ، حتى إن رجلا قال له: ما شاء الله وشئت قال: "أجعلتني لله ندا. قل: ما شاء الله وحده"1 فكيف يأمر بدعاء الميت أو الغائب؟. بل من المعلوم بالضرورة من دين الإسلام أن دعاء الميت والغائب: لم يأمر الله به ولا رسوله، ولا فعله أحد من الصحابة ولا التابعين، ولا فعله أحد من أئمة المسلمين، ولا أحد من الصحابة استغاث بالنبي صلى الله عليه وسلم - بعد موته، ولا قال أحدٌ: إن الصحابة استغاثوا بالنبي صلى الله عليه وسلم - بعد موته، ولو كان هذا جائزا أو مشروعا: لفعلوه، ولو كان خيرا لسبقونا إليه. وقد كان عندهم من قبور أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم - بالأمصار عددٌ كثيرٌ، وهم مُتَوَافِرُون، فما منهم مَن استغاث عند قبر صحابي ولا دعاه، ولا استغاث به ولا استنصر به. ومعلوم أن مثل هذا مما تتوفر الهمم والدواعي على نقله؛ بل على نقل ما هو دونه؛ وحينئذ فلا يخلو إما أن يكون دعاء الموتى والغائبين، أو الدعاء عند قبورهم، والتوسل بأصحابها أفضل، أو لا يكون، فإن كان أفضل فكيف خَفِيَ علمًا وعملا على الصحابة والتابعين وتابعيهم؛ فتكون القرون الثلاثة الفاضلة جاهلة علما وعملا بهذا الفضل العظيم، ويظفر به الخلوف علما وعملا. وهذان الحديثان اللذان أوردهما السائل إما أن يكون الصحابة الذين رَوَوْهُمَا وسمعوهما من النبي صلى الله عليه وسلم جاهليْن بمعناهما، وعلمه هؤلاء المتأخرون، وإما أن يكون الصحابة علموهما علما، وزهدوا فيهما عملا مع حرصهم على الخير وطاعتهم لنبيهم صلى الله عليه وسلم وكلاهما مُحَالٌ، بل هم أعلم الناس بكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأطوع الناس لأوامره، وأحرص الناس على كل خير، وهم الذين نقلوا إلينا سنة نبينا صلى الله عليه وسلم فهل فهموا من هذه الأحاديث جواز دعاء الموتى والغائبين فضلا عن استحبابه والأمر به؟.

_ 1 أحمد "1/283".

ومعلوم أنه قد عرضتْ لهم شدائدُ واضطراراتٌ وفتنٌ وقحطٌ وسنونٌ مجدباتٌ، أفلا جاءوا إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم - شاكين وله مخاطبين، وبكشفها عنهم وتفريج كرباتهم داعين. والمضطرب يَتَشَبَّثُ بكل سبب يعلم أن له فيه نفعا؛ لا سيما الدعاء، فلو كان ذلك وسيلة مشروعة وعملا صالحا: لفعلوه؛ فهذه سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في أهل القبور حتى توفاه الله، وهذه سنة خلفائه الراشدين، وهذه طريقة جميع الصحابة والتابعين، هل يمكن أحد أن يأتي عنهم بنقل صحيح أو حسن أو ضعيف أنهم كانوا إذا كانت لهم حاجة، أو عرضت لهم شدة قصدوا القبور، فدعوا عندها وتمسحوا بها، فضلا عن أن يسألوها حوائجهم، فمن كان عنده في هذا أثرٌ أو حرف واحد في ذلك فليوقفنا عليه. نعم يمكنهم أن يأتوا عن الخُلُوف الذين يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يُؤْمَرُونَ، بكثير من المُخْتَلَقَات، والحكايات المكذوبات، حتى لقد صُنِّفَ في ذلك عدّة مصنفات، ليس فيها حديث صحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما فيها التَّمْوِيهَات والحكايات المخترعات، والأحاديث المكذوبات. كقولهم: إذا أعيتكم الأمور فعليكم بأصحاب القبور، وحديث: لو أحسن أحدكم ظنه بحجر لنفعه. وفيها حكايات لهم عن تلك القبور: أن فلانا استغاث بالقبر الفلاني في شدة فخلص منها، وفلانا دعاه أو دعا به في حاجة فقضيت، وفلانا نزل به ضُرٌّ، فأتى صاحب ذلك القبر: فكشف ضره، ونحو ذلك مما هو مُضَادٌّ لما بعث الله به محمدا صلى الله عليه وسلم من الدين، ومن له معرفة بما بعث الله به محمدا صلى الله عليه وسلم يعلم أنه حَمَى جانب التوحيد وسد الذرائع الموصلة إلى الشرك، فكيف يستدل بكلامه على نقيض ما أمر به فيستدل بقوله في حديث الأعمى: "يا محمد" على أنه أمر بدعائه في حال غيبته فيدل على جواز الاستغاثة بالغائب. وكذلك قوله "يا عباد الله احبسوا" يدل على ذلك.

وأيضا هذا من أعظم المُحَال وأبطل الباطل، بل كلامه صلى الله عليه وسلم يوافق الوحيَ المُنَزَّل عليه، يصدقه ولا يكذبه فإنهما عن مشكاة واحدة {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} 1. ونحن نجيب عن هذين الحديثين -بعون الله وتأييده- من وجوه فنقول: الرد على من استدل بحديث يا عباد الله احبسوا في دعاء غير الله {حديث يا عباد الله احبسوا. وحديث توسل الأعمى" {والرد على من استدل بهما على جواز دعاء غير الله تعالى" من بضعة وجو هـ 2 "الوجه الأول": أن القرآن فيه: {مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} 3 فَيُرَدُّ المتشابهُ إلى المُحْكَم، ولا يُضْرَبُ كتاب الله بعضه ببعض، وكذلك السنة فيها محكم، وفيها متشابه، فيرد متشابهها إلى المحكم، ولا يضرب بعضها ببعض فكلام النبي صلى الله عليه وسلم لا يتناقض بل يصدق بعضه بعضا ويوافق القرآن ولا يناقضه، وهذا أصل عظيم تجب مراعاته، ومن أهمله فقد وقع في أمر عظيم وهو لا يدري. ومن المعلوم أن أدلة القرآن الدالة على النهي عن دعاء غير الله متظاهرة مع وضوحها وبيانها، كقوله تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} 4 وقوله تعالى: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ} 5 وقوله تعالى: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ} 6 الآية. إلى غير ذلك من الآيات الواضحات البينات. فمن أعرض عن هذا كله وَتَعَامَى عنه، وأعرض عن الأحاديث الصحيحة الدالة على تحقيق التوحيد وإبطال الشرك وسد ذرائعه، وتعلق بحديث ضعيف، بل ذكر بعض العلماء أنه حديث منكر، وهو قوله: "إذا انفلتَتْ دابة أحدكم فليناد: يا عباد الله احبسوا" ومثل حديث الأعمى الذي فيه: "يا محمد" وزعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره أن يسأله

_ 1 سورة النجم آية: 3، 4. 2 هذا العنوان ليس من الأصل، وإنما وضع للتنبيه وتوجيه النظر إلى موضوع المسألة. 3 سورة آل عمران آية: 7. 4 سورة الجن آية: 18. 5 سورة الرعد آية: 14. 6 سورة يونس آية: 106.

في حال غَيْبَته لم يكن هذا إلا من زَيْغٍ في قلبه قد تناوله كقوله تعالى {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ} 1. وقوله صلى الله عليه وسلم فيما ثبت عنه في الصحيح من حديث عائشة: "إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم" 2. "الوجه الثاني": أن يقال لمن استدل بالحديثين على دعاء غير الله: أتظن أن الرسول صلى الله عليه وسلم يأمر أمته بالشرك، وقد نهى عنه، وجَرَّدَ التوحيد لله، ونهى عن دعوة غير الله، وقال -فيما ثبت عنه- في صحيح البخاري: "من مات وهو يدعو لله نِدًّا دخل النار" 3 وقال لابن عباس: " إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله" 4 فكيف يجتمع في قلبك أن الله بعثه بالتوحيد والتحذير من الإشراك، ثم يأمر أمته بعين ما حَذَّرَهُم عنه؟!. فمن زعم أن قوله: " يا عباد الله احبسوا" يدل على جواز دعاء الغائب بالنص، وعلى دعاء الميت بالقياس على الغائب، وكذلك حديث الأعمى هذا فقد حَادَّ الله ورسوله؛ حيث زعم أن الرسول أمر أمته بالإشراك الذي بعثه الله ينهى عنه. "الوجه الثالث": أن يقال: وعلى تقدير أن هذا يدل على أن الاستغاثة بغير الله شرك أصغر، فهل يظن من في قلبه رائحة إيمان أن الرسول صلى الله عليه وسلم يأمر أمته بالشرك الأصغر الذي قد حرَّمه الله ورسوله؟ بل إذا علم الإنسان أن هذا شرك أصغر، ثم زعم أن الرسول صلى الله عليه وسلم - أمر أمته به كان كافرا. وقد قال تعالى: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَاداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ} 5 إلى قوله: {وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} 6 فحاشا جنابه صلى الله عليه وسلم أن يأمر أمته بالشرك ولو كان أصغر. ومن استدل بهذين الحديثين على دعاء الموتى والغائبين: فهو بين أمرين لا محيد

_ 1 سورة آل عمران آية: 7. 2 البخاري: تفسير القرآن "4547" , ومسلم: العلم "2665" , والترمذي: تفسير القرآن "2993 ,2994" , وأبو داود: السنة "4598" , وابن ماجه: المقدمة "47" , وأحمد "6/48 ,6/124 ,6/132 ,6/256" , والدارمي: المقدمة "145". 3 البخاري: تفسير القرآن "4497" , وأحمد "1/402 ,1/407 ,1/462 ,1/464". 4 الترمذي: صفة القيامة والرقائق والورع "2516" , وأحمد "1/293 ,1/303 ,1/307". 5 سورة آل عمران آية: 79. 6 سورة آل عمران آية: 80.

له عنهما: إما أن يقول: هذا يدل على أن دعاءهم مستحبٌ أو جائزٌ، ومن قال ذلك: فقد خالف إجماع المسلمين، ومرق من الدين، فإنه لم يقل أحد من المسلمين: إن دعاء الموتى جائز أو مستحب. وإما أن يقول: إن ذلك يدل على أن دعاء الموتى شركٌ أصغر لا أكبر، ومن قال ذلك: فقد تناقض في استدلاله حيث استدل بكلام النبي صلى الله عليه وسلم الذي أمر به على ما نهى عنه، وكيف يسوغ لمن يؤمن بالله واليوم الآخر أن يستدل بأمره على نهيه. ثم يقال لهذا المستدل بقوله: "فليناد يا عباد الله احبسوا" أَخْبِرْنَا عن هذا الأمر؟ هل هو للوجوب أو للاستحباب أو الإباحة، وهي أقل أحواله، وأما ما كان مكروها أو محرما فلا يكون فيما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم فما وجه الاستدلال؟. "الوجه الرابع": أن هذا الحديث لا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم - فإن من رواته معروف بن حسان، وهو منكر الحديث قاله ابن عدي. "الوجه الخامس": أن يقال: إن صح الحديث فلا دليل فيه على دعاء الميت والغائب، فإن الحديث ورد في أذكار السفر، ومعناه: أن الإنسان إذا انفلتت دابته، وعجز عنها فقد جعل الله عبادا من عباده الصالحين من صالحي الجن أو من الملائكة أو ممن لا يعلم من جنده سواه: {مَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} 1 فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن لله عبادا قد وكلهم بهذا الأمر، فإذا انفلتت الدابة، ونادى صاحبها بما أمره به النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث: حبسوا عليه دابته. فإن هؤلاء عباد الله أحياء، وقد جعل الله لهم قدرة على ذلك كما جعل للإنس فهو ينادي من يسمع ويعين بنفسه كما ينادي أصحابه الذين معه من الإنس، فأين هذا من الاستغاثة بأهل القبور؟ بل هذا من جنس ما يجوز طلبه من الأحياء، فإن الإنسان يجوز له أن يسأل المخلوق من الأحياء ما يقدر عليه كما قال تعالى: {فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ} 2 وكما في قوله تعالى: {وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إ} 3 وكما يستغيث الناس يوم القيامة بآدم ثم بنوح ثم إبراهيم ثم بموسى ثم بعيسى

_ 1 سورة المدثر آية: 31. 2 سورة القصص آية: 15. 3 سورة الأنفال آية: 72.

حتى يأتوا نبينا صلى الله عليه وسلم - بل هذا من جنس استغاثته بِرُفْقَتِهِ من الإنس، فإذا انفلتت دابته ونادى أحد رُفْقَتَه يا فلان: رُدَّ الدابة لم يكن في هذا بأس. فهذا الذي ورد في الحديث: من جنس هذا، بل قد يكون قربة إذا قصد به امتثال أمر النبي صلى الله عليه وسلم - فأين هذا من استغاثة العبادة بأن ينادي ميتا أو غائبا في قطر شاسع، سواء كان نبيا أو عبدا صالحا. "الوجه السادس": أن الله -تعالى- قال: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} 1 فبعد أن أكمله بفضله ورحمته فلا يحل أن يخترع فيه ما ليس منه. ونقيس عليه ما لا يقاس عليه، بل الواجب اتباع ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم كما أمر به، فإذا نادى شخصا معينا باسمه، فقد كذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم ونادى مَن لم يُؤْمَر بندائه، وليس ذلك في كل حركة وسكون وقيام وقعود، وإنما ذلك في أمر مخصوص. الاستدلال بحديث الأعمى في دعاء غير الله وأما حديث الأعمى، فالجواب عليه من وجوه: {الوجه الأول" أن الحديث إذا شذ عن قواعد الشرع: لا يُعْمَل به، فإنهم قالوا: إن حَدَّ الحديث الصحيح: إذا رواه العدل الضابط عن مثله من غير شذوذ ولا علة، فهذا الحديث لا يجوز الاحتجاج به في هذا الباب؛ لمخالفته قواعد الشرع وأصوله، بل من احتج به على دعاء الميت والغائب فقد خالف نصوص الكتاب والسنة، مع أنه بحمد الله- يوافق ذلك ولا يخالفه، فليس فيه دليل على ما ذكره السائل كما سنبينه إن شاء الله- وكيف يستدل بما ليس فيه دلالة مطابقة ولا تضمن ولا التزام؟. {الوجه الثاني" أن يقال: هذا الحديث قد رواه النسائي في عمل اليوم والليلة، والبيهقي وابن شاهين في دلائلهما، كلهم عن عثمان بن حنيف، ولم يذكروا فيه هذه اللفظة: أعني:"يا محمد" ولفظ الحديث عندهم عن عثمان بن حنيف: "أن رجلا أعمى أتى النبي صلى الله عليه وسلم - فقال يا نبي الله قد أُصِبْتُ في بصري فادعُ الله لي. فقال له النبي

_ 1 سورة المائدة آية: 3.

-صلى الله عليه وسلم -: "توضأ وصل ركعتين ثم قل: اللهم إني أتوجه إليك بنبي محمد، نبي الرحمة إني أتشفع به إليك في رد بصري، اللهم شَفِّع نبيي فيَّ " ففعل ذلك، فرد الله عليه بصره وقال له: " إذا كانت لك حاجة فبمثل ذلك فافعل"انتهى. فهذا الحديث بهذا اللفظ لا حجة فيه للمبطل؛ لأن غايته أنه توسل بالنبي صلى الله عليه وسلم -، وساقه الترمذي رحمه الله- بسياق قريب من هذا. فقال: حدثنا محمد بن غيلان ثنا عثمان بن عمر ثنا شعبة عن أبي جعفر عن عمارة بن خزيمة بن ثابت عن عثمان بن حنيف: "أن رجلا ضرير البصر أتى النبي -صلى الله عليه وسلم - فقال: ادع الله لي أن يعافيني، قال "إن شئت دعوتُ وإن شئتَ صبرتَ فهو خير لك" قال فادعه فأمره أن يتوضأ فيحسن وضوءه ويدعو بهذا الدعاء: "اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة، إني توجهت بك إلى ربي في حاجتي هذه لِتُقْضَى اللهم فَشَفِّعْهُ فيَّ" 1 هذا حديث حسن صحيح غريب، لا نعرفه إلا من حديث أبي جعفر، وهو غير الخَطمي. انتهى. هذا لفظه بحروفه، وفي نسخة أخرى: "إني توجهت به إلى ربي" وليست هذه اللفظة في الحديث في سياق هؤلاء الأئمة أعني قوله: يا محمد، التي هي غاية ما يتعلق به المبطلون. "الوجه الثالث" أن يقال: على تقدير صحة هذه اللفظة فليس فيها ما يدل على دعاء النبي صلى الله عليه وسلم بعد موته، ولو كان فيها ما يدل على ذلك لفعله الصحابة رضي الله عنهم -، فلما ثبت أن الصحابة لم يفعلوه، بل ولا أجازوه علمنا أنه ليس في ذلك دلالة. فيبقى أن يقال ما معناه؟ فنقول: ذكر العلماء في معناه قولين: "أحدهما" أنه توسل بالنبي صلى الله عليه وسلم - فيدل على جواز التوسل به صلى الله عليه وسلم - في حياته وبعد وفاته، إلا أن التوسل ليس فيه دعاء له ولا استغاثة به، وإنما سؤال الله بِجَاهِهِ، وهذا ذكره الفقيه أبو محمد العز بن عبد السلام في فتاويه، فإنه أفتى بأنه لا يجوز التوسل بغير النبي صلى الله عليه وسلم - قال: وأما التوسل به صلى الله عليه وسلم -: فجائز إن صح الحديث فيه- يعني حديث الأعمى.

_ 1 الترمذي: الدعوات "3578" , وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها "1385".

التوسل بالنبي وما ورد فيه قال الشيخ ابن تيمية -رحمه الله-: أما التوسل إلى الله بغير نبينا صلى الله عليه وسلم فلا نعلم أحدا من السلف فعله، ولا روى فيه أثرا، ولا نعلم فيه إلا ما أفتى ابن عبد السلام من المنع، وأما التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم ففيه حديث في السنن، وهو حديث الأعمى الذي أصيب ببصره، فلأجل هذا الحديث استثنى الشيخ التوسل به، وللناس في معنى الحديث قولان: "أحدهما" أن هذا التوسل هو الذي ذكره عمر لما استسقى بالعباس فذكر أنهم كانوا يتوسلون بالنبي صلى الله عليه وسلم - في الاستسقا، ثم توسلوا بعمه العباس بعد موته، وتوسلهم به هو استسقاؤهم به، بحيث يدعو ويدعون معه، فيكون هو وسيلتهم إلى الله. وهذا لم يفعله الصحابة بعد موته وفي مغيبه، والنبي صلى الله عليه وسلم - كان في مثل هذا شافعا لهم داعيا، ولهذا قال في حديث الأعمى: "اللهم فَشَفِّعْهُ فيَّ" 1 فعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم - شفع له فسأل الله أن يُشَفِّعَهُ فيه. "والثاني" أن التوسل به يكون في حياته وبعد وفاته. انتهى كلام الشيخ -رحمه الله-. فتبين بهذا أن معنى التوسل إلى الله هو بدعائه وشفاعته في حضوره أو التوسل بذاته، بأن يسأل الله بجاهه. والتوسل غير الاستغاثة، فإنه لم يقل أحد: إن من قال: اللهم إني أسألك بحق فلان أنه استغاث به؛ بل إنما استغاث بمن دعاه، بل العامة الذين يتوسلون في أدعيتهم بأمور كقول أحدهم: أتوسل إليك بحق الشيخ فلان، أو بحرمته، أو نحو ذلك مما يقولونه في أدعيتهم يعلمون أنهم لا يستغيثون بهذه الأمور، فإن المستغيث بالشيء طالبٌ منه سائل له، والمتوسل به لا يُدْعَى، ولا يُسْأَلُ ولا يُطْلَبُ منه، وإنما يطلب به، وكل أحد يُفَرِّقُ بين المدعو والمدعو به، والاستغاثة هي طلب الغوث، وهو إزالة الشدة كالاستنصار: طلب النصر، والاستعانة: طلب العون، فكل أحد يفرق بين المسئول والمسئول به.

_ 1 الترمذي: الدعوات "3578" , وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها "1385".

فالحديث على هذا المعنى -الذي ذهب إليه ابن عبد السلام- لا حُجَّة فيه لمن جَوَّزَ الاستغاثة بالنبي صلى الله عليه وسلم - بعد وفاته، فإن هذا لم يفهمه أحد من العلماء من الحديث، ولم يذكروا في معناه إلا هذين القولين اللذين ذكرناهما. "أحدهما" ما ذهب إليه ابن عبد السلام:"والثاني" ما ذهب إليه الأكثرون أن معناه: التوسل إلى الله بدعائه وشفاعته بحضوره كما في صحيح البخاري أن عمر –رضي الله عنه- استسقى بالعباس فقال: "اللهم إنا كنا إذا جدبنا توسلنا إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا فَيُسْقَوْنَ"1. فبيَّن عمر أنهم كانوا يتوسلون به في حياته فيسقون، وتوسلهم به: هو أنهم يسألونه أن يدعو الله لهم، فيدعو ويدعون معه، فيتوسلون بدعائه كما في الصحيحين عن أنس: "أن رجلا دخل المسجد يوم الجمعة من بابٍ كان نَحْوًا من دار القضاء ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يخطب، فاستقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم قائما ثم قال: يا رسول الله: هلكت الأموال وانقطعت السبل، فادع الله أن يغيثنا، فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه فقال: "اللهم أغثنا" 2 الحديث بطوله، ففي هذا أنه قال: "ادع الله أن يغيثنا". فلما كثر الغيث قال: "ادع الله أن يمسكها عنا". فهذا هو التوسل الذي كانوا يفعلونه، فلما مات صلوات الله وسلامه عليه- لم يتوسلوا به، ولم يستسقوا به، فلو كان ذلك مشروعا لم يعدلوا إلى العباس، وكيف يتركون التوسل بنبيهم صلى الله عليه وسلم - ويعدلون إلى العباس؟ وكذلك معاوية استسقى بيزيد بن الأسود الجرشي وقال: "اللهم إنا نتشفع إليك بخيارنا، يا يزيد ارفع يديك إلى الله" فرفع يديه ودعا ودعوا فَسُقُوا. وقال أبو العباس ابن تيمية -في رده على ابن البكري لما تكلم على حديث

_ 1 البخاري: الجمعة "1010". 2 البخاري: الجمعة "1014" , ومسلم: صلاة الاستسقاء "897" , والنسائي: الاستسقاء "1518".

الأعمى- قال: والأعمى كان قد طلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو له كما كان الصحابة يطلبون منه في الاستسقاء. وقوله: "أتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة" أي: بدعائه وشفاعته لي، ولهذا قال في تمام الحديث: "اللهم فشفعه فيَّ" فالذي في الحديث مُتَّفَقٌ على جوازه، وليس هو مما نحن فيه. انتهى. وقال -رحمه الله- في موضع آخر: لفظ التوجه والتوسل يُرَادُ به: أن يتوجه بهم ويتوسل إلى الله بدعائهم وشفاعتهم، فهذا هو الذي جاء في ألفاظ السلف من الصحابة –رضي الله عنهم-، كقول عمر: "اللهم إنا كنا إذا أجدبنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا، فيسقون"1 فهذا إخبار من عمر عما كانوا يفعلونه. وتوسلوا بالعباس كما كانوا يتوسلون بالنبي صلى الله عليه وسلم وكذلك معاوية لما استسقى بأهل الشام توسل بيزيد. ومن هذا الباب ما في البخاري عن عمر -رضياللهعنه- قال: ربما ذكرت قول الشاعر، وأنا أنظر إلى وجه النبي صلى الله عليه وسلم يستسقي، فما ينزل حتى يجيش الميزاب: وأبيضُ يُسْتَسْقَى الغَمَام بوجهه ... ثِمَال اليتامى عصمة للأرامل دعاء النبي للأعمى الذي توسل به ومن هذا الباب: حديث الأعمى، فإنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ادع الله أن يعافيني. قال: "إن شئت دعوت، وإن شئت صبرت فهو خير لك" قال: ادع الله، فأمره أن يتوضأ فيحسن الوضوء، ويدعو هذا الدعاء "اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد -نبي الرحمة-، يا محمد إني أتوجه بك إلى ربي في حاجتي هذه لِتُقْضَى اللهم فشفعه فيَّ" فأمره أن يطلب من الله أن يشفع فيه النبي صلى الله عليه وسلم وإنما يكون طلبا لتشفيعه فيه إذا شفع فيه فدعا الله له. وكذلك في أول الحديث أنه طلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو له. فدل الحديث على أن النبي صلى الله عليه وسلم شفع له ودعا له، وأن النبي صلى الله عليه وسلم أمره هو أن يدعو الله وأن

_ 1 البخاري: الجمعة "1010".

يسأله قبول شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم فهذا نظير توسلهم به في الاستسقاء؛ حيث طلبوا منه أن يدعو الله لهم، وَدَعَوْا هم اللهَ تعالى- أيضا. وقوله: "يا محمد إني توجهت بك إلى ربي": خطاب لحاضر في قلبه، كما نقول في صلاتنا: "السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته"، وكما يستحضر الإنسان من يحبه ويبغضه أو يخاطبه، وهذا كثير. فهذا كله يبين أن معنى التوسل والتوجه به وبالعباس وغيرهما في كلامهم: هو التوسل والتوجه بدعائه وبدعاء العباس ودعاء من توسلوا به، وهذا مشروع بالاتفاق لا ريب فيه. انتهى كلام أبي العباس ابن تيمية. وفيما ذكرنا كفاية لمن نَوَّرَ الله قلبه، ومن أعمى الله قلبه لم تَزِدْه كثرةُ النُّقُول إلا حيرة وضلالا: {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} 1. فصل في التوسل المشروع هو التقرب إلى الله بالعمل والدعاء وأما قول القائل: وأما التوسل فقد أخرج الحاكم في مستدركه وصححه أن آدم توسل بالنبي صلى الله عليه وسلم وورد: "اللهم بحق نبيك والأنبياء قبلي" ولا أدري من خَرَّجَهُ. فأما التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم خاصةً: فقد رأيت لشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب نقلا في جواز ذلك عن ابن عبد السلام، فبقي الكلام في النبي، أو في غيره من الأنبياء، وفي معاني الأحاديث الأخر، وما حكمها؟ وما الحجة المقابلة لما يقولون، المُخَصِّصَة لما يفهمون؟ وأما التوسل بغير الأنبياء فَيُورِدُونَ أن عمر توسل بالعباس في الاستسقاء فسُقُوا، وطفق الناس يتمسحون به، ويقولون: هذا الوسيلة إلى الله. فأما أول القصة فهي في البخاري، وهي لدينا بحمد الله، وقولهم: فطفق إلى آخره. لا أدري من قالها، فما تقولون في معناها؟. وقد رأيت لبعض المحققين أن التوسل بالأولياء غير التوسل إليهم، فالأول جائز، والثاني شرك. وفي عدة الحصن الحصين

_ 1 سورة النور آية: 40.

للجَزَرِيّ: والتوسل إلى الله بأنبيائه ورسله. {فالجواب" أن يقال: العبادات بناؤها على الأمر والاتباع، لا على الهوى والابتداع، والتوسل الذي جاءت به السنة وتواتر في الأحاديث هو: التوسل والتوجه إلى الله بالأسماء والصفات، وبالأعمال الصالحة، كالأدعية الواردة في السنة كقوله: "اللهم إني أسألك بأن لك الحمد، لا إله إلا أنت، المنان بديع السماوات والأرض يا ذا الجلال والإكرام، لا إله إلا أنت يا حي يا قيوم" 1 وفي الحديث الآخر: "اللهم إني أسألك بأني أشهد أنك أنت الله، لا إله إلا أنت الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد" 2 وقوله في الحديث الآخر: "أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحدا من خلقتك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك"3. وكما حكى الله سبحانه- عن عباده المؤمنين أنهم توسلوا إليه بصالح أعمالهم فقال حاكيا عنهم: {رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا} 4 الآية. وكما ثبت في الصحيحين من قصة الثلاثة الذين أووا إلى الغار، فانطبقت عليهم الصخرة، فتوسلوا إلى الله بصالح أعمالهم. وكالتوسل بدعاء الأنبياء والصالحين وشفاعتهم في حياتهم، كما ذكرنا من توسل الصحابة بالنبي صلى الله عليه وسلم في الاستسقاء، وتوسلهم بالعباس وبيزيد بن الأسود، وتوسل الأعمى بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم وشفاعته له. فهذا كله مما لا نزاع فيه، بل هو من الأمور المشروعة، وهو من الوسيلة التي أمر الله بها في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} 5. التوسل بذوات الصالحين غير مشروع وأما التوسل بالذات فيقال: ما الدليل على جواز سؤال الله بذوات المخلوقين؟ ومن قال هذا من الصحابة والتابعين؟ فالذي فعله الصحابة -رضي الله عنهم- هو التوسل إلى الله بالأسماء والصفات والتوحيد، والتوسل بما أمر الله به من الإيمان بالرسل ومحبتهم وطاعتهم ونحو ذلك، وكذلك توسلوا بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم وشفاعته

_ 1 النسائي: السهو "1300" , وأبو داود: الصلاة "1495". 2 الترمذي: الدعوات "3475" , وابن ماجه: الدعاء "3857". 3 أحمد "1/452". 4 سورة آل عمران آية: 193. 5 سورة المائدة آية: 35.

في حياته، وبدعاء العباس ويزيد. وأما التوسل بالذات بعد الممات: فلا دليل عليه، ولا قاله أحد من السلف؛ بل المنقول عنهم يناقض ذلك؛ وقد نص غير واحد من العلماء على أن هذا لا يجوز، ونقل عن بعضهم جوازه، وهذه المسألة وغيرها من المسائل إذا وقع فيها النزاع بين العلماء فالواجب رد ما تنازعوا فيه إلى الله والرسول، قال تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} 1 وقال تعالى: {مَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} 2. ومعلوم أن هذا لم يكن منقولا عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا مشهورا بين السلف، وأكثر العلماء على النهي عنه، ولا ريب أن الأنبياء والصالحين لهم الجاه عند الله، لكن الذين لهم النفع عند الله من الجاه والمنازل والدرجات أمرٌ يعود نفعه إليهم، ونحن ننتفع من ذلك باتباعنا لهم ومحبتنا، فإذا توسلنا إلى الله بإيماننا بنبيه صلى الله عليه وسلم - ومحبته وطاعته واتباع سنته كان هذا من أعظم الوسائل. وأما التوسل بنفس ذاته مع عدم التوسل بالإيمان به وطاعته: فلا يكون وسيلة؛ فالمتوسل بالمخلوق إذا لم يتوسل بما مر من المتوسل به من الدعاء للمتوسل، أو بمحبته، واتباعه، فبأي شيء يتوسل به؟ والإنسان إذا توسل إلى غيره بوسيلة فإما أن يطلب من الوسيلة الشفاعة له عند ذلك، مثل أن يقول لأبي الرجل أو صديقه أو من يكرم عليه: اشفع لنا عند فلان، وهذا جائز، وإما أن يقسم عليه، ولا يجوز الإقسام على مخلوق بمخلوق كما أنه لا يجوز أن يقسم على الله بالمخلوقين. فالتوسل إلى الله بذات خلقه: بدعة مكروهة، لم يفعلها السلف من الصحابة، ولا التابعين لهم بإحسان. سؤال الله بأحد خلقه وظن استجابة الدعاء عند قبره قال ابن القيم -رحمه الله- في كتابه "إغاثة اللهفان في مكايد الشيطان": وهذه

_ 1 سورة النساء آية: 59. 2 سورة الشورى آية: 10.

الأمور المبتدعة عند المقبور أنواع: أبعدها عن الشرع: أن يسأل الميت حاجته، كما يفعله كثير، وهؤلاء من جنس عُبَّاد الأصنام، ولهذا قد يتمثل لهم الشيطان في صورة الميت، كما يتمثل لعباد الأصنام، وكذلك السجود للقبر وتقبيله والتمسح به. "النوع الثاني": أن يسأل الله به، وهذا يفعله كثير من المتأخرين، وهو بدعة إجماعا. "النوع الثالث": أن يظن الدعاء عنده مستجابا، أو أنه أفضل من الدعاء في المسجد فيقصد القبر لذلك، فهذا أيضا من المنكر إجماعا، وما علمت فيه نزاعا بين أئمة الدين، وإن كان كثير من المتأخرين يفعله. وبالجملة، فأكثر أهل الأرض مفتونون بعبادة الأصنام، ولم يتخلص منه إلا الحُنَفَاء أتباع ملة إبراهيم، وعبادتها في الأرض من قبل نوح، وهي كلها ووقوفها وسدنتها وحجابها والكتب المُصَنَّفَة في عبادتها قد طبقت الأرض، قال إمام الحنفاء -عليه الصلاة والسلام-: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الاأَصْنَامَ َبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ} 1. وكفى في معرفة أنهم أكثر أهل الأرض: ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم "إن بَعْث النار من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون" 2 وقد قال تعالى: {فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلا كُفُوراً} 3 وقال: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} 4. ولو لم تكن الفتنة بعبادة الأصنام عظيمة: لما أقدم عُبَّادُها على بذل نفوسهم وأموالهم وأبنائهم دونها، وهم يشاهدون مصارع إخوانهم، وما حل بهم، ولا يزيدهم ذلك إلا حبا لها وتعظيما، ويوصي بعضهم بعضا بالصبر عليها. انتهى كلامه -رحمه الله-. والمقصود أنه حكى الإجماع على أن التوسل إلى الله بصاحب القبر: بدعة إجماعا. سؤال الله بخلقه أو بحق أحد وقال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- في الرد على ابن البكري: "وما زلتُ أبحث وأكشف ما أمكنني عن كلام السلف والأئمة والعلماء، هل جَوَّزَ أحدٌ

_ 1 سورة إبراهيم آية: 35، 36. 2 البخاري: أحاديث الأنبياء "3348" , ومسلم: الإيمان "222" , وأحمد "3/32". 3 سورة الإسراء آية: 89. 4 سورة الأنعام آية: 116.

منهم التوسل بالصالحين في الدعاء، أو فعل ذلك أحد منهم فما وجدته، ثم وقفتُ على فُتْيَا للفقيه أبي محمد بن عبد السلام، أفتى بأنه لا يجوز التوسل بغير النبي صلى الله عليه وسلم وأما بالنبي صلى الله عليه وسلم فَجَوَّزَ التوسل به -إن صح الحديث في ذلك"-. وذكر القُدُورِيُّ في شرح الكرخي عن أبي حنيفة وأبي يوسف أنه لا يجوز أن يسأل الله إلا به. انتهى كلامه. وذكر ابن القيم -رحمه الله- عن أبي الحسن القدوري نحو ذلك؛ فقال رحمه الله- قال القدوري: قال بشر بن الوليد: سمعت أبا يوسف قال: قال أبو حنيفة: لا ينبغي لأحد أن يدعو الله إلا به، وأكره أن يقول: بمَعَاقِد العِزّ من عرشك، أو يقول: بحق خلقك. والجوازُ قولُ أبي يوسف- قال أبو يوسف: بمعقد العز من عرشك هو الله، فلا أكره ذلك، وأكره بحق فلان أو بحق أنبيائك ورسلك، وبحق البيت، والمشعر الحرام، قال القدوري: المسألة لا تجوز؛ لأنه لا حق لمخلوق على الخالق: فلا تجوز يعني وفاقا. وقال البلدجي في شرح المختارة: ويكره أن يدعو الله إلا به، فلا يقول: أسألك بفلان أو بملائكتك وأنبيائك ونحو ذلك؛ لأنه لا حق للمخلوق على الخالق. انتهى. وقال أبو العباس ابن تيمية -رحمه الله- في كتاب "اقتضاء الصراط المستقيم" لفظ التوسل بالشخص، والتوجه به، والسؤال به فيه إجمالٌ واشتراكٌ، غلط بسببه مَن لم يَفْهَم مقصود الصحابة، فإنه يُرَاد به التسبب به؛ لكونه داعيا وشافعا مثلا؛ أو لكون الداعي مجيبا له مطيعا لأمره مقتديا به، فيكون التسبب إنما هو بمحبة السائل واتباعه له، وأما بدعاء الوسيلة وشفاعته، ويُرَاد به الإقسام به والتوسل بذاته، فهذا هو الذي كرهوه، ونهوا عنه. وكذلك لفظ السؤال بشيء، قد يُراد به المعنى الأول وهو التسبب به لكونه سببا في حصول المطلوب، وقد يُراد به الإقسام، ومن الأول: حديث الثلاثة الذين أَوَوْا إلى غار، وهو حديث مشهور في الصحيحين وغيرهما؛ فإن الصخرة انطبقت عليهم فقالوا: لِيَدْعُ كل رجل منكم بأفضل

عمله؛ فدعوا الله بصالح أعمالهم؛ لأن الأعمال الصالحة هي أعظم ما يتوسل به العبد إلى الله؛ ويتوجه به إليه ويسأل به، وهؤلاء دعوه بعبادته، وفعل ما أمر به من العمل الصالح، وسؤاله والتضرع إليه. ومن هذا ما يذكر عن الفضيل بن عياض أنه أصابه عسر البول فقال: بحبي إياك إلا فَرَّجْتَ عني، فَفَرَّجَ عنه. وكذلك المرأة المهاجرة التي أحيا الله ابنها لما قالت: اللهم إني آمنت بك وبرسولك وهاجرت في سبيلك، وسألت الله أن يحيي ولدها، وأمثال ذلك. وهذا كما قال المؤمنون: {رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا} 1 الآيات. من سؤال الله، والتوسل إليه بامتثال أوامره واجتناب نواهيه. حديث أبي سعيد أسألك بحق السائلين عليك وبحق ممشاي هذا وأما قوله في حديث أبي سعيد: "أسألك بحق السائلين عليك وبحق ممشاي هذا" فهذا الحديث رواه عطية العوفي وفيه ضعف، لكن بتقدير ثبوته هو من هذا الباب، فإن حق السائلين عليه أن يُجِيبهم، وحق المطيعين له أن يثيبهم. فالسؤال له والطاعة سبب لحصول إجابته وإثابته، فهو من التوسل به والتوجه به والتسبب به. ولو قُدِّرَ أنه قَسَم لكان قَسَمًا بما هو من صفاته؛ فإن إجابته وإثابته من أفعاله وأقواله، فصار هذا كقوله في الحديث الصحيح "أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك" 2. والاستعاذة لا تصح بمخلوق، كما نص عليه الإمام أحمد وغيره من الأئمة، فاستعاذ صلى الله عليه وسلم بعفوه ومُعَافَاتِه من عقوبته، مع أنه لا يُسْتَعَاذ بمخلوق كسؤال الله بإجابته وإثابته، وإن كان لا يسأل المخلوق، ومن قال من العلماء: لا يسأل إلا به لا ينافي السؤال بصفاته، كما أن الحلف لا يشرع إلا بالله، و "من حلف بغير الله فقد أشرك" 3 ومع هذا: فالحلف بعزة الله، ولعمر الله، ونحو ذلك مما ثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم -

_ 1 سورة آل عمران آية: 193. 2 مسلم: الصلاة "486" , والترمذي: الدعوات "3493" , والنسائي: التطبيق "1100 ,1130" والاستعاذة "5534" , وأبو داود: الصلاة "879" , وابن ماجه: الدعاء "3841" , وأحمد "6/58" , ومالك: النداء للصلاة "497". 3 الترمذي: النذور والأيمان "1535" , وأبو داود: الأيمان والنذور "3251" , وأحمد "2/34 ,2/69 ,2/86 ,2/125".

الحلف به لم يدخل في الحلف بغير الله. وأما قول بعض الناس: أسألك بالله وبالرحم، وقراءة من قرأ {تسألون به والأرحام" فهو من باب التسبب بها، فإن الرحم توجب الصلة، وتقتضي أن يصل الإنسان به قرابته؛ فسؤال السائل بالرحم لغيره: يتوسل إليه بما يوجب صلته من القرابة التي بينهما، ليس هو من باب الإقسام، ولا من باب التوسل بما لا يقتضي المطلوب، وتوسل بما هو يقتضي المطلوب كالتوسل بدعاء الأنبياء وبطاعتهم. ومن هذا الباب ما يروى عن عبد الله بن جعفر أنه قال: كنت إذا سألت عليا شيئا فلم يُعْطِينِيه، قلت له: بحق جعفر إلا ما أعطيتنيه فيعطينيه، أو كما قال بعض الناس ظن، فإن هذا من باب الإقسام عليه بجعفر، ومن باب قولهم: أسألك بحق أنبيائك، ونحو ذلك، وليس كذلك بل جعفر هو أخو علي، وعبد الله ابنه، وله عليه حق الصلة، فصلة عبد الله صلة لأبيه جعفر، كما في الحديث: "إن من أبر البر أن يصل الرجل أهل وُدِّ أبيه، بعد أن يولي" 1. ولو كان من هذا الباب الذي ظنوه لكان سؤاله لعلي بحق النبي صلى الله عليه وسلم وإبراهيم الخليل ونحوهما أولى من سؤاله بحق جعفر، ولكان عليّ إلى تعظيم رسول الله صلى الله عليه وسلم ومحبته وإجابة السائل أسرع منه إلى إجابة السائل بغيره. انتهى ملخصا. بطلان ما روي من توسل آدم بالنبي وأما قول القائل: فقد أخرج الحاكم في مستدركه، وصححه: "أن آدم توسل بالنبي صلى الله عليه وسلم فهو من رواية عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، قال أحمد بن حنبل: ضعيف، وقال ابن معين: ليس حديثه بشيء، وضعَّفَه ابن المديني جدا، وقال أبو داود: أولاد زيد بن أسلم كلهم ضعيف، وقال النسائي: ضعيف، وقال ابن عبد الحكم: سمعت الشافعي يقول: ذكر رجل لمالك حديثا. فقال من حَدَّثَك؟ فذكر إسنادا له منعطفا. فقال: اذهب إلى عبد الرحمن بن زيد يحدثك عن أبيه

_ 1 مسلم: البر والصلة والآداب "2552" , والترمذي: البر والصلة "1903" , وأبو داود: الأدب "5143" , وأحمد "2/88 ,2/91 ,2/97 ,2/111".

عن نوح عليه السلام-. وقال أبو زرعة: ضعيف، وقال أبو حاتم: ليس بقوي في الحديث، كان في نفسه صالحا، وفي الحديث واهيا. وقال ابن حبان: كان يَقْلِب الأخبار، وهو لا يعلم حتى كثر ذلك في روايته من رفع المراسيل وإسناد الموقوف فاستحق الترك، وقال ابن سعد: كان كثير الحديث ضعيفا جدا، وقال ابن خزيمة: ليس هو ممن يحتج أهل العلم بحديثه، وقال الحاكم: وأبو نعيم روى عن أبيه أحاديث موضوعة، وقال ابن الجوزي: أجمعوا على ضعفه، فهذا الحديث الذي استدل به: تفرد به عبد الرحمن بن زيد، وهو كما تسمع. وقال الشيخ تقي الدين ابن تيمية -رحمه الله- في رده على ابن البكري: وأما قول القائل: قد توسل به الأنبياء، آدم وإدريس ونوح وأيوب، كما هو مذكور في كتب التفسير وغيرها. فيقال: مثل هذه القصص لا يجوز الاحتجاج بها بإجماع المسلمين فإن الناس لهم في شرع من قبلنا قولان: "أحدهما": أنه ليس بحجة. "الثاني": أنه حجة ما لم يأت شرعنا بخلافه، بشرط أن يثبت ذلك بنقل معلوم، كإخبار النبي صلى الله عليه وسلم. الخلاف في شرع من قبلنا وعدم الاحتجاج بالإسرائيليات فأما الاعتماد على أخبار أهل الكتاب، أو نقل مَن نقل عنهم: فهذا لا يجوز باتفاق المسلمين؛ لأن في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم"1. وهذه القصص التي فيها ذِكْر توسل الأنبياء بذاته: ليست في شيء من كتب الحديث المعتمدة، ولا لها إسناد معروف عن أحد من الصحابة، وإنما تُذْكَرُ مُرْسَلَة كما تُذْكَرُ الإسرائيلياتُ التي تُرْوَى عَمَّن لا يُعْرَفُ. وقد بُسِطَ الكلام في غير هذا الموضع عما نُقِلَ في ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم وتكلمنا عليه وبَيَّنَا بطلانَ جميعه. ولو نقل ذلك عن كعب ووهب ومالك بن دينار ونحوهم ممن ينقل عن أهل الكتاب: لم يجز أن يحتج به؛ لأن الواحد من هؤلاء، وإن كان ثقة، فغاية

_ 1 أبو داود: العلم "3644" , وأحمد "4/136".

ما عنده: أن ينقل من كتاب من كتب أهل الكتاب، أو يسمعه من بعضهم؛ فإنه بينه وبين الأنبياء زمن طويل، والمُرْسَل عن المجهول من أهل الكتاب الذي لا يُعْرَف علمُه وصدقُه: لا يُقْبَل باتفاق المسلمين. ومراسيل أهل زماننا عن نبينا صلى الله عليه وسلم لا تقبل عند علمائنا مع كون ديننا محفوظًا محروسًا؛ فكيف بما يُرسل عن آدم وإدريس ونوح وأيوب عليهم السلام؟ والقرآن قد أخبر بأدعية الأنبياء وتوباتهم واستغفارهم، وليس فيها شيء من هذا. وقد نقل أبو نعيم في الحلية: أن داود -عليه السلام- قال: "يا رب أسألك بحق آبائي عليك: إبراهيم وإسحاق ويعقوب. فقال: يا داود وأيّ حق لآبائك علي؟ ". فإن كانت الإسرائيليات حجة، فهذا يدل على أنه لا يسأل بحق الأنبياء، وإن لم يكن حجة: لم يجز الاحتجاج بتلك الإسرائيليات انتهى كلامه. وبيَّن رحمه الله- أنه لا يصح في هذا شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم - وأن جميع ما روي في ذلك باطل لا أصل له. الاستدلال بحديث الأعمى على التوسل بالذات وأما قوله: وأما التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم خاصة، فقد رأيت لشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب نقلا في جواز ذلك عن ابن عبد السلام. فنقول: قد تقدم أن التوسل المشروع، هو التوسل إلى الله بالأسماء والصفات والتوحيد؛ وكذلك التوسل بمحبة النبي صلى الله عليه وسلم - والإيمان به وطاعته، وكذلك التوسل بدعائه وشفاعته وهذا كله مشروع بلا ريب. وأما التوسل بنفس الذات، فقد قدمنا أن أكثر العلماء نَهَوْا عن ذلك، وجعلوه من البدعة المكروهة المُحْدَثَة، وبعضهم رَخَّصَ في ذلك، وهو قول ضعيف مردود، والعز بن عبد السلام أنكر التوسل إلى الله بغير النبي صلى الله عليه وسلم -. وأما التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم فعلق القول بجوازه على صحة حديث الأعمى،

لأنه فهم من الحديث أن الأعمى توسل بذات النبي -صلى الله عليه وسلم - وأما الجمهور فحملوا حديث الأعمى على أنه توسل بدعاء النبي -صلى الله عليه وسلم - كما كان الصحابة يتوسلون به في الاستسقاء، كما في حديث أنس الذي رواه البخاري في صحيحه، وقد تقدم، 1. وشيخنا -رحمه الله- نقل كلام العز بن عبد السلام؛ ليبين أن مسألة التوسل بغير النبي صلى الله عليه وسلم - بدعة مكروهة وأما التوسل بالنبي -صلى الله عليه وسلم - فأجازه بعض العلماء كالعز بن عبد السلام. والسائل فهم من نقل الشيخ أنه اختاره، وليس الأمر كذلك؛ بل اختياره رحمه الله- هو ما ذهب إليه الجمهور أن ذلك بدعة مُحْدَثَة لم يفعلها الصحابة ولا التابعون؛ فإنه لم يُنْقَل عن أحد منهم أنه توسل بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد موته كما قدمناه. وأما قوله: وأما التوسل بغير الأنبياء فَيُورِدُونَ أن عمر توسل بالعباس في الاستسقاء، فقد تقدم بيانه بما فيه كفاية. وبيان أن التوسل بدعاء الصالحين في الاستسقاء وغيره مشروع، كما فعله الصحابة؛ لما توسلوا بالعباس ويزيد بن الأسود وليس كلامنا في هذا، وإنما الكلام في التوسل بنفس الذات. وأما قولهم في حديث العباس: "فطفق الناس يتمسحون به". فلم نقف لها على أصل، ولا رأيناها في شيء من الكتب، وعلى تقدير ثبوتها فليس فيها حجة على التوسل بالأموات.

_ 1 جملة القول في حديث الأعمى أن له وجها موافقا للعقائد والقواعد، وهو طلب الدعاء والتشفع به، فيؤخذ به، ووجها مخالفا لها فلا يجوز الأخذ به لشذوذه مع مخالفته؛ فإنه لم يرد شيء في معناه عن أحد من الصحابة، ورواية الشاذ كهذا لا يُحْتَجُّ بها مطلقا، فكيف إذا كانت في مسألة تعبدية تمس العقيدة- فهذه لا تثبت إلا بنص قَطْعِي الرواية والدلالة معا.

فصل بلوغ الدعوة وفهمها الذي تقوم به الحجة وأما قوله: إن سلمنا هذا القول، وظهر دليله فالجاهل معذور؛ لأنه لم يُدْرِك الشرك والكفر، ومن مات قبل البيان فليس بكافر، وحكمُهُ حكمُ المسلمين في الدنيا والآخرة؛ لأن قصة ذات أنواط وبني إسرائيل حين جاوزوا البحر تدل على ذلك إلى آخره. "فالجواب" أن يقال: إن الله تعالى- أرسل الرسل {مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} 1 فكل من بلغه القرآن ودعوة الرسول صلى الله عليه وسلم فقد قامت عليه الحجة، قال الله -تعالى-: {لأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} 2 وقال تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} 3. وقد أجمع العلماء على أن مَن بلغته دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم أن حجة الله قائمة عليه. ومعلوم بالاضطرار من الدين أن الله سبحانه- بعث محمدا صلى الله عليه وسلم وأنزل عليه الكتاب لِيُعْبَدَ وحده ولا يُشْرَكُ معه غيرُهُ، فلا يُدْعَى إلا هو ولا يُذْبَحُ إلا له، ولا يُنْذَرُ إلا له، ولا يُتَوَكَّلُ إلا عليه، ولا يُخَافُ خوفَ السر إلا منه، والقرآن مملوءٌ من هذا. قال الله -تعالى-: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} 4 وقال: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ} 5 الآية، وقال: {وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ} 6 وقال: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} 7 وقال: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} 8 وقال: {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} 9 وقال: {وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} 10 وقال: {وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} 11 وقال: {لَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} 12. والآيات الواردة في هذا المعنى كثيرة، والله سبحانه- لا يُعَذِّبُ خلقَه إلا بعد الإعذار إليهم، فأرسل رسله وأنزل كتبه لئلا يقولوا: {لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} 13 وقال تعالى: {وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى} 14.

_ 1 سورة النساء آية: 165. 2 سورة الأنعام آية: 19. 3 سورة الإسراء آية: 15. 4 سورة الجن آية: 18. 5 سورة الرعد آية: 14. 6 سورة يونس آية: 106. 7 سورة الكوثر آية: 2. 8 سورة المائدة آية: 23. 9 سورة هود آية: 123. 10 سورة البقرة آية: 40. 11 سورة آل عمران آية: 175. 12 سورة التوبة آية: 18. 13 سورة القصص آية: 47. 14 سورة طه آية: 134.

فكل من بلغه القرآن: فليس بمعذور، فإن الأصول الكبار -التي هي أصل دين الإسلام- قد بَيَّنَهَا الله في كتابه، ووضحها وأقام بها الحجة على عباده، وليس المراد بقيام الحجة: أن يفهمها الإنسان فَهْمًا جَلِيًّا كما يفهمها مَن هداه الله، ووفَّقه وانقاد لأمره، 1. فإن الكفار قد قامت عليهم حجة الله، مع إخباره بأنه جعل على قلوبهم أَكِنَّة أن يفهموا كلامه، فقال: {وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً} 2 وقال: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمىً} 3 وقال تعالى: {نَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ} 4 وقال تعالى: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً لَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً} 5 والآيات في هذا المعني كثيرة. يخبر سبحانه- أنهم لم يفهموا القرآن، ولم يفقهوه، وأنه عاقبهم بجعل

_ 1 هذا القيد الذي قيَّد الشيخ به الفهم هنا قد أزال اللبس الذي يتبادر إلى الذهن من بعض إطلاقاته في مواضع أخرى، واتبعه فيه بعضُ علماء نجد، فصار بعضهم يقول بأن الحجة تقوم على الناس ببلوغ القرآن، وإن لم يفهمه من بلغه مطلقا. وهذا لا يُعْقَلُ ولا يَتفق مع قوله تعالى: {ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى} الآية. الذي بنى عليه المحققون قولهم: إن فهم الدعوة بدليلها شرط لقيام الحجة. وقد علمنا من هذا القيد أن الفهم الذي لا يشترطه الشيخ، هو فقه نصوص القرآن المؤثر في النفس، الحامل لها على ترك الباطل، كما يفقهها من اهتدى بها. ففهم التفقه في الحقيقة أخص من فهم المعنى اللغوي، كما يدل عليه استعمال القرآن، وحديث "من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين" متفق عليه، وفي رواية حسنة زيادة "ويلهمه رشده". والمشركون الذين شبههم الله بالصم البكم المختوم على قلوبهم، والمطبوع عليها، والمجعول عليها الأكنة: كلهم قد فهموا مدلول آيات القرآن في التوحيد والبعث والرسالة؛ لأنهم أهل اللغة وقد أنزلت بأفصح أساليبها؛ ولكنهم لم يهتدوا بها لثلاثة أسباب: "أحدها" العناد من الرؤساء. "ثانيها" التقليد من الدهماء. "ثالثها" الشبهات على الأصول الثلاثة، كزعمهم أن دعاء غير الله لا يضر إذا كان بقصد التقريب إليه تعالى والشفاعة عنده. وأن الرسول بشر مثلهم؛ فلا يعقل أن يكون رسولا من الله، وأنه تعالى لو أراد أن يبعث رسولا؛ لبعث ملكا، أو لأيَّدَهُ بملك يكون معه نذيراً. وأن البعث لا يُعْقَلُ. 2 سورة الأنعام آية: 25. 3 سورة فصلت آية: 44. 4 سورة الأعراف آية: 30. 5 سورة الكهف آية: 103.

الأكنة على قلوبهم، والوقر في آذانهم وأنه ختم على قلوبهم وأسماعهم وأبصارهم 1 فلم يعذرهم مع هذا كله، بل حكم بكفرهم، وأمر بقتالهم فقاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم - وحكم بكفرهم. فهذا يبين لك أن بلوغ الحجة نوعٌ، وفهمها نوعٌ آخر 2. وقد سئل شيخنا -رحمه الله تعالى- عن هذه المسألة فأجاب السائل بقوله: هذا من العجب العجاب، كيف تشكون في هذا، وقد وضحته لكم مرارا؟ فإن الذي لم تقم عليه الحجة هو الحديث العهد بالإسلام، والذي نشأ ببادية بعيدة، أو يكون ذلك في مسألة خفية مثل الصرف والعطف فلا يكفر حتى يعرف. وأما أصول الدين التي وضحها الله وأحكمها في كتابه، فإن حجة الله هي القرآن، فمن بلغه فقد بلغته الحجة، ولكن أصل الإشكال أنكم لم تفرقوا بين قيام الحجة وفهم الحجة، فإن أكثر الكفار والمنافقين لم يفهموا حجة الله مع قيامها عليهم، كما قال تعالى: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً} 3. وقيام الحجة وبلوغها نوعٌ وفهمها نوع آخر، وكفرهم الله ببلوغها إياهم مع كونهم لم يفهموها 4. وإن أشكل عليكم ذلك، فانظروا قوله -صلى الله عليه وسلم، في الخوارج-: "أينما لقيتموهم فاقتلوهم" مع كونهم في عصر الصحابة، ويحقر الإنسان عمل الصحابة معهم، ومع إجماع الناس فإن الذي أخرجهم من الدين هو: التشديد والغلو والاجتهاد، وهم يظنون أنهم يطيعون الله، وقد بلغتهم الحجة، ولكن لم يفهموها 5.

_ 1 هذه التمثيلات بيان بليغ لاستحواذ الكفر عليهم، وعدم رجوعهم عنه، وهو سبب العقاب لا عينه. 2 أي فهمها على الوجه المؤثر في حصول الهُدَى لا فهم الخطاب والمعنى اللغوي كما تقدم. 3 سورة الفرقان آية: 44. 4 أي فهمها على الوجه المؤثر في حصول الهدى، لا فهم الخطاب والمعنى اللغوي كما تقدم. 5 مسألة الخوارج ليست في أصول الدين الاعتقادية؛ بل هي في مسائل عملية، وقد اختلف السلف في عذرهم بالاجتهاد فيها وعدمه، والإمام علي وأصحابه لم يكفروهم، بل قاتلوهم بخروجهم عليهم، وعن أحمد وشيخ الإسلام ابن تيمية يُرجِّحَان عدمَ التكفير.

وكذلك قتل علي رضي الله عنه الذين اعتقدوا فيه الإلهية، وتحريقهم بالنار مع كونهم تلاميذ الصحابة، ومع عبادتهم وصلاحهم، وهم أيضا يظنون أنهم على حق. وكذلك إجماع السلف على تكفير أناس من غلاة القدرية وغيرهم، مع كثرة علمهم وشدة عبادتهم، وكونهم يظنون أنهم يحسنون صنعا، ولم يتوقف أحد من السلف في تكفيرهم؛ لأجل أنهم لم يفهموا، فإن هؤلاء كلهم لم يفهموا. اه كلامه –رحمه الله-. التفصيل فيمن يحكم بكفره ومن لا يحكم بكفره إذا تقرر هذا فنقول: هؤلاء الذين ماتوا قبل ظهور هذه الدعوة الإسلامية، وظاهرُ حالهم الشركُ بالله لا نتعرض لهم، ولا نحكم بكفرهم ولا بإسلامهم، بل نقول: من بلغته هذه الدعوة المحمدية، فإن انقاد لها، ووحَّد الله، وعبده وحده لا شريك له، والتزم شرائع الإسلام، وعمل بما أمره الله به، وتجنَّب ما نهاه عنه: فهذا من المسلمين الموعودين بالجنة في كل زمان، وفي كل مكان. وأما من كانت حالُه حالَ أهل الجاهلية، لا يعرف التوحيد الذي بعث الله به رسوله يدعو إليه، ولا الشرك الذي بعث الله رسوله ينهى عنه ويقاتل عليه، فهذا لا يقال: إنه مسلم؛ لجهله بل من كان ظاهر عمله: الشرك بالله، فظاهره الكفر فلا يستغفر له، ولا يتصدق عنه، وَنَكِلُ حالَه إلى الله الذي يبلو السرائر، ويعلم ما تُخْفِي الصدور، ولا نقول: فلان مات كافرا؛ لأنا نفرق بين المُعَيَّن وغيره، فلا نحكم على مُعَيَّن بكفر؛ لأنا لا نعلم حقيقة حاله وباطن أمره، بل ذلك إلى الله، ولا نَسُبُّ الأموات؛ بل نقول: أَفْضَوْا إلى ما قَدَّمُوا. وليس هذا من الدين الذي أمرنا الله به، بل الذي أمرنا به أن نعبد الله ولا نشرك به، ونقاتل من نَكَلَ عن ذلك بعد ما ندعوه إلى ما دعاه إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا أصَرَّ وعَانَدَ كَفَّرْنَاه وقاتلناه. فينبغي للطالب أن يفهم الفرق بين المُعَيَّن وغيره، فنكفر من دان بغير الإسلام جملة، ولا نحكم على معين بالنار، ونلعن الظالمين جملة، ولا نَخُصُّ معيّنًا بلعنة، كما قد ورد في الأحاديث من لعن السارق وشارب الخمر، فنلعن مَن لعنه رسول الله صلى الله عليه وسلم

جملة، ولا نخص شخصا بلعنة. يبين ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن شارب الخمر جملة، ولما جلد رجلا قد شرب الخمر، قال رجل -من القوم-: اللهم العنه، ما أكثر ما يُؤْتَى به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم "لا تلعنوه فوالله ما علمت إلا أنه يحب الله ورسوله "1. فصل في إقرار العلماء لبدع القبور والموالد وأما قوله: {ومنها أن كثيرا من العلماء الكبار فعلوا هذا الأمر، وَفُعِلَتْ بحضرتهم ولم ينكروا. من ذلك تتابعهم على بناء القباب على القبور، واتخاذها أعيادا في الغالب، فلكل شيخ يوم معروف في شهر معلوم، يؤتى إليه من النواحي، وقد يحضر بعض العلماء ولا ينكر". "فالجواب" من وجوه: "الوجه الأول" أن يقال: قد افترض الله على العلماء طاعة رسوله صلى الله عليه وسلم وأخبر أن من أطاعه فقد أطاع الله، فقال تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} 2 وقال: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} 3 وقال: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} 4 وقال: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} 5 وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} 6. فإذا اختلف الناس في شيء من أمور الدين، هل هو واجب أو محرم، أو جائز؟ وجب رد ما وقع فيه النزاع والاختلاف إلى الله والرسول، ويجب على المؤمن إذا دُعِيَ إلى ذلك أن يقول: سَمْعًا وطاعة، قال تعالى: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} 7. فنحن نحاكم مَن نازَعنا في هذه المسألة وغيرها من المسائل إلى الله والرسول، لا إلى أقوال الرجال وآرائهم.

_ 1 البخاري: الحدود "6780". 2 سورة النساء آية: 80. 3 سورة آل عمران آية: 31. 4 سورة النور آية: 54. 5 سورة الحشر آية: 7. 6 سورة النساء آية: 59. 7 سورة النور آية: 51.

الأحاديث في تسوية القبور وحظر البناء وإيقاد السرج عليها فنقول لمن أجاز بناء القباب على القبور بالجص والآجر، وأسرجها، وفرشها بالرخام، وعلق عليها القناديل الفضة، وبيض النعام، وكساها كما يُكْسَى بيت الله الحرام-: هل أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا وحثَّ عليه، أم نَهَى عنه، وأمر بإزالة ما وضع من ذلك عليه؟ فما أمرنا به ائتمرنا، وما نهانا عنه انتهينا، وسنته هي الحاكمة بيننا وبين خصومنا في محل النزاع. فنقول: قد ثبت في صحيح مسلم عن أبي الهياج الأسدي قال: قال لي علي بن أبي طالب رضي الله عنه "ألا أبعثك على مابعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا أدع تمثالا إلا طمسته، ولا قبرا مشرفا إلا سويته" 1. وفي صحيحه أيضا عن ثمامة بن شفي الهمداني، قال: كنا مع فضالة بن عبيد بأرض الروم، فَتُوُفِّيَ صاحب لنا، فأمر فضالة بن عبيد بقبره فَسُوِّيَ، ثم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر بتسويتها. وفي صحيحه أيضا عن جابر بن عبد الله قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تجصيص القبر، وأن يقعد عليه، وأن يبنى عليه" 2. وروى أبو داود في سننه والترمذي عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم " نهى أن تجصص القبور، وأن يكتب عليها" 3 قال الترمذي: حديث حسن صحيح. وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج" 4 رواه الإمام أحمد وأهل السنن. فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البناء عليها، وأمر بهدمه بعد ما يُبْنَى، ونهى عن الكتابة عليها، ولعن من أسرجها، فنحن نأمر بما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم من تسويتها، وننهى عن البناء عليها، كما نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو الذي افترض الله علينا طاعته واتباعه، وأما غيره فَيُؤْخَذُ من قوله ويُتْرَكُ، كما قال الإمام مالك: "كل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله -صلى الله عليه وسلم -".

_ 1 مسلم: الجنائز "969" , والترمذي: الجنائز "1049" , وأبو داود: الجنائز "3218" , وأحمد "1/89 ,1/96 ,1/111 ,1/128 ,1/145". 2 مسلم: الجنائز "970" , والترمذي: الجنائز "1052" , والنسائي: الجنائز "2027 ,2028 ,2029" , وأبو داود: الجنائز "3225" , وابن ماجه: ما جاء في الجنائز "1562 ,1563" , وأحمد "3/295 ,3/332 ,3/339 ,3/399". 3 مسلم: الجنائز "970" , والترمذي: الجنائز "1052" , والنسائي: الجنائز "2028 ,2029" , وأبو داود: الجنائز "3225" , وابن ماجه: ما جاء في الجنائز "1562 ,1563" , وأحمد "3/295 ,3/332 ,3/339". 4 الترمذي: الصلاة "320" , والنسائي: الجنائز "2043" , وأبو داود: الجنائز "3236" , وابن ماجه: ما جاء في الجنائز "1575" , وأحمد "1/229 ,1/287 ,1/324 ,1/337".

وقال الإمام أحمد: "لا تقلد في دينك أحدا، ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه فَخُذْهُ، ثم التابعين بعدُ: فالرجل فيهم مُخَيَّر"وقال أيضا: "لا تقلدوني ولا تقلدوا مالكا، ولا الثوري ولا الأوزاعي، وخذ من حيث أخذوا". لا يحل لمسلم ترك حديث الرسول لقول أحد والعجب ممن يسمع هذه الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في النهي عن تعظيم القبور وعقد القباب عليها بالجص والآجر وإسراجها، ولعن من أسرجها ثم يقول: فُعِلَتْ هذه الأمور بحضرة العلماء الكبار ولم ينكروا، كأنه لم يسمع ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك. قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: "يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء"أقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقولون: قال أبو بكر وعمر؟. وقال الإمام أحمد: عجبت لقوم عرفوا الإسناد وصحته يذهبون إلى رأي سفيان، والله -تعالى- يقول: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} 1 أتدري ما الفتنة؟ الفتنة: الشرك، لعله إذا رد بعض قوله أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك. فإذا كان هذا كلام ابن عباس فيمن عارض السنة بقول أبي بكر وعمر، وكلام أحمد فيمن ذهب إلى رأي سفيان فكيف بمن عارض السنة بقول فلان وفلتان، وقد روى البيهقي عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن أشد ما أتخوف على أمتي ثلاث: زلة عالم، وجدال منافق بالقرآن، ودنيا تقطع أعناق الرجال" 2. ومن المعلوم أن المخوف في زلة العالم تقليده فيها؛ إذ لولا ذلك لم يخف من زلة العالم على غيره. فإذا عرف أنها زلة لم يجز له أن يتبعه فيها باتفاق العلماء، فإنه اتباعٌ للخطأ على عمد. وقال عمر بن الخطاب –رضى الله عنه-: "يُفْسِد الزمانَ ثلاثةٌ: أئمة مُضلون، وجدال منافق بالقرآن- والقرآن حق- وزلة العالم"3. فإذا صح، وثبت أن العالم يَزِلُّ ويُخْطِئُ لم يجز لأحد أن يفتي ويدين الله بقولٍ لا يعرف وجهه، فكيف إذا عارض بقوله أو فعله قولَ رسول الله صلى الله عليه وسلم أو فعله؟

_ 1 سورة النور آية: 63. 2 الدارمي: المقدمة "649". 3 الدارمي: المقدمة "649".

إيثار أخذ العلم عن السلف وعلماء القرون الثلاثة "الوجه الثاني" أن يقال: إذا لم تقنع نفسك، ولم يطمئن قلبك بما جاء عن رسول الله –صلى الله عليه وسلم - وقلت: العلماء أعلم منا بالسنة وأطوع لله –تعالى- ولرسوله –صلى الله عليه وسلم - فنقول: أعلم الناس بما أمر به رسول الله –صلى الله عليه وسلم - وما نهى عنه أصحابه –رضي الله عنهم- فهم أعلم الناس بِسُنته، وأطوعهم لأمره، وهم الذين رضي الله عنهم ورضوا عنه، ورضي عمن اتبعهم بإحسان. وفي حديث العرباض بن سارية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة" 1. وفي الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "خير القرون قرني الذين بعثت فيهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم"2 وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه "من كان منكم مُسْتَنًّا فليستن بمن قد مات، فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة، أولئك أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أَبَرُّ هذه الأمة قلوبا، وأعمقها علما، وأقلها تكلفا، قوم اختارهم الله لصحبة نبيه، وإقامة دينه، فاعرفوا لهم حقهم، وتمسكوا بهديهم، فإنهم كانوا على الصراط المستقيم". وقال حذيفة بن اليمان -رضي الله تعالى عنه-: "يا معشر القراء استقيموا وخذوا طريق مَن قبلكم، فوالله لقد سُبِقْتُمْ سبقا بعيدا، ولئن أخذتم يمينا وشمالا: لقد ضللتم ضلالا بعيدا"3. فإذا احتج أحدٌ علينا بما عليه المتأخرون، قلنا: الحجة بما عليه الصحابة والتابعون الذين هم خير القرون، لا بما عليه الخلف الذين يقولون مالا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون، فهؤلاء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم هل نُقِلَ عنهم أنهم عقدوا القباب على القبور أو أسرجوها، أو خلقوها، أو كسوها الحرير، أم هذا مما حدث بعدهم من المُحْدَثات التي هي بدع وضلالات؟.

_ 1 أبو داود: السنة "4607" , والدارمي: المقدمة "95". 2 أحمد "5/357". 3 البخاري: الاعتصام بالكتاب والسنة "7282".

ومعلوم أن عندهم من قبور الصحابة الذين ماتوا في حياة رسول الله –صلى الله عليه وسلم - وبعد وفاته مالا يُحْصَى، هل بنوا على قبورهم وعظَّموها، ودَعَوْا عندها، وتمسحوا بها، فضلا عن أن يسألوها حوائجهم، ويسألوا الله بأصحابها، فمن كان عنده في هذا أثر صحيح أو حسن، فليرشدنا إليه وليدلنا عليه، وأنَّى له بذلك؟ فهذه سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في القبور وسنة خلفائه الراشدين العثور على جسد دانيال وكتابه في تستر وقد روى خالد بن سنان عن أبي العالية قال: لما فتحنا تَسْتُر 1 وجد في بيت مال الهرمز أن سريرا عليه رجل ميت عند رأسه مصحف، فأخذنا المصحف، فحملناه إلى عمر بن الخطاب، فدعا له كعبا فنسخه بالعربية. فأنا أول رجل من العرب قرأته مثل ما أقرأ القرآن. قال خالد: فقلت لأبي العالية: ما كان فيه؟ قال: سيرتكم وأموركم ولحون كلامكم وما هو كائن بعدُ. قلت: فما صنعتم بالرجل؟ قال: حفرنا بالنهار ثلاثة عشر قبرا متفرقة، فلما كان بالليل دفناه وساوينا القبور كلها مع الأرض لِنُعَمِّيهِ عن الناس لا ينبشونه. فقلت: وما يرجون منه؟ قال: كانت السماء إذا حبست عنهم أبرزوا السرير فَيُمْطَرُونَ. فقلت: مَن كنتم تظنون الرجل؟ قال: رجل يقال له دانيال. فقلت منذ كم وجدتموه مات؟ قال منذ ثلاثمائة سنة، قلت: ما كان تغير منه شيء؟ قال: لا، إلا شعرات من قفاه؛ إن لحوم الأنبياء لا تبليها الأرض ولا تأكلها السباع. ففي هذه القصة ما فعله المهاجرون والأنصار من تعمية قبرة؛ لئلا يَفْتَتِنَ به الناس، ولم يذروه للدعاء عنده والتبرك به، ولو ظفر به هؤلاء المشركون، وعلموا حقيقته لبنوا عليه وعظَّموه وزخرفوا قبره، وأسرجوه، وجعلوه وثنًا يُعْبَد، فإنهم قد اتخذوا من القبور أوثانا مَن لا يُدَانِي هذا ولا يقاربه، بل لعله عدو لله، وأقاموا لها سدنة، وجعلوها معابد، واعتقدوا أن للصلاة عندها والدعاء حولها والتبرك بها

_ 1 بلد بالعراق العجمي.

فضيلة مخصوصة ليست في المساجد. ولو كان الأمر كما زعموا، بل لو كان مباحا لنصب المهاجرون والأنصار هذا القبر علما وَلَمَا أَخْفَوْهُ خشية الفتنة به، بل لدَعَوْا عنده، وبيَّنُوه لمن بعدهم، ولكن كانوا أعلم بالله ورسوله ودينه من هؤلاء الخلوف الذين أضاعوا الصلاة، واتبعوا الشهوات، أو صرفوا لغير الله أجلَّ العبادات. وما أحسن ما قال الإمام مالك -رحمه الله تعالى-: "لن يُصْلِح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها"ولكن كلما نقص تمسكهم بسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم وهديه وسنة خلفائه الراشدين، تَعَوَّضُوا عن ذلك بما أحدثوه من البدع والشرك. ومن له خبرةٌ بما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم عند زيارة القبور، وما يُفْعَل بها، وبما يفعل عندها، وبما كان عليه الصحابة -رضي الله عنهم-، ثم وَازن بين هديه صلى الله عليه وسلم وهدي أصحابه وبين ما عليه المتأخرون اليوم، وما يفعلونه عند القبور، تبين له ما بينها من التباين والتضاد، وعلم أن بينهما من الفرق أبعد مما بين المشرق والمغرب كمل قيل: سَارَتْ مُشَرِّقَة وَسِرْتُ مُغَرِّبًا ... شَتَّانَ بين مُشَرِّق ومُغَرِّب أقوال فقهاء المذاهب في منكرات القبور "الوجه الثالث" أن يقال: قوله: إن كثيرا من العلماء فعلوا هذه الأمور، وفُعِلَتْ بحضرتهم فلم ينكروا من ذلك تتابعهم على بناء القباب على القبور. فيقال: بل قد نهوا عن ذلك، وصرحوا بكراهته والنهي عنه، وهذه كتبهم بأيدينا مُصَرِّحَة بما ذَكَرْنَا، ونحن نَسُوقُ عباراتهم بألفاظها. فأما كلام الحنابلة فقال في "الإقناع": ويستحب رفع القبر قدر شبر ويكره فوقه، ويكره البناء عليه؛ سواء لاصق البناء الأرض أو لا، ولو في ملكه، من قبة أو غيرها؛ للنهي عن ذلك. وقال ابن القيم -رحمه الله تعالى- في إغاثة اللهفان: ويجب هدمُ القباب التي على القبور؛ لأنها أُسِّسَتْ على معصية الرسول. انتهى. وهو في المسألة أشد تحريما، قال الشيخ: هو غاصب. وقال أبو حفص: تحرم الحجرة بل تُهْدَم

وهو الصواب. انتهى كلامه في "الإقناع". هذا والذي ذكره: ذكره غيرُ واحدٍ من أئمة الحنابلة فلا حاجة إلى الإطالة بنقل عباراتهم. وأما كلام الشافعية فقال الأذرعي -رحمه الله- في قوت المحتاج إلى شرح المنهاج عند قول المؤلف-: ويكره تجصيص القبر والبناء والكتابة عليه. ثبت في صحيح مسلم النهي عن التجصيص والبناء، وفي الترمذي وغيره النهيُ عن الكتابة، وعبارة الحلوانية: ممنوعٌ منهما. وعبارة القاضي ابن كج: ولا يجوز أن تجصص القبور، ولا أن يُبْنَى عليها قِبَابٌ، ولا غير قباب، والوصية بها باطلة. وقال أبو يعلى الموصلي في مسنده: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا زيد بن الحباب حدثنا جعفر بن إبراهيم من ولد ذي الجناحين حدثنا علي بن الحسين أنه رأى رجلا يجيء إلى فرجة كانت عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم فيدخل فيها، فيدعو فنهاه فقال: ألا أحدثكم بحديث سمعته من أبي عن جدي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تتخذوا قبري عيدا، ولا بيوتكم قبورا، وسلموا عليَّ، فإن تسليمكم يبلغني أينما كنتم" 1 رواه أبو عبد الله محمد بن عبد الواحد المقدسي في مختاراته التي اختارها من الأحاديث الجياد الزائدة على الصحيحين. وقال سعيد بن منصور في السنن: حدثنا حبان بن علي حدثني محمد بن عجلان عن أبي سعيد مولى المهري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا تتخذوا بيتي عيدا، ولا بيوتكم قبورا، وصلوا عليَّ حيثما كنتم فإن صلاتكم تبلغني" 2. وقال سعيد: حدثنا عبد العزيز بن محمد أخبرني سهيل بن أبي سهيل قال: رآني الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عند القبر فناداني-وهو في بيت فاطمة يتعشى- فقال: هلم إلى العشاء، فقلت: لا أريده، فقال: ما لي رأيتك عند القبر؟ فقلت: سلمت على النبي –صلى الله عليه وسلم - فقال: إذا دخلت المسجد فسلم، ثم قال: إن رسول الله –صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تتخذوا قبري عيدا، ولا تتخذوا بيوتكم مقابر، لعن الله اليهود

_ 1 أبو داود: المناسك "2042" , وأحمد "2/367". 2 أبو داود: المناسك "2042" , وأحمد "2/367".

والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، وصلوا عليَّ فإن صلاتكم تبلغني حيثما كنتم، ما أنتم ومن بالأندلس إلا سواء". فهذان المرسلان من هذين الوجهين المختلفين يدلان على ثبوت الحديث، لا سيما، وقد احتج به مَن أرسله، وذلك يقتضي ثبوته عنده، هذا لو لم يكن روي مُسْنَدًا من وجوه غير هذا، فكيف وقد تقدم مُسْنَدًا؟. نهي النبي عن اتخاذ القبور مساجد وقبره عيدا ووجه الدلالة منه أن قبر رسول الله –صلى الله عليه وسلم - أفضل قبر على وجه الأرض، وقد نَهَى عن اتخاذه عيدا فقبر غيره أولى بالنهي كائنا من كان، ثم إنه قَرَنَ ذلك بقوله: "ولا تتخذوا بيوتكم قبورا" 1 أي: لا تعطلوها من الصلاة فيها والدعاء والقراءة، فتكون بمنزلة القبور، فأمر بتحري النافلة في البيوت ونهى عن تحري العبادة عند القبور. وهذا ضد ما عليه المشركون، ثم إنه عَقَّبَ النهي عن اتخاذها عيدا بقوله: " وصلوا عليَّ حيثما كنتم فإن صلاتكم تبلغني" 2 يشير بذلك إلى أن ما يَنَالني منكم من الصلاة والسلام يحصل مع قربكم من قبري وبُعْدكم، فلا حاجة إلى اتخاذه عيدا. وقد حَرَّفَ هذه الأحاديث بعض مَن أخذ شَبَهًا من النصارى بالشرك، وشَبَهًا من اليهود بالتحريف، فقال: هذا أمر بملازمة قبره، والعكوف عنده واعتياد قصده وانتيابه، ونهى أن يجعل كالعيد الذي إنما يكون من الحول إلى الحول، بل اقصدوه كل ساعة، وكل وقت، وهذا مراغمة ومحادَّة ومناقضة لما قصده الرسول صلى الله عليه وسلم وقلبٌ للحقائق، ونسبة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى التدليس والتلبيس والتناقض، فقاتل الله أهل الباطل أنى يؤفكون. ولا ريب أن ارتكاب كل كبيرة بعد الشرك أسهلُ إثما وأخف عقوبة من تعاطي مثل ذلك في دينه وسنته، وهكذا غُيِّرَتْ أديان الرسل، ولولا أن الله أقام لدينه أنصارا وأعوانا يَذُبُّونَ عنه لجرى عليه ما جرى على الأديان قبله، ولو

_ 1 البخاري: الصلاة "432" , ومسلم: صلاة المسافرين وقصرها "777" , والترمذي: الصلاة "451" , والنسائي: قيام الليل وتطوع النهار "1598" , وأبو داود: الصلاة "1448" , وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها "1377" , وأحمد "2/6 ,2/16 ,2/122". 2 أبو داود: المناسك "2042" , وأحمد "2/367".

أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قاله هؤلاء الضلال لم يَنْهَ عن اتخاذ قبور الأنبياء مساجد ويلعن فاعل ذلك، فإنه إذا لعن من اتخذها مساجد يُعْبَد الله فيها، فكيف يأمر بملازمتها والعكوف عندها، وأن يعتاد قصدها وانتيابها، ولا تجعل كالعيد الذي يجيء من الحول إلى الحول، وكيف يسأل ربه أن لا يجعل قبره وثنًا يعبد؟ وكيف يقول أعلم الخلق بذلك: "ولولا ذلك لأبرز قبره ولكن خشي أن يتخذ مسجدا"وكيف يقول: "لا تجعلوا قبري عيدا، وصلوا عليَّ حيثما كنتم؟ ". وكيف لم يفهم أصحابه وأهل بيته من ذلك ما فهمه هؤلاء الضلال الذين جمعوا بين الشرك والتحريف. وهذا أفضل التابعين من أهل بيته علي بن الحسين –رضي الله عنه- نهى ذلك الرجل أن يتحرى الدعاء عند قبره –صلى الله عليه وسلم - بالحديث، وهو الذي رواه وسمعه من أبيه الحسين عن جده علي رضي الله عنه وهو أعلم بمعناه من هؤلاء الضلال. وكذلك ابن عمه الحسن بن الحسن شيخ أهل بيته كره أن يقصد الرجلُ القبرَ إذا لم يُرِدْ المسجدَ، ورأى أن ذلك مِن اتخاذه عيدا. فانظر إلى هذه السنة كيف مخرجها من أهل البيت، وأهل البيت الذين لهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم قرب نَسَبِيّ وقرب الدار؛ لأنهم إلى ذلك أحوج من غيرهم وكانوا له أضبط. والعيد إذا جعل اسما للمكان فهو المكان الذي يُقْصَد الاجتماع فيه وانتيابه للعبادة عنده، أو لغير العبادة، كما أن المسجد الحرام ومزدلفة وعرفة جعلها الله عيدا مثابة للناس يجتمعون فيها وينتابونها للدعاء والذكر والنسك، وكان المشركون لهم أمكنة ينتابونها للاجتماع عندها، فلما جاء الإسلام مَحَا ذلك كله.

فصل في مفاسد اتخاذ القبور أعيادا واعلم أن في اتخاذ القبور أعيادا من المفاسد العظيمة، التي لا يعلمها إلا الله، ما يغضب لأجله كل مَن في قلبه وقار لله وغيرة على التوحيد، فمن ذلك الصلاة إليها والطواف بها، وتقبيلها واستلامها، وتعفير الخدود على ترابها، والاستغاثة بأصحابها وسؤالهم الرزق والنصر والعافية وقضاء الديون، وتفريج الكُرُبَات وإغاثة اللهفات. وغير ذلك من أنواع الطلبات، التي كان عباد الأصنام يسألونها أوثانهم، وهذا هو عين الشرك الأكبر الذي بعث الله رسوله ينهى عنه ويقاتل أهله، ومن مات عليه كان من أهل النار- عياذا بالله من ذلك. وكان مبدأ هذا الداء العظيم في قوم نوح؛ لما غلوا في الصالحين، كما أخبر الله عنهم في كتابه حيث قال: {وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُوَاعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً} 1. قال ابن جرير: وكان من خبر هؤلاء ما حدثناه ابن حميد حدثنا مهران عن سفيان عن موسى عن محمد بن قيس أن يغوث ويعوق ونسرا كانوا قوما صالحين من بني آدم، وكان لهم أتباع يقتدون بهم، فلما ماتوا قال أصحابهم -الذين يقتدون بهم-: لو صوَّرْنَاهم كان أشوق لنا إلى العبادة إذا ذكرناهم، فصوَّروهم، فلما ماتوا، وجاء آخرون دَبَّ إليهم إبليس فقال: إنما كانوا يعبدونهم وبهم يُسْقَوْنَ المطر فعبدوهم. وقال غير واحد من السلف: كان هؤلاء قوما صالحين في قوم نوح، فلما ماتوا عكفوا على قبورهم، ثم صوروا تماثيلهم، ثم طال عليهم الأمد فعبدوهم فهؤلاء جمعوا بين الفتنتين: فتنة القبور وفتنة التماثيل، وهما الفتنتان اللتان أشار إليهما النبي صلى الله عليه وسلم لما ذكرت له أم سلمة كنيسة رأتها بأرض الحبشة، وما فيها من الصور، فقال: "أولئك إذا مات فيهم العبد الصالح أو الرجل الصالح بَنَوْا على قبره مسجدا، وصوَّرُوا فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله" 2 وهذا كان سبب عبادة اللات، فروى

_ 1 سورة نوح آية: 23. 2 البخاري: الصلاة "434" , ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة "528" , والنسائي: المساجد "704" , وأحمد "6/51".

ابن جرير بإسناده عن منصور عن مجاهد {أَفَرَأَيْتُمُ الَلاتَ وَالْعُزَّى} 1 قال: "كان يَلُتُّ السويق للحاج، فمات فعكفوا على قبره". وكذلك قال أبو الجوزاء عن ابن عباس:" كان يَلُتُّ السويق للحاج". فقد رأيت أن سبب عبادة يغوث ويعوق ونسرا واللات إنما كان سبب تعظيم قبورهم، اتخذوا لها تماثيل، ثم عبدوها. أصل الشرك عبادة الصالحين بتعظيم قبورهم قال أبو العباس ابن تيمية -قدَّس الله روحه-: وهذه العلة التي لأجلها نهى الشارع عن اتخاذ المسجد على القبور، هي التي أوقعت كثيرا من الأمم إما في الشرك الأكبر أو فيما دونه من الشرك، فإن الشرك بغير الرجل الذي يُعْتَقَدُ صلاحه أقرب إلى النفوس من الشرك بخشبة أو حجر؛ ولهذا تجد أهل الشرك كثيرا يتضرعون عندها، ويخشونها، ويعبدونها بقلوبهم عبادة لا يفعلونها في بيوت الله، ولا وقت السحر، ومنهم من يسجد لها، وأكثرهم يرجون من بركة الصلاة عندها ما لا يرجون في المساجد؛ فلأجل هذه المفسدة حسم النبي صلى الله عليه وسلم مادتها حتى نهى عن الصلاة وقت طلوع الشمس، وإن لم يقصد ما قصده المشركون سدا للذريعة، قال: وأما إن قصد الرجل بالصلاة عند القبر تبرُّكا بالصلاة في تلك البقعة، فهذا عين المحادة لله ورسوله والمخالفة لدينه، وابتداع دين لم يأذن به الله، فإن المسلمين قد أجمعوا على أن الصلاة عند القبور منهي عنها، وأنه لعن من اتخذها مساجد. فمن أعظم المحدثات، وأسباب الشرك الصلاة عندها، واتخاذها مساجد، وبناء المساجد عليها، وقد تواترت النصوص عن النبي صلى الله عليه وسلم بالنهي عن ذلك، والتغليظ فيه، بل نهى عن ذلك في آخر حياته، ثم إنه لعن وهو في السياق 2 من فعل ذلك من أهل الكتاب ليحذر أمته أن يفعلوا ذلك. قالت عائشة -رضي الله عنها-: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي لم يقم

_ 1 سورة النجم آية: 19. 2 أي: وهو يعالج سكرات الموت.

منه: "لعن الله اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، ولولا ذلك لأبرز قبره، غير أنه خَشِيَ أن يُتَّخَذَ مسجدا" 1 متفق عليه وقولها: "خشي" هو بضم الخاء المعجمة تعليلا لمنع إبراز قبره. نهي النبي عن الجلوس والصلاة على القبور وأبلغ من هذا أنه نهى عن الصلاة إلى القبر، فلا يكون القبر بين المصلي وبين القبلة، فروى مسلم في صحيحه عن أبي مرثد الغنوي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تجلسوا على القبور، ولا تصلوا إليها" 2 وفي هذا إبطال قول مَنْ زعم أن النهي عن الصلاة فيها لأجل النجاسة، فهذا أبعد شيء عن مقاصد الرسول صلى الله عليه وسلم وهو باطل من عدة أوجه: منها: أن الأحاديث كلها ليس فيها فرق بين المقبرة الحديثة والمنبوشة، كما يقوله المعللون بالنجاسة. ومنها: أنه صلى الله عليه وسلم لعن اليهود والنصارى على اتخاذ قبور أنبيائهم مساجد، ومعلوم قطعا أن هذا ليس لأجل النجاسة؛ لأن قبور الأنبياء من أطهر البقاع، وليس للنجاسة عليها طريق، فإن الله حرَّم على الأرض أن تأكل أجسادهم، فهم في قبورهم طريون، ومنها أنه نهى عن الصلاة إليها. ومنها: أنه أخبر أن الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام، ولو كان ذلك لأجل النجاسة لكان ذكر الحشوش والمجازر أولى من ذكر القبور. ومنها: أنه لعن المتخذين عليها المساجد والسرج، ولو كان ذلك لأجل النجاسة لأمكن أن يتخذ عليها المسجد مع تطيينها بطين طاهر، وهذا باطل قطعا. وبالجملة فمن له معرفة بالشرك وأسبابه، وفهم عن الرسول مقاصده جزم جزما لا يحتمل النقيض أن هذه المبالغة واللعن والنهي ليس لأجل النجاسة، بل هو لأجل الشرك، فإن هذا وأمثاله منه صلى الله عليه وسلم صيان لحمى التوحيد، فأبى المشركون إلا معصية لأمره وارتكابا لنهيه، ومن جمع بين سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في القبور وما أمر به وما نهى عنه وبين ما عليه أكثر الناس اليوم رأى أحدهما مضادا للآخر،

_ 1 البخاري: الصلاة "436" , ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة "531" , والنسائي: المساجد "703" , وأحمد "1/218 ,6/34 ,6/80 ,6/121 ,6/146 ,6/252 ,6/255 ,6/274" , والدارمي: الصلاة "1403". 2 مسلم: الجنائز "972" , والترمذي: الجنائز "1050" , والنسائي: القبلة "760" , وأبو داود: الجنائز "3229" , وأحمد "4/135".

مناقضا له، فإنه نهى عن الصلاة إليها، وهؤلاء يصلون عندها، ونهى عن اتخاذها مساجد، وهؤلاء يبنون عليها المساجد، ويسمونها مشاهد مضاهاة لبيوت الله، ونهى عن إيقاد السرج عليها، وهؤلاء يوقفون الوقوف على إيقاد القناديل عليها، ونهى أن تُتَّخَذَ عيدا، وهؤلاء يتخذونها أعيادا ومناسك يجتمعون لها كاجتماعهم للعيد أو أكثر، وأمر بتسويتها وهؤلاء يرفعونها ويبنون عليها القباب، ونهى عن الكتابة عليها، وهؤلاء يكتبون عليها القرآن وغيره، ونهى أن يزاد عليها غير ترابها، وهؤلاء يزيدون سوى التراب والآجر والأحجار والجص، فأهل الشرك مناقضون لما أمر به الرسول صلى الله عليه وسلم في أهل القبور، وفيما نهى عنه، محادون له في ذلك. فإذا نهى الموحدون عما نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم من تعظيمها، والصلاة عندها، وإسراجها، والبناء عليها، والدعاء عندها، وما هو أعظم من ذلك، مثل بناء المساجد عليها ودعائها، وسؤالها قضاء الحاجات، وإغاثة اللهفات، غضب المشركون، واشمأزَّت قلوبهم، وقالوا: قد تنقَّص أهل الرتب العالية، وزعم أنهم لا حرمة لهم ولا قدر، وسرى ذلك في نفوس الجهال الطغام حتى عادوا أهل التوحيد، ورموهم بالعظائم، ونفَّروا الناس عن دين الإسلام، ووالوا أهل الشرك وعظَّموهم {وَيَأْبَى اللَّهُ إِلا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} 1. فصل في إتيان القبور في يوم معلوم وأما قوله: "فلكل شيخ يوم معروف، في شهر معلوم، يُؤْتَى إليه من النواحي، وقد يحضر بعض العلماء فلا ينكر" فنقول: أما قوله: "فلكل شيخ يوم معروف، في شهر معلوم" فقد قدَّمنا الجواب عن ذلك، وبينا أن ذلك من اتخاذها أعيادا، وأنه مما نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن العيد

_ 1 سورة التوبة آية: 32، 33.

ما يعتاد مجيئه وقصده من زمان ومكان، فالزمان كقوله صلى الله عليه وسلم "يوم عرفة ويوم النحر وأيام مِنى عيدنا أهل الإسلام" 1 رواه أبو داود وغيره. وأما المكان فكما روى أبو داود في سننه أن رجلا قال: "يا رسول الله: إني نذرت أن أنحر إبلا بِبُوَانَةَ 2. فقال: أَبِها وثن من أوثان المشركين، أو عيد من أعيادهم. قال: لا. قال: فأوف بنذرك"وكقوله: "لا تجعلوا قبري عيدا" فالعيد مأخوذ من المعاودة والاعتياد، فإذا كان اسما للمكان فهو المكان الذي يقصد الاجتماع فيه، وإتيانه للعبادة أو لغيرها، كما أن المسجد الحرام ومِنى ومزدلفة وعرفة والمشاعر جعلها الله عيدا للحنفاء، كما جعل أيام التعبد فيها عيدا. فإتيان القبور في يوم معلوم، من شهر معلوم، والاجتماع لذلك بدعة لم يشرعها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يفعلها الصحابة ولا التابعون لهم بإحسان، سواء ذلك في البلد أو خارجا عنه. وأما قوله: {يُؤْتَى إليه من النواحي" فنقول: وهذا –أيضا- بدعة مذمومة لم يفعلها الصحابة ولا التابعون لهم بإحسان. زيارة القبور الشرعية والبدعية وبيان ذلك أن زيارة القبور نوعان: زيارة شرعية، وزيارة بدعية شركية، فالزيارة الشرعية مقصودها ثلاثة أشياء: {أحدها": تذكير الآخرة والاتعاظ والاعتبار. {والثاني": الإحسان إلى الميت في أن لا يطول عهده به؛ فيهجره ويتناساه، فإذا زاره وأهدى إليه هدية من دعاء أو صدقة سُرَّ الميت بذلك، كما يسرُّ الحي من يزوره ويهدي له؛ ولهذا شرع النبي صلى الله عليه وسلم للزائر أن يدعو لأهل القبور بالمغفرة والرحمة، ولا يشرع أن يدعوهم ولا يدعو بهم ولا يصلي عندهم. "الثالث": إحسان الزائر إلى نفسه باتباع السنة والوقوف عند ما شرعه الرسول -صلى الله عليه وسلم -؛ فيحسن إلى نفسه، وإلى المزور.

_ 1 الترمذي: الصوم "773" , والنسائي: مناسك الحج "3004" , وأبو داود: الصوم "2419" , وأحمد "4/152" , والدارمي: الصوم "1764". 2 هضبة من وراء ينبع.

وأما الزيارة البدعية الشركية فأصلها مأخوذ من عبادة الأصنام، وهو أن يقصد قبر صالح في الصلاة عنده، أو الدعاء عنده، والدعاء به، أو طلب الحوائج منه، أو الاستغاثة به، ونحو ذلك من البدع التي لم يشرعها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا فعلها أحد من الصحابة ولا التابعين لهم بإحسان -كما تقدم بيانه مبسوطا-. ثم اعلم أن الزيارة الشرعية هي التي لا تُشَدُّ لها الرحال، فإن كانت تشد رحال فهي زيارة بدعية، لم يأمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا فعلها الصحابة، بل قد نهى عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم كما ثبت عنه في الصحيحين أنه قال: "لا تُشَدُّ الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد، المسجد الحرام، والمسجد الأقصى، ومسجدي هذا" 1 وهذا الحديث اتفق الأئمة على صحته والعمل به. زيارة مسجد قباء لأهل المدينة فلو نذر رجل أن يصلي في المسجد، أو يعتكف فيه، أو يسافر إليه لم يجب عليه ذلك باتفاق الأئمة حتى نص بعض العلماء على أن لا يسافر إلى مسجد قباء؛ لأنه ليس من الثلاثة، مع أن مسجد قباء تُسْتَحَبُّ زيارته لمن كان بالمدينة؛ لأن ذلك ليس بشد رحل، كما في الصحيح: "مَنْ تَطَهَّرَ في بيته، ثم أتى مسجد قباء، لا يريد إلا الصلاة فيه، كان كعمرة" 2 قالوا: ولأن السفر لزيارة الأنبياء، وقبور الصالحين بدعة لم يفعلها أحد من الصحابة والتابعين، ولا أمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا استحبَّها أحد من أئمة المسلمين، فمن اعتقد ذلك عبادة وفعلها فهو مخالف للسنة، وإنما اختلف العلماء أتباع الأئمة في الجواز بعد اتفاقهم أنه ليس مشروعا ولا مستحبا. فالمتقدمون منهم قالوا: لا يجوز السفر إليها، ولا تقصر الصلاة في هذا السفر؛ لأنه معصية، وهذا قول أبي عبد الله بن بطة، وأبي الوفاء بن عقيل، وطوائف كثيرة. وذهب طائفة من متأخري أصحاب أحمد والشافعي إلى جواز السفر إليها كأبي حامد الغزالي وابن عبدوس وأبي محمد المقدسي، وأجابوا عن حديث: "لا تشد الرحال" 3 بأنه لنفي الاستحباب والفضيلة، وردَّ عليهم الجمهور من وجهين:

_ 1 البخاري: الجمعة "1189 ,1197" والحج "1864" والصوم "1996" , ومسلم: الحج "827" , والترمذي: الصلاة "326" , وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها "1410" , وأحمد "3/78". 2 النسائي: المساجد "699" , وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها "1412" , وأحمد "3/487". 3 البخاري: الجمعة "1189" , وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها "1410" , وأحمد "3/45".

"أحدهما": أن هذا تسليم منهم أن هذا السفر ليس بعمل صالح، ولا قربة ولا طاعة، ومن اعتقد أن السفر لزيارة القبور قربة وطاعة فقد خالف الإجماع، وإذا سافر لاعتقاده بأنه طاعة، فإن ذلك محرم بإجماع المسلمين، فصار التحريم من جهة اتخاذه قربة، ومعلوم أن أحدا لا يسافر إليها إلا لذلك، وأما إذا قصد بشد الرحل غرضا من الأغراض المباحة فهذا جائز. {الوجه الثاني": أن النفي يقتضي النهي، والنهي يقتضي التحريم، والأحاديث التي تذكر في زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم ضعيفة باتفاق أهل العلم بالحديث، بل هي موضوعة، فليس في زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم حديث صحيح ولا حسن، ولا يروي أهل السنن المعروفة كسنن أبي داود والترمذي والنسائي وابن ماجه في ذلك شيئا، بل ولا أهل المسانيد المعروفة كمسند أحمد وأبي داود الطيالسي وعبد بن حميد وغيرهم، ولا أهل المصنفات المعروفة كموطأ مالك وغيره، بل لمَّا سُئِلَ الإمام أحمد -وهو أعلم الناس في زمانه بالسنة- عن هذه المسألة لم يكن عنده ما يقيمه عليها إلا حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ما من رجل يُسَلِّمُ عليَّ إلا ردَّ الله علي روحي حتى أردَّ عليه السلام" 1 وعلى هذا اعتمد أبو داود في سننه. وكذلك مالك في الموطأ روى عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- أنه كان إذا دخل المسجد قال: "السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا أبا بكر، السلام عليك يا أبي، ثم ينصرف". واتفق الأئمة على أنه إذا دعا بمسجد النبي صلى الله عليه وسلم لا يستقبل قبره، وتنازعوا عند السلام عليه، فقال مالك وأحمد وغيرهم: "يستقبل قبره، ويسلم عليه"، وهو الذي ذكره أصحاب الشافعي، وأظنه منصوصا عنه، وقال أبو حنيفة: "يستقبل القبلة، ويسلم عليه"، هكذا في كتب أصحابه. وقال مالك: "لا أرى أن يقف عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم ويدعو، ولكن يسلم ويمضي".

_ 1 أبو داود: المناسك "2041" , وأحمد "2/527".

ومَنْ رخَّص منهم في الدعاء عند قبره صلى الله عليه وسلم فإنما يرخص فيما إذا سلم عليه، ثم أراد أن يدعو استقبل القبلة إما مستدبرا القبر، وإما منحرفا عنه، وهو أن يستقبل القبلة ويدعو، ولا يدعو مستقبل القبر. وهكذا المنقول عن سائر الأئمة ليس منهم من استحب للمرء أن يستقبل القبر، أعني: قبر النبي صلى الله عليه وسلم ويدعو عنده، فإذا كان هذا حالهم وفعلهم عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم فكيف بغيره؟! حدوث المشاهد للقبور بعد عصر السلف ولم يكن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولا في عصر الصحابة والتابعين مشهد يقصد بالزيارة، لا في الحجاز، ولا في الشام، ولا اليمن، ولا العراق، ولا خراسان، ولا مصر بعد ما فتح الله هذه البلاد، وصارت بلاد إسلام، وإنما حدث فيها بعد انقراض عصر السلف. وصار يوجد في كلام بعض الناس فلان تُرْجَى الإجابة عند قبره، وفلان يُدْعَى عند قبره، وبعضهم يقول: قبر فلان الترياق المجرب، ونحو ذلك مما لم يكن معروفا في عهد الصحابة والتابعين، وقائل هذا أحسن أحواله أن يكون مجتهدا في هذه المسألة ومقلدا؛ فيعفو الله عنه، أما أن هذا الذي قاله يقتضي استحباب ذلك فلا، بل يقال: هذه زلة عالم، فلا يجوز تقليده فيها إذا عرف أنها زلة؛ لأنه اتباع للخطأ على عمد، ومن لم يعرف أنها زلة فهو أعذر من العارف، وكلاهما مُفَرِّطٌ فيما أمره به ربه. قال الشعبي: قال عمر رضي الله عنه " يفسد الزمان ثلاثة: أئمة مضلون، وجدال المنافق بالقرآن -والقرآن حق-، وزلة العالم"، وقال معاذ: "احذروا زيغة الحكيم، فإن الشيطان قد يقول الضلالة على لسان الحكيم، وقد يقول المنافق كلمة الحق"، وقال:

"اجتنبوا من كلام الحكيم المشتبهات التي يقال ما هذه، ولا يثنيك ذلك عنه، فإنه لعله يراجع، وتلق الحق إذا سمعته، فإن على الحق نورا". واعلم -رحمك الله- أن الرجل الجليل الذي له في الإسلام قدم صادق، وآثار حسنة، وهو من الإسلام وأهله بمكان قد يكون منه الهفوة والزلة، وهو فيها معذور، بل مأجور لاجتهاده، فلا يجوز أن يتبع فيها، ولا يجوز أن يغمط مكانه وإمامته ومنزلته من قلوب المسلمين. قال مجاهد والحكم ومالك وغيرهم: "ليس أحد من خلق الله إلا يُؤْخَذُ من قوله ويُتْرَكُ إلا رسول الله -صلى الله عليه وسلم -". وقال سليمان التيمي: "إن أخذت برخصة كل عالم اجتمع فيك الشر كله". وقد روى كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف المزني عن أبيه عن جده قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إني لأخاف على أمتي من بعدي من أعمال ثلاثة. قالوا: وما هي يا رسول الله؟ قال: أخاف عليهم من زلة العالم، وجدال المنافق بالقرآن -والقرآن حق-، وعلى القرآن منار كأعلام الطريق". ويكفي اللبيب في هذا ما قصَّه الله –سبحانه- في كتابه عن بني إسرائيل مع صلاحهم وعلمهم: أنهم بعد ما فلق الله لهم البحر وأنجاهم من عدوهم أتوا نبيهم قائلين: {اجْعَلْ لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} 1 وكذلك ما رواه الترمذي وغيره: "أن ناسا من الصحابة في غزوة حنين أتوا عند النبي صلى الله عليه وسلم حين مروا بسدرة للمشركين يعلقون عندها وينوطون بها أسلحتهم يقال لها: ذات أنواط، فقالوا: يا رسول الله: اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط فقال: الله أكبر، إنها السنن، قلتم -والذي نفسي بيده- كما قالت بنو إسرائيل لموسى: {اجعل لنا إلها كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون} لتركبن سنن من كان قبلكم". فإذا كان هذا قد خفي عليهم مع وضوحه وبيانه، وقبلهم قوم موسى مع

_ 1 سورة الأعراف آية: 138.

صلاحهم وعلمهم، وقد اختارهم الله على علماء زمانهم 1 وخفي عليهم هذا، وقالوا: يا موسى {اجْعَلْ لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} 2 فهذا يفيد أن المسلم، بل العالم قد يقع في أشياء من الشرك، وهو لا يدري، فيفيد الحرص، وبذل الجهد في البحث عما جاء عن الله ورسوله، ولا يقلد دينه الرجال، فإنهم لن يسلموا أن يغلطوا، وأبى الله أن يصلح إلا كتابه، وأن يعصم إلا رسوله. وإذا اشتبه الحق في هذا الباب أو غيره فليدع بما رواه مسلم في صحيحه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول إذا قام يصلي من الليل: "اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اخْتُلِفَ فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم" 3. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

_ 1 إن الاعتبار في محله، وإن كان بنو إسرائيل قالوا هذا عقب خروجهم من مصر، وقبل نزول التوراة، وكانت الوثنية المصرية غالبة عليهم، ولكنهم علموا أن موسى -عليه السلام- دعا فرعون وقومه إلى عبادة الله وحده، وشاهدوا الآيات الدالة على صدقه، وكأنهم ظنوا أن الإله الذي يجعله لهم لا ينافي عبادته وحده كما يظن القبوريون من المسلمين اليوم بجهلهم، وقد قال لهم موسى: "إنكم قوم تجهلون إن هؤلاء متبر ما هم فيه وباطل ما كانوا يعملون"، ولم يمنعهم هذا العلم من عبادة العجل بعد ذلك. 2 سورة الأعراف آية: 138. 3 مسلم: صلاة المسافرين وقصرها "770" , والترمذي: الدعوات "3420" , والنسائي: قيام الليل وتطوع النهار "1625" , وأبو داود: الصلاة "767" , وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها "1357" , وأحمد "6/156".

.. رسالة فيما يدلي به العاصب من الورثة وما لا يدلي بسم الله الرحمن الر حيم من حمد بن ناصر إلى الأخ المكرم محمد بن عبد الوهاب بن صالح قاضي بلد الرياض في آخر وقت الدرعية. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: وصل خطك -وصلك الله إلى رضوانه-، وتسأل عن معنى بيت الجعبري حيث قال: وبالجهة التقديم ثم بقربه ... وبعدهما التقديم بالقوة اجعلا فاعلم أنه إذا اجتمع عصبة، فتارة يستوون في الدرجة والجهة والقوة أو لا، فإن استووا فيما ذكرنا اشتركوا في المال، وفيما أبقت الفروض، وإن لم يستووا في ذلك حجب بعضهم بعضا. والجهات سبع: البنوة، ثم بعدها الأبوة، ثم الجدودة والأخوة عند من يقول: إن الإخوة يشاركون الجد، ثم بنو الإخوة، ثم العمومة ثم الولاء، ثم بيت المال. إذا فهمت ذلك فإذا اجتمع عاصبان، فمن كانت جهته مقدمة فهو المقدم، وإن بَعُدَ على من كانت جهته مؤخرة، فإذا اجتمع ابن ابن أخ شقيق أو لأب فهو مقدم على ابن العم، وهذا معنى قول الجعبري -رحمه الله تعالى-: "فبالجهة التقديم" فإن كانوا في الجهة سواء، فالقريب درجته هو المقدم كالابن يُقَدَّمُ على ابن الابن. وكذلك لو اجتمع ابن أخ لأب مع ابن ابن أخ شقيق، فابن الأخ للأب يقدم على ابن ابن الأخ الشقيق النازل بالإجماع؛ لأن الأول أقرب، ومعنى قول الجعبري -رحمه الله تعالى-: "ثم بقربه" إذا اجتمع عاصبان من جهة واحدة، وكان أحدهما أقرب درجة، فلا شيء للبعيد كما مثَّلته لك، فإن استووا في الجهة والدرجة، وكان أحدهما أقوى -وهو الذي يدلي بقرابتين- فهو المقدم على المدلي بقرابة واحدة.

