مجموعة الرسائل والمسائل النجدية

مجموعة من المؤلفين

الجزء الأول

مجموعة الرسائل والمسائل النجدية فتاوى ورسائل لعلماء نجد الأعلام الجزء الأول من مطبوعات صاحب الجلالة السعودية ومحيي السنة المحمدية الإمام عبد العزيز آل سعود ملك الحجاز ونجد وملحقاتها أيده الله تعالى الطبعة الأولى في سنة 1346 - سنة 1928 مطبعة المنار بمصر

القسم الأول: رسائل وفتاوى للشيخ محمد بن عبد الوهاب وأبنائه رحمهم الله

القسم الأول رسائل وفتاوى للشيخ محمد بن عبد الوهاب وأبنائه رحمهم الله ... رسائل وفتاوى للشيخ محمد بن عبد الوهاب ... بسم الله الرحمن الرحيم القسم الأول من الجزء الأول من مجموعة الرسائل والمسائل النجدية: رسائل وفتاوى متفرقة لإمام النهضة المجدد الشيخ محمد بن عبد الوهاب وأبنائه العلماء الأعلام رحمهم الله تعالى ** ** ** [رسالة في دين الإسلام وشرح حقيقته] (رسالة جوابية للشيخ عن كتاب لم نقف عليه، ويستغنى عنه بجوابه) بسم الله الرحمن الرحيم وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته. وبعد قال الله -سبحانه وتعالى-: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ} [آل عمران من الآية: 19]. وقال تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران: من الآية: 85]. وقال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة من الآية: 3]. قيل: إنها آخر آية نزلت، وفسر نبي الله صلى الله عليه وسلم الإسلام لجبريل عليه السلام، وبناه أيضا على خمسة أركان، وتضمن كل ركن علما وعملا فرضا على كل ذكر وأنثى، لقوله: "لا ينبغي لأحد يقدم على شيء حتى يعلم حكم الله فيه". فاعلم أن أهمها وأولاها: الشهادتان وما تضمنتا من النفي والإثبات من حق الله على عبيده، ومن حق الرسالة على الأمة؛ فإن بان لك شيء من ذلك ما ارتعت، وعرفت ما الناس فيه من الجهل والغفلة والإعراض

عما خلقوا له، وعرفت ما هم عليه من دين الجاهلية، وما معهم من الدين النبوي، وعرفت أنهم بنوا دينهم على ألفاظ وأفعال أدركوا عليها أسلافهم، نشأ عليها الصغير، وهرم عليها الكبير؛ ويؤيد ذلك أن الولد إذا بلغ عشر سنين غسلوا له أهله، وعلموه ألفاظ الصلاة، وحيي على ذلك، ومات عليه. أتظن من كانت هذه حاله هل شم لدين الإسلام الموروث عن الرسول رائحة فما ظنك به إذا وضع في قبره، وأتاه الملكان، وسألاه عمّا عاش عليه من الدّين، بماذا يجيب: "هاه هاه لا أدري سمعت الناس يقولون شيئا فقلته"1 2. وما ظنك إذا وقف بين يدي الله -سبحانه- وسأله: ماذا كنتم تعبدون وبماذا أجبتم المرسلين بماذا يجيب رزقنا الله وإياك علما نبويا، وعملا خالصا في الدنيا ويوم نلقاه. آمين. فانظر يا رجل حالك، وحال أهل هذا الزمان! أخذوا دينهم عن آبائهم، ودانوا بالعرف والعادة، وما جاز عند أهل الزمان والمكان دانوا به، وما لا فلا، فأنت وذاك. وإن كانت نفسك عليك عزيزة، ولا ترضى لها بالهلاك، فالتفت لِمَا تضمنت أركان الإسلام من العلم والعمل، خصوصا الشهادتين من النفي والإثبات، وذلك ثابت من كلام الله وكلام رسوله. قيل: إن أول آية نزلت قوله -سبحانه- بعد اقرأ: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ} [المدثر: 1 - 2]. قف عندها، ثم قف، ثم قف، ترى العجب العجيب، ويتبين لك ما أضاع الناس من أصل الأصول، وكذلك قوله تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا} الآية [النّحل من الآية: 36]، وكذلك قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الجاثية من الآية: 23]

_ 1 البخاري: العلم (86) , ومسلم: الكسوف (905) , وأحمد (6/ 345 ,6/ 354) , ومالك: النداء للصلاة (447). 2 قوله: هاه إلخ حكاية لما يجيب به المنافق عن سؤال الملكين، كما ورد في الأحاديث الصحيحة.

الآية، وكذلك قوله تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} [التّوبة من الآية: 31]، وغير ذلك من النصوص الدالة على حقيقة التوحيد الذي هو مضمون ما ذكرت في رسالتك أن الشيخ محمدا قرر لكم ثلاثة أصول: توحيد الربوبية، وتوحيد الإلهية، والولاء والبراء، وهذا هو حقيقة دين الإسلام. ولكن قف عند هذه الألفاظ، واطلب ما تضمنت من العلم، والعمل، ولا يمكن في العلم إلا أنك تقف على كل مسمى منهما مثل: الطاغوت أكاد سليمان، والمُوَيْس، وعُرَيْعِر، وأبا ذراع، والشيطان، رؤوسهم كذلك قفْ عند الأرباب منهم أكادهم العلماء والعباد كائنا من كان إن أفتوك بمخالفة الدين، ولو جهلا منهم فأطعتهم، كذلك قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} [البقرة من الآية: 165] يفسرها قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ} الآية [التّوبة من الآية: 24]، كذلك قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الجاثية من الآية: 23]، وهذه أعم مما قبلها وآخرها، وأكثرها وقوعا؛ ولكن أظنك وكثيرا من أهل الزمان ما يعرف من الآلهة المعبودة إلا هُبَلَ، ويَغُوثَ، ويَعُوقَ، ونَسْرَا، والّلات والعُزّى، ومَنَاةَ فإن جاد فهمه عرف أن المقامات المعبودة اليوم من البشر، والشجر، والحجر، ونحوها، مثل: شمسان، وإدريس، وأبو حديدة، ونحوهم منها. هذا ما أثمر به الجهل، والغفلة، والإعراض عن تعلم دين الله ورسوله؛ ومع هذا يقول لكم شيطانكم المويس: إن بُنَيَّات حرمة وعيالهم 1 يعرفون التوحيد فضلا عن رجالهم، وأيضا تعلُم معنى لا إله إلا الله بدعة؛ فإن استغربت ذلك مني فأحضر عندك جماعة، واسألهم عما يُسألون عنه في القبر، هل تراهم يعبرون عنه لفظا وتعبيرا فكيف إذا طولبوا بالعلم والعمل

_ 1 حرمة بلد. يعني: أن البنات الصغيرات، والصبيان في بلدة "حرمة" يعرفون التوحيد فلا يحتاج أحد إلى تعلمه من العلماء.

هذا ما أقول لك، فإن بان لك شيء من ذلك ارتعت روعة صدق على ما فاتك من العلم، والعمل في دين الإسلام أكبر من روعتك التي ذكرت في رسالتك من تجهيلنا جماعتك؛ ولكن هذا حق مَنْ أعرض عما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من دين الإسلام، فكيف بِمَن له قريب من أربعين سنة يسب دين الله ورسوله، ويبغضه، ويصد عنه مهما أمكن، فلمّا عجز عن التمرد في دينه الباطل، وقيل له: أجب عن دينك وجادل دونه، وانقطعت حجته أقر أن هذا الذي عليه ابن عبد الوهاب أنه هو دين الله ورسوله. قيل له: فالذي عليه أهل (حرمة) قال: هو دين الله ورسوله. كيف يجتمع هذا وهذا في قلب رجل واحد؟ فكيف بجماعات عديدة بين الطائفتين من الاختلاف سنين عديدة ما هو معروف، حتى إن كلا منهم شهر السيف دون دينه، واستمر الحرب مدة طويلة، وكل منهم يدعي صحة دينه، ويطعن في دين الآخر، نعوذ بالله من سوء الفهم، وموت القلوب. (أهل) دينين مختلفين، وطائفتين يقتتلون كل منهم على صحة دينه، ومع هذا يتصور أن الكل دين صحيح يدخل من دان به الجنة: {سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} [النّور من الآية: 16]، فكيف والناقد بصير فيا رجل، ألق سمعك لما فرض الله عليك خصوصا الشهادتين، وما تضمنتاه من النفي والإثبات، ولا تغتر باللفظ، والفطرة، وما كان عليه أهل الزمان والمكان، فتهلك. فاعلم أن أهم ما فرض على العباد: معرفة أن الله رب كل شيء ومليكه ومدبره بإرادته: فإذا عرفت هذا فانظر ما حق من هذه صفاته عليك بالعبودية بالمحبة، والإجلال، والتعظيم، والخوف، والرجاء، والتأله المتضمن للذل، والخضوع لأمره ونهيه، وذلك قبل فرض الصلاة، والزكاة؛ ولذلك

2 - رسالة إلى أهل شقرا في بيان أن الإسلام دين يسر وسهولة

يعرف عباده بتقرير ربوبيتهليرتقوا بها إلى معرفة إلهيته التي هي مجموع عبادته على مراده نفيا وإثباتا، علما وعملا، جملة وتفصيلا. (هذا آخر الرسالة، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم) [رسالة إلى أهل شقرا في بيان أن الإسلام دين يسر وسهولة] -2 - رسالة منه إلى جماعة أهل شقرا سلمهم الله تعالى 1 بسم الله الرحمن الرحيم سلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله يرضى لكم ثلاثا"2، وواجب علينا لكم النصيحة، وعلى الله التوفيق فيا إخواني، لا تغفلوا عن أنفسكم، ترى الباطل زمالة لحاية 3 عند الحاجة، ولا تظنوا أن الضيق مع دين الإسلام، لا والله؛ بل الضيق، والحاجة، وسكنة الريح، وضعفة البخت، مع الباطل والإعراض عن دين الإسلام. مع أن مصداق قولي فيما ترونه فيمن ارتد من البلدان: أوّلُهُنّ (ضرما) وآخرُهُنّ (حريما)، هم حصّلوا سعة فيما يزعمون، أو َمَا زادوا إلا ضيقا وخوفا على ما هم قبل (أن) يرتدوا. وأنتم كذلك المعروف منكم أنكم ما تدينون للعناقر 4 وهم على عنفوان القوة في الجاهلية، فيوم رزقكم الله دين الإسلام الصرف، وكنتم على بصيرة في دينكم، وضعف من عدوكم - أذعنتوا له حتى إنه يبي 5 منكم الخسر ما يشابه لجزية اليهود والنصارى -حاشاكم والله من ذلك- والله العظيم، إن النساء في بيوتهن يأْنَفْنَ لكم، فضلا عن صماصيم بني زيد. يالله

_ 1 في هذه الرسالة ألفاظ عامية نجدية تعمدها الشيخ لأن المخاطبين بها من العوام. 2 مسلم: الأقضية (1715) , وأحمد (2/ 327 ,2/ 360 ,2/ 367) , ومالك: الجامع (1863). 3 أي ركوبة بليدة. 4 العناقر البيوتات "العائلات الوجيهة" واحدها عنقري. 5 يبي مخففة عندهم من يبغي.

3 - مسائل: في معاملة الأعراب لمن هو مثلهم ممن لا يتورع عن تعاطي المحرمات، وفي المعاملة بالجدد، وفي أخذ العروض عن النقود

العجب! تحاربون إبراهيم بن سليمان فيما مضى عند كلمة تكلم بها على جاركم، أو حمار يأخذه ما يسوي عشر محمديات! 1 وتنفدون على هذا مالكم، ورجالكم، ومع هذا يثلب بعضكم بعضا على التصلب في الحرب ولو عضكم. فيوم رزقكم الله دين الأنبياء الذي هو ثمن الجنة، والنجاة من النار، إلا أنكم تضعفون عن التصلب! 2. وها الأمر خالفه صار كلمة، أو حمارا أنفق عندكم، وأعز من دين الإسلام؛ يالله العجب! -نعوذ بالله من الخذلان، والحرمان- ما أعجب حالكم، وأتيه رأيكم إذ تؤثرون الفاني على الباقي، وتبيعون الدر بالبعر، والخير بالشر! كما قيل: فيا درة بين المزابل ألقيت ... وجوهرة بيعت بأبخس قيمة فتوكلوا على الله، وشمروا عن ساق الجد في دينكم، وحاربوا عدوكم، وتمسكوا بدين نبيكم، وملة أبيكم إبراهيم، وعضوا عليها بالنواجذ. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم. [مسائل: في معاملة الأعراب لمن هو مثلهم ممن لا يتورع عن تعاطي المحرمات، وفي المعاملة بالجدد، وفي أخذ العروض عن النقود] -3 - (بسم الله الرحمن الرحيم) (هذه مسائل أجاب عنها الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى). [حكم ما يأخذ الأعراب ونحوهم ممن هو مثلهم أو من أهل القرى] (المسألة الأولى): ما حكم ما يأخذ الأعراب، ونحوهم ممن هو مثلهم، أو من أهل القرى أما ما يأخذونه ممن هو مثلهم في ترك ما فرضه الله عليهم، والتهاون بما حرمه الله -تعالى- مما يُكَفِّرُ أهل العلم فاعله، فلا إشكال في حله.

_ 1 المحمديات نوع من النقود. 2 المعنى: أتضعفون، وتقصرون في الدفاع عن هذا الدين، أو نشره إلى هذا الحد.

كما أفتى به شيخ الإسلام ابن تيمية، وغيره من أهل العلم، وهو ظاهر لظهور دليله. وأما إذا كان المأخوذ من أهل القرى، ونحوهم ممن يلتزم أركان الإسلام، ولا يظهر منه ما ينافيه، فحكم ما أخذ منهم حكم الغصب، وتفصيله لا يجهل. وإن اشتبه الحال على من وقع في يده شيء لا يعرف مالكه، فله التصدق بثمنه. [ما يتعامل به أهل نجد من الجدد حين رخصت] وأما (المسألة الثانية) وهي: ما يتعامل به أهل نجد من الجدد حين رخصت، وصارت الفضة فيها أكثر من المقابل، فهي صورة مسألة"مدعجوة"لا بد فيها من أن يكون المنفرد أكثر من الذي معه غيره على الرواية القائلة بالجواز، وهي اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية؛ فعلى هذا إذا كان الذي في الجدد من الفضة أكثر من فضة الريال، فلا يجوز بيعها على كلا الروايتين. [أخذ العروض عن النقود] وأما (المسألة الثالثة) وهي: أخذ العروض عن النقود، وبالعكس، فإن كان المراد أخذ العروض عن النقود التي في الذمة عن ثمن ربوي كما إذا باع تمرا أو نحوه بأحد النقدين إلى أجل، ثم أخذ عما في الذمة من جنس المبيع، أو ما لا يجوز بيعه به نسيئة، فهذا لا يصح على المعتمد. وإن كان غير ذلك كقيمة متلف، أو أجرة، ونحو ذلك، فيجوز أن يأخذ عما في الذمة عن النقد عرضا، وبالعكس؛ بل يجوز أخذ أحد النقدين عن الآخر بسعر يومه كما في حديث ابن عمر. وأما أخذ الثمار في السلم خرصا، فالذي يتوجه عندنا الجواز إذا كان الثمر المأخوذ دون ما في الذمة بيقين، لحديث جابر المُخَرَّجِ في الصحيح؛ فيكون من باب أخذ الحق، والإبراء عما بقي. والله سبحانه، وتعالى أعلم.

4 - فتاوى في الزكاة والمضاربة والنقود المغشوشة

(فتاوى في الزكاة والمضاربة والنقود المغشوشة) -4 - بسم الله الرحمن الرحيم من عبد العزيز الحُصَيْن إلى الشيخ المكرم محمد بن عبد الوهاب. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد، أَفْتِنَا -عفا الله عنك-: هل يُجْزِئُ إخراج الجدد في الزكاة، أم لا، لأنها مغشوشة بنحاس وهل تصح المضاربة بها، لأجل الغش وكذلك العروض كالإبل، والهدم، وغير ذلك من سائر العروض، هل تصح المضاربة بها فرأيت في شرح العمدة للموفق: أن الزكاة لا تصح أنها تخرج على الذهب الذي أخذ من معدنه إلا بعد ما يصفى، لأن الزكاة ما تجوز عن المغشوش، وقال البخاري (باب إجراء أمراء الأمصار)، وذكر فيه تفصيلا: كالبيع، والإجارة، والمكيال، والميزان، إلى غير ذلك؛ هل كلام البخاري في هذا يفيد، أم لا أَفتنا -جزاك الله خيرا- والسلام. (الجواب) بسم الله الرحمن الرحيم {هذه المسائل التي في السؤال} (المسألة الأولى): العُرُوضُ هل تجزئ في الزكاة إذا أخرجت بقيمتها؟ (الثانية): هل تصح المضاربة، أم لا؟ (الثالثة): أن الجدد هل تخرج بها، أم لا لأجل الغش؟ [العُرُوضُ هل تجزئ في الزكاة إذا أخرجت بقيمتها] (فأما المسألة الأولى): ففيها روايتان عن أحمد: إحداهما: المنع لقوله: "في كل أربعين شاةٍ شاة، وفي مائتي درهم خمسة دراهم"1 وأشباهه. (والثانية): يجوز، قال

_ 1 الترمذي: الزكاة (621) , وأبو داود: الزكاة (1568) , وابن ماجه: الزكاة (1805) , وأحمد (2/ 15) , والدارمي: الزكاة (1620).

أبو داود: سئل أحمد عن رجل باع ثمر نخلة، فقال: عُشْره على الذي باعه، قيل: يخرج تمرا، أو ثمنه قال: إن شاء أخرج تمرا، وإن شاء أخرج من الثمن. إذا ثبت هذا، فقد قال بكل من الروايتين جماعة، وصار نزاع فيها، فوجب ردها إلى الله والرسول. قال البخاري في صحيحه في أبواب الزكاة (باب العرض في الزكاة): وقال طاووس: قال معاذ لأهل اليمن: ائتوني بعرض ثياب خَبِيص، أو لبيس في الصدقة مكان الشعير، والذرة أهون عليكم، وخير لأصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- بالمدينة، وقال -صلى الله عليه وسلم-: -"وأما خالد فقد احتبس أدراعه، واعتده في سبيل الله"1 ثم ذكر في الباب أدلة غير هذا، فصار الصحيح أنه يجوز. واستدلال َمنْ منعه بقوله: "في كل أربعين شاةٍ شاة"2 وأمثاله لا يدل على ما أرادوا لأن المراد هو المقصود وقد حصل كما أنه 3 صلى الله عليه وسلم لما أمر المستجمر بثلاثة أحجار، بل نهى أن ينقص عن ثلاثة أحجار -لم يجمدوا على مجرد اللفظ، بل قالوا: إذا استجمر بحجر واحد له ثلاث شعب أجزأه ولهذا نظائر أنه يؤمر بالشيء فإذا جاء مثله، أو أبلغ منه أجزأ. [المضاربة بالعروض] (وأما المسألة الثانية): فعن أحمد أن المضاربة لا تصح بالعروض، واختاره جماعة، ولم يذكروا على ذلك حجة شرعية نعلمها، وعن أحمد: أنه يجوز، وتُجعل قيمة العروض وقت العقد رأس المال. قال الأثرم: سمعت أبا عبد الله يُسأل عن المضاربة بالمتاع؛ فقال: جائز، واختاره جماعة، وهو الصحيح، لأن القاعدة في المعاملات: أن لا يحرم منها إلا ما حرمه الله ورسوله، لقوله: "وسكت عن أشياء رحمة لكم غير نسيان، فلا تبحثوا عنها".

_ 1 البخاري: الزكاة (1468) , ومسلم: الزكاة (983) , وأبو داود: الزكاة (1623). 2 الترمذي: الزكاة (621) , وأبو داود: الزكاة (1568) , وابن ماجه: الزكاة (1805) , وأحمد (2/ 15) , والدارمي: الزكاة (1620). 3 وافق الشيخ في هذه الفتوى مذهب الحنفية، واستدل له مثلهم بعمل معاذ باليمن، وبالقياس للتيسير، وجمهور الأئمة، والمحدثون يحملون عمل معاذ على غير الزكاة؛ لأنه أمر بردها على فقرائهم، ويقولون: إنه على كل حال اجتهاد منه، لا نص يزيل النزاع.

[إخراج الجدد في الزكاة] (وأما المسألة الثالثة): وهي إخراج الجدد في الزكاة هل يجوز أم لا فهذه المسألة أنواع: أما إخراجها عن جدد مثلها، فقد صرحوا بجوازه، فقالوا: إذا زادت القيمة بالغش، أخرج ربع العشر مما قيمته كقيمته. وأما إخراج المغشوش عن الخالص مع تساوي القيمة كما ذكر في السؤال، فهذه هي التي ذكر بعض المتأخرين المنع منها وبعضهم يجيز ذلك، وهو الصحيح بدليل ما تقدم في إخراج القيمة أنه يجزئ فإن إخراج المغشوش يجيزه من لا يجيز القيمة، بل قال"الشيخ تقي الدين": نصاب الأثمان هو المتعارف في كل زمن من خالص، ومغشوش، وصغير، وكبير، وأما إخراج المغشوش عن الجيد مع نقصه، مثل الجنازرة التي تسوى على ثمان لأجل الغش بالفضة، عن جنازرة تسوى أكثر لقلة الغش، فهذا لا يجوز. [المضاربة بالمغشوش] (وأما المسألة الرابعة): وهي المضاربة بالمغشوش، فقد تقدم أن الصحيح جوازها بالعروض، وهي أبلغ من المغشوش؛ وقد أطلق الموفق في المقنع الوجهين، ولم يرجح واحدا منهما، ولكن الصحيح جواز ذلك لما تقدم. وما ذكر في السؤال من غش ذهب المعدن، فهذا غش لا قيمة له؛ فأين هذا من غش قيمته أبلغ من قيمة الفضة الخالصة أو مثلها وأما كلام البخاري الذي في السؤال فقد أُورد لمسائل غير هذه، وأما كونه يدل على ما ذكرتم؛ فلا أدري. (5) تتمة في اتباع النصوص مع احترام العلماء: إذا فهمتم ذلك، فقد تبين لكم في غير موضع أن دين الإسلام حق بين باطلين، وهُدى بين ضلالتين وهذه المسائل، وأشباهها مما يقع الخلاف فيه بين

السلف والخلف من غير نكير من بعضهم على بعض؛ فإذا رأيتم من يعمل ببعض هذه الأقوال المذكورة بالمنع، مع كونه قد اتقى الله ما استطاع لم يَحِل لأحد الإنكار عليه؛ اللهم إلا أن يتبين الحق، فلا يحل لأحد أن يتركه لقول أحد من الناس؛ وقد كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يختلفون في بعض المسائل من غير نكير ما لم يتبين النص. فينبغي للمؤمن أن يجعل همه ومقصده معرفة أمر الله ورسوله في مسائل الخلاف، والعمل بذلك، ويحترم أهل العلم، ويوقرهم، ولو أخطؤوا، لكن لا يتخذهم أربابا من دون الله؛ هذا طريق المُنْعَمِ عليهم. وأما اطراح كلامهم وعدم توقيرهم فهو طريق المغضوب عليهم. وأما اتخاذهم أربابا من دون الله: إذا قيل: قال الله، قال رسوله. قيل: هم أعلم منا فهذا هو طريق الضالين. ومن أهم ما على العبد، وأنفع ما يكون له: معرفة قواعد الدين عند التفصيل؛ فإن أكثر الناس يفهم القواعد، ويقر بها على الإجمال، ويدعها عند التفصيل. والله أعلم. كتبه محمد بن عبد الوهاب. وصلى الله على محمد، وآله وصحبه وسلم. ومِن خط مَن نقله مِن خط الشيخ محمد نقلت، وذلك آخر سنة 1343.

رسائل وفتاوى لأبناء الشيخ محمد بن عبد الوهاب

رسائل وفتاوى لأبناء الشيخ محمد بن عبد الوهاب ... رسائل وفتاوى للمشايخ الأعلام أبناء شيخ الإسلام الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمهم الله تعالى [رسالة في أنواع الربا الفاشية بين الناس] (1) بسم الله الرحمن الرحيم من حسين بن الشيخ، وإبراهيم، وعبد الله، وعلي إلى من يصل إليه من المسلمين. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. (أما بعد) فقد قال الله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا} [البقرة من الآية: 275]. وقال الله تعالى: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} [البقرة من الآية: 276]. والنبي صلى الله عليه وسلم لعن آكل الربا، وموكله، وكاتبه، وشاهديه. ويجري عندكم معاملات يفعلها بعض الناس، وهي من المعاملات الربوية، منها: قلب الدين على المعسر إذا حل الدين على الغريم، ولم يقدر على الوفاء، أحضر طالب الدين دراهم، وأسلمها إليه في طعام في ذمته، ثم أوفى بها في مجلس العقد. ويسمون هذا تصحيحا، وهو فاسد ليس بصحيح؛ فإنه لم يسلم إليه دراهم، وإنما قلب عليه الدين الذي في ذمته لمّا عجز عن استيفائه؛ والمعسر لا يجوز قلب الدين عليه. فعليكم بتقوى الله عز وجل واحذروا عقوبته، فإن هذه المعاملات تمحق المال، وتذهب بركته؛ وعاقبته في الآخرة أعظم مما يعاقب به صاحبه في الدنيا من عدم البركة فيه. فإذا حل الدين على المعسر لم يَجُزْ لغريمه التحيل على قلبه عليه، كما قال تعالى: {فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة من الآية: 280]. وإن كان الغريم مليا، وأراد أن يسلم إليه ويعامله، فليدفع إليه الدراهم، ويقبضها البائع، ويروح بها إلى بيته، ولا يوفيه بها في الحال، فإذا تملكها، وأخذت عنده يوما أو يومين بحيث يتصرف فيها بما شاء، ثم أوفاه منها

فهذا لا بأس به إن شاء الله تعالى. وأما الاستيفاء بها في مجلس العقد، فلا ينبغي لكم، لأنه ذريعة إلى الحيل؛ والحيل كلها محرمة. وكذلك إذا حل التمر على الكداد، فلا بد من قبضه بالقبض الشرعي، وأما التحيل على قلبه على صاحبه فلا ينبغي أيضا؛ بل يأخذه صاحبه، ولا يبيع على الذي أوفاه منه شيئا لا كثيرا، ولا قليلا، فإن أحب البيع فَلْيِبِعه طعاما غير الطعام الذي قبضه منه، فتحصل المعاملة، ويحصل التنَزه والاحتياط عن الحيل التي لا يجوز تعاطيها. (ومنها): ما يفعله بعض الناس إذا كان له في ذمة رجل طعام معلوم استوفى منه بثمرة يأخذها خرصا في رؤوس النخل ثم يبيعها، وهذا لا يجوز؛ نص عليه العلماء، ونهوا عنه، وذكروا أن من اشترى بالكيل والوزن لا يحصل قبضه إلا بكيله أو وزنه؛ فإن قبضه جزافا كان قبضا فاسدا لا يجوز بيعه حتى يُكال أو يُوزن، لأنه ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من ابتاع طعاما فلا يبعه حتى يكتاله"1، وفي الحديث الآخر أنه نهى عن بيع الطعام حتى يجري فيه الصاعان: صاع البائع، وصاع المشتري، وفي حديث آخر أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لعثمان: "إذا سميت الكيل فكِل"2. (ومنها): ما يفعله بعض الناس في الأحساء وغيره، يشترون الطعام من أهل بيت المال، أو من غيرهم، ثم يبيعونه قبل قبضه، وهذا لا يجوز؛ بل ثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه نهى عنه، وقال: "من ابتاع طعاما، فلا يبعه حتى يقبضه"3. (ومنها): ما يفعله بعض الناس إذا كان عنده تمر قد استغنى عنه، ورأى السعر رخيصا، وأراد إبداله بتمر من الثمرة المقبلة، أقرضه لمن يعطيه بدله تمرا جديدا، وليس هذا بالقرض المسنون، وإنما هذا إبدال تمر

_ 1 مسلم: البيوع (1525) , والنسائي: البيوع (4597) , وأبو داود: البيوع (3496). 2 ابن ماجه: التجارات (2230). 3 البخاري: البيوع (2133) , ومسلم: البيوع (1526) , والنسائي: البيوع (4596) , ومالك: البيوع (1336) , والدارمي: البيوع (2559).

بتمر نسيئة، وإبدال التمر بالتمر نساء لا يجوز؛ بل هو ربا ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عنه. والقرض المندوب إليه إذا كان قصد المُقْرِض الإرفاق بالمُقْتَرِض ونفعه، وأما إذا كان قصده نفع نفسه، وإبدال تمره بتمر آخر، فليس بقرض؛ وإنما هو بيع نُهي عنه، لأنه بيع تمر بتمر. قال عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما-: السلف على ثلاثة أوجه: سلف تسلفه تريد به وجه الله، فلك وجه الله، وسلف تسلفه تريد به وجه صاحبك، وسلف تسلفه لتأخذ به طيبا بخبيث، فذلك الربا. (ومنها): ما يفعله بعض الناس يقرضه غريمه الدراهم أو غيرها، ويتسامح عنه في الاستيفاء، ويقول: فلان يسلف، ويتسامح، ويأخذ، ويخلي؛ ولا يعلم المتعاقدان أن هذا ربا، وأن كل قرض جر نفعا فهو ربا، وأنه إذا زاده في البيع لأجل تأخيره بعض الدين الذي قد حل عليه كان ما أخذه في مقابلة التأخير ربا من جنس ربا الجاهلية الذي نزل القرآن بتحريمه. وقد ذكر العلماء أن من كان له قرض عند رجل، أو عليه دين حالٌ، فأهدى إليه صاحب الدين هدية قبل الوفاء، أنه لا يقبلها، بل يردها؛ فإن لم يفعل فليحسبها من الدين الذي له في ذمة المهدي. وقد جاء في الحديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "إذا أقرض أحدكم قرضا فأهدى إليه، أو حمله على الدابة، فلا يقبله، إلا أن يكون جرى بينه وبينه معاملة قبل ذلك"1 قال عبد الله بن سلام: إذا كان لك على رجل حق فأهدى إليك حِمْل تبن، أو حمل شعير، أو حمل قت، فلا تأخذه فإنه ربا. (ومنها): ما يفعله كثير من الناس ببيع الطعام نساء، فإذا حل ثمنه أخذ عنه طعاما بسعر الوقت؛ وقد ذكر العلماء أن هذا لا يجوز لأنه حيلة

_ 1 ابن ماجه: الأحكام (2432).

وذريعة إلى بيع الطعام بالطعام نساء. (ومنها): ما يجري في بعض البلدان إذا حل دَين السّلم، باعه صاحبه الذي هو في ذمته قبل قبضه، فيبيعه ويربح فيه، وهو لم يقبضه؛ وهذا لا يجوز. فإنه قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن بيع الطعام قبل قبضه، ولا فرق بين من هو عليه ولا غيره، وفي الحديث الآخر عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه نهى عن ربح ما لم يضمن. فإذا باع إنسان طعاما على بائعه، فقد باعه قبل قبضه، وحصل له ربح في طعام لم يدخل في ضمانه؛ فصار في هذا مخالفة لما نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم من البيع قبل القبض، وأخذ ربح ما لم يُضمن. (ومنها): ما يجري من كثير من الناس من مخالفة أمر الله، وارتكاب ما نهى عنه في كتابه؛ فإن الله -تعالى- قال: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} [الطّلاق: 1] فأمر -تعالى- من أراد أن يطلق بطلاق السّنة: وذلك أن تكون المرأة طاهرا طهرا لم يجامعها فيه. ونهى الزوج عن إخراجها من بيتها الذي كانت فيه قبل الطلاق؛ وأوجب عليها أن تعتد في بيتها، ونهاها أن تخرج؛ فلا يجوز للزوج أن يخرجها، ولا يجوز لها أن تخرج ولو تراضت هي والزوج على الخروج، فقال تعالى: {لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلَّا} الآية [الطّلاق من الآية: 1]، وقال: {وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} [الطّلاق من الآية: 1]. وكثير من الناس يتهاونون بهذا، مع التغليظ الشديد فيه؛ وصار هذا عادة عند الأكثرين متى أراد الطلاق خرجت المرأة من بيت الزوج، واعتدت في بيت أهلها.

2 - رسالة عامة في الزجر عن الغلول ووجوب التذكير والموعظة

فالواجب عليكم تقوى الله بامتثال ما أمر، والانتهاء عما عنه نهى وزجر، كما قال تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا} [التّغابن من الآية: 16]. نسأل الله العظيم أن يهدينا وإياكم صراطه المستقيم، وأن يجنبنا وإياكم طريق المغضوب عليهم والضالين. وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم. (2) (رسالة عامة في الزجر عن الغلول ووجوب التذكير والموعظة) بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله، وعلي، وحمد إلى من يراه من المسلمين. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته (وبعد): قال الله -تعالى -: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [الذّاريات: 55]، فالمؤمن إذا ذُكّر تذكر، وإذا وُعِظ انتفع بالموعظة، وعمل بمقتضاها. وأميركم-جزاه الله خيرا- نصحكم، ووعظكم، وأبدى، وأعاد؛ ومع ذلك لم ينتفع بالموعظة إلا القليل، والله -تعالى- قد ذكر عن الكفار أنهم لا ينتفعون بالذكرى، وقال -تعالى-: {وَإِذَا ذُكِّرُوا لا يَذْكُرُونَ} [الصّافات: 13]، ومن سمع المواعظ، ولم ينتفع بها فقد شابه الكفار في بعض أحوالهم؛ وذلك دليل على عدم معرفة الله، وخشيته، لأن المؤمن إذا ذُكّر انْتَفع، كما قال -تعالى-: {سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى} [الأعلى: 10]. والغلول قد عظم الله أمره، وأخبر في كتابه أن صاحب الغلول يأتي به يوم القيامة، قال -تعالى-: {وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ

وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} [آل عمران من الآية: 161]. وجاءت الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتغليظ الشديد، والوعيد الأكيد، على من غل شيئا من المغنم: قليلا كان، أو كثيرا. ففي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم، فذكر الغلول، وعظمه، وعظم أمره، ثم قال: لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته بعير له رغاء؛ يقول: يا رسول الله، أغثني فأقول: لا أملك لك من الله شيئا، قد بلغتك. لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته فرس له حمحمة؛ فيقول: يا رسول الله، أغثني فأقول: لا أملك لك من الله شيئا، قد بلغتك. لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته شاة لها ثغاء؛ فيقول: يا رسول الله، أغثني! فأقول: لا أملك لك من الله شيئا، قد بلغتك. لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته نفس لها صياح؛ فيقول: يا رسول الله، أغثني! فأقول: لا أملك لك من الله شيئا، قد بلغتك. لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته رقاع تخفق، يقول: يا رسول الله، أغثني! فأقول: لا أملك لك من الله شيئا، قد بلغتك. لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته صامت؛ فيقول: يا رسول الله، أغثني فأقول: لا أملك لك من الله شيئا، قد بلغتك". وعن عبد الله بن بريدة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن الحجر يرمى به في جهنم فيهوي سبعين خريفا ما يبلغ قعرها، ويؤتى بالغلول فيقذف معه، ثم يقال لمن غل: ائت به"فذلك قوله -تعالى-: {وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [آل عمران من الآية: 161]، وعن عمرو بن شعيب عن أبيه، عن جده قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين صدر من حنين: "أدوا الخياط والمخيط؛ فإن الغلول عار وشنار على أهله يوم القيامة "1، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى خيبر ففتح الله عليه، ثم انطلقنا إلى الوادي

_ 1 النسائي: الهبة (3688).

- يعني: وادي القرى-، ومع رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد له، فلما نزلنا، قام يحل رحله، فرُمي بسهم كان فيه حتفه، فقلنا: هنيئا له الشهادة يا رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كلا، والذي نفس محمد بيده، إن الشملة لتلتهب عليه نارا، التي أخذها من المغانم يوم خيبر، لم تصبها المقاسم. قال: ففزع الناس، فجاء رجل بشراك أو شراكين، فقال: أصبته يوم خيبر. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: شراك أو شراكان من نار "1، وعن أبي حازم قال: "أتي النبي صلى الله عليه وسلم بنطع من الغنيمة، فقيل: يا رسول الله، هذا لك تستظل به من الشمس. فقال: أتحبون أن يستظل نبيكم بظل من نار؟ "، وعن عبد الله بن عمرو قال: "كان على ثقل النبي صلى الله عليه وسلم رجل يقال له: كركره، فمات، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هو في النار؛ فذهبوا ينظرون إليه، فوجدوا عباءة قد غلها"2. فالأحاديث في النهي عن الغلول، والتشديد على من فعله كثيرة جدا. فاتقوا الله عباد الله، وتعاونوا على البر والتقوى، وتناصحوا فيما بينكم، واذكروا زوال الدنيا، وسرعة انقضائها، وليحذر الناصح لنفسه أن يلقى الله وقد غذّى جسمه بالحرام؛ ففي الحديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "أيّما لحم نبت على سحت كانت النار أولى به"3. والله-سبحانه- فرض على عباده الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وذم من لا يفعل ذلك، فقال -تعالى-: {كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المائدة: 79]. فمن علم عند أحد شيئا من المغنم، فلينصحه، وليأمُرْهُ بأدائه؛ فإن لم يفعل، فليرفع حاله إلى الأمير، فإنه إذا سكت عن الغالّ كان شريكا له في الإثم. ففي الحديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "من كتم غالّا فإنه مثله"4. ولا عذر لأحد- ولله الحمد- في ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. والغلول قد فشا في الناس، واشتهر؛ والمعصية إذا خفيت صار وبالها على من فعلها، فإذا

_ 1 البخاري: المغازي (4234) , ومسلم: الإيمان (115) , والنسائي: الأيمان والنذور (3827) , وأبو داود: الجهاد (2711) , ومالك: الجهاد (997). 2 البخاري: الجهاد والسير (3074) , وابن ماجه: الجهاد (2849) , وأحمد (2/ 160). 3 الترمذي: الجمعة (614). 4 أبو داود: الجهاد (2716).

ظهرت، ولم تُنْكَرْ ضرت العامة. نعوذ بالله وإياكم من زوال نِعَمِهِ، وحلول ِنقَمِهِ. والله -تعالى، وله الحمد- قد أعطاكم ما تحبون، وصرف عنكم ما تكرهون؛ فكونوا ممن يُحْدِثُ عند النعمة شكرًا، فإن الله وعد الشاكرين المزيد من فضله، فقال تعالى: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم: 7]. والمعاصي سبب لتغيير النعم كما قال -تعالى-: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرّعد من الآية: 11]. وكثير من الناس يتأول في الغنيمة تأويلات فاسدة، منها: استرخاص الإمام، أو طلبه منها، ويظن أن الإمام إذا أرخص له، أو طلبه فأعطاه أن الغنيمة تحل له بذلك، والأمير لا يحلل الحرام، وربما يجوز للإمام أن يعطي، ولا تحل العطية لمن أخذها؛ فقد جاء في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إني لأعطي الرجل العطية، فيخرج بها يَتَأَبّطُهَا نارًا" 1 أو كما قال صلى الله عليه وسلم. والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض على من قدر عليه من جميع الرعية، وهو في حق الإمام أعظم؛ فلا يجوز للإمام ترك الإنكار على أحد من المسلمين، بل يجب عليه القيام في الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر على القريب والبعيد، ويؤدب الغالّ بما يردعه، وأمثاله عن الغلول من أموال المسلمين. وقد روى أبو داود عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إذا وجدتم الرجل قد غَلّ فاحرقوا متاعه واضربوه"2، وعن عمرو بن شُعيب قال: "إذا وجدتم الغلول عند الرجل أُخِذ وجُلِد مائة، وحُلِق رأسه ولحيته، وأُخِذ ما كان في رحله من شيء إلا الحيوان وأُحْرِق رحله؛ ولم يأخذ سهما في المسلمين أبدا. قال: وبلغنا أن أبا بكر، وعمر كانا يفعلانه". فالواجب على الإمام القيام على الناس في الآداب البليغة

_ 1 البخاري: الزكاة (1478) , ومسلم: الإيمان (150) , والنسائي: الإيمان وشرائعه (4992) , وأبو داود: السنة (4683 ,4685) , وأحمد (1/ 176 ,1/ 182). 2 الترمذي: الحدود (1461) , وأبو داود: الجهاد (2713) , والدارمي: السير (2490).

3 - رسالة في نصاب الزكاة بالريالات

التي تزجر عن المعاصي؛ فإن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن. ومن سمع المواعظ والزواجر من كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فلم يرتدع ولم ينْزجر، استحق العقوبة البليغة التي تزجره عن فعل المنكرات وتعاطى المحرمات. والغلول قد فشا وظهر، واشتهر وكثير من الناس لا يعده ذنبا، ولا ينقص الغالّ عند من لا يغل، ولا يسقط من أعين الناس مثل سقوط السارق ونحوه ممن يفعل الكبائر؛ والغلول من الكبائر المحرمة التي حرمها الله ورسوله. وهذا الذي ذكرناه نصيحة لكم؛ نسأل الله أن ينفعنا وإياكم بمواعظه؛ ومن لم ينتفع فقد أُعْذِرنا منه بالنصيحة، ومن عمل صالحا فلنفسه، ومن أساء فعليها، ثم إلى ربكم ترجعون. (3) (رسالة في نصاب الزكاة بالريالات) بسم الله الرحمن الرحيم من حسين بن الشيخ، وإبراهيم، وعبد الله، وعلي، وحمد، وعثمان، إلى الأخ عبد العزيز سلام عليكم ورحمة الله وبركاته (وبعد): إن الله -تبارك وتعالى- أوجب على جميع الخلق أداء الزكاة من أموالهم؛ والرسول صلى الله عليه وسلم بيّن مراد الله من ذلك، وقدّر الِنّصَاب في جميع الأموال، وأخبر صلى الله عليه وسلم فيما ثبت عنه في الصحيحين أنه: "ليس فيما دون خمس أواقٍ من الوَرِقِ صدقة"1. وأجمع العلماء: أن الزكاة تجب في وزن خمس أواق ولا

_ 1 مسلم: الزكاة (980) , وابن ماجه: الزكاة (1794) , وأحمد (3/ 296).

تجب فيما دونها. وحرر الفقهاء من جميع المذاهب أن زنة خمس الأواق مائة وأربعون مثقالا، وحرروا المثقال بأنه وزن اثنتين وسبعين حبة من الشعير المتوسط، وحررناه فوجدناه كما ذكروا. وحررنا النصاب بالريالات لأجل أنها أخلص ما يوجد من الفضة، والحكم على الخالص فصار الريال ثمانية مثاقيل محررة؛ وسألنا الصاغة عن غش الريال؛ فحرروه لنا السدس، وأسقطنا من كل ريال سدسه؛ فصار النصاب من الفضة الخالصة سبعة عشر ريالا ونصف ريال، ومن المغشوش أحدا وعشرين ريالا. وفي حياة الشيخ -الله يعفو عنه- والريال ما هو بعبرة لنا حتى يحرروه لنا، وعبرة الناس ذلك الوقت الزر، والجديدة، وصرف الزر ذلك الوقت تسع جُدُد، أو حولها، وعشرون الزُر ومئتا الجديدة متقاربان. وفي وقتنا هذا طاح صرف الحمر، وصار الريال هو الأغلب، وحررنا نصاب الذهب من الحمران سبعة وعشرين زُرًّا. وأما الجدد فلا فيها من الفضة إلا القليل، فتصير عرضا من العروض وتحسب بقيمتها من الريالات؛ وكذلك سائر العروض تحسب بالريالات لأنه هو الأحوط في الزكاة. والذي عنده ذهب زُرُورٍ، أو غيرها فنصابها ما ذكرنا لكم يزكيها عليه، واشتهينا تنبيهك لأجل أنك تنبه الناس عن شيء يخلو عليهم. والزكاة -فيما ذكرنا لك- ربع العشر على الحال التي تمشون عليها، ولكن المراد التنبيه على قدر النصاب الذي تجب الزكاة ببلوغه، والسلام.

4 - رسالة في المعاملات الربوية وأحكام الطلاق والعدة

(4) (رسالة في المعاملات الربوية وأحكام الطلاق والعدة) بسم الله الرحمن الرحيم من حسين، وإبراهيم، وعبد الله، وعلي: أبناء الشيخ إلى من يصل إليه هذا الكتاب من المسلمين. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته (وبعد): قال الله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا} [البقرة من الآية: 275]. وقال الله تعالى: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} [البقرة من الآية: 276]. والنبي صلى الله عليه وسلم لعن آكل الربا، وموكله، وكاتبه، وشاهديه. ويجري عندكم معاملات يفعلها بعض الناس، وهي من المعاملات الربوية. (منها): قلبُ الدّيْنِ على المعسر: إذا حل الدّيْنُ على الغريم، ولم يقدر على الوفاء، أحضر طالب الدّيْنِ دراهم، وأسلمها إليه في طعام في ذمته، ثم أوفاه بها في مجلس، ويسمون هذا تصحيحا؛ وهو تصحيح فاسد ليس بصحيح؛ فإنه لم يسلم إليه دراهم، وإنما قَلَبَ عليه الدّيْنَ الذي في ذمته لمّا عجز عن استيفائه. والمُعْسِر لا يجوز قَلْبُ الدين عليه، فعليكم بتقوى الله -عز وجل- فاحذروا عقوبته؛ فإن هذه المعاملات تمحق المال، وتذهب بركته؛ وعقوبته في الآخرة أعظم من عقوبته في الدنيا، وعدم بركته فيه. فإذا حل الدين على المُعْسِر لم يَجُزْ لغريمه التّحَيّلُ على قلبه عليه، بل كما قال تعالى: {فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} الآية [البقرة من الآية: 280]. وإن كان الغريم مليئا، وأراد أن يسلم إليه ويعامله، فليدفع إليه الدراهم، ويقبضها البائع، فيروح بها إلى بيته، ولا يوفيه بها في الحال. فإذا تملكها، وأخذت عنده يوما أو يومين بحيث يتصرف فيها بما شاء أوفاه منها، أو من غيرها؛ فهذا لا بأس به إن شاء الله تعالى.

وأما الاستيفاء بها في مجلس العقد، فلا ينبغي لكم، لأنه ذريعة إلى الحيل، والحيل كلها محرمة. وكذلك إذا حل التمر على الكداد فلا بد من قبضه بالقبض الشرعي، وأما التحيل على قلبه على صاحبه فلا ينبغي أيضا؛ بل يأخذه صاحبه، ولا يبيع على الذي أوفاه منه لا قليل ولا كثير، فإن أحب البيع فليبعه طعاما غير الطعام الذي قبضه منه؛ فتحصل المعاملة، ويحصل الشراء الشرعي، والاحتياط عن الحيل التي لا يجوز تعاطيها. (ومنها): ما يفعله بعض الناس إذا كان له في ذمة رجل طعام معلوم استوفى منه بثمرة في رؤوس النخل، يأخذها خرصا، ثم يبيعها؛ وهذا لا يجوز، نص عليه العلماء، ونهوا عنه، وذكروا أن من اشتراه بالكيل والوزن لا يَحْصَل قَبْضُهُ إلا بِكَيْلِهِ أو وزنه؛ فإن قبضه جزافا كان قبضا فاسدا، لا يجوز له بيعه حتى يُكَالَ ويُوزَنَ، لأنه ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من ابتاع طعاما، فلا يَبِعْهُ حتى يكتاله" 1، وفي الحديث الآخر أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الطعام حتى يجري فيه الصاعان: صاع البائع، وصاع المشتري. وفي حديث آخر أنه صلى الله عليه وسلم قال لعثمان: "إذا سميت الكيل فكل" 2. (ومنها): ما يفعله بعض الناس في الأحساء وغيره، يشترون الطعام من أهل بيت المال أو غيرهم، ثم يبيعونه قبل قبضه؛ وهذا لا يجوز، بل ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه نهى عنه، وقال: "من ابتاع طعاما، فلا يبعه حتى يقبضه" 3. (ومنها): ما يفعله بعض الناس إذا كان عنده تمر قد استغنى عنه، ورأى السعر رخيصا، وأراد إبداله بتمر من الثمرة المقبلة، أقرضه لمن يعطيه بدله تمرا جديدا؛ فلا هذا بالقرض، وإنما هذا بدل تمر بتمر نسيئة، وإبدال التمر بالتمر نسيئة لا يجوز؛ بل هو ربا؛ وثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه نهى عنه. والقرض المندوب إليه إذا كان قصد المُقْرِضِ الإرفاق بالمُقْتَرِضِ ونفعه، وأما إذا كان

_ 1 مسلم: البيوع (1528). 2 ابن ماجه: التجارات (2230). 3 البخاري: البيوع (2133) , ومسلم: البيوع (1526) , والنسائي: البيوع (4596) , وأبو داود: البيوع (3492) , وابن ماجه: التجارات (2226) , ومالك: البيوع (1335 ,1336) , والدارمي: البيوع (2559).

قصده نفع نفسه، وإبدال تمر بتمر آخر' فليس بقرض؛ وإنما هو بيع نُهِيَ عنه، لأنه بيع تمر بتمر. قال عبد الله بن عمر -رضي الله عنه-: السلف على ثلاثة أوجه: سلف تسلفه تريد به وجه الله، فلك وجه الله، وسلف تسلفه تريد به وجه صاحبك، فلك وجه صاحبك، وسلف تسلفه لتأخذ طيبا بخبيث، فذلك الربا. (ومنها): ما يفعله بعض الناس يقرض غريمه الدراهم، أو غيرها، فيتسامح عنه في الاستيفاء، فيسامحه الغريم في المبايعة؛ فعميله له بيع، ولغيره من الناس بيع أغلى منه لأن العميل يقرضه ويسامحه في الاستيفاء، ويقول: فلان يسلف ويتسامح، ويأخذ ويخلي. ولا يعلم المتعاقدان أن هذا ربا، وأن كل قرض جر منفعة فهو ربا، وأنه إذا زاده في السعر لأجل تأخيره بعض الدين الذي قد حل عليه، كان ما يأخذه في مقابلة التأخير ربا من جنس ربا الجاهلية الذي نطق القرآن بتحريمه. وقد ذكر العلماء أن من كان له قرض عند رجل، أو عليه دين حال، فأهدى إليه صاحب الدين هدية قبل الوفاء أنه لا يقبلها، بل يردها، فإن لم يفعل فليحسبها من الدين الذي له في ذمة المُهْدِي. وقد جاء الحديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "إذا أقرض أحدكم قرضا فأهدى إليه، أو حمله على الدابة، فلا يقبله إلا أن يكون جرى بينه وبينه معاملة قبل ذلك"1. قال عبد الله بن سلام رضي الله عنه: إذا كان لك على رجل حق فأهدى إليك حمل تبن، أو حمل شعير، أو حمل قت، فلا تأخذه فإنه ربا. (ومنها): ما يفعله كثير من الناس يبيع الطعام نساء، فإذا حل ثمنه، أخذ عنه طعاما بسعر الواقع. وقد ذكر العلماء أن هذا لا يجوز، لأنه حيلة، وذريعة إلى بيع الطعام بطعام نساء. (ومنها): ما يجري في بعض البلدان إذا حل دين السلم، باعه صاحبه على الذي هو في ذمته

_ 1 ابن ماجه: الأحكام (2432).

قبل قبضه، فيبيعه ويربح فيه وهو لم يقبضه، وهذا لا يجوز؛ لأنه ثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه نهى عن ربح ما لم يُضمن. فإذا باع الإنسان طعاما على بائعه، فقد باعه قبل قبضه، وحصل له ربح في مال لا يدخل في ضمانه؛ فصار في هذا مخالفة لما نهى عنه النبي -صلى الله عليه وسلم- من البيع قبل القبض، وأخذ ربح ما لم يضمن. (ومنها): ما يجري من كثير من الناس من مخالفة أمر الله، وارتكاب ما نهى عنه في كتابه، فإنه قال: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} إلخ الآية [الطّلاق من الآية: 1]، فأمر-تعالى- من أراد أن يطلق طلاق السُنّة وذلك بأن تكون المرأة طاهرة طهرا لم يجامعها فيه، ونهى الزوج عن إخراجها من بيتها الذي كانت فيه قبل الطلاق، وأوجب عليها أن تعتد في بيتها ونهاها أن تخرج؛ فلا يجوز للزوج أن يخرجها، ولا يجوز أن تخرج ولو تراضت هي والزوج على الخروج، فقال -تعالى-: {لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ} [الطّلاق من الآية: 1]، وقال -تعالى-: {وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ} [الطّلاق من الآية: 1] إلخ. وكثير من الناس يتهاونون بهذا، مع هذا التغليظ الشديد فيه؛ وصار هذا عادة عند الأكثر متى أراد الطلاق خرجت به المرأة من بيت الزوج، واعتدت في بيت أهلها. فالواجب عليكم تقوى الله، وامتثال ما أمر، والانتهاء عما عنه نهى وزجر، كما قال -تعالى-: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التّغابن من الآية 16]. نسأل الله أن يهدينا وإياكم الصراط المستقيم، وأن يجنبنا طريق المغضوب عليهم والضالين، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

5 - رسالة في مواعظ عامة في مهمات الدين

(5) (رسالة في مواعظ عامة في مهمات الدين) بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إله الأولين والآخرين، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، وخليله الصادق الأمين، صلى الله عليه، وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين. من إبراهيم، وعبد الله، وعلي أبناء الشيخ محمد إلى من يراه من المسلمين. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. (وبعد): الموجِب لهذا التذكير النصيحة والشفقة عليكم، وعلينا من عقوبة الله، وأنتم تعرفون ما مَنّ الله به علينا، وعليكم من دين الإسلام، وهو أعظم نعمة أنعم الله بها على جميع المسلمين. وأكثر الناس اليوم على الشرك، وعبادة غير الله. وأعطاكم الله في ضمن الإسلام من النعم، والنصر على الأعداء ما تعرفون. ولا يجيء أهل الإسلام شيء إلا بسبب ذنوبهم؛ فإذا عرفوا الذنب، وتابوا منه نصرهم الله، وأعزهم، وكسر عدوهم، وجعل العاقبة لهم في الدنيا والآخرة، قال الله -تعالى-: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ} [الرّعد من الآية: 11]. وقال -تعالى- لخيار الخلق: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} الآية [آل عمران من الآية 165]. وهذه الأمور يجريها الله -سبحانه- ابتلاء، وامتحانا ليميز الخبيث من الطيب، والمؤمن من المنافق؛ فيجازي المؤمن بالنصر والظفر على عدوه، ويجازي المنافق والمرتاب بالعذاب، والنكال، والخزي في الدنيا والآخرة. وأنتم ترون أن أغلب البلدان

ما صفت، وركد الإسلام فيها إلا بعد الردة، وتمييز الخبيث من الطيب. والواجب علينا وعليكم الإقبال على الله، والتوبة والاستغفار؛ وكل يعرف ذنبه، ويتوب إلى الله منه، ولا يحط المقالة في غيره؛ قال الله -تعالى-: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النّور من الآية: 31]. وقال-تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} [التّحريم من الآية: 8]. والتوبة لها شروط (منها): الإقلاع عن الذنب، والندم، والعزيمة أن لا يعود. ونحن نخشى علينا وعليكم مما وقع من التغير والذنوب. (ومنها): ترك المحافظة على الصلوات الخمس، وهي عمود الإسلام مَنْ حفظها، وحافظ عليها- حفظ دينه، ومن ضيعها فهو لما سواها أضيع. (ومنها): الغفلة عن التفقه في دين الإسلام، حتى إن من الناس مَنْ ينشأ وهو ما يعرف دين الإسلام، ومنهم من يدخل فيه وهو ما يعرفه، ولا يتعلمه ظنا منه أن الإسلام هو العهد. ومعرفة الإسلام، والعمل به واجب على كل أحد، ولا ينفع فيه التقليد. (ومنها): أن من الناس من يمنع الزكاة، والذي ما يقدر على المنع يبخسها. والزكاة ركن من أركان الإسلام، واجب أداؤها إلى الإمام، أو نائبه على الأمر المشروع. (ومنها): إنكار المنكر ممن يراه، ويسكت عن إنكاره خوفا، أو هيبة من أحد من الناس؛ والمنكر إذا خفي لم يضر إلا صاحبه، وإذا فشا فلم ُينْكَرْ ضَرّ العامة؛ قال الله -تعالى-: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المائدة الآيتان: 78 - 79]. (ومنها): ظهور عقوق الوالدين، وقطيعة الرحم من كثير من الناس؛ وذلك من أكبر الكبائر، كما في الحديث: "ألا أخبركم بأكبر الكبائر: الإشراك

بالله، وعقوق الوالدين"1، وفي الحديث الآخر "لا يدخل الجنة قاطع رحم"2. (ومنها): ما يجري من بعض الأمراء والعامة من الغلول: منهم من يتحيل على الغلول بالشراء ولا ينقد الثمن، وذلك حرام، قال الله -تعالى-: {وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [آل عمران من الآية: 161]. وفي الحديث: "إن الغلول عار، ونار، وشنار"3. (ومنها): ظلم بعض الأمراء يأخذ من أموال الناس بصورة الجهاد، ولا يصرفه في الجهاد؛ بل يأكله. وبعض الأمراء يأخذ جميع الزكاة، ولا يعطي المساكين منها، والإمام يأمره بإعطاء كل ذي حق حقه؛ ويعصي ويعمل على رأيه. والزكاة تَوَلَّى الله قسمتها في كتابه، وجَزَّأَهَا ثمانية أجزاء، وأخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه لا حظ فيها لغني، ولا لقوي مكتسب. ومن الأمراء والنظراء من يصرف الجهاد عن الأغنياء، ويجعله على الفقراء الذين لم يجعل الله عليهم شيئا. والجهاد بالمال مقدم على الجهاد بالنفس، فمن كان له مال، وهو يقدر على الجهاد بنفسه، وجب عليه الجميع؛ فإن كان ما يقدر بنفسه، وجب عليه بالمال؛ فإن كان ما يقدر بالمال ولا بالنفس، فالحرج مرفوع عنه، قال الله -تعالى-: {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التّوبة: 91]. والإمام ينهى الأمراء عن تحميل الناس ما لا يستطيعون، ويعصونه في ذلك، وتحميل الفقير ما لم يحمله الله ذنب، ومعصية الإمام إذا نهى عن ذلك ذنب آخر. (ومنها): اختلاط الجيد بالرديء، وراعي الدين بالمنافق، ولا يميز هذا من هذا؛ ووقع بسببه ظهور الكلام الباطل الذي لو يظهر من أحد في أول الإسلام أُدّبَ أدبا بليغا، وعرف أن قائله منافق؛ وفي وقتنا هذا يظهر ولا ينكر إلا ما شاء الله. (ومنها): الظلم، والوقوع فيما حرم الله من الدماء، والأموال،

_ 1 البخاري: الاستئذان (6273) , ومسلم: الإيمان (87) , والترمذي: البر والصلة (1901) والشهادات (2301) وتفسير القرآن (3019) , وأحمد (5/ 36 ,5/ 38). 2 البخاري: الأدب (5984) , ومسلم: البر والصلة والآداب (2556) , والترمذي: البر والصلة (1909) , وأبو داود: الزكاة (1696) , وأحمد (4/ 80 ,4/ 83 ,4/ 84). 3 مالك: الجهاد (994).

والأعراض، والغيبة والنميمة، وقول الزور، وبهت المسلم بما ليس فيه؛ وصار هذا ما يُسْتَنْكَرُ، فإذا بان كذبه، وتزويره، ما طاح من العيون؛ والله -سبحانه- حرم هذا في كتابه، وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيما ثبت عنه: "إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا" 1، وقال -تعالى-: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} [الأحزاب: 58]. وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ} [الحجرات: 12]. (ومنها): الجَسْرَةُ على ذمة المسلم، فإذا صح إعطاء أحد من المسلمين- أمير أو غيره- أحدا من الكفار ذمته، ما جاز لأحد من المسلمين أن يخفره لا في ذمته، ولا ماله، كما في الحديث: "ذمة المسلمين واحدة، يسعى بها أدناهم. فمن أخفر مسلما، فعليه لعنة الله، والملائكة، والناس أجمعين؛ لا يقبل الله منهم صرفا ولا عدلا"2. ومن العجب أن بعض الجهال يفعل هذا ديانة، ويظن أن معاداة الكفار، واستحلال المحرم أعظم من ارتكابه مع معرفته بتحريمه. (ومنها): أن بعض الناس يغضب إذا أُنكر على رجاله أو طارقته إذا فعل المنكر، وأُنكر عليه؛ وهذا أمر ما يحل، بل الواجب عليه أن يغضب لله أعظم مما يغضب لنفسه، والله أحق أن يُغْضَبَ له. (ومنها): فعل الربا، والتحيّل عليه بالبيع، والتصحيح الباطل؛ مثل: رد الدّيْنِ على المعسر، وجعل الدّيْن رأس مال في السلم. (ومنها): كونه يبيعه ويسلفه. (ومنها): كونه يبيعه تمرا، أو عيشا إلى أجل؛ فإذا حل الأجل أخذ منه بتلك الدراهم تمرا، أو عيشا؛ وهذا حرام عند أكثر العلماء، لا سيما إذا قصد ذلك في ابتداء العقد، وعرف

_ 1 البخاري: الحج (1741) , ومسلم: القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1679) , وأحمد (5/ 37 ,5/ 39 ,5/ 49) , والدارمي: المناسك (1916). 2 البخاري: الاعتصام بالكتاب والسنة (7300) , ومسلم: الحج (1370) , والترمذي: الولاء والهبة (2127) , والنسائي: القسامة (4745) , وأبو داود: المناسك (2034) والديات (4530) , وأحمد (1/ 81 ,1/ 119 ,1/ 122 ,1/ 126 ,1/ 151).

أنه لا يستوفي منه إلا تمرا، أو عيشا. (ومنها): أنه يبيعه سلعة بنسيئة، ثم يشتريها منه بأقل مما باعها به نقدا. (ومنها): أن يشتري طعاما، ثم يبيعه قبل قبضه؛ وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، وغيره. وقد توعد الله من تثاقل عن الجهاد، ورضي بالإخلاد في الأرض بالوعيد الشديد، قال -تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ إِلّا تَنْفِرُوا} الآية [التّوبة من الآيتين: 38 - 39]. وقال -تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} الآية [الأنفال من الآية 24]، قال العلماء في تفسير الآية: {لِمَا يُحْيِيكُمْ}: ِلمَا يصلحكم. وهذا هو الحرب الذي أعزكم الله به بعد الذلة، وقواكم به على عدوكم بعد القهر منهم لكم، وقد فرضه الله على الناس كما فرض الصلاة والزكاة، قال الله -تعالى-: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 216]. فإذا قام المسلمون بما أمرهم الله به من جهاد عدوهم بحسب استطاعتهم، فليتوكلوا على الله، ولا ينظروا إلى قوتهم وأسبابهم، ولا يركنوا إليها؛ فإن ذلك من الشرك الخفي، ومن أسباب إدالة العدو على المسلمين، ووهنهم من لقاء العدو، لأن الله-تبارك وتعالى- أمر بفعل السبب، وأن لا يُتَوَكّلَ إلا على الله وحده، قال-تعالى-: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [المائدة من الآية: 23]. وقال -تعالى-: {إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ} الآية [آل عمران، من الآية: 160]، وقال-تعالى- لمحمد صلى الله عليه وسلم: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى} الآية [الأنفال من الآيتين: 9 - 10]. فإذا فعل المسلمون ما أمرهم الله به، وتوكلوا على الله، وحققوا توكله نصرهم الله، وأمدهم بالملائكة، كما هي عادته مع عباده المؤمنين في كل زمان ومكان، قال الله -تعالى-: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ وَإِنَّ

6 - مسائل وردت على ولدي شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب "حسين" و"عبد الله" رحمهما الله

جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الصّافات الآيات: 171 - 173]، وقال تعالى: {وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا} [الفتح الآيتان: 22 - 23]. ونسأل الله لنا ولكم العافية، والهدى، والثبات في الدنيا والآخرة، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم، ثم قال صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى"1. وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم. [مسائل وردت على وَلَدَيْ شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب "حسين" و"عبد الله" رحمهما الله] بسم الله الرحمن الرحيم هذه مسائل وردت على وَلَدَيْ شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب "حسين"، و"عبد الله" -رحمهما الله- فأجابا بما هو الصواب. ... [عقيدة الشيخ محمد في العمل والعبادات والفروع] (الأولى): ما عقيدة الشيخ -رحمه الله- في العمل في العبادات، والفروع؟ الجواب: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين (الجواب) عن الأولى -وبالله التوفيق-: إن عقيدة الشيخ -رحمه الله- التي يَدِين الله بها هي عقيدتنا وديننا الذي نَدين الله به، وهي عقيدة سلف الأمة وأئمتها من الصحابة، والتابعين لهم بإحسان؛ وهو اتباع ما دل عليه الدليل من كتاب الله وسنة رسوله، وعرض أقوال العلماء على ذلك؛ فما وافق كتاب الله وسنة رسوله- قبلناه وأفتينا به، وما خالف ذلك رددناه على قائله. وهذا هو الأصل الذي أوصانا الله به، حيث قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [النّساء من الآية: 59]. أجمع المفسرون على أن الرد إلى الله هو الرد إلى كتابه، وأن الرد إلى

_ 1 البخاري: بدء الوحي (1) , ومسلم: الإمارة (1907) , والترمذي: فضائل الجهاد (1647) , والنسائي: الطهارة (75) والطلاق (3437) والأيمان والنذور (3794) , وأبو داود: الطلاق (2201) , وابن ماجه: الزهد (4227) , وأحمد (1/ 25 ,1/ 43).

الرسول هو الرد إليه في حياته، وإلى سنته بعد وفاته؛ والأدلة على هذا الأصل كثيرة في الكتاب والسنة، ليس هذا موضع بسطها. وإذا تفقه الرجل في مذهب من المذاهب الأربعة، ثم رأى حديثا يخالف مذهبه فاتبع الدليل، وترك مذهبه، كان هذا مستحبا، بل واجبا عليه إذا تبين له الدليل، ولا يكون مخالفا لإمامه الذي اتبعه، فإن الأئمة كلهم متفقون على هذا الأصل كأبي حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد -رضي الله عنهم أجمعين-. قال الإمام مالك: كل أحد يُؤْخَذُ من قوله ويُتْرَكُ إلا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وقال الشافعي-رحمه الله تعالى- لأصحابه: إذا صح الحديث عندكم فاضربوا بقولي الحائط. وفي لفظ: إذا صح الحديث عندكم فهومذهبي. قال الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه: عجبت لقوم عرفوا الإسناد وصحته، يذهبون إلى رأي سفيان، والله يقول: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النّور من الآية: 63]. أتدري ما الفتنة الفتنة الشرك؛ لعله إذا رد بعض قوله أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك. وقال لبعض أصحابه: لا تقلدني، ولا تقلد مالكا، ولا الشافعي، وتعلم كما تعلمنا. وكلام الأئمة في هذا كثير جدا مبسوط في غير هذا الموضع. وأما إذا لم يكن عند الرجل دليل في المسألة يخالف القول الذي نص عليه العلماء أصحاب المذاهب، فنرجو أنه يجوز له العمل به؛ لأن رأيهم لنا خير من رأينا لأنفسنا، وهم إنما أخذوا الأدلة من أقوال الصحابة فمن بعدهم؛ ولكن لا ينبغي الجزم بأن هذا شرع الله، وشرع رسوله -صلى الله عليه وسلم- حتى يتبين الدليل الذي لا مُعارض له في المسألة، وهذا عمل سلف الأمة وأئمتها قديما وحديثا. والذي ننكره هو التعصب للمذاهب وترك اتباع الدليل

إذا تبين هذا؛ فهذا الذي أنكرناه، وأنكره العلماء في القديم، والحديث. والله أعلم. [قال لزوجته: أنت طالق قبل موتي بشهر أو بثلاثة] (المسألة الثانية): إذا قال الرجل لزوجته: أنت طالق قبل موتي بشهر، أو بثلاثة، أو قال: قبل موتي بثلاثة أيام أنت طالق، ويطلب هذا الرجل أن يحرم زوجته من الميراث الشرعي، فهل يقع على زوجته طلاق في الحال أم يجوز له أن يطأها إلى أن يموت (الجواب): الذي نص عليه علماؤنا -رحمة الله عليهم- أنه يجب على الزوج اعتزالها من حين ذلك، لأن كل شهر أو يوم يحتمل أن يموت فيه، فتكون قد طلقت قبله في الوقت الذي وقته، فإذا وطئها والحالة هذه احتمل أن يموت؛ فيكون قد وطئها في حال بينونتها. وأما إذا عرف أن قصده بكلامه ذلك حرمانها من الميراث، فإنها ترثه ولو خرجت من العدة كما هو مذهب الإمام أحمد، وغيره من العلماء؛ وهو الذي تدل عليه قصة عمر بن الخطاب رضي الله عنه مع غيلان بن سلمة الثقفي لمّا طلق زوجاته، وقسم الميراث بين أولاده. وهذه المرأة في حال حياة زوجها لها حكم الزوجات من النفقة، والكسوة والسكنى لا في الوطء والنظر؛ فإن ذلك لا يجوز، هذا الذي دل عليه كلام الحنابلة. والله أعلم. [قال لغلامه: أنت حر لوجه الله قبل موتي بشهر، وأعطاه جميع ماله] (المسألة الثالثة): إذا قال لغلامه: أنت حر لوجه الله قبل موتي بشهر، وأعطاه جميع ماله، ومراد هذا الرجل حرمان ورثته؛ فهل يكون الغلام في تلك الساعة حرا، أم يبقى في الرق إلى موت سيده؟ إلى آخره. (الجواب): إن العتق صحيح، فإذا مات السيد تبين أن العتق وقع قبل موته بما قدر به، وأما المال فلا يصح تمليكه إياه ولا هبته له، لأنه حين تمليكه المال هو رقيق، والعبد لا يملك بالتمليك في أصح أقوال العلماء.

[قال لزوجته: أنت طالق بالثلاث، والمهر زكوي ومؤجل في ذمته] (وأما المسألة الرابعة): وهي الصداق الزكوي: إذا قال الرجل لزوجته: أنت طالق بالثلاث، والمهر زكوي، والزوجة معه سنين متعددة، والمهر مؤجل في ذمته، ولم تقبض منه شيئا، والزوج يخرج الزكاة كل سنة. إلى آخره. (الجواب): إن الطلاق يقع، والزكاة تتعلق بذمة المرأة؛ فإذا أخذت الزكاة من الزوج، رجع عليها. والله أعلم. [النذر على رجل حي] (المسألة الخامسة): هل يجوز النذر على رجل حي مثل أن قال: مالي نذر عليّ لوجه الله على ابني، أو على فلان الأجنبي، هل ينعقد هذا النذر، أو يكون شِرْكًَا إلى آخره. (الجواب): إن النذر الذي يُقصد به وجه الله في عمل طاعة لله ورسوله كالنذر على فقير معين، أو غيره، فإنه يجب الوفاء به، كما قال -تعالى -: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ} [البقرة من الآية: 270]. وقال-تعالى-: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا} [الإنسان: 7]. وعن عائشة-رضي الله تعالى عنها- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من نذر أن يطيع الله فَلْيُطِعْهُ، ومن نذر أن يعصي الله فلا يَعْصِهِ" 1، ولا يكون هذا النذر شركا، لأن النذر الذي يكون شركا النذر لغير الله، كالنذر لولي يُعْبَدُ من دون الله، أو لِقُبّةٍ، أو لمن يخدمها، أو سدنتها؛ فهذا هو الذي يكون شركا، وهو نذر معصية، لا يجوز نذره، ولا الوفاء به كما تقدم في الحديث. [التفضيل بين الأولاد في العطية] (المسألة السادسة): رجل تصدق، أو وهب لأحد من أولاده من ماله زائدا عن الباقين، أو أعطى المال واحدا منهم، هل تصح عطيته، ويحرم الباقين من المال وهل يكون عاصيا لمخالفته الشرع؟ (الجواب): لا يجوز للوالد التفضيل بين أولاده في العطية، بل يحرم

_ 1 البخاري: الأيمان والنذور (6696 ,6700) , والترمذي: النذور والأيمان (1526) , والنسائي: الأيمان والنذور (3806 ,3807 ,3808) , وأبو داود: الأيمان والنذور (3289) , وابن ماجه: الكفارات (2126) , وأحمد (6/ 36 ,6/ 41 ,6/ 224) , ومالك: النذور والأيمان (1031) , والدارمي: النذور والأيمان (2338).

عليه ذلك، ويجب عليه ردها، والتسوية بينهم كما ثبت ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم- "في قصة النعمان بن بشير لمّا نحله أبوه نِحْلَةً، فقالت أمه: لا أرضى حتى تشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك، فأتاه فأخبره، فقال: كل أولادك أعطيت مثل هذا؟ فقال: لا. فقال: اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم"، وفي لفظ آخر: "لا تشهدني على جور"1، قال النعمان: فرد أبي تلك العطية. وهذا مذهب الإمام أحمد، وغيره، وهو الصواب. [القيام للأمراء والعلماء وأهل الفضل] (المسألة السابعة): ما تقولون في القيام في وجوه الأمراء، والعلماء، وأهل الفضل كما يفعله أهل فارس، والروم، وبعض المطاوعة يفتون أن القيام جائز في حق العلماء، وأهل الفضل؟ (الجواب): إنه لا يجوز القيام للعلماء، ولا الأمراء بحيث يتخذ ذلك عادة وسنة، بل ذلك من فعل أهل الجاهلية، والجبابرة كملوك فارس، والروم وغيرهم؛ فإنهم كانوا يفعلون ذلك مع عظمائهم، وقد ثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "من أحب أن يتمثل له الرجال قياما، فليتبوأ مقعده من النار"2، وفي حديث آخر عن أنس بن مالك قال: "لم يكن أحد أحب إليهم من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يعني: الصحابة، وكانوا لا يقومون له لما يعلمون من كراهته لذلك"3. وثبت في صحيح مسلم، وسنن أبي داود عن جابر قال: "اشتكى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فصلينا وراءه قياما وهو قاعد، وأبو بكر يسمعنا تكبيره، فالتفت إلينا فإذا نحن قيام، فأشار إلينا فقعدنا، فصلينا بصلاته قعودا. فلما سلم قال: إن كنتم لتفعلون فعل فارس والروم، يقومون على ملوكهم، وهم قعود، فلا تفعلوا، ائتموا بأئمتكم: إن صلوا قياما فصلوا قياما، فإن صلوا قعودا فصلوا قعودا"4.

_ 1 البخاري: الشهادات (2650) , ومسلم: الهبات (1623) , والنسائي: النحل (3681 ,3682 ,3683) , وأحمد (4/ 273). 2 الترمذي: الأدب (2755) , وأبو داود: الأدب (5229). 3 الترمذي: الأدب (2754). 4 مسلم: الصلاة (413) , والنسائي: السهو (1200) , وأبو داود: الصلاة (602 ,605) , وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها (1240) , وأحمد (3/ 334 ,3/ 395).

[الحلف بغير الله تعالى] (المسألة الثامنة): الحلف بغير الله مثل: الحلف بالنبي، أو الولي، أو رأس فلان، أو تربة فلان، هل يكون هذا شركا أو مكروها؟ (الجواب): الحلف بغير الله من أنواع الشرك الأصغر؛ وقد يكون شركا أكبر بحسب حال قائله ومقصده. والكفر والشرك أنواع: منها ما يخرج عن الملة، ومنها ما لا يخرج عن الملة، كما قال ابن عباس -رضي الله عنهما- في قوله-تعالى-: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة من الآية: 44]. قال: كفر دون كفر، وشرك دون شرك، وظلم دون ظلم. فإذا حلف بغير الله جاهلا أو ناسيا فليستغفر الله، وليقل لا إله إلا الله، كما ثبت في صحيح البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من حلف فقال في حلفه: واللات والعزى، فليقل: لا إله إلا الله"1. [خالف في بعض المسائل مثل القنوت في الفجر] (المسألة التاسعة): إذا خالف في بعض المسائل مثل: القنوت في الفجر، والجهر بالبسملة في موضع الجهر؛ هل يصح له ذلك، أم يوافق الجمهور وأيهما الأصلح (الجواب): اعلم أن مسائل الخلاف بين الأئمة لا إنكار فيها إذا لم يُتَبَيّنْ الدليل القاطع، والصحابة قد اختلفوا في أشياء من مسائل الفروع، ولم ينكر بعضهم على بعض، وكذلك العلماء بعدهم، وأن كلا منهم قد قال بما عنده من العلم؛ والصواب عندنا ترك الجهر بالبسملة، وترك القنوت دائما في الفجر إلا إذا نزلت بالمسلمين نازلة؛ فإن السنة قد وردت، وصحت بالقنوت في الفجر في هذه الحالة. وهذا هو الثابت عندنا من فعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وفعل خلفائه الراشدين كما هو مذكور في الكتب الصحيحة كالصحيحين، وغيرهما. والله أعلم.

_ 1 البخاري: تفسير القرآن (4860) , ومسلم: الأيمان (1647) , والترمذي: النذور والأيمان (1545) , والنسائي: الأيمان والنذور (3775) , وأبو داود: الأيمان والنذور (3247) , وابن ماجه: الكفارات (2096) , وأحمد (2/ 309).

[تقبيل أيدي الأمراء والعلماء والسادة والخضوع عند تحيتهم] (المسألة العاشرة): تقبيل أيدي الأمراء والعلماء والسادة وغيرهم، وكذا الخضوع عند تحيتهم بأن يحرك رأسه ويحط يده على صدره أو على رأسه عند التحية، هل يكون شركًا أو مكروهًا؟ (الجواب): لا يجوز تقبيل أيدي العلماء والسادة والانحناء في التحية ويتخذ ذلك عادة وسنة؛ بل ذلك من البدع المحدثة، فينبغي للمسلمين إزالتها والنهي عنها. وأما تقبيل اليد في بعض الأحيان، كتقبيل يد العالم لعلمه، أو من كان من أهل بيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لشرف نسبه، فلا بأس بذلك إذا لم يُجْعَلْ عادة مستمرة، كما صح في الحديث أن أبا عبيدة قبل يد عمر؛ والفرق أن ما يُفْعَلُ بعض الأحيان فيجوز، وأما ما يُجعل عادة وسنة فلا يجوز؛ وهذا ظاهر عند أهل العلم. والله أعلم. [رجل دخل هذا الدين وأحبه، ولكن لا يعادي المشركين أو عاداهم ولم يكفرهم] (المسألة الحادية عشرة): رجل دخل هذا الدين وأحبه ولكن لا يعادي المشركين، أو عاداهم ولم يكفرهم، أو قال: أنا مسلم ولكن لا أقدر أن أُكَفّرَ أهل لا إله إلا الله ولو لم يعرفوا معناها 1. ورجل دخل هذا الدين وأحبه، ولكن يقول: لا أتعرض للقباب، وأعلم أنها لا تضر ولا تنفع، ولكن ما أتعرضها. (الجواب): إن الرجل لا يكون مسلما إلا إذا عرف التوحيد، ودان به، وعمل بموجبه، وصدق الرسول صلى الله عليه وسلم فيما أخبر به، وأطاعه فيما نهى عنه وأمر به، وآمن به وبما جاء به. فمن قال: لا أعادي المشركين، أو عاداهم ولم يكفرهم، أو قال: لا أتعرض أهل لا إله إلا الله ولو فعلوا الكفر والشرك وعادوا دين الله، أو قال: لا أتعرض للقباب؛ فهذا لا يكون مسلما، بل هو مِمّنْ قال الله فيهم: {وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا

_ 1 من لا يعرف معناها لا يكون من أهلها (فاعلم أنه لا إله إلا الله).

بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا} [النّساء من الآيتين: 150 - 151] والله -سبحانه وتعالى- أوجب معاداة المشركين، ومنابذتهم، وتكفيرهم؛ فقال: {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} الآية [المجادلة من الآية: 22]. وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ} الآيات، [الممتحنة من الآية: 1]. والله أعلم. [هجرة المسلم من بلده إذا كانت على الكفر أو الشرك] (المسألة الثانية عشرة): رجل دخل هذا الدين وأحبه، ويحب من دخل فيه، ويبغض الشرك وأهله، ولكن أهل بلده يصرحون بعداوة أهل الإسلام، ويقاتلون أهله، ويعتذر أن ترك الوطن يشق عليه، ولم يهاجر عنهم؛ فهل يكون مسلما، أو كافرا وهل يعذر بعدم الهجرة؟ (الجواب): أما الرجل الذي عرف التوحيد، وآمن به، وأحبه، وأحب أهله، وعرف الشرك، وأبغضه، وأبغض أهله، ولكن أهل بلده على الكفر والشرك، ولم يهاجر؛ فهذا فيه تفصيل: فإن كان يقدر على إظهار دينه عندهم، ويتبرأ مما هم عليه من الكفر، والشرك، ويظهر لهم كفرهم، وعداوته لهم، ولا يفتنونه عن دينه لأجل عشيرته، أو ماله، أو غير ذلك فهذا لا يحكم بكفره، ولكنه إذا قدر على الهجرة ولم يهاجر، ومات بين أظهر المشركين، فيخاف عليه أن يكون قد دخل في أهل هذه الآية: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النّساء: 97]، فلم يعذر الله إلا من لم يستطع حيلة، ولا يهتدي سبيلا؛ ولكن قل أن يوجد اليوم مَنْ هو كذلك إلا أن يشاء الله، بل الغالب أن المشركين

لا يدعونه بين أظهرهم، بل إما قتلوه، وإما أخرجوه إن وجدوا إلى ذلك سبيلا 1. وأما إن لم يكن له عذر، وجلس بين أظهرهم، وأظهر لهم أنه منهم، وأن دينهم حق، ودين الإسلام باطل، فهذا كافر مرتد، ولو عرف الدين بقلبه، لأنه يمنعه عن الهجرة محبة الدنيا عن الآخرة، ويتكلم بكلام الكفر من غير إكراه؛ فدخل في قوله-تعالى-: {وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} [النّحل الآيتان: 106 - 107]. [من مات من أهل الشرك قبل بلوغ الدعوة] (المسألة الثالثة عشرة): فيمن مات قبل هذه الدعوة، ولم يدرك الإسلام، وهذه الأفعال التي يفعلها الناس اليوم يفعلها، ولم تقم عليه الحجة، ما الحكم فيه وهل يلعن، أو يسب، أو يكف عنه وهل يجوز لابنه الدعاء له وما الفرق بين من لم يدرك هذه الدعوة، وبين من أدركها ومات معاديا لهذا الدين وأهله؟ (الجواب): إن من مات من أهل الشرك قبل بلوغ هذه الدعوة، فالذي يحكم عليه أنه إذا كان معروفا بفعل الشرك، ويدين به، ومات على ذلك، فهذا ظاهره أنه مات على الكفر، فلا يُدْعَى له، ولا يُضَحّى له، ولا

_ 1 قد كان هذا هو الغالب فيمن حولهم من المشركين في زمنهم، وهو لا يصح على الأمم والممالك في عصرنا؛ فإن أكثر البلاد غير الإسلامية لا تقتل أحدا، ولا تخرجه لأجل دينه، وإن أظهره، وإن صرح بأنه هو المحق وكل من خالفه مبطل وعدو لله -تعالى-، وكذلك البلاد الإسلامية التي فشت فيها البدع المُكَفِّرة وغير المُكَفِّرَةِ، كمصر والآستانة مثلا؛ فإن حرية الدين فيها تامة. ومن كان مقيما لدينه في بلد كهذا لا يصدق عليه أنه ظالم لنفسه، فلا يدخل بمجرد الإقامة في عموم الآية، بل ربما كانت إقامته في أمثال هذه البلاد مفيدة من حيث تكون سببا لاهتداء بعض الناس به كما جربنا بنفسنا.

يُتَصَدّقُ عليه، وأما حقيقة أمره فإلى الله -تعالى-: فإن كان قد قامت عليه الحجة في حياته، وعاند، فهذا كافر في الظاهر والباطن. وإن كان لم تقم عليه الحجة، فأمره إلى الله تعالى. وأما سبه، ولعنه فلا يجوز، بل لا يجوز سب الأموات مطلقا كما في صحيح البخاري عن عائشة-رضي الله-عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تَسبّوا الأموات فإنهم قد أفضوا إلى ما قدموا "1، إلا إن كان أحد من أئمة الكفر، وقد اغتر الناس به فلا بأس بِسَبِّهِ إذا كان فيه مصلحة دينية. والله أعلم. [إنكار الصفات التي وصف الله بها نفسه في كتابه أو تأويلها] (المسألة الرابعة عشرة): في إنكار الصفات التي وصف الله بها نفسه في كتابه مثل: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح من الآية: 10]، ثم يقول: يد الله قدرته، أو يؤول الاستواء بالاستيلاء، أو يقول: الله في كل مكان، لا يخلو منه مكان، فهل هذا كافر، أم لا؟ (الجواب): إن من اعتقد هذا الاعتقاد فهو مبتدع، ضال، جاهل، قد خالف العقيدة السلفية التي درج عليها النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، والتابعون لهم بإحسان، كالأئمة الأربعة، ومن اتبعهم من العلماء، وأما التكفير بذلك، فلا يُحْكَمْ بكفره إلا إذا عرف أن عقيدته هذه مخالفة لما عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، والتابعون لهم بإحسان. والله أعلم. [لم يحقق الموالاة والمعاداة ولم يتبرأ من دينه الأول] (المسألة الخامسة عشرة): فيمن عاهد على الإسلام، والسمع، والطاعة، والمعاداة والموالاة، ولم يف بما عاهد عليه من الموالاة والمعاداة، ولا يتبرأ من دينه الأول، ويدعي أن آباءه ماتوا على الإسلام، فهل يكون مرتدا،، وهل يجوز أخذ ماله وسبيه إن لم يرجع؟ (الجواب): إن هذا الرجل إن اعتقد أن آباءه ماتوا على الإسلام

_ 1 البخاري: الجنائز (1393) , والنسائي: الجنائز (1936) , وأحمد (6/ 180) , والدارمي: السير (2511).

ولم يفعلوا الشرك الذي نهينا الناس عنه، فإنه لا يحكم بكفره. وإن كان مراده أن هذا الشرك الذي نهينا الناس عنه هو دين الإسلام، فهذا كافر. فإن كان قد أسلم، فهو مرتد يجب أن يستتاب، فإن تاب وإلا قُتِلَ، وصار ماله فَيْئًا للمسلمين؛ وإن تاب قبل موته أحرز ماله. والله أعلم. [اشترى نخلا ونذر المشتري متى ما دفع البائع أرجع نخله إليه] (المسألة السادسة عشرة): رجل اشترى نخلا من رجل بثمن معين، وبعد هذا نذر المشتري نذرا: لله عليّ متى ما دفع البائع - أو مَنْ يقوم مقامه- دراهمي أن أرجع عليه نخله. وعلى هذه الصورة يدفع البائع بعد أكل ثمرة النخل سنة واحدة، فهل يصح البيع ويبطل النذر وهذه المسألة علماء فارس يجوزونها. وإذا اشترى الرجل هذا النخل، ونذر أن يرجعه على صاحبه بعد سنة، أو زائد، وبعدما عرف أن النذر لا يجوز، وتاب، ورجع عن هذا النذر، وادعى البائع في النخل، هل له أخذه من المشتري، أم لا؟ (الجواب): إن هذا العقد المذكور في السؤال عقد باطل، وهو حيلة على الربا، وهو من باب "كل قرض جر نفعا فهو ربا"؛ وتحيله بهذا العقد، والنذر لا يحل له الربا، وهي حيلة باطلة، والحيل لا تجوز في الدين. ويجب على المشتري رد الثمن، ويعود النخل إلى بائعه، وأما ما أكل في حال كفره، وجهله من غَلّة النخل؛ فإنه لا يطالب بذلك. والله أعلم وأما نذر المشتري أن يرد عليه نخله إذا أتاه بدراهمه؛ فليس هذا شركا كما تقدم في الجواب عن المسألة الخامسة. [حكم إنفاذ وصية من أعطى بعض أولاده وترك البعض] (المسألة السابعة عشرة): رجل أعطى بعض أولاده من ماله زائدا على الآخرين، أو أعطى المال ولدا واحدا، وحرم الباقين، ومات الرجل؛ أفيجوز للأمير أن ينفذ وصيته، ويعطي المال، واحدا من الأولاد، ويحرم الباقين؟

أم تبطل الوصية، ويقسم بالحكم الشرعي، وهل يكون الموصي عاصيا لمخالفته لحكم رب العالمين؟ وأكثر العلماء المبطلين جوّزوا عطيته، وحكموا بالمال لواحد، وقالوا: ما دام الإنسان حيًّا له الاختيار في ماله، ولا عليه. بينوا لنا تؤجروا. (الجواب): الحمد لله. إذا أوصى الرجل لبعض أولاده، أو بعض ورثته، لم تصح الوصية، ولا يجوز إنفاذها بعد موته، وقد اتفق العلماء على أن لا وصية لوارث؛ فإذا أوصى بذلك، فالوصية باطلة إلا إذا أجاز ذلك الورثة، بشرط أن يكونوا راشدين ليس فيهم سفيه، ولا صغير. وأما إذا أعطى بعض أولاده عطية في حال الصحة، وفضّلهم على الآخرين، وقبض المُعْطِي العطية، ومات الوالد ولم يرجع في عطيته، فإن هذه المسألة فيها خلاف بين العلماء: فالأكثرون قالوا: تمضي العطية لمن أُعْطِيَهَا، والإثم على الوالد المُفَضّل بينهم، ولا تحسب من الميراث. ومن العلماء من قال: إما أن ترد، وإما أن تُحسب عليه من الميراث، ولا يأخذ زيادة على إخوانه، وهذا القول هو أقرب إلى الدليل، وأحوط. والله أعلم. [ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ثم سب المسلمين] (المسألة الثامنة عشرة): في بلد بلغتهم هذه الدعوة، وبعضهم يقول: هذا الأمر حق، ولا غَيّرَ منكرا، ولا أمر بالمعروف، ولا عادى، ولا وَالَى، ولا أقر أنه قبل هذه الدعوة على ضلال، وينكر على الموحدين إذا قالوا: تبرأنا من دين الآباء والأجداد، وبعضهم يكفر المسلمين جهارا، ويسب هذا الدين، ويقول: دين مسيلمة، والذي يقول: هذا أمر زَيْن، لا يمكنه يقوله جهارا؛ فما تقولون في هذه البلدة على هذه الحال مسلمون، أم كفار وما معنى قول الشيخ، وغيره: إنا لا نُكَفّرُ بالعموم، وما معنى العموم والخصوص؟ إلى آخره.

(الجواب): إن أهل هذه البلدة المذكورين إذا كانوا قد قامت عليهم الحجة التي يكفر من خالفها، حكمهم حكم الكفار؛ والمسلم الذي بين أظهرهم ولا يمكنه إظهار دينه، تجب عليه الهجرة إذا لم يكن ممن عذَره الله. فإن لم يهاجر فحكمه حكمهم في القتل، وأخذ المال. والسامعون كلام الشيخ في قوله: إنا لا نكفر بالعموم، فالفرق بين العموم والخصوص ظاهر، فالتكفير بالعموم أن يُكَفّرُ الناس كلهم، عالمهم وجاهلهم، ومن قامت عليه الحجة، ومن لم تقم عليه؛ وأما التكفير بالخصوص فهو أن لا يُكَفّرَ إلا من قامت عليه الحجة بالرسالة التي يُكَفّرُ مَنْ خالفها. وقد يُحْكَم بأن أهل هذه القرية كفار حكمهم حكم الكفار؛ ولا يحكم بأن كل فرد منهم كافر بعينه؛ لأنه يحتمل أن يكون منهم من هو على الإسلام معذور في ترك الهجرة، أو يظهر دينه، ولا يعلمه المسلمون، كما قال -تعالى- في أهل مكة في حال كفرهم: {وَلَوْلا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَأُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ} الآية [الفتح من الآية: 25]. وقال-تعالى-: {وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا} الآية [النّساء من الآية: 75]، وفي الصحيح عن ابن عباس- رضي الله عنهما- قال: كنت أنا، وأمي من المستضعفين. وأما أهل القرية الذين عاهدوا على الإسلام، ولم يهدموا القباب، ولم يعادوا ولم يوالوا، وفيهم رجلان، أو ثلاثة يدّعون التوحيد، فاعلم-رحمك الله-أن مجرد العهد على الإسلام لا يكون الرجل به مسلما حتى يعمل بما عاهد عليه من توحيد الله، والتبري من الشرك وأهله، وإقامة الصلوات الخمس في أوقاتها بشروطها وأركانها، وأداء الزكاة المفروضة، والإيمان بجميع ما جاء به

الرسول صلى الله عليه وسلم. وإذا عاهد على الإسلام ولم يعمل به، واستمر على الشرك بالله، فإنه يكون مرتدا عن الإسلام، وذنبه أعظم من ذنب الكافر الأصلي الذي لم يعاهد قط، ولم يظهر الإسلام. ولهذا ثبت في الصحيحين، وغيرهما أن النبي- صلى الله عليه وسلم - قال: "من بدل دينه فاقتلوه "1، وفي الصحيح: "أن معاذا لمّا قَدِمَ من اليمن، وجد رجلا عند أبي موسى موثقا في الحديد فقال: ما هذا قال: رجل ارتد بعد إسلامه. فقال: لا أجلس حتى يُقتل: قضاء الله ورسوله. فأمر به فقتل. "2 [قول سيدي فلان ومخدومنا فلان] (المسألة التاسعة عشر): ما قولكم في قول: سيدي فلان، ومخدومنا فلان، وكما في الدلائل سيدنا، ومولانا محمد، هل يكون شركا؟ وبعض المطاوعة جوزوا هذه الألفاظ، وتركوا كتاب رب العالمين، وجعلوا درسهم دلائل الخيرات إلخ. (الجواب): إن قول "سيدي"، ونحوه إن قُصِد به أن ذلك الرجل معبوده الذي يدعوه عند الشدة لتفريج الكربات، وإغاثة اللهفات، فإن ذلك شرك أكبر؛ وأما إن كان مراده غير ذلك، كما يقول التلميذ لشيخه: سيدي، أو يقال للأمير والشريف، أو لمن كان من أهل بيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: هذا سيد، فهذا لا بأس به، ولكن لا يجعل عادة وسُنّة بحيث لا يتكلم إلا به. وثبت أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "أنا سيد ولد آدم"3، وقال في الحسن: "إن ابني هذا سيد، ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين"4. وأما قول صاحب دلائل الخيرات: اللهم صل على سيدنا، ومولانا محمد، فلا ينبغي جعل ذلك عادة وسُنّة، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلم أمته كيف يصلون عليه، ولم يذكر ذلك الكلام فيه. [تسمية مالك ونافع ومحسن] (المسألة العشرون): تسمية مالك، ونافع، ومحسن، أو محمد رفيع الدين، أو محمد صادق؛ هل تكون هذه الأسماء شركا، أم لا؟ (الجواب): لا بأس بالتسمي بمالك، ونافع، ومحسن، ومحمد رفيع الدين،

_ 1 البخاري: الجهاد والسير (3017) , والترمذي: الحدود (1458) , والنسائي: تحريم الدم (4059 ,4060 ,4061 ,4062 ,4064 ,4065) , وأبو داود: الحدود (4351) , وابن ماجه: الحدود (2535) , وأحمد (1/ 217 ,1/ 282 ,1/ 322). 2 البخاري: استتابة المرتدين والمعاندين وقتالهم (6923) , وأبو داود: الحدود (4354) , وأحمد (4/ 409). 3 مسلم: الفضائل (2278) , وأحمد (2/ 540). 4 البخاري: الصلح (2704) , والترمذي: المناقب (3773) , والنسائي: الجمعة (1410) , وأبو داود: السنة (4662) , وأحمد (5/ 37 ,5/ 44 ,5/ 47 ,5/ 49 ,5/ 51).

ومحمد صادق؛ لأنه لم يرد في الحديث النهي عن ذلك، وقد كان في الصحابة من اسمه: مالك، ونافع، ومحسن، وفي التابعين جعفر الصادق، وغيره. والله أعلم. [القراءة على القبور وحمل المصاحف إلى القبور] (المسألة الحادية والعشرون): في القراءة على القبور، وحمل المصاحف إلى القبور، وكما يفعل بعض الناس يجلسون سبعة أيام بالمصاحف على القبور، ويسمونها الشدة، وكذلك اجتماع الناس عند أولياء الميت، ويجلسون سبعة أيام، ويقرؤون فاتحة الكتاب على ساعة، ويرفعون أيديهم بالدعاء، وكذلك يجمعون الناس عند بيت ولي الميت، ويقرءون القرآن، ويطعمون الطعام؛ فهل هذه الأفعال من أفعال الجاهلية المبتدعة؟ (الجواب): إن القراءة على القبور، وحمل المصاحف إلى القبور كما يفعله بعض الناس، يجلسون سبعة أيام، ويسمونها الشدة، وكذلك اجتماع الناس عند أهل الميت سبعة أيام، ويقرؤون فاتحة الكتاب، ويرفعون أيديهم بالدعاء للميت؛ فكل هذا من البدع والمنكرات المُحْدَثة التي يجب إزالتها؛ ولم يكن يُفعل على عهد رسول الله- صلى الله عليه وسلم -ولا في عهد خلفائه الراشدين من ذلك شيء. ولن يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها، قال الله-تعالى-: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ} [الأحزاب من الآية: 21]. وقال-تعالى-: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِينًا} [المائدة من الآية: 3]. ولم يمت رسول الله -صلى الله عليه وسلم - حتى أكمل الله به دين الإسلام. وثبت في الصحيح عن عائشة -رضي الله عنها- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد" 1، وفي حديث العرباض بن سارية الذي أخرجه أبو داود في سُننه وأحمد في مسنده "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء من بعدي، عضوا عليها

_ 1 البخاري: الصلح (2697) , ومسلم: الأقضية (1718) , وأبو داود: السنة (4606) , وابن ماجه: المقدمة (14) , وأحمد (6/ 73 ,6/ 146 ,6/ 180 ,6/ 240 ,6/ 256 ,6/ 270).

بالنواجذ. وإياكم ومحدثات الأمور! فإن كل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار" 1 2. [رجل أظهر الإسلام ووالَى وعادى في بلده وأمير البلد ما خالف عليه] (المسألة الثانية والعشرون): في رجل أظهر الإسلام في بلده، ووالَى، وعادى في بلده، وأمير البلد ما خالف عليه، وأيده، وصدقه؛ فهل يكون هذا مسلم، أم لا؟ ولا بقي في بلده وثن أبدا، ويأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر حد الاستطاعة. (الجواب): هذا الرجل إذا أظهر إسلامه في بلده، ووالى وعادى في بلده، وأمير بلده لم يخالف عليه، بل أيده، وصدقه، فهذا مسلم؛ لأنه قد عمل بدين الإسلام، وفعل ما يقدر عليه. [هل يكفر صاحب البردة وغيره مِمّنْ يوجد الشرك في كلامه؟] (المسألة الثالثة والعشرون): إن صاحب البردة، وغيره مِمّنْ يوجد الشرك في كلامه، والغلو في الدين، وماتوا، لا يحكم بكفرهم، وإنما الواجب إنكار هذا الكلام، وبيان أن من اعتقد هذا على الظاهر فهو مشرك كافر. وأما القائل: فيرد أمره إلى الله -سبحانه -، ولا ينبغي التعرض للأموات، لأنه لا يُعلم هل تاب، أم لا. وأما شعر ابن الفارض فإنه كفر صريح، لأنه شاعر الاتحادية الذين لا يفرقون بين العابد والمعبود، والرب والمربوب، بل يقول بوحدة الوجود، وهو من طائفة ابن عربي الذين قال فيهم ابن المقري الشافعي: مَنْ شك في كفر طائفة ابن عربي فهو كافر. والله أعلم، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.

_ 1 الترمذي: العلم (2676) , وأبو داود: السنة (4607) , وابن ماجه: المقدمة (42) , وأحمد (4/ 126) , والدارمي: المقدمة (95). 2 عبارة وكل ضلالة في النار مقحمة هنا وهي ليست من الحديث.

رسائل وفتاوى للشيخ عبد الله بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب

رسائل وفتاوى للشيخ عبد الله بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب ... فصل في رسائل العلامة الشيخ عبد الله بن شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب، رحمهما الله تعالى بسم الله الرحمن الرحيم قال الشيخ عبد الله بن الشيخ الإمام شيخ الإسلام الداعي إلى دين سيد الأنام محمد بن عبد الوهاب بن الشيخ سليمان مفتي الديار النجدية في زمنه ابن علي بن مشرف، رحمهم الله تعالى، وجزاهم عن الإسلام والمسلمين أفضل الجزاء، آمين. -1 - بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين. [آيات الصفات وأحاديثها التي اختلف فيها علماء الإسلام] الجواب -وبالله التوفيق- عن المبحث الأول عن آيات الصفات، وأحاديثها التي اختلف فيها علماء الإسلام. [مذهب السلف في إثبات صفات الله تعالى] فنقول: الذي نعتقد، وندين الله به هو مذهب سلف الأمة، وأئمتها من الصحابة والتابعين لهم بإحسان من الأئمة الأربعة، وأصحابهم -رضي الله عنهم أجمعين- وهو: الإيمان بذلك، والإقرار به، وإمراره كما جاء من غير تشبيه، ولا تمثيل، ولا تعطيل، قال الله -تعالى -: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النّساء: 115]. وقد شهد الله -تعالى- لأصحاب نبيه صلى الله عليه وسلم ومن تبعهم

بإحسان- بالإيمان فعلم قطعا أنهم المراد بالآية الكريمة؛ فقال-تعالى-: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ} الآية [التّوبة من الآية: 100]. وقال -تعالى-: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ} الآية [الفتح من الآية: 18]. فثبت بالكتاب الكريم أن من اتبع سبيلهم فهو على الحق، ومن خالفهم فهو على الباطل. فَمِن سبيلهم في الاعتقاد الإيمان بصفات الله -تعالى - وأسمائه التي وصف بها نفسه، وسمى بها نفسه في كتابه وتنْزيله، أو على لسان رسوله -صلى الله عليه وسلم- من غير زيادة عليها، ولا نقصان منها، ولا تجاوز لها، ولا تفسير لها، ولا تأويل لها بما يخالف ظاهرها، ولا تشبيه بصفات المخلوقين، ولا سمات المحدثين؛ بل أقروها كما جاءت، وردوا علمها إلى قائلها، ومعناها إلى المتكلم بها، صادق لا شك في صدقه فصدقوه، ولم يعلموا حقيقة معناها فسكتوا عما لم يعلموه. وأخذ ذلك الآخر عن الأول، ووصى بعضهم بعضا بحسن الاتباع، والوقوف حيث وقف أولهم، وحذروا من التجاوز لها، والعدول عن طريقهم، وبينوا لنا سبيلهم، ومذاهبهم وحذرونا من اتباع طريق أهل البدع والاختلاف والمُحْدَثَات الذين قال الله فيهم: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} [الأنعام من الآية: 159]. {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [آل عمران: 105]. ونرجو أن يجعلنا الله -تعالى- مِمّنْ يقتدي بهم في بيان ما بينوه، وسلوك الطريق الذي سلكوه؛ والدليل على أن مذهبهم ما ذكرنا أنهم نقلوا إلينا القرآن العظيم، وأخبار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نقل مصدق لها، مؤمن بها، قابل لها، غير مرتاب فيها، ولا شاكٍ في صدق

قائلها، ولم يفسروا ما يتعلق بالصفات منها، ولا تأوّلُوه، ولا شبهوه بصفات المخلوقين؛ إذ لو فعلوا شيئا من ذلك لَنُقِلَ عنهم، بل بلغ من مبالغتهم في السكوت عن هذا أنهم كانوا إذا رأوا مَنْ يسأل عن المتشابه بالغوا في كفه وتأديبه، تارة بالقول العنيف، وتارة بالضرب، وتارة بالإعراض الدّالّ على شدة الكراهة لمسألته. ولمّا سُئِل مالك بن أنس -رحمه الله تعالى- عن الاستواء كيف هو فقيل له: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5] كيف استوى فأطرق مالك -رحمه الله تعالى- وعلاه الرحضاء، يعني: العرق، وانتظر القوم ما يجيء منه، فرفع رأسه إليه فقال: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، وأحسبك رجل سوء. وأمر به فأُخْرِج. ومَنْ أوَّلَ الاستواء بالاستيلاء، فقد أجاب بغير ما أجاب به مالك، وسلك غير سبيله، وهذا الجواب من مالك -رحمه الله تعالى- في الاستواء شافٍ كافٍ في جميع الصفات مثل: النُزول، والمجيء واليد، والوجه، وغيرها. فيُقال في مثل النُزول: النُزول معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة؛ وهكذا يقال في سائر الصفات، إذ هي بمثابة الاستواء الوارد به الكتاب والسنة، وثبت عن الربيع بن سليمان قال: سألت الشافعي عن صفات الله -تعالى- فقال: حرام على العقول أن تمثل الله تعالى، وعلى الأوهام أن تحده، وعلى الظنون أن تقطع، وعلى النفوس أن تنكر، وعلى الضمائر أن تعمق، وعلى الخواطر أن تحيط، وعلى العقول أن تعقل، إلا ما وصف به نفسه، أو على لسان نبيه عليه الصلاة والسلام. وثبت عن إسماعيل بن عبد الرحمن الصابوني أنه قال: إن أصحاب الحديث المتمسكين بالكتاب والسنة يعرفون ربهم

تبارك وتعالى بصفاته التي نطق بها كتابه وتنْزيله، وشهد له رسوله صلى الله عليه وسلم على ما وردت به الأخبار الصحاح، ونقله العدول الثقات، ولا يعتقدون به تشبيها بصفات خلقه، ولا يكيفونها تكييف المشبهة، ولا يحرفون الكلم عن مواضعه تحريف المعتزلة والجهمية. وقد أعاذ الله أهل السنة من التحريف والتكييف، ومَنَّ عليهم بالتفهيم والتعريف، حتى سلكوا سبيل التوحيد والتنْزيه، وتركوا القول بالتعطيل والتشبيه، واكتفوا بنفي النقائص بقوله عز وجل: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشّورى من الآية: 11]. وبقوله: {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص: 3 - 4]. وثبت عن الحميدي شيخ البخاري، وغيره من أئمة الحديث أنه قال: أصول السنة فذكر أشياء وقال: وما نطق به القرآن والحديث مثل: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ} [المائدة من الآية: 64]، ومثل: {وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزّمر من الآية: 67]، وما أشبه هذا من القرآن والحديث، لا نرده ولا نفسره، ونقف على ما وقف عليه القرآن والسنة ونقول: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5]؛ ومن زعم غير هذا فهو جهمي. فمذهب السلف -رحمة الله عليهم- إثبات الصفات، وإجراؤها على ظاهرها، ونفي الكيفية عنها، لأن الكلام في الصفات فرع عن الكلام في الذات، يحتذى فيه حذوه، فكما أن إثبات الذات إثبات وجود لا إثبات كيفية ولا تشبيه 1، وعلى هذا مضى السلف كلهم. ولو ذهبنا نذكر ما اطلعنا عليه من كلام السلف في ذلك لطال الكلام جدا. فمن كان قصده الحق وإظهار الصواب اكتفى بما قدمناه، ومن كان قصده الجدال والقيل والقال لم يزده التطويل إلا الخروج عن سواء السبيل والله الموفق.

_ 1 أي فكذلك الصفات إثباتها إثبات وجود لا كيفية ولا تشبيه.

[استحالة خلو النصوص وآثار السلف مما يجب في الصفات] وقد بعث الله تعالى نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم بالهدى ودين الحق ليخرج: {النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [إبراهيم من الآية: 1]، وشهد له بأنه بعثه داعيا إليه بإذنه، وسراجا منيرا؛ وأمره أن يقول: {هذه سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [يوسف من الآية: 108]. ومن المحال في العقل والدين أن يكون السراج المنير الذي أخرج الله به الناس من الظلمات إلى النور، وأنزل معه الكتاب ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه، وأمر الناس أن يردوا ما تنازعوا فيه من دينهم إلى ما بعث به من الكتاب والحكمة، وهو يدعو إلى الله، وإلى سبيله بإذن ربه على بصيرة، وقد أخبر الله تعالى بأنه قد أكمل له ولأمته دينهم، وأتم عليهم نعمته، محال -مع هذا وغيره- أن يكون قد ترك باب الإيمان بالله، والعلم به متلبسا مشتبها، ولم يميز ما يجب لله من الأسماء الحسنى، والصفات العلى، وما يجوز عليه، وما يمتنع عليه؛ فإن معرفة هذا أصل الدين، وأساس الهداية، وأفضل وأوجب ما اكتسبته القلوب وحصلته النفوس، وأدركته العقول، فكيف يكون ذلك الكتاب وذلك الرسول وأفضل خلق الله بعد النبيين لم يحكموا هذا الباب اعتقادا وقولا؟ ومن المحال -أيضا- أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قد علم أمته كل شيء حتى الخراءة، وقال: "تركتكم على البيضاء، ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك"1. وقال فيما صح عنه أيضا: "ما بعث الله من نبي إلا كان حقا عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم، وينهاهم عن شر ما يعلم لهم"2، وقال أبو ذر: لقد توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وما طائر يقلب جناحيه في السماء إلا ذكر لنا منه علما. وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم

_ 1 ابن ماجه: المقدمة (44) , وأحمد (4/ 126). 2 مسلم: الإمارة (1844) , والنسائي: البيعة (4191) , وابن ماجه: الفتن (3956) , وأحمد (2/ 191).

مقاما، فذكر فيه بدء الخلق حتى دخل أهل الجنة منازلهم وأهل النار منازلهم، حفظ ذلك من حفظه، ونسيه من نسيه"1 رواه البخاري. محال مع هذا أن يترك تعليمهم ما يقولونه بألسنتهم وقلوبهم في ربهم ومعبودهم رب العالمين، الذي معرفته غاية المعارف، وعبادته أشرف المقاصد، والوصول إليه غاية المطالب؛ بل هذا خلاصة الدعوة النبوية، وزبدة الرسالة الإلهية؛ فكيف يتوهم من في قلبه أدنى مسكة من إيمان وحكمة أن يظن أنه قد وقع من الرسول صلى الله عليه وسلم إخلال بهذا ثم إذا كان قد وقع ذلك منه، فمن المحال أن يكون خير أمته وأفضل قرونها قصروا في هذا الباب زائدين فيه، أو ناقصين عنه. [تفنيد من قال: مذهب الخلف أولى] ثم من المحال أن تكون القرون الفاضلة: القرن الذي بعث فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم الذين يلونهم، كانوا غير عالمين، وغير قائلين في هذا الباب بالحق المبين، لأن ضد ذلك إما لعدم العلم والقول، وإما اعتقاد نقيض الحق وقول خلاف الصدق؛ وكلاهما ممتنع. (أما الأول): فلأن من في قلبه أدنى حياة في طلب العلم، أو همة في العبادة، يكون البحث عن هذا الباب والسؤال عنه معرفة الحق فيه أكبر مقاصده وأعظم مطالبه، وليست النفوس الزكية إلى شيء أشوق منها إلى معرفة هذا الباب؛ وهذا أمر معلوم بالفطرة الوجدية، فكيف يتصور مع قيام هذا المقتضي الذي هو أقوى المقتضيات أن يتخلف عن مقتضاه في أولئك السادة في مجموع عصورهم. هذا لا يكاد يقع في أبلد الخلق، وأشدهم إعراضا عن الله، وأعظمهم إكبابا على الدنيا، والغفلة عن ذكر الله؛ فكيف يقع في أولئك الفضلاء والسادة النجباء

_ 1 البخاري: بدء الخلق (3192).

وأما كونهم كانوا معتقدين فيه غير الحق وقائليه، فهذا لا يعتقده مسلم عرف حال القوم؛ ولا يجوز أيضا أن يكون الخالفون أعلم من السابقين كما قد يقوله بعض الأغبياء ممن لم يعرف قدر السلف، بل ولا عرف الله ورسوله والمؤمنين به حقيقة المعرفة المأمور بها من أن طريقة الخلف أعلم وأحكم، وطريقة السلف أسلم. فإن هؤلاء المبتدعة الذين يفضلون طريقة الخلف على طريقة السلف إنما أتوا من حيث ظنوا أن طريقة السلف هي مجرد الإيمان بألفاظ القرآن والحديث من غير فقه لذلك بمنْزلة الأميين الذين قال الله فيهم: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ} [البقرة: 7]، وأن طريقة الخلف هي استخراج معاني النصوص المصروفة عن حقائقها بأنواع المجازات وغرائب اللغات؛ فهذا الظن الفاسد أوجب تلك المقالة التي مضمونها نبذ الإسلام وراء الظهر. وقد كذبوا على طريقة السلف، وضلوا في تصويب طريقة الخلف؛ فجمعوا بين الجهل بطريقة السلف في الكذب عليهم وبين الجهل والضلال بتصويب طريقة الخلف. وسبب ذلك: اعتقادهم أنه ليس في نفس الأمر صفة دلت عليها هذه النصوص بالشبهات الفاسدة التي شاركوا فيها أهل الجهل والضلال من الجهمية، والمعتزلة، والرافضة، ومن سلك سبيلهم من الضالين؛ فلما اعتقدوا انتفاء الصفات في نفس الأمر، وكان مع ذلك لا بد للنصوص من معنى، بقوا مترددين بين الإيمان باللفظ وتفويض المعنى -وهي التي يسمونها طريقة السلف-، وبين صرف اللفظ إلى معنى بنوع تكلف؛ وصار هذا الباطل مركبا من فساد العقل والكفر بالسمع. فإن النفي إنما اعتمدوا فيه على أمور عقلية ظنوها بينات وبراهين قاطعات وهي شبهات

وضلالات متناقضات، والسمع حرفوا فيه الكلم عن مواضعه؛ فلما انبنى أمرهم على هاتين المقدمتين الكاذبتين الكفريتين، كانت النتيجة استجهال السابقين الأولين والتابعين لهم بإحسان واستبلاههم، واعتقاد أنهم كانوا قوما أميين بمنْزلة الصالحين من العامة لم يتبحروا في حقائق العلم، ولم يتفطنوا لدقيق العلم الإلهي، وأن الخلفاء الفضلاء حازوا قصب السبق في هذا كله. وهذا القول إذا تدبره الإنسان وجده في نهاية الجهالة، بل في غاية الضلالة. كيف يكون هؤلاء المتأخرين؟ -لا سيما- والإشارة بالخلف إلى ضرب من المتكلمين الذين كثر في باب الدين اضطرابهم، وغلظ عن معرفة الله تعالى حجابهم، وأخبر الواقف على نهايات إقدامهم بما انتهى إليه من مرامهم حيث يقول: لعمري قد طفت المعاهد كلها ... وسيرت طرفي بين تلك المعالم فلم أر إلا واضعا كف حائر ... على ذقن أو قارعا سن نادم وأقروا على أنفسهم بما قالوه متمثلين به، أو منشئين له فيما صنفوه من كتبهم كقول بعض رؤسائهم حيث يقول: نهاية إقدام العقول عقال ... وأكثر سعي العالمين ضلال وأرواحنا في وحشة من جسومنا ... وحاصل دنيانا أذى ووبال ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا ... سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا لقد تأملت الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية، فما رأيتها تشفي عليلا، ولا تروي غليلا؛ ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن: اقرأ في الإثبات: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر من الآية: 10]، {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5]، واقرأ في النفي: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشّورى من الآية: 11]،

{وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} [طه من الآية: 110]. قال: ومن جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي. ويقول الآخر منهم: لقد خضت البحر الخضم، وتركت أهل الإسلام وعلومهم، وخضت في الذي نهوني عنه، والآن إن لم يتداركني ربي برحمته، فالويل لفلان، وها أنا أموت على عقيدة أمي. ويقول الآخر منهم: أكثر الناس شكا عند الموت أرباب الكلام. [النصوص وإجماع السلف على علو الله تعالى على خلقه] ومن تأمل ما ذكرنا، علم أن الضلال والتهوك إنما استولى على كثير من المتأخرين بسبب نبذهم كتاب الله وراء ظهورهم، وإعراضهم عما بعث الله به محمدا صلى الله عليه وسلم من البينات والهدى، وتركهم البحث عن طريق السابقين والتابعين لهم بإحسان، والتماسهم علم معرفة الله ممن لم يعرف الله بإقراره على نفسه، وشهادة الأمة على ذلك. وإذا كان كذلك فهذا كتاب الله من أوله إلى آخره، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم من أولها إلى آخرها، ثم عامة كلام الصحابة والتابعين، ثم عامة كلام سائر الأمة، مملوء بما هو إما نص وإما ظاهر في أن الله تعالى هو العلي الأعلى، وهو فوق كل شيء، وهو عال على كل شيء، وأنه فوق العرش، وأنه فوق السماء. وقد فطر الله على ذلك جميع الأمم، عربهم وعجمهم، في الجاهلية والإسلام، إلا من اجتالته الشياطين عن فطرته. ثم عن السلف في ذلك من الأقوال ما لو جمع لبلغ مئين، أو ألوفا. ثم ليس في كتاب الله، ولا في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا عن أحد من سلف الأمة، لا من الصحابة ولا من التابعين لهم بإحسان، حرف واحد يخالف ذلك لا نصا ولا ظاهرا؛ ولم يقل أحد منهم أن الله ليس في السماء، ولا أنه ليس على العرش، ولا أنه بذاته في كل مكان، ولا أن جميع الأمكنة بالنسبة إليه سواء، ولا أنه لا داخل العالم ولا خارجه، ولا متصل ولا

منفصل، ولا أنه لا تجوز إليه الإشارة الحسية؛ بل قد ثبت في الصحيح عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل يقول: "ألا هل بلغت فيقولون نعم فيرفع أصبعه إلى السماء وينكبها إليهم ويقول: اللهم اشهد "غير مرة. فإن كان الحق فيما يقوله هؤلاء السالبون النافون للصفات الثابتة في الكتاب والسنة دون ما يفهم من الكتاب والسنة إما نصا وإما ظاهرا، لقد كان ترك الناس بلا كتاب ولا سنة أهدى لهم وأنفع على هذا التقدير؛ بل كان وجود الكتاب والسنة ضررا محضا في أصل الدين. فكيف يجوز على الله، ثم على رسوله، ثم على الأمة، أنهم يتكلمون دائما بما هو نص أو ظاهر في خلاف الحق؟ ثم الحق الذي يجب اعتقاده لا يبوحون به، ولا يدلون عليه حتى يجيء أنباط الفرس، وفروخ الفلاسفة، فيبينون للأمة العقيدة الصحيحة التي يجب على كل مكلف وفاضل اعتقادها، وهم مع ذلك أحيلوا في معرفتها على مجرد عقولهم، وأن يدفعوا بمقتضى قياس عقولهم ما دل عليه الكتاب والسنة نصا، أو ظاهرا؟ يا سبحان الله! كيف لم يقل الرسول صلى الله عليه وسلم يوما من الدهر ولا أحد من سلف الأمة: هذه الأحاديث والآيات لا تعتقدوا ما دلت عليه! لكن اعتقدوا الذي تقتضيه مقاييسكم؛ فإنه الحق وما خالفه فلا تعتقدوا ظاهره، وانظروا فيها فما وافق قياس عقولكم فاعتقدوه، وما لا فتوقفوا فيه وانفوه؟ ثم الرسول -صلى الله عليه وسلم- قد أخبر أن أمته ستفترق ثلاثا وسبعين فرقة فقد علم ما سيكون في أمته من الاختلاف، ثم قال: "إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا: كتاب الله" 1. وروي أنه قال في صفة الفرقة الناجية هو "من كان على

_ 1 الترمذي: المناقب (3788) , وأحمد (3/ 14 ,3/ 26 ,3/ 59).

مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي" 1. فهلا قال: من تمسك بالقرآن، أو بدلالة القرآن، أو بمفهوم القرآن، أو بظاهر القرآن في باب الاعتقاد فهو ضال، وإنما الهدى رجوعكم إلى مقاييس عقولكم وما يحدثه المتكلمون منكم بعد القرون الثلاثة. ثم إن أصل مقالة التعطيل للصفات إنما أخذت عن تلامذة اليهود، والمشركين، وضلال الصابئين؛ فإن أول من حفظ عنه أنه قال هذه المقالة في الإسلام: الجعد بن درهم، وأخذها عنه الجهم بن صفوان، وأظهرها فنسبت مقالة الجهمية إليه. وقيل: إن الجعد أخذ مقالته عن أبان بن سمعان، وأخذها أبان عن طالوت ابن أخت لبيد بن الأعصم، وأخذها طالوت عن لبيد بن الأعصم اليهودي الذي سحر النبي صلى الله عليه وسلم. وإذا كان أصل هذه المقالة مقالة التعطيل والتأويل مأخوذة من تلامذة المشركين والصابئين واليهود، فكيف تطيب نفس مؤمن، بل نفس عاقل، أن يسلك سبيل هؤلاء المغضوب عليهم والضالين، ويدع سبيل الذين أنعم الله عليهم من النبيين، والصديقين، والشهداء، والصالحين؟ [الأقسام الممكنة في آيات الصفات وأحاديثها] وجماع الأمر أن الأقسام الممكنة في آيات الصفات وأحاديثها ستة أقسام، كل قسم عليه طائفة من أهل القبلة، قسمان يقولان: تجري على ظاهرها، وقسمان يقولان: هي على خلاف ظواهرها، وقسمان يسكتان. أما الأولون فقسمان: (أحدهما): من يجريها على ظاهرها من جنس صفات المخلوقين، فهؤلاء المشبهة، وإليهم توجه الرد بالحق. (والثاني): من يجريها على ظاهرها اللائق بجلال الله تعالى، كما يجري اسم الله العليم، والقدير، والرب، والموجود، والذات على ظاهرها اللائق بجلال الله تعالى، فإن

_ 1 الترمذي: الإيمان (2641).

ظواهر هذه الصفات في حق المخلوقين إما جوهر محدث، وإما عرض قائم كالعلم، والقدرة، والكلام، والمشيئة، والرحمة، والرضى، والغضب، ونحو ذلك في حق العبد أعراض، والوجه واليد والعين في حقه أجسام. فإذا كان الله موصوفا عند عامة أهل الإثبات بأن له علما، وقدرة وكلاما، ومشيئة، وإن لم تكن أعراضا يجوز عليها ما يجوز على صفات المخلوقين، جاز أن يكون وجه الله ويداه ليست أجساما يجوز عليها ما يجوز على صفات المخلوقين؛ وهذا هو المذهب الذي حكاه الخطابي وغيره عن السلف، وعليه يدل كلام جمهورهم، وكلام الباقين لا يخالفه، وهو أمر واضح لمن هداه الله؛ فإن الصفات كالذات. فكما أن ذات الله ثابتة حقيقة من غير أن تكون من جنس المخلوقات، فصفاته ثابتة حقيقة من غير أن تكون من جنس صفات المخلوقين. فمن قال: لا أعقل علما ويدا إلا من جنس العلم واليد المعهودة، قيل له: فكيف تعقل ذاتا من غير جنس ذوات المخلوقين ومن المعلوم أن صفات كل موصوف تناسب ذاته، وتلائم حقيقته. فمن لم يفهم من صفات الرب الذي ليس كمثله شيء إلا ما يناسب المخلوقين فقد ضل في عقله ودينه، وما أحسن ما قال بعضهم: إذا قال لك الجهمي: كيف استوى أو كيف ينْزل إلى سماء الدنيا أو كيف يداه أو نحو ذلك، فقل له: كيف هو في نفسه فإذا قال: لا يعلم هو إلا هو، وكنه الباري غير معقول للبشر، فقل له: فالعلم بكيفية الصفة مستلزم للعلم بكيفية الموصوف؛ فكيف يمكن أن يعلم كيفية صفة لموصوف لم تعلم كيفيته وإنما تعلم الذات والصفات من حيث الجملة على الوجه الذي ينبغي 1. بل هذه المخلوقات في

_ 1 قوله على الوجه الذي ينبغي إلخ – كذا في الأصل وهو غير ظاهر.

الجنة فقد ثبت عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أنه قال: ليس في الدنيا مما في الجنة إلا الأسماء، وقد أخبر الله -سبحانه- أنه لا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "يقول الله عز وجل: أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر"1 فإذا كان نعيم الجنة وهو خلق من خلق الله تعالى كذلك، فما الظن بالخالق -سبحانه وتعالى- وهذه الروح التي في بني آدم قد علم العاقل اضطراب الناس فيها، وإمساك النصوص عن بيان كيفيتها، أفلا يعتبر العاقل بها عن الكلام في كيفيته تعالى مع أنا نقطع أن الروح في البدن، وأنها تخرج منه، وتعرج إلى السماء، وأنها تسلُّ منه وقت النَزع كما نطقت بذلك النصوص الصحيحة. وأما القسمان اللذان ينفيان ظاهرها: أعني الذين يقولون ليس لها في الباطن مدلول هو صفة الله -تعالى-، وأن الله -تعالى- لا صفة له ثبوتية، بل صفاته إما سلبية، وإما إضافية، وإما مركبة منهما؛ ويثبتون بعض الصفات، وهي السبع والثمان، والخمس عشرة على ما قد عرف من مذاهب المتكلمين من الأشعرية وغيرهم، فهؤلاء قسمان: (قسم) يتأولونها ويعينون المراد مثل قولهم: استوى بمعنى استولى، أو بمعنى علو المكان والقدر، أو بمعنى ظهور نوره للعرش، أو بمعنى انتهاء الخلق إليه، إلى غير ذلك من معاني المتكلمين. (وقسم) يقولون: الله أعلم بما أراد بها، لكنا نعلم أنه لم يرد إثبات صفة خارجة عما علمناه. وأما القسمان الواقفان: (فقسم) يقولون يجوز أن يكون المراد بظاهرها اللائق بالله، ويجوز أن لا يكون المراد صفة لله، ونحو ذلك؛ وهذه طريقة

_ 1 البخاري: بدء الخلق (3244) , ومسلم: الجنة وصفة نعيمها وأهلها (2824) , والترمذي: تفسير القرآن (3197) , وابن ماجه: الزهد (4328) , وأحمد (2/ 313 ,2/ 438 ,2/ 466 ,2/ 495) , والدارمي: الرقاق (2828).

كثير من الفقهاء وغيرهم. (وقسم) يمسكون عن هذا كله، ولا يزيدون على تلاوة القرآن، وتلاوة الحديث، معرضين بقلوبهم وألسنتهم عن هذه التقديرات كلها. فهذه الأقسام الستة لا يمكن أن يخرج الرجل عن قسم منها. والصواب في ذلك: القطع بالطريقة السلفية، وهي اعتقاد الشافعي ومالك والثوري والأوزاعي، وابن المبارك، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، وهي اعتقاد المشايخ المقتدى بهم كالفضيل بن عياض، وأبي سليمان الداراني، وسهل بن عبد الله التستري وغيرهم؛ فإنه ليس بين هؤلاء الأئمة نزاع في أصول الدين، وكذلك أبو حنيفة -رحمه الله تعالى-. واعتقاد هؤلاء هو ما كان عليه الصحابة والتابعون لهم بإحسان، وهو ما نطق به الكتاب والسنة في التوحيد والقدر وغير ذلك. [أقوال علماء السلف وأئمة الفقه في الصفات] قال الشافعي -رحمه الله تعالى- في أول خطبة الرسالة: الحمد لله الذي هو كما وصف به نفسه، وفوق ما يصفه به خلقه. فبين -رحمه الله تعالى- أن الله تعالى يوصف بما وصف به نفسه في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، وكذلك قال أحمد بن حنبل -رحمه الله تعالى-: لا يوصف الله تعالى إلا بما وصف به نفسه، أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم: لا يتجاوز القرآن والحديث. وقد ثبت في الصحيح أنه قال للجارية: "أين الله؟ قالت في السماء. قال: من أنا؟ قالت: رسول الله قال: اعتقها فإنها مؤمنة"1، وهذا الحديث رواه الشافعي، ومالك، وأحمد بن حنبل، ومسلم في صحيحه، وغيره. وأهل السنة يعلمون أنه ليس معنى ذلك أن الله تعالى في جوف السماء، وأن السماوات تحصره وتحويه؛ فإن هذا لم يقله أحد من سلف الأمة وأئمتها، بل هم متفقون على أن الله فوق سماواته، على عرشه، بائن من خلقه، ليس في مخلوقاته شيء من ذاته، ولا في ذاته شيء من مخلوقاته. وقد قال مالك

_ 1 مسلم: المساجد ومواضع الصلاة (537) , والنسائي: السهو (1218) , وأبو داود: الصلاة (930) والأيمان والنذور (3282).

بن أنس -رحمه الله تعالى-: إن الله تعالى في السماء، وعلمه في كل مكان. وقالوا لعبد الله بن المبارك بماذا نعرف ربنا قال: بأنه فوق سماواته على عرشه، بائن من خلقه. وقال أحمد بن حنبل كما قال هذا وهذا. وقال الأوزاعي: كنا، والتابعون متوافرون، نقر بأن الله تعالى فوق عرشه، ونؤمن بما وردت به السنة من صفاته. فمن اعتقد أن الله تعالى في جوف السماء محصور محاط به، أو أنه مفتقر إلى العرش، أو غير العرش من المخلوقات، أو أن استواءه على عرشه كاستواء المخلوق على سريره، فهو ضال، مبتدع، جاهل. ومن اعتقد أنه ليس فوق السماوات إله يعبد، ولا على العرش رب يصلى له ويسجد، فهو معطل، فرعوني، ضال، مبتدع؛ فإن فرعون كذب موسى في أن ربه فوق السموات وقال: {يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا} [غافر من الآيتين: 36 - 37]. ومحمد صلى الله عليه وسلم صدق موسى في أن ربه فوق السموات فإنه لما كان ليلة المعراج، وعرج به إلى السماء، وفرض عليه ربه خمسين صلاة، ذكر أنه رجع إلى موسى وقال له: ارجع إلى ربك فسله التخفيف لأمتك؛ فإن أمتك لا تطيق ذلك. فرجع إلى ربه فخفف عنه عشرا، ثم رجع إلى موسى فأخبره بذلك، فقال: ارجع إلى ربك فسله التخفيف لأمتك. وهذا الحديث في الصحاح. فمن وافق فرعون، وخالف موسى ومحمدا -صلى الله عليهما وسلم-، فهو ضال؛ ومن مثل الله بخلقه فهو ضال مشبه؛ قال نعيم بن حماد -رحمه الله تعالى-: من شبه الله بخلقه فقد كفر، ومن جحد ما وصف الله به نفسه فقد كفر، وليس ما وصف الله به نفسه ولا رسوله تشبيها. انتهى. ومن تكلم في الله وأسمائه وصفاته بما يخالف الكتاب والسنة، فهو من الخائضين في آيات الله تعالى بالباطل؛ وقد قال

تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} [الأنعام من الآية: 68]. واعلم أن كثيرا من المصنفين ينسبون إلى أئمة المسلمين ما لم يقولوه، فينسبون إلى الشافعي، ومالك، وأحمد، وأبي حنيفة من الاعتقادات الباطلة ما لم يقولوه؛ ويقولون لمن تبعهم: هذا الذي نقوله اعتقاد الإمام الفلاني، فإذا طولبوا بالنقل الصحيح عن الأئمة تبين كذبهم في ذلك، كما يتبين كذب كثير من الناس فيما ينقلونه عن الرسول صلى الله عليه وسلم ويضيفونه إلى سنته من البدع والأقوال الباطلة. (ومنهم): من إذا طولب بتحقيق نقله يقول: هذا القول قاله العقلاء، والإمام الفلاني لا يخالف العقلاء؛ ويكون أولئك العقلاء طائفة من أهل الكلام الذين ذمهم الأئمة. فقد قال الشافعي رضي الله عنه: حكمي في أهل الكلام أن يضربوا بالجريد، والنعال، ويطاف بهم في القبائل، والعشائر، ويقال هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة، وأقبل على الكلام. فإذا كان هذا حكمه فيمن أعرض عنهما، فكيف حكمه فيمن عارضهما بغيرهما؟ وقال أبو يوسف صاحب أبي حنيفة: من طلب الدين بالكلام تزندق. وقال أحمد بن حنبل: ما ارتدى أحد بالكلام فأفلح، وقال: علماء الكلام زنادقة، وكثير من هؤلاء قرؤوا كتبا من كتب الكلام فيها شبهات أضلتهم، ولم يهتدوا لجوابها؛ فإنهم يجدون في تلك الكتب أن الله تعالى لو كان فوق الخلق لزم التجسيم والتحيز والجهة، وهم لا يعلمون حقائق هذه الألفاظ، وما أراد بها أصحابها؛ ومن اشتبه عليه ذلك، أو غيره فليدع بما رواه مسلم في صحيحه عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام من الليل يصلي يقول: "اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السموات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا

فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك؛ إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم"1. فإذا افتقر العبد إلى الله تعالى ودعاه، وأدمن النظر في كلام الله تعالى، وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، وكلام الصحابة والتابعين، وأئمة المسلمين، انفتح له الباب وتبين له الصواب بمشيئة الملك الوهاب، والله سبحانه وتعالى أعلم. [التوسل والاستغاثة بالأنبياء والصالحين] (فصل) وأما المبحث الثاني عمن كان يستغيث بالمخلوق عند الشدائد بالنداء والدعاء، ويستغيث، ويتوسل، ويتوجه بنبيه أو بالصالحين، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في أدعية الصباح: "أسألك بنور وجهك الذي أشرقت له السموات والأرض، وبكل حق هو لك، وبحق السائلين عليك أن تقبلني في هذه الغداة"، مع الحديث الآخر: "أن رجلا ضرير البصر أتى النبي صلى الله عليه وسلم وقال له: ادع الله أن يعافيني. قال: إن شئت دعوت، وإن شئت صبرت فهو خير لك قال: ادعه. قال: فأمره أن يتوضأ فيحسن الوضوء ويدعو بهذا الدعاء: اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة، يا محمد إني أتوجه بك إلى ربي في حاجتي لتقضى لي؛ اللهم فشفعه في"2. فهذان الحديثان مصرحان بالتوسل والتوجه والدعاء والتشفع والنداء؛ وما حكم من فعل ذلك وهو غير قاصد للشرك ولا معاند للإسلام؟ فالفرق ظاهر بينه وبين من قصد الشرك والعناد بعد معرفة التوحيد فنقول: [الاستغاثة بالمخلوق عند الشدائد] (الجواب) وبالله التوفيق: أما سؤال الميت والغائب، نبيا كان أو غيره، تفريج الكربات وإغاثة اللهفات، والاستغاثة به في الأمور المهمات، فهو من المحرمات المنكرة باتفاق أئمة المسلمين؛ لم يأمر الله به ولا رسوله، ولا فعله أحد من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، ولا استحبه أحد من أئمة المسلمين.

_ 1 مسلم: صلاة المسافرين وقصرها (770) , والترمذي: الدعوات (3420) , والنسائي: قيام الليل وتطوع النهار (1625) , وأبو داود: الصلاة (767) , وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها (1357) , وأحمد (6/ 156). 2 الترمذي: الدعوات (3578) , وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها (1385).

وهذا مما يعلم بالاضطرار من دين الإسلام؛ فإنه لم يكن أحد منهم إذا نزلت به ترة، أو عرضت له حاجة، أو نزلت به كربة وشدة، يقول لميت: يا سيدي فلان حسبك، أو اقض حاجتي، أو أنا مستشفع بك إلى ربي، كما يقوله بعض هؤلاء المشركين لمن يدعونهم من الموتى والغائبين. ولا أحد من الصحابة استغاث بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد موته، ولا بغيره من الأنبياء، لا عند قبورهم، ولا إذا بعدوا عنها، ولا كانوا يقصدون قبورهم للدعاء والصلاة عندها. ولهذا ثبت في الصحيح أن الناس لما قحطوا في زمان عمر بن الخطاب رضي الله عنه استسقى بالعباس، وتوسل بدعائه، وقال: اللهم إنا كنا نتوسل إليك إذا أجدبنا بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا! فيسقون، وكذلك معاوية رضي الله عنه لما استسقى بأهل الشام توسل بيزيد بن الأسود الجرشي. فهذا الذي ذكره عمر رضي الله عنه توسل منهم بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم وشفاعته في حياته؛ ولهذا توسل بعده بدعاء العباس، وتوسل معاوية بدعاء يزيد بن الأسود؛ وهذا الذي ذكره الفقهاء في كتاب الاستسقاء، وقالوا يستحب أن يستسقى بالصالحين، وإذا كانوا من أقارب رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو أفضل. [سؤال الميت قضاء حاجته] وهذه الأمور المبتدعة عند القبور أنواع: أبعدها عن الشرع: من يسأل الميت حاجته كما يفعله كثير من الناس، وهؤلاء من جنس عباد الأصنام؛ وقد قال الله تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلًا أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} [الإسراء من الآيتين: 56 - 57]. قالت طائفة من السلف: كان أقوام يدعون الملائكة، والمسيح، وعزيرا، فقال الله لهم: هؤلاء

عبيدي كما أنتم عبيدي، يرجون رحمتي كما ترجون رحمتي، ويخافون عذابي كما تخافون عذابي؛ فكل من دعا نبيا، أو وليا، أو صالحا، وجعل فيه نوعا من الإلهية، فقد تناولته هذه الآية؛ فإنها عامة في كل من دعا من دون الله مدعوًّا وذلك المدعو يبتغي إلى الله الوسيلة، ويرجو رحمته، ويخاف عذابه. فكل من دعا ميتا، أو غائبا من الأنبياء، أو الصالحين، سواء كان بلفظ الاستغاثة أو غيرها، فقد فعل الشرك الأكبر الذي لا يغفره الله إلا بالتوبة منه. ومعلوم أن هؤلاء كلهم يجعلونهم وسائط فيما يقدره الله بأفعالهم، ومع هذا فقد نهى عن دعائهم، وبين أنهم لا يملكون كشف الضر عن الداعين، ولا تحويله، لا يرفعونه بالكلية ولا يحولونه من موضع إلى موضع كتغيير صفته، أو قدره؛ ولهذا قال: {وَلا تَحْوِيلًا} [الإسراء من الآية: 56]، فذكر نكرة تعم أنواع التحويل. فكل من دعا ميتا، أو غائبا من الأنبياء والصالحين، أو دعا الملائكة، أو الجن، فقد دعا من لا يغيث ولا يملك كشف ضره ولا تحويله. وقد قال تعالى: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا} [الجن: 6]، وقد نص الأئمة كأحمد وغيره على أن لا يجوز الاستغاثة بمخلوق؛ وهذا مما استدلوا به على أن كلام الله غير مخلوق، قالوا: لأنه ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه استغاث بكلمات الله، وأمر بذلك، فدل على أن كلمات الله غير مخلوقة، وأنها صفة من صفاته لأن الاستغاثة بالمخلوق لا تجوز. [الاستغاثة بالمخلوق في الأمور التي لا يقدر عليها إلا الله] والمقصود أن يعلم السائل -وفقه الله تعالى- أن الاستغاثة بالمخلوق في الأمور التي لا يقدر عليها إلا الله من كشف الكربات، وإغاثة اللهفات، وإجابة الدعوات، من الشرك الذي لا يغفره الله؛ وهو من الغلو الذي ذمه الله في كتابه حيث قال: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ} الآية [النّساء من الآية: 171]،

وقال: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} [المائدة: 77] 1. والغلو في الصالحين هو من فعل المشركين كما حكاه -سبحانه وتعالى- عن قوم نوح في قوله: {وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} الآية [نوح: 23]، قال ابن عباس رضي الله عنه هذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح، فلما ماتوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها أنصابا وسموها بأسمائهم، ففعلوا فلم تعبد. حتى إذا هلك أولئك ونسي العلم، عبدت. فكل من غلا في نبي، أو رجل صالح، وجعل فيه نوعا من العبادة مثل أن يقول: يا سيدي فلان انصرني، أو أغثني، أو ارزقني، أو اجبرني، أو أنا في حسبك، ونحو هذه الأقوال، فكل هذا شرك وضلال يستتاب صاحبه، فإن تاب وإلا قتل. فإن الله تعالى إنما أرسل الرسل وأنزل الكتب ليعبد وحده، ولا يجعل معه إله آخر؛ والذين يدعون مع الله آلهة أخرى مثل المسيح، والملائكة، والأصنام، لم يكونوا يعتقدون أنها تخلق الخلائق، أو تنْزل المطر، أو تنبت النبات، وإنما كانوا يعبدونهم، أو يعبدون قبورهم، أو صورهم يقولون: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزّمر من الآية: 3]، ويقولون: {هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [يونس من الآية: 18]. كما أخبر الله -تعالى- عنهم بذلك في كتابه في غير ما آية؛ فبعث الله رسله تنهى أن يدعى أحد من دونه، لا دعاء عبادة، ولا دعاء استغاثة. وعبادة الله تعالى وحده هي أصل الدين، وهي التوحيد الذي أمر الله تعالى به بالرسل، وأنزل به الكتب قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النّحل من الآية: 36]، {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 25]. وكان النبي صلى الله عليه وسلم يحقق التوحيد، ويعلمه أمته، حتى قال له رجل: ما شاء الله

_ 1 سورة المائدة آية: 77.

وشئت قال: "أجعلتني لله ندا قل: ما شاء الله وحده"1، وقال فيما ثبت عنه في الصحيحين وغيرهما: "لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد فقولوا: عبد الله ورسوله "2، ونهى عن الحلف بغير الله وقال: "من حلف بغير الله فقد أشرك"3، وقال في مرض موته: "لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد يحذر ما صنعوا"4، وقال: "اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد"5 رواه مالك في الموطأ. وروى الطبراني عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إنه لا يستغاث بي، وإنما يستغاث بالله"؛ ولهذا كانت كلمة التوحيد أفضل الكلام وأعظمه. فأعظم آية في القرآن آية الكرسي: {الله لَا إِلَهَ إِِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة، من الآية: 255]، وقال صلى الله عليه وسلم: "من كان آخر كلامه لا إله إلا الله، دخل الجنة"6، والإله الذي يأله القلب خشية له وإجلالا وإكراما. ولهذا اتفق أئمة الإسلام على أنه لا يشرع بناء المساجد على القبور، ولا الصلاة عندها؛ وذلك لأن من أكبر أسباب عبادة الأوثان كان تعظيم القبور؛ ولهذا اتفق العلماء على أن من سلم على النبي صلى الله عليه وسلم عند قبره لا يتمسح بحجرته، ولا يقبلها، لأن ذلك إنما يكون لأركان بيت الله، فلا يشبه بيت المخلوق ببيت الخالق. كل هذا لتحقيق التوحيد الذي هو أصل الدين، ورأسه الذي لا يقبل الله عملا إلا به، ويغفر لصاحبه، ولا يغفر لمن تركه، قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النّساء من الآية: 48، و 116]. وقال: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا} [النّساء من الآية: 48]. ولما كان للمشركين سدرة يعكفون عندها، ويسمونها ذات أنواط، فقال بعض الصحابة: يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط، كما لهم ذات أنواط فقال صلى الله عليه وسلم: "الله أكبر إنها السنن. لتركبن سنن من كان قبلكم"7 فأنكر صلى الله عليه وسلم مجرد مشابهتهم. فإذا كان اتخاذ الشجرة لتعليق الأسلحة والعكوف حولها اتخاذ إله مع الله، وهم لا يعبدونها ولا يسألونها،

_ 1 أحمد (1/ 214). 2 البخاري: أحاديث الأنبياء (3445) , وأحمد (1/ 23 ,1/ 24 ,1/ 47). 3 الترمذي: النذور والأيمان (1535) , وأبو داود: الأيمان والنذور (3251) , وأحمد (2/ 34 ,2/ 69 ,2/ 86 ,2/ 125). 4 البخاري: الصلاة (436) , ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (529) , والنسائي: المساجد (703) والجنائز (2046) , وأحمد (1/ 218 ,6/ 34 ,6/ 80 ,6/ 121 ,6/ 146 ,6/ 228 ,6/ 252 ,6/ 255 ,6/ 274 ,6/ 275) , والدارمي: الصلاة (1403). 5 أحمد (2/ 246). 6 أبو داود: الجنائز (3116) , وأحمد (5/ 233 ,5/ 247). 7 مسند أحمد (5/ 218 ,5/ 340).

فما الظن بالعكوف حول القبر ودعائه والدعاء عنده، أو الدعاء به وأي شبه للفتنة بالشجرة إلى الفتنة بالقبر لو كان أهل الشرك والبدع يعلمون، ومن له خبرة بما بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم وبما عليه أهل الشرك والبدع اليوم في هذا الباب وغيره علم أن بين السلف وبينهم أبعد مما بين المشرق والمغرب والأمر والله أعظم مما ذكرنا وبالله التوفيق. [التوسل وسؤال الله بالمخلوق دون سؤال المخلوق] (النوع الثاني): من الأمور المبتدعة عند القبور أن يسأل الله تعالى به؛ وهذا يفعله كثير من المتأخرين، وهو من البدع المحدثة في الإسلام، ولكن بعض العلماء يرخص فيه وبعضهم ينهى عنه ويكرهه. وليس هذا مثل النوع الذي قبله، فإنه لا يصل إلى الشرك الأكبر عند من كرهه ولا يسمى هذا استغاثة بالرسول صلى الله عليه وسلم، وإنما هو سؤال به. والفرق بينه وبين الذي قبله فرق عظيم، أبعد مما بين المشرق والمغرب؛ والسائل -سامحه الله تعالى- لم يفرق بين هذا وهذا، وجعل هذين النوعين نوعا واحدا. وهذا جهل عظيم بدين الإسلام الذي بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم وبما درج عليه السلف الصالح من الصحابة، والتابعين لهم بإحسان، ومن سلك سبيلهم. والعامة الذين يتوسلون في أدعيتهم بالأنبياء والصالحين، كقول أحدهم: أتوسل إليك بنبيك، أو بأنبيائك، أو بملائكتك، أو بالصالحين من عبادك، أو بحق الشيخ فلان، أو بحرمته، أو أتوسل إليك باللوح والقلم، أو بالكعبة، وغير ذلك مما يقولونه في أدعيتهم، يعلمون أنهم لا يستغيثون بهذه الأمور، ولا يسألونها، وينادونها؛ فإن المستغيث بالشيء طالب منه، سائل له، والمتوسل به لا يدعو ولا يطلب منه ولا يسأل، وإنما يطلب به. وكل أحد يفرق بين المدعو به وبين المدعو والمستغاث، والاستغاثة هي طلب الغوث، وهو إزالة الشدة كالاستنصار طلب النصر.

والاستعانة طلب العون؛ والمخلوق إنما يطلب منه من هذه الأمور ما يقدر عليه منها، كما قال تعالى: {وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ} [الأنفال من الآية:]، وكما قال تعالى: {فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ} [القصص من الآية: 5] وأما ما لا يقدر عليه إلا الله فلا يطلب إلا من الله، كما قال تعالى: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ} [النّمل من الآية: 62]. حتى إن المشركين عبدة الأوثان يخلصون الدعاء لله، والاستغاثة في الشدة، وينسون ما يشركون، لعلمهم أنه لا يقدر على تفريج الكربات، وقضاء الحاجات، وإغاثة اللهفات إلا رب الأرض والسموات، كما قال تعالى: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ} [الإسراء من الآية: 67]. وقال تعالى: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} [العنكبوت:65]. وقال تعالى: {وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} الآية [لقمان من الآية: 32]. وقال تعالى: {وَإِذَا مَسَّ الأِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ} [الزّمر: 8]. ولا يعرف في لغة أحد من بني آدم أن من قال: أتوسل إليك برسولك، أو أتوجه إليك برسولك، فقد استغاث به حقيقة؛ فإنهم يعلمون أن المستغاث به مسؤول مدعو، فيفرقون بين المسؤول، وبين المسؤول به، سواء استغاث بالخالق أو بالمخلوق؛ فإنه يجوز أن يستغاث بالمخلوق فيما يقدر عليه والنبي صلى الله عليه وسلم أفضل مخلوق يستغاث به في مثل ذلك. فلو قال قائل فيمن يستغيث به: أسألك بفلان، أو بحق فلان، لم يقل أحد إنه استغاث بمن توسل به، بل إنما استغاث بمن دعاه وسأله؛ ولهذا قال المصنفون في شرح أسماء الله الحسنى أن المغيث بمعنى المجيب، لكن

الإغاثة أخص بالأفعال، والإجابة أخص بالأقوال. [التوسل إلى الله في الدعاء بغير نبينا صلى الله عليه وسلم] والتوسل إلى الله في الدعاء بغير نبينا صلى الله عليه وسلم لا نعلم أحدا من السلف فعله، ولا روي فيه أثر؛ وقد قال أبو الحسين القدوري الحنفي في شرح الكرخي: قال بشر بن الوليد: سمعت أبا يوسف قال: قال أبو حنيفة: لا ينبغي لأحد أن يدعو الله إلا به، وأكره أن يقول: بمعاقد العز من عرشك، أو بحق خلقك؛ وهو قول أبي يوسف. قال أبو يوسف: بمعقد العز من عرشك هو الله، فلا أكره هذا؛ وأكره بحق فلان، أو بحق أنبيائك ورسلك، وبحق البيت والمشعر الحرام، بهذا الحق يكره، قالوا جميعا. انتهى. وكذلك قال الشيخ أبو محمد بن عبد السلام الفقيه الشافعي في فتاويه المشهورة عنه: أنه لا يجوز التوسل إلى الله تعالى بخلقه، إلا بالنبي صلى الله عليه وسلم إن صح الحديث فيه، يعني حديث الأعمى الذي رواه الترمذي وغيره. والمسألة بخلقه لا تجوز، لأنه لا حق للخلق على الخالق؛ فلا يجوز أن يسأل ما ليس بمستحق، ولكن معقد العز من عرشك هل هو سؤال بمخلوق، أو بالخالق فيه نزاع بينهم؛ فلذلك تنازعوا فيه. وأبو يوسف بلغه الأثر فيه: أسألك بمعقد العز من عرشك، ومنتهى الرحمة من كتابك، وباسمك الأعظم، وجدك الأعلى وكلماتك التامة؛ فجوزه لذلك، والله أعلم. (وأما الجواب) عن الحديثين المذكورين، فمن وجوه: (أحدها): أن يقال: قد أجاب عنهما غير واحد من العلماء، على تقدير صحتهما، بأن المعنى بحق السائلين عليك أي: الحق الذي أوجبه الله تعالى على نفسه للسائلين وهو الإجابة؛ ولا ريب أن الله تعالى جعل على نفسه حقا لعباده المؤمنين كما قال تعالى: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الرّوم من الآية: 47]، وكما قال تعالى: {كَتَبَ

رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} [الأنعام من الآية: 54]، وفي حديث معاذ في الصحيحين: "أتدري ما حق العباد على الله قلت: الله ورسوله أعلم"1 الحديث: فهذا حق وجب بكلماته التامة ووعده الصادق؛ وقد اتفق العلماء على وجوب ما يجب بوعده الصادق، وتنازعوا هل يوجب بنفسه على نفسه ومن جوز ذلك احتج بقوله: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} [الأنعام من الآية: 54]، وبقوله في الحديث "إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرما "2. وأما الإيجاب عليه والتحريم بالقياس على خلقه، فهو قول القدرية والمعتزلة؛ وهو قول مبتدع مخالف لصحيح المنقول وصريح المعقول؛ ولهذا كان من قال من أهل السنة بالوجوب قال: إنه: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} [الأنعام من الآية: 54]، وحرم على نفسه، لا أن العبد نفسه مستحق على الله شيئا كما يكون للمخلوق على المخلوق؛ فإن الله هو المنعم على العباد بكل خير، فهو الخالق لهم وهو المرسل، إليهم الرسل وهو الميسر لهم الإيمان والعمل. وإذا كان كذلك فالحق الذي لعباده هو من فضله وامتنانه، وإذا سئل بما جعله هو سببا للمطلوب من الأعمال الصالحة التي وعد أصحابها كرامته وإجابته لدعائهم، فهو سؤال وتسبب بما جعله الله سببا. (الوجه الثاني): أن يقال: أن الله إذا سئل بشيء ليس سببا للمطلوب، فإما أن يكون إقساما عليه به فلا يقسم على الله بمخلوق، وإما أن يكون سؤالا بما لا يقتضي المطلوب فيكون عديم الفائدة. فالأنبياء والمؤمنون لهم حق على الله بوعده الصادق لهم وكلماته التامة هذا حق وليس فيه محذور، وأما إذا سئل بنفس ذوات الأنبياء والصالحين لم يكن في ذلك سبب يقتضي المطلوب.

_ 1 البخاري: الجهاد والسير (2856) , ومسلم: الإيمان (30) , والترمذي: الإيمان (2643) , وابن ماجه: الزهد (4296) , وأحمد (3/ 260 ,5/ 228 ,5/ 229 ,5/ 230 ,5/ 234 ,5/ 236 ,5/ 238 ,5/ 242). 2 مسلم: البر والصلة والآداب (2577) , وأحمد (5/ 160).

(الوجه الثالث): أن يقال: الذي جاءت به السنة وتواتر في الأحاديث هو التوسل والتوجه إلى الله والإقسام عليه بأسمائه وصفاته، وبالأعمال الصالحة كالأدعية المعروفة في السنن: "اللهم إني أسألك بأن لك الحمد، لا إله إلا أنت المنان، بديع السموات والأرض، يا ذا الجلال والإكرام"1 الحديث. وفي الحديث الآخر: "اللهم إني أسألك بأنك أنت الله، لا إله إلا أنت، الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوا أحد"2. وفي الحديث الآخر: "أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحدا من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك"3 الحديث. وقد أخبر الله تعالى عن عباده الصالحين أنهم توسلوا إليه بالأعمال الصالحة فقال تعالى: {رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا} الآيات [آل عمران من الآية: 193]. وكما ثبت في الصحيحين في قصة الثلاثة الذين آووا إلى الغار، فدعوا الله وتوسلوا إليه بالأعمال الصالحة، وكالتوسل بدعاء الأنبياء والصالحين وشفاعتهم في حياتهم؛ فهذا مما لا نزاع فيه،، بل هو من الوسيلة التي أمر الله بها في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} (المائدة: من الآية 35]. وقوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} الآية [الإسراء من الآية: 57]. فإن ابتغاء الوسيلة إليه هو طلب ما يتوسل به أي يتوصل ويتقرب به إليه سبحانه، سواء كان على وجه العبادة والطاعة وامتثال الأمر، أو كان على وجه السؤال له والاستعانة به رغبة إليه في طلب المنافع ودفع المضار؛ ولفظ الدعاء في القرآن يتناول هذا وهذا بمعنى العبادة والدعاء بمعنى المسألة؛ وإن كان

_ 1 الترمذي: الدعوات (3544) , والنسائي: السهو (1300) , وأبو داود: الصلاة (1495) , وابن ماجه: الدعاء (3858) , وأحمد (3/ 120 ,3/ 158 ,3/ 245 ,3/ 265). 2 الترمذي: الدعوات (3475) , وابن ماجه: الدعاء (3857). 3 أحمد (1/ 452).

كل منهما مستلزما للآخر لكن العبد قد تنْزل به النازلة فيكون مقصوده طلب حاجاته وتفريج كرباته، فيسعى في ذلك بالسؤال والتضرع، وإن كان ذلك من العبادة والطاعة. (الوجه الرابع): أن يقال: قد علم بالاضطرار من دين الإسلام أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يشرع لأمته أن يدعوا أحدا من الأموات، لا الأنبياء، ولا الصالحين، ولا غيرهم، لا بلفظ الاستغاثة، ولا بغيرها. كما أنه لم يشرع لأمته السجود لميت ولا إلى ميت؛ بل نعلم أنه نهى عن كل هذه الأمور وأنه من الشرك الذي حرم الله قال الله تعالى: {فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ} [الشّعراء: 213]. وقال تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} [الأحقاف الآيتان: 5 - 6] وقال تعالى: {إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} [فاطر: 14]. وقال تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} [الجن: 18]. ومن تأمل أدلة الكتاب والسنة علم علما ضروريا أن الميت لا يطلب منه شيء، لا دعاء ولا غيره. وأما حديث الأعمى فليس فيه -بحمد الله- إشكال؛ فإنه إنما توجه بدعاء الرسول صلى الله عليه وسلم وشفاعته في حياته، فإن في الحديث أنه طلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو له "فقال: يا رسول الله، ادع الله أن يعافيني. فقال: إن شئت صبرت فهو خير لك، وإن شئت دعوت. فقال: فادعه. وقال في آخره: اللهم فشفعه في"1 فعلم أنه شفع له فتوسل بشفاعته لا بذاته، كما كان الصحابة يتوسلون

_ 1 الترمذي: الدعوات (3578) , وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها (1385).

بدعائه وشفاعته في الاستسقاء، كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا، معناه: نتوسل بدعائه وشفاعته، ونحن نتوسل إليك بدعاء عمه وشفاعته، ليس المراد أنا نقسم عليك به وما يجري هذا المجرى مما يفعل بعد موته وفي مغيبه، كما يقوله بعض الناس: أسألك بجاه فلان عبدك، ويقولون إنا نتوسل إلى الله بأنبيائه. ولو كان هذا هو التوسل الذي يفعله الصحابة، لفعلوا ذلك بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم ولم يعدلوا عنه إلى العباس مع علمهم أن السؤال به والإقسام به أعظم من العباس؛ فعلم أن ذلك التوسل الذي في حديث عمر والذي في حديث الأعمى هو مما يفعل بالأحياء دون الأموات، وهو التوسل بدعائهم وشفاعتهم. فالأعمى طلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو له أن يرد الله عليه بصره، فعلمه النبي صلى الله عليه وسلم دعاء وأمره أن يسأل الله قبول شفاعة نبيه فيه. فقوله في الحديث: "أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة"1 أي بدعائه وشفاعته، فلفظ التوجه والتوسل في الحديثين بمعنى واحد. وقوله: يا محمد يا رسول الله، إني أتوجه بك إلى ربي، أجاب عنه العلماء بأن هذا وأمثاله نداء يطلب به استحضار المنادى في القلب، فيخاطب المشهود بالقلب كما نقول في صلاتنا: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، ليس سؤاله والاستغاثة به. (الوجه الخامس): أن يقال: هذا الحديث رواه النسائي في اليوم والليلة، والإمامان البيهقي وابن شاهين في دلائلهما، كلهم من حديث عثمان بن حنيف، ولم يذكروا فيه هذه الكلمة أعني قوله: يا محمد يا نبي الله، ولفظ الحديث عندهم عن عثمان بن حنيف أن رجلا أعمى أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا نبي الله

_ 1 الترمذي: الدعوات (3578) , وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها (1385).

قد أصبت في بصري فادع الله لي. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "توضأ وصل ركعتين، ثم قل: اللهم إني أتوجه إليك بنبيي محمد نبي الرحمة. أني أتشفع به إليك في رد بصري. اللهم شفع نبيي في. ففعل ذلك فرد الله عليه بصره، وقال له: إذا كانت لك حاجة فمثل ذلك فافعل". انتهى. ولفظ التوسل بالشخص والتوجه به والسؤال به فيه إجمال واشتراط، غلط بسببه من لم يفهم مقصود الصحابة، فيراد به التسبب به لكونه داعيا وشائعا مثلا، أو لكون الداعي مجيبا له مطيعا لأمره مقتديا به، ويراد به الإقسام به والتوسل بذاته؛ فهذا الثاني هو الذي كرهه العلماء ونهوا عنه. [المستحب والممنوع عند قبره صلى الله عليه وسلم] (النوع الثالث) من الأنواع المبتدعة عند القبور: أن يظن أن الدعاء عندها مستجاب، أو أنه أفضل من الدعاء في المسجد؛ فيقصد القبر لذلك، فإن هذا من المنكرات إجماعا، ولم نعلم في ذلك نزاعا بين أئمة الدين. وإن كان كثير من المتأخرين يفعله، فإن هذا أمر لم يشرعه الله ولا رسوله، ولا فعله أحد من الصحابة، ولا التابعين، ولا أئمة المسلمين، ولا ذكره أحد من العلماء ولا الصالحين المتقدمين؛ بل أكثر ما ينقل ذلك عن بعض المتأخرين بعد المائة الثانية. وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أجدبوا مرات ودهمتهم نوائب، ولم يجيئوا عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم ولا استغاثوا به؛ بل خرج عمر بالعباس فاستسقى به، ولم يستسق عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم. وقد كان من قبور أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأمصار عدد كثير، وعندهم التابعون، ومن بعدهم من الأئمة، فما استغاثوا عند قبر صاحب قط، ولا توسلوا به، ولا استسقوا عنده واستنصروا عنده ولا به. ومعلوم أن مثل هذا مما تتوفر الهمم والدواعي على نقله لو وقع، بل على ما هو دونه، ومن تأمل كتب الآثار، وعرف حال السلف، علم قطعا أن القوم ما كانوا

يستغيثون عند القبور، ولا يتحرون الدعاء عندها أصلا؛ بل كانوا ينهون عن ذلك من يفعله من جهالهم. فمن ذلك ما رواه، أبو يعلى الموصلي في مسنده: حدثنا أبو بكر، ثنا يزيد بن الحباب، أنبأنا جعفر بن إبراهيم، حدثنا علي بن عمر عن أبيه عن علي بن الحسين، أنه رأى رجلا يجيء إلى فرجة كانت عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم، فيدخل فيدعو فيها، فقال: ألا أحدثكم حديثا سمعته من أبي عن جدي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تتخذوا قبري عيدا، ولا بيوتكم قبورا؛ فإن تسليمكم يبلغني أينما كنت"1 رواه أبو عبد الله محمد بن عبد الواحد المقدسي فيما اختاره من الأحاديث الجياد على الصحيحين، وشرطه فيه أحسن من شرط الحاكم في صحيحه. وروى سعيد في سننه عن سهيل بن أبي سهيل قال: رآني الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه عند القبر فناداني وهو في بيت فاطمة يتعشى، فقال: هلم إلى العشاء. فقلت: لا أريده. فقال: ما لي رأيتك عند القبر؟ فقلت: سلمت على النبي صلى الله عليه وسلم. فقال: إذا دخلت المسجد فسلم. أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تتخذوا قبري عيدا، ولا بيوتكم مقابر؛ وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني حيثما كنتم. لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد"2، ما أنتم ومن بالأندلس إلا سواء. وروى سعيد أيضا عن أبي سعيد مولى المهدي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تتخذوا قبري عيدا، ولا تتخذوا بيوتكم قبورا؛ وصلوا علي حيثما كنتم، فإن صلاتكم تبلغني"3، فهذان المرسلان من وجهين مختلفين يدلان على ثبوت الحديث، لا سيما وقد احتج من أرسله به؛ وذلك يقتضي ثبوته عنده لو لم يكن روي من وجوه مسندة غير هذين، فكيف وقد روي مسندا؟ ووجه الدلالة أن قبر النبي صلى الله عليه وسلم أفضل قبر على وجه الأرض وقد نهى عن

_ 1 أبو داود: المناسك (2042) , وأحمد (2/ 367). 2 أبو داود: المناسك (2042) , وأحمد (2/ 367). 3 أبو داود: المناسك (2042) , وأحمد (2/ 367).

اتخاذه عيدا، فغيره أولى بالنهي كائنا من كان. ثم إنه قرن ذلك بقوله: "ولا تتخذوا بيوتكم قبورا"1 أي: لا تعطلوها من الصلاة فيها والدعاء فتكون بمنْزلة القبور؛ فأمر بتحري العبادة في البيوت، ونهى عن تحريها عند القبور، عكس ما يفعله المشركون من النصارى ومن تشبه بهم. وقد قال الإمام أحمد -رحمه الله تعالى-: إذا سلم الرجل على النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبيه، ثم أراد الدعاء، فليستقبل القبلة ويجعل الحجرة عن يساره لئلا يستدبره. وكذلك ذكر أصحاب مالك قالوا: يدنو من القبر فيسلم على النبي صلى الله عليه وسلم ثم يدعو مستقبل القبلة، وقال مالك في المبسوط: لا أرى أن يقف عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم يدعو، ولكن يسلم ويصلي. فقصد الدعاء عند القبر كرهه السلف متأولين في ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تتخذوا قبري عيدا"2 كما ذكرنا ذلك عن علي بن الحسين، والحسن بن الحسن ابن عمه، وهما أفضل أهل البيت من التابعين، وأعلم بهذا الشأن من غيرهما لمجاورتهما الحجرة النبوية نسبا ومكانا. وقد ذكرنا عن أحمد وغيره أنهم أخبروا من سلم على النبي صلى الله عليه وسلم ثم أراد أن يدعو أن ينصرف فيستقبل القبلة، وكذلك أنكر ذلك غير واحد من العلماء المتقدمين كما ذكرناه عن مالك وغيره، وكذلك غير واحد من المتأخرين مثل أبي الوفاء ابن عقيل، وأبي الفرج بن الجوزي. ولا يحفظ عن صاحب، ولا عن تابع، ولا عن إمام معروف أنه استحب قصد شيء من القبور للدعاء عندها، ولا روى أحد في ذلك شيئا لا عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن الصحابة، ولا عن الأئمة المعروفين، والله أعلم. [الجهل بالشرك مانع من التكفير حتى تقوم الحجة] (فصل) المبحث الثالث فيمن مات على التوحيد، وإقامة قواعد الإسلام الخمس، وأصول الإيمان الستة، ولكنه كان يدعو وينادي ويتوسل في الدعاء

_ 1 البخاري: الصلاة (432) والجمعة (1187) , ومسلم: صلاة المسافرين وقصرها (777) , والترمذي: الصلاة (451) , والنسائي: قيام الليل وتطوع النهار (1598) , وأبو داود: الصلاة (1448) , وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها (1377) , وأحمد (2/ 6). 2 أبو داود: المناسك (2042) , وأحمد (2/ 367).

إذا دعا ربه ويتوجه بنبيه في دعائه معتمدا على الحديثين اللذين ذكرناهما، أو جهلا منه وغباوة، كيف حكمهم؟ (فالجواب) أن يقال: قد قدمنا الكلام على سؤال الميت، والاستغاثة به، وبينا الفرق بينه، وبين التوسل به في الدعاء، وأن سؤال الميت، والاستغاثة به في قضاء الحاجات وتفريج الكربات، من الشرك الأكبر الذي حرمه الله تعالى ورسوله، واتفقت الكتب الإلهية، والدعوات النبوية على تحريمه وتكفير فاعله والبراءة منه ومعاداته؛ ولكن في أزمنة الفترات، وغلبة الجهل لا يكفر الشخص المعين بذلك حتى تقوم عليه الحجة بالرسالة، ويبين له ويعرف أن هذا هو الشرك الأكبر الذي حرمه الله ورسوله. فإذا بلغته الحجة، وتليت عليه الآيات القرآنية، والأحاديث النبوية، ثم أصر على شركه فهو كافر؛ بخلاف من فعل ذلك جهالة منه ولم ينبه على ذلك. فالجاهل فعله كفر، ولكن لا يحكم بكفره إلا بعد بلوغ الحجة إليه؛ فإذا قامت عليه الحجة ثم أصر على شركه فقد كفر، ولو كان يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، ويصلي، ويزكي، ويؤمن بالأصول الستة. وهذا الدين الذي ندعو إليه قد ظهر أمره، وشاع، وذاع، وملأ الأسماع من مدة طويلة، وأكثر الناس بدّعونا وأخرجونا وعادونا عنده، وقاتلونا واستحلوا دمائنا وأموالنا؛ ولم يكن لنا ذنب سوى تجريد التوحيد، والنهي عن دعوة غير الله، والاستغاثة بغيره، وما أحدث من البدع والمنكرات حتى غُلبوا وقهروا فعند ذلك أذعنوا، وأقروا بعد الإنكار. وأما من مات وهو يفعل الشرك جهلا لا عنادا، فهذا نكل أمره إلى الله تعالى، ولا ينبغي الدعاء له، والترحم عليه، والاستغفار له؛ وذلك لأن كثيرا من العلماء يقولون: من بلغه القرآن

فقد قامت عليه الحجة كما قال تعالى: {لأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} [الأنعام من الآية: 19]، فإذا بلغه القرآن، وأعرض عنه، ولم يبحث عن أوامره، ونواهيه فقد استوجب العقاب قال تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه: 124]. وقال تعالى: {وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا خَالِدِينَ فِيهِ} [طه من الآيات: 99 - 101]. [تقسيم المواريث التي قسمت في حال الشرك والجهل] (فصل) وأما المبحث الرابع في تقسيم مواريث من مات على ذلك، وما حصل منهم من الإتلافات، وما وقع بينهم من القتل وغيره، ما حكمه. (فالجواب): تقسيم المواريث التي قسمت في حال الشرك الجهل تقر على ما هو عليه، ولا ترد القسمة في الإسلام؛ ومن أسلم على شيء في يده قد ملكه في الجاهلية لم ينْزع من يده في الإسلام؛ لأن الإسلام يجب ما قبله. وكذلك ما حصل بينهم من القتل والإتلافات، فالذي نفتي به أنه لا يطالب بشيء من ذلك؛ وذلك لأن حال الناس قبل هذا الدين أكثرهم حاله كحال أهل الجاهلية الأولى. وكل قوم لهم عادة وطريقة استمروا عليها تخالف أحكام الشرع في المواريث، والدماء، والديات، وغير ذلك، ويفعلون ذلك مستحلين له، فإذا أسلموا لم يطالبوا بشيء مما فعلوه في جاهليتهم وتملكوه من المظالم ونحوها؛ وأما الديون والأمانات فالإسلام لا يسقطها، بل يجب أداؤها إلى أربابها، والله أعلم. [قسمة المواريث والصدقات المفروضة] (فصل) وأما المبحث الخامس فيما انفرد الله -سبحانه وتعالى- بتقسيمه في كتابه العزيز من المواريث والصدقات المفروضة إلخ. (فالجواب) أن يقال: إن المواريث التي قسمت في الشرك، وتملكها أهلها ثم أسلموا، لا ترد قسمتها؛ ومن أسلم على شيء أقر في يده إذا كان قد

تملكه في جاهليته. وأما إذا لم تقسم التركة، وأسلم أهلها وهي موقوفة، فإنها لا تقسم إلاعلى قسمة الله تعالى في كتابه العزيز التي يعرفها أهل العلم. وأما قسمة الصدقات المفروضة، فقد قسمها -سبحانه وتعالى- في ثمانية أصناف لا يجوز صرفها إلى غيرهم، وهذا مما لا خلاف فيه بين العلماء؛ لكن اختلفوا هل المراد أنها تقسم بين الأصناف الثمانية بالسوية كما يقسم الميراث بين أهله، وأنه لا بد من تعميم الأصناف الثمانية، أو المراد بذلك بيان المصرف، وأنها لا تصرف إلى غير هؤلاء، وأنه يجوز صرفها إلى بعض الأصناف دون بعض بحسب الحاجة والمصلحة؟ فذهب الشافعي إلى أنه يجب استيعاب الأصناف الثمانية، وذهب الجمهور إلى جواز عدم التعميم؛ واحتجوا بفعل النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين وبقوله تعالى: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة من الآية: 271]، وبقوله صلى الله عليه وسلم في حديث معاذ: "تؤخذ من أغنيائهم فترد إلى فقرائهم"1 فلم يذكر في الآية والخبر إلا صنفا واحدا. وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بني زريق أن يدفعوا صدقتهم إلى سلمة بن صخر، وقال لقبيصة "أقم يا قبيصة حتى تأتينا الصدقة فنأمر لك بها"2، لو وجب صرفها إلى جميع الأصناف لم يجز صرفها إلى واحد؛ ولهذا قال الجمهور: يجوز صرفها إلى واحد، وهو مروي عن عمر، وحذيفة، وابن عباس، وبه يقول سعيد بن جبير، والحسن، وعطاء، وإليه ذهب الثوري، وأبو عبيد، وأصحاب الرأي، وهو مذهب الإمام أحمد. [استغلال المرتهن للرهن] (وأما المبحث السادس) في الأمور التي تكون الأراضي مرهونة بها، ويستغلها المرتهن، أو يأخذ شطرًا من غلاتها والمرهون بها البيوت، والبنادق، والحلي

_ 1 البخاري: الزكاة (1496) , ومسلم: الإيمان (19) , والترمذي: الزكاة (625) , والنسائي: الزكاة (2435) , وأبو داود: الزكاة (1584) , وابن ماجه: الزكاة (1783) , وأحمد (1/ 233) , والدارمي: الزكاة (1614). 2 مسلم: الزكاة (1044) , وأبو داود: الزكاة (1640) , وأحمد (5/ 60) , والدارمي: الزكاة (1678).

وينتفع بها المرتهن، وبطلانها معلوم، فلما أرادوا مخارجتهم شرعوا فيه شرائع من تلقاء أنفسهم، وجعلوا الدراهم مناجمة في ستة سنين، أو أكثر، أو يقطعون لصاحب الدراهم قطعة من الأرض المرهونة لا تساوي ثلث ولا ربع المال، وأجبروه على ذلك إلخ. (فالجواب): أن المفتى به عندنا أن الرهن وثيقة في الدين، يباع عند حلول الدين إذا امتنع الراهن من الوفاء؛ فمتى امتنع الراهن من الوفاء، وطلب المرتهن بيع الرهن بيع، واستوفى من ثمنه، ولم يجز مطله، ولا إجباره على المناجمة، ومن أجبره على المناجمة فهو جاهل، ومن نسب ذلك إلينا فقد غلط، بل لا يجوز ذلك عندنا إلا برضى المرتهن. [تقبيل أيدي العلماء والصالحين] (وأما المبحث السابع) إذا قبل الرجل كف غيره، لا للتعبد، ولا لغناه، ولا لدنياه، ولا لشوكته، بل لنحو صلاحه، وعلمه، وزهده، وشرفه، وخصاله المحمودة. (فالجواب) أنه لم يكن من عادة السلف تقبيل أيدي العلماء والصالحين، بل لم يكن من عادتهم تقبيل يد رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أفضل الخلق -صلوات الله وسلامه عليه-. فمن جعل ذلك عادة فقد خالف ما عليه السلف، وأما من فعل ذلك بعض الأحيان ولم يجعله عادة مستمرة فهذا لا بأس به، بل قد يستحب. وعلى هذا يحمل الحديث المذكور عن ابن عمر أنهم "لما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة مؤتة قالوا: يا رسول الله نحن الفرارون، قال: بل أنتم العكارون أنا لكم فئة. قال: فقبلنا يديه ورجليه"1، وكذلك أبو عبيدة قبل يد عمر، وزيد بن ثابت قبل يد ابن عباس؛ وهذا إنما فعلوه لأمر يوجب ذلك بعض الأحيان، ولم يجعلوه عادة مستمرة، والله سبحانه وتعالى أعلم.

_ 1 الترمذي: الجهاد (1716) , وأبو داود: الجهاد (2647).

(وأما المبحث الثامن) عن التنباك الذي اختلفت فيه آراء علماء الإسلام؛ فمنهم من أفتى بحله، ومنهم من أفتى بتحريمه بقيد وتعليق، ومنهم من أفتى بتحريمه مطلقًا. ولما بلغنا أنكم أفتيتم فيه بأنه من المسكرات اعتمدنا على قولكم، فعارض بعض الراحلين من عندكم فقالوا: من شربه بعد ما تاب منه فقد ارتد وحل دمه وماله. (فالجواب): أن من نسب إلينا القول بهذا فقد كذب وافترى، بل من قال هذا القول استحق التعزير البليغ الذي يردعه وأمثاله؛ فإن هذا مخالف للكتاب، بل لو تاب منه ثم عاد إلى شربه لم يحكم بكفره وردته، ولو أصر على ذلك، إذا لم يستحله 1. والتكفير بالذنوب مذهب الخوارج الذين مرقوا من الإسلام واستحلوا دماء المسلمين بالذنوب والمعاصي. [حلق شعر الرأس] (وأما المبحث التاسع) عن حلق شعر الرأس، وأن بعض البوادي الذين دخلوا في ديننا قاتلوا من لم يحلق رأسه، وقتلوا بسبب الحلق خاصة، وأن من لم يحلق رأسه صار مرتدا. (فالجواب): أن هذا كذب وافتراء علينا، ولا يفعل هذا من يؤمن بالله واليوم الآخر؛ فإن الكفر والردة لا تكون إلا بإنكار ما علم بالضرورة من دين الإسلام؛ وأنواع الكفر والردة من الأقوال والأفعال معلومة عند أهل العلم، وليس عدم الحلق منها، بل ولم نقل إن الحلق مسنون، فضلا عن

_ 1 هذا القيد يذكره العلماء في المعاصي المجمع على تحريمها كالزنا والخمر، فمن استحلها كان كافرا لرده النصوص القطعية والإجماع، وأما ما اختلف العلماء في تحريمه لاختلاف اجتهادهم فلا يكفر مستحله قطعا، وما ذكر المصنف القيد هنا إلا بحسب العادة المتبعة في المحرمات الاجتماعية المعلومة من الدين بالضرورة كما سيأتي له في مسألة حلق الشعر الآتية.

أن يكون واجبا، فضلا عن أن يكون تركه ردة عن الإسلام. والذي وردت السنة بالنهي عنه هو القزع، وهو حلق بعض الرأس وترك بعضه؛ وهذا هو الذي نهينا عنه، ونؤدب فاعله، ولكن الجهال القادمون إليكم لا يميزون أنواع الكفر والردة، وكثير منهم غرضه نهب الأموال. ونحن لم نأمر أحدا من الأمراء بقتال من لم يحلق رأسه، بل نأمرهم بقتال من أشرك بالله، وأبى عن توحيد الله تعالى، والتزام شرائع الإسلام، من إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصيام رمضان. فإذا فعلوا خلاف ذلك، وبلغنا ذلك من فعلهم، لم نقرهم على ذلك؛ بل نبرأ إلى الله من فعلهم، ونؤدبهم على قدر جرائمهم بحول الله وقوته، والله سبحانه وتعالى أعلم. [الحِلْف إذا وقع على خلاف أحكام الشرع] (وأما المبحث العاشر) في قوم اجتمعوا، وعقدوا بينهم العهود في المؤازرة والمناصرة، والمعاونة على الأضياف، والمدافعة؛ وأنهم يعقلون في الدماء عمدها وخطئها، فهل يجب الوفاء بها إذا كان في ذلك صلاح فإذا كان الحلف قد صدر منهم في الجاهلية، فهل يلزم لقوله صلى الله عليه وسلم: كل حلف في الجاهلية لم يزده الإسلام إلا شدة وهل يجوز إحداثه في الإسلام إذا وجد فيه صلاح؟ (فالجواب): أن الحلف إذا وقع على خلاف أحكام الشرع لم يجز التزامه، ولا الوفاء به؛ فإن قضاء الله أحق، وشرط الله أوثق؛ كما ثبت في الصحيحين في حديث بريدة رضي الله عنه: "ما بال أقوام يشترطون شروطا ليست في كتاب الله ما كان من شرط ليس في كتاب الله فهو باطل، وإن كان مائة شرط"1. وهذا الحلف المذكور على هذا الوجه يخالف حكم الله؛ فإن الحكم الشرعي أن دية العمد على القاتل خاصة، ودية الخطأ على العاقلة؛ وهذا أمر لا خلاف فيه بين العلماء فكيف يبطل هذا الحكم الشرعي بحلف

_ 1 البخاري: البيوع (2168) , ومسلم: العتق (1504) , وأبو داود: العتق (3929) , ومالك: العتق والولاء (1519).

2 - مسائل فقهية

الجاهلية وعقودهم وعهودهم وأما قوله -عليه السلام-: "كل حلف في الجاهلية لم يزده الإسلام إلا شدة"1 فهذا فيما وافق الشرع ولم يخالفه، كالتحالف على فعل البر والتقوى، وكالتحالف على دفع الظلم، ونحو ذلك؛ وأما إحداث التحالف بعد الإسلام فلا يجوز؛ لقوله -عليه السلام-: "لا حلف في الإسلام"2؛ وذلك لأن الإسلام يوجب على المسلمين التعاون والتناصر بلا حلف، والمسلمون يد واحدة على من سواهم، وقال صلى الله عليه وسلم: "المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يشتمه ولا يخذله"3، وقال "المؤمنون كالبنيان يشد بعضه بعضا"4. هذا إذا كان الناس مجتمعين على إمام واحد، وأما إذا حصل التفرق والاختلاف -والعياذ بالله-، ولا يمكن التعاون والتناصر إلا بالتحالف، فهذا لا بأس به إذا لم يخالف أحكام الشرع، والله -سبحانه وتعالى أعلم، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم-. انتهى المنقول من المنقول منه وذلك في 10 شوال سنة 1345، بقلم عبد الله بن إبراهيم الربيعي. هذه المباحث للشيخ الإمام عبد الله بن الشيخ الإمام شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب، رحمهم الله تعالى وعفا عنهم. {مسائل في الصلاة وما يتعلق بها} بسم الله الرحمن الرحيم [المرأة المصابة بالجدري هل يجب عليها الغسل من الجنابة أو الحيض] (مسألة) في المرأة إذا أتاها الجدري، وحاضت، وانقطع الدم، ولم تغتسل، هل تصلي وتصوم ولا يلزمها إعادة؟ وكذلك هل يجب عليها الغسل من الجنابة أو الحيض إذا أصابها؟ (الجواب): المرأة إذا حاضت وهي مجدورة، فإذا انقطع عنها الدم اغتسلت، فإن عجزت عن ذلك، أو خافت الضرر تيممت ثم صلت وصامت؛

_ 1 مسلم: فضائل الصحابة (2530) , وأبو داود: الفرائض (2925) , وأحمد (4/ 83). 2 البخاري: الحوالات (2294) , ومسلم: فضائل الصحابة (2529). 3 مسلم: البر والصلة والآداب (2564) , وأحمد (2/ 277). 4 البخاري: الصلاة (481) , ومسلم: البر والصلة والآداب (2585) , والترمذي: البر والصلة (1928) , والنسائي: الزكاة (2560).

ولا يلزمها إعادة إذا برئت من مرضها، بل عليها أن تغتسل متى قدرت على الغسل بلا ضرر يلحقها. [المجدور والمريض هل له الصلاة في أسلابه ولا إعادة أو لا] (مسألة) في المجدور والمريض هل له الصلاة في أسلابه ولا إعادة، أو لا؟ (الجواب): المجدور إذا كان في أسلابه نجاسة لزمه أن يصلي في غيرها، فإن عجز عن غيرها بحيث إنه لم يكن له إلا سلب واحد، ولا يقدر على غيره، والذي عليه لا يقدر أن يحفظه عن النجاسة، فإنه يصلي فيه، ولا يصلي عريانا. ولكن كثيرا من الناس يتساهل في هذا، فتجد من يقدر أن يفسخ سلبه ويصلي في غيره، لا يفعل ذلك؛ وهذا أمر كبير. بل تجد من الناس من يقدر على الوضوء والغسل من الجنابة ولا يغتسل ولا يتوضأ، ويعدل إلى التيمم بلا مشقة. ومنهم من يصلي قاعدا مع قدرته على القيام. وكل هذه أمور خطرة على العوام، فينبغي لطالب العلم أن يفطنهم لما يجب عليهم من هذا، ويبين لهم حالة العذر التي تباح فيها الرخصة. [الذي يصلي مكشوف الرأس] (مسألة) في الذي يصلي مكشوف الرأس ليس على رأسه شيء بالكلية، هل يجوز ذلك أم لا والذي يصلى وليس عليه إلا القلنسوة التي يسميها (العوام) الطاقية، هل ذلك جائز أم لا؟ (الجواب): الذي يصلي وهو مكشوف الرأس فلا أرى عليه بأسا؛ وستر الرأس في الصلاة ليس بواجب، لأن الرأس ما هو بعورة في حق الرجل، وإنما هو عورة في حق المرأة. فإذا عرفت أن الذي يصلي ورأسه مكشوف أن صلاته جائزة، فالذي يصلي وعلى رأسه طاقية أولى وأحرى. [وطء المرأة المجدورة هل هو جائز، وهل يورث ضررا على المجدورة أم لا] (مسألة) في وطء المرأة المجدورة على هذا الحال هل هو جائز؟

وهل هو يورث ضررا على المجدورة أم لا؟ (الجواب): أما وطء المرأة المجدورة فلا بأس به؛ وأما الضرر، فإن كان على المرأة ضرر في ذلك لم يكن للزوج أن يضرّ بها. [كيفية قضاء الفوائت] (مسألة): إذا كان على المريض أو المجدور صلوات فائتة هل يجب قضاؤها على الفور مرتبات، أو يكون كل وقت مع وقت وما صفة الترتيب، وكذلك هل يجب عليه القضاء بالتيمم متى يقدر. (الجواب): أما المجدور الذي عليه صلوات فائتة هل يقضيها إذا قدر بالتيمم فالأمر كذلك يلزمه القضاء بالتيمم، والقضاء واجب على الفور. ويتيمم ويقضي الفوائت ولا يؤخرها حتى يقدر على الماء؛ لأن الواجب لا يؤخر عن وقته. وأما قولك: هل يصلي كل وقت مع وقته؟ فليس الأمر كذلك؛ بل ذكروا أنه يجب عليه القضاء متتابعا إلا أن يضر به ذلك بحيث لا يقدر، فيقضيها بحسب الاستطاعة في وقتين، أو ثلاثة، أو يومين. وعبارتهم: ومن فاتته صلوات لزمه قضاؤها على الفور مرتبا ما لم يتضرر بذلك في بدنه، أو يشتغل به عن معيشة هو محتاج إليها. [قراءة الورد قبل الصلاة] (مسألة) في الذي يقرأ ورده بعد الصبح وقبل الصلاة إذا تأخر الإمام، هل يجزئه ذلك أم لا وأيما قراءة القرآن، أو الورد في هذه الساعة أحسن وهل جميع ما فعل الإنسان من ذلك فهو جائز، وقول من قال: لا يكفيه قراءة الورد قبل الصلاة هل له أصل؟ وكذلك قراءة القرآن. (الجواب): قراءة الورد بعد الصبح وقبل الصلاة إذا تأخر الإمام فهو حسن -إن شاء الله- وكاف؛ فإن قرأ القرآن في تلك الساعة، وقرأ ورده بعد الصلاة فحسن أيضا. والقول بأن قراءة الورد قبل صلاة الفجر ما تكفي، فلا أعلم له أصلا.

[هل التراب بدل لكل ما يفعل بالماء] (مسألة): هل التراب بدل لكل ما يفعل بالماء؟ (الجواب): أما التراب فهو بدل لكل ما يفعل بالماء؛ فمن عجز عن استعمال الماء، أو عدم الماء فالصعيد الطيب طهور. [حكم جلوس الحائض في المسجد للتعلم أو استماع الذكر] (مسألة) في الحائض هل لها الجلوس في المسجد لأجل استماع الذكر وتعلم أمر الدين، إذا كان يسأل عنه في المسجد، إذا كانت تأمن التلويث في المسجد، ولم ينفصل منها شيء في المسجد، وكان دمها لا ينفصل من الفرج كذلك النفساء هل حكمها حكم الحائض فيما ذكرنا، أم لا؟ (الجواب): أما الحائض فلا يحل لها الجلوس في المسجد ولو أمنت التلويث، بل تمنع من الجلوس فيه بالكلية؛ وقد نص الفقهاء على أن الحائض لا تجلس في المسجد، ولو بعد انقطاع الدم حتى تغتسل -والله أعلم-. وأما النفساء فحكمها حكم الحائض -والله أعلم-. [إلقاء السلام على الذي يتوضأ أو يستنجي أو يستجمر] (مسألة) في السلام هل يسلم على الذي يتوضأ، أو يستنجي، أو يستجمر، أم لا؟ وهل لذلك المسلم عليه رد السلام على هذه الأحوال ويكون واجبا أم لا؟ وما الحال التي يكره السلام عليها؟ (الجواب): أما السلام على الذي يتوضأ فلا أعلم فيه كراهة، فإذا سلم عليه رد -عليه السلام-؛ وأما السلام على الذي في الخلاء فمكروه، ولا يرد على المسلم. وأما السلام على الذي يستنجي بالماء في المطهرة، فلا أعلم. [التحدث أثناء الوضوء أو الاستنجاء] (مسألة) في الحكي والإنسان يتوضأ أو يستنجي، هل هو جائز أم ينهى عنه؟ وهل يفرق بين هذه الأمور أم هي على سبيل الجواز؟ (الجواب): أما الحكي الذي يفعله المستنجون إذا جلسوا كاشفين عوراتهم يتحاكون وهم على هذه الحال، وكذلك المسألة قبلها أعني الذي

في المطهرة فلم أقف على هاتين المسألتين في كلام أهل العلم. [الجلوس مستدبر القبلة وقت الدرس] (مسألة) في تلقية الإنسان ظهره القبلة في مثل الدرس وغيره إذا كان مستندًا على جدار؛ وصورة ذلك عندنا إذا سلم الإمام من الصلاة وفرغت المائدة والسنة 1 ثبت الإمام على هيئة الصلاة ووجهه إلى المأمومين وظهره إلى القبلة إلى أن يفرغ الدرس، لأجل أن الدرس عندنا بعد الصلاة في المسجد. هل هذا جائز ولا ينكر على الإمام الذي يفعل ذلك، وهل يفرق بين الإمام والمأموم، وكذلك الفضاء والبنيان؟ (الجواب): أما الجلوس مستدبر القبلة وقت الدرس فما علمت فيه بأسا، وسواء في ذلك الذي يذاكر الناس، أو غيره؛ واستدل العلماء على ذلك بأن النبي صلى الله عليه وسلم رأى إبراهيم -عليه السلام- ليلة أسري به وهو مسند ظهره إلى البيت المعمور؛ ولكن الأفضل جلوس الإنسان مستقبلا القبلة إذا كان في عمل صالح، ومن استدبرها لم ينكر عليه. [التحلق للدروس] (مسألة): إذا كان الدرس بعد فراغ الصلاة في موضعها، هل يجب على المأمومين التحلق على الدرس إذا كان الإمام يدرس في موضعه الذي صلى فيه، ويجب ذلك أم يكون على هيئتهم، ويثبت كل في موضعه الذي صلى فيه ولم يجب التحلق (الجواب): أما مسألة التحلق للدرس فهو أفضل، اقتداء بالسلف الصالح؛ وأما إذا وقعت المذاكرة في مثل رمضان وقت قيام الليل، وجلسوا في الصف على هيئتهم إذا جلسوا للصلاة وهم يسمعون القارئ

_ 1 كذا في الأصل.

والمذاكر، فهذا حسن وإن لم يتحلقوا. [الكتابة في المجلس الذي فيه جماعة جالسون] (مسألة) في الخط، مثل الرسالة أو شيء من العلم في موضع يجلس فيه ويمشى معه، ويقول الكاتب: أنا أكتب بيني وبين نفسي، ولم أشغل أحدا ولم يشغلني؛ وقد يكون للكاتب في ذلك مقاصد، إما بذل علم وكف أذى وإيصال للمسجد؛ وينكر بعض الجهال على من فعل ذلك هل يكون مع المنكر دليل؟ وهل يكون مع الخط في المجلس بأس؟ (الجواب): أما الكتابة في المجلس الذي فيه جماعة جالسون فلا فيه بأس، خصوصا إذا صار ما يرفع صوته بالحديث الذي هو يكتب فيه، ولا يشغله الكلام عما هو فيه؛ فأما إن كان يتكلم بالحديث فلا يناسب أن يرفعوا أصواتهم فوق صوته، بل المناسب التأدب مع حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وتنْزيهه عن اللغط؛ وأما إذا لم يكن هناك محذور فلا بأس، ومن نهى عن ذلك فلا أعلم معه دليلا. [ما يأخذه الجزار من الذبيحة إذا ذبحها] (مسألة) فيما يأخذ الجزار من الذبيحة إذا ذبحها إذا كان له عادة بأخذها معروفة، هل هي جائرة أم لا؟ وهذه جارية عندنا، إذا كان الإنسان قصابا أخذ من الذبيحة من رأسها قبل القسم والبيع، مثل القلب، وما يتعلق به، ومثل الأطراف والنجتية، وغير ذلك؛ ثم يقسم باقي اللحم على ما أرادوا، والذي هو يأخذه معروف ومشتهر عند أهل البلد. وأما الأجنبي فقد يكون بجهله شيء من ذلك، ولكن ينكر بعض العوام على فاعل ذلك، ويقول القصاب: أنا آخذ شيئا جارية به العادة ومعروف، هل جائز أم لا؟ (الجواب): ما يأخذه الجزار من الذبيحة أجرة له، فهذا إذا كان

عرفا جاريا في البلد ولا فيه جهالة، بل شيء معروف، فهذا لا بأس به، وإن لم يشترطه وقت الذبح؛ لأن من استأجر على شيء ولم يبين الأجرة انصرف إلى أجرة المثل، والله أعلم. [سجود الإمام للسهو بعد السلام] (مسألة): إذا سها الإمام في الصلاة، ووجب عليه السجود للسهو، ولكن أراد الإمام أن يجعل سجود السهو بعد السلام، وسلم الإمام، وتابعه بعض المأمومين بالسلام جهلا، وبعضهم لم يسلم ظانا أن الإمام ساه أيضا، والإمام مقصده جعل السجود بعد السلام، ماذا يكون فيمن لم يسلم هل تفسد صلاتهم أم لا وهل يفرق بين الجاهل وغيره؟ (الجواب): إذا سلم الإمام قبل أن يسجد للسهو، وتابعه بعض المأمومين في السلام دون بعض، فالذي ينبغي في هذا متابعة الإمام في السلام؛ لقوله صلى الله عليه وسلم "إنما جعل الإمام ليؤتم به، فلا تختلفوا عليه"1. وترك المتابعة من الاختلاف عليه، لكن إذا ترك الإنسان المتابعة جهلا منه، فأرجو أن لا يكون عليه إعادة، لأن الجاهل يغتفر له ما لا يغتفر للعالم المتعمد. [محل التشهد الأول في حق من أدرك ركعة من المغرب مع الإمام] (مسألة): إذا لم يدرك الإنسان إلا ركعة من المغرب هل يجلس للتشهد إذا صلى ركعتين، ثم ينهض ويأتي بالأخرى، أم يسرد الركعتين بلا تشهد، أم غير ذلك؟ وهل يجب على الذي لم يجلس للتشهد في هذه الحال سجود سهو أم لا؟ (الجواب): محل التشهد الأول في حق من أدرك ركعة من المغرب مع الإمام، فهذا فيه اختلاف بين العلماء؛ والمشهور أنه يتشهد عقيب الركعة الأولى من القضاء، ولا يسردهما. فلو سردهما إنسان، لم يضيق عليه لأجل اختلاف العلماء، وليس مع المخالف دليل واضح على المنع فيما يظهر لي.

_ 1 البخاري: الأذان (722) , ومسلم: الصلاة (414) , والنسائي: الافتتاح (921 ,922) , وأبو داود: الصلاة (603) , وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها (846 ,1239) , وأحمد (2/ 230 ,2/ 314 ,2/ 341 ,2/ 376 ,2/ 411 ,2/ 420 ,2/ 475) , والدارمي: الصلاة (1311).

[صلاة النساء فوق سطح المسجد أعلى من الرجال] (مسألة) في صلاة النساء فوق سطح المسجد أعلى من الرجال، إذا كان الرجال في المصابيح والنساء فوقهم في أعلى المسجد، يصلين بالانفراد غير متابعات للإمام، هل هذا جائز أم لا؟ وهل يفرق بين كونهن في مقدم السطح متقدمات على الإمام والجماعة إذا لم يتابعن الإمام في الصلاة لأجل الانفراد، وكذلك تأخرهن في آخر السطح بقدر صفوف الرجال. (الجواب): أما مسألة صلاة النساء فوق سطح المسجد فوق الرجال، فلا أعلم فيه بأسا، سواء كن يصلين مع الإمام، أو منفردات. وقولك: هل يفرق بين مقدم السطح، أو مؤخره؟ فإن كن يصلين مع الإمام وجب عليهن أن لا يتقدمن على الإمام، فإن كن منفردات فما علمت في تقدمهن في مقدم السطح بأسا إذا لم يكن في السطح رجال. [الصلاة في مشب الضوء] (مسألة) في الصلاة في مشب الضوء ومثل موقد، أو دكة وغير ذلك إذا لم يستقبل المصلي الضوء، وكذلك الصلاة في أسطحة ما ذكرنا (الجواب): أما الصلاة في الموقد والدكة فما علمت فيه بأسا لكن لا يستقبل الضوء، وكذلك في سطح الموقد لا بأس بذلك. [صلاة الجماعة للمسافر] (مسألة) في المسافر إذا كان في البلد وهو يقصر الصلاة، هل يلزمه الدخول مع الجماعة لأجل تمام الصلاة، أم يصلي وحده ويقصر، ولو كان في البلد، وأمر ذلك إليه أم ما فعل فهو جائز. وهل يفرق بين الواحد والجماعة من المسافرين أم لا؟ (الجواب): الجماعة واجبة حضرًا وسفرًا، مثل ما تفهم، فإذا كان المسافر في البلد جاز له القصر؛ لكن إن لم يكن عنده جماعة يقصرون لزمه الصلاة مع المقيمين، ويتم معهم الصلاة؛ لأن الجماعة لا تسقط بالسفر.

[مرور المسافر بمسجد بعد الأذان] (مسألة): إذا كان الإنسان مسافرا، ومر بمسجد وقت الصلاة فيه جماعة، والوقت قد دخل، وقد أذن المؤذن هل يلزمه أن يصلي مع الجماعة ويتم الصلاة أم يصلي في موضعه وهل ينكر على الإنسان إذا مر بالمسجد على هذه الحال ولم يصل فيه، أم أمر ذلك عند صاحب السفر، أم غير ذلك؟ (الجواب): الذي يمر بالمسجد بعد الأذان فلا يتعداه حتى يصلي إلا أن يكون في طريقه مسجد آخر يصلي فيه، فهذا لا بأس به، إلا أن يكون قد دخل المسجد بعد الأذان فلا يخرج منه حتى يصلي. [صلاة المريض المتنجس البدن والثوب] (مسألة) في المريض الذي يصيبه نجاسة في بدنه، أو في سلبه، ويشق عليه التحرز من ذلك لأجل المرض، ويصلي بالتيمم على هذه الحال على قدر حسبه هل صلاته تامة ولا يقضي، أم يجب عليه القضاء؟ وهل يفرق بين نجاسة البدن وبين مواضع الوضوء وغيرها وبين السلب (الجواب): المريض الذي في بدنه نجاسة لا يقدر على إزالتها، فهذا يصلي بحسب استطاعته، ولا يعيد. فإن كانت النجاسة في ثيابه، وقدر على خلعها ويلبس ثيابا طاهرة، وجب عليه ذلك، لقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم"1، فإن لم يقدر على خلعها صلى فيها، ولا إعادة عليه في أصح القولين. [صلاة التراويح وأقل ما تصح به الصلاة] (مسألة) في العجلة في صلاة التراويح التي صار الناس يؤدونها بالسرعة، وأيضا إذا حصلت العجلة في الأفعال والأقوال صلى أكثر الناس، فإذا تريض الإمام في القراءة، أو في التسبيح، أو غيره من أفعال الصلاة ما صلى إلا قليل من الناس، وتبين أن المصلحة في العجلة، ويستحبون الجماعة السريعة، ولكن ما العجلة التي تخل من التي لا تخل وهل يقتصر الإمام على تسبيحة

_ 1 البخاري: الاعتصام بالكتاب والسنة (7288) , ومسلم: الحج (1337) , والنسائي: مناسك الحج (2619) , وابن ماجه: المقدمة (2) , وأحمد (2/ 247 ,2/ 258 ,2/ 313 ,2/ 355 ,2/ 428 ,2/ 447 ,2/ 467 ,2/ 482 ,2/ 495 ,2/ 508).

واحدة وهي التي لا بد منها، أم لا بد من أدنى الكمال الثلاث ويصير التطوع مثل الفرض، أم يفرق بينهما على حسب الحاجة والمصلحة، أم غير ذلك وما المستحب في صفة صلاة التراويح، هل هي عشرون ركعة ولا يزاد عنها ولا ينقص، أم غير ذلك وما يقرأ في ذلك (الجواب): قولك: إن الإمام إذا استعجل صلى معه أكثر الناس، وإذا طوّل لم يصل معه إلا القليل؛ فالشيطان له غرض، ويحرص على ترك العمل؛ فإن عجز عن ذلك سعى فيما يبطل العمل. وكثير من الأئمة في البلدان يثقل في صلاة التراويح فعل أهل الجاهلية، ويصلون صلاة ما يعقلونها ولا يطمئنون في السجود ولا في الركوع والطمأنينة (وهي) ركن ما تصح الصلاة إلا بها؛ والمطلوب في الصلاة حضور القلب بين يدي الله تعالى، واتعاظه لكلام الله إذا يتلى عليه، والخشوع، والطمأنينة، وهذه في الغالب ما تحصل للإنسان الذي يود العجلة. إذا أردت أن تصلي مع الإمام عشرين مع العجلة فصل معه عشرا بخشوع وطمأنينة فهي أنفع لك من كثرة الركعات بلا خشوع ولا طمأنينة. وهذا الذي ذكرناه هو الذي ينبغي فعله، وأما إذا حدث فرقة بين الجماعة وبين الإمام، وصار هواهم في التخفيف، ولا وافقوه على فعل السنة، فالذي ينبغي له الحرص على الطمأنينة، ولا يستعجل عجلة تخل بالطمأنينة، وعلى هذا الحال تقصير القراءة مع الخشوع في الركوع والسجود أولى من طول القراءة مع العجلة المكروهة؛ وكذلك صلاة عشر ركعات مع طول القراءة والطمأنينة في الركوع والسجود أولى من عشرين ركعة مع العجلة المكروهة، لأن لب الصلاة وروحها هو إقبال القلب على الله فيها؛ ورب قليل خير من كثير.

وأما قدر التسبيح في الركوع والسجود فأدنى الكمال ثلاث، فإن اقتصر على تسبيحة واحدة أجزأه، وسواء في ذلك الفريضة والنافلة. وأما صفة صلاة التراويح وعددها، فالذي ذكره العلماء أن التراويح عشرون ركعة، وأن لا ينقص عن هذا العدد إلا إن أراد أن يزيد في القراءة بقدر ما ينقص من الركعات؛ ولهذا اختلف عمل السلف في الزيادة والنقصان، وعمر رضي الله عنه لما جمع الناس على أبي بن كعب كانت صلاتهم عشرين ركعة. وأما القراءة فاستحب أهل العلم للإمام أن لا ينقص عن قراءة جزء ليحصل للناس سماع جميع القرآن في التراويح. [ترك الاستفتاح والتعوذ بعد الركعتين الأوليين لصلاة التراويح] (مسألة): إذا أراد الإمام أن يترك الاستفتاح والتعوذ في مثل هذه التراويح بعد الركعتين الأوليين لأجل ما ذكرنا، هل له ذلك أم لا بد من الإتيان بهما جميعا في كل ركعتين أم غير ذلك؟ (الجواب): أما الاستفتاح فلا بأس بتركه إذا استفتح في أول الصلاة، ثم بعد ذلك يقتصر على التعوذ والبسملة بعد تكبيرة الإحرام، فلا بأس بذلك، لأن الاستفتاح سنة؛ ولو تركه الإنسان في الفرض صحت صلاته. [الاقتصار على التشهد الأول في كل ركعتين] (مسألة): إذا أراد الإنسان أن يقتصر على التشهد الأول في كل ركعتين هل له ذلك، أم لا بد من الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم. (الجواب): أما التشهد فالذي لا بد منه هو التشهد الأول، ثم يقول: "اللهم صل على محمد"، فإن اقتصر على ذلك أجزأه، وإن زاد فهو أفضل وأكمل. [حد السرعة في القراءة في التراويح] (مسألة): ما حد السرعة في القراءة في التراويح التي يمنع منها الإمام، هو لا بد من القراءة المعتادة من الترتيل والتدبر، أم الأمر واسع بعض الأحيان لأجل صلاة أكثر الناس، ومثل ما قال أحمد -رحمه الله-: إنما

الأمر على ما يحتمل الناس، ومثل العجلة من الراضة نرى إذا استعجل الإمام صلى غالب الناس جميع التراويح، ولا ينصرفون إلا إذا انصرف الإمام، ويحصلون الفضيلة أعني قيام الليل مع الإمام حتى ينصرف إلى آخره، وإذا تريض الإمام وصار ثقيلا ما صلوا إلا بعض الصلاة. (الجواب): أما السرعة في القراءة، فالترتيل أفضل من السرعة؛ والسرعة المباحة هي التي لا يحصل معها إسقاط شيء من الحروف، فإن أسقط بعض الحروف لأجل السرعة لم يجز ذلك وينهى عنه. وأما إذا قرأ قراءة بينة ينتفع بها المصلون خلفه، ولا يسقط شيئا من الحروف فهذا حسن، ولا يضره مع ذلك سرعته في القراءة. [وقت الانصراف من القيام في العشر الأواخر] (مسألة) في القيام في العشر الأواخر، متى يكون وقت الانصراف آخر الليل إلى ما دونه؟ هل له وقت واحد في البكر والصيف أم الأمر واسع، ومثل ما ذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم "قام ليلة إلى ثلث الليل، وليلة إلى نصف الليل، وليلة سبع وعشرين إلى الفجر"مثل ما ذكر عن بعضهم أنه خشي أن يفوتهم الفلاح 1 والي أيحن نعامل ينصرفون من القيام مبكرين يقرأ القارئ خمسة أجزئة أو أكثر وحد دون هذا قبل الصبح، وإذا عفا الله عنك كني ما أتحاسن هذا لأجل إذا جاء وقت السحر الفضيل، وإلى أن أكثر الناس خصوصا المقيمين رقودًا إلى الصبح، وإلا لو هم جلوس على قراءة أو ذكر كان أفهم أنهم في صلاة أم الأمر على ما جاز للجماعة. (الجواب): أما وقت الانصراف من القيام في العشر الأواخر، فما علمت فيه تحديدا، وقيام آخر الليل أفضل من أوله، والأحسن في هذا

_ 1 من هنا إلى آخر المسألة طبق الأصل وهو غير مفهوم.

أن الإمام يفعل الأمر الذي لا يشق على المأمومين مع الحرص على الصلاة آخر الليل، فإذا تحرى الوقت الذي يتسع لحاجات الناس آخر الليل بحيث لا يشق، ولا يضيق الوقت عن حاجاتهم فما زاد عنه لا حاجة إليه، واشتغالهم بالصلاة آخر الليل أولى من النوم. [النهي عن صلاة ركعة بعد الوتر] (مسألة) في قوم إذا سلم بهم إمامهم من التراويح قام بعد السلام يلحق ركعة يشفع بها وتره الذي أوتر في وقت الإمامة لأجل أن يريد أن يوتر آخر الليل، مثل هذا يشكل علينا هل للإمام فعل ذلك أم لا؟ (الجواب): في الإمام إذا سلم من الوتر قام فصلى ركعة ينقض بها وتره، فمثل هذا ينهى عنه، ولا علمت أحدا من السلف فعله، فإذا أحب الإمام أن يجعل وتره آخر الليل، فلينصرف إذا فرغ من التراويح، ويستخلف من يوتر بالمأمومين. فإن أحب أن لا ينصرف إلا بعد الفراغ من الوتر فإذا بقي ركعة من الوتر، استخلف غيره يصلي بهم تلك الركعة، ويصلي معهم تلك الركعة، فإذا سلم الإمام قام قبل السلام وشفعها بركعة. والمسألة التي فيها الاختلاف في نقض الوتر غير هذه، وصورتها أن يوتر أول الليل، ثم يبدو له بعد ذلك أن يتنفل آخر الليل هل ينقض وتره بركعة إذا قام آخر الليل ثم يصلي مثنى مثنى، ثم يوتر؟ أم لا ينقضه بل يصلي مثنى مثنى ولا يعيد الوتر فهذه المسألة الخلاف فيها مشهور، وأما المسألة المسؤول عنها فلا ينبغي فعلها وفي الحديث: "لا وتران في ليلة"1. [صلاة النساء مع الرجال في صف واحد] (مسألة) في صلاة النساء مع الرجال في صف واحد ماذا يكون فيها، وصورتها إذا كان في رمضان، وصف الرجال في الصف الأول، وفضل فيه

_ 1 الترمذي: الصلاة (470) , والنسائي: قيام الليل وتطوع النهار (1679) , وأبو داود: الصلاة (1439).

بعضه، هل يصح للنساء أن يصففن فيه ويخلين بينهن وبين الرجال فرجة، ولكنهن في طرف صف الرجال، هل يجوز ذلك للحاجة مثل برد، أو استماع قراءة أم لا؟ (الجواب): وقوف النساء مع الرجال في صف واحد مكروه، والسنة وقوفهن خلف الرجال؛ هذا هو الذي وردت به الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه. وقوف النساء مع الرجال في صف واحد ما يناسب، وقد ورد في ذلك الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أخروهن من حيث أخرهن الله"، والله أعلم. [المسافر إذا مر بالماء ولم يستعمله وصلى بالتيمم] (مسألة) في المسافر إذا مر بالماء في الوقت ولم يستعمله وصلى بالتيمم، هل يعيد أم لا؟ (الجواب): المسافر إذا مر بالماء في الوقت فلم يستعمله وصلى بالتيمم هل يعيد فالمسألة فيها خلاف بين الفقهاء والعلماء، وفيها وجهان للأصحاب، والمذهب أنه لا إعادة عليه؛ لأنه في تلك الحال عادم للماء. [صلاة الجمعة للمسافر] (مسألة) في المسافر إذا أتى بلدا، وأدركته الجمعة فيها، وأمره أهل البلد أن يصلي بهم الجمعة، هل له أن يفعل على قول أبي حنيفة والشافعي ومالك أم لا وكذلك في المسافر إذا كان نيته الإقامة في البلد فوق أربعة أيام، وكان إمام المسجد ليس بحاضر، فأمره أمير البلد والجماعة أن يصلي بهم الجمعة والجماعة، فأجاب إلى ذلك، هل هذا جائز أم لا وكذلك هل يكون الذي يعيب على ذلك الفاعل مصيبا وله دليل أم هذا من الجهل وهل يعاب هذا على فاعله أم لا؟ وأيما أفضل إجابة الإنسان لهذه المسألة ونحوها، أو امتناعه (الجواب): المسافر إذا قدم البلد ولم ينو إقامة تمنع من القصر والفطر في

رمضان، فهذا لا جمعة عليه بحال؛ فإن صلى الجمعة مع أهل البلد أجزأته، والأفضل في حقه حضورها إذا لم يمنع مانع. فإن كان المسافر قد نوى إقامة مدة تمنع القصر والفطر، فهذا تلزمه كغيره؛ فإذا كان في بلد تقام فيها الجمعة وجب عليه حضورها. وأما إمامته في الجمعة، فالمذهب أنه لا يجوز أن يؤم فيها بحال، ولا يكمل به العدد المعتبر؛ لأن من شروط الجمعة الاستيطان، وهذا ليس بمستوطن. وذهب مالك، وأبو حنيفة والشافعي إلى أن له أن يؤم فيها، وهذه المسألة من مسائل الخلاف؛ ولا أعلم فيها دليلا من الجانبين. فإذا كانت من المسائل الاجتهادية فلا إنكار في مسائل الاجتهاد، ولا يجوز الإنكار على الفاعل، خصوصا إذا كان قد علم الخلاف بين العلماء في الجواز وعدمه، وعمل على قول المجيزين؛ ولا يجوز نسبته إلى الجهل والحالة هذه. وأما قولك أيما أفضل إجابة الإنسان لمثل هذه المسألة ونحوها، أو امتناعه؟ (فالأفضل) في حقه العمل بالأحوط، ولا يؤم في الجمعة وهو مسافر إلا إن كان قد بان له، وترجح عنده الجواز، وأن القول بالمنع لا وجه له، فتلك حالة أخرى. وأما إذا ترجح عنده الجواز، وعمل بقول الجمهور، فلا يجوز الإنكار عليه إذا رضي أهل البلد بإمامته لغيبة الإمام، أو قدمه الإمام بنفسه -والله أعلم-. [وقوف المأمومين في الصف الثاني قبل إتمام الأول] (مسألة) في الذين يصفون في الصف الثاني والأول لم يتم لأجل إدراك الركعة ونحو ذلك، ماذا يكون فيهم إذا كان مأمورا بإتمام الصف الأول فالأول هل الصلاة تتم على هذه الحال أم لا؟ (الجواب): إذا صف بعض المأمومين في الصف الثاني ولم يتم الأول، هل تصح صلاتهم أم تلزمهم الإعادة؟ فنقول، بل تصح صلاتهم، ولا إعادة عليهم؛ لكن يؤمرون بإتمام الصف الأول فالأول للأحاديث الواردة في ذلك.

مسائل في دفن الميت والصلاة عليه وصفتها

[صلاة من يقف في الصف وحده لأجل إدراك ركعة] (مسألة) في الفذ الذي يصف في الصف وحده لأجل إدراك الركعة، هل يؤمر بالإعادة أم لا وما الذي يجوز له والذي يفعل ذلك عليه خطر من جهة دخوله في الصلاة من الخلل بالتكبير، والطمأنينة، ونحو ذلك، وهل يفرق في هذه المسألة بين الذي يصف وحده ثم يأتيه غيره في الركوع، والذي يستكمل الركعة فذًا قبل أن يأتيه أحد، أم المبني على دخوله في الصلاة فذًا وحده. (الجواب): في الفذ إذا وقف في الصف وحده لأجل إدراك الركعة، فهذا ينهى عنه كما نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكرة فقال له: "زادك الله حرصا، ولا تعد"1. وإذا فعل الإنسان ذلك، فإن دخل في الصف قبل أن يسجد، أو أحرم معه آخر، فالمشهور صحة صلاته؛ فإن خر ساجدا قبل أن يدخل في الصف وكان وحده فإنه يؤمر بالإعادة، لأنه جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر الذي صلى وحده خلف الصف بالإعادة. وأما قولك: وما العذر الذي يجوز له فالذي عليه الجمهور أنه لا يجوز للفذ أن يصلي خلف الصف لا لعذر، ولا لغير عذر، وأما على القول الذي اختاره الشيخ تقي الدين فهو جائز للعذر، مثل أن يجد الصف قد تم، ولا يجد من يقف معه فيصلي وحده، ولا يجذب رجلا من الصف ليقف معه. {مسائل في دفن الميت والصلاة عليه وصفتها} [الميت بعد غروب الشمس] (مسألة): إذا مات الميت بعد غروب الشمس سواء كان أول الليل، أو أوسطه، أو آخره هل يؤخر تجهيزه إلى النهار؛ لأنه أسهل على المجهزين والمتبعين، أم تجب المبادرة إلى تجهيزه ولو في الليل؟ وهكذا إذا قلنا بتركه إلى النهار، ما معنى قوله صلى الله عليه وسلم: "لا ينبغي لجيفة مسلم أن تحبس بين ظهراني

_ 1 البخاري: الأذان (783) , والنسائي: الإمامة (871) , وأبو داود: الصلاة (683 ,684) , وأحمد (5/ 39 ,5/ 42 ,5/ 45 ,5/ 50).

أهله"1، هل هذا يتناول ذلك أم لا؟ (الجواب): أما الميت إذا مات في الليل فيجوز تأخير دفنه إلى النهار إذا لم يخش من الانفجار ونحوه؛ فإن دفن ليلا جاز، لأن أبا بكر دفن ليلا، وعلي دفن فاطمة ليلا. وعن ابن عباس أن النبي -صلى الله عليه وسلم- دخل قبرا فأسرج له سراج، فأخذ من قبل القبلة وقال: "رحمك الله أن كنت تلاء للقرآن"2 رواه الترمذي، قالوا: ولكن الدفن بالنهار أولى؛ لأنه أسهل على متبعي الجنازة، وأكثر للمصلين عليها، وأمكن لاتباع السنة في دفنه وإلحاده. وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "لا ينبغي لجيفة مسلم أن تحبس بين ظهراني أهله"3 فهذا إذا لم يكن عذر. [تقديم جنازة الرجل للصلاة عليها على غيرها] (مسألة): إذا حضر جنازتان أو أكثر ذكور وإناث، هل النساء مما يلي القبلة والرجال مما يلي الإمام؟ (الجواب): إذا اجتمع رجال ونساء وأراد الإمام أن يصلي عليهم صلاة واحدة، قدم الرجال فجعلهم مما يليه؛ لأنهم يستحقون التقديم في الإمامة فاستحقوا التقديم في الجنائز، وقد نقل الجماعة عن أحمد أنه يقدم إلى الإمام الحر المكلف، ثم العبد المكلف، ثم الصبي، ثم المرأة المكنونة. [صفة وضع الجنازات بين يدي الإمام للصلاة عليها] (مسألة) ما صفة وضعهم هل صفة واحدة أعني بذلك أن تجعل رؤوسهم على أيمن الإمام وأرجلهم إلى أيسر الإمام جميعا، أم تكون الرؤوس جميعا والأرجل هذا إلى الأيمن وهذا إلى الأيسر من الإمام. وهذا الإشكال أورده إنسان علينا بلا علم، ولا مقصدنا بتسوية الصدور والرؤوس. (الجواب): أما صفة وضعهم بين يدي الإمام للصلاة عليهم، فتجعل رؤوسهم كلهم عن يمين الإمام، ويجعل وسط المرأة حذاء صدر الرجل، ليقف الإمام من كل نوع موقفا، لأن السنة أن يقف عند صدر الرجل ووسط المرأة.

_ 1 أبو داود: الجنائز (3159). 2 الترمذي: الجنائز (1057). 3 أبو داود: الجنائز (3159).

مسائل في نصاب الزكاة وزكاة العروض

[الصدقة على الميت من ماله الذي خلفه] (مسألة): إذا مات إنسان وأراد أهله أن يتصدقوا له بصدقة من ماله الذي خلف قبل القسمة، هل هذا جائز ومستحب أم لا وكذلك إذا كان في الورثة صغار، هل يجوز لوليهم مثل أخ أو أم أو غيرهما الصدقة لأبيهم من رأس المال، كل بحسبه أم لا؟ (الجواب): في الصدقة عن الميت من ماله الذي خلفه فهو حسن، والصدقة المالية تصل إلى الميت باتفاق أهل العلم، بخلاف الصدقة البدنية، بأحد الأعمال البدنية؛ فإن ذلك مختلف فيه، بخلاف الأول فهو بالاتفاق. وأما إذا كان في الورثة صغار، لم يجز لأوليائهم أن يتصدقوا لأبيهم من نصيبهم من الميراث، فإذا أراد الكبار أن يتصدقوا لميتهم فليجعلوا ذلك من نصيبهم خاصة. مسائل في نصاب الزكاة وزكاة العروض بسم الله الرحمن الرحيم [نصاب زكاة الذهب والفضة] (الأولى من المسائل): ما قدر الأنصبة في الزكاة من كل نوع بعد التحرير هل زكاة الذهب عشرون مثقالا على ما ذكروها المثقال في وقتنا هذا من الجدد وهل يشترط بلوغ العشرين مثقالا مائتي درهم على ما ذكر من الإجماع، أم على عامة قول الفقهاء نصاب الذهب عشرون مثقالا من غير اعتبار قيمتها وما الفرق في ذلك وما صورة المسألة؟ وما العمل عليه في وقتنا الآن بعد التحرير (الجواب): ذكر أهل العلم أن نصاب الذهب عشرون مثقالا، وحررناه بالوزن فصار قدر سبعة وعشرين زرًا. وأما الفضة فنصابها مائتا درهم، وحررناه فوجدناه بالوزن أحدا وعشرين ريالا، وأمرنا من كان عنده من الذهب أو من الفضة هذا المقدار وقد حال عليه الحول أن يزكيه.

[قدر نصاب الفضة من الريالات اليوم] (مسألة): زكاة الفضة كم قدرها من الريالات اليوم وما قدر المائتي درهم في وقتنا هذا وهل تقوم وما التقويم في ذلك هل هو على قيمة الصرف، أم على قيمة الفضة، أم غير ذلك (الجواب): فكما ذكرنا لك أن الذي عليه العمل في نصاب الفضة أحد وعشرون ريالا، وأما الجدد فهي عرض تقوم بالفضة. [العروض تقوم عند الحول بالريالات] (مسألة) في العروض هل تقوم بالصرف من الريالات، أم تقوم على قدر قيمتها من الفضة وما الفرق بين الفضة والذهب والعروض، هل قيمتها واحدة أم متفاوتة؟ (الجواب): العروض تقوم عند الحول بالريالات، لأنها أنفع للفقراء، لأن العروض تقوم بالأحظ للفقراء من غير الورق، كما نص عليه الفقهاء. [العروض هل هي جامعة جميع ما يملك الإنسان؟] (مسألة) في العروض هل هي جامعة جميع ما يملك الإنسان من هدم وغنم وعيش وتمر وإبل وبقر وغير ذلك سوى النقدين، أم غير ذلك (الجواب): العروض اسم للسلع المعدة للتجارة، فكل شيء يشتريه الإنسان يرصده للربح فهو عرض تجارة من جميع أنواع المال؛ وأما الإبل التي يجعلها صاحبها عديلة مع البدوي يقصد به تناسلها عنده ولا له نظر في بيعها وتقليبها للتجارة، فهي تزكى زكاة السائمة لا زكاة تجارة، وكذلك الغنم. وأما إن كان قصد صاحبها التجارة ويظهرها مع البدو، فإذا سمنت وزانت باعها، فهذه تزكى زكاة تجارة. وأما العيش والتمر فإن كان محصله صاحبه من حرثه، فلا فيه زكاة بعدما يزكيه زكاة الحرث ولو بلغ أحوالا، ومتى باعه استقبل بثمنه حولا؛ وأما إن كان محصله من دين له على الناس، فمثل ما يفعل التجار، فهذا يزكى كل حول، ويقوم عند رأس الحول كغيره

من عروض التجارة، وهذا معنى قول الفقهاء: ولا تكرر زكاة معشرات ولو بلغت أحوالا ما لم تكن للتجارة. [زكاة العوامل والعروض من الإبل والغنم] (مسألة): ما الذي تجب في الزكاة من العروض من الإبل مثل الذلول والسانية، هل تضم مع العروض أم لا وكذلك الغنم التي تشرب اللبن والبقر التي مثل ذلك، هل هذه العوامل التي قال أحمد: ليس في العوامل زكاة (الجواب): إذا كان الذلول للتجارة فهي عرض تقوم عند رأس الحول؛ وإن كانت لغير التجارة بل جعلها صاحبها للحرفة عليها أو الجهاد أو الحج ونحو ذلك، فينظر في ذلك: فإن كانت لم ترع غالب الحول عند الوديع فلا زكاة فيها، فإن كانت قد رعت دور السنة مع إبل الوديع وجبت فيها الزكاة زكاة خلطة. وأما العوامل التي قال أحمد ليس فيها زكاة، فهي التي تركب مثل زوامل البدو. [ما الذي يخرج عن زكاة العروض بعد المعرفة والتقويم؟] (مسألة): ما الذي يخرج عن زكاة العروض بعد المعرفة والتقويم هل هو دراهم، أم عين من أنواع العروض، أم ينظر إلى ما هو أحظ لبيت المال والمساكين، في مثل زكاة بلدنا التي زكاتها فيها إما لبيت المال أو للمساكين (الجواب): الذي يخرج عن العروض دراهم بعد ما تقوم بها؛ فإذا قومت بالدراهم أخرجت زكاتها. [زكاة المال الغائب] (مسألة): إنسان غاب عنه ماله قدر ثلاث سنين أو أكثر، ثم جاءه ولم يزد من رأس المال لم يزكه، وهل يكون في الدين زكاة إن أخره صاحبه في يد من كان عنده وقت الوجوب، أم ما يجب عليه في ذلك شيء حتى يأخذه صاحبه من يد من كان عنده وهل يفرق بين من منع وبين من لم يمنع (الجواب): إذا غاب مال الإنسان عنه ثم جاءه، زكاه لما مضى إذا

كانت غيبة في تجارة مثل البضاعة ونحوها؛ وكذلك إن كان دينا على مليء باذل. وأما إن كان دينا على معسر أو نحوه، ففيه خلاف. وأما إن كان صاحبه هو الذي أخره على المدين ولو أراد أخذه منه أعطاه إياه متى طلبه، فهذا يزكيه لما مضى من السنين. [وقت زكاة الدين الذي على المليء] (مسألة) في الدين الذي على المليء مثل القرض والصداق، أيما أحسن يزكيه قبل قبضه أو بعده. (الجواب): إذا كان الدين على المليء، فإن شاء زكاه عند رأس الحول وهو أفضل لأنه مقدور عليه؛ وإن شاء أخر زكاته حتى يقبضه، فالتأخير رخصة في ذلك. [قدر نصاب الحبوب والثمار] (مسألة) في قدر نصاب العيش الذي مهما نقص سقطت الزكاة، هل هو مائتان وسبعون صاعا بصاعنا اليوم، أم أكثر من ذلك أم أنقص وما فرق صاعنا من صاع النبي -صلى الله عليه وسلم- وما قدر الصاع الذي ذكر أن الوسق ستون صاعا، كم ينقص عن صاعنا؟ وهل نقص الصاع أو الصاعين يسقط الزكاة (الجواب): نصاب الحبوب والثمار خمسة أوسق، والوسق ستون صاعا بصاع النبي صلى الله عليه وسلم؛ وأما تقديره بصاعنا فهو معروف عند عمال الزكاة، وصاعنا يزيد على الصاع القديم. [حد النصاب الذي يسقط الزكاة] (مسألة) في النقص اليسير في الأنصبة، هل هو يسقط الزكاة مثل الوزنة والوزنتين ومثل الجديدة والجديدتين ما حد الذي يسقط الزكاة (الجواب): نقول: اختلف أهل العلم هل النصاب في الذهب والفضة تحديد أو تقريب، فالمشهور عند الحنابلة أنه تقريب، فعلى هذا لا يضر

النقص اليسير نحو الدرهم مثلا. وأما الحبوب والثمار فالمشهور عند الحنابلة أن النصاب فيها تحديد، فلو نقص يسيرا ولو نحو نصف صاع سقطت الزكاة؛ وعن أحمد رواية أخرى أن النصاب فيها تقريب، فلا يؤثر النقص اليسير، قال في الإنصاف: وهو الصواب. [ضم الحبوب بعضها إلى بعض لتكميل النصاب] (مسألة) في ضم ثمرة العام الواحد بعضها إلى بعض في تكميل النصاب، هل البناء من العام الماضي أم المقبل وصورتها هل زرع القيض الذي مضى يضم مع ثمرة الحب الموجود الآن، أم يصح أن يضم حب الصيف إلى زرع القيض المقبل، أم غير ذلك أم يختلف ذلك باختلاف الثمار (الجواب): أما مسألة ضم الحبوب بعضها إلى بعض في تكميل النصاب، فإن كانت من جنس واحد فإنه يضم بعضها إلى بعض بلا إشكال؛ وإن كانت من جنسين، فاختلف الفقهاء في ضم بعضها إلى بعض. والذي عليه العمل اليوم أنه يضم بعضها إلى بعض، فتضم الحنطة إلى الشعير، وتضم الذرة إلى الدخن. وأما معنى الضم فالمراد به إذا كانت الثمرة الأولى لا تبلغ نصابا، ثم جاءت الثمرة الثانية فإنها تضاف إلى الأولى؛ فإذا بلغ نصابا أخرج زكاته. [زكاة ديوان صاحب الأرض وتأثير الخلطة في الحبوب والثمار] (مسألة): إنسان حصل في هذا الصيف قدر مائتي صاع تزيد ولا أتمت النصاب، وفي القيض يحصل قدر أربعين صاعا أو أكثر، فصار هذا بكماله يبلغ النصاب؛ ولكن فيه ديوان لصاحب الأرض قدر ثلاثين صاعا أو أكثر أو دون ذلك، هل تجب الزكاة على هذه الحال، وتصير من رأس العيش فإن كانت من رأسه حصلت الزكاة، فإن أخذ صاحب الأرض ديوانه قبل الزكاة نقص النصاب، أم الزكاة تجب على صاحب الزرع إذا بلغ هذا،

ولكن صاحب الديوان ما على نصيبه زكاة أم مبنى هذه المسألة على تأثير الخلطة في الحبوب والثمار، وهذه كثير وقوعها عندنا (الجواب): هذه مسألة مبنية على مسألة ضم الحبوب بعضها إلى بعض؛ فإذا قلنا تضم فمتى كمل النصاب أخرج زكاته. وأما ديوان الأرض الذي يأخذه المالك فيبنى وجوب الزكاة فيه على القول بتأثير الخلطة في غير السائمة؛ والذي عليه الجمهور أنها لا تؤثر في غير السائمة. وعن أحمد رواية ثانية أنها تؤثر في الحبوب والثمار، وهو قول إسحاق، واختارها الآجري وابن عقيل. فعلى هذا تؤخذ الزكاة من المال، ويكون على صاحب الأرض قدر نصيبه من الزكاة؛ وأما على قول من قال أن الخلطة لا تؤثر في الثمار، فيخرج صاحب الزرع معروق الأرض، ثم يزكي الباقي إن بلغ نصابا؛ ولكن الأحوط في هذا إخراج الزكاة ولو نقص النصاب بإخراج الديوان، وذلك لأن الديوان أجرة في ذمة المستأجر، وليس مالك الأرض شريكا له في الزرع، وإنما الذي له آصع معلومة في ذمة المستأجر، والفقهاء يمثلون الخلطة في الثمار بنحو اشتراكهما في الزرع، ونحو اشتراط المالك جزءا معلوما من الثمرة، نحو ربع الثمرة أو خمسها. (وأما مسألة) إجارة الأرض بآصع معلومة، فهي بعيدة من مسألة الخلطة، والأحوط في هذا أن صاحب الزرع إذا كمل عنده النصاب أخرج زكاته، ثم دفع ديوان الأرض إلى مالكها، ولا ينقص شيء من أجل الزكاة. [الوقف الذي ما تجب فيه الزكاة] (مسألة): ما الوقف الذي ما تجب فيه الزكاة هل هو الوقف على أي جهة كانت، مثل المسجد والجهاد والصوم والحج، أم غير ذلك وما صورة الوقف على معين الذي تجب فيه الزكاة وهل إذا كان نخل

موقوف على مسجد أو غيره وكان في يد كداد هل عليه زكاة تبعا لغيره، أم الوقف ما عليه زكاة ولا تؤثر فيه الخلطة، أم حكمه حكم الخلطة من غيره، أم يفرق بينهما (الجواب): الوقف الذي تجب فيه الزكاة هو الوقف على معين، أما الوقف الذي على غير معين كالوقف على المساجد ونحو ذلك مثل المؤذن والصوام والسراج ونحو ذلك فلا زكاة فيه؛ فإذا كان النخل وقفا على المسجد فلا زكاة في عمارته التي تؤخذ لأهل المسجد. [تأثير الخلطة في الثمار وصورتها] (مسألة) في تأثير الخلطة في الثمار، ما صورتها؟ هل حكمها حكم السائمة، أم غير ذلك فمن ذلك رجلان اشتركا في زرع، فبلغ زرعهما جميعا قدر مائتين، هذا الذي بينهما، ولكل واحد منهما وحده زرع، فواحد عنده قدر خمسين ليس فيه شركة، وللآخر قدر مائة أو أكثر أو دون، وهذا صورة هذه المسألة ماذا يكون فيها وهذه من أشكل ما يقع عندنا. (الجواب): الخلطة تؤثر في الماشية بالحديث الصحيح، وأما غير الماشية فالذي عليه أكثر أهل العلم أن الخلطة لا تأثير لها في الحبوب والثمار والدراهم، وعند بعض الفقهاء أنها تؤثر. وأما الصورة الواقعة عندكم إذا كان بين اثنين زرع قدر مائتي صاع لكل واحد مائة وله قدر خمسين أو أزيد من زرع آخر مختص به عن شريكه، فهذا لا زكاة فيه على القولين جميعا، لأنا إن قلنا أن الخلطة لا تأثير لها في غير الماشية فواضح؛ وإن قلنا تؤثر فهما لم يشتركا في نصاب، لأن المشترك لا يبلغ نصابا فلا زكاة فيه. فإذا اقتسما وأضاف كل واحد منهما نصيبه إلى ما حصل له من الزرع الآخر الذي اختص به عن شريكه نظرنا، فإن بلغ حصته نصابا زكاه، وإلا فلا.

[زكاة الصداق الذي في ذمة الزوج] (مسألة) في رجل تزوج امرأة على صداق كثير، فبعضه بلغها، وبعضه لم يبلغها، وهو في ذمة الزوج، وهو قدر عشرين ريالا، هذا من السياق، وأما المهر الذي عقد عليه فهو ثمانية، وهو أيضا في ذمة الزوج إلى الآن، ومضى على ذلك قدر سنتين، هل تجب في ذلك زكاة ومتى تجب إن كانت واجبة؟ والمرأة لا مخلية ولا أخذت بين هذا وهذا، إن أرادوا الأخذ أخذوا، وإن أرادوا ما أخذوا، وهذا صورتها، هل تجب الزكاة على هذه الحالة أم لا؟ (الجواب): الصداق في ذمة الزوج لا زكاة فيه قبل القبض، واختلف الفقهاء في زكاته بعد قبضه، هل يزكى لما مضى من السنين، أم يزكى سنة واحدة، أم لا زكاة فيه. [وقت وجوب الزكاة في الثمرة] (مسألة) متى تجب الزكاة في الثمرة، وفيما يتركه الخارص لأهل النخل، هل هو سهم معلوم، أم على قدر حاجتهم وأكلهم وهديتهم وصدقتهم كما ذكر، أم غير ذلك وكذا ما يخرجه بعِوض وما يخرجه بلا عوض، وكذا إذا باع من الثمرة مثل مقياض ونحوه، هل يزكيه تمرًا أو يزكي ثمنه دراهم (الجواب) الزكاة تجب في الثمرة إذا بلغت نصابا، لكن يؤمر الخارص أن يدع الثلث أو الربع لأهل النخيل، يأكلونه ويهدون منه ويتصدقون، وبعض أهل العلم يقول يدع لأهل النخيل قدر حاجتهم، كل إنسان على قدر حاجته، فما كان يحتاجه للأكل قبل الجذاذ، ويهديه لأقاربه ونحوهم، أو يتصدق به، فلا زكاة فيه، وما عدا ذلك ففيه الزكاة. فتبين لك أن ما أخرجه بلا عوض يعود إليه فلا زكاة فيه، وما باعه أو أهداه هدية يطلب عوضها ففيه الزكاة. وقولك: هل يزكي ثمنه إذا باعه؟ فليس الأمر كذلك، بل يزكي نفس الثمرة التي باعها.

[اعتبار النصاب في الزكاة بعد التصفية] (مسألة) في الزرع كالصفراء، وهي نوع من العيش تنقص بعد اليبس والتصفية. (الجواب): أهل العلم ذكروا اعتبار النصاب بعد التصفية فإذا صار العيش مدقوقا مصفى صالحا للأكل، فمتى بلغ النصاب وجبت فيه الزكاة. [زكاة ما يتركه الخارص لأهل النخل] (مسألة) في الخارص، هل يستوعب النخل بالخرص فلا يبقي شيئا، أم يترك لأهل النخيل حاجاتهم (الجواب): كل ما يأكله صاحب النخل من المقياض هو وعياله وما يهديه لقريب وما يتصدق به على فقير، فكل هذا لا زكاة فيه، ويؤمر الخارص بترك ذلك، فلا يخرصه على أهل النخل ويخرص الباقي. [بيع الزكاة قبل قبضها] (مسألة) في بيع الزكاة قبل قبضها، هل يجوز ذلك أم لا؟ (الجواب): ذكر الفقهاء أن الفقير لا يملك الزكاة، ولا يتصرف فيها بالبيع قبل قبضها، واستدلوا على ذلك بحديث مرفوع رواه أحمد وابن ماجه. [شراء المزكي زكاته] (مسألة): هل للمزكي أن يشتري زكاته أم لا؟ (الجواب): أما شراء المزكي زكاته ففيه خلاف، والمشهور أنه لا يجوز. [ملك من غير الأثمان ما لا يكفيه هل تجوز له الزكاة؟] (مسألة): ما معنى قولهم: من ملك من غير الأثمان ما لم تتم به كفايته فله الأخذ من الزكاة، وما الفرق بين الأثمان وغيرها؟ (الجواب): نقول: معنى ذلك ما نص عليه أحمد في رواية الميموني قال: ذاكرت أبا عبد الله فقلت: قد يكون للرجل الإبل والغنم تجب فيها الزكاة وهو فقير، ويكون له أربعون شاة، وتكون له الضيعة لا تكفيه أفيعطى من الصدقة قال: نعم، وذكر قول عمر: أعطوهم وإن راحت عليهم من الإبل كذا أو كذا، قلت: فلهذا قدر من العدد والوقت؟ قال: لم أسمعه. وقال في رواية: من الحكمة إذا كان له عقار يستغله أو ضيعة تساوي

عشرة آلاف أو أقل أو أكثر لا تقيمه، يأخذ من الزكاة؛ وذلك لأنه لا يملك ما يغنيه ولا يقدر على كسب ما يكفيه، فجاز له الأخذ من الزكاة، لأن الفقر عبارة عن الحاجة. ولا يقال: هذا لو يبيع عقاره صار غنيا، لأن بيع العقار الذي يحتاج إلى غلته لا يلزمه، وكذلك الغنم الذي يحتاج إليها، وكذلك سواني الكداد ودوابه وعروض القنية التي يحتاج إليها، وكل ذلك لا يمنع من أخذ الزكاة مع الحاجة. [ملك من الأثمان ما يكفيه هل تجوز له الزكاة أم لا؟] (مسألة) في الأثمان، إذا ملك منها ما يكفيه، هل تجوز له الزكاة أم لا؟ وهل الأثمان وغيرها سواء في عدم المنع من الأخذ من الزكاة (الجواب): أما الأثمان فإذا ملك منها ما يكفيه لم تبح له الزكاة، كما أنه إذا كان له غلة نخل أو أرض تكفيه لا تباح له الزكاة، قال في المغني: اختلف العلماء في الغنى المانع من أخذها، ونقل عن أحمد فيه روايتان، أظهرهما أنه ملك خمسين درهما أو قيمتها من الذهب، أو وجود ما تحصل به الكفاية على الدوام من مكسب أو تجارة أو أجر عقار أو نحو ذلك، ولو ملك من العروض أو الحبوب أو السائمة أو العقار ما لا يحصل به الكفاية لم يكن غنيا وإن ملك نصبا؛ هذا الظاهر من مذهبه، وهو قول الثوري والنخعي وابن المبارك وإسحاق. (والرواية الثانية) أن الغنى ما تحصل به الكفاية، فإذا لم يكن محتاجا حرمت عليه الصدقة وإن لم يملك شيئا، وإن كان محتاجا حلت له الصدقة وإن ملك نصبا، والأثمان وغيرها في هذا سواء. وهذا قول مالك والشافعي، وقال أصحاب الرأي: الغنى الموجب للزكاة هو المانع من أخذها - وهو ملك نصاب تجب فيه الزكاة من الأثمان أو عروض التجارة أو السائمة. انتهى ملخصا.

(مسألة) في الزكاة، هل تؤخذ من رأس العيش قبل أن يأخذ صاحب الأرض ديوانه، أو تصير الزكاة على صاحب الأرض والكداد أم صاحب الأرض يأخذ ديوانه قبل الزكاة أم غير ذلك؟ (الجواب): في ديوان الأرض وقولك: هل يأخذ صاحب الأرض ديوانه قبل إخراج الزكاة أو بعد ذلك؟ فهذه تنبني على تأثير الخلطة في الزرع؛ فإن قلنا تؤثر أخرجت الزكاة من رأس، ويكون على صاحب الأرض من الزكاة قدر ما يحصل له من الديوان. وأما إن قلنا لا تؤثر الخلطة في الزرع فلا زكاة على صاحب الديوان، إلا أن تبلغ حصته نصابا. [شراء الإنسان زكاة ماله من عيش غيره] (مسألة) في الذي تجب عليه الزكاة ولم يخرجها من حرثه، بل أخرجه على الديايين أو غيرهم، وشرى له عيشا وزكى به، هل هذا جائز أم لا؟ (الجواب): أما شراء الإنسان زكاة ماله من عيش غيره فلا علمت فيه خلافا، والذي فيه المنع شراؤها من الفقير بعدما يدفعها إليه. وأما كونه يخرج عيشه على الديايين، ويشتري عيشا، ولا يعطيه أهل الزكاة، فلا أرى به بأسًا. [زكاة غنم الخلطة] (مسألة) في الخلطة في الزكاة مثل الغنم، وأصل صورة ذلك رجل له غنم تبلغ أكثر من النصاب، ومعه غنم لأجنبي عدائل. هل له إخراج الزكاة من جميع الغنم إذا كانت واجبة فيها الزكاة بالخلطة بالشروط المذكورة، ويرجع بعضهم إلى بعض؟ (الجواب): في مسألة زكاة غنم الخلطة فالعامل يأخذ من أي المالين شاء، ويرجع المأخوذ منه على خليطه بقدر زكاة ماله، لقوله -عليه السلام-: "وما كان من خليطين فإنهما يتراجعان بينهما بالسوية"1، وسواء كان لكل منهما نصاب،

_ 1 البخاري: الزكاة (1451).

