مجموعة الرسائل والمسائل النجدية (الجزء الثالث)

عبد اللطيف آل الشيخ

الرسالة الأولى [الإنكار على من كفر المسلمين بغير ما أجمع عليه الفقهاء]

مجموعة الرسائل والمسائل النجدية الرسالة الأولى [الإنكار على من كفر المسلمين بغير ما أجمع عليه الفقهاء] بسم الله الرحمن الرحيم من عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن إلى عبد العزيز الخطيب. سلام على عباد الله الصالحين. وبعد: فقرأت رسالتك، وعرفت مضمونها، وما قصدته من الاعتذار، ولكن أسأت في قولك: إن ما أنكره شيخنا الوالد من تكفيركم أهل الحق واعتقاد إصابتكم أنه لم يصدر منكم، وتذكر أن إخوانك من أهل النقيع يجادلونك، وينازعونك في شأننا، وأنهم ينسبوننا إلى السكوت عن بعض الأمور، وأنت تعرف أنهم يذكرون هذا غالبا على سبيل القدح في العقيدة، والطعن في الطريقة، وإن لم يصرحوا بالتكفير فقد حاموا حول الحمى. فنعوذ بالله من الضلال بعد الهدى، ومن الغي عن سبيل الرشد والعمى، وقد رأيت سنة أربع وستين رجلين من أشباهكم المارقين بالأحساء قد اعتزلا الجمعة والجماعة، وكفّرا من في تلك البلاد من المسلمين، وحجتهم من جنس حجتكم، يقولون: أهل الأحساء يجالسون ابن فيروز، ويخالطونه هو وأمثاله ممن لم يكفر بالطاغوت، ولم يصرح بتكفير جده الذي رد دعوة الشيخ محمد ولم يقبلها وعاداها. قالا: ومن لم يصرح بكفره فهو كافر بالله لم يكفر بالطاغوت 1، ومن جالسه فهو مثله. ورتبوا على هاتين المقدمتين الكاذبتين الضالتين ما يترتب على الردة الصريحة من الأحكام، حتى

_ 1 قوله: لم يكفر بالطاغوت إما تعليل لكفره بالله على طريقة الاستئناف البياني، فالكفر بالطاغوت شرط لصحة الإيمان بالله وإما خبر بعد خبر.

تركوا رد السلام، فرفع إلي أمرهم؛ فأحضرتهم وهددتهم، وأغلظت لهم القول. فزعموا أولا أنهم على عقيدة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وأن رسائله عندهم؛ فكشفت شبهتهم وأدحضت ضلالتهم، بما حضرني في المجلس، وأخبرتهم ببراءة الشيخ من هذا المعتقد والمذهب، فإنه لا يكفر إلا بما أجمع المسلون على تكفير فاعله من الشرك الأكبر، والكفر بآيات الله ورسله أو بشيء منها، بعد قيام الحجة وبلوغها المعتبر، كتكفير من عبد الصالحين، ودعاهم مع الله، وجعلهم أندادا فيما يستحقه على خلقه من العبادات والإلهية. وهذا مجمع عليه عند أهل العلم والإيمان، وكل طائفة من أهل المذاهب المقلدة يفردون هذه المسألة بباب عظيم يذكرون فيه حكمها، وما يوجب الردة ويقتضيها، وينصون على الشرك الأكبر. وقد أفرد ابن حجر 1 هذه المسألة بكتاب سماه (الإعلام بقواطع الإسلام) . وقد أظهر الفارسيان المذكوران التوبة والندم، وزعما أن الحق ظهر لهما، ثم لحقا بالساحل، وعادا إلى تلك المقالة؛ وبلغنا عنهم تكفير أئمة المسلمين، بمكاتبة الملوك المصريين، بل كفروا من خالط من كاتبهم من مشايخ المسلمين، ونعوذ بالله من الضلال بعد الهدى، والحور بعد الكور 2.وقد بلغنا عنكم نحو من هذا، وخضتم في مسائل من هذا الباب، كالكلام في الموالاة والمعاداة، والمصالحة والمكاتبات، وبذل الأموال والهدايا، ونحو ذلك من مقالة أهل الشرك بالله والضلالات، والحكم بغير ما أنزل الله عند البوادي ونحوهم من الجفاة، لا يتكلم فيها إلا

_ 1 هو العلامة أحمد بن حجر الهيتمي الفقيه الشافعي. 2 الحور بعد الكور معناه النقصان بعد الزيادة كالعصيان بعد الطاعة والجهل بعد الحلم.

العلماء من ذوي الألباب. ومن رزق الفهم عن الله وأوتي الحكمة وفصل الخطاب. والكلام في هذا يتوقف على معرفة ما قدمناه، ومعرفة أصول عامة كلية لا يجوز الكلام في هذا الباب وفي غيره لمن جهلها وأعرض عنها وعن تفاصيلها؛ فإن الإجمال والإطلاق، وعدم العلم بمعرفة مواقع الخطاب وتفاصيله، يحصل به من اللبس والخطأ وعدم الفقه عن الله ما يفسد الأديان، ويشتت الأذهان، ويحول بينها وبين فهم القرآن. قال ابن القيم في كافيته - رحمه الله تعالى-: فعليك بالتفصيل والتبيين فالإ ... طلاق والإجمال دون بيان قد أفسدا هذا الوجود وخبطا الأ ... ذهان والآراء كل زمان وأما التكفير بهذه الأمور التي ظننتموها من مكفرات أهل الإسلام، فهذا مذهب الحرورية المارقين الخارجين على علي بن أبي طالب أمير المؤمنين ومن معه من الصحابة، فإنهم أنكروا عليهم تحكيم أبي موسى الأشعري، وعمرو بن العاص في الفتنة التي وقعت بينه وبين معاوية وأهل الشام. فأنكرت الخوارج عليه ذلك، وهم في الأصل من أصحابه من قراء الكوفة والبصرة، وقالوا: حكمت الرجال في دين الله، وواليت معاوية وعمرا، وتوليتهما وقد قال –تعالى -: {إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ} 1 وضربت المدة بينكم وبينهم، وقد قطع الله هذه الموادعة والمهادنة منذ أنزلت براءة. وطال بينهما النّزاع والخصام، حتى أغاروا على سرح المسلمين، وقتلوا من ظفروا به من أصحاب علي؛ فحينئذ شمر –رضي الله عنه- لقتالهم، وقتلهم دون النهروان بعد الإعذار والإنذار، والتمس المخدج المنعوت في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم وغيره من أهل السنن، فوجده علي فسرّ بذلك،

_ 1 سورة الأنعام آية: 57.

وسجد لله شكرا على توفيقه، وقال: لو يعلم الذين يقاتلونهم ماذا لهم على لسان محمد صلى الله عليه وسلم لنكلوا عن العمل، هذا وهم أكثر الناس عبادة وصلاة وصوما. [فصل في مراتب الإيمان والكفر والنفاق والمعاصي] ولفظ الظلم والمعصية والفسوق والفجور والموالاة والمعاداة والركون والشرك ونحو ذلك من الألفاظ الواردة في الكتاب والسنة قد يراد بها مسماها المطلق وحقيقتها المطلقة، وقد يراد بها مطلق الحقيقة، والأول هو الأصل عند الأصوليين، والثاني لا يحمل الكلام عليه إلا بقرينة لفظية أو معنوية. وإنما يعرف ذلك بالبيان النبوي، وتفسير السنة، قال –تعالى-: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} 1 الآية، وقال: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} 2.وكذلك اسم المؤمن، والبر، والتقي يراد بها عند الإطلاق والثناء غير المعنى المراد في مقام الأمر والنهي، ألا ترى أن الزاني، والسارق، والشارب يدخلون في عموم قوله –تعالى -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ} 3، وقوله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى} 4 الآية، وقوله –تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ} 5، ولا يدخلون في مثل قوله {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا} 6، وقوله تعالى {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ} 7 الآية. وهذا هو الذي أوجب للسلف ترك تسمية الفاسق باسم الإيمان والبر.

_ 1 سورة إبراهيم آية: 4. 2 سورة النحل آية: 43. 3 سورة المائدة آية: 6. 4 سورة الأحزاب آية: 69. 5 سورة المائدة آية: 106. 6 سورة الحجرات آية: 15. 7 سورة الحديد آية: 19.

وفي الحديث: " لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، ولا ينتهب نهبة يرفع الناس إليه أبصارهم فيها وهو مؤمن " 1، وقوله " لا يؤمن من لا يأمن جاره بوائقه " 2 3. لكن نفي الإيمان هذا لا يدل على كفره، بل يطلق عليه اسم الإسلام، ولا يكون كمن كفر بالله ورسله. وهذا هو الذي فهمه السلف، وقرروه في باب الرد على الخوارج والمرجئة ونحوهم من أهل الأهواء، فافهم هذا فإنه مضلة أفهام، ومزلة أقدام. وأما إلحاق الوعيد المرتب على بعض الذنوب والكبائر، فقد يمنع منه مانع في حق المعين كحب الله ورسوله، والجهاد في سبيله، ورجحان الحسنات، ومغفرة الله ورحمته، وشفاعة المؤمنين، والمصائب المكفرة في الدور الثلاثة. وكذلك لا يشهدون لمعين من أهل القبلة بجنة ولا نار، وإن أطلقوا الوعيد كما أطلقه القرآن والسنة، فهم يفرقون بين العام المطلق، والخاص المقيد، وكان عبد الله (حمار) 4 يشرب الخمر فأتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلعنه رجل، وقال: ما أكثر ما يؤتي به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " لا تلعنه، فإنه يحب الله ورسوله " 5 مع أنه لعن الخمر وشاربها وبائعها وعاصرها ومعتصرها وحاملها والمحمولة إليه. [قصة حاطب وآيات سورة الممتحنة في موالاة المشركين] وتأمل قصة حاطب بن أبي بلتعة وما فيها من الفوائد، فإنه هاجر إلى الله ورسوله، وجاهد في سبيله، لكن حدث منه أنه " كتب بسر رسول

_ 1 البخاري: المظالم والغصب (2475) , ومسلم: الإيمان (57) , والترمذي: الإيمان (2625) , والنسائي: قطع السارق (4870 ,4871 ,4872) والأشربة (5659 ,5660) , وأبو داود: السنة (4689) , وابن ماجه: الفتن (3936) , وأحمد (2/243 ,2/317 ,2/386) , والدارمي: الأشربة (2106) . 2 أحمد (2/288) . 3 الحديث الأول رواه الشيخان وغيرهما، والثاني رواه البخاري بلفظ والله لا يؤمن والله لا يؤمن والله لا يؤمن – قيل من يا رسول الله؟ قال: الذي لا يأمن جاره بوائقه ورواه أحمد أيضا ولا أذكر لفظه. 4 صحابي معروف وحمار لقب له. 5 صحيح البخاري: كتاب الحدود (6780) .

الله صلى الله عليه وسلم إلى المشركين من أهل مكة يخبرهم بشأن رسول الله صلى الله عليه وسلم ومسيره لجهادهم ليتخذ بذلك يدا عندهم يحمي أهله وماله بمكة. فنَزل الوحي بخبره. وكان قد أعطى الكتاب ظعينة جعلته في شعرها، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا والزبير في طلب الظعينة، وأخبر أنهما يجدانها في روضة خاخ. فكان ذلك، فتهدداها حتى أخرجت الكتاب من ضفائرها، فأتي به رسول الله صلى الله عليه وسلم. فدعا حاطب بن أبي بلتعة فقال له: ما هذا؟ فقال: يا رسول الله إني لم أكفر بعد إيمان، ولم أفعل هذا رغبة عن الإسلام، وإنما أردت أن تكون لي عند القوم يد أحمي بها أهلي ومالي، فقال –صلى الله عليه وسلم-: صدقكم خلوا سبيله. واستأذن عمر في قتله فقال: دعني أضرب عنق هذا المنافق، فقال: وما يدريك أن الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم ". وأنزل الله في ذلك صدر سورة الممتحنة فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} 1 الآيات، فدخل حاطب في المخاطبة باسم الإيمان ووصفه به، وتناوله النهي بعمومه وله خصوص السبب الدال على إرادته، مع أن في الآية الكريمة ما يشعر أن فعل حاطب نوع موالاة، وأنه أبلغ إليهم بالمودة، فإن فاعل ذلك قد ضل سواء السبيل؛ لكن قوله " صدقكم خلوا سبيله " ظاهر في أنه لا يكفر بذلك إذا كان مؤمنا بالله ورسوله غير شاك ولا مرتاب، وإنما فعل ذلك لغرض دنيوي. ولو كفر لما قيل: " خلوا سبيله ". لا يقال قوله صلى الله عليه وسلم لعمر: " وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم " 2 هو المانع من تكفيره، لأنا نقول: لو كفر لما بقي من حسناته ما يمنعه من لحاق الكفر وأحكامه.

_ 1 سورة الممتحنة آية: 1. 2 البخاري: الجهاد والسير (3007) , ومسلم: فضائل الصحابة (2494) , والترمذي: تفسير القرآن (3305) , وأبو داود: الجهاد (2650) , وأحمد (1/79 ,1/105) .

فإن الكفر يهدم ما قبله لقوله –تعالى -: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِالأِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ} 1، وقوله –تعالى-: {وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} 2، والكفر محبط للحسنات والإيمان بالإجماع؛ فلا يظن هذا. وأما قوله {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} 3، وقوله {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} 4، وقوله–تعالى -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} 5، فقد فسرته السنة وقيدته وخصته بالموالاة المطلقة العامة. وأصل الموالاة هو الحب والنصرة والصداقة، ودون ذلك مراتب متعددة، ولكل ذنب حظه وقسطه من الوعيد والذم، وهذا عند السلف الراسخين في العلم من الصحابة والتابعين معروف في هذا الباب وغيره. وإنما أشكل الأمر، وخفيت المعاني، والتبست الأحكام على خلوف من العجم والمولدين الذين لا دراية لهم بهذا الشأن، ولا ممارسة لهم بمعاني السنة والقرآن، ولهذا قال الحسن رضي الله عنه: من العجمة أتوا. وقال عمرو بن العلاء لعمرو بن عيد لما ناظره في مسألة خلود أهل الكبائر في النار: واحتج ابن عبيد أن هذا وعد، والله لا يخلف وعده، يشير إلى ما في القرآن من الوعيد على بعض الكبائر والذنوب بالنار والخلود، فقال له ابن العلاء: من العجمة أتيت، هذا وعيد لا وعد، وأنشد قول الشاعر: وإني وإن أوعدته أو وعدته ... لمخلف إيعادي ومنجز موعدي وقال بعض الأئمة فيما نقل البخاري، أو غيره: إن من سعادة الأعجمي والأعرابي إذا أسلما أن يوفقا لصاحب سنة، وإن من شقاوتهما أن يمتحنا

_ 1 سورة المائدة آية: 5. 2 سورة الأنعام آية: 88. 3 سورة المائدة آية: 51. 4 سورة المجادلة آية: 22. 5 سورة المائدة آية: 57.

وييسرا لصاحب هوى وبدعة. ونضرب لك مثلا هو أن رجلين تنازعا في آيات من كتاب الله أحدهما خارجي، والآخر مرجئ، قال الخارجي: إن قوله {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} 1 دليل على حبوط أعمال العصاة والفجار وبطلانها، إذ لا قائل إنهم من عباد الله المتقين. قال المرجئ: هي في الشرك فكل من اتقى الشرك يقبل عمله لقوله –تعالى-: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} 2.قال الخارجي: قوله –تعالى-: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً} 3 يرد ما ذهبت إليه. قال المرجئ: المعصية هنا الشرك بالله واتخاذ الأنداد معه لقوله: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} 4.قال الخارجي: {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كَانَ فَاسِقاً} 5 دليل على أن الفساق من أهل النار الخالدين فيها. قال له المرجئ في آخر الآية: {وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} 6 دليل على أن المراد من كذب الله ورسوله، والفاسق من أهل القبلة مؤمن كامل الإيمان. ومن وقف على هذه المناظرة من جهال الطلبة والأعاجم ظن أنها الغاية المقصودة، وعض عليها بالنواجذ، مع أن كلا القولين لا يرتضى، ولا يحكم بإصابته أهل العلم والهدى، وما عند السلف والراسخين في العلم خلاف هذا كله لأن الرجوع إلى السنة المبينة للناس ما نزل إليهم. وأما أهل البدع والأهواء فيستغنون عنها بآرائهم وأهوائهم وأذواقهم. وقد بلغني أنكم تأولتم قوله –تعالى-: في سورة محمد: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الأَمْرِ} 7 على بعض ما يجري من أمراء الوقت من مكاتبة، أو مصالحة، أو هدنة لبعض رؤساء الضالين، والملوك المشركين

_ 1 سورة المائدة آية: 27. 2 سورة الأنعام آية: 160. 3 سورة الجن آية: 23. 4 سورة النساء آية: 48. 5 سورة السجدة آية: 18. 6 سورة السجدة آية: 20. 7 سورة محمد آية: 26.

ولم تنظروا لأول الآية وهي قوله: {إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى} 1، ولم تفقهوا المراد من هذه الطاعة، ولا المراد من الأمر بالمعروف المذكور في قوله –تعالى- في هذه الآية الكريمة وفي قصة صلح الحديبية، وما طلبه المشركون، واشترطوه، وأجابهم إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يكفي في رد مفهومكم ودحض أباطيلكم. فصل [في أصول لا بد من بيانها] [السنة هي المبينة للأحكام القرآنية] وهنا أصول: (أحدها) أن السنة والأحاديث النبوية هي المبينة للأحكام القرآنية، وما يراد من النصوص الواردة في كتاب الله في باب معرفة حدود ما أنزل الله، كمعرفة المؤمن والكافر، والمشرك والموحد، والفاجر والبر، والظالم والتقي، وما يراد بالموالاة والتولي، ونحو ذلك من الحدود، كما أنها المبينة لما يراد من الأمر بالصلاة على الوجه المراد في عددها وأركانها وشروطها وواجباتها. وكذلك الزكاة فإنه لم يظهر المراد من الآيات الموجبة، ومعرفة النصاب والأجناس التي تجب فيها من الأنعام والثمار والنقود، ووقت الوجوب واشتراط الحول في بعضها، ومقدار ما يجب في النصاب وصفته إلا ببيان السنة وتفسيرها. وكذلك الصوم والحج جاءت السنة ببيانهما وحدودهما وشروطهما ومفسداتهما، ونحو ذلك مما توقف بيانه على السنة. وكذلك أبواب الربا وجنسه ونوعه، وما يجري فيه وما لا يجري، والفرق بينه وبين البيع الشرعي. وكل هذا البيان أخذ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم برواية الثقات العدول عن مثلهم إلى أن تنتهي السنة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. فمن أهمل هذا

_ 1 سورة محمد آية: 25.

وأضاعه فقد سد على نفسه باب العلم والإيمان ومعرفة معاني التنْزيل والقرآن. بيان شعب الإيمان (الأصل الثاني) : إن الإيمان أصل له شعب متعددة كل شعبة منها تسمى إيمانا، فأعلاها شهادة أن لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق. فمنها ما يزول الإيمان بزواله إجماعا كشعبة الشهادتين، ومنها ما لا يزول بزوالها إجماعا كترك إماطة الأذى عن الطريق. وبين هاتين الشعبتين شعب متفاوتة منها ما يلحق بشعبة الشهادة ويكون إليها أقرب، ومنها ما يلحق بشعبة إماطة الأذى ويكون إليها أقرب؛ والتسوية بين هذه الشعب في اجتماعها مخالف للنصوص، وما كان عليه سلف الأمة وأئمتها. وكذلك الكفر أيضا ذو أصل وشعب، فكما أن شعب الإيمان إيمان، فشعب الكفر كفر، والمعاصي كلها من شعب الكفر كما أن الطاعات كلها من شعب الإيمان، ولا يسوى بينهما في الأسماء والأحكام. وفرق بين من ترك الصلاة والزكاة والصيام، وأشرك بالله أو استهان بالمصحف، وبين من سرق، أو زنى، أو شرب، أو انتهب، أو صدر منه نوع من موالاة 1 كما جرى لحاطب، فمن سوى بين شعب الإيمان في الأسماء والأحكام، وسوى بين شعب الكفر في ذلك فهو مخالف للكتاب والسنة، خارج عن سبيل سلف الأمة، داخل في عموم أهل البدع والأهواء. [الإيمان مركب من قول وعمل] (الأصل الثالث) : إن الإيمان مركب من قول وعمل، والقول قسمان: قول القلب وهو اعتقاده، وقول اللسان وهو التكلم بكلمة الإسلام. والعمل قسمان: عمل القلب وهو قصده واختياره ومحبته ورضاه وتصديقه، وعمل الجوارح كالصلاة والزكاة والحج والجهاد ونحو ذلك من الأعمال

_ 1 ولعل الأصل موالاة المشركين أو الكفار.

الظاهرة. فإذا زال تصديق القلب ورضاه ومحبته لله وصدقه زال الإيمان بالكلية، وإذا زال شيء من الأعمال كالصلاة والحج والجهاد مع بقاء تصديق القلب وقبوله فهذا محل خلاف. هل يزول الإيمان بالكلية إذا ترك أحد الأركان الإسلامية كالصلاة والحج والزكاة والصيام أو لا يكفر؟ وهل يفرق بين الصلاة وغيرها أو لا يفرق؟ وأهل السنة مجمعون على أنه لا بد من عمل القلب الذي هو محبته ورضاه وانقياده. والمرجئة تقول يكفي التصديق فقط، ويكون به مؤمنا. والخلاف – في أعمال الجوارح هل يكفر أو لا يكفر - واقع بين أهل السنة، والمعروف عند السلف تكفير من ترك أحد المباني الإسلامية كالصلاة والزكاة والصيام والحج. والقول الثاني: إنه لا يكفر إلا من جحدها. والثالث: الفرق بين الصلاة وغيرها. وهذه الأقوال معروفة. وكذلك المعاصي والذنوب التي هي فعل المحظورات فرقوا فيها بين ما يصادم أصل الإسلام وينافيه وما دون ذلك، وبين ما سماه الشارع كفرا وما لم يسمه. هذا ما عليه أهل الأثر المتمسكون بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأدلة هذا مبسوطة في أماكنها. [أنواع الكفر والشرك والنفاق] (الأصل الرابع) : إن الكفر نوعان: كفر عمل، وكفر جحود وعناد، وهو أن يكفر بما علم أن الرسول جاء به من عند الله جحودا وعنادا من أسماء الرب وصفاته وأفعاله وأحكامه التي أصلها توحيده وعبادته -وحده لا شريك له-، وهذا مضاد للإيمان من كل وجه. وأما كفر العمل فمنه ما يضاد الإيمان كالسجود للصنم، والاستهانة بالمصحف، وقتل النبي وسبه. وأما الحكم بغير ما أنزل الله وترك الصلاة، فهذا كفر عمل لا كفر اعتقاد،

وكذلك قوله: " لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض " 1 2، وقوله: " من أتى كاهنا فصدقه، أو أتى امرأة في دبرها، فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم" 3 4. فهذا من الكفر العملي وليس كالسجود للصنم، والاستهانة بالمصحف، وقتل النبي وسبه، وإن كان الكل يطلق عليه الكفر. وقد سمى الله –سبحانه- من عمل ببعض كتابه، وترك العمل ببعضه مؤمنا بما عمل به، وكافرا بما ترك العمل به، قال –تعالى-: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ} 5 إلى قوله {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} 6 الآية، فأخبر –سبحانه- أنهم أقروا بميثاقه الذي أمرهم به، والتزموه؛ وهذا يدل على تصديقهم به. وأخبر أنهم عصوا أمره، وقتل فريق منهم فريقا آخر، وأخرجوهم من ديارهم، وهذا كفر بما أخذ عليهم. ثم أخبر أنهم يفدون من أسر من ذلك الفريق، وهذا إيمان منهم بما أخذ عليهم في الكتاب، وكانوا مؤمنين بما عملوا به من الميثاق كافرين بما تركوه منه. فالإيمان العملي يضاده الكفر العملي، والإيمان الاعتقادي يضاده الكفر الاعتقادي. وفي الحديث الصحيح: " سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر " 7 فرق بين سبابه وقتاله، وجعل أحدهما فسوقا لا يكفر به، والآخر كفر، ومعلوم أنه إنما أراد الكفر العملي لا الاعتقادي؛ وهذا الكفر لا يخرجه من الدائرة الإسلامية والملة بالكلية، كما لم يخرج الزاني والسارق والشارب من الملة، وإن زال عنه اسم الإيمان.

_ 1 البخاري: العلم (121) , ومسلم: الإيمان (65) , والنسائي: تحريم الدم (4131) , وابن ماجه: الفتن (3942) , وأحمد (4/358 ,4/363 ,4/366) , والدارمي: المناسك (1921) . 2 رواه أحمد والشيخان وغيرهما. 3 الترمذي: الطهارة (135) , وأبو داود: الطب (3904) , وابن ماجه: الطهارة وسننها (639) , وأحمد (2/408 ,2/429 ,2/476) , والدارمي: الطهارة (1136) . 4 في الجامع الصغير من أتى عرافا أو كاهنا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد، رواه أحمد والحاكم من حديث أبي هريرة، (وحسنه) وفيه من حديثه عند أحمد وأصحاب السنن الأربعة: من أتى كاهنا فصدقه بما يقول، أو أتى امرأة حائضا، أو أتى امرأة في دبرها فقد برئ مما أنزل على محمد. 5 سورة البقرة آية: 84. 6 سورة البقرة آية: 85. 7 البخاري: الإيمان (48) , ومسلم: الإيمان (64) , والترمذي: البر والصلة (1983) والإيمان (2634 ,2635) , والنسائي: تحريم الدم (4105 ,4106 ,4108 ,4109 ,4110 ,4111 ,4112 ,4113) , وابن ماجه: المقدمة (69) والفتن (3939) , وأحمد (1/385 ,1/411 ,1/417 ,1/433 ,1/439 ,1/446 ,1/454 ,1/460) .

وهذا التفصيل هو قول الصحابة الذين هم أعلم الأمة بكتاب الله وبالإسلام والكفر ولوازمهما، فلا تتلقى هذه المسألة إلا عنهم. والمتأخرون لم يفهموا مرادهم فانقسموا فريقين: فريقا أخرجوا من الملة بالكبائر، وقضوا على أصحابها بالخلود في النار، وفريقا جعلوهم مؤمنين كاملي الإيمان، فأولئك غلوا، وهؤلاء جفوا، وهدى الله أهل السنة للطريقة المثلى والقول الوسط الذي هو في المذاهب كالإسلام في الملل. فهاهنا كفر دون كفر، ونفاق دون نفاق، وشرك دون شرك، وظلم دون ظلم، فعن ابن عباس في قول: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} 1 قال: ليس هو الكفر الذي تذهبون إليه، رواه عنه سفيان وعبد الرزاق، وفي رواية أخرى كفر لا ينقل عن الملة، وعن عطاء كفر دون كفر، وظلم دون ظلم، وفسق دون فسق، وهذا بيِّن في القرآن لمن تأمله؛ فإن الله –سبحانه- سمى الحاكم بغير ما أنزل الله كافرا، وسمى الجاحد لما أنزل الله على رسوله كافرا، وسمى الكافر ظالما في قوله: {وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} 2.وسمى من يتعدى حدوده في النكاح والطلاق والرجعة والخلع ظالما، وقال: {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} 3، وقال يونس -عليه السلام-: {إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} 4، وقال آدم: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا} 5، وقال موسى: {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي} 6، وليس هذا الظلم مثل ذلك الظلم. وسمى الكافر فاسقا في قوله: {وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ} 7، وقوله: {وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلاَّ الْفَاسِقُونَ} 8، وسمى العاصي فاسقا في قوله –تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} 9، وقال في الذين يرمون المحصنات: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} 10، وقال: {فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ

_ 1 سورة المائدة آية: 44. 2 سورة البقرة آية: 229. 3 سورة الطلاق آية: 1. 4 سورة الأنبياء آية: 87. 5 سورة الأعراف آية: 23. 6 سورة القصص آية: 16. 7 سورة البقرة آية: 26. 8 سورة البقرة آية: 99. 9 سورة الحجرات آية: 6. 10 سورة النور آية: 4.

فِي الْحَجِّ} 1، وليس الفسوق كالفسوق 2.وكذلك الشرك شركان شرك ينقل عن الملة، وهو الشرك الأكبر، وشرك لا ينقل عن الملة وهو الأصغر كشرك الرياء، وقال –تعالى- في الشرك الأكبر: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} 3، وقال: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ} 4 الآية. وقال في شرك الرياء: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} 5، وفي الحديث: " من حلف بغير الله فقد أشرك " 6، ومعلوم أن حلفه بغير الله لا يخرجه عن الملة، ولا يوجب له حكم الكفار، ومن هذا قوله صلى الله عليه وسلم: " الشرك في هذه الأمة أخفى من دبيب النمل " 7.فانظر كيف انقسم الشرك والكفر والفسوق والظلم إلى ما هو كفر ينقل عن الملة، وإلى ما لا ينقل عنها. وكذلك النفاق نفاقان نفاق اعتقاد ونفاق عمل، ونفاق الاعتقاد مذكور في القرآن في غير موضع أوجب لهم –تعالى- به الدرك الأسفل من النار، ونفاق العمل جاء في قوله صلى الله عليه وسلم: " أربع من كن فيه كان منافقا خالصا، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر، وإذا اؤتمن خان " 8، وكقوله صلى الله عليه وسلم: " آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب،

_ 1 سورة البقرة آية: 197. 2 كذا ولعل أصله: وليس الفسوق هنا كالفسوق هناك، كما قال في الظلم قبله. 3 سورة المائدة آية: 72. 4 سورة الحج آية: 31. 5 سورة الكهف آية: 110. 6 الترمذي: النذور والأيمان (1535) , وأبو داود: الأيمان والنذور (3251) , وأحمد (2/34 ,2/69 ,2/86 ,2/125) . 7 أحمد (4/403) . 8 البخاري: الإيمان (34) , ومسلم: الإيمان (58) , والترمذي: الإيمان (2632) , والنسائي: الإيمان وشرائعه (5020) , وأبو داود: السنة (4688) , وأحمد (2/189 ,2/198) .

وإذا اؤتمن خان، وإذا وعد أخلف " 1 2. قال بعض الأفاضل: وهذا النفاق قد يجتمع مع أصل الإسلام، ولكن إذا استحكم وكمل فقد ينسلخ صاحبه عن الإسلام بالكلية، وإن صلى وصام، وزعم أنه مسلم 3؛ فإن الإيمان ينهى عن هذه الخلال، فإذا كملت للعبد لم يكن له ما ينهاه عن شيء منها، فهذا لا يكون إلا منافقا خالصا. [إتيان الإنسان شعبة من شعب الإيمان أو الكفر] (الأصل الخامس) : أنه لا يلزم من قيام شعبة من شعب الإيمان بالعبد أن يسمى مؤمنا، ولا يلزم من قيام شعبة من شعب الكفر أن يسمى كافرا، وإن كان ما قام به كفر، كما أنه لا يلزم من قيام جزء من أجزاء العلم به، أو من أجزاء الطب، أو من أجزاء الفقه أن يسمى عالما، أو طبيبا، أو فقيها، وأما الشعبة نفسها فيطلق عليها اسم الكفر كما في الحديث: " ثنتان في أمتي هما بهم كفر: الطعن في الأنساب والنياحة على الميت " 4 5، وحديث " من حلف بغير الله فقد كفر " 6 7، ولكنه لا يستحق اسم الكافر على الإطلاق. فمن عرف هذا عرف فقه السلف، وعمق علومهم وقلة تكلفهم، قال ابن مسعود: من كان متأسيا فليأتس بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنهم أبر هذه الأمة قلوبا، وأعمقها علما، وأقلها تكلفا، قوم اختارهم الله لصحبة نبيه؛ فاعرفوا لهم حقهم فإنهم كانوا على الهدي المستقيم، وقد كاد الشيطان بني آدم بمكيدتين عظيمتين لا يبالي بأيهما ظفر: إحداهما الغلو ومجاوزة الحد والإفراط، والثانية: هي الإعراض والترك والتفريط. قال ابن القيم لما ذكر

_ 1 البخاري: الشهادات (2682) , ومسلم: الإيمان (59) , والترمذي: الإيمان (2631) , والنسائي: الإيمان وشرائعه (5021) , وأحمد (2/357 ,2/397 ,2/536) . 2 الحديث الأول رواه الجماعة عن ابن عمر وقيل إلا ابن ماجه وفي روايات الخصال تقديم وتأخير. والثاني رواه منهم الشيخان والترمذي والنسائي عن أبي هريرة. 3 هذا القيد روي في بعض ألفاظ الحديث. 4 مسلم: الإيمان (67) , والترمذي: الجنائز (1001) , وأحمد (2/291 ,2/377 ,2/414 ,2/431 ,2/441 ,2/455 ,2/496 ,2/526 ,2/531) . 5 رواه أحمد ومسلم عن أبي هريرة ولفظ مسلم "اثنتان في الناس" ولا نحفظه إلا هكذا. 6 الترمذي: النذور والأيمان (1535) , وأحمد (2/34 ,2/125) . 7 رواه أحمد والترمذي والحاكم عن ابن عمر.

شيئا من مكائد الشيطان: قال بعض السلف: ما أمر الله بأمر إلا وللشيطان فيه نزغتان، إما إلى تفريط وتقصير، وإما إلى مجاوزة وغلو، ولا يبالي بأيهما ظفر، وقد اقتطع أكثر الناس إلا القليل في هذين الواديين، وادي التقصير، ووادي المجاوزة والتعدي، والقليل منهم جدا الثابت على الصراط الذي كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه. وعد -رحمه الله- كثيرا من هذا النوع إلى أن قال: وقصر بقوم حتى قالوا إيمان أفسق الناس وأظلمهم كإيمان جبريل وميكائيل فضلا عن أبي بكر وعمر، وتجاوز بآخرين حتى أخرجوا من الإسلام بالكبيرة الواحدة. هذا آخر ما وجد من هذه الرسالة العظيمة المنافع، القاضية بالبراهين والدلائل القواطع، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.

الرسالة الثانية: [التحرج عن رمي من ظاهره الإسلام بالكفر]

(يقول جامع الكتاب) الرسالة الثانية: [التحرج عن رمي من ظاهره الإسلام بالكفر] بسم الله الرحمن الرحيم من عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن إلى الابن المكرم النجيب إبراهيم بن عبد الملك، سلمه الله ورحم أباه، وزينه بزينة خاصته وأوليائه، آمين. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. أما بعد: فأحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، وهو للحمد أهل، وهو على كل شيء قدير، والخط قد وصل، وقد سألت فيه عن خمس مسائل: (أولاها) : قولك: إنه قد وقع من بعض الإخوان تكفير من أحب انتصار آل شامر على المسلمين، وفرح بذبحهم، هل له مستند في ذلك أم لا؟ (الإنكار على من كفر أناسا شمتوا بانتصار أعداء الوهابية عليهم) الجواب: إني لا أعلم مستندا لهذا القول، والتجاسر على تكفير من ظاهره الإسلام من غير مستند شرعي، ولا برهان مرضي، يخالف ما عليه أئمة العلم من أهل السنة والجماعة. وهذه الطريقة هي طريقة أهل البدع والضلال، ومن عدم الخشية والتقوى فيما يصدر عنه من الأقوال والأفعال، والفرح بمثل هذه القضية قد يكون له أسباب متعددة لا سيما وقد كثر الهرج، وخاضت الأمة في الأموال والدماء، واشتد الكرب والبلاء، وخفي الحق والهدى، وفشا الجهل والهوى، وكثر الخوض والردى، وغلب الطغيان والعمى، وقل المتمسك بالكتاب والسنة، بل قل من يعرفهما،

ويدري حدود ما أنزل الله من الأحكام الشرعية، كالإسلام والإيمان والكفر والشرك والنفاق ونحوهما. وقد جاء في الحديث: " من قال لأخيه: يا كافر، فقد باء بها أحدهما " 1 2.فإطلاق القول بالتكفير والحالة هذه دليل على جهل المكفر وعدم علمه بمدارك الأحكام، وتأول أهل العلم ما ورد من إطلاق الكفر على بعض المعاصي كما في حديث: " سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر " 3 4، وحديث: " لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض " 5 6، وحديث: " لا ترغبوا عن آبائكم، فإنه كفر بكم أن ترغبوا عن آبائكم " 7 8؛ فهذا ونحوه تأولوه على أنه كفر عملي ليس كالكفر الاعتقادي الذي ينقل عن الملة كما جزم به العلامة ابن القيم -رحمه الله- وغيره من المحققين. هذا مع أنه باشره عمل، وفرح، وأطلق عليه الشارع هذا الوصف فكيف بمجرد الفرح. وذكر عن الإمام أحمد -رحمه الله- أنه قال: أمِرُّوا هذه النصوص كما جاءت، ولا تعرضوا لتفسيرها. وقد ذكر شيخ الإسلام في الفتاوى المصرية أن السلف متفقون على عدم تكفير البغاة، فكيف بمجرد الفرح، وقد قابل هذا الصنف من الإخوان قوم كفروا أهل العارض، أو جمهورهم في هذه الفتنة، واشتهر عن بعضهم أنه تلا عند سماع وقعة آل شامر قوله –تعالى-: {وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا}

_ 1 البخاري: الأدب (6104) , ومسلم: الإيمان (60) , والترمذي: الإيمان (2637) , وأحمد (2/112) , ومالك: الجامع (1844) . 2 رواه الخطيب عن ابن عمر بلفظ:من كفر أخاه فقد باء بها أحدهما، ورواه أحمد والبخاري عنه بلفظ: إذا قال الرجل لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما، والثاني به عن أبي هريرة، ورواه مسلم والترمذي عن ابن عمر بلفظ: "أيما امرئ قال… إلخ، وأبو داود عنه بلفظ أيما مسلم كفر رجلا مسلما فإن كان كافرا وإلا كان هو الكافر. 3 البخاري: الإيمان (48) , ومسلم: الإيمان (64) , والترمذي: البر والصلة (1983) والإيمان (2634 ,2635) , والنسائي: تحريم الدم (4105 ,4106 ,4108 ,4109 ,4110 ,4111 ,4112 ,4113) , وابن ماجه: المقدمة (69) والفتن (3939) , وأحمد (1/385 ,1/411 ,1/417 ,1/433 ,1/439 ,1/446 ,1/454 ,1/460) . 4 رواه الجماعة إلا أبا داود من حديث ابن مسعود. 5 البخاري: العلم (121) , ومسلم: الإيمان (65) , والنسائي: تحريم الدم (4131) , وابن ماجه: الفتن (3942) , وأحمد (4/358 ,4/363 ,4/366) , والدارمي: المناسك (1921) . 6 رواه الجماعة كلهم عن عدة من الصحابة مرفوعا. 7 البخاري: الحدود (6830) , وأحمد (1/47 ,1/55) . 8 رواه الشيخان من حديث أبي هريرة بلفظ: لا ترغبوا عن آبائكم فمن رغب عن أبيه فقد كفر. ورويا معناه بألفاظ أخرى عن غيره.

1.وعللوا بأشياء متعددة من فرح، ومكاتبة، وموالاة، وغير ذلك؛ والفريقان ليس لهم لسان صدق، ولا هدى ولا كتاب منير. قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: لا بد للمتكلم في هذه المباحث ونحوها أن يكون معه أصول كلية يرد إليها الجزئيات ليتكلم بعلم وعدل، ثم يعرف الجزئيات كيف وقعت وإلا فيقع في كذب وجهل في الجزئيات، وجهل وظلم في الكليات. وأطال الكلام في الفرق بين المتأول والمتعمد، ومن قامت عليه الحجة وزالت عنه الشبهة، والمخطئ الذي التبس عليه الأمر، وخفي عليه الحكم. وقرر مذهب علي بن أبي طالب في عدم تكفير الخوارج المقاتلين له المكفرين له ولعثمان، ولمن والاهما -رضي الله عنهما-، ونقل قول علي رضي الله عنه لما سئل عن الخوارج أكفار هم؟ قال: من الكفر فروا. وقوله: إن لكم علينا أن لا نقاتلكم حتى تبدؤونا بالقتال، ولا نمنعكم مساجد الله، ولا نمنعكم حقا هو لكم في مال الله. ومع هذا هم مصرحون بتكفيره، مقاتلون له، مستحلون لدمه، فكيف بمجرد الفرح؟ وقد ذكر في الزواجر أن الفرح بمثل هذه المعاصي من المحرمات ولم يقل: إنه كفر. ثم اعلم أن الفتنة في هذا الزمان بالبادية والبغاة، وبالعساكر الطغاة، فتنة عمياء صماء، عم شرها، وطار شررها، ووصل لهيبها إلى العذارى في خدورهن، والعواتق وسط بيوتهن، ولم يتخلص منها إلا من سبقت له الحسنى، وكان له نصيب وافر من نور الوحي والنور الأول يوم خلق الله الخلق في ظلمة، وألقى عليهم من نوره، وما أعز من يعرف هذا الصنف، بل ما أعز من لا يعاديهم ويرميهم بالعظائم؟ وأكثر الناس كما وصفهم علي بن أبي طالب –رضي الله عنه- فيما رواه كميل بن زياد: لم يستضيئوا بنور

_ 1 سورة محمد آية: 10.

العلم، ولم يلجؤوا إلى ركن وثيق، ومجرد الانتساب إلى الإيمان والإخوان والتزيي بزي أهل العلم والإيمان، مع فقد الحقيقة لا يجدي. والناس مشتبهون في إيرادهم ... وتفاضل الأقوام في الإصدار فصل في حظر الإقامة حيث يهان الإسلام ويعظم الكفر (المسألة الثانية) : فيمن يجيء من الأحساء بعد استيلاء هذه الطائفة الكافرة على أهل الأحساء ممن يقيم فيه للتكسب، أو للتجارة، ولا اتخذه وطنا، وإن بعضهم يكره هذه الطائفة، ويبغضها يعلم منه ذلك، وبعضهم يرى ذلك، ولكن يعتقد أنه حصل به راحة للناس وعدم ظلم وتعد على الحضر إلى آخر ما ذكرت. (فالجواب) : أن الإقامة ببلد يعلو فيها الشرك والكفر، ويظهر الرفض ودين الإفرنج ونحوهم من المعطلة للربوبية والألوهية، ويرفع فيها شعارهم، ويهدم الإسلام والتوحيد، ويعطل التسبيح والتكبير والتحميد، وتقلع قواعد الملة والإيمان، ويحكم بينهم بحكم الإفرنج واليونان، ويشتم السابقون من أهل بدر وبيعة الرضوان، فالإقامة بين ظهرانيهم والحالة هذه لا تصدر عن قلب باشره حقيقة الإسلام والإيمان والدين، وعرف ما يجب من حق الله في الإسلام على المسلمين؛ بل لا يصدر عن قلب رضي بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد نبيا؛ فإن الرضى بهذه الأصول قطب رحى الدين، وعليه تدور حقائق العلم واليقين، وذلك يتضمن من محبة الله، وإيثار مرضاته، والغيرة لدينه، والانحياز إلى أوليائه ما يوجب البراءة

كل البراءة، والتباعد كل التباعد عمن تلك نحلته وذلك دينه؛ بل نفس الإيمان المطلق في الكتاب والسنة لا يجامع هذه المنكرات كما علم من تقرير شيخ الإسلام ابن تيمية في كتاب الإيمان. وفي قصة إسلام جرير بن عبد الله أنه قال: " يا رسول الله، بايعني واشترط، فقال صلى الله عليه وسلم: تعبد الله ولا تشرك به شيئا، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وأن تفارق المشركين " خرجه أبو عبد الرحمن النسائي، وفيه إلحاق مفارقة المشركين بأركان الإسلام ودعائمه العظام، وقد عرف من آية سورة براءة أن قصد أحد الأغراض الدنيوية ليس بعذر شرعي، بل فاعله فاسق لا يهديه الله كما هو نص الآية؛ والفسوق إذا أطلق ولم يقترن بغيره فأمره شديد، ووعيده أشد وعيد. وأي خير يبقى مع مشاهدة تلك المنكرات، والسكوت عليها وإظهار الطاعة والانقياد لأوامر من هذا دينه وتلك نحلته، والتقرب إليهم بالبشاشة والزيارة والهدايا، والتنوق في المآكل والمشارب؟ وإن زعم أن له غرضا من الأغراض الدنيوية، فذلك لا يزيده إلا مقتا، كما لا يخفى على من له أدنى ممارسة للعلوم الشرعية، واستئناس بالأصول الإسلامية؛ وقد جاء القرآن العظيم بالوعيد الشديد، والتهديد الأكيد، على مجرد ترك الهجرة، كما في آية سورة النساء1.وقد ذكر المفسرون هناك ما به الكفاية والشفاء، وتكلم عليه شيخنا محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله تعالى- وأفاد وأوفى، ودعوى التقية لا تفيد مع القدرة على الهجرة؛ ولذلك لم يستثن الله إلا المستضعفين من الأصناف الثلاثة. وقد ذكر علماؤنا تحريم الإقامة

_ 1 يعني قوله –تعالى-: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا} ... إلخ (4: 96) .

والقدوم إلى بلد يعجز فيها عن إظهار دينه؛ والمقيم للتجارة والتكسب والمستوطن حكمهم وما يقال فيهم حكم المستوطن لا فرق. وأما دعوى البغض والكراهة مع التلبس بتلك الفضائح فذلك لا يكفي في النجاة، ولله حكم وشرع وفرائض وراء ذلك كله. إذا تبين هذا فالأقسام مشتركون في التحريم متفاوتون في العقوبة قال –تعالى-: {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا} 1، وأخبث هؤلاء وأجهلهم من قال: إنه حصل بهم للناس راحة وعدم ظلم وتعد على الحضر، وهذا الصنف أضل القوم وأعماهم عن الهدى، وأشدهم محادة لله ورسوله ولأهل الإيمان والتقى، لأنه لم يعرف الراحة التي حصلت بالرسل، وبما جاؤوا به في الدنيا والآخرة، ولم يؤمن بها الإيمان النافع. والمسلم يعرف الراحة كل الراحة والعدل كل العدل، واللذة كل اللذة في الإيمان بالله ورسوله، والقيام بما أنزل الله من الكتاب والحكمة، وإخلاص الدين له وجهاد أعدائه وأعداء رسله، وأنه باب من أبواب الجنة يحصل به النعيم والفرح واللذة في الدور الثلاث، قال –تعالى-: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} 2 الآية. ولو علم هذا المتكلم أن الشرك أظلم الظلم، وأكبر الكبائر، وأقبح الفساد وأفحشه لكان له منه مندوحة عن مثل هذا الجهل الموبق، قال –تعالى-: {وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا} 3، وقال –تعالى-: {يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} 4.فجعل الخسار كله بحذافيره في أهل هذه الخصال الثلاث كما يفيد الضمير المقحم

_ 1 سورة الأنعام آية: 132. 2 سورة البقرة آية: 177. 3 سورة الأعراف آية: 56. 4 سورة البقرة آية: 26.

بين المبتدأ والخبر وقال تعالى-: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} 1، فهذا الفساد المشار إليه في هذه الآيات الكريمات هو الفساد الحاصل بالكفر والشرك وترك الجهاد في سبيل الله، واتخاذ أعداء الله أولياء من دون المؤمنين. وبالجملة فمن عرف غول هذا الكلام أعني قول بعضهم: إنه حصل بهم راحة للناس وعدم ظلم وتعد على الحضر، تبين له ما فيه من المحادة والمشاقة لما جاءت به الرسل، وعرف أن قائله ليس من الكفر ببعيد. والواجب على مثلك أن يجاهدهم بآيات الله ويخوفهم من الله وانتقامه، ويدعو إلى دينه وكتابه، والهجر مشروع إذا كان فيه مصلحة راجحة، ونكاية لأرباب الجرائم؛ وهذا يختلف باختلاف الأحوال والأزمان والله المستعان. [حكم تصرف الوالد في مال ولده الصغير مقيد بالمصلحة] (وأما المسألة الثالثة) : هل للوالد أن يتصرف في مال ولده الصغير بما ليس فيه مصلحة، أم هو أسوة غيره من الأولياء ليس له النظر إلا فيما فيه مصلحة؟ (والجواب) : إن الواجب على كل من كانت له ولاية أن يتقي الله فيها، ويصلح، ولا يتبع سبيل المفسدين، وفي الحديث: " كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته " 2؛ بل يحرم على المكلف إضاعة مال نفسه وإنفاقه في غير مصلحة، وهو من الإسراف إلا أن الوالد ليس كغيره في العزل ورفع اليد إذا ثبت رشده.

_ 1 سورة الأنفال آية: 73. 2 البخاري: النكاح (5200) , ومسلم: الإمارة (1829) , والترمذي: الجهاد (1705) , وأبو داود: الخراج والإمارة والفيء (2928) , وأحمد (2/5 ,2/54 ,2/111 ,2/121) .

(تملك الوالد مال ولده وشرطه) (وأما المسألة الرابعة) : هل للوالد أن يتملك جميع مال ولده الصغير أو بعض ماله الذي يضر به، أم حكم الصغير حكم الكبير يعتبر للتملك من مال الصغير ما يعتبر للتملك من مال الكبير؟ وهل يفرق بين الغني والفقير أم الحكم واحد؟ (فالجواب) : أن للأب أن يتملك من مال ولده ما شاء، صغيرا كان الولد أو كبيرا، غنيا كان الأب أو فقيرا، بشروط ستة مقررة في محلها: (منها) : أن لا يضر بالولد ضررا يلحقه في الحاجات الضروريات كتملك سريته ونحو ذلك، وأن لا يكون في مرض موت أحدهما، وأن لا يعطيه ولدا آخر، وأن لا يكون عينا موجودة. وله الرجوع في الهبة إذا كانت عينا باقية في ملك الابن لم يتعلق بها حق أجنبي ولا رغبة كمداينة الأجنبي، وأن لا تزيد زيادة متصلة، وعنه الرجوع فيما زاد زيادة متصلة كالمنفصلة، وليس من جنس النماء كما توهمه السائل بل ذاك من التصرفات في الهبة. وقد نص فقهاؤنا على أن كل تصرف لابن لا يمنعه من التصرف في العين ليس بمانع للأب من الرجوع في هبته والتصرف فيها، والنقص الحاصل بقلع الغراس وأخذ الحلية لا يمنع الرجوع. [المصالحة في الدَين] وأما المسألة الخامسة: وهي إذا كان لرجل على آخر دين، مثل الصقيب يكون له الدين الكثير، يصطلحان بينهما على أن الدين يكون نجوما إلى آخر ما ذكرت. (فالجواب) : إن هذا ليس يصلح، ولا يدخل في حد الصلح كما نص عليه الحجاوي وغيره، بل هو وعد يستحب الوفاء به على المشهور، وكونه فيه إرفاق فذلك لا يغير الحدود الشرعية، ولا يدخل في مسمى الصلح كما لا تدخله الهبة والعطية، والله أعلم.

الرسالة الثالثة: [السفر إلى بلاد الأعداء من المشركين والكفار]

الرسالة الثالثة: [السفر إلى بلاد الأعداء من المشركين والكفار] بسم الله الرحمن الرحيم من عبد اللطيف بن عبد الرحمن إلى الابن المكرم إبراهيم بن عبد الملك -سلمه الله تعالى-. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: فأحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو على نعمائه، والخط الذي تسأل فيه عما نفتي به في مسألة السفر إلى بلاد المشركين قد وصل إلينا، والذي كتبناه للإخوان به فيه كفاية للطالب وبيان، ولم نخرج فيه عما عليه أهل الفتوى عند جماهير المتأخرين. نعم فيه التغليظ على من يسافر إلى بلاد هجم عليها العدو الكافر الحربي المتصدي لهدم قواعد الإسلام، وقلع أصوله وشعائره العظام، ورفع أعلام الكفر والتعطيل، وتجديد معاهد الشرك والتمثيل، وإطفاء أنوار الإسلام الظاهرة، وطمس منار أركانه الباهرة، وهو العدو الذي اشتدت به الفتنة على الإسلام والمسلمين، وعز بدولته جانب الرافضة والمرتدين، ومن على سبيلهم من المنحرفين والمنافقين، فمثل هذه البلدة تخص من عمومات الرخصة لوجوه: (منها) : أن إظهار الدين على الوجه الذي تبرأ به الذمة متعذر غير حاصل كما هو مشاهد معلوم عند من خبر القوم مع من يجالسهم ويقدم إليهم. وقل أن يتمكن ذو حاجة لديهم إلا بإظهار عظيم من الركون والموالاة والمداهنة، وهذا مشهور متواتر، لا ينكره إلا جاهل أو مكابر لا غيرة له على دين الله وشرعه، ولا توقير لعظمته ومجده، قد اتخذ ظواهر عبارات لم

يعرف حقيقتها، ولم يدر مراد الفقهاء منها، ترسا يدفع به في صدور الآيات والسنن، ويصدف به عن أهدى منهج وسنن؛ فهو كحجر في الطريق بين السائرين إلى الله والدار الآخرة يحول بينهم وبين مرادهم، ويثبطهم عن سيرهم وعزماتهم. وقد كثر هذا الضرب من الناس في المتصدين للفتوى في مثل هذه المسائل، وبهم حصل الإشكال، وضلت الأفهام، واستحبت مساكنة عباد الأوثان والأصنام. وافتتن بهم جملة الرجال، وقصدتهم الركائب والأحمال، وسار إليهم ربات الخدور والحجال، عملا بقول رؤوس الفتنة والضلال، ولا يصل إلى الله ويحظى بقربه، ويرد نهر التحقيق وعذبه، من أصغى إليهم سمعه، واتخذهم أخدانا يرجع إليهم في أمر دينه ومهمات أمره. وقد قال بعض السلف: إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم. ومن خاض في مثل هذه المباحث الدينية من غير ملكة ولا روية، فما يفسد أكثر مما يصلح، وضلاله أقرب إليه من أن يفلح، وقد قيل: يفسد الأديان نصف متفقه، ويفسد اللسان نصف نحوي، ويفسد الأبدان نصف متطبب. فعليك بمعرفة الأصول الدينية، والمدارك الحكمية، ولترتفع همتك إلى استنباط الأحكام من الآيات القرآنية، والسنن الصحيحة النبوية، ولا تقنع بالوقوف مع العادات، وما جرى به سنن الأكثرين في الديانات، فقد قال بعضهم: من أخذ العلم من أصله استقر، ومن أخذه من تياره اضطرب، وما أحسن ما قال في الكافية الشافية: ولقد نجا أهل الحديث المحض ... أتباع الرسول وتابع القرآن عرفوا الذي قد قال مع علم بما ... قال الرسول فهم أولو العرفان وسواهمو في الجهل والدعوى مع ... الكبر العظيم وكثرة الهذيان

مدوا يدا نحو العلى بتكلف ... وتخلف وتكبر وهوان أترى ينالوها وهذا شأنهم ... حاشى العلى من ذا الزبون الفاني فقال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله- في المواضع التي نقلها من السيرة: إنه لا يستقيم للإنسان إسلام، ولو وحد الله، وترك الشرك إلا بعداوة المشركين والتصريح لهم بالعداوة والبغض. فانظر إلى تصريح الشيخ بأن الإسلام لا يستقيم إلا بالعداوة والبغضاء. فأين التصريح من هؤلاء المسافرين، والأدلة من الكتاب والسنة ظاهرة متواترة على ما ذكره الشيخ، وهو موافق لكلام المتأخرين في إباحة السفر لمن أظهر دينه؛ ولكن الشان كل الشان في إظهار الدين، وهل اشتدت العداوة بينه صلى الله عليه وسلم وبين قريش إلا لما كافحهم بمسبة دينهم وتسفيه أحلامهم وعيب آلهتهم؟. وأي رجل تراه يعمل المطي جادا في السفر إليهم واللحاق بهم حصل منه، ونقل عنه ما هو دون هذا الواجب، والمعروف المشتهر عنهم ترك ذلك كله بالكلية، والإعراض عنه واستعمال التقية والمداهنة؛ وشواهد هذا كثيرة شهيرة، والحسيات والبديهيات غنية عن البرهان. [حكم قتال من هجم على بلاد المسلمين] (الوجه الثاني) : إن قتال من هجم على بلاد المسلمين من أمثال هؤلاء فرض عين لا فرض كفاية كما هو مقرر مشهور، فلا يحل، ولا يسوغ والحالة هذه تركه، والعدول عنه لغرض دنيوي. وقواعد الإسلام ومدارك الأحكام ترد القول بإباحة ترك الفروض العينية لأغراض دنيوية. ومن عرف هذا عرف الفرق بين مسألتنا وبين عبارة من قال بجواز السفر لمن قدر على إظهار دينه لو فرضناه حاصلا، فكيف والأمر كما قدمت؟ [من يرخص له السفر إلى بلاد الكفار وأصحاب البدع] (الوجه الثالث) : إن نص عبارات علمائنا، وظاهر كلامهم، وصريح

إشاراتهم أن من لم يعرف دينه بأدلته وبراهينه لا يباح له السفر إليهم؛ فالرخصة مخصوصة بمن عرفه بأدلته المتواترة في الكتاب والسنة، ومثل هذا هو الذي يتأتى منه إظهار دينه والإعلان به، وكيف يظهره من لا يدريه ولا إلمام له بأدلته القاطعة للخصم ومبانيه؟ شعرا: فقر الجهول بلا علم إلى أدب ... فقر الحمار بلا رأس إلى رسن حتى ذكر جمع تحريم القدوم إلى بلد تظهر فيه عقائد المبتدعة كالخوارج والمعتزلة والرافضة إلا لمن عرف دينه في هذه المسائل، وعرف أدلته، وأظهره عند الخصم. وقد عرف -أرشدك الله- أن الزمن زمن فترة من أهل العلم، غلبت فيه العادات الجاهلية، والأهواء العصبية، وقل من يعرف الإسلام العتيق، وما حرمه الله –تعالى- من موالاة أعدائه المشركين ومعرفة أقسامها، وأن منها ما يكفر به المسلم، ومنها ما هو دونه. وكذلك المداهنة والركون، وما حرم الله –تعالى- ورسوله، وما الذي يوجب فسق فاعله أو ردته، وأين القلوب التي ملئت من الغيرة لله وتعظيمه وتوقيره عن كفر هؤلاء الملاحدة وتعطيلهم، وصار على نصيب وحظ وافر من مصادمة أعداء الله ومحاربتهم ونصر دين الله ورسله، ومقاطعة من صد عنه، وأعرض عن نصرته وإن كان الحبيب المواتيا ... فالحكم لله العلي الكبير وأين من يبادئهم بأن ما هم عليه كفر وضلال بعيد، ومسبة لله العزيز الحميد، يمانع أصل الإيمان والتوحيد، وأن ما هم عليه هو الكفر الجلي البواح، وهو في ذلك على نور من ربه، وبصيرة في دينه، فسل أهل الريب والشبهات هل يغتقر الجهل بذلك والإعراض عنه علما وعملا، ويكتفي بمجرد الانتساب إلى الإسلام عند قوم ينتسبون إليه أيضا، وهم من أشد خلق الله كفرا به وجحدا له؟

وردا لأحكامه واستهزاء بحقائقه. فإن قالوا: يكتفي بذلك الانتساب، وتبرأ به الذمة، فقد عادوا على ما نقلوه وأصلوه من دليلهم بالرد والهدم، ومن حقق النظر وعرف أحوال القوم وسيرهم، علم أن معولهم على اتباع أهوائهم والميل مع شهواتهم، نسأل الله لنا ولهم العافية. هواي مع الركب اليمانين مصعد ... يسير 1 وجثماني بمكة موثق ومن هان عليه أمره –تعالى- فعصاه، ونهيه فارتكبه، وحقه فضيعه، وذكره فأهمله، وأغفل قلبه عنه، وكان هؤلاء آثر عنده من طلب رضاه، وطاعة المخلوق أهم عنده من طاعة ربه، فلله الفضلة من قلبه وقوله وعمله، وسواه المقدم في ذلك، فما قدره حق قدره، وما عظمه حق عظمته، وهل قدره حق قدره من سالم أعداءه الجاحدين له المكذبين لرسله، وأعرض عن جهادهم وعيبهم والطعن عليهم، ولاقاهم بوجه منبسط، ولسان عذب، وصدر منشرح، ولم يراع ما وجب عليه من إجلال الله وتعظيمه وطاعته جراءة على ربه وتوثبا على محض حق وامتهانا بأمره؟ خلافا لأصحاب الرسول وبدعة ... وهم عن سبيل الحق أعمى وأجهل [السفر إلى بلاد المشركين عند أمن الفتنة] (الوجه الرابع) : أنه لا بد في إباحة السفر إلى بلاد المشركين من أمن الفتنة، فإن خاف بإظهار دينه الفتنة بقهرهم وسلطانهم، أو شبهات زخرفهم وأقوالهم، لم يبح له القدوم إليهم والمخاطرة بدينه. وقد فر عن الفتنة من السابقين الأولين إلى بلاد الحبشة من تعلم من المهاجرين كجعفر بن أبي طالب وأصحابه. وقد بلغكم ما حصل من الفتنة على كثير ممن خالطهم وقدم إليهم، حتى جعلوا مسبة من نهاهم عن ذلك وأمرهم بمجانبة المشركين دينا يدينون به،

_ 1 الرواية المشهورة في كتب البيان: جنيت.

ويفتخرون بذكره في مجالسهم ومجامعهم، وقد نقل ذلك عن غير واحد: {وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً} 1، وبعض من رحل إليهم من جهتكم حمل رسائلهم ومكاتبتهم إلى أهل الإسلام يدعونهم إلى الدخول تحت طاعتهم ومسالمتهم، وأن تضع الحرب أوزارها بينهم وبين من كاتبوه، واستحسن ذلك كثير من الملأ، والله المستعان. وقد شاع لديكم خبر من افتتن بمدحهم والثناء عليهم ونسبتهم إلى العدل وحسن الرعاية إلى ما هو أعظم من ذلك وأطمّ، من مشاقة الله ورسوله، واتباع غير سبيل المؤمنين، ومن لم يشاهد هذا منكم ولم يسمعه من قائله قد بلغه وتحققه؛ فأجهل الخلق وأضلهم عن سواء السبيل من ينازع في تحريم السفر إليهم والحالة هذه ويرى حله وجوازه. [سد الذرائع وقطع الوسائل من أكبر أصول الدين وقواعده] (الوجه الخامس) : أن سد الذرائع وقطع الوسائل من أكبر أصول الدين وقواعده، وقد رتب العلماء على هذه القاعدة من الأحكام الدينية تحليلا وتحريما ما لا يحصى كثرة، ولا يخفى على أهل العلم والخبرة. وقد ترجم شيخ الدعوة النجدية -قدس الله روحه- لهذه القاعدة في كتاب التوحيد فقال: (باب ما جاء في حماية المصطفى صلى الله عليه وسلم جناب التوحيد وسده كل طريق يوصل إلى الشرك) ، وساق بعض هذه القاعدة. وقد قرأت علينا في الرسالة المدنية لشيخ الإسلام ابن تيمية أن اعتبار هذا من محاسن مذهب مالك، قال: ومذهب أحمد قريب منه في ذلك، ولو أفتينا بتحريم السفر رعاية لهذا الأصل فقط وسدا لذرائعه المفضية لكنا قد أخذنا بأصل أصيل ومذهب جليل. [السفر إلى بلاد المحاربين للإسلام] (الوجه السادس) : أنا لا نسلم دخول هذه البلدة التي الكلام بصددها في عبارات أهل العلم ورخصتهم لأن صورة الأمر وحقيقته سفر إلى

_ 1 سورة الفرقان آية: 31.

معسكر العدو الحربي الهاجم على أهل الإسلام المستولي على بعض ديارهم، المجتهد في هدم قواعد دينهم وطمس أصوله وفروعه، وفي نصرة الشرك والتعطيل وإعزاز جيوشه وجموعه، فالمسافر إليهم كالمسافر إلى معسكر هو بصدد ذلك، كمعسكر التتر، ومعسكر قريش يوم الخندق ويوم أحد، أفيقال هنا بجواز السفر لأن السفر إلى بلاد المشركين يجوز لمن أظهر دينه؟ وهل لهذا القول حظ من النظر والدليل، وهو سفسطة وضلال عن سواء السبيل؟ والعلم ليس بنافع أربابه ... ما لم يفد نظرا وحسن تبصر وفي سنن أبي داود ومسند الإمام أحمد – الذي قال فيه قد جمعته للناس إماماً – من حديث أبي بكرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " ينْزل ناس من أمتي بغائط يسمونه البصرة، عند نهر يقال له دجلة، يكون عليه جسر. يكثر أهلها، ويكون من أمصار المهاجرين وفي رواية والمسلمين. فإذا كان آخر الزمان جاء بنو قنطوراء عراض الوجوه صغار الأعين حتى ينزلوا على شط النهر، فيفترق أهلها ثلاث فرق فرقة يأخذون أذناب البقر والبرية وهلكوا، وفرقة يأخذون لأنفسهم وكفروا، وفرقة يجعلون ذراريهم خلف ظهورهم ويقاتلونهم وأولئك هم الشهداء " 1.والحديث – وإن كان في سنده سعيد بن جهمان، فقد وثقه أبو داود الذي ألين له الحديث كما ألين لداود الحديد، فقسمهم ثلاث فرق، وأخبر أن من أخذ لنفسه وألقى السلم، وترك الجهاد فقد كفر، ومن أعرض عن جهادهم وتباعد عنهم مقبلا على إصلاح دنياه وحرثه فقد هلك، ولم ينج إلا من قام بجهادهم، وانتصب لحربهم، ونصر الله ورسوله، وأخبر أن أولئك هم الشهداء، وأنهم مخصوصون بالشهادة دون سائر الشهداء، كما يستفاد من الجملة الاسمية المعرفة الطرفين

_ 1 سنن أبي داود: كتاب الملاحم (4306) .

ومن ضمير الفصل المقحم بين المبتدأ والخبر. والحصر وإن كان ادعائيا فهو يدل على شرف الصنف وفضيلته، والحديث وإن كان تأوله بعضهم في حادثة التتر في القرن السابع فقائله لا يمنع من دخول سواها في الخبر، وأن لها ذيولا وبقية، ولا ريب أن الذي حصل هذا الزمان إن لم يكن منها فهو يشبه بها من كل وجه. فإن لا يكنها أو تكنه فإنه ... أخوها غذته أمه بلبانها وقد قال شيخ الإسلام في اختياراته: من جمز إلى معسكر التتر، ولحق بهم ارتد، وحل ماله ودمه1. فتأمل هذا فإنه إن شاء الله يزيل عنك إشكالات كثيرة طالما حالت بين قوم وبين مراد الله ورسوله، ومراد أهل العلم من نصوصهم، وصريح كلامهم. ثم اعلم أن النصوص الواردة في وجوب الهجرة، والمنع من الإقامة ببلد الشرك والقدوم إليها، وترك القعود مع أهلها ووجوب التباعد عن مساكنتهم ومجامعتهم، نصوص عامة مطلقة وأدلة قاطعة محققة، ومن قال بالتخصيص، أو التقييد لها إنما يستدل بقضايا عينية خاصة، وأدلة جزئية لا عموم لها عند جماهير الأصوليين والنظار، بل هي في نفسها محتملة للتقييد والتخصيص. ومن قال بالرخصة لا ينازع في عموم الأدلة الموجبة للهجرة المانعة من المجامعة والمساكنة، غاية ما عند الخصم أن يقيس حكما على حكم، وفرعا على فرع، وقضية على قضية، والمنازع له يتوقف في صحة هذا القياس، لأنه معارض لدليل العموم والإطلاق. وقد رأيت محمد بن علي الشوكاني

_ 1 وكذا كل من لحق بالكفار المحاربين للمسلمين وأعانهم عليهم وهو صريح قوله تعالى (ومن يتولهم منكم فإنه منهم) .

جزم فيما كتبه على المنتقى برد قول الماوردي بجواز الإقامة بدار الشرك، وفضيلة ذلك لمن أظهر دينه ورجا إسلام غيره. قال: وهذا القول معارض لعموم النص فلا يسلم ولا يلتفت إليه، مع أن الذي كتبناه في هذه المسألة موافق للمشهور عند المتأخرين لم نخرج عنه كما تقدم ذكره، والقصد أن المسألة من أصلها فيها بحث قوي ومجال للنظر فإن بقي عليك فراجعني، وإياك والسكوت على ريبة. وقد رأيت بخط الوالد -قدس الله روحه- ما نصه: شمر إلى طلب العلوم ذيولا ... وانهض لذلك بكرة وأصيلا وصل السؤال وكن هديت مباحثا ... فالعيب عندي أن تكون جهولا (مسألة الكفار ما يستعينون به على المسلمين) وأما مسألة المبايعة فلم يسألني عنها أحد، ولم يتقدم لي فيها كلام. وقد بسط شيخ الإسلام الكلام على مبايعة أهل الذمة، ومنع من يبيع ما يستعينون به على كفرهم وأعيادهم. وأما الكافر الحربي فلا يمكن مما يعينه على حرب أهل الإسلام ولو بالميرة والمال ونحوه والدواب والرواحل؛ حتى قال بعضهم بتحريق ما لا يتمكن المسلمون من نقله في دار الحرب من أثاثهم وأمتعتهم، ومنعهم من الانتفاع به فكيف بيعهم وإعانتهم على أهل الإسلام؟ فإن انضاف إلى ذلك ما هو الواقع من المسافرين في هذا الزمان مما تقدم ذكره فالأمر أغلظ وأفحش، وذلك فرد من وراء الجمع. وأكثر الناس يخفى عليه أن المرتد من أهل تلك الديار التي استولى عليها الكافر الحربي أغلظ كفرا، وأعظم جرما بجميع ما تقدم من الأحكام، ولذلك تجد لهم عند القادمين إليهم من المباسطة والمؤانسة والإكرام ما هو

الرسالة الرابعة [حكم من يسافر إلى بلاد المشركين]

أعظم مما مرت حكايته من صنيعهم مع هذا الكافر الحربي، فافهم ذلك. والله المسؤول المرجو الإجابة أن ينصر دينه وكتابه ورسوله وعباده المؤمنين، وأن يظهر دينه على الدين كله ولو كره المشركون، وصلى الله على عبده ورسوله النبي الأمي، وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين. الرسالة الرابعة [حكم من يسافر إلى بلاد المشركين] (قال جامع الرسائل) : وله أيضا -قدس الله روحه ونور ضريحه- رسالة إلى محمد بن علي آل موسى في مسألة السفر إلى بلاد المشركين، وقد ذكر له – أعني محمد بن علي – من جهة فتوى الشيخ الإمام، وعلم الهداة الأعلام الشيخ عبد الرحمن بن حسن فيمن يسافر إلى بلد المشركين، فشرح ووضح فتوى والده، وكشف القناع عن محاسن معانيها وقطع – بالوجوه الساطعة أساريرها الراسخة مبانيها – ما يتعلق به كل مبطل، وأزاح بما أبداه غبار كل مشكل، وهذا نصها: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد اللطيف بن عبد الرحمن إلى الأخ المكرم محمد بن علي آل موسى -سلمه الله تعالى-، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وسبق إليك خط مع البداة، أشرت فيه إلى المسألة التي ذكرت لي من جهة فتوى الوالد الشيخ -قدس الله روحه ونور ضريحه- فيمن يسافر إلى بلاد المشركين. وفي هذه الأيام ورد علينا خط من ولد العجيري ذكر فيه أن لفظ الوالد في جوابه قوله: وأما السفر إلى بلاد المشركين للتجارة فقد عمت به البلوى، وهو نقص في دين من فعله لكونه عرض نفسه للفتنة بمخالطة المشركين فينبغي هجره وكراهته، هذا هو الذي يفعله المسلمون معه من غير تعنيف ولا سب

ولا ضرب، ويكفي في حقه إظهار الإنكار عليه، وإنكار فعله، ولو لم يكن حاضرا؛ والمعصية إذا وجدت أنكرت على من فعلها، أو رضيها إذا اطلع عليها. انتهى ما نقله. وهذه العبارة بحمد الله ليس فيها ما يتعلق به كل مبطل لوجوه: (منها) : أن الذي وقع في هذه الأعصار – وكلامنا بصدده – أمر يجل عن الوصف، وقد اشتمل مع السفر على منكرات عظيمة منها موالاة المشركين وقد عرفتم ما فيها من النصوص القرآنية والأحاديث النبوية، وعرفتم أن مسمى المولاة يقع على شعب متفاوتة، منها ما يوجب الردة كذهاب الإسلام بالكلية، ومنها ما هو دون ذلك من الكبائر والمحرمات. وعرفتم قوله –تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} 1، وأنها نزلت فيمن كاتب المشركين بسر رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد جعل ذلك من الموالاة المحرمة، وإن اطمأن قلبه بالإيمان، وكذلك من رأى أن في ولايتهم مصلحة للناس أو للحضر، وهذا واقع مشاهد تعرفونه من حال أكثر هؤلاء الذين يسافرون إلى تلك البلاد، وربما نقل بعضهم من المكاتبات إلى أهل الإسلام ما يستفزونهم به، ويدعونهم إلى طاعتهم وصحبتهم والانحياز إلى ولايتهم. فالذي يظهر هذه الفتوى، ويستدل بها على مثل هذه الحال من أجهل الناس بمدارك الشرع ومقاصد أهل العلم، وهو كمن يستدل بتقبيل الصائم على أن الوطء لا يبطل صيامه، وهذا من جنس ما حصل من هؤلاء الجهلة في رسالة ابن عجلان، وما فيها من الاستدلال على جواز خيانة الله ورسوله، وتخلية بلاد المسلمين، وتسليط أهل الشرك عليها وأهل التعطيل، والكفر بآيات الله، وغير ذلك من ظهور سلطانهم وإبطال الشرع بالكلية بمسألة خلافية في جواز الاستعانة بمشرك ليس له دولة ولا صولة ولا دخل

_ 1 سورة الممتحنة آية: 1.

في الرأي مع أنها من المسائل المردودة على قائلها كما بسط في غير موضع. وبالجملة فإظهار مثل هذه الفتوى في هذه الأعصار من الوسائل المفضية إلى أكبر محذور، وأعظم المفاسد والشرور، مع أن عبارة الشيخ إذا تأملها المنصف وجد فيها ما يرد على هؤلاء المبطلة، وقول الشيخ قد عمت به البلوى يبين أن الجواب في الجاري في وقته مع ظهور الإسلام وغربته، وإظهار دين من سافر إلى جهاتهم، وليس في ذلك ما في السفر إليهم في هذه الأوقات، إذ هو مسالمة وإعراض عما وجب من فروض التعيين. وإذا هجم العدو وصار الجهاد فرض عين يحرم تركه ولو للسفر المباح، فكيف هذا السفر؟ وأيضا فكلام الشيخ يحمل على ما ذكره الفقهاء في أن عامة الناس ليس لهم أن يفتاتوا على ولي الأمر في الحدود والتعزيرات إلا بإذن. وقد عرفتم حال أكثر الولاة في عدم الاهتمام بهذا الأصل، فالافتيات عليهم بالحبس والضرب ونحو ذلك مفسدة تمنعها الشريعة ولا تقرها، ودرء المفاسد مقدم على جلب المصالح، فهذا يوجب للشيخ وأمثاله مراعاة المصلحة الشرعية في الفتوى الجزئية لا سيما في مخاطبة العامة. وقول الشيخ: لكونه عرض نفسه للفتنة بمخالطة المشركين صريح في أن الكلام فيمن لم يفتتن، ولم يستخف بدينه، وقد عرفتم حال أكثر الناس في هذا الوقت، وأقل الفتنة أن يستخفي بدينه، وجمهورهم يظهر الموافقة بلسان الحال ولسان المقال، فهذا الضرب ليس داخلا في كلام الشيخ -رحمه الله-. وقوله: ينبغي هجره وكراهته بيان ما يستطيعه كل أحد، وأما ولاة الأمور ومن له سلطان أو قدرة فعليه تغيير المنكر باليد، ومن لم

يستطع فباللسان، ومن لم يستطع فبالقلب؛ وهذا نص الحديث النبوي فلا يجوز العدول عنه وإساءة الظن بأهل العلم، بل يحمل كلامهم على ما وافقه. والمصرّ المكابر لا ينتهي إلا إذا غير فعله بالأدب، أو الحبس، وهو داخل في عموم الحديث. وقد شاهدنا من الوالد -رحمه الله- تعنيف هذا الجنس وذمهم، وذكر حكم الله ورسوله في تحريم مخالطة المشركين مع عدم التمكن من إظهار الدين. وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية أن التعزيرات تفعل بحسب المصلحة، وليس لها حد محدود، بل بحسب ما يزيل المفسدة ويوجب المصلحة، وذكر قتل شارب الخمر في الرابعة وأنه من هذا الباب، وأشار إلى ذلك في اختياراته. وكذلك غيره من المحققين ذكروا أن التعزير على الكبائر والمحرمات غير مقدر، بل بحسب المصلحة؛ وهذه قواعد كلية تدخل فيها تلك القضية الجزئية. وقول الشيخ: والمعصية إذا وجدت أنكرت على من فعلها ورضيها، ليس فيه أن الإنكار بمجرد القول، بل هو بحسب المراتب الثلاث المذكورة في الحديث، وإلا لخالف نص الحديث، بل يتعين حمل كلام الشيخ عليه لموافقة الحديث النبوي لا على ما خالفه، وأسقط من الإنكار ركنه الأعظم. ومن شم رائحة العلم لم يعرض هذه الفتوى لأهل هذه القبائح الشنيعة، ويجعلها وسيلة إلى مخالفة واجبات الشريعة؛ ومثل هذا الذي أظهر الفتوى يجعله بعض المنتسبين منفاخا ينفخ به ما يستتر من إظهاره وإشاعته. والواجب على مثلك النظر في أصول الشريعة ومعرفة مقادير المصالح والمفاسد، وتأمل قوله – تعالى-: {وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً} 1 الآية، وانظر ما ذكره المفسرون حتى أدخل بعضهم لياقة الدواة وبري القلم في الركون. وذلك لأن ذنب الشرك أعظم ذنب عصي الله به على اختلاف رتبه،

_ 1 سورة الإسراء آية: 74.

فكيف إذا انضاف إليه ما هو أفحش من الاستهزاء بآيات الله، وعزل أحكامه وأوامره، وتسمية ما ضاده وخالفه بالعدالة؟ والله يعلم ورسوله والمؤمنون أنها الكفر والجهل والضلالة. ومن له أدنى أنفة وفي قلبه نصيب من الحياة يغار لله ورسله وكتابه ودينه، ويشتد إنكاره وبراءته في كل محفل وكل مجلس؛ وهذا من الجهاد الذي لا يحصل جهاد العدو إلا به. فاغتنم إظهار دين الله، والمذاكرة به، وذم ما خالف والبراءة منه ومن أهله، وتأمل الوسائل المفضية إلى هذه المفسدة الكبرى، وتأمل نصوص الشارع في قطع الوسائل والذرائع. وأكثر الناس ولو تبرأ من هذا ومن أهله فهو جند لمن تولاهم، وأنس بهم، وأقام بحماهم والله المستعان. وهذا الخط اقرأه على من تحب من إخوانك وبلغ سلامي والدك، وخواص الإخوان.

الرسالة الخامسة: [الهجرة والإقامة بين أظهر المشركين]

الرسالة الخامسة: [الهجرة والإقامة بين أظهر المشركين] وله أيضا -قدس الله روحه ونور ضريحه- رسالة في وجوب الهجرة وتحريم الإقامة بين أظهر المشركين، وسبب ذلك أن حسن بن عبد الله آل الشيخ لما كتب إلى عبد الرحمن الوهيبي يناصحه عن الإقامة بين أظهر المشركين، ويبين له وجوب الهجرة بالدلائل والبراهين كتب إليه، واحتج بما ستقف عليه في ضمن جواب الشيخ -رحمه الله-. وهذا نص رسالة الشيخ: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد اللطيف بن عبد الرحمن إلى ابن الأخ حسن بن عبد الله: سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: يذكر لي ما كتب إليك عبد الرحمن الوهيبي من الشبهة لما ذكرت له قوله –تعالى-: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} 1 ونصحته عن الإقامة بين أظهر العساكر الشركية، وأنه احتج عليك بأن الآية فيمن قاتل المسلمين، وقال: تجعلون إخوانكم مثل من قاتل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه؟ وهذا جهل منه بمعنى الآية وصريحها، ومخالفة لإجماع المسلمين وما يحتجون به على تحريم الإقامة بين أظهر المشركين، مع العجز عن القدرة على الإنكار والتغيير. قال ابن كثير: هذه الآية عامة في كل من أقام بين ظهراني المشركين، وهو قادر على الهجرة، وليس متمكنا من إقامة الدين؛ فهو ظالم لنفسه مرتكب حراما بالإجماع وبنص هذه الآية حيث يقول –تعالى-: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} 2 أي: بترك الهجرة {قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ} 3 أي: لم كنتم ها هنا وتركتم الهجرة {قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ} 4 أي: لا نقدر على الخروج ولا الذهاب

_ 1 سورة النساء آية: 97. 2 سورة النساء آية: 97. 3 سورة النساء آية: 97. 4 سورة النساء آية: 97.

في الأرض {قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً} 1.وساق -رحمه الله- ما رواه أبو داود عن سمرة بن جندب: أما بعد، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من جامع مشرك2 وسكن معه فإنه مثله ". قلت: فانظر حكاية الإجماع على تحريم ذلك، وانظر تقريره معنى الآية، وتعليق ما فيها من الأحكام والوعيد على مجرد الإقامة بين أظهر المشركين، وأن هذه الآية نص في ذلك. وانظر خطاب الملائكة لهذا الصنف، وأنه على المكث والإقامة بدار الكفر. وانظر ما أجابتهم الملائكة عن قولهم: لا نقدر على الخروج، وكل ذلك ليس فيه ذكر للقتال. فتأمل هذا يطلعك على بطلان هذه الشبهة وجهل مبديها. وتأمل حديث سمرة وما فيه من تعليق هذا الحكم بنفس المجامعة والسكنى، واعرف معنى كونه مثله. وكذلك ما رواه ابن جرير عن عكرمة قال: كان أناس من أهل مكة قد أسلموا أفمن مات منهم بها هلك؟ قال -تعالى-: {فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ} 3 الآية. وروى ابن جرير من تفسير ابن أبي حاتم: فزاد فيه: فكتب المسلمون إليهم بذلك، وخرجوا، ويئسوا من كل خير، ثم نزلت: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا} 4. فكتبوا إليهم بذلك أن قد جعل الله مخرجا لكم، فخرجوا فأدركهم المشركون فقتلوهم حتى نجا من نجا، وقتل من قتل. وروي عن ابن عباس في الآية: هم قوم تخلفوا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وتركوا أن يخرجوا معه، فمن مات منهم

_ 1 سورة النساء آية: 97. 2 جامعه: خالطه وعاشره، فالمجامعة: المشاركة في الاجتماع من سكنى ومعاشرة، هذه حقيقته واستعماله في المخالطة الزوجية كناية. 3 سورة النساء آية: 97. 4 سورة النحل آية: 110.

قبل أن يلحق بالنبي صلى الله عليه وسلم ضربت الملائكة وجهه ودبره. وأظن هذا الجاهل رأى ما روي عن عكرمة عن ابن عباس أن قوما من أهل مكة أسلموا فاستخفوا بإسلامهم، وأخرجهم المشركون يوم بدر معهم، وأصيب بعضهم وقتل بعض، فقال المسلمون: كان أصحابنا هؤلاء مسلمين، وأكرهوا فاستغفروا لهم فنَزلت {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ} 1 الآية، فهذا القول ونحوه مما فيه ذكر من أخرج مع المشركين يوم بدر، لا يدل على أن الآية خاصة بهم بل يدل على أنها متناولة للعموم اللفظي، والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. وكذلك من قال من السلف: إن هذه الآية نزلت في أناس من المنافقين تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وخرجوا مع المشركين، فمرادهم أن هذه الآية تتناولهم بعمومها، ولم يريدوا أن هذا النفاق والقتال مع المشركين هو الذي نيط به الحكم ورتب عليه الوعيد، فإنهم أجل وأعلم من أن يفهموا ذلك. والسلف يعبرون بالنوع، ويريدون الجنس العام، ومن لم يمارس العلوم ولم يتخرج على حملة العلم وأهل الفقه عن الله، وتخبط في العلوم برأيه فلا عجب من خفاء هذه المباحث عليه وعدم الاهتداء لتلك المسالك التي لا يعرفها إلا من مارس الصناعة، وعرف ما في تلك البضاعة، وهذا الرجل من أجهل الناس بالضروريات فكيف بغيرها من حقائق العلم ودقائقه؟ وليتهم (أعني) هو وأمثاله اقتصروا على مجرد الإقامة، ولم يصدر عنهم ما اشتهر وذاع من الموالاة الصريحة وإيثار الحياة الدنيا على محبة الله ورسوله، وما أمر به وأوجبه من توحيده، والبراءة ممن أعرض عنه، وعدل به غيره وسوى به سواه.

_ 1 سورة النساء آية: 97.

وتأمل كلام شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله تعالى- على هذه الآية فإنه أفاد وأجاد: وتأمل ما ذكره الفقهاء في حكم الهجرة واستدلالهم بهذه الآية على تحريم الإقامة بين ظهراني المشركين لمن عجز عن إظهار دينه، فكيف بمن أظهر لهم الموافقة على بعض أمرهم وعلى أنهم مسلمون من أهل القبلة المحمدية؟ وصاحب هذا القول الذي شبه عليكم ينزل درجة درجة: أول ذلك شراؤه المراتب الشرعية والأوقاف التي على أهل العلم، حتى صرفت له من غير استحقاق ولا أهلية، ثم لما جاءت هذه الفتنة صار يتزين عند المسلمين بحمد الله على عدم حضوره بتلك البلد، ثم جمز ولحق بأهلها، ونقض غزله، وأكذب نفسه، ثم ظهر لهم في مظهر الصديق الودود، وبالغ في الكرامة والوليمة والتحف والهدايا والمجالسة والتردد شغفا بالجاه والرياسة ولو في زمرة من حاد الله ورسوله. (وأما) : ما نقل عنه من التحريض على أهل الإسلام، فهو إن صح أقبح من هذا كله وأشنع، وحسابه على الله الذي تنكشف عنده السرائر، وتظهر مخبئات الصدور والضمائر، وروى السدي قال: "لما أسر العباس وعقيل ونوفل قال النبي صلى الله عليه وسلم للعباس: افد نفسك وابن أخيك، قال: يا رسول الله، ألم نصل قبلتك ونشهد شهادتك؟ قال: يا عباس إنكم خاصمتم فخصمتم، ثم تلا عليه هذه الآية: {ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها} ". فتأمل هذه القصة وما فيها من التصريح بأن الخصومة في الهجرة، وأن من ادعى الإسلام والتوحيد وهو مقيم بين ظهراني أهل الشرك بالله، والكفر بآيات الله فهو مخصوم محجوج؛ وهذا يعرفه طلبة العلم والممارسون، وتأمل قوله تعالى: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ

الرسالة السادسة: [شدة ظهور غربة الإسلام وأهله]

لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} 1.كيف حكم على أن من أطاع أولياء الشيطان في تحليل ما حرم الله أنه مشرك، وأكد ذلك بأن المؤكدة، وأن ذلك صادر عن وحي الشيطان. فاحذر هذا الضرب من الناس، وليكن لك نهمة في طلب العلم من أصوله ومظانه، والله –تعالى- أسأل أن يمن علينا وعليكم بالهداية إلى سبيله، ومعرفة دينه بدليله، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرا. الرسالة السادسة: [شدة ظهور غربة الإسلام وأهله] وله أيضا -قدس الله روحه ونور ضريحه- رسالة إلى الشيخ حمد بن عبد العزيز، وقد كان كتب إليه (أعني) الشيخ حمد رسالة ذكر له فيها أن الغربة اشتدت، وأنه قد أنكر عليه الفتوى بحل ما أخذ في درب العقير مع العسكر والزوار، فأجابه بما نصه: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد اللطيف بن عبد الرحمن إلى الأخ المكرم حمد بن عبد العزيز، سلمه الله تعالى وهداه، وألهمه رشده وتقواه، آمين. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: فأحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو وإن أتى الدهر بمر القضاء، والخط وصل -وصلك الله بحبله المنير، ونظمك في سلك أنصار الملة والدين-، وقد عرفت أن الله –سبحانه- ليس كمثله شيء في أفعاله أو قضائه، كما أنه ليس كمثله شيء في ذاته وصفاته. وهذه الحوادث العظام التي هدمت أركان الإسلام لله فيها سر وحكمة بالغة يطلع من يشاء من عباده على عنوان وأنموذج من سر القدر والقضاء، وأكثر الناس في خفارة جهله وكثافة

_ 1 سورة الأنعام آية: 121.

طبعه كالبعير الذي يعقله أهله ثم يطلقونه، لا يدري فيم عقل ولا فيم أطلق. وتذكر أن الغربة اشتدت، والأمر كما وصفت، وأعظم مما إليه أشرت، ولكن ليكن لك على بال، ما ورد في فضل الغرباء ووصفهم؛ فاغتنم نصرة الإسلام والدعوة إليه، ونصره ونشره وتعريفه وتقريره في كل مجلس ومجمع. فإن أكثر الناس قد ضل عنه ولا يدري حقيقته ومسماه، وقد وقع ذلك ممن ينتسب إلى الدين، ونسي ما كان عليه من تقرير التوحيد وأدلته، وجاء بما يناقضه، ويقوي عضد المشركين، ويقتضي نصرة أعداء الملة والدين. وقد بلغنا عن عبد الرحمن الوهيبي وأمثاله بعد ذهابه إليهم ما تصان عن ذكره الأسماع، وصار يعترض على من أنكر طريقته وذمها. ويزعم أنه قد خالف طريقة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وصرح بمسبة من أنكر عليه ونسبه إلى موالاتهم، فالذي يجادل عنه داخل في عموم قوله تعالى {وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ} 1.وكذلك ما ذكرت عن الذي أنكر عليكم الفتوى بحل ما أخذت في درب العقير مع العسكر والزوار؛ فلا يصدر هذا الإنكار إلا عن جهل بحقيقة الإسلام وقواعده، وسرية ابن الحضرمي في عهده صلى الله عليه وسلم مشهورة معروفة، وهي أول دم أهريق في الإسلام وقصدت عير قريش. وقريش في ذلك الوقت مع كفرهم وضلالهم، أهدى من كثير من العسكر والزوار من الرافضة بكثير، فكيف وقد بلغ شركهم إلى تعطيل الربوبية والصفات العلية، وإخلاص العبادات للمعبودات الوثنية، ومعارضة الشريعة المحمدية، بأحكام الطواغيت والقوانين الإفرنجية؟ فمن جادل عمن خالط هؤلاء ودخل لهم في الشورى، وترك الهجرة إلى الله ورسوله، وافتتن به كثير من

_ 1 سورة غافر آية: 5.

الرسالة السابعة: [خطر الفتنة ومضارها والسبيل لنجاة المسلم منها]

خفافيش البصائر، فالمجادل فيه وفي حل ما أخذ من العسكر والزوار لا يدري ما الناس فيه من أمر دينهم، فعليه أن يصحح عقيدته، ويراجع دين الإسلام من أصله، ويتفطن في النّزاع الذي جرى بين الرسل وأممهم في أي شيء وبأي شيء؟ {وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً} 1. والذي أوصيك به الثبات والغلظة على هؤلاء الجهلة الذين يسعون في هدم أركان الإسلام ومحو أساسه، وبلغ سلامنا من لديك من الإخوان والسلام. الرسالة السابعة: [خطر الفتنة ومضارها والسبيل لنجاة المسلم منها] وله أيضا -قدس الله روحه ونور ضريحه- رسالة إلى الإخوان من أهل الفرع: عثمان بن مرشد، ومحمد بن علي، وإبراهيم بن راشد، وإبراهيم بن مرشد، في قطع الوسائل والذرائع المفضية إلى محبة من حاد الله ورسوله، واختار ديارهم ومساكنتهم وولايتهم، ومحبة ظهورهم، لأن اختيار ديارهم ومساكنتهم وولايتهم ومحبة ظهورهم، والثناء عليهم وتفضيلهم بالعدل على أهل الإسلام وإعانتهم على المسلمين، وجرهم على بلاد أهل الإسلام، ردة صريحة بالاتفاق. فقطع -رحمه الله تعالى- الأسباب والوسائل المفضية إلى ذلك بالأدلة القاطعة والبراهين الساطعة، وهذا نصها: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد اللطيف بن عبد الرحمن إلى الإخوان عثمان بن مرشد ومحمد بن علي وإبراهيم بن راشد وإبراهيم بن مرشد: سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: الخط وصل -وصلكم الله ما يرضيه-، وما ذكرتم من طلب النصيحة، فقد تقدمت إليكم بحمد الله مرارا، أو قامت الحجة، ويبلغني تصميم الأكثر على رأيه الأول وعدم الانتفاع. ومن أكبر أسباب شرح الصدر

_ 1 سورة الفرقان آية: 31.

للنصائح والمواعظ وقبولها ما يعلمه الله من حرص العبد على الخير والهدى والتجرد من ثوبي التعصب والهوى، والبعد عن الإعجاب بالنفس وإيثار الشهوات الدنيوية؛ فالقلب إذا سلم من هذا، وابتهل إلى الله بالأدعية المأثورة كدعاء الاستفتاح " اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل " 1 الحديث، لا سيما في أوقات الإجابة فإن هذا لا تكاد تسقط له دعوة، والتوفيق له أقرب من حبل الوريد. قال الله –تعالى-: {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لأسْمَعَهُمْ} 2. والواجب عند ورود الشبهات هو القيام لله مثنى وفرادى، والتفكر لا سيما عند هذه الفتنة التي عمت وطمت، وأعمت وأصمت، فإنها كما في حديث حذيفة: " قال: قلت: يا رسول الله، إنا كنا في شر فذهب الله بذلك الشر، وجاء بالخير على يديك، فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال: نعم، قال: ما هو؟ قال: فتن كقطع الليل المظلم يتبع بعضها بعضا، تأتيكم مشتبهة كوجوه البقر لا تدرون أيا من أي " 3 4.فهذه الفتن الواقعة في هذا الزمان من جنس ما أشير إليه في هذا الحديث الذي خرجه الإمام أحمد في مسنده؛ فتعين الاهتمام بالمخرج منها والنجاة فيها، لا سبيل إلى ذلك إلا بالاعتصام بحبل الله ومعرفة ما أوجب وندب إليه في كتابه من شرائع الإيمان وحدوده، وما نهى عنه وحرمه من شعب الكفر والنفاق وحدوده، وقد نص على هذا صلى الله عليه وسلم لما سأله حذيفة عن الفتن، فعن حذيفة: " كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير وأسأله عن الشر، وعرفت أن الخير لن يسبقني قلت:

_ 1 مسلم: صلاة المسافرين وقصرها (770) , والترمذي: الدعوات (3420) , والنسائي: قيام الليل وتطوع النهار (1625) , وأبو داود: الصلاة (767) , وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها (1357) , وأحمد (6/156) . 2 سورة الأنفال آية: 23. 3 أحمد (5/391) . 4 الحديث رواه البخاري مطولا وابن ماجه مختصرا والظاهر أن هذا اللفظ الذي ذكره المؤلف وما بعده للإمام أحمد.

يا رسول الله، أبعد هذا الخير شر؟ قال: يا حذيفة تعلم كتاب الله واتبع ما فيه، ثلاث مرار، قال: قلت: يا رسول الله، أبعد هذا الخير شر؟ قال: فتنة وشر، قال: قلت: يا رسول الله، أبعد هذا الشر خير؟ قال: هدنة على دخن، وجماعة على أقذاء، قال: قلت: يا رسول الله، الهدنة على دخن ما هي؟ قال: لا ترجع قلوب أقوام على الذي كانت عليه، قال: قلت: يا رسول الله، أبعد هذا الخير شر؟ قال: يا حذيفة، تعلَّم كتاب الله واتبع ما فيه ثلاث مرار، قال: قلت: يا رسول الله أبعد هذا الخير شر؟ قال: فتنة عمياء صماء عليها دعاة على أبواب النار، وإن تمت يا حذيفة وأنت عاض على جذل، خير لك من أن تتبع أحدا منهم ". (قلت) : فتأمل ما أرشد إليه حذيفة، وأوصاه عند حدوث الفتن العظام التي لا يبصر أهلها الحق، ولا يسمعون من الداعي والناصح، وتكريره الوصية بقراءة كتاب الله واتباع ما فيه، لأن المخرج من كل فتنة موجود فيه مقرر، لكن لا يفقهه ولا يفهمه إلا من تعلم كتاب الله ألفاظه ومعانيه، ووفق للعمل بما فيه، فذلك جدير أن يهبه الله نورا يمشي به في الناس، ولا يخفى عليه ما وقع فيه الأكثر من الشك والريب والالتباس. وهذا الصنف عزيز الوجود في القراء ومن ينتصب إلى العلم والطلب فكيف بغيرهم؟ شعر: أما الخيام فإنها كخيامهم ... وأرى نساء الحي غير نسائها فعليكم بلزوم الوصية النبوية لصاحب السر حذيفة بن اليمان، وبتدبر القرآن والتفقه في معانيه، يعرف العبد إن عقل عن الله أن أوجب واجب فيه وأهمه وآكده وزبدته معرفة الله –تعالى- بما تعرّف به إلى عباده من صفات كماله ونعوت جلاله، وبديع أفعاله، وإحاطة علمه، وشمول قدرته، وكمال عزته، وعميم رحمته، وبمعرفة ذلك يهتدي العبد إلى محبته وتعظيمه

وإسلام الوجه له وإنابة القلب إليه، وإفراده بالقصد والطلب، وسائر العبادات كالخشية والرجاء والاستعانة والاستغاثة والتوكل والتقوى، ويرضى به ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد رسولا ونبيا، ويذوق من طعم الإيمان ما يوجب له كمال حب الله وحب رسوله، ويعرف الوسائل إلى هذا المطلوب الأكبر والمقصود الأعظم ويهتم به غاية الاهتمام، ويطلبه منتهى الطلب، ويعرف ما يضاد هذا الأصل ويناقضه من تعطيل، وكفر، وشرك، ويعرف وسائلها وذرائعها الموصلة إليها المُفْضِيَة إلى اقتحامها وارتكابها، فيهتم بتحصيل وسائل التوحيد، ويهتم بالتباعد عن وسائل الكفر والتعطيل والتنديد، كما يستفاد من قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} 1.فمن عرف هذا الأصل الأصيل عرف ضرر الفتنة الواقعة في هذه الأزمان بالعساكر التركية، وعرف أنها تعود على هذا الأصل الأصيل بالهد والهدم والمحو بالكلية، وتقتضي ظهور الشرك والتعطيل ورفع أعلامه الكفرية، وأن مرتبتها من الكفر وفساد البلاد والعباد فوق ما يتوهمه المتوهمون، أو يظنه الظانون. وبه يعلم أن ما وقع من الوسائل إلى تهوين تلك الفتنة، وتسهيل أمرها والسكوت عن التغليظ فيها من أكبر أسباب وقوع الشرك ومحو أعلام التوحيد؛ والوسيلة لها حكم الغاية، فإن انضاف إلى تسهيلها إكرام من أقام بديارهم، وتلطخ بأوضارهم، وشهد مهرجانهم وتوقيره والمشي إليه، وصنع الولائم له، فعند ذلك ينعي الإسلام ويبكيه {لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} 2 وفي الحديث: "من وَقَّرَ صاحبَ بدعة فقد أعان على هدم الإسلام " 3 فكيف بما هو أعظم وأطم من البدع؟ فالله المستعان.

_ 1 سورة الفاتحة آية: 5. 2 سورة ق آية: 37. 3 رواه الطبراني في الكبير عن عبد الله بن بشر وسنده ضعيف ومعناه صحيح.

وأعجب من هذا أن بعض مَنْ يتولى خدمة من حادَّ الله ورسوله، ويُحَسِّنُ أمرهم، ويُرَغِّبُ في ولائهم، ويقدح في أهل الإسلام وربما أشار بحربهم، فإذا قدم بلاد بعض أهل الإسلام تلقاه منافقوها وجهالها بما لا يليق إلا مع خواص الموحدين، فافهم أسباب الشرك ووسائله، ومن كان في قلبه حياة وله رغبة وله غيرة وتوقير لرب الأرباب يأنف ويشمئز مما هو دون ذلك؛ ولكن الأمر كما قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب: إنما تُنْقَضُ عُرَى الإسلام عروة عروة إذا نشأ في الإسلام من لا يعرف الجاهلية 1. وما جاء في القرآن من النهي والتغليظ والتشديد في موالاتهم وتوليهم دليل على أن أصل الأصول لا استقامة ولا ثبات له إلا بمقاطعة أعداء الله وحربهم وجهادهم والبراءة منهم، والتقرب إلى الله بمقتهم وعيبهم. وقد قال تعالى لما عقد الموالاة بين المؤمنين وأخبر أن الذين كفروا بعضهم أولياء بعض قال {إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} 2، وهل الفتنة إلا الشرك، والفساد الكبير هو انتثار عُقَد التوحيد والإسلام، وقَطْعُ ما أحكمه القرآن من الأحكام والنظام، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ} 3 الآية. قال بعض السلف: ليتق أحدكم أن يكون يهوديا أو نصرانيا وهو لا يشعر، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى

_ 1 يعني أنهم يجهلون ما أزاله الإسلام من الشرك والكفر فلا يعرفون قيمة ما جاء فيه من الإصلاح وربما عادوا إلى ما كان عليه الجاهلية وهم لا يدرون. 2 سورة الأنفال آية: 73. 3 سورة المائدة آية: 51.

الصَّلاةِ} 1 الآية. قلت: فليتأمل مَنْ نصح نفسه ما يجري من هؤلاء العسكر عند سماع الأذان من المعارضة بالطبل والبوق والمزمار، واستبداله به عما اشتمل عليه الأذان من توحيد الله وتعظيمه وتكبير الملك القهار، قال تعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ تَرَى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} 2.وقال تعالى: {لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً} 3، وقد جزم ابن جرير في تفسيره بكفر من فعل ذلك، قال تعالى: {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الأِيمَانَ} 4. فليتأمل من نصح نفسه هذه الآيات الكريمات، وليبحث عما قاله المفسرون وأهل العلم في تفسيرها وتأويلها، وينظر ما وقع من أكثر الناس اليوم، فإنه يتبين له -إن وُفِّقَ وَسُدِّدَ- أنها تتناول مَن ترك جهادهم، وسكت عن عيبهم، وألقى إليهم السلم، أو أثنى عليهم، أو فَضَّلَهُمْ بالعدل على أهل الإسلام، واختار ديارهم ومساكنتهم وولايتهم، وأحب ظهورهم، فإن هذا ردة صريحة بالاتفاق قال تعالى: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِالأِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ} 5.وقد عرفتم ما كان عليه أسلافكم من أهل الإسلام؛ وما مَنَّ الله به عليكم من دعوة شيخنا –رحمه الله- إلى توحيد الله والإيمان به، وإخلاص الدين له، والبراءة من أعدائه وجهادهم؛

_ 1 سورة المائدة آية: 57. 2 سورة المائدة آية: 78. 3 سورة آل عمران آية: 28. 4 سورة المجادلة آية: 22. 5 سورة المائدة آية: 5.

وببركة دعوته وبيانه حصل للإسلام من الظهور والنصر وإعلاء كلمة الله ما لم يحصل مثله في دياركم وأوطانكم منذ قرون متطاولة. فيجب شكر هذه النعمة ورعايتها حق الرعاية والعض عليها بالنواجذ، وأن لا يستبدل بموالاة أعداء الله ورسله والانحياز إلى دولتهم والرضى بطاعتهم، قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ} 1 الآية. فاتقوا الله عباد الله، واتقوا يوما ترجعون فيه لله، ودعوا اللجاج والمِرَاء، وتمسكوا بما جاء عن الله وعن رسله من البينات والهدى، ولا يسهل لديكم مبارزة رب السموات العلى، بما عليه غالب الناس اليوم من الكفر والتعطيل والشرك والجدال والمراء، ولا تفتحوا أبواب الفتن للمُشَاقَّة والتفرق والقدح في أهل الإسلام، فإن ذلك من الصد عن سبيل الله، ومن الفتنة عن دينه الذي ارتضاه، وقد جاء في الحديث: " إن هذا الحي من مُضَر لا تدع في الأرض لله عبدا صالحا إلا فتنته وأهلكته، حتى يدركها الله بجنود من عنده فيذلها حتى لا تمنع ذَنَبَ تَلْعَة " 2.وبعض مَنْ يدعي الدين إنما يتعبد بما يحسن في العادة ويثنَى عليه به، وما فيه مقاطعة ومجاهدة وهجر في ذات الله ومراغمة لأعدائه فذاك ليس منه على شيء؛ بل ربما ثَبَّطَ عنه وقدح في فاعله، وهذا كثير في المنتسبين إلى العبادة والمنتسبين إلى العلم والدين، والشيطان أحرص شيء على ذلك منهم، لأنهم يرونه غالبا دينا وحسن خلق فلا يُتَابُ منه ولا يستغفر؛ ولأن غيرهم يقتدي بهم، ويسلك سبيلهم فيكونون فتنة لغيرهم، ولهذا حَذَّرَ الشارع من فتنة مَنْ فسد من العلماء والعُبَّاد وخافه على أمته. فالمؤمن إذا حصل له ظفر بحقائق الإيمان، وصار

_ 1 سورة إبراهيم آية: 28. 2 أحمد (5/390) .

على نصيب من مرضاة الملك الرحمن، فقد حصل له الحظ الأوفى والسعادة، وإن قيل ما قيل (شعر) : إذا رضي الحبيب فلا أبالي ... أقام الحي أم جد الرحيل وينبغي لك يا عثمان أن تقرأ هذه النصيحة على جماعتك، وتبين لهم معانيها، وما في الفُرْقَة والاختلاف من فتح أبواب الشر والفساد؛ فاحرص على ذلك، واعتدَّ به مِنْ صالح أعمالك، وقد قال صلى الله عليه وسلم لعلي –رضي الله عنه-: " فوالله لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم " 1 2.والشيطان قاعد على الصراط المستقيم، فإن عارض أحد بشبهة، فيلزمكم تبليغها، وطلب كشفها، ولا يحل السكوت على الشبه التي توقع في الريب والشك، وتفضي إلى ما تقدم من المفاسد. وإن رأيتم في كلامي مجازفة أو مخالفة لما قاله أهل العلم فاذكروه لي، وإن جاءنا عنكم نصيحة، أو تنبيه على شيء من الغلط، فنُشهد الله على قبوله ممن كان. وبلِّغُوا سلامَنا إخوانَكم، والعيالُ والإخوان ينهون إليكم السلام، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.

_ 1 البخاري: الجهاد والسير (3009) , ومسلم: فضائل الصحابة (2406) , وأبو داود: العلم (3661) , وأحمد (5/333) . 2 هو في صحيح البخاري.

الرسالة الثامنة: [التذكير بآيات الله والحث على لزوم الجماعة]

الرسالة الثامنة: [التذكير بآيات الله والحث على لزوم الجماعة] وله أيضا، قدس الله روحه ونور ضريحه، نصيحة لكافة المسلمين في التذكير بآيات الله، والحث على لزوم الجماعة والقيام بأصول الدين وقواعد الإسلام التي هي أربح تجارة وبضاعة، والحض على جهاد أعداء الله ورسوله، القائمين في هدم قواعده وأصوله وهذا نصها: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد اللطيف بن عبد الرحمن إلى من يراه من المسلمين، وفقهم الله لنصر الإسلام والدين. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. (وبعد) فموجب هذا هو التذكير بآيات الله، والحث على لزوم جماعة المسلمين، وقد ينتفع بالنصائح مَنْ أراد الله هدايته، قال تعالى: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} 1. وأهم ما يُبْدَأ به في التعليم هو معرفة أصول الدين وقواعد الإسلام التي لا يحصل بدونها ولا يستقيم بناؤه إلا عليها، لا سيما معرفة ما دلت عليه كلمة التوحيد -شهادة أن لا إله إلا الله- من الإيمان بالله ومعرفته وتوحيده بإخلاص العبادة بأنواعها له سبحانه، والبراءة من كل معبود سواه، والقيام بذلك علما وعملا؛ فإن هذا هو أصل الدين وقاعدته، وهي الحكمة التي لأجلها خُلِقَتْ الخليقةُ، وَشُرِعَتْ الطريقةُ، وأُرْسِلَتْ لأجلها الرسل، وبها أُنْزِلَتْ الكتبُ، وجميع أحكام الأمر والنهي تدور عليها وترجع إليها. وقد رأيتم ما حدث في هذا الأصل العظيم من الإضاعة والإهمال والإعراض عن حقائقه وواجباته حتى ظهر الشرك وظهرت وسائله وذرائعه ممن

_ 1 سورة الذاريات آية: 55.

ينتسب إلى الإسلام، ويزعم أنه من أهله، وذلك بأسباب: منها الجهل بحقيقة ما أمر الله به ورَضِيَهُ لعباده من أصول التوحيد والإسلام، وعدم معرفة ما ينافيه ويناقضه، أو يضادُّ الكمال والتمام من موالاة أعداء الله على اختلاف شعبها ومراتبها. فمنها المكفرات والموبقات، ومنها ما هو دون ذلك. وأكبر ذنب وأضله وأعظمُه منافاةً لأصل الإسلام: نصرةُ أعداء الله ومعاونتهم، والسعي فيما يظهر به دينهم، وما هم عليه من التعطيل والشرك والموبقات العظام، وكذلك انشراح الصدر لهم وطاعتهم والثناء عليهم، ومدح من دخل تحت أمرهم، وانتظم في سلكهم، وكذلك ترك جهادهم ومسالمتهم، وعقد الأخوة والطاعة لهم، وما هو دون ذلك من تكثير سوادهم ومساكنتهم ومجامعتهم 1.ويلتحق بالقسم الأول: حضور المجالس المشتملة على رد أحكام الله وأحكام رسوله، والحكم بقانون الإفرنج والنصارى والمعطلة، ومشاهدة الاستهزاء بأحكام الإسلام وأهله. ومن في قلبه أدنى حياة وأدنى غيرة لله وتعظيم له، يأنف ويشمئز من هذه القبائح، ومجامعة أهلها ومساكنتهم؛ ولكن ما لجرح بميت إيلام. فليتق اللهَ عبدٌ مؤمنٌ بالله واليوم الآخر، وليجتهد فيما يحفظ إيمانه وتوحيده قبل أن تَزِلَّ القدمُ، فلا ينفع حينئذ الأسف والندم. ومن أهم المقاصد الشرعية، والمطالب العلية: جهاد أعداء الله ومن صَدَفَ عن دينه الذي ارتضاه، وقد أوجب الله سبحانه الجهاد في سبيله وأكده ورغَّب فيه، ووعد أهله بما أعد لأوليائه وأهل طاعته من مرضاته وكرامته ومجاورته في دار النعيم، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا

_ 1 أي مخالطتهم في الاجتماع والمعاشرة كما تقدم.

هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} 1 إلى آخر السورة. فانظر إلى ما دلت عليه هذه الآية الكريمة من لطافة الخطاب، والإرشاد إلى مناهج الهداية والصواب، وما رتب على ذلك من غاية الفوز ومنتهى السعادة، وما فيها من البشارة بكل فلاح ونجاح في العاجل والآجل. فانظر كيف ختم السورة بأمر عباده المؤمنين أن يكونوا أنصارا له، وأن يقتدوا بمن سلف من الصالحين؛ وانظر إلى ما حكم به من إيمان من نصره وقام بما أمر به. وتأمل كُفْر الطائفة المُعْرِضة عن طاعة رسله والجهاد في سبيله؛ وتأمل ما وعد به عباده من النصر والظهور على من خالفهم وخذلهم، وكذلك قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ} 2 إلى قوله: {وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} 3، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً} 4 الآية. وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيله، ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض " 5، وعنه صلى الله عليه وسلم قال: " مَنْ مات ولم يَغْزُ ولم يُحَدِّثْ نفسَه بالغزو، مات على شُعْبَة من النفاق " 6. فاغتنموا -رحمكم الله- حضور المشاهد التي يترتب عليها إعلاء كلمة الله، ونصر دينه ورسوله، ومُرَاغَمَة أعدائه، فإن هذه المشاهد من الموجبات للرحمة والمغفرة والسعادة الأبدية، وما يدريك أن الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم. وإذا هجم العدو على بلاد الإسلام، صار الجهاد فرض عين، فأجمعوا أمركم على جهاد عدوكم لابتغاء مرضاة ربكم، وأطيعوا ذا أمركم، وأخلصوا النية، وأصلحوا الطوية؛

_ 1 سورة الصف آية: 10. 2 سورة التوبة آية: 111. 3 سورة التوبة آية: 111. 4 سورة التوبة آية: 123. 5 البخاري: التوحيد (7423) , وأحمد (2/335 ,2/339) . 6 مسلم: الإمارة (1910) , والنسائي: الجهاد (3097) , وأبو داود: الجهاد (2502) .