مثاله: إذا اجتمع أخ شقيق وأخ لأب فقد استويا في الجهة والدرجة، فالشقيق هو المقدم، وهذا هو يعني: أن ذا القرابتين يُقَدَّمُ على ذي القرابة الواحدة إذا استويا في الجهة والدرجة. طريقة قسمة المواريث وحاصل الأمر: أن الابن يُقَدَّمُ على ابن الابن، وأن ابن الابن مقدم على الأب في العصب، والأب مقدم على الجد مطلقا، والأب مقدم على الأخ الشقيق، والأخ الشقيق مقدم على الأخ للأب، والأخ للأب مقدم على ابن الأخ الشقيق، وابن الأخ الشقيق مقدم على ابن الأخ للأب، والأخ للأب مقدم على ابن الأخ الشقيق الذي هو أنزل منه، وبنو الإخوة الأشقاء أو لأب مقدمون على العمومة، فلا يرث العم مع ابن الأخ سواء كان ابن أخ شقيق أو لأب وإن نزل، والعم للأب لا يرث مع العم الشقيق، والعم للأب يقدم على ابن العم الشقيق؛ لأنه أقرب، وابن العم الشقيق يقدم على ابن العم للأب؛ لأنه أقوى. وأما قولك: ما معنى التماثل والتناسب، فاعلم أنه إذا كان الكسر على أكثر من فريق، ونظرت بين كل فريق وسهامه، ثم نظرت بين الرءوس والرءوس، فإنه لا يخلو من أربع أحوال: إما أن تجد بين الرءوس والرءوس مماثلة، ومعنى المماثلة هنا: المساواة في العدد كثلاثة وثلاثة، وخمسة وخمسة، وستة وستة، فهذا المماثلة، وحكمه كما قال الناظم: فخذ من المماثلين واحداً فإذا وجدت رؤساء متماثلة في العدد، فخذ رءوس أحدهما واكتفِ به، فإن لم تجد بين الرءوس والرءوس مماثلة، فانظر هل تجد بينهما مناسبة، والمناسبة هي المداخلة، ومعناها أن الأصغر يدخل في الأكبر، فإذا سلطته عليه أفناهُ من غير زيادة ولا نقصان، وذلك كاثنين وأربعة، واثنين وثمانية، أو خمسة وعشرة، وثلاثة وتسعة، هذا هو معنى المناسبة، وحكمه كما قال الناظم: ............. ... وخذ من المناسبين الزائد يعني: العدد الأكبر خذه واكتفِ به عن الأصغر، فإن لم تجد بينهما مماثلة

ولا مناسبة فانظر هل تجد بينهما موافقة؟ وهي أن يكون بينهما موافقة في جزء من الأجزاء كأربعة وستة، أو ستة وثمانية، أو ستة وتسعة، أو أربعة وعشرة، وحكم هذا النوع هو ما قال الناظم: واضرب جميع الوفق في الموافق فإذا كان معك أربعة وستة، فقد توافقا بالإنصاف، فخذ نصف أحدهما، واضربه في كامل الآخر، فتبلغ اثني عشر، وهكذا تفعل في الباقي تأخذ الوفق، فتضربه في كامل الآخر، فإن لم يكن مناسبة ولا موافقة، فقد حصل التباين، وحكمه كما قال الناظم. وخذ جميع العدد المباين ... واضربه في الثاني ولا تداهن وذلك كثلاثة وخمسة وخمسة وتسعة. انتهى. وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم. تمت. رسالة فيما يلحق بالنقدين في الزكاة وما لا يلحق فيها مما يتعامل الناس به بسم الله الرحمن الر حيم من حسن بن حسين إلى الأخ سعد العجيري. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. الخط وصل -وصلك الله إلى رضوانه-، وما سألت عنه من: هل الجدد ملحقة بالنقدين أو بالعروض؟ فنقول: اعلم أن المختار المقطوع به عند علمائنا أنها ملحقة بالعروض كالفلوس، فتكون عرضا من سائر العروض، وتحسب بقيمتها في باب الزكاة كما تحسب العروض بالقيمة، كذا قالوا، وقد اعتنوا بتمييز ما فيها من الفضة، فلم يجدوا فيها إلا القليل، وأما إلحاقها بالنقدين فهو خطأ، والقائل به قد قال شططا، إذ كيف يلحق ما ليس نقدا بالنقود؟!. وأما قول القائل: إن بعض الجدد فيه من الفضة النصف، وبعضها فضة خالصا، فهذا ممنوع غير مسلم، وتحديد صرف الريال بالسبع أو الثمان من الجدد باطل، ولو فهم هذا القائل اختيار الشيخ في مسألة مد عجوة لم يكثر فيها نجوه، والسلام، والخط على عجلة.

رسالة تنزيه الذات والصفات من درن الإلحاد والشبهات لبعض علماء نجد

رسالة تنزيه الذات والصفات من درن الإلحاد والشبهات لبعض علماء نجد الأعلام معنى قوله وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون بسم الله الرحمن الر حيم الحمد لله الذي خلق الإنسان لعبادته، وشرفه بخطابه ورسالته، وأمره ونهاه، وألهمه فجوره وتقواه، لما أراده منه وقدره عليه؛ ليكون مصيره ومنتهاه إليه، لا إله إلا هو، ولا رب سواه، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. "أما بعد": فقد قال الله -سبحانه وتعالى-: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} 1 أي: إن الله –سبحانه- غني كريم عزيز حكيم، فهو محسن إلى عبده مع غنائه عنه، يريد به الخير، ويكشف عنه الضر لا لجلب منفعة، ولا لدفع مضرة، بل رحمة منه وإحسانا، فهو –سبحانه- لم يخلق خلقه ليستكثر بهم من قلة، ولا ليعتز بهم من ذلة، ولا ليرزقوه ولا لينفعوه ولا ليدفعوا عنه، بل ما خلقهم "إلا ليعبدوه" حق عبادته. وأما العباد فإنهم لفقرهم وحاجتهم إنما يحسن بعضهم إلى بعض لحاجته وانتفاعه به عاجلا أو آجلا، ولولا تصور ذلك النفع لما أحسن إليه، فهو في الحقيقة إنما أراد الإحسان إلى نفسه، وجعل إحسانه إلى غيره وسيلة وطريقا إلى وصول ذلك الإحسان إليه، فإنه إما أن يحسن إليه لتوقع جزائه في العاجل فهو محتاج إلى ذلك الجزاء معاوضا بإحسانه، أو لتوقع حمده وشكره، فهو محسن إلى نفسه بإحسانه إلى غيره، وإما أن يريد الجزاء من الله في الآخرة، فهو –أيضا- محسن إلى نفسه بذلك كما قال –تعالى-: {إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لَأَنْفُسِكُمْ} 2 وقال –تعالى-: {مَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ} 3 وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه عن ربه عزوجل "يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني، إنما هي أعمالكم أحصيها لكم، ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيرا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن

_ 1 سورة الذاريات آية: 56، 58. 2 سورة الإسراء آية: 7. 3 سورة البقرة آية: 272.

إلا نفسه" 1 وقال –تعالى-: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً} 2 أي: لعبا وباطلا لا لحكمة، وهو منصوب على الحال، أي: عابثين، وقيل: للعبث، أي: لتلعبوا وتعبثوا كما خُلِقَت البهائم لا لثواب ولا عقاب، وهو مثل قوله: {أَيَحْسَبُ الْأِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً} 3 وإنما خلقتم للعبادة، وإقامة أوامر الله –تعالى- واجتناب نواهيه و" حسبتم: {أَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ} 4 في الآخرة لنجازيكم بما عملتم، ولولا ذلك اليوم لما تميَّز المطيع عن العاصي، والصديق عن الزنديق، ويكون هذا الخلق عبثا، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا. وأول ما يقرع سمعك في المصحف من الأمر -بعد ما بيَّن الله مراتب الخلق بين مؤمن وكافر ومنافق-: {اأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} 5 وقال –تعالى-: {اعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً} 6 أمر –تعالى- بعبادته وحده لا شريك له، فإنه الخالق الرازق المتفضل على خلقه بآلائه في جميع الحالات، فهو المستحق منهم أن يوحدوه في عبادته لا يشركوا به شيئا من مخلوقاته، كما قال صلى الله عليه وسلم لمعاذ: "أتدري ما حق الله على العباد؟ قال: الله ورسوله أعلم. قال: أن يعبدوه لا يشركوا به شيئا. ثم قال: أتدري ما حق العباد على الله إذا هم فعلوا ذلك؟ أن لا يعذبهم" 7. الاخلاص والاتباع شرطا العبادة وللعبادة شرطان: "أحدهما": الإخلاص في العمل لقوله –تعالى-: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} 8 أي: الملة المستقيمة، والشريعة المتبعة، وإنما أضاف الدين للقيمة، وهي نعته لاختلاف اللفظين، وأنَّث القيمة ردا إلى الملة، وقيل: القيمة جمع القيم. واحتجَّ بهذه الآية من قال: الإيمان عبارة عن القول والاعتقاد، والعمل هو الدين؛ لأنه –تعالى- ذكر في هذه الآية مجموع هذه الثلاثة قال: {وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} 9 أي: وذلك المذكور دين القيمة؛ لأن الدين هو الإسلام، والإسلام هو الإيمان

_ 1 مسلم: البر والصلة والآداب "2577". 2 سورة المؤمنون آية: 115. 3 سورة القيامة آية: 36. 4 سورة المؤمنون آية: 115. 5 سورة البقرة آية: 21، 22. 6 سورة النساء آية: 36. 7 البخاري: التوحيد "7373" , ومسلم: الإيمان "30" , والترمذي: الإيمان "2643" , وابن ماجه: الزهد "4296" , وأحمد "3/260 ,5/228 ,5/229 ,5/230 ,5/234 ,5/236 ,5/238 ,5/242". 8 سورة البينة آية: 5. 9 سورة البينة آية: 5.

لقوله –تعالى-: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْأِسْلامُ} 1 والإسلام هو الإيمان من وجهين. "الأول": أن الإيمان لو كان غير الإسلام لما كان مقبولا عند الله لقوله –تعالى-: {مَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْأِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} 2 ولكن الإيمان بالإجماع مقبول عند الله، فلا شك أنه عين الإسلام كما هو ظاهر. "والوجه الثاني": قوله –تعالى-: {أَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} 3. وقال بعضهم: الإشارة في ذلك راجعة إلى الإخلاص من قوله –تعالى-: {مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} 4 وأما مجموع ما تقدم فهو الدين الكامل أي: المستقل بنفسه. "والشرط الثاني": متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم بفعل ما أمر به، وترك ما نهى عنه، كما قال –تعالى-: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي} 5 وقال –تعالى-: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} 6. أولو الأمر الذين أمر الله بطاعتهم قال الأخفش في قوله: "عن أمره" صلة، والمعنى يخالفون أمره صلى الله عليه وسلم وقال غيره: عن أصلية، والمعنى يعرضون عن أمره، ويميلون عن سنته، وقال –تعالى-: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} 7. وكان سبب نزول قوله –تعالى-: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ} 8 الآية، أنه كان صلى الله عليه وسلم يُعَرِّضُ في الخطبة بالمنافقين ويعيبهم، فإذا سمع المنافقون ذلك خرجوا ولم يصلوا. "والثانية": نزلت في أموال الفيء والغنيمة، والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فهو عام في كل ما أمر به صلى الله عليه وسلم ونهى عنه من قول وعمل، كما هو جارٍ في جميع الخطاب المتعلق بأفعال المكلفين، فكيف وقد أوجب الله طاعته بقوله –تعالى-: {اأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} 9؟ قال ابن عباس وجابر: "هم الفقهاء والعلماء الذين يُعَلِّمُون الناس معالم دينهم على شريعته ومنهاجه"، وهو قول الحسن والضحاك ومجاهد مستدلين على ذلك بقوله: {وَلَوْ

_ 1 سورة آل عمران آية: 19. 2 سورة آل عمران آية: 85. 3 سورة الذاريات آية: 35، 36. 4 سورة الأعراف آية: 29. 5 سورة آل عمران آية: 31. 6 سورة النور آية: 63. 7 سورة الحشر آية: 7. 8 سورة النور آية: 63. 9 سورة النساء آية: 59.

رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ} 1. وقال أبو هريرة: "هم الأمراء والولاة الذين يُعَلِّمُون ويحكمون بما أنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم. وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه "حق على الإمام أن يحكم بما أنزل الله، ويؤدي الأمانة، فإذا فعل ذلك فحق على الرعية أن يسمعوا ويطيعوا". وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن أطاع أميري فقد أطاعني، ومن عصى أميري فقد عصاني" 2. وعن نافع عن عبد الله بن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "السمع والطاعة على المرء المسلم فيما أحب وكره ما لم يؤمر بمعصية، فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة" 3. وقال عبادة بن الصامت: "بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في اليسر والعسر، وأن نقوم –أو نقول- بالحق حيثما كنا، لا نخاف في الله لومة لائم"4. وعن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "اسمع وأطع ولو لعبد حبشي كأن رأسه زبيبة" 5. وعن أبي أمامة قال: "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب في حجة الوداع فقال: يا أيها الناس اتقوا الله، وصلوا خمسكم، وصوموا شهركم، وأدوا زكاة أموالكم، وأطيعوا ذا أَمْرِكُمْ تدخلوا جنة ربكم" 6. فطاعة هؤلاء من طاعته صلى الله عليه وسلم الواجبة على كل مكلف، وقال –تعالى-: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} 7 أي: إلى كتاب الله وإلى رسوله في حياته، وبعد وفاته إلى سنته. وجوب رد المتنازع فيه إلى الله ورسوله وقال مجاهد -وغير واحد من السلف-: هذا أمر من الله عزوجل بأن كل شيء تنازع الناس فيه من أصول الدين وفروعه يرد التنازع في ذلك إلى كتاب الله

_ 1 سورة النساء آية: 83. 2 البخاري: الأحكام "7137" , ومسلم: الإمارة "1835" , والنسائي: البيعة "4193" والاستعاذة "5510" , وابن ماجه: المقدمة "3" والجهاد "2859" , وأحمد "2/244 ,2/252 ,2/270 ,2/313 ,2/342 ,2/386 ,2/467 ,2/471 ,2/511". 3 البخاري: الأحكام "7144" , ومسلم: الإمارة "1839" , والترمذي: الجهاد "1707" , وأبو داود: الجهاد "2626" , وابن ماجه: الجهاد "2864" , وأحمد "2/17 ,2/142". 4 البخاري: الأحكام "7199" , ومسلم: الحدود "1709" , والنسائي: البيعة "4149 ,4151 ,4152 ,4153 ,4154" , وابن ماجه: الجهاد "2866" , وأحمد "3/441 ,5/318 ,5/319 ,5/325" , ومالك: الجهاد "977". 5 البخاري: الأذان "693" , وابن ماجه: الجهاد "2860" , وأحمد "3/114 ,3/171". 6 الترمذي: الجمعة "616" , وأحمد "5/251 ,5/262". 7 سورة النساء آية: 59.

وسنة رسوله، كما قال –تعالى-: {مَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} 1 فما حكم به كتاب الله وسنة رسوله فهو الحق {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ} 2؛ ولهذا قال –تعالى-: {إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} 3 أي: ردوا الخصومات والجهالات إلى كتاب الله وسنة رسوله، فتحاكموا إليهما فيما شجر بينكم إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر، فدلَّ على أن من لم يتحاكم في مجال النزاع إلى الكتاب والسنة، ولم يرجع إليهما في ذلك فليس مؤمنا بالله واليوم الآخر. فالرد إلى الكتاب والسنة واجب لصريح الأمر، وتعليق الإيمان عليه وجودا وعدما؛ لأن الوعيد عائد إلى قوله: " فردوه" والشرط جوابه محذوف عند جمهور البصريين، أي: فردوه إلى الله وهو المتقدم عند غيرهم، كما جاء الوعيد في قوله: {لا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} 4 فالوعيد عائد إلى التحكيم، و"لا" أصلية، والمعنى: ليس الأمر كما يزعمون أنهم آمنوا وهم يخالفون حكمك، ثم استأنف بعد ذلك، فعلى هذا يكون الوقف على "لا" تاما، وقيل: إن "لا" مزيدة لتأكيد معنى القسم، كما زيدت في: {لئلا يعلم} 5. وقد جاء في الحديث: "والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به". وسبب نزول هذه الآية ما رواه ابن أبي حاتم عن أبي الأسود قال: "اختصم رجلان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقضى بينهما، فقال الذي قضى عليه: ردنا إلى عمر بن الخطاب. فقال: نعم. فانطلقا إليه، فقال الرجل: يا ابن الخطاب: قضى لي رسول الله صلى الله عليه وسلم على هذا، فقال: ردنا إلى عمر فردنا إليك. فقال: أكذلك؟ فقال: نعم. فقال عمر: مكانك حتى أخرج إليكما فأقضي بينكما، فخرج إليهما مشتملا على سيفه فضرب الذي قال ردنا إلى عمر، فقتله وأدبر الآخر فارا إلى رسول الله، فقال: يا رسول الله: قتل عمر والله صاحبي، ولو ما أني أعجزته لقتلني. فقال رسول الله: كنت

_ 1 سورة الشورى آية: 10. 2 سورة يونس آية: 32. 3 سورة النساء آية: 59. 4 سورة النساء آية: 65. 5 سورة الحديد آية: 29.

ما أظن أن يتجرَّأ عمر على قتل مؤمن"فأنزل الله: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} 1 الآية. فهدر دم ذلك الرجل، وبريء عمر منه، فعلى هذا تكون الآية متعلقة بما قبلها، وهو أقرب للمقام من السبب الآتي ذكره، وبه قال مجاهد وعطاء والشعبي وغيرهم من علماء السلف. وقيل: إن هذه الآية نزلت في أنصاري مجهول، وقيل: في حاطب بن أبي بلتعة الأنصاري البدري 2 حين اختصم مع الزبير عند رسول الله في سقيا ماء، فحكم صلى الله عليه وسلم للزبير فقال حاطب: ابن عمتك، فتلوَّن وجه النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية. وعلى هذا تكون الآية مستأنفة حينئذ "الراج مسايل الماء" 3 {ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً} 4 قال مجاهد: شكا، وقال غيره: ضيقا {مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} 5 أي: انقادوا لأمرك.

_ 1 سورة النساء آية: 65. 2 ليس في البدريين من الأنصار رجل اسمه حاطب بن أبي بلتعة، وإنما فيهم حاطب بن عمرو، كذا في هامش الأصل. ولكن لهذا القيل أصلا أخرجه ابن أبي حاتم من مراسيل سعيد بن المسيب -وهي أقوى المراسيل-، قال: نزلت في الزبير بن العوام، وحاطب بن أبي بلتعة، وأخذ بهذه الرواية الثعلبي وعنه الواحدي وغيرهما، وَعُدَّ بيانا لرواية البخاري عن عروة عن عبد الله بن الزبير أنه حدَّثه أن رجلا من الأنصار خاصم الزبير عند النبي –صلى الله عليه وسلم- في شراج الجرة التي يسقون بها النخل إلخ، ولما كان حاطب هذا مهاجريا أنصاريا قال بعض العلماء في توجيه الجمع بين الروايتين: إنه كان حليفا للأنصار، وقد سمَّى هذا الأنصاري بعض الرواة بأسماء أخرى، منها قول الواحدي: إنه ثعلبة بن حاطب، وقال بعضهم: إنه كان من المنافقين، والصواب الاكتفاء باتهامه كما فعل البخاري. 3 صواب هذه الكلمة الشراج ككتاب، وهو مفرد جمعه شراج وشروج كبحار وبحور، وهي مسائل الماء التي اختصم فيها الزبير مع الأنصاري، ولم تذكر هنا، ولعلها سقطت من قلم النساخ. 4 سورة النساء آية: 65. 5 سورة النساء آية: 65.

معنى كلمة التوحيد " لا إله إلا الله " وقال صلى الله عليه وسلم "وكل ما ليس عليه أمرنا فهو رد" 1 2 وقال صلى الله عليه وسلم "إياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار" 3 أي: صاحبها فلا يعبد الله إلا بما شرع على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم. ومعنى لا إله إلا الله: توحيده في عبادته مع التبرئ من كل معبود سواه، كما أخبر الله عن نبيه إبراهيم -عليه السلام- بقوله –تعالى-: {إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ} 4 وهذا هو الذي تضمَّنه قول لا إله إلا الله، فإنما دعت الرسل أممها إلى قول هذه الكلمة، واعتقاد معناها، والعمل به لا بمجرد قولها باللسان. ومعناها: هو إفراد الله بالإلهية والعبادة، والنفي لما يُعْبَد من دونه، والبراءة منه كما حكى الله عن إبراهيم -عليه السلام -: {إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ} 5 وقال صلى الله عليه وسلم "من قال لا إله إلا الله، وكفر بما يعبد من دونه حرم ماله ودمه وحسابه على الله" 6 رواه مسلم فحينئذ من لا يكفر بكل معبود سوى الله لا يحرم دمه وماله، ولا يكون مسلما بمجرد التلفظ بلا إله إلا الله إلا إذا أضاف إليها الكفر بما يعبد من دون الله، ولا بمعرفة معناها مع التلفظ بها بل ولا كونه لا يدعو إلا الله، ولم يكفر بما يعبد من دون الله لم يكن مسلما بذلك فلا يحرم ماله ودمه، فهذا أصل لا مرية فيما تضمنه، ولا شك فيه، وأنه لا يتم إيمان أحد حتى يعلمه، ويعمل به. "فإن قيل": قد أنكر صلى الله عليه وسلم على أسامة قتله لمن قال: لا إله إلا الله؟ "فالجواب": أنه لا شك أن من قال: لا إله إلا الله من الكفار حُقِنَ دمه وماله حتى يتبين منه ما يخالف ما قاله؛ ولذا أنزل الله في قصته: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا} 7 الآية، فإن تبيَّن التزامه لمعناها، وهو إفراد الإلهية والعبودية لله –تعالى- كان له ما للمسلمين، وعليه ما عليهم، وإن تبيَّن خلافه لم يُحْقَنْ

_ 1 البخاري: الصلح "2697" , ومسلم: الأقضية "1718" , وأبو داود: السنة "4606" , وابن ماجه: المقدمة "14" , وأحمد "6/73 ,6/146 ,6/180 ,6/240 ,6/256 ,6/270". 2 المعروف من رواية البخاري ومسلم من حديث عائشة وغيرهما: "من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد". 3 أبو داود: السنة "4607" , والدارمي: المقدمة "95". 4 سورة الزخرف آية: 26، 27. 5 سورة الزخرف آية: 26، 27. 6 مسلم: الإيمان "23" , وأحمد "3/472". 7 سورة النساء آية: 94.

بمجرد التلفظ ماله ودمه، وهكذا كل من أظهر التوحيد وجب الكفُّ عنه إلى أن يتبين منه ما يخالف ذلك. وقوع الشرك في توحيد الألوهية دون الربوبية واعلم أن التوحيد قسمان: القسم الأول: توحيد الربوبية والخالقية ونحوها، ومعناه: أن الله وحده هو الخالق للعالم، وهو الرب لهم والرازق لهم، وهذا لا ينكره المشركون، ولا يجعلون لله فيه شريكا، بل هم مقرُّون به كما أخبر الله عنهم في غير موضع من كتابه. والقسم الثاني: توحيد العبادة، ومعناه: إفراد الله وحده بجميع أنواع العبادة الآتي بيانها، فهذا هو الذي جعلوا لله فيه شركاء، ولفظ شريك يشعر بالإقرار بالله –تعالى-. فالرسل -عليهم السلام- بُعِثُوا لتقرير الأول، ودعاء المشركين لله عند قولهم في خطاب المشركين: {أفِي اللَّهِ شَكٌّ} 1 {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ} 2 ولنهيهم عن شرك العبادة، وكذلك قال –تعالى-: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ} 3 أي: قائلين لأممهم: {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ} 4 وحده {وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} 5 وهو كل ما يعبد من دون الله، فأفاد بقوله –تعالى-: {فِي كُلِّ أُمَّةٍ} 6 أن جميع الأمم لم ترسل إليهم الرسل، وتبعث إلا بطلب توحيد العبادة لا للتعريف بأن الله هو الخالق للعالم، وأنه رب السماوات والأرض، فإنهم مقرون بذلك؛ ولهذا لم ترد الآيات في الغالب إلا بصيغة استفهام التقرير نحو: {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ} 7 {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ} 8 {أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} 9 {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيّاً فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} 10 {فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ} 11 {أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ} 12 استفهام تقرير لهم؛ لأنهم به مقرون. وبهذا يُعْرَف أن المشركين لم يتخذوا الأوثان والأصنام، ولم يعبدوها ولم يتخذوا المسيح وأمه، ولم يتخذوا الملائكة شركاء لله –تعالى- في خلق السماوات والأرض وفي خلق أنفسهم، بل اتخذوهم أولياء يقربونهم إلى الله زلفى كما قالوه، فهم مقرون بالله –تعالى- في نفس كلمات كفرهم، وأنهم شفعاء عند الله –تعالى: {قُلْ

_ 1 سورة إبراهيم آية: 10. 2 سورة فاطر آية: 3. 3 سورة النحل آية: 36. 4 سورة النحل آية: 36. 5 سورة النحل آية: 36. 6 سورة النحل آية: 36. 7 سورة فاطر آية: 3. 8 سورة النحل آية: 17. 9 سورة إبراهيم آية: 10. 10 سورة الأنعام آية: 14. 11 سورة لقمان آية: 11. 12 سورة فاطر آية: 40.

أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} 1 فجعل -سبحانه وتعالى- اتخاذهم للشفعاء شركا ونزَّه نفسه عنه؛ لأنه لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه، فكيف يثبتون شفعاء لم يأذن الله لهم في الشفاعة، ولا يغنون عنهم من الله شيئا؟ فصل في أنواع العبادة الأربعة ودعوة الرسل كلهم إلى جعلها كلها لله وحده والعبادة أنواع: اعتقادية –وهي أساسها-: وذلك أن يعتقد أنه الرب الواحد الأحد الذي له الخلق والأمر، وبيده النفع والضر، وأنه الذي لا شريك له، ولا يشفع عنده أحد إلا بإذنه، وأنه لا معبود بحق إلا هو، وغير ذلك مما يجب له من لوازم الإلهية. ومنها لفظية: وهي النطق بكلمة التوحيد، فَمَنْ اعتقد ما ذكر ولم ينطق بها لم يُحْقَنْ دمه ولا ماله، وكان كإبليس فإنه يعتقد التوحيد، بل ويقر به، ولم يمتثل أمر الله بالسجود فكفر، ومن نطق ولم يعتقد حُقِنَ ماله ودمه وحسابه على الله، وحكمه حكم المنافقين. وبدنية: كالقيام والركوع والسجود في الصلاة، ومنها الصوم وأفعال الحج والطواف. ومالية: كإخراج جزء من المال امتثالا لما أمر الله –تعالى- به. وأنواع الواجبات والمندوبات في الأبدان والأموال والأفعال والأقوال كثيرة، لكن هذه أمهاتها. وإذا تقررت هذه الأمور، فاعلم أن الله –تعالى- بعث الأنبياء -عليهم السلام- من أولهم إلى آخرهم يدعون العباد إلى إفراد الله بالعبادة، لا إلى إثبات أنه خلقهم ونحوه، إذ هم مقرُّون بذلك كما ذكرناه، ولم يعبدوا الأصنام بالخضوع لهم، والتقرب بالنذور والنحر لهم إلا لاعتقادهم أنها تقرِّبهم إلى الله، وتشفع لهم لديه، فأرسل الله الرسل تأمرهم بترك عبادة كل ما سواه، وأن هذا الاعتقاد الذي يعتقدونه في الأنداد باطل، والتقرب إليهم باطل، وأن ذلك لا يكون إلا لله وحده، وأمر عباده أن يقولوا: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} 2.

_ 1 سورة يونس آية: 18. 2 سورة الفاتحة آية: 5.

ولا يصدق قائل هذا إلا إذا أفرد العبادة لله، وإلا كان كاذبا منهيا عن أن يقول هذه الكلمة، إذ معناها: نخصُّك بالعبادة ونفردك بها وهو معنى قوله: {فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ} 1 و {وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ} 2 لما عرف من علم البيان أن تقديم ما حقه التأخير يفيد الحصر، أي: لا تعبدوا إلا الله ولا تعبدوا غيره، ولا تتقوا إلا الله، ولا تتقوا غيره -كما في الكشاف-. فإفراد الله –تعالى- بتوحيد العبادة لا يكون إلا بأن يتم جميعها كلها له، والنداء في الشدائد والرخاء لا يكون إلا لله وحده، والاستغاثة والاستعانة بالله وحده، واللجأ إلى الله، والنذر له، والنحر له، وجميع أنواع العبادة، ومن يفعل شيئا من ذلك لمخلوق من حي أو ميت أو جماد فقد أشرك في العبادة، وصار من يفعل له هذه الأمور إلها لعابديه، سواء كان ملكا أو نبيا أو وليا أو شجرا أو قبرا أو جنيا، وصار بهذه العبادة أو بأي نوع منها عابدا لذلك المخلوق، وإن أقرَّ بالله وعبده، فإن إقرار المشركين بالله وتقربهم إليه لم يخرجهم عن الشرك، وعن وجوب سفك دمائهم وسبي ذراريهم ونهب أموالهم، فإن الله –تعالى- أغنى الشركاء عن الشرك لا يقبل عملا شورك فيه غيره، ولا يؤمن به عبد عَبَدَ معه غيره، كما أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "يقول الله: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملا أشرك فيه معي غيري تركته وشركه" 3. وقد عرفت من هذا كله أن من اعتقد في شجر أو حجر أو قبر أو ملك أو حي أو ميت أنه ينفع أو يضر، وأنه يقرب إلى الله أو يشفع عنده في حاجة من حوائج الدنيا بمجرد التشفع به إلى الرب –تعالى-، إلا ما ورد في حديث فيه مقال في حق نبينا صلى الله عليه وسلم أو نحو ذلك- فإنه قد أشرك مع الله غيره، واعتقد ما لا يحل اعتقاده؛ لقوله –تعالى-: {مَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} 4.

_ 1 سورة العنكبوت آية: 56. 2 سورة البقرة آية: 41. 3 مسلم: الزهد والرقائق "2985" , وابن ماجه: الزهد "4202" , وأحمد "2/301 ,2/435". 4 سورة الكهف آية: 110.

وعن أنس قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "قال الله: يا ابن آدم إنك لو أتيتني بِقُرَابِ الأرض خطايا، ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا لأتيتك بقرابها مغفرة" 1 2. وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: من أراد أن ينظر إلى وصية محمد صلى الله عليه وسلم فليقرأ: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً} 3 إلى قوله: {َأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} 4. وعن معاذ بن جبل قال: "كنت رديف النبي صلى الله عليه وسلم على حمار، فقال: يا معاذ أتدري ما حق الله على العباد، وما حق العباد على الله؟ قلت: الله ورسوله أعلم. قال صلى الله عليه وسلم إن حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا، وحق العباد على الله أن لا يعذب من لا يشرك به شيئا. قلت: يا رسول الله: أفلا أبشر الناس؟ قال: لا تبشرهم فيتكلوا" 5 أخرجاه في الصحيحين. فصل في الشرك الأكبر بدعاء غير الله عز وجل الدعاء اعتراف بالعبودية والذلة والمسكنة ومما تساهل فيه الناس من أنواع العبادة دعاء المسألة الذي أخبر الله به -سبحانه وتعالى- عن موسى وهارون بقوله –تعالى-: {رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ} 6 قال العلي العظيم: {قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا} 7 أي: ما سألتماه {فَاسْتَقِيمَا} 8 على دعوة الله إلى أن يأتيهم العذاب. وأخبر -سبحانه وتعالى- عن زكريا -عليه السلام- بقوله: {كهيعص ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيّاً} 9 أي: دعا {رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيّاً} 10 أي: دعا الله سرا في

_ 1 الترمذي: الدعوات "3540". 2 رواه الترمذي وحسنه، والحاكم: وقال صحيح الإسناد. 3 سورة الأنعام آية: 151. 4 سورة الأنعام آية: 153. 5 البخاري: الجهاد والسير "2856" , ومسلم: الإيمان "30" , والترمذي: الإيمان "2643" , وابن ماجه: الزهد "4296" , وأحمد "3/260 ,5/228 ,5/229 ,5/230 ,5/234 ,5/236 ,5/238 ,5/242". 6 سورة يونس آية: 88. 7 سورة يونس آية: 89. 8 سورة يونس آية: 89. 9 سورة مريم آية: 2. 10 سورة مريم آية: 3.

قومه {قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيّاً} 1 وأخبر -سبحانه وتعالى- عن أيوب -عليه السلام- بقوله: {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ} 2 أي: دعاه {أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ} 3 وقال –تعالى-: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} 4. قال الجمهور: هو أمر بالدعاء الذي هو أخص من العبادة لقوله –تعالى-: {أَسْتَجِبْ لَكُمْ} 5 وقيل: إنه أمر بالعبادة التي هي أعم من الدعاء لقوله –تعالى-: {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي} 6 فأجيب عن ذلك بأن الدعاء اعتراف بالعبودية والذلة والمسكنة، فما يتركه إلا مستكبر عن إظهار العبودية، ولمَّا عبَّر عن العبادة بالدعاء جعل الإثابة استجابة. وعن النعمان بن بشير قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول على المنبر: "الدعاء هو العبادة، ثم قرأ {وقال ربكم ادعوني استجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين} 7 أي: صاغرين أخرجه أبو داود والترمذي، وقال حديث حسن صحيح وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "مَنْ لم يسأل الله يغضب عليه" 8 أخرجه الترمذي وعنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ليس شيء أكرم على الله من الدعاء" 9 أخرجه الترمذي. استجابة الدعاء الذي كملت شروطه فإذا استكملت شروط الدعاء حصلت الإجابة قطعا للوعد الحق؛ ولما رواه أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم "ما من رجل يدعو الله إلا استجاب له، إما أن يعجله له في الدنيا، وإما أن يدخره له في الآخرة، وإما أن يكفر عنه من ذنوبه بقدر ما دعا، ما لم يدعُ بإثم أو قطيعة رحم أو يستعجل. قالوا: يا رسول: وكيف يستعجل؟ قال: يقول: دعوت ولم يستجب لي" وقال –تعالى-: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ} 10. قال ابن عباس: قال يهود المدينة، يا محمد، كيف يسمع ربنا دعاءنا، وأنت تزعم أن بيننا وبين السماء خمسمائة عام وبين كل سماء خمسمائة عام، وغلظ

_ 1 سورة مريم آية: 4. 2 سورة الأنبياء آية: 83. 3 سورة الأنبياء آية: 83: 85. 4 سورة غافر آية: 60. 5 سورة غافر آية: 60. 6 سورة غافر آية: 60. 7 الترمذي: تفسير القرآن "3247" , وابن ماجه: الدعاء "3828". 8 الترمذي: الدعوات "3373" , وابن ماجه: الدعاء "3827". 9 الترمذي: الدعوات "3370" , وابن ماجه: الدعاء "3829". 10 سورة البقرة آية: 186.

كل سماء خمسمائة عام؟ فنزلت هذه الآية 1 وقيل: سأل بعض الصحابة النبي صلى الله عليه وسلم أقريب ربنا فنناجيه أو بعيد فنناديه؟ فنزلت هذه الآية بقوله: {فَإِنِّي قَرِيبٌ} 2 أي: بالعلم لا يخفى عليه شيء. وقال –تعالى-: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ} 3 أي: المكروب من مرض وبلاء ونازلة من نوازل الدهر، فإذا نزلت بأحد نازلة بادر إلى الالتجاء والتضرع إلى الله –تعالى-؛ فيجيب دعوته؛ فيكشف ما به من مرض وكرب وبلاء؛ لأنه لا يقدر على تغيير الحال من فقر إلى غنى، ومن مرض إلى صحة، ومن ضيق إلى سعة، إلا القادر الذي لا يعجز، والقاهر الذي لا يغلب {مَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} 4 تدعونه في جلب النفع وكشف الضر {قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ} 5 أي: تتعظون. وقال صاحب الكشاف: "الاضطرار الحال المحوجة إلى الالتجاء، اضطره إلى كذا، والفاعل والمفعول مضطر 6 وهو من أصابه مرض أو فقر أو نازل نزل به أحوجه إلى التضرع إلى الله"، وقال السيد: "الذي لا حول له ولا قوة"، والخلاف لفظي. الآيات في إبطال الشرك بدعاء غير الله وقال –تعالى-: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ} 7 أي: ادعوهم ليكشفوا عنكم الضر الذي نزل بكم فإنهم {لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ} 8 من خير وشر {هُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ} 9 أي: لا شريك ولا معين {وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} 10 تكذيبا لهم حيث قالوا: {هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا} 11. وقال –تعالى-: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ} 12 القشرة الرفيعة التي على النواة {إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا} 13 على سبيل الفرض والتقدير؛ لأن لو حرف امتناع {مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ} 14 أي: ما أجابوكم فيما

_ 1 هذا الحديث لا يصح بل هو من الإسرائيليات. 2 سورة البقرة آية: 186. 3 سورة النمل آية: 62. 4 سورة النمل آية: 62. 5 سورة النمل آية: 62. 6 يعني: أن لفظ اسم الفاعل والمفعول واحد لا يظهر الفرق بينهما في النطق لسبب الإدغام. 7 سورة سبأ آية: 22. 8 سورة سبأ آية: 22. 9 سورة سبأ آية: 22. 10 سورة سبأ آية: 23. 11 سورة يونس آية: 18. 12 سورة فاطر آية: 13. 13 سورة فاطر آية: 14. 14 سورة فاطر آية: 14.

سألتموهم {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ} 1 أي: يتبرءون منكم، ومن دعائكم {وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} 2. وقال –تعالى-: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ} 3 وذلك أن المشركين أصابهم قحط شديد حتى أكلوا الكلاب والجيف، فاستغاثوا بالنبي صلى الله عليه وسلم ليدعو لهم، فقال الله عزوجل {قُلِ} 4 للمشركين {ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ} 5 أي: الجوع والقحط {وَلا تَحْوِيلاً} 6 إلى غيركم. والمقصود من الآية حيث قالوا: ليس لنا أهلية أن نشتغل بعبادة الله، فنحن نعبد هؤلاء المقربين إلى الله، وهم الملائكة، ثم إنهم اتخذوا لذلك الملك الذي عبدوه تمثالا وصورة، واشتغلوا بعبادته، فاحتجَّ على بطلان قولهم بهذه الآية، ثم قال –تعالى-: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ} 7 يعني: الذين يدعوهم المشركون {يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ} 8 أي: القربة والدرجة العليا، قال ابن عباس: "هم عيسى وأمه والعزير والملائكة". وقال ابن مسعود: "نزلت هذه الآية في نفر من العرب كانوا يعبدون نفرا من الجن، فأسلم أولئك الجن، ولم يعلم الإنس بذلك، فتمسكوا بعبادتهم، فغيَّرهم الله من حال إلى حال، وأنزل هذه الآية". وقوله –تعالى-: {أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} 9 معناه: أي ينظرون أيهم أقرب إلى الله فيتوسلون به، وقيل: أيهم أقرب يبتغي الوسيلة إلى الله بالعمل الصالح، وعليه الأكثرون {وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ} 10 أي: جنته {وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِ} 11 ناره كغيرهم، فإذا كان الملائكة والمسيح والعزير لا يقدرون على كشف الضر وجلب النفع فكيف بغيرهم؟!. وقال –تعالى-: {وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ} 12 إن عبدته بشيء من أنواع العبادة {وَلا يَضُرُّكَ} 13 إن تركت عبادته {فَإِنْ فَعَلْتَ} 14 ما نهيتك عنه، فعبدت غيري، أو طلبت النفع، وكشف الضر من غيري {فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ} 15 فهذا الخطاب، وإن كان للنبي صلى الله عليه وسلم فالمراد به غيره؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لم يدعُ من دون الله شيئا ألبتة، فعلى

_ 1 سورة فاطر آية: 14. 2 سورة فاطر آية: 14. 3 سورة الإسراء آية: 56. 4 سورة الإسراء آية: 56. 5 سورة الإسراء آية: 56. 6 سورة الإسراء آية: 56. 7 سورة الإسراء آية: 57. 8 سورة الإسراء آية: 57. 9 سورة الإسراء آية: 57. 10 سورة الإسراء آية: 57. 11 سورة الإسراء آية: 57. 12 سورة يونس آية: 106. 13 سورة يونس آية: 106. 14 سورة يونس آية: 106. 15 سورة يونس آية: 106.

هذا المعنى المراد: ولا تدع من دون الله أيها الإنسان ما لا ينفعك ولا يضرك. إبطال ما تعلق به المشركون في اتخاذهم آلهة من دون الله وقال –تعالى-: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ} 1 يعني: الأصنام لا تجيب دعاء عابديها فيما يسألونها {لَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} 2 أي: لا تجيبهم {وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ} 3 أي: لا يسمعون ولا يفهمون {وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} 4 أي: جاحدين، وكل مَنْ دعا من دون الله فيما لا يقدر عليه إلا الله فقد أشرك؛ لأن الدعاء اعتراف بالعبودية، فبدعائه له صيَّره إلها. وقال –تعالى-: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ} 5 يعني: دعوة الصدق، وقال علي: "دعوة الحق: التوحيد". وقال ابن عباس: "دعوة الحق: شهادة أن لا إله إلا الله". والخلاف بينهما لفظي، وقال صاحب الكشاف: دعوة الحق فيها وجهان: "أحدها": أن تضاف الدعوة إلى الحق الذي هو نقيض الباطل على أن الدعوة ملابسة للحق مختصة به، وأنها بمعزل عن الباطل، والمعنى أن الله يدعى؛ فيستجيب الدعوة، ويعطي الداعي سؤاله. "والوجه الثاني": أن تضاف الدعوة إلى الحق الذي هو الله على معنى دعوة الحق الذي يسمع ويجيب، وعن الحسن أنه الحق، وكل دعاء إليه دعوة الحق. {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ} 6 أي: يدعونهم من دون الله {لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْء} 7 أي: لا يجيبونهم فيما يسألونه منهم من نفع ودفع ضر إذا دعوهم {إِلا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ} 8 يعني: أن استجابتهم لهم كاستجابة الماء لمن بسط كفيه إليه يطلب منه أن يبلغ فاه، وكذلك ما يدعونه جمادا لا يحس دعاءهم، ولا يستطيع إجابتهم، وقيل: شبههم في قلة جدوى دعائهم لآلهتهم بمن أراد أن يغرف الماء بيده ليشرب به، فبسطهما ناشرا أصابعه، لا يكون منه في يده شيء، كذلك الذي يدعو الأصنام بأنها لا تضر ولا تنفع، ولا بيده منها شيء، وقال مجاهد: "كالعطشان الذي يرى الماء بعينه من بعيد، وهو يشير بكفيه إلى الماء، ويدعوه بلسانه، فلا يأتيه أبدا". وقال عطاء: "كالعطشان الجالس على شفير البئر، وهو يمد يده إلى الماء فلا هو يبلغ

_ 1 سورة الأحقاف آية: 5. 2 سورة الأحقاف آية: 5. 3 سورة الأحقاف آية: 5. 4 سورة الأحقاف آية: 6. 5 سورة الرعد آية: 14. 6 سورة الرعد آية: 14. 7 سورة الرعد آية: 14. 8 سورة الرعد آية: 14.

الماء، ولا الماء يرتفع إليه، فلا ينفعه بسط الكف إلى الماء، ودعاؤه له، كذلك الذين يدعون الأصنام لا ينفعهم دعاؤهم". وقال ابن عباس: "كالعطشان إذا بسط كفيه إلى الماء لا ينفعه ذلك ما لم يغرف، ولا يبلغ الماء فاه ما دام باسطا كفيه إلى الماء" {وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ} 1 أي: كل مدعو سواه يضل عمن دعاه إذا احتاج إليه، وقال ابن عباس: "إن أصواتهم محجوبة عن الله –تعالى-، وهذا مثل ضربه الله لمن يدعو غيره فيما لا يقدر عليه إلا هو -سبحانه وتعالى-". وقال –تعالى-: {إنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ} 2 أي: ملك لله أمثالكم، لا يملكون لأنفسهم شيئا، فالذي لا يملك لنفسه شيئا من نفع كيف يتصور في حقه النفع لغيره؟! {فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} 3 في دعواكم، وقال –تعالى-: {قُلْ أَرَأَيْتَكُم} 4 يعني: قل يا محمد لهؤلاء الذين تركوا عبادة الله وحده، وعبدوا معه غيره من الأصنام، أخبروني، تقول: أرأيتك، يعني: أخبرني بحالك، وأصله: أرأيتم، والكاف للتأكيد {إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ} 5 قبل الموت، مثل ما نزل بالأمم الماضية من الغرق والخسف والصواعق، ونحو ذلك من العذاب {أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ} 6 أي: القيامة {َغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ} 7 في كشف العذاب عنكم {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} 8 في دعواكم. ومعنى الآية: أن الكفار إذا نزل بهم بلاء وشدة رجعوا إلى الله بالتضرع والدعاء، وتركوا الأصنام، فقيل لهم: أترجعون إلى الله في حال الشدة والبلاء، ولا تعبدونه وتطيعونه في اليسر والرخاء، {بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ} 9 من الضر الذي من أجله دعوتموه، وإنما قيد الإجابة بالمشيئة رعاية للمصلحة، وإن كانت جميع الأمور بمشيئته -سبحانه وتعالى- {وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ} 10 أي: تتركون دعاء الأصنام التي تدعونها؛ لأنها لا تضر ولا تنفع، وقيل: المعنى تركتم دعاء الأصنام بمنزلة من قد نسيها، وهذا قول الحسن، فقد نفى الله عما سواه ما يتعلق به المشركون من دعاء غيره من أن يكون له شرك في مثقال ذرة من نفع أو ضر،

_ 1 سورة الرعد آية: 14. 2 سورة الأعراف آية: 194. 3 سورة الأعراف آية: 194. 4 سورة الأنعام آية: 40. 5 سورة الأنعام آية: 40. 6 سورة الأنعام آية: 40. 7 سورة الأنعام آية: 40. 8 سورة الأنعام آية: 40. 9 سورة الأنعام آية: 41. 10 سورة الأنعام آية: 41.

كما قال لنبيه وخليله: {قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرّاً إِلا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} 1 وقال: {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ} 2 وقال صلى الله عليه وسلم في حديث ابن مظعون: "ما يدري ما يفعل به" 3 وفي رواية "ما يفعل بي، وأنا رسول الله" 4. وفي الصحيح عن أنس قال: "شُجَّ النبي صلى الله عليه وسلم يوم أُحُدٍ، فقال: كيف يفلح قوم شجوا نبيهم؟ فنزلت عليه {ليس لك من الأمر شيء} 5 وفيه عن ابن عمر: "أنه سمع النبي –صلى الله عليه وسلم - يقول –إذا رفع رأسه من الركوع في الركعة الأخيرة من الفجر-: اللهم العن فلانا وفلانا، بعد ما يقول: سمع الله لمن حمده، فأنزل الله عليه {ليس لك من الأمر شيء} 6 و "لما نزل عليه صلى الله عليه وسلم {وأنذر عشيرتك الأقربين} صعد إلى الصفا فقال: يا معشر قريش –أو كلمة نحوها- اشتروا أنفسكم لا أغني عنكم من الله شيئا، ويا عباس بن عبد المطلب لا أغني عنك من الله شيئا، ويا صفية عمة رسول الله لا أغني عنك من الله شيئا، ويا فاطمة بنت محمد لا أغني عنك من الله شيئا، سليني من مالي" 7 فإذا كان سيد الأولين والآخرين، وإمام المتقين، وحبيب رب العالمين، لا يملك لنفسه ولا لأقاربه نفعا ولا ضرا، فكيف بغيره ممن لا يعلم حاله مع ربه، ولا مصيره إلى نعيم أو جحيم؟! فإن كان قيل فيمن عبد الملائكة وعيسى وأمه، والله يقول: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} 8. قال ابن القيم: "في هذه الآية دليل على جواز الخطاب العام وإرادة الخاص من غير بيان تفصيلي ولا إجمالي، فإن لفظة "ما" عام يشمل المعبودين سوى الله، ولم يرد العموم مع تأخير بيان المخصص، فإنه لمَّا نزلت هذه الآية قال ابن الزِّبَعْرَى: والله لألزمن محمدا بهذه الآية، فحضر عند النبي صلى الله عليه وسلم وقال: لقد عُبدت الملائكة وعُبد عيسى، فيجب أن يكون هؤلاء حصب جهنم، وهو خلاف دينك يا محمد،

_ 1 سورة الأعراف آية: 188. 2 سورة الأحقاف آية: 9. 3 البخاري: الجنائز "1243" , وأحمد "6/436". 4 البخاري: الجنائز "1243" , وأحمد "6/436". 5 مسلم: الجهاد والسير "1791" , والترمذي: تفسير القرآن "3002" , وابن ماجه: الفتن "4027" , وأحمد "3/99 ,3/178 ,3/201 ,3/206". 6 البخاري: المغازي "4070" , والنسائي: التطبيق "1078" , وأحمد "2/93 ,2/147". 7 البخاري: الوصايا "2753" , ومسلم: الإيمان "206" , والنسائي: الوصايا "3646 ,3647" , والدارمي: الرقاق "2732". 8 سورة الأنبياء آية: 98.

فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم ينكر عليه، فنزل بعد حين: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} 1 فقد أطلق العام مع إرادة الخاص، وبين بعد حين". واعترض على هذا الدليل بأنا لا نسلم احتياج الآية إلى البيان، وإنما تحتاج إليه لو دخلت الملائكة وعيسى في عموم الآية، وهو ممنوع؛ لأن "ما" لغير من يعقل، فلا تتناول الملائكة ولا عيسى؛ ولهذا نقل في بعض الروايات أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لابن الزبعرى: "ما أجهلك بلغة قومك، أما علمت أن "ما" لما لا يعقل، و "من" لمن يعقل 2 وإنما نزلت {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى} 3 زيادة بيان لجهل المعترض لا بيانا للآية السابقة. وإن سلم أن كلمة "ما" تشملهم فلا تحتاج الآية إلى البيان أيضا؛ لأن العقل يحكم بخروجهم عن الآية؛ لأن تعذيب الملائكة وعيسى –بذنب الغير، وهو عبادة الناس إياهم – غير جائز عقلا، وإنما يجوز تعذيبهم لو كانوا راضين بذلك، وهو مستحيل في حقهم. فصل في توحيد الأسماء والصفات والمذهب الصحيح في ذلك الإيمان بأسماء الله وصفاته فإذا عرفت ما تقرر من توحيد العبادة فاعلم بأن إيماننا بما ثبت في نعوته -تعالى- كإيماننا بذاته المقدسة، إذ الصفات تابعة للموصوف، فنعقل وجود الباري، ونميِّز ذاته المقدسة عن الأشباه من غير أن نعقل الماهية، فكذلك القول في صفاته، نؤمن بها، ونعقل وجودها، ونعلمها في الجملة من غير تكييف ولا تمثيل، ولا تشبيه ولا تعطيل، ونقول -كما قال السلف الصالح-: آمنا بالله على مراد الله، و {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} 4 فالاستواء معلوم من الكتاب العزيز {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} 5. وكل ما وصف الله به نفسه وجب الإيمان به، كما يجب الإيمان بذاته، والكيف

_ 1 سورة الأنبياء آية: 101. 2 هذا ليس عليه طلاوة كلام الرسول -صلى الله عليه وسلم-. 3 سورة الأنبياء آية: 101. 4 سورة الشورى آية: 11. 5 سورة فصلت آية: 42.

مجهول فيهما لاستحالة تصوره؛ لقوله –تعالى-: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} 1 ومن ليس له مثل لا يمكن التصور في ذاته وصفاته لا شرعا ولا عقلا. ومَن أوَّلَ فقد تصور المستحيل في حقه -سبحانه وتعالى- من المشابهة للحوادث، فما وسعهم مما تصوروه من التشبيه الواقع في أذهانهم إلا الفرار منه إلى التعطيل. فأوَّلوا اليدين بالقدرة، وقد أثبت الله لنفسه يدا وقدرة، وأوَّلوا الاستواء بالاستيلاء المفيد للتجدد والحدوث في الملك، وهو مستحيل في حقه -سبحانه وتعالى- وعطَّلوا صفتين من صفاته، وقد قال -تعالى-: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} 2 وقال -تعالى-: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} 3 وقال -تعالى-: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} 4 وقال -تعالى-: {الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ} 5 إلى غير ذلك من آيات الاستواء. وقال –تعالى-: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} 6 وقال –تعالى-: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ} 7. وقال –تعالى-: {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} 8 وقال –تعالى-: {إلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ} 9 وقال –تعالى-: {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} 10 وقال –تعالى-: {وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} 11 وقال –تعالى- في الملائكة: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} 12 وقال –تعالى -: {مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ} 13. وقال –تعالى-: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى} 14 وقال –تعالى-: {أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} 15 "في" بمعنى "على" كقوله -تعالى-: {فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ} 16 وقوله: {وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} 17 أي: على

_ 1 سورة الشورى آية: 11. 2 سورة الأعراف آية: 54. 3 سورة هود آية: 7. 4 سورة طه آية: 5. 5 سورة الفرقان آية: 59. 6 سورة فصلت آية: 11. 7 سورة البقرة آية: 29. 8 سورة السجدة آية: 5. 9 سورة فاطر آية: 10. 10 سورة آل عمران آية: 55. 11 سورة النساء آية 157 158 12 سورة النحل آية: 50. 13 سورة المعارج آية: 3. 14 سورة غافر آية: 36. 15 سورة الملك آية: 16. 16 سورة التوبة آية: 2. 17 سورة طه آية: 71.

الأرض، وعلى جذوع النخل، وكذلك في السماء، أي: على العرش فوق السماء إلى غير ذلك من نصوص القرآن العظيم جلَّ منزِّله، وتعالى قائله. الأحاديث المصرِّحة بعلو الله وأما السنة: فمن الأحاديث الواردة في العلو حديث معاوية بن الحكم السلمي قال: "كانت لي غنم بين أحد والجوانية فيها جارية لي، فاطلعت ذات يوم، فإذا الذئب قد ذهب منها بشاة، وأنا رجل من بني آدم فأسفت، فصككتها، فأتيت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له، فعظم ذلك علي، فقلت: يا رسول الله: أفلا أعتقها؟ قال: ادعها. فدعوتها، فقال لها: أين الله؟ قالت: في السماء قال: مَنْ أنا؟ قالت: أنت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أعتقها فإنها مؤمنة" 1 هذا حديث صحيح، أخرجه مسلم وأبو داود والنسائي، وغير واحد من الأئمة في تصانيفهم. وقال عطاء بن يسار: حدثني صاحب الجارية نفسه قال: "كانت لي جارية ترعى"2 الحديث، وفيه: "فمد النبي صلى الله عليه وسلم يده إليها مستفهما: مَنْ في السماء؟ قالت: الله. قال: فمن أنا؟ قالت: أنت رسول الله. قال: أعتقها فإنها مسلمة."وقال النسائي في تفسيره في قوله –تعالى-: {ثم استوى إلى السماء} 3 أنبأنا قتيبة عن مالك عن هلال بن أسامة عن عمر بن الحكم قال: "أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله: إن جارية لي كانت ترعى غنما لي، فجئتها ففقدت شاة من الغنم، سألتها عنها، فقالت: أكلها الذئب، فأسفت عليها، وكنت رجلا من بني آدم، فلطمت وجهها، وعلي رقبة فأعتقها؟ فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم أين الله؟ قالت: في السماء. قال: فمن أنا؟ قالت: أنت رسول الله. قال: فأعتقها" 4 كذا سمَّاه مالك عمر بن الحكم. وعن أبي هريرة قال: "جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بجارية أعجمية فقال: يا رسول الله: إن علي رقبة مؤمنة، فأعتق هذه؟ فقال لها: أين الله؟ فأشارت إلى السماء، قال: فمن أنا؟ فأشارت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم إلى السماء، قال: أعتقها فإنها مؤمنة" 5.

_ 1 مسلم: المساجد ومواضع الصلاة "537" , والنسائي: السهو "1218" , وأبو داود: الصلاة "930" والأيمان والنذور "3282". 2 مسلم: المساجد ومواضع الصلاة "537". 3 سورة البقرة آية: 29. 4 مسلم: المساجد ومواضع الصلاة "537" , والنسائي: السهو "1218" , وأبو داود: الصلاة "930" , وأحمد "5/448" , ومالك: العتق والولاء "1511". 5 أبو داود: الأيمان والنذور "3284" , وأحمد "2/291".

وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم ومعه جارية سوداء أعجمية، فقال: عليَّ رقبة، فهل تجزئ هذه عني؟ فقال: أين الله؟ فأشارت بيدها إلى السماء، فقال: مَنْ أنا؟ قلت: أنت رسول الله. قال: أعتقها فإنها مؤمنة". حديث أسامة بن زيد الليثي عن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب قال: "جاء حاطب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بجارية له فقال: يا رسول الله: إن عليَّ رقبة، فهل تجزئ هذه عني؟ فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم من أنا؟ قالت: أنت رسول الله. قال: فأين ربك؟ فأشارت إلى السماء، قال: أعتقها فإنها مؤمنة" وهو مرسل. حديث جابر بن عبد الله: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في خطبة يوم عرفة: "ألا هل بلغت، فجعل يرفع أصبعه إلى السماء وَيَنْكُبُهَا إليهم ويقول: اللهم اشهد" 1 أخرجه مسلم. وحديث أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار، ويجتمعون في صلاة الفجر وصلاة العصر، ثم يعرج الذين باتوا فيكم، فيسألهم وهو أعلم بهم، كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: أتيناهم وهم يصلون، وتركناهم وهم يصلون" 2 متفق عليه. وعن أبي رزين العقيلي قال: " قلت: يا رسول الله: أين كان ربنا قبل أن يخلق السماوات والأرض؟ قال: كان في عماء" 3 قال أبو عبيد: "العماء: الغمام". وقال خالد بن يزيد الرازي: "أخطأ أبو عبيد إنما العمى مقصور، ولا يدرى أين كان الرب –تعالى-"، وقيل: معناه مقصور لا شيء معه فوق هواء، وما تحته هواء، ثم خلق العرش، ثم استوى عليه. رواه الترمذي وابن ماجه وإسناده حسن. وعن عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء"4 أخرجه أبو داود والترمذي. وعن عبد الله بن مسعود: "ارحم من في الأرض يرحمك من في السماء" 5.

_ 1 مسلم: الحج "1218" , وابن ماجه: المناسك "3074" , والدارمي: المناسك "1850". 2 البخاري: مواقيت الصلاة "555" , ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة "632" , والنسائي: الصلاة "485" , وأحمد "2/257 ,2/312 ,2/344 ,2/396 ,2/486" , ومالك: النداء للصلاة "413". 3 الترمذي: تفسير القرآن "3109" , وابن ماجه: المقدمة "182" , وأحمد "4/11 ,4/12". 4 الترمذي: البر والصلة "1924" , وأبو داود: الأدب "4941". 5 الترمذي: البر والصلة "1924" , وأبو داود: الأدب "4941".

وعن أنس أن زينب بنت جحش كانت تفتخر على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم تقول: "زوَّجكن أهاليكن، وزوَّجني الله من فوق سبع سماوات" وفي لفظ: أنها قالت للنبي صلى الله عليه وسلم "زوجنيك الرحمن من فوق عرشه"أخرجه البخاري. وعن أبي سعيد الخدري قال رسول الله صلى الله عليه وسلم 1 متفق عليه. وعن أبي هريرة أن ر "ألا تأمنوني، وأنا أمين من في السماء، يأتيني خبر السماء صباحا ومساء." سول الله صلى الله عليه وسلم قال: "والذي نفسي بيده ما من رجل يدعو امرأته إلى فراشه، فتأبى عليه إلا كان الذي في السماء ساخطا عليها، حتى يرضى عنها زوجها" 2 أخرجه مسلم. وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لما أُلْقِي إبراهيم -عليه السلام- في النار قال: "اللهم إنك واحد في السماء، وأنا في الأرض واحد أعبدك" هذا حديث حسن الإسناد.. وعن عبادة بن الصامت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: "من توضَّأ فأحسن الوضوء، ثم قام إلى الصلاة، فأتمَّ ركوعها وسجودها والقراءة فيها، قالت: حفظك الله كما حفظتني، ثم صُعد بها إلى السماء، ولها نور وضوء، وفتحت لها أبواب السماء، حتى يُنْتَهَى بها إلى الله عز وجل فتشفع لصاحبها". وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الميت يحضره الملائكة، فإذا كان الرجل الصالح قالوا: اخرجي أيتها النفس الطيبة كانت في الجسد الطيب، أبشري بروح وريحان ورب غير غضبان، فلا يزال يقال لها ذلك حتى تخرج، ثم تعرج بها إلى السماء التي فيها الله –تعالى-" 3 رواه أحمد في مسنده، والحاكم في مستدركه، وهو على شرط البخاري ومسلم. وعن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "بينا أهل الجنة في نعيمهم إذ سطع لهم نور، فيرفعون رءوسهم، فإذا الرب -جلَّ جلاله- قد أشرف عليهم، فقال: السلام عليكم"

_ 1 البخاري: المغازي "4351" , ومسلم: الزكاة "1064" , والنسائي: تحريم الدم "4101" , وأبو داود: السنة "4764" , وأحمد "3/68 ,3/73". 2 مسلم: النكاح "1736". 3 أحمد "2/364".

يا أهل الجنة. فذلك قوله: عزوجل"سلام قولا من رب رحيم" أخرجه ابن ماجه في سننه. وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من تصدَّق بعدل تمرة من كسب طيب –ولا يصعد إلى الله إلا طيب- فإنه يقبلها بيمينه، ويربيها لصاحبها حتى تكون مثل الجبل" 1 أخرجه البخاري. وعن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن الله لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يُرْفَعُ إليه عمل الليل قبل النهار، وعمل النهار قبل الليل، حجابه النور –وفي رواية النار- لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه كل شيء أدركه بصره" 2 أخرجه الشيخان. وقال صلى الله عليه وسلم لِحُصَيْنٍ: " كم تعد لنفسك من إله؟ قال: سبعة: ستة في الأرض، وواحد في السماء، قال: فأيهم تعد لرهبتك ورغبتك؟ قال: الذي في السماء. فقال له صلى الله عليه وسلم أما إنك لو أسلمت لعلمتك كلمتين ينفعانك، فلما أسلم حصين قال له: قل: "اللهم ألهمني رشدي وعافني من شر نفسي" أخرجه ابن خزيمة في كتاب التوحيد. وروى الشيخان عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لما قضى الله الخلق كتب في كتاب، فهو عنده فوق العرش: إن رحمتي تغلب غضبي" 3 وفي رواية للبخاري: "إن الله كتب كتابا، فهو عنده فوق العرش: إن رحمتي سبقت غضبي، فهو مكتوب عنده فوق العرش" 4. وفي رواية لهما: "إن الله لما خلق الخلق" 5 وعند مسلم: "لما قضى الله الخلق كتب في كتاب كتبه على نفسه، فهو موضوع عنده" 6 زاد البخاري "على العرش" 7 ثم اتفقا "إن رحمتي تغلب غضبي" 8. وعن أبي الدرداء قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من اشتكى منكم أو اشتكى أخ له فليقل: ربنا الله الذي في السماء تقدَّس اسمك، أمرك في السماء والأرض،

_ 1 البخاري: التوحيد "7429". 2 مسلم: الإيمان "179" , وابن ماجه: المقدمة "195" , وأحمد "4/405". 3 البخاري: بدء الخلق "3194" , ومسلم: التوبة "2751" , والترمذي: الدعوات "3543" , وابن ماجه: المقدمة "189" والزهد "4295" , وأحمد "2/358". 4 البخاري: التوحيد "7554" , وابن ماجه: المقدمة "189" , وأحمد "2/257 ,2/259 ,2/381 ,2/397 ,2/466". 5 البخاري: الأدب "5987". 6 البخاري: بدء الخلق "3194" والتوحيد "7404 ,7422 ,7453 ,7553 ,7554" , ومسلم: التوبة "2751" , والترمذي: الدعوات "3543" , وابن ماجه: المقدمة "189" والزهد "4295" , وأحمد "2/257 ,2/259 ,2/313 ,2/358 ,2/381 ,2/397 ,2/433 ,2/466". 7 البخاري: التوحيد "7404" , ومسلم: التوبة "2751" , والترمذي: الدعوات "3543" , وابن ماجه: الزهد "4295" , وأحمد "2/313 ,2/358 ,2/381 ,2/433". 8 البخاري: التوحيد "7404" , ومسلم: التوبة "2751" , والترمذي: الدعوات "3543" , وابن ماجه: الزهد "4295" , وأحمد "2/433".

كما رحمتك في السماء، اجعل رحمتك في الأرض، واغفر لنا حوبنا وخطايانا، أنت رب الطيبين، أنزل رحمة من رحمتك، وشفاء من شفائك على هذا الوجع. فيبرأ" 1 أخرجه أبو داود. وهكذا حال من يسأل: أين الله؟ يبادر بفطرته، ويقول: في السماء. ففي الخبر مسألتان: "أحدهما": قول السائل: أين الله؟ "وثانيها": قول المسئول: في السماء. فمن أنكر هاتين المسألتين، فإنما ينكر على رسول الله -صلى الله عليه وسلم -؛ لأنه قالهما، وأقرهما من غيره، والعياذ بالله من الإعراض عما وصف الله به نفسه، ووصفه به رسوله. ولم تخبر الرسل بما تستحيله العقول، بل أخبارهم قسمان: "أحدهما": ما يشهد به العقل والنظر. "والثاني": ما لا تدركه العقول بمجردها كالغيوب التي أخبروا بها عن تفاصيل البرزخ، واليوم الآخر، وتفاصيل العقاب والثواب، ولا يكون خبرهم محالا في العقول أصلا. وكل خبر تظن أن العقل يحيله فلا يخلو من أحد أمرين: إما لعدم صحة في النقل أو لفساد في العقل، والعقل الصحيح لا يخالف النص الصريح. قول الإمام مالك في الاستواء واختلف السلف في الاستواء، فقال قوم: "استوى بمعنىاستقرَّ"، ومنهم ابن عباس -رضي الله عنهما- كما رواه البيهقي في الأسماء والصفات، وهو استقرار يليق بذاته. وقال آخرون -منهم سفيان الثوري والأوزاعي والليث بن سعد وسفيان بن عيينة وعبد الله بن المبارك، وغيرهم من علماء السلف-: "إقرارها وإمرارها كما جاءت بلا كيف". وقال البغوي:" أهل السنة يقولون: الاستواء على العرش صفة الله بلا كيف، يجب على الإنسان الإيمان به، ويكل العلم به إلى الله -عز وجل-". وروى البيهقي بسنده عن عبد الله بن وهب قال: كنا عند مالك بن أنس، فدخل رجل، فقال: يا أبا عبد الله: {الرحمن عفلى العرش استوى} 2 كيف استوى؟ قال:

_ 1 أبو داود: الطب "3892". 2 سورة طه آية: 5.

فأطرق مالك، وأخذته الرحضاء، ثم رفع رأسه، فقال: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} 1 كما وصف نفسه، ولا يقال: كيف؟ وكيف عنه مرفوع، وأنت رجل سوء صاحب بدعة، أخرجوه، فَأُخْرِجَ الرجل. وفي رواية يحيى قال: كنا عند مالك بن أنس، فجاء رجل، فقال: يا أبا عبد الله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} 2 كيف استواؤه؟ فأطرق مالك رأسه حتى علاه الرحضاء، ثم قال: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، وما أراك إلا مبتدعا. ما ورد في القرآن والأحاديث في صفة وجه الله الكريم وقال –تعالى-: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} 3 وقال: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ} 4 وقال: {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ} وقال: {نَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ} 5 وقال: {وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ} 6 وقال: {إِلا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى} 7 وقال: {يُرِيدُونَ وَجْهَه} 8. وروى البخاري عن جابر بن عبد الله قال: "لما نزل على النبي صلى الله عليه وسلم {قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم أو من تحت أرجلكم} قال: أعوذ بوجهك "أو يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض" قال: هاتان أهون وأيسر" 9. وروى البخاري عن أبي موسى الأشعري قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم "جنتان من فضة، آنيتهما وما فيهما، وجنتان من ذهب، آنيتهما وما فيهما، وما بين القوم وأن ينظروا إلى وجه ربهم عزوجل إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن" 10. وروى البخاري عن عتبان بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "حرَّم الله على النار أن تأكل مَنْ قال: لا إله إلا الله. يبتغي بها وجه الله" 11. وروى مسلم عن سعد بن أبي وقاص قال: "كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن ستة نفر، فقال المشركون: اطرد هؤلاء عنك، لا يجترئون علينا، وكنت وعبد الله بن مسعود –أظنه قال: وبلال ورجل من هذيل، ورجلان قد نسيت اسمهما- فوقع

_ 1 سورة طه آية: 5. 2 سورة طه آية: 5. 3 سورة القصص آية: 88. 4 سورة الرحمن آية: 27. 5 سورة الإنسان آية: 9. 6 سورة الرعد آية: 22. 7 سورة الليل آية: 20. 8 سورة الأنعام آية: 52. 9 البخاري: تفسير القرآن "4628" , والترمذي: تفسير القرآن "3065" , وأحمد "3/309". 10 البخاري: تفسير القرآن "4878" , ومسلم: الإيمان "180" , وأحمد "4/416" , والدارمي: الرقاق "2822". 11 البخاري: الصلاة "425" , ومسلم: الإيمان "33".

في نفس النبي صلى الله عليه وسلم ما شاء الله أن يحدث به نفسه، فأنزل الله عز وجل "ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه"الآية. صفة اليد لله تعالى وما ورد فيها من النصوص وقال –تعالى-: {اإِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} 1 وقال: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} 2. وروى الشيخان عن أنس بن مالك أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: "يُجْمَعُ المؤمنون يوم القيامة، فيهتمون لذلك، فيقولون: لو استشفعنا على ربنا حتى يريحنا من مكاننا هذا، فيأتون آدم فيقولون: يا آدم: أنت أبو الناس خلقك الله بيده، وأسجد لك ملائكته، وعلَّمك أسماء كل شيء، اشفع لنا إلى ربنا حتى يريحنا من مكاننا هذا" 3 وذكر الحديث بطوله. وروى البخاري عن أبي هريرة قال: "أُتِيَ رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما بلحم فَدُفِعَ إليه الذراع، وكانت تعجبه، فنهش منها نهشة ثم قال: أنا سيد الناس يوم القيامة، وهل تدرون لم ذلك؟ " 4 قال: فذكر حديث الشفاعة، وفيه: "فيأتون آدم فيقولون: يا آدم: أنت أبو البشر خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه –أظنه قال:- وعلَّمك أسماء كل شيء، اشفع لنا إلى ربك" 5. وروى البخاري عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "احتجَّ آدم وموسى، فقال موسى: أنت الذي خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه" 6 إلخ. وروى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "احتجَّ آدم وموسى، فقال موسى لآدم: أنت أبونا جئت، وأخرجتنا من الجنة. فقال له آدم: أنت موسى الذي اصطفاك الله بكلامه، وخطَّ لك في الألواح بيده" 7 إلخ. وعن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "خلق الله جنات عدن، وغرس أشجارها بيده، فقال لها: تكلَّمي فقالت: " قد أفلح المؤمنون".

_ 1 سورة ص آية: 75. 2 سورة المائدة آية: 64. 3 البخاري: التوحيد "7410" , ومسلم: الإيمان "193" , وابن ماجه: الزهد "4312" , وأحمد "3/116 ,3/244 ,3/247". 4 البخاري: تفسير القرآن "4712" , ومسلم: الإيمان "194" , والترمذي: صفة القيامة والرقائق والورع "2434". 5 البخاري: أحاديث الأنبياء "3340" , ومسلم: الإيمان "194" , والترمذي: صفة القيامة والرقائق والورع "2434" , وأحمد "2/435". 6 البخاري: أحاديث الأنبياء "3409" وتفسير القرآن "4738" , ومسلم: القدر "2652" , والترمذي: القدر "2134" , وأبو داود: السنة "4701" , وابن ماجه: المقدمة "80" , وأحمد "2/248 ,2/264 ,2/268 ,2/287 ,2/314 ,2/392 ,2/398 ,2/448 ,2/464" , ومالك: الجامع "1660". 7 البخاري: أحاديث الأنبياء "3409" , ومسلم: القدر "2652" , والترمذي: القدر "2134" , وأبو داود: السنة "4701" , وابن ماجه: المقدمة "80" , وأحمد "2/248 ,2/264 ,2/268 ,2/287 ,2/314 ,2/392 ,2/398 ,2/448 ,2/464" , ومالك: الجامع "1660".

وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "كتب ربكم -تبارك وتعالى- على نفسه بيده قبل أن يخلق الخلق: إن رحمتي سبقت غضبي" 1. وعن ابن عمر قال: "خلق الله أربعة أشياء بيده: العرش وجنات عدن وآدم والقلم، واحتجب من الخلق بأربعة: بنار وظلمة ونور فظلمة". وقد تكون اليد في غير هذه المواضع بمعنى القوة، قال الله –تعالى-: {اذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الْأَيْدِ} 2 أي: ذا القوة، وقد تكون بمعنى النعمة، تقول العرب: كم يد لي عند فلان، أي: كم من نعمة لي قد أسديتها إليه، وقال –تعالى-: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} 3وقال: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ} 4. وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يقبض الله -تبارك وتعالى- الأرض يوم القيامة، ويطوي السماء بيمينه، ثم يقول: أنا الملك، أين ملوك الأرض؟ " 5 رواه البخاري. وروى مسلم عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "المقسطون عند الله يوم القيامة على منابر من نور، على يمين الرحمن، وكلتا يديه يمين" 6. وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لمَّا خلق الله آدم، ونفخ فيه الروح عطس، فقال: الحمد لله. فحمد الله بإذن الله، فقال له ربه: رحمك ربك يا آدم، وقال له: يا آدم: اذهب إلى أولئك الملائكة، إلى ملأ منهم جلوس فقل: السلام عليكم. فذهب وسلَّم، قالوا: وعليك السلام ورحمة الله وبركاته. ثم رجع إلى ربه، فقال: هذه تحيتك وتحية بنيك. فقال الله -تبارك وتعالى له، ويداه مقبوضتان-: أيهما شئت؟ فقال: اخترت يمين ربي، وكلتا يدي ربي يمين مباركة، ثم بسطها فإذا فيها آدم وذريته"وذكر الحديث. وسُئِلَ عمر بن الخطاب عن قوله –تعالى-: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ

_ 1 مسلم: التوبة "2751" , وابن ماجه: المقدمة "189" , وأحمد "2/259 ,2/381 ,2/397". 2سورة ص آية: 17. 3سورة الزمر آية 67. 4سورة الحاقة آية 44: 46. 5 البخاري: الرقاق "6519" , ومسلم: صفة القيامة والجنة والنار "2787" , وابن ماجه: المقدمة "192" , وأحمد "2/374" , والدارمي: الرقاق "2799". 6 مسلم: الإمارة "1827" , والنسائي: آداب القضاة "5379" , وأحمد "2/159 ,2/160 ,2/203".

ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} 1 الآية. فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عنها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "خلق الله آدم، ثم مسح ظهره بيمينه، فاستخرج منه ذرية، فقال: خلقت هؤلاء للجنة، وبعمل أهل الجنة يعملون، ثم مسح ظهره، واستخرج منه ذرية، فقال: خلقت هؤلاء للنار، وبعمل أهل النار يعملون، فقال رجل: يا رسول الله: فَفِيمَ العمل؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله إذا خلق الرجل للجنة استعمله بعمل أهل الجنة حتى يموت على عمل من أعمال أهل الجنة؛ فيدخله به الجنة، وإذا خلق الرجل للنار استعمله بعمل أهل النار؛ فيدخله به النار". وعن هشام بن حكيم أن رجلا أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "يا رسول الله: أنبتدأ الأعمال أم قد قضى القضاء؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله أخذ ذرية بني آدم من ظهورهم، وأشهدهم على أنفسهم، ثم أفاض بهم في كفيه، فقال: هؤلاء للجنة، وهؤلاء للنار، فأهل الجنة ميسرون لعمل أهل الجنة، وأهل النار ميسرون لعمل أهل النار". صفة اليمنى والأصبع لله تعالى وروى مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ما تصدَّق أحد بصدقة من طيب، ولا يقبل الله إلا الطيب إلا أخذها الرحمن بيمينه -وإن كانت تمرة - فتربو في كفِّ الرحمن حتى تكون أعظم من الجبل، كما يُرَبِّي أحدكم فَلُوَّهُ أو فَصِيلَهُ" 2 وقال صلى الله عليه وسلم "من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب، ولا يصعد إلى الله إلا طيب، فإن الله رضي الله عنه يتقبلها بيمينه فيربيها لصاحبها كما يربي أحدكم فلوه حتى يكون مثل أحد" 3 أخرجه البخاري. وروى البخاري عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "يمين الله ملأى لا يغيضها نفقة، سَحَّاءُ الليل والنهار، أرأيتم ما أنفق منذ خلق السماوات والأرض؟ فإنه لم ينقص مما في يمينه –قال:- وعرشه على الماء، وبيده الأخرى القسط يرفع ويخفض" 4.

_ 1سورة الأعراف آية 172. 2 مسلم: الزكاة "1014" , والترمذي: الزكاة "661" , والنسائي: الزكاة "2525" , وابن ماجه: الزكاة "1842" , وأحمد "2/418". 3 البخاري: الزكاة "1410" , ومسلم: الزكاة "1014" , والترمذي: الزكاة "661" , والنسائي: الزكاة "2525" , وابن ماجه: الزكاة "1842" , وأحمد "2/331" , ومالك: الجامع "1874" , والدارمي: الزكاة "1675". 4 البخاري: التوحيد "7419" , ومسلم: الزكاة "993" , والترمذي: تفسير القرآن "3045" , وابن ماجه: المقدمة "197" , وأحمد "2/242 ,2/313 ,2/500".

وروى مسلم عن عبد الله بن مسعود قال: "أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل من أهل الكتاب، فقال: يا أبا القاسم: أَبَلَغَكَ أن الله عز وجل يجعل السماوات على أصبع، والأرضين على أصبع، والشجر على أصبع، والثرى على أصبع، والخلائق على أصبع؟ فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه، فأنزل عز وجل "وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه""1. وروى البخاري عن عبد الله بن مسعود قال: "جاء حبر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد: -أو يا رسول الله- إن الله جعل السماوات على أصبع، والأرضين على أصبع، والجبال على أصبع، والشجر على أصبع، والماء والثرى على أصبع، وسائر الخلق على أصبع، فيهزهنَّ، ويقول: أنا الملك. قال: فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه تصديقا لقول الحبر، ثم قرأ {وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه} " 2 إلخ. وروى الشيخان عن عبد الله بن مسعود قال: "جاء حبر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد: إن الله يضع السماء على أصبع، والأرضين على أصبع، والجبال على أصبع، والشجر على أصبع، وسائر الخلق على أصبع، ثم يقول: أنا

_ 1 البخاري: تفسير القرآن "4811" , ومسلم: صفة القيامة والجنة والنار "2786" , والترمذي: تفسير القرآن "3238" , وأحمد "1/378 ,1/429 ,1/457". 2 البخاري: تفسير القرآن "4811" , ومسلم: صفة القيامة والجنة والنار "2786" , والترمذي: تفسير القرآن "3238" , وأحمد "1/378".

الملك. فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: {ما قدروا الله حق قدره} 1 وفي رواية: "والماء والثرى على أصبع، وسائر الخلق على أصبع، يهزهنَّ" 2 وفيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم "ضحك حتى بدت نواجذه عجبا وتصديقا له، ثم قرأ: {ما قدروا الله حق قدره} 3 الآية. وروى الشيخان عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "يطوي الله السماوات يوم القيامة، ثم يأخذهن بيمينه، ثم يقول: أنا الملك. أين الجبارون؟ أين المستكبرون؟ ثم يطوي الأرضين بشماله، ثم يقول: أنا الملك. أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟ "4 وفي رواية يقول: "إن الله يقبض أصابعه ويبسطها، ثم يقول: أنا الملك. أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟ "5 وفي رواية يقول: "أنا الله، ويقبض أصابعه ويبسطها، ثم يقول: أنا الملك. حتى نظرت إلى المنبر يتحرَّك من أسفله حتى إني أقول: أَسَاقِطٌ هو برسول الله -صلى الله عليه وسلم -؟ " 6 هذا لفظ مسلم والبخاري: "إن الله يقبض يوم القيامة الأرضين، وتكون السماوات بيمينه، ويقول: أنا الملك" 7. وروى البخاري عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "يقبض الله الأرض، ويطوي السماء بيمينه، ثم يقول: أنا الملك. أين ملوك الأرض؟ " 8 وقال صلى الله عليه وسلم "قلوب الخلائق بين أصبعين من أصابع الرحمن، يُقَلِّبُهَا كيف يشاء" 9. صفة القدم لله وإتيانه في ظلل من الغمام وروى البخاري عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا تزال جهنم تقول: هل من مزيد؟ حتى يضع رب العزة فيها قدمه، فتقول: قَطْ قَطْ وعزتك، وينزوي بعضها إلى بعض" 10. وروى البخاري عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "تحاجَّت الجنة والنار، فقالت النار: أُوثِرْتُ بالمتكبرين والمتجبرين. وقالت الجنة: فما لي لا يدخلني إلا ضعفاء الناس وسقطهم؟ قال الله عز وجل للجنة: إنما أنت رحمتي أرحم بك من أشاء من عبادي. وقال للنار: أنت عذابي أعذب بك من أشاء من عبادي، ولكل واحدة منكما ملؤها، فأما النار فلا تمتلئ حتى يضع الله فيها رجله، فتقول: قَطْ قَطْ قَطْ، فهنالك تمتلئ، وينزوي بعضها إلى بعض، ولا يظلم الله من خلقه أحدا، وأما الجنة فإن الله ينشئ لها خلقا" 11 وقال –تعالى-: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ} 12 وقال –تعالى-: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً} 13 وقال –تعالى-: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ} 14. وقد ذكر الإمام أبو جعفر ابن جرير هنا حديث الصور بطوله عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو حديث مشهور، وساقه غير واحد من أصحاب الأسانيد وغيرهم، وفيه: "إن الناس إذا اهتموا لموقفهم في العَرَصَات تشفَّعوا إلى ربهم بالأنبياء واحدا بعد واحد، من آدم -عليه السلام- فمن بعده، فكلهم يحيدون حتى ينتهوا إلى

_ 1 البخاري: التوحيد "7451" , ومسلم: صفة القيامة والجنة والنار "2786" , والترمذي: تفسير القرآن "3238" , وأحمد "1/378 ,1/429 ,1/457". 2 البخاري: التوحيد "7513" , ومسلم: صفة القيامة والجنة والنار "2786" , والترمذي: تفسير القرآن "3238" , وأحمد "1/378 ,1/429 ,1/457". 3 البخاري: التوحيد "7415" , ومسلم: صفة القيامة والجنة والنار "2786" , والترمذي: تفسير القرآن "3238" , وأحمد "1/378 ,1/429 ,1/457". 4 البخاري: التوحيد "7413" , ومسلم: صفة القيامة والجنة والنار "2788" , وابن ماجه: المقدمة "198" والزهد "4275" , وأحمد "2/87". 5 مسلم: صفة القيامة والجنة والنار "2788" , وابن ماجه: المقدمة "198" والزهد "4275". 6 مسلم: صفة القيامة والجنة والنار "2788" , وابن ماجه: المقدمة "198" والزهد "4275" , وأحمد "2/87". 7 البخاري: التوحيد "7413" , ومسلم: صفة القيامة والجنة والنار "2787 ,2788" , وأحمد "2/374" , والدارمي: الرقاق "2799". 8 البخاري: الرقاق "6519" , ومسلم: صفة القيامة والجنة والنار "2787" , وابن ماجه: المقدمة "192" , وأحمد "2/374" , والدارمي: الرقاق "2799". 9 الترمذي: القدر "2140" , وابن ماجه: الدعاء "3834". 10 البخاري: الأيمان والنذور "6661" , ومسلم: الجنة وصفة نعيمها وأهلها "2848" , والترمذي: تفسير القرآن "3272" , وأحمد "3/134 ,3/141 ,3/229 ,3/234". 11 البخاري: تفسير القرآن "4850" والتوحيد "7449" , ومسلم: الجنة وصفة نعيمها وأهلها "2846" , والترمذي: صفة الجنة "2561" , وأحمد "2/276 ,2/314 ,2/507". 12 سورة البقرة آية: 210. 13 سورة الفجر آية: 22. 14 سورة الأنعام آية: 158.

محمد صلى الله عليه وسلم فإذا جاءوا إليه قال: أنا لها أنا لها، فيذهب ويسجد لله تحت العرش، ويشفع عند الله في أن يأتي لفصل القضاء بين العباد، فيشفعه الله، ويأتي في ظلل من الغمام بعد ما تشقق السماء الدنيا، وينزل ما فيها من الملائكة، ثم الثانية، ثم الثالثة، ثم الرابعة إلى السابعة، وتنزل حملة العرش والكروبيون، وينزل الجبار عز وجل في ظلل من الغمام والملائكة، لهم زجل في تسبيحهم يقولون: سبحان ذي الملك والملكوت، سبحان ذي العرش والجبروت، سبحان الحي الذي لا يموت، سبحان الذي يميت الخلائق ولا يموت، سبوح قدوس رب الملائكة والروح، قدوس قدوس سبحان ربنا الأعلى، سبحان ذي السلطان والعظمة، سبحانه أبدا أبدا". وعن عبد الله بن عمرو في قوله: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ} 1 الآية قال: "يهبط حين يهبط وبينه وبين خلقه سبعون ألف حجاب، منها: النور والظلمة والماء، فيصوت الماء في تلك الظلمة صوتا تنخلع منه القلوب". وعن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يجمع الله الأولين والآخرين لميقات يوم معلوم، قياما شاخصة أبصارهم إلى السماء، ينظرون فصل القضاء، وينزل الله في ظلل من الغمام من العرش إلى الكرسي"وعن مجاهد: {فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ} قال: "هو السحاب، ولم يكن قط إلا لبني إسرائيل في تيههم". وقال أبو العالية: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ} فالملائكة يجيئون في ظلل من الغمام، والله –تعالى- يجيء فيما شاء، وهي في بعض القراءة: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ} وهي كقوله: {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلاً} 2. نزول الرب سبحانه وكلماته وقال صلى الله عليه وسلم "ينزل ربنا إلى سماء الدنيا"3 الحديث. وقال الله –تعالى-: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً} 4 وقال: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ

_ 1 سورة البقرة آية: 210. 2 سورة الفرقان آية: 25. 3 البخاري: الجمعة "1145" , ومسلم: صلاة المسافرين وقصرها "758" , والترمذي: الصلاة "446" والدعوات "3498" , وأبو داود: الصلاة "1315" والسنة "4733" , وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها "1366" , وأحمد "2/258 ,2/264 ,2/267 ,2/282 ,2/419 ,2/487 ,2/504 ,2/521" , ومالك: النداء للصلاة "496" , والدارمي: الصلاة "1478 ,1479". 4 سورة الكهف آية: 109.

مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ} 1. وقال: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} 2 ولم يقل: حتى يرى خلق الله. وقال: {يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ} 3 وقال: {يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ} 4 وقال: {اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ} 5 وقال: {وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ} 6 قال: {وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ} 7. وقال: {وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ} 8 وقال: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} 9 وقال: {إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ} 10 وقال: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرائيلَ بِمَا صَبَرُوا} 11. وروى البخاري عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "تكفَّل الله عز وجل لمن جاهد في سبيله لا يخرجه من بيته إلا الجهاد في سبيله، وتصديق كلماته أن يدخله الجنة، أو يرجعه إلى مسكنه الذي خرج منه مع ما نال من أجر وغنيمة "12. وروى مسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "تكفَّل الله لمن جاهد في سبيله لا يخرجه من بيته إلا جهاد في سبيله، وتصديق كلمته بأن يدخله الجنة، أو يرجعه إلى مسكنه الذي خرج منه مع ما نال من أجر وغنيمة" 13. وعن أبي موسى الأشعري قال: "أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل، فقال: يا رسول الله، الرجل يقاتل شجاعة، ويقاتل حمية، ويقاتل رياء، أي ذلك في سبيل الله؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم مَنْ قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله" 14 رواه مسلم. وروى البخاري عن ابن عباس قال: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يعوذ الحسن والحسين، أعيذكما بكلمات الله التامة من كل شيطان وهامة، ومن كل عين لامة، ثم يقول: كان أبوكما يعوذ بهما إسماعيل وإسحاق" 15.

_ 1 سورة لقمان آية: 27. 2 سورة التوبة آية: 6. 3 سورة البقرة آية: 75. 4 سورة الفتح آية: 15. 5 سورة الكهف آية: 27. 6 سورة الزمر آية: 71. 7 سورة الأنفال آية: 7، 8. 8 سورة يونس آية: 82. 9 سورة هود آية: 119. 10 سورة يونس آية: 96 97 11 سورة الأعراف آية: 137. 12 البخاري: فرض الخمس "3123" , ومسلم: الإمارة "1876" , والنسائي: الجهاد "3122 ,3123" والإيمان وشرائعه "5029 ,5030" , وابن ماجه: الجهاد "2753" , وأحمد "2/231 ,2/384 ,2/399 ,2/494" , ومالك: الجهاد "974" , والدارمي: الجهاد "2391". 13 البخاري: فرض الخمس "3123" والتوحيد "7457 ,7463" , ومسلم: الإمارة "1876" , والنسائي: الجهاد "3122" , ومالك: الجهاد "974" , والدارمي: الجهاد "2391". 14 البخاري: التوحيد "7458" , ومسلم: الإمارة "1904" , والترمذي: فضائل الجهاد "1646" , والنسائي: الجهاد "3136" , وأبو داود: الجهاد "2517" , وابن ماجه: الجهاد "2783" , وأحمد "4/392 ,4/397 ,4/401 ,4/405 ,4/417". 15 البخاري: أحاديث الأنبياء "3371" , والترمذي: الطب "2060" , وأبو داود: السنة "4737" , وابن ماجه: الطب "3525" , وأحمد "1/236 ,1/270".

وعن خولة بنت حكيم أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا نزل أحدكم منزلا فليقل: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق، فإنه لا يضره شيء حتى يرتحل منه" 1. قال يعقوب بن عبد الله عن القعقاع بن حكيم عن ذكوان عن أبي هريرة أنه قال: "جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله: ما لقيت من عقرب لدغني البارحة، قال: أما أنك لو قلت حين أمسيت أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق لم تضرك" رواه مسلم ومالك والترمذي. وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا كلمات نقولهن عند النوم من الفزع: بسم الله، أعوذ بكلمات الله التامة من غضبه وعقابه، وشر عباده، ومن همزات الشياطين، وأن يحضرون" 2 فكان عبد الله بن عمرو يعلمها من بلغ من ولده، ومن لم يبلغ كتبها وعلقها عليه. فاستعاذ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر أن يستعاذ في هذه الأخبار بكلمات الله –تعالى- كما أمره الله -جل ثناؤه- أن يستعيذ به فقال: {وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ} 3 وقال: {فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} 4 ولا يصح أن يستعيذ المخلوق بالمخلوق، فدَّل أنه استعاذ بصفة من صفات ذاته، وهي غير مخلوقة كما أمره الله أن يستعيذ بذاته، وذاته غير مخلوقة. قال البيهقي: روى ميسرة عن علي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول عند مضجعه: "اللهم إني أعوذ بوجهك الكريم، وبكلماتك التامة من شر ما أنت آخذ بناصيته، اللهم أنت تكشف المغرم والمأثم، لا يُهْزَمُ جندُك، ولا يُخْلفُ وعدُك، ولا ينفع ذا الجد منك الجد، سبحانك وبحمدك". فاستعاذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بكلمات الله كما استعاذ بوجهه الكريم، فكما أن وجهه الذي استعاذ به غير مخلوق، فكذلك كلماته التي استعاذ بها غير

_ 1 مسلم: الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار "2708" , والترمذي: الدعوات "3437" , وابن ماجه: الطب "3547" , وأحمد "6/377 ,6/378 ,6/409" , والدارمي: الاستئذان "2680". 2 الترمذي: الدعوات "3528". 3 سورة المؤمنون آية: 97، 98. 4 سورة النحل آية: 98.

مخلوقة، وكلام الله –تعالى- واحد، وإنما جاء بلفظ الجمع على معنى التفخيم والتعظيم. وهذه الآيات والأحاديث صريحة في أن المسموع كلام الله، وأنه قديم، والقول هو الكلام، قال الله عز وجل {وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي} 1 وقال: {مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ} 2 وقال: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً} 3 وقال: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً} 4 وقال: {سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} 5 وقال: {قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ} 6 فأثبت الله -جل ثناؤه- لنفسه صفة القول في هذه الآيات. وروى البخاري عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا تهجَّد من الليل قال: اللهم لك الحمد، أنت نور السماوات والأرض، ولك الحمد أنت قيم السماوات والأرض ومن فيهن، أنت الحق، ووعدك الحق، وقولك الحق، ولقاؤك الحق، والجنة حق، والنار حق، والنبيون حق، اللهم لك أسلمت، وبك آمنت، وعليك توكلت، وإليك أنبت، وبك خاصمت، وإليك حاكمت، فاغفر لي ما قدَّمت وما أخَّرت، وما أسررت وما أعلنت، أنت إلهي لا إله إلا أنت" 7. وقد قال –تعالى-: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً} 8 فوصف نفسه بالتكليم، ووكده بالتكرار فقال: {تكليما} . وقال –تعالى-: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ} 9 وذكر في غير آية من كتابه ما كلَّم به موسى -عليه السلام- فقال: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ} 10 إلى قوله: {يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي} 11 وقال: {قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} 12 فهذا كلام سمعه موسى من ربه بلا ترجمان كان بينه وبينه، فدعاه إلى وحدانيته، وأمره بعبادته، وإقامة الصلاة لذكره، وأخبر أنه اصطنعه لنفسه، واصطفاه برسالاته وبكلامه. وروى البخاري عن أبي هريرة قال: قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم "احتجَّ آدم وموسى،

_ 1 سورة يس آية: 7. 2 سورة ق آية: 29. 3 سورة النساء آية: 122. 4 سورة النساء آية: 87. 5 سورة يس آية: 58. 6 سورة ص آية: 84. 7 البخاري: الجمعة "1120" , ومسلم: صلاة المسافرين وقصرها "769" , والترمذي: الدعوات "3418" , والنسائي: قيام الليل وتطوع النهار "1619" , وأبو داود: الصلاة "771" , وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها "1355" , وأحمد "1/298 ,1/308 ,1/358" , ومالك: النداء للصلاة "500" , والدارمي: الصلاة "1486". 8 سورة النساء آية: 164. 9 سورة الأعراف آية: 143. 10 سورة البقرة آية: 253. 11 سورة طه آية: 41. 12 سورة الأعراف آية: 144.

فقال موسى: يا آدم: أنت أبونا خَيَّبْتَنَا وأخرجتنا من الجنة. فقال له آدم: يا موسى: اصطفاك الله بكلامه، وخطَّ لك التوراة أتلومني على أمر قدَّره عليَّ قبل أن يخلقني؟! قال فحجَّ آدم موسى"1. وفي هذا أن موسى كلَّمه الله تكليما، وسمع كلامه بلا واسطة. وأما قوله: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ} 2 فالوحي أول ما أرى الله الأنبياء في منامهم. قال الشافعي -رحمه الله- وغيره من العلماء: "رؤيا الأنبياء وحي لقول ابن إبراهيم لما أُمِرَ أبوه في المنام بذبحه: {افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ} 3 ". أنواع تكليم الله تعالى لأنبيائه وأما الكلام من وراء حجاب: فهو كما كلَّم الله موسى من وراء حجاب، وروى البيهقي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن موسى -عليه السلام- قال: يا رب: أرنا الذي أخرجنا ونفسه من الجنة، فأراه الله عز وجل آدم -عليه السلام-، فقال: أنت أبونا آدم؟ فقال له أبونا آدم: نعم، فقال: أنت الذي نفخ الله فيك من روحه، وعلَّمك الأسماء كلها، وأمر الملائكة فسجدوا لك؟ قال: نعم، قال: فما حملك على أن أخرجتنا ونفسك من الجنة؟ قال له آدم: فمن أنت؟ قال: أنا موسى، قال: أنت نبي بني إسرائيل الذي كلمك الله من وراء حجاب، لم يجعل بينك وبينه رسولا من خلقه؟ قال: نعم" 4 إلخ الحديث. وأما الكلام بالرسالة: فهو إرسال الروح الأمين إلى من شاء من عباده، قال الله –تعالى-: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ} 5 والأحاديث في ذلك كثيرة. قال البيهقي: وقد كان لنبينا صلى الله عليه وسلم هذه الأنواع الثلاثة: أما الرسالة: فقد كان جبريل يأتيه بها من عند الله عز وجل. وأما الرؤيا في المنام: فقد قال الله –تعالى-: {قَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ} 6. وأما التكليم: فقد قال الله عز وجل {فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} 7 ثم كان فيما أوحى

_ 1 البخاري: أحاديث الأنبياء "3409" وتفسير القرآن "4738" , ومسلم: القدر "2652" , والترمذي: القدر "2134" , وأبو داود: السنة "4701" , وابن ماجه: المقدمة "80" , وأحمد "2/248 ,2/264 ,2/268 ,2/287 ,2/314 ,2/398 ,2/448 ,2/464" , ومالك: الجامع "1660". 2 سورة الشورى آية: 51. 3 سورة الصافات آية: 102: 104. 4 أبو داود: السنة "4702". 5 سورة الشعراء آية: 192. 6 سورة الفتح آية: 27. 7 سورة النجم آية: 10.

إليه ليلة المعراج خمسين صلاة، فلم يزل يسأل ربه التخفيف لأمته حتى صارت إلى خمس صلوات، وقال له ربه: "ما يبدل القول لدي " وهي بخمسين صلاة" 1. مذاهب الفرق في رؤية الله تعالى وعلوه وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: "قلنا يا رسول الله: هل نرى ربنا -جل ذكره-؟ قال: هل تضارون في رؤية الشمس إذا كان صحو؟ قلنا: لا. قال: فتضارون في رؤية القمر ليلة البدر إذا كان صحو؟ قلنا: لا. قال: فإنكم لا تضارون في رؤية ربكم إلا كما تضارون في رؤيتهما، ثم ينادي منادٍ: ليذهب كل قوم مع من كانوا يعبدون" 2 فذكر الحديث، قال فيه: "فيقول: هل بينكم وبينه آية تعرفونها؟ فيقولون: الساق، فيكشف عن ساقه؛ فيسجد له كل مؤمن، ويبقى من كان يسجد رياء وسمعة، فيذهب كيما يسجد، فيعود ظهره طبقا واحدا" 3. وقال صلى الله عليه وسلم "إنكم سترون ربكم عز وجل يوم القيامة كما ترون الشمس لا تُضَامُّون في رؤيتها" 4. فأما أهل الحديث والسنة المحضة فإنهم متفقون على إثبات العلو والمباينة والرؤية، والمعتزلة ينفونها، واختلف الأشعرية في العلو واتفقوا على الرؤية بلا مقابلة. قال ابن القيم: من أثبت أحدهما، ونفى الآخر فهو أقرب إلى الشرع والعقل ممن نفاهما؛ لأن الآيات والأحاديث والآثار المنقولة عن الصحابة في دلالتها على العلو والرؤية أعظم من أن تنحصر، وليس مع نفاة الرؤية والعلو ما يصلح أن يذكر من الأدلة الشرعية، وإنما يزعمون أن عندهم أدلة عقلية. فقول الأشعرية المتناقضين في العلو خير من قول المعتزلة النافين للرؤية والعلو، وذلك أنا إذا عرضنا على العقل وجود موجود لا يشار إليه، ولا يصعد إليه شيء، ولا ينزل منه شيء، ولا هو داخل العالم، ولا هو خارجه، ولا ترفع الأيدي إليه، ولا هو فوق ولا تحت ولا يمين ولا شمال ولا خلف ولا إمام، كانت الفِطَرُ تنكر ذلك، والعقول الصحيحة؛ لأنه لو قيل لك: صف شيئا بالعدم لما قلت أكثر من ذلك كما قاله الحافظ الذهبي.

_ 1 البخاري: الصلاة "349" , والترمذي: الصلاة "213" , والنسائي: الصلاة "449 ,450" , وأحمد "3/161". 2 ابن ماجه: المقدمة "179" , وأحمد "3/16". 3 البخاري: التوحيد "7440". 4 البخاري: التوحيد "7436" , ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة "633" , والترمذي: صفة الجنة "2551" , وأبو داود: السنة "4729" , وابن ماجه: المقدمة "177" , وأحمد "4/360 ,4/362 ,4/365".

الأدلة على رؤية الله تعالى قوله تعالى لن تراني وقد تمسَّك مَنْ نفى الرؤية من أهل البدع والخوارج والمعتزلة وبعض المرجئة بقوله: {لَنْ تَرَانِي} 1 وقال: "لن" تكون لتأييد النفي ودوامه، والمعتزلة لا يشهد لهم بذلك كتاب ولا سنة، وما قالوه في أن "لن" للتأبيد خطأ بيِّن، وليس يشهد لما قالوه نص عن أهل اللغة والعربية. ويدل على ذلك قوله –تعالى- في اليهود: {وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً} 2 مع أنهم يتمنون الموت يوم القيامة، ويدل عليه قوله –تعالى-: {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} 3. وقوله {ياليتها كانت القاضية} وقد اتفق على الرؤية الأنبياء والمرسلون وجميع الصحابة والتابعين، وأئمة الإسلام على تتابع القرون، وأنكرها أهل البدع المارقون والجهمية المهوكون والفرعونيون المعطلون والباطنية الذين هم من جميع الأديان منسلخون، والرافضة الذين هم بحبائل الشيطان متمسكون، وعن حبل الله منقطعون، ولكل عدو لله ورسوله ولأمته مسالمون، وكل هؤلاء عن ربهم محجوبون، وعن بابه مطرودون، أولئك أحزاب الضلال شيعة اللعين، وقد قال –تعالى-: {لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ مُوسَى صَعِقاً} 4. فبيان الدلالة من هذه الآية على الرؤية من وجوه عديدة: "أحدها": أنه لا يظن بكليم الرحمن أن يسأل ربه ما لا يجوز عليه، بل ذلك من أبطل الباطل، وأعظم المحال، فيالله العجب كيف صار اتباع الصابئة والمجوس والمشركين وفروخ الجهمية والفرعونية أعلم بما يجب لله، ويستحيل عليه، وأشد تنزيها له من رسوله وكليمه؟! "الوجه الثاني": أن الله –سبحانه- لم ينكر عليه سؤاله، ولو كان محالا لأنكره عليه؛ ولهذا لما سأل إبراهيم الخليل ربه أن يريه كيف يحيي الموتى لم ينكر عليه، ولما سأل عيسى ابن مريم ربه أن ينزل مائدة من السماء لم ينكر سؤاله، ولما سأل

_ 1 سورة الأعراف آية: 143. 2 سورة البقرة آية: 95. 3 سورة الحاقة آية: 27. 4 سورة الأعراف آية: 143.

نوح ربه نجاة ابنه أنكر عليه سؤاله وقال {إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} 1. "الوجه الثالث" أنه أجابه بقوله: {لَنْ تَرَانِي} 2 ولم يقل: إني لا أرى، ولا: إني لست بمرئي، أو: لا تجوز رؤيتي، والفرق بين الجوابين ظاهر لمن تأمله، وهذا يدل على أنه –سبحانه- مرئي، ولكن موسى لا تحمل قواه رؤيته في هذا الدار، لضعف قوة البشر عن رؤيته –تعالى-. يوضحه: {الوجه الرابع" وهو قوله: {وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي} 3 فأعلمه أن الجبل مع قوته وصلابته لا يثبت، لتجليه له في هذه الدار، فكيف بالبشر الضعيف، الذي خلق من ضعف؟ "الوجه الخامس" أن الله -سبحانه- قادر على أن يجعل الجبل مستقرا مكانه، وليس هذا بممتنع في مقدوره، بل هو ممكن، وقد علق به الرؤية، ولو كانت محالا في ذاتها لم يعلقها بالممكن في ذاته. "الوجه السادس" قوله: {لَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً} 4 وهذا من أبين الأدلة على جواز رؤيته -تبارك وتعالى- فإنه إذا جاز أن يتجلى للجبل، الذي هو جماد لا ثواب له ولا عقاب، فكيف يمتنع أن يتجلى لأنبيائه ورسله وأوليائه في دار كرامته، ويريهم نفسه؟ فأعلم –سبحانه- موسى –عليه السلام- أن الجبل إذا لم يثبت لرؤيته في هذه الدار، فالبشر أضعف. "الوجه السابع" أن الله -سبحانه- قد كلمه منه إليه، وخاطبه وناجاه وناداه، ومن جاز عليه التكلم والتكليم، وسمع كلامه بغير واسطة فرؤيته أولى بالجواز، ولهذا لا يتم إنكار الرؤية إلا بإنكار التكليم. وقد جمعت هذه الطوائف بين إنكار الأمرين فأنكروا أن يكلم الله أحدا أو يراه

_ 1 سورة هود آية: 46، 47. 2 سورة الأعراف آية: 143. 3 سورة الأعراف آية: 143. 4 سورة الأعراف آية: 143.

أحد، ولهذا سأله موسى النظر إليه لما أسمعه كلامه، وعلم نبي الله جواز رؤيته من وقوع خطابه وتكليمه، ولم يخبر -سبحانه- باستحالة ذلك عليه، ولكن أراه أن ما سأله لا يقدر على احتماله، كما لم يثبت الجبل لتجليه. وأما قوله: {لَنْ تَرَانِي} 1 فإنما يدل على النفي في المستقبل، ولا يدل على دوامه، ولو قيد بالتأبيد فكيف إذا أطلق كما قال تعالى: {وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً} 2 مع قوله: {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} 3. قوله تعالى واتقوا الله واعلموا أنكم ملاقوه والدليل الثاني قوله -تعالى -: {اتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ} 4 وقوله -تعالى-: {تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ} 5 وقوله -تعالى-: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ} 6 وقوله -تعالى-: {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ} 7. وأجمع أهل اللسان أن اللقاء متى نُسِب إلى الحي السليم من العَمى والمانع اقتضى المعاينةَ والرؤيةَ، ولا ينتقض هذا بقوله -تعالى-: {فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ} 8. فقد دلت الأحاديث الصحيحة والصريحة على أن المنافقين يرونه في عرصات القيامة، بل والكفار أيضا كما في الصحيحين من حديث التجلي يوم القيامة. وفي هذه المسألة ثلاثة أقوال لأهل السنة: "أحدها": أنه لا يراه إلا المؤمنون. "والثاني": يراه المؤمن والمنافق. "والثالث": يراه جميع أهل الموقف، مؤمنهم وكافرهم، ثم يحتجب عن الكفار، فلا يرونه بعد ذلك، والأقوال الثلاثة في مذهب أحمد، وهي لأصحابه، وكذلك الأقوال الثلاثة بعينها في تكلمه لهم، ولشيخ الإسلام في ذلك مصنف مفرد، حكى فيه الأقوال الثلاثة، وحجج أصحابها. وكذلك قوله -سبحانه وتعالى-: {يَا أَيُّهَا الْأِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ} 9 إن عاد الضمير على العمل فهو رؤيته في الكتاب مسطورا، وإن عاد على الرب –تعالى- فهو لقاؤه الذي وعد به.

_ 1 سورة الأعراف آية: 143. 2 سورة البقرة آية: 95. 3 سورة الزخرف آية: 77. 4 سورة البقرة آية: 223. 5 سورة الأحزاب آية: 44. 6 سورة الكهف آية: 110. 7 سورة البقرة آية: 46. 8 سورة التوبة آية: 77. 9 سورة النشقاق آية: 6.

قوله تعالى والله يدعوا إلى دار السلام "والدليل الثالث" قوله -تعالى-: {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} 1 فالحسنى: الجنة، والزيادة: النظر إلى وجهه الكريم، وكذلك فسرها الذي أنزل عليه القرآن صلى الله عليه وسلم والصحابة بعده. كما رواه مسلم في صحيحه، من حديث حماد بن سلمة، عن ثابت عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن صهيب رضي الله عنه قال: قرأ صلى الله عليه وسلم {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} 2 ثم قال: "إذا دخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار، نادى مناد: يا أهل الجنة: إن لكم عند الله موعدا، يريد أن ينجزكموه فيقولون: ما هو؟ ألم يثقل موازيننا، ويبيض وجوهنا ويدخلنا الجنة ويخرجنا من النار؟! فيكشف الحجاب فينظرون إليه، فما أعطاهم شيئا أحب إليهم من النظر إليه، وهي الزيادة" 3. وروى الحسن عن أنس بن مالك قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} قال: " {للذين أحسنوا العمل في الدنيا الحسنى} وهي: الجنة، والزيادة: النظر إلى وجه الله -تعالى-". وروى محمد بن جرير، عن كعب بن عجرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله -تعالى-: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} قال: "الزيادة النظر إلى وجه الرحمن" وروى أبو العالية عن أبي بن كعب قال "سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله -تعالى-: للذين أحسنوا الحسنى وزيادة قال: الحسنى الجنة والزيادة النظر إلى الله عز وجل"4 وقال أبو بكر رضي الله عنه الزيادة هي النظر إلى وجه الله. وقال حذيفة رضي الله عنه هي النظر إلى وجه ربهم. وقال أبو موسى الأشعري: هي النظر إلى وجه الرحمن، وقال وهو يخطب الناس في جامع البصرة: إن الله عز وجل يبعث ملكا إلى أهل الجنة فيقول: يا أهل الجنة هل أنجزكم الله ما وعدكم؟ فينظرون إلى الحلي والحلل والأنهار والأزواج

_ 1 سورة يونس آية: 25، 26. 2 سورة يونس آية: 26. 3 الترمذي: صفة الجنة "2552" وتفسير القرآن "3105" , وابن ماجه: المقدمة "187" , وأحمد "4/332 ,4/333 ,6/15". 4 الترمذي: صفة الجنة "2552" , وأحمد "6/15".