أو كان لأحدهما نصاب دون الآخر، أو كانا لا يبلغان النصاب إلا باجتماعهما. (مسألة): إذا كانت الخلطة توجب الزكاة، وكان لإنسان قدر نصاب أربعين، ولآخر أكثر، ولاثنين قدر نصاب، والجميع تجمعه الخلطة، وجاء الساعي لأخذ الزكاة، هل يأخذ الزكاة من رأس جميع المال من غير معرفة الغنم وتمييزها، ثم يرجع بعضهم إلى بعض أو يأخذ الزكاة من كل مال أم غير ذلك؟ (الجواب): متى اختلطا حولا بالشروط المذكورة في كتب الفقه، وبلغت غنمهما نصابا، فالخلطة تصير المالين كالمال الواحد، ويأخذ العامل الزكاة من مال أحدهما، ويرجع على خليطه بقدره. [هلك الزرع قبل التمكن من إخراج الزكاة] (مسألة) في الزرع إذا اشتد في سنبله، وبدا فيه الصلاح، وحصد بعضه وبعضه واقف، أو قد يكون حصد منه شيء، وأصابه آفة من الله مثل برد أو برَد، وذهب جميع الزرع أو بعضه، هل فيه زكاة أم لا أم يفرق بين المحصود والواقف، أم غير ذلك؟ (الجواب): المشهور عند أهل العلم أن الزكاة تجب إذا اشتد الحب، ولا يستقر الوجوب إلا إذا جعل في البيدر، فإن تلف بعضه سقطت الزكاة فيما تلف وزكى الباقي؛ ولا أعلم أحدا من العلماء قال بوجوبها فيما تلف قبل الحصاد، بل الذي عليه أكثر العلماء أو كلهم، بل أظنه إجماعا، أن الزرع إذا هلك بآفة سماوية قبل حصاده، والثمرة إذ هلكت قبل الجذاذ فالزكاة تسقط فيما تلف. وأما إذا جذت الثمرة ووضعت في الجرين، أو حصد الزرع وجعل في البيدر، ثم أصابته آفة سماوية كالريح والنار التي تأكله قبل التمكن من إخراج الزكاة، فهذه المسألة هي محل الخلاف. فبعضهم يقول بوجوب الزكاة وبعضهم

مسائل في صدقة الفطر وما يتعلق بها

يقول بسقوطها ويقول: شرط الوجوب التمكن من الإخراج وهو لم يحصل. [إخراج الزكاة قبل التصفية] (مسألة) في الذي يخرج زكاته قبل التصفية مثل الصميما ونحوها، هل دقها على صاحب الزرع أم يدفعها إلى أهل الزكاة سنبلا قبل التصفية أم غير ذلك؟ (الجواب) ظاهر كلامهم عدم الجواز لأنهم نصوا على أنه لا يخرج الحب إلا مصفى؛ ولا التمر إلا جافا. {مسائل في صدقة الفطر وما يتعلق بها} [دفع صدقة الفطر إلى مدرس الصبيان] (مسألة) في دفع صدقة الفطر إلى مدرس الصبيان، أرى فعل أكثر بلدنا وغيرها، إذا صار في البلد مدرس دفعوا فطرة القرابة إلى مدرسهم؛ أحدهم يدفعها إليه قبل دفعها إلى الذي يجبيها، وبعضهم يدفعها إلى عامل الزكاة، ثم يدفعها الأمير أو النائب إلى المدرس؛ وكذلك هنا من يضبط الصبيان ويدفع إلى مدرسهم قدر فطرتهم، هل هذا جائز أم لا؟ (الجواب): الذي ذكره أهل العلم في صدقة الفطر أنها لا تدفع إلا إلى الفقراء والمساكين ونحوهم، ممن يجوز له أخذ زكاة الأموال، فإن كان هذا المدرس فقيرا وأعطي منها لأجل فقره فهذا حسن، وإن كان إنما أعطي لأجل التدريس فلا يجوز. ولا ينبغي لإنسان أن ينتفع بزكاته، ولا يجعلها وقاية لماله؛ فإن فعل ذلك لم تجز عنه، والفطرة إن جعل الأمير لها جابيا يجبيها دفعها إلى الجابي؛ فإن لم يكن لها جاب فليدفعها إلى من اشتدت حاجته إليها من الفقراء والمساكين. ولا يجوز دفعها إلى غني، ولا يستخدم بها الفقير. [قدر صدقة الفطر إذا كان التمر موزونا] (مسألة): كم قدر صدقة الفطر إذا كان التمر موزونا الآن، هل قدرها وزنة وثلث أم أكثر؟

(الجواب): الذي يظهر لنا أن صاع التمر قدر وزنة ونصف. [دفع صدقة الفطر إلى أهلها عند التفريق بعد الجمع] (مسألة) في دفع صدقة الفطر إلى أهلها عند التفريق بعد الجمع، هل يعطي الإنسان قدر فطرته لا أزيد ولا أنقص، أم لا بد أن يزاد أو ينقص؟ وهل تدفع إليه فطرته بعينها أم لا؟ (الجواب): إذا أعطى الجماعة أحدا من الفقراء قدر فطرته لا أزيد ولا أنقص، فهذا لا بأس به إذا كان معطى من غير فطرته التي ساق؛ بل بعض أهل العلم يجوز له أن العامل يرد عليه، ولو زكاته بنفسه إذا بلغت العامل. [هل الأفضل خلط فطرة أهل البلد أم تترك في مواعينها؟] (مسألة): هل يجب خلط فطرة أهل البلد، أم تترك في مواعينها، وتفرق على هذه الحال من غير جمع، أيما الأفضل في ذلك؟ (الجواب): عن هذه المسألة، وهي سؤالك: هل الأفضل خلط فطرة أهل البلد أم تفريغها في مواعينها؟ فالأفضل المبادرة بإخراجها إلى مستحقها، سواء خلطت أم لا. [الحد الذي يثبت في زكاة الفطر] (مسألة): ما الذي يثبت في حدها هل هو صاع من تمر وهل الصاع من التمر وزنة وثلث أم أكثر وهل نصف صاع البر قائم مقام الصاع من غيره، أم لا بد من الصاع؟ (الجواب): الذي يثبت في حدها فهو صاع من تمر، أو صاع من شعير، أو صاع من زبيب، أو صاع من أقط. وأما البر فجاء في بعض الأحاديث أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- جعل نصف الصاع من البر قائما مقام الصاع من غيره من الأجناس المذكورة. والحديث رواه أحمد وأبو داود. والذي في الصحيحين أن معاوية هو الذي قوم ذلك، والقول به مذهب كثير من أهل العلم، وهو اختيار الشيخ تقي الدين. وأما تقدير الصاع من التمر بالوزن فهذا لا

مسائل في الرهن وما يتعلق به

يحتاج إليه، لأن التمر مكيل، فإن أخرج وزنتين عن الصاع فهو كما في هذا. [إخراج القيمة في الزكاة أو الفطرة] (مسألة) في إخراج القيمة في الزكاة أو الفطرة. (الجواب): قال في الإنصاف: ولا يجزئ إخراج القيمة، هذا المذهب مطلقا، سواء كان ثم حاجة أم لا، لمصلحة أو لا، لفطرة وغيرها، وعنه تجزئ القيمة مطلقا، وعنه تجزئ في غير الفطرة، وعنه تجزئ للحاجة من تعذر العرض ونحوه، واختاره الشيخ تقي الدين، وقيل لمصلحة أيضا واختاره الشيخ تقي الدين. انتهى ملخصا والله أعلم. {مسائل في الرهن وما يتعلق به} [الزيادة في دين الراهن] (مسألة) في الراهن، هل يجوز له أخذ دراهم ويجعلها داخلة في الرهن تبعا للأول، فيكون الرهن بها وبالأول؟ (الجواب): هل للمرتهن أن يزيد دراهم يكون الرهن بها وبالدين الأول فالمشهور عدم الجواز، وعبارة الإنصاف تجوز الزيادة في الرهن، ويكون حكمها حكم الأصل؛ ولا يجوز زيادة دين الراهن، لأنه رهن مرهون. [اختلاف المرتهن والراهن في الرهن] (مسألة) إذا اختلف المرتهن والراهن في الرهن، أحدهما يقول: رهن، والآخر يقول: بيع، ماذا يكون، ومن يعمل بقوله؟ والحكم في ذلك (الجواب): إذا اختلف المرتهن والراهن، فقال الراهن: هو رهن عندك، وقال المرتهن: بل بعتنيه، فالمشهور في هذه المسألة أنهما يتحالفان، فيحلف كل منهما على نفي ما ادعاه الآخر، ويأخذ الراهن رهنه. وعبارة أهل المذهب: وإن قال: رهنتك ما بيدك بألف، فقال: بل بعتنيه بها، أو قال:

بعتكه، فقال: رهنته بها، حلف كل على نفي ما يدعى عليه، وأخذ الراهن رهنه، وبقي الألف بلا رهن. انتهى. [رهن المواشي وقبضها] (مسألة): هل يجوز رهن المواشي وما قبضها وهل الاستدامة شرط لصحة الرهن؟ (الجواب): أما رهن المواشي هل يجوز أم لا فالجواز ظاهر لا يخفى كما دلت عليه السنة الصحيحة، وإنما الإشكال في القبض، هل هو شرط لصحة الرهن أو غير شرط والمشهور عند أهل العلم أن القبض شرط لصحة الرهن. وأما استدامة القبض فهل هي شرط أم لا فعلى قول من يشترط الاستدامة فالأمر ظاهر، وعلى القول الثاني إذا قبضه المرتهن فلا بأس أن يأذن للراهن في الانتفاع به، فيكون تحت يد الراهن ينتفع به والرهن بحاله، والله أعلم. [اختلاف الراهن والمرتهن في قضاء الرهن] (مسألة): إذا كان على رجل ألفان: أحدهما رهن والآخر بغير رهن، فقضى ألفا وقال: قضيت الألف الذي فيه الرهن، وقال المرتهن: بل قضيت الآخر. (الجواب): نقول: القول قول الراهن مع يمينه، سواء اختلفا في نية الراهن بذلك أو في لفظه، لأنه أعلم بنيته وصفة دفعه، ولأنه يقول: الباقي بلا رهن، والقول قوله في أصل الرهن فكذلك في صفته. والخلاف بين الفقهاء فيما إذا أطلق ولم ينو شيئا، فبعضهم يقول: له صرف الألف في أيهما شاء، كما لو كان له مالان حاضر وغائب، فأدى قدر زكاة أحدهما، كان له أن يعين عن أي المالين شاء. وقال بعضهم: يقع الدفع عن الدينين معا، عن كل واحد نصفه، لأنهما تساويا في القضاء، فتساويا في وقوعه عنهما،

هذا إذا أطلق، وأما إذا ادعى أنه نواه عن الألف الذي فيه الرهن، فالقول قوله؛ لأنه أعلم بنيته. [تلف الرهن في يد المرتهن] (مسألة): إذا رهن إنسان قدرًا، وضاع القدر ولا فرط فيه، هل يسقط الدين أو الدين ثابت ولو ضاعت الرهانة (الجواب): إذا تلف الرهن في يد المرتهن، فإن كان بتعديه أو تفريطه في حفظه ضمنه، قال في الشرح: لا نعلم فيه خلافا. فأما إن تلف بغير تعد منه ولا تفريط فلا ضمان عليه، وهو من مال الراهن، يروى ذلك عن علي -رضي الله عنه-، وبه قال عطاء، والزهري، والأوزاعي، والشافعي، وأبو ثور، وابن المنذر. فأما إذا تلف بغير تعد ولا تفريط لم يضمنه، ولم يسقط شيء من الدين، بل هو ثابت في ذمة الراهن؛ لأن الدين ثابت في ذمة الراهن، ولم يوجد ما يسقطه. [قبض الرهن] (مسألة): هل قبض الرهن شرط لصحته أم لا؟ (الجواب): هذه المسألة اختلف الفقهاء فيها على قولين، بل أقوال: فالمشهور في المذهب أنه لا يصح إلا بقبضه، للآية الكريمة؛ وهذا قول أبي حنيفة، والشافعي. وقال مالك: يلزم الرهن بمجرد العقد قبل القبض كالبيع، ولكن يجب على الرهن التسليم. وقال في الإنصاف: الصحيح من المذهب أنه لا يلزم إلا بالقبض، وعنه أن القبض ليس شرطا في المتعين، فيلزم بمجرد العقد نص عليه، فعليها متى امتنع الراهن من تقبيضه أجبر عليه كالمبيع، وإن رده المرتهن على الراهن بعارية أو غيرها ثم طلبه أجبر الراهن على رده. انتهى. وأما قول السائل: وهل استدامته شرط في اللزوم فهذا ينبني على

الخلاف في أصل المسألة، فعلى قول الجمهور الاستدامة شرط للزوم الرهن، وهو المذهب؛ وهو قول أبي حنيفة، ومالك. وقال الشافعي: استدامة القبض ليس شرطا. قال في الإنصاف: واستدامته شرط في اللزوم، هذا المذهب، وعنه أن استدامته في المتعين ليس بشرط، اختاره في الفائق. انتهى ملخصا. [رهن المبيع على ثمنه قبل قبضه] (مسألة) في رهن المبيع على ثمنه قبل قبضه، ما الفرق بين المكيل والموزون في ذلك هل هو لأجل النهي عن بيعه قبل قبضه، فكذلك رهنه، فصار الرهن كالبيع على ذلك؟ (الجواب): أما رهن المكيل والموزون قبل قبضه ففيه خلاف، والمشهور من المذهب أنه لا يجوز قياسا على البيع، قال في الإنصاف: ظاهر ما قطع به المصنف في باب الرهن عدم جواز رهنه، حيث قال: ويجوز رهن المبيع غير المكيل والموزون قبل قبضه. قال في القاعدة الثانية والخمسين: قال القاضي في المجرد، وابن عقيل: لا يجوز رهنه ولا هبته ولا إجارته قبل قبضه كالبيع، ثم ذكر في الرهن عن الأصحاب أنه يصح رهنه قبل قبضه. انتهى. واختار القاضي الجواز، واختاره الشيخ تقي الدين. [رهن الثمرة قبل حمل النخل ورهن أجرة المؤبر] (مسألة) في رهن الثمرة في غير وقتها، أعني قبل حمل النخل، أو رهن ثمرة هذا النخل سنين كثيرة إلى أن يستوفي الراهن رهنه، هل هذا جائز أم لا وكذلك رهن التعبة في الحال أو بعد سنين، وكذلك رهن أجرة مؤبر النخل ومن يصلحه، أعني تعبته على ذلك، واسمه عندنا الشمال، الذي له على النخل وزان معلومة، واسترهنها منه التاجر، هل هذا جائز؟ وهل يفرق في ذلك قبل الدخول في ذلك العمل أو بعده، أو قبل الحمل أو بعده (الجواب): رهن الثمرة المعدومة كأن يرهن الثمرة قبل أن تخلق

مسائل في المساقاة والمزارعة وما في معناهما

فهذا لا يصح لأنه معدوم. فإذا أراد أن يرهن الثمرة دون الأصل والثمرة لم تخلق لم يصح، إلا أن يرهن الأصل فيصح حينئذ، وتكون الثمرة التي استحدثت رهنا، لأن نماء الرهن يكون رهنا تبعا لأصله. والخلاف بين الفقهاء إنما هو في رهن الثمرة الموجودة قبل بدو صلاحها. قال في الإنصاف: وما لا يجوز بيعه لا يجوز رهنه، إلا الثمرة قبل بدو صلاحها، من غير شرط القطع والزرع الأخضر، فيجوز في أحد الوجهين، وهو المذهب جزم به في الوجيز، واختاره القاضي، وهو من مفردات المذهب. (والوجه الثاني) لا يجوز. انتهى ملخصا. وأما رهن أجرة الشمال فالظاهر عدم الصحة، لأن الأجرة دين في ذمة المؤجر، ليست عينا معينة، وما لا يصح بيعه لا يصح رهنه. {مسائل في المساقاة والمزارعة وما في معناهما} [مسائل في المساقاة] [المساقاة في ثمرة موجودة] (مسألة) في المساقاة، قولهم: وهل تصح في ثمرة موجودة على روايتين: (إحداهما) يجوز. ما صورة ذلك، وما الموجود، وما حجة المانع من ذلك؟ (الجواب): أما قولك: ما معنى قولهم، وهل تصح على ثمرة موجودة فمعناه ما يفعله الناس اليوم إذا أبرت الثمرة وأراد المجازاة من الكد، ساقى على ثمرة نخله بالنصف أو الثلث، فيقوم الثاني مقام الأول في تصليح الثمرة وتنميتها؛ وهذه المسألة فيها خلاف، والمذهب عند المتأخرين جواز ذلك إذا بقي من السقي والكلفة ما تنمو به الثمرة، وهو المفتى به اليوم. [المساقاة على النخل بسهم معلوم] (مسألة): إذا استأجر هذا النخل بسهم معلوم، كالنصف أو الربع ونحو ذلك، وشرط المؤجر ثمرة نخله أو وزانا زائدة أو الحطب أو نحو ذلك، واشترط الربع ونحوه مع زيادة ريال أو ريالين، هل يجوز ذلك؟ وهل

يفرق بين أن يكون الزائد دراهم أو طعاما (الجواب): أما المسألة الثانية إذا ساقاه على النخل بسهم معلوم كالثلث أو الربع، وشرط عليه زيادة وزان معلومة أو دراهم معلومة، فهذا لا يجوز بغير خلاف علمناه، وإنما الخلاف فيما إذا اشترط صبرة معلومة، نحو أن يساقيه على نخله بخمسمائة وزنة أو أقل أو أكثر، ويجعل بدل التمر دراهم، ويؤجر النخل بدراهم معلومة، فهذا النوع أجازه الشيخ تقي الدين، وهو المفتى به اليوم. والجمهور على المنع، ولا أعلم دليلا يدل على المنع من ذلك، بل ظاهر الحجة مع الشيخ، وليس هذا موضع ذكرها. وأما الجمع بين السهم المشاع كالنصف والثلث، وبين وزان معلومة زائدة على ذلك، أو دراهم معلومة زائدة على ذلك، فهذا لا يجيزه الشيخ، بل حكى في بعض أجوبته أنه لا يجوز باتفاق أهل العلم. (مسألة): إذا قلنا تفسد هذه الشروط، فهل تفسد المساقاة ويستأنفون عقدًا جديدًا، أم غير ذلك، أم يلغو الشرط وحده (الجواب) أما قولك: هل تفسد المساقاة أم يفسد الشرط وحده، فالعمل عندهم على أن ذلك يفسد العقد، ويستأنفون عقدًا آخر. {مسائل في المزارعة} [كان لصاحب الأرض سهم وشرط زيادة] (مسألة) في الزرع، إذا كان لصاحب الأرض سهم كالربع ونحوه، وشرط أيضا مع ذلك زيادة عشرة آصع ونحوها، هل هذا جائز أم لا؟ وكذلك إذا اشترط زيادة دراهم، هل حكم مسألة المزارعة والإجارة في النخل واحد وكذا هل يفرق بين الطعام والدراهم في المساقاة والمزارعة أم لا؟

(الجواب): أما مسائل المزارعة فنذكر كلام الفقهاء في ذلك؛ حتى يتبين لك جواب ما سألت عنه فنقول: اختلف العلماء في جواز المزارعة، فأجازها جمهور العلماء من الصحابة والتابعين والأئمة بعدهم، وكرهها أبو حنيفة والنخعي. وأجازها الشافعي في الأرض بين النخل، ومنعها في الأرض البيضاء، والحجة مع الجمهور. هذا إذا كان العقد على مزارعة، وهي العقد على الأرض ببعض ما يخرج منها، كثلث وربع ونحو ذلك. وأما إذا كان العقد عليها إجارة لا زراعة، فإن أجرها بدراهم معلومة فهذا جائز. قال ابن المنذر: أجمع عوام أهل العلم على أن كراء الأرض وقتا معلوما جائز بالذهب والفضة، وأما إجارة الأرض بالطعام فتنقسم أقساما: (أحدها): أنه يؤجرها بطعام معلوم غير الخارج منها، فهذا جائز، نص عليه أحمد، وهو قول أكثر أهل العلم، منهم الشافعي، وأصحاب الرأي، ومنع منه مالك. (القسم الثاني): إجارتها بطعام معلوم من جنس ما يزرع فيها، كإجارتها بقفزان حنطة من زرعها، ففيه روايتان: (إحداهما) المنع، وهو مذهب مالك، (والثانية) الجواز، وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي، وهي المذهب. (القسم الثالث): إجارتها بجزء مشاع مما يخرج منها، كنصف وثلث وربع، فالمنصوص عن أحمد جواز ذلك، وهو الصحيح، وهو قول أكثر الأصحاب. وقد نص أحمد فيمن قال: أجرتك هذه الأرض بثلث ما يخرج منها أنه يصح. قال بعضهم: وهذه مزارعة بلفظ الإجارة، وقال بعضهم: بل هذه إجارة، والإجارة تصح بجزء معلوم مشاع مما يخرج من الأرض المؤجرة، كما نص عليه أحمد. وقال الشيخ تقي الدين: تصح إجارة الأرض للزرع ببعض الخارج منها، وهو ظاهر المذهب، وهو قول الجمهور، والقول الثاني أنه لا تجوز إجارتها بجزء مشاع منها، لأنها إجارة بعوض مجهول،

وهذا مذهب أبي حنيفة، والشافعي، واختاره الموفق في المغني، قال في الشرح: وهو الصحيح. انتهى. وبما فصلناه يتبين لك جواب ما سألت عنه إن شاء الله. وأما قولك في المزارعة: إذا كان له سهم كالربع ونحوه، وشرط زيادة عشرة آصع أو زيادة دراهم، هل حكمه حكم المساقاة فنقول: نعم، متى اشترط في المساقاة أو المزارعة ما يعود بجهالة نصيب كل منهما، أو اشترط أحدهما نصيبا مجهولا، أو اشترط مع نصيبه المعلوم دراهم أو آصعا زائدة على الربع ونحوه، فهذا كله يفسد العقد؛ لأنه يعود إلى جهالة المعقود عليه. [إجارة الأرض بجزء مشاع معلوم مما يخرج منها] (مسألة): وكذا قوله: لو صح فيما تقدم إجارة أو مزارعة فلم يزرع نظر إلى معدل المغل، فيجب القسط المسمى فيه. هل هو السهم المعقود عليه أم غيره وما صورة ذلك؟ وكذا قوله: وإن فسدت وسميت إجارة فأجرة المثل، وقيل قسط المثل ما هذا؟ وما الفرق بين الأجرة والقسط المسمى، وما فسادها (الجواب): هذه المسألة، وهي معنى قوله: لو صح فيما تقدم إجارة أو مزارعة فلم يزرع نظر إلى معدل المغل فيجب القسط المسمى فيه. فهذه المسألة ذكرها صاحب الإنصاف عقب المسألة المتقدمة، وهي إجارة الأرض بجزء مشاع معلوم كنصف وثلث، وذكر الخلاف بين الأصحاب، هل هذه مزارعة بلفظ الإجارة أم هي إجارة؟ وصح أنها إجارة، وأنها جائزة. ثم قال: فوائد الأولى لو صح فيما تقدم إجارة أو مزارعة فلم يزرع نظر إلى معدل المغل، فيجب القسط المسمى فيه، وإن فسدت وسميت إجارة فأجرة المثل، وقيل قسط المثل، اختاره الشيخ تقي الدين. انتهى. ومعنى كلامه: أن الأرض المؤجرة بجزء مشاع منها، سواء قلنا هي مزارعة بلفظ الإجارة، أو قلنا إنها إجارة حقيقية، إذا لم يزرعها المستأجر نظر إلى معدل المغل،

يعني أنه ينظر إلى المغل المعدل، أي الموازن لما يخرج منها لو زرعت، فيجب القسط المسمى فيه لرب الأرض، وإن فسدت هذه الإجارة فالواجب أجرة المثل؛ وذلك لأن المذهب ثبوت الأجرة في ذمة المستأجر، سواء زرع الأرض أو لم يزرعها، وسواء زرع فنبت الزرع ونما أو لم ينبت، أو نبت فتلف بآفة، فالمذهب ثبوت الأجرة بتمامها في هذه الصورة، بخلاف ما اختاره الشيخ من وضع الجوائح في ذلك. [الإجارة والمساقاة هل هما عقد لازم أو جائز] (مسألة) في الإجارة والمساقاة، هل هما عقد لازم أو جائز؟ وما معنى اللازم والجائز (الجواب): أما الإجارة فهي عقد لازم، وهو قول جمهور العلماء، لأنها بمعنى البيع. وأما المساقاة فأكثر الفقهاء على أنها عقد لازم، واختاره الشيخ. وعند شيخنا أنها عقد لازم من جهة المالك، وعقد جائز من جهة العامل. وأما معنى اللازم والجائز: فاللازم هو الذي لا يتمكن أحد من المتعاقدين من فسخه إلا برضى الآخر، والجائز هو الذي يفسخه بغير رضى صاحبه. [ساقى على نخل بسهم معلوم وشرط زيادة] (مسألة) في المساقاة: إذا ساقى رجل على نخل بسهم معلوم كالنصف ونحوه، وشرط صاحب النخل نخلتين طلائع زيادة له على سهمه، هل يجوز ذلك أم لا؟ وكذا إن قلنا بالفساد فما العمل وكذا العنب وجميع الأشجار، هل يجوز فيه الزيادة أم حكمها حكم النخل ونحوه (الجواب): أما المساقاة فلا يجوز للمالك أن يشترط طليعة نخلة أو نخلتين، أو يشترط شيئا زيادة على السهم الذي له، فإن فعل ذلك فسدت المساقاة؛ وسواء في ذلك النخل والعنب والخوخ، فإذا فسدت فالحكم واضح في كلام الفقهاء.

مسائل في المعاملات وأنواعها

{مسائل في المعاملات وأنواعها} [فسخ البيع بعد العقد والمبيع مكيلا أو موزونا] (مسألة) إذا عقد إنسان البيع من إنسان، والمبيع تمر أو عيش، وتفرقا على العقد من غير قبض ولا نقد ثمن، وأراد البائع أن يفسخ البيع وأبى المشتري، هل يلزم البيع أم لا؟ (الجواب): المبيع الذي يتعلق به حق توفية مثل المكيل والموزون، فهذا يلزم بالعقد، ولا يحصل فيه فسخ إلا بتراضيهما، وأما التصرف فيه بالبيع فلا يجوز إلا بعد قبضه. [تعيب المبيع في يد المشتري] (مسألة): إذا اشترى إنسان نخل مقياض، فلما كان في يد المشتري حدث به عيب، مثل هضاب أو عسلج أو خنان أو غير ذلك من العيوب، هل يملك المشتري الرد على البائع وأخذ ثمنه أم لا؟ وهل بين عيب النخل وغيره فرق؟ (الجواب): الثمرة إذا بيعت في رؤوس النخل ثم حدث بها عيب لم تجر به العادة، مثل السعيف الكثير أو الخنان، فهذا من ضمان البائع، وتثبت الجائحة عليه يطالبه المشتري بذلك. [بيع اللحم والحيوان والدهن بالتمر نساء] (مسألة): هل يصح بيع اللحم وكذلك الحيوان بالتمر نساء وكذلك الدهن هل يجوز بيعه بالتمر أو العيش نساءوهل يفرق بين النساء واليد باليد في هذه الأنواع؟ (الجواب): أما بيع الحيوان بالتمر نساء فلا أرى به بأسا، وأما بيع الدهن بالتمر أو العيش نساء فلا يجوز عند جمهور العلماء؛ وأجازه نفاة القياس القائلون بقصر الربا على الأنواع الستة المذكورة في حديث عبادة، لكن قول الجمهور

أولى وأحوط، وأما إذا بيع ذلك يدًا بيد فهو جائز لقوله صلى الله عليه وسلم: "فإذا اختلفت هذه الأجناس "1 إلخ. [الفرق بين المحاقلة والمخابرة وتفسيرهما] (مسألة): ما الفرق بين المحاقلة والمخابرة، وما تفسيرهما؟ (الجواب) أما الفرق بين المحاقلة والمخابرة، فالمحاقلة بيع الحب المشتد في سنبله بحب من جنسه، فإذا بيع هذا الزرع الذي قد اشتد حبه بعيش من جنس الحب الذي في الزرع، فهذه هي المحاقلة المنهي عنها، لأن الجهل بالتساوي كالعلم بالتفاضل. وأما المخابرة فاختلف الفقهاء في تفسيرها، فمنهم من فسرها بما جاء في سنن أبي داود عن زيد قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المخابرة؛ قلت: وما المخابرة قال: أن يأخذ الأرض بنصف أو ثلث أو ربع"2، ومنهم من فسر المخابرة المنهي عنها بما في حديث رافع قال: "كنا من أكثر الأنصار حقلا، فكنا نكري الأرض على أن لنا هذه ولهم هذه، فربما أخرجت هذه ولم تخرج هذه، فنهانا عن ذلك. وأما بالذهب والورق فلم ننه عنها "3 متفق عليه وفي لفظ "فأما بشيء معلوم مضمون فلا بأس"4. وهذا الذي فسر به المخابرة في حديث رافع لا يختلف في فساده، وهذا التفسير هو الراجح في تفسير المخابرة المنهي عنها. [تعيين الدراهم والدنانير بالتعيين] (مسألة): هل تتعين الدراهم والدنانير بالتعيين أم لا؟ وما فائدة الخلاف وغيره (الجواب): المسألة فيها روايتان عن أحمد، والمذهب أنها تتعين. وأما فائدة الخلاف فذكروا له فوائد كثيرة (منها) أنه لا يجوز إبدالها إذا عينت، وإن خرجت مغصوبة بطل العقد، ويحكم بملكها للمشتري بمجرد التعيين، فيملك التصرف فيها، وإن تلفت فمن ضمانه، وإن وجدها معيبة من غير جنسها بطل العقد، إلى غير ذلك من الفوائد كما نبه على ذلك في الإنصاف وغيره.

_ 1 مسلم: المساقاة (1587) , والدارمي: البيوع (2579). 2 أبو داود: البيوع (3407). 3 البخاري: الشروط (2722) , ومسلم: البيوع (1547) , وابن ماجه: الأحكام (2458). 4 مسلم: البيوع (1547) , والنسائي: الأيمان والنذور (3899).

[معنى قوله: (لا تمنعوا فضل الماء لتمنعوا به الكلأ)] (مسألة) في قوله: "لا تمنعوا فضل الماء لتمنعوا به الكلأ"1 ما معنى ذلك وهل يجوز ذلك (الجواب): أما معنى قوله: "لا تمنعوا فضل الماء لتمنعوا به الكلأ" 2 فقال الخطابي: تأويله أن الرجل إذا حفر بئرا في موات فيملكها بالإحياء، فإذا جاء قوم لينْزلوا في ذلك المكان الموات ويرعوا نباتها، وليس هناك ماء إلا تلك البئر، فلا يجوز له أن يمنع هؤلاء القوم من شرب ذلك الماء، لأنه لو منعهم منه لا يمكنهم رعي ذلك الكلأ، فكأنه منعهم عنه. [إجراء الماء في أرض غيره بغير إذنه] (مسألة): إذا أراد إنسان أن يجري ساقية في أرض غيره، إلى أرضه المحتاج إليها، بغير إذن صاحب الأرض. ماذا يكون وهل يمنع أم لا؟ (الجواب): إذا أراد أن يجري ساقية في أرض غيره بغير إذنه، فقال في المغني: وإذا أراد أن يجري ماء في أرض غيره لغير ضرورة لم يجز إلا بإذنه، وإن كان لضرورة مثل أن تكون له أرض للزراعة لها ماء لا طريق له إلا أرض جاره فهل له ذلك على روايتين: (إحداهما): لا يجوز بغير إذنه، كما لو لم تدع إليه ضرورة، (والرواية الأخرى): تجوز، ثم ساق الأثر المروي عن عمر حين قال لمحمد بن مسلمة: لِم تمنع أخاك ما ينفعه وهو لك نافع والله ليمرن به ولو على بطنك. فأمره عمر أن يمر به ففعل. رواه مالك في الموطأ. انتهى. والقول الأول هو المذهب، ومال إليه في المغني والشرح وقال: هو أقيس، والقول الثاني هو اختيار الشيخ تقي الدين. [اشتراط البائع في بيع الأجل الخيار إلى الأجل] (مسألة) بيع الحيوان وغيره إلى أجل، ويشترط البائع الخيار إلى الأجل إما بدراهم معلومة أو بتمر معلوم، هل هذا جائز أم لا؟ (الجواب) أما بيع الحيوان أو غيره إلى أجل، ويشترط البائع الخيار

_ 1 البخاري: المساقاة (2353 ,2354) والحيل (6962) , ومسلم: المساقاة (1566) , والترمذي: البيوع (1272) , وأبو داود: البيوع (3473) , وابن ماجه: الأحكام (2478) , وأحمد (2/ 244 ,2/ 273 ,2/ 309) , ومالك: الأقضية (1459). 2 البخاري: المساقاة (2353 ,2354) والحيل (6962) , ومسلم: المساقاة (1566) , والترمذي: البيوع (1272) , وأبو داود: البيوع (3473) , وابن ماجه: الأحكام (2478) , وأحمد (2/ 244 ,2/ 273 ,2/ 309) , ومالك: الأقضية (1459).

إلى الأجل، إما بدراهم وإما بتمر، فهذا فيه تفصيل، فإن كان البيع بدراهم أو بتمر حاضر، فهو جائز ولا إشكال فيه. وأما إن جعله رأس مال سلم في تمر وشرط الخيار، فهذا فيه خلاف، والمشهور في المذهب: أن السلم لا يجوز فيه خيار الشرط، وذكر في الشرح أنه رواية واحدة، واختار الشيخ تقي الدين الجواز، وعليه عمل أكثر الناس اليوم عندنا. [لزوم البيع بمجرد العقد] (مسألة): إذا شرى رجل من آخر مائة صاع ووعده أنه يكيلها غدا، فلما جاءه من غد يريد كيلها قال البائع: بدا لي، وقال المشتري: لا بد من اللزوم، ولم ينفد الثمن، هل يلزم أم لا؟ (الجواب): يلزم البيع بمجرد العقد، ولا يوافق على فسخ البيع إلا برضى المشتري، ولكن لا يجوز بيعه قبل قبضه، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "من ابتاع طعاما فلا يبعه حتى يستوفيه"1 متفق عليه. [اختلاف البائع والمشتري في قدر الثمن] (مسألة): إذا باع رجل على رجل بعيرًا أو غيره، فقال البائع: الثمن عشرة، وقال: المشتري بل تسعة. (الجواب): إذا اختلفا في قدر الثمن ولا بينة لأحدهما، تحالفا: فيحلف البائع أولا: ما بعته بكذا وإنما بعته بكذا، ثم يحلف المشتري: ما اشتريته بكذا وإنما اشتريته بكذا. فإذا تحالفا ولم يرض أحدهما بقول الآخر انفسخ البيع؛ وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي ورواية عن مالك، وعن أحمد أن القول قول البائع، أو يترادان البيع، لما روى ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إذا اختلف البيعان وليس بينهما بينة فالقول ما قال البائع، أو يترادان البيع"2 رواه سعيد وابن ماجه. قال الزركشي: هذه الرواية وإن كانت خفية مذهبا، فهي ظاهرة دليلا، وذكر دليلها ومال إليها.

_ 1 البخاري: البيوع (2126) , ومسلم: البيوع (1526) , والنسائي: البيوع (4595 ,4604) , وأبو داود: البيوع (3492 ,3495) , وابن ماجه: التجارات (2226) , ومالك: البيوع (1335). 2 الترمذي: البيوع (1270) , والنسائي: البيوع (4648) , وأبو داود: البيوع (3511) , والدارمي: البيوع (2549).

مسائل في الخيار وما في معناه

[اختلاف البائع والمشتري في قدر الأجرة] (مسألة): إذا أكرى رجل رجلا بعيرًا فقال راعي البعير: الكراء عشرة، وقال المكري: الكراء ثمانية. (الجواب): إذا اختلفا في قدر الأجرة فهو كما إذا اختلفا في قدر الثمن في البيع، كما تقدم في المسألة التي قبلها، نص أحمد على أنهما يتحالفان، وهو مذهب الشافعي، قاله في الشرح، وهو الصحيح إن شاء الله تعالى. [اختلاف المكري والمستكري في المدة] (مسألة): إذا استكرى رجل بيتا فقال صاحب البيت: أنا مكريك دور السنة، وقال المستأجر: أنا مستكر سنتين. (الجواب) القول قول المالك مع يمينه، قال في الشرح: لأنه منكر للزيادة فكان القول قوله مع يمينه، كما لو قال: بعتك هذا العبد بمائة، وقال: بل هذين العبدين بمائتين. [بيع الثمرة قبل بدو الصلاح] (مسألة) في بيع ثمرة النخل قبل بدو الصلاح إذا كان منهيا عنه، هل يوجب الفساد ويرد الثمن، ولا يقر هذا، ويلزم من أشرف عليه إبطاله وهذا يفعل كثيرا. (الجواب): أما بيع الثمرة قبل بدو صلاحها فهو منهي عنه، فإن فعل فهو فاسد، ويرد الثمن إلى المشتري؛ ويلزم الإنكار على من فعله. {مسائل في الخيار وما في معناه} [خيار المجلس وصورته] (مسألة): ما خيار المجلس وما صورته؟ (الجواب): خيار المجلس يثبت للمتبايعين، لكل منهما فسخه ما داما مجتمعين ولم يتفرقا؛ وهو قول أكثر أهل العلم، لما في الصحيحين عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إذا تبايع الرجلان فكل واحد منهما

بالخيار ما لم يفرقا وكانا جميعا، أو يخير أحدهما الآخر؛ فإن خير أحدهما الآخر فتبايعا على ذلك فقد وجب البيع، وإن تفرقا بعد أن تبايعا ولم يترك أحدهما البيع فقد وجب"1 والمرجع في التفرق إلى عرف الناس وعادتهم. [تبايعا وشرطا أن ليس بينهما خيار مجلس] (مسألة): إذا تبايعا وشرطا أن ليس بينهما خيار مجلس. (الجواب): يلزم البيع ويبطل الخيار؛ لقول النبي -صلى الله عليه وسلم- في حديث ابن عمر: "فإن خير أحدهما صاحبه فتبايعا على ذلك، فقد وجب البيع"2 يعني لزم البيع. قال في الشرح: وهذا مذهب الشافعي، وهو الصحيح -إن شاء الله- لحديث ابن عمر. [ما حصل من غلات المبيع ونمائه في مدة الخيار] (مسألة): إذا تبايعا نخلا وشرطا الخيار عشر سنين، وأخذ المشتري العمارة في العشر سنين، ويوم فك البائع النخل هل العمارة تنكس على البائع، أو تكون للمشتري يأخذها مع الدراهم؟ (الجواب): ما حصل من غلات المبيع ونمائه في مدة الخيار فهو للمشتري، أمضيا العقد أو فسخاه؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "الخراج بالضمان"3، فيجب أن يكون خراجه له في مقابلة ضمانه. [العقود التي يثبت فيها خيار المجلس وخيار الشرط] (مسألة) في خيار المجلس وخيار الشرط ما يثبتان فيه من العقود وكذا أسألك عن خيار المجلس ما يثبت فيه من جميع العقود سوى البيع، كالقسمة والإجارة والمساقاة والمزارعة والوقف والصرف والسلم والجعالة ونحو ذلك ما حكم المسألة عند الحنابلة، وما الخلاف والدليل وهل حكم هذه الصورة عند من ذكرها واحد (الجواب): أما مسألة خيار المجلس، ما يثبت فيه من العقود؟ فيثبت في البيع في قول جمهور العلماء، خلافا لمالك وأصحاب الرأي، للأحاديث

_ 1 البخاري: البيوع (2112) , ومسلم: البيوع (1531) , والترمذي: البيوع (1245) , والنسائي: البيوع (4465 ,4466 ,4467 ,4468 ,4469 ,4470 ,4471 ,4472 ,4473 ,4474) , وأبو داود: البيوع (3454) , وأحمد (1/ 56 ,2/ 4 ,2/ 9 ,2/ 73 ,2/ 119) , ومالك: البيوع (1374). 2 البخاري: البيوع (2112) , ومسلم: البيوع (1531) , والنسائي: البيوع (4467 ,4468 ,4472) , وأحمد (2/ 119). 3 الترمذي: البيوع (1285) , والنسائي: البيوع (4490) , وأبو داود: البيوع (3508) , وابن ماجه: التجارات (2243).

مسائل في السلم وما في معناه مما يتعلق به

الصحيحة، ويثبت في الصلح بمعنى البيع، وفي الهبة إذا شرط فيها عوضا معلوما. ويثبت في الإجارة وفي الصرف وفي السلم، كل هذا يثبت فيه خيار المجلس، ولا يثبت في سائر العقود كالنكاح والوقف والهبة بغير عوض، فكل هذا لازم لا خيار فيه، وكذلك الرهن لازم في حق الراهن وحده لا خيار فيه، وكذلك الضامن والكفيل لا خيار لهما، وكذلك الحوالة والأخذ بالشفعة عقد لازم لا خيار فيهما على المشهور. وأما المساقاة والمزارعة، فإن قلنا إنهما عقد لازم على القول الراجح ثبت فيهما خيار المجلس، وإن قلنا أنهما عقد جائز فلا خيار فيهما، لأن الخيار مستغنى عنه حينئذ. (مسألة) في خيار الشرط، ما يثبت فيه من هذه الأشياء سوى البيع، والصلح بمعنى البيع، والإجارة في الذمة. ما حكم هذه الأشياء عند الحنابلة وما الخلاف والتوافق بينهم وبين غيرهم وما الدليل وما قول الشيخ تقي الدين يثبت خيار الشرط في كل العقود، ما الداخل منها في قوله وما الخارج (الجواب): أما خيار الشرط فيثبت في البيع، والصلح بمعنى البيع، والهبة بعوض، والإجارة في الذمة، ونحو ذلك، ولا يثبت في الصرف والسلم ونحوهما. وقال الشيخ تقي الدين: يثبت خيار الشرط في كل العقود، فيثبت عنده في الصرف والسلم، إذا تقابضا، ثم جعلا الخيار لهما أو لأحدهما مدة معلومة، والله أعلم. {مسائل في السلم وما في معناه مما يتعلق به} [هل يلزم السلم بالعقد أو لا بد من القبض؟] (مسألة): إذا أراد إنسان أن يسلم إلى إنسان دراهم كثيرة أو قليلة، وعرفا السعر، ودفع المسلم بعض الدراهم إلى المسلم إليه، وبعضها لم يدفعه إليه،

بل أعطاها أجير المسلم إليه أو غريمه، أو تقاولوا على سعر ولم يقبض المسلم إليه شيئا من الدراهم، بل فرقها المسلم أو استوفى بها، وهل يلزم السلم بالعقد أو لا بد من القبض ومن أراد الفسخ قبل القبض يكون له أم لا وهل يشترط لصحة السلم قبض رأس المال في مجلس العقد ويجعل في يد المسلم إليه (الجواب): إذا أراد إنسان أن يسلم إلى إنسان مائة جديدة، وساومه وعرفا السعر، ثم دفعها إليه متفرقة، أو أعطاها أجيره أو غريمه (فاعلم) -وفقك الله- أن الذي عليه جمهور العلماء أن من شرط صحة السلم قبض رأس المال في مجلس العقد، فإن تفرقا قبل القبض بطل العقد. فإن أحضرا رأس المال في مجلس آخر وتراضيا على إمضاء العقد وأسلمها إليه صح، فإن أسلم إليه بعض الدراهم صح فيما أسلم إليه وبطل فيما لم يقبض. فإذا أحضره بعد ذلك ودفعه إلى المسلم إليه وقبله صح كالذي قبله؛ وأما إذا لم يكن أسلم إليه رأس المال، بل دفعه إلى أجير المسلم إليه أو غريمه، ولم يقبضه المسلم إليه، فإن ذلك لا يصح عند الجمهور. [قلب الدين على الأجير وعلى المعسر وعلى المليء] (مسألة): إذا كان في ذمة إنسان لآخر دراهم وهو مليء، هل له أن يكتبها عليه وهل يجوز ذلك وكذلك الكداد إذا كان في ذمته دراهم للتاجر، هل يجوز للتاجر أن يجعلها سلما قبل قبضها أم لا؟ وكذلك الأجير أو الكالف إذا كان له على مؤجره دراهم ولم يقبضها، وأراد صاحب الدراهم أن يجعلها سلما في ذمة من كان يطلب منه الدراهم، ولم يقبض من ذلك شيئا، هل يجوز ذلك؟ وهل يفرق بين المليء الباذل وبين المعسر المماطل؟ وكذلك التصحيح إذا عجز الإنسان عن غريمه قال: هاك دراهم أصححها عليك بتمر أو عيش في ذمتك، هل يجوز ذلك وهل يفرق بين القادر والمعسر في

ذلك أم لا؟ وكذلك إذا كان لإنسان على آخر تمر، ثم جاءه وقت الوجوب ولم يحصل له شيء من عمله ومنعه وقال: الذي هو في ذمته بعنني تمرًا أوفيك به، وكذلك إذا تحقق التاجر أن ما حصل له تمر يأخذه، قال للكداد: اشتره مني، وباعه عليه، ثم أوفاه به. هل يصح ذلك أم لا؟ (الجواب): إذا كان في ذمة الكداد دراهم للتاجر أو الأجير، وبغى يقلبها عليه في زاد، فهذه المسألة خطرها كبير؛ فينبغي التفطن لها لئلا يقع الإنسان في الربا وهو لا يشعر. وصورة المسألة أن العلماء اختلفوا، هل يجوز للتاجر أن يسلم إلى غريمه دراهم ثم يستوفي بها عن دينه، فمنعه مالك -رحمه الله- وقال: ما خرج من اليد وعاد إليها فهو لغو وجوده كعدمه، ومذهبه -رحمه الله- أن هذا التصحيح الذي يفعله الناس اليوم لا يجوز. وأما الأئمة الثلاثة فيفرقون بين المليء الباذل والمعسر المماطل، فالمعسر لا يجوز قلب الدين عليه والواجب إنظاره، قال الله تعالى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة من الآية: 280]، وأما المليء الباذل فظاهر كلامهم جواز السلم إليه، ولو أوفاه من الدراهم التي أسلمها إليه إذا كان على غير وجه الحيلة. ومن أعظم ما يكون وأشده خطرا التحيل على قلب الدين إذا عجز عن استيفائه، فتجد الرجل يطلب من الكداد دراهمه، فإذا عجز عن استيفائها كتبها عليه، وصحح فيها، وهو لو يطمع في أن دراهمه تحصل له بتمامها، ولو عقب دور السنة ما كتبها عليه، ولكن إذا علم أنه ما حصل له دراهم، وعرف أنها باقية في ذمة الكداد قلبها عليه بزاد لئلا يفوته الربح، وكذلك إذا كان في الصغرى، وحل أجل التمر، وعرف أنه إن أراد أن يأخذ تمره من الكداد ما حصل له، وخاف أن يقول: إن أخذت تمري وقفت، فإذا تحقق أنه ما حصل له شيء

يأخذه قال: اشتره مني، وجاءه التاجر في نخله ووزنه ورده عليه؛ وكل هذا من الحيل الباطلة المفضية إلى الربا. والواجب على من يداين الناس أو يفتيهم التفطن لهذه الأمور، وكثير من الناس يعقد العقود ظاهرها الصحة وهي باطلة لأجل الحيلة. فينبغي لمن أسلم إلى غريمه أن يدفعها إليه، ولا يستوفي منها بشيء في مجلس العقد، بل يدفعها إليه ويمضي بها إلى بيته، فإذا حازها وتملكها، وصارت الدراهم مالا له يتصرف فيها كسائر ماله، فلا بأس إذا أوفاه منها بعد ذلك. وكذلك التمر إذا حل فينبغي للتاجر أن ينظر في حال ديانه، فإن علم منه أنه يبغي أن يوفيه ثمره بتمامه، ولو ما باع عليه منه شيئا، ووزنه له، وصار مالا للتاجر إن أراد أخذه أخذه وحمله من عنده، فهذا لا بأس أن يبيعه عليه بعد قبضه؛ وأما إن كان ما يحصل له يأخذه، وعرف أنه إن كان ما باعه عليه خنس عنده، فهذا لا يجوز بيعه، فإن باعه فهو فاسد. والحيل ما تحل الحرام، ولا تجوز في أمور الدين والله أعلم. [أسلم في دراهم معلومة واشترط ثمنين] (مسألة) في السلم: إذا أسلم إنسان إلى آخر شيئا معلوما، وشرط إن كان من هذه السنة فعلى ثمان، وإن كان من السنة التي بعدها فعلى عشر، ولم يقطع الخيار في مدة قريبة، بل هو متعلق إلى حدوث الثمرة الأولى. هل هو جائز أم لا وهل حكم الشرط واحد من الطرفين (الجواب): أما إذا أسلم إنسان إلى آخر دراهم معلومة، وشرط إن كان من هذه السنة فعلى ثمان، وإن كان من السنة التي بعدها فعلى عشر، ولم يقطع الخيار في مدة قريبة، بل معلق إلى حصول الثمرة الأولى، فهذا لا يجوز عند جمهور العلماء من الحنابلة وغيرهم، وذكروا أن هذا بيعتان في بيعة.

[أخذ بعض الثمرة المسلم فيها بخرصها] (مسألة) في السلم: إذا أسلم إنسان على آخر شيئا معلوما، فلما حضرت الثمرة أراد المسلم أخذ هذه النخلة بخرصها، وتكون من السلم. هل يجوز ذلك؟ وإن قلنا بعدم الجواز في ذلك، ما العلة هل هو لأجل الجهل أو غيره (الجواب): أما إذا قبض التمر خرصا، بأن يكون في ذمة زيد لعمرو تمر قرضا أو سلما، فأراد أن يأخذ منه نخلة بخرصها من الدين الذي في ذمته، فلا أعلم فيه منعا إذا تراضيا إلى ذلك، ولم يكن بينهما شرط عند العقد، فأما مع الشرط فلا يجوز، خصوصا في مسألة القرض فهو أبلغ، لأن كل قرض جر نفعا فهو ربا. [كان له تمر على آخر ودفع إلى غريمه دراهم يشتري له بها تمرا مثل الذي عليه] (مسألة): إذا كان لرجل تمر على آخر ودفع إلى غريمه دراهم يشتري له بها تمرًا مثل الذي عليه. (فالجواب): هذه المسألة إذا كان لرجل تمر على آخر، ودفع إلى غريمه دراهم يشتري له بها تمرا مثل الذي عليه، فهذه المسألة فيها تفصيل، قال في المغني: ولو دفع زيد إلى عمرو دراهم وقال: اشتر لك بها مثل الطعام الذي لك عليّ، لم يصح، لأن دراهم زيد لا يكون عوضها لعمرو، فإن اشترى الطعام بعينها أو في ذمته فهو كتصرف الفضولي، وإن قال: اشتر لي بها طعاما ثم اقبضه لنفسك ففعل صح الشراء ولم يصح القبض لنفسه، وإن قال: اقبضه لي ثم اقبضه لنفسك، ففعل فهو جائز. وقال أصحاب الشافعي: لا يجوز، لأنه يكون قابضا من نفسه لنفسه. انتهى. فقد تبين بما ذكرناه أن الذي يجوز في مسألة السؤال أن يدفع إليه الدراهم ويأمره أن يشتري بها للدافع، فإذا اشترى بها طعاما لموكله، وقبضه الوكيل للموكل، ثم أذن له الموكل أن يقبضه لنفسه قبضا ثانيا، وفعل ذلك جائز، ومنعه أصحاب الشافعي.

[قبض الطعام وصفته] (مسألة) في القبض للطعام ونحوه ما صفته هل يكون بالكيل أو الوزن، وإن لم ينقل، وكذا الصبرة (الجواب): أما قبض الطعام ونحوه، فأهل العلم ذكروا أن القبض في كل شيء بحسبه، فإن كان مكيلا أو موزونا بيع كيلا أو وزنا فقبضه بكيله أو وزنه، لأنه ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من اشترى طعاما فلا يبعه حتى يكتاله"1 رواه مسلم. وأما قول السائل: وهل القبض يحصل بالكيل أو الوزن وإن لم ينقل؟ فالمشهور أن القبض يحصل بالكيل والوزن وإن لم ينقل، كما نبه عليه منصور في شرح الإقناع والمنتهى، وهو ظاهر الحديث المتقدم. وأما الصبرة فإذا بيع الطعام جزافا فقبضه نقله، ولا يجوز بيعه قبل نقله؛ لحديث ابن عمر المتفق عليه. [كال المشتري الطعام ثم أراد أن يبيعه بكيله الأول] (مسألة): إذا كال المشتري الطعام ثم أراد أن يبيعه بكيله الأول من غير كيل. هل يجوز أم لا؟ وما الجائز؟ (الجواب): المشهور جوازه إذا كان المشتري الثاني حاضرا يشاهد الكيل الأول، وفيه وجه لا يجوز إلا بكيل ثان، وهو مذهب الشافعي لما روى ابن ماجه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- نهى عن بيع الطعام حتى يجري فيه الصاعان، صاع البائع وصاع المشتري. [باع تمرا بعينه فاقترض بدله ووفى منه] (مسألة) إذا باع تمرًا وعنده تمر في رؤوس النخل، فاستلف تمرًا ودفعه إلى المشتري، ثم دفع إليه بعد ذلك. هل يجوز ذلك أم لا؟ (الجواب) هذا فيه تفصيل، فإن كان المشتري قد اشترى من ذمته تمرًا موصوفا بصفات السلم، ولم يعينه من هذا التمر بعينه، فلا بد من قبض الثمن، لئلا يكون بيع دين بدين، فإذا أحضر الثمن صح البيع ولزم، وحينئذ

_ 1 مسلم: البيوع (1528).

فلا بأس أن يقترض ويوفي المشتري، لأن البيع وقع على موصوف غير معين، ولا يقال: هذا بيع ما ليس عندك، لأن هذا عنده جنس ما باع. وأما أن البيع قد وقع على تمر بعينه فليس له أن يقترض بدله، بل عليه أن يوفيه تمره الذي وقع عليه العقد. [استنابة من عليه الحق للمستحق] (مسألة): إذا كان لإنسان عند آخر تمر، وأمر صاحب التمر الذي هو عنده أن يبيعه على أجنبي أو غيره. هل يجوز أم لا (الجواب): هذه المسألة مسألة استنابة من عليه الحق للمستحق وهي جائزة، لكن لا يجوز له بيعه حتى يقبضه من نفسه لموكله، فإذا قبضه ثم باعه جاز، ولا بد من وزن ثان، إلا أن يكون المشتري قد حضر الوزن الأول، فيجري فيه الخلاف الذي تقدم ذكره في المسألة الرابعة. [بيع المسلم فيه قبل قبضه] (مسألة) إذا كان لإنسان عند آخر تمر فباعه على الذي هو في ذمته. هل هذا جائز أم لا؟ وهل يفسد البيع؟ (الجواب): إذا كان لإنسان عند آخر تمر فباعه على الذي هو في ذمته قبل قبضه فهو بيع فاسد بالسنة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن بيع الطعام قبل قبضه. وهو عام في النهي عن بيعه ممن هو عليه أو من أجنبي، ولا نرى إذا باعه لمن هو في ذمته فقد ربح فيما لم يدخل في ضمانه، وقد ثبت في السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن ربح ما لم يضمن. وحكى في المبهج رواية عن أحمد أنه يجوز بيعه من بائعه قبل قبضه، وهي رواية ضعيفة في المذهب؛ لأنها تخالف ظاهر السنة، وتخالف ما عليه الجمهور، بل أكثر العلماء على أنه لا يجوز الاعتياض عن المسلم فيه قبل قبضه، قال في المغني: فأما بيع المسلم فيه من بائعه فهو أن يأخذ ما أسلم فيه عوضا عن المسلم فيه، فهذا حرام سواء كان

المسلم فيه موجودًا أو معدوما، وسواء كان العوض مثل المسلم فيه في القيمة أو أقل أو أكثر، وبهذا قال أبو حنيفة والشافعي. وذكر ابن أبي موسى عن أحمد رواية أخرى فيمن أسلم في بر فعدمه عند المحل، فرضي أن يأخذ الشعير مكان البر، جاز ولم يجز أكثر من ذلك. وهذا يحمل على الرواية التي فيها البر والشعير جنس واحد، والصحيح في المذهب خلافه. وقال مالك: يجوز أن يأخذ غير المسلم فيه مكانه يتعجله ولا يؤخره إلا الطعام، قال ابن المنذر: ثبت عن ابن عباس أنه قال: إذا أسلم في شيء إلى أجل فإن أخذت ما أسلفت فيه وإلا فخذ عوضه أنقص منه ولا تربح مرتين. رواه سعيد. ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم: "من أسلم في شيء فلا يصرفه، إلى غيره"1 رواه أبو داود وابن ماجه، ولأن أخذ العوض عن المسلم فيه بيع له فلم يجز كبيعه من غيره. انتهى كلامه في المغني. فتبين مما ذكرناه أن بيع المسلم فيه قبل قبضه لا يجوز، ولو لمن هو في ذمته كما هو ظاهر الأحاديث. ومن أجاز ذلك احتج بكلام ابن عباس، ولا يعارض به سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأيضا فقوله: ولا تربح مرتين، يخالف ظاهر الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن ربح ما لم يضمن، لأنه نهى عن ربحه مطلقا، والمسلم فيه قبل قبضه من ضمان البائع، فلا يباح ربحه قبل قبضه، والله أعلم. [الحوالة بدين السلم وعليه] (مسألة) وأما الحوالة بدين السلم هل يجوز أم لا؟ (فالجواب): أما الحوالة بدين السلم، فقال في المغني: وأما الحوالة به فغير جائزة، ومعنى الحوالة به أن يكون لرجل طعام من سلم وعليه مثله من قرض أو سلم أو بيع، فيحيل من عليه الطعام على الذي له عنده السلم، فلا يجوز؛ وإن أحال المسلم إليه بالطعام الذي عليه لم يصح أيضا، لأنه معاوضة

_ 1 أبو داود: البيوع (3468) , وابن ماجه: التجارات (2283).

بالمسلم فيه قبل قبضه، فلم يجز كالبيع. انتهى كلامه. واختار الشيخ تقي الدين جواز الحوالة بدين السلم والحوالة عليه، وعلله بتعاليل جيدة، فعلى القول بجوازه لا يجوز للمحال بيعه قبل قبضه من نفسه وبيعه، فلا بد أن يقبضه من نفسه قبل البيع، فإذا قبضه ثم بعد ذلك باعه لموكله فلا بأس -إن شاء الله-، وأما الشافعية فلا يجوزون القبض في مثل هذه الصورة. [الحوالة بالمسلم فيه] (مسألة): هل يصح الحوالة بالمسلم فيه على كلام الزركشي أم على كلام غيره لا يصح؟ (الجواب): أما الحوالة بالمسلم فيه فالأكثرون لا يجيزونه، وأجازه الشيخ تقي الدين؛ لأنه لا محذور فيه، لأن الحوالة ليست بيعا. [أسلم في طعام ولم يوجد ذلك الطعام عند الحلول] (مسألة): إذا أسلم إلى رجل في طعام، ولم يوجد عند المسلم إليه شيء، وهو مليء، وأراد أن يشتري له طعاما من السوق، فقال صاحب الطعام: اعطني عن طعامي الذي لي عليك ذهبا أو فضة على ما كان يباع في السوق. هل له ذلك أم لا؟ (الجواب): أما إذا أسلم إلى رجل في طعام، ولم يوجد ذلك الطعام عند الحلول، فلا يجوز له أن يأخذ عن الطعام دراهم عن الشعر، هذا الذي يترجح عندي في المسألة، والله أعلم. [اختلاف المسلم والمسلم إليه في حلول الأجل] (مسألة) إذا اختلف المسلم والمسلم إليه في حلول الأجل، من القول قوله؟ (الجواب): نقول: القول قول المسلم إليه، لأنه منكر، والأصل معه، إذ الأصل في السلم التأجيل؛ وهذا بخلاف الأداء، إذا قال المسلم إليه: أديت إليك دينك، فإن القول قول المسلم، لأنه منكر، والأصل معه، وهو ثبوت الدين في ذمة المسلم إليه. [قبض رأس مال السلم] (مسألة): إذا تواعد رجلان أن يسلم أحدهما إلى الآخر مائة درهم، فلما صار

مسائل في القرض وما في معناه وما يتعلق به

من الغد جاءه بالدراهم يريد إسلامها عليه، قال المسلم إليه: قد بدا لي. هل يلزم أم لا؟ (الجواب): لا بد من قبض رأس مال السلم في مجلس العقد، فإن تفرقا قبل قبضه لم يصح، وهذا مذهب أبي حنيفة والشافعي. وقال مالك: يجوز أن يتأخر قبضه يومين أو ثلاثة ما لم يكن أكثر شرطا. {مسائل في القرض وما في معناه وما يتعلق به} [مطالبة المقرض المقترض ما اقترضه] (مسألة): إذا أقرض إنسان آخر قرضا، وأخر المقترض وبدل القرض، هل للمقرض طلب أم لا؟ وكذلك إذا اشترط المقرض على المقترض أنه يعطيه إياه بعد مدة معينة، هل يجوز ذلك أم لا؟ (الجواب): أما قولك: هل يجوز للمقرض أن يطلب المقترض ما أقرضه إذا أخر الرد وأبطأ عليه، فلا علمت به بأسا، وهذا الذي يقوله العوام، أنه لا يجوز طلبه ما علمت له أصلا. والذي ذكره الفقهاء وحكوا فيه القولين: إذا أقرضه إلى أجل معلوم هل يجوز طلبه قبل الأجل فعند الحنابلة وكثير من الفقهاء أن القرض لا يتأجل بالتأجيل. والقول الثاني: أنه يتأجل بالتأجيل، فلا يطلبه قبل حلول الأجل الذي أجله إليه. [أقرضه نوعا هل له أن يعطيه غيره؟] (مسألة): إذا أقرضه نوعا، هل له أن يعطيه غيره مثل أن يقرض ريالات ويرد عليه زرورًا وبالعكس، أو مثل تمر ويرد عيشا بدله أو بالعكس، أو ما في معنى ذلك. (الجواب): أما رد البدل إذا اقترض ريالات ودفع إليه البدل زرورًا أو بالعكس فهذا لا بأس به، فيجوز اقتضاء نقد عن نقد آخر، لحديث ابن عمر، ولكن بسعر يومه، وكذلك لو أخذ بدل القرض برا أو شعيرا أو تمرا، أو كان القرض طعاما فأخذ عنه الدراهم، فكل ذلك جائز -إن شاء الله- لكن

مسائل في الوقف

لا يلزم إلا بالقبض؛ لئلا يكون بيع دين بدين. [تصرف المودع في الوديعة بغير إذن] (مسألة): إذا أودع الإنسان دراهم، هل للمودع التصرف فيها بسلف أو غيره، ولا على المودع تلف. هل يجوز ذلك بلا إذن أم لا؟ وكذلك إذا دفعت إليه وديعة في مكان غير مكانه، وأخرجها في ذلك المكان، فإذا قدم بلده ردها على هيئتها. هل يجوز ذلك أم لا؟ (الجواب): أما الاقتراض من الوديعة فلا يجوز، إلا أن يعلم رضى صاحب المال، فإن شك في رضاه لم يجز، وإن لم يكن على المال خطر. وإذا دفعت إليه الوديعة في غيره بلده، وأمره صاحبها أن يذهب بها إلى بلده، وعلم من صاحب المال أنه يرضى باقتراضه منها، واقترض منها، فلما قدم إلى بلده ردها على هيئتها، فهذا لا بأس به -إن شاء الله تعالى-؛ لكن متى اقترضها فهي ثابتة في ذمته حتى يأخذها صاحبها، فلو عزلها وتلفت ضمنها، والله أعلم. {مسائل في الوقف} [قسمة الوقف] (مسألة) في رجل وقف أربع نخلات على جهات، وجعل الموقوف نصفا ضحايا، ونصفا بين الإمام والصوام إنصافا، والجميع من أصل مشاع، والمراد بالتفرقة الغلة، ويقول الأمير: نبغي أن نقسم الأصل، ونجعل حق الإمام والصوام مشاعا، ونقسم غلته، ونجعل الضحايا وحدها. ويقول الذي هو في يده: أما قسم الأصل فلا، والقائل ولد من ورثة الواقف، وليس هو بولي على ذلك، وإنما جاءه من جهة القرابة، والذي يظهر أن مقصده حظ لنفسه. هل يجب قسمته أم لا؟ وهل ما قسم أصلا يقسم مصلحة أم لا؟ ويكون حكم المسألتين واحدا، فمن منعه في الأصل منعه في المصلحة أم يفرق بينهما؟ (الجواب): قسمة الوقف يعمل فيها بما هو أصلح للوقف، فإن كان

الأصلح قسمته قسم، وإلا ترك بحاله؛ ولا يجوز تغيير الوقف عن حاله إلا للمصلحة، ولو أراد بعضهم القسمة من غير مصلحة منع من ذلك. [الأحق بولاية الوقف] (مسألة) في الوقف الذي ما عين، من يقوم به أو عين إنسان ثم مات هل تورث الولاية في ذلك، ولو ما أوصى الولي بذلك، ويكون أمر ذلك إليه أم لا بد من الوصية إليه بذلك أو يكون أمر ذلك إلى أمير البلد ومتى تنقطع ولاية ذلك عن الورثة والقربى؟ (الجواب): ولاية الوقف من أحق بها فالأحق من أوصى إليه الواقف، وعينه ناظرا على الوقف، فإن لم يعين ناظرا، فإن كان الوقف على عدد محصور كقرابته مثلا، فكل إنسان ناظر على حصته، وإن كان الوقف على غير معين كالوقف على المساجد ونحو ذلك، فالنظر في ذلك إلى الحاكم، ويستنيب في ذلك من هو أصلح، ولا يجعل نيابة الوقف بيد من لا يصلح للولاية. [دخول الوارث أو القريب في الوصية إذا لم يجعلها صاحبها إليه] (مسألة): هل للوارث أو القريب الدخول في الوصية والوقف إذا لم يجعلها صاحبها إليه، ويكون أحق بها أم ينظر في المصلحة؟ (الجواب): هذه المسألة جوابها نظير ما تقدم، وهو أن نظر الوقف وولايته إلى من جعله الواقف إليه، فإن لم يعين الواقف أحدًا، فإن كان الوقف على معين كالأقارب ونحوهم، فكل إنسان له النظر على حصته من الوقف، فليس لأحد منهم أن يفعل في الوقف ما يضر به من أي أنواع الضرر. وأما قولك: هل للوارث أو القريب الدخول في الوصية والوقف إذا لم يجعلها صاحبها إليه، أم ينظر في المصلحة (فجوابها) ما تقدم، وذلك بأن ينظر، فإن كان الواقف جعل الوارث أو القريب ناظرا فالنظر إليه، وإن كان لم يجعله إليه، وكان الوقف على غير معين، كالوقف على المساجد ونحوها،

فولاية الوقف أمرها إلى الحاكم. وإن كان الوقف على معين كزيد وعمرو، فهو أحق بولاية ما وقف عليه. [الوقف على المسجد] (مسألة) في الوقف الذي على المسجد، هل القيام فيه وما يصلحه، والنظر إليه وما يتعلق به على الإمام الذي يستحقه، ويتكلم على من عطله وأضاع شيئا من حقوقه، أم يسكت ولا يتعرض لمثل ذلك بشيء ومن يلزمه ذلك (الجواب): هذه المسألة وجوابها ما تقدم، وذلك إذا عرفت أن ولايته إلى الحاكم، فإن كان الحاكم جعل ولايته إلى إمام المسجد فذلك إليه، وإن جعله الحاكم إلى غير الإمام فليس للإمام الاعتراض على نائب الحاكم؛ فإن فعل ما لا يجوز رفع أمره إلى الحاكم؛ ولا ينبغي للإمام ولا غيره السكوت إذا رأى من النائب خللا وتضيعًا للوقف. [وقف المعين] (مسألة): إذا أراد إنسان أن ينفع نفسه من ماله في أي جهة من جهات البر، ويجعلها في نخله الذي يملك أيما تعين الوقف بعينه، مثل نخل أو أرض أو دراهم معلومة معينة، قادمة في جميع ما وراءه مما يملك من عقار أو غيره، ويجعل ذلك تمرًا معلوما قادما في مغل النخل، أيما إحدى هذه الثلاث أحسن، وهل جميع ذلك جائز (الجواب) إذا أراد الإنسان أن يوقف وقفا من ماله، فإن شاء جعله معينا في أرض بعينها أو نخل بعينه، إن شاء جعله شيئا معلوما قادما في غلة نخله أو أرضه، وما فعل من ذلك فهو حسن إن شاء الله. [وقف أشياء ولم يذكر مصرفها أو ذكر مصرفا ثم انقطع] (مسألة) في الذي يوقف أشياء في أصل ماله، لو كان في نخل أو أرض أو تمر أو دراهم، ولم يذكر مصرفها، أو ذكر مصرفا ثم انقطع، ماذا يكون في ذلك وهل يفرق بينهما؟ وكذلك الذي يوصي بأشياء كثيرة وأوقاف، هل

تكون قادمة في جميع المال الذي خلف أم تكون من الثلث أم يعمل على ما قال صاحب المال وإذا قال في أوقافه ووصاياه: تراه قادم في جميع ما ورائي مما أملك، هل يتم ما قال ويثبت أم لا وهذه كثيرة عندنا، وما الفرق بين الوصية والوقف؟ العوام يوصون على سبيل الوقف، ولكن ما يميزون ولا يفرقون بين الوصية والوقف. (الجواب): إذا وقف وقفا وذكر مصرفه ثم انقطع أو لم يذكر له مصرفا، فقد اختلف العلماء في هذا الوقف هل يصح أم لا؟ وقدم في المغني أنه يصح، وذكر قول مالك وأبي يوسف وأحد قولي الشافعي. يعني إذا أوقف وقفا على قوم يجوز انقراضهم بحكم العادة، ولم يجعل آخره لجهة غير منقطعة كالمساكين ونحوهم، قال في المغني: ويصرف عند انقراض الموقوف عليهم إلى أقارب الواقف، وبه قال الشافعي، وعن أحمد أنه يصرف إلى المساكين، واختاره القاضي والشريف. وعن أحمد رواية ثالثة أنه يجعل في بيت مال المسلمين. وأما إذا كان وقف وقفا ولم يذكر له مصرفا بالكلية، فقال في المغني: إذا قال: وقفت هذا، وسكت ولم يذكر سبيله، فلا نص فيه. وقال ابن حامد: يصح الوقف، قال القاضي: هو قياس قول أحمد، وإذا صح صرف إلى مصارف الوقف المنقطع بعد انقراض الموقوف عليه. انتهى كلامه في المغني. فإذا عرفت أنه يصح ويصرف إلى مصارف الوقف المنقطع الذي ذكرنا في أول المسألة، وأن فيه ثلاث روايات عن أحمد، فتأمله يتضح لك الأمر إن شاء الله. وأما قولك: الذي يوصي بأشياء كثيرة وأوقاف هل تكون قادمة في جميع المال الذي خلف أم تكون من الثلث فنقول: أما الوصايا فإنها من الثلث بلا إشكال، وأما الوقف فإن كان ذلك صادرا في حال الصحة فهو من رأس المال،

وإن كان لم يصدر إلا في المرض فهو من الثلث. وقولك: إذا قال في أوقافه أو وصاياه: ترى هذا قادم في جميع ما ورائي. فقوله هذا لا عبرة به، فلو وصى بزيادة على الثلث لم يصح إلا برضى الورثة، وأما قولك: ما الفرق بين الوصية والوقف فبينهما فرق، وذلك أن الوصية تكون ملكا للموصى له إذا قبلها بعد موت الموصي. وأما الوقف فهو تحبيس الأصل، فلا يباع ولا يوهب، ويأخذ الموقوف عليه غلته بحسب ما جعل له الواقف منه، والله أعلم. [صرف نماء الوقف] (مسألة) في نماء الوقف، مثل فراخ النخل الموقوف على جهة من جهات البر، هل يصرف الفرخ على جهة أخرى وصورة ذلك عندنا نخل موقف على الصوام، وفيه فراخ، ويبغي الأمير والجماعة يقلعون من الفراخ ويركزونها، ويجعلونها للمسجد وللمساقاة، لأجل أن ذلك أحوج من الصوام. هل هذا جائز، ويصير من باب التصرف في الوقف للمصلحة؟ (الجواب): إذا كان في النخل الموقوف فراخ وغرست في وقف آخر، فلا أرى به بأسا إذا كان النخل الموقوف غنيا عن ذلك، وصرف الوقف من جهة إلى جهة جائز إذا كان للمصلحة. [صرف ما فضل من الموقوف] (مسألة): ما صرف ما فضل من تمر الصوام، الذي هو موقوف على مسجد فاستغنى عنه المسجد المخصوص به، ماذا يصرف إليه هل يصرف على مسجد آخر، سواء كان المسجد في البلد أو منتزح عنها؟ أو يصرف إلى القربى والمساكين أو يكون مصرفه على نظر الولي يتصرف فيه على نظره مما رأى فيه المصلحة، وأما الميت الواقف فلا رتب، بل جعل غلة هذا النخل على من يفطر في هذا المسجد بالخصوص، لكن استغنى المسجد عن

جميعه ويبقى منه شيء، ماذا يصرف إليه وما في معنى ذلك، ومن ذلك هل يكون ذلك من تغيير الوقف والتصرف فيه للمصلحة على ما قال الشيخ؟ (الجواب): أما صرف الفاضل من تمر الصوام، فإذا استغنى أهل المسجد الذي جعل الوقف عليهم فقال الشيخ تقي الدين: ما فضل عن حاجة المسجد صرف إلى مسجد آخر، لأن الواقف له غرض في الجنس، والجنس واحد. وقال في موضع آخر: يجوز صرفه، في سائر المصالح، وبناء مساكن لمستحقي ريعه القائمين بمصالحه، وإن علم أن وقفه يبقى وجب صرفه، لأن بقاءه فساد. انتهى. فعلى كلامه الأول يصرف في نظره في مسجد آخر، وعلى كلامه الثاني يجوز للناظر صرفه إلى جهة بر، وإن لم تكن نظير الجهة الأولى، إذا رأى المصلحة في ذلك. وأما تحري المتصدق بصدقته الأوقات الفاضلة كرمضان والعشر الأواخر منه فهذا حسن، والصدقة لها مزية في الأوقات الفاضلة والأماكن المعظمة، سواء كانت الصدقة من ماله أو كان نائبا في تفريقها، إذا لم يعين له الموكل وقتًا بعينه أو مكانا بعينه. [وصايا الجاهلية] (مسألة) في الذي يوصي بوصايا في الجاهلية، هل هي قائمة مقام الوصايا في الإسلام، أم يفرق بينهما، أم ينظر فيما كان صحيحًا وما كان فاسدًا أم غير ذلك؟ (الجواب) الذي يوصي بوصايا في الجاهلية لا تجوز في الإسلام هذا من جنس ما قبله، فما أدركه الإسلام قبل قبضه بطل، ولا ينفذ إلا على الوجه الصحيح الشرعي. وأما إذا مات الموصي وقبض الموصى له المال ثم أسلم بعد ذلك، فهذا يقر في يده ما كان قد تملكه قبل الإسلام، ولو كان بغير وجه صحيح، والإسلام يجب ما قبله؛ وسواء في ذلك الوصية والمواريث والعقود الفاسدة.

[الوصية لبعض الورثة دون بعض] (مسألة) في الذي يوصي لبعض الورثة دون بعض، أو يوصي للذكور دون الإناث، والذي يوصي لوالديه وهم على الشرك، ماذا يكون في مثل هذه المسائل؟ وما الصحيح من الفاسد؟ (الجواب): إذا أوصى إنسان لآخر بوصية ثم مات الموصي، وقبل الموصى له الوصية، فإنها تكون ملكا له، وتورث عنه كسائر ماله، إلا أن يكون الموصي قد جعل الوصية وقفا يأكل الموصى له منها ما دام حيًا، فتلك مسألة أخرى. [القرض لأجل المنفعة] (مسألة): إذا أعطى إنسان رجلا دراهم معلومة ينتفع بها بشرط نفع معلوم ما دامت الدراهم في يده، ثم أراد صاحب الدراهم أخذها برؤوسها، وهو قد انتفع في المدة الماضية بما لا يستحقه، ماذا يكون في ذلك وماذا يجب (الجواب): إذا أعطى إنسان لآخر دراهم معلومة ينتفع بها بشرط نفع معلوم ما دامت الدراهم في يده، فهذا من أنواع الربا -بل كل قرض جر نفعا فهو ربا-، ويجب على من أخذ الدراهم أن يردها إلى صاحبها. ثم ينظر في حال الدافع والمدفوع إليه، فإن كانا يعتقدان أن هذا لا يجوز، وإنما فعلا حراما عليهما وجب على الأمير تأديبهما بما يزجرهما وأمثالهما عن ذلك، وما قبضه دافع الدراهم في مقابلة الدراهم وجب رده إلى ربه، ولا يباح لقابضه لأنه ربا. (مسألة): إذا كان ذلك واقعا بينهما في الجاهلية على الشرك، ثم أسلما وجرى ذلك بينهما من أنواع الربا وغيرها في الإسلام، وأخذا في ذلك مدة يتبايعان في الربا وغيره من العقود الفاسدة، وطلب الدافع ما دفع في مقابلة الدراهم، وذلك بعد إبطال الربا، هل له أخذ ما دفع ويرجع

به على من أخذه منه أم لا وهل يفرق بين العقد في الشرك والعقد في الإسلام أم لا؟ (الجواب): إذا كان المتعاقدان جاهلين بالتحريم، أو كان ذلك في الجاهلية قبل الإسلام ثم أسلما، فإنه يجب على من أخذ الدراهم ردها إلى صاحبها، وربا الجاهلية موضوع، وما قبضه الدافع في مقابلة نفع دراهمه في جاهليته أو بعد إسلامه قبل أن يبلغه النهي فهو له، فإن كان العوض لم يقبض، بل كان باقيا في ذمة المقترض، فليس للمقرض إلا رأس ماله، ولا يأخذ معه زيادة. وقد دل على ذلك قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [البقرة: 278] إلى قوله: {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ} [البقرة من الآية: 279]. وعقود أهل الشرك ما مضى منها في حال الشرك، وقبضه المتعاقدان قبل الإسلام، يقران على ما مضى منه؛ لأن الإسلام يهدم ما قبله: {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ} الآية [البقرة من الآية: 275]. [أجاز الوارث الوصية فيما زاد على الثلث ثم أراد الرجوع] (مسألة): إذا أجاز إنسان وصية أبيه أو موروثه فيما زاد على الثلث، ثم أراد أن يرجع لما بان له أن الموصى به كثير، وربما بدا له عدم الإجازة، فهل له الرجوع على ما أقر به وأجاز؟ (الجواب): إذا أجاز الوارث وصية المورث فيما زاد على الثلث، ثم أراد أن يرجع عن إجازته هل له ذلك؟ (فنقول): ليس له ذلك، بل متى أجازه لزمه، وكذا لو أقر بدين على موروثه ثم رجع أخذ بإقراره في قدر نصيبه، وأما إذا أجاز الوارث الوصية لظنه أن الموصى به قليلا فبان كثيرا، فالقول قوله مع يمينه، وله الرجوع بما زاد على ظنه، إلا أن

يكون لا يخفى عليه قدره، وكذا لو أوصى بثلث التركة لبعض الورثة، فأجازه بعضهم لظنه أن مال الميت قليل فبان كثيرًا، فله الرجوع أيضا بما زاد على ظنه، إلا أن يكون المال ظاهرًا لا يخفى، والله أعلم. [أوصى إنسان بحجة ولم يبين قدرها] (مسألة): إذا أوصى إنسان بحجة ولم يبين قدرها، ماذا يكون إذا تشاجر الورثة، أحد يقول بالكثير، وأحد يقول بالأقل، ما المرجع في ذلك وكذلك إذا أوصى بأضحية ونحوها، ولم يبين الثمن، ماذا يكون؟ (الجواب): أما مسألة الحجة الموصى بها، فالمرجع في ذلك إلى العرف، فإذا أوصت هذه المرأة بحجة أخرج من مالها ما يكفي الحاج، سواء قيل القدر عشرة أو أكثر، وكذلك الأضحية الموصى بها يجزئ فيها الجذع من الضأن، والثني من المعز، فإذا أوصى بغلة نخل في أضحية صرفت في ذلك، فإن فضل منها شيء اشترى به ثانية، لأن التعدد في الأضحية جائز، فإن أراد الولي صرف الفاضل إلى قريب محتاج فهو حسن، ولا يمنع من ذلك. وقد ذكر الشيخ تقي الدين وغيره من أهل العلم: أن صرف الوقف من جهة إلى جهة جائز للمصلحة، فإذا كان يجوز صرفه عن الفقراء إلى الجهاد ونحوه للمصلحة، فالفاضل عن الجهة أولى وأحرى. [أرض جعل في غلتها ستة آصع وهي متعطلة وطلب أهلها قسمتها] (مسألة) في أرض جعل في مغلها ستة آصع وقفا، للصوام ثلاثة ولأهل مسقاة المسجد ثلاثة، الأرض معطلة من ستين سنة، ولم يحصل منها منفعة، ويقول بعض الورثة: اقسموا لي نصيبي إرثي وأقوم بالذي علي من السبل، ومنهم من يقول: أبغي أبني في الأرض، ماذا يفعل بها على هذه الحال ومن يلزمه ذلك؟ (الجواب): أما الأرض التي جعل في غلتها ستة آصع وهي متعطلة وطلب أهلها قسمتها، فلا مانع للقسمة، والحالة هذه؛ فإذا اتفقوا على القسمة

مسائل في النكاح وما يتعلق به مما في معناه

قسمت بينهم، والسبالة قادمة في غلة الأرض المذكورة، فإن حصل في القسمة ضرر وامتنع بعضهم لم يجبر، وكذا إن كان فيه ضرر على السبل. [وقف ثلث جميع ما يملك على من ضعف من الأقرباء] (مسألة) في الذي وقف ثلث جميع ما يملك على من ضعف من الأقرباء، وكذا غلة النخل، الموقوف يقسم على أقرباء الميت في وقته أم لا؟ وكذا إذا عين في هذا الثلث دراهم في أضحية، وطلب الأقرباء صرفها إليهم، هل يجوز أم لا؟ (الجواب): وقف ثلث جميع ما يملك صحيح، ويكون على من ضعف من الأقربين من الرجال والنساء، يقسم بينهم بالسوية، وغلة النخل تقسم على أهل الوقف وقت محصول الثمرة، ولا تخلى دراهم تجمع. {مسائل في النكاح وما يتعلق به مما في معناه} [معنى النكاح] (مسألة): قوله: النكاح لغة: الوطء، على ما قاله الأزهري، فإن كان الوطء فهو واضح، وكذلك قوله النكاح في الشرع: حقيقة في حق التزويج، مجاز في الوطء، ما معنى الحقيقة؟ وكذا المجاز ما صفته وصورته وهذا الذي يشكل الحقيقة والمجاز وخصوصا في الإشكال لفظ المجاز، وكذلك قوله: فالأشهر أن لفظ النكاح مشترك بين العقد والوطء. ما معنى ذلك؟ (الجواب): أما قولك: ما معنى قولهم النكاح لغة: الوطء الخ. فهذه المسألة ما يترتب على تحقيقها فائدة، وصورتها أنهم اختلفوا هل النكاح إذا أطلق في الكتاب والسنة يراد به الوطء حقيقة ويكون مجازًا في العقد، أم بالعكس فبعضهم قال: إنه حقيقة في العقد مجاز في الوطء، وبعضهم قال: حقيقة في الوطء مجاز في العقد. والأصح عند المحققين أنه مشترك، قال الشيخ تقي الدين: النكاح في الإثبات حقيقة في العقد والوطء والنهي لكل

منهما. انتهى. وبيان ذلك قوله تعالى: {وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء من الآية: 22]، يراد به النهي عن العقد والوطء جميعا، وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها"1 وقوله: "لا ينكح المحرم ولا ينكح"2، وغير ذلك من الأحاديث، يراد بذلك النهي عن العقد والوطء جميعا. فإذا تأملت نصوص الكتاب والسنة تبين لك أن المراد بالنكاح لفظ مشترك يعم العقد والوطء، إلا قوله تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة من الآية 230] فإن المراد بالنكاح في هذه الآية الوطء بعد العقد الصحيح، فلا تحل بوطء من غير عقد ولا يكفي العقد وحده، بل لا بد من الوطء؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "حتى تذوقي عسيلته"3 الحديث. [خطبة المرأة في عدة أختها] (مسألة): إذا أراد رجل أن يتزوج بأخت زوجته، وهو يعلم أن الجمع بينهما لا يصح، ولكن أراد أن يخطبها في عدة أختها أو قبل طلاقها (الجواب): فهذه المسألة لم أقف عليها منصوصة في كلامهم، وظاهر عباراتهم جواز ذلك؛ لأنهم لم يذكروا إلا المنع من العقد خاصة، وأما الخطبة فلم يتعرضوا لها بمنع، ولم يمنعوا إلا من خطبة المعتدة من غيره، فقالوا: لا يجوز التعريض بخطبة الرجعية، ولا يجوز التصريح بخطبة البائن المتوفى عنها، فإن فعل بأن عرض في موضع لا يجوز فيه التعريض، أو صرح في موضع لا يجوز فيه التصريح، ولم يعقد عليها إلا انقضاء العدة، فالعقد صحيح مع الإثم. وأما خطبة المرأة في عدة أختها أو خالتها أو عمتها فلا علمت فيه منعا. ولكن الأحسن تركه أو ترك إظهاره، لما فيه من حصول العداوة وقطيعة الرحم التي عللوا بها في عدم جواز الجمع بينهما. فإن أراد الخطبة فلتكن سرًا بحيث لا تعلم زوجته مع أن ذلك ربما لا يفيده شيئا لأنها ربما

_ 1 البخاري: النكاح (5111) , ومسلم: النكاح (1408) , والترمذي: النكاح (1126) , والنسائي: النكاح (3290 ,3292 ,3293 ,3294 ,3295) , وأبو داود: النكاح (2065 ,2066) , وابن ماجه: النكاح (1929) , وأحمد (2/ 229 ,2/ 255 ,2/ 394 ,2/ 401 ,2/ 423 ,2/ 432 ,2/ 465 ,2/ 474 ,2/ 518 ,2/ 529 ,2/ 532) , ومالك: النكاح (1129) , والدارمي: النكاح (2179). 2 مسلم: النكاح (1409) , والترمذي: الحج (840) , والنسائي: مناسك الحج (2842 ,2843) والنكاح (3275 ,3276) , وأبو داود: المناسك (1841) , وابن ماجه: النكاح (1966) , وأحمد (1/ 57 ,1/ 64 ,1/ 65 ,1/ 68) , ومالك: الحج (780) , والدارمي: المناسك (1823) والنكاح (2198). 3 البخاري: الشهادات (2639) , ومسلم: النكاح (1433) , والترمذي: النكاح (1118) , والنسائي: النكاح (3283) والطلاق (3409 ,3411) , وابن ماجه: النكاح (1932) , وأحمد (6/ 34 ,6/ 37 ,6/ 42 ,6/ 96 ,6/ 193 ,6/ 226 ,6/ 229) , والدارمي: الطلاق (2267 ,2268).

وعدته فإذا نقضت عدة أختها ربما بدا لها. [تزوج امرأة في عدة الطلاق من البوادي وهو جاهل] (مسألة) فيمن تزوج امرأة في عدة الطلاق من البوادي، وهو جاهل هل يصير حكمه حكم الزاني أم لا؟ أم يعذر بالجهل؟ وهل يفرق بينهما أم لا؟ (الجواب): أما حكم من تزوج امرأة في عدة الطلاق، وهو جاهل من البوادي فلا يصير حكمه حكم الزاني بل يعذر بالجهل، ويفرق بينهما حتى تنقضي العدة الأولى من الطلاق الأول، ثم تعتد من وطء الثاني الذي تزوجها في عدتها، فإذا انقضت العدتان حلت للأزواج وهو من عرضهم. [حلف لامرأته أن يتزوج عليها وقال: إن شاء الله] (مسألة) في رجل حلف لامرأته أن يتزوج عليها، فقال في حلفه: إن شاء الله. ماذا يكون؟ (الجواب): أما الذي حلف أن يتزوج عليها فقال في حلفه: إن شاء الله، فهذا الاستثناء يرفع حكم اليمين ولا يلزمه كفارة إذا لم يتزوج. [قال لامرأته: إن حصلت لي أختك طلقتك] (مسألة) في رجل قال لامرأته: إن حصلت لي أختك طلقتك لعدم الجمع. هل يجوز هذا أم لا؟ وما عدم إجازته؟ (الجواب): أما الذي قال لامرأته: إن حصلت لي أختك طلقتك؛ فهذا لا يلزمه به شيء ولا يكون طلاقا، ولكن الأحسن ترك مثل هذا الكلام لأن فيه قطيعة رحم بين الزوجة وأختها، خصوصا إذا فارقها وتزوج أختها. [قال: إن حصلت له أخت زوجته فوت زوجته] (مسألة) في هذا الرجل الذي يقول: إن حصلت له أخت زوجته فوت زوجته، وإن لم تحصل لم يفوتها، هل يجوز ذلك أم لا؟ (الجواب): أما قولك: إن حصلت له أختها فوتها، فهذا لا يجوز، وجمع الثلاث بدعة محرمة عند جمهور العلماء، ولا يترتب على ذلك له مصلحة؛ بل ليس فيه إلا تحريمها عليه من غير مصلحة تعود إلى أخرى، لأنه لو أراد

أن يرتجعها لم تحل له ما دامت أختها معه، فليس في التفويت إلا الضرر، فربما يفوتها، ولا تحصل له أختها؛ فيندم على ذلك. [التلفظ بكنايات الطلاق في حال الغضب] (مسألة): إذا غضب الرجل على زوجته، وأراد قمعها وهجرانها وقال لها: اخرجي من بيتي روحي لأهلك، ومقصده هجرها عند أهلها حتى يكون أصلح لها ولا له نية في الطلاق، ماذا يكون في مثل هذه، هل هو على النية أم لا وكذا إذا قالت المرأة: لم أنتقل إلا بطلاقي تريد لفظ الطلاق، ويقول الزوج: روحي لأهلك عن بيتي لست معي، يعني لست بشادك هذا معناه ونيته؛ وانتقلت على هذا الكلام، هل يكون على نيته ومعناه أم لا؟ والفاعل لذلك يفهم الأمر، وكل مقاصده إظهار لها من بيته لأجل المقصود لأنه أزين لطبعها وأشفق وأندم. (الجواب): الرجل الذي غضب على زوجته وسألته الطلاق وقال لها: اخرجي من بيتي لست معي. فهذه المسألة قد ذكر الفقهاء فيها أن الزوج إذا تلفظ بكنايات الطلاق في حال الغضب، وسؤالها الطلاق، ثم قال الزوج: لم أرد بذلك الطلاق أنه لا يقبل في الحكم بل تحسب عليه من الطلاق هذا في الظاهر. وأما فيما بينه وبين الله، فإن علم من نفسه أنه لم يرد الطلاق لم يقع عليه طلاق فيما بينه وبين الله. [طلق امرأته في طهر لم يجامعها فيه] (مسألة) في رجل طلق امرأته في طهر لم يصبها فيه فهل عليها عدة؟ وما عدتها؟ (الجواب): أما الرجل الذي طلق امرأته في طهر لم يجامعها فيه، فهذه لا بد أن يمضي عليها ثلاثة قروء بعد الطلاق، ولم تعتد بالحيضة التي مضت قبل الطلاق، بل لا بد أن تكون الأقراء بعد وقوع الطلاق.

مسائل في العدد وما في معناها

[حلف عليها زوجها لا تدخل بيت فلان فدخلته ناسية] (مسألة) في رجل حلف على امرأته أن لا تدخل بيت فلان أو بيت فلانة، فقال: إن فعلت فهو طلاقك، وحلف بالله أن طلاقها في دخولها البيت. فنسيت المرأة واحتاجت إلى دخول البيت، فدخلت ناسية ليمين الزوج. ماذا يكون وهل هنا كفارة مع الرجعة أم لا؟ (الجواب): أما المرأة التي حلف عليها زوجها لا تدخل بيت فلان، وعلق طلاقها على دخوله، فدخلته ناسية؛ فهذه المسألة فيها خلاف بين الفقهاء، وفيها ثلاث روايات عن الإمام أحمد. والمذهب عند المتأخرين من الحنابلة أن الطلاق يقع، وإن كانت ناسية. وعند الشيخ تقي الدين وغيره من العلماء أنها لا تطلق، واستدلوا على ذلك بقوله تعالى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} [الأحزاب من الآية: 5]، وبقوله صلى الله عليه وسلم "عفي لأمتي عن الخطأ والنسيان"1. {مسائل في العدد وما في معناها} [أقل ما تنقضي به العدة] (مسألة): ما قولهم في العدد: إن أقل ما تنقضي به العدة تسعة وعشرون يوما ولحظتان ما هذه المسألة وصفتها والعمل عليها فيما قالوا (الجواب): أما المسألة التي ذكروها في العدد: أن أقل ما تنقضي به العدة تسعة وعشرون يوما ولحظتان، فهذا مبني على أن أقل الحيض يوم وليلة، وأقل الطهر بين الحيضتين ثلاثة عشر. فإذ طلقها في آخر الطهر، وقد بقي من الطهر لحظة، ثم حاضت يوما وليلة، ثم طهرت ثلاثة عشر يوما وليلة، ثم حاضت يوما وليلة، ثم طهرت، فقد انقضت عدتها ومجموع ذلك تسعة وعشرون يوما ولحظتان؛ وهذا هو أقل ما تنقضي به العدة. فإذا ادعت أنها حاضت في شهر ثلاث حيض، وأقامت البينة على ذلك صدقت؛ ولا تقبل دعواها إلا ببينة، لأن هذا لا يقع إلا نادرًا، والله أعلم.

_ 1 ابن ماجه: الطلاق (2043).

مسائل في الإحداد وما يتعلق به

{مسائل في الإحداد وما يتعلق به} [ما تجتنبه المتوفى عنها زوجها] (مسألة): ماذا تجتنب المتوفى عنها من جنس الكلام والحديث مع الناس مثل قريب أو كالف أو صديق، إذا كان عادتها ذلك قبل موت الزوج، هل يجب عليها ترك جميع ذلك؟ أم هذا ليس من المنهي عنه إذا كان ذلك عادتها. (الجواب): فيما تجتنبه المتوفى عنها من جنس الكلام والتحدث مع قريب أو صديق إذا كان ذلك من عادتها قبل وفاة زوجها، فهذه المسألة لم أقف عليها في كلام أهل العلم، والذي يظهر لي من كلامهم أن المتوفى عنها وغيرها في هذا النوع سواء فما كانت ممنوعة منه قبل الإحداد، فهو أشد منعا، وما كان مباحا لها من هذا النوع خاصة قبله فهو مباح؛ فيه ولم أقف على نص في المسألة بالتفرقة. [خروج المرأة المتوفى عنها زوجها] (مسألة): هل للمرأة الخروج من البيت إذا مات زوجها إذا كانت عادتها الظهور قبل موته، وتقوم في مؤنة الزواج داخل البيت وخارجه، هل لها ذلك بعد موته في الإحداد أم لا؟ (الجواب): في المتوفى عنها هل لها الخروج فذكر أهل العلم أن لها الخروج لحوائجها نهارا، ولو وجدت من يقضيها؛ وأما في الليل فلا تخرج ولو لحاجة، وكذلك لا تخرج نهارا لغير حاجة. [للمتوفى عنها زوجها الخروج في حوائجها نهارا] (مسألة): إذا كان للمتوفى عنها نخل والمنْزل خارج النخل، هل لها الخروج إلى النخل والجلوس فيه، وقضاء شيء من الحاجات إذا كان غيرها يكفيها، أم لا وما يفاد من قصة المرأة التي أذن لها رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخروج إلى جذاذ نخلها (الجواب): هذه المسألة تقدم جوابها، وهو أن لها الخروج نهارًا

لحوائجها ولو وجدت من يقضيها؛ وحديث المرأة التي أذن لها رسول الله صلى الله عليه وسلم في جذاذ نخلها يدل على ذلك. قال في المغني: وللمعتدة الخروج في حوائجها نهارا، سواء كانت مطلقة أو متوفى عنها. ثم ساق حديث جابر في المرأة التي قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اخرجي فجذي نخلك"1. ثم قال: وروى مجاهد قال: استشهد رجال يوم أحد، فجاء نساؤهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقلن: يا رسول الله نستوحش بالليل، فنبيت عند إحدانا، فإذا أصبحنا بادرنا إلى بيوتنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تحدثن عند إحداكن حتى إذا أردتن النوم فلتأو كل واحدة إلى بيتها"، وليس لها المبيت في غير بيتها، ولا الخروج ليلا إلا لضرورة، لأن الليل مظنة الفساد بخلاف النهار، فإنه مظنة قضاء الحوائج والمعاش وشراء ما تحتاج إليه. انتهى كلامه في المغني. [أهم ما تجتنبه المتوفى عنها زوجها] (مسألة): ما أهم وألزم ما يكون اجتنابه على المتوفى عنها، غير الطيب والزينة والمبيت في غير منْزلها وهل يفرق بين الغنية والفقيرة في هذه الأمور (الجواب): ذكر أهل العلم أن المتوفى عنها تجتنب ثلاثة أشياء وهي الطيب، والثاني اجتناب الزينة: فلا تختضب، ولا تحمر وجهها، ولا تكتحل بالإثمد إلا لضرورة، فإن اضطرت إليه اكتحلت في الليل ومسحته في النهار، ولا تلبس ثياب الزينة، ولا تلبس الحلي كله حتى الخاتم. والثالث المبيت في غير منْزلها، فيجب عليها أن تبيت فيه دون غيره. وهذه الأمور هي التي نص عليها الفقهاء، وهي التي يجب عليها اجتنابها، والله أعلم. [خروج المتوفى عنها زوجها إلى المسجد] (مسألة): هل للمتوفى عنها الخروج إلى المسجد، لأجل الصلاة والدرس وتعلم أمر دينها، وكذلك مثل التراويح، أو قيام الليل في العشر، إذا كان ذلك عادة لها قبل موت الزوج

_ 1 مسلم: الطلاق (1483) , والنسائي: الطلاق (3550) , وأبو داود: الطلاق (2297) , وابن ماجه: الطلاق (2034) , وأحمد (3/ 321) , والدارمي: الطلاق (2288).

3 - من عبد الله بن الشيخ إلى الأخ جمعان بن ناصر

(الجواب): هل لها الخروج إلى المسجد للتراويح وقيام رمضان في العشر، فتقدم أن المتوفى عنها لا تخرج من بيتها في الليل ولو لحاجة؛ وأما خروجها في النهار للصلاة والدرس، فلم أقف على نص في المسألة إلا ما تقدم من الرخصة في الخروج نهارا لحوائجها والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين إلى يوم الدين آمين. ومن أجوبة لعبد الله بن الشيخ محمد رحمهما الله وعفا عنهما (3) بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله بن الشيخ إلى الأخ جمعان بن ناصر سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. (وبعد) الخط وصل، وصلك الله إلى رضوانه؛ وما ذكرت من جهة كثرة السؤال، فالحرص على العلم ينفع الله به، ولا ينقد على الإنسان إلا الغفلة وما أشكل عليه. [قال: إن زرعت أرضي حبا فهي بكذا كيلا مسمى] (وأما المسألة الأولى) وهي قوله: إن زرعت أرضي حبا فهي بكذا كيلا مسمى أو شعيرًا بكذا أو قطنًا بكذا، ووزنا معلوما، فهذه المسألة فيها خلاف مشهور في القديم والحديث، والذي نعمل عليه من أقوال العلماء أن هذا لا بأس به، إذا كان كيلا معلوما أو وزنا معلوما أو جزءًا مشاعا معلوما كالثلث أو الربع ونحو ذلك، والله أعلم. وأما قوله: إلا أن يكره بحق، كمن يكرهه الحاكم على بيع ماله لوفاء دينه، فهذا لا بأس بالشراء منه سواء رضي بذلك أو لم يرض.

[الرجوع في العمرى والرقبى] وأما العمرى والرقبى ففيها خلاف مشهور، والأحاديث فيها متعارضة، والذي نختاره أنه إذا شرط الرجوع فيها رجعت إلى مالكها، والله أعلم. [الفرق بين العطية والوصية] وأما الفرق بين العطية والوصية، فالفرق بينهما ظاهر كما ذكر في الشرح أنها تفارقها في أربعة أشياء. وأما كون أهل بلدك لا يفرقون بينهما فالألفاظ لا يعتبر بها. فإذا كان عندهم أن الوصية بمعنى العطية والهبة فهي كذلك، وكذلك لفظ الوصية. فكل هذا ينظر إلى مقصود المتكلم بذلك وعرفه في بلده، فإن كان مراده بذلك أنه يمضيها له في حياته، وبعد موته صارت بمعنى العطية والهبة. وإن كان العرف عندهم، أن مرادهم بذلك: إن مات فهي بمعنى الوصية يثبت لها أحكامها، والله أعلم. [ارتفع حيضها ولا تدري ما رفعه] وأما التي ارتفع حيضها ولا تدري ما رفعه، واعتدت بسنة ثم عاودها الدم قبل مضي السنة، فإنها ترجع وتعتد بالحيض ولا تحتسب بما تقدم كالبكر إذا اعتدت بالأشهر ثم جاءتها الحيضة، فإنها تعتد بالأقراء. والله أعلم. [الإجارة بشيء مجهول] وأما إذا آجر إنسان أرضه لمن يزرعها قطنا، وشرط عليه أن الأجرة له في السنة الأولى، فإذا خرج عنها فالشجر والثمرة لربها عن أجرة أرضه، فالظاهر أن مثل هذه لا يجوزه الفقهاء، لما فيه من الغرر؛ وإنما جوزوا الإجارة بشيء معلوم. والله أعلم. [احتاج أهل بلد إلى أرض إنسان يجعلونها مسجدا] وأما إذا احتاج أهل بلد إلى أرض إنسان يجعلونها مسجدًا، فطلبوا من صاحب المال أن يبيعها أو يوقفها، فالظاهر أنه لا يجبر. والله أعلم.

4 - من عبد الله بن الشيخ إلى الأخ جمعان

(4) بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله بن الشيخ إلى الأخ جمعان سلام عليكم ورحمة الله وبركاته (وبعد) ما ذكرت من جهة المسائل فهذا جوابها: [قذف إنسان جماعة بالزنى أمواتا أو أحياء] (المسألة الأولى): إذا قذف إنسان جماعة بالزنى أمواتا أو أحياء، فالذي وقفنا عليه من كلام أهل العلم أنه إذا قذفهم بلفظة واحدة، فإنه يحد حدًا واحدًا إذا طلبوا إقامة الحد عليه. وأما قذف الأموات، فلا أدري عنه، وأقل ما فيه إذا كانوا مسلمين يعزره الإمام على قدر ما يراه. وأما ما ذكرت عن بعض المالكية من شروط القذف، فهو كلام متوجه. (وأما الثانية): فلا يجوز التعزير بأقل الحدود. (وأما الثالثة): إذا شهد شاهد واحد أن فلانا أصاب حدا، فلا يقام عليه بشهادة واحد، ولا بد من شهادة رجلين عدلين إلا في الزنى فأربعة شهود كما هو معلوم. [وجد منه رائحة المسكر] (الرابعة): إذا وجد منه رائحة المسكر فإنه يحد، وأما إذا خرج من بيته، فليس فيه إلا التعزير إذا كان مظنة ذلك. [الرجوع في الهبة] (الخامسة): الهبة إذا كان مراده الثواب، فإنه يرجع فيها إذا لم يثب. وأما الصدقة فليس حكمها حكم الهبة، لأن الصدقة أن يتصدق على إنسان لفقره، والهبة أن يهب لآخر شيئا، ولو مع غناه تارة يريد بها المكافآت وتارة على وجه الكرم والتفضل. [العمرى والرقبى] (السادسة): في العمرى والرقبى ففيها اختلاف بين الفقهاء، ولا يتبين لي الآن وجه كونها لمن أعمرها، وأما الذي يشبه العمرى عندنا فهي أن يقول:

لك حياة عينك، أو ما عشت، أو حياة عيني، وأشباه ذلك. [زواج الحر بالأمة] (السابعة): الحر فلا يجوز له تزوج الأمة ولو شرط سيدها أن أولاده أحرار، إلا بالشرطين المذكورين في كتاب الله. (أحدهما): أن لا يجد طولا يتزوج به الحرة. (الثاني): أن يخاف العنت على نفسه؛ وصبره مع ذلك خير له من تزوج الأمة. [الأولاد يتبعون الأم في الحرية والرقية] (الثامنة): إذا كان لرجل أمة ولآخر عبد، وأرادا تزويج أحدهما للآخر وشرطا أن الأولاد بينهما، فهذا شرط فاسد لا يصح، بل الأولاد يتبعون الأم في الحرية والرقية. [التفريق بين الوالدة وولدها] (التاسعة): التفريق بين الوالدة وولدها، وكذلك الإخوة، فالحد في ذلك البلوغ؛ فإذا بلغ واحد منهما جاز أن يفرق بينهما. [حصة المضارب قبل القسمة] (العاشرة): حصة المضارب قبل القسمة، ففيها خلاف؛ والأحوط تزكيتها مع المال بلغت نصابا أو لم تبلغ. [الدين الذي يمنع الزكاة] (الحادية عشرة): ما الدين الذي يمنع الزكاة؟ فالدين عندنا لا يمنع وجوب الزكاة في الأموال الظاهرة ولا الباطنة. [دفع رجل مضاربة مالا إلى آخر، وحال الحول والمال بيد المضارب بغير بلده] (الثانية عشرة): إذا دفع رجل مضاربة مالا إلى آخر، وحال الحول والمال بيد المضارب ببلد غير بلده، فالذي وقفنا عليه من كلام أهل العلم أنه متى أخرجها أجزأته، إلا إن كان هو بنفسه ببلده أو المضارب؛ ونرجو أن ذلك يجزئه إن شاء الله تعالى. [ما يجب على الزوج للزوجة من المؤنة] (الثالثة عشرة): ما يجب على الزوج للزوجة من المؤنة، فكلام الشيخ رحمه الله في هذه المسألة من أحسن الكلام، فإنه قال: يجب عليها ما يعتاد من مثلها لمثله. فإن كان المعروف من مثلها أنها تطبخ وتعجن لزوجها ولنفسها، وجب

5 - من عبد الله بن الشيخ إلى الأخ جمعان

عليها ذلك. فإن كان المعروف عند أهلها ببلدها أن مثلها لا تخدم نفسها وجب على الزوج إخدامها، وإن كان بها ما يليق من مثلها لمثله، واستدل الشيخ رحمه الله وغيره على ذلك بقوله تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء من الآية: 19]، والمعروف يختلف باختلاف الأحوال والأشخاص والبلدان والأزمان، وهو المفتى به عندنا. [التسوية بين الزوجات في النفقة والكسوة] (الرابعة عشرة): هل يجب على الزوج التسوية بين الزوجات في النفقة والكسوة لقوله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النّساء من الآية: 3]، فلا بأس أن يزيد إحداهما على الأخرى إذا كانت أوفق وأصلح لحاله، إذا كان لم يرد بذلك مضارة، ولا يلحق به ضرر الزوجة الأخرى. والله أعلم. - 5 - بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله بن الشيخ إلى الأخ جمعان سلام عليكم ورحمة الله وبركاته (وبعد) وصل الخط أوصلك الله إلى رضوانه، وما ذكرت من المسائل: [ما يجب على اليتيم من الحقوق غير الزكاة] (فالأولى): ما يجب على اليتيم من الحقوق غير الزكاة، فلا نعلم شيئا يجب عليه إلا الزكاة في أصح قولي العلماء، مع أن بعض أهل العلم ذكر أنها لا تجب عليه وهو قول مرجوح. وأما إذا كان له بعيران مثلا ليس له غيرهما ورعيا أكثر من نصف السنة، ثم خلطا مع غيرهما، ففيهما خلاف بين العلماء؛ والأحوط أنه يزكيهما زكاة خلطة. وأما الحوض والمراح والمرعى والحول، فبعض العلماء يشترط ذلك، وبعضهم لا يشترطه، ولا أستحضر دليل ذلك. وأما كون أهل المسجد يخلون مكان الأمير إكراما له، فالمسجد لمن

سبق إليه، وأحق الناس بالمكان الذين وراء الإمام الذي يعرفون بالفقه والدين، ولو خلي لهم مكان فلا بأس؛ وإن خلوا للأمير مكانا فلا ينكر عليهم. [جلوس الإمام ينتظر الأمير] وأما جلوس الإمام ينتظر الأمير، فلا أعلم في ذلك بأسا إذا لم يشق على المأمومين. [المصافحة في المسجد وغيره] وأما المصافحة في المسجد وغيره، فلا بأس بها؛ وما بلغكم من النهي عنها فله سبب، وذلك أن بعض الناس يظن أن هذا أمر مستحب دائمًا يداوم عليه، ولو سلم قبل الصلاة؛ وأما إذا فعله بعض الأحيان وتركه في بعض فلا بأس بذلك. [تبديل ولي الوقف تمرا بعيش] وأما تبديل ولي الوقف تمرًا بعيش أو عيشا بتمر، فإن كان فعله للمصلحة فلا أعلم فيه بأسا إذا كان أصلح للموقوف عليهم، وأما كونه يكتب في الوقف ولا حصل بعد، فلا يجوز ويخليه إلى السنة المقبلة. [رفع الحصى في المسجد] وأما رفع الحصى في المسجد، فينهى عنه تأدبا في المسجد، ولا أعلم فيه دليلا بينا، لكن التأدب في المسجد والخشوع أحسن. [انتقل أهل بلد عن بلادهم وفيها مسجد عامر] وأما إذا انتقل أهل بلد عن بلادهم وفيها مسجد عامر، وفيه خشب فإن كان يصلى فيه فلا يجوز نقضه، وإن كان متعطلا فلا بأس أن يؤخذ خشبه ويحط في مسجد آخر. [أرض المسجد المتعطلة] وأما أرض المسجد المتعطلة، فلا بأس بحرثها وزرعها بأجرة، وتصرف أجرتها في عمارة مسجد آخر. [نخل الوقف إذا تعطل] وأما نخل الوقف إذا تعطل، فلا بأس أن يباع ويصرف ثمنه في نخل عامر، ويجعل على وقفه الأول. [علق الطلاق ولم يأت بشيء من حروف الشرط] وأما إذا طلق وعلق الطلاق، ولم يأت بشيء من حروف الشرط كإذا ومتى وإن، كقوله: إن دخلت الدار فأنت طالق. فمثل هذا ينوي به

6 - من عبد الله وحمد إلى الأخ سعيد

الشرط والجزاء على لغة أهل بلده، ولا يشترط أن يتلفظ بلفظة العربية. هذا الذي نفهم من كلام أهل العلم. وأما دلائل هذه المسألة فقد يخفى على مثلنا لعجزنا، لكن هذا الذي نفهم من كلام أهل العلم. وأما الدليل فقد يخفى علينا؛ لكن هذا هو المفتى به عندنا والعمل عليه. والله أعلم. (6) بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله وحمد إلى الأخ سعيد، جعله الله من صالحي العبيد، وبلغه في الآخرة ما يريد، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. (وبعد) وصل الخط أوصلك الله إلى رضوانه، وجعلك من أنصار دينه وأعوانه، وما ذكرت من حالك، فالحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وتضمن الخط السؤال عن أربع مسائل: [شقص في أرض مشاع لا تمكن قسمتها، هل فيه شفعة؟] (الأولى): ما قول العلماء -رضي الله عنهم- إذا كان لرجل شقص في أرض مشاع لا تمكن قسمتها قسمة إجبار، هل له شفعة؟ فإن قلتم له، فما معنى قولهم في شروط الشفعة: أن يكون الشقص من عقار ينقسم قسمة إجبار، ثم قالوا: ولا فيما لا تجب كحمام صغير ونحوه. (فنقول): هذه المسألة اختلف الفقهاء فيها، وفيها قولان للعلماء هما روايتان عن أحمد: (الأولى): أن الشفعة لا تثبت إلا في المبيع الذي تمكن قسمته، فإما ما لا تمكن قسمته من العقار كالحمام الصغير والعضادة والطريق الضيق والعراص الضيقة، فلا شفعة فيه؛ وبه قال يحيى بن سعيد وربيعة والشافعي، وهذا هو المذهب عند المتأخرين من الحنابلة. قال الموفق في المغني: وهذا ظاهر المذهب لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا شفعة في فناء ولا طريق ولا منقبة" والمنقب الطريق الضيق رواه أبو الخطاب

في رؤوس المسائل. (والراوية الثانية) تثبت الشفعة فيه، وهو قول أبي حنيفة والثوري وابن سريج ورواية عن مالك، واختاره ابن عقيل وأبو محمد الجوزي وشيخ الإسلام. قال الحارثي: وهو الحق لعموم قوله عليه السلام: "الشفعة فيما لا ينقسم" وسائر الألفاظ. ولأن الشفعة تثبت لإزالة الضرر بالمشاركة والضرر في هذا النوع أكثر لأنه يتأبد ضرره، وهذا هو المفتى به عندنا، وهو الراجح والله أعلم. [حكم كسب الزوجة] (وأما المسألة الثانية): إذا كانت زوجة الرجل ذات صنعة وقال زوجها: ما حصل من الحرفة، فهو لي ومؤنتك علي، وقالت الزوجة: ما حصل من صنعتي فهو لي، وأقوم في بيتك مع صنعتي، فهل تمكن من هذا أم لا؟ فهذه المسألة أنت تفهم اختلاف الفقهاء فيها، وهل يلزمها أن تخدمه في مسألة الخدمة في طبخ وعجن وخبز ونحوه أم لا فمذهب الحنابلة أنه لا يلزمها وهو الذي نصره في الشرح، ومذهب مالك والشيخ تقي الدين أنه يرجع في ذلك إلى العرف، وأنه يلزمها عادة أمثالها لمثله. وكذلك اختلفوا هل يجب عليها أن ترضع ولدها منه، فمذهب الحنابلة أنه لا يلزمها، ومذهب مالك أنه يرجع في ذلك إلى العرف، وأنه إن كان مثلها ترضع ولدها وجب عليها أن ترضعه. وأما مسألة التكسب المسؤول عنها، فظاهر كلامهم أنه لا يلزمها وليس له أن يجبرها عليه، ولكن ليس لها أن تكتسب إلا بإذنه، فإن أذن لها فظاهر كلامهم أنها تختص بالأجرة. ولهذا صرح الموفق في المقنع في باب الإجارة أنه يصح أن يستأجرها على رضاع ولده منها، وصرح في كتاب النفقات أنها أحق برضاع ولدها بأجرة مثلها سواء كانت في حبال الزوج

أو مطلقة. وصرح أيضا في كتاب النفقات أنه لا يملك إجبارها على رضاع ولده من غيرها ولا على خدمته فيما يختص به. [أخرج المرتهن الرهن إلى الراهن] (وأما المسألة الثالثة): إذا أخرج المرتهن الرهن إلى الراهن، فهل يزول لزومه كما هو مذهب الحنابلة أم للمرتهن انتزاعه كما هو مذهب الشافعي أو هل يفرق بين ما تعلق به حق الغير كالرهن له أو بيعه وبين ما هو باق في يد الراهن وما المفتى به الآن؟ فقد اختلف العلماء هل من شرط صحة الرهن القبض، أم يصح ويكون رهنا بمجرد العقد؟ فمذهب أبي حنيفة والشافعي وأحمد في المشهور عنه أنه لا يلزم إلا بالقبض، وقبل القبض يكون جائزا لا لازما، ومذهب مالك رحمه الله يلزم بمجرد العقد قبل القبض كالبيع. فإذا علمت الخلاف في أصل المسألة، فالقائلون باشتراط القبض اختلفوا فيما إذا أخرجه المرتهن باختياره، هل يزول لزومه ويبقى العقد كأنه لم يوجد فيه قبض؟ فمذهب الحنابلة كما ذكرته عنهم أنه يزول لزومه، فإن عاد إلى المرتهن عاد لزومه بحاله بحكم العقد السابق، وهذا مذهب أبي حنيفة. وقال الشافعي: استدامته القبض ليست شرطا كما ذكرته عنه، وذلك لأنه عقد يعتبر القبض في ابتدائه فلم تشترط استدامته، وهذا هو المفتى به عندنا. [إحياء الأرض بإجراء الماء عليها] (وأما المسألة الرابعة): وهي: هل إجراء الماء على الأرض للحرث يكون إحياء أم لا؟ فقال في الإنصاف: وإحياء الأرض أن يحوزها بحائط، أو يجري لها ماء، أو يحفر فيها بئرا، هذا هو الصحيح من المذهب، نص عليه وقطع به الخرقي وابن عبدوس والقاضي والشريف وصاحب الهداية والخلاصة والوجيز وغيرهم، وقيل: إحياء الأرض ما عد إحياء وهو عمارتها بما تتهيأ

من جواب لعبد الله بن الشيخ رحمه الله

به لما يراد منها من زرع أو بناء أو إجراء ماء، وهو رواية عن أحمد اختارها القاضي وابن عقيل والشيرازي وابن الزاغوني والمصنف يعني الموفق في العمدة وغيرهم. وعلى هذا قالوا: يختلف باختلاف غرض المحيي من مسكن وحظيرة وغيرهما، فإن كان مسكنا اعتبر بناء حائط بما هو معتاد. وقيل: ما يتكرر كل عام كالسقي والحرث، فليس بإحياء، وما لا يتكرر فهو إحياء، قاله في المغني ولم يورد في المغني خلافه. وقوله: إحياء الأرض أن يجري لها ماء، يعني إحياء الأرض أن يجري لها ماء إن كانت لا تزرع إلا بالماء، ويحصل أيضا بالغراس قال في الفروع، ويملكه بغرس وإجراء ماء نص عليهما. انتهى، والله أعلم. * * * (ومن جواب) لعبد الله بن الشيخ رحمه الله: [هلك هالك عن أبوين وأخوين متفرقين أو أشقاء] إذا هلك هالك عن أبوين وأخوين متفرقين أو أشقاء، فالذي نعمل عليه من كلام أهل العلم أن الأم في هذه الحال يكون لها الثلث كاملا؛ لأن الإخوة محجوبون بالأب. وأهل هذا القول استدلوا عليه بقوله تعالى: {فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ} [النّساء من الآية:]، ويقولون: أن معنى قوله في الآية التي بعدها: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ} [النّساء من الآية: 11] أي: إخوة وارثون، وأما الإخوة المحجوبون فهم كالمعدومين. [السمن بالتمر واللحم بالتمر والأقط بالتمر] وأما السمن بالتمر، واللحم بالتمر، والأقط بالتمر، فالذي يعمل عليه أكثر أهل العلم أنه لا يجوز وينهى عنه، وهو الذي نعمل عليه. [الطلاق الثلاث بكلمة واحدة] وأما الطلاق الثلاث بكلمة واحدة، فالذي نفتي به أنه يصير ثلاث طلقات كما ألزمه عمر رضي الله عنه الناس وتابعه الصحابة على ذلك. [السفر الذي يرخص فيه] وأما السفر الذي يرخص فيه برخص السفر كالقصر والإفطار والجمع، فالعلماء اختلفوا في ذلك، فبعضهم يحده بيومين، وبعضهم بدون ذلك، وبعضهم

7 - أسئلة لبعض الإخوان أجاب عنها الشيخ عبد الله بن الشيخ

ما يرى له حدًا لأنه لم يرد عن الشارع تحديده صلوات الله وسلامه عليه؛ بل كل ما يسمى سفرًا، وإن كان دون اليوم، جاز أن يرخص فيه برخص السفر؛ وهذا هو الصواب، وهو الذي تدل عليه النصوص. [المرأة التي تزوجها رجل ودخل بها ولكنه لم يطأها] وأما المرأة التي تزوجها رجل ودخل بها ولكنه لم يطأها، فالذي نعمل عليه أن العدة تجب عليها. [قال: علي الطلاق أو الحرام لأفعلن كذا وفعله] وأما من قال: علي الطلاق أو الحرام لأفعلن كذا أو: لا أفعلن كذا وفعله فالذي نعمل عليه أنه ليس عليه إلا كفارة يمين إذا فعل المحلوف عليه. [الخلطة في غير السائمة] وأما الخلطة في غير السائمة كالدراهم والحرث، فالذي يترجح من قول العلماء أنه ما يجب فيه زكاة حتى يبلغ نصيب كل واحد من الشركاء نصابا. وأما مؤنة الرجل وأهل بيته فليس عليها زكاة. والله أعلم وأحكم، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم. (7) بسم الله الرحمن الرحيم أسئلة لبعض الإخوان أجاب عنها الشيخ عبد الله بن الشيخ (من يباح له الفطر في رمضان للضرورة) (منها): إذا صار رجل ضعيفا، ويعيش من الخلاء حشيشًا أو أشباهه، ولا يقدر يحترف إلا مفطرا، فإن كان يقدر أن يعيش بلا حرفته هذه فلا يفطر، فإن كان ما هنا إلا حرفته هذه، ولو تركها لحقه الضرر، فأرجو أن يجوز له؛ فإذا وقعت الضرورات حلت المحظورات. وأما الذي يفطر في النهار ويعتذر بالجوع، فلا عذر له، والذي يعيش به في النهار يضمه إلى وقت الإفطار إلا إن كان مثل هذا عندكم لو لم يفطر تلفت نفسه أو لحقه ضرر بين، فلا تنكروا عليه.

وأما الصبي الذي ما أرشد بعد، فهو إذا أطاق الصيام أمر به، وأدب عليه أي على تركه. وكذلك يصلى وراءه إذا كان أقرأ من الذي وراءه، ولو ما أرشد بعد ويقام به في الصف. [حال الذي ختم القرآن وممشاه رديء] وأما ما ذكرت من حال الذي ختم القرآن وممشاه رديء، وهنا من يقرأ بعض القرآن وهو حبيب في الدين من الذي يغلظ منهم، فإن كان الذي يقرأ القرآن حافظه غيبا وردا بينما يكره الدين، ويوالي المنافقين موالاة بينة، ويتجاسر على الأمور المحرمة مثل الزنى والسرقة والخيانة، فإن كانت هذه صفة حاله فلا يصلي بالجماعة، فإن كان ما هنا شيء بين، ما هنا إلا تهمة أو أن غيره أخير منه عملا مثل الجهاد والمذاكرة، فالذي يحفظ القرآن غيبا أحق من الذي ما حفظه، ولو كان أكثر منه عملا أو أحب منه للدين. [النَزعة من الفم] وأما النَزعة من الفم، فإن كانت ما ظهرت من الجوف ولا وصلت الفم فلا وضوء فيها، فإن كانت ظهرت ووصلت الفم، فيجب عليه الوضوء. فإن كان صائما فلا يدخلها إذا وصلت الفم يخليها تظهر، ويغسل الذي نال سلبه منه. [يرمي أخاه المسلم بالزنى ويعتذر] وأما الذي يرمي أخاه المسلم بالزنى ويعتذر أنه ما له قصد وأنه من الشيطان، فلا هذا بعذر؟ فإن كان المقذوف بالزنى شكاه إلى الأمير أقام عليه الحد، وإلا أدب أدبا يزجره عن مثل هذا الكلام القبيح. [صلى الرجل وفي سلبه نجاسة ناسيها] وأما إذا صلى الرجل وفي سلبه نجاسة ناسيها، وما درى إلا بعد فراغه من الصلاة، فلا إعادة عليه. [إمامة المطوع الذي ما يحسن الفاتحة ولا يعربها] وأما المطوع الذي ما يحسن الفاتحة ولا يعربها، فلا يصلى وراءه، والمطوع الرديء الذي ما له دين إن أسلم الناس أسلم، وإن ارتدوا ارتد، فلا تحل الصلاة وراءه.

8 - مسائل مختلفة أجاب عنها الشيخ عبد الله بن الشيخ

(8) {مسائل مختلفة أجاب عنها الشيخ عبد الله بن الشيخ أيضًا} بسم الله الرحمن الرحيم [التمر بالعيش نسيئة] (الأولى): أما التمر بالعيش نسيئة، فلا يجوز وهو داخل في الربا الذي حرم الله ورسوله. [السمن بالتمر واللحم بالتمر والأقط بالتمر] وأما السمن بالتمر، واللحم بالتمر، والأقط بالتمر، فالذي عليه أكثر العلماء أنه لا يجوز وينهى عنه؛ وهو الذي نعمل عليه. [مصارف الزكاة] وأما مصارف الزكاة، فالله سبحانه وتعالى ذكر أهلها في كتابه، وجزأهم ثمانية أصناف، وهم الذين لا يجوز صرفها إلى غيرهم بإجماع أهل العلم. وإذا أعطيها بعض الأصناف جازت؛ ولم يذكر في الأحاديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقسمها بين الثمانية الأصناف كقسمة الميراث لا يزيد أحدًا على أحد، بل يعطيها بعض الأصناف الذي ذكر الله؛ وهذا مذهب كثير من العلماء أنه لا يجب استيعاب الأصناف كلها، بل إذا أعطى بعض الأصناف أجزأت. ومن يكن له معرفة بهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وسيرته، علم أن هذا هو الصواب. [حجر الإنسان ابنة عمه أو غيرها عليه لا يزوجها إلا هو] وأما حجر الإنسان ابنة عمه أو غيرها عليه لا يزوجها إلا هو، فهذا من أعظم المنكرات وهو من دين الجاهلية الذي أبطله الإسلام. قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ} الآية [النّساء من الآية: 19] [الأمور التي تجب فيها الزكاة] وأما الأمور التي تجب فيها الزكاة، فالرسول صلى الله عليه وسلم قدر نصاب الذهب عشرين مثقالا، ونصاب الفضة مائتي درهم، ونصاب التمر والعيش خمسة أوسق، والوسق ستون صاعا بصاع النبي صلى الله عليه وسلم؛ فيكون نصاب التمر والعيش ثلاثمائة بصاع النبي صلى الله عليه وسلم.

[شراء الطعام مجازفة] وأما شراء الطعام مجازفة فليس به بأس، إلا أن يكون البائع يعلم كيله والمشتري فيه واحد. [الطلاق ثلاثا بكلمة واحدة] وأما الطلاق ثلاثًا بكلمة واحدة، فالذي نفتي به أنه يصير ثلاث تطليقات كما ألزم به عمر بن الخطاب رضي الله عنه الناس، وتابعه الصحابة على ذلك. [الرجل الذي قال لآخر: زوجتك ابنتي وهو يضحك] وأما الرجل الذي قال لآخر: زوجتك ابنتي، وهو يضحك، فالنكاح يلزمه، وإن كان الرجل يهزل به، كما في الحديث "ثلاث جدهن جد، وهزلهن جد: الطلاق والنكاح والرجعة"1. [غلاق الرهن] وأما الرجل الذي رهن رهانة، وقال له المسترهن: إن كان ما قضيتني في هذه المدة ومضت المدة، وإلا فهي لي بالذي عندك، فهذا لا يجوز، هذا يسمى غلاق الرهن، وفي الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "لا يغلق الرهن"2، وفسر العلماء غلاق الرهن بمثل هذا الكلام. [زكاة القطن والبطيخ والخضراوات] وأما القطن والبطيخ والخضراوات فليس فيه زكاة، وأما البر بالشعير نسيئة فهو ربا. [نذر نخلة للنبي عليه الصلاة والسلام] وأما الرجل الذي نذر نخلة للنبي صلى الله عليه وسلم أو لأبي صالح، وبعد ما أسلم علم أن هذا ما يجوز، وتاب إلى الله ورجع عن ذلك، وجعلها لله، فهذا هو الذي ينبغي له، وهي مصرف حسن، وتقسم ثمرتها في وجوه البر كالفقراء والمساكين والأقربين. [مقدار السفر الذي يترخص فيه] وأما مقدار السفر الذي يترخص فيه برخص السفر كالقصر والإفطار والجمع، فالعلماء اختلفوا في ذلك، وبعضهم ما يرى فيه تحديدًا لأنه لم يرو فيه تحديد عن الشارع صلوات الله وسلامه عليه، بل كل ما كان يسمى سفرًا، وإن

_ 1 الترمذي: الطلاق (1184) , وأبو داود: الطلاق (2194) , وابن ماجه: الطلاق (2039). 2 ابن ماجه: الأحكام (2441) , ومالك: الأقضية (1437).

9 - من عبد الله بن الشيخ وحمد إلى الأخ سعيد بن حجي

كان دون اليوم جاز أن يترخص فيه برخص السفر؛ وهذا هو الصواب وهو الذي تدل عليه النصوص. [تزوجها رجل ودخل بها لكنه لم يطأها] وأما المرأة التي تزوجها رجل، ودخل بها، لكنه لم يطأها، فالذي نعمل عليه أن العدة تجب عليها. وأما من قال: علي الطلاق أو الحرام لأفعلن كذا ولا أفعلن كذا وفعله، فالذي نعمل عليه أنه ليس عليه إلا كفارة يمين. [أدب المتكاسل عن الصلاة] وأما أدب المتكاسل عن الصلاة بالجلد والخسارة، فهذا النوع عند أهل العلم يسمى التعزير، وهو أن المعاصي التي لم يقدر الشارع فيها حدا يرجع فيها إلى اجتهاد الأئمة، فيفعل الأمير ما فيه المصلحة من الضرب والخسارة بالمال. والنبي صلى الله عليه وسلم هم أن يحرق على المتخلفين عن الجماعة بيوتهم، ولم يمنعه من ذلك إلا ما في البيوت من النساء والذرية. [تأخير الزكاة إلى أجل معلوم] وأما تأخير الزكاة إلى أجل معلوم، فإن رأى العامل في ذلك مصلحة جاز له فعله. وأما نقل الزكاة من بلد إلى بلد، فبعض العلماء يرى جواز ذلك لأجل المصلحة إذا رآه الإمام؛ وهو الذي نعمل عليه. وأما ما ذكر السائل أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك فلا نعرف ذلك من وجه صحيح. وأما قول السائل: إنه ذكر في الخبر أنه جاءته صدقة خراسان، فلا أرى لهذا أصلا. [مقدار الصاع] (8) بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله بن الشيخ وحمد إلى الأخ سعيد بن حجي حفظه الله تعالى. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. (وبعد) وصل خطك أوصلك الله إلى رضوانه، وما ذكرت من جهة تحرير الصاع أن الذي تحرر لكم فيه أنه أربع حفنات بيدي الرجل

10 - من عبد الله وحمد إلى الأخ سعيد بن حجي

المعتدل في الخلقة، فالأمر على ما ذكرت وهو الذي ذكره العلماء كصاحب النهاية والقاموس. وأما كون بعض الحفنات يزيد السدس على الصاع الأول الذي هو أربع حفنات، فلم يظهر لنا ذلك، بل الذي ظهر لنا أن الزيادة تسع أو عشر على ما تحرر لنا بالحفنات. وأما الوزن فلم نعتمد عليه، لأن الحب يختلف بالرزانة وعدمها، والعمدة على ما حرره العلماء بالحفنات، وزيادة الصاع على الحفنات يسيرة؛ فلهذا تركنا الأمر على العادة القديمة في الاعتبار بالصاع الموجود. وأما الذي نفتي به فهو العمل على أربع الحفنات، وبالاعتبار بالصاع نجعل التسعة الآن عن عشرة وما دون ذلك مشكوك فيه، فالاحتياط في العبادة أولى. وأما الحبوب فالذي عليه العمل أنه يضم بعضها إلى بعض في تكميل النصاب، ولو اختلف الجنس إذا كان ذلك في عام واحد. وحسين وإخوانه فيما تحب والسلام. (9) بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله وحمد إلى الأخ سعيد بن حجي حفظه الله تعالى سلام عليكم ورحمة الله وبركاته (وبعد) وصل الخط أوصلك الله إلى رضوانه، وكل من تسأل عنهم طيبون عبد العزيز والعيال وآل الشيخ وعيالنا وخواص إخوانك، الجميع فيما تحب من فضل الله أسبغ الله علينا وعليكم نعمه وأعاذنا من حلول نقمه. [الصدقة في مكة] (وأما جواب المسائل): فمسألة الصدقة في مكة لها مزية في الفضيلة لفضيلة البقعة، ومتحري الخير يتيسر له ذلك خصوصا في أيام الحج، إذا حج ناس من المسلمين، فإنه يجد مع الحاج من فقراء المسلمين ناسا محتاجين يتصدق

عليهم، فيحصل فضيلة البقعة مع فضيلة أيام الحج. وأما الصدقة على أهلها اليوم وهم على هذه الحال، فقد ذكر أهل العلم ما يدل على أن المسلم يثاب على الصدقة على الكافر كما يدل عليه قوله تعالى: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الممتحنة: 8]، وذكر أهل التفسير عند قوله تعالى: {وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُون} [البقرة من الآية: 272] أنها نزلت في الصدقة على أهل الذمة. [هلك هالك عن ابن أخت شقيقة وابني خالين] وأما مسألة ذوي الأرحام إذا هلك هالك عن ابن أخت شقيقة وابني خالين، فالعمل على مذهب المنْزلين، فينْزلوا كلا منْزلة من أدلى به: فيكون لابن الأخت النصف ثلاثة من ستة، ويكون لابني الخالين اثنان من ستة ويبقى واحد يرد عليهم على قدر سهامهم، فيجعل المال خمسة أسهم لصاحب النصف ثلاثة أخماس، ولصاحب الثلث خمسان. لكن النظر في ابني الخالين هل هما وارثان أو أحدهما محجوب بالآخر كما نص الفقهاء على ذلك. مثال ذلك ابن الخال لأب مع ابن الخال لأبوين، فالمال لابن الخال الشقيق، ولا شيء لابن الخال لأب، نبه عليه صاحب الشرح الكبير. [البيع المعيب إذا زال ملك المشتري عنه بعتق أو غيره] وأما مسألة البيع المعيب إذا زال ملك المشتري عنه بعتق أو موت أو وقف أو بيع، وتعذر رده، وكان تصرفه ذلك قبل علمه بالعيب، فله الأرش لتعذر الرد، في هذه الصورة الخلاف المشهور بين الفقهاء فيما إذا أمكن الرد، وامتنع المشتري وطالب بالأرش. [العمل بالخطوط] وأما مسألة العمل بالخطوط التي أشرت إليها، فمسألة العمل بالخط فيه خلاف بين الفقهاء لكن الذي نعمل به اليوم هو ما إذا كان الكاتب

11 - إجابة على تسع وتسعين مسألة فقهية

معروف الكتابة موثوقا به أنه لا يكتب إلا الشهادة المحررة، وأما الخط الذي لا يعرف أو يعرف ولكن صاحبه ليس بثقة، فلا نعمل به ولا نقبل إلا شهادة الشاهد بعينه، أو يحمل شهادته من يوثق به؛ ولا ينبغي لك أن تعمل إلا على هذا، فإذا لم يتهيأ فلك عن ذلك مندوحة. وسلم لنا على سعود ومرشد وإخوانك والسلام. [إجابة على تسع وتسعين مسألة فقهية] (10) (وله أيضًا رحمه الله إجابة على تسع وتسعين مسألة فقهية) بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي فتح بصائر أوليائه بمشاهدة عجائب الاعتبار والعبر، واستخلص هممهم بصفاء المناجاة، ولذات المصافاة من شواغل الأسباب وشوائب الكدر، أحمده وآمن به وأتوكل عليه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله خاتم النبيين وصفوة المرسلين وإمام المتقين وسيد البشر، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الذين جاهدوا في سبيل الله حتى ارتفعت أعلامه على الأديان فظهر، وسلم تسليما. (أما بعد) فإنه لما كان غرة رجب المحرم سنة 1217 سبع عشر بعد المائتين والألف، ورد علينا أسئلة ممن أراد الاسترشاد، وكان مقصده إن شاء الله بذلك سلوك طريق الرشاد، وهي مسائل فقهية، فنقلت أجوبتها من كتب الأئمة الأعلام، وأشار في مقدمة أسئلته بإيجاز الكلام، وجملة ما سأل عنه تسع وتسعون مسألة. نسأل الله الإعانة والتسديد ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. [المسألة الأولى: استعمال ماء بئر تردت فيه بهيمة] (المسألة الأولى): إذا تردت بهيمة في بئر ولم يعلم بها إلا بعد تغير رائحة الماء تغيرا ظاهرا، فهل يجوز له استعماله وتستباح به الصلاة أم لا؟

(الجواب): من علم بتغيير رائحة الماء لم يجز له استعماله، ولا تستباح به الصلاة. [المسألة الثانية: عليه غسل وحضرت الصلاة ولم يجد إلا ماء زمزم] (المسألة الثانية): إذا كان على رجل غسل، وحضرت الصلاة ولم يجد إلا ماء زمزم، فهل يجوز له استعماله أم لا؟ (الجواب): المسألة فيها خلاف، والظاهر أنه يجوز له استعماله من غير كراهة. فأما إذا وجد غيره ففيه ثلاث روايات: الأولى: لا يكره، والثانية: يكره، والثالثة: يكره الغسل دون الوضوء اختارها الشيخ. [المسألة الثالثة: الوضوء من ماء راكد بال إنسان فيه] (الثالثة): إذا بال إنسان في ماء راكد، وحان وقت الصلاة ولا يجد ماء غيره، فهل يباح له الوضوء منه أم لا؟ (الجواب): إذا اضطر إليه ولم يجد غيره، وهو فوق القلتين ولم تغيره رائحة النجاسة، فالظاهر أنه يتوضأ منه ويرتفع حدثه. [المسألة الرابعة: هل يحل الدين بالموت] (الرابعة): هل يحل الدين بالموت أم لا؟ (الجواب): المسألة فيها قولان في المذهب، والأظهر أنه لا يحل بالموت إذا وثقوه الورثة. [المسألة الخامسة: تعذر تسليم المسلم فيه] (الخامسة) إذا تعذر تسليم المسلم فيه، فهل ينفسخ بنفس التعذر أم لا؟ (الجواب): إذا تعذر تسليم المسلم ففيه روايتان: (إحداهما): أن المسلم بالخيار بين الصبر وبين أخذ الثمن إن كان موجودا، وإلا فمثله إن كان مثليا. (والثانية): أنه ينفسخ بنفس التعذر، والرواية الأولى أظهر إن شاء الله تعالى. [المسألة السادسة: هل يجوز الإقالة في جميع ما أسلم فيه] (السادسة): هل يجوز الإقالة في جميع ما أسلم فيه أو تجوز في البعض؟ (الجواب): حكى ابن المنذر على جوازها في المسلم فيه الإجماع وفي جوازها في البعض روايتان، والأظهر جوازها في البعض. [المسألة السابعة: صرف الثمن بعد انفساخ العقد بالإقالة] (السابعة): إذا انفسخ العقد بإقالة أو غيرها، هل يصرف ذلك الثمن في عقد آخر أم لا؟

(الجواب) هذه المسألة فيها خلاف، والأظهر من ذلك المنع. [المسألة الثامنة: دفع رجل إلى آخر دراهم وقال: اشتر طعاما مثل الذي لك] (الثامنة): إذا دفع رجل إلى آخر دراهم، وقال: اشتر بها طعاما مثل الذي لك علي، فهل يصح أم لا؟ (الجواب) الأظهر عدم الصحة. [المسألة التاسعة: هل يجوز الرهن والكفيل بالمسلم فيه] (التاسعة): هل يجوز الرهن والكفيل بالمسلم فيه أم لا؟ (الجواب): الظاهر الجواز في قول أكثر الفقهاء. [المسألة العاشرة: ضمان المستعير للعارية] (العاشرة): هل يضمن المستعير العارية إذا تلفت أم لا؟ وهل يعتبر أم لا؟ (الجواب): أنها لا تضمن إلا بالتفريط فيها. [المسألة الحادية عشرة: شك هل مسح على الخف قبل الظهر أو بعده] (الحادية عشرة) إذا لبس الخف وأحدث، ثم صلى الظهر ثم شك هل مسح الخف قبل الظهر أو بعده، وقلنا ابتداء المدة من المسح. (الجواب): إذا شك هل مسح قبل الظهر أو بعده لم تلزمه الإعادة، لأن الأصل المسح، وقيل يلزمه إعادة الظهر، ويخلع من الغد قبل الظهر فيرد كل شيء إلى أصله. [المسألة الثانية عشرة: هل يشترط تقدم الطهارة للجبيرة؟] (الثانية عشرة): هل يشترط تقدم الطهارة للجبيرة، وهل يجمع بين المسح والتيمم أم لا؟ (الجواب): المسألة فيها خلاف، والأظهر أنه لا يشترط تقدم الطهارة للجبيرة والمسح يكفي عن التيمم، والجمع بينهما أحسن ظهورا من الخلاف. [المسألة الثالثة عشرة: نقض وضوء من مس فرج آخر] (الثالثة عشرة): إذا مس إنسان فرج آخر أو نظر إليه، هل ينقض وضوؤه أم لا؟ (الجواب): النظر ليس بناقض، وأما المس فينقض الوضوء، وفرقوا هل ينقض الماس والممسوس أم الماس فقط، على روايتين؛ والأظهر من ذلك أن ينقض الكل.

المسألة الرابعة عشرة: إذا تيقن الطهارة وشك في الحدث، فهل يبني على أحدهما أم لا؟ (الجواب) من تيقن الطهارة وشك في الحدث، بنى على ما تيقن. [المسألة الخامسة عشرة: طاف بالبيت وهو محدث] (الخامسة عشرة): إذا طاف بالبيت وهو محدث، فهل يصح طوافه أم لا؟ (الجواب): إذا كان طواف الزيارة، فإنه يعيد؛ وإن كان قد خرج إلى بلده جبره بدم. وإن كان غير طواف الزيارة، ففيه قولان: (أحدهما): أن الطهارة شرط لصحته، (والثاني): ليست بشرط، ويجبره بدم. [المسألة السادسة عشرة: لم يجد ما يستجمر به إلا التراب وكان طينا] (السادسة عشرة): إذا كان في سفر ولم يجد أحجارا يستجمر بها ولا غيرها إلا التراب، وقد كان طينا، فهل يستجمر به أم لا؟ (الجواب) إذا عدم الجميع، فإنه يصلي على حسب حاله. [المسألة السابعة عشرة: صلى رجلان معا ونوى كل منهما أنه إمام] (السابعة عشرة): إذا صلى رجلان معا ونوى كل منهما أنه إمام صاحبه، فهل تصح صلاتهما أم لا؟ (الجواب): هذه على روايتين: (الأولى): عدم الصحة، (والثانية): أنها صحيحة ويصليان منفردين. [المسألة الثامنة عشرة: صلى رجلان معا ونوى كل منهما أنه مأموم] (الثامنة عشرة): إذا نوى كل منهما أنه مأموم، فهل تصح صلاة كل منهما أم لا؟ (الجواب): هي كالتي قبلها على روايتين. [المسألة التاسعة عشرة: أحرم منفردا فحضرت جماعة فدخل معهم] (التاسعة عشرة): إذا أحرم منفردا فحضرت جماعة فأحب أن يصلي معهم ودخل معهم، فهل تصح صلاته أم لا؟ (الجواب): الظاهر عدم الصحة، وهي أصح الروايتين. [المسألة العشرون: أحرم رجل مأموما ثم نوى الانفراد لعذر] (العشرون): إذا أحرم رجل مأموما، ثم نوى الانفراد لعذر فهل تصح صلاته أم لا؟

(الجواب): الظاهر الصحة، لحديث معاذ. [المسألة الحادية والعشرون: سبق الإمام الحدث قبل أن يستخلف ثم استخلفوا] (الحادية والعشرون): إذا سبق الإمام الحدث قبل أن ينصرف ويستخلف، ثم استخلفوا من يؤم بهم فهل صلاتهم صحيحة أم لا؟ (الجواب): الظاهر صحة الصلاة. [المسألة الثانية والعشرون: مر بين يدي المصلي كلب أحمر أو أبيض] (الثانية والعشرون): إذا مر بين يدي المصلي كلب أحمر أو أبيض، فهل صلاته صحيحة أو يقيد الحكم بالكلب الأسود أم لا؟ (الجواب): المسألة فيها روايتان، والأظهر منهما الاقتصار على ما نص عليه الشارع صلى الله عليه وسلم. [المسألة الثالثة والعشرون: عليه دين لآخر فاقترض منه ليوفيه كل وقت] (الثالثة والعشرون): إذا كان على رجل دين لآخر، فاقترض منه ليوفيه كل وقت، هل يصح أم لا؟ (الجواب): المسألة فيها خلاف، والأظهر الكراهة لا التحريم. [المسألة الرابعة والعشرون: أقرض فلاحه شراء بقر أو بذر] (الرابعة والعشرون): لو أقرض فلاحه شراء بقر أو بذر. (الجواب): الظاهر المنع لأنه قرض جر منفعة. [المسألة الخامسة والعشرون: قال الراهن للمرتهن زدني مالا ويكون الذي عندك به رهن] (الخامسة والعشرون): إذا قال الراهن للمرتهن زدني مالا، ويكون الذي عندك به رهن، هل يصح أم لا؟ (الجواب): الأظهر في هذه المسألة عدم المنع. [المسألة السادسة والعشرون: رهن المبيع في مدة الخيار أو رهنه المشتري] (السادسة والعشرون): إذا رهن المبيع في مدة الخيار أو رهنه المشتري، فهل يصح أم لا؟ (الجواب): لا يصح رهن المبيع في مدة الخيار، فإن رهنه المشتري والخيار له وحده صح، وبطل خياره.

[المسألة السابعة والعشرون: رهن الوارث تركة الميت أو باعها وعلى الميت دين] (السابعة والعشرون): إذا رهن الوارث تركة الميت أو باعها وعلى الميت دين، فهل يصح أم لا؟ (الجواب): إذا رهن أو باع وعلى الميت دين، صح في أصح الروايتين، وهو الصحيح إن شاء الله تعالى. [المسألة الثامنة والعشرون: هل يلزم الرهن بغير القبض] (الثامنة والعشرون): هل يلزم الرهن بغير القبض أم لا؟ (الجواب): لا يلزم الرهن إلا بالقبض، وفرقوا في هذه المسألة، فقالوا: ما كان مكيلا أو موزونا لم يلزم رهنه إلا بالقبض، وفيما عداهما روايتان: (إحداهما): لا يلزم إلا بالقبض، (الثانية): يلزم بمجرد العقد؛ والأولى أصح. [المسألة التاسعة والعشرون: رهن الصبرة من الطعام] (التاسعة والعشرون): هل يجوز رهن الصبرة من الطعام التي لا يعرف قدرها بالكيل والوزن؟ (الجواب): ما جاز بيعه جاز رهنه، ولا وجه للمنع. [المسألة الثلاثون: استدامة القبض شرط للزوم الرهن] (الثلاثون): هل استدامة القبض شرط لصحة الرهن أم لا؟ (الجواب): استدامة القبض شرط للزوم الرهن، فإن أخرجه من يده باختياره زال لزوم الرهن. وقال مالك: لا يزول الرهن ولو أخرجه من يده، وهو الذي عليه العمل اليوم. [المسألة الحادية والثلاثون: رهن العارية والمغصوب] (الحادية والثلاثون): إذا استعار رجل من آخر شيئا أو غصبه فأراد صاحبه رهنه، فهل يصح أم لا؟ (الجواب): يصح رهنه في العارية والمغصوب إذا أراد صاحبه رده. [المسألة الثانية والثلاثون: انتفاع المرتهن بالرهن] (الثانية والثلاثون): هل يجوز لمرتهن الدار أن يسكنها بنفسه أم لا؟ (الجواب): هذه المسألة فيها خلاف، فإن سكنها بغير إذن الراهن حرم، فإن كان بإذنه وأذن الراهن للمرتهن في الانتفاع من غير عوض وكان

دين الرهن قرضا لم يجز، لأنه قرض يجر منفعة وذلك حرام. وإن كان الرهن بثمن مبيع أو دين غير قرض، وأذن له الراهن بالانتفاع جاز ذلك. وكذلك إن كان انتفاعه بعوض مثل أن استأجرها بأجرة مثلها من غير محاباة جاز في القرض لكونه ما انتفع بالقرض في الأجرة، فإن حاباه في دار فحكمه حكم الانتفاع بغير عوض، فلا يجوز في القرض ويجوز في غيره. [المسألة الثالثة والثلاثون: تلف الرهن في يد المرتهن] (الثالثة والثلاثون): إذا تلف الرهن في يد المرتهن، فهل يضمنه بجميع الدين، وإن كان أكثر من قيمته أو بقيمته أم لا؟ (الجواب): إذا تلف الرهن من غير تفريط المرتهن، فلا ضمان عليه، وهو من مال الراهن. فإذا تلف بتفريط المرتهن فإنه يضمنه 1. [المسألة الرابعة والثلاثون: دفع رجل لآخر رهنا وقال إن جئتك بالدراهم إلى كذا وإلا فالرهن لك] (الرابعة والثلاثون): إذا دفع رجل إلى رجل آخر رهنا وقال: إن جئتك بالدراهم إلى كذا وكذا وإلا فالرهن لك، هل يجوز أم لا؟ (الجواب) إذا قال هذا فهو رهن فاسد، وهذا ينافي مقتضى العقد، فإذا شرط هذا فسد العقد. ويتخرج أن لا يفسد، والأول أظهر. [المسألة الخامسة والثلاثون: معنى حديث لا يغلق الرهن] (الخامسة والثلاثون): ما معنى قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يغلق الرهن"2 (الجواب) قيل لأحمد: ما معنى قوله صلى الله عليه وسلم "لا يغلق الرهن"3 قال: لا يدفع رهن إلى رجل ويقول: إن جئتك بالدراهم إلى كذا وكذا وإلا فالرهن لك، قال ابن المنذر هذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يغلق الرهن"4. [المسألة السادسة والثلاثون: هل يجوز مصالحة المرأة عن ثمنها؟] (السادسة والثلاثون): هل يجوز مصالحة المرأة عن ثمنها أم لا (الجواب): الظاهر عدم الصحة. [المسألة السابعة والثلاثون: بنى رجل على طريق نافذ بإذن الإمام] (السابعة والثلاثون): إذا بنى رجل على طريق نافذ بإذن الإمام، فهل يصح أم لا؟

_ 1 لم يبين إن كان الضمان بالقيمة أو لا كما في السؤال. 2 ابن ماجه: الأحكام (2441) , ومالك: الأقضية (1437). 3 ابن ماجه: الأحكام (2441) , ومالك: الأقضية (1437). 4 ابن ماجه: الأحكام (2441) , ومالك: الأقضية (1437).

(الجواب) إذا كان نافذًا ليس بسد مشترك، فإن له بناءه بإذن الإمام، بشرط أن لا يكون به ضرر. [المسألة الثامنة والثلاثون: كان باب رجل في أول الدرب فأراد نقله إلى داخل منه] (الثامنة والثلاثون): إذا كان باب رجل في أول الدرب، فأراد نقله إلى داخل منه، فهل له ذلك أم لا؟ (الجواب): إذا كان على الطريق نافذ فإن له ذلك. [المسألة التاسعة والثلاثون: ادعى أجنبي على المدين أن رب المال أحاله، به وأقام الأجنبي بينة] (التاسعة والثلاثون): إذا ادعى أجنبي على المدين أن رب المال أحاله به، وأقام الأجنبي بينة، فهل له الحوالة أم لا؟ (الجواب): إذا أقام بينة أنه أحاله عليه لزمه الدفع إلى المحال، فإن لم يكن له بينة وأنكر المدعى عليه فهل يلزمه اليمين فيه وجهان. [المسألة الأربعون: لم يكن له بينة واعترف المدين بصحة دعواه] (الأربعون): إذا لم يكن له بينة واعترف المدين بصحة دعواه فهل يلزمه الدفع أم لا؟ (الجواب) هذه المسألة فيها وجهان: (أحدهما): يلزمه الدفع، لأنه مقر بدينه. (والثانية): لا يلزم الدفع إليه لأنه لا يأمن إنكار المحيل ورجوعه عليه، فله الاحتياط على نفسه. [المسألة الحادية والأربعون: على رجل دين فادعى آخر أنه وكيل له وصدقه] (الحادية والأربعون): إذا كان على رجل دين فادعى آخر أنه وكيل له وصدقه، فهل يلزم الدفع أم لا؟ (الجواب): هي كالتي قبلها، إن شاء دفع إليه وإن شاء لم يدفع لأنه لا يأمن الإنكار، فله الاحتياط على نفسه. [المسألة الثانية والأربعون: عند رجل دين أو وديعة فادعى رجل أنه وارث صاحبها] (الثانية والأربعون): إذا كان عند رجل دين أو وديعة، فادعى رجل أنه وارث صاحبها ولا وارث له سواه فصدقة، فهل يلزم الدفع مع الإقرار أم لا؟

(الجواب): إذا أقام البينة أنه وارث ولا وارث له غيره، لزمه الدفع. وفيها قول ثان، والأول أظهر. [المسألة الثالثة والأربعون: شراء الوكيل من نفسه] (الثالثة والأربعون): إذا وكل رجلا آخر، فهل للوكيل أن يبيع لنفسه أم لا وهل للوكيل في الشراء أن يشتري من نفسه أم لا؟ (الجواب): المسألة فيها خلاف، فقال بعض الأصحاب: شراء الوكيل من نفسه غير جائز. فأما الموكل في البيع، فشراؤه من نفسه جائز، بشرط أن يزيد على مبلغ ثمنه في النداء، ووكل من يبيع، وكان هو أحد المشترين، فذلك جائز. (والرواية الثانية): أن شراءه من نفسه جائز بشرط أن يتولى النداء غيره، وهي رواية عند الإمام أحمد. [المسألة الرابعة والأربعون: ادعت امرأة على رجل أنه زوجها فأنكر] (الرابعة والأربعون): إذا ادعت امرأة على رجل أنه زوجها فأنكر، فهل يُستحلف أم لا وهل لها نكاح غيره لاعترافها أنه زوجها أم لا؟ وهل يكلف الطلاق أم لا؟ وإذا ماتت، فهل يرث أحدهما من الآخر أم لا؟ (الجواب): نعم إذا ادعت أنه زوجها فأنكر، لزمه اليمين. ولا تنكح غيره إلا بطلاقه، ولم تحسب من الطلقات الثلاث. وإذا طلقها فلها نكاح غيره ولا يرث أحدهما من صاحبه. [المسألة الخامسة والأربعون: قال المالك: دفعت إليك المال قراضا. فقال: بل قرض، أو بالعكس] (الخامسة والأربعون): إذا قال المالك: دفعت إليك المال قراضا، فقال: بل قرض، أو بالعكس، أو غصبتنيه، فقال: بل أودعتنيه، أو بالعكس، أو قال أعرتكه، وقال: بل أجرتنيه، أو بالعكس. (الجواب): إذا قال المالك أنه قراض فالقول قوله لأنه ملكه، وكذلك الغاصب إذا ادعى أنه غصبه، فالقول قوله، وقيل القول قول الغاصب. وكذلك إذا قال المالك: أعرتكه، قال: بل أجَّرتني، فالقول قول المالك.

[المسألة السادسة والأربعون: قسمة الدين في الذمم] (السادسة والأربعون): هل يجوز قسمة الدين في الذمم أم لا؟ (الجواب): المسألة فيها روايتان: (الأولى): المنع، (والثانية): الجواز، قال الشيخ بصحة الجواز 1. [المسألة السابعة والأربعون: بيع ما هو مستتر في الأرض] (السابعة والأربعون): هل يجوز بيع ما هو مستتر في الأرض كالبصل ونحوه أم لا (الجواب): المسألة فيها روايتان، وجزم الشيخ بالجواز. [المسألة الثامنة والأربعون: بيع الثمرة قبل بدو صلاحها] (الثامنة والأربعون): إذا باع نخلا مؤبرًا فأراد مالك الأصل أن يشتري الثمرة قبل بدو صلاحها، فهل يصح أم لا؟ (الجواب): المسألة فيها روايتان: (الأولى): لا يبيع الثمرة قبل بدو صلاحها لنهيه صلى الله عليه وسلم، وهي رواية عن مالك، وأحد الوجهين للشافعي. (والثانية): عدم المنع. [المسألة التاسعة والأربعون: باع رجل زرعا أخضر لمالك الأرض] (التاسعة والأربعون): إذا باع رجل زرعا أخضر لمالك الأرض، فهل يصح أم لا؟ (الجواب): هي كالتي قبلها على روايتين: (منهم) من قال بالصحة، (ومنهم) من لم يقل، وممن قال بالصحة أبو الخطاب. [المسألة الخمسون: باعه بشرط القطع ثم تركه المشتري حتى بدا الصلاح أو طالت الجزة] (الخمسون): إذا باع رجل على آخر زرعا أخضر أو أثلا ونحوه بشرط جزه في الحال، ثم تركه المشتري حتى استوى الزرع، وطالت الجزة وزادت قيمة الأثل أو حدثت ثمرة أخرى فلم تتميز، أو اشترى عرية ليأكلها رطبا، فأتمرت، فهل يصح البيع أم لا؟

_ 1 إذا أطلق لفظ الشيخ في كلام فقهاء الحنابلة انصرف إلى ابن قدامة صاحب المغني والمقنع، وهو المراد هنا وإن كان متأخرو علماء نجد منهم يطلقون لقب الشيخ على المجدد محمد عبد الوهاب ولا سيما في مسائل التوحيد.

(الجواب) إذا باعه بشرط القطع ثم تركه المشتري حتى بدا الصلاح أو طالت الجزة أو زادت قيمة الأثل، أو حدثت ثمرة أخرى فلم تتميز، أو اشترى عرية ليأكلها رطبا فأتمرت، فالظاهر أنه يبطل البيع في الرواية الأولى. (والثانية): لا يبطل البيع، ويشتركان في الزيادة. (والرواية الثالثة): يتصدقان بالزيادة. [المسألة الحادية والخمسون: سبع عشرة مسألة قال الإمام أحمد عنها أنهم يستعملون فيها الثلث] (الحادية والخمسون): ما سبع عشرة مسألة التي قال الإمام أحمد أنهم يستعملون فيها الثلث؟ (الجواب): هذه المسألة ليس لها موضع معقود، لكن مما يستعمل فيها الثلث: الغبن، وتنفيل الإمام الثلث للسرية، وفي الوصية عند الموت، وفي الجوائح، وفيمن نذر أن يتصدق بماله كله أجزأه الثلث. [المسألة الثالثة والخمسون: استأجر أرضا ليزرعها فزرعها ثم تلف الزرع] (الثالثة والخمسون 1): إذا استأجر أرضا ليزرعها فزرعها ثم تلف الزرع، فهل يلزمه شيء أم لا؟ (الجواب): الظاهر أنه لا يلزمه شيء. [المسألة الرابعة والخمسون: استأجرها بصبرة فتلف الزرع إلا قدر الصبرة] (الرابعة والخمسون): إذا استأجرها بصبرة مثل خمسين صاعا فتلف الزرع إلا قدر الصبرة، فهل يدفعه إلى المؤجر أم لا؟ (الجواب) إذا تلفت بآفة فإنه يدفع إليه أجرته كاملة، واختار الشيخ وضع الجوائح وأن كلا على قدر حصته. [المسألة الخامسة والخمسون: صلاح بعض الشجر صلاح لكل النوع] (الخامسة والخمسون): هل صلاح بعض الشجر صلاح لكل النوع (الجواب): هذه المسألة على روايتين، والصحيح أن صلاح البعض صلاح للكل. [المسألة السادسة والخمسون: ثبوت الاختصاص في مرافق الأملاك] (السادسة والخمسون): مرافق الأملاك كالأفنية والطريق وسيل

_ 1 كذا في الأصل وقد سقط منه الثانية والخمسون كما ترى.

الماء هل هي مملوكة أو يثبت فيها حق الاختصاص أم لا؟ (الجواب): المسألة فيها وجهان، الأظهر منهما ثبوت الاختصاص. [المسألة السابعة والخمسون: تعذر زرع الأرض المستأجرة بمانع] (السابعة والخمسون): إذا استأجر أرضا ليزرعها، ثم تركها أو تعذر زرعها، كأن سالت فلم ينضب الماء حتى فات وقت الزرع، فهل تلزمه الأجرة أم لا؟ (الجواب): إذا تعذر زرع الأرض بمانع لم تلزمه الأجرة، لأن الانتفاع بها غير ممكن، فإن أمكنه الانتفاع بالأرض بزرع في بقية المدة فتعذر فعليه الأجرة، وقال الشيخ يثبت قسط المثل. [المسألة الثامنة والخمسون: هل يباع مما لا يكال ولا يوزن بما لا يؤكل ولا يشرب قبل قبضه؟] (الثامنة والخمسون): هل يباع مما لا يكال ولا يوزن بما لا يؤكل ولا يشرب قبل قبضه؟ (الجواب): لا يجوز بيعه قبل قبضه، والرواية الثانية الجواز. [الشركة والتولية والحوالة على ما لا يجوز بيعه قبل قبضه] (التاسعة والخمسون) هل يجوز الشركة والتولية والحوالة على ما لا يجوز بيعه قبل قبضه أم لا؟ (الجواب) الظاهر عدم الجواز. [هل يحصل القبض فيما بيع بكيله أو وزنه أو بالتخلية] (الستون): هل يحصل القبض فيما بيع بكيله أو وزنه أو بالتخلية أم لا؟ (الجواب): نعم القبض كيله أو وزنه، والرواية الثانية أن قبضه بالتخلية مع التمييز. [المسألة الحادية والستون: إذا وليت الإجارة العقد فهل يثبت فيها خيار؟] (الحادية والستون): إذا وليت الإجارة العقد، فهل يثبت فيها خيار أم لا؟ (الجواب): إذا وليت الإجارة العقد لم يثبت فيها خيار، وإن كانت لا تلي العقد ثبت فيها خيار. [المسألة الثانية والستون: هل يثبت خيار الشرط في جميع العقود؟] (الثانية والستون): هل يثبت خيار الشرط في جميع العقود أم لا؟ (الجواب): لا يثبت خيار الشرط إلا في البيع والصلح والإجارة

في الذمة أو على مدة لا تلي العقد، ويثبت في أشياء غير ذلك 1. [المسألة الثالثة والستون: التصرف في المبيع في مدة الخيار] (الثالثة والستون): هل يجوز للبائع والمشتري التصرف في المبيع في مدة الخيار أم لا؟ (الجواب): لا يجوز التصرف في المبيع في مدة الخيار إلا بما يحصل به تجربة المبيع، فإن كان الخيار لأحدهما صح وبطل خياره. [المسألة الرابعة والستون: هل للبائع التصرف في الثمن إن كان معينا في مدة الخيار؟] (الرابعة والستون): هل للبائع التصرف في الثمن إن كان معينا في مدة الخيار أم لا؟ (الجواب): نعم، يأخذ الثمن ولا يتصرف فيه في مدة الخيار. [المسألة الخامسة والستون: أعتق المشتري في مدة الخيار] (الخامسة والستون): إذا أعتق المشتري في مدة الخيار، هل ينفذ عتقه أم لا؟ (الجواب): ينفذ عتقه ويبطل خياره، وكذلك إن تلف المبيع، وعنه لا يبطل خيار البائع وله الفسخ والرجوع بالقيمة. والرواية الأولى أظهر، ويرجع البائع بثمنه. [المسألة السادسة والستون: الجار السوء عيب يرد به المبيع] (السادسة والستون): إذا اشترى رجل دارًا، فوجد الجار جار سوء، هل هو عيب يثبت به الخيار أم لا؟ (الجواب): قال الشيخ الجار السوء عيب يرد به المبيع. [المسألة السابعة والستون: بيع اللحم بالشحم] (السابعة والستون): هل يجوز بيع اللحم بالشحم أو عكسه؟ (الجواب): اللحم والشحم أجناس، فمن الأصحاب من جوز بيع بعضه ببعض متفاضلا، وقال القاضي هما جنس واحد لا يجوز بيع بعضه ببعض متفاضلا.

_ 1 كذا في الأصل وهو إبطال للحصر الذي قبله.

[المسألة الثامنة والستون: معنى مد عجوة] (الثامنة والستون): ما معنى مد عجوة؟ (الجواب): المعنى هو جنس يباع بعضه ببعض، ومع أحدهما أو معهما من غير جنسهما كدرهم ومدين أو مد ودرهم، وظاهر المذهب أن ذلك لا يجوز، نص عليه الإمام أحمد في مواضع كثيرة. وقيل يجوز بشرط أن يكون المفرد أكثر من الذي معه غيره. [المسألة التاسعة والستون: أعرى رجل نخلات، فكره صاحب الحائط دخول حائطه، فهل يجوز له أن يشتريها لنفسه] (التاسعة والستون): إذا أعرى رجل نخلات من حائطه، فكره صاحب الحائط دخول حائطه، فهل يجوز له أن يشتريها لنفسه أو تباع لغيره بنقد أم لا؟ (الجواب): نعم، يجوز له أن يشتريها لنفسه لإزالة الضرر. [المسألة السبعون: بيع ثوب بثوبين] (السبعون): هل يجوز بيع ثوب بثوبين أم لا؟ (الجواب): نعم يجوز بيع ثوب بثوبين. [المسألة الحادية والسبعون: على رجل طعام سلما ثلاث سنين واشترط أن يدفع كل سنة منه جزءا ثم مات] (الحادية والسبعون): إذا قيل بحلول الدين بالموت، وكان على رجل طعام سلما ثلاث سنين، وقد اشترط أن يدفع إليه كل سنة منه جزءا ثم مات، فهل يحل جميع الطعام المسلم فيه أم لا؟ (الجواب): هذه المسألة فيها خلاف: فمنهم من قال: لا يحل بالموت، ومنهم من قال: يحل؛ والأظهر أنه لا يحل بالموت. فمن قال: يحل بالموت قال: يحل جميع الطعام المسلم فيه، ومن قال: بعدم حلوله بالموت قال إلى الأجل الذي بينهما يحل كل سنة جزء منه. [المسألة الثانية والسبعون: امتنع صاحب الماء من إجرائه إلى جاره من غير حاجة بالماء] (الثانية والسبعون): إذا كان لرجل بئر، وأرض له ملكها قد توسطتها بئره، وكان لآخر أرض ليس لها ماء، فأراد صاحب الأرض أن يزرعها ويجري لها ماء من بئر جاره، فامتنع، فهل يجبر الممتنع أم لا؟

(الجواب): إذا امتنع صاحب الماء من إجرائه إلى جاره من غير حاجة بالماء، فإنه يجبر على إجرائه إلى جاره. [المسألة الثالثة والسبعون: دفع رجل إلى آخر دراهم صرفا أو ثمن مبيع ثم مضى بها فأتى بدراهم ظهرت زيوفا وأنكرها] (الثالثة والسبعون): إذا دفع رجل إلى آخر دراهم صرفا أو ثمن مبيع ثم مضى بها الذي دفعت إليه، فلما أخذت مدة أتاه بدراهم قد ظهرت زيوفا وأنكرها، فمن القول قوله؟ (الجواب) القول قول الصارف أو المشتري مع يمينه، فليحلف بالله لقد أوفيتك الدراهم صحاحا ويبرأ. [المسألة الرابعة والسبعون: باعه نخلات بدين عليه وله الخيار شهرا وانقضت مدته] (الرابعة والسبعون): إذا كان لرجل دين على آخر، فطلب صاحب الدين الوفاء، فقال: لا أجد شيئا، فقال: بعني هذه النخلات من حائطك بديني الذي عليك ولك الخيار شهرا، فباعه ثم انقضت مدة الخيار، فهل يملك النخلات، ويكون البيع صحيحا أم لا؟ (الجواب): يملكها إذا انقضت مدة الخيار، ويكون البيع صحيحا إن شاء الله تعالى. [المسألة الخامسة والسبعون: انفساخ الإجارة بالموت] (الخامسة والسبعون): هل تنفسخ الإجارة بالموت من الطرفين أم لا؟ (الجواب): المسألة فيها خلاف، والصحيح أنها لا تنفسخ بالموت من الطرفين. [المسألة السادسة والسبعون: اشترى مصراة وهو عالم بالتصرية، هل له الخيار؟] (السادسة والسبعون): إذا اشترى مصراة وهو عالم بالتصرية، هل يثبت له الخيار أم لا؟ (الجواب): لا يثبت له الخيار إذا علم بها. [المسألة السابعة والسبعون: اشترى جارية ثيبا فاطلع على عيب ثم وطئها] (السابعة والسبعون): إذا اشترى جارية ثيبا، فاطلع على عيب لا يعلم به وقت البيع، ثم وطئها بعد ما علمه، فهل يملك الرد ويثبت له الخيار أم لا؟ (الجواب): إذا علم بالعيب ثم وطئها بعد علمه، فلا خيار له. [المسألة الثامنة والسبعون: اشترى جارية بكرا فوطئها ثم اطلع على عيب] (الثامنة والسبعون): إذا اشترى جارية بكرا فوطئها ثم اطلع على عيب

فهل يملك الرد بلا أرش، ويثبت له الخيار أم لا؟ (الجواب) إذا وطئ البكر، ثم علم بالعيب، فله الخيار بين الإمساك وأخذ أرش العيب، وبين الرد وأرش البكارة. [المسألة التاسعة والسبعون: باع رجل لآخر سلعة ثم شرطا البراءة من جميع العيوب] (التاسعة والسبعون): إذا باع رجل لآخر سلعة، ثم شرطا البراءة من جميع العيوب، هل يبرأ أم لا؟ (الجواب): إذا شرط البراءة من كل عيب لم يبرأ عنه يبرأ، إلا إذا علم البائع العيب فكتمه. [المسألة الثمانون: وكل رجل آخر يبيع له شيئا ثم دلسه الوكيل ثم تلفت في يد المشتري] (الثمانون): إذا وكل رجل آخر يبيع له شيئًا، ثم دلسه الوكيل، ثم تلفت في يد المشتري، فهل يرجع على الموكل أم لا؟ (الجواب): إذا أراد إمساك المدلس مع الأرش لم يكن له ذلك، فإن تلف رجع الموكل بالتدليس على الوكيل في أرش التدليس. [المسألة الحادية والثمانون: زال ملك المشتري أو تعذر الرد قبل علمه بالعيب] (الحادية والثمانون): إذا زال ملك المشتري بعتق أو وقف أو تعذر الرد قبل علمه بالعيب، فهل له الأرش أم لا؟ (الجواب): إذا تعذر رده فله الأرش. هذا المذهب وعليه الأصحاب. [المسألة الثانية والثمانون: اشترى شيئا ثم باعه ثم علم بعيب منتقل به من البائع] (الثانية والثمانون): إذا اشترى شيئا، ثم باعه ثم علم بعيب منتقل به من البائع، فهل يثبت له أرش أم لا؟ (الجواب): إذا علم المشتري الثاني العيب، فله رده، وكذلك المشتري الأول إن لم يكن عالما بالعيب، ولم يجد منه ما يدل على الرضى فكذلك له رده، فإن أرادا الأرش فلهما ذلك. [المسألة الثالثة والثمانون: اشترى عبدا فأعتقه ثم اطلع على عيب منتقل به] (الثالثة والثمانون): إذا اشترى رجل عبدا، فأعتقه ثم اطلع على عيب منتقل به، فهل يثبت له الأرش أم لا؟

(الجواب): إذا أعتقه ثم علم بالعيب، فله الأرش. [المسألة الرابعة والثمانون: صبغ ثوبا أو نسجه ثم وجده معيبا] (الرابعة والثمانون): إذا صبغ ثوبا أو نسجه، ثم وجده معيبا فهل له الأرش مع الإمساك أم لا؟ (الجواب): إذا صبغه أو نسجه، فظهر معيبا، فله الأرش ولا رد له في أظهر الروايتين. [المسألة الخامسة والثمانون: اختلفا في حدوث العيب والعيب محتملا وخرج المعيب من يده لمشتر ثان] (الخامسة والثمانون): إذا اختلفا في حدوث العيب، وكان العيب محتملا وخرج المعيب من يده لمشتر ثان، ثم ظهر العيب في يد المشتري الثالث فرده، فهل يملك الثاني رده على الأول أم لا؟ (الجواب): إذا كان العيب محتملا حدوثه عند الأول أو الثاني، ففيه روايتان: (إحداهما): إن كان لا يحتمل حدوثه كالإصبع الزائدة، والشجة المندملة التي لا يمكن حدوث مثلها، أو الجرح الطارئ الذي يحتمل كونه قديما، فالقول قول من يدعي ذلك بغير يمين للعلم بصدقه، وإن احتمل قول كل منهما كالخرق في الثوب والرفو ونحوهما، ففيه روايتان: (إحداهما): القول قول المشتري مع اليمين، فليحلف بالله أنه اشتراها وبها هذا العيب وأنه ما حدث عنده، ويكون له الخيار، قال به بعض الأصحاب. (والثانية): القول قول البائع مع يمينه، والرواية الثانية أظهر لأنه منكر. [المسألة السادسة والثمانون: باع الوكيل ثم ظهر به عيب وأقر الوكيل وأنكر الموكل] (السادسة والثمانون): إذا باع الوكيل، ثم ظهر به عيب وأقر الوكيل وأنكر الموكل، فهل يقبل إقراره على موكله أم لا؟ (الجواب): إن كان العيب مما يمكن حدوثه، وأقر به الوكيل وأنكر الموكل، فقال بعض الأصحاب يقبل إقراره على موكله بالعيب، لأنه أمر يستحق به الرد، فيقبل إقراره على موكله. وقال بعضهم: لا يقبل، وهو اختيار الموفق، وبه قال أصحاب أبي حنيفة والشافعي.

[المسألة السابعة والثمانون: اشترى اثنان شيئًا، وقال ثالث: أشركاني فأشركه أحدهما] (السابعة والثمانون): إذا اشترى اثنان شيئا، وقال ثالث: أشركاني، فأشركه أحدهما، فهل يكون له نصف حصة الذي أشركه أم لا؟ (الجواب): إذا أشركه أحدهما فقال بعضهم: له ثلث حصتهما، وقال بعضهم: له ثلث حصته، وليس على الشريك الثاني تبعة. [المسألة الثامنة والثمانون: بيع المرابحة] (الثامنة والثمانون): إذا باعه مرابحة مثل أن يخبره أن ثمنها مائة، ويربح عشرة ثم بان أن ثمنها تسعون، فهل يصح البيع ويرجع على ما زاد من الثمن أم لا؟ (الجواب): إذا علم ببينة أو إقرار أن ثمنها تسعون، فالبيع صحيح ويرجع في الزيادة على المثمن وهي عشرة وحصتها من الربح، وهو درهم ويبقى له تسعة وتسعون. [المسألة التاسعة والثمانون: اشترى شيئا بثمن مؤجل أو بأكثر من ثمنها حيلة ثم باعها ولم يبين ذلك] (التاسعة والثمانون): إذا اشترى شيئا بثمن مؤجل، أو مما لا يقبل شهادته له، أو بأكثر من ثمنها حيلة وباع بعض الصفقة بقسطها من الثمن ولم يبين ذلك، فهل للمشتري الخيار أم لا؟ (الجواب): متى علم بذلك فهو بالخيار إن شاء رده، وإن شاء أمسكه وأخذه بثمنه مؤجلا، حكى ذلك ابن المنذر عن الإمام أحمد، وفيه رواية ثانية: إن شاء رده، وإن شاء أخذه بثمنه الذي حل عليه العقد حالا والأظهر الأولى. [المسألة التسعون: اختلف المتبايعان في قدر الثمن والسلعة تالفة] (التسعون): إذا اختلف المتبايعان في قدر الثمن والسلعة تالفة، فهل تقوم بقيمتها وقت التلف أو بما يقر به المشتري؟ (الجواب): إذا اختلفا في قدر الثمن، ففيها روايتان: (إحداهما): يتحالفان. (والثانية): القول قول المشتري مع يمينه، واختارها أبو بكر، وهو قول النخعي والثوري والأوزاعي وأبو حنيفة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "والسلعة قائمة". [المسألة الحادية والتسعون: اختلفا في الثمن والسلعة قائمة ولأحدهما بينة] (الحادية والتسعون): إذا باع رجل لآخر سلعة، وقال البائع: بعتها

بعشرين، وقال المشتري: بعشرة وقيمتها ثمانية، فهل يشرع لهما التحالف؟ أو يدفع المشتري القيمة مع أنها أقل مما أقر به أم لا؟ (الجواب): إذا اختلفا في الثمن والسلعة قائمة، ولأحدهما بينة حكم بها، وإن لم يكن لهما بينة تحالفا، فيبدأ بيمين البائع. [المسألة الثانية والتسعون: اختلفا بعد أن تقايلا المبيع أو رد بعيب بعد قبض الثمن] (الثانية والتسعون): إذا تقايلا المبيع أو رد بعيب بعد قبض الثمن، مَن القول قوله؟ (الجواب): إذا تقايلا المبيع بعد القبض أو رد بعيب، فالقول قول البائع؛ لأنه منكر. [المسألة الثالثة والتسعون: اختلفا في المبيع وأقام كل منهما بينة متساوية] (الثالثة والتسعون): إذا قال البائع: بعتك هذا، وأقام عليه بينة، وقال المشتري: بل هذا، وأقام كل منهما بينة متساوية في العدل والعدد، فهل يثبت العقد أم لا؟ (الجواب): إذا أقام كل منهما بينة، وتعادلت بينتاهما ثبت العقد للمشتري. [المسألة الرابعة والتسعون: استأجر أرضا ثم أجرها غيره] (الرابعة والتسعون): إذا استأجر أرضا، ثم أجرها غيره، فهل يصح أم لا؟ (الجواب): إذا استأجرها وأجرها غيره فالظاهر الصحة. [المسألة الخامسة والتسعون: حكم المزارعة والإجارة من حيث اللزوم] (الخامسة والتسعون): هل حكم المزارعة والإجارة واحد أم لا؟ (الجواب) المذهب التفريق، فمن الأصحاب من قال: المساقاة عقد جائز ليس بلازم، ومنهم من قال: إنها لازمة في صاحب العقار في حق المساقي. وأما الإجارة، فالظاهر أنها عقد لازم من الطرفين ليس لأحدهما فسخها. [المسألة السادسة والتسعون: إجارة أرض وشجر لحملها] (السادسة والتسعون): هل تجوز إجارة أرض وشجر لحملها أم لا؟ (الجواب): لا يجوز إجارة أرض وشجر لحملها، حكاه أبو عبيد إجماعا، وجوزه ابن عقيل تبعا للأرض، والصحيح الأول -إن شاء الله تعالى-. [المسألة السابعة والتسعون: تلفت الثمرة في الإجارة فهل تلزم الأجرة؟] (السابعة والتسعون) إذا تلفت الثمرة فهل تلزم الأجرة أم لا؟

12 - إجابة عن مسائل في المرجئة والقدرية وغير ذلك

(الجواب): متى غرق الزرع أو تلف لزمته الأجرة، هذا المذهب. وقال الشيخ: لا تلزمه الأجرة. [المسألة الثامنة والتسعون: تعذر استيفاء المنفعة المقصودة في عقد إجارة] (الثامنة والتسعون): إذا نقضت عن العادة بتعذر المنفعة المقصودة بالعقد، فهل يلزم الفسخ أو الأرش؟ (الجواب): إذا انقضت عن العادة بتعذر المنفعة المقصودة بالعقد فله الأجرة كاملة، وقال الشيخ: يسقط من الأجرة بقسط ما تلف. [المسألة التاسعة والتسعون: استأجر أرضا وشرط على ربها البذر أو بعضه قرضا] (التاسعة والتسعون): إذا استأجر أرضا، وشرط على ربها البذر أو بعضه قرضا، فهل يصح أم لا؟ (الجواب): الظاهر عدم الصحة، لأنه قرض جر منفعة، والله أعلم. [إجابة عن مسائل في المرجئة والقدرية وغير ذلك] (11) وله أيضا رحمه الله إجابة عن مسائل في المرجئة والقدرية وغير ذلك بسم الله الرحمن الرحيم (الجواب): الحمد لله رب العالمين. [أحاديث في المرجئة والقدرية] (أما المسألة الأولى): وهي ما يذكر في الحديث: "صنفان من أمتي ليس لهما في الإسلام نصيب: المرجئة والقدرية"1، وقوله في الحديث: "صنفان من أمتي لا تنالهما شفاعتي يوم القيامة: المرجئة والقدرية" إلخ كلام السائل -رحمه الله تعالى-. (فنقول): إن الحديثين ليسا بثابتين عند أهل العلم وعند أهل الحديث، وليسا في الكتب الستة المعتمدة المسماة دواوين الإسلام، وإنما يذكر هذا بعض المصنفين الذين يروون الغث والسمين، ولا يميزون بين الصحيح

_ 1 الترمذي: القدر (2149) , وابن ماجه: المقدمة (62).

والضعيف والحسن والموضوع، فلا ينبغي للسائل -رحمه الله تعالى- أن يعبر بمثل هذه العبارة في مثل هذه الأحاديث وما شاكلها، وإنما ينبغي له أن يقول: يذكر في الحديث 1 أو يروى في بعض الكتب، وأشباه هذه العبارات التي يفعلها أهل التحقيق والعرفان، من أهل الفقه والحديث والإيمان؛ وذلك لأنه لا ينبغي له أن يجزم بأن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال إلا فيما ثبت إسناده وصححه أهل العلم بهذا الشأن، لأنه ثبت في الأحاديث الصحيحة من رواية جماعة من الصحابة -رضي الله عنهم- عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن كذبا علي ليس ككذب على أحد، من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار"2، وفي صحيح مسلم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من حدث عني بحديث، وهو يرى أنه كذب، فهو أحد الكاذبين"3، فلهذا كان كثير من الصحابة والتابعين لهم بإحسان يهابون الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والجزم به إلا فيما ثبت عندهم وقطعوا عليه. وقد أخرج إسحاق بن راهويه في مسنده من حديث أبي بكر الصديق رضي الله عنه مرفوعا: "صنفان من أمتي لا يدخلون الجنة: القدرية والمرجئة"4، قال الحافظ ابن حجر: فيه انقطاع من رواية بقية بن الوليد. وأخرج أيضا إسحاق من رواية بقية بن الوليد: حدثني سليمان بن جعفر الأعبدي عن محمد بن أبي ليلى عن أبيه عن جده أبي ليلى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "صنفان من أمتي لا يردون على الحوض: القدرية والمرجئة". وبقية بن الوليد مختلف فيه، ووثقه بعضهم إذا روى عن الثقات، وضعفه إذا روى عن المجهولين. قال ابن مسهر الغساني: بقية أحاديثه ليست بنقية، فكن من أحاديث

_ 1 السائل قال هذا في الرواية الأولى فليتأمل. 2 البخاري: الجنائز (1291) , ومسلم: مقدمة (4). 3 مسلم: مقدمة (1) , والترمذي: العلم (2662) , وابن ماجه: المقدمة (39 ,41) , وأحمد (4/ 255 ,5/ 14 ,5/ 20). 4 الترمذي: القدر (2149) , وابن ماجه: المقدمة (62).

بقية على تقية. وقال أبو حاتم: يكتب حديثه، ولا يحتج به، ومحمد بن أبي ليلى ضعيف عند أهل العلم والحديث، كان يحيى القطان يضعفه. قال أحمد بن حنبل: سيئ الحفظ مضطرب الحديث، في حديثه اضطراب. [عدم تكفير المبتدعة إلا الجهمية وما به الكفر] إذا علمت ذلك، فاعلم ألهمك الله الصواب، وأزال عن قلبك ظلم الشرك والارتياب، أن الذي عليه المحققون من العلماء أن أهل البدع كالخوارج والمرجئة والقدرية والرافضة ونحوهم لا يكفرون، وذلك لأن الكفر لا يكون إلا بإنكار ما علم من الدين بالضرورة. وأما الجهمية، فالمشهور من مذهب أحمد وعامة أئمة السلف تكفيرهم؛ فإن قولهم صريح في مناقضة ما جاءت به الرسل من الكتاب والسنة؛ ولهذا قال: قولهم جحود الصانع وجحود ما أخبر به عن نفسه وعلى لسان رسوله بل وجميع الرسل؛ ولهذا قال عبد الله بن المبارك: إنا لنحكي كلام اليهود والنصارى، ولا نستطيع أن نحكي كلام الجهمية. وبهذا كفّروا من يقول: القرآن مخلوق، وأن الله لا يرى في الآخرة، وأن الله ليس على العرش، وأنه ليس له علم ولا قدرة ولا رحمة ولا غضب، ولا غير ذلك من صفاته. وهم عند كثير من السلف مثل ابن المبارك ويوسف بن أسباط وطائفة من أصحاب أحمد ليسوا من الثلاث وسبعين فرقة التي افترقت عليها هذه الأمة. وأصول هذه الفرق هم الخوارج والشيعة والمرجئة والقدرية. ولا تختلف نصوص أحمد أنه لا يكفر المرجئة فإن بدعتهم من جنس اختلاف الفقهاء في الفروع، وكذلك الذين يفضلون عليا على أبي بكر وذلك قول طائفة من الفقهاء ولكن يبدعون. وفي الأدلة الشرعية ما يوجب أن الله لا يعذب من هذه الأمة مخطئا على خطئه، وقد ثبت في الصحيح من

حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "قال رجل لم يعمل حسنة قط لأهله إذا مات، فحرقوه ثم ذروا نصفه في البر ونصفه في البحر، فوالله لئن قدر الله عليه ليعذبنه عذابا لا يعذبه أحدا من العالمين. فلما مات فعلوا به كما أمرهم، فأمر الله البر فجمع ما فيه، وأمر الله البحر فجمع ما فيه ثم قال له: لم فعلت هذا؟ قال من خشيتك يا رب، فغفر له"1 وهذا الحديث ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم من طرق متعددة من رواية جماعة من الصحابة منهم أبو سعيد الخدري وحذيفة وعقبة بن عامر. فهذا الرجل قد وقع له الشك والجهل في قدرة الله تعالى على إعادته بعد فعل ما أمر أهله أن يفعلوه به، وهذا الرجل لما كان مؤمنا بالله في الجملة ومؤمنا باليوم الآخر في الجملة، وهو أن الله يثيب ويعاقب بعد الموت فهذا عمل صالح، فغفر الله له بما كان معه من الإيمان بالله واليوم الآخر. وإنما أخطأ من شدة خوفه، وقد وقع الخطأ الكثير في هذا الخلق من هذه الأمة. واتفقوا على عدم تكفير من أخطأ مثلما أنكر بعض الصحابة أن يكون الميت يسمع نداء الحي، وأنكر بعضهم أن يكون المعراج يقظة. وكان شريح القاضي ينكر قراءة من قرأ: "بل عجبت"بالرفع ويقول: أن الله لا يعجب فبلغ إبراهيم النخعي فقال أن شريحا شاعر يعجبه علمه كان عبد الله أفقه منه وكان يقرأ: {بل عجبتُ} فهذا أنكر قراءة ثابتة وأنكر صفة الله التي دل عليها الكتاب والسنة، واتفقت الأمة على أن شريحا إمام من الأئمة. وكذلك بعض العلماء أنكر حروفا من القرآن كما أنكر بعضهم {أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا} 2 فقال: إنما هي (ألم يتبين الذين آمنوا) وهذا الخطأ معفو عنه بالإجماع. وكذلك الخطأ في الفروع العملية فإن المخطئ فيها لا يكفر ولا يفسق بل ولا يؤثم، لأن

_ 1 البخاري: التوحيد (7506) , ومسلم: التوبة (2756) , والنسائي: الجنائز (2079) , وابن ماجه: الزهد (4255) , وأحمد (2/ 269 ,2/ 304) , ومالك: الجنائز (568). 2 سورة الرعد آية: 31. V

بعض المتكلمين والمتفقهة يجعل المخطئ فيها آثما، وبعض المتفقهة يعتقد أن كل مجتهد فيها مصيب. فهذان القولان شاذان، والإجماع منعقد على أن من بلغته دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يؤمن بها فهو كافر ولا يقبل منه الاعتذار بالاجتهاد لظهور أدلة الرسالة وأعلام النبوة، والنصوص إنما أوجبت رفع المؤاخذة بالخطأ لهذه الأمة. وإذا كان كذلك فأصول الإيمان تقتضي وجوب الإيمان بالواجبات الظاهرة المتواترة وتحريم المحرمات الظاهرة المتواترة، والجاحد لها كافر، بالاتفاق، مع أن المجتهد في بعضها إذا أخطأ ليس بكافر بالاتفاق، مع أن كثيرا من أهل البدع يوجد فيهم النفاق الأكبر والردة عن الإسلام. فما أكثر ما يوجد في الرافضة والجهمية ونحوهم زنادقة منافقون، فأولئك في الدرك الأسفل من النار. وأصل هؤلاء الإعراض عما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من الكتاب والحكمة، وابتغاء الهدى من غيرهما. فمن كان هذا أصله فهو بعيد عن الخير 1 والرسالة إنما هي للعامة دون الخاصة، كما يقوله قوم من المتفلسفة والمتكلمة والمتصوفة. وأكثر السلف يرون قتل الداعية إلى البدعة لما يجري على يديه من الفساد في الدين، سواء قالوا أنه كافر أو ليس بكافر، وذلك لأن الدعاء إلى المقالة التي تخالف الكتاب والسنة أعظم من قولها، وإثابة قائلها وعقوبة تاركها أعظم من مجرد الدعوة إليها، فتكفير المعين من هؤلاء الجهال وأمثالهم بحيث يحكم عليه بأنه مع

_ 1 كذا في الأصل، ولعل فيه تقديما وتأخيرا من الناسخ والظاهر الذي يلتئم به الكلام أن يقدم قوله: والرسالة إنما هي للعامة إلخ على قوله: فمن كان هذا أصله إلخ؛ لأن الذين أعرضوا عما جاء به الرسول مع الاعتراف برسالته هم الذين يزعمون أن رسالته مقصورة على العوام، وأن أمثالهم لا يحتاجون إليها؛ لأن ما عندهم من العلم والفلسفة أعلى وأرقى وهو علم الخواص. كذبوا ولعنوا. وكتبه محمد رشيد رضا.

الكفار لا يجوز الإقدام عليه إلا بعد أن تقوم على أحدهم الحجة بالرسالة التي يبين بها لهم أنهم مخالفون للرسول صلى الله عليه وسلم وأن مقالتهم هذه لا ريب أنها كفر؛ فإن نفي الصفات كفر، والتكذيب بأن الله لا يرى في الآخرة كفر، وإنكار أن يكون الله على العرش كفر، وإنكار القدر كفر؛ وبعض هذه البدع أشد من بعض والله -سبحانه وتعالى- أعلم. [أخذ النذر للقبر والميت لمن وجده] {فصل}: (وأما المسألة الثانية): هل يجوز أخذ النذر للقبر والميت لمن وجده لأنه مال أخرجه مالكه لمن لا يملكه، أفيصير مالا مباحا أم لا؟ وكذلك الثياب المطروحة على التوابيت المتخذة على القبور؟ (فنقول): هذه المسألة فيها تفصيل، فإن كان ذلك في البلد التي تحت حكم إمام المسلمين، فلا يجوز أخذه إلا بإذن الإمام، لأنه يصير مصرفه في مصالح المسلمين بإذن الإمام كما صرف النبي صلى الله عليه وسلم المال الذي في بيت اللات حين هدمها في مصالح المسلمين. وأما إن كان المذكور في موضع ليس حكمه تحت إمام المسلمين، فإنه يجوز أخذه لمن وجده لأنه مال ضائع لا يجوز إبقاؤه، والله سبحانه وتعالى أعلم. [جعل الرياحين على القبر] {فصل}: وأما جعل الرياحين على القبر، فبدعة منهي عنها لأنه من تخليق القبر المنهي عنه 1 بخلاف جعل الجريدة عليه 2 لأنه ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بقبرين فقال: "إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير"3 ثم قال: "بلى، إنه كبير. أما أحدهما فكان لا يستبرئ من البول، وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة"4، ثم أخذ جريدة رطبة فشقها نصفين، وجعل على كل

_ 1 وفيه تشبه بالكفار الذين يفعلون ذلك. 2 يعني وهو من الأمور التعبدية التي لا تعقل فلا يقاس عليه وضع الأزهار والرياحين، وكتبه محمد رشيد رضا. 3 البخاري: الوضوء (216) , ومسلم: الطهارة (292) , والترمذي: الطهارة (70) , والنسائي: الطهارة (31) والجنائز (2068) , وأبو داود: الطهارة (20) , وابن ماجه: الطهارة وسننها (347) , وأحمد (1/ 225) , والدارمي: الطهارة (739). 4 البخاري: الوضوء (218) , ومسلم: الطهارة (292) , والترمذي: الطهارة (70) , والنسائي: الطهارة (31) والجنائز (2068) , وأبو داود: الطهارة (20) , وابن ماجه: الطهارة وسننها (347) , وأحمد (1/ 225) , والدارمي: الطهارة (739).

قبر نصف جريدة وقال: "لعله يخفف عنهما ما لم ييبسا"1. والله أعلم. {فصل} وأما قول السائل: هل يبين ذلك وإن لم يقصده الواضع، فهذه مسألة فيها خلاف، فإن بعض الفقهاء يرى استحباب وضع الجريدة على القبر وبعضهم لا يرى ذلك، لأنه يحتمل أن يكون ذلك خاصا بالنبي صلى الله عليه وسلم أو يحتمل العموم والله أعلم. [دفع المال لبعض الأشراف أو الصالحين من غير صيغة التزام] (فصل): وأما من عليه عادة يدفع شيئا من ماله لبعض الأشراف أو لبعض الصالحين من غير صيغة التزام، فهل يلزم الوفاء به أم هو مندوب أم محرم إذا كان يسميه نذرا مع عدم صيغة النذر. (فنقول): أما من عادته أن يدفع شيئا من ماله لبعض الصالحين أو لبعض الأشراف، وقصده بذلك التقرب إلى الله والصدقة، فهذا حسن ومن النفقة المأمور بها قال الله تعالى: {أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ} [البقرة من الآية: 254]، وقال تعالى: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [البقرة من الآية: 3]، وقال: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً} [البقرة من الآية: 245]، ولكن لا يلزم الوفاء به؛ بل يندب إلى ذلك، إلا إن أوجبه على نفسه بالنذر، وذكر النذر بصيغته المعروفة في الشرع. أما إن كان يسمي نذرا مع عدم صيغة النذر، فلا يلزم الوفاء به أيضا بمجرد التسمية كما أنه يكون نذرا إذ أتى بصيغته المعروفة، ولم يقل: لله علي نذر كذا وكذا. هذا هو المعروف في كلام أهل العلم، وكلام الحنابلة والشافعية والمالكية وغيرهم، والله سبحانه وتعالى أعلم. [هل الأضحية مطية في الآخرة حقيقة تركب؟] (فصل): وأما المسألة الثالثة: ما معنى ما ذكر في الحديث من قوله صلى الله عليه وسلم: "استفرهوا ضحاياكم، فإنها على الصراط مطاياكم"، فهل الأضحية مطية في الآخرة حقيقة تركب؟ وما حملها مع كثرتها؟ وهل

_ 1 البخاري: الوضوء (216) , ومسلم: الطهارة (292) , والنسائي: الطهارة (31) والجنائز (2068) , وأبو داود: الطهارة (20) , وأحمد (1/ 225) , والدارمي: الطهارة (739).

إذا ضحى اثنان أو ثلاثة أو أكثر ببدنة أو ببقرة هل يركبونها جميعا، أم كيف يكون الحكم في ذلك؟ (فالجواب): أن هذا الحديث ليس من الأحاديث المعروفة، ولا هو مخرج في الكتب المعتمدة، وإنما أسنده الديلمي من طريق ابن المبارك عن يحيى بن عبد الله عن أبيه عن أبي هريرة رفعه. هذا، ويحيى ضعيف جدا عند أهل الحديث، قال بعضهم: هذا الحديث ليس معروفا ولا ثابتا فيما علمنا. قال ابن العربي المالكي في شرح الترمذي: ليس في فضل الأضحية حديث صحيح. (ومنها): قوله: "إنها مطاياكم إلى الجنة" ذكر ذلك السخاوي في (المقاصد الحسنة في الأحاديث المذكورة المشتهرة على الألسنة) فمثل هذا الحديث لا يحتج به، وإن ذكره بعض أهل العلم، فعادتهم يتساهلون في فضائل الأعمال في ذكر الأحاديث الضعيفة، فلا ينبغي للسائل أن يجزم بأن الرسول صلى الله عليه وسلم قاله، بل يذكره بصيغة التمريض. وأما معناه فقيل أنها تسهل الجواز على الصراط والله -سبحانه وتعالى- أعلم. (فصل): وأمّا مَن كان يحلف بغير الله جهلًا منه أنّه شرك لا عنادًا ولا معتقدًا أنّ عظمته تساوي عظمة الله، بل لا يفعل ذلك الحلف تعظيمًا لله واتّقاء خشيته، لا تهاونًا بالنَّبِيّ المحلوف به، ثم إنّه لما بلغه أنّ ذلك شرك تاب من ذلك وندم ويسبق لسانه بذلك من غير تعمّدٍ، فهل مَن فعل ذلك قبل بلوغه أنّه شركٌ يكون مشركًا أم يعذر بجهله مساواة عظمة المخلوق عظمة الله تعالى؟ (فالجواب): أنّ الحلف بغير الله شرك كما في الحديث: أنّ رسول

الله -صلّى الله عليه وسلّم- قال: "مَن حلف بغير الله فقد أشرك"1. رواه التّرمذي وغيره. وأمّا كونه يعذر بالجهل فالظّاهر أنّ الذي يجهل مثل ذلك يعذر بالجهل؛ لأنّ الشّرائع لا تلزم إلّا بعد بلوغ الرّسالة، ولا يعذّب الله أحدًا إلّا بعد بلوغ الرّسالة، كما قال تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا}، [الإسراء، من الآية: 15]. وأمّا سبق لسانه بذلك بعد بلوغه أنّه شرك فهذا لا يضرّه - إن شاء الله تعالى - إذا تاب واستغفر. وقال: لا إله إلّا الله، كما ثبت في الصّحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أنّ رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- قال: "من حلف فقال في حلفه: واللات، والعزّى، فليقل: لا إله إلّا الله، ومَن قال لصاحبه: تعال أقامرك، فليتصدّق" فإذا كان يجري على ألسنة الصّحابة فكيف بغيرهم؟! وكذلك إذا فعل شيئًا من الشّرك غير الحلف جهلًا منه، وخطأ، فإذا نبّه على ذلك تنبّه وتاب ونزع كما جرى لقوم موسى -عليه السّلام-، وكما جرى للصّحابة الذين قالوا لرسول الله -صلّى الله عليه وسلّم-: اجعل لنا ذات أنواطٍ. وأمّا مَن يفعل ذلك جهلًا لا عنادًا، وماتوا عليه قبل أن يبلغهم أنّه شرك، هل يُحكَم بإسلامهم ويُرجَى لهم العفو من الله والمغفرة وينفعهم استغفار الأحياء لهم؟ فهذه المسألة أحسن الأجوبة فيها أن يقال: الله أعلم بهم، كما قال موسى -عليه السّلام- لما قيل له: {فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأُولَى قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسَى}، [طه، آيتان: 51 - 52]؛ وذلك لأنّ مَن بلغه القرآن فقد قامت عليه الحجّة، {لأُنْذِرَكُمْ بِهِ

_ 1 المعنى أنّه عمل عملًا من أعمال المشركين، وليس المعنى أنّه خرج من الملة، وصار مشركًا على الإطلاق، وقد صرحوا بإثبات شركٍ دون شركٍ، وكفرٍ دون كفرٍ؛ لأنّ كلًا منهما ينقسم إلى عملي واعتقادي، وقد حقّق ذلك الشّيخ عبد اللّطيف في أوّل رسائله أتم التّحقيق، فراجعه في 3/ 14.

وَمَنْ بَلَغَ}، [الأنعام، من الآية: 19]. وقال: {لئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ}، [النساء، من الآية: 165]. وأكثر النّاس في هذه الأزمنة وغيرها من أزمنة الفترات والجهل معرضون عن السّؤال عن التّوحيد والشّرك، ودينه ما عليه أهل بلده، ولا يبحث، ولا يسأل عمّا جاء به محمّد -صلّى الله عليه وسلّم- من عند الله، وما كان عليه السّلف الصّالح والتّابعون لهم بإحسانٍ. ومَن بحث وسأل وفحص عن ذلك وجد من يعلمه بذلك؛ لأنّه لا يزال في هذه الأمّة طائفة على الحقّ منصورون لا يضرّهم مَن خذلهم، ولا مَن خالفهم، حتّى تقوم السّاعة، وهي معصومة من الاجتماع على الضّلالة، والشّرك. والله سبحانه وتعالى أعلم. (فصل): وأمّا المسألة الرّابعة - وهي التّنباك الذي يعتاد شربه كثير من النّاس، فاختلف علماء الإسلام في أجوبتهم عنه. فمنهم مَن أجاب بتحريمه مطلقًا. ومنهم مَن أجاب بتحريمه بقيدٍ وتعليقٍ. ومنهم مَن أجاب بإباحته. ومنهم مَن جعل فيه الأحكام الخمسة: الوجوب، والحرام، والنّدب، والكراهة، والإباحة، ولكلّ واحدٍ مِمَّن شربه حكم من الخمسة الأحكام، فهل هو حلال أو حرام؟ (فالجواب): أن يقال: لا ريب أنّ الله بعث رسول بجوامع الكلم، وهي من خصائصه التي خصّه الله بها من بين الأنبياء، كما ثبت أنّ رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- قال في ذكر خصائصه التي خصّه الله بها: "وأوتيتُ جوامع الكلم"، وهي: أن يقول الكلمة اليسيرة الجامعة لأحكام كثيرةٍ، لا تُعَدُّ ولا تُحْصَى، ومن ذلك قوله -صلّى الله عليه وسلّم-: "كلّ مسكرٍ حرام"، فدخل في هذه الكلمة جميع المسكرات التي تسكر، وتزيل العقل من الأطعمة والأشربة الموجودة في زمانه -صلّى الله عليه وسلّم- والحادثة بعده إلى يوم القيامة. وقد تواترت الأحاديث عن

النَّبِيّ -صلّى الله عليه وسلّم- قال: "كلّ مسكرٍ خمرٌ وكلّ خمرٍ حرام". ولفظ مسلم: "وكلّ مسكرٍ حرام". وعن عائشة -رضي الله عنها- أنّه -عليه السّلام- سُئلَ عن البتع، فقال: "كلّ شرابٍ أسكر فهو حرام"، وفي روايةٍ لمسلمٍ: "كلّ شرابٍ مسكرٍ حرام". متّفق عليه. ونقل ابن عبد البرّ إجماع أهل العلم بالحديث على صحّته، وأنّه ثبت لشيءٍ روي عن النَّبِيّ -صلّى الله عليه وسلّم- في تحريم المسكر. وجاء التّصريح بالنّهي عن قليل ما أسكر كثيره، كما أرخرجه أبو داود والتّرمذي وحسّنه من حديث عائشة -رضي الله عنها- مرفوعًا: "كلّ مسكرٍ حرامٌ وما أسكر الفرق منه فملء الكفّ منه حرامٌ". وفي روايةٍ: "فالحسو منه حرام". وقد احتجّ به أحمد وذهب إليه. وإلى هذا القول ذهب جمهور علماء المسلمين من الصّحابة والتّابعين ومن بعدهم من علماء الأمصار، وهو مذهب مالك، والشّافعي، والأوزاعي، وأحمد، وإسحاق. إذا تقرّر هذا فاعلم أنّ المسكر الذي يزيل العقل نوعان: أحدهما: ما كان فيه لذة وطرب، قال العلماء وسواء كان المسكر جامدًا أو مائعًا وسواء كان مطعومًا أو مشروبًا، وسواء كان من حبٍّ، أو تمرٍ، أو لبنٍ، أو غير ذلك، وأدخلوا في ذلك الحشيشة التي تعمل من ورق القنب وغيرها، مما يؤكل لأجل سكرته ولذّته. والثّاني: ما يزيل العقل ويسكر ولا لذّة فيه ولا طرب؛ كالبنج ونحوه، وأكثر العلماء الذين يرون تحريم قليل ما أسكر كثيره يرون حدّ مَن شرب ما يسكر كثيره، وإن اعتقد حلّه متأوِّلًا وهو قول الشّافعي، وأحمد. قال أحمد في رواية الأثرم: يحدّ مَن شرب النّبيذ متأوِّلًا؛ وذلك لضعف التّأويل عنده في ذلك، وبما ذكرنا من كلام رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم-، وكلام أهل العلم يتبيّن لك تحريم التّتن الذي كثر في هذا الزّمان استعماله وصحّ بالتّواتر عندنا والمشاهدة إسكاره في بعض الأوقات خصوصًا إذا أكثر منه، أو قام يومًا أو يومين

لا يشربه ثم شربه فإنّه يسكر ويزيل العقل حتّى إنّ صاحبه يحدث عند النّاس ولا يشعر بذلك -نعوذ بالله من الخزي وسوء البأس-. فلا ينبغي لِمَن يؤمن بالله واليوم الآخر أن يلتفت إلى قول أحدٍ من النّاس إذا تبيّن له كلام الله وكلام رسوله في مسألةٍ من المسائل، وذلك لأنّ الشّهادة بأنّه رسول الله تقتضي طاعته فيما أمر، والانتهاء عمّا عنه نهى وزجر، وتصديقه فيما أخبر. والله سبحانه وتعالى أعلم. (فصل): وقد قال الشّيخ ابن علان الصّديقي الشّافعي -رحمه الله- في (إعلام الإخوان بتحريم تناول الدّخان): وقد اتّفق العلماء على حفظ العقول وصونها من المغيّرات والمخدّرات، وكلّ مَن امتصّ هذا الدّخان مقرّ بأنّه لا بدّ أن يدوخ أوّل تناوله ويكفي ذلك دليلًا على التّحريم؛ لأنّ كلّ ما غيّر العقل بوجهٍ من الوجوه أو أثّر فيه بطريق تناوله حرام. قال -صلّى الله عليه وسلّم-: "كلّ مسكرٍ حرام"، والمراد بالإسكار فيه الإسكار القويّ، أي: مطلق التّغطية على العقل، وإن لم يكن مع الشّدّة المطربة، ولا شبهة أنها حاصلة لكلّ متناولٍ أوَّلَ تناوله، وكونه إذا تناوله بعد لا يؤثّر فيه ذلك لا يضرّ في ثبوت سبب التّحريم؛ لأنّ مدمن الخمر إذا اعتادها لا تؤثّر فيه تغيّر أصلًا، ولا يخرجها ذلك عن كونها حرامًا اعتبارًا بأصل التّغيّر الثّابت فيها للعقول، فكذا فيما نحن فيه. انتهى. (واعلم) -رحمك الله- أنّ إطلاق الحلّ والحرمة في الشّيء لا يعجز عنه أحدٌ، وإنّما الشّأن في تبيين الحجج الشّرعية ومدارك الأحكام المأخوذة من كلام سيّد الأنام -عليه من الله أفضل الصّلاة والسّلام-. (فصل): وأمّا المسألة الخامسة وهي: ما معنى قوله - صلّى الله عليه وسلّم

"ما منا إلّا من عصى أو همّ بمعصية إلّا يحيى بن ز كريا"، والإجماع منعقد على أنّ الأنبياء معصومون من الكبائر والصّغائر، وإذا قيل إنّهم معصومون من الكبائر والصّغائر فما بال أولاد يعقوب؟ ومعلوم بالضّرورة أنّهم أنبياء وحال آدم حين قال الله: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى}، [طه، من الآية: 121]، وكذلك داود مع قوله -عليه السّلام-: "كلّنا خطّاءون". (فالجواب): من وجوه: (الوجه الأوّل): أنّ لفظ الحديث المروي في ذلك: "ما من أحدٍ يلقى الله يوم القيامة إلّا ذا ذنبٍ إلّا يحيى بن زكريا". أخرجه عبد الرّزّاق في مصنّفه: أنبأنا معمر عن قتادة في قوله: {وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا}، [مريم، من الآية: 14]. قال: كان ابن المسيب يذكر أنّ النَّبِي -صلّى الله عليه وسلّم- قال: فذكره. وهذا مرسل، لكن أصحّ المراسيل عند أهل الحديث مرسل سعيد بن المسيب، لكن أخرج أحمد في مسنده عن ابن عبّاس -رضي الله عنهما- مرفوعًا إلى النَّبِيّ -صلّى الله عليه وسلّم-: "ما من أحد من ولد آدم إلّا قد أخطأ أو هم بخطيئة ليس يحيى بن زكريا، وما ينبغي لأحدٍ أن يقول أنا خير من يونس بن متي". (الوجه الثّاني): أنّ الذي عليه المحقّقون من العلماء من الحنابلة والشّافعية والمالكية والحنفية، أنّ الأنبياء معصومون من الكبائر، وأمّا الصّغائر فقد تقع منهم لكنهم لا يقرّون عليها؛ بل يتوبون منها ويحصل لهم بالتّوبة أعظم مما كان قبل ذلك، وجميع أهل السّنة والجماعة متّفقون على أنّهم معصومون في تبليغ الرّسالة، ولا يجوز أن يستقرّ في شيءٍ من الشّريعة خطأ باتّفاق المسلمين. قال شيخ الإسلام تقي الدّين أبو العبّاس ابن تيمية الحنبلي -رحمه الله- في كتاب: (منهاج السّنة النّبويّة في نقض كلام الشّيعة والقدرية): واتّفق المسلمون على أنّ الأنبياء معصومون في تبليغ الرّسالة، فكلّ ما يبلّغونه عن

الله من الأمر والنّهي، فهم مطاعون فيه باتّفاق المسلمين. وما أمروا به ونهوا عنه فهم مطاعون فيه عند جميع فرق الأمّة إلّا عند طائفةٍ من الخوارج أنّ النَّبِيّ معصوم فيما يبلغه عن الله لا فيما يأمر به وينهى عنه، وهؤلاء ضلال باتّفاق أهل السّنة والجماعة، وأكثر النّاس أو كثير منهم لا يجوزون عليهم الكبائر، والجمهور يجوزّون الصّغائر ويقولون إنّهم لا يقرّون عليها؛ بل يحصل لهم بالتّوبة منها من المنْزلة أعظم مما كان قبل ذلك. انتهى كلامه. فتبيّن بما ذكرنا وَهْمُ السّائل وخطؤه -رحمه الله- في نقل الإجماع على أنّهم معصومون من الكبائر والصّغائر، ولعلّه قد غرّه كلام بعض المتأخرين الذين يقولون بذلك، أو يقلّدون مَن يقوله من أئمة الكلام الذين لا يحقّقون مذهب أهل السّنة والجماعة، ولا يميّزون بين الأقوال الصّحيحة والضّعيفة والباطلة، كيف والقرآن محشو من الدّلائل على وقوع الذّنب منهم؛ كقوله تعالى: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى}، [طه، من الآية: 121]. وقول موسى -عليه السّلام-: {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي}، [القصص، من الآية: 16]. وقول يونس -عليه السّلام-: {أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ}، [الأنبياء، من الآية: 87]. وقول نوح -عليه السّلام-: {وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ}، [هود، من الآية: 47]. وقوله عن آدم -عليه السّلام-: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ}، [الأعراف، من الآية: 23]. وقول إبراهيم -عليه السّلام-: {وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ}، [الشّعراء: 82]. وقوله عن داود -عليه السّلام-: {فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ} الآية، [صّ: من الآية: 24]. وقوله عن موسى -عليه السّلام-: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ}، [الأعراف، من الآية: 151]. وقوله عن نبيّه -صلّى الله عليه وسلّم-: {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} الآية، [محمد، من الآية: 19]. وقوله: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} الآية، [الفتح، من الآية: 2]. وكذلك ثبت في الأحاديث

الصّحيحة أنّ رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- كان يدعو يقول: "يا ربّ اغفر لي ذنبي كلّه، دقّه وجلّه، وأوّله وآخره، وسرّه وعلاينته". وقوله: "اللهم اغفر لي جهلي وإسرافي في أمري، وما أنت أعلم به منِّي، اللهم اغفر لي جدي وهزلي وخطئي وعمدي وكلّ ذلك عندي". وأشباه ذلك كثيرة عن جماعة من الصّحابة -رضي الله عنهم- والله سبحانه وتعالى أعلم. (فصل): وأمّا المسألة السّادسة؛ وهي هل يتأكّد الأخذ بالإجماع السّكوتي عن الصّحابة -رضي الله عنهم- وبجمع عمر -رضي الله عنه- الصّحابة على التّراويح، وأمره أبي بن كعب أن يصلِّي بالنّاس لارتفاع العلّة؛ وهي خشيته -عليه السّلام- أن يفرض عليهم. (فالجواب) أنّ الذي عليه أكثر الفقهاء من الحنفية والمالكية والشّافعية والحنبلية أنّ الأمر إذا اشتهر بين الصّحابة فلم ينكره منهم أحد كان إجماعًا، قال ابن مسعود -رضي الله عنه-: إنّ الله نظر في قلوب العباد فوجد خيرهم أصحاب محمّد -صلّى الله عليه وسلّم- فاختارهم لصحبة نبيّه -صلّى الله عليه وسلّم-، فما رآه المسلمون حسنًا فهو عند الله حسن. انتهى. وباتّباع السّلف الصّالح والأخذ بهديهم وسلوك طريقتهم والسّكوت عمّا ستكوا عنه يزول عن المؤمن شبهات كثيرة، وبدع وضلالات شهيرة أحدثها المتأخرون بعدهم، كالكلام في تأويل آيات الصّفات، وأحاديثها بالتّأويلات المستكرهة التي لم تعهد عن الصّحابة والتّابعين لهم بإحسانٍ؛ فإنّهم سكتوا عن تفسير ذلك بالتّأويلات الباطة، وقالوا: أَمِرُّوها كما جاءت. وقال بعضهم في صفة الاستواء لما سأله سائل عن قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى}، [طه:5]، كيف الاستواء؟ قال: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسّؤال عنه بدعة، كما تواتر ذلك عن الإمام مالك -رحمه الله-، وما أجاب به مالك -رحمه

الله- في هذه المسألة هو جواب أهل السّنة والجماعة في آيات الصّفات، وأحاديثها، فيقال: النّزول والمنْزول معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسّؤال عنه بدعة. وهكذا يقال في سائر الصّفات مثل: المجيء، واليد، والوجه، والمحبّة، والغضب، والرّضا وغير ذلك من الصّفات الواردة في الكتاب والسّنة. وما أحسن ما جاء عن عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة الماجشون أنّه قال: عليك بلزوم السّنة فإنّها لك بإذن الله عصمة، فإنّ السّنة إنّما جعلت ليستن بها ويقتصر عليها، وأنّها سنة قد علم ما في خلافها من الزّلل، والخطأ، والحمق، والتّعمّق، فارض لنفسك بما رضوا به، فإنّهم عن علمٍ وقفوا، وببصرٍ ناقدٍ كفوا، ولهم على كشفها أقوى، وبتفاصيلها أحرى، وأنّهم لهم السّابقون، وقد بلغهم عن نبيّهم ما يجري من الاختلاف، فلئن كان الهدى ما أنتم عليه، لقد سبقتموهم عليه، ولئن قلتم حدث بعدهم، فما أحدثه إلّا من اتّبع غير سبيلهم، ورغب بنفسه عنهم، واختار ما نحته فكره على ما تلقوه عن نبيّهم وتلقوه عمَّن اتّبعهم بإحسانٍ، ولقد وصفوا منه ما يكفي، وتكلموا فيه بما يشفي، فمَن دونهم مقصر، ومَن فوقهم مفرط، ولقد قصر دونهم أناس فجفوا، وطمع آخرون فغلوا، وإنّهم فيما بين ذلك لعلى هدى مستقيم. والله أعلم. (فصل): وأمّا المسّألة السّابعة؛ وهي: ما معنى قوله -صلّى الله عليه وسلّم- في الحديث: "إذا استقرّ أهل الجنة في الجنة، وأهل النّار في النّار، يؤتى بالموت على صورة كبشٍ أملح فيذبح بين الجنة والنّار فيقال: يا أهل الجنة خلود في النّعيم بلا انقضاء، ويا أهل النّار خلود في الجحيم بلا انتهاء". ومعلوم أنّ الموت معدوم الرّوح التي بها حركة الجسد وهذا شيء معنوي، فإنّ الذّبح لا يحصل إلّا في الأعيان الجسمانية ذات الأروح فإذا كان يؤتى به على صورة كبش كما

ذكره الشارع، فكيف كانت صورته من قبل؟ وهل تحدث له بروح عند ذلك؟ (فالجواب): أن الذي ينبغي للمؤمن تصديق الرسول -صلى الله عليه وسلم- في كل ما أخبر به من الأمور الغائبة، وإن لم يعلم كيفية ذلك، كما مدح -سبحانه- المؤمن بذلك، بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ * أُولَئِكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [البقرة: 4 - 5]. وقد مدح الله -سبحانه- أهل العلم بأنهم يقولون في المتشابه: {آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} [آل عمران: 7]، وفي الحديث أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "ما علمتم منه فاعملوا به، وما جهلتم منه فكلوه إلى عالمه"1. إذا علمت ذلك فاعلم أن شراح الحديث ذكروا فيه أقوالا الله أعلم بصحتها: (قال ابن حجر) العسقلاني في فتح الباري: قوله "إذا صار أهل الجنة إلى الجنة وأهل النار إلى النار جيء بالموت"2، وفي رواية "يؤتى بالموت كهيئة كبش أملح"3، قال الكلبي في تفسيره في قوله تعالى: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ} [سورة الملك آية: 2]، قال: خلق الموت في صورة كبش، لا يمر على أحد إلا مات، وخلق الحياة على صورة فرس، لا تمر على أحد إلا حي. قال القرطبي: الحكمة في الإتيان بالموت هكذا، الإشارة إلى أنهم حصل لهم الفدية كما فدي ولد إبراهيم بالكبش وفي "الأملح" إشارة إلى صفة أهل الجنة، لأن الأملح ما فيه بياض وسواد. ثم قال ابن حجر: قال القاضي أبو بكر بن العربي: استُشكل هذا الحديث، فأنكر صحة هذا الحديث طائفة ودفعته، وتأولته طائفة فقالوا: هذا تمثيل ولا ذبح هناك، وقالت طائفة: بل الذبح على حقيقته، والمذبوح

_ 1 أحمد (2/ 181). 2 البخاري: الرقاق (6548) , ومسلم: الجنة وصفة نعيمها وأهلها (2850) , وأحمد (2/ 118 ,2/ 120). 3 البخاري: تفسير القرآن (4730) , ومسلم: الجنة وصفة نعيمها وأهلها (2849) , والترمذي: صفة الجنة (2558) , وأحمد (3/ 9).

متولي الموت، وكلّهم يعرفه؛ لأنّه تولّى قبض أرواحهم. (قلت): وارتضى هذا بعض المتأخّرين وحمل قوله هو الموت الذي وكلّ بنا على أنّ المراد به {مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ} [السجدة: 11]، واستشهد له من حيث المعنى بأنّ ملك الموت لو استمرّ حيًّا لنغص عيش أهل الجنة، وأيّده بقوله في حديث الباب: "فيزداد أهل الجنة فرحًا إلى فرحهم، ويزداد أهل النّار حزنًا إلى حزنهم". انتهى. (قلت): ويكفي المؤمن اللّبيب الإيمان بالله ورسوله فيما لا يتبيّن له حقيقة معناه وظاهر الحديث لا إشكال فيه عند من نور الله قلبه بالإيمان وشرح صدره بالإسلام. والله سبحانه وتعالى أعلم. (فصل): وأمّا المسألة الثّامنة؛ وهي الرّهون التي كثر استعمالها في القرى والأمصار على غير الرّهن الشّرعي المستفاد من الكتاب والسّنة وخارجة عن حكمه المعروف. وذلك أنّه إذا احتاج الإنسان أخذ مال من آخر لا يعقد قرضه على سبيل الإباحة والتّراضي بل يدفع المحتاج إلى صاحب المال أرضه بالمخابرة والمزارعة بالعقد الشّرعي مقلدين من يقول بجوازها فيبذرها العامل ويأخذ نصف الغلة في مقابلة عمله وبذره، ويدفع لصاحب الأرض الشّطر الثّاني ويعمل الأرض مالكها ويجعل الأجر البذر، وكذا العمل لكلّ واحدٍ منهما شطر الغلة، وما تخرج تلك الأرض، وصاروا على ذلك خلفًا عن سلف. وحصل في هذه الأزمان الخوض في حكمها من علماء الزّمان منهم من حرم واستدلوا بأنّ المال دفع على سبيل القرض، وكلّ قرض جرّ منفعةٍ فهو ربا. ومنهم من أجازها قائلين بأنّ المال لم يدفع بصيغة القرض، وربما كان المال دينا في ذمّة صاحب الأرض فعجز عن براءة ذمته وخلاص دينه تسمح نفسه ببيع أرضه ودخل في هذه المعاملة وقبلها صاحب الدّين. فعلى كلّ حال إنّ

المنفعة التي جعلها المفتي سببًا للحرمة مقابلة بمنفعة أخرى تساوي تلك المنفعة وأكثر منها، وهي البذر، وكلّ العمل فلم تكن منفعة لا يقابلها شيء. فإن قلتم بجوازها فذاك، وإن قلتم بحرمتها وبطلانها، فهل يسوغ لِمَن سَعَى في المخارجة بين صاحب المال وبين صاحب الأرض أي بتنجيم في أوقات اليسار كما ذكر البغوي في تفسير آية الرّبا أنّها نزلت في أربعة أخوة من ثقيف. ومع ذلك فالعجز ظاهر عن الوفاء بالمال حالًا ولولا الفقر والحاجة لم يدخلوا في هذه المعاملة؛ فالجواب مطلوب بعد إمعان النّظر وبيان حكم المسألة جوازًا أو تحريمًا. (فالجواب) وبالله التّوفيق أنّ الله تبارك وتعالى قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا}، [النّساء: 59]. وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}، [البقرة: 278]. وعن عبد الله بن عمر، قال: قال رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم-: "لا يحلّ سلف وبيع، ولا شرطان في بيع ولا ربح ما لم يضمن، ولا بيع ما ليس عندك". رواه أبو داود والتّرمذي وصحّحه. قال علماؤنا -رحمة الله عليهم- بيّن -صلّى الله عليه وسلّم- أنّه لا يحلّ أن يقرض الرّجل ويبيعه ليحابيه لأجل ذلك القرض وقد جاء عنه -صلّى الله عليه وسلّم- وعن أصحابه -رضي الله عنهم أجمعين- تحريم البيوع بعد عقد القرض قبل الوفاء. فعن أنس بن مالك، أنّه سُئل عن رجلٍ يقرض أخاه المال فيهدي إليه؟ فقال: قال رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم-: "إذا أقرض أحدكم قرضًا فأهدي إليه أو حمله على الدّابة فلا يركبها ولا يقبلها إلّا أن يكون بينه وبينه قبل ذلك". رواه ابن ماجه بإسنادٍ حسن. وعن أبي بردة بن أبي

موسى قال: قدمت المدينة فلقيت عبد الله بن سلام فقال: إنك بأرض الربا فيها فاش، فإن كان لك على رجل حق فأهدى لك حمل تبن أو حمل شعير أو حمل قت، فلا تأخذه؛ فإنّه ربا. رواه البخاري في صحيحه. وروى مثله سعيد بن منصور في سننه عن أبي بن كعب، وروي عن ابن مسعود نحو ذلك. وعن سالم بن أبي الجعد قال: جاء رجل إلى ابن عبّاس فقال: إنّي أقرضت رجلًا يبيع السّمك عشرين درهمًا فاهدى إلي سمكة فقومتها ثلاثة عشر درهمًا، فقال: خذ منه سبعة دراهم. رواه سعيد في سننه، بإسنادٍ صحيحٍ. وعن ابن عمر أنّه أتاه رجل فقال: إنّي أقرضت رجلًا بعيرًا فأهدى إليّ جزلة، فقال: ردّ إليه هديته، أو احسبها له. رواه سعيد أيضًا. فإذا كان هذا فيما يتبرّع به المقترض بعد القرض، فكيف إذا تواطآ على التّبرّع؟! مثل أن يقرض مَن يعيره دراهم أو يرهنها عند مَن يأذن له في سكناها 1، أو يضاربه، بأقلّ من حقّ مثله، أو يبتاع منه الشّيء بأضعاف قيمته أو يكري داره بثلث كرائها، أو يدفع إليه شجره مساقاة بأضعاف جعل مثله. انتهى. فتأمّل -رحمك الله- هذا الكلام بعين الإنصاف يتبيّن لك أنّ الرّهون التي تفعل عندكم لأجل المال الذي في ذمته فيصبر عليه وينظره ما دام يستغل الشّجر، أو الأرض هو حيلة على أكل الرّهن والانتفاع به لأجل القرض ولو لم يكن في ذمته ذلك المال لم يتركه يستغل أرضه، وربما تركها له بدون قيمة مثلها، فهذا هو المحاباة، وهو الرّبا الذي نصّ العلماء على تحريمه سواء سُمِّي ذلك المال قرضًا أو غيره، أو كان دينًا في ذمته، وكان أهل الجاهلية قبل الإسلام

_ 1 لم يتقّدم في الكلام ذكر شيء يرجع إليه ضمير سكناها كالدّار، فلعلّه سقط من الكلام شيء بسهو النّساخ.

13 - إجابة عن مسائل سئل عنها

إذا كان لأحدهم دين على رجل إلى أجلٍ فحلّ الأجل قال له: إمّا أن تقضي، وإمّا أن تربي، فيزيده هذا في المال، ويزيده هذا في الأجل، فحرّم الله ذلك، فلولا أنّ الأرض أو الشّجر أو الدّار ينتفع بها لما صبر عليه وانظره. وعن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أنّ النَّبِيّ -صلّى الله عليه وسلّم- قال: "لعن الله اليهود حرمت عليهم الشّحوم فجمّلوها فباعوها". متّفق عليه. قال الخطابي -رحمه الله- (جمّلوها) معناه: أذابوها حتى تصير ودكًا فيزول عنه اسم الشّحم. وفي هذا الحديث بيان إبطال كلّ حيلةٍ يحتال بها للتّوسل بها إلى محرّم، وأنّه لا يتغيّر حكمه بتغيّر هيئته وتبديل اسمه. وأمّا إن كان صاحب المال لا يقدر على وفائه فينجمه عليه صاحب الدّين بقدر غلة أرضه كلّ سنةٍ، ويأخذ الغلة ويحسبها بسعر يومها فلا بأس بذلك إذا خلت عن المحاباة. والله سبحانه وتعالى أعلم. (12) وله أيضًا -رحمه الله تعالى- إجابة عن مسائل سُئِل عنها قال: السّلام عليكم ورحمة الله وبركاته. (الجواب) عن مسائلكم: (المسألة الأولى): مذهب الزّيدية فالصّحيح منه ما وافق الكتاب والسّنة، وما خالفهما فهو باطل لا مذهب الزّيدية ولا غيره من المذاهب. (المسألة الثّانية): هل يصحّ في الأذان حيّ على خير العمل أم لا؟ (فنقول): الثّابت أنّ الأذان خمس عشرة كلمة: الله أكبر الله أكبر، الله أكبر الله أكبر، أشهد أن لا إله إلّا الله، أشهد أن لا إله إلّا الله، أشهد أنّ محمّدًا رسول الله، أشهد أنّ محمّدًا رسول الله، حيّ على الصّلاة، حيّ على الصّلاة، حيّ على الفلاح، حيّ على الفلاح، الله أكبر الله أكبر،

لا إله إلّا الله. فهذا هو الثّابت الذي أمر رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- بلالًا أن يؤذّن به كما ذكر أهل السّنن والمسانيد، وأمّا حيّ على خير العمل، فليس بثابتٍ، ولا عمل عليه عند أهل السّنة 1. (المسألة الثّالثة): أمّا الماء الذي تجوز الطّهارة به، ويرفع الحدث، فهو: كلّ ماء طاهر باقٍ على ما خلقه الله عليه، ولم يتغيّر، فإن تغيّر بالنّحاسة طعمه، أو لونه، أو ريحه، لم تجز الطّهارة به. والبرك التي فيها ماء ساكن لا يغتسل فيها من الجنابة، والأحسن أن يأخذ من الماء ويغتسل به خارجه أو يتوضّأ به، وأمّا غسل الأعضاء فيها فلا بأس به. وأمّا التّربة المنذورة للمساجد لعمارتها، أو للضوء بها، أو للمصلّين فيها، فهي على وقفها ولا يغيّرها الوارث يؤدّيها إلى أهل المساجد الذين يحفظونها ويصرفونها في مصارفها. وأمّا القبور التي في المساجد فإن كان المسجد بني قبل أن يحط فيه قبر فينبش القبر ويبعد عن المسجد، فإن كان المسجد ما بني إلّا لأجل القبر فالمسجد يهدم ولا يصلّى فيه؛ لأنّه ثبت عن رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- أنّه لعن الذين يتّخذون المساجد على القبور، ولا تصحّ الصّلاة فيه، ولا تجوز الصّلاة عند القبور ولا عليها؛ لأنّه -عليه السّلام- نهى عن الصّلاة في المقبرة. وأمّا التّيمّم فلا يجوز إلّا عند عدم الماء، كما قال تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} الآية، [النّساء، من الآية: 43، والمائدة، من الآية: 6]. وأمّا الصّلاة في النّعل فجائزة إذا لم يكن فيها نجاسة. وأمّا حدّ الزّنا والسّارق والقاذف فحدّ الزّاني إن كان محصنًا -وهو

_ 1 وما ورد في إثباته من الرّوايات قد صرّحوا بأنّه كان في أوّل الإسلام ونسخ.

الذي قد تزوّج- يرجم حتّى يموت، وإن كان بكرًا لم يتزّوج مائة جلدة ويغرّب عن بلده عامًا، والمرأة كالرّجل في ذلك، هكذا ثبت عن رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم-. وأمّا السّارق، فتقطع يده اليمنى بشرط أن يأخذ المال من حرزه، وأن يكون قيمة المأخوذ قدر ثلاث دراهم، وأن يكون مالًا محرزًا، وأن يكون أخذ المال على وجه الاختفاء، وأن لا يكون فيه شبهة؛ كالأخذ من مال ولده، والمرأة من مال زوجها، والذي يسرق دون النّصاب فلا قطع؛ بل يؤدّب، وكذلك الذي يأخذ الثّمر من البساتين والزّروع يؤدّب ويغرم قيمته مرّتين. وأمّا الذي يقذف المحصن، أو المحصنة، ولم يأتِ بأربعة شهداء عدول فيجلد ثمانين جلدة، ولا تقبل شهادته، إلّا إن تاب، كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ}، الآيتين [النّور: 4 - 5]. وأمّا الذي يسبّ المسلمين ويؤذيهم بلسانه، فهذا يؤدّبه الأمير بما يزجره. وأمّا مصارف الزّكاة، وقدر ما تجب فيه فنصاب العيش والزّبيب قيمته ثلاثمائة تنقص عشرين صاعًا بصاع الوادي، وزكاة الذي يسقي بالسّواقي والغروب نصف العشر، والذي يسقى بالعيون والسّيل فيه العشر تامًا. ونصاب الفضّة ثمانية عشر ريالًا أو وزنها، والذي ما عنده إلّا دون سبعة عشر ونصف ما عليه زكاة وزكاته ربع العشر. وأمّا شارب التنباك إذا شهد عليه شاهدان أنّهم رأوه يشرب فيجلد أربعين جلدة. وأمّا القبور التي عليها بناء فإنّه يهدم. وأمّا المسلم إذا قتل مسلمًا متعمّدًا فيخيّر ولي المقتول بين قتل مَن

قتله، أو أخذ الدّية، ومقدار الدّية مائة ناقة، تقدر اليوم بقدر ثمانمائة ريال، ودية المرأة نصف دية الرّجل، وإن كان قتله خطأ زلّة ما قصد قتله فتلزمه الدّية وتصير على عاقلته، وتصير أثلاثًا في ثلاث سنين ويلزمه معها عتق رقبة إن كان يقدر، وإن لم يقدر يصوم شهرين. والشّجاج التي في الرّأس تقدر بخمس من الإبل، وهي الموضحة التي توضح العظم، أي: يتبيّن ولو بقدر رأس إبرة فيها خمس قيمتها أربعون ريالًا للذي ما عنده أبعرة، وموضحة الوجه والرّأس واحد، وإن أوضحه موضحتين بينهما حاجز ففي كلّ وحدةٍ دية الموضحة. ثم الهاشمة، وهي التي توضح العظم وتهشمه ففيها عشر من الإبل، قيمتها ثمانون ريالًا. ثم المنقلة، وهي التي توضح وتهشم وتنقل عظامها بتكسرها ففيها خمسة عشر من الإبل، قيمتها مائة وعشرون ريالًا. ثم المأمومة، وهي التي تصل إلى أم الدّماغ، وهي الجلدة التي فيها الدّماغ، وفيها ثلث الدّية. وفي الدّامغة ثلث الدّية، وهي التي تخرق جلدة الدّماغ. وما سوى ذلك من الشّجاج فليس فيه تقدير؛ بل يجتهد فيه الحاكم واثنان من أهل العدالة، ويقدرونه باجتهادهم. وفي الجائفة ثلث الدّية، وهي التي تصل إلى باطن الجوف من بطن أو صدر أو ظهر، فإن كانا جائفتين وبينهما حاجز ففيهما ثلثا الدّية. وفي قطع مارن الأنف الدّية، وفي كلّ واحدٍ من المنخرين والحاجز بينهما ثلث الدّية، وفي كلّ واحدٍ من الشّفتين نصف الدّية. ووقت صلاة الصّبح إذا طلع الفجر المعترض الأبيض، وآخره عند طلوع الشّمس، والظّهر إذا زالت الشّمس، وآخر وقتها إذا صار ظلّ كلّ شيءٍ مثله مرّتين، والمغرب إذا غربت الشّمس والعشاء إذا غاب الشفق وآخره ثلث الليل. والله أعلم.

14 - جواب في أحكام الوقف

(13) وله أيضًا -رحمه الله تعالى- جواب في أحكام الوقف: (الجواب): وبالله التّوفيق؛ الأسبال والأوقاف يجب صرفها إلى أهلها، وإن كانت في يد مَن لا يصرفها إلى أهلها أخذت منه وصرفت إلى مَن يستحقّها. وأمّا الوقف الذي على المسجد ولا بين مصرفه فإنّه يُصرف على إمامه، ومؤذّنه وعمّارته، وما ينوبه ويحط على الرّكية منه شيء، وأسبال الجاهلية التي لا يعرف مصرفها تصرف على المساجد والجهاد وأبواب البر، وزرع العام الواحد يضاف بعضه إلى بعضٍ في تكميل النّصاب، ويؤخذ من زرع القيض زكاته إذا أضيف لزرع الربيع. (14) وسئل -رحمه الله تعالى- عن مسائل فأجاب عنها: (الأولى): الذي يخرج من قبضة الأمير وأيش أدبه. (فنقول): الذي يعصي الأمير يؤدّب بما يزجره عن المعصية، والأدب يختلف باختلاف الأحوال والأشخاص. (فمن النّاس) مَن يكفي فيه الكلام وتفشيله بين النّاس. (ومنهم) مَن لا يكفي فيه إلّا الضّرب والحبس والجلاء. فإن كان العفو فيه مصلحة فهو أحسن، ولا يقال إنّ الأدب لازم لا بدّ منه؛ بل الواجب على الأمير أن يفعل ما فيه الأصلح. (الثّانية): المرتدّ بقولٍ، أو فعلٍ، وثبت عليه بالبيّنة فهذا يحتاج أوّلًا إلى المعرفة بأنواع الكفر والرّدّة التي يذكرها أهل العلم، فإذا ارتدّ أحد عن الإسلام استتيب، فإن تاب كفّ عنه، وإن أصرّ على ردّته قتل.

(الثّالثة): الذي يخرج من بلاد المسلمين إلى بلاد بغضاء الدّين وأهله، فهذا إذا ثبت كما وصف السّائل أنّه لاحق بالكفار رغبة في دينهم وبغضًا لدين المسلمين، فهو كافر حكه حكم الكفّار الذين رغب في دينهم. (الرّابعة): حدّ الزّاني المحصن -وهو الذي قد تزوّج-؛ حدّه الرّجم إذا ثبت زناه بشهادة أربعة شهود عدول يشهدون بأنّهم رأوا ذكره في فرجها داخلًا كدخول الميل في المكحلة، فإن توقف واحد منهم في شهادته على ما ذكرنا فالشّهود يحدّون حدّ القذف، كلّ واحدٍ يضرب ثمانين جلدة، والشّهادة المعتبرة في الزّنا صعبة جدًّا، وإذا ثبت زناه بشهادة أربعة رجم بالحجارة التي تؤخذ في اليد ويرجم بها سواء كان واقفًا أو جالسًا، والمرأة تشدّ عليها ثيابها عن التّعري، أو يحفر لها حفرة. وأمّا الرّجل الذي لم يتزوّج فإذا ثبت زناه بشهادة أربعة شهود فيجلد مائة جدلة ويغرّب عن وطنه عامًا، وأمّا السّوط الذي يجلد به فهو مثل الجريدة والعصا بشرط أنّها لا تكسر العظام. وأمّا السّارق، فإذا سرق وثبتت سرقته من حرز المال المعروف عند أهل البلد أنّه حزر له قطعت يده اليمنى من مفصل الكوع بشرط أن تكون سرقته نصابًا، وهو ربع دينار قيمته عندكم ثلاثة أخماس ريال. وأمّا الذي يعاهد أميره ويعصيه فالأمير تجب طاعته إذا أمر بطاعة الله ورسوله، وتحرم معصيته، فإذا عصى الأمير في ذلك جاز للأمير تأديبه، إمّا بالضّرب أو الحبس أو غير ذلك مما يزجره وليس فيه تحديد في الشّرع. وأمّا الذي يتخلف عن صلاة الجماعة أو الجمعة فيؤدّب على ذلك إمّا بالضّرب أو الحبس لا يزاد في الضّرب على عشر ضربات، وبالفشيلة والتّفشيل بين النّاس.

وأمّا المواريث التي تقاسموها في الجاهلية على خلاف الشّرع ثم بعد هذا أسلموا، فلا يطالبون بردّ القسمة بعد الإسلام إلّا بالتّراضي. وأمّا دية المسلم الحرّ إذا قتل عمدًا وقبل أولياؤه الدّية فهي مائة من الإبل خمس وعشرون بنت مخاض، وخمس وعشرون بنت لبون، وخمس وعشرون لقحة، وخمس وعشرون جذعة، وقيمتها في وقتنا هذا بتقدير أمير المسلمين عبد العزيز وأهل المعرفة ثمانمائة ريال، وتكون حالة. وأمّا دية الخطأ المخفّفة فهي خمسة أخماس على عشرين منها: عشرون ذكرًا وهي على العاقلة مؤجَّلة في ثلاث سنين إلّا إن كان القتل لم يثبت بالبيّنة بل ثبت بإقرار القاتل فلا تحملها العاقلة وتكون في مال القاتل. وأمّا المنقلة التي توضح وتهشم وتنقل عظامها ففيها خمس عشرة من الإبل قيمتها مائة وعشرون ريالًا. وأمّا دية العين والسّمع إذا ذهب البصر والسّمع مع عفو المجني عليه عن القصاص كم هي دراهم، فالبصر إذا ذهب كلّه الدّية كاملة، والسّمع إذا ذهب كلّه الدّية كاملة مائة من الإبل تقديرها عندنا ثمانمائة ريال. وأمّا الحبس والأدب للعاصي، فيجتهد فيه الأمير باجتهاده، ويؤدّب كلّ واحدٍ على قدره باختلافه. وأمّا حكم الصّائل المعاند. (فالجواب): دفعه بالأسهل فالأسهل، فإن اندفع بغير قتالٍ لم يجز قتله، وإن لم يندفع إلّا بالقتل جاز قتله ودمه هدر. وأمّا حكم القذف بالزّنا؛ فإذا قذف رجلًا أو امرأة بالزّنا ولم يأت على ذلك بأربعة شهداء، يشهدون بأنّهم رأوا ذكره في فرجها كالميل

في المكحلة، فإنّه يجب عليه حدّ القذف ثمانون جلدة، ولا تقبل لهم شهادة أبدًا، وحد القذف حقّ للمقذوف إن طلبه أقامه عليه الأمير فإن عفا عنه فلا يقيمه الأمير لكن إذا كان القاذف معروفًا بالشّر جاز للإمام تأديبه عن تعرّض أعراض المسلمين. وأمّا مصرف الزّكاة، فهي ثمانية أصناف ذكرها الله تعالى في كتابه في قوله: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}، [التوبة: 60]. وأمّا حكم مَن تزوّج في عدّة الطّلاق، وهو جاهل من البوادي فلا يصير حكمه حكم الزّاني، بل يعذر بالجهل، ويفرّق بينهما حتّى تنقضي العدّة الأولى من الطّلاق الأوّل ثم تعتدّ من وطء الثّاني الذي وطئها في عدّتها، فإذا انقضت العدّتان حلّت للزّواج وهو من عرضهم. وأمّا الذي يتزوّج المرأة برضاها ورضاء أوليائها على مهر مفروض لكن بغير عقدٍ ولا شهود، فمثل هذا يعذر بالجهل ولا يصير عليه أدب والذي فعل هذا في الجاهلية فلا يطالب بنكثه في الإسلام. وأمّا الفجاج التي يحجرها أهل البلد لا يرعونها النّاس فهذا لا يجوز في الإسلام، وحكم الشّرع أنّ النّاس شركاء في الكلأ والمرعى. وأمّا بيع الحبّ بحبّ مثله متفاضلًا فلا يجوز، وأمّا إذا كانا من جنسين؛ كشعيرٍ بحبٍ أو حبٍّ بشعيرٍ، فإنّه يجوز التّفاضل فيه، ولا يجوز بيع بعضه ببعضٍ في الذّهب والفضّة والمطعومات إلّا بشرط التّقابض في المجلس، كما في الحديث أنّ رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- قال: "الذّهب بالذّهب، والفضّة بالفضّة، والتّمر بالتّمر، والبرّ بالبرّ، والشّعير بالشّعير، والملح بالملح وغير ذلك مثلًا بمثل، فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم يدًا بيدٍ". والعمل على

هذا عند أهل العلم، لا يرون أن يباع البرّ بالبرّ، إلّا مثلًا بمثلٍ، وباقي الأصناف المذكورة في الحديث كذلك، فإذا اختلفت الأجناس فلا بأس أن يباع بعضها ببعضٍ متفاضلًا بشرط التّقابض في المجلس. وأمّا إذا غاب ولي المرأة قدر مسافة القصر فلا يجوز لها أن توكّل مَن يزوّجها، فهذا يحتاج إلى تفصيلٍ، فإن كان لا يمكن الإرسال إليه ومشاورته إلّا بمشقّةٍ شديدةٍ جاز لولي الأمر أن يوكّل مَن يزوّجها أو يزوّجها بنفسه على كفء مثلها. وأمّا الوقف على المسجد فهو جائز؛ بل مستحبّ؛ لأنّه من أعمال البرّ والقربات. والله أعلم. وأمّا الذي يقرأ في المواريث ويعرف قسمتها ويعرف ما ذكره أهل العلم المقتدى بهم؛ كالأئمة الأربعة جاز له أن يقتدي بما عرف. والله أعلم. ولا يجوز للرّجل أن يتزوّج المرأة إلّا بعقد وولي وشاهدين هذا المفتَى به عندنا. وأمّا الصّلاة فوقت النّهار لا أعرف ضبطه بالأقدام؛ لأنّ الأقدام تختلف باختلاف كثيرٍ مع تغيير الفصول والموجود في كلام الرّسول -صلّى الله عليه وسلّم- أنّ وقت الظّهر إذا زالت الشّمس إلى أن يصير ظلّ كلّ شيءٍ مثليه، ويعرف ذلك في جميع الأيام بأن ينصب عودًا في مكان مستوٍ فما دام ظل العود ينقص فالشّمس لم تزل حتّى يزيد فإذا زاد فقد زال الظّلّ. وأمّا النّذور لخدام النَّبِيّ -صلّى الله عليه وسلّم- وغيره فإنّها تصرف لمصالح المسلمين يصرفها الإمام مثل أن يصرفها في الجهاد، وفي تألّف بعض النّاس على الإسلام، أو الفقراء والمساكين.

وأمّا الكتب المؤلَّفة في ذكر فضائل الأعمال؛ مثل: تنبيه الغافلين، وغيره فأكثر ما فيها حقٌّ وصوابٌ، وفيها ما هو خطأ ليس بصوابٍ، والقارئ فيها يحتاج إلى مَن يعلّمه بما يوافق الحقّ فيعمل به، وما يخالف الحقّ فيتركه. وأمّا البلاد ورهونها فيجوز أن يعطي الرّجل أرضه لِمَن يحرثها ولصاحب الأرض جزء معلوم من الثّمرة، وأمّا أن يرهنها رجلٌ آخر بدارهم معلومة ويأخذ صاحب الدّراهم غلتها من كلّ الثّمرة، فهذا لا يجوز سواء كان من الثّمرة أو غيرها من بقية الثّمار. وأمّا غسل الجنابة فيجوز للمرأة والرّجل أن يغسلا رؤوسهما من الجنابة وهو معقود إذا وصل إناء واحد. وأمّا فرش المساجد فيجوز أن يتّخذ فيها فرشًا من جميع الفرش الطّاهرة من الصّوف وغيره. وأمّا العاق لوالديه فيؤدّب أدبًا بالغًا بالضّرب والحبس؛ لأنّ ذلك من أكبر الكبائر، وليس له حدّ معلوم. وأمّا الذي يشرب التتن ويزرعه فيجلد ثمانين جلدة 1. وأمّا المراة التي تمشي مكشوفة الوجه فإذا سترت وجهها وصدرها وشعرها فليس عليها في ذلك إذا كان ذلك عادتهم، لكن لا تخالط الرّجال الأجانب، فإن بدنها كلّه عورة شعرها وبشرتها. وأمّا شراء اللّبن في الضّرع فلا يجوز، إلّا أن يكون كيلًا معلومًا في ذمّته. وأمّا الرّهون التي تؤكل غلتها بغير بذر ولا حرث فلا يجوز، ويرد

_ 1 تقدم في ص: 225 عنه أنّه يجلّد أربعين، وهو أقلّ ما روي في حدّ شرب الخمر، وما ذكره هنا أكثر ما ورد فيه، وظاهره أنّه لِمَن يجمع بين شربه وزراعته، والعقاب على زرعه لا حدّ فيه، بل هو تعزير من حقّ الإمام الذي يرى حرمته.

16 - وله أيضا -رحمه الله تعالى-

صاحب الأرض على المرتهن ما قبضه منه دراهم كانت أو طعامًا، فإن كان معسرًا لزمه إنظاره إلى ميسرةٍ، فإن قدر على وفاء بعض أوفاه بما قدر عليه. وأمّا الذّبائح التي تذبح صدقة للميت عند موته، أو وقت الأضحية. فهذا حسن لا بأس به؛ إذا قصد به صدقة لوجه الله يفرق على المساكين والأقارب، وكذلك الصّدقة من الطّعام أو غيره جائزة يصل ثوابها للميت. وأمّا إذا اجتمع أهل البلد على أن يجمعوا طعامًا عند رجلٍ فيما ينوبهم من جهاد أو ضعف أو دية قتيل المسمّى العشر في بلادكم، فهذا لا بأس به، والمتخلف عن الصّلاة يؤدّب بما يزجره. وأمّا لباس السّواد إذا كان من عادة أهل البلاد، فهذا لا بأس به، إلّا أن يكون حريرًا فلا يصحّ. والحناء لا بأس بها إذا اختضب بها الرّجل في يديه ورجليه غير قاصد للتشبّه بالنّساء، ولا يريد به الزّينة، وأمّا ما يلبس النّساء من الحلي والجواهر فليس فيه زكاة. (15) وله أيضًا -رحمه الله تعالى- بسم الله الرّحمن الرّحيم (الجواب): الذّبيحة إذا ذبحت وذكر اسم الله عليها وقطع الحلقوم والودجان فهي حلال، وإن لم يبق في الرّأس من الحلقوم شيء. (الثّانية): طلاق الشّرك يحسب عليه في الإسلام، فإن طلّقها في الشّرك ثلاثًا أو أكثر وجاء الإسلام وهي معه أمر بفراقها حتى تنكح زوجًا غيره، ونكاح الشّرك لا يحتاج لتجديد في الإسلام. وأمّا إذا خالعت

المرأة زوجها على شيءٍ مُسمًّى وشرطت عليه أنّها لا تعطيه إلّا إذا تزوّجت، وطلّقها على ذلك فإنّها تعطيه إيّاه إذا تزوّجت. وأمّا مواريث الشّرك فإذا كان الوارث في الجاهلية قد طرد شريكه في الإرث وأسلم والمال في يده، فهو له دون شريكه سواء كان المطرود رجالًا أو نساء، وإن كان مزبورًا لم يقسم حتّى جاء الإسلام فإنّه يقسم على فرائض الله ويعطي كلّ نصيبه من المال. وأمّا إذا أوصى لإناث بوصية مدّة حياته وجاء الإسلام والمال في يد الإناث فإنّه يكون لهم ولورثتهم. وأمّا إذا كان لرجلٍ أرض ودفعها لرجلٍ يحرثها، ويزرعها هو وولده من بعده بلا أجل معلوم وجاء الإسلام والأرض في أيديهم فإنّ ذلك الأرض يرجع فيها. وما أحدث الزّراع من شجرٍ أو بناءٍ أو غرسٍ فهو له يأخذه بقيمته إن أراده. وأمّا إذا باع الرّجل المال الذي في أيدي الحريم بعد مورثهم، فهذا بيع فاسد يردّ على المشتري ثمنه الذي دفعه للبائع. وأمّا قتل الجاهلية والجراحات التي فيها فما كان من ذلك مقطوع ديته مضمون كثيرًا أو قليلًا؛ فإنّه يدفع إلى صاحبه أو لِمَن يكن. وأمّا ديون الجاهلية من الرّبا والرّهون التي لا تجوز في الإسلام فليس لصاحبها إلّا رأس المال، فإن كان الذي عليه الحقّ متعسرًا لزم صاحب الدّين إنظاره إلى ميسرةٍ، وإن كان له كدود لا تفي قيمة كفايته وكفاية مَن تحته، ولا يقدر على حرفة غير ذلك تغنيه وتغني أولاده ومَن تحت يده فلا يجوز لصاحب الدّين أن يأخذ ذلك ويتركه يضيع ومَن تحت يده؛ بل يصبر إلى أن يغنيه الله أو يصالحه على شيء يعطيه إيّاه كلّ سنة لا يضر به.

وأمّا وقت الشّرك الذي على طاعة، فهذا يجب الوفاء به في الإسلام. وأمّا الصّدقة عد الختان والزّواج، أو الصّدقة للميت عند موته فلا بأس به. وأمّا تلاوة القرآن على الميت قبل أن يغسل فهذا لا بأس به. وأمّا إهداء ثواب البدن للميّت 1 من قراءةٍ، وصلاةٍ، وحجٍّ وغير ذلك، فهذا فيه خلاف بين العلماء هل يصل إلى الميّت أم لا؟ ولا ينكر على مَن فعله أو تركه. وأمّا صدقة المال فهي تصل إلى الميّت باتّفاق العلماء. وأمّا النّائبة للضّيف ودية القتلى والجهاد الذي يجاهد دفاعًا عن بلد وأهلها، فهذا لا يدخل فيه مال اليتيم 2. وأمّا الأب فيجوز له الأخذ من مال ابنه سواء كان يتيمًا من الأم أو لم يكن، ولا يجوز له أن يعطي منه ولا يهب ولا يتصدّق. وأمّا زكاة غنم الحضر التي في البلد، فهي تصير مع زكاة البلد. وأمّا المتطوّع الذي مسجد يصلي به ويقوم به فإنّه يعطى من الزّكاة إذا كان فقيرًا، وإن كان غنيًا فلا يجوز له الأخذ من الزّكاة، ويجوز له الأكل من وقف المسجد. وأمّا المتخلف عن الجمعة والجماعة فيؤدّبه الأمير بما يزجره عن ذلك، وكذلك المعاصي التي ليس فيها حدّ يجوز للأمير تعزير العاصي على المعصية من ضربٍ أو تأديبٍ.

_ 1 أي: إهداء ثواب العبادات البدنية إلى الميت ... الخ. 2 هكذا في الأصل.

17 - من عبد الله بن الشيخ إلى الأخ رجب

وأمّا الحناء إذا كان ليس قصده التّشبه بالنّساء، وإنّما مقصوده إزالة أثر العمل أو التبّرد أو التّداوي فلا بأس به، وكذلك لبس الثّوب الأسود إذا كان رجال البلد يلبسونه. وصلاة التّراويح في رمضان مستحبة، وفعلها جماعة أفضل، وكذلك القنوت في النّصف الآخر من رمضان، وزكاة الفطر يجمعها الأمير وتفرق على فقراء البلاد خاصّة. والله أعلم. وصلّى الله على محمّدٍ وآله وصحبه وسلّم. (16) وله أيضًا -رحمه الله تعالى-: من عبد الله بن الشّيخ إلى الأخ رجب. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد، وصل الخط أوصلك الله إلى رضوانه، وما ذكرت من المسائل: (الأولى): إذا باع رجل على رجلٍ شيئين ثم أنكر المشتري ووجد البائع أحد الشّيئين هل له الرّجوع في الموجود أم لا؟ (فالجواب): وبالله التّوفيق، أنّ هذه المسألة فيها روايتان: (إحداهما): لا يرجع. نقلها أبو طالب عنه. قال: لا يرجع بقية العين، ويكون أسوة الغرماء؛ لأنّه لم يجد المبيع بعينه فأشبه ما لو كان عينًا واحدةً، ولأنّ بعض المبيع تالف فلم يملك الرّجوع فيه كما لو قطعت يد العبد. ونقل الحسن بن ثوبان عن أحمد إن كان ثوبًا واحدًا فتلف بعضه فهو أسوة الغرماء، وإن كان رزمًا فتلف بعضها فإنّه يأخذ بقيمتها إذا كان بعينه؛ لأنّ السّالم من المبيع وجده البائع بعينه فيدخل في عموم الحديث المذكور، ولأنّه مبيع وجده بعينه فكان للبائع الرّجوع فيه، كما لو كان جميع المبيع، فإن باع بعض المبيع

أو وهبه أو وقفه فهو بمنْزلة تلفه؛ لأنّ البائع ما أدرك ماله بعينه. (وأمّا الثانية): إذا باع رجل على رجلٍ سلعة قيمتها وقت البيع عشرة ثم أفلس المشتري وقد صارت قيمتها عشرين، هل له الرّجوع في الزّيادة المتّصلة أم لا؟ (فالجواب): أنّ من شرط الرّجوع في السّلعة إذا وجدها صاحبها عند المفلس أن لا يكون المبيع زاد زيادة متّصلة، كالسّمن، والكبر، وتعلّم صنعةٍ، فإنّ هذا يمنع الرّجوع، وهو اختيار الخرقي. وعن أحمد -رحمه الله تعالى- إنّ ذلك لا يمنع. قال في الشّرح الكبير، وهو مذهب مالك، والشّافعي، إلّا أنّ مالكًا قال: يخيّر الغرماء بين أن يعطوه السّلعة أو ثمنها الذي باعها به، واحتجّوا بالخبر يعني قوله: "مَن وجد متاعه بعينه عند رجلٍ قد أفلس فهو أحقّ به"، وبأنّه فسخ لا يمنع الزّيادة المنفصلة فلم يمنع المتّصلة كالرّدّ بالعيب. قال: ولنا أنّه فسخ بسبب حادثٍ فلم يملك به الرّجوع في عين المال الزّائدة زيادة متّصلة؛ كفسخ النّكاح بالإعسار، أو الرّضاع، ولأنّها في ملك المفلس فلم يستحقّ البائع أخذها كالمنفصلة. انتهى. والذي يترجّح عندي مذهب مالك -رحمه الله-، وهو أنّ الغرماء يخيّرون بين أن يعطوه السّلعة بعينها، وبين أن يعطوه الثّمن الذي باعها به، فعلى هذا إن كان لهم مصلحة في زيادتها المتّصلة أعطوه ثمنه وأخذوا السّلعة، وتكون الزّيادة المتّصلة للمفلس يستوفون بها الغرماء. (الثالثة): إذا كان على رجلٍ دينٌ وصار الدَّين أكثر من قيمة ماله لو يباع، وظهرت أمارات الفلس، ورهن بعض ماله قبل أن يطلب الغرماء الحجر عليه عند المفتي، هل يصحّ رهنه مع أنّ بعض الغرماء يدّعي عدم ظهور أمارات الفلس لغيبته أو غيرها ما الحكم؟

(فالجواب): أنّ في نفوذ تصرّفه قبل الحجر عليه قولان هما روايتان عن أحمد: (أحدهما): أنّه يصحّ تصرّفه وينفذ. قال في الإنصاف على الصّحيح من المذهب، نصّ عليه جماهير الأصحاب، وقيل: لا ينفذ تصرّفه. ذكره الشّيخ تقي الدّين وحكاه روياةً واختاره. وسأله جعفر -يعني الإمام أحمد- مَن عليه دين يتصدّق بالشّيء؟ قال: الشّيء اليسير وقضاء دينه أوجب عليه. (قلت): وهذا القول هو الصّواب، خصوصًا وقد كثرت حيل النّاس وجزم به في القاعدة الثّالثة والخمسين، فقال: المفلس إذا طلب البائع منه سلعته التي يرجع بها قبل الحجر لم ينفذ تصرّفه، نصّ عليه، وذلك ثلاثة نصوص، لكن ذلك مخصوص بمطالبة البائع. انتهى كلامه في الإنصاف. وهذا القول، هو الذي اختاره الشّيخ تقي الدين، وصاحب الإنصاف، وهو الرّاجح إن شاء الله تعالى. (الرّابعة): إذا استأجر رجلّ أرضًا بأربعين ريالًا، وتنقلت بعد الأربعين إلى أنّ المستأجر يؤجّرها بعشرة وصاحب الأرض قد شرط على المستأجر مدّة سنين، وأراد المستأجر الفسخ، هل تدخل في حكم وضع الجوائح أم لا؟ (فالجواب): أنّ الذي نفهم من كلام أهل العلم أنّها ما تدخل في مسألة وضع الجوائح، وأنّ المراد بذلك إذا كانت الجائحة من قبل الله بآفةٍ سماوية كالمطر والبرد والسّيول وأشباه ذلك، وأمّا الإجارة فهي لازمة من قبل المؤجر والمستأجر إلّا إذا انهدمت الدّار، أو تعطّلت الأرض بآفة سماوية انفسخت الإجارة فيما بقي من المدّة، وأمّا هذه الصّورة فهي مثل أن يشتري سلعة غالية ثم ترخص بعد ذلك بتغيّر الأسعار. والله أعلم. (الخامسة): إذا وجد رجل ضالة من الإبل فأخذها يريد الحفظ، وهو معروف بالأمانة، ثم تلفت بعد ذلك بموتٍ أو ذهابٍ، هل يغرمها إذا طالبه صاحبها أم لا؟

(الجواب): قال في الإنصاف: يجوز للإمام أو نائبه أخذ ما يمتنع من صغار السّباع وحفظه لربّه، ولا يلزمه تغريمه. قاله الأصحاب، ولا يكتفى فيها بالصّفة. قاله المصنّف وغيره، واقتصر عليه في الفروع. ولا يجوز لغيرهما أخذ شيء من ذلك لحفظه لربّه على الصّحيح من المذهب. وقال المصنّف ومَن تبعه يجوز أخذها إذا خيف عليها كما لو كانت في أرض مسبّعة أو قريبًا من دار الحرب، أو موضع يستحلّ أهله أموال المسلمين، أو في برية لا ماء فيها ولا مرعى فلا ضمان على مَن أخذها؛ لأنّه إنقاذ من هلكة. قال الحارثي: قالوا كما قال. وجزم به في تجريد العناية. (قلت): ولو قيل: بوجوب أخذها والحالة هذه لكان له وجه. انتهى. والذي يترجّح عدي أنّ الرّجل إذا عُرِفَ بالأمانة، وأنّه يحسن في حفظها ولم يتعرّض لها بركوبٍ وغيره، أنّه لا يضمن كما اختاره هؤلاء الأئمة. والله أعلم. (السّادسة): إذا تزوّج رجل بامرأة وشرطت عليه طلاق ضرّتها، أو طلاقها بنفسها بعد شهرين هل يصحّ ذلك أم لا؟ (فالجواب): أمّا شرطها طلاقها بنفسها بعد شهرين؛ فهذا لا يجوز اشتراطه، وهو شرط باطل، وأمّا اشتراط طلاق ضرّبها ففيه خلاف مشهور بين العلماء. والصّحيح أنّه شرط باطل بما ثبت في الصّحيحين وغيرهما أنّ النَّبِيّ -صلّى الله عليه وسلّم- قال: "لا تسأل المرأة طلاق ضرّتها؛ فإنّه يأتيها ما قدر لها"، أو كما قال -صلّى الله عليه وسلّم-. والله سبحانه وتعالى أعلم. (السّابعة): إذا كان رجل معروفًا بالفلس ويعامله النّاس مع ظهور فلسه، وأراد رهن بعض ما في يده، أوفى به بعض الغرماء، وطلب غرماؤه الحجر عليه لزمه إجابتهم، وهذا هو الصّحيح إن شاء الله تعالى.