الرسالة التاسعة: [تفنيد رسالة ابن عجلان وما فيها من المفاسد]

فإنما لكل امرئ ما نوى. واتقوا الله عباد الله، وراقبوه مراقبة مَنْ يعلم أنه يسمعه ويراه، فقد رأيتم ما بلغ من مكائد الشيطان وتفريق كلمة أهل الإيمان حتى انسلخ الأكثر من الدين، ولحق فِئَامٌ من المسلمين بأعداء الله والدين. نسأل الله لنا ولكم العافية، والثبات على دينه الذي ارتضاه لنفسه، وارتضاه لعباده، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. الرسالة التاسعة: [تفنيد رسالة ابن عجلان وما فيها من المفاسد] وله أيضا، قدَّس الله روحه، ونور ضريحه، رسالة إلى عبد الرحمن بن إبراهيم أبي الغنيم يعظه فيها عن مجالسة مَنْ افْتُتِنَ بموالاة أعداء الله ورسوله من العساكر الهاجمة على بلاد المسلمين، والتحذير عن رسالة ابن عجلان، وقد سماها الشيخ -رحمه الله- حبالة الشيطان، وذكر أنها دِهْليز يُفْضِي إلى استباحة موالاة المشركين والاستنصار بهم. وكذلك ذكر فيها حكم المتغلب إذا كان مسلما، وأن ما وقع منه من الظلم والغَشَم وسفك الدماء ونهب الأموال، كل ذلك لا يُوجِب الخروج عليه، ولا نَزْعَ اليد عن طاعته، وهذا نصها: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد اللطيف بن عبد الرحمن إلى الأخ عبد الرحمن بن إبراهيم أبي الغنيم، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، والخط وصل، وصلك الله بالفقه والبصيرة، وأصلح لك العمل والسيرة، وما ذكرت من المحبة والمودة فما كان لله يبقى، وإن طال الزمان به، ويذهب ما سواه. والذي أوصيك به: تقوى الله -تعالى- والنظر في سبب ما جرى عند هذه الفتنة الظلماء من المُهَاجَرة بيننا والمقاطعة، وشرحه لك فيه تذكرة وموعظة. لما وقعت الفتنة نَأَيْتَ بجانبك عن الاسترشاد والاستفادة، واستحسنتَ المِرَاء في الدين واللجاجة. صدر ذلك منك في غير ما مجلس، حتى أسأت الأدب في

السوق وخاطبتني خطاب من لا يدري الحقائق، ولا يهتدي لأوضح المسالك والطرائق، ونظرت بعين وغمضت الأخرى، ونكبتَ عما هو الأَوْلى بالإصابة والأحْرَى، وأقبلت في تلك الأيام على الملأ المفتونين بخطوط العساكر التي وصلت إلى بلدتنا، وأنت تدري ما فيها من الصد عن سبيل الله وهدم دينه ومطردات أوليائه، والتَّنْوِيه بذكر أعداء الله ورسله، والدعوة إلى طاعتهم، والدخول تحت أمرهم، وتخويف المسلمين منهم، وقد صرح كثير من الناس بالدخول تحت أمرهم، وظهر الفرح والسرور من كثير ممن يدعي الإسلام. وأنت أيها الرجل ممن يتردد إلى هؤلاء المفتونين، ويأنس ببعضهم ويصغي إلى شبهاتهم وجهالاتهم، ولم تلتفت إلى بَحْث ومُحَاقَّة ولا استرشاد، كما هو الواجب لله عند تلك الفتنة والشبهات، لكنك غَلَّبْتَ جانبَ الهوى وأكثرْتَ تلك الأيام من مجالسة مَنْ يضر ولا ينفع، ولا يَنِي عن إغوائه ولا ينزع، وقد جاء الأثر: إن مَنْ جَالَسَ صاحب بدعة نُزِعَتْ منه العصمة، فكيف بما هو أكبر من البدعة وأعظم. ولم يبلغني عنك تلك الأيام ما يسرني من قيام لله ونصرة لدينه، اللهم إلا ما يجري على لسانك من دعوى البراءة من الشرك وأهله على سبيل الإجمال لا التفصيل، وقد علم الله أن العبرة بالحقائق، وليس الإيمان بالتحلي ولا بالتمني ولكن ما وقر في القلوب وصدقته الأعمالُ. ولم تَزَلْ على ما وصفنا تطير مع مَن طار، وتُغِير علينا بالتخطئة والمِرَاء مع مَن أغار، ومثلك كان يُظَنُّ به الخير، ويأسى عليه الصاحب، وأنت -وإن لم تكن كل الفقيه والطالب- فقد حَنَّكَتْكَ التجاربُ، وَقَعَّدَتْكَ الحوادثُ والمذاهبُ، لولا ما عارَضَهَا من صحبة جلساء السوء الذين يدعونك إلى أهوائهم

وأغراضهم الفاسدة، لا سيما أخصهم لديك، وأحبهم إليك، فإنه كما قيل: المَسُّ مَسُّ أرنب، والطبع طبع ثعلب. وقد اتهم بالسعي فيما يقوي عضد المشركين، ويوهن عزم الموحدين، وإلى الله المصير، وهو الحَكَم بيننا وبين مَن أعان على هدم الإسلام من صغير وكبير، مأمور وأمير. وأيضا فأهل الإحساء قد اشتهر حالهم، وأنهم ألقوا السلم إلى عساكر الدولة واختاروا ولايتهم، وصرحوا بطاعتهم، ونصروهم بالقول وعاملوهم معاملة الأخ مع أخيه، بل جاءت خطوط التجار المترفين أولي النعمة بتزكيتهم والثناء عليهم، وانتصب ولدك لخدمتهم وقضاء حوائجهم، ولم يظهر لي منك قيام بحق الله عند هذه الدواهي العظام، التي تمانع الإيمان والقرآن والإسلام، وتنثر منه عقد النظام، والله أعلم بسرك، وهو الرقيب عليك، لكني أحكي ما ظهر لي منك ذاك الوقت. وقد أظهر أثر ما ذكرنا، وعقوبة ما إليه أشرنا، بإقبالك واشتغالك بحبالة الشيطان (رسالة ابن عجلان) فطرتَ بها طيران من لا يلوي على أهل ولا صاحب، كأنها العهد الرباني والوصية النبوية، واشتغلت بقراءتها وسماعها مع جماعة من العوام والصبيان؛ وتلك الرسالة دهليز يفضي إلى استباحة موالاة المشركين، والاستنصار بهم على المسلمين، والحكم على أهل عصر شيخ الإسلام ابن تيمية من أهل مصر والشام بالشرك والمكفرات، وفيها: أن جَلْب عُبَّاد الأصنام إلى بلاد الإسلام والاستعانة بهم على مَن خرج عن الطاعة ليس بذنب، ولولا أن حجاب الجهل والهوى أكثف الحجب وأغلظها لتبين شناعةُ ما فيها للناظرين من أول وهلة وبمجرد الفطرة (شعر) : أكل امرئ تحسبن امرءا ... ونار توقد في الليل نارا

ثم هنا مسألة أخرى، وداهية كبرى، دَهَى بها الشيطانُ كثيرا من الناس فصاروا يسعون فيما يفرق جماعة المسلمين، ويوجب الاختلاف في الدين، وما ذمه الكتاب المبين، ويقضي بالإخلاد إلى الأرض وترك الجهاد ونصرة رب العالمين، ويفضي إلى منع الزكوات، ويُشِبُّ نار الفتن والضلالات، فتلطف الشيطان في إدخال هذه المكيدة ونصب لها حُجَجًا ومقدمات، وأوهمهم أن طاعة بعض المتغلبين فيما أمر الله به ورسوله من واجبات الإيمان وفيما فيه دفعٌ عن الإسلام وحماية لحوزته لا تجب، والحالة هذه ولا تشرع، ولم يدر هؤلاء المفتونون أن أكثر ولاة أهل الإسلام من عهد يزيد بن معاوية –حاشا عمر بن عبد العزيز، ومن شاء الله من بني أمية – قد وقع منهم ما وقع من الجراءة والحوادث العظام، والخروج والفساد في ولاية أهل الإسلام، ومع ذلك فسيرة الأئمة الأعلام والسادة العظام معهم معروفة مشهورة، لا ينزعون يدا من طاعة فيما أمر الله به ورسوله من شرائع الإسلام وواجبات الدين. وأضرب لك مثلا بالحجاج بن يوسف الثقفي، وقد اشتهر أمره في الأمة بالظلم والغَشَم، والإسراف في سفك الدماء، وانتهاك حرمات الله، وقتل من قتل من سادات الأمة كسعيد بن جبير، وحاصر بن الزبير وقد عَاذَ بالحرم الشريف، واستباح الحرمة، وقتل ابن الزبير مع أن ابن الزبير قد أعطاه الطاعة وبايعه عامة أهل مكة والمدينة واليمن وأكثر سواد العراق، والحجاج نائب عن مروان ثم عن ولده عبد الملك، ولم يعهد أحد من الخلفاء إلى مروان، ولم يبايعه أهل الحل والعقد، ومع ذلك لم يتوقف أحد من أهل العلم في طاعته والانقياد فيما تسوغ طاعته فيه من أركان الإسلام وواجباته. وكان ابن عمر ومن أدرك

الحجاج من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا ينازعونه ولا يمتنعون من طاعته فيما يقوم به الإسلام ويكمل به الإيمان، وكذلك من في زمنه من التابعين كابن المسيب والحسن البصري وابن سيرين وإبراهيم التيمي وأشباههم ونُظَرَائِهم من سادات الأمة. واستمر العمل على هذا بين علماء الأمة من سادات الأمة وأئمتها، يأمرون بطاعة الله ورسوله، والجهاد في سبيله مع كل إمام بر أو فاجر، كما هو معروف في كتب أصول الدين والعقائد. وكذلك بنو العباس استولوا على بلاد المسلمين قهرا بالسيف لم يساعدهم أحد من أهل العلم والدين، وقتلوا خلقا كثيرا وَجَمًّا غفيرا من بني أمية وأمرائهم ونُوَّابهم، وقتلوا ابن هبيرة أمير العراق، وقتلوا الخليفة مروان، حتى نُقِلَ أن السفاح قَتَلَ في يوم واحد نحو الثمانين من بني أمية، ووضع الفرش على جثثهم وجلس عليها، ودعا بالمطاعم والمشارب، ومع ذلك فسيرة الأئمة كالأوزاعي ومالك والزهري والليث بن سعد وعطاء بن أبي رباح مع هؤلاء الملوك لا تخفى على مَن له أدنى مشاركة في العلم والاطلاع. والطبقة الثانية من أهل العلم: كأحمد بن حنبل ومحمد بن إسماعيل ومحمد بن إدريس، وأحمد بن نوح وإسحاق بن راهويه وإخوانهم وقع في عصرهم من الملوك ما وقع من البدع العظام وإنكار الصفات، ودعوا إلى ذلك، وامتحنوا فيه، وقتل من قتل كمحمد بن نصر، ومع ذلك فلا يعلم أن أحدا منهم نزع يدا من طاعة، ولا رأى الخروج عليهم. وإلى الآن يبلغني عنك أنك تميل إلى ذلك الضرب من الناس الذين وصفنا حالهم فرضيت بهم في أمر دينك، وضربت عن سيرة الأئمة صَفْحًا، وطويتَ على هجرها كَشْحًا، فإن تبينَ لك هذا، ومَنَّ الله عليك بمعرفته، فأنت أخونا وصاحبنا

القديم العهد، والجُرْح جُبَار، ولا حَرَج ولا عار. وإن بقيت عندك شبهة أو جادل مجادل، فاكتب واسأل كشفها ولا تكتمها، فإني أخشى عليك قطاع الطريق، لا سيما مع فقد الرفيق والعدة، فإن حاك في صدرك شيء فأَكْثِرْ من التضرع إلى الله والتوسل بالأدعية المأثورة، ومنها ما في حديث ابن عباس – حديث الاستفتاح – وكرر النظر فيما اشتمل عليه تاريخ ابن غنام من كلام شيخ الإسلام -رحمه الله- فقد بسط هذه المسألة في رسائله واستنباطه ورأيت له عبارة يَحْسُنُ ذكرُهَا قال -رحمه الله- لما اختلف الناس بعد مقتل عثمان: "وبإجماع أهل العلم كلهم لا يقال فيهم إلا الحسنى مع أنهم عَثَوْا في دمائهم، ومعلوم أن كلا من الطائفتين معتقدة أنها على الحق، والأخرى ظالمة، ونبغ من أصحاب علي مَن أشرك بعلي، وأجمع الصحابة على كفرهم وردتهم وقتلهم، أترى أهل الشام لو حملتهم مخالفةُ عَلِيٍّ عَلَى الاجتماع بهم والاعتذار عنهم والمقاتلة معهم، لو امتنعوا أترى أن أحدا من الصحابة شك في كفر مَن التجأ إليهم، ولو أظهر البراءة من اعتقادهم، وإنما التجأ إليهم لأجل الاقتصاص من قتلة عثمان؟ قال –رحمه الله-: فتفكر في هذه القصة، فإنها لا تُبْقِي شبهةً إلا على مَن أراد الله فتنته. انتهى كلامه، والله أعلم، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.

الرسالة العاشرة: [حكم الاستنصار بالكفار على البغاة من أهل الإسلام]

الرسالة العاشرة: [حكم الاستنصار بالكفار على البغاة من أهل الإسلام] وله أيضا، رحمه الله وعفا عنه بِمَنِّهِ وكرمه، رسالة إلى الشيخ محمد بن عجلان -رحمه الله- وسبب ذلك: أن الشيخ محمد بن عجلان كتب رسالة أيام الفتنة التي وقعت بين عبد الله بن فيصل وأخيه سعود ذكر فيها: جواز الاستنصار بالكفار على البغاة من أهل الإسلام، وهي التي سماها الشيخ عبد اللطيف: حبالة الشيطان، فكتب عليها الشيخ عبد اللطيف جوابا قطع فيه كل ما يتعلق به كل مُبْطِل، وأزَال بالبراهين والدلائل كل مُشْكِل، وقرَّر فيها أن ما كتبه ونقله من آية أو سنة أو أثر فهو عليه لا له، لأنه يدل بوضعه أو تَضَمُّنِهِ أو التزامه على البراءة من الشرك وأهله، ومباينتهم في المُعْتَقَد والقول والعمل، وبغضهم وجهادهم حسب الطاقة لكني إلى الآن لم أجدها، ثم كاتبه الشيخ محمد بن عجلان وذكر فيما كتبه الوصية بما تضمنته سورة العصر، فكتب إليه الشيخ رحمه الله هذه الرسالة، وهذا نصها: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد اللطيف بن عبد الرحمن إلى جناب الشيخ محمد بن إبراهيم بن عجلان، حفظه الله من طوائف الشيطان، ورزقه الفقه في السنة والقرآن، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته: وبعد، فأحمد الله إليه، وأثني بنعمه عليه، والخط وصل، وما ذكرت فيه من التنبيه على ما تضمنته السورة الكريمة سورة العصر فقد سرني، وقد عرفت ما قاله الشافعي -رحمه الله- لو فكر الناس فيها لكفتهم. قلت: لأنها تتضمن الأصول الدينية والقواعد الإيمانية والشرائع الإسلامية والوصايا المَرْضِية، فتفكرْ فيها، واعلم أنك نبهتني على إعلامك ببعض ما تضمنته رسالتك لابن عبيكان، وقد كتبت حين رأيتها ما شاء الله أن

أكتب ونهيت عن إشاعتها خوفا منك وعليك، ولكن رأيت ما الناس فيه من الخوض ونسيان العلم وعبادة الهوى، فخشيت من مفسدة كبيرة برد السنة والقرآن، ودفع الحجة والسلطان، وقررتُ فيها أن ما كتبته نقلته من آية أو سنة أو أثر فهو عليك لا لك لأنه يدل بوضعه أو تضمُّنِه أو التزامه على البراءة من الشرك وأهله ومباينتهم في المعتقد والقول والعمل، وبغضهم وجهادهم والبراءة من كل مَن اتخذهم أولياء من دون المؤمنين، ولم يجاهدهم حسب طاقته، ولم يتقرب إلى الله بالبعد عنهم وبغضهم ومراغمتهم، وأكثر نصوصك التي ذكرت دالة على ذلك كقوله تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا} 1 الآية قبلها والآية بعدها، وما ذكره ابن كثير هنا، كل هذا نص فيما قلناه. وقد بسطت القول في ذلك، وكذلك كل أحاديث السمع والطاعة والأمر بلزوم الجماعة نص فيما قلنا عند مَن فقه عن الله ورسوله، وما ذكرت من استعانته بابن أريقط: فهذا اللفظ ظاهر في مشاقة قوله في حديث عائشة: " إنا لا نستعين بمشرك " 2 وابن أريقط: أجيرٌ مستخدمٌ، لا مُعينٌ مكرم، وكذلك قولك: إن شيخ الإسلام ابن تيمية استعان بأهل مصر والشام وهم حينئذ كفار: وَهْلَةٌ عظيمةٌ وزَلَّةٌ ذميمةٌ، كيف والإسلام، إذ ذاك، يعلو أمره، ويقدم أهله، ويهدم ما حدث من أماكن الضلال وأوثان الجاهلية، ويظهر التوحيد، ويقرر في المساجد والمدارس، وشيخ الإسلام نفسه يسميها بلاد إسلام، وسلاطينهم سلاطين إسلام، ويستنصر بهم على التَّتَر والنُّصَيْرِيَّة ونحوهم، كل هذا مستفيضٌ في كلامه وكلام أمثاله. وما يحصل من بعض العامة والجهال إذا صارت الغلبة لغيرهم لا يحكم به على البلاد وأهليها، وكذلك ما زعمته من أن أكابر العسكر أهل تعبد ونحو هذا

_ 1 سورة آل عمران آية: 103. 2 مسلم: الجهاد والسير (1817) , والترمذي: السير (1558) , وأبو داود: الجهاد (2732) , وابن ماجه: الجهاد (2832) , وأحمد (6/67 ,6/148) , والدارمي: السير (2496) .

فهذه دسيسةٌ شيطانيةٌ، وقاكَ الله شرَّهَا، وحماك حرَّها، لو سلم تسليما جَدَلِيًّا فابن عربي وابن سبعين وابن الفارض لهم عبادات وصدقات، ونوع تقشف وتزهد، وهم أكفر أهل الأرض أو من أكفر أهل الأرض، وأين أنت من قوله تعالى: {وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} 1، وقوله تعالى: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} 2.وأما إِجَازَتُك الاستنصارَ بهم: فالنّزاع في غير هذه المسألة بل في توليتهم، وجلبهم، وتمكينهم من دار إسلامية هدموا بها شعار الإسلام وقواعد الملة وأصول الدين وفروعه، وعند رؤسائهم قانون وطاغوت وضعوه للحكم بين الناس في الدماء والأموال وغيرها مُضادٌ ومخالفٌ للنصوص، إذا وردت قضية نظروا فيه وحكموا به ونبذوا كتاب الله وراء ظهورهم. وأما مسألة الاستنصار بهم فمسألة خلافية، والصحيح الذي عليه المحققون منعُ ذلك مطلقا وحجتهم حديث عائشة، وهو متفق عليه، وحديث عبد الرحمن بن حبيب، وهو حديث صحيح مرفوع اطلبهما تجدهما فيما عندك من النصوص. والقائل بالجواز احتج بمرسل الزهري، وقد عرفت ما في المراسيل إذا عارضت كتابا أو سنة. ثم القائل به قد شرط أن يكون فيه نصح للمسلمين ونفع لهم، وهذه القضية فيها هلاكهم ودمارهم، وشرط أيضا أن لا يكون للمشركين صَوْلَة ودولة يُخْشَى منها، وهذا مبطل لقولك في هذه القضية، واشترط كذلك أن لا يكون له دخل في رأي ولا مشورة بخلاف ما هنا. كل هذا ذكره الفقهاء وشراح الحديث، ونقله في شرح المنتقى، وضعَّف مرسل الزهري جدا، وكل هذا في قتال المشرك

_ 1 سورة الأنعام آية: 88. 2 سورة الزمر آية: 65.

للمشرك مع أهل الإسلام. أما استنصار المسلم بالمشرك على الباغي: فلم يقل بهذا إلا مَن شذَّ واعتمد القياس، ولم ينظر إلى مناط الحكم، والجامع بين الأصل وفرعه. ومَن هجم على مثل هذه الأقوال الشاذة، واعتمدها في نقله وفتواه فقد تتبع الرُّخَص ونَبَذَ الأصلَ المقرَّرَ عند سلف الأمة وأئمتها المستفاد من حديث الحسن وحديث النعمان بن بشير، وما أحسن ما قيل: والعلم ليس بنافع أربابه ... ما لم يُفِدْ نظرًا وحُسْن تَبَصُّر وفي رسالتك مواضع أعرضنا عنها خشية الإطالة، هذا كله من التواصي بالحق والصبر عليه، وإن لام لائِمٌ، وشَنَأ شَانِئٌ، ولولا ما تقرر في الكتاب والسنة وإجماع الأمة من تفصيل الحكم في المخطئ والمتعمد، لكان الشأن غيرَ الشأن {وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} 1.وبَلِّغْ سلامنا من لديك من الإخوان، وعيالنا وإخواننا بخير وينهون السلام، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين.

_ 1 سورة الأحزاب آية: 4.

الرسالة الحادية عشرة: [الفتنة والشقاق بين آل سعود]

الرسالة الحادية عشرة: [الفتنة والشقاق بين آل سعود] وله أيضا -قدس الله روحه- ونوَّر ضريحه، رسالة إلى زيد بن محمد وصالح بن محمد الشثري -رحمهما الله تعالى- وهي آخر ما كتب -رحمه الله تعالى، وعفا عنه- ثم علم أن كل من دعا إلى الله وجاهد في الله ولله، فلا بد أن يُؤْذَى وَيُنَالَ منه؛ والعاقبة للمتقين، وهذا نصها: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد اللطيف بن عبد الرحمن إلى الأخوين المكرمين زيد بن محمد وصالح بن محمد الشثري -سلمهما الله تعالى-. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته: وبعد: فأحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو على نعمه، والخط وصل، أوصلكم الله إلى ما يرضيه. وما ذكرتموه كان معلوما وموجب تحرير هذا ما بلغني بعد قدوم عبد الله وغزوه من أهل الفرع، وما جرى لديكم من تفاصيل الخوض في أمرنا، والمِرَاء والغيبة، وإن كان قد بلغني أولا كثير من ذلك، لكن بلغني مع ما ذُكِرَ تفاصيل ما ظننتها، فأما ما صدر في حقي من الغيبة والقدح والاعتراض والمسبة، ونسبتي إلى الهوى والعصبية، فتلك أعراض انْتُهِكَتْ وَهُتِكَتْ في ذات الله، أعدُّها لديه -جل وعلا- ليوم فقري وفاقتي، وليس الكلام فيها. والقصد بيان ما أشكل على الخواص والمنتسبين من طريقتي في هذه الفتنة العمياء الصماء، فأول ذلك مفارقة سعود لجماعة المسلمين وخروجه على أخيه، وقد صدر منا الرد عليه وتسفيه رأيه ونصيحة ولد عائض وأمثاله من الرؤساء عن متابعته والإصغاء إليه ونصرته، وذكرناه

ما ورد من الآثار النبوية والآثار القرآنية بتحريم ما فعل، والتغليظ على مَن نَصَره، ولم تزل على ذلك إلى أن وقعت وقعة جودة، فَثَلَّ عرش الولاية، وانتثر نظامها، وحبس محمد بن فيصل، وخرج الإمام عبد الله شاردًا، وفارقه أقاربه وأنصاره، وعند وداعه وَصَّيْتُهُ بالاعتصام بالله، وطلبِ النصر منه وحده، وعدم الركون إلى الدولة الخاسرة، ثم قدِم علينا سعود بمن معه من العجمان والدَّوَاسِر وأهل الفرع وأهل الحريق وأهل الأفلاج وأهل الوادي ونحن في قلة وضعف، وليس في بلدنا من يبلغ الأربعين مقاتلا، فخرجتُ إليه وبذلتُ جهدي ودافعتُ عن المسلمين ما استطعت، خشيةَ استباحته البلدة، وممن معه من الأشرار وفُجَّار القُرَّاء مَن يحثه على ذلك ويتفوه بتكفير بعض رؤساء بلدتنا، وبعض الأعراب يطلقه بانتسابهم إلى عبد الله بن فيصل، فوقى الله شر تلك الفتنة ولطف بنا، ودخلها بعد صلح وعقد. وما جرى من المظالم والنكث دون ما كنا نتوقع، وليس الكلام بصدده، وإنما الكلام في بيان ما نراه ونعتقده وصارت له ولاية بالغلبة والقهر تنفذ بها أحكامه، وتجب طاعته في المعروف كما عليه كافة أهل العلم على تقادُم الأعصار ومر الدهور. وما قيل من تكفيره لم يثبت لديَّ فسرتُ على آثار أهل العلم، واقتديت بهم في الطاعة في المعروف وترك الفتنة، وما توجب من الفساد على الدين والدنيا، والله يعلم أني بارٌّ راشدٌ في ذلك. ومن أشكل عليه شيء من ذلك، فليراجع كتب الإجماع كمصنف ابن حزم ومصنف ابن هبيرة، وما ذكره الحنابلة وغيرهم. وما ظننت أن هذا يخفى على مَن له أدنى تحصيل وممارسة، وقد قيل: سلطان ظلوم، خير من فتنة تدوم. وأما الإمام عبد الله فقد نصحت له كما تقدم أشد النصح وبعد

مجيئه، لمَّا أخرجَ شيعة عبد الله سعود، وقدم من الإحساء ذاكرته في النصيحة وتذكيره بآيات الله وحقه وإيثار مرضاته والتباعد عن أعدائه وأعداء دينه أهل التعطيل والشرك والكفر البواح، وأظهر التوبة والندم، واضمحل أمر سعود، وصار مع شرذمة من البادية حول آل مرة، والعجمان. وصار لعبد الله غلبةٌ ثبتت بها ولايته على ما قرره الحنابلة وغيرهم، كما تقدم أن عليه عمل الناس من أعصار متطاولة. ثم ابتلينا بسعود، وقدم إلينا مرة ثانية وجرى ما بلغكم من الهزيمة على عبد الله وجنده ومر بالبلدة منهزما لا يلوي على أحد، وخشيت من البادية، وعَجَّلْتُ إلى سعود كتابا في طلب الأمان لأهل البلدة، وكف البادية عنهم، وباشرت بنفسي مُدَافعة الأعراب مع شرذمة قليلة من أهل البلد ابتغاء ثواب الله ومرضاته، فدخل البلد وتوجه عبد الله إلى الشمال، وصارت الغلبة لسعود، والحكم يدور مع علته. وأما بعد وفاة سعود فَقدم الغزاة، ومن معهم من الأعراب العتاة، والحضر الطغاة، فخشينا الاختلاف، وسفك الدماء وقطيعة الأرحام بين حمولة آل مقرن مع غيبة عبد الله. وتعذرت مبايعته بل ومكاتبته، ومن ذكره يخشى على نفسه وماله، أفيحسن أن يترك المسلمون وضعفاؤهم نَهْبًا وسَبْيًا للأعراب والفُجار، وقد تحدثوا بنهب الرياض قبل البيعة، وقد رامها من هو شر من عبد الرحمن وأطغى، ولا يمكن ممانعتهم ومراجعتهم، ومن توهم أني وأمثالي أستطيع دفع ذلك مع ضعفي وعدم سلطاني وناصري فهو من أسفه الناس وأضعفهم عقلا وتصورا. ومن عرف قواعدَ الدين، وأصول الفقه، وما يطلب من تحصيل المصالح ودفع المفاسد، لم يشكل عليه شيء من هذا، وليس الخطاب مع

الجهلة والغوغاء، إنما الخطاب معكم معاشر القضاة والمَفَاتِي، والمتصدين لإفادة الناس وحماية الشريعة المحمدية، وبهذا ثبتت بيعته وانعقدت؛ وصار من ينتظر غائبا لا يحصل به المصالح فيه شبه ممن يقول بوجوب طاعة المنتظر، وأنه لا إمامة إلا به. ثم إن حمولة آل سعود صارت بينهم شحناء وعداوة، والكل يرى له الأولوية بالولاية، وصرنا نتوقع كل يوم فتنة، وكل ساعة محنة، فلطف الله بنا، وخرج ابن جلوي من البلدة، وقتل ابن صنيتان، وصار لي إقدام على محاولة عبد الرحمن في الصلح، وترك الولاية لأخيه عبد الله؛ فلم آل جهدي في تحصيل ذلك والمشورة عليه، مع إني قد أكثرتُ في ذلك حين ولايته. ولم أزل أكرر عليه في ذلك يوما فيوما حتى يسر الله قبل قدوم عبد الله بنحو أربعة أيام أنه وافق على تقديم عبد الله وعزل نفسه، ورأى الحق له وأنه أولى منه لكبر سنه وقدم إمامته. فلما نزل الإمام عبد الله بساحتنا اجتهدتُ إلى أن محمد بن فيصل يظهر إلى أخيه ويأتي بأمان لعبد الرحمن وذويه وأهل البلد، وسعيت في فتح الباب واجتهدت في ذلك، ومع ذلك كله فلما خرجت للسلام عليه وإذا أهل الفرع وجهلة البوادي، ومن معهم من المنافقين يستأذنونه في نهب نخيلنا وأموالنا، ورأيت معه بعض التغير والعبوس. ومن عامل الله ما فقد شيئا، ومن ضيع الله ما وجد شيئا. ولكنه بعد ذلك أظهر الكرامة ولين الجانب، وزعم أن الناس قالوا ونقلوا – وبئس مطية الرجل زعموا – وتحقق عندي دعواه التوبة، وأظهر لديَّ الاستغفار والتوبة والندم، وبايعته على كتاب الله وسنة رسوله. هذا مختصر القضية، ولولا أنكم من طلبة العلم والممارسين الذين يكتفون

بالإشارة وأصول المسائل لكتبت رسالة مبسوطة، ونقلت من نصوص أهل العلم وإجماعهم ما يكشف الغمة ويزيل اللبس. ومن بقي عليه إشكال فليرشدنا -رحمه الله- ولو أنكم أرسلتم بما عندكم مما يقرر هذا ويخالفه، وصارت المذاكرة، لانكشف الأمر من أول وهلة، ولكنكم صممتم على رأيكم، وترك النصيحة ممن كان عنده علم، واغتر الجاهل ولم يعرف ما يَدِينُ الله به في هذه القضية، وتكلم بغير علم، ووقع اللبس والخلط والمراء، والاعتداء في دماء المسلمين وأموالهم وأعراضهم، وهذا بسبب سكوت الفقيه وعدم البحث واستغناء الجاهل بجهله، واستقلاله بنفسه. وبالجملة فهذا الذي نعتقد ونَدِينُ الله به، والمسترشد يذاكر ويبحث، والظالم والمعتدي حسابنا وحسابه إلى الله الذي عنده تنكشف السرائر، وتظهر مُخَبَّئَات الصدور والضمائر، يوم يبعثر ما في القبور، ويحصل ما في الصدور. وأما ما ذكرتم من التنصل والبراءة مما نسب في حقي إليكم فالأمر سهل والجُرْح جُبَار، ولا حرج ولا عار، وأوصيكم بالصدق مع الله، واستدراك ما فرطتم فيه من الغلظة على المنافقين الذين فتحوا للشر كل باب، وركن إليهم كل منافق كذاب. وتأمل قول الله تعالى بعد نهيه عن موالاة الكافرين: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ} 1 والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.

_ 1 سورة آل عمران آية: 30.

الرسالة الثانية عشرة: [الوصية بلزوم الكتاب والسنة والعمل بما فيهما]

الرسالة الثانية عشرة: [الوصية بلزوم الكتاب والسنة والعمل بما فيهما] بسم الله الرحمن الرحيم من عبد اللطيف بن عبد الرحمن إلى الأخ عبد الله بن عبد العزيز الدوسري، وفقه الله لما يحبه ويرضاه. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: فأحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو على نعمه، جعلنا الله وإياك شاكرين. والخط وصل بما تضمن من الوصية، وفقنا الله وإياك لقبول الوصايا الشرعية، وأعاذنا من سيئات الأعمال الكسبية، وأوصيك بما أوصيتني به وبلزوم الكتاب والسنة والرغبة فيهما، فإن أكثر الناس نَبذوهما ظِهْرِيًا، وزهدوا فيما تضمناه من العلم والعمل، اللهم إلا أن يوافق الهوى، واذكر قوله صلى الله عليه وسلم لحذيفة لما سأله عن الفتن قال: " اقرأ كتاب الله واعمل بما فيه " 1 كررها ثلاثا. والحكمة -والله أعلم- شدة الحاجة وقت الفتن وخوف الفتنة والتغلب، وأكثر الناس من أهل نجد ليسوا على شيء في هذه الأزمان، والمؤمن مَن اشترى نفسه، ورغب فيما أعرض عنه الجهال والمترفون. نسأل الله لنا ولكم الثبات والعفو والعافية. ولا تَدَّخِر المذاكرة فيما ابْتُلِيَ به الناس من فتنة العساكر ومن والاهم؛ فإن هذا من أعظم ما دهم الإسلام وأهله، ومن أسباب محو الدين والإيمان وهدم قواعده. ومن أفضل الأعمال القيام لله عند ذلك على بصيرة والدعوة إلى سبيله. وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.

_ 1 أحمد (5/406) .

الرسالة الثالثة عشرة: [دعوة الشيخ ابن عبد الوهاب هي دعوة إلى التوحيد الخالص]

الرسالة الثالثة عشرة: [دعوة الشيخ ابن عبد الوهاب هي دعوة إلى التوحيد الخالص] وله أيضا -قدس الله روحه ونور ضريحه- رسالة أرسلها إلى أهل عُنَيْزَة، وهذا نصها: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد اللطيف بن عبد الرحمن إلى من يصل إليه هذا الكتاب من أهل عنيزة، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: تجري عندكم أمور يتألم منها المؤمنون، ويرتاح لها المنافقون، ولا بد من النصيحة مَعْذِرَةً إلى الله –تعالى- وطلبا لرضاه، وإلا فالحجة قد قامت، وجمهوركم يَتَجَشَّمُ ما يأتي لأسباب لا تخفى. من ذلك: قصد المشاقة، والمعاندة بإكرام داود العراقي، مع اشتهاره بعداوة التوحيد وأهله، والتصريح بإباحة دعاء الصالحين 1 والحث عليه، وغير ذلك مما يطول عده. ولا بد من تقديم مقدمة ينتفع بها الواقف على هذا فنقول: لما وقع في آخر هذه الأمة ما أخبر به نبيها من اتباع سَنَن من قبلها من أهل الكتاب وفارس والروم، وتزايدت تلك السنن حتى وقع الغلو في الدين، وعُبِدَتْ قبور الأولياء والصالحين، وجُعِلَتْ أوثانا تُقْصَد من دون الله رب العالمين، عَظَّمَهَا قوم لم يعرفوا حقيقة الإسلام، ولم يشموا رائحة العلم، ولم يحصلوا على شيء من نور النبوة، ولم يفقهوا شيئا من أخبار الأمم قبلهم، وكيف كان بدء شركهم ومنتهى نِحْلَتَهم، وحقيقة طريقتهم، وما هذا الذي عابه القرآن عليهم وذمه، وتلطف الشيطان في كيد هؤلاء الغلاة في قبور الصالحين

_ 1 هذه الإضافة للمفعول أي: إباحة أن يُدْعَى الصالحون فيما لا يطلب إلا من الله؛ لأنه وراء الأسباب وهو شرك.

بأن دَسَّ عليهم تغييرَ الأسماء والحدود الشرعية والألفاظ اللغوية، فسمى الشركَ وعبادةَ الصالحين توسلا ونداء، وَحُسْنَ اعتقاد في الأولياء وتشفعا بهم، واستظهارا بأورادهم الشريفة. فاستجاب له صبيان العقول وخفافيش البصائر، وداروا مع الأسماء ولم يقفوا مع الحقائق، فعادت عبادة الأولياء والصالحين ودعاء الأوثان والشياطين كما كانت قبل النبوة وفي أزمان الفترة حذو النعل بالنعل، وحَذْو القُذَّة بالقُذَّة، وهذا من أعلام النبوة كما ذكره غير واحد. ولم يزل ذلك في ظهور وازدياد، حتى عَمَّ ضررُهُ وبلغ شررُهُ الحاضرَ والباد، ففي كل إقليم وكل مدينة وقرية ممن ينتسب إلى الإسلام وَلائِجٌ يدعونهم مع الله، ويلتمسون بدعائهم قرب الرب ورضاه، يفزعون إليهم في المهمات والشدائد، ويلوذون بهم في النوائب والحاجات، وبعضهم لا يَرِدُ على خاطره ولا يلم بباله دعاء الله في شيء من ذلك؛ لاستشعاره حصول مقصوده ونجاح مطلوبه من جهة الأولياء والأنداد. وقد رأينا وسمعنا من ذلك ما يَعِزُّ حصرُهُ واستقصاؤُهُ، ولو كان يخفى لَعَرَّجْنَا على ذكره وتفصيله، ولكنه أشهرُ من الشمس في نَحْرِ الظهيرة. إذا عرف هذا وتحقق، فاعلموا أن الله أطلع شمس الإيمان به وتوحيده في آخر هذا الزمان على يد مَنْ أقامه الله في هذه البلاد النجدية داعيا إلى الله على بصيرة، مُذكرا به، آمِرًا بتوحيده وإخلاص الدين له، ورَدِّ العباد إلى فاطرهم وباريهم وإلههم الحق الذي لا إله غيره ولا رب سواه، ينهى عن الشرك به، وصرف شيء من العبادات إلى غيره، وابتداع دين لم يأذن به الله، لا سلطان ولا حجة على مشروعيته، واستدل على ذلك وقَرَّرَ وصَنَّفَ وحَرَّرَ ونَاظَرَ المبطلين، ونازع الغلاة والمارقين، حتى ظهر دين الله على كل

دين. فتنازع المخالفون أمره، وجحدوا برهان صدقه. فقوم قالوا: هذا مذهب الخوارج المارقين، وطائفة قالت: هو مذهب خامس لا أصل له في الدين، وآخرون قالوا: هو يُكَفِّرُ أهلَ الإسلام، وَصِنْفٌ نسبوه إلى استحلال الدماء والأموال الحرام، ومنهم من عابه بوطنه وأنه دار مسيلمة الكذاب. وكل هذه الأقاويل لا تَرُوجُ على من عرف أصل الإسلام وحقيقة الشرك وعبادة الأصنام، وإنما يحتج بها قومٌ عَزُبَتْ عنهم الأصولُ والحقائقُ، ووقفوا مع الرسوم والعادات في تلك المناهج والطرائق: {قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ} 1؛ فهم من شأنه في أمر مريج، وما ذاك إلا أنه أشرقت له شموس النبوة فقصدها، وظهرت له حقائق الوحي والتنْزيل فآمن بها واعتقدها، وترك رسوم الخلق لا يعبأ بها، ورفض تلك العوائد والطرائق الضالة لأهلها. واترك رسوم الخلق لا تعبأ بها ... في السعد ما يغنيك عن دبران وقد صنف بعض علماء المشركين في الرد عليه، ودفع ما قرره ودعا إليه، واسْتَهْوَتْهُمْ الشياطينُ، حتى سَعَوْا في آيات الله مُعَاجِزِينَ، وقد بَدَّدَ الله شملهم فتمزقوا أيدي سَبَا، وذهبتْ أباطيلُهم وأراجيفهم حتى صارت هبا. نعم بقيت لتلك الشبهة بقية بأيدي قوم ليس لهم في الإسلام قَدَمٌ، ولا في الإيمان دراية، يتخافتون بينهم ما تضمنته تلك الكتب من الشُّبَه الشِّرْكِية، ويتواصون بكتمانها كما تكتم كتب التنجيم والكتب السحرية، حتى أُتِيحَ لهم هذا الرجل من أهل الفرق فألقيت إليه هذه الكتب فاستعان بها على إظهار أباطيله، وتسطير إلحاده وأساطيله، وزاد على ما في تلك المصنفات، وأباح لغير الله أكثر العبادات، بل زعم أن للأولياء تدبيرا وتصريفا مع

_ 1 سورة المائدة آية: 104.

الله، وأجاز أن يَكِلَ اللهُ أمور ملكه وعباده إلى الأولياء والأنبياء، ويفوض إليهم تدبير العالم. وهذا موجود عندنا بنص رسائله، وَشَبَّهَ على الجهال الذين أعمى الله بصائرهم، أتباع كل ناعق، الذين لم يستضيئوا بنور العلم، ولم يلجؤوا إلى ركن وثيق من الإيمان والفهم، بشبهات ضالة كقوله: إن دعاء الموتى ونحوه لا يُسمى دعاء وإنما يُسمى نداء، وإن العبادات التي صُرفت لأهل القبور لا تسمى عبادة ولا شركا إلا إذا اعتقد التأثير لأربابها من دون الله. وقوله: من قال لا إله إلا الله واستقبل القبلة فهو مسلم، وإن لم يرغب عن ملة عُبَّاد القبور الذين يدعونها مع الله، ويكذب على أهل العلم من الحنابلة وغيرهم، ويزعم أنهم قالوا وأجمعوا على استحباب دعاء الرسول بعد موته صلى الله عليه وسلم، وَيُلْحِد في آيات الله وأحاديث رسول الله ونصوص أهل العلم، ويتعمد الكذب على الله، وعلى رسوله، وعلى العلماء، يَعْرِفُ ذلك من كلامه مَن له أدنى نهمة في العلم، والتفات إلى ما جاءت به الرسل، ولا يَرُوج باطلُه إلا على قوم لا شعور لهم بشيء من ذلك، عمدتهم في الدين النظر إلى الصور وتقليد أهلها. ومن شبهاته قوله في بعض الآيات: هذه نزلت فيمن يعبد الأصنام، هذه نزلت في أبي جهل، هذه نزلت في فلان وفلان، يريد -قاتله الله- تعطيلَ القرآن عن أن يَتناول أمثالهم وأشباههم ممن يعبد غير الله، ويعدل بربه، ويزعم أن قوله تعالى: {وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} 1 دليل على استحباب دعاء الصالحين مع الله، ويظن أن الشرك الذي جاءت الرسل بتحريمه هو الوسيلة إلى الله، ويحتج على ذلك بما يُمَجُّ سماعه، ويستوحش منه عوامُّ المسلمين لمجرد الفطرة، فسبحان مَن أضلَّه وأعْمَاه {كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} 2.

_ 1 سورة المائدة آية: 35. 2 سورة يونس آية: 33.

وهذا الرجل يأنس إلى بلدتكم ويعتاد المجيء إليها، وله من ملئها وأكابرها مَن يعظِّمه ويواليه وينصره، ويأخذ عنه ما تقدم من الشُّبَه وأمثالها؛ ولذلك أسباب منها البغضاء ومتابعة الهوى وعدم قبول ما مَنَّ الله به من النور والهدى حيث عرف من جهة المُعَارِض، وتأملوا قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ} 1.وقد أجمع العلماء على أن نعمة الله المقصودة هنا هي بعثة محمد صلى الله عليه وسلم بالهدى ودين الحق اللَّذَيْنِ أَصْلُهُمَا وأساسُهما: عبادةُ الله وحده لا شريك له، وخلعُ ما سواه من الآلهة والأنداد. والكفر بهذه النعمة هو ردها وجحدها واختيار دعاء الصالحين، والتعلقُ على الأولياء والمقربين. فرحم الله امرأ تفكر في هذا، وبحث عن كلام المفسرين من أئمة الدين، وعلم أنه مُلاق ربه الذي عنده الجنة والنار. ثم فيما أجرى الله عليكم من العِبَر والعِظَات ما يُنَبِّه من كان له قلب أو فيه أدنى حياة، قال تعالى لنبيه موسى: {وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ} 2 وجماعتكم أعيى المسلمين داؤهم، وعَزَّ عمّا هم عليه انتقالهم، وما أحسن ما قال أخو بني قريظة لقومه: أفي كل موطن لا تعقلون {وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} 3 وصلى الله على محمد وآله وصحبه أجمعين وسلم تسليما كثيرا.

_ 1 سورة إبراهيم آية: 28. 2 سورة إبراهيم آية: 5. 3 سورة الأحزاب آية: 4.

الرسالة الرابعة عشرة: [الهجرة من أركان الدين]

الرسالة الرابعة عشرة: [الهجرة من أركان الدين] وله أيضا -قدس الله روحه، ونور ضريحه- رسالة تكلم فيها على سبيل الإيجاز والاختصار جوابا لمسائل سأله عنها علي بن حمد بن سليمان لمَّا قدم إلى بلدة فارس، وهذا نصها: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد اللطيف بن عبد الرحمن إلى الابن علي بن حمد بن سلمان، سلمه الله تعالى وزينه بزينة الإيمان. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد، فأحمد إليك الله على إنعامه، والخط وصل، وما ذكرت صار معلوما. فأما رغبتك عن البلد التي تظهر فيها أعلام الكفر والشركيات، وتهدم قواعد الإسلام والتوحيد، ويرفع فيها إلى غير أحكام القرآن المجيد، فقد أحسنتَ فيما فعلت، والهجرة ركن من أركان الدين، نسأل الله أن يكتب لك أجر المخلصين الصادقين. وأما وصولك إلى بلدة فارس فالذين رأيتهم ينتسبون إلى متابعة الشيخ محمد -رحمه الله- فهم كما ذكرت في خطك، لكن فيهم جهال لا يعرفون ما كان الشيخ عليه وأمثاله من أئمة الهدى، وفيهم من بدعة المعتزلة والخوارج، ولا معرفة لهم بالعقائد والنِّحَل واختلاف الناس. والزمانُ زمانُ فَتْرَةٍ يُشبه زمنَ الجاهلية، وإن كانت الكتب موجودة، فهي لا تغني ما لم يُساعدهم التوفيق، وتؤخذ المعاني والحدود والأحكام من عالم رباني كما قيل: والجهل داء قاتل وشفاؤه ... أمران في التركيب متفقان نص من القرآن أو من سنة ... وطبيب ذاك العالم الرباني

والكتب السماوية بأيدي أهل الكتاب، وقد صار منهم ما صار. وأسباب الجهل والهلاك قد تواترت جدا، وقد قال بعض الأفاضل منذ أزمان: ليس العجب ممن هلك كيف هلك، إنما العجب ممن نجا كيف نجا. وهؤلاء الذين ذكرتهم من أهل فارس وذكرت عنهم تلك العقائد الخبيثة ليسوا بعرب يفهمون الأوضاع العربية، والحقائق الشرعية والحدود الدينية، ولا يرجعون إلى نص من كتاب ولا سنة، وإنما هو تقليد لمن يحسنون به الظن من غير فهم ولا بصيرة، قال الحسن البصري في أمثالهم من المعتزلة من العجم: إنَّ عُجْمَتَهُم قَصُرَتْ بهم عن إدراك المعالي الشرعية، والحقائق الإيمانية؛ وكذلك لما نَاظَرَ عمرو بن العلاء عمرو بن عبيد من رؤوس المعتزلة وَجَدَهُ لا يُفرق بين الوعد والوعيد، فقال: من العُجْمَة أُتِيتَ. وأما عبد الرحمن البهمني فهو -على ما نقلت عنه- في غاية الجهالة والضلالة، وله من طريق غلاة الجهمية نصيب وافر، وله من الاعتزال ومن نِحْلَة الخوارج نصيبٌ. وكلام أهل الإسلام وأئمة العلم في الجهمية والمعتزلة والخوارج مشهور. فأما جهم بن صفوان فطريقته في التعطيل، ونفي العلو، والاستواء، والكلام، وسائر الصفات قد أخذها عن الجعد بن درهم، والجعد أخذها بالواسطة عن لبيد بن الأعصم اليهودي الذي صنع السحر لرسول الله صلى الله عليه وسلم وكانوا يخفون مقالتهم ومن أظهر شيئا من ذلك قُتِلَ كما صنع خالد بن عبد الله القسري أمير واسط بالجعد بن درهم فإنه ضَحَّى به يوم العيد، وقال على المنبر: أيها الناس ضَحُّوا -تقبل الله ضحاياكم- فإني مُضَحٍّ بالجعد بن درهم، إنه يزعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلا، ولم يكلم موسى تكليما، تعالى الله عما يقول الجعد

علوا كبيرا، ثم نزل فذبحه، والجهم قُتِلَ أيضا لَمَّا ظهرتْ مقالته. [قول العلماء في الجهمية والرد عليهم] ثم لما كان في زمن الخليفة المأمون العباسي ظهرتْ في الناس تلك المقالات بواسطة بعض الوزراء والأمراء، وكثُر الخوضُ فصاح بهم أهل الإسلام من كل ناحية وبَدَّعُوهُمْ وفَسَّقُوهُمْ، وكَفَّرُوهم. قال ابن المبارك، الإمام الجليل من أكابر أهل السنة: مَن لم يعرف أن الله فوق عرشه بائن من خلقه فهو كافر يُسْتَتَاب، فإن تاب وإلا قتل، ولا يدفن في مقابر المسلمين ولا مقابر أهل الذمة لئلا يتأذى به أهل الذمة من اليهود والنصارى. وقال الفضيل بن عياض، ويوسف بن أسباط: الجهمية ليست من الثلاث والسبعين فرقة التي افترقت إليها هذه الأمةُ، يعني أنهم لا يدخلون في أهل القبلة. وقد صُنِّفَت التصانيفُ وجُمِعَتْ النصوصُ والآثارُ في الرد عليهم وتكفيرهم، وأنهم خالفوا المعقول والمنقول، وأن قولهم يؤول إلى أنهم لا يُثْبِتُونَ رَبًا يُعْبَد، ولا إلها يُصلى له ويسجد، وإنما هو تعطيل محض، ولذلك كفروهم. قال ابن القيم في الكافية الشافية: ولقد تقلد كفرهم خمسون في ... عشر من العلماء في البلدان يعني أن خمسمائة عالم، أئمةٌ مشاهيرٌ جزموا بكفرهم ونصوا عليه، وحُجَجُهُم وشُبَهاتهم واهيةٌ داحضةٌ لا تروج على مَن شَمَّ رائحة الإسلام، قال بعض العلماء: أهل البدع لهم نصوص يُدْلُون بها، قد اشتبه عليهم معناها ولم يهتدوا فيها، إلا الجهمية فليس معهم شيء مما جاءت به الرسل ونزلت به الكتب انتهى. والقرآن والسنة كلّها رَدَّ عليهم، قال بعض أصحاب الإمام الشافعي -رحمه الله-: في القرآن ألف دليل على علو الله على خلقه، وأنه فوق العرش، وذكر ابن القيم طرفا صالحا في نونيته من ذلك، وأما نصوص السنة وكلام

أهل العلم فلا يحصيها ويحيط به إلا الله. ويكفي المؤمن أن يعلم أن كل من عرف الله بصفات جلاله ونعوت كماله، وتبين له شيء من ربوبيته وأفعاله يعلم ويتقن أنه هو العلي الأعلى الذي على عرشه استوى، وعلى الملك احتوى، وأنه القاهر فوق عباده، وأنه يدبر الأمر من السماء إلى الأرض، ولا يشك في ذلك إلا مَن اجْتَالَتْهُ الشياطين عن الفطرة التي فطر الله الناس عليها. والكلام يستدعى بسطا طويلا، فعليك بكتب أهل السنة، واحذر كتب المبتدعة، فإنهم سوَّدُوها بالشبهات والجهالات التي تَلَقُّوهَا عن أسلافهم وشِيَعِهِم. وأما دعواهم أن النبي صلى الله عليه وسلم حيٌّ في قبره: فإن أرادوا الحياة الدنيوية فالنصوص والآثار والإجماع والحس يكذبه، قال تعالى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} 1، وقال تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} 2. وقد قام أبو بكر في الناس يوم مات النبي صلى الله عليه وسلم وقال: أما بعد، فمن كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، وتلا هذه الآية: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} 3 وأما إن أرادوا الحياة البرزخية كحياة الشهداء، فللأنبياء منها أفضلها وأكملها، ولنبينا محمد صلى الله عليه وسلم الحظ الوافر والنصيب الأكمل؛ ولكنها لا تنفي الموتَ، ولا تمنع إطلاقه على النبي والشهيد؛ وأمر البرزخ لا يعلمه ولا يحيط به إلا الله تعالى الذي خلقه وقدره. والواجب علينا: الإيمان بما جاءت به الرسل، ولا نتكلف ولا نقول بغير علم، والحياة الأخروية بعد البعث والنشور أكمل مما قبلها وأتم للسعداء والأشقياء.

_ 1 سورة الزمر آية: 30. 2 سورة الأنبياء آية: 34. 3 سورة آل عمران آية: 144.

[دعوى أن العبادة هي السجود فقط] وأما دعواه أن العبادة هي السجود فقط: فهذا الجهل ليس بغريب من مثل هذا الملحد. والنصوص القرآنية والأحاديث النبوية قد فصَّلتْ أنواع العبادة تفصيلا، وقسمتها تقسيما ونوَّعَتها تنويعا، قال تعالى: {الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ} 1 إلى قوله: {أُولَئِكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} 2 وهل المهتدون والمفلحون إلا خَوَاص عباد الله؟ وقال تعالى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} 3 إلى قوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} 4 فخصهم بالصدق والتقوى وحصرها فيهم، لأن ما ذُكِرَ: رأسُ العبادة والإيمان مُتضمنٌ لما لم يُذْكَر، مستلزمٌ له، فلهذا حَسُنَ الحصرُ. وقال تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرائيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} 5 إلى قوله: {وَآتُوا الزَّكَاةَ} 6، فبدأ بذكر العبادة المجملة، ثم خص بعض الأفراد تنبيها على الاهتمام، وأنها من أصول الدين، ولئلا يتوهم السامع أن العبادة تختص بنوعٍ دون ما ذكر في قوله: {وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ} 7، ومعلوم أن إقامة الصلاة داخلة فيما قبلها لأنها آكد الأركان الإسلامية بعد الشهادتين. وكذلك قوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} 8، والاستعانة: عبادة بالإجماع، وعطفها على ما قبلها اهتماما بالوسيلة وتنبيها على التوكل؛ وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالأِحْسَانِ} 9 إلى قوله: {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} 10 والعدل: يدخل فيه الواجبات كلها. والإحسان تدخل فيه نوافلُ الطاعات. وإيتاء ذي القربى يدخل فيه حق الأرحام ونحوها من العبادات المتعدية، والنهي عن الفحشاء والمنكر يدخل فيه ما نهى الله عنه من ظاهر الإثم وباطنه،

_ 1 سورة البقرة آية: 2. 2 سورة البقرة آية: 5. 3 سورة البقرة آية: 177. 4 سورة البقرة آية: 177. 5 سورة البقرة آية: 83. 6 سورة البقرة آية: 83. 7 سورة الأعراف آية: 170. 8 سورة الفاتحة آية: 5. 9 سورة النحل آية: 90. 10 سورة النحل آية: 90.

وتركه من أَجَلِّ العبادات. والبغي من أكبر السيئات، وتركه من أهم الطاعات، فهذا كله داخل في العبادة بالإجماع. وقال تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ} 1 إلى قوله: {وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَدْحُوراً} 2 فابتدأ الآية بالأمر بعبادته وحده لا شريك له؛ وعطف بقية العبادة المذكورة اهتماما بها وتنويها بشأنها. ولا قائل: إن ما ذكر ليس بعبادة؛ بل أهل اللغة وأهل الشرع من المفسرين وغيرهم، مُجْمِعُون على أن ما أمر به في هذه الآيات من أفضل ما يتقرب به العبد من القُرَب والعبادات، وما علمتُ أحدا من أهل العلم واللغة ينازع في ذلك؛ ولكن القوم كما تقدم عجمٌ أو مُوَلَّدُونَ. قال تعالى: {مَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ} 3، فعطف إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة على ما قبله، وإن كان يدخل فيه عند الإطلاق، تنبيهًا على ما تقدم من الاهتمام، والحض على ما ذكر في حديث جبريل المشهور في الكتب الستة وغيرها: " أن جبريل أتى النبي صلى الله عليه وسلم في صورة رجل وهو جالس في أصحابه فقال له: ما الإسلام؟ قال: الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا. قال: صدقت، قال: ما الإيمان؟ قال: أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، والبعث بعد الموت، وبالقدر خيره وشره. قال: صدقت. قال: فما الإحسان؟ قال: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك. ثم قال: هذا جبريل أتاكم يعلمكم أمر دينكم " 4 فجعل هذا كله هو الدين. والدين بمعنى العبادة بدليل قوله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ

_ 1 سورة الإسراء آية: 23. 2 سورة الإسراء آية: 39. 3 سورة البينة آية: 5. 4 البخاري: الإيمان (50) , ومسلم: الإيمان (9 ,10) , والنسائي: الإيمان وشرائعه (4991) , وابن ماجه: المقدمة (64) والفتن (4044) , وأحمد (2/426) .

وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَة ِ} 1 فجعل عبادة الله هي دين القيمة. وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: " الإيمان بضع وستون أو بضع وسبعون شعبة: أعلاها شهادة أن لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق " 2، ومن قال: ليست هذه الشعبة عبادة، فهو من أشر الدواب وأجهل الحيوان. وقد حصر النبي صلى الله عليه وسلم العبادة في بعض أفرادها، كما في حديث النعمان بن بشير أنه قال: " الدعاء هو العبادة " 3، وفي حديث أنس: " الدعاء مخ العبادة " 4 وكقوله: " الدعاء سلاح المؤمن وعماد الدين "، وكل ما ورد من فضائل الأعمال وأنواع الذكر داخلٌ في مسمى العبادة. وقد جمع ابن السني والنسائي في عمل اليوم والليلة من ذلك طَرَفًا يبين أن العبادة في أصل اللغة بمعنى الذل والخضوع كما قال بعضهم 5. تباري عتاقا ناجيات وأتبعت ... وظيفا وظيفا فوق مور معبد أي: طريق مُذَلَّل قد ذَلَّلَتْه الأقدام، مأخوذٌ من معنى الذل والخضوع يقال: دِنْتُهُ فَدَانَ أي: ذَلَّلْتُهُ فَذَلَّ. وفي الاصطلاح الشرعي: يدخل فيه كل ما يحبه ويرضاه من الأعمال الظاهرة والباطنة، الخاصة والمتعدية، البدنية والمالية. وكذلك عَرَّفَهَا الفقهاء بأنها: ما أُمِرَ به شرعًا من غير اطِّرَاد عُرْفي ولا اقتضاء عقلي. إذا عرف هذا، فالتقوى والعبادة والدين إذا أُفْرِدَتْ ولم تقترن بغيرها دخل فيها مجموع الدين وسائر العبادات، وإذا اقترنت بغيرها فُسِّرَ كل واحد بما يخصه، كالإيمان والعمل الصالح والإسلام والإيمان وصدق الحديث، وكالإيمان والصبر وكالعبادة والاستعانة، وكالتقوى وابتغاء الوسيلة،

_ 1 سورة البينة آية: 5. 2 مسلم: الإيمان (35) , والترمذي: الإيمان (2614) , والنسائي: الإيمان وشرائعه (5005) , وأبو داود: السنة (4676) , وابن ماجه: المقدمة (57) , وأحمد (2/414 ,2/445) . 3 الترمذي: تفسير القرآن (2969) , وابن ماجه: الدعاء (3828) . 4 الترمذي: الدعوات (3371) . 5 هو طرفة بن العبد في معلقته الشهيرة.

فَيُفَسَّرُ كُلٌّ بما يناسبه ويخصه كما في سورة الأحزاب: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ} 1، ففسر كل اسم بما يخصه مع الاقتران، وإذا أطلق اسم العبادة كما في قوله تعالى: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ} 2 واسم الأبرار، واسم الإيمان، واسم الإسلام في مقام المدح والثناء، دخل فيه الدين كله. فمن عرف هذا تبين له اصطلاحُ القرآن والسنة، وعرف أن هؤلاء المبتدعة من أجهل الناس بحدود ما أنزل الله على رسوله، والصلاة نفسها تشتمل على أقوال وأفعال غير السجود، وكلها عبادة بإجماع المسلمين، والقراءة عبادة، والقيام عبادة، والركوع عبادة، والرفع منه عبادة، والسجود عبادة، والجلوس عبادة، والأذكار المشروعة في تلك المواطن عبادة، والتكبير عبادة والتسليم عبادة. [القول بأن قبر الولي أفضل من الحجر الأسود] وأما قوله: إن قبر الولي أفضل من الحجر الأسود، فهذا من جنس ما قبله في الفساد والضلال. فإن الحجر الأسود يمين الله في أرضه، من صافحه واستلمه فكأنما بايع ربه، قال تعالى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدىً لِلْعَالَمِينَ فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً} 3، ولم يرد في قبور الأولياء ما يدل على مثل ذلك، فضلا عن أن يكون أفضل منه. والحج ركن من أركان الإسلام، والطواف بالبيت أحد أركان الحج، والركن الذي فيه الحجر الأسود أفضل من أركان البيت، والطواف من أفضل العبادات وأوجبها؛ والطواف بالقبور واستلامها والعُكُوف عندها من أوضاع المشركين والجاهلية؛ وفيه مُضَاهَاة لما يفعله اليهود والنصارى عند قبور أحبارهم ورهبانهم.

_ 1 سورة الأحزاب آية: 35. 2 سورة الفرقان آية: 61. 3 سورة آل عمران آية: 96.

وأفضل القبور على الإطلاق قبره صلى الله عليه وسلم، ولا يشرع تقبيله واستلامه بالإجماع، ولا يشرع الدعاءعنده، فلا يُشَبَّهُ بيت المخلوق ببيت الخالق، وبيت العبد ببيت الرب. وبالجملة فهذا القول قول شنيع، لا مُسْتَنَدَ له، ولا دليل عليه. وتقبيل الحجر الأسود مشروع، وكذا استلامه باليد، فإن استلمه بالمحجن ونحوه لعذر، فقد صح أن النبي صلى الله عليه وسلم أشار إلى الحجر الأسود، واستلمه بمحجن كان في يده. [صفة العلو والرد على منكريها] وأما قوله: إنكم تعتقدون العُلُوَّ، فنعم نعتقده ونُشْهِدُ اللهَ عليه، وكل مسلم عرف الله بأسمائه وصفاته يعتقد أنه هو العلي الأعلى، الذي على العرش استوى، وعلى الملك احتوى، هذا نص القرآن وقد قال تعالى: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ} 1. وأول من أنكر العلو فرعون إذ قال: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ} 2 فيما جاء به من الله، أن الله هو العلي الأعلى، وأنه فوق عباده مستو على عرشه. وأما الآية الكريمة التي احتج بها هذا الضال، فلم يعرف معناها، ولم يَدْرِ المرادَ منها، وأهل التفسير متفقون على أن المراد بقوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ} 3 أنه معبود في السماء ومعبود في الأرض لأنه الإله المعبود كما في قوله تعالى: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ} 4، وقال تعالى: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً} 5. وَالحُلُولِيَّة من غلاة الجهمية يرون أنه حَالٌّ بذاته في كل مكان، لم ينَزِّهُوه عن شيء، تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا، وأما حديث: " أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد " 6 فهو حديث

_ 1 سورة هود آية: 17. 2 سورة غافر آية: 36. 3 سورة الزخرف آية: 84. 4 سورة الأنعام آية: 3. 5 سورة مريم آية: 93. 6 مسلم: الصلاة (482) , والنسائي: التطبيق (1137) , وأبو داود: الصلاة (875) , وأحمد (2/421) .

صحيح جليل مثل قوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} 1 فالقرب في هذا ونحوه أضيف إلى العبد؛ والقلب إذا أناب إلى الله، وأخلص في عبادته، وصدق في معاملته، كان له من القرب بحسب صدقه وإخلاصه ورتبته من الإيمان، فترتفع عنه حُجُب الشهوات والشبهات، ويَنْقَشِعُ عنه ليلُها وظلامُها، وهذا المعنى حق لا يشك فيه. ويضاف القرب إلى الله كما في قوله تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} 2، فهذا قرب خاص للسائلين والداعين، وقد يقرب من عباده ومن القلوب الطيبة كيف ما شاء، لكنه قرب خاص، ليس كما يظنه الجهميُّ من أن ذاته تحل في المخلوقات، فهو -سبحانه- ليس كمثله شيء في صفاته وكمال عظمته وقدرته، ينْزل إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر، وهو مستو على عرشه، عالٍ فوق خلقه، لا تحيط به المخلوقات، ولا تحتوي عليه الكائنات، ويدنو عَشِيَة عرفة فيباهي ملائكته بأهل الموقف، ومع ذلك فصفة العلو والاستواء ثابتة في تلك الحال، لا يخلو العرش منه، ولا يعلم قدر عظمته إلا هو جل ثناؤه، وتقدست أسماؤه. وقد يكون المؤمن المخلص القريب من الله في مكان، معه مَن هو ملعون مطرود عن رحمة الله، وهما في مكان واحد، كما جرى لموسى وفرعون. فالقرب الذي وردت به الأحاديث، وصرحت به النصوص، حجة على الجهمي المعطل للعلو القائل بأن الله في كل مكان، تعالى الله وتقدس. فهؤلاء الجهال خاضوا فيما قَصُرَتْ عقولهم وأفهامهم عن إدراك معناه وما يراد به، فصاروا في بحر الشبهات غرقى، لا يعرفون ربا، ولا يستدلون بصفة من صفاته على معرفة كماله وجلاله. وقد بَلَّغَ الرسولُ ما أنزل إليه من ربه قراءة على الناس، وأكثره في معرفة

_ 1 سورة الإسراء آية: 57. 2 سورة البقرة آية: 186.

الرب وصفاته، وربوبيته وتوحيده، سَمِعَه منهم قَرَوِيُّهم وبَدَوِيُّهم، خاصهم وعامهم، عربهم وعجمهم، ولم يُشْكِلْ على أحد منهم ذاك ولا شك فيه، بل آمنوا به وعرفوا المراد منه، ومضت القرون الثلاثة على إثبات ذلك والإيمان به، وتلقي معناه عن الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى: {إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} 1. وإن جحد بعض المنافقين فهو مدحورٌ مقهورٌ حتى حدث ما حدث في آخر القرن الثالث وما بعده. [الآيات في بطلان الشرك] وأما دعواه أن الأولياء يقدرون على خلق ولد من غير أب، فهذه طامةٌ كبرى ورِدَّةٌ صريحة، وتكذيبٌ لجميع الكتب السماوية، ورَدٌّ على كل رسول، ومخالفةٌ لإجماع الأمم المنتسبين إلى الرسل والكتب السماوية؛ فإنهم مجمعون على أن الله هو الخالق وحده، وغيره مخلوق، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} 2، وقال تعالى: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} 3، وقال تعالى: {أَيُشْرِكُونَ مَا لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ} 4، ولو كان لغير الله شركة في الخلق والتأثير لكان له شركة في الربوبية والإلهية، وقال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ} 5 الآية، فنفى سبحانه عن غيره أن يكون له ملك في السماوات والأرض، ولو قلَّ كمثقال ذرة، ونفى الشركة أيضا في القليل والكثير، ونفى أن يكون له ظهير وعون يعاونه في خلق أو تدبير؛ فإنه الغني بذاته عن كل ما سواه، والخلق بأسرهم فقراء إليه، ثم نفى الشفاعة إلا لمن أذن له.

_ 1 سورة النجم آية: 4. 2 سورة فاطر آية: 3. 3 سورة الأنعام آية: 102. 4 سورة الأعراف آية: 191. 5 سورة سبأ آية: 22.

قال بعض السلف: هذه تقطع عروق شجرة الشرك من أصلها، ومعلومٌ أنَّ مَنْ يُخْلَقُ له مُلْكٌ مَا خَلَقَهُ، ولو كان ثَمَّ خالق غير الله تعددت الأرباب والآلهة، قال الله تعالى: {لوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ} 1، وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} 2، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} 3، فعيسى دخل في عموم هذه الآيات، ولم يخالف في ذلك إلا من ضل من النصارى، قال تعالى في خصوص عيسى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} 4، فكان عيسى بكن كما كان آدم، وقال تعالى: {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} 5 إلى قوله: {مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ} 6، فاعترف أن الله ربه وخالقه ومعبوده، فكفى بهذه النصوص ردًّا على من أشرك بالله وجعل معه خالقا آخر. وما احتج الملحد من قوله حاكيا عن جبريل أنه قال لمريم: {قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيّاً} 7، فيقال قراءة البصريين (ليهب لك) بالياء وهي تفسير للقراءة8، وعلى القراءة الأخرى نسبة الهبة إليه أنه بسبب نفخ الروح في درعها، والسبب يضاف إليه الفعل كما جزم به البيضاوي وغيره في هذه الآية، والله -سبحانه وتعالى- ينفذ أمره الكوني على يد من يشاء من ملائكته، وربما نسب الفعل إليهم كما قال تعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا} 9، وقال تعالى في موضع آخر: {وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ} 10، وقال تعالى:

_ 1 سورة الأنبياء آية: 22. 2 سورة آل عمران آية: 6. 3 سورة البقرة آية: 21. 4 سورة آل عمران آية: 59. 5 سورة المائدة آية: 116. 6 سورة المائدة آية: 117. 7 سورة مريم آية: 19. 8 لعل أصله: لقراءة لأهب. أو للقراءة الأخرى. 9 سورة الزمر آية: 42. 10 سورة الأنفال آية: 50.

{حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ} 1، فأضافه إليهم لأنهم موكلون بقبض الأرواح، ولما كانوا لا يستقلون بشيء من دونه، ولا يفعلون إلا بمشيئته وحوله وقوته، صرح بهذا المعنى في الآية الأولى، فقال: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا} 2. وأبلغ من هذا أنه نسب إليهم التدبير في قوله تعالى: {فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْراً} 3 لأنهم رسل بأمره الكوني، وأخبر بأنه المدبر الفاعل المختار في غير آية من كتاب الله كقوله: {يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ} 4، وقال: {يُدَبِّرُ الأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ} 5، وقوله: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ} 6 إلى قوله: {وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ} 7، إلى غير ذلك من الآيات الدالة على اختصاصه تعالى بالتدبير والإيجاد، وفي الحديث القدسي: " ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي، فلْيخلقوا ذرة، أو يخلقوا شعيرة " 8، وقال تعالى: {الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} 9.وأكابر الخلق كالملائكة والأنبياء لم يَدَّعِ أحدٌ منهم أنه إله، وأنه يخلق كما قال في حق الملائكة: {بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} 10 وقال تعالى: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَاداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} 11، فأخبر أن اتخاذهم

_ 1 سورة الأنعام آية: 61. 2 سورة الزمر آية: 42. 3 سورة النازعات آية: 5. 4 سورة السجدة آية: 5. 5 سورة يونس آية: 3. 6 سورة يونس آية: 31. 7 سورة يونس آية: 31. 8 البخاري: التوحيد (7559) , ومسلم: اللباس والزينة (2111) , وأحمد (2/232 ,2/259 ,2/451 ,2/527) . 9 سورة الحج آية: 73. 10 سورة الأنبياء آية: 26. 11 سورة آل عمران آية: 79.

أربابا كفرٌ بعد الإسلام، وأيضا فآخر الآية وهو قوله تعالى: {قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً} 1، وهو الذي قدره وقضاه. كل هذا يرد على المبطل، فَتَفَطَّنْ له هَدَاك الله، الأدلة على تَفَرُّدِهِ سبحانه وتعالى بالخلق والإيجاد والتدبير لا يحيط بها إلا هو سبحانه. وفي كل شيء له آية ... تدل على أنه واحد وأما كونهم لا يشهدون الجمعة والجماعة، ولا يسلمون، ولا يردون السلام، فهم بذلك مُخَالِفُونَ لأهل السنة والجماعة من سلف الأمة وأئمتها، ولو وجد في الإمام من الفجور ما لا يخرجه عن الإسلام، فأهل السنة يصلون خلف أهل الأهواء إذا تعذرت الجمعة والجماعة خلف غيرهم. وإن كانوا يَرَوْنَ كُفْر من لا يوافقهم على أهوائهم، فهم من جنس الخوارج الذين وردت فيهم الأحاديث الصحيحة بأنهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، وأنهم كلاب أهل النار. وصلى الله على سيد ولد آدم وعلى آله وصحبه الذين جاهدوا في الله حق جهاده آمين، والحمد لله على التمام وحسن الختام.

_ 1 سورة مريم آية: 21.

الرسالة الخامسة عشرة: [تفسير قوله تعالى ويعبدون من دون الله ما لايضرهم ولا ينفعهم]

الرسالة الخامسة عشرة: [تفسير قوله تعالى ويعبدون من دون الله ما لايضرهم ولا ينفعهم] وله أيضا -قدس الله روحه، ونوَّر ضريحه- رسالة إلى زيد بن محمد، هذا نصها: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد اللطيف بن عبد الرحمن إلى الأخ المكرم زيد بن محمد، زاده الله علما، ووهب لنا وله حُكْمًا. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد، فالخط الذي فيه المسائل وصل، وحصل من الاشتغال والموانع ما اقتضى تأخير الجواب، ونسأل الله لنا الإعانة على ما يقرب إليه من العلم والعمل. أما المسألة الأولى: عن قوله تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ} 1، وقول السائل: إن الرب -تبارك وتعالى- لا يخفى عليه شيء، وقد قال في سورة العنكبوت: {إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ} 2.فالجواب -وبالله التوفيق- أن كلا من الآيتين الكريمتين على عمومهما وإطلاقهما يُصَدِّق بعضها بعضا، فأما آية يونس، ففيها الإخبار بنفي ما ادعاه المشركون، وزعموه من وجود شفيع يشفع بدون إذنه -تبارك وتعالى- وأن هذا لا يعلم الله وجوده لا في السماوات ولا في الأرض، بل مجرد زعم وافتراء، وما لا يعلم وجوده مستحيل الوجود، منفي غاية النفي. فالآية رد على المشركين الذين تعلقوا بالشركاء والأنداد بقصد الشفاعة عند الله

_ 1 سورة يونس آية: 18. 2 سورة العنكبوت آية: 42.

والتقرب إليه. وأما آية العنكبوت ففيها إثبات علمه سبحانه- لكل مدعو ومعبود من أي شيء كان، ولا يخفى عليه خافية، ولا يعزب عنه مثقال ذرة. ففي الأولى: نفي العلم بوجود ما لا وجود له بحال، والآية الثانية: فيها إثبات العلم بوجود ما عبدوه ودعوه مع الله من الآلهة التي لا تضر ولا تنفع. قال ابن جرير -رحمه الله- في الكلام على آية يونس: يقول -تعالى ذكره-: ويعبد هؤلاء المشركون -الذين وصفت صفتهم- الذي لا يضرهم شيئا ولا ينفعهم في الدنيا ولا في الآخرة؛ وذلك هو الآلهة والأصنام التي كانوا يعبدونهم رجاء شفاعتهم عند الله، قال تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: {قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ} 1 يقول: أتخبرون الله بما لا يكون في السماوات ولا في الأرض؟ وذلك أن الآلهة لا تشفع لهم عند الله في السماوات ولا في الأرض؛ وكان المشركون يزعمون أنها تشفع لهم عند الله، فقال الله لنبيه صلى الله عليه وسلم قل لهم: أتخبرون الله بما لا يشفع في السماوات ولا في الأرض ليشفع لكم فيها؟ وذلك باطل لا يعلم حقيقته وصحته، بل يعلم أن ذلك خلاف ما تقولون؛ وأنها لا تشفع لأحد ولا تنفع ولا تضر. انتهى. وحاصله أن النفي واقع على ما اعتقدوه وظنوه من وجود شفيع يشفع وينفع، ويقرب إلى الله، وذلك الظن والاعتقاد وَهْمٌ وخيالٌ باطلٌ لا وجود له. وبنحو ذلك قال ابن كثير: يقول: ينكر تعالى على المشركين الذين عبدوا مع الله غيره ظانين أن تلك الآلهة تنفعهم شفاعتها عند الله، وأخبر أنها لا تنفع ولا تضر، ولا تملك شيئا، ولا يقع شيء مما يزعمون فيها، ولا يكون هذا أبدا، ولهذا قال تعالى: {قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي

_ 1 سورة يونس آية: 18.

السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ} 1. انتهى. وقال أبو السعود الرومي2في قوله: {قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ} 3 أعني: أتخبرونه بما لا وجود له أصلا؟ وهو كون الأصنام شفعاءهم عند الله، إذ لو كان ذلك: لعلمه علام الغيوب، وفيه تقريع لهم وتَهَكُّمٌ بهم، وبما يَدَّعُونَ من المُحَال الذي لا يكاد يدخل تحت الصحة والإمكان. وقوله: {فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ} 4: حال من العائذ المحذوف في "يعلم" مؤكِّدَة للنفي؛ لأن ما لا يوجد فيها فهو منتف عادة. انتهى. وقال العلامة ابن القيم -رحمه الله- في الكلام على هذه الآية: هذا نفيٌ لما ادعاه المشركون من الشفعاء، لِنَفْيِ علم الرب - تعالى- بهم المستلزِم لنفي المعلوم، ولا يمكن أعداء الله المكابرة، وأن يقولوا: قد علم الله وجود ذلك لأنه تعالى إنما يعلم وجود ما أوجده وكَوَّنَهُ، ويعلم أن سيوجد ما يريد إيجاده، فهو يعلم نفسه، وصفاته، ومخلوقاته التي دخلت في الوجود وانقطعت، والتي دخلت في الوجود وبقيت، والتي لم توجد بعد. وأما وجود شيء آخر غير مخلوق ولا مربوب، فالرب -تعالى- لا يعلم لأنه مستحيل في نفسه، فهو سبحانه يعلمه مستحيلا لا يعلمه واقعا، ولو علمه واقعا لكان العلم به عين الجهل، وذاك من أعظم المحال، فكذلك

_ 1 سورة يونس آية: 18. 2 هو أبو السعود ابن العماد صاحب التفسير المشهور المطبوع في حواشي التفسير الكبير للرازي نسبه إلى الروم؛ لأنه كان شيخ الإسلام للدولة العثمانية، وكانت تسمى دولة الروم، ويلقب شيخ الإسلام فيها بمفتي الروم؛ لأن عاصمتها "القسطنطينية" وما يحيط بها من البلاد كانت بلاد الروم، وما اشتهرت باسم الدولة التركية والعثمانية إلا في القرن الماضي، والإفرنج هم الذين سموها "تركيا" ولكن أبا السعود هذا عربي الأصل، ونشأ في تلك البلاد. 3 سورة يونس آية: 18. 4 سورة يونس آية: 18.

حُجَج الرب -تبارك وتعالى- على بطلان ما نسبه إليه أعداؤه المفترون التي هي كالضريع الذي لا يسمن ولا يغني من جوع، فإذا وازنت بينها ظهرتْ لك الفاصلةُ إن كنت بصيرا: {وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً} 1 انتهى. [تفسير وما يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء] (وأما المسألة الثانية) عن قوله تعالى: {وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ} 2 الآية، فقد أشكل معناها على كثير من المفسرين، فزعموا أن المعنى: نفي اتباعهم شركاء فجعلوا (ما) نافية و (شركاء) مفعول يتبع، أي: لم يتبعوا في الحقيقة شركاء، بل هم عباد مخلوقون مربوبون، والله هو الإله الحق لا شريك له. وأما ابن جرير فقرر أن (ما) في هذا المحل استفهامية لا نافية قال -رحمه الله-: ومعنى الكلام أيّ شيءٍ يَتَّبِعُ مَن يقول: لله شركاء في سلطانه وملكه كاذبا؟ والله المتفرد بملك كل شيء في سماء كان أو أرض،: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ} 3 يقول: ما يتبعون في قيلهم ذلك إلا الظن، يقول: إلا الشك لا اليقين: {وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ} 4 انتهى. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: ظن طائفة أن (ما) هاهنا نافية، وقالوا: ما يدعون من دون الله شركاء في الحقيقة، بل هم غير شركاء، وهذا خطأ، ولكن (ما) هاهنا حرف استفهام، والمعنى: وأيّ شيء يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء؟ ما يتبعون إلا الظن، وإن هم إلا يخرصون. ف"شركاء": مفعول يدعون، لا مفعول يتبع؛ فإن المشركين يدعون من دون الله شركاء، كما أخبر عنهم بذلك في غير موضع، فالشركاء موصوفون في القرآن بأنهم يُدْعَوْنَ من دون الله، ولم يوصفوا بأنهم يُتَّبعون، فإنما الأئمة الذين كانوا يَدَّعُونَ هذه الآية، ولهذا قال بعدها: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ} 5 ولو أراد

_ 1 سورة الإسراء آية: 72. 2 سورة يونس آية: 66. 3 سورة يونس آية: 66. 4 سورة الأنعام آية: 116. 5 سورة يونس آية: 66.

أنهم ما يتبعون في الحقيقة شركاء لقال: إن يتبعون إلا من ليسوا بشركاء؛ بل هو استفهام يبين أن المشركين الذين دَعَوْا من دون الله شركاء، ما اتبعوا إلا الظن، ما اتبعوا علما؛ فإن المشرك لا يكون معه علم مطابق، وهو فيه ما يتبع إلا الظن، وهو الخَرْص والحزر وهو كذب وافتراء كقوله: {قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ} 1. [معنى أسألك بعقد العز من عرشك] (وأما المسألة الثالثة) عن قوله: أسألك بعقد العز من عرشك، وقول السائل ما معناه؟ فلا يخفى أن هذا ليس من الأدعية المرفوعة، ولذلك اختلف الناس فيه: فكره أبو حنيفة رحمه الله- المسألة بعقد العز، وأجازها صاحبه أبو يوسف لأنه قد يراد بهذه الكلمة المحل، أي: محل العقد وزمانه، ك "مَذْهَب" يُطلق على محل الذهاب وزمانه. وربما أريد بها المفعول ك "مَرْكِب" بمعنى المركوب، ويكون هنا اسم مصدر من عقد يعقد عقدا، والاسم معقد، ويكون صفة ذات، ولهذا قال أبو يوسف: معقد العز هو الله، وأما أبو حنيفة فنظر إلى أن اللفظ محتملٌ لمعاني متعددة، فلذلك كره المسألة به، وبهذا يتبين المعنى. [معنى دعاء: إلى من تكلني إلى بعيد يتجهمني] (وأما المسألة الرابعة) : عن قوله صلى الله عليه وسلم في الدعاء المشهور: " إلى من تكلني؟ إلى بعيد يتجهمني؟ " فاعلم أن التَّجَهُّم: الغلظة والعبوس والاستقبال بالوجه الكريه، والجَهْم: الغليظ المجتمِع، وجَهُمَ كَكَرُمَ جَهَامَة وجُهُومَة: استقبله بوجه كريه كَتَجَهُّمِهِ، والجَهْمَة: آخر الليل، أو بقية سواد من آخره، واجْتَهَمَ: دخل فيه. انتهى. وبه يظهر أن التجهم يقع على الاستقبال بوجه مظلم عبوس ومن صفات الجهم ... 2.

_ 1 سورة الذاريات آية: 10. 2 سقط هاهنا كلام نترك له بياضا ليضعه فيه من وجده، فإن ضاق عنه: وضع الباقي في الحاشية.

[المراد بالنور في قوله صلى الله عليه وسلم: أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات] (وأما المسألة الخامسة) عن قوله صلى الله عليه وسلم: " أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات " وقوله في حديث أبي موسى: " حجابه النور، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه " 1 وقول السائل هل يفسر بهذا النور أو لا؟ فالجواب: أن النور يضاف إلى الله إضافة الصفة إلى الموصوف، ويضاف إليه إضافة المفعول إلى فاعله، كما أشار إليه العلامة ابن القيم في نونيته، وما في دعائه صلى الله عليه وسلم مَخْرَجَهُ من الطائف من الأول 2 بلا ريب فهو صفة ذات، وكذلك تسمى تعالى وتقدس بهذا الاسم الأنْفَس. وأما ما في حديث أبي موسى من ذكر السُّبُحَات المضافة إلى وجه الله -تعالى- فهي من إضافة الصفة إلى الموصوف على ما يأتي تفسيره. وأما قوله: " حجابه النور" فقد ذكر السيوطي وغيره في الحجب آثارا عن السلف تدل على أن الله احتجب بحُجُبٍ من النور مخلوقة له، وكلام صاحب الكافية الشافية يشير إليه لأنه عطفه في الذكر على ما تقدم من أوصاف الذات، والأصل في العطف أن يكون في المُغَايَرَة. وقال في الجيوش الإسلامية: والله سبحانه- سَمَّى نفسه نورا، وجعل كتابه نورا، ورسوله صلى الله عليه وسلم نورا، ودينه نورا، واحتجب من خلقه بالنور، وجعل دار أوليائه نورا، وقال تعالى: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} 3 الآية، وقد فُسِّرَ بكونه منورَ السماوات والأرض، وهذا إنما هو فعل، وإلا فالنور

_ 1 مسلم: الإيمان (179) , وابن ماجه: المقدمة (195) , وأحمد (4/400 ,4/405) . 2 قوله: مَخْرَجَهُ من الطائف: ظرف متعلق بدعائه يقولون: فعل هذا مُنْصَرَفه من مكان كذا أو مخرجه من بلد كذا – والمعنى هنا دعاؤه "ص" وقت خرجه من الطائف. 3 سورة النور آية: 35.

الذي هو من أوصافه قائم به، ومنه اشتق له اسم النور الذي هو أحد الأسماء الحسنى. فالنور يضاف إليه سبحانه- على أحد وجهين: إضافة صفة إلى موصوفها، وإضافة فعل إلى فاعله، فالأول كقوله: {وَأَشْرَقَتِ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا} 1 إذا جاء لفصل القضاء، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم في الدعاء المشهور: " أعوذ بنور وجهك الكريم أن تُضِلَّنِي لا إله إلا أنت " وفي الأثر الآخر: " أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات" فأخبرصلى الله عليه وسلم أن الظلمات أشرقت بنور وجه الله، كما أخبر -تعالى- أن الأرض تشرق يوم القيامة بنوره. وفي معجم الطبراني والسنة له، وكتاب عثمان الدارمي وغيرهما، عن ابن مسعود رضي الله عنه: " ليس عند ربكم ليل ولا نهار، نور السموات والأرض من نور وجهه"، وهذا الذي قاله ابن مسعود رضي الله عنه أقرب إلى تفسير الآية من قول من فسرها: أنه هادي أهل السماوات والأرض. وأما من فسرها: بأنه مُنور السماوات والأرض، فلا تنافيَ بينه وبين قول ابن مسعود، والحق أنه نور السماوات والأرض بهذه الاعتبارات كلها. وفي صحيح مسلم وغيره من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: " قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمس كلمات: أن الله لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام " 2 فذكرها. وفي صحيح مسلم عن أبي ذر رضي الله عنه قال: "سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم هل رأيتَ ربك؟ قال: نورٌ أَنَّى أراه؟ " 3 قال شيخ الإسلام: معناه كان ثَمَّ نورٌ، أو حَالَ دون رؤيته نورٌ، وأَنَّى أراه؛ قال: ويدل عليه أن في بعض الألفاظ الصحيحة: هل رأيت ربك؟ قال: " رأيت نورا"، وذكر الكلام في الرؤية ثم قال: 4 ويدل على صحة ما قال شيخنا في معنى حديث أبي ذر رضي الله عنه

_ 1 سورة الزمر آية: 69. 2 مسلم: الإيمان (179) , وأحمد (4/400 ,4/405) . 3 مسلم: الإيمان (178) , والترمذي: تفسير القرآن (3282) , وأحمد (5/157 ,5/170 ,5/175) . 4 يعني ابن القيم.

قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الآخر: " حجابه النور " 1 فهذا النور هو -والله أعلم- النور المذكور في حديث أبي ذر " رأيت نورا " 2.وأما السبحات فهي نور الذات المقدسة العلية، وهي النور الذي استعاذ به صلى الله عليه وسلم وكلامه فيه إيماء إلى أنه -تعالى- احتجب بهذا النور المذكور، وهو الذي حجبه صلى الله عليه وسلم عن رؤية الباري -تعالىوتقدس-،وهذا النور الذي رآه صلى الله عليه وسلم كما تقدم في حديث أبي ذر: " رأيت نورا " 3 وقد احتجب -سبحانه وتعالى- بحجب عن خلقه من نور، ومن غيره كما ذكر في آثار مروية عن السلف جمع كثيرا منها السيوطي في كتاب الهيئة السنية، وإذا فسرت السبحات بنور وجهه الكريم جازت الاستعاذة بها لأنهاوصف ذات. ويؤيد ما أومأ إليه ابن القيم -رحمه الله- قول ابن الأثير: سبحات الله -جل جلاله- عظمته، وهي في الأصل جمع سبحة، وقيل: ضوء وجهه، وقيل سبحات وجهه محاسنه، وقيل: معناه تنْزيهه له أي سبحان وجهه، وقيل: إن سبحات الوجه كلام معترض بين الفعل والمفعول، أي: لو كشفها لأحرقت كل شيء أبصرت. (قلت) : يريد أن السبحات هي النور الذي احتجب به، ولذلك قال: لو كشفها، قال: وأقرب من هذا أن المعنى لو انكشف من أنوار الله -تعالى- التي تحجب العباد شيء لأهلك كل من وقع عليه ذلك النور كما خر موسى صعقا، وتقطع الجبل دكا لما تجلى الله -سبحانه وتعالى-، ففي كلام ابن الأثير ما يدل على أن الحجاب نفس أنوار الذات، فتأمله. وذكر ابن الأثير وغيره أن جبريل قال: لله دون العرش سبعون حجابا

_ 1 مسلم: الإيمان (179) , وابن ماجه: المقدمة (195) , وأحمد (4/400 ,4/405) . 2 مسلم: الإيمان (178) . 3 مسلم: الإيمان (178) .

لو دنونا من أحدها لأحرقتنا سبحات وجهه. انتهى. ومقتضى ما قال القرطبي في حديث أبي موسى "حجابه النور – أو النار": إن هذا حجاب منفصل عن أنوار الذات، لكنه يجري في هذه المباحث على طريق المتكلمين فيما جاء في هذا الباب من صفات الكمال ونعوت الجلال1. [معنى قوله تعالى: {لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودن في ملتنا} ] (وأما المسألة السادسة) عن قوله –تعالى- في قصة شعيب: {قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا} 2، وقول السائل: وهم لم يدخلوا فيها، فاعلم أن هذه المسألة شاعت، وذاعت، واشتهرت، وانتشرت، والخلاف فيها قديم بين أهل السنة والمعتزلة، وبين أهل السنة بعضهم لبعض، والذي روى ابن أبي حاتم عن عطية عن ابن عباس كانت الرسل والمؤمنون يستضعفهم قومهم، ويقهرونهم، ويدعونهم إلى العود في ملتهم، فأبى الله لرسله والمؤمنين أن يعودوا في ملتهم

_ 1 قد أوجز -رحمه الله تعالى-،واختصر في هذه المسألة حتى فيما نقله عن المحقق ابن القيم، وقد حققنا مبحث النور، والحجب الإلهية في الكلام على رؤية الرب -تعالى- من تفسير آية الأعراف (7: 142) فقد بلغ الكلام في تفسيرها زهاء سبعين صفحة، ونقلنا في بحث النور، والحجب منها كلاما نفيسا لابن القيم من مدارج السالكين، ومن الوابل الصيب، ووضحناه بما يزيل إشكال من استشكله، ونبهنا في إيضاحه إلى الحاشية الوجيزة التي علقناها على عبارة الوابل الصيب من مجموعة الحديث النجدية، أردنا منها أن آخر ماوصل إليه علماء الكون في النور، والتكوين يؤيده، ويؤيده مذهب السلف، ويبطل قاعدة المتأولة الذي أولوا النور في الآيات، والأحاديث ثم قلت بعد هذا: وقد علمنا أن بعض الذين اطلعوا على هذه الحاشية في مجموعة الحديث لم يفهموها، فاضطربوا فيها، ولهم العذر فإنها على غرابة موضوعها مبهمة لم توضح المقام لأمثالهم كما كان يجب" اهـ فليراجع البحث كله في الجزء التاسع من تفسيرنا. 2 سورة الأعراف آية: 88.

في ملة الكفر، وأمرهم أن يتوكلوا عليه. وقد رواه السدي عن أشياخه، وتأوله عطية على أنه العود إلى السكوت كما كانت الرسل قبل الرسالة، وأنهم كانوا أغفالا قبل النبوة، أي: لا علم لهم بما جاءهم من عند الله. قال: وذلك عند الكفار عود في ملتهم. وهذا الذي رأيته منصوصا عن مفسري السلف، وأما من بعدهم كابن الأنباري والزجاج وابن الجوزي والثعلبي والبغوي، فهؤلاء يؤولون ذلك على معنى لتصيرن، ولتدخلن، وجعلوه بمعنى الابتداء، لا بمعنى الرجوع إلى شيء قد كان، وأنشدوا على ذلك ما اشتهر عنهم في تفاسيرهم كقول الشاعر: فإن تكن الأيام أحسن مرة ... إليّ لقد عادت لهن ذنوب وكقوله: وما المرء إلا كالشهاب وضوؤه ... يحور رمادا بعد ما كان ساطعا وقول أمية: تلك المكارم لا قعبان من لبن ... شيبا بماء فعادا بعد أبوالا وأمثال ذلك مما يدل على الابتداء. وبعضهم أبقاه على معناه، وقال: هو التغليب، لأن قومهم كانوا في ملة الكفر، فغلب الجمع على الواحد؛ لكن تعقب ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله- فقال: وأما التغليب فلا يتأتى في سورة إبراهيم 1 وأما جعلها بمعنى الابتداء، والصيرورة فالذي في الآيات الكريمة عود مقيد بالعود في ملتهم، فهو كقول النبي –صلى الله عليه وسلم-: " العائد في هبته كالعائد في

_ 1 المراد آية: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا} ،ولم يتكرر فيها ذكر العود كآية الأعراف.

قيئه " 1.وقوله: " وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه " 2 وقوله – تعالى-: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ} 3 فالعود في مثل هذا الموضع عود مقيد صريح بالعود إلى أمر كان عليه الرسل وأتباعهم، لا يحتمل غير ذلك؛ ولا يقال: إن العود في مثل هذا يكون عودا مبتدأ، وما ذكر من الشواهد فأفعال مطلقة ليس فيها أنه عاد لكذا، ولا عاد فيه. قال: ولهذا يسمى المرتد عن الإسلام مرتدا، وإن كان ... 4.ولو على الإسلام، ولم يكن كافرا عند عامة العلماء. قال: وأما قولهم: إن شعيبا والرسل ما كانوا في ملتهم قط، وهي ملة الكفر فهذا فيه نزاع مشهور، وبكل حال فهو خبر يحتاج إلى دليل عقلي، وليس في أدلة الكتاب والسنة والإجماع ما يخبر بذلك، وأما العقل ففيه نزاع، والذي تظاهر عليه أهل السنة أنه ليس في العقل ما يمنع ذلك. وقال أبو بكر الخطيب البغدادي: وقال كثير منهم، ومن أصحابنا، وأهل الحق: إنه لا يمتنع بعثة من كان كافرا، أو مصيبا للكبائر قبل بعثته، قال: ولا شيء عندنا يمنع من ذلك على ما نبين القول فيه، ثم ذكر الخطيب الخلاف في إصابته الذنوب بعد البعثة، وأطال الكلام ثم قال: [بعثة من كان مصيبا للكفر والكبائر قبل الرسالة] (فصل في بعثة من كان مصيبا للكفر والكبائر قبل الرسالة) قال: والذي يدل على ذلك أمور: أحدها: أن إرسال الرسول، وظهور الأعلام عليه اقتضى ودل لا محالة على إيمانه وصدقه وطهارة سريرته، وكمال علمه ومعرفته بالله، وأنه مؤد عنه دون غيره لأنه إنما يظهر الأعلام ليستدل بها على صدقه فيما يدعيه من الرسالة، فإذا كان بدلالة ظهورها عليه إلى هذه الحال من الطهارة والنّزاهة والإقلاع عما كان

_ 1 البخاري: الهبة وفضلها والتحريض عليها (2621) , ومسلم: الهبات (1622) , والترمذي: البيوع (1298) , والنسائي: الهبة (3693 ,3694 ,3695 ,3696 ,3697 ,3698 ,3699 ,3700 ,3701 ,3702 ,3703 ,3704 ,3705) والرقبى (3710) , وأبو داود: البيوع (3538) , وابن ماجه: الأحكام (2385) , وأحمد (1/217 ,1/237 ,1/250 ,1/280 ,1/289 ,1/291 ,1/327 ,1/339 ,1/342 ,1/345 ,1/349) . 2 البخاري: الإيمان (21) , ومسلم: الإيمان (43) , والترمذي: الإيمان (2624) , والنسائي: الإيمان وشرائعه (4987 ,4988 ,4989) , وابن ماجه: الفتن (4033) , وأحمد (3/103 ,3/113 ,3/172 ,3/174 ,3/230 ,3/248 ,3/278 ,3/288) . 3 سورة المجادلة آية: 8. 4 بياض في الأصل.

عليه لا يمنع بعثته وإلزام توقيره وتعظيمه، وإن وجد منه ضد ذلك قبل الرسالة، وأطال الكلام. ثم قال شيخ الإسلام: تحقيق القول في ذلك: إن الله –سبحانه وتعالى- إنما يصطفي لرسالته من كان خيار قومه كما قال: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} 1، وقال: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ} 2 وقال: ومن نشأ بين قوم مشركين جهال لم يكن عليه نقص ولا غضاضة إذا كان على مثل دينهم إذا كان عندهم معروفا بالصدق والأمانة وفعل ما يعرفون وجوبه، واجتناب ما يعرفون قبحه، وقد قال -تعالى-: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا ً} 3. ولم يكن هؤلاء مستوجبين العذاب قبل الرسالة إذا كان لا هو ولا هم يعلمون ما أرسل به، وفرق بين من يرتكب ما لا يعلم قبحه، وبين من يفعل ما لا يعرف؛ فإن هذا الثاني لا يذمونه، ولا يعيبونه عليه، ولا يكون ما فعله مما هم عليه منفردا عنه بخلاف الأول؛ ولهذا لم يكن في أنبياء بني إسرائيل من كان معروفا بشرك، فإنهم نشؤوا على شريعة التوراة، وإنما ذكر هذا فيمن كان قبلهم. وأما ما ذكر –سبحانه- في قصة شعيب، والأنبياء فليس في هذا ما ينفر أحدا عن القبول منهم، وكذلك الصحابة الذين آمنوا بالرسول صلى الله عليه وسلم بعد جاهليتهم، وكان فيهم من كان محمود الطريقة قبل الإسلام كأبي بكر الصديق رضي الله عنه، فإنه لم يزل معروفا بالصدق، والأمانة، ومكارم الأخلاق، ولم يكن فيه قبل الإسلام ما يعيبونه به، والجاهلية كانت مشتركة فيهم كلهم. وقد تبين أن ما أخبر عنه قبل النبوة في القرآن من أمر الأنبياء ليس فيه ما ينفر أحدا عن تصديقهم، ولا يوجب طعن قومهم، ولهذا لم يكن يذكر عن أحد

_ 1 سورة الأنعام آية: 124. 2 سورة الحج آية: 75. 3 سورة الإسراء آية: 15.

من المشركين عدَّ هذا قادحا في نبوته، ولو كانوا يرونه عيبا لعابوه، ولقالوا: كنتم أنتم أيضا على الحالة المذمومة، ولو ذكروا هذا للرسل؛ لقالوا: كنا كغيرنا لم نعرف ما أوحي به إلينا، ولكنهم قالوا: {إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنَا} 1، فقالت الرسل: {إِنْ نَحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} 2. (قال) : وقد اتفقوا كلهم على جواز بعثة رسول لم يعرف ما جاءت به الرسل قبله من أمور النبوة والشرائع، ومن لم يقر بهذا الرسول بعد الرسالة فهو كافر. والرسل قبل الوحي قد كانت لا تعلم لهذا فضلا عن أن تقر به، فعلم أن عدم هذا العلم والإيمان لا يقدح في نبوتهم، بل الله إذا نبأهم علمهم ما لم يكونوا يعلمون. (قلت) : وقوله: وقد اتفقوا كلهم يعني أهل السنة والمعتزلة، ثم قال -تعالى-: {يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} 3، وقال -تعالى-: {يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاتَّقُونِ} 4، فجعل إنذارهم بعبادته وحده كإنذار يوم التلاق، كلاهما عرفوه بالوحي، واستدل على هذا بآيات إلى أن قال: وقد تنازع الناس في نبيناصلى الله عليه وسلم قبل النبوة، وفي معاني بعض هذه الآيات في قوله -تعالى-: {وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ} 5، وفي قوله: {مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الأِيمَانُ} 6، وقوله: {وَوَجَدَكَ ضَالاً فَهَدَى} 7، وما تنازعوا في معنى آية الأعراف وآية إبراهيم، فقال قوم: لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم على دين قومه، ولا كان يأكل ذبائحهم، وهذا هو المنقول عن أحمد، قال: من زعم أنه على دين قومه، فهو قول سوء، أليس كان لا يأكل ما ذبح على النصب؟ ثم قال الشيخ: ولعل أحمد قال: أليس كان لا يعبد الأصنام؟ فغلط

_ 1 سورة إبراهيم آية: 10. 2 سورة إبراهيم آية: 11. 3 سورة غافر آية: 15. 4 سورة النحل آية: 2. 5 سورة يوسف آية: 3. 6 سورة الشورى آية: 52. 7 سورة الضحى آية: 7.

الناقل عنه، فإن هذا قد جاء في الآثار أنه كان لا يعبد الأصنام، وأما كونه لا يأكل من ذبائحهم، فهذا لا يعلم أنه جاء به أثر، وأحمد من أعلم الناس بالآثار، قال: والشرك حرم من حين أرسل الرسل، وأما تحريم ما ذبح على النصب، فإنه ما ذكر إلا في سورة المائدة، وقد ذكر في السور المكية كالأنعام والنحل تحريم ما أهل به لغير الله، وتحريم هذا إنما عرف من القرآن، وقبل القرآن لم يكن يعرف تحريم هذا بخلاف الشرك. ثم ذكر الفرق بين ما ذبحوه للحم، وبين ما ذبحوه للنصب على جهة القربة للأوثان قال: فهذا من جنس الشرك لا يقال قط في شريعة بحلها كما كانوا يتزوجون المشركات أولا. (قال: والقول الثاني) : إطلاق القول بأنه صلى الله عليه وسلم كان على دين قومه، وفسر ذلك بما كان عليه من بقايا دين إبراهيم، لا بالموافقة لهم على شركهم، وذكر أشياء مما كانوا عليه من بقايا الحنيفية كالحج والختان وتحريم الأمهات والبنات والأخوات والعمات والخالات. قال الشيخ: وهؤلاء إن أرادوا أن هذا الجنس مختص بالحنفاء، لا يحج يهودي ولا نصراني لا في الجاهلية ولا في الإسلام، فهو من لوازم الحنيفية، كما أنه لم يكن مسلما إلا من آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم، وأما قبل محمد، فكان بنو إسرائيل على ملة إبراهيم، وكان الحج مستحبا قبل محمد لم يكن مفروضا، ولهذا حج موسى ويونس وغيرهما من الأنبياء. ثم قال: ولكن تحريم المحرمات لا يشاركهم فيه أهل الكتاب، والختان يشاركهم فيه اليهود، وأطال في الرد والنقل عن ابن قتيبة، وذكر كلام ابن عطية في قوله: {وَوَجَدَكَ ضَالاً فَهَدَى} 1 أنه أعانه، وأقامه على غير الطريق

_ 1 سورة الضحى آية: 7.

التي كان عليها. هذا قول الحسن والضحاك، قال: والضلال يختلف فمنه القريب، ومنه البعيد، وكون الإنسان واقفا لا يميز بين المهيع ... 1. ضلال قريب لأنه لم يتمسك بطريقة ضالة بل كان يرتاد، وينظر. حفظ الرسول -عليه السلام- من مفاسد الجاهلية (قال) : والمنقول أنه -عليه السلام- كان قبل النبوة يبغض عبادة الأصنام، ولكن لم يكن ينهى عنها نهيا عاما، وإنما كان ينهي خواصه، وساق ما رواه أبو يعلى الموصلي، وفيه:" فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فطاف بالبيت، وبين الصفا والمروة، وكان عند الصفا والمروة صنمان من نحاس أحدهما أساف، والآخر نائلة، وكان المشركون إذا طافوا تمسحوا بهما فقال النبي صلى الله عليه وسلم لزيد: لا تمسحهما فإنهما رجس، فقلت في نفسي لأمسنهما حتى انظر ما يقول، فمسستهما فقال: يا زيد ألم تنهه؟ " وقال أبو عبد الله المقدسي: هذا حديث حسن له شاهد في الصحيح. والحديث معروف قد اختصره البيهقي، وزاد فيه: قال زيد بن حارثة: والذي أكرمه وأنزل عليه الكتاب ما استلم صنما قط حتى أكرمه الله بالذي أكرمه. وفي قصة بحيرا الراهب حين حلف باللات والعزى فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " لا تسألن باللات والعزى، فوالله ما أبغضت بغضهما شيئا قط ". وكأن الله قد نزهه عن أعمال الجاهلية، ولم يكن يشهد مجامع لهوهم، وكان إذا هم بشيء من ذلك ضرب الله على أذنه فأنامه، وقد روى البيهقي وغيره في ذلك آثارا. وقد كانت قريش يكشفون عوراتهم لشيل حجر ونحوه، فنزهه الله عن ذلك كما في الصحيحين من قول جابر، وفي مسند أحمد زيادة: " فنودي: لا تكشف عورتك فألقى الحجر، ولبس ثوبه "

_ 1 بياض بالأصل.

1. وكانوا يسمونه الصادق الأمين، وكان الله - عزوجل- قد صانه عن قبائحهم، ولم يعرف منه قط كذبة، ولا خيانة، ولا فاحشة، ولا ظلم قبل النبوة، بل شهد مع عمومته حلف المطيبين على نصرة المظلومين. وأما الإقرار بالصانع وعبادته، والإقرار بأن السماوات والأرض مخلوقة له، محدثة بعد أن لم تكن، وأنه لا خالق غيره؛ فهذا كان عامتهم يعرفونه، ويقرون به فكيف لا يعرفه هو، ويقر به؟ وذكر الشيخ بعض علامات النبوة، وتغير العالم بمولده، ثم قال: لكن هذا لا يجب أن يكون مثله لكل نبي، فإنه أفضل الأنبياء، وهو سيد ولد آدم، والله –سبحانه- إذا أهّل عبدا لأعلى المنازل والمراتب، رباه على قدر تلك المرتبة، فلا يلزم إذا عصم نبينا أن يكون معصوما قبل النبوة من كبائر الإثم، والفواحش صغيرها وكبيرها، أن يكون كل نبي كذلك، ولا يلزم إذا كان الله بغض إليه شرك قومه قبل النبوة أن يكون كل نبي كذلك، كما عرف من حال نبينا -صلى الله عليه وسلم-وفضائله لا تناقض من أخبار غيره إذا كان كذلك، ولا يمنع كونه نبيا لأن الله فضل بعض النبيين على بعض، كما فضلهم بالشرائع والكتب والأمم. وهذا أصل يجب اعتباره، وقد أخبر الله أن لوطا كان من أمة إبراهيم، وممن آمن له أن الله أرسله، والرسول الذي نشأ بين أهل الكفر الذين لا نبوة لهم، ثم يبعثه الله فيهم يكون أكمل وأعظم ممن كان من قومه لا يعرفونه، فإنه يكون بتأييد الله له أعظم من جهة تأييده بالعلم والهدى، ومن جهة تأييده بالنصر والقهر. (قلت) : وبهذا يظهر اختلاف درجات الأنبياء والرسل وعدم الاحتياج إلى التكلف في الجواب عن مثل آية إبراهيم ونحوها، وأن قصارى ما يقال

_ 1 أحمد (5/454) .

الرسالة السادسة عشرة: [رؤية الله سبحانه وتعالى في الجنة]

في مثل قوله لنبينا: {وَوَجَدَكَ ضَالاً فَهَدَى} 1، وقوله: {مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الأِيمَانُ} 2، هو عدم العلم بما جاء من النبوة والرسالة، وتفاصيل ما تضمن ذلك من الأحكام الشرعية والأصول الإيمانية. وهذا غاية ما تيسر لنا في هذا المقام الضنك الذي أحجم عنه فحول الرجال، وأهل الفضائل والكمال، ونستغفر الله من التجاسر والوثوب على الكلام في مثل هذا المبحث الذي زلت فيه أقدام، وضلت فيه أفهام، واضطربت فيه أقوال الأئمة الأعلام، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين. الرسالة السادسة عشرة: [رؤية الله سبحانه وتعالى في الجنة] [والفرق بين صفات المعاني والمعنوية] وله أيضا -قدس الله روحه، وعفا عنه- رسالة إلى محمد بن عون نزيل عمان، وسبب ذلك أوراق ألقيت إلى حضرة الشيخ الإمام وعلم الهداة الأعلام الشيخ عبد اللطيف -رحمه الله تعالى-، وحاصلها التلبيس والتشويش على عوام المسلمين، فأجابه -رحمه الله تعالى- بما كشف عن قناع هذه الشبهة الباطلة، والتمويهات التي هي عن الصراط السوي مائلة، مع أن صاحبها من الجهلة الطغام، ومن جملة سائمة الأنعام، وهذا نص الجواب: بسم الله الرحمن الرحيم من: عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى الأخ المكرم: محمد بن عون، سلمه الله تعالى، وأعانه على ذكره، وشكره، ووفقه للجهاد في سبيله، ومراغمة من تجهم أو نافق أو ارتد من أهل دهره، وعصره، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد، فنحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو على ما من به من سوابغ إنعامه، وجزيل فضله وإكرامه، والخط وصل-وصلك الله إلى ما يرضيه-، ويسرنا سلامتكم، وعافيتكم، وما ذكرت صار معلوما. والواجب على المكلفين في كل

_ 1 سورة الضحى آية: 7. 2 سورة الشورى آية: 52.

زمان ومكان الأخذ بما صح، وثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس لأحد أن يعدل عن ذلك إلى غيره. ومن عجز عن ذلك في شيء من أمر دينه، فعليه بما كان عليه السلف الصالح والصدر الأول. فإن لم يدر شيئا من ذلك، وصح عنده عن أحد الأئمة الأربعة المقلدين الذين لهم لسان صدق في الأمة، فتقليدهم سائغ حينئذ. فإن كان المكلف أنزل قدرا وأقل علما وأنقص فهما من أن يعرف شيئا من ذلك، فليتق الله ما استطاع، وليقلد الأعلم من أهل زمانه أو من قبلهم خصوصا من عرف بمتابعة السنة، وسلامة العقيدة، والبراءة من أهل البدع، فهؤلاء أحرى الناس، وأقربهم إلى الصواب، وأن يلهموا الحكمة، وتنطق بها ألسنتهم؛ فاعرف هذا، فإنه مهم جدا. ثم لا يخفاك أنه قد ألقي إلينا أوراق وردت من جهة عمان، كتبها بعض الضالين ليلبس بها، ويشوش بها على عوام المسلمين، ويتشبع بما لم يعط من معرفة الإيمان والدين، وبالوقوف على أوراقهم يعرف المؤمن حقيقة حالهم بعد ضلالهم، وكثافة أفهامهم، وأنه ملبوس عليهم لم يعرفوا ما جاءت به الرسل، ولم يتصوروه فضلا عن أن يدينوا به، ويلتزموه، وأسئلتهم ما وقعت لطلب الفائدة والفهم، بل للتشكيك والتمويه والتحلي بالرسم والوهم، ومن السنن المأثورة عن سلف الأمة وأئمتها. وعن إمام السنة أبي عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل -قدس الله روحه- التشديد في هجرهم وإهمالهم وترك جدالهم واطراح كلامهم، والتباعد عنهم حسب الإمكان، والتقرب إلى الله بمقتهم وذمهم وعيبهم. وقد ذكر الأئمة من ذلك جملة في كتب السنة مثل كتاب السنة لعبد الله بن الإمام أحمد، والسنة للخلال، والسنة لأبي بكر الأثرم، والسنة لأبي القاسم اللالكائي وأمثالهم،

فالواجب نهي أهل الإسلام عن سماع كلامهم ومجادلتهم، لا سيما وقد أقفر ربع العلم في تلك البلاد، وانطمست أعلامه، قال في الكافية الشافية: فانظر ترى لكن نرى لك تركها ... حذرا عليك مصايد الشيطان فشباكها, والله لم يعلق بها ... من ذي جناح قاصر الطيران ألا رأيت الطير في شبك الردى ... يبكي له نوح على الأغصان إذا عرف هذا، فإحدى الورقتين المشار إليهما ابتدأها الملحد بسؤال يدل على إفلاسه من العلم، ويشهد بجهالته وضلالته، وهو قوله: الرؤية ثابتة عند أهل السنة والجماعة في الجنة، هل هي بصفات الجلال والجمال والكمال؟ ولم يشعر هذا الجاهل الضال أن الرؤية تقع على الذات المتصفة بكل وصف يليق بعظمته وإلهيته وربوبيته من جلال وجمال وكمال، وأن صفات الجلال ترجع إلى الملك والمجد والسلطان والعزة، والجمال وصف ذاتي، كما أن الجلال كذلك. والكمال حاصل بكل صفة من صفاته العلى، فله الجلال الكامل، والجمال الكامل، والمجد والعزة التي لا تضاهي ولا تماثل؛ فهذه أوصاف ذاتية لا تنفك عنه في حال من الأحوال. وإنما يقال: تجلى بالجلال والمجد والعزة والسلطان إذا ظهرت آثار تلك الصفات، كما يقال: تجلى بالرحمة والكرم والعفو والإحسان إذا ظهرت آثار تلك الصفات في العالم، ويستحيل أن يرى -تعالى- وقد تخلف عنه صفة جلال وجمال وكمال. ولو وقف هذا الغبي على ما جاء في الكتاب والسنة من إثبات الرؤية وتقريرها، ولم يتجاوز ذلك إلى تخليط صدر عمن لا يدري السبيل، ولم يقم بقلبه عظمة الرب الكبير الجليل؛ لكان أقرب إلى إيمانه وإسلامه. أما قوله: وما الفرق بين صفات المعاني والمعنوية، فهذه الكلمة لو

فرضت صحتها، فالجهل بها لا يضر، ولم تأت الرسل بما يدل بحال أن من صفات الله ما هو من المعاني، وما هو من الصفات المعنوية. وهذا التقسيم يطالب به الأشعرية والكرامية ونحوهم، فلسنا منهم في شيء. والعلم آية محكمة أو فريضة عادلة أو سنة متبعة، وما سوى ذلك هكذا سبيله، فالواجب اطراحه وتركه؛ والعلم كل العلم في الوقوف مع السنة، وترك ما أحدثه الناس من العبادات المبتدعة. [لا يوصف الله إلا بما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله] ومن الأصول المعتبرة والقواعد المقررة عند أهل السنة والجماعة، أن الله -تعالى- لا يوصف إلا بما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله، لا يتجاوز ذلك أهل العلم والإيمان، ولا يتكلفون علم ما لم يصف الرب -تبارك وتعالى- به نفسه، وما لم يصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم. والله أكبر وأجل وأعظم في صدور أوليائه وعباده المؤمنين من أن يتكلموا في صفاته بمجرد آرائهم واصطلاحاتهم وعبارات متكلمهم. وأما قول السائل: وهل صفات المعاني ثابتة في ذات الله؟ فهذه عبارة نبطية أعجمية، لأنه إن أريد بالإضافة إضافة الدال على المدلول، فكل صفاته -تعالى- لها معان ثابتة لذاته المقدسة، وأي وصف ينفك عن هذا لو كانوا يعلمون؟ وإن أريد بالإضافة إضافة الصفة للموصوف أي المعاني الموصوفة فالمعاني الموصوفة منها صفات أفعال، وصفات ذات. [الاعتبارات والوجود الأربع] (وأما قوله) : وأما الاعتبارات الأربع؛ فهذه كلمة ملحونة أعجمية، والعرب تقول: الاعتبارات الأربعة، لا الأربع، والحكم معروف في باب العدد 1، وأما معناها فهو إلى الألغاز والأحاجي أقرب منه إلى الكشف والإيضاح

_ 1 يعني أنها جمع اعتبار، وهو مذكر فيؤنثوصفه.

في السؤال، فالحساب تجري فيه اعتبارات أربعة من جهة لفظه وإفراده وجمعه وتصحيحه وكسره وضربه وطرحه، وتجري الاعتبارات الأربعة، فما فوق في أبوب الفقه من كتب الفروع من كتاب الطهارة إلى أبواب العتق والإقرار، وكثير من عباراته تختلف مفهوماتها باختلاف عباراتها. وكذلك المقدمات العقلية، والأدلة النظرية، والبديهيات الذهنية، والضروريات الحسية، لها اعتبارات، ولها حالات، ولها مراتب ودرجات يطلق عليها لفظ الاعتبارات. وكذلك قوله: وما الوجود الأربع؟ عبارة ملحونة أعجمية. فقد يراد بها ما يوجد في الأعيان والأذهان واللسان والبنان، وقد يراد بها غير ذلك من مراتب وجود العلم أو وجود الوحي، فإنه قسم هذا التقسيم باعتبار إدخال الإلهام في مسمى الوحي. وكذلك الجهل له مراتب أربع، فمنه الجهل المركب، ومنه البسيط، وكل منهما إما في السمعيات أو العقليات؛ وكذلك الأخبار قطعية، وظنية. وبالجملة فالاعتبارات الأربعة والوجود ونحو ذلك تقع على كل ما تناله العبارة ويصدق عليه اللفظ في أي فن وأي حكم. فإن قال: المراد بالاعتبارات والوجود باعتبار صفاته –تعالى-، قلنا: تقسيم الاعتبارات والوجود يختلف باختلاف المقاصد والاصطلاح، وليس في كلام السلف ما يجيز الخوض في اصطلاحات المتكلمين والأشاعرة. [الفرق بين الدليل والبرهان والعهد والميثاق] وأما الفرق بين الدليل والبرهان، فالدليل في اصطلاح الأصوليين والفقهاء ما يستدل به على إثبات الحكم وصحته، والبرهان ذكر الحجة بدليلها. وأما الفرق بين العهد، والميثاق، فهو اعتباري، والمفهوم واحد. قال -تعالى-: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرائيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلاًّ اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} 1، وقال -تعالى-: {لَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرائيلَ} 2، وقال -تعالى-: {أَلَمْ أَعْهَدْ

_ 1 سورة البقرة آية: 83. 2 سورة المائدة آية: 12

إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ} 1.وقال: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} 2، وقال - تعالى-: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ} 3 إلى قوله: {وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي} 4، وطالع عبارات المفسرين. وأما العهود التي أخذها الله من عباده، فلا يسأل عن كميتها. إذ لا يعلمها إلا الله، قال -تعالى-: {وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ} 5. وكل رسول يؤخذ عليه وعلى قومه العهد، فكيف يسئل عن كميتها؟ ومن ادعى علمها فهو كاذب. نعم ما ذكر في القرآن من أخذ العهد على الأنبياء وعلى الأمم كبني إسرائيل وعلى بني آدم كافة كما في آية يس، وأخذ العهد على الذرية، فهذا معروف محصور. (وأما قوله) : وما العهود التي عاهدها معهم؟ فهذه عبارة أعجمية جاهلية، فالله عهد إليهم، ولم يعاهد هو، بل هم عاهدوه كما قال –تعالى-: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ} 6، ولم يقل عاهدهم الله أبدا فالمعاهدون هم العباد، والله عهد إليهم، وعاهدوه هم، ولم يعاهدهم هو؛ فاعرف جهل السائل وعجمته. (وأما قوله) : وكم من تعلقات للقدرة والإرادة والعلم والكلام؟ فاللفظ أعوج ملحون. لا تأتي "من" بعد كم الاستفهامية أبدا. والرجل غلبت عليه العجمة في الفهم والتعبير، فإن أريد بالتعلق كون الأشياء بالقدرة والإرادة والعلم والكلام، فأي فرد من أفراد الكائنات يخرج عن هذا ولا يتعلق به؟ [علة نفي الحروف السبعة من فاتحة الكتاب] (وأما قوله) : وما علة نفي الحروف السبعة من فاتحة الكتاب؟ فهذا عدم لا نفي، والعدم لا يعلل، فلا يقال: لم عدمت بقية حروف الهجاء من سورة الإخلاص مثلا، أو من بسم الله الرحمن الر حيم؟ لأن المعنى المراد

_ 1 سورة يس آية: 60. 2 سورة النحل آية: 91. 3 سورة آل عمران آية: 81. 4 سورة آل عمران آية: 81. 5 سورة النساء آية: 164. 6 سورة التوبة آية: 75.

الرسالة السابعة عشرة: [تفسير السبحات بالنور]

حاصل بالحروف المذكورة، والتراكيب المسطورة؛ والعدم لا يعلل، وإن علل فعلة عدمية. والسائل رأى كلمات مسطورة، فظنها داخلة في مسمى العلة ومذكورة، وإنما هي جهالات وخيالات {كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً} 1.هذا آخر ما وجد من هذه الرسالة. الرسالة السابعة عشرة: [تفسير السبحات بالنور] وله أيضا -قدس الله روحه، ونور ضريحه- رسالة إلى صالح بن محمد الشثري -رحمه الله- جوابا على سؤاله عن تفسير السبحات بالنور، هل هو من التأويل المردود أو لا؟ فأجابه –رحمه الله بما نصه-: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى الأخ المكرم: صالح بن محمد الشثري -سدده الله فيما يعيد ويبدي-. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد، فأحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو على سوابغ نعمه، والخط وصل، وصلك الله إلى ما يرضيه، وتقبل دعواتك، وتجاوز عن سيئاتي وسيئاتك، وسرنا بالأخبار عن عافيتك، وسلامتك. ونهنيك بما هنيتنا به، جعلنا الله وإياك من الفائزين برضاه، والمسارعين إلى العمل بما يحبه ويرضاه، ومن علينا باغتنام الصحة والفراغ، وأعاذنا من الغبن في هاتين النعمتين اللتين هما سفينة النجاة، ومركب أهل الصدق في المعاملات. وتسأل -رحمك الله- عن تفسير السبحات بالنور

_ 1 سورة النور آية: 39.

هل هو من التأويل المردود أو لا؟ فلا يخفاك أن التأويل بالمعنى الأعم يدخل فيه مثل هذه، وقد حكاه جمع من أهل الإثبات. وأما التأويل بالمعنى الأخص عند الجهمية ومن نحا نحوهم، فليس هذا منه لأنهم أولوا النور الذي هو اسمه وصفته بما يرجع إلى فعله وخلقه، وليس هذا منه. وقد فسرت السبحات بالعظم لأن أصل السبحة من التنْزيه والتقديس، وفسرت بضوء الوجه المقدس، وفسرت بمحاسنه لأن من رأى الشيء الحسن، والوجه الحسن سبح بارئه وخالقه. وقيل: هي باقية على أصلها، لأن التسبيح التنْزيه. وقيل: سبحات وجهه في الحديث جملة معترضة، يريد قائل هذا إسناد الفعل إلى الوجه المنزه حكاه ابن الأثير، وقال: الأقرب أن المعنى لو انكشف من أنواره التي تحجب العباد شيء، لهلك كل من وقع عليه ذلك النور، كما خر موسى صعقا، وتقطع الجبل -تجلى سبحانه وتعالى-، وهذا لا يبعد إن أريد نور الذات، هذا ما ظهر لي1 لما. وصلى الله على محمد، وبلغ سلامنا الشيخ عبد الملك والأخ حمد وعيالكم، ولا تنسنا من صالح الدعاء في هذه الليالي المباركات، والعيال بخير، وينهون السلام.

_ 1 أي ما ظهر له في ذلك الوقت، أو بالنسبة إلى حال السائل.وقد سبق له بحث طويل في النور الإلهي والسبحات والحجب في الرسالة الخامسة عشرة في صفحة 99.