المطهرة فيقولون: نعم قد أنجز الله ما وعدنا، ثم يقول الملك: هل أنجزكم الله ما وعدكم؟ ثلاث مرات، فيقولون: نعم، فيقول: قد بقي لكم شيء؟ إن الله يقول {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} ألا إن الحسنى الجنة، والزيادة النظر إلى وجه الله الكريم. وقال ابن عباس وابن مسعود -رضي الله عنهما-: الحسنى الجنة، والزيادة النظر إلى وجه الله، والقتر السواد. وقال عبد الرحمن بن أبي ليلى، وعامر بن سعد، وإسماعيل بن عبد الرحمن السدي، والضحاك، وعبد الرحمن بن سابط، وأبو إسحاق السبيعي، وقتادة، وسعيد بن المسيب، والحسن، وعكرمة مولى ابن عباس، ومجاهد: "الحسنى" الجنة، "والزيادة": النظر إلى وجه الله. ولما عطف –سبحانه وتعالى- الزيادة على الحسنى التي هي الجنة، دل على أنها أمر آخر وراء الجنة، وقدر زائد عليها، ومن فسر الزيادة بالمغفرة والرضوان فهو من لوازم رؤية الرب -تبارك وتعالى-. قوله تعالى كلا بل ران على قلوبهم والدليل الرابع: قوله -تعالى-: {كَلا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ كَلا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} 1. ووجه الاستدلال بها أنه -سبحانه- جعل من أعظم عقوبة الكفار كونهم محجوبين عن رؤيته وسماع كلامه، فلو لم يره المؤمنون، ويسمعوا كلامه كانوا أيضا محجوبين عنه، وقد احتج بهذه الحجة الإمام الشافعي وغيره من الأئمة، فذكره الطبراني وغيره عن المزني قال: سمعت الشافعي يقول في قول الله عز وجل {كَلا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} 2 قال: فيها دليل على أن أولياء الله يرون ربهم يوم القيامة. وقال الحاكم: حدثنا الأصم، حدثنا الربيع، قال: حضرت محمد بن إدريس الشافعي، وقد جاءته رقعة من الصعيد فيها: ما تقول في قوله: {كَلا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ

_ 1 سورة المطففين آية:14، 15. 2 سورة المطففين آية: 15.

يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} 1 قال: لما حجب هؤلاء في السخط كان في هذا دليل على أن أولياءه يرونه في الرضاء. قوله تعالى {لهم ما يشاءون فيها} "والدليل الخامس": قوله عز وجل {لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} 2 قال الطبراني: قال علي بن أبي طالب، وأنس بن مالك: هو النظر إلى وجه الله عز وجل. قوله تعالى لا تدركه الأبصار "والدليل السادس": قوله عز وجل {لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ} 3 والاستدلال بهذه الآية عجيب فإنه من أدلة نفاة الرؤية، وقد قرر شيخ الإسلام ابن تيمية وجه الاستدلال بها أحسن تقرير، وقال: لا يحتج مبطل بآية، أو حديث صحيح على باطله إلا وفي ذلك الدليل ما يدل على نقيض قوله. فمنها هذه الآية، وهي على جواز الرؤية أدل منها على امتناعها، فإنه -سبحانه- ذكرها في سياق التمدح، ومعلوم أن المدح إنما يكون بالأوصاف الثبوتية، وأما العدم المحض فليس بكمال، ولا يتمدح به. وإنما يمدح الرب -تعالى- بالعدم إذا تضمن أمرا وجوديا، كتمدحه –سبحانه وتعالى- بنفي السنة والنوم المتضمن كمال القيومية، ونفي الموت المتضمن كمال الحياة، ونفي اللغوب والإعياء المتضمن كمال القدرة، ونفي الشريك والصاحبة والولد والظهير المتضمن كمال ربوبيته وإلهيته وقهره، ونفي الأكل والشرب المتضمن كمال صمديته، وغناه عن خلقه، ونفي الظلم المتضمن كمال عدله وعلمه وغنائه، ونفي النسيان وعزوب شيء عن علمه المتضمن كمال علمه وإحاطته، ونفي المثل المتضمن كمال ذاته وصفاته. ولهذا لم يتمدح بعدم محض لا يتضمن أمرا ثبوتيا، فإن المعدوم يشارك الموصوف في ذلك العدم، ولا يوصف الكامل بأمر يشترك هو والمعدوم فيه، فلو كان المراد بقوله: {لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} 4 أنه لا يرى بحال لم يكن في ذلك مدحا ولا كمالا لمشاركة المعدوم له في ذلك، فإن العدم الصرف الذي لا يرى، ولا

_ 1 سورة المطففين آية: 15. 2 سورة ق آية: 35. 3 سورة الأنعام آية: 103. 4 سورة الأنعام آية: 103.

تدركه الأبصار. والرب -جل جلاله- يتعالى أن يمدح بأمر يشاركه فيه العدم المحض، فالمعنى أنه يرى ولا يدرك ولا يحاط به، كما كان المعنى في قوله: {وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ} 1 أنه يعلم كل شيء، وفي قوله: {وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} 2 أنه كامل القدرة. وفي قوله: {وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} 3 أنه كامل العدل، وفي قوله: {لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} 4 أنه كامل القيومية. وقوله: {لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} 5 يدل على غاية عظمته، وأنه أكبر من كل شيء، وأنه لعظمته لا يدرك بحيث لا يحاط به، فإن الإدراك هو الإحاطة بالشيء، وهو قدر زائد على الرؤية كما قال تعالى: {فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ قَالَ كَلا} 6 فلم ينف موسى الرؤية، ولم يريدوا بقولهم إنا لمدركون: لمرئيون. فإن موسى –عليه السلام- نفى إدراكهم إياهم بقوله: "كلا" فأخبر الله -سبحانه- أنه لا يخاف دركهم بقوله: {وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً لا تَخَافُ دَرَكاً وَلا تَخْشَى} 7 فالرؤية والإدراك كل منهما يوجد مع الآخر وبدونه، فالرب -تعالى- يرى ولا يدرك، كما يعلم، ولا يحاط به، وهذا الذي فهمه الصحابة والأئمة. قال ابن عباس: {لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} 8 لا تحيط به الأبصار، فالمؤمنون يرون ربهم -تبارك وتعالى- بأبصارهم عيانا، ولا تدركه أبصارهم بمعنى أنها لا تحيط به، وهكذا يسمع كلامه من يشاء من خلقه، ولا يحيطون بكلامه، وكذلك يعلم الخلق ما علمهم، ولا يحيطون بعلمه. ونظير هذا استدلالهم على نفي الصفات بقوله -تعالى-: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} 9 وهذا من أعظم الأدلة على كثرة صفات كماله ونعوت جلاله، وأنها لكثرتها وعظمتها وسعتها لم يكن له مثل فيها، وهكذا جميع العقلاء إنما يفهمون من قول القائل: فلان لا مثل له، وليس له نظير ولا شبيه، أنه قد تميز عن الناس بأوصاف

_ 1 سورة يونس آية: 61. 2 سورة ق آية: 38. 3 سورة الكهف آية: 49. 4 سورة البقرة آية: 255. 5 سورة الأنعام آية: 103. 6 سورة الشعراء آية:61، 62. 7 سورة طه آية: 77. 8 سورة الأنعام آية: 103. 9 سورة الشورى آية: 11.

ونعوت لا يشاركونه فيها، وكلما كثرت أوصافه ونعوته فات، وبعد عن مشابهة أضرابه، فكيف بالحي القيوم الذي لا مثل له في ذاته وصفاته؟ فقوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} 1 من أدل شيء على كثرة نعوته وصفاته. وقوله: {لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} 2 من أدل شيء على أنه يرى، ولا يدرك. قوله تعالى وجوه يومئذ ناضرة "والدليل السابع": قوله عز وجل {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} 3 فأنت إذا أخرجت هذه الآية عن تحريفها عن موضوعها، والكذب على المتكلم بها -سبحانه- فيما أراد منها، وجدتها منادية نداء صريحا أن الله -سبحانه- يُرَى عيانا بالأبصار يوم القيامة، وإن أبيت إلا تحريفها الذي يسميه المحرفون: تأويلا، فتأويل نصوص المعاد والجنة والنار والميزان والحساب أسهل على أربابه من تأويلها، وتأويل كل نص تضمنه القرآن والسنة كذلك. ولا يشاء مبطل على وجه الأرض أن يتأول النصوص، ويحرفها عن مواضعها إلا وجد إلى ذلك من السبيل ما وجد متأول مثل هذه النصوص، وهذا الذي أفسد الدين والدنيا. وإضافة النظر إلى الوجه الذي هو محله في هذه الآية، وتعديته بأداة "إلى" الصريحة في نظر العين، وإخلاء الكلام من قرينة تدل على أن المراد بالنظر المضاف إلى الوجه المعدى بإلى، خلاف حقيقته وموضوعه -صريح في أن الله أراد بذلك نظر العين التي في الوجه إلى نفس الرب -جل جلاله-. فإن النظر له عدة استعمالات بحسب صلاته، وتعديه بنفسه، فإن عدي بنفسه فمعناه التوقف والانتظار، كقوله: {انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ} 4 وإن عدي ب في فمعناه التفكر والاعتبار، كقوله: {أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} 5 وإن عدي ب "إلى" فمعناه المعاينة بالأبصار، كقوله: {انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ} 6 فكيف إذا أضيف إلى الوجه الذي هو محل النظر؟. وكيف وقد قال صلى الله عليه وسلم في قوله -تعالى-: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ} 7 قال "من البهاء والحسن" {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} 8 قال "في وجه الله عز وجل".

_ 1 سورة الشورى آية: 11. 2 سورة الأنعام آية: 103. 3 سورة القيامة آية:22، 23. 4 سورة الحديد آية: 13. 5 سورة الأعراف آية: 185. 6 سورة الأنعام آية: 99. 7 سورة القيامة آية: 22. 8 سورة القيامة آية: 23.

فاسمع أيها الإنسان تفسير النبي صلى الله عليه وسلم والأحاديث الدالة على الرؤية متواترة رواها عنه صلى الله عليه وسلم أبو بكر الصديق، وأبو هريرة، وأبو سعيد الخدري، وجرير بن عبد الله، وصهيب، وعبد الله بن مسعود، وعلي ابن أبي طالب، وأبو موسى الأشعري، وعدي بن حاتم الطائي، وأنس بن مالك الأنصاري، وبريدة بن الحصيب الأسلمي، وأبو رزين وجابر بن عبد الله، وأبو أمامة الباهلي، وزيد بن ثابت، وعمار بن ياسر، وعائشة أم المؤمنين، وعبد الله بن عمر، وسلمان الفارسي، وحذيفة بن اليمان، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وحديثه موقوف، وأبي بن كعب، وكعب بن عجرة، وفضالة بن عبيد، وحديثه موقوف، فمن أراد الاطلاع عليها فليراجعها في مظانها. قوله تعالى وهو معكم وقوله -تعالى-: {يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} 1 وهذه الآية من أدل شيء على مباينة الرب لخلقه باستوائه على عرشه، وهو يعلم ما هم فاعلون، ويراهم وينفذهم بصره، ويحيط بهم علما وقدرة وإرادة وسمعا وبصرا، فهذا معنى كونه -سبحانه- معهم أينما كانوا. انتهى كلام ابن القيم. قال الحافظ الذهبي في قوله -تعالى-: {وَهُوَ مَعَكُمْ} 2 هو كما إذا كتبت إلى رجل: إني معك، وأنت غائب عنه. قال ابن عباس: نزلت هذه الآية في ربيعة وحبيب ابني عمر، وصفوان بن أمية؛ كانوا يوما يتحدثون، فقال أحدهم: هل يعلم الله ما نقول؟ وقال الثاني: يعلم البعض دون البعض، وقال الثالث: إن كان يعلم البعض فيعلم الكل. والمراد من قوله -تعالى-: {مَعَكُمْ} 3 كونه -تعالى- عالما بكلامهم وضميرهم وسرهم وإعلانهم، كما قال ابن مسعود رضي الله عنه"العرش فوق الماء، والله فوق العرش لا يخفى عليه شيء من أعمالكم".

_ 1 سورة الحديد آية: 4. 2 سورة الحديد آية: 4. 3 سورة الحديد آية: 4.

وعن زر عن عبد الله قال: ما بين السماء القصوى وبين الكرسي خمسمائة سنة، وما بين الكرسي والماء خمسمائة سنة، والعرش فوق الماء، والله فوق العرش لا يخفى عليه شيء من أعمال بني آدم". وقال البيهقي: لقد أصاب أبو حنيفة -رحمه الله- فيما نفى عن الله عز وجل من الكون في الأرض، وأصاب فيما ذكر من تأويل الآية، وتبع مطلق السمع بأن الله -تعالى- في السماء. وبلغنا عن أبي مطيع الحكم بن عبد الله البلخي صاحب الفقه الأكبر قال: سألت أبا حنيفة عمن يقول: لا أعرف ربي في السماء، أو في الأرض فقال: قد كفر؛ لأن الله يقول: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} 1 وعرشه فوق سماواته، فقلت: إنه يقول: أقول {عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} 2 ولكن قال: لا يدري العرش في السماء، أو في الأرض؟ فقال: إذا أنكر أنه في السماء فقد كفر. رواها صاحب الفاروق بإسناد عن أبي بكر بن يحيى عن الحكم. وسمعت الفاسي الإمام تاج الدين عبد الخالق بن علوان، قال سمعت الإمام أبا محمد عبد الله بن أحمد المقدسي مؤلف المقنع يقول: بلغني عن أبي حنيفة -رحمه الله- أنه قال: من أنكر أن الله عز وجل في السماء فقد كفر، وقال محمد بن كثير: سمعت الأوزاعي يقول: كنا - والتابعون متوافرون - نقول: إن الله عز وجل فوق عرشه، ونؤمن بما وردت به السنة من صفاته. أخرجه البيهقي في كتاب الأسماء والصفات. وروى أبو إسحاق المفسر قال: سئل الأوزاعي عن قوله -تعالى-: {ثم اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} 3 قال هو على العرش كما وصف نفسه، وقد سأل الوليد بن مسلم الإمام أبا عمرو الأوزاعي عن أحاديث الصفات، فقال: أمروها كما جاءت

_ 1 سورة طه آية: 5. 2 سورة طه آية: 5. 3 سورة الحديد آية: 4.

ومن كلام هذا الإمام عليك بآثار من سلف، وإياك وآراء الرجال، وإن زخرفوه لك بالقول. وروى عبد الله بن أحمد بن حنبل في كتاب السنة عن مقاتل بن حيان في قوله -تعالى-: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ} 1 قال: هو على عرشه وعلمه معهم. وروى البيهقي بإسناده عن مقاتل بن حيان قال: بلغنا- والله أعلم- في قوله -تعالى-: {هُوَ الأَوَّلُ} 2 قبل كل شيء {وَالآخِرُ} بعد كل شيء {وَالظَّاهِرُ} فوق كل شيء، {وَالْبَاطِنُ} أقرب من كل شيء، وأنه قريب بعلمه، وهو فوق عرشه، وسئل سفيان الثوري عن قوله عز وجل {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} 3 قال علمه. الله في السماء وعلمه في كل مكان لا يخلو منه وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل في الرد على الجهمية: حدثني أبي، حدثنا شريح بن النعمان عن عبد الله بن نافع، قال مالك بن أنس: الله في السماء، وعلمه في كل مكان لا يخلو منه" ولهذا افتتح -سبحانه وتعالى- الآية بالعلم، واختتمها بالعلم بقوله: {أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ} 4 وقوله: {بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} 5 كما قاله الإمام أحمد بن حنبل -رحمه الله-، وقال تعالى: {َيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} 6 وقال: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} 7 وقال: {وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي} 8 وقال فيما أخبر به عن عيسى -عليه السلام-: {عْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ} 9. وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنهقال: لا أحد أغير من الله؛ ولذلك حرم الفواحش ما ظهر منها؛ وما بطن، ولا شيء أحب إليه المدح من الله، ولذلك مدح نفسه. رواه البخاري في الصحيح عن حفص بن عمر، وأخرجه مسلم من وجه آخر عن سعد، وعنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم " ما أحد أحب إليه المدح من الله ومن أجل ذلك مدح نفسه، وما أحد أغير من الله، ومن أجل ذلك حرم الفواحش" 10. وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لما قضى الله الخلق كتب في كتاب كتبه على نفسه، وهو مرفوع فوق العرش أن رحمتي تغلب غضبي" 11 رواه مسلم

_ 1 سورة المجادلة آية: 7. 2 سورة الحديد آية: 3. 3 سورة الحديد آية: 4. 4 سورة البقرة آية: 77. 5 سورة البقرة آية: 29. 6 سورة آل عمران آية: 28. 7 سورة الأنعام آية: 54. 8 سورة طه آية: 41. 9 سورة المائدة آية: 116. 10 البخاري: تفسير القرآن "4634" , ومسلم: التوبة "2760" , والترمذي: الدعوات "3530" , وأحمد "1/381 ,1/425 ,1/436" , والدارمي: النكاح "2225". 11 البخاري: بدء الخلق "3194" , ومسلم: التوبة "2751" , والترمذي: الدعوات "3543" , وابن ماجه: المقدمة "189" والزهد "4295" , وأحمد "2/358".

في الصحيح. وعنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله -سبحانه- لما خلق الخلق كتب بيده على نفسه: إن رحمتي سبقت غضبي"1. وعنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "التقى آدم وموسى فقال موسى لآدم: أنت آدم الذي أشقيت الناس، وأخرجتهم من الجنة؟ قال: فقال آدم لموسى: أنت موسى الذي اصطفاك الله برسالاته، واصطنعك لنفسه" 2 الحديث رواه البخاري في الصحيح. وعن الصلت بن محمد، وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "يقول الله عز وجل أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه حين يذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه، وإن تقرب إلي شبرا تقربت إليه ذراعا، وإن تقرب إلي ذراعا تقربت منه باعا، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة" 3 أخرجاه في الصحيح من وجه عن الأعمش. وعن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الله: "ابن آدم اذكرني في نفسك أذكرك في نفسي فإن ذكرتني في ملأ ذكرتك في ملأ من الملائكة، أو قال: في ملأ خير منه" 4. وعن أبي ذر الغفاري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الله عز وجل أنه قال: "إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا" 5 رواه مسلم في الصحيح. وعن ابن عباس عن جويرية "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بها حين صلى الغداة، أو بعد ما صلى الغداة، وهي تذكر الله، ثم مر بها بعد ما ارتفع النهار، أو بعد ما انتصف النهار، وهي كذلك فقال لها: لقد قلت منذ وقفت عليك كلمات ثلاث مرات هن أكثر أو أرجح، أو أوزن مما كنت فيه منذ الغداة: سبحان الله عدد خلقه، سبحان الله رضى نفسه، سبحان الله زنة عرشه، سبحان الله مداد كلماته" رواه مسلم في الصحيح. وعن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ على المنبر: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} 6 فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "كذا

_ 1 البخاري: بدء الخلق "3194" , ومسلم: التوبة "2751" , والترمذي: الدعوات "3543" , وابن ماجه: المقدمة "189" , وأحمد "2/257 ,2/259 ,2/313 ,2/358 ,2/381 ,2/397 ,2/433". 2 البخاري: تفسير القرآن "4736" , ومسلم: القدر "2652" , والترمذي: القدر "2134" , وأبو داود: السنة "4701" , وابن ماجه: المقدمة "80" , وأحمد "2/248 ,2/264 ,2/268 ,2/287 ,2/314 ,2/392 ,2/398 ,2/448 ,2/464" , ومالك: الجامع "1660". 3 البخاري: التوحيد "7405 ,7505" , ومسلم: الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار "2675" , والترمذي: الزهد "2388" والدعوات "3603" , وابن ماجه: الأدب "3822" , وأحمد "2/251 ,2/413 ,2/435 ,2/445 ,2/480 ,2/482 ,2/515 ,2/517 ,2/524 ,2/534". 4 أحمد "3/138". 5 مسلم: البر والصلة والآداب "2577". 6 سورة الزمر آية: 67.

يمجد نفسه -جل وعز-: أنا الجبار أنا العزيز أنا المتكبر" 1 فرجف به المنبر حتى قلنا: ليخر به إلى الأرض. وقال تعالى: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} 2 وقال: {فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} 3 وقال: {وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا} 4 عن نافع أن عبد الله بن عمر أخبره أن المسيح الدجال ذكر بين ظهراني الناس فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن الله ليس بأعور ألا إن المسيح الدجال أعور عينه اليمنى، كأن عينه عنبة طافية" 5 رواه البخاري في الصحيح. وعن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ما بعث نبي إلا وقد أنذر أمته الأعور الكذاب ألا إنه أعور وإن ربكم ليس بأعور مكتوب بين عينيه كافر" 6 وعن ابن عباس: {وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا} 7 قال: بعين الله -تبارك وتعالى-. ساق الله وذات الله وما ورد في ذلك وقال -تعالى-: {وْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ} 8 عن أبي سعيد الخدري أنه قال: "قلنا يا رسول الله: أنرى ربنا -تعالى ذكره-؟ قال: هل تضارون في رؤية الشمس إذا كان صحو؟ قلنا: لا. قال: فتضارون في رؤية القمر ليلة البدر إذا كان صحو؟ قلنا: لا. قال: فإنكم لا تضارون في رؤية ربكم إلا كما تضارون في رؤيتهما، ثم ينادي مناد: ليذهب كل قوم مع من كانوا يعبدون" 9. فذكر الحديث، وقال فيه: "فيقول: هل بينكم وبينه آية تعرفونها؟ فيقولون: الساق. فيكشف عن ساقه فيسجد له كل مؤمن، ويبقى من كان يسجد رياء وسمعة، فيذهب كيما يسجد فيعود ظهره طبقا واحدا "10. قال وذكر الحديث رواه البخاري في الصحيح عن ابن بكير، ورواه عن آدم بن إياس عن الليث مختصرا. وقال في الحديث: "يكشف ربنا عن ساقه" 11 ورواه مسلم عن عيسى بن حماد الليثي، كما رواه ابن بكير. وروي ذلك أيضا عن عبد الله بن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم وقال -تعالى-:

_ 1 أحمد "2/72". 2 سورة طه آية: 39. 3 سورة الطور آية: 48. 4 سورة هود آية: 37. 5 البخاري: أحاديث الأنبياء "3440" , ومسلم: الإيمان "169" , وأحمد "2/27 ,2/126". 6 البخاري: الفتن "7131" , ومسلم: الفتن وأشراط الساعة "2933" , والترمذي: الفتن "2245" , وأبو داود: الملاحم "4316" , وأحمد "3/103". 7 سورة هود آية: 37. 8 سورة القلم آية: 42، 43. 9 ابن ماجه: المقدمة "179" , وأحمد "3/16". 10 البخاري: التوحيد "7440". 11 البخاري: تفسير القرآن "4919".

{عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} 1 وقال: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُولَئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} 2. وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث ذكره: "إن الله لا ينظر إلى أجسادكم، ولا إلى صوركم، ولكن ينظر إلى قلوبكم، التقوى ههنا، وأشار إلى صدره" 3 رواه مسلم في الصحيح عن أبي الطاهر عن ابن وهب، وعنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله عز وجل لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، ولكن إنما ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم" 4. وعنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله لا ينظر إلى صوركم، ولا إلى أجسامكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم" 5 هذا هو الصحيح المحفوظ فيما بين الحفاظ، فأما الجاري على ألسنة جماعة من أهل العلم وغيرهم: إن الله لا ينظر إلى صوركم، ولا إلى أعمالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم. فهو مخالف للحديث الصحيح، ولقوله -تعالى-: {فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ} 6. وعن محمد بن سيرين عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لم يكذب إبراهيم قط إلا ثلاث كذبات: ثنتين في ذات الله قوله: {إني سقيم} ، وقوله: {بل فعله كبيرهم هذا} ، وواحدة في شأن سارة: إنها أختي" 7 رواه البخاري في الصحيح عن معبد بن تليد عن ابن وهب، ورواه مسلم عن أبي الطاهر. وعن ابن عباس قال: "تفكر في كل شيء ولا تفكر في ذات الله"، وعن أبي الدرداء: لا تفقه كل التفقه حتى تمقت الناس في ذات الله، ثم تقبل على نفسك فتكون لها أشد مقتا منك للناس، إلى غير هذا من الآيات الصريحة، والأحاديث الصحيحة التي يجب الإيمان بها، والعمل بمقتضاها من غير تحريف وتبديل وتشبيه وتعطيل، بل نثبت ما أثبت الله لنفسه، ونكل علمه إليه، ونقول:

_ 1 سورة الأعراف آية: 129. 2 سورة آل عمران آية: 77. 3 مسلم: البر والصلة والآداب "2564" , وابن ماجه: الزهد "4143" , وأحمد "2/284". 4 مسلم: البر والصلة والآداب "2564" , وأحمد "2/539". 5 مسلم: البر والصلة والآداب "2564" , وابن ماجه: الزهد "4143". 6سورة التوبة آية: 105. 7 البخاري: أحاديث الأنبياء "3358" , ومسلم: الفضائل "2371" , والترمذي: تفسير القرآن "3166" , وأبو داود: الطلاق "2212" , وأحمد "2/403".

آمنا بالله على مراد الله، كما قاله خير القرون الذين هم بالله وصفاته عارفون من الخلفاء الراشدين، والصحابة، والتابعين، ومن على سننهم من أئمة المسلمين. كما قال أبو المعالي الجويني إمام الحرمين: لقد تأملت الطرق الكلامية، والمناهج الفلسفية، فما رأيتها تشفي عليلا، ولا تروي غليلا، بل هم بين مشبه ومعطل، والطريق المخلص منهما طريق القرآن، اقرأ في الإثبات: {الرحمن على العرش استوى} 1 {لَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} 2 واقرأ في النفي: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} 3 {وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً} 4 ومن جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي. تأويل صفات الله وأفعاله يستلزم ظن السوء به قال ابن القيم: من ظن أن الله -سبحانه وتعالى- أخبر عن نفسه وصفاته وأفعاله بما ظاهره باطل، وتشبيه وتمثيل، وترك الحقائق المقصودة من كلامه –سبحانه وتعالى-، ورمز إليهم رموزا بعيدة، وأشار إليهم إشارة ملغزة، وصرح بالتشبيه والتمثيل والأمور الباطلة التي لا تجوز عليه، ولا تليق به. وأراد من خلقه أن يبعثوا أذهانهم وقواهم وأفكارهم في تحريف كلامه عن مواضعه، وتأويله على غير تأويله المفهوم من ظاهره، ويتطلبوا له وجوه الاحتمالات المستكرهة شرعا وعقلا، والتأويلات التي هي بالألغاز والأحاجي أشبه منها بالكشف والبيان، وأحالهم في معرفته، وأسمائه، وصفاته على عقولهم وآرائهم، لا على كتابه، بل أراد منهم أن لا يحملوا كلامه على ما يعرفون من خطابهم ولغتهم، مع قدرته على أن يصرح لهم بالحق الذي ينفي التصريح به، ويريحهم من الألفاظ التي توقعهم في الاعتقاد الباطل، فلم يفعل، بل سلك بهم خلاف طريق الهدي والبيان- فقد ظن به ظن السوء. فإنه إن قيل: إنه غير قادر على التعبير عن الحق باللفظ الصريح الذي عبر به هو وسلفه فقد ظن العجز بقدرته، وإن قيل: إنه قادر، ولم يبين، وعدل عن البيان والتصريح بالحق إلى ما يوهم

_ 1 سورة طه آية: 5. 2 سورة فاطر آية: 10. 3 سورة الشورى آية: 11. 4سورة طه آية: 110.

بل يوقع في الباطل المحال، والاعتقاد الفاسد، فقد ظن بحكمته ورحمته ظن السوء، وظن أنه وسلفه عبروا عن الحق بصريحه دون الله ورسوله، وأن الهدى والحق في كلامهم وعبارتهم، وأما كلام الله، فإنما يؤخذ من ظاهره التشبيه والتمثيل والضلال، وظاهر كلام االمتهوكين الحائرين هو الهدى والحق، هذا من سوء الظن بالله، فكل هؤلاء من الظانين بالله ظن السوء، ومن الظانين بالله غير الحق ظن الجاهلية. أنواع المبتدعين الظانين بالله ظن السوء ومن ظن به أنه ليس فوق سماواته على عرشه بائن من خلقه، وأن نسبة ذاته -تعالى- إلى عرشه كنسبتها إلى أسفل السافلين، فقد ظن به ظن السوء، ومن ظن أنه أسفل كما هو أعلى، وأن من قال: سبحان ربي الأسفل، كمن قال: سبحان ربي الأعلى، فقد ظن به أقبح الظن وأسوأه. ومن ظن به خلاف ما وصف به نفسه، أو وصفه به رسوله، أو عطل حقائق ما وصف به نفسه، ووصفه به رسوله، فقد ظن به ظن السوء. ومن ظن به أن أحدا يشفع عنده بغير إذنه، وأن بينه وبين خلقه وسائط يرفعون حوائجهم إليه، وأنه نصب لعباده أولياء من دونه يتقربون بهم إليه، ويتوسلون بهم عليه، ويجعلونهم وسائط بينه وبينهم، فيدعونهم في حاجتهم إليه –سبحانه وتعالى-، فقد ظن به أقبح الظن وأسوأه اهـ. وقال الحافظ الذهبي: وما أدركنا عليه العلماء في جميع الأمصار حجازا، وعراقا، وشاما، ويمنا يقولون: إن الله على عرشه بائن من خلقه، كما وصف نفسه بلا كيف، وأحاط بكل شيء علما، وهكذا يقولون في جميع الصفات القدسية. وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني: مذهبنا واختيارنا اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه والتابعين من بعدهم، والتمسك بمذاهب أهل الأثر مثل الشافعي وأحمد وغيرهم -رحمهم الله-، ونعتقد أن الله عز وجل على عرشه بائن من خلقه {كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} 1.

_ 1 سورة الشورى آية: 11.

القرآن كلام الله غير مخلوق وقال محمد بن أسلم الطوسي: القرآن كلام الله غير مخلوق أينما تلي، وحيثما كان لا يتغير، ولا يتبدل، ينقل من المصحف مائة مصحف، وذاك الأول لا يتحول في نفسه، ولا يتغير، وتلقن القرآن ألف نفس، وما في صدرك باق بهيئته، وذاك أن المكتوب والكتابة تعددت، والذي في صدرك واحد، وما في صدور المؤمنين هو عين ما في صدرك، والمتلو واحد، وإن تعدد التالون له، وهو كلام الله ووحيه وتنزيله ليس هو كلامنا أصلا، وتكلمنا به، وتلاوتنا له من أفعالنا، وكذلك كتابتنا له، وأصواتنا به من أعمالنا {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} 1. فالقرآن المتلو مع قطع النظر عن أعمالنا كلام الله ليس بمخلوق، فإذا سمعه المؤمنون في الآخرة من رب العالمين، فالتلاوة إذ ذاك والمتلو ليسا بمخلوقين. وقال عبد الله بن الإمام أحمد: سألت أبي ما تقول في الرجل يقول التلاوة مخلوقة، وألفاظنا بالقرآن مخلوقة، والقرآن كلام الله ليس بمخلوق؟. وكان أبي يكره أن يتكلم في اللفظ بشيء، أو يقال مخلوق، أو غير مخلوق كلام حسن، وإلا فالملفوظ كلام الله، والتلفظ به فمن كسبنا. وقال الإمام أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة في كتابه مختلف الحديث: نحن نقول في قول الله -تعالى-: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ} 2 يعلم ما هم عليه كما إذا وجهت رجلا إلى بلد، وقلت له: احذر التقصير فإني معك، تريد أنه لا يخفى علي تقصيرك، ولا يسوغ لأحد أن يقول: إنه -سبحانه- بكل مكان على الحلول فيه مع قوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} 3 ومع قوله: {إلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} 4 فكيف يصعد إليه شيء هو معه، وكيف تعرج الملائكة والروح إليه وهي معه؟. ولو أن هؤلاء رجعوا إلى فطرهم، وما ركبت عليه ذواتهم في معرفة الخالق لعلموا أن الله عز وجل هو العلي الأعلى، وأن الأيدي ترفع بالدعاء إليه، والأمم كلها أعجميها وعربيها تقول: إن الله في السماء ما تركت على فطرها.

_ 1 سورة الصافات آية: 96. 2 سورة المجادلة آية: 7. 3 سورة طه آية: 5. 4 سورة فاطر آية: 10.

أقوال الأئمة في أخذ الصفات بلا تأويل ولا تمثيل وقال ابن خزيمة: من لم يقر بأن الله على عرشه، استوى فوق سبع سماواته بائن من خلقه، فهو كافر يستتاب، فإن تاب، وإلا ضربت عنقه، وكان إماما في الحديث، وإماما في الفقه. وقال ابن سريج: حرام على العقول أن تمثل الله، وعلى الأوهام أن تحده، وعلى الألباب أن تصفه بغير ما وصف به نفسه في كتابه، أو على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد صح عند جميع أهل الديانة والسنة إلى زماننا أن جميع الآيات، والأخبار الصادقة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يجب على المسلمين الإيمان بكل واحد منها كما ورد، وأن السؤال عن معانيها بدعة وكفر وزندقة مثل قوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} 1 وقوله: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ} 2. وقوله: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً} 3 ونظائرها مما نطق به القرآن كالفوقية والنفس، واليدين والوجه، والسمع والبصر والضحك والتعجب، والنزول إلى السماء الدنيا: اعتقادنا فيه وفي الآي المتشابه في القرآن أن نقبلها، ولا نردها، ولا نتناولها بتأويل المخالفين، ولا نحملها على تشبيه المشبهين، ولا نترجم عن صفاته بلغة غير العربية. وسئل أبو جعفر الترمذي عن حديث نزول الرب فقال: النزول معقول، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة. فالنزول والكلام، والسمع والبصر، والاستواء عبارات جلية واضحة للسامع، فإذا اتصف بها من ليس كمثله شيء فالصفة تابعة للموصوف. وقال الطحاوي في العقيدة التي ألفها: " ذكر بيان السنة والجماعة على مذهب أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد -رضي الله عنهم-" نقول: في توحيد الله معتقدين أن الله واحد لا شريك له، ولا شيء مثله، ما زال بصفاته قبل خلقه، وأن القرآن كلام الله يتلى، وأنزله على نبيه وحيا، وصدقه المؤمنون حقا، وأيقنوا أنه كلام

_ 1 سورة طه آية: 5. 2 سورة البقرة آية: 210. 3 سورة الفجر آية: 22.

الله بالحقيقة ليس بمخلوق، فمن سمعه وزعم أنه كلام البشر فقد كفر، والرؤية لأهل الجنة حق بغير إحاطة ولا كيفية. وكل ما في ذلك من الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو كما قال، ومعناه على ما أراد -سبحانه وتعالى-، ولا تثبت قدم الإسلام، إلا على ظهر التسليم والاستسلام، فمن رام ما حظر عليه علمه، ولم يقنع بالتسليم فهمه، حجبه مرامه عن خالص التوحيد، وصحيح الإيمان، ومن لم يَتَوَقَّ النفي والتشبيه زل، ولم يصب التنزيه، إلى أن قال: والعرش والكرسي حق كما بين في كتابه، وهو مُسْتَغْنٍ عن العرش، وما دونه، محيط بكل شيء وفوقه. حكاية الأشعري لعقائد أهل السنة وقال أبو الحسن الأشعري في كتابه الذي سماه: " اختلاف المصلين، ومقالات الإسلاميين" فذكر فِرَق الخوارج والروافض والجهمية وغيرهم، إلى أن ذكر مقالات أهل السنة، وأصحاب الحديث. قال: قولهم الإقرار بالله وملائكته وكتبه ورسله، وبما جاء عن الله، وما رواه الثقات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن الله -تعالى- على عرشه كما قال: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} 1 وأن له يَدَيْن بلا كيف كما قال: {أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ} 2 {وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ} 3 وأثبتوا السمع والبصر، ولم ينفوا ذلك كما نفته المعتزلة. وقالوا: لا يكون في الأرض من خير وشر إلا ما شاء الله، كما قال -تعالى-: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ} 4 ويقولون: القرآن كلام الله غير مخلوق، ويؤمنون بالأحاديث التي جاءت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن الله ينزل إلى السماء الدنيا فيقول: هل من مستغفر" 5 الحديث. ويقرون أن الله يجيء يوم القيامة كما قال: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً} وأن الله -تعالى- يقرب من خلقه كيف شاء قال: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} 6.

_ 1 سورة طه آية: 5. 2 سورة النساء آية: 166. 3 سورة فاطر آية: 11. 4 سورة الإنسان آية: 30. 5 البخاري: الجمعة "1145" والدعوات "6321" والتوحيد "7494" , ومسلم: صلاة المسافرين وقصرها "758" , والترمذي: الصلاة "446" والدعوات "3498" , وأبو داود: الصلاة "1315" والسنة "4733" , وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها "1366" , وأحمد "2/258 ,2/264 ,2/267 ,2/282 ,2/383 ,2/419 ,2/433 ,2/487 ,2/504 ,2/521 ,3/94" , ومالك: النداء للصلاة "496" , والدارمي: الصلاة "1478 ,1479 ,1484". 6 سورة ق آية: 16.

إلى أن قال: فهذا جملة ما يأمرون به، ويعتقدونه، ويرونه، وبكل ما ذكرنا من قولهم نقول وإليه نذهب. كلام الأشعري في علو الله تعالى وذكر الأشعري في كتابه المذكور في "باب هل الباري -تعالى- في مكان دون مكان، أم ليس في مكان، أم في كل مكان؟ " فقال: اختلفوا في ذلك على سبع عشرة مقالة: "منها": قول أهل السنة وأصحاب الحديث: إنه ليس بجسم، ولا يشبه الأشياء، وإنه على العرش كما قال: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} 1 ولا نتقدم بين يدي الله بالقول، بل نقول: استوى بلا كيف، وإن له يدين كما قال: {خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَ} 2 وإنه ينزل إلى سماء الدنيا كما جاء في الحديث، ثم قال: وقالت المعتزلة: استوى على عرشه بمعنى استولى، وتأولوا اليد بمعنى النعمة، وقوله: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} 3 أي بعلمنا. وقال فيه أيضا في باب الاستواء فإن قال قائل: ما تقولون في الاستواء؟ قيل نقول: إن الله مستو على عرشه كما قال: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} 4 وقال: {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} 5. وقال حكاية عن فرعون: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِباً} 6 أكذب فرعون موسى في قوله: إن الله فوق سماواته. وقال عز وجل {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ} 7 فالسماوات فوقها العرش، وكل ما علا فهو سماء، والعرش أعلى السماوات، فلولا أن الله -تعالى- فوق عرشه ما قال في حق ملائكته: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} 8 ولما فطر الخلق عند سؤاله على رفع الأيدي إلى السماء. وقال قائلون من المعتزلة والجهمية والحرووية: إن معنى "استوى" استولى وملك وقهر، بما يفيد التجدد والحدوث في الملك، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا،

_ 1 سورة طه آية: 5. 2 سورة ص آية: 75. 3 سورة القمر آية: 14. 4 سورة فاطر آية: 10. 5 سورة النساء آية: 158. 6 سورة غافر آية: 36، 37. 7 سورة الملك آية: 16. 8 سورة النحل آية: 50.

بل هو مستو ومالك وقاهر على العرش، وعلى جميع مخلوقاته من حين خلقهم. وقالوا: إنه في كل مكان، وجحدوا أن يكون على عرشه، كما قال أهل الحق، وذهبوا في الاستواء إلى القدرة، فلو كان كما قالوا كان لا فرق بين العرش، وبين الأرض السابعة؛ لأنه قادر على كل شيء، وكيف يكون في كل مكان؟ ومنه الحشوش والحانات، والمزابل، وما أشبه ذلك من الأماكن المستقذرة، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا، ولم يجز عند أحد من المسلمين أن يكون الله في شيء من ذلك، فبطل ما يقولونه بالنقل والعقل. وذكر أدلة من الكتاب والسنة والعقل سوى ذلك فلا نطيل بذكرها فلتراجع في مظانها. قول الإمام أحمد في عقيدة أهل السنة وقال أحمد: جملة ما نقول أن نقر بالله وملائكته وكتبه ورسله، وما جاء عن الله، وما رواه الثقات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن الله إله واحد في ذاته وصفاته، لا إله غيره، وإن محمدا عبده ورسوله، وأن الجنة حق، والنار حق، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور، وأن الله -تعالى- مستو على عرشه كما قال: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} 1 وأن له وجها كما قال: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ} 2 وأن له يدين كما قال: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} 3 وأن له عينا بلا كيف كما قال: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} 4. وأن من زعم أن اسم الله غيره كان جاهلا، وأن الله يرى بالأبصار يوم القيامة كما يرى القمر ليلة البدر، وأنه يقلب القلوب بين إصبعين من أصابعه، وأنه يضع السماوات على إصبع، والأرضين على إصبع، وأنه ينزل في كل ليلة إلى السماء الدنيا كما جاءت الأحاديث، وأنه يقرب من خلقه كيف يشاء، كما قال: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} 5 وكما قال: {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى} 6 إلى أن قال: ونرى مفارقة كل داعية إلى بدعة ومجانبة أهل الأهواء. وقد أخذ أبو الحسن"الأشعري" عن الجبائي، ثم نابذه، ورد عليه، وصار متكلما بالسنة،

_ 1 سورة طه آية: 5. 2 سورة الرحمن آية: 27. 3 سورة المائدة آية: 64. 4 سورة القمر آية: 14. 5 سورة ق آية: 16. 6 سورة النجم آية:8، 9.

ووافق أئمة الحديث في جمهور ما يقولونه، وقد نقل إجماعهم على ذلك وموافقتهم عليه، وكان يتوقد ذكاء، وتوفي سنة أربع وعشرين وثلاثمائة، وله أربع وستون سنة -رحمه الله-. وقال علي بن خلف شيخ الحنابلة ببغداد: الكلام في الرب محدث وبدعة وضلالة، فلا يتكلم في الله إلا بما وصف به نفسه، ولا يقال في صفاته: لم؟ ولا كيف على عرشه استوى؟ وعلمه بكل مكان، والقرآن كلام الله وتنزيله، ونوره ليس بمخلوق. اعتقاد أهل السنة في صفات الله وقال الحافظ أبو بكر محمد بن الحسين الآجري في "كتاب الشريعة في السنة" في باب التحذير من مذهب الحلولية: فالذي ذهب إليه أهل العلم أن الله -تعالى- على عرشه فوق سماواته، وعلمه محيط بكل شيء، ويرفع إليه أعمال العباد، فإن قيل: ما معنى قوله: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ} 1 قيل: علمه والله على عرشه، وعلمه محيط بهم، والآية يدل أولها وآخرها على أنه العلم، وهو على عرشه، هذا قول المسلمين. وقال مالك -رحمه الله-: الله في السماء، وعلمه في كل مكان لا يخلو من علمه مكان، وقال أحمد بن إبراهيم الإسماعيلي في كتابه: "المسمى اعتقاد أهل السنة" قال: اعلموا رحمكم الله أن مذهب أهل السنة والجماعة الإقرار بالله وملائكته وكتبه ورسله، وما نطق به كتاب الله، وما صحت به الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا نعدل عما وردا به، ويعتقدون أن الله -تعالى- مدعو بأسمائه الحسنى، موصوف بصفاته التي وصف بها نفسه، ووصفه بها نبيه، خلق آدم بيده، ويداه مبسوطتان بلا كيف، واستوى على عرشه، وأحاط بكل شيء علما. وقال الإمام محمد الهروي 2 صاحب التهذيب: الله -تعالى-على العرش، ويجوز

_ 1 سورة المجادلة آية: 7. 2 كذا في الأصل ولعله أبو إسماعيل عبد الله بن محمد الهروي.

أن يقال في المجاز: هو في السماء لقوله: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} 1. وقال الإمام أبو الحسن علي بن مهدي الطبري تلميذ الأشعري في كتاب "مشكل الآثار" له في باب قوله -تعالى-: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} 2: اعلم أن الله في السماء فوق كل شيء، مستو على عرشه، بمعنى أنه عال عليه، ومعنى الاستواء الاعتلاء، كما تقول العرب، استويت على ظهر الدابة، واستويت على سطح الدار، بمعنى علوته، واستوت الشمس على رأسي، واستوى الطير على قمة رأسي بمعنى علا في الجو فوجد فوق رأسي. فالقديم -جل جلاله وتعالت عظمته- عال على عرشه بذاته، بائن من مخلوقاته؛ لقوله: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} 3 وقوله: {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} 4 وقوله: {عْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} 5. الرد على من أول الاستواء بالاستيلاء وزعم البلخي أن استواء الله على العرش هو الاستيلاء عليه، مأخوذ من قول العرب استوى بشر على العراق إذا استولى عليها. "فالجواب": أن الاستواء هنا ليس بمعنى الاستيلاء، لأن الله مستول على العرش، وعلى جميع مخلوقاته من حين أوجدهم كما هو المعلوم من الدين بالضرورة، فلا معنى حينئذ لتخصيص العرش بالاستيلاء عليه من دون سائر خلقه، فبان بذلك بطلان قوله، وكذلك أيضا الاستواء هنا ليس هو الاستيلاء الذي هو من قول العرب: استوى فلان على كذا، أي استولى إذا تمكن من بعد أن لم يكن متمكنا، والبارىء عز وجل لا يوصف بالتمكن بعد أن لم يكن متمكنا تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا. إلى غير ذلك من الآيات والأحاديث والآثار، وما عليه الصحابة والتابعون، وتابعوهم وأئمة المسلمين من المجتهدين والمقلدين، وبالله المستعان، وعليه التكلان. وفيما ذكر كفاية لمن له أدنى دراية، وبالله التوفيق إلى سواء الطريق، وحسبنا الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله، ولا نعبد إلا إياه مخلصين له الدين ولو كره الكافرون، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.

_ 1 سورة الملك آية: 16. 2 سورة طه آية: 5. 3 سورة الملك آية: 16. 4 سورة آل عمران آية: 55. 5 سورة المعارج آية: 4.

رسالة فيما هو الميثاق الذي أخذ الله على بني آدم

رسالة فيما هو الميثاق الذي أخذ الله على بني آدم وإليه الإشارة بقوله -تعالى-: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا} 1 الآية. لم يذكر اسم مؤلفها، والأسلوب يدل على أنه من المحققي وفيها نقول كثيرة عن العلامة المحقق ابن القيم من كتاب الروح رسالة فيما هو الميثاق الذي أخذ الله على بني آدم الأحاديث في أخذ ذرية آدم من ظهره بسم الله الرحمن الر حيم الحمد لله الذي خلق الإنسان من صلصال كالفخار، ونفخ فيه من روحه لما سيودعه من الحكم والأسرار، حيث خلقه بيده وسواه، وألهمه فجوره وتقواه، لما أراده منه، وقدره عليه، ليكون مصيره ومنتهاه إليه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأني عبده، وابن عبده، وابن أمته، ومن لا غنى له طرفة عين عن فضله ورحمته، ولا مطمع له بالفوز بالجنة والنجاة من النار إلا بعفوه ومغفرته، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله وصفيه وحبيبه وخليله. أما بعد: فقد قال الله -سبحانه-: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ َوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآياتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} 2. "اعلم"- رحمك الله تعالى- بأنه –سبحانه وتعالى- لما ذكر قصة موسى -عليه السلام- ذكر في هذه الآية ما يجري مجرى تقرير الحجة على جميع المكلفين. واختلف العلماء في تفسيرها فقال بعضهم محتجا بما رواه مسلم بن يسار الجهني: إن عمر بن الخطاب رضي الله عنهسئل عن هذه الآية فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عنها فقال: "إن الله خلق آدم، ثم مسح ظهره بيمينه، فاستخرج منه ذرية فقال: خلقت هؤلاء للجنة، وبعمل أهل الجنة يعملون، ثم مسح ظهره فاستخرج منه ذرية فقال: خلقت هؤلاء للنار، وبعمل أهل النار يعملون. فقال رجل: يا رسول الله ففيم العمل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله إذا خلق العبد للجنة استعمله بعمل أهل الجنة حتى يموت على عمل من أعمال أهل الجنة فيدخل به الجنة، وإذا خلق

_ 1 سورة الأعراف آية: 172. 2 سورة الأعراف آية: 172: 174.

العبد للنار استعمله بعمل أهل النار حتى يموت على عمل من أعمال أهل النار فيدخل به النار"1 قال الحاكم: هذا على شرط مسلم. وروى الحاكم أيضا من طريق هشام بن زيد بن أسلم، عن أبي صالح عن أبي هريرة مرفوعا "لما خلق الله آدم مسح ظهره فسقط من ظهره كل نسمة هو خالقها إلى يوم القيامة أمثال الذر، ثم جعل بين عيني كل إنسان منهم وبيصا من نور، ثم عرضهم على آدم قال: من هؤلاء يا رب؟ فقال: هؤلاء ذريتك، فرأى رجلا منهم أعجبه وبيص ما بين عينيه: فقال: يا رب من هذا؟ فقال: هذا ابنك داود يكون في آخر الأمم، قال: كم جعلت له من العمر؟ قال ستين سنة، قال: يا رب زده من عمري أربعين سنة، فقال الله -تعالى-: إذا يكتب ويختم فلا يبدل، فلما انقضى عمر آدم جاءه ملك الموت، فقال: أو لم يبق من عمري أربعون سنة؟ قال: أو لم تجعلها لابنك داود؟ قال: فجحد فجحدت ذريته، ونسي فنسيت ذريته، وخطيء فخطئت ذريته"وهذا على شرط مسلم، ورواه الترمذي، وقال: هذا حديث حسن صحيح. ورواه الإمام أحمد من حديث ابن عباس قال: لما نزلت آية الدين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن أول من جحد آدم"2 وزاد محمد بن سعد: ثم أكمل الله له ألف سنة، ولداود مائة سنة. وفي صحيح الحاكم أيضا من حديث أبي جعفر الرازي، حدثنا الربيع بن أنس، عن أبي العالية، عن أبي بن كعب في قوله: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي} 3 الآية قال: جمعهم له يومئذ جميعا ما هو كائن منهم إلى يوم القيامة، فجعلهم أرواحا، ثم صورهم، واستنطقهم فتكلموا، وأخذ عليهم العهد والميثاق {وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا} 4. قال الله -تعالى-: فإني أشهد عليكم السماوات السبع والأرضين السبع، وأشهد عليكم أباكم آدم {أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ} 5 لم نعلم، أو تقولوا: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ} 6 فلا تشركوا بي شيئا، فإني أرسل إليكم رسلي يذكرونكم

_ 1 الترمذي: تفسير القرآن "3075" , وأبو داود: السنة "4703" , وأحمد "1/44" , ومالك: الجامع "1661". 2 أحمد "1/251". 3 سورة الأعراف آية: 172. 4 سورة الأعراف آية: 172. 5 سورة الأعراف آية: 172. 6 سورة الأعراف آية: 172.

عهدي وميثاقي، وأنزل عليكم كتبي، فقالوا: نشهد إنك ربنا وإلهنا، لا رب لنا غيرك، ولا إله لنا غيرك، ورفع لهم أبوهم آدم فرأى منهم الغني والفقير وحَسَن الصورة وغير ذلك، فقال: يا رب، لو سويت بين عبادك؟ فقال: إني أحب أن أشكر، ورأى فيهم الأنبياء مثل السُّرُج. وخصوا بميثاق آخر بالرسالة والنبوة فذلك قوله: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ} 1 وهو قوله: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ} 2 وذلك قوله: {هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الأُولَى} 3 وقوله: {وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ} 4 وهو قوله: {ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلاً إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ} 5. كان في علمه بما أقروا به من يكذب به، ومن يصدق به، فكان روح عيسى من تلك الأرواح التي أخذ عليها الميثاق في زمن آدم، فأرسل ذلك الروح إلى مريم حين {انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَاناً شَرْقِيّاً فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَاباً فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً} 6 إلى قوله:? {قْضِيّاً فَحَمَلَتْهُ} 7 قال: حملت الذي خاطبها، وهو روح عيسى -عليه السلام-، قال أبو جعفر: فحدثنا الربيع بن أنس، عن أبي العالية، عن أبي بن كعب قال: "دخل من فيها" وهذا إسناد صحيح. الآثار في أخذ ذرية آدم من ظهره وروى إسحاق بن راهويه بسنده عن هشام بن حكيم بن حزام أن رجلا قال: "يا رسول الله: تبتدأ الأعمال أم قضي القضاء؟ فقال: إن الله لما أخرج ذرية آدم من ظهره، وأشهدهم على أنفسهم، ثم أفاض بهم في كفيه فقال: هؤلاء للجنة، وهؤلاء للنار، فأهل الجنة مُيَسَّرُون لعمل أهل الجنة، وأهل النار ميسرون لعمل أهل النار". وروى ابن إسحاق بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه"قال: لما أراد الله أن يخلق آدم فذكر خلق آدم فقال له: يا آدم أيّ يدي أحب إليك أن أريك ذريتك فيها؟ فقال: يمين ربي، -وكلتا يدي ربي يمين- فبسط يمينه، وإذا فيه ذريته كلهم ما هو خالق إلى يوم القيامة، الصحيح على هيئته، والمبتلى على هيئته، والأنبياء

_ 1 سورة الأحزاب آية: 7. 2 سورة الروم آية: 30. 3 سورة النجم آية: 56. 4 سورة الأعراف آية: 102. 5 سورة يونس آية: 74. 6 سورة مريم آية: 16، 17. 7 سورة مريم آية:22، 23.

على هيئاتهم، فقال: ألا عافيتهم كلهم؟ فقال: أحب أن أشكر". وروى محمد بن نصر بسنده عن عبد الله بن سلام قال: "خلق الله آدم، ثم قال: بيديه فقبضهما فقال: اختر يا آدم فقال: اخترت يمين ربي -وكلتا يديك يمين- فبسطها فإذا فيها ذريته؟ فقال: من هؤلاء يا رب؟ قال: من قضيت أن أخلق من ذريتك إلى يوم القيامة". وروى أيضا ابن إسحاق بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنهعن النبي صلى الله عليه وسلم قال "لما خلق الله آدم مسح ظهره فسقط منه كل نسمة هو خالقها من ذريته إلى يوم القيامة" 1. وحدث ابن إسحاق، عن عمرو بن زرارة بسنده عن ابن عباس -رضي الله عنهما- في قوله: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ} 2 الآية. قال: مسح ربك ظهر آدم فخرجت منه كل نسمة هو خالقها إلى يوم القيامة، وهو ينظر بنعمان- هذا الذي بإزاء عرفة- وأخذ ميثاقهم {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا} 3. ورواه أبو حمزة الضبعي ومجاهد، وحبيب بن أبي ثابت، وأبو صالح، وغيرهم عن ابن عباس. وقال ابن إسحاق أخبرنا جرير، عن منصور، عن مجاهد، عن عبد الله بن عمر في هذه الآية قال: أخذهم كما يأخذ المشط من الرأس. وحدثنا حجاج عن ابن جريج، عن الزبير بن موسى، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس -رضي الله عنهما-: إن الله -تعالى- حين خلق آدم ضرب منكبه الأيمن فخرجت كل نفس مخلوقة للجنة بيضاء نقية، فقال: هؤلاء أهل الجنة، ثم ضرب منكبه الأيسر فخرجت كل نفس مخلوقة للنار، فقال: هؤلاء أهل النار، ثم أخذ عهده على الإيمان به، والمعرفة له ولأمره، والتصديق به وبأمره من بني آدم كلهم، وشهدهم على أنفسهم، فآمنوا، وصدقوا، وعرفوا، وأقروا. وعنه رضي الله عنهأنآدم أبصر في ذريته قوما لهم نور، فقال: يا رب من هم؟

_ 1 الترمذي: تفسير القرآن "3076". 2 سورة الأعراف آية: 172. 3 سورة الأعراف آية: 172.

فقال الأنبياء: ورأى واحدا هو أشدهم نورا فقال: من هو؟ فقال: داود، قال: كم عمره؟ فقال: ستون سنة، فقال: هو قليل، وهبت له من عمري أربعين سنة، وكان عمر آدم ألف سنة، فلما تم عمر آدم تسعمائة وستين سنة أتاه ملك الموت ليقبض روحه، فقال: بقي من أجلي أربعون سنة، فقال: ألست وهبته من ابنك داود؟ فقال: ما كنت لأهب لأحد من أجلي شيئا، فعند ذلك كتب لكل نفس أجلها. تفسير وإذ أخذ ربك من بني آدم بالأحاديث الواردة وقال مقاتل: إن الله مسح صفحة ظهر آدم اليمنى، فخرج منه ذرية بيض كهيئة الذر، ثم جانبه الأيسر، فخرج منه ذرية سود كهيئة الذر، فقال: يا آدم هؤلاء ذريتك، ثم قال لهم: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا} 1 فقال للبيض: هؤلاء في الجنة برحمتي، وهم أصحاب اليمين، وقال للسود: هؤلاء للنار، ولا أبالي، وهم أصحاب الشمال، ثم قرأ {فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ} 2 ثم أعادهم جميعا في صلب آدم. فأهل القبور محبوسون حتى يخرج أهل الميثاق كلهم من أصلاب الرجال وأرحام النساء. وقال تعالى فيمن نقض العهد الأول: {وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ} 3 وهذا القول قد ذهب إليه كثير من قدماء المفسرين كسعيد بن المسيب، وسعيد ابن جبير، والضحاك، وعكرمة، والكلبي، وذكر محمد بن نصر من تفسير السدي عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس، وعن مرة الهمداني عن ابن مسعود، وعن أناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ} الآية: لما أخرج الله آدم من الجنة قبل أن يهبط من السماء مسح صفحة ظهره اليمنى، وأخرج منه ذرية بيضاء مثل اللؤلؤ كهيئة الذر، فقال لهم: ادخلوا الجنة برحمتي، ومسح صفحة ظهره اليسرى، فأخرج منه ذرية سوداء كهيئة الذر، فقال لهم: ادخلوا النار، ولا أبالي. فذلك حيث يقول: وأصحاب اليمين وأصحاب الشمال، ثم أخذ منهم الميثاق فقال: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} فأعطاه طائفة طائعين، وطائفة كارهين على جهة

_ 1 سورة الأعراف آية: 172. 2 سورة الواقعة آية:8، 9. 3 سورة الأعراف آية: 102.

التقية، فقال هو والملائكة: {شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} 1 أو تقولوا: {إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ} 2 فليس أحد من بني آدم إلا وهو يعرف أن الله ربه، ولا مشرك إلا وهو يقول: إنا وجدنا آباءنا على أمة، فذلك قوله -تعالى-: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ} 3 وقوله: {وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً} 4 وقوله: {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} 5. يعني يوم أخذ عليهم الميثاق -سبحانه وتعالى- صور النسم، وقدر خلقها، وأجلها، وأعمالها، واستخرج تلك الصور من مادتها، ثم أعادها إليها، وقدر خروج كل فرد من أفرادها في وقته المقدر له كما قال أبو محمد بن حزم. نعم الرب -سبحانه- يخلق منها جملة بعد جملة على الوجه الذي سبق به التقدير أولا، فيجيء الخلق الخارجي مطابقا للتقدير السابق كشأنه -سبحانه وتعالى- في جميع مخلوقاته، قدر لها أقدارا وآجالا وصفات وهيئات، ثم أبرزها في الوجود مطابقة لذلك التقدير الذي قدره لها لا تزيد عليه ولا تنقص عنه. وأخذ عليهم الميثاق بالتوحيد، وترك الأنداد، فلا تناقض حينئذ بين الآية والأحاديث؛ لأن ما في الآية لا ينافي المسح على ظهر آدم، ولا في الأحاديث ما ينفي خروج الذرية من ظهور بني آدم، وإنما سبقت الآية ببيان ما وقع من أخذ الميثاق، وبروز الذرية من ظهور بني آدم، وهذا لا يخالف ما في الأحاديث المذكورة من أن الله -تعالى- خلق آدم، ثم مسح ظهره بيمينه، فاستخرج منه ذرية، فإن الذرية المستخرجة من ظهور بني آدم هي بواسطة مسح ظهر أبيهم، فخرج من ظهره ذرية بلا واسطة، وخرج من ظهور ذريته ذرياتهم بواسطة مسح ظهر أبيهم، ويصدق عليهم جميعا أنهم استخرجوا من ظهر آدم بواسطة، وبلا واسطة، وهكذا حكم كل فرع مع أصله. فالآية الكريمة فصلت ما أجملته الأحاديث من الإخراج، وبينت كيفيته، وبينت الأحاديث أن أخذ الذرية من ظهور بني آدم بواسطة مسح ظهر أبيهم،

_ 1 سورة الأعراف آية: 172. 2 سورة الأعراف آية: 173. 3 سورة الأعراف آية: 172. 4 سورة آل عمران آية: 83. 5 سورة الأنعام آية: 149.

حتى خرج منه من علم الله بروزه إلى عالم الكون والفساد، وأخذ عليهم الميثاق بالتوحيد، وترك الأنداد، وليس فيها نفي ما تضمنته الآية من خروج الذرية من ظهور بني آدم كما أخبر الله -سبحانه وتعالى-. تفسير آية وإذ أخذ ربك من بني آدم بأنها ليست بمعنى الأحاديث الواردة ونازع هؤلاء البعض الآخر في كون هذا معنى الآية، وقالوا: معنى قوله -تعالى-: {إِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} 1 أي أخرجهم، وأنشأهم بعد أن كانوا نطفا في أصلاب الآباء إلى الدنيا على ترتيبهم في الوجود، وأشهدهم على أنفسهم أنه ربهم بما أظهر لهم من آياته وبراهينه التي تضطرهم إلى أن يعلموا أنه خالقهم، فليس من أحد إلا وفيه من صنع ربه ما شهد على أنه بارئه، ونافذ الحكم فيه، فلما عرفوا ذلك، ودعاهم كل ما يرون، ويشاهدون إلى التصديق به كانوا بمنزلة الشاهدين والمشهدين على أنفسهم بصحته، كما قال في غير هذا الموضع من كتابه: {شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ} 2 يريد: هم بمنزلة الشاهدين، وإن لم يقولوا: نحن كفرة، وكما يقال: قد شهدت جوارحي بقولك، يريد قد عرفته، وكأن جوارحي لو أشهدت وفي وسعها أن تنطق لشهدت. ومن هذا الباب أيضا {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ} 3 يريد أعلم وبين، فأشبه إعلامه وتبيينه ذلك شهادة من شهد عند الحكام وغيرهم، كما قاله ابن الأنباري. وزاد الجرجاني- بيانا لهذا القول- فقال حاكيا عن أصحابه: إن الله لما خلق الخلق، ونفذ علمه فيهم بما هو كائن مما لم يكن بعد صار ما هو كائن كالكائن، إذ علمه بكونه واقعا غير كونه واقعا في مجاري العربية، فساغ أن يضع ما هو منتظر مما لم يقع بعد موضع الواقع لسبق علمه بوقوعه، كما قال عز وجل في مواضع من القرآن كقوله: {وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ} 4 {وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ} 5 {وَنَادَى أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ} 6 قال: فيكون تأويل قوله: {إِذْ أَخَذَ رَبُّكَ} وإذ يأخذ ربك. وكذلك قوله {وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى

_ 1 سورة الأعراف آية: 172. 2 سورة التوبة آية: 17. 3 سورة آل عمران آية: 18. 4 سورة الأعراف آية: 50. 5 سورة الأعراف آية: 44. 6 سورة الأعراف آية: 48.

أَنْفُسِهِمْ} أي ويشهدون بما رُكِّبَ فيهم من العقل الذي يكون به الفهم، ويجب به الثواب والعقاب، وكل مولود بلغ الحنث، وعقل الضر والنفع، وفهم الوعد والوعيد والثواب والعقاب صار كأن الله -تعالى- أخذ عليه الميثاق في التوحيد بما ركب فيه من العقل، وأراه من الآيات والدلائل على وجوده، وأنه لا يجوز أن يكون قد خلق نفسه، وإذا لم يجز ذلك فلا بد له من خالق هو غيره: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} 1. وليس من مخلوق يبلغ هذا المبلغ، ولم يقدح فيه مانع من فهم، إلا إذا حزبه أمر فزع إلى الله عز وجل حين يرفع رأسه إلى السماء، ويشير إليها بأصبعه علما منه بأن خالقه فوقه، وإذا كان العقل الذي منه الفهم والإفهام مؤديا إلى معرفة ما ذكرنا ودالا عليه، فكل من بلغ هذا المبلغ فقد أخذ عليه العهد والميثاق. وجائز أن يقال له: قد أقر، وأذعن، واستسلم، إذ جعل فيه السبب والآلة اللذين بهما يؤخذ العهد والميثاق، كما قال عز وجل {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً} 2. عرض الأمانة على السموات والأرض والجبال من المجاز واحتجوا بقوله صلى الله عليه وسلم "رفع القلم عن ثلاثة: عن الصبي حتى يحتلم، وعن المجنون حتى يفيق، وعن النائم حتى ينتبه"3 وقوله عز وجل {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا} ثم قال: {وَحَمَلَهَا الْأِنْسَانُ} 4. والأمانة ههنا عهد وميثاق، فامتناع السماوات والأرض والجبال من حمل الأمانة خلوها من العقل الذي يكون به الفهم والإفهام، وحمل الإنسان إياها لمكان العقل فيه، قال: وللعرب في هذا المعنى ضروب نظم فمنها قوله: ضمن القنان لفقعس سوآتها ... إن القنان لفقعس لا يأتلي والقنان: جبل فذكر أنه قد ضمن لفقعس، وضمانه لهم أنهم كانوا إذا جرى بهم أمر من هزيمة، أو خوف لجأوا إليه فجعل ذلك كالضمان منه لهم. ومنه قول النابغة:

_ 1 سورة الشورى آية: 11. 2 سورة الرعد آية: 15. 3 أبو داود: الحدود "4403" , وأحمد "1/116 ,1/118 ,1/140 ,1/154 ,1/158". 4 سورة الأحزاب آية: 72.

كاجارن الجولان من هلك ربه ... وحوران منها خاشع متضائل 1 وأجارن الجولان جبالها، وحوران الأرض التي إلى جانبها. قال إن في قوله: {أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِين َأَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ} 2 دليلا على هذا التأويل؛ لأنه عز وجل علم أن هذا الأخذ للعهد عليهم، لئلا يقولوا يوم القيامة: {إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} 3. والغفلة هاهنا لا تخلو من أحد وجهين: إما أن يكون عن يوم القيامة، أو عن أخذه الميثاق، فأما يوم القيامة فلم يذكر -سبحانه- في الكتاب أنه أخذ عليهم عهدا وميثاقا بمعرفة البعث والحساب، وإنما ذكر معرفته فقط. أخذ ميثاق النبيين كأخذ العهد على ذرية آدم فأما أخذ الميثاق فالأطفال والإسقاط إن كان هذا العهد مأخوذا عليهم- كما قال المخالف- فهم لم يبلغوا بعد أخذ الميثاق عليهم مبلغا يكون منهم غفلة عنه، فيجحدونه، وينكرونه. فمتى تكون هذه الغفلة منهم؟ وهو عز وجل لا يؤاخذهم بما لم يكن منهم، وذكر ما لا يجوز، ولا يكون محالا. وقوله: {تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ} 4 فلا يخلو هذا الشرك الذي يؤاخذون به أن يكون منهم أنفسهم، أو من آبائهم، فإن كان منهم، فلا يجوز أن يكون ذلك إلا بعد البلوغ وثبوت الحجة عليهم، إذ الطفل لا يكون منه شرك ولا غيره، وإن كان من غيرهم، فالأمة مجمعة على {أَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} 5 كما قال الله عز وجل. وليس هذا بمخالف لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم "إن الله مسح ظهر آدم، وأخرج منه ذرية، وأخذ عليهم العهد" 6؛ لأنه صلى الله عليه وسلم اقتص قول الله عز وجل فجاء بمثل

_ 1 كذا في الأصل، والبيت يرثي به النابغة أبا حجر الغساني. وهو في التاج هكذا: بكى حارث الجولان من فقد ربه ... إلخ، ويروى من هلك ربه. كما هنا. والحارث قلة من قلاته والجولان: جبل بالشام. 2 سورة الأعراف آية:172، 173. 3 سورة الأعراف آية: 172. 4 سورة الأعراف آية: 173. 5 سورة النجم آية: 38. 6 الترمذي: تفسير القرآن "3075" , وأبو داود: السنة "4703" , وأحمد "1/44" , ومالك: الجامع "1661".

نظمه فوضع الماضي من اللفظ موضع المستقبل، وهذا شبيه قوله: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ} 1 فجعل -سبحانه- ما أنزل على الأنبياء من الكتاب والحكمة ميثاقا أخذه من أممهم بعدهم، يدل على ذلك قوله: {ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ} ثم قال للأمم: " َأقْرَرْتُمْ وأخذتم إصري؟ قالوا أقررنا قال فأشدوا وأنا معكم من الشاهدين " فجعل -سبحانه- بلوغ الأمم كتابه المنزل على أنبيائهم حجة عليهم كأخذ الميثاق عليهم، وجعل معرفتهم إقرارا منهم. الآيات في أخذ العهد والميثاق على بني آدم وشبيه به أيضا قوله: {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} 2 فهذا ميثاقه الذي أخذه عليهم بعد إرسال رسله إليهم بالإيمان به وتصديقه، ونظيره قوله -تعالى-: {لَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ} 3 وقوله: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ وََأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} 4 فهذا عهده إليهم على ألسنة رسله. ومثله قوله -تعالى- لبني إسرائيل: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ} 5 ومثله {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ} 6 وقوله: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقاً غَلِيظا} 7 فهذا ميثاق أخذه منهم بعد بعثهم كما أخذ من أممهم بعد إنذارهم. وهذا الميثاق الذي لعن الله -سبحانه- من نقضه، وعاقبه بقوله: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً} 8 فإنما عاقبهم بنقضهم الميثاق الذي أخذه عليهم على ألسنة رسله. وقد صرح به في قوله: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} 9. ولما كانت هذه الآية ونظيرها في سور مدنية خاطب بالتذكير بهذا الميثاق.

_ 1 سورة آل عمران آية: 81. 2 سورة المائدة آية: 7. 3 سورة الرعد آية: 20. 4 سورة يس آية: 60. 5 سورة البقرة آية: 40. 6 سورة آل عمران آية: 187. 7 سورة الأحزاب آية: 7. 8 سورة المائدة آية: 13. 9 سورة البقرة آية: 63.

فيها أهل الكتاب، فإنه ميثاق أخذه عليهم بالإيمان به وبرسله. ولما كانت آية الأعراف في سورة مكية ذكر فيها الميثاق والإشهاد العام بجميع المكلفين بالإقرار بربوبيته ووحدانيته، وبطلان الشرك، وهو ميثاق وإشهاد تقوم به عليهم الحجة، وتنقطع به المعذرة، وتحل به العقوبة، ويستحق بمخالفته الإهلاك، فلا بد أن يكونوا ذاكرين له عارفين به، وذلك ما فطرهم عليه من الإقرار بربوبيته، وأنه ربهم وفاطرهم، وأنهم مخلوقون مربوبون، ثم أرسل إليهم رسله يذكرونهم بما في فطرهم وعقولهم، ويعرفونهم حقه عليهم، وأمره، ونهيه، ووعده ووعيده، ونظم الآية إنما يدل على هذا من وجوه متعددة: "أحدها" أنه قال -سبحانه وتعالى-: {إِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ} 1 ولم يقل: من آدم، وبنو آدم غير آدم. "الثاني" أنه قال: {مِنْ ظُهُورِهِمْ} 2 ولم يقل من ظهره، وليس لآدم إلا ظهر، وهذا بدل بعض من كل، أو بدل اشتمال، وهو أحسن. "الثالث" أنه قال: {ُرِّيَّتَهُمْ} 3 بصيغة الجمع، ولم يقل من ذريته، وهو مفرد 4. "الرابع " أنه قال: {وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ} 5 أي جعلهم شاهدين على أنفسهم، فلا بد أن يكون شاهدا ذاكرا لما يشهد به، وهو إنما يذكر شهادته بعد خروجه إلى هذه الدار، لا يذكر شهادته قبلها. "الخامس" {إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} والحجة إنما قامت عليهم بالرسل والفطر التي فطروا عليها كما قال -تعالى-: {رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} 6. "السادس" تذكيرهم بذلك؛ لئلا يقولوا يوم القيامة: {إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا

_ 1 سورة الأعراف آية: 172. 2 سورة الأعراف آية: 172. 3 سورة الأعراف آية: 172. 4 في قراءة حفص المشهورة "ذريتهم" والمفرد المضاف إلى الجمع يفيد العموم. 5 سورة الأعراف آية: 172. 6 سورة النساء آية: 165.

غَافِلِينَ} 1. ومعلوم أنهم غافلون بالإخراج لهم من صلب آدم كلهم، وإشهادهم جميعا ذلك الوقت، فهذا لا يذكره أحد منهم. "السابع" قوله: {أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ} 2 فذكر حكمتين في هذا التعريف والإشهاد: "إحداهما" أن لا يدعوا الغفلة. "والثانية" أن لا يدعوا التقليد، فالغافل لا شعور له، والمقلد متبع في تقليده لغيره. "الثامن" أنه -سبحانه وتعالى- أشهد كل واحد على نفسه أنه ربه وخالقه، واحتج عليهم بهذا الإشهاد في غير هذا الموضع من كتابه كقوله: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} 3 أي فكيف يعرضون عن التوحيد بعد هذا الإقرار منهم أن الله ربهم وخالقهم؟ وهذا كثير في القرآن. فهذه هي الحجة التي أشهدهم على أنفسهم بمضمونها، وذكرتهم بها رسله بقوله: {أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} 4 فالله -سبحانه وتعالى- ذكرهم على ألسنة رسله بهذا الإقرار والمعرفة، ولم يذكرهم بإقرار سابق على إيجادهم، ولا أقام به عليهم حجة. "التاسع" قوله -تعالى-: {فَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ} 5 أي لو عذبهم لجحودهم وشركهم لقالوا ذلك، وهو -سبحانه وتعالى- إنما يهلكهم لمخالفة رسله وتكذيبهم، فلو أهلكهم بتقليد آبائهم في شركهم من غير إقامة الحجة عليهم بالرسل لأهلكهم بما فعل المبطلون، أو أهلكهم مع غفلتهم عن معرفة بطلان ما يكونون عليه، وقد أخبر -سبحانه- بأنه لم يكن {لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} 6 وإنما يهلكهم بعد الأعذار والإنذار. "العاشر" أنه جعل هذا آية وهي الدلالة الواضحة البينة المستلزمة لمدلولها بحيث لا يتخلف عنها المدلول، وهذا شأن آيات الرب -تعالى- فإنها أدلة معينة على مطلوب معين مستلزم للعلم به فقال -تعالى-: {وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ} 7 أي مثل

_ 1 سورة الأعراف آية: 172. 2 سورة الأعراف آية: 173. 3 سورة الزخرف آية: 87. 4 سورة إبراهيم آية: 10. 5 سورة الأعراف آية: 173. 6 سورة هود آية: 117. 7 سورة الأعراف آية: 174.

هذا التفصيل والتبيين، {وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} 1 من الشرك إلى التوحيد، ومن الكفر إلى الإيمان. الجمع بين آية أخذ الميثاق وحديث "إن الله مسح ظهر آدم" وهذه الآيات التي فصلها، وبينها في كتابه من أنواع مخلوقاته، وهي آيات أفقية ونفسية، آيات في نفوسهم وذواتهم وخلقهم، وآيات في الأقطار والنواحي مما يحدثه الرب -تبارك وتعالى- مما يدل على وجوده ووحدانيته، وصدق رسله والمعاد والقيامة، ومن أثبتها ما أشهد به كل أحد على نفسه من أنه ربه وخالقه ومبدعه، وأنه مربوب مصنوع مخلوق، حادث بعد أن لم يكن، ومحال أن يكون محدثا بلا محدث، أو يكون هو المحدث لنفسه، فلا بد له من موجد أوجده {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} 2 وهذا الإقرار والمشاهدة فطرة فطروا عليها ليست بمكتسبة. وهذه الآية وهي قوله: وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذرياتهم مطابقة لقوله صلى الله عليه وسلم "كل مولود يولد على الفطرة " 3 ولقوله -تعالى-: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} 4. وفيما ذهبتم إليه من تأويل هذا الحديث على ظاهره تفاوت بينه وبين ما جاء به القرآن في هذا المعنى إلا أن يرد تأويله إلى ما ذكرناه؛ لأنه عز وجل قال: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} 5 لم يذكر آدم في القصة، إنما هو ههنا مضاف إليه لتعريف ذريته أنهم منه وأولاده، وفي الحديث: "أنه مسح ظهر آدم" 6 فلا يمكن رد ما جاء في القرآن، وما جاء في الحديث إلى الاتفاق إلا بالتأويل الذي ذكرناه. قال الجرجاني: وأنا أقول ونحن إلى ما روي في الآية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وما ذهب إليه أهل العلم من السلف الصالح أميل، وإليه أقبل، وبه آنس. قال ابن القيم: وفيما ادعيتموه من التفاوت بين الآية والخبر لاختلاف ألفاظهما نظر لأن الخبر عن الرسول صلى الله عليه وسلم "إن الله مسح ظهر آدم" أفاد زيادة خبر كان في القصة التي ذكرها الله في كتابه، ولو أخبر النبي صلى الله عليه وسلم سوى هذه الزيادة

_ 1 سورة الأعراف آية: 174. 2 سورة الشورى آية: 11. 3 البخاري: الجنائز "1385" , ومسلم: القدر "2658" , وأبو داود: السنة "4714" , وأحمد "2/233 ,2/282 ,2/315 ,2/346 ,2/393 ,2/410" , ومالك: الجنائز "569". 4 سورة الروم آية: 30. 5 سورة الأعراف آية: 172. 6 الترمذي: تفسير القرآن "3075" , وأبو داود: السنة "4703" , وأحمد "1/44" , ومالك: الجامع "1661".

التي أخبر بها فما عسى أن يكون قد كان في ذلك الوقت الذي أخذ فيه العهد مما لم يضمنه الله كتابه لما كان في ذلك خلاف ولا تفاوت، بل كان زيادة في الفائدة. وكذلك الألفاظ إذا اختلفت في ذاتها، وكان مرجعها إلى شيء واحد، لم يوجب ذلك تناقضا، كما قال عز وجل في كتابه في خلق آدم، فذكره مرة أنه خلق من تراب، ومرة أنه خلق من حمأ مسنون، ومرة من طين لازب، ومرة من صلصال كالفخار. فهذه الألفاظ مختلفة، ومعانيها أيضا في الأحوال مختلفة، فإن الصلصال غير الحمأ، والحمأ غير التراب، إلا أن مرجعها كلها في الأصل إلى جوهر واحد وهو التراب، ومن التراب تدرجت في هذه الأحوال. فقوله -سبحانه وتعالى-: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} 1 وقوله صلى الله عليه وسلم "إن الله مسح ظهر آدم واستخرج منه ذريته "2 فمرجعهما إلى جوهر واحد وهو آدم، ومنه تدرجت الذرية إلا أن قوله صلى الله عليه وسلم "مسح ظهر آدم" زيادة في الخبر عن الله عز وجل ومسح ظهر آدم مسح لظهور ذريته، واستخراج ذرياتهم من ظهورهم كما أخبر الله -سبحانه وتعالى- بذلك إلى أن قال ابن القيم رحمه الله-: وفيه أيضا أنه عز وجل لما أضاف الذرية إلى آدم احتمل أن يكون الخبر عن الذرية وعن آدم كما قال -تعالى-: {فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ} . فالخبر في الظاهر عن الأعناق، والنعت للأسماء المكنية فيها، وهو مضاف إليها كما كان آدم مضافا إليه هناك، وليسا جميعا بالمقصودين في الظاهر بالخبر، ولا يحتمل أن يكون قوله "خاضعين" للأعناق لأن وجه جمعها خاضعات. ومنه قول الشاعر: ويشرق بالقول الذي قد أذعته ... كما شرقت صدر القناة من ادم فالصدر مذكر. وقوله: شرقت أنث لإضافة الصدر إلى القناة 3.

_ 1 سورة الأعراف آية: 172. 2 الترمذي: تفسير القرآن "3075" , وأبو داود: السنة "4703" , وأحمد "1/44" , ومالك: الجامع "1661". 3 إلى هنا كلام ابن القيم -رحمه الله- وأوله "ونازع هؤلاء البعض الأخرون".

وقال أصحاب النظر وأرباب المعقولات: إنه -تعالى- أخرج الذرية، وهم الأولاد من أصلاب آبائهم، وذلك الإخراج أنهم كانوا نطفة فأخرجها الله -تعالى- من أصلاب الآباء إلى أرحام الأمهات، وجعلها علقة، ثم مضغة، حتى جعلهم بشرا سويا، وخلقا كاملا مرضيا. ثم أشهدهم على أنفسهم بما ركب فيهم من دلائل وحدانيته، وعجائب خلقه، وخزائن صنعه وقت الإشهاد حتى صاروا كأنهم قالوا بلى، وإن لم يكن هناك قول باللسان. ولذلك نظائر منها قوله -تعالى -: {فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} 1 ومنها قوله -تعالى-: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} 2. وقالت العرب: امتلأ الحوض وقال قطني، فهذا النوع من المجاز والاستعارة مشهور في كلام العرب، فوجب حمل الكلام عليه. هذا ما اطلعت عليه من كلام السلف والخلف في الآية والحديث، ومحصل الفائدة منهما {ثبوت الحجة على كل منفوس ممن بلغ، وممن لم يبلغ بالميثاق الذي أخذه عليهم بالمعرفة له، والإيمان به، بقوله -تعالى -: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ} 3 وزاد على من بلغ منهم الحجة بالآيات والدلائل التي نصبها لهم في أنفسهم، وفي العالم، وبإرسال الرسل إليهم مبشرين ومنذرين، وبالمواعظ والأمثال المنقولة إليهم أخبارها، ولا يطالب -سبحانه وتعالى- أحدا بشيء من الطاعة، إلا بقدر ما لزمه من الحجة، وركب فيه من القدرة، وبين -سبحانه- ما هو عامل في البالغين الذين أدركوا الأمر والنهي، وحجب عنا علم ما قدره في غير البالغين، إلا أننا نعلم أنه عدل لا يجور في حكمه، وحكيم لا تفاوت في صنعه، وقادر لا يسئل عما يفعل {لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} " 4 5. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه. "تمت"

_ 1سورة فصلت آية: 11. 2سورة النحل آية: 40. 3سورة الأعراف آية: 172. 4سورة الأعراف آية: 54. 5 ما بين العلامتين "" من كلام ابن القيم في الروح.

مسائل وفتاوى فقهية في الطهارة والجمعة والأضحية والتغليس والوقف واللقطة والتغليس والوقف واللقطة والصلح للشيخ حسن بن حسين

مسائل وفتاوى فقهية في الطهارة والجمعة والأضحية والتغليس والوقف واللقطة والتغليس والوقف واللقطة والصّلح للشيخ حسن بن حسين ... مسائل وفتاوى فقهية في الطهارة والجمعة والأضحية والتغليس والوقف واللقطة والصلح من تأليف الفاضل المحقق الشيخ حسن بن حسين من أحفاد الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمهم الله مسائل وفتاوى في فروع فقهية تداخل الطهارة الصغرى في الكبرى بسم الله الرحمن الر حيم من حسن بن حسين إلى الأخ الفالح والمحب الصالح عبد الرحمن بن محمد لا زال علمه يزداد ويتجدد، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، والخط المصحوب بالصحيفة، المشتملة على سؤالاتكم اللطيفة، وصل -وصلكم الله عز وجل-، وتلقينا الأسئلة بالترحاب، ووافيناها فورا بالجواب، طلبا لمستطاب الثواب، ورجاء لدعوات نافعة في المآب. قال السائل -كثر الله تعالى فوائده-: "المسألة الأولى": رجل عليه موجب للغسل فنوى بطهارته رفع الحدث الأكبر فقط، هل يرتفع الأصغر، وتتداخل الأحداث بعضها في بعض أم لا؟. "الجواب": إذا نوى من عليه موجب أكبر رفعه بغسله، فإنه يرتفع المنوي، وما كان من جنسه ووصفه، كما إذا نوت من عليها غسل حيض وجنابة رفع أحد الحدثين فيرتفعان معا بنية رفع أحدهما بالغسل؛ لتداخلهما وتساويهما موجبا وحكما. وكما إذا نوى رفع الحدث وأطلق، أو نوى الصلاة ونحوها مما يحتاج لوضوء وغسل. ويسقط الترتيب والموالاة، لكون البدن فيه بمنزلة العضو الواحد. وأما الحدث الأصغر فلا يرتفع بنية الأكبر فقط؛ لما بينهما من تباين الأوصاف، واختلاف الأصناف التي لا يجامعها تداخل. هذا منصوص أحمد، والمعتمد عند أكثر أصحابه، وهو من مفردات مذهبه. قال ناظمها: والغسل للكبرى فقط لا يرفع ... صغرى وإن نوى فعنه يرفع

قال في شرحه: أي وإن نوى بالغسل الطهارة الكبرى أي رفع الحدث الأكبر لم يرتفع حدثه الأصغر؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم "وإنما لكل امرئ ما نوى" 1 وهذا لم ينو الوضوء، هذا الصحيح من المذهب وعليه جماهير الأصحاب، وقطع به كثير منهم اهـ. وحكى في "الفروع" و"المبدع" و"الإنصاف" عن الأزجي، وأبي العباس ابن تيمية أن الأصغر يرتفع بنية الأكبر، وجزم به ابن اللحام في الاختيارات لاندراج الأصغر في الأكبر، فيدخل فيه ويضمحل معه. ومبنى الطهارات على التداخل فماهية الأصغر انعدمت بانعدام جزئها، وسواء تقدم الأصغر الأكبر، أو تأخر عنه، وروى البيهقي عن عمر أنه كان يقول: وأي وضوء أتم من الغسل إذا أجنب الفرج؟. وعن يحيى بن سعيد قال: سئل سعيد بن المسيب عن الرجل يغتسل من الجنابة. يكفيه ذلك من الوضوء؟ قال: نعم. واستأنسوا- أعني القائلين بدخوله في الأكبر- بحديث جابر بن عبد الله أن أهل الطائف قالوا: "يا رسول الله: إن أرضنا باردة فما يجزئنا من غسل الجنابة؟ فقال: أما أنا فأفرغ على رأسي ثلاثا" 2 وبقوله صلى الله عليه وسلم لأم سلمة: "إنما يكفيك أن تحثي على رأسك ثلاث حثيات، ثم تفيضين عليك الماء فتطهرين"3 أو قال: "فإذا أنت قد طهرت" 4 رواهما مسلم. لكن الدلالة من هذين الحديثين ليست بصريحة، وعلى المذهب فقد حصر مُحَشِّي "المنتهى" الشيخُ عثمان صورَ نية رفع الحدث الأكبر في ست فقال: نية رفع الحدث الأكبر. نية رفع الحدثين. نية رفع الحدث وتطلق. نية استباحة أمر يتوقف على الوضوء والغسل معا. نية ما يسن له الغسل ناسيا للغسل الواجب. ففي هذه الصور كلها يرتفع الأكبر، ويرتفع الأصغر أيضا فيما عدا الأولى والأخيرتين، ثم ذكر أنها تأتي في الأصغر أيضا وزيادة، ولا حاجة لذكرها هنا؛ لأنها ليست من غرض السائل.

_ 1 البخاري: بدء الوحي "1" , ومسلم: الإمارة "1907" , والترمذي: فضائل الجهاد "1647" , والنسائي: الطهارة "75" والطلاق "3437" والأيمان والنذور "3794" , وأبو داود: الطلاق "2201" , وابن ماجه: الزهد "4227" , وأحمد "1/25 ,1/43". 2 البخاري: الغسل "254" , ومسلم: الحيض "327" , والنسائي: الطهارة "250" والغسل والتيمم "425" , وأبو داود: الطهارة "239" , وابن ماجه: الطهارة وسننها "575" , وأحمد "4/85". 3 مسلم: الحيض "330" , والترمذي: الطهارة "105" , والنسائي: الطهارة "241" , وأبو داود: الطهارة "251" , وابن ماجه: الطهارة وسننها "603". 4 الترمذي: الطهارة "105" , وأبو داود: الطهارة "251" , وابن ماجه: الطهارة وسننها "603".

غسل من عليه الحدث الأكبر يديه بنية القيام من النوم "المسألة الثانية": إذا غسل يديه من عليه الحدث الأكبر بنية القيام من نوم الليل، هل يرتفع الحدث عنهما بتلك النية أم لا بد من التخصيص بالنية أو بالفعل أو بهما؟ "الجواب" إذا قلنا بما اعتمده المتأخرون من الروايات عن أحمد في هذه المسألة واشترطنا النية لغسلهما كما هو المقطوع به عندهم فإن غسلهما بنية القيام من نوم الليل لا يرفع الحدث عنهما، لأنهم صرحوا بأن غسلهما من نوم الليل طهارة مفردة يجوز تقديمها على الوضوء والغسل بالزمن الطويل، لكون وجوب غسلهما منه تعبديا غير معقول لنا، لاحتمال ورود النجاسة عليهما وغسلهما لمعنى فيهما لا كما يقوله بعضهم، وحكاه أبو الحسين ابن القاضي رواية عن أحمد من أن غسلهما لإدخالهما في الإناء، فقد عرفت أنه لا بد لرفع الحدث عنهما من نية وفعل، على المذهب خاصة. "تنبيه" غمس الشمال في هذا كغمس اليمين ولا فرق لأنه مفرد مضاف فيعم كقوله -عليه السلام- "إذا وطئ أحدكم بنعله الأذى" 1 صرح به في قوله "فإن التراب لهما طهور" وقوله في رواية مسلم " فنفض بيده" والمراد بيديه كما في المتفق عليه. قال أبو الحسن ابن اللحام في القواعد الأصولية: المفرد المضاف يعم، هذا مذهبنا ونص عليه إمامنا تبعا لعلي وابن عباس. وقال بدر الدين بن عبد الهادي في كتابه: غاية السول في الأصول المفرد المضاف يعم. قال ابن القيم في البدائع: وعموم المفرد المضاف من قوله: {وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ} 2 وقوله: {هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ} 3 والمراد جميع الكتب التي أحصيت فيها أعمالهم انتهى. "قلت" ويستفاد أيضا من قوله -تعالى-: {فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ} 4.

_ 1 أبو داود: الطهارة "385". 2 سورة التحريم آية: 12. 3 سورة الجاثية آية: 29. 4 سورة الحاقة آية: 10.

قال ابن كثير: وليس رسولهم واحداً، وقوله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل "لو أن السماوات السبع وعامرهن غيري" والمراد جميع عمارهن سوى الله -سبحانه-. ونظائره كثيرة في الكتاب والسنة واللغة فلا نطول باستقصائه إذ المقام مقام اختصار. والغرض التفطن لهذه القاعدة المهمة. غمس اليدين في الماء بعد غسلهما بنية رفع الحدث "المسألة الثالثة" إذا غسلهما بنية رفع الحدث فهل يؤثر غمسهما في الماء بعد الغسل أم لا؟ "الجواب" إذا فرعنا على القول الذي ذكرناه أولا فإن غسلهما والحالة هذه يؤثر في الماء فسادا. قال في "شرح المفردات": ولا يكفي نية الغسل عن نية غسلهما انتهى، وكذا قال غيره من متأخري الأصحاب لما تقدم من أنها طهارة مفردة. إذا تقرر هذا فاعلم أن أحمد نص في رواية أخرى على أن غمسهما في الماء القليل لا يسلبه الطهورية، واختارها من أصحابه الخرقي والموفق وأبو البركات ابن تيمية وابن أبي عمر في شرح المقنع وجزم به في الوجيز وفاقا لأكثر الفقهاء. قال في شرح مسلم: الجماهير من العلماء المتقدمين والمتأخرين على أنه نهي تنزيه لا تحريم، فلو خالف وغمس لم يفسد الماء ولم يأثم الغامس. وأما الحديث 1 فمحمول على التنزيه. انتهى. تقدم الطهارة للمسح على الجبيرة "المسألة الرابعة" هل يظهر لكم دليل للأصحاب في اشتراطهم تقدم الطهارة للمسح على الجبيرة أم لا؟ "الجواب" دليلهم القياس على الخف والعمامة، بجامع الحائل. والقياس إذا صح فهو أحد الأدلة الخمسة التي هي الكتاب والسنة والإجماع والقياس والاستصحاب

_ 1 وهو "إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثا".

فكل واحد من هذه الخمسة دليل مستقل بنفسه، إلا أنه وقع من بعض الأصوليين خلاف في الاستصحاب، وقال ابن عبد الهادي: ذكره المحققون إجماعا انتهى، فالتحق بالأصول الأربعة. وقد عرفوا القياس اصطلاحا بأنه حمل فرع على أصل في حكم بجامع بينهما. قال ابن عبد الهادي: وأركانه أربعة الأصل، والفرع، وحكم الأصل، والوصف الجامع. انتهى، قال أبو العباس ابن تيمية: لا تتناقض دلالة القياس إذا كانت صحيحة انتهى. فينظر في قياسهم الجبيرة على الخف ونحوه، هل هو صحيح باجتماع أركان القياس الصحيح فيه فيصح دليلا أم لا؟ وإنما يتضح ذلك بنقل عبارات أهل الأصول المحررة، وتمهيد قواعدهم المقررة، ولو ذهبنا ننقلها في هذا الموضع لأدى بنا ذلك إلى التزام ما لا يلزم. إذا علمت ذلك فما اعتمده متأخرو الأصحاب من هذا الاشتراط هو إحدى الروايتين عن أحمد {الثانية" لا يشترط لمسح الجبيرة تقدم الطهارة واختارها الخلال وابن عقيل وأبو عبد الله ابن تيمية في التلخيص والموفق، وجزم به في الوجيز للأخبار والمشقة لكون الجراح قد تقع في حال لا يعلم وقوعها فيه، ففي اشتراط تقدم الطهارة للمسح إفضاء إلى الحرج الموضوع. الموالاة والترتيب بين الوضوء والتيمم "المسألة الخامسة" هل يشترط الموالاة والترتيب بين الوضوء والتيمم أم لا. "الجواب" قال في "المبدع": وإن كان حدث الجريح أصغر راعى الترتيب والموالاة ويعيد غسل الصحيح عند كل تيمم في وجه، وفي الآخر لا ترتيب ولا موالاة. فعلى هذا لا يعيد الغسل إلا إذا أحدث انتهى. والأول هو الذي اعتمده المتأخرون فأوجبوا الترتيب والموالاة بين الوضوء والتيمم لاشتراط الترتيب في

الوضوء، فلا ينقل عن عضو حتى يكمله غسلا وتيمما عملا بقضية الترتيب، فعلى هذا لا يضر نداوة التراب في يديه كما هو ظاهر كلامهم، وصرح به بعض الشافعية، وحكي في الفروع عن المجد أن قياس المذهب أن الترتيب سنة. وحكي في الإنصاف وغيره عن أبي العباس ينبغي أن لا يرتب وقال غيره لا تلزمه مراعاة الترتيب، وهو الصحيح من مذهب أحمد وغيره، قال والفصل بين أبعاض الوضوء بتيمم بدعة. وجزم به ابن اللحام في الاختيارات، والنفس تميل إلى ما قاله لا سيما وقد حكى هو وغيره من العلماء عن أصل أحمد وغيره من فقهاء الحديث أن الأصل في العبادات التوقيف فلا يشرع منها إلا ما شرعه الله. اللهم إلا أن يكون بين إيجاب الترتيب والموالاة وبين بعض الأدلة الشرعية رابط خفي علينا ففوق كل ذي علم عليم. اشتراط دخول الوقت للوضوء من الحدث الدائم "المسألة السادسة" هل يظهر لكم دليل لاشتراطهم دخول الوقت لوضوء من حدثه دائم كسلس البول ودائم الريح ومن به قروح أو جروح؟ "الجواب" دليل ما ذكروه من اشتراط دخول الوقت لمن حدثه دائم كسلس البول ودائم الريح والجروح التي لا يرقأ دمها والقروح السيالة، هو القياس على المستحاضة بجامع العذر، وقد أسلفنا لك أن القياس إذا صح دليل مستقل بنفسه، ونحن نذكر حكم المسألة من كلامهم. قال في شرح المفردات عند قول الناظم: وبدخول الوقت طهر يبطل ... لمن بها استحاضة قد نقلوا لا بالخروج منه لو تطهرت ... للفجر لم يبطل بشمس ظهرت يعني أن المستحاضة ومن به سلس البول ونحوه يتوضأ لوقت كل صلاة إلا لأن يخرج منه شيء، وهو قول أصحاب الرأي لحديث علي بن ثابت عن أبيه

الناس في الألفاظ والأفعال انعقد العقد عند كل قوم بما يفهمونه من الصيغ والأفعال، وليس لذلك حد مستمر لا في شرع، ولا في لغة، بل يتنوع اصطلاح الناس كما تتنوع لغاتهم، ولا يجب على الناس التزام نوع معين من الاصطلاحات، ولا يحرم عليهم التعاقد بغير ما يتعاقد به غيرهم؛ إذا كان ما يتعاقدون به دالا على مقصودهم، وإن كان قد يستحب بعض الصفات، وهذا هو الغالب على أصول مالك، وظاهر مذهب أحمد، فأما التزام لفظ مخصوص فليس فيه أثر، ولا نظر. وهذه القاعدة من أن العقود تصح بكل ما دل على مقصودها من قول أو فعل هي التي تدل عليها أصول الشريعة، وهي التي يعرفها العامة، ولم ينقل عن أحد من الصحابة والتابعين أنه عيّن للعقود صفة معينة من الألفاظ أو غيرها، أو قال ما يدل على ذلك من أنها لا تنعقد إلا بالصيغ، بل قد قيل: إن هذا القول يخالف الإجماع القديم، وهو أنه من البدع، وهذه قاعدة عظيمة نافعة. انتهى ملخصا. والمنصف لا يعدل عنه. رد اللقطة لصاحبها "الخامسة عشرة": إذا التقط رجل لقطة فطلبها صاحبها، وكتمها الملتقط؛ ليبذل عليها صاحبه مالا، هل له أخذ المال على هذا المنوال، أم لا؟ فإن قلتم: لا يحل، فهل يملك الباذل الرجوع، أم لا؟ وهل لقوله حال الإنشاد: حلال من الله، تأثير، أم لا؟ الجواب": لا يحل له أخذ المال المبذول، والحال ما ذكر؛ لوجوب تعريفها عليه، وإيصالها إلى صاحبها فورا، متى جاء، بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ويحرم عليه كتمانها، ولو تلفت في هذه الحال ضمنها بقيمتها مرتين. قال أبو بكر في التنبيه: ثبت خبر عن النبي صلى الله عليه وسلم "في الضالة المكتومة غرامتها، ومثلها معها" 1 وهذا حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يرد. اه. وصرح الفقهاء بأن أجرة المنادي عليه، وبكتمانه لها ارتكب محرما، وترك واجبات متعددة، فيجب عليه رد ما أخذه إن لم تطب به نفس باذله بعد علمه بالحال،

_ 1 أبو داود: اللقطة "1718".

قبل البرء، واختاره شيخنا مطلقا كإزالة شعر اه وعنى بشيخه أبا العباس، قال العكبري: فلو خلع الجبيرة على طهارة لم ينتقض وضوءه بمجرد خلعها. وقال في الإقناع والمنتهى وشرح المفردات: وزوال جبيرة كخف اه وكذا عبر غيرهم بلفظ زالت وزوال، وكلا اللفظين أعم من أن يكون بفعل، فعلى هذا إن كان سقوطها على طهارة لم تنتقض الطهارة به وإن كان بعد حدث انتقضت وعلى الثانية هي باقية مطلقا ما لم يبرأ. صور من جمع المسافر بين الصلاتين "المسألة الثامنة" إذا تحقق المسافر وصول الماء قبل خروج وقت الثانية من المجموعتين هل له أن يصليهما جميعا في هذه الحال أم لا؟ "الجواب" له أن يؤخر الأولى جمعا مع الثانية لجواز الجمع للمسافر مطلقا، تحقق وجود الماء أو ظنه وقت الثانية أم لا على المشهور في مذهب أحمد، بل حكي في الفروع عن بعضهم أن الجمع في السفر في وقت الثانية أفضل وأنه مذهب الشافعي، وقال المنقح في تصحيح الفروع: جزم به في الهداية والخلاصة، وقال ابن تميم نص عليه اهـ. وقال أبو العباس في المسألة المسماة "بتيسير العبادات" الجمع بين الصلاتين بطهارة كاملة خير من أن يفرق بين الصلاتين بتيمم، والجمع بين الصلاتين مشروع لحاجة دنيوية فلأن يكون مشروعا لتكميل الصلاة أولى، والجامع بين الصلاتين مصل في الوقت وقال في موضع: آخر الجمع بين الصلاتين يصير الوقتين وقتا لهما، وقاله في الإنصاف وغيره. ما يستحب وما يكره للجمعة وحكم السفر قبل صلاتها "المسألة التاسعة" ما ورد في يوم الجمعة كقراءة سورة الكهف والغسل والتفريق بين الاثنين وغيرها هل هو مختص بما قبل الزوال أو باليوم كله؟ "الجواب" أما قراءة سورة الكهف فظاهر الخبر الآتي وصريح كلام

فقهاء الحنابلة والشافعية أنها في مطلق اليوم، والأصل فيه ما رواه الحاكم والبيهقي عن أبي سعيد مرفوعا "من قرأ سورة الكهف يوم الجمعة أضاء له من النور ما بين الجمعتين" وفي رواية للبيهقي "ما بينه وبين البيت العتيق" قال في "شرح الجامع الصغير": وفي رواية " ليلة الجمعة" بدل "يوم الجمعة" وجمع بأن المراد اليوم بليلته والليلة بيومها اه. وقاله في "شرح المنهاج"، وفي "الفتاوى المصرية": هي مطلقة يوم الجمعة ما سمعت أنها مختصة ببعد العصر اه. قال في "شرح المنهاج": ويستحب الإكثار من قراءتها كما نقل عن الشافعي وقراءتها نهارا آكد، وأولاها بعد الصبح مسارعة للخير اه. فلم يقيدها بغير الأولوية وعليها يحمل ما حكاه في "المغني" وغيره عن خالد بن معدان من أنها قبل الصلاة. لكن هل الليلة ما قبل اليوم أو ما بعده؟ قال ابن القيم في البدائع: هذا مما اختلف فيه فحكي عن طائفة أن ليلة اليوم بعده، والمعروف عند الناس أن ليلة اليوم قبله، ومنهم من فصَّل بين الليلة المضافة إلى اليوم كليلة الجمعة وغيرها فالمضافة إلى اليوم قبله، والمضافة إلى غيره بعده والذي فهمه الناس قديما وحديثا من قول النبي صلى الله عليه وسلم "لا تخصوا يوم الجمعة بصيام من بين الأيام، ولا ليلة الجمعة بقيام من بين الليالي" 1 أنها الليلة التي تسفر صبيحتها عن يوم الجمعة اه ملخصا. وقد جاء الحديث أيضا بقراءة سورة هود وسورة آل عمران في يومها، روى الدارمي في مسنده عن عبد الله بن رباح مرفوعا "اقرءوا سورة هود يوم الجمعة" 2 ثم أخرجه كذلك بزيادة عن كعب وهو في مراسيل أبي داود. قال الحافظ مرسل صحيح الإسناد، وروى الطبراني في الأوسط عن ابن عباس مرفوعا "من قرأ السورة التي يذكر فيها آل عمران يوم الجمعة صلى الله وملائكته عليه حتى تجب الشمس" 3. ومما ورد من الخصائص مطلقا أيضا الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه

_ 1 مسلم: الصيام "1144". 2 الدارمي: فضائل القرآن "3403". 3 أي تغيب من "وجب" بمعنى سقط كقوله -تعالى- "وجبت جنوبها" أي سقطت.

رواه أبو داود والترمذي من حديث أوس بن أوس قال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين، ومن ذلك أوكدية السواك والتفرغ للعبادة ومزية الصدقة، ودنو أرواح المؤمنين من قبورهم وتوافيها فيه. وأما الاغتسال والتطيب، ولبس أحسن الثياب، وقص الشارب، وتقليم الأظفار، والنهي عن التخطي والتفريق والتحلق، والحبوة، فدلت الأخبار على أنه قبل الصلاة، وإن كان ظاهر الفروع في الاغتسال عدم التقييد لأنه قال في يومها الحاضر: إن صلاها، إلا لامرأة، وقيل: ولها اهـ. ففي الصحيحين عن ابن عمر مرفوعا "من أتى الجمعة فليغتسل" 1 وفي السنن عن أبي هريرة مرفوعا "من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة ثم راح –فذكره إلى أن قال-: فإذا خرج الإمام حضرت الملائكة يستمعون الذكر" 2 وفي سنن أبي داود عن أبي سعيد مرفوعا "من اغتسل يوم الجمعة ولبس أحسن ثيابه ومس من الطيب إن كان عنده ثم أتى الجمعة فلم يتخط رقاب الناس ثم صلى ما كتب له ثم أنصت إذا خرج إمامه"الحديث. وفي البخاري عن سلمان مرفوعا "ثم راح فلم يفرق بين اثنين فصلى ما كتب له ثم إذا خرج الإمام أنصت" 3 الحديث، وفي الطبراني عن أبي هريرة: "كان رسول الله –صلى الله عليه وسلم - يقلم أظفاره ويقص شاربه يوم الجمعة قبل أن يخرج إلى الصلاة" وفي مسند أحمد وسنن أبي داود عن ابن عمر: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحبوة يوم الجمعة والإمام يخطب"4. وأما السفر لمن كان من أهل وجوبها فمنعه الأصحاب بعد الزوال إن لم يخف فوت رفقته إذا لم يأت بها في طريقه، وقبل الزوال فمكروه بشرطه، قال ابن المنذر: لا أعلم خبرا ثابتا يمنع السفر أول النهار إلى الزوال، وإنما يمنع إذا سمع النداء لوجوب السعي حينئذ، وقال المجد في "شرح الهداية" روى ابن أبي ذئب قال: "رأيت ابن شهاب يريد يسافر يوم الجمعة ضحوة، فقلت له تسافر يوم الجمعة؟ فقال إن رسول

_ 1 البخاري: الجمعة "877 ,894 ,919" , ومسلم: الجمعة "844" , والترمذي: الجمعة "492" , والنسائي: الجمعة "1376 ,1405 ,1407" , وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها "1088" , وأحمد "2/3 ,2/9 ,2/35 ,2/37 ,2/41 ,2/42 ,2/48 ,2/53 ,2/55 ,2/57 ,2/64 ,2/75 ,2/77 ,2/78 ,2/101 ,2/105 ,2/115 ,2/120 ,2/141 ,2/145 ,2/149" , ومالك: النداء للصلاة "231" , والدارمي: الصلاة "1536". 2 البخاري: الجمعة "881" , ومسلم: الجمعة "850" , والترمذي: الجمعة "499" , والنسائي: الجمعة "1388" , وأبو داود: الطهارة "351" , وأحمد "2/460" , ومالك: النداء للصلاة "227". 3 البخاري: الجمعة "910" , وأحمد "5/438 ,5/440". 4 الترمذي: الجمعة "514" , وأبو داود: الصلاة "1110" , وأحمد "3/439".

الله –صلى الله عليه وسلم - سافر يوم الجمعة"رواه أبو بكر النجاد وهو من أقوى وجوه المُرْسل لاحتجاج من أرسله به اهـ. وفي مسند الشافعي عن عمر أنه رأى رجلا عليه هيئة السفر فسمعه يقول: لولا أن اليوم يوم الجمعة لخرجت، فقال عمر: اخرج فإن الجمعة لا تحبس عن سفر، وفيه عن علي نحوه، وفي سنن سعيد بن منصور عن ابن كيسان أن أبا عبيدة بن الجراح سافر يوم الجمعة ولم ينتظر الصلاة. وأما ما رواه الدارقطني في الإفراد عن ابن عمر يرفعه "من سافر يوم الجمعة دعت عليه الملائكة أن لا يصحب في سفره"ففيه ابن لهيعة ولا يحتج بحديثه عند الحفاظ. وأما ساعة الإجابة فاختلف العلماء فيها وفي موضعها على أكثر من ثلاثين قولا ذكرها الحافظ ابن حجر في "الفتح" و"لوامع الأنوار" وغيرهما، ونظمها السيوطي في سبعة عشر بيتا، وأقرب الأقوال فيها قولان -وأحدهما أرجح من الآخر، كما قاله ابن القيم في الهدي وغيره-: "الأول" ما بين جلوس الإمام إلى انقضاء الصلاة. {والثاني" أنها بعد العصر، وهو قول عبد الله بن سلام وأبي هريرة، وذكره ابن جرير عن ابن عباس. قال الترمذي هو مذهب أحمد وإسحاق وجماهير من أهل العلم. "خاتمة" ذكر في "التوشيح" وغيره أن خصائص الجمعة تزيد على الأربعين. الاشتراك في الأضحية وإجزاء الشاة عن الرجل وعياله "المسالة العاشرة" ما معنى قوله -عليه السلام- في الأضحية "البدنة عن سبعة، والبقرة عن سبعة" وقوله لما ذبح "أضحية محمد، وآل محمد، وأمة محمد" وهل يشترك في البدنة والبقرة أكثر من سبعة؟ وهل المراد سبعة من الغنم أو سبعة أشخاص إلخ؟ " الجواب" قوله: الجزور عن سبعة يعني تضحية الإبل والبقر عن سبعة أشخاص مجزية عن كل واحد سبع. انتهى من المفاتيح.