(الثّامنة): العبد إذا ظاهر أو سرق من حرزٍ، هل يصير حكمه حكم الحرّ في ذلك أم لا؟ (فالجواب): أنّ الذي عليه جمهور العلماء أنّ الظّهار يصحّ من كلّ زوجٍ يصحّ طلاقه. قال في الإنصاف: هذا هو الصّحيح من المذهب، وعليه الأصحاب، فيصحّ ظهار الصّبي حيث صحّحنا طلاقه. قال في عيون المسائل: سوى أحمد بينه وبين الطّلاق إلى أن قال: (تنبيهان): أحدهما: شمل قوله يصحّ من كلّ زوجٍ يصحّ طلاقه العبد، وهو الصّحيح، وهو المذهب، وعليه الأصحاب. وجزم به في الفروع وغيره. وقيل: لا يصحّ، والذي يترجّح عندي هو قول جمهور العلماء. وأمّا العبد إذا سرق، فالظّاهر من كلامهم أنّه كالحرّ وصرّح به العلماء من الشّافعية. (التّاسعة): ما معنى قوله: ولا يجوز استصناع سلعة بعينها؟ (فالجواب): أنّ معنى ذلك: أن يأمر رجلًا أن يصنع له سلعة ولا يصفها بصفات السلم، فأمّا إذا ضبطها بأوصاف السّلم الذي لا يحصل معه الجهل ولا الغرر؛ فإنّه جائز؛ لأنّه داخل في قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا}، [البقرة، من الآية: 275]. وقوله - عليه السّلام: "المسلمون عند شروطهم". (العاشرة): إذا كان لرجلٍ على رجلٍ دين مؤجّل قدر عشرة وأراد أن يعجل له بخمسة ويترك الباقي هل يصحّ ذلك أم لا؟ (فالجواب): أنّ فيها خلافًا مشهورًا بين العلماء. قال في الإنصاف: ولو صالح عن المؤجّل ببعضه حالًا لم يصحّ. هذا هو المذهب نقله الجماعة عن أحمد وعليه جماهير الأصحاب، وفي الإرشاد والمبهج رواية يصحّ، واختاره الشّيخ تقيّ الدّين؛ لبراءة الذّمّة هنا، وكدين الكتابة، جزم به الأصحاب في دين الكتابة، ونقله ابن منصور. انتهى كلامه. والذي يترجّح عندي هو

18 - من عبد الله بن الشيخ إلى الأخ رجب

القول الأخير، وهو الذي اختاره الشّيخ تقي الدّين - قدّس الله روحه -. وأمّا إذا كان الدّين حالًا فوضع بعضه، وأجّل باقيه، قال في الإنصاف: صح الإسقاط دون التّأجيل، أمّا الإسقاط فيصحّ على الصّحيح من المذهب. وعنه: لا يصحّ الإسقاط، أمّا التّأجيل فقد يصحّ على الصّحيح من المذهب، وعليه الأصحاب؛ لأنّه وعد. وعنه يصحّ, وذكر الشّيخ تقي الدّين روايةً بتأجيل الحال في المعارضة لا التّبرّع. قال في الفروع: والظّاهر أنّها هذه الرّاوية. والله أعلم. وصلّى الله على محمّدٍ وآله وصحبه وسلّم. - 17 - وله أيضًا -رحمه الله تعالى-: بسم الله الرّحمن الرّحيم من عبد الله بن الشّيخ إلى الأخ رجب سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. (وبعد) الخطّ وصل أوصلك الله إلى رضوانه، ونحمد إليك الله الذي لا إله إلّا هو على نعمة الإسلام والإيمان والعافية والاجتماع على دين الله بعد أجرى الله على أمير المسلمين ما أجرى، ونرجو من الله أن يفتح لنا فتحًا مبينًا، وينصرنا نصرًا عزيزًا أعظم مما تقدّم. وأمّا المسائل التي تسأل عنها: (الأولى): إذا قال رجل لزوجته: إن أعطيتِنِي كذا وكذا، فأنت طالق، أو إذا نزلت على أهلك، فأنت طالق، ومراده ونيّته وقت معلوم، كاليوم واليومين مثلًا، فلا تطلق إذا مضى الوقت الذي نواه، والظّاهر أنّه يحلف أنّ هذا مراده. وأمّا إذا علّق الطّلاق على شرطٍ فأراد الرّجوع عن ذلك التّعليق قبل وجود الشّرط، فالذي صحّحه في الإنصاف وغيره أنّه ليس له الرّجوع عن ذلك.

(الثّانية): إذا طلبت المرأة من زوجها المريض طلاقها فطلّقها ثلاثًا صحّ طلاقه، وطلقت، والظّاهر أنّها لا ترث لعدم التّهمة، وأمّا كلام ابن عبّاس في الخلع وقوله: ليس الخلع بطلاق، فالظّاهر أنّ مراده الخلع الصّحيح، وهو المستكمل للشّروط المذكورة في القرآن: {وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ}، [البقرة، من الآية: 229]. وهي رواية عن أحمد، وهو اختيار الشّيخ تقيّ الدّين، وهو مروي عن طاوس، وعكرمة، وإسحاق، وأبِي ثور، وهو أحد قولي الشّافعي. وأمّا خلع كثير من النّاس اليوم؛ فليس بخلعٍ صحيحٍ، والذي يفتى به لمثلهم أنّ الخلع طلاق بائن، وهذا هو المشهور من مذهب أحمد، سواء نوى به الطّلاق أم لا. روي ذلك عن سعيد بن المسيب، وعطاء، والحسن، ومالك، وأصحاب الرّاي. وأمّا مَن أراد تزويج أخته وليس معه إلّا شاهد ويمين، فمثل هذا يشترط له كثير من أهل العلم شاهدين، وليس لليمين مدخل في مثل هذا، إنّما ذلك في المال، وما يقصد به المال. وأمّا الجار إذا كان شريكًا لجاره في طريق، وليس لغيرهما شركة فهي الشّفعة، خلاف مشهور. والرّاجح أنّ له الشّفعة، وهو المفتَى به عندنا، وهو اختيار الشّيخ تقيّ الدّين. وأمّا الصّبرة المشتراة، جزافًا فلا يجوز بيعها حتّى ينقلها المشتري من مكانها إلى آخر، ويكفي في ذلك أن ينقلها من موضعٍ في السّوق إلى آخر. وأمّا المساقاة والمزارعة إذا شرط ربّ الأرض أن لا يخرج منها سنين معلومة، فالظّاهر لزوم ذلك الشّرط، كما في الحديث: "المسلمون عند شروطهم "، وكثير من العلماء يقولون هي لازمة على المساقي والمزارع، وإن لم يشترط ربّ الأرض لزومه. وأمّا الذي خالع زوجته، وقال: أنت طالق

19 - أصل دعوة التجديد في نجد وقاعدتها

عدد الخوص، فإن كان الخلع صحيحًا فليس بطلاقٍ، وإن قال ذلك، وإن كان الخلع كخلع أكثر النّاس اليوم. وأمّا الأب فيجوز له الأخذ من مال ابنه صغيرًا كان أو كبيرًا بالشّروط المذكورة في كتب الفقه. وأمّا إذا اكترى رجل من آخر أرضًا أو نخلًا وأصابته جائحة؛ فإنّه يطرح عن المؤجّر بقدر ما نقصت الجائحة من الثّمرة من الأجرة. وأمّا إذا قال الزّوج لزوجته عند سؤالها منه الطّلاق: الله يرزقكِ، فهذا كناية يحتاج إلى نية الطّلاق، ويصدق بيمينه إن لم ينوِ الطّلاق. انتهى. وصلّى الله على نبيّنا محمّد وآله وصحبه وسلّم. - 18 - {أصل دعوة التّجديد في نَجد وقاعدتها} ورد على الشّيخ الإمام عبد الله بن الشّيخ محمّد بن عبد الوهّاب كتاب من الشّيخ عبد الله الصّنعاني يسأله فيه عمّا يدينون به، وما يعتقدونه من الحقّ، فأجابه بما هو الصّواب. قال رحمه الله تعالى: بسم الله الرّحمن الرّحيم الحمد لله، الصّلاة السّلام على سيّدنا محمّد سيّد الأنام، وعلى آله وصحبه البررة الكرام، إلى عبد الله بن عبد الله الصّنعاني، وفّقه الله وهداه وجنّبه الإشراك والبدعة وحماه، وعليكم السّلام ورحمة الله وبركاته.

أمّا بعد؛ فوصل الخط وتضمن السّؤال عمّا نحن عليه من الدّين. فنقول، وبالله التّوفيق: الذي ندين الله به عبادة الله وحده لا شريك له، والكفر بعبادة غيره ومتابعة الرّسول النَّبِيّ الأمّيّ حبيب الله وصفيّه من خلقه محمّد -صلّى الله عليه وسلّم-. فأمّا عبادة الله وحده فقال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}، [الذّريات: 56]. وقال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ}، [النّحل، من الآية: 36]. فمن أنواع العبادة الدّعاء وهو الطّلب بياء النّداء؛ لأنّه ينادى به القريب والبعيد، وقد يستعمل في الاستغاثة، أو بأحد أخواتها من حروف النّداء؛ فإنّ العبادة اسم جنس؛ فأمر الله سبحانه وتعالى عباده أن يدعوه ولا يدعو معه غيره. وقال تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ}، [غافر: 60]. وقال في النّهي: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَدًا}، [الجن: 18]. وأحد كلمة تصدق على كلّ ما دُعِي به غير الله تعالى. وقد روى التّرمذي عن أنس أنّ النَّبِيّ -صلّى الله عليه وسلّم- قال: "الدّعاء مخ العبادة". وعن النّعمان بن بشير قال: قال رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم-: "الدّعاء هو العبادة، ثم قال: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} ". رواه أحمد وأبو داود والتّرمذي. قال العلقمي في شرح الجامع الصّغير: حديث: "الدّعاء مخ العبادة"، قال شيخنا: قال في النّهاية: مخّ الشّيء خالصه، وإنّما كان مخها لأمرين: أحدهما: أنّه امتثال لأمر الله تعالى حيث قال: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ}، فهو مخ العبادة وخالصها. والثّاني: أنّه إذا رأى نجاح الأمور من الله قطع علقته عمن سواه ودعاه لحاجته وحده، ولأنّ الغرض من العبادة هو الثّواب عليها، وهو المطلوب بالدّعاء. وقوله: "الدّعاء هو العبادة"، قال شيخنا: قال الطّيبِي أتى بالخبر المعرّف باللام ليدلّ على الحصر، وأنّ العبادة ليست غير

الدّعاء". انتهى كلام العلقمي 1. إذا تقرّر هذا؛ فنحن نعلم بالضّرورة أنّ النَّبِيّ -صلّى الله عليه وسلّم- لم يشرع لأمته أن يدعو أحدًا من الأموات، لا الأنبياء، ولا الصّالحين، ولا غيرهم؛ بل نعلم أنّه نهى عن هذه الأمور كلّها، وأنّ ذلك من الشّرك الأكبر الذي حرمه الله تعالى ورسوله. قال الله تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ * وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ}، [الأحقاف، الآيتان: 5 - 6]. وقال تعالى: {فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ}، [الشّعراء:213]. وقال تعالى: {وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ}، [يونس، من الآية: 106]. الآيات. وهذا من معنى: (لا إله إلّا الله)؛ فإنّ (لا) هذه هي نافية للجنس، فتنتفي جميع الآلهة، (وإلّا) حرف استثناء يفيد حصر جميع العبادة على الله -عزّ وجلّ-، والإله اسم صفة لكلّ معبود بحقٍّ أو باطلٍ ثم غُلِّب على المعبود بحقٍّ؛ وهو الله تعالى الذي يخلق ويرزق، ويدبّر الأمور، وهو الذي يستحقّ الألهية وحده. والتّألّه: التّعبّد. قال تعالى: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} [البقرة:163]. ثُمّ ذكر الدّليل فقال: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ}، [البقرة، من الآية: 164]، إلى قوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا} الآية، [البقرة، من الآية: 165]. وأمّا متابعة الرّسول -صلّى الله عليه وسلّم-، فواجب على أمّته متابعته في الاعتقادات

_ 1 لكن هذا الحصر إضافي غير حقيقي؛ فإنّ العبادات كثيرة، وقال المحقّقون: إنّ هذا الحديث كحديث: "الحجّ عرفة"، وإنّ تعريف العبادة في الحديثين بمعنى الفرد الكامل؛ كقول العرب: النّجم، وأراد الثّريا. والمعنى: أنّ أكمل إفراد العبادة الذي يظهر به إخلاص العبودية هو الدّعاء، وفي الحديث الآخر أنّ أكمل أركان الحجّ الوقوف بعرفة. وكتبه محمّد رشيد رضا.

والأقوال والأفعال. قال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} الآية، [آل عمران، من الآية: 31]. وقال -صلّى الله عليه وسلّم-: "مَن أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو ردٌّ". رواه البخاري ومسلم. وفي روايةٍ لمسلمٍ: "مَن عمِل عملًا ليس عليه أمرنا فهو ردٌّ". فتوزن الأقوال والأفعال بأقواله وأفعاله فما وافق منها قبل، وما خالف ردّ على فاعله كائنًا مَن كان. فإنّ شهادة أنّ محمّد رسول الله، تتضمّن: تصديقه فيما أخبر به، وطاعته، ومتابعته في كلّ ما أمر به. وقد روى البخاري من حديث أبي هريرة، أنّ رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- قال: "كلّ أمّتي يدخلون الجنّة إلّا مَن أبى"، قالوا: يا رسول الله! ومَن يأبى؟! قال: "مَن أطاعنِي دخل الجنة، ومَن عصاني فقد أبَى". فتأمّل -رحمك الله- ما كان عليه رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- وأصحابه بعده والتّابعون لهم بإحسانٍ، وما عليه الأئمّة المقتدى بهم من أهل الحديث والفقهاء، كأبي حنيفة، ومالكٍ، والشّافعي، وأحمد بن حنبل -رحمهم الله تعالى-؛ لكي تتّبع آثارهم. وأمّا مذهبنا فمذهب الإمام أحمد بن حنبل إمام أهل السّنة، ولا ننْكر على أهل المذاهب الأربعة إذا لم يخالف نصّ الكتاب والسّنة، ولا إجماع الأمة ولا قول جمهورها. والمقصود بيان ما نحن عليه من الدّين، أنّه عبادة الله وحده لا شريك له، فبها نخلع جميع الشّرك، ومتابعة الرّسول، وبها نخلع جميع البدع إلّا بدعة لها أصل في الشّرع؛ كجمع المصحف في كتابٍ واحدٍ، وجمع عمر -رضي الله عنه- الصّحابة على التّراويح جماعةً، وجمع ابن مسعود أصحابه على القصص كلّ خميس، ونحو ذلك. فهذا حسن. والله أعلم. وصلّى الله على محمّد وآله وصحبه وسلّم.

20 - أجاب الصنعاني الشيخ عبد الله -رحمهما الله- على كتابه بالموافقة على كل ما فيه إلا قوله: "إن مذهبهم مذهب الإمام أحمد"؛ فإنه يقتضي تقليده، والتقليد محظور، وإنما ينبغي اتباعه في الأخذ من الكتاب والسنة. فأجابه الشيخ عبد الله بهذا الكتاب

- 19 - أجاب الصّنعاني الشّيخ عبد الله -رحمهما الله- على كتابه بالموافقة على كلّ ما فيه إلّا قوله: إنّ مذهبهم مذهب الإمام أحمد؛ فإنّه يقتضي تقليده، والتّقليد محظور، وإنّما ينبغي اتّباعه في الأخذ من الكتاب والسّنة، فأجابه الشّيخ عبد الله بهذا الكتاب. قال: بسم الله الرّحمن الرّحيم الحمد لله الذي نزل الكتاب على النَّبِيّ المختار، وبيّنه -صلّى الله عليه وسلّم-، وحمله عنه أصحابه الأخيار، ثم التّابعون لهم من الأبرار. إلى عبد الله بن عبد الله الصّنعاني، سلّمه الله من الشّرك والبدع، ووفّقه للإنكار على مَن أشرك وابتدع، والصّلاة والسّلام على محمّد الذي قامت به على الخلق الحجة، وبيّن وأوضح لهم المحجة، وعلى آله وصحبه القدوة بعده. أمّا بعد؛ فقد وصل كتابكم وسرّ الخاطر، وأقرّ النّاظر؛ حيث أخبرتم أنّكم على ما نحن عليه من الدّين، وهو عبادة الله وحده لا شريك له، ومتابعة الرّسول الأميّ سيّد ولد آدم -صلّى الله عليه وسلّم-، وما أوردتم على ذلك من الآيات الواضحات، والأحاديث الباهرات، وأنّ الرّدّ عند الاختلاف إلى كتاب الله وسنة رسوله -صلّى الله عليه وسلّم-، ثم إلى أقوال الصّحابة، ثم التّابعين لهم بإحسانٍ؛ فذلك ما نحن عليه، وهو ظاهر عندنا من كلّ قولٍ له حقيقة، وحقيقة العلم وثمرته العمل: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} الآية، [آل عمران، من الآية: 31]. و {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ}، [الصّفّ: 2]. وكلّ يدعّي وصلًا ليلى ... وليلى لا تقرّ لهم بذاكا

فنحن أقمنا الفرائض والشّرائع والحدود والتّعزيرات، ونصبنا القضاة، وأمرنا بالمعروف ونهينا عن المنكرات، ونصبنا علم الجهاد على أهل الشّرك والعناد فلله الحمد والمنّة. وأمّا استفصالكم عن قولنا مذهبنا مذهب الإمام أحمد، وقولكم: إن تريدون أن نسلك في أخل المسائل من الكتاب والسّنة مثل مسلكه فنعم ما قلتم، وإن تريدون بقولكم ذلك التّقليد له فيما قاله من غير نظرٍ إلى الحجة من الكتاب والسّنة كما سلك بعض أتباع الأئمة الأربعة من جعل آرائهم وأقوالهم أصولًا لمسائل وأطرحوا الاحتجاج بالكتاب والسّنة وسدّوا بابهما إلى آخره. انتهى كلامكم ملخصًّا. فالجواب وبالله التّوفيق من أوجه: الوجه الأوّل: أنّ في رسالتنا التي عندكم ما يردّ هذا التّوهّم، وهو قولنا فيها: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} الآية، [آل عمران، من الآية: 31]. وقوله -صلّى الله عليه وسلّم-: "مَن أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو درٌّ". رواه البخاري ومسلم. فتوزن الأقوال والأفعال بأقواله وأفعال فما وافق منها قبل، وما خالف رُدَّ على قائله كائنًا مَن كان إلى آخره. فتضمّن هذا الكلام أنّه لا يقدّم رأي أحدٍ على كتاب الله وسنة رسوله والعجب كيف نبا فهمكم عنها. الوجه الثّاني: قد صرّح العلماء أنّ النّصوص الصّريحة الصّحيحة التي لا معارض لها ولا ناسخ، وكذا مسائل الإجماع لا مذاهب فيها، وإنّما المذاهب فيما فهمه العلماء من النّصوص، أو علمه أحد دون أحد، أو في مسائل الاجتهاد ونحو ذلك. الوجه الثّالث: قد ذكر العلماء أنّ لفظة المذهب لها معنيان: معنىً

في اللّغة، ومعنى في الاصطلاح. فالمذهب في اللّغة: مفعل، ويصحّ للمصدر والمكان والزّمان بمعنى: الذّهاب، وهو المرور، أو محلّه وزمانه. واصطلاحًا: ما ترجّح عند المجتهد في أيّما مسألةٍ من المسائل بعد الاجتهاد، فصار له معتقدًا ومذهبًا. وعند بعضهم: ما قاله مجتهد بدليلٍ ومات قائلًا به. وعند بعضهم: أنّه المشهور في مذهبه كنقض الوضوء بأكل لحم الجزور، ومسّ الذّكر، ونحوه عند أحمد. ولا يكاد يطلق إلّا على ما فيه خلاف. وقال بعضهم: هو في عرف الفقهاء: ما ذهب إليه إمام من الأئمة الاجتهادية 1. ويطلق عند المتأخرين من أئمة المذاهب على ما به الفتوى، وهو ما قوي دليله. وقيل: ما كثر قائله. فقد تلخّص من كلامهم أنّ المذهب في الاصطلاح: ما اجتهد فيه إمام بدليلٍ، أو قول جمهورٍ، أو ما ترجّح عنده ونحو ذلك. وأنّ المذهب لا يكون إلّا في مسائل الخلاف التي ليس فيها نصّ صريح ولا إجماع. فأين هذا من توهّمكم إنّ قولنا لكم: مذهبنا مذهب الإمام أحمد، أنا نقلّده فيما رأى وقاله، وإن خالف الكتاب والسّنة والإجماع؟! فنعوذ بالله من ذلك والله المستعان. الرّابع: قال ابن القيم في إعلام الموقّعين لما ذكر المفتين بمدينة السّلام، وكان بها إمام أهل السّنة على الإطلاق أحمد بن حنبل الذي ملأ الأرض علمًا وحديثًا وسنة إلى أن قال: وكانت فتاواه مبنية على خمسة أصول: أحدها: النّصوص فإذا وجد النّصّ أفتى بموجبه ولم يلتفت إلى ما خالفه، ولا مَن خالفه كائنًا مَن كان، ثم ذكر أحاديث تمسّك بها الإمام

_ 1 كذا في الأصل المخطوط، ولا بدّ أن يكون قد سقط من النّاسخ كلمة: المسائل، أو الأمور.

أحمد ولم يلتفت إلى ما خالفها إلى أن قال: الأصل الثّاني من أصول فتاوى الإمام أحمد ما أفتى به الصّحابة؛ فإنّه إذا وجد لبعضهم فتوى لا يعرف له مخالف منهم فيها لم يعدها إلى غيرها، ولم يقل إنّ ذلك إجماع؛ بل من ورعه في العبارة يقول: لا أعلم شيئًا يدفعه ونحو هذا، إلى أن قال: الأصل الثّالث من أصوله إذا اختلف الصّحابة تخيّر من أقوالهم ما كان أقربها للكتاب والسّنة ولم يخرج عن أقوالهم. فإن لم يتبيّن له موافقة أحد الأقوال حكى الخلاف فيها ولم يجزم بقولٍ، إلى أن قال: الأصل الرّابع: الأخذ بالمرسل والحديث الضّعيف إذا لم يكن في الباب شيء يدفعه، فهو الذي يرجّحه على القياس. وليس المراد بالضّعيف عنده الباطل، ولا المنكر، ولا ما في روايته متّهم؛ بل الحديث الضّعيف عنده قسيم الصّحيح، فإذا لم يجد في الباب أثرًا يدفعه ولا قول صاحبٍ ولا إجماع على خلافه، كان العمل به عنده أولى من القياس، وليس من الأئمة إلّا وهو موافقه على هذا الأصل من حيث الجملة، فإذا لم يكن عند الإمام أحمد نصّ ولا قول للصّحابة أو أحد منهم ولا أثر مرسل أو ضعيف عدل إلى: الأصل الخامس: وهو القياس، فاستعمله للضّرورة، وقال الشّافعي: إنّما يصار إليه عند الضّرورة. وقال الإمام أحمد في رواية أبي الحارث: ما تصنع بالرّأي والقياس وفي الحديث ما يغنيك عنه؟! وقد تتوقّف في الفتوى لتعارض الأدلّة عنده أو لاختلاف الصّحابة فيها، وقال أبو داود: سمعت أحمد سئل عن كثيرٍ مما فيه الاختلاف في العلم فيقول: لا أدري. انتهى كلام ابن القيم ملخّصًا. فهذا ما أشرنا إليه من قولنا: مذهبنا مذهب الإمام أحمد.

وأمّا ما ذكرتم من ذمّ مَن قلّد الإمام أحمد وغيره، وأطلقتم الذّمّ فليس الأمر على إطلاقكم، فإن تريدون بذمّ التّقليد تقليد مَن أعرض عما أنزل الله، وعن سنة نبيّه -صلّى الله عليه وسلّم-، أو مَن قلّد بعد ظهور الحجة له، أو مَن قلّد مَن ليس أهلًا أن يؤخذ بقوله، أو مَن قلّد واحدًا من النّاس فيما قاله دون غيره، فنعم المسلك سلكتم. وإن تريدوا بذلك الإطلاق منع النّاس لا ينقل بعضهم عن بعضٍ، ولا يفتي أحد لأحدٍ إلّا مجتهد، فقد قال تعالى: {فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ}، [النّحل، من الآية: 43]. قال عليّ بن عقيل صاحب الفنون ورؤوس المسائل: يجب سؤال أهل الفقه بهذه الآية. وقد أمر الله بطاعته، وطاعة رسوله، وأولي الأمر وهم: العلماء، أو العلماء والأمراء، وأرشد النَّبِيّ -صلّى الله عليه وسلّم- مَن لا يعلم إلى سؤال مَن يعلم، فقال في حديث صاحب الشّجة: "ألا سألوا إذا لم يعلموا فإنّما شفاه العيّ السّؤال". وأيضًا فأنَّى تدرك هذه في هذه الأزمنة التي قلّ العلم في أهلها، وقلّ فيها المجتهدون، وقد صرّح العلماء أنّ تقليد الإنسان لنفسه جائز، وربما كان واجبًا. وكذا في أوّل الجزء الثّاني من (إعلام الموقّعين) ذكر القول في التّقليد وانقسامه إلى ما يحرم القول فيه، والإفتاء به، وإلى ما يجب المصير إليه، وإلى ما يسوغ من غير إيجاب. فأمّا النّوع الأول فهو ثلاثة أنواع: أحدها: الإعراض عما أنزل الله وعدم الالتفات إليه اكتفاء بتقليد الآباء. الثّاني: تقليد مَن لا يعلم المقلّد أنّه أهل أن يؤخذ بقوله. الثّالث: التّقليد بعد قيام الحجة وظهور الدّليل على خلاف قول المقلّد، وقد ذمّ الله هذه الأنواع الثّلاثة من التّقليد في غير موضعٍ من كتاب -ثم ذكر آيات في ذمّ التّقليد-

إلى أن قال: وهذا القدر من التّقليد هو مما اتّفق السّلف والأئمة الأربعة على ذمّه وتحريمه. وأمّا تقليد مَن بذل جهده في اتّباع ما أنزل الله وخفي عليه بعضه وقلّد فيه مَن هو أعلم منه، فهذا محمود غير مذموم، ومأجور غير مأزور، كما سيأتي بيانه عند ذكر التّقليد الواجب والسّائغ إن شاء الله تعالى. وقال أيضًا في أوّل الجزء الأوّل (من إعلام الموقّعين): قلت وهذه المسألة فيها ثلاثة أقوال لأصحاب أحمد: أحدها: أنّه لا يجوز الفتوى بالتّقليد؛ لأنّه ليس بعلم والفتوى بغير علمٍ حرام، وهذا قول أكثر الأصحاب. والثّاني: أنّ ذلك يجوز فيما يتعلّق بنفسه، فيجوز له أن يقلّد غيره من العلماء إذا كانت الفتوى لنفسه، ولا يجوز أن يقلّد العالم فيما يفتي به غيره، فهذا قول ابن بطة وغيره من أصحابنا. والقول الثّالث: أنّه جوز ذلك عند الحاجة، وعدم المجتهد، وهو أصحّ الأقوال، وعليه العمل. قال القاضي: ذكر أبو حفص في تعاليقه: قال: سمعت أبا عليّ الحسن بن عبد الله النّجاد يقول: سمعت أبا الحسن بن بشار يقول: ما أعيب على رجلٍ يحفظ لأحمد خمس مسائل استند إلى بعض سواري المسجد يفتِي النّاس بها. انتهى كلام ابن القيم ملخّصًا. وقال في الإقناع وشرحه في شروط القاضي: وأن يكون مجتهدًا إجماعًا. ذكره ابن حزم. وأنّهم أجمعوا أنّه لا يحلّ لحاكمٍ ولا مفتٍ تقليد رجلٍ لا يحكم ولا يفتي، إلّا بقوله؛ لأنّه فاقد للاجتهاد، ولو كان اجتهاده في مذهب إمامه إذا لم يوجد غيره لضرورةٍ، كما قال في الإفصاح إنّ الإجماع انعقد على تقليد كلّ من المذاهب الأربعة، وإنّ الحق لا يخرج

عنهم 1، ثم أنّ الصّحيح في هذه المسألة أنّ قول مَن قال إنّه لا يجوز إلّا تولية مجتهد فإنّه ما عنى به ما كانت الحال عليه قبل استقرار ما أقرت عليه هذه المذاهب، وقال الإمام موفّق الدّين أبو محمّد عبد الله بن أحمد المقدسي في خطبة المغني: النّسبة إلى إمامٍ في الفروع؛ كالأئمة الأربعة، ليست بمذمومة، فإنّ اختلافهم رحمة، واتّفاقهم حجّة قاطعة 2. واختار في الإفصاح والرّعاية أو مقلّدا قال في الإنصاف: وعليه العمل من مدّة طويلةٍ، وإلّا تقطعت أحكام النّاس، وكذا المفتي. قال ابن بشار: ما أعيب مَن يحفظ لأحمد خمس مسائل يفتي بها. ونقل عبد الله يفتي غير مجتهد. ذكره القاضي وحمله أبو العبّاس بن تيمية على الحاجة. انتهى كلام صاحب الإقناع وشرحه. وقال في الإنصاف: قال الشّيخ تقي الدّين أحمد بن تيمية في شروط

_ 1 ادّعى هذه الدّعوى بعض علماء القرون الوسطى والمتّبعين لهذه المذاهب، وخطّأهم فيها آخرون منهم، ومن غيرهم، واحتجوا عليهم بأنّ الإجماع اتّفاق مجتهدي العصر كلّهم، وهم غير مجتهدين ولا وجه لإيجاب التّقليد مع وجود المجتهدين، وبأن المحقّقين كالإمام أحمد لا يحتجون بإجماع غير الصّحابة بل صرّح بعضهم بعدم إمكانه، وبعضهم بعدم إمكان العلم به، ومنهم الإمام أحمد. ثم إنّ الأصوليّين قالوا: إنّ الإجماع لا بدّ له من مستندٍ من الكتاب والسّنة، ولا يمكن وجود مستند منهما بحصر الحقّ في أقوال أشخاص معينين الخ. والحقّ أنّ مزية فقه الأربعة أنّه مدون وشامل لأكثر ما يحتاج إليه النّاس، ففيها غناء عن غيرها في الغالب، وإلّا فهذا سلطان العلماء العزّ بن عبد السّلام الشّافعي الأصل الذي شهد له علماء عصره بالاجتهاد المطلق قد فضّل كتاب المحلّى لابن حزم، وكتاب المغني للشّيخ موفّق الدّين الحنبلي على جميع كتب الفقه، فهو إذًا يعتدّ بمذهب ابن حزم الظّاهري، ولا يفضّل عليه أحد المذاهب الأربعة. وكتبه محمّد رشيد رضا. 2 الشّيخ الموفق، قال هذا في أئمة السّلف بجملتهم لا في الأربعة وحدهم منهم، وعبارته صريحة في ذلك خلافًا لما فهمه صاحب الإقناع وشرحه وكتبه محمّد رشيد رضا.

القاضي: ويجب تولية الأمثل فالأمثل، وعلى هذا يدلّ كلام أحمد وغيره، فيولَّى للقدم أعدل المقلّدين وأعرفهما بالتّقليد في الفروع، وهو كما قال. انتهى كلام الإنصاف ملخّصًا. وأما ما ذكرتم عن الأئمة وقول أبي حنيفة: إذا قلت قولًا وفي كتاب الله وسنة رسول الله ما يخالف قولي فاعملوا به، واتركوا قولي. وقول الشّافعي: إذا صحّ الحديث على خلاف قولي فاضربوا بقولي الحائط واعملوا بالحديث. وكذا ما ذكرتم عن الأئمة -رضي الله عنهم- أنّهم صرّحوا بعرض أقوالهم على الكتاب والسّنة، فما خالف منها ردّ، وقد تقدّم في أصول أحمد أنّه إذا صحّ الحديث لم يقدّم عليه قول أحدٍ، فهذا قد تقرّر عندنا. ولله الحمد والمنّة. وأمّا قولكم: إن مرادنا بقولنا: لا ننكر على أتباع الأئمة الأربعة، ولو أشركوا وابتدعوا، فنعوذ بالله من ذلك، بل ننكر الباطل، ونقبل الحقّ ممن جاء به، فإنّ كلّ أحد يؤخذ من قوله ويترك إلّا سيّد الأوّلين والآخرين -صلّى الله عليه وسلّم-. وأمّا قولكم: والمختار أنّ العمل بالحديث بحسب ما بدا لصاحب الفهم المستقيم، فننظر في صحّة الحديث، وإذا صحّ نظرنا في معناه ثانيًا، فإذا تبيّن فهو الحجة، انتهى كلامكم. فهل أنتم مجتهدون أم تأخذون من أقوال المفسّرين، وشراح الحديث، وأتباع الأئمة الأربعة؟ فإن كان الثّاني فأخبرونا عن أكثر مَن تأخذون عنه وترضون قوله من علماء أهل السّنة، وفّقنا الله وإيّاكم إلى ما يرضيه. وجنّبنا وإيّاكم العمل بمعاصيه، وسَامَحَنَا وإيّاكم عند الوقوف بين يديه، وجعل أعمالنا مقبولةً لديه. والله أعلم وصلّى الله على محمّد وآله وصحبه وسلّم.

21 - ورد من محمد الحفظي -صاحب اليمن- على نجد استفتاء عن ثلاث مسائل مشكلة، فأجاب عنها عبد الله بن الشيخ

- 20 - ورد من محمّد الحفظي صاحب اليمن على نجد استفتاء عن ثلاث مسائل مشكلة، فأجاب عنها عبد الله بن الشّيخ بما يكفي ويشفي من الكتاب والسّنة وهذا نصّ الأسئلة: بسم الله الرّحمن الرّحيم. سؤال -أصلح الله العلماء-: بناء القباب هل يكون علامةً على الكفر بمجرّد البناء، وكيف حال أهل العصر الثّاني 1 عن أصل البناء؟ {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}، [الأنعام، من الآية: 164، والإسراء، من الآية: 15، وفاطر، من الآية: 18، والزّمر، من الآية: 7]. وكيف إذا كانت لم يذبح عندها البتة، ولم تتّخذ وثنًا يعبد أبدًا، وإنّما البناء عليها فقط عادة بدعية؟ فقد علم حديث أبي الهياج الأسدي عن علي، وهنا إشكال أنّ الصّحابة لم يكن في عصرهم تلك البنايات بدليل قبر عثمان بن مظعون، فهذه القبور التي أمر علي بتسويتها هل هي قديمة أو حديث قبر عثمان خاص 2، والمراد: السّؤال عن مجرّد البناء من غير حدوث عبادة يشرك بها الولي أبدًا، أو يتوسّل إليها أيضًا أفيدونا. الثّاني: عن الحدود، هل يحلّ إقامتها لغير الإمام، وهل يحلّ لأطراف مَن أجاب دعوتكم إقامتها بجعله نفسه أميرًا من غير نصب منكم ونحو ذلك أم لا؟ الثّالث: عن حال مَن صدر منه ما يكون كفرًا من غير قصدٍ منه لذلك؛ بل هو جاهل به، هل يعذر أم لا سواء كان ذلك الشّيء قولًا أو فعلًا، أو اعتقادًا، أو توسّلًا؟ وكيف لو مات قبل التّوبة، وقبل العلم بأنّه مكفِّر؟ أفتونا مأجورين. وصلّى الله على محمّد وعلى آله وصحبه وسلّم.

_ 1 أي: الذي بعد عصر بنائها. 2 كذا في الأصل.

(أجوبة الشّيخ عبد الله بن الشّيخ رحمهما الله): بسم الله الرّحمن الرّحيم. الحمد لله ربّ العالمين، وصّلى الله على خاتم النَّبيّين محمّد وعلى آله وصحبه وسلّم. أمّا بناء القباب على القبور فهو من علامات الكفر وشعائره؛ لأنّ الله أرسل محمّدًا -صلّى الله عليه وسلّم- بهدم الأوثان، ولو كانت على قبر رجلٍ صالحٍ؛ لأنّ اللات رجل صالح، فلما مات عكفوا على قبره وبنوا عليه بنية وعظموها، فلما أسلم أهل الطّائف وطلبوا منه أن يترك هدم اللات شهرًا لئلا يروعوا نساءهم وصبيانهم حتى يدخلوهم الدّين فأبى ذلك عليهم، وأرسل معهم المغيرة بن شعبة، وأبا سفيان بن حرب وأمرهما بهدمها. قال العلماء: وفي هذا أوضح دليلٍ على أنّه لا يجوز إبقاء شيء من هذه القباب التي بُنيت على القبور، واتّخذت أوثانًا، ولا يومًا واحدًا، فإنّها شعائر الكفر، وقد ثبت أنّ النَّبِيّ -صلّى الله عليه وسلّم- نهى عن البناء على القبر وتجصيصه وتخليقه، والكتابة عليه. وقد قال تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا}، [الحشر، من الآية: 7]. وأمّا قول السّائل: هل يكون علامة على كفر بانيها؟ فهذا يحتاج إلى تفصيلٍ؛ فإن كان الباني قد بلغه هدي الرّسول -صلّى الله عليه وسلّم- في هدم البناء عليها ونهيه عن ذلك، وعاند وعصى، أو منع مَن أراد هدمها من ذلك، فذلك من علامة الكفر، وأمّا مَن فعل ذلك جهلًا منه بما بعث الله به رسوله -صلوات الله وسلامه عليه- فهذا لا يكون علامة على كفره، وإنّما يكون علامة على جهله وبدعته وإعراضه عن البحث عما أمره الله به ورسوله -صلوات الله وسلامه عليه- في القبور. وأمّا حال أهل العصر الثّاني الذين لم يحضروا البناء، وإنّما فعله آباؤهم

ومتقدّموهم فالرّاضي بالمعصية كفاعلها، وفيها من التّفصيل ما تقدّم في البناء فافهم ذلك. وهذا، إذا لم يذبح عندها، وتُعْبَد وتُدْعَى ويُرجَى منها جلب الفوائد، وكشف الشّدائد، فأمّا إذا فعل ذلك فهو الشّرك الذي قال الله فيه: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ}، [المائدة، من الآية: 72]. وأمّا الإشكال الذي ذكره السّائل في حديث عليّ في القبور التي أمره الرّسول -صلّى الله عليه وسلّم- بتسويتها، هل هي قديمة؟ فليس فيه إشكال بحمد الله؛ لأنّه محمول على القبور القديمة كقبور الجاهلية؛ لأنّ البناء على القبور وتعليتها من سنن الجاهلية، ولم يكن ذلك في عهد الصّحابة رضي الله عنهم. وأمّا حديث قبر عثمان بن مظعون، فليس فيه معارضة لما ذكرنا؛ لأنّ المراد به: إعلام القبر بعلامةٍ يعرف بها؛ كحصاة ونحوها بلا تعلية، ولا بناء، وهذا لا بأس به عند أهل العلم، فحديث قبر عثمان فيه دليل على جواز ذلك لكلّ أحدٍ، وهذا ظاهر ولله الحمد والمنة. وأمّا الجواب عن السّؤال الثّاني فالذي ذكر العلماء أنّ الإمام هو الذي يقيم الحدود، أو نائبه؛ كالأمير الذي يأمره الإمام على بلده، أو عشيرته. فإذا ثبت ذلك جاز له إقامة الحدود على الوجه المشروع الذي شرعه الله ورسوله، وبيّنه أهل العلم في كتبهم. وأمّا إذا كان لا يعرف ذلك، وليس عنده مَن يعلمه بذلك، فلا يجوز له الإقدام على ذلك. وأمّا إذا نصب نفسه أميرًا من غير نصبٍ من أمير المسلمين فلا يجوز له الإقدام عليه أيضًا. والله أعلم. وأمّا الجواب عن السّؤال الثّالث عن حال مَن صدر منه كفر من غير

قصدٍ؛ بل هو جاهل، هل يعذر أم لا؟ سواء كان ذلك الشّيء قولًا، أو فعلًا، أو اعتقادًا، أو توسّلًا؟ فنقول: إذا فعل الإنسان الذي يؤمن بالله ورسوله ما يكون فعله كفرًا، أو قوله كفرًا، أو اعتقاده كفرًا جهلًا منه بما بعث الله به رسوله -صلّى الله عليه وسلّم-، فهذا لا يكون عندنا كافرًا، ولا نحكم عليه بالكفر حتى تقوم الحجة الرّسالية التي يكفر من خالفها. فإذا قامت عليه الحجّة، وبيّن له ما جاء به الرّسول -صلّى الله عليه وسلّم-، وأصرّ على فعل ذلك بعد قيام الحجّة، فهذا هو الذي يكفر؛ وذلك لأنّ الكفر إنّما يكون بمخالفة كتاب الله وسنة رسوله، وهذا مجمع عليه بين العلماء في الجملة، واستدلوا بقوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا}، [الإسراء: من الآية: 15]. وبقوله: {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ}، [الزّمر: 71]. واستدلّوا أيضًا بما ثبت في الصّحيحين والسّنن وغيرها من كتب الإسلام من حديث حذيفة أنّ رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- قال: "إنّ رجلًا مِمَّن كان قبلكم قال: لبنيه إذا أنا منت فاحرقونِي ثم ذروا نصفي في البرّ ونصفي في البحر، فوالله لئن قدر الله عليّ ليعذبنِي عذابًا لا يعذّبه أحدًا من العالمين، فأمر الله البحر فجمع ما فيه، وأمر الله البرّ فجمع ما فيه، ثم قال له: كن فإذا الرّجل قائم، قال الله: ما حملك على ذلك؟ قال: خشيتك ومخافتك فما تلافاه أن رحمه". فهذا الرّجل اعتقد أنّه إذا فعل به ذلك لا يقدر الله على بعثه جهلًا منه لا كفرًا، ولا عنادًا، فشكّ في قدرة الله على بعثه، ومع هذا غفر له ورحمه. وكلّ مَن بلغه القرآن فقد قامت عليه الحجة بالرسول -صلّى الله عليه وسلّم-، ولكن الجاهل يحتاج إلى مَن يعرّفه بذلك من أهل العلم. والله سبحانه وتعالى أعلم. وصلّى الله على محمّد وآله وصحبه وسلّم.

22 - فتاوى للشيخ عبد الله بن الشيخ عن أسئلة وردت من الأخ سعيد بن حجي

- 21 - بسم الله الرحمن الرحيم فتاوى للشّيخ عبد الله بن الشّيخ عن أسئلة وردت من الأخ سعيد بن حجي. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وخطك وصل وسألت أبوي عن المسائل التي ذكرت. أمّا الرّجل الذي مات عندكم وهو فقير ساقط عنه الحج في حياته وعند موته حصل له ثمانية حمران من ناس يعلمهم القرآن، وقال اجعلوها لي في حجة وله ورثة، فنقول: تكون الحمران بين الورثة. وأمّا الذي أوصى من ثلث ماله بحجّة في دراهم معلومة وهو ميّت قبل هذا الدّين وورثته فقراء هل تصرف عليهم أو يحجّ عنه؟ فنقول: إن وجدوا من يحجّ لوجه الله لا لأجل الدّراهم لكن يتعاون بها فهي على وصيته، وإن كان ما حصل أحد يحجّ عنه على هذا الوجه فهي تصرف على قرابته. وأمّا الذي يوصي عند موته بعشاء لجيرانه فهل ترده على الورثة أو تصرفه في قرابة الميّت؟ فنقول: يصير على ما قال الموصي؛ لأنّه لم يخالف الشّرع. وأمّا إذا مات الرّجل وهو غنِي ولم يحجّ ولم يوص بحجّة هل يؤخذ من المال ويحجّ عنه أم تسقط؟ فنقول: يؤخذ قدرها من ماله وينظر في قرابته مّن يحجّ لوجه الله ويعطى الدّارهم يستعين بها، وأنت بحفظ الله وأمانه. والسّلام.

23 - فتاوى أخرى من الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد -رحمهما الله- عن هذه المسائل التي وردت من سعيد بن حجي

- 22 - بسم الله الرّحمن الرّحيم فتاوى أخرى من الشّيخ عبد الله بن الشّيخ محمّد -رحمهما الله- عن هذه المسائل التي وردت من سعيد بن حجي: الأولى: في البدو إذا كان معهم أهلهم ومالهم ويتّبعون المرعى حيث وجدوه ويتّبعون الماء من أرضٍ إلى أرضٍ، فهل هم مقيمون والحالة هذه أم يجوز لهم التّرخّص كالمسافر؟ فالجواب: إنّا لا نجعلهم كالمقيمين أبدًا، ولا مسافرين مطلقًا، بل هذا محلّ تفصيل، فأمّا إذا نزلوا منْزلًا ونووا استيطانه، ما دام المرعى فيه، أو نووا الإقامة فيه وقتًا دون وقتٍ أو نزلوا على ماء ونووا الإقامة عليه ما وجدوا لدوابهم مرعى أو نووا الإقامة على هذا الماء وقتًا دون وقتٍ، فهم والحالة هذه مقيمون تثبت لهم أحكام الإقامة، ولا يستبيحون رخص السّفر؛ لأنّ هذا هو الاستيطان في حقّ هؤلاء، والعرف يشهد بذلك. وأمّا إذا ظعنوا في هذه المسائل وما أشبهها إلى منْزل آخر، أو من ماء إلى ماء، وما بين المنْزلين، أو المائين مسيرة يومين قاصدين فإنّهم حينئذٍ يكونون مسافرين؛ لأن هذا يُسَمَّى سفرًا في حقّ هؤلاء. وكلام صاحب الإقناع على سبيل التّمثيل لا الحصر. وقد ذكروا في الملّاح الذي معه أهله وليس له نيّة الإقامة ببلدانه ليس له التّرخص فيعتبر في السّفر المبيح كونه منقطعًا لا دائمًا، ولا بدّ مع ذلك من اجتماع أمرين: أن يكون البدوي معه أهله، وأن ينوي الإقامة في موضعٍ، فإن اختل شرط منهما أبيح له رخص السّفر،

فالبدوي بمنْزلة الملّاح في السّفينة، كما أنّ الملّاح لو نوى الإقامة وهو في سفينة في موضعٍ من البحر ثم سافر إلى موضع آخر لحمل متاع أو غيره حكمنا بأنّه مسافر، ولو كان أهله معه، وهذا هو الذي يظهر لنا، ونفهم من معنى كلام الله ورسوله؛ لأنّ الله تعالى يقول: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ}، [النّساء، من الآية: 101]. وقال: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}، [البقرة، من الآية: 184]. أطلق سبحانه وتعالى للمسافر قصر الصّلاة والفطر في رمضان، ولم يخصّ في ذلك القروي دون البدوي، ولا مَن معه أهله دون مَن ليس معه أهله، ولا نعلم فيما ذكرنا خلافًا بين أهل العلم. المسألة الثّانية: إذا أعطى الوالد ولده عطية وقبضها ثم مات قبل الرّجوع والتّسوية هل للإخوة الذين لم يعطوا الرّجوع عليه بعد موت المعطي أم لا؟ الجواب: الذي عليه أكثر أهل العلم، وهو الرّاجح عند كثير من الحنابلة وغيرهم أنّها تثبت للمعطى ولا يرجع عليه الذين لم يعطوا شيئًا. ويكون الإثم على الوالد، وهذا هو الذي كان يفتي به شيخنا -رحمه الله تعالى-. والقول الثّاني: أنّهم يرجعون على المعطى ويكونون فيها سواء، وهذا اختيار الشّيخ تقيّ الدّين، وهو أقرب إلى ظواهر الأدلّة. والله أعلم. الثّالثة: عندنا امرأة أعطت أولادها الذّكور عطية دون البنات بزعم البنات .. الخ وهل الأم كالأب في وجوب التّسوية؟ فالجواب: كلام الشّارع -صلّى الله عليه وسلّم- في وجوب التّسوية شامل للأم، فإن كانت المرأة تزعم أنّها معطية البنات مثل ما أعطت الأولاد، وأمكن صدقها فحسن، ولا تعرضوا لها بشيء، فإن ثبت عندكم بأمارة أنّها بارّة الأولاد

وقاطعة البنات لزمكم أن تلزموها مثل ما أعطت الأولاد، أو على قدر ميراثهم للذّكر مثل حظّ الأنثيين على ظاهر كلام أحمد وغيره من أهل العلم. فإن ادّعت بغير ذلك وزعمت أنّها ما أعطتهم هذا العطاء الجزيل إلّا لأجل أنّ عندها لهم شيئًا أو غير ذلك من الأعذار التي يمكن معها صدقها، فإن كانوا قد خلصوا عند أخوي حسين أو غيره فلا تعرضوا لهم. الرّابعة: إذا فضل الوالد في صحّته بإذن الذين لم يفضلوا بعض الأولاد هل يصحّ هذا أم لا؟ الجواب: الذي يظهر لي صحّة ذلك إذا أذنوا بطيب نفس ورضيها؛ لأنّ الحقّ لهم في ذلك كما أنّه لا يجوز الوصية بزيادة على الثّلث إلّا بإذن الورثة. والله أعلم. الخامسة: هل المفتَى به عندكم التّفرقة بين المملوكة وولدها بعد البلوغ أم لا؟ الجواب: هذه المسألة فيها خلاف بين أهل العلم، وأنا أذكر لك المسألة وكلامهم فيها حتى يتبيّن لك وجه الصّواب إن شاء الله تعالى. قال في الشّرح الكبير: ولا يفرق في البيع بين ذي رحم محرم إلّا بعد البلوغ على إحدى الرّوايتين، وأجمع أهل العلم على أنّ التّفرقة بين الأم وولها الطّفل غير جائز، ثم ذكر الدّليل والتّعليل، ثم قال: ولا فرق بين أن يكون الولد بالغًا أو طفلًا في ظاهر كلام الخرقي وإحدى الرّوايتين؛ ولعموم الخبر؛ ولأنّ الوالدة تتضرّر بمفارقة ولدها الكبير، ولهذا حرم عليه الجهاد إلّا بإذنها. قال في الإنصاف: وهو المذهب، وجزم به في المنور وناظم المفردات، وهو منها واختاره ابن عبدوس وقدمه في المحرر وغيرها.

قال الشّارح (والرّواية الثّانية) يختصّ تحريم التّفريق بالصّغير، وهو قول الأكثرين منهم: مالك، والأوزاعي، واللّيث، وأبو ثور، وهو قول الشّافعي؛ لأنّ سلمة بن الأكوع أتى بامرأة وابنتها فنفله أبو بكر ابنتها فاستوهبها منه النَّبِيّ -صلّى الله عليه وسلّم- فوهبها له، ولم ينكر التّفريق بينهما. ولأنّ الأحرار يتفرّقون بعد الكبر فإنّ المرأة تزوّج ابنتها وتفارقها، فالعبيد أولى انتهى. قال في الإنصاف: الثّانية: يجوز التّفريق ويصحّ البيع جزم به في العمدة، والوجيز، قال النّاظم: وهو أولى انتهى. وهذا الحديث الذي احتجوا به نصّ في جواز التّفرقة بينهما بالهبة بعد البلوغ والبيع مثله إن شاء الله تعالى. وهو حديث صحيح ثابت. رواه مسلم وغيره، وهو الأصح عندنا. قال في الإنصاف: حكم التّفرقة في القسمة وغيرها كأخذه بجناية والهبة والوصية والصّدقة وغيرها حكم البيع على ما تقدّم، ولا يحرم التّفريق بالعتق ولا بالافتداء بالأسرى على الصّحيح من المذهب، وعليه أكثر الأصحاب. قال الخطابي: لا أعلمهم يختلفون في العتق؛ لأنّه لا يمنع من الحضانة. السّادسة: هل الحكم يختصّ بالأم أم يعمّ ذلك كلّ ذي رحم محرم كالأب والأخ ونحوهما؟ الجواب: قال في الشّرح: ولا يجوز التّفريق بين الأب وولده، وبه قال أصحاب الرّأي، والشّافعي. وقال مالك واللّيث: يجوز. وبه قال: بعض الشّافعية؛ لأنّه ليس من أهل الحضانة بنفسه. ولأنّه لا نصّ فيه، ولا هو في معنى المنصوص؛ لأنّ الأم أشفق منه. ولنا أنّه أحد الأبوين أشبه الأم، ولا نسلم أنّه من أهل الحضانة. انتهى. قال في الإنصاف: لا يجوز التّفريق بين ذوي محرم هذا المذهب، وعليه الأصحاب. قال في المغني: وتبعه في الشّرح. قاله

أصحابنا غير الخرقي. وجزم به في الفروع والرّعايتين والحاويين وغيرها، فيدخل في ذلك العمة مع ابن أخيها، والخالة مع ابن أختها. وظاهر كلام الخرقي اختصاص ذلك بالأبوين، والجدّين، والأخوين ونصّره في المغني، والشّرح. وظاهر كلام المصنّف تحريم التّفريق ولو رضي به، وهو صحيح نصّ عليه أحمد. انتهى. واحتجّ في الشّرح على تحريم ذلك بين الأخوة بحديث عليّ في الغلامين الأخوين فلما باع أحدهما قال له رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم-: "ردّه ردّه". رواه التّرمذي وحسّنه. وبما روي أنّ عمر كتب إلى عماله: لا تفرّقوا بين الأخوين ولا بين الأمّ وولدها، وإنّما يحرم التّفريق بينهم في الصّغر، وما بعده فيه الرّوايتان كالأصل. الأولى الجواز؛ لأنّ النَّبِيّ -صلّى الله عليه وسلّم- أهديت له مارية وأختها سيرين، فأمسك مارية ووهب سيرين لحسان بن ثابت. والله أعلم. الثامنة: عبد عتق وتحته أمّة الخ. الجواب: الذي يظهر من كلامهم أنّه لا بأس باستدامة نكاح الأمة؛ لأنّهم نصّوا في الحرّ المسلم إذا وجد فيه الشّرطان المبيحان للنّكاح وهما: عدم وجود الطّول لنكاح الحرّة المسلمة وخوف العنت، فتزوج الأمة لذلك ثم أيسر وزال خوف العنت أنّه يجوز استدامة نكاح الأمة. قالوا: لأنّ الاستدامة ليست كابتداء النّكاح، قالوا: واستدامة النّكاح تخالف ابتداءه بدليل أنّ العدّة والرّدّة وأمن العنت يمنع ابتداءه دون استدامته. قالوا: وكذلك لا يبطل نكاح بتزوّج حرّة عليها على الأصحّ؛ لما روي عن عليّ -رضي الله عنه- أنّه قال: إذا تزوّج الحرّة على الأمة قسم لها ليلتين، وللأمة ليلة، ثم رأيت بعض فقهاء الشّافعية صرح بذلك في المسألة التي تسأل عنها، فقال: والصّحيح أنّ العبد إذا أعتق وتحته أمة أنّه لا خيار له. قلت: وظاهر هذا

يقتضي جواز استدامة العبد إذا عتق نكاح الأمة. والله أعلم. يقتضي جواز استدامة العبد إذا عتق نكاح الأمة. والله أعلم. التّاسعة: امرأة ادّعت أنّ زوجها طلّقها ثلاثًا وشهد معها أبوها والزّوج منكر. الجواب: قال ابن القيم في (إعلام الموقّعين): وفي حديث عمرو بن شعيب إذا شهد الشّاهد الواحد وحلف الزّوج أنّه لم يطلّق لم يحكم عليه، وإن لم يحلف حلفت المّرأة ويقضى عليه، وقد احتجّ الأئمة الأربعة والفقهاء قاطبة بصحيفة عمرو بن شعيب ففي هذا الحديث أنّه يقضي بشاهدٍ وما يقوم مقام شاهدٍ آخر من النّكول ويمين المرأة بخلاف ما إذا أقامت شاهدًا واحدًا وحلف الزّوج أنّه يطلق فيمين الزّوج عارضت شهادة الشّاهد وترجّح جانبه بكون الأصل معه، وأمّا إذ نكل الزّوج فإنّه يجعل نكوله مع يمين المرأة كشاهدٍ آخر، ولكن هنا لم يقض بالشّاهد ويمين المرأة ابتداء؛ لأنّ الرّجل أعلم بنفسه هل طلّق أم لا؟ فإذا نكل كان ذلك دليلًا ظاهرًا جدّا على صدق المرأة فلم يقض بالنّكول وحده ولا يمين المرأة إنّما قضى بالشّاهد المقوّى بالنّكول ويمين المرأة. انتهى كلامه ملخّصًا. فأنت تحكم بينهم بهذا الحكم. ويذكر لي محمّد بن سلطان أنّ والدي الشّيخ -رحمه الله- يقول هذا الذي نفتِي به إذا وقعت المسألة. العاشرة: رجل وأخوه بينهما شركة في أرضٍ تصرف أحدهما في الأرض بزرع وبناء وادّعى أنّه اشتراها من أخيه ولكن الشّهود ماتوا. فالجواب: الذي نفهم أنّ هذا على الأصل يلزم مدّعي الشّراء بيّنة، فإن لم يجد بيّنة حلف المنكر أنّه لم يبعها عليه، وأنّها في ملكه إلى الآن، فإذا حلف فهو على نصيبه من الأرض، وأمّا كونها في يد أحدهما ويتصرّف امرأة ادّعت أنّ زوجها طلّقها ثلاثًا وشهد معها أبوها والزّوج منكر. الجواب: قال ابن القيم في (إعلام الموقّعين): وفي حديث عمرو بن شعيب إذا شهد الشّاهد الواحد وحلف الزّوج أنّه لم يطلّق لم يحكم عليه، وإن لم يحلف حلفت المّرأة ويقضى عليه، وقد احتجّ الأئمة الأربعة والفقهاء قاطبة بصحيفة عمرو بن شعيب ففي هذا الحديث أنّه يقضي بشاهدٍ وما يقوم مقام شاهدٍ آخر من النّكول ويمين المرأة بخلاف ما إذا أقامت شاهدًا واحدًا وحلف الزّوج أنّه يطلق فيمين الزّوج عارضت شهادة الشّاهد وترجّح جانبه بكون الأصل معه، وأمّا إذ نكل الزّوج فإنّه يجعل نكوله مع يمين المرأة كشاهدٍ آخر، ولكن هنا لم يقض بالشّاهد ويمين المرأة ابتداء؛ لأنّ الرّجل أعلم بنفسه هل طلّق أم لا؟ فإذا نكل كان ذلك دليلًا ظاهرًا جدّا على صدق المرأة فلم يقض بالنّكول وحده ولا يمين المرأة إنّما قضى بالشّاهد المقوّى بالنّكول ويمين المرأة. انتهى كلامه ملخّصًا. فأنت تحكم بينهم بهذا الحكم. ويذكر لي محمّد بن سلطان أنّ والدي الشّيخ -رحمه الله- يقول هذا الذي نفتِي به إذا وقعت المسألة. العاشرة: رجل وأخوه بينهما شركة في أرضٍ تصرف أحدهما في الأرض بزرع وبناء وادّعى أنّه اشتراها من أخيه ولكن الشّهود ماتوا. فالجواب: الذي نفهم أنّ هذا على الأصل يلزم مدّعي الشّراء بيّنة، فإن لم يجد بيّنة حلف المنكر أنّه لم يبعها عليه، وأنّها في ملكه إلى الآن، فإذا حلف فهو على نصيبه من الأرض، وأمّا كونها في يد أحدهما ويتصرّف

فيها من قدر ثمان سنين فمثل هذا ما يصير بيّنة ولا يحكم باليد في مثل هذه الصورة؛ لكونه يدّعي أنّه اشتراها والآخرة منكر، ولم يدع أنّها ملكه لا حقّ للآخر فيها بل هو مقرّ بملك أخيه فيها لكنه يدّعي الشّراء، وهذا الذي تقرّر عندنا. والأخ حمد بن ناصر. الحادية عشرة: رجل وقع على امرأته بعد ما تبيّن الفجر ووضح الصّبح وهو ناس لصومه. الجواب: هذه المسألة فيها ثلاثة أقوال مشهورة، وهي روايات عن الإمام أحمد: أحدهما: أنّ النّاسي كالعامد يقضي ويكفر وهو قول مالك والظّاهرية. الثّاني: لا يكفر وليس عليه إلّا القضاء اختاره ابن بطة، وهو رواية عن مالك. الثّالث: لا يقضي ولا يكفر، اختاره الآجري أبو محمّد الجوزي والشّيخ تقيّ الدّين، وهو مذهب أبي حنيفة والشّافعي. قال في شرح مسلم: وهو قول جمهور العلماء، وهذا القول هو الذي يترجّح عندنا. الثّانية عشرة: ما قولكم في الوقف على مَن يقرأ للميّت بالإدارة، أو غيرها؟ فنقول: في فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية جواب عن هذه المسألة بعينها، قال في الجواب: أمّا قراءة القرآن ففي وصوله للميّت نزاع إذا قرأ لله. فأمّا استئجار مَن يقرأ ويهدي إلى الميّت فهذا لم يستحبّه أحد من العلماء المشهورين، فإنّ المعطي لم يتصدّق لله لكن عاوضوا على القراءة والقارئ قرأ للعوض والاستئجار على نفس التّلاوة غير جائز، وإنّما النّزاع في الاستئجار على التّعليم ونحوه، مما فيه منفعة تصل إلى الغير، والثّواب لا يصل إلى الميّت إلّا إذا كان العمل لله، وما وقع بالأجر فلا ثواب فيه. وإن قيل: يصح الاستئجار عليه، وإذا تصدّق على مَن يقرأ القرآن ويتعلّمه كان له مثل أجر مَن

أعانه على القراءة من غير أن ينقص من أجورهم شيء. وينتفع الميّت بذلك، وإذا أوصى الميّت أن يصرف ماله في هذه الختمة وقصده التّقرب إلى الله فصرف في محاويج يقرؤون القرآن ختمة أو أكثر كان ذلك أفضل وأحسن. الثالثة عشرة: هل يجوز تحمل الشّهادة وأداؤها بعد التّحمّل إن لم يعلم الشّاهد إلّا بعد التّحمّل أم لا؟ فالجواب: لا يجوز لقوله -عليه السّلام-: "إنِّي لا أشهد على جور". والجور لا يجوز الشّهادة عليه، وأمّا قوله -عليه السّلام-: "أشهد على هذا غيري"، فأجاب عنه بعض العلماء بأنّ هذا على سبيل الزّجر والرّدع، كقوله: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ}، [فصلت، من الآية: 40]، وقوله تعالى: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ}، [الكهف، من الآية: 29]. الرابعة عشرة: هل يجوز الاعتمار من مكّة بعد طواف الإفاضة من التّنعيم؟ فالجواب: المسألة فيها خلاف بين العلماء، والذي عليه الأكثر جواز ذلك واستحبابه. واختار الشّيخ 1 وتلميذه ابن القيم أنّه لا يسنّ ولا يستحبّ؛ لأنّه لم يفعله رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم-، ولا أحد من أصحابه سوى عائشة، فإنّه أذن لها في ذلك تطييبًا لقلبها، ولو كان ذلك سنة لفعله الصّحابة وبادروا إليه وهم الأسوة والقدوة في الدّين. الخامسة عشرة: وهي ما ذكر لك أنّ بعض العيال أفتى أنّ مَن لم يطف يوم العيد وأراد أن يطوف بعده فعليه أن يحرم بعد رمي جمرة العقبة والذّبح والحلق، فالذي أفتى به الأخ عليّ -عفا الله عنه- لحديث بلغه في ذلك، لكن

_ 1 يعنِي: ابن تيمية، بدليل ذكر تلميذه، وخالف بهذا الإطلاق اصطلاح فقهاء الحنابلة بإطلاق لقب الشّيخ على ابن قدامة، ولكن إذا أطلق شيخ الإسلام انصرف إلى ابن تيمية.

24 - من عبد الله بن الشيخ إلى الأخ جمعان بن ناصر

ما لزم أحدًا فعله ونحن ما جسرنا على الفتيا به؛ لأجل أنّه خلاف أقوال العلماء من أهل المذاهب الأربعة وغيرهم، وهو ما روته أم سلمة قالت كانت ليلى التي يصير إلَيَّ فيها رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- مساء يوم النّحر فصار إلي فدخل وهب بن زمعة ومعه رجل متقمصين فقال رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- لوهب بن زمعة: "هل أفضت أبا عبد الله؟ "، قال: لا والله يا رسول الله. قال: "انزع عنك القميص". فنَزعه من رأسه ونزع صاحبه قميصه من رأسه، ثم قال: وَلِمَ يا رسول الله؟ قال: "إنّ هذا يوم رخص لكم إذا أنتم رميتم الجمرة أن تحلّوا من كلّ ما أحرمتم منه إلّا النّساء، فإذا أمسيتم قبل أن تطوفوا صرتم حرمًا كهيئتكم قبل أن ترموا الجمرة حتى تطوفوا به". قال ابن جماعة: رواه أبو داود بإسنادٍ صحيحٍ. قال البيهقي: لا أعلم أحدًا من القدماء قال به. قال: النّووي فيكون الحديث منسوخًا دلّ الإجماع على نسخه. الله أعلم. وصلّى الله على محمّد وآله وصحبه وسلّم. - 22 - بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله بن الشّيخ إلى الأخ جمعان بن ناصر. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد، خطّك وصل وصلك الله إلى رضوانه، وما ذكرت من جهة كثرة السّؤال فالحرص على العلم ينفع الله به، ولا ينقد على الإنسان إلّا الغفلة عمّا أشكل عليه. فأمّا المسألة الأولى وهي: قوله إن زرعت أرضي حبّا فهي بكذا كيلًا مسمّى، أو شعيرًا بكذا، أو قطنا بكذا، وزنًا معلومًا فهذه المسألة فيها

خلاف مشهور في القديم والحديث، والذي نعمل عليه من أقوال العلماء أنّ هذا لا بأس به إذا كان كيلًا معلومًا، أو وزنًا معلوما، أو جزأ مشاعًا معلومًا؛ كالثّلث، والرّبع ونحو ذلك. والله أعلم. وأمّا قوله: إلّا أن يكره بحقّ كمَن يكره على بيع ماله لوفاء دينه فهذا لا بأس بالشّراء منه سواء رضي بذلك أو لم يرض. وأمّا العمرى والرّقى ففيها خلاف مشهور، والأحاديث فيها متعارضة، والذي نختاره أنّه إذا شرط فيها الرّجوع رجعت إلى مالكها. والله أعلم. وأمّا الفرق بين العطية والوصية فالفرق بينهما ظاهر كما ذكره في الشّرح أنّها تفارقها في أربعة أشياء. وأمّا كون أهل بلدٍ لا يفرّقون بينهما فالألفاظ لا يعتبر بها فإذا كان عندهم أنّ الوصيّة بمعنى العطية والهبة فهي كذلك، وكذلك لفظ الصّدقة، فكلّ هذا ينظر إلى مقصود المتكلّم بذلك وعرفه في بلده. فإن كان مراده أنه ممضيها له في حياته وبعد موته صارت بمعنى العطية والهبة، وإن كان العرف عندهم أنّ مراده بذلك إن مات فهي بمعنى الوصية يثبت لها أحكامها. والله أعلم. وأمّا التي ارتفع حيضها ولا تدري ما رفعه، واعتدّت بسنةٍ ثم عاودها الدّم قبل مضي السّنة؛ فإنّها ترجع وتعتدّ بالحيض، ولا تحتسب بما تقدّم كالبكر إذا اعتدت بالأشهر ثم جاءتها الحيضة فإنّها تعتدّ بالإقراء. والله أعلم. وأمّا إذا آجر إنسان أرضه لِمَن يزرعها قطنًا وشرط عليه أنّه لا أجرة له في السّنة الأولى، فإذا خرج عنها فالشّجر والثّمر لربّها عن أجرة أرضه. فالظّاهر أنّ مثل هذا لا يجوزه الفقهاء؛ لما فيه من الغرر، وإنّما تجوز الإجارة بشيء معلوم. والله أعلم. وأمّا إذا احتاج أهل بلدٍ إلى أرض إنسانٍ يجعلونها مسجدًا فطلبوا من صاحب المال بيعها أو وقفها فأبى فالظّاهر أنّه لا يجبر. والله أعلم.

25 - من عبد الله بن الشيخ إلى الأخ جمعان

- 23 - بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله بن الشّيخ إلى الأخ جمعان. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد؛ وصل الخطّ وصلك الله إلى رضوانه. وإن سألت عنا فنحمد إليك الله في خيرٍ وعافيةٍ وما ذكرت من المسائل: فالأولى: شهادة المملوك هل تقبل في الحدود والقصاص والأموال أم لا؟ الجواب: أنّ الذي عليه جمهور العلماء أنّها تقبل في الأموال. قال في الإنصاف: شهادة العبد لا يخلو إما أن تكون في الحدود والقصاص أو في غيرهما، فإن كانت في غيرهما قبلت على الصّحيح من المذهب، وإن كانت في الحدود والقصاص قبلت أيضًا على الصّحيح من المذهب، نصّ عليه. انتهى. قلت: واختار هذا القول جمع من الحنابلة وغيرهم منهم: الشّيخ تقيّ الدّين -رحمه الله تعالى-، قال في الاختيارات: ولا تشترط الحرية في الشّهادة، وهذا مذهب أحمد، وظاهر كلام أبي العباس، ولو في الحدود والقصاص، وهو رواية عن أحمد. انتهى. قال بعضهم: لا أعلم أحدًا ردّ شهادة العبد، وهذا إن شاء الله هو الصّواب، لاسيما إذا كانت شهادته في الأموال والمراد بذلك إذا كان عدلًا قد تمت فيه شروط قبول الشّهادة. والله أعلم. المسألة الثّانية: هل تكره الصّلاة على أحدٍ من أموات هذه الأمةّ غير الغالّ، وقاتل نفسه أم لا؟ وهل الكراهة للإمام فقط أم للكل؟ الجواب: أنّ الصّلاة تكره على غير الغالّ، وقاتل نفسه؛ مثل: المجاهر بالفسق والكبائر، فقد قال الشّيخ تقيّ الدّين: ينبغي لأهل العلم والدّين أن يدعوا الصّلاة عليه عقوبةً ونكالًا لأمثاله، لتركه -صلّى الله عليه وسلّم- الصّلاة على قاتل

نفسه، وعلى الغالّ، والمدين الذي لا وفاء له، وإن كان منافقًا كمَن علم نفاقه لم يصلّ عليه، ومَن لم يعلم نفاقه صلّي عليه، ومَن مات مظهرًا للفسق منع ما فيه من الإيمان كأهل الكبائر فلا بدّ أن يصلّي عليهم بعض النّاس، ومَن امتنع من الصّلاة على أحدٍ منهم زجرًا لأمثاله كان أحسن. ولو امتنع في الظّاهر ودعا له في الباطن ليجمع بين المصلحتين كان أولى من تفويت أحدهما. انتهى. والمراد بكراهة الصّلاة على أهل الكبائر للإمام خاصّة، أو لأهل العلم والدّين المقتدى بهم. والله أعلم. المسألة الثّالثة: جراح العبد إذا جني عليه الحرّ عمدًا فيما دون النّفس هل يجب فيه قصاص عند مَن يمنع القود به في النّفس أم ليس هنا إلّا القيمة في النّفس وما دونها؟ الجواب: قال في الإنصاف: كلّ مَن أقيد بغيره في النّفس أقيد به فيما دونها، ومَن لا فلا. يعني: ومَن لا يقاد بغيره في النّفس لا يقاد به فيما دونها. وهذا المذهب، وعليه الأصحاب. كذا ذكره في أوّل باب ما يوجب القصاص، فيما دون النّفس، وقال في باب شروط القصاص: ولا يقتل حرّ بعبدٍ، وهذا المذهب، وعليه الأصحاب. وقال الشّيخ تقيّ الدّين: ليس في العبد نصوص صحيحة صريحة تمنع قتل الحر به، وقوّى أنّه يقتل به. وقال هذا الرّاجح، وأقوى على قول أحمد. ثم قال: في الإنصاف: ولا يقتل مسلم بكافرٍ، ولا حرّ بعبدٍ إلّا أن يقتل وهو مثله، أو يجرحه ثم يسلم القاتل أو الجارح، أو يعتق ويموت المجروح؛ فإنّه يقتل به، يعني: إذا قتل عبد عبدًا، أو ذمي أو مرتدٌّ ذميا، أو جرحه ثم أسلم القاتل أو الجارح، أو عتق ويموت المجروح؛ فإنّه يقتل به على الصّحيح من المذهب. نصّ عليه، وعليه جماهير الأصحاب. انتهى.

المسألة الرّابعة: عمد المملوك إذا جنى على الحرّ ما حكمه؟ فجوابها يعرف من التي قبلها، وهو أنّه إن كان موجبًا للقصاص في النّفس أو فيما دونها فإنّه يقتصّ منه، وإن عفي عنه إلى الدّية فإنّها تكون في رقبة العبد دَين في ذمّته يباع فيها. المسألة الخامسة: هل للإمام أو نائبه أو الحاكم أن يلزموا المجني عليه أن يأخذ القصاص من الجاني، ولو طلب الأرش أم ليس لهم ذلك؟ وهل إذا امتنع الجاني عن بذل الأرش إلّا القصاص منه يوافق على أخذ القصاص منه أم العبرة بالمجني عليه؟ والجواب أنّه لا يجوز للإمام ولا لنائبه إلزام المجني عليه أن يأخذ القصاص من الجاني، ولو طلب الدّية إلّا في مسألة الغيلة؛ فإنّ مذهب مالك أنّه يقتل حدًّا، وأمره إلى الإمام، ولو عفا أولياء القتيل، وهو اختيار الشّيخ تقيّ الدّين، لا يمكن التّحرز منه بالمحاربة، وكذلك قاتل الأئمة فإنّ القاضي خرج وجهًا في المذهب أنّه يقتل حدًا. وقال السّائل: وهل إذا امتنع الجاني عن بذل الأرش إلّا القصاص منه يوافق على ذلك أم العبرة بالمجني عليه؟ فهذه المسألة مبنية على أصلٍ وهو أنّه هل الواجب بقتل العمد أحد شيئين: القصاص أو الدّية، أو أنّ الواجب في قتل العمد القصاص عينًا؟ وفي ذلك قولان للعلماء هما روايتان عن أحمد. قال في الشّرح الكبير: اختلفت الرّوايات عن أحمد -رحمه الله تعالى- في موجب العمد فروي عنه أنّ موجبه القصاص عينًا، لقول رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم-: "مَن قتل عمدًا فهو قود". وقوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى}، [البقرة، من الآية: 178]. والمكتوب لا يتخيّر فيه. ولأنّه متلف يجب به البدل فكان معينًا كسائر المتلفات. وبه قال النّخعي ومالك وأبو حنيفة. قالوا: ليس للأولياء إلّا القتل

إلّا أن يصطلحا على الدّيّة برضا الجاني. والمشهور في المذهب أنّ الواجب أحد شيئين: إما القتل أو الدّية، والخيرة في ذلك إلى الولي إن شاء اقتصّ، وإن شاء أخذ الدّية، وإن شاء قتل البعض إذا كان القاتلون جماعة؛ لأنّ كلّ مَن له قتله فله العفو عنه، كالمنفرد، ولا يسقط القصاص عن البعض بعفو عن البعض؛ لأنّهما شخصان فلا يسقط القصاص عن أحدهما بإسقاطه عن الآخر، فمتى اختار الأولياء أخذ الدّية من القاتل أو من بعض القتلة، كان لهم هذا من غير رضا الجاني. وبه قال سعيد بن المسيب، وابن سيرين، وعطاء، ومجاهد، والشّافعي، وإسحاق، وأبو ثور، وابن المنذر، وهي رواية عن مالك لقوله تعالى: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَان}، [البقرة، من الآية: 178]. قال ابن عبّاس: كان في بني إسرائيل القصاص ولم يكن فيهم الدّية، فأنزل الله هذه الآية: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى}، [البقرة، من الآية: 178]. انتهى. والعفو أن يقبل في العمد الدّية فاتّباع بالمعروف يتّبع بمعروف، ويؤدّي إليه المطلوب بإحسان، ذلك تخفيف من رّبكم ورحمة مما كتب على بني إسرائيل. رواه البخاري. وروى أبو هريرة قال: قام فينا رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- فقال: "مَن قتل له قتيل فهو بخير النّظرين: إمّا أن يؤدى، وإمّا أن يقاد". متّفق عليه. وروى أبو شريح أنّ النَّبِيّ -صلّى الله عليه وسلّم- قال: "ثم أنتم يا خزاعة قد قتلتم هذا القتيل، وأنا والله عاقله، فمَن قتل بعده قتيلًا فأهله بين خيرتين: إن أحبّوا قتلوا، وإن أحبّوا أخذوا الدّية". رواه أبو داود وغيره. فإذا قلنا موجبه القصاص، فله العفو إلى الدّية، والعفو مطلقًا فإذا عفا مطلقًا لم يجب شيء. وهذا ظاهر مذهب الشّافعي، وقال بعضهم: تجب الدّية لئلا يبطل الدّم. وليس بشيء؛ فإنّه لو عفا عن الدّية بعد وجوبها صحّ عفو ومتى عفا عن القصاص مطلقًا إلى غير مالٍ لم يجب شيء إذا

26 - فتاوى للشيخ عبد الله بن الشيخ عن أسئلة وردت عليه من سعيد بن حجي

قلنا الواجب القصاص عينًا. فإن عفا عن الدّية لم يصحّ عفوه؛ لأنّها لم تجب، وإن قلنا الواجب أحد شيئين لا بعينه، فعفا عن القصاص مطلقًا أو إلى الدّية وجبت الدّية؛ لأنّ الواجب غير معيّن، فإذا ترك أحدهما تعيّن الآخر. وإن اختار الدّية سقط القصاص، ولم يملك طلبه؛ لأنّ الواجب أحد شيئين، فإذا تعيّن أحدهما سقط الآخر. وإن اختار القصاص تعيّن لذلك، وإن اختار بعد ذلك العفو إلى الدّية فله ذلك. ذكره القاضي؛ لأنّ القصاص أعلى فكان له الانتقال إلى الأدنى، ويكون بدلًا عن القصاص، وليست التي وجبت بالقتل كما قلنا في الرّواية الأولى إنّ الواجب عينًا، وله العفو إلى الدّية. ويحتمل أنّه ليس له ذلك؛ لأنّه أسقطها باختياره القود فلم يعد إليها. وعنه أنّ الواجب القصاص عينًا وله العفو إلى الدّية، وإن سخط الجاني؛ لما ذكرنا. قال في الإنصاف: وهذا الصّحيح على هذه الرّواية. وقال في المحرّر: وعنه موجبه القود عينًا مع التّخيير بينهما. وعنه أنّ موجبه القود عينًا وأنّه ليس له العفو على الدّية بدون رضا الجاني فيكون قوده بحاله. انتهى. والصّحيح إن شاء الله أنّ موجبه أحد شيئين: القصاص أو الدّية، وأنّ الخيرة في ذلك إلى الولي. والله سبحانه وتعالى أعلم. - 24 - بسم الله الرّحمن الرّحيم فتاوى للشّيخ عبد الله بن الشّيخ عن أسئلة وردت عليه من سعيد بن حجي وهي هذه: سألت -رحمك الله- عن مسائل: الأولى: إذا أسلم رجل آخر في دراهم في تمر ثم صلحت الثّمرة فأخذ من التّمرة خرصًا على رءوس النّخل وتصرفه

فيه ببيع، أو نححوه هل يكون هذا قبضًا لدين السّلم أم لا؟ فإن قلتم قبضًا فما تفعل بقولهم يحصل القبض فيما بيع بالكيل أو الوزن بكيله أو وزنه؟ وذكروا الأدلّة على ذلك. ثم قالوا: وعن أحمد رواية أنّ قبض جميع الأشياء بالتّخلية. فنقول: وبالله التّوفيق: يجوز أن يأخذ المسلم فيه جزافًا مثل أن يأخذ ثمرة من التّمر خرصًا على رؤوس النّخل أو في البيدر. قال البخاري -رحمه الله-: باب إذا قاص أو جازف في الدّين فهو جائز تمر بتمر أو غيره ثم روى بإسناده عن جابر أنّ أباه توفي وترك عليه ثلاثين وسقًا لرجل من اليهود فاستنظره جابر فأبى أن ينظر فكلم جابر رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- ليشفع له إليه، فجاء رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- فكلّم اليهود ليأخذ ثمر نخله بالذي له فأبى فدخل النَّبِيّ -صلّى الله عليه وسلّم- فمشى فيها ثم قال لجابر: "جذّه له فأوف له الذي له"، فجذه بعدما رجع رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- فأوفاه ثلاثين وسقًا، وفضل له سبعة عشر وسقًا فجاء جابر النَّبِيّ -صلّى الله عليه وسلّم- فيخبره بالذي كان فوجده يصلّي العصر فلما انصرف أخبره بالفضل فقال: "أخبر بذلك ابن الخطاب"، فذهب جابر إلى عمر فأخبره، فقال: لقد علمت حين مشى فيها رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- ليباركن الله فيها. اهـ. فترجمة البخاري والحديث الذي ذكره دالّ على جوازه، وهو اختيار شيخنا -رحمه الله-. وترجمة البخاري على حديث جابر ترجمة أخرى، فقال: باب إذا قضى دون حقّه وحلله فهو جائز. انتهى. وباب الإيفاء عندهم أسع من باب البيع، ويغتفر فيه ما لا يغتفر في البيع. وأمّا كلام الفقهاء، فقال في المغني والشّرح: لا يقبض ما أسلم فيه كيلًا إلّا بالكيل، ولا وزنًا إلّا بالوزن، ولا بغير ما قدر به وقت العقد؛ لأنّ الكيل والوزن يختلفان، فإنّ قبضه بذلك أي قبض المكيل وزنًا والموزون كيلًا فهو كقبضه جزافًا. ومتى قبضه فإنّه يأخذ قدر حقّه

ويردّ الباقي ويطالب بالنّقص إن نقص. وهل له أن يتصرف في قدر حقّ من قبل أن يعتبره؟ على وجهين انتهى. فمعنى كلامهم أنّه إذا قبضه جزافًا لا بأس به لكن لا يتصرف ببيع أو نحوه حتى يعتبره بما قدر به. وهذا على الرّواية الأولى التي هي المذهب عندهم وقد عرفت أنّ الرّاجح الجواز. المسألة الثّانية: إذا باع العامي دين السّلم قبل قبضه فمعلوم أنّه غير متناول هل يصحّ هذا البيع أم لا؟ فإن قلتم يصحّ، فما نصنع بقولهم في الشّرح: ولا يجوز مسلم فيه قبل قبضه بغير خلاف علمناه، وذكر الحديث في النّهي. وقال في الإنصاف: وعنه يجوز اختاره الشّيخ. انتهى. فالجواب: أنّ ذلك لا يجوز كما نصّ عليه في الشّرح، واستدلّ عليه في الحديث الصّحيح. وأمّا الرّواية الثّانية التي اختارها الشّيخ فالمراد جواز بيعه من بائعه فقط مطلقًا، بدليل تعليل الشّيخ تقي الدّين بذلك. قال في الأنصاف: وفي المربع وغيره رواية بأنّه يصحّ، يعنِي: بيع المسلم فيه قبل قبضه اختاره الشّيخ تقي الدّين. وقال: هو قول ابن عبّاس، لكن يكون بقدر القيمة فقط؛ لئلا يربح فيما لم يضمن. قال: وكذا ذكره أحمد في بدل القرض. انتهى. وبدليل ما ذكره صاحب الإنصاف عند قول صاحب المقنع: ومَن اشترى مكيلًا أو موزونًا لم يجز بيعه حتّى يقبضه. هذا هو المذهب مطلقًا، وعليه الأصحاب، وعنه يجوز لبائعه. اختاره الشّيخ تقيّ الدّين، وجوّز التّولية فيه والشّركة. انتهى. فدلّ ذلك على أنّ المراد بيعه من بائعه. والصّحيح عندنا عدم جواز بيعه من بائعه وغيره حتّى يقبضه، فيكون بيع العامي المسؤول عنه باطلًا لمخالفته لحديث نهي عن بيع الطّعام قبل قبضه. والله أعلم.

ثم رأيت كلام الشّيخ في الاختيارات على عمومه كما ذكره صاحب الإنصاف في السلّم: فقال يصحّ بيع الدِّين في الذّمّة من الغريم وغيره، ولا فرق بين دين السّلم وغيره، وهو رواية عن أحمد، وقاله ابن عبّاس لكن بقدر القيمة لئلا يربح فيما لم يضمن. انتهى. المسألة الثّالثة: قال في الكافي وغيره: وإن وكله في البيع وأطلق لم يملك البيع بأقلّ من ثمن المثل -إلى أن قال-: فإن باع بأقل من ثمن المثل وبأقل مما قدر له فنعه البيع، وعنه يصحّ ويضمن الوكيل النّقص ولا عبرة بما يتغابن به النّاس كدرهم من عشرة. وكذلك ذكروا إذا وكل في الشّراء وأطلق فما المفتَى به؟ فنقول: في الاختيارات قال في المحرر: وإذا اشترى الوكيل أو المضارب بأكثر من ثمن المثل، أو باع بدونه صحّ ولزمه النّقص في مسألة البيع. قال أبو العبّاس: وكذلك الشّريك والوصي والنّاظر على الوقف وبيت المال ونحو ذلك. قال: وهذا ظاهر فيما إذا فرط. وأمّا إذا احتاط في البيع والشّراء ثم ظهر غبن أو بيع لم يقصر فيه فهذا معذور يشبه خطأ الإمام أو الحاكم، ويشبه تصرفه قبل عمله بالعزل أبين من هذا النّاظر والوصي والإمام والقاضي إذا باع أو أجر أو زارع أو ضارب ثم تبيّن أنّه بدون القيمة بعد الاجتهاد، أو تصرف تصرفًا ثم تبيّن الخطأ فيه، مثل: أن يأمر بعمارة أو غرس , نحو ذلك، ثم تبيّن أنّ المصلحة في خلافه. وهذا باب واسع، وكذلك المضارب والشّريك، فإنّ عامة مَن يتصرّف لغيره بوكالة أو ولاية قد يجتهد ثم يظهر فوات المصلحة وحصول المفسدة، ولا لوم عليه ولا تضمين بمثل هذا. انتهى كلامه. فقد عرفت أنّ اختيار الشّيخ عدم تضمينه إذا لم يفرط ومقتضى كلام الشّيخ القول المشهور في المذهب، وهو صحّة البيع وتضمين الوكيل

النّقص وشرط الشّيخ في ذلك إذا فرط وهو الأظهر عندنا. وأمّا إذا فرط فحينئذٍ يتوجه القول بالبطلان وعدم انعقاد البيع، كما هو قول أهل العلم. والله أعلم. المسألة الرّابعة: إذا علق الرّجل طلاق امرأته على شرطٍ وأراد إبطاله قبل وجود الشّرط برجعتها، أو قال: أبطلت ما علقت هل له ذلك أم لا؟ فنقول: قال في الإنصاف: إذا علق الطّلاق على شرطٍ لزم وليس له إبطاله. هذا المذهب، وعليه الأصحاب قاطبة وقطعوا به. وذكر في الانتصار والواضح رواية بجواز فسخ العتق المعلّق على شرطّ. قال في الفروع: ويتوجه ذلك في طلاقه. ذكره في باب التّدبير. وقال الشّيخ تقيّ الدّين أيضًا: لو قال: إن أعطيتِنِي أو إذا أعطيتِنِي أو متى أعطيتِنِي ألفًا فأنتِ طالق، أنّ الشّرط ليس بلازمٍ من جهته؛ كالكتابة عنده. قال في الفروع: ووافق الشّيخ تقي الدّين على شرط محض؛ كإن قدم زيد فأنت طالق. قال الشّيخ تقي الدّين التّعليق الذي يقصد به إيقاع الجزاء إن كان معاوضة فهو معاوضة، فإن كانت لازمة فلازم، وإلّا فلا يلزم الخلع قبل القبول، وإلّا الكتابة، وقول مَن قال التّعليق لازم دعوى محررة. انتهى. فتحرّر أنّ التّعليق على شرط قسمان: أحدهما: تعليق محض بلا شرط معاوضة؛ كقوله: إن قدم زيد فأنتِ طالقٌ، أو إن دخلتِ الدّارَ فأنتِ طالق، أو إن خرجتِ فأنتِ طالق، فهذا ليس له إبطاله على قول الجماعة، ووافقهم الشّيخ تقيّ الدّين على ذلك وهو الصّواب. القسم الثّاني: تعليق بشرط معاوضة؛ كقوله: إن أعطيتِنِي ألفًا فأنتِ طالق، أو متى أعطيتِنِي، أو إذا، فهذا تعليق بشرط معاوضة، وليس بلازمٍ من جهة الزّوج عند الشّيخ تقي الدّين.

وأمّا قولك -أيّدك الله بروحٍ منه-: هل له إبطال الشّرط برجعتها؟ فمعلوم أنّ الطّلاق لا يقع حتّى يوجد الشّرط فكيف يراجعها؟ وأمّا قولك: وهل الطلقتان والثّلاث في ذلك سواء؟ فهما سواء ولا فرق بينهما في ذلك بلا نزاع نعلمه. الخامسة: إذا ذهب لرجلٍ دابة وحلى عليها بشيء وهي التي يسمّيها البدو الحلاوة والبلاسة، بأن يقول: مَن رأى أو أخبرنِي بدابتِي فله كذا، فأخبره، ولم يعمل شيئًا وإنّما هو مجرّد الخبر، هل يحلّ له ذلك للخبر أم لا؟ لأنّه من التّعاون على البر والتّقوى، وأخبر أخاك الخ، وهل يلزم ربّ الدّابّة ما قال؛ لأنّه من تمام الوعد أم لا؟ أم هي مسألة اجتهاد؛ لأنّها مصلحة لحفظ المال؟ فنقول: جزم الفقهاء بأنّ الجعل جائز؛ فلو التقطها مثلًا بعد أن يعلم بالجعالة لم يستحقّ الجعل، قال في الشّرح الكبير في باب الجعالة: هي أن يقول: مَن ردّ عبدي أو لقطتِي فله كذا، فإذا قال ذلك فمَن فعله بعد أن بلغه الجعل استحقّه لما ذكرنا من الآية، وحديث أبي سعيد، يعنِي قوله تعالى: {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ}، [يوسف، من الآية: 72]. وحديث أبِي سعيد في رقية اللّديغ. قال: وإن فعل قبل ذلك لم يستحقّه، سواء ردّه قبل بلوغه الجعل أو بعد، إذا التقط لقطة قبل أن يبلغه الجعل لم يستحقّ الجعل؛ لأنّه؛ لأنّه التقطها بغير عوضٍ وعملٍ في مال غيره بغير جعلٍ فلم يستحقّ شيئًا كما لو التقطها ولم يجعل فيها ربّها شيئًا، وفارق الملتقط بعد بلوغ الجعل؛ فإنّه إنّما بذل منافعه بعوض جعله فاستحقّه؛ كالأجير إذا عمل بعد العقد، وسواء كان التقاطه لها بعد الجعل أو قبله لما ذكرناه. ولا يستحقّ أخذ الجعل بردّها؛ لأنّ الرّدّ واجب عليه من غير عوضٍ فلم يجز أخذ العوض عن الواجب؛ كسائر الواجبات، وسواء ردّها

27 - من عبد الله إلى الأخ سعيد

قبل العلم بالجعل أو بعده؛ لذلك إن صحّ يأخذه الملتقط في موضع يجوز له أخذه عوضًا عن الالتقاط المباح. انتهى. وقال في الفروع: فَمَن فعله بعد علمه استحقّه كدين، وإلّا حرم. نقل حنبل في اللّقطة إن وجدها بعد ما سمع النّداء فلا بأس أن يأخذ منه وإلّا ردّها ولا جعل له. انتهى. فإذا تقرّر هذا فلا يخلو إمّا أن يجد الدّابّة قبل أن يسمع النّداء أو يبلغه، ويخبر فهذا صريح كلامهم أنّه لا يستحقّ جعلًا، وإن ردّها، فكيف إذا لم يعمل شيئًا، وإنّما هو مجرّد الخبر، وأمّا إن سمع النّداء أو الجعالة أنّ مَن ردّ دابتِي أو عبدي أو أخبرنِي بها فله كذا وكذا، ثم بحث عنها وسأل عنها في البوادي والبرية وغيرها حتى وجدها أو ردّها لصاحبها خبر؛ فإنّه يستحقّ الجعالة المذكورة. والله أعلم. وفّقنا الله وإيّاك الحسن الفهم والعمل، وجنّبنا وإيّاك سوء الفهم والعمل. وصلّى الله على محمّد وآله وصحبه وسلّم. - 25 - بسم الله الرّحمن الرّحيم من عبد الله إلى الأخ سعيد أسعده الله بطاعته وأدخله في سلك أهل ولايته. وبعد؛ وصل الخط وصلك الله إلى رضوانه، فأمّا ما سألت عنه من قول صاحب الإقناع وشارحه في (باب التّعزير): وإن ظلم صبيًا أو بهيمة اقتصّ من الظّالم، هل يعمل بهذا أم لا؟ فنقول: اعلم قبل ذلك أنّ العلماء ذكروا أنّ التّعزير أصل عظيم من أصول الشّريعة المحمّدية الآتية بالحكم والمصالح والغايات المحمودة في المعاش والمعاد. قال ابن عقيل -رحمه الله- في الفنون: للسّلطان سلوك السّياسة،

وهو الحزم عندنا، ولا تقف السّياسة على ما نطق به الشّرع إذ الخلفاء الرّاشدون قتلوا ومثّلوا وحرقوا المصاحف ونفى عمر نصر بن الحجاج، ولينل من عرضه مثل أن يقول له: يا ظالم، يا معتدي، وبإقامته من المجلس، والذين قدروا التّعزير من أصحابنا إنّما هو فيما إذا كان تعزيرًا عامًا من فعلٍ أو تركٍ. فإن كان تعزيرًا لأجل ترك ما هو فاعلٍ له فهو بمنْزلة قتل المرتدّ والحربي والباغي، وهنا تعزير ليس يقدر بل ينتهي إلى القتل كما في الصّائل الآخذ للمال يجوز أن يمنع مع الأخذ ولو بالقتل، وعلى هذا فإن كان المقصود دفع الفساد ولم يرتدع بل استمرّ على الفساد فهو كالصّائل الذي لا يندفع إلّا بالقتل فيتقل، ويمكن منه التّجسس، وقد ذكر شيئًا من هذا الحنفية والمالكية وإليه يرجع قول ابن عقيل: وهو أصل عظيم في صلاح النّاس، وكذا طلب الفعل فلا يزال يعاقب حتّى يفعل. والتّعزير بالمال سائغ إتلافًا وأخذًا، وهو جار على أصل أحمد؛ لأنّه لم يختلف أصحابه في أنّ العقوبات في المال غير منسوخة كلّها، وهو قول الشّيخ أبي محمّد المقدسي، ولا يجوز أخذ ماله وهو المعزر فإشارة منه إلى ما يفعله الولاة الظّلمة. والتّعزير يكون على فعل المحرّمات وترك الواجبات، فمن جنس ترك الواجبات: من كتم ما يجب بيانه؛ كالبائع المدلِّس، والمؤجِّر، والنّاكح، وغيرهم من المعاملين، وكذا الشّاهد، والمخبِر، والمفتِي والحاكم، ونحوهم، فإنّ كتمان الحقّ شبيه بالكذب، وينبغي أن يكون سببًا للضّمان، كما أنّ الكذب سبب للضّمان. قال: ترك الواجبات عندنا في الضّمان كترك المحرّمات

حتّى قلنا فيمَن قدر على إنجاء شخصٍ بإطعامٍ أو سقي فلم يفعل فمات ضمنه، وعلى هذا فلو كتم شهادة أبطل بها حقّ مسلمٍ ضمنه، ومن هذا الباب لو كان في القرية أو المحلّة أو البلدة رجل ظالم فسأل الوالي الغريم عن مكانه ليأخذه منه الحقّ فإنّه يجب دلالته بخلاف ما لو كان قصده أكثر من الحقّ. فعلى هذا إذا كتموا ذلك حتّى تلف الحقّ ضمنوه، ويملك السّلطان تعزير مَن ثبت عنده أنّه كتم الخبر الواجب كما يملك تعزير المقرّ إقرارًا مجهولًا حتّى يفسره، ومَن كتم الإقرار، وقد يكون التّعزير بترك المستحبّ كما يعزّر العاطس الذي لم يجهر بترك تشميته. إذا عرفت هذا، فلنرجع إلى جواب المسألة المسؤول عنها، وهي: ما إذا ظلم صبي صبيًّا، أو بهيمة بهيمةً اقتصّ للمظلوم إلى آخره. فنقول: يعمل بذلك؛ لأنّ ذلك في الغالب لا يخلو عن ردع للظّالم، وإن لم يكن مكلّفًا. قال الشّيخ تقيّ الدّين: لا نزاع بين العلماء أنّ غير المكلَّف كالصّبي المميّز يعاقب على الفاحشة تعزيرًا بليغًا، وكذلك المجنون يضرب على ما فعل لينْزجر لكن لا عقوبة بقتل أو قطع. قال في الفروع: قال في الواضح: من شرع في عشر صلح تأديبه في تعزير على طهارة وصلاة، وكذا في زنا، وهو معنى كلام القاضي، وذكر ما نقله الشّالنجي في الغلمان يتمردون لا بأس في ضربهم، وظاهر ما ذكره الشّيخ عن القاضي، يجب ضربه على صلاة. قال الشّيخ لِمَن أوجبها هو تأديب وتعويد على خط وقراءة وصناعة وشبهها، وكذا قال صاحب المحرّر كتأديبه اليتيم والمجنون والدّواب؛ فإنّه شرع لا لترك واجب. وظاهر كلامهم في تأديبه في الإجارة والدّيات أنّه جائز في الإجارة. فأمّا القصاص مثل أن يظلم صبي صبيًّا أو مجنون مجنونًا أو بهيمة بهيمة، فيقتصّ للمظلوم من الظّالم، وإن

لم يكن في ذلك زجر عن المستقبل. لكن لاستيفاء للمظلوم، وأخذ حقّه يتوجّه أن يقال بفعل ذلك، ولا يخلو عن ردع وزجر في المستقبل ففعله لأجل الزّجر وإلّا لم يشرع لعدم الأثرية والفائدة في الدّنيا. وأمّا في الآخر فالله تعالى يتولّى ذلك للعدل بين خلقه فلا يلزم منه فعلنا نحن كما قال ابن حامد: القصاص بين البهائم والشّجر والعيدان جائز شرعًا، بإيقاع مثل ما كان في الدّنيا. وكما قال أبو محمّد البربهاري في القصاص في الْحَجَر التي نالت إصبع الرّجل، وهذا ظاهر كلامهم السّابق في التّعزير أو صريحه فيما لا يميّز. وقال شيخنا: القصاص موافق للشّريعة واحتجّ بثبوته في الأموال وبوجوب دية الخطأ، وبقتال البغاة المفغور لهم. قال: فتبيّن بذلك أنّ الظّلم والعدوان يؤدّي في حقّ المظلوم مع عدم التّكليف؛ فإنّه من العدل وحرَّم الله الظّلمَ على نفسه، وجعله محرمًا بين عباده. كذا قال. وبتقديره فإنّما يدلّ على الآدميين. انتهى كلام صاحب الفروع. وقد عرفتَ أنّه قول كثير من العلماء. فأمّا الصّبيان فمعلوم أنّ ذلك زجر لهم في المستقبل إذا اقتصّ لبعضهم من بعضٍ، والذي نرى أنّ الذي يقتصّ لهم الأمير أوالقاضي إلّا إذا لم يَخْفَ من تعدّي الصّبِيّ في اقتصاصه لنفسه؛ لأنّه أشفى لنفسه. وأمّا البهيمة فيقتصّ لها مالكها، ومعلوم أنّ بعض البهائم يتأدّب إذا أدّب. والله أعلم بالصّواب. المسألة الثّانية: إذا وجد مع امرأته رجلًا من غير زنا بها أنّه يضرب مائة سوطٍ كما في رواية يعقوب، واحتجّ بفعل عليّ -رضي الله عنه-، فذكر هذه المسألة في الإنصاف، وذكر أنّه يعزّر بذلك. انتهى. والتّعزير يرجع

إلى اجتهاد الإمام، لكن الذي نختاره أنّه يعزّر بذلك اتباعًا للخليفة الرّاشد علي بن أبي طالب رضي الله عنه. المسألة الثّالثة: إن أرى الإمام العفو عنه جاز، فقد قال في المبدع: معناه من الشّرح ما كان من التّعزير منصوصًا عليه كوطء جارية امرأته أو الجارية المشتركة فيجب امتثال الأمر فيه، وما لم يكن، إن رأى الإمام المصلحة فيه وجب كالحدّ، وإن رأى العفو جاز للأخبار إلى آخر الكلام. فنقول: اعلم أنّ في وجوب التّعزير وعدمه روايتين في مذهب أحمد: إحداهما: الوجوب مطلقًا. وهي المذهب، وعليه الأصحاب. وهو من مفردات المذهب. ومال إلى وجوبه الشّيخ تقيّ الدّين، وعنه مندوب نصّ عليه في تعزير رقيقه على معصيته وشاهد الزّور. قال في المغني والشّرح: إن كان التّعزير منصوصًا عليه كوطء جارية امرأته أو المشتركة وجب، وإن كان غير منصوص عليه وجب إذا رأى المصلحة فيه أو علم أنّه لا ينْزجر إلّا به، وإن رأى العفو عنه جاز. انتهى. قلت: ومراده إذا كان في العفو عنه مصلحة، قال في الكافي: يجب التّعزير في الموضعين الذين ورد فيهما الخبر إلّا إن جاء تائبًا فله تركه. انتهى. قلت: ومراده بالموضعين: إذا وطئ أمة امرأته مع تحليلها له أو الأمة المشتركة وهو معنى كلام صاحب المبدع الذي ذكرته في السّؤال، وليس في ذلك معارضة لما تقدم من كلامهم؛ لأنّه إذا جاء تائبًا نادمًا جاز ترك تعزيره، كما روي في تفسير قوله تعالى: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ}، [هود، من الآية: 114]، أنّ رجلًا أصاب من امرأة قبلة وفعل بها كلّ شيء إلّا الجماع ثم جاء تائبًا، وذكر ذلك لرسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- فقال: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} الآية.

فقال الرّجل: ألي ذلك يا رسول الله أم لجميع النّاس؟ فقال رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم-: "بل لجميع أمتّي". رواه الأئمة من طرق مختلفة. قال المجد: فإن جاء من يستوجب التّعزير تائبًا لم يعزّر عندي. انتهى. قال في الرّعاية: إن تشاتم اثنان عزرا، ويحتمل عدمه. قال في الفروع: فدلّ على أنّ ما رآه يتعيّن فلا يبطله غيره وأنّه يتعيّن قدر تعزيره خلافًا لمالك. انتهى. قلت: يعنِي: إذا عين الإمام التّعزير للمصلحة فلا يجوز لغيره إبطاله، وأنّه يتعيّن قدر تعزير عينه الإمام. قال في الإنصاف: ويجب إذا طالب الآدمي بحقّه. قال: في الفروع وفي المغني في قذف صغيرة: لا يحتاج في التّعزير إلى مطالبة؛ لأنّه مشرع لتأديبه فللإمام تعزيره إذا رآه. ويؤيّده نصّه فيمَن سبّ صحابيًّا يجب على السّلطان تأديبه ولم يقيّده بطلبٍ أو إرث مع أنّ أكثرهم أو كثيرًا منهم له وراث، وقد نصّ في مواضع على التّعزير ولم يقيّده وهو ظاهر كلام الأصحاب. ويأتي في أوّل آداب القاضي إذا افتات خصم على الحاكم له تعزيره مع أنّه لا يحكم لنفسه إجماعًا، فدلّ على أنّه ليس كحقّ الآدمي المفتقر جواز إقامته إلى طلب. ولهذا أجاب في المغني عن قول الأنصاري للنَّبِيّ -صلّى الله عليه وسلّم- عن الزّبير: أن كان ابن عمّتك، وأنّه لم يعزّره وعن قول الرّجل: إنّ هذه القسمة ما أريد بها وجه الله، بأنّ للإمام العفو عنه. وفي البخاري أنّ عيينة بن حصن لما أغضب عمر هَمَّ به فتلا عليه الحر بن قيس {خُذِ الْعَفْوَ} الآية [الأعراف، من الآية: 199]، قاله في شرح مسلم في قول عائشة -رضي الله عنها- ما انتقم رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- إلّا أن ينتهك شيء من محارم الله فينتقم لله. أنّه يستحبّ لولاة الأمور التّخلق بهذا، فلا ينتقم لنفسه ولا يهمل حقّ الله. انتهى كلام صاحب الفروع.

28 - من عبد الله بن الشيخ إلى الأخ سعيد

فعلم مِمّا تقدم أنّ الأمير أو الحاكم إذا رأى التّعزير في المعصية جاز له ذلك، وإن كان لحقّ آدمي، ولا يفتقر جوازه إلى طلب صاحب الحقّ؛ لأنّ ذلك من باب إنكار منكرٍ وإزالة الظّلم الذي يتعلّق بالأئمة والأمراء. والله أعلم. المسألة الرّابعة: من نائب الإمام؟ فالمعروف عندنا أنّ نائب الإمام الأمير والقاضي جميعًا. والله أعلم. المسألة الخامسة: هل يجوز إخراج العروض بقيمتها كالثّياب ونحوها عن زكاة النّقدين، وعن زكاة الثّمار، والحبوب؟ فقد أجبناك عنها قبل ذلك، وأطلنا الكلام، وذكرنا اختلاف العلماء، وأنّ البخاري ترجم لجواز ذلك في صحيحه، وذكر الآثار والأحاديث الدّالّة على هذه المسألة، فراجعه يتبيّن لك الصّواب إن شاء الله. والسّلام. والحمد لله ربّ العالمين. وصلّى الله على محمّد وآله وصحبه أجمعين. - 26 - بسم الله الرّحمن الرّحيم (من عبد الله بن الشّيخ إلى الأخ سعيد حفظه الله تعالى) سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد؛ سألتَ -وفّقنا الله وإيّاك- عَمَّن قال لزوجته: أنتِ طالق بالثّلاث، ويحلف أنّه قاصد أصابعه الثّلاث. الجواب: هذا المقصد مشكل مع أنّه بعيد، وهذا يشبه ما قاله شيخ الإسلام أنّ النَّيّة إن أسقطت شيئًا من الطّلاق لم يقبل مثل قوله: أنتِ طالق ثلاثًا، وقال: نويت واحدة، فإنّه لا يقبل روايةً واحدةً. وإن لم تسقط من الطّلاق وإنّما عدل به من حالٍ إلى حالٍ، مثل: أن ينوي من

وثاق وعقال ودخول الدّار إلى سنة ونحو ذلك، فهذا على روايتين: إحداها: يقبل. قال في شرح المنتهى إلّا أن تكذبه قرينة من غضب أو سؤالها الطّلاق، والمقدَّم في المذهب أنّه يدين ولا يقبل في الحكم. وأمّا مَن قال لامرأته: إن كان كذا ما جرى فأنتِ فسخ. فالجواب: هذا تعليق، وذكر الفقهاء -رحمهم الله تعالى- في كتاب الخلع ما يفيد أنّه كناية إذا نوى به الطّلاق صار طلاقًا، وصرح به في الاختيارات، فقال: ولا يقع الطّلاق بالكناية إلّا بنية، إلّا مع قرينة إرادة الطّلاق، كما إذا قرن الكناية بلفظٍ يدلّ على الطّلاق مثل أن يقول: فسخت النّكاح، وقطعت الزّوجية، ورفعت العلاقة بينِي وبين زوجتِي. انتهى. وبه يتمّ الجواب. وأمّا الحلف بالطّلاق للمختلعة فيبنَى على صحّة الخلع وعدمها، فإن كان غير صحيحٍ كما إذا ضارها الزّوج لتفتدي منه فالخلع غير صحيحٍ، فإذا كان بلفظ الطّلاق أو نيّته مع اللّفظ الصّريح للخلع لحقها الطّلاق، فإن كان بفظ الخلع من غير نيّة الطّلاق فالزّوجة بحالها ويقع الطّلاق أيضًا. وأمّا إذا وقع الخلع صحيحًا فلا يلحقها الطّلاق على المختار عند الأصحاب. وهذا مذهب أحمد -رحمه الله-، وقول ابن عبّاس، وابن الزّبير وجمعٍ من التّابعين، وبه يقول مالك والشّافعي. وحكي عن أبي حنيفة أنّه يلحقها الطّلاق الصّريح دون الكناية. وروي عن سعيد بن المسّيب وجماعة لما روي عن النَّبِيّ -صلّى الله عليه وسلّم- أنّه قال: "المختلعة يلحقها الطّلاق ما دامت في العدّة", ولم يمكن آخر هذا اليوم كشف بحر 1 الحديث وسنده، وإن صحّ فهو الحجّة. والله أعلم.

_ 1 كذا، ولعلّه نصّ الحديث.

29 - من عبد الله بن الشيخ إلى الأخ جمعان

- 27 - بسم الله الرّحمن الرّحيم (من عبد الله بن الشّيخ إلى الأخ جمعان) سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد؛ الخط وصل وصلك الله إلى رضوانه، ونبشّرك نحن طيّبون -ولله الحمد- ولا نستنكر شيئًا، كذلك سعود وعياله وآل الشّيخ من حيث الجملة. وما أشرت إليه من العذر عن الجيد فأنت معذور، وأرجو أنّ الله يعيننا وإيّاك ويرزقك العلم والعمل والمعونة، والعبد ما له طاقة على شيء من الأشياء إلّا بإعانة الله، وأكثر الدّعاء بما أمر الله به نبيّه -صلّى الله عليه وسلّم- حيث قال: {وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا}، [الإسراء: 80]. قال قتادة في تفسير الآية: علّم نَبِيّ الله أنّه لا طاقة له بهذا الأمر إلّا بسلطان من الله نسأل الله سلطانًا نصيرًا. وما أشرت إليه من المسائل: فالأولى: على القول بأنّ الرّاعي لا ضمان عليه، هل هو لكلّ راعٍ سواء رعى جماعة أو هو مختصّ بمنفعة واحدٍ؟ فالظّاهر من كلام أهل العلم أنّ الرّاعي لا ضمان عليه إلّا بالتّعدّي والتّفريط سواء كان لجماعة أو لشخص معيَّن، ولا أعلم في ذلك خلافًا. والثّانية: في الجائفة والمأمومة عمدًا هلها تحمل العاقلة لعدم إمكان استيفاء القصاص؟ فالذي ذكر أهل العلم أنّ العاقلة لا تحمل إلّا الخطأ في الجائفة وما فوقها، وأمّا ما دون الجائفة في الخطأ، ففيه خلاف بين العلماء والذي يفتى به عندنا أنّها لا تحمل ما دون الثّلث، وإنّما تحمل الثّلث

فأكثر في الخطأ خاصة، فدية الجائفة والمأمومة على الجاني خاصّة في العمد، والظّاهر أنّها ليست بمنجمة كالدّية بل هي حالّة. والثّالثة: تحمل الشّهادة ما يشترط لها عند أهل العلم من الشّروط؟ فالذي ذكر في الإنصاف أنّها تقبل الشّهادة على الشّهادة فيما يقبل فيه كتاب القاضي إلى القاضي وترد فيما يرد فيه، ولا تقبل إلّا أن يتعذر شهود الأصل بموتٍ أو مرضٍ أو غيبةٍ إلى مسافة القصر. وذكر أيضًا أنّه لا يجوز لشاهد الفرع أن يشهد إلّا أن يستدعيه شاهد الأصل، فيقول: أشهد على شهادتِي أنِّي أشهد على فلان بن فلان وقد عرفته باسمه وعينه ونسبه، أقرّ عندي وأشهدنِي على نفسه طوعًا بكذا أو شهدت عليه أو أقرّ عندي بكذا، وذكر ابن عقيل رواية يجوز أن يشهد سواء استدعاه أو لا، وقدمه في التّبصرة وهذه الرّواية هي الصّواب إن شاء الله تعالى. والرّابعة: أرش العيب إذا قدرت السّلعة بما ينقصها هل تقوم بالثّمن الذي اشتريت به سليمة فما نقص عنه بالعيب رجع به المشتري أم لا عبرة بالثّمن، وإنّما تقوم أنّها تسوي صحيحة كذا، وما نقص عنه بالعيب طاح قدره من الثّمن؟ فالذي ذكره العلماء أنّها تقوم بالثّمن الذي اشتريت به. قال في الإقناع: والأرش قسط ما بين قيمة الصّحيح والمعيب، فيرجع بنسبته من ثمنه فيقوم المعيب صحيحًا ثم يقوم معيبًا، فإذا كان الثّمن مثلًا مائة وخمسين فيقوم المعيب صحيحًا بمائة ومعيبًا بتسعين فالعيب نقص عشرة نسبتها إلى قيمته صحيحًا عشرة فينسب ذلك إلى المائة والخمسين تجده خمسة عشر، وهو الواجب للمشتري. هذا على القول بأنّه مخيّر يبن الرّدّ وأخذ الأرش مع الإمساك. وأمّا على المفتَى به عندنا، وهو الرّواية الأخرى

30 - من عبد الله بن الشيخ إلى الأخ جمعان

عن أحمد واختيار الشّيخ تقيّ الدّين أنّ المشتري إذا وجد بها عيبًا لم يعلمه فليس له إلّا الإمساك بلا أرش أو الرّدّ. والخامسة: الشّفعة هل تثبت بالشّركة في البئر والطّريق ومسير الماء؟ فالمفتّى به عندنا أنّها تثبت بذلك، كما هو اختيار الشّيخ تقيّ الدّين وغيره من العلماء. وصلّى الله على محمّدٍ وآله وصحبه وسلّم. - 28 - بسم الله الرّحمن الرّحيم (من عبد الله بن الشّيخ إلى الأخ جمعان) سلام عليكم ورحمة وبركاته. وبعد؛ وصل الخط وصلك الله إلى رضوانه، وما ذكرت من جهة المسألة التي أشكلت عليك؛ وهي: أنّ أهل بلدكم يجعلون للأجير الذي يسقي الزّرع جزءًا منه مشاعًا، وأنّك نهيتهم عن ذلك؛ لأنّك وقفت على كلامٍ لبعض أهل العلم في اشتراط معرفة الأجرة، فإن كانت مجهولة لم يصحّ. فاعلم أنّ الذي يظهر من كلام أهل العلم أنّ مثل هذه المسألة لا بأس بها، ويكون ذلك من باب المشاركة لا من باب الإجارة، كما إذا دفع أرضه لِمَن يزرعها بجزء مشاعٍ من الزّرع، أو نخله لِمَن يقوم عليه ويصلحه بجزء من ثمره، أو ثوبه إلى مَن يخيطه، أو غزلًا إلى مَن ينسجه بجزء منه مشاع فقد نصّوا على أنّ مثل هذا جائز. وكذلك إذا دفع ثوبه إلى مَن يخيطه أو غزلًا إلى مَن ينسجه بجزءٍ من ربحه فإنّ هذا جائز. قال في المغني: وإن دفع ثوبه إلى خياط ليفصله مضانًا ليبيعها له وله نصف ربحها بحقّ عمله جاز، نصّ عليه في رواية حرب، وإن دفع غزلًا إلى رجلٍ ينسجه ثوبًا بثلث

31 - من عبد الله إلى الأخ جمعان

ثمنه أو ربعه جاز، نصّ عليه. وهذه المسائل أبلغ في الجهالة والغرر من مسألتكم، فمسألتكم أولى بالجواز. والجهالة في مثل هذه المسائل مغتفرة كما اغتفرت في المزارعة والمساقاة التي ثبتت الأحاديث عن رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- بجوازها وهي في الحقيقة أجرة للأرض. - 29 - بسم الله الرّحمن الرّحيم (من عبد الله إلى الأخ جمعان) سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد؛ فإن سألت عنا فنحن -ولله الحمد- طيّبون، كذلك العيال وآل الشّيخ طيّبون جميعًا، ولله الحمد، والخط وصل، وما ذكرت فيه من المسائل: فالمسألة الأولى: فيمَن سرق مال الغير أو غصبه إلى آخر. فالجواب: أنّ الفقهاء قد ذكروا هذه المسألة وذكروا أنّ المغصوب منه يأخذ عين ماله أينما وجده سواء كان من الغاصب أو المشتري أو المنتهب، ويرجع المشتري على الغاصب أو السّارق بالثّمن ولا فرق في ذلك بين أن يكون الغاصب غنيًّا أو فقيرًا. والمسألة الثّانية: إذا وقف إنسان قدرًا أو رحى هل ذلك وقف عام ينتفع به كالمساجد والمقبرة أم لا؟ فالجواب: أنّ ذلك يرجع إلى شرط الواقف، فإن قال ذلك وأطلق كان ذلك وقفًا عامًا ينتفع به، وإن قيّد ذلك على شخصٍ أو جهةٍ تقيد به. والمسألة الثّالثة: إذا اشترى إنسان من آخر طعامًا ووكّل البائع على كيله ولم يحضره الخ؟

فالجواب: أنّ ذلك صحيح إذ لا مانع منه وقد نصّ على ذلك الفقهاء في (باب الوكالة)، ولا يدخل ذلك في النّهي عن بيع الطّعام قبل قبضه؛ لأنّ هذا قبض صحيح؛ لأنّ قبض وكيله كقبضه. وهذه وكالة صحيحة، ولا يقدح في ذلك كون الوكيل يتولّى طرفي العقد. والمسألة الرّابعة: فيمَن قال: عليَّ الطّلاق لأفعلن كذا، ثم حنث وله زوجة ما الحكم؟ فالجواب: أنّ هذه المسألة، الخلاف فيها مشهور بين السّلف والخلف، وفيها روايتان عن أحمد: إحداهما: تطلق ثلاثًا، صحّحه في التّصحيح. قال في الرّوضة: هو قول جمهور أصحابنا؛ لأنّ الألف واللام للاستغراق، فتقتضي استغراق الكلّ وهو ثلاث. والرّواية الثّانية: لا تطلق إلّا واحدة، وهو المذهب؛ لأنّه يحتمل أن تعود الألف واللام إلى معهود يريد الطّلاق الذي أوقعته. قال الموفّق: والأشبه في هذا جميعًا أن يكون واحدةً في حال الإطلاق؛ لأنّ أهل العرف لا يعتقدونه ثلاثًا، ولهذا ينكر أحدهم أن يكون طلق ثلاثًا، ولا يعتقد إلّا أنّه طلق واحدة. انتهى. وإنّما الرّوايتان عن أحمد، إذا قال ذلك وأطلق ولم ينو شيئًا، فإن نوى ثلاثًا فإنّه يقع به ثلاث طلقات. وأمّا الشّيخ تقيّ الدّين فإنّه فرّق بين أن يقصد الحالف إيقاع الطّلاق أو لا يقصد، فإن كان يكره وقوع الجزاء ولكنه علقه على شرط ليحثّ نفسه على فعل شيءٍ أو تركه، فهذا يكون عنده من باب الأيمان، وتكون كفارته كفارة يمينٍ، وإن كان يقصد إيقاع الطّلاق ولا يكره وقوع الجزاء فهذا إذا وقع الجزاء وقع عليه الطّلاق.

32 - من عبد الله إلى الأخ جمعان

- 30 - بسم الله الرّحمن الرّحيم (من عبد الله إلى الأخ جمعان) سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد؛ وصل الخط وصلك الله إلى رضوانه. وما ذكرت من العذر من عدم المواجهة في سفر الحجّ فأنت معذور لسبب كثرة الأشغال علينا وعليكم. والمسائل التي وصلتنا قبل الحجّ سافرت بها معي؛ لأنِّي أبغي أن أجاوب عنها، والله أعلم أنّها ضاعت منِّي. وأمّا المسائل الأخيرة: فالمسألة الأولى: هل يجوز بيع الذّهب والفضّة بعرض كالجدد وغيرها نسيئة؟ فالجواب: أنّ ذلك لا يجوز إذا كان العرض جددًا؛ لأنّها بمنْزلة الأثمان، إذا اختلفت أجناسها يجوز بيع بعضها ببعض ولا يجوز نسيئة. وأمّا العروض التي ليست بأثمان فلا بأس بذلك، ولا أعلم في هذه المسألة نزاعًا بين العلماء. والثّانية: قوله -صلّى الله عليه وسلّم- لوفد عبد القيس: "أنّهاكم عن الدبا والحنتم" الخ. يذكر أهل العلم في شرحه أنّه نهاهم عن الانتباذ في هذه الأوعية؛ لأنّها أوعية حارّة فيشربون منها المسكر ولا يشعرون بذلك. وورد في حديثٍ صحيحٍ أنّه أرخص فيه بعد ذلك، وقال: "لا تشربوا مسكرًا". والثّالثة: إذا كان عند إنسانٍ تمر أو حبّ وحار في يده لأجل رخصه، وأراد أن يسلفه إنسانًا إلى الثّمرة المقبلة؛ لأجل منفعة الثّمر المقبل، فهذا لا يجوز؛ لأنّه قرض يجرّ نفعًا إليه، وكلّ قرضٍ يجرّ منفعة فهو ربا.

33 - من عبد الله إلى الأخ جمعان

والرّابعة: فيمَن أسلم إلى رجلٍ دراهم بتمرٍ أو حبٍّ فلما حلّ الأجل وخاف صاحب السّلم أنّ التّمر الذي أسلم فيه لا يساوي رأس ماله. وقال صاحبه: ما أبغى إلّا رأس مالي إلى أجل ولولا الأجل ما رضي صاحب الدَّين. فهذه مسألة فيها خلاف بين أهل العلم، والأحسن الأحوط تركها. - 31 - بسم الله الرّحمن الرّحيم (من عبد الله إلى الأخ جمعان) سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد؛ وصل الخط وصلك الله إلى رضوانه. وأنا ولله الحمد طيّب، كذلك عيالنا وآل الشّيخ. وما ذكرت من المسائل: فالأولى: إذا أفسدت دابّة إنسانٍ باللّيل ملك الغير ما كيفية الضّمان؟ فالجواب: أنّ صفة التّقويم في الزّرع الأخضر ونحوه أن ينظر أهل المعرفة ما نقص الزّرع من الثّمن فيغرم له قيمة ذلك النّاقص. هذا هو الذي يظهر من كلام الفقهاء. الثّانية: رجلان اشتركا بأموالهما من عقارٍ وأصولٍ وعروضٍ وأثمانٍ وغيرها، هل هذه شركة صحيحة أو فاسدة؟ فقال في الإنصاف: مِن شرط صحّة الشّركة أن يكون المالان معلومين، وإن اشتركا في مختلط بينهما شائع صحّ إن علما قدر ما لكلّ واحدٍ منها، ثم قال: ويشترط أن يعملا فيه أو أحدهما على الصّحيح، لكن بشرط أن يكن له أكثر من ربح ماله. وهي شركة عنان على الصّحيح من المذهب، وقيل: مضاربة، فإن شرط له ربحًا قدر ماله فهو إبضاع.

وأمّا الشّركة في العقار ونحوه، فلم أرَ في كلامهم تصريحًا بجوازه، وقضية إطلاقهم الأموال يقتضي جوازه في العروض والعقار، فإذا عرف قدر ماليهما واشتركا في العمل فيه ثم فسخ أحدهما تقاسما الرّبح على قدر ماليهما، ورجع العقار إلى مالكه الأوّل. والثّالثة: في الوظائف التي تعنِي أهل الإسلام، فالأحسن فيها أن يجعل ذلك على قدر المال من عقار وغيره، وتسقط النّائبة على قدر الأموال كما هو المعمول به في بلدان المسلمين. والرّابعة: بيع الإبل بالغنم نسيئة، ففيه خلاف، ومَن منعه احتجّ بالحديث المروي أنّه نهى عن بيع الحيوان بالحيوان نسيئة، ومَن أجازه احتجّ بالحديث الصّحيح في قصّة وفد هوازن أنّ رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- قال: "ومَن لم تطب نفسه فله بكلّ فريضةٍ ستة فرائض من أوّل ما يفيء الله علينا". والتّفريق بينما كان معدًا للحم وغيره عند مالك وغيره إنّما هو في مسألة بيع اللّحم بالحيوان، هل يصحّ ذلك أم لا؟ فمنعه مالك فيما كان معدًّا للحم دون ما هو معدّ للرّكوب وغيره. والخامسة: ثمر العام الواحد يضمّ بعضه إلى بعض في تكميل النّصاب المراد به عند بعضهم أن يزرع زرعين في عامٍ وحدٍ ولو كان ذلك دون السّنة الهلالية بأن يحصل ذلك في نحو ثمانية أشهر أو لتسعة أشهر أو دون ذلك، ولا ينظر إلى كون الزّرع الأوّل في آخر السّنة الأولى، والزّرع الثّاني في أوّل السّنة الثّانية؛ لأنّ ذلك حساب عامٍ واحدٍ واحترازهم بقولهم: ثمرة العام الواحد إشارة إلى كون إنسانٍ يزرع زرعًا في سنة ثم يزرع في السّنة التي بعدها بعد مضي اثني عشر شهرًا، فهذا لا يضمّ ثمرة هذا إلى هذا،

فإذا كمل النّصاب عنده بضمّ ثمرة إلى ثمرة في عامٍ واحدٍ وجبت عليه الزّكاة. هذا هو المفتَى به عندنا. والسّادسة: إذا نقص الزّرع أو التّمر عن الخرص فالذي يعمل به عندنا أنّ الذي لا يتّهم في الزّكاة ويعرف بالدّيانة والأمانة يصدق في دعواه ومَن لا فلا. والسّابعة: إذا دفع إنسان إلى آخر أرضه يغرسها وشرطا بينهما مدّة سنين إلى آخر المسألة. فالجواب: أنّ الذي عليه كثير من العلماء أنّ مثل هذا لا يصحّ سواء سمّى مساقاةً أو مزارعةً أو لا، والذي اختاره الشّيخ تقيّ الدّين ابن تيمية جواز ذلك، وهو الذي تقتضيه الأصول والقواعد في المساقاة والمزارعة على النّصف أو الثّلث أو الرّبع كما ثبتت السّنة بذلك في قصة خيبر. الثّامنة: المزارعة بجزء من الثّمرة إذا قيل بأنّها لازمة أو جائزة، فإذا زرعها العامل أو شغل الأرض بزرعه وفوت على صاحب الأرض أجرة أرضه فظاهر كلامهم أنّه يجب عليه قيمة مغل الأرض لصاحبها على ما تشارطا عليه. فإذا كان الأرض تغل كألف صاع مثلًا وزارعه عليها بثلثها وشغل أرضه ثم هرب العامل وجب ثلث الألف. هذا على القول بأنّها جائزة. وأمّا على القول بأنّها لازمة، فإنّه يستأجر الحاكم من ماله مَن يقوم على الزّرع. وأمّا إذا خرج منها قبل العمل وقيل إنّها جائزة فليس عليه شيء. والتّاسعة: إذا خرج العامل في المساقاة وقد مضى بعض السّنة، فإن كان قبل ظهور الثّمرة فلا شيء له، فإن كان بعد ظهور الثّمرة استؤجر

34 - من عبد الله بن الشيخ إلى الأخ جمعان

من ماله مَن يقوم على النّخل إن أمكن، وإذا جاء برجلٍ أمينٍ قام مقامه في تتميم العمل. والعاشرة: هل حكم نائب الإمام كالإمام؟ فالذي قرّره ابن القيم وغيره أنّ الإمام في هذا ونائبه سواء، وأن تصرّف الغير في مال المالك إذا كان لمصلحةٍ ظاهرةٍ ينفذ تصرّفه. واستدلّوا على ذلك بقوله تعالى: {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ}، [التّوبة، من الآية: 91]. والله أعلم. وصلّى الله على محمّد وآله وصحبه وسلّم. - 32 - بسم الله الرّحمن الرّحيم (من عبد الله بن الشّيخ إلى الأخ جمعان) سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد؛ وصل الخط وصلك الله إلى رضوانه، وتسأل فيه عن رجلٍ تشاجر هو وزوجته عند أميرٍ من الأمراء، فقالت الزّوجة للأمير: أنصفنِي وإلّا طلّقنِي من إمارتك، فحرص زوجها وقال: أنتِ طالق عدد زقان الجراد، فقالت: هبت ريحك، فقال لها: ما إمارة فلان، ويحلف أنّ كلامي هذا مجاوبة عن الأمير يوم قالت: طلّقنِي من إمارتك، فقلت أنا: يا أيّها الزّوج، أنت طالق عدد زقان الجراد من إمارته، ومعه على هذا شهود. فالجواب -وبالله التّوفيق- قال الإمام زين الدّين عبد الرّحمن بن رجب الحنبلي في شرحه على الأربعين، وقد روي عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أنّه رفع إليه رجل قالت امرأته: شبِّهنِي، قال: كأنّكِ ظبية، كأنّكِ حمامة، فقالت: لا أرضى حتّى تقول: أنتِ طالق، فقال ذلك. فقال عمر:

خذ بيدها فهي امرأتك. خرّجه أبو عبيدة. وقال: أراد النّاقة تكون معقولة ثم تطلق من عقالها فيخلى عنها فهي خلية من عقالها، وهي طالق؛ لأنّها قد طلقت منه فأراد الرّجل ذلك فأسقط عنه عمر الطّلاق بنيّته. قال: وهذا أصل لكلّ مَن تكلّم بشيء يشبه لفظ الطّلاق والعتاق، وهو ينوي غيره، أنّ القول فيه قوله فيما بينه وبين الله -عزّ وجلّ-، وفي الحكم على تأويل عمر -رضي الله عنه-. ويروى عن الأشيمط السّدوسي قال: خطبت امرأة فقالوا: لا نزوّجك حتى تطلق امرأتك، فقلت: إنِّي طلّقتها ثلاثًا، فزوّجونِي، ثم نظروا فإذا امرأتي عندي، فقالوا: أليس قد طلّقتها ثلاثًا؟ قال: كان عندي فلانة فطلّقتها، وفلانة فطلّقتها. وأمّا هذه فلم أطلّقها، فأتيت شقيقًا أبا ثور وهو يريد الخروج إلى عثمان وافدًا، فقلت: سل أمير المؤمنين عن هذه، فسأله. فقال: نيّته. خرّجه أبو عبيدة في كتاب الطّلاق. وحكى إجماع العلماء على مثل ذلك. وقال إسحاق بن منصور: قلت لأحمد: حديث الأشيمط تعرفه؟ قال: من. السّدوسي، إنّما جعل نيّته بذلك. انتهى كلام ابن رجب. وفي حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه عن النَّبِيّ -صلّى الله عليه وسلّم- أنّ المرأة إذا أقامت شاهدًا واحدًا على الطّلاق فإن حلف الزّوج أنّه لم يطلّق لم يقض عليه، وإن لم يحلف حلّفت المرأة ويقضى عليه. انتهى من إعلام الموقعّين لابن القيم. فهذا كلام الخليفتين الرّاشدين: عمر وعثمان -رضي الله عنهما- أنّهما ردّا ما احتمل معنيين إلى نيّة المطلق. ولأنّ الأصل مع الزّوج وهو الزّوجية. وفي حديث عمرو بن شعيب أنّ الزّوج يستحلف أنّه ما طلّق. إذا تقرّر هذا فإن كان الزّوج الذي قال لامرأته حين قالت للأمير: طلِّقْنِي من إمارتك، قال: أنتِ طالق عدد زقان الجراد من إمارة فلان، لم يقع عليها طلاقه؛ لأنّه وصله بما يصرف عن

35 - من عبد الله بن الشيخ إلى الأخ سعيد

ظاهره، فإن لم يكن وصل الطّلاق بقوله: من إمارة فلان، حلف الزّوج بالله الذي لا إله إلّا هو، ما أردتُ طلاق زوجتِي، وإنّما أردتُ طلاقها من إمارة فلان، فإن حلف فهي زوجته. وهذا الذي ذكرناه قد صرّح به بعض العلماء في كتبهم. لكن إن كانت الزّوجة قالت له: طلِّقنِي، وهي في شدّة الغضب، فقال لها: أنتِ طالق عدد زقان الجراد، ولم يصله بقوله: من إمارة فلان، فلا يقرّ بها إلّا بمراجعة العلماء فيه. والله أعلم. وصلّى الله على محمّد وآله وصحبه وسلّم. - 33 - بسم الله الرّحمن الرّحيم (من عبد الله بن الشّيخ إلى الأخ سعيد) سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد؛ وصل الخط وكل مَن تسأل عنهم طيّبون، ولله الحمد، والشّيخ طيّب، ولله الحمد، ولا يبرح يظهر، وكذلك عبد العزيز والعيال. وأمّا جواب المسألتين اللّتين ذكرتهما في كتابك، فنذكر لك كلام أهل العلم، ونسأل الله أن يوفّقنا وإيّاك للصّواب. قال في المغني: إذا قال: أنتِ عليّ حرام، فإن نوى به الظّهار فهو ظهار في قول عامّتهم، وبه يقول أبو حنيفة، والشّافعي. وإن نوى به الطّلاق فقد ذكرناه في باب الطّلاق، وإن أطلق ففيه روايتان: إحداهما: هو ظهار، ونصّ عليه أحمد في رواية جماعة من أصحابه. وذكره إبراهيم الحربي. وعن عثمان وابن عبّاس وأبي قلابة وسعيد بن جبير وميمون بن مهران والبستي أنّهم قالوا الحرام ظهار. وروي عن أحمد -رحمه الله- ما يدلّ على أنّ التّحريم يمين وعن ابن عبّاس أنّه قال: التّحريم يمين في كتاب

الله -عزّ وجلّ- قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ}، [التّحريم، من الآية: 1]، ثم قال: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ}، [التّحريم، من الآية: 2]. وأكثر الفقهاء على أنّ التّحريم إذا لم ينويه الظّهار ليس بظهار، وهو قول مالك وأبي حنيفة والشّافعي، ووجه ذلك الآية المذكورة. وأنّ التّحريم يتنوّع فقد يكون بالظّهار وبالطّلاق وبالحرام وبالصّيام وبالحيض، ولا يكون صريحًا في واحدٍ منها، ولا ينصرف إليه بغير نيّةٍ كما لا ينصرف إلى تحريم الطّلاق، ووجه الأوّل: أنّه تحريم أوقعه بامرأته فكان بإطلاقه ظهارًا كتشبيهها بظهر أمّه. وقولهم: إنّ التّحريم يتنوّع قلنا: إنّ تلك الأنواع منتفية ولا يحصل منها إلّا الطّلاق. وهذا أولَى منه؛ لأنّ الطّلاق يُبَيِّن المرأة، وهذا يحرّمها مع بقاء الزّوجية، فكان أدنى التّحريم يمين فكان أولى. فأمّا إن قال ذلك لمحرمة عليه بحيض أو نحوه وقصد الظّهار فهو ظهار، وإن قصد أنّها محرمة بذلك السّبب فلا شيء فيه، وإن أطلق فليس بظهارٍ؛ لأنّه يحتمل الخبر عن حالها، ويحتمل إنشاء التّحريم فيها بالظّهار فلا يتعيّن على أحدهما تعيين. فصل وإن قال: الحلّ عليّ حرام، أو ما أحلّ الله عليّ حرام، أو ما أنقلب إليه حرام وله امرأة فهو مظاهر، نصّ عليه في الصّور الثّلاث. قال أحمد -رحمه الله- فيمَن قال: ما أحلّ الله عليّ حرام من أهل ومال: عليه كفّارة الظّهار، هو يمين. ويجزئه كفّارة واحدة في ظاهر كلام أحمد، واختيار ابن عقيل أنّه يلزمه كفارتان للظّهار ولتحريم المال. ولنا أنّها يمين واحدة، فلا توجب كفّارتين كما لو ظاهر من امرأتين أو حرم من ماله شيئين. وفي قول أحمد -رحمه الله- هو يمين إشارة إلى التّعليل بما ذكرنا. انتهى كلامه. وأنتَ تفهم أنّ الشّرح غالبه مسلوب من المغني وعبارتهما متقاربة

والشّرح عند عليّ 1 وهو وحمد بن ناصر مع الغزو والله يحفظهم وينصرهم. وقال البخاري -رحمه الله-: باب إذا قال لامرأته: أنتِ عليّ حرام، قال الحسن بنيّته. قال في شرح البخاري لابن حجر العسقلاني: أي: تحمل على نيّته. وهذا التّعليق وصله البيهقي، ووقع لنا عاليًا في جزء محمّد بن عبد الله الأنصاري شيخ البخاري، قال: حدّثنا الأشعث عن الحسن في الحرام إن نوى يمينًا فهو يمين، وإن نوى طلاقًا فهو طلاق، وبهذا قال النّخعي والشّافعي وإسحاق. وروي نحوه عن ابن مسعود وطاوس وابن عمر. وقال الأوزاعي وأبو ثور: الحرام يمين مكفّرة. وروي نحوه عن أبي بكر وعمر وعائشة وسعيد بن المسيّب وعطاء وطاوس واحتجّ أبو ثور بظاهر قوله تعالى: {لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} الآية [التّحريم، من الآية: 1]. وقال سعيد بن جبير وأبو قلابة: مَن قال لامرأته: أنتِ عليّ حرام لزمته كفارة الظّهار، وكان مظاهرًا، وإن لم ينوه كان عليه كفّارة يمين مغلظة، وهي كفّارة الظّهار؛ لأنّه يصير مظاهرًا حقيقة وفيه بعد. وقال أبو حنيفة وصاحباه والحكم وابن أبي ليلى في الحرام ثلاث تطليقات، ولا يُسَأل عن نيّته، وبه قال مالك. وعن مسروق والشّعبي وربيعة لا شيء فيه. وفي المسألة اختلاف كثير عن السّلف بلغها القرطبِي بالتّفسير إلى ثمانية عشر قولًا. ثم ذكر البخاري حديث ابن عبّاس أنّه قال: إذا حرم الرّجل امرأته ليس بشيء وقال: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ} [الأحزاب، من الآية: 21]. قال الشّارح: يشير بذلك إلى قصة التّحريم، وقد أخرج النّسائي بسندٍ صحيحٍ عن أنس أن النَّبِيّ -صلّى الله عليه وسلّم- كانت له أمة يطؤها

_ 1 المراد بالشّرح: شرح المقنع الملقّب بالشرّح الكبير، والظّاهر أنّ سعيدًا سأله أن يذكر له نصّه مع نصّ الْمغنِي فاعتذر بما ذكر.

فلم تزل به حفصة وعائشة حتى حرّمها، فأنْزل الله هذه الآية: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} [التّحريم، من الآية: 1]. وهذا أصحّ طرق هذا السّبب وله شاهد مرسل. وقد اختلف في سبب التّحريم هل هو تحريم العسل، أو تحريم مارية القبطية، وقوله: ليس بشيء، يحتمل أن يريد بالنَّفي التّطليق، ويحتمل أن يريد به ما هو أعم من ذلك، والأوّل أقرب ويؤيّده ما تقدم في التّفسير بهذا الإسناد أنّه قال في الحرام يكفر، وفي روايةٍ إذا حرم الرّجل امرأته فإنّما هي يمين يكفّرها. فعرف أنّ المراد بقوله: ليس بشيء، أي: ليس بطلاق وأنت تفهم -رحمك الله- أنّ مذهب ابن عبّاس في هذه المسألة أقرب الأقوال إلى الكتاب والسّنة، وهو اختيار شيخنا -رحمه الله-. وذكر ابن القيم -رحمه الله- هذه المسألة ومسألة الحلف بالطّلاق في كتاب أعلام الموقعّين وبسطها فأحببت أن أنقل لك أوّل المسألة قال -رحمه الله-: (فصل) الثّامن مما تتغيّر به الفتوى لتغيّر العرف والعادة موجبات الأيمان والإقرار والنّذر وغيرها، فمن ذلك أنّ الحالف إذا حلف لا ركبت دابّة، وكان في بلد عرفهم في لفظ الدّابة الحمار خاصّة اختصّت يمينه به ولا يحنث بركوب الفرس والجمل، وكذلك إن كان الحالف مِمَّن عادته ركوب نوعٍ خاصٍّ من الدّواب كالأمراء ومَن جرى مجراهم حملت يمينه على ما اعتاده من ركوب الدّواب، فيبقى في كلّ بلدٍ بحسب عرف أهله، ويفتي كلّ أحدٍ بحسب عادته. وكذلك إذا حلف لا اشتريت كذا ولا بعته، ولا حرثت هذه الأرض ولا زرعتها ونحو ذلك وعادته أن لا يباشر ذلك بنفسه؛ كالملوك حنث قطعًا بالإذن والتّوكيل فيه فإنّه نفس ما حلف عليه،

وإن كان عادته مباشرة ذلك بنفسه كآحاد النّاس، فإن قصد منع نفسه من المباشرة لم يحنث بالتّوكيل، وإن قصد عدم الفعل والمنع منه حنث بالتّوكيل، إن أطلق اعتبر سبب اليمين وبساطها وما هيجها وعلى هذا إذا قيل له جاريتك، أو عبدك مرتكبان الفاحشة، فقال ليس كذلك بل هما حرّان لا أعلم عليهما فاحشة فالحجّة المقطوع بها أنّهما لا يعتقان بذلك لا في الحكم ولا فيما بينه وبين الله تعالى. ومن ذلك ما أخبرنِي به بعض أصحابنا أنّه قال لامرأته: إن أذنتُ لكِ في الخروج إلى الحمام فأنتِ طالق، فتهيّأت للخروج إلى الحمام فقال لها: أخرجِي وأبصري فاستفتي بعض النّاس فأفتوا بأنّها قد طلقت منه، فقال للمفتي بأي شيء أوقعتَ علي الطّلاق؟ فقال: بقولك لها: أخرجي، فقال: إنِّي لم أقل لها ذلك إذنًا، وأنا قلته تهديدًا، أي: أنّك لا يمكنك الخروج. وهذا كقوله تعالى: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} [فصلت، من الآية: 40]، فهل هذا إذن لهم أن يعملوا ما شاؤوا؟ فقال: لا أدري أنت لفظت بالإذن. فقال له: ما أردت الإذن، فلم يفقه المفتي، وغلظ فهمه عن إدراكه وفرق بينه وبين امرأته بما لم يأذن الله به ولا رسوله ولا أحد من أئمة الإسلام - وأطلق الكلام - إلى أن قال: (فصل): ومن هذا الباب اليمين بالطّلاق والعتاق فإنّ إلزام الحالف بهما إذا حنث بطلاق زوجته وعتق عبده مما حدث الإفتاء به بعد انقضاء عصر الصّحابة -رضي الله عنهم- فلا يحفظ عن صحابي في صفة القسم إلزام الطّلاق به أبدًا، وإنّما المحفوظ إلزام الطّلاق بصيغة الشّرط والجزاء الذي قصد به الطّلاق عند وجود الشّرط كما في صحيح البخاري عن نافع قال: طلّق رجل امرأته التبة إن خرجت، فقال ابن عمر: إن خرجت فقد بانت منه، وإن لم تخرج فليس بشيء، فهذا لا ينازع فيه إلّا مَن يمنع وقوع الطّلاق المعلّق

بالشّرط مطلقًا، وأمّا مَن يفصل بين القسم المحض والتّعليق الذي يقصد به الوقوع فإنّه يقول بالآثار المروية عن الصّحابة كلّها في هذا الباب؛ فإنّهم صحّ عنهم الإفتاء بالوقوع في صور وصحّ عنهم عدم الوقوع في صور، والصّواب ما أفتوا به في النّوعين ولا يؤخذ ببعض فتاويهم ويترك بعضًا. إلى أن قال: (فصل): قد عرف أنّ الحلف بالطّلاق له صيغتان: إحداهما: إن فعلتِ كذا فأنتِ طالق. والثّانية: الطّلاق يلزمنِي لا أفعل كذا، وأنّ الخلاف في الصّيغتين حاصل قديمًا وحديثًا. وهكذا الحلف بالحرام له صيغتان: إحداهما: إن فعلت كذا فأنتِ عليّ حرام، أو ما أحلّ الله عليّ حرام. والثّانية: الحرام يلزمنِي لا أفعل كذا. فمَن قال في: "الطّلاق يلزمنِي"إنّه ليس بصريحٍ ولا كنايةٍ ولا يقع به شيء ففي قوله: الحرام يلزمنِي أولى. ومَن قال: إنّه كناية نوى به الطّلاق كان طلاقًا وإلّا فلا، فهكذا يقول في"الحرام يلزمنِي"، إن نوى به التّحريم كان كما لو نوى بالطّلاق التّعليق، فكأنّه التزم أن يحرم كما التزم ذلك أن يطلق ولا يجوز أن يفرّق بين المسلم وبين امرأته بغير لفظٍ لم يوضع للطّلاق ولا نواه، وتلزمه كفّارة يمين لشدّة اليمين إذ ليست كالحلف بالمخلوق التي لا تنعقد ولا هي من لغو اليمين فهي يمين منعقدة، وفيها كفّارة يمين وبه أفتى ابن عبّاس. وفي قوله: أنتِ عليّ حرام، أو أنتِ عليّ حرام كالميتة، والدّم، ولحم الخنْزير، مذاهب: أحدها: أنّه لغو وباطل لا يترتّب عليه شيء، وهو إحدى الرّوايتين عن ابن عبّاس، وبه قال مسروق والشّعبي وأبو سلمة وعطاء وداود وجميع أهل الظّاهر وأكثر أصحاب الحديث. الثّاني: أنّها ثلاث تطليقات، وهو قول عليّ بن أبي طالب وزيد بن ثابت وابن عمر

والحسن ومحمّد بن عبد الرّحمن بن أبي ليلى. الثّالث: أنّها حرام عليه، ولم يذكر أهل هذا القول طلاقًا. الرّابع: الوقف فيها صحّ ذلك عن عليّ وهو قول الشّعبي. الخامس: إن نوى به الطّلاق فهو طلاق وإلّا فيمينٌ. إلى أن قال: التّاسع: أنّ فيه كفّارة الظّهار. صحّ ذلك عن ابن عبّاس أيضًا، وأبي قلابة وسعيد بن جبير، وهو مذهب ابن منبه. قال وهذا أقيس الأقوال وأفقهها. إلى أن قال: الثالث عشر: أنّه يمين يكفّره ما يكفّر اليمين على كلّ حالٍ صحّ ذلك أيضًا عن أبي بكر الصّدّيق وعمر وابن عبّاس وعائشة وزيد بن ثابت وابن مسعود -رضي الله عنهم-، وخلق سواهم -رضي الله عنهم-. وحجّة هذا القول ظاهر القرآن؛ فإنّ الله سبحانه وتعالى فرض تحلة الأيمان عقب تحريم الحلال فلا بدّ أن يتناوله يقينًا فلا يجوز جعل تحلة الأيمان المذكور قبلها ويخرج المذكور عن حكم التّحلة التي قصد ذكرها لأجله. وفي المسألة مذهب آخر وراء هذا كلّه، وهو أنّه إن أوقع التّحريم كان ظهارًا ولو نوى به الطّلاق، وإن حلف به كان يمينًا مكفِّرة، وهذا اختيار شيخ الإسلام، وعليه يدلّ النّصّ والقياس، فإنّه إذا أوقع كان قد أتى منكرًا من القول وزورًا، وكان أولى بكفّارة الظّهار مِمَّن شبّه امرأته بالمحرّمة، وإن حلف به كان يمينًا من الأيمان كما لو حلف بالتزام الحجّ والإعتاق والصّدقة، وهذا محض القياس والفقه ألا ترى أنّه إذا قال: لله عليّ أن أعتق، أو أحجّ، أو أصوم لزمه، ولو قال: إن كلمت فلانًا فلله عليّ ذلك عل وجه اليمين، فهو يمين، وكذلك لو قال: هو يهودي أو نصراني كفر بذلك، ولو قال:

إن فعلت كذا فهو يهودي أو نصراني كان يمينًا وطرد هذا 1 أيضًا إذا قال: أنت طالق كان طلاقًا، ولو قال: إن فعلت كذا فأنت طالق، كان يمينًا، فهذه هي الأصول الصّحيحة المطرّدة المأخوذة من الكتاب والسّنة والميزان. والله الموفّق. انتهى كلامه في هذه المسألة. وقال في الإنصاف: لو قال: عليّ الحرام، أو يلزمنِي الحرام، أو الحرام يلزمنِي فهو لغو لا شيء فيه مع الإطلاق، وفيه قرينة أو نيّة، وجهان، وأطلق في المغني والشّرح والفروع. قلت: الصّواب: أنّه مع النّيّة والقرينة كقوله: أنت عليّ حرام، ثم وجدت ابن رزين قدمه، وقال في الفروع ويتوجّه الوجهان إن نوى به طلاقًا، وإنّ العرف قرينة. قلت: الصّواب: أنّه مع النّية أو القرينة كقوله: أنت عليّ حرام. انتهى. وقال في المغني. (فصل): واختلف أصحابنا في الحلف بالطّلاق فقال القاضي في الجامع وأبو الخطاب: هو تعليقه على شرط أي شرط كان إلّا قوله: إذا شئت فأنتِ طالق ونحوه فإنّه عليك، وإذا حضت فأنت طالق، فإنّه طلاق بدعة، وإذا طهرت فأنت طالق ونحوه؛ فإنّه طلاق سنة. وهذا قول أبي حنيفة؛ لأنّ ذلك يسمّى حلفًا عرفًا فيتعلّق الحكم به كما لو قال: إن دخلت الدّار، فأنت طالق؛ ولأن في الشّرط معنى القسم من حيث كونه جملة غير مستقلة دون الجواب فأشبه قوله: والله وبالله وتالله، وقال القاضي في المجرد

_ 1 سقط هنا قوله: (بل نظيره من كلّ وجه أنّه إذا قال: أنت علي كظهر أمِّي، كان ظهارًا، فلو قال: إن فعلت كذا فأنت عليّ كظهر أمِّي كان يمينًا، وطرد هذا ...) الخ.

هو تعليقه على شرط يقصد به الحثّ على الفعل والمنع كقوله: إن دخلت الدّار فأنتِ طالق، وإن لم تدخلي فأنتِ طالق أو قصد تصديق خبره مثل قوله: أنتِ طالق لقدوم زيد أو إن لم يقدم. فأمّا التّعليق على غير ذلك نحو قوله: أنتِ طالق إن طلعت الشّمس، أو قدم الحاجّ، أو إن لم يقدم السّلطان فهو شرط محض ليس بحلفٍ؛ لأنّ صيغة الحلف القسم، وإنّما يسمّى تعليق الطّلاق على شرط حلفًا لمشاركة الحلف في المعنى المشهور، وهو الحثّ، أو المنع، أو تأكيد الخبر نحو قوله: والله لأفعلن، أو لا أفعل، أو لقد فعلت، وما لم يوجد فيه هذا المعنى لا يصحّ تشبيهه حلفًا. وهذا مذهب الشّافعي. فإذا قال لزوجته: فإذا حلفت بطلاقك فأنت طالق، ثم قال: إذا طلعت الشّمس فأنتِ طالق، لم تطلق في الحال على القول الثّاني؛ لأنّه ليس بحلفٍ وتطلق على الأوّل؛ لأنّه حلف. وإن قال: إن كلمت أباك فأنتِ طالق طلقت على القولين جميعًا؛ لأنّه علّق طلاقها على شرط يمكن فعله وتركه، فكان حلفًا، كما لو قال: إن دخلت الدّار فأنت طالق. انتهى كلام صاحب المغني. قال في الاختيارات: ومَن علّق الطّلاق على شرط أو التزم به لا يقصد بذلك إلّا الحض والمنع فإنّه يجزؤه فيه كفّارة يمينٍ إن حنث، وإن أراد الجزاء بتعليقه طلقت لحصول الشّرط، وكذا الحلف بعتق وظهار وتحريم وعليه يدلّ كلام أحمد في نذر اللّجاج والغضب. انتهى. وصلّى الله على محمّدٍ وآله وصحبه وسلّم. {تَمَّ ذلك 1 في: 3 جمادى الآخرة سنة: 1343 هـ بقلم الرّبيعِي عبد الله}.

_ 1 أي: تم نسخ ما تقدم - فهذا من الناسخ في نجد، لا من المغني.

36 - سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ عن ديات الشجاج

- 34 - بسم الله الرّحمن الرّحيم سُئِل الشّيخ عبد الله بن الشّيخ عن ديات الشّجاج فأجاب بما يعلم من يراه بأنّ دية الموضحة سواء كانت في الرّأس أو في الوجه بَانَ العظم لو قدر مغرز إبردة فديتها خمس من الإبل، فإن هشمت العظم فديتها عشر فإن طاح منها عظام فديتها خمسة عشر، وفي الرّجل المكسورة أو اليّد فإن كان نفعها زال بالكلّيّة فديتها خمسون ناقة، فإن كان ذهب بعض نفعها ثبت من الدّية بقدر ما ذهب من النّفع، والإصبع إذا قطعت فيها عشر من الإبل، وفي الفصلة منها خمس من الإبل، والرّصاصة أو الرّمح إذا هو في البطن ففيه ثلث الدّية، فإن خرقت الجنب الآخر ففيه ثلثا الدّيّة؛ لأنّها جائفتان، وفي الضّلع بعير إذا انكسر، وفي التّرقوة بعير، وفي الذّراع إذا انكسر بعيران. والجروح غير التي ذكرنا يجتهد العمال في ديتها ولا يبلغون بها دية التي ذكرنا، وفي الفخذ إذا انكسر بعيران، وفي العضد إذا انكسر بعيران. - 35 - بسم الله الرّحمن الرّحيم (مسألة): سُئِلَ الشّيخ عبد الله أيرخص للرّجل يوم الجمعة -أي في ترك صلاتها-؟ فأجاب إذا كان قريبًا من بلد فلا رخصة له إلّا في فرسخ، والفرسخ ثلاثة أميال، والميل ستة آلاف ذراع فجميع ذلك ثمانية عشر ألف ذراع. وصلّى الله على محمّدٍ وآله وصحبه وسلّم.

38 - ورد كتاب على العلامة الشيخ عبد الله بن الشيخ فيه أسئلة شرعية

- 36 - ورد كتاب على العلامة الشّيخ عبد الله بن الشّيخ فيه أسئلة شرعية فأجاب صاحبها بما يأتي: وعليكم السّلام ورحمة الله وبركاته. وبعد؛ وصل كتابك تسأل فيه عن ثمان مسائل: الأولى: رجل ادّعى على غائبٍ وأقام البيّنة بدعواه هل يسمعها الحاكم ويحكم بها أم لا؟ وهل للمسافة تحديد أم لا؟ فنقول: اعلم أنّ للعلماء في هذه المسألة قولين: أحدهما: أنّه إذا طلب من الحاكم سماع البيّنة والحكم بها فعلى الحاكم إجابته إذا كملت الشّروط. وبه قال ابن شبرمة ومالك والشّافعي وأحمد والأوزاعي واللّيث وأبو عبيدة وإسحاق وابن المنذر. واحتجوا بحديث هند المتّفق عليه أنّها جاءت إلى رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- فقالت: يا رسول الله إنّ أبا سفيان رجل شحيح وليس يعطينِي ما يكفينِي وولدي. قال: "خذي ما يكفيك وولد بالمعروف". فقضى عليه ولم يكن حاضرًا. والثّاني: أنّ الحاكم لا يحكم على الغائب ولا يسمع البيّنة عليه. وبهذا قال شريح وابن أبي ليلى والثّوري وأبو حنيفة، إلّا أنّ أبا حنيفة قال: تسمع البيّنة ولا يحكم بها إلّا أن يكون له وكيل أو شفيع جاز الحكم عليه. واحتجّوا بما روي عن النَّبِيّ -صلّى الله عليه وسلّم- أنّه قال لعلِّي: "إذا تقاضى إليك رجلان فلا تقتضِ للأوّل حتّى تسع كلام الآخر فإنّك لا تدري بما تقضي". قال التّرمذي: هذا حديث حسن، ولأنّه يجوز أن يكون للغائب ما يبطل البيّنة ويقدح فيها فلم يجز الحكم عليه. وهي

الرّواية الأخرى عن أحمد. قال في الفروع: وعنه لا يحكم على غائبٍ كحقّ الله فيقضي في السّرقة بالغرم فقط. إذا عرفت هذا، فاعلم أنّ القول الثّاني هو الرّاجح والعمل عليه عندنا لوجوه: الأوّل: أنّ ما احتجّوا به لا يدلّ على موضع النِّزاع؛ لأنّ هذا استفتت النَّبِيّ -صلّى الله عليه وسلّم- هل يجوز لها الأخذ من مال زوجها ما يكفيها وولدها فقال لها: "خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف"، وليس هذا من باب القضاء على الغائب في شيءٍ يوضّحه. الوجه الثّاني: وهو أنّه لو كان قضاء لأرسل إلى أبي سفيان يحضر مجلس الحكم؛ لأنّ الاستفتاء وقع بمكّة وأبو سفيان إذ ذاك حاضر فيها. الوجه الثّالث: أنّه لو كان قضاء على الغائب لأمرها رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- بإقامة البيّنة ولم يقض عليه حتّى يسمع البيّنة، والذي يقول بالقضاء على الغائب يشترط لجواز ذلك إقامة البيّنة المقبولة وغيبته مسافة القصر، فدلّ هذا على أنّه فتوى لا قضاء على الغائب، وكيف يقضي عليه مع حضوره وعدم غيبته؟ وهم مجمعون على أنّ القضاء على الحاضر الذي لم يغب دون مسافة القصر لا يجوز، فدلّ هذا على أنّه فتوى لا قضاء. ولهذا تعقب الاستدلال بهذا الحديث على هذه المسألة النّووي -رحمه الله تعالى- في شرح مسلم بأنّ القضية كانت بمكّة، وكان أبو سفيان حاضرًا بها فلا يكون قضاء على الغائب بل هو إفتاء. الوجه الرّابع: أنّه لو كان قضاء لاستحلفها رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- إذا تعذر عليها إقامة البيّنة الكاملة ولم ينقل شيء من ذلك، ولهذا في حديث الأشعث بن قيس في البخاري لما خاصم ابن عمّه في أرضٍ له وادّعى أنّها

له، قال رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم-: "شاهداك أو يمينه" الحديث. ولهذا قال في الشّرح الكبير ردًّا على مَن احتجّ بحديث هند على أنّ الحاكم يحكم. المسألة الثّانية: هل في المسافة تحديد؟ فالذين يرون جواز القضاء على الغائب يحدّدون المسافة بمسافة القصر، قالوا: لأنّ ما دونها في حكم المقيم. المسألة الثّالثة: هل تجب اليمين مع بيّنةٍ كاملةٍ ومع عدمها أم لا؟ وهل في المسألة تفريق ... الخ وما سبب الاختلاف؟ فنقول: عن ابن عمر أو ابن عبّاس -رضي الله عنهم- قال: لو يعطى النّاس بدعواهم لادّعى رجال أموال قومٍ ودماءهم، ولكن البيّنة على المدّعي واليمين على مَن أنكر. قال النّووي: حديث حسن رواه البيهقي وغيره هكذا. وبعضه في الصّحيحين. وأصله في الصّحيحين عن ابن عبّاس قال: قال رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم-: "لو يعطى النّاس بدعواهم لادّعى أناسٌ دماء رجالٍ وأموالهم، ولكن اليمين على المدّعَى عليه". وفيهما عن ابن عمر -رضي الله عنهما- أنّ رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- قضى أنّ اليمين على المدّعَى عليه، وقد استدلّ العلماء بقوله: "اليمين على المدّعَى عليه" على أنّ المدّعي لا يمين عليه، وإنّما عليه البيّنة، وهو قول الأكثرين. قال ابن رجب في شرح هذا الحديث: وروي عن عليّ -رضي الله عنه- أنّه حلّف المدّعي مع بيّنته أنّ شهوده شهدوا الحقّ، وفعله أيضًا شريح وعبيد الله بن أبي عتبة بن مسعود وابن أبي ليلى وسوار العنبري وعبد الله بن الحسن ومحمّد بن عبد الله الأنصاري. وروي عن النّخعي أيضًا. وقال إسحاق: إذا استراب وجب هذا. وسأل منها الإمام أحمد عن هذه المسألة فقال أحمد قد فعله عليّ. فقال: أيستقيم هذا؟ فقال: بل فعله عليّ. فأثبت القاضي هذا رواية عن أحمد لكنه حملها على

الدّعوى على الغائب والصّبي. وهذا لا يصحّ؛ لأنّ عليًّا -رضي الله عنه- إنّما حلّف المدّعي مع بيّنته على الحاضر معه، وهؤلاء يقولون هذه اليمين لتقوية الدّعوى إذا ضعفت باسترابة الشّهود كاليمين مع الشّاهد الواحد. وكان بعض المتقدّمين يحلف الشّهود إذا استراب بهم أيضًا. ومنهم سوار العنبري قاضي البصرة، وجوز ذلك القاضي أبو يعلى من أصحابنا لوالي المظالم دون القضاة. وقد قال ابن عبّاس -رضي الله عنهما- في المرأة الشّاهدة على الرّضاع أنّها تستحلف، وأخذ به الإمام أحمد، وقد دلّ القرآن على استحلاف الشّهود عند الارتياب بشهادتهم بالوصية في السّفر في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ}، [المائدة، من الآية: 106]. انتهى. إذا عرفت ذلك، فالذي يتوجّه أنّ البيّنة الكاملة العادلة التي لا يستريب الحاكم في شهادتها لا يحلف معها المدّعي. وقال صاحب الإنصاف: وعنه يحلّف مع الرّيبة، ولنا وجه أن يحلف لقول رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم-: "شاهداك أو يمينه"، فدلّ على الاكتفاء بالشّاهدين. وأمّا إذا استراب الحاكم بالشّهود وخصوصًا في هذه الأزمان فهنا يتوجّه القول بتحليف المدعّي كما فعله عليّ -رضي الله عنه- وغيره. ويتوّجه أيضًا تحليف الشّهود مع الرّيبة. والله أعلم. المسألة الرّابعة: إذا كان لرجلٍ على رجلٍ حقّ وقدر على أخذ ماله هل يجوز له أخذ قدر حقّه أم لا؟ وهل قول النَّبِيّ -صلّى الله عليه وسلّم- لهند: "خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف" هل هو حكم أو فتيا؟ فنقول: هذه المسألة قد اختلف العلماء فيها على خمسة أقوال،

وتُسمَّى هذه المسألة مسألة الظّفر: أحدها: أنّه ليس له أن يخون مَن خانه، ولا يجحد مَن جحده، ولا يغصب مَن غصبه. وهذا مذهب أحمد ومالك. والثّاني: يجوز أن يستوفي قدر حقّه إذا ظفر بماله سواء ظفر بجنسه أو بغير جنسه، وفي غير الجنس يدفعه إلى الحاكم ببيعه ويستوفي ثمنه منه. وهذا قول أصحاب الشّافعي. والثّالث: يجوز له أن يستوفي قدر حقّه إذا ظفر بجنس ماله، وليس له أن يأخذ من غير الجنس. وهذا قول أصحاب أبي حنيفة. والرّابع: إن كان عليه دين لغيره لم يكن له الأخذ، وإن لم يكن عليه دين فله الأخذ. وهذه إحدى الرّوايتين عن مالك. والخامس: إن كان سبب الحقّ ظاهرًا كالنّكاح والقرابة وحقّ الضّيف جاز للمستحقّ الأخذ بقدر حقّه، كما أذن فيه النَّبِيّ -صلّى الله عليه وسلّم- لهند أن تأخذ من مال أبي سفيان ما يكفيها ويكفي بنيها، وكما أذن لِمَن نزل بقومٍ ولم يضيّفوه أن يعقبهم في مالهم بمثل قراه كما في الصّحيحين عن عقبة بن عارم قال: قلت للنَّبِيّ -صلّى الله عليه وسلّم-: إنّك تبعثنا فنَنْزل بقومٍ لا يقروننا فما ترى؟ فقال لنا: "إن نزلتم بقومٍ فأمروا لكم بما ينبغي للضّيف فاقبلوا، وإن لم يفعلوا فخذوا منهم حقّ الضّيف الذي ينبغي لهم". وإن كان سبب الحقّ خفيًّا بحيث يتّهم بالأخذ والنّسبة إلى الخيانة ظاهرًا لم يكن له الأخذ، وتعريض نفسه للتّهمة والخيانة، وإن كان في الباطن آخذًا حقّه كما أنّه ليس له أن يتعرّض للتّهمة التي تسلّط النّاس على عرضه، وإن ادّعى أنّه محقّ غير متّهم. قال ابن القيم -رحمه الله تعالى-: وهذا القول أصحّ الأقوال وأسدّها وأوفقها للقواعد الشّرعية، وبه تجتمع الأحاديث؛ فإنّه قد

روى أبو داود في سننه من حديث يوسف بن مالك قال: كنت أكتب لفلان نفقة أيتام كان وليهم فغالطوه بألف درهم فأدّاها إليهم فأدركت لهم من أموالهم مثلها، فقلت: اقبض الألف الذي ذهبوا به منك. قال: لا. حدّثنِي أبي أنّه سمع رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- يقول: "أدّ الأمانة إلى مَن ائتمنك، ولا تخن مَن خانك". وهذا وإن كان في حكم المنقطع فإنّ له شاهدًا من وجهٍ آخر. وفي المسند عن بشر بن الخصاصية أنّه قال: يا رسول الله إنّ لنا جيرانًا لا يدعون لنا شاذة ولا فاذة إلّا أخذوها فإذا قدرنا لهم على شيء أنأخذه؟ قال: "لا. أدّ الأمانة إلى مَن ائتمنك ولا تخن مَن خانك". فهذه الأحاديث تبيّن أنّ المظلوم في نفس الأمر إذا كان ظلمه غير ظاهرٍ وقدر على مال لِمَن ظلمه وأخذه خيانة لم يكن له ذلك، وإن كان هو يقصد أخذ نظير حقّه لكنه خان الذي ائتمنه، فإنّه إذا سلم إليه ماله فأخذ بعضه بغير إذنه ولا باستحقاق ظاهر كان خائنًا، وإذا قال: أنا أستحقّ في نفس الأمر لما أخذته لم يكن ما ادّعاه ظاهرًا معلومًا، وصار كالمتزوّج امرأة وأنكرت نكاحه ولا بيّنة له، فإذا قهرها على الوطء من غير حجّة ظاهرة فإنّه ليس له ذلك، ولو قدر أنّ الحاكم حكم على رجلٍ بطلاق امرأته ببيّنة اعتقد صدقها وكانت كاذبة في الباطن لم يكن له أن يطأها لما يعلم في الباطن. فإن قيل: ليس هذا بخيانة بل هو استيفاء حقٍّ. والنَّبِيّ -صلّى الله عليه وسلّم- نهى عن خيانة مَن خان، وهو أن يأخذ من مال ما لا يستحقّ نظيره. فأجاب شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- عن هذا السّؤال بأن قال: هذا ضعيف لوجوه: أحدها: أنّ الحديث فيه: أنّ قومًا لا يدعون لنا شاذة إلّا أخذوها أفنأخذ من أموالهم بقدر ما يأخذون منّا؟ فقال: "لا".

الثّاني: أنّه قال: "ولا تخن مَن خانك"، ولو أريد بالخيانة الأخذ على طريق المقابلة لم يكن فرق بين مَن خانه ومَن لم يخنه، وتحريم مثل هذا ظاهر، ولا يحتاج إلى بيان وسؤال، وهو قوله: "ولا تخن مَن خانك". فعلم أنّه أراد أنّك لا تقابله على خيانته فتفعل به مثل ما فعل بك، فإذا أودع الرّجل مالًا فخانه في بعضه ثم أودع الأوّل نظيره فأراد أخذ ماله منه فهذا هو المراد بقوله: "ولا تخن مَن خانك". الثّالث: إنّ كونه خيانة لا ريب فيه، وإنّما الكلام في جواز على وجه القصاص، فإنّ الأمور فيها ما يباح القصاص فيه، كالقتل، وقطع الطّريق، وأخذ المال. ومنها ما لا يباح فيه القصاص كالفواحش، والكذب ونحو ذلك. قال الله في الأول: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا}، [الشّورى، من الآية: 40]. وقال: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ}، [النّحل: 126]. فأباح الاعتداء والعقوبة بالمثل. فلما قال -صلّى الله عليه وسلّم- ههنا: "ولا تخن مَن خانك"، عُلِمَ أنّ هذا مما لا يباح فيه العقوبة بالمثل. والله أعلم. انتهى. فإذا تقرّر هذا، عرفت أنّ الصّواب في المثل ما رجّحه الشّيخ تقيّ الدّين وابن القيم -رحمهما الله تعالى- فيما تقدّم. وهذا هو الموافق لقواعد الشّرع. والله أعلم. المسألة الخامسة: إذا كانت أرض بين رجلين لأحدهما الثّلثان، والآخر الثّلث ينتفع صاحب الثّلثين بقسمها ويتضرّر الآخر وطلب مَن لا يتضرّر القسم، هل يجبر الآخر عليه أم لا؟ وإن طلبها صاحب الثّلث هل يجبر الآخر أم لا؟ وإن طلب أحدهما القسمة بالزّمان أي: قسمة المنافع فهل يجبر الممتنع على ذلك أم لا؟ وإذا رجع أحدهما قبل استيفاء نوبته هل له ذلك أم لا حتّى ينقضي الدّور ويستوفي كلّ واحدٍ منهما حقّه؟

وكذا إذا تلفت المنافع في مدّة الآخر قبل تمكنّه من استيفاء حقّه فهل يرجع على الأوّل ببدل حصّته أم لا؟ فنقول: قال العلماء القسمة نوعان: قسمة تراضٍ، وهي: ما فيها ضرر أو ردّ عوضٍ من أحدهما كالدّور الصّغار والحمام والبيوت المتلاصقة التي لا يمكن قسمة كلّ عينٍ مفردة منها. والأرض التي في بعضها بئر أو بناء ونحوه لا يمكن قسمته بالإجزاء والتّعديل إذا رضوا بقسمتها أعيانًا بالقيمة جاز؛ لأنّ الحقّ لهم لا يخرج عنهم، وقد روضوا بقسمته، وهذه جارية مجرى البيع لا يجبر عليها الممتنع، ولا يجوز فيها إلّا ما يجوز في البيع، لما روى مالك في الموطّأ عن عمرو بن يحيى المازني عن أبيه أنّ رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- قال: "لا ضرر ولا ضرار". والضّرر المانع من القسمة هو نقص القيمة بالقسم. وقال الخرقي: هو ما لا يمكن قسمه ولا الانتفاع بنصيبه منفردًا فيما كان ينتفع به مع الشّركة، مثل أن يكون بينهما دار صغيرة إذا قسمت أصاب كلّ واحدٍ منهما موضعًا ضيّقًا لا ينتفع به، ولو أمكن أن ينتفع به في شيء غير الدّار ولا يمكن أن ينتفع به دارًا لم يجبر على القسمة أيضًا؛ لأنّه ضرر يجري مجرى الإتلاف. وهذه إحدى الرّوايتين عن أحمد. والثّانية: أنّ المانع هو أن ينقص قيمة نصيب أحدهما بالقسمة عن حال الشّركة، وسواء انتفعوا به مقسومًا أو لم ينتفعوا، قال القاضي: هذا ظاهر كلام أحمد، وهذا ظاهر كلام الشّافعي؛ لأنّ نقص قيمته ضرر شرعًا، والضّرر ينتفي. فأمّا إن كان الضّرر على أحدهما دون الآخر كرجلين لأحدهما الثّلثان وللآخر الثّلث ينتفع صاحب الثّلثين بقسمتها ويتضرّر الآخر فطلب مَن لا يتضرّر القسم لم يجبر الآخر، وإن طلبه الآخر أجبر الأوّل. قال القاضي: إن طلبه الأوّل أجبر الآخر. وذكره أبو الخطاب، وهو ظاهر كلام أحمد في

رواية حنبل. قال: كلّ قسمةٍ فيها ضرر لا أرى قسمتها. وبه قال ابن أبي ليلى وأبو ثور. قال في الفروع: إن طلبها المتضرّر أجبر الآخر. اختاره جماعة. قال في الشّرح: وهو مذهب أبي حنيفة ومالك. النّوع الثّاني: قسمة الإجبار. وهي ما لا ضرر فيها، ولا ردّ عوضٍ؛ كالأرض الواسعة والقرى والبساتين والدّور الكبار والدّكاكين الواسعة والمكيلات والموزونات والمائعات سواء قيل إنّ القسمة بيع أو إفراز حقٍّ؛ لأنّ بيعه جائز وإفرازه جائز، قالوا: وإذا طلب أحد الشّركاء القسمة في هذا النّوع أجبر الممتنع بثلاثة شروط: أحدها: إن ثبت عند الحاكم ملكهم ببيّنة. قال في الفروع: ذكره جماعة. يعنِي: هذا الشّرط ولم يذكره آخرون. وجزم به في الرّوضة، واختاره شيخنا -يعنِي به الشّيخ تقيّ الدّين- وفي المرهون وجهان، وأنّ كلام أحمد في بيع ما لا ينقسم وقسم ثمنه عام فيما يثبت فيه ملكهما، وما لم يثبت لجميع الأموال التي تباع، وإنّ مثل ذلك لو جاءته امرأة فزعمت إنّها خلية لا ولي لها هل يزوّجها بلا وليّ فيه؟ وجهان. الثّاني: أن لا يكون فيها ضرر فإن كان فيها ضرر لم يجبر الممتنع. الثّالث: أن يمكن تعديل السّهام من غير شيء يجعل معها فإن لم يمكن ذلك لم يجبر الممتنع؛ لأنّها حينئذٍ تصير بيعًا والبيع لا يجبر عليه أحد المتبايعين. والله أعلم. وأمّا قول السّائل -أرشده الله للصّواب-: وإذا طلب أحدهما القسمة بالزّمان، أي: بالمنافع فهل يجبر الممتنع على ذلك أم لا؟ ففيها قولان في مذهب أحمد؛ لكن الذي رجّعوه أنّ الممتنع لا يجبر، وعنه يجبر، اختار صاحب المحرّر الإجبار في القسمة. وأمّا إذا اتّفقوا على المهايأة بزمانٍ بأن تجعل الدّار في يد أحدهما شهرًا،

أو عامًا ونحوه، وفي يد الآخر مثلها، أو اقتسموا مهايأة بمكانٍ كسكنى هذا في بيتٍ وسكنى الآخر في بيتٍ ونحوه جاز؛ لأنّ المنافع كالأعيان، ولو تهايؤا في الحيوان اللّبون بأن يحتلب هذا يومًا وهذا يومًا فإنّه لا يصحّ، ولو تهايؤا في الشّجر المثمر لتكون لهذا عامًا ولهذا عامًا لم يصحّ ذلك أيضًا؛ لما فيه من الغرر الظّاهر، لكن طريقه أن يبيح كلّ واحدٍ منهما نصيبه لصاحبه في المدّة التي تكون بيده ويكون من باب المنحة والإباحة لا القسمة، وتكون قسمة المنافع بالزّمان والمكان جائزة لا لازمة سواء عَيَّنَا مدّة أو لم يعيِّنَاها؛ كالعارية من الجهتين، فلو رجع أحدهما قبل استيفاء نوبته فله ذلك، وإن رجع بعد استيفاء نوبته غرم لشريكه ما انفرد به من الانتفاع بأجرة المثل. والله أعلم. وأمّا إذا تلفت المنافع في مدّة أحدهما أو نوبته فلا إشكال في أنّه يرجع على صاحبه بقدر نصيبه الذي انتفع به. والله أعلم. وأمّا المسألة السّادسة: هل قسمة الإجبار إفراز أو بيع، فإن قلتم إنّها بيع، فهل يجوز قسم الأرض المزروعة قبل اشتداد حبّها أم لا؟ فاعلم أنّ هذه المسألة فيها قولان للعلماء: أحدهما: أنّها إفراز حقّ أحدهما من الآخر وليست بيعًا. وهذا أحد قولي الشّافعي. والقول الثّاني: أنّها بيع. وحكي ذلك عن أبي عبد الله بن بطه؛ لأنّه يبدل نصيبه من أحد السّهمين بنصيب صاحبه من السّهم الآخر. وهذا حقيقة البيع. وذهب المجد وحفيده إلى أنّه إن كان فيها ردّ عوضٍ فهي بيع؛ لأنّ صاحب الرّدّ يبدل المال عوضًا عمّا حصل له من مال شريكه. وهذا هو البيع، وإن لم يكن فيها ردّ عوضٍ فهي إفراز. وفائدة الخلاف: أنّها إذا لم تكن بيعًا جازت قسمة الثّمار خرصًا وما يكال وزنًا والموزون كيلًا. قال في التّرغيب في الأصحّ وتفرقهما قبل القبض فيما

يشترط فيه القبض في البيع وإذا حلف لا يبيع فقسم لم يحنث وإذا كان العقار أو بعضه وقفًا جازت قسمته. وعلى القول بأنّها بيع تنعكس الأحكام المتقدّمة كلّها. قالوا: ولا شفعة مطلقًا أي: على كلا القولين لجهالة الثّمن. المسألة السّابعة: إذا دفع رجل إلى امرأته خمسة حمران ثم بعد ذلك اختلف فقال الزّوج الخمسة من المهر، والمهر قدره عشرة حمران ولم يذكر الزّوج يوم العطاء أنّها من المهر، فهل القول قول الزّوج؛ لأنّه أعلم بنيّته أم لا؟ وإن قلتم: القول قوله فهل يلزمه يمين؟ فنقول: الذي يظهر من كلام الفهاء في مثل هذه الصّورة أنّ القول قوله بلا يمين؛ لأنّه علم بنيّته. هذا الذي يظهر لي في المسألة. والله أعلم. وأمّا المسألة الثّامنة: قولهم: ومَن مرّ بثمرة لا حائطٍ لها ولا ناظر ففيه ثلاث روايات .. الخ: إحداها: له الأكل ولا يحمل. قال ابن رجب: هذا الصّحيح المشهور في المذهب. قال في الهداية: اختاره عامة أصحابنا. قال في الشّرح الكبير: وهو المشهور في المذهب لما روي عن أبي زينب التّيمي قال: سافرت مع أنس بن مالك، وعبد الرّحمن بن سمرة وأبي برزة -رضي الله عنهم- فكانوا يمرّون بالثّمار فيأكلون في أفواههم. وقال عمر: يأكل ولا يتّخذ خبيئة، ثم ذكر القولين الآخرين، ثم قال: ولنا ما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه أنّ النَّبِيّ -صلّى الله عليه وسلّم- سُئِلَ عن التّمر المعلّق فقال: "ما أصاب منه ذو الحاجة غير متّخذ خبيئة فلا شيء عليه، ومَن أخرج منه شيئًا فعليه غرامة مثليه والعقوبة". قال التّرمذي: هذا حديث حسن. وروى أبو سعيد الخدري عن النَّبِيّ -صلّى الله عليه وسلّم- أنّه قال: "إذا مررت ببستانٍ فناد صاحب البستان ثلاثًا فإن أجابك، وإلّا فكل من غير أن تفسد". وروى سعيد بإسناده عن الحسن عن سمرة عن النَّبِيّ -صلّى الله عليه وسلّم-

39 - من عبد الله بن الشيخ إلى حضرة الأخ في الله عبد الوهاب أبو نقطة

مثله ولأنّه قول مَن سمّينا من الصّحابة من غير مخالفٍ فكان إجماعًا. فأمّا أحاديثهم فهي مخصوصة بما رويناه من الأحاديث والإجماع. وأمّا الزّرع ولبن الماشية ففيهما روايتان. قال أحمد: لا يأكل إنّما رخص في الثّمار ليس الزّرع. والثّانية: قال: يأكل من الفريك؛ لأنّ العادة جارية به يأكله رطبًا أشبه التّمر والزّبيب -إلى أن قال-: والأولى في الثّمار وغيرها أن لا يأكل منها إلّا بإذن لما فيها من الخلاف، ولبن الماشية روي عن أحمد كذلك فيه روايتان: إ حداهما: يجوز أن يشرب ويحلب ولا يحمل لما روى الحسن عن سمرة عن النَّبِيّ -صلّى الله عليه وسلّم- أنّه قال: "إذا أتى أحدكم على ماشيةٍ فإن كان فيها صاحبها فليستأذنه، وإن لم يكن فيها أحد فليحتلب وليشرب ولا يحمل". رواه التّرمذي. وقال: حديث حسن صحيح. والعمل عليه عند بعض أهل العلم. وهو قول إسحاق. والثّانية: لا يجوز لما روى ابن عمر مرفوعًا: "لا يحلبن أحد ماشية أحدٍ إلّا بإذنه". متّفق عليه. والله أعلم. وأنت في أمان الله والسّلام. وصلّى الله على محمّدٍ وآله وصحبه وسلم. - 37 - بسم الله الرّحمن الرّحيم. من عبد الله بن الشّيخ إلى حضرة الأخ في الله عبد الوهّاب أبو نقطة سلّمه الله من الآفات، واستعمله بالباقيات الصّالحات. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد؛ وصل الخط وصلك الله إلى رضوانه، وتسأل فيه عن الكلام الذي ذكره ابن موسى. الأوّل: أنّه قال: مَن قال: يعلم الله كذا يكفر فالذي قال: هذا تائه وواهم وأظنّ أنّكم ما فهمتم معنى كلامه، والحقّ أنّه إذا قال: يعلم الله كذا وكذا، وهو

صادق فلا بأس بذلك، وإنّما الإثم والحرج على مَن قال: يعلم كذا وكذا وهو كاذب، فهذا كذب وافتراء ولا يجوز ولا يبلغ إلى الكفر. والثّاني: قوله إنّ مَن صلّى على النَّبِيّ -صلّى الله عليه وسلّم- عشرًا صلّى الله عليه مائة، ومَن صلّى عليه مائة صلّى الله عليه ألفًا. فهذا حقّ وهو مقتضى قوله -صلّى الله عليه وسلّم-: "مَن صلّى عليَّ مرّةً صلّى الله عليه بها عشرًا". وهو ثابت في الصّحيح. وأمّا قول ابن عبد الهادي إنّ التّلفّظ بالنّيّة سنة عند الصّلاة فهو خطأ وجهالة، وإنّما غرّه بعض كلام المتأخّرين والقائل لذلك مخطئ، فإنّ السّنة هو ما واظب عليه رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم-. قال ابن القيم -رحمه الله- في الهدي: ولم ينقل عن النَّبِيّ -صلّى الله عليه وسلّم- ولا عن أحدٍ من أصحابه أنّه تلفّظ بالنّيّة ولا استحبّها أحدٌ من الأئمة الأربعة، ولا غيرهم. انتهى. وإنّما استحبّها بعض المتأخّرين من أصحاب الشّافعي وغيره، فردّ عليهم المحقّقون من أهل مذهبه وغيرهم، وكلّ أحدٍ يؤخذ من قوله ويترك إلّا رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم-. فلا ينبغي للمؤمن بل للمسلم أن يتّبع غلطات العلماء بل يعرض أقوالهم على الهدي النّبويّ، فما وافق ذلك قبله وما خالفه ردّه على قائله كائنًا مَن كان. فأنتم اذكروا لابن عبد الهادي كلامنا، ولا يخالف ويهون عن فتياه. وكذلك إنكاره الخرص فالخارص الذي عليه الاجتهاد والتّحرّي، والخرص فعله رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم-، كان يبعث عمَّالَه إلى الثّمار يخرصونها عند استوائها، وقد قال الله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}، [الأحزاب، من الآية: 21]. وأمّا الموعظة والنّصيحة، فليس هنا أعظم من وصية الله تعالى للأولّين والآخرين. قال الله تعالى: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ

40 - مسائل فقهية سئل عنها الحافظ الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب

وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ}، [النّساء، من الآية: 131]. وتقوى الله -تبارك وتعالى- أن يفعل ما أمر الله به، ويترك ما نهى الله عنه وهذا هو الدّين كلّه. وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}، [المائدة: 35]. فأخبر سبحانه عباده المؤمنين بسبب الفلاح، وهو تقواه وابتغاء الوسيلة إليه والجهاد في سبيله، فهذه الثّلاث هي مجامع الخير. زرقنا الله وإيّاكم إيمانًا صادقًا، وعملًا متقبّلًا، ونيّةً خالصةً. وسلموا لنا على يحيى وجميع إخوانكم. وأنتم في أمان الله وحفظه. وعبد العزيز وسعود وآل الشّيخ طيّبون ويبلّغونكم السّلام. - 38 - (هذه مسائل فقهية سُئِل عنها الحافظ الشّيخ عبد الله بن الشّيخ محمّد بن عبد الوهّاب) (مسألة-1) ما قول سادة العلماء أئمة الدّين في رجلٍ طلّق امرأته وهي في الحيض، هل يقع عليها أم لا يقع؟ (مسألة-2) الطّلقات الثّلاث المجموعة، هل تقع واحدةً أم ثلاثًا؟ (مسألة-3) وهذه المسألة التي وقع الإشكال فيها وهي من أهم هذه المسائل، وهي التي نصرها الشّيخ تقيّ الدّين بالأدلّة، وهو الذي يُسَمَّى التّعليق، وجزموا أنّه متى وقع الشّرط وقع الجزاء بلا ريب عندهم، وصورته أنّه إذا كان بين رجلين شحناء وأراد أحدهم أن يتعدّى على الآخر وغضب، وقال: إن فعلت كذا، أو إن أخذت هذا، أو إن لم أفعل كذا، أو إن فعلت كذا، فامرأتي طالق، أو قال لامرأته: إن فعلت كذا، أو إن لم تفعلي كذا، فأنتِ طالق، هل يقع بما ذكرنا طلاق أم يمين؟ وإذا قلتم هذا يمين فما

كيفية التّعليق الذي يقع به الطّلاق؟ أفتونا مأجورين. (مسألة-4) إذا زوجت امرأة قبل أن تعتد أو فسخت منه بسبب عقدٍ فاسدٍ، فهل إذا اعتدّت تكون بالخيار أم ترد على زوجها؟ (مسألة-5) إذا طلقت امرأة ومضى عليها ثلاثة أشهر ولم تحض فيهن إلّا حيضةً واحدةً، هل يجوز العقد عليها إذا أرادت التّزويج أم لا بدّ من ثلاث حيضات؟ أفتونا مأجورين. الجواب: -وبالله التّوفيق-: أمّا مسألة الطلاق في الحيض، فالمشهور والمفتَى به عند علماء الأمصار من الصّحابة والتّابعين فمَن بعدهم من الأئمة الأربعة وغيرهم أنّ الطّلاق في الحيض طلاق بدعة ومعصية لله ولرسوله، ولكنّه لازم ويحسب عليه من الطّلقات الثّلاث. وهذا هو المعمول به عندنا، ودلائل ذلك كثيرة مذكورة في البخاري ومسلم وغيرهما. ومن أشهر ذلك أنّ ابن عمر -رضي الله عنهما- طلّق امرأته وهي حائض في زمن رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- فذكر عمر ذلك لرسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- فتغيظ رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- وأمره بمراجعتها حتّى تطهر ثم تحيض ثم تطهر ثم إن شاء طلّق وإن شاء أمسك. وفي البخاري عن ابن عمر -رضي الله عنهما- أنّها حسبت عليه طلقة. والله أعلم. وأمّا الثّانية في الثّلاث المجموعة ففيها خلاف مشهور بين العلماء في جوازها، وفي كونها تقع ثلاثًا، فالذي عليه الأكثر أنّ التّلفّظ بها بكلمةٍ واحدةٍ بدعة ومعصية؛ لأنّ الله إنّما أباح الطّلاق للعدّة وقال: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ}، [البقرة، من الآية: 229]. والمرتّان لا تكون إلّا مرّة

بعد أخرى، ولما أخرجه النّسائي وغيره أنّ رجلًا طلّق امرأته ثلاثًا بكلمةٍ واحدةٍ، فذكر ذلك لرسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- فغضب وقال: "أيلعب بكتاب الله وأنا بين أظهركم؟ ". الحديث. وأمّا كونها تلزم وتقع ثلاثًا فالذي عليه جمهور الصّحابة فَمَن بعدهم أنّها تقع ثلاثًا كما أمضاه عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- في خلافته، وتبعه على ذلك جمهور الصّحابة والتّابعين لهم بإحسانٍ من الأئمة الأربعة وغيرهم. والأدلّة على ذلك مذكورة في كتب الفقه، وشرح الحديث. وأجابوا عن حجج القائلين بعدم الوقوع وأنّها لا تقع إلّا واحدة بأجوبةٍ كثيرةٍ ليس هذا موضع ذكرها. وأمّا تعليق الطّلاق فالذي عليه أكثر أهل العلم أنّه إذا علّقه على شرطٍ ووجد الشّرط وقع، وفرّق الشّيخ تقيّ الدّين وغيره من أهل العلم في ذلك فقالوا: إن كان قصده وقوع الطّلاق كما يقول: إن زنيت فأنتِ طالق، وإن سرقت فأنتِ طالق، وقع وإن كان قصده الحضّ والمنع للمرأة أو لنفسه عن فعل الشّرط وليس قصده وقوع الطّلاق لم تطلق المرأة بذلك ويكون يمينًا مكفِّرة نظرًا إلى كونه إنّما قصد بذلك الحلف والحضّ والمنع لا وقوع طلاقٍ، وهذا الذي يختاره شيخنا -رحمه الله- ويفتي به. والله أعلم. وأمّا إذا تزوّج المرأة في العدّة أو بعقدٍ فاسدٍ وفسخ النّكاح، فإن كان الفاعل لذلك جاهلًا فإنّه يجوز له نكاحها إذا انقضت عدّتها بعقدٍ جديدٍ برضاء المرأة والولي، وإن كان فاعل ذلك عارفًا بالتّحريم، فإنّه يفرّق بينهما ولا تحلّ له أبدًا كما ذكر ذلك عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-. والله أعلم. وأمّا عدّة الحائض فثلاث حيضات سواء كان ذلك طلاقًا أو فسخًا. هذا الذي عليه جمهور العلماء. والله سبحانه وتعالى أعلم.

41 - فتاوى وفوائد لعلماء آخرين

- 39 - بسم الله الرحمن الرحيم مسألة: إن قال: وحقّ الله، فهو يمين مكفّرة 1. هذا المذهب. وبه قال مالك والشّافعي. وقال أبو حنيفة: لا كفارة لها؛ لأنّ حقّ الله طاعاته ومفروضاته، وليست صفة له. ولنا أنّ لله حقوقًا يستحقّها لنفسه من البقاء والعظة والجلال، وقد اقترن عرف الاستعمال بالحلف بهذه الصّفة فينصرف إلى صفة الله، كقوله وقدرة الله عليه. وإذا قال: وعهد الله، فهي 1 يمين مكفّرة، وبه قال مالك. وقال الشّافعي: لا يكون يمينًا إلّا أن ينوي اليمين بعهد الله الذي هو صفته. وقال أبو حنيفة: ليس بيمينٍ، ولعلّهم ذهبوا إلى أنّ العهد من صفات الفعل فلا يكون الحلف به يمينًا. ولنا أنّ عهد الله يحتمل كلامه الذي أمرنا به ونهانا عنه لقوله تعالى: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ}، [يّس، من الآية: 60]. وكلامه قديم صفة له فوجب أن يكون يمينًا، وإذا قال: وأيم الله فهي مكفّرة؛ لأنّه عليه السّلام كان يقسم بها، وإذا قال: وأمانة الله، فهو يمين مكفّرة. قال القاضي: لا يختلف المذهب فيه، وبه قال أبو حنيفة، وإن قال: أحلف بالله أو أشهد بالله، كان يمينًا إذا ذكر اسم الله. وهذا قول عامّة الفقهاء، ولا نعلم فيه خلافًا. انتهى من الشّرح تلخيصًا. وإذا قال: حلفت ولم يكن حلف، قال الإمام هي كذبة ليس عليه يمين. وهذا المذهب قال المصنّف والشّارح وعنه عليه كفّارة؛ لأنّه أقرّ على نفسه. انتهى من الإنصاف. قال في "اقتضاء الصّراط المستقيم" بعد أن ذكر الكراهة في تعلّم غير

_ 1 فيه أنّه يُذَكِّر ضمير اليمين تارة ويؤنّثه أخرى، واليمين مؤنّثة، ولعلّ الاختلاف من النّاسخ وإن تذكير الضّمير باعتبار ما قبله.

اللّغة العربية، وأيضًا فإنّ نفس اللّغة العربية من الدّين ومعرفتها فرض واجب. فإنّ فهم الكتاب والسّنة فرض ولا يفهم إلّا بفهم اللّغة العربية، وما لا يتم الواجب إلّا به فهو واجب. انتهى المقصود منه. وقال في شرح الإقناع في أوّل: (كتاب الشّهادات): وإذا تحملها أي الشّهادة الواجبة وجبت كتابتها، ويتأكّد ذلك في حقّ رديء الحفظ؛ لأنّ ما يتم الواجب إلّا به فهو واجب. انتهى المقصود منه. مسألة*: ما حكم بيع المغروس في الأرض الذي يظهر ورقه كالقت والجزر والفجل والثّوم والبصل وشبه ذلك؟ فالجواب: اعلم أنّ في هذه المسألة قولين للعلماء: أحدهما: أنّه لا يجوز حتّى يقلع كما هو مذهب الشّافعي ورواية عن أحمد. قالوا: لأنّ هذه أعيان غائبة لم تر. والثّاني: جواز بيعه وإن لم يقلع. وهذا هو الصّواب؛ لأنّ هذا ليس من الغرر، بل أهل الخبرة يستدلّون بما ظهر من الورق على المغيب في الأرض كما يستدلّون بما يظهر في العقار من ظواهره على بواطنه، وكما يستدلّون بما يظهر من الحيوان على بواطنه، ومن سأل أهل الخبرة أخبروه بذلك، والمرجع في ذلك إليهم. وأيضًا العلم بالمبيع شرط في كلّ شيء بحسبه فما يظهر بعضه وكان في إظهار باطنه مشقّة إذا خرج اكتفى بظاهره كالعقار؛ فإنّه لا يشترط رؤية أساسه ودواخل الحيطان، وكذلك الحيوان وأمثال ذلك. وأيضًا إنّما احتيج إلى بيعه فإنّه يسوغ فيه ما لا يسوغ في غيره، فيبيحه الشّارع للحاجة مع قيام السّبب، كما أرخص في العرايا بخرصها، وأقام الخرص مكان الكيل بجنسه ولم يكن ذلك من المزابنة التي نهي عنها. والله أعلم.

_ * هذه المسألة والتي تليها هما من فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى، انظر "مجموع الفتاوى" (29/ 487 - 489)، وهما أحد "المسائل الماردينية". [معد الكتاب للمكتبة الشاملة]

42 - الأجوبة السديدة عن المسائل المفيدة

مسألة: بيع المقاثي هل يصحّ بيع الموجود منها والحادث أم لا تباع إلّا لقطة لقطة؟ فالجواب: من أصحاب الشّافعي وأحمد مَن يمنع بيعها إلّا لقطة لقطة، وكثير من العلماء من أصحاب مالك وأحمد وغيرهما يجوزون بيعها مطلقًا على الوجه المعتاد، وهذا هو الصّواب؛ فإنّ بيعها لا يمكن في العادة إلّا على هذا الوجه، وبيعها لقطة لقطة إمّا متعذر وإما متعسر؛ فإنّه لا يتميّز لقطة عن لقطة إذ كثير من ذلك لا يمكن لقاطه بأسره فيبيع المقاثي بعد بدو صلاحها، وإن كان المبيع لم يتخلق بعد ولم ير، ولهذا إذا بدا صلاح بعض الشّجرة فإنّه صلاح لباقيها باتّفاق العلماء ويكون صلاحًا لسائرها في البستان من ذلك النّوع في أظهر قولي العلماء، وقول جمهورهم بل يكون صلاحًا لثمرة جميع البستان التي جرت العادة بأن يباع جميعه في أحد قولي العلماء، وقد ذكرنا هذه المسائل مبسوطة في غير هذا الموضع. انتهى. - 40 - بسم الله الرّحمن الرّحيم (هذه الأجوبة السّديدة عن المسائل المفيدة للشّيخ عبد الله بن الشّيخ محمّد بن عبد الوهّاب - رحمهما الله وعفا عنهما بِمنّه وكرمه) الحمد لله الذي أوجب البيان على العلماء، وأوجب السّؤال على مَن لا علم عنده. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد؛ وصل الكتاب وفهم الخطاب وسألت عن ستّ مسائل: الأولى: ما قول العلماء -رضي الله عنهم- في رجلٍ خبب امرأة على زوجها؟ الجواب -وبالله التّوفيق-: نكاح الثّاني الذي خببها على زوجها باطل

ويجب أن يفارقها؛ لأنّه عاصٍ لله بفعله ذلك. الثّانية: إذا أرضعت امرأة طفلًا وله إخوة وأخوات لم يرضعوا منها لها بنون وبنات هل يجوز لإخوته وأخواته أن يتزوّجوا من أولاد التي أرضعته والعكس أم لا؟ الجواب -وبالله التّوفيق-: إذا أرضعت المرأة طفلًا رضاعًا يحرِّم شرعيًّا في الحولين صار الطّفل ابنًا للمرضعة وابنًا لزوجها الذي نسب الحمل إليه فصار في التّحريم والخلوة ابنًا لهما وأولاده أولادهما، وإن نزلت درجتهم وجميع أولاد المرضعة إخوة للمرتضع وأخواته، وإن نزلت درجتهم. وأمّا المرتضع وهو المسؤول عن إخوته فالحرمة تنتشر إليه وإلى أولاده وإن نزلوا، ولا تنتشر إلى مَن في درجته من إخوته وأخواته، ولا إلى أعلى منه كأبيه وأمّه فلا يحرم على زوجها نكاح أمّ الطّفل المرتضع من النّسب ولا نكاح أخته وعمّته، ولا بأس أن يتزوّج الرّجل أخت أخيه من الرّضاعة. الثّالثة: ما صفة الإحداد، وهل المملوكة فيه كالحرّة أم لا؟ الجواب -وبالله التّوفيق-: الإحداد واجب في عدّة الوفاة، وهي أربعة أشهر وعشر، أو شهران وخمسة أيام إن كانت أمة، فإن كانت حاملًا فعتدّتها بوضع حملها، وذلك على الحرّة والأمة والكبيرة والصّغير فيحرم على المحدة الزّينة كالأحمر والأصفر ونحوهما، ويباح لبس الأبيض وتقليم الأظفار ونتف الإبط وحلق العانة وغسل رأسها بالسّدر والمشط واستعمال الدّهن غير المطيّب، ويجب عليها عدّة الوفاة في المنْزل الذي مات زوجها فيه، وهي ساكنة فيه إلّا لعذر من خوفٍ أو هدمٍ ونحوهما، ولا تخرج

من منْزلها، ولها الخروج نهارًا لحوائجها وتجب العدّة من حين الموت. الرّابعة: الرّجل الذي ليس من أهل البيت هل يسلم على المرأة في الإحداد وغيره أم لا؟ الجواب -وبالله التّوفيق-: المرأة المحدّة وغيرها في ذلك سواء، فالمرأة مع الرّجل إن كانت زوجته أو أمته أو محرمًا من محارمه كأمه وابنته وأخته ونحوها فهي معه كالرّجل، فيستحبّ لكلّ واحدٍ منها ابتداء الآخر بالسّلام ويجب على الآخر ردّ السّلام عليه، وإن كانت المرأة أجنبية وكان جميلة يخاف الافتتان بها لم يسلّم الرّجل عليها، ولو سلّم لم يجز لها ردّ السّلام ولا تسلم هي عليه ابتداء، وإن سلمت لم تستحقّ جوابًا فإن أجابها كره له، وإن كانت عجوزًا لا يفتتن بها جاز أن تسلم على الرّجل وعلى الرّجل ردّ السّلام عليها. الخامسة: إذا قال الرّجل: عليَّ (الطّلاق) بالثّلاث أن أفعل كذا، أو لا أفعل كذا ففعله؟ الجواب -وبالله التّوفيق-: إذا لم ينو الطّلاق بل مراده الحثّ والمنع فهو يمين مكفِّرة يخيّر بين عتق رقبة أو كسوة عشرة مساكين أو إطعام عشرة مساكين لكلّ مسكينٍ مدي شعيرٍ، أو مدي تَمرٍ، أو مدُ بُرٍّ، فإن عجز عن ذلك صام ثلاثة أيام. السّادسة: إذا كان لرجلٍ زوجتان أو أكثر فحاضت إحداهن هل عليه أن يبيت عندها ليلتها أم لا؟ الجواب -وبالله التّوفيق-: عليه أن يبيت عندها؛ لأنّ القسم يراد للإيواء إلّا إن أذنت له، ولكن لا يجامع الحائض والنّفساء حتّى يطهرن من الحيض وتغتسل بعده. والله أعلم.

وأمّا مسألة الحامل؛ إذا رأت الدّم فإنّه ينظر في حال المرأة فإن كان ذلك ليس بعادة لها إذا حملت فلا تلتفت إليه بل تصلّي فيه وتصوم ويكون حكمها حكم المستحاضة وليس في هذا اختلاف. وأمّا إن كانت عادة المرأة أنّها تحيض وهي حامل ويأتيها في عادة الحيض وتطهر في عادة الطّهر فهذا الذي اختلف في العلماء والرّاجح أنّه حيض إذا كان على ما وصفنا. وأمّا مسألة اليتيمة إذا طلبت الزّواج، فيجوز لوليّها تزويجها وإن لم تبلغ، إذا كنت لها تسع سنين، لكن لا يجبرها ولا يزوّجها إلّا برضاها إذا كانت يتيمة. وأمّا الأب فيجوز له إجبار الصّغير التي لم تبلغ. والبلوغ يحصل بالحيض وبإنبات الشّعر الخشن حول القبل. وأمّا مسألة الأمي، فهو الذين لا يحسن الفاتحة أو يحلن فيها لحنا يحيل المعنى. وأمّا إذا كان يحسن الفاتحة ولا يحيل ألفاظها عن معانيها فهذا لا يُسَمَّى أميًّا وأحقّ النّاس بالإمامة أقرؤهم لكتاب الله، فإذا وجد القارئ قدم على غيره. وأمّا إذا أقيمت الصّلاة ثم جاء القارئ وهم يصلّون جاز للقارئ أن يصلّي معهم إذا كان الإمام يحسن قراءة الفاتحة، ولا يلحن فيها لحنًا يحيل المعنى. وأمّا الذي يحلن فيها لحنًا يحيل المعنى فلا يجوز أن يصلّي إلّا بمثله. وأمّا مسألة تعيين الإمام فإذا عيّن إمامًا وقصده أن لا يصلّي خلف غيره، فهذا إذا بان أنّه غيره لم تصحّ صلاته؛ لأنّه نوى أن لا يصلّي خلفه. وأمّا إذا عيّن إمامًا ونيّته أنّه يصلّي خلف مَن يصلّي بالجماعة وليس له قصد في تعيين الإمام كما هو الواقع في المساجد التي أئمتها راتبون، فهذا إذا بان له أنّه غير الإمام الرّاتب صحّت صلاته؛ لأنّ قصده الصّلاة مع الجماعة. والله أعلم. وصلّى الله على محمّدٍ وآله وصحبه. وسلّم. {تَمَّت رسائل الشّيخ عبد الله بن الشّيخ محمّد بن عبد الوهّاب رحمه الله}.

القسم الثاني: رسائل وفتاوى أحفاد الشيخ محمد بن عبد الوهاب

القسم الثاني رسائل وفتاوى أحفاد الشيخ محمد بن عبد الوهاب ... رسائل وفتاوى للشيخ عبد الرحمن بن حسن ... القسم الثّاني من الجزء الأوّل {من مجموعة الرّسائل والمسائل} {رسائل وفتاوى أحفاد الشّيخ محمّد بن عبد الوهّاب} رسائل العلّامة الشّيخ عبد الرّحمن بن حسن بن الشّيخ رحمهم الله. - 1 - بسم الله الرّحمن الرّحيم من عبد الرّحمن بن حسن إلى الأخ الْمحبّ الإمام المكرّم فيصل بن تركي ألهمه الله رشده ووقاه شرّ نفسه. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد؛ تعلم أنّ نصيحتي لك نصيحة لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلين وعامّتهم؛ لأنّ بصلاحك يقوم الدّين ويصلح أكثر النّاس، وفي الحديث: "الدّين النّصيحة"، قالها ثلاثًا، قلنا: لِمَن يا رسول الله؟ قال: "لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامّتهم". وقد جعل الله لأهل الإيمان نورًا يمشون به في النّاس. وهذه البلوى التي ابتلى الله بها أهل نجد من فتنة خالد والعسكر وقبله إبراهيم باشا ميّز الله بها أهل نجد طيّبهم وخبيثهم وتفاوت مراتبهم في الشّر والزّيغ والفساد وكثرت السفاهة والقسوة ولا تخفى حالهم إلّا على مَن لا بصيرة له، كما قال تعالى: {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ}، [آل عمران، من الآية: 179]. وقال تعالى: {لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} الآية، [الأنفال، من الآية: 37]. وقال تعالى: {ألم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ}، [العنكبوت، الآيات: 1 - 3] إلى قوله:

{وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ}، [العنكبوت، الآية::11]. وهذا أمر مشاهد لِمَن جعل الله في قلبه نورًا. وقد وسم الله المنافقين بأقوالهم وأعمالهم، وجعل الله أهل الإيمان شهداء على النّاس. وقال تعالى: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ}، [التّوبة، من الآية: 105]. فيجب على مَن ولّاه الله أمر الدّين والدّنيا أن لا يتّهم من أقامهم الله شهداء على النّاس وهو يعلم منهم محبّة الإسلام ومحبّة أهله وبغض الباطل وأهله فكيف لا تقبل شهادة مَن أقامهم الرّبّ شهداء في أرضه على أعمال خلقه؟ وقد قال في المؤمنين والمهاجرين: {أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ}، [الأنفال، من الآية: 72]. وقال: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ}، [الأنفال: 73]. ومن الفساد الكبير على ما ذكر العلماء ضعف الإيمان وقوّة الباطل وقد حذّر الله نبيّه -صلّى الله عليه وسلّم- من طاعة الكافرين والمنافقين فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا}، [الأحزاب: 1]، عليمًا بما يصلح عباده حكيمًا في أقواله وأفعاله وشرعه وقدره. ولما كان التّحذير من أولئك من أهمّ مقامات الدّين قال الله لنبيّه: {وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْك}، [المائدة، من الآية: 49]. وقال: {وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا}، [الكهف، من الآية: 28]. وقال: {فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى}، [طه: 16]. وفي الأثر: تحبّبوا إلى الله ببغض أهل المعاصي، وتقرّبوا إلى الله بالبعد عنهم، وأطلبوا رضاء الله بسخطهم". وقال تعالى: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ}، [القلم الآتيان: 35 - 36]. و {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ}، [الجاثية: 21].

فالمساواة بين أهل الأهواء والزيغ والمعاصي، وجعلهم في رتبة أهل الإيمان أو فوقهم، خلاف ما أحبه الله وأمر به عباده، وهو في نفسه فساد، وذلك سبب سخط الله وحلول عذابه. فعليك بمن من إذا قربتهم قربك الله وأحبك، وإذا نصرتهم نصرك الله وأيدك، واحذر أهل الباطل الذين إذا قربتهم أبعدك الله وأوجب لك سخطه، قال تعالى: {قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا} [سورة الأحزاب آية: 17]. وفي الحديث: "من التمس رضى الله بسخط الناس كفاه الله مؤنة الناس، ومن التمس رضى الناس بسخط الله، لم يغنوا عنه من الله شيئا"1. وقد رأينا عجبًا أن من التفت إلى أحد دون الله، خذله الله به وسلطه عليه; قال العلماء رحمهم الله: قضى الله قضاء لا يرد ولا يدفع: أن من أحب شيئًا دون الله عذب به، ومن خاف شيئًا دون الله سلط عليه. وأنت تجد وترى كثيرًا من الناس، قدمهم ولاة الأمر في شيء من أمورهم، فتعززوا على الناس، وتجاسروا على الأهواء ومخالفة الشرع في أقوالهم وأعمالهم، فخافهم أهل الدين؛ (فمنهم) من ذل لهم واعتذر بعدم القدرة، (ومنهم) من استصلح دنياه خوفًا من كيدهم. وأنت تجد هؤلاء إذا ظهرت حالهم كابروا العقول بزخرف من القول والكذب، واستعانوا على إفكهم بأمثالهم، محافظة على العلو والفساد. فلو وفق الإمام بالاهتمام بالدين، واختار من كل جنس أتقاهم وأحبهم وأقربهم إلى الخير، لقام بهم الدين والعدل. فإذا أشكل عليه كلام الناس، رجع إلى قوله صلى الله عليه وسلم: "دع ما يريبك إلى ما لا يريبك"2، فإذا ارتاب من رجل، هل كان يحب ما يحبه الله؟ نظر في أولئك القوم وسأل أهل الدين: من تعلمونه أمثل القبيلة أو الجماعة في الدين، وأولاهم بولاية الدين والدنيا؟ فإذا أرشدوه إلى

_ 1 الترمذي: الزهد 2414 2 الترمذي: صفة القيامة الرقائق والورع 2518 , والنسائي: الأشربة 5711 , والدارمي: البيوع 2532.

ما كان يصلح لذلك قدمه فيهم، ويتعيّن عليه أن يسأل عنهم مَن لا تخفى عنه أحوالهم من أهل المحلة وغيرها، فلو حصل ذلك لثبت الدّين وبثباته يثبت الملك، وباستعمال أهل النّفاق والخيانة والظّلم يزول الملك ويضعف الدّين، ويسود القبلية شرارها ويصير على ولاة الأمر كفل من فعل ذلك. فالسّيعد مَن وُعِظَ بغيره، وبما جرى له وعليه. وأهل الدّين هم أوتاد البلاد ورواسيها، فإذا فعلت وكسرت مادت وتقلبت كما قال العلامة ابن القيم -رحمه الله- ولكن رواسيها وأواتادها هم، فأنت إذا فعلت ما قلت لك قام بك الدّين والعدل وصارت سنة حسنة في هذا الزّمان ونلت أجر مَن أقام السّنة كما في الحديث: "مَن سَنَّ في الإسلام سُنةً حسنة كان له أجرها وأجر مَن عمل بها إلى يوم القيامة من غير أن ينقص من أجورهم شيء". فإن انعكس الأمر كما هو الواقع كانت سنة سيّئة عليه وزرها ووزر مَن عمل بها إلى يوم القيامة من غير أن ينقص من أوزارهم شيء". ومن المعلوم أنّ النّفس تميل إلى الرّاحة وطلب رضا الخلق، وفي النّظر فيما يرضي الله مخالفة للخلق أو بغضهم ولكن طريق الجنة حزن بربوة، واقرأ قوله تعالى: {فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}، [آل عمران، من الآية: 175]. وقوله: {وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ}، [البقرة، من الآية: 41]. وقوله: {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ}، [هود، من الآية: 123]. وقوله: {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا}، [سبأ، من الآية: 46]. فإذا عرفت أنّ العبد لا يأتيه ما يكره إلّا من شرور نفسه وسيّات أعماله وأنّ نواصي الخلق في قبضة الرّبّ تبارك وتعالى، وأنّ قلوبهم بين إصبعين من أصابعه أفادك القيام بدينه وأخذت في أسباب ذلك والحبّ فيه والبغض فيه والتّقريب له والإبعاد لأجله، وجعلت أفعالك تطابق أمره

2 - من عبد الرحمن بن حسن إلى عثمان بن منصور

الشّرعي الدّينِي، وتتحرّى مرضاته في كلّ قولٍ وفعلٍ وتقديم أو تأخير أو غير ذلك، فلو صلح تدبير الإمام فيما ولّاه الله من الحاضرة أصلح الله البوادي وغيرهم، فإنّ الأعمال حجّة لك أو عليك، وأنت سالم. والسّلام. ولا حول ولا قوّة إلّا بالله العليّ العظيم. وصلّى الله على محمّدٍ وآله وصبحه وسلّم. - 2 - بسم الله الرّحمن الرّحيم من عبد الرّحمن بن حسن إلى عثمان بن منصور. وبعد؛ أشرفت على خطك وهو كلام مَن لا يدري ولا يدري أنّه لا يدري، ولكن نبيّن لك أكاد فتح من الله جئت من الزّبير والبصرة هاك الجيه، وجرى عليك من الفائز الذي أنت خابر لأجل طول إقامتك في أماكن يعبد فيها غير الله، وأراد الله سبحانه وتعالى أنّ كبارنا يقدّمونك في سرير لأجل اسم العلم والذي بان لهم أنّك عرفت صحّة هذه الدّعوة؛ دعوة الشّيخ محمّد بن عبد الوهّاب -رحمه الله- إلى توحيد الألوهية، وإنكار الشّرك والبراءة منه الذي ما يصير الإنسان مسلمًا إلّا به، والذي يدخل هذا قلبه ويتقدّم بالنّاس ويسير له مشاركة في العلوم يدعو النّاس إليه ويحثّهم علهي، ويبيّن لهم معنَى: لا إله إلّا الله، وما دلّت عليه من إخلاص العبادة ونفي الشّرك وما تقتضيه من المعاداة والموالاة والحبّ والبغض، كذلك حقوق: لا إله إلّا الله، ولا حصل منك شيء من هذا أبدًا ولا حصل منك إلّا ضدّها، إذا جاء عندك مشرك أو إنسان ما ينكر الشّرك من أهل هذه الأمكنة استأنست معه وقدّرته وأكرمته. فإذا كان يريد أن يتزوّج زوّجتموه ولا حصل منك إلّا إذا جاء أهل سدير يتنازعون في أموالهم أو يستفتونك في مسألةٍ فرعيةٍ، والذي هذا

حاله ما يجوز أن يلين معه الجانب أو يرد له رأس، فلو أنّ لك معرفة في التّوحيد أو قبولًا له لكنت تكثر ذكره كما قيل: مَن أحبّ شيئًا أكثر من ذكره، بل الذي يذاكر في التّوحيد ويلهج به وينكر الشّرك ويبغض أهله ويعاديهم ما يجوز عندكم إلّا كما يجوز رأس الحمار، ولولا هذا كان ما يجهلك أنّ طلبة العلم هم ربعي وهم إخواني وهم خاصتي ولكن أنت ما لقيت فيك حيلة إذا فتشنا عن كلامك في شرحك وفي غيره، وجدنا معتقدك في توحيد الألوهية معتقد عبد الله المويسر حظّه منها اللّفظ مع إنكار الْمعنَى هذه حالته يجب التّحذير عنه نصحًا لله ولرسوله ولكتابه ولأئمة المسلمين وعامّتهم، ويا ليتك ثم يا ليتك قمت بهذا الدّين وأحببت أهله ودعوت إليه وأنكرت ضدّه. لكن القلوب بيد الباري يقلّبها كيف شاء. وأسأل الله أن يقلّب قلبك إلى الإسلام. ويدخل فيه الإيمان. فإن وفّقك الله للتّوبة فلا علينا منك ولا عليك منا. ولو ما صادقناك ورافقناك ما يضرّ. ومن الأمور الظّاهرة البيّنة أنّك دأبك تكتب في الخوارج وتذكر كلام شيخ الإسلام فيهم، والواقع في كثيرٍ من الأمّة أعظم من مقالة الخوارج عبادة الأوثان وتزيين عبادتها وإنكار التّوحيد، ولو أنّ في قلبك من التّوحيد شيئًا فعلت فعلَ عبد الله أبا بطين ما صبر يوم أن كان داود وأمثاله يشبهون على النّاس ردّ عليهم من كتاب الله وسنّة رسوله وأقوال الصّحابة وأقوال العلماء والأئمة ودحض حججهم بالوحي. والخوارج ما عندنا أحد منهم حتّى في الأمصار ما هنا طائفة تقول

3 - من عبد الرحمن بن حسن إلى الأخ المحب عبيد بن رشيد

بقول الخوارج إلّا الإباضية في أقصى عمان ووقعوا فيما هو أكبر من رأي الخوارج وهي عبادة الأوثان ولا وجدنا خطك في الخوارج وتسميته بالمعارج إلّا أنّ أهل هذه الدّعوة الإسلامية التي هي دعوة الرّسل إذا كفروا من أنكرها. قلت: يكفّرون المسلمين لأنّهم يقولون: لا إله إلّا الله. والله أعلم. آخر ما وجدت من هذه الرّسالة. وصلّى الله على محمّدٍ وآله وصبحه وسلّم. - 3 - بسم الله الرّحمن الرّحيم من عبد الرّحمن بن حسن إلى الأخ الْمحبّ عبيد بن رشيد سلّمه الله تعالى وهداه ووفّقه لما يحبّه ويرضاه آمين. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد؛ وصل الخط وسرنا طيبكم وسلامتكم ونحمد إليكم الله تعالى على ما أسداه من الأنعام، وما من به من معرفة دين الإسلام، نسأل الله المزيد من ذلك والثّبات عليه والاستقامة والمحافظة عليه، وذلك فضله وإحسانه تعالى لِمَن وفّقه له وهداه له. وما ذكرت من أنّ بعض النّاس يوجب صيام يوم الثّلاثين من شعبان إذا حال دون منظره غيم أو قتر، ويستدلّ بقوله في الحديث: "فإن غُمّ عليكم فاقدروا له". ويقول إنّ القدر التّضييق مثل قوله تعالى: {وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ}، [الطّلاق، من الآية: 7]. وأنّ أمير المؤمنين عمر بن الخطاب صامه وصامه بعض الصّحابة. فالجواب: أنّ هذا القول أخذ به بعض الحنابلة وبعضهم مع الأئمة الثّلاثة، وأكثر العلماء لا يقولون بوجوبه ولا باستجابة. قال في الإنصاف: وإن حال دون منظره غيم أو قتر وجب صومه، وعنه لا

يجب قال الشّيخ هذا مذهب أحمد المنصوص الصّريح عنه، ولا أصل للوجوب في كلامه ولا كلام أحدٍ من الصّحابة. انتهى كلام شيخ الإسلام. قلت: ذكر ابن عبد البر وغيره أنّه لم يثبت عن أحدٍ من الصّحابة -رضي الله عنهم- أنّه صامه إلّا عبد الله بن عمر صامه احتياطا، قاله ابن القيم. وذكر أن ابن عبّاس -رضي الله عنهما- أنكر عليه صيامه. قال الحافظ محمّد بن عبد الهادي -رحمه الله- وقد روي من غير وجه مرفوعًا النّهي عن صوم يوم الشّك وقد روي عن جماعة من الصّحابة -رضي الله عنهم- أنّهم نهوا عن صوم يوم الشّكّ منهم حذيفة وابن عبّاس ونصّ الإمام أحمد -رحمه الله- في رواية المروذي أنّ يوم الثّلاثين من شعبان، إذا غم الهلال يوم شكّ، وهذا القول صحيح بلا ريب. قال الحافظ وليس في هذا الحديث الذي استدلّ به المتأخّرون دليل على وجوب الصّوم أصلًا بل هو حجّة على عدم الوجوب فإنّ معنى: "اقدروا له"، احسبوا له قدره وذلك بثلاثين يومًا فهو من قدر الشّيء، وهو مبلغ ليس من التّضييق في شيء، والدّليل على ذلك ما في صحيح مسلم عن ابن عمر: "فإن غُمَّ عليكم فاقدروا ثلاثين". أي: فأكلموا العدّة ثلاثين، وابن عمر هو الذي روى حديثهم الذي احتجوا به وصرح في هذه الأحاديث بمعناه وهو إكمال شعبان ثلاثين. واستدلّ الأئمة على تحريم صيامه بحديث عمار، وهو ما رواه أبو داود والنّسائي وابن ماجه والتّرمذي عن طلحة ابن زفر. قال كنا عند عمار ياسر وأتي بشاة مصلية. فقال كلوا فتنَحَّى بعض القوم فقال عمّار: مَن صام اليوم الذي فيه الشّكّ فقد عصى أبا القاسم -صلّى الله عليه وسلّم-. قلت: وهذا عند أهل الحديث في حكم المرفوع وقد جاء صريحًا

في حديث أبي هريرة الأمر بإكمال عدّة شعبان ثلاثين إذا غبي الهلال، وهو عند البخاري في صحيحه عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنّ رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم-. قال: أو قال أبو القاسم -صلّى الله عليه وسلّم-: "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غبي عليكم فأكلموا عدّة شعبان ثلاثين". قال الحافظ. وهذا الحديث لا يقبل التّأويل وذكر أحاديث كثيرة. منها ما رواه أبو داود وأحمد وغيرهما عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: كان رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- يتحفّظ من هلال شعبان ما لا يتحفّظ من غيره ثم يصوم رمضان لرؤيته فإن غمّ عليه أتم ثلاثين يومًا ثُمَّ صام، وهذا صريح في أنّه -صلّى الله عليه وسلّم- لم يشرع لأمته صيام الثّلاثين من شعبان إذا غم الهلال ليلته فهذا وغيره من الأحاديث يظهر أنّ الحجّة مع مَن أنكر صيام ذلك اليوم إذا غمّ الهلال ليلته وإن السّنة إكمال شعبان ثلاثين إذا لم ير الهلال وهو اختيار محمّد بن عبد الوهّاب رحمه الله تعالى. وأمّا مسألة الفطر للمسافر في رمضان أو الصّيام فالذي دلّت عليه الأحاديث أنّ المسافر إذا كان سفره مباحًا أنّه يخير بين الفطر والصّيام، فلا ينكر على مَن صام ولا على مَن أفطر، روى التّرمذي عن عائشة -رضي الله عنها- أنّ حمزة بن عمرو الأسلمي سأل رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- عن الصّيام في السّفر وكان يسّره الصّوم فقال رسول الله: "إن شئت فصّم وإن شئت فأفطر". قال أبو عيسى حديث عائشة -رضي الله عنها-، هذا حديث حسن صحيح، وأخرج أبو داود عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: كنا نسافر مع رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- في شهر رمضان فما يعاب على الصّائم صومه ولا على المفطر فطره، وفيه أحاديث غير هذين الحديثين. وأمّا تمام الصّلاة في السّفر ففعله أمير المؤمنين عثمان بن عفان وعائشة

أمّ المؤمنين -رضي الله عنهما- وعند الحنابلة أنّه إن أتَمّ في سفر جاز ولم يكره وعلى هذا فلا ينكر على مَن أتَمّ الصّلاة، والقصر أفضل. لكن قد يحصل مع الغزاة 1 تردد في قصد الولاة بالغزو، ولأنّه ربما غلب عليهم إرادة الملك والعلو وإرادة الدّنيا والثّناء والعزّ فيكون جهاده عليه لا له كما في الحديث أنّ النَّبِيّ -صلّى الله عليه وسلّم- سأله رجل فقال يا رسول الله الرّجل يقاتل شجاعة ويقاتل حمية ويقاتل رياء أي ذلك في سبيل الله؟ قال: "مَن قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو سبيل الله". وفي حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- في الثّلاثة الذين أوّل مّن تسعر بهم جهنم: يقال للمجاهد إنّما قاتلت ليقال هو جرئ فقد قيل: فيؤمر به إلى النّار، فليكن منك ذلك على بال. قال: قتادة -رحمه الله تعالى- في قوله تعالى: {فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا}، [الكهف، من الآية: 34]. قال هذا والله أمنية الفجار كثرة المال وعزّة النفر. وأمّا إحياء العشر الأواخر من رمضان فهو السّنة لما جاء في حديث عائشة أم المؤمنين -رضي الله عنها- قالت: كان رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- إذا دخل العشر الأواخر من رمضان أيقظ أهله وأحيا ليله وجد وشدّ المئزر. وفي الحديث الآخر: "مَن صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه، ومن قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه"، وصحّ أنّ النَّبِيّ -صلّى الله عليه وسلّم- قام اللّيل كلّه حتى السّحر. إذا عرفت ذلك فلا ينكر قيام العشر الأواخر إلّا جاهل لا يعرف السّنة.

_ 1 ظاهر هذا الاستدراك يدلّ على أنّ قبله كلامًا سقط من النّاسخ والكلام في الجهاد الدّينِي الذي يؤجر المقاتل عليه وغيره، فلعلّه بين كلّ منهما ثم استدرك عليه بما يشتبه فيه لتعلقه بنيّة الأمراء والولاة الذين يتولّون قيادة الغزاة له. وكتبه محمّد رشيد رضا.

4 - رسالة ضافية في الربا وحكم نقود الجدد الزيوف فيه

وأمّا مَن يوصي بثلث ماله وله ذرية ضعفاء فقراء، فإن كانت الوصية على أعمال البر جاز لمتولّيها أن يدفع إليهم من الوصيّة يستعينون به في حاجاتهم، وإن كان الوصية لأناس معينين أعطوا ما وصى لهم به، فإن كان على حجّ غير حجّة الإسلام فتصرف على المحتاج من ذرّيّته، وكذلك ما كان على أضحية صرفت على فقراء ذريّته؛ لأنّ الصّدقة عليهم أفضل إذا احتاجوا إليها، فلا بدّ من تنفيذ الوصية ابتداء، ثم يكون النّظر للمتولي عليه. انتهى. - 4 - (رسالة ضافية في الرّبا وحكم نقود الجدد الزّيوف فيه) بسم الله الرّحمن الرّحيم وبه نستعين ولا حول ولا قوّة إلّا الله. {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا}، [الكهف: 1]، ورفع لِمَن ائتم به فأحلَّ حلاله، وحرّم حرامه في مراقي السّعادة درجًا، وأشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له، شهادة مَن حقّقها فاز ونجا، وأشهد أنّ محمّدًا عبده ورسوله الذي مَن استمسك بهديه نال من التّوفيق فلجا وبلجا، اللهم صلّ على سيّدنا محمّد وعلى آله وأصحابه الذين مَن اقتدى بهم سما بالعلم وابتهجا، وسلّم تسليمًا كثيرًا. أمّا بعد؛ فلما كان الواجب على المسلمين، خصوصًا منَ ينسب للعلم منهم والدّين، أن يهتمّ بما عليه من النّصيحة لله تعالى وعباده على وفق شرعه ومراده، وجهت بعض الهمة إلى بيان ما لعلّه أن يكون عونًا لِمَن أراد الله به خيرًا على التّعاون على البرّ والتّقوى، والتّواصي بالحقّ الذي هو أقوم وأقوى،

والله أسأل أن يكون ذلك مؤسّسًا على الإخلاص، وإرادة النّصيحة والسّلامة للمسلمين والخلاص. فأقول -مستمدًا من الله تعالى العون والتّأييد، والتّوفيق والتّسديد- إن مما كثر البحث عنه والسّؤال، وعمت به البلوى بين العوام من الجهال، الاعتياض بالنّقود المسمّاة بالجدد عن الرّيال، وقد ورد علينا ونحن بالدّيار المصرية، من بعض أعيان بلادنا النّجدية، كتاب يتضمن السّؤال عن ذلك، ويستدعي الجواب عمّا وقع هنالك. فأجاب شيخنا شيخ الإسلام، خاتمة الأئمة الأعلام عبد الله بن الشّيخ الإمام القدوة الدّاعي شيخ الكلّ محمّد بن عبد الوهّاب -أجزل الله لهم الأجر والثّواب- بما حاصله: إذا كان يعرف بين أهل الخبرة والاستعمال، أن يبذل من هذا النّقد في الرّيال، يشتمل من الفضّة على أكثر مما فيه منها فهو ربا بلا إشكالٍ، وكذا إذا كانت الزّيادة من الفضّة أو المساواة يتطرّق إليهما الاحتمال، فهو من الرّبا باتّفاق أهل النّظر والاستدلال؛ لأنّ من أصول هذا الباب، عند ذوي العقول والألبان، أنّ الجهل بالتّماثل كالعلم بالتّفاضل بغير شكّ ولا ارتياب. ولما يسّر الله تعالى رجوعي من تلك الدّيار، وحصل لي بالوطن مكث واستقرار، رأيت أنّ ما يتعيّن علي تنبيه إمام المسلمين -وفّقه لطاعته- بأن يصرف الهمة إلى منهج الصّواب والسّداد، لما في ذلك من صلاح البلاد والعباد فبادر إلى ما أشرت إليه، أيّده الله ووالى نعمه وإحسانه عليه، فدفع إلى مَن يرضى أمانته عشرين من تلك النّقود، وأمره أن يختبر ما فيها من الفضّة بالسّبك على الوجه المعهود، وأشار إلى مملي هذه الأوراق بالحضور، ليكون ذلك من قبيل المعلوم المشهور، فحضرت تصفيتها مع ذلك الثّقة المأمور،

فحصل من العشرين خمسة بزنة المثقال، وهذا القدر لا يزيد على ما في الرّيال منها ولا ينقص بحال، فأفتيت بعد ذلك التّحرير والاختبار، بأنّ هذه المصارفة لا تحلّ إذا زادت الجدد عن ذلك المقدار. ولما كانت أكثر النّفوس لا تقبل الحقّ إلّا إذا كان في قالب هواها، وتميل بالطّبع إلى أن تؤتى شهوتها ومناها، شرعت في إيضاح هذا الحكم المذكور، وإن كان عند أهل العلم في غاية الظّهور: {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ}، [النّور، من الآية: 40]. فهذه براهين الكتاب والسّنة تملَى عليك، وبنات أفكار أهل التّحقيق تجلى وتزف إليك، والله أرجو أن يجعلنا مِمَن يقبل الحقّ إذا ورد عليه، وينقاد للهدى إذا دعي إليه. اعلم -وفّقنا الله وإيّاك- أنّ الله تعالى نهى عباده عن أكل الرّبا وأنزل بتحريمه القرآن المجيد، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنْزيل من حكيمٍ حميدٍ، وزجر عنه عباده بضروبٍ من التّحذير والتّهديد، والوعيد الشّديد. فقال -عزّ من قائلٍ-: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ}، [البقرة، الآيتان: 275 - 276]. قال ابن عبّاس في معنى الآية آكل الرّبا يبعث يوم القيامة مجنونًا يخفق. رواه ابن أبي حاتم. وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ}، [البقرة، من الآيتين 278 - 279]- إلى قوله -: {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ}، [البقرة: 281]. قال البخاري -رحمه الله

تعالى- في صحيحه: قال ابن عبّاس هذه آخر آية نزلت على رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً}، [آل عمران، من الآية: 130]. إلى غير ذلك من الآيات المحكمات. وقد جاءت السّنة الصّحيحة بالزّجر عنه والتّحذير وإيضاح، ما أجمل منه بالبيان والتّفسير. عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم-: "اجتنبوا السّبع الموبقات -قالوا: يا رسول الله وما هن؟ قال-: الشّرك بالله، وقتل النّفس التي حرّم الله إلّا بالحقّ، وأكل الرّبا، وأكل اليتيم والتّولي يوم الزّحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات". رواه البخاري ومسلم وأبو داود والنّسائي. وعن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه قال: "لعن رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- آكل الرّبا، وموكله، وكاتبه، وشاهديه". وقال: "هم سواء". رواه مسلم. وعن سمرة بن جندب -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم-: "رأيت اللّيلة رجلين أتياني فأخرجاني إلى أرض مقدّسة فانطلقنا حتى أتينا على نهرٍ من دمّ فيه رجل قائم وعلى شطّ النّهر رجل بين يديه حجارة فأقبل الرّجل الذي في النّهر فإذا أراد أن يخرج رمي الرّجل بحجر في فيه فردّه حيث كان فجعل كلما جاء ليخرج رمى في فيه بحجر فيرجع كما كان فقلت ما هذا؟ فقال: الذي رأيته في النّهر آكل الرّبا". رواه البخاري في صحيحه. وعن ابن عبّاس -رضي الله عنها- قال: نهى رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- أن تشترى الثّمرة حتّى تطعم، وقال: "إذا ظهر الزّنا والرّبا في قريةٍ فقد أحلّوا بأنفسهم عذاب الله". رواه الحاكم. وقال: صحيح الإسناد. وفي حديث الإسراء أنّ رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- مرّ ليلتئذٍ بأقوام لهم أجواف مثل البيوت فسأل عنهم فقيل هؤلاء أكلة الرّبا. رواه البيهقي. وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنّ رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- قال: "يأتي على النّاس زمان

يأكلون فيه الرّبا". قال: قيل له: النّاس كلّهم؟ قال: "مَن لم يأكله منهم ناله من غباره". رواه الإمام أحمد وأبو داود والنّسائي وابن ماجه. وعن ابن مسعود -رضي الله عنه- عن النَّبِيّ -صلّى الله عليه وسلّم- أنّه قال: "الرّبا ثلاثة وسبعون بابًا". رواه ابن ماجه والحاكم في مستدركه وزاد: "أيسرها أن ينكح الرّجل أمّه وأن أربى الرّبا عرض الرّجل المسلم". وقال على شرط الشّيخين ولم يخرجاه ورواه محمّد بن نصر موقوفًا عن ابن مسعود قال: "الرّبا بضع وسبعون بابًا والشّرك نحو ذلك". رواه أيضًا عن أبي هريرة موقوفًا قال: "الرّبا سبعون حوبًا أدناهن مثل ما يقع الرّجل على أمّه وأربى الرّبا استطالة المرء في عرض أخيه". وروي أيضًا عن أبي هريرة مرفوعًا قال: "ليأتين على النّاس زمانٌ لا يبالي المرء بما أخذ من المال بحلّ أو بحرام". ورواه البخاري. ولفظه: "لا يبالي المرء ما أخذ منه أمن الحلال أم من الحرام". وعن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم-: "لا تبيعوا الذّهب بالذّهب إلّا مثلًا بمثلٍ، ولا تشفّوا بعضها على بعضٍ، ولا تبيعوا الورق بالورق إلّا مثلاص بمثلٍ، ولا تشفّوا بعضها على بعضٍ، ولا تبيعوا منها شيئًا غائبًا بناجز". رواه مالك والبخاري والنّسائي. وللبخاري: "الذّهب بالذّهب، والفضّة بالفضّة، والبرّ بالبرّ، والشّعير بالشّعير، والتّمر بالتّمر، والملح بالملح سواء بسواء مَن زاد أو ازداد فقد أربى الآخذ والمعطي فيه سواء". وعن سالم بن عبد الله عن أبيه -رضي الله عنهما- أنّ أبا سعيد حدّثه مثل ذلك حديثًا عن رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- فلقيه عبد الله بن عمر فقال يا أبا سعيد ما هذا الذي تحدّث عن رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم-؟ فقال أبو سعيد في الصّرف؟ سمعت رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- يقول: "الذّهب بالذّهب مثلًا بمثل، والورق بالورق مثلًا بمثلٍ". رواه البخاري. وقال محمّد بن نصر المروزي: حدّثنا إسحاق بن

إبراهيم أنا روح بن عبادة حدّثنا حبان بن عبد الله العدوي، وكان ثقة قال: سألت أبا مجلز عن الصّرف فقال: كان ابن عبّاس لا يرى به بأسًا زمانًا ما كان يدًا بيد فلقيه أبو سعيد الخدري فقال له: إلى متى ألا تتقي الله حتّى متى تُوكل النّاس الرّبا؟ أما بلغك أنّ رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- قال وهو عند زوجته أم سلمة: "إنِّي لأشتهي تمر عجوة". فبعث بصاعين فأتى بصاع عجوة. فقال: "من أين لكم هذا؟ ". فأخبروه فقال: "ردّوه؛ التّمر بالتّمر، والحنطة بالحنطة، والشّعر بالشّعير، والذّهب بالذّهب، والفضّة بالفضّة، يدًا بيدٍ، عينًا بعينٍ، مثلًا بمثل، فما زاد فهو ربا". ثم قال: "وكذلك ما يكال أو يوزن أيضًا". فقال ابن عبّاس جزاك الله الخير يا أبا سعيد ذكّرتَنِي أمرًا كنت نسيبته فأستغفر الله وأتوب إليه. قال فكان ينهى عنه بعد. قال روح: وكان حبان رجل صدوق. وعن عبادة بن الصّامت -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- "ينهى عن بيع الذّهب بالذّهب، والفضّة بالفضّة، والبرّ بالبرّ، والشّعير بالشّعير، والتّمر بالتّمر، والملح بالملح إلّا سواء بسواء، عينًا بعينٍ". رواه مسلم. وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- عنه قال: قال رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم-: "الذّهب بالذّهب وزنًا بوزنٍ مثلًا بمثلٍ، والفضّة بالفضّة وزنًا بوزنٍ مثلًا بمثلٍ، فَمَن زاد أو استزاد فقد أربى". رواه مسلم والنّسائي. وعن أبي بكرة -رضي الله عنه- قال: "نهى رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- عن الفضّة بالفضّة، والذّهب بالذّهب، إلّا سواء بسواء، وأمرنا أن نبتاع الذّهب بالفضّة كيف شئنا والفضّة بالذّهب كيف شئنا". رواه البخاري والنّسائي. وله في رواية: "نهانا رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- أن نبيع الفضّة بالفضّة إلّا عينًا بعينٍ سواء بسواء". وعن مجاهد أنّه قال: كنت مع عبد الله بن عمر فجاءه صائغ فقال: يا أبا

عبد الرّحمن إنِّي أصوغ الذّهب ثم أبيع الشّيء من ذلك بأكثر من وزنه، فأستفضل من ذلك قدر عمل يدي فنهاه عبد الله عن ذلك فجعل الصّائغ يردّد عليه المسألة وعبد الله ينهاه حتّى انتهى إلى باب المسجد، أو إلى دابة يريد أن يركبها، ثم قال عبد الله بن عمر: الدّينار بالدّينار، والدّرهم بالدّرهم، لا فضل بيهما، هذا عهد نبيّنا إلينا وعهدنا إليكم. رواه مالك والنّسائي. وعن سعيد بن المسيّب عن بلال قال: كان عندي تمر دون فابتعت به من السّوق تمرًا أجود منه بنصف كيله، فقدمته إلى رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- فقال: "ما رأيت كاليوم تمرًا أجود منه. من أين لك هذا يا بلال؟ ". قال: فحدّثته بما صنعت فقال: "انطلق فردَّه إلى صاحبه وخذ تمرك فبعه بحنطةٍ أو شعيرٍ واشتر به من هذا التّمر". قال: ففعلت ثم أتيت به، ثم قال رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم-: "التّمر بالتّمر مثلًا بمثلٍ، والملح بالملح مثلًا بمثلٍ، والذّهب بالذّهب وزنًا بوزنٍ، والفضّة بالفضّة وزنًا بوزنٍ، فما كان من فضل فهو ربا". رواه الإمام محمّد بن نصر المروزي. فتضمنّت هذه النّصوص تحريم بيع الجنس من هذه الأجناس السّتة ونحوها بجنسه ما لم تعلم مساواته للآخر. وفرّق النَّبِيّ -صلّى الله عليه وسلّم- بين الحلال والحرام بقوله: "مثلًا بمثلٍ، يدًا بيدٍ، سواء بسواء، وزنًا بوزنٍ، عينًا بعينٍ". وأكّد ذلك بقوله: "فما كان من فضل فهو ربا". وبقوله: "فما زاد فهو ربا". وبقوله: "فمَن زاد أو استزاد فقد أربى الآخذ والمعطي فيه سواء". فليس فوق هذا البيان بيان، وبهذا يعلم أنّ الصّور في بيع الجنس الرّبوي بجنسه ثلاث. (صورة) منها: تحلّ وهي ما إذا علم التّماثل وحصل التّقابض في المجلس. و (صورتان) لا تحلّ وهما: ما إذا جهل التّماثل أو علم

التّفاضل. وعلى هذا دلّت الأحاديث الصّحيحة وبه صرّح العلماء -رحمهم الله تعالى-. قال ابن حزم -رحمه الله-: وافترض رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- أن لا يباع الذّهب أو الفضّة بشيءٍ من نوعه إلّا عينًا بعينٍ، وزنًا بوزنٍ، أن لا يباع شيء من الإنصاف الأربعة بشيء من نوعه إلّا كيلًا بكيلٍ وعينًا بعينٍ، فإذا بَانَ في أحد الأنواع المذكورة خلط شيء مضاف إليه فلا سبيل إلى بيعه بشيء من نوعه عينًا بعينٍ، ولا كيلًا بكيلٍ، ولا وزنًا بوزن؛ لأنّه لا يقدر على ذلك أصلًا. انتهى. وقال العماد بن كثير في تفسيره قال الفقهاء الجهل بالمماثلة كحقيقة المفاضلة. انتهى. وهذا الذي حكاه العماد عن الفقهاء -رحمهم الله تعالى- يكفينا عن تتّبع أقوالهم. وقال في الشّرح الكبير: وأمّا ربا الفضل فيحرم في كلّ مكيلٍ أو موزونٍ بيع بجنسه وإن كان يسيرًا، وإن لم يأت فيه المكيل أو الوزن إمّا لقلته كالحبّة والحفنة أو ما دون الأرزة من الذّهب والفضّة أو كثرته كالصّبرة العظيمة. قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أنّ ذلك لا يجوز إذا كان من جنسٍ واحدٍ، وفي الكافي وغيره: الرّبا في كلّ ما كان جنسه مكيلًا أو موزونًا. وإن تعذر الكيل فيه والوزن إمّا لقلته كالثّمرة والقبضة وما دون الأرزة من الذّهب والفضّة، وإمّا لعظمه كالزّبرة العظيمة وإمّا للعادة كلحم الطّير؛ لأنّه من جنس فيه الرّبا. وفي المنتهى: يحرم ربا فضل في كلّ مكيلٍ أو موزونٍ بجنسه، وإن قلّ كتمرة بتمرة. قال المحشي: قوله وإن قلّ، لعدم العلم بالتّساوي. انتهى. وفي الكافي: وما جرى الرّبا فيه اعتبرت فيه المماثلة في المكيل كيلًا وفي الموزون وزنًا، لقول النَّبِيّ -صلّى الله عليه وسلّم-: "الذّهب بالذّهب وزنًا بوزنٍ، والفضّة بالفضّة وزنًا بوزنٍ،

والبرّ بالبرّ كيلًا بكيلٍ، والشّعير بالشّعير كيلًا بكيلٍ". رواه الأثرم. قال: ولا يجوز بيع خالصه بمشوبه كحنطة فيها شعير أو زوان بخالصة أو غير خالصة، ولبن مشوبٍ بخالصٍ أو مشوب أو عسل بشمعه بمثله إلّا أن يكون الخلط يسيرًا لا وقع له كيسير التّراب والزّوان الذي لا يظهر في المكيل ولا يمكن التّحرّز منه. انتهى. قلت: فتأمّل كيف أفاد أنّ ما يخل من الخلط بالتّماثل يمنع من بيع الجنس بجنسه، وهو صريح كلام الجميع ولا يخفى أنّ النّحاس المخالط للفضّة في الجدد يخل بالتّماثل، وما يخل بالتّماثل لا يجوز، ومن نظائرها ما نصّ عليه في شرح المغني والكافي وغيرهم من أنّه لا يجوز بيع الزّبد بالسّمن، قالوا: لأنّ في الزّبد لبنًا يسيرًا يحيل التّماثل. قلت: فإذا كان الخلط اليسير من اللّبن في الزّبد يحيل التّماثل، فالنّحاس مع الفضّة من باب أولى؛ لكونها أصلًا وذاك فرع. فإن قال قائل: إنّ الفضّة فيها تبع قلت: هذا باطل من وجوه: الأوّل: أنّه لا قيمة للنّحاس الذي فيها إذ لو وصفت الفضّة عنه لعاد خبثًا. الثّاني: إنّ الفضّة أصل في باب الرّبا وفي التّمنية وهو فرع فيهما فلا يجعل ما هو أصل تبعًا لفرعه. وأيضًا فالفضّة جوهر ثمين فلا تكون تابعة لما ليس كذلك. قال ابن حزم: وحبّة ذهبٍ أو فضّةٍ لها بال عند المساكين نعم وعند التّجار وعند أكثر النّاس ولا يحلّ أن يزيدهما في الموازنة. انتهى. وبما أسلفته من الأحاديث يبطل هذا الاعتراض. فإن قيل: قد جوّز الفقهاء درهمًا فيه نحاس بنحاس واختلاف. قلت: هذا عليكم لا لكم؛ لأنّ الفضّة ليست من جنس النّحاس واختلاف الجنس لا يمنع التّفاضل بالاتّفاق. وأمّا ما كان من النّحاس في

الدّرهم فقد أخرجته الصّنعة عن أصله وما أخرجته الصّنعة مما أصله الوزن فلا يجري فيه الرّبا غير الذّهب والفضّة نصّ عليه في المنتهى. فإن قيل: قد أجازوا بيع درهم بمساويه في غشّ؟ قلت: هذا أيضًا من الحجّة عليكم؛ لأنّه لا سبيل إلى العلم بتساوي الدّرهمين المتساويين وزنًا في الغشّ إلّا من جهة العلم بتساويهما في الفضّة وبالعلم بالتّساوي يزول المانع بخلاف مسألتكم فإنّ التّساوي فيها غير معلوم. فإن قيل: قد رأيناهم جوّزوا بيع التّمر فيه النّوى بمثله؟ قلت: هو كذلك، ولكنّه قد اشتمل على شيئين بأصل الخلقة، وما اشتمل على شيئين كذلك جاز. نصّ عليه في الكافي وغيره، ففارقت هذه المسألة، وقد نصّ الفقهاء -رحمهم الله- على أنّه لو نزع النّوى من التّمر لم يجز بيع التّمر المنْزوع منه النّوى بتمرٍ فيه نوى سواء ترك معه أو لا. ومسألتكم أولى بالمنع ولا بدّ. وهذا شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- قد صرّح في الفتاوى المصرية أنّها إذا كانت الفضّة المغشوشة أكثر من المفردة فإنّه لا يجوز بيع أحدهما بالأخرى، وهي مسألتكم بعينها. وعلى المنع منها اتّفق العلماء رحمهم الله. وأمّا مسألة مدّ عجوة ودرهم التي منع الجمهور منها فللبطلان فيها مأخذان: أحدهما: سدّ ذريعة الرّبا في كلام الإمام إيماء إلى ذلك. الثّاني: وهو مأخذ القاضي وأصحابه أنّ الصّفقة إذا اشتملت على شيئين مختلفي القيمة يقسط الثّمن على قيمتها. وهذا يؤدّي هنا إمّا إلى يقين التّفاضل، وإمّا إلى الجهل بالتّساوي، وكلاهما مبطل للعقد؛ فإنّه إذا باع درهمًا ومدا يساوي درهمين بمدّين يتساويان ثلاثة، فالدّرهم في مقابلة ثلثي مدّ ويبقي مدّ في مقابلة مدّ وثلث وذلك ربا. فلو فرض التّساوي كمدّ يساوي درهمًا ودرهم بمدّ يساوي درهمًا ودرهمٍ لم يصحّ أيضًا؛ لأنّ التّقويم ظنّ وتخمين فلا تتحقّق معه المساواة.