الرسالة الثامنة عشرة: [الإيمان بالاستواء وتأويله]

الرسالة الثامنة عشرة: [الإيمان بالاستواء وتأويله] وله -قدس الله روحه، ونور ضريحه- رسالة جوابا لمسائل وردت عليه من محمد بن راشد الجابري. (الأولى) فيمن آمن بلفظ الاستواء، ولكن نازع في المعنى، وزعم أنه هو الاستيلاء. (الثانية) عن رفع اليدين بالدعاء في الصلاة. (الثالثة) عن الفطرة عن صوم رمضان. (الرابعة) عن الابتداء بفاتحة الكتاب كلما أراد تلاوة القرآن. (الخامسة) عن الرجل الذي يخالط أهل بلده ومحلته، ويرجو بمخالطتهم أن يجيبوه إلى الإسلام وإلى السنة، ويتركوا ما هم عليه من شرك أو بدعة أو فواحش. (السادسة) البداءة بالسلام على الكافر. فأجاب بما نصه: بسم الله الرحمن الرحيم من: عبد اللطيف بن عبد الرحمن إلى الأخ المكرم: محمد بن راشد الجابري -سلمه الله تعالى-، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد، فنحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو، وهو للحمد أهل، وهو على كل شيء قدير، والسؤالات وصلت: (أما السؤال الأول) فيمن آمن بلفظ الاستواء الوارد في كتاب الله، لكن نازع في المعنى، وزعم أنه هو الاستيلاء، فهذا جهمي معطل ضال، مخالف لنصوص الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة. وهذا القول هو المعروف عند السلف عن جهم وشيعة الجهمية، فإنهم لم يصرحوا برد ألفاظ القرآن كالاستواء وغيره من الصفات، وإنما خالفوا السلف في المعنى المراد. وقولهم هذا لا يعرف في المسلمين إلا عن الجهم بن صفوان تلميذ الجعد

بن درهم، وكان الجعد قد سكن حران، وخالط الصابئة واليهود، وأخذ عنهم من المقالات والمذاهب المكفرة ما أنكره عليه كافة أهل الإسلام، وكفروه بذلك؛ حتى إن خالد بن عبد الله القسري أمير واسط في خلافة بني أمية قتل الجعد، وضحى به يوم العيد الأكبر، فقال وهو على المنبر: أيها الناس ضحوا تقبل الله ضحاياكم، فإني مضح بالجعد بن درهم. إنه زعم أن الله لم يكلم موسى تكليما، ولم يتخذ إبراهيم خليلا. ثم نزل فذبحه، وشكره على هذا الفعل وصوبه جميع أهل السنة. وإنما قال الجعد هذه المقالة لاعتقاده أن الخلة والتكليم والاستواء ونحو ذلك من الصفات لا تكون إلا من صفات المخلوقات، وخصائص المحدثات، وهذا المذهب نشأ من سوء اعتقادهم، وعدم فهمهم لما يراد، وما يليق من المعنى المختص بالله، فظنوا ظن السوء بالله وصفاته. ثم أخذوا في نفيها وتعطيلها، وتحريف الكلم عن مواضعه، والإلحاد في أسمائه. ولو عرفوا أن ما يثبت لله من الصفات لا يشبه صفات المخلوقات، بل هو بحسب الذات، وكل شيء صفاته بحسب ذاته، فكما أننا نثبت له ذاتا لا تشبه الذوات، فكذلك نثبت له صفات لا تشبه صفات المخلوقات، لو عرفوا هذا لسلموا من التعطيل، وعلى قولهم ومذهبهم الخبيث لا يعبدون ربا موصوفا بصفات الكمال، وصفات العظمة والجلال، وإنما يعبدون ذاتا مجردة عن الصفات؛ فهم -كما قال بعض العلماء- لا يعبدون واحدا أحدا فردا صمدا، وإنما يعبدون خيالا عدما. وهذا المذهب اشتهر بعد الجعد بن درهم عن تلميذه جهم بن صفوان، ولذلك يسمى أهل هذا المذهب عن السلف وأئمة الأمة جهمية نسبة

إلى جهم، ثم أعلن به، وأظهره بشر المريسي وأصحابه في أوائل المئة الثالثة؛ لأنهم تمكنوا من بعض ملوك بني العباس، وصار لهم عنده جاه ومنْزلة، فقويت بذلك شوكة الجهمية، وكثر شرهم، وعظم على الإسلام وأهله كيدهم وضررهم، حتى امتحنوا من لم يوافقهم على بدعتهم، وضلالتهم، فشردوا بعض أهل السنة عن أوطانهم، وحبسوا، وضربوا، وقتلوا على هذا المذهب. وجرى على إمام السنة الإمام المبجل أحمد بن حنبل من ذلك أشد امتحان، وأعظم بلية، وضُرب حتى أغشي عليه من الضرب، وإذا جادله منهم مجادل قال: ائتوني بشيء من كلام الله، وكلام رسوله حتى أجيبكم إليه، فيأبون، ويعرضون، ويرجعون إلى شبه الفلاسفة واليونان، وهو مع ذلك يكشف لهم الشبه، ويبين بطلانها بأدلة الكتاب والسنة وإجماع الأمة والأدلة العقلية الصريحة؛ وصنف في ذلك كتابه المعروف في الرد على الزنادقة والجهمية، وهو كتاب جليل لا يستغني عنه طالب العلم. والمقصود أن علماء الأمة أنكروا مذهب الجهمية أشد الإنكار، وصرحوا بأنه من مذاهب الضُلّال والكفار، ولم يخالف في ذلك أحد منهم. وقد جمع اللالكائي جملة من كلام السلف في تكفيرهم، وتضليلهم في كتابه الذي سماه: "كاشف الغمة عن معتقد أهل السنة"، ومختصر كتابه موجود عندكم في الساحل قدم به عبد الله بن معيذر عام اثنين وسبعين، وهووقف على طلبة العلم الشريف. [بدعة الجهمية وفتنتهم لأهل السنة] إذا عرف هذا، فأهل السنة متفقون في كل عصر ومصر على أن الله موصوف بصفات الكمال ونعوت الجلال التي جاء بها الكتاب والسنة، يثبتون لله ما أثبته لنفسه المقدسة، وماوصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم

من غير تمثيل ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تشبيه، لا يبتدعون لله وصفا لم يرد به كتاب ولا سنة؛ فإن الله -تعالى- أعظم وأجل وأكبر في صدور أوليائه المؤمنين من أن يتجاسروا على وصفه، ونعته بمجرد عقولهم وآرائهم وخيالات أوهامهم، بل هم منتهون في ذلك إلى حيث انتهى بهم الكتاب والسنة، لا يتجاوزون ذلك بزيادة على ما وصف الرب به نفسه، أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا يعطلون ما ورد في الكتاب والسنة من صفات الكمال ونعوت الجلال، وينكرون تعطيل معنى الاستواء وتفسيره بالاستيلاء، ويتبرؤون من مذهب من قال ذلك، وعطل الصفات من الجهمية وأتباعهم. وقد وقع في هذا كثير ممن ينتسب إلى أبي الحسن الأشعري، وظنه بعض الناس من مذهب أهل السنة والجماعة، وسبب ذلك هو الجهل بالمقالات والمذاهب، وما كان عليه السلف. قال حذيفة رضي الله عنه: كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير، وكنت أسأله عن الشر مخافة الوقوع فيه، فالواجب على من له نهمة في الخير وطلب العلم أن يبحث عن مذهب السلف وأقوالهم في هذا الأصل العظيم، الذي قد يكفر الإنسان بالغلط فيه، ويعرف مذاهب الناس في مثل ذلك، وأن يطلب العلم من معدنه ومشكاته، وهو ما جاء به محمدصلى الله عليه وسلم من الكتاب والحكمة، وما كان عليه سلف الأمة. قال -تعالى-: {المص كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ} 1، وقال -تعالى-: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} 2. فإذا وفق العبد لهذا، وبحث عن

_ 1 سورة الأعراف آية: 2. 2 سورة الأنعام آية: 155.

تفاسير السلف وأئمة الهدى، ورزق مع ذلك معلما من أهل السنة، فقد احتضنته السعادة، ونزلت به أسباب التوفيق والسيادة. وإن كان نظر العبد وميله إلى كلام اليونان، وأهل المنطق والكلام، ومشايخه من أهل البدعة والجدل، فقد احتوشته أسباب الشقاوة، ونزلت وحلت قريبا من داره موجبات الطرد عن مائدة الرب وكتابه. ومن عدم العلم فليبتهل إلى معلم إبراهيم، في أن يهديه صراطه المستقيم، وليتفطن لهذا الدعاء إذا دعا به في صلاته، ويعرف شدة فقره إليه وحاجته. [كفر من جحد الاستواء وتأوله بما يخالف النصوص] وأما من جحد لفظ الاستواء، ولم يؤمن به فهو أيضا كافر، وكفره أغلظ وأفحش مِنْ كفر مَنْ قبله، وهو كمن كفر بالقرآن كله. ولا نعلم أحدا قال هذا القول ممن يدعي الإسلام، ويؤمن برسالة محمد صلى الله عليه وسلم، والجهمي يوافق على كفر هذا؛ ولا يشكل كفر هذا على من عرف شيئا من الإسلام قال -تعالى-: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ} 1 أي بالقرآن. وأما قول القائل: استوى من غير مماسة للعرش، فقد قدمنا أن مذهب السلف وأئمة الإسلام عدم الزيادة والمجاوزة لما في الكتاب والسنة وأنهم يقفون، وينتهون حيث وقف الكتاب والسنة وحيث انتهيا. قال الإمام أحمد -رحمه الله-: لا يوصف الله -تعالى- إلا بماوصف به نفسه، ووصفه به رسوله، انتهى، وذلك لعلمهم بالله، وعظمته في صدورهم، وشدة هيبتهم له، وعظيم جلاله. ولفظ المماسة لفظ مخترع مبتدع لم يقله أحد ممن يقتدى به ويتبع، وإن أريد به نفي ما دلت عليه النصوص من الاستواء والعلووالارتفاع والفوقية فهو قول باطل ضال قائله مخالف للكتاب والسنة،

_ 1 سورة هود آية: 17.

ولإجماع سلف الأمة مكابر للعقول الصحيحة والنصوص الصريحة، وهو جهمي لا ريب من جنس ما قبله. وإن لم يرد هذا المعنى بل أثبت العلو والفوقية والارتفاع الذي دل عليه لفظ الاستواء، فيقال فيه: هو مبتدع ضال، قال في الصفات قولا مشتبها موهما. فهذا اللفظ 1 لا يجوز نفيه ولا إثباته، والواجب في هذا الباب متابعة الكتاب والسنة والتعبير بالعبارات السلفية الإيمانية وترك المتشابه. وأما من يقول: إذا قلتم: "إن الله على العرش استوى" فأخبروني قبل أن يخلق العرش كيف كان، وأين كان، وفي أي مكان؟ فجوابه أن يقال: أما كيف كان، فقد أجاب عنها إمام دار الهجرة الذي تضرب إليه أكباد الإبل في طلب العلم النبوي والميراث المحمدي، قال له السائل: يا أبا عبد الرحمن {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} 2 كيف استوى فقال مالك: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والسؤال عنه بدعة، وأمر بالسائل فأخرج عنه. فأخبر –رحمه الله- أن الكيف غير معلوم، لأنه لا يعلم إلا بعلم كيفية الذات؛ وقد حجب العباد عن معرفة ذلك لكمال عظمته وعظم جلاله. وعقول العباد لا يمكنها إدراك ذلك، ولا تحمله، وإنما أمروا بالنظر والتفكر فيما خلق وقدر. وإنما يقال: كيف هو؟ لمن لم يكن ثم كان، فأما الذي لا يحول، ولا يزول، ولم يزل، وليس له نظير. ولا مثل، فإنه لا يعلم كيف هو إلا هو، وكيف يعرف قدر من لم يبد، ولا يموت ولا يبلى، وكيف يكون لصفة شيء منه حد ومنتهى يعرفه عارف، أو يحد قدره، واصف؟

_ 1 يعني قوله: "استوى من غير مماسة للعرش" فإن نفيه قد يستلزم نفي ما هو ثابت بالنصوص القطعية، وإثباته باطل لفظاومعنى. 2 سورة طه آية: 5.

لأنه الحق المبين لا حق أحق منه، ولا شيء أبين منه، والعقول عاجزة قاصرة عن تحقيق صفة أصغر خلقه كالبعوض وهو لا يكاد يرى، ومع ذلك يحول ويزول، ولا يرى له سمع ولا بصر، فما يتقلب به، ويحتال من عقله أخفى وأعضل مما ظهر من سمعه وبصره {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} 1 {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} وقد قال بعضهم: 2 مخاطبا للزمخشري منكرا عليه نفي الصفات شعرا: قل لمن يفهم عني ما أقول ... قصر العقول فذا شرح يطول أنت لا تفهم إياك, ولا ... من أنت ولا كيف الوصول لاولا تدري خفايا ركبت ... فيك حارت في خباياها العقول أنت أكل الخبز لا تعرفه ... كيف يجري منك أم كيف تبول أين منك الروح في جوهرها ... كيف تسري فيك أم كيف تجول فإذا كانت طواياك التي ... بين جنبيك كذا فيها ضلول 3 كيف تدري من على العرش استوى ... لا تقل كيف استوى كيف النّزول وبالجملة فهذا السؤال سؤال مبتدع جاهل بربه، وكيف يقول: إذا قلتم: إن الله على العرش استوى، وهو يسمع إثبات الاستواء في سبعة مواضع من القرآن. [إبطال ايرادات على الاستواء على العرش] وأما قوله: أين كان قبل أن يخلق العرش؟ فهذه المسألة ليس فيها تكييف، ولا ابتداع، وقد خرج الترمذي جوابها مرفوعا من حديث أبي رزين العقيلي أنه قال: " يا رسول الله، أين كان ربنا قبل أن يخلق الخلق؟ قال: في

_ 1 سورة المؤمنون آية: 14. 2 المشهور أنه أبو حامد الغزالي رحمه الله. 3 الرواية التي نحفظها: بها أنت جهول بدل: كذا فيها ضلول.

عماء، ما فوقه هواء، وما تحته هواء" 1 انتهى الحديث. فهذا جواب مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم قد قبله الحفاظ، وصححوه، والعماء هو السحاب الكثيف. قال يزيد بن هارون إمام أهل اليمن من أكابر الطبقة الثالثة من طبقات التابعين، ومن سادتهم: معناه ليس معه شيء. وأما قول السائل:2 ... وفي زعم هذا القائل أنه بذلك ينبغي حاجة الرب إلى العرش؛ فيقال: ليس في إثبات الاستواء على العرش ما يوجب الحاجة إليه أو فقر الرب –تبارك وتعالى- إلى شيء من خلقه؛ فإنه -سبحانه تعالى وتقدس- هو الغني بذاته عما سواه، وغناه من لوازم ذاته. والمخلوقات بأسرها، العرش فما دونه، فقيرة محتاجة إليه -تعالى- في إيجادها وفي قيامها لأنه لا قيام لها إلا بأمره، قال - تعالى-: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ بِأَمْرِهِ} 3. والسماء اسم لما علا وارتفع، فهو اسم جنس يقع على العرش، قال - تعالى-: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} 4 الآية، وبحوله وقوته حمل العرش، وحمل حملة العرش، وهو الذي {يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولا} 5 الآية6، وجميع المخلوقات مشتركون في الفقر والحاجة إلى بارئهم وفاطرهم. وقد قرر –سبحانه- كمال غناه، وفقر عباده إليه في مواضع من كتابه، واستدل بكمال غناه المستلزم لأحديته في الرد على النصارى، وإبطال ما قالوه من الإفك العظيم والشرك الوخيم، قال –تعالى-: {قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ} 7 الآية. وكمال غناه يستلزم نفي الصاحبة والولد، ونفي الحاجة إلى جميع المخلوقات. ولا

_ 1 الترمذي: تفسير القرآن (3109) , وابن ماجه: المقدمة (182) , وأحمد (4/11 ,4/12) . 2 لم يذكر مقول القول، والظاهر أنه سقط من الناسخ هنا "وفي أي مكان" فإنه تتمة الأسئلة، والجواب رد له. 3 سورة الروم آية: 25. 4 سورة الملك آية: 16. 5 سورة فاطر آية: 41. 6 أي اقرأ الآية في هذا، وهي {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ} 7 سورة يونس آية: 68.

يظن أحد يعرف ربه، أو شيئا من عظمته وغناه ومجده أنه محتاج إلى العرش وغيره، وإنما يتوهم هذا من هو في غاية الجهالة والضلالة، ومن لم يعرف شيئا من آثار النبوة والرسالة، ومن فسدت فطرته، ومسخ عقله بنظره في كلام الجهمية وأشباههم حتى اجتالته الشياطين؛ فلم يبق معه أثارة من علم ولا نصيب من فهم؛ بل استواؤه على العرش صفة كمال وعز وسلطان، وهو من معنى اسمه الظاهر، ومعناه الذي ليس فوقه شيء، والعلو علو الذات وعلو القهر وعلو السلطان، كلها ثابتة لله، وهي صفات كمال تدل على غناه، وعلى فقر المخلوقات إليه. والذي ينبغي لأمثالنا ترك الخوض مع هؤلاء المبتدعة الضلال، وترك مجالستهم قال -تعالى-: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} 1. وأكثر المعطلة يزعمون أن تعطيلهم تنْزيه للرب عما لا يليق به، فساء ظنهم، وغلظ حجابهم؛ حتى توهموا أن إثبات ما في الكتاب والسنة إلى ما فهمه سلف الأمة مما ينزه الرب –تبارك وتعالى- عنه. [رفع اليدين بالدعاء في الصلاة] (وأما مسألة) رفع اليدين بالدعاء في الصلاة، فالذي ثبت عنه –صلى الله عليه وسلم- أنه كان يرفع يديه إذا اجتهد في الدعاء، وليس ذلك من السنن المتعلقة بالصلاة كما يظنه بعض من لم يعرف السنة؛ فإنه لم ينقل عنه صلى الله عليه وسلم ولا عن أصحابه ملازمة ذلك وفعله عقب كل صلاة. [الفطرة عن صوم رمضان] وأما الفطرة عن صوم رمضان، فجمهور العلماء يرون أنه لا يجزي إلا صاع كامل من أي صنف من الأصناف المذكورة في حديث أبي سعيد وابن عمر وغيرهما، وهي الطعام والشعير والتمر والأقط والزبيب، وذهب جمع إلى جواز الإخراج من غالب قوت البلد، أي

_ 1 سورة الأنعام آية: 68.

قوت كان كالذرة والأرز ونحوهما. وذهب بعضهم إلى أن نصف الصاع من سمراء الشام، وهي البر (يجزي) عن صاع من غيره، وهذا القول قاله معاوية، ورآه رأيا له، وليس بمرفوع، وقد خالفه أبو سعيد الخدري، ولم يوافقه عليه، وبعض العلماء وافق معاوية على ذلك، وقليل ما هم. [الابتداء بفاتحة الكتاب عند تلاوة القرآن] وأما الابتداء بفاتحة الكتاب كلما أراد تلاوة القرآن، فلا أرى الإنكار على من فعل ذلك، لما ثبت في الحديث الصحيح من قصة الأنصاري الذي كان يقرأ سورة (قل هو الله أحد) في كل ركعة يكررها إذا أراد القراءة بغيرها، فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " سلوه لم فعل ذلك؟ فقال: إني أحبها لأن فيها صفة الرحمن، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أخبروه أن الله يحبه"؛ فمن قرأ فاتحة الكتاب أو غيرها بقصد يضاهي هذا أو يشابهه فلا حرج عليه. وأما إن قرأها قبل كل قراءة معتقدا أن الله أمر بذلك أو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سنه فهذا يعرف بالسنة، ويخبر بها أنها إنما ابتدئت بها القراءة في الصلاة لا في سائر أحوال التلاوة. [مخالطة أهل الشرك والبدعة لدعوتهم للإسلام] وأما الرجل الذي يخالط أهل بلده ومحلته، ويرجو بمخالطتهم أن يجيبوه إلى الإسلام وإلى السنة، ويتركوا ما هم عليه من شرك أو بدعة أو فواحش، فهذا يلزمه خلطتهم ودعوتهم إن أمن الفتنة، لما في ذلك من المصلحة الراجحة على مصلحة الهجر والاعتزال، ورؤية المنكر إذا رجا بها إزالته وتغييره، وأمن الفتنة به، ولم يمكن تحصيل المصالح الدينية إلا بذلك؛ فلا حرج عليه بل ربما تأكد واستحب. وبلغني أن شيخ الإسلام ابن تيمية -قدس الله روحه- كان يخرج إلى عسكر التتار لما نزلوا الشام المرة الأولى

حول دمشق، ويجتمع بأميرهم، ويأمره وينهاه، ويرى في خروجه عندهم أشياء من المنكرات، وقد أراد بعض الأفاضل ممن صحبه في إحدى تلك المرات أن ينكر على جماعة منهم ما رأوه يدور بينهم من كاسات الخمر، فقال له الشيخ: لا تفعل؛ إنهم لو تركوا هذا لزاد شرهم على المسلمين وجرمهم. [مبادأة الكافر بالسلام] وأما البداءة بالسلام فلا ينبغي أن يبدأ الكافر بالسلام، بل هو تحية أهل الإسلام، لكن إن خاف مفسدة راجحة، وفوات مصلحة كذلك، فلا بأس بالبداءة لا سيما من ينتسب إلى الإسلام، ولكن يخفى عليه شيء من أصوله وحقوقه. وقد كان صلى الله عليه وسلم يأتي المشركين من العرب في منازلهم أيام الموسم، ويدعوهم إلى توحيد الله وترك عبادة ما سواه، وأن يقولوا: لا إله إلا الله، ويتلو عليهم القرآن، ويبلغهم ما أمر بتبليغه مع ما هم عليه من الشرك والكفر والرد القبيح، لما في ذلك من المصلحة الراجحة على مصلحة الهجر والتباعد. والهجر إنما شرع لما فيه من المصلحة وردع المبطل، فإذا انتفى ذلك، وصار فيه مفسدة راجحة فلا يشرع. ومن تأمل السيرة النبوية والآثار السلفية يعرف ذلك، ويتحققه. وقد أمر الله بالدعوة إليه على بصيرة قال -تعالى-: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ} 1، وقال -تعالى-: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ} 2. والجهاد بالحجة والبيان يقدم على الجهاد بالسيف والسنان. وقد مرصلى الله عليه وسلم على مجلس فيه أخلاط من المسلمين والمنافقين واليهود، وفيه عبد الله بن أُبَيّ رأس المنافقين، فسلم صلى الله عليه وسلم ونزل عن دابته، ودعاه إلى الإسلام، وذلك حين ذهب إلى سعد بن عبادة يعوده في منْزله، والقصة مشهورة. وكثير من العلماء يبتلى بخلطة هذا الضرب من الناس

_ 1 سورة يوسف آية: 108. 2 سورة الحج آية: 78.

الرسالة التاسعة عشرة: [الطعن في كتاب الإحياء]

لكنه يكون مباركا أينما كان، داعيا إلى الله مذكرا به هاديا إليه، كما قال عن المسيح -عليه السلام-: {وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنْتُ} 1 أي: داعيا إلى الله مذكرا به معلما بحقوقه. فهذه هي البركة المشار إليها، ومن عدمها محقت بركة عمره وساعاته وخلطته ومجالسته، ونسأل الله العظيم لنا ولكم علما نافعا، يكون لنا لديه يوم القيامة شافعا. أسأل الله العظيم أن يغفر زلتي، ويقبل توبتي، ويقيل عثرتي، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم. الرسالة التاسعة عشرة: [الطعن في كتاب الإحياء] وله أيضا -قدس الله روحه، ونور ضريحه، وعفا عنه- رسالة إلى عبد الله بن معيذر، وكان قد بلغ الشيخ أنه يشتغل بكتاب الإحياء للغزالي، ويقرأ فيه عند العامة؛ وكان كتاب الإحياء مشتملا على ما يمج سماعه من التحريفات الجائرة، والتأويلات الضالة الخاسرة، وإن كان فيه بعض المباحث المستحسنة، لكن فيه من الداء الدفين، والفلسفة في أصل الدين، ما تنفر منه طباع الموحدين، ويخاف منه على ضعفاء البصائر من العامة والجاهلين، وهذا نصها: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له الملك الحق المبين، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الصادق الأمين، صلى الله عليه وعلى أصحابه صلاة دائمة مستمرة إلى يوم الدين. وبعد، فإني رأيت بعض أهل وقتنا يشتغل بكتاب الإحياء للغزالي عند العامة، وهو لا يحسن فهم معانيه، ولا يعرف ما تحت جمله ومبانيه، ليست له أهلية في تمييز الخبيث من الطيب، ولا دراية بما تحت ذلك البارق

_ 1 سورة مريم آية: 31.

من ريح عاتية أو صيب، فكتبت إليه نصيحة، وأرسلت إليه بعض أصحابه، وأرشدته إلى الدواوين الإسلامية المشتملة على الأحاديث النبوية، والسير السلفية، والرقائق الوعظية، فلم يقبل، واستمر على رأيه، وأعجب بنفسه، وأظهر ذلك لبعض من يجالسه، وحط من قدر الناهي له، فكتبت إليه كتابا فلم يصغ، ولم يلتفت، وزعم أنه على بصيرة، وأبدى من جهله الأعاجيب الكثيرة، فأحببت أن أذكر للطلبة والمستفيدين بعض ما قاله أئمة الإسلام والدين في هذا الكتاب المسمى بالإحياء؛ ليكون الطالب على بصيرة من أمره؛ ولئلا يلتبس عليه ما تحت عباراته من زخرف القول. وصورة ما كتبت أولا: من: عبد اللطيف بن عبد الرحمن إلى الأخ: عبد الله: سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد. فقد بلغني عنك ما يشغل كل من له حمية إسلامية، وغيرة دينية على الملة الحنيفية، وذلك أنك اشتغلت بالقراءة في كتاب الإحياء للغزالي، وجمعت عليه من لديك من الضعفاء والعامة الذين لا تمييز لهم بين مسائل الهداية والسعادة ووسائل الكفر والشقاوة، وأسمعتهم ما في الإحياء من التحريفات الجائرة، والتأويلات الضالة الخاسرة، والشقاشق التي اشتملت على الداء الدفين، والفلسفة في أصل الدين، وقد أمر الله -تعالى- وأوجب على عباده أن يتبعوا الرسول، وأن يلتزموا سبيل المؤمنين، وحرم اتخاذ الولائج من دون الله ورسوله، ومن دون عباده المؤمنين، وهذا الأصل المحكم لا قوام للإسلام إلا به، وقد سلك في الإحياء طريق الفلاسفة والمتكلمين في كثير من مباحث الإلهيات وأصول الدين، وكسا

الفلسفة لحاء الشريعة؛ حتى ظنها الأغمار والجهال بالحقائق من دين الله الذي جاءت به الرسل، ونزلت به الكتب، ودخل به الناس في الإسلام، وهي في الحقيقة محض فلسفة منتنة، يعرفها أولو الأبصار، ويمجها من سلك سبيل أهل العلم كافة في القرى والأمصار، قد حذر أهل العلم والبصيرة عن النظر فيها، ومطالعة خافيها وباديها،.بل أفتى بتحريقها علماء المغرب ممن عرف بالسنة، وسماها كثير منهم إماتة علوم الدين، وقام ابن عقيل أعظم قيام في الذم والتشنيع، وزيف ما فيه من التمويه والترقيع، وجزم بأن كثيرا من مباحثه زندقة خالصة لا يقبل لصاحبها صرف ولا عدل. قال شيخ الإسلام: ولكن أبو حامد دخل في أشياء من الفلسفة، وهي عند ابن عقيل زندقة، وقد رد عليه بعض ما دخل فيه من تأويلات الفلاسفة، ورد عليه شيخ الإسلام في السبعينية. وذكر قوله في العقول والنفوس، وأنه مذهب الفلاسفة، فأفاد وأجاد، ورد عليه غيره من علماء الدين. وقال فيه تلميذه ابن العربي المالكي: شيخنا أبو حامد دخل في جوف الفلسفة، ثم أراد الخروج؛ فلم يحسن. وكلام أهل العلم معروف في هذا لا يشكل إلا على من هو مزجى البضاعة، أجنبي من تلك الصناعة، ومشايخنا –تغمدهم الله برحمته- مضوا على هذا السبيل والسنن، وقطعوا الوسائل إلى الزندقة والفلسفة والفتن، وأدبوا على ما هو دون ذلك، وأرشدوا الطالب إلى أوضح المناهج والمسالك. وشكرهم على ذلك كل صاحب سنة وممارسة للعلم النبوي، وأنت قد خالفت، وخرجت عن مناهجهم، وضللت المحجة، وخالفت مقتضى البرهان والحجة، واستغنيت برأيك، وانفردت بنفسك، عن المتوسمين بطلب العلم المنتسبين إلى السنة. ما أقبح

الحور بعد الكور! وما أوحش زوال النعم، وحلول النقم! إذا سمعت بعض عباراته المزخرفة قلت: كيف ينهانا عن هذا فلان، ويأمر بالإعراض عن هذا الشان، كأنك سقطت على الدرة المفقودة، والضالة المنشودة. وقد يكون ما أطربك، وهز أعطافك، وحركك، فلسفة منتنة وزندقة مبهمة، أخرجت في قالب الأحاديث النبوية، والعبارات السلفية، فرحم الله عبدا عرف نفسه، ولم يغتر بجاهه، وأناب إلى الله، وخاف الطرد عن بابه، والإبعاد عن جنابه. وينبغي للإمام –أيده الله- أن ينزع هذا الكتاب من أيديكم، ويلزمكم بكتب السنة من الأمهات الست وغيرها، والله يقول الحق، وهو يهدي السبيل، انتهى. [أقوال المنكرين على الغزالي] ثم جمعت بعض أقوال أهل العلم، وما أفتوا به في هذا الكتاب، وتحذيرهم للطالب والمسترشد، فمن ذلك قول الذهبي في ترجمته للغزالي: وأخذ في تأليف الأصول والفقه والكلام والحكمة، وأدخله سيلان ذهنه في مضايق الكلام، ومزال الأقدام، ولله سر في خلقه. وساق الكلام إلى أن قال: ذكر هذا عبد الغافر إلى أن قال: ثم حكي عنه أنه راجع العلوم، وخاض في الفنون الدقيقة، والتقى بأربابها، حتى تفتحت له أبوابها، وبقي مدة، وفتح عليه باب من الخوف بحيث يشغله عن كل شيء ... إلى أن قال: ومما كان يعترض به عليه وقوع خلل من جهة النحو في أثناء كلامه، وروجع فيه فأنصف، واعترف بأنه ما مارسه، ومما نقم عليه ما ذكر من الألفاظ المستبشعة بالفارسية في كيمياء السعادة والعلوم، وشرح بعض الصور، والمسائل بحيث لا يوافق مراسم الشرع، وظواهر ما عليه قواعد الملة، وكان الأولى به، والحق أحق ما يقال، ترك ذلك التصنيف، والإعراض عن الشرح له، فإن

العوام ربما لا يحكمون أصول القواعد بالبراهين والحجج، فإذا سمعوا شيئا من ذلك تخيلوا منه ما هو أضر بعقائدهم، وينسبون ذلك إلى بيان مذهب الأوائل. قال الذهبي: ما نقله عبد الغافر على أبي حامد في الكيمياء، فله أمثاله في غضون تواليفه. حتى قال أبو بكر بن العربي: شيخنا أبو حامد بلع الفلسفة، وأراد أن يتقاياها فما استطاع، انتهى. ومن معجم أبي علي الصدفي في تأليف القاضي عياض له قال: الشيخ أبو حامد ذو الأنباء الشنيعة، والتصانيف العظيمة، غلا في التصوف، وتجرد لنصر مذهبهم، وصار داهية في ذلك، وألف فيه تواليفه المشهورة، أخذ عليه فيها مواضع، وساءت به ظنون أمة، والله أعلم بسره، ونفذ أمر السلطان عندنا بالغرب، وفتوى الفقهاء بإحراقها، والبعد عنها فامتثل ذلك. انتهى. ونقل أبو المظفر يوسف سبط ابن الجوزي المتهم بالتشيع في كتابه (رياض الأفهام) قال: ذكر أبو حامد في كتاب (سر العالمين وكشف ما في الدارين) وقال في حديث: "من كنت مولاه فعلي مولاه" 1 أن عمر قال: بخٍ بخٍ أصبحت مولى كل مؤمن ومؤمنة. قال أبو حامد: وهذا تسليم ورضى، ثم بعد هذا غلب عليه الهوى حبا للرياسة وعقد البنود وأمر الخلافة ونهيها، فحملهم على الخلافة {فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ} 2. وسرد كثيرا من هذا الكلام الفسل الذي تزعم الإمامية. قال الذهبي: وما أدري ما عذره في هذا؟ الظاهر أنه رجع عنه، وتبع الحق (قلت) : هذا إن لم يكن من وضع هذا، وما ذاك ببعيد، ففي هذا التأليف بلايا لا تستطاب. (قلت) : ما ذكره الذهبي ممكن، والغرض أن ما ينسب إلى هذا الرجل

_ 1 الترمذي: المناقب (3713) , وأحمد (1/118 ,4/368 ,4/370 ,4/372) . 2 سورة آل عمران آية: 187.

لا يغتر به، ويجب هجره وإطراحه؛ لما في كتبه من الداء العضال، والعثرات التي لا تقال. قال الذهبي: قد ألف الرجل في ذم الفلاسفة كتاب التهافت، وكشف عوراتهم، ووافقهم في مواضع ظنا منه أن ذلك حق أو موافق للملة. ولم يكن له علم بالآثار، ولا خبرة بالسنن النبوية القاضية على العقل، وحبب إليه إدمان النظر في كتاب رسائل إخوان الصفا، وهو داء عضال، وجرب حرد، وسم قاتل، ولولا أن أبا حامد من الأذكياء، وخيار المخلصين لتلف. فالحذر الحذر من هذه الكتب! واهربوا بدينكم من شبه الأوائل، وإلا وقعتم في الحيرة، فمن رام النجاةوالفوز، فليلزم العبودية، وليكثر الاستغاثة بالله، وليبتهل إلى مولاه في الثبات على الإسلام، وأن يتوفى على إيمان الصحابة وسادة التابعين، والله الموفق. فبحسن قصد العلم يغفر له، وينجو إن شاء الله. [ما أنكره أهل الأثر على الغزالي] وقال أبو عمر بن الصلاح: (فصل) في بيان أشياء مهمة أنكرت على أبي حامد، ففي تواليفه أشياء لم يرضها أهل مذهبه من الشذوذ (منها) قوله في المنطق: هو مقدمة العلوم كلها، ومن لا يحيط به، فلا ثقة له بمعلوم أصلا، قال: فهذا مردود. إذ كل صحيح الذهن منطقي بالطبع، وكم من إمام ما رفع بالمنطق رأسا. فأما (كتاب المضنون به على غير أهله) ، فمعاذ الله أن يكون له. شاهدت على نسخة منه بخط القاضي كمال الدين محمد بن عبد الله الشهر زوري أنه موضوع على الغزالي، وأنه مخترع من كتاب (مقاصد الفلاسفة) ، وقد نقضه الرجل بكتاب التهافت. وقال أحمد بن صالح الجيلي في تاريخه: وقد رأيت كتاب (الكشف والإنباء عن كتاب الإحياء) للمازري: الحمد لله الذي أنار الحق وأداله،

وأباد الباطل وأزاله. ثم أورد المازري أشياء مما تنقده على أبي حامد يقول: ولقد أعجب من قوم مالكية، يرون الإمام مالكا يهرب من التحديد، وإيجاب أن يرسم رسما، وإن كان فيها أثر ما أو قياس ما، تورعا وتحفظا من الفتوى فيما يحمل الناس عليه، ثم يستحسنون من الرجل فتاوى مبناها على ما لا حقيقة له، وفيه كثير عن النبي صلى الله عليه وسلم لفق منه الثابت بغير الثابت. وكذا ما أورد عن السلف لا يمكن ثبوته كله، وأورد من نزعات الأولياء، ونفثات الأصفياء، ما يجل موقعه، لكن مزج فيه النافع بالضار، كإطلاقات يحكيها عن بعضهم، لا يجوز إطلاقها لشناعتها، وإن أخذت معانيها على ظواهرها كانت كالرموز لقدح الملحدين، ولا تنصرف معانيها إلى الحق إلا بتعسف، على أن اللفظ مما لا يتكلف العلماء مثله إلا في كلام صاحب الشرع الذي اضطرت المعجزات الدالة على صدقه المانعة من جهله وكذبه إلى طلب التأويل 1 كقوله: " إن القلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن2 وأن السموات على أصبع 3" وكقوله: " لأحرقت سبحات وجهه 4" وكقوله: " يضحك الله"، إلى غير ذلك من الأحاديث الواردة ظاهرها مما أحاله العقل5 – إلى أن قال: فإذا كانت العصمة غير

_ 1 قوله: إلى طلب التأويل إلخ كلام باطل مستدرك مردود على قائله فالذي درج عليه السلف الصالح، وأهل التحقيق من أهل العلم أن هذه الأحاديث تجري على ظواهرها، ولا يتعرض لها بتأويل، فمن تأولها فقد سلك غير سبيل المؤمنين، ونحا طريقة المتكلمين المتكلفين الحيارى المفتونين، فعليك بما كان عليه السلف الصالحوالصدر الأول، والله أعلم.سليمان بن سحمان.انتهى من حاشية الأصل. 2 الترمذي: القدر (2140) , وابن ماجه: الدعاء (3834) . 3 البخاري: تفسير القرآن (4811) , ومسلم: صفة القيامة والجنة والنار (2786) , والترمذي: تفسير القرآن (3238) , وأحمد (1/378) . 4 مسلم: الإيمان (179) , وأحمد (4/400 ,4/405) . 5 وهذه الأحاديث وأشباهها لا تحيلها العقول السليمة، فإن الله ليس كمثله شيء لا في ذاته، ولا في أسمائه وصفاته، وهو على كل شيء قدير، بل نقطع على أنها حق على حقيقتها، ولا نتعرض لها بكيف ولا تأويل، بل نصف الله بماوصف به نفسه، ووصفه به رسوله، ولا نتجاوز القرآن والسنة، والله أعلم.سليمان بن سحمان.انتهى من حاشية الأصل.

مقطوع بها في حق الولي، فلا وجه لإضافة ما لا يجوز إطلاقه إليه إلا أن يثبت، وتدعو ضرورة إلى نقله فيتأول ... إلى أن قال: ألا ترى لو أن منصفا أخذ يحكي عن بعض الحشوية مذهبه في قدم الصوت والحرف وقدم الورق، لما حسن به أن يقول: قال بعض المحققين: إن القارئ إذا قرأ كتاب الله عاد القارئ في نفسه قديما بعد أن كان محدثا، وقال بعض الحذاق: إن الله محل للحوادث إذا أخذ في حكاية مذاهب الكرامية. وقال قاضي الجماعة أبو عبد الله محمد بن حمد القرطبي: إن بعض من يعظ ممن كان ينتحل رسم الفقه، ثم تبرأ منه شغفا بالشرعة الغزالية، والنحلة الصوفية، أنشأ كراسة تشتمل على معنى التعصب لكتاب أبي حامد إمام بدعتهم، فأين هو من تشانيع مناكيره، وتضليل أساطيره المباينة للدين، وزعم أن هذا من علم المعاملة المفضي إلى علم المكاشفة، الواقع بهم على سر الربوبية، الذي لا يسفر عن قناعه، ولا يفوز باطلاعه، إلا من تمطى إلى شيخ ضلالته التي رفع لهم أعلامها، وشره أحكامها؟ قال أبو حامد: وأدنى1 من هذا العلم التصديق به، وأقل عقوبته أن لا يرزق المنكر منه شيئا. فأعرض من قوله على قوله: ولا تشتغل بقراءة قرآن، ولا بكتب حديث، لأن ذلك يقطعه عن الوصول إلى إدخال رأسه في كم جيبه، والتدثر بكسائه، فيسمع نداء الحق فهو يقول: ذروا ما كان السلف عليه، وبادروا إلى ما آمركم به، ثم إن القاضي أقذع وسب وكفر. وقال أبو حامد: وصدور الأحرار قبور الأسرار، ومن أفشى سر الربوبية كفر، ورأى مثل قتل الحلاج خيرا من إحياء عشرة لإطلاقه ألفاظا،

_ 1 بياض بالأصل.

ونقل عن بعضهم قال: للربوبية سر لو ظهر لبطلت النبوة، وللنبوة سر لو كشف لبطل العلم، وللعلم سر لو كشف لبطلت الأحكام. قلت: سر العلم قد كشف بصوفية أشقياء، فانحل النظام، وبطل لديهم الحلال والحرام. قال ابن حمد: ثم قال الغزالي: القائل بهذا إن لم يرد إبطال النبوة في حق الضعفاء، فما قال ليس بحق، فإن الصحيح لا يتناقض، وإن الكامل لا يطفئ نور معرفته نور ورعه. وقال الغزالي: العارف يتجلى له أنوار الحق، وتنكشف له العلوم المرموزة المحجوبة عن الخلق، فيعرف معنى النبوة، وجميع ماوردت به ألفاظ الشريعة التي نحن منها على ظاهرها، قال عن بعضهم: إذا رأيته في البداية قلت: صديقا، فإذا رأيته في النهاية قلت: زنديقا، ثم فسره الغزالي فقال: إذا رأيتم الزنديق لا يلصق إلا بمعطل الفرائض لا بمعطل النوافل، وقال: وذهبت الصوفية إلى العلوم الإلهامية دون التعليمية. فيجلس فارغ القلب مجموع الهم، يقول: الله الله الله على الدوام فيتفرغ قلبه، ولا يشتغل بتلاوة، ولا كتب حديث، فإذا بلغ هذا الحد التزم الخلوة ببيت مظلم، ويدثر بكسائه، فحينئذ يسمع نداء الحق: (يا أيها المزمل – يا أيها المدثر) . قلت؛ إنما سمع شيطانا أو سمع شيئا لا حقيقة له من طيش دماغه، والتوقيف في الاعتصام بالكتاب والسنة والإجماع. قال أبو بكر الطرطوشي: شحن أبو حامد كتاب الإحياء بالكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما على بسيط الأرض أكثر كذبا منه. شبكه بمذاهب الفلاسفة، ومعاني رسائل إخوان الصفا، وهم قوم يرون النبوة مكتسبة، وزعموا أن المعجزات حيل ومخاريق.

أقوال العلماء في الغزالي قال ابن عساكر: حج أبو حامد وأقام بالشام نحوا من عشرين سنة ونصف، وأخذ نفسه بالمجاهدة، وكان مقامه بدمشق في المنارة الغربية من الجامع، سمع صحيح البخاري من أبي سهل الحمصي، وقدم دمشق في سنة تسع وثمانين. وقال ابن خلكان: بعثه النظام على مدرسة ببغداد في سنة أربع وثمانين، وتركها في سنة ثمان وثمانين، وزهد، وحج، وأقام بدمشق مدة بالزاوية الغربية، ثم انتقل إلى بيت المقدس يتعبد، ثم قصد مصر، وأقام مدة بالإسكندرية، فقيل عزم على المضي إلى يوسف بن تاشفين سلطان مراكش فبلغه نعيه. ثم عاد إلى طوس، وصنف البسيط، والوسيط، والوجيز، والخلاصة، والإحياء، وألف المستصفى في أصول الفقه، والمنخول، واللباب، المنتحل في الجدل، وتهافت الفلاسفة، ومحك النظر، ومعيار العلم، وشرح الأسماء الحسنى، ومشكاة الأنوار، والمنقذ من الضلال، وحقيقة القولين، وأشياء، انتهى. وقال عبد الله بن علي الأثيري: سمعت عبد المؤمن بن علي القيسي سمعت عبد الله بن تومرت يقول: أبو حامد الغزالي قرع الباب، وفتح لنا. قال أبو محمد العثماني وغيره: سمعنا محمد بن يحيى العذري المؤدب يقول: رأيت بالإسكندرية سنة خمسمائة كأن الشمس طلعت من مغربها، فعبرها لي عابد ببدعة تحدث فيهم، فبعد أيام، وصل الخبر بإحراق كتب الغزالي من البريد. قال أبو بكر بن العربي في شرح الأسماء الحسنى: قال شيخنا أبو حامد قولا عظيما انتقده عليه العلماء، قال: وليس في قدرة الله -تعالى- أبدع من

هذا العالم في الإتقان والحكمة، ولو كان في القدرة أبدع وأحكم منه ولم يفعله، لكان ذلك قضاء للجور، وذلك محال. ثم قال: والجواب أنه باعد في اعتقاد عموم القدرة، ونفي النهاية عن تقدير المقدرات المتعلقة بها، ولكن في تفصيل هذا العلم المخلوق لا في سواه، وهذا رأي فلسفي قصدت به الفلاسفة قلب الحقائق، ونسبة الإتقان إلى الحياة مثلا، والوجود إلى السمع والبصر حتى لا يبقى في القلوب سبيل إلى الصواب؛ واجتمعت الأمة على خلاف هذا الاعتقاد، وقالت عن بكرة أبيها: إن المقدورات لا نهاية لها بكل مقدور الوجود، لا بكل حاصل الوجود، إذ القدرة صالحة. ثم قال: وهذه وهلة لا لعا بها ومنزلة لا تمسك فيها، ونحن وإن كنا نقطة من بحره، فإنا لا نرد إلا بقوله. ومما أخذ عليه قوله: إن للقدر سرا نهينا عن إفشائه، فأي سر للقدر؟ فإن كان مدركا بالنظر وصل إليه ولا بد، وإن كان مدركا بالخبر فما ثبت فيه شيء، وإن كان يدرك بالحيل والعرفان، فهذه دعوى محضة، فلعله عني بإفشائه إن تعمق في القدر، وبحث فيه. قال الذهبي: أنبأنا محمد بن عبد الكريم: أنبأنا أبو حسن السخاوي أنبأنا: خطاب بن قمرية الصوفي: أنبأنا سعد بن أحمد الإسفراييني بقراءتي: أنبأنا أبو حامد محمد بن محمد بن محمد الطوسي قال: اعلم أن الدين شطران: أحدهما ترك المناهي، والآخر فعل الطاعات. وترك المناهي هو الأشد، وفعل الطاعات يقدر عليه كل أحد، وترك الشهوات لا يقدر عليه إلا الصديقون، ولذلك قال أبو عامر العبدي: سمعت أبا نصر أحمد بن محمد بن عبد القاهر الطوسي يحلف بالله أنه أبصر في نومه كأنه ينظر في كتب الغزالي؛ فإذا هي كلها تصاوير.

وقال أبو الوليد الطرطوشي في رسالته إلى ابن المظفر: فأما ما ذكرت من أبي حامد فقد رأيته، وكلمته، ورأيته جليلا من أهل العلم، واجتمع فيه العقل، والفهم، ومارس العلوم طول عمره، وكان على ذلك معظم زمانه، ثم بدا له عن طريقة العلماء، ودخل في غمار العمال، ثم تصوف، وهجر العلوم وأهلها، ودخل في علوم الخواطر، وأرباب القلوب، ووساوس الشيطان، ثم شابها بآراء الفلاسفة، ورموز الحلاج، وجعل يطعن على الفقهاء والمتكلمين. ولقد كاد أن ينسلخ من الدين، فلما عمل الإحياء عمد أن يتكلم في علوم الأحوال ومرامز الصوفية، وكان غير أنيس بها، ولا خبير بمعرفتها، فسقط على أم رأسه، وشحن كتابه بالموضوعات. قال الذهبي بعد أن ساق كلام ابن الوليد الطرطوشي: قلت: أما الإحياء ففيه من الأحاديث الباطلة جملة، وفيه خير كثير لولا ما فيه من آداب ورسوم وزهد من طريق الحكماء ومنحرف الصوفية، نسأل الله علما نافعا، تدري ما العلم النافع؟ هو ما نزل به القرآن، وفسره الرسول –صلى الله عليه وسلم- قولا وفعلا، ولم يأت نهي عنه، قال عليه السلام: " من رغب عن سنتي فليس مني "1. فعليك يا أخي بتدبر كتاب الله، وبإدمان النظر في الصحيحين، وسنن النسائي، ورياض النووي، وأذكاره تفلح وتنجح، وإياك وآراء عباد الفلاسفة، ووظائف أهل الرياضات، وجوع الرهبان، وخطاب طيش رؤوس أصحاب الخلوات، فكل الخير في متابعة الحنيفية السمحة، فواغوثاه بالله! اللهم اهدنا الصراط المستقيم. انتهى. ملخص حال الغزالي ولمحمد بن علي المازني الصقيلي كلام على الإحياء قال فيه: قد تكررت مكاتبتكم في استعلام مذهبنا في الكتاب المترجم بإحياء علوم الدين، وذكرتم

_ 1 البخاري: النكاح (5063) , ومسلم: النكاح (1401) , والنسائي: النكاح (3217) , وأحمد (3/241 ,3/259 ,3/285) .

أن آراء الناس فيه قد اختلفت، فطائفة انتصرت، وتعصبت لإشهاره، وطائفة حذرت منه ونفرت، وطائفة لكتبه أحرقت، وكاتبوني أهل المشرق أيضا يسألوني، ولم يتقدم لي قراءة هذا الكتاب سوى نبذة منه، فإن نفس الله في العمر مددت منه الأنفاس، وأزلت عن القلوب الالتباس، اعلموا أن هذا رأيت تلامذته فكل منهم حكى لي نوعا من حاله ما قام مقام العيان، فأنا أقتصر على ذكر حاله، وحال كتابه، وأذكر جملا من مذاهب الموحدين والمتصوفة، وأصحاب الإشارات والفلاسفة، فإن كتابه متردد بين هذه الطوائف. (ثم قال) : وأما علم الكلام الذي هو أصل الدين فإنه صنف فيه، وليس بالمتبحر فيها، ولقد فطنت لعدم استبحاره فيها؛ وذلك أنه قرأ علوم الفلسفة قبل استبحاره في علم الأصول فأكسبته الفلسفة جرأة على المعاني، وتسهيلا للهجوم على الحقائق، لأن الفلاسفة تمر مع خواطرها لا ينزعها شرع. وعرفني صاحب له أنه كان له عكوف على رسائل إخوان الصفا، وهي إحدى وخمسون رسالة، ألفها من قد خاض في علم الشرع والنقل وفي الحكمة، فمزج بين العلمين، وقد كان رجل يعرف بابن سينا ملأ الدنيا تصانيف أدته قوته في الفلسفة إلى أن حاول رد أصول العقائد إلى علم الفلسفة، وتلطف جهده حتى تم له ما لم يتم لغيره 1 ورأيت هذا آخر الموجود من الرسالة.

_ 1 هذا قول مقتضب محرف من كلام المازري، وقد استوفاه الأخ السبكي في طبقاته، ورد عليه وعلى الطرطوشي، فأما أبو حامد فقد رد على الفلاسفة ردا لم يسبقه مسلم إلى مثله. ورسائل إخوان الصفاء، ويعزوها شيخ الإسلام إلى الباطنية، وقد ألف أبو حامد عدة كتب في الرد عليهم لم يسبقه إلى مثله مسابق، ولم يلحقه لاحق، وليس كل ما في كل هذه الرسائل خطأ، ولا أبو حامد بالبليد الجاهل الذي يقلد صاحب كل كتاب يقرأه، ولماذا لم يذكر عكوفه بعد ذلك على البخاري ومسلم وموته على ذلك؟ فالحق في أبي حامد، والإحياء ما أبينه ملخصا: ==

......................................................................................................

_ == الحق أن أبا حامد الغزالي -رحمه الله تعالى- كان من نوابغ علماء الملة وأنصار الدين الداعين إليه والمدافعين عنه؛ ولذلك لقب بحجة الإسلام، وقيل هذا اللقب الخاص والعام إلا الخصوم الذين لم يسلم نابغ منهم. ولإخلاص أبي حامد لله -تعالى- في علمه، وعمله جعل خاتمته خيرا من بدايته، فقد كانت عنايته أولا بالفقه، وأصوله، ثم بالمعقولات، وهي علم الكلام، وما يتعلق به من المنطق والفلسفة، ثم بالتصوف علما وعملا ورياضة، وأما خاتمته فكانت بالرجوع إلى كتب السنة، والعكوف على صحيحي البخاري ومسلم، والأخذ بمذهب السلف الصالح فيها. وأما كتابه الإحياء فقد ألفه في أثناء تصوفه، وكان يعتمد فيما ينقله فيه من الأحاديث، والآثار على كتب الحديث، وكتب التصوف من غير بحث في الروايات، وتمييز الصحيح وغير الصحيح منها، فوقع فيه كثير من الروايات الضعيفة والموضوعة، وكثير من نظريات الفلسفة التي رآها موافقة للدين، وما كل ما في الفلسفة –ولا سيما الأدبية منها – مخالف للدين، ولا أكثرها أيضا. فكان خصومه يشنعون عليه بهذا وذاك. فأما المحدثون فقد شنع عليه بعضهم بذكر ما لا يحتج به من الأحاديث والآثار، وأجيب عنه بأنه لم يكن منفردا بذلك، فأكثر المؤلفين في الفقه والتصوف والأدب والتاريخ قد وقعوا في مثل ذلك؛ لأنهم لم يكونوا من نقاد الحديث، ولا من حفاظه، بل وقع في بعض كتب المحدثين روايات واهية وموضوعة، لم ينبهوا عليها، بل منهم من صحح بعضها كالحاكم على جلالة قدره. ولم يشنع أحد من هؤلاء الخصوم على هؤلاء، ولا أولئك كما شنعوا عليه مع العلم بأنه هو لم يضع حديثا، ولم يدّع تصحيح ما لا يصح. وأما التشنيع عليه ببعض المسائل الكلامية والفلسفية والصوفية فالعبرة فيها بإقامة الدليل على بطلان كلامه فيها، وقد رأينا أن العلامة صاحب هذه الرسائل قد عني بنقل كل ما اطلع عليه من الطعن في الغزالي، ولم نر فيها إلا عبارات قليلة منكرة كمبالغته في مدح علم المنطق، وقوله: ليس في الإمكان أبدع مما كان. وقد ذكرها عنها بتعبير شنيع، لا أدري أقاله أم هو نقل لعبارته هذه بالمعنى، وقد أجاب عنها كثير من العلماء أجوبة تنطبق على قواعد الشرع، وردّها بعضهم بكل حال، وهؤلاء لم ينكروا على غيره من المخالفين لظواهر النصوص في التصوف بالشدة التي أنكروا بها على أبي حامد، بل أولوا لغيره ما لا يقبل التأويل، وما هو كفر صريح، بل نرى كل طائفة ترفق بمن كان منها فيما يخالف اعتقادها، وتتأول له كما فعل الحافظ الذهبي، والمحقق ابن القيم في الإنكار على شيخ الإسلام أبي إسماعيل الهروي المحدث السلفي الصوفي، فالأول تمنى لو لم يؤلف كتاب "منازل السائرين" في التصوف، والثاني تأول له بعض العبارات المخالفة لظواهر الكتاب والسنة وهدي السلف؛ حتى ما أنكره عليه شيخه شيخ الإسلام من أبياته الشهيرة في حقيقة ==

......................................................................................................

_ == التوحيد عند الصوفية: ما وحد الواحد من واحد إذ كل من وحده جاحد وكلهم يلقبونه بشيخ الإسلام. وقد أنكر بعض العلماء على شيخ الإسلام ابن تيمية النابغة الكبير بأشد مما انتقده خصوم أبي حامد عليه، وهو منهم، حتى إنهم كفروه، وما زال أخلافهم المقلدون يتحامون كتبه، ويحذرون المسلمين منها بأشد مما حذر العلامة الشيخ عبد اللطيف هنا من كتاب الإحياء. على أن شيخ الإسلام ابن تيمية قد امتاز على أهل الحديث والأثر بالإطلاع الواسع على علوم الكلام والمنطق والفلسفة التي كان السلف والمقتدون بهم من الخلف يحذرون منها، ولكن لو لم يطلع عليها شيخ الإسلام إطلاعا واسعا لما استطاع أن ينصر السنة ومذهب السلف على كل ما خالفه منها، كما كان أقرانه في علم الحديث يعجزون عن ذلك، وفي مقدمتهم صديقه الحافظ الذهبي رحمهم الله -تعالى-. والقول الحق في كتاب الإحياء: أن أكثر ما فيه حق ونافع وقوي التأثير في تقوية الإيمان والترغيب في العبادة والتقوى والورع، وإنني ممن انتفع به كثيرا في بدايته، ولا أنكر أنني تضررت أيضا ببعض آرائه، وآراء أمثاله في الجبر، والغلو في الزهد، وأما الحديث، فإن الله -تعالى- ألهمني في أوائل طلب العلم الاشتغال به، فكان ذلك سببا لاقتنائي شرح الإحياء للزبيدي المشتمل على تخريج أحاديثه. وأقول: إن اشتغال أهل نجد بكتب السنة واعتمادهم في العقائد ورد الشبه في آداب الشرع والتصوف السني على كتب شيخي الإسلام يغنيهم عن كتاب الإحياء، وينبغي أن لا يطلع عليه منهم إلا العلماء، إن وجدوا مقتضيا، ولكنني أنصح بأن لا يطعنوا في أبي حامد، ولا يعدوه مضلا، فإننا إذا أردنا أن نعد كل من أخطأ من العلماء، وأمكن الاستدلال على خطئه ببعض النصوص الصحيحة، أو آثار السلف ضالا مضلا، ولم نميز بين المجتهد المتأول، والمعاند فإنه لا يكاد يسلم لنا من أعلام هذه الملة إلا النادر؛ فإنا نرى أئمة الفقهاء من المذاهب الأربعة قد خالفوا باجتهادهم بعض هذه النصوص. ونرى فروعا كثيرة في الحلال والحرام، قد قيلت بالرأي المخالف لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "وسكت عن أشياء رحمة بكم غير نسيان فلا تسألوا عنها" فهل نقول في متبعي أئمتهم فيها: إنه ينطبق عليهم حديث عدي بن حاتم المرفوع في تفسير: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} بأنهم كانوا يتبعونهم فيما يحلون لهم، ويحرمون عليهم؟ قال الإمام مالك –رحمه الله-: كل أحد يؤخذ من كلامه، ويرد عليه إلا صاحب هذا القبر –، ويشير إلى قبره صلى الله عليه وسلم. وكتبه محمد رشيد رضا.

الرسالة العشرون: [السمت والتؤدة والاقتصاد في الأمور]

الرسالة العشرون: [السمت والتؤدة والاقتصاد في الأمور] وله أيضا -قدس الله روحه، ونور ضريحه- رسالة إلى صالح بن عثمان بن عقيل هذا نصها: بسم الله الرحمن الرحيم من: عبد اللطيف بن عبد الرحمن إلى الأخ المكرم: صالح بن عثمان بن عقيل، سلمه الله تعالى وتولانا وإياه في الدنيا والآخرة. سلام عليكم، ورحمة الله وبركاته. أما بعد: فأحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو على ما أنعم به من سوابغ نعمه، وألبس من ملابس فضله وكرمه، جعلنا الله وإياكم ممن عرف نعمة الله عليه، فاستعان بها فيما يقرب إليه. والوصية الجامعة العظمى، وما وصى الله به –سبحانه- من التقوى وتفاصيلها على القلوب والجوارح بحسب الأحوال والأوقات، لا يخفى على من له به اهتمام، وله إليه التفات. والأحاديث التي سألت عن معناها قد تكلم عليها بعض العلماء بما حاصله أن السمت والهدي في حالة الرجل في مذهبه وخلقه. وأصل السمت في اللغة الطريق المنقاد، ثم نقل لحالة الرجل وطريقته في مذهبه وخلقه. والاقتصاد سلوك القصد في الأمر، والدخول فيه برفق، وعلى سبيل يمكن الدوام عليه. وأما التؤدة فهي التأني والتمهل وترك العجلة، وسبق الفكر والرؤية للتلبس في الأمور. وأما كون هذه الخصال جزءا من أربع وعشرين جزءا من النبوة، فقد قيل: إن هذه الخلال من شمائل الأنبياء -عليهم السلام- ومن

الخصال المعدودة من خصالهم، وأنها جزء من أجزاء فضائلهم فاقتدوا بهم فيها، وتابعوهم عليها. (قالوا) : وليس معنى الحديث أن النبوة تتجزأ، ولا أن من جمع هذه الخلال كان فيه جزء من النبوة، فإن النبوة غير مكتسبة، ولا مجتلبة بالأسباب، وإنما هي كرامة من الله، وخصوصية لمن أراد الله إكرامه من عباده: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} وقد انقطعت النبوة بمحمد صلى الله عليه وسلم. وفيه وجه آخر، وهو أن يكون معنى النبوة هاهنا ما جاءت به النبوة، ودعت إليه الأنبياء عليهم السلام، يعني أن هذه الخلال من أربعة وعشرين جزءا مما جاءت به النبوات، ودعت إليه الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم، وقد أمرنا باتباعهم في قوله -عزوجل-: {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} . قالوا: وقد يحتمل وجها آخر، وهو أن من اجتمعت له هذه الخصال لقيه الناس بالتعظيم والتوقير، وألبسه الله -تعالى- لباس التقوى الذي يلبسه أنبياءه، فكأنها جزء من النبوة. قلت: وما قبل هذا أليق بمعنى الحديث. وأما حديث الرؤيا: فقيل: معناه تحقيق أمر الرؤيا وتأكيده، وهو جزء من أجزاء النبوة في الأنبياء -صلوات الله وسلامه عليهم- دون غيرهم، لأن رؤيا الأنبياء وحي، قال عمرو بن دينار عن عبد الله بن عمير: رؤيا الأنبياء عليهم السلام وحي، وقرأ قوله –تعالى -: {إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ} وأما تحديد الأجزاء بالعدد المذكور في الحديث، فقد قال فيه بعض أهل العلم: إنه أوحي إليه صلى الله عليه وسلم بمكة ستة أشهر في منامه، ثم توالى الوحي يقظة إلى أن توفي صلى الله عليه وسلم

وكانت مدة الوحي ثلاثا وعشرين سنة منها نصف سنة في أول الأمر يوحى إليه في منامه، ونسبة ستة الأشهر لبقية مدة الوحي جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة. وسئل بعض أهل العلم عن هذا الحديث قال: معناه أن الرؤيا تجيء على موافقة النبوة لأنها جزء من باقي النبوة. وقال بعضهم: إنها جزء من أجزاء علم النبوة باق، والنبوة غير باقية بعد رسول الله –صلى الله عليه وسلم- ذهبت النبوة، وبقيت المبشرات (وهي) الرؤيا الصالحة يراها المسلم أو ترى له. وعندي أن النبوة التي هي الوحي بشرائع الأنبياء عبارة عن نبأ أو شأن عظيم في القوة، وإفادة اليقين. والرؤيا الصالحة التي هي من أقسام الوحي جزء باعتبار القوة، وإفادة العلم من ستة وأربعين جزءا، ولا يقتضي هذا تجزؤ النبوة، وأنها مكتسبة، ولا إطلاق اسم النبوة على هذا الجزء، لأن المسمى هو الكل المستجمع لجميع الأجزاء؛ فلا محذور. ويمكن أن يقال: هذا فيما تقدم معه قوله: " الهدي الصالح، والسمت الحسن، والاقتصاد جزء من خمسة وعشرين جزءا من النبوة " 1 هذا ما ظهر لي، والله أعلم، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.

_ 1 هذا حديث رواه الترمذي، والطبراني عن عبد الله بن سرجس مرفوعا، ولكن بلفظ "أربعة، وعشرين جزءا"،ولكن ذكره الخطابي في الكلام على حديث الرؤيا بلفظ "خمسة، وعشرين" كما هنا، والقرطبي في شرح مسلم بلفظ "ستة، وعشرين" كما نبه عليه الحافظ في الفتح، ومن المؤسفات أن هذه الرسائل لم يذكر فيها نصوص الأسئلة التي أجيب فيها عنها.

الرسالة الحادية والعشرون: [مؤاخذة أنصار الجاني وأقاربه بجريرة فعله]

الرسالة الحادية والعشرون: [مؤاخذة أنصار الجاني وأقاربه بجريرة فعله] وله أيضا -قدس الله روحه، ونور ضريحه- سؤال سأل عنه والده الشيخ الإمام المبجل، والفاضل النبيل المفضل، الشيخ عبد الرحمن بن حسن، ثم ذيل الشيخ عبد اللطيف على الجواب ذيلا، وهذا نصهما: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد؛ فإني قد سألت والدي –قدس الله روحه، ونور ضريحه- عما يفعله بعض الأمراء بنجد من أخذ ابن العم بجريمة ابن عمه، أو غير ابن عمه من الأصول والفروع، هل له مستند شرعي، أو لا مستند له؟ فأجاب -رحمه الله- بقوله: الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيد المرسلين وإمام المتقين محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليما. أما بعد، فقد سألني من لا تسعني مخالفته أن أكتب فيما يفعله الأئمة من أخذ ابن العم وحبسه فيما يأخذه ابن عمه من مال غيره بغير حق، هل له مسوغ في الشرع أو لا. فالجواب: اعلم -وفقك الله- أن أهل نجد كانوا قبل ظهور هذه الدعوة الإسلامية فيهم بأسوإ حال، أما الأعراب فلا يلتفت أحد منهم لشريعة الإسلام لا في العبادات، ولا في غيرها من الأحكام في الدماء، ولا في الأموال، ولا في النكاح والطلاق والمواريث، وغير ذلك. وكانوا في شر عظيم فيما بينهم من الحروب، كل طائفة تقاتل الأخرى، وتستحل دماءها وأموالها،

والحضر عندهم في غاية الذل، يأخذون المال منهم كرها. فلما مَنَّ الله بهذه الدعوة، وقام الجهاد، أجلبوا كلهم على محاربة من دعاهم إلى الإسلام والتزام شرائعه وأحكامه، فحصل التأييد من الله لمن قام بدينه، فجاهدوا الأعراب وغيرهم على طاعة ربهم، والتزام ما شرعه، فبقوا على جهاد الأعراب كلما أسلمت قبيلة جاهدوا بها الأخرى، فما زالوا يجاهدونهم على أن يسلموا، ويصلوا ويزكوا. وأكثرهم ألقى السلم لأهل الإسلام، لكن بقي من البغي والظلم والعدوان على من قدروا عليه واستضعفوه ممن دخل فيما دخلوا فيه من الإسلام، فكل من نهب أو قطع طريقا أو قتل استند إلى قبيلة، فلا يقدر أحد من ولاة الأمر أن يأخذ الحق منهم. والحالة هذه فلو تركوا رأسا، ولم ينظر إلى جنايتهم، ونظر إلى جناية المباشر فقط، لفهم يفهمه بعض القاصرين من حديث " لا يجني جان إلا على نفسه " لضاعت حقوق الناس، ودماؤهم، وأموالهم، وعطلت القاعدة الشرعية، وقصر بالحديث عما يتناوله، ويدل عليه عند إمعان النظر، فعلى قدر ما أحدثوا من البغي، والظلم والعدوان والتعاون على ذلك، ساغ للأئمة أن يحبسوا ابن العم في ابن عمه ليقوم بأداء ما وجب عليه من الحق والطاعة في المعروف من نصرة المظلوم، وإغاثة الملهوف، والبراءة من المحاربين وقطع السبيل. ومثل هذه القبائل لما تركوا ما وجب من أمر الشرع مع القدرة على القيام، ورضوا بمحاربة الله ورسوله ساغ للأئمة ما ذكر، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، وأيضا فلو خلوا بين أهل الإسلام وبين هذا الجاني من أبناء عمهم لتمكن المظلوم من أخذ حقه، ورد مظلمته؛ فهم قد آووا محدثا، وفي الحديث " لعن الله من آوى محدثا "، وفي الحقيقة هذا إحسان إلى

القبيلة، وسبب لتخليصهم من ارتكاب ما حرم عليهم، وهذا الذي أخذ في ابن عمه لم يقصد ماله، بل حبس لأخذ ما بيد مولاه الذي هو ابن عمه. وبالجملة فهذا من أسباب صلاح الناس وصيانتهم، وهذا الذي ذكرنا هو الذي تأوله الأئمة، وظهرت مصلحته، وقلت مفسدته، والذي أخذ النبي صلى الله عليه وسلم ناقته العضباء قال له: لم تأخذ سابقة الحاج؟ قال: "أخذتها بجريرة حلفائك من ثقيف" أو كما قال صلى الله عليه وسلم تسليما كثيرا، وعلى آله وأصحابه والتابعين. (قلت) : فظهر من هذا البيان الذي أفاده شيخنا -رحمه الله- أن الحكم خاص بأهل القوة والنصرة بخلاف المستضعف الذي لا قدرة له، ولا جناية ولا مصلحة في حبسه ولا يؤبه له عند قبيلته، فعلى الحاكم إمعان النظر في جلب المنافع ودفع المفاسد، أملاه شيخنا عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن -قدس الله روحه، ونور ضريحه-، ثم ذيل على ذلك ذيلا فقال -رحمه الله-: ما قاله شيخنا ووالدنا -حفظه الله- في أسر ابن العم في ابن عمه لمصلحة فهو الحكم العدل، وهو الذي عليه أكثر السلف، فإن الرجل إذا قطع السبيل وأخافه، وامتنع بنفسه، وترك من يأويه وينصره، صار قوة له، وإعانة له على ظلمه؛ فإن أخذ بجريرته، وأسر فيه؛ حصل له رد وامتناع، وهذا يعلم بالاضطرار. [أخذ الحليف بجريرية حليفه] قال الخطابي في شرح سنن أبي داود في باب النذر فيما لا يملك ابن آدم: حدثنا سليمان بن حرب، ومحمد بن عيسى قالا: حدثنا حماد عن أيوب عن أبي قلابة عن أبي المهلب عن عمران بن حصين قال: " كانت العضباء لرجل من بني عقيل، وكانت من سوابق الحاج، قال: فأسر، فأتي به النبي صلى الله عليه وسلم وهو في وثاق، والنبي صلى الله عليه وسلم على حمار عليه قطيفة، فقال: يا محمد علام تأخذني، وتأخذ سابقة الحاج؟ قال: آخذك بجريرة

حلفائك من ثقيف، وكانت ثقيف قد أسروا رجلين من أصحاب النبي –صلى الله عليه وسلم " -. (قال الشيخ) : قوله: (آخذك بجريرة حلفائك من ثقيف) اختلفوا في تأويله فقال بعضهم: هذا يدل على أنه كان بنو عقيل عاهدوا أن لا يتعرضوا للمسلمين، ولا أحد من حلفائهم، فنقض حلفاؤهم العهد، ولم ينكره بنو عقيل، فأخذ بجريرتهم. وقال آخرون: هذا الرجل كافر، ولا عهد له، وقد يجوز أخذه وأسره وقتله، فإن جاز أن يؤخذ بجريرة نفسه، وهي كفره، جاز أن يؤخذ بجريرة غيره ممن كان على مثل حاله من حليف وغيره، ويحكى معنى هذا عن الشافعي. وفيه وجه ثالث، وهو أن يكون في الكلام إضمار، يريد أنك إنما أخذت ليدفع بك جريرة حلفائك، ويفدوا بك الأسيرين اللذين أسرتهم ثقيف ألا تراه يقول: ففدي الرجل بعد بالرجلين. انتهى. فتأمل هذا؛ فإنه يدلك على صواب الحكم. والآية، وهي قوله: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} ليس فيها ما يدفع هذا، ولا يرده، والله الموفق للصواب، وهو أعلم بمواقع الخطاب، وصلى الله على عبده ورسوله محمد وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرا. أملاه شيخنا الشيخ عبد اللطيف بن الشيخ عبد الرحمن بن حسن بن شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمهم الله -تعالى- وعفا عنهم بمنه، وكرمه آمين.

الرسالة الثانية والعشرون: [إسكان النبي عليه السلام المهاجرات دور أزواجهن ميراثا]

الرسالة الثانية والعشرون: [إسكان النبي عليه السلام المهاجرات دور أزواجهن ميراثا] وله أيضا -رحمه الله، وعفا عنه- رسالة إلى زيد بن محمد؛ وقد سأله عن حديث زينب –رضي الله عنها- وما وجه اختصاص النساء المهاجرات بدور المهاجرين؟ فأجابه -رحمه الله تعالى-: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد اللطيف بن عبد الرحمن إلى الأخ زيد بن محمد، زاده الله من العلم والإيمان، وألبسه من ملابس التقوى والإحسان. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد؛ فإنا نحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، وهو للحمد أهلٌ، والخط وصل -وصلك الله ما يرضيه- وسَرَّنَا ما ذكرته، والحمد لله على التيسير والتسديد، ومن جهة كتاب الطرق، فالوالد أعاره محمد بن فيصل قبل وصول خطك، وحين فراغه نبعث به إليك، إن شاء الله تعالى. وأما السؤال عن حديث زينب -رضي الله عنها- فاعلم أن الحديث قد دل بمنطوقه على أن امرأة عثمان بن عفان ونساء من المهاجرات اشتكين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ضِيقَ المنازل وإخراجهن منها، فأمرصلى الله عليه وسلم أن تُوَرَّثَ دورُ المهاجرين النساءَ المهاجرات، وتورث بضم التاء وفتح الواو وتشديد الراء، معناه: أن تُجْعَل الدورُ لهن ميراثًا، فمات عبد الله بن مسعود فورثتْ امرأته داره في المدينة أخذًا بهذا الحديث. هذا معناه، والناس مختلفون في وجه اختصاص النساء بذلك؛ فقال بعضهم: يشبه أن يكون ذلك على معنى القسمة بين الورثة، وإنما

خصهن بالدور لأنهن بالمدينة غرائب لا عشيرة لهن، فحاز لهن الدور لما رأى من المصلحة؛ وهذا مُخْتَص بالمهاجرات لاختصاصهن بعلة الحكم على هذا الوجه. وقد أَلْغَزَ في ذلك بعض الأفاضل فقال: سلم على مفتي الأنام وقل له ... هذا سؤال في الفرائض مبهم قوم إذا ماتوا يحوز ديارهم ... زوجاتهم ولغيرهم لا تُقْسَم وبقية المال الذي قد خَلَّفُوا ... يجري على أهل التوارث منهم وقيل: هو أمر منه صلى الله عليه وسلم باختصاص الزوجات المهاجرات سكنى دور أزواجهن مدة حياتهن، على سبيل الإرفاق بالسكنى دون الملك، كما كانت دور النبي صلى الله عليه وسلم وحُجَره في أيدي نسائه بعده لا على سبيل الميراث لقوله عليه السلام: " نحن لا نُورثُ ما تركناه صدقة ". لكن يُحْكَى عن سفيان بن عيينة أنه قال: نساء النبي صلى الله عليه وسلم في معنى المعتدات لأنهن لا ينكحن بعده، وللمعتدات السكنى، فجعل لهن سكنى البيوت ما عشن لا تملكها. ويشبه أن يكون أمره بذلك قبل نزول آية الفرائض، فقد كانت الوصية للوالدين والأقربين مفروضة، وقد كان المهاجرون والأنصار يتوارثون بالمؤاخاة بينهم، فنسخ بآية الفريضة، وبقوله تعالى: {وَأُولُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} ، وعمل الناس يدل على هذا ويرجحه. وأما استدلال أبي داود في باب إحياء الموات فتأوله على وجهين: (أحدهما) أنه إنما أقطعهم العَرْصَة؛ ليبنوا فيها الدور، وعليه يصح ملكهم في البناء الذي أحدثوه في العرصة، وهذا الذي يظهر من صنع أبي داود. (والوجه الثاني) أنهم إنما أُقْطِعُوا الدور عارية؛ ولهذا ذهب أبو إسحاق

الرسالة الثالثة والعشرون: [نصيحة الشيخ للأمير فيصل]

المرروزي؛ وَيُرَشِّحُ ذلك أن إقطاع الإرفاق وقع في المقاعد في الأسواق والمنازل في الأسفار، وهي يُرْتَفَقُ بها ولا تُمْلَكُ. ومن هنا يحصل احتمالٌ رابع في معنى اختصاص النساء بالدور دون سائر الورثة، وتقريره على هذا الوجه أن يقال: الدور لم تملك بالإقطاع بل هي عارية في يد أربابها، وبعد هلاكهم أمْرُها إلى الإمام يُسْكِنُهَا مَن شاء بحسب المصلحة؛ فلذلك أمرصلى الله عليه وسلم باختصاص المهاجرات بها دون سائر الورثة، وقول بعضهم: إن الميراث لا يجري إلا فيما كان المورث مالكا له، فيه نظر ظاهر، والله أعلم. الرسالة الثالثة والعشرون: [نصيحة الشيخ للأمير فيصل] وله أيضا -رحمه الله، وعفا عنه- رسالة إلى الإمام فيصل -رحمه الله- نصحه فيها وذَكَّرَهُ نعمةَ الله على خلقه ببعثة محمد صلى الله عليه وسلم حتى أكمل الله به الدين وَبَلَّغَ البلاغ المبين، وترك الناس على المحجة، حتى لم يبق لأحد على الله حجة. وذكر أنه صلى الله عليه وسلم مع ما أيده الله به من الآيات والأدلة القاطعة، والبراهين الساطعة الدالة على صدقه وثبوت رسالته، كابر من كابر، وعاند من عاند، حتى ظهر الإسلام ظهورا ما حصل قبل ذلك، وعلتْ كلمة الله وظهر دينه فيما هناك. ولم يزل ذلك في زيادة وظهور حتى حدث في الناس من فتنة الشهوات، والاتساع في الحرمات، فَضَعُفَتْ القوة الإسلامية، وغلظت الحُجُب الشهوانية حتى ضعُفَ العلمُ بحقائق الإيمان، وما كان عليه الصدر الأول من العلوم والشأن، فوقعت عند ذلك فتنة الشبهات، وتوالدت تلك المآثم والسيئات. وذكر له -رحمه الله- أن الله يبعث لهذه الأمة في كل قرن مَن يجدد لها أمر دينها، ولكن لا بد له من معارض ومعاند. ثم ذكر -رحمه الله- ما مَنَّ الله به عليهم، واختصهم به من بين سائر الأمم بدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب أجزل الله له الأجر والثواب، وأدخله الجنة بغير حساب ولا عذاب، وما حصل بها من ظهور الإسلام وتبيين الدين والأحكام إلى أن حصل

فيمن بعده من فتنة الشهوات والسلوك إلى مَفَاوِز المهالك نظير ما وقع بعد الصدر الأول من ذلك، ثم رد الله لهم الكَرَّة بعد تلك العساكر الطاغية وأشرار الحاضرة والبادية، فظهر الإسلام، وانتشر في البلاد، وسمعت أحكام الشريعة، وانتشرت في العباد. ولكن حصل في خلال ذلك مَنْ أظهر الطعن في العقائد، وتكلم كل مَن كان للحق معاند، وصار أمر العلم والعقائد لَعِبًا لكل منافق وحاسد. وكتب -رحمه الله- له هذه النصيحة، وحذره من الوقوع في أسباب النقم والفضيحة، ولم أجد تصديرها باسمه، وإنما وجدت (كتب بعضهم إلى الإمام ما صورته) وهي بقلم كاتبه وهذا نصها: بسم الله الرحمن الرحيم إلى الإمام المكرم فيصل -وفقه الله لقبول النصائح، وجنبه أسباب الندم والفضائح- سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. [حالة العالم قبل البعثة المحمدية] وبعد: فلا يخفى عليك أن الله –تعالى- ما أنعم على خلقه نعمة أجل وأعظم من نعمته ببعثة عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم؛ فإن الله بعثه وأهل الأرض -عربهم وعجمهم، كتابيهم وأميهم، قرويهم وبدويهم- جُهَّال ضُلال على غير هدى، ولا دين يُرْتَضَى، إلا من شاء الله من أهل الكتاب، فصدع بما أوحي إليه، وأمر بتبليغه، وبَلَّغَ رسالة ربه، وأنكر ما الناس عليه من الديانات المتفرقة والملل المتباينة المتنوعة. ودعاهم إلى صراط مستقيم ومنهج واضح كريم يصل بسالكه إلى جنات النعيم، ويتطهر من كل خلق ذميم، وجاءهم من الآيات والأدلة القاطعة الدالة على صدقه وثبوت رسالته ما أعجزهم وأفحمهم عن معارضته، ولم يبق لأحد على الله حجة. ومع ذلك كابر من كابر وعاند من عاند، وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق، ورأوا أن الانقياد له صلى الله عليه وسلم وترك ما هم عليه من النِّحَل والمِلَل يجر

عليهم من مَسَبَّة آبائهم وتسفيه أحلامهم، ونقص رياستهم أو ذهاب مآكلهم ما يحول بينهم وبين مقاصدهم ومآربهم. فلذلك عدلوا إلى ما اختاروه من الرد والمكابرة والتعصب على باطلهم والمثابرة، وأكثرهم يعلمون أنه مُحِقٌّ، وأنه جاءهم بالهدى، ودعا إليه لكن في النفوس موانع، وهناك إرادات ومؤاخاة ورياسات لا يقوم ناموسها، ولا يحصل مقصودها: إلا بمخالفته وترك الاستجابة له وموافقته. وهذا هو المانع في كل زمان ومكان من متابعة الرسل، وتقديم ما جاؤوا به، ولولا ذلك ما اختلف من الناس اثنان، ولا اختصم في الإيمان بالله وإسلام الوجه له خَصْمَان. وما زال حاله صلى الله عليه وسلم مع الناس كذلك حتى أيد الله دينه ونصر رسوله بصفوة أهل الأرض، وخيرهم ممن سبقت له من الله السعادة، وتأهل بسلامة صدره لمراتب الفضل والسيادة، وأسلم منهم الواحد بعد الواحد، وصار بهم على إبلاغ الرسالة مُعَاوَن ومُسَاعَد حتى مَنَّ الله على ذلك الحي من الأنصار بما سبقت لهم به من الحسنى والسيادة والأقدار، فاستجاب لله ورسوله منهم عصابة حصل بهم من العز والمَنَعَة ما هو عنوان التوفيق والإصابة. وصارت بلدهم بلد الهجرة الكبرى والسيادة الباذخة العظمى، هاجر إليها المؤمنون، وقصدها المستجيبون حتى إذا عز جانبهم وقويت شوكتهم أذن لهم في الجهاد بقوله: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} ثم لما اشتد ساعدهم وكثر عددهم أنزلت آية السيف، وصار الجهاد من أفرض الفروض، وآكد الشعائر الإسلامية، فاستجابوا لله ورسوله، وقاموا بأعباء ذلك وجردوا في حب الله ونصرة دينه السيوف، وبذلوا الأموال والنفوس، ولم يقولوا كما قالت بنو إسرائيل لموسى: {فَاذْهَبْ أَنْتَ

وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} فلما علم الله منهم الصدق في معاملته، وإيثار مرضاته ومحبته، أيدهم بنصره وتوفيقه، وسلك بهم منهج دينه وطريقه فَأَذَلَّ بهم أُنُوفًا شامخةً عاتيةً، ورد بهم إليه قلوبًا شاردةً لاهيةً، جاسوا خلال ديار الروم والأكاسرة، ومَحَوْا آثار ما عليه تلك الأمم العاتية الخاسرة. وظهر الإسلام في الأرض ظهورا ما حصل قبل ذلك، وعلت كلمة الله، وظهر دينه فيما هنالك، واستبان لذوي الألباب، والعلوم من أعلام نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ما هو مُقَرَّرٌ معلومٌ. ولم يَزَلْ ذلك في زيادة وظهور، وَعَلَمُ الإسلام في كل جهة من الجهات مَرْفَوعٌ منصورٌ، حتى حدث في الناس من فتنة الشهوات، والاتساع والتمادي في فعل المحرمات، ما لا يمكن حصره ولا استقصاؤه؛ فضعفتْ القوى الإسلامية، وقويت الحجب الشهوانية حتى ضعف العلم بحقائق الإيمان، وما كان عليه الصدر الأول من العلوم والشأن، فوقعت عند ذلك فتنة الشبهات، وتوالدت تلك المآثم والسيئات. وظهرت أسرار قوله تعالى: {كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} الآية، وقوله صلى الله عليه وسلم: " لتتبعن سنن من كان قبلكم" ولكن لله في خلقه عناية وأسرار لا يعلم كنهها إلا العليم الغفار. [المجددون وعلامتهم التي يعرفون بها] من ذلك: أن الله -تعالى- يبعث لهذه الأمة في كل قرن من يجدد لها أمر دينها، ويدعو إلى واضح السبيل ومستبينها؛ كي لا تبطل حجج الله وبيناته؛ ويضمحل وجود ذلك وتعدم آياته؛ فكل عصر يمتاز فيه عالم بذلك يدعو إلى تلك المناهج والمسالك. وليس من شرطه: أن يُقْبَل منه ويُسْتَجَاب، ولا أن يكون معصوما في كل ما يقول، فإن هذا لم يثبت لأحد دون الرسول. ولهذا المُجَدِّد علامةٌ يعرفها المُتَوَسِّمُونَ، وينكرها المبطلون؛ أوضحها وأجلاها، وأصدقها، وأولاها: محبة الرعيل الأول من هذه

الأمة، والعلم بما كانوا عليه من أصول الدين، وقواعده المهمة التي أصلها الأصيل، وَأُسُّهَا الأكبرُ الجليل: معرفة الله بصفات كماله ونعوت جلاله، وأن يوصف بما وصف به نفسه ووصفه به رسوله من غير زيادة ولا تحريف، ومن غير تكييف ولا تمثيل، وأن يعبدوه وحده لا شريك له، ويكفروا بما سواه من الأنداد والآلهة، هذا أصل دين الرسل كافة، وأول دعوتهم وآخرها، وَلُبُّ شعائرهم، وحقيقةُ مِلَّتِهِمْ. وفي بسط هذه الجملة من العلم به وبشرعه ودينه وصرف الوجوه إليه ما لا يتسع له هذا الموضع. وكل الدين يدور على هذا الأصل ويتفرع عنه. ومن طاف البلاد، وخَبرَ أحوال الناس منذ أزمان متطاولة عرف انحرافهم عن هذا الأصل الأصيل، وبُعْدَهُم عما جاءت به الرسل من التفريع والتأصيل. فكل بلد وكل قطر وكل جهة –فيما نعلم- فيها من الآلهة التي عُبِدَتْ مع الله بخالص العبادات وَقُصِدَتْ من دونه في الرغبات والرهبات ما هو معروف مشهور لا يمكن جحده ولا إنكاره، بل وصل بعضهم إلى أن ادعى لمعبوده مشاركة في الربوبية بالعطاء والمنع والتدبيرات، ومن أنكر ذلك عندهم فهو خَارِجِيٌّ ينكر الكرامات، وكذلك هم في باب الأسماء والصفات، ورؤساؤهم وأحبارهم مُعَطِّلة. وكذلك يدينون بالإلحاد والتحريفات، وهم يظنون أنهم من أهل التنزيل والمعرفة باللغات، ثم إذا نظرت إليهم وَسَبَرْتَهُمْ في باب فروع العبادات، رأيتهم قد شرعوا لأنفسهم شريعة لم تأت بها النبوات، هذا وصف من يدعي الإسلام منهم في سائر الجهات. وأما من كذَّب بأصل الرسالة، أو أعرض عنها ولم يرفع بذلك رأسا، فهؤلاء نوع آخر، وجنس ثان ليسوا مما جاءت به الرسل في شيء، بل هم

كما قال تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ} الآية. فمن عرف هذا حق المعرفة، وتبين له الأمر على وجهه، عرف حينئذ قدرَ نعمة الله عليه، وما اختصه به إن كان من أهل العلم والإيمان، لا من ذوي الغفلة عن هذا الشأن. [الإمام محمد بن عبد الوهاب وبدء دعوته] وقد اختصكم الله – تعالى- من نعمة الإيمان والتوحيد بِخَالِصَةٍ، ومنَّ عليكم بمِنَّةٍ عظيمة صالحة من بين سائر الأمم وأصناف الناس في هذه الأزمان؛ فأتاح لكم من أحبار الأمة وعلمائها حَبْرًا جليلا وعَلَمًا نبيلا فقيها عارفًا بما كان عليه الصدر الأول، خبيرا بما انْحَلَّ من عُرَى الإسلام وتحول. فتجرد إلى الدعوة إلى الله، وردِّ الناس إلى ما كان عليه سلفُهم الصالح في باب العلم والإيمان، وباب العمل الصالح والإحسان، وترك التعلق على غير الله من الأنبياء والصالحين وعبادتهم، والاعتقاد في الأحجار والأشجار والعيون والمَغَار، وتجريد المتابعة لرسول الله –صلى الله عليه وسلم- في الأقوال والأفعال. وهجر ما أحدثه الخلوف والأغيار، فجادل في الله، وقَرَّرَ حُجَجَه وبيناته، وبذل نفسه لله، وأنكر على أصناف بني آدم الخارجين عما جاءت به الرسل المعرضين عنه، التاركين له. وصنَّفَ في الرد على مَن عاند أو جادل ومَاحَلَ، وجرى بينهم من الخصومات والمحاربات ما يطول عدُّهُ. وكثير منكم يعرف بعضه ووازره -على ذلك- مَن سبقت له من الله سابقة السعادة. وأقبل على معرفة ما عنده من العلم، وأراده من أسلافك الماضين وآبائك المتقدمين -رحمهم الله رحمة واسعة، وجزاهم عن الإسلام خيرا- فما زالوا من ذلك على آثار حميدة، ونِعَمٍ عديدة، يصنع لهم –تعالى- من عظيم صنعه، وخفي لطفه، ما هداهم به إلى دينه الذي ارتضاه لنفسه، واختص به مَنْ شاء كرامته وسعادته من خلقه، وأظهر لهم من الدولة ما ظهروا به

على كافة العرب. فلم يزل الأمر في مزيد حتى توفى الله شيخ هذه الدعوة ووزيره العبد الصالح -رحمهما الله -، ثم حدث فيهم من فتنة الشهوات ما أفسد على الناس الأعمال والإرادات، وجرى من العقوبة والتطهير، ما يعرفه الفَطِن الخبير، ثم أَدْرَكَكُمْ من رحمته تعالى وألطافه ما رَدَّ لكم به الكَرَّة، ونصركم –ببركته- المرة بعد المرة، ولله -تعالى- عليك خاصة نِعَمٌ لا يحصيها العَدُّ والإحصا، ولا يحيط بها إلا عالم السر والنجوى. فكم أنقذك من هول وشدة، وكم أظهرك على مَنْ ناوأك مع كثرة العدد منهم والعدة، ولم تزل نِعَمُهُ عليك تترى، وحوله وقوته يرفعك إلى ما ترى؛ حتى آلت إليك سياسة هذه الشريعة المطهرة، وآل إليك ما كان إلى أسلافك ومن قبلهم ممن قام بنصر الدين وأظهره. وقد عرفت ما حدث من الخلوف في الأصول والفروع، وما آل إليه الحال في ترك الأخذ بأحكام المنهج المشروع حتى ظهر الطعن في العقائد، وتكلم كل كَارِهٍ للحق معاندٍ، وصار أمر العلم والعقائد لَعِبًا لكل منافق وحاسد، وكتبتُ في الطعن على أهل هذه الملة الرسائلَ والأوراقَ. وتكلم في عيبهم وذمهم أهل البغي والشقاق، فصار أمر الدين والعلم مُمْتَهَنًا عند الأكثرين من العامة والمتقدمين، وإقبالهم إنما هو على نَيْلِ الخصوص الدنيوية والشهوات النفسانية، وعدم الالتفات والنظر للمصالح الدينية والواجبات الإسلامية، وتفصيل ذلك يعرفه من حاسب نفسه قبل أن يحاسب. والمؤمن: من يعلم أن لهذه الأمور غائلة، وعاقبة ذميمة وخيمة آخرها الأجل المقدور، وإلى الله عاقبة الأمور، فالسعيد من بادر إلى الإقلاع والمتاب، وخاف سوء الحساب وعمل بطاعة الله قبل أن يغلق الباب ويسبل الحجاب. وفقنا الله وإياكم لقبول أمره وترك مناهيه وخوف زواجره، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين.

الرسالة الرابعة والعشرون: [رسالة الشيخ محمد بن عجلان ورد الشيخ حمد عليها]

الرسالة الرابعة والعشرون: [رسالة الشيخ محمد بن عجلان ورد الشيخ حمد عليها] وله أيضا -رحمه الله- رسالة إلى زيد بن محمد آل سليمان، وسببها: التحذير عما انهمك الناس فيه وشاع عنهم من الخوض والمراء والاضطراب، والإعراض عن منهج السنة والكتاب وَمَيْل الأكثرين إلى موالاة عُبَّاد الأصنام، والفرح بظهور الكفرة الطغام والانحياز إلى حماهم، وتفضيل مَن يتولاهم أيضا، والانتصار للشيخ حمد بن عتيق -رحمه الله- لما اعترض عليه من اعترض فيما كتبه إلى بعض الإخوان، بأن ما كتبه ابن عجلان ردة صريحة فصرح المعترض بجهله، ونال من عرضه، وتعاظم هذه العبارة، وزعم أنه غلا وتجاوز الحد. فبين الشيخ -رحمه الله- ما في كلام ابن عتيق من بعض الخطأ في التعبير، وأن ذلك من الغيرة لله والنكير، فلا ينبغي معارضة مَن انتصر لله ولكتابه وذَبَّ عن دينه، وأغلظ في أمر الشرك والمشركين، ولا يلتفت إلى زلاته، والاعتراض على عباراته، فمحبة الله والغيرة لدينه ونصرة كتابه ورسوله مرتبةٌ علية محبوبةٌ لله مَرْضِيَّةٌ يُغْتَفَرُ فيها العظيم من الذنوب. وقد أَبْلَجَ الشيخ في هذه الرسالة الحق وأوضحه، وأثلج به الصدور، فانكشف عنها الغطاء، فما أنصحه، واستبان الصوابُ لذوي الألباب، فما أصرحه. وهذا نص الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد اللطيف بن عبد الرحمن إلى الأخ المكرم زيد بن محمد آل سليمان -حفظه الله من طوائف الشيطان، وحماه من طوارق المحن والافتتان، وجعله من عسكر السنة والقرآن-. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد فأحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو على سَوَابِغ نعمائه، ولطفه عند قدره وقضائه، والخط وصل -وصلك الله ما يرضيه، ووفقك لجهاد من يناويه ويعاديه- وما ذكرتَ من حال الأخ صالح فهو عند الإمام

مَكِينٌ يحسن الدخول في الأمر والخروج. وما ذكرت من جهة ما يلقى إليك من الخطوط، فلا بأس بإرسالها إليَّ، وأما ما كتبت في هذه المحنة من الشبه، فقد عرفت أن الفتنة بالمشركين فتنة عظيمة وداهية عمياء ذميمة لا تبقي من الإسلام ولا تذر، لا سيما في هذا الزمان الذي فشا فيه الجهل وقُبِضَ فيه العلم، وتوافرتْ أسباب الفتن وغلب الهوى، وانطمست أعلام السنن، وابتُلي المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا، وعند ذلك: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} وقد شاع ما الناس فيه من الخوض والمراء والاضطراب، والإعراض عن منهج السنة والكتاب، ومال الأكثرون إلى موالاة عُبَّاد الأصنام، والفرح بظهورهم والانحياز إلى حماهم، وتفضيل من يتولاهم، "وحُبُّك الشيءَ يُعْمِي وَيُصِمُّ". وقد صدر من الشيخ محمد بن عجلان رسالة، ما ظننتها تصدر من ذي عقل وفهم، فضلا عن ذي الفقه والعلم، وقد نبَّهت على ما فيها من الخطأ الواضح، والجهل الفاضح، وكتمت عن الناس أول نسخة وردت علينا حذرًا من إفشائها وإشاعتها بين العامة والغوغاء. ولكنها فشت في الخرج والفرع، وجاء منها نسخة إلى بلدتنا، وافتُتِنَ بها مَن غلب عليه الهوى، وضل عن سبيل الرشاد والهدى: {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} وأخبرت من يجالسني أن جميع ما فيها من النقول الصحيحة والآثار حجة على منشيها، تهدم ما بناه مبديها، وأنه وضع النصوص في غير موضعها ولم يُعْطِ القوسَ باريها. وبلغني عن الشيخ حمد أنه أنكر واشتد نكيره، ورأيت له خَطّا أرسله إلى بعض الإخوان بأن ما كتبه ابن عجلان

ردة صريحة. وبلغني أن بعضهم دخل من هذا الباب، واعترض على ابن عتيق، وصرح بجهله، ونال من عرضه، وتعاظم هذه العبارة، وزعم أنه غلا وتجاوز الحد، فحصل بذلك تنفيس لأهل الجفاء وعُبَّاد الهوى. والرجل، وإن صدر منه بعض الخطأ في التعبير، فلا ينبغي معارضة من انتصر لله ولكتابه وَذَبَّ عن دينه، وأغلظ في أمر الشرك والمشركين على من تَهَاون أو رَخَّصَ وأباح بعض شعبه، وفتح باب وسائله وذرائعه القريبة المفضية إلى ظهوره وعلوه، ورفض التوحيد ونكَّس أعلامه ومحا آثاره، وقلع أصوله وفروعه، ومَسَبَّة من جاء به؛ لِقَوْلَةٍ رآها، وعبارة نقلها وما دراها، من إباحة الاستعانة بالمشركين مع الغفلة والذهول عن صورة الأمر والحقيقة؛ وأنه أعظم وأطم من مسألة الاستعانة والانتصار، بل هو تَوْلِيَة وتَخْلِيَة بينهم وبين أهل الإسلام والتوحيد، وقلع قواعده وأصوله وسفك دماء أهله واستباحة حرماتهم وأموالهم. [وصف الأحوال الحاصلة بنجد] هذا حقيقة الجاري والواقع، وبذلك ظهر في تلك البلاد من الشرك الصريح والكفر البواح ما لا يُبْقِي من الإسلام رَسْمًا يُرْجَعُ إليه، وَيُعَوَّلُ في النجاة عليه، كيف وقد هُدِمَتْ قواعد التوحيد والإيمان، وعطلت أحكام السنة والقرآن، وصُرِّحَ بِمَسَبَّةِ السابقين الأولين من أهل بدر وبيعة الرضوان، وظهر الشرك والرفض جهرا في تلك الأماكن والبلدان. ومن قَصُرَ الواقع على الاستعانة بهم فما فَهِمَ القضية، وما عرف المصيبة والرزية، فيجب حماية عرض من قام لله، وسعى في نصر دينه الذي شرعه وارتضاه، وترك الالتفات إلى زلاته، والاعتراض على عباراته؛ فمحبة الله والغيرة لدينه ونصرة كتابه ورسوله مرتبةٌ عَلِيَّةٌ محبوبةٌ لله مرضيةٌ يُغْتَفَر فيها العظيمُ من الذنوب، ولا يُنْظَرُ معها إلى تلك الاعتراضات الواهية،

والمناقشات التي تَفُتُّ في عَضُدِ الداعي إلى الله. والملتمس لرضاه، وَهَبْهُ كما قيل، فالأمر سهل في جنب تلك الحسنات: " وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم "1 شعر: فليصنع الركب ما شاؤوا لأنفسهم ... هم أهل بدر فلا يخشون من حرج ولما قال المتوكل لابن الزيات: يا ابن الفاعلة، وقذف أمه، قال الإمام أحمد -رحمه الله-: أرجو أن الله يغفر له نظرا إلى حسن قصده في نصر السنة وقمع البدعة. ولما قال عمر لحاطب ما قال، ونسبه إلى النفاق، لم يعنفه النبي صلى الله عليه وسلم وإنما أخبره أن هناك مانعا. والتساهل في رد الحق وقمع الداعي إليه يترتب عليه قلع أصول الدين، وتمكين أعداء الله المشركين من الملة والدين، ثم إن القول قد يكون ردة وكفرا، ويطلق عليه ذلك، وإن كان ثَمَّ مانعٌ من إطلاقه على القائل. وصريح عبارة الشيخ حمد التي رأينا ليست في الاستعانة خاصة، بل في تسليم بلاد المسلمين إلى المشركين، وظهور عبادة الأصنام والأوثان، ومن المعلوم أن من تصور هذا الواقع، ورضي به وصوب فاعله، وذب عنه، وقال بحله فهو من أبعد الناس عن الإسلام والإيمان، إذا قام الدليل عليه. وأما مَنْ أخطأ في عدم الفرق، ولم يَدْرِ الحقيقةَ، واعتزَّ بمسألةٍ خلافية، فحكمه حكم أمثاله من أهل الخطأ، إذا اتقى الله ما استطاع، ولم يُغَلِّبْ جانبَ الهوى. والمقصود أن الاعتراض والمِرَاء من الأسباب في مَنْع الحق والهُدَى، ومَن عرف القواعد الشرعية، والمقاصد الدينية والوسائل الكُفْرِية، عرف

_ 1 يمثل المصنف -رحمه الله- بهذا الحديث الذي قاله النبي صلى الله عليه وسلم في زلة حاطب بن أبي بلتعة البدري؛ إذ أراد إخبار مشركي مكة بالزحف عليها؛ للتشابه بين المسألتين في أن الحسنات يذهبن السيئات.

ما قلناه. [الدعوة إلى التمسك بالكتاب والسنة] والمعترضون على الشيخ ليسوا هم في الحقيقة أهلا لإقامة الحجج الشرعية والبراهين الْمَرْضِيَّة على ما يَدَّعُونَ من غلطه وخطئه، إنما هي اعتراضات مشوبة بأغراض فاسدة وما أحسن ما قيل: أقلوا عليه لا أبا لأبيكمو ... من اللوم أو سدوا المكان الذي سدا وأكثرهم يرى السكوت عن كشف اللبس في هذه المسألة التي اغترَّ بها الجاهلون، وضَلَّ بها الأكثرون، وطريقة الكتاب والسنة وعلماء الأمة تخالف ما استخفه هذا الصنف من السكوت والإعراض في هذه الفتنة العظيمة، وإعمال ألسنتهم في الاعتراض على من غار لله ولكتابه ولدينه. فليكن لك يا أخي طريقة شرعية وسيرة مَرْضِيَّة في رد ما ورد من الشبه، وكشف اللبس، والتحذير من فتنة العساكر، والنصح لله، ولكتابه، ولدينه، ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم. وهذا لا يحصل مع السكوت وتسليك الحال على أيِّ حال فاغتنم الفرصة، وأَكْثِرْ من القول في ذلك، واغْتَنِمْ أيام حياتك، فعسى الله أن يحشرنا وإياك في زمرة عساكر السنة والقرآن، والسابقين الأولين من أهل الصدق والإيمان. [الاستعانة بالمشرك عند الضرورة] والشبهة التي تمسك بها مَن قال بجواز الاستعانة، هي ما ذكرها بعض الفقهاء من جواز الاستعانة بالمشرك عند الضرورة، وهو قول ضعيفٌ مردودٌ مبنيٌّ على آثار مرسلة تَرُدُّهَا النصوص القرآنية، والأحاديث الصحيحة الصريحة النبوية. ثم القول بها -على ضعفه- مشروط بشروط نَبَّهَ عليها شراح الحديث، ونقل الشوكاني منها طَرَفًا في شرح المنتقى، منها: أمن الضرر والمفسدة، وأن لا يكون لهم شوكة وصولة، وأن لا يدخلوا في الرأي والمشورة. وأيضا ففرضها في الانتصار بالمشرك على المشرك، وأما الانتصار بالمشرك على

الباغي عند الضرورة فهو قول فاسد لا أثر فيه، ولا دليل عليه، إلا أن يكون محض القياس؛ وبطلانه أظهر شيء في الفرق بين الأصل والفرع، وعدم الاجتماع في مناط الحكم، شعر: وليس كل خلاف جاء معتبرا ... إلا خلاف له حظ من النظر والمقصود: المذاكرة في دين الله، والتواصي بما شرعه من دينه وهداه، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم. (حاشية لجامع الرسالة) غلط صاحب الرسالة في معرفة الضرورة، فظنها عائدة إلى مصلحة ولي الأمر في رياسته وسلطانه، وليس الأمر كما زعم ظنه؛ بل هي ضرورة الدين وحاجته إلى مَنْ يعين عليه؛ وتصلح به مصلحته؛ كما صرح به من قال بالجواز؛ وقد تقدم ما فيه، والله أعلم، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

الرسالة الخامسة والعشرون: [حال فتنة الأمراء بنجد وأحوالها ومآلها]

الرسالة الخامسة والعشرون: [حال فتنة الأمراء بنجد وأحوالها ومآلها] وله أيضا رسالة إلى علي بن محمد وابنه محمد آل موسى وقد ذكرا له في أمر هذه الفتن والحوادث، وما حصل في ضمنها من عظيم الكوارث، فبين لهما -رحمه الله- مبدأ هذه الفتنة والحكم في أهلها وجندها، لأنه قد خفي على بعض المنتسبين إلى العلم والدين حقيقة الحكم الشرعي. والقول الصواب المرضي، وهو أن مَنْ استولى على المسلمين بالغلبة والسيف، فالبيعة ثابتة له، تنفذ أحكامه؛ وتصح إمامته باتفاق أهل العلم والدين وأئمة الإسلام، لا يختلف في ذلك منهم اثنان، وأنهم يرون المنع من الخروج عليه بالسيف وتفريق الأمة، وإن كانت الأئمة ظلمة فسقة، ما لم يروا كفرا بواحا. وقد جرى في تلك الفتنة من الخوض والمراء والجدل والاضطراب، والإعراض عن منهج السنة والكتاب، ما عَمَّ ضررُهُ، وطار في الأقطار شررُهُ، وصار سببا وسلما لولاية المشركين، إلخ ما ذكره، وهذا نص الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد اللطيف بن عبد الرحمن إلى الأخوين المكرمين علي بن محمد وابنه محمد بن علي -سلمهما الله تعالى من الأسوا، وحماهما من طوارق المحن والبلوى-. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد، فأحمد إليكما الله الذي لا إله إلا هو وهو للحمد أهلٌ، وهو على كل شيء قدير، والخط وصل -وصلكما الله بما يرضيه، وجعلكما ممن يحبه ويتقيه- وما ذكرتما صار معلوما. وهذه الحوادث والفتن أكبر مما وصفتم، وأعظم مما إليه أشرتم. كيف لا وقد تلاعب الشيطان بأكثر المنتسبين، وصار سُلَّمًا لولاية المشركين، وسببًا لارتداد المرتدين، وموجبًا لخفض أعلام الملة والدين، وذريعة إلى تعطيل توحيد رب العالمين، وإلى استباحة دماء المسلمين، وهتك أعراض عباده

المؤمنين، فتنة لا يصل إليها حديث ولا قرآن1، ولا يرعوي أبناؤها عما يهدم الإسلام والإيمان؛ يعرف ذلك مَنْ منَّ الله عليه بالعلم والبصيرة، وصار على حظ من أنوار الشريعة المطهرة المنيرة، وصار على نصيب من مراقبة عالم السر والسرائر. وقد عرفتم مبنى هذه الفتنة وأولها والحكم في أهلها وجندها، ثم صار لهم دولة بالغلبة والسيف، واستولوا على أكثر بلاد المسلمين وديارهم، وصارت الإمامة لهم بهذا الوجه، ومن هذا الطريق كما عليه العمل عند كافة أهل العلم من أهل الأمصار في أعصار متطاولة. وأول ذلك ولاية آل مروان لم تصدر لا عن بيعة، ولا رأي، ولا عن رضى من أهل العلم والدين، بل بالغلبة، حتى صار على ابن الزبير ما صار، وانقاد لهم سائر أهل القرى والأمصار. وكذلك مبدأ الدولة العباسية ومخرجها من خراسان وزعيمها رجل فارسي مُدَّعِي؛ أيامهم صَالَ على مَن يَلِيهِ ودعا إلى الدولة العباسية وشَهَرَ السيف، وقتل مَن امتنع عن ذلك وقاتل عليه، وقتل ابن هبيرة أمير العراق، وقتل خلقا كثيرا لا يحصيهم إلا الله؛ وظهرت الرايات السود العباسية وجاسوا خلال الديار قتلا ونهبا في أواخر القرن الأول. وشاهد ذلك أهل القرن الثاني والثالث من أهل العلم والدين وأئمة الإسلام، كما لا يخفى على من شم رائحة العلم، وصار على نصيب من معرفة التاريخ وأيام الناس. وأهل العلم مع هذه الحوادث متفقون على طاعة من تغلب عليهم في المعروف، يرون نفوذ أحكامه وصحة إمامته لا يختلف في ذلك اثنان، ويرون

_ 1 أي لا يصل إلى بيان المخرج منها حديث نبوي ولا قرآن إلهي بنص صريح لا يحتمل التأويل. فكل فريق يتأول نصوصها بما يجعله المحق وخصمه المبطل، حتى إن أحد أنصار الحق قد طعن في دينه من يظاهرهم على خصمهم، وهو صاحب الرسالة التي يدافع الشيخ عنها.

المنع من الخروج عليهم بالسيف وتفريق الأمة، وإن كان الأئمة فسقة ما لم يروا كفرا بواحا، ونصوصهم في ذلك موجودة عن الأئمة الأربعة وغيرهم وأمثالهم ونظرائهم. [ما اتفق عليه أهل الحل والعقد في حكومة نجد من تقرير إمامة سعود] إذا عرفت هذا، فالحاصل في هذا العصر بين أهل نَجْد له حُكْم أمثاله من الحوادث السابقة في زمن أكابر الأئمة الأربعة وغيرهم، كما قدمنا، وصارت ولاية المتغلب ثابتة كما إليه أشرنا، ووقع اتفاق ممن ينتسب إلى العلم لديكم على هذا كالشيخ إبراهيم الشثري في الحوطة، وحسين وزيد في الحريق، وخطوطهم عندنا محفوظة معروفة، فيها تقرير إمامة سعود، ووجوب طاعته، ودفع الزكاة إليه، والجهاد معه، وترك الاختلاف عليه. كل هذا موجود بخطوطهم، فلا جرم قد صار العمل على هذا والاتفاق، ثم توفى الله سعودا، واضطرب أمر الناس، وخشينا الفتنة واستباحة المحرمات مِن بَادٍ وحَاضِرٍ، وتوقعنا حصولَ ذلك وانسلاخ أمر المسلمين. فاستصحبنا ما ذكر وبَنَيْنَا عليه، واختار أهل الحل والعقد من حمولة آل سعود، ومن عندهم ومن يليهم نصب (عبد الرحمن بن فيصل) وذلك صريح في عدم الالتفات منهم إلى ولاية غير آل سعود، ولهذا كتبنا من الرسائل التي فيها الإخبار بالبيعة والنهي عن سلوك طريق الفتن والاختلاف، وأن يكون المسلمون يدا واحدة. وذكَّرْناهم قوله تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا} 1 ونحو ذلك من الآيات، وبعضا مما ورد من الأحاديث الصحيحات. فترك بعضُ مَن لديكم هذا المنهج وسلكوا طريقا وَعِرَة تُفْضِي إلى سفك الدماء، واختلاف الكلمة، وتضليل من خالفهم، ودعا بعضهم إلى ذلك، واستحسنه من غير مشورة ولا بينة، ولم ينصحوا إخوانهم

_ 1 سورة آل عمران آية: 103.

ويوضحوا لهم وجه الإصابة فيما اختاروه وارتضوه. وكان الواجب على من عنده علم أن ينصح الأمة وينصح أولا لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم، ويكرر الحجة، وينظر في الدليل ويرشد الجاهل ويهدي الضال، بحسن البيان وتقرير صواب المقال؛ لكنهم أحجموا عن ذلك كله، ولم يلتفتوا إلى المُحَاقَّة والله هو ولي الهداية، الحافظُ الواقي من موجبات الجهل والغواية. وقد أوجب الله البيانَ وتركَ الكتمان، وأخذ الميثاق على ذلك على من عنده علم وبرهان؛ هذه صورة الأمر وحقيقة الحال، وقد عرفتموه أولا وآخرا في المُكَاتَبَات الوَارِدَة عليكم؛ فلا يلتبس عليك الحال، ولا يشتبه سبيل الهدى بالجهل والضلال، واذكر قوله: {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً} 1. إذا رضي الحبيب فلا أبالي ... أقام الحي أم جد الرحيل وأما الصلح بين المسلمين فهو من واجبات الإيمان والدين، ولكن يحتاج إلى قوة وبصيرة يحصل بها نفوذ ذلك والإجبار عليه؛ فإن وجدت إلى ذلك سبيلا فاذكره لي أولا، ولا تألو جهدا -إن شاء الله- فيما يكف الفتن، ويصلح به بين المسلمين، وأسأل الله أن يمن بذلك، ويوفق لما هنالك، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.

_ 1 سورة الأحزاب آية: 39.

الرسالة السادسة والعشرون: [الفتن الحاصلة بسبب الإمارة]

الرسالة السادسة والعشرون: [الفتن الحاصلة بسبب الإمارة] وله أيضا -قدس الله روحه- رسالة إلى الإخوان: الشيخ إبراهيم ورشيد بن عوين وعيسى بن إبراهيم وإخوانهم، مضمونها التحريض على لزوم الجماعة والإمامة لأن إضاعتها من أسباب الخزي والندامة، وبالتزامها تحصل السلامة والاستقامة؛ وعَرَّفَهُمْ في هذه الرسالة ما سبق منه في أول هذه الفتنة من المكاتبات، وما مَنَّ الله به عليه من المذاكرة والمناصحات، بلزوم بيعة الإمام عبد الله، والتصريح بأن راية أخيه سعود راية جاهلية عمية. ثم لما صدر من عبد الله ما صدر من جلب الدولة إلى البلاد الإسلامية والجزيرة العربية، وإعطائهم والأحساء والقطيف والخط، تبرأ مما تبرأ الله منه ورسوله، واشتد نكيره عليه شِفَاهًا ومراسلة، كما مر ذلك فيما سبق من الرسائل، وثبت لأخيه سعود البيعة والغلبة والقهر. ثم بعد ذلك قدم عبد الله من الأحساء، وادعى التوبة والندم وأكثر من التأسف والتوجع فيما صدر منه، وبايعه البعض وكتب الشيخ إلى الشيخ حمد بن عتيق: إن الإسلام يَجُبُّ ما قبله، والتوبة تهدم ما قبلها، وذكر له أن الواجب السعي فيما يصلح الإسلام والمسلمين، ثم إنه تغلب سعود على جميع البلاد النجدية، وبايعه الجمهور وسموه باسم الإمامة، وقد علمت أن الحكم يدور مع علته يثبت بثباتها وينتفي بانتفائها، وهذا نص الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد اللطيف بن عبد الرحمن إلى الأخ المكرم الشيخ إبراهيم ورشيد بن عوين، وعيسى بن إبراهيم، ومحمد بن علي وإبراهيم بن راشد، وعثمان بن رقيب، وإخوانهم، سلك الله بنا وبهم سبل الاستقامة، وأعاذنا وإياهم من سُبُل الخزي والندامة. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعدُ تفهمون أنه لا إسلام إلا بجماعة،

ولا جماعة إلا بإمامة، وقد حصل من التفرق والاختلاف والخوض في الأهواء المُضِلَّة ما هدم من الدين أصله وفرعه، وطمس من الدين1 أعلامه الظاهرة وشرعه. وهذه الفتنة يحتاج الرجل فيها إلى بصر نافذ عند ورود الشبهات، وعقل راجح عند حلول الشهوات، والقول على الله بلا علم، والخوض في دينه من غير دراية ولا فهم، فوق الشرك واتخاذ الأنداد معه. وقد صار لديكم وشاع بينكم ما يعز حصرُهُ واستقصاؤه، فينبغي للمؤمن الوقوف عند كل همة وكلام، فإن كان لله مضى فيه، وإلا فَحَسْبُهُ السكوتُ، وقد عرفتم حالنا في أول هذه الفتنة، وما صدر لديكم من المكاتبات والنصائح، وفيها الجزم بإمامة عبد الله ولزوم بيعته، والتصريح بأن راية أخيه راية جاهلية عمية، وأوصيناكم بما ظهر لنا من حكم الله وحكم رسوله ووجوب السمع والطاعة. فلما صدر من عبد الله ما صدر من جلب الدولة إلى البلاد الإسلامية والجزيرة العربية، وإعطائهم الحسا والقطيف والخط، تبرأنا مما تبرأ الله منه ورسوله، واشتد النكير عليه شِفَاهًا ومراسلة لمن يقبل مني ويأخذ عني، وذكرت لكم أن بعض الناس جعله تُرْسًا تُدْفَع به النصوص والأحاديث والآثار، وما جاء من وجوب جهادهم والبراءة منهم وتحريم موادتهم وموآخاتهم من النصوص القرآنية، والأحاديث الصحيحة الصريحة النبوية. والقول بأنهم جاؤوا لنصرة إمام أو دين قول يدل على ضعف دين قائله، وعدم بصيرته، وضعف عقله وانقياده لداعي الهوى، وعدم معرفته بالدول والناس، وذلك لا يروج إلا على سواسية الأعراب، ومن نَكَبَ عن طريق الحق والصواب.

_ 1 لعل الأصل الإسلام.

وأعجب من هذا: نسبة جوازه إلى أهل العلم، والجزم بإباحة ذلك، والصورة المختلف فيها مع ضعف القول بجوازها وإباحتها والدفع في صدرها كما هو مبسوط في حديث " إنا لا نستعين بمشرك " 1، هي صورة غير هذه، ومسألة أخرى. وهذه الصورة حقيقتها تولية وتخلية وخيانة ظاهرة كما يعرفه مَنْ له أدنى ذوق وتهمة في العلم. لكن بعد أن قدم عبد الله من الأحساء ادعى التوبة والندم، وأكثر من التأسف والتوجع فيما صدر منه، وبايعه البعض، وكتب إلى ابن عتيق أن الإسلام يَجُبُّ ما قبله، والتوبة تهدم ما قبلها، فالواجب السعي فيما يصلح الإسلام والمسلمين، ويأبى الله إلا ما أراد: {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} 2. [تغلب سعود على نجد ومبايعة الجمهور له] والمقصود: كشف حقيقة الحال في أول الأمر وآخره، وقد تغلب سعود على جميع البلاد النجدية، وبايعه الجمهور، وسموه باسم الإمامة، وقد عرفتم أن أمر المسلمين لا يصلح إلا بإمام، وأنه لا إسلام إلا بذلك، ولا تتم المقاصد الدينية ولا تحصل الأركان الإسلامية، ولا تظهر الأحكام القرآنية، إلا مع الجماعة والإمامة، والفرقة عذاب، وذهاب في الدين والدنيا، ولا تأتي شريعة بذلك قط. ومن عرف القواعد الشرعية عرف ضرورة الناس وحاجتهم في دينهم ودنياهم إلى الجماعة والإمامة، وقد تغلب من تغلب في آخر عهد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعطوه حكم الإمامة، ولم ينازعوا كما فعل ابن عمر وغيره، مع أنها أخذت بالقهر والغلبة. وكذلك بعدهم في عصر الطبقة الثالثة، تغلب من تغلب، وجرت أحكام الجماعة والإمامة، ولم يختلف أحد في ذلك، وغالب الأئمة بعدهم على هذا القبيل وهذا النمط، ومع ذلك فأهل العلم والدين يَأْتَمِرُونَ بما أَمَرُوا به من المعروف، وينتهون عما نُهُوا

_ 1 مسلم: الجهاد والسير (1817) , والترمذي: السير (1558) , وأبو داود: الجهاد (2732) , وابن ماجه: الجهاد (2832) , وأحمد (6/67 ,6/148) , والدارمي: السير (2496) . 2 سورة يوسف آية: 21.