وقال عن حديث ابن عباس الذي رواه الترمذي والنسائي: "كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر، فحضر الأضحى، فاشتركنا في البقرة سبعة، وفي البعير عشرة" 1 إن هذا الحديث منسوخ بما تقدم وهو "الجزور عن سبعة" 2 انتهى. وقال في "المغنى" عن حديث رافع: إن النبي صلى الله عليه وسلم قسَّم فعَدَل عشرةً من الغنم ببعير، هو في القسمة لا في الأضحية. انتهى. وقد أخذ كثير من العلماء، أو أكثرهم بمفهوم الناسخ، فقالوا: لا تجزئ البدنة كالبقرة عن أكثر من سبعة أشخاص، لكن لو اشترك جماعة في بدنة، أو بقرة فذبحوها على أنهم سبعة، فبانوا ثمانية ذبحوا شاة وأجزأتهم. قال في "الإنصاف" على الصحيح من المذهب، نقله ابن القاسم وعليه أكثر الأصحاب. ونقل منها تجزي عن سبعة، ويرضون الثامن ويضحي، وهو قول في الرعاية. انتهى ملخصا. وقال في حاشية "التنقيح": قوله عن سبعة، ويعتبر ذبحها عنهم، قال الزركشي: وتعتبر أن تشترك الجماعة دفعة واحدة؛ فلو اشترك ثلاثة في بقرة أضحية، أو قالوا: من جاء يريد الأضحية شاركناه، فجاء قوم فشاركوهم، لم تجز إلا عن الثلاثة. انتهى. وإذا صح الاشتراك، فالظاهر لا يمنع كون أحدهم مضح لنفسه، وبعضهم مضح لميته 3. وأما الحديث الثاني، فقال الخطابي في معالم السنن في قوله -عليه السلام-: "تقبل من محمد، وآل محمد" 4 دليل على أن الشاة الواحدة تجزئ عن الرجل وأهله وإن كثروا، وروى عن أبي هريرة وابن عمر أنهما كانا يفعلان ذلك، وأجازه مالك، والشافعي، والأوزاعي، وأحمد بن حنبل، وإسحاق، وكره ذلك الثوري، وأبو حنيفة. انتهى. قال ابن تيمية في الفتاوى المصرية: أجزأه ذلك في أظهر قولي العلماء، وهو مذهب مالك، وأحمد، وغيرهما؛ فإن الصحابة كانوا يفعلون ذلك، وقد ثبت في الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم ضحى، وقال- فذكر الحديث-، وترجم جده المجد في المنتقى "باب الاجتزاء

_ 1 الترمذي: الأضاحي "1501" , والنسائي: الضحايا "4392" , وابن ماجه: الأضاحي "3131". 2 مسلم: الحج "1318" , والترمذي: الحج "904" والأضاحي "1502" , وأبو داود: الضحايا "2807" , وابن ماجه: الأضاحي "3132" , وأحمد "3/293 ,3/363" , ومالك: الضحايا "1049". 3 كذا في الأصل والوجه في الإعراب أن يقال "مضحيا" في الموضعين؛ لأنه خبر لكون. 4 مسلم: الأضاحي "1967" , وأبو داود: الضحايا "2792" , وأحمد "6/78".

بالشاة لأهل البيت الواحد" ثم ذكر حديث عطاء بن يسار عن أبي أيوب، وذكر في الإفصاح عن مالك: أنه لا يجوز الاشتراك فيها بالأثمان والأعراض، بل على سبيل الإرفاق، وكان يشرك رب البيت أهل بيته، وسواء في ذلك عنده: البدنة، والبقرة، والشاة. وقال في الإنصاف: وتجزئ الشاة عن واحد بلا نزاع، وتجزئ عن أهل بيته وعياله على الصحيح من المذهب، نص عليه وعليه أكثر الأصحاب، وقطع به كثير منهم، وقيل: لا تجزئ، وقدمه في الرعاية الكبرى، وقال: وقيل في الثواب، لا في الإجزاء. انتهى. والمعتمد عند الشافعية: عدم إجزاء الشاة عن أكثر من واحد، قال في المنهاج وشرحه: والشاة عن واحد، فلو اشترك اثنان في شاة لم يجز، والأحاديث المخالفة لذلك كحديث: "اللهم هذا عن محمد، وآل محمد" 1 محمولة على أن المراد التشريك في الثواب، لا في الأضحية. انتهى. وقال الخلخالي في المفاتيح: ذكر في الروضة أن الشاة الواحدة لا يُضحَّى بها إلا عن واحد، لكن إذا ضحى بها واحد عن أهل بيته تأدى الشعار والسنة لجميعهم. وعلى هذا حمل ما روي أنه -عليه السلام- ضحى بكبش وقال: "اللهم تقبل عن محمد، وآل محمد" 2 وكما أن الفرض بنفسه ينقسم إلى عين وكفاية، فقد ذكروا أن التضحية كذلك، وأنها مسنونة لأهل كل بيت، وقد حمل جماعة الحديث على الاشتراك في الثواب؛ لأنه قال: "وعن أمة محمد" انتهى. إخراج الزكاة المستحقة على المورث "المسألة الحادية عشرة": رجل غني مات، لكن غالب ماله؛ إما في ذمة صاحب عقار معسر، لا يحصل منه وفاء إلا من غلته، أو عند مماطل، أو جاحد ونحوه، فحصل من ذلك المال كل نوع بحسبه، فهل زكاته -لما مضى- واجبة من موت المورث إلى الحصول؟ وهل وقته الذي كان في حياة المورث واجبة على الوارث؟.

_ 1 أحمد "6/391". 2 أحمد "6/391".

فإن قلتم: نعم، وكان بعض الورثة لا يملك نصابا، فهل تكون الزكاة من رأس المال، أو على حصة من ملك نصابا؟ "الجواب": إذا اعتمدنا ما قطع به المتأخرون من وجوب الزكاة في الدَّين الذي على غير المليء كعلى المليء، لصحة الحوالة به عليه والإبراء منه، فإنه يكون في المسألة تفصيل، فإن كان قد مضى على الدَّين المذكور حَولٌ فأكثر من ملك ربه له قبل موته، فإن زكاته تخرج من تركته لما مضى، ولو لم يبلغ المقبوض نصابا. قال في المبدع: وإذا مات من وجبت عليه الزكاة أخذت من تركته؛ نص عليه لقوله -عليه الصلاة والسلام-: "فدين الله أحق بالقضاء" 1 وصرحوا بأن الوارث لا يبني على حول مورثه، بل يستأنف حولا من ابتداء ملكه، وهو وقت موت المورث. ثم إن كان قد مضى من موته في صورة السؤال حول فأكثر، وبلغ نصابا، زكاه صاحبه كذلك. وإن لم يحل عليه الحول أو حال ولم يبلغ نصابا، فإنه لا زكاة فيه، هذا على المقطوع به عند المتأخرين من الروايات عن أحمد في المسألة. وعنه رواية ثانية: أن الدين على غير المليء لا زكاة فيه مطلقا، صححها في التلخيص ورجحها جماعة، واختارها ابن شهاب والشيخ تقي الدين ذكره عنهم في المبدع، وقال: روي عن عمر وابن عمر؛ لأنه غير تام، وهو خارج عن يده وتصرفه، ولأن الزكاة وجبت في مقابلة الانتفاع بالنماء حقيقة أو مظنة، وهذا مفقود. انتهى. وعنه رواية ثالثة: إنما يؤمل رجوعه كالدَّين على الغائب المنقطع خبره والمفلس، ففيه الزكاة، وما لا يؤمل رجوعه كالمسروق والمغصوب فلا زكاة فيه، قال أبو العباس: وهذا أقرب -إن شاء الله-، حكاه عنه في المبدع والإنصاف.

_ 1 البخاري: الصوم "1953" , ومسلم: الصيام "1148" , وأبو داود: الأيمان والنذور "3310" , وأحمد "1/227 ,1/258 ,1/362".

وجد البائع عين ماله عند المفلس بشروطه المعتبرة "المسألة الثانية عشرة": إذا وجد البائع عين ماله عند المفلس بشروطه المعتبرة، وكان المبيع جمع عددا أكثر بين عشرة إلى مائة، فهل إذا وجد بعضها يأخذه بقسطه، ويضرب فيما بقي مع الغرماء، أم يكون أسوة الغرماء، ولا يملك أخذ باقي سلعته؟ الجواب": هذه المسألة فيها روايتان عن أحمد: "إحداهما": أنه يرجع في العين الباقية؛ جزم به في المنتهى والإقناع، وذكر في الإنصاف: أنه الصحيح من المذهب؛ لأن السالم وجده ربه بعينه، فيدخل في عموم الخبر، قاله في شرح المنتهى، ووجه في الغاية أن مثله المكيل والموزون، فيأخذ ما وجد منه. والرواية الثانية": أن المتعدد كغيره إذا لم يجده كله كان أسوة الغرماء؛ لتعذر كل العين. قال في الإنصاف: وهو ظاهر كلام المصنف هنا وجماعة. انتهى. وفي الأولى قوة مع كونها مختار المتأخرين. التزام شروط الواقف ومن جوز تغييرها إلى الأصلح "المسألة الثالثة عشرة": إذا وقَّف إنسان وقفا على جهة معينة كعلى صوام المسجد الفلاني، ثم أراد الواقف 1 أو غيره صرفه إلى جهة أخرى؛ إما في تلك البلد، أو في بلد أخرى، هل له ذلك، أم لا؟ "الجواب": يتعين مصرف الوقف إلى الجهة المعينة على الصحيح من المذهب؛ نقله الجماعة، وقدمه في الفروع وغيره، وقطع به أكثرهم، وعليه الأصحاب. وقال الشيخ تقي الدين: يجوز تغيير شرط الواقف إلى ما هو أصلح منه وإن اختلف ذلك باختلاف الأزمان، حتى لو وقف على الفقهاء والصوفية، واحتاج الناس إلى الجهاد صُرِف إلى الجند. انتهى من الإنصاف. فجوز الشيخ تغييره إلى ما هو أصلح، لا إلى ما هو مثله أو دونه. ووجه الأول وقوع الوقف لازما، وانتقال الملك

_ 1 كذا في الأصل؛ وهو من أوقف لغة تميم، وأنكرها بعضهم.

فيه بمجرد عقده إلى الله -سبحانه-، ومعنى الانتقال هو انفكاكه عن اختصاصات الآدميين. قال العلامة ابن زياد الشافعي: والذي يظهر المنع في صورة السؤال، والموقف وغيره في هذا سواء؛ لزوال الملك عنه في الموقوف. ما تصح به العقود من قول وفعل "المسألة الرابعة عشر": إذا وقف إنسان وقفا، وأشهد عليه، وكتب به، والشاهد والكاتب يعرفان معنى ما نطق به من لغته وعُرفه، فكتب الكاتب خلاف ما نطق به الموقف وأراده، ظنا منه أن المعنى واحد، كما إذا قال: على أولادي وأولادهم، وهما عالمان منه إرادة التعقيب دون التشريك، إلخ. "الجواب": يتعين العمل بما شهدا عليه من لفظ لغته، وعلماه من إرادته، وإنما يحكم على العامة في هذا ونظائره بما تقتضيه لغاتهم، ويدل عليه عرفهم، وإن عدلوا عن الصيغ الاصطلاحية عند الفقهاء؛ لكون العقود بالمقصود. قال أبو العباس: للفقهاء في صفة العقود ثلاثة أقوال: "أحدها" أن الأصل في العقود أنها لا تصح إلا بالصيغ والعبارات التي يخصها بعض الفقهاء باسم الإيجاب والقبول، سواء في ذلك البيع، والإجارة، والنكاح، والوقف، والعتق، وغير ذلك، وهذا ظاهر قول الشافعي، وهو قول في مذهب أحمد؛ لكون الأصل عندهم هو اللفظ. "والقول الثاني" أنها تصح بالأفعال كالوقف؛ كمن بنى مسجدا، أو أذن للناس في الصلاة فيه، وكبعض أنواع الإجارة. فهذه العقود لو لم تنعقد بالأحوال الدالة عليها لفسدت أكثر أحوال الناس، وهذا هو الغالب على أصول أبي حنيفة، وقول في مذهب أحمد، ووجه في مذهب الشافعي، بخلاف المعاطاة في الأموال الجليلة، فإنه لا حاجة إليه، ولم يجر به العرف. "والقول الثالث" أن العقود تنعقد بكل ما دل على مقصودها من قول أو فعل، فكل ما عده الناس بيعا، أو إجارة فهو بيع، أو إجارة. وإن اختلف اصطلاح

عن جده في المستحاضة "تدع الصلاة أيام إقرائها ثم تغتسل وتصوم وتصلي وتتوضأ عند كل صلاة" 1 رواه أبو داود والترمذي. وعن عائشة قالت: جاءت فاطمة بنت أبي حبيش إلى النبي صلى الله عليه وسلم - فذكرت خبرها - ثم قالت قال "توضئي لكل صلاة حتى يجيء ذلك الوقت" 2 رواه أحمد وأبو داود والترمذي وقال حسن صحيح. فإذا توضأ أحد هؤلاء قبل الوقت ثم بعد أن دخل الوقت بطلت طهارته لأن دخوله يخرج به الوقت الذي توضأ فيه. والحدث مبطل للطهارة، وإنما عفي عنه مع الحاجة إلى الطهارة، ولا حاجة قبل الوقت، وإن توضأ بعد الوقت صح وضوءه ولم يؤثر فيه ما يتجدد من الحدث الذي لا يمكن التحرز منه، ولا تبطل الطهارة بخروج الوقت إذا لم يدخل وقت صلاة أخرى من الخمس، فمن تطهرت لصلاة الصبح لم يبطل وضوءها بطلوع الشمس لأنه لم يدخل وقت صلاة أخرى. قال المجد – في شرح الهداية – ظاهر كلام أحمد أن طهارة المستحاضة تبطل بدخول الوقت دون خروجه. وقال أبو يعلى: تبطل بكل واحد منهما ثم قال: والأول أولى انتهى. ومشى على الثاني في الإقناع. والمشهور عند الحنفية أنها تبطل بخروج الوقت لا بدخوله، فلو توضأت بعد طلوع الشمس لم تبطل حتى يخرج وقت الظهر. انتهى كلامه. وقال أبو العباس: أظهر قولي العلماء أن مثل هؤلاء يتوضئون لوقت كل صلاة أو لكل صلاة. نقض الوضوء بسقوط الجبيرة "المسألة السابعة" إذا سقطت الجبيرة بنفسها من غير برء هل تنتقض الطهارة بذلك أم لا؟ "الجواب" قال في الفروع: وإن زالت الجبيرة فكالخف وقيل طهارتها باقية

_ 1 الترمذي: الطهارة "126" , وأبو داود: الطهارة "297" , وابن ماجه: الطهارة وسننها "625" , والدارمي: الطهارة "793". 2 البخاري: الوضوء "228" , وأبو داود: الطهارة "298".

وقول مالكها حال الإنشاد: حلال من الله، لا تأثير له، وقد صرحوا فيمن رد ضالة قبل بلوغه بذل مالكها للجعل أنه يحرم عليه أخذه، وهو من أكل المال بالباطل، مع كونه بعد بذل صاحب الضالة له، لكنه لم يسمعه، وهو في مقابلة عمله، ولم يرتكب فيه محرما عمدا، أو يمتنع من واجب، فكيف بمن كتم وأثم. التحكيم ونفوذ حكم الحكم بالتراضي أو مطلقا "السادسة عشرة": إذا تحاكم اثنان إلى رجل حكماه ورضيا به، هل يلزم أحدهما الآخر بما قاله، أم لا؟ وهل يفرق بينه وبين غيره، أم لا؟ وهل هو محسن، أم لا؟ "الجواب": إذا تحاكم رجلان إلى رجل يصلح للقضاء، وحكماه بينهما، جاز ذلك، ونفذ حكمه عليهما، وبهذا قال أبو حنيفة، وللشافعي قولان: "أحدهما": لا يلزمهما حكمه إلا بتراضيهما. ولنا ما روى أبو شريح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله هو الحكم فلِمَ تكنى أبا الحكم؟، قال: إن قومي إذا اختلفوا في شيء أتوني فحكمت بينهم، فرضي الفريقان، قال: ما أحسن هذا، فمَن أكبر ولدك؟، قال: شريح، قال: فأنت أبو شريح"1 أخرجه النسائي، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم "من حكم بين اثنين تراضيا عليه، فلم يعدل بينهما فهو ملعون" ولولا أن حكمه يلزمهما لما لحقه هذا الذم، ولأن عمر وأُبَيَّا تحاكما إلى زيد، وحاكم عمر أعرابيا إلى شريح قبل أن يوليه القضاء، وتحاكم عثمان وطلحة إلى جبير بن مطعم. اه من شرح المقنع. وقال في الإنصاف: نفذ حكمه في المال، وينفذ في القصاص والحدود، والنكاح، واللعان في ظاهر كلامه، وهو المذهب، وقال القاضي: لا ينفذ إلا في الأموال خاصة، وقال في المحرر والفروع: وعنه لا ينفذ في قَود وحدّ، وقذف ولعان ونكاح، وقال في الرعاية: وليس له حبس في عقوبة، ولا ضرب دية خطأ على عاقلة من رضي بحكمه، وما قاله في الإنصاف أولا هو المعتمد، قطع به في التنقيح، وتبعه من بعده، قال في

_ 1 النسائي: آداب القضاة "5387" , وأبو داود: الأدب "4955".

التنقيح: فهو كحاكم الإمام مطلقا، قال في حاشيته: أي سواء وجد حاكم أم لا. اهـ. فلهذا قال المحشي في إقناعه: حتى مع وجود قاض. وقال في الاختيارات: إذا حكّم أحد الخصمين خصمه، جاز لقصة ابن مسعود، وكذا إن حكّما مفتيا في مسألة اجتهادية، وهل يفتقر ذلك إلى تعيين الخصمين أو حضورهما، أو يكفي وصف القضية له؟ الأشبه أنه لا يفتقر، بل إذا تراضيا بقوله في قضية موصوفة مطابقة لقضيتهم فقد لزم، فإن أراد أحدهما الامتناع؛ فإن كان قبل الشروع فينبغي جوازه، وإن كان بعد الشروع لم يملك الامتناع؛ لأنه إذا استشعر بالغلبة امتنع فلا يحصل المقصود. اه. فقد ظهر -مما قلناه- لزوم ما حكم به. وأما اشتراط الأهلية فكتب الأصحاب طافحة بها لصحة حكمه ولزومه، وحكى شارح التنبيه من أئمة الشافعية عليها الاتفاق، وأما اتصافه بالإحسان، فذلك إلى الرحمن. وليكن هذا ختام ما نقلناه، وختام ما قلناه، في هذه الألفاظ اللائحة، والأحرف الواضحة، جعله الله -تعالى- في مقام الإخلاص والتقوى السبب الأقوى، والله أعلم، وصلى الله على سيدنا محمد آله وصحبه وسلم. "انتهت"

الرد على المدعو عبد المحمود البخاري فيما موه به من أقوال الإتحادية والمشركين لأحد علماء نجد

الرد على المدعو عبد المحمود البخاري فيما موّه به من أقوال الإتحادية والمشركين لأحد علماء نجد ... الرد على المدعو عبد المحمود البخاري فيما موّه به من أقوال الاتحادية والمشركين استواء الله على عرشه وعلوه على خلقه وبدع المبتدعة بسم الله الرحمن الر حيم الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إله الأولين والآخرين، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ إمام المتقين -صلوات الله وسلامه عليه، وعلى آله وأصحابه أجمعين، وسلم تسليما. أما بعد: فإني وقفت على ورقتين لرجل جاءنا، يزعم أنه من أهل بخارى، ويقول: إن اسمه عبد المحمود، فرأيت ورقتيه تضمنتا عبارات تنبئ أنه يقول بقول أهل وحدة الوجود، وربما خلط ذلك بعبارات الفلاسفة، فتعين عليَّ أن أبين ما في ورقتيه من الإلحاد والدسائس التي موَّه بها على بعض الجهال، فأوقع بعضهم في لبس وضلال، فلما حصل الجواب رجع من رجع. فأول ما ابتدأ به الورقتين قوله: "الحمد لله المتوحد بجميع الجهات"؛ فاعلموا -وفقكم الله- أن هذه الكلمة ليس لها استعمال في الكتاب، ولا في السنة، ولا عند علماء السنة، ولا عند غيرهم من الطوائف، بل هي من عبارات أهل الاتحاد، ومعناها: أنه المتوحد بجميع الجهات، فهو فيها وحده، ليس فيها غيره، ومصدره توحّد يتوحد توحدا، إذا توحد بالمكان، فليس فيه غيره، كقول القائل: توحّد فلان بمكان كذا وكذا، إذا كان هو الذي فيه وحده. وأرادت هذه الطائفة بمثل هذه العبادة أن كل ما في الجهات فهو الله، يبين ذلك أنك لا تجد أحدا من أهل السنة، ولا من المتكلمين يصف الله -تعالى- بأنه توحد بجميع الجهات. فالسلف -أهل السنة- يقولون: إنه -تعالى- فوق العرش الذي هو أعظم المخلوقات، وهو فوق السموات، والله -تعالى- فوق عرشه، كما قال -تعالى-: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} 1 {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} 2 في سبعة مواضع،

_ 1 سورة النحل آية: 50. 2 سورة طه آية: 5.

{تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} 1 {يا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} 2. وأمثال هذه الأدلة في الكتاب والسنة كثير تدل على أن الله -تعالى- فوق عرشه، وأنه ليس في الجهات، وأدلة علو الرب -تبارك وتعالى- على عرشه كثيرة في الكتاب والسنة. وأما أهل البدع من الجهمية، ومن سلك سبيلهم، فيقولون: إنه -تعالى- حال في كل شيء، تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً، لكنهم لم يقولوا بقول أهل الاتحاد: إن الذي هو حال فيه هو عينه، بل يقولون: إنه غيره، وأما أهل الوحدة فيقولون: إنه الوجود بعينه، وهو قول هذا الرجل، كما يدل عليه بقية كلامه. وأما الأشاعرة فأخلوه -تعالى- من جميع الجهات، ولم يثبتوا علوه على خلقه، واستواءه على عرشه 3 فخالفوا السلف، وأهل السنة، ولم يؤمنوا بما في كتاب الله، ولا

_ 1 سورة المعارج آية: 4. 2 سورة آل عمران آية: 55. 3 لم يثبتوه كما أثبته السلف بمعناه العربي من غير تمثيل ولا تعطيل ولا تأويل، بل أولوه بما ينافي ما أرادوه من التنزيه، فقالوا: استولى على العرش. فيقال لهم: إن كان استيلاؤه عليه كاستيلاء بشر على العراق ونحوه، فهذا عين التشبيه الذي تفرون منه، وان كان استيلاء يليق به لا كاستيلاء الملوك وغيرهم على البلاد، فلم لا تقولون هذا في اللفظ الوارد في كتاب الله، كما قال السلف، والحال أن لفظكم يرد عليه من الاعتراض ما لا يرد على لفظ كتاب الله، وذلك من وجهين: "أحدهما": أنه لا يقال: إن فلانا الملك، أو القائد استولى على بلد كذا إلا إذا انتزعه من خصم له كان مستولياً عليه قلبه، "ثانيهما": أن عطف الاستواء على خلق السموات والأرض بثُمّ يفيد أن الاستيلاء على العرش حصل بعد خلق السموات والأرض، والحق أنه كان مستولياً عليه ومالكا له قبل ذلك، أي منذ خلقه، وهذا لا يرد على نص التنزيل على طريقة السلف كما هو ظاهر، ولا على طريقتكم في التأويل؛ لأن الاستواء في اللغة يدل على معنيين: العلو والتدبير الذي ورد في آية: {استوى على العرش يدبر الأمر} ، فإنه لا محذور في العطف بثم على هذين المعنيين. إذ حاصلة أنه -تعالى- لما خلق السموات والأرض، وتحقق بذلك متعلق صفة الملك، تحقق بعده كل من علوه -سبحانه- على مجموع هذا الملك وتدبيره له، وهو معنى استوائه على العرش، فإن رتبة العلو على الملك وتدبيره مرتبة على خلقه وإيجاده، وإنما التراخي بثم هنا في الرتبة لا في الزمن. وكتبه محمد رشيد رضا.

في سنة رسوله من أدلة العلو، ويلزمهم على هذا لوازم ليس هذا محل ذكرها. وإنما أردنا بيان طريقة هذا الرجل، وما دل عليه كلامه لقول أهل الاتحاد، وليس في الكتاب والسنة، ولا في كلام سلف الأمة أن الله -تعالى- متوحد بجميع الجهات، بل الذي في القرآن: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} 1. ومعناه: أنه -تعالى- اختص بالإلهية دون كل ما سواه؛ فهو الذي تؤلهه القلوب محبة وذلا وعبودية، وتعظيما، ودعاء ورجاء، وغير ذلك من أنواع العبادة التي لا تصلح إلا له، وكل إله سواه فهو باطل، فالإلهية صفته التي لا يصح أن يوصف بها غيره إلا على وجه الإنكار لها ونفيها، وهذا هو التوحيد الذي بعث الله به رسله، وأنزل به كتبه، وفي سورة الإخلاص: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} 2 أي لا شبه له، ولا مثل له، ولا ند له، ولا كفو له، بل هو الكامل في ذاته وصفاته، لا إله غيره ولا رب سواه، فهذا هو التوحيد العلمي الذي يجب اعتقاده. بيان القرآن لتوحيد الألهية والربوبية وإلحاد المبتدعة والقرآن يقرر هذا التوحيد، ويبين أنه الإله الحق، كما قال -تعالى-: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ} 3 وهذا هو التوحيد في الإلهية، ويبين توحيده في ربوبيته بقوله -تعالى-: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ} 4 وقوله: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ} 5 إلى قوله: {فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ} وهذا التوحيد الثاني قد أقر به مشركو العرب وغيرهم، لكنهم جحدوا التوحيد العملي؛ توحيد العبادة، فصار إقرارهم بهذا النوع حجة عليهم فيما جحدوا، كما قال -تعالى-: {مَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} 6. قال علماء الصحابة والسلف والمفسرون: تسألهم مَن خلق السموات والأرض؟ فيقولون: الله، فذلك إيمانهم، وهم مع ذلك يعبدون غيره، فذلك شركهم. وأما توحيده -تعالى- في أسمائه التي هي أوصافه -تعالى-، فالسلف وأهل السنة يثبتون ما أثبته الله في كتابه، وما أثبته رسوله في سنته، على ما يليق بجلال الرب

_ 1 سورة البقرة آية: 163. 2 سورة الإخلاص آية: 1. 3 سورة الحج آية: 62. 4 سورة يونس آية: 3. 5 سورة يونس آية: 31. 6 سورة يوسف آية: 106.

-تعالى- وعظمته، إثباتا بلا تمثيل، وتنزيها بلا تعطيل، كما قال -تعالى-: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} 1. وأما أهل البدع فألحدوا في هذا التوحيد؛ فمنهم من نفى ما دلت عليه الصفات من كمال الرب، ومنهم من تأولها تأويلات بعيدة تخالف ما دلت عليه من المعاني المعروفة في اللغة، ولسان الشرع، والفطر والعقول الصحيحة. فتدبر -أيها الطالب للعلم والهدى- والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم، إذا عرفت ذلك، وتميز الحق من الباطل عند من طالع في هذا الجواب، فليعلم أن أهل السنة والجماعة لا يطلقون على الله -تعالى- لفظ الجهة؛ لعدم وروده في الكتاب والسنة، وإنما يطلقون على الله -تعالى- ما ورد، فيقولون: إنه -تعالى- استوى على عرشه استواء يليق بجلاله وعظمته، ويقولون: إنه فوق العرش، وأنه على عرشه -تعالى- وتقدس، ويثبتون له العلو من جميع الجهات، علو القهر، وعلو القدر، وعلو الذات، ولا يبخسونه واحداً منها، كما قال -تعالى-: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلا يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} 2 وهذا في عدة مواضع من القرآن. فلله الحمد لا نحصي ثناء عليه، هو كما أثنى على نفسه، وفوق ما يثني عليه خلقه. الزعم بأن الإله في كلمة التوحيد كلي مطلق وأما قوله: "إن لا إله إلا الله إنما نفت كليا في الذهن، لا يوجد منه في الخارج إلا فرد، وهو المستثنى" فهذا تحريف فاسد لمعنى كلمة الإخلاص، لم يسبقه إليه أحد من مشركي الأمم، ولا يقدر أحد على هذا التحريف الذي لا أفسد منه، فإن "لا" إنما وضعت لنفي أفراد الجنس الموجودة في الخارج، ولم توضع لمقدرات الذهن التي لا يوجد لها أفراد، وهذا أمر معروف بالضرورة. واليهود الذين وصفهم الله -تعالى- بكونهم يحرفون الكلم عن مواضعه لا يقدر أحد منهم على مثل هذا التحريف، الذي هو من أعظم التحريف وأبعده عن الإسلام والإيمان، والرسل والكتب،

_ 1 سورة الشورى آية: 11. 2 سورة البقرة آية: 255.

وهذا الكلي الذي قدره هؤلاء في الذهن لا حقيقة له، بل هو كذب محض، وجناية على أصل دين الإسلام، وإبطال لمعنى هذه الكلمة العظيمة التي هي أساس الدين، وهذا من عظيم كفر هذه الطائفة الاتحادية. ومن المعلوم عند كل طائفة أن "لا" النافية للجنس لم توضع لما يقدر في الأذهان، بل وضعت لغة لنفي أفراد الجنس الموجود في الأعيان، والخيالات الذهنية، لم يوضع لها شيء من الأدوات أصلا؛ لأنها خيال ذهني كاذب. وقد مثل ما ذهب إليه بقوله "لا شمس إلا الشمس" يعني أنه قدر في ذهنه أن هناك شموساً انتفت بلا، واستثنى منها الفرد الموجود، وهذا كذب محض، فما ليس في الوجود لا يصح تقديره موجوداً ينتفي بلا، بل هو منتف في نفسه أصلا، فكيف يدعي أن "لا" نفت ما لا وجود له من تخيلات الأذهان التي هي كذب محض. وهذه الطائفة حاولوا إبطال معنى لا إله إلا الله الذي جاءت به الكتب والرسل من نفي عبادة الأصنام والأنداد، التي دلت العقول الصحيحة والفطر السليمة، والرسل والكتب على نفيها وإبطالها، وعلى ما حرفته هذه الطائفة لم يبق من الإسلام والإيمان حبة خردل، بل هو كفر؛ لأنه لم ينف وثنا ولا صنما، والرسل والكتاب تنفي ذلك كله بكلمة الإخلاص، وقد أراد بذلك أن يفتن الجهال، فوقى الله شره، فلله الحمد على ذلك. وأيضاً فقد تناقض بدعواه أن هذا الفرد الموجود قد انتفى بلا، ثم أثبت بلا، وهذا تناقض ظاهر لا يصدر إلا ممن لا يدري ما يقول، وكل صاحب باطل فلا بد أن يأتي بكلام يناقض بعضه بعضاً. كلمة التوحيد تنفي آلهة الباطل المتخذة وتثبت الإله الحق وأما قول هذا الأعجمي: الإله هو المعبود غير مقيد بقيد الحقيقة أو البطلان "فالجواب": لا يخفى أن هذا قول في غاية الفساد والمغالطة، فالعناد لا يؤخذ

منه معنى ويستفاد، ولا صدر عن دراية ولا عن رواية، بل ولا تقليد، بل هو عن الصواب بمكان بعيد، بل هو زعم كاذب، لا أصل له في كلام أحد من طوائف الأمة، قد خالف اللغة والمنقول والمعقول. بيان ذلك: أن أسماء المسميات موجودة في سابق علم الله -تعالى- قبل وجود مسمياتها، كاسم الجنس، وعلم الجنس، والمتواطئ، والمشترك، والأعلام ونحو ذلك، ثم إن الله -تعالى- علم آدم الأسماء كلها، كما قال -تعالى-: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} 1. وجميع اللغات إنما وجدت بإلهام من الله -تعالى- ولم يحدث لها بعد ذلك تغيير ولا تقييد بعد الوضع الأول، وكل اسم وضع على مسماه، فمنها ما هو مشترك بين الحق والباطل، كاسم الإله فإنه يقع على كل معبود. إذا ألهه العبد بالعبادة صار مألوها، فإن كان الذي ألهه العبد بالعبادة هو الله وحده فهو الإله الحق، وهذا وصفه تعالى فيما لم يزل ولا يزال كما قال -تعالى-: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} 2 وقال -تعالى-: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ} 3 الآية، ولها نظائر في القرآن. فإن اتخذ العبد معبودا سوى الله فقد ألهه بالعبادة وصار باطلا كما في قوله: {وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ} وهذا هو الأصل في وضع هذا الوصف لم يتغير إطلاقه عن الأصل على الإله الحق سبحانه. وأما إطلاقه على غيره فمن جهة فعل العبد إذا ألَّه غير الله بالمحبة والإجلال، والخضوع والذل، والتوجه ودعائه، وغير ذلك من أنواع العبادة، فيكون قد ألهه بذلك، وشبهه بالإله الحق بعبادته له، فأطلق عليه بهذا الاعتبار، كما قال -تعالى-: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي} 4 الآية. فبين -تعالى- أن إلهيتها ليست بحق، والحق ما قام عليه البرهان. وقال -تعالى-: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزّاً كَلا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ

_ 1 سورة البقرة آية: 31. 2 سورة البقرة آية: 163. 3 سورة الحج آية: 62. 4 سورة الأنبياء آية: 24.

عَلَيْهِمْ ضِدّاً} 1. ففي هذه الآية بيان: أن الإلهية هي العبادة، قال -تعالى-: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ} 2 فسماهم -تعالى- آلهة، وأخبر عن عجزهم عن نصرة أنفسهم، فضلا عن غيرهم. وقد فسر الله هذه الكلمة العظيمة في مواضع من كتابه بأوضح بيان، وأظهر برهان، يعرف ذلك من طلبه، وبالله التوفيق. وهذا الذي ذكرناه هو العلم الذي يستفاد منه التوحيد، وهذه الآلهة التي تعبد من دون الله هي المنفية بلا إله إلا الله، فلا بد من نفيها بالقول والفعل والاعتقاد، وأما ما ذكره هذا الأعجمي فلا يفيد إلا التخبيط والتخليط، وإدخال الشك على من لا بصيرة له، ولا مقاربة في الفهم ولا تسدد، فالحمد لله الذي دفع عن المسلمين فتنته وبليته، وأظهر لأهل العلم طويته. وأنت -أيها المغرم بحبه- فتش كلامه هذا الذي ذكرناه وانظر إلى ما تأخذه منه، فإنك لا تجد فيه ما ينفعك، وما إخالك تسلم، فإنك عرفت أنه إنما يتكلم بجهل محض لا يعرف عن أحد من طوائف الأمة، بل هو من تخاليط الجهال، وأرباب الضلال، وإلى الله -تعالى- نرغب في هداية قلوبنا، ومغفرة ذنوبنا، وهو المستعان، وعليه التكلان. وأما قوله: إذ اشتقاقه من ألّهه إذا عبده، يوجب اتحاده معه في المعنى. "فالجواب": هذا لا يصلح تعليلا لقوله: غير مقيد بقيد، بل هو إلى كونه مقيداً أقرب، فإن المشتق والمشتق منه لا بد أن يكون متضمنا لمعناه الذي وضع له على ما كان هو عليه في أصل الوضع، وهذا أمر بين لمن له أدنى معرفة بما ذكره العلماء -رحمهم الله تعالى- في أصل وضع اللغة، وهذا لا يلتبس إلا على جاهل؛ لا معرفة عنده، ولا بصيرة له. وقوله يوجب اتحاده معه في المعنى، هذا لا يفيد معنى الاشتقاق، فلو كان له

_ 1 سورة مريم آية: 81، 82. 2 سورة يس آية: 74.

معرفة لبين معنى اتحاد المشتق مع المشتق منه، وذلك لعدم معرفته بحقيقة ما تكلم به. إذا عرفت ذلك فقد ذكر العلماء- منهم ابن القيم -رحمه الله تعالى- ما يبين حقيقة الاشتقاق فقال: ونحن لا نعني بالاشتقاق إلا أنها ملاقية لمصادرها في اللفظ لا أنها متولدة منه، تولد الفرع من أصله. وتسمية النحاة للمصدر، والمشتق منه أصلا وفرعا، ليس معناه أن أحدهما متولد من الآخر، وإنما هو باعتبار أن أحدهما يتضمن الآخر وزيادة. اه. نفي أعيان المعبودات وإبطالها وإزالتها وجعل الله هو المعبود وحده ثم إن هذا الرجل لما سمع بما كتبته من الرد عليه، أجاب بقوله: قلنا: إنما يلزم هذا لو أريد بالمستثنى منه فرد خاص جزئي، وإنما أريد منه المفهوم العام المتناول لأفراد المعبود بحق سواء كانت في الذهن أو في الخارج. "فالجواب": أن من تأمل كلام هذا علم أن هذا الكلام مع تناقضه يصرح بما ذهب إليه من الاتحاد، وذلك أنه قال: إنما يلزم هذا لو أريد بالمستثنى منه فرد خاص جزئي، وإنما أريد منه المفهوم العام، فصرح بأن المراد من المستثنى منه المفهوم العام، وهذا هو معنى قوله الأول: إن لا إله إلا الله إنما نفت مفهوما، ولم تنف ما نفاه الخليل -عليه السلام- وإخوانه من الرسل، وجميع ما في القرآن والسنة، فإن المنفي في ذلك أشخاص موجودة عند عابديها، كأصنام قوم نوح، وكاللات، والعزى، ومناة، ونحو ذلك مما كان يعبده الأمم. وهذا هو الذي نفته كلمة الإخلاص لا إله إلا الله، نفت أن يكون لله شريك في الإلهية من جميع ما كان يعبده أهل الشرك كما قال -تعالى- عن قوم إبراهيم: {قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَاماً فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ} 1 وقال -تعالى-: {وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرائيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ} 2 إلى قوله: {أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهاً} 3 الآية.

_ 1 سورة الشعراء آية: 71. 2 سورة الأعراف آية: 138. 3 سورة الأعراف آية: 140.

فليس المراد بالنفي في كلمة الإخلاص مفهوما، وإنما المنفي بها أعيان المعبودات، وإبطال عبادتها وإزالتها، وجهاد الخلق على أن يكون الله وحده معبودهم، دون كل معبود. وقد حصل ذلك لما فتح الله على رسوله مكة، فأزال كل صنم حول الكعبة، وهي ثلاثمائة وستون صنما، وبعث علي بن أبي طالب إلى مناة فهدمها، وبعث خالد بن الوليد إلى العزى مرتين، فقطع الشجرة، وهدم البناء. ولما أسلم أهل الطائف بعث المغيرة بن شعبة فهدم اللات، فلم يبق في جزيرة العرب من الأصنام والأوثان شيء إلا أزاله صلى الله عليه وسلم وقد بعث جرير بن عبد الله إلى ذي الخلصة فهدمه، فصارت كلمة الله هي العليا. فلله الحمد على ما أكمل للأمة من دينه الذي بعث به رسوله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله على نبيه صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، وهو بعرفة: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً} 1 كما صرح به القرآن في هذه الآيات ونحوها. وهذه الأصنام ونحوها هي التي تجب البراءة منها، ومن عابديها؛ لقول الخليل -عليه السلام- {إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلا الَّذِي فَطَرَنِي} 2 الآية، فتبرأ مما كانوا يعبدون بالقول والفعل، ولم يكونوا يعبدون مفهوما محله الذهن، وقال -تعالى-: {إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} 3 إلى قوله: {وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} 4. فمن قال: إن المستثنى منه مفهوم عام فقد خالف الكتب والرسل، ولم يدر ما معنى هذه الكلمة العظيمة، ثم إن هذا القول منه يقتضي أن هذه الأصنام والأوثان التي يعبدها المشركون ليست منتفية بكلمة الإخلاص، فيلزمه أن تكون تلك الأوثان والأصنام ثابتة غير منتفية، إذا كان النفي مفهوما عاما فغيره على قوله، ولم ينف هذا -لم يقل به- إلا أهل الاتحاد خاصة. وأما طوائف أهل الشرك فهم يعتقدون أن الرسل إنما نهتهم عن عبادة

_ 1 سورة المائدة آية: 3. 2 سورة الزخرف آية: 26، 27. 3 سورة العنكبوت آية: 25. 4 سورة العنكبوت آية: 25.

ما كانوا يعبدونه من تلك الأشخاص التي تألهتها قلوبهم، هذا القول مبني على ما تقدم من كلام أهل الوحدة القائلين: بأن مسمى الله هو الوجود بعينه، فكل شيء يوجد في الخارج فهو الله، وبهذا وسمهم العلماء بأنهم أكفر أهل الأرض. ثم إنه قال: وإنما أريد منه المفهوم العام المتناول لأفراد المعبود بحق، فجعل المستثنى منه يتناول أفراد المعبود بحق، فجعل للمعبود بحق أفرادا، ولهذا قال سواء كانت في الذهن أو في الخارج، فانظر كيف جعل للمعبود بحق أفرادا، وهذا كفر صريح؛ فإن المعبود بحق هو الله وحده لا شريك له في ذلك، كائنا ما كان. التوحيد الذي دعا إليه جميع الرسل ثم يقال: كيف يكون معبوداً بحق، وهو منفي بلا النافية للجنس؟ فإذا انتفت إلهيته بطل أن تكون حقا، وتعين أن المستثنى هو الحق خرج من المنفي بأداة الاستثناء، كما قال -تعالى-: {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلا اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} 1 فهذا هو التوحيد الذي دعت إليه الرسل، ولم يفهم أهل الشرك من دعوة الرسل إلا هذا التوحيد، وهو إفراد الرب -تعالى- بالإلهية كما أخبر -تعالى- عن المشركين أنهم قالوا: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} 2 وأخبر عن قوم هود أنهم قالوا: {أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ} 3. ولم يقل أحد من الأمم أن المستثنى له أفراد كلها حق، وهذا القول ينافي ما تقدم له في ورقته من قوله: إن المنفي بلا كلي منوي، لا يوجد منه في الخارج إلا فرد واحد وهو المستثنى، وهو يناقض كلامه هنا، مع أنه باطل في نفسه. فإن قال لنا قائل: المشركون كانوا يعتقدون في آلهتهم أنها حق. قلنا: هذا هو الذي أنكرته الرسل على الأمم؛ فإن الله لم يبعثهم لإبطال ما كان يفعله أهل الشرك مع آلهتهم التي يعبدونها من دون الله، ولم يجحدوا معنى ما دعتهم الرسل إليه، لكن هم لم يتركوا عبادة آلهتهم التي كانوا يعبدونها مع الله، وهؤلاء جحدوا المعنى الذي دلت عليه لا إله إلا الله كما قد عرفت، فخالفوا الرسل والأمم في معنى ما دعت إليه

_ 1 سورة آل عمران آية: 62. 2 سورة ص آية: 5. 3 سورة الأعراف آية: 70.

الرسل من نفي الإلهية عما سوى الله بأداة النفي في كلمة الإخلاص، وخالفوهم في إثبات الإلهية لله وحده، وقالوا: كل شيء هو الله، كما تقدمت الإشارة إليه عن إمامهم ابن عربي من قوله: وعبَّاد عجل السامري على هدًى ... ولائمهم في اللوم ليس على رشد بناء منه على مذهبه الخبيث الذي تقدم بيانه، وقالوا: إن لا إله إلا الله لم تنف شيئاً موجوداً في الخارج، بل كل ما في الخارج من الأصنام وغيرها فهو الله، فلهذا صاروا أكفر الطوائف؛ لأنهم جعلوا المخلوقات هي عين الخالق، وهذا لم يقله أحد ممن تقدم من طوائف أهل الشرك، إلا ما كان من الفلاسفة، فإن قولهم يضاهي قول هؤلاء، قاتلهم الله، ولا حاجة بنا إلى ذكر مذهبهم. ولولا أنا قد ابتلينا بهذا الملحد في بلدنا، لما تجاسرنا على أن نحكي ما كانوا عليه من الضلال، وقد قال -تعالى- عن قوم هود: {أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ} 1 فدل على أنهم يعبدونه -تعالى- لكنهم أبوا أن يفردوه بالعبادة، وعرفوا أنه غير معبوداتهم. وكذلك مشركو العرب أقروا لله -تعالى- بربوبيته، وأن الخلق خلقه، وهو الذي خلقهم وحده، كما قال -تعالى-: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} 2 ولما قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم "أريد منكم كلمة واحدة، قولوا: لا إله إلا الله" 3 فقالوا: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} 4 فأنكروا ما دعاهم إليه من أن لا يجعلوا لله شريكا في الإلهية التي هي العبادة. فبهذا وأمثاله مما في القرآن يتبين أن أهل الاتحاد، والفلاسفة قد أربوا في كفرهم على كل كافر. وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- عن هاتين الطائفتين -أعني الفلاسفة، وأهل الوحدة- أنهم أخذوا أسماء جاء بها الشرع، ووضعوا لها مسميات مخالفة لمسميات صاحب الشرع، ثم صاروا يتكلمون بتلك الأسماء، فيظن الجاهل أنهم

_ 1 سورة الأعراف آية: 70. 2 سورة الزخرف آية: 87. 3 الترمذي: تفسير القرآن "3232" , وأحمد "1/227". 4 سورة ص آية: 5.

قصدوا ما قصده صاحب الشرع، فأخذوا مخ الفلسفة، فكسوه ثوب الشريعة، وهذا كلفظ الملك والملكوت والجبروت، واللوح المحفوظ، والشيطان، والحدث والقدم، وغير ذلك، وقد ذكرنا من ذلك طرفا في الرد على الاتحادية، لما ذكرنا قول ابن سبعين وابن عربي، وما يوجد في كلام بعض الناس من أصول هؤلاء الفلاسفة والملاحدة الذين حرفوا كلام الله ورسوله عن مواضعه، كما فعلت القرامطة الباطنية. اه. المراد بالجنس المنفي بكلمة التوحيد قلت: وقد ذكر إبراهيم بن سعد الكوراني تحريفهم لمعنى لا إله إلا الله، ذكر أنهم اشترطوا في {لا" النافية للجنس في هذه الكلمة شرط الوحدة؛ فجعلوا الجنس المنفي واحداً، لا يوجد إلا ذهنا. وردّ -رحمه الله- هذا القول بأن قال: "أما أولا": فالمراد بالجنس المأخوذ بلا شرط، وهو الصالح للصدق على الأفراد، يعني المنفية بلا إله إلا الله فهي صادقة بنفي كل فرد مما كان يعبد من دون الله. قال: "وأما ثانيا": فإن الكلام يخرج عن إفادة التوحيد بالكلية؛ لأن حاصله حينئذ: هذا الجنس المأخوذ بشرط الوحدة الذهنية المغايرة لله -تعالى- منتف، وليس هذا من التوحيد في شيء، ولا شم من رائحة الدلالة عليه. "ويقال: ثالثا": إن أريد أن هذا الجنس منتف في الذهن فهو قطعي البطلان، إذ كل من ينطق بهذا التوحيد مستحضر لمعناه، وقد تحقق هذا الجنس في ذهنه، فكيف يصح نفيه؟ وعلى كل حال فلا يصح تفسيرا لهذه الكلمة؛ لأن المراد من لا إله إلا الله هو الدلالة على توحيد الإلهية، وهذا معلوم بالضرورة، وعلى تفسيرهم يكون بينهم وبين الدلالة على التوحيد بُعْد المشرقين. اهـ. فذكر رحمه الله تعالى حقيقة قول هؤلاء الملاحدة، وأنهم حملوا معنى كلمة الإخلاص على معنى بعيد من معناها الذي وضعت له شرعاً ولغة، وفطرة وعقلا، وأنهم أبطلوا دلالتها على التوحيد الذي يفهمه منها كل أحد من علماء المنقول والمعقول. وهذا القول الذي أبطله -رحمه الله- وبيّن بُعْده عن التوحيد، هو بعينه قول هذا الرجل الذي يقول: إنه من بخارى، فموّه على الجهلة بما يوقعهم في الإلحاد، ويبعدهم

عن التوحيد الذي دعت إليه الرسل، فهذه بلية عظيمة، وقى الله المسلمين شرها. تفسير ابن القيم والرازي لكلمة التوحيد وأما التوحيد الذي بعث الله به رسله، فنذكر من كلام العلامة ابن القيم -رحمه الله- ما يدل عليه؛ لأنه هو وشيخه من أحسن من عبر عن معنى هذه الكلمة على مقتضى ما دل عليه القرآن والسنة، قال -رحمه الله-: نظير هذا اشتمال كلمة الإسلام، وهي شهادة أن لا إله إلا الله على النفي والإثبات، فكان في الإتيان بالنفي في صدر هذه الكلمة من تقرير الإثبات، وتحقيق معنى الإلهية، وتجريد التوحيد الذي يقصد بنفي الإلهية عن كل ما ادعيت فيه سوى الإله الحق -تبارك وتعالى-، فتجريد هذا التوحيد من القلب واللسان بتصور إثبات الإلهية لغير الله، كما قال أعداؤه المشركون، ونفيه وإبطاله من القلب واللسان، من تمام التوحيد وكماله وتقريره، وظهور أعلامه، ووضوح شواهده، وصدق براهينه. وقال الفخر الرازي في معنى لا إله إلا الله: التحقيق أن المضمر المرفوع بلا راجع بالحقيقة إلى نفي الأعيان التي سموها آلهة، من حيث إنها آلهة لا إلى وجودها في حد ذاتها ضرورة أنها موجودة في الخارج، بالفعل محسوسة. وحاصله نفي كل فرد إله من تلك الحيثية غير الله، راجع إلى نفي الألوهية عن كل موجود غير الله. انتهى. {قلت": وحقيقتها إبطال إلهية كل ما يؤله من الأعيان بأي نوع كان من أنواع العبادة؛ كأصنام قوم نوح، والأمم بعدهم، ولما فتح الله مكة لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم أزال كل ما فيها من صنم، وهي ثلاثمائة وستون صنما، وبعث علي بن أبي طالب إلى مناة فهدمها، وبعث خالد بن الوليد إلى العزى فهدمها، وقطع الشجرة، ولما أسلمت ثقيف بعث المغيرة فهدم اللات -كما تقدم-. فأبطلت هذه الكلمة عبادة كل ما عبد من دون الله، أو يعبد من جميع الأعيان، ولو تتبعنا ما في القرآن من بيان معنى هذه الكلمة، وما قاله العلماء في معناها لاحتمل جزءاً، وفي الإشارة إلى ذلك كفاية لمن رغب في معرفة التوحيد الذي دلت عليه الآيات المحكمات، وقد غلط في مسماه طوائف لا يحصيهم إلا الله -تعالى-، والحمد لله على تمييز الحق من الباطل، لا نحصي ثناء عليه، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيراً إلى يوم الدين، والحمد لله رب العالمين.

رسالة في العهد والأمان لبعض علماء نجد

رسالة في العهد والأمان لبعض علماء نجد ... رسالة في العهد والأمان هل يشترط في احترامهما أن يكون من يعقدهما مؤمناً عدلاً، أم لا؟ وفي العهد والأمان الذي يكون من البدو والإعراب لبعضهم ولغيرهم تأليف بعض علماء نجد لم يذكر اسمه رسالة في العهد والأمان وما يشترط في احترامهما وممن يكونان بسم الله الرحمن الر حيم الحمد لله نحمده ونستعينه، ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم تسليما كثيرا. اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السموات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم. "وبعد": فقد وقع مذاكرة في حال الأعراب الذين يوجد فيهم شيء من المكفرات، هل يصلح أمانهم لبعضهم عن بعض؟ فنقول، وبالله التوفيق: يصح أمان الكفار بعضهم بعضا، ولغيرهم بالكتاب، والسنة، والاعتبار. أما الكتاب: فقوله -تعالى-: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} 1 الآيات، قال مجاهد وقتادة: نزلت في حلف أهل الجاهلية، وآخر السياق يدل على عموم الآية، وهو قوله: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} 2 قال المفسرون: على ملة واحدة وهي الإسلام، {وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} 3 فدل على أن هذا الخطاب شامل للمهديين وغيرهم. وقال -تعالى- في شأن اليهود: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ} 4 إلى قوله: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} 5 قال أهل التفسير: يقول -تعالى- منكراً على اليهود ما كانوا يأتونه مع الأوس، فإن يهود المدينة كانوا ثلاث قبائل: بني قينقاع، وبني النضير، وبني قريظة. فبنو قينقاع وبنو النضير حلفاء الخزرج، وبنو قريظة حلفاء الأوس، فكانت الحرب إذا شبت بينهم قاتل كل فريق منهم مع حلفائه، فيقتل اليهودي غير اليهودي من أعدائه، وقد يقتل اليهودي الآخر من الفريق الآخر، وذلك حرام عليهم بنص الكتاب،

_ 1 سورة النحل آية: 91. 2 سورة النحل آية: 93. 3 سورة النحل آية: 93. 4 سورة البقرة آية: 84. 5 سورة البقرة آية: 85.

ويخرجونهم من بيوتهم، وينهبون ما فيها من الأثاث والأموال، ثم إذا وضعت الحرب أوزارها فكوا الأسارى من الفريق المغلوب، عملا بحكم التوراة، ولهذا قال: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} 1. فهذه الآية تدل على أن الله -تعالى- حرم قتال بعضهم بعضا، وإن كان الكل كفارا وقت النزول؛ لأن هذا القتل ليس على حق، وإنما هو في سبيل الشيطان. وأما الأحاديث: فما رواه أبو داود والنسائي والترمذي عن ابن عنبسة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من كان بينه وبين قوم عهد فلا يخلف عهده، ولا يشدنه حتى يمضي أمرها، وينبذ إليهم على سواء" 2 وهذا الحديث عام. وروى الإمام أحمد عن جبير بن مطعم، عن عمرو بن شعيب، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في خطبته: "أوفوا بحلف الجاهلية، فإنه لا يزيده الإسلام إلا شدة، ولا تحدثوا حلفا في الإسلام" 3. قال العلماء في معنى الحديث: إن الإسلام لا يحتاج معه إلى الحلف الذي كان يفعله أهل الجاهلية، فإن في التمسك بالإسلام كفاية عما كانوا فيه، وما كان منه على نصرة الإسلام وصلة الأرحام، كحلف المطيبين وما جرى مجراهم، فذاك الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أيما حلف كان في الجاهلية لم يزده الإسلام إلا شدة" 4. وفي صحيح مسلم عن نافع عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إذا جمع الله الأولين والآخرين يوم القيامة، يرفع لكل غادر لواء؛ فيقال: هذه غدرة فلان بن فلان" 5 وهذا العقاب لا يختص بالمسلم، بل هو عام في المسلم وغيره. وروى البخاري وغيره عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من قتل معاهدا لم يرح رائحة الجنة، وإن ريحها يوجد من مسيرة أربعين خريفا" 6 قال ابن الأثير: يجوز أن يقرأ بفتح الهاء وكسرها على الفاعل والمفعول. والمعاهد من كان بينك وبينه عهد، وأكثر ما يطلق في الحديث على أهل الذمة، وقد يطلق على غيرهم من الكفار إذا صولحوا على ترك الحرب مدة، وقال صلى الله عليه وسلم يوم الفتح: " قد أجرنا من أجرتِ يا أم هانئ" 7 وهي من مسلمة الفتح.

_ 1 سورة البقرة آية: 85. 2 الترمذي: السير "1580" , وأبو داود: الجهاد "2759" , وأحمد "4/111 ,4/113 ,4/385". 3 أحمد "2/207". 4 مسلم: فضائل الصحابة "2530" , وأبو داود: الفرائض "2925" , وأحمد "4/83". 5 البخاري: الأدب "6177" , ومسلم: الجهاد والسير "1735" , والترمذي: السير "1581" , وأبو داود: الجهاد "2756" , وأحمد "2/16 ,2/29 ,2/56 ,2/69 ,2/75 ,2/96 ,2/103 ,2/112 ,2/116 ,2/123 ,2/142 ,2/156". 6 البخاري: الجزية "3166" , والنسائي: القسامة "4750" , وابن ماجه: الديات "2686" , وأحمد "2/186". 7 البخاري: الصلاة "357" , ومسلم: صلاة المسافرين وقصرها "336" , وأحمد "6/423" , ومالك: النداء للصلاة "359" , والدارمي: الصلاة "1453".

مسائل وفتاوى في الطلاق والخلع والشهادات والعينة وشروط الصلاة وغيرها لأحد علماء نجد

مسائل وفتاوى في الطلاق والخلع، والشهادات والعينة، وشروط الصلاة وغيرها لأحد علماء نجد غير معروف اسمه بسم الله الرحمن الر حيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وإمام المتقين، ورسول رب العالمين، محمد عليه من الله أفضل الصلاة والتسليم. المسألة الأولى": فيمن طلق امرأته ثلاثا بلفظة واحدة، أو ثلاث متتابعات كقوله: أنت طالق، أنت طالق، أنت طالق: على عوض عوضته المرأة الزوج، هل يصح لهما أن يتراجعا إذا تراضيا بملاك، أم لا؟ فنقول: "الجواب": هذا السؤال مشتمل على ثلاث مسائل من مسائل الطلاق:"الأولى": إذا طلق الرجل امرأته ثلاثا بكلمة واحدة، أو أكثر من الثلاث بلفظة واحدة "والثانية": إذا قال: أنت طالق، أنت طالق، أنت طالق، ثلاث مكررات في مجلس واحد. "والثالثة": إذا طلق الرجل زوجته ثلاثا على عوض، هل يجوز أن يراجعها بملاك جديد، أم لا؟ فالجواب عن المسألة الأولى أن نقول: هذه المسألة فيها خلاف بين العلماء من السلف والخلف، قديما وحديثا، وفيها قولان مشهوران للعلماء: "القول الأول": قول أكثر العلماء من أهل الحديث والفقهاء وغيرهم من المالكية، والشافعية، والحنابلة، والحنفية من المتأخرين والمتقدمين: أن الرجل إذا طلق زوجته ثلاثا بكلمة واحدة؛ بانت منه -صارت لا تحل له حتى تنكح زوجا غيره-، واستدلوا على ذلك بدلائل: منها قوله -تعالى-: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} 1 قالوا: وهذا لا يكون إلا في المبتوتة؛ لأن غير

_ 1 سورة الطلاق آية: 6.

المبتوتة ممن له عليها الرجعة ينفق عليهن حوامل، أو غير حوامل. فعلم بهذا أن قوله: {لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً} 1 راجع إلى بعض ما انتظمه الكلام، وهي التي لم تبلغ بطلاقها ثلاثا، كما أن قوله: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} 2 قد عم المطلقات ذوات القروء، وقوله في نسق الآية: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} 3 راجع إلى من لم يبلغ بطلاقها. وفي ذلك إباحة إيقاع ما شاء المطلق من الطلاق. وظاهر حديث ابن عمر يشهد بهذا؛ لأنه قال: "ثم إن شاء طلق، وإن شاء أمسك" 4 فلم يخص طلاقا من طلاق، ولا عدة من عدة في الطلاق، قالوا: فله أن يطلق كم شاء، إذا كان مدخولا بها، وإن كانت غير مدخول بها طلقها كم شاء، ومتى شاء طاهرا أو حائضا؛ لأنه لا عدة عليها، ومما احتجوا به أيضا: أن العجلاني طلق امرأته بعد اللعان ثلاثا، فلم ينكره رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن رفاعة بن شموال طلق امرأته ثلاثا، فلم ينكره عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن ركانة طلق امرأته ألبتة، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم "ما أردت بها" 5 فدل على أنه لو أراد ثلاثا لكانت ثلاثا، ولم ينكر ذلك عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأن فاطمة بنت قيس طلقها زوجها ثلاثا. ذكره الشعبي عن فاطمة، وشعبة، وسفيان، ثم أبي بكر، وكذلك قال أكثر أصحاب ابن شهاب في حديث فاطمة: طلقها ثلاثا. قالوا: ومن جهة النظر أن من كان له أن يوقع واحدة كان له أن يوقع ثلاثا، وليس في عدد الطلاق سنة ولا بدعة. قد أباحه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم فعند هؤلاء أن من طلق امرأته ثلاثا مجتمعات في طهر لم يصبها فيه فقد طلقها طلاقا مباحا، ومنهم من يقول: إنه قد طلقها للسنة. "والقول الثاني": قول مالك وأصحابه وأحمد بن حنبل في المشهور عنه: أن طلاق السنة أن يطلقها طلقة في طهر، لم يمسها فيه، ولو كان في آخر ساعة منه، ثم يمهلها حتى تنقضي عدتها، وذلك بطهر أول الحيضة الثالثة في الحرة، أو أول الحيضة

_ 1 سورة الطلاق آية: 1. 2 سورة البقرة آية: 228. 3 سورة الطلاق آية: 2. 4 البخاري: تفسير القرآن "4908" والطلاق "5252 ,5253 ,5258 ,5332" والأحكام "7160" , ومسلم: الطلاق "1471" , والنسائي: الطلاق "3389 ,3390 ,3391 ,3392 ,3396 ,3556" , وأبو داود: الطلاق "2185" , وابن ماجه: الطلاق "2019" , وأحمد "2/43 ,2/63 ,2/64 ,2/74 ,2/79 ,2/81 ,2/102 ,2/124 ,2/128 ,2/130" , ومالك: الطلاق "1220" , والدارمي: الطلاق "2262". 5 الترمذي: الطلاق "1177" , وأبو داود: الطلاق "2208" , وابن ماجه: الطلاق "2051" , والدارمي: الطلاق "2272".

الثانية في الأمة، فيتم للحرة ثلاثة أقراء، وللأمة قرآن، القرء: الطهر المتصل بالدم عندهم، فإن طلقها في طهر تطليقة، أو طلقها ثلاثا مجتمعات في طهر لم يمسها فيه فقد لزمه، وليس بمطلق للسنة عند مالك، وجمهور أصحابه، وهو قول الأوزاعي وأبي عبيد، وهذا هو المشهور عن أحمد وأصحابه. وأجابوا عما احتج به أهل القول الأول فقالوا: أما حديث العجلاني فلا حجة فيه؛ لأنه طلق في غير موضع طلاق، فاستغنى عن الإنكار عليه. وأما حديث رفاعة بن شموال فقالوا: يحتمل أن يكون طلقها ثلاثا مفترقات في أوقات. وأما حديث فاطمة بنت قيس، فقد قال فيه أبو سلمة: " بعث إلي زوجي بتطليقتي الثالثة"، وأما حديث ركانة فقد تكلموا فيه وضعفوه، فلا حجة فيه. واحتج هؤلاء بقوله -تعالى-: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} 1 ثم قال: {إِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ} 2ومرتان لا تكون إلا في وقتين، والثلاث في ثلاث أوقات، كما في قوله -عليه السلام-: "من سبح الله مائة مرة"أي مرة بعد مرة، ليس المراد أن يقولها مرة واحدة، وكذلك من قال: قرأت سورة كذا مرتين، المراد مرة بعد مرة. ومن حجتهم أيضا قول الله -تعالى-: {إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} 3إلى قوله: {لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً} 4 فأي أمر يحدث بعد الثلاث، والأمر إنما أريد به المراجعة، فبطل أن يكون وقوع الثلاث للسنة. ومن حجتهم أيضا: ما روى النسائي عن محمود بن لبيد: "أن رجلا طلق امرأته ثلاث تطليقات جميعا، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك فقام مغضبا، فقال: "أيلعب بكتاب الله، وأنا بين أظهركم؟ " قال العسقلاني: رجاله ثقات. وبما روى سعيد بن منصور عن النبي صلى الله عليه وسلم أن عمر كان إذا أُتي برجل طلق امرأته ثلاثا، أوجع ظهره، قال العسقلاني: وسنده صحيح، وبما روى عبد الرزاق وغيره أن ابن عمر قال لمن طلق امرأته ثلاثا مجموعة: عصيت ربك، وبانت منك امرأتك. وبما روى

_ 1 سورة البقرة آية: 229. 2 سورة البقرة آية: 230. 3 سورة الطلاق آية: 1. 4 سورة الطلاق آية: 1.

أبو داود بسند صحيح عن مجاهد قال: كنت عند ابن عباس، فجاءه رجل فقال: إنه طلق امرأته ثلاثا، فسكت حتى ظننت أنه سيردها إليه، فقال: "ينطلق أحدكم فيركب الأحموقة، ثم يقول: يا ابن عباس، يا ابن عباس، إن الله قال: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً} 1وإنك لم تتق الله، فلا أجد لك مخرجا، عصيت ربك، وبانت منك امرأتك"، قالوا: ففي هذا دليل على أن من طلق امرأته ثلاثا مجتمعات فقد عصى ربه وفعل ما هو محرم، ومن فعل مباحا لا يقال: عصى ربه. وقال هؤلاء: يصير مطلقا امرأته ثلاثا، فلا تحل له حتى تنكح زوجا غيره، وإن كان فعله هذا محرما عليه. ومن القائلين بالتحريم للزوم من قال: إذا طلق ثلاثا مجموعة وقعت واحدة، وهو قول محمد بن إسحاق -صاحب المغازي-، ونقله ابن المنذر عن جماعة من التابعين؛ كعمرو بن دينار، وطاووس، وغيرهما. ومن أقوى ما احتجوا به ما أخرجه مسلم في صحيحه عن ابن عباس قال: "كان الطلاق على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر، وسنتين من خلافة عمر طلاق الثلاث واحدة، فقال عمر بن الخطاب: إن الناس استعجلوا في أمر كان لهم فيه أناة، فلو أمضيناه عليهم، فأمضاه عليهم"2. قال أبو عمر بن عبد البر في حديث ابن عباس هذا: لم يتابع عليه طاوس، وأن سائر أصحاب ابن عباس يروي عنه خلاف ذلك، وما كان ابن عباس يروي عن النبي صلى الله عليه وسلم ثم يخالفه إلى رأي نفسه، بل المعروف عنه أنه كان يقول: أنا أقول لكم: سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنتم تقولون: أبو بكر وعمر؟ قاله في فسخ الحج وغيره. قال جمهور العلماء: إن حديث طاوس في قصة أبي الصهباء لا يصح معناه. وممن روينا عنه أن الثلاث تحرم التي لم يدخل بها زوجها، حتى تنكح زوجا غيره كالدخول سواء: علي بن أبي طالب، وابن مسعود، وابن عباس، وابن عمر،

_ 1 سورة الطلاق آية: 2. 2 مسلم: الطلاق "1472".

وعبد الله بن عمرو بن العاص، وأبو سعيد الخدري، وجابر بن عبد الله، وعبد الله بن المغفل، وأبو هريرة، وعائشة، وأنس، وهو قول جماعة من التابعين، وبه قال جماعة فقهاء الأمصار، وابن أبي ليلى، وابن شبرمة، وسفيان الثوري، ومالك، وأبو حنيفة، والشافعي وأصحابه، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور، وأبو عبيد الطبري. انتهى. إذا عرفت مذهب أهل العلم في المسألة، فالقول المفتى به عندنا ما ذكره ابن عبد البر، وغيره عن جماعة العلماء: أن الرجل إذا طلق امرأته ثلاثا بكلمة واحدة، سواء كان مدخولا بها، أو غير مدخول بها، صغيرة أو كبيرة، أنها تحرم عليه، حتى تنكح زوجا غيره. تعدد لفظ الطلاق وتكراره ثلاثا "وأما المسألة الثانية": إذا قال لامرأته أنت طالق، أنت طالق، أنت طالق ثلاث كلمات مكررات، فالصحيح من مذهب أحمد: أن ذلك يرجع إلى نيته؛ فإن أراد التأكيد بطلقة واحدة، ولم يرد أنها ثلاث طلقات فهي تصير واحدة، يجوز له رجعتها، ما دامت في العدة، فإن خرجت من العدة لم يجز له مراجعتها إلا بملاك جديد، وإن أريد بقوله: أنت طالق، أنت طالق، أنت طالق ثلاث تطليقات لم تحل له حتى تنكح زوجا غيره، وهذا هو المفتى به عندنا؛ لأنا لا نعلم شيئا يخالفه من الكتاب والسنة. الخلاف في كون الخلع طلاقا وعده من الثلاث وأما المسألة الثالثة: إذا طلق الرجل زوجته ثلاثا على عوض، هل يجوز أن يتراجعا بملاك جديد، أم لا؟. فهذه المسألة تحتاج إلى تفصيل: فإن كانت المرأة أعطت زوجها عوضا على طلاقها إذا كرهته، وخافت أن لا تقيم ما أوجب الله عليها من القيام بحقوق الزوج من المعاشرة بالمعروف، وتمكنه من الاستمتاع منها، وخدمته كما ينبغي من مثلها لمثله، فلا بأس بذلك، ولا على الزوج حرج في أخذ العوض منها، إذا كان الحال كما وصفنا-، ويسمى هذا: الخلع الصحيح، كما قال تعالى-: {وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا

آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} 1. وقد اختلف العلماء هل يكون هذا الخلع طلاقا يعد من الطلقات الثلاث، أم لا يكون طلاقا، ولو خالعها أكثر من ثلاث؟ فمذهب ابن عباس رضي الله عنهكما روى ابن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن طاوس، عن ابن عباس رضي الله عنهأن إبراهيم بن سعد بن أبي وقاص سأله عن رجل طلق امرأته تطليقتين، ثم اختلعت منه، أيتزوجها؟ قال: نعم، ليس الخلع بطلاق، ذكر الله الطلاق في أول الآية وآخرها، والخلع فيما بين ذلك، فليس الخلع بشيء، ثم قرأ: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} 2 وقرأ: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} 3 وبهذا قال أحمد بن حنبل وجمهور أصحابه، وإسحاق، وأبو ثور، وداود، واختار هذا القول طوائف من العلماء منهم الشيخ تقي الدين بن تيمية، وهو اختيار شيخنا -رحمه الله-. وقال أكثر العلماء من الصحابة وغيرهم: هو طلاق يعد من الطلقات الثلاث، وهو طلاق بائن لا رجعة فيه للزوج إلا برضى الزوجة، فعلى هذا القول: لو خالعها ثلاث مرات، أو طلقها طلقتين وخالعها مرة، حرمت عليه حتى تنكح زوجا غيره، سواء تلفظ بلفظ الطلاق، أو غيره. واختلف العلماء هل يلحق المختلعة طلاق ما دامت في العدة؟ فقال مالك: إن طلقها بعد الخلع من غير سكوت طلقت، وإن كان بينهما سكوت لم تطلق، وقال الشافعي: لا يلحقها طلاق، وإن كانت في العدة، وهو قول ابن عباس، وابن الزبير، وبه قال أحمد، وإسحاق، وأبو ثور. وهذا هو المفتى به عندنا، وهو أظهر الأقوال، وعكسه قول أبي حنيفة، وكثير من التابعين. واختلف -أيضا - في قدر عدتها؛ فقال أكثر العلماء: عدة المطلقة، وقال عثمان، وابن عباس -رضي الله عنهم-: عدتها حيضة واحدة. وبه قال عكرمة، وابن عباس،

_ 1 سورة البقرة آية: 229. 2 سورة البقرة آية: 229. 3 سورة البقرة آية: 230.

وإسحاق بن راهويه، وحجتهم: ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه جعل عدة جميلة بنت أبي سلول حيضة، حين اختلعت من زوجها ثابت بن قيس بن شماس، وأصل القصة ثابت في الصحيحين. فالذين قالوا: إن الخلع الصحيح المجتمع فيه الشروط التي ذكرها الله ليس من الطلاق، يقولون: إنه إذا خالعها، ولم يذكر الطلاق لفظا ولا نواه بقلبه فإنه لا يقع به شيء من الطلاق. قال العسقلاني، واستدل لمن قال: إنه فسخ بما وقع في بعض طرق حديث امرأة ثابت بن قيس عند أبي داود والترمذي والنسائي وابن ماجه من حديث الربيع بنت معوذ: أن عثمان أمرها أن تعتد بحيضة. قالت: وتبع عثمان في ذلك قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم في امرأة ثابت بن قيس. قال الخطابي: في هذا أقوى دليل لمن قال: إن الخلع فسخ، وليس بطلاق، إذ لو كان طلاقا لم تعتد بحيضة. انتهى. وأما إذا تلفظ بالطلاق عند الخلع، أو نواه بقلبه، فالذي عليه الجمهور من التابعين، وفقهاء الأمصار بالحجاز والعراق والشام أنه يقع طلاقا بائنا، لا يجوز له الرجعة إلا بعد عقد جديد، ورضاء الزوجة، إلا أن تقول: أنت طالق ثلاثا، فلا يجوز له مراجعتها إلا بعد زوج جديد كالمطلقة ثلاثا بغير عوض. وقيل: إنه فسخ سواء تلفظ بالطلاق أو نواه، أو لم يكن، وهو قول ابن عباس؛ فإنه صح عنه أنه قال: ما أجازه المال فليس بطلاق، وصح عنه أنه قال: الخلع يفرق وليس بطلاق. وصح عن ابن الزبير، وروي ذلك عن غير واحد من الصحابة والتابعين، واختاره الشيخ تقي الدين ابن تيمية، وعليه دل كلام أحمد، وقدماء أصحابه، قال صاحب الفروع: ومراده ما قال عبد الله بن الإمام أحمد: رأيت أبي كان يذهب إلى قول ابن عباس. وأما إذا كان حال الزوجين مستقيمة، ولم يوجد ما ذكر الله من الخوف ألا

يقيما حدود الله، ثم خالعها زوجها مع ذلك على ما بذلته له الزوجة أو غيرها، فالذي عليه جمهور العلماء: أنه يكره، ويصح الخلع، وعن أحمد -رحمه الله-: أن ذلك لا يجوز، ولا يصح. وأما إن عضلها وأساء عشرتها لتفتدي منه، ففعلت فالخلع باطل، والعوض مردود، والزوجية بحالها إلا أن يذكر الطلاق فيقع رجعيا، وقيل: يقع طلاقا بائنا، إن قيل: إن الخلع يصح بلا عوض. قال العسقلاني في شرح البخاري: أخرج عبد الرزاق بسند صحيح عن سعيد ابن المسيب قال: ما أحب أن يأخذ منها ما أعطاها، ليدع لها شيئا، وقال: لم أزل أسمع أن الفدية تجوز بالصداق، وبأكثر لقوله -تعالى-: {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} 1 ولحديث حبيبة بنت سهل. فإذا كان الخلع من قِبلها حل للزوج ما أخذ منها برضاها، وإن كان من قِبله لم يحل، ويرد عليها إن أخذ، وتمضي الفرقة. انتهى. "قلت": وهذا القول كان يفتي به شيخنا رحمه الله تعالى لكثرة الظلم للنساء في هذا الزمان؛ لأن كثيرا من الذين لا يخافون الله إذا أراد أن يطلق امرأته بعد أن تستقيم حالها مدة عضلها وأضر بها، ومنهم من يضربها، فإذا فعل ذلك اشترت نفسها بمال تبذله له على طلاقها فيطلقها، فكان شيخنا -رحمه الله- يفتي إذا كان الأمر ما وصفناه أن العوض الذي بذلت له المرأة على الطلاق مردود، وتَبِين منه المرأة، فلا يمكن من مراجعتها إلا برضاها. طلق امرأته بحضرة شاهد عدل وأنكر الزوج وأما المسألة الثانية من المسائل المسئول عنها: فيمن طلق امرأته، بحضرة شاهد عدل، وأنكر الزوج. فالذي عليه أكثر العلماء، وعليه الفتوى، أنه لا يقبل فيه إلا شاهدان عدلان. طلق امرأته وأحضر شاهدا عدلا وقال العاقد: لا بد من شاهدين عدلين "وأما المسألة الثالثة": فيمن طلق امرأته وأحضر شاهدا عدلا، وقال العاقد: لا بد

_ 1 سورة البقرة آية: 229.

من شاهدين عدلين، هل يزوج العاقدين أو يمنعهما؟ فإن كان مراد السائل -رحمه الله- أن المرأة المطلقة من زوجها، أو وكيلها أحضرت شاهدا على طلاقها من زوجها، وطلبت من العاقد أن يعقد نكاحها على زوجها الثاني بشهادة شاهد واحد على طلاقها من زوجها الأول. فجواب هذه المسألة يؤخذ من جواب التي قبلها؛ لأن الذي عليه عامة العلماء من المالكية والشافعية والحنبلية: أن الطلاق لا يثبت إلا بشاهدين عدلين، وإن كان له مراد غير ذلك، فلم نفهمه من سؤاله. شهادة النساء في الطلاق "وأما الرابعة": هل تقبل شهادة النساء في الطلاق فالذي عليه أكثر العلماء، وعليه الفتوى، أن شهادة النساء لا تقبل في ذلك، ولا تقبل منفردات إلا فيما لا يطلع عليه الرجال في غالب الأحوال: كالرضاع، وكعيوب المرأة التي تحت الثياب، والثيوبة، والبكارة، والاستهلال، وما جرى هذا المجرى. له دين على مليء أو مفلس وأراد صاحب الدَّين أن يسلم على المدين "وأما المسألة الخامسة": فيمن له دَين على مليء أو مفلس، وأراد صاحب الدَّين أن يسلم على المدين، ويقضيه إياه، هل يجوز أم لا؟ فإذا كان المدين مفلسا فلا يجوز ذلك؛ لأن ذلك يكون حيلة على الربا، والحيل لا تجوز في الدين. وأما إذا كان المدين مليئا، وكل من أراد أن يكتب عليه في ذمته ويسلم فعل، سواء كان رب الدَّين أو غيره، وكل يشتهيه؛ لأجل ملاءته، فلا أعلم في ذلك بأسا عند أكثر العلماء. واشتراط بعض المالكية: دفع رأس مال السلم، ويذهب به عن مجلس العقد إلى السوق، أو إلى بيته، ثم إن بدا له بعد ذلك أن يوفيه أوفاه. التسمية بعبد المطلب "وأما المسألة السادسة": ما معنى قوله في كتاب التوحيد:"اتفقوا على تحريم كل مُعبَّد لغير الله 1 حاشا عبد المطلب" ما الحكمة في هذا الاستثناء؟.

_ 1 أي في التسمية؛ بأن يسمي عبد الرسول، أو نحو ذلك.

فسبب الاستثناء: أن بعض العلماء أجاز التسمية بعبد المطلب على ظاهر ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في غزوة حنين، لما انهزم عنه أصحابه إلا قليل "أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب" 1 ولِما حكى ابن حزم الإجماع على تحريم كل اسم معبد لغير الله، استثنى التسمية بعبد المطلب من ذكر الإجماع، لأجل ما تقدم عن بعض العلماء. بيع الصفر بالصفر والرصاص بالرصاص والنحاس بالنحاس "وأما المسألة السابعة": هل الصفر والنحاس والرصاص تدخل في المنصوص عليه في قوله "الذهب بالذهب" 2 إلخ، الحديث؟. فهذه مسألة اختلف فيها كثير من العلماء، يقولون: إن العلة في الذهب والفضة كونهما موزونين من جنس واحد، فيطّردون العلة في كل موزون من جنس واحد، فلا يجوز بيع الصفر بالصفر، أو الرصاص بالرصاص، أو النحاس بالنحاس، أو الحديد بالحديد، وكذلك الأصناف الأربعة: البر، والشعير، والتمر، والملح، المنصوص عليها في حديث عبادة المُخرَّج في صحيح مسلم "الذهب والفضة"يقولون: العلة في البر، والشعير، والتمر، والملح: الطعم والكيل، فيطردون ذلك في كل مطعوم ومكيل. وأما المطعوم الذي لا يكال ولا يوزن كالمعدودات، كالبطيخ والرمان، وكالبعير والفرس، وما جرى هذا المجرى فيجوز التفاضل في ذلك إذا كان يدا بيد، ولا يجوز بيع ذلك بعضه ببعض نسيئة، هذا الذي عليه قول أكثر العلماء، وعليه الفتوى عندنا. واستدلوا على ذلك بما روى الإمام أحمد في المسند: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "لا تبيعوا الدينار بالدينارين، ولا الدرهم بالدرهمين، ولا الصاع بالصاعين، فإني أخاف عليكم الرماء" 3 وهو الربا، فقام إليه رجل فقال: يا رسول الله، الرجل يبيع الفرس بالأفراس، والنجيبة بالإبل؟ فقال: "لا بأس إذا كان يدا بيد" 4.

_ 1 البخاري: الجهاد والسير "2864" , ومسلم: الجهاد والسير "1776" , والترمذي: الجهاد "1688" , وأحمد "4/280 ,4/281 ,4/289 ,4/304". 2 البخاري: البيوع "2134" , وابن ماجه: التجارات "2253" , والدارمي: البيوع "2578". 3 أحمد "2/109". 4 أحمد "2/109".

زكاة الطعام "وأما المسألة الثامنة": إذا حال عند رجل تمر، أو عيش يزكي زكاة الحرث، فإن كان أراده للتجارة فهو يزكيه زكاة التجارة، بحسب قيمته وقت حلول زكاة التجارة، وإن كان أراده للأكل له أو لبهائمه فليس عليه زكاة، ولو أقام عنده سنين، وإن نقص عن قيمة النصاب، ولم يكن عنده ما يضيفه إليه من الذهب والفضة، أو العروض فلا زكاة فيه، هذا هو الذي عليه الفتوى، والعمل عندنا. أركان الصلاة "وأما التاسعة": ما أركان الصلاة؟. فاعلم أن أركان الصلاة المعمول بها عندنا ثلاثة عشر: "الأول": القيام مع القدرة بإجماع أهل العلم، واستدلوا على ذلك بقوله -تعالى-: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} 1. " الثاني": تكبيرة الإحرام، واستدلوا عليه بقوله -عليه السلام-: "تحريمها التكبير" وبقوله في حديث المسيء في صلاته: "إذا قمت إلى الصلاة فكبّر" 2. "الثالث": قراءة الفاتحة لمن يقدر على تعلمها 3 لقوله عليه السلام "لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب" 4 وأما العاجز عن تعلمها فيقرأ ما تيسر معه من القرآن، أو يذكر بالتهليل، والتكبير، والتحميد.

_ 1 سورة البقرة آية: 238. 2 البخاري: الأذان "757" , ومسلم: الصلاة "397" , والترمذي: الصلاة "303" , والنسائي: الافتتاح "884" , وأبو داود: الصلاة "856" , وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها "1060" , وأحمد "2/437". 3 يظن بعض الجهلة أن البليد الذي لا يحفظ الفاتحة بسهولة، عاجز عن تعلمها، والعيي الذي لا يحسن مخارج حروفها عاجز أيضا، وأن لكل منهما أن يستبدل بها غيرها، وهذا خطأ كبير، وجهل عظيم إذا أُخذ على إطلاقه. وقد يصح إذا أريد به أن له ذلك، إن خاف فوت الوقت قبل أن يحفظها. ويجب عليه أن يحفظها ولو في زمن طويل، ويغتفر للأعجم والعيي ما عجز بالخلقة عن أدائه من الحروف صحيحا كالألثغ. وكل ركن عجز عنه المصلي يسقط عنه؛ فالعاجز عن القيام يصلي قاعدا، والعاجز عن القعود يصلي مضطجعا، والعاجز عن الركوع أو السجود يومئ بها إيماء، وإنما ذكر العجز في الفاتحة لأجل ذكر البدل. وكتبه محمد رشيد رضا. 4 البخاري: الأذان "756" , ومسلم: الصلاة "394" , والترمذي: الصلاة "247" , والنسائي: الافتتاح "910 ,911" , وأبو داود: الصلاة "822" , وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها "837" , وأحمد "5/313".

"الرابع": الركوع حتى يطمئن راكعا، لحديث المسيء في صلاته وفيه: "اركع حتى تطمئن راكعا" 1. "الخامس": الاعتدال من الركوع حتى يطمئن قائما ويقيم صلبه، لقوله عليه السلام في حديث المسيء في صلاته: "ثم ارفع حتى تعتدل قائما" 2. "السادس": السجود حتى يطمئن ساجدا، لقوله في حديث المسيء في صلاته: "ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا"3 "السابع": الاعتدال من السجود حتى يطمئن جالسا. "الثامن": السجدة حتى يطمئن ساجدا. "التاسع": قراءة التشهد الأخير إلى قوله: "أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله" لما جاء في حديث ابن مسعود: كنا نقول قبل أن يفرض علينا التشهد. "العاشر": الجلوس له حتى يفرغ. "الحادي عشر": الترتيب على ما ذكر الله ورسوله. "الثاني عشر": الطمأنينة في جميع أحوال الصلاة. "الثالث عشر": التسليم لقوله -عليه السلام- "وتحليلها التسليم" 4. واعلم أن أكثر هذه الأركان قد تضمنها حديث المسيء في صلاته، وهو ما ثبت في الصحيحين والسنن عن أبي هريرة رضي الله عنه"أن رجلا دخل المسجد، ثم صلى، ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس، ثم جاء فسلم على النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: ارجع فصل فإنك لم تصل، فرجع الرجل فصلى كما كان صلى، ثم جاء فسلم على النبي صلى الله عليه وسلم فرد عليه السلام، ثم قال: ارجع فصل فإنك لم تصل، فعل ثلاثاً، ثم قال في الثالثة: والذي بعثك بالحق لا أحسن غير هذا فعلمني، فقال: إذا قمت إلى الصلاة فكبّر، ثم اقرأ بما تيسر معك من القرآن، ثم اركع حتى تطمئن راكعا، ثم ارفع حتى تعتدل قائما، ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا، ثم اجلس حتى تطمئن جالسا، ثم افعل ذلك في

_ 1 البخاري: الأذان "757" , ومسلم: الصلاة "397" , والترمذي: الصلاة "303" , والنسائي: الافتتاح "884" , وأبو داود: الصلاة "856" , وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها "1060" , وأحمد "2/437". 2 البخاري: الأذان "793" , ومسلم: الصلاة "397" , والترمذي: الصلاة "303" , والنسائي: الافتتاح "884" , وأبو داود: الصلاة "856" , وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها "1060" , وأحمد "2/437". 3 البخاري: الأذان "757" , ومسلم: الصلاة "397" , والترمذي: الصلاة "303" , والنسائي: الافتتاح "884" , وأبو داود: الصلاة "856" , وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها "1060" , وأحمد "2/437". 4 الترمذي: الطهارة "3" , وابن ماجه: الطهارة وسننها "275" , وأحمد "1/123 ,1/129" , والدارمي: الطهارة "687".

صلاتك كلها" 1. قال العلماء: فدل على أن الطمأنينة في هذا الحديث لا تسقط بحال، فإنها لو سقطت لسقطت عن الأعرابي الجاهل. النية في الاستجمار "وأما المسألة العاشرة": فيمن صلى، ولم يستنج وهو مستجمر، وغسل أطرافه، لكنه لم ينو بالاستجمار عن الصلاة. {فالجواب": أن الاستجمار بثلاثة أحجار، أو أكثر إذا أزال الإنسان بذلك النجاسة وبِلتها يكفي عن الاستنجاء، باتفاق العلماء، لكن الاستنجاء بالماء مع الاستجمار أفضل وأكمل. والاستجمار لا يحتاج إلى نية الصلاة؛ لأنه من التروك، والتروك لا تحتاج إلى نية. تحية المسجد في الأوقات المنهي عنها "وأما المسألة الحادية عشرة": في أوقات النهي التي نُهي عن الصلاة فيها، هل يدخل في النهي تحية المسجد، وسنة الوضوء، وسنة الطواف، وأشباه ذلك؟. فهذا مخصوص من النهي، واستدلوا على ذلك بحديث بلال في سنة الوضوء، وبأن النبي صلى الله عليه وسلم قضى سنة الظهر بعد العصر كما ثبت ذلك في الصحيحين وغيرهما، واستدلوا بحديث جبير بن مطعم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "يا بني عبد مناف، لا تمنعوا أحدا طاف بهذا البيت أية ساعة من ليل أو نهار، وصلى ركعتين" 2 واستدلوا بدلائل أخرى غير ما ذكرنا. الحديث الغريب والمتصل "وأما المسألة الثانية عشرة": في الحديث الغريب والمتصل، فالغريب: الذي ليس له إلا سند واحد كما يقول الترمذي في بعض الأحاديث: هذا غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وقد يكون صحيحا إذا كان رواته موثقين، وقد يكون ضعيفا، فعلى كل تقدير هو ضعيف في الحديث. والمتصل هو ما اتصل

_ 1 البخاري: الأذان "793" , ومسلم: الصلاة "397" , والترمذي: الصلاة "303" , والنسائي: الافتتاح "884" , وأبو داود: الصلاة "856" , وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها "1060" , وأحمد "2/437". 2 الترمذي: الحج "868" , والنسائي: مناسك الحج "2924" , وأبو داود: المناسك "1894" , وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها "1254" , وأحمد "4/81 ,4/83" , والدارمي: المناسك "1926".

سنده من أوله إلى أن يصل إلى منتهاه، سواء كان مرفوعا، أو موقوفا، أو مقطوعا فيخرج المرسل، والمنقطع، والمعضل. الإجارة بنصف الثمرة "وأما المسألة الثالثة عشرة": فيمن أجر بلده بنصف غرسها، وشرط عليه المستأجر أن يقومها سنين معلومة، فإذا مضت السنون تقاسما النخل. فالذي عليه الفتوى عندنا: أن هذه إجارة صحيحة لازمة، ليس فيها شيء من الغرر. بيع العينة "وأما المسألة الرابعة عشرة": فيمن باع سلعة مؤجلة، فلما حل الأجل رد السلعة بما عليه من الثمن وألحق عليه دراهم، أو باعه إياها بدون ثمنها، هل يصح ذلك، أم لا؟ وكذلك مسألة العِينة، بيّنْها لنا. "فالجواب" عن المسألة الأولى": أن الذي ذكره العلماء في صفة العِينة المحرمة هي المسئول عنها، قال علماؤنا -رحمهم الله-: ومن باع سلعة بنسيئة، أو بثمن لم يقبضه لم يجز أن يشتريها بأقل مما باعها به، فإن فعل بطل البيع الثاني، ولو كان بعد حلول أجله. قال الشيخ تقي الدين: إن قصد بالعقد الأول الثاني بطل الأول والثاني جميعا، وهو قول أبي حنيفة ومالك. وهذه هي مسألة العينة المشهورة، وروي تحريمها عن ابن عباس، وعائشة -أم المؤمنين-، وهو قول مالك، وأبي حنيفة، وإسحاق، وأصحاب الرأي، واحتجوا على ذلك بما رواه الإمام أحمد في مسنده عن ابن عمر -رضي الله عنهما- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "إذا تبايعتم بالعِينة، وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد، سلط الله عليكم ذلا؛ لا ينزعه عنكم، حتى تراجعوا دينكم"1 وهذا وعيد شديد يدل على التحريم. وروي عن شعبة، عن أبي إسحاق، عن امرأته العالية قالت: دخلت أنا وأم ولد زيد بن أرقم وامرأة على عائشة -أم المؤمنين-، فقالت أم ولد زيد: إني بعت غلاما من

_ 1 أبو داود: البيوع "3462" , وأحمد "2/42 ,2/84".

زيد بن أرقم بثمانمائة درهم إلى العطاء، ثم اشتريته منه بستمائة درهم، فقالت لها: بئسما شريت، وبئسما اشتريت، أبلغي زيد بن أرقم أنه قد بطل جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن يتوب. رواه الإمام أحمد وسعيد بن منصور. قالوا: والظاهر أنها لا تقدم على مثل هذا الوعيد الشديد إلا بتوقيف من النبي صلى الله عليه وسلم ولأن ذلك ذريعة إلى الربا، فإنه يدخل السلعة ليستبيح به بيع ألف بخمسمائة، ولذلك قال ابن عباس في مثل هذا: أرى مائة بخمسين بينهما حريرة، ولم يستثن من ذلك إلا أن تتغير صفتها بما ينقصها أو ينقص ثمنها، مع أن أحمد -رحمه الله- توقف في رواية مثنى فيما إذا نقص في نصه؛ لأن علة المنع باقية. واختار الموفق وغير واحد من أصحاب أحمد الجواز إذا تغيرت الصفة، وذلك مثل هزال العبد، وسوء الصنعة، أو تخرق الثوب، وذلك لأن الثمن لنقص المبيع لا للتوسل إلى الربا. فهذه صورة مما استثنوها من بيع العينة المحرمة. "الصورة الثانية": إذا كان بيعها الأول بعرض، فاشتراها بنقد. "الصورة الثالثة": إذا كان بيعها الأول بنقد، واشتراها بعرض. قال في المغني: لا نعلم فيه خلافا. "الصورة الرابعة": إذا باعها بنقد واشتراها بنقد آخر فقيل: يجوز، وقال الموفق وغير واحد: لا يجوز، قال في "الإنصاف": وهو الصواب. "الخامسة": إذا باعها بمثل الثمن الأول من غير زيادة ولا نقصان، فإن ذلك جائز، قاله غير واحد من علمائنا -رحمهم الله-. "الصورة السادسة": إذا باعها بأكثر من ثمنها الأول جاز أيضا، فأما إن باع سلعة بنقد، ثم اشتراها بأكثر منه، فهي كمسألة العينة. "السابعة": إذا وجدها تباع مع غيره إلا أن يكون وكيلا له. وقال أحمد في رواية حرب: لا يجوز إلا أن تتغير السلعة؛ لأن ذلك يتخذ وسيلة إلى الربا، فهي كمسألة العينة.

ونقل أبو داود عن أحمد -رحمه الله-: يجوز بلا حيلة، فأما إن اشترى السلعة التي باعها بنقد بسلعة أخرى، أو بأقل من ثمنها، أو بمثله جاز، فإن اشتراها بنقد آخر بأكثر من ثمنها، فهو كمسألة العينة أيضا. ونقل المروزي فيمن يبيع الشيء، ثم يجده يباع: أن يشتريه بأقل مما باعه بالنقد، قال: لا، ولكن بأكثر لا بأس. قال الموفق -رحمه الله-: يحتمل ألا يجوز له شراؤها بجنس الثمن بأكثر منه، إذا لم يكن مواطأة ولا حيلة، بل وقع اتفاقا بلا قصد. ومن مسائل العينة أيضا: إذا باعه شيئا بثمن لم يقبضه، ثم اشتراه بأقل مما باعه نقدا على الخلاف المتقدم لم يصح، ذكره غير واحد من أئمة الحنابلة، وهو ظاهر كلام الإمام أحمد؛ قاله في الإنصاف. لبس الحرير في الحرب "وأما المسألة الخامسة عشرة": وهي مسألة لبس الحرير في الحرب، فذكر العلماء أنه يباح لبسه وقت الملاقاة للعدو، كما يباح التبختر في المشي عند ملاقاة العدو، كما صح بذلك الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه رأى رجلا يتبختر بين الصفين فقال "إن هذه المشية يبغضها الله، إلا في مثل هذا الموطن". بيع المكيل جزافا "وأما المسألة السادسة عشرة": إذا كان تمر أو عيش مجموع، وأخبر البائع المشتري بكيله، ورضي بذلك، هل يجوز، أم لا؟ فالجواب": إن ذلك لا يجوز، واحتجوا بما روى الأثرم بإسناده عن الحكم قال: "قدم طعام لعثمان رضي الله عنه- على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: اذهبوا إلى عثمان نعينه على طعامه، فقال عثمان: إن في هذه الغرارة كذا وكذا، وأبيعها بكذا وكذا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سميت الكيل فكِلْ"واحتج به أحمد،

فعلى هذا: إذا أعلمه بالكيل أو الوزن، ثم باعه إياها مجازفة على أنه بذلك الثمن، زاد أو نقص، لم يجز. العدة بالخلوة "وأما المسالة السادسة عشرة": فيمن دخل بامرأة 1 وأغلق بابا، وأرخى حجابا، هل تجب العدة، ولو أقر أنه لم يجر بينهما جماع. "فالجواب": إن الذي عليه قول أهل العلم: إن العدة تجب في هذه الصورة. مسافة الرخصة في السفر "وأما المسألة السابعة عشرة": ما المسافة التي يترخص فيها برخص السفر؟ "فالجواب": إن الذي عليه كثير من العلماء: أن ذلك يتحدد بقدر مسيرة يومين للأحمال، وفيها اختلاف كثير بين العلماء، والذي يختاره الشيخ: أن ذلك لا يتحدد بمسافة، بل كل ما سمي سفرا جاز الترخص فيه برخص السفر؛ لأن الله ذكر السفر، وأطلق ولم يحدد، وكذلك لم يصح عن الرسول صلى الله عليه وسلم تحديد ذلك. بيع الحيوان بالحيوان نسيئة "المسالة الثامنة عشرة": بيع الحيوان بالحيوان نسيئة، البعير بالبعيرين، أو أقل أو أكثر، إلى أجل معلوم. "فالجواب": إن بعض العلماء كره ذلك، وكثير منهم لا يرى بذلك بأسا؛ لما روي أن عليا باع بعيرا يقال له: عصيفير بأربعة أبعرة إلى أجل معلوم. عسب الفحل "وأما المسألة التاسعة عشرة": في أخذ الأجرة على من أراد أن يعلي فرسه بحصان غيره. "فالجواب": إن ذلك لا يجوز، ولا يصح؛ لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن عسب الفحل، وصلى الله على محمد وآله وصحبه، وسلم تسليما كثيرا.

_ 1 هذا سؤال مبهم، لم يفهم إلا من القرينة، والمراد بالمرأة المنكِرة فيه: المرأة المعقود عليها، يعني إذا دخل الرجل بالمرأة التي عقد عليها نكاحه بينا، وأغلق بابه عليه وعليها، ثم طلقها وادعى أنه لم يجامعها هل تعد مدخولا بها، وتجب عليها عدة الطلاق، أم لا؟.

مسائل وفتاوى فقهية لبعض علماء نجد

مسائل وفتاوى فقهية لبعض علماء نجدجاءتنا غير معزوّة إلى أحد ثبوت خيار المجلس وصوره بسم الله الرحمن الر حيم مسائل وأجوبتها "الأولى": بمَ يثبت خيار المجلس، وما صورته؟ "الجواب": خيار المجلس يثبت للمتبايعيْن، ولكل منهما فسخه ما داما مجتمعين لم يتفرقا، وهو قول أكثر أهل العلم، لما في الصحيحين عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إذا تبايع الرجلان، فكل واحد منهما بالخيار، ما لم يتفرقا، وكانا جميعا، أو يخير أحدهما الآخر، فإن خيّر أحدهما الآخر، فتبايعا على ذلك، فقد وجب البيع، وان تفرقا بعد أن تبايعا، ولم يترك أحدهما البيع فقد وجب البيع" 1 والمرجع في التفرق إلى عُرف الناس وعادتهم. تبايعا وشرطا أن ما بينهما خيار مجلس "الثانية": إذا تبايعا وشرطا أن ما بينهما خيار مجلس. "الجواب": يلزم البيع ويبطل الخيار؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عمر "فإن خير أحدهما صاحبه فتبايعا على ذلك، فقد وجب البيع" 2 يعني لزم البيع. قال في الشرح: وهذا مذهب الشافعي، وهو الصحيح -إن شاء الله- لحديث ابن عمر. قبض رأس مال السلم في مجلس العقد "الثالثة": إذا تواعد رجلان يبي يكتب أحدهما على الآخر مائة جديدة، ويوم صار باكر جاءه بالدراهم يبي يكتب عليه، قال: بدا لي، هل يلزمه، أم لا؟ 3. "الجواب": لا بد من قبض رأس مال السلم في مجلس العقد، فإن تفرقا قبل قبضه لم يصح، وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي، وقال مالك: يجوز أن يتأخر قبضه يومين، أو ثلاثا، أو أكثر ما لم يكن ذلك شرطا.

_ 1 البخاري: البيوع "2107 ,2109 ,2111 ,2112" , ومسلم: البيوع "1531" , والترمذي: البيوع "1245" , والنسائي: البيوع "4465 ,4466 ,4467 ,4468 ,4469 ,4470 ,4471 ,4472 ,4473 ,4474 ,4475 ,4476 ,4477 ,4478 ,4479 ,4480" , وأبو داود: البيوع "3454" , وابن ماجه: التجارات "2181" , وأحمد "1/56 ,2/4 ,2/9 ,2/54 ,2/73 ,2/119 ,2/135" , ومالك: البيوع "1374". 2 البخاري: البيوع "2112" , ومسلم: البيوع "1531" , والنسائي: البيوع "4467 ,4468 ,4472" , وابن ماجه: التجارات "2181" , وأحمد "2/119". 3 قوله يبي: أصله يبغي: أي يريد، وهي لغة أهل نجد. ويوم صار باكر: أي في صباح اليوم الثاني. بدا لي: أي أن أرجع.

بيع الطعام قبل قبضه "الرابعة": إذا شرى رجل من آخر مائة صاع، وواعده يبي يكيلها الصبح، ويوم جاء يبي يكيلها، قال: بدا لي، وهو ما بعد نقد الدراهم، هل يلزمه، أم لا؟ "الجواب": يلزمه البيع بمجرد العقد، ولا يوافق على فسخ المبيع إلا برضاء المشتري، ولكن لا يجوز بيعه قبل قبضه؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم "من ابتاع طعاما، فلا يبعه حتى يستوفيه"1 متفق عليه. عقد الإجارة والمساقاة "الخامسة": الإجارة والمساقاة، هل هما عقد لازم، أم جائز وما معنى اللازم والجائز؟ "الجواب": أما الإجارة: فهي عقد لازم، وهو قول جمهور العلماء؛ لأنها بمعنى البيع، وأما المساقاة فأكثر الفقهاء على أنها عقد لازم، واختاره الشيخ تقي الدين، وعند شيخنا أنها عقد لازم من جهة المالك، وعقد جائز من جهة العامل. وأما معنى اللازم والجائز؛ فاللازم: هو الذي لا يتمكن أحد المتعاقدين من فسخه إلا برضاء الآخر. والجائز: هو الذي يفسخه كل منهما بغير رضاء صاحبه. الاختلاف بين البائع والمشتري في الثمن "السادسة": إذا باع رجل بعيرا على آخر، وقال البائع: الثمن عشرة، وقال المشتري: بل تسعة. "الجواب": إذا اختلفا في قدر الثمن، ولا بينة لأحدهما تحالفا؛ فيحلف البائع أولا: ما بعته بكذا وإنما بعته بكذا، ثم يحلف المشتري: ما اشتريته بكذا، وإنما اشتريته بكذا، فإذا تحالفا، ولم يرض أحدهما بقول الآخر انفسخ البيع، وهو مذهب أبي حنيفة، والشافعي، ورواية عن مالك، وعن أحمد: أن القول قول البائع، أو يترادّان البيع لما روى ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال "إذا اختلف البيعان، وليس بينهما بينة، فالقول ما قال البائع، أو يترادّان البيع" 2 رواه سعيد بن منصور وابن ماجه. قال الزركشي: وهذه الرواية، وإن كانت خفية مذهبا فهي ظاهرة دليلا، وذكر دليلها، ومال إليها.

_ 1 البخاري: البيوع "2126" , ومسلم: البيوع "1526" , والنسائي: البيوع "4595 ,4604" , وأبو داود: البيوع "3492" , وابن ماجه: التجارات "2226" , ومالك: البيوع "1335". 2 الدارمي: البيوع "2549".

الاختلاف في أجرة الكراء "السابعة": إذا أكرى رجل بعيرا، وقال صاحب البعير: الأجرة عشرة، وقال المكتري: الأجرة ثمانية. "الجواب": إذا اختلفا في قدر الأجرة، وهو كما إذا اختلفا في قدر الثمن في البيع -كما تقدم- في المسألة التي قبلها، نص أحمد على أنهما يتحالفان، وهو مذهب الشافعي قال في الشرح: وهو الصحيح -إن شاء الله-. الخلاف بين المالك والمستأجر في مدة الكراء "الثامنة": إذا استكرى رجل بيتا، وقال صاحب البيت: أنا مكريك سنة، وقال المستأجر: أما مستكر سنتين. "فالجواب": إن القول قول المالك مع يمينه. قال في الشرح: لأنه منكر للزيادة، فكان القول قوله بيمينه، كما لو قال: بعتك هذا العبد بمائة، وقال "المشتري": بل هذين العبدين بمائتين. حكم غلة المبيع في مدة الخيار "التاسعة": إذا تبايعا نخلا، وشرطا الخيار: عشر سنين، وأخذ المشتري العمارة في هذه العشر السنين، ويوم فك البائع النخل، هل العمارة ترد على البائع، أو تكون للمشتري يأخذها مع الدراهم؟ "الجواب": ما حصل من غلات المبيع ونمائه في مدة الخيار، فهو للمشتري -أمضيا العقد أو فسخاه-؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم "الخراج بالضمان "1 2 قال الترمذي: هذا حديث صحيح، وهذا من ضمان المشتري، فيجب أن يكون خراجه له بمقابلة ضمانه. ضمان تلف الرهن "العاشرة": إذا رهن رجل قِدرا، وضاع القدر، وهو لم يفرط فيه 3 هل يسقط الدَّين، أو الدين ثابت، ولو ضاعت الرهانة؟. "الجواب": إذا تلف الرهن في يد المرتهن؛ فإن كان بتعديه، أو تفريطه في حفظه ضمنه، قال في الشرح: لا نعلم فيه خلافا، فأما إن تلف من غير تعد منه

_ 1 الترمذي: البيوع "1285" , والنسائي: البيوع "4490" , وأبو داود: البيوع "3508" , وابن ماجه: التجارات "2242 ,2243". 2 أي ما خرج من الغلة بما على واضع اليد من الضمان من التلف. 3 القدر التي يطبخ فيها، مؤنثة في العربية، والتذكير لغة العوام.

ولا تفريط فلا ضمان عليه، وهو من مال الراهن، يروى ذلك عن علي رضي الله عنهوبه قال عطاء، والزهري، والأوزاعي، والشافعي، وأبو ثور، وابن المنذر، فإذا تلف بغير تعد ولا تفريط لم يضمنه، ولم يسقط شيء من الدَّين، بل هو ثابت في ذمة الراهن؛ لأن الدَّين ثابت في ذمة الراهن، ولم يوجد ما يسقطه. مطالبة الضامن والمضمون عنه "الحادية عشرة": إذا ضمن رجل على آخر، وادعى للمضمون عنه أني أعطيت الغني. "الجواب": لصاحب الحق مطالبة من شاء من الضامن والمضمون عنه، وبه قال الشافعي، والثوري، وإسحاق، وأصحاب الرأي، وأبو عبيد؛ لقوله -عليه السلام- "الزعيم غارم" 1 فإن أدى المضمون عنه برئت ذمة الضامن بغير خلاف، وإن أدى الضامن الدَّين، ونوى الرجوع رجع على المضمون عنه بما أداه لصاحب الحق، وهو مذهب مالك والشافعي. براءة الذمة بالإحالة على المليء "الثانية عشرة": إذا أحال رجل آخر بعشرة جدد على مليء وقبله، وبعد هذا أفلس المحال عليه، هل ينحرف على صاحبه، أم لا؟ "الجواب": إذا أحاله على مليء برئت ذمة المُحيل، ولم يعد الحق إليه، سواء أمكن الاستيفاء، أم لا، وبه قال الليث، والشافعي، وأبو عبيد، وابن المنذر؛ لأنه أحاله على مليء برضاه وقبله، فلم يكن له على المحيل رجوع، بشرط أن تكون الحوالة صحيحة بشروطها. معنى تعارض البينتين "الثالثة عشرة": ما معنى تعارض البَيْنَتَيْن؟ "الجواب": معنى تعارض البينتين: تساويهما من كل وجه، فإذا أقام المدعي بينة، وأقام المدعى عليه بينة وتساويتا، فقد تعارضتا، "ومتى تعارضت" بينتاهما سقطتا، وكانا كمن لا بينة لهما.

_ 1 الترمذي: البيوع "1265" , وأبو داود: البيوع "3565" , وابن ماجه: الأحكام "2405".