والجهل بالتّساوي كالعلم بالتّفاضل. انتهى. عثمان عن م ص. وأجازها أبو حنيفة، وأحمد في رواية عنه وعليه فلا تشبه هذه المسألة بحالٍ، فإنّ المجوّزين لها اشترطوا شروطًا لم يوجد واحد منها في هذه المسألة، فمنها: أنّهم يشترطون أن يكون المفرد أكثر من الذي معه غيره وبعضهم اشترط أن يكون الزّائد يسيرًا بقدر قيمة ما مع الجنس. وهذا الثّاني نصّ عليه الشّيخ تقيّ الدّين -رحمه الله- في الفتاوى المصرية. فقال: إذا كانت الفضّة المفردة أكثر من الفضّة المغشوشة بشيءٍ يسيرٍ بقدر النّحاس فهذا يجوز في أظهر قولي العلماء. انتهى. فأفهم كلامه أنّه إذا لم توجد القيود الثّلاثة امتنع الجواز، وذلك في أربع صور: إحداها: أن لا تكون المفردة أكثر وذلك بأن علم أنّها أقل أو جهل وأن تكون أكثر بشيء غير يسير أو بيسير أكثر من قيمة النّحاس ومسألتكم لا تخرج عن هذه الأربع فلا تجوز. ومن المتأخّرين كصاحب المستوعب مَن يشترط في مسألة مدّ عجوة إذا كان مع كلّ واحدٍ من غير جنسه من الجانبين التّساوي جعلًا لكلّ جنس في مقابلة جنسه. قال في الإنصاف وهو أولى من جعل الجنس في مقابلة غيره لاسيما مع اختلافهما في القيمة. انتهى. واشترطوا أيضًا أن لا يكون حيلة على الرّبا. وبعضهم اشترط أن لا يكون الجنس الذي مع غيره مقصودًا كالسّيف المحلى، وهو رواية عن الإمام أحمد اختارها شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-. وعلى كلٍّ فالمجوّزون لمسألة مدّ عجوة محجوجون عند الجمهور بما تقدّم من الأحاديث، وبما في السّنن وغيرها من حديث فضالة بن عبيد. قال أبو داود (باب في حلية السّيف) تباع بالدّرهم والقلادة فيها الذّهب والفضّة حدّثنا محمّد بن عيسى وأبو بكر

5 - من عبد الرحمن بن حسن إلى الإخوان من أهل العلم والفهم

ابن أبي شيبة وأحمد بن منيع قالوا: حدّثنا ابن المبارك وحدّثنا ابن العلاء أنا ابن المبارك عن سعيد بن يزيد حدّثنِي خالد بن أبي عمران عن فضالة بن عبيد، قال: أُتِيَ النَّبِيّ -صلّى الله عليه وسلّم- عام خيبر بقلادة فيها ذهب وخرز، قال أبو بكر وابن منيع: فيها خرز معلقة بذهب ابتاعها رجل بتسعة دنانير أو بسبعة دنانير، قال النَّبِيّ -صلّى الله عليه وسلّم-: "لا حتّى تميّزوا بينهما". قال ابن حزم: فهذا رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- لم يكتف بنيّته في أنّه إنّما كان غرضه الخرز ويكون الذّهب تبعًا ولا راعى كثرة من قلّة وواجب التّمييز في الموازنة ولا بدّ. انتهى. قال الشّيخ: فهذا ما انتهى إليه علمنا القاصر في هذه المسألة. وقد أتينا في هذه الرّسالة بما لعلّك لا تجده مجموعًا في غيرها. وما توفيقي إلّا بالله عليه توكّلت وإليه أنيب. وصلّى الله على عبده ورسوله محمّدٍ وآله وصحبه وسلّم. - 6 - بسم الله الرّحمن الرّحيم من عبد الرّحمن بن حسن إلى الإخوان من أهل العلم والفهم سلّمهم الله تعالى. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد؛ تفهمون حبّ الدّنيا وضرّتها على الدّين ويقع من الذين لهم مع الكدادة معاملة بدين السّلم وأنا قد أشرفت على شيءٍ من أناسٍ مظنة للخير. ولكن إذا وجد له شبهة طار بها فرحًا لما فيها من بعض الرّاحة من التّعب، ولو يلتزم المشروع هان عليه العمل به ووجد له راحة أعظم. وفي الأحاديث المتّفق عليها كحديث ابن عمر -رضي الله عنهما- عن النَّبِيّ -صلّى الله عليه وسلّم- أنّه قال: "مَن ابتاع طعامًا فلا يبعه حتّى يستوفيه". وفي لفظٍ: "حتّى يقبضه". وعن ابن عبّاس مثله. وهذه الأحاديث صريحة في النّهي عن بيعة قبل القبض والاستيفاء

فلا يصدق على القبض والاستيفاء إلّا حصوله كلّه مقبوضًا. وأمّا إذا أخذ دراهم البدوي مثلًا وتمالأ هو وإيّاه على السّعر روح 1 وكيله أو هذا بنفسه وأمر الكداد أن يصرم لهما ويزن للبدوي بدراهمه وصار يكيل للبدوي كلّ زبيل يعلقه مرتين فهذه حيلة رديئة؛ لأنّه قد باع الكلّ قبل قبضه الذي دلّت عليه الأحاديث فيكون قد باع ما لم يبقض ولم يدخل في ضمانه. وإنّما هو مال صاحب النّخل باعه له غريمه، فإذا قبضه والحالة هذه صار الكلّ مالًا للمدين فيقع الغريم في خطرٍ عظيمٍ. وتصرّفه في هذه الدّراهم تصرف في مال الغير، فإن أنفق على نفسه وأهله منه صار ينفق عليهم من مال غيره، فإن بقيت هذه الدّراهم وعامل بها مرّة ثانية صار يعامل في مال غيره للغير ربحه ورأس ماله وربّما أنّه يأخذ معه ثلاثين سنة أو أكثر وهو يعامله بماله وتصير تجارة لغيره وليس له إلّا الدّين الأوّل في ذمّة الغريم، ويكون جزءًا بالنّسبة إلى ما أخذ من المال ثمن المال أو غيره، ولا دخل في ضمانه وإنّما ضمانه على صاحب الثّمر لو أتلفه أو تلف. فهذا مما يترتّب على مخالفة المشروع مع تحمل الآثام المخالفة. فإن قال قائل: هذا أخذ الدّراهم في ذمّته. قلنا: هذا سلم. ولا يجوز بالاتّفاق والواقع يمنع صحّة هذه الدّعوى؛ لأنّه ما قام بنفسه إلّا أنّه يكيل له من نخل هذا المدين بخصوصه، فهذه من الحيل التي لا حقيقة لها، ولا للإنسان مخرج إلّا في العمل بما شرعه الله ورسوله وترك الحيل رأسًا فهو الذي إن باع باعَ حلالًا، وإن أكل أكلَ حلالًا، وإن عامل فبالحلال. هذا وأنتم سالمين 2 والسّلام.

_ 1 كذا في الأصل. 2 كذا، ومقتضى الإعراب أن يقال: سالمون، ولعلّ أصله: ودمتم سالمين.

6 - من عبد الرحمن بن حسن إلى الأخ راشد بن مطر

- 7 - بسم الله الرّحمن الرّحيم الحمد لله ربّ العالمين، وصلّى الله على سيّد المرسلين محمّد وآله وصحبه أجمعين. وسلّم تسليمًا. من عبد الرّحمن بن حسن إلى الأخ راشد بن مطر -سلّمه الله وهداه، وأعانه على طاعته وتقواه-، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد؛ الخط وصل وسرنا ما أفهم من معرفتكم للإسلام وقبوله، زادكم الله من ذلك، وبصّركم آياته وبيّناته، وكرّه إليكم كلّ مفتون وضلالاته، وتذكر أنّه في جهتكم أناس من الجهمية والرّافضة والمعتزلة فلا ريب أنّ هذه الفرق الثّلاث هي أصل ضلال مَن ضلّ من الأمّة. فأصل الرّافضة خرجوا في خلافة أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب -رضي الله عنه- فلمّا اطّلع على سوء معتقدهم خدّ الأخاديد وجعل فيها الحطب وأضرمها بالنّار فقذفهم فيها وهم الذين أحدثوا الشّرك في صدر هذه الأمّة بنوا على القبور وعمّت بهم البلوى ولهم عقائد سوء يطول ذكرها. وأمّا المعتزلة فأوّلهم نفاة القدر جحدوا أصلًا من أصول الإيمان الّتي في سؤال جبرائيل للنّبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- قال فأخبرني عن الإيمان قال: "أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشرّه". وأنكر أصحابه -رضي الله عنهم- عليهم ما أحدثوا من هذه البدعة، ولهم عقائد سوء يقولون بتخليد أهل المعاصي في النّار. ونفوا صفات الرّب تعالى. ووافقوا الجهميّة فخرج أولهم في عصر التّابعين. وأوّلُهم الجعد بن درهم أنكر الصّفات، وزعم أن الله لم يتّخذ إبراهيم خليلًا، ولم يكلّم موسى تكليمًا؛ فضحى به خالد بن عبد الله

القسري أمير واسط يوم الأضحى. وظهر بعده جهم بن صفوان الّذي تنسب إليه الجهمية. وهذا المذهب الخبيث وانتشرت مقالته في خلافة المأمون بن الرّشيد فعطلوا الصّفات ونفوا الحكمة وقالوا بالجبر. فهذه الطّوائف الثّلاث أصل الشّرّ في هذه الأمّة، وصارت فتنة الجهمية أكثر انتشارًا ودخل فيها مَن يدّعي أنّه على السّنة وليس كذلك، فخالف الكتاب والسّنة وسلف الأمّة وأئمتها، وعمّ ضررهم فجحدوا الصّفات وتوحيد الألوهية الذي بعث الله به رسله، وأنزل به كتبه، فهم خصوم أهل التّوحيد والسّنة إلى اليوم، فإيّاكم أن تغترّوا بَمَن هذه حاله -ولو كان له صورة ودعوى في العلم- مِمَّن امتلأ قلبه من فرث التّعطيل، وحال بينه وبين فهم الأدلّة الصّحيحة الصّريحة شبهات التّأويل. قال الإمام أحمد -رحمه الله-: أكثر ما يخطئ النّاس من جهة التّأويل والقياس. فصنّف المتأخّرون من هؤلاء على مذهبهم الفاسد مصنّفات كالأرجوزة التي يسمّونُها جوهر التّوحيد، وهي إلحاد وتعطيل لا يجوز النّظر إليها، ولهم مصنّفات أخرى نفوا فيها علوّ الرّبّ تعالى، والكتاب والسّنة يردّ بدعتهم ويبطل مقالتهم. فإنّ الله تعالى أثبت استواءه على عشره في سبعة مواضع من كتابه. كقوله: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا}، [الفرقان، من الآية: 59]. وقوله تعالى: {تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ}، [المعارج، من الآية: 4]. وقوله: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ}، [النّحل، من الآية: 50]. {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ}، [آل عمران، من الآية: 55]. {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ}، [التّوبة، من الآية: 6]. إلى غير ذلك من أدلّة الصّفات الصّريحة في الكتاب والسّنة ولا تتّسع هذه الرّسالة لذكرها. وهذه الطّائفة التي تنتسب إلى أبي الحسن الأشعري وصفوا ربّ العاملين بصفات المعدوم والجماد، فلقد أعظموا الفرية على الله وخالفوا أهل الحقّ من

السّلف والأئمة وأتباعهم، وخالفوا مَن ينتسبون إليه؛ فإنّ أبا الحسن الأشعري صرح في كتابه: (الإبانة)، و (المقالات) بإثبات الصّفات، فهذه الطّائفة المنحرفة عن الحقّ قد تجردت شياطينهم لصدّ النّاس عن سبيل الله فجحدوا توحيد الله في الألهية وأجازوا الشّرك الذي لا يغفره الله، فجوّزوا أن يعبد غيره من دونه، وجحدوا توحيد صفاته بالتّعطيل، فالأئمة من أهل السّنة وأتباعهم لهم المصنّفات المعروفة في الرّدّ على هذه الطّائفة الكافرة المعاندة 1. كشفوا فيها كلّ شبهة لهم، وبيّنوا فيها الحقّ الذي دلّ عليه كتاب الله وسنة رسوله، وما عليه سلف الأمّة وأئمتها من كلّ إمامٍ رواية ودراية. ومن له نهمة في طلب الأدلّة على الحقّ ففي كتاب الله وسنة رسوله ما يكفي ويشفي. وهما سلاح كلّ موحِّدٍ ومثبتٍ. لكن كتب أهل السّنة تزيد الرّاغب وتعينه على الفهم، وعندكم من مصنّفات شيخنا -رحمه الله- ما يكفي مع التّأمّل فيجب عليكم هجر أهل البدع والإنكار عليهم. وأمّا رفع الأيدي بالدّعاء بعد المكتوبة، فليس من السّنة. وأمّا الأفغانية الذين جاؤوا ووصلوا إلى جهتكم فهم أهل تشديد وغلوّ مع جهل كثيف أشبهوا الخوارج الذين كفروا أصحاب رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم-، وقد أخبر النَّبِيّ -صلّى الله عليه وسلّم- بمروقهم وأمر أصحابه بقتلهم ولهم عبادة وزهد لكنهم أخطأوا في فهم الكتاب والسّنة، واستغنوا بجهلهم عن أن يأخذوا

_ 1 يعني الشّيخ بعض مَن ينتسب إلى الأشعري بالباطل ككثيرٍ من أهل زمانه. وأمّا أتباع الأشعري المعروفون فلم يكفّرهم أحد من أهل السّنة، وإن بالغ بعضهم في التّأويل. بل قال شيخ الإسلام ابن تيمية: إنّ من مزايا أهل السّنة عدم تكفير المخالف المتأوِّل.

7 - من عبد الرحمن بن حسن إلى الإخوان علي بن حمد الجريوي وإخوانه

العلم من أصحاب رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم-، كما قال العلّامة ابن القيم رحمه الله: ولهم نصوص قصروا في فهمها ... فأتوا من التّقصير في العرفان وقد ناظر ابن عبّاس -رضي الله عنهما- أهل النّهروان فرجع بعضهم إلى الحقّ، واستمرّ بعضهم على الباطل حتّى قتلهم عليّ -رضي الله عنه- بالنّهروان. ففيهم المخدج الذي أخبر به النَّبِيّ -صلّى الله عليه وسلّم-، فإذا كانت هذه الطّائفة قد خرجت في عهد الخلفاء الرّاشدين فلا بدّ أن يكون لهم أشباه في هذه الأمّة فاحذروهم. وتأمّل قوله تعالى في حقّ سادات الأمّة أصحاب رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم-: {وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الأِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}، [الحجرات، الآيتان: 7 - 8]. فليس العجب مِمَّن هلك كيف هلك، إنّما العجب مِمَّن نجا كيف نجا. والله أعلم. وصلّى الله على محمّدٍ سيّد المرسلين، وإمام المتّقين، وعلى آله وصحبه أجمعين. وسلّم تسليمًا كثيرًا. - 8 - بسم الله الرّحمن الرّحيم من عبد الرّحمن بن حسن إلى الإخوان عليّ بن حمد الجريوي وإخوانه، رزقنا الله وإيّاهم قبول الإسلام، وهدانا وإيّاهم سبل السّلام. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد؛ وصل الخط وصلكم الله إلى ما يرضيه، وتذكرون أمر الهتيمي الذي معه الحيّات، ويبيع سقوة على النّاس البدو والحضر يسقيهم من ريقه ويأخذ عليهم العهد ويدّعي أنّ مَن سقاه من ريقه أنّ الحيّة ما تلدغه ولا

أنكر عليه في سدير إلّا عبد العزيز بن عبد الجبّار -جزاه الله خيرًا-. وتذكرون أنّ عثمان بن منصور تابعه وقبل منه سقوته هذا تحقّقناه منكم ومن سبيع الذين جاءونا من جهتكم ويذكرون أنّهم توقفوا عنه في مبدأ أمره، وأهل القرى كذلك حتّى واجه ابن منصور. وقبل منه وخط معه خطًا وبعد هذا تزاحم عليه البدوي والحضر، منهم الذي سقوته بدارهم، والذي بتمر، والذي بعيش، والذي بغنمٍ، والذي بسمنٍ، والذي حصل منهم باعه في تمير، وبعد هذا طب المجمعة 1 وطردوه، وخطّ عبد العزيز بن عبد الجبّار أشرفنا عليه وذكر كلام العلماء وإنكارهم على مَن فعل هذا، وأخذ الحيَّات، وأنّ هذه أحوال شيطانية تحصل بواسطة الشّياطين 2 إذا تقربت إليهم بالشّرك بالله، وهذا ما يوجد إلّا في أجهل النّاس وأبعدهم عن الله وعن دينه وعبد العزيز -جزاه الله خيرًا- أدّى الذي عليه. وأمّا ابن منصور، فالله أعلم أنّه معاقب فلا ندري هذا كلّه جهل أو له مقصد شرّ، وإلّا فالذي على فطرة أو لَه عقل ينكر هذا بفطرته وعقله. وذكر شيخ الإسلام -رحمه الله تعالى- في كتاب الفرقان من الأحوال الشّيطانية أمورًا من هذه تركنا ذكرها لئلا يطول الجواب. فهذا من

_ 1 طبّ البلد، بمعنى: جاءه ونزله. لغة نجدية أو بدوية. 2 الذي عرفناه من الثّقات بما ثبت عندهم من التّجارب العديدة مع هؤلاء المشعوذّين الذين ينتسبون إلى الشّيخ أحمد الرّفاعي، ويعطون العهد باسمه على أخذ الحيات والثّعابين ويزعمون أنّها لا تلدغ مَن أخذ العهد، وشرب الماء الذي يرقيه الشّيخ، أو لا يضرّه سمّها إذا لدغته، أنّ عملهم حيلة إنسية لا جنّيّة، وهو أنّ أحدهم يأخذ بعض الحيّات غير السّامة ويقلع أسنانها، ويجعله في جرابه يخوف النّاس منها، ومن سقاه العهد أعطاه واحدة منها أو أكثر فيلاعبها وربما عضته بفيها وليس لها أسنان تلدغ بها. وللّدغ ناب خاص في أفواه الثّعابين السّامة يفرز السّمّ.

جنس أحوال الكهان مع الشّياطين، والكهانة أنواع، هذا منها. وفي الحديث: "مَن أتى كاهنًا فصدّقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمّدٍ -صلّى الله عليه وسلّم-". وأمور الكهانة وما شابهها من الاستمتاع بالشّياطين والاستكثار منهم محاها الله سبحانه بما أطلع في نجد من الدّعوة إلى توحيد الله، وامتدت إلى كثير من الجزائر، كما محا الله أحوال الكهان ببعثة رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم-، فسدّ -صلّى الله عليه وسلّم- أبواب الشّرك وأحوال الجاهلية وحمَى الإسلام. فَمِن ذل ما ثبت في حديث ابن مسعود -رضي الله عنه- مرفوعًا: "إنّ الرّقى والتّمائم والتّولة شرك"، فلم يبح من الرّقى إلّا ما خصّه الدّليل من الآيات القرآنية، والأذكار النّبويّة، والدّعوات المعروفة بالألفاظ العربية. وأمّا ما كان بأسماء الشّياطين أو بما لا يعرف معناه فينهى عنه، لهذا الحديث. وحكمه التّحريم. فإذا كان هذا حال الرّقى التي فيها من الألفاظ ما لا يعرف معناه، فكيف بما هو ظاهر أنّه من أعمال الشّياطين مع مَنْ تولّاهم؟ مثل هذا الهتيمي وأمثاله مِمَّن شاهدناهم بمصر لا شكّ أنّه من أعمال الشّيطان. ولهؤلاء اعتقادات شركية في معبودهم الذي يعبدونه من دون الله، وأكثر هذه الطّرائق محشوة بالشّرك والبدع. وقوله في الحديث: "والتّولة شرك"، ذكر العلماء أنّها تشبه السّحر، وما يشبه السّحر فهو شرك. وكذلك التّمائم شرك للتّعلّق بها والاعتماد عليها من دون الله. وفي بعضها أسماء الشّياطين وما لا يعرف معناه، فكلّ هذه الأمور لا تجامع الإسلام الصّحيح، بل تنافيه إذا اشتملت على ما هو شرك بالله من التّوكّل على غيره ونحوه ذلك. وقد وقع في نفوس كثيرٍ من الجهّال الذين أخذوا عن هذا الهتيمي كثير من تصديقه وقبول ما جاءهم به من هذه الضّلالة. وهذه فتنة وقانا الله

8 - ما أحدثه بعض الناس عند بيع الطعام من جعلهم ميزانين، زعموا أن أحدهما للقبض والثاني للبيع، هل يكون ذلك قبضا شرعيا مبيحا للبيع أم لا؟

شرّها. وبسط القول في ذلك، وذكر ما قاله العلماء له موضع آخر إن شاء الله تعالى. وبلّغ سلامنا الإخوان وخواص الإخوان. والشّيخ عليّ، والشّيخ عبد اللّطيف ينهون السّلام وأنتم سالمين والسّلام. - 9 - بسم الله الرّحمن الرّحيم فائدة: قال الشّيخ عبد الرّحمن بن حسن -رحمه الله تعالى-. سألتم عما أحدّثه بعض النّاس عند بيع الطّعام من جعلهم ميزانين، زعموا أنّ أحدهما للقبض والثّاني للبيع، هل يكون ذلك قبضًا شرعيًا مبيحًا للبيع أم لا؟ الجواب: ليس هذا قبضًا شرعيًا، ولا يكون فاعله خارجًا عما نهي عنه من بيع الطّعام قبل قبضه؛ فإنّ الأحاديث مصرّحة بالنّهي عنه لحديث ابن عمر: "مَن اشترى طعامًا فلا يبعه حتّى يستوفيه". وعند مسلم عن ابن عمر: كنا نبتاع الطّعام فيبعث إلينا رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- مَنْ يأمرنا بنقله من المكان الذي ابتعناه إلى مكانٍ سواه قبل أن نبيعه. وحديث ابن عمر: "مَن اشترى طعامًا بكيلٍ أو وزنٍ فلا يبعه حتّى يقبضه". رواه أبو داود والنّسائي ولفظه: "نهى أن يبيع أحد طعامًا اشتراه بكيلٍ حتّى يستوفيه". وحديث جابر: نهى عن بيع الطّعام حتّى يجري فيه الصّاعان: صاع البائع وصاع المشتري. هذه الأحاديث ظاهرة في النّهي عن بيع الطّعام قبل قبضه بألفاظ مختلفة. والمراد منها واحد، ففيها: "حتّى يستوفيه"، "وحتّى يقبضه"، وفيها: "وكان يأمرنا بنقله من المكان الذي ابتعناه في إلى مكانٍ سواه قبل أن نبيعه"، فليس بعد ذلك بيان. وقول القائل: هذا خاصّ بما بيع جزافًا. فمردود بقول الشّارع -صلّى الله عليه وسلّم-: "حتّى يستوفيه". و"حتّى يقبضه"، وبقوله: "مَن اشترى طعامًا بكيلٍ أو وزنٍ فلا يبعه

9 - مسائل سأله عنها الفقير إلى الله عبد الرحمن بن عدوان

حتّى يقبضه". ولفظ: القبض والاستيفاء يكذب معنى التّخصيص بالجزاف، وقد ذكر الفقهاء أنّ قبض المكيل بالكيل، وقبض الموزون بالوزن، فيقال لصاحب الموازين من أين جئت بهذا، وفي أيّ كتاب وجدته، فإنّا لم نجد ذلك لأحدٍ من العلماء المتقدّمين، ولا المتأخّرين، وإنّما فسرتم ألفاظ النّصوص بما تهوونه وتحبّونه، ولم تذكروا ذلك عن أحدٍ من العلماء، فهل يكون ذلك حجّة شرعية؟ وأبلغ من ذلك أنّ مذهب محمّد بن إسماعيل البخاري وطائفة أنّ استيفاء المبيع المنقول وتبقيته في منْزل البائع لا يكون قبضًا شرعيًا، حتّى ينقله المشتري إلى مكانٍ لا اختصاص للبائع به، قال: وهو منقول عن الشّافعي. ودليله: ما رواه أحمد عن ابن عمر: نهى رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- أن تبتاع السّلع حتّى يحوزها التّجار إلى رحالهم. وفي صحيح مسلم: كنا نبتاع الطّعام ويبعث علينا رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- مَن يأمرنا بنقله من المكان الذي ابتعناه فيه إلى مكانٍ سواه قبل أن نبيعه. وقد تقدم. فيا عباد الله أين عقولكم؟ ويا طلبة العلم أين أفهامكم؟ قال الله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}، [النّور، من الآية: 63]. وصلّى الله على محمّدٍ وآله وصحبه وسلّم. - 10 - بسم الله الرّحمن الرّحيم قال شيخنا العلّامة عبد الرّحمن بن حسن -رحمه الله تعالى وكثّر فوائده- جوابًا عن مسائل سأله عنها الفقير إلى الله عبد الرّحمن بن عدوان. قال بعد السّلام: هذا جواب المسائل: أمّا الأولى: وهي ما إذا قبض دين السّلم قبضًا تامًّا يتمكّن من التّصرّف فيه فإنّه يجوز له أن يبيعه على مَن وافاه به مطلقًا وليست هذه صور عكس العينة.

الثّانية: رجل اشترى تمرًا بنسيئةٍ من آخر ثمّ ردّه عليه عمّا في ذمّته. الجواب: إن كان قبضه قبضًا صحيحًا جاز أن يوفيه به المشتري، إذا كان له قدرة على أن يوفيه دينه من غيره بخلاف ما إذا كان لا يقدر على الوفاء لعسرته واضطرّه إلى أن يستدين له من نفسه ليوفيه. فهذا لا يجوز لوجهين: أحدهما: أنّ المعسر يجب إنظاره وهذا إضرار به يريد به عسرته. الثّاني: أنّه من قلب الدّين الذي نصّ عليه العلماء -رحمهم الله- كشيخ الإسلام ابن تيمية. الثّالثة: خرص النّخل وإعطاؤه للشّريك ليأخذ مثله وقت الجذاذ، فالظّاهر أنّ هذا لا يجوز؛ لأنّه من صور بيع الجنس بجنسه، وشرط جوازه التّماثل والتَّقابض، والذي يجوز في ذلك أن يقتسماه على رؤوس النّخل خرصًا فيأخذ كلّ واحدٍ منهما مثل ما أخذه شريكه فيختصّ كلّ واحدٍ بما أخذ بالقسمة فلا يكون في ذمّة أحدهما للآخر شيء. الرّابعة: مليء عليه دين لآخر فأسلم إليه دراهم فقضاه دينه منها. الجواب: هذه الصّورة من صور قلب الدّين، وقد نصّوا على أنّه يضارع الرّبا، وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- أنّ السّلف منعوا منه. وأفتى هو بالمنع، وكذا شيخنا الإمام -رحمه الله تعالى-. وذلك لأنّه تنمية للدّين في ذمّة المدين بمجرّد القلب وهو بمعنى ربا الجاهلية، إمّا أن تقضي وإمّا أن تربي. الخامسة: إذا تقايلا دين السّلم فهل يجوز التّفرّق قبل قبض رأس المال أم لا؟ الجواب: قال في المنتهى: ويجوز إقالة في سلم وبعضه بدون قبض رأس ماله، أو عوضه إن تعذر في مجلسها؛ لأنّه إذا حصل الفسخ ثبت الثّمن في ذمّة البائع فلم يشترط قبض بدله في المجلس كالقرض. وفيه وجه يشترط. انتهى.

10 - سئل الشيخ عبد الرحمن بن حسن عن بعض مسائل الحج فأجاب -رحمه الله تعالى- على سبيل الاختصار

السّادسة: ما تراه الحائض من النّشاف في أيّام الحيض؟ الجواب: النّقاء طهر وإن لم يرَ معه بياض فعليها أن تغتسل وتصلّي، وفيه قول أنّ البياض الذي يأتي المرأة عقب انقطاع الحيض هو الطّهر الصّحيح. وإليه يميل شيخنا -رحمه الله- فيما يرى. والله أعلم. - 13 - بسم الله الرّحمن الرّحيم سُئِلَ الشّيخ عبد الرّحمن بن حسن عن بعض مسائل الحجّ فأجاب -رحمه الله تعالى- على سبيل الاختصار: في العمرة والحجّ ينوي العمرة ويحجّ لها 1 عن عمرة الإسلام وحجّة الإسلام فيحرم من الميقات بنيّة العمرة والحجّ عنها قائلًا عند دخوله في الإحرام: لبّيك عمر ويلبّي حتّى يطوف بالبيت طواف العمرة سبعة أشواط يرمل في الثّلاثة الأول، ثم يصلّي ركعتين خلف المقام، ثم يخرج إلى الصّفا من بابه ويرقى على الصّفا، ثم يسعى بين الصّفا والمروة سبعة أشواط، ثم يحلّ من عمرته بالحلق أو التّقصير. ثم إذا أراد الخروج إلى عرفة في اليوم الثّامن طاف بالبيت وصّلى ركعتين، وأحرم بالحجّ. وقال: لبّيك حجًّا عن فلان باسمه 2، ويخرج إلى عرفات ويدفع منها إلى بعد غروب الشّمس، ويبيت بمزدلفة ثم يفعل ما يفعل الحاجّ، فإذا أتى منى يوم العيد رمى جمرة العقبة خاصّة، ثم يذبح الهدي؛ هدي التّمتّع، وأدناه جذع الضّأن

_ 1 الضّمير في (لها) يعود إلى امرأة أنابت رجلًا ليحجّ عنها كما يعلم من آخر الجواب، وكان ينبغي لجامع هذه المسائل أن يذكر أنّ السّؤال وقع من ذلك. 2 لعلّ الأصل: "عن فلانة باسمها"، لأنّ المستنيبة امرأة فحرّفه النّاسخ.

11 - من عبد الرحمن بن حسن إلى الابن صالح بن محمد الشثري

له ستة أشهر، ثم يفيض إلى مكّة ويطوف طواف الزّيارة وهو ركن، ويسعى بين الصّفا والمروة، وهو ركن أيضًا. ثم يرجع إلى منى ويرمي الجمرات الثّلاث كلّ يومٍ إذا زالت الشّمس كلّ جمرة سبع حصيات صغار أكبر من الحمص ثم إذا أراد أن يخرج طاف طواف الوداع فإذا فعل ذلك تَمَّ حجّه وعمرته عمَّن استنيب عنها. - 14 - بسم الله الرّحمن الرّحيم من عبد الرّحمن بن حسن إلى الابن صالح بن محمّد الشّثري -سلّمه الله تعالى-. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد؛ وصل الخط وصلك الله إلى ما يرضيه وسرّنا طيبك وعافيتك. والحمد الله على ذلك. وما ذكرت من عبارة الفقهاء في الحجّ. فأمّا قولهم: أركان الحجّ الوقوف؛ وطواف الزّيارة بلا نزاع فيهما، فإنّ ترك طواف الزّيارة رجع معتمرًا؛ لأنّه على بقية إحرامه، فهذا في حقّ مَن تركه. قال في الإنصاف: وأمّا المحصر عن طواف الإفاضة بعد رمي الجمرة فليس له أن يتحلّل ومتى زال الحصر أتى بطوافه، وتَمَّ حجّه وذبح هديًا في موضع حصره. وهذا المذهب. واختار ابن القيم -رحمه الله- في الهدي أنّه لا يلزم المحصر هدي. وأمّا مَن أحصر لمرضٍ أو ذهاب نفقةٍ لم يكن له التّحلّل حتّى يقدر على المبيت، فإن فاته الحجّ تحلّل بعمرة، ويحتمل أنّه يجوز له التّحلّل كَمَن حصره عدوّ. وهو رواية عن أحد. قال الزّركشي: ولعلّها أظهر. واختارها الشّيخ تقيّ الدّين. قال: ومثله حائض تعذر مقامها وحرم طوافها أو رجعت ولم تطف لجهلها بوجوب طواف الزّيارة أو لعجزها عنه، ولو لذهاب الرّفقة. وقال في الفروع:

12 - من عبد الرحمن بن حسن إلى الأخ المحب الشيخ المكرم عبد الله بن عبد الرحمن

وكذا مَن ضلّ الطّريق ذكره في المستوعب. هذا حاصل ما ذكره في الإنصاف في حكم مَن فاته طواف الزّيارة لهذه الأسباب. وأمّا إذا أحصر عن فعل واجب؛ فإنّه يتحلّل على الصّحيح من المذهب. وعليه دم له وحجّه صحيح. وقال القاضي: يتوجّه فيمَن حصر بعد تحلّله الثّاني يتحلّل. قلت: ولعلّ مراده أنّه لم يبق عليه من المناسك شيء إلّا أن يكون طواف الوداع أو رمي الجمار والمبيت بمنى. وهذه الأفعال يأتي بها الحاج بعد التّحلّل. وأمّا إذا بقي عليه شيء من المناسك التي محلّها قبل التّحلّل الثّاني؛ فإنّه يبقى محرمًا ليأتي بها، كما يأتي بها مَن لم يحصر عن واجبٍ؛ كالمبيت بمزدلفة، ورمي جمرة العقبة، فلا يجوز أن يأتي بذلك إلّا وهو محرم. فتدبّر. وسلّم لنا على الشّيخ عبد الملك وحمد وعيسى والحمولة، وخواص إخواننا ومن لدينا عبد اللّطيف وإخوانه وحمولتنا، وخواص الإخوان بخير. وينهون السّلام. - 15 - بسم الله الرّحمن الرّحيم من عبد الرّحمن بن حسن إلى الأخ المحبّ الشّيخ المكرم عبد الله بن عبد الرّحمن -ألبسه الله حلل الإيمان-. سلام عليك ورحمة الله وبركاته. وبعد؛ وصل الخط أوصلك الله إلى ما يرضيه وسرّنا حيث أشعر بطيبك وصحّة حالك. والمحبّ بحمد الله تعالى بخير وعافية. وما ذكرت من المسألة التي وقعت عندكم أنّ صورتها: أنّ امرأة دفعت حليها إلى بنتها تجمل به لزوجها وهم في بيتٍ واحدٍ فكانت تستعمله في حياة أمّها فلمّا ماتت ادّعت البنت استحقاقها لذلك.

13 - قال شيخنا عبد الرحمن بن حسن في جواب له

فالجواب: أنّ الذي يظهر لنا أنّ البنت لما لم تدع الهبة لا تملكه بمجرّد الإذن في الاستعمال. والظّاهر أنّ ذلك إعارة لا تمليك. ومفهوم كلام الأصحاب -رحمهم الله- الذي أشرتم إليه يدلّ على هذا؛ لأنّ الأم لم تجهّزها به إلى بيت زوجها، فلم يوجد ما هو تمليك. وأمّا الصّورة التي سُئِل عنها الشّيخ سليمان بن عليّ -رحمه الله- فالفرق بينها وبين مسألتنا ظاهر، وذلك أنّ الأم ادّعت أنّ ذلك الحلي الذي اشترته وألبسته البنت أنّه ليس للبنت، والظّاهر أنّ ما كان عليها فهو لها بحكم اليد، وليس لهذا أصل يعارض هذا الظّاهر. وأمّا مسألتنا: فالأصل فيها قويّ ولم يوجد ما ينقل عن ذلك الأصل القويّ فيبقى حكم الأصل. هذا ما ظهر لي في حكم المسألة. والله أعلم. وصلّى الله على محمّد وآله وصحبه وسلّم. - 16 - بسم الله الرّحمن الرّحيم وقال شيخنا عبد الرّحمن بن حسن في جوابٍ له*: وما ذكرت من أمر مواريث كانت في الأصل فصارت اليوم في يد غير أهلها يتصرّفون فيها تصرّف الملّاك. فالجواب: أنّ الذي استقرّ عليه فتوى شيخنا شيخ الإسلام إمام هذه الدّعوة الإسلامية أنّ العقار ونحوه إذا كان في يد إنسانٍ يتصرّف فيه تصرّف المالك من نحو ثلاث سنين فأكثر ليس له فيه منازع في تلك المدّة أنّ القول قوله أنّه ملكه؛ إلّا أن تقوم بيّنة عادلة تشهد بسبب وضع اليد أنّه مستعير أو مستأجر أو نحو ذلك. وأمّا الأصل فلا يلتفت إليه مع هذا الظّاهر. فقدم شيخنا -رحمه الله تعالى- الظّاهر هنا على الأصل

_ * هنا جواب على ثلاث مسائل، تكرر بعد ذلك في (1/ 402). [معد الكتاب للمكتبة الشاملة]

14 - سئل شيخنا العالم العلامة عبد الرحمن بن حسن رحمه الله عما يخص به يوم المولد من النحر ويسمونه نافلة، وما يفعل في السابع والعشرين من رجب من تخصيص بالصوم والنحر، وما يفعل في ليلة النصف من شعبان من النحر وصيام اليوم، وما يخص به يوم عاشوراء من النحر

لقوّته وعدم المعارض. والله أعلم. وأمّا ما ذكرت من عقد المساقاة هل هو جائز أم لازم؟ فالصّحيح اللّزوم. وهو الذي عليه الفتوى من شيخنا شيخ الإسلام، ومَن أخذ عنه لا يختلف فيه اثنان منهم. واستمرّ الأمر على ذلك إلى الآن، وهو الصّواب. واختيار شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى-، وقول بعض متقدّمي الأصحاب؛ لأنّه عقد معاوضة، فكان لازمًا كالإجارة. فيفتقر إلى ضرب مدّةٍ. وأمّا ما كره الفقهاء من أنّ مؤنة ردّ مبيع تقايلاه على البائع فهو المشهور. والسّلام. وأمّا قوله في النّخل: أن تحمرّ، أو تصفرّ فهو الذي تراه بعينك بعد الخضرة إلى الحمرة أو الصّفرة. وأمّا أخذ بعض دين السّلم خرصًا فالجمهور على المنع، وذكر ابن عبد البرّ -رحمه الله- عن بعض العلماء أنّه يجوز إذا أخذ دون حقّه وبه أفتى شيخنا الشّيخ عبد الله بن الشّيخ. رحمهم الله أجمعين. - 17 - بسم الله الرّحمن الرّحيم سُئِلَ شيخنا العالم العلّامة عبد الرّحمن بن حسن -رحمه الله- عمّا يخصّ به يوم المولد من النّحر ويسمّونه نافلة، وما يفعل في السّابع والعشرين من رجب من تخصيص بالصّوم والنّحر، وما يفعل في ليلة النّصف من شعبان من النّحر وصيام اليوم، وما يخصّ به يوم عاشوراء من النّحر أيضًا، هل هو محرم؟ وهل الأكل من ذلك محرّم أو مكروه أو مباح؟ وهل يجب على الأمراء والعلماء إنكار ذلك ويأثمون بالسّكوت أم لا؟ فأجاب -ألهمه الله الصّواب-: هذه الأمور المذكورة من البدع

15 - من عبد الرحمن بن حسن إلى الأخ الشيخ جمعان بن ناصر

كما ثبت عن النَّبِيّ -صلّى الله عليه وسلّم- أنّه قال: "مَن أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو ردّ". وقوله في الحديث الآخر: "وإيّاكم ومحدثات الأمور فإنّ كلّ محدثةٍ بدعةٌ وكلّ بدعةٍ ضلالة". والعبادات مبناها على الأمر والنّهي والاتّباع. وهذه الأمور لم يأمر بها رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- ولا فعلها الخلفاء الرّاشدون ولا الصّحابة والتّابعون، وقد قال -صلّى الله عليه وسلّم- في بعض ألفاظ الحديث الصّحيح: "مَن عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو ردّ". وهذه الأمور ليس عليها أمره -صلّى الله عليه وسلّم- فتكون مردودة يجب إنكارها لدخولها فيما أنكر الله ورسوله. قال تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ}، [الشّورى، من الآية: 21]. وهذه الأمور مما أحدثها الجهّال بغير هدى من الله. والله سبحانه وتعالى أعلم. وأمّا حديث التّوسعة على العيال يوم عاشوراء فضعّفه شيخ الإسلام ابن تيمية، لكن تحصل التّوسعة بدون اتّخاذه عيدًا. والله أعلم. وصلّى الله على محمّد وآله وصحبه وسلّم. - 18 - بسم الله الرّحمن الرّحيم من عبد الرّحمن بن حسن إلى الأخ الشّيخ جمعان بن ناصر -سلّمه الله تعالى-، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد؛ وصل الخط أوصلك الله إلى ما يرضيه وسرّنا ما ذكرت من السّكون واستقامة الحال، والأحوال من فضل الله على ما تحبّ. وجاءك منا خط مع فالح من رجال الأمير عائض. وما ذكرت من عبارة الإقناع: إن الطّلاق يقع في النّكاح الفاسد -وهو المختلف فيه- كالنّكاح

بولاية فاسقٍ، أو شهادة فاسقين، ونكاح الأخت في عدّة أختها ثم قال: ولا يقع في النّكاح الباطل إجماعًا. الجواب -وبالله التّوفيق-: أنّ الفاسد هنا هو ما اختلف في صحّته؛ لأنّ كلًّا من المختلفين إمام مجتهد، وله استدلال على ما ذهب إليه. فإذا قال الإمام أحمد -رحمه الله- إنّ النّكاح لا يصحّ لحديث كذا، وقال فيه أصحابه ومَن تبعه لقوّة دليله عندهم. ورأينا غيره يقول بالصّحّة، ويقدح في إسناد حديثه مثلًا، فإنّا لا نحكم والحالة هذه بأنّ النّكاح لم ينعقد فنقول هو فاسد، ولا يخرج من ذلك إلّا بالطّلاق خروجًا من خلاف العلماء. وأمّا الباطل فهو ما أجمع على بطلانه لظهور دليله وعدم المعارض، فيكون غير منعقد من أصله فلا يحتاج إلى طلاقٍ ما لم ينعقد بيقين. وأمّا طلاق الثّلاث فإنّه يقع عند الجمهور مفرقًا أو مجموعًا، وهو الذي عليه العمل سلفًا وخلفًا من خلافة عمر ومن بعده، وهو كذلك عند الأئمة الأربعة، وهو الأصحّ في مذاهبهم عند أصحابهم، وإن كان الخلاف فيه إنّما اشتهر عن شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه العلامّة ابن القيم -رحمهما الله تعالى- أخذا بما كان الأمر عليه في عهد رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- وخلافة أبي بكر وصدرًا من خلافة عمر، والجمهور أخذوا بالآخر من اجتهاد عمر، ولهم أجوبة عمّا استدلّ به شيخ الإسلام معروفة. وعمدتهم فيما ذهبوا إليه من إيقاع الثّلاث مطلقًا ظاهر القرآن؛ فإنّ الله تعالى لم يجعل له إلّا ثلاث تطليقات، قال تعالى: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ}، [البقرة، من الآية: 229]، وثم قال: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ}، [البقرة، من الآية: 230]. وبذلك أفتى ابن عبّاس -رضي الله عنهما- وغيره، وهو حبر الأمّة، فالاستدلال بفتي ابن عبّاس والصّحابة أحقّ،

16 - من عبد الرحمن بن حسن إلى الأخ حمد بن عبد الله بن عمران

والاستدلال بقول شيخنا أولى من الاستدلال بقول الشّوكاني؛ لأنّه رجل من أهل صنعاء يخطئ كثيرًا، وإن كان يصيب في بعض، فليس هو حجّة على أحدٍ ولا يحتج بقوله، ولو لم يكن إلّا أنّه مجهول الحال في العلم والدّين لكفى، وإن كان ينظر في الكتب فالذي بضاعته ما يأخذه عن الشّوكاني مزجى البضاعة، وافي الغباوة والوضاعة. وبلّغ عبد الرّحمن وصالح وإبراهيم وإخوانهم السّلام، ومن لدينا الحاضر من آل الشّيخ وإخوانهم ينهون السّلام. وصلّى الله على محمّد وآله وصحبه وسلّم. - 19 - بسم الله الرّحمن الرّحيم من عبد الرّحمن بن حسن إلى الأخ حمد بن عبد الله بن عمران، سلّمه الله تعالى وتولّاه، واستعمله فيما يحبّه ويرضاه، وأعانه على القيام بشكره فيما أعطاه من نعمه وأولاه التي أعظمها نعمة الإسلام والإيمان، جعلنا الله وإيّاه مِمَّن عرف النّعمة فقبلها وأحبّها وعمل بها إنّه ولي ذلك، والقادر عليه، يهدي مَنْ يشاء برحمته وفضله، ويضلّ مَن يشاء بحكمته وعدله، لا إله غيره، ولا ربّ سواه. والخط وصل وصلك الله إلى ما يرضيه وثبّتنا وإيّاك على الإخلاص الذي هو سبب الخلاص، وعلى الإسلام الذي هو مركب السّلامة، وعلى الأمان الذي هو تمام الإيمان، ولا حول ولا قوّة إلّا بالله العليّ العظيم. وتسأل عن أناس يسافرون من نجد لأخذ ما أوصى به الموصون بأن يحجّ به عنهم بالنّيابة فلا يخفاك أنّ الذين يأتون إليكم ما يطلعوننا على ما قصدوه وأرادوه لكثرة السّفار إلى الأقطار، وقد نشرت لطلبة العلم ولِمَن سألنِي من عوام المسلمين أنّه لا تصحّ النّيابة

17 - سئل شيخنا عبد الرحمن بن حسن -رحمه الله تعالى- عن تنصيف المهر

في الحجّ إذا أخذ ما أوصى به الموصي إلّا إذا أخذه ليحجّ، فيكون القصد أن يتوصل بما يأخذه إلى بيت الله رغبة في رؤية البيت والطّواف به وكثرة ثواب العلم به كما قال الخليل عليه السّلام: {فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ}، [إبراهيم، من الآية: 37]. وبعض النّاس مولع بزيارة هذا البيت فيطلب ما يتوصّل به إليه فتصحّ نيابته في الحجّ والعمرة على هذا الوجه. وأمّا إذا حجّ ليأخذ الأجرة فلا يصحّ حجّه، وإن سمّاه بعض الفقهاء جعلًا فهو استئجار بلا ريب، وقد نصّ الفقهاء -رحمهم الله تعالى- على أنّه لا يجوز أخذ الأجرة على عملٍ يكون قربة يتقرّب به إلى الله؛ كالأذان والصّلاة، وأظنّ أنّ أكثر مَن يسار لأخذ الوصايا بالحجّ إنّما قصدوا هذا الثّاني. والله أعلم بما تنطوي عليه الضّمائر من الإرادات والنّيّات والمقاصد، فهذا الذي ذكرت لك هو الذي نأخذ به ونفتي به المستفتين ونبيّنه للجاهلين بحسب القدرة والطّاقة. هذا، وبلّغ سلامنا الإخوان وفاطمة بنت قضيب، وأمثالك من الإخوان الكرام العارفين. قدر ما أنعم الله به من نعمة الإسلام التي ضلّ عنها مَن ضلّ. وزلّ عنها وعن معرفة حقيقتها مَن زلّ. ومن لدينا الإمام وأولاده وابنا عبد اللّطيف، وإخوانه، وأولاده وأولاد الشّيخ محمّد بن عبد الوهّاب وخواص إخواننا من المسلمين بخيرٍ وعافيةٍ. وأنت سالم. والسّلام. - 20 - بسم الله الرّحمن الرّحيم سُئِلَ شيخنا عبد الرّحمن بن حسن -رحمه الله تعالى- عن تنصيف المهر، وذلك أنّ الرّجل إذا خطب المرأة من الحمولة وأجابوه وقرّبوه

18 - قال الشيخ عبد الرحمن بن حسن في نصيحة للمسلمين في مسألة الرهن

وعقدوا له على ريالين أو نحوهما يسمّونه مهرًا، ومن المعلوم أنّ المقصود غيره ربّما يقع الطّلاق قبل الدّخول فما الذي يتنصف هل هو الْمُسَمَّى عند العقد أو المعتاد؟ أجاب -رحمه الله تعالى- بقوله: اعلم أنّ هذه المسألة تكثر الفكرة فيها، ولم نقف على نصٍّ صريحٍ فيها، ولكن الذي يستقرّ في القلب ويغلب في الاعتقاد وهو أقرب إلى أصول الشّرع أنّ التنصيف يكون فيما يسمى جهازًا، وهو الذي يبذل قبل الدّخول في العادة في مثل نساء هذه المرأة، ثم وجدنا في الاخيتارات ما يقرّر ذلك ويوافقه، ولفظه، والشّرط المتقدّم كالمقارن والاطّراد العرفي كاللّفظي. قال أبو العبّاس -رحمه الله تعالى-: وقد سُئِلت عن مسألة من هذا. وقيل: ما مهر مثل هذا؟ فقلت: ما جرت العادة بأن يؤخذ من الزّوج. فقالوا: إنّما يؤخذ المعجل قبل الدّخول. فقلت: هذا مهر مثلها. انتهى. وهو واضح لا غبار عليه. ويبلغ على ظنّي أنِّي قد أفتيت به سابقًا. والله أعلم صلّى الله عليه وسلّم. - 21 - بسم الله الرّحمن الرّحيم قال الشّيخ عبد الرّحمن بن حسن في نصيحة للمسلمين في مسألة الرّهن: وأمّا مسألة الرّهن فقد تكرر السّؤال عنها. فنقول: الذي عليه جمهور العلماء والصّحيح من مذهب الإمام أحمد -رحمه الله تعالى- أنّ الرّهن لا يلزم إلّا بالقبض فلو تصرف فيه الرّاهن قبل قبضه صحّ تصرّفه، واستدّلوا بقوله تعالى: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ}، [البقرة: من الآية: 283]. واستدامته شرط في اللّزوم للآية، فإن أخرجه المرتهن عن يده زال اللّزوم فإن ردّه الرّاهن عليه عاد اللّزوم بحكم القصد السّابق؛ لأنّه أقبضه باختياره فلزم به كالأوّل.

19 - مسألة: مراعاة شرط الواقف فيما ذكر هل هو صحيح أم لا؟

فإن أزيلت بعدوان كغصبٍ ونحوه فالرّهن بحاله؛ لأنّ يده ثابتة حكمًا. هذا ما ذكره العلماء -رحمهم الله تعالى- ومن كتبهم نقلنا. وأمّا قلب الدّين على المدين فمن صوره أنّه إاذ كان له على شخص دراهم ثمن زاد أسلم إليه دراهم في زاد ليستوفي منه بتلك الدّارهم وكلّ منهما يعلم أنّ رأس المال راجع إلى صاحبه فتكون حقيقته تربية الدّين في ذمّة المدين، وهذه الصّورة وأمثالها ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- أنّها تضار ربا الجاهلية، وأفتى شيخنا شيخ الإسلام محمّد بن عبد الوهّاب -رحمه الله تعالى- بالمنع من هذه الصّورة وأمثالها. والله أعلم. - 22 - بسم الله الرّحمن الرّحيم قال شيخنا ووالدنا الشّيخ عبد الرّحمن بن حسن رحمه الله تعالى: مسألة: مراعاة شرط الواقف فيما ذكر هل هو صحيح أم لا؟ فالجواب منصوص علمائنا -رحمهم الله تعالى- في كتبهم أنّه يلزم الشّرط المستحب خاصّة، وأنّ الشّرط المكروه باطل اتّفاقًا. قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: وقول الفقهاء: (شروط الواقف كنصوص الشّارع)، يعنِي في الفهم والدّلالة لا في وجوب العمل مع أنّ التّحقيق أنّ لفظ الواقف والموصي والنّاذر والحالف وكلّ عاقد يحمل على عادته في خطابه ولغته التي يتكلّم بها ووافقت لغة العرب أو لغة الشّارع أو لا، وقال: لا خلاف أنّ مَن وقف على صلاة أو صيام وقراءة أو جهاد غير شرعي لم يصحّ. والشّروط إنّما يلزم الوفاء بها إذا لم يفض ذلك إلى الإخلال بالمقصود الشّرعي. انتهى ما أفاده شيخنا رحمه الله تعالى.

20 - من عبد الرحمن بن حسن إلى الأخ في الله الشيخ رجب

- 23 - بسم الله الرّحمن الرّحيم من عبد الرّحمن بن حسن إلى الأخ في الله الشّيخ رجب سلّمه الله. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد؛ وصل الخط أوصلك الله إلى رضاه، وجعلنا وإيّاك مِمَّن الجنة مسكنه ومأواه، آمين. وبعد، فما ذكرت من المسائل: المسألة الأولى: إذا كان أحد أولاد الرّجل ضعيفًا وأعطاه لضعفه فهل يجوز أن يخصّه بذلك أم لا؟ الجواب: أنّ الولد الضّعيف يلزم أباه الغني أن ينفق عليه فيكون من باب الواجب الذي سببُ وجوبِه حاجّة الابن، فإن كان من الأولاد مَن هو مثله وجب له مثل ما يجب لأخيه الماضي. المسألة الثّانية: قال -صلّى الله عليه وسلّم-: "لا تستحلفوا النّاس على صدقاته"، وتابعه عمر -رضي الله عنه-، فمعنى الحديث -والله أعلم- إذا كان العامل يظنّ له مالًا فلا يحلفه على مجرّد ظنّه، وأمّا إذا عرف له مال وجحد أو ادّعاه لغيره مثلًا مِمَّن هو غائب فالتّهمة قائمة فيجتهد العامل إلّا أن يكون موثوقًا به يعرف منه الصّدق والدّيانة فلا يحلف، فالمسألة لها صور ثلاث، ولها مسألة رابعة وهي: ما إذا عرف أنّ هذا الذي في يده من المال ليس لغيره فتؤخذ منه الزّكاة على كلّ حالٍ. المسألة الثّالثة: إذا كان لرجل أرض فوهبها لابنه الصّغير فإن أقبضها وأشهد أو جعلها في يد رجلٍ آخر وجعله وكيلًا في قبضها منه لابنه لزمه ذلك لوفاء شرطه، وإن لم يقبض فلا لزوم، وعلى كلّ حالٍ للوالد

21 - مسألة عمت بها البلوى: وهي ما إذا اشترى مسلم دابة من بعض أسواق المسلمين وهو لا يعلم أنها مغصوبة، فادعى عليه آخر أنها دابته قد أخذت منه بغير حق

أن يرجع في هبته للولد، وأمّا إذا مات وصحّ القبض فلا رجوع على ما ذهب إليه الأكثرون من العلماء. المسألة الرّابعة: فيمَن ماله مائة وخمسون، وقد أوصى لرجلٍ بثلث ماله ولآخر بعشرة، فإذا لم يجز الورثة ما زاد على الثّلث فيجعل الثّلث وهو خمسون ستة أسهم، لصاحب الثّلث خمسة أسهم كلّ سهم ثمانية وثلث، ولصاحب العشرة واحد من ثمانية وثلث، وأمّا الحديث فلم أقف عليه ومعناه صحيح. والله أعلم. - 24 - بسم الله الرّحمن الرّحيم الحمد لله وحده، والصّلاة والسّلام على مَن لا نَبِيَّ بعد، تأمّل -رحمك الله وهداك وتولّاك- ما ذكره بعض العلماء في مسألة عمت بها البلوى، وهي: ما إذا اشترى مسلم دابّة من بعض أسواق المسلمين، وهو لا يعلم أنّها مغصوبة فادّعى عليه آخر أنّها دابّته، قد أخذت منه بغير حقٍّ، وقد اعتمد بعض المفتين في قطرنا أنّه إذا أقام شاهدين أو شاهدًا ويمينًا أنّها دابّته أخذت منه نهبًا أن يفتى بنَزعها من يد المشتري مجانًا فيذهب على المشتري ثمنها والحالة هذه، وفي كلام العلماء من أئمة مذهبنا ومن بعدهم من متأخري الحنابلة أنّه لا يأخذها إلّا بالثّمن الذي اشتريت به، وهو أعدل إن شاء الله تعالى. وله أصل في كلام أئمة المذهب. قال في الشرح الكبير: إذا علم مال ارمرئ مسلم قبل قسمة الغنيمة وجب ردّه وصاحبه أحقّ به فأمّا إن أدركه بعد القسم؛ ففيه روايتان: إحداهما: أنّ صاحبه أحقّ به بالثّمن، وهذا قول أبي حنيفة والثّوري والأوزاعي ومالك، لئلا يفضي إلى حرمان آخذه من

الغنيمة أو تضييع الثّمن على المشتري من الغنيمة. والرّواية الثّانية: أنّه لا حقّ له فيه بحالٍ. نصّ عيله. ثم قال: إن أخذه أحد الرّعية بهبةٍ أو سرقةٍ أو بغير شيء فصاحبه أحقّ به. وقال أبو حنيفة: لا يأخذه إلّا بالقيمة وهو محجوج بحديث ناقة النَّبِيّ -صلّى الله عليه وسلّم-. ولأنّه لم يحصل في يده بِعَوَضٍ. انتهى. قلت: فتأمّل قول إمام مذهبنا: ولأنّه لم يحصل في يده بعِوَضٍ، وتأمّله قوله فيما تقدم: لئلا يفضي إلى حرمان مَن أخذه من الغنيمة، أو تضييع الثّمن على المشتري من الغنيمة. فتأمّل هذا التّعليل يظهر لك منه الدّليل؛ إذ لا فرق بين أن يشتريه من الغنيمة أو من بعض أسواق المسلمين. وهذا واضح بحمد الله. وما نقلته من الشّرح الكبير نقله الخطابي في شرح السّنن عن هؤلاء الأئمة وبالله التّوفيق. وقال في الاختيارات: وما باعه الإمام من الغنيمة أو قسمه وقلنا لم يملكوه ثم عرفه ربّه فالأشبه أنّ المالك لا يملك انْتزاعه من المشتري مجانًا؛ لأنّ قبض الإمام بحقّ ظاهرًا وباطنًا، ويشبه هذا ما يبيعه الوكيل والوصي ثم يتبيّن مودعًا أو مغصوبًا، وهي قاعدة في كلّ مَن قبض مال الغير وهو لا يعلم به إما من مباحٍ أو من مغصوبٍ، أو من راهنٍ. انتهى. وقال في القواعد: كالمأذون له. انتهى. وقال الشّيخ أحمد بن يحيى بن عطوة شيخ صاحب الإقناع: إذا اشتريت دابّة ونحوها من ظالمٍ وهو غاصبها ثم عرفها ربّها ثم نزعها بحجّةٍ شرعيةٍ رجع المشتري عليه بالثّمن. صرّح بذلك أبو العبّاس فيمَن خلص مال غيره من التّلف. إذا لم يقدر على تخليصه إلّا بما أدّى عنه رجع به واضح قولي العلماء؛ لأنّ ما خلص الدّابة إلّا دراهم المغرور، لقول -صلّى الله عليه وسلّم-: "لا ضرر ولا ضرار". ولا يزال ضرر صاحب الدّابة يضرّ المبتاع فيردّ عليه الذي

خلصها به وهو الثّمن الذي أسلمه للظّالم على الصّحيح. قال الشيّخ إسماعيل بن رميح في تحفته: (فائدة جليلة) فيمَن خلص مال غيره من التّلف إذا لم يمكن تخليصه إلّا بما أدّى عنه رجع بما أدّى عنه في أظهر قولي العلماء. وذكره أبو العبّاس، وكذا معاوضة الرّاعي ببعض المسترعى عليه خوفًا من ذهاب الجميع جاز ذلك ووجب دفع أعلى الضّررين بأدناهما. وما بقي كان بينهم، ولو كان الملّاك لم يفعلوا إلّا هذا وإلّا عدّوا سفهاء. وأمّا أبو العبّاس فقال: من صودر على مال فأكره أقاربه أو أصدقاؤه فأدّوا عنه فلهم الرّجوع؛ لأنّهم ظلموا الأجلة. انتهى. فعلى هذا، إذا اشتريت دابّة من غاصبها ثم عرفها مالكها عند المشتري المغرور، رجع بالذي خلصها به من الغاصب على مالكها، وقد ذكر في الإقناع كلام أبي العبّاس المذكور. وقال الشّهاب بن عطوة في روضته: قال شيخنا: فيمن وقف وقفًا وأشهد عليه وباعه على رجلٍ لم يعلم بالحال أنّ الوقف باطل والحالة هذه غير لازم بل يحكم الحاكم ببطلان الوقف مراعاة وحفظًا لمال المغرور، ولو فتح هذا الباب لتسلّط كلّ مكار وظالم على أموال المسلمين، واتّسع فتق لا يرقع، وفتح قلبه لذلك كلّ شيطانٍ لا يشبع، ويأبى الله ورسوله أن يجمع لهذا المخادع مال المبيوع ودراهم المخدوع، وقد أكذب نفسه وشهوده وبيّنته، فإذا شهدوا بالوقف وأنّه قد وقفه ثم أنّه قد باعه فكما قال الواقف فهي تكذبه، وهو يكذبها، فإذا شهدت البيّنة بالوقف فقد أكذبها بالبيع فبطلت وهو كذلك، ولا حيلة ولا ظلم ولا خديعة ولا غشّ بأكبر ولا أعظم من رجلٍ وقف أو وهب ماله لأقرب قرابته سرًا خفيًا ثم يبيعه على مسلمٍ غرّ ثم ينصب لذلك شهودًا وقضاة ينصرونه على ذلك لا كثّر الله منهم. انتهى.

22 - من عبد الرحمن بن حسن إلى الأخ المحب الشيخ عيد بن حمد

ومن جواب للشّيخ عبد الله بن ذهلان وأصل السّؤال في شأن وقفٍ باعه مستحقّه وقبض ثمنه ثم أراد إفساد البيع الصّادر منه، وأكل الثّمن، وحاصل ما تكلّم به أنّه إذا باع إنسان عقارًا لا يعلم مشتريه كونه وقفًا ثم ادّعى بائعه وقفيته أنّ دعواه لا تسمع ولا بيّنته. انتهى. قلت: وفي هذا القول الذي تقرّر سلامة المفتي من خطأ الشّهود وعدم عدّ التّهم باطنًا وظاهرًا؛ لأنّ العدل في هذه الأزمنة يعزّ وجوده؛ لأنّ أكثر الشّهود لا يشهد إلّا على الوهم كما في الحديث: "يشهدون ولا يستشهدون، ويخونون لا يؤتمنون". فاتّق الله أيّها الحاكم ولا تقدّم إلّا بيقين، وإيّاك أن تختار ما لعلّه خلاف المختار، أو تعمد إلى ما لعلّه خلاف المختار، وتعتمد على ما لعلّه خلاف الصّحيح. والله يهدي مَن يشاء إلى صراطٍ مستقيمٍ. وصلّى الله على سيّد المرسلين وإمام المتّقين محمّد وآله وصحبه وسلّم. - 25 - بسم الله الرّحمن الرّحيم من عبد الرّحمن بن حسن إلى الأخ المحبّ الشّيخ عيد بن حمد سلّمه الله. سلام عليكم ورحمة الله وبركته. وبعد؛ وصل الخط أوصلك الله إلى ما يرضيه، وسرّنا حيث أشعر بطيبك وصحّة ذاتك، ولأخ يحمد إليك الله على ما أنعم، جعلنا الله وإيّاكم من الشّاكرين، وإخوانكم في الحال التي تسرّكم، وما ذكرت من حالكم سرّنا جعلها الله حالًا مرضية، ومن نزغات الشّيطان محمية، وما ذكرت من عبارة الإنصاف نقلًا عن الفروع فهذه المسألة خالف فيها شيخ الإسلام الأئمة وأكثر العلماء، فجوّز إجارة الشّجر مفردًا بآصع معلومة مثلًا لِمَن يقوم عليها

بالسّقي وتكون الثّمرة له أي: للعامل، وليس لصاحب الشّجر إلّا ما وقع عليه العقد من الأجرة سواء كانت الأجرة من جنس ما يحمل به ذلك الشّجر أو غيره، كما تجوز إجارة الزّرع بجامع أنّ كلًّا منهما إنّما قصد مغله، بخلاف بيع السّنتين، وهو بيع ما أثمر هذا البستان من الثّمر مثلًا سنة أو سنتين فأكثر من غير أن يقوم عليه، وإنّما اشترى ثمار سنتين معدومة، فهذا لا يجوز بالإجماع؛ لأنّ الثّمرة لا يجوز بيعها قبل بدوّ صلاحها، ولو كانت موجودة فكيف إذا كانت معدومة؟ وهذا هو الذي دلّت السّنة على المنع منه. وأمّا إجارة الشّجر لِمَن يعمل عليه لأجل الثّمرة فليس بيعًا للثّمرة قبل وجودها وإنّما وقع العقد على الشّجر كالأرض تستأجر للزّرع لكن لما ورد على طريقة الشّيخ أنّ هذا شجر قد لا يحمل وقد تنقص ثمرته عن العادة فيكون الضّرر على المستأجر. أجاب عن ذلك بأنّ الثّمرة لو لم توجد أن وجدت ثم تلفت قبل أوان جذاذها فلا أجرة، ويرجع بها المؤجّر إن كان قد قبضها منه لعدم حصول المقصود بعقد الإجارة، وإن نقصت ثمرة الشّجر عن العادة فله الفسخ ويرجع بالأجرة وقدر عمله، أو أرش النقص، كما إذا كانت العادة أنّها تثمر بألف مثلًا فلم يحصل منها هذا العام إلّا نصفه مثلًا رجع بنصف الأجرة أو ثلاثة أرباعه فكذلك. وهذا كالجائحة أي كما توضع الجوائح عن مستأجر الأرض أو الحوانيت ونحوها إذا أصاب الزّرع جائحة من الآفات؛ فإنّه يوضع من الأجرة عن المستأجر بقدر ما نقص المغلّ بالجائحة نصفًا كان أو أقل أو أكثر. هذا، وبلِّغ الإخوان من الطّلبة والأولاد والأمراء وإبراهيم الشّثري وصالح وحمد، ومَن يعزّ عليك السّلام. ومن لدينا الإمام والشّيخ

23 - من عبد الرحمن بن حسن إلى الأخ فائز بن علي وإخوانه من طلبة العلم

عليّ وآل الشّيخ، والشّيخ إبراهيم بن سيف وخواص الإخوان والطّلبة بخيرٍ وينهون إليكم السّلام. - 26 - بسم الله الرّحمن الرّحيم من عبد الرّحمن بن حسن إلى الأخ فائز بن عليّ وإخوانه من طلبة العلم سلّمهم الله تعالى. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد؛ وصل خطك أوصلك الله إلى ما يرضيه. والذي أوصيكم به جميعًا ونفسي تقوى الله تعالى، والإخلاص لوجهه الكريم في طلب العلم وغيره لتفوزوا بالأجر العظيم، وليحذر كلّ عاقلٍ أن يطلب العلم للمماراة والمباهاة؛ فإنّ في ذلك خطرًا عظيمًا، ومثل ذلك طلب العلم لغرض الدّنيا والجاه والتّرؤّس بين أهلها وطلب المحمدة، وذلك هو الخسران المبين. ولو لم يكن في الزّجر عن ذلك إلّا قوله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}، [هود: 15 - 16]. وفي حديث أنس مرفوعًا: "مَن تعلّم العلم ليباهي به العلماء، أو ليماري به السّفهاء، أو ليصرف به وجوه النّاس إليه فهو في النّار". وهذا القدر كافٍ في النّصيحة. وفّقنا الله. وإيّاكم لحسن القول. وقد بلغني أنّكم اختلفتم في مسائل أدّى إلى النِّزاع والجدال وليس هذا شأن طلاب الآخرة، فاتّقوا الله، وتأدّبدوا بآداب العلم واطلبوا ثواب الله في تعلّمه وتعليمه، وأتبعوا العلم بالعمل؛ فإنّه ثمرته والسّبب في حصوله كما في الأثر: "مَن عمل بما علم أورثه الله علم ما لم يعلم". وكونوا متعاونين على البر

والتّقوى، ومن علامات إخلاص طالب العلم أن يكون صموتًا عما لا يعنيه، متذلّلًا لربّه، متواضعًا لعباده، متورعًا متأدّبًا لا يبالي ظهر الحقّ على لسانه أو على لسان غيره، لا ينتصر ولا يفتخر، ولا يحقد ولا يحسد، ولا يميل به الهوى، ولا يركن إلى زينة الدّنيا. وأمّا المسألة الأولى وهي: هل يصحّ من الحائض إذا قدمت مكّة أن تسعى قبل الطّواف أم لا؟ الجواب: لا يصحّ السّعي إلّا بعد طوافٍ صحيحٍ لنسكٍ من الأنساك، أمّا المفرد والقارن فسعيهما بعد طواف القدوم مجزئ لحجتهما كما يجزئ القارن لعمرته. وأمّا المتمتّع فيسعى بعد طواف العمرة لها. ولا يجزئه للحجّ إلّا أن يسعى بعد الإفاضة بعد طواف. قال بعضهم: يطوف للقدوم ويسعى بعده، والمختار أنّه لا يطوف للقدوم وليس إلّا طواف الزّيارة وعليه أن يسعى بعده للحجّ، فإن سعى قبله لم يجزه، قالوا: ويجب أن يكون السّعي بعد طواف واجب أو مستحبّ. هذا كلام الحنابلة لا خلاف بينهم في ذلك. وقال الشّافعي: لو سعى ثم تيقن أنّه ترك شيئًا من الطّواف لم يصحّ سعيه فيلزمه أن يأتي ببقية الطّواف، فإذا أتى ببقيته أعاد السّعي نصّ عليه الشّافعي. وبنحوه قال مالك وأبو حنيفة. ومِمَّا يستدلّ به لذلك حديث عائشة -رضي الله عنها- وفيه: فلما كنا في بعض الطّريق حضت فدخل عليّ رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- وأنا أبكي فقال: "ما يبكيكِ؟ "، قلت: وددت أنِّي لم أكن خرجت العام. فقال: "ارفضي عمرتكِ، وانقضي رأسكِ، وامتشطي وأهلي بالحجّ". ومعنى ارفضي العمرة: ارفضي أعمالها، فلو صحّ سعي قبل الطّواف لما منع منه حيضها كما لا يمنع من سائر المناسك. والله أعلم.

وأمّا السّؤال عن قوله -صلّى الله عليه وسلّم- في شأن الرّجل الذي صلّى بالتّيمّم ولم يعد لما وصل إلى الماء: "أصبت السّنة وأجزأتك صلاتك". وقال لذي أعاد: "لك الأجر مرّتين". فلا شكّ أنّ الذي لم يعد قد أصاب الحكم الشّرعي بدليل قوله -صلّى الله عليه وسلّم-: "أصبت السّنة وأجزأتك صلاتك"، وأمّا الذي أعاد فهو مجتهد فيما فعل فإنّه يثاب على الصّلاة الأولى والثّانية، وهو كونه صلّى الثّانية مجتهدًا فأثيب على اجتهاده للصّلاة الثّانية كما أثيب على الصّلاة الأولى، ومن المعلوم أنّ الفريضة أفضل من التّطوّع من جنسه وغير جنسه إلّا في أربعة أشياء ليس هذا محلّ ذكرها. وأمّا السّؤال الثّالث فيمَن نوى جمع تأخير حيث يجوز الجمع فدخل وقت الثّانية قبل أن يَصِلُوا إلى الماء، فالأفضل في حقّهم أن يؤخّروا الصّلاة إلى الماء ما لم يدخل وقت الضّرورة، فإن صلّوا قبل وصولهم إليه أجزأتهم الصّلاة بالتّيمّم ولا إعادة عليهم. وقول السّائل: وهل يكون وقت الاختيار للثّانية وقت للأولى أم لا؟ الجواب: يكون وقتًا لها في حقّ مَن يجوز له الجمع، إذا نواه فتنبّه. والله أعلم. يقول كاتبه إبراهيم بن راشد: إنّه لما قال ممليه ليس هذا محلّ ذكرها طلبت منه أن يذكرها فأملى علي نظمًا بيتين للسّيوطي والأخير لمحمّد الخلوتي: الفرض أفضل من تطوّع عابد ... حتّى ولو قد جاء منه بأكثر إلّا التّوضؤ قبل وقت وابتدا ... بالسّلام وإبراء لمعسر 1 وكذا ختان كان قبل بلوغه ... أنعم به نظم الإمام المكثر

_ 1 كذا في الأصل، ووزنه غير مستقيم.

24 - ما قولكم فيمن يقول لمن شرب: "هنيئا"

- 27 - بسم الله الرّحمن الرّحيم ما قولكم فيمَن يقول لِمَن شرب (هنيئًا) ويدعي جواز ذلك وقد يستدلّ بقوله تعالى: {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا}، [الطّور، من الآية: 19، والحاقّة، من الآية: 24، والمرسلات، من الآية: 43]. وبقوله: {فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا}، [النّساء، من الآية: 4]، فهل الاستدلال بالآتين على جواز ذلك صحيح أم لا؟ أفيدونا. الجواب: وبالله التّوفيق ليس في الآيتين ما يدلّ على مشروعية ذلك في حقّ كلّ مَن شرب. أمّا الآية الأولى فإنّ ذلك يقال لأهل الجنّة إذا دخلوها نسأل الله الجنّة برحمته، وليس في الآية ما يدلّ على أنّه يقال لهم كلّما أكلوا منها أو شربوا. وأمّا آية النّساء، فإنّها في أمرٍ خاصٍّ، يبيّن تعالى للأزواج أنّه لا يحلّ لهم أن يأكلوا من مال المرأة إلّا ما طابت به نفس وليس فيها أنّ هذا القول يقال عند كلّ أكلٍ وشربٍ. إذا عرفت ذلك، فاعلم أنّه لم يبلغنا عن أحدٍ من الصّحابة والتّابعين والأئمة أنّهم كانوا يستعملون ذلك فيما بينهم، فاتّخاذ ذلك عادة يخالف ما كان عليه السّلف والأئمة، ولو كان مشروعًا لسبق إليه مَن سلف من الأمّة فلا ينبغي أن يتّخذ ذلك شعارًا في حقّ كلّ مَن شرب. والله أعلم. - 28 - بسم الله الرّحمن الرّحيم من عبد الرّحمن بن حسن إلى الأخ سليمان بن عبد الله سلّمه الله تعالى. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد؛ وصل الخط وصلك الله إلى ما يرضيه. وما أشرت إليه من أنّ بعض النّاس يوقف عقاره وشجره على ذرّيّته الذكور ما تناسلوا، والأنثى

حياتها. فهذا وقف الإثم والجنف لما فيه من الحيلة على حرمان أولاد البنات مما جعل الله لهم في العاقبة. وهذا الوقف على هذا الوجه بدعة، ما أنزل الله بها من سلطانٍ. وغايته تغيير فرائض الله بحيلة الوقف، وقد صنف فيه شيخنا محمّد بن عبد الوهّاب -رحمه الله- وأبطل شبه المعارضين، ولا يجيزه إلّا مرتاب في هذه الدّعوة الإسلامية، وقصده مخالفة إمام المسلمين، أو جاهل لا يعرف السّنة من البدعة، والهدى من الضّلال، جاهلًا بأصول الشّرع ومقاصد الشّريعة. ونعوذ بالله من الإفتاء في دين الله وشريعته بلا علم. والسّلام. المسألة الثّانية: فيمَن غرس أرضًا مستأجرة للغراس ومضت مدة الإجارة إلى آخره. فالجواب: -وبالله التّوفيق- قال في الكافي لأبي محمّد عبد الله ابن أحمد بن قدامة وإن استأجرها للغراس جاز وله الغرس فيها، فإن غرس وانقضت المدة وكان مشروطًا عليه القلع عند انقضائها أخذ بشرطه، ولا يلزمه تسوية الحفر. فإن لم يكن شرط القلع لم يجب القلع، وللمستأجر قلع غرسه؛ لأنّه ملكه ولزمه تسوية الحفر، فإن لم يفعل فللمؤجّر دفع قيمته ليملكه، وإن أراد قلعه وكان لا ينقص بالقلع أو ينقص لكنه يضمن أرش النّقص فله ذلك، وإن اختار إقراره وبأجرة مثله فله ذلك. ولصاحب الشّجر بيعه للمالك ولغيره فيكون بمنْزلته. والبناء كالغراس في جميع ما ذكرنا. انتهى ملخّصًا فتأمّله، فإنّه كافٍ في الجواب عمّا في السّؤال. والله أعلم.

26 - ما قولكم -دام فضلكم- في نخل مشترك طلب أهله القسمة، هل تكون على قدر الحصص أم على عدد النخل وسعة الأرض؟

- 29 - بسم الله الرّحمن الرّحيم ما قولكم -دام فضلكم- في نخلٍ مشتركٍ طلب أهله القسمة، هل تكون على قدر الحصص أم على عدد النّخل وسعة الأرض؟ الجواب: أنّه على حسب سهام الميراث. وأمّا مسألة الأجير فما التزمه لصاحب النّخل فإن قام به كلّه فله أجرة المثل، فإن ترك شيئًا مما التزمه نقص من الأجرة بحسب ذلك، لكن هذا يحتاج إلى نظر مَن له معرفة بهذه الأمور ويتحرّى فيها العدل من الجانبين لصعوبتها. والله أعلم. وأمّا انتفاع النّخل من ماء الجار فهو والحالة هذه مضطرّ إلى ما فعل من إجراء الماء من تحتها فتكون المصلحة لصاحب الماء أكثر مما يأتي النّخلة من الماء فتعاد لا في المصلحة؛ لأنّ النّخلة لها حريم وقد أجرى الماء في حريمها. والله أعلم بالصّواب. - 30 - بسم الله الرّحمن الرّحيم من عبد الرّحمن بن حسن إلى الأخ سليمان بن عبد الرّحمن بن عثمان سلّمه الله تعالى وعافاه آمين. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد؛ وصل الخط وصلك الله إلى ما يرضيه، وما ذكرت كان معلومًا. وتسأل عما إذا غم على مطلع الهلال ليلة الثّلاثين من شعبان هل يصام يومها أم لا؟ ولا يخفى أنّ صيامها من مفردات مذهب الإمام أحمد. وشيخ الإسلام أحمد بن تيمية -رحمه الله- نفى أن يكون الإمام أحمد أوجبه. وقال: ليس في كلام أحمد ما يدلّ على وجوبه. وقال: يحتمل الاستحباب والإباحة. وللإمام الحافظ محمّد بن عبد الهادي مصنّف ذكر فيه ما ورد فيه من النّهي

28 - الاستنجاء في البرك ونحوها

عن صيامه. وذكر في بعض روايات حديث ابن عمر: "فإن غم عليكم فأكملوا عدّة شعبان ثلاثين". وذكره عن غير ابن عمر أيضًا مرفوعًا. وهذا يدلّ على المنع من صيامه. والأحاديث صحيحة مقطوع بصحّتها. والمنع من صيامه هو اختيار شيخنا محمّد بن عبد الوهّاب -رحمه الله تعالى- ومَن أخذ عنه وينهون عن ذلك لوجوه أربعة: الأوّل: أنّ تلك اللّيلة من شعبان بحسب الأصل، ولا تكون من رمضان إلّا بيقين. الوجه الثّاني: النّهي عن تقدّم رمضان بيوم أو يومين فمَن صامه فقد تقدّم رمضان. الوجه الثّالث: الأحاديث التي فيها التّصريح بالنّهي عن صيامه، وذلك قوله: "فأكملوا العدّة ثلاثين" وفي بعضها تخصيص شعبان. الوجه الرّابع: حديث عمار: "مَن صام يوم الشّكّ فقد عصى أبا القاسم -صلّى الله عليه وسلّم-"، وهو يوم شكّ بيقينٍ. هذا حاصل الجواب. وسلِّم لنا على أحمد وإخوانه. ومن لدينا إسماعيل وإخوانه بخيرٍ وينهون السّلام. وأنت سالم. والسّلام. - 31 - بسم الله الرّحمن الرّحيم ومن رسالة لوالدنا الشّيخ عبد الرّحمن بن حسن -رحمه الله وقدّس روحه ونوّر ضريحه بمنه وكرمه-. قال -رحمه الله تعالى وعفا عنه-: وينبغي التّنبيه على أمرٍ مهمٍّ عمّت به البلوى عندكم ويتعيّن إنكاره، وهو الاستنجاء في البرك ونحوها، وفيه خطر عظيم لاسيما على الرّواية المشهورة في مذهب أحمد -رحمه الله تعالى- اختارها أكثر المتقدّمين والمتوسطّين. وهي أنّ الماء ينجس بملاقاة بول الآدمي وعذرته المائعة أو الجامدة إذا ذابت فيه، واستدلّوا بحديث أبي هريرة -رضي الله عنه- مرفوعًا: "لا يبولانّ أحدكم في الماء الدّائم

29 - جواب عن مسائل الشيخ حمد بن مانع

ولا يغتسل فيه من الجنابة". والنّهي يقتضي الفساد، على كلتا الرّوايتين فهو كالبول؛ لأنّه في معنى البول. وقد نصّ العلماء -رحمهم الله- أنّه مثل البول كالحافظ القرافي في شرح التّقريب وغيره، فيتعيّن عليكم أن تعلنوا بالنّهي عنه على رؤوس الأشهاد في مجامع النّاس لما فيه من خطر التّنجيس والوقوع في المنهي عنه من تقذير الماء. والله سبحانه وتعالى أعلم. - 32 - بسم الله الرّحمن الرّحيم وله -رحمه الله- جواب عن مسائل الشّيخ حمد بن مانع. من عبد الرّحمن بن حسن بن محمّد بن عبد الوهّاب إلى أخيه حمد ابن مانع حفظه الله تعالى. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وأنا أحمد الله الذي لا إله إلّا هو بخير وعافية أتمّها الله علينا في الدّنيا والآخرة، وكلّ من تسأل عنه طيّب، والأمور على ما تحب، والإسلام يزداد ظهورًا، والشّرك يزداد وهنًا، نسأل الله تمام نعمته، وسر الخاطر ما ذكرت من جهة جماعتكم عسى الله أن يهدينا وإيّاكم الصّراط المستقيم؛ صراط الذين أنعم عليهم. وأمّا المسائل التي ذكرت فاعلم أوّلًا أنّ الحقّ إذا لاح واتّضح لم يضرّه كثرة المخالف ولا قلة الموافق، وقد عرفت غربة التّوحيد الذي هو أوضح من الصّلاة والصّوم ولم يضرّه ذلك، فإذا فهمت قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ}، [النّساء، من الآية: 59]. وتحقّقت أنّ هذا حتم على المؤمنين كلّهم فاعلم أنّ مسألة الأوقاف النِّزاع فيها معروف في كتب

المختصرات، وفي شرح الإقناع في أوّل الوقف أنّهم اتّفقوا على صحّة الوقف في المساجد والقناطر، يعنِي بقعهما لا الوقف عليهما. واختلفوا فيما سوى ذلك. إذا تبيّن ذلك فأنت تعلم أنّ الرّسول -صلّى الله عليه وسلّم- قال: "مَن أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو ردّ". وفي لفظٍ: "مَن عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو ردّ". وتقطع أنّ رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- يأمر بهذا ولو أمر به لكان الصّحابة أسبق النّاس إليه وأحرصهم عليه، وتقطع أيضًا أنّ رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- أتى بسدّ الذّرائع، وهو من عظم الأشياء ذريعة إلى تغيير حدود الله، هذا على تقدير أنّ العالم المنسوب إليه هذا يصحّح مثل أوقافنا وأنَّى ذلك وحاشا وكلا، بل إنّهم يبطلون الوقف الذي يقصد به وجه الله على أمرٍ مباحٍ ويقولون لا بدّ منه على أمر قربة، وأمّا كونه جعل ماله بعد الورثة على برّ فهذا لا يكون إلّا بعد انقراضهم وعادتنا نفتي ببطلان مثل هذا. ولا نلتفت إلى هذا المصرف الثّاني. وذكر بطلان مثل هذا في الشّرح الكبير وغيره. المسألة الثّانية: وهي وقف المرأة على ولدها وليس لها زوج إلى آخره. فكذلك تعرف أنّ الوقف على الورثة ليس من دين الرّسول -صلّى الله عليه وسلّم-، ولو شرعه لكان أصحابه أسرع النّاس إليه سواء شرط على قسم الله أم لا. وهذا في الحقيقة يريد أمرين: الأوّل: تحريم ما أحلّ الله لهم من بيعه وهديته والتّصرّف فيه. والثّاني: حرمان زوجات الذّكور وأزواج الإناث فيشابه مشابهة جيّدة ما ذكر الله عن المشركين في سورة الأنعام، ولكن كون الرّسول -صلّى الله عليه وسلّم- لم يأمر به كافٍ في فساده صلحت نيّة صاحبه أم فسدت. المسألة الثّالثة: إذا لم يعلم هل هذا وقف على مَن يرث أم لا؟ ولكن الإفاضة على أنّه على مَن يرث. فأنا لا أدري شيئًا عن هذه المسألة،

30 - من عبد الرحمن بن حسن إلى الأخ علي بن فواز

لكن أرى لك التوقف عنها، ولا ينزع عن يد من يأكله إلا ببينة. (المسألة الرابعة) وهي الوقف على المحتاج من ذريته فهو صحيح، ذكره البخاري عن ابن عمر أنه وقف نصيبه من دار عمر على المحتاج من ذريته من آل عبد الله. (المسألة الخامسة) وهي مسألة الجَمْعَة، في باطلة لكونها وقفًا على الورثة، وأيضًا يحرم بعضهم، وأيضًا لم يشرع. وأما بيع الإنسان نصيبه من هذه الصبرة على صاحب وغيره، فلا يجوز، بل الصبرة باطلة من أصلها. فإن كان هذا الجواب أزال عنك الإشكال، وإلا فلو أردت التطويل وطولت لك وذكرت لك العبارات والأدلة. والسلام. وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم. - 33 - بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الرحمن بن حسن إلى الأخ علي بن فواز* -سلمه الله تعالى-. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: فهذا جواب المسائل: أما خروج النساء من البيوت بالزينة، فيحرم مخافة الفتنة بالنساء، فإنهن فتنة لكل مفتون. وأما الدف، فيحصل الإعلان بضربه في النهار قبل الدخول في وقت من النهار، وأما ضربه في الليل ففيه من المفاسد ما لا يخفى، ومن أقرهم على ذلك ممن له قدرة على منعهم فقد ظلم نفسه. وأما الاحتكار، فإذا اشتراه أحد من الأسواق ينتظر الغلاء فهو احتكار. وأما خلط البر بالشعير للبيع، فلا يجوز، لما ورد في ذلك من الآثار التي رواها ابن أبي شيبة في مسنده. وأما تلقي

_ * تكررت هذه الرسالة في ج 4/ص 408. [معد الكتاب للمكتبة الشاملة]

الرّكبان للشّراء منهم ما جلبوه فيلزم منعهم من ذلك. وأمّا التّزعفر فقد ورد ما يدلّ على جوازه فلا ينكر والحالة هذه. وأمّا مذهب الخوارج فإنّهم يكفّرون أهل الإيمان بارتكاب الذّنوب ما كان منها دون الكفر والشّرك، وأنّهم قد خرجوا في خلافة عليّ بن أبي طالب -رضي الله عنه-، وكفّروا الصّحابة بما جرى بينهم من القتال واستدلّوا على ذلك بآيات وأحاديث. لكنّهم أخطأوا في الاستدلال، فإنّ ما دون الشّرك والكفر من المعاصي لا يكفّر فاعله لكنّه ينهى عنه. وإذا أصرّ على كبيرةٍ ولم يتب منها يجب نهيه والقيام عليه، وكلّ منكرٍ يجب إنكاره من ترك واجبٍ أو ارتكاب محرَّمٍ، لكن لا يكفّر إلّا من فعل مكفِّرًا دلّ الكتاب والسّنة على أنّه كفر. وكذا ما اتّفق العلماء على أنّ فعله أو اعتقاده كفر كما إذا جحد وجوب ما هو معروف من الدّين بالضّرورة، أو استحلّ ما هو معروف بالضّرورة أنّه محرَّم. فهذا مما أجمع العلماء على أنّه كفر إذا جحد الوجوب إلّا إذا ترك الصّلاة تهاونًا وكسلًا فالمشهور في مذهب أحمد أنّه يستتاب فإن تاب وإلّا قتل كافرًا. وأمّا الثّلاثة فلا يكفرونه بالتّرك بل يعدونه من الكبائر، وكذلك إذا فعل كبيرة، كما تقدم فلا يكفر عند أهل السّنة والجماعة إلّا إذا استحلّها. وأمّا السفر إلى بلاد المشركين للتّجارة فقد عمّت به البلوى، وهو نقص في دين مَن فعله، لكونه عرض نفسه للفتنة بمخالطة المشركين فينبغي هجره وكراهته. فهذا هو الذي يفعله المسلمون معه من غير تعنيف ولا سبّ ولا ضرب، ويكفي في حقّه إظهار الإنكار عليه، وإنكار فعله ولو لم يكن حاضرًا. والمعصية إذا وجدت أنكرت على مَن فعلها،

31 - من عبد الرحمن بن حسن إلى من يصل إليه من الإخوان

أو رضيها إذا اطّلع عليها. وأمّا المعاصي التي فيها الحدّ فلا يقيمها إلّا الإمام أو نائبه. وأمّا الحدود إذا بلغت السّلطان فالمراد بالسّلطان الأئمة والقضاة ومَن يستنيبهم الإمام ويولّيهم في بلدهم. وذكرت في جوابي الذي في خاطري مما يوجب اجتماع الكلمة. والسّلام. وصلّى الله على محمّد وآله وصحبه وسلّم. انتهى. - 34 - بسم الله الرّحمن الرّحيم من عبد الرّحمن بن حسن إلى مَن يصل إليه من الإخوان وفّقنا الله وإيّاهم لسلوك منهج العلم والإيمان. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد؛ فقد سألنِي بعض الإخوان عن قلب الدَّين على المدين إذا كان له عقار وعوامل ونواضح ونحوها* فأجبت بأنّه لا يخلو من ثلاثة أحوال: الحال الأوّل: أن يضيق المال عن الدَّين، فهذا مفلس في عرف العلماء -رحمهم الله تعالى- إذا سأل غرماؤه الحاكم ولو بعضهم لزمه الحجر عليه في ماله، وذهب جمع من المحقّقين إلى أنّه يكون محجورًا عليه بدون حكم حاكمٍ. وهذا لا يجوز قلب الدَّين عليه بحال لعجزه عن وفاء ما عليه من الدَّين. الحال الثّاني: أن يكون ماله أكثر من دَيْنه لكنّه لا يقدر على وفاء دَيْنه إلّا بالاستدانة في ذمته. وهذا يشبه الأوّل، لا يجوز قلب الدَّين عليه؛ لأنّه غير مليء. ولا يخفَى أنّ المليء عند العلماء هو الذي إذا طولب بما عليه بذله من غير مشقّة عليه، وهو الواجد للوفاء. الحال الثّالث: أن يكون عليه دَين وفي يده مال يقدر على الوفاء من غير استدانة. وهذا مليء ولكن منع بعض العلماء قلب الدَّين عليه حسمًا للمادّة وسدًّا للذّريعة.

_ * تكررت هذه المسألة في 4/ 368، لكنها ناقصة. [معد الكتاب للمكتبة الشاملة]

قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- وقد سُئل عن المعاملات التي يتوصّل بها إلى الرّبا*: فمن ذلك أن يكون المدين معسرًا فيقلب الدَّين في معاملة أخرى بزيادة مال وما يلزم ولاة الأمر في هذا. وهل يرد على صاحب المال رأس ماله دون ما زاد؟ فأجاب: المراباة حرام بالكتاب والسّنة والإجماع. وقد لعن رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- آكل الرّبا، وموكلّه، وكاتبه، وشاهديه، ولعن المحلِّل والمحلَّل له، وكان أصل الرّبا في الجاهلية أنّ الرّجل يكون له على الرّجل المال المؤجَّل فيقول له: أتقضي أم تربي؟ فإن وفاه وإلّا زاد هذا في الأجل وزاد هذا في المال. فيتضاعف المال والأصل واحد. وهذا الرّبا حرام بإجماع المسلمين. وأمّا إذا كان هذا هو المقصود لكن توسلوا بمعاملة أخرى فهذا تنازع فيه المتأخّرون. وأمّا الصّحابة فلم يكن منهم نزاع في أنّ هذا محرَّم. والآثار عنهم بذلك كثيرة. والله تعالى حرّم الرّبا لما فيه من ضرر المحتاجين، وأكل المال بالباطل، وهو موجود في المعاملات الرّبوية. فإذا حلّ الدَّين وكان الغريم معسرًا لم يجز بإجماع المسلمين أن يقلب عليه الدَّين بل يجب إنظاره. وإن كان موسرًا كان عليه الوفاء فلا حاجة إلى القلب لا مع يساره ولا مع إعساره. والواجب على ولاة الأمر بعد تعزير المعاملين بالمعاملة الرّبوية أن يأمروا المدين بأن يؤدّي رأس المال ويسقطوا الزّيادة الرّبوية. فإن كان معسرًا وله مغلات يوفي دَينه منها وفَّى دَينه منها بحسب الإمكان. والله تعالى أعلم. انتهى كلام شيخ الإسلام رحمه الله تعالى. فتأمّلوا قوله: إن كان معسرًا وله مغلات، كيف سمّاه معسرًا مع وجود عقار يستغله. ومن صور قلب الدَّين أنّه إذا حلّ أجل ما في ذمّة المدين من الدّراهم وعلم صاحب الدّين أنّه لا يجد دراهم يدفعها إليه. قال له بِعْنِي طعامًا في ذمّتك على كذا وكذا، فيسلم إليه الدّراهم بطعام في ذمّته، فإذا قبض منه

_ * هذه المسألة موجودة في "مجموع الفتاوى" 29/ 418.

32 - من عبد الرحمن بن حسن إلى الأخ جمعان بن ناصر

رأس المال ردّها إليه وفاء عن دَينه الأوّل. وحقيقة الأمر أنّ الذي في ذمّة الأول قلبه طعامًا فينمو المال في الذّمّة والأصل واحد، وكذلك بيع دَين السّلم لا يجوز إلّا بعد قبضه ولو على مَن هو في ذمّته. وهذا قول جمهور العلماء. وهو الأصحّ إن شاء الله. وأيضًا يذكر لنا أنّكم تعاملون كراء الأرض بحبٍ معلومٍ، وتشرطون على الزّراع جزاء من التّبن. وهذه إجارة يشترط فيها أن تكون الأجرة معلومةً وشرط التّبن شرط شيء مجهول تفسد به الإجارة. وطريق السّلامة من هذا أن تزيدوا في الأجرة شيئًا من الحبّ معلومًا وتتركوا اشتراط التّبن. والسّلام. وصلّى الله على محمّد وآله وصحبه وسلّم. - 35 - بسم الله الرّحمن الرّحيم من عبد الرّحمن بن حسن إلى الأخ جمعان بن ناصر، وفّقه الله وهداه لما يحبّه ويرضاه. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد؛ فالخط وصل، وصلك الله إلى ما يرضيه، واعلم يا أخي أنّ أهمّ الأمور علينا وعليكم وأحق ما يهتم به معرفة التّوحيد الذي هو أصل الإيمان وأساسه والتّمسّك بأوثق عراه، والحبّ في الله والبغض في الله، والموالاة فيه والمعاداة فيه، وتمييز النّاس بما سلف منهم وبما يبدو على صفحات الوجوه وفلتات الألسن، فإنّ من أعظم الأمور خطرًا أن يحبّ لهواه ويقرب لدنياه ويبغض لهواه لا لطاعة مولاه فاجعل هذا منكم على بال. أعاذنا الله وإيّاكم من عبادة الرّجال. وأمّا ما سألت عنه من المسائل الأربع: فالجواب عن مسألة زوجة

33 - من عبد الرحمن بن حسن إلى الأخ جمعان

المفقود إذا تعذر الإنفاق عليها من ماله فإنّ لها فسخ نكاحه بحكم حاكم الشرع، فإذا جاز ذلك في حقّ الموجود جاز في حقّ المفقود أيضًا. ولا فرق بينهما وكونه مفقودًا لا يمنع ثبوت الحكم بتعذّر ما يجب لها عليه. وأمّا مسألة المظاهر فاعلم أنّه يجب على المفتي أن يعتبر شواهد أحواله، فإذا عرف من شاهد الحال أنّه يقدر على أن يصوم شهرين متتابعين فلا يجوز للمفتي أن يفتح له باب الرّخصة في الإطعام بمجرّد قوله: لا أستطيع الصّيام، وشاهد الحال يكذّبه فلا ينتقل إلى الإطعام إلّا بتحقّق عجزه عن الصّيام. وأمّا مسألة الشّفعة، فإنّ شريك الأصل أحقّ بالأخذ بها من شريك المصالح ما لم يترك الطّلب بها بغير خلافٍ. نصّ عليه في المغني، والشّرح، والإنصاف وغيرها. وأمّا عيب الجرب فحكمه حكم سائر العيوب، فإذا ادّعى المشتري انتقال المبيع بذلك العيب ولا بيّنة حلف المشتري على ما ادّعاه على الأصحّ. والله أعلم. - 36 - بسم الله الرّحمن الرّحيم من عبد الرّحمن بن حسن إلى الأخ جمعان. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. والخط وصل وصلك الله إلى رضوانه، وسرّنا ما ذكرت من طيبك وصحّة حالك، وأخبرك أنِّي ولله الحمد بخير وعافية كذلك الشّيخ عبد الله وإبراهيم أعمامي وعيالي وعيالهم وآل مقرن. وما ذكرت من حرصك على الزّيارة فأرجو أنّ الله يجمعنا وإيّاكم على خيرٍ وعافيةٍ ويستعملنا وإيّاكم في طاعته. وما ذكرت من السّؤال: هل المرأة تعاقل الرّجل حتّى تبلغ ثلث ديته الخ؟ فالجواب: أنّ المرأة كالرّجل تساوي جراحها جراحه حتّى تبلغ ثلث

34 - من عبد الرحمن بن حسن إلى الأخ سعيد بن عيد

ديته على الصّحيح من المذهب. واستدلّ علماؤنا -رحمهم الله- في كتبهم بحديث عمرو بن شعيب الذي رواه النّسائي وبكلام سعيد بن المسيّب لربيعة وهو الظّاهر في أنّ المراد الثّلث من دية الرّجل، ولفظ الحديث الذي نقلته من شرح زاد المستقنع هو كما نقلت، وهو كذلك في المنتقى والمحرّر والجامع الصّغير ولفظه: عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه، قال: قال رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم-: "عقل المرأة مثل عقل الرّجل حتّى تبلغ الثّلث من ديتها". رواه النّسائي والدّارقطني. قال الحافظ ابن عبد الهادي في محرره: هو من رواية إسماعيل بن عياش، وهو كثير الخطأ، وعلى تقدير صحّته واستدلال الفقهاء به يحتمل أن يكون الضّمير للمضاف إليه المحذوف، أي: عقل جراح المرأة فهو راجع إلى الجراح، لكونه مفهومًا من الحديث لا إلى المرأة؛ إذ لو كان كذلك لما صحّ الاستدلال على أنّ جراح المرأة مثل جراح الرّجل حتّى تبلغ الثّلث من ديته مع مخالفته لكلام سعيد. وقد استدلّ العلماء بهما معًا على حكمٍ واحدٍ، وذلك ينبِيء عن الاتّفاق في المعنى. والله أعلم. - 36 - بسم الله الرّحمن الرّحيم من عبد الرّحمن بن حسن إلى الأخ سعيد بن عيد. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد؛ وصل الخط وصلك الله إلى ما يرضيه، والأحوال جميلة بحمد الله، نجملها بالإيمان والتّقوى. وما ذكرت من حال المرأة النّاشز فقد قال تعالى: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا}، [النّساء، من الآية: 128]. وقوله: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا

35 - من عبد الرحمن بن حسن إلى الأخوين المحبين: صالح بن محمد وأحمد بن عتيق

إِصْلاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا}، [النساء، من الآية: 35]. فالذي عليه جمهور العلماء في معنى الآية أنّ الحاكم يبعث حكمًا ثقة من أهلها، وثقة من قوم الرّجل، فإن حصل بينهما التّوفيق وإلّا صارا إلى التّفريق. وإذا اتّفقا عليه ففرقا بطلقة أو طلقتين أو ثلاث على حسب ما يريان فهما حكمان من جهة الحاكم، ووكيلان من جهة الزّوجين إذا تراضيا على توكيلهما فلهما التّفريق. وعن الإمام أحمد أنّهما حاكمان يفعلان نصًّا ما يريانه من جمعٍ وتفريقٍ وغيره، ولو لم يرضيا ولا وكلا. وهذا مذهب جمهور العلماء، ولم يذكر العلماء فيما وقفت عليه بذل العوض. والله أعلم. - 37 - بسم الله الرّحمن الرّحيم من عبد الرّحمن بن حسن إلى الأخوين المحبّين: صالح بن محمّد وأحمد بن عتيق، كان الله في عونهما. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد؛ وصل الخط أوصلكما الله إلى ما يرضيه. وما ذكرتما من توزيع الجمل على الجمل والأفراد على الجمل، والأفراد على الأفراد، فهذه الكلّيّة ذكرها الفقهاء -رحمهم الله تعالى- في المسح على الخفّين، وفي مسألتكما هذه، وفي الوقف. وأنا أصوّرها في مسألة السّؤال وهي مدّ عجوة، ومن صورها مدّ ودرهم بدرهمين. فالجمهور من الفقهاء قالوا بعدم الجواز بناء على أنّ جملة المدّ والدرهم في مقابلة الدّرهمين، فلم يتميّز ما يقابل الدّرهم من جميع الدّرهمين ولا ما يقابل المدّ. وإنّما الجملة مقابلة للجملة فلا تحصل المماثلة بين الجنس الذي هو لغة للجمل بما يقابل كلّ جنس من جنسه، وكذلك إذا وزعت الأفراد على الجمل كما إذا اعتبر الدّرهم

36 - من عبد الرحمن بن حسن إلى الأخ جمعان

الذي مع المدّ في مقابلة مجموع الجملة من الدّرهمين والمدّ كذلك، فلم يتميّز ما يقابل الجنس من جنسه، هل هو درهم أو أقل أو أكثر؟ والجهل بالتّساوي كالعلم بالتّفاضل، وذهب شيخ الإسلام كأبي حنيفة إلى الجواز فوزعوا الأفراد على الأفراد فصار الدّرهم يقابل درهمًا من غير زيادة المد يقابل الدّرهم الآخر. فجعلت المماثلة والتّساوي في الجنس. وهو مشكل. والله أعلم. - 38 - بسم الله الرّحمن الرّحيم من عبد الرّحمن بن حسن إلى الأخ جمعان، منحه الله من العلوم أنفعها ومن الفضائل أرفعها. آمين. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد؛ فقد وصل إلينا كتابك فاستبان به مرامك وخطابك وسررنا به غاية السّرور، جعله الله تعالى من مكاسب الأجور، وقد سألت فيه أمدك الله عن ثنتَي عشرة مسألة: أولاها: قول العلماء -رضي الله عنهم-: فيمَن حرم زوجته الخ؟ فالجواب - وبالله التّوفيق، ومنه أستمدّ العون -: والتّحقيق تحريم الزّوجة ظهار ولو نوى به طلاقًا أو يمينًا. نصّ عليه إمامنا -رحمه الله- في رواية الجماعة، وهو المذهب. ونقل عنه ما يدلّ على أنّه يمين وفاقًا للثّلاثة -رحمهم الله تعالى-. وجزم شيخ الإسلام ابن تيمية في الاختيارات والفتاوى المصرية في باب الظّهار بالأوّل، لكن قال ابن القيم -رحمه الله- في الإعلام: إنّه إن وقع التّحريم كان ظهارًا ولو نوى به الطّلاق، وإن حلف به كان يمينًا مكفِّرة. وهذا اختيار شيخ الإسلام، وعليه يدلّ النّصّ والقياس. فإنّه إذا أوقعه كان قد أتى منكرًا من القول وزورًا، وكان أولى بكفارة الظّهار مِمَّن شبّه

امرأته بالمحرم، وإذا حلف به كان يمينًا من الأيمان كما لو التزم الاعتاق والحجّ. وهذا محض القياس والفقه. انتهى. قلت: قوله: وإذا حلف كان يمينًا إلى آخره، بناء على ما ذهب إليه من أنّ المعلّق للطّلاق على شرط يقصد بذلك الحض أو المنع أو الالتزام؛ فإنّه يجزئه فيه كفارة يمين إن حنث، وإن أراد الإيقاع عند وجوب المعلّق عليه طلّقت. وصرح به الشّيخ -رحمه الله تعالى- في باب تعليق الطّلاق بالشّروط. قال: وكذا الحلف بعتق وظهار وتحريم. المسألة الثّانية: إذا أحال إنسان على آخر ولم يعلم بذلك حتّى قضاه دَينه أو قضاه مَن أحاله عليه ثانيًا. الخ؟ فالجواب: قد برئت ذمّة المدين من الدَّين إذا دفعه إلى صاحبه أو إلى مَن أذن له أن يدفعه إليه لوجوب القضاء بعد الطّلب فورًا، ولا يلزم المدين غرم ما قضاه من الدَّين؛ لأنّ الشّرائع لا تلزم إلّا بعد العلم فلا تبعة عليه فيما لم يعلم، وقد أفرد شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله وقدّس روحه- هذه القاعدة وقرّر أدلّتها، فعلى هذا، يرجع مَن أحيل أوّلًا بدَينه على المحيل كما قبل الحوالة. والله أعلم. المسألة الثّالثة: إذا رهن إنسان زرعه أو نخله ونحوه، فاحتاج الرّاهن لما يصلح الرّهن فطلب من المرتهن أن يداينه لذلك أو يطلق الرّهن لِمَن يداينه لإصلاحه فامتنع، وعلى الرّاهن ضرر؟ فالجواب: أنّ الصّحيح من أقوال العلماء أنّ القبض والاستدامة شرط للزوم الرّهن. قال في الشّر: ولا يلزم الرّهن إلّا بالقبض، ويكون قبل قبضه رهنًا جائزًا يجوز للرّاهن فسخه، وبهذا قال أبو حنيفة والشّافعي. وقال

بعض أصحابنا في غير المكيل والموزون رواية أنّه يلزم بمجرّد العقد. ونصّ عليه الإمام أحمد -رحمه الله تعالى- في رواية الميموني. وهو مذهب مال -رحمه الله-. ووجه الأولى: قوله تعالى: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ}، [البقرة، من الآية: 283]. فعلى هذا، إن تصرّف الرّاهن فيه قبل القبض بهبةٍ، أو بيعٍ، أو عتقٍ، أو جعله صداقًا، أو رهنه ثانيًا بطل الرّهن الأوّل سواء قبض الهبة أو المبيع أو الرّهن الثّاني أو لم يقبضه. فإن أخرجه المرتهن إلى الرّاهن باختياره زال لزومه وبقي العقد كأنّه لم يوجد فيه قبض. انتهى. قال في الإنصاف: هذا المهذب وعليه الأصحاب. وعنه أن استدامته في المعيّن ليس بشرط. واختاره في الفائق. انتهى ملخصًا. فقد عرفت الأصحّ من الأقوال الذي عليه أكثر العلماء -رحمهم الله تعالى-، فعليه لا ضرر على الرّاهن لبطلان الرّهن بالتّصرّف إذا لم يكن في قبضة المرتهن. وقد ذكر العلماء أيضًا أنّ المرتهن لا يختص بثمن الرّهن إلّا إذا كان لازمًا وما عدا هذا القول لا دليل عليه من كتاب ولا سنة، ويترتّب على الفتوى به من المفاسد ما لا يتّسع لذكره هذا الجواب. وليس مع مَن أفتى به إلّا محض التّقليد. وأنّ العامّة تعارفوه فيما بينهم ورأوه لازمًا. وأنت خبير بأنّ هذا ليس بحجّة شرعية، وإنّما الحجة الشّرعية الكتاب والسّنة والإجماع. وهو اتّفاق مجتهدي العصر على حكمٍ ولا بدّ للإجماع من مستندٍ، والدّليل الرّابع القياس الصّحيح، وكذا الاستصحاب على خلاف فيه. فلا إله إلّا الله، كم غلب على أحكام الشّرع في هذه الأزمنة من التّساهل في التّرجيح. وعدم التّعويل على ما اعتمده المحقّقون من القول الصّحيح. وقد ادّعى بعضهم أنّ شيخنا الإمام شيخ الإسلام محمّد بن عبد الوهّاب -رحمه الله تعالى- كان يفتي

بلزوم الرهن وإن لم يُقبض، فاستبعدت ذلك على شيخنا -رحمه الله تعالى-. ولو فرضنا وقوع ذلك، فنحن بحمد الله متمسكون بأصلٍ عظيمٍ: وهو أنّه لا يجوز لنا العدول عن قولٍ موافقٍ لظاهر الكتاب والسنّة، لقول أحدٍ كائنًا مَن كان. وأهل العلم معذورون وهم أهل الاجتهاد، كما قال الإمام مالك -رحمه الله-: ما منّا إلّا راد ومردود عليه إلّا صاحب هذا القبر، يعنِي رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم-، ثم بعد زعم هذا الزّاعم من الله عليّ بالوقوف على جواب شيخنا الإمام -رحمه الله تعالى- فإذا هو جار على الأصحّ الذي عليه أكثر العلماء. وصورة جوابه: أنّ الرّاجح الذي عليه كثير من العلماء -رحمهم الله- أو أكثرهم أنّ الرّهن لا يلزم إلّا بالقبض، وقبض كلّ شيء هو المتعارف، فقبض الدّار والعقار هو تسلم المرتهن له ورفع يد الرّاهن عنه. هذا هو القبض بالإجماع، ومَن زعم أنّ قوله مقبوض يصيره مقبوضًا فقد خرق الإجماع مع كونه زورًا مخالفًا للحسّ. إذا ثبت هذا، فنحن إنّما أفتينا بلزوم هذا الرّهن لضرورة وحاجة، فإذا أراد صاحبه أن يأكل أموال النّاس ويخون في أمانته لمسألة مختلف فيها فالرّجوع إلى الفتوى بقول الجمهور في هذه المسألة. فإن رجعنا إلى كتاب الله وسنة رسوله -صلّى الله عليه وسلّم- في إيجاب العدل وتحريم الخيانة فهذا هو الأقرب قطعًا، وإن رجعنا إلى كلام غالب العلماء -رحمهم الله تعالى- فهم لا يلزمون ذلك إلّا برفع يد الرّاهن وكونه في يد المرتهن. انتهى المقصود. فذكر -رحمه الله تعالى- في هذه الفتيا أنّ الرّاجح الذي عليه أكثر العلماء أنّ الرّهن لا يلزم إلّا بالقبض، وأنّه إنّما أفتى بخلافه لضرورة وحاجة، وأنّه رجع إلى قول الجمهور لما قد ترتّب على خلافه من الخروج من العدل، ومن

الخيانة، وهذا الذي أشار إليه -رحمه الله- من الخروج عن العدل وأكل أموال النّاس بالباطل والخيانة في الأمانة قد رأيناه عيانًا. وسببه الإفتاء بخلاف قول الجمهور في هذه المسألة. وقد قرّر -رحمه الله تعالى- في هذه الفتيا أنّ قول الجمهور أقرب إلى العدل فلا يجوز أن ينسب إليه غير هذا القول المقرّر هنا. والله أعلم. المسألة الرّابعة: إذا استأجر إنسان أرضًا للزّرع أو نحوه ثم رهنه فقصرت الثّمرة عن الدَّين والأجرة وعن الحداد والخراز إلى آخره. فالجواب: إذا انتفى لزوم الرّهن لعدم القبض أو الاستدامة تحاصوا في الثّمرة وغيرها على قدر الذي لهم؛ لأنّ محلّ ذلك ذمّة المدين وتقديم أحدهم على غيره ترجيح من غير مرجّح، وما اشتهر بين النّاس من تقديم العامل في الزّرع ونحوه بأجرته فلم نقف له على أصلٍ يوجب المصير إليه. والله أعلم. المسألة الخامسة: إذا دفع إنسان إلى آخر عروضًا مضاربة وجعل قيمتها رأس مال المضاربة هل يجوز هذا أم لا؟ الجواب: يشترط في المضاربة وشركة العنان أن يكون رأس المال من النّقدين، أو أحدهما، وهو المذهب. وعنه رواية أخرى: أنّها تصحّ بالعروض. اختاره أبو بكر وأبو الخطاب وصاحب الفائق وغيرهم. قال في الإنصاف: قلت: وهو الصّواب. فعلى هذه الرّواية يرجع عند المفارقة بقيمة العروض عند العقد كما جعلنا نصابها قيمتها. وسواء كانت مثلية أو غير مثلية. والله أعلم. المسألة السّادسة: إذا دفع إنسان مالًا مضاربةً وعمل فيه المضارب

ثم تلف من المال شيء بخسارة أو نحوها ثم فسخ المضارب هل عليه أن يعمل فيه حتّى يكمل رأس المال أم لا؟ الجواب: في ذكر القواعد الفقهية عن ابن عقيل ما حاصله: أنّه لا يجوز للمضارب الفسخ حتّى ينض رأس المال ويعلم به ربّه لئلا يتضرّر بتعطيل ماله عن الرّبح. وأمّا المالك لا يملك الفسخ إذا توجه المال إلى الرّبح ولا يسقط به حقّ العامل. قال: وهو حسن جارٍ على قواعد المذهب في اعتبار المقاصد وسدّ الذّرائع. ولهذا قلنا: إنّ المضارب إذا ضارب الآخر من غير علم الأوّل وكان عليه في ذلك ضرر ردّ حقّه من الرّبح في شركة الأوّل. انتهى. أقول: مراده بقوله: حتّى ينض رأس المال، يعنِي: به إذا لم ينقص، أمّا إذا نقص فليس على المضارب إلّا تنضيض ما بقي في يده من رأس المال؛ لأنّ المضاربة عقد جائز، ولا ضمان على المضارب فيما تلف من غير تعدٍ ولا تفريطٍ. الله أعلم. المسألة السّابعة: هل يلزم صاحب الأصل إذا أكرى أرضه أو شجره عند مَن يجوّز ذلك ما يلزمه في عقد المساقاة من سدّ حائطٍ أو إجراء نهرٍ ونحوه أم لا؟ فالجواب: لم أقف في هذه المسألة للعلماء -رحمهم الله تعالى- على نصّ. والله أعلم. المسألة الثّامنة: ما حكم مال المسلم إذا أخذه الكفار ثم اشتراه بعض التّجار من آخذه ثم باعه على آخر الخ؟ فالجواب: أمّا حكم مال المسلم إذا أخذه الكفار الأصليّون فذكر القاضي أبو يعلى -رحمه الله تعالى- أنّهم يملكونه بالقهر، وهو المذهب عنده.

وقال أبو الخطاب: ظاهر كلام أحمد أنّهم لا يملكونه، يعنِي: ولو حازوه إلى دراهم. قال في الإنصاف: وهي رواية عن أحمد اختارها الآجري وأبو الخطاب في تعليقه وابن شهاب وأبو محمّد الجوزي وجزم به ابن عبدوس في تذكرته. قال في النّظم: لا يملكونها في الأظهر وذكر ابن عقيل في فنونه ومفرداته روايتين، وصحّح فيها عدم الملك، وصحّح في نهاية ابن رزين ونظمها. انتهى. قال في الشّرح: وهو قول الشّافعي وابن المنذر لحديث ناقة رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم-؛ ولأنّه مال معصوم طرأت عليه يد عادية فلم يملك بها كالغصب. ولأنّ مَن لا يملك رقبة غيره لا يملك ماله به، أي: بالقهر، كالمسلم مع المسلم. ووجه الأولى: أنّ القهر سبب يملك به المسلم مال الكافر، فيملك به الكافر مال المسلم كالبيع، فعلى هذا يملكونها قبل حيازتها إلى دراهم. وهو قول مالك. وذكر القاضي أنّهم إنّما يملكونها بالحيازة إلى دراهم. وهو قول أبي حنيفة. وحكي عن أحمد في ذلك روايتان. قال ابن رجب: ونصّ أحمد أنّهم لا يملكونها إلّا بالحيازة إلى دراهم. فعليها يمتنع ملكهم لغير المنقول كالعقار ونحوه؛ لأنّ دار الإسلام ليست لهم دارًا وإن دخلوها، لكن ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- أنّ أحمد لم ينصّ على الملك؛ ولا على عدمه، وإنّما نصّ على أحكام أخذ منها ذلك. قال: والصّواب أنّهم يملكونها مقيدًا لا يساوي أملاك المسلمين من كلّ وجهٍ. انتهى. قلت: قد صرّح في كتاب الصّارم والفتاوى المصرية وغيرها أنّ القيد المشار إليه هو إسلام آخذها. ونصّه: ولو أسلم الحربي وبيده مال مسلمٍ، قد أخذه من المسلمين بطريق الاغتنام ونحوه كان له ملكًا ولم يردّه إلى الذي

كان يملكه عند جماهير العلماء من التّابعين ومن بعدهم، وهو معنى ما جاء عن الخلفاء الرّاشدين، وهو مذهب أبي حنيفة ومالك ومنصوص أحمد -رحمهم الله-. وهو قول جماهير أصحاب أحمد بناء على أنّ الإسلام والعهد قرّر ما بيده من المال الذي كان يعتقده ملكًا له فلم يؤخذ منه كجميع ما بيده من العقود الفاسدة التي كان يستحقّها. قال في الاختيارات: قال أبو العبّاس: وهذا يرجع إلى أنّ كلّ ما قبضه الكفّار من الأموال قبضًا يعتقدون جوازه فإنّه يستقرّ لهم بالإسلام. قال: ومن العلماء مَن قال يرده على مالكه المسلم، وهو قول الشّافعي وأبي الخطاب بناء على أنّ اغتنامهم فعل محرّم ولا يملكون به مال المسلم؛ كالغصب؛ ولأنّه لو أخذه منهم المسلم أخذًا لا يملك به مسلم من مسلم؛ بأن يغنمنه أو يسرقه فإنّه يرد إلى مالكه المسلم لحديث ناقة النَّبِيّ -صلّى الله عليه وسلّم-، وهو مما اتّفق النّاس فيما نعلمه. ولو كان قد ملكوه لملكه الغانم منهم ولم يرد إلى مالكه. انتهى. واختار أنّ الكافر يملكه بالإسلام عليه. أقول: تأمّل ما ذكره شيخ الإسلام من حجّة الشّافعي وموافقيه على أنّ الكفّار لا يملكون أموال المسلمين فلو كان الكافر يملك مال المسلم بالاستيلاء أو بالحيازة إلى داره لم يردّ النَّبِيّ -صلّى الله عليه وسلّم- على ابن عمر عبده وفرسه التي كان أخذها العدوّ لما ظهر عليهم المسلمون، فلو لم يكن باقيًا على ملك ابن عمر لم يرد إليه وليس لتخصيصه بذلك دون سائر الغانمين معنى غير ذلك. وعمل بذلك أصحاب رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- بعده، والأحاديث في ذلك مشهورة في كتب الأحكام وغيرها. قال البخاري -رحمه الله- في صحيحه: (باب إذا غنم المسلمون مال مسلم ثم وجده المسلم)، قال ابن نمير: حدّثنا

عبيد الله عن نافع عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: ذهب فرس له فأخذه العدوّ فظهر عليه المسلمون فردّ عليه في زمن رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم-، وأبق عبد له فلحق بالرّوم فظهر عليهم المسلمون فردّه عليه خالد بن الوليد بعد النَّبِيّ -صلّى الله عليه وسلّم-، ثم ساقه بسنده متّصلًا. وما استدلّ به القائلون بأنّهم يملكونها بالقهر من أنّ القهر سبب يملك به المسلم مال الكافر، فملك به الكافر مال المسلم. فهذا قياس مع الفارق لا يصحّ دليلًا لو لم يكن فيه مقابلة الأحاديث، فكيف والأحاديث تمنعه؟! ولو لم يكن مع الشّافعي وأبي الخطاب وابن عقيل فيما صحّحه من الرّوايتين، ومَن وافقهم كابن المنذر إلّا حديث مسلم: أنّ قومًا أغاروا على سرح النَّبِيّ -صلّى الله عليه وسلّم- فأخذوا ناقته وجارية من الأنصار فأقامت عندهم أيامًا ثم خرجت في بعض اللّيل، قالت: فما وضعت يدي على ناقة إلّا رغت حتّى وضعتها على ناقة ذلول فامتطيتها ثم توجّهت إلى المدينة ونذرت إن نجّاني الله عليها أن أنحرها، فلمّا قدمت المدينة استعرفت النّاقة فإذا هي ناقة النَّبِيّ -صلّى الله عليه وسلّم- فأخذها فقلت: يا رسول الله إنِّي نذرت أن أنحرها قال: "بئس ما جازيتها، لا نذر في معصية الله". وفي روايةٍ: "لا نذر فيما لا يملك ابن آدم". هذا هو الحديث المشار إليه فيما تقدم. وقد عرفت من كلام شيخ الإسلام المتقدم أنّ من العلماء مَن قال: يرده على مالكه المسلم ولو أسلم عليه وعزاه إلى الشّافعي وأبي الخطاب. وذكر ما يدلّ لهذا القول. وأنا أذكر ما يدلّ لذلك أيضًا. وإن لم يذكره شيخ الإسلام. وهو ما رواه مسلم في صحيحه عن وائل بن حجر، قال: كنت عند رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- فأتاه رجلان يختصمان في أرضٍ. فقال أحدهما: إنّ هذا انْتزى على أرضي يا رسول الله في الجاهلية، وهو امرؤ القيس بن عابس الكندي، وخصمه ربيعة بن

عبدان، قال: "بيّنتك؟ "، قال: ليس لي بيّنة. قال: "يمينك". قال: إذًا يذهب بها؟ قال: "ليس لك إلّا ذلك". الحديث. وأمّا حكم ما أخذه المسلمون منهم مِمّا قد أخذوه من مال المسلم فالجمهور من العلماء يقولون: إذا علم صاحبها قبل قسمها ردّت إليه بغير شيءٍ. قال في الشّرح في قول عامّة أهل العلم منهم عمر وسلمان بن ربيعة وعطاء والنّخعي واللّيثي والثّوري ومالك والأوزاعي والشّافعي وأصحاب الرّأي. وحجّتهم ما تقدم من قصة ابن عمر. قال في الشّرح: وكذلك إذا علم الإمام بمال مسلم قبل قسمه فقسم وجب ردّه وصاحبه أحقّ به بغير شيء؛ لأنّ قسمته كانت باطلةً من أصلها، فهو كما لو لم يقسم. فأمّا إن أدركه بعد القسم ففيه روايتان: إحداهما: يكون صاحبه أحقّ به بالثّمن الذي حسب به على آخذه. وكذلك إن بيع ثم قسم بثمنه، فهو أحقّ به بالثّمن. وهذا قول أبي حنيفة والثّوري والأوزاعي ومالك. لئلا يفضي إلى حرمان آخذه من الغنيمة أو تضييع الثّمن على المشتري. يعنِي: من الغنيمة وحقّهما ينجبر بالثّمن، فيرجع صاحب المال في غير ماله بمنْزلة مشتري الشّقص المشفوع. والرّواية الثّانية: أنّه لا حقّ له فيه بعد القسمة بحالٍ. نصّ عليه أحمد في رواية أبي داود وغيره. وهو قول عمر وعلي وسلمان بن ربيعة وعطاء والنّخعي واللّيث. وقال الشّافعي وابن المنذر: يأخذه صاحبه قبل القسمة وبعدها، ويعطى مشتريه ثمنه من خمس المصالح؛ لأنّه لم يزل عن ملك صاحبه فوجب أن يستحقّه بغير شيءٍ كما قبل القسمة, ويعطى من حسب عليه القيمة لئلا يفضي إلى حرمان آخذه حقّه من الغنيمة. وجعل من سهم المصالح؛ لأنّ هذا منها، فإن أخذه أحد الرّعية بهبةٍ أو سرقةٍ أو بغير شيء فصاحبه أحقّ به بغير شيءٍ. وقال

أبو حنيفة: لا يأخذه إلّا بالقيمة، وهو محجوج بحديث ناقلة النَّبِيّ -صلّى الله عليه وسلّم- المتقدّم؛ ولأنّه لم يحصل في يده بعوضٍ فصار صاحبه أحقّ به بغير شيءٍ كما لو أدركه في الغنيمة قبل القسمة. فأمّا إن اشتراه رجل من العدوّ فليس لصاحبه أخذه إلّا بثمنه. وهذا كلّه إنّما هو في الكافر الأصلي. وأمّا المرتد فلا يملك مال المسلم بحال عند جميع العلماء، ولا يعلم أحد قال به. وقد تتبعت كتب الخلاف كالمغني والقواعد والإنصاف وغيرها فما رأيت خلافًا في أنّه لا يملكه، وإنّما الخلاف فيما أتلفه إذا كان في طائفةٍ ممتنعةٍ أو لحق بدار حربٍ، والمذهب أنّه يضمن ما تلف في يده مطلقًا، فافهم ذلك، فالمسلم يأخذ ماله من المرتدّ أو مِمَّن انتقل إليه بعوضٍ أو غيره بغير شيءٍ. وما تلف في يد المرتدّ من مال المسلم أو تلف عند مَن انتقل إليه من جهة المرتد فهو مضمون كالمغصوب. ثم اعلم أنّه قد يغلط مَن لا تمييز عنده في معنى التّلف والإتلاف فيظنّ أنّه إذا استنفق المال أو باعه أو وهبه ونحو ذلك يعدّ إتلافًا، وليس كذلك بل هنا تصرّف وانتفاع. وقد فرّق العلماء -رحمهم الله- بين هذا وبين الإتلاف. ومن صور الإتلاف والتّلف أن يضيّعه أو يضيّع أو يسرق أو يحرق أو يقتل ونحو ذلك. فإن كان بفعله فهو إتلاف، وإن كان بغير فعله فهو بالنّسبة إليه تلف يترتّب عليه أحكام ما تلف بيده، وبالنّسبة إلى الفاعل إتلاف. وضابطه: فوات الشّيء على وجه لا يعدّ من أنواع التّصرف. إذا عرفت أنّ حكم المرتدّ يفارق حكم الكافر الأصلي. فاعلم أنّه قد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- فيمَن اشترى مال مسلمٍ من التتر لما دخلوا الشّام إن لم يعرف صاحبه صرف في المصالح وأعطي مشتريه ما اشتراه به؛ لأنّه لم

يصر لها إلّا بنفقته، وإن لم يقصد ذلك. انتهى من الإنصاف. وسُئِل أيضًا* عمَّن اشترى فرسًا ثم ولدت عنده حصانًا، وأخذ السلطان الفرس وأهدى الحصان لرجلٍ فأعطاه عوضه، ثم ظهرت الفرس أنّها كانت مكسوبة نهبًا من قوم، فهل يحرم ثمن الحصان؟ فأجاب: إن كان صاحب الحصان معروفًا ردّت إليه فرسه، ورجع المشتري بالثّمن على بائعه ويرجع عليه بقيمة الحصان، أو قيمة نصفه الذي يستحقّه صاحبه لكونه غرّه. وإن كانت مكسوبة من التتر أو العرب الذين يُغير بعضهم على بعضٍ، فيأخذ هؤلاء من هؤلاء، وهؤلاء من هؤلاء، ولم يعرف صاحبها لم يحرم على مُهدي الحصان عوض هديته. والله أعلم. وقد صرّح شيخ الإسلام -رحمه الله تعالى- بأنّ هذا المنهوب يردّ إلى صاحبه أو قيمته إن تصّرف فيه ويرجع المشتري بالثّمن على البائع. وأنّه إن لم يعرف صاحب ما أخذ من التّتر والعرب لم يحرم عليه عوضه. فمفهومه أنّه إن عرف صاحبه فعوضه حرام على مَنِ اعتاض عنه لكونه ظهر مستحقًّا لمسلمٍ معصومٍ. وهذا أيضًا يفيده ما تقدم من قوله فيمَن اشترى مال مسلم من التّتر إن لم يعرف صاحبه صرف في المصالح ... الخ. وهو صريح في أنّ التّتر لا يملكون مال المسلم بالاستيلاء والحيازة. ومن المعلوم أنّ التّتر من أعظم النّاس كفرًا لما جمعوه من المكفِّرات في الاعتقادات والأعمال. ومع ذلك قال شيخ الإسلام: يردّ ما أخذوه لصاحبه المسلم من غير أن يدفع إلى مشتريه منهم شيئًا كما يفيده الجواب الثّاني. ولم يقل فيه إنّه لا يحرم على مَن اعتاض عن الحصان شيئًا إلّا بقيد عدم معرفة صاحبه بناء على أصله في الأموال التي جهلت أربابها. ولذلك قال في المكوس: إذا أقطعها

_ * أي شيخ الإسلام ابن تيمية، ولم أجد هذه المسألة فيما طبع من مصنفات شيخ الإسلام. [معد الكتاب للمكتبة الشاملة]

الإمام الجند، هي حلال لهم إذا جهل مستحقّها. وبهذا يظهر الجواب عن المسألة التّاسعة، وهو أنّ ما وقع في هذه السّنين من النّهب والظّلم يردّ ما وجد منه إلى مالكه من غير أخذ ثمنٍ ولا قيمةٍ. وحكم يد المشتري منهم حكم الأيدي المترتّبة على يد الغاصب لما تقرّر من أنّ الخلاف إنّما جرى في حقّ الكافر الأصلي. وأمّا المرتدّ ونحوه فالقول بأنّه لا يملك مال المسلم مسألة وفاق. وقد ذكر شيخ الإسلام -رحمه الله تعالى- في الفتاوى المصرية ما يفهم به الفرق بين الكافر الحربي والمرتدّ. فقال: وإذا قدر على كافرٍ حربيٍ فنطق بالشّهادتين وجب الكفّ عنه بخلاف الخارجين عن الشّريعة؛ كالمرتدّين الذين قاتلهم أبو بكر - رضي الله - والتّتر وأمثال هؤلاء الطّوائف مِمَّن نطق بالشّهادة ولا يلتزم شعائر الإسلام. وأمّا الحربي فإذا نطق بها كفّ عنه. وقال أيضًا: ويجب جهاد الكفّار واستنقاذ ما بأيديهم من بلاد المسلمين وأموالهم باتّفاق المسلمين، ويجب على المسلمين أن يكونوا يدًا واحدة على الكفّار، وأن يجتمعوا ويقاتلوا على طاعة الله ورسوله والجهاد في سبيله. انتهى. فيعلم ما تقرّر أنّ الأموال المنهوبة في هذه السّنين غصوب يجري فيها حكم الغصب، وما يترتّب عليه. وبهذا أفتى شيخنا الشّيخ عبد الله بن شيخنا الإمام محمّد -رحمهم الله-. وأفتى به الشّيخ محمّد بن عليّ الشّوكاني قاضي صنعاء اليمن، وما ظننت أنّ أحدًا له أدنى ممارسة في العلم يخالف ذلك. والله أعلم. المسألة العاشرة: قال السّائل: وجدت نقلًا عن الإقناع وشرحه: إذا ذبح السّارق المسلم أو الكتابي المسروق مسميًا حلّ لربّه ونحوه أكله

ولم يكن ميته كالمغصوب. انتهى. قال السّائل: وهل هذا إلّا مغصوب ويعارضه حديث عاصم بن كليب عن أبيه ... الخ؟ الجواب: لا معارضة؛ إذ ترك رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- وأصحابه الأكل منها لا يدلّ على أنّها ميتة من وجوه: منها: أنّها ليست ملكًا لهم، ولا لِمَن ذبحها فهي وإن حرمت عليهم فلا تحرم على مالكها، ولا مَن أذن له مالكها في الأكل منها، ويحتمل أنّه ترك الأكل منها تنَزُّهًا. ويدلّ على حلّها بهذه الذّكاة قوله: "أطعميه الأسارى". وهو لا يطعمهم ميتة. وقوله: كالمغصوب، راجع لقوله: حلّ، لا لقوله: ميتة شبه بذح الحيوان المغصوب في الحلّ لا في الحرمة. والله أعلم. المسألة الحادية عشرة: إذا كان لإنسان على آخر دَين من طعامٍ أو نحوه فأشفق في الوفاء فطلب غريمه أن يعطيه الثّمرة عن ماله في ذمّته فهل يجوز ذلك أم لا؟ فالجواب -وبالله التّوفيق-: قال البخاري -رحمه الله- في صحيحه: (باب إذا قاص أو جازفه في الدَّين فهو جائز). زاد في رواية كريمة: تمرًا بتمرٍ، أو غيره. وساق حديث جابر -رضي الله عنه- أنّ أباه توفي وترك عليه ثلاثين وسقًا لرجلٍ من اليهود فاستنظره جابر فأبَى ينظره، فكلّم جابر رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- ليشفع له إليه فجاء رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- فكلّم اليهود ليأخذ تمر نخله بالذي له فأبى ... الحديث. وبه استدلّ ابن عبد البرّ وغيره من العلماء -رحمهم الله- على جواز أخذ الثّمر على الشّجر عمّا في الذّمّة إذا علم أنّه دون حقّه إرفاقًا بالمدين، وإحسانًا إليه، وسماحة بأخذ الحقّ ناقصًا وترجم البخاري -رحمه الله- بهذا الشّرط فقال: (إذا قضى دون حقّه أو حلّله فهو جائز). ساق

حديث جابر -رضي الله عنه- أيضًا. فأمّا إذا كان يحتمل أنّه دون حقّه أو مثله أو فوقه، فهذا غير جائزٍ أن يأخذ عمّا في الذّمّة شيئًا مجازفة، أو خرصًا لاسيما إذا كان دَين سلم. لما روى البخاري وغيره عن ابن عمر -رضي الله عنهما- أنّ رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- قال: "مَن أسلف في شيءٍ فليسلف في كيلٍ معلومٍ أو وزنٍ معلومٍ إلى أجلٍ معلومٍ". ومضمون هذا الحديث عام. وبه أخذ الجمهور. وقد يقال: إنّ قضيّة جابر قضية عينٍ لا عموم لها. ويترجّح المنع سدًّا للذّريعة لاسيما في هذه الأوقات لكثرة الجهل والجراءة بأدنَى شبهة. والله أعلم. المسألة الثّانية عشرة: ما حكم الباطل والفاسد عند أهل الأصول الخ؟ الجواب: هما مترادفان عند الأصوليّين والفقهاء من الحنابلة والشّافعية. وقال أبو حنيفة: إنّهما متباينان؛ فالباطل عنده: ما لم يشرع بالكلّيّة؛ كبيع المضامين والملاقيح. والفاسد؛ ما شرع أصله ولكن امتنع لاشتماله على وصفٍ محرّمٍ؛ كالرّبا. وعند الجمهور كلّ ما كان منهيًّا عنه إمّا لعينه أو وصفه ففاسد وباطل، لكن ذهب بعض الفقهاء من الحنابلة إلى التّفرقة بين ما أجمع على بطلانه وما لم يجمع عليه، فعبّروا عن الأوّل بالباطل وعن الثّاني بالفاسد ليتميّز هذا من هذا، لكون الثّاني تترتّب عليه أحكام الصّحيح غالبًا، أو أنّهم قصدوا الخروج من الخلاف في نفس التّعبير؛ لأنّ من عادة الفقهاء من أهل المذاهب -رحمهم الله تعالى- مراعاة الخروج من الخلاف. وبعضهم يعبّر بالباطل عن المختلف فيه مراعيًا للأصل. ولعلّ مَن فرّق بينهما في التّعبير لا يمنع من تسمية المختلف فيه باطلًا فلا اختلاف. ومثل ذلك: خلافهم في الفرض والواجب. قال في القواعد الأصولية: إنّهما مترادفان شرعًا في أصحّ الرّوايتين عن أحمد.

قال شيخنا ووالدنا الشيخ عبد الرحمن بن حسن في أثناء كلام له

اختارها جماعة منهم: ابن عقيل. وقاله الشّافعية. وعن أحمد الفرض آكد اختارها جماعة. وقاله الحنفية. فعلى هذه الرّواية؛ الفرض ما ثبت مقطوع به وذكره ابن عقيل عن أحمد. وقيل: ما لا يسقط في عمدٍ ولا سهوٍ. وحكى بدليل ابن عقيل عن أحمد رواية أنّ الفرض ما لزم بالقرآن والواجب ما كان بالسّنة. وفائدة الخلاف: أنّه يثاب على أحدهما أكثر. وأنّ طريق أحدهما مقطوع به والآخر مظنون. ذكره القاضي. وذكرهما ابن عقيل على الأوّل, قال غير واحد: النِّزاع لفظي، وعلى هذا الخلاف ذكر الأصحاب مسائل فرّقوا فيها بين الفرض والواجب. والله أملم. وصلّى الله على محمّد وآله وصحبه وسلّم. وقال شيخنا ووالدنا الشّيخ عبد الرّحمن بن حسن في أثناء كلامٍ له*: وأمّا ما ذكرت من عقد المساقاة، هل هو جائز أو لازم؟ فالصّحيح اللّزوم، وهو الذي عليه الفتوى من زمن شيخنا شيخ الإسلام محمّد، ومن أخذ عنه، لا يختلف فيه اثنان منهم، واستمرّ الأمر على ذلك إلى الآن. وهو الصّواب. واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-. وقول بعض متقدمي الأصحاب إلّا أنّه عقد معاوضة فكان لازمًا كالإجارة، فيفتقر إلى ضرب مدّة. وأمّا ما ذكره الفقهاء من أنّ مؤنة ردّ مبيع تقايلاه على بائعه فهو المشهور. والسّلام. وقال أيضًا: وأمّا قوله في النّخل أن تحمرّ أو تصفرّ، فهو هذا الذي نراه. وذلك انقلابه بعد الخضرة إلى الحمرة والصّفرة. وأمّا أخذ بعض دَين السّلم خرصًا فالجمهور على المنع. وذكر ابن عبد البرّ -رحمه الله- عن بعض العلماء أنّه يجوز إذا أخذ دون حقّه. وبه أفتى شيخنا الشّيخ عبد الله بن الشّيخ محمّد رحمهما الله تعالى. وأمّا المسألة الثّانية: الذي ينبت على ماء المستأجر بغير إذن المالك

_ * هذا جواب مكرر على ثلاث مسائل، ذكر من قبل في (1/ 356). [معد الكتاب للمكتبة الشاملة]

37 - من عبد الرحمن بن حسن إلى المكرم عثمان بن عيسى

فهو للكداد، فإن أراد المالك أخذ بقيمته إذا تراضيا جاز ذلك، وإن قال: أقلعه فيقلعه. والسّلام. وما ذكرت من أمر مواريث كان في الأصل فصارت اليوم في يد غير أهلها يتصرّفون فيها تصرّف الملّاك. فالجواب: أنّ الذي استقرّت عليه فتوى شيخنا شيخ الإسلام إمام هذه الدّعوة الإسلامية أنّ العقار ونحوه إذا كان في يد إنسانٍ يتصرّف فيه تصرّف المالك من نحو ثلاث سنين فأكثر ليس له فيه منازع في تلك المدّة أنّ القول قوله أنّه يملكه؛ إلا أن تقوم بيّنة عادلة تشهد بسبب وضع اليد أنّه مستعير أو مستأجر ونحو ذلك. وأمّا الأصل فلا يلتفت إليه هذا الظّاهر. فقدم شيخنا -رحمة الله عليه- الظّاهر هنا على الأصل لقوّته وعدم المعارض. والله أعلم. - 39 - بسم الله الرّحمن الرّحيم من عبد الرّحمن بن حسن إلى المكرّم عثمان بن عيسى سلّمه الله. السّلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد؛ وصل خطك وصلك الله إلى خيرٍ والمحبّ بخير وعافية، ويحمد إليك الله لا إله غيره ولا ربّ سواه، وخواص إخوانك بخيرٍ وعافيةٍ، جعلنا الله وإيّاكم مِمَّن عرف النّعمة وقدرها، وشكر الله تعالى عليها بالاعتراف بها والذّلّ والخضوع والعبودية لمسديها. آمين. وتسأل عمَّن نفر من الحجّ ولم يطف طواف الزّيارة والسّعي ثم أراد السّفر لقضاء ما تركه فهل له إذا وصل إلى الميقات أن يحرم بعمرة مفردة ثم يأتي بما بقي عليه، وهل يجوز

38 - من عبد الرحمن بن حسن إلى الأخ عثمان بن بشر

إن كان الوقت لم يتّسع أن يحرم بالحجّ فإذا فرغ من أعماله أتى ببقيّة أعمال حجّه الأوّل؟ هذا ملخص السّؤال. الجواب: قال في شرح المنتهى: فلو تركه، أي: طواف الزّيارة وأتى بغيره من فرائض الحجّ وبَعُدَ عن مكّة مسافة القصر رجع إلى مكّة معتمرًا فأتى بأفعال العمرة ثم يطوف للزّيارة انتهى. وهذه مسألة السّائل أحد جزئياتها فيحرم بالعمرة متمتعًا بها إلى الحجّ، فإذا فرغ من أعمالها أتى بما تركه من طوافٍ وسعيٍ. أمّا إذا ضاق الوقت بأن لم يمكنه قدوم مكّة قبل الوقوف فيحرم قارنًا أو مفردًا، فإذا رمى جمرة العقبة وأفاض إلى مكّة وطاف طواف الزّيارة وسعى بعده رجع إلى البيت فأتى بما تركه عام أوّل من طواف وسعي. فإن قدم الطوّاف والسّعي الذي تركه على طواف حجّه الذي هو في أعماله جاز ذلك؛ لأنّ وقت طواف الزّيارة والسّعي موسّع فمتى فعله وقع أداء. هذا ما تقتضيه قواعد مذهبنا وأصوله. وغير مأمور، سلّم لنا على حمد بن فارس وحمد بن عبد الجبار وابن ناجم وخواص الإخوان. ومن عندنا خواص الإخوان وفيصل وآل الشّيخ وإبراهيم وابنه وكاتبه ناصر العربي يسلّم وأنت في أمان الله. والسّلام. - 40 - بسم الله الرّحمن الرّحيم من عبد الرّحمن بن حسن إلى الأخ عثمان بن بشر، سلّمه الله تعالى. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد؛ وصل الخط وصلك الله إلى ما يرضيه وسرّنا طيبك وصحّة حالك

عافانا الله وإيّاكم من كلّ سوء، وأعاذنا وإيّاكم من ولاة السّوء. والإمام وآل الشّيخ وخواص الإخوان تسرك حالهم كذلك طلبة العلم نبشّرك أنّهم كثيرون ويا أخي؛ المؤمن مرآة أخيه. جعلنا الله وإيّاكم من المؤمنين. وخطك سرّني من وجه وساءني من وجهٍ. وهو السّجع والمجازفة في المدح. فيا أخي لسنا مستحقّين لشيءٍ من ذلك فلا تعاملنا بمثل ذلك دعوة صالحة خير كلمة اشتهرت على الألسنة من غير قصدٍ، وهو قول الكثير في المكاتبات إذا سأل الله شيئًا قال: وهو القادر على ما يشاء. وهذه الكلمة يقصد بها أهل البدع شرًا وكلّ ما في القرآن: {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}، [المائدة، من الآية: 120]. وليس في الكتاب والسّنة ما يخالف ذلك أصلًا؛ لأنّ القدرة شاملة كاملة، وهي والعلم صفتان شاملتان يتعلقان بالموجودات والمعدومات. وإنّما قصد أهل البدع بقولهم، وهو القادر على ما يشاء، أي: إنّ القدرة لا تتعلّق إلّا بما تعلّقت المشيئة به. وأمّا الرّجل الذي ذكرت لي عنه فالذي ذكرت عنه من طرف الشّيخ -رحمه الله- والثّناء عليه ودعوته التي أنعش الله بها الخلق الكثير والجم الغفير في آخر هذا الزّمان والمشار إليه ما نظنّ فيه إلّا بحسن الرّأي في ذلك. بقي أنّ هنا أمورًا جزئية ينبغي من صاحب المقام التّخلّق بغيرها. وأمّا الأمر الذي عمت به البلوى فالسّالم منه قليل نادر، نسأل الله التّوفيق لحسن المتاب، وأمّا ما يقول النّاس من الكذب والافتراء لأجل أغراضهم الدّنيوية؛ فهذا طبعهم خصوصًا في هذه الأوقات والذي يصدق النّاس فيما نقلوه من الأوهام والأكاذيب يتعب ويأثم. وبلغ إخوانك السّلام، ومن لدينا الإمام ومَن ذكرنا وكاتبه عبد العزيز بن موسى ينهون السّلام. وأنت سالم. والسّلام.

39 - وجدت بخط الشيخ عبد الرحمن بن حسن -رحمه الله- ما صورته

- 41 - بسم الله الرّحمن الرّحيم وجدت بخط الشّيخ عبد الرّحمن بن حسن -رحمه الله- ما صورته: مسألة: هل (عَلَيَّ الطّلاق)، صريح أو كناية؟ أجاب بما لفظه: إنّ (عليّ الطّلاق) صريح كما قاله الضّمري. قال العلّامة زكريا: وهو الأوجه. بل قال الزّركشي: إنّه الحقّ في هذا الزّمن لاشتهاره في معنى التّطليق. فقول ابن الصّلاح في فتاويه: إنّه لا يقع به شيء محمول على أنّه لم يشتهر في زمنه، ولم ينو به الطّلاق. وقال الرّوياني في البحر عن المزني: إنّه كناية. انتهى. والمعتمد أنّه صريح وإن جرى شيخنا العلّامة المزني في عبابه على أنّه كناية. والله أعلم. انتهى من فتاوى ابن زياد. مسألة: رجل أسلم إلى آخر في طعامٍ معلومٍ إلى أجلٍ معلومٍ، ثم طلب المستحقّ المذكور من المستحقّ عليه المذكور أن يبيع عليه أرضًا يملكها بدَين السّلم المذكور في مجلس عقد السّلم فهل يصحّ البيع أم لا؟ الجواب: لا يصحّ البيع المذكور؛ لأنّه اعيتاض عن دَين السّلم، وهو غير صحيحٍ. والله أعلم. - 42 - بسم الله الرّحمن الرّحيم رأيت في فتاوى الإمام عبد الكريم بن زياد الشّافعي -رحمه الله تعالى- ما لفظه: وأمّا الوقف على الذّكور من الأولاد دون الإناث فقد عمّ في جهة الجبال لاسيما الجهة الوصابية والقرائن مشعرة بقصد حرمانهن بل ربّما يصرّحون بذلك، فالواجب القيام في إبطال هذا الوقف، وإن كنّا لا نشترط

فائدة

القربة في الوقف لقيام القرينة الدّالّة على قصد الحرمان الذي هو معصية. ومِمَّن أفتى ببطلان الوقف على الذّكور دون الإناث العلامّة الكمال الرّداد، وغيره. وقد أفتيت به مرارًا. والله أعلم. اهـ. ورأيت في موضعٍ آخر من فتاواه أيضًا: اعلم أنّ العلّامة الكمال الرّداد المعول عليه في الإفتاء في عصره أفتى ببطلان هذا الوقف المقترن بقصد الحرمان مع اطّلاعه على مقتضى كلام الشّيخين، وإنِّي أفتي بالبطلان لوجود المعصية، وهذا لا يخالف فيه الشّيخان ولا غيرهم، فالوقف باطل عند الشّيخين وغيرهم، وينتقض الحكم بصحّته ولا يخلو هذا القاضي من ارتكاب هوى أو عدم تأمّل لما أفتى به العلّامة الكمال الرّداد. وكيف يسع الرّداد أن يفتي بالبطلان ويخالف الشّيخين والأكثرين كما زعم هذا الزّاعم. وهذا مما لا يجوز اعتقاده فنعوذ بالله من نسبة العلماء إلى مثل ذلك. وكم من عائبٍ قولًا صحيحًا ... وآفته من الفهم السّقيم {فائدة}: قال شيخنا الوالد الشّيخ عبد الرّحمن بن حسن -رحمه الله تعالى- تحت رسالة أعماله من مسائل الرّبا والحيل المحرّمة: إنّ الأعمام -رحمهم الله تعالى- اختاروا بعد ذلك عدم التّفصيل خوفًا من الاسترسال، وردع العامّة الذين لا يحسنون التّفصيل ولا يفهمون الشّروط إلى الوقوع في الرّبا الصّريح فحسموا المادّة حسمًا تامًّا. انتهى كلامه رحمه الله وعفا عنه.

رسائل وفتاوى للشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن

رسائل وفتاوى للشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن ... رسائل وفتاوى الشّيخ عبد اللّطيف بن عبد الرّحمن بن حسن بن الشّيخ محمّد بن عبد الوهّاب -رحمهم الله جميعًا-. - 1 - بسم الله الرّحمن الرّحيم (من عبد اللّطيف بن عبد الرّحمن إلى الأخ المكرّم زيد بن محمّد، سلّمه الله تعالى) سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد؛ نحمد الله إليك الذي لا إله إلّا هو على نعمه. جعلنا الله وإيّاك من الشّاكرين الصّابرين. جاءنا منك خط وعادة الإخوان يتفقد بعضهم بعضًا لاسيما في أوقات الفتن التي تموج، وعند الحوادث التي هي على الأكثر تروج، وأوصيك بتقوى الله تعالى، والقوّة في دينك ونشر العلم خصوصًا في كشف الشّبهة التي راجت على مَن لا بصيرة له، ولم يفرّق بين البغاة والمشركين، ولم يدر أن نصر مَن استنصر من أهل الملّة على أهل الشّرك واجب على أهل الإيمان والدِّين. قال تعالى فيمَن ترك الهجرة واستنصر بالمؤمنين: {وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ}، [الأنفال، من الآية: 72]. ومن عقيدة أهل السّنة: أنّ الجهاد ماضٍ مع كلّ إمامٍ برٍّ أو فاجرٍ إلى يوم القيامة. واكتب لي جوابًا يكون عونًا على البرّ والتقوى. وردعًا لأهل الجهل والهوى، وبلّغ سلامنا الشّيخ حسين وحسين وحسين ورشيد ورشيد وخواص الإخوان. ومن لدينا العيال بخيرٍ وينهون السّلام. والسّلام.

2 - رسالة إلى زيد بن محمد

وله -رحمه الله تعالى- رسالة إلى زيد بن محمّد أيضًا وهذا نصّها: - 2 - بسم الله الرّحمن الرّحيم (من عبد اللّطيف بن عبد الرّحمن إلى الأخ زيد بن محمّد سلّمه الله تعالى) سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد؛ فأحمد إليك الله على إنعامه، والخط وصل وسرّنا سلامتك وعافيتك، وتعرف أنّ زمانك أشبه بزمن الفترات، وقلَّ مَن يعرف حقيقة الإسلام فضلًا عَمَّن يعمل به، ولله على مثلك عبودية هي من أفرض الفرائض وأوجب الواجبات، فلا تغفل عن نفسك ومعرفة ما أنت طالب به. {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ}، [الحجر الآيتان: 92 - 93]. وبلّغ عمّك وأولادك وأولاده السّلام. كذلك إخواننا في الله والوالد والعيال بخيرٍ وينهون السّلام. والسّلام. وله -رفع الله درجاته وتجاوز عن سيّئاته- رسالة إلى زيد بن محمّد آل سليمان أيضًا وهذا نصّها: - 3 - بسم الله الرّحمن الرّحيم (من عبد اللّطيف بن عبد الرّحمن إلى الأخ المحبّ زيد بن محمّد - زاده الله علمًا ووهب له حكمًا) سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد؛ فأحمد إليك الله الذي لا إله إلّا هو على سوابغ نعمه، والخط وصل وبه الأنس حصل؛ حيث أفاد سلامة مَن نحب ونشفق عليه.

4 - رسالة إلى زيد بن محمد آل سليمان

وما ذكرت من عدم المكاتبة فليس ذلك عن إهمالٍ، وإنّما كثرة الاشتغال وتشتت البال، وعدم الشّعور بأكثر القادمين إليكم، والسّؤال عنكم كثير، والدّعاء لكم غير قليلٍ، أرجو أنّه في ذات الله ولجلاله. وما ذكرت من حال أكثر النّاس وأنّهم دخلوا في الفتنة ولا أحسنوا الخروج منها، فالأمر كما وصفت. ولكن ذكر الحافظ الذّهبي أنّ حسينًا الصّائغ قال للإمام أحمد: سألت أبا ثور عن اللّفظية، فقال: مبتدعة. فغضب أحمد وقال: اللّفظية جهمية من أهل الكلام، ولا يفلح أهل الكلام أو كما قال؛ فأنكر على أبي ثور التّساهل في الإنكار، ورأى أنّ تعظيم الأمر والنّهي يقتضي غير ذلك من ذكر أوصافهم الخاصّة الشّنيعة، والغلظة في كلّ مقامٍ بحسبه. وفتنة البغي فتحت ناب الفتنة بالشّرك والمكفرّات ووصل دخنها وشررها جمهور من خاصّ فيها من منتسب إلى العلم وغيره. والخلاص منها عزيز إلّا مَن تداركه الله وردّه إلى الإسلام. ومَنَّ عليه بالتّوبة النّصوح وعرف ذنبه. وبلّغ سلامنا الأولاد والإخوان، ومن لدينا عبد العزيز وإخوانه وإسماعيل وإخوانه ينهون إليك السّلام. وأنت سالم. والسّلام. وله أيضًا - قدّس الله روحه ونوّر ضريحه - رسالة إلى زيد بن محمّد آل سليمان، وهذا نصّها: - 4 - بسم الله الرّحمن الرّحيم من عبد اللّطيف بن عبد الرّحمن إلى الأخ المكرّم المحبّ زيد بن محمّد آل سليمان، حفظه الله تعالى من طوائف الشّيطان، وجعلنا وإيّاه من أوعية العلم والإيمان، وحرسنا وإيّاه من مضلات الفتن وتلاعب الشّيطان.

سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد؛ فأحمد إليك الله الذي لا إله إلّا هو، وهو للحمد أهل، وهو على كلّ شيءٍ قدير. وأسأله اللّطف بنا وبكم، وبكافّة المسلمين عند كلّ كربٍ عسيرٍ، وقد بلغكم خبر الوقعة التي جرت على إخوانكم وتفاصيلها عن ألسن القادمين. وقد لطف الله بنا ودفع ما هو أشدّ وأعظم من استباحة البيوت والمحارم حين صارت الهزيمة، وجنّب عبد الله الديرة وكتب لسعود خطًا، ونادى في مخيمه بالكفّ عن الرّياض، وأنّ البلد سلمت فدفع الله بذلك شرًّا عظيمًا. وفي اليوم الثّاني وصلته في مخيمه، وأكثرت عليه في أمر المسلمين، وأظهر القبول وكفّ عن كثيرٍ من النّاس، وأدخل له طارفة في القصر واستقرّ أمره. وهذه الفتن أصاب الإسلام منها بلاء عظيم قلعت قواعده، وانهدمت أركانه، واجتثت بنيانه * وهل عند رسمٍ دارسٍ من معولِ * فالجواب: مساعدة إخوانكم بصالح الدّعاء ونشر العلم وبذل النّصائح وتقديم خوف الله على مخافة خلقه، وما منكم من أحدٍ إلّا وهو على ثغرٍ من ثغور الإسلام فلا يؤتى الإسلام من قبله، كذلك هذه الشّبهة التي حصلت والمكاتبات التي رسمت في شأن هذه الفتن مِمَّن ينتسب إلى العلم والدِّين، لا يسوغ لمثلك السّكوت عليها بل يجب التّنبيه على ما فيها. {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا}، [الطّلاق، من الآية: 2]. فاكتب لي بما يسّر عن مثلك وما هو الظّنّ بك، ولقولك بحمد الله موقع في نفوس المسلمين، كذلك لا تدّخر نصح سعود بالكتابة والنّصائح والتّذكير وابسط القول. وبلّغ السّلام الشّيخ حسين وأخبره أنّ حمولته بعافية ما مسّهم سوء، ولا تنسنا من صالح دعائك. والعيال: عبد الله وعبد العزيز أصابهم جراح سليمة إن شاء الله وهم يبلّغون السّلام. والسّلام.

5 - رسالة أيضا إلى زيد بن محمد آل سليمان

وله أيضًا -رحمه الله رحمة الأبرار، وجمعنا به في دار القرار- رسالة أيضًا إلى زيد بن محمّد آل سليمان، وهذا نصّها: - 5 - بسم الله الرّحمن الرّحيم من عبد اللّطيف بن عبد الرّحمن إلى الأخ المكرّم زيد بن محمّد، لا زال من العلم في مزيد، مناضلًا عن الإيمان والتّوحيد. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. والخط وصل وصلك الله إلى ما يرضيه. والأخبار عن سلامتك وعافيتك تسرّنا لاسيما في وقت الهرج والفتن، وتتابع الزّلازل والمحن، عصمنا الله وإيّاك بالإسلام على كلّ حالٍ وفي كلّ حالٍ. وما ذكرت من وصول الخط وتدبّر ما فيه صار معلومًا، نسأل الله أن ينفعنا وإيّاك بمواعظ كتابه وزواجر خطابه، وتذكر أنّه ما اعترض على حمد بن عتيق إلّا طلبته وبعض إخوان الحوطة، وأنّهم ما نقموا إلّا الميل مع أحد الرّجلين. فلا يخفاك أنّ المقام مقام ضنك واشتباه لا ينخلص منه إلّا مَن كان له نصيب وافر من نور الوحي والوراثة النّبويّة، ومَن سلم من الهوى وأدركته العناية الرّبانية. وفي حديث حذيفة: فهل بعد هذا الخير من شرٍّ؟ قال: "فتن كقطع اللّيل المظلم يتبع بعضها بعضًا، تأتيكم مشتبهة كوجوه البقر لا تدرون أيًّا من أي". انتهى. ومَن أشرت إليه من أهل الاعتراضات عامّتهم قد عرف قصورهم عن مقاومة الخصوم الفضلاء وأنَّى يدرك الضّالع شأو الضّليع، وترجيح أحد الرّجلين لا يذمّ مطلقًا إلّا إذا خلا من مرجّح شرعي. فالواجب عليك سدّ الباب عمّا يوهن الإسلام والتّوحيد، ويقوّي جانب الشّرك والتّنديد، فمن هذا الباب دخل من

6 - ورد عليه -رحمه الله تعالى- صورة استفتاء

كاتب العساكر ووالاهم وساكنهم وجامعهم، ولله ما استبيح بهذه الشّبهة من عرضٍ ومالٍ ودمٍ، وما أصاب الإسلام من نقصٍ وهدمٍ وهضمٍ. ومثلك لو سدّ هذا الباب، وأغلظ في الخطاب والجواب حتّى تتّفق الكلمة ويجتمع أهل الإسلام على جهاد عدوّ الله وعدوّهم، لكان خيرًا وأقوم قيلًا، وأهدى عند الله منهجًا وسبيلًا. والشّيخ محمّد بن عجلان رسالته عندي أظنّها بقلم ولده فجحدها مكابرة، والأولى لنا وله التّوبة ظاهرًا من الجناية الظّاهرة، لئلا يضلّ الغاوي ويحلّ القدر السّماوي؛ {أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}، [المائدة: 74]. وقد عرفت ما جرى وقت إسماعيل وخالد وما قيل فيمَن ركن إليهم واستنصر بهم وقاتل تحت رايتهم، بل قد عرفت ما قيل وما أفتى به المشايخ الأعلام فيمَن أقام بين ظهرانيهم وإن لم يحصل منه غير ذلك، ولكن الإسلام يخلق كما يخلق الثّوب وتضمحل حقائقه من القلوب حتّى لا تعرف معروفًا ولا تنكر منكرًا. والفتنة بالسّكوت عن نصر دِين الله من هؤلاء المنتسبين إلى العلم أضرّ على الإسلام من بعض كلام غيرهم من العامّة. والله المسؤول المرجو الإجابة أن يعيذنا وإيّاكم من الفتن ما ظهر منها وما بطن، وأن يَمُنَّ علينا بالثّبات على دينه وسلوك سبيل رسوله؛ {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا}، [الأحزاب: 39]. وبلّغ سلامنا الأولاد والشّيخ حسين وحسين بن عليّ، ومن لدينا عبد العزيز وإخوانه وأعمامه بخيرٍ وينهون السّلام. والسّلام. انتهى. وقد ورد عليه -رحمه الله تعالى- صورة استفتاء:

بسم الله الرّحمن الرّحيم وجه تسطيره والباعث على رقمه وتحريره هو أنّ الشّيخ أحمد بن عثمان بن شبانة لما ترشح للولاية حين كان يومئذٍ أهلًا لذلك نصب نفسه للاستنابة للمسلمين عدلًا منه، فأجر الشّيخ أحمد بن محمّد قطعة الأرض التي في قبلية الرّميحية وهي وقف إبراهيم بن سيف تصرّف غلتها على قوَّام دلو مسقاة مسجد إبراهيم بن سيف في الحوش في بلد المجمعة، فكانت حينا تزرع وأكثر الأعوام ما تزرع، فاجتهد أناس عدول في النّظر في المصلحة في دلو مسقاة، وفيما هو أنفع للمسلمين. وأنّ المصلحة أن تؤجّر الأرض المذكورة عدّة سنين، فتجعل الأجرة مقسطة على الأعوام فآجر أحمد المذكور أحمد المذكور الأرض المفروزة المحصورة كلّ عامٍ بعشرين محمّدية بصرية من ضرب البصرة الرّائجة يومئذٍ بين النّاس، فاستأجر أحمد المذكور من أحمد المذكور مع توفّر أركان الإجارة الخمسة المعروفة عند أهل المعرفة فصحّت الإجارة للإتيان بشروطها الثّلاثة المعتبرة، فصارت إجارة شرعيةً صحيحةً لازمةً مرضيةً جاريةً على قانون الشّرع وجادته النّقية وأحكامه الواضحة الجليّة. لا يتطرّق إليها بطلان ولا فساد بالكلّيّة، فبموجب ذلك شرعًا وصحّته ونفوذه ولزومه حكمًا لم يبق لِمَن آجر ولا لِمَن يأتِي من جهتهم في ذلك المؤجّر حقّا ولا تبعة ولا طلبة بوجهٍ من الوجوه الشّرعية، بل صار ذلك ملكًا ثابتًا وحقّا لازمًا ومالًا محيوزًا لأحمد بن محمّد التّويجري يتصّرف فيه ما شاء بما شاء من غير مانعٍ ولا موازع. شهد على ذلك من أوّله إلى آخره الشّيخ سليمان بن عبد الوهّاب.

وشهد على ذلك من أوّله إلى آخره وحرّره وأثبته وثبت عنده وصحّ شرعًا وأمضاه وألزمه حكمًا خادم الشّرع الشّريف الفقير إلى عفو ربّه سبحانه محمّد بن عثمان بن عبد الله بن شبانة. وصلّى الله على محمّد وآله وصحبه وسلّم. جرى ذلك سنة: 1186 هـ. فأجاب عن ذلك بما يأتي: - 6 - بسم الله الرّحمن الرّحيم من عبد اللّطيف بن عبد الرّحمن إلى الإخوان: حمد بن ركبان، وسليمان الحقيل، ومحمّد الحمضي، وعبد الله السّناني، وحمد بن عثمان بن صالح، وعبد الله بن محمّد، وعثمان بن عبد الله بن عولة، وجماعة أهل مسجد إبراهيم. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. والخط وصل وصورة الحفيظة وصلت، وما ذكرتم صار معلومًا خصوصًا من جهة الصّبرة التي في وقف ابن سيف وما أصابه من التّعطيل فلا يخفاكم أنّ مدّة الإجارة إذا انقضت وفي الأرض شجر أو بناء فيبقى الشّجر والغرس والبناء بأجرة المثل إن شاء ربّ الأرض، فإن كانت وقفًا فأمرها إلى النّاظر الخاصّ إن كان، وإلّا فإلى الحاكم الشّرعي؛ لأنّ له النّظر العامّ ولا عبرة بأجرة الأرض مدّة الإجارة المذكورة بعد انقضائها، فالذي أرى أنّ الأرض المغروسة تبقى على عادة المغارسة في تلك البلد حتّى يفنى الغراس ولا يحتاج لذكر مدّة. هذا إن كان فيه مصلحة الوقف، وإلّا فالأمر إلى النّاظر المتقدم ذكره. والحجّة التي نقلت من وثيقة ابن شبانة وصلت إلينا ولها مائتا سنة وسنتان، وعلى القول بصحّتها قد انقضت

7 - من عبد اللطيف بن عبد الرحمن إلى الأخ المكرم الشيخ عبد العزيز بن حسن

مدّة الإجارة التي يصحّحها بعض الفقهاء مع أنّ الوثيقة لم تذكر فيها مدّة الإجارة، وترك ذكر المدّة للعقد فيحتمل أنّ المدّة ذكرت في مجلس العقد ولم تذكر في الوثيقة. والله أعلم أيّ ذلك كان. وفي الحجّة أنّ ابن شبانة نصب نفسه وتولّى الأحكام من غير ولاية شرعية، والإجارة لم تصدر عمَّن يعتبر تصرّفه في الوقف. وفي الحجّة أنّه قال: لم يبقَ لِمَن آجر ولا لِمَن يأتي من جهته في ذلك المؤجر حقّ ولا تبعة ولا طلبة بوجهٍ من الوجوه الشّرعية، بل صار ذلك ملكًا ثابتًا وحقًّا لازمًا ومالًا محيوزًا لأحمد بن محمّد التّويجري، وليس الأمر كذلك في الإجارة؛ لأنّ الملك للمؤجّر لا للمستأجر، والمستأجر له الانتفاع فقط، وإنّما يقال ذلك في البيع الشّرعي. وهذا الجهل قادح في حكمه، وليس للمستأجر إلّا ما أحدث من شجرٍ أو بناءٍ. وبعد انقضاء مدّة الإجارة يبقى في الأرض بأجرة المثل إن شاء النّاظر وكانت المصلحة في ذلك كما تقدم. وبلّغوا سلامنا الجماعة. والعيال يسلّمون عليكم. والسّلام. سنة: 1289 هـ. وصلّى الله على محمّد وآله وأصحابه أجمعين. - 7 - بسم الله الرّحمن الرّحيم من عبد اللّطيف بن عبد الرّحمن إلى الأخ المكرّم الشّيخ عبد العزيز بن حسن -سلّمه الله تعالى-. آمين. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد؛ أحمد إليك الله الذي لا إله إلّا هو على نعمه. وخطك وصل وتأخّر جوابه لكثرة الاشتغال. والله المستعان. وتسأل عن وجوب صلاة الجمعة على أهل القرى الذين لم يبلغ العدد فيهم أربعين من أهل الوجوب.

اعلم أنّهم اتّفقوا على أنّ من شرط وجوبها وصحّتها الجماعة. واختلفوا في مقدار الجماعة. فمنهم مَن قال: واحد. والإمام. هذا مذكور عن ابن جرير الطبّري. ومنهم مَن قال: اثنان سوى الإمام. لأنّ أقلّ الجمع اثنان. ومنهم مَن قال: ثلاثة دون الإمام. وقائل هذا يرى أنّ أقلّ الجمع عنده ثلاثة لا اثنان. والكلام مبسوط في أقل الجمع في شرح التّحرير وغيره. والقول الأخير هو قول أبي حنيفة. ومنهم مَن اشترط أربعين. وهو قول الشّافعي وأحمد. وقال قوم: ثلاثين. ومنهم مَن قال: يجوز بما دون الأربعين إلّا الثّلاثة والأربعة. ولم يشترط عددًا، وإنّما ذكر جوابًا أوردوه. وهو أنّه لا تجب إلّا على عددٍ تتقرى بهم قرية. وأصحاب القولين الأوّلين أخرجوا الإمام عن مسمَّى الجمع للاختلاف في دخوله في مسمّى الجماعة. وأصحاب القول الأخير يقولون: الجمع في غالب الأحوال له حكم غير ما يطلق عليه اسم الجمع في جميعها بل هم الذين يمكنّهم أن يسكنوا على حدّة من النّاس. وهذا يروى عن مالك. ويروى عنه أيضًا اشتراط اثني عشر من أهل الوجوب، وكلا القولين معروف. ومن شرط الأربعين كالشّافعي وأحمد وجماعة من السّلف فإنّما صاروا إلى ما صحّ من أنّ هذا العدد كان في أوّل جمعة صلّيت بالنّاس، فهذا هو أحد شرطيها، أعنِي شرط الوجوب وشرط الصّحّة؛ فإنّ من الشّروط ما هو شرط الوجوب فقط، ومنها ما يجمع الأمرين. واختار شيخ الإسلام ابن تيمية أنّ هذا الشّرط للوجوب فقط لا الصّحّة، وهذا من أحسن الأقوال وبه يتّفق غالب كلام المحقّقين. إذا عرفت هذا، فإنّهم اختلفوا في الأحوال المرتّبة التي اقترنت بهذه الصّلاة عند فعله إيّاها -صلّى الله عليه وسلّم-، هل هي شرط في الصّحة والوجوب أم ليست بشرطٍ؟

8 - ما قولكم -سدد الله أقوالكم- فيمن يدعو المسلم لأمه مع معرفة أبيه، هل يسوغ ذلك أو لا؟ وما قولكم في الاستئذان، هل يسوغ تركه إذا كان في المجلس من الرجال الأجانب من قد أذن له، أو لا بد من الاستئذان والحالة هذه؟

وتلك الجماعة والمصر والاستيطان فمَن رآه دليلًا اشترطها، ومنهم مَن رجّح بعضها دون بعضٍ واشترطه في المرجّح لا غير، وبعضهم لم يرها دليلًا، ورجع في الاشتراط والوجوب إلى أدلّة أخرى لعموم الجماعة في سائر الصّلوات، ولقائل أن يقول: لو كانت هذه الأحوال شروطًا في صحّة الصّلاة لما جاز أن يسكت عنها رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم-، ولا أن يترك بيانها لقوله تعالى: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ}، [النّحل، من الآية: 44]. هذا ما يحضرنِي، فإن رأيت خللًا فلا جناح عليك في إصلاحه. والسّلام. - 8 - بسم الله الرّحمن الرّحيم ما قولكم -سدّد الله أقوالكم- فيمَن يدعو المسلم لأمّه مع معرفة أبيه، هل يسوغ ذلك أو لا؟ وما قولكم في الاستئذان، هل يسوغ تركه إذا كان في المجلس من الرّجال الأجانب مَن قد أذن له، أو لا بدّ من الاستئذان والحالة هذه؟ فالجواب: أنّ الله جلّ ذكره قال في شأن زيد بن حارثة -رضي الله عنه- لما دعاه النّاس: زيد بن محمّد: {وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ}، [الأحزاب، من الآيتين: 4 - 5]. وهذه الآية الكريمة دلّت على وجوب دعاء الرّجل لأبيه، فإن جهل فيدعى بالإخوة الإسلامية أو بمولى فلان أو آل فلان، ولم يذكر قسمًا رابعًا، وهو دعاؤه إلى أمّه، ونسبة الرّجل إلى أمّه تأنف منه العرب وأهل المروءة فضلًا عن أهل العلم والدِّين لما في ذلك من غمط والده والتّنويه بأمّه بين الأجانب وما ظننت عاقلًا يرضى هذا، ويستحسنه فضلًا عن أن ينكر على مَن كرهه ونهى عنه. والآية وإن كانت نصًّا في دعوة الرّجل إلى مَن تبنّاه، غير أبيه

9 - ورد عليه رحمه الله هذه المسألة

فهي عامّة في دعائه لأمّه؛ لأنّ قوله: {ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ}، [الأحزاب، من الآية: 5] نصّ في أنّه لا يدعى لغيره، ولا شكّ في دخول الأمّ في الغير، وعلى هذا، فالنّصّ عامّ. وإن قيل بخصوصه أخذًا من خصوص السّبب فلا مانع من إلحاق النّظير بنظيره. والجمهور يرون في هذه المسألة أنّ عموم اللّفظ مقدّم في الاعتبار على خصوص السّبب، والأوّل قال به بعض الأصوليّين، وجماهير أهل العلم، والتّأويل قد رجّحوا الثّاني، وقوله: {ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ}، [الأحزاب، من الآية: 5]، عامّ في ترك دعائهم لغيرهم وإن كان المدعوّ إليه أُمًّا فتفطن. وأمّا المسألة الثّانية: فنصّ آية الاستئذان عامّ تدخل فيه هذه الصّورة المسؤول عنها، وإدخال زيد وعمرو ليس فيه دلالة على الإذن لبكر وخالد، فكلّ قادم يشرع له أن يستأذن إذا أراد دخول بيت وغيره، إلّا أن يأذن ربّ البيت إذنًا عامًا صريحًا لكلّ مَن دخل، والمعروف من أقوال أهل العلم أنّ فتح الباب ليس صريحًا في الإذن كما في الحديث: "دع ما يريبك إلى ما لا يريبك". والله أعلم. وورد عليه رحمه الله هذه المسألة: - 9 - بسم الله الرّحمن الرّحيم إلى الأخ المكرّم والحبر المفخم الشّيخ عبد اللّطيف بن الشّيخ عبد الرّحمن لطف الله به في الدّارين، وجعله مِمَّن يؤتى أجره مرّتين، وحفه بالألطاف وأمنه مما يحذر ويخاف. آمين. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد؛ متّعنا الله بحياتك دعت الحاجة إلى الفتيا المباركة من عندك، وهي أنّ رجلًا تزوّج امرأة على صداق خمسة ريالات فلما جاء

10 - من عبد اللطيف بن عبد الرحمن إلى الأخ المكرم خالد بن إبراهيم آل قطنان، ومحمد بن عيسى

الصّبح أعطاها ثلاثة ريالات فلما أتى بعد ذلك ادّعى أنّ الثّلاثة التي أعطاها صباحة من الصّداق المذكور، وعادة بنات عمّها وأخواتها صباحتهن أكثر من ذلك. أفتنا مأجورًا وأجب جوابًا شافيًا تغنم أجرًا وافيًا. وأنت في أمان الله وحفظه. والسّلام. بسم الله الرّحمن الرّحيم الجواب: ما أعطاه الزّوج زوجته من الهبة عند الدّخول والبناء بها مما به جرت العادة لأمثالها من أمثاله كالذي تعطاه صبيحة الدّخول لا يحتسب به من صداقها عند المفارقة أو المطالبة بالصّداق، ولو نوى ذلك لعدم الإعلام والإشهاد عند القبض. والله أعلم. - 10 - بسم الله الرّحمن الرّحيم من عبد اللّطيف بن عبد الرّحمن إلى الأخ المكرّم خالد بن إبراهيم آل قطنان، ومحمّد بن عيسى سلّمهما الله تعالى وتولّاهما. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد؛ فنحمد إليكما الله الذي لا إله إلّا هو على سوابغ نعمه، جعلنا الله وإيّاكم من عباه الشّاكرين. والخطوط وصلت وصلكم الله إلى ما يرضيه. وأنا حريص على جوابها لكن ما تيسّر لي طارش قبل حامل هذا الخط. ومن جهة الفائدة فأجل الفوائد وأشرفها ما دلّ عليه الكتاب العزيز من معرفة الله بصفات كماله، ونعوت جلاله، وآياته ومخلوقاته، ومعرفة ما يترتّب على ذلك من عبادته وطاعته وتعظيم أمره ونهيه، وأدلّة ذلك مبسوطة في كتاب الله، وأكثر النّاس ضلّ عن هذين الأصلين مع أنّهما زبدة الرّسالة، ومقصود

النّبوّة، ومدار الأحكام عليهما، والعجب كلّ العجب أنّ حفظة القرآن وحملة الأحاديث والآثار ضلّوا عمّا هو محفوظ في صدورهم، متلوّ بألسنتهم، وطلبوا العلم من غيره فضلّوا وأضلّوا، فعليكم بطلب العلم النّافع لاسيما ما يُسْأَل عنه العبد في قبره: مَن ربُّك، وما دينك، ومَن نبيّك؟ اعرفوا تفاصيل هذا، ومعنى الرّبّ في هذا المحلّ، وتفقّهوا في هذه الأصول قبل أن تزلّ قدم وتزول. وأمّا الفرق بين المداراة والمداهنة، فالمداهنة: ترك ما يجب لله من الغيرة والأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، والتّغافل عن ذلك لغرضٍ دنيويٍّ، وهوى نفساني، كما في حديث: "إنّ مَن كان قبلكم كانوا إذا فعلت فيهم الخطيئة أنكروها ظاهرًا، ثم أصبحوا من الغد يجالسون أهلها ويآكلونهم ويشاربونهم كأن لم يفعلوا شيئًا بالأمس"، فالاستئناس والمعاشرة مع القدرة على الإنكار هي عين المداهنة. قال الشّاعر: وثمود لو لم يدهنوا في ربّهم ... لم تدم ناقتهم بسيف قدار وأمّا المداراة فهي درء الشّرّ المفسد بالقول اللّين، وترك الغلظة أو الإعراض عنه إذا خيف شرّه أو حصل منه أكبر مما هو ملابس. وفي الحديث: "شرّكم مَن اتقاه النّاس خشية فحشه". وعن عائشة -رضي الله عنها- أنّه استأذن على النَّبِيّ -صلّى الله عليه وسلّم- رجلٌ فقال: "بئس أخو العشيرة هو"، فلمّا دخل على النَّبِيّ -صلّى الله عليه وسلّم- ألان له الكلام. فقالت عائشة: قلت فيه يا رسول الله ما قلت؟ فقال: "إنّ الله يبغض الفحش والتّفحش". والمسألة تحتاج لبسط إذا جاء منيف نملي عليه إن شاء الله ما تيسّر. وبلّغوا سلامنا إخوانكم وعيالكم ومنيفًا وابن عجيم. ولدينا الإمام وعيالنا طيّبون يبلّغون السّلام. وصلّى الله على محمّد وآله وصحبه وسلّم.

11 - مسائل سألنا عنها أهل نجد وأجاب عنها الشيخ عبد اللطيف بن الشيخ عبد الرحمن

- 11 - بسم الله الرّحمن الرّحيم هذه المسائل سألنا عنها أهل نجد وأجاب عنها الشّيخ عبد اللّطيف بن الشّيخ عبد الرّحمن: الأولى: عمّا يحكم به أهل السّوالف من البوادي وغيرهم من عادات الآباء والأجداد، هل يطلق عليهم بذلك أنّهم كفّار بعد التّعريف أم يخصّ به واحد معلوم أم هم يمنعون من التّكفير معًا؟ الجواب: إنّ مَن تحاكم إلى غير كتاب الله وسنة رسوله بعد التّعريف فهو كافر. قال تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ}، [المائدة، من الآية: 44]. وقال تعالى: {أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ} الآية، [آل عمران، من الآية: 83]. وقال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ} الآية، [النّساء، من الآية: 60]. وقال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} الآية، [النّحل، من الآية: 36]. والآيات في هذا المعنى كثيرة. وأمّا المعاملات في الدّيون؛ فالمسألة الأولى: رجل باع ربويًا بدارهم نسيئة والأجل بينهم حصاد الزّرع فلمّا حلّ الأجل عسرت الدّراهم على المبتاع وهو موسر بحبّ أو تمر، هل يحلّ للبائع أخذ الطّعام بسعر الدّراهم أم لا؟ الجواب: أنّ هذه المسألة فيها خلاف بين العلماء. والمذهب في ذلك المنع. وهو الذي عليه مشايخنا. وجوّز ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية إذا لم يكن بينهما حيلة.

12 - سؤال ورد على الشيخ عبد اللطيف رحمه الله

المسألة الثّانية: صفة الأوّل لكن المباع قهوة، هل يحلّ أخذ الطّعام بسعره مع عدم الدّارهم أم لا؟ الجواب: عن هذه المسألة جواب ما قبلها. المسألة الثّالثة: هل يحلّ الدَّين في الصّمغ أم لا؟ الجواب: نعم. يجوز؛ لأنّه يضبط بالصّفة. المسألة الرّابعة: إذا كان عند إنسانٍ طعام أو قهوة أو نحو ذلك، وأتاه رجل وقال له أعطنِي سعر ريال بريالين نسيئة، هل يصحّ ذلك أم لا؟ الجواب: يصحّ بغير خلاف. المسألة الخامسة: رجل قال لرجلٍ: اشتر لي هذه الدّابّة ونحوها بمثنٍ عاجلٍ وبعنيه بالمثلين آجل، هل يصحّ ذلك أم لا؟ الجواب: أنّ هذه المسألة مسألة العينة التي وردت الأحاديث عن رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- فيها بتحريمها وأنّها عين الرّبا. تَمَّت المسائل. نفع الله بها السّائل مسفر بن محمّد العجيلان، والمجيب الشّيخ عبد اللّطيف بن الشّيخ عبد الرّحمن. سنة: 1385 هـ. - 12 - صورة سؤال ورد على الشّيخ عبد اللّطيف رحمه الله. أوصى عبد الله بن أحمد بثلث ماله تقربًا إلى الله وطلبًا للثّواب، وقفًا على أولاده ما تعاقبوا وتناسلوا، والوقف المذكور على أولاده لصلبه مِمَّن ينتسب إليه، وأوصى عبد الله المذكور بأنّ عثمان ابن ابنه أحمد داخل في وقف الثّلث له مثل ما لأبيه. الجواب: أشرفت على ما ذكر باطن هذه الوصية، فرأيتها صحيحة

13 - من عبد اللطيف بن عبد الرحمن إلى الأخ محمد بن عمير

يشترك فيها أولاد الموصى لصلبه ذكرهم وأنثاهم، وما ذكر لعثمان ولد ولده صحيح، ينْزل منْزلة أبيه وأعمامه، ويقاسمهم حصتهم كما ذكره الموصي، ولا يحجب الأعلى منهم مَن دونه. - 13 - بسم الله الرّحمن الرّحيم من عبد اللّطيف بن عبد الرّحمن إلى الأخ محمّد بن عمير وفّقه الله تعالى لفعل الإيمان وقول الخير. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد؛ وصلتنا خطوطك ومنظومتك، والله سبحانه وتعالى المسؤول أن يَمُنَّ علينا وعليك بمعرفة الحقّ بدليله، والدّعوة إلى الله وإلى سبيله، وتعرف أنّا رأينا من أجناس المعاندين وأعيان المشركين خلقًا كثيرًا ولم نر مثل هذا المفتون في جهله وضلالته وشناعة معتقده ومقالته. وقد رأيت كتابه الذي سمّاه: (جلاء الغمّة) * ورأيت حشوه من مسبّة دِين الله والصّدّ عن سبيله، والكذب على الله وعلى رسوله، وعلى أولي العلم من خلقه وأئمة الهدى ما لم نرَ مثله للمويس وابن فيروز والقباني وأمثالهم، مِمَّن تجرّد لعداوة الدِّين ومسبّة مشايخ المسلمين، فابتدأ مصنِّفه بمسبّة الشّيخ وأنّ الله ابتلى به أهل نجد وجزيرة العرب، وأنّه كفر الأمّة عامّها وخاصّها، وجعل من يبني المساجد ويرفع المنار مشركين أصليين، وأنّ قوله يتناقض، وأنّه أخذ أموال المسلمين وجعلها فيئًا له ولعياله، وأنّ خطاب النَّبِيّ -صلّى الله عليه وسلّم-، وخطاب الموتى بطلب الشّفاعة وغيرها من المطالب ليس بشركٍ، ويستدلّ على ذلك بأحاديث موضوعة وحكايات مكذوبة، ويزعم أنّ مَن له الشّفاعة يوم

_ * هذا الكتاب منسوب لعثمان بن منصور (ت 1282 هـ)، والمرسَل إليه لعله: محمد بن حمد بن عمير بن عبدالله بن ناصر الناصري الحنبلي، معدود من تلاميذ عثمان بن منصور، وقد رد الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن على الكتاب المذكور في كتابه العظيم "مصباح الظلام في الرد على من كذب على الشيخ الإمام ونسبه إلى تكفير أهل الإيمان والإسلام". [معد الكتاب للمكتبة الشاملة]

القيامة يجوز دعاؤه وطلبه في هذه الحياة الدّنيا ويسوغ التّوجّه إليه، وأنّ صاحب البردة قد أحسن وأصاب ويستدلّ من جهله على ذلك بأنّه رواها عن فلان وفلتان، وهيان ابن بيان، وابن حجر وأبي حيان، وغير ذلك من طوائف الشّيطان، ويرد بمثل هذا نصوص السّنة والقرآن، نعوذ بالله من الجهل والحمق والخذلان. وكأنّ الرّجل من رجال الجاهلية الأولى لم يأنس بشيءٍ مما جاءت به الأنبياء، ولم يدر ما كان عليه السّلف الصّالحون والأولياء، ويحتجّ على بطلان دعوة شيخنا بأنّ بلاده بلاد مسيلمة الكذّاب، ولم يدر أنّه عاب بذلك أهل الإسلام مَن سكن مصر والشّام والعراق والحرمين، وسائر البلاد الإسلامية التي سكنها مَن نازع الله في الرّبوبية والألهية. فيا ويحه إن لم تداركه توبة ... لسوف يرى للمجرمين مرافقا وله من ركة القول وفهاهة الخطاب، وعدم المعرفة بقواعد الإعراب، ما يوجب تشبيهه بسائمة الأنعام وثور الدّولاب. وقد حررت إليك بهذه البطاقة لتقرأها على الخاصّة والجماعة، وتنذر مَن سمع شيئًا من مقالته أن يغترّ بجهالته وضلالته، {وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيل}، [الأحزاب، من الآية: 4]. وسلام على إخواننا الصّادقين ورحمة الله وبركاته.

رسائل وفتاوى للشيخ حسن بن حسين بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب

رسائل وفتاوى للشيخ حسن بن حسين بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب ... رسائل وفتاوى الشّيخ حسن بن الشّيخ حسين بن الشّيخ محمّد -رحمهم الله تعالى-: - 1 - بسم الله الرّحمن الرّحيم نحمدك اللهمّ على نعمك وآلائك، ونصلّي ونسلّم على خاتم رسلك وأنبيائك. (من حسن بن حسين إلى الأخ إبراهيم بن عيدة) سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. أما بعد؛ فقد وصل الكتاب بطلب الجواب عن سؤالات ثلاثة، وهذا جوابها وقدمنا الجواب عن معنى الحديثين وإن تأخّر في السّؤال تعظيمًا لهما وإجلالًا. السّؤال الأوّل: عن معنى قوله -عليه السّلام-: "لا ضرر ولا ضرار". فالجواب: قال أبو الفرج ابن رجب في شرح الأربعين في الكلام على هذا الحديث: وقد اختلفوا هل بين اللّفظتين -أعنِي الضّرر والضّرار- فرق أم لا؟ فمنهم مَن قال: هما بمعنىً واحدٍ على وجه التّأكيد. والمشهور أنّ بينهما فرقًا، ثم قيل: إنّ الضّرر: الاسم، والضّرار: الفعل، فالمعنى: أنّ الضّرر نفسه منتفٍ في الشّرع، وإدخال الضّرر بغير حقٍّ كذلك. وقيل: الضّرر أن يدخل على غيره ضررًا بما ينتفع به هو، والضّرار أن يدخل على غيره ضررًا بما لا منفعة له به؛ كمَن منع ما لا يضرّه ويتضرّره به الممنوع. وقيل: إنّ الضّرر أن يضرّ بِمَن لا يضرّه، والضّرار أن يضرّ بِمَن قد أضرّ به بوجهٍ غير جائز. وبكلّ حال فالنَّبِيّ -صلّى الله عليه وسلّم- إنّما نفى الضّرر والضّرار بغير حقٍّ. فأمّا إدخال الضّرر على أحد بحقٍّ إمّا لكونه تعدّى حدود الله فيعاقب

بقدر جريمته، أو كونه ظلم غيره فيطلب المظلوم مقابلته بالعدل، فهذا غير مراد قطعًا. وإنّما المراد إلحاق الضّرر بغير حقٍّ. وهذا على نوعين: أحدهما: أن يكون في ذلك غرض سواء ضرر بذلك أو لا، فهذا لا ريب في قبحه وتحريمه. وقد ورد النّهي في القرآن عن المضارّة في مواضع؛ منها: الوصيّة، قال الله تعالى: {غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ}، [النّساء، من الآية: 12]. والإضرار بالوصيّة يكون تارة بأن يخصّ بعض الورثة بزيادة على فرضه الذي كتب الله له فيستضرّ بقية الورثة بتخصيصه. ولهذا قال النَّبِيّ -صلّى الله عليه وسلّم-: "لا وصيّة لوارثٍ". وتارة بأن يوصي لأجنبِيّ بزيادة على الثّلث فينقص حقوق الورثة، ولهذا قال النَّبِيّ -صلّى الله عليه وسلّم-: "الثّلث والثّلث كثير". ومتى أوصى لوارثٍ أو لأجنَبِيٍّ بزيادةٍ على الثّلث لم ينفّذ ما أوصى به؛ إلّا بإجازة الورثة، وسواء قصد المضارة أو لم يقصد. وأمّا إن قصد المضارة لأجنَبِيّ بالثّلث فإنّه يأثم بقصده المضارة، وهل ترد الوصية إذا ثبت ذلك بإقراره أم لا؟ حكى ابن عطيّة رواية عن مالك أنّها ترد، وقيل: إنّه قياس مذهب أحمد. ومنها: الرّجعة في النّكاح، قال الله تعالى: {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} الآية، [البقرة، من الآية: 231]. وقال تعالى: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلاحًا}، [البقرة، من الآية: 228]. فدلّ ذلك على أنّ مَن كان قصده بالرّجعة المضارة فإنّه آثم بذلك. ومنها: الإيلاء، فإنّ الله تعالى جعل مدّة الإيلاء للمولي أربعة أشهر إذا حلف على امتناع وطء زوجته؛ فإنّه يضرب له أربعة أشهر، فإن فاء ورجع إلى الوطء كان ذلك توبة، وإن أصرّ على الامتناع لم يمكن من ذلك. ثم فيه قولان للسّلف والخلف: أحدهما: أنّها تطلق عليه بمضي هذه

المدّة. والثّاني: أنّه يوقف فإن فاء وإلّا أمر بالطّلاق. ومنها: الرّضاع، قال الله تعالى: {لا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ}، [البقرة، من الآية: 233]. قال مجاهد: لا يمنع أمّه أن ترضعه ليحزنها بذلك. وقال عطاء وقتادة والسّدّي والزّهري وسفيان وغيرهم: إذا رضيت بما يرضى به غيرها فهي أحقّ به، وهذا هو المنصوص عن أحمد، ولو كانت الأم في حبال الزّوج. وقيل: إن كانت الأم في حبال الزّوج فله منعها عن إرضاعه إلّا أن لا يمكن ارتضاعه من غيرها وهو قول الشّافعي وبعض أصحابنا. لكن إنّما يجوز ذلك إذا قصد الزّوج توفير الزّوجة للاستمتاع لا مجرّد إدخال الضّرر عليها. ومنها: البيع، وقد ورد النّهي عن بيع المضطرّ، وقال حرب: سُئِلَ أحمد عن بيع المضطّر فكرهه. فقيل له: كيف هو؟ قال: يجيئك فتبيعه ما يساوي عشرة بعشرين. وقال أبو طالب: قيل لأحمد: إن ربح العشرة خمسة فكره ذلك. ومن أنواع الضّرر في الشّرع التّفريق بين الوالدة وولدها في البيع، فإن كان صغيرًا حرم بالاتّفاق، فإن رضيت الأم بذلك ففي جوازه اختلاف. ومسائل الضّرر في الأحكام كثيرة، وإنّما ذكر هذا على وجه المثال. وأمّا النّوع الثّاني: أن يكون له غرض غير صحيحٍ؛ مثل: أن يتضرّر في ملكه بما فيه مصلحة له فيتعدّى ذلك إلى ضرر غيره أو يمنع غيره من الانتفاع في ملكه توفيرًا فيتضرّر الممنوع. فأمّا الأوّل: فإن كان على غير الوجه المعتاد مثل أن يؤجج في أرضه نارًا في يوم عاصفٍ فيحترق ما يليه فإنّه متعدٍ بذلك وعليه الضّمان،

وإن كان على الوجه المعتاد ففيه للعلماء قولان مشهوران: أحدهما: لا يمنع من ذلك. وهو قول الشّافعي وأبي حنيفة وغيرهما. والثّاني: المنع. وهو قول أحمد ووافقه مالك في بعض الصّور. فمن صور ذلك أن يفتح كوة في بنائه العالي مشرفة على جاره، أو أن يبنِي عاليًا ليشرف على جاره ولا يستره فإنّه يلزمه أن يستره، نصّ عليه أحمد. ووافقه طائفة من أصحاب الشّافعي. قال الرّويانِي منهم في كتاب الحلية: يجتهد الحاكم في ذلك، ويمنع إذا ظهر له التّعفن في الفساد. قال وكذلك القول في إطالة البناء ومنع الشّمس والقمر. وقد خرج الخرائطي وابن عدي بإسنادٍ ضعيفٍ عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه مرفوعًا حديثًا طويلًا في حقّ الجارية، وفيه: "ولا يستطيل عليه بالبناء فيحجب عنه الرّيح إلّا بإذنه". ومنها: أن يحفر بئرًا بالقرب من بئر جاره، فيذهب ماءها، فإنّها تطم في مذهب مالك وأحمد. وأخرج أبو داود في المراسيل من حديث أبي قلابة قال: قال رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم-: "لا تضارّوا في الحفر". وذلك أن يحفر الرّجل إلى جنب بئر الرّجل ليذهب بمائه. ومنها: أن يحدث بما يضرّ بملك جاره من هزّ ودقّ ونحوهما، فإنّه يمنع منه في ظاهر مذهب مالك وأحمد، وهو أحد الوجوه للشافعية. ومنها: أن يكون له ملك في أرض غيره ويتضرّر صاحب الأرض بدخوله إلى أرضه، فإنّه يجبر على إزالته ليدفع به ضرر الدّخول، وخرّج أبو داود في سننه من حديث أبي جعفر محمّد بن عليّ أنّه حدّث عن سمرة بن جندب أنّه كان له عضيد من نخلٍ في حائط رجلٍ من الأنصار، ومع الرّجل أهله فكان سمرة يدخل إلى أهله فيتأذى به، ويشقّ عليه، فطلب إليه أن ينقله فأبى، فأتى النَّبِيّ -صلّى الله عليه وسلّم- فذكر له ذلك، فطلب النَّبِيّ -صلّى الله عليه وسلّم- أن يبيعه فأبى، فطلب إليه أن

ينقله فأبى. قال: "فهبه لي ولك كذا وكذا "، أمرًا أرغبه فيه. قال: فقال: أنت مضارّ فقال النَّبِيّ -صلّى الله عليه وسلّم- للأنصار: "اذهب فاقلع نخله". وقد روي عن أبي جعفر مرسلًا. قال أحمد في رواية حنبل بعد أن ذكر له هذا الحديث: فما كان على هذه الجهة وفيه ضرر يمنع من ذلك، فإن أجاب وإلّا أجبره السّلطان ولا يضرّ بأخيه في ذلك إذا كان من فعاله. وذكر حديثًا من نحوه، ثم قال: ففي هذا والذي قبله إجباره على المعاوضة حيث كان على شريكه أو جاره ضرر في شركة وعلى وجوب العمارة على الشّريك الْممتنع من العمارة وعلى إيجاب البيع إذا تعذرت القسمة. ومتى تعذرت القسمة بكون المقسوم يتضرّر بقسمته وطلب أحد الشّريكين البيع أجبر الآخر وقسم الثّمن. نصّ عليه الإمام أحمد وأبو عبيدة وغيرهما من الأئمة. وأمّا الثّاني: وهو منع الجار من الانتفاع بملكه والارتفاق به، فإن كان ذلك يضرّ بِمَن انتفع بملكه فله المنع، وأمّا إن لم يضرّ به فهل يجب عليه التّمكين ويحرم عليه الامتناع أم لا؟ فَمَن قال في القسم الأوّل: لا يمنع المالك من التّصرّف في ملكه، وإن أضرّ بجاره قال هنا للجار المنع من التّصرّف في ملكه بغير إذنه. ومَن قال هناك بالمنع فاختلفوا ههنا على قولين: أحدهما: المنع ههنا. وهو قول مالك. والثّاني: أنّه لا يجوز المنع. وهو مذهب أحمد في طرح الخشب على جدار جاره. ووافقه الشّافعي في القديم. وفي الصّحيحين عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النَّبِيّ -صلّى الله عليه وسلّم- قال: "لا يمنع أحدكم جاره أن يغرز خشبه على جداره". قال أبو هريرة: ما لي أراكم عنها معرضين، والله

لأرميَنّها بين أكتافكم. وقضى عمر بن الخطاب على محمّد بن مسلمة أن يجري ماء جاره في أرضه. وقال: ليمرّن ولو على بطنك. وفي الإجبار على ذلك روايتان عن أحمد، ومذهب أبي ذرّ الإجبار على إجراء المال بأرض جاره إذا أجراه في قتاة في باطن أرضه. نقله عنه حرب الكرماني. ومما ينهى عن منعه للضّرر الماء والكلأ، وذكر حديث أبي هريرة وغيره، ثم قال: وذهب أكثر العلماء إلى أنّه لا يمنع الماء الجاري والنّابع مطلقًا سواء قيل إنّ الماء لمالك أرضه أم لا؟ ومِمَّا يدخل في عموم قوله: "لا ضرر ولا ضرار"، أنّ الله لم يكلّف عباده ما يضرّهم البتة، فإنّ ما يأمرهم به هو عين صلاح دينهم ودنياهم، وما نهاهم عنه هو عين فسادهم في دينهم ودنياهم، لكنه ما يأمر عباده بشيءٍ هو ضارّ لهم في أبدانهم أيضًا، ولهذا أسقط الطّهارة بالماء عن المريض، وأسقط الصّيام عن المريض والمسافر، وأسقط اجتناب محظورات الإحرام عمّا كان مريضًا أو به أذى من رأسه وأمره بالفدية. ومِمَّا يدخل في عمومه أيضًا أنّ مَن عليه دَين لم يطالب به مع إعساره بل ينظر إلى حال يساره. انتهى كلام ابن رجب ملخّصًا في الفتح المبين في الكلام على هذا الحديث. وينبنِي عليه - يعنِي على القاعدة المشهورة - أنّ الضّرر يزال في كثيرٍ من أبواب الفقه؛ كالرّدّ بالعيب، وجميع أنواع الخيار من إخلاف الوصف المشروط والتّعزير وإفلاس المشتري وغير ذلك، والحجر بأنواعه والشّفعة؛ لأنّها شرعت لدفع ضرر القسمة، والقصاص والحدود، والكفارات، وضمان المتلف، ونصيب الأئمة والقضاة، ودفع الصّائل، وقتال المشركين والبغاة، وفسخ النّكاح بالعيوب أو الإعسار والقسمة. انتهى.

وقال عبد الرّحمن الحضرمي الشّافعي في شرح الأربعين في الكلام على هذا الحديث: فائدة: يؤخذ من هذا الحديث قاعدتان عظيمتان وهما: رعاية المصالح ودرء المفاسد، ويتفرّع منهما أيضًا قواعد أخرى كقولهم: الضّرر يزال، وقولهم: إذا ضاق الأمر اتّسع، والمشقّة تجلب التّيسير والضّرر يبيح المحظورات، وما أبيح للضّرورة يقدّر بقدرها، والضّرر لا يزال بالضّرر، وقولهم: يراعى أخف الضّررين، ودرء المفاسد مقدَّم على جلب المصالح، والحاجة، أو العامّة، أو الخاصّة تُنَزَّل مَنْزلة الضّرورة. وكلّ واحدةٍ من هذه القواعد لها فروع منتشرة في كتب الفقه لا يمكن حصرها. انتهى. السّؤال الثّاني: ما معنى قوله -عليه السّلام-: "الأرواح جنود مُجَّنَّدةٌ فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف"؟ فالجواب: قال النّووي -رحمه الله- في شرح صحيح مسلم: قوله -صلّى الله عليه وسلّم-: "الأرواح جنود مُنَجَّدةٌ فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف". قال العلماء معناه: جموع مجتمعة وأنواع مختلفة. أمّا تعارفها فهو لأمرٍ جبلها الله عليه، وقيل: إنّها موافقة صفاتها التي خلقها الله تعالى عليها وتناسبها في شبهها، وقيل: لأنّها خلقت مجتمعة ثم فرقت في أجسادها فمَن وافق قسيمه ألفه، ومَن باعده نافره وخالفه. قال الخطابي وغيره: تألّفها هو ما خلقها الله عليه من السّعادة والشّقاوة في المبتدأ، وخلقت الأرواح قمسين متاقبلين من ائتلافٍ واختلافٍ.

2 - من حسن بن حسين إلى الإخوان: جمعان بن ناصر، ومحمد بن المبارك، ومن معهم من الإخوان

- 2 - بسم الله الرّحمن الرّحيم من حسن بن حسين إلى الإخوان: جمعان بن ناصر، ومحمّد بن المبارك، ومَن معهم من الإخوان. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. والخط وصل، وبه السّرور حصل حيث أفاد المحب عن طيب أحبابه، وصحّة أمور خلاصة أصحابه. بعد؛ فيا أيّها الإخوان ألهمكم الله الصّبر والاحتساب، وأحسن لنا ولكم العزاء في المصاب، والحمد لله، على كلّ حالٍ. المأمول فيكم الصّبر والاحتساب والتّعزّي بعزاء الله تعالى، فقد قال بعض العلماء -رحمه الله-: إنّك لن تجد أهل العلم والإيمان إلّا وهم أقلّ النّاس انزعاجًا عند المصائب، وأحسنهم طمأنينة، وأقلّهم قلقًا عند النّوازل، وما ذاك إلّا لما أوتوا مِمّا حرمه الجاهلون، قال الله سبحانه: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ}، [البقرة الآيات: 155 - 157]. فهذه الكلمة من أبلغ علاج المصاب وأنفعه له في العاجلة والآجلة، فإنّها تضمنت أصلين عظيمين إذا تحقّق العبد بمعرفتهما تسلى عن مصيبته: أوّلًا: أنّ العبد وأهله وماله ملك لله تعالى، يتصرّف فيه كيف يشاء، جعله تبارك وتعالى عند عبده عارية والمعير مالك قاهر قادر، وهو محفوف بعدمين: عدم قبله وعدم بعده، وملك العبد متعة معارة. الثّاني: أنّ مصير العبد ومرجعه ومردّه إلى مولاه الحقّ

الذي له الحكم والأمر والأبدان يخلف ما خوله في هذه الدّار وراء ظهره، ويأتي فردًا بلا أهلٍ ولا مالٍ ولا عشيرةٍ، ولكن بالحسنات والسّيّئات، ومَن هذه حاله لا يفرح بموجودٍ ولا يأسف على مفقودٍ، وإذا علم المؤمن علم يقين أنّ ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه هانت عليه المصيبة. وقد قيل: ما قد قضي يا نفس فاصطبري له ... ولك الأمان من الذي لم يقدر ولتعلمي أنّ المقدر كائن ... يجري عليك عذرت أو لم تعذري ومن صفات المؤمن أنّه عند الزّلازل وقور، وفي الرّخاء شكور، ومما يخفّف المصائب بردّ التّأسي فانظروا يمينًا وشمالًا، وأمامًا ووراء فإنّكم لا تجدون إلّا مَن قد وقع به ما هو أعظم من مصيبتكم أو مثلها أو قريب منها ولم يبق إلّا التفاوت في عوض الفائت، نعوذ بالله من الخسران، ولو أمعن البصير نظره في هذا العالم جميعه لم ير إلّا مبتلى إمّا بفوات محبوب أو حصول مكروه، وأنّ سرور الدّنيا أحلام ليل أو كظلٍّ زائلٍ، إن أضحكت قليلًا أبكت كثيرًا، وإن أحسنت حينًا أساءت دهرًا، جمعها إلى انصداع، ووصلها إلى انقطاع، إقبالها خديعة، وإدبارها فجيعة، لا تدوم أحوالها، ولا يسلم نزالها، حالها انتقال، وسكونها زلزال، غرّارة خدوع، معطية منوع، ملبسة نزوع، ويكفي في هوانها على الله أنّه لا يعطي إلّا فيها، ولا ينال ما عنده إلّا بتركها، مع أنّ المصائب من حيث هي رحمة للمؤمن وزيادة في درجاته، كما قال بعض السّلف: لولا مصائب الدّنيا وردنا الآخرة مفاليس، والرّبّ سبحانه لم يرسل البلاء لعبده ليهلكه ولا ليعذّبه، ولكن امتحانًا لصبره ورضاه عنه، واختبارًا لإيمانه،

وليراه طريحًا ببابه لائذًا بجنابه منكسر القلب بين يديه، فهذا من حيث المصائب الدّنيوية. وأمّا ما جرى عليكم فأنتم به بالتهنئة أجدر من التّعزية، كيف وقد نالكم من الأذى والتّطريد كما نال الرّسل وأتباعهم، فهذا سيّد المرسلين غير خافٍ ما جرى عليه، وتطرق من الأذى إليه، فنسأل الحيّ القيّوم الذي لا تأخذه سنة أن يجعل لنا ولكم فيه أسوة حسنة، ولعمر الله إنّ مَن سلم دِينه فالمحن في حقّه منح، والبلايا عطايا، والمكروهات له محبوبات إلى غير ذلك. وأمّا المصيبة والخطاب الأكبر والكسر الذي لا يجبر والعثار الذي لا يقال، فهي المصيبة في الدِّين كما قيل: من كلّ شيءٍ إذا ضيعته عوض ... وما من الله إن ضيعته عوض وقد مضت عادة أحكم الحاكمين لِمَن أراد به خيرًا وإمامة في الدِّين أن يقدّم له الابتلاء بين يدي ذلك. قال تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ}، [السّجدة: 24]. خاتمة: روى الإمام أحمد والطّبرانِي عن عبد الله بن عمرو، قال: قال رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم-: "طوبَى للغرباء"، قلنا: ومَن الغرباء؟ قال: "قوم صالحون قليل في قومٍ سوءٍ كثيرٍ مَن يعصيهم أكثر مِمَّن يطعيهم". وفي لفظٍ: قيل: ومَن الغرباء؟ قال: "الفرّارون بدِينهم يبعثهم الله مع عيسى بن مريم عليه السّلام". كذا ورد في بعض طرق الحديث المشهور. وعن ابن مسعود قال: سَمِعت رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- يقول: "سيأتي النّاس زمان لا يسلم لذي دِينٍ دِينُهُ إلّا مَن فرَّ بدِينه من قريةٍ إلى قريةٍ، ومِن شاهقٍ إلى

شاهقٍ، ومِن جحرٍ إلى جحرٍ كالثّعلب". قيل: ومتى ذلك يا رسول الله؟ قال: "إذا لم تنل المعيشة إلّا بمعاصي الله" الحديث. وروى الطّبراني عن أبي أمامة قال: قال رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم-: "إنّ لكلّ شيءٍ إقبالًا وإدبارًا، وإنّ لهذا الدِّين إقبالًا وإدبارًا، وإنّ من إدبار الدِّين ما كنتم عليه من العمى والجهالة وما بعثني به، ومن إقبال الدِّين أن تفقه القبيلة بأسرها حتّى لا يوجد فيها إلّا الفاسق والفاسقان، فهما مقهوران ذليلان إن تكلّما قمعا وقهرا واضطهدا، ألا وإنّ من إدبار الدِّين أن تجفو القبيلة بأسرّها حتّى لا يوجد فيها إلّا الفقيه والفقيهان، فهما مقهوران ذليلان إن تكلّما فأمرا بمعروفٍ أو نهيا عن منكرٍ قمعا وقهرا واضطهدا فهما مقهوران ذليلان لا يجدان على الحقّ أعوانًا ولا أنصارًا". إلى غير ذلك مما لا تتّسع لذكره هذه الورقة. وما أحسن ما قال الإمام ابن دقيق العيد رحمه الله تعالى: قد عرف المنكر وأنكر الـ ... معروف في أيّامنا الصّعبه صار أهل العلم في وهدة ... وصار أهل الجهل في رتبه فقلت للأبرار أهل التّقى ... والدِّين لما اشتدّت الكربه لا تنكروا أحوالكم قد أتت ... نوبتكم في زمن الغربه يشير إلى قوله -صلّى الله عليه وسلّم-: "بدأ الإسلام غريبًا" الخ. وصلّى الله على محمّدٍ وعلى آله وصحبه وسلّم تسليمًا كثيرًا.

3 - من حسن بن حسين إلى الأخ راشد بن مبارك

- 3 - بسم الله الرّحمن الرّحيم أحمد الله على نعمه وآلائه، وأصلّي وأسلّم على خاتم رسله وأنبيائه. من حسن بن حسين إلى الأخ راشد بن مبارك أولاه الله من نعمه وبارك. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وإن تسأل عنِّي فأحمد إليك الله، وأشكره كما شكره الأواه، بخيرٍ وعافية، ونعم وافيه، وقد سألت رحمك الله عن مسألتين والخاطر مشغول، وقد آن بحمد الله أن نشرع في الجواب: المسألة الأولى: قوله -صلّى الله عليه وسلّم- في حديث أبي ثعلبة: "وللعامل منهم أجر خمسين". قيل يا رسول الله أجر خمسين منهم؟ قال: "أجر خمسين منكم". كيف ساووا الصّحابة -رضي الله عنهم- وهم أفضل النّاس ولن يبلغ من بعدهم أدنى درجة من درجاتهم. فالجواب -وبالله التّوفيق-: اعلم أوّلًا أنّ هذا الحديث المشار إليه خرجه أبو داود والتّرمذي وابن ماجه من طريق عتبة بن حكيم عن عمرو بن حارثة عن أبي أمية الشّعباني عن أبي ثعلبة الخشنِي -رضي الله عنهم- في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ}، [المائدة، من الآية: 105]. أمّا والله لقد سألت عنها رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- فقال: "بل ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر حتّى إذا رأيت شحًا مطاعًا وهوى متّبعًا ودنيا مؤثّرة، وإعجاب كلّ ذي رأي برأيه، ورأيت أمرًا لا بدّ لك منه -وفي بعضها لا يدان لك به- فعليك بخاصة نفسك ودع عنك أمر العوام، فإنّ وراءكم أيّام الصّبر، فمَن صبر فيهن كان كَمَن قبض على الجمر للعامل فيهن أجر خمسين رجلًا يعملون مثل عمله". قالوا: يا رسول الله أجر خمسين

منهم؟ قال: "أجر خمسين منكم". وعتبة هذا قال الحافظ المنذري في مختصر السّنن لأبي داود هو: العبّاس بن أبي حكيم الهمدانِي الشّامي، وثّقه غير واحدٍ، وتكلّم فيه غير واحدٍ. قلت: وقد حكم التّرمذي على هذا الحديث أنّه حسن غريب. إذا عرفت ذلك فالمعنى الذي لأجله استحقّ الأجر العظيم والثّواب، وساوى فضل خمسين من الصّحاب، إنّما هو لعدم المعاون والمساعد على ما ذكره الحافظ أبو سليمان الخطابي، وأبو الفرج عبد الرّحمن بن رجب وغيرهما، فالمستقيم على المنهج السّويّ، والطّريق النّبويّ عند فساد الزّمان، ومروج الأديان غريب، ولو عند الحبيب، إذ قد توفرت الموانع، وكثرت الآفات، وتظاهرت القبائح والمنكرات، وظهر التّغيير في الدِّين والتّبديل، واتّباع الهوى والتّضليل، وفقد المعين، وعزَّ مَن تلوذ به من الموحِّدين، وصار النّاس كالشّيء المشوب، ودارت بين الكلّ رحى الفتن والحروب، وانتشر شرّ المنافقين، وعيل صبر المتّقين، وتقطعت سبل المسالك، وترادفت الضّلالات والمهالك، ومنع الخلاص، ولات حين مناص. فالموحِّد بينهم أعزّ من الكبريب الأحمر، ومع ذلك فليس له مجيب ولا راعٍ، ولا قابل لما يقول ولا واعٍ، وقد نصبت له رايات الخلاف، ورمي بقوس العداوة والاعتساف، ونظرت إليه شزر العيون، وأتاه الأذى من كلّ منافقٍ مفتونٍ، واستحكمت له الغربة، وأفلاذ كبده تقطعت مما جرى في دين الإسلام، وعراه من الانثلام والانفصام، والباطل قد اضطرمت ناره، وتطاير في الآفاق شراره، ومع هذا كلّه فهو على الدِّين الحنيف مستقيم، ولحجج الله وبراهينه مقيم. فبالله قل لي

هل يصدر هذا إلّا عن يقين صدقٍ راسخٍ في الجنان، وكمال توحيدٍ وإيمانٍ، وصبر ورضا وتسليم لما قدره الرّحمن، وقد وعد الله الصّابرين الثّواب: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ}، [الزّمر، من الآية: 10]. وقد قال بعض العلماء -رحمهم الله تعالى- مَن اتّبع القرآن والسّنة وهاجر إلى الله بقلبه واتّبع آثار الصّحابة لم يسبقه الصّحابة إلّا بكونهم رأوا رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم-. اهـ. وفي ذلك الزّمان فالكلّ له أعوان وأخوان ومساعدون ومعاضدون، ولهذا قال علي بن المدينِي -رحمه الله تعالى- كما ذكره عنه ابن الجوزي في كتاب صفوة الصّفوة: ما قام أحد بالإسلام بعد رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- ما قام أحمد بن حنبل، قيل: يا أبا الحسن ولا أبو بكر الصّدّيق؟ قال: إنّ أبا بكرٍ الصّدّيق -رضي الله عنه- كان له أصحاب وأعوان وأحمد بن حنبل لم يكن له أعوان ولا أصحاب. اهـ. وقد روى الإمام أحمد عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم-: "بدا الإسلام غريبًا وسيعود غربيًا كما بدأ فطوبى الغرباء". قيل: يا رسول الله: ومَن الغرباء؟ قال: "النّزاع من القبائل". ورواه أبو بكر الآجري الحنبلي. وعنده قيل: مَن هم يا رسول الله؟ قال: "الذين يصلحون إذا فسد النّاس". ورواه غيره. وعنده قال: "الذين يفرّون بدِينهم من الفتن". ورواه التّرمذي عن كثيرٍ عن عبد الله المزني عن أبيه عن جدّه عن النَّبِيّ -صلّى الله عليه وسلّم- بلفظٍ: "الذين يصلون ما أفسد النّاس من سنتِي". ورواه الإمام أحمد أيضًا من حديث سعد بن أبي وقاص. ورواه الطّبراني من حديث عبد الله بن عمر عن النَّبِيّ -صلّى الله عليه وسلّم- قال: "طوبى للغرباء". قيل: ومَن الغرباء؟ قال: "قوم صالحون قليل في قوم سوء كثير مَن يعصيهم أكثر مِمَّن يطيعهم". قال الأوزاعي في تفسيره:

أمّا أنّه ما يذهب الإسلام ولكن يذهب أهل السّنة حتّى ما يبقى في البلد منهم إلّا رجلٌ واحدٌ أو رجلان. رواه البخاري عن مرداس السّلمي -رضي الله عنه-. قال: قال رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم-: "يذهب الصّالحون الأوّل فالأوّل ويبقى حثالة كحثالة الشّعير أو التّمر لا يباليهم الله باله". وكان الحسن البصري يقول لأصحابه: يا أهل السّنة ترفقوا - رحمكم الله - فإنّكم من أوّل النّاس، وقال يوسف بن عبيد ليس شيء أغرب من السّنة، وأغرب منها من يعرفها. وروى أبو القاسم الطّبراني وغيره بإسنادٍ فيه نظر من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- يقول: "المتمسّك بسنّتِي عند اختلاف أمّتِي له أجر شهيدٍ". وروى مسلم في صحيح عن معقل بن يسار أنّ رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- قال: "العبادة في الهرج كهجرة إلِيَّ". وعن الحسن البصري -رحمه الله تعالى-: لو أنّ رجلًا من الصّدر الأوّل بعث ما عرف من الإسلام شيئًا إلّا هذه الصّلاة، ثم قال: أمّا والله لئن عاش على هذه المنكرات فرأى صاحب بدعة يدعوا إلى بدعته وصاحب دنيا يدعو إلى دنياه فعصمه الله، وقلبه يحن إلى ذلك السّلف ويتّبع آثارهم ويستنّ بسنّتهم ويتّبع سبيلهم كان له أجرٌ عظيمٌ. وروى المبارك بن فضالة أحد علماء الحديث بالبصرة عن الحسن البصري أنّه ذكر الغني المترف الذي له سلطان يأخذ المال ويدّعي أنّه لا عقاب فيه، وذكر المبتدع الضّال الذي خرج على المسلمين، وتأوّل ما أنزل الله في الكفّار على المسلمين ثم قال: سنّتكم والله الذي لا إله إلّا هو بينها وبين الغالي والجافي والمترف والجاهل فاصبروا عليها. فإنّ أهل السّنة كانوا أقلّ النّاس الذين لم يأخذوا مع أهل الأتراف في أترافهم ولا مع أهل البدع أهواءهم وصبروا على سنّتهم حتّى أتوا ربّهم فكذلك فكونوا إن شاء الله، ثم قال: والله لو أنّ رجلًا

أدرك هذه المنكرات يقول هذا هلم إليّ، ويقول هذا: هلم إليّ، فيقول: لا أريد إلّا سنة محمّد -صلّى الله عليه وسلّم- يطلبها ويسال عنها أنّ هذا له أجرٌ عظيمٌ، فكذلك فكونوا إن شاء الله تعالى، وعن مورق -رحمه الله- قال المتمسّك بطاعة الله إذا جنب النّاس عنها كالكارّ بعد الفارّ. قال أبو السّعادات بن الأثير في النّهاية: أي: إذا ترك النّاس الطّاعات ورغبوا عنها كان المتمسّك بها له ثواب كثواب الكارّ في الغزو بعد أن فرّ النّاس عنه. فصل: ولنذكر طرفًا مما في الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر إذ له تعلّق بما تقدّم. قال الله تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}، [آل عمران: 104]. وقال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ}، [آل عمران: من الآية: 110]. وقال تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ}، [التّوبة، من الآية: 71]. وقال تعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ}، [المائدة الآيتان: 78 - 79]. وقال تعالى: {أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ}، [الأعراف، من الآية: 165]. والآيات في هذا الباب كثيرة. وروى مسلم في صحيحه عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- يقول: "مَن رأى منكم منكرًا فليغيِّره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان". وروى مسلم أيضًا عن ابن مسعود قال: قال رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم-: "ما من نبِيٍّ بعثه الله في أمّةٍ قبلي إلّا كان له من أمّته حواريّون وأصحاب يأخذون بسنّته ويقتدون بأمره ثم إنّها تخلف من بعدهم خلوف يقولون

ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون، فمَن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومَن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومَن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان وزن خردل من إيمانٍ". وقد روى الإمام أحمد عن أمّ سلمة قالت: سمعت رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- يقول: "إذا ظهرت المعاصي في أمّتي عمّهم الله بعذابٍ من عنده". فقلت: يا رسول الله! أمّا فيهم يومئذٍ صالحون؟ قال: "بلى". قلت: فكيف يصنع بأولئك؟ قال: "يصيبهم ما أصاب النّاس ثم يصيرون إلى مغفرةٍ من الله ورضوانٍ". وروى البخاري عن زينب بنت جحش قالت: قلت: يا رسول الله! أنهلك وفينا الصّالحون؟ قال: "نعم. إذا كثر الخبث". وروى التّرمذي عن حذيفة بن اليمان -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم-: "والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عذابًا منه ثم تدعونه فلا يستجاب لكم". وروى الإمام أحمد وأبو داود والتّرمذي والنّسائي من حديث عمرو بن مرّة عن سالم عن أبي الجعد عن أبي عيبدة بن عبد الله بن مسعود عن أبيه قال: قال رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم-: "إنّ مَن كان قبلكم كان إذا عمل العامل فيهم بالخطيئة جاءه النّاهي تعزيرًا فإذا كان الغد جالسه وآكله وشاربه، كأنّه لم يره على خطيئةٍ بالأمس، فلمّا رأى الله -عزّ وجلّ- ذلك منهم ضرب بلقوب بعضهم على بعض ثم لعنهم على لسان نبيّهم داود وعيسى بن مريم {ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ}، [البقرة، من الآية: 61، وآل عمران، من الآية: 112، والمائدة، من الآية: 78]. والذي نفس محمّد بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر، ولتأخذن على يد السّفيه، ولتأطرنه على الحقّ إطرًا أو ليضربن الله بقلوب بعضكم بعضًا ثم يلعنكم كما لعنهم". وروى ابن ماجه عن عبد الله بن عمر قال: كنت عاشر عشرة رهط من المهاجرين عند رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- فأقبل

علينا بوجهه، وقال: "يا معاشر المهاجرين خمس خصال - وأعوذ بالله أن تدركوهن - ما ظهرت الفاشحة في قومٍ حتّى أعلنوها إلّا ابتلاهم الله بالطّواعين والأوجاع التي لم تكن في أسلافهم الذين مضوا، ولا نص قومٌ المكيال والميزان إلّا ابتلوا بالسّنين وشدّة المؤنة وجور السّلطان، وما منع قومٌ زكاة أموالهم إلّا منعوا القطر من السّماء، ولولا البهائم لم يمطروا، ولا خفر قومٌ العهد إلّا سلّط الله عليهم عدوًّا من غيرهم فأخذوا بعض ما في أيديهم، وما لم تعمل أئمتهم بما أنزل الله -عزّ وجلّ- في كتابه إلّا جعل بأسهم بينهم". وروى البخاري عن النّعمان بن بشير قال: قال رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم-: "مثل القائم في حدود الله والواقع فيها كمثل قومٍ استهموا في سفينة فصار لبعضهم أعلاها، ولبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على مَن فوقهم فقالوا: لو أنّا خرقنا في نصيبنا خرقًا ولم يؤذ مَن فوقنا فتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعًا، وإن أخذوا على أيديهم نجوا جميعًا". قال النّووي: القائم في حدود الله معناه: المنكر لها، القائم في دفعها وإزالتها، والمراد بالحدود ما نهى الله عنها والأحاديث في هذا كثيرة، قد أفردنا لها رسالة وجمعنا فيها جميع ما ورد، ونقصنا سائر ما شرد. ولله الحمد، فلتراجع. المسألة الثّانية: سألت عن قول الجدّ -رحمه الله- في ثمان الحالات كما جرى لسعد مع أمّه ما الذي جرى لسعد مع أمّه؟ فالجواب: سعد هو: ابن أبي وقاص، أحد الشعرة المبشّرين بالجنة -رضي الله عنه-. وأمّه: حمنة بنت أبي سفيان بن أبي أمية، وقصته معروفة. قال الحافظ الطّبرانِي: حدّثنا أحمد بن أيوب بن راشد حدّثنا مسلمة بن علقمة عن داود بن أبي هند عن سعد -رضي الله عنه- قال: كنت بارًّا بوالدتِي فقالت لي أمِّي:

4 - من حسن بن حسين إلى الأخ راشد بن مبارك

يا سعد! ما هذا الذي أراك قد أحدثت؟ لتدعن دِينَك هذا أو لا آكل ولا أشرب ولا أستظلّ حتى أموت فتعير بي، ويقال: قاتل أمّه. فقلت: لا تفعلي يا أمّه؛ فإنِّي لا أدع هذا لشيءٍ. فمكثت يومًا وليلةً لم تأكل ولم تشرب ولم تستظلّ فأصبحت وقد اشتدّ جهدها فمكثت يومًا آخر وليلةً لا تأكل، فأصبحت وقد اشتد جهدها، فقلت: يا أمّه والله لو كان لكِ مائة نفس فخرجت نفسًا نفسًا ما تركت دِينِي هذا لشيءٍ؛ فإن شئت فكلي وإن شئت فلا تأكلي، فأكلت. رواه مسلم في صحيحه. حدّثنا أبو بكر بن أبي شيبة وزهير بن حرب حدّثنا الحسن بن موسى حدّثنا زهير حدّثنا سماك بن حرب حدّثني مصعب بن سعد عن أبيه فذكره بنحو هذا السّياق. وفيه: فكانوا إذا أرادوا أن يطعموها شجروا فاها بعصا ثم أوجروها فنَزلت: {وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا} الآية، [الأحقاف، من الآية: 15]. وصلّى الله على محمّد وآله وصحبه وسلّم - 4 - بسم الله الرّحمن الرّحيم الحمد لله مانح الهداية والتّوفيق، والصّلاة والسّلام على محمّدٍ الهادي إلى أوضح طريق. (من حسن بن حسين إلى الأخ إبراهيم بن عبيد) سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. والخط وصل وصلك الله إلى رضوانه وتضمن السّؤال عن مسائل: الأولى: في المرأة إذا جهّزها أبوها بجهاز إلى بيت زوجها هل تمكله بنقله أو لا تملكه؟ فالجواب: أنّها تملكه بذلك. قال في المغني في (باب الهبة): فرع

ما جهّزت به المرأة إلى بيت زوجها من مالها، أو مال أمّها، أو أبيها يكون ليس لواحدٍ منهما ولا غيرهما أخذه ولا شيء منه. وقال في الإقناع: وتنعقد بإيجاب وقبول وبمعاطاة بفعل يقترن بما يدلّ عليها فتجهيز ابنته بجهاز إلى بيت زوجها تمليك لها. انتهى. وقال في الإنصاف في كتاب البيع: وتجهيز المرأة بجهاز إلى بيت زوجها تميلك لها. انتهى. فعلى هذا، إذا أرادت أمّها أن تأخذ منه شيئًا لم يكن لها ذلك، وإن أراد الأب الرّجوع لأجل التّسوية بين أولاده كما ذكرت في السّؤال فلا مانع له بشرطه، وهو أن لا يتعلّق به حقّ غير أو رغبة نحو أن يتزوّج الولد أو يفلس أو يفعل ما يمنع التّصرّف مؤبّدًا أو مؤقّتًا. فإن تعلّق به شيء مما ذكر؛ فإنّه لا يرجع. اختاره المصنّف وابن عقيل والشّيخ تقيّ الدّين، وهو مذهب مالك. لأنّ في رجوعه إبطال حقّه يؤيّده قوله -عليه السّلام-: "لا ضرر ولا ضرار". كذا علّلوا. هذا الذي يظهر لنا. والله أعلم. الثّانية: ما المعتمد عليه من أقوال الفقهاء في رجوع الأمّ فيما أعطت ولدها، وهل هي كالأب أم لا؟ فالجواب: الخلاف في هذه المسألة مشهور في مذهب أحمد وغيره. ومذهب المتأخّرين من أصحابه أنّ الأم لا رجوع لها. قال في الإنصاف: وهو الصّحيح من المذهب نصّ عليه. وقيل: هي كالأب. اختاره المصنّف والشّارح. انتهى. وبه قال الشّافعي، والذي يترجّح هو الأوّل؛ لأنّ النّصّ إنّما ورد في الأب دون الأم، فقصره على مورده أولى. ولا يصحّ قياس الأم على الأب؛ لأنّ للأب ولاية ولده، ويحوز جميع المال في الميراث بخلاف الأم.

الثّالثة: متى تردّ شهادة الشّاهد هل تردّ بجرحه قبل تحمل الشّهادة وقبل أدائها، أو تردّ شهادته بما جرحه قبل التّحمّل وقبل الأداء؟ فالجواب: أنّه متى وجد الجرح المؤثّر سواء كان قبل التّحمّل أو بعده إذا كان قبل الأداء ردّت به شهادة الشّاهد إلّا أن يجرح بجرح سابق قد تاب منه قبل تحمّل الشّهادة؛ فإنّه لا يضرّ والحالة هذه. لأنّ التّوبة ماحية لما قبلها. الرّابعة: هل تقدم شهادة الجرح على شهود التّعديل أو بالعكس؟ فالجواب: قال في المقنع: وإن عدّله اثنان وجرحه اثنان فالجرح أولى. قال في الإنصاف: هذا بلا نزاع. انتهى. ومراده في المذهب. وهو مذهب الشّافعي، وأبي حنيفة؛ لأنّ الجارح معه زيادة علم خفيت على المعدِّل، فوجب تقديمه؛ لأنّ التّعديل يتضمن ترك الذّنب والمحارم، والجارح مثبت لوجود ذلك، والإثبات مقدّم على النّفي. قاله في المغني. لكن قال في حاشية الإقناع: وإن قال الذين عدلّوه: ما جرحاه به قد تاب منه قدم التّعديل؛ لأنّ بيّنته ناقلة. وكذا إذا عصى في بلد فانتقل عنه فجرحه اثنان في بلده وزكاه اثنان في البلد الذي انتقل إليه قدم التّزكية. انتهى. فاعلم ذلك. الخامسة: إذا أعطى إنسان بعض ورثته جميع ماله، وهو صحيح فقبض المعطى وتصرّف فيه برهنٍ أو هبةٍ أو غير ذلك، ثم مات المعطي فقام الوارث الذي منع من الإرث فلم يبق له شيء من مال مورثه لكونه صار في يد المعطى كلّه فطالبه وقد تعلّقت به حقوق النّاس ما الحكم في ذلك؟

فالجواب: إذا أعطى بعض أولاده عطية في حال الصّحّة وفضلهم على الآخرين أو خصّهم وقبض المعطى العطية ومات الوالد ولم يرجع في عطيته فإنّ هذه المسألة فيها خلاف بين العلماء، فذهب الإمام أحمد في المشهور عنه ومالك والشّافعي وأصحاب الرّاي وأكثر العلماء إلى أنّه ليس لهم الرّجوع؛ لأنّها صارت لازمة في حقّ المعطى بانتقالها إليه في حياة المعطي واتّصل بها القبول والقبض، قالوا: والإثم على الوالد المفضل بينهم. وعن أحمد رواية ثانية: أنّها لا تثبت وللباقين الرّجوع. اختارها ابن بطة وأبو الوفاء ابن عقيل والشّيخ تقيّ الدّين الذي ذكره عنهم صاحب الإنصاف. وروي عن عروة بن الزّبير وإسحاق بن راهويه. فعلى هذه الرّواية الأخيرة إمّا أن تردّ، وإمّا أن تحسب عليه من ميراثه. قال الوالد والعمّ عبد الله في جوابهما للعماني: وهذا القول أقرب إلى الدّليل وأحوط. والله أعلم. انتهى. لكن الذي أفتى به شيخ الإسلام محمّد بن عبد الوهّاب واستمرّت عليه الفتوى مذهب الجمهور. السّادسة: رجل باع لآخر تمرًا وقت جذاذ النّخل بدراهم حالة، ولم يكن عند المشتري دراهم يوفيه منها, ونيّة البائع عند بيع الثّمرة طمع في معاملته، فلمّا جاء وقت ثوار الزّرع ما أعطاه المشتري وعجز عن الدّراهم ولم يكن عند البائع دراهم يسلّمها عليه فاستقرض دراهم وأسلمها عليه بآصع بر أو شعير فغاب بها قدر نصف يومٍ أو يوم ثم ردّها المسلم على مَن أقرضه إيّاها، وربّما كانت أمانة عند المسلم أخذها بغير إذن صاحبها فأسلمها على مَن اشترى منه التّمر بعيش ثمّ ردّها عليه وردّها المسلم مكانها حيث أخذ فكأنّه قلب ثمن التّمر الذي في ذمّته بعيش، هل تصحّ هذه الصّورة أم لا؟

فالجواب: قد علمت أنّ قلب الدَّين على المعسر لا يجوز؛ لأنّه إنّما قلبه عليه لعجزه عن الوفاء فكأنّه حيلة، فإن كان هذا المسؤول عنه مليئًا ولم يكن المسلم شرط عليه الوفاء بها، فإذا قبضها البائع وذهب بها إلى بيته قدر اليومين أو الثّلاثة وتملّكها تملكًا تامًّا بحيث يتصرّف فيها بما شاء فلا بأس أن يوفيه بها عمّا في ذمّته له من الدّراهم وكونها قرضًا لا يضرّ، وأمّا إن كان أخذها من أمانته بغير إذن صاحبها فإنّه لا يصح. اللهم إلّا أن يعلم منه الرّضا بذلك. هذا ما ظهر لنا. والله أعلم. السّابعة: رجل له أرض فقال مَن أراد أن يبني له فيها دارًا يسكنها هو وأولاده ويكريها إن احتاج؛ فإذا أراد الانتقال عنها فليأخذ خشبه وأبوابه ولا يبيع ولتعد إلى أرضي فجاء إنسان فبنى في أرضه المذكورة فأخبر بعضهم بذلك الشّرط، وبعضهم سكت عنه مستكفيًا بما قال أوّلًا فبنا فيها أناس كثير وسكنوا فيها مدّة من الدّهر وتصرّفوا بنحو رهن وكراء، وبعضهم منذ عشرين سنة وبعضهم منذ عشر سنين، وبعضهم منذ خمس سنين، ثم بعد ذلك مات ربّ الأرض الذي أذن في سكناها، فهل يكون إذنه في عمارتها والسكنى فيها هبة لا رجوع فيها أو هبة بشرط الرّجوع؟ ومع عدمه لا ترجع أو ملحقة بالعارية فإن قلتم: ترجع على ربّها فإذا قال ساكنها: أعطني قيمة الخشب والأبواب وأتركها لك فأبى صاحب الأرض دفع القيمة، فهل يلزم به؛ لأنّه أذن له في إشغال ملكه بالخشب والأبواب التي في ملكه أو يؤمر بقلعه؟ فالجواب: أنّ هذه فيما يظهر من سؤالكم ملحقة بالعارية، ونحن نذكر لك كلام صاحب الشّرح الكبير في أوّل باب العارية ملخّصًا حتّى يتبيّن لك الصّواب. قال فيه:

باب العارية: وهي إباحة الانتفاع بعينٍ من أعيان المال وتنعقد بكلّ لفظٍ وفعلٍ يدلّ عليه، وهي هبة منفعة تجوز في كلّ المنافع إلّا منافع البضع، وتجوز مطلقة ومؤقتة، وللمعير الرّجوع فيها متى شاء سواء كانت مطلقة أو مؤقتة، وبهذا قال أبو حنيفة والشّافعي. وقال مالك: إن كانت مؤقتة فليس له الرّجوع قبل الوقت، وإن لم يوقت مدّة لزمه تركه مدّة ينتفع بها في مثلها؛ لأنّ المعير قد ملكه المنفعة مدّة وصارت العين في يده بعقدٍ مباحٍ، فإن شغله بإذنه في شيء يستضرّ المستعير برجوعه لم يجز له الرّجوع. مثل: أن يعيره سفينة لحمل متاعه لم يجز له الرّجوع ما دامت في لجة البحر، وله الرّجوع قبل دخولها في البحر، وبعد خروجها منه لعدم الضّرر. وإن أعاره أرضًا للدّفن لم يرجع حتّى يبلى الميّت، وله الرّجوع فيها قبل الدّفن، وإن أعاره حائطًا ليضع عليه أطراف خشبه لم يرجع ما دام عليه، فإن سقط عنه بهدم أو غيره لم يملك ردّه، وإن أعاره أرضًا للزّرع لم يرجع إلى الحصاد، إلّا أن يكون مما يحصد قصيلًا فيحصده. وإن أعارها للغرس أو البناء وشرط عليه القلع في وقت أو عند رجوعه ثم رجع لزمه القلع. لقول النَّبِيّ -صلّى الله عليه وسلّم-: "المؤمنون على شروطهم". حديث صحيح. وليس على صاحب الأرض ضمان نقصه ولا نعلم في هذا خلافًا. فأمّا تسوية الحفر فإن كان مشروطًا عليه لزمه لما ذكرنا، وإلّا لم يلزمه، وإن لم يشرط المعير القلع لم يلزم المستعير لما فيه من الضّرر، فإن ضمن له النّقص لزمه، فإن قلع فعليه تسوية الأرض، وكذلك إن اختار أخذ بنائه وغراسه فإنّه يملكه، فإن أبى القلع في الحال التي لا يجبر عليها فبذل له المعير قيمة الغراس والبناء ليملكه أجبر المستعير قهرًا عليه؛

كالشّفيع مع المشتري، والمؤجّر مع المستأجر، فإن قيل: المستعير أنا أدفع قيمة الأرض لتصير لي لم يلزم المعير. وبهذا كلّه قال الشّافعي. وقال أبو حنيفة: يطالب المستعير بالقلع من غير ضمانٍ إلّا أن يكون أعاره مدّة معلومة فرجع قبل انقضائها؛ لأنّ المعير لم يعره، فإن امتنع المعير من دفع القيمة وأرش النّقص وامتنع المستعير من القلع ودفع الأجرة لم يقلع، ثم إن اتّفقا على البيع بيعت الأرض بغراسها وبنائها ودفع إلى كلّ واحدٍ منهما قدر حقّه، وإن أبيا البيع ترك بحاله وقلنا لهما انصرفا فلا حكم لكما عندنا حتّى تتّفقا. اهـ المقصود ملخصًّا. فتأمّله يستبين لك منه الجواب عن سؤالك ولاسيما قوله: وإن أعارها للغراس أو البناء إلى آخره. المسألة الثّامنة: إذا كان نهر بين قومٍ لكلٍ منهم فيه نصيب وأراد أحدهم بيع نصيبه من النّهر المذكور هل يصحّ أم لا؟ فالجواب: جواز بيعه مبنِيّ على ملك الماء وعدمه، والصّحيح أنّ الماء يملك بالعمل فيه لا نفس النّبع؛ فإنّه لا يملك إذا لم يكن قد نبع في ملكه، والعمل هو احتفار السّواقي وإصلاحها وبعث الآبار وعمارتها فبهذا تكون مملوكة. ونحن نذكر لك كلام صاحب الشّرح ملخّصًا، قال فيه: أمّا الأنهار النّابعة في غير ملك؛ كالأنهار الكبار فلا تملك بحالٍ، ولا يجوز بيعها ولو دخل إلى أرض رجلٍ لم يملكه بذلك كالطّير يدخل في أرضه، ولكلّ أحدٍ أخذه ويملكه إلّا أن يحفر منه ساقيه فيكون أحقّ بها من غيره. وأمّا ما ينبع في ملكه كالبئر والعين المستنبطة فنفس البئر وأرض العين مملوكة لمالك الأرض والماء الذي فيها غير مملوك في ظاهر المذهب.

وهذا أحد الوجهين لأصحاب الشّافعي، والوجه الآخر يملك؛ لأنّه نماء الملك، وقد روي عن أحمد نحو ذلك. فإنّه قيل له في رجلٍ له أرض ولآخر ماء يشترك صاحب الماء وصاحب الأرض وصاحب الزّرع يكون بينهما. فقال: لا بأس. اختاره أبو بكر. وهذا يدلّ من قوله على أنّ الماء مملوك أصحابه، وجواز بيع ذلك مبنِيّ على ملكه. قال أحمد: لا يعجبنِي بيع الماء البتة. وقال الأثرم: سمعت أبا عبد الله يُسأل عن قومٍ بينهم نهر تشرب منه أرضوهم لهذا يوم، ولهذا يومان، فيتّفقون عليه بالحصص فجاء يومي ولا أحتاج إليه أكريه بدارهم؟ قال: ما أدري. أمّا النَّبِيّ -صلّى الله عليه وسلّم- فنهى عن بيع الماء. قيل له: إنّه ليس بيعه إنّما يكريه. قال: إنّما احتالوا بهذا ليحسنوه فأي شيءٍ هذا إلّا البيع؟! وروى الأثر بإسناده عن جابر أنّ رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- نهى عن بيع الماء. وروى أبو عبيد والأثرم أنّ النَّبِيّ -صلّى الله عليه وسلّم- قال: "المسلمون شركاء في ثلاثة: الكلأ والنّار والماء". فإن قلنا: يملك جاز بيعه، وإن قلنا: لا يملك فصاحب الأرض أحقّ به من غيره لكونه في ملكه. والخلاف في بيع ذلك إنّما هو قبل حيازته. فأمّا ما يحوزه من الماء في إنائه أو يأخذه من الكلأ في حبله، أو يحوزه في رحله أو يأخذه من المعادن، فإنّه يملكه بذلك بغير خلافٍ بين أهل العلم. وليس لأحد أن يشرب منه ولا يأخذ ولا يتوضّا إلّا بإذن مالكه؛ لأنّه ملكه. قال أحمد: إنّما نهي عن بيع فضل ماء البئر والعيون في قراره. ويجوز بيع البئر نفسها والعين ومشتريها أحقّ بمائها. ثم ذكر حديث بئر رومة. وقال: بعد ذكره: وفي هذا دليل على صحّة بيعها وتسبيلها وملك ما يستقيه منها، وجواز قسمة مائها بالمهايأة، وكون مالكها أحقّ بمائها وجواز قسمة ما فيه حقّ وليس مملوك. فأمّا المصانع المتّخذة

فوائد

لمياه الأمطار تجمع فيها ونحوها من البرك وغيرها فالأولى أن يملك ماؤها ويصحّ بيعه؛ لأنّه مباح حصل بشيءٍ معدّ له فملكه؛ كالصّيد يحصل في شبكةٍ، والسّمك في بركة معدّة له، ولا يحلّ أخذ شيء منه بغير إذن مالكه، وكذلك إن أجرى من نهرٍ غير مملوك ماء إلى بركة في أرضه يستقرّ الماء فيها لا يخرج منها فحكمه حكم مياه الأمطار تجتمع في البركة قياسًا عليه. اهـ كلامه ملخّصًا. وقد عرفت ما قدمناه. والحمد لله وحده وصلّى الله على خير خلقه؛ محمّدٍ وآله ورضي عن صاحبته والتّابعين. [فوائد] فائدة: لا يجوز أن يجمع مع البيع ستة عقود ونظمها بعضهم فقال: عقود منعناها مع البيع ستة ... ويجمعها في اللّفظ جص مشنق فجعل وصرف والمساقاة شركة ... نكاح قراض منع هذا محقّق فالجيم للجعل، والصّاد للصّرف، والميم للمساقاة، والشّين للشّركة، والنّون للنّكاح، والقاف للقرض. اهـ. فائدة: قال في شرح الإقناع: ويكره زلزلة الكيل عند القبض لاحتمال زيادة الواجب. قال في شرح المنتهى: لأنّ الرّجوع عند الاكتيال إلى عرف النّاس في أسواقهم ولم يعهد فيها. اهـ. وفيه نظر، بل عهد ذلك في بعض الأشياء فعليه لا يكره فيها كالكشك. اهـ. فائدة: قال في حاشية المنتهى: قال في الإنصاف: ولا يضمن إذا استعاره وتلفت بغير تفريطه ككتب العلم وغيرها على ظاهر كلام أحمد والأصحاب. قاله في الفروع. فائدة: ذكر في الإنصاف في باب طريق الحكم وصفته عند قول المصنّف: ومَن كان له على إنسان حقّ ولم يمكنه أخذه بالحاكم وقدر له على

مسألة: إذا غارس رجل رجلا في أرض، على أن يغرس فيها قدرا معلوما من النخل والنخل من العامل وينفق عليه العامل حتى يثمر، ثم يقتسمان النخل والأرض، هل يصح ذلك؟ أم لا يصح إلا على أن الأرض لربها والنخل بينهما؟ أو تصح في الصورتين كما أفتى به أبو العباس؟

مال أخذه. أنّ محلّ الخلاف إذا لم يكن الدَّين الذي في ذمّته قد أخذه فهرًا، فأمّا إن كان قد غصب ماله فيجوز له الأخذ بقدر حقّه. ذكره الشيخ تقيّ الدّين وغيره، وقال: ليس هذا من هذا الباب. انتهى. وجزم باختيار الشّيخ في الإقناع. مسألة: إذا غارس رجل رجلًا في أرضٍ، على أن يغرس فيها قدرًا معلومًا من النّخل والنّخل من العامل وينفق عليه العامل حتّى يثمر، ثم يقتسمان النّخل والأرض، هل يصحّ ذلك؟ أم لا يصحّ إلّا على أنّ الأرض لربّها والنّخل بينهما؟ أو تصحّ في الصّورتين كما أفتى به أبو العبّاس رحمه الله تعالى؟ فالجواب: قال في الشّرح: لو دفع أرضه إلى رجلٍ يغرسها على أنّ الشّجر بينهما لم يجز، ويحتمل الجواز بناء على المزارعة، فإنّ الزّارع يبذر في الأرض فيكون بينه وبين صاحب الأرض. وهذا نظيره. فأمّا إن دفعها على الأرض والشّجر بينهما، فذلك فاسد وجهًا واحدًا. وقال الشّيخ -قدّس الله روحه-: المذهب صحّته. وبه قال مالك والشّافعي وأبو يوسف ومحمّد ولا نعلم فيه مخالفًا. انتهى. وكذا قال أبو محمّد في المغني، وعلّله بأنّه شرط اشتراكهما في الأصل ففسد كما لو دفع إليه الشّجر والنّخل ليكون الأصل والثّمر بينهما أو شرط في المزارعة كون الأرض والزّرع بينهما. انتهى. وقال في الإنصاف: واختار الشّيخ جواز المساقاة على شجر يغرسه ويعمل عليه بجزءٍ معلومٍ من الشّجر أو الثّمر كالمزارعة. وذكر أنه هو المذهب. قال: ولو كان مغروسًا، ولو كان ناظر وقفٍ وأنّه لا يجوز لناظر بعده بيع نصيب الوقف بلا حاجة. وأنّ للحاكم الحكم بلزومها ومحلّ النِّزاع فقط والحكم به من جهة عوض المثل، ولو لم يقم به بيّنة؛ لأنّه الأصل. ويتوجّه

اعتبار بيّنة. وقال في التّوضيح: وإن ساقاه على شجرٍ يغرسه ويعمل عليه حتّى يثمر بجزءٍ معلومٍ من الثّمر أو من الشّجر أو منهما، وهي المغارسة والمناضبة صحّ إن كان الغرس من ربّ الأرض، وقيل: يصحّ حكونه مساقًا ومناضبًا وعليه العمل. انتهى. وقال في الرّوض المربع: ولا يشترط في المزارعة والمغارسة كون البذر والغراس من ربّ الأض، فيجوز أن يخرج العامل في قول عمر وابن مسعود وغيرهما، ونصّ عليه في روايةٍ منها، وصحّحه في المغني والشّرح. واختاره أبو محمّد الجوزي والشيخ تقيّ الدين، وعليه عمل النّاس؛ لأنّ الأصل المعول عليه في المزارعة قصة خيبر، ولم يذكر النَّبِيّ -صلّى الله عليه وسلّم- أنّ البذر على المسلمين، وظاهر المذهب اشتراطه. نصّ عليه في رواية الجماعة، واختاره عامّة الأصحاب. وقدّمه في التّنقيح وتبعه المصنّف في الإقناع وقطع به في المنتهى. انتهى. فقد علمت أنّه فاسد في الثّانية بلا خلاف، وإنّما الخلاف في الأولى، وأنّ العمل على جوازه، وقوله: وهي عقد جائز، أي: من الطّرفين فلا تفتقر إلى ضرب مدّة؛ لأنّه -عليه السّلام- قال لأهل خيبر: "نقرّكم على ذلك ما شئنا". ولو كان لازمًا لم يجز بغير تقدير مدّة، وقياسًا على المضاربة؛ لأنّها عقد على جزء من النّماء في المال فعليها يبطل بما تبطل به الوكالة من موتٍ وجنونٍ وحجرٍ لسفهٍ وعزلٍ، وقيل: إنّها عقد لازم من جهة المالك فعلى المذهب أيضًا لكلّ منهما فسخها متى شاء، فإن فسخ بعد ظهور الثّمرة فهي بينهما، وعليه تمام العمل. وإن فسخ العامل قبل ظهورها فلا شيء له؛ لأنّه رضي بإسقاط حقّه للعامل أجرة عمله.

5 - من حسن بن حسين إلى الشيخ جمعان

فائدة: إذا ظهر الشّجر مستحقًا؛ فله أجرة مثله على غاصبه ولا شيء على ربّه. فائدة: قال ابن رجب في الشّامخ: العقود الجائزة متى تضمن ضررًا على أحد المتعاقدين لم يجز ولا ينفذ، إلّا أن يمكن استدراك الضّرر بضمانٍ أو نحوه. فيجوز على ذلك. انتهى. - 5 - بسم الله الرّحمن الرّحيم (من حسن بن حسين إلى الشّيخ جمعان جمع الله شمله) سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. والأسئلة وصلت وصلك الله تعالى تحقيق المعاني بتوحيد المباني، وسدّدنا وإيّاك في أفهامنا بلطفه وعطفه، وهذا الجواب واصلك إن شاء الله تعالى: المسألة الأولى: أشرتم في جوابكم عن السّؤال المتقدم عام اثنين وأربعين إلى الفرق بين النّكاح الفاسد والباطل، فأشكل علينا فأفيدونا بإيضاحه. الجواب: نعم. أسلفنا لكم في الجواب المتقدم بالتّاريخ المذكور أنّ النّكاح الباطل لا يحتاج إلى طلاق ولا فسخ ولا يوجب مهرًا بدون الوطء بخلاف الفاسد، ونحن نذكر لكم هنا من عبارات الفقهاء ما تبدو معه وجوه الفرق في مسفرة ضاحكة. قال في الإقناع: ويقع الطّلاق في النّكاح المختلف في صحّته؛ كالنّكاح بولاية فاسقٍ، أو بشهادة فاسقين، أو نكاح الأخت في عدّة أختها، أو نكاح الشّغار، أو المحلّل، أو بلا شهود، أو بلا ولي وما أشبه ذلك، كفقد حكم بصحّته. ويثبت به النّسب والعدّة والمهر، ولا يقع في نكاح باطلٍ إجماعًا. ولا في نكاح فضولي قبل إجازته

وإن نفذناه بها. انتهى ملخّصًا. وقال في المنتهى وشرحه لتقيّ الدِّين الفتوحي: ولا فرق في عدّة وجبت بدون وطء بين نكاح فاسدٍ وصحيحٍ نصّ عليه. والمراد بالفاسد المختلف فيه؛ كالحنفي يتزوّج بلا ولي ونحو ذلك، ولا عدّة في نكاح باطلٍ أي مجمع على بطلانه إلّا بوطء؛ لأنّ وجود صورته كعدمه. انتهى ملخّصًا. وقال في الرّوض المربع: تلزم العدّة كلّ امرأة فارقت زوجها بطلاقٍ أو فسخٍ أو خلعٍ حتى في نكاح فاسدٍ في خلاف كنكاح بلا ولي إلحاقًا له بالصّحيح. ولذلك وقع فيه الطّلاق. وإن كان النّكاح باطلًا وفاقًا أي: إجماعًا كنكاح خامسة أو معتدّة لم تعتدّ للوفاة إذا مات عنها، ولا إذا فارقها في الحياة قبل الوطء؛ لأنّ وجود هذا العقد كعدمه. انتهى. وبنحو ما ذكره مَن نقلنا كلامهم قاله غيرهم. فلا نطول بنقله. وقد أسلفنا لك في الجواب السّابق قول المغني والشّرح؛ لأنّه أي: النّكاح الفاسد يسوغ فيه الاجتهاد فاحتاج إلى التّفريق. ولأنّ تزويجها من غير فرقة يفضي إلى تسلّط زوجين عليها كلّ منهما يعتقد صحّة نكاحه وفساد نكاح الآخر. ويفارق النّكاح الباطل من هذين الوجهين. انتهى كلامه في المغني والشّرح. فظهر مما نقلناه الفرق بين الفاسد والباطل، فالباطل لا يحتاج إلى طلاقٍ أو فسخٍ ولا يجب به عدّة ولا مهر بون الوطء. ومن صور الباطل أيضًا: نكاح الخامسة ونكاح المعتمد كما مثل به صاحب الرّوض. ومنها أيضًا: نكاح الموطوءة بشبهةٍ ونكاح زوجة الغير وذات المحرم من نسب ورضاع. والله أملم. المسألة الثّانية: ما معنى قوله في شرح الزّاد: ويقبل قول قابضٍ

في ثابت في ذمّة من ثمنٍ وقرضٍ وسلمٍ ونحوه إن لم يخرج عن يده انتهى. فما صورة ذلك؟ الجواب: معنى هذه العبارة: أنّه إذا ثبت على عمرو لزيدٍ عشرة آصع مثلًا، سواء كانت ثمن بيع باعه زيد إلى عمرو أو قرض أقرض زيد عمرًا أو دَين سلم في ذمّة عمرو لزيد أو أجرة دار في ذمّة عمرو لزيدٍ أو قيمة سلعة أتلفها عمرو لزيد فثبت غرمها في ذمّته فبعد ما قبضه زيد من عمرو بعيبٍ وجده فيها وأنكر عمرو كون الآصع المردودة هي الآصع التي دفعها، فإنّ القول في هذه الصّورة التي صوّرنا قول القابض للثّابت، وهو قول زيد بيمينه؛ لأنّ الأصل بثاء شغل الذّمّة بهذا الحقّ الثّابت، والقاعدة: أنّ القول قول مدّعي الأصل وإنّما عبّرنا بالقابض ليشمل البائع والمقرض والمسلم والمؤجّر ونحوهم. المسألة الثّالثة: هل تجوز الإقالة في غير المسلم بأكثر من رأس المال سواء تقابضا أم لا؟ وهذا كثير في النّاس إذا اشترى الإنسان سلعة بنقد أو غائب ثم طلب المشتري من البائع الإقالة ويدفع إليه شيئًا من المال يتراضيان عليه. الجواب: لا تصحّ مع زيادة على ثمن معقود به أو مع نقصه أو بغير جنسه؛ لأنّ مقتضى الإقالة ردّ الأمر على ما كان عليه ورجوع كلّ منهما إلى ماله، فلو قال: أقلنِي ولك كذا، ففعل فكرهه أحمد لشبهه بمسائل العينة؛ لأنّ السّلعة ترجع إلى صاحبها ويبقى له على المشتري فضل دراهم. قال ابن رجب: لكن محذور الرّبا هنا بعيد. انتهى من المنتهى وشرحه. ولا فرق فيما قبل القبض أو بعده حتى في مكيلٍ وموزونٍ لكونها فسخًا

على المشهور المختار للأصحاب؛ لإجماع العلماء كما حكاه ابن المنذر على جوازها في السّلم مع النّهي عن بيع الطّعام قبل قبضه. المسألة الرّابعة: إذا قلنا إنّه ليس إلّا الرّدّ والإمساك في المعيب كما هو رواية عن أحمد ومذهب أبي حنيفة، وكان ظهور العيب بموضع ضرورةٍ كالمسافر على الدّابّة وراكب السّفينة فهل يتعيّن الأرش في هذه الحال على هذا القول حضر البائع أو غاب؟ الجواب: لا ريب أنّ القائلين بهذا القول كأبي حنيفة والشّافعي وأبي العبّاس يقيّدونه بما إذا لم يتعذر ردّه، لكن الذي يظهر من كلامهم أنّ ما ذكرته في السّؤال ليس من صور التّعذّر الذي عنوه، وإنّما الذي أرادوه كعتق العبد وإعتاقه وقتله وموته ونحو ذلك مما ييأس معه من الرّدّ غير عالمٍ بعينه. أمّا ما ذكرته فلا يظهر أنّه تعذر ولا يوصف بموضع الضّرورة؛ لاندفاعه بالإمساك مجانًا لاسيما واللّزوم والجواز عارض، ثم رأيت بعض القائلين بهذا القول صرّح في كتابه باعتبار اليأس من الرّدّ وانحصار أسبابه يستحقّ معها الأرش في ثلاثة أمور. فقال: ولغير مقصر أيس من ردّ بتلف ونكاح وتعيب لا بيع أرش. انتهى. قال الشّارح: قوله: أرش مبتدأ خبره: ولغيره مقصر أيس، ويجوز أن يجعل قوله: أرش فاعلًا لفعلٍ مقدّرٍ دلّ عليه قوّة الكلام، وأيس صفة لغير، والمعنى: ويثبت لغير مقصر في أداء المعيب أرش، وأفاد انحصار الأسباب في الأمور الثّلاثة. انتهى من بعض كتب الشّافعية. وقوله: لا بيع، جرى على أحد القولين عندهم من أنّ البيع لا يحصل به اليأس من ردّ المعيب؛ لأنّه ربّما عاد، والقول الثّاني لهم أنّ البيع أثر رابع يحصل به اليأس كالتّلف والنّكاح والتّعيب.