عنه من المنكر، ويجاهدون مع كل إمام كما هو منصوص عليه في عقائد أهل السنة. ولم يقل أحد منهم بجواز قتال المتغلب والخروج عليه، وترك الأمة تموج في دمائها وتستبيح الأموال والحرمات، ويجوس العدو الحربي خلال ديارهم وينزل بحماهم، هذا لا يقول بجوازه وإباحته إلا مُصَاب في عقله، مَوْتُورٌ في دينه وفهمه، وقد قيل: لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم ... ولا سراة إذا جهالهم سادوا بل هذا الحكم الديني يؤخذ من قوله تعالى: {اعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا} 1، لأنه لا يحصل القيام بهذا الواجب إلا بما ذكرنا، وتركُهُ مفسدةٌ محضةٌ، ومخالفةٌ صريحةٌ قال تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} 2.وفي الحديث: " إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه " 3، لا سيما وقد نزل العدو بأطرافكم، واسْتَخَفَّ الشيطانُ أكثرَ الناس، وزَيَّنَ لهم الموالاة واللحاق بالمشركين، وإسناد أمر الرياسة إليهم، وأنهم ولاة أمر يَعْرِفُونَ ويُوَلُّونَ، ويَنْصُرُونَ وَيُنَصِّبُونَ، وأنهم جاؤوا لنصرة فلان كما ألقاه الشيطان على ألسن المفتونين، وصاروا بعد التَّرَسُّمِ بالدين من جملة أعوان المشركين، المبيحين لترك جهاد أعداء رب العالمين، فما أعظمها من مكيدة، وما أكبرها من خطيئة، وما أبعدها من دين الله ورسوله: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} 4.وما صدر من بعض الإخوان من الرسائل المُشْعِرَةِ بجواز الاستنصار بهم وتهوين فتنتهم، والاعتذار عن بعض أكابرهم، زلةٌ لا يرقى سليمها، وورطةٌ قد هلك وضلَّ زعيمُها، وما أحسن قوله: {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا} 5 فاقبلوا وامتثلوا

_ 1 سورة آل عمران آية: 103. 2 سورة المائدة آية: 2. 3 البخاري: الاعتصام بالكتاب والسنة (7288) , ومسلم: الحج (1337) , والترمذي: العلم (2679) , والنسائي: مناسك الحج (2619) , وابن ماجه: المقدمة (1 ,2) , وأحمد (2/508) . 4 سورة الأعراف آية: 187. 5 سورة سبأ آية: 46.

موعظة ربكم وجاهدوا في الله حق جهاده. وقد أجمع المسلمون على جهاد عدوهم مع الإمام سعود -وفقه الله-، وقد قرر أهل السنة في عقائدهم أن الجهاد ماض مع كل إمام، وهو فرض على المشهور، أو ركن من أركان الإسلام لا يبطله جَوْرُ جَائِرٍ. قال بعض السلف لَمَّا لامَهُ بعضُ الناس على الصلاة خلف المبتدعة: إنْ دَعَوْنَا إلى الله أجبنا، وإن دَعَوْنَا إلى الشيطان أَبَيْنَا، وفي الحديث: " جاهدوا المشركين بأنفسكم وأموالكم وألسنتكم " 1.وفقنا الله وإياكم للجهاد في سبيله، والإيمان بوعده وقِيلِهِ، واحذروا المِرَاء والخوض في دين الله بغير علم، فإنه من أسباب الهلاك كما صح بذلك الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. والله يقول الحق وهو يهدي السبيل، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم

_ 1 النسائي: الجهاد (3096) , وأبو داود: الجهاد (2504) , وأحمد (3/124 ,3/153 ,3/251) , والدارمي: الجهاد (2431) .

الرسالة السابعة والعشرون: [مداهنة المشركين والسفر إلى بلادهم وعقاب فاعله]

الرسالة السابعة والعشرون: [مداهنة المشركين والسفر إلى بلادهم وعقاب فاعله] وله أيضا -رحمه الله تعالى، وصَبَّ عليه من شآبيب بره ووالى- رسالة إلى محمد بن علي آل موسى، وإبراهيم بن راشد وإبراهيم مرشد، وقد ذكروا له ما وقع الناس فيه من مُدَاهَنَة المشركين، والإعراض عن دين المرسلين. وقد تقدم نظيرُ هذه الرسالة في المعنى، ولكن لِمَسِيسِ الحاجة والسبب الباعث ما اكتفى بما سبق ولا استغنى، بل نصح ووضَّح وكشف قناع الإشكال، وما أبقى لِمُشْتَبِهٍ من حجة ولا مقال، وذلك بسبب ما حدث من تسهيل أمر السفر إلى بلاد المشركين، وإن غاية ما يفعل مع المسافر الهجرُ، وتركُ السلام من غير تعنيف ولا تخشين. والمُشْتَبِهُ يزعم أن الشيخ عبد الرحمن أفتى بذلك -إن صح الخبر- فإن ثبت فيحمل على قضية خاصة، يحصل بها المقصود والقصد ممن هجر، أو بما ستقف عليه من المحامل التي لا يعرفها كل مشتبه جاهل. والوجوه التي ذكرها الشيخ إذا تأملتها -أيها المنصف- وتعقلتها بشراشر قلبك لعلك عن الشبهات أن تعزف، وللحق الواضح والباطل الفاضح تفرق وتعرف، وهذا نص الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد اللطيف بن عبد الرحمن إلى الإخوان المكرمين محمد بن علي آل موسى وإبراهيم بن راشد وإبراهيم بن مرشد -سلمهم الله تعالى وتولاهم-. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: فأحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو على نعمه، والخط وصل -وصلكم الله بما يرضيه- وسرنا سلامة مَن نحب ونشفق عليه. وما ذكرتم مما وقع فيه الناس من مداهنة المشركين، والإعراض عن دين المرسلين، فالأمر كما ذكرتم، أو فوق ما إليه أشرتم، وقد سبق لكم مني جواب. وأخبرتكم أن هذا من أكبر الوسائل، وأعظم الذرائع إلى ظهور الشرك ونسيان التوحيد، وإنَّ

من أعظم ذلك وأفحشه: ما يصدر مِن بعض مَن يظنه العامةُ مِن أهل العلم وحَمَلة الدين، وما يصدر منهم من التشبيه، والعبارات التي لم يتصل سندُها ولم يُعصم قائلُها، وبهذا ونحوه اتسع الخرق، وفي حديث ثوبان: " وإنما أخاف على أمتي الأئمة المضلين " 1، وهو يتناول مَن له إمامة ممن ينتسب إلى العلم والدين، وكذلك الأمراء. وأبيات عبد الله بن المبارك معلومةٌ لديكم في هذين الصنفين أعني قوله: وهل أفسد الدين إلا ... الملوك إلى آخره وفي مثل هؤلاء قال قتادة: فوالله ما آسى عليهم، ولكن آسى على مَن أهلكوا، وكما نقلتم عن بعضهم زعم أن الشيخ الوالد -قدس الله روحه، ونور ضريحه- أفتى فيمن يسافر إلى بلاد المشركين بأن غاية ما يفعل معه هو الهجر، وترك السلام بلا تعنيف ولا ضرب، وهذه غلطة من ناقلها لم يفهم مراد الشيخ -إن صح نقله- ولم يدر ما يراد بها. وهذا النقل يطالب بصحته أولا، فإن ثبت بنقل عدل ضابط فيحمل على قضية خاصة يحصل بها المقصود بمجرد الهجر، وهي فيمن ليس له ولاية ولا سلطان له على الأمراء والنواب، ويترتب على تعزيره بغير الهجر مفسدة الافتيات على ولي الأمر والنواب، ونحو هذه المحامل. ويتعين هذا -إن صحت-، لأن هذا ذنب قد تقرر أنه من الكبائر المُتَوَعَّدُ صاحبها بالوعيد الشديد بنص القرآن وإجماع أهل العلم، إلا لمن أظهر دينه، وهو العارف به، القادر على الاستدلال وعلى إظهاره، فإنه مُستثنًى من العموم، وأما غيره فالآية تتناوله بنصها لأن الإقامة تصدق على القليل والكثير. فالكبائر التي ليس فيها حَدٌّ يُرجع فيها إلى ما تقتضيه المصلحة من التعزير كالهجر والضرب، وقد يقع التعزير بالقتل كما في حديث

_ 1 الترمذي: الفتن (2229) , وأبو داود: الفتن والملاحم (4252) , وابن ماجه: الفتن (3952) , وأحمد (5/278 ,5/284) , والدارمي: المقدمة (209) .

شارب الخمر: " فإن شربها في الرابعة فاقتلوه " 1. وقد أفتى شيخ الإسلام بقتل من شرب الخمر في نهار رمضان إذا لم يندفع شره إلا بذلك، وأفتى بِحِلِّ دمِ مَن جَمَزَ إلى معسكر التتار وَكَثَّرَ سوادهم، وأَخْذِ ماله، وكل هذا من التعازير التي يرجع فيها إلى ما يحصل به درء المفسدة وحصول المصلحة، وأفتى بالتعزير في أخذ المال إذا كان فيه مصلحة. وقد عرفتم أن من أكبر المصالح مَنْعُ هذا الضرب بأي طريق، وأنه لا يستقيم حالٌ وإسلامٌ لمَن ينتسب إلى الإسلام مع المخالطة والمُقَارَفَة الشِّرْكِيَّة لوجوه: (منها) : عدم معرفة أصول الدين وأحكام الله في هذا ونحوه. (ومنها) : العجز عن إظهاره لو عرفوه. (ومنها) : أن العدو مُحارب قد سار إلى بلاد المسلمين واستولى على بعضها؛ فليس حكمه كحكم غيره؛ بل هذا جهاده يجب على كل أحد فرض عين لا فرض كفاية، كما هو منصوص عليه. (ومنها) : أن تلك البلاد مُلِئَتْ بالمشبهين والصادين عن سبيل الله ممن ينتسب إلى العلم، ويُسَمُّونَ أهلَ التوحيدِ: الغلاةَ كما سماهم إخوانهم: خوارجَ. والهجرة لها مقصودان: الفرارُ من الفتنة، وخوفُ المفسدة الشركية. والثاني: مجاهدة أعداء الله والتَّحَيُّزُ إلى أهل الإسلام. وقد كانت شرطا في أول الإسلام مع ضعف المسلمين وخوف المشركين وشدة بَأْسِهِم، وكثرة الأسباب الداعية إلى الفتنة، والسر فيها لا يُهْدَر ولا يُطْرَح في كل مقام، لا سيما والمُقَارِف لهذا الفعل وغيره من الأفعال الموجبة للردة كثيرٌ جدا، فالنجا النجا، والوحا الوحا قبل أن يَعَضَّ الظالمُ على يديه، ويقول: يا ليتني اتخذتُ مع الرسول سبيلا. ولعل الله أن يَمُنَّ بخطٍ مبسوطٍ يأتيكم بعد هذا، فيه التعريجُ على شيء من نصوص أهل العلم، وبيان كَذِب هذا المُفْتَرِي على الشيخ. وأهل المذهب لا يختلفون في أن حكم السفر حكمُ الإقامة، يُمْنَع منه مَن عَجَزَ عن

_ 1 الترمذي: الحدود (1444) , وأبو داود: الحدود (4482) , وابن ماجه: الحدود (2573) , وأحمد (4/93 ,4/95 ,4/96 ,4/97 ,4/100) .

إظهار دينه، وفي الحديث: "ما ضل قوم بعد هدًى كانوا عليه إلا أعطوا الجدل ومُنِعُوا العملَ" 1وما وقع فيه الناس وابتلي به الأكثر من ثلب بعض مشايخكم، فقد علمتم ما يُؤْثَر عن السلف أن علامة أهل البدع الوقوعُ في أهل الأثر، وهؤلاء إذا قيل لهم: هاتوا، حقِّقُوا، واكتبوا لنا ما تَنْقِمُونَ، وقَرِّرُوا الحجةَ بما تَدَّعُونَ، أحجموا عن ذلك وعجزوا عن مقاومة الخصوم، ومتى يُدرك الظَّالِعُ شَأْوَ الضليع (شعر) : أماني تلقاها لكل متبر ... حقيقتها نبذ الهدى والشعائر وحسابنا وحسابهم على الله الذي تنكشفُ عنده السرائرُ، وتظهر مخبآت الصدور والضمائر، جعلنا الله وإياكم من الذين جردوا متابعة الرسول {وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلا رَسُولِهِ وَلا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً} 2، ولم ينتسبوا إلى قَيْسٍ وَيَمَنٍ، كما قد وقع عندكم فيمن فَرَّقُوا دينهم وكانوا شِيَعًا، حمانا الله وإياكم، وثبتنا على دينه وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.

_ 1 الترمذي: تفسير القرآن (3253) , وابن ماجه: المقدمة (48) . 2 سورة التوبة آية: 16.

الرسالة الثامنة والعشرون: [تكفير الترك للنجديين والتقاتل بينهم]

الرسالة الثامنة والعشرون: [تكفير الترك للنجديين والتقاتل بينهم] وله أيضا -قدس الله روحه، ونور ضريحه- رسالة إلى الإخوان من بني تميم، يُعَزِّيهم في الشيخ عبد الملك -رحمه الله تعالى- ويخبرهم بالصلح الذي وقع بينه وبين سعود بن فيصل، لَمَّا خرج من الأحساء يريد نجدا، بعد وقعة جوده، ورجوع عبد الله إلى الرياض، وليس معه إذ ذاك إلا نَزْرٌ قليلٌ من البادية والحاضرة؛ ومع سعود خلقٌ كثيرٌ وجمٌّ غفيرٌ، فلما رأى -رحمه الله- كثرةَ تلك البوادي، وشدة الحَنَق والغيظ من أولئك الأعادي، وخشي على البلد من الدمار وخراب الدين والدنيا وهتك الأستار، سعى في الصلح، ودافع عن الإسلام والمسلمين، وبذل الجهد وأخذ العهد على ضعفة المسلمين عن أولئك المعتدين، وهذا نص الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد اللطيف بن عبد الرحمن إلى الإخوان من بني تميم -سلمهم الله تعالى-. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعدُ: نحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو على نعمه، وعلى أقداره وحِكَمِهِ، ونسأل الله أن يحسن عزاءنا وعزاءكم في الشيخ عبد الملك بن حسين- غفر الله ذنبه، ورحمه ورفع في المقربين درجته- وما ذكرتم من جهة حالكم مع عبد الله وصدقكم معه صار معلوما- نسأل الله لنا ولكم التوفيق-. وقد بذلنا الاستطاعة في نصرته، حتى نزل بالمسلمين ما لا قِبَلَ لهم به، وخشينا على كافة المسلمين من أهل البلد من السبي وهتك الأستار وخراب الدين والدنيا والدمار، ونزلنا وسعينا بالصلح بإذن من عبد الله في الصلح وَأَلْجَأَتْنَا إليه الضرورةُ ودفعنا عن الإسلام والمسلمين ما لا قِبَلَ لهم به، فإن يكُ صوابًا فمن الله، وإن يك خطأ فمنا ومن الشيطان.

وفي السِّيَر ما يؤيد ما فعلناه، وينصر ما انْتَحَلْنَاهُ؛ وقد صالح أهل الدِّرْعِيَّة وآل الشيخ وعلماؤهم وفقهاؤهم على الدرعية لما خيف السبي والاستئصال، وعبد الله ظهر بمرحلة البلد ونزل الحائر ولم يحصل منه نصر ولا دفاع،: {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} 1. ثم بلغنا أن الدولة ومَنْ والاهم مِن النصارى وأشباههم نزلوا على القطيف يزعمون نصرة عبد الله وهم يريدون الإسلام وأهله، وحضينا سعودَ على جهادهم، وَرَغَّبْنَاهُ في قتالهم، وكتبنا لبلاد المسلمين بذلك. قال الله تعالى: {وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ} 2، والعاقل يدور مع الحق أينما دار، وقتال الدولة والأتراك3 والإفرنج وسائر الكفار من أعظم الذخائر المنجية من النار. والله يقول الحق، وهو يهدي السبيل والسلام. وصلى الله على محمد وصحبه وسلم

_ 1 سورة يوسف آية: 21. 2 سورة الأنفال آية: 72. 3 قد يظن بعض من يطلع على هذا مِن غير أهل نجد أنه من عدوانهم على الترك بغير حق. ولكن الواقع أن الترك كانوا هم المعتدين بِسَوْقِ عسكرهم إلى نجد وقتال أهلها وتكفيرهم وبماذا كَفَّرُوهم؟ ولماذا قاتلوهم؟ . كفروهم بما أحيوه في بلادهم من دعوة الإسلام بالتوحيد الخالص وإقامة أركان الإسلام كلها وإزالة البدع والخرافات، وإزالة الشرك وجميع المنكرات، وإنما قاتلوهم: لئلا يجددوا استقلال العرب، ولكن جعلوه باسم الدين، مع أنهم لم يقاتلوا أحدا من قبل لأجل إقامة الإسلام، ولم يمنعوا من بلادهم شيئا من الشرك والبدع. وكان النَّجْدِيُّونَ يرون قوادهم يشربون الخمور ويستبيحون الفواحش ويحكمون بغير ما أنزل الله، وقد فُتِنَ بهم بعضُ أهل البلاد. فهل من المعقول أن يقول لهم علماؤهم: إنهم صادقون في تكفيرنا، ومُحِقُّونَ في قتالنا، وهم يعتقدون أنه لو لم يقم من الأدلة على كفرهم وقتالهم: إلا تكفيرهم لهم وقتالهم إياهم بهذه الحجة لكفى.

الرسالة التاسعة والعشرون: [شروط السفر إلى بلد الشرك وحكم الهجرة]

الرسالة التاسعة والعشرون: [شروط السفر إلى بلد الشرك وحكم الهجرة] وله أيضا رسالة إلى الإخوان محمد بن علي وإبراهيم بن راشد وإخوانهم، يحرِّضُهم فيها ويُذَكِّرهم ما سبق من المُكَاتَبات في شأن هذه الحوادث العُمْيِ العظائم التي قَلَعَتْ أصولَ الدين، والْتَبَسَ الأمرُ بسببها على مَن ينتسب إلى العلم، وخفي عليه المخرج والحكم. واتَّبعهم في ذلك جمهورُ أهل الأهواء، ولم يلتفتوا إلا إلى مَن منهجه الإهلاك والإغواء، وتركوا طريقة مَن يدعوهم إلى الحق والهدى، ويُبَصِّرُهم -بنور الله- أسباب النجاة والتقى، حتى أعضل فادح تلك الحوادث، وطغى على القلوب ما طغى من تلك الكوارث فما ارْعَوَى إلى الحق أكثرُهم وما استرشد، ولم يستبينوا الرشد إلا ضحى الغد. وقد سأله الإخوان عن حكم من يسافر إلى بلاد المشركين التي يعجز فيها عن إظهار ما وجب لله من التوحيد والدين، ويُعَلِّلُ بأنه لا يسلم عليهم، ولا يجالسهم، ولا يبحثون عن سره إلى غير ذلك من تعاليلُ الجاهلين، فأجاب بما ستقف عليه من التحقيق والسلوك إلى أقوم نهج وطريق، وهذا نص الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد اللطيف بن عبد الرحمن إلى الأولاد المكرمين محمد بن علي وإبراهيم بن راشد وإبراهيم بن مرشد وعثمان بن مرشد -سلَّمَهم الله تعالى-. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعدُ: فنحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو، كثير الخير دائم المعروف، والخط وصل بما اشتمل عليه من الوصية -جعلنا الله وإياكم ممن يقبل النصائح، ويدرأ المقت والفضائح- وجاءكم مني مكاتبات في هذه الحوادث العُمْيِ. ولم يبلغني ما يسرني عنكم من القبول، والقيام لله، والحق على طالب العلم والمنتسب إلى الدين والفهم أكبر منه على غيره، والواجب عليه آكد، والعاقل لا يرضى لنفسه سبيل أهل المداهنة والبطالة، وقد دهم الإسلام من الحوادث ما تعجز عن حمله الجبالُ الراسياتُ،

وتصغر في جنبه كل المحن والمصيبات، فما مضت فتنة إلا إلى ما هو من أكبر الشرك والكُفْرِيَّات. ومع ذلك فكثير من الناس قد التبس عليه الأمر، وخفي عليه المخرجُ والحكمُ، وكثر الخوضُ والاعتراضُ من بعض مَن ينتسب إلى القراءة ويَدَّعِي الفهم والطلب، واتبع جمهور أولئك ما يَهْوَاه من غير بينة ولا سلطان، ولا يتهم أحد رأيه، ولم يرجع إلى المُحَاقَّة والفكرة، حتى انهدم بنيان الإسلام، ولم يستوحش الأكثرون من ولاية عباد الأوثان والأصنام. وما أحسن ما قال سهل بن حنيف فيما رواه البخاري قال: حدثنا الحسن بن إسحاق ثنا محمد بن سابق ثنا مالك بن مغول قال: سمعت أبا حصين قال: قال ابن وائل: لما قدم سهل بن حنيف من صفين نَسْتَخْبِره فقال: اتهموا الرأي فقد رأيتني يوم أبي جندل ولو أستطيع أن أرد على رسول الله صلى الله عليه وسلم لرددت، والله ورسوله أعلم، وما وضعنا أسيافنا عن عواتقنا إلا أسهل بنا إلى أمر لا نعرفه قبل هذا الأمر، وما نَسُدُّ منها خصمًا إلا انفجرَ خصمٌ ما ندري كيف نأتي له. وأما السؤال عمن يسافر إلى بلد المشركين التي يعجز فيها عن إظهار ما وجب لله من التوحيد والدين، ويعلل بأنه لا يُسَلِّمُ عليهم ولا يجالسهم، ولا يبحثونه عن سره، وأنه يقصد التوصل إلى غير بلاد المشركين، ونحو ذلك من تعاليل الجاهلين. فاعلم أن تحريم ذلك السفر قد اشتهر بين الأئمة، وأفتى به جماهيرهم، وما ورد من الرخصة محمول على مَن يقدر على إظهار دينه أو على ما كان قبل الهجرة. ثم إن الحكم قد أُنِيطَ بالمُجَامعة والمُسَاكنة، وإن لم يحصل سلام ولا مجالسة، ولا بحث عن سره، كما في حديث سمرة: " من جامع المشرك وسكن معه فإنه مثله " 1.فانظر ما علق به الحكم من

_ 1 أبو داود: الجهاد (2787) .

المساكنة والاجتماع، وتعليق الحكم بالمشتق يؤذن بالعلة، فإن وقع مع ذلك سلام ومجالسة، أو فتنة بالبحث عن عقيدته وسره، عظم الأمر واشتد البلاء، وهذه محرمات مستقلة يضاعف بها الإثم والعذاب. وكيف تروج عليكم هذه الشبهات، ولكم في طلب العلم سنوات، وخوف الفتنة أحد مقاصد الهجرة، وهو غير منتفٍ مع هذه التعاليل. ومن مقاصد الهجرة الانحياز إلى الله بعبادته، والإنابة إليه، والجهاد في سبيله، ومراغمة أعدائه وإلى رسوله بطاعته وتعزيره ونصره ولزوم جماعة المسلمين، ولذلك يقرن الهجرة بالإيمان في غير موضع من كتاب الله. وكل هذا غير حاصل، وإن فرض صدق القائل فيما علل به، والغالب كذب هذا الجنس، فإن الأعمال الظاهرة تنشأ عما في القلوب من الصدق والإخلاص أو عدمهما. وقد عرفتم أن العامي الذي لا يعرف حدود ما أنزل الله على رسوله، ولم يلتفت إلى العلم تسرع إليه الفتنة أسرع من السيل إلى مُنْحَدره، ولذلك غلب على كثير من الناس عدم النُّفْرَة فرحل إليهم مَن رحل، وقبلوا رسائلهم وأفشوها في الناس، وأعانهم بعض المفتونين عن دينهم وجالسهم وراسلهم بعضُ من يقول: الدين في القلوب، ولم يلتفتوا إلى الأعمال الإسلامية والشرائع الإيمانية، ولو صدق ما زعموه في قلوبهم لأطاعوا الله ورسوله واعتصموا به، أعاذنا الله وإياكم من مُضَلات الفتن. وحماية جَنَاب التوحيد وسدُّ الذرائع الشركية، من أكبر المقاصد الإسلامية، وقد ترجم شيخنا في كتاب التوحيد لهذه القاعدة، فرحمه الله من إمام، ما أفقهه في دين الله! وما أعظم غيرته لربه وتعظيمه لحرماته! وما أحسن أثره على الناس! والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.

الرسالة الثلاثون: [الحاجة إلى العلم في حال الفتن]

الرسالة الثلاثون: [الحاجة إلى العلم في حال الفتن] وله أيضا -رحمه الله- رسالة إلى من تقدم ذكرهم من إخوان وهذا نصها: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد اللطيف بن عبد الرحمن إلى الإخوان المكرمين محمد بن علي وإبراهيم بن مرشد وإبراهيم بن راشد وعثمان بن مرشد -سلمهم الله تعالى، وعافاهم، وأصلح بالهم، وتولاهم-. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: فنحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو على نعمه، وعلى أقداره وحكمه، والخط وصل -وصلكم الله إلى ما يرضيه- وما ذكرتم صار معلوما، والله المسؤول أن يمن علينا وعليكم عند الوحشة بذكره والأنس بمجالسته، وعند ذهاب الإخوان بروح منه وسلطان. والذي أوصيكم به تقوى الله ومعرفة تفاصيل ذلك على القلوب والجوارح، ومعرفة الأحكام الشرعية الدينية عند تغير الزمان، وكثرة الفتن وظهور الهرج، وقد ورد أن الله يحب البصر الناقد عند ورود الفتن والشبهات، والعقل الراجح عند منازعة الشهوات. وذكر أبو داود وغيره من أهل السنن ما ينبغي مراجعته واستحضاره عند ذكر الفتن والملاحم، وذكر ابن رجب في رسالته "كشف الكربة في فضل الغربة" ما يسلي المؤمن ويعزيه. وذكر ابن القيم -رحمه الله- في المَدَارج جملة صالحة، وفي الأثر: " العبادة في الهَرْج كهجرة إليَّ " 1، وفي حديث الغرباء: " للعامل منهم أجر خمسين من أصحاب

_ 1 مسلم: الفتن وأشراط الساعة (2948) , والترمذي: الفتن (2201) , وابن ماجه: الفتن (3985) , وأحمد (5/25 ,5/27) .

الرسالة الحادية والثلاثون: [التمسك بالميراث النبوي والحث على مذاكرة العلم]

رسول الله صلى الله عليه وسلم" 1. والذي أرى لكم في هذه الخلطة: الصبر على مقام الدعوة، والتلطف بالإبلاغ عن نبيكم، وهذا -مع القدرة وأمن الفتنة-، أفضل من العزلة. والإقلال من مخالطة الناس لمن أمكنه أسلم، وإني لأود أن أكون مثل أحدكم في هذا الزمان، ولكنني ابتليت بالناس وحِيلَ بيني وبين ذلك، والله المستعان، وعليه التكلان، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم. الرسالة الحادية والثلاثون: [التمسك بالميراث النبوي والحث على مذاكرة العلم] وله أيضا -رحمه الله- رسالة إلى مَن تقدم ذكرُهم إلا محمد بن علي، وهذا نصها: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد اللطيف بن عبد الرحمن إلى الإخوان المكرمين إبراهيم بن راشد وإبراهيم بن مرشد وعثمان بن مرشد سلمهم الله تعالى، وتولاهم في الدنيا والآخرة. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعدُ: فأحمد إليكم الله على سوابغ إنعامه ومزيد إحسانه وإكرامه، جعلنا الله وإياكم ممن عرف قدر نعمة الله عليه، واستعملها فيما يقرب إليه، والخط وصل -وصلكم الله بالرضى- والعذر مقبول. نسأل الله لنا ولكم العفو والقبول، ونوصيكم بما أوصيتمونا به، ونزيدكم الوصية بميراث نبيكم والرغبة فيه، والمُذاكرة في كل أوقاتكم، فإنكم في زمن قُبِضَ فيه العلم، وفَشَا الجهل، وعُدِمَتْ الحقائقُ الدينية، وإنما هي عادات ورسوم ينتحلها أكثرُ الخلق. أما الخيام فإنها كخيامهم ... وأرى نساء الحي غير نسائها جعلنا الله وإياكم من الفائزين بالقبول والرضى، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.

_ 1 الترمذي: تفسير القرآن (3058) , وأبو داود: الملاحم (4341) , وابن ماجه: الفتن (4014) .

الرسالة الثانية والثلاثون: [الغلظة على الكفار ومتى أمر النبي صلى الله عليه وسلم بها]

الرسالة الثانية والثلاثون: [الغلظة على الكفار ومتى أمر النبي صلى الله عليه وسلم بها] وله أيضا -قدس الله روحه، ونَوَّرَ ضريحه، وتجاوز عن ذنوبه- رسالة إلى الشيخ حمد بن عتيق -رحمه الله- وقد راسله أعني: الشيخ حمد برسالة كأنه أساء فيها الأدب، ولم يراع فيها حق مَن يتزاحم العلماء عنده بالركب. بل جرى على عادته في المراسلات والمكاتبة، ولم يُمْعِن النظرَ فيما أوعز به من المخاطب، وكأنه في رسالته يحرض على التغليظ في الدعوة إلى الله من غير نظر إلى جلب المصالح ودرء المفاسد. فَبَيَّنَ له الشيخ -رحمه الله- الخلق العظيم والرأي الرشيد الحليم الذي كان لسيد المرسلين وإمام المتقين، أنه يبدأ أولا بالتلطف واللين، ثم آخرا بالغلظة؛ وذلك مع قوة الإسلام والمسلمين، وأن الغلظة ليست ديدانا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولا لأتباعه في الدعوة إلى الله. ويا لله كم في هذه الرسالة من الأصول الأصلية والمباحث الجليلة التي تطلع منها على بلاغة مبديها، وجلالة منشيها، وأن له في الميراث النبوي الحظَّ الوافرَ، وأن ينابيع علومه تتفجر من ذلك البحر الزاخر، وهذا نص الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد اللطيف بن عبد الرحمن إلى الشيخ المكرم حمد بن عتيق، سلك الله بي وبه أهدى نهج وطريق، ومنحنا بِمَنِّهِ حُسْنَ الدعوة إليه بالتحقيق. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: فإني أحمد إليك الله –سبحانه- على نعمه، والخط وصل -وصلك الله بما يقربك إليه- وما أشرت إليه صار معلوما، لا سيما الإشارة الخفية والنكت الأدبية، التي منها تشبيه أخيك بالطير المُبَرْقَع، وإيراد المواعظ وأنت بمكان علو أرفع، وكنت حال وصوله قد قرأته بمرأى من أهل الأدب ومسمع، فمن قائل عند سماعه: هذا الرجل طبعه الغلظة والجمود، وآخر

يقول: كأنه لا يحسن الدعوة إلى ربنا المعبود. فقلت: كلا إنه ابن جلا، وله السبق في مضمار الديانة والعلى، لكن من عادته أن يتجاسر على أحبابه، ويزدري رتب أخدانه وأترابه، والمحب له الدلال، والمرء يشرف بالزلال. فاعلم -هُدِيتَ الطريق، وفزتَ بحظ من النظر والتحقيق- أن الله لما بعث نبيه صلى الله عليه وسلم بهذا الدين الحنيفي ولم يكن أحد من أهل الأرض -عربيهم وعجميهم قرويهم وبدويهم- يعرف الحق ويعمل به إلا بقايا من أهل الكتاب. وأما الأكثرون فقد اجتالتهم الضلالات والعادات عن فطرة الله التي فطر الله الناس عليها، فأيد الله دينه مع غربة هذا الدين، ومخالفته لما عليه الأكثرون، بأعظم حجة وآية، كانت لأكثر مَن أسلم سبب وقاية، وتلك هي الخلق العظيم، والرأي الراشد الحليم، فمكث على ذلك يدعو ويُذَكِّر، ويعظ ويُنْذِر، مع غاية اللطف واللين. فتارة يُكَنِّي المخاطبين، وطورًا يأتي نادي المتقدمين أو المترئسين، وحينا يقول: " اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون " 1، ونَاهِيك بخُلُق مدحه القرآن، وأثنى على حلمه في الدعوة والبيان. ولا يرد على المعنى قوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} 2 الآية، كما ظنه بعض المتطوعة دَيْدَنًا لرسول الله رضي الله عنه، فإن هذا يُصَار إليه إذا تعينتْ الغلظةُ ولم يُجْدِ اللينُ، كما هو ظاهرٌ مستبينٌ، كما قيل: آخر الطب الكيُّ، وهو أيضا مع القدرة. ويشترط أن لا يترتب عليه مفسدة كما قال تعالى: {وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْر ِ} 3. وقد أخذ بعض الناس من هذا أن دَرْء المفاسد يُقَدَّم على جلب المصالح، كما هو مُقَرَّر في علم الأصول. ثم إن الآيةَ: آيةَ الغلظة مدنيةٌ بعد تمكن الرسول وأصحابه من الجهاد

_ 1 البخاري: أحاديث الأنبياء (3477) , ومسلم: الجهاد والسير (1792) , وابن ماجه: الفتن (4025) , وأحمد (1/380 ,1/427 ,1/432 ,1/441 ,1/456) . 2 سورة التوبة آية: 73. 3 سورة الأنعام آية: 108.

باليد وظهور الاستمرار على الكفر من أعدائهم، فوقعت الغلظة في مركزها حيث لم ينفع اللين. وأسعد الناس بوراثة الرسول في دعوة الخلق أكملهم في متابعته له في هذا، وكان الصِّدِّيق أكمل الناس؛ ولذلك أسلم على يده وانتفع به أممٌ كثيرةٌ بخلاف غيره فقد قيل لبعضهم: إن منكم منفرين. والقصد من التشريع والأوامر: تحصيل المصالح ودرء المفاسد حسب الإمكان، وقد لا يمكن إلا مع ارتكاب أخف الضررين، أو تفويت أدنى المصلحتين، واعتبار الأشخاص والأزمان والأحوال: أصل كبير فمَنْ أهمله وضَيَّعه فجنايته على الناس وعلى الشرع أعظم جناية. وقد قرَّر العلماء هذه الكليات والجزئيات، وفصَّلُوا الآدابَ الشرعية، فمن أراد أن ينصب نفسه في مقام الدعوة، فليتعلم أولا؛ وليزاحم رُكَب العلماء قبل أن يرأس، فيدعو بحجة ودليل، ويدري كيف السير في ذلك السبيل، فإن الصبابة لا يعرفها إلا مَن يعانيها، والعلوم لا يدريها إلا مَن أخذها عن أهلها وصحب راويها: ما كل من طلب المعالي نافذا ... فيها ولا كل الرجال فحولا وهذا، وقد كنت أظن أنكم تحبون مَن هاجر إليكم، وتراعون حق أسلافه في المشيخة عليكم، ومكان العلم وتعليمه، وحق الشيخ وتكريمه غير معتبر لدى الجمهور، قبل قصدهم المناصب والظهور، قال الشيخ، وحدثنا، وجلس الأستاذ، ونبأنا، ن هو غاية قصد الأكثرين، إلا عباد الله المخلصين. والسلام عليك وعلى من حضر من المسلمين لديك، وما بسطت لك الكلام، إلا محبة وإعلام، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.

الرسالة الثالثة والثلاثون: [مشروعية بر الكافر غير المحارب والقسط إليه]

الرسالة الثالثة والثلاثون: [مشروعية بر الكافر غير المحارب والقسط إليه] وله أيضا -رحمه الله تعالى- رسالة إلى عيسى بن إبراهيم جوابًا لأربع مسائل: (الأولى) : عن قوله تعالى: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ} 1 الآية؟ (والثانية) : عن الفرق بين المرفوع والمُسْنَد والمتصل وأيها أصح؟ (الثالثة) : عن قول شارح الزاد غير تراب ونحوه؟ (الرابعة) : عن قول شارح الزاد أيضا نقلا عن النظم: وتحرم القراءة في الحش وسطحه وهو متوجه إلى حاجته، ثم إن الشيخ استشعر منه أنه يشير إلى رسم فائدة زائدة. فأجاب بما يشفي العليل، ويروي الغليل، ويهدي إلى أقوم نهج وسبيل، بأوضح عبارة وأبين دليل. فرحمه الله من إمام للسنة ما أعلمه، وبعلم التفسير ما أفهمه، وبالفقه وغيره من العلوم ما أحكمه، فلقد فاق بذلك على أقرانه، وكان وحيد عصره وفريد زمانه. وهذا نص الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد اللطيف بن عبد الرحمن إلى الأخ المحب عيسى بن إبراهيم -سلك الله بي وبه صراطه المستقيم-. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو على نعمه. والخط وصل؛ فسرني نبأه عن سلامة تلك الأحوال والذوات، لا زالت سالمة من الآفات، وما أشرت إليه قد علم. وجواب مسألتك ها هو ذا قد رسم –نسأل الله التوفيق والإصابة، وحسن القصد والإثابة- فأما قوله تعالى: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ} 2 الآية. فالذي يظهر أن هذا إخبارٌ من الله –جل ذكره- لعباده المؤمنين بأنه لم يَنْهَهُمْ عن البر والعدل والإنصاف في معاملة أي كافر كان من أهل الملل، إذا لم يقاتلهم في الدين ولم يخرجهم من

_ 1 سورة الممتحنة آية: 8. 2 سورة الممتحنة آية: 8.

ديارهم؛ إذ العدل والإحسان والإنصاف مطلوبٌ محبوبٌ شرعا ولذا علل هذا الحكم بقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} 1. وأما قوله {أَنْ تَبَرُّوهُمْ} 2 فقد قال بعض المُعْرِبِينَ: إنه بدل من الموصول بدل اشتمال، و"أن" وما دخلت عليه: في تأويل مصدر، والتقدير: لا ينهاكم الله عن بِرِّ مَن لم يقاتل في الدين، ولو قال هذا البعض: إنه بدل3 بُدَاءً: لكان أظهر؛ إذ لا يظهر الاشتمال بأنواعه هنا؛ والأظهر عندي أنْ لا بدلَ مطلقا؛ وأن الموصول معمولٌ للمصدر المتأخر المأخوذ من "أن" وما دخلت عليه؛ فالموصول إذًا في محل نصب بالمصدر المسبوك؛ وتَأَخُّرُ العاملِ لا يضر، وأما على البدلية فهو في محل جر. وقوله: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} 4، أكد الجملة هنا لمناسبة مقتضى الحال؛ إذ المقام مظنة لغلط الأكثر؛ ولتوهم خلاف المراد فاقتضى التأكيد والتوفية بالأداة؛ كما يعلم من فن المعاني؛ وقوله: {فِي الدِّينِ} الفاء سببية كما في قوله: "دخلت النار امرأة في هرة" 5 الحديث. وسبب النّزول ما رواه الإمام أحمد في مسنده حدثنا أبو معاوية حدثنا هشام بن عروة عن فاطمة بنت المنذر عن أسماء بنت أبي بكر -رضي الله عنها- قالت: قدمت أمي وهي مشركة في عهد قريش إذ عاهدوا، فأتيتُ النبي صلى الله عليه وسلم فقلت يا رسول الله: " إن أمي قدمتْ وهي راغبة، أفأصلها؟ قال: نعم صلي أمك" 6، وهذا الحديث أخرجه البخاري ومسلم. وفي بعض الطرق: أنها جاءت لابنتها بهدية ضباب وأقط وسمن، فأبت أسماء أن تقبل منها وتدخل البيت حتى سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله هذه الآية. وأما قول ابن زيد وقتادة: إنها منسوخة، فلا يظهر؛ لوجوه: منها: أن الجمع بينها وبين آية القتال ممكنٌ غيرُ متعذرٍ، ودعوى النسخ يصار إليها

_ 1 سورة الممتحنة آية: 8. 2 سورة الممتحنة آية: 8. 3 كذا في الأصل. 4 سورة الممتحنة آية: 8. 5 البخاري: بدء الخلق (3318) , ومسلم: السلام (2243) والبر والصلة والآداب (2619) , وابن ماجه: الزهد (4256) , وأحمد (2/507) . 6 البخاري: الهبة وفضلها والتحريض عليها (2620) , ومسلم: الزكاة (1003) , وأبو داود: الزكاة (1668) , وأحمد (6/347) .

عند التعذر وعدم إمكان الجمع إن دل عليه دليل. (ومنها) : أن السُّنَّة متظاهرةٌ بطلب الإحسان والعدل مطلقا، ولا قائل بالنسخ، لكن قد يجاب عن ابن زيد وقتادة بأن النسخ في كلامهما بمعنى التخصيص؛ وهو مُتَّجِهٌ على اصطلاح بعض السلف؛ ولا شك أن القتال بالسيف وتوابعه من العقوبات والغلظة في محلها مخصوص من هذا العموم. ووجه مناسبة الآية لما قبلها من الآي: أنه لما ذكر –تعالى- نهيه عبادَه المؤمنين عن اتخاذ عدوه وعدوهم أولياء يلقون إليهم بالمودة؛ ثم ذكر حال خليله، ومن آمن معه في قولهم، وبراءتهم من قومهم المشركين حتى يؤمنوا. وذكر أن لعباده المؤمنين أسوة حسنة خيف أن يتولاهم، ويظن أن البر والعدل داخلان في ضمن ما نهى عنه من الموالاة، وأمر به أن يدفع هذا 1 بقوله تعالى: {لا يَنْهَاكُمُ} 2 الآية. [اصطلاحات حديثية] الحديث المرفوع والمسند والمتصل وأما المسألة الثانية في الفرق بين المرفوع والمسند والمتصل: فاعلم أن المرفوع: ما أضيف إلى النبي صلى الله عليه وسلم قولا، أو فعلا، أو حكما. واشترط الخطيب البغدادي كون المضيف صحابيا، والجمهورُ على خلافه. والمسند: هو المرفوع، فهو مرادفٌ له، وقد يكون متصلا كمالك عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم وقد يكون منقطعا كمالك

_ 1 قد أوجز الشيخ –رحمه الله- فجاء كلامه غيرُ كافٍ في بيان المراد، فأجاز البر والعدل لمن نهى الله عن ولايتهم في الآية، وهم المحاربون للمسلمين لأجل صدهم عن دينهم. والمُتَبَادَرُ من الاستئناف البياني في قوله: {لا يَنْهَاكُمُ} إلى آخره الذي هو استدراك على النهي عن الموالاة والمودة للكفار المعادين المحاربين في الدين هو أن من ليس كذلك من الكفار لا يدخلون في عموم النهي الأول من كل وجه بل يجوز برهم والعدل إليهم؛ ولذلك أكد الآية الأولى بالثانية وهي: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ} إلخ. 2 سورة الممتحنة آية: 8.

عن الزهري عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم إذ الزهري لم يسمع من ابن عباس، فهو بسند منقطع. وقد صرح ابن عبد البر –رحمه الله- بترادفهما؛ والانقطاع يدخل عليهما جميعا وقيل: إن المسند ما وصل إسناده (إلى الصحابي) ولو موقوفا عليه؛ فالمسند والمتصل سواء؛ إذ هذا بعينه هو تعريف المتصل فعلى هذا يفارق المرفوع بقولنا: ولو موقوفا؛ فبينه وبين المرفوع على هذا القول عمومٌ وخصوصٌ وجهي يجتمعان فيما اتصل سنده ورفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم. وينفرد المرفوع في المنقطع المرفوع، وينفرد المسند في الموقوف والأكثر على التعريف الأول، والعموم والخصوص الوجهي، كذلك يجري أيضا بين المرفوع والمتصل كما يعلم مما تقدم. وأما قولك: أيهما أصح؟ فاعلم أن الصحة غير راجحة لهذه الأوصاف باعتبار حقيقتها، وإنما الصحة والحُسن والضعف أوصاف تدخل على كل مِنَ المرفوع والمسند والمتصل، فمتى وُجِدَتْ حُكِمَ بمُقتضاها لموصوفها. لكن المرفوع أولى من المتصل إذا لم يرفع؛ ومن المسند على القول الثاني إذا لم يرفع أيضا، لا من حيث الصحة بل من حيث رفعه إلى النبي صلى الله وسلم وأما الصحة فقد ينفرد بها بعض هذه الأقسام لا من حيث ذاته؛ والمرفوع إذا لم يبلغ درجة الصحة احتج به في الشواهد والمتابعات كما عليه جَمْعٌ. [مصطلحات فقهية] اصطلاحات فقهية: وأما الجواب عن قول شارح الزاد: "غير تراب ونحوه": فاعلم أن نحو التراب هنا: كل ما كان من الأجزاء الأرضية كالرمل والنورة، أو من المائعات الطاهرة، وكذا كل ما لا يدفع النجاسة عن نفسه فإنه لو أضيف

أحد هذه الأشياء إلى الماء الكثير المتنجس لم يطهر بإضافته إليه؛ لكون المضاف لا يدفع عن نفسه فعن غيره أولى، ولو زال به التغير على أظهر الوجهين. وأما نحو التراب في باب التيمم، فهو كل ما كان له غبار يعلق باليد؛ وفي باب إزالة النجاسة هو كل جامد مُنَقٍّ كالأشنان والصابون والسدر، فيفسر النحو في كُلٍّ بما يناسبه. [القراءة في الحش وسطحه وهو متوجه إلى حاجته] وأما المسألة الرابعة في قول شارح الزاد نقلا عن النظم: "وتحرم القراءة في الحش وسطحه، وهو متوجه على حاجته". فاعلم أن قوله: "وهو متوجه" من كلام صاحب الفروع، ومعناه أن التحريم يتوجه إذا كان المتخلي جالسا على حاجته بهذا القيد؛ فافهم ذلك وتفطن؛ والكلام في التحريم والكراهة وبيان المختار يستدعي طولا لا يليق باختصار هذه الأسطار. [نصيحة عامة للمسلمين] (نصيحة في إيثار الآخرة والعلم والعمل) : ثم إنك تشير إلى رسم فائدة زائدة، وقد وقع نظري عند إملائي هذا على عبارة ابن الجوزي في "السر المصون" ونصها: من علم أن الدنيا دار سباق وتحصيل للفضائل وأنه كلما علت مرتبته في علم وعمل، زادت المرتبة في دار الجزاء، انْتَهَبَ الزمانَ ولم يُضَيِّع لحظة، ولم يترك فضيلة تمكنه إلا حَصَّلَهَا. مَنْ وُفِّقَ لهذا، فليبكر زمانه بالعلم، وليصابر كلَّ محنة وفقر، إلى أن يحصل له ما يريد؛ وليكن مخلصا في طلب العلم عاملا به حافظا له، فإما أن يفوته الإخلاص، فذلك تضييع زمان وخسران الجزاء، وإما أن يفوته العمل به فذاك يقوي الحجة عليه والعقاب له. وأما جمعه من غير حفظه، فإن العلم ما كان في الصدر لا في القمطر، ومتى أخلص في طلبه دله على الله عز وجل، فليبعد عن مخالطة الخلق مهما أمكن، خصوصا العوام، وليصرف نفسه عن

الرسالة الرابعة والثلاثون: [الأمر بالاعتصام والنهي عن التفرق والاختلاف]

المشي في الأسواق فربما وقع البصر على فتنة؛ وليجتهد في مكان لا يسمع فيه أصوات الناس، ومن علم أنه مَاٌّر إلى الله اعز وجل وإلى العيش معه وعنده، وأن الدنيا أيام سفر، صبر على تفث السفر ووسخه، إن الراحة لا تُنَال بالراحة 1؛ فمن زرع حصد، ومن جدَّ وجد. خاضوا من أمر الهوى في فنون ... فزادهم في اسم هواهم حرف نون أحسن الله لي ولك العواقب، ووفقنا لنيل أرفع الدرجات والمراتب، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم، ومَن لدينا الوالد -حفظه الله- 2. الرسالة الرابعة والثلاثون: [الأمر بالاعتصام والنهي عن التفرق والاختلاف] وله أيضا، تغمده الله بإحسانه، وصب عليه من شآبيب بره وامتنانه، ونفعنا بعلومه الداعية إلى الرشاد، ورسائله المرشدة إلى هدي خير العباد، ونصائحه المؤذنة بحسن الدعوة إلى الله، ورد العباد إلى عبادة من لا رب لنا سواه، ولا نعبد إلا إياه، رسالة إلى من وصلت إليه من المسلمين يحرِّضهم فيها على الجهاد في سبيل الله والتزام أصول الدين، والاعتصام بحبل الله المتين. ويذَكِّرهم نعمة الله التي امتنَّ بها عليهم على يد شيخ الإسلام، وقدوة العلماء الأعلام، الشيخ محمد بن عبد الوهاب؛ إذ كانوا قبله على جاهلية جهلاء، وضلالة عمياء وبدعة صماء، لا يعرفون من الإسلام إلا اسمه، ولا من القرآن إلا رسمه، لا شعور لهم بدين الله الذي بعث به رسوله، ولا يعرفون منه على التحقيق لا فروعه ولا أصوله، فأنقذهم الله بدعوته من الغواية، وسلك بهم طريق أهل السعادة والهداية، وكثَّرَهم الله به بعد القلة، وأعزهم به بعد الذلة. وصاروا بهذا الدين للعباد قادة، وانتهت إليهم به الرياسة والسيادة، ثم سار أبناؤه بعده على منهاج الدعوة إلى الله، والحضّ على الجهاد في سبيل الله، ورد العباد إلى ما يحبه الله ويرضاه، فجزاهم الله عن الإسلام والمسلمين أحسن الجزاء، وبَوَّأَهُمْ بفضله ورحمته الدرجات العلى، وهذا نص الرسالة:

_ 1 الراحة الأولى ضد التعب، والثانية راحة اليد. يعني أن الراحة ليست شيئا قريب المنال كالشيء الذي يتناول باليد من غير سعي ولا تعب. وفي معناه قول بعضهم: لا تنال الراحة إلا بالتعب. 2 كذا في الأصل والظاهر أنه سقط منه: يسلم عليكم.

بسم الله الرحمن الرحيم من عبد اللطيف بن عبد الرحمن إلى من وصل إليه من المسلمين -وفقهم الله للبر والتقوى، وسلك بهم سبيل الرشد والهدى-. سلام عيكم ورحمة الله وبركاته. وبعدُ: فقد سبق إليكم من النصائح والتذكير بآيات الله، والحث على لزوم جماعة المسلمين ما فيه كفاية وهداية لمن أحيا الله قلبه وأراد هدايته، وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: " الدين النصيحة، قالها ثلاثا، قالوا: لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم " 1. فجعل الدين محصورا في النصيحة، لأنها تتضمن أصوله وفروعه وقواعده المهمة، فيدخل الإيمان بالله ومحبته وخشيته، والخضوع له وتعظيم أمره ونهيه، وتنزيهه عما لا يليق بجلاله وعظمته من تعطيل وإلحاد وشرك وتكذيب؛ لأن النصيحة لله: خلوص الباطن والسر من الغش والريب والحقد والتكذيب، وكل ما يضاد كمال الإيمان ويعارضه. وكذلك النصيحة لكتابه تتضمن العمل بِمُحْكَمِهِ، والإيمان بمتشابهه، وتحليل حلاله وتحريم حرامه، والاعتبار بأمثاله، والوقوف عند عجائبه، ورد مسائل النزاع إليه، وترك الإلحاد في ألفاظه ومعانيه. والنصح لرسوله يقتضي الإيمان به وتصديقه ومحبته وتوقيره، وتعزيره ومتابعته، والانقياد لحكمه، والتسليم لأمره، وتقديمه على كل ما عارضه وخالفه من هوى أو بدعة أو قول، والنصح لأئمة المسلمين أمرهم بطاعة الله ورسوله، وطاعتهم في المعروف، ومعاونتهم على القيام بأمر الله، وترك مُشَاقَّتهم ومنازعتهم. والنصح لعامة المسلمين هو: تعليمهم وإرشادهم لما فيه

_ 1 مسلم: الإيمان (55) , والنسائي: البيعة (4197 ,4198) , وأبو داود: الأدب (4944) , وأحمد (4/102) .

صلاحهم وفلاحهم، والرفق بهم، وكفُّهُم عما فيه هلاكهم وشقاؤهم وذهاب دينهم ودنياهم من معصية الله ورسوله، ومخالفة أمره، ومشابهة الجاهلين فيما كانوا عليه من التفرق والاختلاف وترك الحقوق الإسلامية. وفي الحديث: " ثلاث لا يُغَلُّ عليهن قلب مسلم: إخلاص الدين لله، ومناصحة أئمة المسلمين، ولزوم جماعتهم، فإن دعوتهم تحيط من ورائهم "، فأفاد أن هذه الثلاث لا يدعها المسلم إلا لِغِلٍّ في قلبه، بل المسلم الصادق في إسلامه لا يكون إلا: مُخْلِصًا دينَه لله، مُنَاصِحًا لإمامه، مُلازِمًا لجماعة المسلمين. وقد دل القرآن على هذا في غير موضع، كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} 1. فابتدأ الآية بالأمر بأن يُتَّقَى حَقَّ التُّقَاة، وأمر بالتزام الإسلام، والعض عليه بالنواجذ حتى الممات، لأن قوله: {وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} 2 تحضيضٌ وحَثُّ على التزامه في جميع أوقات العمر والساعات، ومن عاش على شيء مات عليه 3

_ 1 سورة آل عمران آية: 102-103. 2 سورة آل عمران آية: 102. 3 هذا هو الغالب في البشر بحسب سنة الله –تعالى-: من أن المرء يموت على ما عاش عليه، ويبعث على ما مات عليه كما ورد. أما الثاني ففي صحيح مسلم، وأما الأول فلا أذكر مُخَرِّجَه الآن، وتدل عليه ظواهر آيات وأحاديث كثيرة منها: حديث علي المرفوع في الصحيحين "ما منكم من أحد إلا وقد كتب مقعده من النار أو الجنة" فقال رجل من القوم: ألا نتكل يا رسول الله؟ قال "لا اعملوا فكل ميسر لما خلق له" ثم قرأ (فأما من أعطى واتقى) الآية أي وما بعدها، وهذا الحديث مروي عن عدة من الصحابة. وقد يعارضه عبد الله بن مسعود في الصحيحين وغيرهما "فوالله إن أحدكم – أو الرجل – ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها غير ذراع أو باع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها" إلخ. وأجاب عنه الجمهور: بأن هذا بيان للنادر وحديث علي وما في معناه هو الأكثر، وهذا الذي اعتمده شراح الصحيحين على أن بعض المحدثين قالوا: إن عبارة "فوالله إن أحدكم ليعمل" إلخ مُدْرَجَة في الحديث من كلام ابن مسعود، لا مرفوعة كما رواه بعضهم صريحا، بلفظ "فوالذي نفس عبد الله بيده" إلخ. وحكى ابن التين أن عمر بن عبد العزيز لما سمع هذا الحديث أنكره، وقال: كيف يصح أن يعمل العبد عمره الطاعة لا يدخل الجنة؟ وفيه إشكال آخر، وهو: أنه ينافي ما صح من سبق رحمة الله لغضبه. والتحقيق -عندي- أن المراد بمن يعمل عمل أهل الجنة وهو من أهل النار: أنه لا بد أن يكون مع عمله منطويا على شيء من عقائد الشرك؛ كما كان يقول الأستاذ العلامة الشيخ عبد الغني الرافعي –رحمه الله تعالى-. وأكتفي بهذه الحاشية الموجزة لتصحيح رأي من أنكر عبارة الشيخ عبد اللطيف من قليلي الاطلاع على كتب السنة.

وقد أمر بالاعتصام بحبله وهو دينه وكتابه أمرًا عامًّا لجميع المكلفين وسائر المخاطبين، لأن التقوى والتزام الإسلام يتوقف على ذلك؛ ولا يحصل المقصود منه إلا بالاعتصام بحبل الله وترك التفرق والاختلاف؛ لما فيهما من فساد الدين وهدم أصوله وقواعده. ثم ذَكَّرَهم بنعمته عليهم بتأليف قلوبهم واجتماعها بعد العداوة والبغضاء، فإن التفرق والاختلاف عذاب وهلاك وشقوة في العاجل والآجل، والجماعة والائتلاف رحمة وسعادة ونعيم في العاجل والآجل. وأخبرهم أنهم كانوا على شفا حفرة من النار بما كانوا عليه من الضلالة والجاهلية، فامتَنَّ عليهم وأنقذهم واجتباهم وهداهم، وجمع قلوبهم وشملهم بعد الفرقة والشتات، وأعزهم وأغناهم بعد الفقر والحاجات، فيا لها من نعم ما أجلّها‍! ومواهب ما أعظمها وأبرها، لمن عقلها وشكرها! ‍ ولذلك ختم الآية بقوله: {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} 1: فيه بيان الحكمة المقتضية لبيان الآيات والتذكير بالنعم، وأن المراد بها حصول الاهتداء، وترك أسباب الشقاء والردى.

_ 1 سورة آل عمران آية: 103.

[تذكير أهل نجد بمشابهة حالهم لحال الأنصار رضي الله عنهم] وقد عرفتم ما كنتم عليه قبل هذه الدعوة الإسلامية التي امتُنَّ بها على يد شيخنا -رحمه الله-: كنتم على جاهلية جهلاء، وضلالة عمياء، وبدعة صماء، لا شعور لكم بدينه الذي ارتضاه لنفسه، ولا دراية لكم بما يجب له من صفات كماله وجلال قُدْسِه، ولا معرفة لديكم بما شرعه من أمره ونهيه. كنتم على غاية من التفرق والاختلاف، فَبَصَّرَكم الله بهذه الدعوة المباركة من العَمَى، وسلك بكم سبيل السعادة والهدى، وعَلَّمَكم من دينه وشرعه ما اصطفاكم به واختاركم على مَن ضَلَّ وغوى، وجمعكم بعد الفُرْقَة، وألف بين قلوبكم بعد العداوة والمُشَاقَّة، وأعزكم على من عاداكم بعد المسكنة والذلة، فاشكروه على هذه النعم العظيمة بالتزام طاعته، والمسارعة إلى مرضاته ومغفرته، ولا تكونوا كالذين: {بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَار ِ} 1، واشتروا الضلالة بالهدى، واستبدلوا السعادة بالشقاء، وتركوا البصيرة واختاروا العمى. وقد عرفتم أن الله افترض عليكم الجهاد في سبيله وابتلاكم بأعداء دينه، ليعلم الذين صدقوا ويعلم الكاذبين: {وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ} 2، وما أجرى الله وابتلى به من الزعازع والمحن من أكبر أسبابه. وأعظم موجباته: مخالفة الأمر الشرعي وترك طاعة الله ورسوله والجهاد في سبيله؛ ولهذا يسلط العدو، وتنزع المهابة من صدور أعدائكم، وتضربون بسوط الذلة والمهانة كما جاءت به الآثار، وصحت به الأخبار، وشهد له النظر والاعتبار، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ َغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ

_ 1 سورة إبراهيم آية: 28. 2 سورة محمد آية: 4.

الرسالة الخامسة والثلاثون: [تفسير قوله عزوجل: {وما خلقت الجن والأنس إلا ليعبدون} ]

الْعَظِيمُ وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ} 1 إلى قوله: {ظَاهِرِينَ} . وفي الحديث: "من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه بالغزو: مات على شعبة من النفاق" 2، وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن في الجنة مائة درجة: أعلاها للمجاهدين في سبيله ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض" 3. فاتقوا الله عباد الله: {وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} 4. جعلنا الله وإياكم ممن يقبل المواعظ والنصائح، ويدرأ أسباب المقت والفضائح، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم. الرسالة الخامسة والثلاثون: [تفسير قوله عزوجل: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} ] وله أيضا -قدس الله روحه، ونور ضريحه- رسالة إلى الشيخ عبد الله بن نصير، وقد ذكر الشيخ عبد الله في رسالة كلام أبي بكر بن العربي المالكي في معنى قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} 5. فأجاب -رحمه الله- بهذا الجواب الباهر الفائق، وأرخى عنان قلمه بميدان المعارف والحقائق، وكشف له القناع عن مدارك أحكام أهل التحقيق، ورفع له الأعلام إلى المَهْيَع والطريق، وبَيَّنَ له -رحمه الله- غلطَ أبي بكر بن العربي فيما زعمه وقرره، من أن معناه لبعض أهل السنة، وليس كما زعمه وحرره. بل إن ما اعتمده وعول عليه في معنى هذه الآية هو: كلام القدرية المجبرة، فإما أن يكون جهلا منه بأنه مخالف لقول أهل السنة، أو تقليدا منه لمن كان يحسن فيه ظنه، هذا إن لم يكن موافقا لهم في أصل الجبر والقول به، فقد يدخل عليه كلامهم وكلام نظرائهم، فلا ينكره، بل يقرره، ويأخذ به، وهذا نص الرسالة:

_ 1 سورة الصف آية: 10. 2 مسلم: الإمارة (1910) , والنسائي: الجهاد (3097) , وأبو داود: الجهاد (2502) . 3 البخاري: الجهاد والسير (2790) , وأحمد (2/335 ,2/339) . 4 سورة البقرة آية: 281. 5 سورة الذاريات آية: 56.

بسم الله الرحمن الرحيم من عبد اللطيف بن عبد الرحمن إلى الأخ المحب الشيخ عبد الله بن نصير -سلمه الله تعالى-: سلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد: فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو على نعمه، والخط الذي ذكرت فيه كلام أبي بكر بن العربي المالكي في معنى قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} 1. قد وصل وتأملته فوجدته قد اعتمد وعول في معنى هذه الآية على كلام القدرية المجبرة، وغلط في زعمه أن معناه لبعض أهل السنة، وابن العربي إن لم يكن موافقا لهم في أصل الجبر والقول به، فقد يدخل عليه كلامهم وكلام نظرائهم ولا ينكره، بل يأخذ به ويقرره، إما جهلا منه بأنه مخالف لقول أهل السنة، أو تقليدا لمن يحسن به الظن، أو لأسباب أخر، وليس هذا خاصا به. بل قد وقع فيه كثير من أتباع الأئمة المنتسبين إلى السنة، فإن قوله في تفسير قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} 2 أي: إلا لتجري أفعالهم على مقتضى قضائي، فيكون فعل العبد على مقتضى حكم المولى، وإنما يخرج فعل العبد عن حكم المولى إذا كان مغلوبا، والغالب لا يخرج شيء عن فعله، وهو الله وحده. انتهى. وهذا الكلام بعينه هو: كلام القدرية المجبرة، فيما حكاه عنهم غير واحد، وهذا التعليل هو تعليلهم بعينه، وهذا القول يقتضي أنه سبحانه خلق الشاكر ليشكر، والفاجر ليفجر، والكافر ليكفر، فما خرج أحد عما خلق له على هذا القول، لأن القدر جَارٍ بذلك كله، والقدرية المجبرة دعاهم

_ 1 سورة الذاريات آية: 56. 2 سورة الذاريات آية: 56.

لهذا فيما يزعمون إبطال قول القدرية النفاة، ومصادمتهم في قولهم: إن الإرادة هي الأمر، يأمر بها الطائفتين، فهؤلاء عبدوه بأن أحدثوا إرادتهم وطاعتهم، وهؤلاء عصوه بأن أحدثوا إرادتهم ومعصيتهم. وحاصل قولهم: إنكار القدر وأن الأمر أُنُف1، فقابلهم أولئك بالقول بالجبر، وأنهم لا يخرجون عن قدره وقضائه، نظرا منهم إلى أن الأمر كائن بمشيئة الله وقدره، وأنه ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، وأنه -تعالى- خالق كل شيء وربه ومليكه، ولا يكون في ملكه شيء إلا بقدرته وخلقه ومشيئته. كما قال تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} 2،: {مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} 3،: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ} 4،: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ} 5، ونحو ذلك من الآيات. ولا ريب أن هذا أصل عظيم من أصول الإيمان، لا بد منه في حصول الإيمان، وبإنكاره ضلت القدرية النفاة وخالفوا جميع الصحابة وأئمة الإسلام، لكن لا بد معه من الإيمان بالإرادة الشرعية الدينية، التي نزلت بها الكتب السماوية، ودلّت عليها النصوص النبوية. [تفسير العبادة لغة وشرعا] وأئمة المسلمين قد أثبتوا هذه وهذه، وذكروا الجمع بينهما، وآمنوا بكلا الأصلين، وفرقوا بين لام العلة الباعثة الفاعلة، وبين لام الغاية والصيرورة والعاقبة، والقرآن قد جاء ببيان اللامين، فالأولى في قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} 6،: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ} 7،: {لِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} 8. والثانية في قوله تعالى: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً} 9،: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ} 10،: {وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} 11 على أحد القولين. فمن نفى الإرادة

_ 1 أُنُف بضم الهمزة والنون: أي كل شيء يخلقه الله فهو مستأنف جديد لم يكن مقدرا ولا مكتوبا. 2 سورة القمر آية: 49. 3 سورة الأنعام آية: 111. 4 سورة الأنعام آية: 112. 5 سورة الإنسان آية: 30. 6 سورة الذاريات آية: 56. 7 سورة النساء آية: 64. 8 سورة البقرة آية: 185. 9 سورة القصص آية: 8. 10 سورة الأعراف آية: 179. 11 سورة يونس آية: 119.

الأمرية فهو جبري ضال مبتدع، ومن نفى الإرادة الكونية القدرية فهو قدري ضال مبتدع. ومن قال: إن العبادة في قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} 1 بمعنى: إلا لتجري أفعالهم على مقتضى إرادتي الكونية، فقد أدخل جميع الخلق مؤمنهم وكافرهم، برهم وفاجرهم في هذه العبادة، وجعل عابد الأصنام والشيطان، والأوثان عابدا للرحمن، قائما بما خلق الله له الإنس والجان، لكن بمعنى جريان الإرادة القدرية الكونية عليهم، لا بمعنى الاتحاد والحلول الذي قاله صاحب الفصوص، وطائفة الاتحاد الكفار. وقال قائلون بالجبر: لا شك أن الخلق معبدون بجريان الأقدار عليهم. يريدون أن ذلك هو المقصود بالآية، كما سيأتي حكاية هذا عن غيرهم، والعبادة وإن كانت لغة أقصى غاية الذل والخضوع مطلقا، كما في قوله: تبارى عتاقا ناجيات وأتبعت ... وظيفا وظيفا فوق مور معبد فهي في الشرع أخص من ذلك، لأنها اسم للطاعة والانقياد للأوامر الشرعية الدينية التي دعت إليها الرسل، ودلت عليها الكتب السماوية، كما فسر ابن عباس رضي الله عنه قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا} 2 بتوحيده وإخلاص العبادة له، نظرا منه إلى الحقيقة الشرعية لا إلى أصل الأوضاع اللغوية. وقد اعترض ابن جرير هنا بأصل الوضع واللغة، والحق ما قاله ابن عباس خلافا لابن جرير، بدليل قوله تعالى: {لا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} 3، وتعليلهم ما قالوه، بأن العبد لا يخرج عن فعل المولى إلا إذا كان المولى مغلوبا، والله -تعالى- هو الغالب وحده، أو نحو هذا التعليل. فهذا قد احتجوا به على القدرية النفاة، وهو احتجاج صحيح على من نفى القدر، وزعم أن العبد يخلق أفعال نفسه لأن الله -تعالى- لا يعصى عنوة، بل علمه

_ 1 سورة الذاريات آية: 56. 2 سورة البقرة آية: 21. 3 سورة الكافرون آية: 3.

وقدرته وعزته وحكمته وربوبيته العامة، وكلماته التامة التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر مانعة ومبطلة لقول القدرية النفاة. فإن الصحابة قاطبة، وسائر أهل السنة والجماعة متفقون على أنه ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، ويؤمنون بأن الله -تبارك وتعالى- عالم بجميع الكائنات قبل أن تكون كيف تكون؛ وغلاة منكري القدر قد أنكروا هذا العلم، فكفرهم بذلك الأئمة أحمد وغيره. وأما من قال بإثبات القدر، خيره وشره، حلوه ومره، فلا يلزمه ولا يرد عليه ما ورد على القدرية النفاة من لزوم خروج العبد عن فعل المولى. وإن قال: إن العبد قد يخرج عن الإرادة الدينية الشرعية إلى ما يضادها من المعاصي والكفر والفسوق، فيكون بذلك مخالفا للأوامر الشرعية، وإن كان داخلا تحت المشيئة الكونية القدرية. فالخروج عن القدر والمشيئة نوع، والخروج عن الأوامر الشرعية نوع آخر. فالأول غير ممكن لجميع المخلوقات لجريان الأقدار عليهم طوعا وكرها. أما الثاني فيقع من الأكثر: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} 1، ولله –سبحانه وتعالى- في خروج الأكثر عن أمره حكمة، يحبها ويرضاها، لائقة بعلمه وحكمته وعدله وربوبيته، يستحق أن يُحمد عليها. [الأقوال في قوله عز وجل {إلا ليعبدون} ] وقد رأيت لشيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- كلاما حسنا في معنى قوله -تعالى-: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} 2، ذكر فيه ستة أقوال: (أحدها) : قول نفاة الحكم كالأشاعرة ومن وافقهم، كالقاضي أبي يعلى وابن الزاغوني والجويني والباجي، وهو قول جهم بن صفوان، ومن اتبعه من المجبرة، قائلين بنفي الحكمة، وأنها تفضي إلى الحاجة. فنفوا أن يكون في القرآن لام كي، وقالوا: يفعل ما يشاء لا لحكمة، فأثبتوا القدرة والمشيئة

_ 1 سورة يوسف آية: 103. 2 سورة الذاريات آية: 56.

وهذا تعظيم، ونفوا الحكمة لظنهم أنها تستلزم الحاجة. (الثاني) قول المعتزلة ومن وافقهم: وهو أنه -تعالى- يخلق ويأمر لحكمة تعود إلى العباد، وهي نفعهم والإحسان إليهم، فلم يخلق ولم يأمر إلا لذلك، لكن قالوا بأنه يخلق من يتضرر بالخلق، فتناقضوا بذلك. ثم افترقوا على قولين: من أنكر القدر، ووضع لربه شرعا بالتجويز والتعديل، وهذا هو قول القدرية، ومنهم من أقر بالقدر، وقال: حكمته حقت علينا، وهذا قول ابن عقيل وغيره من المثبتين للقدر، فهم يوافقون المعتزلة على إثبات الحكم، وأنها ترجع إلى المخلوق، ويقرون بالقدر. (الثالث) : قول من أثبت حكمة تعود إلى الرب، لكن بحسب علمه فقال: خلقهم ليعبدوه ويحمدوه. فمن وجد منه ذلك فهو مخلوق له وهم المؤمنون، ومن لم يوجد منه ذلك فليس بمخلوق له. وهذه حكمة مقصودة، وهي واقعة، بخلاف الحكمة التي أثبتتها المعتزلة، فإنهم أثبتوا حكمة هي نفع العباد؛ ثم قالوا: خلق من علم أنه لا ينتفع بالخلق، بل يتضرر، فتناقضوا كما تقدم. ونحن أثبتنا حكمة علم أنها تقع فوقعت، وقد يخلق من يتضرر بالخلق لنفع الآخرين، وفعل الشر القليل لأجل الخير الكثير حكمة، كإنزال المطر لأجل نفع العباد، وإن تضرر البعض. قالوا: وفي خلق الكفار وتعذيبهم اعتبار للمؤمنين، وجهادهم ومصالحهم، وهذا اختيار القاضي أبي حازم ابن القاضي أبي يعلى، قالوا: فقوله -تعالى-: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} 1 هو مخصوص بمن وقعت منه العبادة. وهذا قول طائفة من السلف والخلف، وهو قول الكرامية. وعن سعيد بن المسيب في معنى الآية قال: ما خلقت من يعبدني إلا ليعبدني، كذلك قال الضحاك والفراء وابن قتيبة، هذا خاص بأهل طاعته. قال الضحاك: هي للمؤمنين. وهذا اختيار أبي بكر بن

_ 1 سورة الذاريات آية: 56.

الطيب، وأبي يعلى، وغيرهما ممن يقول: لا يفعل لعلة، قالوا: واللفظ لأبي يعلى هذا بمعنى الخصوص، لأن البُله والأطفال والمجانين لا يدخلون تحت الخطاب، وإن كانوا من الإنس، وكذلك الكفار، بدليل قوله -تعالى-: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ} 1، فمن خلق للشقاء ولجهنم لم يخلق للعبادة. (قلت) : قوله: وهذا قول طائفة من السلف والخلف، يعني بالتخصيص في الآية، لا أصل القول الثالث، ثم قال شيخ الإسلام: قلت: قول الكرامية ومن وافقهم، وإن كان أرجح من قول المعتزلة، لما أثبتوه من حكمة الله، وقولهم في تفسير الآية، وإن وافقوا فيه بعض السلف، فهو قول ضعيف، مخالف لقول الجمهور. (والقول الرابع) : إنه على العموم، لكن المراد بالعبادة تعبيده لهم، وقهرهم ونفوذ قدرته ومشيئته فيهم، وأنه أصارهم إلى ما خلقوا له من السعادة والشقاوة، وفسروا العبادة بالتعبيد القدري، وهذا يشبه قول من يقول من المتأخرين: أنا كافر برب يعصى. فإنه جعل كل ما يقع من العباد طاعة، كما قال قائلهم: أصبحت منفعلا لما يختاره ... مني ففعلي كله طاعا وأما هؤلاء فجعلوا عبادة الله كون العباد تحت المشيئة، وكان بعض شيوخهم يقول عن إبليس: إن كان قد عصى الأمر فقد أطاع القدر والمشيئة. وما رواه ابن أبي حاتم عن زيد بن أسلم في قوله: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} 2 قال: جبلهم على الشقاوة والسعادة. وقال وهب: جبلهم على الطاعة، وجبلهم على المعصية. وقد روي أيضا عن طائفة نحوه، وهؤلاء، وإن وافقوا من قبلهم في معنى الآية فهم -أعني زيد بن أسلم ووهب بن منبه- من أعظم الناس

_ 1 سورة الأعراف آية: 179. 2 سورة الذاريات آية: 56.

تعظيما للأمر والنهي والوعد والوعيد، وأما من قبلهم فهم إباحية يسقطون الأمر والنهي. (والقول الخامس) : قول من يقول: إلا ليخضعوا لي، ويذلوا لي، قالوا: ومعنى العبادة في اللغة: الذل والانقياد. وكل مخلوق من الجن والإنس خاضع لقضاء الله، ومتذلل لمشيئته، لا يملك أحد لنفسه خروجا عما خلق له. وقد ذكر أبو الفرج عن ابن عباس: إلا ليقروا بالعبادة طوعا وكرها، قال: وبيان هذا قوله: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} 1، وهذه الآية توافق قول من قال: إلا ليعرفوني -كما سيأتي- وهؤلاء الذين أقروا بأن الله خالقهم، لم يقروا بذلك كرها، بخلاف إسلامهم وخضوعهم له، فإنه يكون كرها، وأما نفس الإقرار فهو فطري فطروا عليه وبذلوه طوعا. وقال السدي: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} 2 قال: خلقهم للعبادة، ولكن من العبادة عبادة تنفع، ومن العبادة عبادة لا تنفع: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ} 3 الآية هذا منهم عبادة، وليس تنفعهم مع شركهم. وهذا المعنى صحيح؛ ولكن المشرك يعبد الشيطان، وما عدل به الله، وهذا ليس مراد الآية، فإن مجرد الإقرار بالصانع لا يسمى عبادة لله مع الشرك به، ولكن يقال كما قال -تعالى-: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} 4. هذا آخر ما وجدت من هذه الرسالة، والحمد لله رب العالمين. وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.

_ 1 سورة لقمان آية: 25. 2 سورة الذاريات آية: 56. 3 سورة لقمان آية: 25. 4 سورة يوسف آية: 106.

الرسالة السادسة والثلاثون: [بيع دين السلم قبل قبضه]

الرسالة السادسة والثلاثون: [بيع دَيْن السَّلَم قبل قبضه] وله أيضا جواب مسائل سُئل عنها، وهذا نصها: (المسألة الأولى) : رجل أعطى رجلا دراهم مضاربة يسلمها في الثمرة، فأسلمها في طعام إلى الحصاد. وبعد ذلك احتاج صاحب الدراهم، وقال لصاحبه: رد علي الدراهم، ويصير لك الطعام المؤجل. (الجواب) : الحمد لله، إن هذا بيع لدَيْن السَّلَم قبل قبضه، وفي الحديث الذي رواه الجماعة: "من ابتاع طعاما فلا يبعه حتى يستوفيه" 1. [الجنب إذا أصابه المطر] (المسألة الثانية) : في الجنب إذا أصابه المطر حتى غسل بدنه وأنقاه، هل يرفع حدثه؟ (الجواب) : الحمد لله، نعم يرتفع إذا نوى رفع الحدث عند إصابة المطر لحديث: "إنما الأعمال بالنيات" 2. [ما ذبح إلى غير القبلة عمدا وسهوا] (المسألة الثالثة) : فيما ذبح إلى غير القبلة عمدا وسهوا. (فالجواب) : إن استقبال القبلة عند الذبح ليس بشرط، ولا واجب، وإنما استحبه بعضهم، ومن تركه فلا حرج عليه. [اختلاج الأعضاء] (المسألة الرابعة) : فيمن يقول إذا أكلته يده، أو شهق: إنه يأكل كذا وكذا، وإذا أكله عقب قدمه قال: إنه يحكي فيه أهل هذا شرك أو لا؟ (فالجواب) : إن الاستدلال بأكل اليد والشهيق، وأكلة العقب على ما ذكر جهل وضلال، من أوضاع الجهلة الضالين، وبعض الرافضة يزعم أن اختلاج الأعضاء يدل على الحوادث، وينسبونه إلى جعفر الباقر؛ وقد ذكر أهل العلم: أنه كذب على جعفر، وأنه من أوضاع الرافضة المشركين

_ 1 البخاري: البيوع (2126) , ومسلم: البيوع (1526) , والنسائي: البيوع (4595 ,4596 ,4604) , وأبو داود: البيوع (3492 ,3495) , وابن ماجه: التجارات (2226) , ومالك: البيوع (1335 ,1336) , والدارمي: البيوع (2559) . 2 البخاري: بدء الوحي (1) , ومسلم: الإمارة (1907) , والترمذي: فضائل الجهاد (1647) , والنسائي: الطهارة (75) والطلاق (3437) والأيمان والنذور (3794) , وأبو داود: الطلاق (2201) , وابن ماجه: الزهد (4227) , وأحمد (1/25 ,1/43) .

الغالين في أهل البيت، سلام الله على أهل بيت رسوله. [أبقى عند صاحبه سلعة، فقال: بعها بعشرة، فباعها بزيادة على العشرة] (المسألة الخامسة) : رجل أبقى عند صاحبه سلعة، فقال: بعها بعشرة، فباعها بزيادة على العشرة، هل يحل للبائع أخذ الزيادة. (فالجواب) : لا يحل له ذلك، والزيادة لصاحب السلعة، والمودع أمين ليست من ضمانه، ولا يستحق شيئا من الزيادة. [التقويم بسعر الوقت] (المسألة السادسة) : رجل له مائة صاع دين سلم، وارتهن نخلا وأرضا، وغير ذلك، فلما مضى أكثر الأجل اتفق الطالب والمطلوب على تقويم ذلك الرهن بثمن حاضر، وحسبوا الطعام المؤجل بسعر وقته بدراهم على صاحب الرهن. (الجواب) : هذا لا يجوز، لأنه اعتياض دراهم زائدة على رأس ماله، فهذا عين الربا، وليس له إلا ما أسلم فيه، ورأس ماله إن اتفقا على فسخ العقد، وأما الربح، والتقويم بسعر الوقت فهذا لا يصح. [قول: يا سيد، ومولاي] (المسألة السابعة) : قول: يا سيد، ومولاي. (فالجواب) : هذه الألفاظ تستعملها العرب على معان، كسادة الرياسة والشرف، والمولى يطلق على السيد والحليف والمعتق والموالي بالنصرة، والمحبة والعشق، وأطلق على الزوج، كما قال -تعالى-: {وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ} 1، فإطلاق هذه الألفاظ على هذا الوجه معروف لا ينكر، وفي السنة من ذلك كثير. وأما إطلاق ذلك في المعاني المحدثة، كمن يدعي أن السيد هو الذي يدعى ويعظم، والولي هو الذي يبغى منه النصر والشفاعة، ونحو ذلك من المقاصد الخبيثة، فهذا لا يجوز، بل هو من أقسام الشرك. [قول: طعامك أو شرابك أو مالك علي حرام] (المسألة الثامنة) : قول الرجل لولده أو غيره: طعامك أو شرابك أو مالك علي حرام.

_ 1 سورة يوسف آية: 25.

(فالجواب) : إن تحريم ما أحل الله لا يحرم بنص القرآن كما في سورة التحريم. واختلفوا هل عليه كفارة يمين أو لا؟ وكثير من أهل العلم يرى أن عليه كفارة يمين. [تقبيل اليد والرِّجل] (المسألة التاسعة) : قُبلة اليد والرِّجل هل هي جائزة أو لا؟ (فالجواب) : إن بعض أهل العلم منعها، وشدد فيها، وبعضهم أجازها لمثل الوالد، وإمام العدل على سبيل التكرمة، ولا يتخذ ذلك ديدنا دائما1 بل في بعض الأحوال على ما ورد. [الرقية بالقرآن إذا كان الراقي يبصق بريقه] (المسألة العاشرة) : في الرقية بالقرآن، إذا كان الراقي يبصق بريقه. (الجواب) : هذا جائز لا بأس به، وريق الراقي على هذه الصفة لا بأس به، بل يستحب الاستشفاء به، كما في حديث الرقية بالفاتحة. وأما ما يفعله بعض الناس مع من يقدم من المدينة، من الاستشفاء بريقهم على الجراح، فهذا لا أصل له، ولم يجئ فيمن أتى من المدينة خصوصية توجب هذا، والحاج أفضل منه. ولا يعرف أن أحدا من أهل العلم فعل هذا مع الحاج، وإنما الوارد الاستشفاء بريق المسلم مع تربة الأرض، إذا سمى الله في ذلك، كما في حديث: "بسم الله، تربة أرضنا، بريقة بعضنا، يشفى سقيمنا بإذن ربنا" 2 فهذه الرقية من المسلم الموحد، على هذا الوجه، قد جاءت بها الأحاديث. [حملت وصار الحمل سقطا يرتفع وينْزل] (وأما مسألة) المرأة التي حملت، وصار الحمل سقطا، يرتفع وينزل، وأخذ ثلاثة عشر سنة، إلى آخر السؤال.

_ 1 الأظهر أن يكون الأصل: ولا دائما، فإن جعله دينا ممنوع، وإن لم يكن دائما، إذ ليس لأحد أن يشرع في الدين عبادة دائمة، ولا موقوتة، وكذلك الدوام ممنوع، ولو لم يجعل دينا يتعبد به بدليل قوله: بل في بعض الأحوال. 2 البخاري: الطب (5745) , ومسلم: السلام (2194) , وأبو داود: الطب (3895) , وابن ماجه: الطب (3521) , وأحمد (6/93) .

(فاعلم) أنه لا حمل بعد أربع سنين على المشهور عند العلماء، وهذه الحركة عرضت بعد الموت، وإذا مات الحمل في بطنها لم يثبت لها أحكام الحمل، فتعتد عدة المتوفى عنها، ولا تلتفت لهذا الحمل، فإنه لا حكم له. [خبر الكاهن] (وأما مسألة) : الكاهن إذا سأله عن دواء مباح، والسائل والمريض مسلمان. (فالجواب) : إن كان خبر الكاهن بالدواء ومنافعه من طريق الكهانة فلا يحل تصديقه، وهو داخل في الوعيد،، وإن كان من جهة الطب، ومعرفة منافع الأدوية فلا يدخل في مسألة الكاهن. وأما من قال لصاحب السلعة: إن خليت عني من قيمة ما يشتري به رفاقتي، أو حصل منك ثمن قهوة، جبرتهم على الشراء منك، فهذا لا يحل، وجبرهم لا يجوز، ولا يستحق هذا شيئا، إلا أن يكون سمسارا يمشي بينهما على العادة المعروفة، فيستحق به العادة للدلال. [إضافة أشياء إلى النجوم] وأما مسألة من يقول في الرياح: هذه هبوب الثريا، هذه هبوب التويبع، هذه هبوب الجوزاء، فهذا لا يجوز، شدد في المنع منه مالك وغيره؛ ولا يجوز إضافة هذه الأشياء إلى النجوم. قال قتادة: خلق الله هذه النجوم لثلاث: زينة السماء، ورجوم للشياطين، وعلامات يهتدى بها. فمن تأول فيها غير ذلك فقد أخطأ وأضاع نصيبه، وتكلف ما لا علم له به. [صلى وعلى رأسه عمامة حرير] وأما من صلى وعلى رأسه عمامة حرير، فالمشهور من مذهب الحنابلة صحة الصلاة، بخلاف ستر العورة بحرير، فإنها لا تصح، وقال بعض أهل العلم بعدم الصحة. [أهل البدع] وأما أهل البدع: فمنهم الخوارج الذين خرجوا على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه وقاتلوه واستباحوا دماء المسلمين، وأموالهم متأولين في ذلك، وأشهر أقوالهم تكفيرهم بما دون الشرك من الذنوب،

فهم يكفرون أهل الكبائر، والمذنبين من هذه الأمة. وقد قاتلهم علي بن أبي طالب، ومن معه من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصحت فيهم الأحاديث. روى مسلم منها عشرة أحاديث، وفيها الأمر بقتالهم، وأنهم شر قتلى تحت أديم السماء، وخير القتلى من قتلوه، وأنهم يقاتلون أهل الإسلام، ويدعون أهل الأوثان. وفي الأحاديث: "يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية، أينما لقيتموهم فاقتلوهم، فإن في قتلهم أجرا لمن قتلهم عند الله" 1. ومن أهل البدع: الرافضة الذين يتبرؤون من أبي بكر وعمر، ويدعون موالاة أهل البيت؛ وهم أكذب الخلق وأضلهم، وأبعدهم عن موالاة أهل البيت، وعباد الله الصالحين. وزادوا في رفضهم حتى سبوا أم المؤمنين -رضي الله عنها وأكرمها-، واستباحوا شتم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه وسلمإلا نفرا يسيرا. وأضافوا إلى هذا المذهب الغالية الذين عبدوا المشايخ والأئمة وعظموهم بعبادتهم، وصرفوا لهم ما يستحقه –سبحانه- من التأله والتعظيم، والإنابة والخوف، والرجاء والتوكل، والرغبة والرهبة، وغير ذلك من أنواع العبادات. وغلاتهم يرون أن عليًّا ينزل في آخر الزمان. ومنهم من يقول غلط الأمين، وكانت النبوة لعلي. وهم جهمية في باب صفات الله، زنادقة منافقون في باب أمره وشرعه. ومن أهل البدع: القدرية الذين يكذبون بالقدر، وبما سبق في أم الكتاب، وجرى به القلم، ومنهم القدرية المجبرة الذين يقولون: إن العبد مجبور، لا فعل له ولا اختيار. ومن أهل البدع: المرجئة الذين يقولون: إن

_ 1 مسلم: الزكاة (1066) , وأحمد (1/91) .

الإيمان هو التصديق، وإنه شيء واحد يتفاضل1.ومن أهل البدع وأكفرهم: الجهمية الذين ينكرون صفات الله التي جاء بها الكتاب والسنة، ويؤولون ذلك، كالاستواء والكلام والمجيء والنّزول والغضب والرضى، والحب والكراهة، وغير ذلك من الصفات الذاتية والفعلية. ومن أهل البدع الضالين: أصحاب الطرائق المحدثة، كالرفاعية والقادرية والبيومية، وأمثالهم كالنقشبندية، وكل من أحدث بدعة لا أصل لها في الكتاب والسنة. [فاتته الجمعة وقد صلاها الإمام قبل الزوال] ومن فاتته الجمعة وقد صلاها الإمام قبل الزوال فيصليها ظهرا بعد الزوال. [صلاة الفذ ركعة خلف الصف] وأما صلاة الفذ ركعة خلف الصف فمقتضى كلام الفقهاء أنه يستأنف الصلاة، ولا يبني، ويدخل في ذلك تكبيرة الإحرام، والله -سبحانه وتعالى- أعلم.

_ 1 كذا في النسخة التي بأيدينا، ولا بد أن يكون الأصل يقولون: إن الإيمان هو التصديق وحده –أي لا يدخل فيه العمل– وإنه شيء واحد لا يتفاضل. فهم كذلك، ولا يكفي هذا في تعريفهم، بل لا بد من بيان أنهم يقولون: إنه لا يضر مع الإيمان ذنب إلخ.

الرسالة السابعة والثلاثون: [الرهن وشروطه]

الرسالة السابعة والثلاثون: [الرهن وشروطه] وله أيضا -قدس الله روحه، ونور ضريحه- في مسألة الرهن ما نصه: (حاصل ما ذكره العلماء في صحة الرهن وفساده ولزومه وعدمه) اتفقوا على أن من شرطه أن يكون إقراره في يد المرتهن من قبل الراهن، وذهب مالك إلى أنه يجوز أن يؤخذ الرهن في جميع الأثمان الواقعة في جميع البياعات إلا الصرف، ورأس مال السلم المتعلق بالذمة؛ وعنده يجوز الرهن في السلم، وفي القرض، وفي الغصب، وفي قيم المتلفات، وأرش الجنايات في الأموال، وفي الجراح التي لا قود فيها، ولا يجوز في الحدود، ولا في القصاص، ولا في الكتابة. واشترط الشافعية في الرهن ثلاثة شروط: (أحدها) : أن لا يكون دينا؛ فإن الدين لا يرهن بعين. (الثاني) : أن يكون واجبا، فلا يرهن قبل الوجوب، مثل أن يسترهنه فيما يستقرضه، ويجوز عند مالك. (الثالث) : أن لا يكون لزومه متوقعا. وأما شروط الرهن، فالمنطوق بها في الشرع ضربان: شروط الصحة، وشروط الفساد. فأما شروط الصحة فشرطان: (أحدهما) : متفق عليه في الجملة. (والثاني) مختلف في اشتراطه، أما القبض فاتفقوا في الجملة على أنه شرط في الرهن، لقول الله: {فَرِهَانٌ

مَقْبُوضَةٌ} 1، واختلفوا: هل هو شرط للتمام أو شرط للصحة؟ وفائدة الفرق أن من قال: هو شرط للصحة قال: ما لم يقع القبض لم يلزم الرهن. وقال مالك: القبض شرط لتمام الرهن، وقال: يلزم بالعقد، ويجبر الراهن على الإقباض إلا أن يتراخى المرتهن عن المطالبة. وذهب الشافعي وأبو حنيفة وأهل الظاهر إلى أنه من شروط الصحة، وعمدتهم قوله -تعالى-: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} 2.وعند مالك أن من شرط صحة الرهن: استدامة القبض، وأنه متى عاد إلى يد الراهن بإذن المرتهن بعارية، أو وديعة، أو غير ذلك فقد خرج من اللزوم. وقال الشافعي: ليس استدامة القبض من شرط الصحة، فمالك عمم الشرط على ظاهر ما لزم من قوله -تعالى-: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} 3، وشرط وجوب القبض: استدامته. والشافعي يقول: إذا وجد القبض فقد صح الرهن والعقد، فلا يحل ذلك بإعارته، ولا غير ذلك من التصرف؛ وقد كان الأولى بمن يشترط القبض في صحة العقد أن يشترط الاستدامة، ومن لم يشترطه في الصحة لا يشترط الاستدامة. وأما الشرط المحرم الممنوع بالنص فهو: أن يرهن الرجل رهنا على أنه إن جاءه بحقه عند أجله، وإلا فالرهن له، فاتفقوا على أن هذا الشرط يوجب الفسخ، وأنه معنى قوله صلى الله عليه وسلم: "ولا يغلق الرهن" 4. ومن مسائل هذا الباب المشهورة: اختلافهم في نماء الرهن المنفصل، مثل الثمرة في الشجر المرهون، ومثل الغلة، هل يدخل في الرهن أو لا؟ فذهب قوم إلى أن نماء الرهن المنفصل لا يدخل شيء منه في الرهن، أعني: الذي يحدث منه في يد المرتهن، وهذا قول الشافعي. وذهب آخرون إلى أن جميع ذلك يدخل، وبه قال أبو حنيفة والثوري. وأما مالك ففرق فقال: ما كان من نماء الرهن المنفصل على خلقة المرهون وصورته، فإنه داخل في الرهن، كولد الجارية، وأما ما لم يكن على خلقته، فإنه لا يدخل في الرهن متولدا عنه، كثمرة النخل، أو غير متولد ككراء الدار، وخراج الغلام. انتهى ما لخصته. فتبين من هذا أن ما اعتمده القاضي حسين لنفسه من دعواه أنه أحق

_ 1 سورة البقرة آية: 283. 2 سورة البقرة آية: 283. 3 سورة البقرة آية: 283. 4 ابن ماجه: الأحكام (2441) , ومالك: الأقضية (1437) .

بالثمرة من سائر الغرماء، لكونها أو أصلها رهنا له، فلا يتمشى على قول أحد من العلماء، فإن الشافعي يشترط لصحة الرهن ولزومه: القبض حال العقد، وفي واقعة القاضي المذكور لا قبض، فلا يصح الرهن ولا يلزم. وأما مالك فيصحح الرهن بالعقد، لكن لا يتم ولا يلزم إلا بالقبض والاستدامة عنده، وهذا هو الصحيح المعتمد في مذاهب أحمد. ومذهب مالك: أن الثمرة الحادثة في يد المرتهن لا تتبع، وفي هذه القضية التي وقعت من قاضي الحريق، إنما حدثت الثمرة فيما لم يقبض، فتكون الثمرة لا يصح رهنها على قول مالك، وعلى قوله، وقول الجمهور ليس صحيحا في الأصل، ولا في الثمرة. وعلى كل حال، فهذا الرهن إما صحيح غير لازم، فيكون أسوة الغرماء، أو يكون فاسدا؛ وعلى كلا الحالين فلا يختص بشيء من ثمرة المدين، أعاذه الله من التدحمل والتدعثر، آخرها والحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.

الرسالة الثامنة والثلاثون: [رفع اليدين إذا قام من التشهد الأول]

الرسالة الثامنة والثلاثون: [رفع اليدين إذا قام من التشهد الأول] وله أيضا -قدس الله روحه- رسالة إلى إبراهيم بن عبد الله بن عمار جوابا لسبع مسائل: (الأولى) : رفع اليدين إذا قام من التشهد الأول. (الثانية) : عن صوم يوم الثلاثين من شعبان إذا حال دون منظره غيم أو قتر. (الثالثة) : عن الرهن، هل القبض والاستدامة شرط للزوم صحته أو لا؟ (الرابعة) : عن الحكم في قطع يد السارق. (الخامسة) : عن الطلاق في الحيض والطهر الذي جامعها فيه. (السادسة) : عن الوقف على الضعيف. (السابعة) : عن عاق والديه، هل عليه حد مقدر؟ فأجاب -رحمه الله- عن مسائله بأصح عبارة، وأوجزها، وقرر في مسألة صيام يوم الشك ما عليه المحققون، وما تضمنته الأحاديث الصحيحة، بخلاف ما اعتمده المقلدون، وإن من صامه من السلف لم يوجبه، ولم يأمر به الناس، ولم يوقع بمن تركه العقوبات، كما فعله أهل الجهل والإفلاس، فإنهم في هذه الأزمان يوجبونه، ويأمرون الناس بالتزامه. ومنهم من ضرب وأجلى من نهى عن صيامه، فياليت شعري، أين وجدوا ذلك؟ وأي الكتب اعتمده أولئك؟ نعم، قد وجد في بعض الروايات الوجوب عن الأصحاب، فأين وجدوا الضرب والجلاء والسباب؟ وإذا قيل لأحدكم: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: قال المذهب كذا، وبه قال الإمام المعظم. فيا ليت شعري كيف ساغ لهم تقليده في هذه، وغيرها من المسائل، ولم يسغ لهم تقليده -رحمه الله- في قوله: عجبت لقوم عرفوا الإسناد وصحته، يذهبون إلى رأي سفيان، والله -تعالى- يقول: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} 1 أتدري ما الفتنة؟ الفتنة: الشرك، لعله إذا رد بعض شيء من قوله أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك. فإذا عرفت هذا، فقد صح الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك كما رواه البخاري في صحيحه، أن رسول الله لى الله عليه وسلم ال: "صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته، فإن غم عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين يوما" 2. والمقصود من هذا الكلام: إيقاع بعضهم بمن نهى عن صيامه أنواع العقوبات، وردهم أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم لبعض هذه الروايات، وهذا نص الرسالة:

_ 1 سورة النور آية: 63. 2 البخاري: الصوم (1909) , ومسلم: الصيام (1081) , والترمذي: الصوم (684) , والنسائي: الصيام (2117 ,2118 ,2119 ,2123) , وابن ماجه: الصيام (1655) , وأحمد (2/259 ,2/263 ,2/281 ,2/287 ,2/415 ,2/422 ,2/430 ,2/438 ,2/454 ,2/456 ,2/469 ,2/497) , والدارمي: الصوم (1685) .

بسم الله الرحمن الرحيم من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى الأخ المكرم: إبراهيم بن عبد الله بن عمار -سلمه الله، وصرف عنا وعنه عذاب النار-. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد. فوصل خط السائل، والجواب عن مسألة رفع اليدين إذا قام في التشهد الأول، فهو في هذا الموضع ثابت في الصحيح من حديث عبد الله بن عمر، وثابت أيضا من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه عند الإمام أحمد، خرجه في المسند، وكذلك في سنن أبي داود والنسائي وابن ماجه، وهو أصح الروايتين عند أصحاب الإمام أحمد. [صيام يوم الثلاثين من شعبان] وأما مسألة: السنة لمن صام يوم الثلاثين من شعبان، إذا حال -ليلة الثلاثين- دون الهلال غم أو قتر. فالقائلون بصومه -وجوبا أو استحبابا- يجزيه عندهم إذا نواه من رمضان، والصحيح الذي عليه المحققون: أنه لا يجب صومه، ولا يؤمر به، ومن صامه من السلف لم يوجبه. والحُجَّة لمن منع صومه –مطلقا- ما في صحيح البخاري، أنه قال صلى الله عليه وسلم "صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته، فإن غم عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين يوما" 1 انتهى، وليس لأحد بلغته سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وصح عنده الحديث أن يعدل إلى غيره لرأي أحد من الناس، كائنا من كان. أقول: وله في هذه المسألة كلام مبسوط، رد على عثمان بن منصور، أوضح فيه كلام الأئمة، وجلى غياهب الشُّبه فيه عن الأمة، فأبصروا بنور الله حقائق التحقيق ومدارك الأحكام، وانجلى عن بصائرهم ذلك القتر

_ 1 البخاري: الصوم (1909) , ومسلم: الصيام (1081) , والترمذي: الصوم (684) , والنسائي: الصيام (2117 ,2118 ,2119 ,2123) , وابن ماجه: الصيام (1655) , وأحمد (2/259 ,2/263 ,2/281 ,2/287 ,2/415 ,2/422 ,2/430 ,2/438 ,2/454 ,2/456 ,2/469 ,2/497) , والدارمي: الصوم (1685) .

والقتام، وذكر فيه عن الإمام أحمد سبع روايات أوردها بعض الأصحاب والصحيح منها: الاستحباب من غير شك ولا ارتياب. فراجعه إن كنت مشتاقا إلى ذلك التحقيق، واسمُ بهمتك إلى معالم ذلك المهيع والطريق. [هل القبض والاستدامة شرط للزوم صحة الرهن؟] ثم قال -رحمه الله-: وأما مسألة الرهن، فاعلم أن القبض والاستدامة شرط للزومه لا لصحته؛ فيصح ولو لم يحصل قبض ولا استدامة، لكن لو تصرف الراهن ببيع أو هبة صح ذلك، بخلاف المقبوض المستدام فلا يتصرف فيه إلا بإذن المرتهن، ولمصلحة وفائه. [قطع يد السارق] وأما السارق فلا تقطع يده إلا بإذن الإمام أو نائبه في الحكم. [الطلاق في الحيض والطهر الذي جامعها فيه] وأما مسألة الطلاق في الحيض، وفي الطهر الذي جامعها فيه، فمسألة معروفة مشهورة، وجمهور أهل العلم يوقعون الطلاق فيها، ويرون أنه طلاق بدعة محرم، فاعله مستهزئ بآيات الله. [الوقف على الضعيف] وأما الوقف على الضعيف، فكثير من الناس يستعمل الضعيف بمعنى الفقير، والفقير عندهم من لا يجد كفاية، ولو بالقدرة على الكسب، والفقراء متفاوتون بعضهم أحوج من بعض، فيلزم الناظر أن يعطي كلا بحسبه. [عاق والديه هل عليه حد مقدر؟] وأما عاق والديه فليس عليه حد مقدر، لكن يعزر بقدر ما يردعه، ويردع أمثاله. وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم تسليما.

الرسالة التاسعة والثلاثون: [تكفير من أنكر الاستواء على العرش]

الرسالة التاسعة والثلاثون: [تكفير من أنكر الاستواء على العرش] وله أيضا -قدس الله روحه، ونور ضريحه- رسالة إلى عبد الله بن عمير صاحب الأحساء، لما بلغه مسبة مشائخ المسلمين، والوقوع في أعراضهم، ليتوصل هو وإخوانه بذلك إلى أغراضهم، من القدح فيما عليه المشايخ من العقيدة والدين، ونسبهم إلى تكفير المؤمنين والمسلمين، مع ما هو قائم به وأخدانه من أهل الأحساء من سوء العقيدة، وسلوك طريق أهل البدع والأهواء، ممن ينتسب في العقيدة إلى الأشعرية من تلامذة الجهمية الجاحدين لعلوه –سبحانه- على خلقه، واستوائه على عرشه، خلاف العقيدة المرْضِية والطريقة السلفية. وقد اتهم بإلقاء ورقة فيها الطعن في عقيدة من دعا الناس إلى عبادة الله، وترك عبادة ما سواه، وكذلك الطعن على الشيخ العلامة، والإمام الفاضل الفهامة الشيخ: عبد الرحمن بن حسن بأنه قبل جوائز ابن بنيان، وأنه بنى بيته من أموال محرمة. وحاشا لله، فقد برأ الله الشيخ من ذلك وكرمه، فإنه لو فرض وجود ذلك في بيت مال المسلمين، فلا يقتضي تحريمه على من خفي عليه عين ذلك، ولا نميز لديه بما اغتصبه أولئك، والمسؤول عن التخليط أولو الأمر من الأئمة، لا من أخذه ولم يعلم عينه، دع من قصد ذلك وأَمَّهُ، كما ستقف عليه من كلام الأئمة الفحول، الذين لهم دراية بالفروع والأصول، وهذا نص الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى: عبد الله بن عمير. سلام على عباد الله الصالحين. وبعد فقد بلغنا ما أنت عليه، أنت ومن غرك وأغواك، من مسبة مشايخ المسلمين، والقدح فيما هم عليه من العقيدة والدين، ونسبتهم إلى تكفير المؤمنين والمسلمين، وقد عرفت أني لما أتيتكم عام أربع وستين، بلغني أنك على طريقة من ينتسب إلى الأشعري، من تلامذة الجهمية الذين جحدوا

علوه -تعالى- على خلقه، واستواءه على عرشه، وزعموا أن كتابه الكريم، الذي نزل به جبرائيل على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم عبارة أو حكاية عما في نفس الباري، لا أنه تكلم به حقيقة، وسمع كلامه الروح الأمين، وكذلك بقية الصفات التي ذهب الأشاعرة فيها إلى خلاف ما كان عليه سلف الأمة وأئمتها1. ونقل عنك ما كنت تنتحله، من تصحيح العقود الباطلة في الإجارات، وشافهتك في البحث عن بعض ذلك فاعتذرت، وتنصلت وطلبت الكف عن هذه المادة، وأنك لا تعود إلى شيء من ذلك، فجريت معك بالسيرة الشرعية في الكف عمن أظهر الخير والتزمه، وترك السرائر إلى الله الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور. وقد بلغنا عنك بعد ذلك أنك أبديت لأخدانك وجلسائك شيئا مما تقدمت الإشارة إليه، من السباب والقدح، لا سيما إذا خلوت بمن يعظمك، ويعتقد فيك من أسافل الناس وسقطهم، الذين لا رغبة لهم فيما جاءت به الرسل، من معرفة الله ومعرفة دينه وحقه، وما شرع من حقوق عباده المؤمنين، وقد عرفت يا عبد الله أن من باح بمثل هذا، وأظهر ما انطوى عليه من سوء المعتقد، وطعن في شيء من مباني الإسلام وأصول الإيمان، فدمه هدر وقتله حتم. وقد حكى ابن القيم -رحمه الله- عن خمسمائة إمام من أئمة الإسلام،

_ 1 قد فتن جماهير الأشاعرة في القرون الوسطى بنظريات المعتزلة والفلاسفة، فتأولوا صفات الله -تعالى- بما يخالف هدي السلف، مع أن الأشعري نفسه رجع إلى مذهب السلف، في آخر أمره، كما فصله في كتابه "الإنابة"، فالظاهر من قول الشيخ: "طريقة من ينتسب إلى الأشعري" أنه يبرّئ الأشعري من هذا التأويلات، وإنما يلصقها بالذين كانوا دائما يطعنون بالحنابلة وأهل الحديث، وينبزونهم بالألقاب.

ومفاتيه العظام أنهم كفّروا من أنكر الاستواء، وزعم أنه بمعنى الاستيلاء، ومن جملتهم إمامك الشافعي -رحمه الله-، وجملة من أشياخه كمالك وعبد الرحمن بن مهدي والسفيانين، ومن أصحابه أبو يعقوب البويطي والمزني، وبعدهم إمام الأئمة ابن خزيمة الشافعي، وابن سريج، وخلق كثير. وقولنا: إمامك الشافعي مجاراة للنسبة، ومجرد الدعوى، وإلا فنحن نعلم أنكم بمعزل عن طريقته في الأصول، وكثير من الفروع، كما هو معروف عند أهل العلم والمعرفة. [تكفير من أجاز دعاء غير الله والتوكل عليه] وأما تكفير من أجاز دعاء غير الله، والتوكل على سواه، واتخاذ الوسائط بين العباد وبين الله في قضاء حاجاتهم، وتفريج كرباتهم، وإغاثة لهفاتهم، وغير ذلك من أنواع عباداتهم، فكلامهم فيه، وفي تكفير من فعله أكثر من أن يحاط به ويحصر. وقد حكى الإجماع عليه غير واحد ممن يقتدى به ويُرجَع إليه من مشايخ الإسلام، والأئمة الكرام، ونحن قد جرينا على سنتهم في ذلك، وسلكنا منهاجهم فيما هنالك، لم نكفر أحدا إلا من كفره الله ورسوله، وتواترت نصوص أهل العلم على تكفيره، ممن أشرك بالله، وعدل به سواه، أو عطل صفات كماله، ونعوت جلاله، أو زعم أن لأرواح المشايخ والصالحين تصرفا وتدبيرا مع الله؛ تعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا. وقد رأيت ورقة، فيها الطعن على من دعا الناس إلى توحيد الله، وما دلت عليه كلمة الإخلاص من الإيمان به، والكفر بالطاغوت، وبعبادة سواه -تعالى- وفيها ذم من قرر للناس أن دعاء مثل الحسين وعلي والعباس وعبد القادر، وغيرهم ممن يدعى مع الله هو الشرك الأكبر، البواح الجلي، الذي لا يغفر إلا بالتوبة والتزام الإسلام. وقرر أن هذا ونحوه هو ما كانت عليه العرب في عباداتها الملائكة والأوثان والأصنام، قبل ظهور الإيمان

والإسلام. وفي ورقة المشبه المبطل أنكم كفّرتم خير أمة أخرجت للناس، وقصده هؤلاء المشركون، وزعم أنهم هم الأمة الوسط، وأنهم صفوف أهل الجنة، وأنهم عتقاء الله في شهر الصيام، وأن من كفّرهم فقد كفّر أمة محمد لأنهم يتكلمون بالشهادتين. وهذا الكلام من أوضح الأدلة وأبينها على ضلال مبديه، وسفاهة ملقيه، وأنه أضل من الأنعام، ويكفي في رده مجرد حكايته، فإن الفطر السليمة تقضي برده وبطلانه، والأدلة من الكتاب والسنة والإجماع تدل على أن قائله عدو النصوص، والفطرة والعقل والنظر، ولا يبعد أنه تلقاه من مثلك، ووصل إليه من أبناء جنسك. وما أظن اجتماعك بهذا الضرب من الناس إلا على هذا، وجنسه من الشبهات والجهالات التي حاصلها القدح في أصول الإيمان، وعيب أهله وذمهم، و: {لِكُلِّ نَبَأٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} 1. [إطلاق لفظ الأمة والخطاب المخصوص في قوله: " كنتم خير أمة"] وهذه الشبه يعرف فسادها كل من كانت له ممارسة في العلم -وإن قلّت- فإن لفظ الأمة -مفردا ومضافا- يقع على المستجيب المهتدي، ويقع –أيضا- على المكذب المعاند، فالأول كقوله -تعالى-: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} 2، وقوله: {أُمَّةً وَسَطاً} 3، وقوله: {وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ} 4، وفي الحديث: "أنتم توفون سبعين أمة، أنتم خيرها وأكرمها على الله" 5، وفيه: " إن أهل الجنة مائة وعشرون صفا، هذه الأمة منها ثمانون" 6.فهذا ونحوه يطلق ويراد به المؤمنون والمسلمون. وقد يطلق هذا اللفظ ويتناول المكذبين والضالين، كما قال -تعالى-: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ} 7، فأطلق الأمة على الفريقين، وتناول لفظها

_ 1 سورة الأنعام آية: 67. 2 سورة آل عمران آية: 110. 3 سورة البقرة آية: 143. 4 سورة الأعراف آية: 181. 5 الترمذي: تفسير القرآن (3001) , وابن ماجه: الزهد (4287 ,4288) , والدارمي: الرقاق (2760) . 6 أحمد (1/453) . 7 سورة النحل آية: 36.

الحزبين. وكذلك قوله: {وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلا فِيهَا نَذِيرٌ} 1، وقع الاسم على من أجاب النذير ومن عصاه، وقوله في خصوص هذه الأمة: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيداً يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً} 2.فالإشارة في الآية إلى هذه الأمة، وقد نص على أن منهم من كفر وعصى الرسول، وكذلك قوله -تعالى-: {وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً ثُمَّ لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ} 3، وقوله: {وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيداً عَلَى هَؤُلاءِ} 4، وقوله -تعالى-: {وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا} 5 الآيتين، فانظر إلى ما دلت عليه الآيات من التقسيم، إن كنت ذا عقل سليم. وفي الحديث: "افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة، وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة" 6، وفي الحديث: "والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به، إلا كان من أصحاب النار" 7، وفيه: "القدرية مجوس هذه الأمة" 8. وخرّج ابن ماجه عن ابن عباس وجابر: "صنفان من أمتي ليس لهما في الإسلام نصيب: المرجئة والقدرية " 9. إذا عرفت هذا فاعلم أن نفس الآية التي يوردها المبطل وهي قوله -تعالى-: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} 10 فيها الدليل الكافي والبرهان الشافي على إبطال قول المشبه المرتاب، ورد شبهته؛ فإن الخطاب في هذه الآية مخصوص بأهل الإيمان، الذي أصله ورأسه معرفة الله وتوحيده، وإخلاص العبادة له، وهو الذي دلت عليه كلمة الإخلاص، ومن عدا هؤلاء ليس

_ 1 سورة فاطر آية: 24. 2 سورة النساء آية: 41. 3 سورة النحل آية: 84. 4 سورة النحل آية: 89. 5 سورة الجاثية آية: 28. 6 الترمذي: الإيمان (2640) , وأبو داود: السنة (4596) , وأحمد (2/332) . 7 مسلم: الإيمان (153) , وأحمد (2/317 ,2/350) . 8 أبو داود: السنة (4691) , وأحمد (2/86) . 9 الترمذي: القدر (2149) , وابن ماجه: المقدمة (62) . 10 سورة آل عمران آية: 110.

بداخل في أصل الخطاب، بل هو ساقط من أول رتب الأعداد، كما لا يخفى إلا على من طبع الله على قلبه. (الثاني) : أنه ذكر العلة والمقتضي بقوله: {تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} 1 وتعليق الحكم بالمشتق يؤذن بالعلة؛ وأحق الناس بهذا الوصف وأولاهم به من دعا إلى توحيد الله، وخلع ما سواه، من الأنداد والآلهة، وقرر أن دعاء عبد القادر وأمثاله هو الشرك الأكبر، الذي يحول بين العبد وبين الإسلام والإيمان، وأن أهله ممن عدل بالله، وسوّى برب العالمين سواه، بل قد وصلوا في عبادتهم للمشايخ والأولياء إلى غاية ما وصل إليها مشركو العرب، كما يعرف ذلك من عرف الإسلام، وما كانت عليه الجاهلية قبل ظهوره. فمقت هؤلاء المشركين وعيبهم وذمهم وتكفيرهم والبراءة منهم هو حقيقة الدين، والوسيلة العظمى إلى رب العالمين؛ ولا طيب لحياة مسلم وعيشه إلا بجهاد هؤلاء ومراغمتهم وتكفيرهم، والتقرب إلى الله بذلك واحتسابه لديه: {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} 2.فهذا المقام الشريف، والوصف المنيف، هو الذي أنكرتموه، واستحللتم به أعراض المسلمين، ورميتموهم لأجله بالعظائم، وإلى الله نمضي جميعا وعنده تنكشف السرائر، وتبدو مخبآت الضمائر، ويعلم من عادى حزبه وأولياءه، ووالى حربه وأعداءه، ماذا جنى على نفسه، وأي الفريقين أولى به، وأي الدارين أليق به، فالمرء مع من أحب ونصر ووالى شاء أم أبى. وهل حدث الشرك في الأرض إلا برأي أمثال هؤلاء المخالفين الذين يظهرون للناس في زي العلماء، وملابس الصلحاء؟ وهم من أبعد خلق الله عما جاءت به الرسل من توحيده ومعرفته، والدعاء إلى سبيله؛ بل هم

_ 1 سورة آل عمران آية: 110. 2 سورة الشعراء آية: 88.

جند محضرون للقباب وعابديها. وقد عقدوا الهدنة والمؤاخاة بينهم وبين من عبد الأنبياء والمشايخ، وأوهموهم أنهم إذا أتوا بالشهادتين، واستقبلوا القبلة لا يضرهم مع ذلك شرك ولا تعطيل، وأنهم هم المسلمون، وهم خير أمة أخرجت للناس، وهم صفوف أهل الجنة؛ فاغتروا بهذا القول منهم، وغلوا في شركهم وضلالهم، حتى جعلوا لمعبوديهم التصرف والتدبير، والتأثير من دون الله رب العالمين. فهل ترى، يا ذا العقل السليم، أضل وأجهل ممن هذا شأنه، وهذه طريقه وعقيدته؟ وإن كان في هذه المظاهر الظاهرة، والرسوم الشائعة، معدودا من أهل العلم بالشرع والإسلام، فهو والله أضل من سائمة الأنعام. وأهل العلم والإيمان لا يختلفون في أن من صدر منه قول أو فعل يقتضي كفره أو شركه أو فسقه، أنه يحكم عليه بمقتضى ذلك، وإن كان ممن يقر بالشهادتين، ويأتي ببعض الأركان، وإنما يكف عن الكافر الأصلي إذا أتى بهما، ولم يتبين منه خلافهما ومناقضتهما، وهذا لا يخفى على صغار الطلبة. وقد ذكروه في المختصرات من كل مذهب، وهو في مواضع من كتاب الروض، الذي تزعم أنك تقرأه، وتدري ما فيه. ولكن الأمر كما قال -تعالى-: {وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً} 1 الآية. بل قد ذكروا أنه من أنكر فرعا مجمعا عليه كتوريث البنت والجد أنه يكفر بذلك، ولا يكون من خير أمة أخرجت للناس، وهذا منصوص في كتب الشافعية وغيرهم، فكيف ترى يا هذا فيمن أنكر التوحيد، الذي هو حق الله على العبيد، ودان بمحض الشرك والتنديد؟ فقاتل الله الجهل، ماذا يفعل بأهله! (الثالث) : قوله –تعالى-: {تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} ، وأصل الإيمان بالله: هو عبادته وحده لا شريك له، وقد فسره النبي –صلى الله عليه وسلم- بذلك في حديث

_ 1 سورة المائدة آية: 41.

وفد عبد القيس. هذا هو الإيمان الذي اختص به المؤمنون، وجحده المشركون، وفيه وقع النّزاع، وله شرع الجهاد، وانقسم العباد. وقد ابتليت أنت بأمور أوجبت لك الجهل بأصل الإسلام، وعدم الرغبة في البحث عن قواعده، ومبانيه العظام، من ذلك أنك تبعث مشايخ الطوائف الذين جعلتموهم من خير أمة أخرجت للناس، في طلب العلم والأخذ به، وهم قد خفي عليهم معنى كلمة الإخلاص، التي هي أصل الدين، وما دلت عليه من وجوب عبادة الله رب العالمين، والبراءة من دين الجهلة المشركين. وأكثرهم يقرر أن معناها إثبات قدرته على الاختراع، ونفي ذلك عما سوى الله، والإله عندهم هو القادر على الاختراع. وبعضهم يرى أن الفناء في توحيد الربوبية هو الغاية التي شمر إليها السالكون، وبعضهم قرر أن معناها أنه -تعالى- هو الغني عما سواه، المفتقر إليه كل ما عداه، كما يذكر عن "السنوسي" صاحب الكبرى في العقائد المبتدعة1. [كلمة التوحيد وما تدل عليه من المعاني] وهذه المعاني ليست هي المقصودة بالوضع والأصالة من هذه الكلمة الشريفة، التي هي الفارقة بين المسلم والكافر؛ وأكثر الكفار لا ينازعون في قدرة الرب وغناه. وإنما المقصود بالوضع: نفي الإلهية واستحقاق العبادة عن غيره، وإثباتها له -تعالى- على أكمل الوجوه وأتمها، كما يعلم من كتب اللغة والتفسير، وكلام أئمة العلم، الذين إليهم المرجع في هذا الشأن. والمعنى الأول

_ 1 معنى كون عقائد "السنوسي" الكبرى مبتدعة: أنها مبنية على اصطلاحات علوم المنطق والكلام والفلسفة، لا على منهج القرآن والسنة، وآثار سلف الأمة الصالح، وقد عد أئمة السلف الكلام من البدع، وحكى بعض نصوصهم "الغزالي" في الإحياء، واعتذر عنها بأن الكلام ليس من علوم الدين، ولكن عرضت له الضرورة، فهو كحرس الحاج الذي يحميهم من قطاع الطريق. ولكن الحق أن سلوك منهج النصوص أقوى في حماية الدين.