بينة الداخل والخارج "الرابعة عشرة": ما معنى قولهم: بَيْنَة الداخل والخارج؟ "الجواب": بينة الخارج بينة المدعي، وبينة الداخل بينة المدعَى عليه. قسمة التراضي وقسمة الإجبار "الخامسة عشرة": الفرق بين قسمة التراضي والإجبار. "الجواب": قسمة الإجبار: هي التي لا ضرر فيها على أحد من الشركاء. ويمكن تعديل السهام من غير رد عوض، فإن كان فيها ضرر لم يجبر الممتنع؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم "لا ضرر ولا ضرار"1 فإن كان فيها رد عوض، فهي بمعنى البيع فلا يجبر عليها الممتنع، فإذا لم تكمل هذه الشروط فهي قسمة تراض، لا يجبر الممتنع عليها، بل برضاه. المنع من المباني الضارة بالجار "السادسة عشرة": إذا بنى رجل بيتا، وبنى فيه مدابغ وكنيفا، وبنى جاره بعده بيتا، وأقام الثاني بينة: أن كنيفك، ومدابغك تضر بي. "الجواب": إذا كانت المدابغ والكنيف سابقة على ملك جاره، ولا حدثت دار جاره إلا بعد بناء الكنيف والمدابغ، فلا تُزال؛ لأنها سابقة على ملك الجار، والجار هو الذي أدخل الضرر على نفسه. وفي إزالة ضرره إضرار بجاره، فلا يزال الضرر بالضرر، فإذا كانت المدابغ ونحوها سابقة على ملك الجار لم تزل، وإن أضرت بالجار، والله أعلم. "السابعة عشرة": 2 إذا بنى رجل مدابغ أو بنى كنيفا تحت جاره، وأقام الأول البينة أن هذه البنية التي حدثت في ملكك تضر بي. "الجواب": يمنع الجار أن يحدث في ملكه ما يضر بجاره؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم "لا ضرر ولا ضرار"3 فإذا أراد أن يحدث في ملكه ما يضر بجاره فإنه يمنع للحديث، وهذه المسألة عكس التي قبلها في الصورة والحكم. الأيمان على البت والقطع لا على نفي فعل الغير "الثامنة عشرة": إذا مات رجل، وجاء آخر إلى الوارث يدعي أن له دَينا على الميت، وليس على المدعي "؟ " شهود، أيش صفة يمين الوارث؟ "الجواب": إذا لم يكن مع المدعي بينة، وأراد أن يستحلف الوارث، فإنه

_ 1 ابن ماجه: الأحكام "2340" , وأحمد "5/326". 2 هذه المسألة مكررة مع ما قبلها. 3 ابن ماجه: الأحكام "2340" , وأحمد "5/326".

يحلف على نفي العلم، قال في "المغني": والأيمان كلها على البت والقطع لا على نفي فعل الغير، فإنها على نفي العلم، فإذا حلف على نفي مثل أن يدعي عليه، أي: على الغير دينا أو غصبا؛ فإنه يحلف على نفي العلم لا غير. "التاسعة عشرة " إذا ادعى رجل على آخر بدعوى وليس عند المدعي بينة ما صفة يمين المنكر؟. "الجواب" يحلف المنكر على البت والقطع لأن الأيمان كلها على البت لا على نفي فعل الغير فإنها على نفي العلم كما تقدم في المسألة قبلها. الحكم إذا نكل المنكر عن اليمين "العشرون" إذا تداعى اثنان ولا بينة معهما، وصارت اليمين على المنكر؛ فإن حلف قضي له، وإن أبى أن يحلف، فهل يقضى عليه بنكوله أم تردون اليمين على المدعي؟. "الجواب" فيه قولان للعلماء هما روايتان عن أحمد. "إحداهما" لا ترد، بل إذا نكل من توجهت عليه اليمين قضي عليه بالنكول، وهو قول أبي حنيفة. "والرواية الأخرى" أن اليمين ترد على المدعي فيقال له: رد اليمين على المدعي؛ فإن ردها حلف المدعي، وحكم له بما ادعاه اختاره أبو الخطاب وقال: قد صوبه أحمد، وما هو ببعيد يحلف ويستحق، واختار هذا القول ابن القيم في الطرق الحكمية والموفق في العمدة، وهو قول أهل المدينة. وروي ذلك عن علي رضي الله عنهوبه قال شريح والشعبي والنخعي وابن سيرين ومالك في المال خاصة، وقال الشافعي: بل في جميع الدعاوي. وقال الشيخ تقي الدين: مع علم مدع وحده بالمدعى به لهم ردها، وإذا لم يحلف لم يأخذ كالدعوى على ورثة ميت حقاً عليه بتركته، وإن كان المدعى عليه هو العالم بالمدعي به دون المدعى مثل أن يدعي الورثة أن الوصي على غريم الميت؛ فينكر فلا يحلف المدعي، وأما إن كان المدعي يدعي العلم والمنكر يدعي العلم، فهنا يتوجه القولان، يعني المتقدمين، هل يقضي بالنكول أم ترد؟ والله أعلم. وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.

مسائل وفتاوى أخرى لبعض علماء نجد

مسائل وفتاوي أخرى لبعض علماء نجد بسم الله الرحمن الر حيم الحمد لله والصلاة والسلام على خير خلق الله وعلى آله وأصحابه الذين كانوا نصرة لدين الله. "المسألة الأولى" ما قولكم فيمن ترك السنة 1 من غير استخفاف ما حكمه؟. "الجواب" الذي ذكر أهل العلم أن من ترك السنة وداوم عليها من غير استخفاف بها أنه يكون ناقصا ولا تقبل شهادته. الرواتب كم قدرها ووقتها وأيها أفضل "الثانية" ما قولكم في الرواتب كم قدرها ووقتها وأيها أفضل؟ "الجواب" ثبت في الصحيحين عن عبد الله بن عمر قال: "حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر ركعات: ركعتين قبل الظهر وركعتين بعدها وركعتين بعد المغرب وركعتين بعد العشاء وركعتين قبل صلاة الصبح"وفي حديث في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها-: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم -يصلي قبل الظهر أربعا"2 فيحتمل أنه كان يصلي تارة أربعا قبل الظهر وتارة ركعتين. وذكر العلماء أن آكد التطوع الكسوف، ثم الوتر ثم ركعتا الفجر؛ لأن رسول الله -صلى الله عليه وسلم -لم يدعهن لا حضرا ولا سفرا. المسند والمرسل معناهما وأيهما أقوى "الثالثة" المسند والمرسل أيهما أقوى. "الجواب" إن المسند أقوى من المرسل؛ وذلك لأن المسند ما اتصل سنده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم -فإذا كان رجال المسند كلهم ثقات وليس فيه شذوذ؛ فأجمع العلماء

_ 1 أي من الصلاة النافلة وهي التي تسمى الرواتب. وليس المراد السنة بمعنى الهدي النبوي والطريقة الشرعية. 2 الترمذي: الصلاة "424".

على الاحتجاج به 1 إذا لم يعارض بمثله أو أقوى منه، وأما المرسل؛ فهو ما يرويه التابعي عن النبي صلى الله عليه وسلم -كقول الحسن: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم -كذا. وقول محمد بن شهاب الزهري: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم -، أو قول عطاء: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم -، فسقط الصحابي بينه وبين الرسول صلى الله عليه وسلم - وكثير من أهل العلم لا يحتج بالمرسل إلا إذا اتصل وأسند من وجه صحيح، فإذا كان ذلك كذلك تبين لك أن المسند أقوى وأصح من المرسل بكثير. "الرابعة" ما قولكم في معناهما؟. "الجواب" يتبين لك من جواب المسألة قبلها. ومن أصح المراسيل عندهم مراسيل سعيد بن المسيب القرشي المديني عالم المدينة. وقيل: إنه عالم التابعين وأفضلهم، رضي الله عنه. ترجيح الحديثين المتعارضين في الأمر والنهي "الخامسة" إذا جاء خبران عن النبي -صلى الله عليه وسلم -أحدهما يدل على الأمر، والآخر يدل على النهي أيهما أرجح؟. "فالجواب" أن الراجح ما صح سنده إلى النبي -صلى الله عليه وسلم - بنقل العدول الثقات الضابطين، فإن قدر اتحادهما في الصحة، فإن أمكن معرفة الآخر منهما أخذ بالآخر؛ لأنه هو الناسخ، وإنما يؤخذ بالآخر، فالآخر من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم أو قوله، فإن لم يمكن معرفة ذلك وأمكن الجمع بينه جمع بينهما، فإن لم يمكن ذلك أخذ بالأحوط، وهو الذي عليه الأكثر من العلماء والفقهاء. مذاهب العلماء في قراءة البسملة والجهر بها في الصلاة "السادسة" ما قولكم في حذف البسملة في الصلاة وما الدليل على ذلك؟. "فالجواب" أن البسملة اختلف الفقهاء فيها، هل هي آية من الفاتحة وغيرها من كل

_ 1 أي في الأحكام العملية من العبادات والمعاملات وإن كان آحاديا.

سورة، أو هي آية من الفاتحة دون غيرها من السور؟ أو ليست من الفاتحة ولا غيرها من السور بل هي آية من القرآن تكتب في أول كل سورة وتقرأ سوى سورة براءة؟. هذه أقوال ثلاثة، ذهب إلى كل قول طائفة من العلماء، والذي يترجح عندنا القول الأخير، وبه قال الإمام أحمد بن حنبل وغيره من فقهاء الحديث. وأما الجهر بها في الصلاة؛ فالأحاديث الصحيحة تدل على أن الرسول صلى الله عليه وسلم -كان لا يجهر بها لا هو ولا الخلفاء الراشدون اللهم إلا أن يكون بعض الأحيان، فإنه قد روي في بعض أحاديث كما ثبت ذلك في الصحيح عن أنس بن مالك خادم رسول الله -صلى الله عليه وسلم - أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم -وأبا بكر وعمر كانوا يستفتحون القرآن ب {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} 1 في أول القراءة ولا في آخرها، يعنى أن أول ما يجهر به في الصلاة من القرآن {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} 2 وبذلك أخذ الإمام أحمد وجماعة من فقهاء الحديث واستحبوا ترك الجهر بها من غير إنكار على من جهر بها. رفع اليدين ووضعهما في الصلاة "السابعة" ما قولكم في الرفع والضم وما الدليل على ذلك؟. "فالجواب" إن كان مراد السائل رفع اليدين في الصلاة، وجعل اليمين على الشمال في الصلاة، فهذا سنة مؤكدة ثابتة عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم -في أحاديث كثيرة في الصحاح والسنن والمسانيد ومن أشهر ذلك حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما- المتفق على صحته قال: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم -يرفع يديه حذو منكبيه إذا افتتح الصلاة وإذا أراد أن يركع وإذا رفع رأسه من الركوع". وأما وضع اليمين على الشمال ففي حديث سهل بن سعد في صحيح البخاري قال: "كان الناس يؤمرون أن يضع الرجل يده اليمنى على ذراعه اليسرى في الصلاة" 3 وإن كان مراد السائل غير ذلك فيبينه بعبارة صحيحة واضحة.

_ 1 سورة الفاتحة آية: 1. 2 سورة الفاتحة آية: 2. 3 البخاري: الأذان "740" , وأحمد "5/336" , ومالك: النداء للصلاة "378".

التأمين آخر الفاتحة " الثامنة" ما قولكم في التأمين آخر الفاتحة؟. " فالجواب" إنه سنة مؤكدة وصح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم -كان إذا قرأ: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} 1 قال: آمين يجهر بها، وصح من حديث أبي هريرة أن الله صلى الله عليه وسلم -قال: "إذا قال الإمام: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} 2 فقولوا: آمين، فإن من وافق قوله قول الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه" وأجمع العلماء من أهل السنة على استحباب ذلك. قول المؤذن الصلاة خير من النوم "التاسعة" ما قولكم في قول المؤذن: "الصلاة خير من النوم" وما الدليل على ذلك؟. "الجواب" دليله ما رواه أهل السنن قالوا: كان بلال إذا أذن أيقظ النبي صلى الله عليه وسلم -لصلاة الفجر، فقيل له: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم -نائم، فقال: الصلاة خير من النوم، ورفع بها صوته، قال ابن المسيب: فأدخلت هذه الكلمة في أذان الفجر، واتفق الأئمة الأربعة على استحباب ذلك. دعاء الاستفتاح في الصلاة "العاشرة" ما قولكم في استفتاح الصلاة بما الناس عليه وما الدليل على ذلك؟. "فالجواب" أنه قد ثبت في السنن الأربعة "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم -كان يستفتح الصلاة بسبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدك ولا إله غيرك" 3. وصح في صحيح مسلم أن عمر كان يجهر بهؤلاء الكلمات يعلمهن الناس في مسجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم -بحضرة الأكابر من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم -من المهاجرين والأنصار، فلأجل ذلك أخذ به الإمام أحمد وجماعة من فقهاء الحديث قال أحمد: أنا اختاره وإن استفتح رجل بغيره مما صح عنه صلى الله عليه وسلم فحسن.

_ 1 سورة الفاتحة آية: 7. 2 سورة الفاتحة آية: 7. 3 الترمذي: الصلاة "243" , وأبو داود: الصلاة "776" , وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها "806".

أول من وضع علم النحو "الحادية عشرة" ما قولكم في النحو، هل شيء جاء في الاجتهاد أم لا؟. "الجواب" إن علم النحو وضعه بعض العلماء بسبب تغير لغة العرب، وقيل: إن أول من وضعه علي رضي الله عنه- وذلك لأن الله أنزل القرآن والسنة على لغة العرب، فيجب على الأمة معرفة اللغة وضبطها ليعرف بذلك كتاب الله وسنة نبيه عليه الصلاة والسلام. النسخ في الكتاب والسنة "الثانية عشرة" هل ينسخ القرآن بعضه بعضا، وهل ينسخ السنة والسنة تنسخه أم لا؟. "الجواب" الذي عليه أئمة أهل العلم أن القرآن ينسخ بعضه بعضاً، وفيه آيات معروفة منسوخة، والآية التي نسختها معروفة، يعرف ذلك من طلبه من مظانه. وكذلك القرآن ينسخ السنة بإجماع. وأما نسخ القرآن بالسنة، فالذي عليه المحققون من العلماء أن السنة لا تنسخ القرآن، لكن السنة تفسر القرآن وتبينه وتفصل مجمله، لأن الله امتن على أزواج نبيه بما يتلى في بيوتهن من الكتاب والحكمة، قال كثير من العلماء: كان جبرائيل ينزل على رسول الله -صلى الله عليه وسلم -بالسنة كما ينزل بالقرآن، ولا يسمى ذلك نسخا، بل هو تفسير له وتوضيح وتشريع للأمة؛ لأن الله ضمن لنبيه صلى الله عليه وسلم -جمع القرآن في صدره وبيان معناه كما قال تعالى: {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} 1. رواية الكتاب والسنة بالمعنى "الثالثة عشرة" هل تجوز رواية الكتاب والسنة بالمعنى أم لا؟. "الجواب" أما قراءة القرآن بالمعنى فما علمت أحدا يجوز ذلك، وكيف يجوز تغيير كلام الله وتغيير نظمه الذي أعجز الله به جميع الخلق وجعله آية ودلالة باهرة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم -؟ هذا لا يقوله أحد. وأما رواية الحديث بالمعنى، فهو مما اختلف

_ 1 سورة القيامة آية:17: 19.

فيه العلماء وأجازه طائفة ومنعه كثيرون من أهل الحديث وغيرهم. حجية إجماع الصحابة "الرابعة عشرة" هل إجماع الصحابة حجة وقول الواحد منهم حجة أم لا؟. "الجواب" إن إجماعهم حجة قاطعة يجب الأخذ بها بالإجماع من أهل العلم، واستدلوا على ذلك بقوله تبارك وتعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً} 1 وقوله: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} 2 وقوله في أعظم سورة من القرآن: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} 3 وهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم -. وأما قول الواحد منهم فهو حجة عند العلماء يأخذ به الإمام أحمد وغيره إذا لم تخالفه مثله، وأما إذا خالفه غيره من الصحابة فليس قول أحدهما حجة على الآخر. إجماع علماء الإسلام "الخامسة عشرة" إجماع علماء الإسلام من غير الصحابة حجة. "الجواب" نعم حجة قاطعة 4 لكن لا يوجد إجماع صحيح إلا وله سند من

_ 1 سورة النساء آية: 115. 2 سورة التوبة آية: 100. 3 سورة الفاتحة آية:6،7. 4 إطلاقه هذا الجواب غريب وأول مخالف فيه الإمام أحمد "رح" فالمشهور عنه أنه لا يحتج إلا بإجماع الصحابة فقد روى عنه أبو داود أنه قال: الإجماع أن يتبع ما جاء عن النبي "ص" وعن أصحابه وهو في التابعين مخير. وروي مثل هذا عن أبي حنيفة، وهو مذهب الإمام داود بن علي، بل روي عن الإمام أحمد أنه يقول بعدم إمكان العلم بالإجماع في عصره أو بعد الصحابة. والقائلون بحجية إجماع العلماء المجتهدين وهم جمهور الأصوليين قد اختلفوا فيه هل هو حجة قطعية أو ظنية أو فيه تفصيل؟ وقوله: إن الأمة لا تجتمع على ضلالة هو معنى حديث مرفوع استدل به القائلون بأنه حجة، ورد المنكرون عليهم بأن خطأ المجمعين قد يكون عن اجتهاد في صحة نص أو في دلالته وهذا لا يسمى ضلالة، على أن إجماع المجتهدين في عصر على شيء ليس إجماعا للأمة كلها، ولا تتسع هذه الحاشية لأكثر من هذا التنبيه.

الكتاب والسنة وإجماع الصحابة وكثير من المسائل يدعى بعضهم فيها الإجماع، وليس هو قول جميع علماء الإسلام، بل يوجد فيها خلاف لبعض العلماء لا يعلمه من حكى الإجماع. وأمة محمد صلى الله عليه وسلم -لا تجتمع على ضلالة بل قد أجارها الله من ذلك. الواجب من قراءة القرآن في الصلاة "السادسة عشرة" كم الواجب من القرآن في الصلاة وما الدليل على ذلك؟. "فالجواب" الواجب من ذلك هو قراءة الفاتحة لا غير لمن قدر على تعلمها واستدلوا على ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم -: "لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب"1 أخرجه مسلم في صحيحه وفيه دلالة واضحة. قراءة المأموم في الصلاة "السابعة عشرة" هل يجب أن يقرأ المأموم لنفسه أم الإمام يتحمل ذلك؟. "فالجواب " هذه مسألة اختلف العلماء فيها؛ فأوجب طائفة من العلماء قراءة الفاتحة على الإمام والمأموم والمنفرد واستدلوا بالحديث المتقدم، وكرهها آخرون للمأموم في السر والجهر وتوسط فيها آخرون فأوجبوها على الإمام والمنفرد في كل ركعة، واستحبوها للمأموم في الصلاة السرية وكرهوها للمأموم في الجهرية إذا سمع قراءة الإمام، واستدلوا على ذلك بقوله عز وجل {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} 2 قال أحمد: هذه الآية في الصلاة، وبما روي في الحديث "من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة" 3 وهذا الذي عليه العمل عندنا ونختاره. قراءة المأموم مع الإمام "الثامنة عشرة" إذا قرأ المأموم مع الإمام هل تفسد صلاته؟. "فالجواب" إن صلاته لا تفسد ولا أعلم أحداً قال بفسادها بذلك، بل كرهها من كرهها من العلماء للآية المتقدمة التي قبلها، ولدلائل أخر ليس هذا موضع بسطها ولم يبطلوها بذلك.

_ 1 البخاري: الأذان "756" , ومسلم: الصلاة "394" , والترمذي: الصلاة "247" , والنسائي: الافتتاح "910 ,911" , وأبو داود: الصلاة "822" , وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها "837" , وأحمد "5/313". 2 سورة الأعراف آية: 204. 3 ابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها "850" , وأحمد "3/339".

حكم صلاة الجماعة والعيدين "التاسعة عشرة" ما قولكم في صلاة الجماعة والعيد هل هما واجبتان أم مسنونتان؟ وما الدلائل على ذلك؟. فنقول: أما صلاة الجماعة فاختلف العلماء في وجوبها، وهل هي شرط لصحة الصلاة أو ليست بواجبة ولا شرط لصحة الصلاة، بل سنة مؤكدة؟ فالمشهور عن أحمد وغيره من فقهاء الحديث أنها واجبة على الرجال المكلفين حضراً وسفراً، واستدلوا على ذلك بما ثبت في الصحيحين أن رجالا كانوا يتخلفون عن صلاة الجماعة مع النبي -صلى الله عليه وسلم -فهَمَّ -صلى الله عليه وسلم -بتحريق بيوتهم بالنار، وإنما منعه من ذلك ما فيها من النساء والذرية، وقال: " لقد هممت أن آمر رجلا يؤم الناس ثم أخالف إلى قوم لا يشهدون الصلاة فأحرق عليهم بيوتهم"1 وقال ابن مسعود: "لقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق"2 ولدلائل أخر ليس هذا موضع بسطها، وأما صلاة العيدين، فالصحيح من أقوال العلماء: أنها فرض كفاية، ومن قال: إنهما سنتان قال: إذا اتفق أهل بلد على تركهما قاتلهم الإمام، واستدلوا على أنها فرض كفاية بأن النبي -صلى الله عليه وسلم -أمر بهما مالك بن الحويرث وصاحبه. النهي عن سب الصحابة وجزاء من يفعل ذلك "العشرون" من سب الصحابة هل يكفر أو يفسق، وما الدليل على ذلك؟. "فالجواب" إن فسقه لا خلاف فيه لقوله عليه السلام-: "سباب المسلم فسوق وقتاله كفر" 3 وأما تكفيره فاختلف العلماء في ذلك فمنهم من كفره ويذكر عن مالك، واحتج على كفره بقوله تعالى: {لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} 4 قال: فكل من سبهم فهو كافر لهذه الآية. والذي عليه الأكثر عدم تكفيره، وتوقف أحمد في تكفيره وقتله، وأما تعزيره وتأديبه بالضرب والحبس الذي يزجره عن ذلك فلا خلاف فيه. وهذا ما تحتمله الورقة ونسأل الله أن يوفقنا وسائر إخواننا لما يحبه ويرضاه، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.

_ 1 البخاري: الخصومات "2420" , ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة "651" , والترمذي: الصلاة "217" , والنسائي: الإمامة "848" , وأبو داود: الصلاة "548 ,549" , وابن ماجه: المساجد والجماعات "791" , وأحمد "2/314 ,2/376 ,2/416 ,2/479 ,2/525 ,2/537" , ومالك: النداء للصلاة "292" , والدارمي: الصلاة "1212". 2 مسلم: المساجد ومواضع الصلاة "654" , وأبو داود: الصلاة "550" , وابن ماجه: المساجد والجماعات "777" , وأحمد "1/382 ,1/414". 3 البخاري: الإيمان "48" , ومسلم: الإيمان "64" , والترمذي: البر والصلة "1983" والإيمان "2634 ,2635" , والنسائي: تحريم الدم "4105 ,4106 ,4108 ,4109 ,4110 ,4111 ,4112 ,4113" , وابن ماجه: المقدمة "69" والفتن "3939" , وأحمد "1/385 ,1/411 ,1/417 ,1/433 ,1/439 ,1/446 ,1/454 ,1/460". 4 سورة الفتح آية: 29.

مسائل وفتاوى في القراءة لأحد علماء نجد

مسائل وفتاوى في القراءة لأحد علماء نجد ... مسائل وفتاوى في القراءة في الصلاة والطهارة والوضوء والتيمم والطلاق والعدة وعورة الأمة والكلام عند الآذان وتلاوة القرآن وغير ذلك لأحد علماء نجد، غير معروف اسمه مسائل وفتاوى لأحد علماء نجد غير معروف اسمه الصلاة خلف الإمام بسم الله الرحمن الر حيم وبه نستعين ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. الحمد لله والصلاة على خير خلق الله وآله وأصحابه الذين كانوا أنصاراً لدين الله. "المسألة الأولى" ما قول العلماء -رضي الله عنهم- فيمن صلى خلف الإمام ما حكمه؟. "الجواب" وبالله التوفيق: السنة أن يقف المأموم خلف الإمام، وإن كان واحدا صلى عن يمينه، فإن كان معهم امرأة قامت خلفهم، فإذا وقف المأموم قدام الإمام لم تصح صلاته، وإن وقف الرجل خلف الصف أو خلف الإمام وحده فصلى ركعة فأكثر لم تصح صلاته. صلاة من أخل بإعراب الفاتحة "المسألة الثانية" هل تصح صلاة من أخل بإعراب الفاتحة أم لا؟. "الجواب" وبالله التوفيق: يلزم القارئ أن يقرأ الفاتحة مرتبة مشددة غير ملحون فيها لحنا يحيل المعنى، نحو أن يقول: "أنعمتُ" برفع التاء، فإن فعل لم يعتد بقراءته إلا أن يكون عاجزا، وهذا مذهب الشافعي، فإن كان لحنا لا يحيل المعنى نحو أن يكسر النون من "نستعين" لم تبطل صلاته. الصلاة في ثوب به نجاسة وهو لا يعلم "المسألة الثالثة" إذا صلى من في بدنه أو ثوبه نجاسة نسيها أو جهلها ولم يعلم بها إلا بعد انقضاء صلاته هل يعيدها أم لا؟. "الجواب" وبالله التوفيق: هذه المسألة فيها عن أحمد روايتان: "أحدهما" لا تفسد صلاته، وهو قول ابن عمر وعطاء لحديث النعلين وفيه: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بأصحابه إذ خلع نعليه إلى أن قال: إن جبرائيل أتأنى فأخبرني أن فيهما قذرا"1 رواه أبو داود ولو بطلت لاستأنفها. "والثانية" يعيد وهو مذهب الشافعي، فإن علم بها في أثناء الصلاة وأمكنه إزالتها من غير عمل كثير كخلع النعال والعمامة

_ 1 أبو داود: الصلاة "650" , وأحمد "3/20" , والدارمي: الصلاة "1378".

ونحوهما أزالها، وبنى على ما مضى من صلاته وإلا بطلت. صلاة الإمام محدثا جاهلا هو والمأمومون "الرابعة" إذا صلى الإمام محدثا جاهلا والمأمون حتى سلموا ما حكم صلاتهم؟ "الجواب" صلاتهم صحيحة دون الإمام فإنه يعيد، يروى عن عمر وعثمان وعلي ومالك والشافعي، وإن علمه وهو في الصلاة بطلت وأعادها. في بدن الجنب نجاسة فزالت بغسل الوضوء أو غسل الجنابة ولم ينو إزالتها "الخامسة" إذا كان في أعضاء الوضوء أو في بدن الجنب نجاسة؛ فزالت بغسل الوضوء أو غسل الجنابة، ولم ينو إزالتها هل تزول أم لابد من النية؟. "الجواب" غسل النجاسة لا يفتقر إلى نية، بل متى زالت عين النجاسة بالماء طهر المحل؛ لأنها من التروك بخلاف الأوامر، فإنها مفتقرة إلى نية لقوله -عليه السلام-: "إنما الأعمال بالنيات"1 الحديث، لكن عليه أن يزيل النجاسة عن أعضائه وعن بدنه قبل الغسل. تعدد الصلوات بوضوء واحد "السادسة" إذا توضأ الإنسان لمشروع كالنافلة وصلاة الجنازة ولم ينو به الفرض هل يصلي به الفرض أم لا؟. "الجواب" يصلي به ما شاء فرضا أو نفلا، وأيضا قال في "الشرح الكبير": ولا بأس أن يصلي الصلوات بالوضوء الواحد لا نعلم فيه خلافا. انتهى. تأخير التيمم إلى آخر الوقت لمن يرجو وجود الماء "المسألة السابعة" إذا دخل الوقت على عادم الماء، ويرجو أن يصل إليه في آخر الوقت، هل يصلي بالتراب في أول الوقت أو يؤخر الصلاة حتى يأتي الماء؟. "الجواب" قال في الشرح: يستحب تأخير التيمم إلى آخر الوقت لمن يرجو وجود الماء، روي ذلك عن علي وعطاء والحسن وأصحاب الرأي، وقال الشافعي في أحد قوليه: التقديم أفضل. انتهى. عدة المرضعة "المسألة الثامنة" إذا طلقت المرأة وهي ترضع، ولم يأتها الحيض بسبب الرضاع ما عدتها؟. "الجواب" هي في عدة حتى يأتيها الحيض، فتعتد به ثلاث حيضات أو تصير آيسة فتعتد بثلاثة أشهر.

_ 1 البخاري: بدء الوحي "1" , وأبو داود: الطلاق "2201" , وابن ماجه: الزهد "4227".

ادعت المرأة أنها اعتدت بعد الطلاق في وقت تمكن العدة فيه "المسألة التاسعة": إذا ادعت المرأة أنها اعتدت بعد الطلاق في وقت تمكن العدة فيه هل تصدق أم لا؟ وإذا شهدت امرأة أو امرأتان أنها اعتدت بالحيض هل تقبل شهادتهن في ذلك لعدم اطلاع الرجال أم لا؟ "الجواب" تصدق لقوله تعالى: {وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ} 1 الآية، وإذا شهدت امرأة عدل أنها حاضت ثلاث حيض وهو يمكن قبلت، والأحوط شهادة امرأتين. كشف الأمة المملوكة لوجهها "المسألة العاشرة": هل وجه الأمة المملوكة عورة فيلزمها الخمار كالحرة أم لا؟. "الجواب": لا يلزمها؛ لأن عمر بن الخطاب كان ينهى الإماء عن التقنع فاشتهر فلم ينكر، فكان إجماعا، لكن إذا كانت الأمة جميلة يخشى بها الفتنة لم يجز النظر إليها بشهوة. وأما الحرة فلا يجوز كشف وجهها في غير الصلاة بغير خلاف 2 والأمة إذا عتقت فهي حرة. حكم الكلام عند الأذان والإقامة وتلاوة القرآن وعند الجماع "المسألة الحادية عشرة": ما حكم الكلام عند الأذان والإقامة وتلاوة القرآن، والكلام عند الجماع. "الجواب": قال في الشرح: يستحب لمن سمع المؤذن أن يقول كما يقول إلا في الحيعلة فإنه يقول: لا حول ولا قوة إلا بالله، وهذا مستحب لا نعلم فيه خلافا، ثم يقول: "اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آت محمداً الوسيلة والفضيلة وابعثه مقاما محموداً الذي وعدته"3 رواه البخاري، انتهى. وقال بعض العلماء: كذلك عند الإقامة، وأما الكلام عند تلاوة القرآن فقال النووي -رحمه الله- في كتاب التبيان: ويتأكد الأمر باحترام القرآن من أمور، فمنها اجتناب الضحك واللغط والحديث في خلال القرآن إلا كلاما يضطر إليه وليمتثل أمر الله، قال تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} 4 وعن ابن عمر أنه كان إذا قرئ

_ 1 سورة البقرة آية: 228. 2 هذا إنما يصح في حال خوف الفتنة فقط. 3 البخاري: الأذان "614" , والترمذي: الصلاة "211" , والنسائي: الأذان "680" , وأبو داود: الصلاة "529" , وابن ماجه: الأذان والسنة فيه "722" , وأحمد "3/354". 4 سورة الأعراف آية: 204.

القرآن لا يتكلم حتى يفرغ مما أراد أن يقرأ انتهى. وأما الكلام حال الجماع: فيكره كثرة الكلام حال الوطء، قيل إن منه الخرس والفأفأة 1. نداء والديه أو قرابته أو معلميه بأسمائهم "المسألة الثانية عشرة": هل نداء الشخص والديه أو قرابته بأسمائهم من العقوق المنهي عنها أم لا؟ "الجواب": قال في كتاب الأذكار: {باب نهي الولد والمتعلم والتلميذ أن ينادي أباه أو معلمه أو شيخه باسمه" رُوِّينا في كتاب ابن السني عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم -رأى رجلا معه غلام فقال: "يا غلام من هذا؟ قال: أبي، قال: لا تمش أمامه، ولا تستسب له، ولا تجلس قبله، ولا تدعه باسمه"قلنا: معنى لا تستسب له أي: لا تفعل فعلا تتعرض فيه لأن يسبك أبوك زجرا لك وتأديبا لك على فعلك القبيح. ورُوّينا عن عبد الله بن زحر قال: كان يقال: "من العقوق أن تسمي أباك باسمه، وأن تمشي أمامه في الطريق"انتهى. 2 وأما القرابة غير الوالدين فلا أعلم في ندائهم بأسمائهم بأسا. التفريق بين المملوكة وولدها في البيع والهبة "المسألة الثالثة عشرة": هل يجوز التفريق بين المملوكة وولدها في البيع والهبة أم لا؟. "الجواب": لا يجوز التفريق بين ذوي رحم محرم قبل البلوغ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم "من فرق بين والدة وولدها فرق الله بينه وبين أحبته يوم القيامة" 3 حديث حسن. افتقار غسل النجاسة إلى عدد "المسألة الرابعة عشر": هل يفتقر غسل النجاسة إلى عدد أم لا؟. "الجواب": أما نجاسة الكلب والخنزير وما تولد منهما إذا أصابت غير

_ 1 أي أنه يورث هذين الأمرين: وفي هذا نظر. 2 هذان العملان من سوء الأدب بلا شك، ولكن لا يعدان من العقوق إلا إذا كان الوالد يتأذى بهما أذى شديدا، وهذا يختلف باختلاف العرف والأحوال، فالعقوق الأذى الشديد، مشتق من العق وهو شق الثوب ونحوه، ولذلك كان من أكبر الكبائر. 3 الترمذي: السير "1566" , وأحمد "5/412 ,5/414" , والدارمي: السير "2479".

الأرض فيجب غسلها سبعا إحداهن بالتراب سواء من ولوغه أو غيره؛ لأنهما نجسان وما تولد منهما 1 لقوله صلى الله عليه وسلم "إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبعا إحداهن بالتراب" 2 متفق عليه ولمسلم: "أولاهن بالتراب" 3 وأما النجاسات على الأرض فيطهرها أن يغمرها بالماء فيذهب عينها أو لونها لقوله -صلى الله عليه وسلم -في بول الأعرابي: "صبوا عليه ذنوبا من ماء" 4 متفق عليه وأما باقي النجاسات ففيها عن أحمد ثلاث روايات: "الأولى" سبعا "والثانية" ثلاثا "والثالثة" تكاثر بالماء حتى يذهب عينها ولونها من غير عدد لقوله صلى الله عليه وسلم "اغسله بالماء" ولم يذكر عدداً. وهذا مذهب الشافعي، واختاره شيخ الإسلام أحمد بن تيمية وهو المفتى به عندنا. كلام المصلي أثناء الصلاة "المسألة الخامسة عشرة": إذا تكلم المصلي في نفس الصلاة أو تنحنح هل تبطل صلاته أم لا؟. "الجواب": إن تكلم فيها عمداً لغير إصلاح صلاته بطلت بالإجماع، وإن تكلم فيها ناسيا أو جاهلا لتحريمه لم تبطل في إحدى الروايتين عن أحمد، وهو مذهب الشافعي؛ لحديث معاوية بن الحكم حين تكلم في صلاته، ولم يأمره بالإعادة، وكذلك إن تنحنح لم تبطل، وقيل: إن بان حرفان بطلت. والله أعلم.

_ 1 كان ينبغي أن يقول: إن هذا مذهب أحمد الذي هو مذهبهم وكذا الشافعي، فإنهما عللا الأمر في الحديث بالنجاسة وقاسا الخنزير على الكلب. ويرى مالك أن الأمر تعبدي؛ لأنه غير معقول والتعبدي لا يقاس عليه ولا يتعدى حكمه المنصوص؛ فلا يقال: إن الثوب إذا لاقى شعر الكلب مع البلل في أحدهما، فإنه يجب غسله سبع مرات إحداهن بالتراب، بل لم يرد نص من الشارع بغسل صيد الكلب مع الحاجة إليه لو كان نجسا وتوفر الدواعي على نقله لو ورد، وقد ظهر للأطباء علة للأمر بغسل الإناء الذي ولغ فيه وتتريبه وهو أن لعاب الكلب يوجد فيه جراثيم دودة ضارة تسمى الدودة الشريطية كما يوجد في لحم الخنزير جراثيم الدودة الوحيدة. وكتبه محمد رشيد رضا. 2 البخاري: الوضوء "172" , ومسلم: الطهارة "279" , والترمذي: الطهارة "91" , والنسائي: الطهارة "63 ,64 ,66" والمياه "335 ,338 ,339" , وأبو داود: الطهارة "71 ,73" , وابن ماجه: الطهارة وسننها "363 ,364" , وأحمد "2/245 ,2/253 ,2/265 ,2/271 ,2/314 ,2/360 ,2/398 ,2/424 ,2/427 ,2/460 ,2/480 ,2/489 ,2/507" , ومالك: الطهارة "67". 3 مسلم: الطهارة "279" , والترمذي: الطهارة "91" , والنسائي: المياه "338 ,339" , وأبو داود: الطهارة "71" , وأحمد "2/427 ,2/489 ,2/507". 4 البخاري: الأدب "6128" , والترمذي: الطهارة "147" , والنسائي: المياه "330" , وأحمد "2/239 ,2/282".

المسالة السادسة عشرة: هل يحل عرض أحد من المسلمين أم لا؟ "الجواب": الغيبة محرمة بالإجماع، وهي ذكرك أخاك بما يكرهه لو كان حاضراً، وتباح لستة أسباب: "الأول": التظلم فيجوز أن يقول لمن له قدرة على إنصافه: فلان ظلمني أو فعل بي كذا ونحو ذلك. "الثاني": الاستعانة على تغيير المنكر ورد العاصي إلى الصواب، فيقول لمن يرجو قدرته على إزالة المنكر: فلان يعمل كذا فازجره. "الثالث": الاستفتاء بأن يقول للمفتي: ظلمني أبي أو أخي، أو فلان بكذا ونحو ذلك فهذا جائز للحاجة. "الرابع": تحذير المسلمين من الشر ونصيحتهم فمنها جرح المجروحين من الرواة والشهود، ومنها إذا استشارك إنسان في مصاهرته أو معاملته، ونحو ذلك، فيجب عليك أن تذكر له ما تعلم منه على وجه النصيحة، ومنها إذا رأيت من يشتري سلعة معيبة، فعليك أن تبين ذلك للمشتري، وهذا على كل من علم بالعيب وجب عليه بيانه. "الخامس": أن يكون مجاهراً بالفسق أو ببدعة كالمجاهر بشرب الخمر وخيانة الأموال ظلما وتولي الأمور الباطلة، فيجوز ذكره بما يجاهر به، ويحرم ذكره بغيره من العيوب إلا أن يكون لجوازه سبب آخر. "السادس": التعريف، فإذا كان الإنسان معروفا بلقب كالأعرج والأعمى ونحوهما جاز تعريفه بذلك بنية التعريف لا التنقيص. فهذه الستة ذكرها العلماء مما يباح بها الغيبة ودلائلها مشهورة في الأحاديث. فرحم الله من نظر فيها، وأصلح خلل ألفاظها ومعانيها بعد التحقيق 1 فإن الإنسان لا يعصم من الخطأ والنسيان، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيراً.

_ 1 يقول محمد رشيد رضا: إنني أرجو أن أكون أهلا لهذا الدعاء وأدعو لهذا المفتي بمثل ذلك،- رحمه الله- وأثابه، وصلى الله على خاتم النبيين محمد وآله وأصحابه آمين.

مسائل وفتاوى للشيخ محمد بن عبد الوهاب المدة التي يحكم بها بموت المفقود هذه مسائل سئل عنها الشيخ محمد بن عبد الوهاب- رحمه الله- تعالى فأجاب والسائل عامي 1. بسم الله الرحمن الر حيم أما المفقود فلا يحكم بموته إلا بعد أربع سنين. وإذا أخذ الكفار مال مسلم وتملكه مسلم آخر بشراء أو هبة لم يكن لصاحبه الأول عليه طريق؛ لانتقال ملك الأول عنها؛ لأن الكفار يملكون أموال المسلمين بالقهر والاستيلاء كما هو مذهب أحمد في إحدى الروايتين وهي المذهب، ومذهب مالك وأبي حنيفة، لكن يكون صاحبه أحق به بالثمن بعد قسمه أو شرائه. النخلة متى تصير وقفا والنخلة: ما تصير وقفا إلا بشهادة رجلين مقبولين. أعطى بعض بنيه عطية وحازها المعطى ولم يعط الآخرين. والوالد: إذا أعطى بعض بنيه عطية، وحازها المعطى، ولم يعط الآخرين لم يرجعوا عليه، البيع يصح إذا انقطع الخيار ولو كان بدون القيمة. البعير إذا غدت عينه وهو مثل قاطر والبعير: إذا غدت عينه وهو مثل قاطر ذبحت، ولا علم القصاب أنها غادية إلا بعد ما ذبحها فلا له طلابه. "رد الدين على المعسر ورد الدين على المعسر ما يجوز، لا ثمن زاد ولا غيره، وإذا أوفاه بالعقد الفاسد مثل الرد على المعسر ماله إلا رأس ماله. قسم الدين في الذمة ويصح قسم الدين في الذمة. استغرق دين من عليه الدين وإذا استغرق دين من عليه الدين لم يصح الرهن إلا بأمر الديانين. اختلف المقرض والمقترض وإذا اختلف المقرض والمقترض، فقال المقرض: أقرضتك، وقال الآخر: أرهنتني، فالقول قول المقرض مع يمينه. تلفت الصبرة والمشتري متمكن من القبض ولم يقبض وإذا تلفت الصبرة والمشتري متمكن من القبض ولم يقبض؛ فهي من ضمان المشتري. اشترى ثوبا فصبغه أو نسجه أو اختاطه وهو معيب وإذا اشترى ثوبا فصبغه أو نسجه أو اختاطه، وهو معيب عند البائع، فهو يرده المشتري؛ لإمساكه مع الأرش، وله قدر صبغه أو نسجه أو خياطته وقت الرد، ويلحق البائع قدر استعماله له.

_ 1 قد عثرنا على ورقة فيها هذه المسائل بعد طبع ما تقدم فطبعناها بنصها.

استأجر أجيرًا إلى مكان يأتي له منه بشيء فحصل له مانع وإذا استأجر أجيرًا إلى مكان يأتي له منه بشيء فحصل له مانع لزمته الأجرة، والصبي أبو خمسة عشر سنة أنا راجي أن مثله ما يضمن ومثله 1. الزكاة في مال اليتامى ومال اليتامى ما فيه زكاة حتى يصيب كل واحد منهم نصاب. قال الزوج لامرأته اطلعي من داري وإذا قال الزوج لامرأته: اطلعي من داري؛ فليست بقرينة ويحلف أنه ما أراد الطلاق. متى يطلب المهر والمهر إذا كان عادة الناس أنه ما يطلب إلا إذا طلقت المرأة، أو مات الزوج فلا يطلب إلا إذا طلق أو مات. وصاحب الدين المؤجل إذا قال لست بمزكيه إلا بعد قبضه وصاحب الدين المؤجل إذا قال: لست بمزكيه إلا بعد قبضه فوافقوه، وبعد ما جد يوم يشتري النخل فيعطي زكاة ثمنه. يشتري صبر التمر في الحصاد فلا يبيعها مشتريها حتى يشيلها والذي يشتري صبر التمر في الحصاد، فلا يبيعها مشتريها حتى يشيلها، وما ذكرت من قبل الذي يسرق من الثمرة فهو على المشتري. الهبة تلزم بمجرد العقد والهبة تلزم بمجرد العقد، وإذا وهبه وقال: أوهبتك عمرك أو عشر سنين فهذا جائز. تنفيل بعض أولاده في العطية ولا يجوز للوالد تنفيل بعض أولاده في العطية على بعض. المرأة إذا حلفت بالظهار والمرأة التي حلفت بالظهار فليس عليها إلا كفارة يمين. الضرر المانع من القسمة والضرر المانع من القسمة هو إذا نقص قيمته مفرداً فهو يمنع. النخل الذي بين الشركاء وبعضهم يرفض القسمة والنخل الذي بين الشركاء واحد يشتهي القسمة، وواحد ما يشتهي، فإن كان على بعضهم مضرة لم يقسم. كان في ذمة رجل لآخر دراهم واشترى من رجل شيئا بشرط أنه يقبل الثمن من ذمة فلان وأما إذا كان في ذمة رجل لآخر دراهم واشترى من رجل شيئا بشرط أنه يقبل الثمن من ذمة فلان فلا أرى فيه بأسا. بيع الثمرة وقت الجذاذ وأما الذين يبيعون الثمرة وقت الجذاذ فبيعهم صحيح ولو ما نقد المشتري الثمن وقبض الثمرة فإنه يلزم إذا خلى بينه وبينها ويكون قبضا؛ لأن قبض هذا بالتخلية. أوصى بوصية وعلقها على الموت ثم بعد ذلك أوصى بثلث ماله وإذا أوصى بوصية وعلقها على الموت ثم بعد ذلك أوصى بثلث ماله فالوصية من الثلث إلا إن كان منجزها. الصغير الذي ورث عصبة له ومسألة الصغير الذي ورث عصبة له، فإن كان الأمير يقول: بيعها أصلح له فلا تعارضه، وإن كان الأمير والجماعة يقولون: غاديه أصلح فالذي أرى أن البيع ما يتم. الرهن إذا ظهر مستحقا ومسألة الرهن إذا ظهر مستحقا فالتالي يرجع على الثاني والثاني يرجع على الأول. "انتهى والله أعلم"

_ 1 بياض في الأصل.

مسائل وفتاوى في الطلاق والعدة والإجارة والثمار والعاقلة والتيمم للشيخ سعيد بن حجي

مسائل وفتاوى في الطلاق والعدة والإجارة والثمار والعاقلة والتيمم للشيخ سعيد بن حجي ... مسائل وفتاوىفي الطّلاق والعدّة والإجَارة والثمَار والعَاقلة والتيّمم لنجاسة الثوب والبدن والحدود والنكاح والإقرار وغير ذلك للعلامة الشيخ سعيد بن حجي الحنبلي النجدي رحمه الله وعفا عنه مسائل وفتاوى للشيخ سعيد بن حجي الحنبلي النجدي طلقت قبل الدخول مرتين من رجلين هل تحل للأول بسم الله الرحمن الر حيم من: سعيد بن حجي إلى الأخ: مسفر بن عبد الرحمن. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. "وبعد": الخط وصل -وصلك الله إلى رضوانه- وتسأل فيه عن مسائل: "الأولى": قول العلماء في رجل تزوج امرأة فطلقها قبل أن يدخل بها أعني الجماع، ثم تزوجها بعده آخر فطلقها قبل أن يدخل بها، هل تجوز أم لا؟ "الجواب": لا تحل له إن كان الأول طلقها ثلاثا بكلمة واحدة لعدم تمام شروط النكاح الثاني، وإن كان طلاقه أعني الأول دون الثلاث حلت له. عتق العبد وتحته أمة ولم تعتق هي ما الحكم "الثانية": إذا عتق العبد وتحته أمة ولم تعتق هي ما الحكم؟. "الجواب": قال في الإنصاف: لو عتق العبد وتحته أمة فلا خيار له على الصحيح من المذهب. وقاله الموفق والشارح؛ لأن الكفاءة تعتبر فيه لا فيها، انتهى. وكذا قال في المغني والإقناع، فقد علمت أنه لا بأس باستدامة النكاح لهما. طلاق البتة "الثالثة": طلاق البتة هل المراد به جمع الثلاث بكلمة واحدة أو غيره؟ "الجواب" في المطلع: وبتة بمعنى مقطوعة يقال: طلقها ثلاثا بتة، وفي حديث فاطمة بنت قيس أن أبا عمرو طلقها البتة وهو غائب. وفي رواية طلقها ثلاثا الحديث متفق عليه. قال ابن دقيق العيد على هذا الحديث ما نصه -: أن لفظة البتة يعبر بها عن طلاق الثلاث دفعة، وتارة عن طلقة يتم بها الثلاث. المعتدة في حكم الزوجات "الرابعة": إذا كان عند الرجل أربع نسوة فطلق واحدة بالثلاث، وأراد أن يتزوج رابعة، والتي طلق لم تزل في العدة هل يجوز أم لا؟. "الجواب": مذهب أحمد بن حنبل وأبي حنيفة لا يجوز حتى تنقضي عدة المطلقة فيتزوج رابعة إن شاء، قال في الإقناع وشرحه: ومن طلق واحدة من

نهاية جمعه لم يجز أن يتزوج أخرى حتى تنقضي عدتها ولو كانت بائنا؛ لأن المعتدة في حكم الزوجات، وإن ماتت واحدة جاز في الحال نص عليه انتهى. ولأنه لا يجوز أن يجمع ماءه في رحم خمس نسوة، وهذا هو المفتى به عندنا الآن، ومذهب مالك والشافعي في البائن بخلافه. استأجر أرضا بطعام وبقطعة من أرض معلومة "الخامسة": إذا استأجر أرضا بطعام وبقطعة من أرض معلومة هل يصح أم لا؟. "الجواب": إذا تمت شروط الإجارة صح إن كان المراد رقبة الأرض؛ لأن الأرض من العروض، وإن كان المعنى على حذف مضاف، تقديره وزرع قطعة من أرض لم يصح؛ لأنه من المخابرة المنهي عنها، ولأنه يعود بجهالة الأجرة. بيع الثمار خرصا وقبل بدو صلاحه "السادسة": إذا كان رجلان شريكان في ثمرة نخل، واحتاج أحدهما إلى أخذ ثمرة نخلة بعضها ثمر وبعضها بسر، وقال لشريكه: إذا صرم النخل؛ فخذ قيمتها ثمراً هل يصح أم لا؟. "الجواب": قد ذكر العلماء أنه يجوز قسمة الثمار خرصا، ولو كانت الثمار على شجر قبل بدو صلاحه أي: الثمر ولو بشرط التبقية، وأنه يجوز تفرقهما قبل القبض؛ لأنها إفراز حق لا بيع، وأما المسألة المسئول عنها؛ فلا تجوز؛ لأنها في الحقيقة بيع وهو غير صحيح. الأب وإن علا والابن وإن سفل من العاقلة "السابعة": هل الأب وإن علا والابن وإن سفل من العاقلة أم لا؟ "الجواب": المسألة فيها روايتان عن أحمد بن حنبل المذهب عند متأخري الحنابلة أنهم من العاقلة؛ لأنهم أحق العصبات بميراثه؛ فكانوا أولى بتحمل عقله ولحديث عمرو بن شعيب وهو مذهب مالك وأبي حنيفة. إحصان الأمة "الثامنة": وهل الإحصان للأمة من قبل إقامة الحد عليها إذا زنت الإسلام أو التزويج؟. "الجواب": قال في المغني: إذا زنى العبد أو الأمة جلد كل واحد منهما خمسين

ولم يغربا، بكرين كانا أو ثيبين، في قول أكثر الفقهاء منهم عمر وعلي وابن مسعود والحسن والنخعي ومالك والأوزاعي وأبو حنيفة والشافعي انتهى. ثم ذكر اختلاف العلماء في المسألة وأصلها قوله تعالى: {فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ} 1 الآية. وقد استدلوا على ما ذكرنا بقوله: {عَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} 2 والعذاب الجلد منه؛ فينصرف التنصيف له دون غيره، وبقوله -صلى الله عليه وسلم -لعلي: "إذا تعالت من نفاسها فاجلدوها خمسين" 3 رواه عبد الله بن أحمد. ورواه مالك عن ابن عمر، وبعمومات الأحاديث التي وردت في إقامة الحد على الإماء. التيمم لإزالة نجاسة الثوب والبدن " التاسعة": رجل أصاب ثوبه أو بدنه نجاسة وعدم الماء وصلى بها هل يعيد إذا وجد الماء أم لا؟ " الجواب": قال الشيخ تقي الدين: أما التيمم للنجاسة على الثوب؛ فلا نعلم له قائلا من العلماء، وإن كانت النجاسة في البدن فهل يتيمم لها؟ فيه قولان للعلماء هما روايتان عن أحمد: "إحداهما" لا يتيمم لها وهذا قول جمهور العلماء كمالك وأبي حنيفة والشافعي إلى أن قال: لما كان عاجزاً عن إزالة النجاسة سقط وجوب إزالتها وجازت الصلاة معها بدون تيمم انتهى ملخصاً. وقال في الكافي: وفي وجوب الإعادة روايتان: "إحداهما" لا يجب لقوله -عليه السلام-: "التراب كافيك ما لم تجد الماء" وقياسا على التيمم. والأخرى تجب الإعادة. اللواط وإتيان البهيمة "العاشرة": ما حكم من فعل اللواط وأتى بهيمة؟. "الجواب": أجمع أهل العلم على تحريم اللواط، وأما حكمه فإنه اختلفت الرواية عن أحمد، فعنه أن حده الرجم بكراً كان أو ثيباً، وهذا قول علي وابن عباس وجابر وغيرهم ومالك وأحد قولي الشافعي،

_ 1 سورة النساء آية: 25. 2 سورة النساء آية: 25. 3 أحمد "1/136".

"والرواية الثانية" حده حد الزنى وبه قال ابن المسيب وغيره. ووجه الرواية الأولى قوله صلى الله عليه وسلم "من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به "1 رواه أبو داود وفي لفظ: "فارجموا الأعلى والأسفل"ولأن الصحابة أجمعوا على قتله وإنما اختلفوا في صفته. انتهى ملخصا من المغني. وقال الشيخ تقي الدين في جواب له: وفي السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم "من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به" 2 ولهذا اتفق الصحابة على قتلهما جميعا، لكن اختلفوا في صفة القتل فمذهب جمهور السلف والفقهاء أنهما كانا يرجمان بكرين كانا أو ثيبين، حرين كانا أو مملوكين أو كان أحدهما مملوكا للآخر، واتفق المسلمون على أن من استحلها من مملوك أو غيره أنه كافر مرتد انتهى. وإنما يثبت هذا الحد ببينة أو إقرار كالزنى سواء. وأما من أتى بهيمة فهو يعزر ويبالغ في تعزيره ولا حد عليه. روي ذلك عن ابن عباس وحماد ومالك وأصحاب الرأي وهو قول الشافعي، وتقتل البهيمة، ويكره أكل لحمها، وإنما يثبت هذا التعزير بشهادة رجلين عدلين أو إقراره ولو مرة. سرقة الثمر وجمار النخل "الحادية عشرة": ما معنى قوله -عليه السلام -: "لا قطع في ثمر ولا كثر" 3 رواه أبو داود وأحمد والترمذي وابن ماجه، ما الكثر؟ "الجواب": الكثر – بضم الكاف وسكون الثاء – جمار النخل، والجمار بالضم والتشديد شحم النخل الذي في جوفه، وجمرت النخلة قطعت جمارها. الفرق بين المختلس والمنتهب " الثانية عشرة": ما الفرق بين المختلس والمنتهب؟ "الجواب": السرقة أخذ مال محترم على وجه الاختفاء فلا قطع على منتهب، وهو الذي يأخذ المال على وجه الغنيمة لما روى جابر مرفوعا قال: "ليس على

_ 1 الترمذي: الحدود "1456" , وأبو داود: الحدود "4462". 2 الترمذي: الحدود "1456" , وأبو داود: الحدود "4462". 3 الترمذي: الحدود "1449" , والنسائي: قطع السارق "4960" , وأبو داود: الحدود "4388" , وابن ماجه: الحدود "2593" , وأحمد "3/463 ,3/464 ,4/140 ,4/142" , ومالك: الحدود "1583" , والدارمي: الحدود "2304 ,2305 ,2306 ,2308".

منتهب قطع"1 رواه أبو داود ولا على مختلس، والاختلاس نوع من الخطف والنهب، وإنما سمي اختفاء في ابتداء اختلاسه. انتهى من "الإقناع" وشرحه. اشتراط المرأة طلاق ضرتها "الثالثة عشرة": إذا شرطت المرأة طلاق ضرتها، هل يصح هذا الشرط أم لا؟. "الجواب": قال في "الشرح": وإن شرطت طلاق ضرتها فالصحيح أنه باطل لنهيه –صلى الله عليه وسلم - أن تشترط المرأة طلاق أختها رواه البخاري. والنهي يقتضي فساد المنهي عنه، وعند متأخري الحنابلة: أنه صحيح للزوجة بمعنى ثبوت الخيار لها بعدمه ولا يجب عليه الوفاء به بل يسن. إقرار المريض في المرض المخوف "الرابعة عشرة": إذا أقر المريض في مرضه المخوف بشيء لوارث أو لغيره هل يصح أم لا؟. "الجواب": قال في الشرح: ويصح إقرار المريض في المرض المخوف بغير المال، وإن أقر بمال لمن لا يرثه، صح حكاه ابن المنذر إجماعا، وإن أقر لوارث لم يقبل إلا ببينة، وقال عطاء والحسن وإسحاق: يقبل، وقال مالك: يصح إلا أن يتهم إلا أن يقر لزوجته بمهر مثلها فأقل، فيصح في قول الجميع إلا الشعبي. انتهى. الوكالة في النكاح "الخامسة عشرة": إذا شهد رجل عدل أن فلانا وكل فلانا على تزويج ابنته فزوجها، ثم أنكر الموكل، هل تمضي الشهادة أم لا؟. "الجواب": للولي أن يوكل من يزوج موليته، قال في "المغني": ولا يعتبر في صحة الوكالة إذن المرأة في التوكيل، ولا يفتقر إلى حضور شاهدين؛ لأنه إذن من الولي في التزويج، فلم يفتقر إلى إذن المرأة، ولا إلى الإشهاد كإذن الحاكم انتهى. لكن لابد من إذنها للوكيل، فقد علمت أنه إذا أذن للوكيل صح وإن لم يشهد، والإشهاد أحوط.

_ 1 الترمذي: الحدود "1448" , والنسائي: قطع السارق "4971 ,4972 ,4975" , وأبو داود: الحدود "4391" , وابن ماجه: الحدود "2591" , وأحمد "3/380" , والدارمي: الحدود "2310".

شهادة العبد إذا كان عدلا "السادسة عشرة": هل تجوز شهادة العبد إذا كان عدلا في كل شيء، أم لا؟. "الجواب": تجوز شهادته في كل شيء إلا في الحدود والقصاص في إحدى الروايتين عن أحمد، وعنه تقبل فيهما أيضا على الصحيح من المذهب، واختاره ابن القيم في إعلام الموقعين، ونصره هو وغيره بأدلة، ولعل مذهب الأئمة الثلاثة على خلافه. إقرار السارق "السابعة عشرة": هل يقطع السارق بإقراره مرة أم لا بد من مرتين؟. "الجواب": قال في المغني: ولا يقطع إلا بشهادة عدلين أو اعترف مرتين، قال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم أن قطع السارق يجب إذا شهد بالسرقة شاهدان حران مسلمان ووصفا ما يوجب القطع انتهى. أو يعترف مرتين، روي ذلك عن علي، وبه قال ابن أبي ليلى وأبو يوسف وقال أبو حنيفة والشافعي: يقطع بإقراره مرة. ولنا ما روى أبو داود أنه -عليه السلام- أتي بلص قد اعترف فقال: "ما إخالك سرقت؟ قال: بلى. فأعاد عليه مرتين فأمر به فقطع" 1 انتهى، ولحديث علي، وهذا مذهب الحنابلة والله أعلم. وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.

_ 1 النسائي: قطع السارق "4877" , وأبو داود: الحدود "4380" , وابن ماجه: الحدود "2597" , وأحمد "5/293" , والدارمي: الحدود "2303".

رسالة في الرد على صاحب جريدة القبلة لأحد علماء نجد

رسالة في الرد على صاحب جريدة القبلة لأحد علماء نجد ... رسالة في الرد على صاحب جريدة القبلة التي كانت لسان الحسين بن علي بمكة المكرمة فيما افتراه على أهل نجد من تنقيص الرسول صلى الله عليه وسلم وغير ذلك من الفرى والضلال وضعها أحد علماء نجد، لم يذكر اسمه على الأصل. رسالة في الرد على صاحب جريدة القبلة بعثة النبي محمد وظهور نور الشريعة بسم الله الرحمن الر حيم الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله إله الأولين والآخرين، وقيوم السماوات والأرضين، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، أرسله بالهدى ودين الحق؛ ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدا، ونشهد أنه –صلى الله عليه وسلم - بلغ الرسالة وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الغمة، وفتح الله به عيونا عميا، وآذانا صما، وقلوبا غلفا، وجاهد في الله حق جهاده، وعبد الله مخلصا له الدين حتى أتاه اليقين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا. "أما بعد": فاعلم يا من نور الله قلبه بالإسلام أن الله -سبحانه وتعالى- ما أنعم على خلقه نعمة أجل وأعظم من نعمته ببعثة محمد عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم فإن الله بعثه وأهل الأرض عربهم وعجمهم كتابيهم وأميهم، قرويهم وبدويهم، جهال ضلال على غير هدى، ولا دين يرتضى، إلا من شاء الله من غُبَّر 1 أهل الكتاب – فصدع بما أوحي إليه وأمر بتبليغه، وبلغ رسالة ربه، وأنكر ما الناس عليه من الديانات المتفرقة، والملل المتباينة المتنوعة، ودعاهم إلى صراط مستقيم، ومنهج واضح قويم، يصل بسالكه إلى جنات النعيم، ويتطهر به من كل خلق ذميم، وجاءهم من الآيات والأدلة القاطعة الدالة على صدقه وثبوت رسالته، بما أعجزهم وأفحمهم عن معارضته، ولم يبق لأحد على الله حجة. ومع ذلك كابر من كابر وعاند من عاند، وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق، ورأوا أن الانقياد له صلى الله عليه وسلم وترك ما هم عليه من النحل والملل يجر عليهم من مسبة آبائهم، وتسفيه أحلامهم، أو نقص رياستهم، أو ذهاب مآكلهم، ما يحول بينهم وبين مقاصدهم ومآربهم. فلذلك عدلوا إلى ما اختاروه من الرد والمكابرة، والتعصب على باطلهم والمثابرة، وأكثرهم

_ 1 غبر – بضم الغين المعجمة بعدها باء موحدة. كركع: بقية أهل الكتاب.

يعلمون أنه محق، وأنه جاءهم بالهدى ودعا إلى الله، لكن في النفوس موانع، وهناك إرادات ومؤاخاة ورياسات لا يقوم ناموسها، ولا يحصل مقصودها إلا بمخالفته، وترك الاستجابة له وموافقته، وهذا هو المانع في كل زمان ومكان من متابعة الرسل وتقديم ما جاءوا به، ولولا ذلك ما اختلف من الناس اثنان، ولا اختصم في الإيمان بالله وإسلام الوجه له خصمان. ثم بعد أن ظهر نور الشريعة وطبق مغارب الأرض ومشارقها، وشامها ويمنها، حدث بعد ذلك في الدين من الأغيار، ما لا يعلمه إلا العليم الغفار، وتفرق الناس في أديانهم، وتشعبت بهم الأهواء، وصاروا شيعا كل حزب بما لديهم فرحون، ومن طاف البلاد وخبر أحوال الناس منذ أزمان متطاولة عرف انحرافهم عن الأصل الأصيل، وبعدهم عما جاءت به الرسل من التفريع والتأصيل. فكل بلد وكل قطر وكل جهة فيما نعلم فيها من الآلهة التي عبدت مع الله بخالص العبادات، وقصدت من دونه في الرغبات والرهبات، ما هو معروف مشهور لا يمكن جحده ولا إنكاره، بل وصل الأمر ببعضهم إلى أن ادعوا لمعبوديهم مشاركة في الربوبية بالعطاء والمنع والتدبير، ومن أنكر ذلك عليهم فهو خارجي ينكر الكرامات، وكذلك في باب الأسماء والصفات، ورؤساؤهم وأحبارهم معطلة، وكذلك يدينون بالإلحاد والتحريفات، وهم يظنون أنهم من أهل التنزيه والمعرفة باللغات، ثم إذا نظرت إليهم وسبرتهم في باب فروع العبادات، رأيتهم قد شرعوا لأنفسهم شريعة لم تأت بها النبوات. هذا وصف من يدعي الإسلام منهم في سائر الجهات. وأما من كذب بأصل الرسالة أو أعرض عنها ولم يرفع بذلك رأسا؛ فهؤلاء نوع آخر وجنس ثان ليسوا مما جاءت به الرسل في شيء، بل هم كما قال تعالى: {وَالْأِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} 1.

_ 1 سورة الأعراف آية: 179.

ملخص عقيدة الوهابية السلفية الحنبلية فإذا تقرر هذا فاعلم أن الذي نعتقده وندين الله به هو إفراد الله -سبحانه وتعالى- بإخلاص العبادة له وحده لا شريك له، وترك عبادة ما سواه، فلا ندعو إلا الله وحده لا شريك له، ولا نستغيث إلا به، ولا نستعين إلا به، ولا نتوكل إلا عليه، ولا نرجو إلا إياه ولا نخاف إلا منه، ولا ننيب إلا إليه، ولا نذبح إلا له، ولا نستعيذ إلا به، ولا ننذر إلا له، ولا نرغب إلا إليه – إلى غير ذلك من أنواع العبادة التي من صرفها لغير الله كان مشركا، ونقر أن الله -سبحانه وتعالى- هو الخالق الرازق المحيي المميت النافع الضار المدبر لجميع الأمور، وأنه رب كل شيء وخالقه ومليكه – إلى غير ذلك من أفعال الربوبية التي لا يقدر أحد عليها إلا هو سبحانه. وبالجملة فنحن على ما كان عليه السلف الصالح وأئمة الفقه والتقوى في باب معرفة الله وإثبات صفات كماله، ونعوت جلاله، التي نطق بها الكتاب العزيز، وصحت بها الأخبار النبوية وتلقاها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقبول والتسليم، نثبتها ونؤمن بها، ونمرها كما جاءت من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل. ونحن في هذا على مذهب الإمام أحمد بن حنبل -رحمه تعالى- خلافا لما يزعمه أعداء الله ورسوله من أن مذهبنا مذهب خامس. ولبسط هذه الجمل موضع آخر، مذكورة فيه بأدلتها من الكتاب والسنة ليس هذا موضع بسطها، وما ذاك إلا أنا اتبعنا كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وقدمناهما على قول كل أحد كائنا من كان، فزعموا أن ذلك مذهب خامس، فمن أنكر شيئا مما ذكرناه وأراد المناظرة على ذلك ناظرناه، ومن سألنا عن بيان ذلك أجبناه بحول الله وقوته. إذا تحققت هذا فاعلم أن السبب الداعي لهذا الكلام وتسطيره، والباعث على تصويره وتحريره، هو ما رأيناه في جريدة صاحب القبلة مما نسب إلينا معاشر الوهابية من الأكاذيب والأوضاع، التي تمجها النفوس وتنفر منها الطباع، وتستك عند سماعها الأسماع.

الرد على افترائه عليهم تفضيل العصا على المصطفى وذلك أنه زعم أنا نقول: إن العصا أنفع من النبي صلى الله عليه وسلم. فنقول: الله أكبر على هؤلاء الملاحدة الذين ينفرون الناس عن الدخول في دين الله، {يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً} 1 {وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَاداً وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} 2 {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ} 3 {وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ} 4. فمن نسب هذا إلينا، وافتراه علينا، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا، وفضحه على رءوس الأشهاد {يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} 5. ويا سبحان الله، كيف يتصور وقوع هذا عاقل أو جاهل أو مجنون؟ ولا يقول هذا من يؤمن بالله واليوم الآخر، ويعلم أنه موقوف بين يدي الله، ومسئول عن ذلك، بل لا يقوله إلا من هو أضل من حمار أهله، نعوذ بالله من رين الذنوب، وانتكاس القلوب {مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} 6. بل نشهد الله وملائكته وجميع خلقه أنا نشهد أن محمدا عبده ورسوله، وأمينه على وحيه، وخيرته من خلقه، أرسله رحمة للعالمين، وقدوة للعاملين، ومحجة للسالكين، وحجة على العباد أجمعين، بعثه للإيمان مناديا، وإلى دار السلام داعيا، وللخليقة هاديا، ولكتابه تاليا، وفي مرضاته ساعيا، وبالمعروف آمرا، وعن المنكر ناهيا. أرسله على حين فترة من الرسل، فهدى به إلى أقوم الطرق وأوضح السبل، وافترض على العباد طاعته ومحبته وتعزيره وتوقيره والقيام بحقه. وسد إلى الجنة جميع الطرق فلم يفتحها لأحد إلا من طريقه، فلو أتوا من كل طريق واستفتحوا من كل باب لما فتح لهم حتى يكونوا خلفه من الداخلين، وعلى منهاجه وطريقته من السالكين.

_ 1 سورة الأعراف آية: 45. 2 سورة المائدة آية: 64. 3 سورة الأنعام آية: 112. 4 سورة الأنعام آية: 113. 5 سورة غافر آية: 52. 6 سورة النور آية: 16.

إذا تحققت ما قدمته لك فكيف يصح مع هذا أن نقول: إن العصا أنفع من النبي صلى الله عليه وسلم؟ سبحان الله ما أعظم شأنه وأعز سلطانه {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} 1. الرد على فرية أنهم اتخذوا ملة إبراهيم وأعرضوا عن ملة محمد وأما قوله فيما نسبه هذا المفتري إلينا: إنا اتخذنا ملة إبراهيم وأعرضنا عن سنة محمد -عليه الصلاة والسلام- فنقول: وهذا أيضا من الكذب علينا والظلم والعدوان، والزور والبهتان، فإن دين محمد صلى الله عليه وسلم وما سنه هو من ملة إبراهيم -عليه السلام-، وملة إبراهيم هي دين محمد لا فرق في ذلك قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم {قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} 2 وقال تعالى: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} 3 وقال تعالى: {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ} 4 وقال تعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ} 5. فمن زعم أنا نفرق بين دين محمد وملة إبراهيم فقد كذب علينا، وافترى وأعظم الفرية على الله وعلى رسله ودينه وحسبنا الله ونعم الوكيل. وقد قال صلى الله عليه وسلم "نحن معاشر الأنبياء أولاد علات، الأب واحد والأمهات متفرقات" فدين الرسل -صلوات الله وسلامه عليهم- من أولهم إلى آخرهم دين واحد وشرائعهم مختلفة كما قال تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً} 6. ومراد هؤلاء الملاحدة بهذه الأوضاع الكاذبة الخاطئة تنفير الناس عن دين الله ورسوله: {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} 7.

_ 1 سورة الروم آية: 59. 2 سورة الأنعام آية: 161. 3 سورة النحل آية: 123. 4 سورة البقرة آية: 130. 5 سورة البقرة آية: 285. 6 سورة المائدة آية: 48. 7 سورة التوبة آية: 32.

الرد على فرية أن الوهابية يلزمون الناس تكفير آباءهم وأجدادهم وأما قوله: إنا نلزم الناس أن يكفروا آبائهم وأجدادهم فنقول: وهذا أيضا من نمط ما قبله من الكذب والبهتان. والذي نقوله في ذلك: إن من مات من أهل الشرك قبل بلوغ هذه الدعوة إليه فالذي يحكم عليه إذا كان معروفا بفعل الشرك: ويدين به ومات على ذلك فهذا ظاهره أنه مات على الكفر فلا يدعى له، ولا يضحى له، ولا يتصدق عنه. وأما حقيقة أمره فإلى الله –تعالى- فإن كان قد قامت عليه الحجة في حياته وعاند فهذا كافر في الظاهر والباطن، وإن كان لم تقم عليه الحجة فأمره إلى الله. وأما من لا نعلم حاله في حال حياته ولا ندري ما مات عليه، فإنا لا نحكم بكفره وأمره إلى الله. فمن نسب إلينا غير هذا فقد كذب علينا وافترى، وحسبنا الله ونعم الوكيل. ثم لو قدر أن بعض الجهال الذين لا يعلمون حدود ما أنزل الله على رسوله قال ذلك جهلا منه بحقائق الأمور ومدارك الأحكام وتفاصيلها، أفينسب إلينا ما قاله هذا الجاهل؟ نحن نبرأ إلى الله من هذه المقالة التي قالها من قالها بغير دليل ولا برهان من الكتاب والسنة. إبطال قياس دعاء الموتى على الأسباب الطبيعية وبيان أن هناك أسبابا محرمة لا يجوز تعاطيها وأما قوله: في اعتقادهم في الأنبياء والصالحين أنه كما يقول الرجل لابنه: رد إبلي علي، أو لجاره رد ناقتي علي. "فالجواب" أن نقول: هذا قياس من هؤلاء الملاحدة على أن هذه الأسباب العادية

الطبيعية يقاس عليها دعاء الأنبياء والصالحين بمعنى أنهم أسباب ووسائط بينهم وبين الله. فيقال لهذا الجاهل: ليس الأمر كما زعمت ولا على ما توهمت، فإن هذا القول لا ينبغي أن يؤخذ على إطلاقه؛ لأنه من المعلوم بالضرورة أن من الأسباب أسبابا محرمة لا يجوز لأحد أن يتعاطاها ويجعلها أسبابا إلى ما حرمه الله ورسوله ونحن لا ننازع في إثبات ما أثبته الله من الأسباب والحكم، لكن من هو الذي جعل الاستغاثة بالمخلوق ودعاءه سببا في الأمور التي لا يقدر عليها إلا الله؟. ومن الذي قال: إنك إذا استغثت بميت أو غائب من البشر نبيا كان أو غيره كان سببا في حصول الرزق والنصر والهدى وغير ذلك مما لا يقدر عليه إلا الله؟ ومن الذي شرع ذلك وأمر به؟ ومن الذي فعل ذلك من الأنبياء والصحابة والتابعين لهم بإحسان؟. فإن هذا المقام يحتاج إلى مقدمة وهي أن الأسباب المشروعة لا يحرم فعلها، فإنه ليس كل ما كان سببا كونيا يجوز تعاطيه، فإن المسافر قد يكون سفره سببا لأخذ مال وكلاهما محرم. والدخول في دين من الأديان غير الإسلام قد يكون سببا لمال يعطونه وهو محرم، وشهادة الزور قد تكون سببا لنيل المال يؤخذ من المشهود له وهو محرم، وكثير من الفواحش والظلم قد يكون سببا لنيل مطلب وهو محرم. وكذلك الشرك كدعوة الكواكب والشياطين بل وعبادة البشر قد يكون سببا لبعض المطالب وهو محرم. فإن الله تعالى حرم من الأسباب ما كان مفسدته راجحة على مصلحته كالخمر وإن كان يحصل به بعض الأغراض أحيانا. وهذا المقام مما يظهر به ضلال هؤلاء المشركين خلقا وأمرا، فإنهم مطالبون بالأدلة الشرعية.

جواز الاستعانة بالأسباب الظاهرية الحسية وأما قوله في الأسباب العادية: مثل قول الرجل لابنه: رد إبلي علي أو لجاره رد ناقتي علي. فنقول: لا نزاع بين العلماء في جواز الاستعانة بالأسباب العادية الطبيعية الظاهرة الحسية، كأن يستعين الرجل بأصحابه في قتال أو إدراك عدو أو سبع ونحوه من الأسباب العادية المتعلقة مسبباتها بأسبابها، فمتى أتى العبد بالسبب وقع المقدور، ومتى لم يأت بالسبب انتفى المقدور. وهذا كما قدر الشبع والري بالأكل والشرب، وقدر الولد بالوطء، وقدر حصول الزرع بالبذر، وقدر خروج نفس الحيوان بذبحه، لكن هذه الأفعال العادية القائمة بفعالها تنسب إليه وتضاف إليه حقيقة، من إضافة الفعل إلى فاعله، فيقال: أكل وشرب وقام وقعد وحكى ودعا واستغاث حقيقة لا مجازاً بإجماع العقلاء، ولم يخالف في إضافة الأفعال إلى فاعلها حقيقة إلا من هو من أجهل الناس وأضلهم عن سواء السبيل. إذا عرفت هذا؛ فالالتفات إلى الأسباب غير المشروعة شرك في التوحيد، ومحو الأسباب العادية أن تكون أسبابا نقص في العقل. والإعراض عن الأسباب بالكلية قدح في الشرع. إذا تبين لك هذا فقياس الأموات من الأنبياء والصالحين في الأمور التي لا يقدر عليها إلا الله على الأحياء القادرين على الأسباب العادية المقدور عليها من أفسد القياس وأبطل الباطل وأمحل المحال؛ لأن الله –سبحانه وتعالى- فرق بين الأحياء والأموات ولم يسو بينهما بقوله: {وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلا الْأَمْوَاتُ} 1. وقال تعالى: {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} 2 وقال تعالي: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ

_ 1 سورة فاطر آية: 22. 2 سورة النحل آية: 20، 21.

اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} 1. وقال تعالى: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} 2. هذا ملخص الجواب عما افتراه علينا كل آفك كذاب، ونحن نعلم أن من خالفنا في ديننا، وعاب علينا سلوك طريق نبينا صلى الله عليه وسلم وأصحابه ومن تبعهم من السلف الصالح والصدر الأول، أن عندهم من الترهات والأكاذيب والخرافات أضعاف أضعاف ما ذكره هذا المفتري. وجوابنا عن كل ما يفتريه علينا أعداء الله ورسوله مما خالف دين الإسلام، وما كان عليه الأئمة الأعلام من سلف هذه الأمة وأئمتها أن نقول: سبحانك هذا بهتان عظيم، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل، وحسبنا الله ونعم الوكيل. تم بحمد الله وحسن توفيقه، والحمد لله أولا وآخراً، وظاهراً وباطنا. وصلى الله تعالى على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه. انتهى الرد على الجريدة المسماة بالقبلة"

_ 1 سورة الأحقاف آية:5، 6. 2 سورة فاطر آية:13، 14.

الكلام المنتقى مما يتعلق بكلمة لا إله إلا الله للشيخ سعيد بن حجي

الكلام المنتقى مما يتعلق بكلمة لا إله إلا الله للشيخ سعيد بن حجي ... الكَلامُ المُنُتَقىَ ممَا يتعلّق بكلمَة التقوىَ "لاَ إلَهَ إلاّ الله" تأليف للعلاّمة الشيخ سعيد بن حجِّي الحنبلي النجدي رحمه الله وعَفا عَنه أصل التقوى وحقيقة معناها بسم الله الرحمن الر حيم "رب عونك" إلى الأخ الشيخ: محمد بن أحمد الحفظي -حفظه الله من الآفات، وجنبه الشرك والبدع المضلات- سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. "أما بعد" فوصل الكتاب، وفهمنا مضمون الخطاب، وهو قولكم: الشوق إلى الاطلاع على فوائدكم، وما تنتجه القريحة من عوائدكم، وهاهنا عشرة أفصاص في كلمة الإخلاص، أفيدونا بالكلام عليها وهي هذه: لفظها، معناها، حقها، حقيقتها، حكمها، لازمها، فائدتها، مقتضاها، نواقضها، متمماتها. اه ملخص جوابكم. "فالجواب وبالله التوفيق" قولكم: هاهنا يشعر أن العشرة لديكم أفصاص، لو قلت أفحاص، أي أبحاث لكان أنسب للمقام 1 وكلمة الإخلاص هي لا إله إلا الله، فأمرها عظيم، وخطبها جسيم، أعلاها مثمر، وأسفلها مغدق، وهي كلمة التقوى. قال الله تعالى: {وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى} 2 قال ابن عباس وأكثر المفسرين: كلمة التقوى "لا إله إلا الله" وقال عطاء الخراساني: هي لا إله إلا الله محمد رسول الله. اه من البغوي، وقال البيضاوي وغيره: أضاف الكلمة إلى التقوى لأنها سببها، أو كلمة أهلها اهـ. وأصل التقوى اتخاذ وقاية تقيه مما يخافه ويحذره. فتقوى العبد لله أن يجعل بينه وبين ما يخشاه من غضبه وقاية تقيه منه، وهي امتثال أوامره، واجتناب زواجره.

_ 1 الفص يجمع على فصوص، والفحص مصدر الأصل فيه ألا يجمع إلا باعتبار أفراده، وفص الخاتم قلبه الذي ينقش فيه الاسم وفصوص العظام مفاصلها. قال في أساس البلاغة: وفلان حزاز الفصوص إذا كان مصيبا في رأيه، وآتيك بالأمر من فصه أي من محزه وأصله. وقرأت في فص الكتاب كذا. ومنه فصوص الأخبار اه فاستعمال الفصوص في مسائل كلمة التوحيد أفصح من استعمال الأفحاص أو الفحوص. 2 سورة الفتح آية: 26.

وقولكم: أفيدونا بالكلام عليها. فلست أهلا لذلك؛ لأن علمي لم يصل إلى ذلك، "وتسمع بالمعيدي خير من أن تراه"، لكن ما لا يدرك كله لا يترك كله. ونذكر قبل الشروع في المرام، مقدمة في فضل العلم لتكون له كالتمام: وقد ورد في فضل العلم آيات كثيرة، وأخبار صحيحة شهيرة، وله آداب وشروط، من أهمها الإخلاص لله تعالى في طلبه. قال الإمام عبد الرحمن بن أحمد بن رجب الحنبلي في شرحه على الأربعين النووية المسمى "جامع العلوم والحكم": وقد ورد الوعيد على تعلم العلم لغير وجه الله –تعالى- كما خرج الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من تعلم علما مما يبتغى به وجه الله –تعالى- 1 لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضا من الدنيا لم يجد عرف الجنة 2 يوم القيامة". وخرج الترمذي من حديث كعب بن مالك –رضي الله عنه- عن النبي –صلى الله عليه وسلم - قال: "من طلب العلم ليماري به السفهاء، أو يجاري به العلماء، أو ليصرف به وجوه الناس إليه أدخله الله النار" 3 وخرجه ابن ماجه بمعناه. وجاء من حديث جابر: "لا تتعلموا العلم لتباهوا به العلماء، ولا لتماروا به السفهاء، ولا لتتخيروا به المجالس، فمن فعل ذلك فالنار النار" اهـ. وقال الشهاب أحمد بن حجر العسقلاني في شرح الأربعين النووية عند قوله –صلى الله عليه وسلم -: "فإنما أهلك الذين من قبلكم " 4 الحديث: إن كثرة السؤال من غير ضرورة مشعر بالتعنت أو مفض إليه، وهو حرام. وقد نهى الشارع عن قيل وقال وكثرة السؤال اهـ. وقال في الإحياء: حقيقة الإخلاص أن كل شيء يتصور أن يشوبه غيره، فإذا صفا عن شوبه وتخلص عنه يسمى خالصا، ويسمى الفعل المخلص المصفى، والتصفية إخلاصا، قال الله تعالى: {مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً خَالِصاً} 5 فإذا خلص الفعل عن الرياء كان لله خالصا اهـ.

_ 1 أي من العلوم الدينية وخرج بهذا القيد العلوم المعاشية من فنون الصناعة والزراعة والتجارة وغيرها فهذه تتعلم لأجل عرض الدنيا، ولا يدخل متعلمها في هذا الوعيد، بل هو مأجور عليها؛ لأنها من فروض الكفايات. 2 عرف الجنة – بفتح العين المهملة وسكون الراء – ريح الجنة. 3 ابن ماجه: المقدمة "253". 4 تتمته "كثرة سؤلهم واختلافهم على أنبيائهم" وهذا الشرح لابن حجر الهيتمي الفقيه، لا للحافظ العسقلاني. 5 سورة النحل آية: 66.

وقال ابن القيم -رحمه الله-: من الناس من يحرم العلم لعدم حسن السؤال إما أنه لا يسأل، أو يسأل عن شيء وغيره أهم منه. وقال سلمان لحذيفة: إن العلم كثير، والعمر قصير، فخذ من العلم ما تحتاج إليه في أمر دينك ودع ما سواه. ضبط ألفاظ كلمة التوحيد وإعرابها "رجعنا إلى الجواب" "أما لفظها" فقال في المختصرة المسماة "فاكهة القلوب والأفواه، في تحقيق ما يتعلق بلا إله إلا الله، محمد رسول الله" المنتخبة من شرح محمد بن يوسف السنوسي: فصل في ضبط هذه الكلمة فينبغي للذاكر أن لا يمد ألف "لا" جدا، وأن يقطع الهمزة من إله، إذ كثيرا ما يلحن بعض الناس فيردها ياء، وكذلك يفصح بالهمزة من "إلا" ويشدد اللام بعدها، إذ كثيرا ما يلحن بعضهم فيرد الهمزة أيضا ياء ويخفف اللام، وأما كلمة الجلالة والتعظيم التي بعد "إلا" فلا يخلو إما أن يقف عليها الذاكر أو لا، فإن وقف تعين عليه السكون، وإن وصلها بشيء آخر كأن يقول: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، فله فيها وجهان: الرفع وهو الأرجح، والنصب وهو مرجوح. وقد ذكر أهل التجويد في اسم الله تعالى: المحافظة على ترقيق ألفه، وأن لا يزيد فيها على مقدار المد الطبيعي، وترقق لام "الله" إذا كسرت، أو كسر ما قبلها، وقد أجمعوا على تفخيمها بعد فتحة أو ضمة. فصل في إعراب هذه الكلمة قد احتوت على صدر وعجز، فعجزها ظاهر الإعراب، إذ هو جملة من مبتدأ وخبر ومضاف إليه، وأما صدرها فلا فيه نافية "وإله" مبني معها لتضمنه معنى "من"

إذ التقدير لا من إله، ولهذا كانت نصا في العموم، كأنه قد نفى كل إله غيره عز وجل من مبدأ ما يقدر منها إلى ما لا نهاية له، بني الاسم معها للتركيب، وذهب الزجاج إلى أن اسمها معرب منصوب بها، وإذا فرعنا على المشهور من البناء فموضع الاسم نصب ب"لا" العاملة عمل "إن"، وقال الأخفش: "لا" هي العاملة فيه. ونقل السنوسي كلاما قال: قال أهل العلم: إن الاسم المعظم في هذا التركيب يرفع، وهو الكثير ولم يأت في القرآن غيره، وقد ينصب، فالرفع بالبدلية أو على الخبرية، فالقول بالبدلية هو المشهور، وهو رأي ابن مالك، ثم الأقرب أن يكون البدل من الضمير المستتر في الخبر المقدر، أما القول بالخبرية في الاسم المعظم فقد قال به جماعة. ومن البسيط الوافي: "لا إله إلا الله" الأصل فيه: الله إله، فلما أريد قصر الخبر على المبتدأ، وهو من قصر الصفة على الموصوف، قدم الخبر فاقترن بإلا لأن المقصور عليه هو الذي يلي إلا، والمقصور هو الواقع في سياق النفي. ومن القواعد: أن المبتدأ إذا اقترن بإلا وجب تقديم الخبر. والله مرفوع على أنه بدل من اسم "لا" حملا على محله البعيد الذي هو الرفع بالابتداء الحاصل بالتحويل إليه بعد التقديم وقبل اعتبار النسخ، والتقدير: لا إله موجود في الوجود إلا الله، وهذا هو التقدير المشهور. فصل معنى كلمة التوحيد وأما معنى هذه الكلمة فلا تتسع له هذه الرسالة، لكن لا تخل ببعضه والله المستعان. فلا شك أنها محتوية على نفي وإثبات، فالمنفي كل فرد من أفراد حقيقة الإله غير مولانا عز وجل والمثبت من تلك الحقيقة فرد واحد، وهو مولانا عز وجل وأتي بإلا لقصر حقيقة الإله على الله تعالى-، وهو الواجب الوجود المستحق للعبادة، المعبود بحق، وهو الخالق المستغني عن كل ما سواه، المفتقر إليه كل من عداه. انتهى كلام صاحب فاكهة القلوب ملخصا.

ومنه قال العماد ابن كثير- رحمه الله- في تفسير قوله تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} 1 الآية: هذا الخطاب يعم أهل الكتاب ومن جرى مجراهم، والكلمة تطلق على الجملة المفيدة كما قال هاهنا، ثم وصفها بقوله: {سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} أي: عدل ونصف نستوي نحن وأنتم فيها، ثم فسرها بقوله: {أَلا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً} لا وثنا، ولا صليبا، ولا صنما، ولا طاغوتا، ولا نارًا، ولا نبيا، بل نفرد العبادة لله وحده لا شريك له، وهذه دعوة جميع الرسل ثم قال تعالى: {وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} قال ابن جرير: يعني يطيع بعضنا بعضا في معصية الله، وقال عكرمة: يعني يسجد بعضنا لبعض، انتهى ملخصا. فقد علمت أن معنى لا إله إلا الله أن لا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا، وشيئا أنكر النكرات، وأن لا يطيع بعضنا بعضا في معصية الله. ومنه قوله تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا} 2 الآية، فالكلمة الطيبة كلمة التوحيد، أصلها تصديق بالجنان، وفرعها إقرار باللسان، وأكلها عمل بالأركان. انتهى من تفسير الحنفي. وفي تفسير البغوي "كلمة طيبة" لا إله إلا الله. انتهى. ثم ذكر نحو ما تقدم. ومنه الكفر بعبادة غير الله وتوحيده، قال العماد ابن كثير في تفسير قوله تعالى: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ} 3 الآية: أي من خلع الأنداد والأوثان وما يدعو إليه الشيطان من عبادة كل ما يعبد من دون الله، ووحَّد الله، فعبده وحده، وشهد أن لا إله إلا هو {فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} 4 أي: فقد ثبت على الصراط المستقيم قال مجاهد: {فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} 5 يعني الإيمان، وقال سعيد بن جبير

_ 1 سورة آل عمران آية: 64. 2 سورة إبراهيم آية: 24، 25. 3 سورة البقرة آية: 256. 4 سورة البقرة آية: 256. 5 سورة البقرة آية: 256.

والضحاك: يعني لا إله إلا الله. انتهى ملخصا. ومنه قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلاَا الَّذِي فَطَرَنِي} 1 الآية، أي: بريء من عبادتكم إلا الذي فطرني؛ لأنهم كانوا يعبدون الله والأوثان، أو إني بريء من آلهة تعبدونها غير الذي فطرني، انتهى ملخصاً من البيضاوي. ومنه قوله صلى الله عليه وسلم "من قال: لا إله إلا الله، وكفر بما يعبد من دون الله، حرم ماله ودمه وحسابه على الله عز وجل" 2 رواه البخاري. وقال الشيخ أبو علي إمام أهل نجد في زمانه محمد بن عبد الوهاب في معنى لا إله إلا الله في"كتاب التوحيد" شيئاً عجبياً، قال: "باب تفسير التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله" إلى أن قال: وشرح هذه الترجمة ما بعدها من الأبواب فليراجع. ومنه قوله- رحمه الله- في نبذة تسمى "كشف الشبهات": إذا تحققت أن التوحيد الذي دعت إليه الرسل، وأبى عن الإقرار به المشركون هو التوحيد في العبادة، وهو معنى قولك: لا إله إلا الله، فإن الإله عندهم هو الذي يقصد لأجل هذه الأمور سواء كان ملكاً أو نبيا أو وليا أو شجرة أو قبراً أو جنياً، لم يريدوا أن الإله هو الخالق الرزاق، فإنهم يعلمون أن ذلك هو الله وحده، وإنما يعنون بالإله ما يعني المشركون في زماننا بلفظ السيد. فأتاهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -يدعوهم إلى كلمة التوحيد "لا إله إلا الله" والمراد من هذه الكلمة معناها لا مجرد لفظها، والكفار الجهال يعلمون أن مراد النبي صلى الله عليه وسلم هو إفراد الرب بالتعلق، والكفر بما يعبد من دونه، والبراءة منهم. فإنه لما قال لهم: " قولوا: لا إله إلا الله قالوا: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً} 3 الآية" انتهى كلامه- رحمه الله-.

_ 1 سورة الزخرف آية: 26، 27، 2 مسلم: الإيمان "23" , وأحمد "3/472 ,6/394". 3 سورة ص آية: 5.

تعريف لفظ الإله ومدلوله فرعان "الأول" في تعريف الإله، قال الإمام البيضاوي في تفسيره: الله، أصله إله، فحذفت الهمزة وعوض عنها الألف واللام: ولذلك قيل يا ألله بالقطع، إلا أنه مختص بالمعبود بالحق، والإله في الأصل يقع على كل معبود، ثم غلب على المعبود بحق، واشتقاقه من أله إلهة وألوهة وألوهية، بمعنى عبد، وقيل: من أله إذا تحير، إذ العقول تتحير في معرفته، أو من ألهت إلى فلان أي: سكنت إليه؛ لأن القلوب تطمئن بذكره والأرواح تسكن إلى معرفته، أو من أله الفصيل إذا ولع بأمه، إذ العباد مولعون بالتضرع إليه في الشدائد، وقيل: إنه علم لذاته العلية لأنه يوصف ولا يوصف به، والأظهر أنه وصف في أصله، لكنه لما غلب عليه بحيث لا يستعمل في غيره صار له كالعلم، انتهى كلام البيضاوي ملخصا. وذكر العماد ابن كثير القولين. "تنبيه" انظر إلى قول البيضاوي المتقدم: والإله في الأصل يقع على كل معبود، ثم غلب على المعبود بحق، وقوله: والأظهر أنه وصف في أصله إلى آخره، وقول صاحب الفاكهة المتقدم، وهو من قصر الصفة على الموصوف، وقول أهل اللغة: أله يأله من باب تعب إلاهة بمعنى عبد عبادة، وتأله تعبد، والإله المعبود، وهو الله سبحانه- ثم استعاره المشركون لما عبدوا من دونه، وإله على فعال بمعنى مفعول، لأنه مألوه أي: معبود، ككتاب بمعنى مكتوب، وإمام بمعنى مؤتم به. انتهى من المصباح. وانظر أيضا إلى قول الشيخ محمد المتقدم وهو قوله: فإن الإله عندهم هو الذي يقصد ... إلى آخره، وقال تعالى: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ} 1 الآية قال البيضاوي: يعبده إفراداً وإشراكا، انتهى. فسمي المعبود إلها. وعن أبي واقد الليثي قال: "خرجنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم -إلى حنين، ونحن

_ 1 سورة المؤمنون آية: 117.

حدثاء عهد بكفر وللمشركين سدرة يعكفون عندها، وينوطون بها أسلحتهم، يقال لها: ذات أنواط، فمررنا بسدرة، فقلنا: يا رسول الله، اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم الله أكبر، إنها السنن، قلتم والذي نفسي بيده كما قالت بنو إسرائيل لموسى: {اجعل لنا إلها كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون} ، لتركبن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة " 1"رواه الترمذي في صحيحه فتأمل هذا الحديث وقصة بني إسرائيل المشار إليها تجدها مصرحة بما ذكرنا. إذا ثبت هذا فالمقصود أن لفظة "إله" اسم صفة لكل من قصد بشيء من العبادة، كاسم القاضي لمن ولي القضاء، والأمير لمن تأمر، والإمام والمؤذن ونحو ذلك، فكل من قصد مخلوقا بشيء من العبادة فهو إله لمن قصده، والإله الأعظم المستحق للعبادة، المنزه عن النقائص، الموصوف بصفات الكمال هو الله تبارك وتعالى. وهذا بخلاف اسم الجلالة، فإنه علم على الرب تبارك وتعالى مختص به وهو المعبود بالحق، فإنه لم يسم به غيره قال الله تعالى: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً} 2. تعريف العبادة الفرع الثاني"في تعريف العبادة". قال العماد ابن كثير في تفسيره: العبادة في اللغة من الذلة، يقال طريق معبد أي مذلل، وبعير معبد أي: مذلل، وفي الشرع: عبارة عما يجمع كمال المحبة والخضوع والخوف انتهى. وعبارة البيضاوي في تفسيره: العبادة أقصى غاية الخضوع والتذلل، ومنه طريق معبد أي: مذلل، وثوب ذو عبدة إذا كان في غاية الصفاقة؛ ولذلك

_ 1 القذة ريشة السهم، أي كما تقدر كل واحدة منهما على قدر صاحبتها وتقطع يضرب مثلا لشيئين يستويان ولا يتفاوتان. 2 سورة مريم آية: 65.

لا يستعمل إلا في الخضوع لله تعالى انتهى. وفي حاشية الشهاب على البيضاوي: العبادة أبلغ من العبودية التي هي إظهار التذلل، وعرفت العبادة بأنها فعل اختياري مناف للشهوات البدنية يصدر عن نية يراد بها التقرب إلى الله تعالى. انتهى. والعبادة اسم جنس يشمل جميع أنواعها 1. تنبيه اعلم أن مبنى العبادة على الأمر لتظاهر الأدلة على ذلك، فمنها قوله تعالى: {إِنِ الْحُكْمُ إ} 2 في أمر الدين والعبادة {إِلاَا لِلَّهِ} 3 ثم بين ما حكم به فقال: {أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} 4 الثابت الذي دلت عليه البراهين الآية وقوله تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ} 5 أمر أمرًا مقطوعا به {أَلاَا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ} 6 "أن" مفسرة، ولا تعبدوا أي: بأن لا تعبدوا، انتهى من تفسير الحنفي. 7. وقال البغوي في تفسيره: 8 أي: أمر ربك قاله ابن عباس وقتادة والحسن. انتهى. وقد تقدم في حديث أبي واقد الليثي قول الصحابة: يا رسول الله اجعل لنا.

_ 1 هذا في العبادة الشرعية. وكل ما قدم من معناها اللغوي فهو من التعريف بالرسم والخواص. وأما حقيقة معناها الفطري الذي يصدق عليها عند العرب وغيرهم أنها: كل تعظيم وتقرب بقول أو فعل يبعث عليه الشعور بالسلطان الغيبي الذي هو مصدر النفع ودفع الضر بذاته لا بالأسباب، وأعظم هذه العبادة الدعاء بطلب منفعة أو دفع مضرة تعذر على الداعي بكسبه واتخاذ الأسباب له فلجأ إليه بشعوره بذلك السلطان الخاص برب العالمين القادر على كل شيء العالم بكل شيء الذي يجير ولا يجار عليه، والنصوص تدل على هذا ولا سيما الآيات والأحاديث في الدعاء. 2 سورة يوسف آية: 40. 3 سورة يوسف آية: 40. 4 سورة يوسف آية: 40. 5 سورة الإسراء آية: 23. 6 سورة الإسراء آية: 23. 7 لعله النسفي. 8 وقضى ربك أن لا تعبدوا إلا إياه.

ذات أنواط، فإنه متقرر عندهم أن العبادات مبناها على الأمر. وقد ذكر ذلك الشيخ محمد بن عبد الوهاب في مسائله على التوحيد، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم "وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم" 1 الحديث، متفق عليه وقال ابن القيم- رحمهالله- في نونيته: حق الإله عبادة بالأمر لا ... بهوى النفوس فذاك للشيطان إذا تمَّ هذا فالأمر هو استدعاء الفعل بالقول، ممن هو دونه على سبيل الوجوب عند الإطلاق والتجرد عن القرينة. فيحمل عليه والله أعلم. فصل في حكم كلمة التوحيد وأما حكمها فقال في "فاكهة القلوب والأفواه": اعلم أن الناس مؤمن وكافر، فأما المؤمن بالأصالة فيجب أن يذكرها مرة في عمره وينوي بها الوجوب. 2 ثم ينبغي له أن يكثر من ذكرها وليعرف معناها لينتفع بها، وأما الكافر فذكره

_ 1 البخاري: الاعتصام بالكتاب والسنة "7288" , ومسلم: الحج "1337" , والنسائي: مناسك الحج "2619" , وابن ماجه: المقدمة "2" , وأحمد "2/482". 2 قد قال كثير من العلماء مثل هذا في الصلاة على النبي -صلى الله عليه وسلم-بناء على أن الأمر في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} للوجوب، وأن الامتثال يحصل بمرة واحدة. ومثل هذا التدقيق أو التقييد بالاصطلاحات لم يكن يخطر ببال الصحابة ولا غيرهم من علماء السلف أولي السليقة العربية، ولا يعقل أحد منهم ولا عاقل من غيرهم أن يوجد مسلم في العالم لا يذكر كلمة التوحيد في عمره إلا مرة واحدة أو مرتين أو مرارًا قليلة، دع وجوبها في الصلاة. ولنا أن نقول -على طريقتهم في الاستدلال: إن الله تعالى- أمر المؤمنين أن يذكروه ذكرًا كثيرًا ووصفهم بكثرة الذكر قياما وقعودًا وعلى جنوبهم، ووصف المنافقين بقلة الذكر. وأفضل الذكر لا إله إلا الله، فهي مما أمرنا بالإكثار منها أو في مقدمته فحكمها الإكثار منها لا النطق بها مرة واحدة في العمر.

لهذه الكلمة واجب، وهو شرط في صحة إيمانه القلبي مع القدرة. انتهى ملخصا. وفي حديث أبي هريرة المتفق عليه عن النبي -صلى الله عليه وسلم -أنه قال: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها"1. قال علماؤنا -رحمهم الله-: إذا قال الكافر: لا إله إلا الله فقد شرع في العاصم لدمه، فيجب الكف عنه، فإن تمم ذلك تحققت العصمة وإلا بطلت ويكون النبي -صلى الله عليه وسلم -قد قال كل حديث في وقت فقال: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله "2. ليعلم المسلمون أن الكافر المحارب إذا قالها كف عنه وصار ماله ودمه معصومين، ثم بين -صلى الله عليه وسلم -في الحديث الآخر أن القتال ممدود إلى الشهادتين والعبادتين، فقال: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله عز وجل" 3 متفق عليه. فبين أن تمام العصمة إنما يحصل بذلك 4 ولئلا تقع الشبهة بأن مجرد الإقرار يعصم على الدوام.

_ 1 البخاري: الصلاة "393" , والترمذي: الإيمان "2608" , والنسائي: تحريم الدم "3966 ,3967" والإيمان وشرائعه "5003" , وأبو داود: الجهاد "2641" , وأحمد "3/199 ,3/224". 2 البخاري: الصلاة "393" , والترمذي: الإيمان "2608" , والنسائي: تحريم الدم "3966 ,3967" والإيمان وشرائعه "5003" , وأبو داود: الجهاد "2641" , وأحمد "3/199 ,3/224". 3 البخاري: الإيمان "25" , ومسلم: الإيمان "22". 4 التحقيق أن المراد بالحديثين واحد، وهو الدخول في الإسلام ومفتاح الدخول فيه من المشركين النطق بكلمة التوحيد فهو يعصم صاحبه في المعركة إذ لا مجال فيها لصلاة ولا زكاة، وأما الكفار الموحدون، فلابد من نطق أحدهم برسالة محمد -صلى الله عليه وسلم-كما سيأتي عن النووي. وذكر الصلاة والزكاة في الحديث الآخر يراد به قبول شرائع الإسلام وركنها الديني المحض الأعظم الصلاة وركنها المالي الزكاة فمن دان بهما دان بغيرهما، فإن فرض أنه جحد الصيام أو الحج أو غيرهما مما علم من الدين بالضرورة حكم بكفره، وقد حققنا هذه المسألة في تفسير فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ فيراجع في الجزء العاشر من تفسير المنار وسيأتي ما يؤيد هذا.

وقال النَوَوِيُّ -رحمه الله-: قوله صلى الله عليه وسلم "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله. فمن قال: لا إله إلا الله. فقد عصم مني ماله ونفسه إلا بحقها، وحسابه على الله عز وجل"1. قال الخَطَّابِيُّ: "معلوم أن المراد بهذا أهل الأوثان دون أهل الكتاب؛ لأنهم يقولون: لا إله إلا الله. ثم يقاتلون، ولا يرفع عنهم السيف". وذكر القاضي عِيَاض -رحمه الله- معنى هذا، وزاد عليه وأوضح، فقال: "اختصاص عصمة المال والنفس لمن قال: لا إله إلا الله. تعبيرا عن الإجابة إلى الإيمان، وأن المراد مشركو العرب وأهل الأوثان ومن لا يوحد، وهم كانوا أول من دُعِي إلى الإسلام وقُوتل عليه، فأما غيرهم ممن يقرُّ بالتوحيد فلا يكتفى في عصمته بقوله: لا إله إلا الله. إذ كان يقولها في كفره وهي من اعتقاده؛ ولذلك جاء في الحديث الآخر: "أني رسول الله وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة"". هذا كلام القاضي. "قلت" ولا بد من الإيمان بما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم كما جاء في الرواية الأخرى لأبي هريرة رضي الله عنه"حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، ويؤمنوا بي وبما جئت به"انتهى كلام النَوَوِيّ، انتهى من رسالة الشيخ أحمد بن ناصِر الحَنْبَلِيّ المُسَمَّاة "الفَوَاكِهُ العِذَاب، في الرَّدِ على مَنْ لم يُحَكِّمْ السُّنَةَ والكِتَاب". وقال الحافِظُ ابنُ رَجَبٍ في شرح "الأَرْبَعِين": "ومن المعلوم بالضرورة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقبل من كل من جاء يريد الدخول في الإسلام الشهادتين، ويعصم دمه بذلك، ويجعله مسلما، وقد أنكر على أسامة بن زيد قتله من قال: لا إله إلا الله. واشتد نكيره عليه". وقال شهابُ الدين أحمد بن حَجَر على شرح "الأربعين النووية" نحو ذلك. والمقصود أن حكم من قال: لا إله إلا الله. أنها تعصم ماله ودمه، ثم يُطالب بمعناها وحقها، كالكفر بعبادة غير الله، وشهادة رسالة مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وسائر شرائع الإسلام، وقد تظاهرت الأدلة على ذلك.

_ 1 البخاري: الصلاة "393" , والترمذي: الإيمان "2608" , والنسائي: تحريم الدم "3966 ,3967" والإيمان وشرائعه "5003" , وأبو داود: الجهاد "2641" , وأحمد "3/199 ,3/224".

فصل حق كلمة التوحيد وأما حقها 1 فقال الحافظ ابن رجب في "شرح الأربعين": على حديث ابن عُمَر "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا" 2 إلخ وتقدم، فقوله صلى الله عليه وسلم "إلا بحقها" 3 وفي رواية: "إلا بحق الإسلام" 4 قد سبق أن أبا بكر الصديق رضي الله عنهأدخل في هذا الحق فعل الصلاة والزكاة، وأن من العلماء من أدخل فيه فعل الصيام والحج أيضا. ومن حقها ارتكاب ما يبيح دم المسلم من المحرمات، وقد روي تفسير حقها بذلك. خرج الطَبَرَانِيُّ وابنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ من حديث أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله. فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله عز وجل قيل: وما حقها؟ قال: زِنا بعد إِحْصان، وكُفْر بعد إيمان، وقَتْل نفسٍ فيقتل بها"5. ويشهد لهذا ما في الصحيحين عن ابن مسعودٍ رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأن مُحَمَّدًا رسول الله إلا بإحدى ثلاث: الثيِّب الزَّانِي، والنَّفس بالنفس، والتارِك لدينه المُفارِق للجماعة"6 انتهى. وقد ذكر ابن رجب في شرح هذا الحديث أنه قد ورد قتل المسلم بغير هذه الثلاث، فمنها اللُّواط، ومنها من أتَى ذَاتَ مَحْرَمٍ، ومنها الساحِر، وذكر غير ذلك.

_ 1 قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في نُبْذَةٍ له في الحب والبغض في الله: واعلم أن قول رسوله الله -صلى الله عليه وسلم-: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها". "يدل" تحقيقا على أن الصلاة من حقها والزكاة من حقها والصوم من حقها والحج من حقها. فهذا تحقيق قوله -صلى الله عليه وسلم-: "إلا بحقها" يعني إذا أقرُّوا بالشهادتين وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وصاموا رمضان وحجُّوا البيت "فقد عصموا مني دماءهم وأموالهم" انتهى. والله أعلم. 2 البخاري: الصلاة "393" , والترمذي: الإيمان "2608" , والنسائي: تحريم الدم "3966 ,3967" والإيمان وشرائعه "5003" , وأبو داود: الجهاد "2641" , وأحمد "3/199 ,3/224". 3 مسلم: الإيمان "21" , والترمذي: الإيمان "2606" , والنسائي: تحريم الدم "3971 ,3976 ,3977 ,3978" , وأبو داود: الجهاد "2640" , وابن ماجه: الفتن "3927 ,3928" , وأحمد "1/11 ,2/377 ,2/423 ,2/502 ,3/300 ,3/332 ,3/394". 4 البخاري: الإيمان "25". 5 البخاري: الصلاة "393" , والترمذي: الإيمان "2608" , والنسائي: تحريم الدم "3966 ,3967" والإيمان وشرائعه "5003" , وأبو داود: الجهاد "2641" , وأحمد "3/199 ,3/224". 6 البخاري: الديات "6878" , ومسلم: القسامة والمحاربين والقصاص والديات "1676" , والترمذي: الديات "1402" , والنسائي: القسامة "4721" , وأبو داود: الحدود "4352" , وابن ماجه: الحدود "2534" , وأحمد "1/382 ,1/428 ,1/444 ,1/465 ,6/181" , والدارمي: الحدود "2298" والسير "2447".