إذا تقرّر لك ما ذكرناه فاعلم أنّه إن كان من التزام ما لا يلزم أن يقوى عندنا من المذهبين في هذه المسألة ما عليه جماهير أصحاب الإمام أحمد -رحمه الله تعالى- من القول بالأرش مع الإمساك مطلقًا، أو الرّدّ سواء أمكن الرّدّ أو تعذّر؛ لأنّه أمكن تقرير العقد من غير ضررٍ. قال في الشّرح الكبير: ولأنّه ظهر على عيبٍ لم يعلم به فكان له الأرش كما لو تعيب عنده. اهـ. ولرضاء المتعاقدين على أنّ العوض في مقابلة المعوض فكلّ جزء من العوض في مقابلة جزء من المعوض ومع العيب فإنّه جزء فيرجع ببدله، وهو الأرش. انتهى من شرح المنتهى لمنصور. وأجابوا عن حديث المصراة الذي استدلّ به المانعون من الإمساك مع الأرش سوى ما ذكروه بأنّ المبيع في المصراة ليس فيه عيب، وإنّما ثبت له الخيار بالتّدليس لا لفوات جزء كما في المعيب فلم يستحقّ شيئًا. اهـ. وحيث اختير الرّدّ على كلّ من المذهبين فإنّه لا يفتقر إلى حضور البائع كما لا يفتقر إلى رضاه، والمبيع بعد فسخ؛ لأنّه ذكره في المنتهى وغيره. المسألة الخامسة: إذا طلقت المرأة وهي حامل فلمّا انقضت عدّتها بوضع الحمل تزوّجت ثم طلّقها الثّاني ولم تحض بعد طلاقته هل تعتدّ بثلاثة أشهر أم يصير حكمها حكم مَن ارتفع حيضها لا تدري ما رفعه؟ الجواب: صرح الفقهاء من الحنابلة والشّافعية بأنّ المعتدّة إذا علمت ما رفع حيضها من رضاعٍ، أو نفاسٍ، أو مرضٍ، أو خوفٍ، أو قحطٍ أو ضيق عيش وجوعٍ ونحو ذلك، فإنّها لا تزال في عدّة حتّى يعود الحيض فتعتدّ به، وإن طال الزّمن أو تباعدت الأقراء أو حتّى تصير إلى سنّ الإياس فتعتدّ عدّة الآيسة. نصّ عليه الإمام أحمد في رواية صالح وأبي طالب وابن

منصور، وهو المجزوم به عند المتأخّرين من الأصحاب والمحقّقين من الشّافعية؛ لقصة حبان بن منقذ وزوجته، وهي مشهورة. وهذه المرأة المسؤول عنها تذكر أنّها عالمة لما رفع حيضها وهو الرّضاع فلا تزال في عدّة حتّى يعود إليها أو تبلغ سن الإياس على هذا القول المعتمد من الأقوال. المسألة السّادسة: إذا ارتفع حيض المرأة مدّة طويلة لا تدري ما رفعه، وهي تلك المدّة مع زوجٍ ثم طلّقها هل تعتدّ بسنة أو بثلاثة أشهر؟ الجواب: أنّها تعتدّ بسنة من الطّلاق. قال في شرح الإقناع: مَن ارتفع حيضها ولو بعد حيضةٍ أو حيضتين لا تدري ما رفعه اعتدّت بسنة منذ انقطاع بعد الطّلاق، فإن كان انقطاعه قبل الطّلاق فمن تسعة أشهر للحمل وثلاثة أشهر للعدّة. انتهى. والقاعدة: عود الضّمير إلى أقرب مذكورٍ. فقد عرفت أنّ العدّة المسؤول عنها سنة من الطّلاق. المسألة السّابعة: ما الرّاجح عندكم من الأقوال فيمَن اتّجر بمال الغير بغير إذنه إلى آخر السّؤال؟ الجواب: الأشبه بالقواعد الشّرعية ما اقتضته المعاقد المذهبية من تحريم التّصرّف في مال الغير بغير إذنه. إذا علم بالحال وأنّ حكمه حكم الغاصب لتعدّيه بتناوله المحظور عليه شرعًا بغير إذن مالكه، فنصحّح تصرّفه، يعنِي: أنّ الرّابح الحاصل بتصرّفه لمالك المال كأصله؛ لأنّه ملكه ونتيجته وليس للمتصرّف من الرّبح شيء، ونصّ عليه الإمام أحمد في المتجر بالوديعة في رواية الجماعة. قال ابن نصر: نصوص أحمد متّفقة على أنّ الرّبح للمالك. المسألة الثّامنة: إذا أوقف إنسان آصعًا في نخله أو أرضه عمومًا ثم

6 - سئل الشيخ حسن بن حسين عن رجل أوصى لآخر بوصية فماتا بحادث عمهما ولم يعلم أيهما السابق، هل تنفذ الوصية والحال ما ذكر فيستحقها ورثة الموصى له أم لا تصح؟

اقتسم الورثة وجعلوا للوقف قطعة تفي بالآصع ثم تعطّل نفعها أو نقص فهل يرجع الوقف على أهل القسمة ويوزع على قدر السّهام النّقص أو الكلّ إذا تعطلّ؟ الجواب: الذي تقتضيه قواعد الفقهاء أنّ الإفراز المذكور للوقف لا يصحّ لوجوب العمل بنصّ الواقف وتعيينه. وهذا تحيل على إبطال الوقف أو تقليله بتحويله عن جميع الملك إلى جزءٍ يسيرٍ منه يتلف بتلفه ويضعف بضعفه، ومن المعلوم ضرورةً أنّ غرض الواقف أن يجعله في غلّة جميع الملك وبقاؤه على الدّوام، وعبارة الفقهاء طافحة بمنع التّصرّف في الوقف مِمَّن له الولاية عليه بالأحظّ أو مصلحة الوقف فيه، أو بما يقلّل الرّغبات فيه ولو مآلًا. فأقول: الآصع المذكورة باقية في غلّة جميع الملك ما بقي الملك، لا تزول ولا تغير والحال ما حال. الله سبحانه وتعالى أعلم. وصلّى الله على محمّدٍ وآله وصحبه وسلّم. - 6 - بسم الله الرّحمن الرّحيم سُئِلَ الشّيخ حسن بن حسين عن رجلٍ أوصى لآخر بوصيّة فماتا بحادثٍ عمّهما ولم يعلم أيّهما السّابق، هل تنفذ الوصّية والحال ما ذكر فيستحقّها ورثة الموصى له أم لا تصح؟ فالجواب: الذي يظهر أنّها لا تنفّذ، ولا تصحّ من وجهين: الأوّل: أنّ الوصيّة هي ... 1 بالتّصرّف بعد الموت، فهي جارية

_ 1 هنا بياض بالأصل.

7 - جواب ما سأل عنه الأخ عبد الله الفائز

مجرى الميراث من حيث كونها انتقال مالٍ من إنسانٍ بغير عوضٍ فلا تستحقّ إلا بتحقّق حياة الموصى له بعد الموت الوصيّ. الوجه الثّاني: أنّ الذي عليه جمهور الفقهاء أنّ الملك لا يثبت للموصى له إلّا بالقبول بعد الموت إذا كان الموصى له واحدًا أو جمعًا محصورًا، قال أحمد: الهبة والوصيّة واحد. وقد عرفت أنّ الوصيّة المذكورة لا تنفّذ ولا تصحّ. والله أعلم. - 7 - وله أيضًا قدّس الله روحه، ونوّر ضريحه. بسم الله الرّحمن الرّحيم والصّلاة والسّلام على رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- وآله وصبحه أجمعين. أمّا بعد؛ فهذا جواب ما سأل عنه الأخ عبد الله الفائز كثّر الله تعالى فوائده على الوجه الأخصّ. قال السّائل: المسألة الأولى: إذا دخلت باء البدلية على المسلم فيه وكان بلفظ البيع هل يكون بيعًا أم سلمًا؟ لأنّهم ذكروا أنّ ما دخلت عليه الباء فهو الثّمن ولو أنّ أحدهما نقد هنا دخلت على المثمن. الجواب: اعلم أنّ أصل تأسيس القاعدة المذكورة اختلاف وقع في الثّمن، هل هو النّقد أو ما التصقت به الباء؟ وإن كان أحد العوضين نقدًا فهو الثمن. وإلا يكن فما دخلت عليه الباء فيه أقوال ثلاثة. إذا عرفت ذلك، فالمذكور على الوجه المزبور سلم؛ لأنّا إن قصرنا القاعدة على بيوع الأعيان دون غيرها بقرينة ذكرهم لها في قبض المبيع أو في الصّرف للاحتياج فيها أي: في بيوع الأعيان إلى تمييز الثّمن من المثمن المعينين

الحاضرين، فهي لا تتناول عقد السّلم ويرشحه ما نبّه عليه بعضهم من أنّ قواعد الأصحاب توكيلية وأكثرية، وإن لم تقصر القاعدة على بيوع الأعيان لكوننا لم نجده صريحًا في كلامهم، وإن صرّح به غيرهم في قوله لما تساوى الثّمن المعيّن والمبيع احتيج إلى معرفة الثّمن من المثمن بالباء. انتهى. فالذي أظهره أمام التّصحيح في التّنقيح أولى بالتّرجيح حيث قال: وقيل: إن كان أحدهما نقدًا فهو الثّمن وإلّا تميّز بالباء، وهو أظهر. انتهى. المسألة الثّانية: إذا أجّر إنسان أرضًا ونحوها من غير تقدير مدّة معلومة بل قال: كلّ سنة بكذا، هل يكون لهما أو أحدهما الفسخ عند مضي السنة أم لا؟ الجواب: إن أكرى الدّار ونحوها كلّ شهر بدرهم أو أكراه للسّقي كلّ دلو بثمنٍ صحّ العقد فعلى هذا تلزم الإجارة في الشّهر الأوّل بإطلاق العقد. قاله في المغني والشّرح, وما بعده يكون مراعى، ونبّه عليه بقوله: وكلّما دخل شهر لزمهما حكم الإجارة إن لم يفسخا الإجارة أو له ولكلّ واحدٍ منهما، أي: من المؤجِّر والمستأجر عقب انقضاء كلّ شهر الفسخ على الفور في أوّل الشّهر، وليس بفسخ على الحقيقة؛ لأنّ العقد الثّاني لم يثبت. قاله في المغني والشّرح والرّعاية. قال في المغني والشّرح: إذا ترك التلبس به فهو كالفسخ لا تلزمه أجرة. انتهى من الإقناع وشرحه. المسألة الثّالثة: هل يجوز خلط البرّ بالشّعير؟ الجواب: أمّا للبيت فيجوز. وأمّا للبيع ونحوه فمكروه لما فيه من الغشّ والتّدليس. وضابط الغشّ المحرم اشتمال البيع ونحوه على وصف نقصٍ لو علم به المشتري امتنع من شرائعه، وأكثر النّاس لا يعلمون قدر المشوب وإن شاهدوه. وروى ابن ماجه وابن عساكر عن صهيب مرفوعًا:

"ثلاثة فيهن البركة: البيع إلى أجل، والمعاوضة، وخلط البرّ بالشّعير للبيت، لا للبيع". لكن قال الحافظ الذّهبي: إنّه واهٍ جدًّا. وقال البخاري فيما نقله عنه ابن حجر: إنّه موضوع. المسألة الرّابعة: الأرض المحتكرة ما هي هل المسمّاة في زماننا المصبرة أم لا؟ الجواب 1: لا تصحّ لكونها من أنواع البيع لكنها اختصت بهذه الأسماء كاختصاص الصّرف والسّلم باسمائهما والجميع بيع. فالتولية البيع برأس المال، والشّركة بيع بعضه بقسطه من الثّمن، ولا يصحّ بيع المسلم فيه قبل قبضه. قال في المغني والشّرح: بغير خلاف نعلمه لنهيه -عليه الصّلاة والسّلام- عن بيع الطّعام قبل قبضه. انتهى. المسألة الخامسة: الرّهن المنقول كالسّيف ونحوه إذا رهنه شخص عند آخر ثم رهنه المرتهن عند غيره بغير إذن راهنه الأوّل، هل يزول لزومه بإخراجه عن يده؟ فإن قلتم: يزول، فهل عنهما أو عن أحدهما؟ الجواب: يزول لزومه عنهما معًا أمّا المرتهن فلإخراجه له باختياره واستدامة قبضه شرط للزومه فانتفاء المشروط بانتفاء شرطه. قال في شرح الإقناع: فإذا لم يكن المرهون في يده زال. انتهى. وأمّا الثّاني وهو راهنه؛ لأنّه ممنوع التّصرّف مطلقًا بغير إذن الرّاهن. صرّح به في شرح الإقناع وغيره. المسألة السّادسة: إذا استدان زيد من عمرو دينًا ورهنه به رهنًا ثم استدان عمرو من بكرٍ دَينًا فرهنه به مرهون زيد برضا زيدٍ، هل يصحّ أم لا بدّ من فسخ عمرو للرّهن ويقع عقد الرّهن بين زيد وبكر أم لا يصحّ في الصّورتين؟

_ 1 هذا ليس جوابًا عن المسألة الرّابعة كما ترى، وهو هكذا في الأصل.

الجواب: ظاهر كلامهم صحّة رهن المرتهن للمرهون بإذن راهنه عند أجنبِي، ويكون فسخًا للرهن الأوّل كالبيع بالإذن. وأمّا قولهم: المشغول لا يشغل، والمرهون لا يرهن، فمرادهم به جعله مرهونًا بالدَّينين معًا فاعمله. المسألة السّابعة: إذا اشتريت مكيلًا فهوة أو نحوها كيلًا كلّ عشرة آصع بكذا فكانت من الصّبرة عشرة ووزنته بالميزان وعرفت مبلغ العشرة وزنًا ثم أخذت الباقي وزنًا على هذا التّقدير فهل يصحّ هذا القبض أم لا؟ الجواب: إذا انتفى الغرر وحصل العلم بالمبيع المكيل وزنًا فلا مانع من صحّة القبض لنصّ الفقهاء على جواز قبض المكيل وزنًا وبالعكس في غير بيع الجنس الواحد بعضه ببعض وفي غير اقتضاء دَين السّلم في رواية المروذي واختارها جمع منهم: ابن أبي عمر وجزم به في الوجيز، وسيأتي في جواب العاشرة قول المنتهى وشرحه كسمن مائع أو جامد مع وعائه موازنة مع أنّ كلّ مائع مكيل. المسألة الثّامنة: إذا اشترط المشتري على البائع قوّة الكيل وزاد بها زيادة بيّنة بمشاهدة البائع له ورضاه به، هل تحلّ هذه الزّيادة للمشتري؟ الجواب: إذا اتّفق البائع والمشتري على ما ذكر ولا غرر في ذلك فلا مانع، وقد نصّ الإمام أحمد -رحمه الله- على كراهة الزلزلة عند القبض لاحتمال زيادة على الواجب. قال الفتوحي في شرح المنتهى: ولأنّ الرّجوع في كيفية الاكتيال إلى عرف النّاس في أسواقهم ولم تعهد فيها. انتهى. قال الشّيخ منصور: وفيه نظر. بل عهد ذلك في بعض الأشياء، فعليه لا يكره فيها. انتهى. قلت: وعليه أيضًا لا يكره في القهوة ونحوها لكون العرف

فيها زلزلة المكيال، وذكر الشّيخ محمّد الخلوتي أنّ الآية محمولة على ما يتضمّن أخذ زيادة لا تسمح بها النّفوس عادةً. المسألة التّاسعة: إذا باع إنسان آخر موزونًا كتمر متحيل مثلًا مشاهدًا بظروفه على أنّ كلّ رطلٍ بدرهمٍ والظّروف تحسب تمرًا ولم يعلما قدرها لا مع العقد ولا بعده هل يصحّ العقد أم لا؟ الجواب: يصحّ بيع بوعاء كسمن مائع أو جامد مع وعائه موازنة كلّ رطلٍ بكذا مطلقًا، أي: سواء علما مبلغ الوعاء أو ما به أو لا لرضاه بشراء الظّروف كلّ رطلٍ بكذا كالذي فيه. ويصحّ ما بوعاء دونه، أي الوعاء مع الاحتساب بزنته، أي: الوعاء على مشتريه إن علما حال العقد مبلغ كلّ منهما وزنًا؛ لأنّه إذا علم أنّ ما بالوعاء عشرة أرطال وأنّ الوعاء رطلان، واشتري كذلك كلّ رطلٍ بدرهمٍ صار كأنّه اشترى العشرة التي بالوعاء باثني عشر درهمًا، فإن لم يعلما مبلغ كلّ منهما لم يصحّ البيع لأدائه إلىجهالة الثّمن. انتهى من المنتهى وشرحه. فتأمّله، فإنّه صريح في المسألة وافهم الفرق بين الصّورتين. المسألة العاشرة: الأرض المغصوبة والنّخل إذا استأجرها إنسان وسوقي على النّخل بجزءٍ معلومٍ من الثّمرة وأجرة معلومة للأرض هل يحرم على العامل نصيبه لتولّده من الأرض المغصوبة أم يكره أم لا كراهة ولا تحريم في حقّه؟ الجواب: يد هذا العامل إحدى الأيدي المترتبة على يد الغاصب، وكلّها أيدي ضمان، وقد مثلوا الثّالثة بيد المستأجر والسّابعة بيد المساقي والمضارب والشّريك فأرجى هذه اليد العاشرة مما عدا التّحريم والتّغريم. المسألة الحادية عشرة: إذا آجر إنسان أرضًا ونحوها مدّة معلومةً

كلّ سنة بجديدة أو ربع مثلًا وبطل التّعامل بها ولم نعلم وقت العقد قيمتها ما الحكم فيها؟ الجواب: يبعد تعذر معرفة القيمة في الجديدة أو الرّبع لقرب العهد بالتّعامل بل بقاء التّعامل، وإذا فرضناه فقياس كلامهم فيما إذا كان رأس مال السّلم جوهرة ونحوها، وفيما إذا باعه الشّقص المشفوع بجوهرة ونحوها وجهلت القيمة أنّ القول قول المستأجر هنا؛ لأنّه غارم، وإن جهلها المؤجّر والمستأجر معًا فمقتضى القواعد الرّد إلى أجرة المثل، وهي ما انتهت إليه رغبات النّاس بعد الاشتهار لا ما قوّمه المقوّمون قياس ما ذكروه فيما إذا وقع ثمن الشقص المشفوع عوضًا وكان موجودًا أنّه يعرض على المقوّمين ليشهدوا بقيمته. المسألة الثّانية عشرة: إذا اشترط الغريم على المدين أنّ دَينِي قادم في زرعك أو نخلك هل يكون هذا رهنًا إذا كان عرف البلد كذلك؟ الجواب: إذا توفّرت شروط الصّحّة واللّزوم واطّرد العرف بهذه الصّيغة أو بالمعاطاة فيما يتناول أو بالتّخلية المعتبرة في نحو ما ذكر بدون صيغةٍ لفظيةٍ فلا مانع. قال في الغاية: وينعقد بلفظ ومعاطاة. انتهى. فأمّا التزام لفظ مخصوص فليس فيه أثر ولا نظر. قاله أبو العبّاس. المسألة الثّالثة عشرة: ما ضابط الإعسار الذي يحرم قلب الدَّين على مَن قام به؟ الجواب: اختلف في ضابطه ولعلّه أقرب الأقوال فيه أنّه عدم القدرة على الوفاء بإعدام أو كساد متاع ونحوه أو كون موجوده أقلّ من دَينه. قال الشّيخ تقيّ الدِّين بعد كلام سبق: وإن كان معسرًا وله مغلاة يوفى

منها أو في دَينه بحسب الإمكان. انتهى. فسمّاه معسرًا وله مغلاة. المسألة الرّابعة عشرة: هل يقوم أمير البلد مقام الحاكم عند عدمه فيما يتعلّق بالحاكم أم لا؟ الجواب: أمّا مطلقًا فلا. وأمّا في الجملة أو في بعض المسائل فربّما. قال في الإقناع: فإن عدم الوليّ مطلقًا أو عضل زوجها ذو سلطانٍ في ذلك المكان كوالي البلد وكبيره وأمير القافلة ونحوه. فإن تعذر زوجها عدل بإذنها، قال أحمد في دهقان القرية، أي: رئيسها يزوّج من لا ولي لها إذا احتاط في الكفء والمهر إذا لم يكن في الرّستاق قاضٍ. انتهى. قال الزّركشي: لأنّ دهقان القرية هو كبيرها فهو بمنْزلة حاكمها والقائم بأمرها. انتهى. وقال ابن عقيل في الفصول في الصّلاة على الميّت: إذا اجتمع السّلطان وغيره قدّم السّلطان، فإن لم يحضر أمير البلد فالحاكم. انتهى. وصرح ابن عطوة -رحمه الله تعالى- بالإلزام بما يصدر من واحدٍ ككبار نجد الحاكمين على قراهم هو ووجوه أهل قريته من بيع تركة أو قضاء دَين على الوجه الشّرعي. المسألة الخامسة عشرة: هل يحرم إنشاء الحجّ على الحيوان المغصوب من بلد مريد الحجّ أم يختصّ التّحريم وعدم الصّحة بما بعد الإحرام. الجواب: أمّا التّحريم فمطلقًا، وأمّا عدم الصّحّة فظاهر كلامهم ما صرح به في الغاية حيث قال: أو حجّ بغصب عالمًا به ذاكرًا له وقت على عبادة لم تصحّ وإلّا صحّت. ويتجّه لو تاب في حجّ قبل دفع من عرفة أو بعده إن عاد فوقف مع تجديد إحرام الصّحة لتلبسه بالمباح حال فعل الأركان. انتهى. ولا يبعد قبول خبر الأعرابي إن حفته قرائن ونحوها. المسألة السّادسة عشرة: تقدير وقت النّهي عن الصّلاة بعد طلوع

الشّمس بالرّمح هل هو الطّويل أم الزّانة في عرف أهل الوقت الخ؟ الجواب: في حديث عمرو بن عنبسة ثم أقصر عن الصّلاة حتّى ترتفع الشّمس قيس رمح أو رمْحين. قال في المبدع: والظّاهر أنّه الرّمح المعروف. وقال في المستوعب: حتّى تبيض. انتهى. ولأنّه المنصرف إليه عند الإطلاق، وذكر الفقهاء أنّه تقريب لا تحديد. والمراد قدره في رأي العين وإلّا فالمسافة بعيدة جدًّا. كذا قال بعضهم. وأمّا الزّانة فهي أقرب شبهًا بالعنَزة لقول أبي السّعادات في النّهاية: العنَزة: مثل نصف الرّمح أو أكثر شيئًا. المسألة السّابعة عشرة: ما ضابط معاطن الإبل الخ؟ الجواب: هي التي تقيم فيها وتأوي إليها، قال أحمد: وقيل: مكان اجتماعها إذا صدرت عن المنهل. زاد بعضهم: وما تقف فيه لورود الماء. قال في المغني والشّرح: والأوّل أجود؛ لأنّه جعله في مقابلة مراح الغنم لا نزولها في سيرها. قاله في المبدع. المسألة السّابعة عشرة: إذا صلّى بعد التّراويح، وقبل الوتر، هل يُسَمّى تعقيبًا أم لا؟ وهل يكون مسنونًا أو مباحًا أم كيف الحكم؟ الجواب: التّعقيب صلاته بعد التّراويح والوتر جماعة. نصّ عليه أحمد وجزم به جمهور الأصحاب. قال في المبدع: وظاهره أنّه إذا تطوّع بعدها وحده لا يكره، وصرّح به ابن القيم -رحمه الله- وذكره منصوصًا وهو ظاهر المغني وغيره. انتهى. قال ابن القيم في البدائع: قال حنبل كان أبو عبد الله يصلّي معنا إذا فرغنا من التّرويحة جلس وجلسنا وربّما تحدّث ويُسْأَل عن الشَّيء فيجيب

8 - من حسن بن حسين إلى الأخ عبد الرحمن

ثم يقوم فيصلّي ثم يدعو بعد الصّلاة بدعوات، ثم ينصرف. انتهى. فقد عرفت أنّه لا يُسَمَّى تعقيبًا، وأنّ الإمام أحمد كان يفعله فيكون مباحًا. المسألة التّاسعة عشرة: ما الفرق بين حدّثنا، وأخبرنا، وأنبأنا؟ الجواب: بينها فرق اصطلاحي عند المحدِّثين، فإذا قال المحدِّث: حدَّثنا، حمل على السّماع من الشّيخ، وإذا قال: أخبرنا، حمل على سماع الشّيخ فلفظ الأخبار أعم من التّحديث فكلّ تحديثٍ إخبارٌ ولا ينعكس. قاله ابن دقيق العيد. وأنبأنا من حيث اللّغة واصطلاح المتقدِّمين بمعنى: أخبرنا إلّا في عرف المتأخرين فهو للإجازة كعنه، فلما كثر واشتهر استغنى المتأخّرون عن ذكره. قاله خاتمة المحدِّثين ابن حجر العسقلاني رحمه الله تعالى. والله أعلم. - 8 - بسم الله الرّحمن الرّحيم من حسن بن حسين إلى الأخ عبد الرّحمن سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. والخط وصل، وتسأل فيه عن مسائل: الأولى: هل قيء الغلام طاهر أم نجس كبوله؟ الجواب: حكم قيئه حكم بوله إلّا أنّه أخفّ منه صرح به في الإقناع وغيره. وهو ظاهر الرّوض وغيره. الثّانية: إذا أسلم عجلًا في بقرة موصوفة فلمّا حلّ الأجل وجدت الصّفة في عين رأس المال هل يجزئ دفعه ويلزم قبوله أم لا؟ الجواب: إذا اتّحدا صفةً ولم يفعل ذلك لينتفع بالعين أجزأ ولزم قبوله وقطع به في الإقناع.

الثّالثة: هل تصحّ المساقاة إلى أجلٍ مجهولٍ؟ الجواب: إن تكون عند الجمهور على أنّها عقدٌ لازمٌ فتفتقر إلى ضرب مدّةٍ معلومةٍ كالإجارة، والقول بأنّها عقد جائز من المفردات، واختار صاحب التّبصرة قولًا ثالثًا وهو أنّها لازمة من جهة المالك فقط. وقيد بعض المحقِّقين القول بجواز عقدها بقيدٍ حسنٍ. الرّابعة: إذا قلنا إنّها عقد لازم هل يثبت فيها خيار الشّرط؟ الجواب: نعم. على الأوّل قياسًا على الإجارة. وقد اختار أبو العبّاس ثبوت خيار الشّرط في كلّ عقدٍ. الخامسة: هل يورث خيار الشّرط أم يسقط كسائر الحقوق؟ الجواب: إن طالب به قبل موته ورث عنه كالشّفعة وحد القذف وإلّا فلا. السّادسة: هل يصحّ الخيار المجهول أم لا؟ فالجواب: لا يصحّ. سواء كان أبدًا أو مدّة مجهولة أو أجلًا مجهولًا أو تعليقًا على مشيئةٍ أو على نزول مطرٍ ونحوه، كما صرّح بذلك الفقهاء رحمهم الله تعالى. والله أعلم. السّابعة: رجلان اشتركا في جمع زرعيهما بعد الصّلاح أو قبل الحصاد ويداسان معًا ويكونان نصفين ولأحدهما زيادة دراهم هل يصحّ أم لا؟ الجواب: الحمد لله، شرط زيادة الدّراهم يبطل الشّركة. والله أعلم. الثّامنة: ما قول العلماء -رحمهم الله تعالى- في امرأة ماتت عن زوجٍ وبنين وبنات وخلفت شيئًا من الصّوغ وصار تحت يد الزّوج جمعيه فمات ولم يوص به لعياله ولم يشهد، هل يملكه أبوهم بمجرّد ذلك أم لا يملكه إلّا بشهادة أو القول قوله؟

9 - من حسن بن حسين إلى الأخ جمعان بن ناصر

الجواب: قال في المقنع: وإن تصرّف فيه يعنِي: الأب في مال ولده قبل تملكه ببيع أو عتق أو إبراء من دَين لم يصحّ تصرّفه. انتهى. وهذا المذهب، وله ملكه بالقبض نصّ عليه مع القول أو النّيّة. قاله الفقهاء -رحمهم الله تعالى- من أصحاب أحمد. فقد عرفت أنّه لا يصحّ التّصرّف قبل التّملك؛ لأنّ مجرّد قبض الوالد لمال ولده لا يكتفى به في ثبوت الملك، بل لا بدّ معه من القول المصرّح بالتّملّك مع القبض والإشهاد عليه، مع أنّ مذهب مالك والشّافعي وأصحاب الرأي أنّ الأب لا يتملّك من مال ولده إلّا ما احتاج إليه فقط. ذكره عنهم في المغني وغيره خلافًا لأحمد. والله أعلم. - 9 - بسم الله الرّحمن الرّحيم من حسن بن حسين إلى الأخ جمعان بن ناصر سلّمه الله تعالى. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. والخط وصل وصلك الله إلى رضوانه وتضمّن السّؤال عن ستّ مسائل: الأولى: ما قول العلماء عفا الله عنهم في بيع الفضولي إذا حكم الحاكم بفساده والمبيع إبل أو غيرها من الدّواب ومضى مدّة لها قدر أجرة لكونه سقى عليها زرعه أو نخله فهل التّقويم في عينها بما ينقص إذا كانت موجودة أو تقدر المدّة بأجرة مثلها؟ فالجواب -وبالله التّوفيق- كلّ موضع فسد العقد لم يحصل به ملك وإن قبض؛ لأنّه مقبوض بعقدٍ فاسدٍ أشبه ما لو كان الثّمن ميتة، ولا ينفذ تصرّف المشتري فيه وعليه ردّه بنمائه المتّصل والمنفصل وأجرة مثله مدّة مقامه في يده ويضمنه إن تلف أو نقص بما يضمن المغصوب؛ لأنّه

ملك غيره حصل في يده بغير إذن الشّرع أشبه المغصوب. قاله في الكافي. وقال في الإنصاف: منافع المقبوض بعقدٍ فاسدٍ كمنافع المغصوب تضمن بالفوات والتّفويت. انتهى. وقال في الإقناع: والمقبوض بعقدٍ فاسدٍ لا مالك به ولا ينفذ تصرّفه فيه ويضمنه كالغصب ويلزمه ردّ النّماء المتّصل والمنفصل وأجرة مثله مدّة بقائه في يده، وإن نقص ضمن نقصه، وإن تلف فعليه ضمانه بقيمته. انتهى. وقال أيضًا في (باب الغصب): وإن كان المغصوب منفعة تصحّ إجارتها، فعلى الغاصب أجرة مثله مدّة بقائه في يده استوفى المنافع أو تركها تذهب. وإن ذهب بعض أجزائه في المدّة كمخمل المنشفة لزمه الأجرة وأرش نقصه، وما لا تصحّ إجارته مما لا منفعة له لم يلزمه أجرة. انتهى ملخّصًا. فقد عرفت -رحمك الله- أنّه يلزم المشتري بالعقد الفاسد الأجرة وأرش النّقص معًا. المسألة الثّانية: أرض موات تبايعها أناس على الجاهلية أو في الإسلام كما إذا كان بإزاء بلاد عامرة ولو مسيرة ثلث فرسخ أو نصف فرسخ صار محتجرًا لأهل العامرة على عادة مشوا عليها ولو عدمت شروط التّحجّر هل إذا أحياها إنسان يملكها ولو ادّعى مدّعٍ أنّها بشراء لكنها موات كما ذكرنا. الجواب عن هذا السّؤال: يظهر مما نورده من كلام الفقهاء. قال: في الشّرح الكبير: الموات قسمان: أحدهما: ما لم يجر عليه ملك لأحد ولم يوجد فيه أثر عمارة، فهذا يملك بالإحياء بغير خلاف. القسم الثّاني:

ما جرى عليه ملك وهو ثلاثة أنواع: أحدها: ما له مالك معيّن وهو ضربان: (أحدهما): ما ملك بشراء أو عطية فهذا؛ لا يملك بالإحياء بغير خلاف. قال ابن عبد البرّ: أجمع العلماء على أنّ ما عرف بملك مالك غير منقطع أنّه لا يجوز إحياؤه لأحدٍ غير أربابه. (الثّاني): ما ملك بالإحياء ثُمّ ترك حتّى دثر وعاد مواتًا فهو كالذي قبله سواء. النّوع الثّاني: ما يوجد عليه آثار ملك قديم جاهلي كآثار الرّوم ومساكن ثمود ونحوهم، فهذا يملك بالأحياء في أظهر الرّوايتين. (والثّانية) لا يملك لأنّها آثار لمسلم أو ذمي أو بيت المال أشبه ما لو تعيّن مالكه، قال شيخنا ويحتمل أنّ كلّ ما فيه أثر الملك ولم يعلم زواله قبل الإسلام أنّه لا يملك. النّوع الثّالث: ما جرى عليه الملك في الإسلام لمسلم أو ذمي غير معيّن فظاهر كلام الخرقي، أنّه لا يملك بالإحياء وهو إحدى الرّوايتين عن أحمد لما روى كثير بن عبد الله بن عوف عن أبيه عن جدّه قال سمعت رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- يقول: "مَن أحيا أرضًا موانًا في غير حقّ مسلم فهي له". فقيده في غير حقّ مسلم؛ ولأنّ هذه الأرض لها مالك فلم يجز إحياؤها كما لو كان معينًا، فإنّ مالكها إن كان له ورثة فهي لهم، وإن لم يكن له ورثة ورثها المسلمون. (والثّانية) أنّها تملك بالإحياء، وهو مذهب مالك وأبي حنيفة لعموم الأخبار، وكلّما قرب من عامر وتعلّق بمصالحه من طرق ومسيل مائه ومطرح قمامته وملقى ترابه لا يجوز إحياؤه بغير خلاف في المذهب. وكذلك ما تعلّق بمصالح القرية كفنائها ومرعى ماشيتها ومحتطبها ومسيل مائها لا يملك بالإحياء لا نعلم فيه خلافًا بين أهل العلم، وكلّ مملوك لا يجوز إحياؤه ما تعلّق بمصلحة لقوله -صلّى الله عليه وسلّم-: "مَن أحيا أرضًا ميتة في غير

حقّ مسلمٍ فهي له". مفهومه: أنّ ما تعلّق به حقّ مسلمٍ لا يملك بالإحياء. انتهى من الشّرح الكبير ملخّصًا. وقال في الإقناع: وهي - أي: الموات - الأرض المنفكة عن الاختصاصات وملك معصوم، فإن كان الموات لم يجر عليه ملك لأحدٍ ولم يوجد فيه أثر عمارة ملك بالإحياء، وإن ملكها مَن له حرمة أو شكّ فيه فإن وجد واحد من ورثته لم يملك بالإحياء، وإن علم ولم يعقب لم يملك واقطعه الإمام مَن شاء، وإن كان قد ملك بالإحياء ثم ترك حتّى دثر وعاد مواتًا لم يملك بإحياء إذا كان لمعصومٍ، وإن علم ملكه لمعيّن غير معصومٍ فإن كان بدار حرب واندرس كان كموات أصلي يملكه مسلم بإحياء، وإن كان فيه أثر ملك غير جاهلي كالخرب التي ذهبت أنهارها واندرست آثارها ملك بالإحياء، وكذا إن كان جاهليًا قديمًا كديار عادٍ. انتهى. فقد عرفت أنّ هذا المحي الثّاني للأرض المذكورة لا يملكها بإحيائه لها إذا ثبت الإحياء الأوّل بشروطه وثبت التّبايع المذكور ودعوى الشّراء. والله أعلم. المسألة الثّالثة: إذا تزوّج إنسان امرأة بعقدٍ فاسدٍ هل المفتَى به عندكم أنّه يطلق فإن أبى فسخه الحاكم أم لا يحتاج؟ إلى آخر السّؤال. الجواب: المعتمد المفتَى به عندنا أنّه لا يحل تزويج من نكاحها فاسد لغير مَن تزوّجها حتّى يطلقها أو يفسخ نكاحها فإن أبى فسخه الحاكم. وهذا المنصوص عن الإمام أحمد، وهو المذهب المقرّر عند أصحابه خلافًا للشّافعي. قال في المغني والشّرح: لأنّه نكاح يسوغ فيه الاجتهاد فاحتاج إلى التّفريق، ولأنّ تزويجها من غير فرقة يفضي إلى تسلّط زوجين عليها

كلّ منهما يعتقد صحّة نكاحه وفساد نكاح الآخر، ويفارق النّكاح الباطل من هذين الوجهين. انتهى. فافهم الفرق بين الفاسد والباطل؛ فالباطل لا يحتاج إلى طلاقٍ ولا فسخٍ ولا يجب به مهر فهو بخلاف الفاسد. المسألة الرّابعة: أصول دية النّفس من الإبل والذّهب والفضّة والبقر والغنم والحلل غير خافٍ عليكم. وقدر عبد العزيز مائة من الإبل بثمانمة ريال، فهل هذا التّقدير برخصة من الشّيخ -رحمه الله- أم لا؟ والآن صارت قيمة الإبل ناقصة عما هو معلوم فما المعمول به؟ إلى آخر السّؤال. الجواب: لا نزاع أنّ دية الحرّ المسلم مائة من الإبل وإنّ الإبل أصل في الدّية. واختلف عن أحمد هل هي الأصل لا غير أو معها غيرها؟ وهل ذلك الغير أربعة أو خمسة فعنه؛ لأنّها الأصل لا غير أو معها غيرها؟ وهل ذلك الغير أربعة أو خمسة فعنه أنّها الأصل؛ لأنّ في حديث عمرو بن حزم: "في النّفس مائة من الإبل"، رواه النّسائي ومالك عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه. قال: قضى رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- أنّ مَن قتل خطأ فديته من الإبل مائة ثلاثون بنت مخاض وثلاثون بنت لبون وثلاثون حقّة وعشرة ابن لبون ذكر. رواه أبو داود والنّسائي، وذكر حديث عقبة ابن عامر بن أويس وحديث عبد الله بن عمرو، ثم قال: وظاهر هذه الأحاديث أنّ الدّيّة هي الإبل خاصّة، ويؤيّد ذلك أنّ النَّبِيّ -صلّى الله عليه وسلّم- فرق بين دية العمد والخطأ فغلظ دية العمد وخفّف الخطأ ولم يرد ذلك عنه إلّا في الإبل، وعنه أنّها خمسة أشياء كلّ منها أصل برأسه: الإبل، والبقر، والغنم، والذّهب، والفضّة. أمّا في الإبل فلّما تقدّم، وأمّا في البقر والغنم فلأنّ في حديث لعمرو بن شعيب مرفوعًا. قضى على أهل البقرة بمائتي بقرة، ومَن كان دية عقله في شاء فألفا شاة. وأمّا في الذّهب والفضّة فلِمَا روى

ابن عبّاس أنّ رجلًا من بنِي عدي قتل فجعل رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- ديته اثنَي عشر ألفا. رواه التّرمذي والنّسائي وأبو داود، وهذا لفظه. ولمالك في الموطأ بلغه أنّ عمر بن الخطاب قوّم الدّية على أهل القرى فجعل على أهل الذّهب ألف دينار وعلى أهل الورق اثني عشر ألف درهم. قال مالك: فأهل الذّهب أهل الشّام ومصر وأهل الورق أهل العراق. وعنه أنّها ستة أشياء فيضاف إلى الخمسة السّابقة مائتا حلّة. وهذا اختيار القاضي وكثير من أصحابه لما روى عطاء بن أبي رباح أنّ رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- قضى في الدّية على أهل الإبل مائة من الإبل، وعلى أهل البقر مائتي بقرة، وعلى أهل الشّاء ألفي شاة، وعلى أهل الحلل مائتي حلة، وعلى أهل القمح شيئًا لم يحفظه محمّد بن إسحاق والرّواية الأولى أظهر دليلًا على أنّ أحاديث تلك الرّواية لا تقاوم تلك الأحاديث وعلى تقدير مقاومتها فيحمل على أنّه جعل ذلك بدلًا عن الإبل، وظاهر في حديث عمرو بن شعيب إذًا، وله أنّ رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- كان يقوّم على أثمان الخطأ على أهل القرى أربعمائة دينار أو عدلها من الورق ويقوّمها على أثمان الإبل إذا غلت رفع في قيمتها. وإذا "هاجت رخصت". نقصت من قيمتها، وبلغت على عهد رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- أربعمائة إلى ثمانمائة، وعدلها ثمانية آلاف درهم، قال: وقضى على أهل البقر بمائتي بقرة، ومَن كان دية عقله في شاء فألفا شاة، وهذا ظاهر في أنّه إنّما كان يعتبر الإبل لا غير، بل هو نصّ في الذّهب والورق، أنّه كان يعتبرهما بالإبل، وحديث ابن عبّاس واقعة عينٍ لا عموم له، وفعل عمر ظاهر في أنّ تلك على سبيل التّقويم فهو مؤيّد لما قلناه. وأبو محمّد يختار في العمد قولًا رابعًا هو بعض الرّواية الثّانية، وهو أنّ الدّية مائة من الإبل أو ألف مثقال أو اثنا عشر ألف

درهم، وهذا ظاهر في الورق لحديث ابن عبّاس إن صحّ، وعلى الرّواية الأولى مَن وجب عليه الدّيّة متى قدر على الإبل لا يجزؤه غيرها، وإن عجز عنها انتقل إلى ما شاء من الأربعة أو الخمسة على اختلاف الرّوايتين، وكذلك إذا لم توجد إلإّ بأكثر من ثمن المثل. قال أبو محمّد: وهذا ينبغي فيما إذا كانت الإبل موجودة بثمن مثلها إلّا أنّ هذا لا يجدها لكونها في غير بلده ونحو ذلك، فإذن ينتقل إلى غيرها. أمّا إذا غلت الإبل كلّها فلا ينتقل إلى غيرها، وظاهر كلام الخرقي أنّ الواجب الإبل من غير نظر إلى قيمة. وهذا إحدى الرّوايتين، واختيار الشّيخين لظاهر حديث عمرو بن حزم وحديث عمرو بن شعيب وغيرهما، فإنّه -صلّى الله عليه وسلّم- أطلق الإبل ولم يقيّدها بقيمة فتقييدها بها يحتاج إلى دليلٍ، وكذلك الأحاديث التي فيها ذكر البقر والغنم والحلل ليس فيها اعتبار قيمة، وأيضًا فإنّه -صلّى الله عليه وسلّم- فرّق بين دية العمد والخطأ فغلّظ دية العمد وشبّهه، وخفّف دية الخطأ، واعتبار القيمة يفضي إلى التّسوية بينهما وهو خلاف ما تضمنته سنة رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم-. (والرّواية الثّانية) يعتبر أن لا تقص بغير المائة عن دية الأثمان نظرًا لأن عمر قوّمها كذلك فجعل على أهل الذّهب ألف مثقال، وعلى أهل الورق اثني عشر ألف درهم، وظاهره أنّ قيمتها كذلك، وأجيب بأنّه اتّفق أنّ قيمتها في ذلك الوقت كان كذلك فصرنا إليه عند ذلك حذرًا من التّنازع، وحكى أبو محمّد الكافي في الرّواية أنّه يعتبر أن يكون قيمة كلّ بعيرٍ مائة وعشرين درهمًا، وقال في المغني: إنّ الأصحاب ذكروا أنّ ذلك مذهب أحمد والتّحقيق هو الأوّل. انتتهى ملخّصًا من شرح الزّركشي على الخرقي.

إذا تقرّر هذا، فالمتعيّن المعمول به هو ما نصّ عليه الشّارع -صلوات الله وسلامه عليه- مهما أمكن، ولا يقال بالقيمة إلّا عند التّعذر، فحينئذٍ يرجع إلى القيمة في الجميع كلّ أصلٍ بقيمته. وقيمة الرّيال بالدّراهم الإسلامية بالتّحرير تقريب تسعة دراهم كذا قيل. وما علمنا فيما بلغنا عن شيخ الإسلام رخصة بتقدير قيمة الإبل خاصّة بما ذكر. وإنّما ذلك من ولي الأمر في دية أعوز السّن فيها ذلك الوقت، فقومت المائة بثمانمائة ريال؛ لأنّها بدل وقيمة مطلقًا بل في وقت تكون قيمتها الثّمان، وفي وقتٍ آخر أربعًا، وفي غيره ثلاثًا وغير ذلك بحسب الغلاء والرّخص، وقد عرفت المتعيّن المعمول به. وهذا ما ظهر لي. والله أعلم. المسألة الخامسة: هل ورد حديث في تسنين الإبل في دية الشّجاج والحكومات وما دون دية النّفس، وهل ذكر ذلك الفقهاء؟ فالجواب: إنِي لم أقف على حديث في ذلك. وما رأيته في كلام الفقهاء -رحمهم الله-، ولعلّه فيما فاتنا، ثم رأيت صاحب الإقناع أفاد ذلك بقوله: وتغلّظ دية طرف كتقل -إلى أن قال-: فإن لم يكن قسم دية الطّرف مثل أن يوضحه عمدًا أو شبه عمدٍ فإنّه يجب أربعة أرباع، والخامس من أحد الأنواع الأربعة قيمته قيمة ربع الأربع، وإن كان خطأ وجبت الخمس من الأنواع الخمسة من كلّ نوعٍ بعير، وإن كان الواجب دية أنملة وجبت ثلاثة أبعرة وثلث قيمتها نصف قيمة الأربعة وثلثها، وإن كان خطأ ففيها ثلثها ثلثا قيمة الخمس. انتهى. ووجهه -والله أعلم- اتّفاقهما في السّبب الموجب. المسألة السّادسة: إذا ضمن ضامن لصاحب حقّ على غيره، وقال: الضّمين للمضمون عنه: لا أضمن عليك إلّا أن ترهنَنِي كذا وكذا، وأرهنه،

10 - من حسن بن حسين إلى الأخ عبد الله

فهل يصحّ أم لا؟ فإن قلتم يصحّ فما وجه الصّحّة والدَّين لغيره؟ فالجواب: الذي يظهر الصّحّة، فيما ذكر؛ لكونه تبرّع بالتزام حقّ إنّما يلزم ويثبت ويجب بالتزامه، فإذا أراد التزامه وطلب الوثيقة عليه فلا مانع كسائر الدّيون، وكون الدَّين لغيره ليس مانعًا، فإنّ للإنسان أن يرهن مال نفسه على دَين غيره ويأذن لعبده أن يضمن على غيره كما هو مقرّر في موضعه. هذا حسب ما ظهر لي. والله سبحانه أعلم بالصّواب. وصلّى الله على سيّدنا محمّدٍ وآله وصحبه. وسلّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدِّين. ذكر النّاقل أنّه نقله بتاريخ رجب سنة: 1242 هـ مائتين واثنين وأربعين وألفا. - 10 - بسم الله الرّحمن الرّحيم من حسن بن حسين إلى الأخ عبد الله سلّمه الله تعالى. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد؛ هذا جواب سؤالك الذي صورته: ما قولكم -دام فضلكم- فيما إذا انقضت مدّة إجارة أرض طلق أو موقوفة استؤجرت للغراس أو البناء وقد أوقف المستأجر بعض الغرس فما الحكم في الطّلق من هذا الغراس أو البناء والوقف؟ الجواب: حاصل ما ذكره فقهاؤنا -رحمهم الله- في حكم هذه المسألة أنّه إن كان شرط قلع الغراس أو البناء عند انقضاء مدّة الإجارة أو في وقت معيّن وليست مشاعًا للشّريك، فإنّ المستأجر يقلعه مجانًا ولا يسوي الحفر، ولا يغرم مالك الأرض نقصه بالقلع، وإن لم يشترط قلعه أو شرط بقاءه ولم يقلعه مالكه خيّر مالك الأرض بين ثلاثة أمور: أخذه بقيمته،

11 - حضر عندي عثمان الغرشي وكيلا لأبيه وعبد العزيز بن زامل وكيلا لابن مسعد

فتقوّم الأرض مغروسة أو مبنية ثم تقوّم خالية منهما فما بينهما فهو القيمة، ومحلّ تملكه بقيمته إذا كان مالك الأرض تام الملك فخرج الموقوف عليه والمستأجر والمرتهن ونحوهم؛ لأنّ ملكهم غير تامٍّ. الأمر الثّاني: تركه بالأجرة. الأمر الثّالث: قلعه وضمان نقصه. هذا إذا لم يختر مالكه قلعه كما تقدم. أمّا إن اختاره فله ذلك، قال في الغاية: ويتّجه لو أبى الثّلاثة ومالك القلع بيع أرض بما فيها كعارية. انتهى. وكون المستأجر وقف الغراس أو البناء في الأرض المستأجرة لا يمنع الخيرة بين الثّلاثة الأمور، وإذا لم يترك لم يبطل وقفه بالكلّيّة، فيكون كما يؤخذ بسبب قلعه وضمان نقصه أو تملكه بقيمته ويشتري بها ما يقوم بها ما يقوم مقامه كقيمته إذا أتلف يشتري بها ما يقوم مقامه ذكر معناه في الفروع وغيره، قال في الإقناع وهو ظاهر: وظاهر كلامهم لا يقلع الغراس إذا كانت الأرض وقفًا. قال في الشّرح: وتقدم أنّه لا يتملكه إلّا تام الملك وحينئذٍ فيبقى بأجرة المثل. انتهى. قال في منته: بل قال الشّيخ: ليس لأحدٍ أن يقلع غرس المستأجر وزرعه صحيحة كانت الإجارة أو فاسدة. بل إذا بقي فعليه أجرة المثل، وفي الفائق قلت فلو كانت الأرض وقفًا لم يتملّك إلّا بشرط واقف أو رضاء مستحقّ. انتهى. قال: المنقح إذا حصل به نفع كان له ذلك. انتهى. والله سبحانه وتعالى أعلم. - 10 - بسم الله الرّحمن الرّحيم حضر عندي عثمان الغرشي وكيلًا لأبيه وعبد العزيز بن زامل وكيلًا لابن مسعد من طرف مشتري سهم الغرشي الكائن في النّخل الْمُسَمَّى بالطّرفية في الحوطة، فادّعى عبد العزيز أنّ الرّوم أجبروا الغرشي على بيع

رسائل وفتاوى للشيخ علي بن حسين بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب

السّهم المذكور بعينه دون ابن مسعد، والجماعة فلا لهم مدخل في الإجبار وأنكر عثمان وقوع المباشرة للإكراه من الرّوم، وادّعى أن ابن مسعد وبعض الجماعة هم الذّين أكرهوا والده على البيع، وأقام عثمان البيّنة على ذلك فحكمت بأنّ البيع والحالة هذه غير صحيح لعدم الشّرط المعتبر. وما قبضه ابن مسعد من مصالح السّهم المذكور مضمون عليه، وقت أخذه له ويحسب مما ساقه من مطلب السّهم بعد ما يثبت بالبيّنة أنّه سائق والباقي منه يدفعه الغرشي لابن مسعد حالًا. قاله حاكمًا به حسن بن حسين بن الشّيخ محمّد عفا الله عنهم. ويرفع ابن مسعد يده عن السّهم. ... رسائل وفتاوى للشيخ علي بن حسين بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب ... رسايل وفتاوى الشّيخ عليّ بن حسين بن الشّيخ - 1 - بسم الله الرّحمن الرّحيم من عليّ بن حسين إلى الأخ المكرّم الأجل الأحشم الشّيخ جمعان بن ناصر جمع الله له بين العلم والعمل، وسدّ به طرق الميل والخلل. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. أمّا بعد؛ فقد وصل إلينا كتابكم السّابق المتضمّن للبحث والسّؤال عن المسائل الدّقائق فتركنا الجواب عن المبادرة به من أجل أن وافق ذلك وفاة الشّيخ حسن -رحمة الله عليه- فتشوش الخاطر واشتغل القلب، ثم على أثر ذلك سافرنا إلى العارض من أجل تعزية الأهل والإخوان والاجتماع بهم من أجل ذلك قدر حصول المقصود من ردّ الجواب بحسب الطّاقة

والإيجاز فذكر أوّلًا: إذا قال لأجنبية: أنت علي كظهر أمِّي أو قاله لِمَن أبانها ثم تزوّجها ما المفتَى به عند علمائنا؟ فالجواب: أنّ الأمر كما قال صاحب المحرّر وعليه تدلّ نصوص أحمد. قال في الإقناع: وإن قال لأجنبيّة أنتِ عليّ كظهر أمِّي أو إن تزوّجتك فأنت عليَّ كظهر أمِّي فتزوّجها لم يطأها حتّى يكفّر كفّارة الظّهار؛ لأنّه إذا تزوّجها تحقّق معنى الظّهار بينها وعلم صحّة الظّهار من الأجنبيّة. روى ذلك الإمام أحمد عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أنّه قال في رجلٍ قال: إن تزوّجت فلانة فهي علي كظهر أمِّي، فتزوّجها. فقال عمر: عليه كفّارة الظّهار. قال الشّارح: لأنّها يمين مكفِّرة فصحّ عقدها قبل النّكاح كاليمين بالله تعالى والآية الكريمة خرجت مخرج الغالب وهي قوله: {مِنْ نِسَائِهِمْ}، [الْمجادلة، من الآية: 2، و 3]. والفرق بينه وبين الطّلاق أنّ الطّلاق حلّ قيد النّكاح ولا يمكن حلّه قبل عقد والظّهار تحريم للوطء فيجوز تقديمه على العقد، وإنّما اختصّ حكم الإيلاء بنسائه لكونه يقصد الإضرار بيمين والكفّارة في الظّهار لكون المنكر والزّور فلا يختصّ ذلك بنسائه. الثّانية: قول السّائل: هل حكم مَن ظاهر منها ووقت كشهر سمّاه وجامع قبل مضي المدّة ولزمته الكفارة هل إذا مضى الوقت المحدود الذي وقع الظّهار فيه قبل أن يكفّر هل حكمه حكم المظاهر منها مطلقًا حتّى يكفّر أم لا؟ الجواب: قال في الإقناع وشرحه: وإن وطئ المظاهر التي ظاهر منها قبل التّكفير أثم واستقرّت عليه الكفّارة ولو كان مجنونًا فلا تسقط

بعد ذلك كالصّلاة، وتحريم المظاهر باقٍ عليه لقوله -صلّى الله عليه وسلّم-: "لا تقربها حتّى تفعل ما أمرك الله تعالى به"، وتجزؤه كفّارة واحدة لحديث سلمة بن صخر؛ لأنّه وجد الظّهار والعود في عموم الآية. والله أعلم. المسألة الثّالثة: سفر المظاهر هل يقطع التّتابع أم لا يقطعه لأجل عذر السّفر؟ الجواب: أنّ فيه نظرًا. قال في الإقناع وشرحه: سفر المظاهر إذا أفطر فيه لا يقطع التّتابع. وقال في موضع آخر: وإذا تخلّله فطر كالسّفر أو المرض المبيحان للفطر في السّفر لم ينقطع التّتابع، أو تخلّله فطر لحامل أو مرضع لخوفهما على أنفسهما أو على ولديهما لم ينطقع التّتابع؛ لأنّه فطر أبيح لعذر. والله أعلم. المسألة الرّابعة: قول السّائل عافاه الله: إذا كان لرجلٍ على آخر فضة كريالات النّاس وللأخر عليه مثلها فتصارفا بالقول الذي عندك لك عن الذي عليّ لك هل يصحّ ذلك أم لا بدّ كلّ واحدٍ يدفع لصاحبه ما عليه؟ الجواب: أنّ هذا ليس بصرفٍ، وإنّما هو تساقط، وليست هذه الصّورة التي ذكرها صاحب الشّرح بقوله: إذا كان لرجلٍ في ذمّته لآخر ذهب وللآخر عليه دراهم فاصطرفا لم يصحّ؛ لأنّه بيع دَين بدَينٍ؛ لأنّه تصارف في الذّمم، وهذا تساقط فيصحّ. قال في المنتهى وشرحه: ومَن استحقّ على غريمه مثل ما له عليه من دَينٍ جنسًا، وقدرًا وصفة حالين بأن اقترض زيد من عمرو دينارًا مصريًا ثم اشترى عمرو من زيد شيئًا بدينار مصري حال أو من أجلين أجلًا واحدًا، كثمنين اتّحد أجلهما تساقطا إن استويا أو سقط من الأكثر بقدر الأقلّ إن تفاوتا قدرًا؛ لأنّه لا فائدة

في أخذ الدَّين من أحدهما ثم ردّه إليه. انتهى. والله أعلم. المسألة الخامسة: رجل بينه وبين آخر معاملة فأوصى عند الموت بقوله: صدّقوا فلانًا فيما ادّعى به. فالجواب: إذا كان المقرّ له غير وارث فظاهر كلام أهل المذهب أنّه يصدق فيما ادّعى به إذا كان يمكن أن يتصوّر منه التزامه بخلاف ما لو ادّعى بما لا يتصوّر كدعواه عليه جناية من عشرين سنة وعمره عشرون سنة أو أقلّ، فهذا لا يصحّ إقراره بذلك. قلت: ومثل ذلك: لو كان هذا المصدّق فقيرًا كالذي يعرفه أهل بلده بالفقر فيدعي أنّ عند هذا المقرّ ما لا يعرف أنّه قد ملكه كمَن رأسُ مالِهِ الذي يعامل فيه عشرون درهمًا مثلًا أو قريبًا، فيدّعي على هذا المقرّ لما سمع قوله صدّقوه لي عنده مائة دينار أو مائتان، فالظّاهر أنّه لا يصدق وما أمكن صدقه فيه صدق. والله أعلم. المسألة السّادسة: قول السّائل: كتاب عمر لأبي موسى -رضي الله عنهما- المسلمون عدول بعضهم على بعضٍ إلّا مجلود في حدٍ أو مجرّب عليه شهادة زورٍ أو ظنّين في ولاء أو نسب. فالجواب: أنّ الظّنين هو المتّهم. قاله صاحب النّهاية. ومنه حديث عائشة -رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم-: "لا تجوز شهادة خائنٍ ولا خائنةٍ ولا مجلود في حدٍّ ولا ذي غمرٍ على أخيه ولا ظنين في ولاء ولا قرابة ولا القانع مع أهل البيت". رواه التّرمذي. وقال: هذا حديث غريب. وفي إسناده يزيد بن زياد الدّمشقي الرّاوي منكر الحديث. والله وأعلم. وصلّى الله على محمّد وآله وصحبه وسلّم.

2 - من علي بن حسين إلى الأخ جمعان

- 2 - بسم الله الرّحمن الرّحيم من عليّ بن حسين إلى الأخ جمعان جمع الله له بين خيري الدّنيا والآخر وغفر ذنبه أوّله وآخره. وأصلح أعماله الباطنة والظّاهرة. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. أمّا بعد؛ فقد وصل السّؤال عن المسائل الجلال فعوقت العوائق عن الجواب لما اشترطت علينا من مطالعة الكتاب. المسألة الأولى: سألت عن قسمة الإجبار ومحلّ الإشكال عليك أنّ أهل المذهب أطلقوا فيها على أشياء من غير شرط غرر. قال في المحرّر: فأمّا ما لا ضرر فيه، ولا ردّ عوضٍ في قسمته كالقرية والبستان والدّار الكبيرة والأرض والدّكان الواسعة ... إلى أن قال: إذا طلب الشّريك قسمة أجبر الآخر عليها. انتهى. فأطلق على البستان ولم يشترط ضررًا والبستان والنّخل قد يكثر ويقل وتكثر سهامه وتقل فأشكل عليه إطلاقهم نفي الضّرر عن البستان قليله وكثيره. فالجواب -وبالله التّوفيق- أنّ المسألة كما ذكروا. لكن الغالب أنّ الضّرر وردّ العوض يقلّ فيما ذكروا لسعة المكان فتمكن قسمة بلا ضرر ولا ردّ عوض والصّغير بالعكس. فمتى وجدنا الضّرر وردّ العوض كبر المكان أو صغر، كثر الشّجر أو قلّ، وكثرت السّهام أو قلّت فهي قسمة تراض. وهذا هو المفتي به عند مشائهنا. وهو صريح عبارات الأصحاب في القسمة. قال في الشّرح الكبير: والقسمة نوعان: قسمة تراضٍ، وقسمة إجبارٍ. فأمّا قسمة التّراضي فهي ما فيه ضرر على أحد الشّركاء أو ردّ عوض من

أحدهم كالدّور الصّغار التِي لا يمكن قسمها فلا يجوز فيها إلّا ما يجوز في البيع وهل تلزم بالقرعة إذا قسمها حاكم أو رضوا بقاسم فيه وجهان: أحدهما: يلزم القسم. والثّاني: لا يلزم إلّا بالتّراضي. واختلفوا في الضّرر. فقال بعضهم الضّرر والمانع نقص القيمة. وهو رواية عن الإمام أحمد. وعنه الضّرر ما لا يمكن أحدهما الانتفاع بنصيبه مفردًا فيما كان ينتفع به مع الشّركة والأوّل ظاهر كلام الشّافعي؛ لأنّ النّقص ضرر، وهو منفي شرعًا. الثّاني: قسمة الإجبار وهي ما لا ضرر فيه ولا ردّ عوض. وهذه القسمة إفراز حقّ لا بيع. انتهى كلام الشّارح. المسألة الثّانية: فيمَن أوصى في داره ببيت لإنسانٍ وتضرّر أهل الدّار بسكنى الموصى له ما الحكم؟ الجواب: أنّ هذه الوصيّة صحيحة وليس لأهل البيت منع الموصى له من السّكنى في الموصى به وإن تضرّروا فلهم طلب القسمة، فإن كانت قسمة إجبار أفرز له حقّه، وإن كانت قسمة تراضٍ لم يقسم إلّا برضاهم، لكن إن تضرّروا فللحاكم بيعه، وقسم الثّمن على قدر الملك إن لم يرضوا بالقسمة ولا بسكناه معهم. المسألة الثّالثة: قال علماؤنا في المحجور عليه لحظ نفسه كالسّفيه والمجنون والصّبي لا يصحّ تصرّفهم قبل الإذن، ومن دفع إليهم ماله ببيعٍ أو قرضٍ رجع فيه ما كان باقيًا فإن أتلفه واحد منهم فمن ضامن مالكه؛ لأنّه سلطه عليه برضاه علم بالحجر أو لم يعلم. قلت: فإذا بلغ الصّبي وانفكّ الحجر عن السّفيه وأفاق المجنون هل يضمنون أم لا؟ الجواب: لا يضمنون شيئًا من ذلك إلّا إن حصل في يد أحدهم

بغير رضا صاحبه كالغصب والجناية، فعليه ضمانه. وإن أودع عند الصّبي أو المجنون أو أعارهما فلا ضمان عليهما، وإن أتلفاه فوجهان. قال في الشّرح الكبير: (الضّرب الثّاني): المحجور عليه لحظ نفسه، وهو الصّبي والمجنون والسّفيه فلا يصحّ تصرّفهم، ومَن دفع إليهم ماله ببيع أو قرض رجع فيه ما كان باقيًا، فإن أتلف واحد منهم فمن ضمان مالكه؛ لأنّه سلط عليه برضاه علم بالحجر أو لم يعلم. فإن حصل في يده برضا صاحبه من غير تسليط كالوديعة والعارية، فاختار القاضي أنّه يلزمه الضّمان إن كان تلفه بتفريطه وإلّا يحتمل أن لا يضمن، وأمّا ما أخذه من ذكر بغير اختيار المالك كالغصب أو الجناية فعليه ضمانه. المسألة الرّابعة: إذا غصب رجلٌ شجرًا أو نخلًا ثم بايع به آخر بنخل مثله ونزع المغصوب من يد مشتريه وضمن زوائده مدّته في يده ما حكم نخل المشترى الذي بايع به الغاصب هل يضمن الغاصب غلاة نخلٍ من بايعه كما ضمن الغاصب نماء الغصب لمالكه، ومعلوم أنّ البيع فاسد والبيع الفاسد لا يملك به؟ فالجواب: أنّ هذا المغصوب من أفسد العقود، وقد ذكروا في العقد الفاسد ما يبيّن أنّ لصاحب النّخل أو الشّجر الرّجوع على الغاصب بما أخذ منه المالك، قال في الإقناع: ومنافع المقبوض بعقدٍ فاسدٍ كمنافع المغصوب تضمن بالفوات والتّفريت. المسألة الخامسة: قول علمائنا: الأيدي المترتّبة على يد الغاصب عشر، ما هي؟ فالجواب -وبالله التّوفيق-: الأولى والثّانية من الأيدي المترتّبة على يد

الغاصب يد المشتري منه ويد المستعير. الثّالثة: يد المستأجر. الرّابعة والخامسة: يد المتملّك بلا عوض، ويد القابض بعقد أمانة. السّادسة: يد المتزوّج للأمة المغصوبة إذا تزوّجها وكانت بيده وماتت. السّابعة: يد المتصرّف في المال بما ينمّيه كالمضارب والشّريك والمساقي والمزارع، إذا تلف ذلك بيد العامل ونحوه. الثّامنة: يد القابض تعويضًا بغير عقد البيع بأن يجعل المغصوب عوضًا في نكاحٍ أو خلعٍ أو طلاقٍ أو عقدٍ أو صلحٍ، أو إيفاء دَينٍ ونحوه. التّاسعة: يد المتلف للمغصوب نائبًا للغاصب كالذّابح للحيوان المغصوب والطّابخ له، وهذا يرجع بما ضمنه للمالك على الغاصب إن لم يعلم بالحال لوقوع الفعل للغاصب فهو كالمباشرة، لكن إن أتلفه على وجه محرّمٍ كأن قتل العبد أو أحرق المال المغصوب عالمًا بتحريمه ففي التّلخيص يستقرّ عليه الضّمان لعلمه بالتّحريم، ورجّح الحارثي دخوله في قسم المغرور لعدم علمه بالتّحريم والضّمان. العاشرة: يد الغاصب من الغاصب فالقرار على الثّاني مطلقًا ولا يطالب بِما زاد على مدّته. وهذا كلّه يعلم مما ذكره بالتّأمّل. ومتى وجدت زيادة بيد أحدهما كسمن وتعلم صنعة ثم زالت، فإن كانت في يد الثّاني فكما لو كانت بأيديهما، وإن كانت بيد الأوّل اختصّ بضمان تلك الزّيادة. وأمّا الأصل فعلى ما سبق قاله في الإقناع وشرحه. المسألة السّادسة: هل وجدت في كتب المذهب جواز الأخذ من الزّكاة مع الغنَى لِمَن قام بمصلحة من مصالح المسلمين عامّة كالقضاء والتّدريس والإفتاء، أو ما هنا إلّا عموم كقول أحمد في التّطوّع لما ذكر الجهاد ذكر

رواية أخرى أنّ طلب العلم أفضل، وأنّه داخل في الجهاد، وأنّه نوع منه إلى آخر السّؤال. فالجواب: أمّا هذه المسألة فأكثر أهل العلم على المنع من الأخذ مع الغنى عمومًا، وأمّا مع التّخصيص فلم أجد لأهل المذهب تصريحًا في الأخذ مع الغنى غير عموم الأخذ من بيت المال وإن كثر، والأخذ من الزّكاة لِمَن له الأخذ منها بقدر الكفاية، وأمّا قياسه على الجهاد وأنّه نوع منه، وأنّ للغازي الأخذ من الزّكاة مع الغنى فالغازي مخصوص في الآية الكريمة، وهو الثّامن وليس فيه تصريح بجواز الأخذ مع الغنى لغير الغازي إلّا بفهم عمومات كالقياس على الغازي والعامل والغارم مع الغنى. قال القرطبي في تفسيره عند قوله تعالى: {وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا}، [التّوبة، من الآية: 60]، أنّ العامل عطّل نفسه لمصلحة الفقراء فكانت كفايته وكفاية أعوانه في مالهم؛ كالمرأة لما عطّلت نفسها لحقّ الزّوج كانت نفقتها ونفقة أتباعها من خادم أو خادمين على زوجها، ولا يقدر رزق العامل بالثّمن؛ بل تعتبر الكفاية؛ ثمنًا كان أو أقلّ أو أكثر؛ كرزق القاضي. وقال في موضعٍ آخر: دلّ قوله تعالى: {وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا}، [التّوبة، من الآية: 60]، على أنّ كلّ ما كان من فروض الكفايات؛ كالسّاعي والكاتب والقسّام والعاشر وغيرهم فالقائم به يجوز له أخذ الأجرة عليه، ومن ذلك الإمامة فإنّ الصّلاة وإن كانت متوّجهة على جميع الخلق، فإنّ تقدّم بعضم بهم من فروض الكفايات، ولا جرم أنّه يجوز له الأخذ عليها، وهذا أصل الباب وإليه أشار النَّبِيّ -صلّى الله عليه وسلّم- بقوله: "ما تركت بعد نفقة نسائي ومؤنة عاملي فهو صدقة". قاله ابن العربي. ومن ذلك قوله -صلّى الله عليه وسلّم-: "لا تحلّ الصّدقة لغني إلّا خمسة: العامل عليها، أو رجل اشتراها بماله، أو غارم، أو غازي في سبيل

رسائل وفتاوى للشيخ سليمان بن عبد الله بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب

الله، أو مسكين تصدّق عليه، فأهدى لغني". فيفهم منه أنّ مَن كان قائمًا بمصلحة عامّة من مصالح المسلمين كالقضاء والإفتاء والتّدريس أنّ له الأخذ بما يقوم به مدّة القيام بالمصلحة، وإن كان غنيًّا. ذكر ذلك بعض شرّاح الحديث، وقد بوّب على هذا البخاري فقال: باب رزق الحكام والعالمين عليها. والله أعلم بالصّواب وإليه المرجع والمآب. وصلّى الله على محمّد وآله وصحبه وسلّم ... رسائل وفتاوى للشيخ سليمان بن عبد الله بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب ... رسائل وفتاوى {الشّيخ سليمان بن عبد الله بن شيخ الإسلام محمّد بن عبد الوهّاب} - 1 - بسم الله الرّحمن الرّحيم هذه مسائل سُئِلَ عنها الشّيخ سليمان بن عبد الله بن شيخ الإسلام محمّد بن عبد الوهّاب رحمهم الله تعالى أمين. وهي رجل يشكّ هل جرى الطّلاق على لسانه أم لا؟ وهل قصده أم لا؟ وهل سمعته أذناه أم لا؟ وهل طلق واحدة أم ثلاثًا أم لم يطلق أصلًا؟ هل الورع الإلزام بالثّلاث أم الأولى أن يطرح الشّكوك كلّها ولا يعبأ بها شيئًا؟ الجواب: أمّا إذا شكّ هل جرى الطّلاق على لسانه أم لا؟ فليس بشيءٍ؛ لأنّ الأصل عدم جريانه. وفي ذلك حديث عبد الله بن بريد في الرّجل يخيّل إليه أنّه يحدث في الصّلاة. وأمّا إذا جرى وشكّ هل قصد الوقوع، فليس هذا الشّكّ بشيءٍ؛ لأنّ الأصل عدم إلغاء كلام المكلّف

فائدة

والعادة أنّ النّاس يقصدون وقوعه إذا جرى على ألسنتهم. وأمّا إن كان الشّكّ في جريانه وفي وقوعه إن كان جرى فليس بشيءٍ كالأوّل. وأمّا إذا شكّ هل سمعته أذناه أو لا، فيقع؛ لأنّه لا يشترط في إيقاع الطّلاق أن يسمعه بل يشترط التّكلّم به وقد تكلّم به. وأمّا قولك هل الورع الإلزام بالثّلاث أم لا؟ الخ. فاعلم أنّ الذي ذكرنا لك هو الصّحيح، وأمّا الورع في الشّكّ في واحدة فالأولى أن يلزمها واحدة، وإن شكّ في الثّلاث فكذلك على ما قاله الموفّق وغيره، أعنِي: أن يلزمها وتكون ثلاثًا، أمّا إذا شكّ في واحدة هل أوقعها أم لا؟ فليس من الورع أن يجعلها ثلاثًا، بل ذلك من الورع المظلم. والله أعلم. وصلّى الله على محمّد وآله وصحبه وسلّم. فائدة: قال الشّيخ العلّامة سليمان بن الشّيخ عبد الله بن شيخ الإسلام محمّد بن عبد الوهّاب رحمهم الله آمين. اختلف العلماء في أصحّ الأسانيد فقال الإمام محمّد بن إسماعيل البخاري: أصحّ الأسانيد: مالك عن نافع مولى ابن عمر عن ابن عمر رضي الله عنه. القول الثّاني: قول الإمام أحمد رحمه الله: أصحّها: الزّهري عن سالم بن عبد الله عن أبيه رضي الله عنهما. الثّالث: قول عبد الرّزّاق بن همام اليماني: أصحّها: ما رواه زين العابدين عليّ بن الحسين عن أبيه حسين عن عليّ رضي الله عنهم. الرّابع: قول عمرو بن عليّ الغلاس: أصحّها: ما رواه محمّد بن سيرين البصري عن عبيدة السّلماني الكوفي عن عليّ رضي الله عنه. الخامس: قول يحيى بن معين: أصحّها: ما رواه سليمان بن مهران الأعمش عن إبراهيم النّخعي عن علقمة بن قيس عن ابن مسعود رضي الله عنهم أجمعين.

فائدة أصولية نافعة

قال زكريا الأنصاري في شرح ألفية العراقي: والصّواب عدم التّعميم مطلقًا، بل يقال: أصّح أسانيد عمر: الزهري عن سالم عن أبيه، وأصحّ أسانيد المكيّين: سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن جابر رضي الله عنهم أجمعين. وأصحّ أسانيد المدنيّين: مالك عن نافع عن ابن عمر، وأصحّ أسانيد المصريّين: اللّيث بن سعد عن يزيد بن أبي حبيب عن أبي الخير عن عقبة بن عامر رضي الله عنهم. وأصحّ أسانيد اليمانيّين: معمر عن همام بن منبه عن أبي هريرة رضي الله عنهم. قال: وأوهى أسانيد أبي هريرة: السّري بن إسماعيل عن داود بن يزيد الأودي عن أبيه عن أبي هريرة. وأوهى أسانيد ابن مسعود: شريك عن أبي فزارة عن أبي زيد عن ابن مسعود رضي الله عنه. وأوهى أسانيد أنس: داود بن المحبر عن أبيه عن أبان بن عياش عن أنس رضي الله عنه. والله أعلم. فائدة أصوليّة نافعة: قال الشّيخ تقيّ الدّين رحمه الله في آخر المسوّدة: كلّ ما كان طاعةً ومأمورًا به فهو عبادة عند أصحابنا والشّافعية والمالكية، وعند الحنفية ما كان من شرطه النّيّة فدخل في كلام أصحابنا ومَن وافقهم الأفعال والتّرك كترك المعاصي والنّجاسة والزّنا وكلّ محرّم والأفعال كالوضوء والغسل والزّكاة مع النّيّة وقضاء الدَّين وردّ المغصوب والودائع والنّفقة الواجبة ولو بلا نية. - 2 - بسم الله الرّحمن الرّحيم هذه مسائل: الأولى: إذا باع رجل شقصًا واستثنى سهمًا معلومًا من غلّة الشّقص فهل يصحّ ذلك أم لا؟

الجواب: لا يصحّ هذا الاستثناء، فإنّ استثناء الغلّة مدّة سنين لا أعلم أحدًا قال بجوازه من العلماء. وإنّما الخلاف بينهم فيما إذا باع نخلًا لم يؤبّر واستثنى البائع غلّته الموجودة تلك السّنة، فمالك -رحمه الله- لا يجوز، والحنابلة يقولون: بالجواز. وعلّلوا ذلك بأنّه مبيع حال العقد فصّح استثناؤه كغيره من العين المبيعة. وأمّا استثناء الغلّة مدّة سنين معلومة فقد جاء في الحديث عن النَّبِيّ -صلّى الله عليه وسلّم- أنّه نهى عن الثّنيا إلّا أن تعلم، بل منع كثير من الفقهاء استثناء الحمل الذي في بطن الدّابّة أو الأمة مع كونه موجودًا حالة العقد كما هو المشهور في المذهب. فإذا كان هذا كلامهم في الموجود حالة العقد فما ظنّك بالمعوم؟ الثّانية: المطلقة إذا تزوّجت في العدّة ثم ماتت والحالة هذه هل يصحّ التّوارث بينهما أم لا؟ الجواب: النّكاح في العدّة باطل بالإجماع، فإذا ماتت لم يرثها هذا الزّوج الذي عقد عليها في العدّة سواء دخل بها أو لم يدخل؛ لأنّ النّكاح باطل لقوله تعالى: {وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ}، [البقرة، من الآية: 235]. الثّالثة: إذا كان لرجلٍ طعام على آخر فطلبه إيّاه فقال المديون لا أجد طعامًا أوفيك به، فقال اشتر لي طعامًا من فلان وأنا ضامن له الثّمن الذي عليك، هل يصحّ ذلك الضّمان أم لا؟ الجواب: ظاهر المذهب صحّة الضّمان؛ لأنّ غايته أن يؤول الضّمان إلى نقد الثّمن عن المضمون عنه, وقد صرّحوا في باب القرض بأنّه إذا قال: أقرضنِي دراهم أشتري لك بها البر الذي عليّ لك، أنّه جائز. وهذا هو المذهب. وفيه رواية بالكراهة. وكرهه سفيان كراهة شديدة أعنِي في مسألة القرض.

الرّابعة: إذا كان لرجلٍ على آخر طعام فلم يجد عنده ما يوفيه فأعطاه دراهم على السّعر عن الطّعام الذي في ذمّته هل يجوز ذلك أم لا؟ الجواب: لا يجوز ذلك. وهو قول جمهور العلماء. قال في المغنِي والشّرح: لا نعلم فيه خلافًا. أعنِي إذا كان الطّعام سلمًا أو مبيعًا، وإن لم يكن سلمًا، فأمّا إن كان عمارة نخل أو قرضًا أو أجرة أو قيمة متلف، فهذا يجوز لصاحبه أن يأخذ ثمنه مِمَّن هو في ذمّته بشرط قبضه في المجلس، لئلا يكون بيع دَينٍ بدَينٍ؛ لأنّه ليس مبيعًا. وأمّا السّلم والمبيع فلا يجوز بيعه قبل قبضه ولو لبائعه. وذلك لصحّة الأحاديث عن رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- بالنّهي عنه. فثبت في الصّحيحين عنه -صلّى الله عليه وسلّم- قال: "مَن ابتاع طعامًا فلا يبعه حتّى يستوفيه". وفي لفظٍ في الصّحيحين: "فلا يبعه حتّى يكتاله". فإذا باعه ربّ الدَّين لبائعه قبل قبضه فقد خالف النّصوص الواردة عن النَّبِيّ -صلّى الله عليه وسلّم- من وجهين: أحدهما: أنّه باعه قبل قبضه، والنَّبِيّ -صلّى الله عليه وسلّم- نهى عن بيع الطّعام قبل قبضه، ولم يفرّق بين بيعه لِمَن هو عليه وبين غيره، ومَن زعم أنّ بيعه لِمَن هو عليه جائز فعليه الدَّليل الذي يخصّص العموم وإلّا فلا يجوز مخالفة السّنة الثّابتة عن رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- لقول أحدٍ من النّاس. الثّاني: أنّه قد ثبت في السّنن عن النَّبِيّ -صلّى الله عليه وسلّم- أنّه نهى عن ربح ما لم يضمن، فإذا باعه لبائعه بربح فقد ربح فيما لم يضمن؛ لأنّه لا يدخل في ضمانه إلّا بعد قبضه فيصير هذا الرّبح حرامًا. وقد أخذ جمهور العلماء بظاهر الأحاديث الثّابتة عن النَّبِيّ -صلّى الله عليه وسلّم- في النّهي عن بيع الطّعام قبل قبضه وأجروها على ظاهرها وعمومها وشمولها للبائع وغيره حتّى إنّهم منعوا من الاعتياض عن المسلم فيه فقالوا: لا يجوز أن يأخذ عنه عوضًا ولا يستدلّ به، واحتجوا

لذلك بما روى أبو داود وابن ماجه عن النَّبِيّ -صلّى الله عليه وسلّم- أنّه قال: "مَن أسلم في شيءٍ فلا يصرفه إلى غيره". وغاية ما يحتج به مَن أجاز بيعه لبائعه قبل قبضه كلام الشّيخ تقيّ الدّين رحمه الله الذي حكاه صاحب الإنصاف وغيره نّه أجاز ذلك، واحتجّ بكلام ابن عبّاس الذي رواه عنه ابن المنذر. ومثل هذا لا تعارض به النّصوص الصّحيحة عن النَّبِيّ -صلّى الله عليه وسلّم- في منع بيع الطّعام قبل قبضه، والشّيخ -رحمه الله تعالى- من الأئمة المجتهدين، لكن إذا خالف كلامه الحديث الصّحيح وجب الأخذ بالحديث دون ما خالفه. وما أحسن ما قال الشّافعي -رضي الله عنه-: إذا صحّ الحديث عن رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- بخلاف قولي فاضربوا بقولي الحائط. ومعلوم أنّ الشّيخ -رحمه الله- قد اطّلع على هذه الأحاديث في النّهي عن بيع الطّعام قبل قبضه وأنّه تأوّلها، لكن إذا لم نعلم وجه تأويله ولم يتبيّن لنا رجحان دليله لم يجز لنا أن نخالف هذه الأدلّة الثّابتة عن النَّبِيّ -صلّى الله عليه وسلّم- في النّهي عن بيع الطّعام قبل قبضه. بل نجريها على عمومها للبائع وغيره حتّى يثبت عندنا دليل راجح يخصّص هذا العموم وإلّا فلا يجوز لنا أن نتركها تقليدًا للشّيخ -رحمه الله- ولا غيره. بل يجب اتّباع النّص. فإذا أفتى بعض المفتين بخلافها وعارض الأحاديث بكلام الشّيخ وكلام ابن عبّاس -رضي الله عنهما- أجيب بما أجاب به ابن عبّاس لِمَن خالفه في مسألة المتعة حيث يقول: يوشك أن تنْزل عليكم حجارة من السّماء، أقول: قال رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم-، وتقولون: قال أبو بكر وعمر، وأبلغ من هذا في الزّجر عن مخالفة النّصوص لقول بعض العلماء قوله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}، [النّور، من الآية: 63]. كما استدلّ بها الإمام -رحمه الله- فقال: عجبت لقومٍ

3 - أربع مسائل

عرفوا الإسناد يذهبون إلى رأي سفيان والله تعالى يقول: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}، [النّور من الآية: 63]، أتدري ما الفتنة؟ الفتنة: الشّرك لعلّه إذا ردّ بعض قوله أن يقع في قلبه شيء من الزّيغ فيهلك. فالواجب فيما تنازع فيه العلماء ردّه إلى الله والرّسول، كما قال تعالى: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ}، [الشّورى، من الآية: 10]. وقوله: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ}، [النّساء، من الآية: 59]. فإذا وجدنا مسألة قد اختلف العلماء فيها وجب علينا الرّدّ إلى النّصوص، فما وافق النّصوص وجب الأخذ به، وما خالفها وجب ردّه إليها. وأما تركها لقول بعض العلماء والتّعليل بأنّهم أعلم منا بمعانيها فلا يجوز، بل هذا عين التّقليد المذموم الذي أنكره شيخنا -رحمه الله تعالى- كما أنكره العلماء قبله. والله سبحانه وتعالى أعلم. [أربع مسائل] - 3 - بسم الله الرّحمن الرّحيم مسألة: إذا أبدل صاحب الملك صاحب الوقف فإن كان ذلك لمصلحة الوقف بحيث يكون دامرًا أو كثير الغلط وأراد إبداله بمصحف عامر، فهذا يجوز على القول الرّاجح، وهو القول بجواز المناقلة بالوقف للمصلحة، كما هو اختيار الشّيخ تقيّ الدّين وابن القيم -رحمهما الله تعالى-، لكن بشرط أن يكون ذلك صادرًا مِمَّن له ولاية على الوقف من جهة الواقف أو من جهة الحاكم، وأمّا على كلام الحنابلة من كثير من الفقهاء فلا يجوز إلّا أن تتعطّل منافع الوقف، وحينئذٍ فمتى صدرت المناقلة غير الوجه المأذون فيه فالوقف بحاله لا تتغيّر وقفيته ولا يملك بالمبادلة. مسألة: إذا اغتسلت من الحيض فوطأها زوجها ثم رأى على ذكره

أثر الدّم فالخطب في ذلك يسير إن شاء الله تعالى؛ لأنّ قصاراه أنّ الدّم عاودها بعد الطّهر وذلك حيض عند الجمهور إذا لم تبلغ خمسة عشر يومًا وقد وطأها في حال جريان الدّم جاهلًا فيكون معذورًا ولا إثم عليه لقوله -صلّى الله عليه وسلّم-: "عفي لأمّتِي عن الخطأ والنّسيان". وأمّا الكفّارة ففيها خلاف هل تجب على العامد دون المخطئ والنّاسي أم تجب على الجميع؟ والذي عليه الجمهور أنّه لا كفّارة على الجميع بل مَن تعمد ذلك آثم وليس عليه إلّا التّوبة، وعن أحمد في ذلك روايتان: إحداهما: كقول الجمهور. والثّانية: عليه الكفّارة إذا تعمّد لحديث ابن عبّاس المرفوع أنّه يتصدّق بدينار أو نصف دينار. والحديث رواه أبو داود والتّرمذي والنّسائي. لكن مداره على عبد الحميد بن عبد الرّحمن بن زيد بن الخطاب، وقد قيل لأحمد: في نفسك منه شيء؟ قال: نعم. لأنّه من حديث فلان أظنّه. قال عبد الحميد وقال لو صحّ ذلك الحديث عن النَّبِيّ -صلّى الله عليه وسلّم-: "كنا نرى عليه الكفّارة". وقال في موضعٍ آخر: ليس به بأس قد روى النّاس عنه. فاختلاف الرّواية في الكفّارة مبني على اختلاف قول أحمد في الحديث. وهاتان الرّويايتان عن أحمد في العامد، وأمّا الجاهل والنّاسي فعلى وجهين للأصحاب: أحدهما: تجب، وهو المذهب لعموم الخبر. والثّاني: لا تجب، لعوم قوله: "عفي لأمَّتِي عن الخطأ والنّسيان". فعلى هذا لو وطئ طاهرًا فخاضت في أثناء وطئه فلا كفّارة عليه، وعلى الأوّل عليه الكفّارة. مسألة: إذا جلس المسبوق مع الإمام في التّشهّد الأخير هل يصلّي على النّبِيّ -صلّى الله عليه وسلّم- ويدعو أم يكرّر التّشهّد الأوّل؟ الجواب: المشهور أنّه يكرّر التّشهّد ولا يصلّي على النَّبِيّ -صلّى الله عليه وسلّم-

نصّ عليه أحمد فيمَن أدرك مع الإمام ركعةً؛ قال: يكرّر التّشهّد ولا يصلّي على النَّبِيّ -صلّى الله عليه وسلّم-، ولا يدعو بشيءٍ مما يدعو به في التّشهّد؛ لأنّ ذلك إنّما يكون في التّشهّد الذي يسلم عقبه وليس هذا كذلك. مسألة: في قوله تعالى: {فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا}، [الأعراف، من الآية: 190]. قال قتادة: شركاء في طاعته ولم تك في عبادته. وفي تفسير العلماء معنى آيات العبادة يفسّرونها بالطّاعة وهذا فرق بينهما. الجواب: اعلم أنّ الكلام يختلف باختلاف الأحوال والمقامات والاجتماع والافتراق والإجمال والتّفصيل، فتفسير قتادة في هذه الآية بأنّ المراد بها على كثير من كلام المفسِّرين آدم وحواء، فناسب تفسيرها بالطّاعة؛ لأنّهما أطاعا الشّيطان في تسمية الولد بعبد الحارث، وهو معصية من المعاصي. والصّحيح من أقوال العلماء أنّ المعاصي الصّغائر تقع من الأنبياء لكنهم يتوبون منها ولا يقرّون عليها، وأمّا تفسيرهم الآيات التِي فيها العبادة بالطّاعة فمعلوم أنّ العبادة إذا أطلقت دخلت فيها الطّاعة وترك المعصية؛ لأنّ العبادة اسم جامع لكلّ ما يحبّه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال، وترك المعاصي من الكبائر والصّغائر، لكن المعاصي تنقسم إلى كفرٍ وشركٍ، وإلى كبائرَ دون الكفر الشّرك، وإلى صغائرَ دون الكبائر، فإذا أطلقت العبادة دخل فيها جميع طاعات الله ورسوله، وإذا فرق بينهما فسّرت بإخلاص العبادة لله وحده لا شريك له، وترك عبادة ما سواه، وفسرّت العبادة الطّاعة بجميع الدِّين كلّه. والله أعلم.

رسائل وفتاوى للشيخ حسين بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب

رسائل وفتاوى للشيخ حسين بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب ... رسائل وفتاوى الشّيخ حسين بن الشّيخ محمّد بن عبد الوهّاب رحمهم الله تعالى* - 1 - بسم الله الرّحمن الرّحيم (من حسين بن الشّيخ إلى الأخ جمعان بن ناصر) سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد؛ خطك الشّريف وصل وصلك الله إلى رضوانه، وهذا جواب المسائل واصلك إن شاء الله تعالى: الأولى: مَن صلّى محدثًا أو صلّى صلاةً فاسدةً ثم صلى بعدها صلوات صحيحة قبل أن يقضي تلك الصّلاة الفاسدة ما حكم التّرتيب؟ فهذه المسألة فيها تفصيل، فإن كان لم يذكر الصّلاة الفاسدة إلّا بعد فراغه من الصّلاة الصّحيحة فليس فيه ترتيب؛ لأنّ التّرتيب يسقط بالنّسيان، قلّت الصّلوات أو كثرت، لقوله - عليه السّلام: "عفي لأمَّتِي عن الخطأ والنّسيان"، وإن ذكر أنّ عليه صلاةً وهو في أخرى كما لو ذكر أنّ عليه صلاةَ الظهر وقد شرع في صلاة العصر، فإنّه يتمّ العصر، ثم هل يجب عليه إعادة العصر؟ فيه قولان للعلماء، والأحوط الإعادة، كما هو المشهور عن أحمد؛ لأنّه عليه السّلام عام الأحزاب صلّى المغرب فلمّا فرغ قال: "هل علم أحد منكم أنِّي صلّيت العصر؟ "، قالوا: يا رسول الله ما صلّيتَها. فأمر المؤذّن فأقام الصّلاة فصلّى العصر، ثم أعاد المغرب. رواه أحمد. الثّانية: ما الفرق بين كون المرأة تشترط أن لا يتزوّج عليها وبين قولها: إن تزوّجت عليّ فهو طلاقي؟

_ * ذكر الناشر في فهرس الكتاب أنهم عثروا عليها بعد طبع القسم الأول، انظر فهرس الجزء الأول/ حرف الزاي. [معد الكتاب للمكتبة الشاملة]

الجواب: الظّاهر أنّ الكّلّ شرط صحيح تملك به الفسخ إذا تزوّج. وأمّا وقوع الطّلاق فشرطه أن يكون حال التّعليق صادرًا من زوجٍ، فلو علقه قبل العقد عليها على شرط لم يكن طلاقًا؛ لأنّ الزّوجة لم تكن حال التّعليق في نكاحه، فإن كان قد عقد عليها وعلق طلاقها على شرط صحّ التّعليق ووقع عند وجود شرطه. الثّالثة: إذا أخذ الكفّار مال مسلم ثم استولى عليه المسلمون قهرًا ولم تقع فيه قسمة كما لو قتل مسلمًا كافر وأخذ سلاحه وعرفه مسلم أو أخذه بعض المسلمين من الكفّار واختصّ به من غير قسمة. ففي هاتين الصّورتين يأخذه المسلم مِمَّن غنمه بغير شيءٍ لعدم وقوع القسمة المانعة، وذلك لما روى مسلم عن عمران بن حصين أنّ قومًا أغاروا على سرح النَّبِيّ -صلّى الله عليه وسلّم- فأصيبت العضباء وأسرت امرأة من الأنصار فكانت المرأة في وثاق وأقامت عندهم أيّامًا ثم انفلتت من الوثاق فأتت الإبل فركبت العضباء ونذرت إن نجّاها الله لتنحرنّها فلما قدمت المدينة أخبرت أنّها نذرت لتنحرنّها، فقال رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم-: "لا وفاء لنذرٍ في معصية ولا فيما لا يملك العبد". الرّابعة: إذا سرق إنسان تمرًا أو حبوبًا هل يغرم قيمته مرّتين؟ فأكثر العلماء يقولون عليه غرامة مثله من غير زيادة. وأحمد يقول: عليه غرامة مثليه. وحديث عمرو بن شعيب صريح الدّلالة لمذهب أحمد. قال أحمد: لا أعلم شيئًا يدفعه. وهذا إذا أخذ التّمر من الحوائط كما إذا أخذ ذلك من النّخل، وأمّا إذا أخذه من الجرين، فهذا عليه القطع بشرطه لقوله -عليه السّلام- في حديث عمرو بن شعيب: "ومَن خرج بشيءٍ منه

فعليه غرامة مثليه والعقوبة، ومَن سرق منه شيئًا بعد أن يؤويه الجرين فبلغ ثمن المجن فعليه القطع". رواه أحمد والنّسائي وأبو داود. الخامسة: الحضانة هل تسقط بالتّزويج أم لا تسقط بالتّزويج لقصة بنت حمزة، فإنّ النَّبِيّ -صلّى الله عليه وسلّم- قضى بها للخالة وهي مع زوجٍ. فالذي عليه الجمهور أنّ الأم إذا تزوّجت سقط حقّها من الحضانة، لقوله -صلّى الله عليه وسلّم-: "أنت أحقّ به ما لم تنحكي". وأمّا قصة بنت حمزة فإنّما قضى بها لخالتها؛ لأنّ زوجها من أهل الحضانة، ولا يساوي جعفرًا في الاستحقاق إلّا عليّ، وقد ترجّح جعفر بأنّ امرأته من أهل الحضانة فكان أولى، فالحديث يدلّ على أنّه لو تنازع العمّان في الحضانة وأحدهما متزوّج بالأمّ أو الخالة فهو أحقّ بالحضانة فليس بين قصة بنت حمزة وبين قوله: "أنتِ أحقّ به ما لم تنكحي"اختلاف بل الحديثان متّفقان. ولله الحمد. وأمّا قولك: هل قرابة الأمّ أحقّ أم قرابة الأب؟ فالمشهور عن أحمد أنّ الأمّ وقراباتها يقدمن على الأب وقراباته، وعن أحمد رواية أخرى أنّ الأب وقراباته أحق. قال في الاختيارات: العمّة أحقّ من الخالة، وكذا نساء الأب يقدمن على نساء الأمّ؛ لأنّ الولاية للأقرب. فكذا أقاربه، وإنّما قدمت الأمّ؛ لأنّه لا يقوم هنا مقامها في مصلحة الطّفل. وإنّما قدم الشّارع -صلّى الله عليه وسلّم- خالة بنت حمزة على عمّتها صفية؛ لأنّ صفية لم تطلب وجعفر طلب نائبًا عن خالتها فقضى لها بها في غيبتها. السّادسة: نصاب السّرقة ربع دينار؛ والدّينار اثنا عشر درهمًا، فإذا سرق من الحرز ما يبلغ ثلاثة دراهم قطع كما جاءت به السّنة، فإذا حصل الشّكّ هل المسروق مما يساوي ثلاثة دراهم من الفضّة الخالصة أم لا؟

الجواب: يقطع بمجرّد الشّكّ. وفي الحديث: "ادرؤوا الحدود بالشّبهات". وأمّا الحرز فهو ما جرت العادة به في حفظ الأموال، والأموال تختلف، فالدّراهم لها حرز، والقماش له حرز، والدّواب لها حرز، والثّمار لها حرز، والمسافر بماله له حرز، والنّائم على متاعه في المسجد والسّوق ونحو ذلك له حرز، والمسألة لها ضابط، وهو أنّ الحرز ما جرت به العادة يختلف ذلك باختلاف الأزمان والمكان وعدل السّلطان وجوره. وأمّا المسألة السّابعة: إذا سرق إنسان شيئًا محرّمًا مثل التّنباك هل يجب فيه القطع؟ فاعلم أنّ للقطع شروطًا: منها: أن يكون المال محترمًا فلا يقطع بسرقه الخمر والتّتن وآلة اللهو وكتب البدع ونحو ذلك. وأما قولك: وهل حدّ السّرقة حقّ لله يقام على السّارق وإن لم يطلبه المسروق؟ فالأمر كذلك، يقام على السّارق وإن لم يطلبه المسروق منه، بل لو وهب السّارق المال بعد رفعه إلى الإمام لم يسقط الحدّ عنه، لقصة صفوان. والخلاف بين الفقهاء إنّما هو في المطالبة بالمال هل هي شرط في القطع أم لا؟ وفي ذلك عن أحمد روايتان: (إحداهما) يشترط مطالبة المسروق منه بماله، وهو المشهور في المذهب. (والرّواية الأخرى) ليس ذلك بشرط. اختارها الشّيخ تقيّ الدّين وابن القيم -رحمهما الله- عملًا بإطلاق الآية الكريمة والأحاديث. وأمّا قولك: وهل يجتمع القطع وردّ المال؟ فالأمر كذلك، فتردّ العين المسروقة إلى مالكها، فإن كانت تالفة غرم قيمتها وقطعت يده. والله أعلم.

2 - كلام ذكره الشيخ حسين بن الشيخ لبعض الإخوان

- 2 - بسم الله الرّحمن الرّحيم وصلّى الله على محمّد وآله وصحبه أجمعين. أما بعد؛ هذا كلام ذكره الشّيخ حسين بن الشّيخ لبعض الإخوان أحسن الله إلى السّائل وإلى المفتي آمين. وأمّا ما ذكرت من أمر رجلٍ قال لامرأته: الله يرزقك وطلعت من العدّة فلا له طريق عليها إلّا بملاك. وأيضًا إن كان هو قائل لحرمته الله يرزقك ثلاث مرات ونيّته أنّها ثلاث تطليقات فلا له طريق عليها إلّا عقب ما تأخذ رجلًا آخر ويطلقّها، والرّجل الذي طلبت الحرمة منه الطّلاق وتبرؤه من النّفقة وطلّقها ثم طلبته بالنّفقة إن كانت الحرمة مبغضة للرّجل يوم يطلّقها البغضاء المعروفة فلا لها طريق عليه في النّفقة، فإن كان يوم تطلبه بالطّلاق مضيقًا عليها ومشينا عليها الطّبع فنفقتها تلزمه إلى أن تعتد، فإن كانت حاملًا فإلى أنّ تضع، والمرأة إذا عصت وطلعت من بيت الرّجل فالمعصية عليها والنّفقة عليه. والرّجل إذا طلق امرأته الطّلقات الثّلاث فالذي يظهر ما لها عليه نفقة والرّجل الذي معه حرمتان فالتي يأتيها الحيض فهو يقسم لها في وقت الحيض وراعية النّفاس في عرفنا أنّها ما تشره أن يقاضيها، والرّجل الذي طلّق امرأته عدّة خوص النّخل فلا له طريق عليها، والإمام إذا سلم وقال بعض الجماعة بعد ركعة، وبعضهم يقول تامّة فهو يعمل بعمل الذي عليهم العمل، فإن كان أكثر ظنّه أن يلحقه شكّ فهو يعمل بقول الآخرين، والرّجل الذي قرأ في الرّكعتين الأخيرتين غير الفاتحة ساهيًا فلا علمنا عليه شيئًا،

جواب عبد الله بن الشيخ إلى بعض الإخوان

والرّجل الذي طلق امرأته مرّة أو مرّتين، ولو قال: أنا طيبة نفسي فهو يراجعها، فإن كانت طلعت من العدّة فهو بملاك إن اشتهت. والرّجل الذي طلق امرأته بعد ما تملك قبل أن يدخل بها فلها نصف جهاز أبناء جنسها، والرّجل إذا قال لامرأته: أنتِ عليَّ مثل أمِّي فعليه كفّارة الظّهار، والذي يقول عليّ الحرام، ولا فعل فيفعل الذي هو حالف ويكفّر كفّار يمين، والبنت التي أرضعت وهي أم أربع أو خمس سنين فهي ما تحرم، والرّجل الذي قال لامرأته: الله يرزقك ثم طلّقها طلقتين تتالى، فهو ينشد عن نيّته إن هو ناو ثلاثًا فهي ثلاث، أو يبغي أن يسمعها وقصده طلقة واحدة، فإن كان قصده واحدة فهي تحل. ونذكر بعد هذا جواب عبد الله بن الشّيخ إلى بعض الإخوان أحسن الله إلى السّائل وإلى المفتي. وأمّا ما ذكرت من المسائل فنجاوبك عليها إن شاء الله: منها: الذي صار رجلًا ضعيفًا ويعتاش من الخلا حشيشًا وأشباهه ولا يقدر أن يحترف إلّا مفطرًا، فإن كان يقدر أن يعيش بلا حرفته هذه لم يجز له أن يفطر، فإن كان ما هنا إلّا حرفته هذه ولو يتركها لحقه الضّرر هو وعياله ضرر بين فأرجو أنّه يجوز له، فإذا وقعت الضّرورات حلّت المحظروات، وأمّا الذي يفطر في البلد ويعتذر بالجوع فلا له عذر، والذي يبنغي يعتاش به في النّهار يضمنه إلى وقت الإفطار إلّا إن كان مثل هذا عندكم لو ما يفطر تلفت نفسه أو لحقه ضرر بيّن فلا تنكروا عليه. وأمّا الصّبي الذي ما أرشد بعد فهو إن أطاق الصّيام أمر به وأدب على تركه، وكذلك يصلّي وراءه إذا كان أقرأ من الذي وراءه، ولو ما أرشد بعد، ويقام به في الصّفّ، وأمّا ما ذكرت من أمر الذي ختم القرآن وممشاه رديء وهنا

مَن يقرأ بعض القرآن وهو حبيب في الدِّين من الذي يقلط منهم، فإن كان الذي يحفظ القرآن حافظه غيبًا ورداه بين يكره الدِّين ويوالي المنافقين موالاةً بيّنة أو يتجسر على الأمور المحرمة، مثل: الزّنا والسّرقة والخيانة، فإن كان هذا صفة حاله فلا يصلّي بالجماعة، فإن كان ما هنا شيء بيّن ما هنا إلّا تهمة أو أنّ غيره أخير منه عملًا مثل الجهاد والمذاكرة فالذي يحفظ القرآن غيبًا أحقّ بالتّقديم من الذي ما حفظه ولو كان أكثر منه عملًا وأحبّ منه للدِّين. وأمّا الثّغرة من الفهم فإن كان ما ظهرت من الجوف ولا وصلت الفهم فلا فيها وضوء، فإن كان ظهرت ووصلت الفهم فيستحب له الوضوء، فإن كان صائمًا فلا يدخلها إذا وصلت الفم بل يخليها تظهر ويغسل فمه ويتوضّأ. وأمّا الخارج من الجسد من الدّم والقيح فالصّحيح أنّه ما ينقض الوضوء ويغسل الذي يجيء سلبه منه. وأمّا الذي يرمي أخيه المسلم بالزّنا ويعتذر أنّه ما له قصد وأنّه من الشّيطان فليس هذا بعذرٍ، فإن كان المقذوف بالزّنا شكاه إلى الأمير أقام عليه الحدّ وإلّا أدِّب أدبًا يزجره عن مثل هذا الكلام الخبيث. وأمّا إذا صلّى الرّجل وفي سلبه نجاسة ناسيًا ولا درى إلّا بعد فراغه من الصّلاة فلا عليه إعادة. وأمّا المطوّع الذي ما يحسن قراءة الفاتحة ولا يعربها فلا تصلّى وراءه. وأما المطوّع الرّديء الذي ما له دِين إن أسلم النّاس أسلم، وإن ارتدّوا ارتدّ ما تحلّ الصّلاة وراءه. والله أعلم.

من علي بن الشيخ حسين إلى الأخ جمعان بن ناصر

{هذه رسالة للشّيخ عليّ بن الشّيخ محمّد بن عبد الوهّاب} بسم الله الرّحمن الرّحيم من عليّ بن الشّيخ حسين إلى الأخ جمعان بن ناصر سلّمه الله تعالى. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد؛ وصل خطك وصلك الله إلى ما يرضيه ونحو، ولله الحمد بخيرٍ وعافيةٍ، كذلك الإخوان وجملة آل الشّيخ وخواص إخوانك، وما ذكرت من جهة مسألة التّثويب في أذان الفجر هل هو في الأوّل أو في الثّاني؟ وما الموجب لكونه عندنا في الثّاني على أنّ في سنن أبي داود ما يدلّ على كونه في الأوّل؟ فالجواب: إنّ الأمر في ذلك عندنا على السّعة، فإذا جعله في الأوّل أو في الثّاني فالكلّ إن شاء الله حسن، ولكن الأحسن لِمَن أراد الاقتصار على التّثويب في أحد الأذانين أن يكون في الأوّل لما ذكرت من الحديث، وأحسن منهما التّثويب في الأذانين جمعًا بين الأحاديث، وعملًا بظاهر إطلاقات الفقهاء. فأمّا ما يدلّ على أنّ التّثويب في الأوّل فالحديث الذي ذكرت في سنن أبي داود دليل على ذلك. وفي رواية فيه للنّسائي: "الصّلاة خيرمن النّوم، الصّلاة خير من النّوم، في أذان الأوّل من الصّبح". قال ابن رسلان في شرح سنن أبي داود: وهاتان الرّويتان صريحتان في أنّ التّثويب بالصّلاة مخصوص بالأذان الأوّل دون الثّاني؛ لأنّ الأذان الأوّل إنّما شرع لإيقاظ النّائم كما في الحديث: "ليوقظ نائمكم". وأمّا الثّاني فإنّما هو للإعلام بدخول الوقت لِمَن أراد أن يصلّي في أوّل الوقت ولكون المصلّين فيه غالبًا قد استيقظوا بالأذان الأوّل واستعدّوا للصّلاة بالوضوء وغيره. انتهى. ولكن قوله: إنّ الرّوايتين صريحتان

في التّخصيص بالأوّل ليس كذلك بل ظاهرتان. وأمّا ما يدلّ على أنّه في الثّاني فقال ابن ماجه في سننه: حدّثنا عمر بن رافع حدّثنا عبد الله بن المبارك عن معمر عن الزّهري عن سعيد بن المسيب عن بلال أنّه أتى النَّبِيّ -صلّى الله عليه وسلّم- يؤذن بصلاة الفجر فقيل هو نائم فقال: "الصّلاة خير من النّوم". فأقرّت في تأذين الفجر فثبت الأمر على ذلك. صحيح الإسناد. وفيه انقطاع، ووجه الاستدلال به على أنّه في الثّاني أن بلالًا إنّما كان يؤذّن للنَّبِيّ -صلّى الله عليه وسلّم- بالصّلاة بعد طلوع الفجر، فإنّه إذا طلع الفجر جاءه بلال فأذنه بالصّلاة، لا يقال إنّ هذه في أذان بلال، وبلال إنّما كان يؤذّن قبل الفجر كما في الصّحيح: "إنّ بلالًا يؤذّن بليلٍ"، لأنّ ذلك في بعض الأوقات لا في كلّ السّنة، يدلّ على ذلك ما روى سعيد بن منصور في سننه، قال: حدّثنا أبو عوانة عن عمران بن مسلم، قال: قال سويد بن غفلة اذهب إلى مؤذننا رباح فمره أن لا يثوب إلّا في صلاة الفجر بعد الفجر، إذا فرغ من أذان الفجر فليقل: الصّلاة خير من النّوم، الصّلاة خير من النّوم، وليقل في آخر أذانه وإقامته: لا إله إلّا الله، والله أكبر. هذا أذان بلال. فهذا مرسل يدلّ على أنّ بلالًا يؤذّن بعد الفجر وأنّه يثوّب في أذانه. وقال ابن أبي شيبة: حدّثنا وكيع عن جعفر بن برقان عن شداد مولى عياض بن عامر عن بلال أنّ النَّبِيّ -صلّى الله عليه وسلّم- قال: "لا يؤذن حتّى يرى الفجر هكذا". ومد يديه: حدّثنا أبو خالد عن حجاج عن طلحة عن سويد عن بلال، قال: كان لا يؤذّن حتّى ينشق الفجر، فهذا يدلّ على أنّ بلالًا كان يؤذّن بعض الأوقات بعد طلوع الفجر بلا ريب، وأيضًا فإنّه كان يسافر ويغزو مع رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- حيث لا يوجد ابن أمّ مكتوم، وكان هو المؤذّن فلا بدّ

من أذانه بعد طلوع الفجر. وقد ثبت أنه كان يقولها في أذانه فتعين عدم الإنكار على من جعلها في الأول أو الثاني. أما الأول فلأن ظاهر حديث أبي محذورة يدل عليه وأما الثاني فلما ذكرنا من الآثار وغيرها أيضًا فلا يجوز الإنكار لأنها مسألة اجتهاد. وأما كون جعلها في الأول أحسن لمن أراد الاقتصار فلأن الحديث فيه دلالة أظهر من كونها في الثاني. وأما كون الجمع بينهما أحسن فلأن فيه جمعًا بين هذه الآثار وعملًا بإطلاقات الفقهاء، فإن الفقهاء من الحنابلة قالوا ويقول في أذان الصبح الصلاة خير من النوم، فظاهره أنه يقوله في الأذانين لأن كليهما أذان للصبح. وقال النووي من الشافعية في شرح المهذب ظاهر إطلاق الأصحاب أنه لا فرق بين الأول والثاني، وصرح بتصحيحه في التحقيق. وقال الأسنوي مثله أيضًا ففي هذا العمل بالأحاديث جميعًا والله أعلم.

فتويان من فتاوى الشيخ سليمان بن علي، جد شيخ الإسلام

فتويان من فتاوى الشيخ سليمان بن علي، جد شيخ الإسلام ... رسائل وفتاوى {الشّيخ سليمان بن عليّ} - 1 - بسم الله الرّحمن الرّحيم هذه مسائل وجدتها سألها محمّد بن عبد الله بن إسماعيل سليمان بن عليّ: الأولى: هل يصحّ التّيمّم بتراب المسجد أم لا؟ الجواب: نعم. يصحّ التّيمّم بتراب المسجد علّلوا ذلك بأنّه تسفوه الرّياح، وإنّما الممنوع من التّيمّم إن أثار المتيمِّم غبارًا من جدار المسجد أو أثار أرض المسجد. الثّانية: مَن نوى استيطان بلدٍ سنةً أو سنتين أو ثلاثًا فهل حكمه حكم مَن نوى استيطانًا مطلقًا فتصحّ إمامته في الجمعة ويحسب من العدد؟ الجواب: وأمّا مَن نوى الاستيطان فإنّه يصير من أهل البلد فتصح فيها إمامته وغير ذلك، ولو بدا له الانتقال بعد مدّة قصيرة، وأمّا الذي نزل ولم ينو الإقامة ولو حدّ إقامته سنتين فلا يكون من أهل البلد؛ لأنّ نيّته مباينة للاستيطان. الثّالثة: إذا حصل من رمل المسجد ضرر بالمصلّين لكثرة غبار أو غيره وأرادوا إخراجه لإزالة الضّرر. الجواب: أمّا رمل المسجد وترابه فإن أضرّ بالمصلّين وجب إخراجه، وإن لم يضرَّ لكن رفعه وجعل مكانه أنفع فهذا جائز. الرّابعة: هل تصحّ استنابة قادر على الحجّ يحجّ عنه حجّة الإسلام

لكونها غير واجبة على المستنيب لعدم أمن الطّريق أو غيره أم لا يصح؟ وهل يصحّ أن يحجّ عن غيره مَن لم يحجّ عن نفسه لعدم وجوبها؟ الجواب: أمّا القادر على حجّ الفرض فلا يستنيب ولو مع خوف الطّريق، ولا تشترط العدالة إن كان متبرِّعًا أو معينه الموصي وهو غير وارثٍ. الخامسة: هل تشترط العدالة ظاهرًا وباطنًا في المستناب في الحجّ ولم يعيّنه الموصي، فإذا بان فسقه بعد انقضاء الحجّ فسد حجّه؟ أم لا تشترط العدالة إلّا ظاهرًا، فلو بان فاسقًا صحّ حجّه أم كيف الحكم؟ الجواب: لا تشترط العدالة في النّائب إن كان متبرِّعًا أو معينه الموصي، وهو غير وارثٍ، وإن كان المستنيب وصيّا للميت لم يجز له أن يستنيب إلّا العدل وتكفي العدالة ظاهرًا؛ فلا يحتاج لتزكية، فمتى استناب مَن ظاهره العدالة ثم بان فسقه بعد ذلك صحّ كولي المرأة في النّكاح. السّادسة: إذا اشتريت سكينًا أو سيفًا أو غيره أظنّه ذكرًا فبان بخلافه فهل أملك فسخ البيع أم لا أملكه لكوني لم اشترطه ذكرًا؟ الجواب: أمّا السّكين فإذا بذل فيها ثمن السّكين الذّكر ثم بانت أثنى فهو عيب. السّابعة: إذا حدث في الوقف خيس يصلح أن يكون بناتًا وأراد الموقوف عليه قلعه لكونه نماء لحدوثه بعد الوقت فهل يجوز له قلعه أم يلزمه تركه؟ الجواب: الفسيل الحادث بعد الوقف في أصول النّخل نماء. الثّامنة: الفسيل الموجود حين الوقف إذا صلح أن يكون بناتًا لكن

قلعه أصلح لأمّه وتركه أصلح للوقف فهل يصحّ قلعه أم لا؟ الجواب: وأمّا السّابق للوقف فيقلع أيضًا وينفق في مؤنة الوقف كالبناء والسّقي وغيرهما. التّاسعة: إذا ساقيت عاملًا على نخل من الجذاذ إلى الجذاذ بجزء من ثمرته فما قدر ما يلزمه من السّقي هل فيه شيءٌ مقدّرٌ أم يرجع إلى عادة بلده، فإذا كانت عادتهم تركه عشرة أيّام في الشّتاء وخمسة في غيره ثم يسقى ويتركون السّقي في الصّيف شهرين وأقل وأكثر، فهل يلزمه شيء غير عادة بلده أم لا؟ الجواب: المساقي المذكور لا يلزمه من السّقي إلّا عرف أهل بلده. العاشرة: هل يشترط لصحّة تملك الأب مال ولده مشاهدته بعينه حيث تملكه كالقبض في الهبة والرّهن والقرض أم لا تشترط، بل إذا كان الأب يعرفه معرفة يصلح البيع معها جاز تملكه ولو لم يشاهده بعينه أم كيف الحكم؟ الجواب: يشترط لتملك الأب مال ولده القبض للمنقول والمشاهدة للعقار كالهبة والرّهن. الحادية عشرة: إذا أتت المرأة بولد بعد أربع سنين وهي غير فراش فمعلوم أنّه لا يلحق بأبيه، لكن إذا تعور في بطنها وأقام فيه أكثر من أربع سنين فهل يلحق به لكون الحمل موجودًا حين الموت أو الفرقة بيّنة أو إقرار أم لا يلحق مطلقًا أم كيف الحكم؟ الجواب: أمّا الولد فيلحق ولو بعد أربعة أعوام إذا علم وجوده قبلها وكان احتباسه للآفة. والله أعلم. الثّانية عشرة: إذا انقطعت الجهة الموقوف عليها وما وقفه وسكت

مع القول بصحّته فإنّه يصير لورثة الواقف نسبًا وقفًا عليهم، فهل إذا استحقّه وارث للواقف ثم حدث من يحجبه عن إرث الواقف فهل ينتقل الوقف إلى الوارث الحادث مع حياة الأوّل؟ مثاله: إذا وقف شخص شيئًا وسكت فإنّه يصير لوارثه ولم يكن له وارث سوى أخيه فاستحقّه أخوه لكونه الوارث له إذًا، ثم حدث للواقف ابن فهل ينتقل الوقف إلى الابن بمجرّد وجوده مع حياة عمّه المستحقّ للوقف قبله أم لا ينتقل إلى الابن إلّا بعد موت عمّه، أم لا يرجع إلى ابن الواقف مطلقًا فيصير للعمّ ثم لورثته من بعده أم كيف الحكم؟ الجواب: قال في حاشية ابن قندس قوله: ويصرف ما وقفه وسكت ونحوه إلى ورثة الواقف هل المراد ورثته حين موته أو حين الانقطاع؟ وإذا صرف إليهم فماتوا فهل ينتقل إلى ورثتهم أم لا؟ فأمّا الأوّل فقال في الرّعاية ما يقتضي أنّ المراد حين الانقطاع؛ لأنّه قال ورثته إذًا. وأمّا الثّاني ففي الزّركشي وحيث قلنا يصرف إلى الأقارب فانقرضوا ولم يوجد قريب فإنّه يصرف إلى بيت المال؛ لأنّه مال لا مستحقّ له. نصّ عليه أحمد. انتهى كلامه في الرّعاية. فعلى هذا، لا شكّ أنّ الواقف إذا ورثه أخوه ثم حدث للواقف ابن أو ابن ابن أنّه ينْزع الوقف من يد أخ الميت. الثّالثة عشرة: إذا ادّعيت عينًا في يد إنسانٍ تلفت عليّ في ماضي الزّمان بغصبٍ أو غيره وأقمت بيّنة فشهدت أنّ هذه العين تلفت من يدي على طريق الغصب. الجواب: إذا كانت العين بيد إنسانٍ فأقام المدّعي بيّنة أنّها له بمثل

هذا اللّفظ سمعت الشّهادة على هذا المنوال وصحّت وانتزعت العين من صاحب اليد، ولا يشترط لصحّة شهادة البيّنة ذكر أنّها غصب. الرّابعة عشرة: جلد الأضحية وجلها ذكروا أنّه ينتفع بهما أو يتصّدق بهما فهل تَختصّ الصّدقة بهما على الفقير والمسكين أم يصحّ إعطاؤهما الغني هدية أو صدقة؟ الجواب: أمّا جلد الأضحية وجلّها وغير ذلك فإذا قيّدوا أيّ: العلماء بذكر الصّدقة لم يكن مصرف الصّدقة إلّا الفقراء والمساكين في الغالب من كلامهم؛ لأنّ تعبيرهم لغير الفقير بالهدية ونحوه. الخامسة عشرة: إذا أوصى إنسان بحجّة وأطلق فلم يقدرها بشيء وليست الحجّة فرضًا لعدم وجود الشّرط المعتبر من أمن الطّريق أو غيره فهل تصير من الميقات أو من بلده أو دون مسافة قصر عنها إذ العادة جارية به، ولو يعلم الموصي بالحكم لقدر لها ما لا يحجّ به عنه من بلده، ولم يعهد عندنا مع الإطلاق إلّا حجّتها من بلده فما الحكم فيها؟ الجواب: أمّا الحجّة المذكورة مع الإطلاق فلا تكون إلّا من الميقات؛ لأنّ كلاهم في ذلك صريح، وكذلك الأضحية المطلقة لا يجوز فيها إلّا قدر الأجزاء، هذا ولو كانت العادة جارية بذلك لاسيما إذا كان في الورثة غير مكلّف، فهذا لا يجوز إلّا أن يكون الورثة كلّهم مكلّفين ورضوا بذلك. السّادسة عشرة: الجدَّاء لا يصحّ أن يضحّى بها فهل إذا جدّ شطر وسلّم الشّطر الآخر تجزئ أم لا؟ والجداء: ما لا لبن فيها فهل إذا كان فيها لبن قليل جدًّا لا يزيد في ثمنها تجزيء أم لا؟

الجواب: الجداء: اسم لما لم يكن في ضرعها لبن فإذا وجد فيه لبن فليست بجداء ولو جد شطر وسلم آخر أو بعضه لم تكن جداء. السّابعة عشرة: إذا أحسّ المصلِّي رطوبة في رأس ذكره ومضى في صلاته؛ لأنّه لا يدري هل هي شيء خارج أم لا؟ فلمّا فرغ من صلاته ونظرها تحقّق أنّ تلك الرّطوبة التي أحسّ في صلاته خارجة من ذكره، فهل تصحّ صلاته؛ لأنّه لم يتحقّق أنّها خارجة من ذكره إلّا بعد فراغه، أم لا تصحّ؛ لأنّ الخارج حاصل في صلب الصّلاة؟ الجواب: أمّا المصلِّي فإذا خرج من صلاته ووجد خارجًا من ذكره وشكّ هل فاض إلى حكم الظّاهر في فرض الذّكر الذي يلحقه حكم التّطهير وهو في صلاته أم هل سلم وإنّما فاض أوّلًا بعد السّلام؟ فإنّ الصّلاة على مثل هذا صحيحة ولا تبطل إلّا بتحقّق المصلِّي فيضه إلى فرض الذّكر وهو في الصّلاة. الثّامنة عشرة: ليف الشّجر الذي يسقى بالنّجاسة وسعفه وجماره هل حكمه حكم التّمر فيصير نجسًا أم هو طاهر ولا يتنجّس إلا الثّمرة؟ الجواب: أمّا ليف النّخل وجماره وخوصه وغير ذلك إذا كان يسقى بالنّجس فلا ينجس من ذلك إلّا الثّمر فقط والزّرع وتنجيس سائر الأجزاء من القياسات الفادسة، فإنّ العلم نقل لا عقل وتنجيس ما سوى الثّمرة تهوس ووسواس يفعله بعض أهل العارض. والله أعلم. التّاسعة عشرة: هل يشترط لصحّة بيع الدّار رؤية داخل الحشّ ونحوه أم تكفي رؤية ظاهره فقط؟ الجواب: لا بدّ من رؤية المبيع إلّا ما ذكروا التّسامح فيه، فيكفي

رؤية الدّار أي غالبها المعتمد عليه الذي يزيد به الثّمن وينقص، وأمّا داخل الحشّ ونحوه فلا تشترط رؤية ذلك؛ لأنّهم صرّحوا بالتّسامح في أكثر من ذلك، فقالوا: يكفي رؤية وجه الرّقيق وظاهر الصّبرة ونحو ذلك. العشرون: إذا اشتريت ثوبًا ونحوه ثم بعته لآخر فوجد به عيبًا فردّه عليَّ؛ لأنّ القول قوله، ولم أملك ردّه على البائع الأوّل؛ لأنّه خرج عن يدي، فإذا ادّعيت على البائع الأوّل أنّ العيب موجود في المبيع وهو في يد البائع الأوّل، لكن لا أعلم به أنا يا أيها المشتري الأوّل إلّا بعد ما ردّه المشتري الثّاني، فإن أقمت بيّنة بدعواي فلا كلام، وإن لن أقم بيّنة فهل يثبت لي يمين البائع الأوّل أم لا؟ وإن ثبت لي يمين فما صفتها هل تكون على البتّ فيحلف لقد بعته بريئًا من العيب أو من هذا العيب أم على نفي العلم؟ الجواب: أمّا إذا خرج من يد المشتري ثم ردّ عليه بعيبٍ فلا ردّ له ولا أرش بعد خروجه عن يده، لكن متى قامت بيّنة البائع الثّاني الذي خرج عن يده أنّ ذلك العيب كان موجودًا عنده قبل بيعه ردّ عليه ومع عدمها عليه اليمين لقد بعته ما علمت به عيبًا. الحادية والعشرون: الحائط الذي بين جارين إذا جهلت حاله هل الأصل فيه الاشتراك أم عدم الاشتراك فلا يصحّ لوليّ اليتيم ووكيل الغائب إخراج شيءٍ من مالهما في بناء الجدار الذي بينهما وبين جارهما حتّى يحضر الغائب ويرشد الصّغير، أو يكون في بنائه مصلحة أو إزالة ضرر عهما؟ الجواب: أمّا الحائط المشترك الذي بين ملكين فإن علم ملكه لهما فغنمه وغرمه لهما، وإن لم يعلم، فإن قامت بيّنة للمدّعي اشتركا على ما

ثبت بالبيّنة وإلّا كان الأصل عدم الاشتراك. الثّانية والعشرون: الوثيقة إذا لم يحكم بصحّتها كاتبها هل يصحّ العمل بها أم لا يصحّ؟ وإذا لم يستوعب جميع الشّروط في البيع والهبة وغيرهما أيصحّ العمل بها أم لا يصحّ ولو حكم بصحّتها لعدم استيعاب جميع الشّروط؟ الجواب: الوثيقة إن علم أنّها خط رجل من أهل العلم وهي على عقدٍ صحيحٍ صحّ ذلك ووجب العمل بذلك إذا كملت الشّروط أو ذكر الفقيه معنى ذلك نحو قول الكاتب: عقد صحيح، أو بالشّروط المعتبرة أو نحو ذلك. الثّالثة والعشرون: إذا دفعت جلد الأضحية لقريبٍ أو صديقٍ لي غني على طريق الإباحة والانتفاع لا على طريق التمليك، فهل يصحّ الدّفع إليه على هذا المنوال وينتفع به كما أنتفع أنا ولا يصحّ له بيعه؛ لأنِّي لم أدفعه له إلّا لينتفع به أم لا يصحّ دفعه مطلقًا؟ الجواب: أمّا جلد الأضحية فانتفاع القريب ونحوه به مع غناه جائز لكون الدّافع أقامه مقامه فله أن ينتفع ويَمنع مما أنت ممنوع منه كالبيع ونحوه من المعاوضات. الرّابعة والعشرون: إذا حصل من النّخل الموقوف على غير معيَّن كالإمام والمدِّرس ونحوه غلة تبلغ نصاب الزّكاة، فهل تجب الزّكاة على مستحقّه أم لا؟ الجواب: أمّا النّخل الموقوف على غير معيّن كالإمام والمؤذّن فالثّمرة الحاصلة من ذلك لا زكاة فيها لتصريحهم في كتاب الزّكاة أنّها لا تجب في غلة الموقوف على غير معيّن، وجدك -رحمه الله- يقول الإمام ونحوه يملك الثّمرة بالظّهور، فإذا حصل منها له نصاب زكّاه. هذا قوله -رحمه الله- فجعله كالموقوف على معيّن وصريح كلامهم يخالف ذلك.

الخامسة والعشرون: الكيّ في المركوب وغيره من الحيوان هل هو عيب مطلقًا أم إن نقص القيمة فهو عيب وإلّا فلا؛ لأنّهم ذكروا أنّه عيب وأطلقوا؟ الجواب: أمّا الكي في الفخذ والبطن ونحوه مما لا ينقصه عند التّجار فليس بعيب، وإن كان مما ينقصه كالكي على المفاصل ونحوها فعيب، وحاصله ما نقصه في العرف فعيب وما لا فلا. السّادسة والعشرون: إذا انهدم حائط داري أو غيره من غير آفة حصلت له لكن من نفسه أو من آفة سماوية وحصل في ملك إنسانٍ أو في طريق نافذ وأضرّ بالمسلمين فهل يلزمنِي إزالته أم لا يلزمنِي لحصوله بغير تفريط منِّي؟ وهل إذا انقطع الحائط أو تعيب أسه فتركت هدمه وإصلاح أسه تماديًا ولم أطالب بنقضه حتّى سقط فهل يكون ذلك تفريطًا منِّي فيلزمنِي إزالته أم لا؟ الجواب: أمّا إذا انهدم الجدار لم يكن هدمه من مكلّف فصار في الطّريق أو في ملك الغير لم يلزم مالكه إزالته، وأمّا إذا مال الحائط أو انشقّ طولًا أو عرضًا لم يلزم صاحبه أيضًا ما تلف به ولا إزالة انقاضه من ملك الغير والطّريق، وسواء طولب بنقضه أم لا. قال في الإنصاف على الصّحيح من المذهب. وفي رواية ذكرها في الإقناع أنّه متى طولب بنقضه ولم يفعل ضمن، والأوّل المذهب، أي عدم الضّمان ولو طلوب بالنّقض، وكلّ التّفريع في الإقناع وغيره على هذه الرّواية، والمذهب عدم اللّزوم ولو طولب بالنّقض. السّابعة والعشرون: جريد النّخل الموقوف اليابس والمصفر وكربه

وليفه هل هو نماء فيجوز للموقوف عليه أخذه أم لا يصحّ فيصير حكمه حكم عين الوقف؟ الجواب: أمّا سعف النّخل وجريده اليابس وليفه الذي لا يضرّ وفرخه النّابت بعد الوقف فغلة لا إشكال فيها، صرح بذكر الفرخ منصور في باب الغصب من شرح الإقناع. والله أعلم. الثّامنة والعشرون: إذا دفعت فطرة زوجتِي أو ولدي أو من يلزمنِي فطرته إلى قريب لي محتاج لكن أنا أرثه لو يموت، فهل يصحّ هذا الدّفع أم يكون حكم فطرتهم حكم فطرتِي بنفسي فلا يصحّ الدّفع إليه؟ الجواب: أمّا إقامة الفطرة مقام الزّكاة فلا يجوز دفع ما يلزمك من الفطرة لزوجتك ونحوها إلى مَن أنت ترثه بفرض أو تعصيب فحكمها حكم فطرة نفسك. التّاسعة والعشرون: هل يجوز إخراج الفطرة من التّمر المعجون أو الضّميد إذا أخرجت الواجب بيقين؟ الجواب: إخراج الفطرة من التّمر المعجون أو الضّميد أو العبيط إذا أخرج ما يتيقن أنّه صاع نصّ على جواز إخراج الفطرة من مليح التّمر. الثّلاثون: إذا كان هنا أرض وقف على الصّوام يوضع في المسجد وغلتها عيش وله أيضًا نخل وقف على الصّوام وقصر التّمر عن إتمام الشّهر وصار التّمر ما يكفي رمضان كلّه، فهل يصحّ بيع العيش ويشتري بثمنه تمرًا يوضع في المسجد أم لا يصحّ بيعه بل يوضع فيه ويؤكل بنفسه، والتّمر أنفع للصّوام كما لا يخفى عليك؟ الجواب: أمّا بيع الغلة البر الموقوف بتمر فجائز سيما إذا كان أنفع.

2 - إذا كان لرجل على رجل دينان دين من ثمن نخل ودين من ثمن أرض مثلا وأوفى الغريم مدينه أحد الدينين وقال له المدين أنا بريء قال الغريم أنت بريء وشهد على البراءة شاهدان ثم قال المبرئ ما أبرأتك من جميع الدين وإنما أبرأتك من ثمن النخل دون ثمن الأرض

الحادية والثّلاثون: إذا وجد كتاب فقهٍ أو تفسيرٍ أو حديثٍ مع قطاع الطّريق فهل يصحّ لي شراؤه مثل المصحف ويصير استنقاذًا أم لا يصحّ ويصير حكمه حكم سائر الأموال أم كيف الحكم؟ الجواب: كتاب الفقه والتّفسير والحديث مع قطاع الطّريق فحكمه حكم المصحف. والله أعلم. تَمَّت في 10 شوّال 1343 هـ. وصلّى الله على محمّد وآله وصحبه وسلّم -2 - بسم الله الرّحمن الرّحيم وله -رحمه الله- جواب عن سؤالٍ ولم يذكر النّاسخ السّؤال: وأمّا إذا كان لرجلٍ على رجلٍ دَيْنَان: دَينٌ من ثمن نخل، ودَين من ثمن أرض مثلًا، وأوفَى الغريم مدينه أحد الدَّينين، وقال له المدين: أنا بريء. قال الغريم: أنت بريء، وشهد على البراءة شاهدان ثم قال المبرئ: ما أبرأتك من جميع الدَّين وإنّما أبرأتك من ثمن النّخل دون ثمن الأرض مثلًا، وأنت تعلم، فهل إذا شهد شاهدان على البراءة يكون عليه يمينًا بالله لقد برئت ذمّتِي وما علمت أنّك غالط ولا ناس والله ليس في ذمّتِي لك شيء لا من ثمن الأرض ولا غيرها؟ فاعلم، أنّ المبرئ إذا ادّعى على المبرأ علم الغلط في البراءة فله يمينه، ولو كان معه شاهدان أو أكثر لقد برئت ذمّتِي وما علمت أنّك غالط ولا ناس، وأنّه ليس في ذمّتِي لك شيء لا من ثمن الأرض ولا غيرها. والله أعلم. مسألة: وأمّا إذا وقف زيد على عمرو مثلًا عقارًا ثم على أولاده وشكّ هل الواقف أراد أولاده أو أولاد الموقوف عليه، فإن قامت لأولاد

فصل

الموقوف عليه بيّنة أنّ الواقف أراد الوقف عليهم بعد أبيهم فلا كلام وإلّا فمع الشّكّ في هذا اللّفظ وجود قول الواقف ثم على أولاده كعدمه ويكون الوقف على الموقوف عليه فقط لا على أولاده مع عدم بيّنتم، فإذا مات الموقوف عليه انصرف إلى عصبة الواقف نسبًا. والله أعلم. فصل: ولا يستحبّ للرجل في الصّلاة شد وسطه بمنديلٍ أو منطقةٍ ونحوها، نصّ عليه ويكره للمرأة. وقال ابن عقيل: يكره الشّدّ بالحياصة وعن أحمد -رحمه الله- يكره لبس المنطقة في الصّلاة وغيرها ويحرم إسبال الثّوب والعمامة وغيرهما خيلًا، وإن فعل ذلك لحاجة من ستر ساق قبيح ونحوه فلا بأس، والسّنة في الإزار والقميص ونحوه من نصف السّاق إلى الكعبين ويكره ما نزل عن ذلك أو ارتفع عنه نصّ عليه. وقال أبو بكر: يستحبّ أن يكون قميص الرّجل إلى الكعب أو إلى شراك النّعل وطول الإزار إلى مداق السّاقين، قال وقيل: إلى الكعبين، ويزيد ذيل المرأة على ذيله ما بين الشّبر إلى الذّراع. قال السّامري: هذا في حقّ مَن يمشي بين الرّجال كنساء العرب فأمّا نساء المدن فذيلها كذيل الرّجل -إلى أن قال-: باب اجتناب النّجاسة في البيوت وموضع الصّلاة، طهارة بدن المصلّي وثيابه وموضع صلاته من النّجاسة غير المعفو عنها واجب وفي اشتراطه روايتان، فمتى حملها أو لاقها موضع صلاته بشيء من بدنه أو ثيابه لم تصحّ صلاته. وذكر ابن عقيل في سترته المنفصلة عن ذاته إذا وقعت حال سجوده على نجاسة احتمالًا أنّ صلاته لا تبطل، فإن لصق ثوبه بثوبٍ نجَس على إنسان أو بحائط نجَس ولم يستند إليه فوجهان، وإن لصق حال قيامه أو

ركوعه أو سجوده بجدار نجَس مستندًا إليه لم يصحّ، ولو قابل بدنه حال ركوعه أو سجوده فوجهان: الصّحّة والبطلان، وإذا سقطت عليه نجاسة ثم زالت أو أزالها في الحال لم تبطل صلاته، ولو حمل قارورة مسدودة فيها نجاسة بطلت صلاته، ولو حمل طائرًا طاهرًا لم تبطل، وإذا ذهب أثر النّجاسة على الأرض بريح أو شمس لم تطهر كما لو وقع ذلك في غيرها، وخرج بعض أصحابنا الطّهارة بذلك على التّطهير بالاستحالة ومَن رأى عليه نجاسة بعد الصّلاة ويعلم أنّها لم تكن في الصّلاة فصلاته صحيحة. وذكر القاضي في التّبصرة وجهًا آخر أنّها تبطل، وإن علم أنّها كانت في الصّلاة لكن جهلها أو نسيها حتّى صلى أو عجز عن إزالتها فلا إعادة عليه، وعنه يلزمه الإعادة. قال القاضي: يجب مع النّسيان رواية واحدة. وإن علم بالنّجاسة في أثناء الصّلاة إلى أن قال: فإن كانت النّجاسة رطبة أو ماء وجهًا واحدًا، ومتى صلّى ففي الإعادة روايتان. وذكر القاضي رواية أنّه لا يصلّي تخريجًا، وإذا خفي موضع النّجاسة من الثّوب أو البدن غسل ما يعلم به طهارته وكذا حكم البقعة الصّغيرة، وإن اشتبه موضع النّجاسة من الصّحراء صلّى حيث شاء، فإن طيَّن الأرض النّجسة أو بسط عليها شيئًا طاهرًا ثم صلّى كره له ذلك في أصحّ الرّوايتين، وفي صحّة صلاته روايتان. وكذا لو صلّى على بساط على باطنه نجاسة لم تنفذ إلى ظاهره. واختار ابن أبي موسى إن بسط على نجاسة رطبة لم تصحّ، وإن كانت يابسة صحّت، ولو بسط على الأرض الغصب ثوبًا له وصلّى عليه لم تصّح، ولو كان له علو وسفل فصلّى في ملكه مع غصبه السّفل صحّت صلاته.

رسالة للشيخ عبد الوهاب بن الشيخ سليمان، والد شيخ الإسلام

وفي باب صفة الأئمة قوله: والجواز للإمام الأعظم خاصّة. وإذا أقيمت الصّلاة وهو في المسجد والإمام مِمَّن لا يصلح فإن شاء صلّى خلفه وأعاده، وإن شاء صلّى وحده إلى أن قال في الباب الآخر: قوله: فإن كبر عن يمينه وجاء آخر فإنّه يكبّر معه ويخرجان إلى وراء الإمام، فإن كبّر الثّاني عن يساره أخّرهما الإمام بيده إلى ورائه ولا يتقدّم الإمام إلّا أن يكون وراءه ضيّقًا. وإن أدركهما في التّشهّد كبّر وجلس عن يمين صاحبه أو عن يسار الإمام. انتهى. ... رسالة للشيخ عبد الوهاب بن الشيخ سليمان، والد شيخ الإسلام ... هذه رسالة للشّيخ عبد الوهّاب بن الشّيخ سليمان بن عليّ: بسم الله الرّحمن الرّحيم من عبد الله بن أحمد بن سحيم إلى جناب الأخ في الله الشّيخ المكرّم عبد الوهّاب بن الشّيخ سليمان بن عليّ سلّمه الله تعالى. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد؛ فالمرجو من إحسانكم تكتب لنا جوابًا عن أحوال هؤلاء الفقراء الْمُنكرة من أخذهم النّار وضربهم أنفسهم بالحديد ونطوطهم من السّطوح ولعبهم بذكر الله حتّى إنّهم يفعلونه كالنّبح والمسؤول من جنابك أن تطيل لي الكلام في ذلك. والسّلام. وعليكم السّلام ورحمة الله وبركاته. وما ذكرت من أمر هؤلاء الشّياطين الفسقة الذين يسمّون أنفسهم الفقراء فاعلم يا أخي أنّ هؤلاء شياطين وأنّ أفعالهم منكرة بل، والعياذ بالله بعض أفعالهم كفر ولا شكّ ولا ريب عند مَن له أدنى عقل ومسكة في الدِّين أنّهم منافقون أعاذنا الله وإخواننا المسلمين من أفعالهم.

وأمّا دخولهم النّار ونطوطهم من السّطوح وضربهم أنفسهم بالحديد. فاعلم أنّ منشأ البدعة من المجوس والصّابئين الكافرين بالله ورسوله وقوم من المجوس يسمّون الزّطّ يدخلون النّار ولا يحسّون بها ويضربون أبدانهم بالحديد ويحمون الحديد حتّى يحمي ويضعونه على أبدانهم ولا يحسّون بذلك، ومن هؤلاء مَن يطير في الهواء، ومنهم مَن يركز الرّمح ويرقي عليه ويجلس على الحربة ويحدّث النّاس ولا يحسّ بذلك. ومنهم مَن يمضي له عشرة أيّام وأقلّ وأكثر ولا يأكل شيئًا من الطّعام. ومنهم مَن يخاطب من الهوى يسمعون الحسّ ولا يرون الشّخص. ومنهم مَن يظهر له الكشف عن أحوال بعض النّاس الخفية ويخبر بذلك، وكلّ هذه الشّعبذة من المنكرات وأحوال شيطانية. وأمّا ضربهم بالسّلاح ولا يحسّون بذلك فاعلم يا أخي أنّهم ليسوا بأفضل من الأنبياء، فإنّ أنباء بني إسرائيل قتلهم فساقهم، منهم زكريا -عليه السّلام- نشر بالمنشار وزهقت نفسه، ويحيى بن زكريا قتل وقطع رأسه، والنَّبِيّ -صلّى الله عليه وسلّم- شجّ رأسه وكسرت رباعيته، ولا يخفاكم مَنْ قُتِلَ مِن أصحابه. أفترون هذا الفاسق الزّنيم الذي يسمّونه الذّيخ عنيد وأضرابه من الفاسقين أفضل من الأنبياء؟ ومن أصحاب رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم-؟ وهل يشكّ عاقل يعزّ عليه دِينه في أنّ هذه أمور شيطانية، فإنّ أحدهم إذا لبسه الشّيطان فعل ما أراد من دخول النّار والنّطوط من السّطوح والإخبار بالمغيّبات. وسلِّم لي على الشّيخ عثمان بن عبد الله بن شبانة، والشّيخ عبد القادر العديلي وسائر الإخوان. واعلموا أنّ أهل حرمة وأضرابهم الذين اتّبعوا هذا الشّيطان أتباع كلّ ناعق وأنّ مَن حضرهم منهم أو جادل عنهم أو قال: إنّ لهم أشياء مستحسنة فلا يصلّى خلفه، ولا تقبل شهادته. واعملوا أنّه حرام

عليكم قبول شهادتهم الصّلاة خلفهم. وأمّا نسبة هؤلاء الشّياطين الفاسقين المعلنين ذلك إلى الشّيخ عبد القادر الجيلاني فحاشاه من ذلك، وهو من كبار العلماء، ومن أولياء الله، وكتبه وتصانيفه عندنا لم يعرف أنّه أمر بذلك ولا ضرب أحد عنده بدفّ ولا ضرب أحد نفسه عنده بدبوس أو نطّ من شيء عال، ولو رآهم لقاتلهم على ذلك، وقيل لنا: إن صحّ إنّ شخصًا من أهل حرمة رأى في المنام أنّ شيطانًا على سرير يحمله شياطين، وأنّه قال: أنا عبد القادر، وأنّ مَن تعرّض لفقرائنا مات، وهذا لا شكّ أنّه من الفاسقين الكاذبين. فالله الله في إنكار ذلك يا إخوانِي، والتّحذير عنهم، وإنكار هذه المنكرات باليد واللسّان، ولولا ضيق الورقة لذكرنا كثيرًا من كلام العلماء وإنكارهم لذلك. والله سبحانه وتعالى أعلم. {انتهى القسم الثّاني} {من الجزء الأوّل من مجموعة الرّسائل والمسائل النّجدية}

القسم الثالث: رسائل وفتاوى لغير سلالة الشيخ من علماء نجد

القسم الثالث رسائل وفتاوى لغير سلالة الشيخ من علماء نجد ... رسائل وفتاوى للشيخ حمد بن ناصر بن معمر ... القسم الثّالث من الجزء الأوّل {من مجموعة الرّسائل والمسائل النّجدية} رسائل وفتاوى لبعض علماء نجد الأعلام {رسائل وفتاوى الشّيخ حمد بن ناصر بن معمر} - 1 - بسم الله الرّحمن الرّحيم وبه نستعين، ولا حول ولا قوّة إلّا بالله العليّ العظيم، وصلّى الله على محمّد وآله وصحبه وسلّم. مسائل*: الأولى: ما قول العلماء -رضي الله عنهم- فيمَن صلّى خلف الإمام، ما حكمه؟ الْجواب -وبالله التّوفيق-: السّنة أن يقوم المأمومون خلف الإمام، فإن كان واحدًا صلّى عن يمينه، فإن كانت معهم امرأة قامت خلفهم، فإن وقف المأموم قدام الإمام لم تصّح صلاته، وإن وقف الرّجل خلف الصّفّ أو خلف الإمام لم تصحّ صلاته. الثّانية: هل تصحّ صلاة مَن أخلّ بإعراب الفاتحة أم لا؟ الْجواب -وبالله التّوفيق-: يلزم القارئ أن يقرأ الفاتحة مرتّبة مشدّدة غير ملحون فيها لحنًا يحيل المعنى نحو أن يقول: (أَنْعَمْتُ) برفع التّاء، فإن فعل لم يعتد بقراءته إلّا أن يكون عاجزًا وهذا مذهب الشّافعي، فإن كان لحن فيها لحنًا لا يحيل المعنى، نحو أن يكسر النّون لم تبطل صلاته. الثّالثة: إذا صلّى مَن في بدنه أو ثوبه نجاسة نسيها أو لم يعلم بها إلّا بعد انقضاء صلاته هل يعيدها أم لا؟

_ * هذه 16 مسألة تكررت بعد ذلك في 5/ 812. [معد الكتاب للمكتبة الشاملة]

الْجواب -وبالله التّوفيق-: هذه المسألة فيها روايتان عن أحمد: إحداهما: لا تفسد صلاته. وهو قول ابن عمر وعطاء، لحديث النّعلين، وفيه: "يصلّي بأصحابه إذا خلع نعليه إلى أن قال: إنّ جبريل أتانِي فأخبرنِي أنّ فيهما أذى". رواه أبو داود، ولو بطلت لاستأنفها. والثّانية: يعيد، وهو مذهب الشّافعي، فإن علم بها في أثناء الصّلاة وأمكنه إزالتها من غير عمل كثيرٍ كخلع النّعال والعمامة ونحوها أزالها وبنى على ما مضى من صلاته وإلّا بطلت. الرّابعة: إذا صلّى الإمام محدثًا جاهلًا هو والمأمومون حتّى سلّموا ما حكم صلاتهم؟ الْجواب -وبالله التّوفيق-: صلاتهم صحيحة دون الإمام؛ فإنّه يعيد. روي عن عمر وعثمان عليّ ومالك والشّافعي، وإن علمه في الصّلاة بطلت وأعادها. الخامسة: إذا كان في أعضاء الوضوء نجاسة أو في بدن الجنب نجاسة فزالت بغسل مَن نوى غسل الجنابة ولم ينو إزالتها هل تزول أم لا بدّ من النّيّة؟ الجواب: غسل الجنابة لا يفتقر إلى النّيّة بل متى زالت النّجاسة بالماء طهر المحلّ؛ لأنّها من باب التّروك بخلاف الأوامر فإنّها تفتقر إلى النّيّة لقوله - عليه الصّلاة والسّلام -: "إنّما الأعمال بالنيّات، وإنّما لكلّ امرئ ما نوى". الحديث لكن عليه أن يزيل النّجاسة عن أعضائه وعن بدنه قبل الغسل. السّادسة: إذا توضّأ الإنسان لمشروع كالنّافلة وصلاة الجنازة لم ينو به الفرض هل يصلّي به الفرض أم لا؟

(الجواب): يصلي به ما شاء فرضًا أو نفلًا، قال في "الشرح الكبير": ولا بأس أن يصلي الصلوات بالوضوء الواحد. لا نعلم فيه خلافًا. (السابعة): إذا دخل الوقت على عادم الماء، وهو يرجو أن يصلي في آخر الوقت، هل يصلي بالتيمم في أول الوقت أو يؤخر الصلاة حتى يأتي الماء؟ (الجواب): قال في "الشرح": يستحب تأخير التيمم لآخر الوقت كمن يرجو وجود الماء، روي ذلك عن علي وعطاء والحسن وأصحاب الرأي، وقال الشافعي في أحد قوليه: التقديم أفضل. انتهى. (الثامنة): إذا طلقت المرأة وهي ترضع، ولم يأتها الحيض بسبب الرضاع ما عدتها؟ (الجواب): هي في عدة حتى يأتيها الحيض، فتعتد به ثلاث حيض أو تصير آيسة فتعتد بثلاثة أشهر. (التاسعة): إذا ادعت المرأة أنها اعتدت بعد الطلاق في وقت تمكن العدة فيه، هل تصدق أم لا؟ وإذا شهدت امرأة أو امرأتان أنها اعتدت بالحيض، هل تقبل شهادتهن في ذلك لعدم اطلاع الرجال أم لا؟ (الجواب): تصدق، لقوله تعالى: {وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ} الآية، وإذا شهدت امرأة عدلة أنها حاضت ثلاث حيض وهو ممكن قبلت، والأحوط شهادة امرأتين. (العاشرة): هل وجه الأمة المملوكة عورة، فيلزمها الخمار كالحرة أم لا؟ (الجواب): لا يلزمها؛ لأن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- كان ينهى الإماء عن التقنع، فاشتهر ولم ينكر فكان إجماعًا، لكن إن كانت المرأة جميلة يخشى بها الفتنة فلا يجوز النظر إليها بشهوة. وأما الحرة فلا يجوز كشف

وجهها في غير الصّلاة بغير خلاف، والأمة إذا عتقت فهي حرّة. الحادية عشرة: ما حكم الكلام عند الأذان والإقامة وتلاوة القرآن والكلام عند الجماع؟ الجواب: قال في الشّرح: يستحبّ لِمَن سمع الأذان أن يقول كما يقول المؤذّن إلّا في الحيعلة فإنّه يقول: لا حول ولا قوّة إلّا بالله، وهذا مستحبّ لا نعلم فيه خلافًا. ثم يقول: اللهمّ ربّ هذه الدّعوة التّامّة والصّلاة القائمة آت محمّدًا الوسيلة والفضيلة وابعثه مقامًا محمودًا الذي وعدته. رواه البخاري. وقال بعض العلماء: كذلك عند الإقامة. وأمّا الكلام عند تلاوة القرآن فقال النّووي في كتابه: (التّبيان) ويتأكّد الأمر باحترام القرآن من أمور، فمنها: اجتناب الضّحك واللّغط والحديث في خلال القرآن إلّا كلام يضطرّ إليه ويتمثل لأمر الله. قال تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}، [الأعراف: 204]. أي: اسكتوا، وعن عمر أنّه كان إذا قرأ القرآن لا يتكلّم حتّى يفرغ مما أراد أن يقرأه. انتهى. وأمّا الكلام حال الجماع فيكره كثرة الكلام حال الوطء، قيل: إنّه يكون منه الخرس والفأفاء. الثّانية عشرة: هل ينادي الشّخص والديه بأسمائهم، أو قرابته أم هو من العقوق؟ الجواب: قال في (كتاب الأذكار): باب نهي الولد، والمتعلّم والتّلميذ أن ينادي أباه، أو معلّمه، أو شيخه باسمه. رويناه في كتاب ابن السّنِي عن أبي هريرة أنّ رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- رأى رجلًا معه غلام، فقال: "يا غلام مَن هذا؟ "

قال: أبِي. قال: "لا تَمْش أمامه، ولا تستبر* له، ولا تجلس قبله، ولا تدعه باسمه". قلت: معنى "لا تستبر* له"، أي: لا تفعل فعلًا تتعرّض فيه إلى أن يسبك زجرًا وتأديبًا على فعلك القبيح. وروينا فيه عن عبد الله بن زحر قال: كان يقال من العقوق أن تدعو أباك باسمه، وأن تمشي أمامه في الطّريق. انتهى. وأمّا القرابة غير الوالدين فلا أعلم بندائهم بأسمائهم بأسًا. الثالثة عشرة: هل يجوز التّفرقة بين المملوكة وولدها في البيع أم لا؟ الجواب: لا يجوز التّفريق بين ذوي رحم محرّم قبل البلوغ لقوله -صلّى الله عليه وسلّم-: "مَن فرَّق بين والدة وولدها فرّق بينه وبين أحبّته يوم القيامة". حديث حسن. الرّابعة عشرة: هل يفتقر غسل النّجاسة إلى عددٍ أم لا؟ الجواب: أمّا نجاسة الكلب والخنْزير وما تولد منهما إذا أصابت غير الأرض فيجب غسله سبعًا إحداهن بالتّراب سواء من ولوغه أو غيره؛ لأنّهما نجسان وما توالد منهما؛ لقوله -صلّى الله عليه وسلّم-: "إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبعًا". متّفق عليه. ولمسلم: "أولاهن بالتّراب". وأمّا النّجاسة على الأرض فيطهرها أن يغمرها في الماء، ويذهب عينها ولونها لقوله -صلّى الله عليه وسلّم-: "صبوا على بول الأعرابي ذَنوبًا من ماء". متّفق عليه. وأمّا باقي النّجاسات ففيه عن أحمد ثلاث روايات: الأولى: تغسل سبعًا. والثّانية: ثلاثًا. والثّالثة: تكاثر بالماء حتّى تذهب عينها ولونها من غير عددٍ لقوله -صلّى الله عليه وسلّم-: "اغسليه بالماء". ولم يذكر عددًا، وهو مذهب الشّافعي واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية، وهو المفتى به عندنا. الخامسة عشر: إذا تكلّم المصلّي في نفس الصّلاة أو تنحنح هل تبطل صلاته أم لا؟

_ * كذا في الأصل المطبوع، والصواب: (لا تَسْتَسِبَّ). [معد الكتاب للمكتبة الشاملة]

الجواب: إن تكلّم فيها عمدًا لغير إصلاحٍ بطلت بالإجماع وإن تكلّم ناسيًا أو جاهلًا بتحريمه لم تبطل في إحدى الرّوايتين عن أحمد، وهو مذهب الشّافعي، لحديث معاوية بن حكيم حيث تكلّم في صلاته ولم يأمره بالإعادة، وكذلك إن تنحنح لم تبطل، وقيل: إن بان حرفان بطلت. السّادسة عشرة: هل يحل عرض أحدٍ من المسلمين أم لا؟ الجواب: الغيبة محرّمة بالإجماع، وهي ذكرك أخاك بما يكرهه لو كان حاضرأ. ويباح منها ستة أسباب: الأوّل: التّظلّم فيجوز للمظلوم أن يقول لِمَن له قدرة: فلان ظلمنِي، أو فعل بِي كذا ونحو ذلك. الثّاني: الاستعانة على تغيير المنكر وردّ العاصي إلى الصّواب، فيقول لِمَن يرجو قدرته على إزالة المنكر: فلان يعمل كذا، فازجره عنه. الثّالث: الاستفتاء، بأن يقول للمفتي: ظلمنِي أبي، أو أخي، أو فلان بكذا، ونحو ذلك، فهذا جائز للحاجة. الرّابع: تحذير المسلمين من الشّرّ ونصيحتهم، فمنها: جرح المجروحين من الرّواة والشّهود، ومنها: إذا تشارك إنسان في مصاهرة أو معاملة ونحو ذلك فيجب عليك أن تذكر له ما تعلم منه على وجه النّصيحة. ومنها: إذا رأيت مَن يشتري سلعة معيبة فعليك أن تبيّن للمشتري، وهذا على كلّ مَن علم بالعيب وجب عليه تبيانه. الخامس: أن يكون مجاهرًا بالفسق أو ببدعة، كالمجاهرة بشرب الخمر وخيانة الأموال ظلمًا وتولي الأمور الباطلة فيجوز ذكره بما يجاهر به، ويحرم ذكره بغيره من العيوب إلّا أن يكون لجوازه سبب آخر. السّادس: التّعريف إذا كان الإنسان معروفًا بلقبٍ كالأعرج

2 - من حمد بن ناصر إلى الإخوان: جمعان ومرزوق

والأعمى ونحوهما، جاز تعريفه بذلك بنيّة التّعريف لا التّلقيب. فهذه السّتة ذكرها العلماء مما تباح الغيبة، ودلائلها مشهورة في الأحاديث. تَمَّت فرحم الله مَن نظر فيها، وأصلح خلل ألفاظها ومعانيها بعد التّحقيق، فإنّ الإنسان لا يعصم من الخطأ والنّسيان. وصلّى الله على محمّد وآله وصحبه وسلّم - 2 - بسم الله الرّحمن الرّحيم من حمد بن ناصر إلى الإخوان: جمعان ومرزوق حفظهما الله تعالى. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد؛ وصل الخط أوصلكما الله إلى رضوانه. والمسائل وصلت لكن إحدى الورقتين ضاعت قبل النّظر فيها. والجواب عنها، وهذا جواب الموجودة: المسألة الأولى: في الخلية والبرية والبائن في الكنايات في الطّلاق، هل تقع ثلاثًا أم واحدة؟ فهذه المسألة اختلف الفقهاء فيها، وأكثر الرّوايات عن أحمد كراهة الفتيا في هذه الكنايات الظّاهرة مع ميله إلى أنّها ثلاث. وحكى ابن أبي موسى عنه روايتين: إحداهما: أنّها ثلاث. والثّانية: يرجع إلى ما نواه. وهو مذهب الشّافعي. قال يرجع إلى ما نوى، فإن لم ينو شيئًا وقعت واحدة. واحتج بحديث ابن عبد يزيد، وقال الثّوري وأصحاب الرّأي إن نوى ثلاثًا فثلاث، وإن نوى ثنتين أو واحدة وقعت واحدة ولا تقع اثنتين. وقال ربيعة ومالك يقع بها الثّلاث. وإن لم ينو إلّا في خلعه أو قبل الدّخول، فإنّها تطلق واحدة. لأنّها تقتضي البينونة وهي تحصل في الخلع وقبل الدّخول بالواحدة وفي غيرهما تقع الثّلاث. فهذه مذاهب الأئمة في هذه المسألة. والله أعلم.

وأمّا المسّالة الثّانية: إذا ملّك الزّوج امرأته أمرها بأن قال لها: أمرك بيدك؟ فالمشهور أنّ القضاء ما قضت، فإن طلّقت نفسها ثلاثًا وقع، وإن نوى أقلّ منها. يروى ذلك عن عثمان وابن عمر وابن عبّاس. وبه قال سعيد بن المسيب وعطاء والزّهري، وروي عن عمر وابن مسعود أنّها طلقة واحدة. وبه قال عطاء ومجاهد والقسم وربيعة ومالك والشّافعي. قال الشّافعي: القول قوله في نيّته. وعن أحمد ما يدلّ على ذلك، وأنّه إذا نوى واحدة فهي واحدة. المسألة الثّالثة: أنت عليّ كظهر أمِّي أعنِي به الطّلاق؟ فهذا لفظ الظّهار لا يكون طلاقًا، ولو نوى به الطّلاق أو صرّح به، ويكون عليه كفارة ظهار. المسألة الرّابعة: هل العارية مضمونة وإن لم يشترط المعير الضّمان؟ فالمسألة فيها خلاف مشهور ... 1 على الظّن أنّا لم تقع وكثير منها عبارات تنقل من بعض الكتب، ويحملنا هذا على التّغافل عن الجواب. وترى ودي أنّكم ما تسألون إلّا عن الواقع، وأيضًا لا تكثروا عدد المسائل فإنّ الطّول يملّ ولا يأيتكم على المسائل الكثيرة جواب يشفي، فإذا قلت المسائل وصارت من المسائل الواقعة فهو أحرى بسرعة الجواب وبسطه بدليله وتعليله وأنتم في حفظ الله وأمانه. والسّلام. وبقي مسألة وهي هل يعتبر في البيّنات كثرة العدد واشتهار العدالة أم لا؟ قال في المغني: ولا ترجح إحدى البيّنتين بكثرة العدد ولا اشتهار العدالة.

_ 1 هنا بياض في الأصل.

3 - من حمد بن ناصر إلى الأخ جمعان

وبهذا قال أبو حنيفة والشّافعي. ويتخرّج أن ترجح، وهو قول مالك؛ لأنّ الشّهادة إنّما اعتبرت لغلبة الظّنّ بالمشهود به، وإذا كثر العدد أو قويت العدالة كان الظّنّ أقوى. ولنا أنّ الشّهادة مقدرة في الشّرع فلا تختلف بالزّيادة كالدّية فصار الحكم متعلّقًا بها دون اعتبار الظّنّ، ألا ترى أنّه لو شهد النّساء منفردات لا تقبل شهادتهن، وإن كثرن حتّى صار الظّنّ بشهادتهن أغلب من شهادة الذّكرين، وعلى هذا لا يرجّح شهادة الرّجلين على شهادة الرّجل والمرأتين في المال؛ لأنّ كلّ واحدةٍ من البيّنتين حجّة في المال، فإذا اجتمعا تعارضا، فأمّا إن كان لأحدهما شاهدان وللآخر شاهد فبذل يمينه معه ففيه وجهان: أحدهما: يتعارضان. والثّاني: يقدّم الشّاهدان؛ لأنّهما حجّة متّفق عليها، والشّاهد واليمين مختلف فيها. وهذا الوجه أصحّ إن شاء الله تعالى. انتهى كلامه رحمه الله. والله أعلم. - 3 - بسم الله الرّحمن الرّحيم من حمد بن ناصر إلى الأخ جمعان حفظه الله تعالى. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد؛ الخط وصل وصلك الله إلى رضوانه. وأمّا ما ذكرت من المسائل فمن جهة تقدير نصاب الذّهب في الزّكاة فالنّصاب عشرون مثقالًا وحررناه تقريبًا سبعة وعشرين زرًا بزرور النّاس العابرة بينهم اليوم، ونصاب الفضّة مئتا درهم وحررناها أحد وعشرين ريالًا من ريالات النّاس التي يعاملون بها اليوم وهي من الجدد قدر مائة جديدة تزيد قدر خمس جدد، فإذا صار عند المسلم من هذا

4 - ما تقول السادة العلماء الجهابذة الحكماء ورثة الأنبياء الأواخر والقدماء في مسائل سأل السائل عنها

ما ذكرنا زكّاه إذا حال عليه الحول، ونصاب العيش قدر مائتين وستّين بصاع العارض. وما سألت عنه من صفة الخل، فيذكر أهل العلم أنّه يعمل من التّمر أو العنب أو غيرهما، ويطرح فيه ملح أو شيء حامض حتّى لا يتخمّر ويذكرون أنّ هذا صفة الخل المباح. وعندنا ناس يعملونه على ما ذكرنا لك. وأمّا علامة القطنية فإذا غطيت بخرقة قطن أو صوف وخيطت عليها من داخل العبات ومن ظاهرها فلا بأس؛ لأنّها تصير حشوًا، وما ذكرت من جهة الذي يفوته ركعتان من المغرب فهو إذا قام يقضي صلّى ركعة وجلس وتشهّد، ثم قام وصلّى الرّكعة الثّالثة. هذا هو الذي عليه العمل. والله أعلم. - 4 - بسم الله الرّحمن الرّحيم الحمد لله ربّ العالمين، وصلّى الله على نبيّنا محمّد وعلى آله وصحبه أجمعين. ما تقول السّادة العلماء الجهابذة الحكماء ورثة الأنبياء الأواخر والقدماء في مسائل سأل السّائل عنها وطلب ذلك من أهله من الباذلين له فضلًا، وتكرمًا لا زالوا بعون الله مسدّدين بالقول والفعل، ومغفور لهم ما اجترحوه من الكبائر على الإطلاق واللمما، وقذف في قلوبهم من النّور السّاطع المذهب عنها الظّلم والظّلمة والعمي. وصلّى الله على أشرف الخلق مطلقًا عربًا وعجمًا، وعلى آله وصحبه ما قهقه سحاب ومطرهما وحياهم بأكرم التّحيّات وسلمًا فنقول: الأولى: إذا زوّج ولي أو نحوه موليته وهو معلن بالظّلم في مال النّاس وغيره أو الشّاهدان وتاب مَن وجد ذلك فيه في مجلس العقد ولا نعلم ما في حقيقة قلبه، لكن الظّاهر منه طلبه صحّة ذلك، والحاصل من ذلك أنّ مظلمته التي عنده أو عليه لا يمكن ردّها في ذلك المجلس فهل

إذا كانت الحالة على هذه الصّفة يثبت النّكاح معها أم لا؟ الثّانية: إذا كنت ببادية أو نحوها واحتجت لِمَن أشهده على عقدٍ فالتمست عدلًا فلم أجده، فهل إذا اخترت مِمَّن أجد في نفسي ولو غير عدل لتعذر غيره وتكون شهادته مقبولة شرعًا أم لا؟ الثّالثة: إذا اشتريت خشب إثل ونحوه وهو قائم على أصله وشرطت على البائع إبقاءه في أرضه أو أطلقت فلم أشترط لكن أبقيته فلم اقطعه حتّى زاد فهل العقد والشّرط صحيحان أم باطلان أم الشّرط فقط؟ الرّابعة: إذا أوصى بشيء نحو حجّة في ماله فباع الوصي المال أو الوارث التّركة ولم تنفّذ الوصية وتعذر الرّجوع على البائع لإفلاسه أو نحوه، فهل تعيّن الوصيّة في التّركة التي وقع عليها عقد البيع كالدَّين فتلزم المشتري أم تبطل الوصية؟ الخامسة: إذا رهن إنسان عند إنسانٍ رهنًا وقال: أنا مقبضك هذا في دَينك فقبضه ولم يزد في الإيجاب على هذه الكلمة، فهل إذا وقع الإيجاب على هذا المنوال يثبت عقد الرّهن أم يلغى؟ السّادسة: إذا كان رجل موصى على يتيم أو نحوه وليس للموصى مسكن يسكن فيه ولليتيم بيت وسكنه الموصى بزوجته مع اليتيم وليس بفقيرٍ، فهل حكم سكناه هذه كسكنى الغاصب في الإثم وامتناع صحّة الصّلاة منه ومن نحو زوجته أم لا؟ السّابعة: ليف النّخل الموقوف ومزقه وجماره وخشبه وسعفه ونحو ذلك، هل هو نماء فيستحقّه مستحقّ النّماء أم لا؟ الثّامنة: هل يسوغ التّقليد في نحو عقدٍ واحدٍ، أو صلاةٍ واحدةٍ،

أو في مسألتين لنحو إمامين كالشّافعي وغيره في نحو أكل لحم الجزور وأبي حنيفة في نحو مسّ الذّكر أم لا؟ التّاسعة: إذا قتل نسان إنسانًا ووجبت عليه الدّية وكانت محدّدة في اصطلاح النّاس حينئذٍ وليست بدية الشّرع الذي حدّه الشّارع فهل إذا سلّمها القاتل أو وارثه من بعده تامّة والورثة أي: ورثة المقتول فيهم نساء وضعفاء وفيهم عكسهم، فهل إذا فضل العكس بزيادة لخوف منه أو غير ذلك لكن هو من سبب القتل هل يشترك معه الباقون أم يختصّ به دونهم؟ العاشرة: إذا بعت لرجلٍ حديقة بمغنمها ومغرمها بجميع حدودها وحقوقها ولها مسيل أو نحوه وحصل في ذلك المسيل نحو رملٍ ليس بسبب أحد لكن بسبب السّيل والرّياح ونحوهما وربّما إنّه أو بعضه حصل على هذا السّبب أيّام ملكي لكن بغير فعلي، فهل إذا كان على هذا المنوال وأراد هو أي المشتري أو بعض شركائه إصلاح المسيل أو نحوه بإزالة رمل أو غيره، وطلب من البائع بعض الغرم أو جميعه لكون الرّمل أو بعضه حصل أيّام ملكه، فهل يمكن من ذلك شرعًا أم لا؟ لأنّ ذلك حصل بغير فعل أحدٍ فيكون حكم ذلك حكم أجزاء الأرض والأحجار التي فيها، ولكونه مالكًا أي المشتري حال نفعها فلزمه الغرم في مقابلة الغنم. الحادية عشرة: إذا ساق إنسان إناسًا على نخل بجزء من تمره بعدد أدوار معلومة وجذت الثّمرة قبل كمال الأدوار، فهل الخيرة في قيمة ما بقي من الأدوار إلى المالك فإن شاء أخذ قيمتها من الثّمرة أو زادهم أو غير ذلك من سقيه له بعد الجذاذ وغير ذلك أم هي إلى العامل أم كيف الحكم؟ الثّانية عشرة: إذا شهد شاهد أو تصرّف ولي فيما تعتبر العدالة فيه،

أي: فيما صدر منهما ثم حصل مشاجرة فأوجب الشّرع لصحّة الشّهادة وتصرّف الولي العدالة فيهما فهل يقبل على الخصم جرحهما نفسهما أنّهما حين صدور الشّهادة والتّصرّف منهما ليسا بعدلين أم لا يقبل جرحهما أنفسهما على الخصم المشهود له والمتصرّف له إذ الحق ثبت له أوّلًا بسببهما فلا يملكان إبطاله أيضًا أم كيف الحكم؟ الثّالثة عشرة: إذا كان ثم أرض موقوفة على معيّن واستحقّ إنسان ريعها في بعض الأزمنة فغارس المستحقّ للرّيع ذلك ونظره آخر بجزء من الغراس كنصفه أو ثلثه على حسب ما يتّفقان عليه، ثم بعد ما غرس العامل وثبت الغراس باع ذلك المغارس نصيب الأرض أي الجزء المشروط أو غيره من المستحقّين، فهل هذا البيع سائغ شرعًا أم لا؟ وهل إذا ساغ ثم حدث مستحقّ آخر يستحقّ الرّيع هل له على المشتري شيء سوى الأجرة، وهل حكم من حدث من أهل الوقف في جواز بيع ذلك الجزء المشروط لهم وعدمه لأحد أم لا؟ الرّابعة عشرة: إذا ساقيت رجلًا على حديقة لي فنضب ماء بئره ولا يمكن سقيه إلّا من بئر آخر فكيف الحكم في ذلك؟ الخامسة عشرة: إذا كان لي مال من الأموال الزّكوية مطلقًا ويتعبني تنضيضه بالحساب أو تقويمه أو خرصه، فهل إذا استضررت واحتطت وأخرجت الفرض بيقينٍ يكفي ذلك أم لا بد من تحرير الحساب في التّقويم والخرص؟ السّادسة عشرة: إذا كان ثم مزبلة قد ملئت من الزّبالة وتعذر معرفة أربابها وربّما أنّ ضررها تعدّى على جيرانها، فهل يسوغ لرؤساء

البلد إجارتها وصرف تلك الأجرة على المصالح كالمؤذّن والمدرِّس ونحوهما أم لا؟ السّابعة عشرة: إذا أوصى إنسان آخر على أولاده يقوم بأمرهم ويحفظ مالهم حتّى يرشدوا وأوصى الموصي للوصي بنحو غلة عقاره إلى أن يرشد الأولاد، ثم بعد ما يرشدوا لا شيء له؛ لأنّ تلك الوصية في مقابلة قيامه بأمرهم وحفظ المال وغير ذلك، فهل إذا أرشد أحد منهم وطلب حصته من جميع غلة عقاره وقال للوصي: إنّ والدي لم يوص لك بذلك إلّا في مقابلة عملك فيريد مَن أرشد منا وسقط عمله هو وماله عنك يسقط لك من الجزء المشروط بقدره. مثل ذلك: إذا كان للموصي ثلاثة بنين وأوصى للوصي بربع ماله فصحّ له ثلاثة من اثني عشر لكلّ ابن ثلاثة، فلمّا أرشد منهم واحد قال أريد سهمًا من الثّلاثة التي في يدك؛ لأنّ عملك عليّ وعلى مالي قد سقط والثّاني كذلك، فهل ذلك لهم أم يستحقّه الموصى إليه حتّى يرشد آخرهم؟ الثّامنة عشرة: إذا قال رجل لزوجته: أنت شيخة روحك فقالت هو طلاقي ثلاثًا هكذا، فهل تبين بذلك أم لا يقع إلّا بما حكى صاحب الإنصاف والإقناع وغيرهما عن صاحب الرّوضة؟ التّاسعة عشرة: إذا كان بينِي وبين شريكٍ لي نحو أربعة حيطان مشاعة بيننا فباع نصبه من آخر في الجميع صفقة واحدة ومن تلك الأربعة واحد أو اثنان على انفراد كلّ واحدٍ منهما تصحّ فيه الشّفعة لعدم الضّرر في القسمة وإجبار مَن امتنع عنها فيهما أو أحدهما، فهل يستحقّ الشّفيع أخذ ما لا ضرر في قسمته بقدره من الثّمن كما لو باع شقصًا وسيفًا؛ فإنّه

يأخذ الشّقص بقيمته. صرح به في الإقناع. العشرون: إذا وهب إنسان مثله نخلًا أو أرضًا واستثنى غلة ذلك مدّة حياته أو مدّة معلومة، فهل تبطل الهبة والاستنثاء معًا أم تصحّ هي فقط ويلغى الاستثناء؟ الحادية والعشرون: إذا قال إنسان لآخر له عليه دراهم أو نحوها أنا مفضل لك مالي على فلان عن الذي لك عليَّ، فهل تكون هذه حوالة أم لا؟ الثّانية والعشرون: إذا كان بينِي وبين شريكٍ لي بئر وأراد أن يسقي عليها في نوبته على حمير أو نحوها ولا شكّ ولا ريب أنّهن ينجسن اللّزاء مصب الماء ومجاري الحبال، وذلك عندي وعنده وعند غيرنا حقيقة، فهل أمنعه عن ذلك أم لا؟ الثّالثة والعشرون: إذا دفعت إلى رجلٍ نقدًا كان له عليّ فيما مضى ثم خرج عن يده ثم ردّ إليه بعيبٍ وأراد ردّه عليَّ ولم أعلم، هل هو إيّاه أم لا، فهل يمينِي له مع إنكاري على البت أم على نفي العلم؟ الرّابعة والعشرون: إذا اشتريت حيوانًا أو متاعًا ووجدت به عيبًا ونويت غير إشهاد بالمطالبة بالأرش واستعملته فهل أصدق بيمين في نيّتِي أم لا بدّ من الإشهاد وإلّا لم أملك الرّدّ بعد ما استعملت المبيع؟ الخامسة والعشرون: إذا وضعت السّكين ونحوها في النّار وخرجت حامية وغمستها في ماء نجس أو قديت بها نحو خارجة إذا قد امتلئت قيحًا، فهل تطهر بعد ذلك أم لا؟ السّادسة والعشرون: إذا ادّعى إنسان على مورثه عينًا أو دَينًا في مرض ذلك المورث فتوجّهت عليه اليمين لعدم البيّنة فنكل، فهل تثبت

العين المدعاة أو الدَّين مع الحكم بنكوله أم لا للتّهمة؟ السّابعة والعشرون: إذا أوصى إنسان بوقف ثلث ماله أو وقفه في حياته وفي ذلك المال أثمان ومواشي وأواني وأثاث ومطعوم من نحو مكيل وموزون ونحو ذلك، فكيف العمل في ذلك؟ الثّامنة والعشرون: إذا اشترك رجل وآخرون في زرعٍ ونحوه وله أيضًا شركاء أخر وشركاء أخر أيضًا وطلب منه كلهم سقي الزّرع في نوبة واحدةٍ، وربّما أنّ الشّركاء اتّفقوا على نوبةٍ واحدةٍ، وربّما إنّ الشّركاء اتّفقوا على نوبةٍ مقيّدة بيومٍ، لكن استعجل بعضهم أو جميعهم عن النّوبة المقدّرة وطلبوا جميعًا منِّي العمل في وقتٍ واحدٍ فشقّ ذلك عليّ، فهل إذا كان يقينًا أنّه إذا ترك إليّ نوبته أنّه لا ينقص ومع السّقي فالظّاهر أنّه يزيد، فهل يجبرونَنِي على السّقي أم لا يجبرونَنِي إلّا على السّقي مثله في نوبته؟ التّاسعة والعشرون: ما كيفية قبض المتهب والمتملّك لمال ولده في العقار فيهما؟ الثّلاثون: إذا وقف إنسان على جهة باسم مشترك وتعذّر عليه الوصول إلى تمييز تلك الجهة عن الأخرى، ولم يكن ثم قرينة دالّة ولا غيرها، بل أبهم ذلك من أصله، فهل هذا الوقف باطل كالوصيّة صرح أنّه إذا أوصى لاسم مشترك وتعذر معرفته بصريحٍ أو قرينةٍ أنّ الوصية تبطل من أصلها، فيكون حكمه حكمها أم له حكم في هذه مفرد عنها؟ الحادية والثّلاثون: إذا كان ثم مساقاة بئر وبها حمام كحمام ميناح جعل ذلك لكافة المسلمين لرفع الحدث وزوال الخبث ونحوهما، وتلك البئر وما حولها فوقه غما لدفع الأذى عن الآتي إليها، ففي الصّيف عن

حرّ الشّمس ونحوها وفي الشّتاء عن المطر ونحوهما، وكان إذا قصده باللّيل تضرّر بظلمته وربما أنّه يقع في الماء المستنقع من حيث لا يدري أو ينْزع بالدّلو عن البئر فيصبه لسبب ذلك في غير مصبّه المعدّ للمصبّ وغير ذلك من المصاب، فلمّا رأى بعض النّاس هذه الضّرورة الشّاقّة على المسلمين وقف وقفًا يصرف ريعه في سراج معلّق في ذلك الموضع ليضيئه فيهتدي المتوجّه لذلك المكان ويبصر كلّ موضعٍ يحتاجه، فهل إذا كان الوقف على هذا المنوال هو صحيح مثاب فاعله أم باطل آثم فاعله؟ إذا كان بعض المتشبهين بالفقهاء وأظنّه من جهالهم قال هذا وقف باطل فقيل له: لِمَ ذلك؟ فقال: لعدم القربة؛ حيث اعتبرت شرعًا فقيل له: وما ذلك؟ فقال: إنّ القنديل إذا أضاء بالمكان رأى النّاس عورات بعضهم بعضًا، فقال له معارضه: هذا منك قول وقياس فأبعد، وليس لمثلك هذا، فإنّ مَن طلب الاستتار عن النّظر المحظور شمله الحياء إذ العورة في ضوء النّهار أبين لِمَن قصد اتّصال نظره إلى ما منع منه شرعًا، فليس هذا من قولك بعدم صحّة الوقف وعدم ثواب فاعله في شيء، بل الواجب في مثل هذا أن يقال: الثّواب بحسب النّيّة مطلقًا فكيف الحكم في هذا؟ الثّانية والثّلاثون: إذا أتلف إنسان لإنسانٍ ثمرة وهي طلع أو بلح أو نحوهما أو زرعًا وهو قطن فكيف حكم ضمان ذلك المتلف على المتلف؟ الثّالثة والثّلاثون: إذا قال مريض لورثته: إن قال فلان له عليّ أنا مائة فهو صادق، ثم مات القائل فادّعاها فلان فهل هذا منه إقرار فتسلم إلى فلان أم لا؟ الرّابعة والثّلاثون: إذا كان لي شريكٌ في نحو نخل والنّخل له نوبة

معروفة مثل أن يسقي يومًا ثم يترك ثلاثة ثم يسقي، واصطلحت أنا وشريكي أن كل واحد منا يسقي شهرًا مثلًا في نوبته لا قبلها ولا بعدها فبدأت وسقيت النخل فلما انقضت وتوجهت نوبة النخل في مدة شريكي كلمته في سقيه فهو يقول أسقي غدًا ومضت مدة النخل المضروبة لسقيه وتركه فيها، فهل إذا ثبت هذا ومضت نوبة النخل أي ثلاثة الأيام مثلًا، فاستأجرت عليه من يسقي النخل ونويت الرجوع عليه بالأجرة يسوغ الشرع لي الرجوع عليه، وذلك مع حضوره وعدم امتناعه بالقول لا بالفعل؟ (الخامسة والثلاثون) إذا كان ثم حديقة لرجل سدسها مثلًا ولآخر سدسها وللثالث سدسها أو نصفها وقف على معين يستحقه عشرة أشخاص وباع واحد من أهل المطلق نصيبه فشفع شريكاه على المشتري فهل يقال في نصيب أهل الوقف وهو النصف تقسم الحديقة على عدد رءوس أهل الوقف كأهل الطلق أم يكون النصيب الموقوف كنصيب واحد ولو استحقه عدد لأنه إن كان كذلك صحت المسألة من ستة، وإن كان بالعكس فمن ستين، وبينهما فرق ظاهر في وجوب الشفعة وعدمها. (السادسة والثلاثون) إذا كنا نحو أربعة إخوة تحت يد أبينا وجميعنا يستحق أخذًا من الزكاة، فهل إذا دفع أحدنا فطرته لأخيه، ثم دفعها الثاني إلى الثالث، ثم الثالث كذلك إلى الرابع وهو الدافع الأول هل يسوغ هذا أم لا؟ (السابعة والثلاثون) إذا كان بيني وبين إنسان حائط قائم على أصله لكن تآكل وجه أساسه الذي من جهتي بسباخ ونحوه، فهل أجبره على إصلاح أساسه أم لا؟ وهل إذا لم أجبره وكان فوق ذلك الجدار خشب

لثالث وخشي إن انهدم بسبب تآكل أساسه أن يتلف عليه شيء فهل يجبر صاحب العلو صاحب الأسفل على إصلاح أساسه أم لا إجبار بعد الانهدام؟ الثّامنة والثّلاثون: إذا وقف إنسان عقارًا ونحوه وشرط أنّ ريعه يجعل في مسجدٍ معيَّنٍ سماطا في زمن معيّن نحو شهر رمضان على مَن حضر في ذلك المكان والزّمان، وليس ثم استحقاق مقدّر بل مطلق بحسب ما يرى النّاظر، فهل إذا حصل غلة من الوقف في يد النّاظر وتيقن أنّه يبقى من تلك الغلة بقية بعد مضي الزّمن المقدر، فهل يسوغ للنّاظر أن بجبر على صرف البقية إلى مسجد آخر محتاج وهو في ناحية البلد في ذلك الزّمن؛ لأنّه إذا أراد مدّه إلى العام المقبل اعترته الآفات من سوس ونقص وتلف وغير ذلك أم لا يسوغ له سوى الإرصاد أو البيع وإرصاد الثّمن؟ التّاسعة والثّلاثون: إذا قالت امرأة: خلِّنِي وأعطيك مائة، فقال: خلعتك. فقالت: لم أبذل لك العوض إلّا على الطّلاق فقط، فهل يقبل قولها فلا يقع الخلع ولا يستحقّ عليها العوض المبذول أم لا يقبل قولها؛ لأنّ مرادها الفراق بإبانة وقد حصلت، فلا مزية ولا فائدة للفظ الطّلاق بدلًا عن الخلع أم كيف الحكم في ذلك؟ الأربعون: إذا ادّعى إنسان على إنسانٍ عينًا في يده وأنكر المدّعى عليه فأقام المدّعي بيّنته أنّ آل فلان عمومًا أو فلانًا خصوصًا اغتصبها من المدّعي وليس مَن هي في يده من الأوّل ولا المعين، لكن إنّما انتقلت إليه من أحدهم أو مِمَّن انتقلت إليه منهم، فهل تكلّف البيّنة أن تشهد لها في ملكه إلى الآن أم يكتفى بشهادتها في صفة خروجها عن يد المدّعي ويكون للمدّعى عليه حكم الغاصب نفسه ولو لم يكن غصب ولا علم أنّها

غصبت، فهل تنْزع من يده على هذا المنوال أم إذا أدعها ملكه أي: المنكر تقبل؛ لأنّه لا يعلم لها غاصبًا، وربّما أنّه لا يعلم مَن انتقلت إليه منه أم يكفي الحكم في ذلك؟ والحمد لله أوّلًا وآخرًا. وصلّى الله على محمّد وآله وصحبه باطنًا وظاهرًا. فأجابه -رحمه الله تعالى-: الحمد لله المسؤول الهدى والسّداد: الأولى: نعم. إذا تاب الوليّ أو الشّاهد في مجلس العقد صحّ ذلك وقبل منهما وصاروا كمستور قبل ردّ الظّلامة. الثّانية: تولية الأمثل فالأمثل في الأعمال المعتبر فيها العدالة عند عدم العدل والإشهاد في العقود جائز، ولا يستقيم أمر النّاس بدونه كالإشهاد في الأماكن التي يتعذر فيها العدل. صرح بذلك جماعة منهم شيخ الإسلام ابن تيمية والمذهب لا. الثّالثة: إذا أخّر قطع الخشب مع شرطه فنما وغلظ فالبيع صحيح، ويشتركان في الزّيادة، ومع عدم شرط القطع البيع أيضًا صحيح، والكلّ للمشتري إلى وقت قطعه المعتبر عند أهله. الرّابعة: إذا باع الوصي المال الموصى به أو الوارث لزم البائع الضّمان؛ لأنّه لا يصحّ أن يبيع بمؤجّل إن تلف المبيع الموصى به، ومع وجوده البيع فاسد؛ لأنّ الوصيّ لا يجوز له بيعه بمؤجّل كالوكيل. الخامسة: قول الرّاهن: أنا مقبضك، وقول المرتهن: أنا قابض، كل ذلك صحيح لازم لكونه لسان أهل العصر لا نزاع في ذلك وفي مسائل غير ذلك. السّادسة: إذا كان غنيًّا ولم تكن سكناه ببيت اليتيم في مصلحةٍ ظاهرةٍ لليتيم فمقامه هو وزوجته مقام الغاصب حذو القذة بالقذة.

السّابعة: الذي يظهر أنّ فسيل الوقف المضرّ الذي لا يرتجى كونه نخلة صالحة أنّه هو اللّيف غير المضرّ حكمه حكم الأغصان اليابسة. الثّامنة: التّلفيق في التّقليد في واقعةٍ واحدةٍ لا يجوز، فالتّقليد في أكل لحم الجزور وفي مسّ الذّكر، صلاة المقلد صحيحة؛ لأنّ ذلك ليس بتلفيق، إنّما هو كالمقلّد لأبي حنيفة وحده، لأنّ أكل لحم الإبل غير ناقض عند الثّلاثة، وإنّما التّلفيق الباطل كالذي يقلّد أبا حنيفة في مسّ الذّكر والإمام أحمد في دم يسير لحقه بعد الوضوء ونحو ذلك؛ لأنّه صلاة باطلة عند الإمامين: أبي حنيفة بيسير الدّم وأحمد بمسّ الذّكر، هذا ونحوه هو التّلفيق. التّاسعة: أمّا دية العمد فإذا رضي أولياء المقتول بشيءٍ صحّ ويشترك فيه جميع الورثة كالميراث، إلّا أن يرضى أحد منهم بالتّفضيل لبعضهم أو يرضى القاتل بعد رضاء الكلّ بأن لا يزيد المخوف منه شيئًا من غير الذي تراضوا عليه؛ لأنّ العمد لا دية فيه والرّضا بالقليل والكثير سواء. وأمّا دية الخطأ فثابتة كثبوت الدَّين على العاقلة. العاشرة: الحاصل في العقار المبيع في أرضه ومسيله بحركة الرّياح والسّيول حكمه حكم الأحجار والأشجار الحادثة تدخل في البيع كالتّراب تلزم المشتري الحادث ولو كان حدثوه في أيّام من قبله من ملّاك العقار، أمّا إن رفع التّراب أو أزاله عن موضعه الذي هو فيه بفعل الله شخص فإنّ مَن رفعه يلزمه ضمان نقص ما أحدث في ملك غيره. وهذا بلا إشكال. الحادية عشرة: إذا ساقاه بعدد أدوار معلومة فبعد الجذاذ لا سقي إلّا بتراضيهما ومع التّسامح فليس للمالك إلّا قدر حسابه بما قبل الجذاذ من الأدوار؛ لأنّ الجزء المشروط إنّما حصل له في مقابلة الأدوار المشروطة

فإذا لم تكمل وجب ردّ ما قبلها من جزء العامل لكونه لم يستحقّه بالسّقي والشّرط صحيح لقوله -صلّى الله عليه وسلّم-: "المؤمنون على شروطهم إلّا شرطًا حرّم حلالًا أو حلّل حرامًا". الثّانية عشرة: أمّا ولي اليتيم إذا أقرّ بمبطل لتصرّفه في مال اليتيم كفسقه، فإن كان في ذلك حظ لموليه لم يبطل العقد بمجرّد جرحه لنفسه؛ لأنّه متّهم فلا بدّ من البيّنة، وإن كان الحظ لليتيم في ثبوت العقد وعدم الحظ في بطلانه قبل لعدم التّهمة، وأمّا الشّاهد فمتى جرح نفسه قُبِلَ قَبْلَ الحكم، وبعده لا، لكن لا يضمن. الثّالثة عشرة: إذا غارس النّاظر بأصل الاستحقاق أو غرس فيها وهي عليه وحده ثم حدث وارث فالظّاهر أنّ الحادث لا يقلع البناء والغراس، وإنّما يستحقّ تقدير أجرة الأرض من استحقاقه. الرّابعة عشرة: إذا نضب ماء البئر فحصل المالك الماء من بئر بعيدة كان للمساقي تفاوت ما بين البئرين. الخامسة عشرة: متى استظهر الإنسان زكاة ماله بيقينٍ برئت ذمّته من الزّكاة من غير كيلٍ ولا وزنٍ ولا عدٍّ ولا ذرعٍ؛ لأنّ المطلوب هو براءة الذّمّة، وكذلك حتّى في زكاة الفطر. السّادسة عشرة: نعم. المزبلة المضرّة يجوز لرؤوساء البلد أن يفعلوا بها كما يفعل الحاكم من بيع وإجارة وصرف ذلك في المصالح، بل هو أحسن من بقائها مضرّة. السّابعة عشرة: الوصية تصحّ مدّة معلومة ومجهولة، فإذا أوصى له بجزءٍ واحدٍ ذلك بالرّشد، فمن رشد لم يستحقّ ما قابله.

الثّامنة عشرة: لا يقع الطّلاق إلّا بما حكي عن صاحب الرّوضة، وهو موفق الدِّين ابن قدامة. رحمه الله تعالى. التّاسعة عشرة: كلّ بستانٍ معتبرٍ ضرره بنفسه لا يضاف إليه البستان المضرّ. العشرون: تصحّ هبة الشّيء واستثناء نفعه مدّة معلومة، لكن غلة العقار ليس من هذا القبيل في شيء لكونها معدومة مجهولة حينئذٍ، فتصحّ الهبة ويلغى استثناء الغلّة إلّا أن تكون الثّمرة موجودة وقت الهبة تشققت أم ظهرت بلا تشقّق. الحادية والعشرون: تصحّ الحوالة بكلّ لفظٍ متعارفٍ عند أهل تلك اللّغة. الثّانية والعشرون: نعم. نمنعه؛ لأنّ كلّ الأبوال نجسة عند أبي حنيفة إلّا بول الحمار، وعند الشّافعي مطلقًا وعند أحمد ومالك كلّ ما أكل لحمه فبوله طاهر وما لا فلا، فبول الحمار نجس عند الأربعة. الثّالثة والعشرون: إذا خرج عن يده لم يكن له إلّا يمين الذي دفعه ما علمت أنّ هذا هو النّقد الذي دفعت إليك. الرّابعة والعشرون: إذا وجد المشتري في المبيع عبيًا واختار الإمساك وأخذ الأرش فاستعمل صحّ ذلك وليس عليه أن يشهد عليه قبل استعماله أنّه يريد الأرش بل تكفي نيّته، ومتى اختلفا كان القول قوله في نيّته فيحلف بالله ما رضيت به بعد علمي بالعيب، وما استعملته إلّا بيّة أخذ الأرش. الخامسة والعشرون: إذا سقيت السّكين ماء نجسًا لم تطهر، والظّاهر أنّ هذا هو سقيها، فإن كان للسّقي كيفية غير هذا فما أدري. السّادسة والعشرون: إذا ادّعى الوارث على مورثه عينًا أو دَينًا ولا

بيّنة فنكل ولو في مرض الموت المخوف صحّ ذلك، ولو استغرق ماله كلّه بخلاف التّبرّع والوصيّة، لكن متى اتّهم حلف أنّ ذلك ليس بحيلة. السّابعة والعشرون: يباع الأثاث والأواني وما يصلح ويضاف إلى الأثمان ويشترى به؛ لأنّه مراد الواقف، ولا يستقيم الأمر بدونه وأمّا العقار فيترك على حاله يقف ثلثه. الثّامنة والعشرون: إذا كان الزّرع يزيده السّقي فلو لم ينقصه التّرك أجبر الممتنع. التّاسعة والعشرون: صفة قبضه صفة قبض المشتري سواء بسواء. الثّلاثون: الذي يظهر لي من هذه المسألة عدم صحّة الوقف إلحاقًا له بالمبهم. الحادية والثّلاثون: وأمّا وقف المصباح المذكور عمّا ذكرتم في السّؤال فقربة، والقائل إنّه غير قربة غير مصيب. الثّانية والثّلاثون: إذا أتلف الإنسان الثّمرة مع التّلقيح ونحوه أو تلف ولد الغرس ونحوها فكيفية ذلك أن يقال قيمة العقار مع ثمرته والغرس مع ولدها ألف مثلًا، ومع عدم ذلك ثمانمائة فيكون قيمة ذلك مائتين وعلى هذا فقس. الثّاثلة والثّلاثون: إذا قال: إن قال فلان فهو صادق، فليس بإقرار. الرّابعة والثّلاثون: الله أعلم. الخامسة والثّلاثون: إذا اتّحد الواقف فكالشّخص الواحد، ولو تعدّد المستحقّ، وإن كان الواقف متعدّدًا فكلّ واحد حكم نفسه. السّادسة والثّلاثون: إذا كان ذلك التّدافع بلا حيلة صحّ.

5 - وله -رحمه الله- جواب عن المسائل الآتية

السّابعة والثّلاثون: الذي يظهر لي أنّ الممتنع على إصلاح أس الحائط 1. الثّامنة والثّلاثون: نعم. يسوغ له اتّفاق الغلة التي يتحقّق لها تفضل إلى المسجد المحتاج لا إشكال في ذلك. التّاسعة والثّلاثون: الذي يظهر صحّة الخلع واستحقاق الزّوج للعوض وبينونة الزّوجة بما جرى بينهما وأنّه خلع صحيح مبين، ولا أثر لقولها في إبطال العوض بدعوى الطّلاق ولاسيما مع أنّ هذه هي اللّغة المتعارفة في هذا الزّمان. الأربعون: متى ثبت أنّ العين التي في يد مدّعيها ملكها الذي قبله بغصب وشهدت له بذلك بيّنة انْتزعها من صاحب اليد بشهادة البيّنة من غير أن تكلف البيّنة الشّاهدة بملكه حينئذٍ. والله سبحانه وتعالى أعلم. - 5 - بسم الله الرّحمن الرّحيم وله -رحمه الله- جواب عن المسائل الآتية:* الأولى: ما خيار المجلس وما صورته؟ الجواب: خيار المجلس يثبت للمتبايعين ولكلّ منهما فسخه ما داما مجتمعين، وهو قول أكثر أهل العلم كما في الصّحيحين عن ابن عمر عن النَّبِيّ -صلّى الله عليه وسلّم- أنّه قال: "إذا تبايع الرّجلان فلكلّ واحدٍ منهما الخيار ما لم يتفارقا وكانا جميعًا أو يخيّر أحدهما الآخر، فإن خيّر أحدهما الآخر فتبايعا على ذلك فقد وجب البيع، وأن تفرقا بعد أن تبايعا ولم يترك أحدهما البيع فقد وجب البيع". والمرجع في التّفرّق إلى عرف النّاس وعادتهم.

_ 1 هكذا في الأصل. * هذه 20 مسألة تكررت بعد ذلك في 5/ 795 - 801. [معد الكتاب للمكتبة الشاملة]

الثّانية: إذا تبايعا وشرطا أن ليس بينهما خيار مجلس؟ الجواب: يلزم البيع ويبطل الخيار لقول النَّبِيّ -صلّى الله عليه وسلّم- في حديث ابن عمر: "فإن خيّر أحدهما صاحبه فتبايعا على ذلك فقد وجب البيع"، يعنِي: لزم. قال في الشّرح: وهذا مذهب الشّافعي, وهو الصّحيح إن شاء الله لحديث ابن عمر. الثّالثة: إذا تواعد رجلان يبغي أن يكتب أحدهما على الآخر مائة جديدة وبعد ذلك جاءه بالدّراهم يريد أن يكتب عليه فقال بدا لي هل يلزم أم لا؟ الجواب: لا بدّ من قبض رأس مال السّلم في مجلس العقد، فإن تفرقا قبل قبضه لم يصحّ وهو مذهب أبي حنيفة والشّافعي، ومالك يجوّز أن يتأخّر قبضه يومين أو ثلاثًا أو أكثر ما لم يكن ذلك شرطًا. الرّابعة: إذا شرى رجل من آخر مائة صاع وواعده أن يكيلها الصّبح فلمّا أتاه قال: بدا لي وهو لم ينقد الدّراهم هل يلزمه أم لا؟ الجواب: يلزم البيع بمجرّد العقد ولا يوافق على فسخ البيع إلّا برضا المشتري، ولكن لا يجوز بيعه قبل قبضه لقوله -صلّى الله عليه وسلّم-: "مَن ابتاع طعامًا فلا بيعه حتّى يستوفيه". متّفق عليه. الخامسة: الإجارة والمساقاة هل هما عقد لازم أم جائز؟ وما معنى اللازم والجائز؟ الجواب: أمّا الإجارة فهي عقد لازم، وهو قول جمهور العلماء؛ لأنّها بمعنَى البيع، والمساقاة فأكثر الفقهاء على أنّها عقد لازم، واختاره الشّيخ تقيّ الدّين، وعند شيخنا أنّها عقد لازم من جهة المالك وعقد جائز من جهة العامل. وأمّا معنى اللازم والجائز، فاللازم هو: الذي لا يملك أحد من العاقدين من فسخه إلّا برضا الآخر، والجائز هو: الذي يفسخه بغير رضا صاحبه.

السّادسة: إذا باع رجل بعيرًا على آخر، وقال البائع: الثّمن عشرة، وقال المشتري: بل تسعة؟ الجواب: إذا اختلفا في قدر الثّمن ولا بيّنة لأحدهما تحالفا فحلف البائع أوّلًا ما بعته بكذا، وإنّما بعته بكذا ثم يحلف المشتري ما اشتريته بكذا، فإن تحالفا ولم يرض أحدهم بقول الآخر انفسخ البيع، وهو مذهب أبي حنيفة والشّافعي، ورواية عن مالك، وعن أحمد أنّ القول قول البائع أو يترادا البيع لما روى ابن مسعود عن النَّبّيّ -صلّى الله عليه وسلّم- أنّه قال: "إذا اختلف البيّعان وليس بينهما بيّة فالقول ما قال البائع أو يترادان البيع". رواه سعيد وابن ماجه. قال الزّركشي: وهذه الرّواية وإن كانت خفية مذهبًا فهي ظاهرة دليلًا، وذكر دليلها وما إليها. السّابعة: إذا أكرى رجل بعيرًا وقال صاحب البعير: الأجرة عشرة، وقال المكتري: الأجرة ثمانية. الجواب: إذا اختلفا في قدر الأجرة فهو كما إذا اختلفا في قدر الثّمن، كما تقدّم في المسألة التي قبلها نصّ أحمد على أنّهما يتحالفان، وهو مذهب الشّافعي. قال في الشّرح: وهو الصّحيح إن شاء الله. الثّامنة: إذا أكرى رجل بيتًا وقال صاحب البيت: أنا مكريك سنة، وقال المستأجر: أنا مستركي سنتين. فالجواب: القول قول المالك مع يمينه، قال في الشّرح: لأنّه منكر للزّيادة، فكان القول قوله بيمينه، كما لو قال: بعتك هذا العبد بمائة، وقال: بل هذا العبد بمائتين. التّاسعة: إذا تبايعا نخلًا وشرطا الخيار عشر سنين، وأخذ المشتري

العمارة في عشر هذه السّنين ويوم فكّ البائع النّخل هل العمائر تردّ على البائع أو تكون على المشتري يأخذها مع الدّراهم؟ الجواب: ما حصل من غلات المبيع ونمائه في مدّة الخيار فهو للمشتري أمضيا العقد أو فسخاه، لقول النَّبِيّ -صلّى الله عليه وسلّم-: "الخراج بالضّمان". قال التّرمذي: هذا حديث صحيح، وهذا من ضمان المشتري فيجب أن يكون له بمقالة ضمانه. العاشرة: إذا رهن رجل سلعة وضاعت وهو لم يفرّط فيها هل يسقط الدَّين أو الدَّين ثابت ولو ضاع الرّهانة؟ الجواب: إذا تلف الرّهن في يد المرتهن، فإن كان بتعدّيه أو تفريطه في حفظه ضمنه، قال في الشّرح: لا نعلم فيها خلافًا، فأمّا إن تلف من غير تعدٍّ منه ولا تفريطٍ فلا ضمان عليه، وهو من مال الرّاهن. يروى ذلك عن عليّ -رضي الله عنه-، وبه قال عطاء والزّهري والأوزاعي والشّافعي وأبو ثور وابن المنذر، فإن تلف بغير تعدٍّ ولا تفريطٍ لم يضمنه ولم يسقط شيئًا من الدَّين بل هو ثابت في ذمّة الرّاهن ولم يوجد ما يسقطه. الحادية عشرة: إذا ضمن رجل على آخر وادّعى المضمون عنه أنِّي أعطيت الضّمين. الجواب: لصاحب الحقّ أن يطالب مَن شاء من الضّمين أو المضمون عنه، وبه قال الشّافعي والثّوري وإسحاق وأصحاب الرّأي وأبو عبيد لقوله -عليه السّلام-: "الزّعيم غارم"، فإن أدّى المضمون عنه برئت ذمّة الضّامن بغير خلافٍ، وإن أدّى الضّامن الدَّين ونوى الرّجوع رجع على المضمون عنه لما أدّاه لصاحب الحقّ وهو مذهب مالك والشّافعي.

الثّانية عشرة: إذا أحال رجل على آخر عشرة دراهم مليء وقبله وبعد هذا أفلس المحال عليه هل ينحرف على صاحبه أم لا؟ الجواب: إذا أحاله على مليء برئت ذمّة المحيل ولم يعد الحقّ إليه سواء أمكن الاستيفاء أم لا؟ وبه قال اللّيث والشّافعي وأبو عبيد وابن المنذر؛ لأنّه أحاله على مليء برضاه وقبله ولم يكن له على المحيل رجوع بشرط أن تكون الحوالة صحيحة بشروطها. الثّالثة عشرة: ما معنى: تعارض البيّنتين؟ الجواب: معنى تعارض البيّنتين تساويهما من كلّ وجهٍ، فإذا أقام المدّعي بيّنة وأقام المدّعى عليه بيّنة وتساويا فقد تعارضتا، فإذا تعارضت بيّنتاهما سقطتا وكانا كَمَن لا بيّنة لهما. الرّابعة عشرة: ما معنى قولهم: بيّنة الدّاخل والخارج؟ الجواب: بيّنة الخارج بيّنة المدّعي، وبيّنة الدّاخل بيّنة المدّعى عليه. الخامسة عشرة: ما الفرق بين قسمة التّراضي والإجبار؟ الجواب: قسمة الإجبار هي التي لا ضرر فيها على أحدٍ من الشّركاء، ويمكن تعديل السّهام من غير ردّ عوضٍ، فإن كان فيها ضرر لم يجبر الممتع لقول رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم-: "لا ضرر ولا ضرار"، فإن كان فيها ردّ عوض فهي بمعنى البيع فلا يجبر عليها الممتنع، فإن لم تكمل هذه الشّروط فهي قمسة تراضٍ لا يجبر الممتنع عليها بل برضاه. السّادسة عشرة: إذا بنى رجل بيتًا وبنى فيه مدابغ وكنيفًا وبنى جاره بعده بيتًا وأقام التّالي بيّنة: إنّ كنيفك ومدابغك تضرّ بي؟ الجواب: إذا كانت المدابغ والكنيف سابقة على ملك جاره ولا

حدثت دار جاره إلّا بعد بناء الكنيف والمدابغ فلا تزال؛ لأنّها سابقة على ملك الجار والجار هو الذي أدخل الضّرر على نفسه، وفي إزالة ضرره ضررٌ بجاره؛ فلا يزال الضّرر بالضّرر إذا كانت المدابغ ونحوها سابقة على ملك الجار وإن أضرت بالجار. والله أعلم. السّابعة عشرة: إذا بنى رجل مدابغ أو كنيفًا وأقام الأوّل البيّنة أنّ هذه التي حدثت تضرّ بي؟ الجواب: يمنع الجار أن يحدث في ملكه ما يضرّ بجاره لقول النّبيّ -صلّى الله عليه وسلّم-"لا ضرر ولا ضرار"فإذا أراد أن يحدث في ملكه ما يضرّ بجاره فإنّه يمنع منه للحديث وهذه المسألة عكس الّتي قبلها في الصّورة والحكم. الثّامن عشرة: إذا مات رجل وجاء آخر إلى الوارث يدّعي أنّ له دينًا على الميّت وليس مع المدّعي شهود ما صفة يمين الوارث؟ الجواب: إذا لم يكن مع المدّعي بيّنة وأراد أن يستحلف الوارث، فإنّه يحلف على نفي العلم. قال في المغنِي: والأيمان كلّها على البت والقطع إلّا على نفي فعل الغير فإنّها على نفي العلم، فإذا حلف على مثال أن يدّعى عليه، أي: على غير دين أو غصب فإنّه يحلف على نفي العلم لا غير. التّاسعة عشرة: إذا ادّعى رجل على آخر بدعوى وليس عند المدّعي بيّنة ما صفة يمين المنكر؟ الجواب: يحلف المنكر على البت والقطع؛ لأنّ الأيمان كلّها على البت إلّا على نفي فعل الغير فإنّها على نفي العلم كما تقدّم في المسألة قبلها. العشرون: إذا تداعى اثنان ولا بيّنة معهما وصارت اليمين على المنكر فإن حلف قضي له، وإن أبى أن يحلف فهل يقضى عليه بنكوله أم يردّون

نقل من كتاب "حادي الأرواح" لابن القيم

اليمين على المدّعي؟ الجواب: ففيه قولان، هما روايتان عن أحمد: إحداهما: لا تردّ بل إذا نكل مَن توتجّهت عليه اليمين قضي عليه بالنّكول، وهو قول أبي حنيفة. والرّواية الأخرى: أنّ اليمين تردّ على المدّعي، فيقال له: ردّ اليمين على المدّعى، فإن ردّها حلف. انتهى. [نقل من كتاب "حادي الأرواح" لابن القيم] 1 وقال في (الباب السّبعون) من الكتاب المذكور، وقد ذكرنا في أوّل الكتاب جملة مقالة أهل السّنة والحديث التي اجتمعوا عليها كما حكاه الأشعري عنهم، ونحو نحكي إجماعهم كما حكاه حرب صاحب الإمام أحمد عنهم بلفظه. قال في مسائله المشهورة: هذا مذهب أهل العلم وأصحاب الأثر وأهل السّنة المتمسكين بها المقتدى بهم فيها من أصحاب رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- إلى يومنا هذا، وأدركت من علماء الحجاز والشّام وغيرهم عليها، فمَن خالف شيئًا من هذه المذاهب أو طعن فيها أو عاب قائلها فهو مخالف مبتدع خارج عن الجماعة زائغ عن منهج أهل السّنة وسبيل الحقّ. قال: وهو مذهب أحمد وإسحاق بن إبراهيم بن مخلد وعبد الله بن الزّبير الحميدي وسعيد بن المسيّب وغيرهم مِمَّن جالسنا وأخذنا عنهم، فكان من قولهم: أنّ الإيمان قول وعمل ونيّة وتمسّك بالسّنة، والإيمان يزيد وينقص، ويستثنى في الإيمان غير أن لا يكون الاستثناء شكًّا، إنّما هي سنة ماضية عند العلماء.

_ 1 وجدنا في الأصل المخطوط هذا الكلام بعد المسائل المتّقدمة وفي آخره أنّه منقول من كتاب "حادي الأرواح" فأثبتناه هنا تبعًا للأصل.

وإذا سُئِلَ الرّجل أَمُؤْمِنٌ أنت؟ فإنّه يقول: أنا مومن إن شاء الله، أو مؤمن أرجو، أو يقول: آمنت بالله وملائكته وكتبه ورسوله. ومَن زعم أنّ الإيمان قول بلا عملٍ فهو مرجئ. ومَن زعم أنّ الإيمان هو القول والأعمال شرائع فهو مرجئ. ومَن زعم أنّ الإيمان يزيد ولا ينقص فقد قال بقول المرجئة. ومَن لم يرَ الاستثناء في الإيمان فهو مرجئ. ومَن زعم أنّ إيمانه كإيمان جبرائيل والملائكة فهو مرجئ. ومَن زعم أنّ المعرفة تقع في القل وإن لم يتكلّم بها فهو مرجئ. والقدر خيره وشرّه قليله وكثيره، وظاهره وباطنه، وحلوه ومرّه، ومحبوبه ومكروهه، وحسنه وسيّئه، وأوّله وآخره من الله -عزّ وجلّ- قضاء قضاه على عباده وقدره عليهم لا يعدو واحد منهم مشيئة الله ولا يجاوزه قضاء، بل هم كلّهم صائرون إلى ما خلقهم له واقعون فيما قدر عليهم، وهو عدل منه جلّ ثناؤه وعزّ شأنه، والزّنا والسّرقة وشرب الخمر وقتل النّفس وأكل المال المحرّم والشّرك والمعاصي كلّها بقضاء الله وقدر من الله من غير أن يكون لأحدٍ من الخلق على الله حجّة بل لله الحجّة البالغة على خلقه، {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ}، [الأنبياء: 23]. وعلم الله -عزّ وجلّ- ماضٍ في خلقه بمشيئةٍ منه قد علم من إبليس ومن غيره من لدن عصى الله تبارك وتعالى إلى أن تقوم السّاعة المعصية، وخلقهم فكلّ يعمل لما خلق له، وصائر إلى ما قضي عليه، لا يعدو واحد منهم قدر الله ومشيئته. والله الفعال لما يريد. ومَن زعم أنّ الله سبحانه شاء لعباده الذين عصوه الخير والطّاعة، وأنّ العباد شاؤوا لأنفسهم الشّرّ والمعصية فعلوا على مشيئتهم فقد زعم أنّ

مشيئة العباد أغلب من مشيئة الله تعالى وأي افتراء على الله أكبر من هذا. ومَن زعم أنّ الزّنا ليس بقدره قيل له أرأيت هذه المرأة حملت من الزّنا وجاءت بولد هل شاء الله أن يخلق هذا الولد، وهل مضى في سابق علمه؟ فإن قال: لا. فقد زعم أنّ مع الله خالقًا. وهذا الشّرك صراحًا. ومَن زعم أنّ السّرقة وشرب الخمر وأكل المال الحرام ليس بقضاء الله ولا قدره فقد زعم أنّ الإنسان قادر على أن يأكل رزق غيره، وهذا صريح قول المحبوسية، بل أكل زرقه الذي قضى الله أن يأكله من الوجه الذي أكله. ومَن زعم أن قتل النّفس ليس بقدر الله -عزّ وجلّ- فقد زعم أنّ المقتول مات بغير أجله وأيّ كفرٍ أوضح من هذا؟ بل ذلك بقضاء الله -عزّ وجلّ-، وذلك عدل منه في خلقه وتدبيره فيهم، وما جرى من سابق علمه فيهم، وهذا عدل الحقّ الذي يفعل ما يريد. ولا نشهد على أحد من أهل القبلة أنّه في النّار لذنب عمله ولا لكبيرة أناها إلّا أن يكون في ذلك حديث كما جاء عل ما روي ولا بنصّ الشّهادة، ولا نشهد أنّه في الجنّة بصاحل عمله ولا بخيرٍ أتاه إلّا أن يكون في ذلك حديث كما جاء على ما روي ولا بنصّ الشّهادة. والخلافة في قريش ما بقي من النّاس اثنان ليس لأحدٍ من النّاس أن ينازعهم فيها ولا يخرج عليهم ولا نقرّ لغيرهم بها إلى قيام السّاعة. والجهاد ماضٍ قائم مع الأئمة بروا أو فجروا ولا يبطله جور جائرٍ ولا عدل عادلٍ. والجمعة والعيدان والحجّ مع السّلطان وإن لم يكونوا بررة عدولًا أتقياء، ودفع الصّدقات والخراج والأعشار والفيء والغنائم إليهم عدلوا فيها

أو جاروا، والانقياد لِمَن ولّاده الله -عزّ وجلّ- أمركم، لا ننْزع يدًا من طاعة ولا نخرج عليه بسيفٍ حتّى يجعل الله لنا فرجًا ومخرجًا، ولا نخرج على السّلطان ونسمع ونطيع، ولا ننكث بيعة فمَن فعل ذلك فهو مبتدع مخالف مفارق للجماعة، وإن أمرك السّلطان بأمرٍ هو لله معصية فليس لك أن تطيعه البتّة وليس ذلك أن تخرج عليه ولا تمنعه حقّه. والإمساك في الفتنة سنة ماضية واجب لزومها، فإن ابتليت فقدم نفسك دون دِينك ولا تعن على الفتنة بيد ولا لسانٍ، ولكن اكفف يدك ولسانك وهواك والله المعين، والكفّ عن أهل القبلة ولا نكفّر أحدًا منهم ولا نخرجه من الإسلام بعمل إلّا أن يكون في ذلك حديث كما جاء وكما روي فنصدّقه ونقبله ونعلم أنّه كما روي نحو ترك الصّلاة وشرب الخمر وما أشبه ذلك، أو يبتدع بدعة ينسب صاحبها إلى الكفر والخروج عن الإسلام فاتبع ذلك ولا تجاوزه. (والأعور الدّخال) خارج لا شكّ في ذلك ولا ارتياب وهو أكذب الكابذين. وعذاب القبر حتّى يسأل العبد عن دِينه، وعن ربّه، وعن الجنّة وعن النّار، ومنكرونكير حقّ وهما فتانا القبر نسأل الله الثّبات. وحوض محمّد -صلّى الله عليه وسلّم- حقّ تردّه أمته وآنيته عدد نجوم السّماء يشربون بها منه. والصّراط حقّ يوضع على سواء جهنم ويمرّ النّاس عليه والجنة من وراء ذلك. (والميزان) حقّ توزن به الحسنات والسّيّئات كما شاء الله أن يوزن. (والصّور) حقّ ينفخ فيه إسرافيل فيموت الخلق ثم ينفخ فيه أخرى، فيقومون لربّ العالمين للحساب، وفصل القضاء والثّواب والعقاب والجنّة

والنّار. (واللّوح المحفوظ) يستنسخ منه أعمال العباد كما سبق فيه من المقادير. (والقضاء والقلم) حقّ كتب الله به مقادير كلّ شيء وأحصاه في الذّكر. والشّفاعة يوم القيامة حقّ يشفع قوم في قومٍ فلا يصيرون إلى النّار ويخرج قوم من النّار بعد ما دخلوا ولبثوا فيها ما شاء الله ثم يخرجهم من النّار، وقوم يخلدون فيها أبدّا، وهم أهل الشّرك والتّكذيب والحجود والكفر بالله عزّ وجلّ. ويذبح الموت يوم القيامة بين الجنّة والنّار. وقد خلقت الجنّة وما فيها وخلقت النّار وما فيها خلقهما الله -عزّ وجلّ- وخلق الخلق لهما لا تفنيان ولا يفني ما فيهما أبدًا. فإن احتجّ مبتدع أو زنديق بقول الله -عزّ وجلّ-: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ}، [القصص، من الآية: 88]. وبنحو هذا من متشابه القرآن؟ قل له: كلّ شيء مما كتب الله عليه الفناء والهلاك، والجنة والنّار خلقهما الله للبقاء لا للفناء، ولا للهلاك وهما من الآخرة لا من الدّنيا. (والحور العين) لا يمتن عند قيام السّاعة ولا عند النّفخة ولا أبدًا؛ لأنّ الله خلقهن للبقاء لا للفناء ولا يكتب عليهن الموت، فمَن قال خلاف ذلك فهو مبتدع ضالّ عن سواء السّبيل، وخلق سبع سموات بعضها فوق بعضٍ، وسبع أرضين بعضها أسفل بعضٍ، وبين الأرض العليا وسماء الدّنيا مسيرة خمسمائة عام والماء فوق السّماء السّابعة العليا. وعرش الرّحمن فوق الماء والله -عزّ وجلّ- على العرش والكرسي موضع قدميه، وهو يعلم ما في السّموات والأرض وما بينهما وما تحت الثّرى وما في قعر البحر ومنبت كلّ شعرة وشجرة وكلّ زرعٍ وكلّ نباتٍ ومسقط كلّ ورقةٍ، وعدد كلّ كلمةٍ، وعدد الرّمل والحصا، والتّراب ومثاقيل الجبال،

وأعمال العباد وآثارهم، وكلامهم وأنفاسهم، ويعلم كلّ شيء ولا يخفى عليه شيء من ذلك، وهو على العرش فوق السّماء السّابعة، ودونه حجب من نار وحجب من نور وظلمة وما هو أعلم به. فإن احتج مبتدع مخالف بقول الله تعالى: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ}، [قّ، من الآية: 16]. وبقوله: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} الآية، [المجادلة، من الآية: 7]. ونحو هذا من متشابه القرآن، فقل: إنّما يعنِي بذلك العلم؛ لأنّ الله -عزّ وجلّ- على العرش فوق السّماء السّابعة العليا يعلم ذلك كلّه، وهو بائن من خلقه، لا يخلو من علمه مكان، ولله -عزّ وجلّ- عرش وللعرش حملة يحملونه، والله -عزّ وجلّ- على عرشه، وليس له حدّ، والله -عزّ وجلّ- سميعٌ لا يشكّ، بصيرٌ لا يرتاب، عليمٌ لا يجهل، جوادٌ لا يبخل، حليمٌ لا يعجل، حفيظٌ لا ينسى ولا يسهو، قريبٌ لا يغفل، يتكلّم وينظر ويبسط ويضحك ويفرح ويحبّ ويكره ويبغض ويرضى ويسخط ويرحم ويعفو ويغفر ويعطي ويمنع وينْزل كلّ ليلةٍ إلى سماء الدّنيا كيف شاء {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}، [الشّورى، من الآية: 11]. وقلوب العباد بين إصبعين من أصابع الرّحمن يقلّبها كيف شاء ويوعيها ما أراد، وخلق آدم بيده على صورته، والسّموات والأرض يوم القيامة في كفّه، ويضع قدمه في النّار فتَنْزوي، ويخرج قومًا من النّار بيده، وينظر إلى وجهه أهل الجنّة يرونه فيكرمهم ويتجلّى لهم، وتعرض عليه العباد يوم القيامة ويتولّى حسابهم بنفسه ولا يلي ذلك غيره عزّ وجلّ. والقرآن كلام الله تكلّم به ليس بمخلوقٍ، فمَن زعم أنّ القرآن مخلوق فهو جهمي كافر، ومَن زعم أنّ القرآن كلام الله، ووقف فلم يقل: ليس بمخلوق

فهو أخبث من القول الأوّل، ومَن زعم أنّ ألفاظنا وتلاوتنا مخلوقة والقرآن كلام الله فهو جهمي. وكلّم الله موسى تكليّمًا منه إليه وناوله التّوراة من يده إلى يده، ولم يزل الله -عزّ وجلّ- متكلِّمًا، والرّؤيا من الله وهي حقّ، إذا رأى صاحبها في منامه ما ليس أضغاثًا فقصّها على عالم وصدق ولم يحرف فيها تأوّلها العالم على أصل تأويلها الصّحيح وتأويلها حينئذٍ حقّ، وكانت الرّؤيا من الأنبياء وحيًا، فأيّ جاهل أجهل مِمَّن يطعن في الرّؤيا ويزعم أنّها ليست بشيء؟! وبلغنِي أنّ مَن قال هذا القول لا يرى الاغتسال من الاحتلام. وقد روي عن النَّبِيّ -صلّى الله عليه وسلّم-: "إنّ رؤيا المؤمن كلام يكلّم به الرّبّ عبده"، وقال: "إنّ الرّؤيا من الله". وذكر محاسن أصحاب رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- كلّهم والكفّ عن مساويهم التي شجرت بينهم، فَمَن سبّ أصحاب النَّبِيّ -صلّى الله عليه وسلّم- أو واحدًا منهم أو تنقّصه، أو طعن عليهم، أو عرض بعيبهم أو عاب أحدًا منهم فهو مبتدع رافضي خبيث لا يقبل الله منه صرفًا ولا عدلًا، بل حبّهم سنة والدّعاء لهم قربة، والاقتداء بهم وسيلة، والأخذ بآثارهم فضيلة. وأفضل الأمّة بعد النَّبِيّ -صلّى الله عليه وسلّم- أبو بكر وعمر، وبعد عمر عثمان وعلي، ووقف قوم على عثمان، وهم خلفاء راشدون مهديّون، ثم أصحاب رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- بعد هؤلاء الأربعة لا يجوز لأحدٍ أن يذكر شيئًا من مساويهم، ولا يطعن على أحدٍ منهم بعيبٍ ولا نقصٍ فمَن فعل ذلك فقد وجب على السّلطان تأديبه، وليس له أن يعفو عنه، بل يعاقبه ويستتيبه، فإن تاب قبل منه، وإن لم يتب أعاد عليه العقوبة ويدخله الحبس حتّى يتوب ويرجع. ويعرف للعرب حقّها وسابقتها وفضلها ويحبّهم لحديث رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم-:

"حبّ العرب من الإيمان وبغضهم نفاقٍ". ولا يقول بقول الشّعوبية وأراذل الموالي الذين لا يحبّون العرب ولا يقرّون لهم بفضلٍ، فإنّ قولهم بدعة، ومَن حرم المكاسب والتّجارات وطلب المال من وجهه، فقد جهل وأخطأ، بل المكاسب من وجهها حلال قد أحلّها الله -عزّ وجلّ-، ورسوله، فالرّجل ينبغي له أن يسعى على نفسه وعياله من فضل ربّه، فإن ترك ذلك على أن لا يرى ذلك الكسب حلالًا فقد خالف الكتاب والسّنة. (والدِّين) إنّما هو كتاب الله -عزّ وجلّ- وآثار وسنن وروايات صحاح من الثّقات والأخبار الصّحيحة القويّة المعروفة ويصدق بعضها بعضًا حتّى ينتهي ذلك إلى رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم-، وأصحابه - رضي الله عنهم أجمعين -، والتّابعين وتابعي التّابعين، ومَن بعدهم من الأئمة المعروفين المقتدى بهم المتمسّكين بالسّنة المتعلّقين بالآثار لا يعرفون ببدعة، ولا يطعنون بكذب، ولا يرمون بخلاف، إلى أن قال: فهذه الأقاويل التي وصفت مذاهب أهل السّنة والجماعة والأثر وأصحاب الرّوايات وحملة العلم الذين أدركناهم وأخذنا عنهم الحديث، وتعلّمنا منهم السّنن، وكانوا أئمة معروفين ثقات أهل صدقٍ وأمانةٍ يقتدى بهم ويؤخذ عنهم، ولم يكونوا أصحاب بدعٍ ولا خلافٍ ولا تخليطٍ. وهذا قول أئمتهم وعلمائهم الذين كانوا قبلهم فتمسّكوا بذلك وتعلّموه وعلّموه. (قلت): حرب هذا، وهو صاحب الإمام أحمد وإسحاق، وله عنهما مسائل جليلة، وأخذ عن سعيد بن منصور وعبد الله بن الزّبير الحميدي، وهذه الطّبقة، وقد حكى هذه المذاهب عنهم واتّفاقهم عليها. ومَن تأمّل النّقول عن هؤلاء وأضعاف أضعافهم والحديث وجده مطابقًا لما نقله حرب، ولو تتبّعناه لكان بقدر هذا الكتاب مرارًا.

6 - من حمد بن ناصر إلى الأخ جمعان

وقد جمعنا منه في مسألة علوّ الرّب تعالى على خلقه واستوائه على عرشه وحدها سفرًا متوسّطًا، فهذا مذهب المستحقّين لهذه البشرى قولًا وعملًا واعتقادًا. وبالله التّوفيق. انتهى كلامه من كتاب حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح. رحمه الله ورضي الله عنه. - 6 - بسم الله الرّحمن الرّحيم (من حمد بن ناصر إلى الأخ جمعان حفظه الله تعالى) سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد؛ الخط وصل، وصلك الله إلى رضوانه، وهذا جواب المسائل واصلك إن شاء الله: الأولى: فيمَن طلّق زوجته في مرض موته وأبانها. فالذي عليه العمل أنّها ترثه ما دامت في العدّة في قول جمهور العلماء. وكذا ترثه بعد العدّة ما لم تتزوّج كما ذهب إليه مالك والإمام أحمد، بل مذهب مالك أنّها ترثه ولو تزوّجت والرّاجح الأوّل. المسألة الثّانية: قولهم في المطلقة هل عليها أطول الأجلين من ثلاث حيض أو أربعة أشهر وعشر. فصورة المسألة على ما صورت في السّؤال وأمّا الخلاف فالمشهور عن أحمد المعمول به عند أصحابه أنّ المطلقة البائن في مرض الموت تعتدّ أطول الأجلين من عدة الوفاء أو ثلاثة قروء، وهو مذهب أبي حنيفة ومالك. وقال الشّافعي: تبنِي على عدّة الطّلاق. المسألة الثّالثة: المشهور جواز إجارة العين المستأجرة، قال في المغنِي: يجوز للمستأجر أن يؤجّر العين المستأجرة إذا قبضها. نصّ عيله أحمد، وهو قول سعيد بن المسيب وابن سيرين ومجاهد وعكرمة والنّخعي والشّعبي

والثّوري والشّافعي وأصحاب الرّأي. وأمّا إجارتها قبل قبضها فلا يجوز من غير المؤجّر في أحد الوجهين، وهو قول أبي حنيفة والمشهور من قولي الشّافعي، ويجوز للمستأجر إجارة العين بمثل الأجرة وزيادة نصّ عيله أحمد، وهو مذهب الشّافعي وابن المنذر. المسألة الرّابعة: وهي مسألة الْحِرز، فالْحِرْز ما جرت العادة بحفظ المال فيه، ويختلف باختلاف الأموال، فحِرز الغنم الحظيرة، وحِرْزها في المرعى بالرّاعي ونظره إليها إذا كان يراها في الغالب وما نام عنه منها فقد خرج عن الْحرز، والضّابط ما ذكرناه وهو أنّ الْحِرز ما جرت العادة بحفظ المال فيه، والأموال تختلف، وتفصيل المسألة مذكور في باب القطع في السّرقة فراجعه. المسألة الخامسة: وهي السّرقة من الثّمر قبل إيوائه الْحِرز، فهذا لا قطع فيه، ولو كان عليه حائط أو حافظ إذا كان في رؤوس النّخل. لحديث رافع بن خديج: "لا قطع في ثمرٍ ولا كثر"، وكذلك الماشية تسرق من المرعى إذا لم تكن محرزة لا قطع فيها، وتضمن بمثل قيمتها، والثّمر يضمن بمثلي قيمته، لحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه، وروى الأثرم أنّ عمر غرّم حاطب بن أبي بلتعة حين نحر غلمانه ناقة رجلٍ من مزينة مثلي قيمتها. وهذا مذهب أحمد. وأمّا الجمهور، فقالوا: لا يجب عليه إلّا غرامة مثله. قال ابن عبد البرّ: لا أعلم أحدًا قال بوجوب غرامة مثليه. وحجّة أهل القول الأوّل حديث عمرو بن شعيب. قال أحمد: لا أعلم شيئًا يدفعه. وأمّا المختلس والمنتهب والخائن وغيرهم فلا يغرم إلّا مثله من غير زيادة على المثل أو القيمة؛ لأنّ الأصل وجوب غرامة المثل بمثليه، والمتقوّم بقيمته

خولف في هذين الموضعين للأثر، ويبقى ما عداهما على الأصل. المسألة السّادسة: إذا جامع جاهلًا أو ناسيًا في نهار رمضان هل حكم الجاهل حكم النّاسي أم بينهما فرق؟ فالمشهور أنّ حكمهما واحد عند مَن يوجب الكفّارة، وبعض الفقهاء فرّق بين أن يكون جاهلًا بالحكم أو جاهلًا بالوقت، فأسقط الكفّارة عن الجاهل بالوقت، كما لو جامع أوّل يومٍ من رمضان يظنّ أنّه من شعبان، أو جامع يعتقد أنّ الفجر لم يطلع فبان أنّه قد طلع، ومَن أسقطها عن الجاهل بالوقت فالنّاسي مثله وأولى. قال الشّيخ تقيّ الدِّين: لا قضاء على مَن جامع جاهلًا بالوقت أو ناسيًا ولا كفّارة أيضًا. المسألة السّابعة: وهي مسألة القذف. فالقذف ينقسم إلى صريحٍ وكنايةٍ، كالطّلاق، فالصّريح ما لا يحتمل غيره نحو: يا زانِي، يا عاهر، يا منيوك ونحو ذلك. والكناية التّعريض بالألفاظ المجملة المحتملة للقذف وغيره، فإن فسّر الكناية بالزّنا فهو قذف؛ لأنّه أقرّ على نفسه، وإن فسّره بما يحتمله غير القذف قبل مع يمينه ويعزّر تعزيرًا يردعه وأمثاله عن ذلك. فمتى وجد منه اللّفظ المحتمل للقذف وغيره ولم يفسّره بما يوجب القذف فإنّه يعزّر ولا حدّ عليه. المسألة الثّامنة: هل للأب أن يأخذ من صداق ابنته أم لا؟ فالمشهور عن أحمد جواز ذلك. وهو قول إسحاق. وقد روي عن مسروق أنّه زوّج ابنته واشترط لنفسه عشرة آلاف فجعلها في الحجّ والمساكين، ثم قال للزّوج: جهّز امرأتك. وروي ذلك عن عليّ بن الحسين أيضًا. واستدلّوا لذلك بما حكى الله عن شعيب: {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى

ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ}، [القصص، من الآية: 27]. وبقوله -صلّى الله عليه وسلّم-: "أنتَ ومالُكَ لأبيك". وقوله -صلّى الله عليه وسلّم-: "إنّ أولادكم من كسبكم، فكلوا من أموالكم". فإذا اشترط لنفسه شيئًا من الصّداق كان قد أخذ من مال ابنته وله ذلك. المسألة التّاسعة: إذا كان لإنسانٍ طعام في ذمّة رجلٍ وليس هو سلمًا، وذلك بأن يكون قرضًا أو أجرة أرضٍ أو عمارة نخلٍ وأراد صاحبه أن يأخذ عنه جنسًا آخر من الطّعام، فهذا لا بأس به إذا لم يتفرّقا وبينهما شيئ، فإن اتّفاقا على المعاوضة وتفرقا قبل التّقابض لم يثبت إلّا للأوّل، ومتى تقابضا جازت المعاوضة ويجوز ذلك في بيع الأعيان، لقول -صلّى الله عليه وسلّم-: "فإذا اختلفت هذه الأجناس فبيعوا كيف شئتم يدًا بيدٍ". وكما ورد في السّنة بمثل ذلك في قبض الدّارهم عن الدّنانير والدّنانير عن الدّراهم في حديث ابن عمر. العاشرة: العاصب للميّت مَن كان أقرب من غيره بعد العاصب أو قرب، فمتى ثبتت النّسبة بأنّ هذا ابن عمّ الميّت ولا يعرف أحد أقرب منه فهو العاصب وإن بَعُدَ عن الميّت، فإن عرف أنّ هذا الميّت من هذه القبيلة ولم يعرف له عاصب معيّن وأشكل الأمر دفع إلى أكبَرهم سنًا، فإن كان للميّت وارث ذو فرضٍ أخذ فرضه، وإن لم يوجد عاصب فالرّدّ إلى ذوي الفرض أولى من دفعه إلى بيت المال، ويردّ على ذوي الفرض على حسب ميراثهم إلّا الزّوج والزّوجة فلا يردّ عليهما. الحادية عشرة: إذا زنت المرأة البكر وجلدت فهل تغرّب أم لا؟ فالمسألة فيها خلاف بين العلماء، والمشهور أنّها تغرّب كما هو ظاهر الحديث، أعنِي قوله -صلّى الله عليه وسلّم-: "البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام".

7 - من حمد بن ناصر إلى الأخ جمعان بن ناصر

- 7 - بسم الله الرّحمن الرّحيم (من حمد بن ناصر إلى الأخ جمعان بن ناصر) سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد؛ وصل الخط وصلك الله إلى رضوانه وسرّ الخاطر، وإن سألت عن حال أخيك فالحمد لله الذي بنعمته تَتِمُّ الصّالحات، نسأل الله أن يُتِمَّ علينا وعليك نعمته في الدّنيا والآخرة. وكلّ مَن تسأل عنه طيّب، وسعود وآل الشّيخ وعيالهم وعيالنا الجميع في عافيةٍ ونعمةٍ. وما ذكرت من التّحوّل إلى رنيه فأرجو أن يكون سفرًا مباركًا، نسأل الله أن ينْزلنا وإيّاكم منْزلًا مباركًا، وهو خير الْمُنْزلين. ولا تنس الدّعاء بما أوصى الله به نبيّه -صلّى الله عليه وسلّم-: {رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا}، [الإسراء، من الآية: 80]. وأمّا المسائل التي سألت عنها: الأولى: إذا استأجر إنسان من آخر ناضحًا يسقي عليه شجره أو زرعه، وشرط عليه إن مات النّاضح أو عجف فالأجرة تامّة، وإن لم يسق عليه إلّا يومًا واحدًا ورضي كلّ منهما بذلك هل يحكم بفسادها أم لا؟ فالذي يظهر لي صحّة ذلك العقد إذا كانت الأجرة معلومة والمدّة معلومة. وأمّا الشّرط فهو فاسد، فإن مات النّاضح أو عجف لزم المستأجر قسط ما مضى من المدّة وانفسخ فيما بقي إن لم يتراضيا على إتمام العمل على ناضحٍ آخر. وأمّا قولك: هل إجارة إنسان نفسه أو دابّته بجزءٍ مشاعٍ من الثّمرة قبل ظهورها أو قبل بدو صلاحها صحيح أم لا؟ فاعلم أنّ الثّمرة لا يصحّ بيعها قبل بدوّ صلاحها ولا تُجْعَل أجرة للعمل؛ لأنّ جعلها أجرة

بيع لها، وأمّا إن ساقاه على الثّمرة بجزء منها فذلك صحيح قبل ظهورها وبعده. وأمّا قولك: إذا فرّق نائب الإمام جماعته النّائبة وكان بعضهم غائبًا وأخذ الأمير من رجلٍ دراهم وجعلها سلمًا في ثمر ذمّة الغائب، ما الحكم إذا ترافعا؟ فالذي يظهر لي أنّ هذا السّلم لا يلزم الغائب؛ لأنّ الغائب معذور وطريق الحيلة أن يقترض عليه أو يقرضه الأمير بنفسه، فإذا قدم طالبه بما لزمه من النّائبة. وأمّا قياسكم على صاحب الدَّين إذا امتنع من وفاء دَينه وباع الحاكم لوفاء دينه فقياس غير صحيحٍ، وذلك أنّ الحاكم له تسلّط على بيع مال الممتنع من وفاء دَينه إذ لا طريق للوفاء إلّا بذلك، وأمّا هذا الغائب فلم يمتنع، بل لو كان الذي عليه الدَّين غائبًا لم يكن للحاكم بيع ماله. وأمّا قولك: مَن ينظر في جراح النّساء فالذي ينظر في جراح النّساء من يوثق به من أهل الخبرة والمعرفة. وأمّا قولك: هل شهادة النّساء في استهلال الجنين من جهة الإرث إذا كن اثنتين فأكثر مقبولة أم لا؟ فالمشهور أنّه يقبل في ذلك قول امرأةٍ واحدةٍ إذا كانت عدلة مرضية؛ لأنّ ما لا يطلع عليه يقبل قولهن فيه، وقد نصّ الفقهاء على قبول قول المرأة وحدها في ذلك وفي المسألة خلاف. وأمّا قولك: هل الغرة في الجنين واجبة على كلّ حال خلق أم لا؟ فالمشهور أنّ الغرّة تجب إذا وضعت المرأة ما تنقضي بها عدّتها وتصير به الأمة أم ولدٍ، وذلك إذا تبيّن فيه خلق الآدمي. وأمّا قولك: إذا عاب من الإنسان يده أو رجله بجناية الغير وبقي العضو مع عيبه هل الدّية تامّة؟ فهذا فيه تفصيل، وذلك أنّه ينظر إلى العضو،

8 - من حمد بن ناصر إلى الأخ جمعان

فإن ذهب نفعه بالكلّيّة بحيث تعطّل نفعه فديته تامّة، وأمّا إذا كان في العضو نفع فليس فيه من الدّية إلّا بقدر الذّاهب من النّفع. وأمّا قولك: هل المعتبر فيما تحمله العاقلة؛ لأنّها لا تحمل ما دون الثّلث فما فوقه بالجاني أو المجني عليه؟ فاعلم أنّ المشهور أنّ العاقلة لا تحمل ما دون الثّلث، ولا تحمل ما فوق الثّلث إلّا في الخطأ خاصّة. وأمّا في العمد فتلزم الجاني في ماله حالة. وإذا حملت العاقلة ردًّا لم تحمل، فالاعتبار في ذلك بحال المجني عليه إذا كان حرًّا مسلمًا ولم يكن جنينًا، وأمّا دية الجنين فلا تحمله العاقلة لنقصه عن الثّلث إلّا إذا كان تبعًا لأمّه. وأنت سالم. والسّلام. - 8 - بسم الله الرّحمن الرّحيم من حمد بن ناصر إلى الأخ جمعان حفظه الله تعالى. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد؛ الخط وصل أوصك الله إلى رضوانه، وكذلك السّؤال وصورته. ما قول العلماء فيمَن دفع دابّة إلى آخر يسقي زرعًا بجزء من الثّمرة سواء كان الدّفع قبل وجود الزّرع أو بعد ما اخضرّ الزّرع، وسواء كانت مدّة السّقي معلومة أو مجهولة، مثل أن تهزل أو تعجف هل هذا جائز يشبه دفع الدّابّة إلى مَن يعمل عليها مغلها أم هذا ليس بصحيحٍ لعدم معرفة الأجرة والجهل بالمدّة إذا لم توقت؟ فنقول: هذه المسألة لم أقف عليها منصوصة في كلام العلماء ولكنّهم نصّوا على ما يؤخذ منه حكم هذه المسألة. فمِن ذلك أنّهم ذكروا أنّ من شرط صحّة الإجارة معرفة قدر

الأجرة ومعرفة قدر المدّة. قال في المغنِي: يشترط في عوض الإجارة كونه معلومًا، لا نعلم في ذلك خلافًا. انتهى. ولكن هذه المسألة هل تلحق بمسائل الإجارة وتعطى أحكامها أم تلحق بمسائل الشّركة وتعطى أحكامها مثل المساقاة والمزارعة والمضاربة وغير ذلك من مسائل المشاركات، فإن قلنا إنّها بمسائل الإجارة أشبه، فالإجارة لا تصحّ إلّا بأجرة معلومة على مدّة معلومة. ولهذا اختلف العلماء في جواز إجارة الأرض ببعض ما يخرج منها كثلث أو ربع فمنعه أبو حنيفة والشّافعي وغيرهما وعلّلوه بأنّ العوض مجهول، فلا تصحّ الإجارة بعوضٍ مجهولٍ وأجازه الإمام أحمد فمن أصحابه مَن قال هو إجارة، ومنهم من قال بل هو مزارعة بلفظ الإجارة. قال في الإنصاف: والصّحيح من المذهب أنّ هذه إجارة، وأنّ الإجارة تصحّ بجزءٍ مشاعٍ معلومٍ مما يخرج من الأرض المؤجّرة وهو من مفردات المذهب. انتهى. وقال في المغنِي: إجارة الأرض بجزءٍ مشاعٍ مما يخرج كنصف أو ثلث أو ربع المنصوص عن أحمد جوازه، وهو قول أكثر الأصحاب، واختار أبو الخطاب أنّها لا تصحّ. وهو قول أبي حنيفة والشّافعي، وهو الصّحيح إن شاء الله لما تقدّم من الأحاديث في النّهي من غير معارض لها، ولأنّها إجارة بعوضٍ مجهولًا فلم تصحّ كإجارة بثلث ما يخرج من أرض أخرى، ولأنّه لا نصّ في جوازها ولا يمكن قياسها على المنصوص، فإنّ النّصوص إنّما وردت بالنّهي عن إجارتها بذلك ولا نعلم في تجويزها نصًّا، والمنصوص جواز إرجارتها بذهب أو فضّة أو شيء معلوم. فأمّا نصّ أحمد فيتعيّن حمله

على المزارعة بلفظ الإجارة. انتهى. وقال في المغنِي أيضًا: قال إسماعيل بن سعيد: سألت أحمد عن الرّجل يدفع البقرة إلى الرّجل على أن يعلفها ويحفظها وما ولدت من ولد بينهما؟ قال: أكره ذلك، وبه قال أيوب وأبو خيثمة، ولا أعلم فيه مخالفًا، وذلك لأنّ العوض معدوم مجهول ولا يدرى أيوجد أم لا والأصل عدمه. انتهى. وأمّا إن ألحقنا هذه المسألة المسؤول عنها بمسائل الشّركة وقلنا هي بمسائل الشّركة أشبه جرى فيها من اختلاف العلماء ما جرى في نظائرها، وأنا أذكر بعض ما ذكره العلماء في هذا الباب. قال في المغنِي: وإن دفع دابّته إلى آخر ليعمل عليها وما رزق الله بينهما نصفين أو أثلاثًا وكيفما شرطا صحّ. نصّ عليه في رواية الأثرم ومحمّد بن سعيد، ونقل عن الأوزاعي ما يدلّ على هذا. وكره ذلك الحسن والنّخعي. وقال الشّافعي وأبو ثور وابن المنذر وأصحاب الرّأي: لا يصحّ، والرّبح كلّه لربّ المال وللعامل أجرة مثله. ولنا أنّها عين تنمي بالعمل عليها فصحّ العقد عليها ببعض نمائها كالدّراهم والدّنانير وكالشّجر في المساقاة والأرض في المزارعة. وقد أشار أحمد -رحمه الله- إلى ما يدلّ على تشبيهه لمثل هذا بالمزارعة، فقال: لا بأس بالثّوب يدفع بالثّلث والرّبع لحديث جابر أنّ النَّبِيّ -صلّى الله عليه وسلّم- أعطى خيبر على الشّطر، وهذا يدلّ على أنّه صار في مثل هذا إلى الجواز لشبهه بالمساقاة والمزارعة لا إلى المضاربة ولا إلى الإجارة. ونقل أبو داود عن أحمد فيمَن يعطي فرسه على النّصف من الغنيمة أرجو أن لا يكون به بأس، ونقل أحمد بن سعيد فيمَن دفع عبده لرجلٍ

ليكتسب عليه ويكون له ثلث ذلك أو ربعه فجائز. والوجه فيه ما ذكرناه في مسألة الدّابّة. وإن دفع ثوبه إلى خياط ليفصله قميصًا وله نصف ربحه بعمله جاز. نصّ عليه في رواية حرب. وإن دفع غزلًا إلى رجلٍ ينسجه ثوباًُ بثلث ثمنه أو ربعه جاز نصّ عليه، ولم يجز مالك وأبو حنيفة والشّافعي شيئًا من ذلك. وقال الأثرم: سمعت أبا عبد الله يقول: لا بأس بالثّوب يدفع بالثّلث والرّبع، وسُئِل عن الرّجل يعطي الثّوب بالثّلث ودرهم أو درهمين، قال: أكرهه؛ لأنّ هذا شيء لا يعرف. الثّلث إذا لم يكن معه شيء نراه جائزًا؛ لحديث جابر أنّ النَّبِيّ -صلّى الله عليه وسلّم- أعطى خيبر على الشّطر، قيل لأبي عبد الله: فإن كان النّساج لا يرضى حتّى يزاد على الثّلث درهمًا؟ قال: فليجعل له ثلثًا وعشرًا ثلثًا ونصر عشر وما أشبهه. انتهى ملخّصًا. وقد نصّ أحمد أيضًا على جواز دفع الثّوب لِمَن يبيعه بثمنٍ يقدره له، ويقول ما زاد فهو لك، ولو دفع عبده أو دابّته إلى مَن يعمل بهما بجزء من الأجرة أو ثوبًا يخيطه أو غزلًا ينسجه بجزءٍ من ربحه أو بجزء منه جاز. نصّ عليه. وهو المذهب جزم به ناظم المفردات وهو منها. وقال في الحاوي الصّغير: ومَن استأجر مَن يجذّ نخله أو يحصد زرعه بجزءٍ مشاعٍ منه جاز. نصّ عليه في رواية مهنا. وعنه: لا يجوز وللعامل أجرة مثله. ونقل مهنا في الحصاد هو أحبّ من المقاطعة، وعنه له دفع دابّته أو نخله لِمَن يقوم به بجزءٍ من نمائه. اختاره الشّيخ تقي الدّين, والمذهب لا. لحصول نمائه بغير عمله. انتهى ملخّصًا. وقال في المغنِي: وإن اشترك ثلاثة من أحدهم الأرض، ومن الآخر البذر، ومن الآخر البقر والعمل على أنّ ما زرق الله بينهم فعملوا، فهذا عقد

9 - من حمد بن ناصر إلى الأخ جمعان بن ناصر

فاسد نصّ عليه أحمد في رواية أبي داود. ومهنا وأحمد بن القاسم، وبهذا قال مالك والشّافعي وأصحاب الرّأي، فعلى هذا يكون الزّرع لصاحب البذر؛ لأنّه نماء ماله ولصاحبيه عليه أجرة مثلهما. انتهى. وقال في موضع آخر: فإن اشترك ثلاثة من أحدهم دّابة ومن الآخر راوية، ومن الآخر العمل على أنّ ما رزق الله تعالى بينهم صحّ في قياس قول أحمد؛ فإنّه قد نصّ في الدّابة يدفعها إلى آخر يعمل عليها على أنّ لهما الأجرة على الصّحّة وهذا مثله. وهكذا لو اشترك أربعة من أحدهم دكان ومن الآخر رحى، ومن آخر بغل ومن آخر العمل على أن يطحنوا وما رزو الله تعالى فهو بينهم صحّ، وكان بينهم على ما شرطوه. وقال القاضي: العقد فاسد في المسألتين جميعًا، وهو ظاهر قول الشّافعي. انتهى. ومَن تأمّل ما نقلناه تبيّن له حكم مسألة السّؤال. والله سبحانه وتعالى أعلم. وصلّى الله على محمّد وآله وصحبه وسلّم. - 9 - بسم الله الرّحمن الرّحيم من حمد بن ناصر إلى الأخ جمعان بن ناصر حفظه الله تعالى آمين. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد؛ وصل الخط وصلك الله إلى رضوانه، وكلّ مَن تسأل عنه طيّبون، آل الشّيخ وسعود وإخوانه وأولاده، الجميع فيما تحبّ ولله الحمد. وإنّ سألت عن حالي فالحمد لله الي بنعمته تَتِمُّ الصّالحات. وما ذكرت من جهة العذر عن الزّيارة فعذرك واضح ولا عليك شرهة في الزّيارة والحالة هذه، وما ذكرت من جهة المشاورة في التّحوّل بأهلك جهة رنية فالذي أرى لك استخارة الله سبحانه. فإن وجدت نفسك مهتوية

فتوكّل على الله والوادي فيه ما يكفيك. وهذا رجب تبغي تصدر قالته إن شاء الله، ولا أكره لك نفع النّاس وبثّ العلم الذي تفهم لا كان في أصل الدِّين ولا في فروعه، واحرص على تعليم النّاس ما أوجب الله عليهم وكثرة القراءة في نسخ الأصول خصوصًا مختصرات الشّيخ رحمه الله، وكذلك السّير وحط البال على تعليم العامّة أصل دين الإسلام ومعرفة أدلّته ولا تكتف بالتعليم أنشدهم واجعل لهم وقتًا تسألهم فيه عن أصل دِينهم، ولا تغفل عن استحضار النّيّة فإن الأعمال بالنّيّات، وإنّكما لكلّ امرئ ما نوى، والله تعالى لا يقبل من العمل إلّا ما كان خالصًا صوابًا، فالصّواب ما وافق شرع الرّسول -صلّى الله عليه وسلّم-، والخالص ما أريد به وجه الله تعالى. قال تعالى: {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ}، [الزّمر، من الآيتين: 2 - 3]. واحذر القول على الله بلا علمٍ، فإنّ الله تعالى لما ذكر المحرّمات العظام ختمها بقوله تعالى: {وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ}، [الأعراف، من الآية: 33]. فجعل القول منه فلا علمٍ قرينًا للشّرك في الآية الكريمة، والله تعالى لا يكلّف نفسًا إلّا وسعها، ولكن العبد هو الذي يكلّف نفسه ويحملها ما لا تطيق ويعرضها لسخط الله ومقته. ومن أعظم التّكلّف أن يتلكّم الإنسان بما لا يعلم، والواجب على الإنسان أن يتلكّم في دِين الله بما يعلم فإن لم يكن عنده علم فليقل: الله ورسوله أعلم، ولا تستح من قول: لا أدري، فقد قيل: إذا ترك العالم قول: لا أدري أصيبت مقاتله. فإذا وقع عليك قضية من القضايا فإن كان عندك علم فتكلّم به وإلّا فإن أمكن فيها الإصلاحح فأصلح فيها فإنّ الصّلح جائز بين المسلمين إلّا

صلحًا أحل حرامًا أو حرّم حلالًا، فإن لم يمكن الصّلح أو لم يرض به الخصمان فاصرفهما عنك ولا تعاظم ذلك ولا تستح منه، فإنّ الأمر عظيم ولا بدّ من يوم تعاد فيه الخصومات بين يدي ربّ العالمين. قال الله تعالى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ}، [الزّمر: 30 - 31]. وأمّا المسائل التي سألت عنها: فالأولى: شهادة المرأة الواحدة في الرّضاع عند مَن يقول به هل تصدق، ولو ادّعت أمّ الطفل كذبها؟ فالأمر كذلك تصدق والقول قولها. وأمّا قولك: وهل تعتبر العدالة في المرضعة إذا ادّعت الرّضاع؟ فالأمر كذلك بل لا بدّ من العدالة في الشّهادة في الرّضاع وغيره، والمراد العدالة ظاهرًا، وأمّا الرّضاع فنصّوا على العدالة في المرأة إذا ادّعت ذلك. قال ابن عبّاس: يقبل قولها إذا كانت مرضية وتستحلف فإذا حلفت فارق الزّوج المرأة. وقال الشّيخ تقيّ الدّين: يقبل قول المرأة في الرّضاع إذا كان معروفة بالصّدق، لحديث عقبة المخرج في الصّحيحين. وأمّا قولك: إذا ماتت المرأة وشهدت على إقرارها بالرّضاع امرأة أو امرأتان فالظّاهر أنّ ذلك لا يعمل به؛ لأنّ الشّهادة على الشّهادة لها تسعة شروط: أحدها: أن تكون في غير حقّ الله. ومنها: أن يستدعي شاهد الأصل شاهد الفرع فيقول: أشهد على شهادتي. وأيضًا فإنّ الشّهادة على الرّضاع لا تقبل إلّا مفسّرة لاحتمال أن يكون الشّاهد يرى في الرّضاع خلاف الصّواب، فلا بدّ من تفسير الرّضاع بخمس رضعات في الحولين. المسألة الثّانية: إذا كان بين شريكين نخل أو زرع وأراد أحدهما تركه للآخر وعوضه كيلًا معلومًا أو جزءًا مشاعًا من الثّمر، فهذا مساقاة

لا مشاركة، ولا بأس بها. فإن كان بجزءٍ مشاعٍ فهو مساقاة، وإن كان بكيلٍ معلومٍ فهو إجارة وفيها خلاف والمفتى به عندنا جوازها. المسألة الثّالثة: إذا كان شريكان في نخلٍ أو زرعٍ وبدا صلاح الثّمرة واشترى أحدهما نصيب الآخر بكيلٍ يشترطه من الثّمر بعينها والبائع عليه مؤونة الكد حتّى يتم العمل، فهذه مسألة مشكلة من حيث إنّ كلام الفقهاء فيها يخالف ظاهر السّنة. قال ابن عبد البرّ: الخرص في المساقاة لا يجوز عند جميع العلماء، وعلّله وجعل أخذ الثّمرة بكيلٍ معلومٍ من المزابنة المنهي عنها، ولكن ظاهر السّنة جواز هذا، فإنّه قد ثبت أنّ رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- كان يبعث عبد الله بن رواحة يخرص على أهل خيبر، فإذا خرصها خيّرهم. وقال: "إن شئتم فخذوها بخرصها، وإن شئتم فهي لنا". وقد روي أنّه خرص عليهم أربعين ألف وسق فأخذوا الثّمن وضمنوا للمسلمين عشرين. قال ابن القيم على فوائد قصة خيبر، وفيها: جواز قسمة الثّمار خرصًا، وأنّ القسمة ليست بيعًا. انتهى بمعناه. وأمّا الأمر الذي لا يجوز وهو واقع كثيرًا وينبغي التّفطّن له والتّنبيه عليه إذا كان لرجلٍ طعام في ذمّة صاحب النّخل قد أسلمه في ذمّته وحضرت الثّمرة وأخذ المسلم من المسلم إليه نخلًا بخرصه، فهذا لا يجوز ولا يحلّ لِمَن أخذه أن يبيعه حتّى يكتاله لقول رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم-: "مَن ابتاع طعامًا فلا يبعه حتّى يكتاله". حديث صحيح. ونصّ الفقهاء على أنّه لا يجوز لِمَن قبض الطّعام جزافًا أن يبيعه حتّى يكيله.