لازم للمعنى المراد، لا ينفك عنه، لأنه المقصود بالوضع والأصالة، فإن المستحق لأنْ يعبد ويعظم، ويقصد دون غيره، لا بد أن يكون قادرا غنيا، ومن عداه فقيرا محتاجا، لا قدرة له. فبهذا السبب خفي عليك ما هو واضح في نفسه، ولولا حجاب التقليد، وحسن الظن بهؤلاء الطوائف لاتَّضَح الحكم لديك، ولم يخفَ أمره عليك. ومنها أنك رغبت عن الطريقة الشرعية، والمحجة الواضحة السويّة، وأخذت عن حسين النقشبندي طريقة مبتدعة، وعبادة مخترعة، لا أصل لها في شريعة محمد صلى الله عليه وسلم1 وأنت ظننتها الغاية المقصودة، والدرة المفقودة، وهي البدع المضلة الخارجة عن المنهاج والملة. وقد نص العلماء الأعلام على دخولها فيما حذر عنه نبينا -عليه أفضل الصلاة والسلام- في غير ما حديث، كحديث العرباض بن سارية، وحديث ابن مسعود، وحديث حذيفة، وغيرهم. وقد اشتملت هذه الطريقة على خلوات ورياضات، مخالفة لواضح الأخبار والآيات، قال الله -تعالى-: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} 2، وقال -تعالى-: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ} 3. ومن المعروف عن أهل العلم والتجربة أن المعتني بهذه الخلوات والرياضات المبتدعة، يحصل له تنزل شيطاني، وخطاب شيطاني، وبعضهم تطير به الشياطين من مكان إلى مكان، ومن بلد إلى بلد4؛ ومن طلب التنزل الرحماني الرباني الإلهي

_ 1 يعني الشيخ بهذا ما يسمونه الرابطة، وهي أن يتخيل مريد الذكر شيخه، أو بعض شيوخ الطريقة الموتى، فيمثله أمامه، وقلبه متصلا بقلبه يمده – فعد هذا من العبادة شرك صريح، ويقل فهم من لا يقصد به العبادة، ويعده عادة مفيدة في السلوك، لا قربة شرعية. 2 سورة الشورى آية: 21. 3 سورة الأعراف آية: 3. 4 قال بهذا بعض الأجلاء، وما أظنه يثبت.

من غير طريقة رسول الله صلى الله عليه وسلم يبتلى بالتنزل الشيطاني. وبعض هؤلاء يقول: ذكر العامة "لا إله إلا الله"، وذكر الخاصة "الله الله"، وذكر خاصة الخاصة "هو هو". وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أفضل الكلام بعد القرآن أربع، وهن من القرآن: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر" 1 2.والاسم المفرد -مظهرا أو مضمرا- ليس بذكر، ولا كلام، ولم يرد ما يدل على مشروعيته، وعمدتهم في ذلك طلب تفريغ الخاطر من الواردات، وجمع القلب حتى تستعد النفس لما ينزل عليها، وقد خفي على هؤلاء المبتدعة أن الوارد الشرعي الديني ممنوع ومحظور على من لم يأت من الباب النبوي، والطريق المحمدي، وأن السنة كسفينة نوح من ركبها نجا، ومن تخلف عنها هلك. [ذكر الله حصن حصين من الشيطان] وقد دل الكتاب والسنة على أن التحصن من الشيطان لا يحصل إلا بذكر الله، وعدم فراغ الذهن والقلب من ذلك قال -تعالى-: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} 3 الآية، وفي حديث يحيى بن زكريا: " وآمركم بذكر الله، فإن مثل ذلك كمثل رجل جد العدو في طلبه فأوى إلى حصن حصين ". [القول بأن النبوة مكتسبة] وبعضهم آل القول به إلى القول بأن النبوة مكتسبة، وأنه قد حصل له مثل ما حصل للأنبياء. وأعظم هذه الكفريات سببها الخروج عما شرعه الله ورسوله، ومن ابتلي بشيء منها، فاته من العلم والهدى بحسب ما فيه، ولولا الامتحان والابتلاء، لما سارعت وهرولت إلى هذا النقشبندي، مع خلعه لربقة الإسلام، وتركه لما عليه العلماء الأعلام، ثم ابتليت بسميّه، مع ما هو فيه من الريب في هذه الدعوة الإسلامية

_ 1 مسلم: الآداب (2137) , وأحمد (5/10 ,5/11 ,5/21) . 2 ذكره في الجامع الصغير، بعلامة الإمام أحمد عن رجل، وعلّم عليه بالصحة. ولكن ليس فيه ذكر القرآن، فلعلها رواية أخرى. 3 سورة الزخرف آية: 36.

التي مَنَّ الله بها في هذه الأزمان، التي هي أشبه بأيام الفترات، لبعد العهد، وغربة الدين. والذباب يأبى إلا السقوط على العذرة، وقد ابتليت وابتلي صاحبك بعيب أهلها وذمهم، وموالاة أعدائهم، الذين هم ما بين جهمي أو رافضي، أو من عباد القبور، وغرك ما يعِده ويُمَنِّيه من نيل رتبة القضاء، "ودون عليان القتادة والخرط". المسلمون في حرج من كون مثلك يؤم في المساجد، وينتصب في المدارس، فكيف بالقضاء ونحوه، يأبى الله ذلك والمؤمنون، وإن مناك به الجهلة المبطلون. واعلم أن إمامنا -وفقه الله تعالى- على طريقة أسلافه وأعمامه في الدعوة الإسلامية، وحماية هذا الدين. وأخشى إن كثر فيك القول، وظهر له منك ما أشرنا إليه من الجنف والعول، أن يسلك بك مسلك من سلف من أشرار الأحساء الذين لم يقبلوا ما مَنَّ الله به من النور والهدى، فأوقع بهم الإمام "سعود" من بأسه ما خمدت به نار الفتنة والجحود. كأني بكم والليت آخر قولكم ... ألا ليتنا كنا إذ الليت لا يغني [أموال السلطان وجوائز الأمراء] (فصل) وأما طعنكم على الشيخ المكرم بأنه قبل جوائز ابن ثنيان، وأنه بنى بيت الشيخ من أموال محرمة، فهذا القول منكم مبني على ما في أول هذه الورقة من الطعن في العقيدة، وأنهم كفّروا خير أمة أخرجت للناس، واستباحوا دماءهم وأموالهم، وجعلوها بيت مال بغير حق شرعي، كما فعل الخوارج المعتدون. هذه عقيدتكم وطريقتكم التي أنتم عليها في أمر هذه الدعوة الإسلامية، وقد أظهرها الله، وأبدى ضغينتكم، وكشف لعباده سريرتكم، قال -تعالى- لنبيه صلى الله عليه وسلم {فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ} 1. وهذا تصريح منكم يعرفه كل عاقل، والإمام وغيره من

_ 1 سورة محمد آية: 30.

ذوي الألباب، يعرفون هذا من نفس خطابكم، وأن تخصيص ابن ثنيان تستر وخوف من السيف، وإلا فهم عندكم على طريقة واحدة، ومذهب واحد. فقد كنت تخفي حب سمراء حقبة ... فبح لان 1 منها بالذي أنت بائح ولو حقق الأمر، لم يوجد عندكم فارق بين ابن ثنيان وغيره. إذا عرف هذا، فلو سلم تسليما صناعيا أن قصدكم الأموال المغصوبة، فوجودها في بيت المال لا يقتضي التحريم على من لم يعلم عين ذلك، ولم يميز لديه، والمسؤول عن التخليط ولي الأمر، لا من أخذ منه، إذا لم يعلم عين المغصوب، وقد ذكر ذلك أئمتكم من الشافعية، وغيرهم من أهل العلم، بل ذكر ابن عبد البر إمام المالكية في وقته أنه لا يعرف تحريم أموال السلاطين عن أحد ممن يعتد به من أهل العلم. وقال في رسالته لمن أنكر عليه ذلك: قل لمن ينكر أكلي ... لطعام الأمراء أنت من جهلك عندي ... بمحل السفهاء فإن الاقتداء بالسلف الماضين هو ملاك الدين. ثم قال بعد ذلك: ومن حكي عنه أنه تركها، كأحمد وابن المبارك وسفيان، وأمثالهم فذاك من باب الزهد في المباحات، وهجر التوسعات، لا لاعتقاد التحريم ... إلى أن قال: وقد قال عثمان رضي الله عنه: جوائز السلطان لحم ظبي ذكيّ، وقد قال ابن مسعود لما سئل عن طعام من لا يجتنب الربا في مكسبه، قال: لك المهنا وعليه المأثم، ما لم تعلم الشيء بعينه حراما.

_ 1 "لان" مخففة من الآن لضرورة الوزن. ولو قال الشاعر: "بح" بغير فاء، لزالت هذه الضرورة.

وحكي عن أحمد -رحمه الله-: جوائز السلطان، أحب إلينا من صلة الإخوان، لأن الإخوان يمنون، والسلطان لا يمن. قال: وكان ابن عمر يقبل جوائز صهره المختار، وكان المختار غير مختار. حكى هذا عنه شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله، وناهيك به حفظا وأمانة- عند الكلام على حديث: "إذا دخل أحدكم بيت أخيه فأطعمه من طعامه، أو سقاه من شرابه، فليأكل من طعامه، وليشرب من شرابه، ولا يسأل عنه" 1 والحديث معروف في السنن. قال الحافظ الذهبي: قيل لعبد الله بن عثمان بن خيثم: ما كان من معاش عطاء؟ قال صلة الإخوان، ونيل السلطان. وهذا مشهور بين أهل العلم، وقد قال صالح بن أحمد لأبيه، لما ترك الأكل مما بيد ولده من أموال الخلفاء: أحرام هي يا أبتِ؟ قال: متى بلغك أن أباك حرمها؟ وأما إذا علم الإنسان عين المال المحرم، لغصب أو غيره، فلا يحل له الأكل بالاتفاق، والمشتبه الذي ندب إلى تركه هو ما لم يعلم حله ولا تحريمه. وأما إذا امتاز بحال، وعرف الحكم، فهو لاحق بالبين لا الاشتباه، وفي دخول أموال السلاطين في المشتبه بحث جيد، لا يخاطب به إلا من سلمت -في السلف الصالح- سريرته، وحسنت في المسلمين عقيدته، والمرتاب يصان عنه العلم، ولا يخاطب إلا بما يزجره ويردعه، وقد قبل النبي صلى الله عليه وسلم الهدايا من المقوقس، وصاحب دومة الجندل، وغيرهما، وهوصلى الله عليه وسلم لا يقبل إلا طيبا، ولا يأكل إلا طيبا. وأموال الكفار لا يبيحها الغصب لمثل المقوقس، وإنما تباح، وتملك بالقهر والغلبة والاستيلاء للمسلمين. وهذا كله منا على سبيل التنزل والمجاراة، وإلا فنحن نعلم أنكم لا تذكرون هذا إلا على سبيل العيب، والمذمة والغيبة لا عن ورع فيكم، ولا تحر للصواب،

_ 1 أحمد (2/399) .

وطلب للفقه لديكم، بل أنتم كما قال -تعالى- في أهل الكتاب: {وَتَرَى كَثِيراً مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الأِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} 1. [شرط حل الأكل من الأوقاف] وقد اشتهر أنكم في المزاحمة على الأموال المحرمة أحمق من نعجة على حوض، وغالب ما في أيديكم من الأوقاف، والريع والمآكل إنما وصل إليكم من جهة من لا يعرف الدعوة الإسلامية، وليست لهم ولاية شرعية، كرؤساء الأحساء قبل المسلمين من آل حميد، والأتراك وتجار البحر، الذين لا يحرمون ما حرم الله ورسوله، ولا يدينون دين الحق، فكيف تلمزون بأمراء المسلمين، وهذا حالكم، وهذه مآكلكم؟ وما فرض من ذلك على الوجه الشرعي فهو لا يباح إلا لمن قام في وظيفة التدريس والإمامة بما شرع الله ورسوله، من دعاء الخلق إلى توحيده، ونهيهم عن الشرك واتخاذ الأنداد معه، وقرر ما تعرّف الله به إلى عباده من صفات كماله، ونعوت جلاله، وأظهر مسبة من جحدها وألحد فيها، ونفى عن كتاب الله تحريف المبطلين، وتأويل الجاهلين، وزيغ الزائغين، وجرد المتابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يتخذ من دون الله ولا رسوله ولا المؤمنين وليجة. ومن لم يكن هكذا فهو غاش للمسلمين، غير ناصح لهم، متشبع بما لم يعط، كلابس ثوبي زور في انتصابه في المدارس والمساجد. والعلم معرفة الهدى بدليله، وإدراك الحكم على ما هو عليه في نفس الأمر، ليس إلا. وأما التَّزَيِّي بالملابس، والتحلي بالمظاهر، والانتصاب في المدارس، من غير غيرة لدين الله، ولا نصرة لأوليائه، ولا مراغمة لأعدائه، ولا دعوة إلى سبيله، فما ذاك إلا حرفة الفارغين البطالين، الذين صحبوا الأماني، وقنعوا من الخَلاق بالخسيس الفاني،

_ 1 سورة المائدة آية: 62.

وهذا لا يفيد إيمان الرجل، فضلا عن كونه عالما. فلا يباح، والحالة هذه لمن كان هكذا أن يحوز أوقافا قصد بها التقرب إلى الله، والإعانة على إظهار دينه، والتماس مرضاته، والدعوة إلى سبيله، ومن أكل منها وهو مجانب لهذه الأوصاف، فقد أكل ما لا يحل له، وما لا يستحقه. وهذا يستفاد من قول الفقهاء: يشترط أن يكون الوقف على جهة بر، ولا يستحقه إلا من كان من أهل تلك الجهة. وفي الحديث: "إن هذا المال حلوة خَضِرة، فمن أخذه بحقه بورك له فيه، ورب متخوض في مال الله بغير حق ليس له يوم القيامة إلا النار" 1، والأوقاف من مال الله. ولهذا عزل الخليفة المتوكل كل من يتهم بشيء من بدعة الجهمية عن المساجد والقضاء وغيره من الوظائف الدينية، وذلك بأمر من الإمام أحمد -رحمه الله-. فإنه -رحمه الله- توجه إليه الفتح بن خاقان -وزير المتوكل- بورقة فيها أسماء القضاة والأئمة، فقرأها الفتح على الإمام، فأمر بعزل من يُعرف منه شيء من ذلك، أو يتهم به، فعُزل خلق كثير، وهو عند المسلمين في ذلك بارّ راشد، متبع لأمر الله ورسوله. [ما جاء في رؤيا الطفيل] (فصل) ما جاء في رؤيا الطفيل: "أنه مر على نفر من اليهود فقال لهم: إنكم لأنتم القوم، لولا أنكم تقولون: عزير ابن الله. قالوا: وأنتم القوم، لولا أنكم تقولون: ما شاء الله وشاء محمد. ومر على ملأ من النصارى فقال: إنكم لأنتم القوم، لولا أنكم تقولون: المسيح ابن الله، قالوا: وأنتم لأنتم القوم، لولا أنكم تقولون: والله والكعبة"2. فأخبر الطفيل برؤياه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنهى الناس عن هذه الأقوال، وقرر حكم هذه الرؤيا. والغرض منها هنا ذكر المشابهة بينكم وبينهم في إدراك الخفي، فما زعمتموه عيبا مع العمى، والجهل بما أنتم عليه، فأعجب لها من نادرة قال حسان:

_ 1 البخاري: فرض الخمس (3118) , والترمذي: الزهد (2374) , وأحمد (6/377) . 2 أحمد (5/72) .

تعدون قتلا في الحرام عظيمة ... وأعظم من ذا لو يرى الرشد راشد صدودكمو عن مسجد الله أهله ... وإخراجكم من كان لله ساجد [كثرة المخالطة لها تأثير ظاهر في الأخلاق والطباع] (تنبيه) طول المعاشرة، وكثرة المخالطة لها تأثير ظاهر، وفعل بيّن في الأخلاق والطباع والشيم والعقائد والديانات، كما هو مشاهد محسوس، حتى إن الإنسان قد يسري إليه ما جبل بعض الحيوانات عليه، كما يشير إليه قوله صلى الله عليه وسلم: " الغلظة في الفدّادين أهل الوبر والشعر، والسكينه في أهل الغنم ". ولا يخفى ما أنتم عليه من كثرة المعاشرة، وطول المزاولة لجيرانكم، الذين ابتلوا بسب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وخيار هذه الأمة، حتى رموهم بما يستحى من ذكره، وكثرة ثنائهم وموالاتهم للزنادقة والكفار من أعداء هذه الملة، ولعل ما جاء عنكم من الذم والقيل، هو من ذلك القبيل. شعر: لما رأت أختها بالأمس قد خرب ... كان الخراب لها أعدى من الجرب [ما قام به والد الشيخ من الإصلاح الديني] وأما عمى بصائركم عمّا منّ الله به على هذا الشيخ، من النعم الباطنة والظاهرة، وكونه نصّب نفسه بحمد الله ومنّته لحماية هذا الدين، والذب عنه، ومراغمة أعدائه، فقام في وجوه من أجاز دعاء غير الله، والاعتماد عليه، والتوكل على غيره، وذم من حسن حالهم، وذب عنهم وتصدى للرد عليه، وتجهيله وتضليله. وقام في وجوه أهل البدع المنكرة كالجهمية والأشاعرة والسالمية والكرامية، وقمعهم الله به، وصاروا في بلدتكم يستترون، وكذلك أهل الموالد والأعياد الجاهلية، كبتهم الله بما أبداه وقرره من عيبهم وتضليلهم، وقد من عليه بنشر العلم، وانتفع الناس به بعدما كاد يعدم في البلاد النجدية، بعد المحنة المصرية، فجدد الله به آثار سلفه الصالح. وجمهور من له معرفة بالعلم، وما جاءت به الرسل من أهل هذه البلاد النجدية إنما تخرّج

عليه، وسمع منه، وتربى بين يديه، ومن لم يحط بهذا فهو دون غيره، كما لا يخفى على عارف. والمنصف من الأعداء يعترف بهذا، وقد عرف العامة والخاصة مناصحته لولاة الأمور، وحثهم على ما ينتفعون به في الدنيا والآخرة، من تحكيم كتاب الله، والجهاد لإعلاء كلمته، ونصحهم عن الإصغاء إلى أهل الريب والشك في الدعوة الإسلامية، والحقائق التوحيدية، الذين يبغونها عوجا، ولا يحبون ظهور هذا الدين وعلوه. فهو قد نصح ولاة الأمر منهم، وكبت الله بسببه وأخزى منهم عددا كثيرا، وهو قائم على قضاة تلك البلاد في النظر في أحكامهم، يرد كثيرا مما أجمع على بطلانه منها، وينقضها بالقانون الشرعي، والمنهاج المرعي، وهذا مشهور لا ينكره إلا مكابر. (شعر) : وما ضر عين الشمس إن كان ناظرا ... إليها عيون لم تزل دهرها عميا وقد عرف من كان له فضل وعلم، أن كلام أمثالكم، وبهت أشباهكم مما يدل على فضله وجلالته وهيبته وفطانته، وأن ذلك مما يزيده الله به -إن شاء- رفعة وشرفا في الدنيا والآخرة، ويوجب -إن شاء الله- حسن العاقبة، قال -تعالى-: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالأِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الأِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ} 1، وقال -تعالى- {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} 2. ومما يستحسن لشيخ الإسلام ابن تيمية -قدس الله روحه، ونور ضريحه- قوله: ولم تكن لي في القلوب مهابة ... لم تكثر الأعداء فيَّ وتقدح كالليث لما هيب خط له الزبى ... وعوت لهيبته الكلاب النبح

_ 1 سورة النور آية: 11. 2 سورة آل عمران آية: 186.

يرمونني شزر العيون لأنني ... غلست في طلب العلا وتصبحوا وقال أبو الطيب: وإذا أتتك مذمتي من ناقص ... فهي الشهادة لي بأني كامل وقد أنطق الله ألسن المسلمين بالثناء والدعاء لهذا الشيخ، ونرجو أن الله يقبل شهادتهم، ويجيب لهم دعوتهم، ويقيل عثرته وعثرتهم. اللهم اغفر لنا ما لا يعلمون، واجعلنا خيرا مما يظنون، والمغرور من اغتر بثناء الناس عليه، ولم يعرف حقيقة ما منه وما لديه، لكن الغرض تعريفك أن كلامكم زاده الله به رفعة وشرفا. كم كان في نكث أسباب العهود بها ... إلى المخدرة العذراء من سبب وأما من بهته فقد أصبح بين أهل الإسلام والكمال كقبر أبي رغال، مرجوما بشهب المذمة والمقال، معدودا في زمرة أهل الغي والضلال. ما يبلغ الأعداء من جاهل ... ما يبلغ الجاهل من نفسه [فضيلة الاشتغال بالحرث والزرع وذم الأكل بالدين] عجيبة عبتم على الشيخ حرثه، وطلبه الرزق باتخاذه النخيل والزروع، مع أن هذا هو حرفة السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، جمهورهم أهل نخيل وحروث، ولما فتحوا خيبر اقتسموها وعاملوا عليها أهلها، وصار لرسول الله صلى الله عليه وسلم سهمه المعروف. ولما أجلى عمر رضي الله عنه اليهود تولى المسلمون العمل فيها بأنفسهم، وهذا معدود من مناقبهم، ولم يذهبوا إلى ما ذهبت إليه اليهود والنصارى، ومن شابههم، من هذه الأمة من الأكل بدينهم، وجعله آلة تكتسب بها الدنيا، ويحتال بها على أكل الحبوس والأوقاف. وكثير من علمائكم جزم بأن الحرث أفضل المكاسب، ونصوصهم موجودة عندكم، ولكن الهوى والعداوة أدياكم إلى أن جعلت المناقب مثالب،

ولا ذنب للشيخ عندكم يقتضي هذا أو يوجبه، لم يحل بينكم وبين مأكلكم ولا رياستكم، ولكن يدعوكم إلى الرغبة في الدين، ونشره في بلاد المسلمين، وترك شبه المرتابين والضالين، والرغبة عن تقليد المشايخ الماضين. (شعر) : أصبحت بين معاشر هجروا الهدى ... وتقبلوا الأخلاق من أسلافهم قوم أحاول رشدهم وكأنما ... حاولت نتف الشعر من آنافهم [الإنكار على الإمام بناء المسجد الجامع] (فصل) بلغنا عن خدنك، ومن يلوذ بك، أنهم أنكروا على الإمام بناء المسجد الجامع، فقيل له: إنه قد بناه سعود -رحمه الله- أولا. فقالوا: هذا من باب قوله -تعالى-: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ} 1، وقالوا: ومن يصلي في هذا، وقد بني من مال حاله كيت وكيت، وهذا يدل على ما قلناه: إن اعتقادكم في الإمام مثل اعتقادكم في ابن ثنيان، سواء بسواء. ومهما تكن عند امرئ من خليقة ... وإن خالها تخفى على الناس تعلم وهذا ثابت بنقل العدد الكثير من أهل نجد والأحساء، وإنكاره مكابرة، ورد للواضحات. وقد علم أن الاقتداء بأهل الدين في البر والخير، والعمل الصالح كبناء المساجد، ورفع شأنها من آكد ما شرع، ومن أفضل ما سعي فيه وصنع، والاستدلال عليه بقوله -تعالى-: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} 2 أقرب للصواب. والله أسأل أن ينصر دينه، ويعلي كلمته، ويحسن العاقبة لعباده المؤمنين، وأوليائه المتقين، إنه ولي ذلك كله، وهو على كل شيء قدير. وصلى الله على نبينا محمد سيد المرسلين، وإمام المتقين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وسلم تسليما كثيرا.

_ 1 سورة الزخرف آية: 23. 2 سورة الأنعام آية: 90.

الرسالة الأربعون: [شبهات الجهمية ونفاة الصفات]

الرسالة الأربعون: [شبهات الجهمية ونفاة الصفات] وله أيضا -قدس الله روحه، ونور ضريحه- رسالة إلى محمد بن عون، رجل من أهل عمان، قد ألقيت إليه شبهات وضلالات، من أضاليل الجهمية النفاة، فبعث بها إلى الشيخ الإمام، وقدوة العلماء الأعلام، الشيخ: عبد اللطيف بن الشيخ عبد الرحمن. فأجاب عليها بأدل دليل وأوضح برهان. وقد سأل هذا الجهمي عن هذه الأسئلة، فمنها قوله: هل لكلمة التوحيد -وهي لا إله إلا الله- شروط وأركان وآداب؟ فإن قلت: نعم، فما هي؟. ومنها قوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} 1 ما معناه: استواؤه مختص بالعرش أو به وبغيره، لأنه -تعالى- ما نفى استواءه من غيره، فإذا زعمت أن استواءه مختص بالعرش، فمن أي شيء علم ذلك؟ وهل أتى -سبحانه- بحروف الحصر، وحروف الاختصاص؟ وهل تعرف حروف الاختصاص، وحروف الحصر أم لا؟ وما هي؟ فإذا قلت -مثلا-: زيد استوى على الدار. فهل علم منه أنه لا يستوي على غيره؟ والعاقل يعلم ذلك بأدنى تأمل. ومنها قوله: وإذا أقررت بأن لله مكانا معينا، فما معنى قوله -تعالى-: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} 2، وقال: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} 3، وقال: {إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ} 4، وقال صلى الله عليه وسلم" حيث ما كنتم فإنه معكم ". فإذا قلت: هذه الآيات مؤولة، وأقررت بالتأويل، فالآية الأولى أولى به لأنها بلا تأويل تخالف الإجماع، وتعارض الآيات والأحاديث. أما الآيات الأخيرة، فقد قيل في الآية الأولى: إنها ليست من المتشابهات لأن الاستواء معلوم، والكيف مجهول، وما نفي الاستواء عن غير العرش، هذا كلامه بحروفه، نقله الشيخ على ما فيه من التحريف واللحن، ليعتبر الناظر، ويعرف المؤمن المثبت حال هؤلاء الجهال الضلال الحيارى. وقد أجاب عليها -رحمه الله- إفادة لمحمد بن عون إذ كان من أهل التوحيد والإثبات، وممن جاهد الجهمية في تلك الجهات، وإلا فليس هذا الجهمي الكافر كفؤا للجواب لأنه من العجم الطغام، بل هو أضل من سائمة الأنعام، إذ لا فكرة ثاقبة، ولا روية كاسبة، ولا طريقة صائبة، يتشبع بما لم يعط من العلم، ويتزيى بزي أهل الذكاء والفهم، وليس له في ذلك ملكة

_ 1 سورة طه آية: 5. 2 سورة البقرة آية: 115. 3 سورة ق آية: 16. 4 سورة سبأ آية: 50.

ولا روية، ولا معرفة له بالعلوم ولا درية، لا يعرف من الإسلام أصلا ولا فرعا، بل هو ممن ضل سعيهم في الحياة الدنيا، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا. وقد موّه هذا الجهمي الكافر بهذه السفسطة والجعجعة،، وهرقع بهذه المخرقة والقعقعة، وظن أن ليس في حمى التوحيد من أهله ضيارم، ولا لتلك الشبه المتهافتة من عالم مصارم. كلا والله، إن الليث مفترش على براثنه، لحماية حمى التوحيد وقاطنه، فلا يأتي صاحب بدعة ليقلع من التوحيد الأواسي، ويهدم منه الرعان الشامخات الرواسي، إلا ودفع في صدره بالدلائل القاطعة، والبراهين المنيرة الساطعة. فرحمه الله من إمام جِهبذ ألمعي، ومقول بارع لوذعي، أحكم وأبرم من الشريعة المطهرة أمراسها، وأوقد منها للورى نبراسها، وسقى عللا بعد نهل غراسها، فأورقت وبسقت أشجارها، وأينعت -بحمد الله- ثمارها، فجنى من ثمارها كل طالب مسترشد، وورد من معينها الصافي كل موحد. إمام هدى فاضت ينابيع علمه ... فأم الأوام الواردون معينها فبلّوا الصدي من صفوها وتضلعوا ... وضعضع من تيارهن مهينها كهذا الذي أبدى معرة جهله ... وكان يرى أن قد أجاد رصينها فضعضعها بالرد والهد جِهبذ ... وأبدى عوارا قد رأى أن يزينها وما هو إلا كالسراب بقيعة ... يلوح لظمآن فلاقى منونها فإن كنت مشتاقا إلى كشف زهوها ... فإن الإمام الشيخ أبدى كمينها وجلّى ظلام الجهل بالعلم مدحضا ... ضلالات كفر غثها وسمينها وأطلع شمس الحق للخلق جهرة ... وشاد لعمري للبرية دينها وقد سمعت أنوار برهان علمه ... وقد بلغت غرب البلاد رصينها وردّ على من ردّ سنة أحمد ... ورام سفاها بالهوى أن يشينها ومن ندّ من أتباع جهم ونحوهم ... وقد رام جهلا أن يهد مكينها بنفي استواء الرب جل جلاله ... على عرشه إذ رام أن يستهينها وقد أوضحت بل صرحت بعلوه ... وقرر أعلام الهدى مستبينها وفي سبع آيات ثبوت استوائه ... على العرش فاقرأ يا مهين رصينها

وهذا جواب إحدى الورقتين التي أرسلها محمد بن عون، وقد تقدم جواب الورقة الثانية فيما سبق، ولم أجدها تامة، لكن لمسيس الحاجة إليها أثبتناها. [إنكار الجهمية لصفات الله وعلوه وزعمهم أنه في كل مكان] بسم الله الرحمن الرحيم من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى الأخ المكرم: محمد بن عون، سلمه الله تعالى وأعانه، وبالعلم كمله وزانه. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: فنحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو على نعمه، جعلنا الله وإياكم من عباده الشاكرين. وسبق إليكم مكاتبات قبل هذا، وقد بلغني ما منَّ الله به عليك من جهادك أهل البدع والإغلاظ، في الإنكار على الجهمية المعطلة ومن والاهم، وهذا من أجلّ النعم وأشرف العطايا، وهو من أوجب الواجبات الدينية. فإن الجهاد بالعلم والحجة مقدم على الجهاد باليد والقتال، وهو من أظهر شعائر السنة وآكدها، وإنما يختص به في كل عصر ومصر أهل السنة، وعسكر القرآن، وأكابر أهل الدين والإيمان، فعليك بالجد والاجتهاد، واعتد به من أفضل الزاد للمعاد، قال -تعالى-: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} 1.هذا وقد ألقي إلي ورقة، جاءت من نحوكم، سودها بعض الجهمية المعطلة، مشتملة على إنكار علو الله على خلقه، واستوائه على عرشه، كما هو رأي جهم وأشياعه، محتجا صاحبها بشبهات كسراب بقيعة، من نظر إليها من أهل العلم والمعرفة تيقن أنه من الأدلة على أن قائله قد عدم

_ 1 سورة غافر آية: 51.

العلم والإيمان والحقيقة، وأنه أضل ممن ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا. وقد أبداه قائله ليتشبع بما لم يعط من العلم، ويتزيا بغير زيه، فكشف الله سوءته، وأبدى خزيه، وصار كلامه دليلا على جهله وعماه، وضلاله عن سبيل رشده وهداه. [شروط وأركان وآداب كلمة الإخلاص] فأول ما رسم في هذه الورقة -المشار إليها- قوله -وفقك الله لأقوم طريق-: هل لكلمة التوحيد -وهي لا إله إلا الله- شروط وأركان وآداب؟ فإن قلت: نعم، فما هي؟ هذا لفظه، وقد عرفت أن هذا الرجل ليس من أهل هذا الفن، ولا يدري ما هنالك، والتوحيد عند هذه الفرقة الجهمية حقيقة تعطيل الأسماء والصفات، لأن عندهم تعدد الصفات يقتضي تعدد الموصوف، والوحدة عندهم والتوحيد ينافي ذلك؛ فيثبتون ذاتا مجردة، وحقيقة مطلقة غير موصوفة بصفة ثبوتية، ويفسرون الواحد بأنه الذي لا يقبل الانقسام. هذا كلام شيوخه وأسلافه من الجهمية الضالين الذين ينكرون العلو والاستواء، ويزعمون أنه بذاته مستو في كل مكان، فما نزّهوه عن شيء من الأماكن القذرة، التي ينزه عنها آحاد خلقه، فما أجرأهم! وما أكفرهم! وما أضلهم عن سواء السبيل!. ومنكر الاستواء هذا توحيده، وهذا رأيه، وأما التوحيد الذي اشتملت عليه كلمة الإخلاص، فهو أجنبي عنه لا يدريه، وكيف يدري ذلك من أنكر أظهر الصفات التي بنيت عليها كلمة الإخلاص، واستحق بها الرب ما له من صفات الإلهية والربوبية والكمال المطلق؟! فما للجهمية وهذا؟ وهم إنما يعبدون عدما؟ وإنما يبحث عن هذا ويدريه من يعبد إلها واحدا فردا صمدا. وشروط كلمة الإخلاص يعرفها بحمد الله صغار الطلبة من المسلمين

أهل الإثبات، ويتبين ذلك بتعريف الشرط: وهو أنه ما يلزم من عدمه العدم، ولا يلزم من وجوده الوجود لذاته. وإذا عرف هذا، فالعقل يلزم من عدمه العدم، والتمييز يلزم من عدمه العدم، والعلم يلزم من عدمه العدم، هذه شروط الصحة. وأما شروط القبول: فالالتزام والإيثار والرضى. وإذا اجتمعت هذه الشروط حصل القول المنجي، والشهادة النافعة، ومصدر هذه الشروط عن علم القلب وعمله، وهناك يصدر التلفظ بها عن يقين وصدق. والجهمية لم يتصفوا بشرط من هذه الشروط، وقد صرح أهل السنة بذلك، وحاجة معطلة الصفات إلى معرفة التوحيد في العبادات كحاجة من عدم الرأس من الحيوانات إلى الرسن. قال أبو الطيب: فقر الجهول بلا علم إلى أدب ... فقر الحمار بلا رأس إلى رسن ولها أيضا شروط منها: معرفة الإله الحق بصفات كماله، ونعوت جلاله، التي علوه وارتفاعه واستواؤه على عرشه من أظهرها وأوجبها، وكذلك معرفة أمره ونهيه ودينه الذي شرعه، والوقوف مع أمر رسوله وحدوده، ومنها كون الطبيعة لينة منقادة سلسلة قابلة. وهذه الشروط معدومة في السائل، قد اتصف بضدها، معبوده مسلوب الصفات، لا وجود له في الحقيقة، وأمره ونهيه منبوذ عند هذه الطائفة، لا يهتدون بكتابه، ولا يأتمرون بأمره، والمعول عندهم على شبهات منطقية، وخيالات كلامية، يسمونها قواطع عقلية، ومقدمات يقينية، ونصوص الكتاب والسنة عندهم ظواهر لفظية، وأدلة ظنية. وأما طبائعهم فأقسى الخلق وأعتاهم وأعظمهم ردا على الرسل، واعتمادا على أقوال الصابئة والفلاسفة، وأمثالهم من شيوخ القوم، الذين لم يلتفتوا إلى ما جاءت به الرسل، ولم يرفعوا به رأسا فضلا عن معرفته

وقبوله، فما لهذا السائل وآداب كلمة الإخلاص؟ وأما الأركان، فركناها: النفي والإثبات؛ نفي استحقاق الإلهية عما سوى الله، وإثباتها لله وحده على وجه الكمال. وأما الآداب: فالدين كله يدخل في مدلولها وآدابها، وأرفع مراتب الآداب وأعلاها مرتبة: الإحسان وهي أعلى مقامات الدين، وبسطها يعلم من معرفة شُعَب الإيمان وواجباته ومستحباته، وعندهم أن الإيمان مجرد التصديق، فلا يشترط عمل القلب وعمل الأركان في حصول الحقيقة المميزة بين المسلم والكافر. هذا رأي الجهمية الجبرية، فالأعمال ليست من مسماه، والتصديق والإخلاص ليسا من أركانه، وهذا يعرفه صغار الطلبة، فكيف يترشح هذا الجهمي لما ليس من فنه ولا من علمه؟ وفي المثل: "ليس هذا عشك فادرجى". والمقصود إفادة مثلك، وأما السائل فليس كفوا للرشاد للهدى. [اختصاص الاستواء بالعرش] ثم قال الجهمي في ورقته: قوله -تعالى-: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} 1 ما معناه؟ استواؤه مختص بالعرش أو به وبغيره؟ لأنه -تعالى- ما نفى استواءه عن غيره، فإذا زعمت أن استواءه مختص بالعرش، فمن أي شيء علم ذلك؟ وهل أتى -سبحانه- بحرف الحصر، وحروف الاختصاص؟ وهل تعرف حروف الاختصاص، وحروف الحصر أم لا؟ وما هي؟ فإذا قلت -مثلا-: زيد استوى على الدار. فهل علم منه أنه لا يستوي على غيره؟ والعاقل يعلم ذلك بأدنى تأمل. اه. وجوابه أن يقال: قد ثبت من غير طريق، عن مالك بن أنس –رحمه الله- وعن شيخه ربيعة بن عبد الرحمن، بل ويروى عن أم سلمة –أم المؤمنين رضي الله عنها- أنهم قالوا: الاستواء معلوم، والكيف مجهول. وفي

_ 1 سورة طه آية: 5.

بعض طرقه: والكيف غير معقول، والسؤال عنه بدعة. وزاد مالك فقال للسائل: وما أراك إلا رجل سوء. وأمر به فأُخرج. وعلى هذا درج أهل السنة، من عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى وقتنا هذا، ولم يخالف في ذلك إلا الطائفة الضالة الملعونة الجهمية وأشياخهم من غلاة الاتحادية والحلولية، وأما أهل السنة فعرفوا المراد وعقلوه، ومنعتهم الخشية والهيبة والإجلال والتعظيم من الخوض والمراء والجدال، والكلام الذي لم يؤثر ولم ينقل. وقد عرفوا المراد من الاستواء، وصرح به أكابر المفسرين، وأهل اللغة، فثبت عنهم تفسيره بالعلو والارتفاع، وبعض أكابرهم صرح بأنه صعد، ولكنهم أحجموا عن مجادلة السفهاء –الجهمية- تعظيما لله، وتنزيها لرب البرية، وإذا أخبر -جل ذكره- أنه استوى على العرش وعلا وارتفع، وكل المخلوقات وسائر الكائنات تحت عرشه، وهو بذاته فوق ذلك، وفي الحديث: "أنت الظاهر فليس فوقك شيء" 1. فإذا عرف هذا، عرف معنى اختصاص العرش بالاستواء، وأن هذه الصفة مختصة بالعرش، وقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم قال للرجل الذي قال له: إنا نستشفع بك على الله، وبالله عليك، قال: "الله أكبر، الله أكبر! إن شأن الله أعظم من ذلك، ويحك! أتدري ما الله؟ الله على عرشه –وأشار بيده كالقبة– وأنه ليئط به أطيط الرحل الجديد براكبه؟ " 2.وهذا الحديث لا يستطيع سماعه الجهمي، ولا يؤمن به إلا أهل السنة والجماعة، الذين عرفوا الله بصفات كماله، وعرفوا عظمته، وأنه لا يليق به غير ما وصف به نفسه، من استوائه على عرشه، ونزهوه أن يستوي على ما لا يليق بكماله، وقدسه من سائر مخلوقاته. [وصف الله بما وصف به نفسه] ومن أصول أهل السنة والجماعة: أنه –سبحانه- لا يوصف إلا بما وصف به نفسه، ولم يصف نفسه بأنه استوى على شيء غير العرش؛ وكذلك رسله وأنبياؤه وورثتهم، لم يصفوه إلا بما وصف به

_ 1 مسلم: الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2713) , والترمذي: الدعوات (3400 ,3481) , وأبو داود: الأدب (5051) , وابن ماجه: الدعاء (3831) , وأحمد (2/381 ,2/404 ,2/536) . 2 أبو داود: السنة (4726) .

نفسه، فإنكار هذا الجهمي اختصاص الاستواء بالعرش، تكذيب لما جاءت به الرسل، ورد لما فطر الله عليه بني آدم، من التوجه إلى جهة العلو، وطلب معبودهم وإلههم فوق سائر الكائنات.: {فَبُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} 1. وتخصيص العرش بالاستواء نص لا2 لم يستو على غيره. والسائل أعجمي، لا خبرة له بموضوع الكلام ودلالاته. قال الحسن في مثل هؤلاء: دهمتهم العجمة. ونفي الاستواء عن غير العرش معلوم من السياق، مع دلالة النص والإجماع والفطرة، كذلك دلالة الأسماء الحسنى، كالعلي والأعلى والظاهر، ونحو ذلك، ولفظ العلو والارتفاع والصعود يشعر بذلك، ويستحيل أن يستوي على شيء مما دون العرش، لوجوب العلو المطلق والفوقية المطلقة. (وأما قوله) : وهل أتى –سبحانه- بحرف الحصر والاختصاص؟ فدلالة الكلام على الحصر والاختصاص تارة تكون بالحروف، وتارة تكون بالتقديم والتأخير، وتارة تكون من السياق، وتارة تكون بالاقتصار على المذكور في الحكم، ولا يختص الاختصاص بالحروف قال –تعالى-: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} 3، وهذا الضمير الظاهر ليس من حروف الحصر، وإنما عرف واستفيد من التقديم والتأخير، وتارة يستفاد من الحروف، كقوله: "إنما الأعمال بالنيات" 5 وكقوله: {أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} 6 وتارة من الاستثناء بإلا بعد النفي كقوله: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} 7،: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ

_ 1 سورة المؤمنون آية: 41. 2 والظاهر أن الأصل: في أنه إلخ. 3 سورة الفاتحة آية: 5. 4 أي من تقديم المفعول وهو "إياك" وتأخير عامله وهو "نعبد" و"نستعين". 5 البخاري: بدء الوحي (1) , ومسلم: الإمارة (1907) , والترمذي: فضائل الجهاد (1647) , والنسائي: الطهارة (75) والطلاق (3437) والأيمان والنذور (3794) , وأبو داود: الطلاق (2201) , وابن ماجه: الزهد (4227) , وأحمد (1/25 ,1/43) . 6 سورة الكهف آية: 110. 7 سورة الأنبياء آية: 107.

خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ} 1،ونحو ذلك. والسائل حصرها يظنها منحصرة في الحروف، وهذا من جهله، ثم يسأل هنا عن أقسام الحصر، كم هي؟ وما الفرق بين حصر الأفراد وحصر القلب؟ والحصر الادعائي ومقابله، ويسأل هل دلالة الحصر نصية أو ظاهرية؟ وهل هي لفظية أو عقلية؟ وما أظنه يحسن شيئا من ذلك، وإذا أخبر -تعالى- أنه استوى على العرش فلا يقال: يجوز أنه استوى على غيره، لوجوه منها: أنه لا يوصف إلا بما وصف به نفسه، والتجاسر على مقام الربوبية بوصفه بما لم يصف به نفسه وزيادة نعت لم يعرف عنه، ولا عن رسله، قول على الله بغير علم، وهو فوق الشرك في عظم الذنب والإثم2؛ وأكذب الخلق من كذب على الله. قال الله: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} 3 إلى قوله: {وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} 4. (الوجه الثاني) : أن الله –سبحانه- يستحق من الصفات أعلاها وأجلها وأشرفها، والعرش أعظم المخلوقات، وهو سقفها الأعلى، وقد وصفه الله -تعالى- بالعظم، فقال: {رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} 5، وقال: {ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ} 6، ووصفه بالسعة فقال: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلا يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} 7. فكيف يوصف بالاستواء على ما دونه، وقد تمدح وأثنى على نفسه باستوائه عليه، ووصفه بما لم يصف به غيره من مخلوقاته. (الوجه الثالث) : أن تمثيله بقول القائل: زيد استوى على الدار، وأن ذلك لا يعلم منه أنه لا يستوي على غيرها، فهذا جهل عظيم؛ والكلام يختلف

_ 1 سورة آل عمران آية: 144. 2 يعني أن هذا النوع من الكفر أعظم إثما من كفر الشرك، واستشهد عليه بالآية التي ذكرت أصول المحرمات بطريقة الترقي من الأدنى إلى ما فوقه تحريما وكفرا، وعال المحقق ابن القيم ذلك بأن الشرك كفر قاصر إثمه على صاحبه. والقول على الله بغير علم كفر متعد يضل به خلق كثير. 3 سورة الأعراف آية: 33. 4 سورة الأعراف آية: 33. 5 سورة التوبة آية: 129. 6 سورة البروج آية: 15. 7 سورة البقرة آية: 255.

باختلاف حال الموصوف، وما يليق له من الصفات، وأصل ضلال هذه الطائفة أنهم فهموا من صفات الله الواردة في الكتاب والسنة ما يليق بالمخلوق ويختص به، فلذلك أخذوا في الإلحاد والتعطيل، شبهوا أولا وعطلوا ثانيا. (الوجه الرابع:) أن هذا التمثيل الذي أبداه السائل قد نص القرآن على إبطاله، قال -تعالى-: {فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} 1؛ وأصل الشرك: تشبيه المخلوق بالخالق. [السؤال عن مكان الله تعالى] (فصل) : قال الجهمي في ورقته: وإذا قررت لله مكانا معينا فما معنى قوله -تعالى-: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} 2، وقال: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} 3، وقال: {قَرِيبٍ} إنه وقال صلى الله عليه وسلم: " حيثما كنتم فإنه معكم ". فإذا قلت: هذه الآيات مؤولة، وأقررت بالتأويل، فالآية الأولى أولى به، لأنها بلا تأويل تخالف الإجماع، وتعارض الآيات والأحاديث، أما الآيات الأخيرة فقد قيل في الأولى: إنها من المتشابهات لأن الاستواء معلوم، والكيف مجهول، وما نفي الاستواء عن غير العرش. هذا كلامه بحروفه نقلناه على ما فيه من التحريف واللحن، ليعتبر الناظر، ويعرف المؤمن المثبت حال هؤلاء الجهال الضلال الحيارى. أما قوله: "فإذا قررت لله مكانا معينا". فاعلم أن أهل السنة والجماعة ورثة الرسل، وأعلام الهدى لا يصفون الله إلا بما وصف به نفسه، أو وصفه به رسوله من غير زيادة ولا نقص، ينتهون حيث انتهى بهم تعظيما للموصوف، وخشية وهيبة وإجلالا. [مذهب أهل البدع في صفات الله تعالى] وأما أهل البدع فيخوضون في ذلك، ويصفونه بما لم يصف به نفسه، ويلحدون فيما وصف به نفسه، أو وصفه به رسوله، ولا يتحاشون من

_ 1 سورة النحل آية: 74. 2 سورة البقرة آية: 115. 3 سورة ق آية: 16.

الكلام في ذلك بالبدع التي لا تعرف. وقد ذم الله هذا الصنف في كتابه، ووصفهم بالخوض بما لم يأتهم عنه، ولا عن رسله. وذكر الله عن أهل النار أنهم قالوا لما قيل لهم: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ} 1، فوصفهم بالعتو عن طاعته، وعدم الانقياد لعبادته بقوله: {لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ} 2، ووصفهم بعدم الإحسان والمعروف بقوله: {وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ} 3، ووصفهم بالخوض في شأن دينهم وما جاءت به رسلهم، وعدم وقوفهم مع ما أمروا به، وتعديهم إلى ما يرونه ويهوونه بقوله: {وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ} 4، وهذا حال أهل البدع والضلالات، الذين لم يؤسسوا دينهم على ما جاءت به الرسل. إذا عرفت ذلك، فلفظ المكان لم يرد نفيا ولا إثباتا، وقد يراد به معنى صحيح كالعلو والاستواء، والظهور قد يراد به غير ذلك من الأماكن المحصورة. فالواجب ترك المشتبه، والوقوف مع نصوص الكتاب والسنة. فيقال لهذا الجهمي: نحن لا نقر لله من الصفات إلا ما نطق به الكتاب العزيز، وصحت به السنة النبوية، ولا يلزم من أثبت ذلك شيء من البدعيات والأوضاع المختلفة. [تفسير قوله تعالى: {فثم وجه الله} ] وأما قوله: {فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} 5 فسياق الآية الكريمة يدل على أنها في شأن القبلة، قال ابن عباس: خرج نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر قبل تحويل القبلة، فأصابهم الضباب، وحضرت الصلاة، وصلّوا وتحرّوا القبلة، فلما ذهب الضباب استبان لهم أنهم لم يصيبوا، فلما قدموا سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فنزلت هذه الآية. وقال ابن عمر: نزلت في المسافر يصلي التطوع حيثما توجهت به راحلته. وقال عكرمة: نزلت في تحويل القبلة. وقال أبو العالية: عيرت اليهود المؤمنين لما

_ 1 سورة المدثر آية: 42. 2 سورة المدثر آية: 43. 3 سورة المدثر آية: 44. 4 سورة المدثر آية: 45. 5 سورة البقرة آية: 115.

صرفت القبلة، فنزلت هذه الآية وقال مجاهد والحسن: نزلت في الداعي يستقبل أي جهة كان، لأنهم قالوا لما نزلت: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} 1: أين ندعوه؟ قال الكلبي: {فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} 2: فثم الله يعلم ويرى، والوجه صلة، كقوله: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاََّ وَجْهَهُ} 3 أي: إلا هو. وقال الحسن ومجاهد وقتادة ومقاتل بن حيان: فثم قبلة الله، والوجه والوجهة والجهة: القبلة، وقوله: {وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} 4، ختم هذه الآية بهذين الاسمين الشريفين يشعر بما قاله الكلبي من أنه يعلم ويرى. ومن كان له أدنى شعور بعظمة الله وجلاله عرف صغر المخلوقات بأجمعها في جنب ما له -تعالى- من الصفات المقدسة، ولم يختلج في قلبه ريب ولا شك في الإيمان بهذه النصوص كلها، وعرف الجمع بينها وبين ما تقدم. فسبحان من جلت صفاته، عظمت أن يحاط بشيء منها. [معنى قرب الله تعالى من خلقه] وأما قوله: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} 5، فهذا القرب لا ينافي علوه على خلقه، واستواءه على عرشه، وفي الحديث: "وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء" 6. ولا يعرف هذا من ضاق نطاقه عن الإيمان بما جاءت به الرسل، وإنما يعرفه رجال آمنوا بالله، وصدقوا المرسلين. ومن أسمائه: العلي الأعلى، ومن أسمائه: القريب المجيب، ومن أسمائه: الظاهر الباطن. وكذلك قوله -تعالى-: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ} 7 وقد حرّف السائل هذه الآية وقال: إنه قريب، وهذا قرب خاص يدعيه، وفي الحديث: " أقرب ما يكون العبد إلى ربه وهو ساجد" 8، حال السجود غاية في العبودية والخضوع، ولذلك صار له قرب خاص لا يشبهه سواه، وهذا مما يبين لك بطلان قول الجهمي: "إنه بذاته في كل مكان". ولو كان الأمر كما قال الضال لم يكن للمصلي والداعي خصوصية بالقرب، ولكان المصلي وعابد

_ 1 سورة غافر آية: 60. 2 سورة البقرة آية: 115. 3 سورة القصص آية: 88. 4 سورة البقرة آية: 115. 5 سورة ق آية: 16. 6 مسلم: الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2713) , والترمذي: الدعوات (3400 ,3481) , وأبو داود: الأدب (5051) , وابن ماجه: الدعاء (3831) , وأحمد (2/381 ,2/404 ,2/536) . 7 سورة البقرة آية: 186. 8 مسلم: الصلاة (482) , والنسائي: التطبيق (1137) , وأبو داود: الصلاة (875) , وأحمد (2/421) .

الصنم سواء في القرب إليه -تعالى- الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا. [معية الله لعباده وقربه منهم] قال العلامة ابن القيم -رحمه الله- تعالى-: المعية نوعان: عامة، وهي: معية العلم والإحاطة، كقوله -تعالى-: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} 1، وقال: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} 2، وخاصة وهي معية القرب، كقوله: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} 3، {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} 4، {وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} 5. فهذه معية قرب تتضمن الموالاة والنصر والحفظ. وكلا المعيتين مصاحبة منه للعبد، لكن هذه مصاحبة اطلاع وإحاطة، وهذه مصاحبة موالاة ونصر وإعانة. فمع في لغة العرب للصحبة اللائقة لا تشعر بامتزاج ولا اختلاط ولا مجاورة ولا مجانبة، فمن ظن شيئا من هذا فمن سوء فهمه أُتِيَ. وأما القرب: فلم يقع في القرآن إلا خاصا، وهو نوعان: قربه من داعِيهِ بالإجابة، وقربه من عابده بالإثابة، فالأول كقوله -تعالى-: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} 6، ولهذا نزلت جوابا للصحابة -رضي الله عنهم- وقد سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أربُّنا قريب فنناجيه؟ أم بعيد فنناديه؟ فأنزل الله هذه الآية، والثاني كقول النبي صلى الله عليه وسلم: "أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد، وأقرب ما يكون العبد من ربه في جوف الليل" 7: فهذا قربه من أهل طاعته. وفي الصحيح عن أبي موسى رضي الله عنه قال: " كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر فارتفعت أصواتنا بالتكبير فقال: يا أيها الناس اربَعُوا على أنفسكم! فإنكم لا تدعون أصم ولا غائبا. إن الذي تدعونه سميع قريب، أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته" 8 فهذا خاص بالداعي دعاء العبادة والثناء والحمد.

_ 1 سورة الحديد آية: 4. 2 سورة المجادلة آية: 7. 3 سورة النحل آية: 128. 4 سورة البقرة آية: 153. 5 سورة العنكبوت آية: 69. 6 سورة البقرة آية: 186. 7 مسلم: الصلاة (482) , والنسائي: التطبيق (1137) , وأبو داود: الصلاة (875) , وأحمد (2/421) . 8 البخاري: الجهاد والسير (2992) , ومسلم: الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2704) , والترمذي: الدعوات (3461) , وأبو داود: الصلاة (1526) , وأحمد (4/394 ,4/402 ,4/403 ,4/417) .

وهذا القرب لا ينافي كمال مباينة الرب لخلقه، واستوائه على عرشه، بل يجامعه ويلازمه؛ فإنه ليس كقرب الأجسام بعضها من بعض تعالى الله علوا كبيرا، ولكنه نوع آخر. والعبد في الشاهد يجد روحه قريبة جدا من محبوب بينه وبينه مفاوز تنقطع فيها أعناق المطي، ويجده أقرب إليه من جليسه كما قيل: ألا رب من يدنو ويزعم أنه ... يحبك والنائي أحب وأقرب وأهل السنة أولياء رسول الله صلى الله عليه وسلم وورثته وأحباؤه الذي هو عندهم أولى بهم من أنفسهم، وأحب إليهم منها، يجدون نفوسهم أقرب إليه، وهم في الأقطار النائية عنه، من جيران حجرته في المدينة، والمحبون المشتاقون للكعبة البيت الحرام يجدون قلوبهم وأرواحهم أقرب إليها من جيرانها ومن حولها، هذا مع عدم تأتي القرب منها. فكيف بمن يقرب من خلقه كيف يشاء وهو مستو على عرشه؟ وأهل الذوق لا يلتفتون في ذلك إلى شبهة مبطل بعيد من الله خلي من محبته ومعرفته. والقصد أن هذا القرب يدعو صاحبه إلى ركوب المحبة، وكلما ازداد حبا ازداد قربا؛ فالمحبة بين قربين: قرب قبلها وقرب بعدها، وبين معرفتين: معرفة قبلها حملت عليها، ودعت إليها، ودلت عليها، ومعرفة بعدها هي من نتائجها وآثارها. [مسألة الاشتقاق] وأما مسألة الاشتقاق فينبغي أن يسأل هذا أولا ما معنى الاشتقاق، وما يراد به عند المحققين؟ وأنه زعم أنه أخذ الأسماء من مصادرها، وأن المصادر متقدمة، فهذا يلزم عليه سبق مادة أخذ منها الاسم، ومجرد القول بهذا لا يرتضى عند المحققين من أئمة الهدى. فإن عرف ذلك وأجابك عن معنى الاشتقاق على الوجه الذي أشرنا إليه فأخبره أن البصريين والكوفيين اختلفوا في الاسم من حيث هو هل مشتق من السمو أو من

السمة؟ ذهب البصريون إلى الأول، والكوفيون إلى الثاني. وأصله عند البصريين سمو على وزن فعل فحذفت لام الكلمة وهي الواو، ثم سكن أوله تخفيفا، ثم أتي بهمزة الوصل توصلا بالنطق بالساكن فصار "اسم"؛ وعليه فوزنه افع، ففيه إعلالات ثلاثة وهي: الحذف، ثم الإسكان، والإتيان بهمزة الوصل. وأما على مذهب الكوفيين فأصله وسم على وزن فعل حذفت فاء الكلمة، وهي الواو اعتباطا، ثم عوض عنها همزة الوصل، وعلى هذا فوزنه اعل. ويسأل عن معنى الإعلال وما يقابله، وعن الاشتقاق الأكبر والأصغر والكبير، وعن معنى الاشتقاق في الأكبر مع المباينة في أكثر الحروف ما معناه، فإذا أجابك عن هذا فأجبه عن سؤاله، وإلا فكيف يسأل عن التفاصيل من أضاع القواعد والجمل؟ [الفرق بين القدر والقضاء] وأما سؤاله عن الفرق بين القدر والقضاء، فإن القدر في الأصل مصدر قدر، ثم استعمل في التقدير الذي هو التفصيل والتبيين، واستعمل أيضا بعد الغلبة في تقدير الله للكائنات قبل حدوثها. وأما القضاء فقد استعمل في الحكم الكوني بجريان الأقدار وما كتب في الكتب الأولى. وقد يطلق هذا على القدر الذي هو التفصيل والتمييز، ويطلق القدر أيضا على القضاء الذي هو الحكم الكوني بوقوع المقدرات، ويطلق القضاء على الحكم الديني الشرعي، قال تعالى: {ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ} 1. ويطلق القضاء على الفراغ والتمام {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ} 2. ويطلق على نفس الفعل، قال تعالى: {فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ} 3. ويطلق على الإعلام والتقدم بالخبر قال تعالى: {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرائيل َ} 4. ويطلق على الموت ومنه قوله: قضى فلان أي مات، قال تعالى: {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا

_ 1 سورة النساء آية: 65. 2 سورة الجمعة آية: 10. 3 سورة طه آية: 72. 4 سورة الإسراء آية: 4.

رَبُّكَ} 1. ويطلق على وجود العذاب قال تعالى: {وَقُضِيَ الأَمْرُ} ويطلق على التمكن من الشيء وتمامه كقوله: {وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ} 2. ويطلق على الفصل والحكم كقوله: {وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ} 3. ويطلق على الخلق كقوله: {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ} 4. ويطلق على الحتم كقوله: {وَكَانَ أَمْراً مَقْضِيّاً} 5. ويطلق على الأمر الديني كقوله: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ} 6. ويطلق على بلوغ الحاجة، ومنه: قضيت وطري، ويطلق على إلزام الخصمين بالحكم. ويطلق بمعنى الأداء كقوله تعالى: {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ} 7. والقضاء في الكل مصدر، واقتضى الأمر الوجوب دل عليه، والاقتضاء هو العلم بكيفية نظم الصيغة، وقولهم: لا أقضي منه العجب. قال الأصمعي: يبقى ولا ينقضي. وقال السائل: ما معنى قوله صلى الله عليه وسلم: "وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار" 8، وأي شيء حقيقة البدعة، وهل يؤول الكلام أم لا؟ فإذا قلت: لا فأكثر ما تستعملونه في شرب القهوة ولبس المحارم وغيرها بدعة لا تثبت من الرسول صلى الله عليه وسلم ولا ممن يعتبر بهم. فجوابه أن يقال: هذا السؤال دليل على جهل السائل بالرواية والدراية وباللسان العربي، فكلام هذا الضرب من الناس يكفي من هداه الله، وفي هذا بيان جهلهم وضلالهم، أما جهله بالدراية فمن وجوه: أحدها: قوله: هل يؤول الكلام أم لا؟ والتأويل في عرف هؤلاء صرف الكلام عن ظاهره، وعن المعنى الراجح إلى المعنى المرجوح، ومن سلك هذه الطريقة في أخبار الرسول ونصوص القرآن فقد فتح على نفسه باب الإلحاد والزندقة، وليس في كلام الله وكلام رسوله ما ظاهره ومعناه الراجح

_ 1 سورة الزخرف آية: 77. 2 سورة طه آية: 114. 3 سورة الزمر آية: 69. 4 سورة فصلت آية: 12. 5 سورة مريم آية: 21. 6 سورة الإسراء آية: 23. 7 سورة البقرة آية: 200. 8 مسلم: الجمعة (867) , والنسائي: صلاة العيدين (1578) , وابن ماجه: المقدمة (45) , والدارمي: المقدمة (206) .

غير المراد، لأن الظاهر هو اللائق بحال الموصوف وبلغة المتكلم وعرفه، لا ما يظنه الأغبياء الجهال مما لا يصح نسبته إلى الله وإلى رسوله. وكذلك قوله: أكثر ما تستعملونه من شرب القهوة ولبس المحارم بدعة، وهذا من أدلة جهله وعدم معرفته للأحكام الشرعية والمقاصد النبوية، فإن الكلام في العبادات لا في العادات، والمباحث الدينية نوع، والعادات الطبيعية نوع آخر، فما اقتضته العادة من أكل وشرب ولبس ومركب ونحو ذلك ليس الكلام فيه، والبدعة ما ليس لها أصل في الكتاب والسنة، ولم يرد بها دليل شرعي، ولم تكن من هديه –صلى الله عليه وسلم- وهدي أصحابه. وأما ما له أصل كإرث ذوي الأرحام وجمع المصحف والزيادة في حد الشارب وقتل الزنديق ونحو ذلك، فهذا -وإن لم يفعل في وقته صلى الله عليه وسلم- فقد دل عليه الدليل الشرعي، وبهذا التعريف تنحل إشكالات طالما عرضت في المقام. وأما ما فيه من جهة اللسان العربي، فإن هل لا تقابل بأم، لأن ما يقابل بأم همزة الاستفهام كما يعلم من محله، ومنها قوله: لا تثبت من الرسول، فإن الإثبات يتعدى بعن لا بمن، وكذلك قوله: ولا ممن يعتبر بهم، فإن الاعتبار نوع والاعتداد نوع آخر فيعتد بالصالحين، وأهل العلم، والاعتبار لا يختص بهم، بل لما ذكر تعالى فعل بني النضير بأنفسهم وديارهم قال: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ} 1. وذكر السائل سؤالا عن الترشيح والإطلاق أيهما أبلغ؟ وكذلك الإطلاق والتجريد، فينبغي أن يسأل عن الترشيح والإطلاق والتجريد ما يراد بهن عند أهل الفن؟ فإن عبارته تفيد عدم معرفته، إذ لا مقابلة بين الترشيح والإطلاق والتجريد في الأبلغية، فسؤاله نص ظاهر في جهله، فإن الترشيح يراد به تقوية الشبه بين المشبه والمشبه به بأن يذكر

_ 1 سورة الحشر آية: 2.

ما هو من خواص المشبه به كقوله: أنشبت المنية أظفارها، فإن هذا من ذكر التقوية بما هو من خواص المشبه به وهي الأظفار، فالترشيح قوى المعنى المراد. وأما الإطلاق في الاستعارة فيقابله التقييد، والتجريد معناه أن يجرد المتكلم من نفسه مخاطبا كقول الشاعر: [اختلاف البلاغة باختلاف الأحوال] وأيضا فالبلاغة تختلف باختلاف الأحوال فتوصف بها الكلمة والكلام والمتكلم، وحقيقتها مطابقة الكلام مقتضى الحال، فإن كان الحال يقتضي الترشيح فهو أبلغ، وإلا فلكل مقام مقال. وأما الإخبار عن الاسم بالذي فهو كثير في القرآن وغيره قال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ} 1 فأخبر بالذي عن اسمه الشريف الذي هو أعرف المعارف، و (الذي) اسم أيضا بخلاف ما يفيده السؤال. وأما الإخبار عن اسم بأل فكقول الشاعر: ما أنت بالحكم الترضى حكومته وكذا كل فعل مضارع دخلت عليه أل. وأما الإخبار عن اسم من الأسماء بالذين فكقوله تعالى: {الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ} 2. وأما الإخبار بالذين فكقوله: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلاَّنَا مِنَ الْجِنِّ وَالأِنْسِ} 3. وقال تعالى: {وَالَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا} 4. وأما الكل والكلي، فالكل يراد به الجميع كقوله: كل المؤمنين يدخلون الجنة، والكلي ما يقع على الأكثر والغالب كقولك: كل بني تميم يحملون الصخرة العظيمة. يقول جامع الرسائل: هذا آخر ما وجد من هذه الرسالة، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.

_ 1 سورة الأنعام آية: 1. 2 سورة آل عمران آية: 172. 3 سورة فصلت آية: 29. 4 سورة النساء آية: 16.

الرسالة الحادية والأربعون: [ما جرى من مفاسد العساكر التركية]

الرسالة الحادية والأربعون: [ما جرى من مفاسد العساكر التركية] وله أيضا -قدس الله روحه ونور ضريحه- منظومة فيما جرى من مفاسد العساكر والبوادي، وما حصل قبل ذلك من ظهور الإسلام وسوابغ الأيادي، بدعوة شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب -أجزل الله له الأجر والثواب، وأدخله الجنة بغير حساب ولا عذاب- فانتشرت بدعوته الملة الإسلامية، والطريقة المحمدية، واستقام الإسلام وانتشرت أعلام الجهاد، وانمحت آثار الضلالة والفساد. ولما كانت هذه المنظومة من جملة الرسائل والأجوبة على المسائل، وكانت من غرر القصائد، وبدائع الفوائد، وأشد ما يكون على الأعداء وثباتها، تعين بل وجب إثباتها. وقد أنشأها -رحمه الله- وهو إذ ذاك في شدة مقاساة أهوال تلك الفتن، ومعاناة أثقال تلك الحوادث والمحن، وقلة من المساعد، وكثرة من المعاند والمكايد، تغدو عليه الأراجيف وتروح، وتظهر أنياب النفاق إذ ذاك وتلوح، وثم من يقود المشركين، ويؤزهم على عباد الله الموحدين. وقد ابتلي الناس مع ذلك بجور الأئمة والولاة، واستباح الأموال والدماء طغاة الحضر والبوادي العتاة، وأصبح أهل الحق ما بين معاقب مكبل في الحديد، وما بين شريد في القبائل طريد. فاشتد البلاء وأعضل البأس، وكثر الجهل وعظم الالتباس، وقلت الديانة في كثير من الناس، وساروا إلى البلاد التي هجمت عليها العساكر، وظهرت بها أنواع الفسوق والمناكر. وصار لأهل الرفض والشرك بها الصولة، وكان لهم في تلك الجهات الغلبة والدولة، وضيعت بها أحكام الشريعة المطهرة، وظهرت بها أحكام الكفرة الفجرة، فبذل الجد والاجتهاد بإرسال الرسائل والنصائح، وحذرهم أسباب الندم والفضائح، كما قد مر عليك، ويأتي -إن شاء الله- من الرسائل في التغليظ في السفر والركون إليهم بأوضح البراهين والدلائل. والمنظومة جواب أبيات وردت عليه نحوا من عشرين بيتا فقال -رحمه الله وعفا عنه-: ورد من بعض الأدباء ما صورته: رسائل شوق دائم متواتره ... إلى فرع شمس الدين بدر المنابر سلالة مجد من كرام عشائره ... يعيد بديعا من كنوز المحابر

ويبدي لك التوحيد شمسا منيرة ... ولكن أهل الزيغ عما لبصائر سقيا لعهدكمو1عهد الشريعة والتقى ... وتعظيم دين الله أزكى الشعائر مدارس وحي شرفت بأكابر ... على ملة بيضاء تبدو لسائر فيا راكبا بلغ سلامي وتحفة ... تعزيه فيما قد مضى في العشائر وأعظم من ذا يا خليلي كتائب ... تهدم من ربع الهدى كل عامر ويبدو بها التعطيل والكفر والزنى ... ويعلو من التأذين صوت المزامر فقد سامنا الأعداء في كل خطة ... وأصل من الإسلام سوم المقامر أناخ لدينا للضلالة شيعة ... أباحوا حمى التوحيد من كل فاجر وقابلهم بالسهل والرحب عصبة ... على أمة التوحيد أخب ث سائر يقولون: لكنا رضينا تقية ... تعود على أموالنا والذخائر فضحك ولهو واهتزاز وفرحة ... وألوان مأكول ونشوة ساكر مجالس كفر لا يعاد مريضها ... يراح إليها في المسا والبواكر ويرمون أهل الحق بالزيغ ويْحهم ... أما رهبوا سيفا لسطوة قاهر وأما رباع العلم فهي دوارس ... تحن إلى أربابها والمذاكر مصاب يكاد المستجن بطيبة ... ينادي بأعلى الصوت هل من مثابر؟ فجد لي برد منك تبرد لوعتي ... ويحدى به في كل ركب وسامر وتنصر خلا في هواك مباعدا ... لم تبعث به أم عامر فأكثر أو أقلل ما لها الدهر صاحب ... سواك فقابل بالمنى والبشائر فأجاب -رحمه الله- بما يثلج الصدور، ويبعث الانشراح والسرور، ويحدى به في كل ركب وناد. وهذا نصه: رسائل إخوان الصفا والعشائر ... أتتك فقابل بالمنى والبشائر تذكرنا أيام وصل تقدمت ... وعهدا مضى للطيبين الأطاهر ليالي كانت للسعود مطالعا ... وطائرها في الدهر أيمن طائر

_ 1 كذا وهو مختل الوزن، ولعل أصله: سقى عهدكم إلخ.

وكان بها ربع المسرة آهلا ... تمتع في روض من العلم زاهر وفيها الهداة العارفون بربهم ... ذوو العلم والتحقيق أهل البصائر محابرهم تعلو بها كل سنة ... مطهرة أنعم بها من محابر مناقبهم في كل مصر شهيرة ... رسائلهم يغدو بها كل ماهر وفيهم من الطلاب للعلم عصبة ... إذا قيل: من للمشكلات البوادر وفيها الحماة الناصرون لربهم ... معاقلهم شهب القنا والخناجر وهندية قد أحسن القين صقلها ... مجربة يوم الوغى والتشاجر ورومية خضراء قد ضم جوفها ... من الجمر ما يفري صميم الضمائر وكانت بهم تلك الديار منيعة ... محصنة من كل خصم مقامر غدت بهمو تلك الفتون وشتتوا ... فلست ترى إلا رسوما لزائر وحل بهم ما حل بالناس قبلهم ... أكابر عرب أو ملوك الأكاسر وبدل منهم أوجها لا تسرني ... قبائل يام أو شعوب الدواسر يذكرنيهم كل وقت وساعة ... عصائب هلكى من وليد وكابر وأرملة تبكي بشجو حنينها ... لها رنة بين الربى والمحاجر وهذا زمان الصبر من لك بالتي ... تفوز بها يوم اختلاف المصادر؟ (فصل) فيما جرى من مفاسد العساكر والبوادي: ودارت على الإسلام أكبر فتنة ... وسلت سيوف البغي من كل غادر وذلت رقاب من رجال أعزة ... وكانوا على الإسلام أهل تناصر وأضحى بنو الإسلام في كل مأزق ... تزورهمو غرث السباع الضوامر وهتك ستر للحرائر جهرة ... بأيدي غواة من بواد وحاضر وجاؤوا من الفحشاء ما لا يعده ... لبيب ولا يحصيه نظم لشاعر

وبات الأيامى في الشتاء سواغبا ... يبكين أزواجا وخير العشائر وجاءت غواش يشهد النص أنها ... بما كسبت أيدي الغواة الغوادر وجر زعيم القوم للترك دولة ... على ملة الإسلام فعل المكابر ووازره في رأيه كل جاهل ... يروح ويغدو آثما غير شاكر وآخر يبتاع الضلالة بالهدى ... ويختال في ثوب من الكبر وافر وثالثهم لا يعبأ الدهر بالتي ... تبيد من الإسلام عزم المذاكر ولكنه يهوى ويعمل للهوى ... ويصبح في بحر من الريب غامر وقد جاءهم فيما مضى خير ناصح ... إمام هدى يبني رفيع المفاخر وينقذهم من قعر ظلما مضلة ... لسالكها حر اللظى والمساعر ويخبرهم أن اللامة في التي ... عليها خيار الصحب من كل شاكر فلما أتاهم نصر ذي العرش واحتوى ... أكابرهم كنْز اللهى والذخائر سعوا جهدهم في هدم ماقد بنى لهم ... مشايخهم واستنصحوا كل داغر وساروا لأهل الشرك واستسلموا لهم ... وجاؤوا بهم مع كل إفك وساحر ومذ أرسلوها أرسلوها ذميمة ... تهدم من ربع الهدى كل عامر وباؤوا من الخسران بالصفة التي ... يبوء بها من دهره كل خاسر وصار لأهل الرفض والشرك صولة ... وقام بهم سوق الردى والمناكر وعاد لديهم للواط وللخنى ... معاهد يغدو نحوها كل فاجر وشُتت شمل الدين وانبت حبله ... وصار مضاعا بين شر العساكر وأذن بالناقوس والطبل أهلها ... ولم يرض بالتوحيد حزب المزامر وأصبح أهل الحق بين معاقب ... وبين طريد في القبائل طائر فقل للغوي المستجير بظلمهم ... ستحشر يوم الدين بين الأصاغر

ويكشف للمرتاب أي بضاعة ... أضاع وهل ينجو مجير أم عامر؟ ويعلم يوم الجمع أي جناية ... جناها وما يلقاه من مكر ماكر فيا أمة ضلت سبيل نبيها ... وآثاره يوم اقتحام الكبائر يعز بكم دين الصليب وآله ... وأنتم بهم ما بين راض وآمر وتهجر آيات الهدى ومصاحف ... ويحكم بالقانون وسط الدساكر هوت بكمو نحو الجحيم هوادة ... ولذات عيش ناعم غير شاكر سيبدو لكم من مالك الملك غير ما ... تظنون إن لاقى مزير المقابر يقول لكم ماذا فعلتم بأمة ... على ناهج مثل النجوم الزواهر سللتم سيوف البغي فيهم وعطلت ... مساجدهم من كل داع وذاكر وواليتمو أهل الجحيم سفاهة ... وكنتم بدين الله أول كافر نسيتم لنا عهدا أتاكم رسولنا ... به صارخا فوق الذرى والمنابر فسل ساكن الأحساء هل أنت مؤمن ... بهذا وما يحوي صحيح الدفاتر؟ وهل نافع للمجرمين اعتذارهم ... إذا دار يوم الجمع سوء الدوائر؟ وقال الشقي المفتري: كنت كارها ... ضعيفا مضاعا بين تلك العساكر أماني تلقاها لكل متبر ... حقيقتها نبذ الهدى والشعائر تعود سرابا بعدما كان لامعا ... لكل جهول في المهامه حائر فإن شئت أن تحظى بكل فضيلة ... وتظهر في ثوب من المجد باهر وتدنو من الجبار -جل جلاله- ... إلى غاية فوق العلى والمظاهر فهاجر إلى رب البرية طالبا ... رضاه وراغم بالهدى كل جائر

الرسالة الثانية والأربعون: [حكم نهب الأعراب]

وجانب سبيل العادلين بربهم ... ذوي الشرك والتعطيل من كل غادر وبادر إلى رفع الشكاية ضارعا ... إلى كاشف البلوى عليم السرائر وكابد إلى أن تبلغ النفس عذرها ... وترفع من ثوب من العفو ساتر ولا تيأسن من صنع ربك إنه ... مجيب وإن الله أقرب ناصر ألم تر أن الله يبدي بلطفه ... ويعقب بعد العسر يسرا لصابر؟ وأن الديار الهامدات يمدها ... بوبل من الوسمي هام وماطر فتصبح في رغد من العيش ناعم ... وتهتز في ثوب من الحسن فاخر الرسالة الثانية والأربعون: [حكم نهب الأعراب] وله أيضا -قدس الله روحه ونور ضريحه- رسالة إلى عبد الله بن محمد بن عتيق، وقد سأله عن نهائب الأعراب، فأجابه -رحمه الله- بما ستقف عليه، وذكر -رحمه الله- أن من التزم الأحكام في التحليل والتحريم، وتحاشى من الاعتداء إلا على من اعتدى عليه، أنه لا يعجبه أكل ما أخذ منهم على هذا الوجه. فإذا عدمت هذه الأمور في بادية من البوادي قحطان أو غيرهم أو وجدت، فالحكم بحاله في جواز شرائه أو عدمه على الاستحباب، وهذا نص الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد اللطيف بن عبد الرحمن إلى الأخ عبد الله بن محمد بن عتيق -سلمه الله تعالى- سلام عليكم ورحمة الله وبركاته: وبعد: فأحمد إليك الله على نعمه. والخط وصل وما ذكرت من السؤال، فالذي جاءكم مع الخشل هو مما نهبوا من مال قحطان، ولا يخفاكم أن كثيرا

الرسالة الثالثة والأربعون: [بيان مضار الفتنة ومفاسد العسكر]

من قحطان يلتزم الأحكام في التحليل والتحريم ويتحاشى من الاعتداء عليه، ولا يعجبني أكل ما أخذ منهم على هذا الوجه. وأما نهائب الأعراب التي لا يعرف حال أهلها، فلبعض أهل العلم كلام في جواز شرائها وتملكها، وأما استحباب اجتناب ذلك، فهو طريقة جمهور أهل العلم، وصلى الله على محمد. الرسالة الثالثة والأربعون: [بيان مضار الفتنة ومفاسد العسكر] وله أيضا -رحمه الله- منظومة أنشأها لما اشتدت الكربة، واستحكمت الغربة، وقل المعاون والمساعد، وكثر المخالف والمعاند، ودهمت فوادح معضلات الحوادث، وهجمت بكلاكلها الخطوب الأثائث، التي تشيب من أهوالها النواصي، وتعجز عن حمل أعبائها الجبال الرواسي. فأول ذلك الفتنة التي وقعت بين المسلمين، وانثل بها عرش الملة والدين، وانهدم بها سور الإسلام، وصار الأمر بأيدي البوادي الطغام، فانفجرت ذات البين، وانكشفت العورة لأهل الكفر والمين، فعند ذلك فدحت المعضلات العظام، وانهدمت أصول الدين والإسلام، وانطمست المعالم والأحكام، فقدمت العساكر إلى البلاد الإسلامية، فانكسفت شمس الرسالة المحمدية، وافتتن كثير من جهلة الناس، بفتوى من ينتسب إلى العلم من أهل الجهل والإفلاس، بأن تلك العساكر التي هجمت على بلاد أهل الإسلام، إنما جاؤوا لنصرة ذلك الإمام، فأنشأ هذه المنظومة من حرارة الجوى، وخوفا على الناس من سلوك مفاوز التوى، وأساء على من هلك بشبه المشبهين، وتمويهات الأئمة المضلين، ويذكر مآثر أهل الإسلام، الذين استجابوا لله ورسوله بدعوة شيخ الإسلام، وعلم الهداة الأعلام، الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وما كانوا عليه من المعتقد وحسن السيرة، وخلوص الطوية والسريرة، ويحذر من طريقة أقوام إنما نشؤوا في ظل عافية الإسلام، ولم يعرفوا ما عليه أهل الجاهلية من عبادة الأوثان والأصنام، والذرائع المفضية إلى الدخول في ولاية من حادّ الله ورسوله وموالاتهم، والرضى بأحكامهم وقوانينهم، وقد

حملت إليهم الأثقال، ورحلت الرواحل، واستفاء بظلهم من آثر العاجل وغمض الطرف عن الآجل، فكم هلك بسببهم من هلك، وانتظم في سلكهم من شك في دينه وارتبك، فنعوذ بالله من مضلات الفتن، ما ظهر منها وما بطن. وإذا أردت ترى مصارع من توى ... ممن تربص وارتضى بهوان 1 وتروم مصداق الذي قد قاله ... شيخ الوجود العالم الرباني فاستقرئ الأخبار ممن جاءهم ... ماذا رأوا من أمة الكفران نبذوا الكتاب وراءهم واستبدلوا ... عن ذاك بالقانون ذي الطغيان 2 وعن الأذان استبدلوا من زيغهم ... بالبوق تشريعا من الشيطان 3 وكذا مسبة ربنا سبحانه ... والجعل للأنداد للرحمان وكذاك شرب المسكرات مع الزنى ... وكذا اللواط وسائر النكران وكذلك الأرفاض قام شعارهم ... بل أظهروا كفرانهم بأمان هل يرتضي بالمكث بين ظهورهم ... عبد يشم روائح الإيمان؟ والله ما يرضى بهذا مؤمن ... أنى يكون وليس في الإمكان حاش الذي ما اسطاع يوما هجرة ... أو مظهر للدين ذا تبيان لكنما المقصود من لم يرفعوا ... رأسا بما قد جاء في القرآن أو صح في الأخبار عن خير الورى ... والصحب والأتباع بالإحسان ورضوا ولاية دولة قد عارضت ... أحكامه بزبالة الأذهان وضعوا قوانينا تخالف وحيه ... واستبدلوا الإيمان بالكفران 4

_ 1 هذا الشعر لجامع الرسائل. 2.يظهر أنه ضمن استبدل معنى استعاض؛ إذ لا يصح أن تكون بمعناها الأصلي المقتضي لدخول الباء على المبدل منه، ونصب البدل كقوله تعالى: {أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ} 3 يظهر أنه ضمن استبدل معنى استعاض؛ إذ لا يصح أن تكون بمعناها الأصلي المقتضي لدخول الباء على المبدل منه، ونصب البدل كقوله تعالى:: {أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ 4 يظهر أنه ضمن استبدل معنى استعاض؛ إذ لا يصح أن تكون بمعناها الأصلي المقتضي لدخول الباء على المبدل منه ونصب البدل كقوله تعالى::} {أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ}

فسل المقيم بظلهم وحماهمو ... هل أنكروا ما فيه من طغيان؟ أو زايلوا أصحابه أو قاطعوا ... أخدانهم من كل ذي خسران لكنهم قد آثروا الدنيا على الأ ... خرى فياسحقا لذي العصيان بل ليتهم كفوا عن استجلابهم ... من غاب من صحب ومن إخوان بل صح عن بعض الملا تسفيههم ... أحلام أهل الحق والإيمان تبا لهاتيك العقول وما رأت ... واستحسنت من طاعة الشيطان وقد قال الشيخ -رحمه الله- فيما تقدم من الرسائل: إن الإقامة ببلد يعلو فيها الشرك والكفر، يظهر الرفض ودين الإفرنج ونحوهم من المعطلة للربوبية والإلهية، ويرفع فيها شعارهم، ويهدم الإسلام والتوحيد، ويعطل التكبير والتسبيح والتحميد، وتقلع قواعد الملة والإيمان، ويحكم بينهم بحكم الإفرنج واليونان، ويشتم السابقون من أهل بدر وبيعة الرضوان، فالإقامة بين ظهرانيهم -والحالة هذه- لا تصدر عن قلب باشرته حقيقة الإسلام والإيمان والدين، وعرف ما يحب من حق الله في الإسلام على المسلمين، بل لا يصدر عن قلب رضي بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيا. ثم إنه رحمه الله بذل الوسع بكتب الرسائل والنصائح، والتحذير عن أسباب الندم والفضائح، والمنظومة المشار إليها من كلامه -رحمه الله تعالى- مسودة ولم أجدها تامة، وهذا نص الموجود منها. قال -رحمه الله وعفا عنه- دع عنك ذكر منازل ومغان ... بدور أنس قد بدت وغوان وجؤزرا في روضة يشدو بها ... صوت النديم وشادن فتان لا تصغ للعشاق سمعك إنما ... منادمهم بين البرية عان والعشق داء قاتل ودواؤه ... في السنة المثلى عن الأعيان

قطع الوسائل والذرائع والتي ... بين الورى أحبولة الشيطان واقرأ كتاب الله إن رمت الهدى ... أو رمت ترقى ذروة الإحسان واعكف بقلبك في آرائك روضة ... مملوءة بالعلم والإيمان وانظر إلى تركيبه واعمل به ... إن كنت ذا بصر بهذا الشان هذا ولا ينجيك طب في التي ... ترجو بغير مشيئة الرحمن فاسأله في غسق الليالي والدجى ... يا دائم المعروف والسلطان وانظر إلى ما قاله علم الهدى ... عند ازدحام عساكر الشيطان أشكو إليك حوادثا أنزلتها ... فتركتني متواصل الأحزان من لي سواك يكون عند شدائدي ... إن أنت لم تكلأ فمن يكلاني لولا رجاؤك والذي عودتني ... من حسن صنعك لاستطير جناني واذكر مآثر أقوام قد انتدبوا 1 ... يوما لنصر الدين بالإحسان من صالحي الإخوان أعلام الهدى ... من أطدوا التوحيد ذا الأركان قامت بهم أركان شرعة أحمد ... وعلت سيوف الحق والإيمان وغدا الزمان بذكرهم متبسما ... يبدي سنا للطالب الولهان سارت بهم أبناء مجد في الورى ... يغشي سناها عابد الأوثان قد جددوا للدين أوضح منهج ... يبدي ضيا للسالك الحيران حتى علا في عهدهم شأن الهدى ... وانقض ركن الشرك في الأديان أما العقائد إن ترد تحقيقها ... عنهم بلا شك ولا كتمان إن الإله مقدس سبحانه ... رب عظيم جل عن حدثان حقا على عرش السماء قد استوى ... ويرى ويسمع فوق ست ثمان

_ 1 هذا الشطر من بحر البسيط والقصيدة من بحر الكامل، فهو إما سهو من الناظم، وإما تحريف من الناسخ.

يعطي ويمنع من يشاء بحكمة ... في كل يوم ربنا ذو شان خضعت لعزة وجهه وجلاله ... حقا وجوه الخلق والأكوان بل كل معبود سواه فباطل ... من دون عرش للثرى التحتاني فاحذر توالي في حياتك غيره ... من كل معبود ومن شيطان واحذر طريقة أقوام قد افتتنوا 1 ... في حب أدنى أو خسيس فان واقطع علائق حبها وطِلابها ... إذ قطعوا فيها عرى الإيمان لهفي عليهم لهفة من واله ... متوجعا من قلة الأعوان قد صاده المقدور بين معاشر ... في غفلة عن نصرة الرحمن واستبدلوا بعد الهدى طرق الهوى ... لما عموا عن واضح البرهان واقطع علائق حبهم في ذاته ... لا في هواك ونخوة الشيطان واهجر مجالس غيهم إذ قطعوا ... فيها عرى التوحيد والإيمان لا سيما لما ارتضاهم جاهل ... ذو قدرة في الناس مع سلطان لما بدا جيش الضلالة هادما ... ربع الهدى وشرائع الإحسان قوم سكارى لا يفيق نديمهم ... أبد الزمان يعود بالخسران قوم تراهم مهطعين لمجلس ... فيه الشقاء وكل كفر دان بل فيه قانون النصارى حاكما ... من دون نص جاء في القرآن بل كل أحكام له قد عطلت ... حتى النِّدا بين الورى بأذان ويرون أحكام النبي وصحبه ... في شرعه من جملة الهذيان ويرون قتل القائمين بدينه ... في زعمهم من أفضل القربان والفسق عندهمو فأمر سائغ ... يلهو به الأشياخ كالشبان

_ 1 يقال في هذا ما قيل في سابقه.

المنع في قانونهم وطريقهم ... غصب اللواط كذاك والنسوان فانظر إلى أنهار كفر فجرت ... قد صادمت لشريعة الرحمن بل لا يزال لجريها بين الورى ... من هالك متجاهل خوان والله لولا الله ناصر دينه ... لتفصمت فينا عرى الإيمان فالله يجزي من سعى في سدها ... من أمة التوحيد والقران والله يعطي من يشاء بفضلة ... فوق الجنان عطية الرضوان وكذا يجازي من سعي في رفعها ... ماقد أعد لصاحب الكفران يارب وأحكم بيننا في عصبة ... شدوا ركائبهم الى الشيطان سلوا سيوف البغى من أغمادها ... وسعوا بها في ذلة وهوان وأستبدلوا بعد الراسة والهدى ... بالقدح في صحب وفي اخوان صرفوا نصوص الوحي عن أوضعها ... وسعوا بها في زمرة العميان فتحوا الذرايع والوسائل للتي ... يهوى هواها عابدوالصلبان وسعوا بها في كل مجلس جاهل ... أو مشرك او أقلف نصراني وقضوا بأن السير نحو يارهم ... في كل وقت جائز بأمان لم يفقهوا معنى النصوص ولم يعوا ... ما قال أهل العلم والعرفان ماوافق الحكم المحل ولا هو است ... وفى الشروط فصار رذا بطلان فادرأ بها في نحرهم تلقي الهدى ... وارجمهموا بثواقب الشهبان وأقعد لهم في كل مقعد فرصة ... وأكشف نوابغ جهلهم بيان حتى يعود الحق أبلج واضحاًَ ... يبدو سنا للسالك الحيران وقضوا بأن العهد باق للذي ... ولى الولاية شيعة الشيطان تبالهم من معشر قد اشربوا ... حب الخلاف ورشوة السلطان

الرسالة الرابعة والأربعون: [الظهار وتعليقه بالمشيئة]

وقضوا له بالجزم أن متابه ... قدهد ما اعلى من البنيان وطلابة للامر والحرب الوبي ... فعلى طريق العفو والغفران هذا آخر ما وجد منها، فرحمه الله وعفا عنه، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم. الرسالة الرابعة والأربعون: [الظهار وتعليقه بالمشيئة] وله أيضا -قدس الله روحه ونور ضريحه- رسالة إلى الشيخ عبد الرحمن بن عدوان -رحمه الله-، وقد سأله عن قول الرجل لامرأته: أنت عليّ كظهر أمي إلا أن يشاء الله. فأجابه -رحمه الله- بما عليه أهل التحقيق في هذه المسألة، وبين له أن الواجب على المفتي والقاضي أن يتبصر، ويتعقل معاني الألفاظ والتراكيب قبل أن تزل قدم بعد ثبوتها، وهذا نص الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد اللطيف بن عبد الرحمن إلى الأخ المكرم عبد الرحمن بن عدوان. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. (وبعد) : فاعلم أن قول الرجل لزوجته: أنت علي كظهر أمي إلا أن يشاء الله، إن فعلت كذا وكذا، ظهار لا يمنع وجوب الكفارة ما ذكره من الاستثناء بغير خلاف. وقول بعضهم إنما فيه كفارة كاليمين بالله والظهار لا يحنث إن استثنى فيه، وقال: إن شاء الله، محله إذا رجع الاستثناء إلى الفعل أو الترك لا على نفس اليمين. قال ابن مفلح -رحمه الله- في هذا المبحث: وكلامهم يقتضي أن رده – أي الاستثناء – إلى يمينه لم ينفعه لوقوعها ولتبين مشيئة الله، وبه احتج الموقع في: أنت طالق إن شاء الله.

وقال أبو يعلى الصغير في اليمين بالله ومشيئة الله: وتحقيق مذهبنا أنها تقف على إيجاد فعل أو ترك، فالمشيئة معلقة على الفعل، فإذا وجد تبينا أن الله شاءه وإلا فلا، وفي الطلاق المشيئة انطبقت على اللفظ بحكمه الموضوع، وهو الوقوع. انتهى. وقال شيخ الإسلام: الاستثناء إذا رجع إلى فعل أو ترك محلوف عليه، إنما يفيد أن الفعل المعلق أو الترك لا يتعين فعله لتعليقه لأن الجزاء إذا وقع لا كفارة فيه. وقال –رحمه الله-: الاستثناء إنما يقع لما علق به الفعل، فإن الأحكام التي هي الطلاق والعتاق ونحوها لا تعلق على مشيئة الله بعد وجود أسبابها، فإنها واجبة بوجوب أسبابها، فإذا انعقدت أسبابها فقد شاء الله تعالى، وإنما يعلق على المشيئة الحوادث قد يشاؤها الله، وقد لا يشاؤها، وقال في هذا المبحث أيضا: المشيئة تعود عند الإطلاق إلى الفعل المحلوف عليه، والمعنى إني حالف على هذا الفعل إن شاء الله فعله. فإذا لم يفعله لم يكن قد شاءه فلا يكون ملتزما له، وإلا فلو نوى عوده إلى الحلف بأن يقصد إني حالف إن شاء الله أن أكون حالفا، كان معنى هذا معنى الاستثناء في الاستثناءات كالطلاق والعتاق، وعلى مذهب الجمهور لا ينفعه، وأيضا، فإنها بفعل المحلوف عليه يتبين إن شاء الله فوقع ما علق عليه، ومن فقه هذا عرف معنى كلام الفقهاء. وأما المراد بالاستثناء المانع من الحث والواجب على المفتي والقاضي أن يتبصر ويتعقل معاني الألفاظ والتراكيب قبل أن تزل قدم بعد ثبوتها وما أحسن ما قيل: ما لم يفد نظرا وحسن تبصر ... والعلم ليس بنافع أربابه

الرسالة الخامسة والأربعون: [التحريض على لزوم الجماعة]

وأيضا، فإن الظاهر في مثل هذه الصورة لا يقبل منه دعوى الاستثناء لو كان راجعا إلى الفعل إلا ببينة عادلة، لأن الظهار ثبت بشهادة الغير فلا بد من شاهد على الاستثناء. ثم لو سلمنا أنه ثبت بإقراره أو من جهته، فدعواه الاستثناء لا تقبل أيضا لأنها له وإقراره بالظهار عليه. وفي الحديث: "لو يعطى الناس بدعواهم" 1 الحديث، وقال شيخ الإسلام: والتحقيق أن يقال: إن المخبر إن أخبر بما على نفسه فهو مقر، وإن أخبر بما على غيره لنفسه فهو مدع. (قال جامع الكتاب:) هذا آخر ما وجدت من هذه الرسالة، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات. الرسالة الخامسة والأربعون: [التحريض على لزوم الجماعة] وله أيضا -قدس الله روحه وعفا عنه- رسالة إلى سالم بن سلطان أمير الشارقة من ساحل عمان يحرضه على لزوم الجماعة، والانحياز إلى المسلمين، وترك المفارقة ونبذ الطاعة، وذلك بعدما حصل الخلل في المسلمين بسبب الفتنة التي بين آل سعود ومقتل تركي بن أحمد السدير أمير آل سعود في عمان، فخرج عزان الإباضي فاستولى على ممالك المسلمين التي بتلك الجهات إلا ما كان من سالم بن سلطان؛ فإنه لم ينزع يدا من طاعة، ولم يفارق الجماعة، فكتب له الشيخ يحضه على الثبات والانحياز إلى المسلمين، وعدم الدخول تحت طاعة عزان الإباضي ومن ساعده من الجهمية والمشركين، وهذا نص الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد اللطيف إلى الأمير المكرم سالم بن سلطان -سلمه الله تعالى-. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: فأحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو على نعمه، وبلغنا خبر

_ 1 البخاري: تفسير القرآن (4552) , ومسلم: الأقضية (1711) , والنسائي: آداب القضاة (5425) , وابن ماجه: الأحكام (2321) , وأحمد (1/342 ,1/351 ,1/363) .

الفتنة التي حصلت عندكم من عزان ومن اتبعه ممن استزلهم الشيطان، وبلغنا أنك لم تشهد هذا المشهد ولم تحضر ما جرى في ذلك العهد، وسرنا هذا لأنا نحب لكم ما جرى عليه أسلافكم من الانحياز إلى المسلمين، ولزوم الجماعة، وترك المفارقة، ونبذ الطاعة، فالله سبحانه يبتلي العبد على حسب إيمانه ليعلم الذين صدقوا ويعلم الكاذبين. فعليكم بالجد والاجتهاد فيما يحفظ الله به عليكم الإيمان والتوحيد، وينجيكم من الركون إلى أهل الكفر والإشراك والتنديد. قال تعالى: {وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ} 1، وقال تعالى: {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} 2 الآية، وقال تعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ تَرَى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} 3، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} 4، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} 5 فتأمل قوله تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} 6، فإن هذا الحرف وهو "إن" الشرطية تقتضي نفي شرطها إذا انتفى جوابها، ومعناه أن من اتخذهم أولياء فليس بمؤمن. فعليكم بتقوى الله ولزوم طاعته والعمل لوجهه، واحذروا أن يضيع الإسلام لديكم، أو يلتبس الحق عليكم: {فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا

_ 1 سورة هود آية: 113. 2 سورة المجادلة آية: 22. 3 سورة المائدة آية: 78. 4 سورة الممتحنة آية: 1. 5 سورة المائدة آية: 57. 6 سورة المائدة آية: 57.

السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} 1. نسأل الله لنا ولكم الثبات في الأمر والاستقامة على الرشد وأن لا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا، وأن لا ينْزع عنا ما من به علينا من الإيمان والتوحيد بعدما تفضل علينا وأعطانا، وقد وعد الله عباده المؤمنين وحزبه المفلحين بالنصر والظفر وحسن العاقبة قال تعالى: {وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} 2، وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} 3، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} 4. وقد كتبنا هذا تذكرة، ولم يبلغنا عنك في فتنة عزان ما يوجب اتهامك، ولكن أحببنا الموعظة، والتذكرة والواصل إليك ولدنا علي بن سليم بتدبير الإمام بتذكير أهل الإسلام وحثهم على الثبات، والتمسك بدين الله الذي ارتضاه لنفسه، واختار القدوم عليكم لأنكم أخص، والله الموفق الهادي وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.

_ 1 سورة النحل آية: 94. 2 سورة الصافات آية: 173. 3 سورة النحل آية: 128. 4 سورة التوبة آية: 123.

الرسالة السادسة والأربعون: [بيان خطبة الشيخ عبد اللطيف في الفتنة بين سعود وأخيه]

الرسالة السادسة والأربعون: [بيان خطبة الشيخ عبد اللطيف في الفتنة بين سعود وأخيه] وله أيضا -قدس الله روحه ونور ضريحه- رسالة إلى الشيخ حمد بن عتيق في شأن الفتنة الواقعة بين آل سعود، وكيف كان أول هذه الفتنة وآخرها، وقد تقدم نظيرها إلى أهل الحوطة، ولكن هذه أبسط. فصّل الشيخ رحمه الله فيها ما عنده وشرحه كأن الشيخ حمد قد كتب إليه بما عنده في ذلك وأوضحه، وقد حثه فيها –رحمه الله- على بذل الجد والاجتهاد في تحريض الناس على جهاد أعداء الله ورسوله الذين قلعوا أصول الدين والإسلام، وهدموا قواعده العظام، وطمسوا منه المنار والأعلام، وعطلوا الأحكام الشرعية وأظهروا القوانين الإفرنجية. وهذه وظيفة العلماء قديما وحديثا يتواصون بالنصح لعباد الله وردهم إليه تحضيضا وحثا، وليس من شأنهم السكوت، وتمشية الحال على أي حال كما هي حال من لا غيرة له على دين الله من أئمة الجهل والضلال، الذين يرون أن الكف لهم أسلم وأن هذا الرأي أحكم، وهذا نص الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد اللطيف بن عبد الرحمن إلى الأخ المكرم حمد بن عتيق، سلمه الله تعالى ونصر به شرعه ودينه، وثبت إيمانه ويقينه. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد فأحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو على حلو نعمه، ومر بلوائه وبديع حكمه. والخط وصل، وما ذكرت صار معلوما، وكتبت لك خطا أولا على نشر النصائح، وكتب الرسائل لأني استعظمت ما فعل سعود من خروجه على الأمة وإمامها، يضرب برها وفاجرها إلا من أطاعه وانتظم في سلكه، و (عبد الله) له بيعة وله ولاية شرعية في الجملة. ثم بعد ذلك بدا لي

منه أنه كاتب الدولة الكافرة الفاجرة، واستنصرها واستجلبها على ديار المسلمين فصار كما قيل: والمستجير بعمرو عند كربته ... كالمستجير من الرمضاء بالنار فخاطبته شفاها بالإنكار والبراءة، وأغلظت له بالقول أن هذا هو هدم لأصول الإسلام، وهدم لقواعده، وفيه، وفيه، وفيه مما لا يحضرني تفصيله الآن؛ فأظهر التوبة والندم وأكثر الاستغفار، وكتبت على لسانه لوالي بغداد أن الله قد أغنى ويسر وانقاد لنا من أهل نجد والبوادي ما يحصل به المقصود -إن شاء الله-، ولا حاجة لنا بعساكر الدولة، وكلام من هذا الجنس. وأرسل الخط فيما أرى، وتبرأ مما جرى، فاشتبه علي أمره وتعارضا عندي موجب إمامته ومبيح خلعه، حتى نزل سعود بمن معه من أشرار نجد وفجارها ومنافقيها، فعثا في الأرض بسفك الدماء، وقطع الثمار وإخافة الأرامل والمحصنات، وانتهاك حرمة اليتامى والأيامى. هذا وأخوه منحصر في شعب الحائر، وقد ظهر عجزه واشتهر، وأهل البلد معهم من الخوف ومحبة المسارعة إليه ما قد عرف. فرأيت من المتعين على مثلي الأخذ على يد أهل البلاد، والنّزول إلى هذا الرجل والتوثق منه ودفع صولته، حقنا لدماء المسلمين، وصيانة لعوراتهم ونسائهم، وحماية لأموالهم وأعراضهم. وكان لم يعهد لي شيئا، ولكن الأمر إذا لم يدرك كان الرأي فيه أصوبه وأكمله وأعمه نفعا. فلما واجهت سعودا وخاطبته فيما يصلح الحال بينه وبين أخيه اشترط شروطا ثقالا على أخيه، ولم يتفق الحال، فصارت الهمة فيما يدفع الفتنة، ويجمع الكلمة، ويلم الشعث ويستدرك البقية، وخشيت من عنوة على البلدة يبقى عارها، بعد سفك دمائهم ونهب أموالها، والسفاح

بنسائها لما رأيت أسباب ذلك متوفرة، وقد رفع الإيمان بالله ورسله والدار الآخرة، وخرج عرفاؤه والمعروفون من رجالها فبايعوا سعودا بعدما أعطاهم على دمائهم وأموالهم محسنهم ومسيئهم عهد الله وأمانه عهدا مغلظا؛ فعند ذلك كتبت إليك الخط الثاني بما رأيت من ترك التفرق والاختلاف ولزوم الجماعة. وبعد ذلك أتانا النبأ الفادح الجليل، والخطب الموجع العظيم، الذي طمس أعلام الإسلام، ورفع الشرك بالله وعبادة الأصنام، في تلك البلاد التي كانت بالإسلام ظاهرة، ولأعداء الملة قاهرة، وذلك بوصول عساكر الأتراك واستيلائهم على الحسا والقطيف يقدمهم طاغيتهم داود بن جرجيس، داعيا إلى الشرك بالله وعبادة إبليس؛ فانقادت لهم تلك البلاد، وأنزلوا العساكر بالحصون والقلاع، ودخلوها بغير قتال ولا نزال، فطاف بهم إخوانهم من المنافقين، وظهر الشرك برب العالمين، وشاعت مسبة أهل التوحيد والدين، وفشا اللواط والمسكر والخبث المبين، ولم ينتطح في ذلك شاتان، لما أوحاه وزينه الشيطان، من أن القوم أنصار لعبد الله بن فيصل. فقبل هذه الحيلة من آثر الحياة الدنيا وزينتها، على الإيمان بالله ورسله وكف النفس عن هلاكها وشقاوتها. وبعضهم يظن أن هذه الحيلة لها تأثير في الحكم لأنهم لم يستضيئوا بنور العلم، ولم يلجؤوا إلى ركن وثيق. بل بلغني أن بعض من يدعي طلب العلم يحتج بقول شاذ مطرح، وهو أن لولي الأمر أن يستعين بالمشرك عند الحاجة، ولم يدر هذا القائل أن هذا القول يحتج قائله بمرسل ضعيف مدفوع بالأحاديث المرفوعة الصحيحة، وأن قائله اشترط أن لا يكون للمشركين رأي في أمر المسلمين ولا سلطان، لقوله تعالى: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ

الرسالة السابعة والأربعون: [الحث على الجهاد]

لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} 1. فكيف بما هو أعظم من ذلك وأطم من الانسلاخ الكلي، والخدمة الظاهرة لأهل الشرك. إذا عرفت هذا عرفت شيئا من جناية الفتن، وأن منها قلع قواعد الإسلام، ومحو أثره بالكلية. وعرفت حينئذ أن هذه الفتنة من أعظم ما طرق أهل نجد في الإسلام، وأنها شبيهة بأول فتنة وقعت فيه، فالله الله في الجد والاجتهاد، وبذل الوسع والطاقة في جهاد أعداء الله وأعداء رسله قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ} 2، إلى أمثال ذلك في القرآن يعرفها الخبير بهذا الشأن. هذا ما عندي في هذه الحادثة قد شرحته وبسطته كما ذكرت لي ما عندك. وأسأل الله أن يهديني وإياك إلى صراطه المستقيم، وأن يمُنّ علينا وعليك بمخالفة أصحاب الجحيم، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم. الرسالة السابعة والأربعون: [الحث على الجهاد] وله أيضا -قدس الله روحه ونور ضريحه- رسالة إلى الشيخ حمد بن عتيق أيضا يحضه على الغلظة في معاداة من والى المشركين، وركن إليهم أو سافر إلى بلادهم، وشهد كفرياتهم ومبارزتهم لرب العالمين، لأن بعضا ممن ينتسب إلى العلم والدين ما كبر همه بهذه القضية، ولا عرف المصيبة والرزية، وبعضا أنكر وتبرأ لكن مع الهُوَينا ولين الجانب، وهذا لا يستقيم معه إسلام بل هو للهدي النبوي مجانب، وهذا نص الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد اللطيف بن عبد الرحمن إلى الأخ المكرم الشيخ حمد بن عتيق -سلمه الله تعالى وفرج له من كل هم وضيق.

_ 1 سورة النساء آية: 141. 2 سورة آل عمران آية: 187.

سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: أوصيك بتقوى الله، والصدق في معاملته، ونصر دينه والتوكل عليه في ذلك، وأكثر الناس استنكروا الإنكار على من والى عساكر المشركين وركن إليهم وراح إلى بلادهم، وشهد كفرياتهم ومبارزتهم لرب العالمين، بالقبائح والكفريات المتعددة. هذا مع قرب العهد بدعوة شيخنا، والقراءة في تصانيفه ورسائله وأصوله، وهذا مما يستبين به ميل النفوس إلى الباطل ومسارعتهم إليه ومحبتهم له، قال تعالى: {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ} 1، ويبلغنا عنك ما يسر، ولكننا نرجو لنا ولك فوق ذلك مظهرا، وبعض الإخوان ما كبر همه بهذه القضية، ولا اشتد إنكاره ولا ظهر منه غضب لله ولا حمية لدينه، وأنفة من ذهاب الإسلام وهدم قواعده. وإن أنكر بعضهم وذم ذلك، وتبرأ منه لكنه مع الهُوَينا في ذلك ولين الجانب ومحبته للأغراض وعدم البحث. وأظن الشيطان قد بلغ مراده منهم في ذلك، واكتفى به لما فيه من الغرض ولعلمه بغائلته وغايته، وأن الدين لا يستقيم معه قال تعالى: {فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَاداً كَبِيراً} 2 أي: بالقرآن. وللشيطان وأعوانه غرض في المداهنة لأنها وسيلة إلى السلم، ووضع الحرب بين الطائفتين قال تعالى: {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} 3 شعرا: وثمود لو لم يدهنوا في ربهم ... لم تُدْم ناقتهم بسيف قدار فعليك بالجد والحذر من خدع الشيطان. جعلنا الله وإياك من أنصار السنة والقرآن. ثم قال -رحمه الله تعالى-: ولا تدخر حض أهل الأفلاج، وحثهم على جهاد هذه الطائفة الكافرة. وأهل نجد كادهم الشيطان وبلغ مبلغا عظيما

_ 1 سورة المؤمنون آية: 71. 2 سورة الفرقان آية: 52. 3 سورة القلم آية: 9.

وصل بهم إلى عدم الوحشة من أكفر خلق الله، فأضلهم عن سواء السبيل الذين جمعوا بين الشرك في الإلهية والشرك في الربوبية وتعطيل صفات الله، ومعهم جملة من عساكر الإنكليز، المعطلة لنفس وجود الباري القائلين بالطبائع والعلل وقدم العالم وأبديته، وبلغنا أنهم كتبوا خطوط الجهات بنجد مضمونها: إنا مسلمون نشهد أن لا إله إلا الله ونحو هذا الكلام، وبسطوا القول في أمر الدولة والترهيب منهم والترغيب فيهم. إذا عرفت هذا، فاعلم أن الله قد استخلفكم في الأرض بعد ذلك القرن الصالح لينظر كيف تعملون، فاحذر أن تلقاه مداهنا في دينه، أو مقصرا في جهاد أعدائه، وفي النصح له ولكتابه ولرسوله، واجعل أكثر درسك في هذا، ولو اقتصدت في التعليم، والقلوبُ أوعية يعطى كل وعاء بحسبه. (يقول جامع الرسائل:) وقد اختصر هذه الرسالة من نقلها لنا، فقال: هذا منقول، وما بعده من كلام الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن -رحمه الله وعفا عنه-. ثم قال الناقل: قال -رحمه الله-: وأما مسألة دعوى المودع انتقال الوديعة إليه بالبيع فهذا مما لا يقبل قوله فيه، بل حكمه حكم سائر المودعين، وكلام الفقهاء صريح في أنه لا يقبل قوله مطلقا، بل فيه مسائل مخصوصة بعضهم اكتفى بعدها عن حدها، وما عداها فهو باق على أصله. وقد أشار بعضهم إلى ذلك في الكلام على قبول قول الأمين في المضاربة وغيرها من مسائل هذا الباب، وعموم قولهم في باب الدعاوي والبينات داخل فيه ما لم ينص على استثنائه. وإن وقفت على كلام

خاص في هذه المسألة رفعته إليك إن شاء الله، وذكر ابن رجب في شرح الأربعين في شرح حديث: "لو يعطى الناس بدعواهم" 1 شيئا من تعريف المدعي، فراجعه إن شئت. وأما الفرق بين الفلاسفة الإلهيين والفلاسفة المشائين فذكر شارح رسالة ابن زيدون أن المشائين أفلاطون ومن اتبعه؛ وأنهم أول من قال بالطبائع، وتكلم فيها وأمر بالرياضة والمشي لمعاونة قوة الطبيعة، وتحليل ما يضادها من الأخلاط، وأمر بالمشي والرياضة عند المذاكرة في مسائل الطبيعة فسموا مشائين لهذا. وأما الإلهيون فهم قدماؤهم من أهل النظر والكلام في الأفلاك العلوية وحركاتها، وما يزعمونه وينتحلونه من إفاضتها وتأثيرها، وفي اللغة إطلاق الإله على المدبر والمؤثر كما يطلق على المعبود، وقد عرفت أن جمهورهم وقدماءهم ليسوا مما جاءت به الرسل في شيء، ومذهبهم أكفر المذاهب وأبطلها وأضلها عن سواء السبيل 2، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.

_ 1 البخاري: تفسير القرآن (4552) , ومسلم: الأقضية (1711) , والنسائي: آداب القضاة (5425) , وابن ماجه: الأحكام (2321) , وأحمد (1/342 ,1/351 ,1/363) . 2 إن شارح قصيدة ابن زيدون أديب قليل البضاعة في الفلسفة فهو لم يبين حقيقة هؤلاء الفلاسفة المعروفة في كتب الفلسفة وتاريخ الفلاسفة، ومن هؤلاء الفلاسفة الذين ذكرهم من يؤمنون بالبرهان العقلي بأن للعالم ربا عليما حكيما قديرا متصفا بالكمال منزها عن النقص، ويدعون إلى الفضائل، وينفرون من الرذائل بحسب ما وصل إليه علمهم واجتهادهم، ولكن توحيدهم وعلمهم بالإلهيات والآداب لا يتفق مع كل ما جاء به الرسل -عليهم الصلاة والسلام- وأنّى لهم ذلك، وهو يتوقف على الوحي ولا يستقل به العقل. وهم على مذاهب أكفرها وأبطلها وأضلها مذهب الماديين الذين ينكرون كل ما وراء المادة التي تعرف بالحواس وقواها.

الرسالة الثامنة والأربعون: [الحث على الدعوة إلى الله ونشر العلم بين الناس]

الرسالة الثامنة والأربعون: [الحث على الدعوة إلى الله ونشر العلم بين الناس] وله أيضا – قدس الله روحه ونور ضريحه- رسالة إلى الشيخ حمد بن عتيق أيضا يحضه على الدعوة إلى الله، وبث العلم ونشره في الناس خصوصا التحذير عن موالاة أعداء الله ورسله، والحث على جهادهم واستنقاذ بلاد المسلمين من أيديهم، وهذا نصها: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن إلى الأخ المكرم الشيخ حمد بن عتيق، سلمه الله تعالى ووفقه للصبر واليقين، ورزقه الهداية بأمره والإمامة في الدين. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: فأحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، وهو للحمد أهل، وأسأله الثبات على دينه الذي رغِب عنه الجاهلون، ونكب عنه المبطلون. والخط وصل وسرني ما فيه من الإخبار عن عافيتكم وسلامتكم والحمد لله على ذلك. وما ذكرته صار معلوما، لا سيما ما أشرت إليه من حال الجاهلين، وخوضهم في مسائل العلم والدين، وليس العجب ممن هلك كيف هلك إنما العجب ممن نجا كيف نجا. قال تعالى: {وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ} 1. والواجب على من يرزقه الله علما وحكمة أن يبثه في الناس، وينشره لعل الله أن ينفع به، ويهدي على يديه من أدركته السعادة وسبقت له الحسنى. واعلم أن الإمام سعودا قد عزم على الغزو والجهاد كتبت لك خطا فيه الإلزام بوصول الوادي وحث من فيه من المسلمين

_ 1 سورة البينة آية: 4.

على الجهاد في سبيل الله، واستنقاذ بلاد المسلمين من أيدي أعداء الله المشركين. وقد بلغك ما صار من صاحب بريدة وخروجه عن طاعة المسلمين، ودخوله تحت طاعة أعداء رب العالمين، ونبذ الإسلام وراء ظهره. كذلك حال البوادي والأعراب استخفهم الشيطان، فأطاعوه وتركوا ما كانوا عليه من الانتساب إلى الإسلام. فتوكل على الله واحتسب خطواتك وكلماتك وحركاتك وسكناتك، وشمِّر عن ساعد جدك واجتهادك، فقد اشتد الكرب، وتفاقم الهول والخطب والله المستعان. وقد عرفت القراء في زمانك وأن أكثرهم قد راغ روغان الثعالب، فلا يؤمن على مثل هذه المقاصد والمطالب، والله سبحانه المسؤول المرجو الإجابة أن يمن علينا وعليك بالتوفيق والتسديد، وأن ينفع بك الإسلام والتوحيد: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} 1. يا سعد إنا لنرجو أن تكون لنا ... سعدا ومرعاك للزوار سعدانا وأن يضر بك الرحمن طائفة ... ولت وينصر من بالخير والانا وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.

_ 1 سورة العنكبوت آية: 69.

الرسالة التاسعة والأربعون: [غربة الدين وقلة الأنصار]

الرسالة التاسعة والأربعون: [غربة الدين وقلة الأنصار] وله أيضا رحمه الله- رسالة إلى الشيخ حمد بن عتيق أيضا، وهذا نصها: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد اللطيف بن عبد الرحمن إلى الأخ المكرم الشيخ حمد بن عتيق، أمده الله بالتسديد والتوفيق، وأذاقه حلاوة الإيمان والتحقيق. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: فأحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو على نعمه. والخط وصل مع الغزو، وما ذكرت صار معلوما، وأرجو أن الله يسدد أمر ولي المسلمين، ويمُنّ عليه بمعرفة هذا الدين، والرغبة فيه، واتباع ما منّ الله به من الهدى الذي جاءت به رسله. وأكثر الناس ما رغبوا في هذا ولا رفعوا به رأسا، ونشكو إلى الله ما نحن فيه من غربة الدين وقلة الأنصار وما ذكرت من جهة ... 1 وأنك ترى العفو والصفح، فاعلم أن الحق في ذلك لله، والواجب على المسلم تغيير المنكر بحسب الاستطاعة، وليس له العفو والصفح إلا في حق نفسه؛ وما ورد من النصوص في الصفح عن أعداء الله إنما هو في الآي المكية، وقد صرح القرآن بنسخه وجاءت السنة ببيان ذلك، ولم يرد في الآيات المدنية الأمر بالصفح عن المشركين وأعداء الدين، بل جاء الأمر بجهادهم والغلظة عليهم في غير موضع، وجاء الأمر بإعلان الإنكار على المجاهر من الفساق ولو كان مسلما، ومن جاهر بالمعاصي ونصرة

_ 1 بياض بالأصل.

أولياء المشركين فلا حرمة لعرضه، ولا يشرع الستر عليه بترك الإنكار، وفي قصة حاطب ما يدلك على هذا، وهو صحابي بدري، وقد قال تعالى: {وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} 1. وقد ذكر ابن القيم طرَفا من الفروق في كتاب الروح، فينبغي مراجعته ومعرفة حدود ما أنزل الله على رسوله. ومثلك يقتدى به، وقد نفع الله بإنكارك وشدتك على أهل الزيغ، فلا ينبغي العدول إلى خيال لا يعرج عليه؛ وقد عرفت حال أهل وقتك من طلبة العلم، وأنهم ما بين مجاهر بإنكار الحق قد لبس عليه أمر دينه، أو مداهن مع هؤلاء ومع هؤلاء، غاية قصده سلوكه مع الناس وإرضاؤهم، أو ساكت معرض عن نصرة الحق ونصرة الباطل يرى الكف أسلم، وأن هذا الرأي أحكم. هذا حال فقهاء زمانك فقُل لي: من يقوم بنصر الحق وبيانه وكشف الشبه عنه ونصرته إذا رأيت السكوت والصفح كما في البيتين اللذين في الخط؟ فينبغي النظر في زيادة قيد في تلك الأبيات لئلا يتوجه الإيراد، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.

_ 1 سورة النور آية: 2.