وأما لازمها، فالظاهر لي -والله أعلم- أنه داخل في حكمها وحقها المتقدمين، فتأملهما 1. فصل نواقض كلمة التوحيد وأما نواقضها، فقال في "المطلع على أبواب المقنع": "النواقض واحدها ناقض، وهو اسم فاعل من نقض الشيء إذا أفسده، فنواقض الوضوء مفسداته"، انتهى. ومنه "انقض الأمر بعد استقامته": فسد. فنسأل الله الرحمن الرحيم، اللطيف الكريم، أن يحفظ علينا ديننا، وأن يمتِّعنا به، ويزيدَ إيماننا، وأن يدخلنا جنته برحمته، وأن يعيذنا من أليم نقمته، إنه جَوَادٌ كريم، ويجيب دعوة العباد. فأما نواقض "لا إله إلا الله" فعسيرٌ إحصاؤها، ولا يكاد يُطاق استقصاؤها، وقد تقدم في معنى "لا إله إلا الله" وفي حكمها جمل من نواقضها، فتأمله، فنحيلك على باب المرتد. قول الفقهاء في حكم المرتد. قال في "الإقناع" وشرحه -وهو العمدة عند متأخري الحنابلة "باب حكم المرتد"-: "وهو الذي يكفر بعد إسلامه؛ نطقا أو اعتقادا أو شكا أو فعلا، ولو كان هازلا".

_ 1 اللزوم: الثبوت والدوام، وفسره بعضهم بعدم الانفكاك، فلازم الشيء ما يصحبه ولا ينفك عنه في الواقع، فلازم كلمة التوحيد ما هو أثر فِطريّ طَبعِيّ لاعتقاد مضمونها، وهو غير حقها وحكمها اللذان هما من وضع الشرع، لا من تأثير الطبع. فالمؤمن الموقن بأنه لا إله يعبد بحق إلا الله الخالق الذي بيده ملكوت كل شيء من نفع وضُرّ، وعطاء ومنع يلزم يقينه هذا إخلاص الدعاء له وحده في كل شدة تعرض له، هذا ألصق لوازم الكلمة بصاحبها مهما يكن مسرفا على نفسه، فإذا كمل يقينه بكثرة الذكر والعبادة كان من لوازم توحيده كمال التوكل والشجاعة في الحق إلى غير ذلك، فأظهر لوازم كلمة التوحيد ألا يدعو صاحبها غير الله فيما هو وراء الأسباب، ولا يستغيث غيره في الشدائد، ولا ينذر ولا يذبح لغيره نسكًا. فويل للمشركين الذين يبيحون كل انفكاك هذه اللوازم عن كلمة التوحيد بدعاء غير الله.. إلخ، ويسمونه توسلا إلى الله لا شركا به.

وأجمعوا على وجوب قتل المرتد، فمن أشرك بالله أو جحد ربوبيته أو صفة من صفاته أو اتخذ له -أي الله- صاحبة أو ولدا، كفر، ومن ادَّعى النبوة أو صدَّق من ادَّعَاها أو جحد البعث، أو سب الله ورسوله، أو استهزأ بالله أو كتبه أو رسله، كفر؛ لقوله تعالى: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} 1. وقال الشيخ أبو العباس أحمد بن تيمية: "أو كان مبغضا لرسوله، أو لما جاء به الرسول اتفاقا". وقال أيضا: "أو جعل بينه وبين الله وسائط يدعوهم، ويتوكل عليهم، ويسألهم إجماعا". أي: كفر؛ لأن ذلك كفعل عابدي الأصنام قائلين: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} 2 انتهى من "الإقناع" وشرحه. فتأمل قوله: "وهو الذي يكفر بعد إسلامه، فإن ظفرت بهذا الباب، ففيه ما يكشف الحجاب. ونحيلك أيضا على كتاب "الإِعلام بقواطِعِ الإسلام" تأليف شهاب الدِّين أحمد بن حَجَرٍ الهَيْتَمِيّ الشَّافِعِيّ، فإنه ذكر فيه الألفاظ والأفعال التي توقع في الكفر عند الأئمة، حتى إنه ذكر أن العزمَ على الكفرِ كفرٌ في الحال. الردة التي وقعت بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم. ونحيلك -أيضا- على نبذة ألفها الشيخ محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله-، وذكر في آخرها سبع قصص. "أولاهن" قصة الرِّدَّة بعد وفاته صلى الله عليه وسلم وصورتها أن العرب افترقت في رِدَّتِها؛ فطائفة رجعت إلى عبادة الأصنام، وقالوا: لو كان نبيا ما مات. وطائفة قالت: نؤمن بالله ولا نصلي. وطائفة أقرَّت بالإسلام وصلُّوا، ولكن منعوا الزكاة. وطائفة شهدوا أن لا إله إلا الله وأن مُحَمَّدًا رسول الله، ولكن صدَّقوا مُسَيْلِمَة الكَذَّاب: أن النبي صلى الله عليه وسلم - أشركه معه في النبوة، ولم يشُك أحد من الصحابة في كفر من ذكرنا إلا مانعي الزكاة، فناظر أبو بكر عمر فيهم، فاقتنع عمر، وأجمع العلماء على تصويب أبي بكر، فقاتلوهم.

_ 1 سورة التوبة آية:65، 66. 2 سورة الزمر آية: 3.

"الثانية" قصة وقعت في زمن الخلفاء الراشدين، وهي أن بقايا بني حَنِيفة لما رجعوا إلى الإسلام وتبرءوا من مسيلمة تحملوا إلى الثغر بأهليهم، فنزلوا الكوفة، فسمع منهم كلام معناه: أن مسيلِمة على حق، وهم جماعة، فجمع عبد الله بن مسعود من عنده من الصحابة فاستشارهم، فاستتاب بعضهم وقتل بعضهم. وهذه القصة في "صحيح البخاري". "الثالثة" قصة أصحاب عَلِيٍّ بن أبي طَالِب رضي الله عنهلما اعتقدوا فيه الإلهية، فدعاهم إلى التوبة فأبوا، فخدَّ لهم الأخاديد، فأضرم فيها النار، فقذفهم فيها وهم أحياء، وأجمع الصحابة وأهل العلم على كفرهم. "القصة الرابعة" قصة المختار بن أبي عبيد الثقفي، وهو رجل ظهر في العراق زمن التابعين يطلب بدم الحسين وأهل بيته، فقتل عبيد الله بن زياد قاتل الحسين، واستولى على العراق، وأظهر شرائع الإسلام، ونصب القضاة والأئمة من أصحاب ابن مسعود، وكان هو الذي يصلي بالناس الجمعة والجماعة، لكن في آخر أمره ادَّعَى أمورا باطلة، وغلا غلوًّا فاحشا، وزعم أنه يوحى إليه، فسيَّر إليه عبد الله بن الزبير جيشا فهزم جيشه فقتلوه. وأجمع العلماء على كفر المختار بن أبي عبيد هذا. "الخامسة" ما وقع في زمن التابعين، وهي قصة الجَعْد بن دِرْهَم، وكان من أشهر الناس بالعلم والعبادة، فلما جحد صفات الله ضحَّى به خَالد بنُ عبد الله القَسْرِيّ ب"واسط" يوم الأضحى وقال: "يا أيها الناس، ضحُّوا تقبَّل الله ضحاياكم، فإني مُضَحٍّ بالجَعْدِ بنِ دِرْهَم؛ فإنه يزعم أن الله لم يَتَّخِذ إبراهيم خليلا، ولم يُكَلِّم موسى تكليما." ثم نزل فذبحه، ولم نعلم أحدا من العلماء أنكر عليه ذلك، بل ذكر ابن القيم في "النونية" إجماعهم على استحسانه فقال: شكر الضحية كل صاحب سنة ... لله درك من أخي قربان ... ... ثم ذكر قصة بني عبيد الله القداح، ثم ذكر قصة التتار. اه ملخصا من كلام الشيخ المتقدم ذكره.

وذكر القاضي عِيَاض في كتاب "الشفاء" أن رجلا -لما أتى مطر يسير- قال: "ابتدأ الخراز يرش سيوره، وهو قريب للملك". فلم يأمر القاضي بقتله مداراة للملك، فغضب المسلمون عليه، ورفعوا أمره إلى السلطان، فأمر السلطان بقتل قريبه، وأمر بعزل القاضي الذي تركه مداراة، انتهى. فكل هؤلاء -الذين ذكرنا- لما نقضوا "لا إله إلا الله" جرى عليهم ما ذكرنا، والله أعلم. فصل في بيان فضل لا إله إلا الله فاعلم أنه لو لم يكن في بيان فضلها إلا كونها علما على الإيمان في الشرع تعصم الدماء والأموال إلا بحقها، وكون إيمان الكافر موقوفا على النطق بها لكان كافيا للعقلاء، كيف وقد ورد في فضلها أحاديث كثيرة؟. فمنها قوله -صلى الله عليه وسلم -: "أفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له"1 رواه مالك في المُوَطَّأ. زاد الترمذي في روايته: "له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير" 2. وروى النسائي أنه صلى الله عليه وسلم قال: "أفضل الذكر لا إله إلا الله، وأفضل الدعاء الحمد لله" 3. وروى الترمذي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "التسبيح نصف الإيمان، والحمد لله تملأ الميزان، ولا إله إلا الله ليس لها دون الله حجاب حتى تخلص إليه" 4. وقال صلى الله عليه وسلم "ما قال أحد: لا إله إلا الله مخلصا من قلبه إلا فتحت له أبواب السماء حتى تفضي إلى العرش ما اجتُنِبَت الكبائر" 5. وقال صلى الله عليه وسلم "أتاني آتٍ من ربي، فأخبرني أنه من مات يشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له فله الجنة، فقال له أبو ذر: وإنْ زنى أو سرق؟ قال: وإن زنى أو سرق، كررها

_ 1 مالك: النداء للصلاة "498". 2 الترمذي: الدعوات "3585". 3 الترمذي: الدعوات "3383" , وابن ماجه: الأدب "3800". 4 الترمذي: الدعوات "3518". 5 الترمذي: الدعوات "3590".

ثلاثا، كل ذلك يقول: وإن زَنَى وإن سرق، وقال في الثالثة: رغم أنف أبي ذر". وقال صلى الله عليه وسلم "من دخل القبر بلا إله إلا الله خلصه الله من النار". وقال صلى الله عليه وسلم "أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال: لا إله إلا الله. خالصا من قلبه". وقال صلى الله عليه وسلم "من مات وهو يعلم أن لا إله إلا الله دخل الجنة". وعنه صلى الله عليه وسلم "لا إله إلا الله مفتاح الجنة". وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من لُقِّن عند الموت لا إله إلا الله دخل الجنة". وفي "الإحياء" عنه صلى الله عليه وسلم "لو جاء قائل لا إله إلا الله صادقا بقراب الأرض ذنوبا غفر له" وقال: "لتدخلن الجنة كلكم إلا من أبى وشرد عن الله شرود البعير عن أهله، فقيل: يا رسول الله من يأبى؟ قال: من لم يقل لا إله إلا الله". فأكثِرُوا من قول لا إله إلا الله من قبل أن يحال بينكم وبينها؛ فإنها كلمة التوحيد، وهي كلمة الإخلاص، وهي كلمة التقوى، وهي الكلمة الطيبة، وهي دعوة الحق، وهي العُروة الوُثْقَى، وهي ثمن الجنة. وفي "الإحياء" أيضا قال تعالى: {هَلْ جَزَاءُ الأِحْسَانِ إِلا الأِحْسَانُ} 1 فقيل: الإحسان في الدنيا لا إله إلا الله، وفي الآخرة الجنة. اه ملخصا من "فاكهة القلوب والأفواه". فوائد لا إله إلا الله أما فائدة لا إله إلا الله فقال أهل اللغة: الفائدة ما استفدته من علم أو مال، وما أفادت له فائدة أي حصلت: وأفدت المال استفدته. وقال في فاكهة القلوب والأفواه:

_ 1 سورة الرحمن آية: 60.

فصل "في الفوائد التي تحصل لذاكر هذه الكلمة المشرقة وهي كثيرة" فمنها الزهد، ونعني به خلو الباطن من الميل إلى فانٍ، وفراغ القلب من الثقة إلى زائل، وإن كانت اليد معمورة بمتاع حلال فعلى سبيل العارية. ومنها التوكل، وهو ثقة القلب بالوكيل الحق، بحيث يسكن عن الاضطراب عند تعذر الأسباب ثقة بمسبب الأسباب، ولا يقدح في توكله تلبس ظاهره بالأسباب إذا كان قلبه فارغا منها. ومنها الحياء بتعظيم الله عز وجل بدوام ذكره، والتزام امتثال أمره ونهيه، والإمساك عن الشكوى إلى العجزة. ومنها الغناء، وهو غناء القلب بسلامته من فتن الأسباب، فلا يعترض على الأحكام ب "لو، ولعل"؛ لعلمه بمن صدرت عنه عز وجل. ومنها الفتوة، وهي التجافي عن مطالبة الخلق بالإحسان إليه ولو أحسن إليهم؛ لعلمه بأن إحسانه وإساءتهم إليه، كل ذلك مخلوق لله تعالى {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} 1. ومنها الشكر، وهو إفراد القلب بالثناء على الله تعالى، ورؤية النعم في طي النقم. ومنها وضع البركة في الطعام ونحوه، حتى يكثر القليل ويكفي اليسير، وهذا مشاهد لأولياء الله تعالى. انتهى ملخصا. "قلت" ومنها أنها تعصم الدم والمال لمن قالها إلا بحقها كما تقدم. ومنها أن من مات عليها دخل الجنة؛ لحديث معاذ مرفوعا: "من كان آخر كلامه: لا إله إلا الله. دخل الجنة" 2 رواه أحمد والحاكم، وقال: صحيح الإسناد. وغيره من الأحاديث الدالة على ذلك، وقد تقدم بعضها، والله أعلم. تحقيق معنى كلمة التوحيد وإيضاحه ثم بعد نقل هذه الرسالة من الكتب المذكورة -مع ما فتح الله به- سنح لي أن

_ 1 سورة الصافات آية: 96. 2 أبو داود: الجنائز "3116" , وأحمد "5/233 ,5/247".

ذكر كلاما ذكره الإمام الحافظ زين الدين عبد الرحمن بن رجب -المتقدم ذكره- على كلمة الإخلاص يليق ذكره هنا، فإنه ذكر شيئا من تحقيق لا إله إلا الله، وتحقيق أن مُحَمَّدًا رسول الله، وما تقتضي لا إله إلا الله وشيئا من أنواع العبادة، وشيئا من الشرك، وشيئا من فضل لا إله إلا الله. قال -رحمه الله- في أثناء كلامه: فتحققه بقول لا إله إلا الله أن لا يؤله القلب غير الله؛ حبا ورجاء، وخوفا وتوكلا، واستعانة وخضوعا، وإنابة وطلبا. وتحققه بأن مُحَمَّدًا رسول الله، أن لا يعبد الله بغير ما شرعه على لسان مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وقد جاء هذا المعنى مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم صريحا أنه قال: "من قال: لا إله إلا الله مخلصا دخل الجنة، قيل: ما إخلاصها يا رسول الله؟ قال: أن تحجزك عما حرَّم الله عليك" 1 وهذا يُروى من حديث أنس بن مالك وزيد بن أرقم، ولكن إسنادهما لا يصح، وجاء أيضا من مراسيل الحسن نحوه. وتحقيق هذا المعنى وإيضاحه أن قول العبد: "لا إله إلا الله" يقتضي أن لا إله غير الله، والإله هو الذي يطاع فلا يعصى؛ هيبة له وإجلالا، ومحبة وخوفا ورجاء، وتوكلا عليه، وسؤالا منه، ودعاء له، ولا يصح ذلك كله إلا لله عز وجل-، فمن أشرك مخلوقا في شيء من هذه الأمور التي من خصائص الإلهية- كان ذلك قدحا في إخلاصه في قول "لا إله إلا الله"، ونقصا في توحيده، وكان فيه من عبودية المخلوق بحسب ما فيه من ذلك، وهذا كله من فروع الشرك؛ ولهذا ورد إطلاق الكفر والشرك على كثير من المعاصي التي منشؤها من طاعة غير الله أو خوفه أو رجائه، أو التوكل عليه، أو العمل لأجله. كما ورد إطلاق الشرك على الرياء، وعلى الحلف بغير الله، وعلى التوكل على غير الله والاعتماد عليه، وعلى من سوى بين الله وبين المخلوق في المشيئة، مثل أن يقول: ما شاء الله وشاء فلان، وكذا قوله: ما لي إلا الله وأنت.

_ 1 الترمذي: الإيمان "2638".

وكذلك ما يقدح في التوحيد وتفرد الله بالنفع والضر، كالطيرة والرقى المكروهة، وإتيان الكهان وتصديقهم بما يقولون. وكذلك اتباع هوى النفس فيما نهى الله عنه قادِح في تمام التوحيد وكماله، ولهذا أطلق الشرع على كثير من الذنوب التي مَنْشَؤها من اتباع هوى النفس أنها كفر وشرك كقتال المسلم، ومن أتى حائضا أو امرأة في دُبُرِها، ومن شرب الخمر في المرة الرابعة، وإن كان ذلك لا يخرج من الملة بالكلية، ولهذا قال السلف: "كفر دون كفر، وشرك دون شرك". وقد ورد إطلاق الإله على الهوى المتبع، قال الله تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} 1 قال الحَسَن: "هو الذي لا يهوى شيئا إلا ركبه". وقال قَتَادَة: "هو الذي كلما هوى شيئا ركبه، وكلما اشتهى شيئا أتاه، لا يحجزه عن ذلك ورع ولا تقوى". ورُوي من حديث أبي أُمَامَةَ مرفوعا بإسناد ضعيف: "ما تحت السماء إله يعبد أعظم عند الله من هوى متبع". وفي حديث آخر: " لا تزال لا إله إلا الله تدفع عن أصحابها حتى يؤثروا دنياهم على دينهم، فإذا فعلوا ذلك ردت عليهم، وقيل لهم: كذبتم". ويشهد لذلك الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم "تَعِسَ عبد الدينار، تَعِسَ عبد الدرهم، تَعِسَ عبد القطيفة، تَعِسَ عبد الخميصة، تَعِسَ وانْتَكَسَ، وإذا شِيكَ فلا انتَقَش"2 فدل هذا على أن كل من أحب شيئا وأطاعه، وكان غاية قصده ومطلوبه، ووالى لأجله، وعادى لأجله فهو عبده، وذلك الشيء معبوده وإلهه. ويدل عليه أيضا أن الله -تعالى- سمَّى طاعة الشيطان في معصيته عبادة للشيطان، كما قال تعالى: {لَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ} 3 وقال تعالى- حاكيا:

_ 1 سورة الجاثية آية: 23. 2 انتكس: انقلب على رأسه، وهو دعاء عليه بالخيبة، "وإذا شِيكَ فَلا انْتَقَش": إذا دخلت فيه شوكة لا أخرجها من موضعها بالمنقاش. 3 سورة يس آية: 60.

عن خليله إبراهيم -عليه السلام- لأبيه: {يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيّاً} 1. فمن لم يحقق عبودية الرحمن وطاعته فإنه يعبد الشيطان بطاعته له ولم يخلص من عبادة الشيطان، إلا من أخلص عبودية الرحمن، وهم الذين قال فيهم: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} 2فهم الذين حققوا قول: "لا إله إلا الله"، وأخلصوا في قولها، وصدقوا قولهم بفعلهم، فلم يلتفتوا إلى غير الله، محبة ورجاء وخشية وطاعة وتوكلا، وهم الذين صدقوا في قول "لا إله إلا الله"، وهم عباد الله حقا. فأما من قال: "لا إله إلا الله" بلسانه، ثم أطاع الشيطان وهواه في معصية الله ومخالفته فقد كذب فعله قوله، ونقص من كمال توحيده بقدر معصية الله في طاعة الشيطان والهوى {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ} 3 {وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} 4. فيا هذا، كن عبدًا لله لا عبدا للهوى؛ فإن الهوى يهوي بصاحبه في النار {أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} 5 " تعس عبد الدرهم، تعس عبد الدينار" 6. والله ما ينجو غدا من عذاب الله إلا من حقق عبودية الله وحده، ولم يلتفت معه إلى شيء من الأغيار. من علم أن إلهه ومعبوده فرد فليفرده بالعبودية، ولا يشرك بعبادة ربه أحدا. كان بعض العارفين يتكلم على أصحابه على رأس جبل، فقال في كلامه: لا ينال أحد مراده حتى ينفرد فردا بفرد، فانزعج واضطرب حتى رأى أصحابه أن الصخور قد تدَكْدَكَت، وبقي على ذلك ساعات، فلما أفاق فكأنه نشر من قبره. قَول "لا إله إلا الله"، يقتضي أن لا يحب سواه؛ فإن الإله هو الذي يطاع محبة وخوفا ورجاء، ومن تمام محبته محبة ما يحبه، وكراهة ما يكرهه، فمن أحب شيئا مما يكرهه الله أو كره شيئا مما يحبه الله لم يكمل توحيده وصدقه في قول لا إله

_ 1 سورة مريم آية: 44. 2 سورة الحجر آية:42. 3 سورة القصص آية:52. 4 سورة ص آية: 26. 5 سورة يوسف آية: 39. 6 البخاري: الجهاد والسير "2887" , وابن ماجه: الزهد "4136".

إلا الله، وكان فيه من الشرك الخفي بحسب ما كرهه مما يحبه الله، وما أحبه مما يكرهه الله، قال تعالى:? {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُم} 1. قال لَيْثُ بنُ سَعْدٍ عن مُجَاهِد في قوله تعالى: {لا يُشْرِكُونَ} 2 قال: "لا يحبون غيري". وفي "صحيح الحاكم" عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الشرك في هذه الأمة أخفى من دبيب الذرة على الصفا 3 في الليلة الظلماء وأدناه أن يحب على شيء من الجور أو يبغض على شيء من العدل". وهل الدين إلا الحب والبغض؟ قال الله عز وجل {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} 4. وهذا نص في أن محبة ما يكرهه الله وبغض ما يحبه متابعة للهوى، والموالاة على ذلك والمعاداة عليه من الشرك الخفي. وقال الحسن: "اعلم أنك لن تحب الله حتى تحب طاعته". وسُئل ذو النُّون: متى أحب ربي؟ قال: "إذا كان ما يبغضه عندك أمرَّ من الصبر". وقال بِشْرُ بنُ السَّرِيِّ: "ليس من أعلام الحب أن تحب ما يبغضه حبيبك". وقال أبو يعقوب النَّهرَجورِيُّ: "كل من ادَّعى محبة الله ولم يوافق الله في أمره فدعواه باطلة". وقال رُوَيْم: "المحبة: الموافقة في جميع الأحوال". وأنشد: ولو قلت لي: مِتْ, مِتُّ سمعا وطاعة ... وقلت لداعي الموت: أهلا ومرحبا ويشهد لهذا المعنى قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} 5 قال الحسن: قال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم "إنا نحب ربنا حبا شديدا، فأحب الله أن يجعل لحبه علما فأنزل الله هذه الآية". ومن هنا يُعلم أنه لا تتم شهادة أن لا إله إلا الله إلا بشهادة أن مُحَمَّدًا رسول الله، فإذا علم أنه لا يتم محبة الله إلا بمحبة ما يحبه وكراهة ما يكرهه، فلا طريق إلى معرفة ما يحبه وما يكرهه إلا من طريق الرسول، فصارت محبة الله مستلزمة لمحبة رسوله.

_ 1 - سورة محمد آية: 28. 2 - سورة النور آية: 55. 3 الذرة: النملة الصغيرة، والصفا: الحجر الأملس. 4 - سورة آل عمران آية: 31. 5 - سورة آل عمران آية: 31.

وتصديقه ومتابعته؛ ولهذا قَرَنَ الله بين محبته ومحبة رسوله في قوله: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ َحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} 1 كما قَرَنَ طاعته بطاعة رسوله في مواضع كثيرة. وقال صلى الله عليه وسلم "ثلاث من كُنَّ فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يرجع إلى الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يلقى في النار" 2. هذه حال السحرة لما سكنت المحبة قلوبهم سمحوا ببذل نفوسهم، وقالوا لفرعون: {فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ} 3. ومتى تمكنت المحبة في القلب، لم تنبعث الجوارح إلا إلى طاعة الرب، وهذا هو معنى الحديث الإلهي الذي خرَّجه البُخَارِيُّ في صحيحه، وفيه: "ولا يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها" 4 وقد قيل في بعض الروايات: "فبي يسمع، وبي يبصر، وبي يمشي". والمعنى أن محبة الله -إذا استغرق بها القلب واستولت عليه- لم تنبعث الجوارح إلا إلى رضاء الرب، وصارت النفس حينئذ مطمئنة بإرادة مولاها عن مرادها وهواها. يا هذا، اعبد الله لمراده منك لا لمرادك منه، فمن عبده لمراده منه فهو ممن يعبد الله على حرف {فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ} 5 ومتى قويت المعرفة والمحبة لم يرد صاحبها إلا ما يريد مولاه. وفي بعض الكتب السابقة: من أحب الله لم يكن شيء عنده آثر من رضاه، ومن أحب الدنيا لم يكن شيء عنده آثر من هوى نفسه. وروى ابن أبي الدنيا بإسناده عن الحسن قال: ما نظرت ببصري ولا نطقت بلساني ولا بطشت بيدي ولا نهضت على قدمي حتى أنظر على طاعة أو على

_ 1 - سورة التوبة آية: 24. 2 البخاري: الإيمان "16" , ومسلم: الإيمان "43" , والترمذي: الإيمان "2624" , والنسائي: الإيمان وشرائعه "4987" , وابن ماجه: الفتن "4033" , وأحمد "3/103 ,3/174 ,3/230". 3 - سورة طه آية: 72. 4 البخاري: الرقاق "6502". 5 - سورة الحج آية: 11.

معصية، فإن كانت على طاعة تقدمت، وإن كانت على معصية تأخرت. هذا حال خواص المحبين الصادقين. فافهموا -رحمكم الله- هذا؛ فإنه من دقائق أسرار التوحيد الغامضة. وإلى هذا المقام أشار صلى الله عليه وسلم - في خطبته لما قدم المدينة حيث قال: "أحِبُّوا الله من كل قلوبكم"وقد ذكرها ابن إسحاق وغيره. فإنه من امتلأ قلبه من محبة الله لم يكن فيه فراغ لشيء من إرادة النفس والهوى، وإلى ذلك أشار القائل بقوله: أَرَوحُ وقَدْ خَتَمْتُ عَلَى فُؤَادِي ... بحبِّك أَنْ يَحُلَّ بِهِ سِواكَا فَلوْ أنِّي استَطَعْت غَضَضْت طَرفيِ ... فَلَمْ أَنْظُرْ بهِ حَتَّى أَرَاكَ أُحبُّك لا بِبَعْضِي, بَلْ بِكُلِّي ... وَإِنْ لَمْ يُبقِ حُبُّكَ لِي حِرَاكَ وفي الأحْبَابِ مَخْصُوصٌ بوَجدٍ ... وآخرٌ يَدَّعِي مَعَهُ اشْتِرَاكَ إذا اشتَبَكَت دُموعٌ في خُدُودٍ ... تَبَينَ مَنْ بَكى مِمَنْ تَبَاكَى ومتى بقي للمحب حظ من نفسه فما بيده من المحبة إلا الدعوى؛ إنما المحب من يفنى عن كل هوى ويبقى بحبيبه "فبي يسمع وبي يبصر" القلب بيت الرب، وفي بعض الإسرائيليات: ما وسعني سمائي ولا أرضي وإنما وسعني قلب عبدي المؤمن. فمتى كان القلب فيه غير الله فالله أغنى الأغنياء عن الشرك، وهو لا يرضى بمزاحمة أصنام الهوى. الحق غيور يغار على عبده المؤمن أن يسكن في قلبه سواه، أو أن يكون فيه شيء لا يرضاه. أَرَدْنَاكُم صَرفًا فلَّمَا مزَجْتُم ... بَعَدتُم بِمقْدَار التِفَاتِكم عَنَّ وقُلْنَا لَكُم لا تُسْكِنُوا القَلْبَ غَيْرَنَا ... فأَسْكَنْتُم الأَغْيَار مَا أَنْتُم مِنَّا لا ينجو غدا إلا من لقي الله بقلب سليم ليس فيه سواه، قال الله تعالى: {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ إِلا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} 1 السليم هو الطاهر من أدناس

_ 1 - سورة الشعراء آية: 88-89.

المخالفات، فأما المُتَلَطِّخُ بشيء من المكروهات فلا يصلح لمجاورة حضرة القدس إلا بعد أن يُصهر في كِير العذاب، فإذا زال عنه الخَبَث صلح حينئذ للمجاورة "إنَّ الله طيبٌ لا يقْبَلُ إلا طيِّبًا"فأما القلوب الطيبة فتصلح للمجاورة من أول الأمر {سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} 1 {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ} 2. من لم يحرق قلبه اليوم بنار الأسف على ما أسلف، أو بنار الشوق إلى لقاء الحبيب، فنار جهنم له أشد حرًّا، ما يحتاج للتطهير بنار جهنم إلا من لم يكمل تحقيق التوحيد والقيام بحقوقه. أول من تُسَعَّر بهم النار من الموحدين العباد المُراءون بأعمالهم، وأولهم العالم والمجاهد والمتصدق للرياء؛ لأن يسير الرياء شرك. ما نظر المُرائي إلى الخلق بعمله إلا لجهله بعظمة الخالق. المرائي يُزوِّر التوقيع على اسم الملك؛ ليأخذ البراطيل لنفسه، ويوهم أنه من خاصة الملك، وهو ما يعرف الملك بالكلية. نقش المرائي على الدرهم الزائف اسم الملك ليروج، والبهرج لا يجوز إلا على غير الناقد، وبعد أهل الرياء يدخل النار أصحاب الشهوات وعبيد الهوى، الذين أطاعوا هواهم، وعصوا مولاهم. وأما عبيد الله حقا فيقال لهم: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً} 3. جهنم تنطفي بنور إيمان الموحدين، في الحديث: "تقول النار للمؤمن: جُزْ يا مؤمن؛ فقد أطفأ نورك لهبي". وفي المسند عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم "لا يبقى بر ولا فاجر إلا دخلها، فتكون على المؤمن بردا وسلاما كما كانت على إبراهيم، حتى إن للنار ضجيجًا من بردهم"هذا ميراث ورثه المحبون من حال الخليل عليه السلام.

_ 1 - سورة الزمر آية: 73. 2 - سورة النحل آية: 32. 3 - سورة الفجر آية: 27-30.

نار المحبة في قلوب المحبين تخاف منها نار جهنم، قال الجنيد: "قالت النار: يا رب، لو لم أطعك هل كنت تعذبني بشيء؟ قال: نعم؛ كنت أسلط عليك ناري الكبرى. قالت: وهل نار أعظم مني وأشد؟ قال: نعم؛ نار محبتي أسكنتها قلوب أوليائي المؤمنين" 1. في الحديث: "من أصبح وهمه غير الله فليس من الله" قال بعضهم: من أخبرك أن وليه له هم في غيره فلا تصدقه. وكان داود الطائي يقول: "همك عطل على الهموم، وحالف بيني وبين السهاد وشوقي إلى النظر إليك أوثق مني اللذات، وحال بيني وبين الشهوات، فأنا في سجنك أيها الكريم مطلوب. ما لي شغل سواه ما لي شغل ... ما يصرف عن هواه قلبي عذل ما أصنع إن جفا وخاب الأمل ... مني بدل ومنه ما لي بدل إخواني: إذا فهمتم هذا المعنى فهمتم معنى قوله صلى الله عليه وسلم "من شهد أن لا إله إلا الله صادقا من قلبه حرمه الله على النار"فأما من دخل النار من أهل هذه الكلمة فلقلة صدقه في قولها، فإن هذه الكلمة إذا صدقت طهرت القلب من كل ما سوى الله، ومتى بقي في القلب أثر سوى الله فمن قلة الصدق في قولها. من صدق في قول لا إله إلا الله لم يحب سواه، لم يرْجُ سواه، لم يخْشَ أحدا إلا الله، لم يتوكل إلا على الله، لم يبق له بقية من أثر نفسه وهواه. ومع هذا، فلا تظنوا أن المحب مطالب بالعصمة؛ وإنما هو مطالب كلما زلَّ أن يتلافى تلك الوصمة، قال زيد بن أسلم: "إن الله ليحب العبد حتى يبلغ من حبه أن يقول: اذهب فاعمل ما شئت فقد غفرت لك " 2 وقال الشعبي: "إذا أحب الله عبدا لم يضره ذنب".

_ 1 إن صح هذا عن الجنيد فمراده منه أن نار الحب أشد حرا من جهنم بطريقة التمثيل لا الرواية، وهو أشبه بكلام جهلة الصوفية منه بكلام الإمام الجنيد "رح". 2 أخذ هذا من حديث أهل بدر الصحيح.

وتفسير هذا الكلام: أن الله عز وجل- له عناية بمن يحبه من عباده، فكلما زلق ذلك العبد في هوة الهوى أخذ بيده إلى النجاة، ويسّر له أسباب التوبة، ينبهه على قبح الزلة، فيفزع إلى الاعتذار، ويبتليه بمصائب مكفرة لما جنى. في بعض الآثار يقول الله عز وجل "أهل ذكري أهل مجالستي، وأهل طاعتي أهل كرامتي، وأهل معصيتي لا أؤيسهم من رحمتي، إن تابوا فأنا حبيبهم، وإن لم يتوبوا فأنا طبيبهم، أبتليهم بالمصائب، لأطهرهم من المعايب". وفي صحيح مسلم عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الحمى تذهب الخطايا كما يذهب الكير الخبث". وفي المُسْنَد وصحيح ابن حِبَّان عن عَبْدِ الله بنِ مُغَفَّلٍ: "أن رجلا لقِي امرأة كانت بغيا في الجاهلية، فجعل يلاعبها حتى بسط يده إليها، فقالت: مَهْ؛ فإن الله قد أذهب الشرك وجاء بالإسلام. فتركها وولَّى، فجعل يلتفت خلفه وينظر إليها، حتى أصاب وجهه 1 فأخبره بالأمر، فقال صلى الله عليه وسلم -: أنت عبد أراد الله بك خيرا. ثم قال: إن الله إذا أراد بعبده شرا أمسك عنه بذنبه حتى يوافي يوم القيامة ". يا قوم، قلوبكم على أصل الطهارة، وإنما أصابها رشاش من نجاسة الذنوب، فرُشُّوا عليها من دموع العيون فقد طهرت، اعزموا على فطام النفوس عن رضاع الهوى؛ فالحَمِّية رأس الدواء، متى طالبتكم بمألوفاتها فقولوا كما قالت تلك المرأة لذلك الرجل الذي دمي وجهه: "قد أذهب الله الشرك وجاء بالإسلام"، والإسلام يقتضي الاستسلام والانقياد للطاعة، ذكروها مدحة {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} 2. راود رجل امرأة في فَلاة ليلا فأبَتْ، فقال لها: ما يرانا إلا الكواكب. فقالت: فأين مُكَوْكِبُهَا؟.

_ 1 بياض في الأصل. والمفهوم من السياق أنه أصاب وجهه جدار أو نحوه فدمي. ثم ذهب إلى النبي –صلى الله عليه وسلم-. 2 - سورةافصلت آية:30.

أكره رجل امرأة على نفسها، وأمرها بغلق الأبواب، فغلقت، فقال لها: هل بقي باب لم تغلقيه؟ قالت: نعم، الباب الذي بيننا وبين الله تعالى. فلم يتعرض لها. رأى بعض العارفين رجلا يكلم امرأة فقال: إن الله يراكما، سترنا الله وإياكما. سُئل الجُنَيْد: عما يستعان به على غض البصر؟ قال: "بعلمك أن نظر الله إليك أسبق من نظرك إلى ما تنظره". وقال المُحَاسِبِيُّ: "المراقبة علم القلب بقرب الرب، كلما قويت المعرفة بالله قوي الحياء من قربه ونظره. "وصَّى النبي صلى الله عليه وسلم رجلا أن يستحي من الله كما يستحي من رجل من صالح عشيرته لا يفارقه"قال بعضهم: استحي من الله على قدر قربه منك، وخف من الله على قدر قدرته عليك. كان بعضهم يقول: لي منذ أربعين سنة ما خطوت خطوة لغير الله، ولا نظرت إلى شيء أستحسنه؛ حياء من الله عز وجل. كأن رقيبا منك يرعى خواطري ... وآخر يرعى ناظري وساني فما أبصرت عيناي بعدك منظرا ... لغيرك إلا قلت قد رماني ولا بدرت من فيَّ بعدك لفظة ... لغيرك إلا قلت قد سمعاني ولا خطرت من ذكر غيرك خطرة ... على القلب إلا عرجت بعناني فصل فضائل كلمة التوحيد كلمة التقوى والإخلاص وكلمة التوحيد لها فضائل عظيمة لا يمكن هاهنا- استقصاؤها، فنذكر بعض ما ورد فيها: فهي "كلمة التقوى" كما قال عمر وغيره من الصحابة. وهي كلمة الإخلاص، وشهادة الحق، ودعوة الحق، وبراءة من الشرك، ونجاة العبد، ورأس هذا الأمر، ولأجلها خلق الخلق، كما قال تعالى {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ

وَالأِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ} 1. ولأجلها أرسلت الرسل وأنزلت الكتب كما قال الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَا أَنَا فَاعْبُدُونِ} 2 وقال تعالى: {يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا} 3. وهذه الآية أول ما عدَّد الله على عباده من النعم في سورة النعم التي تُسمى "سورة النحل"؛ ولهذا قال ابن عيينة: "ما أنعم الله على عبد من العباد نعمة أعظم من أن عرَّفه "لا إله إلا الله"، وإن "لا إله إلا الله" لأهل الجنة كالماء البارد لأهل الدنيا، ولأجلها أعدت دار الثواب ودار العقاب، ولأجلها أمرت الرسل بالجهاد، فمن قالها عصم ماله ودمه، ومن أباها فماله ودمه حلال. مفتاح دعوة الرسل وهي مفتاح دعوة الرسل، وبها كلم الله موسى كفاحا 4 وفي مسند البزَّار وغيره عن عِيَاض بن حمار الأنصار عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن لا إله إلا الله كلمة حق على كريم، ولها من الله مكان". كلمة جمعت وشركت وهي كلمة جمعت وشركت، فمن قالها صادقا أدخله الله الجنة، ومن قالها كاذبا أحرزت ماله وحقنت دمه، ولقي الله فيحاسبه. مفتاح الجنة ونجاة من النار وهي مفتاح الجنة، وهي ثمن الجنة كما تقدم، قاله الحسن، وجاء مرفوعا من وجوه ضعيفة، ومن كانت آخر كلامه دخل الجنة، وهي نجاة من النار، و "سمع النبي صلى الله عليه وسلم مؤذنا يقول: أشهد أن لا إله إلا الله. فقال: خرج من النار"خرَّجه مسلم. توجب المغفرة وهي توجب المغفرة، في المسند عن شَدَّاد بنِ أَوْسٍ وعُبَادَة بنِ الصَّامِت "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه يوما: ارفعوا أيديكم وقولوا: لا إله إلا الله، فرفعنا أيدينا ساعة، ثم وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده، ثم قال: الحمد لله اللهم بعثتني بهذه الكلمة، وأمرتني بها، ووعدتني الجنة عليها، وإنك لا تخلف الميعاد، ثم قال: أبشروا؛ فإن الله قد غفر لكم" 5. أحسن الحسنات وهي أحسن الحسنات، قال أبو ذر قلت: "يا رسول الله، علمني عملا يقربني من

_ 1 سورة الذاريات آية: 56. 2 سورة الأنبياء آية: 25. 3 سورة النحل آية: 2. 4 أي بغير واسطة ولا حجاب. 5 هذا حديث متكلم فيه بالضعف الشديد.

الجنة ويباعدني من النار، فقال: إذا عملت سيئة فاعمل حسنة؛ فإنها عشر أمثالها، قلت: يا رسول الله، لا إله إلا الله من الحسنات؟ قال: هي أحسن الحسنات. تمحو الذنوب والخطايا وهي تمحو الذنوب والخطايا". وفي "سنن ابن ماجه" عن أم هانئ عن النبي صلى الله عليه وسلم - قال: "لا إله إلا الله لا تترك ذنبا ولا يسبقها عمل". رُئي بعض السلف بعد موته في المنام، فسئل عن حاله، فقال: ما أبقت لا إله إلا الله شيئا. تجدد ما درس من الإيمان في القلب وهي تجدد ما درس من الإيمان في القلب، وفي المسند: "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه: جددوا إيمانكم، قالوا: كيف نجدد إيماننا يا رسول الله؟ قال: قولوا لا إله إلا الله". لا يعدلها شيء في الوزن وهي التي لا يعدلها شيء في الوزن، فلو وزنت بالسماوات والأرض لرجحت بهن، كما في المسند عن عبد الله بن عمر عن النبي -صلى الله عليه وسلم -: "إن نوحا عليه السلام- قال لابنه عند موته: آمرك بلا إله إلا الله؛ فإن السماوات والأرضين السبع لو وضعت في كفة ووضعت لا إله إلا الله في كفة رجحت بهن لا إله إلا الله، ولو أن السماوات السبع والأرضين السبع كن حلقة مبهمة فصمتهن لا إله إلا الله". وفيه أيضا: عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم -: "إن موسى -عليه السلام- قال: يا رب، علمني شيئا أذكرك وأدعوك به، قال: يا موسى، قل: لا إله إلا الله، فقال: يا رب، كل عبادك يقولون هذا، قال: قل لا إله إلا الله، فقال: لا إله إلا أنت، إنما أريد شيئا تخصني به، قال: يا موسى، لو أن السماوات السبع وعامرهن غيري، والأرضين السبع في كفة، ولا إله إلا الله في كفة مالت بهن لا إله إلا الله ". وكذلك ترجح بصحائف الذنوب كما في حديث السجلات والبطاقة، وقد أخرجه أحمد والنسائي والترمذي أيضا- من حديث عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم. تخرق الحجب كلها حتى تصل إلى الله وهي التي تخرق الحجب كلها حتى تصل إلى الله عز وجل وفي الترمذي عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا إله إلا الله ليس لها دون الله حجاب حتى تصل إليه" وفيه أيضا عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم "ما قال عبد لا إله إلا الله مخلصا إلا فتحت

له أبواب السماء حتى تفضي إلى العرش ما اجتُنِبَت الكبائر". ويُروى عن عباس مرفوعا: "ما من شيء إلا بينه وبين الله حجاب إلا قول لا إله إلا الله، كما أن شفتيك لا تحجبها كذلك لا يحجبها شيء حتى تنتهي إلى الله عز وجل". وقال أبو أُمَامَة: "ما من عبد يُهلِّل تهليلة فيُنَهْنِهُهَا 1 شيء دون العرش". الكلمة التي ينظر الله إلى قائلها ويستجاب دعاءه وهي التي ينظر الله إلى قائلها ويجيب دعاءه، خرَّج النسائي في كتاب "اليوم والليلة" من حديث رجلين من الصحابة عن النبي صلى الله عليه وسلم -: "من قال: لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير. مخلصا بها روحه، مصدقا بها لسانه، إلا فتق الله له السماء فتقا حتى ينظر إلى قائلها من أهل الأرض، وحق لعبد نظر الله إليه أن يعطيه سؤاله". الكلمة التي يصدق الله قائلها وهي الكلمة التي يصدق الله قائلها، كما خرج النسائي والترمذي وابن حبان، من حديث أبي هريرة وأبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا قال: العبد لا إله إلا الله والله أكبر، صدقه ربه وقال: لا إله إلا أنا وأنا أكبر، وإذا قال: لا إله إلا الله وحده، يقول الله: لا إله إلا أنا وحدي، وإذا قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، قال: لا إله إلا أنا وحدي لا شريك لي، وإذا قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد. قال الله: لا إله إلا أنا لي الملك ولي الحمد، وإذا قال لا إله إلا الله ولا حول ولا قوة إلا بالله، قال الله: لا إله إلا أنا لا حول ولا قوة إلا بي" 2. وكان يقول: "من قالها في مرضه ثم مات لم تطعمه النار" 3. أفضل ما قاله النبيون وهي أفضل ما قاله النبيون، كما ورد ذلك في دعاء يوم عرفة. أفضل الذكر وهي أفضل الذكر كما في حديث جابر المرفوع: "أفضل الذكر لا إله إلا الله" 4. وعن ابن عباس قال: أحب كلمة إلى الله "لا إله إلا الله". لا يقبل الله عملا إلا بها، وهي

_ 1 في النهاية: في حديث وائل "لقد ابتدرها اثنا عشر ملكا، فما نهنهها شيء دون العرش" أي: ما منعها وكفها عن الوصول إليه اه. 2 الترمذي: الدعوات "3430" , وابن ماجه: الأدب "3794". 3 الترمذي: الدعوات "3430". 4 الترمذي: الدعوات "3383" , وابن ماجه: الأدب "3800".

أفضل الأعمال وأكثرها تضعيفا، وتعدل عتق الرقاب، وتكون حرزا من الشيطان كما في الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم "من قال: لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير. في كل يوم مائة مرة، كانت له عدل عشر رقاب، وكتبت له مائة حسنة، ومحيت عنه مائة سيئة، وكانت له حرزا من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي، ولم يأت أحد بأفضل مما جاء به، إلا رجل عمل أكثر منه يوم ذلك" 1. وفيهما أيضا عن أبِي أيُّوبَ عن النبي صلى الله عليه وسلم "من قالها عشر مرات كان كمن أعتق أربعة أنفس من ولد إِسماعِيل". وفي التِرْمِذِيّ عن عُمَرَ مرفوعا: "من قالها إذا دخل السوق حتى يُمسي -وزاد فيها- يحيي ويميت، وهو حي لا يموت، بيده الخير، وهو على كل شيء قدير. كتب الله له ألف ألف حسنة، ومحا عنه ألف ألف سيئة، ورفع له ألف ألف درجة -وفي رواية- وبني له بيتا في الجنة" 2 3. أمان من وحشة القبر وهول المحشر ومن فضائلها أنها أمان من وحشة القبر وهول المحشر، كما في المسند وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ليس على أهل لا إله إلا الله وحشة في قبورهم ولا في نشورهم، وكأني بأهل لا إله إلا الله قد قاموا ينفضون التراب عن رءوسهم، ويقولون: الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن". وفي حديث مُرْسَلٍ من رواية عَلِيّ كرَّم الله وجهه: "من قال: لا إله إلا الله الملك الحق المبين. كل يوم مائة مرة، كان له أمان من الفقر، وأنس من وحشة القبر، واستجلب به الغنى، واستقرع به باب الجنة". شعار المؤمنين إذا قاموا من قبورهم وهي شعار المؤمنين إذا قاموا من قبورهم.

_ 1 البخاري: بدء الخلق "3293" , ومسلم: الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار "2691" , والترمذي: الدعوات "3468" , وابن ماجه: الأدب "3798" , وأحمد "2/302 ,2/360 ,2/375" , ومالك: النداء للصلاة "486". 2 الترمذي: الدعوات "3428" , وابن ماجه: التجارات "2235" , وأحمد "1/47" , والدارمي: الاستئذان "2692". 3 رواه التِرْمِذِيُّ من طريق أَزْهَر بنِ سِنَانٍ، وهو ضعيف، وأنكروه عليه، وضعفه به عَلِيُّ بنُ المَدِينِي جدا. ومن طريق عَمْرُو بنِ دِينَارٍ البَصْرِيُّ قَهْرَمَان آلِ الزُّبَيْرِ، وهو ضعيف يروي المنكرات عن الثقات، بل يروي الموضوعات أيضا، وقد أنكروه عليه. ومثل هذه المبالغة في الثواب الكثير على العمل اليسير من علامات وضع الحديث.

قال النَضْرُ بنُ عَرَبِيٍّ: "بلغني أن الناس إذا قاموا من قبرهم كان شعارهم: لا إله إلا الله". وقد خرج الطبَراني مرفوعا: "إن شعار هذه الأمة على الصراط: لا إله إلا أنت". تفتح لقائلها أبواب الجنة الثمانية ومن فضائلها أنها تفتح لقائلها أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء، كما في حديث عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم فيمن أتى بالشهادتين بعد الوضوء، وقد خرَّجه مسلم. وفي الصحيحين عن عُبَادَة بنِ الصَّامِت عن النبي صلى الله عليه وسلم "من قال: أشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأن مُحَمَّدًا عبده ورسوله، وأن عِيسَى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مَرْيَم وروح منه، وأن الجنة حق والنار حق، وأن الله يبعث من في القبور، فتحت له ثمانية أبواب الجنة يدخل من أيها شاء". وفي حديث عبد الرَّحمَن بن سَمُرَة عن النبي صلى الله عليه وسلم في قصة منامه الطويل وفيه: "رأيت رجلا من أمتي انتهى إلى أبواب الجنة فأغلقت الأبواب دونه، فجاءته شهادة أن لا إله إلا الله ففتحت له الأبواب وأدخلته الجنة". أهل كلمة التوحيد غير مخلدين في النار ومن فضائلها أن أهلها -وإن دخلوا النار بتقصيرهم في حقوقها- فإنهم لا بد أن يخرجوا منها. وفي الصحيحين عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم "يقول الله عز وجل وعزتي وجلالي وكبريائي وعظمتي لأخرجن منها من قال: لا إله إلا الله" 1. وخرج الطَّبَرَانِيُّ عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن أناسا من أهل لا إله إلا الله يدخلون النار بذنوبهم، فيقول لهم أهل اللات والعزى: ما أغنى عنكم قول لا إله إلا الله، فيغضب الله لهم، فيخرجهم من النار ويدخلهم الجنة" ومن كان في سخطه محسنا فكيف يكون إذا ما رضي؟ لا يسوي بين من وحده وإن قصر في حقوق توحيده- وبين من أشرك به. قال بعض السلف: كان إِبْرِاهِيم -عليه السلام- يقول في دعائه: "اللهم لا تشرك من كان يشرك بك بمن كان لا يشرك بك". كان بعض السلف يقول في دعائه: "اللهم إنك قلت عن أهل النار: إنهم أقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت. ونحن نقسم بالله جهد أيماننا ليبعثن الله من يموت، اللهم لا تجمع بين أهل القسمين في دار واحدة ".

_ 1 البخاري: التوحيد "7510".

كان أبو سليمان يقول: "إن طالبني ببخلي طالبته بجوده، وإن طالبني بذنوبي طالبته بعفوه، وإن أدخلني النار أخبرت أهل النار أني كنت أحبه، ما أطيب وصله، وما أعذبه، ما أثقل هجره وما أصعبه، في السخط والرضى فما أهيبه، القلب يحبه وإن عذبه". انتهى كلام الحافظ بن رجب ملخصا. فتأمل -رحمك الله- قوله: "فتحققه بقول لا إله إلا الله أن لا يأله القلب غير الله إلى آخره". وقوله: "وتحققه بأن مُحَمَّدًا رسول الله أن لا يعبد الله بغير ما شرعه على لسان مُحَمَّدٍ -صلى الله عليه وسلم ". إلخ، وقوله: "وتحقيق هذا المعنى وإيضاحه أن قول العبد لا إله إلا الله يقتضي أنه لا إله غير الله إلى آخره". وقوله: "وقد ورد إطلاق الإله على الهوى المتبع" إلخ. وقوله: "قول لا إله إلا الله يقتضي أن لا يحب سواه". إلخ، وقوله: "ومن هنا يعلم أنه لا يتم شهادة أن لا إله إلا الله إلا شهادة أن مُحَمَّدًا رسول الله". إلى آخره، وهذه من متممات "لا إله إلا الله" وغير ذلك مما يتعلق ب"لا إله إلا الله"، فإنه إنما يبرز بتأمله؛ لأن له تعلقا بما نحن بصدده، والله أعلم. فهذا ما فتح الله به ويسره من فضله من الكلام على عشرة الإفصاص، على كلمة الإخلاص، جمعه ولخصه -فقير ربه الملتجئ إلى عفوه ومغفرته- سَعِيد بنُ حجي الحَنْبَلِيُّ النَّجْدِيُّ، قدَّس الله روحه ونوَّر ضريحه، آمين. انتهى طبع هذا عن نسخة حسنة الخط، قليلة التحريف والغلط، أخذها الأستاذ الشيخ حامد الفقي المصري من العلامة الشهير الشيخ عبد الله بن بليهد النجدي، وقد كنت ناسخها في آخرها ما نصه. وافق الفراغ من كتابة هذه النسخة صبيحة الجمعة، في يوم تسع وعشرين من ربيع الأول، من شهور سنة 1299 ألف ومائتين وتسع وتسعين، على يد -المفتقر إلى كرم الله- صالح بن سالم بن محسن بن شيبان، غفر الله له ولوالديه ولمشائخه ولجميع المسلمين، آمين. ويلي هذا الرسالة الآتية للمؤلف.

رسالة في حكم التزام مذهب معين والانتقال من مذهب إلى آخر رسالة من الشيخ سعيد بن حجي الحنبلي النجدي، إلى الشيخ محمد بن أحمد الحفظي الشافعي التهامي- هي جواب سؤال. "السؤال" ما قول العلماء -رحمهم الله- فيمن التزم مذهبا. هل له الانتقال عنه إلى غيره أم لا؟ "الجواب" قال شيخ الإسلام أحمد بن تيمية في الفتاوى المصرية: وإذا كان الرجل متبعا لأبي حنيفة أو مالك أو الشافعي أو أحمد، ورأى في بعض المسائل أن مذهب غيره أقوى فاتبعه كان قد أحسن في ذلك، ولم يقدح ذلك في دينه ولا عدالته بلا نزاع، بل هذا أولى بالحق، وأحب إلى الله ورسوله ممن يتعصب لواحد معين غير النبي صلى الله عليه وسلم كمن يتعصب لأبي حنيفة أو مالك أو الشافعي أو أحمد، ويرى أن قول هذا المعين هو الصواب الذي ينبغي اتباعه دون الإمام الذي خالفه، فمن فعل هذا كان جاهلا، بل قد يكون كافرا. انتهى. وقال في "الإقناع" وشرحه: "ولزوم التمذهب بمذهب وامتناع الانتقال إلى غيره الأشهر عدمه". قال الشيخ تقي الدين بن تيمية العامي، هل عليه أن يلتزم مذهبا معينا يأخذ بعزائمه ورخصه؟ فيه وجهان لأصحاب أحمد، وهما وجهان لأصحاب الشافعي والجمهور من هؤلاء وهؤلاء لا يوجبون ذلك، والذين يوجبون يقولون إذا التزمه لم يكن له أن يخرج عنه ما دام ملتزما له، أو ما لم يتبين له أن غيره أولى بالالتزام منه. ولا ريب أن التزام المذاهب والخروج عنها -إن كان لغير أمر ديني، مثل أن يلتمس مذهبا لحصول غرض دنيوي من مال أو جاه أو نحو ذلك- فهذا مما لا يحمد عليه، بل يذم عليه في نفس الأمر، ولو كان ما انتقل إليه خيرا مما انتقل عنه وهو

بمنزلة من يسلم لا يسلم إلا لغرض دنيوي، والمهاجر من مكة إلى المدينة لامرأة يتزوجها أو دنيا يصيبها. قال: "وأما إن كان انتقاله من مذهب إلى مذهب لأمر ديني فهو مثاب على ذلك، بل واجب على كل واحد -إذا تبين له حكم الله ورسوله في أمر- أن لا يعدل عنه، ولا يتبع أحدا في مخالفة الله ورسوله؛ فإن الله فرض طاعة رسوله على كل أحد في كل حال". انتهى. وفي "الرعاية": من التزم مذهبا أنكر عليه مخالفته بلا دليل ولا تقليد سائغ ولا عذر". ومراده بقوله: "بلا دليل" إذا كان من أهل الاجتهاد، وقوله: "ولا تقليد سائغ" أي: لعالم أفتاه إذا لم يكن أهلا للاجتهاد، وقوله: "ولا عذر" أي: يبيح له ما فعله فينكر عليه؛ لأنه يكون متبعا لهواه. وقال في موضع آخر: "يلزم كل مقلد أن يلتزم بمذهب معين في الأشهر ولا يقلد غيره". وقيل بلى، وقيل لضرورة، انتهى كلام صاحب "الإقناع" وشرحه بلفظه. وقال في "الإنصاف" في {كتاب القضاء" وقال الشيخ تقي الدين: "من أوجب تقليد إمام بعينه استتيب، فإن تاب وإلا قُتل 1 وإن قال: ينبغي. كان جاهلا ضالا، ومن كان متبعا لإمام فخالفه لقوة الدليل، أو لكون أحدهما أعلم أو أتقى فقد أحسن، ولم يقدح في عدالته بلا نزاع، وقال: "في هذه الحال يجوز تقليد من اتصف بذلك عند أئمة الإسلام". وقال: "بل يجب"، انتهى. ومن قول الشافعي وقواعده: "إذا صح الحديث فهو مذهبي". وفي لفظ: "فاضربوا بقولي الحائط". وفي رواية عنه: "إذا رأيتم عن النبي صلى الله عليه وسلم الثبت فاضربوا على قولي وارجعوا إلى الحديث". انتهى، نقلته من كتاب الآداب. فقد علم السائل أن من كان متَّبِعا مذهبا من المذاهب الأربعة، ورأى الحق مع غيره فاتبعه أنه محسن، ولا يقدح في عدالته -لا سيما إن كان مع الغير نص أو إجماع أو قول صحابي بشرطه أو جمهور العلماء، والله أعلم. وصلى الله على سيدنا مُحَمَّدٍ وعلى آله وصحبه وسلم. "تم الكتاب"

_ 1 أي: لأن هذا الإيجاب إشراك بالله في التشريع الذي هو من خصائصه بنص قوله تعالى: "أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله".

مسائل وفتاوى ويليه رسالة في دحض شبهات على التوحيد من سوء الفهم لثلاثة أحاديث

مسائل وفتاوى ويليه رسالة في دحض شبهات على التوحيد من سوء الفهم لثلاثة أحاديث ... 1 مسائل وفتاوى تأليف عبد الرحمن بن حسن بن محمد بن عبد الوهاب. تشديد الشيخ ابن تيمية وتلميذه في أمر الشرك إنما هو اتباع لما جاء عن الله ورسوله في ذلك" بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله بن عبد الرحمن -أبا بطين-، إلى جناب الأخ إبراهيم بن عجلان، وفقه الله لطاعته، وهداه بهدايته. آمين. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. والخط وصل، وصلك الله إلى الخير، وصرف عنا وعنكم كل ضير، وذكرت في خطك أشياء ينبغي تنبيهك عليها. "منها": قولكم: "إن الشيخ تقي الدين ابن تيمية شدد في أمر الشرك تشديدا لا مزيد عليه" فالله -سبحانه- هو الذي شدد في ذلك، لقوله -سبحانه-: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} 1 في موضعين من كتابه، وقال على لسان المسيح لبني إسرائيل: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ} 2 الآية، وقال الله -تعالى- لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} 3 الآية، وقال: {وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} 4، وقال سبحانه-: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ} 5 وفي السنة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم: من التحذير عن الشرك والتشديد فيه ما لا يحصى. وغالب الأحاديث التي يذكر فيها صلى الله عليه وسلم الكبائر يبدأها بالشرك. ولما سئل صلى الله عليه وسلم أي الذنب أعظم عند الله؟ قال: "أن تجعل لله ندا، وهو خلقك" 6.

_ 1 سورة النساء آية: 48. 2 سورة المائدة آية: 72. 3 سورة الزمر آية: 65. 4 سورة الأنعام آية: 88. 5 سورة التوبة آية: 5. 6 البخاري: تفسير القرآن "4477" , ومسلم: الإيمان "86" , والترمذي: تفسير القرآن "3182 ,3183" , والنسائي: تحريم الدم "4013 ,4014 ,4015" , وأبو داود: الطلاق "2310" , وأحمد "1/380 ,1/431 ,1/434 ,1/462 ,1/464".

إذا عرف ذلك، تعين على كل مكلف معرفة حد الشرك وحقيقته، لا سيما في هذه الأزمنة التي غلب فيها الجهل بهذا الأمر العظيم. والشيخ تقي الدين وتلميذه إنما بالغا في بيان الشرك، وإيضاحه لما شاهدا من ظهوره في زمنهما، وكثرته في بلاد الإسلام؛ وبينا بطلانه بالأدلة والبراهين القاطعة الواضحة، كما قال أبو حيان في حق الشيخ: قام ابن تيمية في نصر شرعتنا ... مقام سيد تيم إذ عصت مضر وأظهر الحق إذ آثاره اندرست ... وأخمد الكفر إذ طارت له شرر الفرق بين الشرك الأكبر والشرك الأصغر وقولك: إن هذه الأمور المحدثة منها ما هو شرك أكبر، ومنها وما هو أصغر، فالأمر كذلك، لكن يتعين معرفة الأكبر المُخرج من الملة، الذي يحصل به الفرق بين المسلم والكافر، وهو عبادة غير الله؛ فمن جعل شيئا من العبادة لغير الله، فهو المشرك الشرك الأكبر. من ذلك الدعاء الذي هو مخ العبادة، كالتوجه إلى الموتى، والغائبين بسؤالهم قضاء الحاجات، وتفريج الكربات، كذلك الذبح، والنذر لغير الله. كذلك يتعين البحث عن الشرك الأصغر؛ فمنه الحلف بغير الله، ونحو تعليق الخرز والتمائم من العين، وكيسير الرياء في أنواع كثيرة لا تحصى. ومن كلام الشيخ تقي الدين، وقد سئل عن الوسائط، فقال بعد كلام: وإن أراد بالواسطة أنه لا بد من واسطة يتخذها العباد بينهم وبين الله في جلب المنافع ودفع المضار، مثل أن يكونوا واسطة في رزق العباد ونصرهم وهداهم، يسألونهم ذلك، ويرجعون إليهم فيه؛ فهذا من أعظم الشرك الذي كفّر الله به المشركين؛ حيث اتخذوا من دون الله أولياء وشفعاء، يجلبون بهم المنافع، ويدفعون بهم المضار، إلى أن قال: قال -تعالى-: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً} 1 إلى قوله: {إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً} 2.

_ 1 سورة الإسراء آية: 56. 2 سورة الإسراء آية: 57.

قال طائفة من السلف: كان أقوام من الكفار يدعون عيسى، وعزيرا، والملائكة، والأنبياء، فبيّن الله لهم أن الملائكة والأنبياء لا يملكون كشف الضر عنهم ولا تحويله، وأنهم يتقربون إليه، ويرجون رحمته، ويخافون عذابه – إلى أن قال رحمه الله -: "فمن جعل الملائكة والأنبياء وسائط يدعوهم، ويتوكل عليهم، ويسألهم جلب المنافع، ودفع المضار، مثل أن يسألهم غفران الذنوب، وهداية القلوب، وتفريج الكربات، وسد الفاقات، فهو كافر مشرك بإجماع المسلمين" إلى أن قال: "فمن أثبت وسائط بين الله وبين خلقه كالحُجّاب الذين يكونون بين الملك ورعيته، بحيث يكونون هم يرفعون إلى الله حوائج خلقه، وإن الله إنما يهدي عباده ويرزقهم وينصرهم بتوسطهم، بمعنى أن الخلق يسألونهم، وهم يسألون الله، كما أن الوسائط عند الملوك يسألون حوائج الناس لقربهم منهم، والناس يسألونهم أدبا منهم لكونهم أقرب إلى الملك من الطالب، فمن أثبتهم وسائط على هذا الوجه فهو كافر مشرك يجب أن يستتاب، فإن تاب وإلا قتل. وهؤلاء مشبهون شبهوا الخالق بالمخلوقين، وجعلوا لله أندادا. وفي القرآن من الرد على هؤلاء ما لا تتسع له هذه الفتوى، فإن هذا دين المشركين، عباد الأوثان الذين كانوا يقولون: إنها تماثيل الأنبياء والصالحين، وإنها وسائل يتقربون بها إلى الله. وهو من الشرك الذي أنكره الله على النصارى"، إلى أن قال: وأما الشفاعة التي نفاها القرآن -كما عليه المشركون والنصارى ومن ضاهاهم من هذه الأمة- فينفيها أهل العلم والإيمان، مثل أنهم يطلبون من الأنبياء والصالحين والغائبين والميتين قضاء حوائجهم، ويقولون: إنهم إن أرادوا ذلك قضوها، ويقولون: إنهم عند الله كخواص الملوك عند الملوك، ولهم على الملوك إدلال يقضون به حوائجهم، فيجعلونهم لله بمنْزلة شركاء الملك، والله -سبحانه- قد نزه نفسه عن ذلك. انتهى ملخصا.

فهذا الذي ذكر الشيخ -رحمه الله- إجماع المسلمين على أن مرتكبه مشرك كافر يقتل، هو الذي زعم داود البغدادي أنه جائز، بل زعم أن الله أمر به؛ وأنه معنى الوسيلة التي أمر الله بها في قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} 1. وزعم أن الوسيلة التي أمر الله بها أمر إيجاب أو استحباب بطلب الحاجات، وتفريج الكربات من الأموات والغائبين. وزعم أن الشرك هو السجود لغير الله فقط، وأن دعاء الأموات والغائبين والتقرب إليهم بالنذور والذبائح ليس بشرك، بل هو مباح. ثم زاد على ذلك بالكذب على الله، وعلى رسوله، وزعم أن الله أمر بذلك وأحبه. لم يقتصر على دعوى إباحة ذلك، بل زعم أن الله أمر عباده المؤمنين أن يقصدوا قبور الأموات، ويسألونهم قضاء حاجاتهم، وتفريج كرباتهم، فسبحان الله! ما أجرأ هذا على الافتراء، والكذب على الله! فلو أن إنسانا ادعى إباحة بعض صغائر الذنوب، كأن يزعم أنه يباح للرجل تقبيل المرأة الأجنبية لكان كافرا بإجماع المسلمين، وإن زاد على ذلك بأن قال: إن الله يحب ذلك ويرضاه، فقد ازداد كفرا على كفره، فكيف بمن زعم أن الله أباح الشرك الأكبر؟ ثم زاد على ذلك بأن قال: إن الله أمر به، وأحب من عباده المؤمنين أن يسارعوا إليه؟ ما أعظم هذه الجراءة!!. وكلام شيخ الإسلام في هذه المسألة كثير، لا يخلو غالب مصنفاته من الكلام عليها. وذكر -رحمه الله- عن بعض علماء عصره أنه قال: هذا من أعظم ما بينته لنا. وذكر -رحمه الله- في الرسالة السنية، لما ذكر حديث الخوارج قال: وإذا كان في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قد مرق من الدين مع عبادته العظيمة، فليعلم أن المنتسب إلى الإسلام في هذا الزمان قد يمرق أيضا، وذلك بأمور: منها الغلو الذي

_ 1 سورة المائدة آية: 35.

ذمه الله؛ كالغلو في بعض المشايخ، مثل الشيخ عدي، 1 بل الغلو في علي بن أبي طالب، بل الغلو في المسيح؛ فكل من غلا في نبي، أو رجل صالح، وجعل فيه نوعا من الإلهية، مثل أن يدعوه من دون الله بأن يقول: يا سيدي فلان، أغثني، أو أجرني، أو توكلت عليك، أو أنا في حسبك، فكل هذا شرك وضلال يستتاب صاحبه، فإن تاب وإلا قتل؛ فإن الله أرسل الرسل، وأنزل الكتب ليعبد وحده، ولا يجعل معه إله آخر. والذين يجعلون مع الله آلهة أخرى مثل: الملائكة، والمسيح، وعزير، والصالحين، أو قبورهم، لم يكونوا يعتقدون أنها ترزق وتدبر أمر من دعاها، وإنما كانوا يدعونهم يقولون: "هؤلاء شفعاؤنا عند الله"، فبعث الله الرسل تنهى أن يدعى أحد من دونه لا دعاء عبادة، ولا دعاء استعانة، وكلامه -رحمه الله- في هذا الباب كثير. وكذلك ابن القيم بالغ في إيضاح هذا الأمر، وبيّن بطلانه، كقوله في شرح المنازل: ومنه- أي الشرك- طلب الحوائج من الموتى، والاستعانة بهم، والتوجه إليهم، فإن هذا أصل شرك العالم؛ فإن الميت قد انقطع عمله، وهو لا يملك لنفسه ضرا، ولا نفعا، فضلا عمن استغاث به، وسأله أن يشفع له. انتهى. وهذا الذي قال: إنه أصل شرك العالم هو الذي يزعم داود البغدادي أن الله أمر به، تعالى الله -عما يقول المفترون- علوا كبيرا. وجوب هدم مواضع الشرك والطاغوت وقال ابن القيم في الهدي- في فوائد غزوة الطائف- ومنها: أنه لا يجوز إبقاء مواضع الشرك والطواغيت بعد القدرة على هدمها وإبطالها، يوما واحدا، فإنها شعائر الكفر والشرك، ولا يجوز الإقرار عليها البتة. قال: وهذا حكم المشاهد التي بنيت على القبور التي اتخذت أوثانا، وطواغيت تعبد من دون الله، وكذا الأحجار

_ 1 لعله الشيخ عدي بن مسافر الذي تؤلهه فرقة اليزيدية بالعراق، والذين يقال عنهم: إنهم يعبدون الشيطان.

التي تقصد بالتعظيم، والتبرك، والنذر، والتقبيل، فلا يجوز إبقاء شيء منها على وجه الأرض، مع القدرة على إزالتها. وكثير منها بمنْزلة اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى، بل أعظم شركا عندها وبها. والله المستعان. ولم يكن أحد من أرباب هذه الطواغيت يعتقد أنها تخلق، وترزق، وتحيي وتميت، وإنما كانوا يفعلون عندها وبها ما يفعله إخوانهم من المشركين اليوم عند طواغيتهم، اتبع هؤلاء سنن من كان قبلهم، وسلكوا سبيلهم حذو القذة بالقذة، وأخذوا مأخذهم شبرا بشبر، وذراعا بذراع. وغلب الشرك على أكثر النفوس لظهور الجهل، وخفاء العلم، وصار المعروف منكرا، والمنكر معروفا، والسنة بدعة، والبدعة سنة. ونشأ في ذلك الصغير، وهرم عليه الكبير، وطمست الأعلام، واشتدت غربة الإسلام، وقلّ العلماء، وغلب السفهاء، وتفاقم الأمر، واشتد البأس، وظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس. ولكن لا تزال طائفة من العصابة المحمدية بالحق قائمين، ولأهل الشرك والبدع مجاهدين، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وهو خير الوارثين. انتهى. عبادة القبور واتخاذها أوثانا فانظر قوله في المشاهد التي بنيت على القبور، كونها اتخذت أوثانا وطواغيت، وربما ينفر قلب الجاهل من تسمية قبر نبي، أو رجل صالح وثنا، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:" اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد " 1. فهذا الحديث يبين أنه لو قصد قبر النبي صلى الله عليه وسلم بعبادة له، كان قاصده بذلك قد اتخذه وثنا، فكيف بغيره من القبور؟ وقوله -رحمه الله-: كثير منها بمنْزلة اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى، بل أعظم شركا عندها وبها. صدق -رحمه الله- لما شاهدنا في هذه الأزمنة من الغلو والشرك العظيم، من كون كثير من الغلاة عند الشدائد في البر والبحر يخلصون الدعاء لمعبوديهم، وكثير منهم ينسون الله عند الشدائد كما هو مستفيض عند الخاصة

_ 1 أحمد "2/246".

والعامة، وقد أخبر الله عن المشركين الأولين أنهم يخلصون عند الشدائد الدعاء له -سبحانه وتعالى- وينسون آلهتهم. ونصوص القرآن في ذلك كثيرة كما قال -سبحانه-: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} 1، {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلا إِيَّاهُ} 2، وقال: {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ} 3، {وَإِذَا مَسَّ الْأِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَاداً} 4. فهذا إخباره -سبحانه- عن المشركين الذين بعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهاهم عن الشرك، ويأمرهم بالتوحيد. وغالب مشركي أهل هذا الزمان بعكس ذلك. لا يأتي زمان إلا والذي بعده شر منه وقول ابن القيم -رحمه الله-: غلب الشرك على أكثر النفوس، وسبب ذلك كله: ظهور الجهل وقلة العلم. فهذا قوله فيما شاهده في زمانه ببلاد الإسلام، فكيف لو رأى هذا الزمان؟ وفي الحديث: "لا يأتي زمان، إلا والذي بعده شر منه" 5 قال ابن مسعود: "لا أقول زمان أخصب من زمان، ولا أمير خير من أمير، ولكن بذهاب خياركم وعلمائكم"، فكيف لو شاهد من يقول: إن الله أمر بطلب الحاجات من الأموات، ويقول: إنما الشرك هو السجود لغير الله لا غير، كما قال ذلك داود البغدادي مشافهة لي، فيلزمه إن قصد المشركين الأولين لآلهتهم كاللات والعزى ومناة، وكذلك هبل إذ طلب الحاجات منها، وكشف الكربات، والتقرب إليها بالنذور والذبائح، إن هذا ليس بشرك إذا لم يسجدوا لها. فيا سبحان الله!! كيف يبلغ الجهل بمن ينسب إلى علم إلى هذه الفضيحة! البدع التي يعذر فاعلها بالجهل والتأول ما لم تكن شركا بينا وقال ابن القيم -رحمه الله-: رأيت لأبي الوفاء ابن عقيل فصلا حسنا، فذكرته بلفظه قال: لما صعبت التكاليف على الجهال والطغام، عدلوا عن أوضاع الشرع إلى أوضاع وضعوها لأنفسهم، فسهلت عليهم، إذ لم يدخلوا بها تحت أمر غيرهم.

_ 1 سورة العنكبوت آية: 65. 2 سورة الإسراء آية: 67. 3 سورة الأنعام آية: 40، 41. 4 سورة الزمر آية: 8. 5 البخاري: الفتن "7068" , وأحمد "3/132 ,3/177 ,3/179".

قال: وهم عندي كفار بهذه الأوضاع، مثل تعظيم القبور، وإكرامها بما نهى عنه الشرع من إيقاد السرج عليها، وتقبيلها، وتخليقها 1 وخطاب أهلها بالحوائج، وكتابة الرقاع فيها: يا مولاي افعل لي كذا وكذا، وأخذ تربتها تبركا، وإفاضة الطيب على القبور، وشد الرحال إليها، وإلقاء الخرق على الشجر، اقتداء بمن عبد اللات والعزى. وقولك: إن الشيخ تقي الدين وابن القيم يقولان: إن من فعل هذه الأشياء لا يطلق عليه أنه كافر مشرك، حتى تقوم عليه الحجة الإسلامية من إمام، أو نائبه، فيصر، وأنه يقال: هذا الفعل كفر، وربما عذر فاعله لاجتهاد، أو تقليد، أو غير ذلك: فهذه الجملة التي حكيت عنهما لا أصل لها في كلامهما. وأظن اعتمادك في هذا على ورقة كتبها داود، نقل فيها نحو هذه العبارة من اقتضاء الصراط المستقيم للشيخ تقي الدين، لما قدم عنيزة المرة الثانية معه هذه الورقة، يعرضها على ناس في عنيزة، يشبه بها، ويقول: لو سلمنا أن هذه الأمور التي تفعل عند القبور شرك -كما تزعم هذه الطائفة- فهذا كلام إمامهم ابن تيمية، الذي يقتدون به يقول: إن المجتهد المتأول، والمقلد، والجاهل، معذورون، مغفور لهم فيما ارتكبوه. فلما بلغني هذا عنه أرسلت إليه، وحضر عندي، وبينت له خطأه، وأنه وضع كلام الشيخ في غير موضعه، وبينت له أن الشيخ إنما قال ذلك في أمور بدعية ليست بشرك، مثل تحري دعاء الله عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم وبعض العبادات المبتدعة، فقال في الكلام على هذه البدع: وقد يفعل الرجل العمل الذي يعتقده صالحا، ولا يكون عالما أنه منهي عنه، فيثاب على حسن قصده، ويعفى عنه لعدم علمه، وهذا باب واسع. وعامة العبادات المنهي عنها قد يفعلها بعض الناس، ويحصل له نوع من الفائدة، وذلك لا يدل على أنها مشروعة. ثم العامل قد يكون متأولا، أو مجتهدا مخطئا، أو مقلدا، فيغفر له خطأه، ويثاب على ما فعله من المشروع المقرون بغير المشروع، فهذا كلامه في الأمور التي ليست شركا.

_ 1 تخليقها: تطييبها بالحلوق، ومثله كل عطر وطيب.

وأما الشرك فقد قال -رحمه الله-: إن الشرك لا يغفر، وإن كان أصغر؛ نقل عنه ذلك تلميذه صاحب الفروع فيه، وذلك -والله أعلم- لعموم قوله -تعالى-: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} 1 مع أن الشيخ -رحمه الله- لم يجزم أنه يغفر لمن ذكرهم، وإنما قال: قد يكون. وقد قال -رحمه الله- في شرح العمدة، لما تكلم في كفر تارك الصلاة فقال: وفي الحقيقة فكل رد لخبر الله، أو أمره فهو كفر، دق أو جل، لكن قد يعفى عما خفيت فيه طرق العلم، وكان أمرا يسيرا في الفروع، بخلاف ما ظهر أمره، وكان من دعائم الدين من الأخبار والأوامر، يعني فإنه لا يقال: قد يعفى عنه. وقال -رحمه الله- في أثناء كلام له في ذم أصحاب الكلام، قال: والرازي من أعظم الناس في باب الحيرة، له نهمة في التشكيك والشك، والباطل خير من الثبات على اعتقاده، لكن قل أن يثبت أحد على باطل محض، بل لا بد فيه من نوع من الحق، وتوجد الردة فيهم كثيرا كالنفاق. وهذا إذا كان في المقالات الخفية، فقد يقال: لم تقم عليه الحجة التي يكفر صاحبها، لكن يقع ذلك في طوائف منهم في أمور يعلمها العامة والخاصة، بل اليهود والنصارى يعلمون أن محمدا بعث بها، وكفر من خالفها، مثل عبادة الله وحده لا شريك له، ونهيه عن عبادة غيره، فإن هذا أظهر شرائع الإسلام، ومثل أمره بالصلوات الخمس، ومثل معاداة المشركين وأهل الكتاب، ومثل تحريم الفواحش، والربا، والميسر، ونحو ذلك. وقولك: إن الشيخ يقول: إن من فعل شيئا من هذه الأمور الشركية لا يطلق عليه أنه كافر مشرك، حتى تقوم عليه الحجة الإسلامية. فهو لم يقل ذلك في الشرك الأكبر، وعبادة غير الله، ونحوه من الكفر، وإنما قال هذا في المقالات الخفية، كما قدمنا من قوله: وهذا إذا كان في المقالات الخفية، فقد يقال: لم تقم عليه الحجة التي يكفر صاحبها، فلم يجزم بعدم كفره وإنما قد يقال.

_ 1 سورة النساء آية: 48.

وقوله: قد يقع ذلك في طوائف منهم يعلم العامة والخاصة، بل اليهود والنصارى يعلمون أن محمدا بعث بها، وكفر من خالفها، مثل عبادة الله وحده لا شريك له، ونهيه عن عبادة غيره، فإن أظهر شرائع الإسلام، يعني فهذا لا يمكن أن يقال: لم تقم عليه الحجة التي يكفر تاركها. والأمر بعبادة الله وحده لا شريك له، والنهي عن عبادة غيره هو ما نحن فيه، قال -تعالى-: {رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} 1. وقوله -رحمه الله-: بل اليهود والنصارى يعلمون ذلك، حكى لنا عن غير واحد من اليهود في البصرة أنهم عابوا على المسلمين ما يفعلون عند القبور، قالوا: إن كان نبيكم أمركم بهذا فليس بنبي، وإن لم يأمركم فقد عصيتموه. من جعل شيئا من العبادة لغير الله فهذا هو الشرك الأكبر الذي لا يغفره الله وعبادة الله وحده لا شريك له هي أصل الأصول الذي خلق الله الجن والإنس لأجله، قال -تعالى-: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالاِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ} 2: أي يعبدوني وحدي، وهو الذي أرسل به جميع الرسل، قال -تعالى-: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} 3 والطاغوت اسم لكل ما عبد من دون الله، وقال -تعالى-: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ} 4. وكل رسول أرسله الله، فأول ما يدعوهم إليه هذا التوحيد، قال -تعالى-: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} 5، {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} 6، {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} 7، {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} 8. فمن جعل شيئا من العبادة لغير الله، فهذا هو الشرك الأكبر الذي لا يغفره الله، قال الله -تعالى-: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} 9؛ فمن زعم أن الله -سبحانه- يغفره فقد رد خبر الله -سبحانه-.

_ 1 سورة النساء آية: 165. 2 سورة الذاريات آية: 56. 3 سورة النحل آية: 36. 4 سورة الأنبياء آية: 25. 5 سورة الأعراف آية: 59. 6 سورة الأعراف آية: 65. 7 سورة الأعراف آية: 73. 8 سورة الأعراف آية: 85. 9 سورة النساء آية: 48.

وحد العبادة وحقيقتها: طاعة الله؛ فكل قول، وعمل ظاهر وباطن يحبه الله فهو عبادة. فكل ما أمر به شرعا أمر إيجاب أو استحباب فهو عبادة. فهذا حقيقة العبادة عند جميع العلماء التي من جعل منها لغير الله شيئا فهو كافر مشرك. الجهل بحقيقة التوحيد وأصول الدين ليس عذرا لأحد ومما يبين أن الجهل ليس بعذر في الجملة قوله صلى الله عليه وسلم في الخوارج ما قال، مع عبادتهم العظيمة؛ ومن المعلوم أنه لم يوقعهم فيما وقعوا إلا الجهل، وهل صار الجهل عذرا لهم؟ يوضح ما ذكرنا أن العلماء من كل مذهب يذكرون في كتب الفقه "باب حكم المرتد"؛ وهو المسلم الذي يكفر بعد إسلامه، وأول شيء يبدؤون به من أنواع الكفر: الشرك، يقولون: من أشرك بالله كفر، لأن الشرك عندهم أعظم أنواع الكفر، ولم يقولوا: إن كان مثله لا يجهله، كما قالوا فيما دونه. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل: أي الذنب أعظم إثما عند الله؟ قال: أن تجعل لله ندا وهو خلقك 1، ولو كان الجاهل أو المقلد غير محكوم بردته إذا فعل الشرك لم يغفلوه، وهذا ظاهر. وقد وصف الله -سبحانه- أهل النار بالجهل كقوله: {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} 2، وقال: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالانْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} 3، وقال: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً} 4، وقال -تعالى-: {فَرِيقاً هَدَى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُون} 5، قال ابن جرير، عند تفسير هذه الآية: وهذا يدل على أن الجاهل غير معذور. ومن المعلوم أن أهل البدع، الذين كفرهم السلف والعلماء بعدهم، أهل علم وعبادة،

_ 1 البخاري: تفسير القرآن "4477" , ومسلم: الإيمان "86" , والترمذي: تفسير القرآن "3182 ,3183" , والنسائي: تحريم الدم "4013 ,4014 ,4015" , وأبو داود: الطلاق "2310" , وأحمد "1/380 ,1/431 ,1/434 ,1/462 ,1/464". 2 سورة الملك آية: 10. 3 سورة الأعراف آية: 179. 4 سورة الكهف آية: 103، 104. 5 سورة الأعراف آية: 30.

وفيهم زهد ولم يوقعهم فيما ارتكبوه إلا الجهل، والذين حرقهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه بالنار هل آفتهم إلا الجهل؟ من كفر جاهلا أو مقلدا غير معذور ولو قال إنسان: أنا أشك في البعث بعد الموت، لم يتوقف من له أدنى معرفة في كفره، والشاك جاهل. قال -تعالى-: {وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلا ظَنَّاً وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ} 1، وقد قال الله -سبحانه- عن النصارى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ} 2 الآية. قال عدي بن حاتم للنبي صلى الله عليه وسلم ما عبدناهم. قال: "أليس يحلون ما حرم الله فتحلونه، ويحرمون ما أحل الله فتحرمونه؟ قال: بلى قال: فتلك عبادتهم" فذمهم الله -سبحانه-، وسماهم مشركين مع كونهم لم يعلموا أن فعلهم معهم هذا عبادة لهم، فلم يعذروا بالجهل. ولو قال إنسان عن الرافضة في هذه الأزمان: إنهم معذورون في سبهم الشيخين وعائشة لأنهم جهال مقلدون، لأنكر عليه الخاص والعام. وما تقدم من حكاية شيخ الإسلام -رحمه الله- إجماع المسلمين على أن من جعل بينه وبين الله وسائط يتوكل عليهم، ويسألهم جلب المنافع، ودفع المضار أنه كافر مشرك، يتناول الجاهل وغيره، لأنه من المعلوم أنه إذا كان إنسان يقر برسالة محمد صلى الله عليه وسلم ويؤمن بالقرآن، ويسمع ما ذكر الله -سبحانه- في كتابه من تعظيم أمر الشرك بأنه لا يغفره، وأن صاحبه مخلد في النار، ثم يقدم عليه، وهو يعرف أنه شرك، هذا ما لا يفعله عاقل، وإنما يقع فيه مَن جهل أنه شرك. وقد قدمنا كلام ابن عقيل في جزمه بكفر الذين وصفهم بالجهل فيما ارتكبوه من الغلو في القبور. نقله عنه ابن القيم مستحسنا له. والقرآن يرد على من قال: إن المقلد في الشرك معذور، وقد افترى وكذب على الله، وقد قال الله عن المقلدين من أهل النار: {وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا

_ 1 سورة الجاثية آية: 32. 2 سورة التوبة آية: 31.

فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا} 1، وقال -سبحانه- حاكيا عن الكفار قولهم: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ} 2، وفي الآية الأخرى: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ} 3. الواجب على كل مسلم قبول الحق من كل مَن بينه بالحجة واستدل العلماء بهذه الآية ونحوها على أنه لا يجوز التقليد في التوحيد والرسالة وأصول الدين، وإن فرضا على كل مكلف أن يعرف التوحيد بدليله، وكذلك الرسالة وسائر أصول الدين لأن أدلة هذه الأصول ظاهرة، ولله الحمد، لا يختص بمعرفتها العلماء. وقولك: حتى تقوم عليه الحجة الإسلامية من إمام أو نائبه، معناه: أن الحجة الإسلامية لا تقبل إلا من إمام أو نائبه، وهذا خطأ فاحش، لم يقله أحد من العلماء، بل الواجب على كل أحد قبول الحق ممن قاله كائنا من كان. ومقتضى هذا: أن من ارتكب أمرا محرما شركا فما دونه بجهل، وبيّن له من عنده علم بأدلة الشرع أن ما ارتكبه حرام، وبيّن له دليله من الكتاب والسنة أنه لا يلزمه قبوله، إلا أن يكون ذلك من إمام أو نائبه، وأن حجة الله لا تقوم عليه، إلا أن يكون ذلك من الإمام أو نائبه. وأظنك سمعت هذا الكلام من بعض المبطلين، وقلدته فيه، وما فطنت لعيبه، وإنما وظيفة الإمام أو نائبه: إقامة الحدود، واستتابة من حكم الشرع بقتله كالمرتد في بلاد الإسلام. وأظن هذه العبارة مأخوذة من قول بعض الفقهاء في تارك الصلاة: إنه لا يقتل حتى يدعوه إمام أو نائبه إلى فعلها، والدعاء إلى فعل شيء غير بيان الحجة على خطئه، أو صوابه، أو كونه حقا أو باطلا بأدلة الشرع. فالعالم مثلا يقيم الأدلة الشرعية على وجوب قتل تارك الصلاة، ثم الإمام، أو نائبه يدعوه إلى فعلها، ويستتيبه. وقولك: إنك رأيت كثيرا من هذه الأمور التي نقول إنها شرك ظاهرة في الشام والعراق والحجاز، ولم تسمع منكرا. فمن رزقه الله بصيرة بدينه ما راج عليه

_ 1 سورة الأحزاب آية: 67. 2 سورة الزخرف آية: 22. 3 سورة الزخرف آية: 23.

ذلك، والمتعين على الإنسان معرفة الحق بدليله، فإذا عرف الحق بالأدلة الشرعية عرض أعمال الناس عليه، فما وافق الحق عرفه وقبله، وما خالفه رده، ولا يغتر بكثرة المخالف. قال رجل لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه أترى أننا نظن إنك على الحق، وفلانا على باطل؟ فقال علي: ويحك يا فلان، إن الحق لا يعرف بالرجال، اعرف الحق تعرف أهله. وقد سبق كلام ابن القيم في وصفه أهل زمانه. من له بصيرة بالحق لم يغتر بكثرة المخالف وقوله: غلب الشرك على أكثر النفوس، لظهور الجهل، وخفاء العلم، وصار المعروف منكرا والمنكر معروفا، والسنة بدعة والبدعة سنة، ونشأ في ذلك الصغير وهرم عليه الكبير، وطمست الأعلام، واشتدت غربة الإسلام، وقلّ العلماء، وغلب السفهاء؛ هذا وصفه لزمانه، فما ظنك بأهل زمان بعده بخمسمائة عام؟ لأنه لا يأتي عام إلا والذي بعده شر منه بخبر الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم مع قوله: "لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة" 1، مع أننا قد سمعنا وبلغنا عن كثير من علماء الزمان إنكار هذه الأمور المبتدعة الشركية. سمعنا من ناس في الحرمين واليمن، وبلغنا عن أناس في مصر والشام إنكار هذه المحدثات، لكن همتهم تقصر عن إظهار ذلك؛ لأن عمارة هذه المشاهد الشركية أكثرها من تحت أيدي ولاة الأمور، وأهل الدنيا، ووافقهم على ذلك وزينه لهم علماء السوء، بسبب ذلك استحكم الشر وتزايد، والشر في زيادة والخير في نقصان. وفي حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "هلكت بنو إسرائيل على يدي قرائهم وفقهائهم، وستهلك هذه الأمة على يدي قرائها وفقها ئها" فما أصدق قول عبد الله بن المبارك رحمه الله: وهل أفسد الدين إلا الملوك ... وأحبارسوء ورهبانها

_ 1 البخاري: أحاديث الأنبياء "3456" , ومسلم: العلم "2669" , وأحمد "3/84 ,3/89 ,3/94".

ومما يبين لك عدم الاغترار بالكثرة: أن أكثر أهل هذه الأمصار التي ذكرت مخالفون للصحابة والتابعين وأئمة الإسلام، خصوصا الإمام أحمد، ومن وافقه في صفات الرب -تبارك وتعالى-، يتأولون أكثر الصفات بتحريف الكلم عن مواضعه، من ذلك قولهم: إن الله لا يتكلم بحرف وصوت، وأن حروف القرآن مخلوقة، ويقولون: الإيمان مجرد التصديق. وكلام السلف والأئمة في ذم أهل هذه المقالات كثير، وكثير منهم صرح بكفرهم، وأكثر الأئمة ذما لهم وتضليلا الإمام أحمد -رحمه الله- وأفاضل أصحابه بعده. وأكثر هذه الأمصار اليوم على خلاف ما عليه السلف والأئمة، ومن له بصيرة بالحق لم يغتر بكثرة المخالف، فإن أهل الحق هم أقل الناس فيما مضى، فكيف بهذه الأزمان التي غلب فيها الجهل، وصار -بسبب ذلك- المعروف منكرا، والمنكر معروفا؟ نسأل الله أن يهدينا وإخواننا صراطه المستقيم؛ صراط الذين أنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين. وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم تسليما. "انتهت الرسالة" طبعت عن نسخة كتب في آخرها ما نصه: بقلم الفقير إلى الله عبد الله الرشيد الفرج، من خط المصنف -رحمه الله- سنة 1345.

رسالة في دحض شبهات على التوحيد من سوء الفهم لثلاثة أحاديث "حديث: يئس الشيطان من عبادته في جزيرة العرب، وحديث: يا عباد الله احبسوا، وحديث: عصمة كلمة التوحيد لدم قائلها وماله" تأليف "العلامة مفتي الديار النجدية، وعالم الطائفة السلفية". العلامة الشيخ عبد الله بن الشيخ عبد الرحمن -أبا بطين- -رحمه الله تعالى-. بسم الله الرحمن الر حيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا وآله وصحبه أجمعين. قال الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن، مفتي الديار النجدية المعروف "بأبا بطين"، عليه الرحمة والغفران: أما بعد: فقد طلب مني بعض الإخوان أن أكتب له جوابا عما يورده بعض الناس من قوله صلى الله عليه وسلم: "إن الشيطان يئس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب" 1 ويستدل به على استحالة وقوع شيء من الشرك في جزيرة العرب. والحديث المروي: "يا عباد الله، احبسوا، احبسوا" وعما يورده بعضهم من قوله صلى الله عليه وسلم لأسامة: "أقتلته بعد ما قال: لا إله إلا الله" 2، وقوله: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله" 3 ويستدل بذلك على أن من قال: لا إله إلا الله لا يجوز قتاله، ولا قتله. (فالجواب": أما قوله صلى الله عليه وسلم: "إن الشيطان يئس أن يعبده المصلون في جزيرة" العرب 4 فيقال: (أولا": من المعلوم بالضرورة أن الله -سبحانه- بعث محمدا صلى الله عليه وسلم يدعو إلى التوحيد وهو توحيد الألوهية، وينهى عن الشرك وهو عبادة غير الله. وأما الشرك بالربوبية، فمن المعلوم بنصوص الكتاب أن المشركين الذين بعث إليهم رسول الله وقاتلهم، يقرون بتوحيد الربوبية، وأن شركهم هو في توحيد العبادة، وهو توحيد الألوهية الذي هو مضمون شهادة أن لا إله إلا الله. فعبدوا من عبدوه من دون الله ليشفعوا لهم عنده في نصرهم ورزقهم وغير ذلك، كما قال -تعالى- إخبارا عنهم: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} 5، {هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} 6. فبعث الله رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم ينهاهم عن هذا الشرك، ويدعوهم إلى توحيد

_ 1 مسلم: صفة القيامة والجنة والنار "2812" , والترمذي: البر والصلة "1937" , وأحمد "3/313 ,3/354 ,3/366 ,3/384". 2 البخاري: المغازي "4269" , ومسلم: الإيمان "96" , وأبو داود: الجهاد "2643" , وأحمد "5/200 ,5/207". 3 البخاري: الصلاة "393" , والترمذي: الإيمان "2608" , والنسائي: تحريم الدم "3966 ,3967" والإيمان وشرائعه "5003" , وأبو داود: الجهاد "2641" , وأحمد "3/199 ,3/224". 4 مسلم: صفة القيامة والجنة والنار "2812" , والترمذي: البر والصلة "1937" , وأحمد "3/313 ,3/354 ,3/366 ,3/384". 5 سورة الزمر آية: 3. 6 سورة يونس آية: 18.

العبادة وهذه دعوة الرسل من أولهم إلى آخرهم، قال -تعالى-: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} 1، وقوله: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ} 2. وهذا الأصل هو الذي خلق الله الجن والإنس لأجله. قال -تعالى-: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} 3. فإذا تبين أن هذا هو أصل الأصول، علمنا يقينا أن الله -سبحانه- لا يترك هذا الأمر ملتبسا، بل لا بد أن يكون بيّنا واضحا، لا لبس فيه ولا اشتباه، لأنه أصل الدين، ومعرفته فرض على كل مسلم مكلف، ولا يجوز فيه التقليد. وحقيقة ذلك أن الشرك هو عبادة غير الله -تعالى-؛ والعبادة هي الطاعة بفعل ما أمر الله به ورسوله من واجب ومندوب؛ فمن أخلص ذلك لله فهو الموحد، ومن جعل شيئا من العبادة لغير الله فهو مشرك. قال -تعالى-: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئا} 4 أي: في العبادة، وقال -تعالى-: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً} 5 الآية. فإذا علم الإنسان حقيقة الشرك عرف يقينا أن الشرك وقع في الجزيرة كثيرا عند مشاهد وقبور يمنا وحجازا، من دعاء الأموات والغائبين، والاستغاثة بهم وسؤال الحاجات، وتفريج الكربات، والتقرب إليهم بالنذور والذبائح، وكذلك الذبح للجن والاستغاثة بهم؛ وهذا أمر معلوم بالتواتر عند من شاهد ذلك. فإذا تحقق الإنسان ذلك علم أن قوله صلى الله عليه وسلم: "إن الشيطان قد يئس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب" 6 ليس فيه معارضة لهذا الأصل العظيم، الذي هو أصل الأصول، وليس فيه دلالة على استحالة وجود الشرك في أرض العرب. فمن استدل بهذا الحديث على استحالة وجود الشرك في أرض العرب يقال له: بيّن لنا الشرك الذي حرمه الله، وأخبر أنه لا يغفره، فإن فسره بالشرك في توحيد

_ 1 سورة النحل آية: 36. 2 سورة الأنبياء آية: 25. 3 سورة الذاريات آية: 56. 4 سورة النساء آية: 36. 5 سورة الكهف آية: 110. 6 مسلم: صفة القيامة والجنة والنار "2812" , والترمذي: البر والصلة "1937" , وأحمد "3/313 ,3/354 ,3/366 ,3/384".

الربوبية، فنصوص القرآن تبطل قوله لأنه -سبحانه- أخبر عن المشركين أنهم يقرون بتوحيد الربوبية، كما في قوله: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} 1؛ والآيات في ذلك كثيرة. وإن فسر الشرك ببعض أنواع العبادة دون بعض، فهو مكابر، ويخاف على مثله أن يكون من الذين في قلوبهم زيغ، يتركون المحكم، ويتبعون المتشابه؛ مع أنه ليس في الحديث حجة لهم ولا شبهة، وإنما معنى الحديث: أنه يئس أن يجتمعوا كلهم على الكفر. معنى يئس الشيطان من عبادة الناس له قال ابن رجب على الحديث: المراد أنه يئس أن تجتمع الأمة كلها على الشرك الأكبر. وأشار ابن كثير إلى هذا المعنى عند تفسير قوله -تعالى-: {الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ} 2 قال ابن عباس رضي الله عنه: يعني: يئسوا أن تراجعوا دينهم. وكذا قال عطاء والسدي ومقاتل، قال: وعلى هذا يرد الحديث الصحيح: إن الشيطان يئس أن يعبده المصلون في جزيرة العر ب 3. فأشار إلى أن معنى الحديث موافق لمعنى الآية، وأن معنى الحديث أنه يئس أن يرجع المسلمون عن دينهم إلى الكفر. قال غير واحد من المفسرين: إن المشركين كانوا يطمعون في عود المسلمين إلى دينهم، فلما قوي الإسلام وانتشر يئسوا من رجوعهم عن الإسلام إلى الكفر، وكذا معنى إياس الشيطان لما رأى من ظهور الإسلام وانتشاره، وتمكنه من القلوب ورسوخه فيها. وعلى هذا فلا يدل الحديث أن الشيطان يئس من وجود شرك في جزيرة العرب أبد الآبدين. ويدل لما ذكرناه ما رواه الإمام أحمد عن ابن عباس قال: لما افتتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة رن إبليس رنة اجتمع إليه جنوده فقال: ايئسوا أن تردوا أمة محمد إلى الشرك بعد يومكم هذا، ولكن افتنوهم؛ فافشوا فيهم النوح. وأيضا ففي الحديث نسبة اليأس إلى الشيطان مبنيا للفاعل لم يقل أيس بالبناء

_ 1 سورة الزخرف آية: 9. 2 سورة المائدة آية: 3. 3 مسلم: صفة القيامة والجنة والنار "2812" , والترمذي: البر والصلة "1937" , وأحمد "3/313 ,3/354 ,3/366 ,3/384".

للمفعول، ولو قدر أنه يئس من عبادته في أرض العرب إياسا مستمرا، فإنما ذلك ظن منه وتخمين، لا عن علم لأنه لا يعلم الغيب، وهذا غيب لا يعلمه إلا الله: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً إِلا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} 1 فإنه يطلعه على ما يشاء من الغيب، وقد قال -تعالى-: {مَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدا} 2 أي من خير وشر، وهذا من مفاتيح الغيب التي لا يعلمها إلا الله، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "مفاتح الغيب خمس لا يعلمها إلا الله: لا يعلم ما تغيض الأرحام إلا الله، ولا يعلم ما في غد إلا الله" 3 الحديث. وكانت الشياطين في زمن سليمان بن داود -عليهما السلام- يدعون علم الغيب، فلما مات سليمان لم يعلموا بموته إلا بعد سنة، وهم في تلك السنة دائبون في التسخير والأعمال الشاقة، فلما علموا بموته تبين لهم أنهم لا يعلمون الغيب، قال -تعالى-: {فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَا دَابَّةُ الأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ} 4 إلى قوله: {فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ} 5. ونبينا صلى الله عليه وسلم أخبر: "أنه يجاء برجال من أمته يوم القيامة، فيؤخذ بهم ذات الشمال إلى النار فيقول: أصحابي أصحابي، فيقال له: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك" 6. فكيف يقال: إن الشيطان يعلم ما تستمر عليه الأمة من خير وشر، وكفر وإسلام، وهذا غيب لا يعلمه إلا الله، ومن يطلعه عليه من رسله؟ لا دلالة في حديث يئس الشيطان على عدم وقوع الشرك فتبين بما ذكرنا أنه لا دلالة في الحديث على استحالة وقوع الشرك في جزيرة العرب؛ ويوضح ذلك أن أكثر العرب ارتدوا بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم. فكثير منهم رجعوا إلى الكفر وعبادة الأوثان، وكثير صدقوا من ادعى النبوة كمسيلمة وغيره، ومن أطاع الشيطان في نوع من أنواع الكفر فقد عبده. لا تختص عبادة الشيطان بنوع من الشرك لقوله -تعالى-: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ} 7 أي: لا تطيعوه، فعبادته طاعته. يوضح ذلك تفسير النبي صلى الله عليه وسلم لقوله -تعالى-: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ

_ 1 سورة الجن آية: 26. 2 سورة لقمان آية: 34. 3 البخاري: التوحيد "7379" , وأحمد "2/24 ,2/52 ,2/58 ,2/85 ,2/122". 4 سورة سبأ آية: 14. 5 سورة سبأ آية: 14. 6 البخاري: الرقاق "6576" والفتن "7049" , ومسلم: الفضائل "2297" , وابن ماجه: المناسك "3057" , وأحمد "1/384 ,1/402 ,1/406 ,1/407 ,1/425 ,1/439 ,1/453 ,1/455 ,5/387 ,5/393 ,5/400". 7 سورة يس آية: 60.

دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ} 1 الآية، أن طاعتهم في التحريم والتحليل. فسمى الله ذلك شركا، وعبادة منهم للأحبار والرهبان. وأيضا فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " لا تقوم الساعة حتى تعبد اللات والعزى" 2 3، وقال: "لا تقوم الساعة حتى تضطرب إليات نساء دوس حول ذي الخلصة" 4 5، وهو صنم كان لهم في الجاهلية بعث النبي صلى الله عليه وسلم لهدمه جرير بن عبد الله. وقوع عبادة الشيطان في هذه الأمة فتبين أن عبادة الشيطان وجدت بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم في جزيرة العرب، وتوجد آخر الزمان، بهذه النصوص الثابتة، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة؛ حتى لو دخلوا حجر ضب لدخلتموه، قالوا: يا رسول الله، اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟ " 6، وقال: "لتأخذن هذه الأمة مأخذ الأمم قبلها شبرا بشبر، وذراعا بذراع، قالوا: يا رسول الله، فارس والروم؟ قال: ومن الناس إلا أولئك". فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن هذه الأمة تفعل كما فعلت الأمم قبلها: اليهود والنصارى وفارس والروم، وأن هذه الأمة لا تقصر عما فعلته الأمم قبلها، وقال: لا تزال طائفة

_ 1 سورة التوبة آية: 31. 2 مسلم: الفتن وأشراط الساعة "2907". 3 هو في صحيح مسلم من حديث عائشة مرفوعا بلفظ "لا يذهب الليل والنهار حتى تعبد اللات والعزى، قالت: فقلت يا رسول الله: إن كنت لأظن حين أنزل الله "هو الذي أرسل رسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون" إن ذلك تام. قال "إنه سيكون من ذلك ما شاء الله"" إلخ. 4 البخاري: الفتن "7116" , ومسلم: الفتن وأشراط الساعة "2906" , وأحمد "2/271". 5 رواه مسلم. وذو الخلصة: بيت كان فيه صنم لدوس، وخثعم، وبحيلة، وغيرهم، وقيل: ذو الخلصة: الكعبة اليمانية التي كانت باليمن، فأنفذ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- جرير بن عبد الله فخربها، وقيل: ذو الخلصة: الصنم نفسه. والمعنى أنهم يرتدون ويعودون إلى جاهليتهم في عبادة الأوثان، فتسعى نساء بني دوس طائفات حول ذي الخلصة فترتج أعجازهن. اه من النهاية لابن الأثير. 6 البخاري: أحاديث الأنبياء "3456" , ومسلم: العلم "2669" , وأحمد "3/84 ,3/89 ,3/94".

من أمتي على الحق منصورة؛ لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله 1. نسأل الله أن يجعلنا منهم بفضله، ورحمته، وكرمه. "يا عباد الله احبسوا" ليس بحديث ومعناه على فرضه وأما الجواب عن الحديث المروي فيمن انفلتت دابته في السفر أن يقول: يا عباد الله: احبسوا فأجيب بأنه غير صحيح؛ لأنه من رواية معروف بن حسان، وهو منكر الحديث، قاله: ابن عدي. ومن المعلوم- إن كان صحيحا- أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يأمر من انفلتت دابته أن يطلب ردها، وينادي من لا يسمعه ولا يقدر على ردها، بل نقطع أنه إنما أمره أن ينادي من يسمعه، وله قدرة على ذلك، كما ينادي الإنسان أصحابه الذين معه في سفره ليردوا دابته. وهذا يدل- إن صح- على أن لله جنودا يسمعون ويقدرون: {مَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلا هُوَ} 2 وروي زيادة لفظه في الحديث "فإن الله حاضر"، فهذا صريح في أنه إنما ينادي حاضرا يسمع، فكيف يستدل بذلك على جواز الاستغاثة بأهل القبور والغائبين؟ فمَن استدل بهذا الحديث على دعاء الأموات لزمه أن يقول: إن دعاء الأموات ونحوهم، إما مستحب أو مباح لأن لفظ الحديث "فليناد" وهذا أمر أقل أحواله الاستحباب أو الإباحة. ومن ادعى أن الاستغاثة بالأموات والغائبين مستحب أو مباح فقد مرق من الإسلام. فإذا تحققت أن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يأمر من انفلتت دابته أن ينادي من لا يسمعه، ولا قدرة له على ذلك، وكما دل عليه قوله "فإن الله حاضر" تبين لك ضلال من استدل به على دعاء الغائبين والأموات، الذين لا يسمعون ولا ينفعون، وهل هذا إلا مضادة لقول الله -تعالى-: {وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ} 3، وقوله: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ

_ 1 مسلم: الإمارة "1920" , والترمذي: الفتن "2229" , وأبو داود: الفتن والملاحم "4252" , وابن ماجه: المقدمة "10" والفتن "3952" , وأحمد "5/279". 2 سورة المدثر آية: 31. 3 سورة يونس آية: 106.

مِنْ قِطْمِيرٍ إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ} 1 الآية، وقوله: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ} 2، {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} 3، وقال: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ} 4 الآية. فهذه الآيات وأضعافها نص في تضليل من دعا من لا يسمع دعاءه، ولا قدر له على نفعه ولا ضره، ولو قدر سماعه فإنه عاجز. فكيف تترك نصوص القرآن الواضحة، وترد بقوله: "يا عباد الله: احبسوا"، مع أنه ليس في ذلك معارضة لما دل عليه القرآن، ولا شبهة معارضة؟ ولله الحمد. قول: لا إله إلا الله وحده غير كاف في العصمة وأما من ادعى أن من قال: لا إله إلا الله، فإنه لا يجوز قتله، ولا قتال الطائفة الممتنعة، إذا قالوا هذه الكلمة وإن فعلوا أي ذنب، فهذا قول مخالف للكتاب والسنة والإجماع، ولو طرد هذا القائل أصله لكان كافرا بلا شك. أما الكتاب: فقول الله -تعالى-: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} 5 إلى قوله: {فَإِنْ تَابُوا} 6 أي: عن الشرك {وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} 7، فجعل قتالهم ممدودا إلى إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، بعد الإتيان بالتوحيد. وقال -تعالى-: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ} 8 أي: شرك {وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} 9. وأما السنة: فكثير جدا: "منها": ما ثبت في الصحيحين من حديث ابن عمر -رضي الله عنهما- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم، وأموالهم إلا بحقها" 10. وفي الصحيحين عن أبي هريرة قال: لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم استخلف

_ 1 سورة فاطر آية: 13، 14. 2 سورة الأحقاف آية: 5. 3 سورة الجن آية: 18. 4 سورة الرعد آية: 14. 5 سورة التوبة آية: 5. 6 سورة التوبة آية: 5. 7 سورة التوبة آية: 5. 8 سورة الأنفال آية: 39. 9 سورة الأنفال آية: 39. 10 البخاري: الإيمان "25" , ومسلم: الإيمان "22".