10 - من حمد بن ناصر إلى الأخ جمعان بن ناصر

- 10 - بسم الله الرّحمن الرّحيم (من حمد بن ناصر إلى الأخ جمعان بن ناصر) سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد؛ وصل الخط أوصلك الله إلى رضوانه وتسأل فيه عن مسائل*: الأولى: المطلقة البائن إذا مات زوجها الذي أبانها وهي في العدّة. فهذه إن كان زوجها أبانها في الصّحّة؛ فإنّها تبنِي على عدّة الطّلاق ولا تعتدّ للوفاة كما لو أبانها في المرض. الثّانية: المتوفى عنها وهي حامل، هل هي في إحداد ولو تعدّت أربعة أشهر وعشرًا؟ فالأمر بذلك هي في إحداد حتّى تضع حملها. الثّالثة: العبد المملوك إذا سرق من حرز من غير مال سيّده هل يجب عليه القطع؟ فالأمر كذلك. وأمّا سيّده فلا يقطع بسرقة ماله. الرّابعة: فيمَن طلّق امرأته قبل أن يدخل بها ثلاث تطليقات، هل إذا بانت بالأولى هل تحلّ له بملاك** جديد أم تحرم عليه؟ فلا تحلّ له إلّا بعد الزّوج الثّاني بعد أن يجامعها، ولا تحلّ للأوّل قبل جماع الزّوج الثّاني، وأمّا إن كان طلّقها ثلاثًا واحدة بعد واحدةٍ فإنّها تبين بالأولى ولا يلحقها بقية الطّلاق؛ لأنّ غير المدخول بها لا عدّة عليها ولا يحلقها الطّلاق، فإذا بانت بالأولى حلّت لزوجها بعقدٍ ثانٍ، وإن لم تتزوّج غيره وتبقى معه على طلقتين. الخامسة: فيمَن طلّق زوجته تطليقتين بعد المسيس ثم تزوّجت لها زوجًا ثانيًا وطلّقها قبل أن يمسّها هل ترجع إلى الأوّل؟ فالأمر كذلك، ولا تأثير لهذا الزّوج في حلّ العقد؛ لأنّها حلال لزوجها قبله، فإذا

_ * هذه المسائل تكررت بعد ذلك في 4/ 49. [معد الكتاب للمكتبة الشاملة] ** هذه الكلمة مطموسة في الأصل، والتصويب من الرسالة المكررة. [معد الكتاب للمكتبة الشاملة]

اعتدت حلّت لزوجها الأوّل بعقدٍ جديدٍ، فإن لم يكن خلا بها فلا عدة عليها ويعقد عليها الثّاني في الحال. السّادسة: إذا وطئ الصّبي الصّبية هل يلزمهما غير التّعزير؟ فلا يلزمهما حدّ بل يعزران تعزيرًا بليغًا. قال الشّيخ تقيّ الدِّين: لا خلاف بين العلماء أنّ غير المكلّف يعزّر على الفاحشة تعزيرًا بليغًا. السّابعة: فيمَن رمى صبية بالزّنا أو صبيًا. فإن كان يمكن الوطء من مثله كبنت تسع وابن عشر فهذا يقام الحدّ على قاذفهما، وإن لم يبلغا بخلاف الصّغيرة الذي لا يجامع مثله والصّغيرة التي لا يجامع مثلها، فليس على قاذفهما إلّا التّعزير. وأمّا الصّغير إذا قذف الكبير فليس عليه إلّا التّعزير. الثّامنة: عبارة الشّرح في تفسير الشّرطين، وكذلك عبارة الإنصاف التي نقلت، فالذي عليه الفتوى أنّ الشّرطين الصّحيحين لا يؤثّران في العقد كما هو اختيار الشّيخ تقيّ الدِّين. التّاسعة: الجراح المقدّرات مثل: الموضحة والمأمومة والجائفة إذا كانت في العبد فديتها في العبد نسبتها من ثمنه، فالموضحة من الحرّ ديتها نصف عشر الدّية، ومن العبد نصف عشر قيمته، والجائفة في الحرّ فيها ثلث الدّية، ومن العبد ثلث قيمته. وأمّا الجراحات التي لا مقدّر فيها من الحرّ فديتها من العبد ما نقص قيمته بعد البرء. العاشرة: دية المملوك هل هي على النّصف من الحر؟ فليس الأمر كذلك، بل دية المملوك قيمته سواء كثرت أو قلّت، وإذا قتل الحرّ العبد لم يقد به لقوله تعالى: {الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ}، [البقرة، من الآية: 178]. الحادية عشرة: الإقرار بالزّنا هل يكفي فيه مرّة أو أربع؟ فالمسألة

11 - من حمد بن ناصر إلى الأخ جمعان

خلافية بين أهل العلم، والأحوط أنّه لا بدّ من الإقرار أربع مرات كما هو مذهب الإمام أحمد، ولا بدّ أن يقيم على إقراره حتّى يتّم الحدّ. فإن رجع عن إقراره لم يقم عليه الحدّ. وكذا لو شرعوا في إقامة الحدّ عليه فرجع لحديث ماعز. والله أعلم. وصلّى الله على محمّد وآله وصحبه وسلّم - 11 - بسم الله الرّحمن الرّحيم (من حمد بن ناصر إلى الأخ جمعان سلّمه الله تعالى) سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد؛ وصل الخط أوصلك الله إلى رضوانه. تسأل عمَّن اعتقل لسانه عن بعض الكلام دون بعض وهو مريض، وقيل له: أوص لأخيك فلان بالنّفقة وكررت عليه مرارًا وسكت سكتة، ثم قال: فلان يسمّيه باسمه ويشير برأسه إشارة ولم يتكلّم بالنّفقة ما حكم هذه الوصية؟ فالجواب: أنّ العلماء اختلفوا في وصية مَن اعتقل لسانه في الشّرح لما ذكر صحّة وصية الأخرس: فأمّا النّاطق إذا اعتقل لسانه فعرضت عليه وصيته فأشار بها وفهمت إشارته فلا تصحّ وصيته إذا لم يكن مأيوسًا من نطقه. ذكره القاضي وابن عقيل. وبه قال الثّوري والأوزاعي وأبو حنيفة. ويحتمل أن تصحّ، وهو قول الشّافعي وابن المنذر. وقال في الإنصاف: لا تصح وصية مَن اعتقل لسانه. وهو المذهب، وعنه التّوقف. ويحتمل أن تصحّ إذا اتّصل بالموت، وفهمت إشارته. اختاره في الفائق. قلت: وهو الصّواب. قال الحارثي: وهو الأولى. واستدلّ له بحديث رضّ اليهودي رأس الجارية وإيمائها. انتهى. وهذا الاختلاف فيما إاذ اعتقل لسانه واتّصل به الموت. وهذا المسؤول عنه قد تكلّم باسم الرّجل فالظّاهر

12 - قولك: أنا نقول: إن الإنسان إذا لم يحصل له الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أنه يهاجر. فنقول في هذه المسألة

من حاله أنّه يقدر على التّلفّظ بالوصيّة ولم يلفظ بها فلا يدخل تحت الصّورة المختلف فيها. والأقرب عندي عدم الصّحّة. والله أعلم. المسألة الثّانية: إذا احتاج العامل إلى جعل حظيرة على زرعه تمنع الرّياح عن مضرّة الزّرع ومنعه المالك بأنّ الحظيرة تجمع التّراب. فالأقرب في مثل هذا أنّ العامل لا يمنع عن فعل ذلك؛ لأنّ فيه منفعة مقصودة، ولكن يلزمه إزالة الحظيرة وقلع ما جتمع فيها من التّراب الذي ألقته الرّيح. فتحصل المصلحة للعامل من غير ضرر على المالك. وأمّا مسألة الميراث فقد علمت الذي عليه العمل في أصل المسألة. وأمّا هذه الصّورة بعينها فلا أعلم الحكم فيها. - 12 - بسم الله الرّحمن الرّحيم ومن جواب مسائل سُئِلَ عنها حمد بن ناصر بن معمر رحمه الله: قال بعد كلامٍ سبق: المسألة السّابعة: وهي قولك: أنّا نقول: إنّ الإنسان إذا لم يحصل له الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر أنّه يهاجر. فنقول في هذه المسألة كما قال العلماء -رحمهم الله تعالى-: تجب الهجرة على مَن عجز عن إظهار دِينه بدار الحرب، فإن قدر على إظهار دِينه فهجرته مستحبّة لا واجبة. وقال بعضهم: بوجوبها؛ لما في الحديث عن النَّبِيّ -صلّى الله عليه وسلّم- أنّه قال: "أنا برئ من مسلمٍ بين ظهراني المشركين". فإن لم تكن البلد بلد حرب ولم يظهر الكفر فيها لم نوجب الهجرة إذا لم يكن فيها إلّا المعاصي. وعلى هذا يحمل الحديث الوارد عن النَّبِيّ -صلّى الله عليه وسلّم- أنّه قال: "مَن رأى منكم منكرًا فليغيِّره بيده" الحديث. انتهى جواب الشّيخ رحمه الله تعالى.

13 - من حمد بن ناصر إلى الأخ جمعان

- 13 - بسم الله الرّحمن الرّحيم (من حمد بن ناصر إلى الأخ جمعان جعله الله من أهل العلم والإيمان) سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد؛ الخط وصلك أوصلك الله إلى رضوانه، وكذلك المسائل التي تسأل عنها: الأولى: إذا سرقت الدّابّة ونحرت إلى آخر المسألة. فالجواب: أنّ الدّابة إن سرقت من حرز مثلها كالبعير المعقول الذي عنده حافظ أو لم يكن معقولًا، وكان الحافظ ناظرًا إليه أو مستيقظًا بحيث يراه ونحو ذلك مما ذكره الفقهاء في معرفة حرز المواشي، فهذه إذا سرقت من الْحِرز فعلى السّارق القطع بشروطه، فإن لم تكن في حرز فلا قطع على السّارق، وعليه مثلًا قيمة مثلها. وهو مذهب الإمام أحمد. واحتجّ بأنّ عمر غرّم حاطب بن أبي بلتعة حين انحر غلمانه ناقة رجلٍ من مزينة مثلي قيمتها. وأمّا مَن سرق من الثّمرة، فإن ان بعد ما أواها الجرين فعليه القطع، فإن كان قبل ذلك بأن سرق من الثّمر المعلّق فلا قطع، وعليه غرامة مثليه في مذهب الإمام أحمد. وقال أكثر الفقهاء: لا يجب فيه أكثر من مثله. وبالغ أبو عمر بن عبد البرّ فقال: لا أعلم أحدًا من الفقهاء قال بوجوب غرامة مثليه. والصّحيح ما ذهب إليه الإمام أحمد لحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه أنّ رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- سُئِلَ عن الثّمر المعلّق فقال: "مَن أصاب منه من ذي حاجة غير متّخذٍ خبنة فلا شيء عليه، ومَن خرج بشيء منه فعليه غرامة مثليه والعقوبة، ومَن سرق منه شيئًا بعد أن يؤويه الجرين فبلغ ثمن المجن فعليه القطع". حديث حسن. قال الإمام أحمد: لا أعلم

شيئًا يدفعه. وأمّا ما عدا هذه أعنِي: الثّمرة والماشية فالمشهور من مذهب الإمام أحمد لا يغرم أكثر من القيمة إن كان متقوّمًا أو مثله إن كان مثليًا؛ لأنّ الأصل وجوب غرامة المثل فقط بدليل المتلف والمغصوب والنّهب والاختلاس وسائر ما تجب غرامته، فخولف الأصل في هذين الموضعين للأثر، ويبقى ما عداهما على الأصل. واختار الشّيخ تقيّ الدِّين -رحمه الله- وجوب غرامة المثلين في كلّ سرقةٍ لا قطع فيها. وأمّا قول السّائل -وفّقه الله-: وإذا اختلفا في القيمة ولا بيّنة لهما مَنِ القول قوله؟ فالظّاهر من كلامهم أنّ القول قول الغارم. وأمّا قوله: وإذا سرقها ثم باعها على مَن لا يعرف فما الحكم؟ فنقول: فيها كما تقدم، وهو غرامة المثلين على ما ذكرنا من تغريم عمر حاطبًا، وعلى ما دلّ عليه حديث عمرو بن شعيب، فإنّ فيه أنّ السّائل قال: الشّاة الحريسة يا نَبِيّ الله؟ قال: "ثمنها ومثله معه". ولا فرق بين بيع الشّاة وبين ذبحها ونحر النّاقة وبيعها. المسألة الثّانية: إذا دبر الرّجل جاريته كقوله: أنت عتيق بعد موتي، أو إذا مت فأنت حرّة، هل بين هذه الألفاظ فرق؟ فالجواب: أنّه لا فرق بين هذه الألفاظ، بل متى علّق صريح العتق بالموت فقال: أنت حرّة، أو محرّرة، أو عتيق بعد موتي صارت مدبرة بغير خلاف علمته. وأمّا قوله: وإذا دبرها وهي حامل أو حملت بعد التّدبير فما الحكم في ولدها؟ فنقول: أمّا إذا دبّرها وهي حامل فإنّ ولدها يدخل معها في التّدبير بغير خلاف علمناه؛ لأنّه بمنْزلة عضو من أعضائها. وأمّا إذا حملت به بعد التّدبير ففيه خلاف بين العلماء. فذهب الجمهور إلى أنّه يتبع أمّه في التّدبير ويكون حكمه حكمها في العتق بموت سيّدها. وهو مروي عن ابن مسعود

وابن عمر، وبه قال سعيد بن المسيب والحسن والقاسم ومجاهد والشّعبي والنّخعي وعمر بن عبد العزيز والزهّري ومالك والثّوري وأصحاب الرّأي. وذكر القاضي أنّ حنبلًا نقل عن أحمد أنّ ولد المدبرة عبد إذا لم يشترط المولي. قال: فظاهره أنّه لا يتبعها ولا يعتق بموت سيّدها. وهذا قول جابر بن زيد. وهو اختيار المزنِي من أصحاب الشّافعي. قال جابر بن زيد: إنّما هو بمنْزلة الحائط تصدّقت به إذا مت، فإنّ ثمرته لك ما عشت وللشّافعي قولان كالمذهبين. المسالة الثّالثة: إذا تصرّف الفضولي وأنكر صاحب المال فلم يجز التّصرّف فما الحكم في نماء المبيع؟ فنقول: اختلف الفقهاء في تصرّف الفضولي إذا أجازه المالك، هل هو صحيح أم لا؟ والخلاف مشهور. وأمّا إذا لم يجز المالك فلم ينعقد بيع أصلًا ولا تدخل هذه المسألة في الخلاف بل الملك باقٍ على ملك صاحبه، ولا ينتقل بصرّف الفضولي ونماؤه لمالكه. وأمّا قوله: وإذا قال الفضولي للمشتري: أنا ضامن ما الحكم في الغرامة؟ هل يلزمه غرامة النّماء؟ فنقول: إن كان المشتري جاهلًا أنّ هذا مال الغير أو كان عالمًا لكن جهل الحكم وغرّه الفضولي فما لزم المشتري من الغرامة من هذا النّماء الذي تلف تحت المعهود يكون على الضّامن الغارّ. المسألة الرّابعة: وهي قوله: على القول بإثبات الشّفعة بالشّركة في البئر والطّريق، هل إذا باع إنسان عقاره وقد وقعت الحدود إلّا أنّ الشّركة باقية في البئر والطّريق ومسيل الماء هل يأخذ الشّفيع المبيع كلّه لأجل الشّركة في هذه الأمور أم لا شفعة له في البئر والطّريق ومسيل الماء؟

فنقول: على القول بإثبات الشّفعة بالشّركة في البئر والطّريق يأخذ الشّفيع المبيع كلّه بالشّركة في البئر والطّريق ولا يختصّ ذلك بالبئر نفسها ولا بالطّريق وحده، وقد نصّ على ذلك أحمد في رواية أبي طالب، فإنّه سأله عن الشّفعة لِمَن هي؟ فقال: للجار إذا كان الطّريق واحدًا، فإذا صرفت الطّرق وعرفت الحدود فلا شفعة، ويدلّ على ذلك ما رواه أهل السّنن الأربعة من حديث جابر، قال: قال رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم-: "الجار أحقّ بشفعة جاره وإن كان غائبًا إذا كان طريقهما واحدًا". وفي حديث جابر المتّفق عليه: "الشّفعة في كلّ ما لم يقسم، فإذا وقعت الحدود وصرف الطّرق فلا شفعة". فمفهوم الحديث الأخير موافق لمنطوق الأوّل، بإثبات الشّفعة إذا لم تصرف الطّرق. والشّركة في البئر تقاس على الشّركة في الطّريق؛ لأنّ الشّفعة إنّما شرعت لإزالة الضّرر عن الشّريك ومع بقاء الشّركة في البئر والطّريق يبقى الضّرر بحاله. وهذا اختيار الشّيخ تقيّ الدِّين رحمه الله، وهو الذي عليه الفتوى. وأمّا الشّفعة فيما لا ينقل وليس بعقارٍ كالشّجر إذا بيع مفردًا ونحو ذلك، فاختلف العلماء في ذلك، فالمشهور في المذهب أنّها لا تثبت فيه الشّفعة. وهو قول الشّافعي وأصحاب الرّأي. وعن أحمد رواية أخرى أنّ الشّفعة تثبت في البناء والغراس وإن بيع مفردًا لعموم قوله -صلّى الله عليه وسلّم-: "الشّفعة فيما لم يقسم"، ولأنّ الشفعة تثبت لدفع الضّرر والضّرر فيما لا ينقسم أبلغ منه فيما ينقسم. وقد روى التّرمذي من حديث عبد العزيز بن رفيع عن ابن أبي مليكة عن ابن عبّاس، قال: قال رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم-: "الشّفيع شريك والشّفعة في كلّ شيءٍ". وقد روي مرسلًا. ورواه الطّحاوي من حديث جابر مرفوعًا

14 - من حمد بن ناصر إلى الأخ سعيد

ولفظه: قضى رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- بالشّفعة في كلّ شيء. وأمّا مسألة الضّيافة على القول بوجوبها، فالضّيف على مَن نزل به، وأمّا الغائب ومَن لم ينْزل به الضّيف فلا يجب عليه معرفة المنْزول به إلّا أن يختار المعين. وأمّا مسألة المريض الذي أبرأ غرماءه مما عليهم من الدَّين فلما برئ من المرض أراد الرّجوع فيما زاد على الثّلث. فهذا لا رجوع فيه، بل يسقط الدَّين بمجرّد إسقاطه، وإنّما التّفصيل فيما إذا برأ من الدَّين ومات في ذلك المرض. وأمّا الذي أبرأ غريمه على شرطٍ مجهولٍ بأن شرط عليه ذلولًا تمشي في الجهاد دائمًا، ومتى ماتت اشترى أخرى أو شرط عليه أضحية كلّ سنة على الدّوام. فهذا لا يصحّ البراءة والحالة هذه لا تصحّ. والله أعلم. وصلّى الله على محمّد وآله وصحبه وسلّم. - 14 - بسم الله الرّحمن الرّحيم من حمد بن ناصر إلى الأخ سعيد أسعده الله بطاعته وجعله من أهل ولايته. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد؛ الخط وصل وصلك الله إلى رضوانه، وسرّ الخاطر حيث أفاد العلم بطيبكم وصحّة حالمك، أحال الله عنّا وعنك جميع ما نكره. وأمّا المسألة المسؤول عنها هل الدَّين يمنع الزّكاة في الأموال الباطنة أم لا؟ فالمسألة فيها ثلاث روايات عن أحمد ليس كما ذكر صاحب الشّرح؛

حيث ذكر أنّ الدَّين يمنع وجوب الزّكاة رواية واحدة. والرّوايات الثّلاث حكاها في الفروع والإنصاف: الأولى: وهي المذهب الدَّين يمنع وجوب الزّكاة. والثّانية: أنّه لا يمنع مطلقًا كما هو مذهب الشّافعي. الثّالثة: الفرق بين الحال وغيره، فالحال يمنع وجوب الزّكاة بخلاف المؤجّل، واختار هذه الرّواية بعض الأصحاب، وهي ظاهر حديث عثمان؛ لأنّه قال: هذا شهر زكاتكم فمَن كان عليه دَين فليقضه ثم ليزك ما بقي، وهذه الرّواية هي التي عليها ظاهر الفتوى. المسألة الثّانية: وهي أنّ النّاس قبل الإسلام منهم مَن لا يورث المرأة، ومنهم مَن يصالحها ويسلمون وبينهم عقار ونحوه، ومن الإرث شيء باعه الرّجال ولم يعطوا النّساء منه شيئًا قبل الإسلام الخ. فالذي عليه الفتوى في هذه المسائل أعنِي: عقود الجاهلية من نكاحٍ وبياعاتٍ وعقود الرّبا والغصوب ومنع المواريث أهلها ونحو ذلك، أنّ مَن أسلم على شيءٍ من ذلك لم نتعرّض له فلا نتعرّض لكيفية عقد النّكاح هل وقع بشروطه كالولي والشّهود ونحو ذلك، وكذلك البيّاعات لا تنقض إذا أسلم المتعاقدان ولا ننظر كيف وقع العقد، وكذلك عقود الرّبا إذا أسلما ولم يتقابضا، بل أدركهما الإسلام قبل التّقابض فليس لصاحب الدَّين إلّا رأس ماله؛ لقوله تعالى: {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ}، [البقرة، من الآية: 279]. وأمّا المال المقبوض فلا يطالب به القابض إذا أسلم؛ لقوله تعالى: {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ}، [البقرة، من الآية: 275]. وكذلك المواريث والغصوب، فإذا استولى الإنسان على حقّ غيره وتملكّه في جاهليته ومنع مالكه بحيث

أيس منه ثم أسلم وهو في يده لا ينازع فيه، فهذا لا نتعرّض له لظاهر قوله -صلّى الله عليه وسلّم-: "الإسلام يجب ما قبله". ولأنّ النّاس أسلموا في عهد النَّبِيّ -صلّى الله عليه وسلّم- وخلفائه الرّاشدين ولم يبلغنا أنّهم نظروا في أنكحة الجاهلية ولا في عقودهم ومعاملاتهم ولا في غصوبهم ومظالمهم التي تملكّوها في حال كفرهم. قال ابن جريح: قلت لعطاء: أبلغك أنّ النَّبِيّ -صلّى الله عليه وسلّم- أقرّ الجاهلية على ما كانوا عليه؟ قال: لم يبلغنا إلّا ذلك، وقال الإمام أحمد في رواية مهنا: مَن أسلم على شيء فهو عليه. وقال الشّيخ تقيّ الدِّين*: ولو تزوّج المرتدّ كافرة مرتدّة كانت أو غيرها ثم أسلما فالذي ينبغي أن يقال هنا أنّ نقرّهم على مناكحهم كالحربي إذا نكح نكاحًا فاسدًا ثم أسلما فإنّ المعنى واحد، وهو جيد في القياس إذا قلنا إنّ المرتدّ لا يؤمر بقضاء ما تركه في الرّدّة من العبادات. فأمّا إذا قلنا: إنّه يؤمر بقضاء ما تركه من العبادات ويضمن ويعاقب على ما فعله ففيه نظر. ومما يدخل في هذا كلّ عقود المرتدّين إذا أسلموا قبل التّقابض أو بعده، وهذا باب واسع يدخل فيه جميع أحكام أهل الشّرك في النّكاح وتوابعه، والأموال وتوابعها، أو استولّوا على مال مسلمٍ أو تقاسموا ميراثًا ثم أسلموا بعد ذلك، والدّماء وتوابعها كذلك. انتهى كلام الشّيخ رحمه الله. وقال -رحمه الله- في موضع آخر**: ولو تقاسموا ميراثًا جهالًا فهذا شبيه بقسم ميراث المفقود إذا ظهر حيا لا يضمنون ما أتلفوا؛ لأنّهم معذورون. وأمّا الباقي فيفرّق بين المسلم والكافر؛ فإنّ الكافر لا يردّ باقيًا ولا يضمن تالفًا. انتهى. وأمّا قولك: وأيضًا ذكر الفقهاء أنّ المرتدّ لا يرث ولا يورث فكفّار أهل زماننا هل هم مرتدّون أم حكمهم حكم عبدة الأوثان؛ لأنّهم

_ * انظر "الاختيارات الفقهية" للبعلي ص 539. [معد الكتاب للمكتبة الشاملة] ** انظر "الاختيارات الفقهية" للبعلي ص 545. [معد الكتاب للمكتبة الشاملة]

مشركون؟ فنقول: أمّا مَن دخل منهم في الإسلام ثم ارتد عنه فهؤلاء مرتدّون وأمرهم عندك واضح. وأمّا مَن لم يدخل في دِين الإسلام بل أدركته الدّعوة الإسلامية وهو على كفره كعبدة الأوثان اليوم، فهذا حكمه حكم الكافر الأصلي؛ لأنّا لا نقول إنّ الأصل الإسلام والكفر طارئ، بل نقول الذين نشأوا بين الكفّار وأدركوا آباءهم على الشّرك بالله هم كآبائهم كما دلّ عليه الحديث الصّحيح: "فأبواه يهوّدانه أو ينصّرانه أو يمجّسانه". فإذا كان دِين آبائهم الشّرك بالله فنشأ هؤلاء عليه واستمرّوا عليه فلا نقول الأصل الإسلام والكفر طارئ، بل نقول: هم كالكفّار الأصليّين، ولا يلزم هنا على هذا تكفير مَن مات في الجاهلية قبل ظهور هذا الدِّين. فإنّا لا نكفِّر النّاس بالعموم كما أنّا لا نكفِّر اليوم بالعموم، بل نقول: مَن كان من أهل الجاهلية عاملًا بالإسلام تاركًا للشّرك فهو مسلم، وأمّا مَن كان يعبد الأوثان ومات على ذلك قبل ظهور هذا الدِّين فهو ظاهره الكفر، وإن كان يحتمل أنّه لم تقم عليه الحجّة الرّسالية لجهله وعدم مَن ينبّهه؛ لا أنّا نحكم على الظّاهر. وأمّا الحكم على الباطن فذاك أمره إلى الله، والله تعالى لم يعذر أحدًا إلّا بعدم قيام الحجّة، كما قال تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا}، [الإسراء، من الآية: 15]. وأمّا مَن مات منهم مجهول الحال، فهذا لا نتعرّض له ولا نحكم بكفره ولا بإسلامه، وليس ذلك مما كلفنا به {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ}، [البقرة: 134]. فمَن كان منهم مسلمًا أدخله الله الجنّة، ومَن كان كافرًا أدخله الله النّار، ومَن كان لم تبلغه الدّعوة فأمره إلى الله، وقد علمت اختلاف العلماء في أهل الفترة، ومَن لم تبلغه الحجّة الرّسالية، وأيضًا فإنّه لا يمكن أن نحكم في كفار زماننا

بما حكم به الفقهاء في المرتدّين بأنّه لا يرث ولا يورث؛ لأنّ مَن قال بأنّه لا يرث ولا يورث يجعل ماله فيئًا لبيت مال المسلمين، وطرد هذا القول أن يقال: جميع أملاك الكفّار اليوم بيت مال؛ لأنّهم ورثوها عن أهاليهم وأهاليهم مرتدّون لا يورثون. وكذلك الورثة مرتدّون لا يرثون؛ لأنّ المرتدّ لا يرث ولا يورث. وأمّا إذا حكمنا فيهم بحكم الكفّار الأصليّين لم يكن شيء من ذلك بل يتوارثون، فإذا أسلموا فمَن أسلم على شيء فهو له، ولا نتعرّض لما مضى منهم في جاهليتهم لا المواريث ولا غيرها. وقد روى أبو داود عن ابن عبّاس قال: قال رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم-: "كل قسم قُسم في الجاهلية فهو على ما قسم، وكلّ قسم أدركه الإسلام فهو على قسم الإسلام". وروى سعيد في سننه من طريقين عن عروة وأبو مليكة عن النَّبِيّ -صلّى الله عليه وسلّم-: "مَن أسلم على شيء فهو له". ونصّ أحمد على مثل ذلك كما تقدّم عنه في رواية مهنا. واعلم بأنّ القول بأنّ المرتدّ لا يرث ولا يورث هو أحد الأقوال في المسألة، وهو مشهور في المذهب، وهو مذهب مالك والشّافعي. والقول الثّاني: أنّه لورثته من المسلمين. وهو رواية عن أحمد، وهو مروي عن أبي بكر الصِّدِّيق وعليّ بن أبي طالب وابن مسعود، وهو قول جماعة من التّابعين، وهو قول الأوزاعي وأهل العراق. والقول الثّالث: أنّ ماله لأهل دِينه الذي اختاره إن كان منهم مَن يرثه وإلّا فهو فيء. وهو رواية عن أحمد. وهو مذهب داود بن عليّ. والسّلام. فائدة: قال في الإقناع وشرحه: وإذا ذبح السّارقُ المسلمُ أو الكتابيُ المسروقَ مسمّيًا حل لربّه ونحوه أكله ولم يكن ميتة كالمغصوب، ويقطع السّارق إن كان قيمة المذبوح نصابًا وإلّا فلا -إلى أن قال-:

ومَن سرق من ثمرٍ أو شجرٍ أو من جمار نخل وهو الكُثر -بضُمّ الكاف وفتح المثلثة- قبل إدخاله الحرز كأخذه من رؤوس النّخل وشجر من بستان لم يقطع، وإن كان عليه حائط وحافظ، ويضمن عوضه مرتّين لحديث رافع بن خديج أنّ النَّبِيّ -صلّى الله عليه وسلّم- قال: "لا قطع في ثمرٍ ولا كثرٍ". رواه أحمد وأبو داود والتّرمذي. وحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه قال: سُئِلَ النَّبِيّ -صلّى الله عليه وسلّم- عن الثّمر المعلّق فقال: "مَن أصاب منه بغيته من ذي حاجة غير متّخذ خبنة فلا شيء عليه، ومَن خرج بشيء منه فعليه غرامة مثليه والعقوبة". ولأنّ الثّمار في العادة تسبق اليد إليها فجاز أن تغلظ قميتها على سارقها ردعًا له وزجرًا بخلاف غيره. وقوله -صلّى الله عليه وسلّم-: "غير متّخذ خبنة" بالخاء المعجمة ثم باء موحدّة ثم نون، أي: غير متّخذ في حجره، ومَن سرق منه أي: من الثّمر نصابًا بعد إيوائه الحرز كجرين ونحوه أو سرق نصابًا من ثمر من شجره في دار محرزة قطع لقوله -عليه السّلام- في حديث عمرو بن شعيب السّابق: "ومَن سرق منه شيئًا بعد أن يؤويه الجرين فبلغ ثمن المجن فعليه القطع". رواه أحمد والنّسائي وأبو داود ولفظه له. وكذلك الماشية تسرق من المرعى من غير أن تكون محرزة تضمن بمثلي قيمتها ولا قطع كثمر وكثر، واحتجّ أحمد بأنّ عمر غرّم حاطب بن أبي بلتعة حين نحر غلمانه ناقة من مزينة مثلي قيمتها. رواه الأثرم. وما عداها أي الثّمر والكثر والماشية يضمن بقيمته مرّة واحدة إن كان متقوّمًا، أو مثله إن كان مثليًّا، كان التّضعيف فيها على خلاف القياس للنّصّ فلا يتجاوزه محلّ النّصّ. وقال في كتاب الأطعمة: ومَن مرّ بثمرٍ على شجرٍ أو مرّ بثمرٍ ساقطٍ تحته لا حائط عليه أي: على الشّجر ولا ناظر ولو كان المارّ غير مسافرٍ ولا مضطر

فله أن يأكل منه ولو لغير حاجّةٍ إلى أكله، ولو أكله من غصونه من غير رميه ولا ضرر به ولا صعود شجره، لما روى أبو سعيد أنّ النَّبِيّ -صلّى الله عليه وسلّم- قال: "إذا أتيت حائط بستان فناد: يا صاحب البستان، فإن أجابك وإلّا فكل من غير أن تفسد". رواه أحمد وابن ماجه ورجاله ثقات. قال في المبدع: وروى سعيد بإسناده نحوه مرفوعًا، ومثله عن عبد الرّحمن بن سمرة وأبو برزة، وهو قول عمرو بن شعيب وابن عبّاس، وعلم منه أنّه لا يجوز رميه بشيء ولا صعود شجره؛ لأنّه يفسد، واستحبّ جماعة أن ينادي قبل الأكل ثلاثًا: يا صاحب البستان، فإن أجابه وإلّا أكل للخبر السابق. وكذلك ينادي للماشية إذا أراد أن يشرب من لبنها ولبن ماشية إذا مرّ بها كالثّمر، لما روى الحسن عن سمرة مرفوعًا قال: "إذا أتى أحدكم على ماشيةٍ فإن كان صاحبها فيها فليستأذنه فإن لم يجد أحدًا فليحتلب وليشرب ولا يحمل". رواه التّرمذي وصحّحه. وحديث ابن عمر: "لا يحتلبن أحدكم مشايته إلّا بإذنه". متّفق عليه يحتمل حمله على ما إذا كان حائط أو حافظ جمعًا بين الخبرين. والأولى في الثّمار وغيرها كالزّرع ولبن الماشية لا يأكل منها إلّا بإذنٍ خروجًا من الخلاف. انتهى كلام الإقناع وشرحه. وصلّى الله على محمّد وآله وصحبه وسلّم.

رسائل وفتاوى للشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين

رسائل وفتاوى للشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين ... رسائل وفتاوى {الشّيخ عبد الله بن عبد الرّحمن أبو بطين} - 1 - بسم الله الرّحمن الرّحيم من عبد الله بن عبد الرّحمن إلى الأخ جمعان بن ناصر زاده الله علمًا وفهمًا، ووهب لنا وله حكمًا، ووفّقنا وإيّاه لسلوك صراطه المستقيم، ورزقنا وإيّاه الاستقامة، وجنّبنا طريق الضّلال أصحاب الجحيم. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد؛ فموجب الخط إبلاغ المحبّ جزيل السّلام والسّؤال عن الأحوال لا زلتم بخيرٍ وخطكم الشّريف وصل، أوصلكم الله إلى الخيرات. ومن طرف ما ذكرت من الأخبار فالحمد لله ربّ العالمين حمدًا كثيرًا كما هو أهله وكما ينبغي لعزّ جلاله وكرم وجهه. ومن طرف الأخبار البيعدة فلم نتحقّق إلى الآن أمرًا بيّنًا والطّائفتان متقابلتان. نسأل الله أن يصلح مَن في صلاحه صلاح المسلمين، ويهلك مَن في هلاكه صلاح المسلمين. وما أشرت إليه من أنّا مستوجبون لما هو أعظم مما ذكرت، فالأمر كما قال تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ}، [الشّورى: 30]. نسأل الله العفو والعافية لنا ولجميع المسلمين: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ}، [القصص، من الآية: 68]. ويا أخي، دفعنا إلى هذا الزّمان الذي ترى القابض فيه على دِينه كالقابض على الجمر، والقائم فيه بالحقّ كأنّما يجرع النّاس كأس المرّ، نفوس استحلّت مذاق الباطل، وقلوب استولى عليها حبّ العاجل، وأكثر طلبة العلم اليوم صاروا إمّا في الإفراط أو التّفريط. نسأل الله لنا ولكم الهدى والسّداد. وأيضًا يا أخي لما أراد الله

سبحانه ما ترى فالذي ينبغي لمثلنا حثّ النّاس على الخير حسب الاستطاعة، واستعمال الرّفق والمداراة من غير مداهنة، والفرقة عذاب، والجماعة رحمة. كما قال ابن مسعود -رضي الله عنه-: الجماعة رحمة والفرقة عذاب. وما تكرهون في الجماعة خير مما تحبّون في الفرقة، ونسأل الله أن يصلح مَن في صلاحه صلاح المسلمين، وأن يهلك مَن في هلاكه صلاح المسلمين. وما ذكرت من المسائل: المسألة الأولى: فيمَن استأجر أرضًا لغرسٍ أو بناءٍ مدّةً معلومةً الخ؟ فالمذهب كما ذكرتم أنّ مالك الأرض يخيّر بين تملّك الغراس أو البناء بقيمته أو تركه بأجرة المثل مدّة بقائه أو قلعه وضمان نقصه، فإن اختار صاحب الغراس أو البناء قلعه فله ذلك وليس لربّ الأرض منعه إذا أراده. وهذا ما لم يشترط قلعه عند انقضاء المدّة. وأمّا صفة تقويمه إذا اختار ربّ الأرض أخذه بقيمته، فقال في المغنِي والشّرح: لا يمكن إيجاب قيمته باقيًا؛ لأنّ البقاء غير مستحقّ ولا قيمته مقلوعًا؛ لأنّه لو كان كذلك لملك القلع مجانًا، ولأنّه قد لا يكون له قيمة إذا قلع قالا ولم يذكر أصحابنا كيفية وجوب القيمة. والظّاهر أنّ الأرض تقوّم مغروسة ومبنية ثم تقوّم خالية فيكون ما بينهما قيمة الغرس والبناء. انتهى. وجزم بذلك ابن زرين في شرحه وتبعه في الإقناع وشرحه. وكذا في شرح المنتهى، وبيان ذلك إذا قوّمت الأرض خالية بمائة ومغروسة أو مبنية بمائتين مثلًا، صار قيمة الغراس أو البناء مائة، فإن اختار مالك الأرض القلع مع ضمان النّقص وقيمة الأض خالية مائة وقيمتها مغروسة مائتان

فقيمة الغرس أو البناء مائة، فإذا قلع صارت قيمته عشرين مثلًا، تبيّنّا أنّ النّقص بالقلع ثمانون يدفعها صاحب الأرض لصاحب الغراس أو الباء، وهكذا الحكم لو اشترى أرضًا فغرس فيها أو بنى ثم فسخ العقد بنحو عيبٍ أو إقالةٍ. قال في الإنصاف: على الصّحيح من المذهب. قال: وأمّا البيع بعقدٍ فاسدٍ إذا غرس فيه المشتري أو بنى فالصّحيح من المذهب أنّ حكمه حكم الستعير إذا غرس أو بنى. ذكره القاضي وابن عقيل والمصنّف في المغنِي وقدّمه في الفروع. انتهى. وأمّا العارية التي لم يشترط فيها القلع على المستعير عند رجوع المعير فمالك الأرض يخيّر بين القلع وضمان النّقص وبين أخذه بقيمته لا تبقيته بالأجرة بغير رضا المستعير، قالوا: فإن أبى المالك من أخذه بقيمته وقلعه وضمان نقصه ولم يتراضيا على تبقيته بالأجرة بيع عليهما إن رضيا أو أحدهما ويجبر الممتنع منهما إذا طلب صاحبه البيع وقسم الثّمن بينهما يقسط على الأرض والغراس كما تقدّم. ولم يقولوا بالبيع والحالة هذه في صورة الإجارة السّابقة، إلّا أنّ صاحب الغاية قال: ويتّجه لو أبى صاحب الأرض الثّلاث، ومالك الغرس أو البناء قلعه بيعت الأرض بما فيها كعارية. انتهى. وقول صاحب المحرّر في العارية: إذا امتنع المالك من أخذه بقيمته ومن قلعه مع ضمان نقصه بقي في أرضه مجانًا. وهذا وجه في المذهب. والوجه الثّاني: وهو المشهور، أنّه إذا امتنع المالك من أخذه بقيمته ومن قلعه مع ضمان نقصه ولم يتراضيا على أجرة بيع عليهما بطلب أحدهما، وما ذكرتم من عبارة التّحفة فيحتمل أن يكون مراده بالتّقويم كما ذكرنا ويحتمل أنّه يريد أن يقوّم الغرس وحده قائمًا كما هو قول لبعض أصحابنا.

وقال الشّيخ تقيّ الدّين -رحمه الله -: ليس لأحد أن يقلع غراس المتسأجر وزرعه وبناءه صحيحةً كانت الإجارة أو فاسدةً. بل يبقى وعلى ربّه أجرة المثل ما دام قائمًا فيها. وقال فيمَن احتكر أرضًا بنى فيها مسجدًا أو بناء وفقه عليه فمتى فرغت المدّة وانهدم البناء زال حكم الوقف وأخذوا أرضهم فانتفعوا بها، وما دام البناء قائمًا فيها فعليه أجرة المثل. قال في الإنصاف: وهو الصّواب، ولا يسع النّاسع إلّا ذلك. وإذا بقي الغراس أو البناء بأجرةٍ لم يشترط تقدير المدّة؛ لأنهم لم يذكروا ذلك، وهو ظاهر. بل يشترط تقدير أجرة كلّ سنة. والله سبحانه وتعالى أعلم. المسألة الثّانية: نكاح الرّجل المرأة في عدّة أختها أو خالتها ونحوهما، ونكاحه خامسة في عدّة رابعة؟ فإن كان الطّلاق رجعيًّا فهذا النّكاح باطل عند جميع العلماء. وإن كانت العدّة من طلاق بائن ففيه خلاف مشهور. والمذهب التّحريم. قال في الشّرح الكبير: إذا تزوّج الرّجل امرأة حرمت عليه أختها وعمّتها وخالتها وبنت أخيها وبنت أختها تحريم جمع، وكذلك إذا تزوّج الحرّ أربعًا حرمت عليه الخامسة تحريم جمعٍ بلا خلاف. فإذا طلّق وزجته طلاقًا رجعيًّا فالتّحريم باقٍ بحاله في قولهم جميعًا. وإن كان الطّلاق بائنًا أو فسخًا فكذلك حتّى تنقضي عدّتها. روي ذلك عن عليّ وابن عبّاس وزيد بن ثابت. وبه قال سعيد بن المسيب ومجاهد والنّخعي والثّوري وأصحاب الرّأي. وقال القاسم بن محمّد وعروة ومالك والشّافعي وأبو عبيد وابن المنذر له نكاح جميع مَن سمّيناه من تحريم. المسألة الثّالثة: في الفرق بين الباطل والفاسد؟ فقال في مختصر التّحرير

وشرحه: وبطلان وفساد مترادفان يقابلان الصّحّة الشّرعية، أي: فيقال: لكلّ ما ليس بصحيحٍ باطل وفاسد سواء كان عبادة أو عقدًا. قال: وفرّق أبو حنيفة بين البطلان والفساد، وفرّق أصحابنا وأصحاب الشّافعي بين الفاسد والباطل في الفقه في مسائل كثيرة. قال في شرح التّحرير. قلت: غالب المسائل التي حكموا عليها بالفساد إذا كانت مختلفًا فيها بين العلماء، والتي حكموا عليها بالبطلان إذا كانت مجمعًا عليها أو الخلاف فيها شاذ، قال ثم وجدت بعض أصحابنا. قال: الفاسد من النّكاح ما يسوغ فيه الاجتهاد والباطل ما كان مجمعًا على بطلانه. المسألة الرّابعة: قول الزّوج لزوجته: طلّقي نفسك. وقوله لها: أمرك بيدك، ما الفرق بينهما مع كون كلّ من اللّفظين توكيلًا في الطّلاق؟ فأمّا قوله: طلّقي نفسك، ونحو هذا اللّفظ، فهذا وكالة صريحة كما لو قاله لغير زوجته. وقوله: أمرك بيدك، كناية في التّوكيل في الطّلاق يحتاج إلى نيّة الزّوج إن كان مراده تفويض أمرها إليها والفرق من جهة العربية أنّ قوله: أمرك بيدك يقتضي توكيلها في جميع أمرها؛ لأنّ قوله: أمرك اسم جنس مضاف، فيتناول الطّلقات الثّلاث أشبه ما لو قال: طلّقي نفسك ما شئت. وكذا لو قال لأجنبي: أمر زوجتي بيدك، ملك تطليقها ثلاثًا. قال في الشّرح: وإن قال لامرأته: طلّقي نفسك، فلها ذلك كالوكيل، فإن نوى عددًا فهو على ما نوى، وإن أطلق من غير نيّة لم تملك إلّا واحدة؛ لأنّ الأمر المطلق يتناول أقلّ ما يقع عليه الاسم، وكذلك الحكم لو وكل أجنبيًّا فقال: طلّق زوجتي فالحكم على ما ذكرنا. قال أحمد فيمَن قال لامرأته: طلّقي نفسك، ونوى ثلاثًا فطلّقت نفسها

ثلاثًا فهي ثلاث. وإن كان نوى واحدةً لم تطلق إلّا واحدةً؛ لأنّ الطّلاق يكون واحدةً ويكون ثلاثًا فأيّهما نواه فقد نوى بلفظه ما يحتمله، وإن لم ينو تناول اليقين، وهو واحدة. ثم قال الشّارح: ولا يطلق الوكيل أكثر من واحدة إلّا أن يجعل ذلك إليه، لأنّ الأمر المطلق يتناول أقل ما يقع عليه الاسم، إلّا أن يجعل إليه أكثر من واحدةٍ بلفظه أو نيّته. نصّ عليه. والقول قوله في نيّته؛ لأنّه أعلم بها. ثم قال الشّارح: إذا قال لامرأته: أمرك بيدك، كان لها أن تطلق ثلاثًا، وإن نوى أقلّ منها. هذا ظاهر المذهب؛ لأنّها من الكنايات الظّاهرة. روي ذلك عن عثمان وابن عمر وابن عبّاس، وبه قال سعيد بن المسيب والزّهري. قالوا: إذا طلقت ثلاثًا؟ فقال: لم أجعل لها إلّا واحدة لم يلتفت إلى قوله والقضاء قضت به، وعن ابن عمر وابن مسعود أنّها طلقة واحدة، وبه قال عطاء ومجاهد والقاسم ومالك والأوزاعي. وقال الشّافعي: إن نوى ثلاثًا فلها أن تطلق ثلاثًا وإن نوى غير ذلك لم تطلق ثلاثًا والقول قوله في نيّته. ثم احتجّ الشّارح للقول الأوّل بما ذكرناه أوّلًا من أنّ قوله: "أمرك"، اسم جنس مضاف فيتناول الطّلقات الثّلاث أشبه ما لو قال طلّقي نفسك ما شئت. انتهى. فإن ادّعى الزّوج بأنّه لم يرد بقوله لزوجته أمرك بيدك تفويض الطّلاق إليها فالقول قوله: ما لم يقع ذلك جوابًا بسؤالها الطّلاق ونحوه. وأمّا قول العامّة قلطتك على نفسك، فالذي يظهر أنّ هذا كناية في الوكالة تملك به واحدة وتعتبر نيّته أيضًا أو يكون ذلك جوابًا لسؤالها. والله سبحانه وتعالى أعلم. المسألة الخامسة: في حكم الطّلاق في النّكاح الفاسد. قال في الإنصاف:

ويقع الطّلاق في النّكاح المختلف فيه كالنّكاح بلا وليٍّ عند أصحابنا. ونصّ عليه أحمد -رحمه الله- وهو المذهب. ثم ذكر وجهًا بعدم الوقوع، ثم قال: وحيث قلنا بالوقوع فيه فإنّه يكون طلاقًا بائنًا. قال في الرّعاية والفروع والنّظم وغرها. قال: فيعايا بها. انتهى. فعلى هذا يحسب من الطّلقات الثّلاث. المسألة السّادسة: في صفة تقويم المريض إذا أتلفه متلف. فقال المجد في شرح الهداية: مَن استهلك على رجلٍ زرعًا أخضر ضمن قيمته على رجاء السّلامة والعطب. قال: وهذا مذهب مالك وقياس مذهبنا في تقويم المريض والجاين ونحوهما. انتهى. إنّ صفة ذلك في تقويم المريض ونحوه أن يقال: يساوي إذا كان ترجى حياته ويخاف موته ثلاثين ريالًا مثلًا، وإن لم يخف عليه الموت من ذلك المرض ساوى خمسين مثلًا، وإن كان لا يرجى سلامته يساوي مثلًا عشرة، فإذا كان ترجى حياته ويخاف موته صارت قيمته ثلاثين، فهي الواجب فيه. والله أعلم. المسألة السّابعة: إذا اقتتلت طائفتان لعصبيةٍ أو طلب رياسةٍ؟ فقال أصحابنا: وإن اقتتلت طائفتان لعصبيةٍ أو طلب رياسةٍ فهما ظالمتان، وتضمن كلّ واحدةٍ ما أتلفت على الأخرى. قال الشّيخ تقيّ الدّين: فأوجبوا الضّمان على مجموع الطّائفة وإن لم يعلم عين المتلف. قال: وإن تقابلا تقاصا؛ لأنّ المباشر والمعين سواء عند الجمهور. وإن جهل ما نهبه كلّ طائفة من الأخرى تساوتا. اهـ. فصرّح الشّيخ أنّ المباشر والمعين سواء عند الجمهور كقطاع الطّريق، وهذا ظاهر كلام الأصحاب لقولهم وتضمن كلّ طائفةٍ ما أتلفت على الأخرى. ومعلوم أنّه لا بدّ أن يكون فيهم غالبًا مَن لم يباشر القتل أو النّهب. ومعنى قول الشّيخ -رحمه الله-: وإن تقابلا تقاصا، مراده إذا تحققنا

أنّ ما أتلفته كلّ واحدةٍ على الأخرى يساوي ألفًا مثلًا تقاصا فلا يؤخذ من طائفةٍ ما لزمها ويدفع على الأخرى، وأمّا إذا اعترض جماعة رجلًا وبينه وبين بعضهم عداوة فثور عليه قتله فإن كان الذي معه ردأ له فحكمهم حكمه؛ لأنّهم قطاع طريق؛ لأنّ القطع في الصّحراء والبنيان سواء، فإن لم يكونوا قطاعًا بل كانوا ذاهبين في حاجة لهم مثلًا فرأى بعضهم من بينه وبينه عداوة أو شحناء فثور عليه فقتله اختصّ الحكم به إن لم يدفعوا عنه من أراده، وهذا يحتاج إلى نظرٍ وتفصيلٍ. والله سبحانه وتعالى أعلم. المسألة الثّامنة: إذا استثنى صاحب النّخل ثمرة نخلةٍ أو أكثر خالصّة له دون العامل فالعقد فاسد لكن سوغ بعض فقهاء متأخري نجد فيما إذا كانت نخلة وقفًا على بكرة مثلًا أن يشرط للعامل جزءًا يسيرًا من ثمرتها صحّ ذلك، وكذا لو شرط الواقف بأنّ هذه النّخلة على البركة أو السّاقي لا يزال عنها ذلك فلا يزال. المسألة التّاسعة: ما نقله في الإنصاف عن عمد الأدلّة لابن عقيل بعد ذكر التّحكيم أي بعد أن تكلّم على مسألة ما إذا حكم المتنازعان بينهما رجلًا صالحًا للقضاء. قال وكذا يجز أن يتولّى متقدمو الأسواق والمساجد الوساطات والصّلح عند الفورة والمخاصمة الخ. فالذي يظهر أنّ المراد بقوله: متقدمو الأسواق والمساجد؛ الذين يفوض إليهم وليّ الأمر النّظر على أهل الأسواق بإلزامهم بالشّرع وإنصاف بعضهم من بعضٍ ونحو ذلك، وكذلك الذي يجعل لهم النّظر على المساجد بصيانها وإصلاحها والاحتساب على المصلّين بها والمؤذّنين ونحو ذلك، فمَن فوّض إليه شيء من ذلك جاز له

2 - من عبد الله بن عبد الرحمن إلى الأخ الحبيب والشيخ المفهم الأديب جمعان بن ناصر

على ما ذكره ابن عقيل تولّي الوساطات، والذي يظهر أنّ المراد بالوساطات التّوسّط بين المتنازعين والصّلح عند الفورة، لعلّ المراد أنّه إذا حصل تنازع بين أهل السّوق أو المسجد يجوز لهم التّوسيط والصّلح بين المتنازعين فورًا حال التّنازع لأجل كف الشّر في الحال. والله أعلم. وأمّا قولهم: فعل الحاكم حكم كتزويج يتيمة الخ. فهذه مسألة مستقلّة ومعناها: أنّ الحاكم إذا فعل ذلك صار حكمًا منه يرفع الخلاف؛ لأنّ حكم الحاكم في المسائل المختلف فيها يرفع الخلاف، فكذا فعله نحو ما إذا زوّج صغيرة بإذنها كبنت تسع صار حكمًا منه بصحّة النّكاح فلا يجوز لِمَن لا يرى جواز تزويج الصّغيرة فسخ هذا النّكاح ونحو ذلك من المسائل المختلف فيها، فلا ينقض من حكم حاكمٍ إلّا ما خالف نصّ الكتاب أو نصّ السّنة أو إجماعًا قطعيًّا أو إذا حكم بخلاف ما يعتقده. والله سبحانه وتعالى أعلم. وأمّا تضمين مَن نهب مال مسلم في مثل هذه الحادثة فالذي نعتقده وجوب ردّه على صاحبه وتضمينه إن تلف. والله سبحانه وتعالى أعلم. نسأل الله تعالى صلاح أحوال المسلمين، وأن يهدينا وإخواننا المسلمين صراطه المستقيم، صراط الذين أنعم الله عليهم غير المغضوب عليهم وغير الضّالّين. - 2 - بسم الله الرّحمن الرّحيم من عبد الله بن عبد الرّحمن إلى الأخ الحبيب والشّيخ المفهم الأديب جمعان بن ناصر أسبغ الله علينا وعليه من نعمه باطنها وظاهرها، وأوزعنا جميعًا شكرها.

سلام عليك أيها الأخ المكرم ورحمة الله وبركاته. وبعد؛ فموجب الخط إبلاغكم جزيل السّلام والاستخبار عن الأحوال أصلح الله أحوالنا وإيّاكم في الدّنيا والآخرة، والخط الشّريف وصل، وبه الأنس والسّرور حصل، حيث أفادنا عن صحّة أحوالكم وظهور الحقّ في بلادكم، والحمد لله على ما أولى من النّعم وصرف من النّقم، وفهمنا ما تضمنه كتابكم من البحث عن المسائل التي تضمنها. نسأل الله لنا ولكم التّوفيق والسّداد، وأن يهب لنا جميعًا ولكم حكمًا ويلحقنا بالصّالحين. المسألة الأولى: إذا كسدت السّكة بتحريم السّلطان لها أو بغيره أو رخصت. فقد بسط القول في هذه المسألة ناظم المفردات وشارحها فنتحفك بنقل كلاهما ملخّصًا. قال النّاظم: والعقد في المبيع حيث عينا ... وبعد ذا كساده تبينا بل قيمة الفلوس يوم العقد ... بها فمنه عندنا لا تقبل نحو الفلوس ثم لا يعامل ... والقرض أيضًا هكذا في الرّدّ أي: إذا وقع العقد بنقدٍ معيّنٍ كدارهم مكسرة أو مغشوشة أو بفلوس ثم حرّمها السّلطان فمنع المعاملة بها قبل قبض البائع لها لم يلزم البائع قبضها بل له الطّلب بقيمتها يوم العقد، وكذلك لو أقرضه نقدًا أو فلوسًا فحرم السّلطان المعاملة بذلك فردّ المقترض لم يلزم المقرض قبوله ولو كان باقيًا بعينه لم يتغيّر وله الطّلب بقيمة ذلك يوم القرض وتكون من غير جنس النّقد إن أفضى إلى ربا الفضل، فإذا كان دراهم أعطى عنها دنانير وبالعكس لئلا يؤدّي إلى الرّبا: ومثله مَن رام عود الثّمن ... من ردّه الْمبيع خذ بالأحسن

قد ذكر الأصحاب ذا في ذي الصور ... والنص في القرض عيانا قد ظهر أي: مثل ما تقدم مَن اشترى معيبًا أو نحوه بدراهم مسكرة أو مغشوشة أو فلوس وأقبضها للبائع فحرمها السّلطان ثم ردّ المشتري المبيع لعيبٍ ونحوه وكان الثّمن باقيًا فردّه لم يلزم المشتري قبوله منه لتعيبه عنده والأصحاب ذكروا هذه الصّور بالقياس على القرض، والنّصّ عن الإمام إنّما ورد في القرض في الدّارهم المسكرة. قال: يقوّمها كم تساوي يوم أخذها ثم يعطيه. وقال مالك واللّيث والشّافعي: ليس له إلّا مثل ما أقرضه؛ لأنّ ذلك ليس بعيبٍ حدث بها فهو كرخص سعرها، ولنا أنّ تحريمها منع إنفاقها وأبطل ماليتها فأشبه كسرها. والنّصّ بالقيمة في بطلانها ... لا في ازدياد القدر أو نقصانها بل إن غلت فالمثل فيها أحرى ... كدانق عشرين صار عشرا يعنِي: أنّ النّصّ في ردّ القيمة إنّما ورد عن الإمام فيما إذا أبطلها السّلطان فمنع المعاملة بها لا فيما إذا زادت قيمتها أو نقصت مع بقاء التّعامل بها وعدم تحريم السّلطان لها فيردّ مثلها سواء غلّت، أو رخصت، أو كسدت إلى أن قال: وشيخ الإسلام فتى تيمية ... قال قياس القرض عن جلية الطّرد في الدّيون كالصّداق ... وعوض للخلع والإعتاق والغصب والصّلح عن القصص ... ونحو ذا طرًا بلا اختصاص أي: قال شيخ الإسلام بحر العلوم أبو العبّاس تقيّ الدِّين ابن تيمية -رحمه الله- في شرح المحرّر: قياس ذلك أي: القرض فيما إذا كانت مسكرة أو فلوسًا وحرّمها السّلطان وقلنا يردّ قيمتها في جميع الدُّيون في بدل المتلف

والمغصوب مطلقًا والصّداق والفداء والصّلح عن القصاص والكتابة. انتهى. قال وجاء في الدَّين نصٌّ [مطلقُ] * ... حرّره الأثرم إذا يحقّقُ يعنِي: قال ابن تيمية إنّ الأصحاب إنّما ذكروا النّصّ عن أحمد في القرض وكذلك المنصوص عن أحمد في سائر الدّيون. قال الأثرم: سمعت أبا عبد الله سُئِلَ عن رجلٍ له على رجلٍ دراهم مكسرة فسقطت المكسرة. قال: يكون له بقيمتها من الذّهب. وقولهم إنّ الكساد نقصا ... فذاك نقص النّوع عاقب رخصا قال ونقص النّوع ليس يعقل ... فيما سوى القيمة ذا لا يجهل يعنِي: أنّ تعليل القاضي ومَن تابعه من الأصحاب بوجوب ردّ قيمة الفلوس إذا كسدت لمنع السّلطان التّعامل بها بأنّ الكساد يوجب النّقصان، وهو نوع عيب معناه: عيب النّوع؛ إذ ليس المراد عيب الشّيء المعيّن؛ فإنّه ليس هو المستحق وإنّما المراد عيب النّوع والأنواع لا يعقل عيبها إلّا نقصان قيمتها. هذا معنى كلام الشّيخ تقيّ الدِّين في الاستدلال لما ذكره المصنّف عنه في البيتين المذكورين كما ستقف عليه بعد ذلك إلى أن قال: وخرج القيمة في المثليّ ... بنقص نوعٍ ليس بالخفيّ واختاره وقال عدل ماضي ... خوف انتضار السّعر بالتّقاضي ثم نقل الشّارح كلام الشّيخ إلى أن قال: فإذا أقرضه أو غصبه طعامًا فنقصت قيمته فهو نقص النّوع فلا يجبر على أخذه ناقصًا فيرجع إلى القيمة. وهذا هو العدل؛ فإنّ المالين إنّما يتماثلان إذا استوت قيمتهما. وأمّا مع اختلاف القيمة فلا تماثل. قال: ويخرج في جميع الدَّين من الثّمن والصّداق والفداء والصّلح عن القصاص مثل ذلك كما في الأثمان. انتهى ملخّصًا. وكثير من الأصحاب تابعوا الشّيخ تقيّ الدِّين -رحمه الله تعالى- إلحاقًا لسائر

_ * سقطت من الأصل المطبوع. [معد الكتاب للمكتبة الشاملة]

الدّيون بالقرض. وأمّا رخص السّعر فكلام الشّيخ صريح في أنّه يوجب ردّ القيمة أيضًا. وهو أقوى. فإذا رفع إلينا مثل ذلك وسطنا بالصّلح بحسب الإمكان هيبة للجزم بذلك. والله سبحانه وتعالى أعلم. وقوله -رحمه الله-: أو غصبه الخ. فهذا اختاره أيضًا بأنّ نقص قيمة المغصوب مضمون على الغاصب، وهو رواية عن أحمد في المغصوب. وأمّا قوله -صلّى الله عليه وسلّم-: "مَن باع بَيعتين في بيعةٍ فله أوكسهما أو الرّبا". فهذا الحديث رواه الإمام أحمد وأبو داود. قال الشّيخ تقيّ الدِّين -رحمه الله-*: للنّاس في البَيعتين في البيعة تفسيران: أحدهما: أن يقول: هو لك بنقدٍ بكذا وبنسيئة بكذا، كما رواه سماك بن حرب عن عبد الرّحمن بن عبد الله بن مسعود عن أبيه، قال: نهى رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- عن صفقتين في صفقةٍ، قال سماك: هو الرّجل يبيع البيع فيقول: هو بنساء بكذا، وهو بنقد بكذا وكذا. رواه الإمام أحمد. وعلى هذا فله وجهان: أحدهما: أن يبيعه بأحدهما مبهمًا ويتفرّقان على ذلك. وهذا تفسير جماعة من أهل العلم لكنه يتعذر من هذا الحديث؛ فإنّه لا مدخل للرّبا هنا، ولا صفقتين هنا، وإنّما هي صفة واحدة بثمنٍ مبهمٍ. والثّاني: أن يقول: هي بنقدٍ بكذا وأبيعكها بنسيئة بكذا؛ كالصّورة التي ذكرها ابن عبّاس. قال: إذا استقمت بنقدٍ فبعت بنقدٍ فلا بأس، وإذا استقمت بنقدٍ فبعت بنسيئة فلا خير فيه. ومعنى استقمت، أي: قوّمت السّلعة، يعنِي: إذا قوّمت السّلعة بنقدٍ فلا تبعها بنسيئة، معناه: إذا قوّمتها بنقدٍ بعشر مثلًا فلا تبعها بأكثر نسيئة، يعنِي: إذا قلت هي بنقدٍ بكذا وأبيعها بنسيئة بكذا، فيكون قد جمع صفتي النّقد والنّسيئة في صفقةٍ واحدةٍ، وجعل

_ * في كتاب "إقامة الدليل على بطلان التحليل" ص 138. [معد الكتاب للمكتبة الشاملة]

النّقد معيار النّسيئة. وهذا مطابق لقوله -صلّى الله عليه وسلّم-: "فله أوكسهما أو الرّبا"، فإنّ مقصوده حينئذٍ هو بيع دراهم عاجلة بآجلة، فلا يستحقّ إلّا رأس ماله. وهو أوكس الصّفقتين، وهو مقدار القيمة العاجلة، فإن أخذ الرّبا فهو مربي. التّفسير الثّاني: أن يبيعه الشيء بثمنٍ على أن يشتري المشتري منه ذلك الثّمن وأولى منه أن يبيعه السّلعة على أن يشتريها البائع بعد ذلك. وهذا أولى بلفظ البيِّعتين في بيعةٍ، فإنّه باع السّلعة وابتاعها أو باع الثّمن وباعه. وهذه صفقتان في صفقةٍ، وهذا بعينه هو العينة المحرّمة، وما أشبهها مثل أن يبيعه نساء ثم يشتري بأقلّ منه نقدًا، أو بنقدٍ ثم يشتري بأكثر منه نساء، ونحو ذلك، فيعود حاصل هاتين الصّفقتين إلى أن يعطيه دراهم ويأخذ أكثر منها، وسلعته عادت إليه فلا يكون له إلّا أوكس الصّفقتين، وهو النّقد. فإن ازداد فقد أربى. انتهى كلام الشّيخ ملخّصًا على هذا الحديث. وقد صحّ عن النَّبِيّ -صلّى الله عليه وسلّم- أنّه نهى عن بيِّعَتين في بيعةٍ. وقال: "لا يحلّ سلف وبيع". وقد ذكر العلماء -رحمهم الله تعالى- لذلك صورًا كثيرةً، وضابطها: أن يشترط أحد المتعاقدين على صاحبه عقدًا آخر. وقد نصّ الإمام أحمد -رحمه الله- على صورٍ من ذلك نحو: أن يشترط أحدهما على صاحبه سلمًا أو إجارة أو بيعًا أو قرضًا أو شركةً أو صرفًا للثّمن أو غيره. قال الأصحاب: وكذلك كلّما كان في معنى ذلك، مثل: أن يقول: بعتك كذا بكذا بشرط أن تزوّجنِي ابنتك أو أزوّجك ابنتِي. وكذا على أن تنفق على عبدي أو دابّتي أو نصيبِي من ذلك قرضًا أو مجانًا وذكروا صورًا أخر. فإذا عرفت ضابط المسألة تبيّن لك تفصيلها وأنواعها، فإذا آجره أرضه

أو زارعه عليها وشرط عليه أن يقرضه أو يبيعه كذا، أو ساقاه على نخله وشرط أن يبيعه أو يسلم إليه كذا، ونحو ذلك من اشتراط عقد في عقد آخر، فهذا ونحوه من نحو بيِّعتين في بعيةٍ وصفقتان في صفقةٍ. وقد روى الإمام أحمد عن ابن مسعود أنّ النَّبِيّ -صلّى الله عليه وسلّم- نهى عن صفقتين في صفقةٍ. وأمّا مَن مات ولم يحجّ فهذا إن كان قد وجب عليه الحجّ قبل موته لاستكمال شروط الوجوب في حقّه مع سعة الوقت وجب أن يحجّ عنه من رأس ماله أوصى به أو لا. وإن كان الميّت لم يجب عليه الحجّ قبل موته لعدم تكامل شرائط الوجوب في حقّه في حياته لم يجب أن يُحَجّ عنه من مال إن لم يوص به، فإن أوصى به فمن ثلثه. هذا ما ذكره أصحابنا وغيرهم. قال أصحابنا من لزمه حجّ أو عمرة فتوفي قبله وجب قضاؤه فرط أو لا، من رأس ماله كالزّكاة والدَّين ولو لم يوص به. واحتّجوا بحديث ابن عبّاس أنّ امرأة قالت: يا رسول الله إنّ أمِّي نذرت أن تحجّ فلم تحجّ حتّى ماتت، أفأحج عنها؟ قال: "نعم. حجّي عنها، أرأيت لو كان على أمِّك دين أكنتِ قاضيته؟ قافضوا الله، فالله أحقّ بالوفاء". رواه البخاري. وأمّا ثبوت الجائحة في إجارة الأرض ونحوها فاختيار الشّيخ تقيّ الدِّين معلوم لديكم وأكثر العلماء على خلافه، قال في المغنِي: فإن استأجر أرضًا فزرعها فتلف الزّرع فلا شيء على المستأجر نصّ عليه أحمد ولا نعلم فيه خلافًا؛ لأنّ المعقود عليه منافع الأرض ولم تتلف إنّما تلف مال المستأجر فيها فصار كدار استأجرها ليقصر فيها ثيابًا فتلفت الثّياب فيها. انتهى. فظاهر قوله: فلا شيء على المؤجّر يتماول الأجرة وغيرها، لكن قال في الاختيارات لما ذكر إثبات الجائحة في أجرة الأرض: وبعض النّاس

يظنّ أنّ هذا خلاف ما في المغنِي من الإجماع وهو غلط، فإنّ الذي في المغنِي أنّ نفس الزّرع إذا تلف يكون من ضمان المستأجر صاحب الزّرع لا يكون كالثّمرة المشتراة، فهذا ما فيه خلاف، وإنّما الخلاف في نفس أجرة الأرض ونقص قيمتها فيكون كما لو انقطع الماء عن الرّحى. انتهى. وقد ذكر الشّيخ عن اختياره أنّه خلاف ما رآه عن أحمد ولم يحك صاحب الإنصاف إثبات الجائحة في صورة الإجارة عن غير الشّيخ إلّا ما حكاه عن أبي الفضل بن حمزة في الحمام. وفرّق الأصحاب بين الثّمرة المشتراة وبين الأجرة بأنّ المعقود عليه في الإجارة نفع الأرض فالتّالف غير المعقود عليه، والمعقود عليه في الثّمرة المشتراة هو نفس الثّمرة فهي التّالفة. والله سبحانه وتعالى أعلم. والذي نعتمده في المسألة هو الإلزام بجميع الأجرة إن تعذر الصّلح بين الخصوم. وأمّا حديث: "الخراج بالضّمان"، وفي لفظٍ آخر: "الغلة بالضّمان"، فهذا الحديث وإن كان واردًا في صورة ردّ المبيع بالعيب فيتناول بعمومه صورًا كثيرةً، ذكرها الفقهاء في مواضعها؛ وكالنّماء الحاصل في مدّة الخيار، وكذا المبيع إذا رجع بالإقالة، وقد حصل منه غلّة أو نماء عند المشتري، وكذا الشّقص المشفوع إذا أخذه الشّفيع والعين عند المفلس إذا استردها بائعها، وكذا هبة الأب لولده إذا رجع فيها وقد نمت عند الولد، وكذلك الصّداق إذا نمى بيد الزّوجة ثم رجع نصفه إلى الزّوج بطلاق قبل الدّخول ونحوه، وغير ذلك من الصّور يعرفها مَن تتبّع مظانها من كتب الفقه. والله أعلم. وأمّا تأثير الخلطة في غير الماشية في الزّكاة فالخلاف في ذلك مشهور

بين القائلين بتأثير الخلطة في الماشية فالمشهور في مذهب أحمد عدم تأثير الخلطة في غير الماشية، وهو مذهب مالك في غير المساقاة، فخلطة المساقاة تؤثّر عند مالك. رحمه الله. وعن أحمد رواية أخرى بتأثير خلطة الأعيان في غير السّائمة وهو مذهب الشّافعي المشهور عنه، وعلى هذا فهل تؤثّر خلطة الأوصاف؟ فيه وجهان للأصحاب ودليل كلّ من القولين مذكور في محلّه، وإن كانت حجّة القول الأوّل أظهر والقائلون به أكثر. والله سبحانه وتعالى أعلم. وأمّا ضمّ ثمرة العام الواحد وزرعه بعضه إلى بعضٍ لتكميل النّصاب فامّا الثّمار فلا يضمّ جنس منها إلى آخر كالتّمر إلى الزّبيب بإجماع العلماء، وتضمّ أنواع الجنس بعضها إلى بعض، وأمّا الزّرع فالمشهور من مذهب أحمد أنّه لا يضم جنس منه إلى آخر وهو مذهب الشّافعي وهو قول الحنفية. وعن أحمد رواية أخرى بضم الحنطة إلى الشّعير والقطاني بعضها إلى بعض، واختاره هذه الرّواية الخرقي وأبو بكر وهو مذهب مالك، وعن أحمد رواية ثالثة بضم الحبوب بعضها إلى بعضٍ مطلقًا. والله أعلم. والقطاني اسم لحبوب كثيرة منها الحمص والعدس واللّوبيا والدّخن والرز والباقلا. وأمّا المسألة الأخيرة وهي ما إذا طلبت المرأة من زوجها الخلع على عروض بذلته وقبله الزّوج. وقال الله يرزقك ونحو ذلك من ألفاظ العامّة، فهذه مسألة مشكلة جدًا؛ لأنّ الفقهاء من أصحابنا وغيرهم ذكروا كنايات الخلع والطّلاق ولم يذكروا فيها شيئًا من نحو هذه الألفاظ، وقالوا: إنّ ما لا يدلّ على الطّلاق من نحو: كلي واشربي وبارك الله عليك ونحو ذلك لا يقع

به طلاق ولو نواه؛ لأنّه لا يحتمل الطّلاق فلو وقع به الطّلاق وقع لمجرّد النّيّة، وكذا كنايات الخلع فمقتضى قولهم هذا أنّ قائل: الله يرزقك ونحوه ناويًا به طلاقًا أو خلعًا لا يقع به شيء من ذلك؛ لأنّ هذا اللّفظ ونحوه ليس من الكنايات المذكورة، فلو أوقعنا به طلاقًا أو خلعًا لكنّا قد أوقعناه بالنّيّة، ولكنّهم قد ذكروا من كنايات الطّلاق (أغناك الله) بلفظ الماضي ولم يذكروه بلفظ المضارع، كالله يغنيك، فيكون مثله الله يرزقك ونحوه، ولم يذكروا في ألفاظ الكنايات لفظ مضارعًا. والله سبحانه وتعالى أعلم. ولو ذهب ذاهب إلى وقوع الخلع بقول العامي: الله يغنيك ونحوه، ناويًا به طلاقًا أو فسخًا مع بذل العوض وقبوله لم يبعد؛ لقول الشّيخ تقيّ الدِّين -رحمه الله تعالى- المنقول عن أحمد وقدماء أصحابه ألفاظهم كلّها صريحة في أنّ الخلع بلفظ البيع فسخ وبأي لفظٍ كان. وقال أيضًا بعد أن ذكر ألفاظ العقود في الماضي والمضارع واسم الفاعل واسم المفعول، وأنّها لا تنعقد بالمضارع، قال وما كان من هذه الألفاظ محتملًا فإنّه يكون كناية حيث تصحّ الكناية كالطّلاق ونحوه، ويعتبر دلالات الأحوال. قال: وهذا الباب عظيم المنفعة خصوصًا في الخلع وبابه. انتهى. وأفتَى بعض متأخري الأصحاب النّجديّين بأنّ الزّوجة إذا طلبت التّخلية على عوضٍ بذلته لزوجها، فقال: خلعت جوازك صحّ. قال: لأنّ ذلك لغة أهل بلدنا، قال: والعبرة في ذلك ومثله بلغة المتكلّمين به. انتهى. وقد ذهبت طائفة من العلماء -رحمه الله تعالى- إلى أنّ الخلع يصحّ بمجرّد بذل المال وقبوله من غير لفظٍ من الزّوج، وإلى ذلك ذهب أبو حفص

3 - من عبد الله بن عبد الرحمن إلى الأخ الشيخ جمعان بن ناصر

وابن شهاب العكبريان من أصحابنا، واحتجا بما رواه ابن منصور عن أحمد. قال: قلت لأحمد: كيف الخلع؟ قال: إذا أخذ المال فهي فرقة. وقال إبراهيم النّخعي: أخذ المال تطليقة بائنة. وروي عن الحسن نحوه. وروي عن عليّ -رضي الله عنه- مَنْ قبل مالًا على فراقٍ فهي تطليقة بائنة. وبكلّ حالٍ ففي هذه المسألة إشكال وعدم إيقاع الطّلاق أو الفسخ بنحو هذا اللّفظ أسلم. والله سبحانه تعالى أعلم. وأمّا إيقاع الطّلاق الثّلاث بكلمةٍ واحدةٍ سواء كان في خلع أو غيره، فمذهب الشّيخ تقيّ الدِّين وكثير من أتباعه معلوم لديكم أنّ الزّوج إذا طلق امرأته ثلاثًا بكلمةٍ واحدةٍ أو بكلمات متفرّقة قبل رجعه أنّه لا يقع إلّا طلقة واحدة. والمفتى به في المذهب الأربعة خلاف ذلك، ونصوص الأئمة الأربعة بخلاف قول الشّيخ معروفة. ولا ينبغي مخالفتهم في ذلك، ولم نرَ أحدًا مِمَّن أدركناهم يفتي بقول الشّيخ في هذه المسألة. وأخبرنِي بعض تلامذة الشّيخ محمّد -رحمه الله تعالى- أنّه قال: لم أفتِ بقول الشّيخ تقيّ الدِّين -رحمه الله تعالى- في هذه المسألة إلّا مرّة واحدة، ثم لم أفتِ إلّا بقول الجمهور رحم الله الجميع ورضي عنهم، وجمعنا وإيّاهم في جواره في جنّته. آمين يا ربّ العالمين. - 3 - بسم الله الرّحمن الرّحيم من عبد الله بن عبد الرّحمن إلى الأخ الشّيخ جمعان بن ناصر وفّقه الوليّ القاهر وأمّنه مما يخشى ويحاذر. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد؛ موجب الخط إبلاغ السّلام،

والسّؤال عن الأحوال أصلح الله حال الجميع في الدّنيا والآخرة، والخط وصل أوصلك الله إلى ما تحبّ، وسرّنا ما ذركت أتم الله علينا وعليكم نعمته، وأوزعنا شكرها. ومن أمر المسائل: الأولى: فيما أشكل عليكم من عبارة المختصر في المزارعة حيث قال: وتصحّ إجارة أرض بجزءٍ مشاعٍ معلومٍ مما يخرج منها الخ. مراده: أنّه يصحّ إجارة الأرض إجارة حقيقية بجزءٍ مشاعٍ معلومٍ مما يخرج منها. وهذا إذا وقع العقد بلفظ الإجارة؛ كأن يقول استأجرت منك هذه الأرض لزرعها مدة كذا بنصف الخارج منها، أو ربعه ونحو ذلك، ويكون ذلك إجارة حقيقية لازمة فيتشرط له شروط الإجارة من تعيين المدة وغيره. وقد نصّ الإمام أحمد -رحمه الله- في رواية جماعة من أصحابه فيمَن قال: أجرتك هذه الأرض بثلث ما يخرج منها، أنّه يصحّ. فقال أبو الخطاب ومَن تبعه: هذه مزارعة بلفظ الإجارة، فمعنى قوله: أجرتك هذه الأرض بثلث ما يخرج منها، أي: زارعتك بثلث عبر عن المزارعة بالإجارة على سبيل المجاز، وهذا على الرّواية التي يشترط فيها كون البذر من ربّ الأرض. وقال أكثر الأصحاب عن نصّ أحمد المتقدم: هي إجارة؛ لأنّها مذكورة بلفظها، فتكون إجارة حقيقية، وتصحّ ببعض الخارج من الأرض كما تصحّ بالدّارهم. قال في الإنصاف بعد حكايته نصّ أحمد الذي ذكرناه: اختار المصنّف وأبو الخطاب وابن عقيل أنّ هذه مزارعة بلفظ الإجارة، فعلى هذا يكون ذلك على قولنا: لا يشترط كون البذر من ربّ الأرض، كما هو مختار المصنّف وجماعة. قال: والصّحيح من المذهب أنّ هذه إجارة، وأنّ الإجارة تصحّ بجزءٍ معلومٍ مشاعٍ مما يخرج من الأرض المؤجّرة نصّ عليه، وعليه جماهير

الأصحاب. قال الشّيخ تقيّ الدِّين: تصحّ إجارة الأرض للزّرع ببعض الخارج منها. وهذا ظاهر المذهب، وهو قول الجمهور إلى أن قال صاحب الإنصاف: وعنه لا تصحّ الإجارة بجزءٍ مما يخرج من المؤجّر. اختاره أبو الخطاب والمصنّف. قال الشّارح: وهو الصّحيح. قال فعلى هذا المذهب يشترط لها شروط الإجارة من تعيين المدّة وغيره. انتهى ملخّصًا. فتبيّن أنّ الصّحيح من المذهب صحّة إجارة الأرض للزّرع بجزءٍ معلومٍ مشاعٍ مما يخرج منها خلافًا لأبي الخطاب والموفّق والشّارح. وهذا معنى قوله في شرح الزّاد: تصحّ إجارة الأرض بجزءٍ مشاعٍ مما يخرج منها، فتكون إجارة حقيقة يثبت لها حكمها من اللّزوم وغيره. والمذهب أيضًا صحّة المزارعة بلفظ الإجارة، وهو مراد شارح الزّاد بقوله: تصحّ مساقاة ومزارعة بلفظ إجارة وتكون مزارعة حقيقة لها حكمها. وقولهم: فإن لم تزرع سواء قلنا: إنّها إجارة أو مزارعة نظر إلى معدل المغل، أي: المغل الموازن لما يخرج منها لو زرعت، فيجب القسط المسمَّى فيه، فإذا قيل: لو زرعت حصل من زرعها مائة صاع والعقد وقع على نصف الخارج منها فيجب لصاحبه خمسون صاعًا. وأمّا إذا فسدت المساقاة أو المزارعة لشرطٍ شرط أوجب فساده ثم أسقط المشترط شرطه طلبًا لصحّة العقد، فإنّ العقد لا يعود صحيحًا بعد فساده. وهذا ظاهر. وقد علّل الفقهاء -رحمهم الله- بقاء عقودٍ فاسدةٍ على فسادها بأنّ العقد لا ينقلب صحيحًا بعد فساده. والله أعلم. المسألة الثّالثة: فيما إذا قال لزوجته: أنتِ طالق إلى مكّة ... الخ.

4 - من عبد الله بن عبد الرحمن إلى الأخ المكرم والشيخ المفهم جمعان بن ناصر

فعبارة الإنصاف والإقناع وشرحه كما ذكرت مطلقة، قال في الإنصاف: لو قال: أنتِ طالق إلى مكّة، ولم ينوِ بلوغها طلّقت في الحال. جزم به بعض المتأخرّين. وإن قال: أنتِ طالق بعد مكّة طلقت في الحال، وكذا عبّر في الفروع والإقناع والمنتهى وغيرها. وإطلاققهم يدلّ على أنّها تطلق واحدة فقط. وهذا ظاهر. ولله الحمد، لأنّ اللّفظ لا يقتضي عددًا كقوله: أنت طالق إلى شهر. الرّابعة: إذا ادّعت المرأة بعد دخول الزّوج بها عدم الإذن في العقد وادّعى زوجها أنّها أذنت. فذكر أصحابنا أنّها لا تصدق. قالوا: لأنّها لو كانت صادقة لم تمكن نفسها، فتمكينها من الوطء دليل على الإذن، فكان القول قول الزّوج؛ لأنّ الظّاهر معه. هذا إذا كان اختلافها مع الزّوج. وأمّاإذا اختلفت هي ووليّها في الإذن وعدمه بعد دخول الزّج بها. فقال في الفروع: يتوجّه في دعوى الولي إذنها كذلك، وذكر شيخنا قبول قبول قولها. انتهى. وأن ما شهدت البيّة أنّها زوجة مكرهة أو بغير إذنها وهي مِمَّن يعتبر إذنه تبيّنّا بطلان العقد بشهادة البيّنة لا تصديقًا للمرأة، ولأنّهم علّلوا قبول قول الزّوج بأنّ الظّاهر معه، وهذا مما يقدم فيه الظّاهر على الأصل، فإذا شهدت البيّنة بما يخالف الظّاهر عمل بها، كما أنّ القاعدة في الدّعاوى أنّ القول قول مَنِ الأصل أو الظّاهر معه، فإذا وجدت بيّنة تخالف ذلك قدّمت ووجب العمل بها. والله سبحانه وتعالى أعلم. - 4 - بسم الله الرّحمن الرّحيم من عبد الله بن عبد الرّحمن إلى الأخ المكرّم والشّيخ المفهم جمعان بن ناصر، لا زال محفوظًا بكلاءة القادر محفوفًا بعناية اللّطيف القاهر.

سلام عليكم أيّها الأخ الْمكرّم ورحمة الله وبركاته. وبعد؛ فموجب الخط هو إبلاغ المحبّ السّلام. رفع الله قدره بين الأنام وأسكننا وإيّاه بجواره في دار السّلام. والمحب يحمد إليك الله على ما أولى من النّعم وصرف من النّقم، نسأل الله أن يجعلنا وإيّاكم من الشّاكرين لنعمه، ومشرفكم الشّريف وصل وأقرّ العين، وبه السّرور حصل لا زلتم بنعم الله محفوفين وبحراسته محفوظين، ولا تنسنا يا أخي من المراسلة والدّعاء بظهر الغيب كما هو منا لكم كذلك وما أورد المحب من المسائل فهي موضحة. ولله الحمد في كتب الفقهاء لِمَن نظر فيها: المسألة الأولى: هل بين النّكاح الفاسد والباطل بعد الدّخول فرق في وجوب المهر والعدة ولحوق النّسب؟ فالجواب: نعم. بينهما فرق في الجملة فيستقرّ المهر بالخلوة في النّكاح الفاسد على المذهب، بخلاف الباطل، فيجب للجهالة بالتّحريم فيه مهر المثل بالوطء فقط، ويجب في الفاسد الْمسَمَّى لا مهر المثل على الصّحيح من المذهب. قال في الإنصاف فيمَن نكاحها فاسد: وإن دخل بها استقرّ الْمسمَّى. هذا المذهب. نصّ عليه. قال في القواعد الفقهية: وهي المشهورة عن أحمد، وهي المذهب عند أبي بكر وابن أبي موسى واختارها القاضي وأكثر أصحابه. وعنه يجب مثل المهر. قال المصنّف: وهي أصحّ. وهو ظاهر كلام الخرقي واختاره الشّارح. وقال في الإنصاف أيضًا: ويستقرّ بالخلوة في النّكاح الفاسد. هذا المذهب نصّ عليه. وعليه جماهير الأصحاب وهو من مفردات المذهب.

لكن هل الواجب الْمُسَمَّى أو مهر المثل؟ مبني على الذي قبله. انتهى. وقال أيضًا: إذا كان نكاحها باطلًا فهي كمكرهة على الزّنا في وجوب المهر وعدمه على الصّحيح من المذهب، قدمّه في الفروع وغيره. وجزم به في الكافي والرّعاية وغيرهما. وفي التّرغيب رواية يلزم الْمُسَمَّى. انتهى. ومراده بوجوب المهر إذا لم تكن عالمة بالتّحريم، والواجب للمكرهة على الزّنا مهر المثل. قال في الإنصاف: هو المذهب مطلقًا. وعيله جماهير الأصحاب. قال المصنّف والشّارح: هذا ظاهر المذهب. وعنه يجب للبكر خاصّة اختاره أبو بكر. وعنه لا يجب مطلقًا. ذكرها واختارها الشّيخ تقيّ الدِّين. وقال: هو خبيث. وقال في الشّرح: فأمّا مَن نكاحها باطل بالإجماع كالمزوّجة والمعتدّة، إذا نكحها رجل فوطئها عالمًا بالتّحريم وتحريم الوطء، وهي مطاوعة عالمة فلا مهر؛ لأنّه زنى يوجب الحدّ، وهي مطاوعة عليه، وإن جهلت تحريم ذلك، أو جهلت كونها في العدّة فلها المهر؛ لأنّه وطء شبهة، وفيه أيضًا: ويجب مهر المثل للموطوءة بشبهة بغير خلافٍ علمناه. وقال في الإقناع وشرحه: وإذا تزوّج معتدّة من غيره وهما أي: العاقد والمعقود عليها عالمان بالعدّة. قلت: ولم تكن مَن زنا وعالمان بتحريم النّكاح فيها أي العدّة، ووطئها فيها أيّ العدّة، فهما زاينان عليهما حدّ الزّنا، ولا مهر لها؛ لأنّها زانية مطاوعة، ولا نظر لشبهة العقد؛ لأنّه باطل مجمع على بطلانه، فلا أثر له بخلاف المعتدّة من زنا، فإنّ نكاحها فاسد، والوطء فيه حكمه حكم وطء الشّبهة للاختلاف في وجوبها، أي: ومحلّ سقوط مهرها إن لم تكن أمة، فإن كانت أمة لم يسقط؛ لأنّه لسيّدها فلا يسقط بمطاوعته لها، ولا يلحقه النّسب؛ لأنّه من زنا، وإن كانا -أي: النّاكح والمنكوحة-

جاهلين بالعدّة أو جاهلين التّحريم، ثبت النّسب، وانتفى الحدّ، ووجب المهر؛ لأنّه وطء شبهةٍ، وإن علم هو دونها فعليه الحدّ للزّنا، وعليه المهر بما نال من فرجها، ولا يلحقه النّسب؛ لأنّ زانٍ، وإن علمت هي دونه فعليها الحدّ، ولا مهر لها إن كانت حرّة؛ لأنّها زانية مطاوعة، ويلحقه النّسب؛ لأنّه وطء شبهة وصرّحوا بلحوق النّسب في النّكاح الباطل ووطء الشّبهة. قال في الفروع: ويلحق في كلّ نكاحٍ فاسدٍ فيه شبهة نقله الجماعة. وقيل: إن لم يعتقد فساده. انتهى. وكذلك قال في الإنصاف. وقال أيضًا: ويلحقه الولد بوطء الشّبهة كعقد. نصّ عليه. وهو المذهب قدمه في المغنِي والشّرح والفروع وغيرها. قال المصنّف والشّارح: هذا المذهب. وذكره الشّيخ تقيّ الدِّين، وقال أبو بكر: لا يلحقه. قال القاضي: وجدت بخط أبي بكر: لا يلحق به؛ لأنّ النّسب لا يلحق إلّا في نكاحٍ صحيحٍ أو فاسدٍ أو ملكٍ أو شبهة ملكٍ، ولم يوجد شيء من ذلك. انتهى. وقد قال الإمام أحمد -رحمه الله- كلّ مَن درأت عنه الحدّ ألحقت به الولد. وأمّا العدّة فتجب في النّكاح الفاسد بمجرّد الخلوة، وكذا تجب عليها عدة الوفاة على الصّحيح من المذهب فيهما، ولا تجب العدّة في النّكاح الباطل إلّا بالوطء إجماعًا، ولا تجب به عدّة الوفاة. قال في الإنصاف: وإن كان النّكاح مجمعًا على بطلانه لم تعتدّ للوفاة من أجله وجهًا واحدًا، وذكر قبل ذلك وجوب العدّة بالخلوة في النّكاح الفاسد. قال: وهو المذهب. وعليه أكثر الأصحاب. ونصّ عليه الإمام أحمد. قال ابن حامد: لا عدّة في الخلوة في النّكاح الفاسد بل بالوطء كالنّكاح

الباطل إجماعًا. وفي الإنصاف أيضًا وإذا مات عن امرأة نكاحها فاسد كالنّكاح المختلف فيه. قال القاضي: عليها عدّة الوفاة. نصّ عليه أحمد في رواية جعفر بن محمّد. وهو المذهب. اختاره أبو بكر وغيره. وقدّمه في الفروع والرّعايتين والحاوي والمحرّر والنّظم وغيرها. وقال ابن حامد: لا عدّة عليها للوفاة. انتهى. وقال في الشّرح لما تكلّم في حكم النّكاح الباطل: كمَن نكح ذات محرّم أو معتدّة من غير الخلوة بها كالخلوة بالأجنبية لا يوجب عدّة، وكذلك الموت عنها لا يوجب عدة الوفاة، وإن وطءها اعتدّت لوطئه بثلاثة قروء منذ وطئها سواء فارقها أو مات عنها، كالمزني بها من غير عقدٍ، فأمّا إن نكحها نكاحًا مختلفًا فيه فهو فاسد، فإن مات عنها فنقل جعفر بن محمّد أنّ عليها عدّة الوفاة، وهو اختيار أبي بكر. وقال أبو عبد الله بن حامد: ليس عليها عدّة الوفاة. وهو مذهب الشّافعي؛ لأنّه نكاح لا يثبت فأشبه الباطل، فعلى هذا إن كان قبل الدّخول فلا عدّة عليها، وإن كان بعده اعتدت بثلاثة قروء، ووجه الأوّل أنّه نكاح يلحق به النّسب فوجبت به العدّة كالنّكاح الصّحيح بخلاف الباطل؛ فإنّه لا يلحق به النّسب. انتهى. وأمّا عبارة المنتهى، وهي قوله: لا فرق في عدّة وجبت بدون وطء ... الخ. فلا إشكال فيها؛ لأنّ العدّة تجب بمجرّد الخلوة بدون وطء على المذهب، ولا معارضة في ذلك للآية. وأمّا قولك: وقد أجمعوا على أنّ المطلقة قبل المسيس لا عدّة عليها. فليس ذلك بصواب. وأظنّ سبب الإيهام أنّ هذه العبارة عندكم في مختصر الشّرح هكذا كما هي فيه عندنا كذلك، وسقط من العبارة لفظ الخلوة.

فالصّواب في العبارة: أجمعوا على أنّ المطلقة قبل المسيس والخلوة لا عدّة عليها، وعبارة الشّرح: كلّ امرأةٍ فارقها زوجها قبل الخلوة فلا عدّة عليها أجمع العلماء على ذلك. ثم قال بعد ذلك: ولا خلاف بين أهل العلم في وجوبها على المطلقة بعد المسيس. فأمّا إن خلا بها، ولم يصبها ثم طلّقها، فإنّ العدّة تجب عليها. روي ذلك عن الخلفاء الرّاشدين وزيد وابن عمر. وبه قال عروة وعلي بن الحسين وعطاء والزّهري والثّوري والأوزاعي وإسحاق وأصحاب الرّأي والشّافعي في قديم قوليه. وقال في الجديد: لا عدّة عليها، لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا}، [الأحزاب، من الآية: 49]. وهذا نصّ؛ ولأنّها مطلقة لم تمس فأشبهت مَن لم يخل بها. ولنا إجماع الصّحابة. فروى الإمام أحمد والأثر بإسنادهما عن زرارة بن أبي أوفى قال: قضى الخلفاء الرّاشدون أنّ مَن أرخى سترًا أو أغلق بابًا فقد وجب المهر، ووجبت العدّة، ورواه أيضًا عن الأحنف عن عمر وعليّ وعن سعيد بن المسيب عن ابن عمر وزيد بن ثاب -رضي الله عنهم-. وهذه قضايا اشتهرت فلم تنكر فصارت إجماعًا. وضعّف أحمد ما روي في خلاف ذلك؛ ولأنّه عقد على المنافع فالتّمكين فيه يجري مجرى الاستيفاء في الأحكام كعقد الإجارة، والآية مخصوصة بما ذكرنا، ولا يصحّ القياس على مَن لم يخل بها؛ لأنّه لم يوجد التّمكن. انتهى. وقال في الإنصاف: وإن خلا بها وهي مطاوعة فعليها العدّة سواء كان بهما أو بأحدهما مانع من الوطء كالإحرام والصّيام والحيض والنّفاس والمرض والجبّ والعنة، أو لم يكن. هذا المذهب مطلقًا بشرطه الآتي، سواء كان

المانع شرعيًّا أو حسيًّا كما مثّل المصنّف. وعليه جماهير الأصحاب إلى أن قال: إلّا أن لا يعلم بها كالأعمى والطّفل فلا عدّة عليها، وكذا لو كانت طفلة. وهذا هو المشار إليه في قوله بشرطه الآتي. وأمّا صور النّكاح الباطل منها ما ذكرتم وكنكاح المرأة على عمتها أو خالتها، ونكاح مطلقة ثلاثًا من قبل أن تنكح زوجًا غيره، ونكاح الوثنية والنّكاح الخالي من الولي والشّاهدين جميعًا وغير ذلك. المسألة الثّانية: في قتل الجماعة بالواحد بشرطه الآتي. هو المذهب وهو قول جمهور العلماء. قال في الشّرح: ويقتل الجماعة بالواحد، إذا كان فعل كلّ واحدٍ منهم لو انفرد أوجب القصاص عليه. روى ذلك عن عمر وعلي والمغيرة بن شعبة وابن عبّاس -رضي الله عنهم-. وبه قال سعيد بن المسيب والحسن وأبو سلمة وعطاء وقتادة. وهو مذهب مالك والثّوري والأوزاعي والشّافعي وإسحاق وأبي ثور وأصحاب الرّأي. وعن أحمد رواية أخرى: لا يقتلون به. وتجب عليهم الدّيّة. والمذهب الأوّل إلى أن قال: ولنا إجماع الصّحابة. فروى سعيد بن المسيب أنّ عمر -رضي الله عنه- قتل سبعة من أهل صنعاء قتلوا رجلًا، وقال: لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقلتهم جميعًا، وعن عليّ -رضي الله عنه- أنّه قتل ثلاثة قتلوا رجلًا، وعن ابن عبّاس أنّه قتل جماعة بواحدٍ ولم نعرف لهم في عصرهم مخالفًا، فكان إجماعًا. ولأنّها عقوبة تجب للواحد على الجماعة كحدّ القذف. وتفارق الدّية فإنّها تبعض والقصاص لا يتبعّض. ولأنّ القصاص لو سقط بالاشتراك أدّى إلى تسارع القتل به فيؤدّي إلى إسقاط حكمة الرّدع والزّجر ... إلى أن قال: ولا يعتبر في وجوب القصاص على المشتركين التّساوي في سببه،

فلو جرحه أحدهما جرحًا والآخر مائه أو أوضحه أحدهما، وشجّه الآخر آمة أو أحدهما جائفة والآخ غير جائفة كانا سواء في القصاص والدّية؛ لأنّ اعتبار التّساوي يفضي إلى سقوط القصاص على المشتركين؛ إذ لا يكاد جرحان يتساويان من كلّ وجهٍ، ولأنّ الجرح الواحد يحتمل أن يموت منه دون المائة كما يحتمل أن يموت من الموضحة دون الآمة، ومن غير الجائفة دون الجائفة ... إلى أن قال: وإذا اشترك ثلاثة في قتل فقطع واحد يده والآخر رجله، وأوضحه الثّالث فمات فللولي قتل جميعهم والعفو عنهم إلى الدّية، فيأخذ من كلّ واحدٍ ثلثها، وله العفو عن واحدٍ فيأخذ منه ثلث الدّية، ويقتل الآخرين، وأن يفعو عن اثنين فيأخذ منها ثلثي الدّية ويقتل الثّالث، وإن برئت جراحة أحدهم ومات من الجرحين الأخيرين، فله أن يقتصّ من الذي برئ جرحه بمثل جرحه، ويقتل الآخرين أو يأخذ منها دية كاملة أو يقتل أحدهما ويأخذ من الآخرين نصف الدّية. وله أن يعفو عن الذي برئ جرحه ويأخذ منه دية جرحه إلى أن قال: وإن فعل أحدهما فعلًا لا تبقى معه الحياة كقطع خشونه أو مريئه أو ودجيه ثم ضرب عنقه آخر فالقاتل هو الأوّل ويعزر الثّاني، وإن شقّ الأوّل بطنه أو قطع يده ثم ضرب الثّاني عنقه، فالثّاني هو القاتل، وعلى الأوّل ضمان ما أتلف بالقصاص أو الدّية. انتهى. وقال في الإنصاف: وتقتل الجماعة بالواحد، هذا المذهب بلا ريب عليه جماهير الأصحاب. قال في الهداية: عليه عامّة شيوخنا، وعنه لا يقتلون به نقلها حنبل إلى أن قال:

فعلى المذهب من شرط قتل الجماعة بالواحد أن يكون فعل كلّ واحدٍ منهم صالحًا للقتل به، قاله الأصحاب إلى أن قال: ولو قتلوه بإفعالٍ لا يصحّ واحد منها لقتله نحو أن يضربه كلّ واحدٍ سوطًا في حالة أو متوالية فلا قود، وفيه عن تواطؤ وجهان في التّرغيب واقتصر عليه في الفروع. قلت: الصّواب القود - إلى أن قال: قال المصنّف -رحمه الله- والشّارح إن فعل ما يموت به يقينًا وبقيت معه حياة مستقرّة كما لو خرق خشوته ولم يبنها ثم ضرب آخر عنقه كان القاتل هو الثّاني؛ لأنّه في حكم الحياة لصحّة وصية عمر -رضي الله عنه-. قال في الفروع: ويتوجّه تخريج من مسألة الذّكاة أنّهما قاتلان. قلت: وهو الصّواب. قال في الفروع: ولهذا اعتبروا إحداهما بالأخرى. قال: ولو كان فعل الثّاني كما فعل الأوّل لم يؤثّر مثل غرق حيوان في الماء يقتله مثله بعد ذبحه على إحدى الرّواتين. انتهى. وقال في الإقناع وشرحه: وتقتل الجماعة بالواحد إذا كان فعل كلّ واحدٍ منهم صالحًا للقتل به لو انفرد، وإن لم يصلح فعل كلّ واحدٍ من الجماعة للقتل كما لو ضربه كلّ واحدٍ منهم بحجرٍ صغيرٍ فمات فلا قصاص عليهم؛ لأنّه لم يحصل من واحدٍ منهم ما يوجب القود ما لم يتواطأوا على ذلك الفعل ليقتلوه فعليهم القصاص لئلا يتّخذ ذرية إلى ردّ القصاص إلى أن قال: وإن قتله جماعة اثنان فأكر بأفعال لا يصلح واحد منها لقتله نحو أن يضربه كلّ واحدٍ سوطًا في حالة أو متوالية فلا قود فيه عن تواطؤ وجهان قاله في التّرغيب، والصّواب وجوب القود. انتهى ملخّصًا. ومعنى قولهم: أن يكون فعل كلّ واحدٍ منهم صالحًا للقتل به أي:

أن يكون فعل كلّ واحدٍ صالحًا لأن يكون سببًا لموت المجنِي عليه، لا أنّه يغلب حصول الموت من تلك الجناية؛ لأنّهم مثلوا بالموضحة مع أنّ حصول الموت بها نادر. وصرّحوا بأنّ القصاص إنّما يجب على المباشر بالشّرط المذكور. فخرج المشير والآمر، فلا يجب عليهما القصاص لاسيما وقد صرّحوا بعدم وجوب القصاص على الآمر في جملة. وإن كان بعض الأصحاب حكى رواية بوجوب القصاص على الآمر. فالمذهب خلافها. قال في الشّرح: وإن أمر كبيرًا عاقلًا عالمًا بتحريم القتل فقتل فالقصاص على القاتل لا نعلم فيه خلافًا؛ لأنّه قاتل ظلمًا فوجب عليه القصاص كما لو لم يأمر. ثم ذكر حكم ما إذا أمر السّيّد عبده بقتل رجلٍ وما فيه من التّفصيل المذكور في كتب الفقه إلى أن قال: وإن أمر السّلطان بقتل إنسانٍ بغير حقٍّ مَن يعلم ذلك فالقصاص على القاتل، وإن لم يعلم فعلى الآمر. فإذا كان المأمور يعلم أنّ الإنسان المأمور بقتله لا يستحقّ القتل فالقصاص عليه؛ لأنّه غير معذورٍ في فعله؛ فإنّ النَّبِيّ -صلّى الله عليه وسلّم- قال: "لا طاعة لمخلوقٍ في معصية الخالق". وعنه - عليه الصّلاة والسّلام -: "مَن أمركم من الولاة بمعصية الله فلا تطيعوه". فلزمه القصاص كما لو أمره غير السّلطان. وإن لم يعلم ذلك فالقصاص على الآمر دون المأمور؛ لأنّ المأمور معذور بوجوب طاعة الإمام في غير المعصية. فالظّاهر أنّه لا يأمر إلّا بالحقّ. وإن كان الآمر غير السّلطان فالقصاص على القاتل بكلّ حالٍ علم أو لم يعلم؛ لأنّه لا تلزمه طاعته وليس له القتل بخلاف السّلطان، فإنّ إليه القتل في الرّدّة والزّنا، وقطع الطّريق إذا قتل القاطع ويستوفي القصاص للنّاس، وهذا ليس له شيء من ذلك. انتهى.

وقوله -رحمه الله-: وإن لم يعلم ذلك فالقصاص على الآمر دون المأمور، هكذا قال جماعة من الأصحاب. وقال الشّيخ تقيّ الدِّين -رحمه الله-: هذا بناء على وجوب طاعة السّلطان في القتل المجهول. وفيه نظر. بل لا يطاع حتّى يعلم جواز قلته. وحينئذٍ فتكون الطّاعة له معصية لاسيما إذا كان معروفًا بالظّلم، فهنا الجهل بعدم الحلّ كالعلم بالحرمة. انتهى. وما في شرح رسالة ابن أبي زيد: أنّه إذا باشر القتل بعضهم وحبسه البعض قتلوا جميعًا، فهذا مذهب مالك وهو رواية عن أحمد، واحتجّ بعض مَن قال بقتل الممسك بقول عمر: لو تمالأ عليه أهل صنعاء، أي: تعاونوا، والممسك له ليقتل معِين للقاتل. وأجاب الآخرون عن قول عمر: لو تمالأ عليه، أي: لو تشاوروا في قتله. قال في الشّرح: وإن أمسكه له ليقتله مثل أن أمسكه له حتّى ذبحه فاختلف الرّواية فيه عن أحمد، فروي عنه أنّ الممسك يحبس حتّى يموت. وهذا قول عطاء وربية. وروي عن عليّ -رضي الله عنه-. وروي عن أحمد أنّه يقتل أيضًا. وهو قول مالك. وقال أبو حنيفة والشّافعي وأبو ثور يعاقب ويأثم ولا يقتل. وأمّا القاتل فيقتل بغير خلافٍ. فقوله -رحمه الله- وإن أمسكه له ليقتله. يدلّ من كلامه على أنّ هذا الحكم مخصوص بما إذا أمسكه له ليقتله لا ما إذا أمسكه له ولم يعلم أنّه يريد قتله، وهكذا قيّد كثير من الأصحاب. قال في الإنصاف: شرط في المغنِي في الممسك أن يعلم أنّه يقتله. وتابعه الشّارح. قال القاضي: إذا أمسكه للعب أو الضّرب، وقتله القاتل فلا قود على الماسك. وذكره محلّ وفاق. وقال في منتخب الشّيرازي: لا مازحًا

متلاعبًا. انتهى. وظاهر كلام جماعة الإطلاق. انتهى. وقال في الإقناع وشرحه: وإن كان الممسك لا يعلم أنّ القاتل يقتله فلا شيء عليه؛ لأنّ موته ليس بفعله ولا بأثر فعله بخلاف الجارح؛ فإنّه لا يعتبر فيه، قصد القتل؛ لأنّ السّراية أثر جرحه المقصود له. انتهى. وأمّا الرّدء فلم يذكروه هنا لم يعطوه حكم المباشر في هذا الباب. وإنّما جعلوا حكم ردء قطاع الطّريق حكم مباشرهم للعلة التي علّلوا بها. قال في الشّرح في (باب قطاع الطّريق) وحكم الرّدء حكم المباشر. وبهذا قال مالك وأبو حنيفة، وقال الشّافعي: ليس على الرّدء إلّا التّعزير؛ ولأنّ الحدّ يجب بارتكاب المعصية فلا يتعلّق بالمعين كسائر الحدود. ولنا أنّه حكم يتعلّق بالمحاربة فاستوى فيه الرّدء والمباشر كاستحقاق الغنيمة؛ وذلك لأنّ المحاربة مبنية على حصول المنفعة والمعاضدة والمناصرة، فلا يتمكّن المباشر من فعله إلّا بقوّة الرّدء بخلاف سائر الحدود، فعلى هذا إذا قتل واحد منهم ثبت حكم القتل في حقّ جميعهم، فيجب قتل الكلّ، وإن قتل بعضهم وأخذ بعضهم المال جاز قتلهم وصلبهم كما لو فعل الأمرين واحد منهم. انتهى. وقال في الإقناع وشرحه: وردء للمحارب وهو المساعد والمغيث له عند احتياجه إليه كمباشر وطليع وهو الذي يكشف للمحاربين حال القافلة. ليأتوا إليها كمباشر كما في جيش المسلمين إذا دخلوا دار الحرب وباشر بعضم القتال وأخذ المال ووقف الباقون للحفظ والحراسة مِمَّن يدهمهم من ورائهم أو أرسل الإمام عينًا ليتعرّف أحوال العدو، فإنّ الكلّ يشتركون في الغنيمة، وذكر أبو الفرج السّرقة كذلك. فإذا قتل واحد منهم ثبت

القتل في حقّ جميعهم فيجب قتل الكلّ؛ لأنّ حكم الرّدء حكم المباشر، وإن قتل بعضهم وأخذ المال بعضهم قتلوا كلّهم وجوبًا. انتهى. قال في الإنصاف: وحكم الرّدء حكم المباشر. هذا المذهب. وعليه الأصحاب. قال في الفروع: وكذا الطّليع. واختار الشّيخ تقيّ الدِّين يقتل الآمر كردء، وإنّه في السّرقة كذلك. انتهى. وقول عمر -رضي الله عنه-: لو تمالأ عليه أهل صنعاء، أي: لو تعاون، وفي رواية: لو أنّ أهل صنعاء شركوا في قتله لقتلتهم أجمعين. قال بعض العلماء في الكلام على أثر عمر المذكور: قوله: (تمالأ) مهموز -أي: تعاون- قال عليّ -رضي الله عنه وأرضاه-: والله ما قتلت عثمان، ولا مالأت في قتله -أي: عاونت- قال الخطابي في تصاحيف الرّواة: هو مهموز من الملأ، أي: صاروا كلّهم ملأ واحدًا في قتله. قال: والمحدِّثون يقولونه بغير همز. والصّواب الهمز؛ لأنّ (الملأ) مهموز غير مقصور. انتهى. واشترط الفقهاء المباشرة للقتل من الجميع وأن يكون فعل كلّ واحدٍ منهم صالحًا للقتل به، ومالك -رحمه الله- يلحق الممسك بالمباشر يدلّ على أنّهم حملوا قول عمر -رضي الله عنه- على التّعاون فقط، لا على التّشاور. المسألة الثّالثة: إذا ادّعى شخص عند الحاكم بأنّه حكم له بكذا ولم يذكره الحاكم فشهد به شاهدان. فالمذهب أنّه تقبل شهادتهما ما لم يتيّقن صواب نفسه. وهذا مذهب مالك. وقال أبو حنيفة والشّافعي: لا يقبل شهادتهما. ولا يرجع إلى قولهما حتّى يذكر أنّه حكم به. وظاهر كلام الأصحاب أنّه لا بدّ من شاهدين فلا يكفي الشّاهد ويمين المدّعي للحكم, وقد احتجّو لما ذكروه بقصة ذي اليدين واقصتارهم على الشّاهدين دليل على أنّه لا يكتفي

بغيرهما ولم يذكر في الفروع ولا في الإنصاف خلافًا. فدلّ على اعتبار الشّاهدين لاسيما والخلاف في عدم قبول الشّاهدين مشهور. والفقهاء يحكون الخلاف في قبول الشّاهدين وعدمه ولم يذكروا الشّاهد واليمين فدلّ على أنّه لا خلاف في عدم قبول الشّاهد مع اليمين. والله أعلم. المسألة الرّابعة: ما صفة العدالة باطنًا؟ وهل يعتبر اليوم في الشّاهد ما ذكروه في صفة العدل من الشّروط أم لا؟ فالجواب: أنّه ليس مرادهم باطنًا معرفة ما في القلوب، فهذا أمر لا يعلمه إلّا الله. لكن مَن طالت صحبته لإنسان أو كثرت معاملته عرف من أحواله ما يستدلّ به على حسن باطنه. فهذا معنى العدالة في الباطن، ولهذا قالوا: يشترط في التّزكية خبرة المزكّي للشّاهد خبرة باطنة بصحبته ومعاملته ونحوهما. قال في الشّرح: يحتمل أن يريد الأصحاب بما ذكروه أنّ الحاكم إذا علم أنّ المعدل لا خبرة له لم يقبل شهادته بالتّعديل كما فعل عمر -رضي الله عنه-، ويحتمل أنّهم أرادوا لا يجوز للمعدل الشّهادة بالعدالة إلّا أن تكون له خبرة باطنة، فأمّا الحاكم إذا شهد عنده العدل بالتّعديل فله أن يقبل الشّهادة من غير كشف، وإن استكشف الحال كما فعل عمر فحسن. انتهى. قال الزّركشي: لا يقبل التّعديل إلّا مِمَّن له خبرة باطنة ومعرفة بالتّعديل والجرح غير متّهمٍ بعصبيةٍ ولا غيرها. قال: ومعنى الخبرة الباطنة كما جاء عن عمر -رضي الله عنه- أنّه أتى بشاهدين، فقال: لست أعرفكما ولا يضرّكما إن لم أعرفكما جيئا بِمَن يعرفكما، فأتيا برجلٍ فقال له عمر: أتعرفهما؟ قال: نعم. فقال عمر: صَحِبْتَهما في السّفر الذي يبين فيه جواهر النّاس؟ قال: لا.

قال: عَامَلتَهما في الدّنانير والدّراهم التي تقطع فيها الرّحم؟ قال: لا. قال: كُنْتَ جارًا لهما تعرف صباحهما ومساءهما؟ قال: لا. قال يا ابن أخي لسْتَ تعرفهما. جيئانِي بِمَن يعرفكما. وأمّا اعتبار الصّفات المكذورة في كتب الفقهاء في الشّاهد فلا يمكن اعبتارها في هذه الأزمنة إذ لو اعتبرت لم يمكن الحكم بين النّاس. قال أبو العبّاس -رحمه الله- العدل في كلّ زمانٍ ومكانٍ وطائفة بحسبها فيكون الشّهيد في كلّ قومٍ مَن كان ذا عدل فيهم، وإن كان لو كان في غيرهم لكان عدلًا على وجهٍ آخر. وبهذا يمكن الحكم بين النّاس، وإلّا فلو اعتبر في كلّ طائفةٍ ألا يشهد عليهم إلّا مَن يكون قائمًا بأداء الواجبات وترك المحرمات كما كان الصّحابة لتعطلت الشّهادات كلّها أو غالبها. وقال أبو العبّاس في موضعٍ آخر: إذا فسر الفاسق في الشّهادة بالفاجر أو بالمتّهم فينبغي أن يفرّق بين حال الضّرورة وعدمها، كما قلنا في الكافر. وقال في موضعٍ آخر: ويتوجّه أن تقبل شهادة المعروفين وإن لم يكونوا ملتزمين للحدود عند الضّرورة مثل: الجيش وحوادث البدو، وأهل القرية الذين لا يوجد فيهم عدل، وله أحوال منها شهادة أهل الذّمة في الوصيّة في السّفر إذا لم يوجد غيرهم، وشهادة بعضهم على بعضٍ في قول، وشهادة النّساء فيما لا يطّلع عليه الرّجال. انتهى. ويشهد لكلام الشّيخ -رحمه الله- ما ذكروه في القاضي إذا تعذرت عدالته. وقد قال الشّيخ -رحمه الله-: الولاية لها ركنان: القوّة والأمانة. فالقوّة في الحكم ترجع إلى العلم بالعدل وتنفيذ الحكم، والأمانة ترجع إلى خشية الله. قال: وهذه الشّروط تعتبر حسب الإمكان ويجب تولية الأمثل فالأمثل.

وقال: على هذا يدلّ كلام أحمد وغيره فيولى لعدم أنفع الفاسقين وأقلّهما شرًّا، وأعدل المقلّدين وأعرفهما بالتّقليد، قال في الفروع: وهو كما قال. وقال في الإقناع وشرحه بعد أن أورد كلام الشّيخ هذا: وهو كما قال. وإلّا لتعطلّت الأحكام واختل النّظام. قال القرافي: ونصّ ابن أبي زيد على أنّا إذا لم نجد في جهة العدول أقمنا أمثلهم وأقلّهم فجورًا للشّهادة عليهم، ويلزم مثل ذلك في القضاء وغيره لئلا تضيع المصالح. قال القراقي: وما أظنّ أحدًا يخالفه في هذا. فإنّ التّكليف مشروط بالإمكان. المسألة الخامسة: إذا تعذّر حصول الأرش الواجب على العاقلة لعدمهم أو فقرهم وتعذر الأخذ من بيت المال، فهل يلزم به الجاني أم لا؟ الصّحيح من المذهب السّقوط والحالة هذه. ولا يطالب الجاني بذلك. قال في الإنصاف: هو المذهب. وعليه أكثر الأصحاب بناء على أنّ الدّية وجبت على العاقلة ابتداء، وجزم به الخرقي وصاحب الوجيز والمنور ومنتخب الآمدي وغيرها. قال ابن منجا في شرحه: هذا المذهب. وقدّمه في المحرّر والنّظم والرّعايتين والحاوي الصّغير والفروع وغيرها. وهو من مفردات المذهب. ويحمل أن تجب في مال القاتل. قال المصنّف -رحمه الله- هنا: وهو أولى فاختاره يعنِي: اختاره المصنّف، وهو الشّيخ موفّق الدِّين ابن قدامة. هذا القول الثّاني. قال في الشّرح: فإن لم يمكن الأخذ من بيت المال فليس على العاقلة شيء، وهذا أحد قولي الشّافعي، ولأنّ الدّية لزمت العاقلة ابداء بدليلٍ أنّها لا يطالب بها غيرهم إلى أن قال: فعلى هذا إن وجد بعض العاقلة حملوا بقسطهم وسقط الباقي فلا يجب على أحدٍ.

قال شيخنا: ويحتمل أن تجب في مال القاتل إذا تعذر حملها عنه. وهذا القول للشّافعي لعموم قوله تعالى: {وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ}، [النّساء، من الآية: 92]. ولأنّ قضية الدّليل وجوبها على الجاني جبرًا للمحلّ الذي فوته، وإنّما سقط عن القاتل لقيام العاقلة مقامه في جبر المحلّ، فإذا لم يوجد ذلك بقي واجبًا عليه بمقتضى الدّليل، ولأنّ الأمر دائر بين أن يبطل دم المقتول وبين إيجاب ديته على المتلف لا يجوز الأوّل؛ لأنّ فيه مخالفة للكتاب والسّنة وقياس أصول الشّريعة فتعيّن الثّاني. ولأنّ إهدار الدّم المضمون لا نظير له وإيجاب الدّية على قاتل الخطأ له نظائر. وأطال الكلام في تقوية هذا القول. واختار هذا القول الثّاني أيضًا الشّيخ تقيّ الدِّين. قال في الاختيارات: وتؤخذ الدّية من الجاني خطأ عند تعذّر العاقلة في أصحّ قولي العلماء. قال في شرح الإقناع: وعنه تجب في مال القاتل. قال في المقنع: وهو أولى، أي: من إهدار دم الأحرار في غالب الأحوال؛ فإنّه لا يكاد توجد عاقلة تحمل الدّية كلّها ولا سبيل إلى الأخذ من بيت المال فتضيع الدّماء. المسألة السّادسة: إذا لم تنقص الجناية المجني عليه بعد البرء ولا حال جريان الدّم. فالمشهور في المذهب أنّه لا شيء فيها، سوى التّعزير. فقد صرّحوا بوجوب التّعزير في ذلك. قال في الإنصاف في هذه المسألة: فإن لم تنقصه شيئًا بحال أو زادته حسنًا كإزالة ليحة امرأة أو إصبع زائدة ونحوه فلا شيء فيها. هذا المذهب وعليه جماهير الأصحاب. قال في المحرّر: فلا شيء فيها على الأصحّ. قال في الفروع: فلا شيء فيها في الأصحّ. وكذا قال النّاظم وصحّحه في المغنِي والشّرح وغيرهما.

5 - من عبد الله بن عبد الرحمن أبو بطين إلى الأخ حسين بن علي

وقيل: بلى. قال القاضي: نصّ أحمد على هذا. قال المصنّف: فعلى هذا يقوم في أقرب الأحوال إلى البرء، فإن لم ينقص في ذلك الحال قوّم حال جريان الدّم؛ لأنّه لا بدّ من نقص للخوف عليه. ذكره القاضي. وجزم بهذا القول في الهداية والمذهب والخلاصة. انتهى. وعلى القول الأوّل: يعزّر الجاني؛ لأنّهم صرّحوا بوجوب التّعزير في جناية لا قصاص فيها؛ كالصّفع والوكز ونحو ذلك، مع أنّ في اللّطمة ونحوها رواية بثبوت القصاص في ذلك. قال في الإنصاف: لما ذكر عدم وجوب القصاص في ذلك، وقال: إنّه المذهب وعليه الأصحاب. قال: ونقل حنبل والشّالنجي القود في اللّطمة ونحوها. ونقل حنبل عن الإمام أحمد والشّعبي والحكم وحماد قالوا: ما أصاب بسوطٍ أو عصا وكان دون النّفس ففيه القصاص. قال أحمد: وكذلك أرى. ونقل أبو طالب لا قصاص بين المرأة وزوجها في أدب يؤدّبها به، فإن اعتدى أو جرح أو كسر يقتص لها منه. ونقل ابن منصور إذا قتله بعصا أو خنقه أو شدخ رأسه بحجرٍ يقتل بمثل الذي قتل به؛ لأنّ الجروح قصاص، ونقل أيضًا كلّ شيءٍ من الجراح والكسر يقدّر على القصاص يقتصّ منه للأخبار. واختار ذلك الشّيخ تقيّ الدِّين وقال: ثبت عن الخلفاء الرّاشدين. انتهى. والله أعلم. - 5 - بسم الله الرّحمن الرّحيم من عبد الله بن عبد الرّحمن أبو بطين إلى الأخ حسين بن عليّ. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد؛ موجب الخط إبلاغك

السلام. والخط وصل، وصلك الله إلى رضوانه. وما ذكرت من المسائل فللفقهاء كلام في جميعها، وفي بعضها اختلاف، ولكن المفتي والقاضي إذا ابتلي بشيء من المسائل التي يقع فيها الخلاف بين العلماء وليس مع أحد القولين حديث صحيح صريح، بل القول فيها بالاجتهاد والقياس ونحو ذلك، فالذي ينبغي للإنسان فيها التوقف، إلا القاضي الذي لا بد له من القول فيجتهد في تحري الصواب، وإلا فلا ينبغي لأحد أن يحرم على الناس شيئًا إلا بدليل. بل ينبغي للمفتي في مثل هذه المسائل أن يقول للسائل: ما أحب لك هذا، أو أكره لك هذا، أو يقول: العلماء يمنعون من هذا، أو يحرمونه إن كان أحد قائل بتحريمه. هذا الذي ينبغي للإنسان أن يستعمله في المسائل التي فيها الخلاف. وإن كان أحد فعل فعلًا قال جمهور العلماء بالمنع منه، فينهى الفاعل عنه ويمنع منه من غير أن يقال بتحريمه. والمسألة التي تذكر من استئجار الرجل على تأبير نخله كل نخلة بعذق، فهذا لا يصح لأن فيه ضررًا، وإن كان الرجل قد أبر النخل فأرى فيه أجرة المثل. وأما المرأة التي لم تحض، فإن عرفت السبب الرافع للحيض من رضاع أو مرض أو غير ذلك انتظرت زوال السبب المانع والحيض بعده، فإن كانت ما تعلم السبب الرافع للحيض فعدتها سنة بعد وقوف الحيض عنها، ثم تتزوج. وأما بيع اللبن في الشاة على هذه الصورة، فكثير من العلماء يمنعه، وأباحه بعضهم، وبيع الشاة بالشاة لا بأس به. وأخذ صاعي الشعير عن صاع البر في دين السلم لا يجوز.

6 - من عبد الله بن عبد الرحمن إلى الأخ علي بن عثمان

وأمّا القنوت إن كان إمامًا جهر به، وأمن المأمومون جهرًا. وأمّا الأجرة على الأذان فقال -صلّى الله عليه وسلّم- لبعض أصحابه: "اتّخذ مؤذنًا لا يأخذ على أذانه أجرًا". وأمّا الأذان قبل الوقت فلا يجزئ بل يعاد في الوقت. وأمّا بيع القهوة بطعام نسيئة فبعض أهل العلم يمع من هذا الجنس، وبعضهم يبيحه. وأمّا أخذ الطّعام عن دراهم ثمن سمن فالخلاف في مثل هذه المسألة مشهور في زمن السّلف. هذا إذا كان الطّعام حاضرًا ليس مؤخّرًا وأرى في مثل هذه المسألة الغفلة عن الفاعل. وصلّى الله على محمّد وآله وصحبه وسلّم. - 6 - بسم الله الرّحمن الرّحيم من عبد الله بن عبد الرّحمن إلى الأخ عليّ بن عثمان سلّمه الله سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد؛ نذكر لك من جهة الذي تذكر أنّه يأخذ عن الدّراهم ثمن الغنم زادًا، فهذا لا بأس به إن شاء الله. فإن كان الدّراهم ثمن لحمٍ فلا ينبغي أخذ الزّاد عنها خروجًا من الخلاف. ومن جهة شهود الطّلاق هل يجوز نقل شهادتهم، فإذا جاز نقل الشّهادة فشهود الطّلاق وغيرهم سواء، ونذر الطّاعة يلزم الوفاء به ويجبر عليه الممتنع، والمرأة إذا كانت رشيدة يصحّ تصرّفها في مالها ولا يمنعها زوجها من التّصرّف في مالها. وأمّا اشتراط الرّجل على زوج ابنته عند العقد، فهذا جائز بخلاف غير الأب. وأمّا قضاء رمضان فلا يجب فيه التّتابع. والله أعلم. وصلّى الله على محمّد وآله وصحبه وسلّم.

7 - الصور التي نهى عنها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في البيع

- 7 - بسم الله الرّحمن الرّحيم قال الشّيخ أبو بطين: وهذه الصّور التي نهى عنها رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- في البيع نهى عن ثمن الكلب، ومهر البغي، وحلوان الكاهن، وثمن السّنور، وكسب الحجام، وبيع الخمر، وكلّ ما حرم أكله وبيع الميتة، وبيع الأصنام، وبيع الحرّ، وبيع عسب الفحل، وبيع فضل الماء، وبيع الكلأ، وبيع الحصاة، وبيع الغرر، وبيع حبل الحبلة، وبيع الملامسة، وبيع المنابذة والمزابنة، والمحاقلة والمخابرة والمعاوضة والثّنيا، وبيع الثّمر قبل الصّلاح، وبيع الطّعام قبل قبضه، والبيع على بيع أخيه، والنَّجش والتّصرية، وبيع حاضر لبادٍ، وتلقي الرّكبان، والغشّ والكذب، والاحتكار، وأكل الرّبا، وتوكيله، وبيع الذّهب بمثله متفاضلًا، وبيع الفضّة بمثلها متفاضلةً، والبرّ بالبرّ متفاضلًا، والذّهب بالذّهب نساء, والفضّة بالفضّة نساء، والتّمر بالتّمر نساء، والشّعير بالشّعير نساء، والبرّ بالبرّ نساء، والملح بالملح نساء، والذّهب بالفضّة نساء، والتّمر بالبر نساء، والتّمر بالشّعير نساء، والتّمر بالملح نساء، والبرّ بالشّعير نساء، والبر بالملح نساء، والشّعير بالملح نساء، واشتراط ما ليس في كتاب الله، وكلّ ما تقدّم في الصّحيحين أو أحدهما. قوله: المزابنة: وهي أن يبيع ثمر حائطه إن كان نخلًا بتمرٍ كيلًا، وإن كان كرمًا أن يبيعه بزبيب كيلًا، وإن كان زرعًا أن يبيعه بكيل طعامًا، نهى عن ذلك كلّه، ويورى المزابنة أن يباع ما في رؤوس النّخل بتمرٍ كيلًا مُسمَّى إن زاد فلي وإن نقص فعلي. قوله: نهى عن المخابرة والمحاقلة، فالمحاقلة: أن يبيع الرّجل الزّرع

فائدة لأبي بطين

بمائة فرق حنطة، والمزابنة أن يبيع الثّمر في رؤوس النّخل بمائة فرق مثلًا، والمخابرة: كراء الأرض بالثّلث أو الرّبع، والمعاومة: أن يبيع حمل الشّجر المستقبل أعوامًا. قوله: المنابذة: وهي طرح الرّجل ثوبه للبيع إلى الرّجل قبل أن يقبله أو ينظر إليه. قوله: الملامسة: هي لمس الثّوب لا ينظر إليه. قوله: حبل الحبلة: وكان بيعًا يبيعه أهل الجاهلية، كان الرّجل يبتاع الجزور إلى أن تنتج النّاقة ثم أن تنتج التي في بطنها، وقيل: إنّه كان يبيع الشّارف وهي الكبيرة بالمسنة بنتاج الجنين الذي ببطن ناقته. وقوله: بيع الحصاة، وهو: أن يقول: أيّ موضعٍ وقعت عليه هذه الحصاة من هذه الأرض فهو لي بكذا وكذا. اهـ. {فائدة لأبي بطين}: إذا غلب حكم الكفر في بلدةٍ صارت دار حربٍ، وعند أبي حنيفة: لا تصير دار حربٍ إلّا باجتماع ثلاثة شروط: ظهور أحكام الكفر، وأن لا يبقى فيها مسلم ولا ذميّ إلا بالأمان الأصلي، وأن تكون ملحقة بدار الحرب. اهـ. - 8 - بسم الله الرّحمن الرّحيم من عبد الله بن عبد الرّحمن أبي بطين إلى الأخ المحبّ الشّيخ عثمان بن عيسى وفّقه الله لطاعته وحفظه بحراسته. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد؛ تذكر من حال كتاب الحاكم

برؤية الهلال، وما ذكر لك عبد الرّحمن النّميري أنِّي ذكرت لك شيئًا في ذلك عن العسكري فعبد الرّحمن يثبت لكن ما حضرنِي الآن. والذي يظهر لي العمل به والاعتماد عليه في ذلك؛ لأنّ الفقهاء ذكروا أنّه إذا رئي هلال رمضان بمكان لزم جميع النّاس الصّوم، وإنّما يثبت ذلك غالبًا في حقّ غير أهل موضع الرّؤية بإخبار الثّقات فرعًا عن أصل وخطوط القضاة، بل أهل موضع الرّؤية ليسوا كلّهم يأتون إلى الشّاهد برؤية الهلال ليسمعوا شهادته، بل يعتمدون على إخبار بعضهم بضعًا عن الشّاهد؛ كشهادة الفرع على الأصل، فإذا تقرّر قبول خبر الفرع أو شهادته في ذلك، فكذا كتاب القاضي؛ لأنّ الفقهاء ذكروا أنّه لا تقبل الشّهادة على الشّهادة إلّا فيما يقبل فيه كتاب القاضي إلى القاضي، وأنّ كتاب القاضي حكمه كالشّهادة على الشّهادة، وكلامه في الكافي صريح في قبول الشّهادة على الشّهادة في ذلك لما ذكر وجهين في قبول قول المرأة في هلال رمضان. قال في تعليل الوجه الثّاني: وهذا لا يقبل فيه شهادة الفرع مع إمكان شهادة الأصلن فدلّ كلامه على قبول شهادة الفرع مع عدم الإمكان، ونظره صاحب الفروع بقوله: كذا قال. والذي يظهر لي أنّ تنظيره إنّما هو اعتباره لقبول شهادة الفرع إمكان شاهد الأصل، كما قدّمنا أنّ المسلمين يعتمدون على ذلك مع الإمكان وعدمه. والله سحبانه وتعالى أعلم. ولعلّك وفقت على قول شارح الإقناع عند قول المتن في حكم كتاب القاضي: لا يقبل في حدّ الله كالزّنا ونحوه. قال الشّارح: وكالعبادات ووجه ذلك؛ أنّه لا مدخل لحكمه في عبادة، فكذا كتابه. قال الشّيخ تقيّ الدِّين: أمور الدِّين والعبادات المشتركة لا يحكم فيها إلّا الله ورسوله إجماعًا.

9 - من عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بطين إلى الأخ عثمان بن عيسى

قال في الفروع عقبه: فدلّ على أنّ إثبات سبب الحكم كرؤية الهلال والزّوال ليس بحكم الخبر، فدلّ ذلك على أنّ كتاب القاضي بإثبات رؤية الهلال ليس حكمًا في عبادةٍ ولا إثباتًا لها. وإنّما هو لإثبات سببها فلا ينافي كونه لا يقبل في عبادةٍ ولا يحكم فيها، وقد صرّحوا بأنّه لا مدخل لحكمه في عبادةٍ أو وقتٍ، وإنّما هو فتوى فدلّ كلامهم على أنّ إثبات رؤية الهلال مثلًا فتوى، والفتوى يعمل فيها بالخط، وإن كان كتابه شهد عندي فلان وفلان مثلًا، برؤية الهلال، ففرع على أصلٍ لا فتوى مطلقًا. والله سبحانه وتعالى أعلم. -9 - بسم الله الرّحمن الرّحيم من عبد الله بن عبد الرّحمن بن أبي بطين إلى الأخ عثمان بن عيسى. قال بعد السّلام: وما ذكرت من حال المرأة التي استدخلت ذكر زوجها وهما محرمان، مرادكم وهو نائم، هل يجب عليه الكفارة أم لا؟ وهل تتحملها عنه الزّوجة كالنّفقة أم لا؟ فالظّاهر وجوب الفدية عليه؛ لأنّ هذا نوع إكراه، والمكره تجب عليه الفدية على الصّحيح من المذهب. قال في الإنصاف في باب ما يفسد الصّوم ... الخ: فتبيّن بذلك أنّ المذهب وجوب الكفارة على مَن استدخلت زوجته ذكره، وهو نائم، وأنّها لا تتحملها عنه على الصّحيح من المذهب. وأمّا مَن قيل له: لم ضربت غلامك ولم أدميته؟ فقال: إن كان ظهر منه دم فهو حرّ، هل يعتق بذلك التّعليق إذا وجد الشّرط وهو ظهور الدّم؟ فالظّاهر أنّه يعتق إذا كان قد وجد الشّرط، وهو ظهور الدّم، والتّعليق

على الماضي معلوم من الكتاب والسّنة، ونحو هذا التّعليق يُسَمّى حلفًا؛ لأنّ التّعليق الذي يقصد به الحنث على فعلٍ أو المنع منه أو يراد به تصديق خبرٍ أو تكذيبه يُسمَّى حلفًا. وأمّا التّعليق الذي لا يقصد به شيء من ذلك فلا يُسَمَّى حلفًا على الصّحيح من المذهب. فلو قال: إن كنت فعلت كذا فزوجتِي طالق، وكان قد فعله حنث، وكذا لو قال: إن لم أكن فعلت كذا فزوجتِي طالق، أو فعبدي حرّ، وكان لم يفعله حنث إن لم يتأوّل حيث جاز التّاويل كما ذكره في باب التّأويل في الحلف. وما ذكرتموه من كلام منصور بأنّ المعلّق عليه لا يكون ماضيًا، فلعلّ مراده إذا تجرّد الشّرط عن لفظ كان، كما قال القاضي فيما روي عن أحمد في رجلٍ قال لامرأته: إن وهبت كذا فأنت طالق، وإذا هي قد وهبته. قال الإمام: أخاف أن يكون قد حنث. قال القاضي: هذا محمول على أنّه قال: إن كنت قد وهبته، وإلّا فلا يحنث حتّى تبتدئ هبته. انتهى. فإذا اتّصلت كان بأداة الشّرط جاز كون المعلّق عليه ماضيًا وحالًا. وقال م. ص: وقد يكون المعلّق عليه موجودًا في الحال، وقد يكون مستقبلًا ولا يكون ماضيًا، ولذلك تقلب أدوات الشّرط الماضي إلى الاستقبال، فدلّ قوله: وكذلك ... الخ على أنّ مراده بقوله: ولا يكون ماضيًا، إذا تجرّد من كان؛ لأنّ الماضي إذا اقترنت به كان لا يكون مستقبلًا، بل يبقى على مضيه، وهي إنّما تقلب الماضي إلى الاستقبال إذا لم تقترن بكان أو يكون أو مضارعًا، فدلّ قوله: ولذلك الخ، تقلب أدوات الشّرط، آخر ما وجد من هذه الرّسالة. والله أعلم.

10 - ما قولكم -رفع الله قدركم- في ريع وقف عقار انتقل من طبقة إلى طبقة أرضا أو نخلا من مزارعة أو مساقاة أو إجارة بعد ظهور الثمرة، ومتى تستحق الطبقة الثانية لذلك، وهل بين من كان يستحقها بوصف أو مقابلة عمل فرق؟

- 10 - وله أيضًا رحمه الله: بسم الله الرّحمن الرّحيم ما قولكم -رفع الله قدركم- في ريع وقف عقار انتقل من طبقة إلى طبقة أرضًا أو نخلًا من مزارعة أو مساقاة أو إجارة بعد ظهور الثّمرة، ومتى تستحقّ الطّبقة الثّانية لذلك، وهل بين مَن كان يستحقّها بوصفٍ أو مقابلة عملٍ فرق؟ أفتونا مأجورين. الجواب: الحمد لله ربّ العالمين، الكلام في هذه المسألة كالكلام في الحمل في أنّه يتجدّد حقّه من الوقف بوضعه لا قبله من ثمرٍ وزرعٍ، كتجدّد حقّ المشتري. هذا هو المشهور في المذهب. ومن المعلوم أنّه إذا بيعت أرض وفيها زرع كبر ونحوه أنّه للبائع ما لم يشترط مشترٍ. وكذا إذا بيع نخل قد تشقّق طلعه أنّه للبائع ما لم يشترطه المشتري. فهكذا حكم الحمل المستحقّ للوقف بعد وضعه. قال في المغنِي: ومَن وقف على أولاده أو أولاد غيره وفيهم حمل لم يستحقّ شيئًا قبل انفصاله. قال أحمد في رواية جعفر بن محمّد فيمَن وقف نخلًا على قومٍ وما توالدوا، ثم ولد مولود فإن كان النّخل قد أُبِّرَ فليس له فيه شيء، وهو للأوّل، وإن لم يكن قد أُبِّرَ فهو معهم، وإنّما قال ذلك؛ لأنّها قبل التّأبير تتبّع الأصل في البيع، وهذا الموجوب يستحقّ نصيبه فيتبعه حصته من الثّمر كما لو اشترى ذلك النّصيب من الأصل، وبعد التّأبير، لا تتبع الأصل، ويستحقّ مَن كان له الأصل، فكانت للأوّل؛ لأنّ الأصل كان كلّه له فاستحقّ ثمرته كما لو باع هذا النّصيب منها، ولم يستحقّ المولود منها شيئًا كالمشتري. وهكذا الحكم في سائر ثمر الشّجر الظّاهر، فإنّ المولود لا يستحقّ

منه شيئًا، ويستحقّ مما ظهر بعد ولادته. وإن كان الوقف أرضًا فيها زرع يستحقّه البائع فهو للأوّل، وإن كان مما يستحقّه المشتري فللمولود حصّته منه؛ لأنّ المولود يتجدّد استحقاقه للأصل كتجدّد ملك المشتري فيه. انتهى كلامه. وهذا التّعليل الذي علّل به ظاهر في أنّ حكم الطّبقة الثّانية حكم الحمل. وهو واضح. ولله الحمد. قال في الإنصاف: تجدّد حقّ الحمل بوضعه من ثمرٍ وزرعٍ لمشترٍ نقله المروذي وجزم به في المغنِي والشّرح والحارثي. وقال: ذكره الأصحاب في الأولاد وقدمه في الفروع. ونقل جعفر يستحقّ من زرع قبل بلوغه الحصاد، ومن نخل لم يؤبّر، فإن بلغ الزّرع الحصاد، وأُبِّرَ النّخل لم يستحقّ شيئًا إلى أن: قال في الفروع: ويشبه الحمل إن قدم إلى ثغر موقوف عليه فيه أو خرج منه إلى بلد موقوف عليه فيه، نقله يعقوب. قال: وقياسه من نزل في مدرسته ونحوه. قال ابن عبد القوي: ولقائل أن يقول: ليس كذلك؛ لأنّ واقف المدرسة ونحوها جعل ريع الوقف في السّنة كالجعل على اشتغال مَن هو في المدرسة عامًا، فينبغي أن يستحقّ بقدر عمله من السّنة من ريع الوقف في السّنة لئلا يفضي إلى أن يحضر الإنسان شهرًا مثلًا فيأخذ جميع مغل الوقف ويحضر غيره باقي السّنة بعد ظهور الثّمرة، فلا يستحقّ شيئًا. وهذا يأباه مقتضى الوقوف. ومقاصدها. انتهى. قال الشّيخ تقيّ الدِّين: يستحقّ بحصّته من مغله. وقال: من جعله كالولد فقد أخطأ. وللورثة من المغل بقدر ما باشر مورثهم. انتهى. قال في القواعد الفقهية: واعلم أنّما ذكرناه في استحقاق الموقوف عليه ههنا إنّما هو إذا كان استحقاقه بصفةٍ محضةٍ مثل كونه ولدًا أو فقيرًا ونحوه، أمّا إن كان استحقاقه الوقف عوضًا عن عملٍ، وكان المغل كالأجرة فيقسط على جميع السّنة كالمقاسمة

القائمة مقام الأجرة حتّى مَن مات في أثنائه استحقّ بقسطه وإن لم يكن الزّرع قد وجد. وبنحو ذلك أفتى الشّيخ تقيّ الدِّين. انتهى. فظهر من كلامهم أنّ مَن كان استحقاقه بصفةٍ لكونه ولدًا أو فقيرًا ونحو ذلك أنّ حكمه في الاستحقاق من زرع الأرض الموقوفة، وثمر الشّجر الموقوف حكم المشتري. هذا هو المعمول به في المذهب. وأمّا مَن كان استحقاقه في مقابلة عملٍ ففيه الخلاف، كما تقدّم. فصاحب الفروع قاس هذه المسألة قبلها، فقال: وقياسه مَن نزل في مدرسةٍ ونحوه وتبعه. في الإقناع وغيره وكلام الشّيخ تقيّ الدِّين وابن عبد القوي وابن رجب بخلاف ذلك. والعمل به أولى إن شاء الله تعالى. وأمّا إن كان الوقف مؤجّرًا فالذي ظهر لنا من كلامهم أنّ الأجرة تقسط على جميع السّنة، فَمَن مات من المستحقّين في أثناء السّنة فله من الأجرة بقدر ما مضى من السّنة. وهو صريح في كلام بعضهم، كما قال ابن رجب -رحمه الله- في أثناء كلامٍ له. قال: كما تقول في الوقف إذا انتقل إلى البطن الثّاني، ولم تنفسخ إجارته أنّهم يستحقّون الأجرة من يوم الانتقال. انتهى. فهذا يدلّ على القول بأنّها لا تنفسخ بموت المؤجّر من الطّبعة الأولى، وعلى القول الثّاني الذي هو الصّحيح عند ابن رجب وصحّحه أيضًا الشّيخ تقيّ الدِّين وصوّبه في الإنصاف أنّها تنفسخ، فإنّ المنافع تنتقل للطّبقة الثّانية، فتكون الأجرة لهم من حين انتقل الوقف إليهم. قال ابن رجب أيضًا في أثناء كلامٍ له: وفي أمثلة ذلك الوقف إذا زرع فيه أهل البطن الأوّل أو مَن آجروه ثم انتقل إلى البطن الثّاني والزّرع قائم، فإن قيل: إنّ الإجارة لا تنفسخ وللبطن الثّاني حصّتهم من الأجرة فالزّرع مبقى لمالكه بالأجرة

11 - ما قول شيخنا -وفقه الله لإيضاح المشكلات- في إنسان اشترى قهوة من آخر مثلا واكتالها كيلا جيدا، أو اشترط أنه يكيلها فلان مثلا، وأراد بعد ذلك بيعها، فلما باعها قال: أكيلها أنا، والحالة أن كيله هو أو فلان أنقص من ذلك الكيل الأول، هل يكون ذلك ممنوعا

السّابقة، وإن قيل: بالانفساخ، وهو المذهب الصّحيح فهو كزرع المستأجر بعد انقضاء المدّة إذا كان بقاؤه بغير تفريطٍ من المستأجر فيبقى بالأجرة إلى أوان أخذه، وقد نصّ عليه الإمام أحمد في رواية مهنا في مسألة الإجارة المنقضية، وأفتى به في الوقف الشّيخ تقيّ الدِّين. والله سبحانه وتعالى أعلم. اهـ. والمجيب هو: الشّيخ عبد الله بن عبد الرّحمن أبا بطين رحمه الله تعالى. - 11 - بسم الله الرّحمن الرّحيم {مسألة} ما قول شيخنا -وفّقه الله لإيضاح المشكلات- في إنسانٍ اشترى قهوة من آخر مثلًا واكتالها كيلًا جيدًا، أو اشترط أنّه يكيلها فلان مثلًا، وأراد بعد ذلك بيعها، فلما باعها قال: أكيلها أنا، والحالة أنّ كيله هو أو فلان أنقص من ذلك الكيل الأوّل، هل يكون ذلك ممنوعًا في الشّرع المطهر أم لا؟ أيضًا -سلّمك الله-: إذا اشترط البائع على المشتري أنّه لا يكيلها إلّا أنت أو فلان، والحالة أنّه هو أو فلان لا يحسنون الكيل الذي يساوي كيله أو لا والتزم له المشتري بذلك هل يسوغ له الشّرط أم لا؟ نلتمس من فيض إفضالكم تحرير الجواب باختصارٍ وإيجاز. ولكم من الله بذلك الثّواث الجزيل والمفاز. وأيضًا -سلّمك الله-: حصل زيادة بين كيلٍ البائع وكيل المشتري بلا شرط على المشتري، والحال أنّ المشتري الأوّل شرط على البائع الأوّل أنّه يكيلها فلان والمشتري الثّاني لم يشترط كيل أحدٍ. فأجاب -رحمه الله تعالى-: الذي أرى -والله أعلم- أنّه إذا قال المشتري:

أكيلها أنا أو فلان والحالة أنّ كيله أو كيل فلان أنقص من الكيل الأوّل الذي اكتاله البائع أنّ ذلك لا يمنع. وأمّا إذا شرط البائع على المشتري أنّه لا يكيلها إلّا أنت أو فلان، فهذا الشّرط غير صحيحٍ، ويجوز أن يتولّى الكيل غير المعيّن للمشروط، كما قالوا: إذا شرط في السّلم مكيالًا معيّنًا له عرف أنّه لا يصحّ هذا الشّرط ولا يلزم التّعيين. والله سبحانه وتعالى أعلم. فائدة: قال ابن القيم -رحمه الله تعالى- في بدائع الفوائد: الحاكم محتاج إلى ثلاثة أشياء لا يصحّ له الحكم إلّا بها: معرفة الأدلّة، والأسباب، والبيّنات. فالأدلّة تعريفه: الحكم الشّرعي لا الكلّيّ، والأسباب معرفة ثبوته في هذا المحلّ المعتبر وانتفاؤه عنه. والبيّنات معرفة طريق الحكم عند التّنازع. ومَن أخطأ واحدًا من هذه الثّلاثة أخطأ في الحكم وجميع خطأ الحكام مداره على هذه الثّلاثة أو بعضها. مثال ذلك: إذا تنازع اثنان في ردّ سلمة مشتراة فحكمه موقوف على العلم بالدّليل الشّرعي الذي سلط المشتري على الرّدّ، وهو إجماع الأمّة المستند إلى حديث المصراة، وعزاه على العلم بالسّبب المثبت بحكم الشّارع في هذا المبيع المعيّن، ويقولون هذا الوصف عيب سلط على الرّدّ أم لا؟ وهذا لا يتوقّف العلم به على الشّرع بل على الحسّ والعادّة أو العرف أو الجزاء ونحو ذلك، وعلى البيّنة التي هي طريق الحكم بين المتنازعين، وهي كلّ يبيّن ما له صدق أحدهما، أو ظنا من إقرار أو شهادة أربعة عدول، أو ثلاثة في دعوى الإعسار بتلف ماله على أصحّ القولين أو شاهدين، أو رجلٍ وامرأتين، أو شاهد ويمين، أو شهادة رجلٍ. انتهى.

12 - من عبد الله بن عبد الرحمن أبي بطين إلى الولد المحب علي بن عبد الله القاضي

- 12 - بسم الله الرّحمن الرّحيم من عبد الله بن عبد الرّحمن أبي بطين إلى الولد المحبّ عليّ بن عبد الله القاضي ألهمه الله رشده وهداه، ووفّقه لما يحبّه ويرضاه. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد؛ موجب الخطّ إبلاغك السّلام. والخط وصل وصلك الله إلى ما تحب. ومن حال ما ذكرت من أخذ الرّجل من طول لحيته إذا كانت دون القبضة فالظّاهر الكراهة، لقول النَّبِيّ -صلّى الله عليه وسلّم-: "اعفوا اللّحى"، وفي حديثٍ آخر: "ارخوا اللُّحى". والسّنة عدم الأخذ من طولها مطلقًا. وإنّما رخص بعض العلماء في أخذ ما زاد على القبضة لفعل ابن عمر -رضي الله عنهما-، وبعض العلماء يكره ذلك لقول النَّبِيّ -صلّى الله عليه وسلّم-: "اعفوا اللّحى". وأمّا حلق ما على الخدّين من الشّعر فلا شكّ في كراهته لمخالفته قوله -صلّى الله عليه وسلّم-: "اعفوا اللّحى". واللّحية في اللّغة اسم لمحلّ الشّعر النّابت على الخدّين والذّقن. ومعنى قوله -صلّى الله عليه وسلّم-: "اعفوا اللّحى"، أي: وفرّوها واتركوها على حالها مع أنّه ورد حديث في النّهي عن ذلك، فروى الطّبراني عن ابن عبّاس -رضي الله عنهما- أنّ النَّبِيّ -صلّى الله عليه وسلّم- قال: "مَن مثّل بالشّعر ليس له عند الله من خلاق". قال الزّمخشري: معناه: صيّره مثلة بنتفه أو حلقه من الخدود، وقيل: نتفه أو تغيير بسواد. وهذا الحديث ظاهر في تحريم هذا الفعل. والله سبحانه وتعالى أعلم. وقال أصحابنا: يباح للمرأة حلق وجهها وحفّه، ونصّ الإمام أحمد على كراهة حفّ الرّجل سوى وجهه، والحفّ أخذه بالمقراض والحلق

13 - مسائل سئل عنها الشيخ العالم العلامة البحر الفهامة عبد الله بن عبد الرحمن أبو بطين

بالموسى. فإذا كره الحفّ فالحلق أولى بالكراهة. ويكفي ذلك أنّه يخالف سنة النَّبِيّ -صلّى الله عليه وسلّم- في قوله: "اعفوا اللّحى". وفي الحديث: "وفّروا اللُّحى خالفوا المشركين". الله أعلم. - 13 - بسم الله الرّحمن الرّحيم هذه مسائل سُئِلَ عنها الشّيخ العالم العلّامة البحر الفهّامة عبد الله بن عبد الرّحمن أبو بطين رحمه الله وعفا عنه: المسألة الأولى: إذا ترك السّاعي في الخرص لربّ المال شيئًا من كمال النّصاب كما إذا صار عنده خمسة أوسق فترك منها وسقًا فقد ذكروا إن كان ربّ المال أكل هذا الوسق المتروك فلا يجب عليه شيء في الأوسق الأربعة الباقية، وإن لم يأكل هذا الوسق المتروك زكى الأسوق الأربعة فقط. الثّانية: وجوب الزّكاة في غلة الوقف فإن كان الوقف على معيّنٍ واحدٍ أو جماعةٍ وحصل لكلّ وحدٍ نصاب زكّاه، وإن كان الوقف على غير معيَّنٍ لم يجب شيء. الثّالثة: إذا كان عند إنسانٍ نصاب في الشّتاء وبعض نصاب في القيظ أخرج زكاة نصاب الشّتاء ولم يجب عليه شيء في زرع القيظ إذا لم يبلغ نصابًا. الرّابعة: إذا دبر عبده وأوصى بثلث ماله في جهة فزكاة الجميع تخرج من الثّلث؛ لأنّ التّبدير وصية على المشهور، وله الرّجوع في الوصية وبيع المدبّر على اختلاف في ذلك.

مسألة: ما حكم ما يغرس أو ينبت من النخل ونحوه على ماء الشريك في المشاع إذا أراد الشركاء القسمة؟

الخامسة: السّلم فلا يباع قبل قبضه ولا يؤخذ مِمَّن هو عليه عوض عن دَين السّلم في قول أكثر العلماء. السّادسة: إذا مات الوصي أقام الحاكم عدلًا في ذلك من العصبة أو غيرهم، وليس للعصبة ولاية إلّا مع عدم حاكمٍ أو وصي على قول غير مشهورٍ لكنه متوجّه مع عدم الحاكم. السّابعة: إذا طلق الرّجل زوجته ثلاثًا فإنّها تقع الثّلاث ولو كان على عوضٍ. الثّامنة: إذا قال الزّوج لزوجته: إن خرجت فأنت طالب وكرّرها ثلاثًا ثم خرجت فإنّها تطلق ثلاثًا ولو لم ينو شيئًا، وإن ادّعى أرادة الإفهام بالتّكرير قُبِلَ منه. التّاسعة: إذا قال الرّجل لامرأته: أمرك بيدك، فإنّها تملك ثلاثًا، ولو قال: طلِّقي نفسك، لم تملك إلّا واحدةً. العاشرة: إذا وقف نخلة معيّنة فالذي نرى أنّ موضعها لا يكون وقفًا بذلك، فإذا سقطت النّخلة زال حقّ أهل الوقف، وقد صرّح بذلك الفقهاء فيما إذا أقرّ له بنخلة أو باعه إيّاها تناول ذلك الجذع فقط، فإذا سقطت لم يكن له إعادتها كما نصّ عليه الإمام أحمد فيما إذا أقرّ له بنخلةٍ. والله سبحانه وتعالى أعلم. وصلّى الله على محمّد وآله وصحبه وسلّم. {مسألة} ما حكم ما يغرس أو ينبت من النّخل ونحوه على ماء الشّريك في المشاع إذا أراد الشّركاء القسمة؟ الجواب: الحمد لله. أمّا ما غرس الشّريك في الأرض المشاعة بغير إذن شريكه فقد صرّح الأصحاب بأنّ حكمه حكم غرس الغاصب، ونصّ

على ذلك الإمام أحمد، فإنّه سُئِلَ عَمَّن غرس نخلًا في أرض بينه وبين قوم مشاعًا، قال: إن كان بغير إذنهم قلع نخله. قال في الإنصاف: قلت: وهذا مما لا إشكال فيه. قالوا: وكذا لو غرس نوى فصار شجرًا فحكمه حكم الغرس لا كالزّرع على الصّحيح من المذهب. وأمّا قول الشّيخ -رحمه الله-: مَنْ رَزَعَ بلا إذن شريكه، والعادّة بأن مَن زَرع فيها له نصيب معلوم ولربّها نصيب قسم غلة ما زرعه في نصيب شريكه كذلك. فالظّاهر أنّ هذا في الزّرع خاصّة دون الغرس ولجريان العادّة بذلك. وأمّا إذا نبت في الأرض المشاعة شجر بغير فعل صاحب الماء وإنّما نبت على مائه بغير فعلٍ منه، فلم أرَ في كتب الأصحاب ذكرًا لهذه المسألة بعينها. ورأيت جوابًا للشّيخ عبد الله بن ذهلان النّجدي في هذه المسألة: اعلم أنّ الغرس النّابت في الأرض المأجورة والموقوفة لم نظفر فيه بنصٍّ وتعبنا من زمن، وجاءنا فيه جواب للبلياني وأظنّه غير محرّر، وأرسلنا من زمنٍ طويلٍ للشّيخ عبد الرّحمن بن عبد الله الشّافعي المفتِي بالأحساء فيمَن استأجر أرضًا مدةً طويلةً فنبت فيها غراس الظّاهر سقوطه في مدّة الإجارة ونما من عمل مستأجر ما حكمه؟ فأجاب: إذا استجأر شخص مدّة طويلةً ووقع منه نوى في الأرض المذكورة ولم يعرض عنه كان النّابت ملكًا لمستأجر إن تحقّق أنّ النّوى ملكه، وإن لم يتحقّق أنّه ملكه أو أعرض عنه، وهو مِمَّن يصحّ إعراضه، فهو ملك لصاحب الأرض، وإنّما نما بعمل المستأجر. هذا جوابه.

14 - نقل من إملاء الشيخ عبد الله أبي بطين

ومن جواب محمّد بن عثمان الشّافعي: الودي النّابت في الأرض لمالكها لا للمستأجر. وإن حصل نمو بفعل المستأجر من سقيه وتعاهده. اهـ. قال في الشّرح: وإن رهن أرضًا نبت فيها شجر فهو رهن؛ لأنّه نبات الأرض سواء نبت بفعل الرّاهن أو بغيره. وكذا قال في المغنِي وغيره، فتعليلهم أنّ النّابت من نماء الأرض ربّما يلحظ منه شيء. والله سبحانه وتعالى أعلم. - 14 - بسم الله الرّحمن الرّحيم نقل من إملاء الشّيخ عبد الله أبي بطين: ما قول العلماء هل للحيوان عهدة من جهة الجرب؟ فقال: وأمّا عهد الحيوان إذا بان فيه جرب بعد البيع بمدّة فقول أهل الخبرة بذلك أنّه يمكن حدوثه في هذه المدّة. وإنّما نعتقد تقدّمه على البيع أثبتنّا الرّدّ بفسخ البيع، وإن احتمل الأمرين أوجبنا اليمين على البائع بنفي تقدّم الجرب عملًا بإحدى الرّوايتين من أنّ القول قول البائع بيمينه على البتّ إذا اختلفا في حدوث العيب، وكان محتملًا لأمرين. انتهى. قال في شرح الزّاد في باب الخيار: ويقبل قول قابضٍ في ثابتٍ من ثمنٍ وقرضٍ وسلمٍ إن لم يخرج عن يده ما صورته؟ الجواب: معناه: أنّه إذا ثبت في ذمّة عمرو لزيد عشرة آصع مثلًا، سواء كانت ثمن ميبعٍ باعه زيد على عمرو، أو قرضٍ أقرضه زيد عمروًا، أو دَين سلم في ذمّة عمرو لزيد، أو أجرة دار في ذمّته أو قيمة سلعة أتلفها عمرو لزيدٍ، فثبت غرمها لزيد فبعد ما قبضه زيد من عمرو ردّها زيد بعيبٍ وجده فيها،

وأنكر عمرو كون الآصع المردودة ليست هي التي دفعها، فإنّ القول في هذه الصّورة التي صوّرنا قول القابض للثّابت، وهو زيد بيمينه؛ لأنّ الأصل بقاء شغل الذّمّة بهذا الحقّ الثّابت. والقاعدة: أنّ القول قول مدّعي الأصل وإنّما عبر بالقابض لشمل البائع والمقرض والمسلم والمؤجّر والمتلف ونحوهم. انتهى. وقال أيضًا في الشّرح: ومَن اشترى متاعًا فوجده خيرًا مِمَّا اشترى فعليه ردّه إلى بائع، وعبارة الحاشية على المنتهى لعثمان النّجدي: وفي الإقناع أيضا: لو اشترى متاعًا فوجده خيرًا مِمَّا اشترى فعليه ردّه إلى بائعه، وكما لو وجده رديئًا كان له ردّه، ولعلّ محلّ ذلك إذا كان البائع جاهلًا به. وفيه أيضًا: وإن أنعل الدّابة ثم أراد ردّها بعيبٍ مثلًا ينْزع النّعل ما لم يعيبها فيتركه إلى سقوطه أو موتها وليس له قيمته على البائع. انتهى. ونقل أيضًا من حاشية عثمان على المنتهى على صورة البيع الذي لا يصحّ تصرّف المشتري فيه قبل قبضه سبع صور: المكيل والموزون والمعدود والمذروع إذا بيع ذلك بالكيل ونحوه، والبيع بصفة إذا كان معيّنًا، والمبيع برؤية متقدمة. فهذه ستّ صور المبيع فيها معيّن ومع ذلك لا يصحّ تصرّف المشتري فيها بغير ما استثنى. وهو العبد والدّار ومثله في ذلك الثّمن إذا دفع بإحدى الصّور السّتّ. والسّابعة: كلّ عوضٍ في عقدٍ تتوقف صحّته على القبض كالصّرف والسّلم؛ فإنّه لا يصحّ التّصرّف أيضًا في العوض قبل قبضه. وحاصل ما يكون للبائع على ما ذكره ثمان صور السّتّ المتقدّمة والثّمر على الشّجر وكلّ مبيع

منع البائع المشتري من قبضه، وقال أيضًا: فلو بيع أو أخذ بشفعة ... الخ في العبارة صورتان: الأولى: قوله: فلو بيع، صورتها: أن يشتري زيد من عمرو درًا بصبرة طعام على أنّها عشرة أرادب بمثل بيع زيد لمشتري الدّار المذكورة لبكر بثنم معلومٍ ثم يتلف الطّعام بغير فعل آدمي قبل قبضه بالكيل، فإنّ البيع الأوّل ينفسخ وحده دون الثّاني، فتستقرّ الدّار لبكر بثمنها الذي اتّفق هو وزيد عليه، وهو المشتري الثّاني، ولعمرو وهو البائع الأوّل قيمة الدّار لتعذّر ردّها. انتهى. مسألة على باب الضّمان: قال شيخ الإسلام أحمد بن تيمية في النّبذة التي في المظالم المشتركة: وإذا كان الإعطاء واجبًا لرفع ضرر هو أعظم منه فمذهب مالك وأحمد بن حنبل المشهور عنه وغيرهما أنّ كلّ مَن أدّى عن غيره فله أن يرجع به إذا لم يكن متبرّعًا بذلك. وإن أدّاه بغير إذنه مثل مَن قضى دَين غيره بغير إذنه سواء كان قد ضمنه بغير إذنه أو أدّاه عنه بلا ضمان، وكذلك مَن افتك أسيرًا من الأسرى بغير إذنه، يرجع عليه بما افتكه به، وكذلك مَن أدّى عن غيره نفقة واجبة عليه مثل أن ينفق على ابنه أو زوجته أو بهائمه فيها حقّ مثل أن يكون مرتهنًا أو مستأجرًا أو كان مؤتمنًا عليها مثل المودع ومثل ردّ العبد الآبق، ومثل اتّفاق أحد الشّريكين على البهائم المشتركة. وقد دلّ على هذا الأصل قوله تعالى: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ}، [الطّلاق، من الآية: 6]. فأمرنا بإيتاء الأجر بمجرّد رضاعتهن ولم يشترط لذلك استئجارًا ولا إذن الأب لها إن رضع بالأجر، بل لما كان إرضاع الطّفل واجبًا على

أبيه إذا أرضعته المرأة استحقّت بمجرّد إرضاعها. انتهى. فائدة: إذا أخلّ الجاهل في أحكام صلاته بركنٍ أو واجبٍ أو فعل مبطلًا واعتقد أنّ صلاته صحيحة ثم أخبر أنّها غير صحيحة وقد صلّى فروضًا أعادها فقط، وأمّا العالم أو الشّاكّ فيعيد الصّلوات كلّها. وهذه مسألة مَن جهل أنّ عليه صلاة في الرّواية المشهورة. وأمّا مَن ذكر فائتة وجهل وجوب التّرتيب وصلّى قبلها أعاد. انتهى. فائدة: وأمّا زكاة الفطر فيعتبر أيضًا لها إخراجها إلى المستحقّ لا إخراجها عن يده إلى وكيل ونحوه. فائدة: إذا أراد إنسان أن يضحّي بأضحيةٍ عن جماعةٍ جاز تشريكهم فيها، وتكفي النّيّة فلا يشترط أن يسمِّي مَن أرادهم بالأضحية، لكن تستحبّ تسميتهم، فيقول بعد التّسمية والتّكبير عن فلان وفلان، أو عن أهل بيتِي أو عن والدي ونحوه. انتهى. فائدة: وقال أيضًا -رحمه الله- وفرض على كلّ أحدٍ معرفة التّوحيد وأركان الإسلام بالدّليل ولا يجوز التّقليد في ذلك، لكن العامّي الذي لا يعرف الأدلّة إذا كان يعتقد وحدانية الرّبّ ورسالة محمّد -صلّى الله عليه وسلّم- ويؤمن بالبعث بعد الموت، والجنة والنّار، ويعتقد أنّ هذه الأمور الشّركية التي تفعل عند هذه المشاهد باطل وضلال، فإذا كان يعتقد ذلك اعتقادًا جازمًا لا شكّ فيه، فهو مسلم، وإن لم يترجم بالدّليل؛ لأنّ عامّة المسلمين ولو لقنوا الدّليل فإنّهم لا يفهمون المعنى غالبًا. انتهى.

15 - مسائل وفوائد

[مسائل وفوائد] - 15 - بسم الله الرّحمن الرّحيم سُئِل الشّيخ عبد الله أبو بطين -رحمه الله- عن التتن هل يطلق عليه التّحريم وما وجه تحريمه؟ فأجاب -رحمه الله- أمّا التتن فالذي نرى فيه التّحريم لعلتين: إحداهما: حصول الإسكار فيما إذا فقده شاربه مدّة ثم شربه وإن لم يسكر ولم يحصل له إسكار فقد يحصل له تخدير وتفتير، وقد روى الإمام أحمد -رحمه الله- حديثًا مرفوعًا: "نهى رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- عن كلّ مخدر ومفتر". والعلة الثّانية: أنّه دخان منتن فهو مستخبث عند مَن لم يعتده. واحتجّ بعض العلماء بقوله تعالى: {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ}، [الأعراف، من الآية: 157]. فهو بلا شكّ مستخبث. وأمّا مَن ألفه واعتاده فلا يرى خبثه كالجعل لا يستخبث العذرة. والله سبحانه وتعالى أعلم. قال الفضيل بن عياض: أفضل العلم ما دلّك على معرفة الله وخشيته ومحبّته، ومحبّة ما يحب، وكراهة ما يكره، لاسيما عند غبلة الجهل والتّعبّد به أفضل من عمل الجوارح، وفائدة العلم العمل وإلّا فهو حجّة على صاحبه. انتهى كلامه رحمه الله تعالى. مسألة: إذا كان رجلان شريكان في ثمرة نخلّ واحتاج أحدهما إلى أخذ ثمرة نخلة بعضها تمر وبعضها بسر، فقال لشريكه: إذا صرم النّخل فخذ قيمة الثّمر. هل يصحّ أم لا؟ الجواب: الحمد لله، فقد ذكر العلماء أنّه يجوز قسمة الثّمار خرصًا، ولو كانت الثّمار على الشّجر قبل بدوّ صلاحه، أي: الثّمر ولو بشرط التّبقية،

16 - من جواب للشيخ عبد الله أبي بطين رحمه الله

وأنّه لا يجوز تفرّقهما قبل القبض؛ لأنّها إفراز حقّ لا بيع. وأمّا المسألة المسؤول عنها فلا يجوز؛ لأنّه في الحقيقة بيع، وهو غير صحيحٍ. أظنّه جواب الشّيخ أبو بطين رحمه الله. قال -رحمه الله-: أمّا شرط المرأة على الزّوج طلاق زوجته فأكثر الأصحاب يصحّحون هذا الشّرط بمعنى أنّ لها الفسخ إذا لم يفِ. واختار الموفّق وجماعة من الأصحاب عدم صحّة هذا الشّرط. وأنّها لا تملك الفسخ إذا لم يف؛ للنّهي عنه في الحديث الصّحيح، وأرجو أنّ هذا القول أقرب. والله أعلم. فائدة: إذا كان مثلًا عند إنسانٍ لآخر مائة صاع سلم جاز أن يشتري منه بنقد ثم يقبضه ثم يدفعه إليه عما في ذمّته سلمًا. وإن كان غير سلم جاز أن يقضيه عنه عوضه. فائدة: ذكر ابن عقيل فيمَن عليه فائتة وخشي فوات الجماعة روايتين: إحداهما: يسقط التّرتيب؛ لأنّه اجتمع واجبان لا بدّ من تفويت أحدهما، فكان مخيّرًا فيهما. والثّانية: لا يسقط التّرتيب لما ذكرنا. قال شيخنا: وهذه الرّواية أحسن وأصلح إن شاء الله. - 16 - بسم الله الرّحمن الرّحيم ومن جوابٍ للشّيخ عبد الله أبي بطين رحمه الله: وما سألت عنه من الاقتصار في التّراويح على أقلّ من عشرين ركعة فلا بأس بذلك، وإن زاد فلا بأس، قال الشّيخ تقيّ الدِّين: له أن يصلّي عشرين كما هو المشهور في مذهب أحمد والشّافعي، قال: وله أن يصلّي ستة وثلاثين، كما هو مذهب مالك، قال الشّيخ: وله أن يصلّي أحدى عشرة

سئل الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبو بطين رحمه الله، وعفا عنه عن الذي يروى: "من كفر مسلما فقد كفر"

أو ثلاث عشر. قال: وكلّه حسن، كما نصّ عليه أحمد رحمه الله. قال الشّيخ: فيكون تكثير الرّكعات وتقليلها بحسب طول القيام وقصره، وقد استحبّ أحمد أنّه لا ينقص في التّراويح عن ختمة، يعنِي في جميع الشّهر. وأمّا قوله سبحانه: {كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ}، [الذّاريات: 17]، فالهجوع اسم للنّوم باللّيل. والمشهور في معنى الآية: أنّهم كانوا يهجعون قليلًا من اللّيل ويصلّون أكثره، وقيل: المعنى أنّهم لا ينامون كلّ اللّيل بل يصلّون فيه، إمّا في أوّله أو آخر. أمّا الاستغفار فيراد به الاستغفار المعروف وأفضله سيّد الاستغفار. وقال بعض المفسِّرين: {وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ}، [الذّاريات: 18]. أي: يصلّون؛ لأنّ صلاتهم بالأسحار لطلب المغفرة، وإذا صار الإنسان يجلس في المسجد فلا بأس من كونه يجعل عصاه في مكانٍ فاضلٍ بحيث إنّه لا يخرج إلّا لما بدّ منه من نحو وضوء وفطور وسحور ونحوه، وأمّا إن كان يخرج لنحو بيع وشراء وكد فلا يجوز. والله أعلم. فائدة: سُئِل الشّيخ عبد الله بن عبد الرّحمن أبو بطين رحمه الله، وعفا عنه عن الذي يروى: "مَن كفّر مسلمًا فقد كفر". فأجاب -عفا الله عنه-: لا أصل لهذا اللّفظ فيما نعلم عن النَّبِيّ -صلّى الله عليه وسلّم-، وإنّما الحديث المعروف: "مَن قال لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما". ومَن كفّر إنسانًا أو فسّقه أو نفّقه متأوّلًا غضبًا لله تعالى فيرجى العفو عنه كما قال عمر -رضي الله عنه- في شأن حاطب بن أبي بلتعة أنّه منافق، وكذا جرى من غيره من الصّحابة وغيرهم. وأمّا مَن كفّر شخصًا أو نفّقه غضبًا لنفسه أو بغير تأويلٍ فهذا يخاف عليه، وأمّا مَن جعل سبيل الكفار أهدى من سبيل المؤمنين، فإن كان

مراده حال أهل الزّمان اليوم كأن يقول: إنّ فعل مشركي الزّمان عند القبور وغيرها أحسن مِمَّن لا يدعو إلّا الله ولا يدعو غيره، فهذا كافر بلا شكّ، وكذا قولنا: إن فعل مشركي الزّمان عند القبور من دعاء أهل القبور وسؤالهم قضاء الحاجات وتفريج الكربات والذّبح والنّذر لهم، وقولنا: إنّ هذا شرك أكبر وأنّ مَن فعله فهو كافر، والذين يفعلون هذه العبادات عند القبور كفار بلا شكّ، وقول الجهال إنّكم تكفّرون المسلمين، فهذا ما عرف الإسلام ولا التّوحيد. والظّاهر عدم صحّة إسلام هذا القائل، فإن لم ينكر هذه الأمور اليت يفعلها المشركون اليوم، ولا يراها شيئًا فليس بمسلمٍ. اهـ. فائدة: قال الأصحاب: الدّار داران: دار إسلامٍ ودار كفرٍ، فدار الإسلام هي التي تجري أحكام الإسلام فيها وإن لم يكن أهلها مسلمين، وغيرها دار كفرٍ، وكرهوا التّجارة والسّفر إلى أرض العدوّ، وبلاد الكفر مطلقًا. قوله: مطلقًا، سواء أظهر دِينه أم لا؟ وإن عزج عن إظهار دِينه حرم السّفر إليها. قال في الفروع: وجزم غيره، يعنِي غير شيخه بكراهة التّجارة السّفر إلى أرض كفرٍ ونحوه كأرض بدع. وقال شيخنا أيضًا: لا يمنع منه إذا لم يلزموه بفعل محرمٍ أو ترك واجبٍ، وينكر ما يشاهد من المنكر. انتهى. وذكر قبل ذلك تحريم شهود عيد اليهود والنّصارى إلى أن قال: لا بيع لهم فيها، نقله مهنا. وحرمه شيخنا، وخرّجه على ما ذكره من روايتين منصوصتين في حمل التّجارة إليهم. قال حرب: قال عبد الله بن أحمد: سألت أبِي عن رجلٍ اكتسب مالًا من شبهة هل صلاته وتسبيحه تحط عنه من مأثم ذلك؟ فقال: إن صلّى وسبّح يريده بذلك فأرجو. قال الله تعالى: {خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئا} الآية، [التّوبة، من الآية: 102].

17 - من عبد الله بن عبد الرحمن أبي بطين، إلى الولد علي بن عبد العزيز بن سليم

- 17 - بسم الله الرّحمن الرّحيم من عبد الله بن عبد الرّحمن أبي بطين، إلى الولد عليّ بن عبد العزيز بن سليم، زاده الله علمًا ووهب لنا وله حكمًا. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد؛ موجب الخط السّلام والخط وصل، وصلك إلى الخير، وسرّنا ما ذكرت أتم الله نعمته على الجميع، وغير ذلك سألت عن معنى الحديث أنّه -صلّى الله عليه وسلّم- نهى عن بيع الطّعام حتّى يجري فيه الصّاعان: صاع البائع، وصاع المشتري، فهذا مثل الحديث الآخر: "إذا بعت فكل، وإذا ابتعت فاكتل"، يستدلّ بذلك إذا اشترى شيئًا بكيلٍ أو وزنٍ فإنّما يحصل قبضه بالكيل فيما يكال، والوزن فيما يوزن، ولا يتصرّف فيه قبل كيله، فإذا اشترى شيئًا بالكيل قبضه بصاعه، وإذا باعه قبضه المشتري منه بصاعه. وأمّا حديث عهدة الرّقيق فاستدلّ بهذا المكالية في قولهم: عهدة الرّقيق ثلاثة أيّام، يعنون إذا اشترى فأصابه عيب أو غيره فهو من ضمان البائع، واحتجّوا بحديث عقبة لكن الذي رأينا فيه ثلاثة أيّام، وأكثر العلماء لا يرون ذلك. قال الإمام أحمد: ليس فيه حديث. وقال ابن المنذر: لا تثبت العهدة في حديث. وأمّا حديث اعطوا كلّ سورة حظّها من الرّكوع والسّجود فالظّاهر أنّ المراد لا يزيد في الرّكعة على سورة وفي هذه المسألة خلاف، فالأكثرون من العلماء على أنّه لا يكره الجمع بين سورتين فأكثر في الرّكعة الواحدة لقراءة النَّبِيّ -صلّى الله عليه وسلّم-.

18 - من عبد الله بن عبد الرحمن أبي بطين، إلى الأخ المكرم عبد الله بن شومر

- 18 - بسم الله الرّحمن الرّحيم من عبد الله بن عبد الرّحمن أبي بطين، إلى الأخ المكرّم عبد الله بن شومر سلّمه الله تعالى وعافاه ووفّقه لما يحبّ ويرضاه. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد؛ وموجب الخط إبلاغك السّلام، والسّؤال عن الأحوال نسأل الله أن يصلح لنا ولكمن الدّنيا والآخرة. والخط وصل وصلك الله إلى رضوانه، وسرّنا ما ذكرت من صلاح الأمور، وما سألت عنه من أنّه هل يجوز تعيين إنسانٍ بعينه بالكفر إذا ارتكب شيئًا من المكفِّرات فالأمر الذي دلّ عليه الكتاب والسّنة وإجماع العلماء على أنّ مثل الشّرك بعبادة غير الله سبحانه كفر. فَمَن اركتب شيئًا من هذا النّوع أو حسّنه، فهذا لا شكّ في كفره ولا بأس بِمَن تحقّقت منه أشياء من ذلك أن تقول كفر فلان بهذا الفعل، يبيّن هذا أنّ الفقهاء يذكرون في باب حكم المرتدّ أشياء كثيرة يصير بها المسلم مرتدًّا كافرًا، ويستفتحون هذا الباب بقولهم: مَن أشرك بالله فقد كفر، وحكمه أنّه يستتاب، فإن تاب وإلّا قُتِل، والاستتابة إنّما تكون مع معيّن. ولما قال بعض أهل البدع عند الشّافعي -رحمه الله- إنّ القرآن مخلوق، قال: كفرت بالله العظيم. وكلام العلماء في تكفير المعيَّن كثير. وأعظم أنواع هذا الشّرك عبادة غير الله، وهو كفر بإجماع المسلمين، ولا مانع من تكفير مَن اتّصف بذلك؛ لأنّ مَن زنا قيل: فلان زانٍ، ومَن رابا قيل: فلان ربا.

19 - سئل شيخنا أبو بطين -أيده الله تعالى- عن بيان حكم الرافضة وعن قول من يقول: إن من تكلم بالشهادتين ما يجوز تكفيره

- 19 - بسم الله الرّحمن الرّحيم سُئِلَ شيخنا أبو بطين -أيّده الله تعالى- عن بيان حكم الرّافضة، وعن قول مَن يقول: إنّ مَن تكلّم بالشّهادتين ما يجوز تكفيره. فأجاب رحمه الله عنه ورضي عنه: سألت عن بيان حكم الرّافضة فهم في الأصل طوائف: منهم: طائفة يسمّون المفضلة لتفضليهم عليّ بن أبي طالب على سائر الأصحاب، لا يلعنون. ومنهم: طائفة يزعمون غلط جبريل في الرّسالة، ولا شكّ في تكفير هذه الطّائفة. وأكثرهم في الأصل يعترفون برسالة محمّد -صلّى الله عليه وسلّم-، ويزعمون أنّ الخلافة لعليّ، ويلعنون الصّحابة ويفسّقونهم، ونذكر ما ذكره شيخ الإسلام تقيّ الدِّين -رحمه الله تعالى- في حكمهم: قال -رحمه الله تعالى- في الصّارم المسلول: ومَن سبَّ أصحاب الرّسول، أو واحدًا منهم، واقترن بسبّه دعوى أنّ عليًّا إله، أو نبِيّ، أو أنّ جبريل غلط فلا شكّ في كفر هذا بل لا شكّ في كفر مَن توقّف في تكفيره. ومَن قذف عائشة وقبّح - يعنِي لعن الصّحابة ففيه خلاف، هل يكفر في أو يفسق، توقّف أحمد في كفره. وقال: يعاقب ويجلّد ويحبس حتّى يموت أو يتوب. قال الشّيخ: وأمّا مَن جاوز ذلك كَمَن زعم أنّ الصّحابة ارتدّوا بعد موت النَّبِيّ -صلّى الله عليه وسلّم- إلّا نفرًا قليلًا، يبلغون بضعة عشرة، أو أنّهم فسقوا فلا ريب أيضًا في كفر قائل ذلك، بل مَن شكّ في كفره، فهو كافر. انتهى. فهذا حكم الرّافضة في الأصل، فأمّا حكم متأخّريهم الآن، فجمعوا يبن الرّفض والشّرك بالله العظيم بالذي يفعلونه عند المشاهد وهم الذين ما بلغهم

شرك العرب الذين بعث إليهم رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم-. وأمّا مَن يقول إنّ مَن تكلّم بالشّهادتين ما يجوز تكفيره، فقائل هذا القول لا بدّ أن يتناقض، ولا يمكنه طرد قوله في مثل مَن أنكر البعث أو شكّ فيه مع إتيانه بالشّهادتين، أو أنكر نبوّة أحد من الأنبياء الذين سَمّاهم الله تعالى في كتابه. أو قال: الزّنا حلال، أو اللّواط، أو الرّبا، ونحو ذل، أو أنكر مشروعية الأذان أو الإقامة أو أنكر الوتر أو السّواك، ونحو ذلك، فلا أظنّه يتوقّف في كفر هؤلاء ومثالهم إلّا أن يكابر أو يعاند، فإن كابر أو عاند فقال لا يضرّ شيء من ذلك ولا يكفر به مَن أتى بالشّهادتين فلا شكّ في كفره ولا في كفر مَن شكّ في كفره؛ لأنّه بقوله هذا مكذِّب لله ولرسوله ولجميع المسلمين. والأدلّة على كفره ظاهره من الكتاب والسّنة والإجماع. ويقال لِمَن قال: إنّ مَن أتى بالشّهادتين لا يتصوّر كفره، ما معنى الباب الذي يذكره الفقهاء في كتب الفقه وهو: (باب حكم المتردّ)؟ والمرتدّ هو الذي يكفر بعد إسلامه بكلامٍ أو اعتقادٍ أو فعلٍ أو شكٍّ، وهو قبل ذلك يتلفّظ بالشّهادتين ويصلّي ويصوم، فإذا أتى بشيء مما ذكروه صار مرتدًّا، مع كونه يتكلّم بالشّهادتين، ويصلّي ويصوم، ولا يمنعه تكلّمه بالشّهادتين وصلاته وصومه عن الحكم عليه بالرّدّة. وهذا ظاهر بالأدلّة من الكتاب والسّنة والإجماع. وأوّل ما يذكرون في هذا الباب الشّرك بالله، فَمَن أشرك بالله فهو مرتدّ، والشّرك عبادة غير الله، فَمَن جعل شيئًا من العبادة لغير الله فهو مشرك، وإن كان يصوم النّهار ويقوم اللّيل فعمله حاط. قال الله تعالى: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ}، [الزّمر: 65]. والشّرك عبادة غير الله. والعبادة هي ما أمر

الله به رسوله من إيجابٍ أو استحبابٍ. قال القاضي عياض في كتابه: (الشّفاء): (فصل: في بيان ما هو من المقالات كفر) إلى أن قال: والفصل البيّن في هذا أنّ كلّ مقالةٍ صرحت بنفي الرّبوبية أو الوحدانية أو عبادة غير الله أو مع الله فهي كفر إلى أن قال: والذين أشركوا بعبادة الأوثان أو أحد الملائكة أو الشّياطين أو الشّمس أو النّجوم أو النّار أو أحد غير الله من مشركي العرب أو أهل الهند أو السّودان أو غيرهم إلى أن قال: أو أن ثَمَّ للعالم صانعًا سوى الله أو مدبِّرًا فذلك كلّه كفر بإجماع المسلمين". فانظر حكاية إجماع المسلمين على كفر مَن عبد غير الله من الملائكة وغيرهم، وهذا ظاهر ولله الحمد. ونصوص القرآن في ذلك كثيرة، فمَن قال إنّ مَن أتى بالشّهادتين وصلّى وصام لا يجوز تكفيره أو عبد غير الله، فهذا كافر، ومَن شكّ في كفره فهو كافر. إلى أن قال: على هذا القول: فهو مكذِّب لله ولرسوله وللإجماع القطعي الذي لا يستريب فيه مَن له أدنى نظر في كلام العلماء، لكن الهوى والتّقليد يعمي ويصمّ: {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ}، [النّور، من الآية: 40]. وليعلم مَن أنعم الله عليه بمعرفة الشّرك الذي خفي على كثير من النّاس اليوم أنّه قد منح أعظم النّعم: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ}، [يونس: 58]. {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً}، [الْحجرات، من الآيتين: 7 - 8]. ثم لا يؤمن عليه من ربّه الافتتان بذلك. اللهم إذا هديتنا للإسلام فلا تنْزعه منّا، ولا تنْزعنّا منه حتّى توفّانا عليه: {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ

اعلم أن ضد التوحيد الشرك، وهو ثلاثة أنواع

أَنْتَ الْوَهَّابُ}، [آل عمران: 8]. انتهى من خطّ الشّيخ عبد الله بن عبد الرّحمن أبي بطين. آتاه الله من رحمته كفلين، ونصر به الوحيين. وصلّى الله على محمّد وآله وصحبه وسلّم. والسّلام. ثم اعلم أنّ ضدّ التّوحيد الشّرك، وهو ثلاثة أنواع: شرك أكبر، وشرك أصغر، وشرك خفي. والدّليل على الشّرك الأكبر قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيدًا} [النّساء: 116]. وقال المسيح: {يَا بَنِي إِسْرائيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ}، [المائدة، من الآية: 72]. وهو أربعة أنواع: الأوّل: شرك الدّعوة. والدّليل قوله تعالى: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ}، [العنكبوت: 65]. النّوع الثّاني: شرك النّيّة والإرادة والقصد، والدّليل قوله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}، [هود: 15 - 16]. النّوع الثّالث: شرك الطّاعة، والدّليل قوله تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ}، [التّوبة: 31]. وتفسيرها الذي لا إشكال فيه طاعة العلماء والعباد في المعصية لادعاؤهم إيّاهم كما فسّرها النَّبِيّ -صلّى الله عليه وسلّم- لعدي بن حاتم لما سأله، فقال: لسنا نعبدهم. فذكر له أنّ عبادتهم طاعتهم في المعصية. النّوع الرّابع: شرك المحبّة، والدّليل قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ

20 - من عبد الرحمن بن عبد العزيز، وعبد الله بن عبد العزيز، وحمد بن علي، إلى جناب الشيخ المكرم عبد الله بن عبد الرحمن أبي بطين

يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ}، [البقرة، من الآية: 165]. والنّوع الثّاني: شرك أصغر، وهو الرّياء، والدّليل قوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا}، [الكهف، من الآية: 110]. والنّوع الثّالث: شرك خفي، والدّليل قوله -صلّى الله عليه وسلّم-: "الشّرك في هذه الأمّة أخفى من دبيب النّملة السّوداء على صفاة سوداء في ظلمة اللّيل". وكفارته قوله -صلّى الله عليه وسلّم-: "اللهم إنِّي أعوذ بك أن أشرك بك شيئًا وأنا أعلم وأستفغرك من الذّنب الذي لا أعلم". اهـ. - 20 - بسم الله الرّحمن الرّحيم من عبد الرّحمن بن عبد العزيز، وعبد الله بن عبد العزيز، وحمد بن عليّ، إلى جناب الشّيخ المكرّم عبد الله بن عبد الرّحمن أبي بطين سلّمه الله من النّار، وجعله من عباده الأخبار. آمين. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وموجب الخط إبلاغك السّلام والسّؤال عن حالك لا حال بك سوء ولا مكروه. وبعد؛ متّعنا الله بك. أفتنا في شعيب الخطامة يسقي نخيلًا في السّابق وقلبانه إذا قلّ المطر ييبس أكثرها أو يقلّ ماؤها، وركز ناس من جماعتنا في أعلاه نخلًا وودّهم يجعلون لها من الشّعيب مسايل يطوّونها لأجل أن يشربوا أو يسقوا نخيلهم من السّيل، والذين أسفل منهم يقولون: علينا مضرّة بهذا ويمنعون السّيل إذا صار ما هو بجيد وقلباننا تصفى ونحن سابقون، وخصماؤهم يقولون إنّ الشّعيب واد، وإنّه إذا جاء جيدًا تعداهم، وأشكل علينا الأمر المطلوب من الله ثم منك تذكر لهم هل

يمنعونهم من إحداث المسايل والحال منا ذكرنا لك أم لهم بقدر ما يسيلهم؟ إذكر لنا الذي يبيّن لك أحسن الله إليك؛ لأنّ هذه خصومة تحتاج إلى اجتهاد، ولا مخلص لنا إلّا الله، ثم أنت من هذه المشكلة أحسن الله إليك. وبلغ سلامنا العيال ومن عزّ عليك. ومن لدينا الجماعة يسلمون عليك، وأنت بأمان الله وحفظه. والسّلام. - 21 - بسم الله الرّحمن الرّحيم وعليكم السّلام ورحمة الله وبركاته. وبعد؛ تذكرون لنا في مسألة شعيب الخطامة الذي مغروس فيه في السّابق ويسقون نخيلهم من المسيل وغرس ناس من جماعتهم في أعلاه نخلًا وطلبوا أن يجعل لها مسيل من الشّعيب، وأهل العقارات السّابقة يقولون علينا مضرّة بهذا. فهذه المسألة مذكور حكمها في كتب الفقه في (باب إحياء الموات). قالوا: ولِمَن في أعلى ماء غير مملوك كماء الأمطار والأنهار الصّغار أن يسقي ويحبسه إلى كعبه. قالوا: ولو أراد إنسان إحياء أرض فوقهم فهل لهم منعه؟ على قولين أصحّهما ليس لهم منعه إن لم يضربهم، لكن ليس له أن يسقي قبلهم لسبقم، ولأنّهم ملكوا الأرض بحقوقها قبله فلا يملك إبطال حقوقهم، وسبقهم إيّاه بالسّقي من حقوقها، ولحديث: "مَن سبق إلى ما لم يسبق إليه مسلم فهو أحقّ به"، ولا فرق بين وادٍ كبيرٍ أو صغيرٍ؛ ولأنّه إذا صار السّيل غير جيد، ولو كان الوادي كبيرًا أضربهم وسدّه عنهم. هذا الذي ذكره الفقهاء ومشوا عليه. والسّلام.

21 - من عبد الله بن عبد الرحمن إلى الولد علي بن عبد العزيز بن سليم

- 22 - بسم الله الرّحمن الرّحيم من عبد الله بن عبد الرّحمن إلى الولد عليّ بن عبد العزيز بن سليم -سلّمه الله تعالى وعافاه، وألهمه رشده وهداه-. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد؛ موجب الخط إبلاغ السّلام مع جواب المسائل: الأولى: فيمَن صلّى صلاة من الخمس ناسيًا حدثه ولم يذكر إلّا بعد ما صلّى فرضًا أو فروضًا كَمَن صلّى الفجر محدثًا ناسيًا ولم يذكر إلّا بعد ما صلّى الظهر والعصر، فإنّه يعيد الفجر فقط. قال في الفروع: لما ذكر أنّ التّرتيب يسقط بالنّسيان على الأصحّ، قال وقال أبو المعالي وغيره تبيّن بطلان الصّلاة الماضية كالنّسيان، ولمّا ذكر أيضا أنّ المذهب عدم سقوط وجوب التّرتيب بالجهل بالوجوب. قال فلو صلّى الظّهر ثمّ الفجر جاهلا ثمّ العصر في وقتها صحّت عصره لاعتقاده أن لا صلاة عليه كمن صلاها ثمّ تبيّن له أنّه صلّى الظّهر بلا وضوء أعاد الظّهر. (المسألة الثّانية): الإكراه على فعل محرّم ففيه تفصيل يعذر فيه في بعض دون بعض فلو أكرهت المرأة على الزّنا لم تحد عند أكثر العلماء لقوله تعالى: {وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ} [النور، من الآية:33]، إلى آخر الآية. وكذا لو أكره على شرب الخمر ولو أكره رجل على قتل معصوم قتل به، وكذا مكرهه عند الجمهور. وأمّا الإكراه على فعل مكفر فالظّاهر من كلام الفقهاء أنّه في حكم المرتد حيث قالوا إنّه الّذي يكفر بعد إسلامه؛ لقول أو فعل أو شك أو

اعتقاد، واشترطوا كونه طوعا ولم يقيدوه بالقول. وقال ابن رجب في شرح الأربعين: ولو أكره على شرب الخمر أو غيره من الأفعال المحرمة ففي إباحته بالإكراه قولان -إلى أن قال-. (والقول الثّاني): إنّ التّقية في الأقوال ولا تقية في الأفعال ولا إكراه عليها. روي ذلك عن ابن عبّاس وجماعته من التّابعين ذكرهم وهو رواية عن أحمد -إلى أن قال-. وأمّا ما روى عن النّبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- أنّه وصى طائفة من أصحابه فقال: "لا تشركوا بالله شيئًا وإن قطعتم أو حرقتم" فالمراد الشّرك بالقلوب اهـ. فظّاهر كلامه أنّ الإكراه يكون في الفعل والقول لقول الله تعالى: {وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا}، [النحل، من الآية:106]. والله أعلم. وأمّا من وجد ماله المسروق أو الضّال ونحوه عند إنسان مشتريه فلا أرى العدول عن العمل بالحديث الّذي احتج به الأئمّة أحمد وغيره وهو حديث سمرة عن النّبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- قال: "من وجد متاعه عند رجل فهو أحقّ به" ويتبع المبتاع من باعه، ويعضد ذلك ما رواه ابن أبي شيبة، عن ابن سيرين أنّ حذيفة -رضي الله عنه- عرف جملًا له عند إنسان فخاصم فيه إلى قاضٍ من قضاة المسلمين فصارت على حذيفة يمين في القضاء فحلف بالله الّذي لا إله إلا هو ما باع ولا وهب، وروى ابن أبي شيبة عن شريح أنّه قال إذا شهد الشّهود حلفه بالله ما أهلكت ولا أمرت مهلكًا. وأمّا قول الأصحاب فيما لا يجوز لبسه من المركب من الحرير وغيره أنّ الممنوع منه ما كان أكثره ظهورًا يتناول ما سدى بغير الحرير

مسألة: ومن أعطى أرضه لرجل يغرسها بجزء معلوم وشرط عليه عمارتها، فغرس بعض الأرض وتعطل باقي الأرض من الغراس

وألحم بحرير وغيره، وظاهر كلامهم تناوله لغير تلك الصّورة. والله أعلم. وأمّا قول الإنسان لمن شرب هنيئا وأنّ بعض النّاس يستدلّ بقوله تعالى: {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا} [الحاقة، من الآية:24]، فلو كان في الآية دليل لذلك لفعله السّلف الصّالح. وأمّا ما روي عن ابن عبّاس -رضي الله عنهما- أنّه قال: "لا عهد لظالم عليك، وإن عاهدته فانقضه؛ فيحتمل أنّ مراده نحو ما إذا طلب ظالم قادر مالًا من إنسان ظلمًا وعاهده أنّه يأتيه به أو عاهد لصًا أنّه لا يخبر به ونحو ذلك والله أعلم. انتهى كلام شيخنا عبد الله بن عبد الرّحمن أبي بطين -أيّده الله تعالى-. (مسألة): ومن أعطى أرضه لرجل يغرسها بجزء معلوم وشرط عليه عمارتها فغرس بعض الأرض وتعطل باقي الأرض من الغراس، فإذا لم يقم بما شرط عليه كان لربّ الأرض الفسخ، وإذا فسخ العامل أو كانت فاسدة فلربّ الأرض أن يتملك نصيب الغارس بقيمته إذا لم يتّفقا على القلع. أفتنا -عفى الله عنك- عن حكم ما إذا وجد البدوي ماله عند حضري ونحوه ولم يعلم أنّه غصب، هل يفرق بين كون البدوي حربًا للآخر وقد أخذ ماله أم لا؟ وكذا إذا عرف الحضري ماله عند حضري أو بدوي وادعى أنّه قد اشتراه من حربي للمدّعي وربّما أنّه قد أخذ مالًا للبائع، فما الحكم في ذلك؟ وابسطوا الجواب -أثابكم الله تعالى-. الّذي نرى أنّه في مثل هذه الأزمان الّتي ينهب البدو بعضهم مال بعض أنّ من عرف منهم ماله عند حضري مشتريه من بدوي أنّه ليس

22 - سئل الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبو بطين -رحمه الله تعالى- عن نهب البدو بعضهم بعضا وهل يجوز الشراء منهم؟

له أخذ منه بل يعطيه الثّمن الّذي اشتراه به، وكذا نرى إذا لم يكن إمام في مثل نجد فصار الحضري ينهب البدوي والبدوي ينهب الحضري فالحكم عندي كذلك. وأمّا إذا صار في نجد مثلًا إمام كان البدو والحضر بعضهم عن بعض كفا مستقرًا فلا فرق بين الحضري والبدوي وأنّ من وجد سرقته عند إنسان أخذها ويرجع المأخوذ منه على بائعه. والله أعلم. - 23 - بسم الله الرّحمن الرّحيم سئل الشّيخ عبد الله بن عبد الرّحمن أبو بطين -رحمه الله تعالى- عن نهب البدو بعضهم بعضًا وهل يجوز الشّراء منهم؟ فأجاب -رحمه الله- أمّا المسألة الأولى وهي نهب البدو بعضهم بعضا فالّذي أرى عدم الشّراء منهم مطلقًا إذا تحقق أنّه بعينه نهبًا لاشتباه أمرهم، وأمّا إذا عرف أحدهم ماله عند حضري وثبت أنّه منهوب منه بالبيّنة فالّذي نفتي به في أزمنة هذا الاختلاف أن يعطى المشتري ثمنه الّذي دفعه ويأخذ ماله إن لم يكونوا حربًا للحضري وقد أفتى بذلك غير واحد من متأخري الأصحاب. انتهى جوابه -رحمه الله-. - 24 - بسم الله الرّحمن الرّحيم قال شيخنا الشّيخ عبد الله أبو بطين عفى الله عنه. وأمّا مسألة الجزار إذا ذبح ناقة وصارت أنقص ممّا ظنّ فيها فمثبت الخيار له غالط والفقهاء ذكروا خيار الغبن في ثلاث صور وهذا يثبت

24 - ما قولكم -أدام الله النفع بعلومكم- في دين السلم الثابت في الذمة هل يصح الشراء به من صاحبه الذي هو في ذمته عرض من أرض أو نخل أو غير ذلك؟

صورة رابعة وهي ما إذا اشترى جزافًا فبان دون ما ظنه كمشتري الصبرة جزافًا فهل قال أحمد بثبوت الخيار في ذلك لمشتري الجزور ظانا أنّه يحصل منه مثلًا ثلاثون رطلًا من شحم فبان أقلّ من ذلك. وقد تنازع فقهاء نجد وغيرهم في الهزال هل هو عيب؟ فقال سليمان بن عليّ وابن ذهلان أنّه عيب، وقال عبد الهادي وابن عطوه ليس بعيب، لكن قال الأوّلون إذا كان قيمتها بعد الذّبح تقارب ثمنها الّذي اشتريت به فلا فسخ ولا ردّ، وبكلّ حال فهذا القول غلط. والله سبحانه وتعالى أعلم. انتهى ملخّصا. - 25 - بسم الله الرّحمن الرّحيم ما قولكم -أدام الله النفع بعلومكم- في دين السّلم الثّابت في الذمّة هل يصحّ الشّراء به من صاحبه الّذي هو في ذمّته عرض من أرض أو نخل أو غير ذلك؟ أجاب الشّيخ عبد الله بن عبد الرّحمن أبو بطين: لا يجوز عند أكثر العلماء أن يأخذ عرضًا عن دين السلم ممّن هو في ذمّته، واحتجّوا بحديث: "من أسلم في شيء فلا يصرفه إلى غيره". وعن أحمد رواية أخرى أنّه يجوز أن يأخذ عرضًا بدون حقّه اختاره الشّيخ تقي الدّين؛ لقول ابن عبّاس: إذا أسلفت في شيء فإن أخذت ما أسلفت فيه وإلّا فخذ عرضًا أنقص منه ولا تربح مرّتين، وعند مالك يجوز أن يأخذ غير الطّعام يتعجله ولا يتأجله، فبان ذلك أنّ الجمهور على المنع مطلقًا واختيار الشّيخ الّذي هو رواية عن أحمد ما ذكرته، وعليه عمل أهل هذه البلدان فيما مضى. والله أعلم.

25 - من عبد الله بن عبد الرحمن إلى الأخ عثمان بن عيسى

- 26 - بسم الله الرّحمن الرّحيم من عبد الله بن عبد الرّحمن إلى الأخ عثمان بن عيسى زاده الله فهمًا وعلمًا ووهب لنا وله حكمًا. سلام عليك ورحمة الله وبركاته. وبعد، موجب الخط إبلاغك جزيل السّلام والسّؤال عن حالك أحسن الله لنا ولك والحال في الدّنيا والآخرة، والخط الشّريف وصل، وبه الأنس والسّرور حصل حيث أفاد صحّة حالكم، وإن سألت عن المحب فبخير ونعم من المولى متوافرة نسأل الله أن يوزعنا شكرها ومن حال المسألتين المسؤول عنهما. (فالأولى): إذا نذر إنسان شيئًا معيّنًا لشخص معيّن نذر تبرر فردّه أو مات قبل قبوله أو قبله وقبضه ثمّ ردّه، فأمّا إذا ردّه أو مات قبل القبول والرّد فالّذي يظهر بطلان هذا النّذر كما تبطل الصّدقة بذلك لأنّ الصّدقة نوع من الهبّة صرح به الأصحاب كما في المغني وغيره، وهو ظاهر كلام أحمد لقوله في رواية حنبل؛ إذا تصدّق على رجل بصدقة دار وما أشبه ذلك فإذا قبضها الموهوب له صارت في ملكه انتهى. وقد صرحوا باعتبار القبول للهبّة وأنّها تبطل بالرّد وبموت الموهوب له قبل القبول، فإذا كان هذا حكم الهبّة فالصّدقة نوع من الهبّة، وقد جعل الأصحاب حكم الصّدقة المعيّنة حكم النّذر كما نقله في القواعد عنهم ولفظه بعد كلام سبق، فإذا قال هذه صدقة تعينت وصارت في حكم المنذورة صرح به الأصحاب، لكن هل ذلك إنشاء للنّذر أو إقرار به فيه خلاف بين الأصحاب انتهى.

فقوله: هل ذلك إنشاء للنّذر أو إقرار به؟ صريح في أنّه إذا تصدق بشيء معيّن؟ فقال هذا صدقة أنّه نذر حقيقة. فإذا علمت ما ذكره علماؤنا -رحمهم الله تعالى- من أحكام الهبّة وقد صرحوا بأنّ الصّدقة نوع من الهبّة لها حكم الهبّة، بل صرحوا باعتبار القبول للصّدقة ولم يخصوا بذلك نوعًا منها، وجعلوا حكم الصّدقة المعيّنة حكم المنذورة ظهر لك حكم مسألة السّؤال -إن شاء الله تعالى-. وقال الزّركشي بعد حكايته الوجهين: قال ابن حمدان وابن المنجا أنّهما مبيّنان على انتقال الملك إلى الموقوف عليه إن قلنا ينتقل اشترط وإلّا فلا، قال: والظّاهر أنّهما على القول بالانتقال انتهى فظهر بما ذكروه من التّعليل اعتبار القبول في مسألتنا؛ لأنّ المنذور له يملك النّذر ويتصرّف فيه بالبيع وغيره ولا يتعلّق به حق لغيره، فإذا لم يقبله المنذور له جاز للنّاذر التّصرّف فيه، يقوي ذلك أيضًا ما ذكره جماعة من الأصحاب وصرح به في الإقناع والمنتهى أنّ الوقف يرجع إلى الواقف إذا انقطعت الجهّة الموقوف عليها والواقف حيّ فمسألتنا أولى. وأمّا إذا قبضه المنذور له ثمّ ردّه فعلى ما قررناه حكمه حكم الصّدقة المردودة بعد القبض، قال في الفروع ومن سأل فأعطي فقبضه فسخطه لم يعط لغيره في ظاهر كلام العلماء انتهى، وذكر في الاختيارات ما معناه أنّهما إن تفاسخا عقد الهبّة صحّ والله سبحانه وتعالى أعلم. (المسألة الثّانية): وهي ما إذا أوصى إنسان بشيء من ماله يحج به لبعض ورثته أو يضحي به عنه، فالّذي يظهر صحة هذه الوصيّة ولزومها في الثّلث بدون إجازة لأنّ الموصى له لا يملكها ولا ينتفع بها، وإنّما يرجو

26 - من عبد الله بن عبد الرحمن أبي بطين إلى الأخ عثمان بن عيسى

ثوابها في الآخرة فهي كصدقته في مرضه وجعل ثوابها للوارث. وقد قال الأصحاب في تعليل صحّة وقف المريض ثلثه أو وصيته بوقفه على بعض الورثة بأنّهم لا يبيعون ذلك ولا يهبونه وإنّما ينتفعون به ومسألة السّؤال أولى بالجواز لأنّ الموصى له بأن يحج عنه ونحوه لا يملك الموصى به ولا ينتفع به في الدّنيا، والموقوف عليه ينتفع بالوقف ويملكه على المشهور. ولمّا ذكر الزّركشي تعليل الأصحاب لمسألة الوقف المذكورة قال قلت فكأنّه عتق الوارث. انتهى. يشير والله أعلم إلى ما ذكروه في تصرّف المريض إذا ملك وارثه بشراء ونحوه، وقياس مسألتنا على مسألة العتق أولى والله سبحانه وتعالى أعلم. - 27 - بسم الله الرّحمن الرّحيم من عبد الله بن عبد الرّحمن أبي بطين إلى الأخ عثمان بن عيسى -سلّمه الله وعافاه-. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وموجب الخطّ إبلاغك السّلام وغير ذلك عثرت على فتيا منسوبة لأبي المواهب الحنبلي مضمونها أنّه سئل عمن أوصى بأن يحجّ عن أمّه من ماله وأمّه حيّة فأفتى بأنّ ذلك يتوقّف على إجازة الورثة والله سبحانه وتعالى أعلم. - 28 - بسم الله الرّحمن الرّحيم من عبد الله بن عبد الرّحمن أبي بطين إلى الأخ المكرّم عليّ بن فراج -سلّمه الله تعالى-.

سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. والخط وصل وما ذكرت من المسائل الثّلاث. (المسألة الأولى): إذا اشترى إنسان من آخر طعامًا يجري فيه الرّبا بنسيئة ثمّ اشترى منه بذلك الثّمن مالا يجوز بيعه به نسيئة ففي المسألة خلاف مشهور؛ فمذهب أحمد وطائفة تحريم ذلك، ومذهب الشّافعي جوازه، واختار الشّيخ تقيّ الدّين جواز ذلك للحاجة، وكثير من أهل هذا الزّمان لو لم يأخذ منه غريمه طعامًا ما أوفاه، فلو امتنع من أخذ الطّعام ذهب حقّه فالظّاهر أنّ الشّيخ يجير، ذلك؛ لأنّ هذا حاجة أبلغ من احتياجه إلى الطّعام. والحنابلة يتوصّلون إلى إجازة ذلك بأن يشتري الّذي له الدّين من غريمه الطّعام بثمن في الذّمة، فإذا ثبت الثّمن في ذمّة المشتري الثّاني قال لغريمه: في ذمّتك لي مثلًا ريال وفي ذمّتي لك ريال؛ فهذا بهذا ولا ينقد شيئًا ويسمّون هذا مقاصة وهو جائز عندهم والله أعلم. (المسألة الثّانية): وهي ما إذا صلّى إنسان في ثوبٍ نجس لكونه لا يجد غيره أو على بدنه نجاسة لا يمكنه إزالتها، فهذا يصلّي على حسب حاله، وهل يجب عليه إعادة أم لا؟ فقد حكوا فيمَن لم يجد إلّا ثوبًا نجسًا وصلّى فيه هل عليه إعادة أم لا؟ حكوا في المسألة قولين للعلماء هما: روايتان عن أحمد، والمشهور عن أحمد أنّه يعيد. والله أعلم. (المسألة الثّالثة): وهي ما إذا رمى إنسان بعيرًا ولم يمكنه تذكيته، فهذا إذا سقط البعير أو سقط في بئر ولم يمكن نحره فهذا حكمه حكم الصّيد إذا رماه إنسان فإن أدركه حيًّا حياة مستقرّة فلا بدّ من ذبحه، فإن لم يكن فيه حياة إلّا مثل حياة المذبوح فلا يحتاج إلى تذكيته، وإن أصابه وغاب

28 - من عبد الله بن عبد الرحمن أبي بطين إلى الأخ المكرم سلمان بن عبد المحسن

عنه ثم وجده ميّتًا ولا أثر به غير رميته فإنّه يباح ويشترط التّسمية عند رميه قاصدًا قتل المرمي، وهكذا حكم البعير الشّارد أو المتردّي في بئرٍ ونحوها. انتهى. - 29 - بسم الله الرّحمن الرّحيم من عبد الله بن عبد الرّحمن أبي بطين إلى الأخ المكرّم سلمان بن عبد المحسن سلّمه الله تعالى. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وما ذكرت من التّشريك في سبع البدنة أو البقرة فلم أر ما يدلّ على الجواز ولا عدمه، وإن كان بعض الذين أدركنا يفعلون ذلك لكن ما رأيت ما يدلّ عليه. والله سبحانه وتعالى أعلم. وأمّا الذين يتصدّق عليه بجلد الأضحية أو لحمها أو يهدى إليه ذلك فإنّه يتصرّف فيه بما شاء من بيعٍ وغيره. وأمّا ما ذكرت من تقليد المؤذّن إذا كان في السّماء غيم ونحوه فلا ينبغي تقليده؛ لأنّه يؤذّن عن اجتهاد فلا يقلّد، بل يجتهد الإنسان لنفسه فلا يفطر حتّى يتيقن أو يغلب على ظنّه الغروب فيجوز له الفطر مع غلبة الظّنّ، وأمّا في الصّحو فيجوز الاعتماد على أذان المؤذّن إذا كان ثقة. وأمّا أخذ الرّهن والضّمين بدين السّلم ففيه عن أحمد روايتان. (إحداهما): لا يجوز أخذ الرّهن ولا أخذ الكفيل بذلك وهذا هو المشهور في المذهب. (والرّواية الأخرى): يجوز واختاره الموفّق وغيره وهو قول أكثر العلماء وهو الصّحيح إن شاء الله تعالى. والله سبحانه وتعالى أعلم.

29 - وله أيضا -رحمه الله تعالى- إجابة عن هذه المسائل

- 30 - بسم الله الرّحمن الرّحيم وله أيضًا -رحمه الله تعالى- إجابة عن هذه المسائل*: ما قولكم فيما إذا كان لإنسان على آخر دين وقال دينك قادم في هذا الزّرع أو هذه الثّمرة هل يكون هذا رهن أم لا؟ وفي رجل عليه دين ولا يفي دينه بما عليه وعند إنسان له رهن هل صاحب الرّهن مقدّم على من سواه، وفيما إذا امتنع الرّاهن من قضاء الدّين وأبى أن يأذن في بيع الرّهن وتعذر إجباره وتعذر الحاكم، فهل إذا قام عدل وباع الرّهن وقضى الدّين هل ينفذ تصرّفه أم لا؟ وهل إذا أعطت الأمّ ابنتها الصّغيرة حليا تلبسه ولم يقبضه وليها لها وليست ذات زوج فهل تملكه أم لا؟ وهل إذا شرط البائع للثّمرة بعد بدو صلاحها القطع على المشتري فتلقت بجائحة أو تعيبت بها فهل يكون ضمانها على المشتري أم لا؟ وهل إذا باع الرّاهن الرّهن بغير إذن المرتهن فهل يكون بدله الّذي أبدله به رهن والحالة هذه. وإذا ادعى إنسان على آخر عقارًا فقال المدّعي عليه ورثته من أبي ولم أعلم أنّ لك فيه حقًا هل تقبل يمينه هذه على صفة جوابه؟ وإذا ادّعى إنسان شيئًا وأنّه يملكه الآن وشهدت البيّنة أنّه كان له أمس أو لأبيه قبل موته إلى أن مات هل تسمع أم لا؟ أفتونا مأجورين. الجواب -وبالله التّوفيق- أمّا المسألة الأولى فيما إذا قال حقك أو دينك قادم في هذا الزّرع الخ فهذا ليس برهن وإنّما هو وعد فيصير المقول

_ * تكررت هذه المسائل بعد ذلك في 2/ 3/ 148. [معد الكتاب للمكتبة الشاملة]

له ذلك أسوة الغرماء، وإن لم يكن غريم غيره فيستحبّ للقائل الوفاء بوعده ولا يجب عند أكثر العلماء. وأمّا إذا ضاق مال الإنسان عن دينه وكان له عين مرهونة عند بعض الغرماء فإنّ المرتهن أحقّ بثمن الرّهن من سائر الغرماء إذا كان رهنا لازما بلا نزاع. قال في الشّرح: لا نعلم فيه خلافًا؛ فإن كان الرّاهن حين الرّهن قد ضاق ماله عن دينه أنبني صحّة رهنه على جواز تصرّفه وعدمه وهو أنّه هل يكون محجورًا عليه إذا ضاق ماله عن ديونه بغير حكم حاكم كما هو قول مالك، ويحكى رواية عن أحمد اختاره الشّيخ تقيّ الدّين، أو لا يكون محجورًا عليه إلا بحكم حاكم كما هو قول أبي حنيفة والشّافعي وأحمد في المشهور عنه. وأمّا إذا امتنع الرّاهن من قضاء الدّين فقال الشّيخ تقيّ الدّين*: "جوز بعض العلماء للمرتهن دفع الرّهن إلى ثقة يبيعه ويحتاط بالإشهاد على ذلك ويستوفي في حقه إذا تعذر الحاكم ولم يكن الرّاهن قد أذن للمرتهن في بيع الرّهن بعد حلول الأجل"، وهذا قول حسن إن شاء الله تدعو الحاجة إليه في كثير من البلدان والأزمان والله أعلم. وأمّا إذا ألبست الأمّ ابنتها حليًا الخ فقد رأيت في ذلك جوابًا لأحمد بن يحي بن عطوة فإنّه سئل عمّا إذا وجد على البنت الصّغيرة حلي وثياب فاخرة فما حكم ذلك وهل تسمع دعوى الأمّ أنّ ذلك لها، وإنّما ألبستها إيّاه تجميلًا أو دعوى الورثة أنّه لموروثهم وإنّما جملها به، وهل بين الصّغير والكبير فرق أم لا؟ وهل ذلك عام في الأبّ والأمّ أفتونا مأجورين.

_ * هذه المسألة ضمن "مجموع الفتاوى" 29/ 538. [معد الكتاب للمكتبة الشاملة]

أجاب -رحمه الله- الظّاهر من شواهد الأحوال والعرف والعادة المستمرّة أنّ تجميل الأبوين بنتهما بكلّ ما يعد تجميلًا أنّه تخصيص لها بذلك دون سائر من يرثهما إذا لم تجر عادتهما بأنّه عارية تجري عليها أحكامها. إذا علم ذلك فلا كلام لسائر الورثة في ذلك بعد موت المخصص المعطي للزوم ذلك بموته كما صرح به الأصحاب، والتّخصيص سائغ أيضا في مسائل كفقر وعلم ونحوهما في رواية. وأمّا الأمّ فإن أقامت بيّنة شرعيّة أنّ ذلك لها وإنّه عارية ساغت دعواها بذلك، وإلّا فلا فرق بين الصّغيرة والمميّزة الكبيرة في ذلك. وأمّا غير المميّزة فمحل نظر وتأمل، والّذي يظهر لي أنّ ذلك عام في الأبّ والأمّ وإنّما يعد الأبّ لأنّه الغالب والشّيء إذا خرج مخرج الغالب لا مفهوم له. إلى أن قال: فحيث ثبت إمكان ملك البنت في المسألة المذكورة بما ذكر فلا يجوز انتزاع ما صار إليها إلّا بدليل راجح يسوغ المصير إليه شرعا اهـ. ومن جواب للشّيخ سليمان بن عليّ وقد سئل عن هذه المسألة: إذا كان الحلي على البنت ولو لم تذهب به إلى بيت زوج وادعته الأمّ لم تقبل إلّا ببيّنة أنّه للأمّ وأنّه على البنت عارية، ولو أقامت الأمّ بيّنة أنّها هي الّتي اشترته لم تقبل حتّى تقول وهو عارية على البنت اهـ. وأمّا إذا باع الثّمرة بعد بدو صلاحها بشرط القطع فقدم في الشّرح وغيره يجوز هذا الشّرط وهو ظاهر، وإذا تلفت والحالة هذه فإن كان تلفها قبل تمكن المشتري من أخذها فهي من ضمان بائع، وإن كان تلفها بعد التّمكن من أخذها فهي من ضمان مشتر لتفريطه، وقد صرح

وقد صرح الأصحاب فيما إذا اشترى ثمرة قبل بدو صلاحها بشرط القطع، فتلفت بجائحة سماوية بعد تمكنه من قطعها، فهي من ضمانه، وإن تلفت قبل تمكنه من قطعها، فهي من ضمان بائع؛ لعموم الحديث. وصرحوا أيضا فيما إذا اشتراها بعد بدو الصلاح ولم يشترط القطع في الحال، بأنها من ضمان بائع، ما لم يؤخرها المشتري عن وقت أخذها المعتاد، فإن أخر أخذها عن الوقت المعتاد فالثمرة التالفة من ضمان مشتر لتفريطه، والله أعلم. وأما إذا باع الراهن العين المرهونة بغير إذن المرتهن فالبيع فاسد بلا خلاف بين العلماء، فإن أمكن المرتهن استرجاع الرهن، استرجعه وهو رهن بحاله، وإن لم يتمكن من استرجاعه لزم الراهن دفع قيمته للمرتهن، فتكون رهنا، سواء كانت القيمة مثل الثمن الذي بيع به، أو أقل أو أكثر. والله علم. وأما إذا ادعى إنسان عقارًا في يد غيره، فلا يخلو إما أن يدعي على من هو بيده أنه غصبه إياه ونحو ذلك، فإذا لم يكن للمدعي بينة فعلى المدعى عليه اليمين على حسب جوابه؛ فإن قال المدعي: غصبتني، حلف أني ما غصبتك هذا. وإن قال المدعي: أودعتك هذا، حلف أنك ما أودعتني إياه، ونحو ذلك. فإذا حلف بأنك ما تستحق علي شيئا، أو أنك لا تستحق شيئا فيما ادعيته كان جوابا صحيحا، ولا يكلف سواه. (والحال الثاني): أن يدعي على من هو في يده بأن أباك غصبني هذا، أو أنه وديعة عنده، ونحو ذلك، فيمين المدعى عليه على نفي العلم، فيحلف في دعوى الغصب بأني ما علمت أن أبي غصب هذا منك، وفي دعوى الوديعة ما علمت أنك أودعته إياه ونحو ذلك. وفي سنن أبي داود "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للحضرمي: ألك بينة؟

قال: لا ولكن أحلفه والله ما يعلم أنّها أرضي اغتصبها أبوه. فتهيّأ الكندي لليمين ولم ينكر ذلك النّبيّ -صلّى الله عليه وسلّم-" ولأنّه لا تمكّنه الإحاطة بفعل غيره بخلاف فعل نفسه فوجب أن لا يكلّف اليمين على البت. وأمّا إذا ادّعى أنّ هذه العين له الآن وشهدت البيّنة بأنّها كانت له أمس أو أنّها كانت في يده أمس لم تسمع بيّنته لعدم تطابق البيّنة والدّعوى. قال في الإنصاف في أصحّ الوجهين حتّى يتبيّن سبب يد الثّاني نحو غاصبه بخلاف ما لو شهدت أنّه كان ملكه اشتراه من ربّ اليد فإنّها تقبل اهـ. وأمّا إذا شهدت البيّنة بأنّ هذه العين لهذا المدّعي بهذه الصّيغة كفى ذلك وسلمت إلى المدّعي ولو لم تقل وهي في ملكه الآن. وأمّا إذا ادّعى أنّ هذه العين كانت لأبيه أو أمّه أو أخيه ومات وهي في ملكه سمعت البيّنة بذلك، وإن قالت البيّنة كانت ملكا لأبيه ونحوه ولم تشهد بأنّه خلفها تركة لم تسمع هذه البيّنة. وفي الفروع والإنصاف عن الشّيخ تقيّ الدّين -رحمه الله- أنّه قال فيمن بيده عقار فادعى آخر بثبوت عند حاكم أنّه كان لجدّه إلى موته ثمّ لورثته ولم يثبت أنّه مخلف عن موروثه لا ينتزع منه بذلك لأن أصلين تعارضا، وأسباب انتقاله أكثر من الإرث ولم تجر العادة بسكوتهم المدّة الطّويلة، ولو فتح هذا الباب لاتنْزع كثير من عقار النّاس بهذه الطّريق والله سبحانه وتعالى أعلم، وصلّى الله على محمّد وآله وصحبه وسلّم. وأمّا تقليد المؤذّن إذا كان في السّماء غيم ونحوه فلا ينبغي تقليده، لأنّه يؤذّن عن اجتهاد فلا يقلد بل يجتهد الإنسان لنفسه فلا يفطر حتّى يتيقن أو يغلب على ظنّه الغروب فيجوز له الفطر مع غلبة الظّن.

30 - من عبد الله بن عبد الرحمن أبي بطين إلى الأخ أحمد بن دعيج

وأما في الصحو، فيجوز الاعتماد على أذان المؤذن إذا كان ثقة. والله أعلم. - 31 - بسم الله الرّحمن الرّحيم من عبد الله بن عبد الرّحمن أبي بطين إلى الأخ أحمد بن دعيج -سلّمه الله-. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وما ذكرت من أمر روائح الأشياء إذا شمّها الصّائم فلا بأس بذلك إلّا الدّخان إذا شمّه الصّائم متعمّدًا لشمّه فإنّه يفطر بقصد شمّ الدّخان أي دخان كان، وإن دخل في أنفه من غير قصد لشمّه لم يفطر لمشقّة التّحرز منه والسّلام. - 32 - بسم الله الرّحمن الرّحيم ما قولكم -أدام الله النّفع بعلومكم- فيمن لا يعرف الإيمان بالله ولا معنى الكفر بالطّاغوت، وهذه حال الأكثر ممّا لدينا، يدعي الإسلام ويلتزم شرائعه الظّاهرة ويزعم حبّ أهل الحقّ وينتسب إليهم على الإجمال، وأمّا على التّفصيل فيبغض أهل التّوحيد ويمقتهم ويرى منهم الخطأ في الأمور الّتي تخالف عادته وما يعرف فيعتقد خلاف ما عرف خطأ، لأنّ الّذي في ذهنه أنّ ما عرف النّاس عليه هو الدّين، ولا يعرف دليلا يرد به عليه، ولا يرعوي ولا يلتفت إليه، لأنّه يرى الدّين ما تظاهر به المنتسبون، فما حال من هذا وصفه؟ ومنهم كثيرون يصرحون بالبغض والعداوة لأهل الحقّ ويحرصون على اتّباع عوراتهم والوقوع في عثراتهم، ونرى مثل هؤلاء الّذين منهم هذا المذكور مع عدم معرفة أصل الإسلام وضدّه كفارا لأنّهم لم يعرفوا

الإسلام أوّلًا، وثانيا عادوا أهله وأبغضوهم، ورأوا الدّين ما عليه أكثر المنتسبين، فهل رأينا فيهم صواب أم لا؟ وبيّنوا حال الصّنف الأوّل لنا أيضا هل يطلق عليهم الكفر أم لا؟ وفيمن يزعم أنّ النّفاق لا يوجد في هذه الأمة بعد زمن النّبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- أو قريبا منه، ثمّ بعد ذلك لا يوجد إلّا الإسلام المحض أو الكفر المحض. ويحتج بما رواه البخاري عن عبد الله بن عقبة بن مسعود قال: سمعت عمر بن الخطّاب -رضي الله عنه- يقول: إنّ النّاس كانوا يؤاخذون بالوحي وإنّ الوحي قد انقطع، فمن أظهر لنا خيرًا أمناه وقرّبناه وليس لنا من سريرته من شيء الله يحاسبه في سريرته ومن أظهر لنا سوءًا لم نأمنه ولم نصدقه، وإن قال إنّ سريرته حسنة. وعن حذيفة -رضي الله عنه- قال: إنّما النّفاق كان على عهد النّبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- فأمّا اليوم إنّما هو الكفر والإيمان. رواه البخاري. ما الجواب عن قول حذيفة وعن قول عمر وما علامات النّفاق الّذي يصير به الرّجل في الدّرك السفل من النّار، وما معنى قول الشّيخ محمّد بن عبد الوهّاب -رحمه الله- في كتاب التّوحيد رد المسألة المشكلة إلى المسألة الواضحة ليزول الإشكال في (باب لا يذبح لله بمكان يذبح فيه لغيره)، وقوله في (باب الدّعاء إلى شهادة أن لا إله إلا الله) في كلامه على حديث معاذ الرّابعة عشرة: كشف العالم الشّبهة عن المتعلّم أشكل علينا استخراج هذه المسألة من الحديث، وعن قول النّبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- في آخر حديث رواه مسلم "ومن مات وليس في عنقه بيعة فإنّه يموت ميتة الجاهليّة" أفتونا مأجورين. أجاب الشّيخ عبد الله بن عبد الرّحمن أبو بطين -رحمه الله تعالى-:

الحمد لله، (الجواب) عن حكم الصنفين المسئول عنهما الموصوفة حالهما يرجع إلى شيء واحد وهو إن كان الرّجل يقرّ بأنّ هذه الأمور الشّركية الّتي تفعل عند القبور وغيرها من دعاء الأموات والغائبين وسؤالهم قضاء الحاجات وتفريج الكربات والتّقرب إليهم بالنّذور والذّبائح إنّ هذا شرك وضلال، ومن أنكره هو المحق ومن زينه ودعا إليه فهو شرّ من الفاعل فهذا يحكم بإسلامه؛ لأنّ هذا معنى الكفر بالطّاغوت والكفر بما يعبد من دون الله، فإذا اعترف بأنّ هذه الأمور وغيرها من أنواع العبادة محض حق الله لا يصلح لغيره لا لملك مقرب، ولا نبيّ مرسل فضلًا عن غيرهما. فهذا حقيقة الإيمان بالله والكفر بما يعبد من دون الله. قال النّبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- "من قال لا إله إلا الله وكفر بما يعبد من دون الله حرم ماله ودمه وحسابه على الله" وفرض على كلّ أحد معرفة التّوحيد وأركان الإسلام بالدّليل ولا يجوز التّقليد في ذلك، لكن العامي الّذي لا يعرف الأدلّة إذا كان يعتقد وحدانيّة الرّب سبحانه ورسالة محمّد -صلّى الله عليه وسلّم- ويؤمن بالبعث بعد الموت وبالجنّة والنّار. وإنّ هذه الأمور الشّركيّة الّتي تفعل عند هذه المشاهد باطل وضلال فإذا كان يعتقد ذلك اعتقادًا جازمًا لا شكّ فيه فهو مسلم وإن لم يترجم بالدّليل؛ لأنّ عامة المسلمين ولو لقنوا الدّليل فإنّهم لا يفهمون المعنى غالبًا. ذكر النّووي في شرح مسلم في الكلام على حديث ضمام بن ثعلبة قال: قال أبو عمرو بن الصّلاح فيه دلالة لما ذهب إليه أئمّة العلماء من

أنّ العوام المقلّدين مؤمنون وإنه يكتفى منهم بمجرّد اعتقاد الحق جزمًا من غير شكّ وتزلزل خلافا لمن أنكر ذلك من المعتزلة، وذلك لأنّه -صلّى الله عليه وسلّم- قرّر ضمامًا على ما اعتمد عليه في تعرف رسالته وصدقه ومجرد إخباره إيّاه بذلك ولم ينكر عليه ذلك ولا قال يجب عليك النّظر في معجزاتي والاستدلال بالأدلّة القطعيّة اهـ. وأمّا من قال: إنّ هذه الأمور الّتي تفعل عند هذه المشاهد من دعا غير الله والنّذر والذّبح لهم إنّ هذا ليس بحرام، فإطلاق الكفر على هذا النّوع لا بأس به بل هذا كفر بلا شكّ، وأمّا من يوافق في الظّاهر على أنّ هذه الأمور شرك ويبطن خلاف ذلك فهو منافق نفاقًا أكبر، فإن كان يظهر منه بغض من قام بهذه الدّعوة الإسلاميّة عامة فهذا دليل نفاقه. قال بعض العلماء في قول النّبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- في الأنصار "لا يحبّهم إلّا مؤمن ولا يبغضهم إلّا منافق" قال فمن أبغض من قام لنصرة دين الله وسنّة نبيّه -صلّى الله عليه وسلّم- استحق هذا الوصف وهو النّفاق، وأمّا من يبغض بعضًا دون بعض فقد يكون ذلك لسبب غير الدّين. وأمّا من صرح بالسب فقد قال شيخ الإسلام تقيّ الدّين -رحمه الله- فيمن يسبّ أصحاب رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- قال: اختلف العلماء في حكمهم على قولين: قيل بكفرهم، وقيل بفسقهم، توقف أحمد في كفره وقتله، وقال يعاقب ويجلّد ويحبس حتّى يموت أو يرجع عن ذلك. قال وهذا هو المشهور من مذهب مالك اهـ. فإذا كان هذا كلامهم في الّذي يسبّ أصحاب رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- الّذين أثنى الله عليهم ورضي عنهم فغيرهم دونهم ولم يقل أحد من العلماء بكفر

من سبّ غيرهم ولا قتله، ولهذا قال الأصحاب: من سبّ إمامًا عدلًا، أو عدلًا غيره عزر. وأمّا قول من قال: إنّ النّفاق لا يوجد إلّا في أفضل القرون فهذا جاهل بحقيقة النّفاق ضال أو معاند فاجر بل كافر إذا قال: إنّه لا يوجد بعد ذلك إلا الإسلام المحض، وصاحب هذا القول مكذب لله ولرسوله ولجميع علماء المسلمين، ومثل هذا يرد عليه بكلام العلماء الّذي لا يمكنه ردّه. وقد أجمع علماء السّنّة والجماعة على كفر الاتّحاديّة الّذين يقولون الخالق هو المخلوق، وكذلك أجمعوا على تكفير الحلوليّة الّذين يقولون: إنّ الله بذاته في كلّ مكان، وهاتان الطّائفتان منتشرتان في أمصار المسلمين. ولمّا ذكر صاحب الإقناع حكم هاتين الطّائفتين قال شارحه: وقد عمت البلوى بهذه الفرق فأفسدوا كثيرًا من عقائد أهل التّوحيد فأخبر الشّارح بكثرة هؤلاء المجمع على كفرهم، وذكر هاتين الطّائفتين، وكذا من قذف عائشة -رضي الله عنها- أو ادّعى أنّ جبريل غلط ونحو ذلك ممّا لا يقدر أحد على إنكاره. وأمّا أمر الشّرك فالكلام معهم فيه يطول وكفر هذا فضيحة، قوله: إنّ النّفاق والكفر يوجد في أفضل القرون ويستحيل وجوده فيما بعده. وهذا في حقيقة أمره ينكر على الفقهاء وضعهم باب حكم المرتدّ إذا لم يكن إلا الإسلام المحض فيلزم تخطئتهم بأن نقول لا كفر ولا نفاق بعد القرن الأوّل الفاضل. وأمّا احتجاج بعضهم بقول عمر -رضي الله عنه- أنّ النّاس كانوا يؤاخذون بالوحي على عهد رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- الخ فأيّ حجة له في هذا على نفي الكفر

والنّفاق عن الأمّة، وإنّما هذا مثل قوله -صلّى الله عليه وسلّم- فيمن أتى بشرائع الإسلام حيث قال: "وحسابهم على الله تعالى"، ومراد عمر -رضي الله عنه- أن من رأينا عمله حسنًا ولم ير منه ما يعاب أمناه وقرّبناه وحسابه في سريرته إلى الله، ومن رأينا ما يكرهه الله من المعاصي كشرب الخمر وشهادة الزّور والكذب والنّميمة والغيبة وغير ذلك من الذّنوب أو إخلال في فرض لم نأمنه ولم نقرّبه، وإن قال: إنّ سريرته حسنة. وقوله: من أظهر لنا سوءًا، أي من أطلعنا منه على ذلك وعلمناه ليس مراده أنّه يظهر ذلك ويجاهر به وهكذا كما يقول العلماء في الشّاهد إذا علم منه ما يقدح في شهادته، ردّت شهادته، وإن كان لا يظهر إلّا الخير، وكذا إذا رأينا من ظاهره الخير لكن رأيناه يألف الفسقة أو أهل البدع والضّلال، قلنا هذه خصلة سوء يتّهم بها وإن قال سريرته حسنة. نقل أبو داود عن الإمام أحمد -رحمه الله- في الرّجل يمشي مع المبتدع لا تكلّمه، ونقل غيره إذا سلم على المبتدع فهو يحبّه، وقال أحمد -رحمه الله- إنّما هجر النّبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- الثّلاثة لأنّه اتّهمهم بالنّفاق فكذا كلّ من خفنا عليه وهذا الّذي ينكر وجود النّفاق سببه عدم معرفة الإسلام وضدّه. وحقيقة النّفاق إظهار الخير وإسرار ضدّه، فإذا كان إنسان عند أهل السّنة يظهر بطلان مذهب الاتّحاديّة والحلوليّة ونحوهم وهو يعتقد في الباطل صحّة بعض هذه المذاهب فهو منافق نفاقًا أكبر، وكذا إذا أظهر تضليل غلاة الرّافضة وهو في الباطن يرى رأيهم فهو منافق، وكذا من اعترف بصحّة هذا الأمر الّذي ندعو إليه وهو التّوحيد وإفراد الله بالعبادة يعترف به ظاهرًا ويبطن خلافه فهو منافق نفاقًا أكبر.

وأمّا قول حذيفة فهو كما روي عنه من وجه آخر أنّه قال المنافقون على عهد رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- يخفون نفاقهم وهم اليوم يظهرونه، فمراد حذيقة أنّهم في زمانه تبدو منهم أمارات ظاهرة بخلاف حالهم زمن النّبوّة، وقال: إن كان الرّجل ليتكلّم بالكلمة على عهد رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- يصير بها منافقًا وإنّي لأسمعها من أحدكم في اليوم في المجلس عشر مرّات. وسمع حذيفة رجلًا يقول: اللهمّ أهلك المنافقين فقال يا ابن أخي لو أهلك المنافقين لاستوحشتم في طرقاتكم من قلّة السّالكين، وهذا النّافي للنّفاق عن جميع الأمّة قائل بغير علم كاذب وما يدريه أنّه ليس في الأمّة حاضرها وباديها منافق؛ لأنّ من أظهر الإسلام وهو يشكّ في البعث بعد الموت أو في رسالة محمّد -صلّى الله عليه وسلّم- فهو منافق نفاقًا أكبر. وهل اطّلع هذا المتخرص على قلوب الأمّة شرقًا وغربًا وهل يأمن على نفسه من النّفاق بأن يزيغ الله قلبه إذا زاغ عن الحقّ {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [الصف، من الآية:5]، وقد أثنى الله سبحانه على الرّاسخين في العلم بسؤالهم إيّاه أن لا يزيغ قلوبهم في قولهم {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [آل عمران، الآية:8]. ومن دعاء النّبيّ -صلّى الله عليه وسلّم-: "يا مقلّب القلوب ثبّت قلبي على دينك" فقيل له أوتخاف علينا؟ قال: "نعم، ما من قلب إلّا وهو بين إصبعين من أصابع الرّحمن إذا شاء أن يقيمه أقامه، وإذا شاء أن يزيغه أزاغه" ومن دعائه -صلّى الله عليه وسلّم- عند الانتباه من النّوم: "ولا تزغ قلبي بعد إذ هديتني". قيل للإمام أحمد -رحمه الله- ما تقول فيمن لا يخاف النّفاق على نفسه؟ فقال ومن يأمن على نفسه النّفاق؟

وروي عن الحسن أنّه حلف ما مضى مؤمن قطّ ولا بقي إلّا وهو من النّفاق خائف، ولا مضى منافق قطّ ولا بقي إلّا وهو من النّفاق آمن وكلام السّلف في هذا كثير، ويكفي في بيان بطلان قول هذا إثباته الكفر والنّفاق في أفضل قرون الأمّة ونفي ذلك عن القرون الّتي وصفها -صلّى الله عليه وسلّم- بأنّها شرّ إلى يوم القيامة، ويفضح شبهة هذا وشبهة من قال إنّه يستحيل وجود الكفر في أرض العرب ما ثبت في صحيح مسلم من حديث أنس عن النّبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- قال "ليس من بلد إلّا سيطوله الدّجّال إلّا مكّة والمدينة، وما من نقب من أنقابها إلّا وعليه الملائكة صافين تحرسهما فينْزل السّبخة فترجف المدينة ثلاث رجفات يخرج الله تعالى منها كلّ كافر ومنافق" فأخبر -صلّى الله عليه وسلّم- أنّ في المدينة إذ ذاك كفّارًا ومنافقين موجودين قبل خروج الدّجّال، فإذا كان هذا حال المدينة فغيرها أولى وأحرى. والله سبحانه وتعالى أعلم. وقوله -صلّى الله عليه وسلّم-: "من مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهليّة" فأرجو أنّه ما يجب على كلّ إنسان المبايعة وأنّه إذا دخل تحت الطاعة وانقاد ورأى أنّه لا يجوز الخروج على الإمام ولا معصيته في غير معصية الله أنّ ذلك كاف، وإنّما وصف -صلّى الله عليه وسلّم- ميتته بالميتة الجاهليّة؛ لأنّ أهل الجاهليّة كانوا يأنفون من الانقياد لواحد منهم ولا يرضون بالدّخول في طاعة واحد فشبه حال من لم يدخل في جماعة المسلمين بحال أهل الجاهليّة في هذا المعنى والله أعلم. وقول الشّيخ ردّ المسألة المشكلة إلى آخره الظّاهر أنّه أراد أنّ الّذي سأل النّبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- من حكم نذره أنّه أشكل هل يوفي به أم لا؟ فلّما أخبر -صلّى الله عليه وسلّم- أن ذلك المعيّن خال ممّا ذكر زال الإشكال.

32 - من عبد الله بن عبد الرحمن إلى الولد المحب علي بن عبد العزيز بن سليم

وأمّا قوله: كشف العالم الشّبهة عن المتعلّم فلا يتبيّن لي مراده إلّا إن كان يشير إلى أنّ النّبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- فصل له صفة ما يدعو إليه والله أعلم. - 33 - بسم الله الرّحمن الرّحيم من عبد الله بن عبد الرّحمن إلى الولد المحب عليّ بن عبد العزيز بن سليم -زاده الله علمًا ووهب لنا وله حكمًا-. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد، موجب الخطّ إبلاغ السّلام والسّؤال عن الحال أصلح الله لنا ولكم الدّين والدّنيا والآخرة، والخطّ وصل أوصلك الله إلى ما تحب، وما سألت عنه من حكم صرف ما ذكرت بعضه ببعض كالرّيال بالجدد والإرباع والقاروني بشيء من ذلك، وهل ذلك من مسألة مد عجوة؟ فقال في الإقناع وشرحه: وإن باع دينارًا أو درهمًا مغشوشًا بمثله أي بدينار أو درهم مغشوش والغش فيهما أي المثمن والثّمن، أو غير معلوم المقدار لم يجز؛ لأنّ الجهل بالتّساوي كالعلم بالتّفاضل، وإن علم التّساوي في الذّهب الّذي في الدّينارين وعلم تساوي الغش الّذي فيهما جاز بيع أحدهما بالآخرة لتماثلهما في النّقود وهو الذّهب، ولتماثلهما في غيره أي الغش وليس من مسألة مد عجوة لكون الغش غير مقصود فكأنّه لا قيمة له كالملح في الخبز انتهى. ونقل في الفروع عن الشّيخ جواز بيع فضّة لا يقصد غشّها بخالصة مثلّا بمثل، ورأيت أيضا في فتوى للشّيخ تقيّ الدّين بعد كلام سبق في مسألة مد عجوة، قال وكذا يجوز بيع حنطة فيها شعير يسير بحنطة فيها

33 - من عبد الله بن عبد الرحمن أبي بطين إلى الولد علي بن عبد العزيز

شعير يسير فإنّ ذلك يجوز عند الجمهور، وكذا إذا باع الدّراهم الّتي فيها غشّ بجنسها فإنّ الغشّ غير مقصود والمقصود بيع الفضّة وهما متماثلان. وقال أيضا: إذا باع درهما خالصًا بمغشوش فإن كانت فضّة الدّراهم الخالص تزيد على فضّة المغشوش تزيد على فضّة المغشوش زيادة يسيرة بقدر النّحاس الّذي في الآخرة جاز ذلك في أحد قولي العلماء، فظهر من كلام الشّيخ عدم جواز صرف ما ذكرتم بعضها ببعض كالقاروني بالجدد أو الإرباع ونحو ذلك وهو صريح الإقناع وشرحه والله أعلم. - 34 - بسم الله الرّحمن الرّحيم من عبد الله بن عبد الرّحمن أبي بطين إلى الولد عليّ بن عبد العزيز -وفقه الله لطاعته وأصلح له دنياه وآخرته-. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد، موجب الخطّ إبلاغ السّلام والخطّ وصل أوصلك الله إلى ما تحب، وما سألت عنه من الجهر بالتّهليل بعد الصّبح والمغرب فما علمت ورود شيء يخصّه، وإنّما اختلف العلماء في الجهر بالذّكر المشروع في إدبار الصّلوات ولم يخصوا ذكرًا دون ذكر والله أعلم. (وأمّا قولك) إذا ظهر من إنسان الكفر وقامت عليه الحجّة وامتنع إنسان من تكفيره فكأنك تشير إلى حال أهل هذه المشاهد الّتي يقع عندها الشّرك الأكبر. ومن المعلوم أنّه لا يصحّ إسلام إنسان حتّى يكفر بالطّاغوت وهو كلّ ما عبد من دون الله {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى}، [البقرة، من الآية:256]، وفي الحديث الصّحيح: "من قال لا إله إلّا الله وكفر بما

فوائد

يعبد من دون الله حرم ماله ودمه"، والكفر بذلك البراءة منه واعتقاد بطلانه نسأل الله لنا ولكم الهدى والسّداد والله أعلم. [فوائد] (فائدة في قراءة الجنب) قوله ولا يزيد على ما يجزيء من القراءة وظّاهر العبادة مطلقا وهذا في الجنب لا في المحدث حدثا أصغر. قاله الجراعي في حواشي الفروع، وفي شرح المحرم للسيسي أنّ ذلك محرم، وفي الغاية ولا يزيد على ما يجزيء في قراءة وغيرها ويتّجه ندبا وفي زائد عن الفاتحة لجنب وجوبا، وفي خطّ زامل تلميذ المصنّف على هامش المنتهى، فإذا زاد حرم وبطلت والله أعلم. (فائدة يجب التّنبّه لها والتّحرز منها) قال وقول بعضهم: لو أنّي حاضر ما سنه الله. هذه كلمة كفر، يردّ قضاء الله بزعمه في ذلك، وقول بعضهم أنا متوجّه عليك بالله، هذا من الشّرك بالله، ومثل قول بعض العوام: الحديث ما غدى أحدًا ولا عشى أحدًا ونحو هذه الألفاظ كلمة كفر نعوذ بالله؛ لأنّ هذا استنقاص للسنّة نسأل الله العفو والعافية، وقول بعض العوام فلان ما يلقى في قبره إلّا الدّواب ونحو ذلك لا يجوز ذلك لأنّه اعتراض على الله، ومثل قولهم فلان المرحوم؛ بل يقول الله يرحمه لأنّه لا يدري والله أعلم. (مسألة): ما يعمله بعض الجهّال من توديعهم الفطرة عند جار ونحوه الّذي يجيء يعطونها إيّاه وهذا لا يجزئ؛ لأنّهم لم يخرجوها على وجهها فلا يسقط قدر الفطرة من الثّمرة المكنوزة بل الّذين جربوه يقولون قدر وزنتين إلّا ثّلث. (فائدة): وقال حذيفة -رضي الله عنه- لا تفرّ من الفتنة ما عرفت دينك

إنّ الفتنة إذا اشتبه عليك الحقّ بالباطل، وقال ابن الجوزي المحرم من الدّم هو المفسوح، ثمّ قال القاضي فأمّا الدّم الّذي يبقى في خلال اللّحم بعد الذّبح وما يبقى في العروق فمباح، قال المجد في شرح الهداية: وكذلك ما يبقى على اللّحم بعد السّفح فمباح حتّى لو مسه بيده فظهر عليها أو مسه بقطنة لم ينجس نصّ عليه، وبه قال الثّوري وابن عيينة وإسحاق وأبو يوسف. قال ابن قندس: فعلى هذا النّجس من الدّم هو المفسوح أو لا فقط. قال أبو العبّاس: إنّما حرّم الله الدّم المفسوح المصبوب المراق فأمّا ما يبقى في العروق فلم يحرمه أحد من أهل العلم والله أعلم. (فائدة): قال في الإنصاف يجوز دفع الزّكاة إلى أقاربه الّذين لا تلزمه نفقتهم وإن كان يرثهم وهو المذهب انتهى، وقال في جمع الجوامع: هل يجوز دفع الزّكاة إلى من يرثه بفرض أو تعصيب أو لا؟ ثمّ قال يجوز: نقلها الجماعة واختارها جماعة، وقطع بها في المنور وفاقًا لأبي حنيفة وأصحابه، ومن لا تجب نفقته فيجوز الدّفع إليه إجماعًا ثمّ قال: ولا يخل القريب من غير عمودي النّسب إمّا أن تجب نفقته على الدّافع أو لا؟ فإن لم تجب جاز الدّفع إليه بلا نزاع أو وجبت ففيه روايتان، ومن كلام لأبي العبّاس شيخ الإسلام: يجوز الدّفع إلى الوالدين والولد إذا كانوا فقراء وهو عاجز عن الانفاق عليهم وهو أحد القولين عن أحمد وما أخذه الإمام باسم المكس جاز دفعه بنيّة الزّكاة وتسقط ولو لم يكن على صفتها. انتهى.