الرسالة الخمسون: [جواب عن سؤال في حديث جابر بن عبد الله والدين الذي كان عليه لليهودي]

الرسالة الخمسون: [جواب عن سؤال في حديث جابر بن عبد الله والدين الذي كان عليه لليهودي] وله أيضا -رحمه الله وعفا عنه- رسالة إلى الشيخ عبد العزيز بن حسن بن يحيى قاضي المحمل، وقد سأله عن حديث جابر بن عبد الله لما توفي أبوه، وعليه ثلاثون وسقا لرجل من اليهود، وفي الحديث: "فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وكلم اليهودي ليأخذ ثمر نخله بالذي له فأبى" 1. قال السائل: وظاهر هذا إباحة المجهول بالمعلوم في الجنس، وهذا ممنوع شرعا فأجابه -رحمه الله-، وذكر تراجم الأئمة، وتعددها بحسب ما تضمن من الفقه، وأن قول السائل: وهو ممنوع شرعا عبارة لا ينبغي أن تورد على الأحاديث النبوية، وهي خطأ منه في التعبير وغفلة، وقد بين الشيخ فسادها في نفسها، وهذا نص الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد اللطيف بن عبد الرحمن إلى الأخ المكرم عبد العزيز بن حسن -سلمه الله تعالى وهداه- آمين. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: فأحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو على نعمه، والخط وصل -وصل الله حبلك وأعلا مجدك- وما ذكرته قد علم، وحديث جابر حديث صحيح مشهور خرجه الجماعة، وترجم له تراجم متعددة بحسب ما تضمن من الفقه. قال البخاري: باب إذا قاصه وجازفه في الدَّين تمرا بتمر وغيره، وذكره وقال: باب: إذا قضى دون حقه فهو جائز، وكذلك أهل السنن وسياقهم متقارب. وقال البخاري في باب المقاصة والمجازفة: قال وهب بن كيسان: إن جابر بن عبد الله أخبره أن أباه توفي، وترك عليه ثلاثين وَسْقا لرجل من اليهود فاستنظره جابر فأبى أن يُنظِره، فكلم جابر رسول الله صلى الله عليه وسلم ليشفع له إليه، فجاء رسول الله صلى الله عليه

_ 1 البخاري: في الاستقراض وأداء الديون والحجر والتفليس (2396) , والنسائي: الوصايا (3639 ,3640) , وأبو داود: الوصايا (2884) , وابن ماجه: الأحكام (2434) , وأحمد (3/373) .

وسلم وكلم اليهودي ليأخذ تمر نخله بالذي له، فأبى، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم النخل فمشى فيه، ثم قال لجابر: "جُذَّ له فأوف له الذي له" 1، فجذه بعدما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأوفاه ثلاثين وَسْقا، وفضلت له سبعة عشر، فجاء جابر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليخبره بالذي كان فوجده يصلي العصر فلما انصرف أخبره بالفضل فقال: " أخبر بذلك ابن الخطاب" 2. فجاء جابر إلى عمر فقال عمر: لقد علمت حين مشى فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم- َليبارَكنّ فيها، وقبل هذا قال -رحمه الله-: باب: إذا قضى دون حقه أو حلله فهو جائز، وساق الحديث مختصرا من طريق آخر، لكن ذكر فيه شاهدا للترجمة، وهو قوله: فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فسألهم أن يقبلوا ثمر حائطي ويحللوا أبي. إذا عُرِف هذا بطل قول السائل: وظاهر هذا إباحة بيع المجهول بالمعلوم في الجنس، فلا جهالة والحالة هذه لأن الحديث صريح في أن ثمر الحديقة دون الثلاثين، وإنما بُورِك فيه لما مشى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقول السائل: وهو ممنوع شرعا، عبارة لا ينبغي أن تورد على الأحاديث النبوية، وهل الشرع إلا ما جاء عن الله وعن رسوله؟ وأيضا فهي فاسدة في نفسها، فإن الاعتياض بالمجهول عن المعلوم في الجنس جائز في غير رِبا الفضل إذا حصل التراضي، لأن للمدِين أن يزيد، و "خيركم أحسنكم قضاء" ولرب الدَّين أن يضع من دينه ما شاء، وفي حديث كعب: "ضع الشطر" 3 وأن تمنع هذه المسألة لما فيه ضرر وغرر من المبايعات والمعاملات. هذا ما ظهر لي، وهو المعروف من القواعد الشرعية فانتبه -لازالت قريحتك وقّادة زكية- وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.

_ 1 البخاري: في الاستقراض وأداء الديون والحجر والتفليس (2396) , وأبو داود: الوصايا (2884) , وابن ماجه: الأحكام (2434) . 2 البخاري: في الاستقراض وأداء الديون والحجر والتفليس (2396) , وابن ماجه: الأحكام (2434) . 3 البخاري: الصلاة (471) , ومسلم: المساقاة (1558) , والنسائي: آداب القضاة (5408) , وأبو داود: الأقضية (3595) , وابن ماجه: الأحكام (2429) , وأحمد (3/454 ,3/460 ,6/386) , والدارمي: البيوع (2587) .

الرسالة الحادية والخمسون: [استعمال الماضي موضع المضارع]

الرسالة الحادية والخمسون: [استعمال الماضي موضع المضارع] وله أيضا -رحمه الله- رسالة أيضا إلى الشيخ عبد العزيز بن حسن هذا نصها: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد اللطيف بن عبد الرحمن إلى الأخ المكرم عبد العزيز بن حسن بن يحيى -سلمه الله تعالى ورزقه الفقه في الدين-. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو على سوابغ نعمه، والخط وصل يوم ركوبنا، ولا كتبت جوابه إلا بعد تثويرتنا، وأما الأول فلم ألتفت إلى جوابه لما كنت بصدده من الاشتغال بالحج. إذا عرفت هذا، فاعلم أن المسألة الأولى التي هي استعمال الماضي موضع المضارع لهم وجهان: أحدهما: أن في استعمال الصيغة الماضية بدل المضارعية تنبيها، وإشارة إلى تحقيق النفي في الحال والاستقبال كتحقيق مضي الماضي من الأفعال والأحوال وذلك باستعارة ما وضع للماضي لما قصد به الحال والاستقبال تقوية وتأكيدا لمضمون الجملة المنفية، وذلك شائع في لسانهم، وفي التنْزيل: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ} 1،: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ} والمعنى يأتي ويقول، ومنه استعمال المضارع بدل الماضي إشارة إلى التجدد والاستمرار شيئا فشيئا فقوله تعالى: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ} 2،: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ} 3،: {قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ} 4، والمعنى: قد علمنا، ومنه قول الأعشى: وأرى من عصاك أصبح محرو ... با وكعب الذي يطيعك عال وقد أسبي الفتاة فتعصي ... كل واشٍ يريد جزم حبال

_ 1 سورة النحل آية: 1. 2 سورة الأنعام آية: 33. 3 سورة الحجر آية: 97. 4 سورة الأحزاب آية: 18.

يريد رأيت وأسبيت (والوجه الثاني) : أن الكلمة إن دلت على معنى في نفسها واقترنت بزمان ففعل، فإن كان الزمان الذي دلت عليه ماضيا، فالفعل ماض، وإن كان للحال والاستقبال، فالفعل مضارع، وإن كان مستقبلا فقط، فالفعل أمر كما هو مقرر في موضعه فلو عبر بالمضارع، وقال: لا ألبس ممتثلا لاحتمل أنه قصد النفي في الحال فقط أو فيما يستقبل فقط، لأن ذلك جرى في لسانهم ومنه: {لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ} 1، {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ} 2 واحتمل وقوع استثناء يعقبه، فلما عبر بالماضي (زال) الاحتمال وانقطع التوقع. وقصد المعنى الأصلي وهو النفي في الماضي لا يتوهم، لأن النفي في الحال والاستقبال تقول: لا لبست، لا ضربت، لا ظلمت قاصدا الحال والاستقبال بخلاف، ما ضربت، ما لبست، فإنها للنفي في الماضي. [معنى النفي في قولهم: لا قتلت الميت] وأما المسألة الثانية وهي قولك: ما معنى النفي في قولهم: لا قتلت الميت؟ فالذي في الحلف بالطلاق وتعلقه بالمستحيل: لأقتلن، بلام التوكيد الموطئة للقسم، والفعل بعدها مؤكد بنون التوكيد الثقيلة ولا نفي فيها، فتنبه، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.

_ 1 سورة التوبة آية: 92. 2 سورة الأنبياء آية: 47.

الرسالة الثانية والخمسون: إخلاص العبادة لله

الرسالة الثانية والخمسون: إخلاص العبادة لله وله أيضا -قدس الله روحه ونور ضريحه- رسالة إلى عبد الرحمن بن محمد بن جربوع، وقد راسله عبد الرحمن، وسأله عن تفصيل ما يجب على الإنسان من التوحيد وأنواعه، وما يجب فيه من المعاداة والموالاة، وعن كيفية طلب العلم للمبتدي وما يكون سببا لتحصيله؟ فأجابه –رحمه الله- على سؤاله على طريق الإيجاز والإجمال؛ إذ التفصيل يستدعي طولا؛ فبين له -رحمه الله- الأصول والقواعد، وأرشده إلى تلك المعارف والمقاصد، التي تندرج فيها كل عبادة، وينال بها من رام أسباب نجاته ما أمّله وأراده، وبين له حقيقة الموالاة والمعاداة، التي هي على العباد من أوجب الواجبات، مع أنها قد سفت عليها السوافي فانمحت آثارها، وهجم ليل الأهواء بكلاكله لما أفَلت أقمارها، فيا له من جواب ما أجزله على إيجازه واختصاره! وما أعظم فائدته لمن ألقى السمع وأصغى بقلبه وأفكاره! وهذا نص الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد اللطيف بن عبد الرحمن إلى الأخ المكرم عبد الرحمن بن محمد بن جربوع، سلمه الله تعالى، وسلك به السبيل المشروع. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: فالخط وصل وصلك الله ما يرضيه، وتغتبط في خطك بنعمة الإسلام، ومعرفة التوحيد في هذا الزمان، زادك الله اغتباطا، وأوزعك شكر هذه النعم التي أنعم بها علينا وعليكم، ووفقنا للعمل الصالح الذي يرضاه، وتسأل عن تفصيل ما يجب على الإنسان من التوحيد وأنواعه، وما يجب فيه من المعاداة والموالاة، وكيفية طلب العلم للمبتدي، وما يكون سببا لتحصيله؛ فمعرفة التفاصيل تتوقف على معرفة الأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية. فالدين كله توحيد، لأن التوحيد إفراد الله بالعبادة وأن

تعبده مخلصا له الدين. والعبادة اسم جامع لكل ما يحبه الله، ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة، فيدخل في ذلك قول القلب وعمله وقول اللسان وعمل الجوارح. وترك المحظورات والمنهيات داخل في مسمى العبادة، ولذلك فسر قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} 1 بالتوحيد في العبادة لأن الخصومة فيه، وهو تفسير ابن عباس. إذا عرفت هذا عرفت أن على العبد أن يخلص أقواله وأعماله لله، وأن من صرف شيئا من ذلك لغيره فقد أشرك في عبادة ربه، ونقص توحيده وإيمانه، وربما زال بالكلية إذا اقتضى شركه التسوية بربه والعدل به، وتضمن مسبة لله، فإن الشرك الأكبر يتضمنها، ولهذا ينزه الرب تعالى ويقدس نفسه عن ذلك الشرك في مواضع من كتابه كقوله سبحانه: {سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} 2،: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} 3، {وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} 4، ومحَل تفاصيلها الكتب المصنفة في بيان الأحكام الشرعية وواجباتها ومستحباتها، سواء كانت في معرفة القلوب وعلمها، أو عملها وسيرها. فالأول العقائد وهي: التوحيد العلمي، وقد صنف أهل السنة فيها مصنفات من أحسنها كتب شيخ الإسلام ابن تيمية. وأما الثاني وهو علم أعمال القلوب وسيرها المسمى: علم السلوك، فقد بسط القول فيه ابن القيم -رحمه الله تعالى- في شرح المنازل، وفي سفر الهجرتين. وأما أعمال الجوارح الظاهرة فالمصنفات فيها أكثر من أن تُحصر، وبالجملة فمعرفة جميع تفاصيل العبادة تتعذر؛ إذ ما من عالم إلا وفوقه من هو أعلم منه حتى ينتهي العلم إلى الله. [الموالاة والمعاداة] وأما الموالاة والمعاداة فهي من أوجب الواجبات، وفي الحديث:

_ 1 سورة البقرة آية: 21. 2 سورة القصص آية: 68. 3 سورة الصافات آية: 180. 4 سورة يوسف آية: 108.

"أوثق عُرى الإيمان: الحب في الله، والبُغض في الله" 1. وأصل الموالاة الحب، وأصل المعاداة البغض، وينشأ عنهما من أعمال القلوب والجوارح ما يدخل في حقيقة الموالاة والمعاداة كالنُّصرة والأُنس والمعاونة، وكالجهاد والهجرة ونحو ذلك من الأعمال، والولي ضد العدو. [كيفية طلب العلم] وأما كيفية طلب العلم، ففي حديث ابن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث معاذا إلى اليمن فقال: "إنك تأتي قوما من أهل الكتاب" 2 الحديثَ، فيه بيان كيفيته والبُداءة بالأهم فالأهم من واجبات الإيمان وأركان الإسلام، وينتقل درجة درجة من الأعلى إلى ما دونه، ثم بعد ذلك يتعلم ما يجب من الحقوق في الإسلام، بخلاف ما يفعله بعض الطلبة من الاشتغال بالفروع والذيول. وفي كلام شيخ الإسلام -قدس الله روحه-: مَن ضيّع الأصول، حُرم الوصول. ومن ترك الدليل، ضل السبيل. وأما السبب في تحصيله فلا أعلم سببا أعظم وأنفع وأقرب في تحصيل المقصود من التقوى قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً} 3 وفي الأثر (من عمل بما عَلِم ورّثه الله عِلم ما لم يعلم) قال الشافعي -رحمه الله-: شكوت إلى وكيع سُوء حفظي ... فأرشدني إلى ترك المعاصي وقال: اعلم بأن العلم نور ... ونور الله لا يُؤْتاه عاصي ومن الأسباب الموجبة لتحصيله: الحرص والاجتهاد، قال تعالى: {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لأسْمَعَهُمْ} 4 ومنها: إصلاح النية، وإرادة وجه الله والدار الآخرة، فإن النية عليها مدار الأعمال، ولا يتم أمر ولا تحصل بركته إلا بصلاح القصد والنية. وهناك أسباب أُخَر تُذكر في الكتب المؤلفة في آداب العلم والتعلم ليس هذا محل بسطها، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.

_ 1 أبو داود: السنة (4599) , وأحمد (5/146) . 2 البخاري: المغازي (4347) , ومسلم: الإيمان (19) , والترمذي: الزكاة (625) والبر والصلة (2014) , والنسائي: الزكاة (2435) , وأبو داود: الزكاة (1584) , وابن ماجه: الزكاة (1783) , وأحمد (1/233) , والدارمي: الزكاة (1614) . 3 سورة النساء آية: 66. 4 سورة الأنفال آية: 23.

الرسالة الثالثة والخمسون: [إلى علماء الحرمين الشريفين]

الرسالة الثالثة والخمسون: [إلى علماء الحرمين الشريفين] وله أيضا -قدس الله روحه ونور ضريحه- رسالة إلى علماء الحرمين الشريفين زادهما الله تشريفا وتعظيما إلى يوم الدين. وسبب ذلك أنه لما ورد أمر السلطان بأن يعطل الأذان في الحرمين الشريفين، وأن يكشف النساء عن وجوههن للفَجرة والفاسقين، حملته الحمية الإسلامية، والغَيرة الحنيفية والأنَفة العربية، إلى مكاتبتهم في شأن هذا الفادح العظيم، والحدثان الفظيع الذميم، ودفع مفاسد ما أراده أعداء الملة والدين، وتغيير شعائر الإسلام، وهدم معالمه العظام. واعلم أن الشيخ -رحمه الله- من أعظم الناس في الغلظة في شأن الشرك والمشركين، ومجاهدة من والاهم وركن إليهم ممن ينتسب إلى الإسلام والمسلمين، لكنه تلطف في هذه الرسالة، لعل الله أن يبطل ما قصدوه من الضلالة، وأن يمحو بذلك ما رامه أهل الغواية والجهالة. وانظر إلى ما أعطاه الله تعالى من حسن التخلص برسم التحية، لمن نكب عن الطريقة المرضية، حيث قال: بعد إهداء التحية لأنصار الملة الحنيفية، وحماة الشريعة المحمدية، ولم يعين إنسانا بعينه من العلماء المترئسين، والمتصدرين للتدريس في حرم الرسول والبلد الأمين، وبهذا يندفع توهم إرادة السهولة واللين، أو أن هذه مخالفة لما تقدم من الرسائل من الغلظة والتخشين، فرحمه الله من إمام ما أعظم غيرته لله، وما أحرصه على إعلاء كلمة الله، ولزوم كتابه وسنة رسوله! وهذا نص الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، وكفى بالله شهيدا، وجعل في كل زمان فترة من الرسل بقايا من أهل العلم يجددون ما اندرس من أعلام الملة والدين تجديدا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأكبره تكبيرا، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله

أرسله بين يدي الساعة بشيرا ونذيرا، وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الذين آمنوا به، وعزروه ونصروه وسلم تسليما كثيرا. إلى جناب المفضل، والشيخ المبجل، شيخ المدرسين والمتصدرين بحرم الرسول، ومن لديه من العلماء الأفاضل الفحول، بعد إهداء السلام والتحية لأنصار الملة الحنيفية وحماة الشريعة المحمدية، صدرت هذه الرسالة، وسودت هذه العجالة، لما شاع في البلاد العربية، اليمانية منها والعراقية والتهامية والنجدية ما دهم الإسلام وعراه، وأناخ بحرمه وحماه، من الخطب العظيم، والهول الجسيم والكفر الواضح المستبين، والأمر بهدم أظهر شعائر الملة والدين، وأن لا ينادَى بالصلوات الخمس في أوقاتها بالتأذين، والأمر بهتك ستر حرم المسلمين، وكشف وجوههن للفجرة والفاسقين: {تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّا ً} 1، وتطير قلوب أهل الإسلام إعظاما لشناعته وكفره وردّا؛ كيف تهدم قواعد الملة والإسلام، وتظهر شعار الكفر وعبادة الأصنام، وترفع رايتها بين الأنام، بالحرم والبلدة الحرام؟!: {فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ} 2 أمَا في الزوايا خبايا؟! أمَا للعلم والرجال بقايا؟! وقد قال صلى الله عليه وسلم لعدي بن حاتم لما وفد عليه بعد أن فر إلى الشام هاربا: "ما يُفرّك؟! أتفر من أن يقال الله أكبر؟! فهل تعلم شيئا أكبر من الله؟ " 3 فتعسا لها من حادثة وقضية، جاءت بهدم الإيمان والأركان الإسلامية، وقلع القواعد النبوية. يكاد لهذا المستجن بطيبة ... ينادي بأعلى الصوت يا آل هاشم وقد بلغنا عنكم ما تسر به نفوس المسلمين، من رد ذلك الإفك المبين.

_ 1 سورة مريم آية: 90. 2 سورة هود آية: 116. 3 الترمذي: تفسير القرآن (2954) , وأحمد (4/378) .

والواجب علينا وعليكم أعظم من ذلك، من الجد والاجتهاد في رفع أعلام أوضح الشرائع والمسالك. وقد تواترت عندنا بحمد الله الأخبار، عن كافة العرب من جميع الأقطار بإنكار ذلك وردّه، والحكم بأنه من أظهر شعائر الكفار، ومن فعله وجب معالجته بالحرب والدمار، والكل منهم يعاهد على أنه السابق في تلك الحلبة والمضمار. فاستعينوا بالله واصبروا، واعلموا أن أنصاركم ومددكم جميع أهل الإسلام، وذوو البصائر من أهل النخوة والإقدام. فإياكم إياكم والمداهنة والتساهل في الجهاد والإنكار، فتزل قدم بعد ثبوتها، أو تهوي إلى الدرك الأسفل من النار. كفى حزنا بالدين أن حماته ... إذا خذلوه قل لنا كيف ينصر؟ قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُواً وَلَعِباً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ} 1، فتدبروا هذه الآية الكريمة، وتفطنوا لما دلت عليه أداة الشرط من نفي الإيمان عمن ترك التقوى، ولم يأتمر بما أمر به، ولم ينته عما نهي عنه، من موالاة أهل الكفر والردى، والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب كما هو مقرر عند أهل العلم والهدى. ونحن نعلم أن الله سينصر دينه ويعلي كلمته، وأنه لا يصلح عمل المفسدين؛ ولكن نحب لكم الاعتصام بحبل الله والدخول في جملة أنصاره: {مَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} 2. والمعهود عن الدولة العثمانية من عهد السلطان سليم بن السلطان با يزيد، من وقت ولايتهم على الحرمين الشريفين من أوائل القرن العاشر إلى وقتنا وأوائل عصرنا، هو المبالغة في تعظيم الحرمين الشريفين،

_ 1 سورة المائدة آية: 57. 2 سورة الأنفال آية: 10.

الرسالة الرابعة والخمسون: [نصر مذهب السلف على علم الكلام]

زادهما الله تشريفا وتكريما ومهابة وتعظيما؛ فلعل هذه الحوادث عن بعض النواب والوزراء الذين لا خبرة لهم بسبيل الرشد والهدى، ولا علم لهم بأسباب السعادة والتقى، وصلى الله على إمام المتقين، وعلى آله وصحبه والتابعين، آمين. الرسالة الرابعة والخمسون: [نصر مذهب السلف على علم الكلام] وله أيضا -رحمه الله- رسالة إلى الشيخ أبي بكر بن محمد آل الملا المعروفين ببلد الأحساء، وكان أبو بكر هذا وأشياعه متهمين بطريقة التأويل والتعطيل الكلامية، وكانوا في حال ظهور هذا الإسلام يخفون ذلك. فكتب هذا الشيخ رسالة إلى بعض إخوانه يحضه، وكانت مشتملة على ما يمج سماعه من الزور والبهتان، والدفع لصريح السنة والقرآن، كقوله فيها: إن الله لا داخل العالم ولا خارجه، وإن آيات الصفات وأحاديثها من المتشابه، فكتب عليها الشيخ المبجل، والإمام الجليل المفضل، الشيخ عبد الرحمن بن حسن جوابا بين فيه ما فيها من الزيغ والتعطيل، وأقام على ذلك البرهان والدليل، فزعم أنها ليست له، بل لبعض علماء الأحساء وكان معطلا متأولا. فحكم الشيخ بخط أبي بكر عليه، وأشار برد أباطيله إليه؛ لأن من اعتنى، واشتغل بنسخ كتب الزندقة والتعطيل والتجهم، وأقر ما فيها من نفي إثبات الصفات المؤدي إلى التعطيل، وصمم بل زعم أنه لم يظهر له ما فهمه أهل الإثبات للصفات على ما يليق بعظمة الله وجلاله، ونعوت صفاته وكماله، ويدعي مع ذلك أنه لا يعتقد ما فيها، لكنه ما رد ولا أنكر ما اشتملت عليه من البدع والأهواء، ولم يسلك مناهج أهل الحق والهدى، فدعواه دعوى باطلة جدلية، وسفسطة ظاهرة جلية. ثم إنه كتب يتظلم من تلك الرسالة، وأنها مخالفة لمعتقده ومقاله، فكتب إليه الشيخ عبد اللطيف هذا الجواب، وأبان ما في كلامه من الزيغ والارتياب، وأن الأدلة والقرائن القوية، تدل على استحسانه لتلك الاعتقادات الوبية. فنعوذ بالله من الخِذلان ومخالفة السنة والقرآن. وهذا نص الرسالة:

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي افترض تغيير المنكر باليد واللسان والجنان، وأخذ الميثاق على ورثة الرسل بالبلاغ والبيان، وأن لا يداهنوا في دين الله مغرورا بحبائل الشيطان، وأن لا يركنوا إلى مفتون بزخارف الهذيان، وإن ظن أنه من أهل البصيرة والإيمان، والصلاة والسلام على سيد من جاهد في ذات الله، وإمام من حارب كل من استعبده صنمه أو جاهه أو هواه. من الفقير إلى الله سبحانه عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن إلى الشيخ أبي بكر بن محمد، جمعنا الله وإياه على الطاعة وجنبنا سبل الفتنة والشناعة. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. أما بعد: فقد وصلت إليّ رسالتك إلى شيخنا الوالد حفظه الله ومتعنا والمسلمين بحياته، وقد أحسنت فيها بذكر المعتقد وبيانه، وأنك اقتديت فيه بكلام أئمة الدين كالإمام أبي حنيفة وغيره من السلف الماضين، وهذا هو القصد منكم، وقد أشرت به إليك وقت اجتماعنا؛ إذ بذكرك معتقدك وتقريره والتبري من أهل البدع كالجهمية والمعتزلة والأشعرية والكرّامية والماتُريدية، يحصل لنا نحن، وإياك اتفاق الكلمة وصلاح الطوية، نسأل الله أن يمن بذلك. لكنك أسأت بذكر أمور يحصل منها نفور واشمئزاز، وهذه معاكسة ظاهرة لما أشرت به إليك شفاها، ومتابعة لغرض نفسي شيطاني، لا لقصد شرعي إيماني، من ذلك أنك لما ذكرت أن الرسالة ليست لك بل لبعض أسلافك من علماء الأحساء وأنه كان أشعري الاعتقاد اعترفت، وصرحت بأنك نقلتها لبعض الإخوان بخطك، وهذا فيه ما لا يخفى من

التهمة القوية، حيث أثبتها بخطك، وأشعتها في قومك، ورهطك، غير ملتفت لرد ما فيها من الزور والبهتان، وأن آيات الصفات وأحاديثها من المتشابه، وغير ذلك مما ساق من خرافاته، ومما نمق من غلطاته ووهلاته، وأنت مع ذلك لم تتحاشَ من نقلها وإهدائها إلى الإخوان. وكذلك سميت هذا الرجل وعددته -مع ما ارتكبه- من علماء المسلمين، وما هكذا المعروف من هدي أهل العلم والإيمان، فإنهم لا يكتبون الضلال والباطل والزور، إلا لرده ودفعه في نفس ذلك المزبور، وأنت قد خالفت هديهم وخرجت عن طريقتهم، ومن سلك مسالك التهم فلا يلومن من أساء به الظن. [الاحتجاج بالخط على كاتبه] ثم إن خط الرجل حجة عليه، ودعواه أنه ناقل دعوى تفتقر إلى إثبات ودليل، فلا غَرو أن حكم شيخنا الوالد بخطك عليك، وأشار برد أباطيله إليك. وقد ذكرت أنك كنت متأسيا حال النقل بما في الفقه الأكبر لأبي حنيفة في العقيدة السليمة الحميدة، وعسى الله أن يحقق ذلك، وعلى تسليمه كيف ساغ لك أن تكتب ضدها ولا تبين ما فيه؟! ولو أخذت بواجب أمر الفرقان، وتخلقت بخلق أهل الإيمان، المذكور في قوله سبحانه: {وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً} 1 لما وجه الوالد ولا غيره إليك ردا ولا ملاما، ولكن: عرضت نفسك للبلا فاستهدف ومن ذلك قولك: قد تمادى بنا الكلام، حتى خرجنا عن المقام، تشبيها لأولي الأفهام، ودفعا للكثير من الأوهام، وهذا تصريح منك بأن أخذك بخطك من باب الوهم، ومن المعلوم أنه لم يكن مما يفيد اليقين والثبوت، فأقل أحواله تنْزيلا أن يكون من باب الفراسة والحكم بالقرائن القوية، ومن زعم أن الحكم بها من باب الأوهام فسفسطته وجدله مما لا يحتاج برهانه وتقريره بسط

_ 1 سورة الفرقان آية: 72.

كلام. ولا يشك من له أدنى مسكة من عقل أن من اعتنى بنسخ كتب الزندقة والتعطيل والتجهم مع دعواه أنه لا يعتقدها، فهو مخبول العقل ليس عنده من وازع الدين ما يقتضي تركها. هذا لو سلمنا هذه الدعوى وتركنا الأدلة والقرائن على استحسانها واعتقادها، وأدهى من هذا وأمر وأوضح منه من نظر في خطك واعتبر أنك تقول: إنه لم يظهر لك في حال نقلك لتلك الرسالة من نفي إثبات الصفات المؤدي إلى التعطيل ما فهمه شيخنا الوالد -حفظه الله-، فإن كنت لا تفهم من قول هذا الرجل في ربه: إنه لا داخلَ العالم ولا خارجه ولا فوقه، وإن ما دل على حقائق صفات الله سبحانه، ونعوت جلاله من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية معدود عند السلف من المتشابه، ونحو ذلك من كلامه، فإن كنت لا تفهم من هذا نفيا ولا تعطيلا فلتبك عقلك النوائح. أين أولو البصائر والأفهام؟! أين المناضلون عن ملة الإسلام؟! ما هذه إلا مكابرة جلية، وسفسطة جدلية، فإن صبيان المكاتب، فضلا عن أولي العلم والمراتب، يعلمون أن هذه العبارة صريحة في التعطيل، غير محتملة للتصحيح والتأويل، وقد كنت أظن بك دون هذه المكابرة، وأحسب أنك ترعوي عند المحاقّة والمخابرة، لا سيما بعد اطلاعك على هذا الرد النفيس، وما تضمنه من براهين الإثبات والتقديس، فخلت أن همتك ترتفع به إلى فوق، وأنك لا ترضى سبيل الميل والعوق، وأن أفراخ اليونان لا تعوقك عن الوصول، وأن أسلاف القوم لا يصدونك عن سنن الرسول، لكن كما قيل: خفافيش أعشاها النهار بضوئه ... ووافقها قطع من الليل مظلم وقولك: إن المفاهيم تتفق وتختلف جوابه: أن الاتفاق والاختلاف إنما يقع عند ذوي البصائر والعقول والأفهام السليمة في غير صرائح العبارات

ومنطوقها، وفي غير الدلالة المطابقية، ولا يمتري عاقل فضلا عن عالم أن الذي خالف فهمك فهم شيخنا فيه، صريحه ومنطوقه يرد زعمك وينافيه. [قبول كتاب الفقه الأكبر عند النجديين] ثم إنك ادعيت أولا أنك سليم العقيدة، موافق لما في الفقه الأكبر لأبي حنيفة، ولما عليه الأئمة الذين حكيت أقوالهم، وهذا حسن جيد لكن يعكر عليك ويناقضه قولك بعد: "لكني وقفت بعد ذلك على كلام لبعض العلماء ينافي بعض ما فيها فملت إليه، وعولت عليه، لكونه أقرب للسلامة، وأشبه بهدي أهل الاستقامة"، وهذا تصريح منك بالميل إلى خلافها، والتعويل على سواها بعد اعتقادها، وهو مخالف ومناقض لكلامك الأول حيث زعمت أنك كنت في حال نقلها متأسيا بما في الفقه الأكبر. ثم يا هذا: قد استدللت على رجوعك بقضية عمر في المشتركة، وبما صح من رجوع كثير من أئمة الاجتهاد عن أقوال ظهر لهم الحق في خلافها والرجوع إلى الحق أولى وأحق، لكن لا يخفى أن رجوعهم من اجتهاد إلى اجتهاد بخلاف من رجع من ذنب يأثم به ولا يؤجر عليه بل غايته بعد التوبة أن يغفر، ولذلك قالوا بصحة الاجتهاد الأول. فإن قلت: الشبه ليس من كل الوجوه بل من حيث الرجوع إلى الحق، قلت: لأي شيء؟ عدلت عن قوله: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً} 1 والعدول عن الدليل الصريح المطابق من كل الوجوه يقدح في فهم الرجل وتأليفه. ثم إنك تقول: اعلم أني بحمد الله غير مستنكف عن قبول الحق ولا مستكبر ولا مستحقر. وأقول: أي كبر أعظم وأدهى من أنفة الرجل أن يدعى إلى الله ظاهرا، ويرد قوله الذي قد شاع وينسخ جهارا، ويعد هو ذنوبه وخطاياه من باب الاجتهاد؟ وقد أعرضنا عن غير ذلك

_ 1 سورة الزمر آية: 53.

من علامات بطر الحق، وأما كون شيخنا الوالد صرح باسمك في الرياض فهو منه اهتمام بالواجب الشرعي، فإن الرجل إذا خيف أن يفتن به الجهال، ومن لا تمييز عندهم في نقد أقاويل الرجال، فحينئذ يتعين الإعلان بالإنكار، والدعوة إلى الله في السر والجهار، ليعرف الباطل فيجتنب، وتهجر مواقع التهم والريب، ولو طالعت كتب الجرح والتعديل، وما قاله أئمة التحقيق والتأصيل، فيمن اتهم بشيء يقدح فيه أو يحط من رتبة ما يحدّث به ويرويه، لرأيت من ذلك عجبا، ولعرفت أن سعي الشيخ محمود قولا وسببا. ثم إنك تذكر أن الرد صار للعوام والطغام سلما للوقيعة في أعراض علماء الإسلام، وفي هذا من تزكية نفسك والتنويه بذكرها ما لا يخفى، وما أظن عالما يقول: أنا عالم، وقد قال عمر رضي الله عنه من قال: أنا عالم فهو جاهل، ومن قال: أنا مؤمن فهو كافر، ومن قال: أنا في الجنة فهو في النار انتهى. والعالم من يخشى الله، وهذا مأخوذ من قوله تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} 1 فإن الآية تقتضي حصر العلماء في أهل الخشية كما تقتضي حصر الخشية في العلماء، وحقيقة العلم هو ما جاءت به الرسل من معرفة الله سبحانه بصفات الكمال، ونعوت الجلال إثباتا لا تعطيلا، وتنْزيها لا تمثيلا، وذلك يقتضي من إسلام الوجه له، والتبتل إليه وحده لا شريك له حبا وإجلالا وتعظيما وذلا وإخلاصا وانقيادا، وهو محسن في ذلك بعدم الانحراف عما جاءت به الرسل طاعة لهم وتكريما. وهذا أيضا يقتضي العلم بالأوامر الشرعية لأن الجاهل لا يحسن السير، ولا بد في العلم بهذا من النفوذ إلى ما جاءت به الرسل، فيعرف الحكم من دليله. وأما غير ذلك من أنواع العلوم التي أُحدثت بعد خير القرون في العقائد والعبادة بما لم يشرع

_ 1 سورة فاطر آية: 28.

كما عليه كثير ممن يدعي العلم في باب معرفة الله -سبحانه وتعالى-، فإنهم أخذوا العقيدة في هذا الباب عن أهل القوانين الكلامية، كالجهمية وغيرهم ممن خرج عن العقائد السلفية، وكما عليه كثير من أهل الطريق والتصوف؛ فإنهم أحدثوا من التعبد بالذوق والعقول ما لم ترد به هذه الشريعة. وكذلك من اقتصر على تقليد المتأخرين في الأحكام، ولم يلتفت إلى أخذ الحكم من هدي سيد الأنام، فهذا ونحوه وإن جاز لهم التقليد فليسوا من أهل العلم بالإجماع كما حكاه الحافظ ابن عبد البر -رحمه الله-. [حقيقة العلم] وبالجملة، فلو عرفت حقيقة العلم لأحجمت عن عد نفسك من أهله، ولأيقنت أن من ابتغى معرفة الله سبحانه وتعالى مما نصبه مشايخ اليونان والفلاسفة من الأدلة العقلية والموازين الكلامية، وأخذ عن تلامذتهم الذين نشؤوا على ملتهم، ودانوا ببدعتهم، ولم يلتفت إلى ما جاء به الوحي من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، زاعما بأنها ظواهر لفظية، ومجازات لغوية، وأن قانون المنطق هو القواطع العقلية، والبراهين الجلية، وأن ما جاءت به الكتب وأخبرت به الرسل من صفات الله معدود من متشابه الكلام، مصروف عن حقيقته عند ذوي البصائر والأفهام، فنفى لذلك صفات الكمال، وأغرب في سلب نعوت الجلال، وأضاف إلى ذلك تقليد مشايخه في الأحكام والفروع، فلم يأخذ من هدي الرسل العلم المتبوع، فهذا ونحوه من أضل الناس وأبعدهم عن هدي المرسلين، فضلا عن أن يكون من علماء المسلمين، وإن انضم إلى ذلك الضلال عن معرفة توحيد العبادة الذي هو فعل العبد وعمله وكسبه، فاتخذ الآلهة من دون الله أربابا، فأحبهم كحب الله وذل وخضع واستغاث واستعان، وذبح لغير الله القربان، وحلف تعظيما وتفخيما، ورجا

أن يكون الند له شفيعا وعونا، فهناك تشتد الرزية وتعظم البلية، ويعلم أن هؤلاء الضرب من الناس بينهم وبين الإسلام أبعد بون، وأن الأمر كما قيل: نزلوا بمكة من قبائل هاشم ... ونزلت بالبيداء أبعد منْزل والمقام يستدعي أكثر من هذا، ولكن العاقل يسير فينظر، والسلف قد أنكروا على من سماهم علماء، فما بالك بمن سمى نفسه عالما، وتشبع بما لم يعط؟ نعوذ بالله من الخذلان. هذا، وفي رسالتك شيء من الهمز والتصنع والمداهنة، والغش والحقد والمشاحنة، وعدم التثبت، وأن الأولى الإسرار إليك، وترك ما كتبته، وكذلك في تسمية من خاض في هذا عواما، أهل لغو بالفضول، ما لا يخفى على أرباب العقول، ولو شئت أن أبين لك مَن الأولى بذلك كله، فأقيم لك البراهين على أنك متصف به لفعلت، وسجلت وقررت وحققت، ولكن سأترك ذلك ليوم تبدو فيه السرائر، ويظهر الله مكنون الضمائر، ولو صرحت بما في نفسك من الرد، وسجلت وناضلت لكان أليق بك، فإن من أظهر ما في نفسه حري بالرجوع إلى الحق، بخلاف من كتم وداهن، كما قيل: أو آخر خيرا منه عندي المحارب ... فلست أرى إلا عدوا محاربا وكان قصدي منك -أيها الشيخ- أن تكتب ما تعتقده، وتدع التزكية والعتاب، وتطرح كل شك وارتياب، فإن ذلك أجمع للقلوب، وأقرب للاتفاق،: {وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} 1، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.

_ 1 سورة الأحزاب آية: 4.

الرسالة الخامسة والخمسون: [نصر الدين والسنة من أفضل شعب الإيمان]

الرسالة الخامسة والخمسون: [نصر الدين والسنة من أفضل شعب الإيمان] وله أيضا -قدس الله روحه، ونور ضريحه- رسالة، وهذا صورة ما وجدته مرسوما، ووضع ما ألفيته مرقوما: كتب شيخنا عبد اللطيف بن عبد الرحمن -أدام الله إفادته- إلى بعض الولاة؛ بسبب أنه توسم فيه محبة الخير، وقبوله للنصيحة ما صورته -حفظه الله- من طوائف الشيطان، ووفقه للعلم والإيمان. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. ونحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو على ما أسبغ من جزيل نعمائه، واعلم أنه إنما حملني على مكاتبتك، وابتدائك بالخطاب ما بلغني عنك من الميل إلى الإسلام والسنة ومحبة أهله ونصرتهم؛ وهذا من أجل النعم، وأفضل العطايا الإلهية والمنح الربانية. وأنت في مكان وزمان قلّ خيره، وكثر شره، وقبض فيه العلم وفشا الجهل، وكثر الجدال والمراء، وتطاول أهل البدع والأهواء، فإنْ منّ الله عليك بقبول الإسلام والسنة ونصرتهما، ومحبة أهلهما، والقيام بما أمر الله به من أداء الواجبات، وترك الفواحش والمنكرات، رجوت لك الظهور والنصر والإقبال في الدنيا والآخرة. وربما كثر لديك محب الدين والقائم به، واستأنس بك أهل الخير، وصرت حصنا ومعقلا يرجع إليه في نصرة الدين. ولعمر الله إن هذا من أفضل شعب الإيمان الواجبة، وأعلاها وأحبها إلى الله وأسناها، بل هو أفضل من نوافل العبادة القاصرة، وأين تقع النوافل؟ ومتى ينتفع بها من أهل نصرة الإسلام والسنة مع القدرة على ذلك؟ وهل يرجى الخير من رجل يرى حرمات الله تنتهك، ودينه يمتهن، وسنة نبيه تترك وتطرح، ولا يجد من نفسه حمية ولا غيرة ولا أنفة من ترك دين الله، ومن معصيته، وهجر ما جاء به رسوله من توحيد

الرسالة السادسة والخمسون: [الحث على التقوى]

الله -تعالى- والإيمان به؟ هذا الصنف لا يرجى خيره، وإن زعم أنه من عباده المؤمنين الأفراد، فتأمل هذا، وليكن منك على بال قول الشاعر: قد رشحوك لأمر لو فطنت له ... فاربأ بنفسك أن ترعى مع الهمل وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم. الرسالة السادسة والخمسون: [الحث على التقوى] وله أيضا -قدس الله روحه، ونور ضريحه- رسالة إلى عبد الله بن علي بن جريس، وقد راسله يسأله عن صلاة التراويح في السفر جماعة، وعن اتفاق الغزو على الصوم فيه، فأجابه -رحمه الله تعالى- فقال: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن إلى الأخ المكرم عبد الله بن علي بن جريس -سلمه الله تعالى-: سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: فأحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو على نعمه، والخط وصل، وسرّنا ما ذكرت من الأخبار عنكم، وعن الإمام، وعن عمان، فالحمد لله على سوابغ الفضل والإحسان، وأوصيك بتقوى الله والرغبة فيما عنده والتماس مرضاته، والحذر من الاغترار بهذه الحياة الدنيا؛ فإن الله حذر عن الاغترار بها في مواضع من كتابه، واذكر قول العلامة ابن القيم -رحمه الله تعالى-: وإن تك قد عاقتك سُعدى فقلبك ال ... مُعنّى رهين في يديها مسلّم والبيتين بعده، واعرف المراد بسعدى. [صلاة النافلة في السفر] وتسأل في خطك عن صلاة التراويح

في السفر جماعة؛ فاعلم أن العبادات توقيفية، وترك الشارع للفعل مع قيام مقتضيه دليل للترك، كما أن فعله دليل لطلب الفعل، وقد سافر هوصلى الله عليه وسلم وأصحابه عدة أسفار في رمضان، ولم ينقل عنه، ولا عن أحد من أصحابه فيما بلغنا فعلها جماعة، وهذا دليل كاف سالم من المعارض. (والثاني) : أن المشروع في السفر قصر الرباعية، وترك النوافل الرواتب، وهي آكد النوافل على الصحيح، بل لم يشرع الجمعة والعيدان وهما فرضان، وهذا بيّن -بحمد الله-. وأيضا فقول شيخ الإسلام ومن وافقه: تفعل النوافل المطلقة في السفر لا المقيدة، يدخل هذه القضية، ويستفيدها طالب العلم منه. وقولك في الورقة: "وهو مما تسن له الجماعة" عبارة فيها تساهل، والجماعة تشرع له تبعا لا استقلالا كما هو مقرر في محله. [اتفاق الغزو على الصوم] وأما اتفاق الغزو على الصوم، فكنت أحب لهم فعل الأفضل، وموافقة السنة في عدم الاتفاق على ترك قبول الرخصة التي يحبها الله. هذا، واعلم أن هذا هو الموجب لترك فعلها جماعة، وأما النهي عن ذلك فلم أنْهَ عنه أحدا، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.

الرسالة السابعة والخمسون: تحريم تعدد الجمعة في القرية الواحدة

الرسالة السابعة والخمسون: تحريم تعدد الجمعة في القرية الواحدة وله أيضا -قدس الله روحه، ونور ضريحه- رسالة إلى جماعة أهل الزلفى هذا نصها: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد اللطيف بن عبد الرحمن إلى الأمير المكرم ناصر آل عبد الله آل راشد، والإخوان عبد المحسن السلمان، وأحمد آل عبيد، وجار الله آل حمد، ورشيد آل علي، وموسى الشايع، وحمود آل عبد الله آل جار الله سلمهم الله -تعالى-. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: وصلت خطوطكم، وتذكرون أن بعض جماعتكم انفردوا بأنفسهم، وفارقوا جماعتهم، وجعلوا لهم جمعة في المحلة الأولة، وأنهم قبل ذلك كانوا مجتمعين مع جماعتهم، يصلون جمعة واحدة، وأن بعض من ينتسب إلى العلم أفتاهم بانفرادهم، وصلاتهم جمعة ثانية في البلد لغير حاجة تدعو إلى ذلك، فاعلموا أن الذي عليه جمهور أهل العلم تحريم تعدد الجمعة في قرية واحدة يشملها اسم القرية، وكذا ما قرب منها عرفا، أو سمع النداء فلا يجوز تعدد الجمعة وتفريق جماعة المسلمين إلا لحاجة كضيق المسجد، وبعدهم عن القرية. وقد كان الناس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتون الجمعة من العوالي وما حاذاها، وهي على ثلاثة أميال من المدينة، وجرى العمل بذلك على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعهد أبي بكر وعمر ومن بعدهم. وصرح علماؤنا ببطلان صلاة من صلى جمعة ثانية بغير إذن الإمام، وبغير حاجة داعية، وأوجبوا عليه الإعادة ظهرا، وقواعد الشرع تدل على هذا، فالجماعة إنما شرعت للائتلاف والمودة

الرسالة الثامنة والخمسون: [حكم الجهمية والصلاة خلفهم]

والمعاونة على ذكر الله، وتفقه أهل الإسلام بعضهم من بعض، وتحصيل الفضل بالكثرة، وإغاظة العدو بترك الفرقة. ودلت أصول الشريعة -أيضا- على تحريم ما أوجب الفرقة، واختلاف الكلمة والمشاقة، قال تعالى: {اعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا} 1. وانفرادهم عن الجماعة بالسكنى في عقدة أخرى، لا يبيح مفارقة الجماعة بإحداث جمعة أخرى، ومن رأى هذا من المسوغات والمبيحات لهذا الفعل المخالف لأصول الشرع، فهو مصاب في عقله؛ فالواجب عليكم نصحهم وإرشادهم، ودعوتهم إلى الله برفق: {وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} 2، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم. الرسالة الثامنة والخمسون: [حكم الجهمية والصلاة خلفهم] وله -أيضا- رسالة إلى عبد الله بن علي بن جريس، وقد راسله عبد الله يسأله عما أورده بعض الملحدين: أن شيخ الإسلام ابن تيمية -قدس الله روحه- ذكر أن الإمام أحمد -رحمه الله- كان يصلي خلف الجهمية، فأجابه -رحمه الله- بما يكفي ويشفي، وأن الصلاة خلفهم، لا سيما صلاة الجمعة، لا تنافي القول بتكفيرهم، حيث لا يمكن الصلاة خلف غيرهم، وأما مع إمكان الصلاة خلف غيرهم فلا، لكن إن صلى خلفهم فعليه الإعادة. وهذا نص الجواب: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد اللطيف بن عبد الرحمن إلى الأخ عبد الله بن علي بن جريس، ألهمه الله الرشد في أمره والكيس. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. والخط وصل، وسرّنا عافيتكم، وحال أهل عمان ما تخفاكم: قل العلم وفشا الجهل، وتجاسر المبتدعة، والواجب التجرد للدعوة إلى الله، والجهاد في سبيله

_ 1 سورة آل عمران آية: 103. 2 سورة الأحزاب آية: 4.

حسب الطاقة، لا سيما بالحجة والبيان، وأحق خلق الله بالجهاد، من يليكم من الجهمية الضلال، ونشر العلم وبيان السنة من أوجب الواجبات، وأفضل الطاعات، ووصل إلينا السؤال الذي يورده بعض الملحدين، وهو أنه نسب إلى شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- أنه ذكر عن الإمام أحمد أنه كان يصلي خلف الجهمية. وجواب هذا لو سلم من أوضح الواضحات عند طلبة العلم وأهل الأثر، وذلك أن الإمام أحمد وأمثاله من أهل العلم والحديث، لا يختلفون في تكفير الجهمية، وأنهم ضلال زنادقة، وقد ذكر مَن صنف في السنة تكفيرهم عن عامة أهل العلم والأثر؛ وعد اللالكائي -رحمه الله تعالى- منهم عددا يقعد من ذكرهم في هذه الرسالة، وكذا عبد الله بن الإمام أحمد في كتاب السنة، والخلال وابن أبي مليكة في كتاب السنة، وإمام الأئمة ابن خزيمة قرر كفرهم، ونقله عن أساطين الأئمة. وقد حكى كفرهم شمس الدين ابن القيم في كافيته عن خمسمائة من أئمة المسلمين وعلمائهم. والصلاة خلفهم، لا سيما صلاة الجمعة، لا تنافي القول بتكفيرهم، لكن تجب الإعادة حيث لا تمكن الصلاة خلف غيرهم. والرواية المشهورة عن الإمام أحمد هي المنع من الصلاة خلفهم، وقد يفرق بين من قامت عليه الحجة التي يكفر تاركها، وبين من لا شعور له بذلك، وهذا القول يميل إليه شيخ الإسلام في المسائل التي قد يخفى دليلها على بعض الناس؛ وعلى هذا القول فالجهمية في هذه الأزمنة قد بلغتهم الحجة، وظهر الدليل، وعرفوا ما عليه أهل السنة واشتهرت الأحاديث النبوية، وظهرت ظهورا ليس بعده إلا المكابرة والعناد، وهذا حقيقة الكفر والإلحاد؛ كيف لا، وقولهم يقتضي تعطيل الذات

والصفات، والكفر بما اتفقت عليه الرسالة والنبوات، وشهدت به الفطر السليمات، ما لا يبقى معه حقيقة للربوبية والإلهية، ولا وجود للذات المقدسة المتصفة بجميل الصفات، وهم إنما يعبدون عدما لا حقيقة لوجوده، ويعتمدون من الخيالات والشبه ما يعلم فساده بضرورة العقل من دين الإسلام عند من عرفه، وعرف ما جاءت به الرسل من الإثبات. ولبشر المريسي وأمثاله من الشبه والكلام من نفي الصفات ما هو من جنس هذا المذكور عند الجهمية المتأخرين، بل كلامه أخف إلحادا من بعض هؤلاء الضلال، ومع ذلك فأهل العلم متفقون على تكفيره، وعلى أن الصلاة لا تصح خلف كافر جهمي أو غيره. وقد صرح الإمام أحمد فيما نقل عنه ابنه عبد الله وغيره أنه كان يعيد صلاة الجمعة وغيرها، وقد يفعله المؤمن مع غيرهم من المرتدين إذا كانت لهم شوكة ودولة؛ والنصوص في ذلك معروفة مشهورة نحيل طالب العلم إلى أماكنها ومظانها. وبهذا ظهر الجواب عن السؤال الذي وصل منكم، ورسالتك وصلت، وسرنا حسن جوابكم، وما فيها من النقول عن أهل العلم. ونرجو أن الله يوفقنا وإياكم لما يحب ويرضى، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم. (يقول محمد رشيد رضا) : فرق فقهاء الحنابلة في الصلاة خلف المبتدعة بين من يعلن بدعته ويدعو إليها فلا يصلي خلفه، وإذا صلى لعذر أعاد. قال الخرقي في منّته: "ومن صلى خلف من يعلن ببدعة أو يسكر، أعاد". وفرقوا بين الجمعة والعيدين وغيرهما. قال ابن قدامة في شرح عبارة الخرقي: فأما الجمعة والأعياد فإنها تصلى خلف كل بر وفاجر، وقد كان أحمد يشهدها مع المعتزلة، وكذلك العلماء الذين في عصره. وذكر الإمام أحمد روايتين في إعادتها. (يراجع التفصيل في صفحة 26 من الجزء الثاني من المغني المطبوع بمطبعة المنار) .

الرسالة التاسعة والخمسون: [فشو الشرك والتعطيل]

الرسالة التاسعة والخمسون: [فشو الشرك والتعطيل] وله أيضا -قدس الله روحه، ونور ضريحه- رسالة إلى منيف بن نشاط؛ وقد اشتكى إليه منيف غربة الإسلام، وذكر في رسالته ونظمه معتقده، وما هو عليه من الدعوة إلى دين الله ومكابدة أعداء الله، فأجابه الشيخ -رحمه الله تعالى- يحرضه ويحضه على الاستقامة على هذا المعتقد السليم، ومجانبة أصحاب الجحيم، وعلى الاجتهاد في طلب العلم وتعليمه، والدعوة إلى دين الله وسبيله، وأن ما ذكره في شأن الأعراب من الفرق بين من استحل الحكم بغير ما أنزل الله، ومن لم يستحل، هو الذي عليه العمل وإليه المرجع عند أهل العلم، يعني أن من استحل الحكم بغير ما أنزل الله، ورأى أن حكم الطاغوت أحسن من حكم الله، وأن الحضر لا يعرفون إلا حكم المواريث، وأن ما هم عليه من السوالف والعادات هو الحق فمن اعتقد هذا فهو كافر. وأما من لم يستحل هذا، ويرى أن حكم الطاغوت باطل، وأن حكم الله ورسوله هو الحق، فهذا لا يكفر، ولا يخرج من الإسلام،: {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا} 1. وهذا نص الجواب: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد اللطيف بن عبد الرحمن إلى الأخ المكرم منيف بن نشاط -سلمه الله، وشد حبله (بالعروة) الوثقى وناط، ومن عليه بالتزام التوحيد والفرح به والاغتباط. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: فأحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، وهو للحمد أهل وهو على كلِ شيْء قدير، وأسأله اللطف بي وبكم في تيسير كل عسير، مما جرت به الأقضية الربانية والمقادير، وأحوالنا على ما تعهد من الصحة والسلامة وترادف النعم لولا غلبة الإعراض عن شكر تلك النعم والتقصير، نشكو

_ 1 سورة الأنعام آية: 132.

إلى الله قلوبنا القاسية، ونفوسنا الظالمة، فنعم المشتكى، ونعم المولى، ونعم النصير. وكتابك وصل إلينا مع النظم اللطيف، الصادر عن الأخ منيف، فسرنا بإفصاحه وإعلامه عن صحتكم، وسلامتكم وحسن معتقدكم وطويتكم، فالحمد لله على اللطف والتسديد، ومعرفة حقه -سبحانه- وما يجب له على العبيد. فاجتهد في طلب العلم وتعليمه، والدعوة إلى دين الله وسبيله، فإنك في زمان قبض فيه العلم وفشا الجهل، وبدل الدين وغيرت السنن، لا سيما أصول الدين، وعمدة أهل الإسلام واليقين، في باب معرفة الله بصفات كماله، ونعوت جلاله. وقد ألحد في هذا من ألحد، وأعرض عن الحق فيه من أعرض وجحد، حتى عطلوا صفات الله تعالى التي وصف بها نفسه، وتعرف بها إلى عباده، كعلوه على خلقه، واستوائه على عرشه، وكلامه وتكليمه، ومحبته وخلته، ورضاه وغضبه، ومجيئه ونزوله؛ فسلطوا التأويل على ذلك ونحوه، حتى عطلوا الصفات عن حقائقها، وحرفوها عن موضعها، وصرفوها عن دلالتها. وكذلك الحال في عبادته وحده وتوحيده، ومعرفة حقه على عبيده، فأكثر الناس والمنتسبين إلى الإسلام ضلوا في هذا الباب، فصرفوا للأولياء والصالحين، والقبور والأنصاب والشياطين، خالص العبادة ومحض حق رب العالمين، كالحب والدعاء والاستغاثة، والتوكل والإجلال والتعظيم والذل والخضوع، بل غلاتهم صرحوا بإثبات التدبير والتصريف لمعبوداتهم مع الله، فجمعوا بين الشرك في الإلهية والشرك في الربوبية، وهذا أمر لا يتحاشون عنه، بل يصرحون به ويفخرون به، ويدعون أنهم من أهل الإسلام،: {لا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ} 1 وهذا الشرك لم يصل إليه شرك جاهلية العرب وقد جرى كما ترى من أناس يقرؤون القرآن ويدعون أنهم من

_ 1 سورة المجادلة آية: 18.

أتباع الرسول، فنعوذ بالله من الحور بعد الكور، ومن الضلال بعد الهدى، ومن الغي بعد الرشاد. كذلك باب تجريد متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم في الأصول والفروع قد ترك، وسد عن أكثر من يدعي العلم والدين، والعمدة والمرجع إلى أقوال من يعتقدونه من المنتسبين والمدعين، ولو تكلم أحد بإنكار ذلك لعد عندهم من البله والمجانين. هذه أحوال جمهور المتشرعين والمتدينين، فهل ترى فوق هذا غاية في غربة الحق والدين؟ فعليك بالجد والاجتهاد في معرفة الإيمان وقبوله، وإيثاره والتواصي به، لعلك أن تنجو من شرك هذا الشرك والتعطيل، الذي طبق الأرض، وهلك به أكثر الخلق جيلا بعد جيل. وما ذكرته عن الأعراب من الفرق بين من استحل الحكم بغير ما نزل الله، ومن لم يستحل، فهو الذي عليه العمل وإليه المرجع عند أهل العلم، ولعل الكلام يقع شفاها إذا وصلت إلينا، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.

الرسالة الستون: [ذبائح المشركين وطعامهم]

الرسالة الستون: [ذبائح المشركين وطعامهم] وله أيضا -قدس الله روحه-، رسالة إلى منيف بن نشاط، وقد سأله عن قول مَن يستدل على حل ذبيحة الوثني والمرتد بقوله -تعالى-: {فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} 1 وعمن كان في سلطان المشركين، وعرف التوحيد وعمل به، ولكن ما عاداهم ولا فارق أوطانهم، فأجابه -رحمه الله تعالى- "وصب عليه من شآبيب بره" ووالى، وبين له في وجوب المسألة الثانية الفرق بين من عجز عن إظهار عداوة المشركين لأجل الخوف وأنه يعذر بذلك، وبين وجود العداوة، لأنه لا بد منها. فإن من لم توجد العداوة من قلبه لم يعاد المشركين، بخلاف الأول فإنها موجودة في قلبه، لكن عجز عن إظهارها، فالواجب عليه مفارقة أوطانهم، والبعد عنهم، فإن لم يهاجر فهو عاص لله بإقامته بين أظهر المشركين. وكذلك سأله عمن كان في دار الإسلام ولم يتعلم أصول الدين، وصار لأجل الجهل بالإسلام يعزر ويوقر أعداء الدين، فبين له في الجواب أن الناس يتفاوتون تفاوتا عظيما بحسب درجاتهم في الإيمان إذا كان أصل الإيمان موجودا، والتفريط والترك إنما هو فيما دون ذلك من الواجبات والمستحبات. فتدبر كلامه -رحمه الله- فإنه قد يتكلم في هذه المسألة من لا علم عنده ولا معرفة بمدارك الأحكام، ويظن أن من لم يعرف الواجبات والمستحبات والمسنونات من الأقوال والأفعال على التفصيل، أنه ممن أعرض عن تعلم هذا الدين، وخلع ربقة الإسلام عن عنقه، وفارق المسلمين. وهذا نص الجواب. بسم الله الرحمن الرحيم من عبد اللطيف بن عبد الرحمن إلى الأخ منيف بن نشاط، لا زال بين اسمه واسم أبيه ارتباط. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. والخط وصل -وصلك الله لما يرضيه- تذكر حديث أبي سعيد، فقول الرسول مقبول، وعلى العين والرأس

_ 1 سورة الأنعام آية: 118.

محمول، وما دل عليه يحصل إن شاء الله، ولكن أنتم أبيتم إلا الخروج والتعلم عن ابن عتيق، وهذا -إن شاء الله- به كفاية. فأما مسألة الذبائح، ومن استدل على ذبيحة الوثني والمرتد بقوله -تعالى-: {فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} 1، فهو من أجهل الناس بكتاب الله وسنه نبيه وإجماع الأمة، وهو كمن يستدل على لبس الحرير بقوله -تعالى-: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ} 2 والجهل بالتأويل، وأسباب التنْزيل ضرره وصل كبائر العمائم، فكيف الحال بالحفاة والعوام. واعلم أن قوله -تعالى-: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} 3 فسر بحل الذبائح وأنها هي الطعام، ومفهوم الآية: تحريم ذبائح غير أهل الكتاب من الكفار والمشركين؛ واحتج بهذا أهل العلم، ومفاهيم كلام الله، وكلام رسوله حجج شرعية، وفسر المراد من قوله تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} 4 بأن المراد به ذبيحة المسلم والكتابي إذا ذكر اسم الله عليه أخذ من مفهوم آية المائدة، وهذا هو المشهور المقرر. وفي ذلك كلام وأبحاث لا يحتاج إليها في مثل هذا المقام، لكن من أهمها أن بعض المحققين ذكروا أن الحكمة في تخصيص ذبائح أهل الكتاب بأنهم يذكرون اسم الله، ولا يذكرون اسم من عبدوه عند الذبائح للأكل واللحم، وأما ما ذبحوه تقربا إلى غير الله فهو حرام، وإن ذكرت التسمية عليه، والمقصود ما ذبح للحم. وذكروا أن تحريم ذبيحة المشرك غير الكتابي؛ لأنه لا يأتي بالتسمية ويستحل الميتة، وهذا نظر منهم لأصل من علق الحكم بالمظنة كما علق الحدث بوجود النوم لأنه مظنة. فقول القائل: إن ذبيحة المشرك تباح إذا ذكر اسم الله جهل بهذا، وخروج عن سبيل المؤمنين، وقول السائل: هل التسمية كلا إله إلا الله؟ فليست مثلها من كل الوجوه، ولا ينظر في ذلك إلى هذا البحث.

_ 1 سورة الأنعام آية: 118. 2 سورة الأعراف آية: 32. 3 سورة المائدة آية: 5. 4 سورة الأنعام آية: 118.

[عداوة المشركين وإظهارها] (وأما المسألة الثانية) وهي قولك: من كان في سلطان المشركين، وعرف التوحيد وعمل به. ولكن ما عاداهم ولا فارق أوطانهم؟ (الجواب) : أن هذا السؤال صدر عن عدم تعقل لصورة الأمر، والمعنى المقصود من التوحيد والعمل به، لأنه لا يتصور أن يعرف التوحيد ويعمل به، ولا يعادي المشركين، ومن لم يعادهم، لا يقال له عرف التوحيد وعمل به. والسؤال متناقض، وحسن السؤال مفتاح العلم، وأظن مقصودك من لم يظهر العداوة ولم يفارق، ومسألة إظهار العداوة غير مسألة وجود العداوة؛ (فالأول) يعذر به مع الخوف، والعجز لقوله -تعالى-: {إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً} 1 (والثاني) لا بد منه لأنه يدخل في الكفر بالطاغوت، وبينه وبين حب الله ورسوله تلازم كلي لا ينفك عن المؤمن. فمن عصى الله بترك إظهار العداوة فهو عاص لله، فإذا كان أصل العداوة في قلبه فله حكم أمثاله من العصاة، فإذا انضاف إلى ذلك ترك الهجرة، فله نصيب من قوله -تعالى- {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} 2 الآية لكنه لا يكفر لأن الآية فيها الوعيد لا التكفير. (وأما الثاني) الذي لا يوجد في قلبه شيء من العداوة فيصدق عليه قول السائل: لم يعاد المشركين، فهذا هو الأمر العظيم، والذنب الجسيم، وأي خير يبقى مع عدم عداوة المشركين؟ والخوف على النخل والمساكن، ليس بعذر يوجب ترك الهجرة، قال -تعالى-: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ} 3. [الجهل بقواعد الإسلام وتوقير أعدائه] (وأما المسألة الثالثة) وهي: من كان في دار الإسلام، ولا تعلم أصول الدين ولا قواعده، ولأجل الجهل بها صار يعزر ويوقر أعداء الدين.

_ 1 سورة آل عمران آية: 28. 2 سورة النساء آية: 97. 3 سورة العنكبوت آية: 56.

(فالجواب) : أن أحوال الناس تتفاوت تفاوتا عظيما، وتفاوتهم بحسب درجاتهم في الإيمان إذا كان أصل الإيمان موجودا، والتفريط والترك إنما هو فيما دون ذلك من الواجبات والمستحبات، وأما إذا عدم الأصل الذي يدخل به في الإسلام، وأعرض عن هذا بالكلية، فهو كفر إعراض، فيه قوله -تعالى-: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالأِنْسِ} 1 الآية، وقوله: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً} 2 الآية. ولكن عليك أن تعلم أن المدار على معرفة حقيقة الأصل، وحقيقة القاعدة، ويعبر بغير التعبير المشهور، وتعزيرهم وتوقيرهم، كذلك تحته أنواع أيضا؛ أعظمها رفع شأنهم، ونصرتهم على أهل الإسلام ومبانيه، وتصويب ما هم عليه، فهذا وجنسه من المكفرات، ودونه مراتب من التوقير بالأمور الجزئية كلياقة الدواة ونحوها. وأما قوله لأبي شريح، فليس فيه ما يدل على تحسين الباطل والحكم به، بل ذكروا وجوها متعددة في معنى ذلك، كلها تفيد البعد والتحريم لمثل فعل البوادي. ومِن أحسن ما قيل: إن هذا تحسين لفعل صدر في الجاهلية، قبل ظهور الشرائع الإسلامية، فلما جاء الشرع أبطل ذلك، و "إذا جاء نهر الله بطل نهر معقل"، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.

_ 1 سورة الأعراف آية: 179. 2 سورة طه آية: 124.

الرسالة الحادية والستون: [الفتن والامتحانات التي وقعت بين آل سعود وحكمة الله فيها]

الرسالة الحادية والستون: [الفتن والامتحانات التي وقعت بين آل سعود وحكمة الله فيها] وله أيضا -رحمه الله، وعفا عنه- رسالة إلى محمد بن علي فيما جرى من الفتن والامتحانات التي وقعت بين آل سعود، وسارع أكثر الناس إليها، واستشرف لها. وكان من جملة من سارع إلى سعود بعد قتله المسلمين علي بن محمد، فصار ابنه يعتذر عنه، ويطلب من الشيخ أن يكتب له كتابا، ولكن علم الشيخ -رحمه الله- أن أباه قد تلبس بالفتنة، وأنه لا ينجع فيه شيء، وهذا نص الجواب: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى الابن محمد بن علي، كشف الله عنه كل ريب وغمه، وسلك بنا وبه سبل سلف الأمة. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد: فأحمد إليك الله -تعالى- على ما اختصنا به من سوابغ إنعامه، وما ألبسناه من ملابس إكرامه، والخط وصل، وما ذكرته صار معلوما. فأما ما أجرى الله من الفتن والامتحان، فلله -سبحانه- فيها حكم يستحق عليها الحمد، منها تمييز الخبيث من الطيب، والصادق من الكاذب، وذي البصيرة من الأعمى، كما دل عليه صدر سورة العنكبوت، والآيات من سورة البقرة وآل عمران، وغير ذلك من آي القرآن. ونذكر أن أباك يوم يركب ما ظن لعبد الله ولاية، ولا أن عبد الله سيعود إليه عن قريب، والظن أكذب الحديث، وظن السوء أورد أهله الموارد المهلكة في الدنيا والآخرة. والعجب من فقيه يحكي هذا محتجا به، وقد تربى -بحمد الله- بين يدي طلبة العلم وأهل الفتوى، أي حجة في هذا لو كانوا يعلمون؟! ولو دعوت أباك إلى لزوم السنة والجماعة، والوفاء بالعهد الذي يُسأل

عنه يوم تنكشف السرائر، لكان هذا من أعظم البر وأرجحه في ميزانك، لا سيما وقد جاءك من العلم ما لم يؤته. ثم لو فرض أن هذا الظن متحقق في نفس الأمر، فأي مسوغ للمسارعة إلى الذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءتهم البينات، وسفكوا الدماء بغير بينة ولا سلطان؟ ينبغي أن يتنزه عن هذا سوقة الناس وعامتهم، وإنما خاطبتك بلسان العلم لحسن ظني، والأكثر قد تحققت هلاكهم، وأنهم في ظلمة الجهل، لم يستضيئوا بنور العلم ولم يلجؤوا إلى ركن وثيق، وبعض من ينتسب إلى الدين قد عرف ما هناك، ولكنه آثر العاجلة، وأخلد إلى الأرض واتبع هواه، وأبدى من المعاذير ما لا ينجي يوم العرض على الله. وأما يمينك على أنك تحققت من أبيك أنه لا ينكث عهده، ولو يقال لك: الدنيا ومثلها معها، فعجب لا ينقضي، والله يغفر لك، وهل لنكث العهد حقيقة تباين ما وقع؟ "اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون". وقولك: {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ} 1 حق نؤمن به، ولا نحتج به على شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا. وأما الخط مني له فخطي إليك يكفي، ومثلك لا يخفى عليه وجوب الجهاد، وأنه ركن من أركان الإسلام، وذروة سنامه كما هو مقرر في محله، والآيات القرآنية لا يتسع هذا الموضع لسياقها. بقي أن يقال: هل الجهاد في هذه القضية جهاد في سبيل الله؟ وهذه المسألة لا يختص بها طالب علم، بل كل من كان له نصيب من نور الفطرة ونور الإسلام يعرف هذه المسألة، ولا تلتبس عليه.

_ 1 سورة يوسف آية: 21.

ومن المقرر في عقائد أهل السنة: أن الجهاد ماض مع كل إمام بر أو فاجر؛ وأبوك وغيره يعلمون أن المسلمين بايعوا عبد الله، وسعود من جملة من بايع، وأن البيعة صدرت عن مشورة المسلمين على يد شيخهم وإمامهم في الدين، والدنا -قدس الله روحه-، فأي شيء نسخ هذا؟ أنت وأبوك تعرفون حال عبد الله منا فيما سلف، والمؤمن يعامل ربه، ولا يتشفى بما يفسد دينه. نسأل الله لنا ولكم الثبات على دينه الذي ارتضاه لنفسه، ونعوذ بالله من اتباع خطوات الشيطان، والرغبة عن سبيل أهل السنة والقرآن. وذكر أباك حديث ابن عباس في استفتاحه صلى الله عليه وسلم في صلاته إذا قام من الليل، وذاكره بما ظهر لك فيه من حقائق العلم والإيمان، واعرف جلالة هذا المطلوب وعظيم قدره وقدر ما توسل به السائل إلى مطلوبه، والمقام يقتضي البسط لحاجة السائل وغيره، ولعل الله يمنُّ بذلك، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.

الرسالة الثانية والستون: [الإيمان بالأسماء الحسنى بلا تكييف ولا تعطيل]

الرسالة الثانية والستون: [الإيمان بالأسماء الحسنى بلا تكييف ولا تعطيل] وله أيضا -قدس الله روحه، ونور ضريحه- كلام في توحيد الأسماء والصفات، وتوحيد العبادة، أبلغ فيه غاية البلاغة، وأفصح في ترصينه وترصيعه بأوضح عبارة. فحقيق لمن نصح نفسه، ولها عنده قدر وأحب سعادتها، وسعى في نجاتها وتخليصها، وأراد إفادتها أن يتحقق بما اشتمل عليه من الحقائق والمعارف، ويسيم ثاقب فكره في مروج معانيه، وما احتوى عليه من العلوم النافعة واللطائف، لأن ما اشتمل عليه هو أهم الأشياء وأجل العلوم، وعليه المدار، وعنه السؤال يوم القيامة. وأمر هذا شأنه حقيق بأن تثنى عليه الخناصر، ويعض عليه بالنواجذ، وقبض فيه على الجمر، فتدبره تجده قد أودعه من الكنوز ما لم تجده في المطولات، بأتم عبارة وأوضح بيان لأهل العقول المستنيرات، وأجلى عن محاسن معانيها غياهب الشكوك والضلالات، وأوهام أرباب الشبه والجهالات، فصار قرة عيون الموحدين، وقذى في عيون المشركين. فيا حي يا قيوم يا من له الثنا ... ويا من على العرش استوى فهو بائن أنله الرضى والعفو فضلا ورحمة ... فإن (الفتى) يجزى بما هو دائن وقد بذل المجهود في نصرة الهدى ... وإعلائه حتى علا لا يداهن وأبدى كنوزا في العبادة للورى ... لكي يستبين الرشد من هو مائن أماط القذى عنها وصفى معينها ... لواردها الصادي وما هو شائن فرد منهلا عذبا زلالا فإنه ... يزيل الصدى والحق كالشمس بائن وهذا نصه: بسم الله الرحمن الرحيم اعلم -أرشدك الله- أن الله -تعالى- خلق الخلق لعبادته، الجامعة لمعرفته ومحبته، والخضوع له وتعظيمه، والإنابة إليه، والتوكل عليه، وإسلام الوجه له، وهذا هو الإيمان المطلق المأمور به في جميع الكتب السماوية وسائر الرسالات النبوية. ويدخل في باب معرفة الله توحيد الأسماء والصفات،

فيوصف -سبحانه- بما وصف به نفسه من الصفات، ونعوت الجلال، وبما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم لا يتجاوز، ولا يوصف إلا بما ثبت في الكتاب والسنة. وجميع ما في الكتاب والسنة يجب الإيمان به من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل، قال الله -تعالى-: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} 1 فأسماؤه كلها حسنى لأنها تدل على الكمال المطلق، والجلال المطلق، والصفات الجميلة؛ فنثبت ما أثبته الرب لنفسه، وما أثبته رسوله، ولا نعطله، ولا نلحد فيه، ولا نشبه صفات الخالق بصفات المخلوق؛ فإن تعطيل الصفات عما دلت عليه كفر، والتشبيه فيها كذلك كفر. وقد قال مالك بن أنس -رحمه الله- لما سأله رجل فقال: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى2} فاشتد ذلك على مالك حتى علته الرحضاء إجلالا منه، وهيبة له من الخوض في ذلك، ثم قال -رحمه الله-: "الاستواء معلوم، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة". يريد -رحمه الله- السؤال عن الكيفية، وهذا الحق يقال في جميع الصفات؛ لأنه يجمع الإثبات والتنْزيه. [الإيمان بتوحيد الربوبية] ويدخل في الإيمان بالله ومعرفته، الإيمان بربوبيته العامة الشاملة لجميع الخلق والتكوين، وقيوميته العامة الشاملة لجميع التدبير والتيسير والتمكين، فالمخلوقات بأسرها مفتقرة إليه في خلقها وإنشائها وإبداعها، قال -تعالى-: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ} 3. [الإيمان بتوحيد الألوهية] ويدخل في الإيمان إيمان العبد بتوحيد الإلهية الذي تتضمنه شهادة الإخلاص: لا إله إلا الله، فقد تضمنت نفي استحقاق العبادة

_ 1 سورة طه آية: 8. 2 سورة طه آية: 5. 3 سورة فاطر آية: 15.

بجميع أنواعها عما سواه -تبارك وتعالى- من كل مخلوق ومربوب، وأثبتت ذلك على وجه الكمال الواجب والمستحب لله -تعالى، فلا شريك له في فرد من أفراد العبادة؛ إذ هو الإله الحق المستحق المستقل بالربوبية والملك والعز والغنى والبقاء، وما سواه فقير مربوب، معبد خاضع، لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا، فعبادة سواه أظلم الظلم، وأسفه السفه. والقرآن كله رد على من أشرك بالله في هذا التوحيد، مبطل لمذاهب جميع أهل الشرك والتنديد، آمر مرغب في إسلام الوجه لله والإنابة إليه، والتوكل عليه، والتبتل في عبادته، والعبادة في أصل اللغة لمطلق الذل والخضوع، ومنه طريق معبد إذا كان مذللا قد وطأته الأقدام، كما قال الشاعر: تبارى عتاقا ناجيات وأتبعت ... وظيفا وظيفا فوق مور معبد واستعملها الشارع في العبادة الجامعة لكمال المحبة وكمال الذل والخضوع، وأوجب الإخلاص له فيها، كما قال -تعالى-: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ} 1. وهذا هو التوحيد الذي جاءت به الرسل، ونزلت به الكتب. والعبادة إذا خالطها الشرك أفسدها وأبطلها، ولا تسمى عبادة إلا مع التوحيد. انتهى. [العبادة الشرعية] ويدخل في العبادة الشرعية كل ما شرعه الله ورضيه من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة كمحبة الله وتعظيمه وإجلاله وطاعته، والتوكل عليه، والإنابة إليه، ودعائه خوفا وطمعا، وسؤاله رغبا ورهبا، وصدق الحديث، وأداء الأمانة، والوفاء بالعهود، وصلة الأرحام، والإحسان إلى الجار واليتيم، والمسكين وابن السبيل، وكذا النحر والنذر فإنهما من أجل العبادات وأفضل الطاعات، وكذا الطواف ببيته -تعالى-، وحلق

_ 1 سورة الزمر آية: 2.

الرأس تعظيما وعبودية، وكذا سائر الواجبات والمستحبات. فحق الله على العباد أن يعبدوه وحده لا شريك له، ولا يشركوا به شيئا؛ والشرك في العبادة ينافي هذا التوحيد ويبطله، كما قال -تعالى-، لما ذكر خواص أوليائه ومقربي رسله: {ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} 1. والشرك قد عرفه النبي صلى الله عليه وسلم بتعريف جامع كما في حديث ابن مسعود أنه قال: "يا رسول الله أي الذنب أعظم؟ قال: أن تجعل لله ندا، وهو خلقك" 2 والند المثل والشبيه. [الإخلاص شرط قبول العبادة] فمن صرف شيئا من العبادات لغير الله فقد أشرك به شركا يبطل التوحيد وينافيه؛ لأنه شبه المخلوق بالخالق وجعله في مرتبته؛ ولهذا كان أكبر الكبائر على الإطلاق، ولما فيه من سوء الظن به -تعالى-، كما قال الخليل -عليه السلام-: {أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} 3، قال العلامة ابن القيم: أي فما ظنكم أن يجازيكم إذا لقيتموه، وقد عبدتم غيره؟ وما ظننتم بأسمائه وصفاته وربوبيته من النقص حتى أحوجكم ذلك إلى عبودية غيره؟ فلو ظننتم به ما هو أهله من أنه: {كُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} 4، و: {كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} 5، وأنه غني عن كل ما سواه، وكل ما سواه مفتقر إليه، وأنه قائم بالقسط على خلقه، وأنه المتفرد بتدبير خلقه، لا يشرك فيه غيره، والعالم بتفاصيل الأمور، ولا تخفى عليه خافية من خلقه، والكافي لهم -وحده- لا يحتاج إلى معين، والرحمن بذاته، فلا يحتاج في رحمته إلى من يستعطفه. [الله غني عن عباده] وهذا بخلاف الملوك وغيرهم من الرؤساء؛ فإنهم محتاجون إلى من يعرفهم أحوال الرعية وحوائجهم، والذي يعينهم على قضاء حوائجهم، وإلى من يسترحمهم ويستعطفهم بالشفاعة، فاحتاجوا إلى الوسائط ضرورة لحاجتهم

_ 1 سورة الأنعام آية: 88. 2 البخاري: الأدب (6001) , ومسلم: الإيمان (86) , والترمذي: تفسير القرآن (3182 ,3183) , والنسائي: تحريم الدم (4013 ,4014 ,4015) , وأبو داود: الطلاق (2310) , وأحمد (1/380 ,1/431 ,1/434 ,1/462 ,1/464) . 3 سورة الصافات آية: 86. 4 سورة البقرة آية: 29. 5 سورة البقرة آية: 20.

وعجزهم وضعفهم وقصور علمهم، فأما القادر على كل شيء، الغني بذاته عن كل شيء، العالم بكل شيء، الرحمن الرحيم الذي وسعت رحمته كل شيء، فإدخال الوسائط بينه وبين خلقه تنقيص لحق ربوبيته وإلهيته وتوحيده، وظن به ظن السوء، وهذا يستحيل أن يشرعه لعباده، ويمتنع في العقول والفطر، وقبحه مستقر في العقول السليمة فوق كل قبح. انتهى. [حقيقة الإخلاص كمال المحبة] إذا عرفت هذا فصلاح العبد وفلاحه، وسعادته ونجاته، وسروره ونعيمه، في إفراد الله بهذه العبادات، والإنابة إليه بما شرعه لعباده منها، وأصلها كمال المحبة وكمال الذل والخضوع كما تقدم. هذا سر العبادات وروحها، ولا بد في عبادة الله من كمال الحب وكمال الخضوع، فأحب خلق الله إليه، وأقربهم منزلة عنده، من قام بهذه المحبة والعبودية، وأثنى عليه -سبحانه- بذكر أوصافه العلى، فمن أجل ذلك كان الشرك أبغض الأشياء إليه لأنه ينتقص هذه المحبة والخضوع والإنابة والتعظيم، ويجعل ذلك بينه وبين من أشرك به، والله: {لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} 1 لأنه يتضمن التسوية بينه -تعالى- وبين غيره في المحبة والتعظيم، وغير ذلك من أنواع العبادة. قال -تعالى-: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً} 2: أخبر -سبحانه- أن من أحب شيئا دون الله كما يحب الله، فقد اتخذه ندا، وهذا معنى قول المشركين لمعبوداتهم: {إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} 3، فهذه تسوية في المحبة والتأله، لا في الذات والأفعال والصفات؛ فمن صرف ذلك لغير آلهة الحق فقد أعرض عنه، وأبق عن مالكه وسيده، فاستحق مقته وبغضه، وطرده عن دار كرامته ومنزل أحبابه.

_ 1 سورة النساء آية: 48. 2 سورة البقرة آية: 165. 3 سورة الشعراء آية: 97.

[أقسام المحبة] والمحبة ثلاثة أنواع: محبة طبيعية كمحبة الجائع للطعام، والظمآن للماء، وغير ذلك، وهذا لا يستلزم التعظيم. (والنوع الثاني) : محبة رحمة وإشفاق كمحبة الوالد لولده الطفل ونحوها؛ وهذه أيضا لا تستلزم التعظيم. (والنوع الثالث) : محبة أنس وألفة؛ وهي محبة المشتركين في صناعة أو علم، أو مرافقة، أو تجارة، أو سفر بعضهم لبعض، وكمحبة الأخوة بعضهم بعضا، فهذه المحبة التي تصلح للخلق بعضهم لبعض ووجودها فيهم لا يكون شركا في محبة الله -سبحانه-، ولهذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب الحلوى والعسل، وكان أحب الشراب إليه الحلو البارد، وكان أحب اللحم إليه الذراع، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب نساءه، وكانت عائشة أحبهن إليه، وكان يحب أصحابه، وأحبهم إليه الصديق. وأما المحبة الخاصة التي لا تصلح إلا لله وحده، ومتى أحب العبد بها غيره كان شركا لا يغفره الله، فهي محبة العبودية المستلزمة للذل والخضوع والتعظيم وكمال الطاعة، وإيثاره على غيره، فهذه المحبة لا يجوز تعلقها بغير لله أصلا، وهي التي سوى المشركون بين آلهتهم وبين الله فيها، وهي أول دعوة الرسل، وآخر كلام العبد المؤمن الذي إذا مات عليه دخل الجنة، اعترافه وإقراره بهذه المحبة، وإفراد الرب بها، فهي أول ما يدخل به في الإسلام، وآخر ما يخرج به من الدنيا إلى الله. وجميع الأعمال كالأدوات والآلات لها، وجميع المقامات وسائل إليها، وأسباب لتحصيلها وتكميلها وتحصينها من الشوائب والعلل؛ فهي قطب رحى السعادة، وروح الإيمان، وساق شجرة الإسلام، ولأجلها أنزل الله الكتاب والحديد، فالكتاب هاد إليها، ودال عليها، ومفصل لها، والحديد لمن خرج عنها، وأشرك مع الله غيره فيها، ولأجلها خلقت

الجنة والنار؛ فالجنة دار أهلها الذين أخلصوها لله وحده، وأخلصهم لها، والنار دار من أشرك فيها مع الله غيره، وسوى بينه وبين الله فيها؛ فالقيام بها واجب علما وعملا وحالا، وتصحيحها هو تصحيح شهادة أن لا إله إلا الله. فحقيق لمن نصح نفسه، وأحب سعادتها ونجاتها، أن يتفطن لهذه المسألة، وتكون أهم الأشياء عنده، وأجل علومه وأعماله؛ فإن الشأن كله فيها والمدار عليها، والسؤال عنها يوم القيامة، كما قال -تعالى-: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} 1، قال غير واحد من السلف عن قول لا إله إلا الله: وهذا حق؛ فإن السؤال كله عنها، وعن أحكامها وحقوقها، قال أبو العالية: كلمتان يسأل عنها الأولون والآخرون: ماذا كنتم تعبدون؟ وماذا أجبتم المرسلين؟ فالسؤال عما كانوا يعبدون سؤال عنها نفسها، والسؤال عماذا أجابوا المرسلين سؤال عن الطريق والوسيلة المؤدية هل سلكوها، وأجابوا الرسل لما دعوهم إليها؟ فعاد الأمر كله إليها. وأمر هذا شأنه حقيق بأن تثنى عليه الخناصر، ويعض عليه بالنواجذ، ويقبض فيه على الجمر، ولا يؤخذ بأطراف الأنامل، ولا يطلب فضلة، بل يجعل هو الطلب الأعظم، وما سواه إنما يطلب فضلة. والله المسؤول أن يمن علينا بتحقيق ذلك علما وعملا وحالا، ونعوذ بالله أن يكون حظنا من ذلك مجرد حكايته، وصلى الله على عبده ورسوله محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.

_ 1 سورة الحجر آية: 92.

الرسالة الثالثة والستون: [دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب إلى تجديد الدين]

الرسالة الثالثة والستون: [دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب إلى تجديد الدين] وله أيضا -قدس الله روحه، وعفا عنه- رسالة إلى أهل الحوطة يذكر ما منَّ الله به عليهم من دعوة شيخ الإسلام، وعلم الهداة الأعلام، الشيخ محمد بن عبد الوهاب، إلى ما دعت إليه الرسل من معرفة الله وخشيته وعبادته، والقيام بأركان الإسلام وأصول الإيمان، فقال -رحمه الله-: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد اللطيف بن عبد الرحمن إلى الإخوان من أهل الحوطة، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: اعلموا أن الله بعث محمدا بالهدى ودين الحق، فالهدى هو العلم النافع، ودين الحق هو العمل الصالح، ولا يكفي أحدهما عن الآخر في النجاة والسلامة من الوعيد الدنيوي والأخروي. وقد منَّ الله -تعالى- عليكم بدين الإسلام، واختصكم به دون كثير من الأنام لما أتاح الله لكم شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب، فدعا إلى ما دعت إليه الرسل من معرفة الله وخشيته، وعبادته وحده لا شريك له، والقيام بالأركان الإسلامية والأصول الإيمانية. فأعز الله بذلك من قبله ونصره، ورفع قدرهم وشأنهم، وجعلهم ملوكا تهابهم الأمم، وينقاد لأمرهم جمهور العرب باديتهم وحاضرتهم. ولم يزالوا كذلك قاهرين حتى حدث ما حدث، ووقع ما وقع من الإعراض والقسوة، والتمادي على معاصي الله؛ فسلط عليهم العدو، وافترقت الكلمة وانخرم النظام، وعثا الفجرة اللئام في دماء أهل الإسلام وأموالهم، وكثر الخوض، ونسي العلم، والتبس أمر التوحيد والإيمان على كثير من الخلق.

وصارت فتنة عمياء صماء، لا يبصر صاحبها ولا يسمع، وما زال غمامها لم ينقشع، وليلها يحلولك ولا يدبر، وأبناؤها بساحتكم يحاولون إطفاء نور الله.. فسارعوا وبادروا إلى التوبة والإقلاع والندم والاستغفار، وتعاونوا على البر والتقوى وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، قال -تعالى-: {وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ} 1. فراجعوا دينكم قبل أن يحل من أمر الله ما لا تدفعون، وينزل من بأسه ما لا تردون: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} 2. ويجب على من كان يؤمن بالله واليوم الآخر أن يعينهم بحسب طاقته بيده أو بلسانه، وهذا من أسباب بقاء التوحيد فيكم والإسلام، وحمايتكم دياركم من عبادة الأوثان والأصنام، وحفظ ما خولكم الله من سوابغ الفضل والإنعام. وكثير من الناس يحصل منهم أسباب ووسائل وذرائع إلى زوال النعم، وحلول السخط والنقم، منها التهاون بنعمة الإسلام والتوحيد، واختلاف القلوب والعداوة الظاهرة، وترك نصرة الإسلام، والتوجع لمصابه، والإقبال على الدنيا ونسيان الآخرة، والاستخفاف بالأركان الإسلامية كإضاعة الصلاة، ومنع الزكاة وأخذها بغير حقها، وترك السمع والطاعة لأولي الأمر من الأمراء والعلماء؛ فهذه أسباب وعلامات على نزول العقوبة، وحلول النقمة، وانتقال النعمة، قال -تعالى-: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً} 3. ودائرتكم ليست على الحال الأولى في مبدأ الإسلام وبعده، والعاقل يعرف ذلك في نفسه وأهل بلده، وقد ذم الله -تعالى- من قست قلوبهم، ولم يتضرعوا عند حلول بأسه وانتقامه، قال: {فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا

_ 1 سورة الأعراف آية: 170. 2 سورة آل عمران آية: 104. 3 سورة الإسراء آية: 16.

وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} 1. [الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر] وذم الله تعالى من ليس فيهم بقية ينهون عن الفساد في الأرض، ويأخذون على يد السفهاء فقال -تعالى -: {فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ} 2، يخبر -تعالى- أنهم اتبعوا الشبهات، وآثروا اللذات، فكانوا من جملة المجرمين، وقال -تعالى -: {فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} 3. فدلت هذه الآية على أن الإيمان والعمل الصالح يكشف العذاب عند نزوله، ويمتع به المؤمن حينا من الدهر. وقد أمدكم الله بنعمه، وعمر بلدكم ومساكنكم بالإسلام والسمع والطاعة، فاحذروا الرجوع على أعقابكم وتبديل النعمة، قال -تعالى-: {وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} 4، وقال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لِسَبَأٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلاَّ الْكَفُور َ} 5 إلى قوله -تعالى-: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} 6.فتدبروا ما في هذه الآيات الكريمات، التي هي من أوضح الواضحات، وأبين الحجج والبينات، وتفطنوا فيما ذكر من الإعراض عن الشكر وما اقتضوه من العقوبة والعذاب؛ وفقنا الله وإياكم لتدبر القول وحسن العمل والختام، وصلى الله على رسوله ونبيه محمد وآله وصحبه وسلم.

_ 1 سورة الأنعام آية: 43. 2 سورة هود آية: 116. 3 سورة يونس آية: 98. 4 سورة البقرة آية: 211. 5 سورة سبأ آية: 15. 6 سورة سبأ آية: 19.

الرسالة الرابعة والستون: [تفسير قوله تعالى: {ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع} ] "

الرسالة الرابعة والستون: [تفسير قوله تعالى: {ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع} ] " وله أيضا -رحمه الله، وعفا عنه- رسالة إلى الشيخ حمد بن عتيق لما سأله عن كلام الشارح الشيخ سليمان بن عبد الله على قوله -تعالى-: {لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ} 1، فقال -رحمه الله تعالى-: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى الأخ الشيخ حمد بن عتيق، سلمه الله تعالى: سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: فنحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، وخطك الشريف وصل -وصلك الله لما يرضيه- وما ذكرته صار معلوما؛ والله أسأل أن يصلح السريرة والعلانية، ويصلح ما بيننا وبين خلقه، وما توفيقنا إلا بالله. وما ذكرت من جهة كلام الشارح على آية الأنعام، وأن قوله-تعالى-: {لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ} 2 نصب على الحال، فهذا عليه غير واحد من المفسرين: قال الجلال: وجملة النفي حال من ضمير يحشروا، وهي محل الخوف. وقال البيضاوي: {لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ} 3 في موضع الحال من (يحشروا) ؛ فإن المخوف هو الحشر على هذه الحالة. وقد سبقهم إلى هذا الزجاج، وابن كثير حلّ المعنى ولم يتعرض لإعرابه، ويظهر مراده من تقريره كلامه، قال: وقوله تعالى: {وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ} 4 الآية، أي: أنذر بهذا القرآن يا محمد: {إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ} 5

_ 1 سورة الأنعام آية: 51. 2 سورة الأنعام آية: 51. 3 سورة الأنعام آية: 51. 4 سورة الأنعام آية: 51. 5 سورة المؤمنون آية: 57.

{وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُم وَيَخَافُونَ سُوء الْحِسَابِ} 1: {الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ} 2؛أي: يوم القيامة: {لَيْسَ لَهُمْ} أي: يومئذ: {مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ} 3 أي: في التقريب له: {وَلا شَفِيعٌ} 4 فيهم من عذابه إن أرادهم به: {لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} 5 يعملون في هذه الدار عملا ينجيهم الله به يوم القيامة من عذابه، ويضاعف لهم الجزاء من ثوابه. انتهى. وهو يشير إلى جواز جعله صفة لمحذوف دل عليه السياق، والعائد في الجملة الوصفية يكفي تقديره، كقوله -تعالى-: {وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً} 6 والبغوي لم يتعرض لتقدير شيء. وبهذا يظهر الجواب عن قولك: ما يقال في تقريره؟ فإن الله أمر رسوله أن ينذر بالقرآن عباده المؤمنين الذين يؤمنون بلقائه، ويخافون فيه سوء الحساب، في يوم لا ولي لهم فيه ولا شفيع من دونه": {لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} ذلك بفعل ما أمروا به وترك ما نهوا عنه؛ وعلى الأول يخافون الحشر وسوء الحساب، في حال تخليهم وانفرادهم عن الأولياء والشفعاء، وخصوا بذلك لأنهم هم المتقون بالإنذار، المتقون عذاب ذلك اليوم وعقابه، بخلاف من تعلق بالأولياء والشفعاء، واعتمد عليهم في نجاته، فإنه غير خائف، ولا متق لسكون جأشه، واطمئنان قلبه بوليه وشفيعه. والله الهادي الموفق، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.

_ 1 سورة الرعد آية: 21. 2 سورة الأنعام آية: 51. 3 سورة الأنعام آية: 51. 4 سورة الأنعام آية: 51. 5 سورة الأنعام آية: 51. 6 سورة البقرة آية: 48.

الرسالة الخامسة والستون: [رد مطاعن على الشيخ محمد بن عبد الوهاب]

الرسالة الخامسة والستون: [رد مطاعن على الشيخ محمد بن عبد الوهاب] وله أيضا -رحمه الله تعالى- رسالة إلى عبد العزيز بن إبراهيم بن عبد اللطيف صاحب الفرعة من بلد الوشم، لما سأله عن بعض ما يذكر الناس من إنكاره، وما نسب لعثمان بن منصور من عداوة الدين، وموالاة المشركين، ومسبة أئمة المسلمين، وجعلهم من الخوارج المارقين، فكشف له عن حاله، بما ستقف عليه مما ظهر واشتهر من حاله ومقاله، وما صرح به في مصنفاته من مسبة أهل الإسلام، ونسبتهم إلى مذهب الخوارج المارقين، ونسبة الشيخ إلى أنه أجهل من أبي جهل، وأنه ضال مضل. وهذا نص الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد اللطيف بن عبد الرحمن إلى جناب الأخ المكرم عبد العزيز بن إبراهيم بن عبد اللطيف -سلمه الله تعالى-. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد، فنحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو، والخط وصل، وسرّنا سلامتك وعافيتك، جعلنا الله وإياك من أهل العافية في الدنيا والآخرة. وتذكر أن بعض الناس عندكم ينكر ما نسب إلى ابن منصور من عداوة الدين وموالاة المشركين، ومسبة أئمة المسلمين، وجعلهم من الخوارج المارقين؛ وهذا أظهر شيء وأبينه، عند من عرف حال هذا الرجل وجالسه، ونظر في كلامه، فإنه يبديه كثيرا لجلسائه، ويذكر في رسائله ومصنفاته، وهوامشه التي يعلقها. والرجل فيه رعونة تمنعه من المداراة والتقية، حتى في كتابه الذي زعم أنه شُرح على التوحيد، رأيت فيه من الدواهي والمنكرات ما لا يحصيه إلا الله، من ذلك قوله في الكلام على قوله -تعالى

-: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} 1 أن ابن العربي المالكي قال: العبادة هي موافقة القضاء والقدر، وابن عباس يقول: كفر الكافر تسبيح، وهذا رأيته بخط ابن نصر الله من أهل دائرته في كلامه على كتاب التوحيد؛ ولهذه نظائر وأخوات لا يعرفها إلا من وقف على كلامه من طلبة العلم، ونبرأ إلى الله أن نبهت مسلما، وأن نفتري عليه ونؤذيه بغير ما اكتسب، وإنما يظن هذا بنا حزب الشيطان وجنده من الجاهلين الذين لم يستضيئوا بنور العلم، وكتابه الذي وقفنا عليه في هذه الأيام بخط يده، نظر فيه من يعرفه يقينا من أهل سدير عبد العزيز بن عبيان وغيره وعلي بن عيسى من أهل الوشم. وكثير من طلبة العلم والعامة شهدوا بأن هذا خطه بيده، ومسبته فيه للتوحيد ومن جاء به حشو بالزنبيل، وتصريحه بتزكية أهل الأمصار ممن عبَدَ القباب والصالحين، وجعلهم: {خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} 2، والشيخ وأتباعه على إفراد الله بالعبادة عنده خوارج من أهل النهروان. ويصرح بأن الشيخ ضال مضل، وأنه أجهل من أبي جهل بمعنى لا إله إلا الله، وأنه ضل في تخطئة صاحب البردة، وأن دعاء رسول الله وطلب الشفاعة منه بعد موته جائز، وأن الله ابتلى أهل نجد بهذا الرجل، بل ابتلى به جزيرة العرب، وأنه لم يتخرج على العلماء، وأن أهل الأمصار يبنون المساجد والمنارات، وأنه أخذ بلدان المسلمين بيت مال له ولعياله، وأنه أتى الأمة من الباب الضيق وهو تكفيرها، ولم يأتها من الباب الواسع. ورد مسائل في كشف الشبه ومسائل في كتاب التوحيد، ومن الستة المواضع التي تكلم الشيخ عليها من السيرة، وأتى بجهالات وضلالات، ووقاحة ومسبة لا تصدر ممن يؤمن بالله واليوم الآخر؛ ومن كذب بهذا النقل فهو مكابر معاند،

_ 1 سورة الذاريات آية: 56. 2 سورة آل عمران آية: 110.

جاحد للحسيات والمتواترات، والغالب أن هذه المكابرة لا تقع من محب لما جاء به الشيخ من توحيد الله ودينه، وإنما يذهب إليها من في قلبه مرض يتوصل بهذه المكابرة والمباهتة إلى رد التوحيد، وبغضه وبغض أهله؛ وأكثر هذا الصنف ليس لهم التفات إلى ما جاءت به الرسل، والغالب عليهم هو الغفلة عن ذلك والإعراض عنه. وقد قال -تعالى-: {فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلاَّ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى} 1 واقرأ هذه الرسالة على من ارتاب في أمره، وماحل وجادل في دين الله: {وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} 2. وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم، ثم قال -رحمه الله-: [مسألة في الخلع] وأما المسألة التي سألت عنها في الخلع، فجوابها: أن الخلع يقع بائنا، لا تحل الزوجة بعده لزوجها إلا بعقد جديد، وليس له استرجاعها كما نص عليه أهل العلم، والله أعلم.

_ 1 سورة النجم آية: 29. 2 سورة الأحزاب آية: 4.

الرسالة السادسة والستون: [رد على الشيخ عثمان بن منصور]

الرسالة السادسة والستون: [رد على الشيخ عثمان بن منصور] وله -رحمه الله تعالى- رسالة إلى عثمان بن منصور قبل أن يتبين من أمره ما تبين، وقبل أن يتضح أمره وتظهر مصنفاته ورسائله، لكنه قد يظهر من حاله، وبعض مقاله، ويلوح من صفحات وجهه وفلتات لسانه ما يغمص به، وتنسب إليه هفوات، وشيء من الكوارث القوادح والمعضلات، وكان مع ذلك يظهر الموافقة، وهو يبطن -والعياذ بالله- المخالفة والمشاقة، حتى وضح أمره واشتهر، فلم يخف ذلك على من له بصر، وله معرفة ونظر، والله أعلم بما آل إليه أمره، وختم له به، ونعوذ بالله من غضبه وأليم عقابه. وهذا نص الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن إلى الأخ الشيخ عثمان بن منصور، أنقذه الله من طوارق الفتن والشرور، ورفع نعته عن سفاسف الأمور. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد: فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو على ما ألبسنا من ملابس فضله، التي لا تخلعها الأنداد، وأستزيده من خزائن بره، التي ليس لها انقضاء ولا نفاد. أما بعد: فقد وصل إلينا منك خطابان: (فأولهما) صادف حين الاشتغال بلقاء الأحبة والآل، (وأما الثاني) فبعد أن ألقيت عصا الترحال، وارتاح من ألم شوقه القلب والبال، فبمجرد الوقوف على خطك ومطالعة نقشك ووشيك، بحثت عن الوجه الذي تدلي به علينا، وعن حقيقة المعنى الذي تشير به إلينا، وما هو اللائق في إجابة أمثالك، وهل يحسن بنا النسج على منوالك، أو نقتصر على موجب: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ} 1 إذ ليس وراءها مزية

_ 1 سورة النساء آية: 86.

دينية شرعية، لأكون على بصيرة من أمري، ومعرفة للحقائق قبل اقتداح زندي. فأخبرني الثقة بالجرح والتعديل، الخبير بما قد شاع عنك من القيل، أن صاحب الخط ينتمي إلى ممارسة العلوم، المنقول منها والمفهوم، غير أنه قد نسب عنه هفوات، إن صحت فهي من عظائم المعضلات، ولم نقف لها على تصحيح يعتمد، ولم تلتفت إلى البحث في متنها والسند، اكتفاء بإعراضه عن الابتهاج بهذه الدعوة لهذا الأصل والمذاكرة، واستغناء بعدم التفاته إلى المؤاخاة في الله والمؤازرة، بل كل الناس لديه إخوان، والضدان عنده يجتمعان، يصاحب أولياء الأوثان، كما يصاحب عابد الرحمن، ويأنس لمنقلب على عقبه، كما يأنس بالثابت على الإيمان، مع أنه قد شرح التوحيد، وادعى الإتيان بكل معنى موجز سديد. يوما بحزوى ويوما بالعقيق وبال ... عذيب يوما ويوما بالخليصاء وتارة تنتحي نجدا وآونه ... شعب الغوير وطورا قصر تيماء فهو إن انتسب إلى الحق، فقد والى من خرج عنه وعق. فقلت: إيهٍ له من رجل لو استقام، وصارم لولا ما عراه من الانتلام، لكني أعلم أن للعلم بركات، وللملك لمات، فأرجو أن يقوده العلم إلى ثمراته، وأن يحول بينه وبين الشيطان وخطواته،: {اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} 1 والقلب بين إصبعين من أصابع الرحمن، كما رواه المحدثون من الأعيان، فلعل ميت رجائنا يحييه من يحيي عظام الميت وهي رميم، ولهذا أشرت إلى الشيخ الوالد -أعز الله قدره، ورفع بوراثة النبيين مجده وفخره، بأن يرد لك الجواب، ويعلمك بالخطب أتى من أي باب، طمعا لك في الأوبة والفلاح، وحرصا على سلوك سبيل الهداية

_ 1 سورة الحديد آية: 17.

الرسالة السابعة والستون: [رسالة إلى أهل الحوطة بالاعتصام بالتوحيد الخالص]

والصلاح، لئلا تتوهم غير ذلك من الأسباب، التي تنقل عنك من الاستطالة في الأعراض والاغتياب، إذ هي لا يلتفت إليها المؤمن العاقل، ولا يأخذ بها إلا غرّ مُماحل، وهي باقية ليوم ترجعون فيه إلى الله، ويجزي كل قائل بما زوره وافتراه، ولعل الله أن يمن برجوعك إلى الحق بعد الشرود، ويقضي بصحبتك على توحيد ربنا المعبود، فإني أتأسف على تنكب أمثالك،: {وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} 1، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم. الرسالة السابعة والستون: [رسالة إلى أهل الحوطة بالاعتصام بالتوحيد الخالص] وله أيضا -رحمه الله، وعفا عنه- رسالة إلى أهل الحوطة، هذا نصها: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد اللطيف بن عبد الرحمن إلى الإخوان المكرمين من أهل الحوطة -سلمهم الله تعالى وهداهم-: سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: فأوصيكم بتقوى الله وطاعته، والاعتصام بحبله، وترك التفرق والاختلاف، ولزوم جماعة المسلمين، فقد قامت الحجة بكتاب الله وسنة رسوله، وعرفتم أنه لا إسلام إلا بجماعة، ولا جماعة إلا بإمارة، ولا إمارة إلا بطاعة. وقد أناخ بساحتكم من الفتن والمحن ما لا نشكوه إلا إلى الله، فمن ذلك الفتنة الكبرى، والعيبة العظمى، الفتنة بعساكر الشرك، أعداء الملة والدين. وقد اتسعت وأضرت، ولا ينجو المؤمن منها إلا بالاعتصام بحبل الله وتجرد التوحيد، والتحيز إلى أولياء الله؛ عباده المؤمنين، والبراءة كل البراءة ممن أشرك بالله وعدل به غيره، ولم ينزهه عما انتحله المشركون، وافتراه المكذبون.

_ 1 سورة الأحزاب آية: 4.

وأفضل القرب إلى الله مقت أعدائه المشركين، وبغضهم، وعداوتهم، وجهادهم، وبهذا ينجو العبد من توليهم من دون المؤمنين، وإن لم يفعل ذلك فله من ولايتهم بحسب ما أخل به وتركه من ذلك. فالحذر الحذر مما يهدم الإسلام، ويقلع أساسه! قال الله -تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} 1 وانتفاء الشرط يدل على انتفاء الإيمان بحصول الموالاة؛ ونظائر هذه الآية في القرآن كثير. وكذلك الفتنة بالبغاة والمحاربين توجب من الاختلاف والتفرق، والبغضاء، وسفك الدماء، ونهب الأموال، وترك أوامر الله ورسوله، والإفساد في الأرض ما لا يحصيه إلا الله، وذلك مما لا يستقيم معه إسلام ولا يحصل بملابسته من الإيمان ما ينجي العبد من غضب الله وسخطه. وهذه الحالة وتلك الطريقة بها ذهاب الإسلام وأهله، وتسلط أعداء الله، وتمكنهم من بلاد المسلمين وهدم مبانيه والإعلام، فكيف يسعى فيها من يؤمن بالله واليوم الآخر، ويؤمن بالجنة والنار، ويخاف سوء الحساب؟ فاتقوا الله عباد الله! ولا تذهب بكم الدنيا والأهواء، وشياطين الإنس والجن إلى ما يوجب الهلاك الأبدي، والشقاء السرمدي، والطرد عن الله وعن بابه، والخروج عن جملة أوليائه وأحبابه، قال -تعالى-: {قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ} 2 فتدبروا هذه الآيات الكريمات، وسارعوا إلى ما يحبه الرب ويرضاه من الجماعة والطاعات، وائتموا بالقرآن

_ 1 سورة المائدة آية: 57. 2 سورة الزمر آية: 15.

وقفوا عند عجائبه، وما فيه من الحجة والبرهان؛ فإن الله تكفل لمن قرأ القرآن وعمل بما فيه أن لا يضل في الدنيا، ولا يشقى في الآخرة، وهو حبل الله المتين، ونوره المبين، فيه نبأ من كان قبلكم، وفصل ما بينكم، لا يضل متبعه ولا يطفأ نوره، فما هذه المشاقة؟ وما هذا الاختلاف والتفرق، وقد جاءتكم النصائح، وتكررت إليكم المواعظ؟ قال -تعالى-: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً} 1، وقال الله -تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} 2. وقد خرج الإمام أحمد من حديث الحارث الأشعري، بعد أن ذكر ما أمر به يحيى بن زكريا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " وآمركم بخمس الله أمرني بهن: الجماعة، والسمع والطاعة، والهجرة والجهاد في سبيل الله، فإنه من خرج من الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه إلا أن يراجع، ومن دعا بدعوى الجاهلية فهو من جثي جهنم، قالوا: يا رسول الله وإن صلى وصام، قال: وإن صلى وصام، وزعم أنه مسلم"3. فادعوا المسلمين بأسمائهم على ما سماهم الله به عز وجل المسلمين، المؤمنين، عباد الله؛ وهذه الخمس المذكورة في الحديث ألحقها بعضهم بالأركان الإسلامية التي لا يستقيم بناء ولا يستقر إلا بها، خلافا لما كانت عليه الجاهلية من ترك الجماعة والسمع والطاعة. نسأل الله لنا ولكم الثبات على دينه والاعتصام بحبله، والامتثال لأمره، واتقاء غضبه وسخطه، فاحذروا الاختلاف: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} 4،: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} 5،: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} 6. وصلى الله على عبده ورسوله محمد النبي الأمي العربي الهاشمي وآله وصحبه وسلم.

_ 1 سورة النساء آية: 115. 2 سورة النساء آية: 59. 3 الترمذي: الأمثال (2863) , وأحمد (4/202) . 4 سورة الأنفال آية: 1. 5 سورة النور آية: 31. 6 سورة النحل آية: 91.

الرسالة الثامنة والستون: [النصيحة إلى كافة المسلمين]

الرسالة الثامنة والستون: [النصيحة إلى كافة المسلمين] وله أيضا -قدس الله روحه- رسالة إلى كافة المسلمين وخاصتهم من العلماء والأمراء ينصحهم فيها، ويحضهم على القيام بما أمر الله به من لزوم الجماعة والسمع والطاعة، ويذكرهم ما منّ الله عليهم به من الاجتماع على هذا الدين بدعوة شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب، بعد أن كانوا قبل دعوته على غاية من الجهالة والضلالة، فجمعهم الله به على هذا الدين. ثم لما خرج من خلع البيعة، وفارق الجماعة، وشق العصا كتب لهم هذه الرسالة يحذرهم عما وقعوا فيه من الفتنة، وسفك الدماء، ونهب الأموال، ولكن قد سبق القضاء بما هو كائن: {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً} 1. وهذا نص الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، وصلى الله على سيد المرسلين، محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. من عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن إلى من يصل إليه من علماء المسلمين وأمرائهم وعامتهم، جعلنا الله وإياهم ممن عرف النعمة وشكرها، في طاعة من أنعم بها ويسرها. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: فالذي أوجب هذا الكتاب: ذكر ما أنعم الله به عليكم من نعمة الإسلام الذي عرفكم به، وهداكم، وتسمون به، فلا يعني باسم المسلمين إلا أنتم، وما أعطاكم الله في هذا الدين من النعم أكثر من أن يحصر، لكن منها نعم، كل واحدة منها حصولها نعمة عظيمة، لأن المعارض لها قوي جدا، أولها: كون الدعوة إلى دين الإسلام ما قام في بيانها والدعوة إليها إلا رجل، فلما

_ 1 سورة الأحزاب آية: 38.

شرح الله صدره، واستنار قلبه بنور الكتاب والسنة، وتدبر الآيات، وطالع كتب التفسير وأقوال السلف في المعنى والأحاديث الصحيحة فسافر إلى البصرة، ثم إلى الأحساء والحرمين، لعله أن يجد من يساعده على ما عرف من دين الإسلام. فلم يجد أحدا، كلهم قد استحسن العوائد، وما كان عليه غالب الناس في هذه القرون المتأخرة إلى منتصف القرن الثاني عشر، ولا يعرف أن أحدا دعا فيها إلى توحيد العبادة، أو أنكر الشرك المنافي له، بل قد ظنوا جواز ذلك أو استحبابه. وذلك قد عمت به البلوى من عبادة الطواغيت والقبور، والجن، والأشجار والأحجار، في جميع القرى والأمصار والبوادي وغيرهم. فما زالوا كذلك إلى القرن الثاني عشر، فرحم الله كثيرا من هذه الأمة بظهور شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله- وكان قد عزم، وهو بمكة أن يصل الشام مع الحاج فعاقه عنهم عائق، فقدم المدينة، وأقام بها. ثم إن العليم الحكيم رده إلى نجد رحمة لمن أراد أن يرحمه بمن يؤويه وينصره، وقدم على أبيه وصنوه وأهله ببلد حريملا فناداهم بالدعوة إلى التوحيد، ونفي الشرك والبراءة منه ومن أهله، وبيّن لهم الأدلة على ذلك من الكتاب والسنة وكلام السلف -رحمهم الله-. فقبل منهم من قبل، وهم الأقلون، وأما الملأ والكبراء الظلمة الفسقة فكرهوا دعوته، فخافهم على نفسه، وأتى العينية وأظهر الدعوة بها، وقبل منه كثير منهم حتى رئيسهم عثمان بن أحمد بن معمر. ثم إن أهل الأحساء، وهم خاصة العلماء أنكروا دعوته، وكتبوا شبهات تنبئ عن جهلهم وضلالهم، وأغروا به شيخ بني خالد؛ فكتب لابن معمر أن يقتل هذا الشيخ أو يطرده فما تحمل مخالفته، فنفاه من بلده إلى الدرعية. فتلقاه محمد بن سعود -رحمه الله- بالقبول، وبايعه على أن يمنعه مما يمنع منه أهله وولده

وهذه أيضا نعمة عظيمة، وكون الله أتاح له من ينصره ويؤويه، والذي أقوى من ابن سعود، وأكثر لم يحصل منه ذلك، وصبر محمد على عدوه الأدنى والأقصى أهل نجد، والملوك من كل جهة. وبادأهم دهام بن دواس؛ فهجم إلى الدرعية على غرة من أهلها، وقتل أولاد محمد فيصلا وسعودا؛ فما زاد محمد إلا قوة وصلابة في دينه -رحمه الله- على ضعف منه، وقلة في العدد والعدد وكثرة من عدوهم، وذلك من نعمة الله وآياته علينا وعليكم. فرحم الله هذا الشيخ الذي أقامه الله مقام رسله وأنبيائه في الدعوة إلى دينه، ورحم الله من آواه ونصره، فلله الحمد على ذلك. وفيما جرى من ابن سعود شبه لما جرى من الأنصار في بيعة العقبة. ثم إن أهل نجد وبني خالد وأهل العراق والأشراف والبوادي وغيرهم تجردوا لعداوة هذا الشيخ، ومن آواه ونصره، وأقبلوا على حربهم بحدهم وحديدهم، وكثرة جنودهم، وكيدهم؛ فأبطل الله كيد كل من عاداهم، وكل من رام من هؤلاء الملوك وأعوانهم أن يطفئ هذا النور، أطفأ الله ناره، وجعلها رمادا، وجعل كثيرا من أموالهم فيئا للمسلمين، وهذه عبرة عظيمة ونعمة جسيمة. ثم إن الله بفضله وإحسانه أظهر هذا الدين في نجد، وأذل من عاداه، فعمت النعمة أهل نجد ومن والاهم شرقا وغربا، وحفظ الله عليكم نعمة الإسلام التي رضيها -سبحانه- لعباده دينا، فلم يقدر أحد أن يغيرها بقوته وقدرته. فاشكروا ربكم الذي حفظ عليكم دينكم، ورد لكم الكرة على من خرج عنه؛ وذلك بالإقبال على التوحيد تعلما وتعليما، والأمر بما يحبه الله من طاعته، والنهي عما نهى الله عنه من المعاصي. وفي كلام بعض العلماء ما يبين حال أكثر هذه الأمة قبل هذه الدعوة من الشرك العظيم؛ فمن ذلك قول عالم صنعاء الأمير محمد بن إسماعيل الصنعاني -رحمه الله- عن شيخ

الإسلام محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله تعالى-: وقد جاءت الأخبار عنه بأنه ... يعيد لنا الشرع الشريف بما يبدي وينشر جهرا ما طوى كل جاهل ... ومبتدع منه فوافق ما عندي ويعمر أركان الشريعة هادما ... (مشاهد) ضل الناس فيها عن الرشد أعادوا به معنى سواع ومثل ... يغوث وود بئس ذلك من ود وقد هتفوا عند الشدائد باسمها ... كما يهتف المضطر بالصمد الفرد وكم عقروا في سوحها من عقيرة ... أهلت لغير الله ظهرا على عمد وكم طائف حول القبور مقبل ... ومستلم الأركان منهم باليد [وجوب التواصي بحفظ نعم الله] ثم إن الله -تعالى- لما جمعكم على إمام ترضونه، وقد حصل لكم من الأمن والراحة والعافية وكف أيدي الظلمة عنكم ما لا يخفى، ثم لما تبين من خلع الطاعة، وفارق الجماعة، وسعى في الخروج إلى ما لا يحبه الله ولا يرضاه من الفتنة في الدين، وشق عصا المسلمين، أوقع الله بهم، وبمن جمع بأسه، وقتل أشرار من معه، وأظهر الله جماعة المسلمين وإمامهم على كل من أفسد ممن قتل في هذه الفتن ونهب، وصاروا أذلة، وحفظ الله عليكم الجماعة. فالواجب علينا وعليكم التواصي بهذه النعم العظيمة، والتنافس في هذا الدين الذي منَّ الله به عليكم؛ وهو الذي بعث الله به رسله، وأنزل به كتبه، ورضيه لعباده كما قال -تعالى-: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الأِسْلامَ} 1، وقال -تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ} 2.واحذروا نسيان ربكم بالإعراض

_ 1 سورة المائدة آية: 3. 2 سورة الحشر آية: 18.

عما افترضه عليكم، وأقبلوا على توحيده وطاعته، واطلبوا بذلك الجنة والنجاة من النار، والحق على العلماء والأمراء أعظم لأن العامة يتبعونهم، ويتقربون إليهم بما يحبون، ومن أحب شيئا أكثر من ذكره. فكونوا أئمة في هذا الدين الذي هو معنى لا إله إلا الله؛ وقد بين الله معناها في آيات كثيرة من كتابه، فإنها دالة على نفي الشرك، والبراءة منه وممن فعله، وإخلاص العبادة لله وحده لا شريك له، وذلك في آي كثيرة؛ فمن ذلك قوله -تعالى-: {وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} 1، فقوله: {أَقِمْ وَجْهَكَ} فيه الإخلاص، و: {حَنِيفاً} فيه ترك الشرك، وقوله: {وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} 2 فيه البراءة منهم ومن دينهم، قال -تعالى-: {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} 3.والآيات في معنى لا إله إلا الله أكثر من أن تحصر كقوله: {إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ} 4. والمراد فتح الباب لكم في معنى التوحيد الذي فيه الفلاح والنجاة، وصلاح الدنيا والآخرة؛ فلا تنسوا ربكم بالإعراض عن الهدى فينسيكم أنفسكم، ومن عقوبة الإعراض عمى البصيرة في الدنيا والآخرة، ولا باقي معكم إلا دينكم لمن منّ الله عليه بحفظه، والإقبال عليه، والعمل به، ولتفهموا أن الدنيا ما للإنسان منها إلا ما كان لله، وغير ذلك زائل. هذا ما نوصيكم به وندلكم عليه عامة، والعلماء والأمراء خاصة، فيجب عليهم أن يكونوا صدرا في هذا الدين بالرغبة فيه والترغيب، وأن يكونوا سندا وعونا لمن أمر بالمعروف ونهى عن المنكر، وأن يتفقدوا أهل بلدهم في صلاتهم وتعليم دينهم، وكفهم عن السفاهة، وما يحرم عليهم، لأن الله سائلهم عنهم، وبالله التوفيق، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين.