أبو بكر، وكفر من كفر من العرب. قال عمر لأبي بكر: كيف تقاتل الناس، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها " 1؟ فقال أبو بكر: "لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة؛ فإن الزكاة حق المال، فوالله لو منعوني عقالا كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعه"، فقال عمر: "فوالله ما هو إلا أن رأيت الله قد شرح صدر أبي بكر للقتال، فعرفت أنه الحق". فقد جعل الصديق رضي الله عنه المبيح للقتال: مجرد المنع، لا جحد الوجوب. وقال النووي في شرح مسلم: "باب الأمر بقتال الناس، حتى يقولوا: لا إله إلا الله محمد رسول الله، ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، ويؤمنوا بجميع ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، وأن من أتى بذلك عصم نفسه وماله إلا بحقها، ووكلت سريرته إلى الله، وقتال من منع الزكاة وغيرها من حقوق الإسلام، واهتمام الإمام بشرائع الإسلام"، ثم ساق الحديث، ثم قال: قال الخطابي في شرح هذا الكتاب كلاما حسنا، لا بد من ذكره لما فيه من الفوائد: قتال الصحابة لمن فرق بين الصلاة والزكاة قال رحمه الله: مما يجب تقديمه أن يعلم أن أهل الردة كانوا صنفين ارتدوا عن الدين، ونابذوا الملة وعادوا لكفرهم، وهم الذين عنى أبو هريرة بقوله: "وكفر من كفر من العرب". "والصنف الثاني": فرقوا بين الصلاة والزكاة، فأقروا بالصلاة، وأنكروا فرض الزكاة، ووجوب أدائها إلى الإمام. وقد كان في ضمن هؤلاء المانعين من يكاد يسمح بالزكاة ولا يمنعها، إلا أن رؤساءهم صدوهم عن ذلك الرأي، وقبضوا على أيديهم في ذلك، كبني يربوع، فإنهم جمعوا صدقاتهم، وأرادوا أن يبعثوا بها إلى أبي بكر، فمنعهم مالك بن نويرة من ذلك وفرقها فيهم، وفي أمر هؤلاء عرض الخلاف، ووقعت الشبهة عند عمر -رضي الله

_ 1 البخاري: الصلاة "393" , والترمذي: الإيمان "2608" , والنسائي: تحريم الدم "3966 ,3967" والإيمان وشرائعه "5003" , وأبو داود: الجهاد "2641" , وأحمد "3/199 ,3/224".

عنه -، فراجع أبا بكر، وناظره، واحتج عليه بقول النبي صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أقاتل الناس، حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فمن قال: لا إله إلا الله، فقد عصم نفسه وماله"1. وكان هذا من عمر تعلقا بظاهر الكلام قبل أن ينظر في آخره، ويتأمل شرائطه، فقال له أبو بكر "الزكاة حق المال"، يريد أن القضية قد تضمنت عصمة دم ومال معلقة بإيفاء شرائطها. والحكم المعلق بشرطين لا يحصل بأحدهما والآخر معدوم، ثم قايسه بالصلاة، ورد الزكاة إليها. وكان في ذلك من قوله دليل على قتال الممتنع من الصلاة، وإن كان إجماعا من الصحابة -رضي الله عنهم-، ولذلك رد المختلف فيه إلى المتفق عليه. فلما استقر عندهم رأي أبي بكر رضي الله عنه وبان لعمر صوابه، تابعه على قتال القوم، وهو معنى قوله: "فلما رأيت الله شرح صدر أبي بكر للقتال، عرفت أنه الحق"، يريد انشراح صدره بالحجة التي أدلى، والبرهان الذي أقامه نصا ودلالة. انتهى. قول النووي والخطابي في حديث: "أمرت أن أقاتل الناس" وقال النووي أيضا: وقال الخطابي -ويبين لك أن حديث أبي هريرة مختصر-: إن عبد الله بن عمر وأنسا روياه بزيادة لم يذكرها أبو هريرة. ففي حديث ابن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أمرت أن أقاتل الناس، حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها" 2. وفي رواية أنس: أمرت أن أقاتل الناس، حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وأن يستقبلوا قبلتنا، وأن يأكلوا ذبيحتنا، وأن يصلوا صلاتنا، فإذا فعلوا ذلك حرمت علينا دماؤهم إلا بحقها، ولهم ما للمسلمين، وعليهم ما على المسلمين3 انتهى. "قلت": وقد ثبت في الطريق الثالث المذكور في الكتاب من رواية أبي

_ 1 البخاري: الصلاة "393" , والترمذي: الإيمان "2608" , والنسائي: تحريم الدم "3966 ,3967" والإيمان وشرائعه "5003" , وأبو داود: الجهاد "2641" , وأحمد "3/199 ,3/224". 2 البخاري: الإيمان "25" , ومسلم: الإيمان "22". 3 البخاري: الصلاة "393" , والترمذي: الإيمان "2608" , والنسائي: تحريم الدم "3967" والإيمان وشرائعه "5003" , وأبو داود: الجهاد "2641" , وأحمد "3/224".

هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أمرت أن أقاتل الناس، حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، ويؤمنوا بي وبما جئت به، فإذا قالوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم، إلا بحقها" 1. وفي استدلال أبي بكر واعتراض عمر -رضي الله عنهما- دليل على أنهما لم يحفظا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما حفظه ابن عمر وأنس وأبو هريرة، وكان هؤلاء الثلاثة سمعوا هذه الزيادة في روايتهم في مجلس آخر، فإن عمر لو سمع ذلك لما خالف، ولما كان احتج بالحديث، فإن هذه الزيادة حجة عليه، ولو سمع أبو بكر هذه الزيادة لاحتج بها، ولمَا كان احتج بالقياس والعموم. والله أعلم. انتهى كلام النووي -رحمه الله-. وقال النووي في شرح قوله صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أقاتل الناس، حتى يقولوا لا إله إلا الله، فمن قالها عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه، وحسابه على الله" 2. معنى قوله عليه السلام: وحسابه على الله" قال الخطابي: معلوم أن المراد بهذا أهل الأوثان دون أهل الكتاب لأنهم يقولون: لا إله إلا الله، ثم يقاتلون، ولا يرفع عنهم السيف. قال: ومعنى "وحسابه على الله"، أي فيما يسرونه ويخفونه، ففيه: أن من أظهر الإسلام، وأسر الكفر يقبل إسلامه في الظاهر، وهذا قول أكثر العلماء. وذهب مالك إلى أن توبة الزنديق لا تقبل، ويحكى ذلك عن أحمد بن حنبل. هذا كلام الخطابي. وذكر القاضي عياض معنى هذا، وزاد عليه، ووضحه، فقال: اختصاص عصمة المال والنفس لمن قال: لا إله إلا الله؛ تعبير عن الإجابة إلى الإيمان، وأن المراد مشركو العرب وأهل الأوثان، ومن لا يوحد، وهم أول من دعي إلى الإسلام وقوتل. فأما غيرهم ممن يقر بالتوحيد فلا يكتفى في عصمته بقول: لا إله إلا الله إذ كان يقولها في كفره، وهي من اعتقاده، فلذلك جاء في الحديث الآخر: أني رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة 3 وهذا كلام القاضي.

_ 1 مسلم: الإيمان "21". 2 البخاري: الصلاة "393" , والترمذي: الإيمان "2608" , والنسائي: تحريم الدم "3966 ,3967" والإيمان وشرائعه "5003" , وأبو داود: الجهاد "2641" , وأحمد "3/199 ,3/224". 3 البخاري: الإيمان "25" , ومسلم: الإيمان "22".

قول فقهاء المذاهب فيمن قال لا إله إلا الله وعمل بضدها "قلت": ولا بد من الإيمان بما جاء به الرسول، كما جاء في الرواية الأخرى عن أبي هريرة: حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، ويؤمنوا بي، وبما جئت به1 انتهى كلام النووي. ولازم قول من قال: أنه لا يجوز قتال من قال: لا إله إلا الله، تخطئة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في قتالهم مانعي الزكاة، وإجماعهم على قتال من لا يصلي، إذا كانوا طائفة ممتنعين؛ بل يلزم من ذلك تخطئة جميع الصحابة في قتالهم بني حنيفة، وتخطئة علي بن أبي طالب رضي الله عنه في قتال الخوارج؛ بل لازم ذلك رد النصوص، بل رد نصوص القرآن -كما قدمنا-، ورد نصوص رسول الله صلى الله عليه وسلم التي لا تحصى. ويلزم صاحب هذه المقالة الفاسدة أنه لا يجوز قتال اليهود؛ لأنهم يقولون: لا إله إلا الله. فتبين بما قررناه أن صاحب هذا القول مخالف للكتاب، والسنة، والإجماع. ونذكر بعض ما اطلعنا عليه من كلام فقهاء المذاهب: قال الشيخ علي الأجهوري المالكي: من ترك فرضا أخره لبقاء ركعة بسجدتيها من غير الضرورة، قتل بالسيف حدا على المشهور. وقال ابن حبيب وجماعة: ظاهر المذهب كفر، واختاره ابن عبد السلام. وقال: في فضل الأذان معنيان: "أحدهما": إظهار الشعائر، والتعريف بأن الدار دار إسلام، وهو فرض كفاية، يقاتل أهل القرية حتى يفعلوه، إن عجز عن قهرهم على إقامته إلا بقتال. "والثاني": الدعاء إلى الصلاة، والإعلام بوقتها. وقال الأبي في شرح مسلم: والمشهور أن الأذان فرض كفاية على أهل المصر لأنه شعار الإسلام، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إن لم يسمع أذانا أغار، وإلا أمسك. وقول المصنف: يقاتلون عليه، ليس القتال عليه من خصائص القول بالوجوب، لأنه نص عن عياض في قول المصنف: والوتر غير واجب؛ لأنهم اختلفوا في التمالؤ

_ 1 مسلم: الإيمان "21" , وابن ماجه: المقدمة "71".

على ترك السنن، هل يقاتلون عليها؟ والصحيح قتالهم وإكراههم لأن في التمالؤ على تركها إماتتها. اه. وقال في فضل صلاة الجماعة: صلاة الجماعة مستحبة للرجل في نفسه، فرض كفاية في الجملة، يعني أهل المصر، قال: ولو تركوها قوتلوا، كما تقدم. اه. وقال الشيخ أحمد بن حمدان الأدرعي الشافعي في كتاب "قوت المحتاج في شرح المنهاج": من ترك الصلاة جاحدا وجوبها كفر بالإجماع، وذلك جار في جحود مجمع عليه، معلوم من الدين بالضرورة. فإن تركها كسلا قتل حدّا على الصحيح والمشهور. أما قتله، فلأن الله قال: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} 1. ثم قال: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} 2 فدل على أن القتل لا يرفع إلا بالإيمان، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، ولما في الصحيحين: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم، إلا بحقها" 3 إلى أن قال في الروضة: تارك الصلاة يقتل على الصحيح، جزم به الشيخ أبو حامد. وفي البيان: لو صلى عريانا مع القدرة على السترة، أو صلى الفريضة قاعدا بلا عذر، قُتل، إلى أن قال: والصحيح قتله بصلاة واحدة، بشرط إخراجها عن وقت الضرورة. وقال ابن حجر الهيتمي في التحفة "في باب حكم تارك الصلاة": إن ترك الصلاة جاحدا وجوبها كفر بالإجماع، أو تركها كسلا مع اعتقاد وجوبها قتل، للآية {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} 4، وحديث: "أمرت أن أقاتل الناس" 5 الحديث، فإنهما شرطا في الكف عن القتل والمقاتلة: الإسلام، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة. لكن الزكاة يمكن الإمام أخذها، ولو بالمقاتلة ممن امتنعوا وقاتلوا، فكانت فيها على حقيقتها، بخلافها في الصلاة، فإنه لا يمكن فعلها بالمقاتلة، فكانت فيها بمعنى القتل. اهـ.

_ 1 سورة التوبة آية: 5. 2 سورة التوبة آية: 5. 3 البخاري: الإيمان "25" , ومسلم: الإيمان "22". 4 سورة التوبة آية: 5. 5 البخاري: الصلاة "393" , والترمذي: الإيمان "2608" , والنسائي: تحريم الدم "3966 ,3967" والإيمان وشرائعه "5003" , وأبو داود: الجهاد "2641" , وأحمد "3/199 ,3/224

مجرد الاعتصام بالإسلام مع عدم التزام شرائعه ليس بمسقط القتال وأما كلام الحنابلة، فصرحوا بأن أهل البلد إذا تركوا الأذان والإقامة قوتلوا؛ أي: قاتلهم الإمام، أو نائبه حتى يفعلوهما. وكذا قالوا في صلاة الجماعة يقاتل تاركها، وكذا قالوا في صلاة العيد يقاتل أهل بلد تركوها، وكذا قالوا في قتال مانعي الزكاة، وأن الواجد إذا امتنع من أداء الزكاة، ولم يمكن أخذها منه قهرا، قتل بعد الاستتابة. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى-: كل طائفة ممتنعة عن التزام شريعة من شرائع الإسلام الظاهرة المتواترة، فإنه يجب قتالهم حتى يلتزموا شرائعه، وإن كانوا مع ذلك ناطقين بالشهادتين، وملتزمين بعض شرائعه، كما قاتل الصديق رضي الله عنه مانعي الزكاة، وعلى ذلك اتفق الفقهاء بعدهم بعد سابقة مناظرة عمر لأبي بكر -رضي الله عنهما-، فاتفق الصحابة -رضي الله عنهم- على القتال على حقوق الإسلام، عملا بالكتاب والسنة. وكذلك ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من عشرة أوجه الحديث عن الخوارج، وأخبر أنهم شر الخلق والخليقة، مع قوله: "تحقرون صلاتكم مع صلاتهم، وصيامكم مع صيامهم" 1، فعلم أن مجرد الاعتصام بالإسلام مع عدم التزام شرائعه، ليس بمسقط القتال. فالقتل واجب حتى يكون الدين كله لله، وحتى لا تكون فتنة، فمتى كان الدين لغير الله فالقتال واجب. فأيما طائفة ممتنعة امتنعت من بعض الصلوات المفروضة، أو الصيام، أو الحج، أو عن التزام تحريم الدماء والأموال، والخمر والميسر، ونكاح ذوات المحارم، أو عن التزام جهاد الكفار، أو ضرب الجزية على أهل الكتاب، أو غير ذلك من التزام واجبات الدين، أو محرماته التي لا عذر لأحد في جحودها، أو تركها التي يكفر الواحد بجحودها، فإن الطائفة الممتنعة تقاتل عليها، وإن كانت مقرة بها. وهذا مما لا أعلم فيه خلافا بين العلماء. وإنما اختلف الفقهاء في الطائفة إذا أصروا على ترك بعض السنن كركعتي الفجر، والأذان، والإقامة عند

_ 1 البخاري: فضائل القرآن "5058" , ومسلم: الزكاة "1064" , وأحمد "3/33 ,3/56 ,3/60 ,3/65".

من لا يقول بوجوبهما، ونحو ذلك من الشعائر، فهل تقاتل الطائفة الممتنعة على تركها أم لا؟ فأما الواجبات أو المحرمات المذكورة، ونحوها فلا خلاف في القتال عليها، انتهى. وأيضا فالمقصود من لا إله إلا الله البراءة من الشرك، وعبادة غير الله -تعالى-. ومشركو العرب يعرفون المراد منها لأنهم أهل اللسان، فإذا قال أحدهم: لا إله إلا الله، فقد تبرأ من الشرك، وعبادة غير الله -تعالى-. فلو قال: لا إله إلا الله، وهو مصر على عبادة غير الله لم تعصمه هذه الكلمة؛ لقوله -سبحانه وتعالى-: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ} 1 أي: شرك {وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} 2، وقوله: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} 3. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "بعثت بالسيف بين يدي الساعة، حتى يُعبد الله وحده، لا شريك له" 4، وهذا معنى قوله -تعالى-: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ} 5أي: الطاعة وهذا معنى لا إله إلا الله. نسأل الله أن يجعلها آخر كلامنا، ويتوفانا مسلمين برحمته، فهو أرحم الراحمين. وصلى الله على سيدنا ونبينا محمدوعلى آله وصحبه والتابعين لهمبإحسان إلى يوم الدين تمت هذه النسخة الشريفة، المحتوية على الألفاظ المنيفة اللطيفة. أسكن الله -تعالى- مؤلفها الغرف العالية الرفيعة. آمين. وصلى الله على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا

_ 1 سورة الأنفال آية: 39. 2 سورة الأنفال آية: 39. 3 سورة التوبة آية: 5. 4 أحمد "2/50". 5 سورة البقرة آية: 193.

رسالة في معنى قوله صلى الله عليه وسلم "إن لله تسعة وتسعين اسما، من أحصاها دخل الجنة"ومحاجة آدم لموسى -عليهما السلام- معنى إحصاء أسماء الله بسم الله الرحمن الر حيم من عبد الله بن عبد الرحمن -أبا بطين- إلى الإخوان محمد آل عمر، وصالح آل عثمان، ومحمد آل إبراهيم، ثبتهم الله على الإسلام، ووفقهم للتمسك بسنة سيد الأنام، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. "وبعد" فموجب الخط: إبلاغ السلام، والوصية بالتمسك بما من الله به عليكم من معرفة التوحيد، الذي هو حق الله على العبيد، فاعرفوا حق هذه النعمة، وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر، نسأل الله أن يجعلنا وإياكم ممن إذا أنعم الله عليه شكر، وإذا ابتلي صبر، وإذا أذنب استغفر. وما سألتم عنه من معنى قوله صلى الله عليه وسلم: "إن لله تسعة وتسعين اسما، فمن أحصاها دخل الجنة" 1 فقد ذكر ابن القيم -رحمه الله تعالى- ما معناه: إن الإحصاء يتناول ثلاثة أمور: "الأول": حفظها، "الثاني": معرفة معانيها، "الثالث": اعتقاد ما دلت عليه، والعمل بمقتضاه. محاجة آدم لموسى وأما معنى محاجة آدم موسى -عليهما السلام- ولوم موسى لآدم، فذكر شيخ الإسلام وغيره: أن لوم موسى لآدم إنما هو على المصيبة التي لحقت الذرية بسبب الذنب، وآدم إنما احتج بالقدر على المصيبة، لا على الذنب. يوضح ذلك: أنه لو جاز الاحتجاج بالقدر على الذنب، وأنه حجة صحيحة، لكان حجة لإبليس وجميع العصاة، وهذا باطل بدلائل الكتاب والسنة، وإجماع أهل الحق من الأمة، والله -سبحانه وتعالى- أعلم، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.

_ 1 البخاري: الشروط "2736" , ومسلم: الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار "2677" , والترمذي: الدعوات "3508" , وابن ماجه: الدعاء "3860" , وأحمد "2/258 ,2/267 ,2/427 ,2/499 ,2/503 ,2/516".

الطلاق على عوض بسم الله الرحمن الر حيم من عبد الله بن عبد الرحمن -أبا بطين- إلى الأخ المكرم إبراهيم آل علي -سلمه الله تعالى-، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. "وبعد" موجب الخط: إبلاغك السلام، والخط وصل -أوصلك الله إلى ما تحب-، وما ذكرت من حال طلاق الذي يذكر أنه طلق زوجته طلقة على عوض منها، ثم بعد ذلك طلقها ثلاثا، فإذا صدقته الزوجة على قوله: إنه طلقها الأولى على عوض منها، فلا يلحقها الطلاق الذي بعد ذلك، وتجوز له بعقد جديد. وما ذكرت من حال الذي يبغي يعطي الأمير، فالذي تراه مبارك؛ إن أعطى سعر مثله فهو المطلوب، فإن قصر عن السعر، ولا سمحت نفسه بالتمام، فهذا شيء زهيد ما يسوى يكتب من طرفه، ومتى ما شفت له مبيعه تبيعه -إن شاء الله-. وسلم لنا على العيال، والأمير، وولدنا عبد العزيز، وإخوانه، وآل محمد، والطلبة يسلمون عليكم، وأنت في حفظ الله وأمانه. والسلام. نصيحة في التمسك بالتوحيد والأمر بإنكار المنكر بسم الله الرحمن الر حيم "وبه نستعين" من عبد الله بن عبد الرحمن -أبا بطين- إلى الإخوان عبد الله آل علي، وحمود، وعلى آل عبد الله التويجر، وفقهم الله لطاعته، وحفظهم بكلاءته. سلام عليكم ورحمته وبركاته.

وبعد موجب الخط: إبلاغكم السلام، والسؤال عن حالكم -أصلح الله لنا ولكم الدين والدنيا والآخرة-، وخطكم وصل -أوصلكم الله إلى الخير-، نسأل الله أن يحيينا، وإياكم حياة طيبة، وهي الحياة في الطاعة، وأوصيكم بتقوى الله، والاستكثار من أعمال الخير، والتمسك بما تعرفون من التوحيد الذي دعا إليه الشيخ محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله-. فأكثر الناس اليوم صار المعروف عندهم منكرا، والمنكر معروفا، وهذا زمان القابض فيه على دينه كالقابض على الجمر، وكل زمان شر مما قبله، وتصدّر للفتوى جهال؛ أضلوا الناس، اجتمع فيهم الجهل والفجور. وبعض من عنده معرفة، صار يناظر وجوه أهل الدنيا1، والمنصف اليوم أعز من الكبريت الأحمر، والحق -ولله الحمد- عليه نور. قال صلى الله عليه وسلم: "تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها" 2 والحق مع ظهوره في غاية الغربة، ويرى المؤمن ما يذوب من قلبه. ونرجو أن المتمسك بدين الله اليوم يحصل له أجر خمسين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأجل ظهور الشرك في الأمصار، وظهور المنكرات، وإضاعة الصلوات. فلم يبق -والله- من الإسلام إلا اسمه، وهذا مصداق ما أخبر به الصادق المصدوق -صلوات الله وسلامه عليه، وعلى سائر الأنبياء والمرسلين-. نسأل الله أن يهدينا وإياكم صراطه المستقيم، ويتوفانا مسلمين، ويجعلنا وإياكم مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين. هذا، وأنتم في أمان الله، وحفظه. والسلام، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.

_ 1 أي يجتهد أن يكون نظيرهم في الجاه والمال. 2 ابن ماجه: المقدمة "44" , وأحمد "4/126"

فتاوى في الاستشفاع والاستغاثة وغيرها معنى الاستشفاع والاستغاثة سئل الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن -أبا بطين-، عن المسائل الآتية، فأجاب عنها بما نصه:- وما سألت عنه من إنكار النبي صلى الله عليه وسلم على من قال: نستشفع بالله عليك، ولم ينكر قوله: نستشفع بك على الله؛ لأن معنى قوله: نستشفع بك على الله، أي نطلب منك أن تدعو الله أن يغيثنا؛ لأن الداعي شافع، ومعنى نستشفع بالله عليك: نطلب من الله أن يطلب منك أن تدعو لنا، وتستسقي لنا، والله -سبحانه وتعالى- يُشفع إليه، ولا يشفع هو إلى أحد. وأما آخر الحديث الذي أشار إليه بعد قوله: لا يستشفع به على أحد، شأن الله أعظم من ذلك. إن الله على عرشه، وإن عرشه على سمواته وأرضه هكذا 1 وقال بأصابعه مثل القبة، وفي لفظ: وإن عرشه فوق سماواته، وسماواته فوق أرضه هكذا 2 - وقال بأصابعه مثل القبة 3. وأما قوله في الحديث الآخر: إنه لا يستغاث بي الحديث، فإن كان 4

_ 1 أبو داود: السنة "4726". 2 أبو داود: السنة "4726". 3 يراجع ما قاله شيخ الإسلام في هذا الحديث في رسالة العرش. 4 هكذا في الأصل وليس بعد هذا الشرط جزاء له. ومن المعلوم أن الاستغاثة كالاستعانة والدعاء، منها ما هو عادي، وما هو عبادة. فالعادي ما يطلب من الناس من الأمور العادية التي تدخل في كسبهم وقدرتهم، وأما العبادة فهو طلب ما لا يدخل في كسب العباد، ولا في نظام الأسباب والمسببات، وهذا لا يطلب إلا من الله القادر على كل شيء، فإذا وجه إلى مخلوق كان عبادة له، وشركا بالله -تعالى-، ومن ذلك دعاء الموتى والاستغاثة بهم، وقد انقطع كسبهم، وصاروا في عالم الغيب، الذي لا يعلم شأنهم فيه إلا الله -تعالى-.

النبي صلى الله عليه وسلم أراد بهذا الحماية لجانب التوحيد، وإن كانت الاستغاثة بالمخلوق -فيما يقدر عليه- جائزة كقوله -تعالى-: {فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ} 1، وإذا أقبل عليك عدو ونخيت على ربعك2 يعاونونك، فهذا استغاثة بهم، والاستغاثة بالمخلوق فيما يقدر عليه جائزة. ضعف الإيمان في القلوب حتى أصبحت لا تحس بما يقع من الشرك والحديث المروي: "يأتي على الناس زمان يذوب فيه قلب المؤمن" الحديث؛ فهذه الأزمنة، والله كذلك، ولكن لضعف الإيمان ما نحس بذلك على حقيقته، وقد اشتدت -والله- غربة الإسلام. وأي غربة أعظم من غربة من وفقه الله لمعرفة التوحيد، الذي اتفقت عليه جميع الرسل الذي هو حق الله على عباده، مع جهل أكثر الناس اليوم به، وإنكارهم له، والأمر كما قال الله -تعالى-: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} 3. نسأل الله لنا ولكم الوفاة على التوحيد؛ الذي هو إخلاص العبادة لله وحده. وقول الحسن -رحمه الله-، فما أحسن ذلك وأجله، وتوجعه وتأوهه، فما رأى في زمانه المثنى على أهله، ولا يأتي زمان إلا والذي بعده شر منه، كما قال الصادق المصدوق، لكن لغلبة الجهل وقلة العلم، وإلف العادة، ضعف استنكار المنكر وعُدِم.. فالله المستعان، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.

_ 1 سورة القصص آية: 15. 2 الربع: جماعة الرجل وقبيلته. ونخيت، أصله: أنخت بعيرك، والمعنى: نزلت عليهم، واستنصرت على العدو. 3 سورة يونس آية: 58.

معنى كلمة التوحيد معنى كلمة التوحيد نفيا وإثباتا ومعنى المعبود والعبادة معنى كلمة التوحيد وحكم من قالها ولم يكفر بما يعبد من دون الله. بسم الله الرحمن الر حيم سئل الشيخ أبا بطين1 -رحمه الله- عن معنى لا إله إلا الله، وعمن قالها، ولم يكفر بما يعبد من دون الله. وهل من قالها، ودعا نبيا، أو وليا هل تنفعه؟ أو هو مباح الدم والمال ولو قالها؟ أجاب -رحمه الله وعفا عنه-: معنى لا إله إلا الله عند جميع أهل اللغة وعلماء التفسير والفقهاء، كلهم يفسرون الإله بالمعبود، والتأله: التعبد. وأما العبادة فعرفها بعضهم بأنها ما أمر به شرعا من غير اطراد عرفي، ولا اقتضاء عقلي. والمأثور عن السلف تفسير العبادة بالطاعة، فيدخل في ذلك فعل المأمور وترك المحظور من واجب ومندوب، وترك المنهي عنه من محرم ومكروه. فمن جعل نوعا من أنواع العبادة لغير الله كالدعاء، والسجود، والذبح، والنذر، وغير ذلك لغير الله فهو مشرك. ولا إله إلا الله متضمنة للكفر بما يعبد من دونه، لأن معنى لا إله إلا الله إثبات العبادة لله وحده، والبراءة من كل معبود سواه، وهذا معنى الكفر بما يعبد من دونه، لأن معنى الكفر بما يعبد من دونه البراءة منه واعتقاد بطلانه، وهذا معنى الكفر بالطاغوت في قول الله –تعالى-: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} 2. والطاغوت: اسم لكل معبود سوى الله،

_ 1 هذا اللفظ علم محكي كما كانوا ينطقون به في أحوال الإعراب الثلاثة فهو هنا محله الرفع كما هو ظاهر. 2 سورة البقرة آية: 256.

كما في قوله –تعالى-: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} 1، وقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: "من قال: لا إله إلا الله، وكفر بما يعبد من دون الله، حرم ماله ودمه، وحسابه على الله" 2. فقوله: "وكفر بما يعبد من دون الله" 3 الظاهر أن هذا زيادة إيضاح؛ لأن لا إله إلا الله متضمنة للكفر بما يعبد من دون الله، ومن قال: لا إله إلا الله، ومع ذلك يفعل الشرك الأكبر، كدعاء الموتى والغائبين، وسؤالهم قضاء الحاجات، وتفريج الكربات، والتقرب إليهم بالنذور والذبائح، فهذا مشرك شاء أم أبى، والله لا يغفر أن يشرك به {مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ} 4. ومع هذا فهو مشرك، ومن فعله كان كافرا، ولكن على ما قال الشيخ: لا يقال فلان كافر حتى يبين له ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، فإن أصرَّ بعد البيان حكم بكفره وحل دمه وماله، وقال –تعالى-: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ} 5 أي: شرك {وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} 6. فإذا كان في بلد وثن يعبد من دون الله، قوتلوا لأجل هذا الوثن، أي: لإزالته وهدمه وترك الشرك، حتى يكون الدين كله لله. والدعاء دين، سماه الله دينا كما في قوله –تعالى-: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} 7 أي: الدعاء، وقال صلى الله عليه وسلم: "بعثت بالسيف بين يدي الساعة، حتى يعبد الله وحده لا شريك له" 8. فمتى كان شيء من العبادة مصروفا لغير الله، فالسيف مسلول عليه، والله أعلم، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.

_ 1 سورة النحل آية: 36. 2 مسلم: الإيمان "23" , وأحمد "3/472 ,6/394". 3 صحيح مسلم: كتاب الإيمان "23" , ومسند أحمد "3/472 ,6/394". 4 سورة المائدة آية: 72. 5 سورة الأنفال آية: 39. 6 سورة الأنفال آية: 39. 7 سورة العنكبوت آية: 65. 8 أحمد "2/50".

معنى كلمة التوحيد نفيا وإثباتا ومعنى الإله والعبادة بسم الله الرحمن الر حيم سأل بعض الإخوان الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن -رحمة الله تعالى علينا وعليه- عن معنى لا إله إلا الله وما تنفي، وما تثبت. فأجاب -رحمه الله تعالى-: وما سألت عن معنى لا إله إلا الله، وما تثبت وما تنفي، "فأول" واجب على الإنسان معرفة معنى هذه الكلمة، قال الله –تعالى- لنبيه صلى الله عليه وسلم: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ} 1، وقال: {وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ} 2 أي: بلا إله إلا الله {هُمْ يَعْلَمُونَ} 3 بقلوبهم ما شهدوا به بألسنتهم. فأفرض الفرائض معرفة معنى هذه الكلمة، ثم التلفظ بمقتضاها، فالإله هو المعبود والتأله التعبد. لا معبود إلا الله: نفت الإلهية عمن سوى الله، وأثبتتها لله تعالى وحده. فإذا عرفت أن الإله هو المعبود، والإلهية هي العبادة، والعبادة: اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأفعال، فالإله هو المعبود المطاع، فمن جعل شيئا من العبادة لغير الله فهو مشرك، وذلك كالسجود، والدعاء، والذبح، والنذر، وكذلك التوكل والخوف والرجاء، وغير ذلك من أنواع العبادة الظاهرة والباطنة. وإفراد الله –سبحانه- بالعبادة، ونفيها عمن سواه هو حقيقة التوحيد، وهو معنى لا إله إلا الله. فمن قال: لا إله إلا الله بصدق ويقين، أخرجت من قلبه كل ما سوى الله محبة وتعظيما وإجلالا ومهابة وخشية وتوكلا، فلا يصير في قلبه محبة لما يكرهه الله ولا كراهة لما يحبه، وهذا حقيقة الإخلاص الذي قال فيه صلى الله عليه وسلم: "من قال لا إله إلا الله مخلصا من قلبه دخل الجنة، أو حرم الله عليه النار" 4. قيل للحسن البصري: إن ناسا يقولون: من قال لا إله إلا الله دخل الجنة، فقال: من قال لا إله إلا الله فأدَّى حقها وفرضها. وغالب من يقول لا إله إلا الله إنما يقولها تقليدا، ولم يخالط الإيمان بشاشة قلبه

_ 1 سورة محمد آية: 19. 2 سورة الزخرف آية: 86. 3 سورة الزخرف آية: 86. 4 أحمد "5/236".

فلا يعرف ما 1 ومن لا يعرف ذلك يخفى عليه أن يصرف عنها عند الموت، وفي القبور أمثال هؤلاء يقولون كما في الحديث: سمعت الناس يقولون شيئا فقلته 2. نسأل الله أن يثبتنا وإياكم بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، والله أعلم. اهـ. "نقل من خط من يزعم أنه نقله من خط الشيخ العلامة والعالم الفاضل البحر الفهامة، وحيد زمانه، وفائق أقرانه، وفارس المعاني والألفاظ، وأوحد الأجلة الحفاظ، ذي الهمم السنية، والمفاخر العلية، مفتي الديار النجدية، نادرة العصر، وزينة الدهر، عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين –رحمه الله تعالى-". فتاوى فقهية ومسائل وصي الصغير وتصرفاته في مال الصغير "في تصرف وصي الصبي في ماله وفي الطلاق وليهما يقدم من مال الميت سداد الدين أو الحج عنه". بسم الله الرحمن الر حيم أفتنا -عفا الله عنك-: إذا كان هنا وكيل لعيال صغار قاصرين، والوكيل كأخ، أو عم، أو أجنبي، هل تمضي وكالته بكل حال كقسم عقار، أو تصرف بمال أو غيره، أو تمضي بشيء دون شيء؟ "مسألة": إذا طلَّق رجل امرأته في حال صحته بائنا بعوض، أو ثلاث، فمات وهي في عدته، هل يجب عليها حداد؟ ويستحب، أم لا؟ "مسألة": إذا مات إنسان وفي ذمته دين آدميين وحجة الإسلام، وتركته ما توفي الجميع، هل يقدم الدين، أو الحجة أو يتحاصَّان؟ أفتنا مأجورا. انتهى.

_ 1 بياض بالأصل ولعله "تنفيه وتثبته". 2 البخاري: العلم "86" , ومسلم: الكسوف "905" , وأحمد "6/345 ,6/354" , ومالك: النداء للصلاة "447".

أجاب الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين -رحمه الله تعالى-: "الجواب": من طرف المسألة الأولى فالوصي على الصغار إنما يملك التصرف فيما وصي عليه به، فإذا أوصاه أبو الصغار عليهم في النظر في مالهم، وما يصلح لهم، ملك التصرف فيما فيه مصلحة لهم، وكذلك إذا كان لهم شريك في شيء، وطلب القسمة فالوصي عليهم يقسم لهم، وتمضي قسمته. ولا يملك الوصي تزويج صغير إلا إن نص له الأب على التزويج بأن يقول: وصيت إليك بتزويج بناتي ونحو هذا. البائن في الصحة وأما البائن في الصحة فلا يلزمها إحداد إذا مات زوجها وهي في عدته، ولا تنتقل عن عدة الطلاق، بل تتم عدة طلاق فقط، ولا يستحب لها الإحداد أيضا؛ لأنها غير وارثة منه. مات وكان قد وجب عليه الحج في حياته لاستكمال شروطه وعليه دين وأما من مات وعليه حجة الإسلام بأن يكون قد وجب عليه الحج في حياته لاستكمال شروطه حج عنه من ماله، فإن كان عليه دين، وماله لا يفي، فالدين ونفقة الحج سواء يقسم بالحصص. والله أعلم وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم. "رسالة في هبة ثواب الأعمال إلى الميت هل يجوز أم لا؟ " بسم الله الرحمن الر حيم هذا جواب مسائل وردت على شيخنا فقال: أما ما ذكرت من إيراد عثمان بعض عبارات الأصحاب على جواز التشريك في نفس العمل، فهو إيراد غير صحيح، ولا ينبغي للطالب العدول عن صريح كلامهم ومعارضته بما يحتمل من موافقة الصريح من كلامهم، ويحتمل ضده ثم يحمله على ما يخالف الصريح، بل الذي ينبغي رد المحتمل من كلامهم على صريحه ومنصوصه كما يجب رد المتشابه إلى المحكم. وأما ما رواه الكحَّال عن أحمد قال: قيل لأبي عبد الله: الرجل يعمل الشيء

من الخير، من صلاة وصدقة أو غير ذلك، فيجعل نصفه لأبيه أو لأمه. قال: أرجو، فهذا يحتمل أن المراد جعل نصف نفس العمل، ويحتمل نصف ثوابه، ويتعين حمله على الاحتمال الثاني لوجهين: "أحدهما": أن الأصحاب لما ذكروا جواز إهداء ثواب العمل، احتجوا لقولهم برواية الكحال عن الإمام، فدلَّ على أن هذا معنى الرواية عندهم. "الوجه الثاني": أنهم لما نصوا على أنه إذا حرم عن اثنين وقع عن نفسه قاسوا ذلك على الصلاة، فدلَّ على أن كون الصلاة لا تقع عن اثنين لا خلاف فيه عندهم لأنهم جعلوه أصلا، وقاسوا عليه الحج، فدلَّ على أنهم لم يفهموا من رواية الكحال إلا التشريك في نفس العمل، وإنما معناها التشريك في الثواب. ولما ذكر ابن القيم -رحمه الله تعالى- وصول ثواب القربات إلى الأموات، وذكر ما في المسألة من الخلاف، وصحَّح القول بوصولها، وذكر حجج المخالفين، وذكر من حججهم قولهم: لو ساغ ذلك لساغ إهداء نصف الثواب وربعه إلى الميت. فأجاب بوجهين: "أحدهما": منع الملازمة. "الثاني": التزام ذلك والقول به، نصَّ عليه الإمام أحمد من رواية محمد بن يحيى الكحال، قال: ووجه هذا أن الثواب ملك له، فله أن يهديه جميعا، وله أن يهدي بعضه، يوضحه أنه لو أهداه إلى أربعة مثلا- تحصل لكل منهم ربعه، فإذا أهدى الربع، وأبقى لنفسه الباقي جاز كما لو أهداه إلى غيره. اهـ الوصي بالأضحية هل يأكل منها أم لا؟ وأما الوصي في الأضحية فقاسوه على من أوصى إليه بتفرقة شيء –مثلا- على الفقراء وهو فقير. المشهور في المذاهب أنه لا يأخذ شيئا، وأجاز جماعة له الأخذ، وفيه قول يجوز له الأخذ إن دلت قرينة على الإذن وإلا فلا، وتعليلهم على أنه يجوز مع الإذن، فكذلك إذا أذن الموصي للوصي في الأكل من الأضحية جاز، وصرح ابن عبد الهادي بجواز الأكل له كغيره.

وأما ما أفهمه كلام أحمد بن محمد من أنه لا يجوز له الأكل حتى مع الإذن، فالظاهر أنه ليس بصواب، لأن كلام الأصحاب قد دلَّ على جواز الأخذ لمن أوصى إليه بتفرقة شيء، أو وكل إليه فيه إذا أذن له في الأخذ، فكذلك إذا أذن الموصي للوصي في الأخذمن لحم الأضحية، وأي فرق؟ وأما إذا قال الموصي لوصيه في الأضحية: لك جلدها ونحوه على سبيل الوصية له بذلك، أو على طريق العوض، فالظاهر عدم جواز ذلك، وأما إذا قال: أذنت لك في الأكل من لحمها فلا مانع منه، والله أعلم. العمل بالخط في إثبات الوقف "وأما المسألة الثالثة": وهي العمل بالخط في إثبات الوقف، وهل ينْزع العقار ونحوه ممن هو في يده؟ بخط قاض معروف ويحكم به بمجرد الخط؟ فالذي يظهر أن هذا مبني على جواز العمل بمجرد الخط في الحكم والشهادة. ومن المعلوم أن الذي عليه أكثر متقدمي الأصحاب أنه لا يجوز العمل بمجرد الخط، وقد علمتم ما شرطوه في كتاب القاضي إلى القاضي وغير ذلك. والذي عليه عمل المتأخرين جواز العمل بالخط، والكلام الذي نقلتموه مضمونه عدم جواز العمل بالخط. لأنه أخرجه عن كونه بينة، ولا شك أن هذا هو مقتضى قول أكثر المتقدمين. وأما ما اعتمده كثير من المتأخرين من العمل بالخطف مقتضى قولهم جواز العمل بذلك، والاعتماد عليه بشرط تحقق الحاكم أنه خط القاضيالمعروف خطه وثقته، فلا يجوزالاعتماد على خط لا يتيقنه ولا يعرف ثقة كاتبه والله سبحانه وتعالى أعلم

رسالة في حكم من يكفر غيره من المسلمين والكفر الذي يعذر صاحبه بالجهل للشيخ عبد الله بن عبد الرحمن

رسالة في حكم من يكفر غيره من المسلمين والكفر الذي يعذر صاحبه بالجهل للشيخ عبد الله بن عبد الرحمن ... رسالة في حكم من يكفِّر غيره من المسلمين، والكفر الذي يعذر صاحبه بالجهل "فلا يحكم عليه به إلا بعد أن تقوم عليه الحجة" والذي لا يعذر. من فتاوي العلامة مفتي الديار النجدية، وعالم الطائفة السلفية الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن المشتهر بأبا بطين -رحمه الله تعالى- علَّق عليه بعض الحواشي الضرورية في هذه المسألة المهمة السيد محمد رشيد رضا رسالة في حكم من يكفِّر غيره من المسلمين حكم من يكفِّر غيره من المسلمين بسم الله الرحمن الر حيم استفتاء "مسألة": قال الشيخ تقي الدين -رحمه الله تعالى- في رده على ابن البكري: فلهذا كان أهل العلم والسنة لا يكفرون من خالفهم، وإن كان ذلك المخالف يكفرهم، لأن الكفر حكم شرعي، فليس للإنسان أن يعاقب بمثله، كمن كذب عليك، وزنى بأهلك، ليس لك أن تكذب عليه، وتزني بأهله، لأن الزنى والكذب حرام لحق الله –تعالى-، وكذلك التكفير حق لله –تعالى- فلا نكفر إلا من كفره الله ورسوله. وأيضا فإن تكفير الشخص المعين، وجواز قتله موقوف على أن تبلغه الحجة النبوية التي يكفر من خالفها، وإلا فليس كل من جهل شيئا من الدين يكفر ... إلى أن قال: ولهذا كنت أقول للجهمية من الحلولية والنفاة الذين ينفون أن يكون –تعالى- فوق العرش: أنا لو وافقتكم كنت كافرا، لأني أعلم أن قولكم كفر، وأنتم عندي لا تكفرون لأنكم جهال ... إلخ أفتونا ما معنى قيام الحجة -أثابكم الله بمنه وكرمه-؟ "الجواب": الحمد لله رب العالمين. تضمَّن كلام الشيخ -رحمه الله- مسألتين: "إحداهما": عدم تكفيرنا لمن كفرنا، وظاهر كلامه أنه سواء كان متأولا أم لا، وقد صرَّح طائفة من العلماء أنه إذا قال ذلك متأولا لا يكفر. ونقل ابن حجر الهيتمي عن طائفة من الشافعية أنهم صرَّحوا بكفره إذا لم يتأوَّل، فنقل عن المتولي أنه قال: إذا قال لمسلم: يا كافر، بلا تأويل، كفر. قال وتبعه على ذلك جماعة، واحتجُّوا بقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا قال الرجل لأخيه: يا كافر، فقد باء بها أحدهما" 1، والذي رماه به مسلم، فيكون هو كافرا، قالوا: لأنه سمى الإسلام كفرا. وتعقب بعضهم هذا التعليل وهو قوله: لأنه

_ 1 البخاري: الأدب "6103".

سمى الإسلام كفرا فقال: هذا المعنى لا يفهم من لفظه: ولا هو مراده، إنما مراده ومعنى لفظه أنك لست على دين الإسلام الذي هو حق، وإنما أنت كافر دينك غير الإسلام، وأنا على دين الإسلام. وهذا مراده بلا شك لأنه إنما وصف بالكفر الشخص لا دين الإسلام، فنفى عنه كونه على دين الإسلام، فلا يكفر بهذا القول، إنما يعزر بهذا السب الفاحش بما يليق به. ويلزم على ما قالوه أن من قال لعبد: يا فاسق، كفر لأنه سمى العبادة فسقا، ولا أحسب أحدا يقوله، وإنما يريد أنك تفسق، وتفعل مع عبادتك ما هو فسق، لا أن عبادتك فسق. انتهى. وظاهر كلام النووي في شرح مسلم يوافق ذلك، فإنه لما ذكر الحديث قال: وهذا مما عده العلماء من المشكلات، فإن مذهب أهل الحق أن المسلم لا يكفر بالمعاصي كالقتل والزنى، وكذا قوله لأخيه: يا كافر من غير اعتقاد بطلان دين الإسلام. ثم حكى في تأويل الأحاديث وجوها: "أحدها": أنه محمول على المستحل ومعنى "باء بها" بكلمة الكفر، وكذا "حار- عليه" في رواية أي: رجعت عليه كلمة الكفر، فباء وحار ورجع بمعنى. "الثاني": رجعت عليه نقيصته لأخيه ومعصية تكفيره. "الثالث": أنه محمول على الخوارج المكفرين للمؤمنين، وهذا نقله القاضي عياض عن مالك، وهو ضعيف لأن المذهب الصحيح المختار الذي قاله الأكثرون والمحققون أن الخوارج لا يكفرون كسائر أهل البدع. "الرابع": معناه أنه يؤول إلى الكفر، فإن المعاصي كما قالوا بريد الكفر، ويخاف على المكثر منها أن يكون عاقبة شؤمها المصير إلى الكفر. ويؤيده رواية أبي عوانة في مستخرجه على مسلم: فإن كان كما قال، وإلا فقد باء بالكفر 1. "الخامس": فقد رجع بكفره، وليس الراجع حقيقة الكفر بل التكفير، كونه جعل أخاه المؤمن كافرا، فكأنه كفر نفسه، إما لأنه كفر من هو مثله، وإما لأنه كفر من لا يكفره إلا كافر يعتقد بطلان الإسلام انتهى.. وقال ابن دقيق العيد في قوله صلى الله عليه وسلم: "ومن دعا رجلا بالكفر وليس

_ 1 أبو داود: السنة "4687" , وأحمد "2/23".

كذلك إلا حار عليه" 1 أي: رجع عليه. وهذا وعيد عظيم لمن كفر أحدا من المسلمين، وليس هو كذلك، وهي ورطة عظيمة وقع فيها خلق من العلماء اختلفوا في العقائد، وحكموا بكفر بعضهم بعضا. ثم نقل عن الاستاذ أبي إسحاق الإسفراييني أنه قال: لا أكفر إلا من كفرني، قال: وربما خفي هذا القول على بعض الناس، وحمله على غير محمله الصحيح. والذي ينبغي أن يحمل عليه أنه لمح هذا الحديث الذي يقتضي أن من دعا رجلا بالكفر، وليس كذلك رجع عليه الكفر، وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "من قال لأخيه: يا كافر، فقد باء بها أحدهما " "2". وكان هذا المتكلم أي أبو إسحاق يقول: الحديث دل على أنه يحصل الكفر لأحد الشخصين، إما المكفِّر؛ وإما المكفَّر، فإذا كفرني بعض الناس فالكفر واقع بأحدنا، وأنا قاطع أني لست بكافر، فالكفر راجع إليه. انتهى. وظاهر كلام أبي إسحاق أنه لا فرق بين المتأول وغيره، والله أعلم. وما نقله القاضي عن مالك من حمله الحديث على الخوارج موافق لإحدى الروايتين عن أحمد في تكفير الخوارج، اختارها طائفة من الأصحاب وغيرهم، لأنهم كفروا كثيرا من الصحابة، واستحلوا دماءهم وأموالهم متقربين بذلك إلى الله تعالى، فلم يعذروهم بالتأويل الباطل، لكن أكثر الفقهاء على عدم كفرهم لتأويلهم. وقالوا: من استحل قتل المعصومين، وأخذ أموالهم بغير شبهة ولا تأويل كفر. وإن كان استحلاله ذلك بتأويل كالخوارج لم يكفر، والله أعلم وأحكم. تكفير الشخص المعين وقتله مشروط بقيام الحجة عليه "المسألة الثانية": إن تكفير الشخص المعين وجواز قتله موقوف على أن تبلغه الحجة النبوية التي يكفر من خالفها إلخ. يشمل كلامه من لم تبلغه الدعوة، وقد صرح بذلك في موضع آخر، ونقل ابن عقيل عن الأصحاب أنه لا يعاقب، وقال: إن عفو الله عن الذي كان يعامل، ويتجاوز

_ 1 مسلم: الإيمان "61" , وأحمد "5/166". 2 البخاري: الأدب "6104" , ومسلم: الإيمان "60" , والترمذي: الإيمان "2637" , وأبو داود: السنة "4687" , وأحمد "2/18 ,2/23 ,2/44 ,2/47 ,2/60 ,2/105 ,2/112 ,2/113 ,2/142" , ومالك: الجامع "1844".

لأنه لم تبلغه الدعوة، وعمل بخصلة من الخير، واستدل لذلك بما في صحيح مسلم مرفوعا: والذي نفسي بيده، لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي أو نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار 1. قال في شرح مسلم: خص اليهود والنصارى لأن لهم كتابا، قال: وفي مفهومه أن من لم تبلغه دعوة الإسلام فهو معذور. قال: وهذا جار على ما تقرر في الأصول "لا حكم قبل ورود الشرع على الصحيح". اهـ. وقال القاضي أبو يعلى في قوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} 2 في هذا دليل على أن معرفة الله تعالى- لا تجب عقلا، وإنما تجب بالشرع وهو بعثة الرسل، وأنه لو مات الإنسان قبل ذلك لم يقطع عليه بالنار. اهـ. وفيمن لم تبلغه الدعوة قول آخر أنه يعاقب3. اختاره ابن حامد، واحتج بقوله تعالى-: {أَيَحْسَبُ الْأِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً} 4. والله أعلم. فمن بلغته رسالة محمد صلى الله عليه وسلم وبلغه القرآن فقد قامت عليه الحجة 5، فلا يعذر في عدم الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، فلا عذر له بعد ذلك بالجهل، وقد أخبر الله سبحانه- بجهل كثير من الكفار مع تصريحه بكفرهم 6. ووصف النصارى بالجهل مع أنه لا يشك مسلم في كفرهم، ونقطع إن أكثر اليهود والنصارى اليوم جهال مقلدون، ونعتقد كفرهم وكفر من شك في كفرهم. وقد دل القرآن على أن الشك في أصول الدين كفر، والشك هو التردد بين

_ 1 مسلم: الإيمان "153" , وأحمد "2/317 ,2/350". 2 سورة الإسراء آية: 15. 3 أجاب القائلون بهذا عن الآية بأن المراد بها عذاب الاستئصال لمعاندي الرسل لا عذاب الآخرة، وهو الذي يدل عليه السياق الذي وردت فيه. 4 سورة القيامة آية: 36. 5 لأن القرآن مشتمل على الحجج العقلية على ما يجب الإيمان به. 6 الكفر كله جهل، والجهل عذر للكافر الذي لم تبلغه الدعوة بالعلم، وحجة الإسلام تزيل هذا الجهل فيزول بها هذا العذر.

شيئين كالذي لا يجزم بصدق الرسول ولا كذبه، ولا يجزم بوقوع البعث ولا عدم وقوعه، ونحو ذلك كالذي لا يعتقد وجوب الصلاة، ولا عدم وجوبها، أو لا يعتقد تحريم الزنى، ولا عدم تحريمه، وهذا كفر بإجماع العلماء. ولا عذر لمن كان حاله هكذا بكونه لم يفهم حجج الله وبيناته، لأنه لا عذر له بعد بلوغها له وإن لم يفهمها 1. وقد أخبر الله عن الكفار أنهم لم يفهموا فقال: {وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً} 2، وقال: {إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ} 3. فبين سبحانه- أنهم لم يفقهوا فلم يعذرهم لكونهم لم يفهموا، بل صرح القرآن بكفر هذا الجنس من الكفار كما في قوله تعالى-: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً} 4 الآية. من قال إن من عجز عن معرفة الحق بعد النظر فهو معذور بكفره قال الشيخ أبو محمد موفق الدين بن قدامة -رحمه الله تعالى- لما أنجز كلامه في مسألة: هل كل مجتهد مصيب أم لا؟، ورجح أنه ليس كل مجتهد مصيبا، بل الحق في قول واحد من أقوال المجتهدين. قال: وزعم الجاحظ أن مخالف ملة الإسلام إذا نظر فعجز عن درك الحق فهو معذور غير آثم 5 ... إلى أن قال: وأما ما ذهب إليه الجاحظ فباطل يقينا، وكفر بالله تعالى- ورد عليه وعلى رسوله، فإنا نعلم قطعا أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر اليهود والنصارى بالإسلام واتباعه، وذمهم على إصرارهم، وقاتل جميعهم 6 يقتل البالغ منهم. ونعلم أن المعاند العارف ممن يقل، وإنما الأكثر مقلدة

_ 1 من لم يفهم الدعوة لم تقم عليه الحجة، وما ذكره من إجماع العلماء محله جحود المسلم الذي نشأ بين المسلمين لما ذكر ونحوه مما هو معلوم من الدين بالضرورة فلا يقبل منه دعوى الجهل. 2 سورة الأنعام آية: 25. 3 سورة الأعراف آية: 30. 4 سورة الكهف آية: 103، 104. 5 وصرح بهذا بعض الأشعرية أيضا، وسيأتي تفصيل الكلام فيه. 6 كذا في الأصل.

اعتقدوا دين آبائهم تقليدا، ولم يعرفوا معجزة لرسول صلى الله عليه وسلم وصدقه، والآيات الدالة في القرآن على هذا كثيرة كقوله تعالى-: {ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ} 1، {وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} 2، {وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ} 3، وقوله: {وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ} 4، {وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ} 5، {الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاًأُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً} 6. وفي الجملة ذم المكذبين لرسول الله صلى الله عليه وسلم لا ينحصر في الكتاب والسنة اهـ. فبين رحمه الله تعالى- أنا لو لم نكفر إلا المعاند العارف لزمنا الحكم بإسلام أكثر اليهود والنصارى، وهذا من أظهر الباطل 7. التكفير والقتل موقوف على بلوغ الحجة وفهمها فقول الشيخ تقي الدين -رحمه الله تعالى-: إن التكفير والقتل موقوف على بلوغ الحجة، يدل كلامه على أن هذين الأمرين -وهما التكفير والقتل- ليسا موقوفين على فهم الحجة مطلقا، بل على بلوغها، ففهمها شيء، وبلوغها شيء آخر، فلو كان هذا الحكم موقوفا على فهم الحجة لم نكفر ونقتل إلا من علمنا أنه معاند خاصة، وهذا بين البطلان8. بل آخر كلامه -رحمه الله- يدل على أنه يعتبر فهم الحجة في الأمور

_ 1 سورة ص آية: 27. 2 سورة فصلت آية: 23. 3 سورة الجاثية آية: 24. 4 سورة المجادلة آية: 18. 5 سورة الأعراف آية: 30. 6 سورة الكهف آية: 103، 104. 7 من يقول إن الكافر الذي لم تبلغه الدعوة على وجه يفهمه، وتقوم به عليه الحجة معذور، لا يعني أنه يحكم بإسلامه ولا أنه غير كافر، وإنما يعني أن الله –تعالى- لا يعذبه عذاب من قامت عليه الحجة، وجحدها، ولا عذاب من تولى، وأعرض عن آياتها. 8 في هذه المسألة نظر، وقد اختلف فيها كبار علماء نجد المعاصرون في مجلس الإمام عبد العزيز بن فيصل آل سعود الملك بمكة المكرمة فكانت الحجة للشيخ عبد الله بن بليهد بأن العبرة بفهم الحجة لا بمجرد بلوغها من غير فهم، وأورد لهم نصا صريحا في هذا من كلام المحقق ابن القيم -رحمه الله تعالى- فقنعوا به. وسيأتي تحقيق المسألة في مواضع أخرى.

التي تخفى على كثير من الناس، وليس فيها مناقضة للتوحيد والرسالة كالجهل ببعض الصفات. مسائل من الكفر يجهلها كثير من العوام وأما الأمور التي هي مناقضة للتوحيد والإيمان بالرسالة فقد صرح -رحمه الله تعالى- في مواضع كثيرة بكفر أصحابها وقتلهم بعد الاستتابة، ولم يعذرهم بالجهل مع أنا نتحقق أن سبب وقوعهم في تلك الأمور إنما هو الجهل بحقيقتها، فلو علموا أنها كفر تخرج عن الإسلام لم يفعلوها1. وهذا في كلام الشيخ -رحمه الله تعالى- كثير كقوله في بعض كتبه: فكل من غلا بنبي أو رجل صالح، وجعل فيه نوعا من الإلهية، مثل أن يدعوه من دون الله، نحو أن يقول: يا فلان أغثني، أو اغفر لي، أو ارحمني، أو انصرني، او أجبرني، أو توكلت عليك، وأنا في حسبك وأنت حسبي، ونحو هذه الأقوال التي هي من خصائص الربوبية التي لا تصلح إلا لله، فكل هذا شرك وضلال يستتاب صاحبه فإن تاب وإلا قتل. وقال أيضا: فمن جعل بينه وبين الله وسائط يدعوهم ويتوكل عليهم ويسألهم، كفر إجماعا. وقال: من اعتقد أن زيارة أهل الذمة في كنائسهم قربة إلى الله، فهو مرتد. وإن جهل أن ذلك محرم، عُرف ذلك، فإن أصر صار مرتدا. وقال: من سب الصحابة أو واحدا منهم، أو اقترن بسبه دعوى أن عليا إله أو نبي، أو أن جبريل غلط، فلا شك في كفر هذا، بل لا شك في كفر من توقف في تكفيره. وقال أيضا: من زعم أن الصحابة ارتدوا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا نفرا قليلا لا يبلغون بضعة عشر، أو أنهم فسقوا، فلا ريب في كفر قائل ذلك، بل من شك في كفره فهو كافر. انتهى.

_ 1 فيه أن الاستتابة تتضمن إزالة الجهل لأنها تكون بإعلام فاعل ما ينافي الإيمان بأن فعله كفر يجب عليه تركه والتوبة منه، ويجب التفريق في هذا المقام بين الكافر الأصلي الذي لم يفهم حجة الإسلام وبين المسلم الذي يفعل ما ذكر من مناقضة التوحيد والإيمان بالرسل لجهله بأنه من الإسلام. وفيه تفصيل سيأتي قريبا.

ما يعذر به الجاهل بجهله من أمور الدين واستحلال المحرمات وما لا يعذر فانظر كيف كفر الشاك، والشاك جاهل، فلم ير الجهل عذرا في مثل هذه الأمور1. وقال -رحمه الله- في أثناء كلام له: ولهذا قالوا من عصى مستكبرا كإبليس، كفر بالاتفاق. ومن عصى مشتهيا لم يكفر عند أهل السنة. ومن فعل المحارم مستحلا فهو كافر بالاتفاق. قال: والاستحلال اعتقاد أنها حلال2، وذلك يكون تارة باعتقاد أن الله لم يحرمها، وتارة بعدم اعتقاد أن الله حرمها، وهذا يكون الخلل في الإيمان بالربوبية، أو الرسالة، ويكون جحدا محضا غير مبني على مقدمة، وتارة يعلم أن الله حرمها، ثم يمتنع من التزام هذا التحريم، ويعاند فهذا أشد كفرا ممن قبله. انتهى.

_ 1 علماء الأمة متفقون على أن الجهل بأمور الدين القطعية المجمع عليها التي هي معلومة منه بالضرورة كالتوحيد، والبعث وأركان الإسلام وحرمة الزنى والخمر ليس بعذر للمقصر في تعلمها مع توفر الدواعي. وأما غير المقصر كحديث العهد بالإسلام، والذي نشأ في شاهق جبل مثلا أي حيث لا يجد من يتعلم منه، فهو معذور. وهم متفقون أيضا على عذر العوام بجهل المسائل الاجتماعية غير المعلومة بالضرورة، ويمثلون بها في الكتب المختلفة بكون بنت الابن إذا وجدت مع بنت الصلب فإنها ترث الثلث تكملة للثلثين في قوله –تعالى- "فإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان مما ترك"، وهذا التفصيل هو الذي يظهر به كلام شيخ الإسلام في المواضع المختلفة، وفي معناه ما يذكره المؤلف قريبا من نص السلف والأئمة وما ذكرناه أوضح. 2 هذا التفسير للاستحلال هو الذي تلقيناه عن المشايخ فيكون داخلا في عموم عدة المذكورة آنفا فيما يعذر بجهله، وما لا يعذر وهو قسمان فقط: عدم اعتقاد الحكم أو اعتقاد خلافه. وأما القسم الثالث وهو عدم التزام التحريم مع العلم به فلا يدخل في التفسير المذكور للاستحلال، ولكنه هو المعنى المتبادر منه فيما يعد كفرا مطلقا. فالمستحل للحرام الذي أطلقوا القول بكفره هو من يعلم أنه حرام، ولا يذعن لما جاء به الشرع من تحريمه. وشرط صحة الإيمان الذي هو الاعتقاد: الإذعان النفسي الذي هو مفهوم الإسلام وهو الذي يقتضي العمل عند عدم المانع. وأما الاستحلال بالمعنى الأول فلا يعد كفرا مطلقا، بل هو جهل يزول بالعلم. والمتأول به لما يحتمل التأويل معذور باتفاق العلماء، ومنه ما يأتي قريبا من استحلال بعض الصحابة الخمر للمؤمن الصالح التقي.

وكلامه -رحمه الله- في مثل هذا كثير، فلم يخص التكفير بالمعاند مع القطع بأن أكثر هؤلاء جهال لم يعلموا أن ما قالوه، أو فعلوه كفر، فلم يعذروا بالجهل في مثل هذه الأشياء، لأن منها ما هو مناقض للتوحيد الذي هو أعظم الواجبات، ومنها ما هو متضمن معارضة الرسالة ورد نصوص الكتاب والسنة الظاهرة المجمع عليها بين علماء السلف. وقد نص السلف والأئمة على تكفير أناس بأقوال صدرت منهم مع العلم أنهم غير معاندين، ولهذا قال الفقهاء -رحمهم الله تعالى-: من جحد وجوب عبادة من العبادات الخمس، أو جحد حل الخبز ونحوه، أو جحد تحريم الخمر ونحوه، أو شك في ذلك ومثله لا يجهله كفر، وإن كان مثله يجهله عُرف ذلك، فإن أصر بعد التعريف كفر وقتل، ولم يخصوا الحكم بالمعاند. وذكروا في باب حكم المرتد أشياء كثيرة -أقوالا وأفعالا- يكون صاحبها بها مرتدا، ولم يقيدوا الحكم بالمعاند. وقال الشيخ أيضا: لما استحل طائفة من الصحابة والتابعين الخمر كقدامة وأصحابه، وظنوا أنها تباح لمن آمن وعمل صالحا على ما فهموه من آية المائدة1، اتفق علماء الصحابة كعمر وعلي وغيرهما على أنهم يستتابون، فإن أصروا على الاستحلال كفروا، وإن أقروا به جلدوا، فلم يكفروهم بالاستحلال ابتداء لأجل الشبهة حتى يبين لهم الحق، فإن أصروا كفروا. وقال أيضا: ونحن نعلم بالضرورة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يشرع لأمته أن يدعوا أحدا2 من الأحياء والأموات- لا الأنبياء ولا غيرهم-، لا بلفظ الاستغاثة ولا بلفظ الاستعانة ولا بغيرهما، كما أنه لم يشرع لهم السجود لميت ولا إلى ميت

_ 1 يعني آية "ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات" إلخ. 2 يعني دعاء العبادة وهو طلب ما لا يقدر عليه الناس بكسبهم المراد بقوله -تعالى "فلا تدعوا مع الله أحدا".

ونحو ذلك. بل نعلم أنه نهى عن ذلك كله، وأنه من الشرك الذي حرمه الله ورسوله، لكن لغلبة الجهل وقلة العلم بآثار الرسالة في كثير من المتأخرين، لم يمكن تكفيرهم بذلك حتى يبين لهم ما جاء به الرسول. انتهى. فانظر إلى قوله: لم يمكن تكفيرهم حتى يبين لهم ما جاء به الرسول، ولم يقل حتى يتبين لهم،1 ونتحقق منهم المعاندة بعد المعرفة. وقال أيضا لما أنجز كلامه في ذكر ما عليه كثير من الناس من الكفر والخروج عن الإسلام قال: وهذا كثير غالب لا سيما في الأعصار والأمصار التي تغلب فيها الجاهلية والكفر والنفاق، فلهؤلاء من عجائب الجهل والظلم والكذب والكفر والنفاق والضلال ما لا يتسع لذكره المقال. وإذا كان في المقالات الخفية فقد يقال: إنه فيها مخطيء ضال لم تقم عليه الحجة التي يكفر صاحبها، لكن ذلك يقع في طوائف منهم في الأمور الظاهرة التي يعلم الخاصة والعامة من المسلمين أنه من دين الإسلام، بل اليهود والنصارى والمشركون يعلمون أن محمدا صلى الله عليه وسلم بعث بها، وكفر من خالفها مثل أمره بعبادة الله -وحده لا شريك له-، ونهيه عن عبادة أحد سوى الله من الملائكة والنبيين أو غيرهم، فإن

_ 1 في هذا أن الله -تعالى- قال: "ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم" والدعوة الصحيحة إنما تكون بالآيات والبينات، والغرض من بيان الآيات أن تتبين لمن توجه إليهم كما قال –تعالى-: "سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق". وهذه المسائل التي قال فيها شيخ الإسلام أن الجاهل لها لا يمكن الحكم بكفره فيها "حتى يبين له ما جاء به الرسول" لا يحتاج المسلم الجاهل في تبينها إلا إلى بيانها. أعنى أنه لما كان مؤمنا برسالة الرسول كان مقتضى هذا الإيمان أن يقبل كل ما علم أنه من الدين الذي جاء به، ولا يتحقق بيانه إلا بما يفهمه بحسب لغته ودرجة فهمه، فذكر النص العربي للجاهل العجمي لا يعد بيانا له، وكذلك ذكره للعربي العامي بألفاظ غريبة، أو اصطلاحية لا يفهمها.

هذا أظهر شعائر الإسلام، ومثل معاداة اليهود والنصارى والمشركين، ومثل تحريم الفواحش والربا والخمر والميسر ونحو ذلك، ثم تجد كثيرا من رؤوسهم وقعوا في هذه الأنواع فكانوا مرتدين، وإن كانوا قد يتوبون من ذلك أو يعودون ... إلى أن قال: وبلغ من ذلك أن منهم من يصنفون في دين المشركين والردة عن الإسلام كما صنف الرازي كتابه في عبادة الكواكب، وأقام الأدلة على حسن ذلك ومنفعته، ورغب فيه،1 وهذه ردة عن الإسلام باتفاق المسلمين، وإن كان قد يكون تاب عنه وعاد إلى الإسلام. انتهى. فانظر إلى تفريقه بين المقالات الخفية والأمور الظاهرة، فقال في المقالات الخفية التي هي كفر قد يقال: إنه فيها مخطئ ضال لم تقم عليه الحجة التي يكفر صاحبها، ولم يقل ذلك في الأمور الظاهرة. فكلامه ظاهر في الفرق بين الأمور الظاهرة والخفية، فيكفر بالأمور الظاهر حكمها مطلقا، وبما يصدر منها من مسلم جهلا، كاستحلال محرم، أو فعل، أو قول شركي بعد التعريف، ولا يكفر بالأمور الخفية جهلا كالجهل ببعض الصفات فلا يكفر الجاهل بها مطلقا2 وإن كان داعية، كقوله للجهمية: أنتم عندي لا تكفرون

_ 1 في طبقات السبكي إنكار نسبة هذا الكتاب إليه. 2 الأقسام التي ذكرها ثلاثة "الأول": ما يكفر به مطلقا ولا يعذر بجهله، وهو ما عبر بالأمور الظاهر حكمها، وعبر عنه المحققون بالأمور المعلومة من الدين بالضرورة المجمع عليها، واستثنوا من عموم الإطلاق قريب العهد بالإسلام، ومن نشأ بعيدا عن المسلمين الذين يمكنه التعلم منهم، ومنه أن تقنع رجلا كافرا في بلاد الكفر بتوحيد الله ورسالة محمد -صلى الله عليه وسلم- وما جاء به من البعث والجزاء. ويموت قبل أن تتمكن من تعليمه شرائع الإسلام، أو تعلمه بعضها كالصلاة والصيام دون بعض، وتتركه، وتسافر من بلاده، فهو يعذر بجهل ما لم يعلمه من الضروريات الأخرى إلى أن تتمكن من تعلمها إن علم أن هنالك أمورا أخرى لا بد له من العلم والإيمان بها. "الثاني"هـ: ما لا يكفر بجهله مطلقا، وهو الأمور الخفية من الدين، ويقال باصطلاح جمهور العلماء هي ما ليس مجمعا عليه ولا معلوما من الدين بالضرورة كالمسائل التي اختلف فيها أئمة المسلمين من تفويض وتأويل. "الثالث": ما لا يكفر به إذا فعله جاهلا إلا بعد إعلامه بحكم الله فيه، وهو المجمع عليه مما يجب عليه وجوبا عينيا بنص قطعي، وتعرض فيه الشبهة وسوء الفهم كمسألة استحلال الخمر المتقدمة، ومسألة الأعرابي الذي فهم من الخيط الأبيض والخيط الأسود في آية الصيام ظاهر اللفظ، فأعلمه النبي -صلى الله عليه وسلم- أن المراد بهما الليل والنهار، وهنالك قسم رابع وهو المسائل الاجتهادية التي ليس فيها نص قطعي الرواية والدلالة. فهذه يعذر فيها كل مجتهد باجتهاده.

لأنكم جهال، وقوله "عندي" يبين أن عدم تكفيرهم ليس أمرا مجمعا عليه لكنه اختياره. وقوله في هذه المسألة خلاف المشهور في المذهب، فإن الصحيح من المذهب تكفير المجتهد الداعي إلى القول بخلق القرآن، أو نفي الرؤية، أو الرفض، ونحو ذلك، وتفسيق المقلد. وجوب الاحتياط في التكفير وقصره على ما اتفق عليه قال المجد ابن تيمية -رحمه الله-: الصحيح أن كل بدعة كفرنا فيها الداعية، فإنا نفسق المقلد فيها، كمن يقول بخلق القرآن، أو أن علم الله مخلوق، أو أن أسماءه مخلوقة، أو أنه لا يرى في الآخرة، أو يسب الصحابة تدينا، أو أن الإيمان مجرد الاعتقاد، وما أشبه ذلك، فمن كان عالما في شيء من هذه البدع يدعو إليه ويناظر، عليه فهو محكوم بكفره. نص أحمد على ذلك في مواضع. انتهى. فانظر كيف حكموا بكفرهم مع جهلهم، والشيخ1 -رحمه الله- يختار عدم كفرهم، ويفسقون عنده. ونحوه قول ابن القيم -رحمه الله تعالى- فإنه قال: وفسق الاعتقاد كفسق أهل البدع الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر، ويحرمون ما حرم الله، ويوجبون

_ 1 يعني شيخ تقي الدين ابن تيمية. وقاعدة الشيخ محمد بن عبد الوهاب عدم التكفير بما اختلف فيه العلماء فهو على رأي الشيخ تقي الدين في هذه المسألة.

ما أوجب الله، ولكن ينفون كثيرا مما أثبت الله ورسوله جهلا وتأويلا وتقليدا للشيوخ، ويثبتون ما لم يثبته الله ورسوله كذلك، وهؤلاء كالخوارج المارقة وكثير من الروافض والقدرية والمعتزلة وكثير من الجهمية الذين ليسوا غلاة في التجهم. وأما غلاة الجهمية فكغلاة الرافضة1 ليس للطائفتين في الإسلام نصيب، ولذلك أخرجهم جماعة من السلف من الثنتين والسبعين فرقة، وقالوا: هم مباينون للملة. انتهى. وبالجملة فيجب على من نصح نفسه أن لا يتكلم في هذه المسألة إلا بعلم وبرهان من الله، وليحذر من إخراج رجل من الإسلام بمجرد فهمه، واستحسان عقله، فإن إخراج رجل من الإسلام، أو إدخاله فيه أعظم أمور الدين، وقد كفينا بيان هذه المسألة كغيرها بل حكمها في الجملة أظهر أحكام الدين. فالواجب علينا الاتباع وترك الابتداع، كما قال ابن مسعود رضي الله عنه: اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم، وأيضا فما تنازع العلماء في كونه كفرا، فالاحتياط للدين التوقف وعدم الإقدام ما لم يكن في المسألة نص صريح عن المعصوم صلى الله عليه وسلم. وقد استزل الشيطان أكثر الناس في هذه المسألة فقصر بطائفة، فحكموا بإسلام من دلت نصوص الكتاب والسنة والإجماع على كفره، وتعدى بآخرين، فكفروا من حكم الكتاب والسنة مع الإجماع بأنه مسلم. ومن العجب أن أحد هؤلاء لو سئل عن مسألة في الطهارة أو البيع، لم يفت بمجرد فهمه واستحسان عقله، بل يبحث عن كلام العلماء ويفتي بما قالوه، فكيف

_ 1 غلاة الجهمية ينكرون جميع صفات الله –تعالى- الوجودية المنصوصة في القرآن بتأويلات تتبرأ منها اللغة، وغلاة الرافضة هم الباطنية الذين ذهبوا إلى أن باطن الإسلام المقصود بالذات هو غير ظاهره الذي تناقله المسلمون بالعلم والعمل عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه، وأن الباطن الذي هو الحق يجب تلقيه عن أئمتهم المعصومين.

يعتمد في هذا الأمر العظيم الذي هو أعظم أمور الدين وأشدها خطرا على مجرد فهمه واستحسانه؟ فيا مصيبة الإسلام من هاتين الطائفتين، ومحنته من تينك البليتين، ونسألك اللهم أن تهدينا الصراط المستقيم، صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم. جواز تكفير الشخص بما هو قطعي فائدة عظيمة من كلام مفتي الديار النجدية عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين -قدس الله سره-. "في موضوع التكفير المتقدم عنه" قال -رحمه الله تعالى-: وأما ما سئلت عنه من أنه هل يجوز تعيين إنسان بعينه بالكفر إذا ارتكب شيئا من المكفرات؟ فالأمر الذي دل الكتاب والسنة وإجماع العلماء عليه أنه كفر مثل الشرك بعبادة غير الله سبحانه-. فمن ارتكب شيئا من هذا النوع أو حسنه، فهذا لا شك في كفره، ولا بأس بمن تحققت منه شيئا من ذلك أن تقول كفر فلان بهذا الفعل. يبين هذا أن الفقهاء يذكرون في باب حكم المرتد أشياء كثيرة يصير بها المسلم مرتدا كافرا، ويستفتحون هذا الباب بقولهم: من أشرك بالله كفر، وحكمه أن يستتاب فإن تاب، وإلا قتل. والاستتابة إنما تكون مع معين، ولما قال بعض أهل البدع عند الشافعي: إن القرآن مخلوق، قال: كفرت بالله العظيم. وكلام العلماء في تكفير المعين كثير. وأعظم أنواع الكفر الشرك بعبادة غير الله، وهو كفر بإجماع المسلمين، ولا مانع من تكفير من اتصف بذلك كما أن من زنى قيل: فلان زان، ومن رابى قيل: فلان مراب، والله أعلم "منقولة حرفا بحرف وصلى الله على محمد وصحبه وسلم".

رسالة أخرى في سكوت أكثر الناس عن المنكرات رسالة أخرى في سكوت أكثر الناس عن المنكرات "وكونه لا يعد إجماعا يحتج به على مشروعيتها؟ " بسم الله الرحمن الر حيم وبه نستعين. من علي بن عبد الله إلى الوالد المكرم عبد الله بن عبد الرحمن، سلمه الله تعالى، وأسبغ عليه نعمه. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. "وبعد": إن قال قائل: تقرون أن إجماع الأمة حجة، وأنها لا تجتمع على ضلالة، وأنتم قد خالفتم جميع العلماء من أهل الأمصار قاطبة، وادعيتم ما لم يدعيه غيركم، وأنكرتم ما لم ينكر في جميع الأرض، والإشارة هنا إلى التوحيد، وإلى ما دعا إليه الشيخ محمد بن عبد الوهاب –رحمه الله تعالى-، وتكفير من أشرك بالله في ألوهيته عند المشاهد وغيرها، فما الجواب لذلك؟ أفدنا جزاك الله خيرا جوابا سديدا. "فأجاب": سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. "وبعد": دعوى هذا المبطل إجماع العلماء على جواز دعاء أهل القبور، والاستغاثة بهم، والتقرب إليهم بالنذور والذبائح، فهذا كذب، وشبهته أن هذه الأمور ظاهرة في جميع الأمصار، ولم يسمعوا أن عالما أنكرها. فيقال: قد أنكرها كثير من علماء هذا الزمان، ووافق عليه خواص من علماء الحرمين واليمن، وسمعنا منهم مشافهة، ولكن الشوكة لغيرهم. وصنف فيه جماعة كالنعيمي من أهل اليمن، له مصنف في ذلك حسن، وكذلك الشوكاني ومحمد بن إسماعيل الأمير الصنعاني وغيرهم، ورأيت مصنفا لعالم من أهل جبل سليمان في

إنكار ذلك. وهذا مصداق قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين" 1، وليس المراد بالظهور بالسيف بل بالحجة دائما، وبالسيف أحيانا. ولو قال هذا المجادل: إن أكثر الناس على ما يرى، لكان صادقا، وهذا مصداق الحديث "بدأ الإسلام غريبا، وسيعود غريبا كما بدأ" 2. وأيضا فالبناء على القبور، وإسراجها، وتجصيصها، ظاهر غالب في الأمصار التي تعرف، مع أن النهي عن ذلك ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم، ومنصوص عليه في جميع المذاهب، فهل يمكن هذا المبطل أن يقول: إن الأمة مجمعة على جواز ذلك لكونه ظاهرا في الأمصار. والله سبحانه- إنما افترض على الخلق طاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، وأمرهم أن يردوا إلى كتابه وسنة رسوله ما تنازعوا فيه، وأجمع العلماء على أنه لا يجوز التقليد في التوحيد والرسالة. فإذا عرف أن الشرك عبادة غير الله، وعرف معنى العبادة، وأنها كل قول وعمل يحبه الله ويرضاه، 3، ومن أعظم ذلك الدعاء لأنه مخ العبادة، وعلم ما يفعل عند القبور من دعاء أصحابها وسؤالهم قضاء الحاجات، وتفريج الكربات، والتقرب إليهم بالنذور والذبائح. علم أن هذا هو الشرك الأكبر الذي هو

_ 1 مسلم: الإمارة "1920" , والترمذي: الفتن "2229" , وأبو داود: الفتن والملاحم "4252" , وابن ماجه: المقدمة "10" والفتن "3952" , وأحمد "5/279". 2 مسلم: الإيمان "145" , وابن ماجه: الفتن "3986" , وأحمد "2/389". 3 يعني أن عبادة الله –تعالى- تشمل جميع الأقوال والأفعال المذكورة، وليس هذا تعريفا للعبادة بمعناها الأعم الذي يشمل عبادات الكفار كطواف المشركين بالبيت عراة، وأكثر العلماء يعرفونها بما يسمى تعريف الرسم. وأدق تعريف لها أن يقال: هي كل قول وعمل بدني، أو نفسي يوجه، ويتقرب به إلى من يعتقد فاعله أن له قدرة على النفع ودفع الضرر فوق الأسباب التي يقدر عليها البشر، إما بذاته كالرب الخالق –تعالى-، وإما بالوساطة والتأثير عنده –تعالى-. ومن الأخير قوله –تعالى- في المشركين "ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله" يعنون أن الله تعالى ينفعهم، ويدفع عنهم الضر بشفاعتهم عنده التي يدعونهم لأجلها لا لذواتهم.

عبادة غير الله، فإذا تحقق الإنسان ذلك عرف الحق، ولم يبال بمخالفة أكثر الناس، ويعتقد أن الأمة لا تجتمع على ضلالة. فإن قال هذا المجادل: إن هذه الأمور التي تفعل عند القبور جائزة شرعا، فهو محاد لله ورسوله، فإن قال: هذه الأمور ما تجوز لكنها ليست بشرك، مع دعواه أن علماء الزمان أجمعوا على ذلك، فيلزمه أن الأمة أجمعت على ضلالة، والإنسان إذا تبين له الحق لم يستوحش من قلة الموافقين وكثرة المخالفين لا سيما في هذا الزمان. وقول الجاهل: لو كان هذا حقا ما خفي على فلان وفلان، هذه دعوى الكفار في قولهم {وْ كَانَ خَيْراً مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ} 1، {أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا} 2.وقد قال علي رضي الله عنه "اعرف الحق تعرف أهله". وأما الذي في حيرة ولبس، فكل شبهة تروج عليه، فلو أن أكثر الناس اليوم على الحق لم يكن الإسلام غريبا، وهو والله اليوم في غاية الغربة. ولما ذكر ابن القيم –رحمه الله تعالى- الشرك وظهوره قال: فما أعز من يخلص من هذا، بل ما أعز من لا يعادي من أنكره، يعني ما أقل من لا يعادي من أنكره، وهذا قوله في زمانه، ولا يأتي زمان إلا والذي بعده شر منه كما قال النبي صلى الله عليه وسلم. وقد نقلنا في الأوراق التي كتبنا وهي عندكم طرفا من كلام العلماء في أنواع الشرك، ومن ذلك قول الشيخ تقي الدين –رحمه الله تعالى-: من جعل الملائكة والأنبياء وسائط يدعوهم، ويتوكل عليهم، ويسألهم جلب المنافع ودفع المضار، فهو كافر بإجماع المسلمين. انتهى. وهذا الذي يفعل عند هذه المشاهد، وهذا أظهر أمور الدين، {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} 3. نسأل الله أن يهدينا صراطه المستقيم، صراط الذين أنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، آمين، وصلى الله على محمد.

_ 1 سورة الأحقاف آية: 11. 2 سورة الأنعام آية: 53. 3 سورة النور آية: 40.

رسالة في الرد على من احتج على جواز الشرك والضلال بعمل الناس رسالة له أخرى (في الرد على من احتج على جواز الشرك والضلال بعمل الناس وكثرة السواد بسم الله الرحمن الر حيم "رب يسر وأعن يا كريم" من عبد الله بن عبد الرحمن إلى الولدين المكرمين محمد آل عبد الله ومحمد آل عمر آل سليم زادهما الله علما وفهما، ووهب لنا ولهما حلما وحكما. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد موجب الخط إبلاغ السلام، والخط وصل -أوصلكما الله إلى كل الخير-، وكذلك الأبيات التي نقلتم كتبنا عليها ما اتسع له المحل، وبطلان ما تضمنته ظاهر، ولله الحمد ما يخفى إلا على من أعمى الله بصيرته، ولكن إذا تحققتم بقول الصادق المصدوق أن هذه الأمة تتبع اليهود والنصارى فيما أحدثوا حذو القذة بالقذة مع قوله صلى الله عليه وسلم: "بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ" 1 2، فإذا صدق الإنسان بذلك لم يستنكر 3 ما حدث من الشرك والبدع وظهور المنكرات، وتضييع شرائع الإسلام، وتعطيل حدود الله. فإذا عرف ذلك، وعلم أنه لم يضل اليهود والنصارى إلا علماؤهم، علم أن سبب ضلال هذه الأمة علماؤها كما في الحديث المشهور "علماؤهم شر من تحت أديم السماء، منهم خرجت الفتنة وفيهم تعود". وقول القائل: لو أن هذا ما يجوز، ما خفي على فلان وفلتان، فهذه شبهة باطلة. وقد روى ابن وضاح عن عمر رضي الله عنه قال: "أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بلحيتي وأنا أعرف الحزن في وجهه، فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون، فقلت: أجل

_ 1 مسلم: الإيمان "145" , وابن ماجه: الفتن "3986" , وأحمد "2/389". 2 سقط من الأصل جواب: إذا تحققتم إلخ، ويحتمل أن يكون استغنى عنه بجواب الشرط في الجملة التالية لهذه. 3 يعني لم يستغرب ذلك، ولا يعني أنه لا يعده منكرا.

إنا لله وإنا إليه راجعون، فما ذاك يا رسول الله؟ قال: أتاني جبريل فقال: إن أمتك مفتتنة بعد قليل من الدهر غير كثير، قلت: فتنة كفر، أم فتنة ضلالة؟ قال: كل سيكون، قلت: وأين يأتيهم ذلك وأنت تارك فيهم كتاب الله؟ قال: بكتاب الله يضلون، وذلك من قبل قرائهم وأمرائهم". قال محمد بن وضاح: الخير من بعد الأنبياء ينقص، والشر يزداد. وقال: إنما هلكت بنو إسرائيل على يدي قرائهم وفقهائهم وستهلك هذه الأمة على يدي قرائهم وفقهائهم، قال ابن المبارك: وأحبار سوء ورهبانها وهل أفسد الدين إلا الملوك وقد أخبر الله -سبحانه- عن اليهود أنهم يحرفون الكلم عن مواضعه، أي: يتأولون كتاب الله على غير ما أراد الله، وقال: {وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} 1، وأخبر عنهم أنهم {يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً} 2، ولا بد أن يوجد في هذه الأمة من يتابعهم على ما ذمهم الله به. والإنسان إذا عرف الحق وضده، لم يبال بمخالفة من خالف كائنا من كان، ولا يكبر في صدره مخالفة عالم ولا عابد، لأن هذا أمر لا بد منه، وما أخوفني على من عاش أن يرى أمورا عظيمة لا منكر لها، والله المستعان. الاستغاثة بغير الله تعالى شرك "قلت": والاستغاثة بالنبي صلى الله عليه وسلم صدرت من كثير من المتأخرين ممن يشار إليه بالعلم، وقد صنف رجل يقال له ابن البكري كتابا في الاستغاثة بالنبي صلى الله عليه وسلم ورد عليه شيخ الإسلام ابن تيمية في مجلد، بين فيه بطلان ما ذهب إليه، وبين أنه من الشرك. قال الشيخ: وقد طاف- يعني ابن البكري- على علماء مصر فلم يوافقه أحد منهم، وطاف عليهم بجوابي الذي كتبته، وطلب منهم معارضته فلم يعارضه أحد

_ 1 سورة البقرة آية: 75. 2 سورة النساء آية: 51.

منهم مع أن عند بعضهم من التعصب ما لا يخفى، ومع أن قوما كان لهم غرض وجهل بالشرع قاموا في ذلك قياما عظيما، واستعانوا بمن له غرض من ذوي سلطان مع فرط عصبيتهم، وكثرة جمعهم، وقوة سلطانهم، ومكايدة شيطانهم. قال شيخ الإسلام تقي الدين -رحمه الله تعالى-: والاستغاثة بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد موته موجودة في كلام بعض الناس، مثل يحيى الصرصري ومحمد بن النعمان، وهؤلاء لهم صلاح، لكن ليسوا من أهل العلم، بل جروا على عادة كعادة من يستغيث بشيخه عند الشدائد ويدعوه. اهـ. والمقصود أن نوع الشرك من الاستغاثة بالنبي صلى الله عليه وسلم وغيره جرى في زمان الشيخ، والشر يزيد، لا يأتي عام إلا والذي بعده شر منه، فالله المستعان. وفي هذه الأزمنة يقال: العجب ممن نجا كيف نجا ليس العجب ممن هلك كيف هلك. وقول من يقول: استعملها من هو أعلم منا وأعرف بكلام العرب، فبئس الحجة الواهية، والله لم يأمرنا باتباع من رأيناه أعلم منا، وإنما أوجب علينا عند التنازع الرد إلى كتابه وسنة نبيه، قال -تعالى-: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} 1 خاصة في أصول الدين، فإنه لا يجوز التقليد فيها بإجماع العلماء، ولأن أدلته ولله الحمد ظاهرة، ولم يقل -سبحانه- فإن تنازعتم في شيء فاتبعوا ما عليه أكثر الناس ولا ما عليه بلد من البلدان. وأكثر الناس اليوم- خصوصا طلبة العلم- خفي عليهم الشرك، والشيخ ابن عجلان المذكور يجوز الاستغاثة بالأموات فكيف بالنبي صلى الله عليه وسلم؟ وكلامه صريح ما يحتمل تأويلا كقوله: ومنقذي من عذاب الله والألم نسأل الله السلامة، وابن عجلان أقل الأحوال هجره، وأما النصيحة فلا تفيد في مثله. وأمره هذا إن وصل الشيخ عبد الرحمن بن حسن، أو فيصل، أو ابن

_ 1 سورة النساء آية: 59.

سعود الادني فأخاف على نفسه، ولو له عقل ما أظهر هذا الأمر الذي يجر عليه شرا، ولكن قد أحسن القائل -رحمه الله ورضي عنه-: يا من له عقل ونور قد غدا ... يمشي به في الناس كل أوان لكننا قلنا مقالة صارخ ... في كل وقت بينكم بأذان الرب رب والرسول فعبده ... حقا وليس لنا إله ثان فلذاك لم نعبده مثل عبادة الر ... حمن فعل المشرك النصراني كلا ولم نغل الغلو, كما نهى ... عنه الرسول مخافة الكفران لله حق لا يكون لغيره ... ولعبده حق, هما حقان لا تجعلوا الحقين حقا واحدا ... من غير تمييز ولا فرقان فالحج للرحمن دون رسوله ... وكذا الصلاة وذبح ذي القربان وكذا السجود ونذرنا ويميننا ... وكذا متاب العبد من عصيان وكذا التوكل والإنابة والتقى ... وكذا الرجاء وخشية الرحمن وكذا العبادة واستعانتنا به ... إياك نعبد، ذاك توحيدان وعليهما قام الوجود بأسره ... دنيا وأخرى حبذا الركنان وكذا التسبيح والتكبير والته ... ليل حق إلهنا الديان لكنما التعزير والتوقير حـ ... ق للرسول بمقتضى القرآن والحب والإيمان والتصديق لا ... يختص بل حقان مشتركان هذي تفاصيل الحقوق ثلاثة ... لا تجملوها يا أولي العدوان حق الإله عبادة بالأمر لا ... بهوى النفوس فذاك لليطان من غير إشراك ولا شك هما ... سببا النجاة فحبذا السببان ورسوله فهو المطاع وقوله ... مقبول إذ هو صاحب البرها ... إلى آخر كلامه -رحمه الله ورضي عنه-، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين والله أعلم.

أسئلة عن أحاديث غير صحيحة وأجوبتها حديث " لو أن أحدكم أدلى بحبل " بسم الله الرحمن الر حيم "الحمد لله وحده" سئل الشيخ علامة العصر، ونادرة الدهر، عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين -رحمة الله علينا وعليه آمين- عن حديث: "لو أن أحدكم أدلى بحبل لهبط على الله" 1. فأجاب: حديث: "لو أن أحدكم أدلى بحبل لهبط على الله" 2 رواه الترمذي من رواية الحسن عن أبي هريرة. وللشيخ تقي الدين -رحمه الله- على هذا الحديث كلام طويل، قال: فإن كان ثابتا3 فقوله: "لو أن أحدكم أدلى بحبل لهبط على الله" 4 إنما هو تقدير مفروض أي: لو وقع الإدلاء لوقع عليه، لكنه لا يمكن أن يدلي أحد على الله -سبحانه وتعالى- شيئا لأنه عال بالذات. وإذا هبط شيء إلى جهة الأرض وقف في المركز من الجزء ... إلى أن قال: فكما أن ما يهبط إلى جوف الأرض يمتنع صعوده إلى تلك الناحية لأنها عالية، فترد الهابط بعلوها، كما أن الجهة العليا من عندنا ترد ما يصعد إليها من الثقيل، فلا يصعد الثقيل إلا برافع يرفعه يدافع به ما في قوته من الهبوط، فكذلك ما يهبط من أعلى الأرض إلى أسفلها وهو المركز، لا يصعد من هناك إلى ذلك الوجه إلا برافع يرفعه يدافع به ما في قوته من الهبوط إلى المركز. فإن قدر أن الرافع أقوى كان صاعدا به إلى الفلك من تلك الناحية، وصعد به إلى الله، وإنما يسمى هبوطا باعتبار ما في أذهان المخاطبين من أن ما يحاذي أرجلهم يكون هابطا، ويسمى هبوطا مع تسمية إهباطه إدلاء. وهو إنما يكون إدلاء حقيقيا إلى المركز، ومن هناك إنما يكون مدا للحبل والدلو، لا إدلاء له، ولكن الجزء والشرط مقدران لا محققان، فإنه قال: لو أدلى لهبط، أي: لو

_ 1 الترمذي: تفسير القرآن "3298" , وأحمد "2/370". 2 الترمذي: تفسير القرآن "3298" , وأحمد "2/370". 3 يعني أن الحديث ليس بثابت في نفسه؛ لأن سنده غير صحيح، ومتنه غير معقول، وإنما هو مفروض كما يفرض المحال، وكلام شيخ الإسلام فيه تراه في كتابه في العرش. 4 الترمذي: تفسير القرآن "3298" , وأحمد "2/370".

فرض أن هناك إدلاء لفرض أن هناك هبوطا، وهو يكون إدلاء وهبوطا إذا قدر أن السموات تحت الأرض، وهذا منتف. ولكن فائدته بيان الإحاطة والعلو من كل جانب، وهذا المفروض ممتنع في حقنا، لا نقدر عليه فلا يتصور أن ندلي، فلا يتصور أن يهبط على الله شيء، لكن الله قادر على أن يخرق من هناك بحبل لكن لا يكون في حقه إدلاء، فلا يكون في حقه هبوط عليه، كما لو خرق بحبل من القطب إلى القطب، أو من مشرق الشمس إلى مغربها، وقدرنا أن الحبل مر في وسط الأرض فإن الله قادر على ذلك كله ... إلى أن قال: فعلى كل تقدير قد خرق بالحبل من جانب المحيط إلى جانبه الآخر مع خرق المركز، وبتقدير إحاطة قبضته بالسموات والأرض، فالحبل الذي قدر أنه خرق به العالم وصل إليه، ولا يسمى شيئا بالنسبة إليه لا إدلاء ولا هبوطا، وأما بالنسبة إلينا فإن ما تحت أرجلنا تحت لنا، وما فوق رؤوسنا فوق لنا. وما ندليه من ناحية رؤوسنا إلى ناحية أرجلنا نتخيل أنه هابط، فإذا قدر أن أحدنا أدلى بحبل كان هابطا على ما هنالك، لكن هذا التقدير ممتنع في حقنا، والمقصود به بيان إحاطة الخالق -تعالى-، كما بين أنه يقبض السموات، ويطوي الأرض ونحو ذلك مما فيه بيان إحاطته بالمخلوقات، ولهذا قرأ في تمام هذا الحديث {هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} 1. وهذا كله كلام على تقدير صحته فإن الترمذي لما رواه قال: وفسر بعض أهل العلم بأنه هبط على علم الله. ثم قال الشيخ: وتأويله بالعلم تأويل ظاهر الفساد، قال: وبتقدير ثبوته يكون دالا على الإحاطة، والإحاطة قد علم أن الله قادر عليها، وعلم أنها تكون يوم القيامة بالكتاب والسنة. فليس في إثباتها في الجملة ما يخالف العقل ولا الشرع، لكن لا نتكلم إلا بما نعلم، وما لم نعلم أمسكنا عنه.

_ 1 سورة الحديد آية: 3.

أحاديث ليس لها أصل وأما من روى أن الزيدية مجوس هذه الأمة، فلا شك أن هذا كذب وإنما المروي: القدرية مجوس هذه الأمة. وحديث: "القرآن كلام الله" ... إلخ، ليس له أصل عن النبي صلى الله عليه وسلم وحديث: تارك الصلاة ... إلخ، ما له أصل. وحديث ابن عطاء الله ما ذكر ما أظن له أصلا، ولا ينبغي التحديث بهذا وأشباهه. وحديث: الحديث في المسجد ... إلخ ما علمت له أصلا. والله -سبحانه أعلم-. عدد ركعات صلاة التراويح (مسألة": في قول بعض الناس ما تصح الجمعة خلف إمام لم يتزوج، وكذلك قول بعضهم في التراويح يجب إتمام عشرين ركعة، ما الصحيح؟ أفتونا مأجورين. (الجواب": الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده. (وبعد"، فصلاتكم التراويح أقل من العشرين فلا بأس، والصحابة -رضي الله عنهم- منهم من يقل، ومنهم من يكثر، والحد المحدود لا نص عليه من الشارع صحيح. إمامة الأعزب في الجمعة وأما صلاتكم الجمعة خلف الإمام الذي ما تزوج فليس الزواج بشرط، وإنما الشرط البلوغ والاستيطان. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وصلى الله على محمد وآله وصحبه. الكلام على إعادة الروح إلى الميت في قبره وقت السؤال إعادة الروح إلى الميت في قبره وقت السؤال بسم الله الرحمن الر حيم قال ابن القيم في كتاب الروح: (فصل": وأما المسألة السادسة وهي أن الروح هل تعاد إلى الميت في قبره وقت السؤال أم لا تعاد؟ فقد كفانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر هذه المسألة فأغنانا عن أقوال الناس، حيث صرح بإعادة الروح إليه. فقد قال البراء بن عازب رضي الله عنه: كنا في جنازة في بقيع الغرقد، فأتانا النبي صلى الله عليه وسلم فقعد وقعدنا حوله ... إلى أن

قال في آخر الحديث: "حتى ينتهوا بها إلى السماء الدنيا فيستفتحون له، فيفتح له، فيشيعه من كل سماء مقربوها إلى التي تليها، حتى ينتهي بها إلى السماء التي يسمع فيها الخطاب 1. فيقول الله عز وجل: اكتبوا كتاب عبدي في عليين، وأعيدوه إلى الأرض "إلخ الحديث. ووجدت في كلام القرطبي تعليقا على هذا الحديث. قال القرطبي في تذكرته: قوله صلى الله عليه وسلم "حتى ينتهي بها إلى السماء التي فيها الله -تعالى-" 2 المعنى أمر الله وحكمه، وهي السماء السابعة التي عندها سدرة المنتهى التي إليها يصعد ما يعرج به من الأرض، ومنها يهبط ما ينْزل به منها، كذا في صحيح مسلم من حديث الإسراء 3. وفي حديث البراء: "أنه ينتهي بها إلى السماء السابعة" 4. وقد كنت تكلمت مع بعض أصحابنا القضاة ممن له علم وبصر، ومعنا جماعة من أهل النظر والاجتهاد فيما ذكر أبو عمر بن عبد البر في قوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} 5، فذكرت له هذا الحديث فما كان إلا أن بادر إلى عدم صحته، ولعن رواته، وبين أيدينا رطب نأكله. فقلت له: الحديث صحيح خرجه ابن ماجه في السنن، ولا ترد الأخبار بمثل هذا القول، بل تتأول، وتحمل على ما يليق من التأويل، والذين رووها هم الذين رووا لنا الصلوات الخمس وأحكامها، فإن صدقوا هنا صدقوا هناك، وإن كذبوا هنا كذبوا هناك، ولا تحصل الثقة بأحد منهم فيما يرويه. إلى هنا من التذكرة للقرطبي. ووجدت بخط شيخنا معلقا على هذا الحديث: والهامش المنسوب للتذكرة: يا عجبا لمحرف حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ومغير ألفاظه، كيف يصف رسول الله

_ 1 بهامش الأصل: لفظ الحديث "حتى ينتهي إلى السماء التي فيها الله". 2 ابن ماجه: الزهد "4262" , وأحمد "2/364". 3 قول القرطبي هذا إنما هو على رأي المؤولين من المتأخرين، لا على مذهب السلف. 4 أحمد "4/287". 5 سورة طه آية: 5.

صلى الله عليه وسلم ربه بأنه في السماء كما في حديث البراء المذكور. وكذلك حديث أبي هريرة الموافق لحديث البراء في إثبات وصف الله -سبحانه- بأنه في السماء، وكذلك حديث الرقية المرفوع في سنن أبي داود: " ربنا الله الذي في السماء" 1 وكذلك قوله للجارية: أين الله؟ قالت: في السماء، فهذا أعلم الأمة بربه وأخشاهم له يصف ربه بأنه في السماء، ويشهد لمن وصفه بذلك بالإيمان. ونقل الصحابة ألفاظه للتابعين، ونقلها التابعون، وبلغوها لمن بعدهم، وتداولها أهل الحديث وأئمة الإسلام، وأثبتوها في كتبهم، وأقروها على ظاهرها، وقالوا أمروها كما جاءت، وقالوا: تفسيرها قراءتها، فلما لم يتسع عطن هذا المعطل، لذلك حمله تعطيله وجهله على أن غير لفظ رسول الله صلى الله عليه وسلم وحرفه، ولم يكفه تغيير معناه مع إقرار لفظه كما يفعله كثير، كقول القرطبي في تأويل هذا الحديث. فلهذا المحرف أوفر نصيب من مشابهة اليهود الذين يحرفون الكلم عن مواضعه، ففيه تصديق قوله صلى الله عليه وسلم "لتتبعن سنن من كان قبلكم" 2. رد تأويل من أوّل " أن الله في السماء" وحقيقة معناها وأما تأويل من تأول كونه في السماء بأن أمره وحكمه ونحو ذلك، فهذا تأويل باطل قطعا، فإن أمره وحكمه لا يختص بسماء دون سماء، ولا بالسماء دون الأرض، وأيضا فيكفي في بطلانه أن القرون المفضلة أقروا هذه الأحاديث على ظاهرها، وكذلك سائر آيات الصفات وأحاديثها. وأنكروا على من تأولها بنحو هذه التأويلات وبدعوهم، فإجماعهم على الإضراب عن تأويلها، وتبديعهم من تأولها، دليل قاطع على بطلان هذه التأويلات. ومن توهم من قوله: إنه -سبحانه- في السماء، أنه سبحانه في داخل السموات فهو جاهل ضال، وليس هذا بمراد من اللفظ، ولا ظاهر فيه. إذ السماء يراد بها العلو، فكل ما علا فهو سماء، سواء كان فوق الأفلاك، أو تحتها كما قال -تعالى-: {فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إلي السَّمَاءِ} 3.

_ 1 أبو داود: الطب "3892". 2 البخاري: أحاديث الأنبياء "3456" , ومسلم: العلم "2669" , وأحمد "3/84 ,3/89 ,3/94". 3 سورة الحج آية: 15.

فلما كان قد استقر في نفوس المخاطبين أن الله هو العلي الأعلى، وأنه فوق كل شيء، كان المفهوم من قوله: إنه في السماء، أنه في العلو، وأنه فوق كل شيء. وإذا قيل العلو فإنه يتناول ما فوق المخلوقات كلها، فما فوقها كلها هو في السماء، ولا يقتضي هذا أن يكون هناك ظرف وجودي يحيط به، إذ ليس فوق العالم موجود إلا الله، وإن قدر أن السماء المراد بها الأفلاك، كان المراد أنه عليها كما قال: {لأصلبنكم في جذوع النخل} 1 وكما قال: {فسيروا في الأرض} 2، وكما قال: {فسيحوا في الأرض} 3، ويقال: فلان في الجبل وفي السطح، وإن كان على أعلى شيء فيه. ليس معنى قوله: "إن الله في السماء" أن السماء تحويه ومن فهم من قول النبي صلى الله عليه وسلم أن الله في السماء أن هناك ظرفا يحيط به، فهذا فهم فاسد. فإذا كانت السموات السبع بالنسبة إلى الكرسي كسبعة دراهم في ترس، والكرسي في العرش كحلقة في فلاة، والعرش مخلوق، فكيف يتوهم هذا في الخالق -جل وعز- الذي يطوي السموات بيمينه، والأرض بيده الأخرى؟ والله -سبحانه- أعظم وأكبر وأجل من كل شيء {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} 4. قال ابن عباس: ما السموات السبع في كف الرحمن إلا كخردلة في يد أحدكم. فلما كان هذا مستقرا في نفوس المخاطبين، كان المفهوم عندهم من كونه -سبحانه- في السماء أن المراد بذلك العلو الذي هو ضد السفل، وأنه فوق كل شيء عال على كل شيء. ومن توهم من وصف الله -سبحانه- بأنه في السماء أن السماء تحيط به، وتحويه، فهو ضال إن اعتقده في ربه، وكاذب إن نقله عن غيره. ولو سئل سائر المسلمين هل تفهمون من قول النبي صلى الله عليه وسلم أن الله في السماء أن السماء تحويه، لبادر كل أحد منهم إلى أن يقول: هذا شيء لعله لم يخطر ببالنا، وإذا كان الأمر هكذا، فمن التكلف أن يجعل ظاهر اللفظ شيئا لا يفهمه الناس منه، بل هو محال عندهم، ثم يريد أن يتأوله؛ بل عند المسلمين أن الله في السماء وهو على

_ 1 سورة طه آية: 71. 2 سورة آل عمران آية: 137. 3 سورة التوبة آية: 2. 4 سورة الشورى آية: 11.

العرش واحد، إذ السماء إنما يراد بها العلو، فالمعنى أن الله في العلو لا في السفل. ومن ظن أن ظاهر قوله أن الله في السماء أن السماء تحيط به، وتحويه فقد ظن برسول الله صلى الله عليه وسلم ما لا يليق به من كونه يخاطب أمته بما ظاهره كفر وضلال، ويشهد لمن قال ذلك بالإيمان، ولم يقل مرة واحدة: لا تعتقدوا ظواهر ما أحدثكم به في صفات ربكم، بل تأولوها، واعتقدوا فيها كذا وكذا، وإن ظاهرها غير مراد. فإنهم كانوا لا يفهمون من ظاهرها إلا ما هو حق، وهو أنه -سبحانه- فوق كل شيء عال على كل شيء، مستو على عرشه، بائن من خلقه، لا يشبهه شيء لا في ذاته ولا في صفاته {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} 1. والله أعلم، وصلى الله على محمد وصحبه وسلم. ما يعمله الناس من الحيل للوصول إلى الربا بيان الربا وما يعمله الناس اليوم من الحيل ليصلوا به إلى الربا 2 "مسألة": في تحريم الربا، وما يفعل من المعاملات بين الناس اليوم؛ ليتوصلوا به إلى الربا. وإذا حل الدين يكون المديون معسرا فيقلب الدين في معاملة أخرى بزيادة مال، وما يلزم ولاة الأمور في هذا،؟ وهل يرد على صاحب المال رأس ماله دون ما زاد في معاملة الربا؟ "الجواب": المراباة حرام بالكتاب والسنة والإجماع "وقد لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه والمحلل والمحلل له"3 قال الترمذي: حسن صحيح، فالاثنان ملعونان. وكان أصل الربا في الجاهلية أن الرجل يكون له على الرجل المال المؤجل، فإذا حل الأجل، قال له: أتقضي، أم تربي؟ فإن وفاه، وإلا زاد هذا في الأجل، وزاد

_ 1 سورة الشورى آية: 11. 2 هذه المسائل غير منسوبة لأحد، والظاهر أنها للشيخ عبد الله -رحمه الله-. انتهى من الأصل. 3 أحمد "1/158".