رسائل وفتاوى للشيخ سعيد بن حجي

رسائل وفتاوى للشيخ سعيد بن حجي ... رسائل وفتاوى الشّيخ سعيد بن حجي - 1 - بسم الله الرحمن الرّحيم. من سعيد بن حجي إلى الأخ جمعان بن ناصر كان الله له ناصر. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد، وصل الخط وصلك الله إلى رضوانه وجعلك من أعوانه وسر الخاطر ما ذكرت من نصر الله لدينه، فالله المحمود على ذلك وتسأل عن مسائل: (الأولى): ما قول العلماء رحمهم الله في الهاشمة والمنقلة في الرأس إذا لم توضح، بل دمغت وهشمت ونقلت عظامها بعد ما شقوا الجلد ولحمته الفوقية ما حكم الدّية؟ (الجواب): اعلم أولًا أنّ الشّجاج العشر اسم لجراح الرّأس والوجه خاصة، فأمّا الهاشمة فهي التي توضح العظم أي تبرزه وتهشمه وتكسره ففيها عشر من الإبل، وأمّا إن ضرب رأسه فهشم العظم ولم يوضحه ففيه وجهان: (أحدهما): فيه خمس من الإبل. (والثّاني): تجب الحكومة وهو المذهب، وأمّا المنقلة فهي التي توضح العظم وتهشمه وتنقل عظامها بتكسرها وفيها خمس عشر من الإبل بالإجماع، وأمّا الدّامغة فليست من أولئك وأمّا إذا هشم العظم فقط وشق الجلد واللحمة الّتي فوق العظم ثمّ نقلت العظام. فالجواب: إن كان ذلك بإذن المجني عليه وهو رشيد فلا شيء له أو بإذن وليه إن كان غير رشيد فلا شيء له، وإن فعله أجنبي بغير إذن فعلى الشّاق الّذي أوضح العظم خمس من الإبل وعلى منقل العظام خمس من

الإبل، وعلى الهاشم الأول خمس من الإبل، فإن تأملت كلام الفقهاء وتفصيلهم في الموضحة والجائفة وجدته كذلك والله أعلم. (المسألة الثّانية): الأسنان إذا جني عليها وبقي لها سنوخ لم ينتفع بها المجني عليه هل يحكم بديتها تامة أم لا؟ الخ. (الجواب): لا نعلم بين أهل العلم خلافًا في أنّ دية السّن خمس من الإبل، وإنّما يجب هذا الضّمان في سن من قد ثغر وهو الّذي أبدل أسنانه وبلغ حدًا إذا تلف سنه لم يعد بدلها، فأمّا سن الصّبي الّذي لم يثغر فلم يجب بقلعها في الحال شيء فإن مضت مدة يئس من عودها وجبت ديتها، وإن نبت مكانها أخرى لم تجب ديتها، لكن إن عادت قصيرة أو مشوهة أو طويلة ففيها حكومة، وتجب دية السن فيما ظهر من اللثة لأنّ ذلك هو المسمى سنا وفي اللثة يسمى سنخا، فإذا كسر السن ثمّ جاء آخر فقلع السنخ ففي السن ديتها وفي السنخ حكومة، وإن قلعها الأول بسنخها لم يجب فيها أكثر من ديتها والله أعلم. (المسألة الثّالثة): حضانة الأم إذا تزوجت وسقطت هل الجدة أم الأم أولى بالحضانة أم الأب؟ الحمد لله (الجواب): الحضانة واجبة كالإنفاق فالأم أحق بها من أبيه ثمّ أمهاتها القربى فالقربى، ثمّ أمهاتها إلى آخر كلامهم. (المسألة الرّابعة): هل على سيدة الغلام إذا كان لها فيه شركة أن تحتجب عنه أم لا؟. (الجواب): وللعبد النّظر إلى الوجه والكفّين من مولاته لقوله تعالى: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ} [النّور من الآية: 31]، فأمّا النّظر إلى شعرها فكرهه الحسن وأباحه

ابن عباس لقوله تعالى: {لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} الآية، [النّور من الآية: 58]. وعبارة الإقناع وشرحه والعبد المشترك، وأفتى الموفق في المشترك أنّه كالعبد له نظر ذلك أي الوجه والرّقبة واليد والقدم والرّأس والسّاق من مولاته لقوله تعالى: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ} الآية، إلى قوله: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ} [النّور من الآية: 31]؛ ولأنّه يشق على رب العبد التّحرز انتهى. (المسألة الخامسة): إذا دفن ميت مسلم بغير تكفين أو تغسيل وهو ممن يغسل بلا عذر وهما فرضا كفاية ما الحكم؟ (فالجواب): لو دفن قبل الغسل من أمكن غسله لزم نبشه إن لم يخف تفسخه أو تغيره، ومثله من دفن غير متوجه إلى القبلة أو قبل الصّلاة عليه أو قبل تكفينه انتهى. وذكر في المبدع ثماني صور في نبش الميت إلى أن قال: قال في الشّرح فإن تغير الميّت لم ينبش بحالٍ وكلّ موضعٍ أجزنا نشبه فالأفضل تركه. انتهى. (المسألة السّادسة): إذا دفع إنسان إلى آخر دابته يرعاها بأجرة ثمّ دفعها الأجير إلى أجير آخر بغير إذن صاحب الدّابة فهلكت ما الحكم؟. فإن أفتيتم بالضمان فهو على الأول أو على الثّاني أو هو مخير. الحمد لله (الجواب): لا ضمان على الرّاعي إذا لم يتعد بلا نزاع فإن تعدى ضمن مثل أن ينام عنها أو يتركها تتباعد عنه أو تغيب عن نظره أو يسلك بها موضعًا تتعرض فيه للتلف انتهى، فإذا كان هو يضمن بهذه الأمور فإذا تعدى وآجرها غيره إذن فمن باب أولى، اللهم إلّا أن يكون محسنًا فلا يبعد عدم الضّمان، وأمّا ضمانها عليه فهو مبني على معرفة الأجير الخاص من المشترك والله أعلم.

2 - فائدة لخصها سعيد بن حجي على بعض الحساد لما اعترض عليه في معرفة وقت الظهر

- 2 - بسم الله الرحمن الرحيم فائدة لَخصها سعيد بن حجي على بعض الحساد لما اعترض عليه في معرفة وقت الظّهر: أمّا بعد فلما رأيت بعض من يدعي العلم وليس بعالم اعترض علي في معرفة وقت الظّهر وهو لنفسه ظالم، فإنّه قد قيل بترك ما لا يعنيك يتم لك ما يغنيك فأحببت أن أبين له الدّليل ليكون كالدّواء للعليل فمن قبل الحق انتفع ومن أعرض عنه ذل وارتدع. (فائدة): تجب في معرفة أوقات الصلاة لأنّها من شروطها، قال يحي بن محمد بن هبيرة الحنبلي الوزير -رحمه الله- في كتابه المسمى (الإفصاح) الّذي وضعه لما أجمع عليه العلماء وما اتفق عليه الأئمة الأربعة وما اختلفوا فيه من مسائل الفقه، واختلفوا في وقت وجوب الصلاة، فقال مالك رحمه الله والشّافعي وأحمد تجب بأول الوقت، وقال بعض أصحاب أبي حنيفة تجب بآخره، وأجمعوا على أنّ أول وقت الظهر إذا زالت الشمس وأنّه لا يجوز أن يصلي قبل الزّوال انتهى. وقال الإمام موفق الدّين أبو محمد عبد الله بن أحمد بن قدامة المقدسي الحنبلي في كتابه (الكافي) الأولى هي الظهر لما روى أبو برزة الأسلمي قال كان رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- يصلي الهجير التي تدعونها الأولى حين تدحض الشّمس يعني تزول. متفق عليه، وأوّل وقتها إذا زالت الشمس وآخره إذا صار ظل كل شيء مثله بعد القدر الّذي زالت الشمس عليه لما روى ابن عباس عن النّبي -صلّى الله عليه وسلّم- قال: "أمني جبريل عند البيت مرتين فصلى بي الظّهر

في المرة الأولى حين زالت الشّمس والفيء مثل الشراك، ثمّ صلّى بي في المرة الأخيرة حين صار ظل كل شيء مثله وقال الوقت ما بين هذين" رواه أبو داود والترمذي وحسنه، ويعرف زوال الشّمس بطول ظل بعد تناهي قصره انتهى. وقال الشّارح: يعني صاحب الشرح الكبير على المقنع والظهر هي الأولى ووقتها من زوال الشمس إلى أن يصير ظل كل شيء مثله بعد الّذي زالت عليه الشمس، ومعنى زوال الشمس ميلها عن وسط السّماء وإنّما يعرف ذلك بطول الظل بعد تناهي قصره لأنّ الشمس حين تطلع يكون الظل طويلا وكلما ارتفعت الشمس قصر الظل، فإذا مالت عن كبد السماء شرع في الطول فذلك علامة زوال الشمس. فمن أراد معرفة ذلك فليقوم ظل شيء ثم ليصبر قليلا ثم يقوم ثانيا فإن نقص لم يتحقق، وإن زاد فقد زالت الشمس، وكذلك إن لم ينقص لأن الظل لا يقف فيكون قد نقص، وتعجيلها في غير الغيم أفضل بغير خلاف علمناه، ويستحب تأخيرها في شدة الحر، قال القاضي إنّما يستحب الإبراد بثلاثة شروط: شدة الحر، وأن يكون في البلاد الحارة ومساجد الجماعات. فأمّا صلاة الجمعة فلم ينقل أنّه -صلّى الله عليه وسلّم- أخرها، بل كان يعجلها. ثمّ العصر وهي الوسطى، وأول وقتها من خروج وقت الظّهر وآخره إذا صار ظل الشيء مثليه سوى ظل الزوال اهـ من الإقناع، وهو قول مالك والشّافعي. وعنه ما لم تصفر الشمس، قال ابن عبد البر: أجمع العلماء على أن من صلى العصر والشمس بيضاء نقية فقد صلاها لوقتها وتعجيلها أفضل بكل حال اهـ.

وقال في الكافي: وتعجيلها أفضل بكل حال لقول أبي برزة في حديثه كان رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- يصلي العصر ثمّ يرجع أحدنا إلى رحله في أقصى المدينة والشمس حية. متفق عليه انتهى، وقد نظم بعض العلماء معرفة وقت الظّهر والعصر فقال: يا سائلي عن زائد الظّل والقصر ... وظل زوال هاك وصفا على العصر فخذ أنت عودًا ذا اعتدال وطوله ... كشبر وإن زاد القياس على الشّبر ومن بعد فانصبه بأرض سوية ... لتعلم كون الظّل في دائم الدّهر فما زال في نقص فزده بنقصه ... إلى أن تراه واقفًا زائد القدر فأوّل وقت للزّوال زيادة ... وحين زوال الشّمس من أوّل الظّهر وكن عارفًا للظّل كم قد مضى به ... لتعلم تحقيق الصّواب من القدر وصف سبعة الأقدام فوق الّذي مضى ... فذلك حقٌ أوّل الوقت للعصر وقال في الإقناع: طول ظل كل إنسان سبعة أقدام بقدم نفسه تقريبًا إلا ثلث قدم اهـ. فقد عرفت رحمك الله تعالى ممّا مرّ أنّ أول وقت الظهر الزوال بالإجماع، وأنّ الزّوال يعرف بطول الظل بعد تناهي قصره، وأن آخره إذا صار ظل كل شيء مثله بعد ظل الزّوال، وأن تعجيلها أفضل لا مستثنى وأن أول وقت العصر من حين خروج وقت الظهر، وأن تعجيلها أفضل بكل حال، فمن اتضح له الحق وبان فليرجع فإن الصواب يقبله أولو الألباب، ولكنه عدل إلى فعل الحسود، وقد قيل: إنّ الحسود ما يسود لا سيما أن عرفت مذهب المعترض -إن كان له مذهب- هو ما قاله ابن هبيرة فيما مر وهو قوله: وقال بعض أصحاب أبي حنيفة تجب بآخره اهـ.

3 - من سعيد بن حجي إلى الأخ جمعان بن ناصر

فإن تاب المعترض بعد هذا وبين وإلا فيزع الله بالسلطان أكثر ممّا يزع بالقرآن وبالله التّوفيق، ونسأل الله أن يرزقنا علمًا نافعًا وعملًا متقبلًا، ونعوذ بالله من علم لا ينفع وهو حسبنا ونعم الوكيل، ولا حول ولا قوة إلّا بالله العلي العظيم. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. - 3 - بسم الله الرحمن الرحيم. من سعيد بن حجي إلى الأخ جمعان بن ناصر. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد، وصل الخط وصلك الله إلى رضوانه، وما ذكرت من جهة القضاء فهو جمرة من الغضا إلا من عصمه الله بالتقوى ومنها القوة والأمانة فالأمانة العلم والقوة تنفيذه والعمل به، وقد جاءك مني رسالة فيما مضى فيها مقدمة فيها فوائد فلا بأس لو راجعتها. وتسأل فيه عن مسائل: (الأولى): هل الإقالة لها خيار مجلس كالبيع أم لا؟ فالجواب: -وبالله التوفيق- ليس لها خيار مجلس لأنها ليست بيعًا ولا بمعناه وإنّما هي فسخ للعقد من أصله فلا فيها خيار مجلس وتجوز الإقالة في دين السلم، حكاه ابن المنذر إجماع من يحفظ عنه من أهل العلم؛ لأنّها فسخ للعقد إذا قبض رأس مال السلم في مجلس الإقالة هذا المختار عند الموفق والشّارح وصاحب المبدع وغيرهم يعني قبض رأس مال السلم في مجلس الإقالة. (المسالة الثّانية): إجارة الإنسان نفسه أو غيره بجزء مشاع من ثمرة زرع أو نخل قبل بدو صلاحها هل يجوز إلى آخره؟

(فالجواب): يشترط معرفة الأجرة بما تحصل به معرفة الثمن بغير خلاف نعلمه، لأنه -صلّى الله عليه وسلّم- نهى عن استئجار الأجير حتى يبين له أجره. رواه أحمد إلا أنه يصح استئجار الأجير بطعامه وكسوته. روي عن أبي بكر وعمر وأبي موسى -رضي الله عنهم- لما تقدم من قوله -صلّى الله عليه وسلّم- "رحم الله أخي موسى" الخبر، وشرع من قبلنا شرع لنا ما لم يثبت نسخه، وإنّ العادة جارية به من غير نكير فكان كالإجماع، ولأنه مقيس على الظّئر، وكذلك الظئر إجماعا لقوله تعالى: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ} [الطلاق: من الآية: 6]، وقوله تعالى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: من الآية: 233]، اهـ ملخصًا من المبدع، فقد علم السّائل أنه لا بد من معرفة الأجرة وأنّها لا تصح مجهولة إلا في الظئر بالنص أو في الأجير بطعامه وكسوته بدليل فعل الصّحابة ولأنه مقيس على الظئر. (المسألة الثّالثة): عمد الصّبي والمجنون هل هو في ماله أو عاقلته؟ الخ. (فالجواب): عمد الصبي والمجنون خطأ لا قصاص فيه؛ لأنه عقوبة وغير المكلف ليس من أهلها، والدية على العاقلة حيث وجبت في الخطأ والكفارة وما جرى مجراه اهـ، وعبارة غيره وجناية الصبي والمجنون الخ. (المسألة الرابعة): إذا دفع بعيره إلى آخر يرعاه مدة معلومة بأجرة معلومة ثم هلك البعير بآفة سماوية إلى آخره ما الحكم؟ (فالجواب): تنفسخ الإجارة بتلف المعقود عليه كدابة نفقت أو عبد مات؛ لأن المنفعة زالت بالكلية بتلف المعقود عليه فانفسخت كتلف المبيع قبل قبضه وله أحوال ثلاثة: أن تتلف بعد مضي بعض المدة فافسخ فما بقي من المدة خاصة في الأصح اهـ مبدع وغيره، لكن تسقط الأجرة بأن يكون أجرها في الصّيف أكثر من الشّتاء أو العكس.

(المسألة الخامسة): المقدر من الشجاج كالموضحة إذا كانت لم تبن حين الجناية ثمّ بانت بعد مدة بسبب معالجة الدواء هل يحكم بذلك أم لا؟ (الجواب): الموضحة هي التي توضح العظم؛ أي: تبدي بياضه، أي: تبرزه ولو بقدر رأس إبرة، وموضحة الوجه والرّأس سواء، وفيها إن كانت من حر مسلم ولو أنثى خمس من الإبل لحديث عمرو بن حزم رواه الخمسة، ولا يعتبر إيضاحها للناظر، فلو أوضحه برأس مسلة أو إبرة وعرف وصولها إلى العظم كانت موضحة فحد الموضحة ما أفضى إلى العظم اهـ كلامهم ولم يذكروا ما أبرزه الدواء. (المسالة السّادسة): ما حد الجائفة في القرب والبعد؟ (فالجواب): قال: وفي الجائفة ثلث الدية وهي التي تصل إلى الجوف وهذا قول عامة أهل العلم، والجائفة ما وصل غاى باطن الجوف من بطن أو ظهر أونحر أو صدر أو ورك وغيره؛ فإن جرحه في جوفه فخرجت من الجانب الآخر فهي جائفة هذا القول أكثر أهل العلم، قال ابن عبد البر: لا أعلمهم يختلفون في ذلك، ولما روي أن رجلًا رمى رجلًا بسهم فأنفذه فقضى أبو بكر بثلثي الدية ولا مخالف له فيكون إجماعًا. أخرجه سعيد اهـ مغني فقد علمت أنّه لا يعتبر القرب والبعد، بل متى نفذ إلى الجوف وجبت الدية. (المسألة السابعة): إذا كان إنسان في بلد ومال في آخر هل الزكاة تتبع البدن أم المال؟ (الجواب): إذا كان في بلد وماله في آخر أخرج زكاة المال في بلده أي المال نص عليه؛ لأن المال سبب الزكاة، وأما زكاة الفطر فيخرجها في

4 - من سعيد بن حجي إلى جمعان بن ناصر

البلد الذي هو فيه، هكذا ذكر الفقهاء في كتبهم. والله أعلم وصلى الله على نبينا محمّد وآله وصحبه وسلم. - 4 - بسم الله الرحمن الرحيم. من سعيد بن حجي إلى جمعان بن ناصر. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد، وصل الخط وصلك الله إلى رضوانه وتسأل فيه عن مسائل: (الأولى): العاقلة الذين يعقلون في الدية ما حدهم الذي ينتهون إليه في البعد والقرب؟ (فالجواب): -وبالله التوفيق- لا خلاف بين أهل العلم في أن العاقلة العصبات وأن غيرهم من الإخوة من الأم وسائر ذوى الأرحام والزوج وكل من عدا العصبات ليس هم من العاقلة وسائر العصبات من العاقلة بعدوا أو قربوا من النسب والولاء، وبهذا قال عمر بن عبد العزيز وحماد ومالك والشّافعي ولا أعلم عن غيرهم خلافهم ولا يعتبر أن يكونوا وارثين في الحال، بل متى كانوا يرثون لولا الحجب عقلوا -إلى أن قال- وليس على فقير من العاقلة ولا صبي ولا زائل عقل حمل شيء من الدية. وأكثر أهل العلم على أنّه لا مدخل لأحد من هؤلاء في تحمل العقل. قال ابن المنذر أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن المرأة والصبي الذي لم يبلغ لا يعقلان، وأجمعوا على أنّ الفقير لا يلزمه شيء وهذا قول مالك والشافعي وأصحاب الرّأي اهـ مخلصًا من المغني، فقد علمت أنّ العاقلة العصبات الّذين يرثون بالتعصيب وأنّهم يعصبون وإن حجبوا، وأن الفقير والمرأة والصبي لا عقل لهم.

(الثّانية): عورة المرأة إذا جني عليها هل للرجال النظر إليها من غير ذوي محارمها كالنّظر للطبيب عند الحاجة أم لا؟ (الجواب): ونعم. له ذلك واعلم أنّ الطبيب اسم للعالم بالطب وهو في الأصل الحاذق في الأمور، ويعرف العلة بالتّأمل وغيره، قال الفقهاء في باب تحريم نظر الرجل إلى الأجنبية: وللطبيب نظر ولمس ما ندعو الحاجة إلى نظره ولمسه من جميع بدنها من العورة وغيرها، وليكن ذلك مع حضور محرم أو زوج. اهـ. (الثّالثة): إذ جنى الزوج على زوجته وألقت جنينًا ميتًا هل تجب عليه الغرة ولا يرث منها أم لا؟ (فالجواب): إذا شربت الحامل دواء وألقت جنينًا فعليها غرة عبد أو أمة ولا ترث منها شيئا لأن القاتل لا يرث المقتول وتكون الغرة لسائر ورثته وعليها عتق رقبة وليس في هذا اختلاف بين أهل العلم نعلمه، ولو كان الجاني المسقط الجنين أبًا أو غيره من ورثته فعليه غرة لا يرث منها شيئا ويعتق رقبة وهذا قول الزّهري والشّافعي وغيرهما قاله في المغني. (الرّابعة): إذا قتل امرأة حاملًا خطأ هل تجب الدّية والغرة معا أم لا؟. (فالجواب): ولو قتل حاملا فلم اسقط جنينها فلا شيء فيه لأنّه لا يثبت حكم الولد إلّا بخروجه اهـ اقناع وشرحه، وعبارة الكافي وإن قتل فلم يسقط لم يضمن جنينها لعدم اليقين لحملها اهـ، وكذا قال الزّركشي وغيره، وكذا قال ابن المقري الشّافعي في شرح الإرشاد فقد علمت أن قاتل الحامل ليس عليه إلا الدّية إذا لم يسقط جنينها. (المسألة الخامسة): إذا دفع ولي الأمر زكاة أهل بلد إلى أمير تلك

البلد أو بعضها لنوائبه وما يتعلق به وأراد المعطى أن يعطي غيره ممن ليس من أهلها هل تحل للمعطي الثّاني كما إذا دفع إلى المسكين فأهدى إلى الغني لا يجوز؟ فالجواب: -وبالله التوفيق- اعلم أنّ الله تعالى حصر الزّكاة في ثمانية أصناف بقوله: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ} [التوبة: من الآية 60]، وهذا إجماع، قال الموفق وغيره من الحنابلة: وأربعة يأخذون أخذًا مستقرًا. لا يرجع عليهم بشيء: الفقراء والمساكين والعاملين والمؤلّفة؛ لأنّهم ملكوها ملكًا مستقرًا، وأربعة يأخذون أخذًا مراعي: الرّقاب والغارمين والغزاة وابن السّبيل إن صرفوه فيما أخذوا له وإلّا استرجع منهم، وكذا إن فضل معهم شيء بعد قضاء ما أخذوا له استرجع منهم، فقد علمت أنّ الأصناف الأربعة المتقدمة وهم: الفقراء والمساكين والعاملين والمؤلّفة، يملكون ما أخذوه من الزّكاة فعلى هذا يملكون جميع التّصرفات فيه، ولا يحرم على غيرهم ما أخذه منهم هبة أو صدقة أو نحوهما والله أعلم. (السّادسة): إذا أسلم إنسان إلى آخر في نخل أو زرع أو غيرهما من الثّمار بعد بدو صلاحه وحلول بيعه هل هو سلم صحيح أم لا يجوز التّعيين ولو قد بدأ فيه الصّلاح الخ؟ فالجواب: -وبالله التّوفيق- إذا أسلم في نمرة بستان بعينه أو قرية صغيرة أو في نتاج فحل بني فلان أو غنمه لم يصح؛ لأنّه لم يأمن تلفه وانقطاعه أشبه ما لو أسلم في شيء قدره بمكيال معلوم أو صنجة بعينها دليل الأصل ما روي عن النّبي -صلّى الله عليه وسلّم- أنّه أسلف إليه اليهودي من ثمر حائط بني فلان فقال النّبي -صلّى الله عليه وسلّم- "أما من حائط بني فلان فلا" رواه ابن ماجه ورواه الجوزاني

5 - من سعيد بن حجي إلى الأخ جمعان بن ناصر

وفي المترجم قال: أجمع العلماء على كراهة هذا البيع، قال ابن المنذر المنع منه كالإجماع لاحتمال الجائحة. ونقل أبو طالب وغيره يصح إذا بدأ صلاحه واستحصل ويعارضه ما سبق اهـ مبدع، وعبارة الشّرح الكبير، وقال ابن المنذر إبطال السلم إذا أسلم في ثمرة بستان بعينه كالإجماع من أهل العلم، منهم الثّوري ومالك والشّافعي والأوزاعي وإسحاق وأصحاب الرّأي اهـ، وذكر في الكافي وغيره نحو ذلك، فقد علمت أنّ العقد المسؤول عنه ليس بصحيح، وإنّ الخلاف فيه ضعيف والله أعلم. (السّابعة): نصاب السرقة الّذي نفهم ثلاثة دراهم أو أربع دينار، وقدروا المائتي درهم في نصاب الزّكاة واحدًا وعشرين ريالًا فعليه بم يقدر نصاب السرقة الآن من الجدد والذهب والفضة؟ (فالجواب): نصابٍ السرقة في قدره إختلاف كثير ومعرفة الدينار وهو المثقال والدرهم أيضا صعبة لتغير النّقدين وزنًا وغشًا ونقص حب الشّعير الّذي يعرف به المثقال والدّرهم، والجدد عرض من العروض ليست من النّقدين والحدود تدرأ بالشّبهات، فنقول الله أعلم وصلى الله على محمّد وآله وصحبه وسلّم. - 5 - بسم الله الرّحمن الرّحيم. من سعيد بن حجي إلى الأخ جمعان بن ناصر. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد، وصل الخط أوصلك الله إلى رضوانه. وسر الخاطر سؤالك وورعك عن القول بلا علم، لكن نذكر

قبل الشّروع في المرام مقدمة نافعة إن شاء الله لمن تأملها وعمل بها. قال ابن القيّم في أعلام الموقعين: (فصل): وكان السّلف من الصّحابة والتّابعين يكرهون الشّروع في الفتوى ويود أحدكم أن يكفيه إياها غيره، فإذا رأى أنّها قد تعينت عليه بذل اجتهاده في معرفة حكمها من الكتاب والسّنة وأقوال الخلفاء الرّاشدين، ثمّ أفتى، وقال عبد الله بن المبارك عن عبد الرّحمن بن أبي ليلى قال: أدركت عشرين ومائة من أصحاب رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- أراه قال في المسجد فما كان منهم أحد يحدث إلا ود أن أخاه كفاه الحديث، ولا مفت إلّا ود أن أخاه قد كفاه الفتيا. قال ابن عباس أن كل من أفتى النّاس في كل ما يسألون عنه لمجنون وقال سحنون بن سعيد أجسر النّاس على الفتيا أقلهم علمًا اهـ ملخصًا. وقال في كتاب آداب الفتيا اعلم أنّ الأفتاء عظيم الخطر كبير الموقع كثير الفضل لكنه معرض للخطأ أو الخطر، ولهذا قال المفتي موقع عن الله تعالى قال رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم-: "إنّ الله لا يقبض العلم انتزاعًا ينتزعه من النّاس، ولكن يقبضه بقبض العلماء حتّى إذا لم يبق عالم اتّخذ النّاس رؤساء جهالًا يفتون بغير علم فضلّوا وأضلّوا" رواه الشّيخان، وعن ابن مسعود: عسى رجل أن يقول أنّ الله أمر بكذا أو عني كذا وكذا ويقول الله له كذبت. رواه الطّبراني. وعن الشّافعي وقد سئل عن مسألة فسكت ولم يجب، فقيل له ألا تجيب؟ فقال حتى أدري أن الفضل في سكوتي أو في الجواب، وعنه أنّه ربّما كان يسأل عن خمسين مسألة فلا يجيب في واحدة منها وكان يقول:

من أجاب في مسألة فينبغي قبل الجواب أن يعرض نفسه على الجنّة والنّار وكيف خلاصه ثمّ يجيب، وعن أبي حنيفة أنّه سئل عن تسع مسائل فقال فيها لا أدري، وعن الأثرم سمعت أحمد بن حنبل يكثر أن يقول لا أدري وذلك لما عرف من الأقاويل انتهى ملخصًا. ومن كان يهوى أن يرى متصدرًا ... ويكره لا أدري أصيبت مقاتله إذا تم ذلك فلنرجع إلى المسائل المسؤول عنها: (الأولى): تضمن السؤال عنها أن جماعتكم يكرون الأرض للزرع بطعام معلوم من جنس ما يخرج منها فأصاب الزّرع جائحة أذهبته أو بعضه وأنّك قلت للأمير يحط من الكراء قدر ما أذهبت الجائحة، فإن كان ذهب الزّرع كله فهل على العامل شيء من الكراء؟ (فالجواب): -وبالله التّوفيق- نذكر لك شيئًا من كلام الفقهاء لعل الحق يتبين لك، قال في المغني: أمّا إجارة الأرض بطعام معلوم من جنس ما يزرع فيها ففيه روايتان: (إحداهما): المنع وهي قول مالك لما تقدم من الأحاديث. (والثّانية): جواز ذلك وهو قول أبي حنيفة والشّافعي انتهى. وأمّا قدر وضع الجائحة من الكراء فقال في المغني أيضًا: ومتى غرق الزّرع أو هلك بحريق أو جراد أو برد أو غير ذلك فلا ضمان على المؤجر ولا ضمان على المكتري نص عليه أحمد ولا نعلم فيه خلافًا، وهو مذهب الشّافعي؛ لأن التّالف غير المعقود عليه وإنّما تلف مال المكتري فيه فأشبه من اكترى دكانًا فاحترق متاعه فيه، ثمّ إن أمكن المكتري الانتفاع بالأرض بغير الزّرع أو بالزّرع في بقية المدة فله ذلك فالأجر لازم له؛ لأن تعذره لفوات وقت

الزّراعة بسبب غير مضمون على المؤجر لا لمعني في العين انتهى كلامه. وقال في الإنصاف: متى زرع فغرق أو تلف أو لم ينبت فلا خيار له وتلزمه الأجرة انتهى. وهذا مذهب متأخري الحنابلة، ثمّ قال في الإنصاف: وإن تعذر زرعها لغرقها فله الخيار، وكذا له الخيار لقلّة ماء قبل زرعها أو بعده أو عابت بغرق تعيب به بعض الزّرع، واختار الشّيخ تقي الدين ابن تيمية أو برد أو نار أو تعذر قال أمضى العقد فله الأرش كعيب الأعيان فإن فسخ فعليه القسط قبل القبض ثمّ أجرة المثل إلى كماله انتهى. وقال في الإنصاف أيضًا: لا جائحة في غير النخل، واختار الشّيخ تقي الدين الجائحة في زرع مستأجر وحانوت نقص نفعه عن العادة وحكم به أبو الفضل بن حمزة في حمام انتهى. فتنبّه لقوله: وإن تعذر زرعها لغرقها إلى قوله بعض الزرع؛ فإنّه غير الّذي قبله، فهذا كلام الفقهاء كما ترى. (الثّانية): أن عندكم من يساقي على النخل بمئات أو آلاف من الثّمرة لصاحب النّخل هل من أجاز هذا إذا أصاب الثّمرة جائحة يحط عن العامل قدر الجائحة أم لا؟ (فالجواب): -وبالله التّوفيق-: ليس هذه مساقاة وإنّما المساقاة أن يدفع الرّجل شجره إلى آخر ليقوم بسقيه وعمل سائر ما يحتاج إليه بجزء معلوم له من ثمره فهذه جائزة لحديث ابن عمر قال: عامل رسول الله - صلى الله عليه وسلّم - أهل خيبر بشرط ما يخرج منها من ثمر أو زرع حديث صحيح متّفق عليه. والإجماع منعقد على جوازها، وأمّا إجارة الشّجر كالمسألة المسؤول عنها فقال في الإنصاف: ولا تجوز إجارة أرض أو شجر كحملها حكاه أبو عبيد إجماعًا، وجوّزه ابن عقيل تبعًا للأرض ولو كان الشّجر أكثر، اختاره الشّيخ

تقي الدّين بل جوز إجارة الشّجر مفردًا ويقوم عليه المستأجر كأرض الزّرع، فإن تلفت الثّمرة فلا أجرة، وإن نقصت عن العادة فالفسخ أو الأرش لعدم المنفعة المقصودة بالعقد كجائحة انتهى. فقد علمت -رحمك الله- أنّ من أجاز إجارة الشّجر إذا أصابته جائحة يحط عن العامل قدرها وإن أذهبت جميع الثّمرة فلا شيء على العامل. (الثّالثة): هل حكم من جامع وهو صائم قضاء رمضان كمن جامع في نهار رمضان في إيجاب الكفّارة عليه عند من أوجبها أم لا؟ (فالجواب): -وبالله التّوفيق-: لا كفارة على من جامع وهو صائم في قضاء رمضان لعدم حرمة الزّمان. قال الموفق في الكافي: ولا تجب الكفارة بالوطء في غير رمضان لعدم حرمة الزّمان انتهى. وقال في المبدع والإقناع نحو ذلك، وقال في الذّيل وشرحه للشّافعية: لما ذكر الكفّارة على من أفسد صوم رمضان بالجماع: فلا كفارة على من أفسده بغير جماع أو بجماع في غير رمضان كنذر وقضاء لأنّ النّص إنّما ورد في إفساد صوم رمضان بجماع اهـ. (الرّابعة): من أوجب النية للصّوم الواجب من اللّيل هل محلها كلّه حتّى يطلع الفجر أم تختص بوقت من اللّيل؟ (فالجواب): -وبالله التّوفيق-: قال في الشّرح الكبير ولا يصح صوم واجب إلّا أن ينويه من اللّيل وهو مذهب مالك والشّافعي انتهى. وفي الكافي عن حفصة عن النّبي -صلّى الله عليه وسلّم- أنّه قال: "من لم يبيّت الصّيام من اللّيل فلا صيام له" رواه أبو داود انتهى. وقال في المبدع: ولا يصحّ صوم واجب إلّا أن ينويه من اللّيل لما روى ابن عمر عن حفصة أن النّبي -صلّى الله عليه وسلّم- قال: "من لم يجمع الصّيام قبل الفجر فلا صيام له" رواه الخمسة، وعن عائشة

مرفوعًا: "من لم يبيّت الصّيام قبل الفجر فلا صيام له" رواه الدارقطني، وظاهره أنّه في أيّ وقت من اللّيل نوى أجزأه لإطلاق الخبر وسواء وجد بعدها ما يبطل الصّوم كالجماع والأكل أو لا. نص عليه انتهى كلام صاحب المبدع على المقنع ملخصًا. فقد عرفت أنّه متى نوى من اللّيل قبل الفجر في الصّوم الواجب صحّت منه. (الخامسة): قول الفقهاء: لا يقبل في الطّلاق إلّا شهادة رجلين عدلين هل دليلهم حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه إلى آخره، هل هناك نصّ غير هذا الحديث؟ (فالجواب): -وبالله التّوفيق-: قد ذكر الفقهاء أنّ ما ليس بعقوبة ولا مال ويطلع عليه الرّجال غالبًا كنكاح وطلاق ورجعة ونسب إلى آخره لا يقبل فيه أقل من رجلين لقوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: من الآية: 2]، قاله في الرّجعة والباقي قياسًا انتهى. وقد ذكر شارح رسالة ابن أبي زيد المالكي نحوًا من ذلك، وعن أحمد رواية أخرى يقبل فيه رجل وامرأتان، وقال القاضي: النّكاح وحقوقه لا يثبت إلّا بشاهدين وما عدا يخرج فيه رويتان، والأولى هي المذهب عند متأخري الحنابلة. وأمّا حديث عمرو بن شعيب فقال في إعلام الموقعين لابن القيّم: وفي حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه عن النّبي -صلّى الله عليه وسلّم-: "إنّ المرأة إذا أقامت شاهدًا واحدًا على الطّلاق فإن حلف الزّوج أنّه لم يطلق لم يقض عليه وإن لم يحلف حلفت المرأة ويقضى عليه". وقد احتج الأئمّة الأربعة والفقهاء قاطبة بصحيفة عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه، ولا نعرف في أئمّة الفتوى إلّا من احتاج إليها، واحتج بها في هذه الحكومة أنّه يقضى في الطّلاق وما يقوم مقام

شاهد آخر من النّكول ويمين المراة. انتهى ملخصًا. (السّادسة): كفارة الظّهار إذا كان المظاهر لا يملك إلّا ثمن الرقبة هل تلزم أم لا؟ (فالجواب): -وبالله التّوفيق-: قال في الكافي بعد ما ذكر الآية والحديث في كفارة الظّهار: فمن ملك رقبة أو مالا يشتري به رقبة فاضلًا عن حاجته لنفقته وكسوته ومسكنه وما لا بدّ له منه من مؤنة عياله ونحوه لزمه العتق لأنّه واجد، وإن كانت له رقبة لا يستغني عن خدمتها لم يلزمه عتقها؛ لأنّ ما استغرقته حاجته كالمعدوم انتهى، وقال غيره نحو ذلك حتى قالوا: إن كان عليه دين ولو لم يكن مطالبًا به أو له دابة يحتاج إلى ركوبها أو كان له رقرق يتقوت بخراجهم أو له عقار يحتاج إلى غلته أو عرض للتّجارة ولا يستغني عن ربحه في مؤنته ومؤنة عياله وحوائجه الأصلية لم يلزمه العتق؛ يعني وينتقل إلى الصّوم، وقال في الإرشاد للشّافعية نحو ذلك. (السّابعة): إذا انتقل المظاهر إلى صيام شهرين هل يشترط أن لا يكون فيهما يوم عيد؟ وهل من أفطر فيهما شيئًا من الأيام يكفيه قضاء ذلك اليوم ونحوه أم يستأنف شهرين متتابعين؟ (فالجواب): وبالله التّوفيق: قال في الكافي ومن لم يجد رقبة وقدر على الصّيام لزمه صيام شهرين متتابعين، وإن شرع في أوّل شهر أجزأه صيام شهرين بالأهلة تامين كانا أو ناقصين، فإن دخل في أثناء شهر صام شهرًا بالهلال وأتم الشّهر الّذي دخل فيه بالعدد ثلاثين يومًا، فإن أفطر يومًا لغير عذر لزمه استئناف الشّهرين لأنّه أمكنه التتابع، وإن حاضت المرأة أو نفست أو أفطرت لمرض مخوف أو جنون أو إغماء لم ينقطع التتابع؛

لأنّها لا صنع لها في الفطر، وإن أفطر لسفر فظاهر كلام أحمد أنّه لا ينقطع التتابع؛ لأنّه عذر مبيح للفطر أشبه المرض، ويتخرج في السّفر والمرض غير المخوف أنّه ينقطع التتابع؛ لأنّه أفطر باختياره، وإن أفطر يوم عيد فطر أو أضحى أو أيّام التّشريق لم ينقطع به التتابع؛ لأنّه فطر واجب ويكمل الشّهر الّذي أفطر فيه يوم الفطر ثلاثين يوما لأنّه بدأ من أثنائه، وإن صام ذي الحجة قضى أربعة أيّام حسب بعد ما أفطر؛ لأنّه بدأ من أوّله، وإن قطع صوم الكفارة بصوم رمضان لم يقطع التتابع؛ لأنّه زمن منع الشّرع صومه في الكفارة أشبه زمن الحيض انتهى. (الثّامنة): وهل المرأة الّتي ظاهر منها زوجها إذا تمت عدتها تزوج إذا لم يفعل زوجها ما وجب عليه وتصير مظاهرته محل طلاق أم كيف الحكم؟ (فالجواب): -وبالله التّوفيق-: لا يكون الظّهار طلاقًا وإن نوى به الطّلاق أو صرح به قال في الإقناع وشرحه: وإن قال لزوجته أنت عليّ كظهر أمّي، فهو ظهار ولا يقع به الطّلاق ولو نواه ولو صرح به، فقال بعد قوله أنت عليّ كظهر أمّي أعني به الطّلاق لم يصر طلاقًا لأنّه لا تصلح الكناية عنه، ذكره في الشّرح والمبدع انتهى، وقال في الكافي وغيره نحو ذلك، وقال في الإرشاد للشّافعية: إذا قال لزوجته: أنت حرام كظهر أمّي فله أحوال إلى أن قال الخامس أن ينعكس فينوي بالحرام الظّهار وبالآخرة الطّلاق فيصح الظّهار فقط؛ لأنّ قوله كظهر أمّي لا يصلح كناية عن الطّلاق اهـ. وقاله في شرح الرّسالة، وأمّا حكم الظّهار فقال أيضًا في الإقناع وشرحه ويحرم على مظاهر منها الوطء قبل التّكفير للآية ولحديث ابن عبّاس ومن مات منهما ورثه الآخر، ولو مات أحدهما أو طلقها المظاهر

6 - من سعيد بن حجي إلى الأخ جمعان

قبل الوطء فلا كفارة عليه، وإن عاد المظاهر فتزوجها لم يطأها حتى يكفر اهـ ملخصًا، وذكر في الكافي وغيره نحو ذلك. وأمّا إذا ظاهر من زوجته ولم يكفر إضرارًا بها بلا عذر وطلبت زوجته منه ذلك فقد ذكر بعض فقهاء الحنابلة أنّ حكمه كحكم المولي من زوجته فتضرب له مدة أربعة أشهر، فإذا مضت الأربعة الأشهر ولم يكفر ويطأ أو يفيء: لسانه إن كان له عذر ورافعته إلى الحاكم أمره الحاكم بذلك، فإن أبى أمره الحاكم بالطّلاق إذا طلبته الزّوجة، فإن لم يطلق طلق الحاكم عليه بعد طلب الزّوجة، فلو طلق عليه الحاكم طلقة أو طلقتين أو فسخ صح ذلك لأنّ الحاكم قائم مقام الزّوج؛ لأنّه نائبه انتهى ملخصًا وذلك يوم الاثنين السّابع من شهر ربيع أوّل سنة 1318 هـ. - 6 - بسم الله الرحمن الرّحيم. من سعيد بن حجي إلى الأخ جمعان وفقه الله للإيمان. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد، وصل الكتاب وتقول أفتنا في مسائل ممّا تفضل الله به عليك: (الأولى): هل يجوز رهن ثمرة النخل قبل بدو صلاحها وإلا تتبع للأصول، وهل يجوز رهن الزّرع الأخضر قبل اشتداد حبه أم لا؟ (فالجواب): -وبالله التّوفيق وبه الثّقة-: نعم يجوز. قال الموفق -رحمه الله-: (باب ما يصلح رهنه وما لا يصلح) إلى أن قال: ويصحّ رهن الثّمرة قبل بدو صلاحها والزّرع الأخضر مطلقًا وبشرط التّبقية لأنّ الغرر يقل فيه لاختصاصه بالوثيقة مع بقاء الدّين بحاله بخلاف البيع اهـ. وكذا قال غيره من فقهاء الحنابلة ولا شيء يرده.

(الثّانية): إذا قال لزوجته أنت طالق إلى مكة ونحوها ما حكم هذه اللفظة؟ (الجواب): قال في الإقناع وشرحه: وإن قال أنت طالق إلى مكة ولم يرد بلوغها مكة، أو قال: أنت طالق بعد مكة طلقت في الحال ويأتي ذلك في باب الطّلاق في الماضي والمستقبل اهـ. وكذا قال في الإنصاف اهـ. فقد علمت أنّه إذا قال ذلك في الحال، وإنّه إذا نوى بلوغ مكة لم تطلق حتّى تبلغها. (الثّالثة): هل لأب المرأة أن يأخذ صداقها أو بعضه أم لا؟ (الجواب): نعم له ذلك بشروط واستدل الفقهاء بجوازه بقصّة شعيب، مع موسى، وبقوله -صلّى الله عليه وسلّم-: "أنت ومالك لأبيك" وبقوله -عليه السّلام-: "أطيب ما أكلتم من كسبكم وإن أولادكم من كسبكم" رواه أبو داود والتّرمذي وحسنه هذا ممّن كان لا يصح تملكه من مال الولد على ما تقدم تفصيله في الهبة، ومن شرطه أنّه لا يجحف بمال البنت، قال في المجرد وابن عقيل والموفق والشّارح: وهذا مذهب المتأخرين، وقال الثّوري وأبو عبيد يكون كله للمرأة وكلام الحنابلة أقرب على شروط تملك الأب من مال الولد في الهبة فليراجع والله أعلم. (الرّابعة): إذا كان لإنسان بناء مشرف على جاره وهذا البناء سابق متقدم على جاره وطلب منه الجار الحادث سترة نفسه عن الإشراف عليه هل يدفع الضّرر المتقدم أم لا؟ (فالجواب): لم نقف على تفرقة بين البناء المتقدم والحادث وإنّما ذكروا في المغني والشّرح وغيرهما أنّه إذا كان سطح أحدهما أعلى من سطح الآخر فليس لصاحب العلو الصّعود على وجه يشرف على جاره إلا أن يبني سترة تستره؛ لأنّه إضرار بجاره ويشرف على حرمه فأشبه ما لو اطّلع إليه من

ظاهر بابه، وقد دل على المنع قوله -صلّى الله عليه وسلّم-: "لو أن رجلًا اطّلع عليه وخذفه بحصاه ففقأت عينه لم يكن عليه جناح" اهـ. لكن قال في الإقناع والرّوض المربع: فإن استويا اشتركا وأيّهما أبى أجبر مع الحاجة إلى السترة اهـ. (الخامسة): التّكبير في ليلة عيد الفطر هل هو مطلق أو مقيد بعد الفرائض؟ (فالجواب): هو مطلق غير مقيد، قال القاضي: والتّكبير في الفطر مطلق غير مقيد، وقال أبو الخطّاب: يكبّر من غروب الشّمس إلى خروج الإمام إلى المصّلى اهـ كافي، وعبارة المقنع وشرحه يسنّ التّكبير في ليلتي العيدين وفي الفطر آكد اهـ. (السّادسة): إذا حملت من لا زوج لها ولا سيّد هل تحد بمجرّد الحمل أم لا؟ وإن أدعت شبهة ها يقبل منها؟ (الجواب): المسألة فيها خلاف قديم ولا يمكننا التّكلم فيها إلّا عند الحاجة، وأمّا إذا أدعت شبهة فلا خلاف أنّ الحدّ يدرأ عنها بالشّبهات، قاله في المغني. (السّابعة): هل يجوز بيع الدّين لغير من هو في ذمّته إلى آخره؟ (فالجواب): أمّا بيع دين السّلم قبل قبضه فقال في الشّرح وغيره لا يجوز بيع المسلم فيه قبل قبضه بغير خلاف علمناه؛ لأنّه -صلّى الله عليه وسلّم- نهى عن بيع الطّعام قبل قبضه وعن ربح ما لم يضمن اهـ وهذا المفتى به. والرّواية الثّانية عن أحمد أنّه يجوز وقاله الشّيخ تقي الدّين فمعناه بقدر القيمة لئلا يربح فيما لم يضمن، ولا يجوز أخذ غيره مكانه. وبه قال أبو حنيفة والشّافعي، وعن ابن عبّاس قال: إذا أسلمت في شيء إلى أجل

فإن أخذت ما أسلفت فيه وإلا فخذ عرضًا أنقض منه ولا تربح مرتين رواه سعيد. ولنا قوله -صلّى الله عليه وسلّم-: "من أسلم في شيء فلا يصرفه في غيره" رواه أبو داود وابن ماجه. وأمّا بيع الدّين غير دين السّلم فيجوز بيع الدين المستقر لمن هو في ذمّته بشرط أن يقبض عوضه في المجلس ولا يجوز لغيره لحديث ابن عمر كنّا نبيع الإبل إلى آخره، فدلّ على جواز بيع ما في الذّمة من أحد النّقدين بالآخر وغيره مقاس أو دلّ على اشتراط القبض في المجلس قوله: "لا بأس أن يأخذها بسعر يومها ما لم يتفرقا وليس بينهما شيء"رواه أبو داود والأثرم، فإن باع الدّين لغير من هو في ذمّته لم يصح. وبه قال أبو حنيفة والثّوري وإسحاق اهـ من الشّرح الكبير، ويوضحه عبارة الإقناع قال: ويصحّ بيع دين مستقر من ثمن وقرض ومهر بعد دخول وأجرة استوفى نفعها أو فرغت مدّتها وأرش جناية وقيمة متلف ونحوها لمن هو في ذمّته ورهنه له بحقّ له ولا يصحّ بيعه لغيره اهـ. وعبارة مختصر المقنع وشرحه: ويصحّ بيع دين مستقرّ كقرض وثمن بيع لمن هو عليه بشرط قبض عوضه في المجلس اهـ. (الثّامنة): إذا عقد على امرأة هل يلزمه نفقة لها قبل الدّخول بها أم لا؟ وإذا دخل بها وتحول إلى مسكنه هل لها عليه نفقة؟ (فالجواب): قال الموفّق: باب نفقة الزّوجات يجب على الرجل نفقة زوجته وكسوتها بالمعروف إذا أسلمت نفسها إليه ومكنته من الاستمتاع بها كما روى جابر أنّه-صلّى الله عليه وسلّم-قال: "اتقوا الله في النّساء فإنهنّ عوان عندكم أخذتموهنّ بأمانة الله واستحللتم فروجهنّ بكلمة الله ولهنّ عليكم رزقهنّ وكسوتهنّ بالمعروف". رواه مسلم، فإن امتنعت من تسليم نفسها التّسليم

التّام فلا نفقة لها، وإن عرضت عليه التّمكين التّام وهو حاضر لزمته النّفقة وإن كان غائبًا لم تجب حتّى يقدم هو أو وكيله، وإن لم تسلّم إليه ولم تعرض عليه فلا نفقة عليه، ولو عرضت صغيرة لا يوطأ مثلها فلا نفقة لها اهـ ملخصًا, فقد علمت أنّ المرأة بعد العقد وقبل الدّخول لا نفقة لها إلّا أن تمكنه من نفسها لتمكين التّام أو تعرض عليه، وإنّه إذا دخل بها ومكّنته من نفسها التّمكين التّام أنّ لها النّفقة والكسوة. (التّاسعة): إذا طلقت المرأة وحاضت حيضة أو حيضتين ثمّ أمسك عنها ولا تدري ما رفعه حتّى مضت سنة بعد ما أمسك عنها الدّم هل تتزوّج والحالة هذه أم لا؟ (الجواب): نعم تتزوّج بعد تسعة أشهر للحمل؛ لأنّها مدّته غالبًا وثلاثة أشهر عدة الآيسة. قال الشّافعي -رحمه الله- هذا قضاء عمر بين المهاجرين والأنصاري لا ينكره منكر علمناه فصار إجماعًا. (العاشرة): ما قول أهل العلم في الأب إذا أعطى بعض ولده ولم يعط الآخر ومات الأبّ هل للإخوة الرّجوع على المعطى بالتّسوية أم لا؟ (فالجواب): ليس لهم الرّجوع، قال في المغني والشّرح: إذا مات يعني الأبّ قبل أن يسترده ثبت ذلك للموهوب له ولزم وليس لبقية الورثة الرّجوع، هذا المنصوص عن أحمد وبه قال مالك وأصحاب الرّأي وأكثر أهل العلم انتهى، لكن بشرط صحّة العطية وأن لا تكون في مرض الموت والله أعلم. (الحادية عشرة): هل تجب الزّكاة في المشاخصة الّتي تعلق مع الحلي للبس وتدعي صاحبتها أنّها حلي أم لا بدّ أن تصاغ على عادة النّساء في الحلي؟ (فالجواب): لا زكاة في الحلي المباح المعد للاستعمال لقوله -صلّى الله عليه وسلّم-:

"ليس في الحلي زكاة" رواه الطّبراني وهو قول ابن عمر وعائشة وأسماء بنت أبي بكر وجماعة من التّابعين، ويباح للنّساء من الذّهب كل ما جرت عادتهنّ بلبسه قلّ أو كثر، وقال ابن حامد إن بلغ ألف مثقال حرم وفيه الزّكاة إلى أن قال: فرع يجوز للمرأة التّحلي بدراهم ودنانير معراة أو في مرسلة في وجه وعليها تسقط الزّكاة اهـ مبدع. وقال في الإقناع: ولا زكاة في حلي مباح إلى أن قال: ويباح للنّساء من ذهب وفضة ما جرت عادتهنّ بلبسه كطوق وخلخال وسوار إلى أن قال: ولو زاد على ألف مثقال حتّى دراهم ودنانير معراة أو في مرسلة اهـ، وقال الشّيخ تقي الدّين الحصني الشّافعي -رحمه الله-: قوله هل تجب الزّكاة في الحلي المباح فيه قولان: أحدهما: لا وهو الأظهر؛ لأنّ عائشة -رضي الله عنها- كانت تحلي بنات لأخيها يتامى في حجرها فلا تخرج منها الزّكاة رواه في الموطّأ -إلى أن قال- وفي جواز التّحلي بالدّراهم والدّنانير المثقوبة الّتي في القلادة وجهان أصحّهما الجواز. قال الأسنائي: وحكاية الخلاف ممنوع، بل يجوز لبس ذلك للنّساء وبلا كراهة وصرح به في البحر اهـ ملخصًا، فقد علمت أنّ المسألة المسؤول عنها وهو لبس المشاخصة مع الحلي لا زكاة فيها تبعًا للحلي ومراده بالشروط المتقدّمة، لكن إن كان اتّخاذ المشاخصة في الحلي للفرار من الزّكاة ففيها الزّكاة والله أعلم. (الثّانية عشرة): هل يعتبر بينة على وكالة المرأة المعتبر إذنها لوليّها في التّزويج أم يصدق؟ (فالجواب): قال الفقهاء: ولا يشترط الإشهاد على إذنها لوليّها أن يزوّجها

7 - ما قول العلماء -أيدهم الله ونفع بهم المسلمين- في المبيع المقبوض بعقد فاسد، هل يملك به وهل ينفذ تصرف المشتري فيه؟ وهل يضمنه أو نقصه وزوائده وأجرته إن كانت؟ وهل عليه مؤنة رده أم لا؟

ولو غيره أو مجبرة، والاحتياط الإشهاد فإن ادعى زوج إذنها في التّزويج للولي وأنكرت صدقت قبل الدّخول ولا تصدق بعد الدّخول؛ لأن تمكينها من نفسها دليل على إذنها اهـ إقناع وشرحه، قال في الإنصاف: وإذن الثيّب الكلام بلا نزاع في الجملة، وإذن البكر الصمات هذا المذهب إلى أن قال: وفي التّرغيب وغيره: لا يشترط الإشهاد على إذنها، وكذا قال ابن المني في تعليقه لا تعتبر الشّهادة على رضى المرأة وقدمه في الفروع اهـ فقد علمت أن الإشهاد أحوط لاسيّما في هذه الأزمنة اهـ. - 7 - بسم الله الرّحمن الرّحيم الحمد لله ربّ العالمين وصلّى الله على محمّد وآله وصحبه أجمعين. ما قول العلماء -أيدهم الله ونفع بهم المسلمين- في المبيع المقبوض بعقد فاسد، هل يملك به وهل ينفذ تصرف المشتري فيه؟ وهل يضمنه أو نقصه وزوائده وأجرته إن كانت؟ وهل عليه مؤنة ردّه أم لا؟ الحمد لله (الجواب): قال في الإقناع ويحرم تعاطيهما عقدًا فاسدًا فلا يملك به ولا ينفذ تصرفه ويضمنه وزياداته بقيمته كمغصوب لا بالثّمن اهـ. وقال الموفّق في الكافي لما ذكر الاختلاف في الشّروط في البيع: وكلّ موضع فسد العقد لم يحصل به ملك وإن قبض؛ لأنّه مقبوض بعقد فاسد أشبه ما لو كان الثّمن ميتة ولا ينفذ تصرّف المشتري فيه وعليه ردّه بنمائه المنفصل والمتّصل وأجرة مثله مدّة مقامه في يده، ويضمنه إن تلف أو نقص بما يضمن به المغصوب؛ لأنّه ملك غيره حصل في يده بغير إذن الشّرع أشبه المغصوب اهـ.

وقال في الإنصاف: فائدة يحرم تعاطيهما عقدًا فاسدًا فلو فعلا لم يملك به ولا ينفذ تصرّفه على الصّحيح من المذهب. وقال الشّيخ تقي الدّين: يترجّح أنّه يملك بعقد فاسد فعلى المذهب حكمه حكم المغصوب في الضّمان. وقال ابن عقيل وغيره: حكمه حكم المقبوض على وجه السّوم، وعلى المذهب أيضًا يضمنه بقيمته، وذكر أبو بكر يضمنه بالمسمّى واختاره الشّيخ تقي الدّين اهـ وكلامه في المبدع قريب من كلام الإنصاف فهذه عبارات الحنابلة كما ترى. وأمّا كلام الشّافعيّة فقال في كتاب الأنوار (تكملة) حيث فسد البيع وحصل القبض لم يملكه المشتري ولم ينفذ تصرّفه فيه ولزمه الرّد ومؤنته وأجرة المثل لمدّة يده وإن لم ينتفع، وأرش النّقص إن نقص وأقصى القيم من القبض إلى التّلف إن تلف والزّوائد مضمونة عليه ولو اتفق مدّة لم يرجع وإن جهل الفساد اهـ. وقال في الحاوي وحيث فسد لو قبض المشتري فهو كالمغصوب أي في موضع فسد البيع بانضمام شرط فاسد أو للإخلال بشرط أو ركن لو قبض المشتري المبيع بذلك البيع الفاسد فالمشتري المقبوض مثل المغصوب وإن قبضه بإذن البائع حتّى لا يجوز تصرفه فيه ولزم أقصى القيم أو المثل ويجب عليه مؤنة الرّد ولا يرجع بما أنفق سواء علم الفساد أو ظنّ الصّحة ويجب عليه أجرة المثل لمدّة التّصرف سواء استوفى المنفعة أو لا ورد الزّوائد متّصلة كانت أو منفصلة اهـ. وأمّا كلام المالكيّة فقال أبو الجودي في شرحه على رسالة ابن أبي زيد المسمّى (إيضاح المسالك على المشهور من مذهب مالك) ص: وكلّ بيع فاسد فضمانه من البائع فإن قبضه المبتاع فضمانه من المبتاع من يوم قبضه

8 - من سعيد بن حجي إلى الأخ رشيد السردي

فإن حال سوقه أو تغير في يده فعليه قيمته يوم قبضه ولا يرده، وإن كان ممّا يوزن أو يكال فعليه مثله ولا يفيت المبتاع حوالة سوق. ش، إذا وقع عقد المبيع فاسدًا فضمان المبيع على البائع لأنّ المبيع الفاسد لا ينقل الملك فإن قبضه المبتاع انتقل الضّمان إلى المتباع، فإذا فسد ردّ المبيع إلى بائعه ولا شيء على المبتاع ممّا اغتله لأنّه خراج والخراج للضّامن، فإن تعذّر الرّد لفوات المبيع ضمن قيمته في المقوم ومثله في المثلي، والمشهور أنّ التّقويم يوم القبض لا يوم الفوات اهـ، ثمّ ذكر أنواع الفوات. وقال محمّد بن غانم البغدادي الحنفي في كتابه مجمع الضّمانات: البيع الباطل لا يفيد الملك بالقبض، ولو هلك المبيع في يد المشتري كان أمانة عند بعض وعند البعض يكون مضمونًا؛ لأنّه لا يكون من المقبوض على سوم الشّراء إلى أن قال: والفاسد يفيد الملك عند القبض، ويكون الْمبيع مضمونًا في يد المشتري يلزمه مثله إن كان مثليًا والقيمة إن كان قيميًا كما في الهداية. اهـ. وذكر في المقبوض بعقدٍ غير صحيحٍ من الخلاف ما يطول ذكره عند الحنفية، فمَن تأمّل هذه العبارات اتّضح له الحقّ. والله الموفّق وهو المستعان، وعليه التّكلان. - 8 - بسم الله الرّحمن الرّحيم من سعيد بن حجي إلى الأخ رشيد السّردي. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد، وصل الكتاب وتسأل فيه عن مسائل:

(الأولى): إذا قال الإنسان في كلامه: وأبي أني صادق، أو وأبي أنّك كاذب ونحو ذلك هل هذا شرك؛ لأنّه أدخل عليه واو القسم وينكر على قائله أم لا؟ (الجواب): -وبالله التّوفيق- هو شرك وينكر عليه، قال في الإقناع وشرحه ويحرم الحلف بغير الله ولو كان الحلف بنبي؛ لأنّه إشراك في تعظيم الله تعالى، ولحديث ابن عمر مرفوعًا: "من حلف بغير الله فقد أشرك"رواه التّرمذي وحسّنه، وروى ابن عمر النّبي -صلّى الله عليه وسلّم- سمع عمر يحلف بأبيه فقال: "إنّ الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم، فمن كان حالفًا فليحلف بالله أو ليصمت"متّفق عليه، فإن حلف بغير الله أو صفاته استغفر الله وتاب بالنّدم والإقلاع والعزم أن لا يعود اهـ. وقال في الشّرح: والحلف بغير الله يشبه تعظيم الرّب تبارك وتعالى ولهذا سمي شركًا اهـ. (المسألة الثّانية): هل يعصب بنو الإخوة أخواتهم من الميراث كالإخوة أم لا؟ (الجواب وبالله التّوفيق): قال في المغني أربعة من الذّكور يعصبون أخواتهم فيمنعونهنّ الفرض ويقتسمون ما ورثوا للذكر مثل حظ الأنثيين وهم: الابن وابن الابن وإن نزل والأخ من الأبوين والأخ من الأب وسائر العصبات ينفرد الذّكور بالميراث دون الإناث وهم بنو الإخوة والأعمام وبنوهم، ثمّ ذكر الدّليل والتّعليل -إلى أن قال- وهذا لا خلاف فيه بحمد الله اهـ فقد عرفت أن بني الإخوة المسؤول عنهم ينفردون بالميراث دون أخواتهم. (الثّالثة): إذا كان الأخوات عصبة مع الغير هل يحجبن الأخ للأب ومن أبعد منه من العصبة أم لا؟

(الجواب وبالله التّوفيق): الأخوات مع البنات عصبات لهنّ ما فضل بعد الفرض، والمراد بالأخوات من الأبوين ومن الأب وإلى هذا ذهب عامّة الفقهاء، فإنّ ابن مسعود قال في بنت وبنت ابن وأخت: لأقضين فيها بقضاء رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم-، للبنت النّصف ولبنت الابن السّدس وما بقي فللأخت. رواه البخاري وغيره وما تأخذه مع البنت ليس بفرض وإنّما هو بالتّعصيب كميراث الأخ، وأجمع أهل العلم على أنّ بنات الابن بمنْزلة البنات عند عدمهنّ في إرثهنّ، وفي جعل الأخوات منهنّ عصبات وغير ذلك انتهى ملخصًا من المغني. قال الشّنشوري تتمة حيث صارت الأخت الشّقيقة عصبة مع الغير صارت كالأخ الشّقيق فتحجب الإخوة للأبّ ذكورًا كانوا أو إناثًا ومن بعدهم من العصبات، وحيث صارت الأخت للأبّ عصبة مع الغير صارت كالأخ للأبّ فتحجب بني الإخوة ومن بعدهم من العصبات اهـ. (الرّابعة): إذا كان الإنسان قبل أن يسلم أو في الإسلام يبيع عشرة آصع من البر أو من التّمر بعشرين صاعًا نساء ونحو ذلك، ثمّ نهي عن ذلك فتحيل وقال للآخر أعطيك قروشًا على عشرين واشترى بها منّي على عشرة هل يجوز هذا التّحيل أم لا؟ (الجواب وبالله التّوفيق): لا يجوز بيع الربوي بالربوي إلّا يدًا بيد فإن كان جنسًا واحدًا كالتّمر بالتّمر والبرّ بالبرّ ونحوها اشترط فيه المساواة والتّقابض في مجلس العقد، وإن كان جنسًا بجنس آخر كالتّمر بالبرّ ونحوها اشترط التّقابض في المجلس ولم تشترط المساواة فيجوز صاع تمر بصاعي برّ ونحو ذلك بشرطه المتقدّم.

وأمّا مسألة الحيلة المسؤول عنها فلا تجوز لاسيّما إذا كان يعامل بالرّبا ثمّ نهي عنه، قال في الشّرح: وأمّا الحيل فهي محرمة كلّها. قال أيّوب السّختياني: إنّهم ليخادعون الله كما يخادعون صبيًّا لو أتوا الأمر على وجهه كان أهون علي. وقال أبو حنيفة: هي جائزة إذا لم يشترطا عند العقد، ولنا أنّ الله عذب أمّة بحيلة احتالوها وجعل ذلك نكالًا لما بين يديها وما خلفها وموعظة للمتّقين يتعظون بهم اهـ، وذكر في الإقناع نحوًا من ذلك وهل إذا أسلم إليه القروش وتقابضا واشترى منه بذلك الثّمن ربويًا، أمّا إذا لم يتقابضا شيئًا فالبيع فاسد. (الخامسة): هل يصحّ الأذان إلى غير القبلة أم لا؟، وإذا تكلّم المقيم في أثناء الإقامة هل يعيدها أم لا؟ (الجواب وبالله التّوفيق): قال في الشّرح: قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أنّ من السّنّة أن يستقبل القبلة في الأذان وكره طائفة من أهل العلم الكلام في الأذان، وقال الأوزاعي: لا نعلم أحدًا يقتدى به فعله ورخص فيه سليمان بن صرد وغيره، قيل لأحمد: الرّجل يتكلّم في أذانه؟ قال نعم، قيل وفي الإقامة؟ قال لا، وعن الأوزاعي إذا تكلّم في الإقامة أعادها، وأكثر أهل العلم على أنّها تجزيء قياسًا على الأذان اهـ، فقد عرفت أن استقبال القبلة في الأذان سنّة، وأن تركها لا يبطله، وأنّ الكلام في الأذان والإقامة مكروه وأن فعل المكروه لا يبطلها. (المسألة السّادسة): إذا سمع الإنسان الأذان هل يجوز له أن يقوم من حين يسمعه أم لا؟

(الجواب وبالله التّوفيق): قال في الإقناع يستحب أن لا يقوم إذا أخذ المؤذّن في الأذان، بل يصبر قليلًا؛ لأنّ في التّحرك عند النّداء شبهًا بالشّيطان اهـ، فلعل مراده قوله -صلّى الله عليه وسلّم-: "إذا نودي للصّلاة أدبر الشّيطان وله ضراط حتّى لا يسمع التّأذين" رواه البخاري ومسلم. (السّابعة): هل يجوز الفصد والكحل في نهار رمضان أم لا؟ (الجواب وبالله التّوفيق): قال في الإقناع وغيره ولا يفطر بفصد ولا شرط ولا رعاف انتهى، وقال في الكافي: وإن اكتحل فوصل الكحل إلى حلقه أفطر لأنّ العين منفذ وإن شكّ في وصوله لكونه يسيرًا كالميل ونحوه ولم يجد طعمه لم يفطر نصّ عليه انتهى، وكذا قال غيره. وقال الشّافعي لا يفطر الكحل واختاره الشّيخ تقي الدّين فقد عرفت أنّ الأحوط تركهما في نهار رمضان. (الثّامنة): هل تجوز المبالغة في المضمضة للصّائم أم لا؟ (الجواب): -وبالله التّوفيق-: قال في الشّرح: في سنن الوضوء والبداءة بالمضمضة والاستنشاق والمبالغة فيهما إلّا أن يكون صائمًا انتهى. قال في الإقناع وغيره: فتكره يعني للصّائم، قال في المطلع: المضمضة إدارة الماء بجميع فمه والاستنشاق جذبه بنفسه إلى أقصى أنفه اهـ. (التّاسعة): هل الفرخ في بيضة المأكول نجس أم لا؟ (الجواب): -وبالله التّوفيق-: إن كان الفرخ حيًا فهو طاهر، وإن كان ميّتًا أو دما فهو نجس. (العاشرة): هل يجوز التّدخن بروث الفرس أم لا؟. (الجواب): وبالله التّوفيق: يجوز التّدخن بروثها؛ لأنّه طاهر بخلاف

الحمار؛ فإنّ روثه نجس ودخان النّجاسة نجس وفيه تفصيل، قال في الكافي: ودخان النّجاسة وبخارها نجس فإن اجتمع منه شيء أو لاقا جسمًا صقيلًا فصار ماء فهو نجس، وما أصاب الإنسان من دخان النّجاسة وغبارها فلم يجتمع منه شيء ولا ظهر له صفة فهو معفو عنه لعدم إمكان التّحرز منه اهـ وكذلك ذكر غيره. (الحادية عشرة): إذا كان ماء قيمة أربعين صاعًا أو أكثر ووجد فيه أثر كلب هل يجوز الوضوء منه أم لا؟ (الجواب): -وبالله التّوفيق-: يجوز الوضوء منه؛ لأنّ الصّحيح من أقوال العلماء أنّ الماء لا ينجس إلّا أن يتغيّر بالنّجاسة، قال في الشّرح. (الرّواية الثّانية): لا ينجس الماء إلّا بالتّغيّر، روي عن حذيفة وأبي هريرة وابن عبّاس ومالك وابن المنذر وهو قول الشّافعي لقوله -صلّى الله عليه وسلّم- لما سئل عن بئر بضاعة: "الماء طهور لا ينجسه شيء" رواه أبو داود والنّسائي والتّرمذي وحسّنه وصحّحه أحمد اهـ وهو اختيار الشّيخ تقي الدّين والشّيخ محمّد -يعفو الله عنهما-، وأيضًا نجاسة الكلب مختلف فيها فمذهب مالك طهارته وسؤره. (الثّانية عشرة): إذا كان للإنسان لقب غير اسمه هل ينهى عن ذلك أم لا؟ (الجواب): وبالله التّوفيق: قال النّووي -رحمه الله- في كتاب الأذكار باب النّهي عن الألقاب الّتي يكرهها صاحبها قال الله تعالى: {وَلا تَنَابَزُوا بِاْلأَلْقَابِ} الآية، [الحجرات: من الآية 11]، واتّفق العلماء على تحريم تلقيب الإنسان بما يكره سواء كان صفة له كالأعمى والأعمش والأجلح والأعرج، أو كان صفة لأبيه أو لأمّه أو غير ذلك ممّا يكرهه، واتّفقوا على جواز ذكره بذلك على سبيل التّعريف لمن لا يعرف إلّا بذلك، وأدّلة كلّ ما ذكرته كثيرة مشهورة

حذفتها اختصارًا واستغناءًا لشهرتها. (باب جواز استحباب اللّقب الّذي يحبّه صاحبه) فمن ذلك أبو بكر الصّديق اسمه عبد الله بن عثمان واتّفق العلماء على أنّه لقب الخير، ومن ذلك أبو تراب لقب علي بن أبي طالب وكنيته أبو الحسن، في الصّحيح أنّ رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- وجده نائمًا في المسجد وعليه التّراب فقال: "قم أبا تراب" فلزمه هذا اللّقب الحسن الجميل وكان أحب أسماء علي إليه اهـ. فقد عرفت الفرق بين اللّقب الّذي يحبّه صاحبه واللّقب الّذي يكرهه صاحبه فإنّه ينهى عنه، قال الشّيخ تقي الدّين في جواب سائل سأله عن الألقاب. (فصل): وأمّا الألقاب فكانت عادة السّلف الأسماء والكنى فإذا أكرموه كنوه بأبي فلان وتارة يكنون الرّجل بولده وتارة بغير ولده كما يكنون مَن لا ولد له إمّا بإضافة اسمه أو اسم أبيه أو ابن سميه أو إلى أمر له به تعلق كما كنَّى النَّبِيّ -صلّى الله عليه وسلّم- عائشة باسم ابن أختها عبد الله، وكما يكنون داود أبا سليمان لكونه باسم داود الّذي اسم ولده سليمان، وكذلك كنَّي إبراهيم أبا إسحاق وكما كنَّى النَّبِيّ -صلّى الله عليه وسلّم- أبا هريرة باسم هرة كانت تكون معه إلى أن قال ولا ريب أن الّذي يصلح معه الإمكان ما كان السّلف يعتادونه اهـ، فقد عرفت أنّ هذه الألقاب الّتي يكرهها صاحبها ليست من عادة السّلف وهم القدوة والخير في اتّباعهم والله أعلم. قال كاتب الأصل تاريخ الخط في شهر الله المحرّم 17 سنة 1222 هـ.

رسالة للإمام عبد العزيز آل سعود

رسالة للإمام عبد العزيز آل سعود ... رسالة لصاحب الجلالة الإمام عبد العزيز بن سعود بسم الله الرّحمن الرّحيم من عبد العزيز بن سعود إلى الإخوان من أمراء المسلمين وعامّتهم. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد، جرى بين أمير حرمة والعسكر طلابة في عقد بيع نخل متقدّم ودخل عليه عقد ثانٍ وفسد عليه وفلج العسكر وأصل وجه الدّعوى لأمير حرمة وصاح الشّيطان في النّاس ولبوا له، وكلّ جماعة قام بعضهم على بعض وقاموا يتقلّبون في عقود ماضية طول هذا في أموال مستول عليها أهلها من سنين طوال وحضروا عندنا آل الشّيخ واتّفق رأيهم على أنّ ما أفتى به الشّيخ -رحمه الله- أو غيره من قضاة المسلمين واستغله الّذي هو في يده مدّة والمدّعي ما جود ولا أنكر وادعى فلا له طريق إلّا إن تبيّن بمقالة فيها نص صحيح، أو إجماع أهل العلم، أو ما اتّفق عليه قضاة المسلمين الموجودين، وإلّا ما يثبت له دعوى بفتيا الواحد في مثلها بمقالة؛ كتلك المقالة الّتي يقضي فيها قاضٍ من قضاة المسلمين فلا يتعرضها الآخر إلّا بإجماع القضّاة، إنّ هذه الفتيا مخالفة للشّرع؛ فإن نقضها واحد ما صحّ نقضه، فإن تعدّى أمير أو مأمور على مسلم وأكل ماله بظلم أو بيع فاسد فهذا يجيئي وأقوم له إن شاء الله. ويذكر لنا بعض النّاس الّذين حضروا الشّيخ محمّد -رحمه الله- أنّه إذا عرض عليه حفيظة بخط مطوع من مطاوعة الجاهليّة أمضاها ولا نكثها، فإذا استدام ملك واحد في يد الآخر استغله ثلاث سنين أو أربع سنين وراعي الدّعوى حاضر ولا ادّعى في هذه المدّة سدّ عليه الباب. والسّلام.

رسالة للشيخ أحمد بن محمد بن حسن القصير الأشيقري

رسالة للشيخ أحمد بن محمد بن حسن القصير الأشيقري ... {رسالة الشّيخ أحمد بن محمّد بن حسن القصير الأشيقري} بسم الله الرّحمن الرّحيم سئل الشّيخ أحمد بن محمّد بن حسن القصير الأشيقري -رحمه الله- عن رجل أوصى بقدر معلوم يشتري به أرض ثمّ توقف هل يجوز شراء نخل معها أرض أو أوصى بشراء نخل هل يجوز شراء أرض إذا ظنّ أنّها أصلح ومراد الموصي والله أعلم أنّ الأرض والنّخل سواء لكن ما عنده بهذا شيء أم لا يجوز؟ وعن امرأة وقفت نخلًا على المسجد واستثنت غلته مدة حياتها وأكلته ثلاث سنين ثمّ توفيت والنّخل قد ركب الجريد، فقال إمام المسجد الموقوف عليه الثّمرة تابعة للأصل، وقال ورثة المرأة الثّمرة إرث لنا؛ لأنّها مستثناة. وعمّا إذا كان لإنسان دار بجنب المسجد والسّوق بينها وبين المسجد فأراد صاحب الدّار أن يخرج سطحًا على السّوق ويجعل خشبه على جدار المسجد ويكون المسجد فيه سعة له وظلّ لمن مشى تحته أو قعد وذلك بأمر والي البلد هل يصحّ ذلك أم لا؟ وعمّا إذا كان ثمّ حمل هدوم بين شركاء وليس هو مشاع بينهم بل كلّ واحد له هدوم معلومة متميّزة موسومة وأخذ منها ظالم عشر عبيات مثلًا من هدوم أحدهم والظّالم آخذهنّ من جميع الهدوم أي الحمل أو منعهم قاطع طريق بجزء مشاع من الهدوم وقاسمهم وصار نصيب القاطع هدوم أحدهم هل تذهب المأخذات على صاحبهنّ أم يرجع صاحبهنّ على شركائه؟ وعمّا إذا أخذ ظالم من إنسان بسبب دين أو إتلاف أو غضب مالًا للظّالم المذكور عند أقارب الإنسان المظلوم المذكور أو جيرانه أو

أهل بلده هل يرجع به المظلوم عليهم أم لا؟ وعمن لم يمكنه استنقاذ مال غيره من يد نحو قاطع طريق إلا بشرائه منه بثمن ونوى الشّراء لمالكه على وجه المصلحة لمالكه هل يرجع بالثّمن على مالكه أم لا؟ أجاب -رحمه الله تعالى-: إذا أوصى بشراء أرض ثمّ توقف أو نخل وجب العمل بما قال فلا يجوز شراء غيره عملًا بقول الموصي ولو كان غيره أنفع. وأمّا ثمرة النّخل المذكور فالّذي نفهم من كلامهم أن ثمرة النّخل الموقوف إذا تشقق والموقوف عليه حي والواقف استثنى ثمر ما وقف كمسألتكم فإنّ الثّمر يصير للوارث من بعده لصيرورة الثّمر إذا ظهر على ملك مورثهم كما يقال في مولود من قوم موقوف عليهم، فإن كان وضعه قبل التّأبير شاركهم، وإن كان مولودًا بعده فلا يستحق معهم شيئًا لظهور الثّمرة على ملكهم صرح به غير واحد من الأصحاب. وأمّا وضع الخشب على السّوق وعلى المسجد فإن كان الأمر كما ذكرتم وأذن فيه والي البلد القاهر لهم بسيفه حتّى أذعنوا له جاز ذلك على صحيح المذهب لكن بشرط انتفاء الضّرر عن المارة وعن جدار المسجد، مثل أن يوضع على الجدار أطراف خشب تعيبه، فإن خيف شيء من ذلك لم يصحّ وضعه عليه. وأمّا إذا قصد ظالم مال قوم فضرب عليهم ضريبة تعديا منه ولم يقصد مال أحد منهم دون غيره وجب على الملاك التّساوي في غرم ذلك وتكون قيمته موزعة على قيم أموالهم كلّ بقدره، وإذا ظلم قومًا دفعة واحدة أي لم يخص أحدًا منهم دون غيره وجب عليهم التّساوي في الظّلم كما يجب التّساوي

في العدل ذكره الشّيخ تقي الدّين، ولم يزل يفعل ذلك في كلّ عصر ومصر، إذا ضرب السّلاطين الظّلمة أو نوابهم ونحوهم من أهل البادية على أهل بلد أو قافلة أو حاج ضريبة ظلمًا أنّه يجب عليهم التّساوي على قدر أموالهم ولم يظهر في ذلك نكير فجرى مجرى الإجماع، فعلى هذا لو أخذ الظّالم مال أحدهم , بعضهم عن مال الآخرين فله الرّجوع عليهم بقدر مال كلّ منهم. وأما إذا ظلم إنسان إنسانًا بأخذ ماله أو نحوه فأكره أقاربه أو جيرانه أو أصدقائه على أن يؤدّوا عنه فلهم الرّجوع عليه مع النّية عند الدّفع منه إذا دفعوا جنس ما لزم الظّالم، هذا المذهب فيمن أدى عن غيره دينًا واجبًا غصبا أو غيره، وعند الشّيخ تقي الدّين يرجع مطلقًا حيث قال: ومن صودر على أخذ مال وأكره أقاربه أو أصدقاءه أو جيرانه على أن يؤدوا عنه فلهم الرّجوع؛ لأنّهم ظلموا لأجله ولم يذكر هو بنية رجوع ولا غيره، فظاهره لهم الرّجوع عليه مطلقًا لظاهر تعليله. وأمّا إذا وجد إنسان مال مسلم في يد ظالم أخذه الظّالم بغير حق فلكل مسلم أن يستنقذ مال أخيه من يد ذلك الظّالم بأي حيلة وكيد بشرط أن ينوي بذلك الثّواب باستنقاذ مال أخيه المسلم فعند ذلك له من الله الثّواب. وأمّا المعاوضة عنه بمال لأجل استنقاذه فذلك جائز في نفس الاستنقاذ وهو محسن في ذلك كلّه بشرطه المذكور لكن لا يرجع بذلك العوض الّذي سمّاه ثمنًا على المالك بغير إذنه له، وعند الشّيخ تقي الدّين وفي زعمي وابن القيّم إنّه يرجع مطلقًا والله أعلم. وسئل أيضًا -رحمه الله تعالى-: عن أكيلة السّبع إذا أكل بعض أمعائها

وذكيت هل تحل أم لا؟ وعن قولهم أو أبينت حشوته ما معناه، وإذا أصلح مفت بين خصمين وتراضيا هل يلزم أم لا؟ وإذا كان أرض قادم في غلتها كل عام أضحية وما بقي فعلى الفقراء والمساكين وغاب وليّها ولم تذبح تلك السّنة فهل يذبح في القابل أضحيتين قادمتين في الغلة أم كيف الحكم؟ وهل إذا لم يوجد تلك السّنة أضاحي تباع هل يرصد من غلّة هذا العام أضحية، وهل يجوز ذبحها في غير أيّام النّحر أم لا يجوز إلّا في العام المقبل؟ وما معنى قوله في الإقناع: وإن فات الوقت قبل ذبح هدي أو أضحية ذبح الواجب قضاء وسقط التّطوّع، والوليّ على الأضحية هل يحرم عليه أخذ شيء من بدنه وشعره أم لا؟ وهل يجوز له الأكل منها والادخار أم لا؟ والدّهن المتنجس هل يجعل في طعام الصّبيان الّذين لا يصلون يأكلونه وتدهن به رؤوسهم أم لا؟ وإذا لمس الطّفل الّذي لا يصلي طعامًا أو شرابًا أو أكل أو شرب منه فهل يكون ذلك في حكم النّجس المحرم أكله وشربه إذا لم ير على الصّغير نجاسة وهو كما تخبرون يباشر النّجاسات. فأجاب -رحمه الله تعالى-: أمّا أكيلة السّبع فإذا لم يستكمل السّبع أمعاءها وأبان بعض الأمعاء ولم تبن كلّها ووجد بها حياة مستقرة فذكيت وهي فيها حلت والعكس بالعكس. وأمّا المفتي إذا أصلح بين الخصمين ورضيا بذلك الصّلح ثمّ افترقا على الرّضا به فلا يحل لأحد منهما بعد ذلك نقضه. وأمّا لزوم ذلك وعدمه فلا يلزم إذا لم يحكم به من هو للحكم أهل. وأمّا الأضحية الموصى بها مقدمة في غلة أرض موقوفة تذبح في كلّ عام فيجب العمل بذلك لكن إن فات وقت الذّبح ولم تعين الأضحية ذبحت من العام المقبل في أيّام النحر تكون قضاء عن الماضي، وإن اشتريت

من الغلة ومضت أيّام النّحر ولم تذبح لعذر أو غيره ذبحت أي وقت كان لأنّها وجبت بنفس الشّراء من الغلة فتعيّنت به، وإن مضت أيّام النّحر قبل الشّراء فكما ذكرنا تذبح في العام المقبل مع أضحية فيكونان اثنتين، وكذا عامان أو أكثر فيذبح لكلّ عام أضحية فلا تسقط بمضي الزّمان، وكذا لو عدمت في عام ثمّ وجدت في آخر لكن مع العدم لا إثم بالتّأخير على النّاظر ومع الوجود يأثم إثمًا عظيمًا بتأخيرها عن وقتها. وأمّا قوله: وإن فات الوقت الخ فمراده إذا عين الإنسان شاة مثلًا ناويًا بقلبه قائلًا بلسانه: هذه أضحية أضحيها وهذا هدي سواء كان ذلك الهدي عن واجب كهدي التّمتع أو القران أو من فعل محصور أو ابتدأه تطوّعًا سماه هديًا يريد التّقرب به إلى فقراء الحرم ونحوه، فهذا هو الواجب فيجب ذبحه متى زال عذره، ويكون قضاء؛ لأنّ وقته قد فات وما سواه بأن لم يعين شيئًا من بهيمة الأنعام وطلب القربة بذبح شيء يريده هديًا أو أضحية وفات الوقت وهو أيّام النّحر فلا يستفيد شيئًا من ذلك؛ لأنّه والحالة هذه تطوع فسقط، وإن فعل فهو لحم يأكله ما لم يكن نذر فلا يأكل ولا يبيع منه شيئًا بل يتصدّق به على الفقراء والمساكين. وأمّا النّجس فلا يجوز أكله وكذلك المتنجّس قبل تطهيره فلا يجوز أكل ذلك ولا شربه سوى دفع لقمة غص بها، ولا يجوز إطعامه الأطفال؛ لأنّ كلّ نجس العين كالميتة وكذا المتنجس وهو الطّاهر الّذي طرأت عليه النّجاسة وهو يمكن تطهيره كلّ ذلك حرام أكله وشربه، ولا يحلّ لولي الطّفل ونحوه كالمجنون ومن ليس بمكلّف إطعامه من ذلك؛ لقوله -صلّى الله عليه وسلّم-: "لحم نبت على السّحت -وهو الحرام- فالنّار أولى به" وليس

هو المغصوب فقط، بل كلّ ما حرم الله ورسوله فهو سحت كائنًا ما كان. وأمّا إذا لمس الطّفل شيئًا وبه بلل أي اللامس أو ما لمسه، فإن علم نجاسة العضو الّذي لمس به الشّيء يقينا فنجس، وإن علمت طهارته يقينًا فطاهر، وإن شك في ذلك فما لمسه طاهر بيقين والنّجاسة الطّارئة عليه من الطّفل شك ولا يزال اليقين بالشّك، لكن الأطفال معلوم أنّهم لا يتنَزهون من النّجاسات جدًا فالتنَزُّه عنهم وعمّا يباشرونه أحوط وأسلم، وإن لم يكن طهر بعد ولادته فهو نجس لمباشرته النّجاسة الّتي لا تخفى غالبًا تعرف بالعقل والحس ولا ينكرها إلا جاهل فتطهيرهم أحسن. وأمّا الوصي على تفريق لحم الأضاحي ونحوها كالصّدقات المتقرب بها فلا يجوز له أخذ شيء منها. وأمّا الوارث ونحوه الّذي يستحق الولاية بأصل الشّرع لا بالوصية فيجوز له الأكل والادخار. واعلم أنّه من أراد التّضحية فدخل عليه عشر ذي الحجة حرم عليه أخذ شيء من شعره أو ظفره أو بشرته إلى الذّبح، قال ابن منجا في شرحه على المقنع إجماعًا للحديث الشّريف المتّفق على صحته. وأمّا الوكيل والوصي على شرائها أو تفريق لحمًا فليس من النّهي في شيء ولا جناح عليه لو أخذ شيئًا من ذلك بخلاف المضحي عن نفسه والمضحى عنه كما قدمنا والله أعلم. وسئل أيضًا -رحمه الله- عن رجل له بستان وعليه جدار فانهدم الجدار فقال له جاره: ابن جدارك؛ لأنّك إذا تركته أضر بي فأبى فهل يجبره على بنائه أم لا؟ وإذا قال الزّوج لزوجته: ما هي معي أو قال: ما تحلّ لي بالمذاهب

الأربعة، ومات أحدهما هل يتوارثان أم لا؟ وعن الأرض المشتراة بشرط الخيار إذا أجّرها المشتري لِمَن يزرعها وفسخ البيع بعد ما زرعت من يستحقّ الأجرة، هل للبائع أو للمشتري أم كيف الحكم؟ أجاب -رحمه الله تعالى-: أمّا إذا انهدم جدار بستانه وهو متّحد بملكه لا مشارك له فيه فلا يجبر على بنائه بخلاف الجدار المشترك، فإنّ الشّريك يجبر شريكه على إعادته. وأمّا إذا قال لزوجته، أو لغيرها ما هي معي أو لا تحلّ لي في المذاهب الأربعة فالصّحيح أنّ هذه قرينة يرجع فيها إلى نيّته بهذا اللّفظ، فإن نوى به طلاقًا فهو طلاق أو ظهارًا فهو ظهار، أو يمينًا فهو يمين. هذا في الصّورة الأخيرة نظير قوله: أنتِ عليّ كالميتة، أو الدّم، أو الخنْزير، فإنّ هذا اللّفظ يصلح لذلك كلّه، ثم إذا مات الزّوج مثلًا ولم تعلم نيّته فبينونة الزّوجة منه في حياته شكّ لعدم الاطّلاع على قصده بما تلفظ تلفّظ به، لكن نحكم بأنّ النّكاح ثابت عقده بيقين وانحلاله هنا شك، فلا يزال انعقاده ابتداء إلّا بيقين انحلاله انتهاء، فعلى هذا، الزّوجية بحالها، ويتوارثان، وإن كان الموت أصاب الزّوج ويسأل الزّوج عن قصده بنيّته؛ لأنّ ذلك لا يعرف إلّا من قبله فقبل قوله في نيّته ثم يعمل بمقتضى قوله. وأمّا الأرض المشتراة بشرط الخيار فأجّرها المشتري وزرعت ثم فسخ البيع فالأجرة كلّها للمشتري؛ لأنّها حصلت في زمن ملكه. ولأنّها تجب بالعقد ولو لو تسلم إليه. ولما ورد في الحديث: "الخراج بالضّمان"، لكن الذي يظهر لي أنّ المشتري لا يسوغ له أن يؤجّرها مدّة تزيد على مدّة الخيار، فإن فعل فالإجارة

رسالة للشيخ محمد بن عبد الله بن إسماعيل

صحيحة لصدورها ابتداء من مالك العين والمنفعة والأجرة له قبل الفسخ وبعده لبائعها؛ لأنّه لو يحكم بها أي بالإجارة فيما بقي من المدّة بعد الفسخ للمشتري ونحوه أضرّ بالبائع؛ لأنّ المشتري لو يظفر بملك منفعة عين في مدّة لم يملك الرّقبة فيها لأجرها أمدًا بعيدًا. وهذا لا سبيل إليه لقوله -صلّى الله عليه وسلّم-: "لا ضرر ولا ضرار". والله أعلم. ... رسالة للشيخ محمد بن عبد الله بن إسماعيل ... {رسالة الشّيخ محمّد بن عبد الله بن إسماعيل} سُئِلَ الشّيخ محمّد بن عبد الله بن إسماعيل الأشيقري -رحمه الله تعالى- عن رجلٍ قال لزوجته: اشتري نفسك منِّي بعوض وعوضته شيئًا. وقال: أنا خالع زواجك وجهازك من رقبتِي، هل تبين منه أم لا؟ وعن الغزاة إذا أرادوا أن يشتروا ذهابًا وحملانًا ونحوه مما يحتاجون إليه هل يحرم البيع عليهم، ويكون حكمه حكم السّلاح أم لا؟ وعمّا إذا ظلم واحد من الغزو إنسانًا وأخذ منه مالًا وقدر المظلوم على واحدٍ من الغزو هل له أن يأخذ قدر ماله منه؛ لأنّهم يعين بعضهم بعضًا والرّدء كالمباشر أم لا؟ وعما إذا أوصى شريك شريكه على أولاده هل له أن يقاسم نفسه أم لا؟ وإذا كان عليه جرح في اجتماع المال كيف يصنع في عزل المالين. أجاب -رحمه الله تعالى-: الخلع المذكور صحيح تبين به الزّوجة، لأنّ الخلع يصح بكل لفظ يؤدي معناه مع أنّ هذا لفظ صحيح؛ صريح لأنّه إذا قال أنا خالع زواجك من رقبتي فهذا صريح، وقولها أنا شارية نفسي أوهاك هذا واخلعني أو خلني صحيح أيضًا. وأمّا لفظة الجهاز فلا أصل لها وهي زيادة ما تضر. وأمّا قطاع الطّريق وأهل الفتنة فلا يجوز بيع السّلاح عليهم ونحوه كدرع وترس. وأمّا بيع الزّاد

والثّياب والقرب فلا عندي فيه علم بالمنع، والظّاهر صحة بيعة إلا بدليل. وأمّا الرّحل والدّابة فلا أدري، لكن أكره ذلك؛ لأنّه يعين على المعصية، وهو من التّعاون على الإثم والعدوان. وأمّا الغزو إذا اجتمعوا واعتصبوا وتظاهروا لقطع الطّريق ثمّ أخذ بعضهم مالًا وهم حوله يكونون ردءًا له إذا رأى ما يكره؛ فالكل منهم ضامن، ومن وجدت منهم فلك أخذ قدر مالك منه قهرًا؛ لأنّ أهل العلم قالوا ردء وطليع كمباشر وإن أخذ مالك بعضهم والباقي بعيد بحيث لا يكون ردأ لو رأوا ما يكرهون فلا ضمان على البعيد، بل على الآخذ ومن حوله فقط. وأمّا الوصي على الأيتام وهو شريك لهم فله أخذ نصيبه وإفرازه من المكيل ونحوه وغير المكيل والموزون لا يقاسم نفسه، فإن تضرر بعدم القسمة ولم يصبر حتّى يرشدوا فله عزل نفسه عن الوصية ثمّ ينظر في مال الأيتام الحاكم إن كان حاكم وإلا فعدل إن تعذر الحاكم، ثمّ ينظر الحاكم أو العدل فإن كانت قسمة أجبار قاسمك، وإن كانت نوع قسمة التّراضي فإن رأى لهم مصلحة ظاهرة في القسمة وحظًا فله المقاسمة وإلًا فلا والله أعلم. وسئل أيضًا عن مسائل: (منها) إذا وهب إنسان ملكه لورثته في حياته واستثنى من غلته ثلثها مدة حياته هل يصحّ ذلك أم لا؟ (ومنها): إذا أبرأ الغريم غريمه بعد ما ضمن له ظانا عدم براءة الضّامن منه؛ لأنّه جاهل بحكم الشّرع هل تصحّ براءة الغريم على هذه الصّفة أم لا؟ (ومنها): إذا كان الملك كلّه وقفًا أو بعضه وقف وبعضه طلق هل يجبر الشّريك شريكه على القسمة إن لم يكن فيها ضرر ولا رد عوض أم لا؟ وإذا

ادعى أحدهم الضّرر والآخر عدمه ولا بيّنة فهل الأصل عدم الضّرر أم لا؟ (أجاب رحمه الله تعالى): أمّا إذا وهب الإنسان ملكه لورثته أو أجنبي واستثنى الغلة مدة حياته أو بعضها فالشّرط باطل إلّا في الثّمرة الظّاهرة وقت الهبة وغير الظّاهر فلا؛ لأنّ ذلك معدوم فلا يصح هبة المعدوم كالّذي تحمل به أمته أو شجرة واستثناؤه كذلك لا يصحّ سواء كان مدة حياته أو مدة معلومة بخلاف الوقف. وأمّا عقد الهبة المذكورة فلا أدري أتبطل الهبة ببطلان الشّرط أم لا ولكن الرّاجح في القلب بطلانها. وأمّا إذا أبرأ الغريم غريمه من الدّين بعد ما ضمن له ظانًا عدم براءة الضّامن منه كما يفعله بعض الجهال بأحكام الشّرع فإنّه لا يبرأ المدين ولا الضّامن، بل الدّين باقٍ بحاله حتى يوفى أو ببراءة يعرف حقيقة أمرها. وأمّا العقار إذا كان بعضه طلقًا وبعضه وقفًا وكان ممّا لا ضرر في قسمه بإمكان تعديله بلا رد عوض، فالظّاهر أنّ قسمته قسمة إجبار، فإذا طلب أحدهما إمّا صاحب الطّلق أو مستحق الوقف أو النّاظر للقسمة وكانت ممّا لا ضرر فيها ولا رد عوض أجبر أحدهما صاحبه فيما ظهر لي، فإن كان الكلّ وقفا وطلب بعض المسحقّقين للوقف القسمة وأبى الآخر وكانت القسمة ممّا لا ضرر فيها ولا رد عوض فلا يخلو الوقف من حالتين: إمّا أن يكون الوقف على جهتين أو جهة واحدة. قال في الإقناع في باب القسمة في فضل نوع الإجبار وهي إفراز حق لا بيع فيصحّ قسم وقف بلا رد عوض من أحدهما إن كان على جهتين فأكثر، فأمّا على جهة واحدة فلا تقسم عينه قسمة لازمة اتّفاقًا؛ لتعلّق حق الطّبقة الثّانية والثّالثة، لكن تجوز

رسالة للشيخ محمد بن أحمد بن إسماعيل

المهايأة وهي قسمة المنافع. قاله الشّيخ تقي الدّين عن الأصحاب وهذا وجه، فظّاهر كلام الأصحاب لا فرق. قال في الفروع: وهو أظهر، وفي المبهج لزومها إذا اقتسموا بأنفسهم ورضوا وتهايؤوا. انتهى كلام الشّرح والمتن، وفي الغاية: لا يصحّ قسم موقوف ولو على جهة خلافًا له اهـ. وقال في المغني: ومتى جازت قسمة الوقف وطلبها أحد الشّريكين أو ولي الوقف أجبر الآخر؛ لأنّ كلّ قسمة جازت بلا رد عوض ولا ضرر فهي واجبة انتهى. وأمّا إذا ادعى أحد الشّريكين الضّرر والآخر عدمه فالشّيخ أحمد القصير يفتي بأن الأصل عدم الضّرر؛ لأنّ أحدهما يدعيه وخصمه ينكره، والّذي يظهر أنّ الشّريك لا يجبر ألّا بشروط: (أحدها) ثبوت انتفاء الضّرر. ذكره في شرح الإقناع وشرح المنتهى كما لا يخفى عليكم، فإذا لم يثبت انتفاء الضّرر فلا إجبار. والله أعلم. ... رسالة للشيخ محمد بن أحمد بن إسماعيل ... (رسالة الشّيخ محمّد بن أحمد بن إسماعيل) سُئِلَ الشّيخ محمّد بن أحمد بن إسماعيل -رحمه الله- عمّا إذا دفع رجل لآخر مائة محمّدية مثلًا أو وكله في شراء سلعة بها ثم يبيعها على نفسه بمائة وخمسين إلى أجل وهما متواطئان على أنّ المائة بمائة وخمسين، هل يصحّ أم لا؟ وعمّا إذا كان عند زيد لعمرو حمران، وقال له: أنت بريء ثم قال بعد ذلك: أنت بريء من غير تلك الحمران وليس له عليه دين غيرهن هل تصحّ هذه البراءة ولو لم يقل من مالي عليك، أو مما في ذمّتك لي أو من هذه الحمران أم لا؟

وعن قاتل النّفس عمدًا إذا تاب توبةً نصوحًا هل تصحّ إمامته أم لا؟ وعن الذي يؤكل لحمه من البقرة والغنم والإبل ما خرج منهن مع الولادة من الدّم والسّلا طاهر أم لا؟ وعن رجلين رَهنَا رَهْنًا بدينين لهما على آخر كلّ واحد منهما دينه منفرد وحده وشرط أحدهما على الآخر أن دينه مقدم ولا للآخر إلّا ما بقي، فإن استغرق دين الأوّل الرّهن فهو له، وإن بقي منه شيء فهو للثّاني أو يقضي دينه من غلة الرّهن وليس للثّاني شيء حتّى يقضي الأوّل دينه هل يثبت ذلك أم لا؟ وعمّا إذا استأجر إنسان إنسانًا يأتي له بإبل أو غنم من البادية أو من البلد الفلاني وأتى بهن واسترفق عليهنّ أو استخفر عليهنّ خفيرًا أو خيالًا كما هو العادة، وقال صاحبهنّ ما أمرتك تسترفق ولا تشترط للخيال وهو فاعل ذاك للمصلحة عليهن وعلى غيرهن هل يستحق ذلك أم لا؟ وعمّا إذا استأجرت رجلا يأتي بشيء من عند فلان وذهب إليه فلم يجده فما يستحق علي؟ (فأجاب رحمه الله تعالى): إذا دفع شخص بالغ عاقل لمثله مالًا معلومًا يشتري به عينًا معلومةً أو موصوفةً ويقبضها لموكله وتكون من ضمان الموكل ثمّ يبيعها على نفسه بزيادة الثّلث أو أقلّ أو أكثر إلى أجل صحّ، ولو كان قبل ذلك العقد مواعدًا؛ لأنّ وجود هذا المواعد كعدمه لا يلزم بشيء من العقد، أمّا إذا قال: اشتر بهن سلعة ولم يعينها ولم يصفها تصحّ الوكالة. وأمّا إذا كان لزيد على عمرو دين وقال: أبرئني من الّذي علي لك، أو

عندي لك، أو ما يدل على ذلك وأجابه بقوله أنت بريء ولم يزد على ذلك صحّ؛ لأنّ هذا جواب صحيح ويبرأ ممّا له عليه كلّه، وأمّ إذا قال أنت بريء ولم يتقدّمه كلام يدلّ على أنّه يريد من الدّين الّذي له عليه ولا جواب لكلام متقدّم ثمّ فسّره بمحتمل بأن يكون له عليه دين آخر أو عين أو مظلمة في مال أو عرض، أو فسّره بأنّه يريد بريء من شيء من ذلك قبل تفسيره، وإن لم يفسّره بمحتمل فالّذي يظهر لي براءته ممّا له عليه. وأمّا قاتل النّفس عمدًا إذا تاب إلى الله توبة صحيحة بشروطها وهي ندم وإقلاع وعزم أن لا يعود، وأيضًا يتخلص من حقوق الورثة بأن يسلم نفسه إلى وارث المقتول، فإن شاء الوارث قلته، وإن شاء عفا عنه مجانًا أو رضي الوارث بدية أو ديات، فإذا تم ذلك بقي حق المقتول وتخلص من حقّين: حقّ الله بالتّوبة وحقّ الوارث بتسليم نفسه أو بذل ديات حتّى يرضوا وبقي حقّ المقتول وقد تعذر الخلاص منه في دار الدّنيا ثم بعد ذلك يدعو له جهده ويتصدّق له، ثم بعد ذلك إمامته صحيحة وشهادته. وأمّا الولد من آدمي أو بهيمة يؤكل لحما فطاهر إذا عُرِيَ عن الدّم، والماء الخارج عند الولادة طاهر إذا لم يكن فيه دم. وأمّا السّلا فما دام متّصلًا بالحيوان فهو طاهر أيضًا، وكذا إذا عُرِيَ عن الدّم فإن انفصل عن الحيوان فنجس من غير الآدمية، وأمّا من الآدمي فطاهر؛ لأنّ ما أبين من حي فهو كميتته. وأمّا إذا رهن اثنان عينًا في دينين بشرط تقديم أحد الدّينين فالّذي يظهر لي صحّة الرّهن دون الشّرط فيكونان بالسوية في الدّينين ولم أقف فيها على نصّ صريح.

وأمّا إذا استأجر رجل رجلًا يأتي بماله من مكانٍ معيَّن أو غير معيَّنٍ فقبض مالًا صار أمانة بيده له أن يفعل فيه ما يقوم بحفظه مما جرت به العادة. فإذا خاف عليه من ضياعٍ أو ظالمٍ فبذل شيئًا في حفظه وصيانته بما جرت العادة به العادة من الملّاك في أملاكهم وأهل الأموال في أموالهم صحّ وله الرّجوع به على أهل المال. لكن إذا زاد على أجرة المثل ضَمِنَ الزّيادة فقط؛ لأنّه متبرِّع فإن نقد الأجرة من ماله بنيّة الرّجوع وكذلك يرجع. وأمّا إذا استأجر إنسان إنسانًا إلى موضعٍ معيَّن ليأتي له بشيءٍ معيَّنٍ معلومٍ صحّ. فإن لم يجده وتعذر عليه إتيانه بغير تقصيرٍ ولا تفريطٍ فله أجرة عمله ويسقط من الأجرة قدر حمله على المالك إن كان لحمله مؤنة. وإن كان التّقصير من الأجير لم يستحقّ شيئًا وهذا مع صحّة الإجارة وإلّا فله أجرة المثل. والله أعلم. وسئل أيضًا -عفا الله عنه- عمّا إذا لم يكن بالبلد حاكم وغاب الرّاهن أو امتنع من بيع الرّهن أو من وفاء الدّين فماذا يكون؟ وعن المفلس إذا أراد توليج ماله عن غرمائه من الّذي يحجر عليه ويوفي غرماءه إذا امتنع؟ وعمّا إذا أقرّ المفلس أن ما بيدي أو شيئًا معلومًا ممّا بيده لفلان أو لزوجة أو غيرها هل للغرماء اليمين على المقرّ له أنّه ليس بتلجئة أم لا؟ وعمّا إذا كان عند رجل لآخر دين أو وديعة وقال الّذي عنده الدّين أو الوديعة أن الّذي دينني أو أودعني أشهدني أنّه لفلان ومات المالك وقال ورثته: هذا مال مورثنا ولا نعمل بقولك، فهل تصحّ شهادته ويحلف المقرّ له معه أم لا؟ أو يكون المال للورثة، وهل إن صحّ المال للورثة هل

يلزم المودع أو المدين ما أقرّ به للمقرّ أم لا؟ (الجواب وبالله التّوفيق): إذا حلّ الدّين الّذي به رهن وجب على الرّاهن بيعة بطلب المرتهن وإيفاء الدّين من غيره، فإن أبى لزم الحاكم إجباره على ذلك فإن لم يكن حاكم أجبره رئيس القرية بالحبس والضّرب ونحوه ما أمكنه حتّى يبيع ويسلم للمرتهن ثمنه أو حقه، فإن أبى عن البيع وأصرّ وقف الأمر ولا يبيعه المرتهن. وأمّا المفلس فلا يحجر عليه إلا حاكم فإن خصص بعض الغرماء قبل الحجر نفذ تخصيصه لكن يحرم عليه التّخصيص، وإن أقرّ بماله كلّه أو بعضه لغيره أو وهبه صحّ إذا كان المفلس مكلّفا رشيدًا، وليس للغرماء مطالبة المقرّ له أو الموهوب له ولا استحلافه لكن لهم على المدين يمين بالله لا مال له ولا يقدر على الوفاء ولا بعضه انتهى. وأمّا إذا أودع إنسان إنسانًا وديعة وقال هي لفلان صحّ ذلك وقبل قول المودع بلا بينة إن كان الإيداع بلا بيّنة نصّ عليه في حاشية الإقناع قال فيها: (فائدة): قال في الاختيارات: لو قال المودع أودعنيها الميت، وقال هي لفلان، وقال: ورثته بل هي له، ولم تقم بيّنة إنّها كانت للميّت ولا على الإيداع. قال أبو العبّاس: أفتيت أنّ القول قول المودع بيمينه؛ لأنّه قد ثبتت له اليد انتهى كلامه. وأمّا الدّين في الذّمة فلا يقبل قوله أي الّذي هو في ذمّته إذا أقرّ إنّه لفلان وهذا إقرار ممن هو في ذمّته لا شهادة فيلزمه تسليمه لمن أقرّ له به، ويسلم أيضًا ثانية لوارث الميّت إن كان ميتًا وإلّا فلمالكه إن كان حيًا؛ لأنّه أقر به لغير مالكه بلا بينة، وهذا كلّه مع إقراره به أو تصديقه للميّت

رسالة للشيخ عبد العزيز بن عبد الجبار

أنّه لفلان مع إنكار الورثة. وأمّا إن قال: أقرّ الميّت أنّ الدّين الّذي عليّ لفلان ولست مصدقه بما قال، فلا يلزمه شيء للمقرّ له به إذا أنكره الورثة ولم تقرّ به بيّنة، وإن علم الدّين أنّه للمقرّ له به لزمه تسليمه إليه، فإن طالب الوارث به فله الحلف أنّك لا تستحقّ عليّ شيئًا ما لم تقم به بيّنة للميّت، فإن قامت به بيّنة لزمه أيضًا تسليمه إلى الوارث؛ لأنّ المدين يدعي أنّ الورثة ظلموه والله أعلم. ... {رسالة للشّيخ عبد العزيز بن عبد الجبّار} بسم الله الرّحمن الرّحيم. من عبد العزيز بن عبد الجبّار إلى الأخ المكرّم محمّد بن نصر الله -سلّمه الله تعالى-. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد، يا أخي وصل خطك وما ذكرت صار معلومًا وتذكر أنّ الشّيخ ذكر لكم أنّ شركة بيت المال ما تثبت بها الشّفعة، وهذا حقّ؛ لكونه وقفًا والوقف ما يشفع به، ولكن وقت الخصومة ما ذكرتم لي أن الّذي شافع به ابن مهيدب بيت مال، وثبت عندي بعد ذلك أنّه بيت مال فعلى هذا الحال ليس لابن مهيدب شفعة عليكم لشركة بيت المال وما أفتيت به بثبوته الشّفعة له إنا ناقضه لمخالفته نص مذهبنا ليكون لديك معلومًا والسّلام. ... رسالة للشيخ حمد بن عتيق ... رسالة الشّيخ حمد بن عتيق. بسم الله الرّحمن الرّحيم. قال شيخنا حمد بن عتيق في جوابه لمن ناظره في حكم أهل مكّة وما يقال في البلد نفسه. فأجاب بقوله (سبحانك اللهم لا علم لنا إلا ما علّمتنا إنّك أنت العليم الحكيم) جرت المذاكرة في كون مكّة بلد كفر أم بلد إسلام.

فنقول -وبالله التّوفيق-: قد بعث الله محمّدًا -صلّى الله عليه وسلّم- بالتّوحيد الّذي دين جميع الرّسل، وحقيقته هو مضمون شهادة أن لا إله إلّا الله وهو أن يكون الله معبود الخلائق فلا يتعبدون لغيره بنوع من أنواع العبادة، ومخ العبادة هو الدّعاء ومنها: الخوف والرّجاء والتّوكّل والإنابة والذّبح والصّلاة وأنواع العبادة كثيرة، وهذا الأصل العظيم الّذي هو شرط في صحّة كلّ عمل. (والأصل الثّاني): هو طاعة النّبي -صلّى الله عليه وسلّم- في أمره وتحكيمه في دقيق الأمور وجليلها وتعظيم شرعه ودينه والإذعان لأحكامه في أصول الدّين وفروعه: (فالأوّل): ينافي الشّرك ولا يصحّ مع وجوده. (والثّاني): ينافي البدع ولا يستقيم مع حدوثها، فإذا تحقق وجود هذين الأصلين علمًا وعملًا ودعوةً، وكان هذا دين أهل البلد أيّ بلد كان بأن عملوا به ودعوا إليه وكانوا أولياء لمن دان به ومعادين لمن خالفه فهم موحدون. وأمّا إذا كان الشّرك فاشيًا مثل دعاء الكعبة والمقام والحطيم ودعاء الأنبياء والصّالحين، وإفشاء توابع الشّرك مثل الزّنا والرّبا وأنواع الظّلم ونبذ السّنن وراء الظّهر، وفشو البدع والضّلالات وصار التّحاكم إلى الأئمّة الظّلمة ونواب المشركين وصارت الدّعوة إلى غير القرآن والسّنة، وصار هذا معلومًا في أيّ بلد كان فلا يشكّ من له أدنى علم أنّ هذه البلاد محكوم عليها بأنّها بلاد كفر وشرك لاسيّما إذا كانوا معادين أهل التّوحيد وساعين في إزالة دينهم وفي تخريب بلاد الإسلام. وإذا أردت إقامة الدّليل على ذلك وجدت القرآن كلّه فيه، وقد أجمع عليه العلماء فهو معلوم بالضّرورة عند كلّ عالم. وأمّا قول القائل: ما ذكرتم من الشّرك إنّما هو من الأفاقية لا من أهل

البلد، فيقال له أوّلًا: هذا إمّا مكابرة وإمّا عدم علم بالواقع فمن المتقرر أنّ أهل الآفاق تبع لأهل تلك البلاد في دعاء الكعبة والمقام والحطيم كما يسمعه كلّ سامع ويعرفه كلّ موحد. ويقال ثانيًا: إذا تقرر وصار هذا معلوما فذاك كافٍ في المسألة ومن الّذي فرق في ذلك ويا لله العجب إذا كنتم تخفون توحيدكم في بلادهم ولا تقدرون أن تصرحوا بدينكم وتخافتون بصلاتكم لأنّكم علمتم عداوتهم لهذا الدّين وبغضهم لمن دان به فكيف بقع لعاقل إشكال! أرأيتم لو قال رجل منكم لمن يدعو الكعبة أو المقام أو الحطيم ويدعو الرّسول والصّحابة يا هذا لا تدعو غير الله أو أنت مشرك هل تراهم يسامحونه أم يكيدونه؟ فليعلم المجادل أنّه ليس على توحيد الله فوالله ما عرف التّوحيد ولا تحقق بدين الرّسول -صلّى الله عليه وسلّم- أرأيت رجلًا عندهم قائلا لهؤلاء راجعوا دينكم أو اهدموا البناآت الّتي على القبور ولا يحلّ لكم دعاء غير الله هل ترى يكفيهم فيه فعل قريش بمحمّد -صلّى الله عليه وسلّم-؟ لا والله لا والله. وإذا كانت الدّار دار إسلام لأيّ سيء لم تدعوهم إلى الإسلام وتأمروهم بهدم القباب واجتناب الشّرك وتوابعه، فإن يكن قد غركم أنّهم يصلّون أو يحجّون أو يصومون ويتصدّقون، فتأمّلوا الأمر من أوله وهو أنّ التّوحيد قد تقرر في مكّة بدعوة إسماعيل بن إبراهيم الخليل - عليهما السّلام - ومكث أهل مكّة عليه مدّة من الزّمان، ثمّ إنّه فشا فيهم الشّرك بسبب عمرو بن لحي وصاروا مشركين وصارت البلاد بلاد شرك مع أنّه قد بقي معهم أشياء من الدّين، وكما كانوا يحجّون ويتصدّقون على الحاج وغير الحاج.

ولقد بلغكم شعر عبد المطّلب الّذي أخلص فيه قصّة الفيل وغير ذلك من البقايا ولم يمنع الزّمان ذلك من تكفيرهم وعداوتهم، بل الظّاهر عندنا وعند غيرنا أنّ شركهم اليوم أعظم من ذلك الزّمان، بل قبل هذا كلّه أنّه مكث أهل الأرض بعد آدم عشرة قرون على التّوحيد حتّى حدث فيهم الغلوّ في الصّالحين فدعوهم مع الله فكفروا فبعث الله إليهم نوحا -عليه السّلام- يدعو إلى التّوحيد. فتأمل ما قصّ الله عنهم وكذا ما ذكر الله عن هود -عليه السّلام- أنّه دعاهم إلى إخلاص العبادة لله لأنّهم لم ينازعوه في أصل العبادة، وكذلك إبراهيم دعا قومه إلى إخلاص التّوحيد وإلا فقد أقرّوا لله بالآلهة، وجماع الأمر أنّه إذا ظهر في بلد دعاء غير الله وتوابع ذلك واستمرّ أهلها عليه وقاتلوا عليه، وتقرّرت عندهم عداوة أهل التّوحيد وأبوا عن الانقياد للدّين، فكيف لا يحكم عليها بأنّها بلد كفر؟ ولو كانوا لا ينتسبون لأهل الكفر وأنّهم منهم بريؤون مع مسبّتهم لهم وتخطأتم لِمَن دان به والحكم عليهم بأنهم خوارج أو كفّار، فكيف إذا كانت هذه الأشياء كلّها موجودة فهذه مسألة عامّة كلّيّة؟ وأمّا القضايا الجزئية فنقول: قد دلّ القرآن والسّنة على أنّ المسلم إذا حصلت منه موالاة أهل الشّرك والانقياد لهم ارتد بذلك عن دينه. فتأمل قوله تعالى {إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ}. [محمد: 25]. مع قوله: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُم}، [المائدة، من الآية: 51]. وأمعن النّظر في قوله تعالى: {فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ}، [النّساء، من الآية: 140].

رسالة لبعض علماء الرياض

وأدلّة هذا كثيرة ولا تنسوا ما ذكر الله في سورة التّوبة: {لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ}، [التّوبة، من الآية: 66]. وقوله: {وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْر}، [التّوبة، من الآية: 74]. واذكر قوله تعالى: {وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}، [آل عمران: 80]. وتأمل قوله تعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا}، [الحجّ، من الآية: 72]، في موضعين وقد علمت حالهم إذا دعوا إلى التّوحيد انتهى والله أعلم. ... رسالة لبعض علماء الرياض ... {رسالة لبعض علماء المسلمين من أهل الرّياض} بسم الله الرّحمن الرّحيم الحمد لله ربّ العالمين والصّلاة والسّلام على محمّد وآله وصحبه أجمعين. قال ابن القيّم -رحمه الله تعالى- في الهدي النّبوي: (فصل): في حكمه -صلّى الله عليه وسلّم- في قسمة الغنائم حكم -صلّى الله عليه وسلّم- إنّ للفارس ثلاثة أسهم وللرّاجل سهم، هذا حكمه الثّابت عنه في مغازيه كلّها عند الجمهور العلماء، وحكم أنّ السّلب للقاتل ثمّ قال: وقال عبادة بن الصّامت خرجنا مع رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- إلى بدر، فلّما هزم الله العدوّ وتبعتهم طائفة يقتلونهم وأحدقت طائفة برسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- وطائفة استولت على المعسكر والغنيمة فلمّا رجع الّذين طلبوهم قالوا لنا النّقل ونحن طلبنا العدوّ، وقال الّذين أحدقوا برسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- نحن أحقّ به لأنا أحدقنا برسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- أن لا ينال العدوّ غرّته، وقال الّذين استولوا على المعسكر هو لنا نحن حويناه، فأنزل الله تعالى: {يَسْأَلونَكَ عَنِ اْلأَنْفَالِ قُلِ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} [لأنفال، من الآية: 1]، فقسمه رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- عن بواء قبل أن ينْزل {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ

لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ} [الأنفال، من الآية: 41]، اهـ ثمّ قال ابن القيّم في الهدي: (فصل): في حكم النّبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- بالسّلب للقاتل ولم يخمسه ولم يجعله من الخمس بل من أصل الغنيمة وهذا حكمه وقضاؤه. قال البخاري في صحيحه: السّلب للقاتل إنّما هو من غير الخمس وحكم به بشهادة الواحد وحكم به بعد القتل؛ فهذه أربعة أحكام تضمّنها حكمه -صلّى الله عليه وسلّم- بالسّلب لمن قتل قتيلا -ثمّ قال- والصّحيح أنّه يكتفى في هذا بالشّاهد الواحد ولا يحتاج إلى شاهد آخر ولا يمين كما جاءت به السّنّة الصّحيحة الصّريحة الّتي لا معارض لها اهـ. (مسألة): قال في الشّرح الكبير "والسّلب ما كان عليه من ثياب وحلي وسلاح والدّابة بآلتها، وعنه أنّ الدّابة ليست من السّلب ونفقته وخيمته ورحله غنيمة" سلب القتيل ما كان لابسه من ثياب وعمامة وقلنسوة ومنطقة ودرع ومغفر وبيضة وتاج وأسورة وران وخف بما في ذلك من حلية لأنّ المفهوم من السّلب اللّباس، وكذلك السّلاح من السّيف والرّمح واللت والقوس ونحوه؛ لأنّه يستعين به في قتاله فهو أولى بالأخذ من اللّباس. فأمّا المال الّذي معه في هميانه وخريطته فليس بسلب، لأنّه ليس من الملبوس ولا ممّا يستعين به في الحرب وكذلك رحله وإناؤه وما ليست يده عليه -ثمّ قال- واختلفت الرّواية عن أحمد في الدّابة فنقل عنه أنّها ليست من السّلب اختاره أبو بكر؛ لأنّ السّلب ما كان على بدنه والدّابة ليست كذلك فلا تدخل في الخبر -ثمّ قال-: ونقل عنه أنّها من السّلب وهو المذهب وبه قال الشّافعي لما روى عوف بن مالك قال: خرجت مع زيد بن حارثة في غزوة مؤتة ووافقني مددي من أهل اليمن فلقينا جموع الرّوم وفيهم

رجل على فرس أشقر عليه سرج مذهّب وسلاح مذهّب فجعل يغري بالمسلمين وقعد له المددي خلف صخرة فمر به الرومي فعرقب فرسه فعلاه ققتله وحاز فرسه وسلاحه، فلما فتح الله للمسلمين بعث إليه خالد فأخذ منه السلب، قال عوف: فأتيته فقلت: يا خالد أما علمت أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بالسلب للقاتل؟ قال: بلى. رواه الأثرم. وفي حديث شهر بن علقمة أنه أخذ فرسه كذلك، قال أحمد كقوله فيه ولأن الفرس يستعان بها في الحرب فأشبهت السلاح. ثم قال: إذا ثبت هذا فإن الدابة وما عليها من سرجها ولجامها وتحقيبها وحلية إن كانت عليها وجميع آلتها* من السلب لأنه تابع لها ويستعان به في الحرب وإنما تكون من السلب إذا كان راكبًا عليها، فإن كانت في منزله أو مع غيره أو منقلبة لم تكن من السلب كالسلاح الذي ليس معه. ثم قال: وان كان على فرس وفي يده جنيبه لم تكن الجنيبة من السلب لأنه لا يمكنه ركوبهما. ثم قال في الشرح الكبير: {مسألة} (وإن أخذ منهم مال مسلم فأدركه صاحبه قبل قسمه فهو أحق به، وإن أدركه مقسومًا فهو أحق به بثمنه، وعنه لا حق لهم فيه، وإن أخذه منهم أحد الرعية بثمن فصاحبه أحق به بثمنه، وإن أخذه بغير عوض فصاحبه أحق به بغير شيء) إذا أخذ الكفار أموال المسلمين ثم أخذها المسلمون منهم قهرًا، فإن علم صاحبها قبل قسمها ردت إليه بغير شيء في قول عامة أهل العلم منهم عمر رضي الله عنه وسلمان بن ربيعة وعطاء والنخعي والليث والثوري ومالك والأوزاعي والشافعي وأصحاب الرأي. وقال الزهري: لا يرد إليه وهو للجيش، ونحوه عن عمرو بن دينار

_ * في الأصل المطبوع: (آلهتها)، والتصويب من "الشرح الكبير على متن المقنع". [معد الكتاب للمكتبة الشاملة]

لأنّ الكفّار ملكوه بالاستيلاء فصار غنيمة كسائر أمولهم. ولنا ما روى ابن عمر أن غلامًا له أبق إلى العدوّ فظهر عليه المسلمون فردّه النّبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- إلى ابن عمر ولم يقسمه، وعنه قال ذهب فرس له فأخذها العدوّ فظهر عليه المسلمون فردّ عليه في زمن النّبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- رواهما أبو داود. وعن رجاء بن حيوة أنّ أبا عبيدة كتب إلى عمر بن الخطّاب فيما أحرز المشركون من المسلمين ثمّ ظهر المسلمون عليهم بعد، قال من وجد ماله بعينه فهو أحقّ به مالم يقسم. رواه سعيد والأثرم، وكذلك إن علم الإمام بمال مسلم قبل قسمه فقسمه وجب ردّه وصاحبه أحقّ به بغير شيء -ثمّ قال-: (فصل): فإن أخذه أحد الرّعية نهبة أو سرقة أو بغير شيء فصاحبه أحقّ به بغير شيء -ثمّ قال-: ولنا ما روي أنّ قومًا أغاروا على سرح النّبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- فأخذوا ناقة وجارية من الأنصار فأقامت عندهم أيّامًا ثمّ خرجت في بعض اللّيل قالت فما وضعت يديّ على ناقة الأرغب قالت حتّى وضعتها على ناقة ذلول فامتطيتها ثمّ توجّهت إلى المدينة ونذرت أن نجاني الله عليها أن أنحرها، فلمّا قدمت المدينة إستعرفت النّاقة فإذا هي ناقة رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- فأخذها فقلت يا رسول الله إنّي نذرت أن أنحرها، قال: "بئسما جازيتها لا نذر في معصية الله" وفي رواية "لا نذر لابن آدم فيما لا يملك" أخرجه مسلم، ولأنّه لم يحصل في يده بعوض فكان صاحبه أحقّ به بغير شيء كما لو أدركه في الغنيمة قبل القسمة انتهى. وهذا عام في كلّ مال مسلم أخذ من العدوّ سواء ذهب إليهم من الغزو أو أخذه منهم أو من بلادهم ثمّ قال في الشّرح الكبير:

(مسألة): وإذا أراد القسمة بدأ بالأسلاب فدفعها إلى أهلها فإن كان فيها مال مسلم دفعه إليه؛ لأنّ صاحبه متعين؛ ولأنّه استحقه بسبب سابق ثمّ بمؤنة الغنيمة، من أجرة النّقال والجمال والحافظ والمخزن والحاسب؛ لأنّه لمصلحة الغنيمة، ثمّ بالرّضخ في أحد الوجهين؛ لأنّه استحق بالمعاونة في تحصيل الغنيمة أشبه أجرة النّقالين والحافظين وفي الآخر يبدأ بالخمس قبله؛ لأنّه استحق بحضور الوقعة وهذا أقيس. ثمّ قال ويرضخ لمن لا سهم له وهم العبيد والنّساء والصّبيان، ومعنى الرّضخ أن يعطوا شيئًا من الغنيمة دون السّهم ولا تقدير فيما يعطونه بل ذلك إلى اجتهاد الإمام فإن شاء التّسوية بينهم سوَّى، وإنّ رأي التّفضيل فَضَّلَ. وهذا قول أكثر العلماء -ثمّ قال-. (مسألة): وإن غزا العبد على فرس لسيّده قسم للفرس ورضخ للعبد - ثمّ قال: وقال أبو حنيفة والشّافعي: لا يسهم للفرس لأنّها تحت من لا يسهم له فلم يسهم له كما لو كانت تحت مخذل، ولنا أنّه فرس حضر الوقعة وقوتل عليه فأسهم له كما لو كان السّيّد راكبه، إذا ثبت هذا فإنّ سهم الفرس ورضخ العبد لسيّده لأنّه مالكه ومالك فرسه سواء حضر السّيّد القتال أو غاب عنه -ثمّ قال-: أجمع أهل العلم على أنّ للغانمين أربعة أخماس الغنيمة، وقد دلّ النّص على ذلك بقوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} [الأنفال، من الآية:41]، يفهم منه أنّ أربعة أخماسها الباقية لهم؛ لأنّه أضافها إليهم ثمّ أخذ منها سهمًا لغيرهم فبقي سائرها لهم ويقسم بينهم للرّاجل سهم وللفارس ثلاث أسهم سهم له وسهمان لفرسه -ثمّ قال-: قال ابن المنذر: أجمع كلّ من نحفظ عنه من أهل العلم على أنّ من غزا على بعير فله سهم راجل، كذلك قال الحسن ومكحول والثّوري والشّافعي وأصحاب الرّأي، وهو الصّحيح إن شاء الله

تعالى؛ لأنّ النّبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- لم ينقل عنه أنّه أسهم لغير الخيل من البهائم ولو أسهم لها لنقل وكذلك بعد النّبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- من خلفائه وغيرهم مع كثرة غزواتهم لم ينقل عن أحد منهم فيما علمنا أنّه أسهم لغير الخيل، قال في الشّرح الكبير وهي لمن شهد الوقعة من أهل القتال قاتل أو لم يقاتل وقال فيه أيضا ومن بعثه الإمام لمصلحة الجيش مثل الرّسول والدّليل والجاسوس وأشباههم فإنّه يسهم له وإن لم يحضر لأنّه لمصلحة الجيش أشبه السّريّة. قال أحمد: إذا غنم المسلمون غنيمة فلحقهم العدوّ وجاء المسلمين مدد فقاتلوا العدوّ معهم حتّى سلموا الغنيمة فلا شيء لهم من الغنيمة؛ لأنّهم قاتلوا عن أصحابهم دون الغنيمة؛ لأنّ الغنيمة قد صارت في أيديهم وحووها. قيل له فإن أهل المصيصة غنموا ثمّ استنقذ منهم العدوّ فجاء أهل طرسوس فقاتلوا معهم حتّى استنقذوه؟ فقال: أحب أن يصطلحوا. أمّا في الصّورة الأولى فإنّ أهل الغنيمة قد أحرزوها وملكوها بحيازتها فكانت لهم دون من قاتل معهم. وأمّا في الصّورة الثّانية فإنّما حصلت الغنيمة بقتال الّذين استنقذوها في المرّة الثّانية فينبغي أن يشتركوا فيها؛ لأنّ الإحراز الأوّل قد زال يأخذ الكفّار لها. ويحتمل أنّ الأوّلين قد ملكوها بالحيازة الأولى ولم يزل ملكهم بأخذ الكفّار لها منهم فلهذا أحبّ أحمد أن يصطلحوا على هذا انتهى ملخصًا من الشّرح الكبير. وقال في الشّرح الكبير أيضا: والنّفل في الغزو ينقسم ثلاثة أقسام: (أحدها): هذا وهو أنّ الإمام أو نائبه إذا دخل دار الحرب غازيا بعث بين يديه سريّة تغيّر على العدوّ ويجعل لهم الرّبع بعد الخمس فما قدمت به السّريّة أخرج خمسه وأعطى السّريّة ما جعل لهم وهو ربع الباقي وقسم ما بقي

رسالة لبعض علماء نجد

في الجيش والسّريّة معًا فإذا قفل فبعث سريّة تغيّر وجعل لهم الثّلث بعد الخمس فما قدمت السّريّة أخرج خمسه ثمّ أعطى السّريّة ثلث ما بقي ثمّ قسم سائره في الجيش والسّريّة معه. (القسم الثّاني): أن ينفل الإمام بعض الجيش لعنائه وعنايته وبأسه أو لمكروه تحمله دون سائر الجيش. (القسم الثّالث): أن يقول الأمير: من طلع هذا الحصن أو هدم هذا السّور أو نقب هذا النّقب أو فعل كذا فله كذا، أو من جاء بأسير فله كذا، فهذا جائز في قول أكثر أهل العلم. انتهى ما نقلته من الشّرح الكبير رحم الله مؤلّفه، فظهر ممّا نقل الجواب عن المسائل المسؤول عنها وبيان حكمها. وأمّا من منع إنسانا من العدوّ وأمنه على أن يعطيه فرسه أو بعيره أو سلاحه أو ما معه فالظّاهر أنّه لا يستحقّه وحده إلّا أن يجعله الإمام له وإلّا فيجعل مع الغنيمة والله أعلم. وصلّى الله على محمّد وآله وصحبه وسلّم. وقال في الشّرح الكبير: (مسألة) وإذا لحق مدد وجاء أسير وأدركوا الحرب قبل تقضيها أسهم لهم وإن جاؤوا بعد إحراز الغنيمة فلا شيء لهم. ... رسالة لبعض علماء نجد ... {رسالة لبعض علماء المسلمين أهل نجد} بسم الله الرّحمن الرّحيم (مسألة): هل يجوز إطلاق لفظة تبارك على غير الله مثل من قول تبارك علينا فلان أو تباركت الدّابة ونحو ذلك وهل هو دعاء أو إخبار فلا يمنع منه أو صفة من الصّفات فلا تطلق إلا على الله؟ (الجواب): الحمد لله هذه المسألة قد كفانا جوابها شمس الدّين ابن القيّم -رحمه الله تعالى- في بدائع الفوائد بأوضح عبارة وأبيّنها لمن أراد الإنصاف

وسلم من التّعصب والاعتساف وصرف المعاني عن حقائقها إلى مالا تدلّ عليه ولا تفهم منه قال -رحمه الله-: (فصل): وأمّا البركة فهي نوعان أحدها بركة هي فعله تبارك وتعالى، والفعل من بارك يتعدّى بنفسه تارة وبأداة على تارة وبأداة في تارة والمفعول منها مبارك وهو ما جعل كذلك فكان مباركًا بجعله تعالى. (والنّوع الثّاني): بركة تضاف إليه تعالى إضافة الرّحمة والعزّة والفعل منها تبارك ولهذا لا يقال لغيره ذلك ولا يصلح إلّا له -عزّ وجلّ- فهو سبحانه المتبارك وعبده ورسوله المبارك وذلك كما قال المسيح: {وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ} [مريم، من الآية:31] , فما بارك الله فيه وعليه فهو المبارك. وأمّا صيغة تبارك فمختصة به تعالى كما أطلقها على نفسه بقوله: {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون، من الآية: 14]، {وَتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا} [الزخرف، من الآية: 85]، {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ} [الفرقان، من الآية: 1]، {تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ} [الفرقان، من الآية: 10]، {تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ} [الفرقان، من الآية: 10]، {تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا} [الفرقان، من الآية: 61]، أفلا تراها كيف أطردت في القرآن جارية عليه مختصّة به لا تطلق على غيره وجاءت على بناء السّعة والمبالغة كتعالى وتعاظم ونحوه فجاء بناء تبارك على بناء تعالى الّذي هو دال على كمال العلوّ ونهايته؛ فكذلك تبارك دال على كمال بركته وعظمتها وسعتها، وهذا معنى قول من قال من السّلف تبارك تعاظم، وقال آخر: إن مجيء البركات من قبله، فالبركة كلّها منه وقال غيره: كثرة خيره وإحسانه إلى خلقه، وقيل: اتّسعت رأفته ورحمته بهم، وقيل: تزايد على كلّ شيء وتعالى عنه في صفاته وأفعاله، ومن هنا قيل: معناه تعالى وتعاظم، وقيل: تبارك تقدس وطهر الطّهارة، وقيل: تبارك أي: اسمه مبارك في كلّ شيء، وقيل: تبارك ارتفع المبارك المرتفع ذكره البغوي.

وقيل: تبارك أي: البركة تكتسب وتنال بذكره، وقال ابن عبّاس حاز كلّ بركة وحقيقة اللّفظة أنّ البركة كثرة الخير ودوامه ولا أحقّ بذلك وصفًا وفعلًا منه تبارك وتعالى، وتفسير السّلف يدور على هذين المعنيين وهما متلازمان لكن الأليق باللّفظ معنى الوصف لا الفعل؛ فإنّه فعل لازم مثل تعالى وتقدس وتعاظم، ومثل هذه الألفاظ لا يصحّ أن يكون معناها أنّه جعل غيره عاليًا ولا قدوسًا ولا عظيمًا وهذا ممّا لا يحتمله اللّفظ بوجه وإنّما معناها في نفس من نسبت إليه وهو المتعالي المتقدّس في نفسه، فكذلك تبارك لا يصحّ أن يكون معناها بارك في غيره وأين أحدهما من الآخر لفظًا ومعنى هذا لازم، وهذا متعد فقد علمت أنّ مَن فسّر تبارك بمعنى ألقى البركة وبارك في غيره لم يصب معناها، وإن كان هذا من لوازم كونه تعالى متباركا، فتبارك من باب مجد، والمجد صفات الجلال والكمال والسّعة والفضل، وبارك من باب أعطى وأنعم. ولمّا كان المتعدّي في ذلك يستلزم الّلازم من غير عكس فسّر من فسّر من السّلف اللّفظة بالتّعدي لينتظم المعنيين فقال مجيء البركة كلّها من عنده أو البركة كلّها من قبله، وهذا فرع على تباركه في نفسه وتدبّر النّبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- في حديث ثوبان الّذي رواه مسلم في صحيحه عند انصرافه من الصّلاة: "اللهمّ أنت السّلام ومنك السّلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام"، فتأمّل هذه الألفاظ الكريمة كيف جمعت نوعي الثّناء أعني ثناء التّنْزيه والتّسبيح، وثناء الحمد والتّحميد بأبلغ لفظ وأوجزه وأتمّه معنى فأخبر أنّه السّلام ومنه السّلام، فالسّلام له وصفًا وملكًا، وقد تقدّم بيان هذا في وصفه تعالى بالسّلام، وأنّ صفات كماله ونعوت جلاله وأفعاله وأسمائه كلّها سلام. وكذا الحمد كلّه له

رسالة للشيخ محمد بن أحمد بن محمد القصير

وصفًا وملكًا فهو المحمود في ذاته وهو الّذي بجعل من يشاء من عباده محمودًا. وكذلك العزّة كلّها له وصفًا وملكًا، وهو العزيز الذّي لا شيء أعزّ منه ومن عزّ من عباده فبإعزازه له. وكذلك الرّحمة كلّها له وصفًا وملكًا. وكذلك البركة فهو المتبارك في ذاته والّذي يبارك فيمن يشاء من خلقه، وعليه فيصير بذلك مباركًا: {فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِين} [غافر: من الآية: 64]، {وَتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَاْلأرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [الزّخرف، الآية: 85]، وهذا البساط إنّما هو غاية معارف العلماء الّذين من أهل حواشيه وأطرافه. وأمّا ما وراء ذلك فكما قال أعلم الخلق وأقربهم إلى الله وأعظمهم عنده جاها "لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك" وقال في حديث الشّفاعة الطّويل: "فأخر ساجدًا لربّي فيفتح عليّ من محامده بما لا أحسنه الآن" وفي دعاء الهمّ والغمّ "أسألك بكلّ اسم هو لك سمّيت به نفسك أو أنزلته في كتابك أو علّمته أحدًا من خلقك أو استأثرت به في علم الغيب عندك"، فدل على أنّ لله سبحانه أسماء وصفات استأثر بها في غيبه دون خلقه لا يعلمها ملك مقرب ولا نبيّ مرسل، وحسبك الإقرار بالعجز والوقوف عند ما أذن لنا فيه من ذلك، فلا نغلو فيه ولا نجفو عنه. وبالله التّوفيق انتهى وصلّى الله على سيّدنا محمّد وعلى آله وسلّم. ... رسالة للشيخ محمد بن أحمد بن محمد القصير ... {رسالة الشّيخ محمد بن أحمد بن محمّد القصير} بسم الله الرّحمن الرّحيم من محمّد بن حسن بن شبانة إلى جناب الشّيخ المكرّم محمّد بن أحمد بن محمّد القصير -سلّمه الله تعالى-. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

وبعد، أشكل علينا مسائل: منها: بيّنة الإكراه هل هي مقدّمة على بيّنة الطّواعية أم لا؟ وذاكرت فيها الشّيخ عمي فقال إذا كانت البيّنتان على إقرار قدّمت بيّنة الإكراه وإن كانتا على عقد بيع قدّمت بيّنة الطّواعية، هكذا قال فإن ظفرت فيها بجواب فأفد به أخاك جزيت خيرًا. (الثّانية): وقع في القصيم خصومة وهي رجل خلع زوجته بحضرة شاهدين لكن الّذي بذل العوض أحد الشّاهدين فقال ابن عضيب تصحّ شهادة الّذي بذل العوض وإن لم تصحّ حلفت ضرّتها وأخذت المال لأنّه المقصد وذلك بعد موت الزّوج فنازعه آل زامل في ذلك، ووصلت إلى العارض أسئلة ابن عضيب فقال فيها الشّيخ أحمد: إمّا أنّها تحلف مع الشّاهد فلا يتصوّر، وأمّا شهادة الّذي بذل العوض فلا عندي فيها شيء إلّا ما قال في آخر باب شروط من تقبل شهادته. قوله: وتقبل شهادة الشّخص على فعل نفسه الخ، وهو مترجّح عنده الصّحة لكن توقف عنها، وأمّا آل سليمان فجزموا بأنّها لا تصحّ وإنّ ما قال في باب شروط من تقبل شهادته محصور على الحاكم والقاسم والمرضعة فقط فإن رأيت فيها شيئًا فنبّهنا عليه. (وغير ذلك) رجل دفع إلى آخر أحمرين، وقال: ادفعهما إلى زيد مضاربة فلمّا حضروا للمحاسبة قال الدّافع للعامل دفعت لك أحمرين لفلان ودفعت لك سبعة من مالي ضاربتك عليها فأنكر العامل الأحمرين وأقرّ بالسّبعة، فهل إذا حلف العامل أنّه لم يصل إليه سوى السّبعة تقبل يمين الدّافع أنّه دفع للعامل أحمرين وأنّ هذه السّبعة له ولا شيء لصاحب الأحمرين أم كيف الحكم؟ أفتنا أثابك الله الجنّة والسّلام. الحمد لله وعليكم السّلام ورحمة الله وبركاته. وبعد، فاعلم أنّ بيّنة

رسالة لبعض علماء الدرعية

الإكراه مقدّمة على بيّنة الطّواعية؛ لأنّ معها زيادة علم ولم يظهر لي الفرق بين ذلك في الإقرار دون العقد. وأمّا شهادة الدّافع للعوض الباذل له في الخلع فلا تصحّ؛ لأنّه يشهد على تصرّفه بنفسه في حل عقد النّكاح. وقولهم في المرضعة والقاسم والحاكم فمختصّ بذلك، والقول قول الوكيل في دفع الأحمرين إلى فلان، وأنّه دفع إذا كان أمانة فإن اتّهم حلف، والقول قوله أيضًا في سبعة الحمران أنّها له؛ لأنّه أمين ولا يعرف ذلك إلّا من جهته، فإن حلف العامل أنّه لم يدفع إليه أحمرين سوى السّبعة ولا شيء منهما ذهب المال على المالك والله أعلم. ... {رسالة لبعض علماء الدّرعية} بسم الله الرّحمن الرّحيم (المسألة الأولى): الرّكن والسّنّة في قول التّنقيح في واجبات الصّلاة وركوع مأموم أدرك إمامه راكعا فركن وسنّة. (الجواب): اعلم وفقك الله أنّ المأموم إذا لم يدرك الإمام إلّا في ركوع فإنّه يكبّر معه للإحرام ثمّ يركع معه؛ لأنّ تكبيرة الإحرام ركن مطلقًا وتكبيرة الرّكوع في هذه الحال سنّة لا واجب؛ لا اجتزاء عنها بتكبيرة الإحرام، ووجهه أنّه اجتمع عبادتنان من جنس واحد في محل فأجزأ الرّكن عن الواجب؛ كطواف الزّيارة والوداع، وفيما سوى هذه الصّورة تكبيرة الرّكوع واجبة وهنا ليس إلّا ركن وسنّة فقط. (المسألة الثّانية): عن قوله في الإقناع في الشّفعة: وإن نما عنده نماء متّصلًا كشجر كبر وطلع لم يؤبر تبعه في عقد وفسخ هل للشّفيع أخذ النّماء المتّصل إذا كان سببه مال المشتري الخ.

رسالة للشيخ محمد بن عمر بن سليم

(الجواب): المجزوم به عند جمهور الحنابلة أنّ النّماء المتّصل كالشّجر يكبر وطلع لم يؤبر يتبع في الأخذ بالشّفعة والرّد بالعيب فيكون ملكًا للشّفيع قال في الإنصاف قاله الأصحاب منهم القاضي في المجرد وابن عقيل في الفصول، والمصنّف في المغني، والكافي والشّرح وغيرهم اهـ. وفي شرح الإقناع كالرّد بالغيب فيأخذه الشّفيع بزيادته، لا يقال: فلم لا يكون حكمه حكم الزّوج إذا طلق قبل الدّخول؛ لأنّ الزّوج يقدر على الرّجوع بالقيمة إذا فاته الرّجوع في العين وهذا يسقط حقّه منها إذا لم يرجع في الشّقص فافترقا انتهى. فهذا كلام فقهاء الحنابلة ولم يحك في الإنصاف خلافًا في المذهب، لكن إذا قاسوه على الرّد بالغيب فأبو العبّاس ابن تيمية اختار هناك أنّ النّماء المتّصل كالمنفصل يكون للمشتري لا للبائع وقال: نصّ عليه أحمد في رواية ابن منصور، قال في الإنصاف: فعلى هذا يقوم على البائع انتهى، أي في الرّد بالعيب ولا يبعد قياس مسألتنا عليه. إنّي أتوقف عن الإفتاء في هذه المسألة والله أعلم. ... {رسالة للشّيخ محمّد بن عمر بن سليم} بسم الله الرّحمن الرّحيم. ما قولكم -وفقكم الله- في رجل خرج من بيته بعد ما ارتفعت الشّمس فلقيه رجل آخر فقال له أنّه لم يصل الصبح حتّى الآن، قال له ما منعك عن الصّلاة؟ قال إنّه كانت عليه جنابة وكان الماء باردًا فلم يغتسل ثمّ مضى في شأنه حتّى كاد أن يدخل وقت الظّهر ما يجب عليه وما يقال فيه؟ وفي رجل لقيه رجل آخر يريد أن يسلم عليه فقال: له ألا تركت السّلام

علينا حتّى نرجع من السّفر علينا غبار المسلمين نهلهل عليك وكان سفره لبلد الرّياض وقصده الاستهزاء صريحًا ما يقال في مثل هذا أنفاق أم كفر أم دون ذلك؟ أفتونا مأجورين. الحمد لله الجواب وبالله التّوفيق: (المسألة الأولى): نقول هذا الرجل الّذي أخر صلاة الفجر إلى قريب الظّهر مخطيء آثم؛ لأنّ تأخير الصّلاة عن وقتها حرام باتفاق العلماء. قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- اتّفق المسلمون كلّهم على أن عليه أن يصلي الظّهر والعصر بالنّهار، ويصلّي الفجر قبل طلوع الشّمس لا يترك ذلك لصناعة ولا لصيد ولا لهو ولا زراعة ولا لجنابة ونجاسة ولا غير ذلك، والنّبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- أخر صلاة العصر يوم الخندق لاشتغاله بجهاد الكفّار ثمّ صلاها بعد المغرب فأنزل الله تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى} [البقرة، من الآية: 238]، صلاة العصر. ولهذا قال جمهور العلماء إنّ ذلك التّأخير منسوخ لهذه الآية فلم يجز تأخير الصّلاة حال القتال بل أوجبوا عليه الصّلاة في الوقت حال القتال هذا مذهب مالك والشّافعي وأحمد في المشهور عنه، وعن أحمد رواية أخرى يخيّر حال القتال بين الصّلاة وبين التّأخير، ومذهب أبي حنيفة يشتغل بالقتال ويصلّي بعد الوقت. وأمّا تأخير الصّلاة لغير الجهاد لصناعة أو زراعة أو عمل أو صيد فلا يجوز ذلك عند أحد من العلماء، بل قال الله -سبحانه وتعالى- {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ} [الماعون، الآيتان: 4 - 5]، قال طائفة من السّلف هم الّذين يؤخرونها عن وقتها، وقال بعضهم هم الّذين لا يؤدونها على وجه المأمور به، وإن

صلوها في الوقت فتأخيرها عن الوقت حرام باتفاق العلماء، والعلماء متّفقون على أنّ تأخير صلاة اللّيل إلى النّهار وتأخير صلاة النّهار إلى اللّيل بمنْزلة تأخير شهر رمضان إلى شوّال، وإنّما يعذر بالتّأخير النّائم والنّاسي كما قال النّبيّ -صلّى الله عليه وسلّم-: "من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها لا كفارة لها إلّا ذ لك". وأمّا الجنب والمحدث ومَن عليه نجاسة إذا عدم الماء أو خاف الضّرر باستعماله لمرض أو برد فإنّه يتيمّم ويصلّي في الوقت وجوبًا ولا يؤخر الصّلاة حتّى يصلّي في غير الوقت باغتسال، قال النّبيّ -صلّى الله عليه وسلّم-: "الصّعيد الطّيّب طهور المسلم ولو لم يجد الماء عشر سنين، فإذا وجدت الماء فامسه بشرتك فإنّه خير لك" فكلّ ما يباح بالماء يباح بالتّيمّم عند عدم الماء أو عدم القدرة على استعماله، فإذا تيمم للصّلاة يقرأ القرآن داخل الصّلاة وخارجها وإن كان جنبًا. وقال شيخ الإسلام تقيّ الدّين -رحمه الله تعالى- أيضًا: ومن امتنع عن الصّلاة بالتيمّم فإنّه من جنس اليهود والنّصارى، فإنّ التيمّم إنّما أبيح لهذه الأمّة خاصة كما قال النّبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- في الحديث الصّحيح: "فضلنا على النّاس بثلاث: جعلت صفوفنا صفوف الملائكة، وجعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي". قال: وممّا يزيد ما تقدّم وضوحًا قول النّبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- لعمران بن حصين: "صل قائمًا فإن لم تستطع فقاعدًا، فإن لم تستطع فعلى جنب". فتبيّن بهذا أنّ المريض يصلّي في الوقت على حسب حاله قاعدًا أو على جنب إذا كان القيام يزيد في مرضه، ولا يصلّي بعد خروج الوقت قائمًا هذا ممّا اتّفق عليه العلماء، وهذا كلّه لأنّ

فعل الصّلاة في وقتها فرض والوقت آكد فرائض الصّلاة؛ كما أنّ صيام شهر رمضان أوجب في وقته ليس لأحد أن يؤخّره عن وقته، لكن يجوز الجمع بين الظّهر والعصر بعرفة وبين المغرب والعشاء وبين الظّهر والعصر عند كثير من العلماء للسّفر والمرض ونحو ذلك من الأعذار. وأمّا تأخير صلاة النّهار إلى اللّيل واللّيل إلى النّهار والفجر بعد طلوع الشّمس فلا يجوز لمرض ولا لسفر ولا لشغل ولا صناعة باتّفاق العلماء، قال عمر -رضي الله عنه-: الجمع بين الصّلاتين لغير عذر من الكبائر، وفي وصيّة أبي بكر لعمر -رضي الله عنهما-: إنّ لله حقّا بالنّهار لا يقبله باللّيل، وحقّا باللّيل لا يقبله بالنّهار. ومن ظنّ أنّ الصّلاة بعد خروج الوقت بالماء خير من الصّلاة في الوقت بالتّيمّم فهو جاهل ضال. انتهى كلام الشّيخ -رحمه الله تعالى-. وأمّا حكم تارك الصّلاة فقال في الإقناع وشرحه: ومَن جحد وجوبها كفر، فإن تركها تهونًا أو كسلًا لا جحودًا دعاه الإمام أو نائبه إلى فعلها لاحتمال أن يكون تركها لعذر يعتقد سقوطها به كالمرض ونحوه، ويهدّده فإن أبى أن يصلّيها حتّى تضايق وقت الّتي بعدها وجب قتله لقوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} إلى قوله تعالى: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} [التّوبة، من الآية: 5]. فمتى ترك الصّلاة لم يأت بشروط التّخلية فيبقى على إباحة القتل ولقوله -صلّى الله عليه وسلّم-: "من ترك الصّلاة متعمّدًا فقد برئت ذمّة الله ورسوله"، رواه الإمام أحمد عن مكحول وهو مرسل جيّد ولا يقتل حتّى يستتاب ثلاثة أيّام كمرتدّ نصًّا، فإن تاب بفعلها وإلّا قتل بضرب عنقه بالسّيف لكفره

لما روى جابر مرفوعًا: "بين الرّجل وبين الكفر ترك الصّلاة" رواه مسلم وروى بريدة مرفوعًا: "من تركها فقد كفر" رواه الخمسة انتهى. قال منصور في شرح المنتهى: ولا قتل ولا تكفير قبل الدّعاية ولم يقتل بترك الأولى لأنّه لا يعلم أنّه عزم على تركها إلّا بخروج وقتها، فإذا خرج علم تركه لها لكنّها فاتته لا يقبل بها، فإذا تضايق وقت الثّانية وجب قتله اهـ، قلت: هذا أحد الوجهين في المذهب، وعنه يجب قتله إذا أبى حتّى يتضايق وقت أوّل صلاة بعدها اختار هذا القول المجد وصاحب مجمع البحرين قال في الفروع وهو أظهر. وقال ابن رجب -رحمه الله تعالى-: ظاهر كلام أحمد وغيره من الأئمّة الّذين يرون كفر تارك الصّلاة أنّ من تركها يكفر بخروج الوقت عليه ولم يعتبروا أن يستتاب ولا أن يدعى إليها، وعليه يدّل كلام المتقدّمين من أصحابنا كالخرقي وأبي بكر وابن أبي موسى، ثمّ استدلّ لذلك بالأحاديث الّتي فيها ذكر تارك الصّلاة كقوله: "بين الرّجل وبين الكفر ترك الصّلاة" وحديث: "العهد الّذي بيننا وبينهم الصّلاة فمن تركها فقد كفر" اهـ كلام ابن رجب -رحمه الله تعالى-. وقال الشّيخ أحمد بن حجر الهيتمي الشّافعي في التّحفة: إنّ ترك الصّلاة جاحدًا وجوبها كفر بالإجماع، أو تركها كسلًا مع اعتقاد وجوبها قتل لآية {فَإِنْ تَابُوا} وخبر: "أمرت أن أقاتل النّاس"، فإنّهما شرطان في الكفّ عن القتل والمقاتلة؛ الإسلام وإقامة الصّلاة وإيتاء الزّكاة. إلى آخر كلامه -رحمه الله-. هذا ما أمكن نقله من كلام العلماء على هذا السّؤال وما تحتمله هذه الورقة. (وأمّا المسألة الثّانية): فقائل الكلام الّذي ذكرتم يتهم بكلامه هذا

ويخاف عليه من النّفاق فلو هجر هذا القائل كان هجره عندي مناسبًا بشرط أن يكون في هجره مصلحة. قال الإمام أحمد -رحمه الله تعالى-: إنّما هجر النّبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- الثّلاثة لأنّه اتّهمهم بالنّفاق فكذا كلّ من خفنا عليه اهـ. وأمّا إطلاق الكفر والنّفاق بمجرّد كلامه ذلك فلا أتجاسر عليه؛ لأنّ كلامه ليس بصريح بسب الدّين ولا الاستهزاء به ولا بِمَن قام به، قال بعض العلماء في قول النّبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- في الأنصار: "لا يحبهم إلّا مؤمن ولا يبغضهم إلّا منافق"، قال: فمن أبغض من قام بنصرة دين الله أو سنّة نبيّه -صلّى الله عليه وسلّم- استحقّ هذا الوصف، وأمّا من يبغض بعضًا دون بعض فقد يكون ذلك لسبب غير الدّين. قال شيخ الإسلام: اختلف العلماء فيمن يسبّ الصّحابة على قولين: قيل بكفرهم وقيل بفسقهم. توقف أحمد في كفره وقتله، وقال: يعاقب ويجلّد ويحبس حتّى يموت أو يرجع عن ذلك. قال: وهذا هو المشهور من مذهب مالك اهـ. هذا كلامهم في الّذي يسبّ أصحاب رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- الّذين أثنى الله عليهم ورضي عنهم فغيرهم دونهم، ولم يقل أحد من العلماء -رحمهم الله- بكفر من سبّ غيرهم ولا قتله، ولهذا قال الأصحاب من سبّ إمامًا عدلًا أو عدلًا غيره عزر فبذلك يظهر الجواب عن السؤال والله أعلم. {تمّ القسم الثّالث} (من الجزء الأوّل من مجموعة الرّسائل والمسائل النّجديّة) (وبتمامه يتمّ الجزء الأوّل والحمد لله في البدء والختام)

القسم الأول: كتاب الإيمان، ورسائل الشيخ عبد الرحمن بن حسن ابن شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب

كتاب الإيمان والرد على أهل البدع هذه فوائد مجموعة تشتمل على شيء من تقريرات العلامة الشيخ عبد الرحمن بن حسن بن شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب إمام الدعوة، عفى الله عنهم

الفائدة الأولى: الكلام في الإسلام والإيمان

كتاب الإيمان والرد على أهل البدع، وملحقاته ... بسم الله الرحمن الرحيم وبه أستعين وعليه أتوكل الفائدة الأولى: الكلام في الإسلام والإيمان في مقامات (الأول) فيما دل عليه حديث عمر رضي الله عنه في سؤال جبريل -عليه السلام- للنبي صلى الله عليه وسلم بقوله: "أخبرني عن الإسلام، فقال: الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله" ... الحديث "قال: أخبرني عن الإيمان، قال: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله وباليوم الآخر وبالقدر خيره وشره"1. فأخبر أن الإسلام هو الأعمال الظاهرة، والإيمان يفسر بالأعمال الباطنة، وبذلك يفسر كل منهما عند الاقتران، فإذا أُفْرِدَ الإيمان -كما في كثير من آيات القرآن- دخل فيه الأعمال الظاهرة والباطنة كما دل على ذلك كثير من الآيات والأحاديث، كقوله -تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ} [سورة النساء آية: 136] ... الآية. فتناولت الآية جميع الأعمال الباطنة والظاهرة لدخولها في مسمى الإيمان. وأما الأركان الخمسة فهي جزء مسمى الإيمان، ولا يحصل الإسلام على الحقيقة إلا بالعمل بهذه الأركان والإيمان بالأصول الستة المذكورة في الحديث. وأصول الإيمان المذكورة تتضمن الأعمال الباطنة والظاهرة؛ فإن

_ 1 مسلم: الإيمان (8) , والترمذي: الإيمان (2610) , والنسائي: الإيمان وشرائعه (4990) , وأبو داود: السنة (4695) , وابن ماجه: المقدمة (63) , وأحمد (1/ 51,1/ 52).

الإيمان بالله يقتضي محبته وخشيته وتعظيمه وطاعته بامتثال أمره وترك نهيه، وكذلك الإيمان بالكتب يقتضي العمل بما فيها من الأمر والنهي؛ فدخل هذا كله في الأصول الستة. ومما يدل على ذلك قوله -تعالى-: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا} [سورة الأنفال آية: 2] إلى قوله: {أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا} [سورة الأنفال آية: 4]. فدلت هذه الآيات على أن الأعمال الظاهرة والباطنة داخلة في مسمى الإيمان كقوله -تعالى-: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [سورة الحجرات آية: 15] فانتفاء الشك والريب من الأعمال الباطنة، والجهاد من الأعمال الظاهرة، فدل على أن الكل إيمان. ومما يدل على أن الأعمال من الإيمان قوله -تعالى-: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} 1 أي: صلاتكم إلى بيت المقدس قبل تحويل القبلة إلى الكعبة. ونظائر هذه الآية في الكتاب والسنة كثيرة كقوله صلى الله عليه وسلم في حديث وفد عبد القيس: "آمركم بالإيمان بالله وحده، أتدرون ما الإيمان بالله وحده؟ شهادة ألا إله إلا الله، وأني رسول الله، وتقيموا الصلاة، وتؤتوا الزكاة، وتؤدوا خمس ما غنمتم"2، ففسر الإيمان بالأعمال الظاهرة، لأنها جزء مسماه كما تقدم. إذا عرفت أن كلا من الأعمال الظاهرة والباطنة من مسمى الإيمان شرعا، فكل ما نقص من الأعمال التي لا يخرج نقصها من الإسلام، فهو نقص في كمال الإيمان الواجب كما في حديث أبي هريرة: "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن،

_ 1 سورة البقرة آية: 143. 2 البخاري: التوحيد (7556) , ومسلم: الإيمان (17) , والترمذي: الإيمان (2611) , والنسائي: الإيمان وشرائعه (5031) , وأبو داود: الأشربة (3692) , وأحمد (1/ 361).

ولا ينتهب النهبة يرفع الناس إليه فيها أبصارهم حين ينتهبها وهو مؤمن"1، وقوله صلى الله عليه وسلم: "لا إيمان لمن لا أمانة له"2، ونفي الإيمان عمن لا يأمن جاره بوائقه. فالمنفي في هذه الأحاديث كمال الإيمان الواجب فلا يطلق الإيمان على مثل هذه الأعمال إلا مقيدًا بالمعصية أو بالفسوق، فيكون معه من الإيمان بقدر ما معه من الأعمال الباطنة والظاهرة، فيدخل في جملة أهل الإيمان على سبيل إطلاق أهل الإيمان كقوله: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [سورة النساء آية: 92]. [الفرق بين الإيمان المطلق ومطلق الإيمان] وأما المؤمن الإيمان المطلق الذي لا يتقيَّد بمعصية ولا بفسوق وبنحو ذلك، فهو الذي أتى بما يستطيعه من الواجبات مع تركه لجميع المحرمات، فهذا هو الذي يطلق عليه اسم الإيمان من غير تقييد، فهذا هو الفرق بين مطلق الإيمان والإيمان المطلق؛ والثاني هو الذي لا يصر صاحبه على ذنب، والأول هو المصر على بعض الذنوب. وهذا الذي ذكرته هنا هو الذي عليه أهل السنة والجماعة في الفرق بين الإسلام والإيمان، وهو الفرق بين مطلق الإيمان. والإيمان المطلق فمطلق الإيمان هو وصف المسلم الذي معه أصل الإيمان الذي لا يتم إسلامه إلا به، بل لا يصح إلا به؛ فهذا في أدنى مراتب الدين، إذا كان مصرا على ذنب أو تاركا لما وجب عليه مع القدرة عليه. والمرتبة الثانية من مراتب الدين مرتبة أهل الإيمان المطلق الذين كمل إسلامهم وإيمانهم بإتيانهم بما وجب عليهم، وتركهم ما حرمه الله عليهم، وعدم إصرارهم على الذنوب؛ فهذه هي المرتبة الثانية التي وعد الله أهلها بدخول الجنة، والنجاة من النار كقوله -تعالى-: {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ} [سورة الحديد آية: 21] ... الآية. فهؤلاء اجتمعت لهم الأعمال الظاهرة والباطنة، ففعلوا ما أوجبه الله عليهم

_ 1 البخاري: المظالم والغصب (2475) , ومسلم: الإيمان (57) , والترمذي: الإيمان (2625) , والنسائي: قطع السارق (4870,4871) , وأبو داود: السنة (4689) , وابن ماجه: الفتن (3936) , وأحمد (2/ 317,2/ 386) , والدارمي: الأشربة (2106). 2 أحمد (3/ 135).

الفائدة الثانية: معنى لا إله إلا الله

وتركوا ما حرم الله عليهم، وهم السعداء أهل الجنة. والله -سبحانه وتعالى- أعلم، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم. الفائدة الثانية [معنى لا إله إلا الله] بسم الله الرحمن الرحيم اعلم رحمك الله: أن كلمة الإخلاص "لا إله إلا الله" لا تنفع قائلها إلا بمعرفة معناها، وهو نفي الإلهية عما سوى الله -تعالى- والبراءة من الشرك في العبادة، وإفراد الله بالعبادة بجميع أنواعها كما قال -تعالى-: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} [سورة آل عمران آية: 64] ومعنى {سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} أي: نستوي نحن وأنتم في قصر العبادة، وترك الشرك كله. وقال الخليل -عليه السلام-: {إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [سورة الزخرف آية: 26] فهذا هو حقيقة معنى لا إله إلا الله، وهو البراءة من كل ما يعبد من دون الله، وإخلاص العبادة له وحده، وهذا هو معناها الذي دلَّت عليه هذه الآيات، وما في معناها. فمن تحقق ذلك وعلمه، فقد حصل له العلم بها المنافي لما عليه أكثر الناس حتى من ينتسب إلى العلم من الجهل بمعناها. فإذا عرفت ذلك، فلا بد من القبول لما دلت عليه، وذلك ينافي الرد؛ لأن كثيرا ممن يقولها ويعرف معناها لا يقبلها، كحال مشركي قريش والعرب وأمثالهم، فإنهم عرفوا ما دلت عليه من البراءة، لكن لم يقبلوه؛

فصارت دماؤهم وأموالهم حلال لأهل التوحيد، فإنهم كما قال -تعالى-: {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ} [سورة الصافات آية: 35]، عرفوا أن لا إله إلا الله توجب ترك ما كانوا يعبدونه من دون الله. ولا بد -أيضا- من الإخلاص المنافي للشرك كما قال -تعالى-: {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ وَأُمِرْتُ لأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ} [سورة الزمر آية: 11] إلى قوله: {قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ} [سورة الزمر آية: 14] وفي حديث عتبان: "من قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله"1. ولا بد أيضا من المحبة المنافية لضدها، فلا يحصل لقائلها معرفة إلا بقبول ما دلت عليه من الإخلاص، ونفي الشرك؛ فمن أحب الله أحب دينه، ومن لا فلا، كما قال -تعالى-: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} [سورة البقرة آية: 165]، فصارت محبتهم لله ولدينه، فأحبوا من أحبه الله، وأبغضوا ما أبغضه الله، وفي الحديث: "وهل الدين إلا الحب والبغض"؛ولهذا وجب أن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم أحب إلى العبد من نفسه وولده ووالده والناس أجمعين، فإن شهادة لا إله إلا الله تستلزم أن محمدا رسول الله، وتقتضي متابعته كما قال -تعالى-: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [سورة آل عمران آية: 31]. [حب الله يستلزم الانقياد لأوامره ونواهيه] ولا بد -أيضا- من الانقياد لحقوق لا إله إلا الله بالعمل بما فرضه الله، وترك ما حرمه، والتزام ذلك وهو ينافي الترك، فإن كثيرا ممن يدعي الدين يستخف بالأمر والنهي ولا يبالي بذلك، وحقيقة الإسلام أن يسلم العبد بقلبه وجوارحه لله، ويتأله له بالتوحيد والطاعة كما قال -تعالى-: {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ} [سورة البقرة آية: 112] , وقال -تعالى-: {وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى

_ 1 البخاري: الصلاة (425) , ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (33).

الفائدة الثالثة: النهي عن مفارقة الجماعة

اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} [سورة لقمان آية: 22]. وإحسان العمل لا بد فيه من الإخلاص، ومتابعة ما شرعه الله ورسوله. ولا بد أيضا لقائل هذه الكلمة من اليقين بمعناها المنافي للشك والريب كما في الحديث الصحيح: "مستيقنا بها قلبه غير شاكٍ فيها"1؛ ومن لم يكن كذلك فإنها لا تنفعه كما دل عليه حديث سؤال الميت في قبره. ولا بد -أيضا- من الصدق المنافي للكذب كما قال -تعالى- عن المنافقين: {يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ} [سورة الفتح آية: 11]. والصادق يعرف معنى هذه الكلمة، ويقبله ويعمل بما يقتضيه، وما يلزم قائلها من واجبات الدين، ويصدق قلبه لسانه. فلا تصح هذه الكلمة إلا إذا استجمعت هذه الشروط؛ وبالله التوفيق، آخره، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم. الفائدة الثالثة [النهي عن مفارقة الجماعة] بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الرحمن بن حسن إلى من يصل إليه من الإخوان، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. (وبعد): تفهمون أن الجماعة فرض على الإسلام، وعلى من دان بالإسلام كما قال -تعالى-: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا} [سورة آل عمران آية: 103]. ولا تحصل الجماعة إلا بالسمع والطاعة لمن ولاه الله أمر المسلمين، وفي الحديث الصحيح عن العرباض بن سارية قال: "وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة وجلت منها القلوب، وذرفت منها العيون، فقلنا: يا رسول الله، كأنها موعظة مودع، فأوصنا. قال: أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة، وإن تأمر عليكم عبد حبشي، وإنه من يعش منكم بعدي فسيرى

_ 1 مسلم: الإيمان (31).

اختلافًا كثيرًا. فعليكم بسنتي، وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي. تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ". وقد جمع الله أوائل الأمة على نبيه صلى الله عليه وسلم وذلك بسبب الجهاد، وكذلك الخلفاء ردَّ الله بهم إلى الجماعة من خرج عنها، وأقاموا الجهاد في سبيل الله؛ فأظهر الله بهم دينه، وفتح الله لهم الفتوح، وجمع الله عليهم. وتفهمون أن الله -سبحانه وتعالى- جمعكم على إمامكم عبد الله بن فيصل بعد وفاة والده فيصل -رحمه الله- فاللي بايع بايع وهم الأكثرون، واللي ما بايع بايعوا لهم كبارهم، واجتمعوا عليه أهل نجد باديهم وحاضرهم، وسمعوا وأطاعوا، ولا اختلف عليه أحد منهم حتى سعود بن فيصل بايع أخوه. وهو ما صار له مدخال في أمر المسلمين لا في حياة والده ولا بعده، ولا التفت له أحد من المسلمين، ونقض البيعة وتبين لكم أمره أنه ساع في شق العصا، واختلاف المسلمين على إمامهم، وسعى في نقض بيعة الإمام، وقد قال -تعالى-: {وَلا تَنْقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} [سورة النحل آية: 91]. وسعود سعى في ثلاثة أمور كلها منكر: نقض البيعة بنفسه، وفارق الجماعة، ودعا الناس إلى نقض بيعة الإسلام؛ فعلى هذا يجب قتاله، وقتال من أعانه، وفي الحديث: "من فارق الجماعة قيد شبر فمات، فميتته جاهلية"1 وفي الحديث الآخر: "فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه"2، فإن كان أحد مشكل عليه وجوب قتاله لما في الحديث: "إذا التقى المسلمان بسيفيهما، فالقاتل والمقتول في النار"3.

_ 1 البخاري: الفتن (7054) والأحكام (7143) , ومسلم: الإمارة (1849) , وأحمد (1/ 275,1/ 297,1/ 310) , والدارمي: السير (2519). 2 النسائي: قطع السارق (4872). 3 البخاري: الإيمان (31) , ومسلم: الفتن وأشراط الساعة (2888) , والنسائي: تحريم الدم (4120,4121,4122,4123) , وأبو داود: الفتن والملاحم (4268) , وأحمد (5/ 41,5/ 43,5/ 46,5/ 48,5/ 51).

الفائدة الرابعة

فظاهر الحديث أن المراد ما يجري بين القبائل من العصبية، أما عند ضربة عصا من قبيلتين أو فخذين أو طعنة، فكل قبيلة أو فخذ يكون منهم حمية لمن كان منهم غير خروج على الإمام، ونقض لبيعة الإسلام، ولا شق عصا المسلمين. وأهل العلم من الفقهاء وغيرهم ذكروا قتال العصبية وحكمه، وقتال الباغي وحكمه؛ فذكروا أنه يجب على الإمام في قتال العصبية أن يحملهم على الشريعة، وأما البغاة فحكمهم أنهم يقاتلون حتى يفيئوا أو يرجعوا ويدخلوا في جماعة المسلمين. فالفرق ظاهر بين -ولله الحمد-، فاستعينوا بالله على قتال من بغى وطغى وسعى في البلاد بالفساد، وهذا أمر فساده ظاهر ما يخفى على من له عقل، واحتسبوا جهادكم وأجركم على الله، وأنتم سالمون، والسلام، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين، سنة 1330 هجرية. قال الشيخ العلامة عبد الرحمن بن حسن -أحسن الله إليه-: الفائدة الرابعة بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فقد ورد علينا أسئلة من الأخ جمعان بن ناصر: [العقود التي وقعت فاسدة وتقابضوا بها] منها: إذا وقع عقد فاسد في معاملة في الإسلام قد انقضت بالتقابض في أكثرها، فهل يحكم بفساد العقد من أوله ورده؟ أو نقول لا يرد ما تقابضوه من تلك المعاملة الفاسدة؟

فأقول: الجواب يظهر مما قاله شيخ الإسلام -رحمه الله- في آية الربا في قوله -تعالى-: {فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ} [سورة البقرة آية: 275]، فاقتضى أن السالف للقابض، وأن أمره إلى الله ليس للغريم فيه أمر، وذلك أنه لما {جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى} [سورة البقرة آية: 275] كان مغفرة ذلك الذنب، والعقوبة عليه إلى الله -تعالى-، إن علم من قلبه صحة التوبة غفر له، وإلا عاقبه. ثم قال: {اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [سورة البقرة آية: 278] فأمر بترك الباقي ولم يأمر برد المقبوض وقال: {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ} [سورة البقرة آية: 279] إلا أنه يستثنى منها ما قبض. وهذا الحكم ثابت في حق الكافر إذا عامل كافرا بالربا، وأسلما بعد القبض وتحاكما إلينا، فإن ما قبضه يحكم له به كسائر ما قبضه الكفار بالعقود التي يعتقدون حلها. وأما المسلم فله ثلاثة أحوال: تارة يعتقد حل الأنواع باجتهاد أو تقليد، وتارة يعامل بجهل ولا يعلم أن ذلك ربا محرم، وتارة يقبض مع علمه بأن ذلك محرم. أما الأول والثاني ففيه قولان إذا تبين له فيما بعد أن ذلك ربا محرم، قيل: يرد ما قبض كالغاصب، وقيل: لا يرده، وهو أصح، لأنه إذا كان معتقدا أن ذلك حلال، والكلام فيما إذا كان مختلفا فيه مثل الحيل الربوية. فإذا كان الكافر إذا تاب يغفر له ما استحله، ويباح له ما قبضه، فالمسلم إذا تاب أولى أن يغفر الله، إذا كان أخذ بأحد قولي العلماء في حل ذلك، فهو في تأويله أعذر من الكافر في تأويله. [الجهل بالأحكام] وأما المسلم الجاهل فهو أبعد، لكن ينبغي أن يكون كذلك، فليس هو شر من الكافر، وقد ذكرنا فيما يتركه من الواجبات التي لم يعرف وجوبها هل عليه قضاء؟ قولان، أظهرهما الاقتضاء عليه. وأصل ذلك أن أصل الخطاب هل يثبت في حق المسلم قبل بلوغ الخطاب؟ فيه قولان في مذهب

أحمد وغيره، ولأحمد روايتان فيما إذا صلى في معاطن الإبل أو صلى وقد أكل لحم الجزور، ثم صلى، وقد تبين له النص هل يعيد؟ على روايتين، وقد نصرت في موضع أنه لا يعيد، وذكرت على ذلك أدلة متعددة، منها: قصة عمر وعمار لما كانا جنبين فصلى عمار، ولم يصل عمر، ولم يأمره النبي صلى الله عليه وسلم بإعادة. ومنها: المستحاضة التي قالت: منعني الصوم والصلاة. ومنها الأعرابي المسيء الذي قال: والله ما أحسن غير هذا، أمره أن يعيد الصلاة الحاضرة لأن وقتها باق وهو مأمور بها، ولم يأمره بإعادة ما صلى قبل ذلك. ومنها الذين أكلوا حتى تبين الحبل الأبيض والأسود ولم يؤمروا بالإعادة. والشريعة أمر ونهي، فإذا كان حكم الأمر لا يثبت إلا بعد بلوغ الخطاب، فكذلك النهي. فمن فعل شيئا لم يعلم أنه محرم ثم علم لم يعاقب. وإذا عامل معاملات ربوية يعتقدها جائزة وقبض منها ما قبض، ثم جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف، ولا يكون شرا من الكافر إذا غفر له قبضه لكونه قد تاب، فالمسلم بطريق الأولى. والقرآن يدل على هذا بقوله: {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ} 1، وهذا عام في كل من جاءه موعظة من ربه فانتهى، فقد جعل الله له ما سلف. انتهى ملخصا من كلامه -رحمه الله-، وبه يظهر للسائل تفصيل ما أجمله في السؤال فليتأمل. العبد كالحر في كفارة الظهار وسأل -أيضا- عن ظهار المملوك هل هو كالحرام؟ فالجواب: أن العبد كالحر في كفارة الظهار، غير أن العبد لا يكفر إلا بالصوم بناء على المشهور في مذهبنا وغيره، لأنه لا يملك، قال في "المنتهى": فإن لم يجد صام حرًّا وقنًّا شهرين. انتهى. [أكثر مدة الحمل] وسأل عن أكثر مدة الحمل إذا كانت أربع سنين على المشهور في

_ 1 سورة البقرة آية: 275.

مذهبنا، فهل لها إذا انقضت أن تتزوج ولو ارتابت أم لا؟ وجوابه: أن العلامة ابن القيم -رحمه الله تعالى- قد ذكر في "تحفة الودود" أنه قد وجد لخمس سنين، وأكثر منها إلى سبع، فعليه لا تمكن من التزويج إلا بعد تيقن براءة رحمها، والله أعلم. وسأل عن حكم الدم المحتقن في جوف الذبيحة. فالجواب -وبالله التوفيق-: قال في "الإنصاف" وغيره نقلا عن القاضي: أن الدم الذي يبقى في خلال اللحم بعد الذبح وفي العروق مباح، قال الشيخ تقي الدين: لا أعلم خلافا في العفو عنه، وأنه لا ينجس المرقة بل يؤكل معها، والله أعلم. قالوا: فظاهر كلام القاضي في الخلاف وابن الجوزي أن المحرم هو الدم المسفوح كما دلت الآية الكريمة، قال المفسرون في معنى قوله: {أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا} 1 أي: مهراقا سائلا، قال ابن عباس رضي الله عنه ما يريد ما يخرج من الحيوانات وهي حية، وما يخرج من الأوداج عند الذبح. وممن قال بطهارة بقية الدم وإن ظهرت حمرته المجد في شرحه، والناظم وصاحب الفائق وغيرهم، والله أعلم. [ذبيحة الكافر والمرتد إذا ذبحت وذكر اسم الله عليها] وسأل عن ذبيحة الكافر والمرتد إذا ذبحت وذكر اسم الله عليها، فهل هناك نص بتحريمها غير الإجماع؟ ومفهوم قوله -تعالى-: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} 2 ... الآية. فالجواب: الإجماع دليل شرعي بالاتفاق، ولا بد أن يستند الإجماع إلى دليل من الكتاب والسنة، وقد يخفى ذلك الدليل على بعض العلماء. فإذا كان قد وقع الإجماع على تحريم ذبيحة الكافر والمشرك غير الكتابي فحسبك به، ودلت الآية الكريمة على التحريم كما قد عرفتم. والجواب عن قوله: "وذكر اسم الله عليها" أن يقال: التسمية من الكافر الأصلي

_ 1 سورة الأنعام آية: 145. 2 سورة المائدة آية: 5.

ومن المرتد غير معتبرة لبطلان أعمالهما، فوجودها كعدمها، كما أن التهليل إذا صدر منه حال استمراره على شركه غير معتبر فوجوده كعدمه، وإنما ينفع إذا قاله عالما بمعناه ملتزما لمقتضاه كما قال -تعالى-: {إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} 1 قال ابن جرير كغيره: وهم يعلمون حقيقة ما شهدوا به. [عدة المسلمة بعد موت زوجها الكافر] وسأل -أرشدنا الله وإياه- عن زوجة الكافر إذا كانت مسلمة ومات، هل عليها عدة؟ ... إلخ. أقول -وبالله التوفيق-: إن كان تزوجها في حال كفره، فالنكاح باطل لقوله -تعالى-: {وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا} 2، وقوله: {لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} 3. وإن كان كفره طارئا على النكاح أو كانا كافرين فأسلمت قبله، فإن كان قبل الدخول انفسخ نكاحها، وإن كان بعد الدخول وقف على انقضاء العدة على الصحيح عند متأخري الأصحاب. واستدلوا بحديث مالك في إسلام صفوان بن أمية بعد إسلام زوجته بنحو شهر، والحديث مشهور عند أهل العلم قالوا: فإن أسلم الثاني قبل انقضاء العدة فهما على نكاحهما، وإلا تبينا فسخه منذ أسلم الأول، والمرتد كغيره؛ والذي اختاره ابن القيم -رحمه الله- عدم مراعاة زمن العدة، واستدل بأحاديث وآثار، منها ما روى أبو داود -في سننه- عن ابن عباس قال: "ردَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب ابنته على أبي العاص بن الربيع بالنكاح الأول، ولم يحدث شيئا بعد ست سنين". وفي لفظ لأحمد: لم يحدث شهادة ولا صداقا ولم يحدث نكاحا، وقال في حديث عمرو بن شعيب: "أن النبي صلى الله عليه وسلم ردَّها على أبي العاص بن الربيع بنكاح جديد" إن الإمام أحمد قال: هذا حديث ضعيف، والصحيح أنه أقرهما على النكاح الأول. وقال الترمذي: في إسناد هذا

_ 1 سورة الزخرف آية: 86. 2 سورة البقرة آية: 221. 3 سورة الممتحنة آية: 10.

الحديث مقال، وقال الدارقطني: هذا حديث لا يثبت، والصواب حديث ابن عباس. وفي صحيح البخاري عن ابن عباس قال: "كان المشركون على منزلتين من رسول الله صلى الله عليه وسلم: أهل حرب يقاتلهم ويقاتلونه، وأهل عهد لا يقاتلهم ولا يقاتلونه. فكان إذا هاجرت امرأة من دار الحرب لم تخطب حتى تحيض وتطهر، فإذا طهرت حل لها النكاح، فإن هاجر زوجها قبل أن تنكح ردت إليه"، وذكر ابن أبي شيبة عن معمر بن سليمان عن معمر عن الزهري: إذا أسلمت ولم يسلم زوجها فهما على نكاحهما إلا أن يفرِّق بينهما سلطان، قال: ولا يعرف اعتبار العدة في شيء من الأحاديث، ولا كان النبي صلى الله عليه وسلم يسأل المرأة هل انقضت عدتك أم لا؟ ولا ريب أن الإسلام لو كان بمجرده فرقة لم يكن فرقة رجعية بل بائنة، فلا أثر للعدة في بقاء النكاح، وإنما أثرها في منع نكاحها للغير، فلو كان الإسلام قد نجز الفرقة بينهما لم يكن أحق بها في العدة، ولكن الذي دل عليه حكمه صلى الله عليه وسلم أن النكاح موقوف، فإن أسلم قبل انقضاء عدتها فهي زوجته، فإن انقضت عدتها فلها أن تنكح من شاءت، ولا نعلم أحدا جدد للإسلام نكاحه البتة، بل كان الواقع أحد أمرين: إما افتراقهما ونكاحها غيره، وإلا بقاءها عليه وإن تأخر إسلامها وإسلامه. وقد ردَّ النبي صلى الله عليه وسلم ابنته زينب على أبي العاص بن الربيع، وهو إنما أسلم زمن الحديبية، وهي أسلمت من أول البعثة، وبين إسلامهما أكثر من ثماني عشرة سنة. وأما قوله في الحديث: "كان بين إسلامها وإسلامه ست سنين"1 فوهم، إنما أراد بين هجرتها وإسلامه، ولولا إقراره صلى الله عليه وسلم الزوجين على نكاحهما وإن تأخر إسلام أحدهما على الآخر بعد صلح الحديبية

_ 1 صحيح البخاري: كتاب الصلاة (496) وكتاب مواقيت الصلاة (576) وكتاب الجمعة (1134) وكتاب الصوم (1921) وكتاب الجهاد والسير (2870) وكتاب أحاديث الأنبياء (3365) وكتاب المناقب (3803) وكتاب المغازي (4086) وكتاب تفسير القرآن (4844) وكتاب الرقاق (6510) وكتاب الأيمان والنذور (6649) وكتاب الاعتصام بالكتاب والسنة (7334) وكتاب التوحيد (7555) , وصحيح مسلم: كتاب الإيمان (141) وكتاب الصلاة (508,510) وكتاب الأيمان (1649) وكتاب الجهاد والسير (1785) وكتاب فضائل الصحابة (2541) وكتاب صفات المنافقين وأحكامهم (2779) وكتاب التفسير (3027) , وسنن الترمذي: كتاب السير (1580) وكتاب تفسير القرآن (3155,3168) , وسنن النسائي: كتاب المواقيت (588,597) وكتاب القبلة (750) وكتاب قيام الليل وتطوع النهار (1728) وكتاب الصيام (2156,2157) وكتاب مناسك الحج (2914) , وسنن أبي داود: كتاب الصلاة (1082) وكتاب الطلاق (2295) وكتاب الجهاد (2759) , وسنن ابن ماجه: كتاب الحدود (2574) , ومسند أحمد (2/ 122,2/ 136,2/ 206,3/ 69,3/ 104,3/ 135,3/ 170,3/ 234,3/ 237,3/ 266,3/ 451,3/ 485,4/ 90,4/ 113,4/ 323,4/ 385,5/ 25,5/ 151,5/ 160,5/ 188,5/ 222,5/ 331,5/ 390,5/ 439,6/ 430) , وموطأ مالك: كتاب النداء للصلاة (502) وكتاب النكاح (1154) , وسنن الدارمي: كتاب المقدمة (17,647) وكتاب الصوم (1695).

وزمن الفتح لقلنا بتعجيل الفرقة بالإسلام من غير اعتبار عدة لقوله -تعالى-: {لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} 1، وقوله: {وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} 2. وإن الإسلام سبب الفرقة، وكل ما كان سببا للفرقة تعقبه الفرقة كالرضاع والخلع والطلاق، وهذا اختيار الخلال وأبي بكر صاحبه وابن المنذر وابن حزم، وهو مذهب الحسن وطاووس وعكرمة وقتادة والحكم. قال ابن حزم: وهو قول ابن الخطاب وجابر بن عبد الله وابن عباس، وبه قال حماد بن زيد والحكم بن عتبة وسعيد بن جبير وعمر بن عبد العزيز وعدي ابن عدي الكندي والشعبي وغيرهم، (قلت) وهو إحدى الروايتين عن الإمام أحمد، ولكن الذي أنزل عليه قوله: {وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} 3 وقوله: {لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} 4 لم يحكم بتعجيل الفرقة، وما حكاه ابن حزم عن عمر فما أدري من أين حكاه، والمعروف عنه خلافه، ثم ساق الرواية عن عمر بخلاف ما حكاه ابن حزم، انتهى ملخصا. وأما إذا مات الزوج قبل انقضاء العدة، فالصحيح من المذهب أنها تستأنف العدة للوفاة ويلغوا ما مضى، وإن كان موته بعد انقضائها فلا عدة؛ والذي يتمشى عليه ما اختاره ابن القيم أنها إن لم يفسخ نكاحها حاكم يطلبها أنها تعتد منه أيضا، والله أعلم. [صرف الزكاة لطالب العلم] وسأل -أيضا- عن قول شارح بلوغ المرام على قوله: "أو غاز في سبيل الله" ويلحق به من كان قائما بمصلحة عامة ... إلخ. أقول -وبالله التوفيق-: لم أقف على شيء من كلام أئمتنا يعضد هذا المأخذ أو يومئ إليه، وغاية ما رأيته ما قد أشرت إليه من قول شيخ الإسلام ابن تيمية ونصه في "الاختيارات": "ومن ليس معه ما يشترى به كتبا يشتغل

_ 1 سورة الممتحنة آية: 10. 2 سورة الممتحنة آية: 10. 3 سورة الممتحنة آية: 10. 4 سورة الممتحنة آية: 10.

فيها، يجوز له الأخذ من الزكاة ما يشتري به ما يحتاج إليه من كتب العلم التي لا بد لمصلحة دينه ودنياه منه. انتهى كلامه. والله أعلم. [الحلف بالطلاق] قال السائل -أيضا- واستعمال الناس اليوم الحلف بالطلاق عند إلجاء أحدهم إلى الغضب، كقول أحدهم: عليَّ الطلاق لأفعلن .. إلى آخر ما نقل السائل -عافاه الله-. نقل شيخنا -الشيخ الهمام العلامة -رحمه الله- عن الإمام أحمد -رحمه الله تعالى- روايتين في قول القائل: عليَّ الطلاق، أحدهما: تطلق ثلاثا ... إلخ. أقول: هذه الرواية هي المذهب إذا نوى الثلاث، وإن لم ينو ثلاثا فواحدة عملا بالعرف، وكذا قوله: الطلاق لازم لي، أو عليَّ صريح منجزا أو معلقا ومحلوفا به، هذا شرح ما نقله عن شيخنا وهو المعتمد، وأما ما فرق به شيخ الإسلام فقد ذكرته للسائل في جوابنا الذي صدره قبل هذا في مسألة التحريم، وأشرت إلى قوة ما ذهب إليه شيخ الإسلام وتلميذه العلامة ابن القيم -رحمهما الله تعالى-، وحاصله أنهما اختارا أنه يقع بوجود شرطه، إذا أراد الجزاء بتعليقه لا إن أراد الحظر والمنع، وقولهم: إن أراد الجزاء، أي: الطلاق احترازا منه أن يريد حظرًا أو منعا، وهو يكره وقوعه عند شرطه فإنه والحالة هذه عندهما يمين مكفر، والله أعلم. والذي عليه مشائخنا من أهل التقوى إنما يعتمدون كلام الجمهور في هذه المسألة، فيفتون بإيقاع الطلاق إذا وجد المعلق عليه، وهو الشرط كما عليه الأئمة وجمهور الفقهاء، والله أعلم. [موافقة الجمعة يوم العيد] وسأل عما إذا وافق يوم الجمعة يوم عيد، قالوا: تسقط الجمعة عمن حضر العيد إلا الإمام ... إلخ. أقول -وبالله التوفيق-: الذي نص عليه علماؤنا -رحمهم الله- أنه إن اتفق

عيد في يوم جمعة، سقط حضور الجمعة عمن صلى العيد، إلا الإمام، فإنها لا تسقط عنه إلا ألَّا يجتمع له من يصلي الجمعة. وهذا يفهم أن المراد بالإمام هو الذي يتولى الصلاة بهم؛ وهذا الحكم يتعلق بأهل كل بلد، وليس كل بلد فيها إمام أعظم، وهذا يفيد قولهم: إلا ألا يجتمع به من يصلي به الجمعة. نعم، إن وقع ذلك في بلد الإمام الأعظم وجبت عليه، وإن لم يتول الصلاة، لأن المتولي للصلاة كالنائب عنه. وبدليل ما ورد من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "اجتمع في يومكم هذا عيدان، فمن شاء أجزأه من الجمعة، وإنا مجمعون"1 رواه ابن ماجه. فصير الجمع في قوله: "وإنا مجمعون" يقتضي ما قلناه؛ لأنه -صلوات الله وسلامه عليه- هو الإمام الأعظم، وإمامهم في الصلاة، والله أعلم. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى-: إذا اجتمعت الجمعة والعيد في يوم واحد فللعلماء في ذلك ثلاثة أقوال: ثالثها -وهو الصحيح-: أن من شهد العيد سقطت عنه الجمعة، لكن على الإمام أن يقيم الجمعة ليشهدها من شاء شهودها، وهذا هو المأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ولا يعرف عن الصحابة في ذلك خلاف، ثم إنه يصلي الظهر إذا لم يشهد الجمعة، فتكون الظهر في وقتها، وكلام الشيخ يوضح ما قررته قبل، والله أعلم. [حديث عمران بن حصين في قصة العقيلي] وسأل -أيضا- عن حديث عمران بن حصين في قصة العقيلي الذي قال له النبي صلى الله عليه وسلم: "بم أخذتني وأخذت سابقة الحاج؟ فقال: أخذتك بجريرة حلفائك ثقيف" 2 ... إلخ. أقول: الحديث خرَّجه الإمام أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي -رحمهم الله- وهاأنا أسوق رواية الإمام أحمد -رحمه الله تعالى- في مسنده قال: حدثنا

_ 1 أبو داود: الصلاة (1073) , وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها (1311). 2 مسلم: النذر (1641) , وأبو داود: الأيمان والنذور (3316) , وأحمد (4/ 430) , والدارمي: السير (2505).

إسماعيل عن أيوب عن أبي قلابة عن أبي المهلب عن عمران بن حصين قال: "كانت ثقيف حلفاء لبني عقيل، فأسرت ثقيف رجلين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأسر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا من بني عقيل، وأصيبت معه العضباء. فأتى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في الوثاق، فقال: يا محمد، يا محمد، فقال: ما شأنك؟ قال: بم أخذتني وأخذت سابقة الحاج؟ إعظاما لذلك، فقال: أخذت بجريرة حلفائك ثقيف، ثم قال: يا محمد يا محمد -وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم رحيما رفيقا- فأتاه قال: ما شأنك؟ قال: إني مسلم، قال: لو قلتها وأنت تملك أمرك أفلحت كل الفلاح. ثم انصرف عنه، فناداه: يا محمد، يا محمد. فأتاه، فقال: ما شأنك؟ فقال: إني جائع فأطعمني، وظمآن فاسقني، قال: هذه حاجتك. فقال: ففدي بالرجلين. وأسرت امرأة من الأنصار وأصيبت معها العضباء فكانت المرأة في الوثاق، فانفلتت ليلة من الوثاق، فأتت الإبل، فجعلت إذا دنت من البعير رغا، فتتركه حتى تنتهي إلى العضباء فلم ترغ. قال: وناقة منوخة، فقعدت في عجزها وزجرتها، فانطلقت. ونذروا بها، وطلبوها فأعجزتهم، فنذرت إن الله عز وجل أنجاها عليها لتنحرنها، فلما قدمت المدينة رآها الناس فقالوا: العضباء ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: إني نذرت إن الله أنجاها عليها لتنحرنها، فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فذكروا ذلك له فقال: سبحان الله! بئسما جزتها إن الله -تبارك وتعالى- أنجاها لتنحرنها لا وفاء في نذر في معصية الله ولا في ما لا يملك العبد" ولأبي داود: ابن آدم 1. قال النووي -رحمه الله- في شرحه قول النبي صلى الله عليه وسلم: "أخذتك بجريرة حلفائك"2 أي: بجنايتهم.

_ 1 أي: لفظ ابن آدم بدل لفظ العبد. 2 مسلم: النذر (1641) , وأبو داود: الأيمان والنذور (3316) , وأحمد (4/ 430) , والدارمي: السير (2505).

قوله صلى الله عليه وسلم: "لو قلتها وأنت تملك أمرك، أفلحت كل الفلاح"1 معناه: لو قلت كلمة الإسلام قبل الأسر حين كنت مالك أمرك أفلحت كل الفلاح، لأنه لا يجوز أسرك لو أسلمت قبل الأسر، فكنت فزت بالإسلام وبالسلامة من الأسر ومن اغتنام ... 2 وأما إذا أسلمت بعد الأسر فيسقط الخيار في قتلك، ويبقى الخيار بين الاسترقاق والمن والفداء، وفي هذا جواز المفاداة، وإن إسلام الأسير لا يسقط حق الغانمين منه بخلاف ما لو أسلم قبل الأسر. انتهى. فليس في الحديث دليل على أن المسلم يؤخذ بجناية غيره أو حق عليه، بخلاف الكافر فإنه يؤخذ ويغنم ماله لكفره، ولو كان من قوم معاهدين إذا نقضوا العهد كحال هذا الرجل العقيلي فإنه لما قال: إني مسلم، قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو قلتها وأنت تملك أمرك، أفلحت كل الفلاح"3 وهو صريح في أن هذا الرجل لم يكن قبل مسلما. وفي الحديث أيضا ما يدل على ذلك، وهو قوله: ففودي الرجل بعد بالرجلين، فتأمله فإنه ظاهر لا غبار عليه -والحمد لله-. والحديث لا علة له، قال الحافظ المنذري: وأخرجه مسلم والنسائي بطوله، وأخرج الترمذي طرقا منه، وأخرج النسائي وابن ماجه منه طرقا. انتهى كلامه. وقد ذكرنا في أول الحديث ما وقفنا عليه من مخرجيه وأتحفنا السائل بسياق الإمام أحمد -رحمه الله تعالى-. [قبض العقار في الرهن] وسأل -عافاه الله- عن قبض العقار في الرهن كغيره. أقول -وبالله التوفيق-: قبض المرتهن له بالتخلية بأن يمكنه الراهن منه تمكينا تاما بحيث

_ 1 مسلم: النذر (1641) , وأبو داود: الأيمان والنذور (3316) , وأحمد (4/ 430) , والدارمي: السير (2505). 2 بياض في الأصل. 3 مسلم: النذر (1641) , وأبو داود: الأيمان والنذور (3316) , وأحمد (4/ 430) , والدارمي: السير (2505).

لم يضع يده عليه، فإن وضع يده عليه بأن تولى سقيه أو زرعه أو إجارته زال لزوم الرهن، والله أعلم. [أسانيد المؤلف وشيوخه] وأما ما طلبت من روايتي من مشايخي فأقول: اعلم إني قرأت على شيخنا الإمام الجد شيخ الإسلام -رحمه الله تعالى-، كتاب التوحيد من أوله إلى أبواب السير، وجملة من آداب المشي إلى الصلاة، وحضرت عليه عدة مجالس كثيرة في البخاري والتفسير وكتب الأحكام بقراءة شيخنا الشيخ ابنه عبد الله -رحمهما الله تعالى- وشيخنا الشيخ ابنه علي -رحمهما الله تعالى- في كتاب البخاري، وقراءة ابنه الشيخ عبد العزيز -رحمه الله- في سورة البقرة من كتاب ابن كثير، وفي كتاب منتقى الأحكام بقراءة الشيخ عبد الله بن ناصر وغيرهم، وسنده -رحمه الله تعالى- معروف تلقاه عن عدة من علماء المدينة وغيرهم، رواية خاصة وعامة منهم محمد بن حياة السندي والشيخ عبد الله بن إبراهيم الفرضي الحنبلي، وقرأت وحضرت جملة كثيرة من الحديث والفقه على الشيخين المشار إليهما أعلاه، وشيخنا الشيخ حسين -رحمه الله تعالى-، وحضرت قراءة وأنا إذ ذاك في سن التمييز على والده شيخ الإسلام -رحمه الله تعالى- وشيخنا الشيخ حمد بن ناصر -رحمه الله تعالى-، وقرأت عليه في مختصر الشرح والمقنع وغيرهما، وشيخنا الشيخ عبد الله بن فاضل -رحمه الله تعالى- قرأت عليه في السيرة، وشيخنا الشيخ عبد الرحمن بن خميس قرأت عليه في شرح الشنشوري في الفرائض، وشيخنا الشيخ أحمد بن حسن الحنبلي قرأت عليه شرح الجزرية للقاضي زكريا الأنصاري، وشيخنا الشيخ أبو بكر حسين بن غنام قرأت عليه شرح الفاكهي على المتممة في النحو.

وأما مشايخنا من أهل مصر فمن فضلائهم في العلم الشيخ حسن القويسني حضرت عليه شرح جمع الجوامع في الأصول للمحلي، ومختصر السعد في المعاني والبيان وما فاتني من الكتابين إلا أفوات يسيرة، وأكبر من لقيت بها من العلماء الشيخ عبد الله سويدان، وأجازني هو والذي قبله بجميع مروياتهم، ودفع لي كل واحد منهما نسخته المتضمنة لأوائل الكتب التي رووها بسندهم إلى الشيخ المحدث عبد الله بن سالم البصري شارح البخاري. ولقيت بها الشيخ عبد الرحمن الجبرتي وحدثني بالحديث المسلسل بالأولية بشروطه، وهو أول حديث سمعته منه وقرأت عليه سنده حتى انتهيت إلى الإمام سفيان بن عيينة -رحمه الله- عن أبي قابوس مولى عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الراحمون يرحمهم الرحمن -تبارك وتعالى-. ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء"1 وأجازني بجميع مروياته عن شيخه الشيخ مرتضي الحسيني عن الشيخ عمر بن أحمد بن عقيل وعن الشيخ أحمد الجوهري كلاهما عن عبد الله بن سالم البصري، وهو يروي عن أبي عبد الله محمد بن علاء الدين البابلي عن الشيخ سالم السنهودي عن النجم الغيطي عن شيخ الإسلام زكريا الأنصاري عن الحافظ شيخ الإسلام أحمد ابن علي بن حجر العسقلاني صاحب فتح الباري، وأكثر روايات من ذكرنا من مشايخنا للكتب تنتهي إليه. وأما روايتهم للبخاري فرواه الحافظ ابن حجر -رحمه الله- عن إبراهيم بن أحمد التنوخي عن أحمد بن أبي طالب الحجار عن الحسين بن المبارك الزبيدي الحنبلي عن أبي الوقت عبد الأول بن عيسى بن شعيب السجزي الهروي عن أبي الحسن

_ 1 الترمذي: البر والصلة (1924) , وأبو داود: الأدب (4941).

عبد الرحمن بن محمد بن المظفر بن داود الداودي عن أبي عبد الله محمد بن يوسف بن مطر الغربري عن الإمام البخاري -رحمه الله تعالى-. وقرأت عليه أسانيده عن شيخه المذكور متصلة إلى مؤلفي الكتب الحديثية كالإمام أحمد ومسلم وأبي داود والنسائي والترمذي وابن ماجه -رحمهم الله-، فأجازني بها وبسند مذهبنا بروايته عن شيخه المذكور عن السفاريني النابلسي الحنبلي عن أبي المواهب متصلا إلى إمامنا -رحمه الله تعالى-. وأما الشيخ عبد الله سودان فأجازني بجميع ما في نسخة عبد الله بن سالم المعروفة بمصر، ونقلتها من أصله فهي الآن موجودة عندنا مسندة إلى الشيخ المذكور بروايته عن محمد بن أحمد الجوهري عن أبيه عن شيخه عبد الله بن سالم، وقد تقدم سياق سنده إلى البخاري، وأجاز لي برواية مذهب إمامنا بروايته عن يد الشيخ أحمد الدمنهوري عن الشيخ أحمد بن عوض عن شيخه محمد الخلوتي عن شيخه الشيخ منصور البهوتي عن الشيخ عبد الرحمن البهوتي عن أظن اسمه يحيى بن الشيخ موسى الحجازي عن أبيه، وسند الأب مشهور إلى الإمام أحمد -رحمه الله تعالى-. وأما الشيخ حسن القويسني فأجاز لي بجميع ما في نسخة الشيخ عبد الله بن سالم البصري المذكور روايته عن الشيخ عبد الله الشرقاوي عن الشيخ محمد بن سالم الحفني عن الشيخ عيد بن علي النمرسي عن عبد بن سالم البصري ح قال: وأخذت صحيح البخاري جميعه عن الشيخ داود القلعي عن الشيخ أحمد بن جمعة البجيرمي عن الشيخ مصطفى الإسكندراني المعروف بابن الصباغ عن الشيخ عبد الله بن سالم بسنده المتقدم قال: أخذت الصحيح عن شيخنا سليمان البجيرمي عن الشيخ محمد العشماوي عن الشيخ أبي العز

العجمي عن الشيخ محمد الشنويري عن محمد الرملي عن شيخ الإسلام زكريا الأنصاري عن الحافظ ابن حجر العسقلاني عن الشيخ التنوخي عن الشيخ سليمان بن حمزة عن الشيخ علي بن الحسين بن المنير عن أبي الفضل بن ناصر عن الشيخ عبد الرحمن بن منده عن محمد بن عبد الله بن أبي بكر الجوزقي عن مكي بن عبدان النيسابوري عن الإمام مسلم عن الإمام البخاري -رضي الله عنهم أجمعين قلت: وبهذا السند روي صحيح مسلم. ولقيت بمصر مفتي الجزائر محمد بن محمود الجزائري الحنفي الأثري، فوجدته حسن العقيدة، طويل الباع في العلوم الشرعية، وأول حديث حدثنيه المسلسل بالأولية رواه لنا عن شيخه حمودة الجزائري بشرطه متصلا إلى سفيان ابن عيينة كما تقدم، وأجازني بمروياته عن شيخه المذكور، وشيخه علي بن الأمين، وقرأت عليه جملة في صحيح مسلم وأول البخاري رواية ابن سعادة بالسند المتصل إلى المؤلف -رحمه الله تعالى-، وقرأت عليه جملة من الأحكام الكبرى للحافظ عبد الحق الإشبيلي -رحمه الله- وكتبت أسانيده في الثبت الذي كتبته عنه. وممن وجدت أيضا بمصر الشيخ إبراهيم العبيدي المقرئ شيخ مصر في القراءات يقرأ العشر، وقرأت عليه أول القرآن، وأما الشيخ أحمد سلمونه فلي به اختصاص كثير، وهو رجل حسن الخلق، متواضع له اليد الطولى في القراءات والإفادات، قرأت عليه كثيرا من الشاطبية وشرح الجزرية لشيخ الإسلام زكريا الأنصاري، وقرأت عليه كثيرا من القرآن، وأجاد وأفاد وهو مالكي المذهب، والذي قبله روايات وأسانيد متصلة إلى القراء السبعة وغيرهم، ومنهم الشيخ يوسف الصاوي قرأت عليه الأكثر

من شرح الخلاصة لابن عقيل -رحمه الله تعالى-. ومنهم إبراهيم البيجوري قرأت عليه شرح الخلاصة للأشموني إلى الإضافة، وحضرت عليه في السلم، وعلى محمد الدمنهوري في الاستعارات، والكافي في علمي العروض والقوافي، قرأها لنا بحاشيته بالجامع الأزهر -عمره الله تعالى- بالعلم والإيمان، وجعله محلا للعمل بالسنة وجميع المدن والأوطان، إنه واسع الامتنان، وصلى الله على أشرف المرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما. أملاه الفقير إلى الله -تعالى- عبد الله بن حسن، أحسن الله إليه بمنه وكرمه، وكتبه الفقير إلى الله، إبراهيم بن راشد سنة 1244، ونقله من خطه الفقير إلى رحمة ربه العزيز محمد بن علي بن محمد البيز، رزقه الله العلم والعمل وحسن الخاتمة عند حلول الأجل، إنه واسع المن كثير الفضل سنة 1334.

الفائدة الخامسة: أحكام الحج

الفائدة الخامسة [أحكام الحج] بسم الله الرحمن الرحيم هذه المسألة للشيخ عبد الرحمن بن حسن بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب -رحمهم الله-. اعلم وفقني الله وإياك لطاعته أن من استكملت فيه شروط وجوب الحج لا يخلو من أن يكون صحيح البدن وهو الغالب، فيلزمه السعي إلى الحج فورا إذا تمت شروطه كأمن الطريق، وإما أن يكون مريضا ونحوه؛ والمرض إما أن يرجى برؤه كغالب الأمراض أو لا، فإن كان يرجى برؤه فلا يجوز له الاستنابة بحال، فإن برئ حج بنفسه، وإن مات أقيم من يحج عنه من رأس ماله. وإن كان المرض لا يرجى برؤه كمرض السل في آخره لزمه أن يقيم من يحج عنه كالكبير الذي يشق عليه السفر مشقة غير محتملة، قال في "الإنصاف": وإن عجز عن السعي للكبر أو مرض لا يرجى برؤه لزمه أن يقيم من يحج عنه من بلده. انتهى. قلت: وأصله حديث ابن عباس أن امرأة من خثعم قالت: "يا رسول الله إن فريضة الله، على عباده في الحج أدركت أبي شيخا كبيرا"1 الحديث، وهذا الحكم خاص لمن كان بعيدا عن الحرم، ولم يتلبس بالإحرام من الميقات، أما من أحرم منه فليس له أن يستنيب من يحج عنه بحال إذا حصر بعدو أو مرض ونحوه؛ ولم ينقل عن أحد من العلماء أنه أجاز لمن أحصر أن يستنيب فيما أعلم. وحكم من حصره عدو أو ضل عن الطريق

_ 1 البخاري: الحج (1513) , ومسلم: الحج (1334) , والترمذي: الحج (928) , والنسائي: مناسك الحج (2635,2641) , وأبو داود: المناسك (1809) , وابن ماجه: المناسك (2907) , وأحمد (1/ 213,1/ 251) , ومالك: الحج (806) , والدارمي: المناسك (1831,1833).

أن يتحلل بهدي إن وجده، وإلا صام عشرة أيام للآية الكريمة هذا إذا لم يشترط في ابتداء إحرامه، وهل يجوز له إذا لم يشترط أن يتحلل بالمرض وذهاب النفقة؟ المذهب أنه لا يحل حتى يقدر على المبيت، وإن فاته الحج تحلل بعمرة، وفيه احتمال يتحلل كمن حصره عدو، قال في "الإنصاف": وهي رواية اختارها تقي الدين. انتهى. وهذا فيمن إحرامه تام، أما من أحصر عن طواف الإفاضة فإنه لا يتحلل حتى يطوف، قال في المنتهى وشرحه: ومن أحصر عن طواف الإفاضة فقط لم يتحلل حتى يطوف ويسعى إن لم يكن سعى، وكذا لو أحصر عن السعي فقط، لأن الشرع ورد بالتحلل بإحرام تام يحرم جميع المحظورات، وهذا يحرم النساء خاصة فلا يلحق به، ومتى زال الحصر أتى بالطواف والسعي إن لم يكن سعى، وتم حجه. إذا علمت ذلك، فالواجب على من ينتسب إلى معرفة شيء من أحكام الشرع أن لا يفتي في مسألة حتى يعرف حكمها بالنص عليها في كلام العلماء -رحمهم الله تعالى-، فعلى هذا لا تصح الاستنابة عن طواف الإفاضة بحال ويلزم من لم يطف للإفاضة بنفسه أن يعتزل النساء حتى يرجع فيحرم من الميقات بعمرة، فإذا طاف طواف العمرة وسعى طاف لحجه وسعى إن لم يكن سعى، والله -سبحانه وتعالى- أعلم، قاله الشيخ عبد الرحمن بن حسن بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب -رحمهم الله تعالى-.

الفائدة السادسة

الفائدة السادسة بسم الله الرحمن الرحيم ولا حول ولا قوة إلا بالله الحمد لله، من عبد الرحمن بن حسن إلى الشيخ جمعان بن ناصر منحه الله من العلوم أنفعها ومن الفضائل أرفعها، آمين. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. (أما بعد): فقد وصل إلينا كتابك، فاستبان به مرامك وخطابك، فسررنا به غاية السرور، جعله الله -تعالى- من مكاسب الأجور. وقد سألت فيه -أمدك الله بإمداده وسددك بإلهامه وإرشاده- عن مسائل: [تحريم الزوجة] (الأولى): ما قول العلماء فيمن حرم زوجته ... إلى آخره. (فالجواب) -وبالله التوفيق ومنه أستمد العون والتحقيق-: تحريم الزوجة ظهار ولو نوى به طلاقا أو يمينا، نص عليه إمامنا -رحمه الله- في رواية الجماعة، وهو المذهب، ونقل ما يدل على أنه يمين وفاقا للثلاثة. وجزم شيخ الإسلام ابن تيمية في "الاختيارات" و"الفتاوى المصرية" في باب الظهار بالأول، لكن قال ابن القيم في الإعلام: إنه إن وقع التحريم كان ظهارا ولو نوى به الطلاق، وإن حلف به كان يمينا مكفرة، وهذا اختيار شيخ الإسلام، وعليه يدل النص والقياس؛ فإنه إذا أوقعه كان أتى منكرا من القول وزورا، وكان أولى بكفارة الظهار ممن شبه امرأته بالمحرم. وإذا حلف به كان يمينا من الأيمان كما لو التزم الإعتاق والحج، وهذا محض القياس والفقه. انتهى. قلت: قوله إذا حلف كان يمينا ... إلى آخره، بناء إلى ما ذهب إليه

من أن المعلق على شرط يقصد بذلك الحض أو المنع أو الالتزام، فإنه يجزئه فيه كفارة يمين إن حنث، وإن أراد الإيقاع عند وجود المعلق عليه طلقت، وصرَّح به الشيخ في باب تعليق الطلاق بالشروط؛ وكذا الحلف بعتق وظهار وتحريم. [إحالة الدين] (الثانية): إذا أحال إنسان على آخر، ولم يعلم بذلك حتى قضى دينه أو قضاه من أحاله عليه ثانيا ... إلى آخره. (فالجواب): قد برئت ذمة المدين إذا دفعه إلى صاحبه أو إلى من أذن له أن يدفعه إليه لوجوب القضاء بعد الطلب فورا، ولا يلزم المدين غرم ما قضاه من الدين؛ لأن الشرائع لا تلزم إلا بعد العلم، فلا تبعة عليه فيما لم يعلم، وقد أفرد شيخ الإسلام ابن تيمية هذه القاعدة، وقرر أدلتها فعلى هذا يرجع من أحيل أولا بدينه على المحيل كما قبل الحوالة. [إصلاح الرهن] (الثالثة): إذا رهن إنسان نخله أو زرعه، واحتاج الراهن لما يصلح الرهن، فطلب من المرتهن أن يداينه لذلك أو يطلق الرهن لمن يداينه، فامتنع وعلى الراهن ضرر. (فالجواب): أن الصحيح من أقوال العلماء أن القبض والاستدامة شرط للزوم الرهن، قال في الشرح: ولا يلزم الرهن إلا بالقبض، ويكون قبل رهنا جائزا، يجوز للراهن فسخه، وبهذا قال أبو حنيفة والشافعي. وقال بعض أصحابنا في غير المكيل والموزون رواية: إنه يلزم بمجرد العقد، ونص عليه الإمام أحمد -رحمه الله- في رواية الميمون، وهذا مذهب مالك، ووجه الأولى قوله -تعالى-: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} 1 فعلى هذا إن تصرف الراهن فيه قبل القبض بهبة أو بيع أو عتق أو جعله صداقا أو رهنه فيه

_ 1 سورة البقرة آية: 283.

قبل القبض ثانيا، بطل الرهن الأول سواء قبض الهبة أو المبيع أو الرهن الثاني أو لم يقبضه، فإن أخرجه المرتهن إلى الراهن باختياره له زال لزومه، وبقي العقد كأن لم يوجد فيه قبض، قال في "الإنصاف": هذا المذهب وعليه الأصحاب، وعنه أن استدامته في العين ليس بشرط، واختاره في الفائق. انتهى ملخصا. فقد عرفت الأصح من الأقوال الذي عليه أكثر العلماء، فعليه لا ضرر على الراهن لبطلان الرهن بالتصرف إذا لم يكن في قبضة المرتهن. وقد ذكر العلماء -أيضا- أن المرتهن لا يختص في ثمن الرهن إلا إذا كان لازما، وما عدا هذا القول لا دليل عليه من كتاب ولا سنة، ويترتب على الفتوى به من المفاسد ما لا يتسع لذكره هذا الجواب، وليس مع من أفتى به إلا محض التقليد، وأن العامة تعارفوه فيما بينهم ورأوه لازما فأنت خبير بأن هذا ليس حجة شرعية، وإنما الحجة الشرعية الكتاب والسنة والإجماع -اتفاق مجتهدي العصر على حكم- ولا بد للإجماع من مستند، والدليل القياس الصحيح وكذا الاستصحاب على خلاف فيه. فلا إله إلا الله كم غلب على حكام الشرع في هذه الأزمنة من التساهل في الترجيح، وعدم التعويل على ما اعتمده المحققون من القول الصحيح. وقد ادعى بعضهم أن شيخنا أفتى بلزوم الرهن وإن لم يقبض، فاستبعدت ذلك على شيخنا -رحمه الله-؛ ولو فرضنا وقوع ذلك، فنحن بحمد الله متمسكون بأصل عظيم، وهو أنه لا يجوز لنا العدول عن قول موافق لظاهر الكتاب والسنة لقول أحد كائنا من كان. وأهل العلم معذورون وهم أهل الاجتهاد كما قال مالك -رحمه الله-: ما منا إلا راد ومردود عليه

إلا صاحب هذا القبر يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم بعد زعم هذا الزاعم منَّ الله علي بالوقوف على جواب شيخنا -رحمه الله- فإذا هو جار على الأصح الذي عليه أكثر العلماء، وصورة جوابه أن الراجح الذي عليه كثير من العلماء أو أكثرهم أن الرهن لا يلزم إلا بالقبض، وقبض كل شيء هو المتعارف، فقبض الدار والعقار هو تسلم المرتهن له، ورفع يد الراهن عنه، هذا هو القبض بالإجماع، ومن زعم أن قوله: "مقبوض" يصيره مقبوضا فقد خرق الإجماع مع كونه زورا مخالفا للحس. إذا ثبت هذا فنحن إنما أفتينا بلزوم الرهن بضرورة وحاجة، فإذا أراد صاحبها أن يأكل أموال الناس، ويخون أمانته لمسألة مختلف فيها، فالرجوع إلى الفتوى بقول الجمهور في هذه المسألة، فإن رجعنا إلى كتاب الله وسنة رسوله في إيجاب العدل وتحريم الخيانة فهذا هو الأقرب قطعا، وإن رجعنا إلى كلام غالب العلماء فهم لا يلزمون ذلك إلا برفع يد الراهن وكونه في يد المرتهن، انتهى المقصود. فذكر -رحمه الله تعالى- في هذه الفتيا أن الراجح الذي عليه أكثر العلماء أن الرهن لا يلزم إلا بالقبض، وأنه إنما أفتى بخلافه لضرورة وحاجة، وأنه رجع إلى قول الجمهور لما قد ترتب على خلافه من الخروج عن العدل ومن الخيانة، وهذا الذي أشار إليه -رحمه الله- من الخروج عن العدل، وأكل أموال الناس بالباطل والخيانة؛ في الأمانة قد رأيناه عيانا، وسببه الإفتاء بخلاف قول الجمهور في هذه المسألة. وقد قرر -رحمه الله- في هذه الفتيا أن قول الجمهور أقرب إلى العدل، فلا يجوز أن ينسب إليه -رحمه الله- غير هذا القول المقرر هنا، والله أعلم. [انتفاء لزوم الرهن] (الرابعة): إذا استأجر إنسان أرضا للزرع ونحوه، ثم رهنه فقصرت

الثمرة عن الدين والأجرة وعن الجذاذ والجزار والعامل ... إلى آخره. (فالجواب): إذا انتفى لزوم الرهن لعدم القبض أو الاستدامة تحاصوا في الثمرة وغيرها على قدر الذي لهم؛ لأن محل ذلك ذمة المدين، وتقديم أحدهم على ترجيح من غير مرجح. وما اشتهر بين الناس من تقديم العامل في الزرع ونحوه بأجرته، فلم نقف على أصل يوجب المصير إليه، والله أعلم. [جعل قيمة العروض رأس مال المضاربة] (الخامسة): إذا دفع إنسان إلى آخر عروضا مضاربة، وجعل قيمتها رأس مال المضاربة، هل يجوز هذا أم لا؟. (الجواب): يشترط في المضاربة وشركة العنان أن يكون رأس المال من النقدين أو أحدهما، وهو المذهب؛ وعنه رواية أخرى أنها تصح بالعروض، اختارها أبو بكر وأبو الخطاب وصاحب الفائق وغيرهم، قال في "الإنصاف": قلت: وهو الصواب، فعلى هذه الرواية يرجع عند المفارقة بقيمة العروض عند العقد، كما جعلنا نصابها قيمتها، وسواء كانت مثلية أو غير مثلية، والله أعلم. [فسخ المضاربة] (السادسة): إذا دفع إنسان مالا مضاربة، وعمل فيه المضارب، ثم تلف من المال شيء بخسارة أو نحوها، ثم فسخ المضارب، هل عليه أن يعمل فيه حتى يكمل رأس المال أم لا؟ (فالجواب): ذكر في القواعد الفقهية عن ابن عقيل ما حاصله أنه لا يجوز للمضارب الفسخ حتى يتضرر رأس المال، ويعلم به ربه لئلا يتضرر بتعطل ماله عن الربح، وأن المالك لا يملك الفسخ إذا توجه المال إلى الربح ولا يسقط به حق العامل، قال: وهو حسن جار على قواعد المذهب في

اعتبار المقاصد وسد الذرائع؛ ولهذا قلنا: إن المضارب إذا ضارب لآخر من غير الأول وكان عليه في ذلك ضرر رد حقه من الربح في شركة الأول. انتهى. (أقول): مراده بقوله: "حتى يتضرر رأس المال" يعني: إذا لم ينقص، أما إذا نقص فليس على المضارب إلا تنضيض ما بقي في يده من رأس المال، لأن المضاربة عقد جائز، ولا ضمان على المضارب فيما تلف من غير تعدٍ منه ولا تفريط، والله أعلم. [إكراء الأرض والزرع] (السابعة): هل يلزم صاحب الأرض إذا أكرى أرضه أو شجره عند من يُجوِّز ذلك ما يلزمه في عقد المساقاة من سد حائط أو إجراء نهر أو لا؟ فلم أقف في هذه المسألة للعلماء -رحمهم الله- على نص، والله أعلم. [غنيمة المسلم مال المسلم من كافر] (الثامنة): ما حكم مال المسلم إذا أخذه الكفار الأصليون، ثم اشتراه بعض التجار ممن أخذه، ثم باعه على آخر ... إلخ. (فالجواب): أما حكم مال المسلم إذا أخذه الكفار الأصليون فذكر القاضي أبو يعلى -رحمه الله-: أنهم يملكونه بالقهر، وهو المذهب عنده، وقال أبو الخطاب: ظاهر كلام أحمد أنهم لا يملكونها يعني: ولو حازوها إلى دارهم، قال في "الإنصاف": وهو رواية عن أحمد اختارها الآجري وأبو الخطاب في تعليقه وابن شهاب وأبو محمد الجوزي، وجزم به ابن عبدوس في تذكرته، قال في "النظم": لا يملكونه في الأظهر، وذكر ابن عقيل في فنونه ومفرداته روايتين، وصحَّح فيها عدم الملك وصحَّحه في نهايته ابن رزين ونظمها. انتهى. قال في الشرح: وهو قول الشافعي وابن المنذر؛ لحديث ناقة النبي صلى الله عليه وسلم، ولأنه مال معصوم طرأت عليه يد عادية فلم تملك بها

كالغصب، ولأن من لا تملك فيه غيره لا يملك ماله به أي: بالقهر كالمسلم مع المسلم، ووجه الأولى أن القهر سبب تملك به المسلم مال الكافر فملك به الكافر مال المسلم كالبيع، فعلى هذا يملكونها قبل حيازتها إلى دارهم، وهو قول مالك. وذكر القاضي أنهم يملكونها بالحيازة إلى دارهم، وهو قول أبي حنيفة. وحكي عن أحمد في ذلك روايتان، قال ابن رجب: ونص أحمد أنهم لا يملكونها إلا بالحيازة إلى دارهم. فعليها يمتنع ملكهم لغير المنقول كالعقار ونحوه، لأن دار الإسلام ليست لهم دارا، وإن دخلوها. لكن ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- أن أحمد -رحمه الله- لم ينص على الملك ولا على عدمه، وإنما نص على أحكام أخذ منها ذلك، قال: والصواب أنهم يملكونها ملكا مقيدا لا يساوي امتلاك المسلمين من كل وجه. انتهى. قلت: قد صرح في كتاب "الصارم" و"الفتاوى المصرية" وغيرها أن القيد المشار إليه هو إسلام آخذها، ونصه: "ولو أسلم الحربي وبيده مال مسلم قد أخذه من المسلمين بطريق الاغتنام ونحوه، كان له ملكا ولم يرده إلى الذي كان يملكه عند جماهير العلماء من التابعين ومن بعدهم؛ وهو معنى ما جاء عن الخلفاء الراشدين، وهو مذهب أبي حنيفة ومالك ومنصوص أحمد، وقول جماهير أصحابنا على أن الإسلام والعهد قرر ما بيده من المال الذي كان يعتقده ملكا له فلم يؤخذ منه كجميع ما بيده من العقود الفاسدة التي كان يستحلها. قال في "الاختيارات: قال أبو العباس: وهذا يرجع إلى أن كل ما قبضه الكفار من الأموال قبضا يعتقدون جوازه فإنه يستقر لهم بالإسلام، قال: ومن العلماء من قال يرده على مالكه المسلم كالغصب؛ ولأنه لو أخذه

منهم المسلم أخذًا لا يملك به مسلم من مسلم بأن يغنمه أو يصرفه، فإنه يرده إلى مالكه المسلم؛ لحديث ناقة النبي صلى الله عليه وسلم؛ وهو مما اتفق الناس عليه مما نعلمه ولو كانوا قد ملكوه لملكه الغانم منهم، ولم يرده إلى مالكه. انتهى. واختار أن الكافر يملكه بالإسلام عليه. أقول: تأمل ما ذكره شيخ الإسلام من حجة الشافعي وموافقيه على أن الكفار لا يملكون أموال المسلمين، فلو كان الكافر يملك مال المسلم بالاستيلاء أو الحيازة إلى داره لم يرد النبي صلى الله عليه وسلم على ابن عمر عبده وفرسه التي كان قد أخذها العدو لما ظهر عليهم المسلمون، فلو لم يكن باقيا على ملك ابن عمر لم يرد إليه، وليس لتخصيصه بذلك دون سائر المسلمين معنى غير ذلك، وعمل بذلك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بعده. والأحاديث بذلك مشهورة في كتب الأحكام وغيرها. قال البخاري -رحمه الله- في صحيحه: (باب إذا غنم المسلمون مال المسلم ثم وجده المسلم) قال ابن نمير: أنبأنا عبيد الله عن نافع عن ابن عمر أنه ذهب فرس له، فأخذه العدو، فظهر عليه المسلمون فردَّه عليه في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وأبق له عبد فلحق بالروم، فظهر عليه المسلمون فرده عليه خالد بن الوليد بعد النبي صلى الله عليه وسلم. اه. ثم ساقه متصلا. وما استدل به القائلون بأنهم يملكونها بالقهر من أن القهر سبب يملك به المسلم مال الكافر، فملك به الكافر مال المسلم، فهذا قياس مع الفارق لا يصح دليلا لو لم يكن في مقابلة الأحاديث فكيف يمنعه؟ ولو لم يكن مع الشافعي وأبي الخطاب وابن عقيل فيما صحَّحه من الروايتين، ومن وافقهم كابن المنذر إلا حديث مسلم: "أن قوما أغاروا على سرح النبي صلى الله عليه وسلم، فأخذوا ناقته

وجارية من الأنصار، فأقامت عندهم أياما، ثم خرجت في بعض الليل، قالت: فما وضعت يدي على ناقة إلا رغت حتى وضعتها على ناقة ذلول فامتطيتها، ثم توجهت إلى المدينة، ونذرت إن نجاني الله عليها أن أنحرها، فلما قدمت المدينة استعرفت الناقة، فإذا هي ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذها، وقلت: يا رسول الله إني نذرت أن أنحرها. قال: بئسما جزيتها لا نذر في معصية الله". وفي رواية: "لا نذر فيما لا يملك ابن آدم"1. هذا هو الحديث المشار إليه فيما تقدم، وقد عرفت من كلام شيخ الإسلام المتقدم أن من العلماء من قال يرده على مالكه المسلم ولو أسلم عليه، وعزاه للشافعي وأبي الخطاب، وذكر ما يدل لهذا القول، وأنا أذكر ما يدل لهذا القول أيضا، وإن لم يذكره شيخ الإسلام وهو ما رواه ... 2 في صحيحه عن وائل بن حجر قال: "كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم فأتاه رجلان يختصمان في أرض، فقال أحدهما: إن هذا انتزى على أرضي يا رسول الله في الجاهلية، وهو امرؤ القيس بن عابس الكندي وخصمه ربيعة بن عبدان، قال: بينتك؟ قال: ليس لي بينة، قال: يمينه. قال: إذًا يذهب بها. قال: ليس لك إلا ذلك"3 ... الحديث. وأما حكم ما أخذه المسلمون منهم مما قد أخذوه من مال المسلم، فالجمهور من العلماء يقولون: إذا علم صاحبها قبل قسمها ردت إليه بغير شيء. قال الشارح في قول عامة أهل العلم، منهم عمر وسلمان بن ربيعة وعطاء والنخعي والليث والثوري ومالك والأوزاعي والشافعي وأصحاب الرأي، وحجتهم ما تقدم من قصة ابن عمر، قال في "الشرح": وكذلك إن علم الإمام بمال مسلم قبل قسمه وجب ردُّه، وصاحبه أحق به بغير شيء، لأن قسمته صارت باطلة من

_ 1 النسائي: الأيمان والنذور (3812) , وأبو داود: الأيمان والنذور (3316) , وابن ماجه: الكفارات (2124) , وأحمد (4/ 429,4/ 430,4/ 432) , والدارمي: النذور والأيمان (2337). 2 بياض في الأصل. 3 مسلم: الإيمان (139) , والترمذي: الأحكام (1340) , وأبو داود: الأيمان والنذور (3245) والأقضية (3623) , وأحمد (4/ 317).

أصلها، فهو كما لو لم يُقَسَّم، فإن أدركه بعد القسم ففيه روايتان، إحداهما: يكون صاحبه أحق به من الثمن الذي حسب به على آخذه؛ وكذلك إن بيع، ثم قسم ثمنه فهو أحق به من الثمن، وهذا قول أبي حنيفة والثوري والأوزاعي ومالك كي لا يُفضي إلى حرمان أخذه من الغنيمة، أو تضييع الثمن على المشتري، يعني: من الغنيمة وحقهما يُخيَّر بالثمن، فيرجع صاحب المال في عين ماله بمنزلة مشتري الشقص لمشفوع. والرواية الثانية: أنه لا حق له فيه بعد القسمة بحال، نص عليه أحمد في رواية أبي داود وغيره، وهو قول عمر وسلمان وربيعة وعطاء والنخعي والليث. وقال الشافعي وابن المنذر: يأخذه صاحبه قبل القسمة وبعدها، ويعطى مشتريه ثمنه من خمس المصالح، لأنه لم يزل عن ملك صاحبه، فوجب أن يستحق بغير شيء كما قبل القسمة، ويعطى من حسبت عليه القيمة لئلا يفضي إلى حرمان أخذه حقه من الغنيمة، وجعل من سهم المصالح؛ لأن هذا منها، فإن أخذه أحد الرعية بهبة أو سرقة أو بغير شيء فصاحبه أحق به من غير شيء. وقال أبو حنيفة: لا يأخذه إلا بالقيمة، وهو محجوج بحديث ناقة النبي صلى الله عليه وسلم المتقدم؛ ولأنه لم يحصل في يده بعوض، فصار صاحبه أحق به من غير شيء كما لو أدركه في الغنيمة قبل القسمة، فأما إن اشتراه رجل من العدو فليس لصاحبه أخذه إلا بثمنه. وهذا كله إنما هو في الكافر الأصلي، أما المرتد فلا يملك مال المسلم بحال عند جميع العلماء، ولا يُعْلَم أحد قال به، وقد تتبعت كتب الخلاف كالمغني والقواعد والإنصاف وغيرها، فما رأيت خلافا في أنه لا يملكه، وإنما الخلاف فيما أتلفه إذا كان في طائفة ممتنعة أو لحق بدار الحرب

والمذهب أنه يضمن ما تلف في يده مطلقا، فافهم ذلك. المرتد لا يملك مال المسلم مطلقا، فافهم ذلك. فالمسلم يأخذ ماله من المرتد أو من انتقل إليه بعوض أو غيره بغير شيء، وما تلف في يد المرتهن من مال المسلم أو تلف عند من انتقل إليه من جهة المرتد فهو مضمون كالمغصوب. ثم اعلم أنه قد يغلط من لا تمييز عنده في معنى التلف والإتلاف، فيظن أنه إذا استنفق المال أو باعه أو وهبه أو نحو ذلك يعد إتلافا، وليس كذلك؛ بل هذا تصرف وانتفاع. وقد فرَّق العلماء بين هذا وبين الإتلاف، ومن صور الإتلاف والتلف أن يضيعه أو يضيع أو يسرق أو يحرق أو يقتل 1 ونحو ذلك، فإن كان بفعله فهو إتلاف؛ وإن كان بغير فعله فهو بالنسبة إليه تلف يترتب عليه أحكام ما تلف بيده، وبالنسبة إلى الفاعل إتلاف؛ وضابطه فوات الشيء على وجه لا يعد من أنواع التصرفات. إذا عرفت أن حكم المرتد يفارق حكم الكافر الأصلي، فاعلم أنه قد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- فيمن اشترى مال مسلم من التتر لما دخلوا الشام، إن لم يعرف صاحبه صُرِفَ في المصالح وأعطي مشتريه ما اشتراه به، لأنه لم يصر لها إلا بنفقة، وإن لم يقصد ذلك. انتهى من الإنصاف. [اجتهادات العلماء في المنهوب] وسئل -أيضا- عمن اشترى فرسا، ثم ولدت عنده حصانا، وأخذ السلطان الفرس، وأهدى الحصان لرجل فأعطاه عوضه، ثم ظهرت الفرس أنها كانت مكسوبة نهبا من قوم، فهل يحرم ثمن الحصان؟ (فأجاب): إن كان صاحب الفرس معروفا رُدَّت إليه فرسه، ورجع المشتري بالثمن على بائعه، ويرجع عليه بقيمة الحصان، أو قيمة نصفه الذي يستحقه صاحبه لكونه

_ 1 يعني المملوك الحي من إنسان وحيوان.

غره، وإن كانت مكسوبة من التتر والعرب الذي يغير بعضهم على بعض، فيأخذ هؤلاء من هؤلاء، وهؤلاء من هؤلاء، ولم يعرف صاحبها؛ لم يحرم على مهدي الحصان عوض هديته. والله أعلم. وقد صرَّح شيخ الإسلام -رحمه الله- بأن هذا المنهوب يرد إلى صاحبه، أو قيمته إن تصرف فيه، ويرجع المشتري بالثمن على البائع، وإنه إن لم يعرف صاحبه ما أخذه من التتر والعرب لم يحرم عليه عوضه، فمفهومه أنه إذا عرف صاحبه، فعوضه حرام على من اعتاض عنه لكونه ظهر مستحقا لمسلم معصوم. وهذا -أيضا- يفيد ما تقدم من قوله: فمن اشترى مال مسلم من التتر إن لم يعرف صاحبه صُرِفَ في المصالح ... إلخ. وهو صريح في أن التتر لا يملكون مال المسلم بالاستيلاء والحيازة. ومن العلوم أن التتر من أعظم الناس كفرا لما جمعوه من المكفرات في الاعتقادات والأعمال، ومع ذلك قال شيخ الإسلام: يرد ما أخذوه لصاحبه المسلم من غير أن يدفع إلى مشتريه منهم شيئا، كما يفيده الجواب الثاني. ولم يقل فيه أنه لا يحرم على من اعتاض عن الحصان شيئا إلا بقيد عدم معرفة صاحبه بناء على أصله في الأموال التي جهلت أربابها؛ ولذلك قال في المكوس: إذا أقطعها الإمام الجند هي حلال لهم إذا جهل مستحقها. وبهذا يظهر الجواب عن المسألة التاسعة، وهو أن ما دفع في هذه السنين من النهب والظلم يرد ما وجد منه إلى مالكه، من غير أخذ ثمن ولا قيمة، وحكم يد المشتري منهم حكم الأيدي المترتبة على يد الغاصب؛ لما تقرر من أن الخلاف إنما جرى في حق الكافر الأصلي، وأما المرتد ونحوه فالقول بأنه لا يملك مال المسلم مسألة وفاق.

قال شيخ الإسلام -رحمه الله- في الفتاوى المصرية ما يفهم الفرق بين الكافر الحربي والمرتد، فقال: وإذا قدر على كافر حربي فنطق بالشهادتين وجب الكف عنه، بخلاف الخارجين عن الشريعة كالمرتدين الذين قاتلهم أبو بكر رضي الله عنه والتتر وأمثال هذه الطوائف ممن نطق بالشهادة ولا يلتزم شرائع الإسلام، وأما الحربي فإذا نطق بها كفَّ عنه. وقال -أيضا-: ويجب جهاد الكفار، واستنقاذ ما بأيديهم من بلاد المسلمين وأموالهم بإنفاق المسلمين، ويجب على المسلمين أن يكونوا يدا واحدة على الكفار، وأن يجتمعوا ويقاتلوا على طاعة الله ورسوله والجهاد في سبيله. انتهى. فيعلم مما تقرر أن الأموال المنهوبة في هذه السنين غصوب يجري فيها حد الغصب، وما يترتب عليه، وبهذا أفتى شيخنا الشيخ عبد الله بن شيخنا الإمام -رحمهما الله تعالى-، وأفتى به الشيخ محمد بن علي قاضي صنعاء، وما علمت أن أحدا له أدنى ممارسة يخالف ذلك، والله أعلم. [ذبح السارق المسلم أو الكتابي المسروق مع التسمية] (العاشرة): قال السائل وجدت نقلا عن الإقناع وشرحه إذا ذبح السارق المسلم أو الكتابي المسروق مسميا حل لربه ونحوه أكله، ولم يكن ميتة كالمغصوب. انتهى. قال السائل: وهل هذا إلا مغصوب ويعارضه حديث عاصم بن كليب عن أبيه ... إلخ. (الجواب): لا معارضة إذ ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم الأكل منها لا يدل على أنها ميتة من وجوه، منها: أنها ليست ملكا لهم ولا لمن ذبحها، فهي وإن حرمت عليهم لا تحرم على مالكها، ولا من أذن له مالكها في الأكل منها. ويحتمل أنه ترك الأكل منها تنزُّها، ويدل على حلها بهذه الزكاة قوله: أطعمتها الأسارى) وهو لا يطعهم ميتة، وقوله: "كالمغصوب"

راجع لقوله حلالا لا لقوله ميتة شبهه بذبح الحيوان المغصوب في الحل لا في الحرمة، والله أعلم. [قاص أو جازفه في الدين] (الحادية عشرة): إذا كان لإنسان على آخر دين من طعام ونحوه، فأشفق في الوفاء، فطلب غريمه أن يعطيه الثمرة عماله في ذمته، فهل يجوز ذلك أم لا. (فالجواب) -وبالله التوفيق-: قال البخاري -رحمه الله- في صحيحه (باب إذا قاص أو جازفه في الدين، فهو جائز -زاد في رواية كريمة- تمرا بتمر وغيره) وساق حديث جابر أن أباه توفي، وترك عليه ثلاثين وسقا لرجل من اليهود، فاستنظره جابر فأبى أن ينظره، وكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم ليشفع له إليه فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلم اليهودي ليأخذ ثمر نخله بالذي له فأبى، الحديث. وبه استدل ابن عبد البر وغيره من العلماء على جواز أخذ الثمر على الشجر عما في ذمته، إذا علم أنه دون حقه إرفاقا بالمدين، وإحسانا إليه وسماحة بأخذ الحق ناقصا. وترجم البخاري -رحمه الله- بهذا الشرط فقال: (إذا قضى دون حقه أو حلَّله فهو جائز)، وساق حديث جابر -أيضا-، فأما إذا كان يحتمل أنه دون حقه أو مثله أو فوقه، فهذا غير جائز أن يأخذ عما في الذمة شيئا مجازفة أو خرصا، لا سيما إذا كان دين سَلَمٍ لما في البخاري وغيره عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من أسلف في شيء فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم ومضمون"1 هذا الحديث عام، وبه أخذ الجمهور، وقد يقال: إن قضية جابر قضية عين لا عموم لها، ويترجَّح المنع بهذا سدا للذريعة، لا سيما في هذه الأوقات لكثرة الجهل والجراءة بأدنى شبهة، والله أعلم. [الباطل والفاسد عند الأصوليين] (الثانية عشرة): ما حكم الباطل والفاسد عند الأصوليين؟

_ 1 البخاري: السلم (2239) , ومسلم: المساقاة (1604) , والترمذي: البيوع (1311) , والنسائي: البيوع (4616) , وأبو داود: البيوع (3463) , وابن ماجه: التجارات (2280) , وأحمد (1/ 217,1/ 222).

(الجواب): هما مترادفان عند الأصوليين والفقهاء من الحنابلة والشافعية، وقال أبو حنيفة: إنهما متباينان، فالباطل عنده ما لم يشرع بالكلية كبيع المضامين والملاقيح، والفاسد ما شرع أصله، ولكن امتنع لاشتماله على وصف محرم كالربا. وعند الجمهور كل ما كان منهيا عنه إما لعينه أو وصفه ففاسد وباطل؛ لكن ذهب بعض الفقهاء من الحنابلة إلى التفرقة بين ما أجمع على بطلانه وما لم يجمع على بطلانه، فعبروا عن الأول بالباطل، وعن الثاني بالفاسد، لتمييز هذا من هذا، لكون الثاني يترتب عليه أحكام الصحيح غالبا، أو أنهم قصدوا الخروج من الخلاف في نفس التعبير، لأن من عادة الفقهاء أهل المذهب مراعاة الخروج من الخلاف. وبعضهم يعبر بالباطل عن المختلف فيه مراعيا للأصل، ولعل من فرَّق بينهما في التعبير لا يمنع من تسمية المختلف فيه باطلا، فلا اختلاف. ومثل ذلك خلافهم في الفرض، والواجب، قال في القواعد الأصولية: "نهما مترادفان شرعا في أصح الروايتين عن أحمد، اختارها جماعة منهم ابن عقيل، وقاله الشافعية. وعن أحمد الفرض آكد اختارها جماعة، وقاله الحنفية. فعلى هذه الرواية الفرض: ما ثبت بدليل مقطوع به، وذكره ابن عقيل عن أحمد، وقيل: ما لا يسقط في عمد ولا سهو. وحكى ابن عقيل عن أحمد رواية: أن الفرض ما لزم بالقرآن، والواجب ما كان بالسنة، وفائدة الخلاف أنه يثاب على أحدهما أكثر، وأن طريق أحدهما مقطوع به، والآخر مظنون، ذكره القاضي، وذكرهما ابن عقيل على الأول، قال غير واحد: والنزاع لفظي. وعلى هذا الخلاف ذكر الأصحاب مسائل فرَّقوا فيها بين الفرض والواجب، والله أعلم وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وسلم تسليما كثيرا.

34 مسألة

بسم الله الرحمن الرحيم وبه أستعين [الاستدانة لأجل وتزييد الفائدة بالتأخير] (مسألة) في رجل أراد الاستدانة من رجل فقال: أعطيك كل مائة بكسب كذا. وتبايعا بينهما شيئا من عروض التجارة؛ فلما استحق الدين طالبه بالدين، فعجز عنه فقال: اقلب علي الدين بكسب كذا وكذا في المائة، وتبايعا بينهما عقارا، وفي آخر كل سنة يفعل معه مثل ذلك، وفي جميع المبايعات غرضهم الحلال. فصار المال عشرة آلاف درهم، فهل يحل لصاحب الدين مطالبة الرجل بما زاد في هذه المدة الطويلة؟ وهل لولي الأمر إنكار ذلك أم لا؟ (فالجواب): قول القائل لغيره: أدينك كل مائة بكسب كذا وكذا حرام. وكذلك إذا حل الدين عليه وكان معسرا، فإنه يجب إنظاره؛ ولا يجوز إلزامه بالقلب عليه باتفاق المسلمين. وبكل حال فهذه المعاملة وأمثالها من المعاملات التي يقصد بها بيع الدراهم بأكثر منها إلى أجل هو معاملة فاسدة ربوية، والواجب رد المال المقبوض فيها، إن كان باقيا، وإن كان فانيا رد مثله؛ ولا يستحق الدافع أكثر من ذلك. وعلى ولي الأمر المنع من هذه المعاملات الربوية، وعقوبة من يفعلها، ورد الناس فيها إلى رؤوس أموالهم دون الزيادات؛ فإن هذا من الربا الذي حرَّمه الله ورسوله، وقد قال -تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} 1.

_ 1 سورة البقرة آية: 278.

[تحريم الربا] (مسألة) * في تحريم الربا وما يفعل من المعاملات بين الناس اليوم ليتوصلوا بها إلى الربا، وإذا حل الدين يكون المديون معسرا، فيقلب الدين في معاملة أخرى بزيادة مال، وما يلزم ولاة الأمور في هذا؟ وهل يرد على صاحب المال رأس ماله دون ما زاد في معاملة الربا؟ (الجواب): المراباة حرام بالكتاب والسنة والإجماع، وقد (لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه، ولعن المحلل والمحلل له)، قال الترمذي: حديث صحيح؛ فالاثنان ملعونان. وكان أصل الربا في الجاهلية أن الرجل يكون له على الرجل المال المؤجَّل، فإذا حلَّ الأجل قال له: أتقضي أم تربي؟ فإن وفَّاه وإلا زاد هذا في الأجل، وزاد هذا في المال؛ فيتضاعف المال والأصل واحد؛ وهذا الربا حرام بإجماع المسلمين. وأما إذا كان هذا هو المقصود، ولكن توسلوا بمعاملة أخرى فهذا تنازع فيه المتأخرون من المسلمين، وأما الصحابة فلم يكن فيهم نزاع أن هذا محرم؛ فإنما الأعمال بالنيات، والآثار عنهم بذلك كثيرة مشهورة. والله -تعالى- حرَّم الربا لما فيه من ضرر المحتاجين وأكل المال بالباطل، وهو موجود في المعاملات الربوية. وأما إذا حلَّ الدَّيْن، وكان الغريم معسرا لم يجز بإجماع المسلمين أن يقلب بالقلب لا بمعاملة ولا غيرها، بل يجب إنظاره، وإن كان موسرا، كان عليه الوفاء؛ فلا حاجة إلى القلب لا مع يساره، ولا مع إعساره، والواجب على ولاة الأمور بعد تعزير المتعاملين بالمعاملة الربوية بأن يأمروا المدين أن يؤدي رأس المال، ويسقطوا الزيادة الربوية؛ فإن كان معسرًا وله مغلات يوفَّى منها، وُفِّيَ دينه منها بحسب الإمكان، والله أعلم.

_ * هذه المسألة أوردها الشيخ عبد الرحمن بن حسن من قبل منسوبة لشيخ الإسلام ابن تيمية في 1/ 381، وهي في "مجموع الفتاوى" 29/ 418. [معد الكتاب للمكتبة الشاملة]

[المتاجرة بالعملة] (مسألة) فيمن اشترى الفلوس أربعة عشر قرطاسا بدرهم ويصرفها ثلاثة عشر بدرهم، هل يجوز؟ (الجواب): إذا كان يصرفها للناس بالسعر العام جاز ذلك، وإن اشتراها رخيصة. وأما من باع سلعة بدراهم، فإنه لا يجب عليه أن يقتص عن شيء منها فلوسا إلا باختياره، وكذلك من اشتراها بدراهم فعليه أن يوفيها دراهم؛ فإن تراضيا على التعويض عن الثمن أو بعضه بفلوس بالسعر الواقع، جاز، والله أعلم. [التفاضل في الربوي للحاجة وانتفاء الضرر] (مسألة) في بيع الأكاديس الإفرنجية بالدراهم الإسلامية مع العلم بأن التفاوت بينهما يسير لا يقوم بمؤنة الضرب، بل فضة هذه الدراهم أكثر، هل تجوز المقايضة بينهما أم لا؟ (الجواب): هذه المقايضة تجوز في أظهر قولي العلماء، والجواز فيه له مأخذان، بل ثلاثة: أحدها: أن هذه الفضة معها نحاس، وتلك فضة خالصة، والفضة المقرونة بالنحاس أقل، فإذا بيع مائة درهم من هذه بسبعين -مثلا- من الدراهم الخالصة، فالفضة التي في المائة أقل من سبعين، فإذا جعل زيادة الفضة بإزاء النحاس جاز على أحد قولي العلماء الذين يجوزون مسألة (مد عجوة) كما هو مذهب أبي حنيفة وأحمد في إحدى الروايتين، وهي -أيضا- مذهب مالك وأحمد في المشهور عنه، إذا كان الربوي تبعا لغيره كما إذا باع شاة ذات لبن بلبن، أو دارا مموَّهة بالذهب بذهب، والسيف المحلى بفضة بفضة أو ذهب، ونحو ذلك. والذين منعوا عن مسألة (مد عجوة) وهو بيع الربوي بجنسه إذا كان معهما، أو مع أحدهما من غير جنسه قد علَّله طائفة منهم من أصحاب الشافعي وأحمد بأن الصفقة إذا اشتملت على عوضين

مختلفين انقسم الثمن عليهما بالقيمة، وهذه علة ضيقة؛ فإن الانقسام إذا باع شقصا مشفوعا، وما ليس بمشفوع كالعبد والسيف والثوب إذا كان لا يحل عاد الشريك إلى الأخذ بالشفعة، فأما انقسام الثمن بالقيمة لغير حاجة فلا دليل عليه. والصحيح عند أكثرهم كون ذلك ذريعة إلى الربا، بأن يبيع ألف درهم في كيس بألفي درهم، ويجعل الألف الزائدة في مقابلة الكيس كما يجوِّز ذلك من يجوِّزه من أصحاب أبي حنيفة. والصواب في مثل هذا أنه لا يجوز, لأن المقصود بيع دراهم بدراهم متفاضلة، فمتى كان المقصود ذلك حرم التوسل إليه بكل طريق، فإنما الأعمال بالنيات. وكذلك إذا لم يعلم مقدار الربوي، بل يخرص خرصا مثل القلادة التي بيعت يوم خيبر، وفيها خرز مغلف بذهب فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تباع حتى تُفَصَّل"1، فإن تلك القلادة لما فصلت كان ذهب الخرز أكثر من ذلك الذهب المفرد فنهى النبي -صلى الله تعالى عليه وسلم- عن بيع هذا بهذا حتى تفصل، لأن الذهب المفرد يجوز أن يكون أنقص من الذهب المقرون؛ فيكون قد باع ذهبا بذهب مثله، وزيادة خرز، وهذا لا يجوز. وإذا علم المأخذ فإذا كان المقصود بيع دراهم بدراهم مثلها، وكان المفرد أكثر من المخلوط كما في الدراهم الخالصة بالمغشوشة بحيث تكون الزيادة في مقابلة الخلط، لم يكن في هذا من مفسدة الربا شيء، إذ ليس المقصود بيع دراهم بدراهم أكثر منها، ولا هو بما يحتمل أن يكون فيه ذلك؛ فيجوز التفاوت. (المأخذ الثاني): مأخذ من يقول يجوز بيع الربوي بالربوي على سبيل التحري والخرص عند الحاجة إلى ذلك إذا تعذر الكيل أو الوزن، كما يقول ذلك مالك والشافعي وأحمد في بيع العرايا بخرصها كما مضت فيه

_ 1 مسلم: المساقاة (1591) , والنسائي: البيوع (4573) , وأبو داود: البيوع (3352) , وأحمد (6/ 21).