_ 1 سورة يونس آية: 105. 2 سورة يونس آية: 105. 3 سورة الزمر آية: 2. 4 سورة يوسف آية: 40.

الرسالة التاسعة والستون: [ما يجب الإيمان به من صفات الله]

الرسالة التاسعة والستون: [ما يجب الإيمان به من صفات الله] وله أيضا -قدس الله روحه، ونور ضريحه- رسالة إلى عبد الرحمن بن محمد بن مانع، وقد سأله عبد الرحمن بن مانع عمن يرى أن أحاديث الصفات تجري على ظاهرها من غير اعتقاد حقائقها ويتستر بالتفويض، فأجابه بما كان عليه أهل السنة والجماعة في هذا الباب، وأنه لا بد من اعتقاد المعاني على حقائقها. وبيّن له أن معنى التفويض عند السلف إنما هو في العلم بالكيفية؛ لأنها دلت عليها النصوص من إثبات صفات الكمال. وكذا أجابه عن سؤاله فيما أشكل من أمر الصخرة التي كان الأنبياء يستقبلونها ببيت المقدس. وهذا نص الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد اللطيف بن عبد الرحمن: الأخ المكرم عبد الرحمن بن محمد بن مانع -سلمه الله تعالى-، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: فأحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، والخط وصل -وصلك الله لما يرضيه-، وسرّنا ما ذكرت من العافية، والحمد لله على ذلك. وتسأل -أرشدك الله- عمن يرى أن أحاديث الصفات تجري على ظاهرها، وشك في معناها من غير اعتقاد حقيقته، ويتستر بالتفويض، فهل نكفره بدعواه، أو حتى يختبر؟ فاعلم -أرشدك الله- أنه لا بد من الإيمان بأن الله مستو على عرشه، بائن من خلقه، قاهر فوق عباده، ليس في ذاته شيء من مخلوقاته، ولا في مخلوقاته شيء من ذاته، كما دلت على هذا الكتب السماوية والنصوص النبوية والقواطع العقلية، وأجمعت عليه الأمم التي تؤمن بوجود الله، وبربوبيته

العامة، ولكن لما خاض الناس في علم الكلام، وعربت كتب اليونان وقدماء الفلاسفة الذين هم من أجهل خلق الله، وأضلهم في النظريات والضروريات، فضلا عن السمعيات مما جاءت به النبوات، حدث بسبب ذلك من الخوض والجدال في صفات الله ونعوت جلاله التي جاءت بها الكتب، وأخبرت بها الرسل، ما أوجب لكثير من الناس تعطيل وجود ذاته وربوبيته كما جرى للاتحادية والحلولية. فمن باب الكلام والمنطق دخلوا في هذا الكفر الشنيع، والإفك الفظيع، ومنهم من عطل صفات كماله ونعوت جلاله، التي وصف بها نفسه، ووصفته بها رسله؛ وتمدح بها، وأثنى عليه بها صفوة خلقه وخلاصة بريته؛ حتى آل هذا القول والتعطيل بأهله إلى أن شبهوه بالعدم المحض، فلم يصفوه إلا بصفات سلبية، ولم يثبتوا له من صفات كماله ونعوت جلاله ما هو عين الكمال والتعظيم والإيمان والإجلال. واختلف هذا القسم اختلافا كثيرا في أصول المقالات وفروعها: فمنهم من طرد الباب في جميع الصفات. ومنهم من أثبت بعضا زعما منه أن العقل لا يثبت سواها، ونفى ما عاداها من الصفات كما هو المعروف عمن ينتسب إلى الأشعري والكرامي، ثم هؤلاء قد يقولون في آيات الصفات وأحاديثها: تجرى على ظاهرها، يريدون أنها تتلى ولا يتعرض لإثبات ما دلت عليه من المعنى المراد، والحقيقة المقصودة، بل يصرحون برد ذلك ونفيه. ومقصود السلف بقولهم: أمِرُّوها كما جاءت، وقول من قال: تجرى على ظاهرها، إثبات ما دلت عليه من الحقيقة، وما يليق بجلال الله وعظمته وكبريائه ومجده وقيوميته وحده، كما ذكر الوليد بن مسلم عن مالك والليث وسفيان الثوري، والأوزاعي أنهم قالوا: أمرُّوها كما جاءت بلا كيف،

فقولهم: أمرُّوها كما جاءت رد على المعطلة الذين لا يرون ما دلت عليه وجاءت به من الحقيقة المقصودة والمعنى المراد، وقولهم: بلا كيف، رد للممثلة الذين يعتقدون أن ظاهرها فيه تمثيل وتكييف: {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوّاً كَبِيراً} 1. ومذهب السلف: إثبات ما دلت عليه الآيات والأحاديث على الوجه اللائق بجلال الله وعظمته وكبريائه ومجده، ومن قال: تجرى على ظاهرها وأنكر المعنى المراد كمن يقول في قوله -تعالى-: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} 2 أنه بمعنى استولى، وفي قوله: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} 3 أنه بمعنى القدرة، مع ذلك يقول: تجرى على ظاهرها، فهذا جاهل متناقض، لم يفهم ما أريد من قولهم: تجرى على ظاهرها، ولم يفهم أن الظاهر هو ما دلت عليه نصا أو ظاهرا في معناه المراد. ولا ينبغي في الإيمان الإتيان بقول ظاهر يوافق ما كان عليه السلف وأهل العلم، مع اعتقاد نقيضه في الباطن؛ بل هذا عين النفاق، وهو من أفحش الكفر في نصوص الكتاب والسنة. والسلف، وأهل العلم والفتوى لا يكتفون بمجرد الإيمان بألفاظ الكتاب والسنة في الصفات من غير اعتقاد لحقيقتها وما دلت عليه من المعنى؛ بل لا بد من الإيمان بذلك، وكذا الاستواء على العرش العلو والارتفاع. وحديث الجارية نص في أن اعتقاد العلو والفوقية لا بد منه في الإيمان، وكما دلت عليه النصوص المتظاهرة من الكتاب والسنة، كقوله -تعالى-: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} 4،: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} 5،: {تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} 6،: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} 7، وحديث الأوعال، وحديث الرقية، وحديث الاستسقاء، وغير ذلك مما لا يكاد يحصى. قال أبو مطيع: قال أبو حنيفة في الفقه الأكبر: من قال: لا أعرف ربي في السماء أم في الأرض، فقد كفر، لأن الله يقول: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} 8.

_ 1 سورة الإسراء آية: 43. 2 سورة طه آية: 5. 3 سورة ص آية: 75. 4 سورة الأنعام آية: 18. 5 سورة فاطر آية: 10. 6 سورة المعارج آية: 4. 7 سورة غافر آية: 2. 8 سورة طه آية: 5.

[حكم تعطيل الصفات] وعرشه فوق سماواته، قلت: فإن قال: إنه على العرش استوى، ولكن لا أدري العرش في السماء أم في الأرض، فهو كافر، لأنه أنكر أن يكون الله في السماء، لأنه -تعالى- في أعلى عليين، وأنه يدعى من أعلى لا من أسفل. وهذا يدل على أن من آمن بنفس اللفظ، ونفى ما يدل عليه من العلو، فهو كافر عنده، وغيره من الأئمة لا يخالفه، وقال مالك -رحمه الله-: الله في السماء، وعلمه بكل مكان. وقد بسط اللالكائي -رحمه الله- أقوال الأئمة من السلف ومن بعدهم على تكفير هذا الضرب من الناس. وقد حبس هشام بن عبد الله الرازي -قاضي الري- رجلا في التجهم، فأظهر التوبة، فأحضر عنده، فقال: الحمد لله على التوبة، فقال هشام: اشهد أن الله على عرشه بائن من خلقه، فقال: أشهد أن الله على عرشه، ولا أدري ما بائن من خلقه، فقال: ردوه فإنه لم يتب. وذكر الحكم بإسناد صحيح عن محمد بن إسحاق بن خزيمة -رحمه الله- أنه قال: من لم يقل: إن الله فوق سماواته على عرشه، بائن من خلقه، وجب أن يستتاب، فإن تاب وإلا ضربت عنقه، ثم يلقى في مزبلة لئلا يتأذى بنتن ريحه أهل القبلة وأهل الذمة. وبهذا تعلم أن التفويض عند السلف إنما هو في العلم بالكيفية لا فيما دلت عليه النصوص من إثبات صفات الكمال كالعلو والارتفاع والفوقية، فإن هذا لا بد من اعتقاده والإيمان به. وقال ابن أبي زيد القيرواني في قوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} 1 أي بذاته، وقد أنكر عليه من لا علم له، ولا اطلاع على مذهب السلف والأئمة المقلدين -رضي الله عنهم أجمعين- وخبط في هذا المقام بما لا طائل تحته من فضول الكلام الدال على فساد القصد، وعدم رسوخ الأفهام، فنعوذ بالله من معرة الجهل والأوهام، ونستجير به من مزلة الأقدام.

_ 1 سورة طه آية: 5.

الرسالة السبعون: [فضل الدعوة إلى الله]

قبة الصخرة (وأما المسألة الثانية) : فيما أشكل من أمر الصخرة، فما ذكر الشيخ لا إشكال فيه، ولا يدل أنها على الأرض ولا بعضها كما توهمه صاحب الهامش لأن ارتفاع الصخرة زمن سليمان -عليه السلام- اثنا عشر ذراعا بذراع الإنسان، ذراع وشبر وقبضة، لكن دفنها بختنصر فإنه أمَرَ عسكره أن يملا كل إنسان منهم ترسه ترابا ويقذفه ببيت المقدس، وبعده الروم استولوا على بيت المقدس، وطرحوا الزبل والتراب الكثير على الصخرة مغايظة لبني إسرائيل. فلما فتحها عمررضي الله عنه سنة 16 بسط رضي الله عنه رداءه، وجعل يكنس التراب والزبل فيه، فأخذ المسلون يكنسون معه ويفعلون ما فعل. فإن قصد صاحب الهامش أنها كانت على الأرض قبل أن تكشف فصحيح، وإلا فوهم، والله أعلم، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم. الرسالة السبعون: [فضل الدعوة إلى الله] وله أيضا -قدس الله روحه، ونور ضريحه- رسالة إلى سهل بن عبد الله التويجري، ومحمد آل عثمان يحضهما على الدعوة إلى الله، وقد سألاه عن هذا الحديث: "ثلاثة لا يغل عليهن قلب مسلم" 1 الحديث، فأفاد وأجاد، وبلغ من الإفادة غاية المراد، فتأمله، فإنه مفيد جدا، والله المستعان، وهذا نصها: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد اللطيف بن عبد الرحمن إلى الأخوين المكرمين سهل بن عبد الله ومحمد بن عثمان، حفظهما الله من طوائف الشيطان، وزينهما بزينة العلم والإيمان سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، ما تعاقبت غدوات الدهر وروحاته، والخط وصل -وصلكم الله إلى مرضاته- وسرّني ما ذكرتما من الدعوة إلى الله

_ 1 الترمذي: العلم (2658) .

وما حصل بكما من الانتفاع، فالحمد لله على ذلك، وفي الحديث: "نضّر الله امرأ سمع مقالتي فوعاها، وحفظها، وبلّغها؛ فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه" قلت: وهذا من عاجل ثواب الله لأهل العلم. [الحث على تبليغ الدعوة الإسلامية إلى الناس] وفي الحديث المبلغين 1 عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم فإنهم يعطون نضرة في وجوههم يمتازون بها عن سائر الخلق، وفي صحيح البخاري: "خيركم من تعلم القرآن وعلمه" 2 3. وتعليمه يتناول تعليم معانيه، وما دل عليه من الأصول الإيمانية والقواعد الشرعية، فإن المعنى هو المقصود، وفي الحديث: "من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من اتبعه، من غير أن ينقص ذلك من أجورهم شيئا" 4. والأحاديث في المعنى كثيرة. وللحديث الأول بقية قد سألني سهل عنها، وهي قوله صلى الله عليه وسلم: "ثلاث لا يغل عليهن قلب مسلم: إخلاص العمل لله، ومناصحة أئمة المسلمين، ولزوم جماعتهم، فإن دعوتهم تحيط من ورائهم" 5 ذكر العلامة ابن القيم وغيره: أن المعنى لا يحمل الغل ويبقى فيه مع وجود هذه الثلاث، فإنها تنفي الغل والغش وهو فساد القلب وسخائمه، فالمخلص لله إخلاصه يمنع وجود الغل في قلبه، ويخرجه ويزيله؛ لأنه قد انصرفت دواعي قلبه وإرادته إلى مرضاة ربه فلم يبق فيه موضع للغل. [إخلاص العمل لله] وقد أشار -تعالى- إلى هذا المعنى بقوله: {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} 6، فلما أخلص لربه صرف عنه دواعي السوء والفحشاء، ولما علم إبليس هذا المعنى استثناهم في قوله: {إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} 7. فالإخلاص

_ 1 كذا ولا بد أن يكون قد سقط هنا كلمة مضافة إلى المبلغين فلعل الأصل: وفي الحديث: فضل المبلغين عن الله إلخ. 2 البخاري: فضائل القرآن (5027) , والترمذي: فضائل القرآن (2907 ,2908) , وأبو داود: الصلاة (1452) , وابن ماجه: المقدمة (211) , وأحمد (1/57 ,1/58 ,1/69) , والدارمي: فضائل القرآن (3338) . 3 هو حديث مرفوع رواه أحمد، وأكثر أصحاب السنن أيضا. 4 مسلم: العلم (2674) , والترمذي: العلم (2674) , وأبو داود: السنة (4609) , وأحمد (2/397) , والدارمي: المقدمة (513) . 5 الترمذي: العلم (2658) . 6 سورة يوسف آية: 24. 7 سورة الحجر آية: 40.

[لزوم جماعة المسلمين] هو سبيل الخلاص، والإسلام مركب السلامة، والإيمان خاتم الأمان. ومناصحة المسلمين تنافي الغل أيضا؛ فإن النصح لا يجامع الغل إذ هو ضده. وكذلك لزوم جماعة المسلمين مما يطهر القلب من الغل، فإن صاحبه للزومه الجماعة يحب لهم ما يحب لنفسه، ويكره لهم ما يكره لها، ويسوؤه ما يسوؤهم، ويسره ما يسرهم، وهذا بخلاف من انحاز عنهم، واشتغل بالطعن عليهم والعيب والذم كما يفعله الجهال والضلال مع شيخ الإسلام وأتباعه على توحيد الله ودينه. وكما فعله إخوانهم الرافضة والخوارج والمعتزلة والجهمية، فإن قلوبهم ممتلئة غلا وغشا، ولهذا تجدهم من أبعد الناس عن الإخلاص وأغشهم للأئمة والأمة، ولا يكونون -قط- إلا أعوانا على أهل الإسلام مع أي عدوّ نأواهم، وهذا أمر شاهدته الأمة، ومن لم يشاهده فقد سمع منه ما يصم الآذان ويشجي القلوب. وقوله صلى الله عليه وسلم: "فإن دعوتهم تحيط مِنْ ورائهم" 1 هو بكسر الميم وإسكان النون، وهذا من أحسن الكلام وأوجزه، شبه دعوة المسلمين بالسور والسياج المحيط بهم، المانع من دخول عدوهم عليهم؛ فكانت دعوة الإسلام سورا وحصنا لمن لزمها تحيط بتلك الدعوة، فالدعوة تجمع شمل الأمة وتلم شعثها وتحيط بها، فمن دخل في جماعتها أحاطت به وشملته. هذا وما ذكرتما من الأخبار صار معلوما، والجواب من الرأس عن قريب إن شاء الله -تعالى-، وبلغوا سلامنا محمدا، ومحمدا، وإخوانكم من الطلبة، ومن لدينا الشيخ الوالد المكرم وأولاده وأولادنا بخير وينهون السلام وحال التاريخ، وفي عزمنا الركوب غزاة مع الإمام -أيدنا الله وإياه بالنصر للدين-، والسلام.

_ 1 ابن ماجه: المناسك (3056) , وأحمد (4/80 ,4/82) , والدارمي: المقدمة (227) .

الرسالة الحادية والسبعون: [حال الأمة الإسلامية قبل ظهور الشيخ محمد بن عبد الوهاب]

الرسالة الحادية والسبعون: [حال الأمة الإسلامية قبل ظهور الشيخ محمد بن عبد الوهاب] وله قدس الله روحه، ونور ضريحه رسالة إلى الشيخ محمد بن سليمان البغدادي يبين له فيها ما عليه أهل هذه الأزمان من عبادة غير الله، وإشراكهم بالله، وصرف عبادتهم للأولياء والصالحين، ويذكره نعمة الله عليه بمعرفة هذا الدين، ومعرفة ما عليه أهل هذه الأزمان من هذا الشرك العظيم، الذي قد عم وطم، ولم ينج منه إلا الأفراد؛ فتأملها فإنها مفيدة، وهذا نصها. بسم الله الرحمن الرحيم من عبد اللطيف بن عبد الرحمن إلى جناب الأخ المكرم الشيخ محمد بن سليمان آل عبد الكريم البغدادي وفقه الله للإيمان به وتقواه، وأطلع للطالبين بدر توفيقه وهداه. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو وهو للحمد أهل، وهو على كل شيء قدير. والكتاب الكريم وصل إلينا وصلك الله برضاه، ونظمك في سلك خاصته وأوليائه، وقد سرني غاية المسرة، وسرحت نظري في رياضه المرة بعد المرة. وحمدت الله على ما من به عليك، وأهداه إليك من المنة العظمى، والموهبة الكبرى، التي هي أسنى المواهب، وأشرف المطالب: معرفة دين الإسلام والعمل به، والبراءة مما وقع فيه الأكثرون من الشرك الصراح، والكفر البواح، من دعاء الموتى والغائبين، والاستغاثة بهم في كشف شدائد المكروبين، ونيل مطالب الطالبين، وتحصيل رغبات الراغبين، وعدلا

منهم بالله رب العالمين، وصرف خالص محبة العبودية، وما يجب من الخضوع لرب البرية، إلى الأنداد والشركاء، والوسائل والشفعاء. بل وسائر العبادات الدينية، صرفت إلى المشاهد الوثنية والمعابد الشركية، وصرحت بذلك ألسنتهم، وانطوت عليه ضمائرهم، وعملت بمقتضاه جوارحهم، ولم ينج من شرك هذا الشرك إلا الخواص والأفراد والغرباء في سائر البلاد؛ وذلك مصداق ما أخبر به الصادق المصدوق بقوله: "بدأ الإسلام غريبا، وسيعود غريبا كما بدأ" 1. قال بعض الأفاضل من أزمان متطاولة: الإسلام في وقتنا أشد غربة منه في أول ظهوره، قلت: وذلك أنه في أول وقت ظهوره يعرفه الكافرون والمنكرون والمنكر له كما قال تعالى حاكيا عنهم أنهم قالوا: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} 2. وأكثر المنتسبين إلى الإسلام في هذه الأزمان يعتقدون أنه هو الاعتقاد في الصالحين ودعوتهم والاستغاثة بهم والتقرب إليهم بأنواع العبادات كالذبح والنذر والحلف وغير ذلك من أنواع الطاعات، وذلك لأنه ولد عليه صغيرهم، وشاب عليه كبيرهم، واعتادته طباعهم. فتراهم عند تجريد التوحيد يقولون: هذا مذهب خامس، لأنهم لا يعرفون غير ما نشؤوا عليه واعتادوه لا سيما إذا ساعد العادة والاغترار بمن ينتسب إلى العلم والدين، وهو عند الله معدود في زمرة الجاهلية والمشركين. فهذا وأمثاله هم الحجاب الأكبر بين أكثر العوام، وبين نصوص الكتاب والسنة، وما فيهما من الدين والهدي، ثم أكثرهم قد تجاوز القنطرة، وغرق في بحار الشرك في الربوبية، مع ما هو فيه من الشرك في الإلهية؛ فادعى أن للأولياء والصالحين شركة في التدبير والتأثير، وشركة في تدبير ما جاءت به المقادير. وأوحى إليهم إبليس اللعين، أن هذا من أحسن الاعتقاد في

_ 1 مسلم: الإيمان (145) , وابن ماجه: الفتن (3986) , وأحمد (2/389) . 2 سورة ص آية: 5.

الصالحين، وأن هذا من كرامة أولياء الله المقربين؛ تعالى الله عما يقول الظالمون، وتقدس عما افتراه أعداؤه المشركون، وسبحان الله رب العرش عما يصفون. وحيث منَّ الله عليك بمعرفة الهدى ودين الحق وظهر لك ما هم عليه من الشرك المبين، فاعرف هذه النعمة الكبرى وقم بشكرها، وأكثر من حمد ربك والثناء عليه، واحرص أن تكون إماما في الدعوة إليه تعالى وإلى سبيله، ومعرفة الحق بدليله، فإن هذا أرفع منازل أولياء الله وخواصه من خلقه. فاغتنم -يا أخي- مدة حياتك لعلك أن تربح بها السعادة الأبدية، ومرافقة النبيين والصديقين والشهداء والصالحين في جنات علية. وتأمل ما عند إخوانك من الطلبة في القصيم من رسائل مشايخ الإسلام الداعين إلى الله على بصيرة. والزم مذاكرة الإخوان، والبحث معهم في هذا الشأن، وفي غيره من العلوم، فإنهم من خواص نوع الإنسان، ومن جواهر الكون في هذا الزمان، وفقهم الله وكتب في قلوبهم الإيمان. وما ذكرت من الشوق إلى اللقاء والاجتماع بنا فنحن إلى إخواننا في الله أشوق وأحرص، فعسى الله أن يمن بالتلاق، ويطوي ما بيننا من البعد والفراق. وبلغ سلامنا من لديك من الإخوان المحبين وأنت في أمان الله وحفظه وحسن رعايته والسلام.

الرسالة الثانية والسبعون: [وصف رسالة من رسائل الشيخ ومدحه هو وآله]

الرسالة الثانية والسبعون: [وصف رسالة من رسائل الشيخ ومدحه هو وآله] وله أيضا رسالة إلى زيد بن محمد آل سليمان -رحمه الله تعالى- يعاتبه فيها على ترك المساعدة وعدم المعاضدة، على إظهار دين الله والمجاهدة، بعد مراسلات بذلك عديدة، ومذاكرة ومناصحات مفيدة، وتحريض وتغليظ في سد وسائل الشرك وذرائعه، والمساعدة على قطع أسبابه وتوابعه. وكأنه -رحمه الله- وجد منه عند تلك الحوادث والكوارث فتورا، ورأى منه في حق من تجانف أو تساهل في ذلك تقصيرا أو قصورا، وقد وضح له في ذلك الحق واستبان، وكان من ذوي المعرفة والإتقان، وخاصة خلاصة الإخوان. فعاتبه بهذه المعاتبة الرصينة المباني، وأفصح له بهذه الرسالة البليغة المعاني، التي يحار في يهماء مطاوح معانيها البليغ المصقع، ويتلكأ عن درك غويص عويصها اللوذعي البلتع، فلله دره من إمام فاضل فصيح، ومجاهد جاهد محب نصيح. فلقد أبلغ في هذه الرسالة من الإيجاز وعدم الإطالة، وقد جاهد لله وفي الله حق جهاده، وما رده وصده عن النصح لعباده قلة المعاون والمساعد، ولا كثرة المكايد والمعاند؛ فتدبر -رحمك الله- ما تضمنته هذه الرسالة من الرصانة، لتعرف قدر منشئها من العلم ومكانه: معاني مبانيها الطوامح في العلا ... لآلئ أصداف البحور الزواخر ويحتار في يهما مطاوح ما انطوت ... عليه من الترصين قس المحاضر وأبدى بديعا من غويص عويصه ... تشام المعاني المحكمات لسابر لقد جد في نصر الشريعة والهدى ... وسد ينابيع الغواة الأخاسر وإعلاء دين الله جل ثناؤه ... وتأسيس أصل الدين سامي الشعائر وإحيائه بعد الدروس ونشره ... وقمع لمن ناواه من كل غادر وإبعاد أعداء الهوى وجهادهم ... وتحذيره عنهم بكل الزواجر وقد رد بل قد سد كل ذريعة ... تؤول إلى رفض الهدى من مقامر قفا إثر آباء كرام أئمة ... أولي العلم والحلم الهداة الأكابر ببذلهمو للجد والجهد في الدعا ... إلى الله من قد ند من كل نافر

همو أظهروا الإسلام من بعد ما عفا ... من الأرض فاستعلى به كل ناصر فكم فتحوا بالعلم والدين والهدى ... قلوبا لعمري مقفلات البصائر وكم شيدوا ركنا من الدين قد وهى ... وأقوى ففازوا بالهنا والبشائر وكم هدموا بنيان شرك قد اعتلى ... وشادوا من الإسلام كل الشعائر وكم كشفوا من شبهة وتصدروا ... لحل عويص المشكلات البوادر وكم سنن أحيوا وكم بدع نفوا ... وكم أرشدوا نحو الهدى كل حائر لقد أطدوا الإسلام بالعلم والهدى ... وبالسمر والبيض المواضي البواتر تغمدهم رب العباد بفضله ... ورحمته والله أقدر قادر وهذا نص الموجود منها ولم أجدها تامة وكأنها مسودة وقد ضاع أولها. [تضمين الشيخ للكلام المنسوب إلى أبي بكر الصديق] بسم الله الرحمن الرحيم إلى الأخ زيد بن محمد وبعد: فقد بلغني عنك من نوادر الكواثروكوارث الحوادث 1. لم أجد إلا تلكؤ وشماس، وتهمهم ونفاس 2 إذ لا فكرة ثاقبة، ولا

_ 1 هاهنا بياض في الأصل. وأقول أنا محمد رشيد رضا المشرف على تصحيح هذه الرسائل: إن الشيخ عبد اللطيف -رحمه الله وتولانا وإياه بلطفه- قد أكثر الأخذ والتضمين في هذه الرسالة من رسالة أبي بكر الصديق وعمر إلى علي -رضي الله عنهم- في شأن المبايعة وهي من أبلغ الكلام على صناعة متقنة فيها، والمحدثون يقولون: إنها موضوعة وضعها أبو حيان التوحيدي كما في الميزان ولسان الميزان. وفيما وجده جامع الرسائل منها تحريف كثير ولعل سبب أخذ الشيخ عبد اللطيف ما أخذ منها أنه كان مطابقا لحالهم مع المرسلة إليه ونحن نرجع كل شيء إلى أصله مع تفسير بعض غريبه. 2 أصله أن أبا عبيدة قال: بلغ أبا بكر -رضي الله عنه- عن علي –رضي الله عنه- تلكؤ وشماس وتهمهم ونفاس، والتلكؤ التأخير والشماس النفار، والتهمهم الهمهمة وهو الكلام غير البين، والنفاس المنافسة، ولا يصح أن يكون أول الجملة هنا "لم أجد" لأنه يقتضي نصب المستثنى بأن يقول: إلا تلكؤا وشماسا إلخ.

روية كاسبة، ولا طريقة صائبة، وكرهت أن يتمادى بك الأمر 1 وتبدو العورة فتنفرج ذات البين، ويصير ذلك دربة لجاهل مغرور، أو عاقل ذى دهاء وفجور، أو صاحب سلامة ضعيف العنان، خوار الجنان، وكنت فيما مضى ظهيرا لي على دفع ركضة الشيطان، وتفنيد رسالة ابن عجلان، وكنت أتيامن ناصيتك، وأستبين الخير بين عارضيك 2. وقد كنت من العلوم والمذاكرة بالمكان المحوط، والمحل المغبوط، ولم تزل بحمد الله للمؤمنين أخا ولإخوانك ردءا. وهذا الحدثان العظيم ما بعده من خطر مخوف، أو صلاح معروف، ولا أظن جرحه يندمل بمسبرك، ولا إخال حيته تموت برقيتك، فقد وقع اليأس، وأعضل البأس، واحتيج إلى النظر فيما يصلح نفسك وخاصتك، وتفوز منه بإرشاد جنانك، والأخذ بناصيتك، والله أسأل تمام ذلك لي ولك، وتطلبه على يدي ويديك، والله كالئ وناصر وهاد ومبصر لكل من لاذ بجنابه، ووقف سائلا ببابه، وبه الحول والتوفيق.

_ 1 الأصل من كلام أبي عبيدة متصلا بما قبله، وأصله: وكره أن يتمادى الحال وتبدو العدا–أو العورة– وما بعده سواء إلى قوله: خوار الجنانوالسجعتان بعده للشيخ عبد اللطيف. 2 قوله: وكنت أتيامن ناصيتك إلخ أصله من كلام أبي بكر لأبي عبيدة: ما أيمن ناصيتك، وأبين الخير بين عارضيك، ولقد كنت من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالمكان المحوط، والمحل المغبوط… إلى أن قال له: قد أردتك لأمر ما بعده خطرولا خوف وصلاحه معروف، فإن لم يندمل جرحه بمسبرك، ولم تستجب حيته لرقيتك، فقد وقع اليأس، وأعضل البأس، واحتيج بعد ذلك إلى ما هو أمرُّ وأعلق، وأعسر منه وأغلق، والله أسأل تمامه بك، ونظامه على يديك اهـ وقد تصرف الشيخ في هذا التضمين بما يناسب الحال وزاد عليه قوله: والله كالئ وناصر إلخ.

واعلم أن البحر مغرقة، والبر مفرقة 1، والجو أكلف والليل أغلف، والسماء جلواء، والأرض صلعاء، والصعود متعذر، والهبوط متعسر، والحق رؤوف عطوف، والباطل شنوف عنوف، والعجب قادحة الشر، والضغن رائد البوار، والتعريض شجار الفتنة، والفرقة تعرف العداوة، وهذا الشيطان متكئ على شماله، متحبل بيمينه فاتح حضنيه لأهله، ينتظر بهم الشتات والفرقة. ويدب بين الأمة بالشحناء والعداوة، عنادا لله ولرسوله ولدينه، تأليبا وتأنيبا 2 يوسوس بالفجور، ويدلي بالغرور، ويزين بالزور، ويمني أهل الشرور، ويوحي إلى أوليائه بالباطل، دأبا له منذ كان، وعادة له منذ أهانه الله تعالى في سابق الأزمان، لا ينجو منه إلا من آثر الآجل، وغض الطرف عن العاجل، ووطئ هامة عدو الله وعدو الدين بالأشد فالأشد، والأجد بالأجد، وقد أرشدك والله من آوى ضالتك، وصافاك من أحيا مودتك بعتابك، وأراد الخير بك من آثر البقيا معك. ما هذا الذي تسول لك نفسك، وينبو به قلبك، 3 ويلتوي عليه رأيك

_ 1 البحر مغرقة، إلخ. هذا أول بلاغ أبي بكر الذي عهد إلى أبي عبيدة بحمله إلى علي -رضي الله عنهم- ومعناه أن البحر موضع الغرق، والبر موضع الفرق بالتحريك وهو الخوف. وكان اللفظان مصحفين في الرسالة، وسقط منها لفظ رءوف في وصف الحق، وفيها زيادة: والعجب قادحة الشر، فهل هي رواية أم زادها الشيخ لمناسبة المقام؟ وفيها: والفرقة تعرف العداوة، وهي محرفة أصلها "والقعة ثقوب العداوة". 2 قوله: تأليبا وتأنيبا، معناه ظاهر ولكن الرواية "ناكبا" أي: منحرفا مائلا عن الحق إلى الباطل من قوله تعالى: {وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ} وهنالك اختلاف بألفاظ أخرى صححنا منها ما هو ظاهر التحريف وأبقينا ما صح معناه. 3 في الرواية: "ويدوي به قلبك" وهو إما من الدوي، وهو الصوت المخصوص، وإما من الدوى كالهوى وهو المرض.

ويتخاوص له1 طرفك، ويتردد معه نفسك، ويكثر عنده حلك وترحالك، ويتلون به رأيك وحقالك؟ ولم تبح به لإخوانك ونصحائك، وخاصتك وأعوانك، ولم تنبذ إليهم على سوى، ولم تملك ما تجده من الغيظ والجوى، أعجمة بعد إفصاح؟ أتلبس بعد إيضاح؟ أدين غير دين الله؟ أخلق غير خلق الله؟ أهدي غير هدي محمد؟ أمثلك يمشي لإخوته الضراء، وتدب إليهم منه الحمراء؟ أمثلك يضيق به الفضاء، وتنكسف في عينيه القمراء؟ ما هذا القعقعة بالشنان؟ وما هذه الوعوعة باللسان؟ [وصف حال آل الشيخ في زمن الفتنة] أما أنك عارف2 بأن الرأي الذي امتطينا صهوته، وركبنا غاربه، هو الرأي الأسد، والمنهج الأسعد، بكل دليل ورد، ممن لا يحيط به الحزر والعدد، مع أننا في زمن ووقت أنت منه في كن العافية وظلها غافلا عما نحن فيه لا تدري 3 ما يراد بنا ويشاد، ولا تحصل على علم ما يساق منا ويقاد، نعاني أحوالا تزيل الرواسي، ونقاسي أهوالا تشيب النواصي، خائضين غمارها، راكبين تيارها، نتجرع من صلبها، ونكرع في عبابها، ونحكم مراسها، ونبرم أمراسها، والعيون تحدج إلينا بالحسد، والأنوف تعطس بالكبر، والصدور تستعر بالغيظ، والأعناق تتطاول بالفخر، والشفار تشحذ

_ 1 في الرواية: ويتخاوص دونه، ومعنى تخاوص: غض من بصره، وحدق نظره إلى الشيء كمن يقوّم سهما أو ينظر إلى الشمس. وفي الرواية هنا: ويسري فيه ظعنك، ويتردد معه نفسك، وتكثر معه صعداؤك. وليس فيها: ويكثر معه حلك، وترحالك، فهذا وما بعده إلى قوله: الغيظ والجوى من كلام الشيخ عبد اللطيف -رحمه الله تعالى-. 2 قوله: أما أنك عارف –الرواية جد عارف- وما بعده إلى قوله: غافلا عما نحن فيه. أخذه الشيخ من الكلام المعزو إلى الصدِّيق -رضي الله عنه- بالمعنى دون اللفظ، فهو هنالك في الإيمان والهجرة. 3 قوله: لا تدري إلخ. أصله: لا تعي. وما بعده أخذ بلفظه مع حذف بعض الجمل وتقديم بعضها وتأخير بعض.

بالمكر، والأرض تميد بالخوف، فلا ننتظر عند الصباح مساء، ولا عند المساء صباحا. وأنت لا تدري سوى ما أنت عليه من غايتك التي إليها غدي بك، وعندها حط رحلك، بل ونحن في كل يوم وكل ساعة 1 تغدو علينا الأراجيف وتروح، وتظهر أنياب النفاق فيما بيننا وتلوح، وعندنا من يقود المشركين، ويأزهم أزا إلى عباد الله الموحدين، من لا تدري خبره، ولم تعرف نبأه، وسوء طويته بالإسلام وأهله، ونحن ندافعهم عن الإسلام بالمال والآل، والعم والخال، والنشب والسبد واللبد 2، بطيب نفس، وقرة عين، ورحب أعطان، وثبات عزائم، وطلاقة أوجه، وذلاقة لسان، هذا إلى خفيات أسرار، ومكنونات أخبار، أنت عنها غافل، وعن الخوض في غمارها والدفع في صدرها معرض متجاهل. والآن قد بلغ فيك الأمر 3، ونهض لك الخبر، وجعل مرادك بين يديك، وعقلك بين عينيك، عن علم أقول ما تسمع، فاستقبل زمانك، وقلص أردانك، ودع التحبس والتعبس مع من لا يهرع لك إذا خطا،

_ 1 قوله: بل نحن في كل يوموكل ساعة –إلى قوله: بالإسلام وأهله– من كلام الشيخوهو في رصانة الأصل ومتانته، وأسلوبه وصناعته. 2 قوله: ونحن ندافعهم عن الإسلام بالمال والآل، والعم والخال أصله: "فادين لرسول الله صلى الله عليه وسلم بالأب والأم، والخال والعم، والنشب والسبد واللبد، زاد بعده: "والهلة والبلة" وما بعده سواء. 3 قوله: والآن قد بلغ فيك الأمر ... إلى قوله: إذا أعطى ... فيه شيء من التحريفأو التصرف في الأصل. فالرواية: والآن قد بلغ الله بك، وأرض الخير لك، وجعل مرادك بين يديك، وعن علم أقول ما تسمع، فارتقب زمانك، وقلص إليه أردانك، ودع التجسس والتعسس، لمن لا يظلع إليك إذا خطا، ولا يتزحزح عنك إذا عطا اهـ. وتأريض الخير له تهيئته والتأريض أيضا الإصلاح والتشذيب. وقوله: يظلع معناه يمشي وهو يغمز برجله والظلع دون العرج، وقوله: "عطا" لعل صوابها أعطى، وهما ضدان فعطا بمعنى أخذ وتناول، وأعطى بمعنى ناول غيره وحباه.

ولا يتزحزح عنك إذا أعطى. وأنت ولله الحمد 1 من مفاتي هذه الأمة في عصرك، يشار إليك ويقتدى بك بين أهل دهرك، وقد عرفت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قال في هذا الأمر: 2 هو لمن يقال: هو لك، لا لمن يقول: هو لي، ومن رغب عنه لا لمن تجاحش عليه، والآثار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحكامه مضبوطة مسطورة، محررة في دواوين الإسلام مشهورة، فهلم فالحكم مرضي والحق مطاع: فيا سادتنا هاتوا لنا من جوابكم ... ففيكم لعمري ذو أفانين مقول أأهل كتاب نحن فيه وأنتمو ... على ملة نقضي بها ثم نعدل أم الوحي منبوذ وراء ظهورنا ... ويحكم فينا المرزبان المرفل أتظن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك الأمر سدى بددا 3 مباهل غباهل طلاحي، مفتونة بالباطل مغبونة عن الحق، لا رائد ولا قائد، ولا ضابط ولا حافظ، ولا ساقي ولا واقي، ولا هادي ولا حادي، كلا والله ما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا سأل ربه المصير إليه إلا وقد ترك الأمة على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك. ولقد توفي رسول صلى الله عليه وسلم وما من طائر يقلب جناحيه إلا وقد ذكر للأمة منه علما. هذا آخر ما وجد من هذه الرسالة والحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.

_ 1 قوله: وأنت ولله الحمد إلخ. هو من كلام الشيخ لمخاطبهوهو في موضع قول الصدِّيق لعلي -رضي الله عنه-: وأنك أديم هذه الأمة فلا تحكم لجاجا، وسيفها العضب فلا تنب اعوجاجا، وماؤها العذب فلا تحل أجاجا. 2 قوله: وقد عرفت أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: إلخ. أصله من الكلام المعزو إلى الصدِّيق -رضي الله عنه- ولقد سألت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن هذا الأمر فقال لي: يا أبا بكر هو لمن يرغب عنه، لا لمن يرغب فيه ويجاحش عليه، ولمن تضاءل له لا لمن تنفج إليه، ولمن يقال: هو لك، لا لمن يقول: هو لي. والمراد بالأمر الخلافة، وما بعد هذا إلى آخر الأبيات مما أورده الشيخ ليس فيه من الرواية شيء. 3 قوله: أتظن أن رسول الله.. إلى قوله: ولا حادي.. من الأصل المنسوب إلى الصدِّيق بلفظه، وما بعده للشيخ لفظا لا معنى وأسلوبا. وجملة القول أنه -رحمه الله- أتقن الأخذ والتضمين، ولكن مثله في كثرته يعاب إذا لم يصرح آخذه بأنه قد أخذ وضمن، ولعل الشيخ فعل هذا أو أشار إليه فيما فقد من الرسالة.

الرسالة الثالثة والسبعون: [شبهات في تحريم القهوة]

الرسالة الثالثة والسبعون: [شبهات في تحريم القهوة] وله أيضا قدس الله روحه ونور ضريحه جواب سؤال ورد عليه من عبد العزيز بن حسن بن مزروع، وذلك في شأن القهوة، طلب فيه من الشيخ الجواب عما أورده من السؤال، ومقصوده أن يوافقه على الحكم والجزم بالتحريم وعدم الإحلال، لما أورده بزعمه في سؤاله من استيفاء التعليل والاستدلال. وكان الأليق بالسائل طلب بيان ما هو الأرجح في شأنها من الأقوال، إذ كان للعلماء فيها كلام ومحل للنظر ومجال، لكنه في سؤاله أصل وفصل، واستدل وعلل، وانتضى لتحريمها صارما عضبا، وارتقى لذلك من الشريعة مرتقى صعبا؛ فلأجل ذلك عدل الشيخ عن ذكر أقوال العلماء هنالك، وعما هو الأعدل والأرجح في ذلك، وأخذ في إبطال ما علله، وهدم ما قعده وأصله. ثم بعد ذلك أرشده إلى ما هو اللائق بصرف الهمة إليه، من الحض على دفع ما تعطل من أصول الدين ودعائم الملة وقبض العلم وارتفاع الجهال، وترك الالتفات إلى تربية أهل الملة بتعليم ما يحتاجونه من أصول دينهم، وما جاء به نبيهم صلى الله عليه وسلم وهذا نص السؤال. قال السائل: تفهم أن مدار الشريعة على رفع المفاسد، وجلب المنافع، ومنها ما صرح به الكتاب والسنة، ومنها ما هو في ضمنه ويشهد له. وبنو آدم لهم مألوفات إذا درجوا إليها أحبوها وألفوها ولو فيها ضرر، ومن البلاوي على أهل الوقت عامة، وعلى أهل نجد خاصة في دنياهم القهوة مع ضعف معايشهم، وفي الماضي ما يستعملها إلا القليل، للبلد مجمع وبعض القرى ما يعرفها. واليوم هذا الذي ترون الغني والفقير والمرأة والصغير، ولا يحصى ما يصرف فيها من المال، ولو كان ما فيها إلا ضرر مفرد، كيف وأول مضارها في الأبدان! وإذا كان الخمر يزيل العقل شربه، فهي شاهدناها تخامر العقل عند فقدها، كذلك إضاعة المال، وفي مجالسها القيل والقال، وتحول الفقراء إلى السؤال، وتلهي كثيرا من الناس عن الصلاة، وتضيع عليهم الأوقات، هذا ولا تروي ولا تغني من جوع، ومزرعها ومخرجها من بلد كفار. وأما من ضررها على أهل الجهات فظاهر

معلوم إذا لاقوا العدو ومرارا تكون على شرابها، ويصرف فيها من بيت المال ما لو يصرف في آلة الجهاد والفقراء والمساكين كان هو الواجب. وتفهم أن عند خروجها حصل من أهل العلم فيها خوض ومقتها بعض، وحرمها بعض، وهي ما بلغت هذا المبلغ ومصرف أهل نجد فيها اليوم وما يتعلق به ألوف لو يضعها عليهم واضع ما حملتها عقولهم، فالمطلوب تجيبون عن هذا وتوضحون ما يجب فيها من حكم، ولا هو أول محظور منعوا منه أهل نجد وامتنعوا، وهم ولله الحمد لهم قابلية، وإذا عرضت مضارها على العاقل منهم شهد بها وعابها، وبعضهم يقول: نصرف فيها أكثر مما نصرف في الزاد. والإمام أطال الله بقاءه، ووفقه لما يرضاه قد حصل عنده فيها مجال ويود سببا يرفعها به عن رعيته، هذا وإذا وزنتها العقول السليمة لا شك أنها لهو ولعب. وفقك الله للصواب. انتهى. فأجابه رحمه الله عن سؤاله فقال: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد اللطيف بن عبد الرحمن إلى الأخ عبد العزيز بن حسن، سلك الله به أهدى السنن. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: فنحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو على نعمه، والخط وصل والسؤال عن القهوة وصل مع اشتماله على الجزم بالحكم، واستيفاء الدليل بالتعليل والتدليل، هذا غاية ما يطلب من الجواب. ومن كان له ملكة وعنده معرفة توجب الجزم بالحكم باليقين، والاستدلال على الأحكام والدين، فليست به حاجة إلى سؤال المستضعفين والقاصرين، نسأل الله لنا ولكم الثبات على دينه والعصمة من القول عليه بلا علم. والكلام على القهوة قد سبقنا إليه، وأفاضل أهل العلم كل منهم أبدى ما عنده وما لديه،

وحسبنا السير على منهاجهم واقتفاء آثارهم، وذكر المنقور في مجموعة طرفا من ذلك والمجموع عند ابن مانع. وما ذكرت من أن مدار الشريعة على رفع المفاسد وجلب المنافع، فنعم هو ذاك، ولكن ينبغي أن يعلم أن المفاسد ما عارضت الأمر والنهي الشرعيين بالفعل أو بالوسيلة، والمنافع المطلوبة ما يحصل بها مقصود الشارع من الأمر والنهي بالفعل أو بالوسيلة، وبهذا تعلم فساد التعبير بقولك رفع المفاسد، فإن هذا لا يرتفع، فالصواب دفع المفاسد لا رفع المفاسد. وقولك: منها ما صرح به الكتاب والسنة، ومنها ما هو في ضمنه، تقسيم فاسد بل الكتاب والسنة صرحا بذلك وأوضحاه قال تعالى: {وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} 1 ولم يخرج فرد من ذلك: ولو قلت فقد صرح بذلك الكتاب والسنة أو تضمناه، لصح التعبير. وقولك: ومن البلاوي على أهل الوقت عامة وعلى أهل نجد خاصة في دنياهم القهوة مع ضعف معايشهم، فلا أدري ما يراد بالبلوى هنا؟ أهي الابتلاء في الدين أو هي الابتلاء بالنفقة فقط؟ فإن كان الأول، فلا يسلم بمجرد الدعوى، وإن كان الثاني، فالناس درجات وطبقات في اليسر والعسر والمعيشة، وتوسع الأغنياء إنما يذم لوجوه لا تختص بالقهوة أيضا، بل يجري في غير ذلك من سائر المباحات. وأما التعليل بأن فيها مضارا للأبدان، فلا ينبغي أن يؤخذ على إطلاقه، فإن الأبدان الدموية والبلغمية تنتفع بها بلا نزاع، والسوداوي والصفراوي يمكنه التعديل بالتمر الذي هو غالب غذاء أهل نجد، وقال داود في "تذكرته": يعد لها كل حلو.

_ 1 سورة هود آية: 118.

وأما قولك: وإذا كان الخمر يزيل العقل عند شربه، فهي شاهدناها تخامر العقل عند فقدها، فهذا الكلام لا ينبغي أن يقال؛ لأن الخمر تزيل العقل بمخامرته أي: تغطيته وهي لا تزيل العقل ولا تخامره، بل ربما كان شاربها قوي الذهن حاد الإدراك جيد الحافظة، والموجود عند فقدها لا يسمى مخامرة وإنما كسل وفتور لها لا بها1. فافهم -أيها الأخ- وأعط القوس باريها. [تفنيد الأدلة بتحريم القهوة] وأما قولك: وإذا عرضت مضارها على العاقل منهم شهد بها وعابها فيقال: أي عاقل يراد بهذا؟ أما العامة ومن لا عناية له بمعرفة الأحكام الشرعية والأصول الدينية، فعقولهم لا تصلح أن تكون ميزانا أو أن تستقل بحكم. وأما أهل العلم والدين، وأهل البصائر من ورثة سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم فعقولهم يرجع إليها مع اتفاقهم، وإن اختلفوا، فالميزان هو الكتاب والسنة. وقولك: وإذا وزنتها العقول السليمة، فلا شك أنها لهو ولعب، فاللهو واللعب ما لا يعود بمنفعة أصلا ويعود بمضرة رجحت على مصلحته، وإدخال القهوة في هذا التعريف يحتاج إلى أصول ومقدمات "لو يعطى الناس بدعواهم" 2 الحديث. وما ذكرت من التعليل قد يجري في كل مباح، كإضاعة المال

_ 1 التحقيق الذي يثبته الطب أن شرب القهوة والشاي والدخان يحدث تنبيها في العصب، وهو المراد بما أشار إليه الشيخ منه حدة الذهن، ثم يحدث عقب ذلك التنبيه فتور بمقتضى ما يسمى سنة "رد الفعل". وهو معنى قول علمائنا: ما جاوز حده رجع إلى ضده، فالفتور الذي ذكره الشيخ هو ضد ذلك التنبيه، وهو من تأثير المادة السامة التي توجد في كل من القهوة والشاي والدخان، وهو يزول بشربها لما فيه من التنبيه. ومثل هذا يوجد في الخمر، وهو المراد بقول الشاعر الفاسق:.................. وداوني بالتي كانت هي الداء وقوله: وكأس شربت على لذة /7 /7 وأخرى تداويت منها بها /7 /6 ولكن ما تحدثه الخمر من تنبه العصب ومن الفتور الذي يعقبه ليس هو العلة في تحريمها بل علته ذهاب العقل والنشوة التي هي مثار العداوة والبغضاء والصد عن ذكر الله وعن الصلاة. 2 البخاري: تفسير القرآن (4552) , ومسلم: الأقضية (1711) , والنسائي: آداب القضاة (5425) , وابن ماجه: الأحكام (2321) , وأحمد (1/342 ,1/351 ,1/363) .

والاجتماع على القيل والقال، والحاجة إلى السؤال، وليس ذلك الوصف لازما للقهوة، وكذلك كونها تلهي كثيرا من الناس عن الصلاة، وتضيع عليه الأوقات، فهذا قد يجري لأهل الشهوات والمبايعات والمزاورات قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ} 1 الآية. وأما كونها لا تغني من جوع ولا تروي، فهذا الوصف يأتي على كثير مما يتعاطونه من المباحات، ولم تأت الشريعة بتحريم ما لا يغني من جوع ولا يروي: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً} 2. وأما كون مزرعها من بلاد الكفار، فمتى كان عندكم امتناع عما زرعه الكفار ونسجه الكفار وخرج من بلاد الكفار، وجمهور أموالكم ومآكلكم من هذا الضرب؟ "ثكلتك أمك يا معاذ" 3 و "ويح عمار" 4 قد كانت المدينة في عهد النبوة يجلب إليها من بلاد الكفار أنواع المآكل والأدهان والملابس التي نسجت وصبغت ببلاد الكفار، كما لا يخفى على من له أدنى نظر في الأخبار. وأما ما زعمت من ضررها على أهل الجهاد، فمن الظرائف التي لا يستظرفها إلا فقيه النفس ذكي الطبع، وربما قيل بعكس القضية، لما فيها من تنشيف البلغم وتخفيف المواد المكسلة الردية. وأما قولك: ويصرف فيها من بيت المال كيت وكيت، فمتى كان النظر -أصلحك الله- منصرفا إلى توفير هذه الجهة ووضعها في مواضعها الشرعية؟ والصرف في المباح أولى من الصرف في المحرم الصرف. وأما اختلاف أهل العلم عند خروجها –ولو قيل عند حدوثها لكان أليق باللغة الشرعية–فنعم هو ذاك، ولكن لا دليل فيه على المنع، وقد قيل:

_ 1 سورة المنافقون آية: 9. 2 سورة مريم آية: 64. 3 الترمذي: الإيمان (2616) , وابن ماجه: الفتن (3973) , وأحمد (5/231 ,5/237) . 4 البخاري: الصلاة (447) , ومسلم: الفتن وأشراط الساعة (2915) , وأحمد (3/5 ,3/90) .

إلا على شجب والخلف في الشجب ... تخالف الناس حتى لا اتفاق لهم وأما صرف الأموال العظيمة من أهل نجد، فهذا القول من جنس ما قبله، فإن مجاوزة الحد في كل مباح داخلة في حقيقة السرف، والمحرم نفس السرف، ولو في المآكل الضرورية. ولو صرف الأخ النجيب فكرته، ونظر إلى ما تعطل من أصول الدين ودعائم الملة، وما تلاعب به الجهال من الأحكام الشرعية الدينية، وما دهم أهل نجد في هذه السنين من قبض العلم وارتفاع الجهال، وترك الالتفات إلى تربية أهل الملة بتعليم ما يحتاجونه من أصول دينهم، وما جاء به نبيهم صلى الله عليه وسلم والتفطن لذلك والاهتمام به، وصرف الهمة إلى تحصيله، وأن لا يطلب على الفضلة إن طلب، لكان هذا أولى وأجدر أن تقع المذاكرة فيه والسؤال عنه. وأما أمر القهوة، فقد كفانا شأنه من سلف من أهل العلم والدين، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.

الرسالة الرابعة والسبعون: [نفي كون ما جاء الشيخ محمد بن عبد الوهاب مذهبا خامس] ا

الرسالة الرابعة والسبعون: [نفي كون ما جاء الشيخ محمد بن عبد الوهاب مذهبا خامس] ا في بيان ما دعا إليه الشيخ محمد عبد الوهاب وكونه حقيقة الإسلام، وتضليل من زعم أنه مذهب خامس، وهو جواب لسؤال ورد على الشيخ من عمان. الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، محمد وآله وصحبه أجمعين: أما بعد: فقد وصلت إلينا الأسئلة التي صدرت من جهة الساحل الشرقي على يد الأخ سعد البواردي. السؤال الأول: قول الملحد الضال المجادل في دين الله: إن الأمر الذي جاء به الشيخ محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله- مذهب خامس، وغش للأمة، فهل يكون هذا القائل سنيا أو مبتدعا؟ فالجواب: وبالله التوفيق إنما تدل مقالته هذه على أنه من أجهل خلق الله في دين الله، وأبعدهم عن الإسلام وأبينهم ضلالة. فإن شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله- إنما دعا الناس إلى أن يعبدوا الله وحده لا شريك له ولا يشركوا به شيئا، وهذا لا يرتاب فيه مسلم أنه دين الله الذي أرسل به رسله وأنزل به كتبه، كما سنذكره -إن شاء الله تعالى-. وقوله: مذهب خامس يبين جهله، وأنه لا يعرف العلم ولا العلماء، فإن الذي قام به شيخ الإسلام لا يقال له مذهب، وإنما يقال له: دين وملة، فإن التوحيد هو دين الله وملة خليله إبراهيم ودين جميع الأنبياء والمرسلين، وهو الإسلام الذي بعث الله به محمدا صلى الله عليه وسلم وأجمع عليه علماء الأمة سلفا وخلفا؛ ولا يخالف في هذا إلا من هو مشرك كما قال تعالى: {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ أَلا

لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} 1، وقال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} 2،فسماه الله تعالى في هاتين الآيتين وغيرهما من آي القرآن دينا ولم يسمه مذهبا. [معنى المذهب وسبب المذاهب وأئمتها] وأما ما جرى على ألسن العلماء من قولهم: مذهب فلان أو ذهب إليه فلان، فإنما يقع في الأحكام لاختلافهم فيها بحسب بلوغ الأدلة وفهمها، وهذا لا يختص بالأئمة الأربعة -رحمهم الله- بل مذاهب العلماء قبلهم وبعدهم في الأحكام كثيرة فقد جرى الخلاف بين الصحابة -رضي الله عنهم-، وللصدِّيق رضي الله عنه مذهب تفرد به، ولابن مسعود كذلك، وكذا ابن عباس وغيرهم من الصحابة، وكذا الفقهاء السبعة من التابعين خالف بعضهم بعضا في مسائل، وغيرهم من التابعين كذلك، وبعدهم أئمة الأمصار كالأوزاعي إمام أهل الشام، والليث بن سعد إمام أهل مصر، وسفيان بن عيينة (سفيان) والثوري إمام أهل العراق. فلكل مذهب معروف في الكتب المصنفة في اختلاف العلماء، ومثلهم الأئمة الأربعة، وجاء بعدهم أئمة مجتهدون خالفوا الأئمة الأربعة في مسائل معروفة عند العلماء كأهل الظاهر؛ ولذلك تجد من صنف في مسائل الخلاف إذا عنى الأربعة قال: اتفقوا، وفي مسائل الإجماع التي أجمع عليها العلماء سلفا وخلفا يقول: أجمعوا. وذكر المذاهب لا يختص بأهل السنة من الصحابة فمن بعدهم، فإن بعض أهل البدع صنفوا لهم مذهبا في الأحكام يذكرونه عند أئمتهم، كالزيدية لهم كتب معروفة يفتي بها أهل اليمن، والإمامية الرافضة لهم مذهب مدون خالفوا في كثير منه أهل السنة والجماعة. والمقصود أن قول هذا الجاهل مذهب خامس، قول فاسد لا معنى له كحال أمثاله من

_ 1 سورة الزمر آية: 2. 2 سورة البينة آية: 5.

أهل الجدل والزيغ في زماننا. (شعر) : يقولون أقوالا ولا يعرفونها ... وإن قيل هاتوا حققوا لم يحققوا (وأما قوله:) وغش الأمة، فهذا الجاهل الضال بنى هذا القيل الكاذب على سوء فهمه وانصرافه عن دين الإسلام، لأنه عدو لمن قام به ودعا إليه وعمل به؛ ومن المعلوم عند العقلاء وأهل البصائر أن من دعا الناس إلى توحيد ربهم وطاعته أنه الناصح لهم حقا. وأما من حسَّن الشرك والبدع ودعا إليها، وجادل بالباطل وألحد في أسماء الله وصفاته، فهو الظالم الغاش لعباد الله؛ لأنه يدعوهم إلى ضلالة. نعوذ بالله من جهد البلاء، ودرك الشقاء، وسوء القضاء، وشماتة الأعداء. [التوحيد الذي دعا إليه الشيخ محمد بن عبد الوهاب] ونذكر ما قام به الشيخ محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله-، فإنه نشأ في أناس قد اندرست فيهم معالم الدين، ووقع فيهم من الشرك والبدع ما عم وطم في كثير من البلاد، إلا بقايا متمسكين بالدين يعلمهم الله تعالى. وأما الأكثرون فعاد المعروف بينهم منكرا، والمنكر معروفا، والسنة بدعة والبدعة سنة، نشأ على هذا الصغير، وهرم عليه الكبير، ففتح الله بصيرة شيخ الإسلام بتوحيد الله الذي بعث به رسله وأنبياءه، فعرف الناس ما في كتاب ربهم من أدلة توحيده الذي خلقهم له، وما حرمه عليهم من الشرك الذي لا يغفره الله إلا بالتوبة منه، فقال لهم ما قاله المرسلون لأممهم: {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} 1. فحجب كثيرا منهم عن قبول هذه الدعوة ما اعتادوه، وما نشؤوا عليه من الشرك والبدع؛ فنصبوا العداوة لمن دعاهم إلى توحيد ربهم وطاعته، وهو شيخنا -رحمه الله-. ومن استجاب له، وقبل دعوته وأصغى

_ 1 سورة الأعراف آية: 59.

إلى حجج الله وبيناته، كحال من خلا من أعداء الرسل كما قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الأِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً} 1، وقال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً} 2. وأدلة ما دعا إليه هذا الشيخ -رحمه الله- من التوحيد في الكتاب والسنة أظهر شيء وأبينه. اقرأ كتاب الله من أوله إلى آخره تجد بيان التوحيد والأمر به، وبيان الشرك والنهي عنه مقررا في كل سورة، وفي كثير من سور القرآن يقرره في مواضع منها، يعلم ذلك من له بصيرة وتدبر. ففي فاتحة الكتاب: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} 3: فيها نوعا التوحيد: توحيد الإلهية وتوحيد الربوبية، وفي: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} 4 النوعان، وقصر العبادة والاستعانة على الله عز جل أي: لا نعبد غيرك ولا نستعين إلا بك 5.أول أمر في القرآن يقرع سمع السامع والمستمع قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} 6 إلى قوله: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} 7. فأمرهم بتوحيد الإلهية، واستدل عليه بالربوبية، ونهاهم عن الشرك به، وأمرهم بخلع الأنداد التي يعبدها المشركون من دون الله. وافتتح -سبحانه- كثيرا من سور القرآن بهذا التوحيد: {الم اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} 8.: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} 9 - إلى قوله: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ} 10 أي: المألوه

_ 1 سورة الأنعام آية: 112. 2 سورة الفرقان آية: 31. 3 سورة الفاتحة آية: 2. 4 سورة الفاتحة آية: 5. 5 هذا التفسير للقصر المذكور، ومعنى الآية في جملتها نعبدك ولا نعبد غيرك، ونستعينك ولا نستعين سواك، فهي جامعة بين إثبات العبادة والاستعانة لله، ونفيهما عن سواه. 6 سورة البقرة آية: 21. 7 سورة البقرة آية: 22. 8 سورة آل عمران آية: 1-2. 9 سورة الأنعام آية: 1. 10 سورة الأنعام آية: 3.

المعبود في السماوات والأرض، وفي هذه السورة 1 من أدلة التوحيد ما لا يكاد أن يحصر، وفيها من بيان الشرك والنهي عنه كذلك. وافتتح سورة هود بهذا التوحيد فقال: {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ} 2، فأحكم تعالى آيات القرآن، ثم فصلها ببيان توحيده والنهي عن الإشراك به، وفي أول سورة طه قال تعالى: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} 3. وافتتح سور الصافات بهذا التوحيد، وأقسم عليه فقال: {وَالصَّافَّاتِ صَفّاً فَالزَّاجِرَاتِ زَجْراً فَالتَّالِيَاتِ ذِكْراً إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِد رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقٌِ} 4. وافتتح سورة الزمر بقوله: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} 5. وفي هذه السورة من بيان التوحيد والأمر به، وبيان الشرك والنهي عنه، ما يستضيء به قلب المؤمن، وفي السورة بعدها كذلك، وفي سورة: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} 6 نفى الشرك في العبادة إلى آخره. وفي سورة: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} 7 توحيد الألوهية وتوحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصفات. وهذا ظاهر لمن نور الله قلبه بفهم القرآن. وفي خاتمة المصحف: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ مَلِكِ النَّاسِ إِلَهِ النَّاسِ} 8 بين أن ربهم وخالقهم ورازقهم والمتصرف فيهم 9 بمشيئته وإرادته، وهو ملكهم الذي نواصي الملوك بيده، وجميع الخلق في قبضته، يعز هذا ويذل هذا 1 يعني سورة الأنعام، وهي أجمع سور القرآن لعقائد الإسلام في الإلهيات والنبوة والبعث، ورد شبهات المشركين.

_ 2 سورة هود آية: 1. 3 سورة طه آية: 8. 4 سورة الصافات آية: 1. 5 سورة الزمر آية: 1. 6 سورة الكافرون آية: 1. 7 سورة الإخلاص آية: 1. 8 سورة الناس آية: 1. 9 لعل أصله هو المتصرف فيهم، فيكون خبر أن ربهم وإلا فأين الخبر.

ويهدي من يشاء، ويضل من يشاء،: {لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} 1، وهو معبودهم الذي لا يستحق لأن يعبد سواه، فهذه إشارة إلى ما في القرآن. [دعوة الشيخ إلى أركان الإسلام وشعب الإيمان] وأما السنة: ففيها من أدلة التوحيد ما لا يمكن حصره، كقوله في حديث معاذ الذي في الصحيحين: "فإن حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا" 2، وفي حديث ابن مسعود الصحيح: "من لقي الله لا يشرك به شيئا، دخل الجنة. ومن لقيه يشرك به، دخل النار" 3، والحديث الذي في معجم الطبراني: " إنه لا يستغاث بي، وإنما يستغاث بالله عز وجل "، ولما قال له رجل: "ما شاء الله وشئت، قال: أجعلتني لله ندا؟ بل ما شاء الله وحده" 4 وأمثال هذا لا يحصى كما تقدم ذكره. وأدلة التوحيد في الكتاب أبين من الشمس في نحر الظهيرة، لكن لمن له فهم ثاقب، وعقل كامل، وبصر ناقد، وأما الأعمى فلا يبصر للشمس ضياء، ولا للقمر نورا. [عداوة أكثر الناس لإصلاح الرسل وورثتهم] ثم إن شيخنا -رحمه الله- كان يدعو الناس إلى الصلوات الخمس، والمحافظة عليها حيث ينادى لها؛ وهذا من سنن الهدى ومعالم الدين كما دل على ذلك الكتاب والسنة. ويأمر بالزكاة والصيام والحج، ويأمر بالمعروف ويأتيه، ويأمر الناس أن يأتوه ويأمروا به، وينهى عن المنكر ويتركه، ويأمر الناس بتركه والنهي عنه. وقد تتبع العلماء مصنفاته -رحمه الله- من أهل زمانه وغيرهم، فأعجزهم أن يجدوا فيها ما يعاب. وأقواله في أصول الدين مما أجمع عليه أهل السنة والجماعة، وأما في الفروع والأحكام، فهو حنبلي المذهب، لا يوجد له قول

_ 1 سورة الرعد آية: 41. 2 البخاري: الجهاد والسير (2856) , ومسلم: الإيمان (30) , والترمذي: الإيمان (2643) , وابن ماجه: الزهد (4296) , وأحمد (3/260 ,5/228 ,5/229 ,5/230 ,5/234 ,5/236 ,5/238 ,5/242) . 3 مسلم: الإيمان (93) , وأحمد (3/325 ,3/344 ,3/374 ,3/391) . 4 أحمد (1/214) .

مخالف لما ذهب إليه الأئمة الأربعة، بل ولا خرج عن أقوال أئمة مذهبه، على أن الحق لم يكن محصورا في المذاهب الأربعة كما تقدم، ولو كان محصورا فيهم لما كان لذكر المصنفين في الخلاف، وأقوال الصحابة والتابعين، ومن بعدهم مما خرج عن أقوال الأربعة فائدة. والحاصل: أن هذا المعترض المجادل مع جهله، انعكس عليه أمره، فقبل قلبه ما كان منكرا، ورد ما كان معروفا؛ فأعداء الحق وأهله من زمن قوم نوح إلى أن تقوم الساعة، هذه حالهم وطريقتهم، فمن حكمة الرب أنه ابتلى عباده المؤمنين الذين يدعون الناس إلى ما دعا إليه النبي صلى الله عليه وسلم من الدين بثلاثة أصناف من الناس وكل صنف له أتباع. (الصنف الأول) : من عرف الحق، فعاداه حسدا وبغيا كاليهود، فإنهم أعداء الرسل والمؤمنين كما قال تعالى: {بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ} 1،: {وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} 2. (الصنف الثاني) : الرؤساء أهل الأموال الذين فتنتهم دنياهم وشهواتهم لأنهم يعلمون أن الحق يمنعهم من كثير مما أحبوه، وألفوه من شهوات الغنى، فلم يعبؤوا بداعي الحق ولم يقبلوا منه. (الصنف الثالث) : الذين نشؤوا في باطل وجدوا عليه أسلافهم يظنون أنهم على حق، وهم على باطل، فهؤلاء لم يعرفوا إلا ما نشؤوا عليه، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا. وكل هذه الأصناف الثلاثة وأتباعهم، هم أعداء الحق من لدن زمان نوح إلى أن تقوم الساعة.

_ 1 سورة البقرة آية: 90. 2 سورة البقرة آية: 146.

(فأما الصنف الأول) : فقد عرفت ما قال الله فيهم. (وأما الصنف الثاني) : فقد قال فيهم: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} 1. وقال عن الصنف الثالث: {قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} 2،: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ} 3، وقال: {إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ} 4. وهؤلاء هم الأكثرون كما قال تعالى: {وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الأَوَّلِينَ} 5، وقال تعالى في سورة الشعراء عقب كل قصة: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} 6، وقال تعالى: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} 7، وقال تعالى في قصة نوح عليه السلام: {وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ} 8، وقال: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ} 9. فيا من نصح نفسه، تدبر ما ذكر الله في كتابه من ضلال الأكثرين لئلا تغتر بالكثرة من المنحرفين عن الصراط المستقيم، الذي هو سبيل المؤمنين، وتدبر ما ذكر الله من أحوال أعداء المرسلين، وما فعل الله بهم، قال تعالى: {مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلاَّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ} 10 الآية، وقال تعالى: {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} 11. والآيات في هذا المعنى كثيرة، تبين أن أهل الحق أتباع الرسل

_ 1 سورة القصص آية: 50. 2 سورة الشعراء آية: 74. 3 سورة الزخرف آية: 22. 4 سورة الصافات آية: 69. 5 سورة الصافات آية: 71. 6 سورة الشعراء آية: 8. 7 سورة يوسف آية: 103. 8 سورة هود آية: 40. 9 سورة الأنعام آية: 116. 10 سورة غافر آية: 4. 11 سورة غافر آية: 83.

هم الأقلون عددا، الأعظمون عند الله قدرا، وأن أعداء الحق هم الأكثرون في كل مكان وزمان. وفي الأحاديث الصحيحة ما يرشد إلى ذلك كما في الصحيح: أن ورقة بن نوفل قال للنبي صلى الله عليه وسلم: "يا ليتني كنت فيها جذعا، ليتني أكون حيا إذ يخرجك قومك، قال: أومخرجي هم؟ قال: نعم، لم يأت أحد قط بمثل ما جئت به إلا عودي" 1. فإذا كان هذا حال أكثر الخلق مع المرسلين، مع قوة عقولهم وفهومهم وعلومهم، فلا تعجب مما جرى في هذه الأوقات ممن هم مثلهم في عداوة الحق وأهله، والصد عن سبيل الله، مع ما في أهل هذه الأزمان من الرعونات والجهل، وفرط الغلو في الأموات، كما قال تعالى عن أسلافهم وأشباههم: {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ} 2. فاحتج سبحانه على بطلان دعوتهم غيره بأمور: (منها) أنهم: {لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ} 3 فالمخلوق لا يصلح أن يقصد بشيء من خصائص الإلهية، لا دعاء ولا غيره و "الدعاء مخ العبادة" 4 (الثاني) : كون الذين يدعونهم من دون الله أمواتا غير أحياء والميت لا يقدر على شيء فلا يسمع الداعي ولا يستجيب له، ففيها معنى قوله تعالى: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} 5، وفي هذه الآية أربعة أمور تبطل دعوة غير الله، وتبين ضلالة من دعا غير الله، فتدبرها.

_ 1 البخاري: بدء الوحي (4) , ومسلم: الإيمان (160) , وأحمد (6/223 ,6/232) . 2 سورة النحل آية: 20. 3 سورة النحل آية: 20. 4 الترمذي: الدعوات (3371) . 5 سورة فاطر آية: 13.

(والأمر الثالث) في هذه الآية قوله: {وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُون َ} 1، ومن لا يدري متى يبعث لا يصلح أن يدعى من دون الله، لا دعاء عبادة ولا دعاء مسألة. ثم بين تعالى ما أوجبه على عباده من إخلاص العبادة لله، وأنه هو المألوه المعبود دون كل من سواه، فقال: {إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} 2. وهذا هو الذي بعث الله به رسله، وأنزل به كتبه كما قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ} 3. ثم بين تعالى حال أكثر الناس مع قيام الحجة عليهم، وبطلان ما هم عليه من الشرك بالله، وبيان ما افترض عليهم من توحيده فقال: {فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ} 4، فذكر سببين حائلين بينهم، وبين قبول الحق الذي دعوا إليه: (فالأول) : عدم الإيمان باليوم الآخر. (والثاني) : التكبر، وهو حال الأكثرين كما قد عرف من حال الأمم الذين بعث إليهم رسله، كقوم نوح وقوم هود وقوم صالح وغيرهم، وكيف جرى منهم وما حل بهم، وكحال كفار قريش والعرب وغيرهم مع النبي صلى الله عليه وسلم لما بعثه الله بالتوحيد والنهي عن الشرك والتنديد، فقد روى مسلم وغيره من حديث عمرو بن عبسة أنه "قال للنبي صلى الله عليه وسلم لما قال له: أنا نبي، قال: وما نبي؟ قال: أرسلني الله، قال: بأي شيء أرسلك؟ قال: بصلة الأرحام، وكسر الأوثان، وأن يوحد الله ولا يشرك به شيء، قال: فمن معك على هذا؟ قال: حر وعبد" 5، ومعه يومئذ أبو بكر وبلال. وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ، فطوبى للغرباء الذين يصلحون إذا فسد الناس" 6، وفسر الغرباء بأنهم النزاع من القبائل، فلا يقبل الحق من القبيلة إلا نزيعة الواحد والاثنان؛ ولهذا قال بعض السلف: لا تستوحش من الحق لقلة السالكين، ولا تغتر

_ 1 سورة النحل آية: 21. 2 سورة البقرة آية: 163. 3 سورة الأنبياء آية: 25. 4 سورة النحل آية: 22. 5 مسلم: صلاة المسافرين وقصرها (832) , وأحمد (4/112) . 6 مسلم: الإيمان (145) , وابن ماجه: الفتن (3986) , وأحمد (2/389) .

بالباطل لكثرة الهالكين. وعن بعضهم: ليس العجب ممن هلك كيف هلك؟ إنما العجب ممن نجا كيف نجا؟ فإذا كان الأمر كذلك، فلا تعجبوا من كثرة المنحرفين الناكبين عن الحق المبين، المجادلين في أمر الدين، كما قال تعالى: {الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ} 1. فأعظم منة على من رزقه الله معرفة الحق، الاعتصام بكتابه، والتمسك بتوحيده وشرعه، مع كثرة المخالف والمجادل بالباطل و: {مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيّاً مُرْشِدا ً} 2. وصلى الله على محمد سيد المرسلين وإمام المتقين، وعلى آله وصحبه أجمعين وسلم تسليما كثيرا، والحمد لله رب العالمين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

_ 1 سورة غافر آية: 35. 2 سورة الكهف آية: 17.

الرسالة الخامسة والسبعون: [تقديم لترجمة الشيخ محمد بن عبد الوهاب]

الرسالة الخامسة والسبعون: [تقديم لترجمة الشيخ محمد بن عبد الوهاب] في ترجمة الشيخ محمد بن عبد الوهاب وما قام به ودعا إليه. بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله، أرسله بين يدي الساعة بشيرا ونذيرا. أما بعد: فقد سألت - أرشدك الله - أن أرسل إليك نبذة مفيدة كاشفة عن حال الشيخ الإمام، العلم القدوة، المجدد لما اندرس من دين الإسلام، والقائم بنصرة شريعة سيد الأنام، الشيخ محمد بن عبد الوهاب، أحسن الله له المآل وضاعف له الثواب، ويسر له الحساب. وذكرت - أرشدك الله - أن جهتكم لا يوجد فيها ذلك، وأن عندكم من الطلبة من يتشوق على تلك المناهج والمسالك، فكتبت إليك هذه الرسالة، وسودت إليك هذه الكراسة والعجالة، ليعلم الطالب، ويتحقق الراغب، حقيقة ما دعا إليه هذا الإمام، وما كان عليه من الاعتقاد والفهم التام، ويستبين للناظر فيها ما يبهت به الأعداء، من الأكاذيب والافتراء، التي يرومون بها تنفير الناس عن المحجة والسبيل، وكتمان البرهان والدليل. وقد كثر أعداؤه ومنازعوه، وفشا البهت بينهم فيما قالوه ونقلوه، فربما اشتبه على طالب الإنصاف والتحقيق، والتبس عليه واضح المنهج والطريق، فإن استصحب الأصول الشرعية، وجرى على القوانين المرضية، عرف أن لكل نعمة حاسدا، ولكل حق

جاحدا، ولا يقبل في نقل الأقوال والأحكام إلا العدول الثقاة الضابطون من الأنام، ومن استصحب هذا استراح عن البحث فيما ينقل إليه ويسمع، ولم يلتفت إلى أكثر ما يختلف فيه ويصنع، وكان من أمره على منهاج واضح ومشرع. [ترجمة الشيخ محمد بن عبد الوهاب] فصل: [نسبه] فأما نسب هذا الشيخ، فهو الإمام العلم القدوة البارع محمد بن عبد الوهاب بن سليمان بن علي بن محمد بن أحمد بن راشد بن بريد بن محمد بن بريد بن مشرف. [مولده] ولد -رحمه الله- سنة خمس عشرة بعد المائة والألف من الهجرة في بلد العيينة من أرض نجد، ونشأ بها وقرأ القرآن بها حتى حفظه وأتقنه قبل بلوغه العشر، وكان حاد الفهم سريع الإدراك والحفظ، يتعجب أهله من فطنته وذكائه. [طلبه للعلم] وبعد حفظ القرآن اشتغل بالعلم وجد في الطلب، وأدرك بعض الأرب قبل رحلته لطلب العلم. وكان سريع الكتابة ربما كتب الكراسة في المجلس؛ قال أخوه سليمان: كان والده يتعجب من فهمه، ويعترف بالاستفادة منه مع صغر سنه. ووالده هو مفتي تلك البلاد، وجده مفتي البلاد النجدية، آثاره وتصنيفه وفتاواه تدل على علمه وفقهه، وكان جده إليه المرجع في الفقه والفتوى، وكان معاصرا للشيخ منصور البهوتي الحنبلي خادم المذهب اجتمع به بمكة. وبعد بلوغ الشيخ سن الاحتلام، قدمه والده في الصلاة ورآه أهلا للائتمام، ثم طلب الحج إلى بيت الله الحرام، فأجابه والده إلى ذاك المقصد والمرام، وبادر إلى قضاء فريضة

الإسلام، وأداء المناسك على التمام. ثم قصد المدينة المنورة على ساكنها أفضل الصلاة والسلام، وأقام بها قريبا من شهرين، ثم رجع إلى وطنه قرير العين، واشتغل بالقراءة في الفقه على مذهب الإمام أحمد -رحمه الله-. ثم بعد ذلك رحل يطلب العلم، وذاق حلاوة التحصيل والفهم، وزاحم العلماء الكبار، ورحل إلى البصرة والحجاز مرارا، واجتمع بمن فيها من العلماء والمشايخ الأحبار، وأتى الأحساء، وهي إذ ذاك آهلة بالمشايخ والعلماء؛ فسمع وناظر وبحث واستفاد، وساعدته الأقدار الربانية بالتوفيق والإمداد. [شيوخه] وروى عن جماعة منهم الشيخ عبد الله بن إبراهيم النجدي ثم المدني، وأجازه من طريقين، وأول ما سمع منه الحديث المسلسل بالأولية، كتب السماع بالسند المتصل إلى عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا مَنْ في الأرض يرحمكم مَنْ في السماء" 1. وسمع منه مسلسل الحنابلة بسنده إلى أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إذا أراد الله بعبده خيرا استعمله، قالوا: كيف يستعمله؟ قال: يوفقه لعمل صالح قبل موته" 2، وهذا الحديث من ثلاثيات أحمد -رحمه الله-. وطالت إقامة الشيخ ورحلته بالبصرة، وقرأ بها كثيرا من كتب الحديث والفقه والعربية، وكتب من الحديث والفقه واللغة ما شاء الله في تلك الأوقاف. [دعوته] وكان يدعو إلى التوحيد، ويظهره لكثير ممن يخالطه ويجالسه ويستدل عليه، ويظهر ما عنده من العلم وما لديه. كان يقول: إن الدعوة كلها لله، لا يجوز صرف شيء منها إلى سواه، وربما ذكروا بمجلسه إشارات

_ 1 الترمذي: البر والصلة (1924) , وأبو داود: الأدب (4941) . 2 الترمذي: القدر (2142) , وأحمد (3/106 ,3/120) .

الطواغيت أو شيئا من كرامات الصالحين الذين كانوا يدعونهم، ويستغيثون بهم ويلجؤون إليهم في الملمات والمهمات، فكان ينهى عن ذلك ويزجر، ويورد الأدلة من الكتاب والسنة ويحذر، ويخبر أن محبة الأولياء والصالحين إنما هي متابعتهم فيما كانوا عليه من الهدى والدين، وتكثير أجورهم بمتابعتهم على ما جاء به سيد المرسلين؛ وأما دعوى المحبة والمودة، مع المخالفة في السنة والطريقة، فهي دعوى باطلة مردودة، غير مسلمة عند أهل النظر والحقيقة، ولم يزل على ذلك -رحمه الله-. ثم رجع إلى وطنه، فوجد والده قد انتقل إلى بلده حريملا، فاستقر معه فيها، يدعو إلى السنة المحمدية ويبديها، ويناصح من خرج عنها ويفشيها، حتى رفع الله شأنه ورفع ذكره، ووضع له القبول، وشهد له بالفضل ذووه من أهل المعقول والمنقول. وصنف كتابه المشهور في التوحيد، وأعلن بالدعوة إلى الله العزيز الحميد؛ وقرأ عليه هذا الكتاب المفيد، وسمعه كثير ممن لديه من طالب ومستفيد. وشاعت نسخه في البلاد، وطار ذكره في الغور والأنجاد، وفاز بصحبته واستفاد، من جرد القصد وسلم من الأشر والبغي والفساد. وكثر بحمد الله محبوه وجنده، وصار معه عصابة من فحول الرجال، وأهل السمت الحسن والكمال، يسلكون معه الطريق، ويجاهدون كل فاسق وزنديق. [حال بلاد نجد وغيرها عند ظهور الشيخ] فصل: كان أهل عصره ومصره في تلك الأزمان قد اشتدت غربة الإسلام بينهم، وعفت آثار الدين لديهم، وانهدمت قواعد الملة الحنيفية، وغلب

على الأكثرين ما كان عليه أهل الجاهلية، وانطمست أعلام الشريعة في ذلك الزمان، وغلب الجهل والتقليد والإعراض عن السنة والقرآن. وشب الصغير وهو لا يعرف من الدين إلا ما كان عليه أهل تلك البلدان، وهرم الكبير على ما تلقاه عن الآباء والأجداد. وأعلام الشريعة مطموسة، ونصوص التنزيل وأصول السنة فيما بينهم مدروسة، وطريقة الآباء والأسلاف مرفوعة الأعلام، وأحاديث الكهان والطواغيت مقبولة، غير مردودة ولا مدفوعة. قد خلعوا ربقة التوحيد والدين، وجدوا واجتهدوا في الاستغاثة والتعلق بغير الله من الأولياء والصالحين، والأوثان والأصنام والشياطين؛ وعلماؤهم ورؤساؤهم على ذلك مقبلون، ومن بحره الأجاج شاربون وبه راضون، وإليه مدى الزمان داعون. قد أعشتهم العوائد والمألوفات، وحبستهم الشهوات والإرادات، عن الارتفاع إلى طلب الهدى من النصوص المحكمات، والآيات البينات، يحتجون بما رووه من الآثار الموضوعات، والحكايات المختلفة والمنامات، كما يفعله أهل الجاهلية وغبر الفترات. وكثير منهم يعتقد النفع والضر في الأحجار والجمادات، ويتبركون بالآثار والقبور في جميع الأوقات: {نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} 1،: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} 2،: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالأِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} 3. فأما بلاد نجد، فقد بالغ الشيطان في كيدهم وجد، وكانوا ينتابون قبر

_ 1 سورة الحشر آية: 19. 2 سورة الأنعام آية: 1. 3 سورة الأعراف آية: 33.

زيد بن الخطاب، ويدعونه رغبا ورهبا بفصيح الخطاب، ويزعمون أنه يقضي لهم الحوائج، ويرونه من أكبر الوسائل والولائج. وكذلك عند قبر يزعمون أنه قبر ضرار بن الأزور، وذاك كذب ظاهر، وبهتان مزور. وكذلك عندهم نخل فحال، ينتابه النساء والرجال يفعلون عنده أقبح الفعال، والمرأة إذا تأخر الزواج عنها ولم يرغب فيها الأزواج، تذهب إليه فتضمه بيدها وتدعوه برجاء وابتهال، وتقول: يا فحل الفحول، أريد زوجا قبل الحول. وشجرة عندهم تسمى: الطريقة أغراهم الشيطان بها وأوحى إليهم التعلق عليها، وأنها ترجى منها البركة ويعلقون عليها الخرق، لعل الولد يسلم من السوء. وفي أسفل بلدة الدرعية مغارة في الجبل يزعمون أنها انفلقت من الجبل لامرأة تسمى: بنت الأمير، أراد بعض الناس أن يظلمها ويضير، فانفلق الغار ولم يكن له عليها اقتدار، كانوا يرسلون إلى هذا المكان من اللحم والخبز ما يقتات به جند الشيطان. وفي بلدتهم رجل يدعي الولاية يسمى: تاج يتبركون به ويرجون به ويرجون منه العون والإفراج. وكانوا يأتون إليه، ويرغبون فيما عنده من المدد بزعمهم ولديه، فتخافه الحكام والظلمة، ويزعمون أن له تصرفا وفتكا بمن عصاه وملحمة، مع أنهم يحكون عنه الحكايات القبيحة الشنيعة التي تدل على انحلاله عن أحكام الملة والشريعة. وهكذا سائر بلاد نجد على ما وصفنا من الإعراض عن دين الله، والجحد لأحكام الشريعة والرد. ومن العجب أن هذه الاعتقادات الباطلة، والمذاهب الضالة، والعوائد الجائرة، والطوائف الخاسرة، قد فشت وظهرت وعمت وطمت، حتى بلاد الحرمين الشريفين: فمن ذلك ما يفعل عند قبر محجوب وقبة أبي طالب، فيأتون قبره بالسماعات والعلامات للاستغاثة

عند نزول المصائب وحلول النواكب، وكانوا له في غاية التعظيم، ولا ما يجب عند البيت الكريم. [الفتنة بالقبور ومفاسدها] فلو دخل سارق أو غاصب، أو ظالم قبر أحدهما، لم يتعرض له أحد، لما يرون له من وجوب التعظيم والاحترام والمكارم. ومن ذلك ما يفعل عند قبر ميمونة أم المؤمنين -رضي الله عنها- في سرف. وكذلك عند قبر خديجة -رضي الله عنها- يفعل عند قبرها ما لا يسوغ السكوت عليه من مسلم يرجو الله واليوم الآخر، فضلا عن كونه من المكاسب الدنيئة الفاجرة، وفيه من اختلاط النساء بالرجال، وفعل الفواحش والمنكرات وسوء الأفعال، ما لا يقره أهل الأديان والكمال، وكذلك سائر القبور المعظمة المشرفة في بلد الله الحرام مكة المشرفة. وفي الطائف قبر ابن عباس رضي الله عنه، يفعل عنده من الأمور الشركية التي تشمئز منها نفوس الموحدين، وتنكرها قلوب عباد الله المخلصين، وتردها الآيات القرآنية وما ثبت من النصوص عن سيد المرسلين: منها وقوف السائل عند القبر متضرعا مستغيثا، وإبداء الفاقة إلى معبودهم مستكينا مستعينا، وصرف خالص المحبة التي هي محبة العبودية والنذر والذبح لمن تحت تلك المشهد والبنية، وأكثر سوقتهم وعامتهم يلهجون بالأسواق اليوم: على الله وعليك يا ابن عباس، فيستمدون منه الرزق والغوث وكشف الضر والباس. وذكر محمد بن حسين النعيمي الزبيدي -رحمه الله- أن رجلا رأى ما يفعل أهل الطائف من الشعب الشركية والوظائف فقال: أهل الطائف لا يعرفون الله، إنما يعرفون ابن عباس، فقال له بعض من يترشح للعلم: معرفتهم لابن عباس كافية لأنه يعرف الله، فانظر إلى هذا الشرك الوخيم! والغلو الذميم المجانب للصراط المستقيم! ووازن بينه

وبين قوله: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} 1 الآية، وقوله -جل ذكره-: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} 2. وقد لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم اليهود والنصارى باتخاذهم قبور أنبيائهم مساجد يعبد الله فيها، فكيف بمن عبد الصالحين ودعاهم مع الله؟ والنصوص في ذلك لا تخفى على أهل العلم. [البدع الوثنية والشرك في الأمصار والأقطار] كذلك ما يفعل بالمدينة المشرفة، على ساكنها أفضل الصلاة والسلام، هم من هذا القبيل، بالبعد عن منهاج الشريعة والسبيل. وفي بندر جدة ما قد بلغ من الضلال حده، وهو القبر الذي يزعمون أنه قبر حواء، وضعه لهم بعض الشياطين، وأكثروا في شأنه الإفك المبين، وجعلوا له السدنة والخدام، وبالغوا في مخالفة ما جاء به محمد -عليه أفضل الصلاة والسلام- من النهي عن تعظيم القبور والفتنة بمن فيها من الصالحين والكرام. وكذلك مشهد العلوي، بالغوا في تعظيمه وتوقيره، وخوفه ورجائه، وقد جرى لبعض التجار أنه انكسر بمال عظيم لأهل الهند وغيرهم، وذلك في سنة عشر ومائتين وألف، فهرب إلى مشهد العلوي مستجيرا ولائذا به مستغيثا، فتركه أرباب الأموال، ولم يتجاسر أحد من الرؤساء والحكام على هتك ذلك المشهد والمقام، واجتمع طائفة من المعروفين، واتفقوا على تنجيمه في مدة سنين؛ فنعوذ بالله من تلاعب الفجرة والشياطين. وأما بلاد مصر وصعيدها وفيومها وأعمالها، فقد جمعت من الأمور الشركية، والعبادات الوثنية، والدعاوى الفرعونية، ما لا يتسع له كتاب، ولا يدنو له خطاب، لا سيما عند مشهد أحمد البدوي

_ 1 سورة البقرة آية: 186. 2 سورة الجن آية: 18.

وأمثاله من المعتقدين المعبودين، فقد جاوزوا بهم ما ادعته الجاهلية لآلهتهم، وجمهورهم يرى له من تدبير الربوبية، والتصرف في الكون بالمشيئة والقدرة العامة، ما لم ينقل عن أحد مثله بعد الفراعنة والنماردة. وبعضهم يقول: يتصرف في الكون سبعة، وبعضهم يقول: أربعة، وبعضهم يقول: قطب يرجعون إليه، وكثير منهم يرى أن الأمر شورى بين عدد ينتسبون إليه، فتعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا: {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِباً} 1. وقد استباحوا عند تلك المشاهد، من المنكرات والفواحش والمفاسد، ما لا يمكن حصره، ولا يستطاع وصفه، واعتمدوا في ذلك من الحكايات والخرافات والجهالات، ما لا يصدر عمن له أدنى مسكة أو حظ من المعقولات، فضلا عن النصوص الشرعيات. كذلك ما يفعل في بلدان اليمن، جار على تلك الطريق والسنن: ففي صنعاء وبرع والمخا وغيرها من تلك البلاد، ما يتنزه العاقل عن ذكره ووصفه، ولا يمكن الوقوف على غايته وكشفه، ناهيك بقوم استخفهم الشيطان، وعدلوا عن عبادة الرحمن إلى عبادة القبور والشياطين، فسبحان من لا يعجل بالعقوبة على الجرائم، ولا يهمل الحقوق والمظالم، وفي حضرموت والشحر وعدن ويافع، ما تستك عن ذكره المسامع، يقول قائلهم: شيء لله يا عيدروس، شيء لله يا محيي النفوس. وفي أرض نجران، من تلاعب الشياطين، وخلع ربقة الإيمان ما لا يخفى على أهل العلم بهذا الشأن، كذلك رئيسهم المسمى بالسيد، لقد أتوا من تعظيمه وطاعته وتقديسه وتصديره والغلو فيه، بما أفضى بهم إلى مفارقة الملة والإسلام، والانحياز إلى عبادة الأوثان

_ 1 سورة الكهف آية: 5.

والأصنام،: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} 1. وكذلك حلب ودمشق وسائر بلاد الشام، فيها من النصب والأعلام، ما لا يجامع عليه أهل الإيمان والإسلام، من أتباع سيد الأنام، وهي تقارب ما ذكرنا في الكفريات المصرية، والتلطف والأحوال الوثنية الشركية. وكذلك الموصل وبلاد الأكراد، ظهر فيها من أصناف الشرك والفجور والفساد. وفي العراق من ذلك بحره المحيط بسائر الخلجان، وعندهم المشهد الحسيني، وقد اتخذه الرافضة وثنا، بل ربا مدبرا، وخالقا ميسرا، وأعادوا به المجوسية، وأحيوا به معاهد اللات والعزى، وما كان عليه أهل الجاهلية. وكذلك مشهد العباس ومشهد علي ومشهد أبي حنيفة ومعروف الكرخي والشيخ عبد القادر، فإنهم قد افتتنوا بهذه المشاهد، رافضتهم وسنتهم، وعدلوا عن أسنى المطالب والمقاصد، ولم يعرفوا ما وجب عليهم من حق الله الفرد الصمد الواحد، وبالجملة فهم شر تلك الأمصار، وأعظمهم نفورا عن الحق واستكبارا. والرافضة يصلون لتلك المشاهد، ويركعون ويسجدون لمن في تلك المعاهد، وقد صرفوا من الأموال والنذور، لسكان تلك الأجداث والقبور، ما لا يصرف عشر معشاره للملك العلي الغفور؛ ويزعمون أن زيارتهم لعلي وأمثاله، أفضل من سبعين حجة، تعالى الله وتقدس في مجده وجلاله. ولآلهتهم من التعظيم والتوقير والخشية والاحترام، ما ليس معه من تعظيم الله وتوقيره وخشيته وخوفه شيء للإله الحق والملك العلام، ولم يبق مما عليه النصارى سوى دعوى الولد، يرفع أن بعضهم يرى الحلول لأشخاص بعض البرية.:

_ 1 سورة التوبة آية: 31.

{سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ} 1. وكذلك جميع قرى الشط والمجرة على غاية من الجهل، والمعروف في القطيف والبحرين من البدع الرافضية، والأحداث المجوسية، والمقامات الوثنية، ما يضاد ويصادم أصول الملة الحنيفية. فمن اطلع على هذه الأفاعيل، وهو عارف بالإيمان والإسلام وما فيهما من التفريع والتأصيل، تيقن أن القوم قد ضلوا عن سواء السبيل، وخرجوا من مقتضى القرآن والدليل، وتمسكوا بزخارف الشيطان، وأحوال الكهان، وما شابه هذا القبيل؛ فازداد بصيرة في دينه، وقوي بمشاهدة إيمانه ويقينه، وجد في طاعة مولاه وشكره؛ واجتهد في الإنابة إليه وإدامة ذكره، وبادر إلى القيام بوظائف أمره، وخاف أشد الخوف على إيمانه من طغيان الشيطان وكفره. فليس العجب ممن هلك كيف هلك، إنما العجب ممن نجا كيف نجا، ولقد أحسن العلامة محمد بن إسماعيل الأمير، فيما أبداه من أهل وقته من التبديل والتغيير. [غلبة الجهال والمبتدعة على أهل العلم والدين] فصل: وهذه الحوادث المذكورة، والكفريات المشهورة، والبدع المزبورة، قد أنكرها أهل العلم والإيمان، واشتد نكيرهم حتى حكموا على فاعلها بخلع ربقة الإسلام والإيمان؛ ولكن لما كانت الغلبة للجهال والطغام، انتقض عرى الدين وانثلمت أركانه، وانطمست منه الأعلام. وساعدهم على ذلك من قل حظه ونصيبه من الرؤساء والحكام، والمنتسبين من الجهال إلى معرفة الحلال من الحرام، فاتبعتهم العامة والجمهور من الأنام، ولم يشعروا بما هم

_ 1 سورة الصافات آية: 180.

عليه من المخالفة والمباينة لدين الله الذي اصطفاه لخاصته وأوليائه وصفوته الكرام. ومع عدم العلم والإعراض عن النظر في آيات الله، والفهم لا مندوحة للعامة عن تقليد الرؤساء والسادة، ولا يمكن الانتقال عن المألوف والعادة، ولهذا كرر -سبحانه وتعالى- التنبيه على هذه الحجة الداحضة، والعادة المطردة الفاضحة، قال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا} 1، وقوله: {وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ} 2 الآية، قد قرر هذا المعنى في القرآن لحاجة العباد وضرورتهم إلى معرفته والحذر منه وعدم الاغترار بأهله، وما أحسن ما قال عبد الله بن المبارك -رحمه الله-: وهل أفسد الدين إلا الملوك ... وأحبار سوء ورهبانها [حديث ذات أنواط والبدع التي يعدها الجهال عبادات] إذا عرفت هذا، فليس إنكار الحوادث من خصائص هذا الشيخ، بل له سلف صالح من أئمة العلم والهدى، قاموا بالنكير والرد على من ضل وغوى، وصرف خالص العبادة إلى من تحت أطباق الثرى، وسنسرد لك من كلامهم ما تقر به العين وتثلج به الصدور، ويتلاشى معه ما أحدثه الجهال من البدع والإشراك والزور. قال الإمام أبو بكر الطرطوشي في كتابه المشهور الذي سماه "الباعث على إنكار البدع والحوادث": روى البخاري 3 عن أبي واقد الليثي قال:

_ 1 سورة لقمان آية: 21. 2 سورة سبأ آية: 44. 3 أخطأ الطرطوشي رحمه الله في عزو هذا الحديث إلى البخاري، وإنما نعرفه من تخريج أحمد والترمذي والنسائي وكبار رواة التفسير المأثور وغيرهم، وهو صحيح على كل حال كما قال الترمذي ولفظه "سبحان الله! هذا كما قال موسى: (اجعل لنا إلها كما لهم آلهة) والذي نفسي بيده لتركبن سنة من كان قبلكم.

" خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل حنين، ونحن حديث وعهد بكفر، وللمشركين سدرة يعكفون عندها، وينوطون بها أسلحتهم يقال لها: ذات أنواط، فمررنا بسدرة، فقلنا: يا رسول الله، اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الله أكبر! هذا كما قالت بنو إسرائيل لموسى: {اجعل لنا إلها كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون} لتركبن سنن من كان قبلكم ". فانظروا -رحمكم الله- أينما وجدتم سدرة أو شجرة، فقصدها الناس يعظمون من شأنها، ويرجون البرء والشفاء من قبلها، وينوطون بها الخرق والمسامير، فهي ذات أنواط، فاقطعوها. انتهى كلامه -رحمه الله-. فانظر -رحمك الله- إلى تصريح هذا الإمام، بأن كل شجرة يقصدها الناس، ويعظمونها ويرجون الشفاء والعافية من قبلها، فهي ذات أنواط التي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه لما طلبوا منه أن يجعل لهم شجرة كذات أنواط، فقال: " الله أكبر! هذا كقول بني إسرائيل: {اجعل لنا إلها} "1 مع أنهم لم يطلبوا إلا مجرد مشابهتهم في العكوف عندها، وتعليق الأسلحة للتبرك؛ فتبين لك بهذا أن من جعل قبرا أو شجرة أو شيئا حيا أو ميتا مقصودا له، ودعاه واستغاث به، وتبرك به وعكف على قبره، فقد اتخذه إلها مع الله. فإذا كان الرسول صلوات الله وسلامه عليه أنكر عليهم مجرد طلبهم منه مشابهة المشركين في العكوف، وتعليق الأسلحة للتبرك، فما ظنك بما هو أعظم من ذلك وأطم؟ الشرك الأكبر الذي حرمه الله ورسوله، وأخبر أن أصلح الخلق لو يفعله لحبط عمله، وصار من الظالمين. فصلوات الله وسلامه عليه كما بلغ البلاغ المبين، عرفنا بالله وأوضح لنا الصراط المستقيم، فحقيق بمن نصح نفسه، وآمن بالله واليوم الآخر أن لا يغتر بما عليه أهل

_ 1 الترمذي: الفتن (2180) , وأحمد (5/218) .

الشرك من عبادة القبور من هذه الأمة. ومن ذلك ما ذكره الإمام محدث الشام عبد الرحمن بن إسماعيل بن إبراهيم -المعروف بأبي شامة- من فقهاء الشافعية وقدمائهم في كتابه الذي سماه: "الباعث على إنكار البدع والحوادث" في فصل البدع المستقبحة، قال: البدع المستقبحة تنقسم على قسمين: قسم تعرفه العامة والخاصة أنه بدعة محرمة وإما مكروهة، وقسم يظنه معظمهم – إلا من عصمه الله – عبادات وقربات وطاعات وسننا، فأما القسم الأول فلا نطول بذكره، إذ كفانا مؤنة الكلام منه اعتراف فاعله أنه ليس من الدين. لكن تبين من هذا القسم مما قد وقع فيه جماعة من جهال العوام، النابذين لشريعة الإسلام، التاركين الاقتداء بأئمة الدين من الفقهاء، وهو ما يفعله طوائف من المنتسبين للفقر الذي حقيقته الافتقار عن الإيمان، مؤاخاة النساء الأجانب والخلوة بهن، واعتقادهم في مشايخ لهم ضالين مضلين، يأكلون في نهار رمضان من غير عذر، ويتركون الصلاة، ويخامرون النجاسات غير مكترثين لذلك، فهم داخلون تحت قوله تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} 1؛ ولهذه الآية وأمثالها كان مبادئ ظهور الكفر من عبادة الأصنام وغيرها. [الافتتان ببعض الأماكن والاعتقاد في بعض الأشياء] ومن هذا القسم أيضا، ما قد عم الابتلاء به من تزيين الشيطان للعامة تخليق الحيطان، والعمد والسرج مواضع مخصوصة في كل بلد، يحكي حاك أنه رأى في منامه بها أحدا ممن شهر بالصلاح والولاية، فيفعلون ذلك ويحافظون عليه مع تضييعهم فرائض الله تعالى وسننه، ويظنون أنهم متقربون بذلك. ثم يتجاوزون هذا إلى أن يعظم وقع تلك الأماكن في قلوبهم فيعظمونها، ويرجون الشفاء لمرضاهم وقضاء حوائجهم

_ 1 سورة الشورى آية: 21.

بالنذر لهم، وهي من بين عيون وشجر، وحائط وحجر. وفي مدينة دمشق -صانها الله- من ذلك مواضع متعددة، كعوينة الحمى خارج بلد توما، والعمود المخلق خارج الباب الصغير، والشجرة الملعونة اليابسة خارج باب النصر في نفس قارعة الطريق -سهل الله قطعها واجتثاثها من أصلها-. فما أشبهها بذات أنواط الواردة في الحديث الذي رواه محمد بن إسحاق، وسفيان بن عيينة عن الزهري 1 عن سنان بن أبي سفيان عن أبي واقد الليثي رضي الله عنه قال: " خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حنين، وكانت لقريش شجرة خضراء عظيمة يأتونها كل سنة، فيعلقون عليها سلاحهم، ويعكفون عندها ويذبحون لها، وفي رواية: خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم قبل حنين، ونحن حديثو عهد بكفر وللمشركين سدرة يعكفون عليها، وينوطون بها أسلحتهم، يقال لها: ذات أنواط. فمررنا بسدرة، فتنادينا من جانبتي الطريق، ونحن نسير إلى حنين: يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: الله أكبر! هذا كما قال قوم موسى: {اجعل لنا إلها كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون} لتركبن سنن من كان قبلكم " أخرجه الترمذي بلفظ آخر والمعنى واحد، وقال: هذا حديث حسن صحيح. قال الإمام أبو بكر الطرطوشي في كتابه المتقدم ذكره: فانظروا -رحمكم الله- أينما وجدتم سدرة أو شجرة يقصدها الناس، ويعظمون من شأنها، ويرجون البرء والشفاء من قبلها أو ينوطون بها المسامير والخرق، فهي ذات أنواط فاقطعوها. 2

_ 1 بياض في الأصل وبعده سنان بن أبي سفيان، وهو من تحريف النساخ والصواب ما صححناه به كما في جامع الترمذي. 2 كان بقرب بلدنا زيتونة يسمونها: "زيتونة الولية" يعتقد الجمهور بركتها، فلما قرأت لأهل البلد عقيدة التوحيد في أيام طلبي للعلم أغريتهم بقلعها، فقلعوها ليلا، وكان هنالك عليقة منسوبة لولي ينوطون بها الخرق، فما زلت بهم حتى منعتهم من ذلك.

(قلت:) ولقد أعجبني ما فعله الشيخ أبو إسحاق الحسائي -رحمه الله تعالى- أحد الصالحين ببلاد أفريقية حكى عنه صاحبه الصالح أبو عبد الله محمد بن أبي العباس المؤدب أنه كان إلى جانبه عين تسمى: عين العافية، كانت العامة قد افتتنوا بها يأتونها من الآفاق، من تعذر عليها نكاح أو ولد قالت: امضوا بي إلى العافية، فتعرف بها الفتنة. قال أبو عبد الله: فأنا في السحر ذات ليلة إذ سمعت أذان أبي إسحاق نحوها، فخرجت فوجدته قد هدمها، وأذن الصبح عليها. ثم قال: اللهم إني هدمتها لك، فلا ترفع لها رأسا. قال: فما رفع لها رأس إلى الآن. قلت: وأدهى من ذلك وأمر، إقدامهم على قطع الطريق السابلة يجيزون في أحد الأبواب الثلاثة القديمة العادية التي هي من بناء الجن في زمن نبي الله سليمان بن داود -عليه السلام- ومن بناء ذي القرنين، وقيل فيها: غير ذلك مما يؤذن بالتقدم على ما نقلناه في كتاب "تاريخ مدينة دمشق" -حرسها الله- وهو الباب الشمالي، ذكر لهم بعض من لا يوثق به في شهور سنة 636 أنه رأى مناما يقتضي أن ذلك المكان دفن فيه بعض أهل البيت. وقد أخبرني عنه ثقة أنه اعترف له أنه افتعل ذلك، فقطعوا طريق المارة فيه، وجعلوا الباب بكماله أصل مسجد مغصوبا، وقد كان الطريق يضيق بسالكيه، فتضاعف الضيق والحرج على من دخل ومن خرج، ضاعف الله عذاب من تسبب في بنائه، وأجزل ثواب من أعان على هدمه وإزالة اعتدائه، اتباعا لسنة النبي صلى الله عليه وسلم في هدم مسجد الضرار، المرصد لأعدائه من الكفار، فلم ينظر الشارع إلى كونه مسجدا، وهدمه لما قصد به من السوء والردى، وقال الله لنبيه: {لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً} 1. نسأل الله الكريم معافاتنا من كل ما يخالف

_ 1 سورة التوبة آية: 108.

رضاه، وأن لا يجعلنا ممن أضله واتخذ إلهه هواه. وهذا الشيخ أبو شامة من كبار أئمة الشافعيين في أوائل القرن السابع. وقال الإمام أبو الوفاء بن عقيل الحنبلي -رحمه الله-: لما صعبت التكاليف على الجهلة والطغام، عدلوا عن أوضاع الشرع إلى أوضاع وضعوها لأنفسهم، فسهلت عليهم إذ لم يدخلوا بها تحت أمر غيرهم، قال: وهم عندي كفار لهذه الأوضاع مثل تعظيم القبور وإكرامها وإلزامها، لما نهى عنه الشارع من إيقاد السرج وتقبيلها وتخليقها 1 وخطاب الموتى بالحوائج، وكتب الرقاع التي فيها: يا مولاي افعل بي كذا وكذا وأخذ2 ... تبركا بها. وأما إفاضة الطيب على القبور، وشد الرحال إليها، وإلقاء الخرق على الشجر اقتداء بمن عبد اللات والعزى، والويل عندهم لمن لم يقبل مشهد الكفار، ولم يتمسح بآجر المدينة يوم الأربعاء، ولم يقبل الجملون على جنازة الصدِّيق أبي بكر وعلي، أو لم يعقد على قبر أبيه أزجا (؟) بالجص والآجر ولم يخرق ثيابه إلى الذيل، ولم يرق ماء الورد على القبر. انتهى. فتأمل -رحمك الله- ما ذكره هذا الإمام الذي هو أجل أئمة الحنابلة، بل من أجل أئمة الإسلام، وما كشفه من الأمور التي يفعلها الخواص من الأنام، فضلا عن النساء والغوغاء والعوام، مع كونه في سادس القرون، والناس إذ ذاك لما ذكره يفعلون، وجهابذة العلماء والنقدة يشهدون، وحظهم من النهي مرتبته الثانية فهم بها قائمون، يتضح لك فساد ما زخرفه المبطلون، وموَّه به المتعصبون والملحدون. [سؤال الميت والغائب قضاء الحاجات والاستسقاء بالصالحين] قال الشيخ تقي الدين: وأما سؤال الميت والغائب، نبيا كان أو غيره،

_ 1 أي: تضميخها بالخلوق، وهو نوع من الطيب، والمراد هنا جنس الطيب. 2 بياض الأصل.

فهو من المحرمات المنكرة باتفاق أئمة المسلمين، لم يأمر الله به ولا رسوله، ولا فعله أحد من الصحابة ولا التابعين لهم بإحسان، ولا استحبه أحد من أئمة المسلمين. وهذا مما يعلم بالاضطرار من دين الإسلام، فإن أحدا منهم ما كان يقول -إذا نزلت به ترة أو عرضت له حاجة- لميت: يا سيدي يا فلان، أنا في حسبك أو اقض حاجتي، كما يقول بعض هؤلاء المشركين، لمن يدعونهم من الموتى والغائبين، ولا أحد من الصحابة استغاث بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد موته، ولا بغيره من الأنبياء، لا عند قبور الأنبياء، ولا الصلاة عندها. ولما قحط الناس في زمن عمر بن الخطاب، استسقى بالعباس وتوسل بدعائه وقال: "اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبيك إذا أجدبنا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا"، كما ثبت ذلك في صحيح البخاري. وكذلك معاوية رضي الله عنه لما استسقى بأهل الشام بيزيد بن الأسود الجرشي. فهذا الذي ذكره عمر رضي الله عنه توسل منه بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم وشفاعته في حياته، ولهذا توسلوا بعده بدعاء العباس، وبدعاء يزيد بن الأسود، وهذا هو الذي ذكره الفقهاء في كتاب الاستسقاء فقالوا: يستحب أن يستسقى بالصالحين، وإذا كان من أقارب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأفضل. [السنة في زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم] وكره العلماء كمالك وغيره أن يقوم الرجل عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم يدعو لنفسه، وذكروا أن هذا من البدع التي لم يفعلها السلف. قال أصحاب مالك: إذا دخل المسجد يدنو من القبر، فيسلم على النبي صلى الله عليه وسلم ويدعو مستقبل القبلة، يوليه ظهره، وقيل: لا يوليه ظهره، وإنما اختلفوا لما فيه من استدباره، أما إذا جعل الحجرة عن يساره، فقد زال المحذور بلا خلاف، ولعل هذا الذي ذكره الأئمة أخذوه من كراهة

الصلاة إلى القبر. فإذا كان قد ثبت النهي عن النبي صلى الله عليه وسلم، فلما نهى أن يتخذ القبر مسجدا أو قبلة، أمروا بأن لا يتحرى الدعاء إليه كما لا يصلى إليه. قال مالك في المبسوط: لا أرى أن يقف عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم يدعو، ولكن يسلم ويصلي. ولهذا -والله أعلم- حرفت الحجرة، وثلثت لما بنيت، فلم يجعل حائطها الشمالي على القبلة، ولا جعل سطحا. وذكر الإمام وغيره: أنه يستقبل القبلة، ويجعل الحجرة عن يساره لئلا يستدبره، وذلك بعد تحيته والصلاة والسلام عليه، ثم يدعو لنفسه. وذكروا أنه إذا حياه وصلى يستقبل وجهه -بأبي وأمي صلى الله عليه وسلم-، فإذا أراد الدعاء جعل الحجرة عن يساره، واستقبل القبلة ودعا، وهذا مراعاة منهم أن يفعل الداعي أو الزائر ما نهي عنه من تحري الدعاء عند القبر. وقد ذكر مالك -رحمه الله- وغيره من أهل المدينة: كلما دخل أحدهم المسجد أن يجيء؛ فيسلم على النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبيه، قال: وإنما يكون ذلك لأحدهم إذا قدم من سفر أو أراد سفرا ونحو ذلك، ورخص بعضهم في السلام عليه إذا دخل للصلاة ونحوها وأما قصده دائما للصلاة والسلام عليه، فما علمت أحدا رخص في ذلك، لأن ذلك نوع من اتخاذه عيدا، وأيضا، فإن ذلك بدعة، فقد كان المهاجرون والأنصار في عهد أبي بكر وعمر وعثمان وعلي -رضي الله عنهم- بما كان النبي صلى الله عليه وسلم يكرهه من ذلك وما نهاهم عنه؛ 1 ولأنهم كانوا يسلمون عليه حين دخول المسجد والخروج منه، وفي آخر الصلاة في التشهد، كما كانوا يسلمون عليه كذلك في حياته، والمأثور عن ابن عمر يدل على ذلك. قال أبو سعيد في سننه: حدثنا عبد الرحمن بن يزيد حدثني أبي عن ابن

_ 1 كذا وفي العبارة قلق واضطراب.

عمر أنه كان إذا قدم من سفر أتى قبر النبي صلى الله عليه وسلم فصلى وسلم عليه وقال: السلام عليك يا أبا بكر، السلام عليك يا أبتاه، وعبد الرحمن بن يزيد وإن كان يضعف، لكن الحديث الصحيح عن نافع يدل على أن ابن عمر لم يكن يفعل ذلك دائما ولا غالبا. وما أحسن ما قال مالك -رحمه الله-: لن يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها، ولكن كلما ضعف تمسك الأمم بعهود أنبيائهم ونقصوا إيمانهم، عوضوا عن ذلك بما أحدثوه من البدع والشرك وغيره، ولهذا كرهت الأمة استلام القبر وتقبيله، وبنوه بناء منعوا الناس أن يصلوا إليه. ومما يبين حكمة الشريعة، وأنها كما قيل: سفينة نوح، من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق، أن الذين خرجوا عن المشروع، زين لهم الشيطان أعمالهم حتى خرجوا إلى الشرك، فطائفة من هؤلاء يصلون للميت، ويستدبر أحدهم القبلة ويسجد للقبر، ويقول أحدهم: القبلة قبلة العامة، وقبر الشيخ فلان قبلة الخاصة، وهذا يقوله من هو أكثر الناس عبادة وزهدا، وهو شيخ متبوع ولعله أمثل أتباع شيخه يقول في شيخه. وآخر من أعيان الشيوخ المتبوعين أصحاب الصدق والاجتهاد في العبادة والزهد، يأمر المريد أول ما يتوب أن يذهب إلى قبر الشيخ، ويعكف عليه عكوف أهل التماثيل عليها. [الاستغاثة بالنبي والافتتان بالصالحين] وجمهور هؤلاء المشركين بالقبور يجدون عند عبادة القبور من الرقة والخشوع، والذل وحضور القلب، ما لا يجده أحدهم في مساجد الله التي أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه. وآخرون يحجون القبور، وطائفة صنفوا كتبا، وسموها: "مناسك حج المشاهد" كما

صنف أبو عبد الله محمد بن النعمان الملقب: "بالمفيد" أحد شيوخ الإمامية كتابا في ذلك، وذكر فيه من الحكايات المكذوبة على أهل البيت ما لا يخفى كذبه على من له معرفة بالنقل. وآخرون يسافرون إلى قبور المشايخ، وإن لم يسموا ذلك نسكا وحجا، فالمعنى واحد. وكثير من هؤلاء أعظم قصده من الحج قصد قبر النبي صلى الله عليه وسلم لا حج البيت. وبعض الشيوخ المشهورين بالدين والزهد والصلاح، صنف كتابا سماه الاستغاثة بالنبي صلى الله عليه وسلم في اليقظة والمنام، وقد ذكر في مناقب هذا الشيخ: أنه حج مرة وكان قبر النبي صلى الله عليه وسلم منتهى قصده، ثم رجع إلى مكة، وجعل هذا من مناقبه، فإن كان هذا مستحبا؛ فينبغي لمن يجب عليه حج البيت إن حج أن يجعل المدينة منتهى قصده، ولا يذهب إلى مكة؛ فإنه زيادة كلفة ومشقة مع ترك الأفضل، وهذا لا يقوله عاقل. وبسبب الخروج عن الشريعة صار بعض أكابر الشيوخ عند الناس -ممن يقصده الملوك والقضاة والعلماء والعامة- على طريقة ابن سبعين، قيل عنه: أنه كان يقول: البيوت المحجوجة ثلاثة: مكة، وبيت المقدس، والبيت الذي للمشركين في الهند؛ وهذا لأنه كان يعتقد أن دين اليهود حق، ودين النصارى حق. وجاءه بعض إخواننا العارفين قبل أن يعرف حقيقته فقال له: أريد أن أسلك على يديك، فقال: على دين اليهود أو النصارى أو المسلمين؟ فقال له: واليهود والنصارى ليسوا كفارا؟ فقال الشيخ: لا تشدد عليهم، ولكن الإسلام أفضل. ومن الناس من يجعل مقبرة الشيخ بمنزلة عرفات، يسافرون إليها وقت الموسم، فيعرفون بها كما يعرف المسلمون بعرفات كما يفعل هذا في المشرق والمغرب. ومنهم من يحكي عن الشيخ الميت أنه قال: كل خطوة إلى قبري كحجة، ويوم

القيامة لا أبيع بحجة، فأنكر بعض الناس ذلك، فتمثل له الشيطان بصورة الشيخ 1 عن إنكار ذلك. وهؤلاء وأمثالهم صلاتهم ونسكهم لغير الله رب العالمين، فليسوا على ملة إمام الحنفاء، وليسوا من عُمَّار مساجد الله التي قال الله فيها: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللَّهَ} 2، وعُمار مشاهد القبور يخشون غير الله، ويرجون غير الله، حتى أن طائفة من أرباب الكبائر الذين لا يخشون الله فيما يفعلونه من القبائح، فإذا رأى قبة الميت أو الهلال الذي على رأس القبة، فيخشى من فعل الفواحش، ويقول أحدهم لصاحبه: ويحك هذا هلال القبة، فيخشون المدفون تحت الهلال، ولا يخشون الذي خلق السماوات والأرض، وجعل أهلة السماء مواقيت للناس والحج. وهؤلاء إذا نوظروا خوفوا مناظرهم كما صنع المشركون مع إبراهيم عليه الصلاة والسلام، قال تعالى: {وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} 3 إلى قوله: {وَهُمْ مُهْتَدُونَ} 4. [الافتتان بأصحاب القبور] وآخرون قد جعلوا الميت بمنزلة الإله، والشيخ الحي المتعلق به كالنبي، فمن الميت طلب قضاء الحاجات وكشف الكربات، وأما الحي، فالحلال ما حلله والحرام ما حرمه؛ وكأنهم في أنفسهم قد عزلوا الله أن يتخذوه إلها، وعزلوا محمدا صلى الله عليه وسلم أن يتخذوه رسولا. وقد يجيء الحديث

_ 1 بياض بالأصل لعل مكانه كلمة: فنهاه. 2 سورة التوبة آية: 18. 3 سورة الأنعام آية: 80. 4 سورة الأنعام آية: 82.