هذا في المال، فيتضاعف المال، والأصل واحد، وهذا الربا حرام بإجماع المسلمين. وأما إذا كان هذا هو المقصود، ولكن توصلوا بمعاملة أخرى، فهذا تنازع فيه المتأخرون من المسلمين. وأما الصحابة فلم يكن منهم نزاع أن هذا محرم؛ فإن الأعمال بالنيات، والآثار عنهم بذلك كثيرة مشهورة. والله -تعالى- حرم الربا لما فيه من ضرر المحتاجين، وأكل المال بالباطل، وهذا موجود في المعاملات الربوية. وإذا حل الدين، وكان الغريم معسرا لم يجز بإجماع المسلمين أن يلزم لقلب لا بمعاملة ولا غيرها، بل يجب إنظاره، وإن كان موسرا كان عليه الوفاء فلا حاجة إلى القلب لا مع يساره ولا مع إعساره. والواجب على ولاة الأمور بعد تعزير المتعاملين بالمعاملة الربوية بأن يأمروا المدين أن يؤدي رأس المال، ويسقط الزيادة الربوية، فإن كان معسرا وله مغلات يوفي منها، وفى دينه منها بحسب الإمكان، والله أعلم. إبطال مسألة التورق لإفضائها إلى الربا "مسألة": في رجل عليه دين يحتاج إلى بضاعة، أو حيوان ينتفع به أو يتاجر، فيطلبه من إنسان دينا فلم يكن عنده، هل للمطلوب أن يشتريه، ثم يدينه له بثمن إلى أجل؟ وهل له أن يوكله في شرائه، ثم يبيعه له بعد ذلك بربح اتفقا عليه قبل الشراء؟ "الجواب": من كان له عليه دين فإن كان موسرا وجب عليه أن يوفيه، وإن كان معسرا وجب إنظاره، ولا يجوز قلبه عليه بمعاملة ولا غيرها. وأما البيع إلى أجل ابتداء، فإن كان مقصود المشتري الانتفاع بالسلعة أو التجارة فيها جاز إذا كان على الوجه المباح، وأما إذا كان مقصوده الدراهم فيشتريها بمائة مؤجلة، ويبيعها في السوق بسبعين

حالة، فهذا مذموم منهي عنه في أظهر قولي العلماء، وهذا يسمى التورق، قال عمر ابن عبد العزيز: التورق أخية الربا، والله أعلم. بيع الرهن "مسألة": فيمن له على شخص دين، ورهن عليه رهنا، والدين حال، ورب الدين محتاج إلى دراهمه فهل يجوز له بيع الرهن أم لا؟ "الجواب": إذا كان أذن له في البيع جاز، وإلا باع الحاكم إن أمكن، ووفاه حقه منه. ومن العلماء من يقول: إذا تعذر ذلك، دفعه إلى ثقة يبيعه، ويحتاط بالإشهاد على ذلك، واستوفى حقه منه، والله أعلم. إطالة المدة في البينة "مسألة": في رجل ادعى على رجل دعاوى، ولم يعترف الغريم بشيء، وخرج المدعي على أن يقيم بينة، واعتقل المدعى عليه، ولم يقم بينة بعد أربعة أيام أو خمسة، فهل يجوز تطاول المدة في البينة، أم تكون هذه البينة إلى مدة؟. "الجواب": لا يجوز مثل هذا الحبس كما ذكر، بل قد نص أئمة المذاهب الأربعة أنه لا يجوز مثل هذا الحبس، وإنما تنازعوا هل يطلب من المدعى عليه كفيلا إلى ثلاثة أيام ونحوها، إذا قال المدعي: لي بينة حاضرة، وتنازعوا فيما إذا أقام حجة شرعية، ولها شرط مثل أن يقيم بينة ولم يذكرها، فيطلب حبس الخصم حتى يأتي بشرطها، على قولين في مذهب أحمد والشافعي وغيرهما. فأما هذا الحبس فلا يجوز باتفاق العلماء فيما أعلم، والله -سبحانه- أعلم. إبراء الزوجة زوجها من الصداق "مسألة": في امرأة لها زوج، ولها عليه صداق، فلما حضرتها الوفاة أحضرت شاهد عدل، وجماعة نسوة، وأشهدت على نفسها أنها أبرأت زوجها من صداقها، فهل يصح هذا الإبراء أم لا؟

"الجواب": إن كان الصداق ثابتا عليه إلى أن مرضت مرض الموت، لم يصح ذلك إلا بإجازة بقية الورثة. وأما إن كانت أبرأته في الصحة جاز ذلك، وثبت بشاهد ويمين عند مالك والشافعي وأحمد؛ ويثبت أيضا بشهادة امرأتين ويمين عند مالك، وقول في مذهب أحمد. وإن أقرت في مرضها أنها أبرأته في الصحة، لم يقبل هذا الإقرار عند أبي حنيفة وأحمد وغيرهما، ويقبل عند الشافعي. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: " إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث" 1، وليس للمريض أن يخص الوارث بأكثر مما أعطاه الله، والله أعلم. تكليم الله لموسى بغير واسطة "مسألة": في رجلين تنازعا فقال أحدهما: إن الله كلم موسى تكليما سمعته أذناه ووعاه قلبه، وإن الله كتب التوراة بيده، وناولها من يده إلى يده إلى موسى. وقال الآخر: إن الله كلم موسى بواسطة، وإن الله لم يكتب التوراة بيده، ولم يناولها من يده إلى يده. "الجواب": القائل الذي قال: إن الله كلم موسى تكليما كما أخبر في كتابه فمصيب، وأما الذي قال: كلم الله موسى بواسطة، فهذا ضال مخطيء؛ بل نص الأئمة على أن من قال ذلك فإنه يستتاب، فإن تاب، وإلا قتل، فإن هذا إنكار لما قد علم بالاضطرار من دين الإسلام، ولما ثبت بالكتاب والسنة والإجماع. قال -تعالى-: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَا وَحْياً أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} 2 الآية، ففرق بين تكليمه من وراء حجاب كما كلم موسى، وبين تكليمه بواسطة رسول كما أوحى إلى غير موسى. قال -تعالى-: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ} 3 إلى قوله: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً} 4. والأحاديث بذلك كثيرة في الصحيحين والسنن. وفي الحديث المحفوظ عن النبي صلى الله عليه وسلم: "التقى آدم وموسى. قال آدم: أنت

_ 1 الترمذي: الوصايا "2121" , والنسائي: الوصايا "3641" , وابن ماجه: الوصايا "2712" , وأحمد "4/187 ,4/238 ,4/239" , والدارمي: الوصايا "3260". 2 سورة الشورى آية: 51. 3 سورة النساء آية: 163. 4 سورة النساء آية: 164.

موسى الذي كلمك الله تكليما، لم يجعل بينك وبينه رسولا من خلقه" 1. وسلف الأمة وأئمتها كفروا الجهمية الذين قالوا: إن الله خلق كلاما في بعض الآجام 2 سمعه موسى، وفسر التكليم بذلك. وأما قوله: إن الله كتب التوراة بيده فهذا قد روي في الصحيحين، فمن أنكر ذلك فهو مخطيء ضال، وإذا أنكره بعد معرفته بالحديث الصحيح، فإنه يستحق العقوبة. وأما قوله: ناولها بيده إلى يده، فهذا مأثور عن طائفة من التابعين، وهو كذلك عند أهل الكتاب، لكن لا أعلم هذا اللفظ مأثورا عن النبي صلى الله عليه وسلم. فالمتكلم به إن أراد ما يخالف ذلك، فقد أخطأ، والله -سبحانه وتعالى- أعلم. تمت بقلم الفقير إلى الله -تعالى- عبد الرحمن بن عبد العزيز بن صعب، غفر الله له ولوالديه ومشايخه وإخوانه وجميع المسلمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

_ 1 أبو داود: السنة "4702". 2 جمع أجمة وهي الشجر الكثير الملتف.

المسائل الحفظية نصيحة في تعلم التوحيد والطريق إليه وبيان ما يجب على أهل القرى من حق الضيف، وحق الإمام في زكاة النقدين، والعمل بظاهر الأحاديث. بسم الله الرحمن الر حيم من حسين وعبد الله ابني الشيخ محمد بن عبد الوهاب إلى جناب الأخ في الله محمد بن أحمد الحفظي -سلمه الله تعالى- من الآفات، واستعمله بالباقيات الصالحات. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. "أما بعد": فإنا نحمد الله إليك الذي لا إله إلا هو، وهو للحمد أهل، وهو على كل شيء قدير، والصلاة والسلام على نبيه وحبيبه محمد البشير النذير، وعلى آله وأصحابه أولي الفضل الشهير، والعلم المستطير. وقد وصل إلينا كتابك، وفهمنا ما حواه من حسن خطابك، وتذكر أنك على هذا الدين الذي نحن عليه من إخلاص الدين لله -تعالى-، وترك عبادة ما سواه، وأنك لا ترضى بالإشراك والتخلف عن التوحيد، ولو قدر فواق 1، فالحمد لله الذي من علينا وعليك. وهذا هو أفرض الفرائض على جميع الخلق، ومن انتفع بهذا الدين، واستقام عليه فله البشرى في الحياة الدنيا والآخرة، وله العزة والرفعة والجاه والملابس الفاخرة. وفي الحديث عن الصادق المصدوق -صلوات الله وسلامه عليه- قال: "إن الله ليرفع بهذا الدين أقواما ويضع به آخرين" 2.

_ 1 فواق- كغراب- ما بين الحلبتين من الوقت، أو ما بين يديك وقبضهما على الضرع. 2 مسلم: صلاة المسافرين وقصرها "817" , وابن ماجه: المقدمة "218" , وأحمد "1/35" , والدارمي: فضائل القرآن "3365".

والذي نوصيك به، ونحضك عليه: التفقه في التوحيد، ومطالعة مؤلفات شيخنا -رحمه الله تعالى-، فإنها تبين لك حقيقة التوحيد الذي بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم، وحقيقة الشرك الذي حرمه الله -تعالى- ورسوله صلى الله عليه وسلم وأخبر أنه لا ينفع صاحبه، وأن الجنة على فاعله حرام، وأن من فعله حبط عمله. والشأن كل الشأن في معرفة حقيقة التوحيد الذي بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم وبه يكون الرجل مسلما مفارقا للشرك وأهله، وذلك لأن كثيرا من المصنفين إذا ذكر التوحيد لم يبينه، وقد يفسره بتوحيد الربوبية الذي أقر به المشركون، ومنهم من يفسره بتوحيد الذات والصفات، وذلك -وإن كان حقا- فليس هو المراد من توحيد العبادة الذي هو معنى لا إله إلا الله. وكثير من المصنفين يفسر الشرك بالإشراك في توحيد الربوبية الذي أقر به كفار العرب وغيرهم من طوائف المشركين، كما قال -تعالى-: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} 1، وقال: {قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ} 2 الآية. وغير ذلك من الآيات التي تدل على أن المشركين يقرون بتوحيد الربوبية، وإنما الخلاف الذي بينهم وبين الرسول صلى الله عليه وسلم هو توحيد الإلهية الذي هو توحيد العبادة، ولهذا لم يصيروا موحدين بمجرد الإقرار بتوحيد الربوبية. فإياك أن تغتر بما أحدثه المتأخرون وابتدعوه كابن حجر الهيتمي وأشباهه، واعتمد في هذا الأصل على كتاب الله الذي أنزله تبيانا لكل شيء، وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين، وعلى ما كان عليه السلف الصالح من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، ولا تغتر بما حدث بعدهم من البدع المضلة في أصول الدين وفروعه، كما قال -تعالى-: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} 3. وبهذا تعرف حقيقة أصل الإسلام شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا

_ 1 سورة العنكبوت آية: 61. 2 سورة المؤمنون آية: 88، 89. 3 سورة الأنعام آية: 153.

رسول الله، فإن تحقيق شهادة أن لا إله إلا الله، أن لا تعبد إلا الله وحده لا شريك له. وتحقيق شهادة أن محمدا رسول الله، هو أن يطاع فيما أمر، وينتهى عما عنه نهى وزجر، ويكون هو الإمام المتبع، ومن سواه فيؤخذ من كلامه، ويترك فعلى أقواله وأفعاله تعرض الأقوال والأفعال، فما وافق قوله فهو المقبول، وما خالفه فهو المردود. حكم الضيافة وأما المسائل الثلاث التي سألتم عنها: "فالأولى": مسألة الضيافة هي واجبة أم لا؟ فالذي عليه العمل أنها واجبة على أهل القرى، وعلى أهل البوادي دون الأمصار الكبار التي توجد الأطعمة تباع فيها بلا كلفة. طلب الزكاة من الأموال الباطنة كالنقدين "وأما الثانية": وهي قولكم: هل للإمام وعماله طلب الزكاة من الأموال الباطنة كالنقدين، أم يختص ذلك بالأموال الظاهرة؟ فهذه مسألة اختلف العلماء فيها، فمنهم من يقول: إن للإمام أخذ الزكاة من الأموال الباطنة كالظاهرة، ويجب دفعها إليه، وهو قول مالك، وقول في مذهب أحمد. وأما الأموال الظاهرة فيجب دفعها إلى الإمام العادل إذا طلبها، وهو مذهب مالك وأبي حنيفة والشافعي، ورواية عن الإمام أحمد. واتفق على أن للإمام طلب الزكاة من الأموال الظاهرة والباطنة، وإنما الخلاف في وجوب الدفع إليه، وهل يجزئ عن صاحبها إذا لم يدفعها إليه أم لا؟ العمل بصريح الحديث وظاهره "وأما المسألة الثالثة": في العمل بصريح الحديث وظاهره، إذا وجده المرء في الأمهات الست، أو ما التزم مخرجه فيه الصحة والحسن، هل للإنسان العمل به والاعتماد عليه وإن لم يبحث عنه هل هو منسوخ أم لا؟ وهل عارضه أقوى منه أم لا؟ فنقول: الذي ينبغي لطالب العلم إذا رأى مثل ذلك أن يبحث عن كلام أهل العلم في المسألة التي دل عليها الحديث، هل هو معمول به عندهم، أم هو منسوخ، أم

قد عارضه ما هو أقوى منه. فإذا فعل ذلك، وعرف مذاهب العلماء في المسألة تبين له حينئذ، هل الحديث محكم صحيح، أو منسوخ، أم قد عارضه ما هو أقوى منه عند أهل العلم؟ هذا إذا كان الإنسان من أهل المعرفة بهذا الحديث وكلام العلماء. فإذا وجد حديثا مشهورا عند أهل العلم، محكوما بصحته أو حسنه، ولم يعلم له ناسخا، ولا معارضا أقوى منه، وقد أخذ بعض العلماء من أهل المذاهب المشهورة به تعين عليه العمل بالحديث إذا كان قد سبقه من أهل العلم من يقتدى به، ولو خالف مذهبه الذي ينسب إليه. وأما إذا كان الرجل ليس له معرفة بالحديث، وكلام العلماء، وترجيح الأقوال، فإنما وظيفته تقليد أهل العلم. قال الله -تعالى-: {فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} 1 والله -سبحانه وتعالى- أعلم. والذي نشير به عليك أنك تسافر إلينا، ونتواجه نحن وإياك، وتواجه أمير المؤمنين، ونعرف حالك، وتصبر على تحمل المشقة في ذلك، فإنه خير لك وأحسن عاقبة إن شاء الله. وسلم لنا على الوالد وإخوانك من أهل الدين، وكاتبه أحمد بن ناصر بن معمر يبلغك السلام، ثم أنت في حفظ الله وأمانه. وجوب جهاد أهل الفساد ودفع فسادهم في الدين بسم الله الرحمن الر حيم من عبد الرحمن بن حسن إلى كافة الإخوان، سلمهم الله من شرور الدنيا والآخرة، ووفقنا الله وإياهم للتجارة الفاخرة. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. "وبعد": فاعلموا، وفقنا الله وإياكم لشكر ما أنعم به عليكم من نعمة الإسلام، والاجتماع على ذلك، وجهاد من خرج عنه من أهل الجهل والفساد، الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون، وقد أوجب الله جهادهم

_ 1 سورة النحل آية: 43.

دفعا لعنادهم وخروجهم عن جماعة المسلمين، والسمع والطاعة لمن ولاه الله أمرهم، كما قال -تعالى-: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} 1. ومن فضله عليكم اجتماعكم وجهادكم لأهل الفساد، ولولا الجهاد لأفسدوا عليكم دينكم ودنياكم، وأنتم ولله الحمد على ملة الإسلام، تعبدون ربكم، وتوحدونه، وتعملون بفرائضه، وتأمرون بالمعروف، وتنهون عن المنكر. ومن أعظم الشكر: الجهاد الذي أوجبه الله في كتابه العزيز، قال -تعالى-: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ} 2 الآية، وقال -تعالى-: {فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلا نَفْسَكَ} 3 الآية، وقال -تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} 4 الآية. والإيمان بالله ورسوله، والجهاد في سبيله بالمال والنفس هو التجارة المنجية من شرور الدنيا والآخرة الموجبة لخير الدنيا والآخرة، كما قال -تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} 5 الآيات. فبشركم ربكم، فاقبلوا هذه البشارة، وامتثلوا أمره، وجاهدوا أهل الفساد، وارغبوا في ثواب الجهاد في سبيل الله. وفي الحديث: "غدوة في سبيل الله، أو روحة خير من الدنيا وما فيها" 6. ولا تفرطوا في الغدوات والروحات فتضيع عليكم، وفي الحديث: "الجهاد باب من أبواب الخير ينجي الله به من الهم والغم، وخير المال ما أنفق فيه، وخير الأيام أيام المجاهدين" لأن المجاهد في حسنات تكتب له في يقظته ونومه، وفي سيره ومقامه. فارغبوا في هذا الخير الذي رغب فيه ربكم، وابذلوا فيه المال والنفس. وأفضل المجاهدين من جاهد بنفسه وماله، وما عذر ربنا عن الجهاد إلا الأعمى والأعرج والمريض، كذلك الذين لا يجدون ما ينفقون إذا نصحوا لله ورسوله، والنصيحة لله ولدينه واجبة على المعذور وغيره. وصلى الله على محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.

_ 1 سورة البقرة آية: 251. 2 سورة البقرة آية: 216. 3 سورة النساء آية: 84. 4 سورة الحج آية: 40. 5 سورة الصف آية: 13. 6 البخاري: الجهاد والسير "2792" , ومسلم: الإمارة "1880" , والترمذي: فضائل الجهاد "1651" , وابن ماجه: الجهاد "2757 ,2824" , وأحمد "3/132 ,3/141 ,3/153 ,3/157 ,3/207 ,3/263".

الآيات في التوحيد الذي دعت إليه كل الأنبياء توحيد العبادة بسم الله الرحمن الر حيم من عبد الرحمن حسن إلى الإخوان من أهل القصيم، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. "وبعد": اعلموا -وفقنا الله وإياكم لمعرفة العلم النافع والعمل به-، تفهمون أن الله -سبحانه- منَّ على أهل نجد بتوحيده بالعبادة، وترك عبادة ما سواه، وهذه نعمة عظيمة خص الله أهل نجد بالقيام فيها من الخاصة على العامة، لكن ما عرف قدرها. والغفلة ذمها الله في كتابه، وذكر أنها صفة أهل النار، نعوذ بالله من النار بقوله: {أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} 1. وذم أهل الإعراض بقوله: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً} 2 وذكره هو القرآن، ولا تعرفون العبادة التي خلقكم الله لها إلا من القرآن. والقرآن من أوله إلى آخره يبين لكم كلمة الإخلاص: لا إله إلا الله. ولا يصح لأحد إسلام إلا بمعرفة ما دلت عليه هذه الكلمة من نفي الشرك في العبادة، والبراءة منه وممن فعله، ومعاداته، وإخلاص العبادة لله وحده لا شريك له، والموالاة في ذلك. فمن الآيات التي بين الله -تعالى- فيها هذه الكلمة قوله -تعالى-: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ} 3 وهي: لا إله إلا الله. وقد افتتح قوله بالبراءة مما كان يعبده المشركون عموما، ولم يستثن إلا الذي فطره، وهو الله -تعالى- الذي لا يصلح شيء من العبادة إلا له. ونوع تعالى البيان لمعنى هذه الكلمة في آيات كثيرة يتعذر حصرها، كقوله -تعالى-: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلا نَعْبُدَ إِلا اللَّهَ} 4، والكلمة هي: لا إله إلا الله بالإجماع، ففسرها بقوله: {سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} 5 أي: نكون

_ 1 سورة الأعراف آية: 179. 2 سورة طه آية: 124. 3 سورة الزخرف آية:26: 28. 4 سورة آل عمران آية: 64. 5 سورة آل عمران آية: 64.

فيها سواء، علما وعملا وقبولا وانقيادا. فقال: {أَلا نَعْبُدَ إِلا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً} 1: فنفى ما نفته لا إله إلا الله بقوله: {أَلا نَعْبُدَ} 2، وأثبت ما أثبتته لا إله إلا الله بقوله: {إِلا اللَّهَ} 3، وقال: {أَمَرَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ} 4. فهذا أمر عظيم أمر الله -تعالى- به عباده وخلفهم له، ففي قوله: {أَلا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} 5: نفى الشرك الذي نفته لا إله إلا الله، وقوله: {إِلا إِيَّاهُ} 6: هو الإخلاص الذي أثبتته لا إله إلا الله. وقال -تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} 7 قضى أي: أمر، {أَلا تَعْبُدُوا} 8: فيه من النفي ما في معنى لا إله، وقوله: {إِلا إِيَّاهُ} 9: هذا هو الإثبات الذي أثبتته إلا الله. وقال -تعالى-: {قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ} 10 فهذا هو الذي أمر به صلى الله عليه وسلم ودعا الناس إليه، وهو إخلاص العبادة، وتخليصها من الشرك قولا وفعلا واعتقادا. وقد فعل صلى الله عليه وسلم ذلك، ودعا الناس إليه، وجاهدهم عليه حق الجهاد، وهذا هو حقيقة دين الإسلام، كما قال -تعالى-: {قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} 11. بين -تعالى- أن توحيد الإلهية هو الإسلام، والأعمال كلها لا يصلح منها شيء إلا بهذا التوحيد، وهو أساس الملة ودعوة المرسلين. والدين كله من لوازم هذا الأصل وحقوقه، وقد قال -تعالى-: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} 12. فمن تدبر القرآن، وتذكر به عرف حقيقة دين الإسلام الذي أكمله الله لهذه الأمة، كما قال -تعالى-: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الأِسْلامَ دِيناً} 13. هذا ما ننصحكم به، وندعوكم إليه، وبالله التوفيق. وصلى الله على سيد المرسلين، وإمام المتقين نبينا محمد، وعلى آله، وصحبه أجمعين، وسلم تسليما كثيرا.

_ 1 سورة آل عمران آية: 64. 2 سورة آل عمران آية: 64. 3 سورة آل عمران آية: 64. 4 سورة يوسف آية: 40. 5 سورة يوسف آية: 40. 6 سورة يوسف آية: 40. 7 سورة الإسراء آية: 23. 8 سورة الإسراء آية: 23. 9 سورة الإسراء آية: 23. 10 سورة الرعد آية: 36. 11 سورة الأنبياء آية: 108. 12 سورة ص آية: 29. 13 سورة المائدة آية: 3.

أقوال العلماء في الاشتغال بفن المنطق بسم الله الرحمن الر حيم من عبد الرحمن بن حسن إلى الأخ القادم من بلاد الأوغان عبد الله بن محمد -وفقه الله لحقيقة الإسلام والإيمان-. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته: وبعد: فالذي يجب علينا محبة الخير لمن أراده وقصده، فلعل الله -تعالى- أن يجعله مؤثرا للحق على غيره، لكن نبحث مع مثلك في شيئين: {الأول: إن علم المنطق قد حرمه كثير من المحققين، وأجازه بعض العلماء 1.

_ 1 الذي تلقيناه عن مشايخنا أن المنطق الذي اختلفوا فيه هو منطق اليونان الذي نقل في عهد المأمون، إذ كان في كتبه من المسائل والأمثلة ما يخالف الإسلام، وربما يكون شبهة عليه، وفيه قال الشيخ الأخضري صاحب السلم: فابن الصلاح والنواوي حرما ... وقال قوم ينبغي أن يعلما والقولة المشهورة الصحيحة ... جوازه لكامل القريحة ممارس السنة والكتاب ... ليهتدي به إلى الصواب أي الصواب في طرق الاستدلال العقلي، وكان شيخ الإسلام ابن تيمية يعرف المنطق وجميع علوم الفلسفة التي ألف المنطق لتحريرها وفهمها بأدلتها. وقد بين خطأ كثير من مسائله، وله مصنف في ذلك يوجد في الهند بخطه، وقد درس هذا العلم الشيخ عبد اللطيف ابن صاحب الفتوى -رحمهما الله-. والأمور الثلاثة التي ذكرها لا تدل على تحريم علم المنطق المعروف اليوم في كتب المسلمين، وإن كانت في نفسها صحيحة، فالمنطق ليس علما شرعيا فيؤخذ عن أئمة الدين، ولكنه كعلوم اللغة والصناعة والزراعة ... إلخ. وأما قوله "فصار ضرره أكثر من نفعه" فهو يصح في علم اليونان الذي ذكره، ولكن جل الضرر كان في الفلسفة النظرية التي استعمل فيها لا فيه هو. والمنطق الموجود اليوم ليس فيه ضرر مطلقا، ولكن فائدته قليلة؛ لأنه آلة للعلوم النظرية، وهو قلما يستعمل فيها، ويمكن الاستغناء عنه بعلم الأصول كما أشار إليه، وغرضي من هذه الحاشية أن لا يتجرأ من يقرؤون هذه الفتوى على تحريم علم المنطق المعروف، فإن التحريم الديني أمر عظيم جدا، وقد قال شيخ الإسلام: إن السلف لم يكونوا يحرمون شيئا إلا بنص قطعي. ولما نزل قوله -تعالى- في الخمر والميسر "وإثمهما أكبر من نفعهما" لم يحرمهما النبي -صلى الله عليه وسلم- على الأمة به لأن دلالته على التحريم غير قطعية إلى أن نزلت آيات سورة المائدة القطعية الدلالة.

لكن الصواب تحريمه لأمور: "منها": أنه ليس من علوم الشريعة المحمدية، بل هو من علوم اليونان، وأول من أحدثه المأمون بن الرشيد، وأما في خلافة من قبله من أسلافه من بني العباس، وقبلهم خلفاء بني أمية فلا يعرف في عصرهم. "الأمر الثاني ": أن أئمة التابعين من الفقهاء والمفسرين والمحدثين لا يعرفون هذا العلم، وهم نقلة العلم، والإسلام في وقتهم أظهر، والعلوم النافعة عندهم أكثر، وقد توافرت دواعيهم على نقل العلم، وكذلك من أخذ عنهم من الأئمة الأربعة، ومن في طبقتهم من المحدثين، ومن الفقهاء والمفسرين، فلا تجد في كتبهم، ولا من أخذ عنهم شيئا من هذا العلم. "الأمر الثالث": أن هذا العلم إنما أحدثه الجهمية لما ألحدوا في أسماء الله وصفاته، واستمالوا المأمون إلى تعريب كتب اليونان، فعظمت فتنة الجهمية، وظهرت بدعتهم من أجل ذلك، فصار ضرره أكثر من نفعه. وذكر العلماء أن ما فيه من صحيح فهو موجود في كتب أصول الفقه، فيتعين تركه وعدم الالتفات إليه، والمعول إنما هو على الكتاب والسنة، وما عليه السلف والأئمة. وهذه كتبهم موجودة بحمد الله ليس فيها من شبهات أهل المنطق شيء أصلا. فهذا الذي ندين الله به. التوحيد وأنواعه وحقيقة كل نوع منه "البحث الثاني": السؤال عن التوحيد وأنواعه وحقيقة كل نوع منه، فإن كان عند القادم من ذلك تحقيق، وإلا فيجب إرشاده إلى ذلك وتعليمه، لأن العلم أقسام ثلاثة لا رابع لها. فيجب عليك أيها الرجل القادم أن تسعى لنفسك بمعرفة الحق بدليله واللي يبي 1 يقبل علمنا هذا الذي منَّ الله به علينا من تمييز الحق من الباطل، فهو أخونا، والحمد لله على هداية من اهتدى، واللي يرى غير ذلك فلا نحن بإخوان له. والسلام وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.

_ 1 والذي يحب.

رسالة فيها الإشارة إلى ما حدث للمسلمين من العقاب بذنوبهم رسالة فيها الإشارة إلى ما حدث للمسلمين من العقاب بذنوبهم {وما يجب عليهم في هذا المشهد من التوبة عن السيئات، وما فوقه من مشهد الأسماء والصفات". بسم الله الرحمن الر حيم من عبد اللطيف بن عبد الرحمن إلى الابن المكرم المحب المفهم: محمد بن عمر بن سليم، سلك الله بنا وبه الصراط المستقيم، ومنَّ علينا وعليه بمخالفة أصحاب الجحيم، ورفع درجتنا ودرجته في جنات النعيم. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، ما تعاقبت غدوات الدهر وروحاته، سلام ألذ من نسيم الصبا، وأبهى من رونق الصبا. وموجب الخط إبلاغ السلام والتحية، وتفقد تلك الشمائل المرضية، لا زالت محروسة بعين الرعاية الربانية. والخط وصل لا زلت موصولا بنفحات القرب والمحبوبية، محفوظا بألطاف الله الخفية والجلية، وسرنا ما أفاده من الأخبار السارة عن تلك الذات أدام الله سرورها، ورد أيام أنسها وحبورها-، وصار له عند المحب موقع كريم، بما تضمن من الدعوات والنصائح، جعلك الله ممن يدرأ القبائح والفضائح، ويعمل بالحق ويوصي باتباعه، ويبثه في إخوانه وأشياعه. وما أشرت إليه من أسباب ما حدث بالإسلام وأهله، وأنه من عقوبات الذنوب، فنعم هو ذاك، كما أخبر به -سبحانه وتعالى- في كتابه المبين، على لسان نبيه الأمين. وهذا المشهد يوجب للعبد من التوبة والإنابة، وتدارك ما فرط من الشر وأسبابه ما يطهره من دنس الذنوب والعيوب، ويستقيل به عثراته وهفواته بين يدي علام الغيوب

وفوقه مشهد أكبر منه وأجلُّ، وهو مشهد الأسماء الحسنى، والصفات العلى، فيشهد عزته ولطفه ورحمته وعفوه وقيوميته وجبروته وانتقامه، وما يبدئ ويعيد، وما يقدر ويريد؛ وهذا المشهد من أجلِّ مشاهد التوحيد، ومنه يطلع العبد على أسرار القدر والقضاء، ويدرك به من حقائق الإيمان ونفحات الرضاء، ما يتبوأ به منازل الصديقين، ويرى الحوادث الكونية قبل وقوعها من وراء ستر رقيق. فنسأل الله أن يجعل لنا ولكم نصيبا وافرا، وحظا كاملا من العلم به، وحسن عبادته ومعاملته، وأن لا يجعلنا ممن اتبع هواه وكان أمره فرطا. وما ذكرته من الوصايا النافعة باجتماع المسلمين ولم شعثهم، فنسأل الله التوفيق لذلك، والإعانة على ما هنالك. والأمور بيد فاطر السموات والأرض، والقلوب بين إصبعين من أصابع الرحمن، وقد وصل الأمر إلى غاية لا يصل إليها الوعظ والقرآن، فنعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا. والعذر عن المكاتبة مقبول، والقلوب شواهد عدول، والدعاء للإخوان بظهر الغيب مبذول، فلا تنس أُخَيّك في أوقات المناجاة وفي ساعات التوجهات، وعليك بالإلحاح في الدعاء بظهور الإسلام ونصره، وإعلاء كلمة الله، ودحض الباطل وأهله. والله أسأل أن يمن بالاجتماع على حال يرضاها، متمسكين من التقوى بأقوى حبالها وعراها، وأن يعيد أوقاتا سلفت بمذاكرة العلم الشريف ألفت. وبلغ سلامنا الوالد والأبناء والإخوان: سهل وعبد العزيز الصقعبي وابن جربوع وناصر السيف، ومن لدينا العيال وإسماعيل وإخوانه والإخوان ينهون السلام، وأنت سالم والسلام سنة 1291.

وجوب صلاة الجمعة على أهل القرى والعدد الذي تنعقد به جماعتها بسم الله الرحمن الر حيم من عبد اللطيف بن عبد الرحمن إلى الأخ المكرم الشيخ عبد العزيز بن حسن -سلمه الله تعالى-. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: فأحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو على نعمه، وخطك وصل، وتأخر جوابه لكثرة الاشتغال، وتشتت البال، والله المستعان. وتسأل فيه عن وجوب صلاة الجمعة على أهل القرى الذين لم يبلغ العدد فيهم أربعين من أهل الوجوب، فاعلم أنهم اتفقوا على أن من شرط وجوبها وصحتها الجماعة، واختلفوا في مقدار الجماعة، فمنهم من قال: واحد والإمام، وهذا مذكور عن ابن جرير الطبري. ومنهم من قال: اثنان سوى الإمام لأن أقل الجمع عنده اثنان. ومنهم من قال: ثلاثة دون الإمام، وقائل هذا يرى أن أقل الجمع ثلاثة لا اثنان. والكلام مبسوط على أقل الجمع في شرح التحرير وغيره. والقول الأخير هو قول أبي حنيفة. ومنهم من اشترط أربعين، وهو قول الشافعي وأحمد. وقال قوم: ثلاثين. ومنهم من قال: يجوز فيما دون الأربعين إلا الثلاثة والأربعة، ولم يشترط عددا، وإنما ذكر حدا أورده، وهو أنه لا تجب إلا على عدد تتقرى بهم قرية. وأصحاب القولين الأولين أخرجوا الإمام من مسمى الجمع للاختلاف في دخوله في الجماعة، وأصحاب القول الأخير يقولون: الجمع في غالب الأحوال له حكم غير ما يطلق عليه اسم الجمع في جميعها، بل هم الذين يمكنهم أن يسكنوا على حدة من الناس، وهذا يروى عن

مالك؛ ويروى عنه أيضا: اشتراط اثنا 1 عشر من أهل الوجوب، وكلا القولين معروف. ومن شرط الأربعين كالشافعي وأحمد وجماعة من السلف، فإنما صاروا إلى ما صح من أن هذا العدد كان في أول جمعة صليت بالناس، فهذا هو حد شرطها، أعني شرط الوجوب وشرط الصحة؛ فإن من الشروط ما هو شرط للوجوب فقط، ومنها ما يجمع الأمرين. واختيار شيخ الإسلام ابن تيمية أن هذا الشرط للوجوب فقط، لا للصحة. وهذا من أحسن الأقوال، وبه يتفق غالب كلام المختلفين. إذا عرف هذا، فإنهم اختلفوا أيضا في الأحوال الراتبة التي اقترنت بهذه الصلاة عند فعله إياها صلى الله عليه وسلم. هل هي شرط في الصحة والوجوب أم ليست بشرط؟ وتلك كالجماعة والمصر والاستيطان. فمن رآه دليلا اشترطها، ومنهم من رجح بعضها دون بعض، واشترطه في المرجح لا غير. وبعضهم لم يرها دليلا، ورجع في الاشتراط والوجوب إلى أدلة أخرى لعموم الجماعة في سائر الصلوات. ولقائل أن يقول: لو كانت هذه الأحوال شروطا في صحة الصلاة لما جاز أن يسكت عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يترك بيانها لقوله تعالى: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} 2. هذا ما يحضرني، فإن رأيت خللا، فلا جناح عليك في إصلاحه. وصدقة المحمل 3 تصل إليك إن شاء الله، فعليك بتحري العدل في القسمة، وبلغ سلامنا حمد والعيال والشيخ الوالد، والعيال بخير وينهون السلام.

_ 1 هذا الكلام به مخالفة لمقتضى الإعراب مجاراة للغة العوام في خطابهم. 2 سورة النحل آية: 44. 3 قسم من بلاد نجد إلى جنب العارض.

وصية بالتقوى والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حكم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بسم الله الرحمن الر حيم من عبد اللطيف بن عبد الرحمن إلى الأخ المكرم عبد الرحمن بن جربوع، وفقه الله للعمل بدينه المشروع. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته "وبعد" فنحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو على سوابغ نعمه، وجزيل عطائه وكرمه، وعلى ما ألبسنا من ملابس فضله، وما اختصنا به من عظيم العطاء الذي صرفه عمن شاء بعدله. والخط وصل وصلك الله إلى ما يرضيه، ونظمك في سلك من يخشاه ويتقيه. وأوصيك بتقوى الله، والحرص على معرفة تفاصيلها على القلوب والجوارح، فإنك في وقت كثر قراؤه، وقل فقهاؤه. وما ذكرت من طلب الفائدة بما ورد من النصوص الشرعية الدالة على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فهذا مما لا يخفى على آحاد العامة من المسلمين، فضلا عن الطلبة والمتعلمين. وهذا الأصل من آكد الأصول الإسلامية وأوجبها وألزمها. وقد ألحقه بعضهم بالأركان التي لا يقوم بناء الإسلام إلا عليها، وهو من فروض الكفاية، لا يسقط عن المكلفين إلا إن قام به طائفة يحصل بها المقصود الشرعي. وفرض الكفاية من فروض العين من جهة متعلقه، لأن الخطاب به لجميع الأمة، وإنما أرسلت الرسل، وأنزلت الكتب للأمر بالمعروف الذي رأسه وأصله التوحيد، والنهي عن المنكر الذي رأسه وأصله الشرك والعمل لغير الله. وشرع الجهاد لذلك، وهو قدر زائد عن مجرد الأمر والنهي، ولولا ذلك ما قام الإسلام، ولا ظهر دين الله، ولا علت كلمته. ولا يرى تركه والمداهنة فيه إلا من أضاع حظه ونصيبه من العلم والإيمان. قال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ

تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} 1. وقال تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} 2. فهذه الآيات تدل على وجوبه، وأن القائم به خير الناس وأفضلهم، وأن الخيرية لا تحصل إلا بذلك. وفيها أن الفلاح محصور في أهل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو الفوز بالسعادة الأبدية. وأما الوعيد على تركه، فمثلقوله تعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ} 3 الآية. ففي هذه الآية لعنهم على ألسن أنبيائهم بترك النهي عن المنكر والأمر بالمعروف. واللعن هو الطرد والإبعاد عن الله وعن رحمته. وذكر بعض المفسرين هنا حديث: "إن من كان قبلكم كانوا إذا عمل العامل فيهم بالخطيئة جاءه الناهي تعذيرا، فإذا كان الغد جالسه وواكله وشاربه كأن لم يره على خطيئة بالأمس. فلما رأى الله ذلك منهم ضرب بقلوب بعضهم على بعض، ثم لعنهم على لسان نبيهم داود وعيسى ابن مريم {ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون} . والذي نفس محمد بيده لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، ولتأخذن على يد السفيه، ولتأطرنه على الحق أطرا 4، أو ليضربن الله بقلوب بعضكم على بعض، ثم يلعنكم كما لعنهم". وذكر ابن أبي الدنيا عن إبراهيم بن عمرو الصنعاني قال: "أوحى الله عز وجل إلى يوشع بن نون أني مهلك من قومك أربعين ألفا من خيارهم، وستين ألفا من شرارهم، قال: يا رب، هؤلاء الأشرار، فما بال الأخيار؟ قال: إنهم لم يغضبوا لغضبي، وكانوا يواكلونهم ويشاربونهم". وذكر أيضا من حديث ابن عمر: "لينقضن الإسلام عروة عروة حتى لا يقال

_ 1 سورة آل عمران آية: 110. 2 سورة آل عمران آية: 104. 3 سورة المائدة آية:78، 79. 4 أي تعطفونه وتثنونه.

الله الله. لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر، أو ليسلطن الله عليكم شراركم، فيسومونكم سوء العذاب، ثم يدعو خياركم فلا يستجاب لهم"1 "ولتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر، أو ليبعثن الله عليكم من لا يرحم صغيركم، ولا يوقر كبيركم". وفي المسند مرفوعا: "يا أيها الناس، إن الله يقول: مروا بالمعروف، وانهوا عن المنكر، قبل أن تدعوني فلا أجيبكم، وتستنصروني فلا أنصركم، وتسألوني فلا أعطيكم" 2. وفي حديث ابن عباس: "وما ترك قوم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلا لم ترفع أعمالهم، ولم يُسمع دعاؤهم"رواه الطبراني. وذكر الإمام أحمد -رحمه الله تعالى- عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "يوشك القرى أن تخرب وهي عامرة" قالوا: كيف تخرب وهي عامرة؟ قال: "إذا علا فجارها أبرارها، وساد القبيلة منافقوها". والأحاديث في هذا كثيرة تطلب من مظانها. فصل في مفاسد ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وترك ذلك على سبيل المداهنة، والمعاشرة، وحسن السلوك، ونحو ذلك مما يفعله بعض الجاهلين أعظم ضررا، وأكبر إثما من تركه لمجرد الجهالة. فإن هذا الصنف رأوا أن السلوك، وحسن الخلق، ونيل المعيشة لا يحصل إلا بذلك؛ فخالفوا الرسل وأتباعهم، وخرجوا عن سبيلهم ومنهاجهم لأنهم يرون العقل إرضاء الناس على طبائعهم، ويسالمونهم، ويستجلبون مودتهم ومحبتهم، وهذا مع أنه لا سبيل إليه فهو إيثار للحظوظ النفسية، والدعة، ومسالمة الناس، وترك المعاداة في الله، وتحمل الأذى في ذاته. وهذا في الحقيقة هو الهلكة في الآجلة. فما ذاق طعم الإيمان من لم يوال في الله ويعادِ فيه، فالعقل كل العقل ما أوصل إلى رضى الله ورسوله. وهذا إنما يحصل بمراغمة أعداء الله، وإيثار مرضاته، والغضب له إذا انتهكت محارمه، والغضب

_ 1 أحمد "5/389". 2 أحمد "6/158".

ينشأ من حياة القلب وغيرته وتعظيمه، وإذا عدم الحياة والغيرة والتعظيم عدم الغضب والاشمئزاز، وسوى بين الخبيث والطيب في معاملته وموالاته ومعاداته، وأي خير يبقى في قلب هذا؟ وفي بعض الآثار: "إن الله أوحى إلى جبريل أن اخسف بقرية كذا وكذا. قال: يا رب، إن فيهم فلانا العابد. قال: به فابدأ، إنه لم يتمعر 1 وجهه فيَّ قط". وذكر ابن عبد البر: "إن الله بعث ملكين إلى قرية ليدمراها بمن فيها، فوجدا فيها رجلا قائما يصلي في مسجد، فقالا: يا رب، إن فيها عبدك فلانا يصلي، فقال الله عز وجل دمراها ودمراه معهم، فإنه ما تمعر وجهه فيَّ قط". انتهى. ومن له علم بأحوال القلوب، وما يوجبه الإيمان ويقتضيه من الغضب لله، والغيرة لحرماته، وتعظيم أمره ونهيه، يعرف من تفاصيل ذلك فوق ما ذكرنا، ولو لم يكن إلا مشابهة المغضوب عليهم والضالين في الإنس بأهل المعاصي ومواكلتهم ومشاربتهم لكفى بذلك عيبا. والله الموفق والهادي لا إله غيره. وبلغ سلامنا الإخوان والخواص إجازة مطلقة، والشيخ الوالد والعيال بخير وينهون السلام، ولا تنسنا من صالح دعائك والسلام. رسالة في بيان فضل من يحيي السنة ويهدم الشرك والبدعة بسم الله الرحمن الر حيم من عبد اللطيف بن عبد الرحمن إلى ذي الجناب المكرم، والفضل الباذخ المقدم السيد عبد الرحمن الألوسي، سلك الله به سبل الاستقامة، وزينه بحلل التوفيق والكرامة، ورفعه إلى رتب السيادة والإمامة. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

_ 1 تمعر الوجه: تغير للغضب والغيظ. وأصله قلة النضارة وعدم إشراق اللون.

أما بعد: فإنا نحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو كثير الخير دائم المعروف، على ما أولاه من سوابغ نعمه الباطنة والظاهرة، وما ألبسه من ملابس كرامته السنية الفاخرة، التي أعظمها وأجلها على الإطلاق هدايته لدينه الذي ارتضاه لنفسه، واختص به أولياءه، وخاصة أهل كرامته وقدسه. مع أنه قد اطرد القياس بفساد أكثر الناس، وتركهم من الإسلام أصله الأعظم والأساس، وكثرة الاشتباه في أبواب الدين والالتباس، وجمهورهم عكَس القضية في مسمى الملة الإسلامية، ولم يميزوا بينها وبين الملة القرشية، والسنة الجاهلية، فهم كما وصفهم الله تعالى بقوله: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً} 1. وكتابك الكريم وصل إلينا، وحسن موقعه لدينا، لما بلغنا عنك من إظهار الإسلام والسنة، وعيب أهل الشرك والبدعة، وطعنك على الدعاة إلى الضلالة، وعيبهم بما يبدونه من سوء العمل وشنيع المقالة، وأن الله قمعهم بك وقواك عليهم، فأذلهم وأهانهم، فأبشر بثواب ذلك، واعتده من أفضل أعمالك وحسناتك. وفي الحديث: "من أحيا شيئا من سنتي، كنت أنا وهو في الجنة كهاتين، وضم بين إصبعيه". وفي الأثر: "إن لله عند كل بدعة كيد بها الإسلام وليا لله يذب عنها، وينطق بعلاماتها". فاغتنم ذلك، وكن من صالح أهله، واحرص أن يكون لك في ذلك جماعة وتلامذة يقومون مقامك إن حدث بك حدث، فيكونون أئمة بعدك، ويجري لك مثل أجورهم إلى يوم القيامة كما صح به الخبر. فاعمل على بصيرة، وسر إلى الله بصلاح القصد والسريرة، وإياك أن يكون لك من أهل الشرك الذين يعبدون الأولياء والصالحين جليس أو صديق، فقد جاء في الأثر: "من جالس صاحب بدعة نزعت منه العصمة ووكل إلى نفسه، ومن مشى إلى

_ 1 سورة الفرقان آية: 44.

صاحب بدعة مشى في هدم الإسلام". وهذا في بدع لا تخرج عن الملة، فكيف بالشرك الذي يتضمن العدل والتسوية برب العالمين؟ بل يتضمن مسبته تعالى وتقدس. {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} 1. هذا وشيخنا الوالد المكرم، والإمام الفاضل المقدم يبلغانك السلام، والسلام على من لديك من الإخوان في الله، المحبين لجلاله، ورحمة الله وبركاته، وصلى الله على محمد، وعلى آله وصحبه وسلم. الإشارة إلى إيواء أهل عنيزة لبعض الخارجين وأخذ العهود عليهم في الامتناع منه بسم الله الرحمن الر حيم من عبد اللطيف بن عبد الرحمن إلى الأخ المكرم محمد بن عمر آل سليم -سلمه الله تعالى، وتولاه في الدنيا والآخرة، وألبسه ملابس ولايته السنية الفاخرة-. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: الخط وصل -وصلك الله إلى ما يرضيه-، وسرنا سلامتك وعافيتك، كذلك سرنا ما ذكرت من القراءات وملازمة الدروس، فالحمد لله على ذلك. والله أسأل أن يجعلك هاديا مهديا إماما للمتقين. وما ذكرت وصل، فالليمون وما معه كله موجود عندنا بكثرة، والمقصود الأترنج لما فيه من الخواص والمنافع، وحيث تعذر وجوده فصلتك مقبولة، وهبتك مرضية محمولة، ولا وصلنا جوابكم إلا بعد ما انكفنا 2 وحرر هذا على ثرمدا 3 وجاءنا عبد الله بن جربوع بالنصيحة بعد ما قرأها على أهل عنيزة، وخضعت لها رقابهم، ورغمت بها أنوفهم في يوم مشهود ظهر فيه الحق، وعلت كلمة الله، وقامت حجته، وجاءتنا

_ 1 سورة الصافات آية: 180: 182. 2 أنكفنا. أي: انكفأنا ورجعنا. ويقصدون بها الرجوع من الجهة التي كانوا فيها، وهكذا ينطق بها أهل نجد. 3 ثرمدا من بلاد القصيم في نجد.

المكاتبة من مَلإها وأكابرها يعتذرون ويتنصلون ويحلفون، والله يعلم علانيتهم وسرائرهم، ويحاسب عباده بعلمه فيهم. وقد وعدونا أنه لا يعود إلى بلدتهم ولا يدخلها، وحلف أميرهم عندي في المجلس على ذلك، وأغلظ على نفسه بعد ما جرت المعاتبة، وأغلظت له القول على حمله وتمكينه من دخول البلدة، والرسالة المشار إليها تصلكم مع هذا الجواب -إن شاء الله-. اقرءوها، وتدبروا ما فيها، فإنها مفيدة مع اختصارها. ونسأل الله أن يجعل أعمالنا وأعمالكم خالصة لوجهه الكريم. وبلغ الوالد والعيال والإخوان منا السلام إجازة عامة. ومن لدينا عبد العزيز بن عبد الرحمن وإسماعيل والابن عبد الله وعيال محمد بن علي يبلغون السلام، والسلام. وصلى الله على محمد. عموم المصاب بقسوة القلوب وانصراف الخلق عن العبادة وغربة الإسلام بسم الله الرحمن الر حيم وبه نستعين من عبد اللطيف بن عبد الرحمن إلى الأخ المكرم محمد بن عمر آل سليم -سلك الله بنا وبه صراطه المستقيم، ووفقنا بمَنِّه لمخالفة أصحاب الجحيم-. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. "وبعد": فأحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو على ما أولاه من إنعامه، وما ألبسه من ملابس إكرامه، جعلنا الله وإياكم ممن عرف نعمة الله عليه، واستعملها فيما يقرب إليه، والخط وصل -وصلك الله بالرضا-، وقد سرنا ما أفاده من سلامة الحال، واعتدال الأوقات، لا زالت أحوالا محروسة، وأوقاتا بذكر الله معمورة مأنوسة. وما أشرت إليه من قسوة القلوب، وكثرة الذنوب، وانصراف الخلق عما خلقوا

له، فنعم، قد عم بذلك المصاب، واستحكم الداء، وعز الدواء، إلا أن يمن الله على من يشاء من عباده بالهداية والشفاء. واشتداد الغربة، واستحكام الشدة والكربة قد وجد منذ أزمان، والشأن في هذا الزمان في نفس الوجود. فإن غالب الأماكن والقرى والبلدان لا يعرفون فيها للدين حقيقة ولا اسما، ولا يهتدون سبيلا إلى ما جاءت به الرسل ولاسيما والإسلام عندهم هو ما نشئوا عليه، وتلقوه عن أسلافهم في باب معرفة الله ومعرفة حقه، وباب معرفة حكمه وشرعه. فالأول حقيقته عندهم هو التعطيل المحض. "والثاني" خلاصته ولبه فيما بينهم هو التعلق على عباده، وجعلهم شركاء له.. "والثالث" جردوا فيه متابعة الأشياخ والآباء عما جاءت به الرسل والأنبياء. وهذا هو عين العكس وقلب الحقائق. فاجتهد في الخلاص من شبكات تلك المهالك والمضايق بلزوم السنة والكتاب، والسلوك على أثر الآل والأصحاب، ومن تبعهم من ذوي الألباب، واجتهد في التضرع إلى الله في الإعانة على ذكره وشكره وحسن عبادته، ولا تنسنا من صالح دعائك، وبلغ سلامنا الوالد والعيال والإخوان: محمد آل عبد الله وآل شومر وابن جاسر ومطلق وكافة الإخوان، ومن لدينا الشيخ المكرم وأولاده وأولادنا وعبد الرازق بخير وينهون السلام، والسلام. حكم العمل بالخط المعروف في الوصية وغيرها بسم الله الرحمن الر حيم الحمد لله وحده. وجدت على ظهر وثيقة أوصى بها عبد الرحمن بن محمد القاضي ما نصه: بسم الله الرحمن الر حيم الحمد لله وحده. إن كانت هذه الوثيقة بيد ورثة الموصي، وسبق عمل بها من وارثه أو وارث وارثه، ولم ينازع أحد من الورثة في صدورها عن مورثهم؛ فهذا

منهم إقرار بالوصية، وتسليم بمقتضاها؛ فيثبت الحكم الشرعي بهذا العمل والتقرير لمضمون الوصية، وهو حجة شرعية، وإذا كان بخط من يوثق به من طلبة العلم المعروفين بالدين والأمانة؛ فهو مما يقوي ثبوت هذه الوصية والعمل بها. قاله ممليه الفقير إلى الله عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن، وكتبه عن أمره أحمد بن محمد بن عبيد، وصدر في 27 محرم سنة 1291. ونقله من خط أحمد بن محمد بن عبيد بعد معرفته يقينا، وعليه ختم ممليه سليمان بن عبد الرحمن بن حمدان. وصلى الله على محمد وسلم. ونقله من خط من سمى نفسه عبد الله بن إبراهيم الربيعي. فتوى في حق الضيف على أهل القرى والبادية بسم الله الرحمن الر حيم الحمد لله. من قام بما يجب عليه للضيف الذي يختص به سقط عنه ما يوضع على البلد من جهة الضيف إذا كان الخارج منه للضيف قدر ما يستحق؛ لوجوب العدل الذي أمر الله به. قاله ممليه عبد اللطيف بن عبد الرحمن، وكتبه عن أمره حسن بن علي. وصلى الله على محمد وسلم. بسم الله الرحمن الر حيم ما ذكره الوالد -رحمه الله تعالى- يلزم العمل بمقتضاه، ولا يجوز لأحد العدول عنه حتى لا يخفى. قاله ممليه محمد بن عبد اللطيف -عفا الله عنه-، ونقله من أصله وعليه ختم كل منهما: سليمان بن عبد الرحمن بن حمدان. وصلى الله على محمد وسلم. بسم الله الرحمن الر حيم ما ورد على أهل البلد من الكلف، كالضيف وشبهه يكون على كل أحد بحسبه، والذي يدفع أكثر من غيره فله الرجوع على غيره، كالرجل المعروف المنصر. قال ذلك ممليه عبد الرحمن بن عدوان، ونقله من أصله الذي عليه ختم ممليه سليمان بن حمدان. ونقله من خط ناقله من سمى نفسه عبد الله بن إبراهيم الربيعي.

المسائل الشرعية إلى علماء الدرعية الشرك الأكبر الذي يحل الدم والمال جواب مسألة سئل فيها الشيخ عبد العزيز "قاضي الدرعية" ومن حوله من العلماء المسماة "المسائل الشرعية إلى علماء الدرعية". فوصل الجواب، واختصر ألفاظ السؤال في كل باب، بل حُذف كثير من ذلك الخطاب، لكن بيت القصيد قد ضمن في الجواب السديد. وصلى الله على محمد النبي الأمي، وآله وصحبه وسلم. نص الجواب بسم الله الرحمن الر حيم الحمد لله رب العالمين، وبه التوفيق، وبيده أزِمَّة الهداية والتحقيق. "أما المسألة الأولى" وهي السؤال الأول عن الشرك بالله، ما هو الأكبر الذي ذم فاعله؟ وماله حلال لأهل الإسلام، ولا يغفر لمن مات عليه؟ وما هو الأصغر؟ فنقول: قد ذكر العلماء –رحمهم الله تعالى- أن الشرك نوعان: أكبر وأصغر فالأكبر أن يجعل لله ندا من خلقه يدعوه كما يدعو الله، ويخافه كما يخاف الله، ويرجوه كما يرجو الله، ويتوكل عليه في الأمور كما يتوكل على الله. والحاصل أن من سوى بين الله وبين خلقه في عبادته ومعاملته، فقد أشرك بالله، وهو الشرك الأكبر الذي لا يغفره الله، كما دل على ذلك قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ} 1 إلى قوله: {وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} 2.وقال تعالى عن أهل النار: {تاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} 3 قال بعض المفسرين: والله ما سووهم بالله في الخلق والرزق والتدبير،

_ 1 سورة البقرة آية: 165. 2 سورة البقرة آية: 167. 3 سورة الشعراء آية:97، 98.

ولكن سووهم به في المحبة والإجلال والتعظيم. وقال تعالى: {ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} 1 أي يعدلون به في العبادة. ولهذا اتفق العلماء كلهم على أن من جعل بينه وبين الله وسائط يدعوهم ويتوكل عليهم ويسألهم فقد كفر؛ لأن هذا كفر عابدي الأصنام قائلين: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} 2 ثم شهد الله عليهم بالكذب والكفر فقال: {إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} 3 فهذا حال من اتخذ من دون الله أولياء يزعم أنهم يقربونه إلى الله. وقال: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} 4. وقد أنكره الله في كتابه وأبطله، وأخبر أن الشفاعة كلها له، وأنه لا يشفع عنده أحد إلا لمن أذن له أن يشفع فيه، ورضي قوله وعمله، وهم أهل التوحيد الذين لم يتخذوا من دون الله شفعاء، فإنه –سبحانه وتعالى- يأذن في الشفاعة لهم حيث لم يتخذوا من دونه شفعاء، فيكون أسعد الناس بشفاعة الشفعاء صاحب التوحيد الذي حقق قول: لا إله إلا الله. والشفاعة التي أثبتها الله ورسوله هي الشفاعة الصادرة عمن أذن له لمن وحَّده، والشفاعة التي نفاها القرآن هي الشفاعة الشركية التي يظنها المشركون، فيعاملون بنقيض قصدهم، ويفوز بها الموحدون. فتأمل قوله صلى الله عليه وسلم لأبي هريرة- وقد سأله: من أسعد الناس بشفاعتك يا رسول الله؟ قال: " من قال: "لا إله إلا الله" خالصا من قلبه"5 فجعل أعظم الأسباب التي تنال بها الشفاعة تجريد التوحيد، عكس ما عند المشركين: أن الشفاعة تنال باتخاذهم شفعاء، وعبادتهم وموالاتهم من دون الله. فأكذب النبي –صلى الله عليه وسلم - زعمهم الكاذب، وأخبر أن سبب الشفاعة تجريد التوحيد، فحينئذ يأذن الله للشافع أن يشفع فيه. ومن جهل المشرك اعتقاده أن من اتخذ من دون الله شفيعا أنه يشفع له، وينفعه

_ 1 سورة الأنعام آية: 1. 2 سورة الزمر آية: 3. 3 سورة الزمر آية: 3. 4 سورة يونس آية: 18. 5 البخاري: العلم "99" , وأحمد "2/373".

كما يكون عند خواص الملوك والولاة، ولم يعلموا أن الله لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه، ولا يأذن في الشفاعة إلا لمن رضي قوله وعمله، كما قال تعالى في الفصل الثاني: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلا لِمَنِ ارْتَضَى} 1 وبقي فصل ثالث وهو: أنه ما يرضى من القول والعمل إلا التوحيد، واتباع الرسول صلى الله عليه وسلم وعن هاتين الكلمتين يسئل الأولون والآخرون، كما قال أبو العالية: كلمتان يسئل عنهما الأولون والآخرون: ماذا كنتم تعبدون؟ وماذا أجبتم المرسلين؟ فهذه ثلاثة أصول تقطع شجرة الشرك من قلب من وعاها وعقلها: "فالأول" أنه لا شفاعة إلا بإذنه. "والثاني" أنه لا يأذن إلا لمن رضي قوله وعمله. "والثالث" أنه لا يرضى من القول والعمل إلا توحيده، واتباع رسوله. وقد قطع -سبحانه وتعالى- الأسباب التي يتعلق بها المشركون قطعا، يعلم من تأمله وعرفه أن من اتخذ من دون الله وليا أو شفيعا فهو كمثل العنكبوت اتخذت بيتا، فقال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} 2 فالمشرك إنما يتخذ معبوده لما يحصل له به من النفع، والنفع لا يكون إلا فيمن فيه خصلة من هذه الأربع: إما مالك لما يريد عابده منه، فإن لم يكن مالكا كان شريكا للمالك، فإن لم يكن شريكا له كان معينا وظهيرا، فإن لم يكن معينا ولا ظهيرا كان شفيعا عنده. فنفى -سبحانه وتعالى- المراتب الأربع نفيا مرتبا منتقلا من الأعلى إلى ما دونه، فنفى الملك والشرك والمظاهرة والشفاعة التي يطلبها المشرك، وأثبت شفاعة لا نصيب فيها لمشرك، وهي الشفاعة بإذنه، فكفى بهذه الآية برهانا ونورا وتجريدا للتوحيد، وقطعا لأصول الشرك ومواده لمن عقلها، والقرآن مملوء من أمثالها ونظائرها، {ولكن أكثر الناس لا

_ 1 سورة الأنبياء آية: 28. 2 سورة سبأ آية: 22، 23.

يشعرون} بدخول الواقع تحته، ويظنه في قوم قد خلوا من قبل ولم يعقبوا وارثا، وهذا هو الذي يحول بين القلب وفهم القرآن. ولعمر الله إن كان أولئك قد خلوا، فقد ورثهم من هو مثلهم أو شر منهم أو دونهم، وتناول القرآن لهم كتناوله لأولئك، ولكن الأمر كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه "إنما تنقض عرى الإسلام عروة عروة إذا نشأ في الإسلام من لا يعرف الجاهلية". والشرك وما عابه الله وذمه فإنه يقع فيه ويقره، ويدعو إليه ويصوبه ويحسنه، وهو لا يعرف أنه الذي كان عليه أهل الجاهلية أو نظيره، أو شر منه أو دونه. فتنقض بذلك عرى الإسلام، ويعود المعروف منكرا، والمنكر معروفا، والبدعة سنة، والسنة بدعة، ويُبَدَّع الرجل لتجريد التوحيد، ومتابعة الرسول صلى الله عليه وسلم ومفارقة أهل الأهواء والبدع، ومن له بصيرة وقلب حي يرى عيانا. والله المستعان. والكلام في هذه المسألة يحتاج إلى بسط طويل ليس هذا محله، وإنما نبهناك على ذلك تنبيها يعرف به- كل من نور الله قلبه- حقيقة الشرك الذي لا يغفره الله إلا بالتوبة منه، وحرم الجنة على فاعله، ولكن من أعظم أنواعه، وأكثرها وقوعا في هذه الأزمان طلب الحوائج من الموتى، والاستغاثة بهم، والرحيل إليهم. وهذا أصل شرك العالم كما ذكره المفسرون عند قوله -تعالى- حكاية عن قوم نوح: {وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُوَاعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً} 1 إن هذه أسماء رجال صالحين في قوم نوح، فلما ماتوا عكفوا على قبورهم، ثم طال عليهم الأمد فعبدوهم، كما ذكر البخاري في صحيحه في تفسير سورة نوح -عليه السلام-، وكما ذكر غيره من أهل العلم، والله -سبحانه وتعالى- أعلم. الشرك الأصغر وأما الشرك الأصغر فَكَيَسِير الرياء والحلف بغير الله كما ذكر عن النبي –صلى الله عليه وسلم -

_ 1 سورة نوح آية: 23.

أنه قال: "من حلف بغير الله فقد أشرك" 1 ومن ذلك قول الرجل: ما شاء الله وشئت، وهذا من الله ومنك، وأنا بالله وبك، ومالي إلا الله وأنت، وأنا متوكل على الله وعليك، ولولا أنت لم يكن كذا وكذا. وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال له رجل: ما شاء الله وشئت فقال: "أجعلتني لله ندا؟ قل: ما شاء الله وحده" 2 وهذه اللفظة أحق من غيرها من الألفاظ، وقد يكون هذا شركا أكبر بحسب حال قائله ومقصده. وهذا الذي ذكرنا متفق عليه عند العلماء أنه من الشرك الأصغر، كما أن الذي قبله متفق عليه أنه من الشرك الأكبر. وجوب التوبة من كبير الشرك وصغيره واعلم أن التوبة مقبولة منهما، ومن سائر الذنوب قطعا، إذا صحت التوبة واستكملت شروطها، لكن ابن عباس رضي الله عنه ومن تبعه قال: لا تقبل توبة القاتل. وقد ناظر ابن عباس -رضي الله عنهما- أصحابه، وخالفه جمهور العلماء في ذلك، وقالوا: التوبة تأتي على كل ذنب. فكل ذنب يمكن التوبة منه وتقبل. واحتجوا بقوله تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} 3 وبقوله تعالى: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى} 4 فإذا تاب هذا القاتل وآمن وعمل صالحا، فإن الله عزوجل غفار له. فصل في مراتب الدين وأما قول السائل: هل للتوحيد والإيمان مرتبتان وحقيقتان ومجازان، يقابل كل واحد واحدة من مراتب الشرك والكفران، ويتعلق بأحدهما دون الآخر النقص والبطلان، ويخرج بفعل بعض قواعد الشرك، أو ترك بعض قواعد التوحيد عن دائرة الإسلام لا دائرة الإيمان، أو بالعكس؟ فاعلم- رحمك الله تعالى- أن العلماء ذكروا أن الدين على ثلاث مراتب:

_ 1 الترمذي: النذور والأيمان "1535" , وأبو داود: الأيمان والنذور "3251" , وأحمد "2/34 ,2/69 ,2/86 ,2/125". 2 أحمد "1/283". 3 سورة الزمر آية: 53. 4 سورة طه آية: 82.

"المرتبة الأولى" مرتبة الإسلام، وهي المرتبة الأولى التي يدخل فيها الكافر أول ما يتكلم بالإسلام ويذعن وينقاد له. "المرتبة الثانية" مرتبة الإيمان، وهي أعلى من المرتبة الأولى؛ لأن الله تعالى نفى عمن ادعوها الإيمان أول وهلة، وأثبت لهم الإسلام، فقال تعالى: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْأِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} 1 فأنكر –سبحانه- عليهم ادعاءهم الإيمان، وأخبر أنهم لم يبلغوا هذه المرتبة إذ ذاك. وفي الحديث الصحيح- حديث سعد- لما قال للنبي صلى الله عليه وسلم مالك عن فلان؟ فوالله إني لأراه مؤمنا 2 فقال: "أو مسلما" 3. "المرتبة الثالثة" الإحسان، وهي أعلى المراتب كلها، وقد تضمن حديث جبريل -عليه السلام- هذه المراتب كلها لما سأله عن الإسلام والإيمان والإحسان، فأخبره صلى الله عليه وسلم بذلك، ثم قال: "هذا جبريل أتاكم يعلمكم أمر دينكم"4. فقد ينفى عن الرجل الإحسان ويثبت له الإيمان، وينفى عنه الإيمان ويثبت له الإسلام، كما في قوله -عليه السلام-: "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن" 5 ولا يخرجه عن مرتبة الإسلام إلا الكفر بالله، والشرك المخرج من الملة. وأما المعاصي والكبائر كالزنى والسرقة وشرب الخمر وأشباه ذلك فلا تخرجه عن دائرة الإسلام عند أهل السنة والجماعة، خلافا للخوارج والمعتزلة الذين يكفرون بالذنوب، ويحكمون بتخليد فاعلها في النار.

_ 1 سورة الحجرات آية: 14، 15. 2 أي مالك تعرض أو تعدل عن فلان فلا تعطيه؟ وقوله -صلى الله عليه وسلم-: "أو مسلما" إضراب يتضمن النهي عن وصفه بالإيمان، وأن يصفه بالإسلام الذي يصدق مهما يكن باطن الرجل. والحديث في الصحيحين. 3 البخاري: الإيمان "27" , ومسلم: الإيمان "150" , والنسائي: الإيمان وشرائعه "4993" , وأبو داود: السنة "4683 ,4685" , وأحمد "1/176 ,1/182". 4 مسلم: الإيمان "8" , والترمذي: الإيمان "2610" , والنسائي: الإيمان وشرائعه "4990" , وأبو داود: السنة "4695" , وابن ماجه: المقدمة "63" , وأحمد "1/27 ,1/28 ,1/51". 5 البخاري: المظالم والغصب "2475" , ومسلم: الإيمان "57" , والترمذي: الإيمان "2625" , والنسائي: قطع السارق "4870 ,4871 ,4872" والأشربة "5659 ,5660" , وأبو داود: السنة "4689" , وابن ماجه: الفتن "3936" , وأحمد "2/243 ,2/317 ,2/386" , والدارمي: الأشربة "2106".

واحتج أهل السنة والجماعة على ذلك بحجج كثيرة من الكتاب والسنة، وأقوال الصحابة والتابعين، فمن ذلك ما رواه محمد بن نصر المروزي الإمام المشهور: حدثنا إسحاق بن إبراهيم: حدثنا وهب بن جرير بن حازم: حدثنا أبي عن الفضل عن أبي جعفر محمد بن علي أنه سئل عن قول النبي صلى الله عليه وسلم "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن" 1. فقال أبو جعفر: هذا الإسلام ودونه دائرة واسعة، وهذا الإيمان ودونه دائرة صغيرة في وسط الكبيرة، فإذا زنى أو سرق خرج من الإيمان إلى الإسلام، ولا يخرج من الإسلام إلى الكفر بالله. انتهى. قال: وإن الله تعالى جعل اسم الإيمان اسم ثناء وتزكية، ومدحه، وأوجب عليه الجنة فقال: {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ} 2 وقال: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ} 3 وقال: {يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ} 4 وقال تعالى: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا} 5 وقال تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} 6 الآية. قالوا: وقد توعد الله بالنار أهل الكبائر، فدل ذلك على أن اسم الإيمان زال عمن أتى بكبيرة، قالوا: ولم نجده تعالى أوجب الجنة باسم الإسلام، فثبت أن اسم الإسلام باق على حاله، واسم الإيمان زائل عنه. الكفر ضد أصول الإيمان فإن قيل: أليس ضد الإيمان الكفر؟. "فالجواب" أن الكفر ضد أصل الإيمان؛ لأن الإيمان له أصول وفروع، فلا يثبت الكفر حتى يزول أصل الإيمان الذي هو ضد الكفر، فإن قيل: الذي زعمتم أن النبي –صلى الله عليه وسلم - أزال عنهم اسم الإيمان، هل بقي معهم من الإيمان شيء؟ قيل: نعم أصله ثابت، ولولا ذلك لكفَّرهم.

_ 1 البخاري: المظالم والغصب "2475" , ومسلم: الإيمان "57" , والترمذي: الإيمان "2625" , والنسائي: قطع السارق "4870 ,4871 ,4872" والأشربة "5659 ,5660" , وأبو داود: السنة "4689" , وابن ماجه: الفتن "3936" , وأحمد "2/243 ,2/317 ,2/386" , والدارمي: الأشربة "2106". 2 سورة الأحزاب آية: 43، 44. 3 سورة يونس آية: 2. 4 سورة الحديد آية: 12. 5 سورة البقرة آية: 257. 6 سورة التوبة آية: 72.

فإن قيل: كيف أمسكتم عن اسم الإيمان أن تسموا به الفاسق، وأنتم تزعمون أن أصل الإيمان معه، وهو التصديق بالله ورسوله؟. "قلنا": لأن الله ورسوله وجماهير المسلمين يسمون الأشياء بما علمت عليها من الأسماء، فيسمون الزاني فاسقا، والقاذف فاسقا، وشارب الخمر فاسقا، ولم يسموا واحدا من هؤلاء تقيا ولا ورعا، وقد أجمع المسلمون أن فيه أصل التقوى والورع، وذلك أنه يتقي أن يكفر أو يشرك بالله، وكذلك يتقي أن يترك الغسل من الجنابة والصلاة، ويتقي أن يأتي أمه فهو في جميع ذلك يتقي 1. وقد أجمع المسلمون من الموافقين والمخالفين أنه لا يسمى تقيا ولا ورعا إذا كان يأتي بالفجور، مع أن أصل التقوى والورع نفاه الله يزيد فيه 2. من دعاء بعد الأصل كتورعه عن إتيان المحارم، ثم لا يسمونه تقيا ولا ورعا مع إتيانه ببعض الكبائر، بليسمونه فاسقا وفاجرا مع علمهم أنه قد نفى بعض التقوى والورع، فمنعهم من ذلك أن اسم التقي اسم ثناء وتزكية، وأن الله قد أوجب عليهم المغفرة والجنة. قالوا: فلذلك لا نسميه مؤمنا، ونسميه فاسقا وزانيا، وإن كان في قلبه أصل الإيمان؛ لأن اسم الإيمان أصل أثنى الله به على المؤمنين، وزكاهم به، وأوجب لهم الجنة. ثم قال: مسلم ولم يقل ومن قالوا: ولو كان أحد من المسلمين الموحدين يستحق أن لا يكون في قلبه إيمان وإسلام لكان أحق الناس به أهل النار الذين يخرجون منها؛ لأنه صح عن النبي –صلى الله عليه وسلم - أن الله يقول: "أخرجوا من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان"3 فثبت أن شر المسلمين في قلبه إيمان. ولما وجدنا الأمة تحكم بالأحكام التي ألزمها الله المسلمين، ولا يكفرونهم، ولا يشهدون لهم بالجنة؛ ثبت أنهم مسلمون يجري عليهم أحكام المسلمين، وأنهم لا يستحقون أن يسموا مؤمنين

_ 1 الكلام هنا غير منسق. فلعله سقط منه شيء. 2 بياض في الأصل. 3 البخاري: الإيمان "22" , ومسلم: الإيمان "184" , وأحمد "3/56".

إذا كان الإسلام مثبتا للملة التي يخرج بها المسلم من جميع الملل، ويزول عنه اسم الكفر، ويثبت له أحكام المسلم. الفرق بين المسلم والمؤمن والمقصود معرفة ما قدمناه من أن للدين ثلاث مراتب: أولها الإسلام، وأوسطها الإيمان، وأعلاها الإحسان، ومن وصل إلى العليا، فقد وصل إلى التي قبلها، فالمحسن مؤمن مسلم، والمؤمن مسلم، وأما المسلم فلا يلزم أن يكون مؤمنا. وهذا التفصيل الذي أخرجه النبي صلى الله عليه وسلم في حديث جبريل جاء به القرآن، فجعل الأمة على هذه الأصناف الثلاثة، فقال تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ} 1 الآية. فالمسلم الذي لم يقم بواجب الإيمان هو الظالم لنفسه، والمقتصد هو المؤمن المطلق الذي أدى الواجب وترك المحرم، والسابق بالخيرات هو المحسن الذي عبد الله كأنه يراه. وقد ذكر الله سبحانه تقسيم الناس في المعاد إلى هذه الأقسام الثلاثة في سورة الواقعة والمطففين وهل أتى. وقال أبو سليمان الخطابي -رحمه الله تعالى-: فأكثر ما يغلط الناس في هذه المسألة. فأما الزهري فقال: الإسلام الكلمة، والإيمان العمل. واحتج بالآية. وذهب غيره إلى أن الإسلام والإيمان شيء واحد، واحتج بقوله: {فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} 2 قال: والصحيح من ذلك أن يقيد الكلام في هذا ولا يطلق. وذلك أن المسلم قد يكون مؤمنا في بعض الأحوال، ولا يكون مؤمنا في بعضها، والمؤمن مسلم في جميع الأحوال، فكل مؤمن مسلم، وليس كل مسلم مؤمنا، وإذا حملت الأمر على هذا استقام لك تأويل الآيات، واعتدل القول فيها، ولم يختلف شيء منها. قال الشيخ تقي الدين: والذي اختاره الخطابي هو قول من فرق بينهما، كأبي جعفر وحماد بن زيد وعبد الرحمن بن مهدي، وهو قول أحمد بن حنبل وغيره،

_ 1 سورة فاطر آية: 32. 2 سورة الذاريات آية: 35.

وما علمت أحدا من المتقدمين خالف هؤلاء، وجعل نفس الإسلام نفس الإيمان. وكان عامة أهل السنة على هذا الذي قاله هؤلاء كما ذكره الخطابي. وكذلك ذكر أبو القاسم التيمي الأصبهاني، وابنه محمد شارح مسلم وغيرهما: أنه المختار عند أهل السنة، وأنه لا يطلق على السارق والزاني اسم مؤمن كما دل عليه النص 1. فصل في تفاضل الناس في التوحيد ولوازمه إذا تمهدت هذه القاعدة تبين لك أن الناس يتفاضلون في التوحيد تفاضلا عظيما، ويكونون فيه على درجات بعضها أعلى من بعض؛ فمنهم من يدخل الجنة بغير حساب ولا عذاب، كما دلت عليه النصوص الصريحة الصحيحة، ومنهم من

_ 1 وقال بعض العلماء: إن نفي الإيمان عن الزاني والسارق وشارب الخمر معناه أنه في حال تلبسه بما ذكر لا يكون متلبسا بالإيمان بتحريم الله له، كما يدل عليه تقييده بقوله -صلى الله عليه وسلم-: حين يزني وحين يشرب وحين يسرق. أي: بل يكون غافلا عنه، وقال بعضهم: المراد به نفي الإيمان الكامل، وهو الذي بينه في آخر سورة الحجرات، وأول سورة الأنفال، وفي سور أخرى، فهذا هو الذي ينافي الفسق وارتكاب الكبائر، وقد قال الله تعالى في سورة الحجرات: "وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي".. الآية. فأطلق لقب المؤمنين على المتقاتلين حتى الباغية منهما. وأما الإسلام فهو العمل بالشريعة، فإن كان اعتقادا قطعيا -وهو الإيمان- كان إسلاما صحيحا، وإلا كان نفاقا ولم يكن إسلاما إلا في الظاهر؛ لأن الإيمان بالاعتقاد الجازم أمر باطني لا يعلمه حق العلم إلا الله –تعالى-، وله آيات ودلائل ذكرت في مواضع من القرآن كما تقدم، والمعصية لا تبطله، وإن كانت كبيرة إلا بالاستحلال، بشرطه الذي تقدم بيانه في رسائل العلامة أبا بطين وحواشيها، وإنما تنافي كماله. وفي الإصرار خطر لا محل لبيانه هنا.

يدخل النار وهم العصاة، ويمكثون فيها على قدر ذنوبهم، ثم يخرجون منها؛ لأجل ما في قلوبهم من التوحيد والإيمان، وهم في ذلك متفاوتون كما في الحديث الصحيح من قول النبي صلى الله عليه وسلم "أخرجوا من النار من قال: "لا إله إلا الله" وفي قلبه من الخير ما يزن برة" -وفي لفظ: "شعيرة"، وفي لفظ: "ذرة"، وفي لفظ: حبة خردل - من إيمان" 1 ومن تأمل النصوص تبين له أن الناس يتفاضلون في التوحيد والإيمان تفاضلا عظيما، وذلك بحسب ما في قلوبهم من الإيمان بالله، والمعرفة الصادقة والإخلاص واليقين. والله -سبحانه وتعالى- أعلم. فصل في دار الكفر ودار الإيمان وأما السؤال الثاني وهو قولكم: من لم تشمله دائرة إمامتكم، ويتسم بسمة دولتكم، هل داره دار كفر وحرب على العموم.. الخ؟ فنقول وبالله التوفيق: الذي نعتقده وندين الله به أن من دان بالإسلام، وأطاع ربه فيما أمر، وانتهى عما عنه نهى وزجر، فهو المسلم حرام المال والدم، كما دل على ذلك الكتاب والسنة وإجماع الأمة، ولم نكفر أحدا دان بالإسلام؛ لكونه لم يدخل في دائرتنا، ولم يتسم بسمة دولتنا، بل لا نكفر إلا من كفر الله ورسوله، ومن زعم أنا نكفر الناس بالعموم، أو نوجب الهجرة إلينا على من قدر على إظهار دينه ببلده، فقد كذب وافترى. وأما من بلغته دعوتنا إلى توحيد الله، والعمل بفرائض الله، وأبى أن يدخل في ذلك، وأقام على الشرك بالله، وترك فرائض الإسلام، فهذا نكفره، ونقاتله، ونشن عليه الغارة. وكل من قاتلناه فقد بلغته دعوتنا، بل الذي نتحققه ونعتقده أن أهل اليمن وتهامة والحرمين والشام والعراق قد بلغتهم دعوتنا، وتحققوا أنا نأمر بإخلاص الدين والعبادة لله، وننكر ما عليه أكثر الناس من الإشراك بالله من دعاء غير الله،

_ 1 البخاري: الإيمان "44" , ومسلم: الإيمان "193" , والترمذي: صفة جهنم "2593" , وابن ماجه: الزهد "4312" , وأحمد "3/116 ,3/173 ,3/247 ,3/276".

والاستغاثة به عند الشدائد، وسؤالهم قضاء الحاجات، وإغاثة اللهفات. وأنا نأمر بإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وسائر أمور الإسلام، وننهى عن الفحشاء والمنكرات، وسائر الأمور المبتدعات. ومثل هؤلاء لا يجب دعوتهم قبل القتال؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم أغار على بني المصطلق وهم غارون، وغزا أهل مكة بلا إنذار ولا دعوة. وأما قوله صلى الله عليه وسلم لعلي رضي الله عنه يوم خيبر- لما أعطاه الراية- وقال: "انفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم، ثم ادعهم إلى الإسلام"1 فهو عند أهل العلم على الاستحباب. وأما إذا قدرنا أن أناساً لم تبلغهم دعوتنا، ولم يعلموا حقيقة أمرنا، أن الواجب دعوتهم أولا قبل القتال، فيدعون إلى الإسلام، وتكشف شبهتهم إن كان لهم شبهة، فإن أجابوا فإنه يقبل منهم، ثم يكف عنهم، فإن أبوا حلت دماؤهم وأموالهم. فصل في الهجرة من دار الكفر وأما قولكم: من أجاب الدعوة، وحقق التوحيد، وتبرأ من الشرك. هل تلزمه الهجرة، وإن لم يكن له قدرة؟ "فنقول": الهجرة تجب على كل مسلم لا يقدر على إظهار دينه ببلده إن كان قادرا على الهجرة، كما دل على ذلك قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً} 2. وأما من لم يقدر على الهجرة فقد استثناهم الله تعالى بقوله: {إِلا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً} 3 الآية. فصل في الإيمان بالمعنى اللغوي والمعنى الشرعي وأما السؤال الثالث، وهو قولكم: قد ورد: "الإسلام يهدم ما قبله" 4 وفي رواية: "يجب ما قبله"، وفي حديث حجة الوداع: "ألا إن دم الجاهلية كله موضوع"5 الخ..

_ 1 البخاري: الجهاد والسير "2942" , ومسلم: فضائل الصحابة "2406" , وأحمد "5/333". 2 سورة النساء آية: 97. 3 سورة النساء آية: 98. 4 مسلم: الإيمان "121" , وأحمد "4/204". 5 الترمذي: تفسير القرآن "3087" , وأبو داود: البيوع "3334" , وابن ماجه: المناسك "3055".

وظهر لنا من جوابكم أن المؤمن بالله ورسوله إذا قال أو فعل ما يكون كفرا جهلا منه بذلك، فلا تكفرونه حتى تقوم عليه الحجة الرسالية، فهل لو قتل من هذا حاله قبل ظهور هذه الدعوة موضوع أم لا؟. فنقول: إذا كان يعمل بالكفر والشرك لجهله وعدم من ينبهه لا نحكم بكفره حتى تقام عليه الحجة، ولكن نحكم بأنه مسلم، بل نقول: عمله هذا كفر يبيح المال والدم، وإن كنا لا نحكم على هذا الشخص لعدم قيام الحجة عليه، لا يقال: إن لم يكن كافرا فهو مسلم. بل نقول: عمله عمل الكفار. وإطلاق الحكم على هذا الشخص بعينه متوقف على بلوغ الحجة الرسالية إليه.. وقد ذكر أهل العلم أن أصحاب الفترات يمتحنون يوم القيامة في العرصات ولم يجعلوا حكمهم حكم الكفار ولا حكم الأبرار. وأما حكم هذا الشخص إذا قتل، ثم أسلم قاتله، فإنا لا نحكم بديته على قاتله إذا أسلم، بل نقول: الإسلام يجب ما قبله؛ لأن القاتل قتله في حال كفره والله أعلم. وأما كلام أسعد على قوله تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} 1 إنه الإيمان اللغوي الشرعي، فهو مصيب في ذلك، وقد ذكر المفسرون أن معنى قوله: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} 2 أن إيمانهم إقرارهم بأن الله هو الخالق الرازق المدبر، ثم إنهم مع هذا الإيمان بتوحيد الربوبية مشركون بالله في العبادة. ومعلوم أن مشركي العرب وغيرهم يؤمنون بالله رب كل شيء ومليكه، وأن بيده ملكوت كل شيء، وهو يجير ولا يجار عليه، ولم تنفعهم هذه الاعتقادات حيث عبدوا مع الله غيره، وأشركوا معه، بل نجد الرجل يؤمن بالله ورسوله وملائكته وكتبه ورسله وما بعد الموت، فإذا فعل نوعا من المكفرات حكم أهل العلم بكفره وقتله، ولم ينفعه ما معه من الإيمان. وقد ذكر الفقهاء من أهل كل مذهب "باب حكم المرتد" وهو الذي يكفر

_ 1 سورة يوسف آية: 106. 2 سورة يوسف آية: 106.

بعد إسلامه، ثم ذكروا أنواعا كثيرة من فعل واحدا منها كفر وإذا تأملت ما ذكرناه تبين لك أن الإيمان الشرعي لا يجامع الكفر بخلاف الإيمان اللغوي. والله أعلم. وأما قولكم: وهل ينفع هذا المؤمن المذكور ما يصدر منه من أعمال البر وأفعال الخير قبل تحقيق التوحيد. فيقال: لا يطلق على الرجل المذكور اسم الإسلام فضلا عن الإيمان، بل يقال: الرجل الذي يفعل الكفر أو يعتقده في حال جهله وعدم من ينبهه إذا فعل شيئا من أفعال البر وأفعال الخير؛ أثابه الله على ذلك إذا صحح إسلامه وحقق توحيده، كما يدل عليه حديث حكيم ابن حزام: "أسلمت على ما أسلفت من خير"1. وأما الحج الذي فعله في تلك الحالة فلا نحكم ببراءة ذمته به، بل نأمره بإعادة الحج؛ لأنا لا نحكم بإسلامه في تلك الحالة، والحج من شرط صحته الإسلام، فكيف يحكم بصحة حجه وهو يفعل الكفر أو يعتقده؟ ولكنا لا نكفره لعدم قيام الحجة عليه، فإذا قامت عليه الحجة، وسلك غير سبيل المحجة، أمرناه بإعادة الحج؛ ليسقط الفرض عنه بيقين. وأما ما ذكرته عن السيوطي أن الردة لا تنقض الأعمال إن لم تتصل فهي مسألة اختلف العلماء فيها، وليست من هذا الباب؛ لأن كلام السيوطي فيمن فعل شيئا من الأعمال في حال إسلامه، ثم ارتد، ثم أسلم، هل يعيد ما فعله قبل ردته؛ لأنه قد حبط بالردة أم لا؟ لأن الردة لا تحبط العمل إلا بالموت عليها؟ فصل في المصافحة بالأيدي والمعانقة وتقبيل اليد وأما السؤال الرابع عن المصافحة بالأيدي والمعانقة وتقبيل اليد. فالمصافحة حسنة مرغب فيها، والمعانقة لا بأس بها. وأما تقبيل اليد فورد فيها أحاديث تدل على ذلك، واعتقاده في حق البعض،

_ 1 البخاري: الزكاة "1436" , ومسلم: الإيمان "123" , وأحمد "3/402 ,3/434".

وبعض الأحيان دون بعض، وأما المداومة على ذلك واعتقاده سنة؛ فليس في الأحاديث ما يدل على ذلك، ونحن لم ننه الناس عن تقبيل اليد على الوجه الوارد في الأحاديث، بل ننهاهم عن الواقع منهم على خلاف ذلك؛ فإنهم يقبلون أيدي السادة الذين يعتقدون فيهم السر، ويرجون منهم البركة، ويجعلون التقبيل من باب الذل والانحناء المنهي عنه، وصار ذريعة إلى الشرك بالله. والشرع قد ورد بسد الذرائع. فصل في حلق شعر الرأس وأما السؤال الخامس عن حلق شعر الرأس: فالذي تدل عليه الأحاديث النهي عن حلق بعضه وترك بعضه، فأما تركه كله فلا بأس به إذا أكرمه الإنسان كما دلت عليه السنة الصحيحة. وأما حديث كليب، فهو يدل على الأمر بالحلق عند دخوله في الإسلام إن صح الحديث، ولا يدل على أن استمرار الحلق سنة. وأما تعزير من لم يحلق وأخذ ماله فلا يجوز، وينهى فاعله عن ذلك؛ لأن ترك الحلق ليس منهيا عنه، وإنما نهى عنه ولي الأمر؛ لأن الحلق هو العادة عندنا، ولا يتركه إلا السفهاء عندنا 1 فنهى عن ذلك نهي تنزيه، لا نهي تحريم سدا للذريعة؛ ولأن كفار زماننا لا يحلقون؛ فصار في عدم الحلق تشبها بهم 2.

_ 1 قوله: السفهاء: مراده -رحمه الله- أن الذي يتركه ويعزره ما مقصوده السنة، بل مقصوده الجمال ليعشقه المردان وربات الحجال ويتبعه الفسقة والأرذال اهـ من حاشية الأصل. 2 فيه أن الكفار إذا فعلوا فعلا مشروعا في الإسلام لا يصح لنا أن نتركه؛ لئلا يكون تشبها، لأننا إنما نفعله لأنه مشروع عندنا وهم المتشبهون بنا، وقد صح أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يرسل شعره ويفرقه، وأنه لم يحلقه إلا في النسك، فلا ينبغي أن يتركه أهل العلم والدين ليصير شعارا للسفهاء أو الكافرين.

فصل في فضائل أهل بيت النبي وأما السؤال السادس فيما ورد في فضائل أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم. فنقول: قد صح في فضائل أهل البيت أحاديث كثيرة. وكثير من الأحاديث التي يرويها من صنف في فضائل أهل البيت أكثرها لا يصححها الحفاظ، وفيما صح من ذلك كفاية. وأماقوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} 1 وقول من قال: إن الإرادة صفة أزلية لا تتبدل، وأن "إنما" للحصر وغير ذلك. فنقول: قد ذكر أهل العلم أن الآية لا تدل على عصمتهم من الذنوب، يدل على ذلك أن أكابر أهل البيت كالحسن والحسين وابن عباس لم يدعوا لأنفسهم العصمة، ولا استدل أحد منهم بهذه الآية على عصمتهم 2. وقد ذكر العلماء أن الإرادة في كتاب الله تعالى على نوعين: إرادة قدرية وإرادة شرعية، فالإرادة القدرية لا تبدل ولا تغير، والإرادة الشرعية قد تغير وتبدل. فمن الأول قوله تعالى: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا} 3 وقوله تعالى: {وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءاً

_ 1 سورة الأحزاب آية: 33. 2 بل كان بعضهم يخالف بعضا في الأحكام الشرعية كمخالفة الحسن في ترك الإمامة لمعاوية، وكذا مخالفة الحسين في الخروج على يزيد. فهؤلاء خيارهم بالإجماع، وأما من بعدهم فقد كان منهم غلاة الباطنية المارقون من الإسلام، الذين يكيدون له ويدعون إلى تركه وعداوة أهله، والذين يذكرون الحصر في الآية لا يفهمون معناه، وهو ما بيناه في الحاشية في صفحة 582، ولو كانت الآية تدل على العصمة لوجب أن تقول الشيعة بعصمة أزواجه -صلى الله عليه وسلم- بالأولى، وأفضلهن عائشة التي يبغضونها، ويخطئونها كما نخطئها في حرب الجمل. 3 سورة الإسراء آية: 16.

فَلا مَرَدَّ لَهُ} 1 وقوله تعالى: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً} 2 الآيتين. ومن الثاني قوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ} 3 وقوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ} 4 كقوله تعالى: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ} 5 وكقوله: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} 6 وكقوله: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ} 7 فإن إرادة الله في هذه الآية متضمنة لمحبة الله، فذلك المراد رضاه به، وأنه شرعه للمؤمنين وأمرهم به ليس في ذلك خلف هذا المراد، ولا أنه قضاؤه وقدره. والدليل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم بعد نزول هذه الآية قال: "اللهم هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا "8 فطلب من الله تعالى إذهاب الرجس والتطهير عنهم 9. فلو كانت الآية تقتضي إخبار الله بأنه أذهب عنهم الرجس وطهرهم لم يحتج إلى الطلب والدعاء، وهذا على قول القدرية أظهر، فإن إرادة الله تعالى عندهم لا تتضمن وجوب المراد، بل قد يريد ما لا يكون ويكون ما لا يريد، فليس في قوله تعالى: {يُرِيدُ} 10 ما يدل على وقوعه. ومن العجب أن الشيعة يحتجون بهذه الآية على عصمة أهل البيت، ومذهبهم في القدر من جنس مذهب القدرية الذين يقولون: إن الله قد أراد إيمان كل من على وجه الأرض، فلم يقع مراده. الإرادة في كتاب الله وأما على قول أهل السنة والتحقيق فما تقدم، وهو أن يقال: الإرادة في كتاب الله تعالى نوعان: إرادة شرعية دينية تتضمن محبته ورضاه، وإرادة كونية

_ 1 سورة الرعد آية: 11. 2 سورة القصص آية: 5. 3 سورة النساء آية: 26، 27. 4 سورة الأحزاب آية: 33. 5 سورة المائدة آية: 6. 6 سورة البقرة آية: 185. 7 سورة النساء آية: 26. 8 الترمذي: تفسير القرآن "3205". 9 كذا في الأصل ولعل أصله الصحيح: إذهاب الرجس عنهم والتطهير لهم. 10 سورة النساء آية: 26.

تتضمن خلقه وتقديره "فالأولى" كقوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ} 1 "والثانية" كقوله تعالى: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ} 2 الآية. وقوله تعالى: {وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} 3 ومثل ذلك كثير في القرآن. فالله تعالى قد أخبر أنه يريد أن يتوب على المؤمنين ويطهرهم وفيه 4 من تاب، وفيه من لم يتب، وفيه من تطهر، وفيه من لم يتطهر، فإذا كانت الآية ليس فيها دلالة على وقوع ما أراده من التطهير وإذهاب الرجس؛ لم يلزم بمجرد الآية ثبوت ما ادعاه هؤلاء. ومما يبين ذلك أن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم مذكورات في الآية، فقد قال تعالى: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحاً نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ} 5 إلىقوله: {وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفاً خَبِيراً} 6 فالخطاب كله لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم وفيه الأمر والنهي والوعد والوعيد. لكن لما كان ما ذكره سبحانه يعمّهن، ويعمّ غيرهن من أهل البيت جاء بلفظ التزكية فقال: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} 7 والذي يريد الله من حصول 8 الرجس وحصول التطهير. فهذا الخطاب وغيره ليس مختصا بأزواجه، بل هو يتناول أهل البيت كلهم، وعلي

_ 1 سورة النساء آية: 26. 2 سورة الأنعام آية: 125. 3 سورة هود آية: 34. 4 قوله: وفيه. لعل أصله وفيهم، وكذا ما بعده. 5 سورة الأحزاب آية: 30، 31. 6 سورة الأحزاب آية: 33، 34. 7 سورة الأحزاب آية: 33. 8 كذا في الأصل والظاهر أنه سبق قلم أو سهو من الناسخ والأصل: إذهاب الرجس.

وفاطمة والحسن والحسين أخص من غيرهم بذلك، خصصهم النبي صلى الله عليه وسلم بالدعاء لهم 1. وهذا كما أن قوله: {لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ} 2 نزل بسبب مسجد قباء، ولكن الحكم يتناوله، ويتناول ما هو أحق منه بذلك، وهو مسجد المدينة. وفي الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن المسجد الذي أسس على التقوى فقال: "هو مسجدي هذا" 3 وفي الصحيح أنه كان يأتي مسجد قباء كل سبت راكبا وماشيا، فكان يقوم في مسجده يوم الجمعة، ويأتي قباء يوم السبت، وكلاهما مؤسس

_ 1 التحقيق أن هذه الآيات كلها في نساء النبي -صلى الله عليه وسلم- فقط، وإنما ذكر الضمير في "عنكم"، "ويطهركم" تغليبا للنبي -صلى الله عليه وسلم-، وقد أعاد الخطاب لهن بعد هذه الآية، وهي تعليل لما في الآيات من الأوامر والنواهي، والوعد بمضاعفة الثواب، والوعيد بمضاعفة العقاب. والمعنى: إنما يريد الله بما ذكر من أمر ونهي ووعد ووعيد وترغيب وترهيب؛ أن يطهر هذا البيت المنسوب إلى رسوله من كل رجس، ودنس، وعار يمكن أن يمسه عاره بارتكاب أحد منكن لما نهاكن عنه، وترك ما أمركن به. فهذه الإرادة في الطهارة المعنوية كقوله تعالى في الطهارة الحسية بعد الأمر بالوضوء والغسل: {ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون} وما ورد في الدعاء لعلي وفاطمة وولديهما، أو الخبر بكونهم من أهل بيته؛ فمعناه أنهم يدخلون في عموم لفظ أهل البيت الوارد في نسائه -صلى الله عليه وسلم- فيجب عليهم مما جعله الله سببا للتطهير في الآيات التي خاطب بها نساءه، على القاعدة الأصولية المعروفة: العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. وفي حديث أم سلمة إشكال؛ لأنه يخالف ظاهر الآيات التي هي نص في الأزواج الطاهرات، وأم سلمة منهم، فهي داخلة في منطوقها أوليا، وظاهر الحديث أن إرادة التطهير قدرية تكوينية لا أنها أثر لامتثال تلك الأوامر والنواهي المعللة بها، فليراجع سنده، فلعل فيه بعض الشيعة المحرفين للآية. 2 سورة التوبة آية: 108. 3 مسلم: الحج "1398" , والترمذي: الصلاة "323" , والنسائي: المساجد "697" , وأحمد "3/8 ,3/23 ,3/24 ,3/91".

على التقوى، وهكذا أزواجه وعلي وفاطمة والحسن والحسين كلهم من أهل البيت. لكن علي وفاطمة والحسن والحسين أخص بذلك من أزواجه، فلهذا خصصهم بالدعاء 1. فصل في آل النبي أهل بيته بالقرابة وأزواجه وأما قولكم: ومن يطلق عليه اسم الآل؟ فنقول: قد تنازع العلماء في آل محمد من هم؟ فقيل: هم أمته. وهذا قول طائفة من أصحاب مالك وأحمد وغيرهم، وقيل: المتقون من أمته. ورووا حديثا: "آل محمد كل تقي" رواه الخلال، وتمام في فوائده، وهو حديث لا أصل له. والصحيح: أن آل محمد هم أهل بيته. وهذا هو المنقول عن الشافعي وأحمد، لكن هل أزواجه من آله؟ على قولين، هما روايتان عن أحمد. والصحيح أن أزواجه من آله، فإنه قد ثبت في الصحيحين عن النبي –صلى الله عليه وسلم - أنه علمهم الصلاة عليه: "اللهم صل على محمد وأزواجه وذريته" 2 ولأن امرأة إبراهيم -عليه السلام- من آله وأهل بيته، وامرأة لوط من آله وأهل بيته. والآية المذكورة تدل على أنهن من أهل بيته. وأما الأتقياء من أمته فهم أولياؤه، كما ثبت في الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن آل بني فلان ليسوا لي بأولياء، إن وليي الله وصالح المؤمنين" 3 فأولياؤه

_ 1 هذا خلاف المتبادر كما علم مما تقدم، ومن الضروري المعلوم بالفطرة والخبرة أن ما يلحق الرجل من العار بعدم طهارة أزواجه أقوى مما يلحقه بعدم طهارة صهره وأسباطه وأحفاده، فلهذا أورد نص الآيات في الأزواج الطاهرات وافتتحت بقوله تعالى: {يا نساء النبي لستن كأحد من النساء إن اتقيتن} فهذا تفضيل صريح لهن، وهذا لا ينافي كون السيدة فاطمة -عليها السلام- أفضل منهن بكونها بضعة منه -صلى الله عليه وسلم-، وبشخصها أيضا، وكذا ولداها وبعلها -عليهم السلام والرضوان-. 2 البخاري: أحاديث الأنبياء "3369" , ومسلم: الصلاة "407" , والنسائي: السهو "1294" , وأبو داود: الصلاة "979" , وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها "905" , وأحمد "5/424" , ومالك: النداء للصلاة "397". 3 مسلم: الإيمان "215" , وأحمد "4/203".

المتقون بينه وبينهم قرابة الدين والإيمان والتقوى، والقرب بين القلوب والأرواح أعظم من القرب بين الأبدان، وأما أقاربه ففيهم المؤمن والكافر، والبر والفاجر. ومن كان فاضلا منهم كعلي رضي الله عنه وجعفر والحسن والحسين وابن عباس، فتفضيلهم بما فيهم من الإيمان والتقوى، وهم أولياؤه بهذا الاعتبار لا مجرد النسب. فأولياؤه قد يكونون أعظم درجة من آله، وأنه وإن أمر بالصلاة على آله تبعا لم يقتض ذلك أن يكونوا أفضل من أوليائه، وهم أفضل من أهل بيته، وإن لم يدخلوا في الصلاة معه تبعا، فالمفضول قد يختص بأمر، ولا يلزم أن يكون أفضل من الفاضل. وأزواجه ممن يصلى عليه كما ثبت ذلك في الصحيحين. وقد ثبت باتفاق العلماء كلهم أن الأنبياء أفضل منهم، والله أعلم، وصلى الله على محمد، وآله وصحبه وسلم. "تمت الأجوبة السنية عن الأسئلة الحفظية"

فتاوى ومسائل فقهية مختلفة لبعض علماء نجد

فتاوى ومسائل فقهية مختلفة فتاوى ومسائل فقهية مختلفة "لبعض علماء نجد معزوة إليهم". بسم الله الرحمن الر حيم أجوبة مسائل سئل عنها الشيخ سليمان بن علي وغيره، وأجاب فيها بما صورته: "المسألة الأولى" ما ذكرتم من أن الكي عيب في الرقيق فقط. فاعلم أن إطلاقه ليس خصوصية في الرقيق دون غيره، لكن إذا كان الكي لا ينقص القيمة في عرف التجار؛ فوجوده كعدمه. والله أعلم المعاويد التي مع ودعي البدو "الثانية" وأما ما ذكرتم من المعاويد التي مع ودعي البدو، أو هن مجتمعات بالمشرب والمبيت، وهن مع وديعين لبلدين كل واحد لبلد مثلا، وهن جميع مثلا كما ذكرتم. فاعلم أن الفقهاء صرحوا -ومن أعظمهم تصريحا شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى- بأن الراعي والرعاة ولو غير عدول إذا عاوض أحدهم، أو عاوضوا الظالم عن المال ببعضه؛ لزم المدفوع إلى الظالم المال كله، كل بقسطه؛ لأنه مجتهد في هذه الصورة غير مفرط. وأما إن أخذ الظالم من غير معاوضة الراعي أو الرعاة، ولا دعوى مكس؛ فمصيبة أصابت المال المدفوع فقط دون غيره من المال لا يؤاخذ بها أحد. وأما إقرار الراعي أو الرعاة أولا به، ثم أقروا ثانيا بغيره، فالعمل على الإقرار الأول دون غيره يعني دون الثاني.

الوقف الذي ظهر بعضه مستحقا "الثالثة" إذا وقف عقارا، ثم خرج فيه سهم مستحق، هل يصح الوقف أم لا؟. "الجواب" الوقف الذي ظهر بعضه مستحقا حكمه حكم البيع والهبة والرهن بأنه وقف ما لا يملك، وبيع ما لا يملك، وهبته ورهنه ما لا يملك لا يصح، ويصح ذلك فيما يملكه، وكذلك هذا الوقف يصح فيما يملكه، ولا يصح فيما لا يملكه. وجواب الشيخ أحمد البجادي في هذه المسألة كذلك. وأما جواب الشيخ عبد الوهاب بن مشرف أن محل صحة ما وقف يملكه منه إذا كان غير عالم وقت وقفه أن بعضه مستحق، وأما إذا كان عالما أن بعضه مستحق وقت التوقيف، فإن كان يعلم نصيبه من نصيب غيره ووقف الجميع صح في نصيبه دون غيره، وإن كان يجهل نصيبه ووقف الجميع لم يصح. الثمرة المشتركة في رءوس النخل "الرابعة" وأما الثمرة المشتركة في رءوس النخل؛ فيصح قسمها خرصا؛ لكون قسمة الثمرة من نوع الإجبار، ولم أر نصا في إجبار الشريك على البيع إذا طلب القسم في رأسها، ولو تعلل بعضهم بعدم أمن البعض، ولو كان محتملا، فعلى هذا تقسم في رأسها إذا تشاحوا، ويحجر على الممتنع من الشركاء، فمن خاف السرقة استأجر حافظا، والله أعلم. قيمة حفر البئر إذا كان فيها دفين أو غيره مسألة في أن على مؤجر الأرض قيمة حفر البئر إذا كان فيها دفين أو غيره "للشيخ عبد الله بن عضيب" بسم الله الرحمن الر حيم ما قول العلماء -وفقهم الله تعالى إلى السداد، وأيدهم بالتوفيق والإرشاد- في إنسان ضم أرضا من آخر، ثم إن ماء بئر تلك الأرض قل، وإنما قل لأجل أن فيها دفينا من تراب وغيره، وأراد العامل حفرها؛ ليسقي ذلك الزرع، وتعذر حفرها من

المالك لغيبته أو امتناعه عن حفرها، وحفرها العامل بنية الرجوع على المالك؛ لأنهما شريكان في المنفعة، ثم ظهرت تلك الضمامة فاسدة، فهل والحالة هذه يرجع على المالك؛ لأنهما شريكان في المنفعة، ولأن عقدهما جائز، فلا يمنع نفوذ تصرفه بلا إذن، وهو دخول العامل بالضمامة من المالك، أم ترتب عليه أحكام الغصب لفساده فلا يرجع بشيء؟ وصلى الله على محمد، وآله وصحبه وسلم. "الجواب" الحمد لله. اعلم -وفقنا الله وإياك- أن الذي يظهر لي من حكم تلك المسألة: أنه يلزم صاحب البئر القيام مع المزارع في إخراج الدفين من البئر، ونفقة ذلك على مالك البئر، وإن كان العقد فاسدا لوضعه البذر بإذنه فلزمه ما فيه تمامه، ومن تمامه الماء وتربة الأرض، فكما لا يجبره على قلع زرعه من الأرض التي ينمو الزرع بسببها، بل يلزمه تركه بالأجرة ألزم بتحصيل الماء الذي به ثمرة الزرع، فحفظ الزرع بهاتين الخصلتين- أعني الأرض والماء- لازم لمالك الأرض، ولا فرق بينهما؛ لأن بهما تمام الزرع الحاصل في أرضه بإذنه والله أعلم. قاله عبد الله بن عضيب. وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم. مسألة في حق النخلة في الماء المجاور لها بسم الله الرحمن الر حيم ومن جواب لعبد الوهاب بن سليمان بن علي عن مسألة: وصورتها: نخلة على جال ساقي قريبة من اللزاء، وجاءها قصيرها يبغي يفرك الساقي، والماء يصب في حوضها أولا، فهل له ذلك أم لا؟ "الجواب" إذا كان الأمر كما ذكر السائل لم يجز صرف الماء عن النخلة المذكورة لثبوت ذلك لها شرعا، ولو باع النخلة الصارف لمجري الماء الذي هو

حق للنخلة المذكورة لم يسقط ما هي مستحقته من جريان الماء، وذلك ظاهر لا يخفى. قال ذلك وكتبه مخبرا به الفقير إلى الله سبحانه عبد الوهاب بن سليمان اه. ومن جواب لإبراهيم بن سليمان بن علي –رحمه الله تعالى- عن مسألتين سئل عنهما وصورة السؤال: إذا ادعى إنسان على آخر أن مورثك أقر لي بنخلتين معينتين من ثلاث نخلات أو أكثر، مع كون المقر به بيد المقر وتصديق المقر له، وأقام بذلك بينة، وعينت البينة إحدى النخلتين، واشتبهت عليه الثانية، أي: نسيت عينها بعد المعرفة لها من تلك النخلات الثلاث، فهل يقدح في ذلك شهادة البينة أم لا؟ رجوع المقر عن إقراره "الثانية" إذا أقر إنسان أن عقاري الفلاني لأبي، وأن المال الذي عندي لأبي، وادعى بعد ذلك إبطال الإقرار وقال: إنما أقررت بذلك تلجئة أريد به الحيلة لإسقاط حق وارث، وأقام بذلك بينة هل تسمع أم لا؟ وهل إن عدم البينة وادعى ذلك وحفت بدعواه قرينة على صدقه. ما الحكم في ذلك؟ ابسطوا لنا الجواب أعظم الله لكم الثواب "الجواب وبالله التوفيق" "الحمد لله سبحانه اللهم ألهمني الصواب" إذا كان الحال كما ذكر السائل- وفقنا الله وإياه لفهم المسائل- وكان الشاهدان يعرفان النخلات المذكورات وقت الإقرار. فالإقرار المذكور صحيح، وصارت النخلتان المعينتان بالإقرار مالا محازا للمقر له، وتعيين ما اشتبه منهما إلى ورثة المقر بأيمانهم؛ لأن ورثة المقر يقومون مقامه في ميراثه والدين الذي له وعليه، وبيناته ودعاويه والأيمان التي له وعليه، فإن لم يحلفوا لم يجز التصرف فيما أثبتته، حتى يقف المقر والمقر له على تعيين النخلة التي اشتبهت إما بتصادق أو قرعة شرعية على

ما قدمه في الإقناع فيما إذا اشتبه عبده بعبد غيره. انتهى. وقال الشيخ مرعي في الغاية: ويتجه يصح قبلها إن تبين عنده. " والجواب عن الثانية" فإقرار الشخص المذكور أن عقاره لأبيه إقرار صحيح بشرط تصديق الأب لابنه في إقراره. وأما قوله: إنه أقر بذلك تلجئة أريد به الحيلة. فقوله ذلك غير مقبول شرعا، حتى ولو أقام بذلك بينة شرعية إلا أن تشهد البينة أن أباه المشار إليه قد أكرهه على الإقرار بذلك العقار المذكور، وأن الأب المشار إليه يتوعده إما بتهدد، وأنه قادر على إيقاع ما تهدده به إما بقتل أو ضرب يؤلمه، أو أخذ مال يضره ولا يمكنه دفعه عنه بهرب ولا غيره، فإذا كان الأمر كذلك، وقامت به البينة العادلة، بان لنا أنه مكره، وأن إقراره المذكور غير صحيح. وأما إذا أقر خوفا من غضب أبيه ونحو ذلك فليس ذلك بإكراه. وأما قول بعض الجهال: إني أقررت تقية أو خوفا، والمقر قادر على دفع الإكراه، أو قادر على الهرب، والمقر له ليس بقادر على إكراه هذا المقر، إما بسلطنة أو قوة أو تلصص ونحو ذلك، فإقرار هذا المقر المشار إليه بالمقدار المذكور إقرار صحيح شرعي، صرح بذلك علماؤنا -رضي الله عنهم-. قال ذلك وكتبه مخبرا عن مذهبه إبراهيم بن سليمان بن علي الحنبلي. الحمد لله جوابي كما أجاب الشيخ إبراهيم لموافقته الصواب والله أعلم. وكتبه الفقير إلى الله سبحانه عبد الوهاب بن سليمان -عفا الله عنه بمنّه وكرمه- وصلى الله على محمد، وآله وصحبه وسلم.

§1/1