العهد بالإسلام والتابع لهم المحسن الظن بهم أو غيره يطلب من الشيخ الميت إما دفع ظلم ملك يريد أن يظلمه، أو غير ذلك، فيدخل ذلك السادن، فيقول قد قلت للشيخ، والشيخ يقول للنبي، والنبي يقول لله، والله قد بعث رسولا إلى السلطان فلان؛ فهل هذا إلا محض دين المشركين والنصارى؟ وفيه من الكذب والجهل ما يستجيزه كل مشرك أو نصراني ولا يروج عليه، ويأكلون من النذور والمنذور ما يؤتى به إلى قبورهم ما يدخلون به في معنى قوله تعالى: {إِنَّ كَثِيراً مِنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ} 1، يعرضون بأنفسهم ويمنعون غيرهم؛ إذ التابع لهم يعتقد أن هذا هو سبيل الله ودينه؛ فيمتنع بسبب ذلك من الدخول في دين الحق الذي بعث الله به رسله وأنزل به كتبه، والله سبحانه لم يذكر في كتابه المشاهد، بل ذكر المساجد، وأنها خالصة لوجهه، قال تعالى: {وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} 2، وقال {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} 3، وقال: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} 4، وقال تعالى: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً} 5، ولم يذكر بيوت الشرك كبيوت النيران والأصنام والمشاهد؛ لأن الصوامع والبيع لأهل الكتاب. فالممدوح من ذلك ما كان مبنيا قبل النسخ والتبديل، يؤمنون بالله واليوم الآخر ويعملون الصالحات، فبيوت الأوثان وبيوت النيران وبيوت الكواكب وبيوت المقابر لم يمدح الله شيئا منها، ولم يذكر ذلك إلا في قصة من لعنهم النبي صلى الله عليه وسلم قال تعالى: {قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدا ً} 6، فهؤلاء الذين اتخذوا مسجدا على أهل الكهف كانوا من النصارى

_ 1 سورة التوبة آية: 34. 2 سورة الأعراف آية: 29. 3 سورة التوبة آية: 18. 4 سورة النور آية: 36. 5 سورة الحج آية: 40. 6 سورة الكهف آية: 21.

الذين لعنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم- حيث قال: "لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" 1، وفي رواية (وصالحيهم) ، ودعاء المقبورين من أعظم الوسائل إلى ذلك. وقد قدم بعض شيوخ المشرق، فتكلم معي في هذا، فبينت له فساد هذا فقال: أليس قد قال النبي صلى الله عليه وسلم "إذا أعيتكم الأمور، فعليكم بأصحاب القبور؟ " فقلت: هذا كذب باتفاق أهل العلم، لم يروه عن النبي صلى الله عليه وسلم أحد من علماء الحديث. وبسبب هذا وأمثاله ظهر مصداق قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه، قال: يا رسول الله، اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟ " 2 3. [عزو بعض الدجل والحيل عند القبور وغيرها إلى الشياطين] وهؤلاء الغلاة المشركون إذا حصل لأحدهم مطلبه ولو من كافر، لم يقبل على الرسول بل يطلب حاجته من حيث إنها تقضى، فتارة يذهب إلى ما يظنه قبر رجل صالح، ويكون فيه قبر كافر أو منافق، وتارة يعلم أنه كافر أو منافق فيذهب إليه كما يذهب قوم إلى الكنيسة، أو إلى مواضع يقال لهم: إنها تقبل النذور؛ فهذا يقع فيه عامتهم، وأما الأول فيقع فيه خاصتهم، والمقصود هنا أن كثيرا من الناس يعظم قبر من يكون في الباطن كافرا أو منافقا، ويكون هذا عنده والرسول من جنس واحد، لاعتقاده أن الميت يقضي حاجته إذا كان رجلا صالحا، وكلا هذين من جنس واحد يستغيث به. وكم من مشهد يعظمه الناس، وهو كذب بل يقال: إنه قبر كافر، كالمشهد الذي بسفح جبل

_ 1 البخاري: الصلاة (436) , ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (531) , والنسائي: المساجد (703) , وأحمد (1/218 ,6/34 ,6/80 ,6/121 ,6/146 ,6/252 ,6/255 ,6/274) , والدارمي: الصلاة (1403) . 2 البخاري: أحاديث الأنبياء (3456) , ومسلم: العلم (2669) , وأحمد (3/84 ,3/89 ,3/94) . 3 رواية الشيخين في الصحيحين من حديث أبي سعيد الخدري " لتتبعن سنن من قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع حتى لو دخلوا جحر ضب دخلتموه" ولفظ مسلم "لاتبعتموهم "، وفي رواية البخاري "لو سلكوا حجر ضب.. إلخ قلنا يا رسول الله: اليهود والنصارى؟ قال: "فمن؟ ".

لبنان الذي يقال: إنه قبر نوح، فإن أهل المعرفة كانوا يقولون إنه قبر بعض العمالقة. وكذلك مشهد الحسين الذي بالقاهرة، وقبر أبي بن كعب الذي بدمشق، اتفق العلماء على أنهما كذب. ومنهم من قال: إنهما قبرا نصرانيين، وكثير من المشاهد تنازع (الناس) فيها، وعندها شياطين تضل بسبها من تضل. ومنهم من يرى في المنام شخصا يظن أنه المقبور، ويكون ذلك شيطانا متصورا بصورته كالشياطين الذين يكونون بالأصنام، وكالشياطين الذين يتمثلون لمن يستغيث بالأصنام والموتى والغائبين. وهذا كثير في زماننا وغيره، مثل أقوام يرصدون بعض التماثيل التي بالبراري بديار مصر بأخميم وغيرها، يرصدون التمثال مدة لا يتطهرون طهر المسلمين، ولا يصلون صلاة المسلمين، ولا يقرؤون حتى يتعلق الشيطان تلك الصورة فيراها تتحرك، فيطمع فيها، أو غيرها، فيرى شيطانا قد خرج له، فيسجد لذلك الشيطان حتى يقضي بعض حوائجه. ومثل هؤلاء كثير في شيوخ الترك الكفار يسمونه البوشت، وهو المخنث عندهم إذا طلبوا منه بعض هذه الأمور أرسلوا إليه بعض من ينكحه ونصبوا له حركات عالية في ليلة ظلماء، وقربوا له خبزا وميتة، وغنوا غناء يناسبه بشرط أن لا يكون عنده من يذكر الله، ولا هناك شيء فيه شيء من ذكر الله، ثم يصعد ذلك الشيخ المفعول به في الهواء، ويرون الدف يطير في الهوى. ويضرب من مد يديه إلى الخبز، ويضرب الشيطان بآلات اللهو وهم يسمعون، ويغني لهم الأغاني التي كانت تغنيها آباؤهم الكفار، ثم قد يغيب وكذلك الطعام، وقد نقل إلى بيت البوشت وقد لا يغيب، ويقربون له ميتة يحرقونها بالنار فيقضي بعض حوائجهم. ومثل هذا كثير جدا للمشركين، فالذي يجري عند المشاهد من جنس

ما يجري عند الأصنام. [صور من الشرك] وقد تيقنت بطرق متعددة أن ما يشرك به من دون الله من صنم وقبر وغير ذلك تكون عنده شياطين تضل من أشرك به، وإن تلك الشياطين لا يقضون إلا بعض أغراضهم، وإنما يقضون بعض أغراضهم إذا حصل لهم من الشرك والمعاصي ما يحبه الشيطان، وقد ينهاه عما أمر به من التوحيد والإخلاص والصلوات الخمس وقراءة القرآن ونحو ذلك. والشياطين تغوي الإنسان بحسب ما تطمع منه، فإن كان ضعيف الإيمان أمرته بالكفر البين، وإلا أمرته بما هو فسق، أو معصية، وإن كان قليل العلم، أمرته بما لا يعرف أنه مخالف للكتاب والسنة. وقد وقع في هذا النوع كثير من الشيوخ الذين لهم نصيب وافر من الدين والزهد والعبادة، لكن لعدم علمهم بحقيقة الدين الذي بعث الله به رسوله-صلى الله عليه وسلم - طمعت فيهم الشياطين حتى أوقعوهم فيما يخالف الكتاب والسنة. وقد جرى لغير واحد من أصحابنا المشايخ يستغيث بأحدهم بعض أصحابه، فيرى الشيخ في اليقظة حتى قضى ذلك المطلوب. وإنما (هي) شياطين تتمثل للمشركين الذين يدعون غير الله، والجن بحسب الإنس، فالكافر للكافر، والجاهل للجاهل، والفاجر للفاجر، وأما أهل العلم والإيمان فأتباع الجن لهم كأتباع الإنس يتبعونه فيما أمر الله به رسوله. وكان رجل يباشر التدريس، وينتسب إلى الفتيا كان يقول: النبي صلى الله عليه وسلم يعلم ما لا يعلمه الله، ويقدر على ما لا يقدر الله عليه، وإن هذا السر انتقل بعده إلى الحسن. ثم انتقل في ذرية الحسن إلى الشيخ أبي الحسن الشاذلي. وقالوا: هذا مقام القطب الغوث الفرد الجامع. وكان شيخ آخر معظم

عند أتباعه يدعي هذه المنزلة، ويقول: إنه المهدي الذي بشر به النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه يزوج عيسى ابنته، وأن نواصي الملوك بيده، والأولياء بيده، يولي من يشاء، ويعزل من يشاء، وأن الرب يناجيه دائما، وأنه الذي يمد حملة العرش وحيتان البحر. وقد عزرته تعزيرا بليغا في يوم مشهود في حضرة من أهل المسجد الجامع يوم الجمعة بالقاهرة؛ فعرفه الناس، وانكسر بسببه أشباهه من الدجاجلة. ومن هؤلاء من يقول: قول الله -سبحانه وبحمده-: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً} 1 إلى قوله: {كْرَةً وَأَصِيلاً} أن الرسول هو الذي يسبح بكرة وأصيلا، ومنهم من يقول إن الرسول صلى الله عليه وسلم يعلم مفاتيح الغيب الخمس التي قال النبي صلى الله عليه وسلم: "مفاتيح الغيب خمس لا يعلمهن إلا الله: {إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت} "2 وقال: بأنه علمها بعد أن أخبر أنه لا يعلمها إلا الله. ومنهم من قال: أسقط الربوبية، وقل في الرسول ما شئت. ومنهم من يقول: نحن نعبد الله ورسوله، ومنهم من يأتي قبر الميت فيقول: اغفر لي، وارحمني، ولا توقفني على زلة إلى أمثال هذه الأمور التي يتخذ فيها المخلوق إلها. أقول: وهذه سنة مأثورة، وطريقة مسلوكة، والله غير مهجورة، وضلالة واضحة مشهورة، وبدعة مشهورة غير منكورة، وأعلامها مرفوعة منشورة، وراياتها منصوبة غير مكسورة، وبراهينها غير محدودة ولا محصورة، ودلائلها في كثير من المصنفات والمناظيم مذكورة، كما قال ذلك في البردة وبين في ذلك قصده:

_ 1 سورة الفتح آية: 8. 2 البخاري: تفسير القرآن (4627) , وأحمد (2/24 ,2/52 ,2/58 ,2/85 ,2/122) .

دع ما ادعته النصارى في نبيهم ... واحكم بما شئت مدحاً فيه واحتكم فإن من جودك الدنيا وضرتها ... ومن علومك علم اللوح والقلم ولو نطيل بذكر هذه الأخبار لحررنا منها أسفارا، فلنكف عن قلم اليراع في هذا الميدان، فالحكم والله لا يخفى على ذي عيان، بلى أجلى من ضياء الشمس في البيان. فلما استقر هذا في نفوس عامتهم، نجد أحدهم إذا سئل عمن ينهاهم: ما يقول هذا؟ فيقول: فلان ما ثم عنده إلا الله، لما استقر في نفوسهم أن يجعلوا مع الله إلها آخر. وهذا كله وأمثاله وقع ونحن بمصر، وهؤلاء الصالحون مستخفون بتوحيد الله، ويعظمون دعاء غير الله من الأموات، فإذا أمروا بالتوحيد، ونهوا عن الشرك استخفوا بالله، كما أخبر الله تعالى عن المشركين بقول: {وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ} 1، فاستهزؤا بالرسول لما نهاهم عن الشرك. وقال عن المشركين: {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَوَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ} 2، وقال تعالى: {وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} 3. تفضيل المشركين لمعبوداتهم على خالقهم وما زال المشركون يسفهون الأنبياء، ويصفونهم بالجنون والضلال والسفاهة، كما قال قوم نوح لنوح، وعاد لهود عليهما السلام: {قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} 4.فأعظم ما سفهوه لأجله، وأنكروه هو التوحيد؛ وهكذا تجد من فيه شبه من

_ 1 سورة الأنبياء آية: 36. 2 سورة الصافات آية: 35. 3 سورة ص آية: 4. 4 سورة الأعراف آية: 70.

هؤلاء من بعض الوجوه إذا رأى من يدعو إلى توحيد الله وإخلاص الدين له، وأن لا يعبد الإنسان إلا الله، ولا يتوكل إلا عليه، استهزأ بذلك لما عنده من الشرك. وكثير من هؤلاء يخربون المساجد، ويعمرون المشاهد؛ فتجد المسجد الذي يبنى للصلوات الخمس معطلا مخرباً ليس له كسوة إلا من الناس، وكأنه خان من الخانات، والمشهد الذي بني على الميت فعليه المستور، وزينة الذهب والفضة والرخام، والنذور تغدو إليه وتروح، فهل هذا إلا من استخفافهم بالله وآياته ورسوله وتعظيمهم للشرك! فإنهم يعتقدون أن دعاءهم للميت الذي بني له المشهد، والاستغاثة به أنفع لهم من دعاء الله، والاستغاثة به في البيت الذي بني لله –عز وجل-؛ ففضلوا البيت الذي بني لدعاء المخلوق على البيت الذي بنى لدعاء الخالق. وإذا كان لهذا وقف ولهذا وقف، كان وقف الشرك أعظم عندهم، مضاهاة لمشركي العرب الذين ذكر الله حالهم في قوله: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيباً} 1 الآية: كانوا يجعلون له زرعا وماشية، ولآلهتهم زرعا وماشية، فإذا نضب نصيب آلهتهم أخذوا من نصيب الله فوضعوه فيه، وقالوا: الله غني وآلهتنا فقيرة، فيفضلون ما يجعل لغير الله على ما يجعل لله. وهكذا حال أهل الوقوف والنذور التي تبذل عندهم للمشاهد أعظم عندهم مما يبذل للمساجد ولعمار المساجد والجهاد في سبيل الله. وهؤلاء إذا قصد أحدهم القبر الذي يعظمه بكى عنده وخضع، ويدعو، ويتضرع، ويحصل له من الرقة والتواضع والعبودية وحضور القلب ما لا يحصل له مثله في الصلوات الخمس والجمعة وقيام الليل وقراءة القرآن. فهل هذا الأمر إلا من حال المشركين المبتدعين؟ لا الموحدين

_ 1 سورة الأنعام آية: 136.

المخلصين المتبعين لكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. ومثل هذا إذا سمع الأبيات يحصل له من الحضور والخشوع والبكاء ما لا يحصل له مثله عند سماع آيات الله؛ فيخشع عند سماع المبتدعين المشركين، ولا يخشع عند سماع المتقين المخلصين. بل إذا سمعوا آيات الله استثقلوها وكرهوها واستهزؤوا بها، فيجعل له أعظم نصيب من قوله: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ} 1؛وإذا سمعوا القرآن سمعوه بقلوب لاهية، وألسن لاغية كأنهم صم عمي؛ وإذا سمعوا الأبيات حضرت قلوبهم، وسكتت ألسنتهم، وسكتت حركاتهم، حتى لا يشرب العطشان منهم. ومن هؤلاء من إذا كانوا في سماعهم فأذن المؤذن قالوا: نحن في شيء أفضل مما دعانا إليه. ومنهم من يقول: كنا في الحضرة فإذا قمنا إلى الصلاة صرنا إلى الباب. وقد سألني بعضهم عمن قال ذلك من هؤلاء الشيوخ الضلال، فقلت: كان في حضرة الشيطان فصار على باب الله، فإن البدع والضلال فيها من حضور الشيطان ما قد فصل في غير هذا الموضع. والذين جعلوا دعاء الموتى من الأنبياء والأئمة والشيوخ أفضل من دعاء الله أنواع متعددة: منهم من تقدم، ومنهم من يحكي أنواعا من الحكايات فلم يخرجه، ودعا بعض المشايخ الموتى فأخرجه إلى بلاد الإسلام2. وحكاية أن بعض المشايخ قال لمريده: إذا كانت لك إلى الله حاجة فتعال إلى قبري، وآخر قال: فتوسل إلى الله بي، وآخر قال: قبر فلان هو الترياق المجرب. فهؤلاء وأشباههم يرجحون هذه الأدعية على أدعية

_ 1 سورة التوبة آية: 65. 2 هذا السطر غير مفهوم إذ ليس قبله اسم يظهر أنه فاعل لقوله فيه فلم يخرجه وقوله فأخرجه. فالظاهر أنه سقط من الكلام قبله شيء. وهذه الرسالة كثيرة الغلط.

المخلصين لله، مضاهاة للمشركين. وهؤلاء يتمثل لكثير منهم صورة شيخه الذي يدعوه فيظنه إياه، أو ملكا على صورته، وإنما هو شيطان أغواه. ومن هؤلاء من إذا نزلت به شدة لا يدعو إلا شيخه، ولا يذكر إلا اسمه قد لهج به كما يلهج الصبي بذكر أمه، فيتعس أحدهم فيقول: يا فلان، وقد قال الله تعالى للمؤمنين: {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً} 1. ومن هؤلاء من يحلف بالله ويكذب، ويحلف بشيخه وإمامه فيصدق، فيكون شيخه عنده وفي صدره أعظم. القبوريون ليس لهم حجة على دعواهم فإذا كان دعاء الموتى مثل الأنبياء والصالحين يتضمن هذا الاستهزاء بالله وآياته ورسوله، فأي الفريقين أحق بالاستهزاء بآيات الله ورسوله؟ من كان يأمر بدعاء الموتى والاستغاثة بهم مع ما يترتب على ذلك من الاستهزاء بالله وآياته ورسوله، أو من كان يأمر بدعاء الله وحده لا شريك له كما أمرت رسله، ويوجب طاعة الرسول ومتابعته في كل ما جاء به؟. وأيضاً فإن هؤلاء الموحدين من أعظم الناس لجانب الرسول تصديقاً له فيما أخبر، وطاعة له فيما أمر، واعتناء بما بعث به، ولتميز ما روي عنه من الصحيح والضعيف والصدق والكذب، واتباع ذلك دون ما خالفه عملا بقوله تعالى: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ} 2. وأما أولئك الضلال أشباه المشركين والنصارى فعمدتهم إما أحاديث ضعيفة، أو موضوعة، أو منقولة عمن لا يحتج بقوله، إما أن تكون كذبا عليه، وإما أن تكون غلطا منه إذ هي نقل غير مصدق عن قائل غير معصوم، وإن اعتصموا بشيء مما ثبت عن الرسول حرفوا الكلم عن مواضعه، وتمسكوا بمتشابهه

_ 1 سورة البقرة آية: 200. 2 سورة الأعراف آية: 3.

وتركوا محكمه، كما فعل النصارى. هذا ما علمته ينقل عن أحد من العلماء لكنه موجود في كلام بعض الناس مثل الشيخ يحي الصرصري ففي شعره قطعة منه، والشيخ محمد بن النعمان وكتاب المستغيثين بالنبي صلى الله عليه وسلم في اليقظة والمنام، وهؤلاء لهم صلاح ودين، لكن ليسوا من أهل العلم العالمين بمدارك الأحكام، الذين يؤخذ بقولهم في شرائع الإسلام، ومعرفة الحلال والحرام. وليس لهم (دليل) شرعي، ولا نقل عن عالم مرضي، بل عادة جروا عليها كما جرت عادة كثير من الناس بأنه يستغيث شيخه في الشدائد، ويدعوه. وكان بعض الشيوخ الذين أعرفهم ولهم صلاح وعلم وزهد إذا نزل به أمر، خطا إلى جهة الشيخ عبد القادر خطوات معدودة واستغاث به1. وهذا يفعله كثير من الناس، ولهذا لما نبه من نبه له من فضلائهم، تنبهوا، وعلموا أن ما كانوا عليه ليس من دين الإسلام، بل هو مشابهة لعباد الأصنام، ونحن نعلم بالاضطرار من دين الإسلام أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يشرع لأمته أن يدعوا أحداً من الأموات، لا الأنبياء ولا غيرهم بلفظ الاستغاثة ولا بغيرها، كما أنه لم يشرع السجود لميت ولا إلى ميت ونحو ذلك، بل نعلم أنه نهى عن كل هذه الأمور؛ وإن ذلك من الشرك الذي حرمه الله ورسوله، لكن لغلبة الجهل وقلة العلم بآثار الرسالة في كثير

_ 1 قد ذكروا في بعض الكتب وما زالوا يتناقلون أن من أصابته شدة فليصل ركعتين ثم ليتوجه إلى الشرق- أي إلى بغداد – وينادي الشيخ وينشد هذين البيتين في الاستغاثة والاستجارة به: أيدركنى ضيم وأنت ذخيرتي وأظلم في الدنيا وأنت مجيري وعار على راعي الحمى وهو في الحمى إذا ضاع في الهيجا عقال بعير ويقول: سيدي عبد القادر اقض حاجتي ويذكرها. قالوا: فإنها تقضى وإن ذلك مجرب، وقد يروون ذلك عنه، برأه الله من شركهم بالله وكفرهم بدينه.

من المتأخرين لم يمكن تكفيرهم بذلك حتى يبين لهم ما جاء به الرسول مما يخالفه. ولهذا ما بينت المسألة قط لمن يعرف دين الإسلام إلا تفطن لهذا، وقال: هذا أصل الإسلام. وكان بعض أكابر الشيوخ العارفين من أصحابنا يقول: هذا أعظم ما بينه لنا، لعلمه أن هذا أصل الدين، وكان هذا أو أمثاله في ناحية أخرى يدعون الأموات، ويسألونهم ويستجيرون بهم، ويتضرعون إليهم. دعاء أصحاب القبور والصالحين وربما كان الذي يفعلونه بالأموات أعظم، لأنهم إنما يقصدون الميت في ضرورة نزلت بهم، فيدعون دعاء المضطر راجين قضاء حاجاتهم بدعائه، أو الدعاء به، أو الدعاء عند قبره، بخلاف عبادتهم للذي دعاهم إياه، فإنهم يفعلونه في كثير من الأوقات على وجه العادة والتكلف، حتى إن العدو الخارج عن شريعة الإسلام لما قدم دمشق خرجوا يستغيثون بالموتى عند القبور التي يرجون عندها كشف ضرهم، قال بعض الشعراء: يا خائفين من التتر ... لوذوا بقبر أبي عمر ... ينجيكمو من الضرر فقلت لهؤلاء الذين يستغيثون بهم: لو كانوا معكم في القتال لانهزموا كما انهزم من المسلمين يوم أحد، فإنه كان قد قضي أن العسكر ينكسر لأسباب اقتضت ذلك ولحكمة كانت لله في ذلك، ولهذا كان أهل المعرفة بالدين والمكاشفة لم يقاتلوا في تلك المرة لعدم القتال الشرعي الذي أمر الله به ورسوله. فلما كان بعد ذلك جعلنا نأمر بإخلاص الدين لله والاستعانة به، وأنهم لا يستعينون إلا إياه، ولا يستغيثون بملك مقرب ولا نبي مرسل. فلما أصلح الناس أمورهم، وصدقوا في الاستغاثة بربهم، نصرهم الله على عدوهم نصراً عزيزاً لم يتقدم نظيره، ولم يهزم التتار مثل هذه الهزيمة

أصلا لما صح من توحيد الله وطاعة رسوله بما لم يكن قبل ذلك، فالله ينصر رسله: {وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ} 1 كما قال -تعالى- في يوم بدر: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ} 2. وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم "كان يقول في كل يوم: يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث" 3،وفي لفظ "أصلح لي شأني كله ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين، ولا إلى أحد من خلقك" 4.وهؤلاء يدعون الميت والغائب فيقول أحدهم: بك أستغيث، بك أستجير، أغثنا أجرنا، ويقول: أنت تعلم ذنوبي، ومنهم من يقول للميت: اغفر لي، وارحمني، وتب على، ونحو ذلك. ومن لم يقل من عقلائهم فإنه يقول: أشكو إليك ذنوبي، وأشكو إليك عدوي، وأشكو إليك جور الولاة، وظهور البدع، أو جدب الزمان وغير ذلك، فيشكون إليه ما حصل من ضرر في الدين والدنيا، ومقصوده في الشكوى أن يشكيه5 فيزيل ذلك الضرر. وقد يقول مع ذلك للميت: أنت تعلم ما نزل بنا من الضرر، وأنت تعلم ما فعلته من الذنوب، فيجعل الميت والحي والغائب عالماً بذنوب العباد ومجرياتهم التي يمتنع أن يعلمها بشر حي أو ميت6. وعقلاؤهم يقولون: مقصودنا أن يسأل الله لنا، ويظنون أنهم إذا سألوه بعد موته أن يسأل الله لهم فإنه يسأل الله لهم7، فإنه يسأل ويشفع كما كان يسأل ويشفع لما سأله الصحابة الاستسقاء وغيره، وكما يشفع يوم القيامة إذا سئل الشفاعة، ولا يعلمون أن سؤال الميت والغائب غير مشروع البتة، ولم يفعله أحد

_ 1 سورة غافر آية: 51. 2 سورة الأنفال آية: 9. 3 الترمذي: الدعوات (3524) . 4 أبو داود: الأدب (5090) , وأحمد (5/42) . 5 يشكيه بضم الياء من الإشكاء وهو إزالة ما يشكو منه من ضر. 6 ومن كلمات خواصهم التي سمعت من بعض قضاة الشرع وغيرهم من أهل العلم قولهم عند القبر المنسوب إلى الحسين -رضي اله عنه-: ياسيدي العارف لا يعرف إلخ. 7 قد سقط من هنا كلام فيه ذكر النبي –صلى الله عليه وسلم-.

من الصحابة، بل عدلوا عن سؤاله، وطلبوا الدعاء منه، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم وسائر الأنبياء والصالحين وغيرهم لا يطلب من أحدهم بعد موته من الأمور ما كان يطلب منه في حياته. انتهى كلام الشيخ -رحمه الله- ملخصاً. أنواع عبادة القبور ومخالفة النصوص فيها فانظر -رحمك الله- إلى ما ذكره هذا الإمام من أنواع الشرك الأكبر الذي قد وقع في زمانه ممن يدعي العلم والمعرفة، وينتصب للفتيا والقضاء، لكن لما نبههم الشيخ -رحمه الله- على ذلك، وبين لهم أن هذا من الشرك الذي حرمه الله ورسوله، تنبه من تنبه منهم وتاب إلى الله، وعرف أن ما كان عليه شرك وضلال، وانقاد للحق؛ وهذا مما يبين لك غربة الإسلام في ذلك الوقت عند كثير من الأنام. وأن هذا مصداق ما تواترت به الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لتتبعن سنن من كان قبلكم" 1 الحديث، أو قوله: "بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ" 2 وبهذا ينكشف لك ويتضح عندك بطلان ما عليه كثير من أهل الزمان، من أنواع الشرك والبدع والحدثان، قلا تغتر بما هم عليه، وهذه هي البلية العظيمة، والخصلة القبيحة الذميمة، وهي الاغترار بالآباء والأجداد، وما استمر عليه عمل كثير من أهل البلاد، وتلك الحجة التي انتحلها أهل الشرك والكفر والعناد، كما حكى الله عنهم ذلك في محكم التنْزيل، من غير شك ولا تأويل، حيث قال وهو أصدق القائلين، حكاية عن فرعون اللعين، أنه قال لموسي وأخيه هارون الكريمين: {قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأُولَى} 3، فأجابه -عليه السلام- بقوله: {عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسَى} 4. فمن امتطى كاهل الصدق والوفاء، وسلم من التعصب والعناد والجفاء،

_ 1 البخاري: أحاديث الأنبياء (3456) , ومسلم: العلم (2669) , وأحمد (3/84 ,3/89 ,3/94) . 2 مسلم: الإيمان (145) , وابن ماجه: الفتن (3986) , وأحمد (2/389) . 3 سورة طه آية: 51. 4 سورة طه آية: 52.

وتوسط في المحجة، وقنع في قبول الحق بالحجة، كان ذلك طريقه ونهجه وأشرق في صدره مصباح القبول، وأوقد فيه بزيت المعرفة والوصول، وكان من ضوء التوحيد على حصول، قال ابن القيم -رحمه الله- في الإغاثة: قال صلى الله عليه وسلم: "لا تتخذوا قبري عيدا" 1، وقال: "للهم لا تجعل قبري وثنا يعبد، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" 2، وفي اتخاذها عيدا من المفاسد ما يغضب لأجله من في قلبه وقار لله وغيرة على التوحيد، ولكن ما لجرح بميت إيلام منها الصلاة إليها والطواف بها، واستلامها وتعفير الخدود على ترابها وعبادة أصحابها، وسؤالهم النصر والرزق والعافية، وقضاء الديون، وتفريج الكربات التي كان عباد الأوثان يسألونها أوثانهم. وكل من شم أدنى رائحة من العلم يعلم أن من أهم الأمور سد الذريعة إلى ذلك، وأنه صلى الله عليه وسلم أعلم بعاقبة ما نهى عنه، وأنه يؤول إليه، وإذا لعن من اتخذ القبور مساجد يعبد الله فيها، فكيف بملازمتها واعتياد قصدها وعبادتها؟ ومن جمع بين سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في القبور، وما أمر به، وما نهى عنه، وما عليه أصحابه، وبين ما عليه أكثر الناس اليوم، رأى أحدهما مضادا للآخر. فنهى عن اتخاذها مساجد؛ وهؤلاء يبنون عليها المساجد. ونهى عن تسريجها، وهؤلاء يوقفون الوقوف على إيقاد القناديل بل عليها. ونهى عن أن تتخذ عيداً، وهؤلاء يتخذونها أعيادا، ونهى عن تشريفها، وأمر بتسويتها كما في صحيح مسلم عن علي رضي الله عنه وهؤلاء يرفعونها ويجعلون عليها القباب. ونهى عن تجصيص القبر والبناء عليه كما في صحيح مسلم عن جابر، ونهى عن الكتابة عليها كما رواه الترمذي في صحيحه عن جابر، ونهى أن يزاد عليها غير ترابها كما رواه أبو داود عن

_ 1 أبو داود: المناسك (2042) , وأحمد (2/367) . 2 مالك: النداء للصلاة (416) .

جابر، وهؤلاء يتخذون عليها الألواح، ويكتبون عليها القرآن، ويزيدون على ترابها بالجص والآجر والأحجار. وقد آل الأمر بهؤلاء الضلال المشركين إلى أن شرعوا للقبور حجا، ووضعوا لها مناسك، حتى صنف بعضهم في ذلك كتابا سماه مناسك حج المشاهد. لن يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها ولا يخفى أن هذا مفارقة لدين الإسلام ودخول في دين عباد الأصنام، فانظر إلى هذا التباين العظيم بين ما شرعه الرسول صلى الله عليه وسلم لأمته، وبين ما شرعه هؤلاء. والنبي صلى الله عليه وسلم أمر بزيارة القبور لأنها تذكر الآخرة، وأمر الزائر أن يدعو لأهل القبور، ونهاه أن يقول هجرا؛ فهذه الزيارة التي أذن رسول الله فيها لأمته وعلمهم إياها، هل تجد فيها شيئا مما يعتمد عليه أهل الشرك والبدع، أم تجدها مضادة لما هم عليه من كل وجه؟ وما أحسن ما قال الإمام أحمد:1 -رحمه الله-: لن يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها، ولكن كلما ضعف تمسك الأمم بعهود أنبيائهم، عوضوا عن ذلك بما أحدثوا من البدع والشرك، ولقد جرد السلف الصالح التوحيد وحموا جانبه، حتى كان أحدهم إذا سلم على النبي صلى الله عليه وسلم ثم أراد الدعاء جعل ظهره إلى جدار القبر ثم دعا، وقد نص على ذلك الأئمة الأربعة أنه يستقبل القبلة للدعاء حتى لا يدعو عند القبر، فإن الدعاء عبادة. الدعاء للميت لا الاستشفاع به وبالجملة فإن الميت قد انقطع عمله فهو محتاج إلى من يدعو له، ولهذا شرع في الصلاة عليه من الدعاء ما لم يشرع مثله للحي، ومقصود الصلاة على الميت الاستغفار له والدعاء له، وكذلك الزيارة مقصودها الدعاء للميت والإحسان

_ 1 هذه الكلمة مأثورة عن الإمام مالك فالظاهر أن الناسخ كتب "الإمام أحمد" سهوا منه. ويحتمل أنها مروية عن الإمامين -رحمهما الله تعالى-.

إليه وتذكير الآخرة، فبدل أهل البدع والشرك قولا غير الذي قيل لهم، فبدلوا الدعاء له بدعائه نفسه، والشفاعة له بالاستشفاع به، والزيارة التي شرعت إحسانا إلى الميت وإلى الزائر بسؤال الميت والإقسام به على الله، وتخصيص تلك البقعة بالدعاء الذي هو محض العبادة، وحضور القلب عندها وخشوعه أعظم منه في المساجد. ثم ذكر حديث ذات أنواط، ثم قال: فإذا كان اتخاذ الشجرة لتعليق الأسلحة والعكوف لها اتخاذ إله مع الله، وهم لا يعبدونها ولا يسألونها، فما الظن بالعكوف حول القبر ودعائه، والدعاء عنده والدعاء به؟ وأي نسبة للفتنة بشجرة إلى الفتنة بالقبر لو كان أهل الشرك والبدع يعلمون؟! [التخلص مما يؤدي بالناس إلى الشرك] ومن له خبرة بما بعث الله به رسوله، وبما عليه أهل الشرك والبدع اليوم في هذا الباب وغيره، علم أن ما بين السلف وبينهم أبعد مما بين المشرق والمغرب. والأمر والله أعظم مما ذكرنا، وعمى الصحابة قبر دانيال بأمر عمر رضي الله عنه، ولما بلغه أن الناس ينتابون الشجرة التي بويع رسول الله - صلى الله عليه وسلم- تحتها، أرسل إليها وقطعها. قال عيسى بن يونس: هو عندنا من حديث ابن عوف عن نافع، فإذا كان هذا فعله في الشجرة التي ذكرها الله في القرآن، وبايع تحتها الصحابة -رضي الله عنهم- رسول الله - صلى الله عليه وسلم- فماذا حكمه فيما عداها؟ وأبلغ من ذلك أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم- هدم مسجد الضرار، ففيه دليل على هدم المساجد التي هي أعظم فسادا منه كالمبنية على القبور، وكذلك قبابها فتجب المبادرة إلى هدم ما لعن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- فاعله؛ والله يقيم لدينه من ينصره ويذب عنه. وكان بدمشق كثير من هذه الأنصاب فيسر الله –سبحانه- كسرها

على يد شيخ الإسلام، وحزب الله الموحدين. وكان العامة يقولون للشيء منها: إنه يقبل النذر، أي يقبل العبادة من دون الله؛ فإن النذر عبادة يتقرب بها الناذر إلى المنذور، ولقد أنكر السلف التمسح بحجر المقام الذي أمر الله أن يتخذ منه مصلى. قال قتادة في الآية: إنما أمروا أن يصلوا عنده ولم يؤمروا بمسحه، ولقد تكلفت هذه الأمة شيئاً ما تكلفته الأمم قبلها، ذكر لنا من رأى أثر أصابعه فما زالت هذه تمسحه حتى اخلولق (؟) . [الفتنة بالقبور أصل عبادة الأصنام] وأعظم من الفتنة بهذه الأنصاب فتنة أصحاب القبور، وهي أصل فتنة عباد الأصنام كما ذكر الله في سورة نوح فى قوله: {وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُوَاعاً} 1 الآية، ذكر السلف في تفسيرها أن هؤلاء أسماء رجال صالحين في قوم نوح، فلما ماتوا عكفوا على قبورهم، ثم صوروا تماثيلهم، ثم طال عليهم الأمد فعبدوهم2، وتعظيم الصالحين إنما هو باتباع ما دعوا إليه دون اتخاذ قبورهم أعيادا وأوثانا، فأعرضوا عن المشروع واشتغلوا بالبدع. ومن أصغى إلى كلامه وتفهمه أغناه عن البدع والآراء، ومن بعد عنه فلا بد أن يتعوض بما لا ينفعه؛ كما أن من عمر قلبه بمحبة الله وخشيته والتوكل عليه أغناه عن محبة غيره وخشيته والتوكل عليه. فالمعرض عن التوحيد مشرك شاء أم أبى، والمعرض عن السنة مبتدع شاء أم أبى، والمعرض عن محبة الله عبد الصور شاء أم أبى. وهذه الأمور المبتدعة عند القبور أنواع أبعدها عن الشرع أن يسأل الميت حاجته كما يفعله كثير، وهؤلاء من جنس عباد الأصنام؛ ولهذا يتمثل لهم الشيطان في صورة

_ 1 سورة نوح آية: 23. 2 رواه البخارى عن ابن عباس –رضي الله عنه- بابسط من هذا.

الميت كما يتمثل لعباد الأصنام، وكذلك السجود للقبر وتقبيله والتمسح به. (النوع الثاني) : أن يسأل الله به، وهذا يفعله كثير من المتأخرين، وهو بدعة إجماعا. (النوع الثالث) : أن يظن أن الدعاء عنده مستجاب، وأنه أفضل من الدعاء في المسجد، فيقصد القبر لذلك. فهذا أيضاً من المنكرات إجماعا، وما علمت فيه نزاعا بين أئمة الدين، وإن كان كثير من المتأخرين يفعله. وبالجملة فأكثر أهل الأرض مفتونون بعبادة الأصنام، ولم يتخلص منها إلا الحنفاء أتباع ملة إبراهيم. وعبادتها في الأرض من قبل نوح، وهياكلها ووقوفها وسدنتها وحجابها، والكتب المصنفة في عبادتها طبق الأرض. قال إمام الحنفاء عليه السلام: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ} 1، وكفى في معرفتهم أنهم أكفر أهل الأرض بما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أن بعث النار من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون، وقد قال تعالى: {فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً} 2، وقال تعالى: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} 3، ولو لم تكن الفتنة بعبادتهم الأصنام عظيمة، لما أقدم عبادها على بذل نفوسهم وأموالهم وأبنائهم دونها، يشاهدون مصارع إخوانهم، وما حل بهم، ولا يزيدهم ذلك إلا حبا وتعظيما، ويوصي بعضهم بعضاً بالصبر عليها. انتهى كلام الشيخ -رحمه الله- ملخصاً. [من طرق تحقيق التوحيد الذي هو أصل الدين ورأسه] وقال الشيخ تقي الدين في (الرسالة السنية) لما ذكر حديث الخوارج ومروقهم من الدين وأمره صلى الله عليه وسلم بقتلهم قال: فإذا كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفائه من انتسب إلى الإسلام والسنة، ففي هذه الأزمان قد مرق أيضاً

_ 1 سورة إبراهيم آية: 35. 2 سورة الإسراء آية: 89. 3 سورة الأنعام آية: 116.

من الإسلام1. وذلك بأسباب: منها الغلو الذي ذمه الله في كتابه حيث قال: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} 2 الآية، وعلي بن أبي طالب رضي الله عنه حرق الغالية من الرافضة، وأمر بأخاديد خدَّت عند باب كندة، فقذفهم فيها. واتفق الصحابة على قتلهم، لكن ابن عباس -رضى عنه- مذهبه أن يقتلوا بالسيف بلا تحريق، وهو قول أكثر العلماء، وقصصهم معروفة عند العلماء. وكذلك الغلو في بعض المشايخ، بل الغلو في علي بن أبي طالب، بل الغلو في الشيخ ونحوه، فكل من غلا في نبي، أو رجل صالح، وجعل فيه نوعا من الإلهية مثل أن يقول: يا سيدي فلان انصرني، أو أغثني، أو ارزقني، أو آجرني، أو أنا في حسبك، ونحو هذه الأقوال، فكل هذا شرك وضلال يستتاب صاحبه، فإن تاب وإلا قتل. فإن الله إنما أرسل الرسل، وأنزل الكتب ليعبدوه وحده لا يجعلون معه إلهاً آخر. والذين يدعون مع الله آلهة أخرى مثل المسيح والملائكة والأصنام، لم يكونوا يعتقدون أنها تخلق الخلائق، أو تنزل المطر، أو تنبت النبات، وإنما كانوا يعبدونهم، أو يعبدون قبورهم، أو صورهم يقولون: إنما نعبدهم ليقربونا إلى الله زلفى: {وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} 3؛ فبعث الله رسوله ينهى أن يدعى أحد من دونه لا دعاء عبادة ولا دعاء استغاثة، وقال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} 4 الآية. قال طائفة من السلف: كان أقوام يدعون المسيح وعزيراً ... إلى أن قال:

_ 1 كذا في الأصل والكلام كما ترى قد سقط منه شيء والمراد منه مفهوم بالقرينة وهو أن المروق من الإسلام غير مستغرب في هذا الزمان بعد أن علم مروق أناس منه في خير القرون. 2 سورة النساء آية: 171. 3 سورة يونس آية: 18. 4 سورة الإسراء آية: 56.

وعبادة الله هي أصل الدين، وهي التوحيد الذي بعث الله به الرسل، وأنزل به الكتب، قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} 1، وقال: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ} 2. وكان النبي صلى الله عليه وسلم يحقق التوحيد، ويعلم أمته حتى قال رجل: ما شاء الله وشئت، قال: "أجعلتني لله ندا؟ قل: ما شاء الله وحده" 3، ونهى عن الحلف بغير الله وقال: "من حلف بغير الله فقد أشرك" 4 وقال في مرض موته: "لعن الله اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" 5، يحذر ما فعلوا، وقال: "اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد" 6. ولهذا اتفق أئمة الإسلام على أنه لا يشرع بناء المساجد على القبور ولا الصلاة عندها، وذلك لأن من أكبر أسباب عبادة الأوثان تعظيم القبور. ولهذا اتفق العلماء على أن من سلم على النبي –صلى الله عليه وسلم- عند قبره فلا يشبه بيت المخلوق ببيت الخالق7، كل هذا لتحقيق التوحيد الذي هو أصل الدين ورأسه الذي لا يقبل الله عملا إلا به، ويغفر لصاحبه، ولا يغفر لمن تركه، كما قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً} 8. ولهذا كانت كلمة التوحيد أفضل الكلام، وأعظم آية في القرآن آية الكرسي: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} 9. وقال صلى الله عليه وسلم: "من كان آخر كلامه من الدنيا لا إله إلا الله، دخل الجنة" 10، ولا إله إلا الله الذي تأله القلوب عبادة واستعانة ورجاء وخشية وإجلالا. انتهى كلامه -رحمه الله-. فتأمل أول كلامه وآخره، وتأمل كلامه فيمن دعا نبيا، أو وليا مثل أن يقول: يا سيدي أغثني، ونحوه، أنه يستتاب، فإن تاب وإلا قتل، تجده صريحا في تكفير أهل

_ 1 سورة النحل آية: 36. 2 سورة الأنبياء آية: 25. 3 ابن ماجه: الكفارات (2117) , وأحمد (1/214) . 4 الترمذي: النذور والأيمان (1535) , وأبو داود: الأيمان والنذور (3251) , وأحمد (2/34 ,2/69 ,2/86 ,2/125) . 5 البخاري: الصلاة (436) , ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (531) , والنسائي: المساجد (703) , وأحمد (1/218 ,6/34 ,6/80 ,6/121 ,6/146 ,6/252 ,6/255 ,6/274) , والدارمي: الصلاة (1403) . 6 مالك: النداء للصلاة (416) . 7 في العبارة سقط وتحريف فليتأمل. 8 سورة النساء آية: 48. 9 سورة البقرة آية: 255. 10 أبو داود: الجنائز (3116) , وأحمد (5/233 ,5/247) .

الشرك وقتلهم بعد الاستتابة وإقامة الحجة عليهم، وأن من غلا في نبي أو رجل صالح، وجعل فيه نوعا من الآلهية فقد اتخذه إلها مع الله، لأن الإله هو المألوه الذي يألهه القلب أي: يقصده بالعبادة والدعوة والخشية والإجلال والتعظيم، وإن زعم أنه لا يريد إلا الشفاعة والتقرب عند الله، لأنه بين أن هذا مطلوب المشركين الأولين، فاستدل على ذلك بالآيات الصريحات القاطعات. والله أعلم. الإهلال لغير الله وقال -رحمه الله- في الكلام على قوله تعالى: {وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} 1: ظاهره أن ما ذبح لغير الله سواء لفظ به أو لم يلفظ، وتحريم هذا أظهر من تحريم ما ذبحه للحم، وقال فيه: باسم المسيح، ونحوه. كما أن ما ذبحناه متقربين به إلى الله تعالى كان أزكى مما ذبحناه للحم، وقلنا عليه: باسم الله، فإن عبادة الله بالصلاة والنسك له أعظم من الاستغاثة باسمه في فواتح الأمور. والعبادة لغير الله أعظم كفرا من الاستغاثة بغير الله، فلو ذبح لغير الله متقربا إليه لحرم، وإن قال فيه باسم الله، كما قد يفعله طائفة من منافقي هذه الأمة، وإن كان هؤلاء لا تباح ذبيحتهم بحال، لكن يجتمع في الذبيحة مانعان، ومن هذا ما يفعل بمكة وغيرها من الذبح للجن. انتهى كلام الشيخ -رحمه الله-. فتأمل -رحمك الله- هذا الكلام وتصريحه فيه بأن من ذبح لغير الله من هذه الأمة، فهو كافر مرتد لا تباح ذبيحته، لأنه يجتمع فيها مانعان: الأول: أنها ذبيحة مرتد، وذبيحة المرتد لا تباح بالإجماع، الثاني: أنها مما أهل به لغير الله، وقد حرم الله ذلك في قوله: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} 2. وتأمل قوله: ومن هذا ما يفعل بمكة وغيرها من الذبح للجن. والله أعلم.

_ 1 سورة المائدة آية: 3. 2 سورة الأنعام آية: 145.

[من صور الشرك الأكبر] فصل قال ابن القيم في شرح المنازل في باب التوبة: وأما الشرك فهو نوعان: أكبر وأصغر، فالأكبر لا يغفره الله إلا بالتوبة: وهو أن يتخذ من دون الله ندا يحبه كما يحب الله؛ وهو الشرك الذي تضمن تسوية آلهة المشركين برب العالمين، ولهذا قالوا لآلهتهم في النار: {تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} 1، مع إقرارهم بأن الله وحده خالق كل شيء وربه ومليكه، وأن آلهتهم لا تخلق، ولا ترزق، ولا تحيي، ولا تميت، وإنما كانت هذه التسوية في المحبة والتعظيم والعبادة كما هو حال أكثر مشركي العالم، بل كلهم يحبون معبوديهم، ويعظمونها، ويوالونها من دون الله. وكثير منهم بل أكثرهم يحبون آلهتهم أعظم من محبة الله، ويستبشرون بذكرهم أعظم من استبشارهم إذا ذكر الله وحده، ويغضبون لمنتقص معبوديهم وآلهتهم من المشايخ أعظم مما يغضبون إذا انتقص أحد رب العالمين. وإذا انتهكت حرمة من حرمات آلهتهم ومعبوديهم غضبوا غضب الليث إذا حرد، وإذا انتهكت حرمات الله لم يغضبوا لها، بل إذا قام المنتهك لها بإطعامهم شيئاً رضوا عنه، ولم تتنكر له قلوبهم. وقد شاهدنا هذا نحن وغيرنا منهم جهرة، وترى أحدهم قد اتخذ ذكر إلهه ومعبوده من دون الله على لسانه، إن قام وإن قعد، وإن عثر، وإن مرض، وإن استوحش؛ فذكر إلهه ومعبوده من دون الله هو الغالب على قلبه ولسانه، وهو لا ينكر ذلك، ويزعم أنه باب حاجته إلى الله وشفيعه عنده، ووسيلته إليه، وهكذا كان عباد الأصنام سواء. وهذا القدر هو الذي قام بقلوبهم، وتوارثه المشركون

_ 1 سورة الشعراء آية: 97.

بحسب اختلاف آلهتهم، فأولئك كانت آلهتهم من الحجر، وغيرهم اتخذها من البشر، قال تعالى حاكيا عن أسلاف هؤلاء المشركين: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} 1. ثم شهد عليهم بالكفر والكذب، وأخبر أنه لا يهديهم فقال: {إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} 2، فهذه حال من اتخذ من دون الله وليا، يزعم أنه يقربه إلى الله، وما أعز من تخلص من هذا! بل ما أعز من لا يعادي من أنكره! والذي قام بقلوب هؤلاء المشركين وسلفهم، أن آلهتهم تشفع لهم عند الله، وهذا عين الشرك. وقد أنكر الله عليهم ذلك في كتابه وأبطله، وأخبر أن الشفاعة كلها لله3، قال الله تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} 4، فالمشرك إنما يتخذ معبوده لما يحصل له به من النفع. والنفع لا يكون إلا ممن فيه خصلة من هذه الأربع: إما مالك لما يريده عابده منه، فإن لم يكن مالكا كان شريكا للمالك، فإن لم يكن شريكا له كان معينا له وظهيرا، فإن لم يكن معينا ولا ظهيرا كان شفيعا عنده. فنفى -سبحانه المراتب- الأربع نفياً مترتبا متنقلا من الأعلى إلى ما دونه: فنفى الملك والشركة والمظاهرة والشفاعة التي يظنها المشرك، وأثبت شفاعة لا نصيب فيها لمشرك، وهي الشفاعة بإذنه. فكفى بهذه الآية نوراً وبرهانا ونجاة وتجريداً للتوحيد، وقطعا لأصول الشرك ومواده لمن عقلها.

_ 1 سورة الزمر آية: 3. 2 سورة الزمر آية: 3. 3 قد سقط من هذا المحل مقدار ثلاث صفحات أو أكثر لم نثبتها كما أثبتنا كثيرا من الكلم والجمل التي سقطت من هذا النقل عن مدارج السالكين وأصلحنا كثيرا من التحريف. 4 سورة سبأ آية: 22.

والقرآن مملوء من أمثال هذه الآية ولكن أكثر الناس لا يشعرون بدخول الواقع تحته وتضمنه له، ويظنه في نوع وقوم قد خلوا من قبل، ولم يعقبوا وارثا؛ وهذا هو الذي يحول بين المرء وفهم القرآن، ولعمر الله إن كان أولئك قد خلوا فقد ورثهم من هو مثلهم، أو شر منهم، أو دونهم، وتناول القرآن لهم كتناوله لأولئك. ولكن الأمر كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: إنما تنقض عرى الإسلام عروة عروة إذا نشأ في الإسلام من لا يعرف الجاهلية، وهذا لأن من لم يعرف الشرك وما عابه القرآن وذمه وقع فيه، وأقره، ودعا إليه، وصوبه، وحسنه، وهو لا يعرف أنه الذي كان عليه أهل الجاهلية، أو نظيره، أو شر منه، أو دونه فينتقض بذلك عرى الإسلام، ويعود المعروف منكرا، والمنكر معروفا، والسنة بدعة، والبدعة سنة، ويكفَّر الرجل بمحض الإيمان وتجريده التوحيد، ويبدع تجريد متابعة الرسول ومفارقة الأهواء والبدع ومن له بصيرة وقلب حي يرى ذلك عيانا والله المستعان 1. ومن أنواعه طلب الحوائج من الموتى، والاستغاثة بهم، والتوجه إليهم؛ وهذا أصل شرك العالم، لأن الميت قد انقطع عمله، وهو لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً فضلا لمن استغاث به، وسأله قضاء حاجته، أو سأله أن يشفع له إلى الله فيها، وهذا من جهله بالشافع والمشفوع له عنده. فإن الله تعالى لا يشفع عنده أحد إلا بأذنه، والله لم يجعل سؤال غيره سببا لإذنه، وإنما السبب لإذنه كمال التوحيد؛ فجاء هذا المشرك بسبب يمنع الإذن، فهو بمنزلة من استعان في حاجة بما يمنع حصولها. وهذه حالة كل مشرك. والميت محتاج إلى من يدعو له، ويترحم عليه ويستغفر له كما أوصانا النبي صلى الله عليه وسلم

_ 1 هذا آخر فصل من فصول مدارج السالكين ومما بعده من أثناء فصل آخر.

إذا زرنا قبور المسلمين أن نترحم عليهم، ونسأل لهم العافية والمغفرة، فعكس هذا المشركون وزاروهم زيارة العبادة واستقضاء الحوائج والاستغاثة بهم، وجعلوا قبورهم أوثانا تعبد، وسموا قصدها حجا، واتخذوا عندها الوقفة وحلق الرأس؛ فجمعوا بين الشرك بالمعبود وتغيير دينه ومعاداة أهل التوحيد، ونسبتهم إلى تنقيص الأموات. وهم قد تنقصوا الخالق بالشرك، وأولياءه الموحدين له الذين لم يشركوا به شيئا بذمهم وعيبهم ومعاداتهم، وتنقصوا من أشركوهم به غاية التنقص إذ ظنوا أنهم راضون منهم بهذا، وأنهم أمروهم به، وأنهم يوالونهم عليه؛ وهؤلاء أعداء الرسل والتوحيد في كل زمان ومكان. وما أكثر المستجيبين لهم، ولله در خليله إبراهيم -عليه السلام- حيث قال: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ} 1. وما نجا من شرك هذا الشرك الأكبر إلا من جرد توحيده لله، وعادى المشركين في الله، وتقرب بمقتهم إلى الله تعالى. انتهى كلامه -رحمه الله تعالى-. فتأمل -رحمك الله- كلام هذا الإمام وتصريحه بأن من دعا الموتى، وتوجه إليهم، واستغاث بهم ليشفعوا له عند الله، فقد فعل الشرك الأكبر الذي بعث الله محمداًصلى الله عليه وسلم بإنكاره وتكفير من لم يتب منه وقتاله ومعاداته؛ وأن هذا قد وقع في زمانه، وأنهم غيروا دين الرسول صلى الله عليه وسلم وعادوا أهل التوحيد الذين يأمرونهم بإخلاص العبادة لله وحده لا شريك له. وتأمل أيضاً قوله: وما أعز من تخلص من هذا! بل ما أعز من لا يعادي من أنكره! يتبين لك الأمر إن شاء الله. ولكن تأمل أرشدك الله قوله: وما نجا من شرك هذا الشرك الأكبر إلا من عادى المشركين ... إلى آخره،

_ 1 سورة إبراهيم آية: 35.

يتبين لك أن الإسلام لا يستقيم إلا بمعاداة أهل هذا الشرك، فإن لم يعادهم فهو منهم وإن لم يفعله. والله أعلم. [لا يجوز إبقاء مواضع الشرك بعد القدرة على هدمها] وقال -رحمه الله- في كتاب (زاد المعاد في هدي خير العباد) في الكلام على غزوة أهل الطائف، وما فيها من الفقه قال: ومنها أنه لا يجوز إبقاء مواضع الشرك والطواغيت، بعد القدرة على هدمها وإبطالها، يوما واحداً؛ فإنها من شعائر الكفر والشرك، وهي أعظم المنكرات؛ فلا يجوز الإقرار عليها مع القدرة البتة. وهكذا حكم المشاهد التي بنيت على القبور التي اتخذت أوثانا وطواغيت تعبد من دون الله، والأحجار التي تقصد لأجل التعظيم وللتبرك والتقبيل، لا يجوز إبقاء شيء منها على وجه الأرض مع القدرة على إزالته، وكثير منها بمنزلة اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى، أو أعظم شركا بها وعندها، والله المستعان. ولم يكن أحد من أرباب هذه الطواغيت يعتقد أنها تخلق، وترزق، وتحيي، وتميت، وإنما كانوا يفعلون عندها وبها ما يفعله إخوانهم من المشركين اليوم عند طواغيتهم؛ فاتبع هؤلاء سنن من كان قبلهم، وسلكوا سبيلهم حذو القذة بالقذة، وأخذوا مأخذهم شبراً بشبر، وذراعا بذراع. وغلب الشرك على أكثر النفوس لظهور الجهل وخفاء العلم، وصار المعروف منكراً والمنكر معروفا، والسنة بدعة والبدعة سنة، ونشأ في ذلك الصغير، وهرم عليه الكبير، وطمست الأعلام، واشتدت غربة الإسلام، وقل العلماء، وغلبت السفهاء، وتفاقم الأمر، واشتد البأس،: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ} 1؛ ولكن لا تزال طائفة من الأمة المحمدية قائمين، ولأهل الشرك والبدع مجاهدين، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وهو خير الوارثين.

_ 1 سورة الروم آية: 41.

[لا تكون العصمة إلا مع التزام شرائع الإسلام] وقال الشيخ تقي الدين لما سئل عن قتال التتار مع تمسكهم بالشهادتين، ولما زعموا من اتباع أصل الإسلام: كل طائفة ممتنعة من التزام شرائع الإسلام الظاهرة المتواترة من مقاتلي هؤلاء القوم وغيرهم، فإنه يجب قتالهم حتى يلتزموا شرائعه، وإن كانوا مع ذلك ناطقين بالشهادتين ملتزمين بعض شرائعه، كما قاتل أبو بكر والصحابة -رضي الله عنهم- مانعي الزكاة، وعلى ذلك اتفق العلماء بعدهم بعد سابقة مناظرة عمر لأبي بكر رضي الله عنه، فاتفق الصحابة على القتال على حقوق الإسلام عملا بالكتاب والسنة؛ وكذلك ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من عشرة أوجه عن الخوارج والأمر بقتالهم، وأخبر أنهم شر الخلق والخليقة مع قوله: "تحقرون صلاتكم من صلاتهم، وصيامكم مع صيامهم" 1. فعلم أن مجرد الاعتصام بالإسلام، مع عدم التزام شرائعه العظام ليس بمسقط للقتال، فالقتال واجب حتى يكون الدين كله لله، وحتى لا تكون فتنة؛ فمتى كان الدين لغير الله فالقتال واجب. فأيما طائفة امتنعت عن الصلوات المفروضات، أو الصيام، أو الحج، أو عن التزام تحريم الدماء والأموال، أو الخمر، أو الزنى، أو الميسر، أو نكاح ذوات المحارم، أو عن التزام جهاد الكفار، أو ضرب الجزية على أهل الكتاب، أو غير ذلك من التزام واجبات الدين، أو محرماته التي لا عذر لأحد في جحودها، أو تركها الذي يكفر الواحد بجحودها، فإن الطائفة الممتنعة تقاتل عليها وإن كانت مقرة بها؛ وهذا مما لا أعلم فيه خلافا بين العلماء. وإنما اختلف الفقهاء في الطائفة الممتنعة إذا أمرت، على ترك بعض السنن كركعتي الفجر أو الأذان، أو الإقامة عند من لا يقول بوجوبها، ونحو ذلك من الشعائر، فهل تقاتل الطائفة الممتنعة على تركها أم لا؟

_ 1 البخاري: فضائل القرآن (5058) , ومسلم: الزكاة (1064) , وأحمد (3/33 ,3/56 ,3/60) .

فأما الواجبات أو المحرمات المذكورة ونحوها فلا خلاف في القتال عليها، وهؤلاء عند المحققين من العلماء ليسوا بمنزلة البغاة الخارجين على الإمام والخارجين عن طاعته، كأهل الشام مع أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فإن أولئك خارجون عن طاعة إمام معين، أو خارجون عليه لإزالة ولايته. وأما المذكورون فهم خارجون عن الإسلام بمنزلة مانعي الزكاة، أو بمنزلة الخوارج الذين قاتلهم علي رضي الله عنه، ولهذا افترقت سيرته رضي الله عنه في قتاله لأهل البصرة وأهل الشام، وفي قتاله لأهل النهروان، وإن كانت سيرته مع البصريين والشاميين سيرة الأخ مع أخيه، ومع الخوارج بخلاف ذلك. وثبتت النصوص عن النبي صلى الله عليه وسلم بما استقر عليه إجماع الصحابة من قتال الصديق لمانعي الزكاة، وقتال علي للخوارج. انتهى كلامه -رحمه الله-. فتأمل -رحمك الله- تصريح هذا الإمام في هذه الفتوى بأن من امتنع من شريعة من شرائع الإسلام الظاهرة كالصلوات الخمس، أو الزكاة، أو الحج، أو ترك المحرمات كالزنى، أو تحريم الدماء والأموال، وشرب الخمر، أو المسكرات، أو غير ذلك، أنه يجب قتال الطائفة الممتنعة عن ذلك حتى يكون الدين كله لله، ويلتزموا شرائع الإسلام، وإن كانوا مع ذلك ناطقين بالشهادتين ملتزمين شرائع الإسلام؛ وأن ذلك مما اتفق عليه الفقهاء من سائر الطوائف من الصحابة فمن بعدهم، وأن ذلك عمل بالكتاب والسنة. فتبين لك أن مجرد الاعتصام بالإسلام مع عدم التزام شرائعه

ليس بمسقط للقتال، وأنهم يقاتلون قتال كفر وخروج عن الإسلام، كما صرح به في آخر الفتوى بقوله: وهؤلاء عند المحققين من العلماء ليسوا بمنزلة مانعي الزكاة. والله أعلم. وقال في الإقناع من كتب الحنابلة التي يعتمد عليها عندهم في الفتوى: وأجمعوا على وجوب قتل المرتد، فمن أشرك بالله فقد كفر بعد إسلامه كقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} 1، أو جحد ربوبيته، أو وحدانيته كفر لأن جاحد ذلك مشرك بالله تعالى ... إلى أن قال: قال الشيخ: أو كان مبغضاً لرسوله، أو ما جاء به اتفاقا، أو جعل بينه وبين الله وسائط يدعوهم، ويتوكل عليهم ويسألهم، كفر إجماعا لأن ذلك كفعل عابدي الأصنام قائلين: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} 2. [أنواع المكفرات] فصل وأما كلام الحنفية فقال في كتاب تبين المحارم المذكورة في القرآن: باب الكفر: وهو 3 وجحود الحق وإنكاره، وهو أول ما ذكر في القرآن العظيم من المعاصي، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} 4 الآية؛ وهو أكبر الكبائر على الإطلاق فلا كبيرة فوق الكفر ... إلى أن قال: واعلم أن ما يلزم به الكفر أنواع: فنوع يتعلق بالله –سبحانه-، ونوع يتعلق بالقرآن وسائر الكتب المنزلة، ونوع يتعلق بنبيناصلى الله عليه وسلم وسائر الأنبياء والملائكة والعلماء، ونوع يتعلق بالأحكام. فأما ما يتعلق به –سبحانه- إذا وصف الله –سبحانه- بما لا يليق به، بأن شبه الله –سبحانه- بشيء من المخلوقات، أو نفى صفاته، أو قال بالحلول، أو

_ 1 سورة النساء آية: 48. 2 سورة الزمر آية: 3. 3 بياض بالأصل. 4 سورة البقرة آية: 6.

الاتحاد، أو معه قديم غيره، أو معه مدبر مستقل غيره، أو اعتقد أنه –سبحانه- جسم أو محدث، أو غير حي، أو اعتقد أنه لا يعلم الجزئيات، أو سخر باسم من أسمائه، أو أمر من أوامره، أو وعده ووعيده، أو أنكرهما، أو سجد لغير الله تعالى، أو سب الله –سبحانه-، أو ادعى أن له ولداً أو صاحبة، أو أنه متولد من شيء كائن عنه، أو أشرك بعبادته شيئاً من خلقه، أو افترى على الله -سبحانه وتعالى- الكذب بادعائه الإلهية والرسالة ... إلى أن قال: وما أشبه ذلك مما لا يليق به -سبحانه وتعالى- عما يقول الظالمون علواً كبيراً، يكفر بهذه الوجوه لأجل سوء فعله، عمداً، أو هزلا، ويقتل إن أصر على ذلك، فإن تاب تاب الله عليه وسلم من القتل. انتهى كلامه بحروفه. وقال الشيخ قاسم في شرح الدر: النذر الذي يقع من أكثر العوام بأن يأتي إلى قبر بعض الصلحاء قائلا: يا سيدي فلان، إن رد غائبي، أو عوفي مريضي، أو قضيت حاجتي، فلك من الذهب، أو الطعام، أو الشمع كذا، باطل إجماعا لوجوه: منها أن النذر للمخلوق لا يجوز. ومنها أن ذلك كفر ... إلى أن قال: قد ابتلي الناس بذلك لا سيما في مولد أحمد البدوي. انتهى. فصرح بأن هذا النذر كفر يكفر به المسلم. انتهى. والله أعلم وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم. قد كتب هاهنا في الأصل المخطوط الذي جاءنا من نجد ما نصه: قد وقع تحرير مجموع هذه الرسائل العظيمة المفيدة في يوم الأربعاء ثاني محرم سنة ألف وثلاثمائة وأربعة وثلاثين بقلم مالكها الفقير إلى الله -عز شأنه- عبد العزيز بن صالح بن مرشد، غفر الله له ولوالديه ولأرحامه ولمشايخه وللمسلمين، آمين. ورحم الله عبدا قال آمين.

الرسالة السادسة والسبعون: [الرد على عبد اللطيف الصحاف1]

الرسالة السادسة والسبعون: [الرد على عبد اللطيف الصحاف1] للشيخ الإمام، والحبر الهمام، قدوة الأنام، الشيخ عبد اللطيف بن الشيخ الإمام العلامة عبد الرحمن بن حسن بن شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله- في الرد على عبد اللطيف الصحاف نزيل البحرين، أملاه وهو في غزوة مسيمير قال: بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين، الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بين يدي الساعة بشيراً ونذيرا، وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا. أما بعد: فإن بعض الإخوان ناولني كراسة أَنشأها عبد اللطيف بن عبد المحسن الصحاف، فيها تعرّض لعيب الموحدين، وذم لما هم عليه من الملة والدين، وقدح لبعض شيوخه المارقين، وإنهم من جلة العلماء العاملين، الذين لهم لسان صدق في الآخرين، وفيها غير ذلك مما هو مستبين للواقفين عليها والناظرين. وقد طلب مني من ناولنيها أن أكتب شيئا في بيان ما تضمنته من الأباطيل، مع الاختصار وترك البسط والتطويل، إلا لإيراد حجة أو كشف دليل. فأسال الله الإعانة على ذلك، والهداية إلى ما هنالك. فأما المقدمة التي قدمها الصحاف أمام مقصوده، وجعلها طالعة نثره وعقوده، ففيها من الدلالة على جهله وقصوره، ما يعرف بأول نظر في جمعه ومسطوره، من ذلك أنه يصف بالعلم من ليس من أهله، ويكذب على المعصوم

_ 1 جاءتنا هذه الرسالة منفردة فألحقناها بالمجموع وجعلناها خاتمة له.

في عزوه ونقله، يحتج في فضل العلم بالضعيف الموضوع، لجهله بما صح من المرسل والمرفوع، ليست له ملكة في نقد الثابت من المصنوع، يتأول كل حاذق فقيه، عند سماع خلطه وما يبديه، حديث عبد الله بن عمرو في قبض العلم، ورياسة الغمر. وكلامه من أظهر الأدلة على ما قلناه، عند كل من وقف عليه من أهل الفقه عن الله؛ فلذلك اكتفينا بالإشارة عن بسط القول والعبارة. فأما قوله في المقدمة التي مدح بها أشياخه المذكورين في رسالته: " علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل ". وقوله: نظرك إلى وجه العالم خير لك من ألف فرس تتصدق بها في سبيل الله. وسلامك على العالم خير لك من عبادة ألف سنة، كذلك قوله: إن العالم، أو المتعلم إذا مر على قرية فإن الله يرفع العذاب عن مقبرة تلك القرية أربعين صباحا، وقوله: إن الله يغفر للعالم أربعين ذنبا قبل أن يغفر للجاهل. فهذه الآثار ونحوها ليست بشيء عند أهل العلم بالحديث، ولا يحتج بها ويعول عليها من له أدنى تمييز وممارسة، وإنما يلتفت إليها ويحكيها أهل الجهالة والسفاهة من القصاصين والكذابين. وأما أهل العلم والدين فبمجرد النظر إليها والوقوف عليها يعرفون أنها من الأخبار الموضوعة المكذوبة التي لا تروج إلا على سفهاء الأحلام، وأشباه الأنعام. وقد ورد في فضل العلم والعلماء من الآيات القرآنية، والأحاديث النبوية، ما ينيف على مائة وخمسين دليلا كما قرره صاحب مفتاح دار السعادة، وقد مرصلى الله عليه وسلم في رهط من أصحابه، وهم سادات

العلماء والمتعلمين، على قبرين يعذبان فشق جريدة ووضعها عليهما وقال: "لعله أن يخفف عنهما ما لم ييبسا" 1، ولم يقل: لمروري ومرور أصحابي عليهما يخفف عنهما كما زعمه هذا الجاهل. وكأي من قرية عذبت وأتاها أمر الله بغتة، وأنبياؤهم وعلماؤهم قبل ذلك يدعونهم، وهم ينظرون إلى وجوههم، ويخاطبونهم، ويسمعون كلامهم، فما أغنى عنهم ذلك إِذ لم يؤمنوا بآيات الله وأصابهم من العذاب ما أصابهم، وكان الأولى بهذا الرجل أن لا يخوض فيما لا يدريه، وأن يعطي القوس باريه. (شعر) : لا يعرف الشوق إلا من يكابده ... ولا الصبابة إلا من يعانيها [أقوال الحفاظ في حديث أصحابي كالنجوم] وأما قوله: إن في الحديث: "أصحابي كالنجوم 2 بأيهم اقتديتم اهتديتم"، فهذا الحديث لم يثبته الحفاظ من أهل العلم بل ذكروا أنه موضوع. قال ابن عبد البر إمام المغرب في وقته، وحامل لواء المالكية في زمانه: حدثنا محمد بن إبراهيم بن سعد أن أبا عبد الله بن مفرج حدثه قال: حدثنا محمد بن أيوب المصموت قال: قال لنا البزار: وأما ما يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم: " أصحابي كالنجوم "، فهذا الكلام لا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم. قال ابن قيم الجوزية بعد أن ذكر طرق هذا الحديث: لا يثبت شيء منه، ثم قال ما معناه: إن الأخذ بعمومه يقتضي أن الاهتداء يحصل بالاقتداء بكل صحابي، ولو تخالفت أقوالهم، وتباينت آراؤهم، وأن الشخص مخير بين الأخذ بالقول وضده، فيخير في مسألة الجد والإخوة بين مذهب أبي بكر ومن خالفه، وفي مسألة جعل الطلاق الثلاث واحدة بين رأي عمر وغيره، وفي مسألة المتوفى عنها زوجها بين الاعتداد بالوضع

_ 1 البخاري: الوضوء (216) , ومسلم: الطهارة (292) , والنسائي: الطهارة (31) والجنائز (2068) , وأبو داود: الطهارة (20) , وأحمد (1/225) , والدارمي: الطهارة (739) . 2 وذكر بلفظ " أهل بيتي كالنجوم" …إلخوهو من نسخة نبيط الكذاب".

وتربص أقصى الأجلين، وفي مسألة استرقاق المرتدات بين مذهب أبي بكر وعمر، ويخير في بيع أمهات الأولاد بين مذهب من يقول بجوازه كعلي، ومن يقول بمنعه كعمر، ومن وافقه. وبالجملة فإطلاق هذا يوجب أن الاهتداء يحصل بأحد الضدين، ولا نعلم قائلا به من أهل العلم والإيمان، والحق واحد في نفسه لا يتعدد، وقد قال تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} 1، والخطاب عام لجميع الأمة الصحابة وغيرهم، وهي نص في أن الاهتداء لا يحصل مع النّزاع والاختلاف إلا بالرد إلى الله والرسول، لا بالاقتداء بأحد من الخلق كائنا من كان، وأما مع عدم النص المخالف، فالاقتداء بمن هدى الله من النبيين هو الواجب كما قال تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} 2. [فتنة المبتدعة بمشايخهم وعلمائهم] وأما ثناء الصحاف على مشايخه الستة الذين سماهم، وادعى أنهم من أهل العلم والفضل، وقدمهم على من سواهم، فيقال له: هذه الدعوى وهذا الثناء هو بحسب ما عندك وما ظهر لك. ومن تجاوزت به الغفلة والجهالة إلى أن يجعل عباد الله الموحدين من أهل الضلالة الذين يكفرون أهل لا إله إلا الله، ويجعل عباد الأولياء والصالحين الذين يفزعون إليهم بالدعوة من دون رب العالمين هم أهل (لا إله إلا الله) ، كيف يعرف العلم والإيمان؟ أو يرجع إليه في تحقيق هذا الشأن؟ شعر: ولا الأصيل ولا ذي الرأي والجدل ... ما أنت بالحكم الترضى حكومته وشهادة من لا يعرف العلم، أو النحو، أو الهندسة، أو الطب مثلا لشخص بأنه عالم، أو نحوي، أو مهندس، أو طبيب شهادة زور، وقول بلا علم، وفي المثل:

_ 1 سورة النساء آية: 59. 2 سورة الأنعام آية: 90.

لا يعرف الفضل إلا ذووه، ولو عرف هذا الرجل الفضل وأهله والعلم ومحله، لأحجم عن هذا الهذيان. وقد نقل لنا عن بعض هؤلاء الستة الذين سماهم واختارهم ما يقتضي -إن صح- أن يحكم على صاحبه بأنه من المعطلة الضالين. ويقال أيضاً: هذه الدعوى قد ادعاها كل أحد لشيخه ومتبوعه: فادعتها الجهمية والقدرية والخوارج والمعتزلة والروافض والنصيرية ونحوهم من كل مبتدع ضال؛ فكل أحد يدعي أن شيخه وإمامه أولى بالعلم والإيمان من خصومه، والدعاوى المجردة لسنا منها في شيء. وقد قال تعالى: {وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَنْ كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} 1، فإسلام الوجه لله هو عبادته، والكفر بعبادة من سواه، وهذا معنى شهادة أن لا إله إلا الله. وهذه الكلمة تتضمن العلم والعمل مع القول، فلا يكتفى ببعض ذلك بل لا بد من العلم والعمل والشهادة. وأما الإحسان فهو أن تعبد الله بما شرع، لا بالأهواء والبدع. وهذا هو حقيقة شهادة أن محمداً رسول الله، فإنها تقتضي، وتتضمن وجوب متابعته، وتحريم معصيته، وأن السير إلى الله من طريقه ومحجته، وهذا هو حقيقة اتباع الرسول والشهادة له بالرسالة والدين، كل يدخل في هذه الجملة الشريفة، وبسط الكلام عليها يستدعي أسفاراً. [أنواع التكفير للمسلمين وحكم كل منها] والسؤال الذي أجاب عنه هذا الرجل في رسالتهِ، يلزم المفتي، ويجب عليه التفصيل في جوابه، ولا يجوز له إطلاق القول، لأن الحكم يختلف باختلاف الحال، وإطلاق القول بتكفير كل صالح من صلحاء الأمة من غير تعيين يدخل فيه كل موصوف بهذه الصفة من حين مبعثه صلى الله عليه وسلم إلى يوم الدين. وما أظن هذا يقع من عاقل يتصور ما يقول مسلما كان أو كافراً، سنيا كان

_ 1 سورة البقرة آية: 111.

أو بدعيا، لأن الكافر لا يرى الحكم والإسلام إذ هي أحكام شرعية لا يقول بها إلا أهل الشريعة، وأما المسلم فلا يتصور أن يكفر صلحاء أهل ملته ودينه، وكذلك السني والبدعي كل منهما يدعي موالاة صلحاء الأمة، ويرى أنهم هم أسلافه وأئمته، وكل طائفة تدعي موالاة الصلحاء والبراءة من الفساق ونحوهم. وأما إن كان قصد السائل من يكفر معينا من هذه الأمة، فعليه أن يعبر بغير هذه العبارة الموهمة، والمجيب عليه أن يستفصل لأن ترك الاستفصال فيه إيهام، ولا شك أن تكفير بعض صلحاء الأمة ممكن الوقوع، بل قد وقع من الخوارج وغيرهم من أهل البدع فيقال حينئذ: إن كان المكفر لبعض صلحاء الأمة متأولا مخطئا، وهو ممن يسوغ له التأويل، فهذا وأمثاله ممن رفع عنه الحرج والتأثيم لاجتهاده، وبذل وسعه كما في قصة حاطب بن أبي بلتعة، فإن عمر رضي الله عنه وصفه بالنفاق، واستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قتله، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وما يدريك أن الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم" 1. ومع ذلك فلم يعنف عمر على قوله لحاطب: إنه قد نافق، وقد قال الله تعالى: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا} 2، وقد ثبت أن الرب -تبارك وتعالى- قال بعد نزول هذه الآية وقراءة المؤمنين لها: قد فعلت. وأما إن كان المكفر لأحد من هذه الأمة يستند في تكفيره له إلى نص وبرهان من كتاب الله وسنة نبيه، وقد رأى كفراً بواحا كالشرك بالله وعبادة ما سواه، والاستهزاء به تعالى، أو بآياته، أو رسله، أو تكذيبهم، أو كراهة ما أنزل الله من الهدى ودين الحق، أو جحد صفات الله تعالى ونعوت جلاله ونحو ذلك، فالمكفر بهذا وأمثاله مصيب مأجور، مطيع لله ورسوله.

_ 1 البخاري: الجهاد والسير (3007) , ومسلم: فضائل الصحابة (2494) , والترمذي: تفسير القرآن (3305) , وأبو داود: الجهاد (2650) , وأحمد (1/79 ,1/105 ,1/131) . 2 سورة البقرة آية: 286.

قال الله تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ} 1، فمن لم يكن من أهل عبادة الله تعالى وإثبات صفات كماله ونعوت جلاله مؤمنا بما جاءت به رسله، مجتنبا لكل طاغوت يدعو إلى خلاف ما جاءت به الرسل، فهو ممن حقت عليه الضلالة، وليس ممن هدى الله للإيمان به، وبما جاءت به الرسل عنه. والتكفير بترك هذه الأصول وعدم الإيمان بها من أعظم دعائم الدين يعرفه كل من كانت له نهمة في معرفة دين الإسلام، وغالب ما في القرآن إنما هو في إثبات ربوبيته تعالى وصفات كماله، ونعوت جلاله، ووجوب عبادته وحده لا شريك له، وما أعد لأوليائه الذين أجابوا رسله في الدار الآخرة، وما أعد لأعدائه الذين كفروا به وبرسله، واتخذوا من دونه الآلهة والأرباب. وهذا بين بحمد الله. وقد يصدر التكفير لصلحاء الأمة من أعداء الله ورسوله أهل الإشراك به، والإلحاد في أسمائه، فهؤلاء يكفرون المؤمنين بمحض الإيمان وتجريد التوحيد، ويعيبون أهل الإسلام، ويذمونهم على إخلاص الدين وتجريد المتابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، بل قد يقاتلونهم على ذلك، ويستحلون دماءهم وأمولهم، كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيق} 2. فمن كفر المسلمين أهل التوحيد، أو فتنهم بالقتال، أو التعذيب فهو من شر أصناف الكفار، ومن الذين بدلوا نعمة الله كفرا، وأحلوا قومهم دار البوار، جهنم يصلونها وبئس القرار. وفي الحديث: "من قال لأخيه: يا كافر، فقد باء بها أحدهما" 3. وأما من أطلق لسانه بالتكفير لمجرد عداوة

_ 1 سورة النحل آية: 36. 2 سورة البروج آية: 10. 3 البخاري: الأدب (6104) , ومسلم: الإيمان (60) , والترمذي: الإيمان (2637) , وأحمد (2/112) , ومالك: الجامع (1844) .

أو هوى أو لمخالفة في المذهب كما يقع لكثير من الجهال، فهذا من الخطأ البين. والتجاسر على التكفير أو التفسيق والتضليل لا يسوغ إلا لمن رأى كفرا بواحا عنده فيه من الله برهان، والمخالفة في المسائل الاجتهادية التي قد يخفى الحكم فيها على كثير من الناس لا تقتضي كفراً ولا فسقا، وقد يكون الحكم فيها قطعيا جليا عند بعض الناس، وعند آخرين يكون الحكم فيها مشتبها خفيا، والله لا يكلف نفسا إلا وسعها. والواجب على كل أحد أن يتقي الله ما استطاع. وما يظهر لخواص الناس من الفهوم والعلوم لا يجب1 على من خفيت عليه عند العجز عن معرفتها، والتقليد ليس بواجب بل غايته أن يسوغ عند الحاجة. وقد قرر بعض مشايخ الإسلام أن الشرائع لا تلزم إلا بعد البلوغ وقيام الحجة؛ ولا يحل لأحد أن يكفر أو يفسق بمجرد المخالفة للرأي والمذهب. وبقي قسم خامس وهم الذين يكفرون بما دون الشرك من الذنوب كالسرقة والزنى وشرب الخمر، وهؤلاء هم الخوارج، وهم عند أهل السنة ضلال مبتدعة قاتلهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن الحديث قد صح بالأمر بقتالهم والترغيب فيه، وفيه أنهم "يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم". وقد غلط كثير من المشركين في هذه الأعصار، وظنوا أن من كفر من تلفظ بالشهادتين فهو من الخوارج وليس كذلك، بل التلفظ بالشهادتين لا يكون مانعا من التكفير إلا لمن عرف معناهما، وعمل بمقتضاهما، وأخلص العبادة لله ولم

_ 1 قوله: لا يجب – يعني اتباعه والأخذ به – ولعله قد سقط من الناسخ أحد اللفظين أو ما هو بمعناهما. وقوله خفيت عليه إلخيعني العلوم والمفهوم التي ظهرت لغيره وهذه المسألة من حقائق العلم وكذا ما بعدها من حكم التقليد فينبغي أن تحفظ ولا تنسى.

يشرك به سواه، فهذا تنفعه الشهادتان. وأما من قالهما، ولم يحصل منه انقياد لمقتضاهما، بل أشرك بالله واتخذ الوسائط والشفعاء من دون الله، وطلب منهم ما لا يقدر عليه إلا الله، وقرب لهم القرابين، وفعل لهم ما يفعله أهل الجاهلية من المشركين، فهذا لا تنفعه الشهادتان، بل هو كاذب في شهادته كما قال تعالى: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} 1، ومعنى شهادة أن لا إله إلا الله هو عبادة الله وترك عبادة ما سواه؛ فمن استكبر عن عبادته، ولم يعبده فليس ممن يشهد أن لا إله إلا الله؛ ومن عبده، وعبد معه غيره فليس هو ممن يشهد أن لا إله إلا الله. [التكفير اجتهادا وتأولا والتكفير تقليدا وعصبية] وأما قول السائل في سؤاله: ويعتقد أن أهل (القسم) كلهم كفار معطلون كاليهود والنصارى، ومن لم يكفرهم فهو كافر، وإذا لقيه أحد من المسلمين، وسلم عليه قال: عليكم ... إلى آخر ما قال. فاعلم أن أهل (القسم) يخفى حالهم علينا، ولا ندري ما هم عليه من الدين، وفيما تقدم من التفصيل كفاية. فالمكفر لهم لا يخرج عن الأقسام المتقدمة، والصحاف قد خلط هنا، وأطال الهذيان، وزعم أن من كفرهم يكفر، ولا يصلى خلفه؛ وقد عرفت أن المسألة فيها تفصيل كما قدمناه، وبه يعرف حكم الصلاة خلفه، وأنها لا تصح خلف من أشرك بالله، أو جحد أسماءه وصفاته لكفره؛ وأهم شروط الصلاة والإمامة هو الإسلام معرفته والعمل به، ومن كفر المشركين ومقتهم، وأخلص دينه لله فلم يعبد سواه فهو أفضل الأئمة، وأحقهم بالإمامة لأن التكفير بالشرك والتعطيل هو أهم ما يجب من الكفر بالطاغوت.

_ 1 سورة المنافقون آية: 1.

وأما من كفر من ليس من أهل الكفر لكنه متأول يسوغ تأويله، فهو أيضا من الأئمة المرضيين إذا تمت له شروط الإمامة، وخطؤه مغفور له بنص الحديث. وأما من يكفر لهوى، أو عصبية، أو لمخالفة في المذهب، أو لأنه يرى رأي الخوارج، فهو فاسق لا يصلى خلفه إذا أمكنت الصلاة مع غيره إلا إن كان ذا سلطان تخشى سطوته، فيصلى خلفه كما يصلى خلف أئمة الظلم والجور. إذا عرفت هذا، فاعلم أن الصحاف ذكر في جوابه ما لا يتعلق بالسؤال كمسبته وعيبه من يعيب مشايخه الذين ذكرهم، وترضى عنهم كابن كمال وعبد الله البصري وحسين الدوسري وغيرهم ممن ذكر، وحكمه على من عابهم أنه من الجهال المبتدعة أكلة الحرام الذين لا هم لهم في الدين، وأنهم ممن قال فيهم صاحب الزبد. وعالم بعلمه لم يعملن ... معذب من قبل عباد الوثن وأن همهم في جمع الدرهم والدينار، يعملون في تحصليها أنواع الحيل بالليل والنهار، فهذا الكلام مجرد دعوى ومسبة ينزه العاقل نفسه عن مثلها، ويكفي في ردها منعها وتكذيبها. ويمكن خصم الصحاف أن يقابلها، ويعارضها بما هو محق فيه، كقوله: بل أنتم أهل الجهل بما بعث الله به رسله، وأنزل به كتبه، لم تعرفوه بما وصف به نفسه، وبما وصفته به رسله من صفات الكمال، ونعوت الجلال، ولكنكم أخذتم العقيدة في ذلك عن أفراخ الفلاسفة واليونان، الذين هم من أعظم الخلق مناقضة لما نطق به القرآن، وما وصف به الرب نفسه في كتابه العزيز. وكذلك أنتم في باب معرفة حق الله وتوحيده من أضل الناس وأجهلهم، تجعلون عبادة غير الله

ودعاءه، والاستغاثة والاستعاذة به، والذبح والنذر (له) ، والحب مع الله 1، توسلا بالصالحين وتشفعا بهم. وقد صرح بهذا أشياخ هذا الصحاف وأشياعه، وكتبوا به إلينا وإلى شيخنا -رحمه الله تعالى-، وعندهم أن الإنسان لا يكفر، ولا يكون مشركا إلا إذا اعتقد التأثير له من دون الله، ولم يفقهوا أن الله حكى عن المشركين في غير موضع من كتابه أنهم يعترفون له بأنه هو المختص بالإيجاد والتأثير والتدبير، وأن غيره لا يستقل بشيء من ذلك ولا يشاركه فيه، وحكى عن المشركين أنهم ما قصدوا بعبادة من سواه إلا القربان والشفاعة، كما ذكر ذلك في غير موضع من كتابه. قال تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ} 2، وقال: {قُلْ لِمَنِ الأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ

_ 1 يعني والحب الذي هو من جنس حب الله، والمؤمن لا يحب مع الله أحداً من جنس حبه أي التعظيم المبني على اعتقاد السلطان الغيبي، وهو المذكور في قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ} ، ومعلوم أن الحب أنواع كحب الوالدين والأولاد والأقربين والأزواج والمعلمين والعلماء العاملين وأمراء العدل والصالحين والشجعان والمحسنين والحسان الوجوه. وكل نوع منها يخالف الآخر وأما حب الله تعالى فهو جنس آخر أعلى من جميع هذه الأنواع لأن مناطه منتهى الكمال المطلق والإحسان الأكمل، والعبودية الخالصة المبنية على الإيمان بالسلطان الغيبي الذي سخر الأسباب، وقيد تصرف خلقه بها. وهو الصمد الذي يقصد ويلجأ ويتوجه إليه وحده فيما يعجز عنه عباده المقيدون بالأسباب. فمن توجه إلى غيره في ذلك، ولجأ إليه، أو استغاثه، واستعانه، أو توكل عليه، أو جعل له تأثيراً معه، أو عنده في قضاء حاجاته من هذا الجنس، فقد عبده. ومن أحب غيره لرجائه فيه أو خوفه منه فيما وراء الأسباب العامة فقد اتخذه نداً وشريكاً له وكان حبه له من جنس حبه، وهو شرك لا يتفق مع دين الإسلام، وإن سماه أصحابه توسلا وتشفعا وأنكروا تسميته شركا. 2 سورة يونس آية: 31.

الْعَرْشِ الْعَظِيمِ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} 1. ومثل هذا كثير في القرآن يخبر فيه تعالى أن المشركين يعترفون بأن الله هو المتفرد بالإيجاد والتأثير والتدبير. وقال تعالى في صفة شرك المشركين وبيان قصدهم: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} 2، وقال: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} 3، وقال: {فَلَوْلا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَاناً آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} 4، فأبيتم علينا هذا كله، وقلتم: هذا دين الوهابية ونعم هو ديننا بحمد الله. ورضي الله عن الشافعي إذ يقول. يا راكبا قف بالمحصب من منى ... واهتف بقاعد خيفها والناهض إن كان رفضاً حب آل محمد ... فليشهد الثقلان أني رافضي [ذكر الله وكيفيته والابتداع فيه] فصل قال الصحاف: وإنهم إذا سمعوا من يذكر الله جهرا بأنواع الأذكار، ويصلي على الرسول جهرا خصوصا على المنار، كما يفعله سائر أهل الأمصار، أنكروا ذلك ونفروا عنه وفروا. فيقال: أما ذكر الله جهرا بأنواع الأذكار، فلا نعلم أحداً من المسلمين -بحمد الله تعالى- ينكره أو ينفّر عنه، وإطلاق هذه العبارة من الكذب البين والبهت الظاهر الذي لا يمتري فيه من عرف حال من يشير إليهم هذا الرجل. وليس هذا بعجيب من جرأته وظلمه. وقد قال تعالى: {إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ} 5.

_ 1 سورة المؤمنون آية: 84. 2 سورة يونس آية: 18. 3 سورة الزمر آية: 3. 4 سورة الأحقاف آية: 28. 5 سورة النحل آية: 105.

نعم، قد أنكروا ما يفعله كثير من جهلة أهل الطرائق المبتدعة من الاجتماعات على السماع الشيطاني، وقيامهم بين يدي المنشد يميلون ويرقصون، وبعضهم يذكر الله بمجرد الاسم الظاهر أو المضمر ويزعم أن هذا هو ذكر الخواص أهل المعرفة والتحقيق؛ فهؤلاء مبتدعة ضلال، وما فعلوه ليس بذكر شرعي، بل هو دين مبتدع غير مرضي، قال الله تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} 1، وقال تعالى: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} 2. وفي الحديث: "أن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد-صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة" 3. وكل عالم يعرف أن هذا السماع الشيطاني مبتدع لم يحدث إلا بعد القرون المفضلة، وقد أنكره عامة أئمة الإسلام، وأشدهم في ذلك أتباع الإمام مالك بن أنس الذي ينتسب هذا الرجل إلى مذهبه، وكفى به جهلا وضلالا أن يعيب ما عليه قدماء أئمته وفضلاؤهم، ونصوصهم موجودة بأيدينا في إنكار هذا السماع الشيطاني، وتضليل فاعله وتفسيقه. وقد صنف ابن قيم الجوزية في هذا الذكر المبتدع كتابا مستقلا قرر فيه مذاهب الأئمة في حكم هذا السماع، وأنه محرم لا يجوز. وإن كان قصد هذا المعترض خصوص رفع الصوت بالصلاة على الرسول-صلى الله عليه وسلم- بعد الأذان كما يفعله أهل الأمصار، فقد صدق في حكاية إنكار هذا منهم والنهي عنه، وهم لا ينازعون في مشروعية الصلاة على الرسول-صلى الله عليه وسلم- سرا وجهرا، بل يستحبونها ويوجبونها في الصلاة، ويرون أنها من جملة الأركان فيها، لكنهم يرون أن ما يفعله أهل الأمصار على المنائر بعد الأذان مبتدع محدث في القرن الخامس والسادس، وسبب

_ 1 سورة الشورى آية: 21. 2 سورة الجاثية آية: 18. 3 مسلم: الجمعة (867) , والنسائي: صلاة العيدين (1578) , وابن ماجه: المقدمة (45) , وأحمد (3/310 ,3/319 ,3/371) , والدارمي: المقدمة (206) .

إحداثه رؤيا رآها بعض ملوك مصر على ما ذكره بعض المؤرخين. وقد أنكره بعض الأئمة وقالوا: هو بدعة لم يفعله-صلى الله عليه وسلم- مع التمكن من فعله، ولم يفعله أحد من أئمة الهدى بعده، ولا غيرهم من أهل القرون المفضلة؛ وقد أمرنا بالاتباع، ونهينا عن الابتداع. قال ابن مسعود: اتبعوا ولا تبتدعوا، ومن كان منكم مستنا فعليه بأصحاب محمد، أبر هذه الأمة قلوباً، وأعمقها علما، وأقلها تكلفا. قوم اختارهم الله لصحبة نبيه، والقيام بدينه؛ فاعرفوا لهم حقهم، وتمسكوا بما استطعتم من أخلاقهم. أو كما قال وقد تقدم من الآيات والأحاديث ما يدل لقوله ويشهد له. وكتب قدماء أهل المذاهب الأربعة وجمهور متأخريهم ليس فيها استحباب هذا ولا الأمر به، بل فيها ما يدل على منعه؛ وأن الواجب هو ما شرعه الله ورسوله. قالوا: وأما الصلاة والسلام عليه سرا بعد الأذان، وسؤال الله له الوسيلة والفضيلة، فهذا مشروع قد ورد به الخبر، وصح به الأثر، وليس مع من خالفهم من الأدلة ما يجب المصير إليه. وإنما يعيب على من منع البدع واختار السنن أهل الجهالة والسفاهة: {وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ} 1. ثم إن هذا المفتري الصحاف أطلق لسانه بالمسبة، وأطال في ذلك: {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} 2 وقد قيل في المثل: وقال العلي أنا ذاهب إلى المغرب، فقالت الحماقة وأنا معك. [الخلاف في الهبة والعقد على اليتيمة] وقد ذكر في جوابه من الحشو والكلام الذي لا يقتضيه المقام ما يدل على قصوره وعجزه وعدم ممارسته لصناعة العلم، كما ذكر قضيته مع راشد بن عيسي في مسألة الهبة واختلافهما في لزومها، ومسألة العقد على

_ 1 سورة إبراهيم آية: 3. 2 سورة الشعراء آية: 227.

اليتيمة فلقد أبدى بذلك ما خفي من جهله، ورب كلمة تقول دعني. وكلامهم في الهبة ولزومها كلام غير محقق، والناس مختلفون في الهبة ولزومها هل هو بالعقد فقط أو لا بد من القبض؟ وعن بعضهم ما يقتضي التفرقة بين المكيل والموزون وغيرهما. واختلف الناس أيضا هل تبطل بالموت قبل القبض أو لا. واختلف القائلون باشتراط القبض هل يشترط فيما وهبه لزوجته أو لا يشترط؟ وأدلة هذه الأقوال ومآخذها والرد على المخالف مبسوط في المطولات ولا غرض لنا في ذكره، وإنما قصدنا أن حكم هذا الصحاف على أحد الأقوال بالصحة مع قصوره عن معرفتها، ومعرفة أدلتها والتزامه التقليد.. حكم باطل لا يجوز، وما للأعمى ونقد الدراهم؟ وحكمه على الذي أفتى بخلاف قوله بأنه ضال عن سبيل الرشاد، حكم باطل أوجبه ما بينهما من التنافس والعناد، ومثل هذه المسائل الاجتهادية لا يجوز لأحد أن ينكر فيها على خصمه بمجرد التقليد وحكاية فروع المذهب، بل لا بد من الدليل على ذلك من كتاب أو سنة أو إجماع أو قياس صحيح. ومن كلام شيخ الإسلام: من ترك الدليل، ضل السبيل. [عدم جواز التقليد في الأحكام إلا بدليل] وجميع ما ذكره إنما هو مجرد نقل لأقوال بعض المالكية كالشيخ خليل وعبد الباقي وابن عرفة وأمثالهم، وتقليد هؤلاء إنما يسوغ عند الضرورة، والمقلد لهم أو لغيرهم ليس من أهل العلم بالإجماع كما حكاه ابن عبد البر إمام المالكية عمن يحفظ قوله من أهل العلم، فكيف والحال هذه يحكم هذا الجاهل الذي ليس هو من أهل العلم عند أئمة مذهبه وغيرهم بصحة جوابه وفساد قول خصمه وضلاله؟ وهل يعلم هذا إلا بالنص من كلام الله أو كلام رسوله أو إجماع الأمة؟ فما للمقلد والحكم

بالصحة والصواب، وقد جهل نصوص السنة والكتاب؟ ومن تشبع بما لم يعط فهو كلابس ثوبي زور 1. وقوله: فلا شك أن الطاعن في أهل القسم من أهل النار بعيد عن الهدى، وأنه لا يفلح أبدا في الدنيا خاسر أي خاسر، وفي الآخرة إلى النار صائر، إلى آخر عبارته. فهذا الكلام لا يصدر من عاقل يعرف ما خرج من بين شفتيه نعوذ بالله من الجهل المردي، والهوى المعمي، وهذه المسبة والحكم على المخالف في هذه المسألة بالنار، مما تقشعر منه جلود الذين آمنوا وما أشبهها بأخلاق أهل المجون، وأصحاب الوقاحة والجنون، وكان ينبغي لنا أن نعد هذه الفتوى من جملة هذيان الضالين، وأن نكف القلم عن إجابة هذا النوع من المفترين، ولكن الضرورة اقتضت، فلا إله إلا الله، بما أشد غربة الدين، وما أقل العارفين له والمميزين، كيف يقر مثل هذا بين ظهراني من له عقل يميز به الخبيث من الطيب، ويفرق به بين الآجن والصيب. وأصحاب رسول الله-صلى الله عليه وسلم- لم يكفروا من كفرهم من الخوارج الحرورية، وقد سئل علي رضي الله عنه فقيل له أكفارٌ هم؟ فقال من الكفر فروا. وفي الحديث: "أن رجلا فيمن قبلنا رأى من يعمل بالمعاصي فاستعظم ذلك وقال: والله لن يغفر الله لفلان فقال الله: من ذا الذي يتألى علي أن لا أغفر لفلان، أني قد غفرت له". [الكفر المنافي لكلمة التوحيد] وأما قوله: ومن تسمى بالإسلام، وأحب محمداً سيد الأنام، وأحب أصحابه الكرام، واتبع العلماء الأعلام، لا يكفر أحدا من سائر المسلمين، فضلا عن هداتهم في الدين، اللهم إلا أن يكون من الغلاة الذين أسقطوا حرمة (لا إله إلا الله) وسوَّل لهم الشيطان وأملى لهم حيث استباحوا دماء المسلمين ... إلى آخر رسالته.

_ 1 فيه تضمين "المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور" متفق عليه.

فيقال في جوابه: هذا الجاهل يظن أن من أشرك بالله واتخذ معه الأنداد والآلهة ودعاهم مع الله لتفريج الكربات، وإغاثة اللهفات، يحكم عليه والحال هذه بأنه من المسلمين، لأنه يتلفظ بالشهادتين، ومناقضتهما لا تضره، ولا توجب عنده كفره؛ فمن كفره فهو من الغلاة الذين أسقطوا حرمة (لا إله إلا الله) ؛ وهذا القول مخالف لكتاب الله وسنة رسوله وإجماع الأمة. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: من جعل بينه وبين الله وسائط يدعوهم ويسألهم ويتوكل عليهم كفر إجماعا. انتهى1. ومجرد التلفظ من غير التزام لما دلت عليه كلمة الشهادة لا يجدي شيئا، والمنافقون يقولونها وهم في الدرك الأسفل من النار. نعم، إذا قالها المشرك ولم يتبين منه ما يخالفها فهو ممن يكف عنه بمجرد القول ويحكم بإسلامه، وأما إذا تبين منه وتكرر عدم التزام ما دلت عليه من الإيمان بالله وتوحيده والكفر بما يعبد من دونه، فهذا لا يحكم له بالإسلام ولا كرامة له؛ ونصوص

_ 1 تنبيه: أن شيخ الإسلام أحمد تقي الدين بن تيمية كان أكبر وأعلم دعاة التوحيد والإصلاح الديني في القرون الوسطى بعد فشو الجهل وانتشار الشرك في العبادة، وهو قد بلغ درجة الاجتهاد المطلق، ولكن المقلدين انتقدوا عليه بعض المسائل والاختيارات ولكن لم ينتقد عليه أحد ما كتبه في هذه المسألة ولم ينازعه أحد في أنها إجماعية. وكان أعظم المجددين لدعوة التوحيد الخالص عقب موته تلميذه المحقق ابن القيم، وقد شرح ذلك في عدة من مصنفاته ولم ينتقد عليه أحد. ثم جاء الشيخ محمد عبد الوهاب المجدد في القرن الثاني عشر فاقتفى أثر الشيخين ولم يخرج عما قرراه في كتبهما في هذا الركن الأعظم للإسلام، وتلاه في ذلك أولاده وأحفاده ومن اهتدى بدعوته من علماء نجد. وإنما أنكر هذا الصحاف وغيره عليهم لأن غربة الإسلام والجهل به قد وصلا إلى أسفل الدركات، ولم يكونا كذلك في عهد الشيخين وما بعد عدة قرون. وكتبه محمد رشيد رضا.

الكتاب والسنة وإجماع الأمة يدل على هذا. فمن تسمى بالإسلام حقيقة وأحب محمداً واقتدى به في الطريقة، وأحب أصحابه الكرام ومن تبعهم من علماء الشريعة، يجزم ولا يتوقف بكفر من سوَّى بالله غيره ودعا معه سواه من الأنداد والآلهة؛ ولكن هذا الصحاف يغلط في مسمى الإسلام ولا يعرف حقيقته، وكلامه يحتمل أنه قصد الخوارج الذين يكفرون بما دون الشرك من الذنوب، وحينئذ يكون له وجه، ولكنه احتمال بعيد والظاهر الأول. [كلمة التوحيد وحدها لا تعصم المسلم] وقد ابتلي بهذه الشبهة وضل بها كثير من الناس، وظنوا أن مجرد التكلم بالشهادتين مانع من الكفر، وقد قال تعالى: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} 1، فكفّره بدعاء غيره تعالى، وقال تعالى: {وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ} 2، وقال تعالى: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلاَّ كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ} 3 فالتكفير بدعاء غير الله هو نص كتاب الله. وفي الحديث: "من مات وهو يدعو لله نداً، دخل النار" 4، وفي الحديث أيضا أن رسول-صلى الله عليه وسلم- قال: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دمائهم وأموالهم، إلا بحقها" 5، وفي رواية "إلا بحق الإسلام" 6 وأعظم حق الإسلام وأصله الأصيل هو: عبادة الله، وحده والكفر بما يعبد من دونه؛ وهذا هو الذي دلت عليه كلمة الإخلاص. فمن قالها وعبد غير الله أو استكبر عن عبادة الله فهو مكذب لنفسه شاهد عليها بالكفر والإشراك. وقد عقد كل طائفة من أتباع الأئمة في كتب الفقه بابا مستقلا في حكم

_ 1 سورة المؤمنون آية: 117. 2 سورة يونس آية: 106. 3 سورة الرعد آية: 14. 4 البخاري: تفسير القرآن (4497) , ومسلم: الإيمان (92) , وأحمد (1/374 ,1/402 ,1/407 ,1/443 ,1/462 ,1/464) . 5 الترمذي: تفسير القرآن (3341) , وأحمد (3/295 ,3/300 ,3/332 ,3/394) . 6 البخاري: الإيمان (25) , ومسلم: الإيمان (22) .

المرتد، وذكروا أشياء كثيرة يكفر بها الإنسان ولو كان يشهد أن لا إله إلا الله. وقد قال تعالى في النفر الذين قالوا في غزوة تبوك بعض القول الذي فيه ذم لرسول الله-صلى الله عليه وسلم- ومن معه من أصحابه: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} 1، فكفرهم بعد إيمانهم بالاستهزاء ولو كان على وجه المزح واللعب، ولم يمنع ذلك قولهم: لا إله إلا الله2. وكذلك إجماع الأمة على كفر من صدق مسيلمة الكذاب، ولو شهد أن لا إله إلا الله. وقد كفر الصحابة أهل مسجد بالكوفة بكلمة ذكرت عنهم في احتمال مسيلمة، ولم يلتفت أصحاب رسول الله-صلى الله عليه وسلم- إلى أنهم يشهدون أن لا إله إلا الله، لأنه قد وجد ما ينافيها ويناقضها: {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُور} 3. وبالجملة فالذي يقوم بحرمة لا إله إلا الله هم الذين جاهدوا الناس عليها، ودعوهم إلى التزامها علما وعملا كما هي طريقة رسل الله وأنبيائه ومن تبعهم بإحسان كشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى، وأما من أباح الشرك بالله وعبادة غيره وتولى المشركين وذب عنهم، وعادى الموحدين وتبرأ منهم، فهو الذي أسقط حرمة لا إله إلا الله ولم يعظمها ولا قام بحقها. ولو زعم أنه من أهلها القائمين بحرمتها. [الشيخ يلتزم في التكفير الدليل والإجماع] وأما ما ساقه هذا الصحاف من كلام شيخه (حسين الدوسري) ، فالخصم يعارضه ويمنعه، وما ذكره ليس بحمد الله تعالى من أوصاف أهل التوحيد،

_ 1 سورة التوبة آية: 65. 2 أي ولا الصلاة والجهاد مع الرسول-صلى الله عليه وسلم-. 3 سورة النور آية: 40.

ولكنه وصف أهل الشرك والتنديد، والذي أنكر الطاعة، وعصى ربه في كل ساعة، واتبع هوى نفسه الخداعة، وشذ عن السنة وفارق الجماعة، ووافق الشبهة وأهل الإضاعة، هو من كانت طريقته عبادة غير الله، والاستعانة بغير مولاه، وصرف الوجه لغير من خلقه وسواه، والتعبد بغير الذي شرعه الله، على لسان عبده الذي اصطفاه من أهل التعطيل والتضليل، والإلحاد والتمثيل، الذين اختلفوا في الكتاب، وخالفوا الكتاب، وضلوا عن الصواب. وأما قول الصحاف نقلا عن شيخه الدوسري: أما كفروا العلماء؟ أما سفكوا الدماء، أما استحلوا المحرمات؟ أما روعوا المسلمين والمسلمات؟ أما أسخطوا رب السماوات، أما رجفوا أهل الحرم، أما تجاسروا على حجرة من صلى الله عليه وسلم؟ فلا أفلح من ظلم. فالجواب عن هذا أن يقال: كل عاقل يعرف سيرة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله يعلم أنه من أعظم الناس إجلالا للعلم والعلماء، ومن أشد الناس نهيا عن تكفيرهم وتنقصهم وأذيتهم، بل هو ممن يدين بتوقيرهم وإكرامهم والذب عنهم، والأمر بسلوك سبيلهم، عملا بقوله تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} 1 الآية، وبقوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالأِيمَانِ} 2 الآية، وبقوله تعالى: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} 3. فالإيمان والتقوى هما أصل العلم بالله وبدينه وشرعه، فكيف يظن بمسلم فضلا عن شيخ الإسلام أنه يكفر العلماء؟: {سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} 4. والشيخ رحمه الله لم يكفر إلا من كفره الله ورسوله، وأجمعت الأمة على كفره، كمن اتخذ الآلهة والأنداد لرب العالمين، ولم يلتزم ما جاءت به الرسل

_ 1 سورة التوبة آية: 71. 2 سورة الحشر آية: 10. 3 سورة يونس آية: 62. 4 سورة النور آية: 16.

من الإسلام والدين، أو جحد ما نطق به الكتاب المبين، من صفات الكمال، ونعوت الجلال، لرب العالمين. وكذلك من نصب نفسه لنصرة الشرك والمشركين، وزعم أنه توسل بالأنبياء والصالحين، وأنه مما يسوغ في الشرع والدين، فالشيخ وغيره من جميع المسلمين، يعلمون أن هذا من أعظم الكفر وأفحشه، ولكن هذا الجاهل يظن أن من زعم أنه يعرف شيئا من أحكام الفروع وتسمى بالعلم وانتسب إليه يصير بذلك من العلماء، ولو فعل ما فعل، ولم يدر هذا الجاهل أن الله كفر علماء أهل الكتاب والتوراة والإنجيل بأيديهم، وكفرهم رسوله لما أبوا أن يؤمنوا بما جاء به محمد-صلى الله عليه وسلم- من الهدى ودين الحق. ولا ضير على الشيخ بمسبة هؤلاء الجهال وله أسوة بمن مضى من أصحاب رسول الله-صلى الله عليه وسلم- ومن بعدهم من أهل الإيمان والاهتداء. قال الشافعي -رحمه الله-: ما أرى الناس ابتلوا بسب أصحاب رسول الله-صلى الله عليه وسلم- إلا ليزيدهم الله بذلك ثوابا عند انقطاع أعمالهم. وما أحسن ما قيل شعراً قدمت لله ما قدمت من عمل ... وما عليك بهم ذموك أو شكروا عليك في البحث أن تبدي غوامضه ... وما عليك إذا لم تفهم البقر وقد اعترضت اليهود والنصارى على عبد الله ورسوله بالقتال وسفك الدماء وسبي الذرية وقالوا: إنما يفعل هذا الملوك المسلطون، وحكاياتهم في ذلك معروفة مشهورة عند أهل العلم، ويكفي في ذلك قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ} 1 الآية. [رد شبهة الإرجاف في الحرم] وأما قوله: أما رجفوا أهل الحرم؟ فلا يخفى أن الذي جرى في الحرمين من أتباع الشيخ محمد بن عبد الوهاب هو هدم القباب التي أسست على

_ 1 سورة النساء آية: 51.

معصية الله ورسوله وصارت من أعظم وسائل الشرك وذرائعه، وكسروا آلات التنباك وسائر المسكرات، وألزموا الناس المحافظة على الصلوات في الجماعات، ونهوا عن لبس الحرير، وألزموهم بتعلم أصول الدين، والالتفات إلى ما في الكتاب والسنة من أدلة التوحيد وبراهينه، وقرروا الكتب المصنفة في عقائد السلف أهل السنة والجماعة في باب معرفة الله بصفات كماله، ونعوت جلاله، وقرروا إثبات ذلك من غير تحريف ولا تعطيل، ولا تشبيه ولا تمثيل، وأنكروا على من قال بقول الجهمية في ذلك وبدعوه وفسقوه، فإن كان هذا إرجافا للحرم فحبذا هو! وما أحسن ما قيل: وعيرني الواشون أني أحبها ... وتلك شكاة ظاهر عنك عارها وقد أمر الله تعالى من خاض في مثل هذا إن يتكلم بعلم وعدل كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ} 1 الآية. وهذا الرجل كلامه جهل محض وجور ظاهر، وأصله الذي يرجع إليه هو الانتصار للنفس والهوى، لا لنصر الحق والهدى. [الوهابيون والمال الذي أخذوه من الحجرة النبوية] وأما التجاسر على حجرة رسول الله-صلى الله عليه وسلم- فكأنه يشير به إلى المال الذي استخرجه الأمير سعود من الحجرة الشريفة وصرفه في أهل المدينة ومصالح الحرم، وهو رحمه الله لم يفعل هذا إلا بعد أن أفتاه علماء المدينة من الحنفية والمالكية والشافعية والحنبلية، فاتفقت فتواهم على أنه يتعين ويجب على ولي الأمر إخراج المال الذي في الحجرة وصرفه في حاجة أهل المدينة وجيران الحرم، لأن المعلوم السلطاني قد منع في تلك السنة، واشتدت الحاجة والضرورة إلى استخراج هذا المال وإنفاقه، ولا حاجة لرسول الله-صلى الله عليه وسلم- إلى إبقائه في حجرته وكنزه لديه، وقد حرم كنز الذهب والفضة

_ 1 سورة النساء آية: 135.

وأمر بالإنفاق في سبيل الله، لا سيما إذا كان المكنوز مستحقا لفقراء المسلمين وذوي الحاجة منهم كالذي بأيدي الملوك والسلاطين؛ فلا شك أن استخراجها على هذا الوجه وصرفها في مصارفها الشرعية أحب إلى الله ورسوله من إبقائها واكتنازها. وأي فائدة في إبقائها عند رسول الله-صلى الله عليه وسلم- وأهل المدينة في أشد الحاجة والضرورة إليها؟ وتعظيم الرسول وتوقيره إنما هو في اتباع أمره، والتزام دينه وهديه، فإن كان عند من أنكر علينا دليل شرعي يقتضي تحريم صرفها في مصالح المسلمين فليذكره لنا. ولم يضع هذا المال أحد من علماء الدين الذين يرجع إليهم، وليس عند هؤلاء إلا اتباع عادة أسلافهم ومشايخهم. يعرف هذا من ناظرهم ومارسهم، ودعواهم عريضة وعجزهم ظاهر. وقد أطال هذا الصحاف فيما نقله عن شيخه حسين الدوسري وأكثر فيه من النصيحة، ولا بأس بالنصائح لمن أراد الحق وتوخاه، ونهى عما يسخطه الرب ولا يرضاه، ولم يلحد في أسمائه ولم يعبد سواه، فهذا هو الصادق في نصحه وقوله الذي أبداه، بخلاف من توهم الأمر على خلاف ما هو عليه، ولبس الحق بالباطل لديه، واعتقد أن المجاهد لإعلاء كلمة الله يشار بالذم إليه، فعمل مثل هذا: {سَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} 1. نسأل الله تعالى أن يمن علينا بالهداية إلى صراطه المستقيم، والفوز لديه بجنات النعيم.

_ 1 سورة النور آية: 39.

أملاه الفقير إلى الله عبد اللطيف بن الشيخ عبد الرحمن بن حسن بن شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله تعالى وعفا عنه. وقع الفراغ من نسخه منها نهار الثلاثاء من ربيع الآخر وذلك في سنة 1338 بقلم الفقير إلى الله عز شأنه صالح بن سليمان بن سحمان، غفر الله له ولوالديه وللمسلمين، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم تسليما كثيراً. آمين. [ذيل لهذه المجموعة في فتويين للشيخ رحمه الله تعالى وجدتا في أثنائها] [سؤال عن بيع عقار1 الميت لوفاء دينه] قال السائل بعد رسوم الخطاب والسلام المشروع: ما قولكم في بيع عقار الميت لوفاء دينه إذا خيف عليه التلف؟ وهل للمسغبة تأثير في البيع وتركه؟ وهل يجوز للحاكم منع الغرماء عن استيفاء الدين حتى تزول المسغبة وتعود الرغبة أم لا؟ أفتونا مأجورين أثابكم الله الجنة. أجاب رحمه الله فقال: عليكم السلام ورحمة الله وبركاته: بيع العقار إذا خيف عليه التلف خير وأولى من تلفه، والمسغبة لا تأثير لها في البيع وتركه. وعبارة بعضهم: إذا كسد العقار كساداً ينقصه عن مقاربة ثمن المثل ويضر بالمالك فلا يباع حتى تعود الرغبة، وعلى القول به محله إذا أمن التلف ولم يرج زوال الرغبة مع حياة المدين، وأما مع موته فلا حق للورثة إلا فيما أبقته الديون والوصايا، وليس للحاكم منعهم من استيفاء الدين والحالة هذه. والله أعلم. قاله كاتبه عبد اللطيف بن عبد الرحمن، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

[سؤال عن تركة ميت قسم ماله2 بين أولاده وأوصى لصغارهم] سئل قدس الله روحه ونور ضريحه عن قسمة الوالد ماله بين ورثته قبل موته، هل هي قسمة شرعية أو لا؟ وكذلك ما أوصى به لأولاده الصغار القاصرين على سبيل التعديل بينهم وبين الراشدين، قال السائل: بسم الله الرحمن الرحيم ماقول علماء الإسلام، أدام الله نفعهم للأنام، في رجل مات وقبل موته حرر له وصية وعين له وصياً على ما خلف وعلى القاصرين من أولاده، وأوصى أن الذي يخص القاصرين من أولاده يبقى بيد فلان – رجل معين – على نظر الوصي. وسلم قبل مماته بعضاً من (أريل) بيد هذا الرجل المعين المذكور أعلاه. هذا والوكيل الذي هو الوصي ليس بحاضر، فلما حضر أخذ في جمع المال وقبض ما هنا لك من المال، ودفع بيد الرجل المذكور أعلاه شطراً من المقبوض، وكتب الوصي عليه ورقة قبض ما استلما من يده بنظره. وبعد ذلك اختلف الحال ووقع على الوصي جبر من الحاكم وأخذ المال من يده ومن عند غيره، ولم يبق من المال، يعني من بعد المدفوع لذلك الرجل المذكور أعلاه، إلا شيء يسير لم يعلمه الحاكم. والمال الذي بيد الإنسان المعين حيث إنه بعيد عنه لم يتمكن من أخذ المال منه لكونه بعيداً عنه، وليس من أهل حكومته. ثم بعد مضي بضع من السنين مات الحاكم المجبر، ورجع الوصي على وكالته الأصلية، ومراد الوصي الآن يعمل العمل الذي تخلص به ذمته ولم يكن على أحد من الورثة حيف ولا ضرر، ويخرج الثلث الموصى به فهل يجمع ما تحصل من المال الموروث قليلا كان أو كثيراً ويضيفه إلى المال الغائب عند الرجل المذكور أعلاه، وتقع المقاسمة حينئذ على الوجه

المشروع من إخراج الثلث وما بعده على جملة الورثة المكلف منهم والقاصر، قسمة مبتدأة كأن الميت مات الآن، بناء على أن التركة ما قسمت أبدا، ولأن الجبر الصادر من الحاكم قبل القسم؟ أو أن التالف من نصيب الراشدين والثلث؟ وإن كان عليهم ضرر ظاهر وحيف في القسمة، والسالم هناك من نصيب القاصرين كما أراد الوصي أو لا ظانا سلامة ماله كله، وأنه لا يقع حيف ولا جور، فهل له إفراز سهم القاصرين خاصة في حياته قبل مماته، ويعتبر ذلك بحيث لا مشاركة للورثة لهم وإن تلف المال قبل المقاسمة كما وقع أو لا؟ فأي الوجهين الموافق للحق ليعمل به الوصي وتبرأ ذمته؟ أفتونا مأجورين فإن الحاجة داعية إليه، والوصي متحير، وكل ذي حق من الورثة يطالب بحقه، لازلتم أهلا لكل فضيلة. فأجاب رحمه الله بما نصه: الحمد لله وحده. قسمة الوالد قبل موته ماله بين ورثته قسمة غير لازمة لوقوعها قبل انتقال المال واستحقاقهم له إرثاً، وقسمة الولي الشرعي وتعيينه ما بيد الرجل المودع للصغار القاصرين قبل تلف ما بيده قسمة شرعية تثبت بالإفراز والتعيين، فما تلف بعدها فهو مختص لمستحقه من القسمة الصادرة من الولي وتعيين حصة الصغار فقط قسمة شرعية، وإن تلف الباقي قبل قسمته بين الثلث والكبار الراشدين، والحيف والإضرار يعتبر حال القسمة ويرجع إلى العدل والتسوية. وأما بالنظر للتلف أو الكساد الحادث بعد القسمة فلا حيف ولا ضرر في الإفراز والقسمة والحالة هذه. أملاه الفقير إلى رحمة ربه عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن. (تمت المجموعة مع ذيلها ولله الحمد)

§1/1