السنة في جواز الرطب بالتمر خرصا لأجل الحاجة. ويجوز ذلك في كل الثمار في أحد الأقوال في مذهب أحمد وغيره، وفي الثاني: لا يجوز، وفي الثالث: يجوز في العنب والرطب خاصة، كما يقوله من يقوله من أصحاب الشافعي، وكما يقول نظير ذلك مالك وأصحابه في بيع الموزون على سبيل التحري عند الحاجة، كما يجوز بيع الخبز بالخبز على وجه التحري. وجوَّزوا بيع اللحم باللحم على وجه التحري في السفر، قالوا: لأن الحاجة تدعو إلى ذلك ولا ميزان عندهم؛ فيجوز كما جازت العرايا؛ وفرَّقوا بين ذلك وبين الكيل، فإن الكيل ممكن ولو بالكف. وإذا كانت السنة قد مضت بإقامة التحري والاجتهاد مقام العلم بالكيل أو الوزن عند الحاجة، فمعلوم أن الناس يحتاجون إلى بيع هذه الدراهم المغشوشة بهذه الخالصة، وقد عرفوا مقدار ما فيها من الفضة بإخبار أهل الضرب وإخبار الصيارفة وغيرهم ممن سبك هذه الدراهم، وعرف قدر ما فيها من الفضة، فلم يبق في ذلك جهل مؤثر، بل العلم بذلك أظهر من العلم الخرص أو نحو ذلك. وهم إنما مقصودهم دراهم بدراهم بقدر نصيبهم، ليس مقصودهم أخذ فضة زائدة، ولو وجدوا من يضرب لهم هذه الدراهم فضة خالصة من غير اختيارهم بحيث تبقى في بلادهم لفعلوا ذلك، وأعطوه أجرته؛ فهم ينتفعون لما يأخذونه من الدراهم الخالصة، ولا يتضررون بذلك، وكذلك أرباب الخالصة إذا أخذوا هذه الدراهم فهم ينتفعون بذلك لا يتضررون. وهذا مأخذ ثالث يبين الجواز، وهو أن الربا إنما حرم لما فيه من أخذ الفضل، وذلك ظلم يضر المعطي، فحرم لما فيه من الضرر، وإذا كان كل من المتقايضين مقايضه أنفع له من كسر دراهمه، وهو إلى ما يأخذه محتاج كان ذلك مصلحة لهما هما يحتاجان

إليها، والمنع من ذلك مضرة عليهما؛ والشارع لا ينهى عن المصالح الراجحة، ويوجب المضرة المرجوحة كما قد عرف ذلك من أصول الشرع. وهذا كما أن من أخذ السفتجة من المقرض، وهو أن يقرضه دراهم يستوفيها منه في بلد آخر، مثل أن يكون المقرض غرضه حمل دراهم إلى بلد آخر، والمقترض له دراهم في ذلك البلد، وهو محتاج إلى دراهم في بلد المقرض، فيقترض منه في بلد دراهم المقرض، ويكتب له سفتجة أي: ورقة إلى بلد فيها دراهم المقترض، فهذا يجوز في أصح قولي العلماء، وقيل: ينهى عنه؛ لأنه قرض جرَّ منفعة والقرض إذا جر منفعة كان ربا. والصحيح الجواز لأن المقترض رأى النفع بأمن خطر الطريق إلى نقل دراهمه إلى ذلك، وقد انتفع المقرض أيضا بالوفاء في ذلك البلد، وأمن خطر الطريق إذا نقل دراهمه إلى بلد دراهم المقترض؛ فكلاهما منتفع بهذا الاقتراض؛ والشارع لا ينهى عما ينفع الناس ويصلحهم ويحتاجون إليه، وإنما ينهى عما يضرهم ويفسدهم، وقد أغناهم الله عنه، والله أعلم. [الأكل بعوض] (مسألة) في جندي له أقطاع، ويجيء عند فلاحيه فيطعمونه، هل يأكل؟ (الجواب): إذا أكل وأعطاهم عوض ما أكل فلا بأس، والله أعلم. [الأموال المكسوبة من الخمر والحشيش] (مسألة) في الأموال المكسوبة من الخمر والحشيش، هل يأكلها الفقير أو أعوان ولي الأمر؟ (الجواب): المال المكسوب من الخمر والحشيشة يتصدق به، وإذا تصدق به جاز للفقير أكله، ويجوز أن يعطيه ولي الأمر لأعوانه، والله أعلم. [العمل في المكان المغصوب] (مسألة): في رجل يطحن في طواحين السلطان يستأجرها، وهو يعلم أن بعضها ما هو غصب، وفي رجل يعمل في زرع السلطان، هل

نصيبه منه حلال أو ما يكسبه الأول من الطاحون؟ (الجواب): أما الأراضي السلطانية والطواحين السلطانية التي يعلم أنها مغصوبة، فيجوز للإنسان أن يعمل فيها مزارعة بنصيب من الزرع، ويجوز أن يستأجرها، ويجوز أن يعمل فيها بأجرته مع الضامن. وأما إذا علم أنها مغصوبة، ولم يعرف لها مالك معين، فهذه فيها نزاع؛ والأظهر أنه يجوز العمل فيها، إذا كان العامل لا يأخذ إلا أجرة عمله، فإنه حينئذ لا يكون قد ظلم أحدا شيئا. والعمل فيها خير من تعطيلها على كل تقدير، وهذا إن أمكن أن ترد إلى أصحابها وإلا صرفت في مصالح المسلمين، والمجهول كالمعدوم. وأما إذا عرف أن للأرض مالكا معينا، وقد أخذت منه بغير حق، فلا يعمل فيها بغير إذنه، أو إذن وليه، أو وكيله، والله أعلم. [القصاص من السكران] (مسألة) في رجل أمسك رجلا، وقدمه لرجل سكران بيده سيف، فضربه السكران، فقتل. هل يلزم الذي أمسكه (القود) أم لا؟ (الجواب): يجب القود على هذا الذي أمسكه وقدمه إلى الذي ضربه بالسيف حتى مات في أظهر قولي العلماء، كما هو قول مالك وأحمد في إحدى الروايتين عنه، والله أعلم. [صيال البهائم] (مسألة) في راكب فرس مسربة دباب، ومعه دب فجعل الفرس، ورأى راكبه، ثم هرب ورأى رجلا، فمات؟ (الجواب): لا ضمان على صاحب الفرس، والحال هذه لكن الدباب عليه العقوبة، والله أعلم. [قتل الجماعة بالواحد] (مسألة) في ثلاثة من اللصوص أخذ اثنان منهم مالا، والثالث قتل الجمّال هل تقتل الثلاثة؟

(الجواب) إذا كان الثلاثة حرامية اجتمعوا ليأخذوا المال بالمحاربة قتل الثلاثة، وإن كان الذي باشر القتل واحدا منهم، والله أعلم 1. [سرق كيل غلة وبذره ولم يعرف مالكه] (مسألة) فيمن سرق كيل غلة وبذره ولم يعرف مالكه، هل يجوز له الزرع كله؟ (الجواب): أما مقدار الزرع فيتصدق به بلا ريب، وأما الزيادة ففيها نزاع، وأعدل الأقوال أن يجعل ذلك مزارعة، فيأخذ نصيبه، ونصيب البذر يتصدق به عنه، والله أعلم. [اختلاط الحرام بالحلال] (مسألة) في رجل يختلط ماله الحلال بالحرام؟ (الجواب): يخرج قدر الحرام بالميزان فيدفعه إلى صاحبه، وقدر الحلال حلاله، وإن لم يعرفه أو تعذرت معرفته تصدق به عنه، والله أعلم. [زكاة الإبل] (مسألة) في الرجل له جمال، ويشتري لها أيام الرعي مرعى، هل فيها زكاة؟ (الجواب): إذا كانت راعية أكثر الحول مثل أن يشتري لها المرعى ثلاثة أشهر أو أربعة فإنه يزكيها، هذا أظهر قولي العلماء. [زكاة الزروع] (مسألة) في مقطع له فلاح، والزرع بينهما مناصفة، فهل عليه عشر؟ (الجواب): ما ثبت على ملك الإنسان فعليه عشره، فالأرض المقطعة إذا كانت المقاسمة نصفين فعلى الفلاح تعشير نصفه، وعلى المقطع تعشير نصفه، هذا على القول الصحيح الذي عليه عمل المسلمين قديما وحديثا، وهو قول من قال إن المزارعة صحيحة سواء كان البذر من المالك أو من العامل، وأما من قال إن المزارعة باطلة فعنده لا يستحق المقطع إلا أجرة المثل أو الزرع كله

_ 1 أي: إذا كانوا من المشتركين في قطع الطرق، وقتل الناس لأخذ أموالهم، وأما إذا كانوا لصوصا غير قتلة، وانفرد أحدهم بقتل الجمال أو غيره فلا يقتل إلا القاتل.

لرب البذر العامل، وحينئذ فالعشر كله على العامل، فإن أراد المقطع أن يأخذ نصف المغل مقاسمة، ويجعل العشر كله على صاحب النصف الآخر لم يكن له هذا باتفاق العلماء، والله أعلم. [زكاة المال] (مسألة) في رجل تحت يده مال فوق النصاب فأخرج منه شيئا من زكاة الفرض ظنا منه أنه قد حال عليه الحول، ثم تبين أنه لم يحل الحول فيمن يخرج الزكاة، وفي نفسه إذا كان الحول حال فهي زكاة، وإلا تكون سلفا على ما يجب بعد، هل يجزي في الصورتين؟. (الجواب): نعم يجب ذلك من الزكاة في الصورتين جميعا إذا وجبت الزكاة، والله أعلم. [بيع الآبق] (مسألة) في مملوك لشخص مسلم مقيم في بلاد التتر، ثم إن المملوك هرب من عند أستاذه من تلك البلاد، وجاء إلى بلاد الشام، وهو في الرق. والآن المملوك يختار البيع، فهل يجوز لأحد أن يبيعه ليحفظ ثمنه لأستاذه، ويوصل ذلك إليه أم لا؟ (الجواب): نعم يجوز إذا كان في رجوعه إلى تلك البلاد ضرر عليه في دينه أو دنياه، فإنه يباع في هذه البلاد بدون إذن أستاذه، والله أعلم. [مشيئة الله] (مسألة) في أقوام يقولون: المشيئة، مشيئة الله في الماضي والمستقبل. وأقوام يقولون: المشيئة في المستقبل لا في الماضي، ما الصواب؟ (الجواب): الماضي مضى بمشيئة الله، والمستقبل لا يكون إلا أن يشاء الله؛ فمن قال في الماضي أن الله خلق السماوات -إن شاء الله-، أو أرسل محمدا -إن شاء الله- فقد أخطأ، ومن قال خلق الله السماوات بمشيئة الله وأرسل محمدا بمشيئة الله ونحو ذلك فقد أصاب. ومن قال أنه يكون في الوجود

شيء بدون مشيئة الله فقد أخطأ، ومن قال: ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن: فقد أصاب. وكل ما تقدم فقد كان بمشيئة الله قطعا؛ فالله خلق السماوات بمشيئته قطعا، وأرسل محمدا بمشيئته قطعا، والإنسان الموجود خلْق الله بمشيئته قطعا؛ وإن شاء الله أن يغير المخلوق من حال إلى حال فهو قادر على ذلك، فما خلقه فقد كان بمشيئته قطعا، وإن شاء الله أن يغيره غيره بمشيئته قطعا؛ والله أعلم. [التحايل على القصاص والدية] (مسألة) في طائفة تسمى العشير قيس ويمن يكثر القتل بينهم ولا يبالون به، وإذا طلب منهم القاتل أحضروا شخصا غير القاتل يتفقون معه على أن يعترف بالقتل عند ولي الأمر، فإذا اعترف جهزوا إلى المتولي مَنْ يدعي أنه من قرابة المقتول ويقول: أنا قد أبرأت هذا القاتل مما استحقه عليه؛ ويجعلون ذلك ذريعة إلى سفك الدماء وإقامة الفتن، فإذا رأى ولي الأمر وضع دية المقتول الذي لا يعرف قاتله من الطوائف الذين أثبت أسماءهم في الديوان على جميع الطوائف منهم، هل له ذلك أم لا؟ أو رأى وضع ذلك على أهل محلة القاتل كما نقل بعض الأئمة رضي الله عنهم؟ أو رأى تعزير هؤلاء العشير عند إظهارهم الفتن وسفك الدماء والعناد بوضع مال عليهم يؤخذ منهم ليكف نفوسهم العادية عن ذلك كله، فهل ذلك صحيح أم لا؟ وهل يثاب على ذلك؟ أفتونا مأجورين. (فأجاب) الحنفي عن هذا السؤال بانقسامه على أهل المحلة التي وجد فيها قتيل لم يعرف قاتله، ووضع الدية عليهم دون التعزير بأخذ الأموال. (وأجاب الشيخ) -أيده الله-: الحمد لله، إذا عرف القاتل فلا توضع الدية على أهل مكان المقتول باتفاق الأئمة، وإذا لم يعرف قاتله لا ببينة ولا إقرار ففي مثل هذا تُشرع القسامة، فإذا كان هناك لوث حلف المدعون

خمسين يمينًا عند الجمهور مالك والشافعي وأحمد كما ثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم -في قصة القتيل الذي وجد بخيبر، فإن لم يحلفوا حلف المدعى عليه. ومذهب أبي حنيفة يحلف المدعى عليهم أولا؛ فإن مذهبه أن اليمين لا تكون إلا في جانب المدعى عليه. والجمهور يقولون: هي في جنبه أقوى المتداعيين، فأما إذا عرف القاتل، فإن كان قتله لأخذ مال فهو محارب يقتله الإمام حدا، وليس لأحد أن يعفو عنه لا أولياء المقتول ولا غيرهم، وإن قتل لأمر خاص، فهذا أمره إلى أولياء المقتول، فإن عفوا عنه ... 1 وللإمام في مذهب مالك أن يجلده مائة جلدة ويحبسه سنة، فهذا التعزير يُحَصِّلُ المقصود. وعلى هذا، فإن كان أولياء المقتول قد رضوا بقتل صاحبهم فلا أرغم الله إلا بآنافهم، وإذا قيل: توضع الدية في بعض الصور على أهل المكان مع القسامة، فالدية لورثة المقتول لا لبيت المال، ولم يقل أحد من الأئمة: إن دية المقتول لبيت المال، وكذلك لا توضع الدية بدون قسامة باتفاق الأئمة. وهؤلاء المعروفون بالفتن والعناد، لولي الأمر أن يمسك منهم مَنْ عرف بذلك فيحبسه، وله أن ينقله إلى أرض أخرى ليكف بذلك عدوانه، وله أن يعزر أيضا مَنْ ظهر الشر منه بما يكف به شره وعدوانه. ففي العقوبات الجارية على سنن العدل والشرع ما يعصم الدماء والأموال، ويغني ولاة الأمور عن وضع جنايات تفسد العباد والبلاد. ومن اتُّهِمَ بقتلٍ وكان معروفا بالفجور، فلولي الأمر عند طائفة من العلماء أن يعاقبه تعزيرا على فجوره وتقريرا له؛ وبهذا وأمثاله يحصل مقصود السياسة العادلة. والله أعلم. [فائي يأخذ منه رؤساء القرى شيئا يضيفون به المنقطعين وغيرهم] (مسألة) في رجل فائي يأخذ منه رؤساء القرى شيئا يضيفون به

_ 1 هكذا في الأصل، بلا جواب الشرط وهو: سقط القود ووجبت الدية.

المنطعين وغيرهم ويجبون من المساكين والأرامل مالا فيعطونه، هل يكون حلالا أم حراما؟ (الجواب): إذا اشتروا منهم شيئا وأعطوهم ثمنه من مال يعلمون أنه مغصوب أخذ من أصحابه ظلما، لم يكن لهم أن ينتفعوا به؛ لكن هذا المال إذا اشتروا لهم به ما يطلبونه منهم، لم يكن عليهم منه شيء، إذا كانوا مكرهين على ذلك. فينبغي لمن يتقي أن يظلم وأن يظلم إن اشترى المظلمة بأموالهم ما يطلبونه منه لئلا يظلم غيره، ولا يكون هو مظلوما وهو مكره على هذا العمل. ومع هذا فالمال الذي جمعوه من الناس، وقد تعذر رده على أصحابه إذا أعطوه للفائي عوضا مما أخذوه منه بغير اختياره فهو أحق به ممن يعطاه من غير معاوضة، والظالم في الحقيقة هو الذي أخذ الأموال بغير حق، لا من أخذ عوض ماله من مال لا يعلم له مستحقا معينا، والله أعلم. (مسألة) في نوبة الوكلاء والشحاني يحفظ الغلال على الفلاحين، هل هي حلال؟ (الجواب): إذا كان يحفظ الزرع لصاحب الأرض والفلاح، فله أجرته عليها، فإذا كانت المؤونة التي يأخذها من الفلاح بقدر حقه عليه: فلا بأس، والله أعلم [أخذ الزكاة ممن ليس عنده نصاب] (مسألة) في قرية بها فلاحون، وهي نصفان: أحد فلاحي النصفين له غنم تجب فيها الزكاة؛ والنصف الآخر ليس لفلاحيه غنم قدر ما تجب فيه الزكاة؛ فألزم الإمام أهل القرية بزكاة الغنم على الفلاحين، فهل تجب على من له النصاب؛ وإذا وجبت عليه فهل يجوز للإمام أن يأخذ ممن ليس له نصاب؟

(الجواب): تجب إن كان المطلوب هو مقدار ما فرضه الله على من تجب عليه الزكاة اختصوا بأدائه، وإن كان المطلوب فوق الواجب على سبيل الظلم، اشترك فيه الجميع بحسب أموالهم. والله أعلم. [سامري ضرب مسلما وشتمه] (مسألة) في سامري ضرب مسلما وشتمه. (الجواب) تجب عقوبته عقوبة بليغة تردعه وأمثاله، والله أعلم. [رجل استأجر قطع أرض وقف وغرس فيها غراسا ومضت مدة الاستئجار] (مسألة) في رجل استأجر قطع أرض وقف وغرس فيها غراسًا، وأثمر؛ ومضت مدة الاستئجار، فأراد نظار الوقف قلع الغراس، فهل لهم ذلك، أو أجرة المثل، وهل يثاب ولي الأمر على مساعدته؟ (الجواب): ليس لأهل الأرض قلع الغراس بل لهم المطالبة بأجرة المثل، أو تملك الغراس بقيمته، أو ضمان نقصه إذا قلع. وما دام باقيا فعلى صاحبه أجرة مثله، وعلى ولي الأمر منع الظالم من ظلمه، والله أعلم. [حديث: من شرب الخمر فاجلدوه، فإن عاد فاجلدوه، فإن عاد فاقتلوه] (مسألة) في قوله -عليه السلام-: "من شرب الخمر فاجلدوه، فإن عاد فاجلدوه، فإن عاد فاقتلوه"1 هل لهذا الحديث أصل؟ ومَنْ رواه؟ (الجواب): نعم له أصل، وهو مروي من وجوه متعددة، وهو ثابت عند أهل الحديث؛ لكن أكثر العلماء يقولون: هو منسوخ، وتنازعوا في ناسخه على عدة أقاويل: ومنهم من يقول: بل حكمه باق، وقيل: بل الوجوب منسوخ، والجواز باقٍ، وقد رواه أحمد والترمذي وغيرهما ورواه ابن ماجه، ولا أعلم أحدًا قدح فيه 2. والله أعلم.

_ 1 أبو داود: الحدود (4485). 2 لعله يريد الحديث المروي بهذا المعنى عن عدة من الصحابة. وأما اللفظ الذي سئل عنه فقد رواه أحمد والحارث بن أبي أسامة من طريق الحسن البصري عن عبد الله بن عمرو، وأعلوه بأن الحسن لم يسمع من عبد الله بن عمرو.

[هل يصح للشريك شفعة] (مسألة) في رجل له ملك وله شركة فيه فاحتاج إلى بيعه، فأعطاه إنسان فيه شيئا معلوما فباعه، فقال: زن لي ما قلت فنقصه بغير المثل، فهل يصح للشريك شفعة أم لا؟ وهل يصح شفعة أم لا؟ (الجواب): إذا باعه بثمن معلوم كان على المشتري أداء ذلك الثمن، وإن كان البيع فاسدا قد فات كان عليه قيمة مثله. وإذا كان الشقص مشفوعا فللشريك فيه الشفعة، والله أعلم. [أكرهها زوجها على إبرائه من الصداق] (مسألة) في بنت يتيمة تحت الحجر مزوجة، قال لها الزوج: أبرئيني من صداقك وأنت طالق ثلاثا، فمن شدة الضرب والفزع وهبته. ثم رجعت فندمت، هل لها أن ترجع ولا يحنثان أم لا؟ (الجواب): إذا أكرهها على الهبة أو كانت تحت الحجر لم تصح الهبة، ولم يقع الطلاق، والله أعلم. [زُوجت بإذنها وإذن أخيها وسنها اثنتا عشرة سنة] (مسألة) في بنت يتيمة ليس لها أب، ولا لها وليٌّ إلا أخوها وسنها اثنتا عشرة سنة، ولم تبلغ الحلم، وعقد عليها أخوها بإذنها فهل يجوز ذلك أم لا؟ (الجواب): بل هذا العقد صحيح في مذهب أحمد المنصوص عنه في أكثر أجوبته الذي عليه عامة أصحابه، ومذهب أبي حنيفة أيضا؛ لكن أحمد في المشهور عنه يقول: إذا زوجت بإذنها وإذن أخيها لم يكن لها الخيار إذا بلغت. وأبو حنيفة، وأحمد في رواية يقول: تُزَوَّجُ بلا إذنها، ولا لها الخيار إذا بلغت، وهذا أحد القولين في مذهب مالك أيضا؛ ثم عنه رواية: إن دعت حاجة إلى نكاحها، ومثلها يوطأ جاز، وقيل: تزوج ولها الخيار إذا بلغت، وقال ابن بشر: اتفق المتأخرون أنه يجوز نكاحها إذا خيف عليها

الفساد. والقول الثالث: وهو قول الشافعي وأحمد في رواية، ومالك في الرواية الأخرى أنها لا تُزوَّجُ حتى تبلغ إذا لم يكن لها أب وجد؛ قالوا: لأنه ليس لها ولي مجبر، وهي في نفسها الإذن لها بعد البلوغ، فتعذر تزويجها بإذنها وإذن وليها. والقول الأول أصح بدلالة الكتاب والسنة والاعتبار؛ فإن الله تعالى يقول: {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيمًا} 1. وقد ثبت عن عائشة -رضي الله عنها- أن هذه الآية نزلت في اليتيمة تكون في حِجر وليها، فإن كان لها مال وجمال تزوجها، ولم يُقْسِط في صداقها، وإن لم يكن لها مال لم يتزوجها، فنهي أن يتزوجها حتى يقسط في صداقها من أجل رغبته عن نكاحها إذا لم يكن لها مال. وقوله: {قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ} 2 يفتيكم ويفتيكم في المستضعفين، فقد أخبرت عائشة في هذا الحديث الصحيح الذي أخرجه البخاري ومسلم أن هذه الآية نزلت في اليتيمة تكون في حجر وليها، وأن الله أذن له في تزويجها إذا أقسط في صداقها، وقد أخبر أنها في حجره، فدل على أنها محجور عليها. وأيضا فقد ثبت في السنن من حديث أبي موسى وأبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا تنكح اليتيمة حتى تستأذن، فإن سكتت فقد أذنت، وإن أبت فلا جواز عليها"3 فجَوَّز تزويجها بإذنها، ومنعه بدون إذنها، وقد قال صلى الله عليه وسلم: "لا يُتْمَ بعد احتلامٍ"4 ولو أريد باليتيم ما بعد البلوغ فبطريق المجاز؛ فلا بد أن يعم ما قبل البلوغ وما بعده، أما تخصيص لفظ يتيم بما بعد البلوغ فلا

_ 1 سورة النساء آية: 127. 2 سورة النساء آية: 127. 3 النسائي: النكاح (3270) , وأبو داود: النكاح (2093) , وأحمد (2/ 259,2/ 475). 4 أبو داود: الوصايا (2873).

يحتمله اللفظ بحال. ولأن الصغير المميز يصح لفظه مع إذن وليه، كما يصح إحرامه بالحج بإذن الولي، وكما يصح تصرفه في البيع وغيره بإذن وليه عند أكثر العلماء كما دل ذلك القرآن بقوله: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ} 1 الآية، فأمر بالابتلاء قبل البلوغ وذلك قد لا يتأتى إلا بالبيع، ولا تصح وصيته وتدبيره عند الجمهور وكذلك إسلامه، كما يصح صومه وصلاته وغير ذلك لما له في ذلك من المنفعة، فإذا زوجها الولي بإذنها من كفء جاز، وكان هذا تصرفا بإذنها، وهو مصلحة لها، وكل واحد من هذين مُصَحح لتصرف المميز. والله أعلم. [سألها الهبة ثم طلقها، هل لها الرجوع في الهبة؟] (مسألة) في رجل طلق زوجته وسألها الصلح فصالحها وكتب لها دينارين، فقال لها: هبيني الدينار الواحد فوهبته؛ ثم طلقها. فهل لها الرجوع في الهبة -والحال هذه-؟ (الجواب): نعم لها أن ترجع فيما وهبته -والحال هذه-؛ فإنه سألها الهبة، وطلقها مع ذلك، وهي لم تطب نفسها أن يأخذ مالها بسؤالها ويطلقها. والله أعلم. [الوكالة في قبض الدين والإبراء منه] (مسألة) في رجل وَكَّلَ رجلا على قبض ديون له، ثم صرفه وطالبه لما بقي عليه، ثم إن الوكيل المتصرف كتب مبارأة بينه وبين من عليه الدين بغير أمر الموكل، فهل يصح الإبراء؟ (الجواب): إن لم يكن في وكالته إثبات ما يقتضي أنه مأذون له في الإبراء، لم يصح إبراؤه من دين هو ثابت للموكل، وإن كان أقر بالإبراء قبل إقراره فيما هو وكيل فيه، كالتوكيل بالقبض إذا أقر بذلك، والله أعلم. [التسوية بين الأبناء في العطايا] (مسألة) في رجل ترك أولادا ذكورا وإناثا وتزوجوا (؟) الإناث قبل

_ 1 سورة النساء آية: 6.

موت أبيهم فأخذوا (؟) الجهاز جملة كثيرة، ثم لما مات الرجل لم يرث الذكور إلا شيئا يسيرا، فهل على البنات أن يتحاصوهم (؟) والذكور في الميراث والذين معهم أم لا؟ 1 (الجواب): يجب على الرجل أن يسوي بين أولاده في العطية، ولا يجوز أن يفضل بعضا على بعض كما أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بذلك حيث نهى عن الجور في التفضيل، وأمر برده. فإن فعل ومات قبل العدل، كان الواجب على مَنْ فُضِّلَ أن يتبع العدل بينه وبين إخوته، فيقتسمون جميع المال الأول والآخر على كتاب الله -تعالى- للذكر مثل حظ الأنثيين، والله أعلم. [حلف بالطلاق ما بقي يشارك رجلا] (مسألة) في رجل حلف بالطلاق ما بقي يشارك رجلا، وهو شريكه، فقال له رجل: قل: إن شاء الله، فقال، فهل إذا استمر على شركته يحنث؟ (الجواب) لا يقع به طلاق، والحالة هذه، والله أعلم. [تفضيل إحدى الزوجتين على الأخرى] (مسألة) في رجل له امرأتان ويفضل الواحدة على الأخرى في النفقة وسائر الحقوق، حتى أنه هجرها. فما يجب عليه؟ (الجواب): يجب أن يعدل بين المرأتين، وليس له أن يفضل إحداهما في القَسْمِ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من كانت له امرأتان فمال إلى إحداهما أكثر من الأخرى جاء يوم القيامة وشقه مائل"2. وإن لم يعدل بينهما، فإما أن يمسكها بمعروف، وإما أن يسرح بإحسان، والله أعلم.

_ 1 يظهر أن هذه المسألة كتبت بأغلاطها كما وردت من بعض العامة ونحن لم نصححها لكثرتها مع أننا نصحح غيرها من الغلط القطعي لاعتقادنا أنه من خطأ النساخ ولكن وضعنا بجانبها علامة الاستفهام (؟). 2 الترمذي: النكاح (1141) , والنسائي: عشرة النساء (3942) , وأبو داود: النكاح (2133) , وابن ماجه: النكاح (1969) , وأحمد (2/ 347,2/ 471) , والدارمي: النكاح (2206).

[وضع يده على الأرض وادعى أنه استأجرها وذلك بغير طريق شرعي] (مسألة) فيمن استأجر أرض وقف من الناظر على الوقف النظر الشرعي ثلاثين سنة بأجرة المثل، وأثبت الإجارة عند حاكم من الحكام، وأنشأ عمارة، وعَرَّشَ في المكان مدة أربع سنين ثم سافر، والمكان في إجارته؛ وغاب إحدى عشرة سنة. فلما حضر وجد بعض الناس قد وضع يده على الأرض، وادعى أنه استأجرها، وذلك بغير طريق شرعي، فهل له نزع هذا الثاني وطلبه بتفاوت الأجرة؟ (الجواب): إن كان الثاني قد استأجر المكان مِنْ غير مَنْ له ولاية الإيجار، واستأجره مع بقاء إجارة صحيحة عليه، فالإجارة باطلة، ويده بدعائه مستحقة للرفع والإزالة. وإذا كان الثاني استأجرها وتسلمها، وهي في إجارة الأول، فالأول مخير: بين أن يفسخ الإجارة، وتسقط عنه الإجارة من حين الفسخ، ويطالب أهل المكان بالإجارة لهذا الثاني المتولي عليه يطلبون منه أجرة المثل، إن كانت الإجارة فاسدة، وإن كانت صحيحة طالبوه بالمشي، وبين إن وصى الإجارة ويعطى أهل المكان أجرتهم، ويطالب الغاصب بأجرة المثل من حين استيلائه على ما استأجره. [مما يقدح في عدالة الرجال ومروءتهم] (مسألة) في رجل مقبول القول عند الحكام يخرج للفرجة في الزهر في مواسم الفرج حيث يكون مجمع الناس، ويرى المنكر ولا يقدر على إزالته، ويُخرج امرأته أيضا معه هل يجوز ذلك وهل يقدح في عدالته؟ (الجواب): ليس للإنسان أن يحضر الأماكن التي يشهد فيها المنكرات ولا يمكنه الإنكار، إلا لموجب شرعي، مثل أن يكون هناك لما يحتاج إليه لمصلحة دينه أو دنياه لا بد فيه من حضوره، أو يكون مكرها. فأما حضوره لمجرد الفرجة وإحضاره امرأته تشاهد ذلك، فهذا مما يقدح

في عدالته ومروءته، إذا أصر عليه، والله أعلم. [العاقد للأنكحة بولي وشاهدي عدل، هل للحاكم منعه] (مسألة) فيمن يعقد عقود الأنكحة بولي وشاهديْ عدل، هل للحاكم منعه؟ (الجواب): ليس للحاكم أن يمنع المذكور أن يتوكل للولي فيعقد العقد على الوجه الشرعي، لكن من لا ولي لها لا تزوج إلا بإذن السلطان، وهو الحاكم، والله أعلم. [إيقاع الحلف بالطلاق ثلاثا مرة واحدة] (مسألة) في رجل عنده طرق من الفروع يفتي من حلف بالطلاق الثلاث بواحدة، وربما يقول: لا شيء عليه، فهل ينكر عليه ويمنع من ذلك؟ (الجواب) أما المفتي المذكور فينظر فيما يفتي به فإن كان يفتي بما يسوغ فيه الاجتهاد لم ينكر عليه، وإن خالف الإجماع أنكر عليه، وكذلك إن خالف نصا من الكتاب أو السنة أنكر عليه. وقد تنازع العلماء فيمن حلف ليفعلن شيئا، أو لا يفعله بالطلاق أو العتاق أو الظهار أو الحرام أو صدقة المال، إذا حنث فقال بعضهم: يلزمه ما حلف به، وقال بعضهم: لا شيء عليه، وقال بعضهم: تلزمه كفارة يمين، وأما إن أوقع الثلاث بكلام واحد أو طلقها في الحيض، فهذا فيه نزاع بين السلف والخلف. [طعام الزواج وطعام العزاء وطعام الختان وطعام الولادة] (مسألة) في طعام الزواج وطعام العزاء وطعام الختان وطعام الولادة؟ (الجواب): أما وليمة العرس فهي سنة، والإجابة إليها مأمور بها. وأما وليمة الموت فبدعة مكروه فعلها والإجابة إليها. وأما وليمة الختان فهي جائزة، من شاء فعلها، ومن شاء تركها، وكذلك وليمة الولادة إلا أن يكون قد عق عن الولد؛ فإن العقيقة عنه سنة؛ والله أعلم. [الاستيلاء على أرض الغير بغير وجه حق] (مسألة) في رجل له أرض ملك، وهي بيده ثلاثون سنة، فجاء

[رجل جذ زرعه منها ثم زرعها في ثاني سنة، فما يجب عليه؟] (الجواب): ليس لأحد أن يستولي عليه بغير حق؛ بل له أن يطالب من زرعه في ملكه بأجرة المثل، وله أن يأخذ الزرع إذا كان قائما ويعطيه نفقته، والله أعلم. [تزوج امرأة بكرا ثم ادعى أنها كانت ثيبا] (مسألة) في امرأة بكر تزوجها رجل ودخل بها، ثم ادعى أنها كانت ثيبا، وتحاكما إلى حاكم، فأرسل معها امرأتين فوجدوها كانت بكرا، فأنكر ونكل عن المهر، فما يجب عليه؟ (الجواب): ليس له ذلك، بل عليه كمال المهر، كما قال زرارة، وقضى الخلفاء الراشدون والأئمة المهديون: أن من أغلق الباب وأرخى الستر، فقد وجبت عليه العدة والمهر، والله أعلم. [زيادة الإيجار في نهاية مدة العقد] (مسألة) في رجل أجر رجلا عقارا مدة، وفي أواخر المدة زاد رجل في أجرتها، فأجره، فعارضه المستأجر الأول، وقال: هذه في إجارتي، هل له ذلك؟ (الجواب): إذا كان قد أجر المدة التي تكون بعد إجارة الأول، لم يكن للأول اعتراض عليه في ذلك، والله أعلم. [ضمان الأجير المشترك] (مسألة) فيمن كان له ذهب مخيط في ثوبه فأعطاه للغسال نسيانا، فلما رده الغسال إليه بعد غسله، وجد مكان الذهب مفتقا ولم يجده، فما الحكم فيه؟ (الجواب): إما أن يحلف المدعى عليه بما يبرئه، وإما أن يحلف المدعي أنه أخذ الذهب بغير حق ويضمنه، فإن كان الغسال معروفا بالفجور، وظهرت الريبة بظهور الفتق، جاز ضربه وتقريره، والله أعلم.

[ضمان الشيء المستعار] (مسألة) في رجلين عند أمير، فقال الأمير لأحدهما: اطلب لي سيف رفيقك على سبيل العارية، فأجاب، فأخذه الأمير، فعدم عنده، هل تلزم المطالبة للأمير أو للرسول الذي استعاره؟ (الجواب): إذا كان الرسول لم يكذب ولم يتعد، فلا ضمان عليه، بل الضمان على المستعير إن كان فرط، أو اعتدى باتفاق العلماء، وإلا ففي ضمانه نزاع، والله أعلم. [ضرب غيره فعطل منفعة أصبعه] (مسألة) فيمن ضرب غيره فعطل منفعة أصبعه؟ (الجواب): إذا تعطلت منفعة أصبعه بالجناية التي اعتدى فيها وجبت دية الإصبع، وهي عشر الدية الكاملة، والله أعلم. [الرجوع في الشهادة] (مسألة) في شهود شهدوا بما أوجب الحد، ولما شَخَصَ قالوا: غلطنا، ورجعوا، فهل يقبل رجوعهم؟ (الجواب): نعم إذا رجع عن شهادته قبل الحكم بها لم يحكم بها، وإذا كان يعلم أنه قد غلط وجب عليه أن يرجع، ولا يقدح ذلك في دينه ولا في عدالته، والله أعلم. [القول بأن الخير من الله والشر من أنفسنا] (مسألة) فيمن يقول: الخير من الله، والشر من أنفسنا؟ (الجواب): مذهب أهل السنة والجماعة: أن الله خالق كل شيء، وربه ومليكه، لا رب غيره، ولا خالق سواه، ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وهو على كل شيء قدير، وبكل شيء عليم. والعبد مأمور بطاعة الله وطاعة رسوله، منهي عن معصية الله ومعصية رسوله؛ فإن أطاع كان ذلك نعمة من الله أنعم بها عليه، وكان له الأجر والثواب بفضل الله ورحمته، وإن عصى كان مستحقا للذم والعقاب، وكان لله عليه الحجة البالغة، ولا حجة

لأحد على الله. وكل ذلك كائن بقضاء الله وقدره ومشيئته وقدرته، لأنه يحب الطاعة ويأمر بها، ويثيب أهلها ويكرمهم، ويبغض المعصية وينهى عنها، ويعاقب أهلها ويهينهم. وما يصيب العبد من النعم فالله أنعم بها عليه، وما يصيبه من الشر فبذنوبه ومعصيته، كما قال تعالى: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} 1 أي: ما أصابك من خصب ونصر وهدًى فالله أنعم به عليك، وما أصابك من جدب وذل وشر فبذنوبك وخطاياك. وكل الأشياء كائنة بمشيئة الله وقدرته وخلقه، فلا بد أن يؤمن بقضاء الله وقدره خيره وشره وحلوه ومره، وأن يؤمن بشرع الله وأمره. فمن نظر إلى الحقيقة القدرية وأعرض عن الأمر والنهي والوعد والوعيد كان مشابها للمشركين، ومن نظر إلى الأمر والنهي وكذب بالقضاء والقدر كان مشابها للمجوس، ومن آمن بهذا وبهذا: فإذا أحسن حمد الله، وإذا أساء استغفر الله، وعلم إن ذلك كله بقضاء الله وقدره: فهو من المؤمنين. فإن آدم -عليه السلام- لما أذنب تاب فاجتباه ربه وهدى، وإبليس أصر واحتج بالقدر فلعنه الله وأقصاه. فمن تاب كان آدميا، ومن أصر واحتج بالقدر كان إبليسيا. فالسعداء يتبعون أباهم آدم، والأشقياء يتبعون عدوهم إبليس. فنسأل الله أن يهدينا الصراط المستقيم صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرا آمين.

_ 1 سورة النساء آية: 79.

مسائل نقلها الشيخ حمد بن ناصر من أجوبة لابن حجر الهيتمي

مسائل نقلها الشيخ حمد بن ناصر من أجوبة لابن حجر الهيتمي ... بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله رب العالمين هذه مسائل نقلها الشيخ حمد بن ناصر بن عثمان من أجوبة لابن حجر الهيتمي 1: [قبض ملك الموت أرواح الأحياء كلها] (مسألة) هل ملك الموت يقبض أرواح الحيوانات كلها، أو ما يقبض إلا أرواح بني آدم فقط؟ وأين مستقر الأرواح بعد قبضها؟ (الجواب): الذي دلت عليه الأحاديث أن ملك الموت يقبض أرواح الحيوانات من بني آدم وغيرهم؛ من ذلك قوله مخاطبا لنبينا صلى الله عليه وسلم: والله يا محمد لو أردت أن أقبض روح بعوضة ما قدرت حتى يكون الله هو الآمر بقبضها. قال القرطبي: وفي هذا الخبر ما يدل على أن ملك الموت هو الموكل بقبض كل ذي روح، وأن تصرفه كله بأمر الله، ومن ذلك ما في خبر الإسراء عن ابن عباس -رضي الله عنهما- عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال عن نفسه فقلت: (يا ملك الموت فكيف تقدر على قبض أرواح من في الأرض: برها وبحرها؟) الحديث. وذكر أبو نعيم عن ثابت البناني قال: الليل والنهار أربع وعشرون ساعة ليس منها ساعة تأتي على ذي روح إلا وملك الموت قائم عليها، فإن أمر بقبضها قبضها وإلا ذهب. قال القرطبي: وهذا عام في كل ذي روح، ومِنْ ثَمَّ لما سئل مالك -رحمه الله- عن البراغيث أن ملك الموت هل يقبض أرواحها أطرق مليا، ثم قال: ألها

_ 1 يعني من كتاب "الفتاوى الحديثية" له وقد قابلنا عليها عند التصحيح.

نفس؟ قيل: نعم، قال: ملك الموت يقبض أرواحها {اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا} 1 وأشار مالك بذكر الآية إلى أن المراد بقوله: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ} 2 أنه يأمر ملك الموت يتوفاها كما صرح به قوله -تعالى-: {تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا} 3، ولا ينافي ذلك قوله -تعالى-: {خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ} 4 وقوله: {يُحْيِي وَيُمِيتُ} 5، لأن ملك الموت يقبض الروح وأعوانه يعالجون، والله -تعالى- يزهق الروح. وبهذا تجتمع الآيات والأحاديث، وإنما أضيف التوفي لملك الموت لأنه يتولاه بالوسائط والمباشرة، وأضيف الخلق للملك في خبر مسلم عن حذيفة: سمعت الرسول -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إذا مرت بالنطفة اثنتان وأربعون ليلة بعث الله ملكا فصورها فخلق سمعها وبصرها، وجلدها، ولحمها، وعظامها"6 الحديث 7. والحاصل أن الله سبحانه وتعالى هو القابض لأرواح جميع الخلق بالحقيقة، وأن ملك الموت وأعوانه إنما هم وسائط؛ وكذلك القول في سائر الأسباب العادية، فإنها بإحداث الله وخلقه لا بغيره تعالى الله عما يقول الظالمون والجاحدون علوا كبيرا. وذكر ابن رجب أن الأنبياء -صلوات الله وسلامه عليهم- تكون أرواحهم في أعلى عليين، ويؤيده قوله صلى الله عليه وسلم: "اللهم في الرفيق الأعلى"8. وأكثر العلماء على أن أرواح الشهداء في أجواف طيور خضر لها قناديل معلقة بالعرش تسرح في الجنة حيث تشاء كما في مسلم وغيره. وأما بقية المؤمنين فنص الشافعي -رحمه الله -على أن من لم يبلغ التكليف منهم: في الجنة حيث شاؤوا فتأوي إلى

_ 1 سورة الزمر آية: 42. 2 سورة الزمر آية: 42. 3 سورة الأنعام آية: 61. 4 سورة الملك آية: 2. 5 سورة البقرة آية: 258. 6 مسلم: القدر (2645). 7 سقط من هنا عدة أقوال للعلماء في الموضوع؛ الظاهر أن الشيخ أحمد بن ناصر تعمد حذفها اختصارا؛ ولأنها آراء وآثار غير صحيحة. وكتبه محمد رشيد رضا. 8 البخاري: المغازي (4437) , ومسلم: فضائل الصحابة (2444) , والترمذي: الدعوات (3496) , وأحمد (6/ 200,6/ 274) , ومالك: الجنائز (562).

قناديل معلقة بالعرش، وأخرجه ابن أبي حاتم عن ابن مسعود. وأما أهل التكليف ففيهم خلاف كثير، فعن أحمد أنها في الجنة، وعن وهب أنها في دار يقال لها: البيضاء في السماء السابعة، وعن مجاهد أنها تكون في أفنية القبور سبعة أيام من يوم دفن لا تفارقه، أي: ثم تفارقه، ولا ينافيه سنية السلام على القبور، لأنه لا يدل على استقرار الأرواح على أفنيتها دائما، لأنه يسلم على قبور الأنبياء والشهداء وأرواحهم في أعلى عليين؛ ولكن لها مع ذلك اتصال سريع بالبدن لا يعلم كنهه إلا الله. وأخرج ابن أبي الدنيا عن مالك: بلغني أن الأرواح مرسلة تذهب حيث شاءت، وعن ابن عمررضي الله عنهما) نحوه 1. ويرجح ابن عبد البر أن أرواح غير الشهداء في أفنية القبور تسرح حيث شاءت، وقالت فرقة: تجتمع الأرواح بموضع من الأرض، كما روي عن ابن عمر قال: أرواح المؤمنين تجتمع بالجابية، وأما أرواح الكفار فتجتمع بسبخة حضرموت يقال لها برهوت. [خلود أهل الجنة والنار على صورهم في الدنيا] (مسألة): هل خلود المؤمنين في الجنة على هذا التركيب أعني من اللحم والعظم وغيرهما، وخلود الكافرين في النار على صورهم أم لا؟ وهل منكر ونكير يسألان كل ميت صغيرا كان أو كبيرا مسلما أو كافرا مقبورا أو غير مقبور؟ وهل منكر بفتح الكاف أو كسرها؟ وهل هما اللذان يسألان المؤمن أو غيرهما؟ (الجواب): الذي دلت عليه الأحاديث أن خلود المؤمنين في الجنة والكافرين في النار، على نحو صورهم في الدنيا المشتملة على نحو اللحم والعظم، وصح أنه صلى الله عليه وسلم قال: "أيها الناس، إنكم تحشرون إلى الله حفاة

_ 1 سقط من هنا بعض الأحاديث والأقوال.

عراة غرلا"1. قال الأئمة: أي غير مختونين ترد إليه الجلدة التي قطعت بالختان، وكذا يرد إليه كل ما كان فارقه في الحياة كالشعر والظفر، ليذوق نعيم الثواب أو أليم العقاب؛ فتكون تلك الأجزاء جميعها مع الإنسان في الجنة أو النار حتى تذوق النعيم أو العذاب. ومما يدل على ذلك ما أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال في حق الكافر: السلسلة تدخل من إسته حتى تخرج من فيه، ثم يُنْظَمُونَ فيها كما يُنْظَمُ الجراد في العود ثم يشوى. وأخرج الشيخان عن أبي هريرة رفعه: "ما بين منكبي الكافر مسيرة ثلاثة أيام للراكب المسرع"2، 3 ولمسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: "كل من يدخل الجنة على صورة آدم، وطوله ستون ذراعا"4. وللترمذي وغيره: "من مات من أهل الدنيا صغيرا أو كبيرا يُرَدُّونَ أبناء ثلاث وثلاثين في الجنة، لا يزيدون عليها أبدا، وكذلك أهل النار"5 وفي رواية عند ابن أبي الدنيا: "على طول آدم ستين ذراعا بذراع الملك، وعلى حُسْن يوسف، وعلى ميلاد عيسى ثلاث وثلاثين، وعلى لسان محمد -صلى الله عليه وسلم- جُرْدًا مُرْدًا مُكَحَّلِينَ". واعلم أن أهل السنة أجمعوا على أن الأجساد تعاد كما كانت في الدنيا بأعيانها وألوانها وأعراضها وأوصافها، ولا ينافي ذلك ما في بعض حديث الصور الطويل: "يخرجون منها شبانا أبناء ثلاث وثلاثين سنة"6؛ لأن هذا من حيث السن، فهم مستوون فيه. والذي دل عليه القرآن أن السقط والطفل يحشران على قدرهما، وحينئذ فهما مستثنيان من الحديث أعني: قوله: "أبناء ثلاث وثلاثين سنة". هذا كله إن صح الحديث، وإلا فقضية

_ 1 مسلم: الجنة وصفة نعيمها وأهلها (2860) , والترمذي: صفة القيامة والرقائق والورع (2423) وتفسير القرآن (3167) , والنسائي: الجنائز (2082) , والدارمي: الرقاق (2802). 2 البخاري: الرقاق (6553) , ومسلم: الجنة وصفة نعيمها وأهلها (2852). 3 سقط هنا روايات، وقوله بعده: ولمسلم هو مَعْزُوٌّ في الفتاوى الحديثية إلى الشيخين كليهما. 4 البخاري: أحاديث الأنبياء (3326) , ومسلم: الجنة وصفة نعيمها وأهلها (2841) , وأحمد (2/ 315). 5 الترمذي: صفة الجنة (9999). 6 الترمذي: صفة الجنة (2545) , وأحمد (5/ 243).

كلامهم أن الناس في الحشر على تفاوت صفاتهم في الدنيا حتى في الأسنان، وإنما يقع التبديل عند دخول الجنة. وقد قال بعض المحققين والحفاظ: والصحيح بل الصواب أن الذي يعيده الله هو الأجساد الأولى لا غيرها، ومن قال غير ذلك فقد أخطأ، لمخالفته ظاهر القرآن (والحديث) 1. والناس في الموقف يكون كل منهم على طوله الذي مات عليه، ثم عند دخول الجنة يصيرون طولا واحدا؛ ففي الصحيحين: "يبعث كل عبد على ما كان عليه"2. وفي الحديث الصحيح في صفات الجنة (ما ذكرته) ويبعثون بشعورهم ثم يدخلون الجنة جردا مردا كما ثبت في الحديث الصحيح. انتهى. قال القرطبي -رحمه الله-: يكون الآدميون في الجنة على سن واحد 3 وأما الحور فصفات مصنفة، صغار وكبار، على ما اشتهت أنفس أهل الجنة 4. وسؤال الملكين يعم كل ميت ولو جنينا أو غير مقبور كحريق أو غريق، أو أكيل سبع كما جزم به جماعة من الأئمة، وقول بعضهم: يسألان المقبور، إنما أراد به التبرك بلفظ الخبر. نعم قال بعض الحفاظ: الذي يظهر اختصاص السؤال بمن يكون له تكليف، وبه جزم غير واحد من أئمتنا، ومن ثم لم يستحبوا تلقينه 5. ولا يسأل الشهيد كما صحت به الأحاديث، وألحق به من مات مرابطا لظاهر حديث رواه أحمد وأبو داود وهو: "كل ميت يختم على عمله، إلا الذي مات مرابطا في سبيل الله، فإنه ينمو عمله إلى يوم القيامة، ويأمن من فتاني القبر"6 وألحق القرطبي بالشهيد الصِّدِّيقَ

_ 1 سقط من هنا كلام أيضا. 2 مسلم: الجنة وصفة نعيمها وأهلها (2878) , وأحمد (3/ 331). 3 كذا في الأصلين والسن مؤنثة لغة. 4 سقط من هنا كلام كثير في نكاح أهل الجنة قلما يثبت منه رواية أو يصح رأي. 5 قوله: تلقينه يعني به الجنين، وسقط من هنا: ومن ثَمَّ خالف في ذلك القرطبيُّ وغيره فجزموا بأن الطفل يسأل. صح وكتبه محمد رشيد رضا. 6 الترمذي: فضائل الجهاد (1621) , وأبو داود: الجهاد (2500) , وأحمد (6/ 20).

لأنه أعلى مرتبة من الشهيد، ومنه يؤخذ انتفاء السؤال في حقه صلى الله عليه وسلم وفي حق سائر الأنبياء. وفي بحث بعض الحفاظ: أن الملك لا يسأل، لأن السؤال يختص بمن شأنه أن يفتن، وفي حديث حسنه الترمذي والبيهقي وضعفه الطحاوي: "من مات ليلة الجمعة أو يومها لم يسأل" وجزم الترمذي والحكيم بأن المعلن بكفره لا يسأل، ووافقه ابن عبد البر، ورواه عن بعض كبار التابعين، لكن خالفه القرطبي وابن القيم، واستدلاله بآية: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ} 1 وبحديث البخاري: "وأما الكافر والمنافق فيقول: لا أدري"2 - بالواو- ورجحه شيخ الإسلام ابن حجر بأن الأحاديث متفقة على ذلك، وهي مرفوعة مع كثرة طرقها الصحيحة. وجزم الترمذي والحكيم وابن عبد البر أيضا بأن السؤال يختص بهذه الأمة، لحديث مسلم: "أن هذه الأمة تبتلى في قبورها"3، وخالفهم جماعة، منهم ابن القيم وقال: ليس في الأحاديث ما ينفي السؤال عمن تقدم من الأمم، وإنما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أمته عن كيفية امتحانهم في القبور، لا أنه ينفي ذلك عن أولئك. وتوقف آخرون وللتوقف وجه لأن قوله: "أن هذه الأمة" فيه تخصيص فتعدية السؤال إلى غيرهم يحتاج إلى دليل، وعلى تسليم اختصاصه بهم، فهو لزيادة درجاتهم ولخفة أهوال المحشر؛ ففيه رفق بهم أكثر من غيرهم، لأن المحن إذا تفرقت هان أمرها، بخلاف ما إذا توالت؛ فتفريقها لهذه الأمة عند الموت وفي القبر والمحشر دليل ظاهر على عناية ربهم لهم أكثر من غيرهم 4. ومقتضى الأحاديث سؤال الملكين المؤمن، ولو فاسقا، كالعدل، ولكن

_ 1 سورة إبراهيم آية: 27. 2 البخاري: العلم (86) , ومسلم: الكسوف (905) , وأحمد (6/ 345) , ومالك: النداء للصلاة (447). 3 مسلم: الجنة وصفة نعيمها وأهلها (2867). 4 لهذا التوجيه من ابن حجر تتمة قليلة أمر بتأملها وقد سقط من هنا عمدا أو سهوا.

بشارته تحتمل أن تكون بحسب حاله، ومقتضى الأحاديث: استواء سائر الناس في اسمهما، وهو منكر ونكير كما في حديث عند الترمذي، وقال: حديث حسن غريب، ومنكر بفتح الكاف اتفاقا، ومنكر ونكير هما اللذان يسألان المؤمن وغيره. [قتل الحيات] (مسألة) في حية الدار نقتلها أو نتحول عنها، وكم نتحول؟ فإن قلتم: ثلاثا، فهل هي أيام أو ساعات؟ وهل الحيات في ذلك سواء كالأفعى والرواز والثعبان، أم يختص التحول بنوع منها؟ وهل حية العمران كالبستان والبئر التي يسقى منها الزرع والأشجار حكمها حكم حية الدار أم لا؟ وهل يكره قتل شيء منها في الموات أو في العمران؟ (الجواب): اعلم أنه صلى الله عليه وسلم أمر بقتل الحيات (أمر ندب) روى البخاري (والنسائي) عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: كنا مع النبي -صلى الله عليه وسلم- بغار بمنى، وقد نزلت عليه سورة {وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفًا} 1 فنحن نأخذها من فيه رطبة، إذ خرجت علينا حية، فقال: اقتلوها فابتدرناها لنقتلها فسبقتنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وقاكم الله شرها كما وقاها شركم"2. وعداوة الحية للإنسان معروفة إذ الذي عليه الجمهور أن الخطاب في قوله: {قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} 3 لآدم وحواء وإبليس والحية، وفي حيات الحيوان روى قتادة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ما سالمناهن منذ عاديناهن"4. وقال ابن عمر: من تركهن فليس منا، وقالت عائشة: من ترك حية خشية من ثأرها، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين. وفي مسند أحمد عن النبي صلى الله عليه وسلم "من قتل حية فكأنما قتل مشركا، ومن ترك حية خوف عاقبتها فليس منا"5 وقال ابن عباس: إن الحيات مسخ الجن كما مسخت

_ 1 سورة المرسلات آية: 1. 2 البخاري: الحج (1830) وبدء الخلق (3317) , ومسلم: السلام (2234) , والنسائي: مناسك الحج (2884) , وأحمد (1/ 377,1/ 385). 3 سورة طه آية: 123. 4 أبو داود: الأدب (5248) , وأحمد (2/ 247,2/ 432,2/ 520). 5 أحمد (1/ 421).

القردة من بني إسرائيل، وأخرجه الطبراني عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك رواه ابن حبان، هذا كله في غير حيات البيوت. أما التي مأواها البيوت: فلا تقتل حتى تُنْذَر ثلاثا؛ واختلف العلماء هل المراد ثلاثة أيام أو ثلاث مرات؟ والأول عليه الجمهور، وقد ورد بكل منهما حديث: أخرج مالك ومسلم وأبو داود عن أبي سعيد الخدري أن أبا السائب أراد أن يقتل حية بدار أبي سعيد، وهو يصلي، فأشار إليه أن لا تفعل، فلما قضى صلاته حدَّثه، وقد أشار إليه في بيت في الدار، فقال: كان فيه فتى كان حديث عهد بعرس، فخرجنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى الخندق، فكان الفتى يستأذن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بأنصاف النهار يرجع إلى أهله. فاستأذنه يوما فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "خذ عليك سلاحك فإني أخشى عليك قريظة"1. فأخذ الرجل سلاحه فإذا امرأته قائمة بين البابين، فأهوى إليها بالرمح ليطعنها، وأصابته غيرةٌ، فقالت: اكفف عليك رمحك وادخل البيت حتى تنظر ما الذي أخرجني، فدخل فإذا بحية عظيمة منطوية على الفراش، فأهوى إليها بالرمح فانتظمها به، ثم خرج فركزه في الدار، فاضطربت عليه وخر الفتى ميتا، فما يدري أيهما كان أسرع موتا: الحية أم الفتى. قال فجئنا النبيَ صلى الله عليه وسلم، فأخبرناه بذلك وقلنا: ادع الله أن يحييه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "استغفروا الله لصاحبكم"2. ثم قال: "إن بالمدينة جنا قد أسلموا، فإذا رأيتم منهم شيئا فآذنوه ثلاثة أيام؛ فإن بدا لكم بعد ذلك فاقتلوه فإنما هو شيطان"3، وفي لفظ: "إن في هذه البيوت عوامر فإذا رأيتم شيئا منها فَحَرِّجُوا عليه ثلاثا، فإن ذهب وإلا فاقتلوه فإنه كافر"4.

_ 1 مسلم: السلام (2236) , ومالك: الجامع (1828). 2 صحيح مسلم: كتاب السلام (2236) , وسنن أبي داود: كتاب الأدب (5257) , ومسند أحمد (3/ 41). 3 مسلم: السلام (2236) , وأبو داود: الأدب (5257) , ومالك: الجامع (1828). 4 مسلم: السلام (2236) , والترمذي: الأحكام والفوائد (1484) , وأبو داود: الأدب (5256) , وأحمد (3/ 41) , ومالك: الجامع (1828).

وأخرج أبو داود عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن الهوام من الجن، من رأى شيئا في بيته فَلْيُحَرِّجْ عليه ثلاث مرات، فإن عاد وإلا فليقتله فإنه شيطان"1. وأخذ بعض العلماء من الحديث الأول، وهو قوله: "إن بالمدينة جنا"2 ... إلخ أن الإنذار ثلاثا بالمدينة، وصحح بعض أنه عام في كل بلدة لا تقتل حية حتى تُنْذَر؛ ثم الظاهر أن الإنذار مندوب إليه، وإن اقتضى بعض كلام الحنابلة وجوبه؛ حيث قال: قتل الحية بغير حق لا يجوز كالإنس، ولو كان كافرا. والجن يتصورون بصور شتى، وحيات البيوت قد تكون جنا فتؤذن ثلاثا، فإن ذهبت وإلا قتلت؛ لأنها إن كانت حية أصلية قتلت، وإن كانت جنية، فقد أصرت على العدوان بظهورها للإنس في صورة حية تفزعهم بذلك. انتهى 3. والذي ينبغي أن الإنذار غير واجب؛ لأن الأصل في الصور أنها باقية على أصل خلقتها الأصلية. وقد أهدر الشارع هذه الصورة أعني: صورة الحية بسائر أنواعها، وجعلها من الفواسق، وقد مر التحريض على قتلها، وكونها صورة جني أمر محتمل، وليس بمحقق، والاحتمال المخالف للأصل لا يقتضي الوجوب؛ لكن حديث البخاري ومسلم يقتضيه، ولفظ ابن عمر: كان يقتل الحيات ثم نهى، قال: إن النبي -صلى الله عليه وسلم- هدم حائطا له فوجد فيه سلخ حية، فقال: انظروا أين هو، فنظروه فقال: اقتلوه. فكنت أقتلها، فلقيت

_ 1 مسلم: السلام (2236) , والترمذي: الأحكام والفوائد (1484) , وأبو داود: الأدب (5256) , ومالك: الجامع (1828). 2 مسلم: السلام (2236) , وأبو داود: الأدب (5257) , ومالك: الجامع (1828). 3 أي: كلام ابن حجر هنا، ولكن ما بعده ملخص من كلامه أيضا مع حذف. وكتبه محمد رشيد رضا.

أبا لبابة، فأخبرني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تقتلوا الحيات إلا كل أبتر ذي طفيتين، فإنه يسقط الولد ويذهب البصر فاقتلوه"1 ولفظه عن نافع عن ابن عمر "أنه كان يقتل الحيات، فحدثه أبو لبابة: أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن قتل حيات البيوت فأمسك عنها"2. واعلم أن حديث أبي سعيد يقتضي طلب تقدم الإنذار في سائر الحيات، وحينئذ يعارض ما مر أول الجواب من إطلاق الأمر بقتلها، وقد يجاب بأن إطلاق الأمر بالقتل منسوخ، كما عرف من رواية البخاري السابقة أيضا، أي: حمل هذا على ما إذا لم يذهب بالإنذار، وإلا قتل جانًّا كان أو غيره، ويعارض استثناء الأبتر وذو الطفيتين إلا أن يجاب بأن استثناء هذين يقتضي أن الجني لا يتصور بصورتهما فَلْيُسَنّ قتلهما مطلقا، ثم رأيت الزركشي نقل ذلك عن الماوردي فقال: إنما أمر بقتلهما؛ لأن الشيطان لا يتمثل بهما، وإنما نهى عن ذوات البيوت لأن الجني يتمثل بهما. وفي الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "اقتلوهما فإنهما يطمسان البصر ويسقطان الحبالى" قال الزهري: ويروى ذلك من سمهما؛ وظاهر الأحاديث السابقة اختصاص الإنذار بعامر البيوت، وهو محتمل، ويحتمل أنه خص بذلك لأنه يتأكد فيه أكثر، وإلا فالعلة المعلومة مما مر تقتضي الإنذار فيما عدا الأبتر وذي الطفيتين؛ سواء كانت عامرة بيت إنسان أو بستان أو بئر أو غيرهما، والتعبير بذوات البيوت وهي العوامر، في رواية البخاري السابقة، كأنه الغالب. وبما تقرر علم أنه لا يطلب التحول من الدار لأجل ما ظهر من الحيات فيها؛ بل تنذر ثلاث ساعات؛ فإن ذهبت وإلا قتلت، وإن الثلاث

_ 1 البخاري: بدء الخلق (3311) , ومسلم: السلام (2233) , وابن ماجه: الطب (3535) , وأحمد (2/ 9). 2 البخاري: بدء الخلق (3313) , ومسلم: السلام (2233) , وأحمد (3/ 452).

ثلاثة أيام عند الجمهور وثلاث ساعات عند غيرهم؛ وأن سائر الحيات العوامر في ذلك سواء إلا الأبتر وذو الطفيتين، لما مر فيهما؛ وأن حيات غير البيوت لا يبعد إلحاقها بحيات البيوت؛ وقد ورد في أحاديثَ ما يقتضي اختصاص طلب الإنذار بحيات البيوت. وظاهر كلام بعض الأئمة: الأخذ بهذا المقتضى، وأن حيات غير البيوت تقتل مطلقا، أي: من غير إنذار، والذي يتجه أن التقيد بعوامر البيوت إنما هو الغالب أو لمزيد التأكيد. وكيفية الكلام الذي يقال عند الإنذار: ما أخرجه أبو داود عن ابن أبي ليلى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن حيات البيوت فقال: "إذا رأيتم منها شيئا في مساكنكم فقولوا: أنشدكن العهد الذي أخذ عليكن نوح، أنشدكن العهد الذي أخذ عليكن سليمان أن لا تؤذونا. فإن عُدْنَ فاقتلوهن"1، 2 والله أعلم. الأولياء هل يردون الحوض مع النبي صلى الله عليه وسلم قبل الأنبياء (مسألة) فيمن يقول: إن الأولياء يَرِدُونَ الحوضَ مع النبي صلى الله عليه وسلم قبل الأنبياء؟ (الجواب): إنما يتم له ما ذكر إن ثبت أن الأنبياء يردون حوض النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولم أر ما يدل على ذلك بعد الفحص والاطلاع على الأحاديث الواردة في الحوض عن بضعة وخمسين صحابيا؛ بل الذي رأيته يدل لخلافه فقد أخرج الترمذي عن سمرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إن لكل نبي حوضا، وإنهم يتباهون أيهم أكثر واردة، وإني لأرجو أن

_ 1 الترمذي: الأحكام والفوائد (1485) , وأبو داود: الأدب (5260). 2 ابن أبي ليلى المنفرد برواية هذا الحديث -كما في الترمذي- هو محمد بن عبد الرحمن ابن أبي ليلى الفقيه، وهو لا يُحْتَجُّ بحديثه: اتفقوا على أنه كان سيئ الحفظ فاحش الخطأ، كثير الوهم والمناكير، وصرح أحمد بضعفه واضطراب حديثه، وأثنى على فقهه. وكتبه محمد رشيد رضا.

أكون أكثرهم واردة"1. وأخرج الترمذي عن سمرة مرفوعا: "إن الأنبياء يتباهون أيهم أكثر أصحابا من أمته، فأرجو أن أكون يومئذ أكثرهم كلهم واردة، وإن كل نبي منهم يومئذ قائم على حوض ملآن معه عصا يدعو من عرف من أمته، وإن لكل نبي أمة لهم سِيمَا يعرفهم بها نبيهم"، فهذان الحديثان صريحان في أن لكل نبي حوضا مستقلا ترده أمته. {فائدة}: نقل القرطبي عن العلماء: أنه يطرد عن الحوض من ارتد، أو أحدث بدعة كالرافضة والظلمة المعروفين بالجور، والمعلن بالمعاصي؛ ثم الطرد للمسلم قد يكون في حال، وقد يشرب منه ذو الكبيرة، ثم إذا دخل النار لا يعرف العطش. انتهى ملخصا. وهذا بناء على أن الحوض قبل الصراط، والذي رجحه القاضي عياض أنه بعده، وأن الشرب منه بعد الحساب والنجاة من النار، وأيده الحافظ ابن حجر بأن ظاهر الأحاديث: أن الحوض بجانب الجنة؛ لينصب فيه الماء من النهر الذي داخلها، فلو كان قبل الصراط؛ لحالت النار بينه وبين الماء الذي يصب من الكوثر، ولا ينافيه أن جمعا يدفعون عنه بعد رؤيته إلى النار، لأنهم يقربون منه بحيث يرونه فيدفعون في النار قبل أن يخلصوا من بقية الصراط، والله أعلم. [خلق الأرض والسماء] (مسألة): هل خلقت الأرض قبل السماء؟ (الجواب): نعم، كما صح في البخاري عن ابن عباس -رضي الله عنهما-، والقرآن ناطق به، وأجاب عن قوله تعالى: {أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا} 2 - إلى قوله -: {وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا} 3 بأن الأرض خلقت أولا كالخبزة، وخلقت السماء بعدها ثم هيأ الأرض ودحاها، والله أعلم. (مسألة): هل العرش أفضل من الكرسي؟

_ 1 الترمذي: صفة القيامة والرقائق والورع (2443). 2 سورة النازعات آية: 27. 3 سورة النازعات آية: 30.

(الجواب): نعم كما صرح به ابن قتيبة، وصرح أيضا بأن الكرسي أفضل من السماء، وأن الشام أفضل من العراق، وبأن الحجر أفضل من الركن اليماني وهو أفضل من القواعد. [هل الليل في السماء كالأرض؟] (مسألة) هل الليل في السماء كالأرض؟ (الجواب): الذي دلت عليه الآيات القرآنية أنه من خواص أهل الأرض، لأن الله امْتَنَّ علينا (به) راحةً لنا، لأنا نتعب ونمل، بخلاف أهل السماء، ومعنى: {يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ} 1 أنهم دائمون على ذلك، فكنى بذلك عن الدوام. ووقوع المعراج ليلا إنما هو بالنسبة لأهل الأرض، والله أعلم. [الفرق بين العهد والميثاق واليمين] (مسألة): ما الفرق بين العهد والميثاق واليمين؟ (الجواب): العهد الموثق يقال: عهد إليه في كذا: أوصاه به، وأوثقه عليه، والعهد في لسان العرب له معان: منها: الوصية والضمان والأمر، والرؤية والمنزلة. وأما الميثاق: فهو العهد الموثق باليمين، وأما اليمين فهو: الحلف بالله أو بصفاته على ما قرر في محله. [تأذي الملائكة مما يتأذى منه الإنسان] (مسألة): هل الحفظة يتأذون من كل الأشياء الكريهة الريح، ومن كثرة التردد إلى الخلاء والأماكن النجسة، ومن الجشاء المتغير، ومن نحو الصُّنَان؟ وهل على الكافر حفظة؟ وإذا مات الإنسان إلى أين يصار به؟ وهل الحفظة غير الكاتبين الكريمين؟ (الجواب): الذي في الحديث الصحيح: "أن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم" 2 ذكره النبي صلى الله عليه وسلم تعليلا لنهيه من أكل منتنا كَثَوْمٍ أو بصل أو كراث أو فجل أن يدخل المسجد فقال: "من أكل ثوما

_ 1 سورة الأنبياء آية: 20. 2 مسلم: المساجد ومواضع الصلاة (564) , والنسائي: المساجد (707) , وأحمد (3/ 374,3/ 387).

أو كراثا أو بصلا أو فجلا فلا يقربن مسجدنا أو المساجد، فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم"1، وهذا ظاهر في شموله للحفظة، وفي عموم تأذيهم مما يتأذى منه بنو آدم؛ فيشمل ذلك تأذيهم بكل ريح كريهة، سواء ريح الخلاء أو غيره إلا أنه سيأتي أن الحفظة يفارقونه حال دخوله الخلاء. (وقوله): وهل للكافر حفظة؟ (جوابه): نعم كما شملته، بل يصرح به قوله تعالى: {كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ} 2 أي: الحساب: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَامًا كَاتِبِينَ} 3 الآية. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس قال: جعل الله على ابن آدم حافظين في الليل وحافظين في النهار، يحفظان عمله ويكتبان أثره. وأخرج ابن جرير عن مجاهد قال: مع كل إنسان ملك عن يمينه وآخر عن شماله، فأما الذي عن يمينه فيكتب الخير، وأما الذي عن شماله فيكتب الشر. (وقوله): إذا مات الإنسان إلى أين يصار به؟ (جوابه): أخرج أبو الشيخ والبيهقي عن أنس عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن الله وكل بعبده المؤمن ملكان يكتبان عمله، فإذا مات قال الملكان اللذان وكلا به: قد مات، فأذن لنا أن نصعد إلى السماء، فيقول الله سبحانه وتعالى: سمائي مملوءة من ملائكتي يسبحونني، فيقولان فأين؟ فيقول: قُومَا على قبر عبدي فَسَبِّحَانِي واحمداني وكبراني، واكتبا ذلك لعبدي إلى يوم القيامة". وقوله: وهل هم غير الكاتبين؟ (جوابه): أنه قد علم مما قدمناه: أن الملائكة الحفظة الموكلين بالإنسان ينقسمون إلى: أن منهم من هو موكل بالحفظ لا غير، ومنهم وهم الكاتبان الكريمان من هو موكل بالحفظ والكتاب وورد في هذين أنهما يفارقان الإنسان، فقد أخرج البزار عن ابن عباس- رضي الله عنهما-قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن الله ينهاكم عن التعري، فاستحوا

_ 1 البخاري: الأذان (854) , ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (564) , والترمذي: الأطعمة (1806) , والنسائي: المساجد (707) , وأبو داود: الأطعمة (3822) , وأحمد (3/ 374,3/ 380,3/ 387,3/ 397,3/ 400). 2 سورة الانفطار آية: 9. 3 سورة الانفطار آية: 10.

من الملائكة الذين معكم الكرام الكاتبين الذين لا يفارقونكم إلا عند إحدى ثلاث: الجنابة، والغائط، والغسل". والظاهر أنه ليس هنا المفارقة بالكلية بل يبعدون عنه حينئذ نوع بُعْدٍ، وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم عند الظهيرة فرأى رجلا يغتسل بفلاة من الأرض فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: "أما بعد، اتقوا الله وأكرموا الكرام الكاتبين الذين معكم، ليسوا يفارقونكم إلا عند إحدى منزلتين: حيث يكون الرجل على خلائه، أو يكون مع أهله، لأنهم كرام كما سماهم الله، فليستتر أحدكم عند ذلك بجِرْمِ حائطٍ" والله أعلم. [التاجر المكتسب المتقي أفضل من العابد غير المكتسب] (مسألة) في خطيب يروي أحاديث، ولم يبين مخرجها، ولا رواتها، ومن جملة ما رواه أنه ذكر حديث: "إن التجار هم الفجار، إلا من قال بيده هكذا وهكذا"1. (الجواب): ما ذكره في خطبه من الأحاديث من غير أن يبين رواتها، فجائز بشرط أن يكون من أهل المعرفة بالحديث، أو ينقلها من كتاب مؤلفه كذلك. وأما الاعتماد في رواية الأحاديث على مجرد رؤيتها في كتاب ليس مؤلفه من أهل الحديث، أو في خطب ليس مؤلفها كذلك، فلا يحل ذلك؛ ومن فعل ذلك عزر التعزير الشديد. وهذا حال أكثر الخطباء: فإنه بمجرد خطبهم فيها أحاديث حفظوها، وخطبوا بها من غير أن يعرفوا لتلك الأحاديث أصلا، فيجب على حكام البلد أن يزجروا خطباءها عن ذلك، ويجب على حكام بلد هذا الخطيب منعه من ذلك، إن ارتكبه. وأما ما ذكره من الحديث فصدره صحيح، كما قاله الترمذي، وهو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى المصلى فقال: "يا معشر التجار"2،

_ 1 أحمد (3/ 428). 2 الترمذي: البيوع (1208) , والنسائي: الأيمان والنذور (3797,3798) , وأبو داود: البيوع (3326).

فاستجابوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ورفعوا أعناقهم فقال: "إن التجار يبعثون يوم القيامة فجارا، إلا من اتقى الله وصدق"1، ويروى في رواية صحيحة أيضا: "إن التجار هم الفجار"2، وقيل: يا رسول الله أليس قد أحل الله البيع؟ قال: "بلى، ولكنهم يُحَدِّثُونَ فيكذبون، ويحلفون، ويأثمون"3. وأما آخره وهو قوله: "إلا من قال هكذا وهكذا" فلم يرد في شيء من كتب الحديث بعد البحث عنه. والتجار على قسمين: منهم من يتجنب في بيعه وشرائه وسائر معاملاته جميع المحرمات: كالربا والغش والخديعة والكذب والحلف الباطل؛ وهو مع ذلك يخرج حق الله وحق العباد من نفسه وماله. فأهل هذا القسم لا يبعثون يوم القيامة فجارا بنص الكتاب والسنة وإجماع الأئمة، بل يبعثون سعداء كما كانوا في الدنيا سعداء؛ بل هم أفضل من الفقراء الصابرين كما قال جماعة، لأنهم يفعلون ما يفعل الفقراء ويزيدون بالزكوات والصدقات؛ وفي هذين من نفع المسلمين ما يربو ثوابه على كثير من الأعمال القاصرة، هذا هو القسم الأول وهم المرادون بقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث: "إلا من اتقى الله وبر وصدق"4، وهم المرادون بقوله أيضا في الحديث الصحيح: "التاجر الصدوق الأمين يحشر مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين يوم القيامة"5. وروى الشيخ أبو نعيم والبيهقي حديث: "من طلب الدنيا حلالا، تعففا عن المسألة، وسعيا على عياله، وتعطفا على جاره، لقي الله ووجهه كالقمر ليلة البدر". وقال لقمان لابنه: استعن بالكسب الحلال عن الفقر، فإنه ما افتقر أحد قط إلا أصابه ثلاث خصال: رقة في دينه، وضعف في عقله، وذهاب لمروءته، وأعظم من هذه الثلاث: استخفاف الناس به. وسئل بعض التابعين عن التاجر الصدوق: أهو أحب إليك أم المتفرغ

_ 1 الترمذي: البيوع (1210) , وابن ماجه: التجارات (2146) , والدارمي: البيوع (2538). 2 أحمد (3/ 428). 3 أحمد (3/ 428). 4 الترمذي: البيوع (1210) , وابن ماجه: التجارات (2146) , والدارمي: البيوع (2538). 5 الترمذي: البيوع (1209) , والدارمي: البيوع (2539).

للعبادة؟ فقال: التاجر الصدوق أحب إليَّ، لأنه في جهاد: يأتيه الشيطان من طريق المكيال والميزان، ومن قبل الأخذ والعطاء، فيجاهده، أي: ولا يطاوعه فيما يأمر به من المحرمات. وقيل للإمام أحمد بن حنبل: ما تقول فيمن جلس في بيته أو مسجده وقال: لا أعمل شيئا حتى يأتيني رزقي، فقال أحمد: هذا رجل لم يسمع العلم، أَمَا سمع قول النبي صلى الله عليه وسلم: "جعل رزقي تحت ظل رمحي"1، وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يتجرون في البر والبحر ويعملون في نخيلهم؛ والقدوة بهم -رضي الله عنهم-. والقسم الثاني: هم الذين لا يجتنبون في بيعهم وشرائهم ومعاملاتهم المحرمات: كالربا والغش والحلف الباطل وغير ذلك من القبائح التي انطوى عليها أكثر التجار؛ وهؤلاء فجار في الدنيا والآخرة، وهم ممن قال الله فيهم: {إنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ} 2 الآية. وفي مسلم: "ثلاثة لا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة: رجل حلف على سلعة، لقد أُعْطِيَ بها أكثر مما أعطى وهو كاذب"3، وروى أبو يعلى أنه صلى الله عليه وسلم قال: "لا يزال قول لا إله إلا الله يدفع عن الخلق ما لم يؤثروا صفقة دنياهم على آخرتهم". وأهل هذا القسم هم المرادون بقوله صلى الله عليه وسلم: "إن التجار هم الفجار"4 الحديث. [المراد بعلم التنجيم] (مسألة): وقع في عبارة الفقهاء ما يصرح بتحريم علم التنجيم، هل المراد حساباته أو أحكامه؟ (الجواب): الأحكام المتعلقة بالنجوم منها ما هو واجب كالاستدلال بها على القبلة والأوقات واختلاف المطالع واتحادها ونحو ذلك، ومنها ما هو جائز كالاستدلال بها على منازل القمر وعروض البلاد، ومنها ما هو

_ 1 أحمد (2/ 50). 2 سورة آل عمران آية: 77. 3 البخاري: المساقاة (2369) , ومسلم: الإيمان (108) , والترمذي: السير (1595) , والنسائي: البيوع (4462) , وأبو داود: البيوع (3474) , وابن ماجه: التجارات (2207) , وأحمد (2/ 253). 4 أحمد (3/ 428).

حرام كالاستدلال بها على وقوع الأشياء المُغَيَّبَة بأن يقضي بوقوع بعضها مستدلا بها عليه بخلاف ما إذا قال: إن الله سبحانه وتعالى اطَّردت عادته بأن هذا النجم إذا حصل له كذا كان ذلك علامة على كذا، فهذا لا منع منه لأنه لا محذور فيه 1. [من هو الغالي في القرآن والجافي عنه] (مسألة) في قوله صلى الله عليه وسلم: "إن من إجلال الله إكرام ذي الشيبة المسلم، وحامل القرآن غير الغالي فيه والجافي عنه، وإكرام السلطان المقسط"2، وما معنى قوله صلى الله عليه وسلم: "من مسح رأس يتيم كان له بكل شعرة تمر يده عليها حسنات"3، هل المراد من المسح حقيقة، أو الكناية عن الشفقة عليه والتلطف به؟ (الجواب): المراد بالغالي فيه: المتجاوز لما فيه من الحدود والأحكام الاعتقادية والعملية والآداب والأخلاق الظاهرة والباطنة. فمن حفظ ألفاظه وتجاوز شيئا من هذه المذكورات كان غير مستحق للإكرام والتعظيم بحسب ما ارتكبه؛ بمعنى أنه يؤاخذ به ويذم عليه من حيث ارتكابه لذلك، وإن كان يستحق التعظيم والإكرام لكونه مسلما، أو حافظا للقرآن؛ فليس المراد نفي التعظيم له مطلقا بل الاعتبار للذي ذكرته فتأمله. والمراد بالجافي: من لا يخضع لما فيه من الآيات الباهرات والأدلة المتكاثرة، ولا يتأمل ما اشتمل عليه نظمه من بدائع المعاني بل يمره بلسانه مع قساوة

_ 1. كان يصح هذا القول لو صح معناه، ولم يصح عند محققي علماء الفلك إلى اليوم على اتساعه أن حركات النجوم تدل على أحداث الأرض وما يقع فيها - فهذا التجويز من مجازفات ابن حجر الهيتمي فيما لا علم له به؛ ليقيد به الأحاديث الصحيحة في إبطال خرافات المنجمين وتحريمها - ولو نقل هذا عن شيخ الإسلام ابن تيمية لأقام عليه ابن حجر هذا التكبر وسبه عليه أقبح السب. وكتبه محمد رشيد رضا. 2 أبو داود: الأدب (4843). 3 أحمد (5/ 250).

قلبه وجفاوة لبه، فهو كحمار الرحى وثور الحراثة. ولسنا متعبدين بمجرد حفظه، وإنما المقصود الأعظم بإنزاله والتعبد بحفظ ألفاظه هو هداية القلوب، ورجوعها بالاستكانة والخضوع إلى علام الغيوب، وتنزهها عن كل خلق ذميم؛ وعمل دميم، فمن ظفر بذلك مع حفظه فقد ظفر بالكنز الأعظم. ومن أخذ بالأول فقد أخذ من الكمال ما يستحق بسببه أن يكرم ويعظم، ومن قنع بحفظ ألفاظه وخلا عن تلك المعاني بأن غلا وتجافى فهو بعيد عن الكمال، غير مستحق أن يبلغ به مبالغ الكُّمَّل من الرجال، فهذا -والله أعلم- هو المراد من الحديث. ويؤيد ما ذكرته ما روى أحمد وأبو يعلى والطبراني والبيهقي: "اقرؤوا القرآن واعملوا به، ولا تجفوا عنه ولا تغلوا فيه، ولا تأكلوا به ولا تستكثروا به"1. والمراد من المسح على رأس اليتيم حقيقته، كما بينه آخر الحديث: "من مسح على رأس يتيم ولم يمسح إلا لله، كان له بكل شعرة تمر عليها يده عشر حسنات، ومن أحسن في يتيم عنده كنت أنا وهو في الجنة كهاتين"2 وقرن بين أصبعيه. وخص الرأس بذلك لأن في المسح عليه تعظيما لصاحبه، وشفقة عليه، ومحبة له، وجبرا لخاطره، وهذه كلها مع اليتيم تقتضي هذا الثواب الجزيل. وأما الإحسان إليه فهو أعلى وأجل، وقد ذكر بعده فيه القرب منه صلى الله عليه وسلم في الجنة حتى يكون كالإصبعين، فهو أعظم من إعطاء حسنات بعدد شعر الرأس، وقد روى البيهقي أنه صلى الله عليه وسلم قال: "إذا أردتَ أن يلين قلبك فأطعم المسكين، وامسح رأس اليتيم"3. [قوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ}] (مسألة) في قوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ} 1.

_ 1 أحمد (3/ 428). 2 أحمد (5/ 250). 3 أحمد (2/ 263).

(الجواب): أن الرزق في اللغة: الحظ والنصيب، ومنه قوله تعالى: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} 2 أي: تجعلون حظكم ونصيبكم من سماع القرآن تكذيبكم به وبمن أنزل عليه، وأما في عرف الشرع: فهو أخص من ذلك؛ إذ هو ما تخصص به الحيوان وتمكن من الانتفاع به. وقد يطلق على ما يعم النعم الظاهرة والباطنة، ومن ثم قال جماعة من المفسرين وغيرهم: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} 3 يحتمل أن المراد الإنفاق من جميع ما منحهم الله تعالى به من النعم الظاهرة؛ إذ الإنفاق كما يكون من هذه، كذلك يكون من النعم الباطنة كالعلم والجاه، ومن ثم قال صلى الله عليه وسلم فيما رواه ابن أبي شيبة: "إن علما لا يقال -أي لا يُتَحَدَّثُ به- ككنز لا يُنْفَقُ منه"4. وروى الطبراني مرفوعا: "مثل الذي يتعلم العلم ثم لا يتحدث به كمثل الذي يكنز الكنز ثم لا ينفق منه"5. وأما تناول الإنسان من الحرام يسمى رزقا كما دلت عليه الآيات والأحاديث. [الكلام في كرامات الأولياء] (مسألة): كرامات الأولياء حق، فهل تنتهي إلى إحياء الموتى وغيرها من معجزات الأنبياء؟ (الجواب): كرامات الأولياء حق عند أهل السنة والجماعة خلافا للمعتزلة، وقول الفخر الرازي: إن أبا إسحاق الأسفرايني أنكرها، مردود أيضا بأنه إنما أنكر منها ما كان معجزة لنبي كإحياء الموتى، لئلا تختلط الكرامة بالمعجزة. وغلط النووي كابن الصلاح بأنه ليس في كراماتهم معارضة للنبوة، لأن الولي إنما أعطي ذلك ببركة اتباعه للنبي صلى الله عليه وسلم، فلا تظهر حقيقة الكرامة عليه إلا إذا كان داعيا لاتباع النبي

_ 1 سورة الروم آية: 40. 2 سورة الواقعة آية: 82. 3 سورة البقرة آية: 3. 4 الدارمي: المقدمة (555). 5 الدارمي: المقدمة (555).

صلى الله عليه وسلم، بريئا من كل بدعة وانحراف عن شريعته صلى الله عليه وسلم. فببركة اتباعه يؤيده الله -تعالى- بملائكته وبروح منه، ويقذف في قلبه من أنواره. والحاصل أن كرامة الولي من بعض معجزات النبي صلى الله عليه وسلم، لكن لعظم اتباعه له أظهر الله بعض خواص النبي صلى الله عليه وسلم على يدي وارثه ومتبعه في سائر حركاته وسكناته؛ وقد تنزلت الملائكة لاستماع قراءة أسيد. وكان سلمان وأبو الدرداء يأكلان في صحفة فسبحت الصحفة وما فيها؛ ثم الصحيح أنهم ينتهون إلى إحياء الموتى خلافا لأبي القاسم القشيري. ومن ثم قال الزركشي: ما قاله ضعيف، والجمهور على خلافه، وقد أنكره عليه. وفي شرح مسلم للنووي: تجوز الكرامات بخوارق العادات على اختلاف أنواعها؛ وخصها بعضهم بإجابة دعوة ونحوها، وهذا غلط من قائله، بل الصواب جريانها بانقلاب الأعيان ونحوه. انتهى. وقد مات فرس بعض السلف في المنزل، فسأل الله إحياءه حتى يصل إلى بيته، فأحياه الله، فلما وصل إلى بيته قال لولده: خذ سرجه فإنه عارية 1 عندنا فأخذ سرجه فخر ميتا. ولا ينافي إحياء الميت الواقع كرامة لله، لأن الأجل محتوم لا يزيد ولا ينقص لأن من أُحْيِيَ كرامةً، مات أولا بأجله، وحياته وقعت كرامة؛ وكون الميت لا يحيى إلا للبعث هذا عند عدم الكرامة، أما عندها فهو كإحيائه في القبر للسؤال كما صح به الخبر؛ وقد وقع للعزير وحماره، والذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم.

_ 1 بياض بالأصل.

[الرد على من ينكر الدعاء] (مسألة): أنكر بعضهم الدعاء بـ"اللهم كما حسنت خلقي فحسن خلقي" محتجا بحديث: "فرغ ربك من ثلاث: رزقك، وأجلك، وشقي أو سعيد" فهل هو كذلك؟ (الجواب): ليس الأمر كما زعم هذا المنكر، ويلزمه إبطال الدعاء من أصله، لأن كل ما سيقع لك قد فرغ منه. وبذلك قال بعض المبتدعة، فأبطلوا الدعاء من أصله، وقالوا: لا فائدة له؛ ورد عليهم أهل السنة وقالوا: له فائدة، وذلك أن المقدرات على قسمين: منها ما أُبْرِمَ وهو المُعَبَّرُ عنه بما في الكتاب الذي لا يقبل تغير ولا تبدل، ومنها ما علق على فعل شيء، وهو المعبر عنه باللوح المحفوظ القابل للتغيير والتبديل، وأصل ذلك قوله تعالى: {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} 1. فمن ذلك حديث: "صلة الرحم تزيد في العمر"2 بناء على أن المراد بالزيادة حقيقتها لا مجازها الذي هو البركة، بأن يتيسر له في العمر القصير ما لا يتيسر لغيره في العمر الطويل، وإن قال بهذا جمع. وكذلك الدعاء قد يكون المدعو به معلقا على الدعاء، فكان للدعاء فائدة أيّ فائدة على أن الدعاء لا يجتنب أبدا، لأنه إن كان بما علق على الدعاء فواضح وجود الفائدة فيه، وعليه يُحْمَل قوله -صلى الله عليه وسلم-: "لا يرد القضاء إلا الدعاء"3. وإن كان بما لم يعلق على ذلك ففائدته الثواب، لأن الدعاء من العبادة، بل من أنهاها كما قال -صلى الله عليه وسلم-: "الدعاء مخ العبادة"4. وأيضا فيبدل الله الداعيَ بدل ما دعا به مما لم يُقَدِّر له ما هو أفضل منه، كما يليق بجوده وكرمه وسعة فضله. ومن ثَمَّ أطلق تبارك وتعالى الاستجابة للدعاء ولم يقيدها بشيء فقال: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} 5، وقال: {أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} 6.

_ 1 سورة الرعد آية: 39. 2 البخاري: الأدب (5985) , والترمذي: البر والصلة (1979). 3 الترمذي: القدر (2139). 4 الترمذي: الدعوات (3371). 5 سورة غافر آية: 60. 6 سورة البقرة آية: 186.

ثم رأيت بعضهم أشار لبعض ذلك، فقال: لا ينكر الدعاء إلا كافر مكذب بالقرآن؛ لأن الله -تعالى- تَعَبَّدَ عبادَه في غير آية، ووعدهم بالاستجابة على ما سبق في علمه من أحد ثلاثة أشياء على ما ورد في الحديث: استجابة، أو ادخار، أو تكفير عنه. [أخوات سورة هود] (مسألة): ما المراد بأخوات هود في حديث: "شيبتني هود وأخواتها"1؟ (الجواب): المراد بهن: الواقعة والمرسلات وعم والتكوير، رواه الترمذي والحاكم زاد الطبراني والحاقة وابن مردويه: وهل أتاك، وابن سعد: والقارعة، وسأل سائل، واقتربت الساعة. [قطع السدر] (مسألة) في حديث: "من قطع سدرة صَوَّبَ الله رأسه في النار"2 من رواه؟ (الجواب): رواه كثيرون، وصححه أيضا في المختارة، والأحاديث فيه كثيرة، وهي مؤولة عند العلماء؛ لإجماعهم على جواز قطعه. قال بعض السلف: محلها سدر الحرم، وقال أبو داود: وفي قطع سدرة في فلاة يستظل بها ابن السبيل والبهائم عبثا وظلما بغير حق. (مسألة): هل يطلق الإسلام على سائر الأمم السابقة عين حقيقتها أو يختص بهذه الأمة؟ (الجواب): رجح ابن الصلاح الأول، وسيأتي ما يصرح به من لفظ القرآن. ورجح غيره الثاني، وهو أن لا يوصف به من الأمم السابقة إلا الأنبياء فقط، وشرفت هذه الأمة بأن وُصفت بما وُصف به الأنبياء تشريفا وتكريما. (مسألة): ما عدد الأنبياء والرسل؟

_ 1 الترمذي: تفسير القرآن (3297). 2 أبو داود: الأدب (5239).

(الجواب): روى الطبراني بسند رجاله الصحيح أن رجلا قال: "يا رسول الله، أنبيٌّ آدم؟ قال: نعم. قال: كم بينه وبين نوح؟ قال: عشرة قرون. قال: كم بين نوح وإبراهيم؟ قال: عشرة قرون. قال: يا رسول الله، كم كانت الرسل؟ قال: ثلاثمائة وخمسة عشر"، وخرَّج ابن حبان والحاكم في صحيحه عن أبي ذر قلت: "يا رسول الله، كم الأنبياء؟ قال مائة ألف نبي وأربعة وعشرون ألفا قلت: يا رسول الله، كم الرسل؟ قال: ثلاثمائة وثلاثة عشر جَمٌّ غفير"1. ولا ينافي ذلك قوله تعالى: {مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ} 2 لأن هذا إما إخبار عما قص الله أو أنه قص عليه الكل بعد نزول تلك الآية. وبه يجاب أيضا عن التخالف بين الروايتين فيحمل أنه قص عليه أولا ثلاثمائة وثلاثة عشر، ثم ثانيا ثلاثمائة وخمسة عشر، فأخبر عن كلٍّ بما قص عليه وقت الإخبار به. (مسألة): ما المعتمد في الخضر هل هو نبي حي؟ وكذا إلياس، أفتونا؟ (الجواب): حياتهما ونبوتهما، وأنهما خُصا بذلك في الأرض، كما خُص إدريس وعيسى -صلى الله عليهما وسلم- ببقائهما حيين في السماء. (مسألة): كم بين عيسى وموسى، وبين عيسى ونبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-؟ (الجواب): الأول ألف وتسعمائة سنة، والثاني نحو ستمائة على الأشهر. (مسألة): الطفل هل يحشر على صورته، وهل يتزوج الحور؟ (الجواب): الطفل يكون في الحشر على صورة خلقته، ثم عند دخول الجنة يزاد فيه حتى يكون كالبالغ، ثم يتزوج من نساء الدنيا ومن الحور. (مسألة): حديث: (يدخل أهل الجنة الجنة مُردا مُكحلين وأبناء ثلاث

_ 1 أحمد (5/ 265). 2 سورة غافر آية: 78.

وثلاثين على خلق آدم سبعون ذراعا في عرض سبعة)، مَنْ رواه؟ (الجواب): رواه أحمد وابن أبي الدنيا والطبراني في الأوسط. (مسألة): من أين يخرج المهدي؟ (الجواب): ثبت في أحاديث أنه يخرج من قِبَل المشرق، وأنه يُبايع له بمكة بين الركن والمقام، وأنه يسكن بيت المقدس. (مسألة): كم يقيم عيسى -عليه السلام- بعد نزوله؟ (الجواب): يقيم سبع سنين كما صح في مسلم، ولا ينافيه حديث الطيالسي أنه يقيم أربعين سنة، لأن المراد مجموع لبثه في الأرض قبل الرفع وبعده؛ لأنه رفع وسنه ثلاث وثلاثين سنة. (مسألة): ما الفرق بين الشبيه والمثيل والنظير؟ (الجواب) الثلاثة متحدة لغة، وأما اصطلاحا: فظاهر قول شراح العقائد عن الأشعرية: المماثلة إنما أثبتت عندهم بالاشتراك في جميع الأوصاف؛ فإن المثل أخصها؛ لأن المماثلة تستلزم المشابهة وزيادة، والشبيه أعم من المثيل وأخص من النظير. والنظير أعم من الشبيه؛ إذ المشابهة لا تستلزم المماثلة فقد يكون شبيه الشيء غير مماثل له، والنظير قد لا يكون مشابها. والحاصل أن المماثلة تقتضي المساواة من كل وجه، والمشابهة تقتضي ذلك في الأكثر؛ والمناظرة تكفي ذلك في وجه. (مسألة): هل ورد مشروعية التكبير أواخر قصار المفصل؟ وهل هو خاص في حق غير المصلي؟ (الجواب): حديث التكبير ورد من طرق كثيرة عن أحمد بن أبي بريدة البزي، قال: سمعت عكرمة بن سليمان يقول: قرأت على إسماعيل

ابن عبد الله بن قسطنطين فلما بلغت والضحى، قال لي: كبر عند خاتمة كل سورة حتى تختم، وأخبره أنه قرأ على مجاهد فأمره بذلك، وأخبره مجاهد أن ابن عباس أمره بذلك، وأخبره ابن عباس أن أبي بن كعب أمره بذلك، وأخبره أبيُّ أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أمره بذلك، وقد أخرجه الحاكم في صحيحه عن البزي، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه. انتهى. قال الشافعي -رحمه الله-: إن تركت التكبيرَ تركت سنة. قال الحافظ العماد ابن كثير: وهذا من الشافعي يقتضي صحة هذا الحديث. ومما يقتضي صحته أيضا: أن أحمد بن حنبل رواه، وقد كان أحمد يجتنب المنكرات، فلو كان منكرا ما رواه. وقد صح عند أهل مكة: فقهائهم وعلمائهم ومن روى عنهم، وصحته استفاضت وانتشرت حتى بلغت حد التواتر. واختلفوا في ابتدائه فقيل: من أول سورة الضحى، والجمهور على أنه من أول سورة ألم نشرح إلى آخر الناس، ولا فرق في ندب التكبير بين المصلي وغيره؛ فهو سنة حتى في الصلاة، كما نص عليه الشافعي وشيخه سفيان بن عيينة وابن جريج وغيرهم، ونقله جماعة من أئمتنا، وأفتوا به مَنْ يعمل به في صلاة التراويح، وأنكروا على من أنكر ذلك. وقال الحليمي: نكتة التكبير تشبيه القرآن بصوم رمضان إذا تمت عدته يكبر، فكذا هنا يكبر إذا كمل عدة السور، قال: وصفته: أن يقف بعد كل سورة ويقول: الله أكبر. قال سليمان الرازي: ومن لا يكبر من القراء فحجتهم في ذلك: سد الذريعة عن الزيادة في القرآن بأن يداوم عليها فَيُتَوهم أنها منه. (مسألة): ما معنى لعن المسلم كقتله؟ (الجواب): أنه كقتله في الحرمة الشديدة، لأن لعن المسلم حرام؛ بل

لعن الحيوان كذلك؛ وسبب ذلك: أن اللعن عبارة عن الطرد والإبعاد عن الله، وذلك غير جائز إلا مَنْ اتصف بصفة يبعده عن الله -تعالى- وهو الكفر والبدعة والفسوق، فيجوز لعن المتصف بواحدة من هذا باعتبار الوصف الأعم، نحو: لعنة الله على الكافرين والمبتدعة والفسقة، والوصف الأخص نحو: لعن الله اليهود والخوارج والقدرية والروافض والزناة والظلمة وآكلي الربا، وأما المُعَيَّنُ فإن كان حيا لم يجز مطلقا إلا إن علم أنه يموت على الكفر كإبليس، وإن لم يعلم موته على الكفر لم يجز لعنه، وإن كان كافرا في الحال؛ لأنه ربما يسلم فيموت مقربا عند الله -تعالى- فكيف يُحكم بكونه ملعونا مطرودا. نعم يجوز أن يقال: لعنه الله إن مات كافرا، وكذا قال في فاسق ومبتدع معين، إن مات ولم يتب، ومن ثم لم يجز لعنُ يزيد بن معاوية. وتشبيه لعن المؤمن بقتله إنما هو في أصل التحريم، أو لكون كل منهما كبيرة، وليس بلازم في المشبه أن يعطى حكم المشبه به من كل وجه. والله أعلم. (مسألة): في قوله في حديث ابن عباس الذي رواه البخاري في حديث القبرين: "إنهما ليعذبان، وما يعذبان في كبير"1، ثم قال: "بلى إنه كبير"، وفيه: "ثم دعا بجريدة فكسرها كسرتين فوضع على كل قبر منهما كسرة. فقيل: يا رسول الله، لِمَ فعلتَ هذا؟ فقال: لعله يخفف عنهما ما لم ييبسا"2، ما الحكمة في ذلك؟ وهل لكل أحد أن يفعل ذلك في أيّ قبر؟ وهل المعذبان مسلمان أو كافران؟ (الجواب): قوله: وما يعذبان في كبير) ثم قال: بلى أي: يعذبان في كبير، والجمع بينهما: أي ليس بكبير عندكم، ولكنه كبير عند الله كما في قوله تعالى: {وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ} 3. والمراد بقوله: وما يعذبان في كبير)، أي: في أمر كان يكبر ويشق عليهما الاحتراز منه؛ إذ لا مشقة في

_ 1 البخاري: الوضوء (216) والجنائز (1361,1378) والأدب (6052,6055) , ومسلم: الطهارة (292) , والترمذي: الطهارة (70) , والنسائي: الطهارة (31) والجنائز (2068) , وأبو داود: الطهارة (20) , وابن ماجه: الطهارة وسننها (347) , وأحمد (1/ 225) , والدارمي: الطهارة (739). 2 البخاري: الوضوء (216) , ومسلم: الطهارة (292) , والترمذي: الطهارة (70) , والنسائي: الطهارة (31) والجنائز (2068) , وابن ماجه: الطهارة وسننها (347) , وأحمد (1/ 225) , والدارمي: الطهارة (739). 3 سورة النور آية: 15.

التنزه عن البول والنميمة، وليس المراد أن ذلك ليس بكبير في أمر الدين؛ بل هو محمول على أنه سأل الشفاعة لهما؛ فأجيب شفاعته بأن يخفف عنهما إلى أن ييبسا، وليس لليابس تسبيح وقوله: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} 1 أيُّ شيءٍ حي؛ وحياة كل شيء بحسبه ما لم ييبس، والحجر ما لم يقطع. والجمهور أن هذا التسبيح على عمومه: إما حقيقة، وهو قول المحققين إذ العقل لا يحيله، أو أنه بلسان الحال باعتبار دلالته على الصانع. وأما المعذبان فإنهما مسلمان؛ إذ الكافر لا يسأل له النبي -صلى الله عليه وسلم- الشفاعة. وتقدم عن العلماء أنه محمول عندهم على أنه سأل الشفاعة لهما فأجيب. وقوله: وهل لكل أحد أن يفعل ذلك؟ فيقال: نعم يسن فعل ذلك لكل أحد اتباعا له -صلى الله عليه وسلم- فإن الأصل في أفعاله -صلى الله عليه وسلم- التأسي إلا ما دل دليل على الخصوصية، ولا دليل هنا، والله أعلم. [ابن صياد هو الدجال أو غيره؟] (مسألة): ابن صياد هل هو الدجال أو غيره؟ (الجواب): اختلف في ذلك الصحابة -رضوان الله عليهم- فكثير منهم قالوا: إنه هو، وكان بعضهم يحلف على ذلك كجابر بن عبد الله وعمر بن الخطاب وابنه عبد الله. وقال الآخرون: إنه غيره، وهو الأشهر، وعليه يدل صريحا ما في حديث مسلم الطويل، حديث الجساسة المنعوت فيه الدجال بأوصاف لا تنطبق على ابن صياد، منها: أنه مسلسل في جزيرة من جزائر البحرين؛ وابن صياد إذ ذاك بالمدينة، على أنه ورد أنه أسلم بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد تزوج وولد له. وأما ما ورد أيضا أنه فُقِدَ ولم يُدْرَ أين ذهب، فهذا لا يدل على أنه الدجال كما هو ظاهر، والله أعلم. آخر مسائل ابن حجر، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.

_ 1 سورة الإسراء آية: 44.

22 مسألة

بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم [البيع على البيع والشراء على الشراء] (المسألة الأولى): من قال لمن اشترى بعشرة: أنا أعطيك مثلها بتسعة، أو قال لمن باع سلعة بتسعة: عندي فيها عشرة، ليفسخ البيع ويعقد معه. فهذه المسألة لها صور: فإن الأولى تسمى: بيع الرجل على بيع أخيه، والصورة الثانية: الشراء على شراء أخيه، وفعله حرام؛ ويتصور ذلك في خيار المجلس، وخيار الشرط وهو محرم؛ لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "ولا يبع بعضكم على بيع بعض"1. ومثله أن يقول: أبيعك خيرا منها بثمنها، أو يعرض عليه سلعة يرغب فيها المشتري؛ ليفسخ البيع؛ ويعقد معه؛ فلا يجوز ذلك، للنهي عنه، ولما فيه من الإضرار بالمسلم والإفساد عليه؛ ولأن النبي صلى الله عليه وسلم "نهى أن يخطب الرجل على خطبة أخيه"2 متفق عليه. وهذا في معنى الخاطب فإن خالف وفعل: فالبيع الثاني باطل، للنهي عنه؛ والنهي يقتضي الفساد. وفيه وجه آخر أنه يصح لأن المُحَرَّم هو عرض سلعته على المشتري، وذلك سابق على البيع ولأن النهي لحق آدمي فأشبه بيع النجش؛ وهذا مذهب أحمد. وقال الشيخ تقي الدين: يحرم الشراء على شراء أخيه، فإن فعل كان للمشتري الأول مطالبة البائع بالسلعة وأخذ عوضها. [اشتراط المشتري على البائع شرطين] (وأما المسألة الثانية): وهي إذا اشترط المشتري على البائع شرطين: كحمل الحطب، وتكسيره: فهذه المسألة فيها قولان للعلماء هما روايتان عن أحمد: أحدهما: أن ذلك لا يجوز، وهو قول الشافعي وأصحاب الرأي،

_ 1 البخاري: البيوع (2150) , ومسلم: النكاح (1413) والبيوع (1515) , والترمذي: النكاح (1134) , والنسائي: البيوع (4496) , وأبو داود: البيوع (3443) , وابن ماجه: التجارات (2172) , وأحمد (2/ 311,2/ 360). 2 البخاري: النكاح (5142) , ومسلم: النكاح (1412) , والترمذي: البيوع (1292) , والنسائي: النكاح (3243) , وأبو داود: النكاح (2081) , وأحمد (2/ 21) , ومالك: النكاح (1112) , والدارمي: النكاح (2176).

وعن أحمد أن ذلك جائز، وهو اختيار الشيخ تقي الدين، واحتج من أبطل ذلك بما روى عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا يحل سلف وبيع، ولا شرطان في بيع. ولا تَبِعْ ما ليس عندك"1 أخرجه أبو داود والترمذي. وقال: حديث حسن صحيح. واختلف أهل العلم في تفسير الشرطين المنهي عنهما، فروي عن أحمد: أنهما شرطان صحيحان ليسا من مصلحة العقد، فحكى ابن المنذر عنه وعن إسحاق فيمن اشترى ثوبا وشرط على البائع خياطته وقصارته، أو طعاما واشترط طحنه وحمله؛ إن شرط أحد هذه الأشياء فالبيع جائز. وإن شرط شرطين: فالبيع باطل. وكذلك فسر القاضي الشرطين المبطلين بنحو هذا التفسير، وكذلك روي عن أحمد أنه فسر الشرطين أن يشتريها على أنه لا يبيعها لأحد، ولا يطأها، ففسره بشرطين فاسدين. ومحل الخلاف إذا لم يكونا من مصلحة العقد، فأما إن كانا من مصلحة العقد كالشرط والرهن والضمين: فإن ذلك يصح، اختاره الموفق والشارح والمجد وغيرهم من العلماء. [اشترى سلعة فوجدها معيبة] (وأما المسألة الثالثة): وهي إذا اشترى سلعة فوجدها معيبة، فقال البائع: العيب حدث عند المشتري، وقال المشتري: هي معيبة قبل الشراء، ولا بينة لهما: هذه المسألة فيها روايتان عن أحمد: إحداهما: أن القول قول البائع مع يمينه، وهذا مذهب أبي حنيفة ومالك، لأن الأصل سلامة البيع، وصحة العقد، ولأن المشتري يدعي أنه يستحق فسخ المبيع، والبائع ينكره؛ والقول قول المنكر. والرواية الثانية: أن القولَ قولُ المشتري مع يمينه، فيحلف بالله أنه اشتراه وبه هذا العيب، أو أنه ما حدث عنده ويكون له الخيار؛ اختارها

_ 1 الترمذي: البيوع (1234) , والنسائي: البيوع (4611) , وأحمد (2/ 174,2/ 205) , والدارمي: البيوع (2560).

الخرقي لأن الأصل عدم القبض في الجزء الفائت، واستحقاق ما يقابله من الثمن. والقول الأول أظهر، والله أعلم. قال في الإنصاف: ومحل الخلاف إذا لم يخرج عن يده، فإن خرج عن يده إلى غيره، لم يجز له رده، نقله مهنا، واقتصر عليه في الفروع، والله أعلم. [معنى بيع الدين بالدين] (أما المسألة الرابعة): وهو ما معنى بيع الدين بالدين؟ فله صور كثيرة: منها: بيع ما في الذمة حالّ من عروض وأثمان بثمن إلى أجل ممن هو عليه. ومنها: جعل رأس مال السلم دينا، فإذا جعل الثمن دينا كان بيع دين بدين، ولا يصح بالإجماع، واختار الشيخ تقي الدين جواز ذلك، وكذلك ذكر ابن القيم في إعلام الموقعين، وادعى أنه ليس في ذلك إجماع. ومنها: لو كان لكل واحد من الاثنين دين على صاحبه من غير جنسه كالذهب والفضة، وتصارفا لم يحضرا شيئا: فإنه لا يجوز سواء كانا حالَّين أو مؤجلين، نص عليه أحمد فيما إذا كانا نقدين، واختار الشيخ تقي الدين الجواز. ومنها لو كان لرجلين دين على رجلين من ذهب أو فضة وتبايعا ذلك، وصار غريم زيد عن غريم لعمرو، وغريم عمرو بما لزيد؛ وذلك لا يجوز بغير خلاف. [تشقق الثمر ثم بيع النخل] (وأما المسألة الخامسة): وهي إذا باع نخلا قد تشقق طلعه ولم يشترط المشتري الثمرة، ثم تنازعا بعد ذلك في الثمرة، فأكثر أهل العلم على أن الثمر إذا تشقق، ثم بيع النخل بعد ذلك، ولم يشترط المشتري الثمرة، فإنها تكون للبائع، سواء أُبِّرَتْ أو لم تُؤَبَّرْ. وبالغ الموفق -رحمه الله- في ذلك وقال: لا خلاف فيه بين العلماء، وعن أحمد رواية ثالثة؛ وهو أن الحكم منوط بالتأبير، وهو التلقيح، لا بالتشقق؛ فعليها لو تشقق ولم يؤبر تكون الثمرة للمشتري؛ ونصر هذه الرواية الشيخ تقي الدين واختارها في الفائق. وأما قبل

التشقق فهي للمشتري، وبه قال مالك والليث والشافعي، وقال ابن أبي ليلى: هي للمشتري في الحالين؛ وقال أبو حنيفة والأوزاعي: هي للبائع في الحالين. ووجه الأول: ما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من ابتاع نخلا بعد أن تؤبر فثمرتها للذي باعها إلا أن يشترط المبتاع" 1 وهذا صريح في قول ابن أبي ليلى، وحجة على أبي حنيفة والأوزاعي بمفهومه؛ لأنه جعل التأبير حدا لملك البائع للثمرة فيكون ما قبله للمشتري؛ وإلا لم يكن حدا؛ ولا كان التأبير مفيدا. [أسلم في ثمرة بستان بعينه ست سنين] (وأما المسألة السادسة): وهي من أسلم في ثمرة نخل بعينه ست سنين، أيصح ذلك أم لا؟ فالسلم، والحالة هذه، باطل، قال ابن المنذر: إبطال السلم إذا أسلم في ثمرة بستان بعينه كالإجماع من أهل العلم؛ وممن حفظنا ذلك عنه: الثوري ومالك والأوزاعي والشافعي وإسحاق وأصحاب الرأي، قال: وروينا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أسلم إليه رجل من اليهود دنانير في تمر مسمى، قال اليهودي: من تمر حائط بني فلان؛ فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أما من تمر حائط بني فلان فلا، ولكن كيل مسمى إلى أجل مسمى"2 رواه ابن ماجه وغيره ورواه الجوزجاني في المترجم. وقال: أجمع الناس على الكراهة لهذا البيع. [سَبلَ في أرض نقدا معلوما ثم امتنعت المعاملة به] (وأما المسألة السابعة): وهي إذا سَبلَ في أرض نقدا معلوما ثم امتنعت المعاملة به، ما الحكم في ذلك؟ فهذه المسألة نظيرة القرض إذا اقترضه فلوسا فحرمها السلطان، فذكر أهل العلم: أن له القيمة وقت القرض، حتى أن الشيخ تقي الدين -رحمه الله- طرد ذلك في الديون كالصداق وعوض الخلع والغصب والصلح، فإذا اقترضه فلوسا أو باعه بها، ونحو ذلك ثم

_ 1 البخاري: المساقاة (2379) والشروط (2716) , ومسلم: البيوع (1543) , والترمذي: البيوع (1244) , والنسائي: البيوع (4636) , وأبو داود: البيوع (3433) , وابن ماجه: التجارات (2210,2211) , وأحمد (2/ 9,2/ 63) , ومالك: البيوع (1302). 2 ابن ماجه: التجارات (2281).

حرمها السلطان، وتُرِكَتْ المعاملة بها بعد ذلك، فإنه يرجع بقيمتها على من هي عليه، فهذه المسألة مثلها؛ فإذا جعل الواقف نقدا معلوما في أرض ونحوها، ثم حرمه السلطان وتركت المعاملة به، جعل بدله مكانه قيمة تلك الفلوس قبل كسادها. [اختلاف الراهن والمرتهن في قدر الدين] (وأما المسألة الثامنة): وهي إذا اختلف الراهن والمرتهن في قدر الدين، فقال الراهن: الرهن في ثمانية، وقال المرتهن: في عشرة؛ ولا بينة لهما، فقد اختلف العلماء -رحمهم الله- في ذلك: فقال مالك: القول قول المرتهن ما لم يدع أكثر من ثمن الرهن أو قيمته. وحكي ذلك عن الحسن وقتادة، واختاره الشيخ تقي الدين وابن القيم، قالوا: لأن الله سبحانه جعل الرهن بدلا من الكتابة والشهود التي تنطق بالحق، فلو لم يقبل قول المرتهن في ذلك بطلت التوثقة من الرهن به، وادعى الراهن أنه رهنه على أقل شيء: فلم يكن في الرهن فائدة. ولأن الله أمر بكتابة الدين، وأمر بإشهاد الشهود، ثم أمر بعد ذلك بما تحفظ به الحقوق عند عدم القدرة على الكتابة والشهود وهو السفر في الغالب فقال تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} 1 فدل ذلك دلالة بينة أن الرهن قائم مقام الكتابة، والشهود شاهدٌ مخبرٌ بالحق، كما يخبر الكتاب والشهود، فلو لم يقبل قول المرتهن على الراهن في قدر الدين، لم يكن الرهن وثيقة ولا حافظا لدينه؛ ولا بد من الكتابة والشهود، فإن الراهن يتمكن من أخذه منه، ويقول: إنما رهنته على درهم ونحوه. وهذا القول هو أرجح القولين. والقول الثاني: أن القول قول الراهن، وبه قال النخعي والثوري والشافعي والبتي وأبو ثور وأصحاب الرأي، قالوا: لأن الراهن منكر للزيادة التي يدعيها المرتهن،

_ 1 سورة البقرة آية: 283.

والقول قول المنكر، لقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لو يُعْطَى الناس بدعواهم لأخذ قوم دماء رجال وأموالهم، ولكن اليمين على المدعى عليه" 1 رواه مسلم. وفي الحديث الآخر: "البينة على المدعي واليمين على من أنكر" 2؛ ولأن الأصل براءة الذمة من الزائد، فكان القول قول من ينفيه كما اختلفا في قدر الدين. [ضمان المجهول] (وأما المسألة التاسعة): وهي ضمان المجهول كمن ضمن على إنسان دينا لا يعلم قدره، ثم علم ذلك، فالصحيح في هذه المسألة صحة ذلك، وهو قول أبي حنيفة وأحمد، وهو اختيار الشيخ ابن القيم لقول الله تعالى: {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} 3 وحمل البعير غير معلوم بل يختلف باختلافه، ولعموم قوله عليه السلام: "الزعيم غارم"4 ولأنه التزام حق في الذمة من غير مفاوضة؛ فصح في المجهول كالنذر. وقال الثوري والليث وابن أبي ليلى والشافعي وابن المنذر: لا يصح، لأنه التزام؛ فلم يصح مجهولا كالثمن. [ضمان الوكيل فيما خالف فيه موكله] (وأما المسألة العاشرة): وهي من وكل رجلا في بيع سلعة بعشرة، فباعها بثمانية، ووكله في شراء سلعة بثمانية، فاشتراها بعشرة ما الحكم في ذلك؟ فهذه المسألة فيها قولان للعلماء: هما روايتان عن أحمد: إحداهما): أن حكمه حكم من لم يؤذن له في البيع؛ فيكون تصرفه كتصرف الأجنبي فلا يصح البيع؛ وهذا قول أكثر أهل العلم؛ واختاره الموفق -رحمه الله- قال في الشرح: وهو أقيس، لأنه بيع غير مأذون فيه أشبه بيع الأجنبي، وكل تصرف كان الوكيل فيه مخالفا لموكله، فحكمه حكم تصرف الأجنبي. والرواية الثانية): أن البيع صحيح ويضمن الوكيل النقص، لأنه من صح بيعه بثمن المثل صح بدونه، كالمريض. قال في الاختيارات: قال في المحرر:

_ 1 البخاري: تفسير القرآن (4552) , ومسلم: الأقضية (1711) , والنسائي: آداب القضاة (5425) , وابن ماجه: الأحكام (2321) , وأحمد (1/ 363). 2 الترمذي: الأحكام (1341). 3 سورة يوسف آية: 72. 4 الترمذي: البيوع (1265) , وأبو داود: البيوع (3565) , وابن ماجه: الأحكام (2405).

وإذا اشترى المضارب أو الوكيل بأكثر من ثمن المثل صح ولزم النقص أو الزيادة، نص عليه. قال أبو العباس: وكذلك الشريك والوصي والناظر على الوقف وبيت المال ونحو ذلك. قال: وهذا ظاهر فيما إذا فرَّط، وأما إذا احتاط في البيع والشراء ثم ظهر غبن أو عيب لم يقصر فيه، فهذا مغرور يشبه خطأ الإمام والحاكم، وأبين من هذا الناظر والوصي والإمام إذا باع أو آجر أو زارع ثم تبين أنه بدون القيمة بعد الاجتهاد ثم تبين أن المصلحة كانت في خلافه؛ وهذا باب واسع. ولكن الشريك والمضارب: فإن عامة من يتصرف لغيره بوكالة أو ولاية قد يجتهد ثم يظهر فوات المصلحة أو حصول المفسدة، لا لوم عليه فيها، وتضمين مثل هذا فيه نظر. وقال أبو حفص في المجموع: وإذا سمى له ثمنا فنقص منه، فنص الإمام أحمد في رواية منصور: إذا أمر رجلا أن يبيع له شيئا فباع بأقل، قال: البيع جائز وهو ضامن. قال أبو العباس: لعله لم يقبل قولهما على المشتري في تقدير الثمن، لأنهما يدعيان فساد العقد؛ وهو يدعي صحته، فكان القول قوله، ويضمن الوكيل النقص. انتهى في الاختيارات ملخصا. [الاختلاف في قسمة ربح المضاربة] (وأما المسألة الحادية عشر): وهي إذا دفع إلى إنسان مالا مضاربة فاشترط لأحدهما ثلث الربع، وللآخر الثلثين؛ ثم اختلف العامل ورب المال فيمن له الثلث ولا بينة لهما؛ فقال في الشرح: إذا اختلفا فيما شرطا للعامل ففيه روايتان: (إحداهما): القول قول رب المال؛ نص عليه أحمد في رواية منصور وسندي؛ وبه قال الثوري وإسحاق وأبو ثور وأصحاب الرأي وابن المنذر لأن رب المال منكر للزيادة التي ادعاها العامل؛ والقول قول المنكر، والرواية الثانية): أن العامل إن ادعى أجرة المثل، وما يتغابن الناس به، فالقول قوله،

لأن الظاهر صدقه، وإن ادعى أكثر فالقول قول رب المال فيما زاد على أجرة المثل، كالزوجين إذا اختلفا في الصداق. وقال الشافعي: يتحالفان لأنهما اختلفا في عوض عقد فيتحالفان كالمتبايعين؛ ولنا قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "ولكن اليمين على المدعى عليه"1 ولأنه اختلاف في المضاربة فلم يتحالفا كسائر اختلافهما؛ والمتبايعان يرجعان إلى رؤوس أموالهم بخلاف ما نحن فيه. [أعطى ثوبه خياطا بلا عقد ثم اختلفا في قدر الأجرة] (وأما المسألة الثانية عشر): وهي إذا أعطى ثوبه خياطا بلا عقد؛ ثم اختلفا في قدر الأجرة؛ فقال في الشرح: إذا دفع ثوبه إلى خياط ليخيطه أو قصار ليقصره من غير عقد ولا شرط ولا تعريض بأجرة؛ مثل أن يقول: خذ هذا فاعمله، وأنا أعلم أنك إنما تعمل بأجرة؛ وكان القصار والخياط منتصبين لذلك ففعلا ذلك، فلهما الأجرة لأن العرف الجاري بذلك يقوم مقام القول؛ فصار كعقد البلد، ولأن شاهد الحال يقتضيه فصار كالتعريض. فأما إن لم يكونا منتصبين لذلك: لم يستحقا أجرة إلا بعقد أو شرط أو تعريض به؛ لأنه لم يجر عرف يقوم مقام العقد، فهو كما لو تبرع به. وفي المسألة قول آخر: له الأجرة مطلقا سواء كان منتصبا للعمل بأجرة أو لم يكن؛ قال في الإنصاف: وهو الصحيح من المذهب؛ وعليه كثير من الأصحاب. [اختلف المعير والمستعير في الدابة بعد مضي المدة] (وأما المسألة الثالثة عشر): إذا اختلف المعير والمستعير في الدابة بعد مضي المدة؛ فقال المالك: أجرتك؛ وقال الآخر: أعرتني ولا بينة لهما؛ فقال في الشرح: إذا اختلف الراكب ورب الدابة، فقال المالك: هي عارية، وقال رب الدابة: أكريتكها، وكانت الدابة باقية لم تنقص، وكان الاختلاف عقيب العقد: فالقول قول الراكب؛ لأن الأصل عدم عقد الإجارة وطرد الدابة

_ 1 البخاري: الرهن (2514) , ومسلم: الأقضية (1711) , والترمذي: الأحكام (1342) , والنسائي: آداب القضاة (5425) , وأبو داود: الأقضية (3619) , وابن ماجه: الأحكام (2321) , وأحمد (1/ 342,1/ 363).

إلى مالكها إذا كلف الراكب، لأن الأصل براءة ذمته منها. وإن كان الاختلاف بعد مضي مدة لها أجرة: فالقول قول المالك فيما مضى من المدة دون ما بقي منها؛ وحكي ذلك عن مالك؛ وقال أصحاب الرأي: القول قول الراكب؛ وهو منصوص الشافعي لأنهما اتفقا على تلف المنافع على ملك الراكب، وادعى المالك، عوضا لها. والأصل عدم وجوبه وبراءة ذمة الراكب منه؛ فكان القول قوله. ولنا أنهما اختلفا في كيفية انتقال المنافع إلى ملك الراكب، فكان القول قول المالك، كما لو اختلفا في عين فقال المالك: بعتكها، وقال الآخر: وهبتها؛ ولأن المنافع تجري مجرى الأعيان في الملك والعقد عليها، ولو اختلفا في الأعيان كان القول قول المالك كذا هنا، وما ذكروه يبطل بهذه المسألة فيحلف المالك وتُسْتَحَقُ الأجرة، والله -تعالى- أعلم. [غرس في أرض غيره بغير إذنه فطلب صاحب الأرض قلع غرسه] (وأما المسألة الرابعة عشر): وهي إذا استولى على أرض غصب، وبنى فيها وغرس. ثم نازع المغصوب منه الغاصب بالقلع وأرش نقصها والتسوية والأجرة، فقال في الشرح: من غرس في أرض غيره بغير إذنه أو بنى فيها فطلب صاحب الأرض قلع غرسه وبناه لزم ذلك، ولا نعلم فيه خلافا، لما روى سعيد بن زيد أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "ليس لعرق ظالم حق"1 رواه الترمذي، وقال: حديث حسن. وروى أبو داود وأبو عبيد في الحديث أنه قال: فلقد أخبرني الذي حدثني هذا الحديث "أن رجلا غرس في أرض رجل من الأنصار من بني بياضة، فاختصما إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقضى للرجل بأرضه، وقضى للآخر أن ينزع نخله"، قال: فلقد رأيتها يُضْرَبُ في أصولها بالفؤوس، وإنها لنخل عم، وإذا قلعها لزم التسوية الأرض ورد

_ 1 الترمذي: الأحكام (1378) , وأبو داود: الخراج والإمارة والفيء (3073).

الأرض إلى ما كانت عليه، لأنه ضرر حصل في ملك غيره بغير فعله، فلزمته إزالته، وعليه ضمان نقص الأرض إن نقصت بالغرس والبناء، وعليه أجرة المثل إلى وقت التسليم. [تفضيل بعض الأولاد في العطية] (وأما المسألة الخامسة عشر): إذا فضل بعض أولاده بعطية مال، فمات قبل المواساة، فالكلام في هذه المسألة في مقامين: المقام الأول: في جواز التفضيل؛ وعدمه، فمذهب الإمام أحمد رضي الله عنه أن ذلك لا يجوز إذا كان على سبيل الأثرة، فإن خص بعضهم بعطية أو فاضل بينهم أثم، إذا لم يختص بمعنى يبيح التفضيل؛ ووجبت عليه المساواة، إما برد الفاضل أو إعطاء الآخر، حتى يتم نصيبه. وبهذا قال ابن المبارك، وروي معناه عن مجاهد وعروة، واختار هذا القول الشيخ تقي الدين. وذهب الإمام مالك والثوري والليث والشافعي وأصحاب الرأي إلى جواز التفضيل، وروي معنى ذلك عن شريح وجابر بن زيد والحسن بن صالح، لأن أبا بكر نحل عائشة جذاذ عشرين وسقا، دون سائر أولاده، واحتج الشافعي بقول النبي -صلى الله عليه وسلم- في حديث النعمان بن بشير: "أشهد على هذا غيري"1 فأمره بتأكيدها دون الرجوع. واحتج من ذهب إلى تحريم التفضيل بما في الصحيحين عن النعمان بن بشير: قال: "تصدق علي أبي ببعض ماله، فقالت أمي عمرة بنت رواحة: لا أرضى حتى تشهد عليها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. فجاء بي إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليشهده على صدقتي، فقال: أكلّ ولدك أعطيته مثله؟ قال: لا. قال: فاتقوا الله، واعدلوا بين أولادكم"2 قال: فرجع أبي، فرد تلك الصدقة. وفي لفظ قال: (فاردده) وفي لفظ: (فأرجعه) وفي لفظ: (فلا تشهدني

_ 1 مسلم: الهبات (1623) , وأبو داود: البيوع (3542) , وابن ماجه: الأحكام (2375) , وأحمد (4/ 270). 2 البخاري: الهبة وفضلها والتحريض عليها (2587) , ومسلم: الهبات (1623) , والنسائي: النحل (3681,3682) , وأبو داود: البيوع (3542) , وأحمد (4/ 269,4/ 270,4/ 276).

على جور)، وفي لفظ: (فأشهد على هذا غيري)، وفي لفظ: (سوّ بينهم) متفق عليه. وهو دليل على التحريم؛ لأنه سماه جورا، وأمره برده، وامتنع من الشهادة عليه؛ والجور حرام، والأمر يقتضي الوجوب ولأن تفضيل بعضهم يورث بينهم العداوة والبغضاء وقطيعة الرحم، فمنع منه، كتزويج المرأة على عمتها وخالتها. وقول أبي بكر لا يعارض قول النبي صلى الله عليه وسلم ولا يحتج به، ويحتمل أن أبا بكر خصها لعجزها عن المكسب والتسبب، مع اختصاصها بفضلها، ولكونها أم المؤمنين، وغير ذلك من خصائصها، ويحتمل أن يكون نحلها، ونحل غيرها من ولده، أو يريد أن ينحل غيرها، فأدركه الموت قبل ذلك، ويتعين حمل حديثه على أحد هذه الوجوه، لأن التفضيل منهي عنه، وأبو بكر لا يفعل المنهي عنه مع علمه بذلك. وأما قول النبي صلى الله عليه وسلم: "أشهد على هذا غيري"1 فليس بأمر، وكيف يجوز أن يأمر بتأكيده مع أمره برده وتسميته إياه جورا؟ ولو أمره النبي -صلى الله عليه وسلم- بإشهاد غيره لامتثل أمره، ولم يرده لكن قوله: "أشهد على هذا غيري"2 تهديد، كقوله تعالى: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} 3. فأما إن خص بعضهم لمعنى يقتضي تخصيصه من حاجته أو زمان أو عمى أو كثرة عياله، أو لاشتغاله بالعلم، ومنع بعض ولده لفسقه أو بدعته، أو لكونه يعصي الله بما يأخذه ونحوه، فاختار الموفق جواز ذلك، واستدل له بحديث أبي بكر؛ ولأن بعضهم اختص بمعنى يقتضي العطية، فجاز أن يختص بها كما لو اختص بالقرابة، وأجاب عن حديث النعمان بأنه قضية في عين لا عموم لها. وقد روي عن أحمد ما يدل على جواز ذلك، فإنه قال في تخصيص

_ 1 مسلم: الهبات (1623) , وأبو داود: البيوع (3542) , وابن ماجه: الأحكام (2375) , وأحمد (4/ 270). 2 مسلم: الهبات (1623) , وأبو داود: البيوع (3542) , وابن ماجه: الأحكام (2375) , وأحمد (4/ 270). 3 سورة فصلت آية: 40.

بعضهم بالوقف: لا بأس إذا كان لحاجة، وأكرهه إذا كان على سبيل الأثرة، والعطية في معنى الوقف. قال في الإنصاف: قلت: وهذا قوي جدا، ويحتمل أن يمنع من التفضيل بكل حال لحديث النعمان، لكون النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يستفصل بشيرا في عطيته. وأما المقام الثاني: وهو إذا فضل أو خص بعضهم، ثم مات قبل الرجوع أو المواساة، فهل تثبت العطية للمعطى أو للباقين؟، فقد اختلفت الرواية في ذلك عن أحمد، فروي عنه أنها تثبت للمعطى، وليس لبقية الورثة الرجوع نص على ذلك في رواية محمد بن الحكم والميموني، واختاره الخلال، وصاحبه أبو بكر، وبه قال مالك والشافعي وأصحاب الرأي، وأكثر أهل العلم لقول أبي بكر لعائشة لما نحلها: وددت لو أنك حزتيه، فيدل على أنها لو حازته لم يكن لهم الرجوع. وقال عمر: لا نحلة إلا نحلة يحوزها الولد دون الوالد، والرواية الأخرى: لباقي الورثة أن يرجعوا ما وهبه، اختاره أبو عبد الله ابن بطة وأبو حفص العكبريان، وابن عقيل والشيخ تقي الدين، وصاحب الفائق، وهو قول عروة بن الزبير وإسحاق، قال أحمد: عروة قد روى الأحاديث الثلاثة: حديث عائشة، وحديث عمر، وحديث عثمان، وتركها، وذهب إلى حديث النبي -صلى الله عليه وسلم- ترد في حياة الرجل وبعد موته؛ ولأن النبي صلى الله عليه وسلم سمى ذلك جورا بقوله لبشير: "لا تشهدني على جور"1 والجور لا يحل للفاعل فعله، ولا للمعطى تناوله، والموت لا يغيره عن كونه جورا حراما، فيجب رده؛ ولأن أبا بكر، وعمر -رضي الله عنهما- أمر قيس بن سعد برد قسمة أبيه حين ولد له، ولم يكن علم به، ولا أعطاه شيئا، وكان ذلك بعد موت سعد، فروى سعيد بإسناده أن سعد بن عبادة، قسم ماله بين أولاده

_ 1 البخاري: الشهادات (2650) , ومسلم: الهبات (1623) , والنسائي: النحل (3681,3682,3683).

وخرج إلى الشام، فمات بها، ثم ولد له بعد ذلك ولد، فمشى أبو بكر وعمر -رضي الله عنهما- إلى قيس بن سعد فقالا: إن سعدا قسم ماله، ولم يدر ما يكون، وإنا نرى أن ترد هذه القسمة، فقال: لم أكن أغير شيئا صنعه سعد، ولكن نصيبي له. [مسائل في الرضاعة] (وأما المسألة السادسة عشر، والسابعة عشر، والثامنة عشر، والتاسعة عشر): وهي مسائل الرضاعة، فهن حلال كلهن، وهو قول جمهور العلماء، فتباح أم المرتضع، وأخته من النسب لأبيه وأخيه من الرضاع، لأنهن في مقابلة من يحرم بالمصاهرة لا في مقابلة من يحرم من النسب. والشارع صلى الله عليه وسلم إنما حرم من الرضاعة ما يحرم من النسب، لا ما يحرم بالمصاهرة، وتباح المرضعة وبنتها لأبي المرتضع وأخيه من النسب، وتباح أخت ابنه، وأم أخته من الرضاع، ويحرم من النسب؛ لأن أخت ابنه من النسب ربيبة، وأم أخته من النسب زوجة أبيه، فأخت ابنه، وأم أخته يحرمان من النسب، ويباحان من الرضاع. [شهادة الأخ لأخيه] (وأما المسألة العشرون): وهي شهادة الأخ لأخيه، فهي جائزة، قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أن شهادة الأخ لأخيه جائزة، وروي ذلك عن ابن الزبير، وبه قال شريح وعمر بن عبد العزيز والشعبي والنخعي ومالك والشافعي وأبو عبيد وإسحاق وأبو ثور وأصحاب الرأي، لأنه عدل غير متهم، فصحت شهادته لأخيه كالأجنبي، ولعموم الآيات، ولا يصح قياس الأخ على الوالد والولد؛ لأنهما بينهما بعضية وقرابة بخلاف الأخ. وقد روي عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أن شهادة كل من الوالد والولد للآخر مقبولة، وروي ذلك عن شريح، وبه قال عمر بن عبد العزيز، وأبو ثور، والمزني وداود وإسحاق وابن المنذر لعموم الآيات،

ولأنه عدل تقبل شهادته في غير هذا الموضع، فتقبل فيه. [شهادة الوالد على ابنه وابن ابنه] (وأما المسألة الحادية والعشرون): وهي شهادة الوالد على ابنه وابن ابنه، فهي مقبولة نص على ذلك الإمام أحمد، وهو قول عامة أهل العلم، وذلك لقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ} 1 فأمر بالشهادة، ولو لم تقبل لما أمر بها؛ ولأنها إنما ردت شهادته له في التهمة في إيصال النفع، ولا تهمة في شهادته عليه؛ فوجب أن تقبل كشهادة الأجنبي، بل أولى أن يتهم له، ولا يتهم عليه، فشهادته عليه له أبلغ في الصدق كشهادته على نفسه. [الشهادة بالاستفاضة والشهرة] (وأما المسألة الثانية والعشرون): وهي الشهادة بالاستفاضة والشهرة، فهي صحيحة فيما يتعذر علمه في الغالب إلا بذلك كالنسب والموت والملك والنكاح والخلع والوقف ومصرفه والعتق والولاء والولاية والعزل، وما أشبه ذلك. قال الخرقي: وما تظاهرت به الأخبار، واستقرت معرفته في قلبه شهد به، كالشهادة على النسب والولادة. وقد أجمع أهل العلم على صحة الشهادة بالنسب بالاستفاضة، وكذلك الشهادة بالاستفاضة في الجرح والتعديل، فما يجرح به الشاهد وغيره مما يقدح في عدالته ودينه، فإنه يشهد به إذا علمه الشاهد بالاستفاضة، ويكون ذلك قدحا شرعيا، قاله الشيخ تقي الدين، قال: وقد صرح بذلك طوائف الفقهاء من الشافعية، والمالكية، والحنبلية، وغيرهم في كتبهم الصغار والكبار، صرحوا فيما إذا جرح الرجل جرحا مفيدا أنه يجرح الجارح بما سمعه منه، أو رآه، أو استفاض، وما أعلم في هذا نزاعا بين المسلمين، فإن المسلمين كلهم يشهدون في مثل وقتنا، في مثل عمر بن عبد العزيز والحسن والبصري، وأمثالهما من العدل والدين، بما لم يعلموه إلا بالاستفاضة، ويشهدون في مثل الحجاج بن يوسف، والمختار بن عبيد، ونحوهم بالظلم والبدعة بما لم يعلموه

_ 1 سورة النساء آية: 135.

أخر قضاء رمضان مع إمكان القضاء، فمات قبل أن يقضي

إلا بالاستفاضة، قال: وهذا إذا كان المقصود تفسيقه لرد شهادته وولايته، وأما إذا كان المقصود التحذير منه، واتقاء شره فيكفي بما دون ذلك. انتهى. [ما تجوز الشهادة عليه بالاستفاضة] وقد اختلف أهل العلم فيما تجوز الشهادة عليه بالاستفاضة غير النسب والولادة، فقال بعضهم: هو تسعة أشياء: النكاح والوقف ومصرفه والموت والعتق والولاء والولاية والعزل. وقال أبو حنيفة: لا تقبل إلا في النكاح والموت، ولا تقبل في الملك المطلق. ونص الإمام أحمد على ثبوت الشهادة بالاستفاضة في الخلع والطلاق. والصحيح من مذهب الشافعي: جواز الشهادة بالاستفاضة في النكاح والنسب وولاية القضاء والملك والعتق والوقف والولاء. واقتصر جماعة من أصحاب أحمد، منهم: القاضي في الجامع، والشريف وأبو الخطاب في خلافيهما، وابن عقيل في التذكرة، والشيرازي، وابن البنا على النسب والموت والملك المطلق والنكاح والوقف والعتق والولاء، قال في الفروع: ولعله الأشهر. قال في العمدة: ولا يجوز ذلك في حد ولا قصاص، قال في الفروع: فظاهر الاقتصار عليهما، وهو أظهر. اهـ. قال في عمدة الأدلة: تعليل أصحابنا بأن جهات الملك تختلف، تعليل يوجد في الدين، فقياس قولهم يقتضي أن يثبت الدين بالاستفاضة، قال في الإنصاف: قلت: وليس ببعيد. آخر الجواب، والحمد لله رب العالمين. [أخَّر قضاء رمضان مع إمكان القضاء، فمات قبل أن يقضي] {فائدة}: إذا أخر قضاء رمضان مع إمكان القضاء، فمات قبل أن يقضي، وقبل أن يدركه رمضان آخر، أطعم عنه لكل يوم مسكينا، وهذا

قول أكثر أهل العلم. وروي ذلك عن عائشة، وابن عباس، وبه قال مالك والليث والأوزاعي والثوري والشافعي وابن علية وأبو عبيد في الصحيح عنهم لما روى ابن ماجه عن ابن عمر مرفوعا: "من مات وعليه صيام شهر، فليطعم عنه لكل يوم مسكينا"1 رواه الترمذي، وقال الصحيح عن ابن عمر موقوفا. وعن عائشة -أيضا- قالت: "يطعم عنه في قضاء رمضان ولا يصام". وعن ابن عباس: أنه سئل عن رجل مات، وعليه نذر بصوم شهر، وعليه صوم رمضان. قال: أما رمضان، فيطعم عنه، وأما النذر فيصام عنه. رواه الأثرم، وحمل هؤلاء الحديث الذي في الصحيحين عن عائشة أنه في النذر، بدليل أن عائشة هي التي روت الحديث، وقد قالت: يطعم عنه في قضاء رمضان ولا يصام. والقول الثاني: أنه يصام عنه، وهو قول أبي ثور، والشافعي، قال في الفروع: ومال صاحب النظم إلى صوم رمضان عن الميت بعد موته، فقال: لو قيل: لم أبعد، فعلى هذا الظاهر أن المراد: ولا يطعم كقول طاووس، وقتادة، ورواية عن الحسن والزهري، والشافعي في القديم وأبو ثور وداود. انتهى. وقال في الفائق: ولو أخره لا لعذر، فتوفي قبل رمضان آخر، أطعم عنه لكل يوم مسكينا، والمختار الصيام عنه. انتهى. وقال ابن عبدوس في تذكرته: ويصح قضاء نذر. قلت: وفرض عن الميت مطلقا كاعتكاف. انتهى. وقال الشيخ تقي الدين: إن تبرع بصومه عمن لا يطيقه للكبر ونحوه، أو عن ميت، وهما معسران، توجه جوازه لأنه أقرب إلى المماثلة من المال. انتهى. واستدل من قال: يصام عنه بما في الصحيحين عن عائشة، أن النبي

_ 1 الترمذي: الصوم (718) , وابن ماجه: الصيام (1757).

مدة الإقامة للمسافر

صلى الله عليه وسلم قال: "من مات، وعليه صيام صام عنه وليه"1 متفق عليه. وروى ابن عباس مثله، قال النووي في شرح مسلم بعدما ذكر هذا الحديث: اختلف العلماء فيمن مات، وعليه صوم واجب من رمضان أو نذر أو غيرهما. هل يقضى عنه؟ وللشافعي في المسألة قولان مشهوران: أشهرهما لا يصام عنه، ولا يصح عن ميت صوم أصلا. والثاني: يستحب لوليه أن يصوم عنه، ويستحب صومه عنه، ويبرأ به الميت، ولا يحتاج إلى طعام عنه. وهذا القول هو الصحيح المختار الذي نعتقده، وهو الذي صححه محققو أصحابه الجامعون بين الفقه والحديث، لهذه الأحاديث الصحيحة الصريحة. وأما الحديث الوارد: "من مات وعليه صيام، أطعم عنه"2 فليس بثابت، ولو ثبت أمكن الجمع بينه وبين هذه الأحاديث بأن يحمل على جواز الأمرين؛ فإن من يقول بالصيام، يجوز عنده الإطعام، فثبت أن الصواب المتعين: تجويز الصيام وتجويز الإطعام، والولي مخير بينهما. ثم ذكر النووي عن الجمهور أنهم ذهبوا إلى أنه يطعم عنه، ولا يصام، سواء في ذلك رمضان أو النذر، والصواب فيما وجب بالنذر أنه يصام عن الميت للأحاديث الصحيحة الصريحة التي لا معارض لها، وإنما الإشكال في قضاء رمضان، هل الواجب فيه الإطعام، أو يكفي الصيام؟ فظاهر حديث عائشة الذي في الصحيحين إجزاء الصيام، ومن ذهب إلى الإطعام حمل حديث عائشةعلى النذر، والله أعلم. [مدة الإقامة للمسافر] (فائدة): قال الشيخ الإمام العلامة أبو عمر بن عبد البر: اختلفوا في مدة الإقامة فقال مالك والشافعي والليث والطبري وأبو ثور: إذا نوى إقامة أربعة أيام أتم، وهو قول سعيد بن المسيب في رواية عطاء الخراساني

_ 1 البخاري: الصوم (1952) , ومسلم: الصيام (1147) , وأبو داود: الصوم (2400) والأيمان والنذور (3311) , وأحمد (6/ 69). 2 الترمذي: الصوم (718) , وابن ماجه: الصيام (1757).

عنه، وقال أبو حنيفة وأصحاب الثوري: إذا نوى إقامة خمسة عشر يوما أتم وإن كان أقل قصر، وهو قول ابن عمر. وقال سعيد بن المسيب في رواية داود بن أبي هند عنه، وقال الأوزاعي: إذا نوى إقامة ثلاثة عشر يوما أتم، وإن كان أقل قصر. وعن سعيد بن المسيب قول ثالث: إذا أقام ثلاثا أتم. وعن السلف في هذه المسألة أقاويل متباينة منها: إذا زاد المسافر على إقامة اثنتا 1 عشرة، أتم رواه نافع عن ابن عمر قال: وهو آخر فعل ابن عمر وقوله. وروى عكرمة عن ابن عباس قال: "قام النبي -صى الله عليه وسلم- سبعة عشر يقصر، فنحن إذا سافرنا سبعة عشر قصرنا، وإذا زدنا أتممنا". وروى عن علي وابن عباس من أقام عشر ليال أتمّ، والطرق عنهما بذلك ضعيفة، وبذلك قال محمد بن الحسن والحسن بن صالح، وروي عن سعيد بن جبير وعبد الله بن عتبة: من أقام أكثر من خمسة عشر أتمّ، وبه قال الليث بن سعد، وروي عن الحسن أن المسافر يصلي ركعتين أبدا حتى يدخل مصرا من الأمصار. وقال أحمد بن حنبل: إذا أجمع المسافر مقام إحدى وعشرين صلاة مكتوبة قصر، وإن زاد على ذلك أتم. فهذه تسعة أقوال في هذه المسألة، وفيها قول عاشرأن المسافر يقصر أبدا حتى يرجع إلى وطنه أو ينزل وطنا له، وروي عن أنس أنه أقام سنتين بنيسابور يقصر الصلاة. وقال أبو مجلز: قلت لابن عمر: آتي المدينة، فأقيم بها السبعة أشهر والثمانية طالبا حاجة، فقال: صلّ ركعتين. وقال أبو إسحاق السبيعي: أقمنا بسجستان، ومعنا رجال من أصحاب ابن مسعود سنتين نصلي ركعتين. وأقام ابن عمر بأذربيجان ستة أشهر يصلي ركعتين ركعتين، وكان الثلج حال بينهم وبين القفول.

_ 1 هذا الكلام به مخالفة لمقتضى الإعراب مجاراة للغة العوام في خطابهم.

الفطر لإنقاذ غريق أوالتقوي على الجهاد

وأقام مسروق بالسلسلة سنتين، وهو عامل عليها يصلي ركعتين حتى انصرف، يلتمس السنة بذلك. وعن شقيق قال: خرجت مع مسروق إلى السلسلة حين استعمل عليها؛ فلم نزل نقصر الصلاة حتى وصلنا، ولم يزل القصر في السلسلة حتى رجع، فقلت: يا أبا عائشة ما يحملك على هذا؟ قال: اتباع السنة. وقال أبو حمزة: قلت لابن عباس: إنا نطيل المقام بالغزو بخراسان فكيف ترى؟ قال: صلّ ركعتين، وإن أقمت عشر سنين، والله أعلم. [الفطر لإنقاذ غريق أو التقوي على الجهاد] قال ابن القيم في "البدائع": إذا رأى إنسانا يغرق فلا يمكنه تخليصه إلا بأن يفطر فهل يجوز له الفطر؟ أجاب أبو الخطاب: يجوز له الفطر إذا تيقن تخليصه من الغرق، ولم يمكنه الصوم مع التلخيص، وأجاب ابن الزاغوني: إذا كان يقدر على تخليصه أو غلب على ظنه ذلك لزمه الإفطار وتخليصه، ولا فرق بين أن يفطر لدخول الماء في حلقه وقت السباحة، أو كان يجد في نفسه ضعفا عن تخليصه لأجل الجوع حتى يأكل؛ لأنه يفطر للسفر المباح، فلأن يفطر للواجب أولى. قلت: أسباب الفطر أربعة: السفر والمرض والحيض والخوف على هلاك من يخشى عليه بصومه، كالحامل والمرضع إذا خافتا على ولديهما، ومثله مسألة الغريق. وأجاز شيخنا ابن تيمية الفطر للتقوي للجهاد، وفعله، وأمر به لما نزل العدو دمشق في رمضان فأنكر عليه بعض المتفقهة، وقال: ليس هذا سفرا طويلا، فقال الشيخ: هذا فطر للتقوي على جهاد العدو، وأولى من الفطر لسفر يومين سفرا مباحا أو معصية، والمسلمون إذا قاتلوا عدوهم وهم صيام لم يمكنهم النكاية فيهم وهم صيام، وربما أضعفهم الصوم عن القتال فاستباح العدو بيضة الإسلام.

وهل يشك فقيه أن الفطر هاهنا أولى من فطر المسافر؟ وقد أمرهم النبي -صلى الله عليه وسلم- في غزوة الفتح بالإفطار ليتقووا بذلك على عدوهم فعلل ذلك بالقوة على العدو لا بالسفر. قلت: إذا جاز فطر الحامل، والمرضع لخوفهما على ولديهما، وفطر من يخلص الغريق، ففطر المقاتلين أولى بالجواز، ومن جعل هذا من المصالح المرسلة فقد غلط بل هذا من باب قياس الأولى. انتهى كلام ابن القيم في "البدائع". وقال في الفروع: وإن أحاط العدو ببلد، والصوم يضعفهم، فهل يجوز الفطر وفاقا لمالك؟ ذكر الخلال روايتين ويعايا بها، قال ابن عقيل: إن حصر العدو بلدا، وقصد المسلمون عدوا بمسافة قريبة لم يجز الفطر والقصر على الأصح. ونقل حنبل: إذا كانوا بأرض العدو وهم بالقرب، أفطروا عند القتال. انتهى. وقال في الإنصاف: اختار الشيخ تقي الدين الفطر للتقوي على الجهاد، وفعله هو، وأمر به لما نزل العدو دمشق، وقدمه في الفائق، وهو الصواب. انتهى.

مسائل وردت إلى الشيخ حسن بن حسين من الأخ عبد الله

مسائل وردت إلى الشيخ حسن بن حسين من الأخ عبد الله ... بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي يقول الحق، وهو يهدي السبيل، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الهادي إلى الدليل. من حسن بن حسين إلى الأخ عبد الله، وفقه الله تعالى، وسدده. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. والخط المشتمل على السؤال وصل، وهذا صورته متبوعا بجوابه: [اقتراض النقود وردها] (المسألة الأولى): رجل عنده لآخر جدد حال كونه صرف الريال خمس من الجدد؛ فطالت المدة حتى بلغ صرف الريال هذا المبلغ، وطلب صاحب الحق حقه من الغريم، فهل يحكم له بالقيمة حال الاستدانة أو القرض أم ليس له إلا الجدد التي وقع العقد عليها؟ (فالجواب): قال في شرح المفردات عند قول الناظم -رحمه الله تعالى-: والنص بالقيمة في بطلانها ... لا في ازدياد القدر أو نقصانها ما لفظه: أي: إن النص إنما ورد عن الإمام أحمد فيما إذا أبطله السلطان، فمنع المعاملة بها لا فيما إذا زادت قيمتها أو نقصت مع بقاء التعامل بها، وعدم تحريم السلطان لها؛ فيرد مثلها سواء غلت، أو رخصت أو كسدت، وسواء كان الغلاء والرخص كثيرا بأن كان عشرة بدانق، فصارت عشرين بدانق، وعكسه أو قليلا، لأنه لم يحدث فيه شيء إنما تغير السعر، فأشبه الحنطة إذا رخصت أو غلت قال: والشيخ في زيادة أو نقص ... مثلا كقرض في الغلا والرخص أي: وقال الشيخ الموفق: إذا زادت قيمة الفلوس أو نقصت، رد مثلها كما لو افترض عرضا مثليا كَبُرٍّ وشعير، ونحاس، وحديد فإنه يرد مثله، ولو

غلا أو رخص، لأن غلو القيمة ونقصانها لا يسقط المثل عن ذمة المستقرض، فلا يجب المطالبة بالقيمة، وهذا معنى ما تقدم من أن نص الإمام بالقيمة إنما هو إذا أبطل السلطان المعاملة بها لا في زيادة القيمة، أو نقصانها. انتهى. وحكى فيه مذهب مالك والشافعي والليث القول بالمثل، ثم قال: ولنا أن تحريمها منع إنفاقها، وإبطال ماليتها فأشبه كسرها. انتهى. وقال الشيخ تقي الدين في شرح المحرر: إذا أقرضه أو غصبه طعاما فنقصت قيمته فهو نقص النوع، فلا يجبر على أخذه ناقصا، فيرجع إلى القيمة، وهذا هو العدل، فإن المالين إنما يتماثلان إذا استوت قيمتهما، وأما مع اختلاف القيمة فلا تماثل فعيب الدين إفلاس المدين وعيب العين المعينة خروجها عن المعتاد. انتهى. وكلام الشيخ هذا هو الذي ذكره الناظم عنه تخريجا له واختيارا. فقد عرفت أنه تحصل في المسألة من حيث هي ثلاثة أقوال: التفريق بين ما إذا حرمها السلطان فبطلت المعاملة بها بالكلية، ومثله إن تكسرت أو كسدت فلا يتعامل بها، فالقيمة، وبين ما إذا كان غايته الغلاء والرخص مع بقاء المعاملة بحالها، فالمثل والمثل مطلقا كما هو المنقول عن مالك، والشافعي، والليث. وثالثها اختيار أبي العباس، وهو المعتمد لدينا في الفتوى. {تنبيه}: في المثلي الذي اختار أبو العباس القيمة فيه أوجه: أصحها أن المثلي ما حصره كيل، أو وزن وجاز السلم فيه؛ فإن وجد أحد الوصفين دون الآخر فليس بمثلي. قاله في مقدمة الحائض 1 وذكر معناه في الروض وغيره من كتب الأصحاب. وعلى هذا فالجدد ليست مثلية، لأنه لا يجوز السلم

_ 1 كذا في الأصل.

فيها لعدم الانضباط، فإنها تختلف بالكبر والصغر والثقل والخفة والطول والصفاء والخضرة وقلة الفضة وكثرتها، وأيضا ففيها فضة؛ ولا يجوز إسلام أحد النقدين في الآخر، لكن رأيته جزم في الإقناع بأن الدراهم المغشوشة مثلية، والجدد مثلها فيما يظهر لي، والله -سبحانه- أعلم. [رد الدابة المشتراة بعد ركوبها] (المسألة الثانية): رجل اشترى دابة، واستعملها بركوب، وسقي وغيره، أو نحو ذلك، ثم بان له به عيب قديم فرد المبيع، فهل يرد معه قدر استعماله مدة مقامه عنده، أم لا؟ إلى آخر السؤال. (الجواب): إذا رد المبيع، فلا يخلو إما أن يكون بحاله، أو يكون قد زاد أو نقص؛ فإن كان بحاله رده، وأخذ الثمن، وإن زاد بعد العقد، أو حصلت له فائدة، فإن كانت الزيادة متصلة كالسمن والحمل والثمرة قبل الظهور، فإنه يرده بنمائه، لأنه يتبع في العقود والفسوخ. وإن كانت الزيادة منفصلة، فإن كانت من غير المبيع كالكسب والأجرة، فهو للمشتري في مقابلة ضمانه، وهو معنى قوله عليه السلام: "الخراج بالضمان"1 ولا نعلم في هذا خلافا. وروى ابن ماجه عن عائشة أن رجلا اشترى عبدا فاستعمله ما شاء الله، ثم وجد به عيبا فرده فقال: يا رسول الله، استعمل غلامي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الخراج بالضمان"2 رواه أبو داود، وبهذا قال أبو حنيفة ومالك والشافعي، ولا نعلم عن غيرهم خلافهم. وإن كانت الزيادة من عين المبيع كالولد، والثمرة، واللبن، فهو للمشتري أيضا، ويرد الأصل بدونها، وبهذا قال الشافعي إلا أن الولد إذا كان لآدمية لم يملك ردها دونه. وعنه ليس له رده دون نمائه المنفصل قياسا على النماء المتصل، فإن اشتراها أي: الدابة حاملا فولدت عند المشتري فردها رد ولدها معها؛ لأنها من جملة المبيع،

_ 1 الترمذي: البيوع (1285) , والنسائي: البيوع (4490) , وأبو داود: البيوع (3508) , وابن ماجه: التجارات (2243). 2 الترمذي: البيوع (1285) , والنسائي: البيوع (4490) , وأبو داود: البيوع (3508) , وابن ماجه: التجارات (2243).

والولادة هنا نماء متصل. وإن نقص المبيع فسيأتي حكمه. انتهى من الشرح الكبير، وحكمه أن يرد مع المعيب أَرْش النقص عنده كأن وطئ البكر، أو قطع الثوب، أو هزلت الدابة، ونحو ذلك مما تنقص به قيمته. صرح به في المغني وغيره. قال في شرح الإقناع: لما روى الخلال بإسناده عن ابن سيرين أن عثمان قال في رجل اشترى ثوبا فلبسه ثم اطلع على عيب ... 1 وما نقص، وأجاز الرد مع النقص، وعليه اعتماد أحمد. انتهى. وقال في الإنصاف عند قول المقنع: وعنه ليس له رده دون نمائه: أي: المنفصل، فلو صدر العقد وهي حامل فولدت عنده، ثم ردها رد ولدها معها، وأما إذا حملت وولدت بعد الشراء فهو نماء منفصل بلا نزاع، والصحيح من المذهب أنه لا يردها إلا بولدها فتعين الأرش جزم به في المحرر. انتهى. فقد عرفت أنه إن كان بحاله رده مجانا، وأخذ ثمنه، وإن زاد ففيه التفصيل، أو نقص فإنه يرد معه أرش ما نقص عنده. [ما يجوز فيه شهادة النساء] (المسألة الثالثة): ما تقولون في شهادة النساء منفردات عن الرجال؟ وهل القدور والمقتول هما مما تعرفه المرأة مما يقبل فيه شهادتهن منفردات؟ هذا معنى سؤالكم. (الجواب): قال في المغني في باب القضاء: ولا تقبل شهادتها، ولو كان معها ألف امرأة إن لم يكن معهن رجل. انتهى .. ومراده فيما يطلع عليه غيرهن، وقال في كتاب الشهادة: وفي شهادة النساء شبهة بدليل قول الله تعالى: {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى} 2 وأنه لا تقبل

_ 1 بياض بالأصل. 2 سورة البقرة آية: 282.

شهادتهن، ولو كثرت ما لم يكن معهن رجل، وقال فيه: ولا نعلم خلافا في قبول شهادة النساء في الجملة ... 1 يعني في بعض المسائل كما ذكره الشرّاح، وذلك فيما لا يطلع عليه الرجال غالبا كعيوب النساء تحت الثياب، والبكارة، والثيوبة، والحيض، والولادة، والرضاع، والاستهلال، ونحو ذلك. حديث عقبة بن الحارث رواه أحمد، وسعيد قال أبو محمد: إلا أنه من رواية جابر الجعفي. قال: وكل موضع تقبل فيه شهادة النساء منفردات فإنه يقبل فيه شهادة المرأة الواحدة، واستدل بحديث عقبة، وبما روي عن حذيفة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أجاز شهادة القابلة، رواه الفقهاء في كتبهم. وذكر أبو محمد في المقنع في باب اليمين في الدعاوى احتمالا قبول امرأتين ويمين في المال، وما يقصد به المال، وقال الشيخ تقي الدين: لو قيل: يقبل امرأتان، ويمين توجه، لأنهما أقيما مقام رجل في التحمل، ونصره ابن القيم في الإعلام والطرق وغيرهما، وذكره مذهب مالك. وذكر أبو محمد وغيره أن أبا طالب نقل عن أحمد في مسألة الأسير: يقبل رجل ويمين، واختاره أبو بكر، وعنه في الوصية: إن لم يحضره إلا النساء فامرأة واحدة. وسأله ابن صدقة: الرجل يوصي ويعتق ولا يحضره إلا النساء، تجوز شهادتهن؟ قال: نعم في الحقوق، ذكره في الإنصاف، ولم يُقَيّده، والمجزوم به عند المتأخرين هو الأول، وعليه المعوّل. وأما قول السائل: وهل القدور والمقتول من عورات النساء الذي لا يطلع عليه الرجال غالبا؟ فهل هذه إلا المال نفسه؟ فتنبه لذلك. (تتمة): لا مدخل للنساء، ولو مع الرجال في العقوبات والحدود، ذكروه اتفاقا عن الأئمة الأربعة، ولا يقبل الجرح والتعديل من النساء. قاله في المغني،

_ 1 بياض بالأصل.

مقام المسلم في أرض الكفار مع التمكن من الخروج منها

وجزم به المتأخرون، وذكره في الإفصاح قول مالك والشافعي وأحمد. ومما تساوي فيه المرأة العدلة 1 الرجل الرواية، والإخبار بهلال رمضان والوقت والقبلة ونجاسة الماء وتنبيه الإمام لسهو؛ إذ في المغني ذوي الأفهام: دعوا النشوز والنسب؛ لأنه مما لا يطلع عليه الرجال غالبا. انتهى. والله -سبحانه وتعالى- أعلم بالصواب. [مقام المسلم في أرض الكفار مع التمكن من الخروج منها] فائدة قال الإمام القرطبي في شرح مسلم: ولا يختلف في أنه لا يحل لمسلم المقام في بلاد الكفار مع التمكن من الخروج منها لجريان أحكام الكفر عليه، ولخوف الفتنة على نفسه، وهذا حكم ثابت مؤبد إلى يوم القيامة. وعلى هذا فلا يجوز لمسلم دخول بلاد الكفار لتجارة أو غيرها مما لا يكون ضرورة في الدين كافتكاك المسلم؛ وقد أبطل مالك شهادة من دخل بلاد الهند لأجل التجارة. انتهى كلامه -رحمه الله-. وما ذكرت من مسألة الذي أوصى بوصية، ثم قال: ووقف عقاره الذي سماه، فظاهر اللفظ أن هذا وقف منجز غير ما أوصى به، وأنه ما يحسب من الثلث إذا كان في غير مرض الموت، ولفظ أقر أوضح من قوله: وقف، لأن قوله: وقف إنشاء للوقف، ولفظ أقر يفيد الإخبار بإيقاف سابق. وما قلنا في الفرق بين الوصية والوقف، فهذا إن كان كاتب الوثيقة عنده علم يفرق به بين الوصية والوقف، فإن كان كاتب الوثيقة عاميا صار في النفس شيء، لكن من أخذ بظاهر اللفظ فرق بين الوصية والوقف فهو أسلم، والله -سبحانه وتعالى- أعلم.

_ 1 هذه الكلمة تخالف مقتضى اللغة مجاراة للعوام.

عقد المساقاة لازم أم جائز؟

[عقد المساقاة لازم أم جائز؟] الحمد لله. أجاب الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد -رحمه الله-: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته وبعد: مسألة المساقاة كلام أهل العلم فيها مشهور، وهل هي من العقود اللازمة، أو العقود الجائزة؟ والذي عليه الفتوى عندنا أنها لازمة من قبل المالك جائزة من قبل المساقي، وهذا اختيار الشيخ ابن تيمية؛ فعلى هذا فلا تنفسخ بموت المالك، ولا بانتقالها إلى غيره بإرث أو هبة. (وأما المسألة الثانية) *: الذي ينبت على ماء المستأجر بغير إذن المالك، فهو للكداد، فإن أراد المالك أخذه بقيمته وتراضيا ذلك فلهما، وإن قال: اقلعه، فيقلعه والسلام. قال في الاختيارات: ولو دفع أرضا إلى آخر فيغرسها بجزء من الغراس صح كالمزارعة، واختاره أبو حفص العكبري، والقاضي في تعليقه، وهو ظاهر مذهب أحمد-رحمه الله- ثم قال: ومقتضى قول أبي حفص أنه يجوز أن يغارسه بجزء من الأرض كما جاز النسيج بجزء من الغزل نفسه. وقال في الفروع: هو ظاهر نص الإمام أحمد جواز المساقاة على شجر يغرسه، ويعمل عليه بجزء معلوم الشجر، أو بجزء من الشجر والثمر كالمزارعة، واختاره أبوحفص، وصححه القاضي في التعليق آخرا، واختاره في الفائق والشيخ تقي الدين -رحمه الله تعالى- قال في الإنصاف: لو كان الاشتراك في الغراس والأرض فسد وجها واحدا، قاله المصنف والشارح والناظم وغيرهم، وقال الشيخ تقي الدين: قياس المذهب صحته، قال في الفائق: قلت: وصحح المالكيون المغارسة في الأرض الملك لا الوقف، بشرط استحقاق العامل جزءا من الأرض مع القسط من الشجر. انتهى. فإذا عرفت أن القول بصحة المغارسة أقوى، وأن عليه جمعا من المحققين، وعليه الفتوى، وهذا على تقدير

_ * وردت هذه المسألة من قبل منسوبة للشيخ عبد الرحمن بن حسن 1/ 403. [معد الكتاب للمكتبة الشاملة]

ثبوت هذه الدعوى مع وجود شهود أصل العقد بخطهم وقت المعاملة، أو المعاقدة، وسلامة العقد ظاهرة، فكيف لا نقول بصحته، وهذا هو الذي أوجب المراجعة، وبالله التوفيق. انتهى. من كلام الشيخ عبد الرحمن بن حسن -رحمه الله تعالى- بقلم الفقير الحقير المقر بالذنب والتقصير عبده ابن عبده ابن أمته، ومن لا غناء له عن رحمة ربه طرفة عين عبد الله بن عبد الرحمن بن عبد اللطيف -غفر الله له ولوالديه ولمشايخه ولمن كتبت له والمسلمين-. آمين، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين، وسلم تسليما كثيرًا إلى يوم الدين.

3 مسائل

بسم الله الرحمن الرحيم [معنى لا إله إلا الله] (سؤال): ما قول العلماء الأعلام، أئمة الإسلام، فيمن يقول لا إله إلا الله، ويدعو غير الله، هل يحرم ماله، ودمه بمجرد قولها أم لا؟ (الجواب): وبالله التوفيق، لا إله إلا الله كلمة الإخلاص، وكلمة التقوى، وهي العروة الوثقى، وهي الحنيفية ملة إبراهيم -عليه السلام-، جعلها كلمة باقية في عقبه، وقد تضمنت ثبوت الإلهية له -تعالى-، ونفيها عما سواه، والإله هو الذي تألهه القلوب محبة وإنابة وتوكلاواستعانة ودعاء وخوفا ورجاء ونحو ذلك، ومعنى لا إله إلا الله: أي: لا معبود حق إلا الله، قال الله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} 1. قال جل ذكره: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ} 2. فدلت هذه الكلمة العظيمة مطابقة على إخلاص العبادة بجميع أفرادها لله تعالى، ونفي كل معبود سواه، قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ. إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ. وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} 3 أي: لا إله إلا الله، فأرجع ضمير هذه الكلمة إلى ما سبق منه مدلولها، وهو قوله: {إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي} 4، وهذا هو الذي خلق الله الخلق لأجله، وافترضه على عباده، وأرسل الرسل، وأنزل الكتب لبيانه، وتقريره، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} 5، وقال تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ إِلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} 6 الآية، وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا

_ 1 سورة الحج آية: 62. 2 سورة الرعد آية: 14. 3 سورة الزخرف آية: 26 - 28. 4 سورة الزخرف آية: 26. 5 سورة الذاريات آية: 56. 6 سورة الإسراء آية: 23.

نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} 1، وقال تعالى: {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ إِلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ} 2 قال تعالى: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} 3. والطاغوت كل ما تجاوز به العبد حده من معبود ومتبوع أو مطاع، فمن تحقق مبدأ قول هذه الكلمة العظيمة من إخلاص العبادة لله -تعالى-، والبراءة من عبادة ما سواه بالجنان والأركان، وعمل بما اقتضته فرائض الإسلام والإيمان كان معصوم الدم والمال، ومن رد فلا، قال تعالى: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} 4، فدلت هذه الآية الكريمة على أن عصمة الدم، والمال لا تحصل بدون هذه الثلاث؛ لترتيبها عليها بترتب الجزاء على الشرط. وفي الصحيح عن أبي مالك الأشجعي عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من قال لا إله إلا الله، وكفر بما يعبد من دون الله، حرم ماله ودمه، وحسابه على الله تعالى"5 فلا بد لتصحيحها من الإخلاص لله -تعالى-، ونفي الشرك كما قال الله: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} 6، وقال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} 7، قال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} 8، ثم شهد عليهم بالكذب والكفر، وأخبر أنه لا يهديهم قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} 9. وفي المتفق عليه من حديث معاذ -رضي الله تعالى عنه-: "فإن حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا"10 فمن تأله قلبه غير الله، ودعاه

_ 1 سورة الأنبياء آية: 25. 2 سورة هود آية: 1. 3 سورة البقرة آية: 256. 4 سورة التوبة آية: 5. 5 مسلم: الإيمان (23) , وأحمد (3/ 472,6/ 394). 6 سورة النساء آية: 36. 7 سورة البينة آية: 5. 8 سورة الزمر آية: 2. 9 سورة الزمر آية: 3. 10 البخاري: الجهاد والسير (2856) , ومسلم: الإيمان (30) , والترمذي: الإيمان (2643) , وابن ماجه: الزهد (4296) , وأحمد (3/ 260,5/ 228).

من دون الله فقد أشرك بالله، والله لا يغفر أن يشرك به قال تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} 1 الآية، وقال تعالى: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} 2 وقال تعالى: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} 3. وفي المتفق عليه من حديث ابن مسعود رضي الله عنه: "قيل: يا رسول الله: أي الذنب أعظم؟ قال: أن تجعل لله ندا وهو خلقك"4 وفي رواية لمسلم: "أن تدعو لله ندا"5 الحديث، والله المستعان. [تقبيل يد الصالحين] (السؤال الثاني): عن تقبيل يد السادة المنسوبين لأهل البيت هل يجوز أم لا؟ (الجواب): لم يكن الصحابة -رضي الله تعالى عنهم- يعتادون ذلك مع رسول الله، ولا مع أهل بيته، ولا شك أنهم أعظم الناس محبة له وتوقيرا؛ وإنما كانوا يعتادون السلام والمصافحة اتباعا لما سنه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بأمره وفعله، فقال: "أفشوا السلام بينكم"6، وصح عنه -صلى الله عليه- وسلم "أنه قيل له: الرجل يلقى أخاه أينحني له؟ قال: لا. قيل: أيلتزمه، أو يقبله؟ قال: لا. قيل: أيصافحه؟ قال: نعم". وأما ما ورد أنه لما قدم عليه أصحابه من غزوة، وقد قبلوا يده قالوا: نحن الفرارون قال: بل أنتم العكارون 7؛ وأما ما ورد في معنى هذا، فإنما وقع نادرا، وقد جوزه بعض الأئمة كالإمام أحمد -رحمه الله- إذا وقع كذلك لا على وجه التعظيم للدنيا. واشترط بعض الأئمة في ذلك

_ 1 سورة الأحقاف آية: 5. 2 سورة فاطر آية: 13. 3 سورة العنكبوت آية: 65. 4 البخاري: الأدب (6001) , ومسلم: الإيمان (86) , والترمذي: تفسير القرآن (3182,3183) , والنسائي: تحريم الدم (4013,4014) , وأبو داود: الطلاق (2310) , وأحمد (1/ 434,1/ 464). 5 البخاري: التوحيد (7532) , ومسلم: الإيمان (86). 6 مسلم: الإيمان (54) , والترمذي: الاستئذان والآداب (2688) , وأبو داود: الأدب (5193) , وابن ماجه: المقدمة (68) والأدب (3692) , وأحمد (2/ 391,2/ 442,2/ 477,2/ 495,2/ 512). 7 كذا في الأصل.

أن لا يمد إليه يده؛ ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-. وذهب بعضهم إلى كراهة تقبيل اليد مطلقا كالإمام مالك -رحمه الله-، وقال سليمان بن حرب: هي السجدة الصغرى. هذا إذا لم يفض إلى التعظيم والخضوع وتغيير السنة. أما إذا اقترن بمثل هذه الأمور التي تدخل في نوع من الشرك والبدع، فلا يجوز أن ينسب إلى أحد من الأئمة تجويزه. قال في زاد المعاد: وأشرف عبودية الصلاة، وقد تقاسمها الشيوخ -يعني من المتصوفة- والمتشبهون بالعلماء والجبابرة: فأخذ الشيوخ أشرف ما فيها، وهو السجود. وأخذ المتشبهون بالعلماء منها بالركوع، فإذا لقي بعضهم بعضا ركع كما يركع المصلي لربه، وأخذ الجبابرة منها القيام فيقوم الأحرار والعبيد على رؤوسهم عبودية لهم، وهم جلوس. فقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الأمور الثلاثة على التفصيل؛ فتعاطيها مخالفة صريحة له؛ فنهى عن السجود لغير الله -تعالى- فقال: "لا ينبغي لأحد أن يسجد لأحد" وأنكر على معاذ لما سجد له، وقال: "مه". فتحريم هذا معلوم من دينه بالضرورة، وتجويز من جوزه لغير الله مراغمة لله ولرسوله. وهو من أبلغ أنواع العبودية، فإذا جوز هذا المشرك هذا النوع للبشر، فقد جوز عبودية غير الله. وأيضا فالانحناء عند التحية سجود، ومنه قول الله تعالى: {وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا} 1 أي: منحنين، وإلا فلا يمكن الدخول على الجباه. انتهى. [رفع الصوت وقت الخطبة] (السؤال الثالث): عمن يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ويترضى عن الصحابة -رضي الله عنهم- جهرا، والإمام يخطب يوم الجمعة. (الجواب): الجهر بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم والترضي حال الخطبة من غير الخطيب بدعة مخالفة للشريعة، منع منها طوائف من العلماء

_ 1 سورة البقرة آية: 58.

سلفا وخلفا، ولهم فيه مأخذان: (الأول): أنه من محدثات الأمور التي لم تفعل في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا في عهد أصحابه، ولا في عهد التابعين، ولو كان خيرا سبقوا إليه. (الثاني): أن الأحاديث ثبتت بالأمر بالإنصات للخطبة، فقد صح من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إذا قلت لصاحبك -والإمام يخطب يوم الجمعة-: أنصت، فقد لغوت"1. قال في كتاب "الباعث على إنكار البدع والحوادث": إن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم إنما هي دعاء، وجميع الأدعية السنة فيها الإسرار دون الجهر غالبا، قلت: وهذا مأخذ ثالث للمنع؛ قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فالترضي عن الصحابة -رضي الله تعالى عنهم- دعاء من الأدعية، والمشروع في الدعاء كله المخافتة إلا أن يكون هناك سبب يشرع له الجهر، قال: وأما رفع الصوت بالصلاة، والترضي الذي يفعله بعض المؤذنين قدام الخطباء في الجمع فمكروه، أو محرم. انتهى. والله أعلم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما. أملاه الشيخ عبد الرحمن بن حسن بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب -رحمهم الله أجمعين. وقد فرغ من تصحيح هذه النسخة يوم الأربعاء في 16 شهر ربيع الثاني سنة 1333.

_ 1 البخاري: الجمعة (934) , ومسلم: الجمعة (851) , والترمذي: الجمعة (512) , والنسائي: الجمعة (1401,1402) , وأبو داود: الصلاة (1112) , وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها (1110) , وأحمد (2/ 280) , ومالك: النداء للصلاة (232) , والدارمي: الصلاة (1548,1549).

أجوبة للشيخ عبد الرحمن بن حسن سأل عنها عبد الرحمن بن محمد القاضي

أجوبة للشيخ عبد الرحمن بن حسن سأل عنها عبد الرحمن بن محمد القاضي ... قال الشيخ الإمام العالم العلامة عبد الرحمن بن حسن بن شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب -أحسن الله لنا ولهم المآب وأدخلنا وإياهم الجنة بغير حساب بمنه وكرمه-: بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد: فهذا جواب ما سأل عنه الأخ عبد الرحمن بن محمد القاضي -وفقنا الله وإياه لما يحبه ويرضاه-: [استعمل الماء في الوضوء ولم يدخل يده في الإناء] (السؤال الأول): في قول العلماء -رحمهم الله تعالى-: فلو استعمل الماء، ولم يدخل يده في الإناء لم يصح وضوءه، وفسد الماء إلى آخره. (الجواب) -وبالله التوفيق-: فساد الماء هنا سلب طهوريته، فما حصل في يده قبل غسلها ثلاثا بنيةٍ من نوم ليل فسد، وإن لم يدخلها الإناء هذا معنى ما جزم به في الإقناع والمنتهى وشرح الزاد، قال الشيخ عثمان في حاشية المنتهى: ومعنى قوله: وفسد الماء: أي: الذي حصل في يده، وهو مبني فيما يظهر على القول بأن حصوله في بعضها كحصوله في كلها كما اختاره جمع، أما على الصحيح، فينبغي صحة الوضوء، ونحوه حيث لم يحصل في جميع اليد. انتهى. وهو مفرع على ما هو الصحيح من المذهب أن غسلهما لمعنى فيهما، وقال في الشرح: وذكر أبو الحسن رواية أنه لأجل إدخالها الإناء فيصح وضوؤه، ولم يفسد الماء إذا استعمله من غير إدخال. انتهى.

[نية الغسل لا يرتفع بها الحدث] (الثاني): إذا كان على الشخص موجب للغسل، ونوى الغسل، فهل يرتفع ما دونه إلى آخره؟ (الجواب): نية الغسل لا يرتفع بها الحدث لكونها ليست من الصور المعتبرة في الطهارة، وسنذكرها -إن شاء الله تعالى- وقول السائل: أم لا بد من التخصيص بالفعل، أو بالنية، أو بهما، قول لا معنى للتخصيص بالفعل هنا دون نية أصلا، والصور المعتبرة في الغسل ست: نية رفع الحدث الأكبر، نية رفع الحدثين، نية رفع الحدث، ويطلق نية استباحة أمر يتوقف على الوضوء والغسل معا، نية أمر يتوقف على الغسل وحده، نية ما يسن له لغسل ناسيا للواجب، ففي هذه كلها يرتفع الأكبر، ويرتفع الأصغر أيضا فيما عدا الأولى والأخيرتين، أفاده الشيخ عثمان قلت: واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- أنه يرتفع الأصغر في الأولى أيضا. وهذه الست يتأتى نظيرها في الأصغر، ويزيد بأنه يرتفع إذا قصد بطهارته ما تسن له الطهارة ذاكرا الحدث، فافهم الفرق بين البابين فإنه مهم جدا، والله أعلم، قاله الشيخ عثمان. [غسل اليد بنية القيام من الليل أو من الجنابة] قال السائل: وهل يكفي غسل اليد بنية القيام من نوم الليل أو من الجنابة عن الآخر أم لا؟ (الجواب): النية هنا ليست مرادة للقيام، وإنما تراد لأجل النوم، فافهم. ولا يكفي نية غسلهما من نوم الليل عن الجنابة كالعكس على الأصح فيه، لأنهما أمران مختلفان فيعتبر لكل منهما نيته، أما على الوجه الثاني، وهو أن غسلهما من النوم لا يفتقر إلى نية، فيجزي عند نيته الحدث الأكبر، وكذا على قول الجمهور: إنه لا يجب غسلهما من نوم الليل بل يستحب. وقوله أو الأعلى يرتفع به الأدنى جوابه يظهر مما قبله. وقوله: وما الأعلى منهما؟

أقول: اتفقوا على أن ما يوجب الوضوء وحده يسمى أصغر، وما يوجب الغسل يسمى أكبر، ونصوا على أن الحدث الأصغر يقوم بالبدن كله، ويرتفع بغسل الأعضاء الأربعة بشرطه، فكيف يقال: إن غسل اليدين من نوم الليل أكبر مع كونه خاصا بالكفين، على أنه مختلف في وجوبه. والقائلون بالوجوب لم يسموه حدثا، فافهم. وقوله: وهل يكفي أحد اليدين؟ فالجواب: إن الذي مشى عليه العلماء -رحمهم الله تعالى- أن هذا الحكم يتعلق باليدين معا، فلا تختص به اليمنى دون الشمال مع أن الوارد في الحديث الإفراد، فلنذكر الحديث ببعض ألفاظه منسوبا إلى مخرجيه -إن شاء الله تعالى-. فأقول: أخرجه الإمام مالك والشافعي وأحمد والبخاري ومسلم وأهل السنن وغيرهم-رحمهم الله تعالى- من حديث أبي هريرة مرفوعا: "إذا استيقظ أحدكم من نومه فليغسل يده قبل أن يدخلها في وَضوء، فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده"1، هذا لفظ مالك والبخاري، وللشافعي نحوه، وللنسائي: "فلا يغمس يده في وضوئه حتى يغسلها ثلاثا"2 وله والدارقطني: "فإنه لا يدري أين باتت يده"3 وللدارمي: "في الوضوء" ولأبي داود: "إذا استيقظ أحدكم من الليل"4، وكذا للترمذي وفي الباب عن جابر، وابن عمر -رضي الله عنهم. ووجه تعميم اليدين بهذا الحكم، والله أعلم لكونه مفردا مضافا، وهو يعم، وهو ظاهر على ما ذهب إليه الإمام أحمد-رحمه الله تعالى- تبعا لعلي، وابن عباس -رضي الله عنهم- والمحكي عن الشافعية، والحنفية خلافه، ذكره في القواعد الأصولية، فعلى قولهم لا يظهر لي وجهه، والله أعلم. [خصائص يوم الجمعة] (الثالث): ما ورد في يوم الجمعة من الخصائص، هل يختص بما قبل الزوال أم لا، مثل قراءة سورة الكهف وغيرها؟ لو قال: قبل الصلاة كان أولى.

_ 1 البخاري: الوضوء (162). 2 مسلم: الطهارة (278) , والنسائي: الطهارة (1) , وأبو داود: الطهارة (105) , وأحمد (2/ 241,2/ 471) , والدارمي: الطهارة (766). 3 البخاري: الوضوء (162). 4 الترمذي: الطهارة (24) , والنسائي: الغسل والتيمم (441) , وابن ماجه: الطهارة وسننها (393).

والجواب: خصائص الجمعة على ثلاثة أضرب: الأول: محله قبل الصلاة كالاغتسال والطيب ولبس أحسن الثياب، وتأكد السواك، ومنع من تلزمه الجمعة إذا دخل وقتها من السفر، ونحو ذلك. الثاني: ما لا يختص بما قبل الصلاة كاستحباب كثرة الصلاة على النبي -صلى الله عليه وسلم-، ومزية الذكر، والصدقة، ونحو ذلك. الثالث: متردد بينهما بحسب ما ورد كقراءة سورة الكهف، وساعة الإجابة. فأما قراءة سورة الكهف فورد في قراءتها ما يقتضي أن ليلة الجمعة كيومها محلا لحصول الفضل الوارد لما اقتضاه مجموع هذه الآثار، فروى الدارمي عن أبي سعيد موقوفا: "من قرأ سورة الكهف ليلة الجمعة أضاء له من النور ما بينه وبين البيت العتيق". ومنها ما يقتضي تخصيصه باليوم كما روى أبو بكر ابن مردويه في تفسيره من حديث ابن عمر -رضي الله عنهما- عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: "من قرأ سورة الكهف في يوم الجمعة سطع له نور من تحت قدمه إلى عنان السماء يضيء له يوم القيامة، وغفر له ما بين الجمعتين". قال الحافظ المنذري: إسناده لا بأس به، وقال ابن كثير: في رفعه نظر، وذكر في المغني عن خالد بن معدان: "من قرأ سورة الكهف يوم الجمعة قبل أن يخرج الإمام كانت له كفارة ما بين الجمعة، وبلغ نوره البيت العتيق"1 وظاهر كلام الفقهاء أنه كالذي قبله لا يختص بما قبل الصلاة. أما ساعة الإجابة ففيها أقوال تزيد على ثلاثين ذكرها ابن حجر في الفتح، والجلال السيوطي في شرح الموطأ. وذكر العلامة ابن القيم -رحمه الله تعالى- كثيرا منها، ثم قال: وأرجح الأقوال فيها قولان تضمنتهما الأحاديث الثابتة، أحدهما أرجح من الآخر: الأول: أنها ما بين جلوس الإمام إلى انقضاء الصلاة، رجحه البيهقي، وابن العربي، والقرطبي، وقال

_ 1 الدارمي: فضائل القرآن (3407).

النووي: إنه الصحيح أو الصواب. قال ابن القيم: الثاني: أنها بعد العصر، وهذا أرجح القولين، وهو قول عبد الله بن سلام، وأبي هريرة، والإمام أحمد، وخلق، وساق ما يدل على ذلك كحديث عبد الله بن سلام، ثم قال: وهذا القول هو قول أكثر السلف، ويليه القول بأنها ساعة الصلاة، وبقية الأقوال لا دليل عليها. انتهى ملخصا. وقال المحب الطبري: إن أصح الحديث فيها حديث أبي موسى في مسلم، وأشهر الأقوال فيها قول عبد الله بن سلام. قال ابن حجر: وما عداهما إما ضعيف الإسناد، أو موقوف استند صاحبه إلى اجتهاد دون توقيف. انتهى. والله أعلم. وأما حديث: "من مس الحصى فقد لغا"1 فرواه مسلم في صحيحه، وليس فيه: "ومن لغا فلا جمعة له"2 ولفظه "من توضأ فأحسن الوضوء، ثم أتى الجمعة، فاستمع وأنصت، غفر له ما بينه وبين الجمعة وزيادة ثلاثة أيام، ومن مس الحصى فقد لغا"3، لكن روى الإمام أحمد -رحمه الله تعالى- في مسنده من حديث علي: "ومن قال لصاحبه: صه! فقد تكلم، ومن تكلم فقد لغا، ومن لغا فلا جمعة له"4 قال النووي في شرح حديث مسلم: فيه النهي عن مس الحصى وغيره من أنواع العبث في حال الخطبة، وفيه إشارة إلى إقبال القلب والجوارح على الخطبة. انتهى، وهو واف بالمقصود والله أعلم. [شهادة العدل برؤية هلال ذي الحجة] الرابع: إذا شهد شاهد عدل برؤية هلال ذي الحجة، ولم يُرَ ليلة إحدى وثلاثين إلى آخره. الجواب: إن الذي نص عليه العلماء -رحمهم الله- أن الناس إذا وقفوا

_ 1 مسلم: الجمعة (857) , والترمذي: الجمعة (498) , وأبو داود: الصلاة (1050) , وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها (1090) , وأحمد (2/ 424). 2 أبو داود: الصلاة (1051) , وأحمد (1/ 93). 3 مسلم: الجمعة (857) , والترمذي: الجمعة (498) , وأبو داود: الصلاة (1050) , وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها (1090) , وأحمد (2/ 424). 4 أبو داود: الصلاة (1051) , وأحمد (1/ 93).

الثامن أو العاشر خطأ أجزأهم، نص عليه الإمام أحمد -رحمه الله تعالى- دليله حديث أبي هريرة مرفوعا "فطركم يوم تفطرون، وأضحاكم يوم تضحون"1. ورواه أبو داود والدارقطني، وروي أيضا من حديث عائشة مثله، قال الخطابي في معالم السنن: معنى الحديث أن الخطأ موضوع عن الناس فيما سبيله الاجتهاد، فلو أن قوما اجتهدوا فلم يروا الهلال إلا بعد الثلاثين، فلم يفطروا حتى استوفوا العدد؛ ثم ثبت أن الشهر كان تسعا وعشرين، فإن صومهم وفطرهم ماض. وكذلك هذا في الحج إذا أخطؤوا يوم عرفة فإنهم ليس عليهم إعادة وتجزئهم ضحاياهم. [غيَّر الطريق النافذ مسجدا] (الخامس): إذا غير الطريق النافذ مسجدًا، فهل هو جائز أم لا؟ إلى آخره. (الجواب): أن الذي رأينا من كلام العلماء-رحمهم الله تعالى- كصاحب الإنصاف وغيره، أنه لا يجوز البناء في طريق نافذ مطلقا، قال في المغني والشرح: لا نعلم فيه خلافا، قال شيخ الإسلام في الفتاوى المصرية: لا يجوز لأحد أن يخرج في طريق المسلمين شيئا من أجزاء البناء حتى إنه يُنْهى عن تجصيص الحائط إلا أن يدخل في حده بقدر الجص. انتهى. فعلى هذا يكون مغصوبا لا تصح الصلاة فيه. [صلى بجماعة وبعد فراغه رأى في ثوبه أو بدنه نجاسة] (السادس): إمام صلى بجماعة، وبعد فراغه رأى في بقعته أو ثوبه أو بدنه نجاسة فما حكم صلاته وصلاة من خلفه ... إلى آخره. الجواب: أما حكم صلاته فعدم الصحة على الصحيح من المذهب، لأن اجتناب النجاسة شرط للصلاة فلم تسقط بالنسيان، ولا بالجهل كطهارة الحدث. وعن الإمام -رحمه الله- أنها تصح إذا نسي، أو جهل قال في الإنصاف: وهي الصحيحة عند أكثر المتأخرين، اختارها المصنف والمجد والشيخ تقي

_ 1 الترمذي: الصوم (697) , وأبو داود: الصوم (2324) , وابن ماجه: الصيام (1660).

الدين، لكن قال الشيخ: الروايتان في الجاهل، أما الناسي فليس عن الإمام نص فيه قال في الإنصاف: والصحيح أن الخلاف جارٍ في الجاهل والناسي، قاله المجد، وحكى الخلاف فيهما أكثر المتأخرين والله أعلم. وأما المأموم فصلاته صحيحة. [إخفاء اللقطة وأخذ الجعل على ردها] (السابع): فيمن التقط لقطة وكتمها فأنشدها صاحبها، وأخرج عليها جعلا فأخذ الملتقط الجعل، وأخرج اللقطة ... إلى آخره؟ الجواب: إن هذه لُقطة، ويكون آثما بتركه التعريف، وحكمه حكم الغاصب فلا يستحق شيئا أصلا. والجعالة قد عرفها الفقهاء -رحمهم الله تعالى- بأنها جعل شيء معلوم لمن يعمل له عملا، فمن فعله بعد أن بلغه الجعل استحقه، وفي أثنائه استحق حصة تمامه، ومن فعله قبل ذلك لم يستحقه، وحُرم أخذه. انتهى من التنقيح ملخصا، وبه يحصل الجواب. [الإشهاد على استئذان البكر] (الثامن): إذا قال ولي البكر: استأمرتها فلم تتكلم، وشاهد الحال قد قرر ذلك، وعملوا له عمله، فهل يكفي أم لا بد من الإشهاد؟ الجواب: لا يشترط للبكر النطق لحديث: "وإذنها صماتها"1، والإشهاد على استئذانها لا يشترط بل يستحب، لكن لو أنكرته قبل الدخول، فالقول قولها وبعده لا يقبل. وأما الإشهاد على العقد فيشترط لصحة النكاح، وأدلة ذلك معروفة في كتب الحديث والفقه، والله أعلم وصلى الله على محمد. أملاه الفقير إلى الله عبد الرحمن بن حسن.

_ 1 مسلم: النكاح (1421) , والترمذي: النكاح (1108) , والنسائي: النكاح (3260,3261) , وأبو داود: النكاح (2098) , وأحمد (1/ 219,1/ 241) , ومالك: النكاح (1114) , والدارمي: النكاح (2188,2189).

رسالة للشيخ محمد بن عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن

رسالة للشيخ محمد بن عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن ... بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين وإمام المتقين نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه والتابعين وسلم تسليما. أما بعد: [حكم الخروج إلى البادية] فهذا جواب ما سأل عنه الأخ من السؤالات، أما (السؤال الأول) فهو: ما حكم الخارج إلى ماله في البادية لأجل إصلاحه، ونيته الرجوع إلى بلده وهل يكون عاصيا أم لا؟ (الجواب) وبالله التوفيق: إن الذي نعتقده، وندين الله به في هذه المسائل وغيرها من أصول الدين وفروعه هو ما عليه سلفنا الصالح وعلماؤنا المحققون من الاعتقاد الصحيح لا نخرج عما قالوه واعتقدوه؛ لأنهم على أصل عظيم، وصراط مستقيم، ومنهج واضح سليم؛ فحسبنا أن نسير على منهاجهم ونقتفي آثارهم، وبالله العصمة والتوفيق. فأما مسألة الخارج من دار هجرته بعدما نزل لأجل تصليح ماله، ونيته الرجوع إلى بلده هل يكون عاصيا؟ (فالجواب): هذا الخارج لا يطلق عليه أنه عاصٍ لله، ولا يدخل في حكم الوعيد المرتب على من تعرب بعد الهجرة بل يُحب، ويوالى لأن خروجه ليس معصية؛ فيعامل بما يعامل به من لم يخرج من بلده لأنه من جملة المهاجرين، وليس له نية إلا الرجوع إلى وطنه والهجرة مع إخوانه؛ فلا يحكم عليه بردة، بل ولا بمعصية. [باع بيته وخرج إلى البادية وليس من نيته الرجوع] (وأما المسألة الثانية): وهي ما حكم الذي باع بيته، وخرج إلى البادية، وليس من نيته الرجوع والسكنى، وهو ثابت على ما هو عليه من الإسلام، والتزام شرائعه ومحبة المسلمين، لكن محبته لصيرورته مع البادية.

(فالجواب): أن هذا يكون مرتكبا معصية، ومتعربا بعد هجرته، وهو داخل في حكم الحديث الذي رواه ابن أبي حاتم عن علي -رضي الله- عنه لما عد الكبائر قال: التعرب بعد الهجرة، وفراق الجماعة -يعني جماعة المسلمين-، ونكث الصفقة -يعني نكث بيعة الإمام-؛ فجعل التعرب بعد الهجرة من الكبائر، ولكن لا يكون خروجه وتعربه كفرا ولا ردة، بل هو مسلم عاص يوالى ويحب على ما معه من الإيمان، ويبغض على ما معه من المعصية؛ ولا يعامل بالتعنيف، لأنه بتعربه بعد هجرته لا يدخل في حكم المرتدين، ولا يعامل بما يعامل به المرتد. [باع بيته وخرج إلى البادية ويصدر منه مسبة للدين] (وأما المسألة الثالثة): وهي ما حكم الذي باع بيته بعد ما نزله، ثم خرج إلى البادية، ومع ذلك يصدر منه مسبة للدين، وأهل الدين، ويفعل أشياء من المكفرات، وقد قامت عليه الحجة ما حكمه؟ (الجواب): إن هذا إذا كان بهذه الصفة، فهو مرتد قد خرج من الإسلام، ولا ينفعه ما فعله أولا، لأن إقامته عند إخوانه وسماع النصائح والمواعظ وسماع القرآن من أعظم قيام الحجة عليه، لأنه عرف وأنكر. وقد كان سابقا من جملة المسلمين، وإنما رغب عن السكنى، وفعل ما فعل من المسبة وغيرها لخبث في قلبه؛ فهذا يعادى ولا يوالى، ويبغض ولا يحب، وهجره من الواجبات الشرعية إلا إن حصل منه توبة صادقة، فالتوبة تهدم ما قبلها ولا يحال بينه وبين التوبة، والتوبة معروضة، وبابها مفتوح لمن وفقه الله وهداه. [الهجرة وأنواعها] (المسألة الرابعة): ما يقال في الهجرة من بين ظهراني المشركين من البادية والحاضرة وفضلها؟ وما الواجب منها؟ وما المستحب؟ وهل بين بادية نجد وغيرهم كعنزة والظفير ومن والاهم من بادية الشمال

ومن جنوب، إلى ما لا يخفى على المسؤول؟ الجواب: الهجرة من واجبات الدين، ومن أفضل الأعمال الصالحة، وهي سبب لسلامة دين العبد وحفظ لإيمانه، وهي أقسام: الأول: هجر المحرمات التي حرمها الله في كتابه وحرمها رسوله -صلى الله عليه وسلم- على جميع المكلفين وأخبر أن من هجرها فقد هجر ما حرمه الله عليه، وقد أخبر -صلى الله عليه وسلم- فيما صح عنه: "المهاجر من هجر ما نهى الله عنه"1 وهذا أمر مجمل شامل لجميع المحرمات القولية والفعلية. (القسم الثاني): الهجرة من كل بلد تظهر فيها شعائر الشرك وأعلام الكفر، ويعلن فيها بالمحرمات. والمقيم فيها لا يقدر على إظهار دينه والتصريح بالبراءة من المشركين وعداوتهم، ومع هذا يعتقد كفرهم وبطلان ما هم عليه؛ لكن إنما جلس بين ظهرانيهم شحا بالمال والوطن، فهذا عاص ومرتكب محرما، وداخل في حكم الوعيد، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} 2 إلى قوله: {فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا} 3. فلم يعذر الله إلا المستضعف الذي لا يقدر على التخلص من أيدي المشركين، ولو قدر ما عرف سلوك الطريق وهدايته إلى غير ذلك من الأعذار، وقال صلى الله عليه وسلم "من جامع المشرك أو سكن معه فإنه مثله" 4، فلا يقال: إنه بمجرد المجامعة، والمساكنة يكون كافرا بل المراد أن من عجز عن الخروج من بين ظهراني المشركين، وأخرجوه معهم كرها فحكمه حكمهم في القتل، وأخذ المال، لا في الكفر، وأما إن خرج معهم لقتال المسلمين

_ 1 البخاري: الإيمان (10) , والنسائي: الإيمان وشرائعه (4996) , وأبو داود: الجهاد (2481) , وأحمد (2/ 192,2/ 209). 2 سورة النساء آية: 97. 3 سورة النساء آية: 99. 4 أبو داود: الجهاد (2787).

طوعا واختيارا، وأعانهم ببدنه وماله فلا شك أن حكمه حكمهم في الكفر. ومن الهجرة الواجبة أيضا الهجرة من بين ظهراني الأعراب المتظاهرين بالكفر والشرك، وارتكاب بعض المحرمات، وهو عاجز عن إظهار دينه، ولا قدرة له على الإنكار عليهم؛ فهذا هجرته فرض إذا قدر عليها، فإن تركها مع قدرته واستطاعته، فحكمه حكم من هو في بلدان المشركين المتقدم ذكرهم. فهولاء يعادَوْن، ويُبغضون على ما معهم من المعصية ويحبون ويوالَوْن على ما معهم من أصل الإسلام. وهجر هؤلاء ومن تقدم ذكرهم إذا كان فيه مصلحة راجحة وردع لهم وزجر لأمثالهم، ولم يترتب عليه مفسدة، فهو جائز. والمسافر إليهم مرتكب أيضا حراما فيهجر بقدر ذنبه. قال علماؤنا: المقيم بين ظهراني المشركين والمسافر إليهم لأجل التجارة مشتركون في التحريم، متفاوتون في العقوبة، فعقوبة المقيم أعظم من عقوبة المسافر، وهجر المقيم أغلظ من هجر المسافر؛ فيعاملون بالهجر والمعاداة والموالاة بحسب ما تقتضيه المصلحة الشرعية. وأما الهجرة المستحبة، وهي الهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام إذا كان مظهرا لدينه، وقد أمن الفتنة على نفسه ودينه فهذا هجرته مستحبة، وكذلك من هو بين ظهراني بعض البوادي الملتزمين لشرائع الإسلام المجتنبين لما حرمه الله عليهم من سفك الدماء ونهب الأموال وغيرها، ولا يوجد عندهم من يجاهر بالمعاصي، فالهجرة حينئذ من بينهم مستحبة، وفيها فضل عظيم، وثواب جزيل لتعلم الخير وإقامة الجمعة وغير ذلك من المصالح التي يعرفها من نور الله قلبه، ورزقه البصيرة. [حال نجد قبل الدعوة وبعدها] (وأما المسألة الخامسة): وهي ما حكم من اتصف بالكفر اليوم وقام به

من بادية نجد؟ هل هو كفر أصلي أم طارئ؟ وهل عمهم الإسلام في وقت دعوة شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله تعالى- أم لا؟ الجواب: اعلم يا أخي -وفقني الله وإياك للصواب- أن أهل نجد، باديتهم وحاضرتهم، قبل دعوة شيخ الإسلام، وعلم الهداة الأعلام، مجدد ما اندرس من معالم الإسلام الشيخ محمد بن عبد الوهاب، في جاهلية جهلاء، وضلالة عمياء، قد اشتدت غربة الإسلام فيما بينهم واستحكمت، وعم الشر وطم، وفشا الشرك وشاع الكفر، وذاع في القرى والأمصار والبادية والحضار. وصارت عبادة الطواغيت والأوثان دينا يدينون به، ويعتقدون في الأولياء أنهم ينفعون ويضرون، وأنهم يعلمون الغيب، مع تضييع الصلاة، وترك الزكاة وارتكاب المحرمات. ولم يوجد من ينكر ذلك؛ نشأ عليه الصغير وهرم عليه الكبير. فشرح الله صدر إمام الدعوة الإسلامية الشيخ محمد -رحمه الله- فدعا الخلق إلى دين الله، وعرفهم حقيقة العبادة التي خلقوا لها وأمروا بها ودعت إليها الرسل فقاموا له عن ساق العداوة، فعارضوه وصادموه، العلماء منهم والأمراء، وسعوا بالتهييج عليه عند القريب والبعيد ولم يبقوا ممكنا. فعند ذلك ثبته الله، وصبر على أعباء الدعوة ومكابدة من عارضه، ولم يعبأ بمن خالفه لأنه قام مقام نبوة لأن حقيقة ما دعا إليه هي دعوة الرسل من أولهم إلى آخرهم. فأعانه على هذه الدعوة والقيام بها، وتحمل عداوة القريب والبعيد وأواه، ونصره الإمام محمد بن سعود وأولاده وإخوانه، فعاضدوه -رحمهم الله- فثبتهم الله، وقوى عزمهم. وبادأهم من بادأهم بالعدواة والقتال وألبوا عليهم؛ فما ثنى عزمهم ولا تضعضعوا، فأظهرهم الله عليهم، وخذل جميع من ناوأهم. فدخل

كافة أهل نجد والجزيرة من البادية والحاضرة تحت ولايتهم، والتزموا ما دعوا إليه ودانوا به. ولم يوجد في نجد من البادية والحاضرة من لم يدخل في هذا الدين ولم يلتزم شرائعه؛ بل شملتهم الدعوة الإسلامية والتزموا أحكام الإسلام وواجباته. وأقاموا على ذلك مدة سنين في أمن وعافية وعز وتمكين، وبنودهم تخفق شرقا وغربا جنوبا وشمالا، حتى دهمهم ما دهمهم من الحوادث العظام، التي أزعجت القلوب وزلزلتهم من الأوطان، عقوبة قدرية سببها ارتكاب الذنوب والمعاصي، لأن من عصى الله، وهو يعرفه سلط عليه من لا يعرفه، والفتنة التي حلت بهم هي فتنة العساكر التركية والمصرية، فانتثر نظام الإسلام، وشتت أنصاره وأعوانه، وارتحلت الدولة الإسلامية، وأعلن أهل النفاق بنفاقهم، فرجع من رجع إلى دين آبائه وإلى ما كان سابقا من الشرك والكفر، وثبت من ثبت على الإسلام، وقام بهم من أمور الجاهلية أشياء لا تخرج من ثبت منهم عن الإسلام. إذا تبين لك، هذا فاعلم أن الكفر الموجود في أعراب نجد الذين قد دخلوا في الإسلام سابقا إنما هو كفر طارئ، لا كفر أصلي، فيعامل من وجد منه مكفر بما يعامل به أهل الردة، ولا يحكم عليهم بعموم الكفر؛ لأنه يوجد فيهم من هو ملتزم لشرائع الإسلام وواجباته. وأما من ظاهره الإسلام منهم، ولكن ربما قد يوجد فيهم من الكفر العملي الذي لا يخرج من الملة، وفيهم شيء من أمور الجاهلية ومن أنواع المعاصي، صغائر كانت أو كبائر، فلا يعاملون معاملة المرتدين، بل يعاملون بالنصح برفق ولين، ويبغضون على ما معهم من هذه الأوصاف. وليعلم أن المؤمن تجب موالاته ومحبته على ما معه من الإيمان، ويبغض

ويعادى على ما معه من المعاصي، وهجره مشروع إن كان فيه مصلحة وزجر وردع، وإلا فيعامل بالتأليف وعدم التنفير، والترغيب في الخير برفق ولطف ولين، لأن الشريعة مبنية على جلب المصالح ودفع المضار، والله ولي الهداية. وبالجملة فهذا الذي نعتقده وندين الله به في هذه المسائل المذكورة وغيرها، فمن نقل عنا خلاف ذلك، وتقول علينا ما لم نقل، فحسابه على الله الذي عنده تنكشف السرائر، وتظهر مخبتآت الصدور والضمائر، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل، وصلى الله على عبده ورسوله محمد وآله وصحبه وسلم. قال ذلك ممليه الفقير إلى الله راجي رحمة ربه وعفوه محمد بن عبد اللطيف وذلك في 20 رجب سنة 1336. انتهى الكتاب والحمد لله.

رسائل وفتاوى الشيخ عبد الرحمن بن حسن ابن شيخ الإسلام محمد عبد الوهاب

رسائل وفتاوى الشيخ عبد الرحمن بن حسن ابن شيخ الإسلام محمد عبد الوهاب المتوفى سنة 1285 رحمهم الله أجمعين وقبلها رسالة لحفيده الشيخ محمد بن الشيخ عبد اللطيف حفظه الله تعالى (بعد كتاب الإيمان وملحقاته من صفحة 132 إلى 138) طبع على نفقة صاحب الجلالة السعودية ومحيي السنة المحمدية الإمام عبد العزيز آل سعود ملك الحجاز وسلطان نجد وملحقاتها أيده الله تعالى الطبعة الأولى في سنة 1345 هجرية مطبعة المنار بمصر

الرسالة الأولى: الطاعة سبب الخير والمعصية سبب الشر

[الرسالة الأولى: الطاعة سبب الخير والمعصية سبب الشر] بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الرحمن بن حسن إلى الإمام الأكرم فيصل بن تركي، سلمه الله وهداه، آمين. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. (وبعد): فالواجب علينا وعليكم التناصح في دين الله، والتذكير بنعم الله وأيامه، فإن في ذلك من المصالح الخاصة والعامة ما لا يحيط به إلا الله، وفي الحديث: "ما نزل بلاء إلا بذنب، وما رفع إلا بتوبة". ولله حق وعبودية على خلقه بحسب وسعهم وقدرتهم، ولذلك كان على ولاة الأمور، ورؤساء الناس المطاعين فيهم ما ليس على عامتهم وسوقتهم. وكل خير في الدنيا والآخرة إنما حصل بمتابعة الرسل وقبول ما جاؤوا به. كل شر في الدنيا والآخرة إنما حدث ووقع بمعصية الله ورسله، والخروج عما جاؤوا به من النور والهدى، وهذه الجملة شرحها يطول وتفاصيلها لا يعلمها إلا الله الذي {لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} 1. والسير والاعتبار، والاستقراء، والقصص، والأمثال، والشواهد النقلية والعقلية تدل على هذا، وترشد إليه، وبعض الأذكياء يعرف ذلك في نفسه وأهله وولده ودابته، قال بعضهم: إني لأعصي الله فأعرف ذلك في خلق أهلي ودابتي. واللبيب يدرك من الأمور الجزئية والكلية ما لا يدركه الغبي الجاهل، ويكفي المؤمن قوله -تعالى-: {إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} 2، فهذه الآية يدخل فيها كل نعيم باطنا وظاهرا في الدنيا والآخرة، وفي البرزخ. وقد قال -تعالى-: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ

_ 1 سورة سبأ آية: 3. 2 سورة الانفطار آية: 13.

وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} 1 الآية. ويدخل في هذا كل شيء من المصائب والجزاء، حتى الشرك، والهم والحزن؛ لكن المؤمن يثاب على ذلك، ويكفر عنه بإيمانه كما دل على ذلك الحديث. إذا عرف هذا، فكثير من الناس يعرف أن المصائب والابتلاء حصل بسبب الذنوب، ويقصد الخروج منها والتوبة، ولا يوفق - نعوذ بالله من ذلك -، وذلك لأسباب: منها: جهله بالذنوب، ومراتبها، وحالها عند الله. ومنها: جهله بالطريق التي تخلصه منها، وتنقذه من شؤمها وشرها وتبعتها. ولا سبيل لأحد إلى معرفة ذلك، وما يخلص منه إلا من جهة الرسول صلى الله عليه وسلم ومعرفة ما جاء به من الهدى ودين الحق إجمالا وتفصيلا؛ فإنه الواسطة بين العباد وبين ربهم في إبلاغ ما يحبه الرب ويرضاه، ويريده من عباده، ويوجب السعادة والنعيم والفلاح في الدنيا والآخرة، وفي إبلاغ ما يضرهم ويسخط ربهم، ويوجب الشقاوة، والعذاب الأليم في الدنيا والآخرة. فكل طريق غير طريقه مسدود على سالكيه، وكل عمل ليس عليه رسمه وتقريره، فهو رد على عامليه. وقد عرفتم -أرشدكم الله تعالى- أن الله بعث محمدا صلى الله عليه وسلم على حين فترة من الرسل، وأهل الأرض قد عمتهم الجهالة، وغلبت عليهم الضلالة، عربيهم وعجميهم، إلا من شاء الله من بقايا أهل الكتاب. فأول دعوته -صلى الله عليه وسلم- ورسالته، وقاعدة قبوله: رد الخلق إلى الله، وأمرهم بعبادته وحده لا شريك له، وخلع ما سواه من الأنداد والآلهة، والبراءة منهم؛ وهذا هو الذي دلت عليه كلمة الإخلاص، وهو أول دعوة الرسل، وأول الواجبات والفرائض. ومكث -عليه الصلاة والسلام-

_ 1 سورة النساء آية: 123.

مدة من الدهر نحو العشر بعد النبوة يدعو إلى هذا ويأمر به، وينهى عن الشرك وينذر عنه، وفرض الفرائض وبقية الأركان بعد ذلك منجما. إن هذا هو أهم الأمور وأوجبها على الخلق كما في حديث: "رأس الأمر: الإسلام، وعموده: الصلاة، وذروة سنامه: الجهاد"1. وكان من هديه صلى الله عليه وسلم أن يبعث عماله، ويرسل رسائله إلى أهل الأرض، ويدعوهم إلى هذا يبدأ به قبل كل شيء، ولا يأمر بشيء من الأركان إلا بعد التزامه ومعرفته، كما دل عليه حديث معاذ لما بعثه إلى اليمن، وغيره من الأحاديث. وفي أوقاتنا بعد العهد بآثار النبوة، وطال الزمن، وكاد يشبه زمن الفترة لغلبة الجهل، وشدة الغربة. وقد من الله لهذه الأقطار بشيخ الإسلام -رحمه الله-، فقام في تجديد الدين وتمهيد قواعد الملة أتم قيام، حتى ظهر -بحمد الله- منار التوحيد والإسلام، ووازره على ذلك من أسلافكم وأعمامكم من وازره رحمة الله عليهم أجمعين. وبعدهم حصل من الناس ما لا يخفى من الإعراض والإهمال، وعدم الرغبة والتنافس فيما أوجبه الرب من توحيده وفرضه على سائر عبيده، وقل الداعي إلى ذلك، والمذكر به، والمعلم له في القرى والبوادي، والتساهل في هذه الأمور العظام التي هي آكد مباني الإسلام، يوجب للرعية أن يشب صغيرهم، ويهرم كبيرهم على حالة جاهلية لا يعرف فيها الأصول الإيمانية، والقواعد الإسلامية. والله سائلنا وسائلك عن ذلك كل بحسب قدرته وطوقه. والجهل والظلم غالب على النفوس، ولها وللشيطان حظ كبير في ذلك، والنفوس الجاهلية المعرضة عن العلم النبوي يسرع إليها الشرك والتنديد أسرع من السيل إلى منحدره. والواجب مراعاة هذا الأصل، والقيام فيه، وبعث الدعاة إليه، وجعل

_ 1 الترمذي: الإيمان (2616) , وابن ماجه: الفتن (3973) , وأحمد (5/ 231).

أموال الله التي بأيديكم آلة له ووقاية وإعانة؛ فإن هذا من أفرض الفرائض وألزمها، ولم تشرع الإمامة والإمارة إلا لأجل ذلك، والقيام به. وبقاء الإسلام والإيمان في استقامة الولاة والأئمة على ذلك، وزوال الإسلام والإيمان وانقضاؤه بانحرافهم عن ذلك، وجعل الهمة والأموال والقوة مصروفة في غيره، مقصودا به سواه من العلو والرياسة والشهوات. ولذلك وقع في آخر بني العباس ما وقع من الخلل والزلل، واشتدت غربة الإسلام، وظهرت البدع العظام، وأظهر الكفر أعلامه وشعاره، وبنيت المساجد على القبور، وأسرجت عليها السرج، وأرخيت عليها الستور، وهتف أكثر الناس في الشدة بسكان القبور، وذبحوا لها القرابين ونذرت لها النذور، وبنيت الهياكل للنجوم، وخاطبها بالحوائج كل مشرك ظلوم. وسرى هذا في الناس حتى فعله من يظن أنه من الأخيار والأكياس، وكثير منهم يظن أن هذا هو الإسلام، وأنه مما جاء به سيد الأنام، عليه أفضل الصلاة والسلام. وهل وقع ذلك وصار على تطاول الدهر والأعصار إلا بسبب إهمال الرؤساء والملوك الذين استكبروا في الأرض، ولم يرفعوا رأسا بما جاءت به الأنبياء، وقنعوا بمجرد الاسم والانتساب من غير حقيقة. قال الله -تعالى-: {وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ} 1 الآية. [واجب الولاة المحافظة على دين الرعية] فأهم المهمات وآكد الأصول والواجبات، التفكر في هذا، وتفقد الرعية، الخاصة والعامة، البادية والحاضرة، لأنك مسؤول عنهم، والسؤال يقع -أولا- عن الدين قبل الدنيا، وفي الحديث: "كلكم راع وكل مسئول عن رعيته"2، وفي الحديث الصحيح: "كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء، كلما

_ 1 سورة غافر آية: 47. 2 البخاري: الجمعة (893) , ومسلم: الإمارة (1829) , والترمذي: الجهاد (1705) , وأبو داود: الخراج والإمارة والفيء (2928) , وأحمد (2/ 108).

هلك نبي خلفه نبي، وإنه لا نبي بعدي. وسيكون بعدي خلفاء فيكثرون، قالوا: فما تأمرنا؟ قال: أوفوا ببيعة الأول، أعطوهم حقهم، فإن الله عز وجل سائلهم عما استرعاهم عليه"1. 2 ففتش عقائدهم، وانظر في توحيدهم وإسلامهم خصوصا مثل أهل الأحساء والقطيف؛ اشتهر عنهم ما لا يخفاك من الغلو في أهل البيت، ومسبة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعدم التزام كثير من أصول الدين وفروعه، وكونهم يسرون ذلك ويخفونه مما لا يسقط عنك وجوب الدعوة، والتعليم، والنصح لله بظهور دينه، وإلزامهم به، وتعليم صغارهم وكبارهم؛ فإنك مسؤول عن ذلك، والحمل ثقيل، والحساب شديد. وفي الطبراني أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه استعمل بشر بن عاصم على صدقات هوازن، فتخلف بشر، فلقيه عمر، فقال: ما خلفك؟ أما لنا عليك سمع وطاعة؟ قال: بلى، ولكن سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "من ولي شيئا من أمر المسلمين أتي به يوم القيامة حتى يوقف على جسر جهنم؛ فإن كان محسنا نجا، وإن كان مسيئا انخرق به الجسر فهوى فيه سبعين خريفا"، فرجع عمر كئيبا حزينا. جعلك الله من الذين يخشون ربهم ويخافون سوء الحساب. ومن الدعوة الواجبة والفرائض اللازمة: جهاد من أبى أن يلتزم التوحيد ويعرفه، من البادية أو غيرهم، وكثير من بادية نجد يكفي فيهم المعلم، وأما من يليهم من المشركين مثل الضغير وأمثالهم فيجب جهادهم ودعوتهم إلى الله. وقد أفلح من كان لله محياه ومماته، وخاف الله في الناس، ولم يخف

_ 1 البخاري: أحاديث الأنبياء (3455) , ومسلم: الإمارة (1842) , وابن ماجه: الجهاد (2871) , وأحمد (2/ 297). 2 الحديث في صحيح مسلم وفيه "أوفوا بيعة الأول فالأول" وليس في آخره كلمة عليه - وكتبه محمد رشيد رضا.

الناس في الله، وفي الحديث: "مثل المجاهد في سبيل الله، والله أعلم بمن يجاهد في سبيله، كمثل الصائم القائم، وتوكل الله للمجاهد في سبيله يتوفاه أن يدخله الجنة، أو يرجعه سالما مع أجر وغنيمة"1. 2 [المحافظة على عقائد العامة] وكذلك يجب على ولي الأمر أن يقدم على من نسب عنه طعن وقدح في شيء من دين الله ورسوله، أو تشبيه على المسلمين في عقائدهم ودينهم، مثل من ينهى عن تكفير المشركين، ويجعلهم من خير أمة أخرجت للناس، لأنهم يدَّعُون الإسلام، ويتكلمون بالشهادتين، وهذا الجنس ضرره على الإسلام -خصوصا على العوام- ضرر عظيم يخشى منه الفتنة. وأكثر الناس لا علم له بالحجج التي تنفي شبه المشبهين وزيغ الزائغين، بل تجده -والعياذ بالله- سلس القياد لكل من قاده أو دعاه، كما قال فيهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه: لم يستضيئوا بنور العلم ولم يلجؤوا على ركن وثيق، أقرب شبها بهم الأنعام السارحة. فإذا تيسر لكم -إن شاء الله- الاهتمام والقيام بهذا الأصل العظيم، فينظُر بعد هذا في أحوال الناس في الصلوات الخمس المفروضات؛ فإنها من آكد الفروض والواجبات، وفي الحديث: "أول ما تفقدون من دينكم الأمانة، وآخر ما تفقدون الصلاة"، وكل شيء ذهب آخره لم يبق منه شيء، وقد قال -تعالى-: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ} 3 الآية. فيلزم جعل نواب يأمرون بما أمر الله به ورسوله من إقام الصلاة في المساجد في أوقاتها، ويؤدبون من عرف منه

_ 1 البخاري: الجهاد والسير (2787). 2 هذا لفظ البخاري وفي مسلم وغيره زيادة عليه. 3 سورة البينة آية: 5.

كسل، أو ترك، أو إهمال أدبا يردع أمثاله. وعلى أئمة المساجد تعليم ما يشترط لها، وما يجب فيها من الأعمال والأقوال. وبعد هذا، يلتفت إلى النظر في أمر الزكوات الشرعية وجبايتها على الوجه الشرعي من الأنعام والثمار والنقود والعروض، ويكون مع كل عامل رجل له معرفة بالحدود الشرعية والأحكام الزكوية، ويحذر عن الزيادة عما شرعه الله ورسوله؛ فلا يؤخذ إلا مما وجبت فيه الزكاة، وتم نصابه، وحال حوله؛ وكثير من العمال يخرص جميع الثمار وإن لم تنصب. وأخذ الزكاة من شيء لم يوجبه الله ولا رسوله فيه ظلم بين وتعد ظاهر، حمانا الله وإياكم منه. وكذلك ما يتبع الزكاة من النائبة قد أغنى الله عنها، وجعل فيما أحل غناء عما منع وحرم؛ ومن الواجبات على ولي الأمر ترك ذلك لله، وفي بيت المال ما يكفي الضيف ونحوه إن حصل تسديد، ومنّ الله بتوفيق من عنده. وكذلك ما يؤخذ من المسلمين في ثغر القطيف من الأعشار لا يليق، ولا يجوز التعشير في أموال المسلمين؛ ويلزم ولي الأمر -أيده الله- أن يلزم التجار الزكوات الشرعية قهرا، ويدع ما لا يحل. ومن الواجب تمييز الأموال الداخلة على ولي الأمر، فإن الله ميزها في كتابه وقسمها؛ فلا يحل تعدي ذلك وخلطها بحيث لا يمكن تمييز الزكاة من الفيء والغنائم، فإن لهذا مصرفا ولهذا مصرفا؛ ويجب على ولي الأمر صرف كل شيء في محله، وإعطاء كل ذي حق حقه، أهل الزكاة من الزكاة، وأهل الفيء من الفيء، ويعين ذلك في الأوامر التي تصدر من الإمام لوكيل بيت المال. ويجب تفقد من في بلاد المسلمين من ذوي القربى في الفيء والغنيمة

فإن هذا من آكد الحقوق وألزمها لمكانهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم والمراد بهم من عرف التوحيد والتزمه، وأهل الإسلام ما صالحوا (؟) من عاداهم إلا بسيف النبوة وسلطانها، خصوصا دولتكم فإنها ما قامت إلا بهذا، وهذا أمر يعرفه كل عالم، وفي الحديث: "إن هذا المال خضرة حلوة، فمن أخذه بحقه بورك له فيه، ورب متخوض في مال الله بغير حق ليس له يوم القيامة إلا النار"1. عافانا الله وإياكم من النار، وأعمال أهل النار. [حرمة أموال الناس ودمائهم] وكل من أخذ مالا يستحقه من الولاة والأمراء والعمال فهو غال، كما في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قام فينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فذكر الغلول وعظمه، وعظم أمره، حتى قال: "لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته بعير له رغاء، يقول: يا رسول الله أغثني، فأقول: لا أملك لك شيئا، قد بلغتك. لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته فرس له حمحمة، فيقول: يا رسول الله أغثني، فأقول: لا أملك لك شيئا، قد بلغتك. لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته شاة لها أعار 2، فيقول: يا رسول الله أغثني، فأقول: لا أملك لك شيئا، قد بلغتك. لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته نفس لها صياح، فيقول: يا رسول الله أغثني، فأقول: لا أملك لك من الله شيئا، قد بلغتك. لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته رقاع تخفق، فيقول: يا رسول الله أغثني، فأقول: لا أملك لك شيئا قد بلغتك. لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة

_ 1 مسلم: الزكاة (1035) , والترمذي: صفة القيامة والرقائق والورع (2463) , والنسائي: الزكاة (2531,2601,2602,2603) , وأحمد (3/ 434) , والدارمي: الزكاة (1650) والرقاق (2750). 2 كذا في الأصل والمعروف في الروايات، وكتب اللغة يعار بالياء المضمومة يعرث الشاة أو العنز تيعر - وفي صحيح مسلم وغيره (لها ثغاء) بالمثلثة المضمومة وهو صوت الشاة من الضان.

على رقبته صامت، فيقول: يا رسول الله أغثني، فأقول: لا أملك لك شيئا، قد بلغتك". وأخبر صلى الله عليه وسلم أن هدايا العمال غلول، فقال: "هدايا العمال غلول"1. فينبغي التفطن لهذه الأمور لئلا يقع فيها وهو لا يدري. وكذلك ينبغي تفقد أمر الناس في الحج، والقيام على من تركه وهو يستطيعه، وهو ركن من أركان الإسلام؛ ويذكر عن عمر أنه قال: لقد هممت أن أضع الجزية على من ترك الحج. وبعض السلف يكفر من تركه، وأمر الرعية بذلك من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي لا يسع أحدا تركه. وكذلك القيام على الناس (ومنعهم) عن التعدي في الدماء والأموال وقطع السبيل، فهذا من الفساد في الأرض، والمحاربة لله ورسوله؛ فإن لم ينتهوا إلا بغزوهم لزم الإمام أن يبعث السرايا لحربهم. ولما تعرض الفجاء السلمي للناس يأخذ ويقتل من مسلم وكافر، بعث أبو بكر رضي الله عنه جيشا فظفروا به فأحرقه بالنار. ويذكر عن حسان أنه قال: وما الدين إلا أن تقام شريعة ... وتأمن سبل بيننا وشعاب وكذلك ما حدث من الدفنان للبادية إذا أخذوا المسلمين، وقتلوا لما فيه من ترك حقوق المسلمين في الدماء والأموال مع القدرة على استيفائها، والقيام بالعدل الذي أمر الله به ورسوله كما قال -تعالى-: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ} 2 الآية. فتأمل هذه الموعظة، وما ختمها به من هذين الوصفين العظيمين وقال -تعالى-: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} 3 الآية. فالواجب على من نصح نفسه أن لا يحكم إلا بحكم الله ورسوله، فإن لم

_ 1 أحمد (5/ 424). 2 سورة النساء آية: 58. 3 سورة النساء آية: 65.

يفعل وقع في خطر عظيم من تقديم الآراء والأهواء على شرع الله ورسوله، قال العلامة ابن القيم -رحمه الله-: والله ما خوفي الذنوب فإنها ... لعلى طريق العفو والغفران لكنني أخشى انسلاخ القلب من ... تحكيم هذا الوحي والقرآن ورضا بآراء الرجال وخرصها ... لا كان ذاك بمنة الرحمن [تفقد الإمام لدين رعيته] ومما يجب على ولي الأمر: تفقد الناس من الوقوع فيما نهى الله عنه ورسوله من الفواحش ما ظهر منها وما بطن بإزالة أسبابها، وكذلك بخس الكيل والميزان، والربا؛ فيجعل في ذلك من يقوم به، من له غيرة لدين الله وأمانة. وكذلك مخالطة الرجال للنساء، وكف النساء عن الخروج إذا كانت المرأة تجد من يقضي حاجتها من زوج أو قريب أو نحو ذلك، وكذلك تفقد أطراف البلاد في صلاتهم، وغير ذلك مثل أهل النخيل النائية، لأنه ربما يقع فيها فساد ما يدري عنه، وأكثر الناس ما يبالي، ولو فعل ما نهي عنه، وفي الحديث: "ما تركت بعدي فتنة هي أضر على الرجال من النساء"1، وفي الحديث -أيضا-: "ما ظهرت الفاحشة في قوم إلا ابتلوا بالطواعين والأمراض التي لم تكن في أسلافهم الذين مضوا"2. نعوذ بالله من عقوبات المعاصي ونسأله العفو والعافية في الدنيا والأخرة. وكذلك التوسع في لبس الحرير، وما زاد على المباح؛ وهو مما نهى الله عنه، ونهى عنه رسوله صلى الله عليه وسلم ونص على تحريمه، ولا يجوز تتبع الرخص 3.

_ 1 البخاري: النكاح (5096) , ومسلم: الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2740,2741) , والترمذي: الأدب (2780) , وأحمد (5/ 200,5/ 210). 2 ابن ماجه: الفتن (4019). 3 لعله ذكر الرخص هنا لما روي من ترخيص النبي (ص) بلبس الحرير لذي العمل والحكمة، وترجيحه أن العشرة من الصحابة الذين روي عنهم لبس الحرير كانوا مترخصين به لأعذار لهم.

ومن الأصول التي تدور عليها الأحكام حديث: "إنما الأعمال بالنيات"1، وحديث "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد"2، وحديث: "الحلال بيّن والحرام بيّن، وبينهما أمور مشتبهات، لا يعلمها كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يقع فيه. ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله محارمه"3 فكل أمر ينبغي لذوي العقول أن يتركوا ما تشابه منه، قد يقع فيه خلاف من بعض العلماء، فلا ينبغي أن يرخص لنفسه في أمر قد ظهرت فيه أدلة التحريم، فاجتنابه من تقوى الله وخوفه، وتركه مخافة الله من الأعمال الصالحة، التي تكتب له حسنات. ومما يجب النهي عنه: الإسبال، كما نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في الحديث الصحيح: "ما أسفل من الكعبين من الإزار 4 فهو في النار"، وفي الحديث: "بينما رجل يجر إزاره خيلاء، أمر الله الأرض أن تأخذه؛ فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة"5. وكذلك التشبه باليهود والمجوس في ترك الشوارب، وقد أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بإحفائها مخالفة لليهود والمجوس، فقال صلى الله عليه وسلم "احفوا الشوارب واعفوا اللحى، وخالفوا اليهود". والذي فيه دين ورغبة

_ 1 البخاري: بدء الوحي (1) , ومسلم: الإمارة (1907) , والترمذي: فضائل الجهاد (1647) , والنسائي: الطهارة (75) والأيمان والنذور (3794) , وأبو داود: الطلاق (2201) , وابن ماجه: الزهد (4227) , وأحمد (1/ 25,1/ 43). 2 البخاري: الصلح (2697) , ومسلم: الأقضية (1718) , وأبو داود: السنة (4606) , وابن ماجه: المقدمة (14) , وأحمد (6/ 240,6/ 270). 3 البخاري: الإيمان (52) , ومسلم: المساقاة (1599) , والترمذي: البيوع (1205) , والنسائي: البيوع (4453) , وأبو داود: البيوع (3329) , وابن ماجه: الفتن (3984) , وأحمد (4/ 269) , والدارمي: البيوع (2531). 4 سقط من الأصل كلمة (من الإزار)، وهي في نص البخاري، ولا يصح المعنى إلا بها، والمراد من الإزار موضعه، وقد نص الشافعي على أن تحريم هذه الزيادة في الإزار ونحوه مخصوص بما إذا قصد به الخيلاء، فإن لم يكن للخيلاء كره تنزيها، كما في شروح البخاري، وهذا التخصيص أخذه الشافعي من حديث جر الإزار. 5 أحمد (2/ 493).

في الخير ما يرضى لنفسه أن يخالف ما أمر الله به ورسوله، ويقتدي باليهود والمجوس والمتكبرين. [السمع والطاعة لله ولرسوله] وكل ما أمر الله به ورسوله فينبغي للعبد أن يمتثل ويسمع ويطيع لما في ذلك من المنافع الكثيرة، وما في خلافه من الإثم، قال -تعالى-: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُبِينًا} 1. فعلى الإمام أن يأمر النواب من رأوه تاركا للأمر أن يقوموا عليه، ويلزموه الطاعة؛ حتى تظهر طاعة الله ورسوله في المسلمين، ويمتازون بذلك عمن خالفهم في الدين من أهل الجفاء والغلظة والغفلة والإعراض. نسأل الله العفو والعافية، فإنها قد عمت البلوى بهذا بكثير، لما قام بقلوبهم من ضعف الإيمان، وعدم الرغبة فيه. [من واجبات الإمام إعانة طالب العلم] وكذلك يجب على الإمام: النظر في أمر العلم، وترغيب الناس في طلبه، وإعانة من تصدى للطلب لقلة العلم وكثرة الجهل. وإن كان قد قام ببعض الواجب فينبغي له أن يهتم بهذا الأمر لفضيلة العلم، وكثرة ثواب من قام به وأعان عليه؛ فإن أكثر من يطلب العلم فقراء، ويحتاجون إلى الإعانة على فقرهم لما يكون لهم فيه سعة. وطلب العلم اليوم من الفرائض كما لا يخفى على الإمام وغيره، وفي الحديث الصحيح: "الدنيا ملعونة، ملعون ما فيها، إلا ذكر الله وما والاه، وعالم ومتعلم"2. وهذا ما يحصل إلا باعتناء الإمام، وتأليفه للطالب؛ فإذا كثر العلم وقل الجهل بسببه حصل له من الخير والحسنات ما لا يحصيه إلا الله إن قبله الله؛ وبالغفلة عن طلبه العلم تضعف هممهم، ويقل طلبهم. وفي مناقب عمر بن عبد العزيز -رحمه الله- أنه إذا أراد أن يحيي سنة أخرج من العطاء مالا كثيرا، فإذا نفروا من هذا رغبوا إلى

_ 1 سورة الأحزاب آية: 36. 2 الترمذي: الزهد (2322) , وابن ماجه: الزهد (4112).

هذا، فلله دره -رحمه الله- ما أحسن نظره لنفسه، ولمن ولاه الله عليهم. وهذا الذي ذكرنا من الأمور البينة التي ينبغي التنبه عليها بخصوصها؛ وأما الأمور التي بين الله وبين العبد التي فيها صلاح القلوب ومغفرة الذنوب من إتعاب النفس فيما يحبه الله ويرضاه مما يقع له وعليه. فهذا باب واسع، ولا يدرك هذا إلا من جعل الله له رغبة في تدبر كتابه، ومعرفة صفة أهل الإيمان والتقوى الذين أعد الله لهم الجنة، ويجاهد نفسه على ذلك فعلا وتركا. وعلى كل من نصح نفسه أن يحذر من كبائر القلوب التي هي من أعظم الذنوب، ولا يأمن مكر الله، وليكن لنفسه أشد مقتا منه لغيره. وليكن معظما للأمر والنهي، مفكرا فيما يحبه الله ويرضاه، متدبرا لكتابه محبة لربه ورغبة في ثوابه، وخوفا من غضبه وعقابه. ومن الواجب على كل أحد أن يحب في الله، ويبغض في الله، ويعادي في الله، ويوالي في الله، ويحب أولياء الله أهل طاعته، ويعادي أعداء الله أهل معصيته. وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم. صنف هذه الرسالة الشيخ عبد الرحمن بن حسن بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب، مجدد دين الله في نجد وغيرها في القرن الثاني عشر من الهجرة، صنفها في شدة مرضه؛ إعذارا وإنذارًا لإمام وقته فيصل بن تركي آل سعود رحمة الله عليهم أجمعين.

الرسالة الثانية: إخلاص العبادة لله وحده

الرسالة الثانية [إخلاص العبادة لله وحده] بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل الله فلا هادي له، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم كثيرا وعلى آله وصحبه. من عبد الرحمن بن حسن إلى الأخ عبد اللطيف ابن حامد، وفقه الله -تعالى- لتوحيده، وجعله من صالحي عبده. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. (وبعد): فقد وصل إلينا خطك، ومعه نسخة الأسئلة، وسرنا ما كنت عليه مستقيما من دين الإسلام، الذي اشتدت غربته بين جميع الأنام. فأنا أذكر جواب ما سألت عنه على طريق الاختصار والإيجاز. (السؤال الأول) عما في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من قال: لا إله إلا الله، وكفر بما يعبد من دون الله، حرم ماله ودمه وحسابه على الله عز وجل"1. فاعلم أن (لا إله إلا الله) هي كلمة الإسلام، ومفتاح دار السلام، وهي العروة الوثقى، وكلمة التقوى. وهي الكلمة التي جعلها إبراهيم الخليل -عليه السلام- باقية في عقبه لعلهم يرجعون؛ ومعناها نفي الشرك في الألوهية عما سوى الله، وإفراد الله تعالى بالألوهية. والألوهية هي تأله القلب بأنواع العبادة كالمحبة، والخضوع، والذل بالدعاء، والاستعانة، والرجا والخوف

_ 1 مسلم: الإيمان (23) , وأحمد (3/ 472).

والرغبة والرهبة، وغير ذلك من أنواع العبادة التي ذكر الله في كتابه العزيز أمرا وترغيبا للعباد أن يعبدوا بها ربهم وحده. وهي اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنية والظاهرة. وكل فرد من أفراد العبادة لا يستحق أن يقصد به إلا الله وحده، فمن صرفه لغير الله فقد أشركه في حق الله الذي لا يصلح لغيره، وجعل له ندا. وقد عمت البلوى بهذا الشرك الأكبر، بأرباب القبور، والأشجار، والأحجار، واتخذوا ذلك دينا زعموا أن الله -تعالى- يحب ذلك ويرضاه؛ وهو الشرك الذي لا يغفره الله كما قال -تعالى-: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} 1، وقال -تعالى-: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ} 2 وقال -تعالى- في معنى هذا التوحيد: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} 3 أي: أمر ووصى، وهذا معنى لا إله إلا الله، فقوله: {أَلَّا تَعْبُدُوا} 4 هو معنى لا إله في كلمة الإخلاص، وقوله: {إِلَّا إِيَّاهُ} 5:هو معنى الاستثناء في لا إله إلا الله، ونظائر هذه الآية في القرآن كثير كما سنذكر بعضه. وقال -تعالى-: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} 6: وهذا نهي عام يتناول كل مدعو من ملك أو نبي أو غيرهما، فإن أحدا نكرة في سياق النهي، وهي تعم. وأمثال هذه الآية كثير، كقوله -تعالى-: {قلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا} 7. وفي حديث معاذ الذي في الصحيحين: "فإن حق الله على العباد: أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا"8 وفيهما -أيضا-: "من مات وهو يدعو لله ندا دخل النار"9. وإخلاص العبادة لله -تعالى- هو التوحيد الذي جحده المشركون قديما وحديثا، ولما قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لقومه وغيرهم من

_ 1 سورة النساء آية: 48. 2 سورة المائدة آية: 72. 3 سورة الإسراء آية: 23. 4 سورة الإسراء آية: 23. 5 سورة الإسراء آية: 23. 6 سورة الجن آية: 18. 7 سورة الجن آية: 20. 8 البخاري: الجهاد والسير (2856) , ومسلم: الإيمان (30) , والترمذي: الإيمان (2643) , وابن ماجه: الزهد (4296) , وأحمد (3/ 260,5/ 228). 9 البخاري: تفسير القرآن (4497) , وأحمد (1/ 374,1/ 402,1/ 407,1/ 462,1/ 464).

أحياء العرب: "قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا"1، قالوا: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} 2 إلى قوله: {وَانْطَلَقَ الْمَلأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلاقٌ} 3، فعرفوا معنى لا إله إلا الله، وأنه توحيد العبادة، لكن جحدوه كما قال عن قوم هود: {قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ} 4، وقال -تعالى-، عن مشركي هذه الأمة: {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ} 5، عرفوا أن المراد من لا إله إلا الله: ترك الشرك في العبادة، وأن يتركوا عبادة ما سواه مما كانوا يعبدونه من ملك، أو نبي، أو شجر، أو حجر، أو غير ذلك. فإخلاص العبادة لله هو أصل دين الإسلام الذي بعث الله به رسله، وأنزل به كتبه؛ وهو سر الخلق، قال -تعالى- لنبيه: {قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ} 6، وقال -تعالى-: {وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} 7. فإسلام الوجه هو إخلاص الأعمال الباطنة والظاهرة، كلها لله، وهذا هو توحيد الألوهية وتوحيد العبادة وتوحيد القصد والإرادة؛ ومن كان كذلك فقد استمسك بالعروة الوثقى، وهي لا إله إلا الله. فإن مدلولها نفي الشرك وإنكاره، والبراءة منه، وإخلاص العبادة لله وحده، وهو معنى قول الخليل: {إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} 8. وهذا هو الإخلاص الذي هو دين الله، الذي لم يرض لعباده دينا سواه، كما قال -تعالى-: {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} 9 والدين هو العبادة، وقد فسره أبو جعفر بن جرير في تفسيره بالدعاء، وهو بعض أفراد العبادة كما

_ 1 أحمد (3/ 492). 2 سورة ص آية: 5. 3 سورة ص آية: 6. 4 سورة الأعراف آية: 70. 5 سورة الصافات آية: 35. 6 سورة الرعد آية: 36. 7 سورة لقمان آية: 22. 8 سورة الأنعام آية: 79. 9 سورة الزمر آية: 2.

في السنن من حديث أنس: "الدعاء مخ العبادة"1، وحديث النعمان ابن بشير: "الدعاء هو العبادة"2 أي: معظمها، وذلك أنه يجمع من أنواع العبادة أمورا سنذكرها -إن شاء الله تعالى-. وقال -تعالى-: {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} 3، وقال -تعالى-: {فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} 4. والدعاء في هذه الآية هو الدعاء بنوعيه: دعاء العبادة، ودعاء المسألة، وقال: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} 5 والحنيف هو الراغب عن الشرك، المنكر له، وقد فسره ابن القيم -رحمه الله- بتفسير شامل لمدلول لا إله إلا الله فقال: الحنيف المقبل على الله، المعرض عن كل ما سواه، وهذا التوحيد هو الذي أنكره أعداء الرسل من أولهم إلى آخرهم؛ وقد بيّن -تعالى- ضلالهم بالشرك، كما قال -تعالى-: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلا حَيَاةً وَلا نُشُورًا} 6. [لا بد من توحيد الإلهية والربوبية معًا] وقال -تعالى-: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} 7، وهذا المذكور في هذه الآية هو توحيد الربوبية. ومشركو العرب والأمم لم يجحدوه، بل أقروا به لله، فصار حجة عليهم فيما جحدوه من توحيد الألوهية، ولهذا قال، بعد هذه الآية: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ} 8، وقال -تعالى-: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ} 9. والآيات في هذا المعنى كثيرة جدا، بل القرآن من أوله إلى أخره يدل على هذا التوحيد مطابقة وتضمنا والتزاما، وهو الدين الذي بعث به المرسلين من أولهم

_ 1 الترمذي: الدعوات (3371). 2 الترمذي: تفسير القرآن (2969) , وابن ماجه: الدعاء (3828). 3 سورة الزمر آية: 14. 4 سورة غافر آية: 22. 5 سورة البينة آية: 5. 6 سورة الفرقان آية: 3. 7 سورة الأحقاف آية: 4. 8 سورة الأحقاف آية: 5. 9 سورة الحج آية: 71.

إلى آخرهم كما قال -تعالى-: {وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ} 1، فدلت هذه الآية وما قبلها على أن الله -تعالى- إنما أراد من عباده أن يخلصوا له العبادة، وهي أعمالهم، ونهاهم أن يجعلوا له شريكا في عباداتهم وإراداتهم التي لا يستحقها غيره كما تقدم، قال -تعالى-: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} 2، وقال -تعالى-: {فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ} 3، وقال -تعالى-: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} 4، والمراد تطهيره عن الشرك في العبادة، ولهذا قال -تعالى-: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} 5. [معنى لا إله إلا الله كما فسرها القرآن] وقد بين الله -تعالى- في مواضع من القرآن معنى كلمة الإخلاص (لا إله إلا الله)، ولم يكل عباده في بيان معناها إلى أحد سواه، وهو صراطه المستقيم؛ كما قال: {وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} 6، وقال -تعالى-: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} 7، فعبر عن معنى لا إله بقوله: {إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ} 8، وعبر عن معنى إلا الله بقوله: {إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي} 9؛ فتبين أن معنى لا إله إلا الله هو البراءة من عبادة كل ما سوى الله، وإخلاص العبادة بجميع أنواعها لله -تعالى- كما تقدم. وهذا واضح بيّن لمن جعل الله له بصيرة ولم تتغير فطرته، فلا يخفى إلا على من عميت بصيرته بالعوائد الشركية، وتقليد من خرج عن الصراط المستقيم من أهل الأهواء والبدع والضلال: {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ

_ 1 سورة الأحقاف آية: 21. 2 سورة النساء آية: 36. 3 سورة الحج آية: 34. 4 سورة الحج آية: 26. 5 سورة الحج آية: 30. 6 سورة يس آية: 61. 7 سورة الزخرف آية: 26. 8 سورة الزخرف آية: 26. 9 سورة الزخرف آية: 27.

اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} 1. وقال -تعالى- في بيان معناها: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} 2 والمعنى: أيّ بعض كان، من نبي أو غيره كالمسيح ابن مريم، والعزير ونحوهما، وفي قوله: {أَلَّا نَعْبُدَ} 3 معنى لا إله وقوله: {إِلَّا اللَّهَ} 4 هو المستثنى في كلمة الإخلاص. وهذا التوحيد هو الذي دعا إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الكتاب وغيرهم من الإنس والجن كما قال -تعالى-: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} 5، وقد قال -تعالى- في معنى هذه الكلمة عن أصحاب الكهف: {وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ} 6. ففي قولهم: {وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ} 7 معنى لا إله، وقولهم: {إِلَّا اللَّهَ} هو المستثنى في كلمة الإخلاص وقال -تعالى-: {وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا} 8 إلى قوله: {لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ} 9، فتقرر بهذا أن الألوهية هي العبادة، وأن من صرف شيئا لغير الله فقد جعله لله ندا، والقرآن كله في تقرير معنى لا إله إلا الله، وما تقتضيه، وما تستلزمه، وذكر ثواب أهل التوحيد، وعقاب أهل الشرك، ومع هذا البيان الذي ليس فوقه بيان، كثر الغلط في المتأخرين من هذه الأمة في معنى هذه الكلمة، وسببه تقليد المتكلمين الخائضين؛ فظن بعضهم أن معنى لا إله إلا الله إثبات وجود الله -تعالى- ولهذا قُدّر الخبر المحذوف في لا إله إلا الله، وقالوا: لا إله موجود إلا الله، ووجوده -تعالى- قد أقر به المشركون الجاحدون لمعنى هذه الكلمة. وطائفة ظنوا أن معناها قدرته على الاختراع، وهذا معلوم بالفطرة، وما يشاهد من عظيم مخلوقات الله كخلق السموات والأرض، وما فيها من عجائب المخلوقات، وبه استدل الكليم موسى -عليه الصلاة والسلام-

_ 1 سورة النور آية: 40. 2 سورة آل عمران آية: 64. 3 سورة آل عمران آية: 64. 4 سورة آل عمران آية: 64. 5 سورة يوسف آية: 108. 6 سورة الكهف آية: 16. 7 سورة الكهف آية: 16. 8 سورة الكهف آية: 14. 9 سورة الكهف آية: 14.

على فرعون لما قال: {وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الأَوَّلِينَ} 1. وفي سورة بني إسرائيل: {قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَائِرَ} 2، ففرعون يعرف الله، ولكن جحده مكابرة وعنادا، وأما غير فرعون من أعداء الرسل من قومهم ومشركي العرب ونحوهم، فأقروا بوجود الله -تعالى- وربوبيته، كما قال -تعالى-: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} 3، وقال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} 4 فلم يدخلهم ذلك في الإسلام لما جحدوا ما دلت عليه لا إله إلا الله من إخلاص العبادة بجميع أفرادها لله وحده. وفي الحديث الصحيح: "من مات وهو يدعو لله ندا، دخل النار"5، وتقدم فيما تقدم من قول قوم هود: {قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ} 6 دليل على أنهم أقروا بوجوده، وربوبيته، وأنهم يعبدونه، لكنهم أبوا أن يجردوا العبادة لله وحده دون آلهتهم التي كانوا يعبدونها معه؛ فالخصومة بين الرسل وأممهم ليست في وجود الرب، وقدرته على الاختراع؛ فإن الفِطَر والعقول دلتهم على وجود الرب، وأنه رب كل شيء ومليكه، وخالق كل شيء، والمتصرف في كل شيء، وإنما كانت الخصومة في ترك ما كانوا يعبدونه من دون الله كما قال -تعالى-: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ} 7. وقال تعالى: {وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ

_ 1 سورة الشعراء آية: 23. 2 سورة الإسراء آية: 102. 3 سورة الزخرف آية: 9. 4 سورة الزخرف آية: 87. 5 البخاري: تفسير القرآن (4497) , وأحمد (1/ 374,1/ 402,1/ 407,1/ 462,1/ 464). 6 سورة الأعراف آية: 70. 7 سورة هود آية: 25.

تُرْجَعُونَ * وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} 1. [الشرك في هذه الأمة كسائر الأمم] فالشرك في العبادة هو الذي عمت به البلوى في الناس قديما وحديثا كما قال -تعالى-: {قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ} 2، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن هذه الأمة تأخذ مأخذ القرون قبلها شبرا بشبر وذراعا بذراع. ولهذا أنكر كثير من أعداء الرسل في هذه الأزمنة وقبلها على من دعاهم إلى إخلاص العبادة لله وحده، وجحدوا ما جحدته الأمم المكذبة من التوحيد، واقتدوا بمن سلف من أعداء الرسل في مسبتهم من دعاهم إلى إخلاص العبادة لله ونسبته إلى الخطأ والضلال، كما رأينا ذلك في كلام كثير منهم كابن كمال المشهور بالشرك والضلال، وقد كمل في جهله وضلاله وأتى في كلامه بأمحل المحال، وقد اشتهر عنه بأخبار الثقات أنه يقول: عبد القادر في قبره يسمع، ومع سمعه ينفع، وما يشعره أنه في قبره الآن رفات كحال الأموات. وهذا قول شنيع، وشرك فظيع، ألا ترى أن الحي الذي قد كملت قوته، وصحت حاسة سمعه وبصره، لو ينادى من مسافة فرسخ أو فرسخين لم يمكنه سماع نداء من ناداه، فكيف يسمع ميت من مسافة شهر، أو شهرين، أو دون ذلك، أو أكثر، وقد ذهبت قوته، وفارقته روحه، وبطلت حواسه؟! هذا من أعظم ما تحيله العقول، وتنكره الفطر، وفي كتاب الله عز وجل ما يبطله؛ قال الله-تعالى-: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} 3 فأخبر الخبير -جل وعلا- أن سماعهم ممتنع،

_ 1 سورة العنكبوت آية: 16. 2 سورة الروم آية: 42. 3 سورة فاطر آية: 13.

واستجابتهم لمن دعاهم ممتنعة. فهؤلاء المشركون لما استغرقوا في الشرك ونشئوا عليه أتوا في أقوالهم بالمستحيل، ولم يصدقوا الخبير في إخباره، وقال -تعالى-: {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} 1؛ فذكره -تعالى- أنهم أموات دليل على بطلان دعوتهم، وكذلك عدم شعورهم. يبين -تعالى- بهذا جهل المشرك وضلاله، فأحق عز وجل في كتابه الحق، وأبطل الباطل ولو كره المشركون، لكن هؤلاء لما عظم شركهم، نزلوا الأموات في علم الغيب منزلة علام الغيوب الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، وشبهوهم برب العالمين، سبحانه وتعالى عما يشركون، قال الله -تعالى-: {أَيُشْرِكُونَ مَا لا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ} 2. وليس عند هؤلاء الملاحدة ما يصدون به العامة عن أدلة الكتاب والسنة التي فيها النفي عن الشرك في العبادة، إلا قولهم: قال أحمد بن حجر الهيتمي، قال فلان، وقال فلان: يجوز التوسل بالصالحين، ونحو ذلك من العبارات الفاسدة. فنقول: هذا وأمثاله ليسوا بحجة تنفع عند الله، وتخلصكم من عذابه؛ بل الحجة ما في كتاب الله، وسنة رسوله- صلى الله عليه وسلم -الثابتة عنه، وما أجمع عليه سلف الأمة وأئمتها. وما أحسن ما قال الإمام مالك -رحمه الله-: أوَكلما جاءنا رجل أجدل من رجل، نترك ما نزل به جبريل على محمد صلى الله عليه وسلم لجدله. [التوسل الصحيح والباطل] إذا عرف ذلك، فالتوسل يطلق على شيئين: فإن كان ابن حجر وأمثاله أرادوا سؤال الله بالرجل الصالح فهذا ليس في الشريعة ما يدل على جوازه، ولو جاز لما ترك الصحابة -رضي الله عنهم- من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، التوسل بالنبي -صلى الله عليه

_ 1 سورة النحل آية: 20. 2 سورة الأعراف آية: 191.

وسلم- بعد وفاته كما كانوا يتوسلون بدعائه في حياته إذا قحطوا، وثبت عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه خرج بالعباس بن عبد المطلب عام الرمادة بمحضر من السابقين الأولين يستسقون، فقال عمر: اللهم إنا كنا إذا أجدبنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا، ثم قال: ارفع يديك يا عباس، فرفع يديه يسأل الله -تعالى-، ولم يسأله بجاه النبي-صلى الله عليه وسلم -ولا بغيره. ولو كان هذا التوسل حقا كانوا عليه أسبق، وعليه أحرص. فإن كانوا أرادوا بالتوسل دعاء الميت والاستشفاع به، فهذا هو شرك المشركين بعينه، والأدلة على بطلانه في القرآن كثيرة جدا؛ فمن ذلك قوله -تعالى-: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلا يَعْقِلُونَ قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} 1، فالذي له ملك السموات والأرض هو الذي يأذن في الشفاعة، كما قال الله -تعالى-: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} 2 وقال -تعالى-: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} 3، وهو لا يرضى إلا الإخلاص بالأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة كما صرح به النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة وغيره. وأنكر -تعالى- على المشركين اتخاذ الشفعاء فقال -تعالى-: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} 4، فبين -تعالى- في هذه الآية أن هذا هو شرك المشركين، وأن الشفاعة ممتنعة في حقهم لما سألوها من غير وجهها، وأن هذا هو شرك نزه نفسه عنه بقوله -تعالى-: {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} 5.

_ 1 سورة الزمر آية: 43. 2 سورة البقرة آية: 255. 3 سورة النجم آية: 26. 4 سورة يونس آية: 18. 5 سورة يونس آية: 18.

فهل فوق هذا البيان بيان؟ وقال -تعالى-: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} 1، فكفرهم بطلبهم من غيره أن يقربهم إليه، وقد تقدم بعض الأدلة على النهي عن دعوة غير الله والتغليظ في ذلك، وأنه في غاية الضلال، وأنه شرك بالله وكفر به، كما قال: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} 2. فمن أراد النجاة فعليه بالتمسك بالوحيين الذين هما حبل الله، وليدع عنه بنيات الطريق كما قال -تعالى-: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} 3، وقد مثل النبي صلى الله عليه وسلم الصراط المستقيم، وخط خطوطا عن يمينه، وعن شماله، وقال: "هذه هي السبل، وعلى كل سبيل شيطان يدعو إليه"4 والحديث في الصحيح وغيره عن عبد الله ابن مسعود، وكل من زاغ عن الهدى، وعارض أدلة الكتاب والسنة بزخرف أهل الأهواء فهو شيطان. [فصل في معارضة المشركين لدعوة التوحيد] فصل والعاقل إذا تأمل ما عارض به أولئك الدعاة إلى الشرك بالله في عبادته كابن كمال وغيره، من دعاء الناس إلى إخلاص العبادة لله وحده لا شريك له، فالعاقل يعلم أن معارضتهم له قد اشتملت على أمور كثيرة منها: (الأمر الأول): أنهم أنكروا ما جاءت به الرسل من توحيد العبادة، وما نزلت فيه الكتب الإلهية من هذا التوحيد؛ فهم في الحقيقة إنما عارضوا الرسل، والكتب المنزلة عليهم من عند الله.

_ 1 سورة الزمر آية: 3. 2 سورة المؤمنون آية: 117. 3 سورة الأنعام آية: 153. 4 أحمد (1/ 435) , والدارمي: المقدمة (202).

(الأمر الثاني): تضمنت معارضتهم قبول الشرك الأكبر ونصرته، وهو الذي أرسل الله رسله، وأنزل كتبه بالنهي عنه، وقد خالفوا جميع الرسل والكتب؛ فهم في الحقيقة قد أنكروا على من دان بهذا التوحيد، ودعا إليه من الأولين والآخرين. (الأمر الثالث): وقد تضمنت معارضتهم أيضا مسبة من دعا إلى التوحيد، وأنكر الشرك أسوة أعداء الرسل كقوم نوح إذ قالوا: {إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} 1، وقال قوم هود: {إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} 2 وقول من قال من مشركي العرب للنبي محمد صلى الله عليه وسلم {إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا} 3. فالظلم والزور في كلام هؤلاء المنكرين للتوحيد أمر ظاهر يعرفه كل عاقل منصف، فقد تناولت مسبتهم كل من دعا إلى الإسلام، وعمل به من الأولين والآخرين؛ كما أن من كذب رسولا بما جاء به من الحق فقد كذب المرسلين كما ذكره الله -تعالى- في قصص الأنبياء، فمن أنكر ما جاءت به الرسل فهو عدو لهم. (الأمر الرابع): وتضمنت معارضتهم -أيضا- الكذب والإفك والبهتان وزخرف القول في ذلك أسوة أعداء الرسل الذين قال الله فيهم: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الأِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا} 4. فهذه حال كل داعية إلى الشرك بالله في عبادته من الأولين والآخرين، فإذا تأمل اللبيب ما زخرفوه، وأتوا به من الفشر والأكاذيب، وجدها كما قال -تعالى-: {سَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} 5. (الأمر الخامس): معارضة أولئك للآيات المحكمات البينات التي

_ 1 سورة الأعراف آية: 60. 2 سورة الأعراف آية: 66. 3 سورة الفرقان آية: 4. 4 سورة الأنعام آية: 112. 5 سورة النور آية: 39.

هي في غاية البيان والبرهان، وبيان ما ينافي التوحيد من الشرك والتنديد، فعارضوا بقول أناس من المتأخرين لا يجوز الاعتماد عليهم في أصول الدين، فيقولون: قال ابن حجر الهيتمي، قال البيضاوي، قال فلان. ولا ريب أن الزمخشري وأمثاله من المعطلة أعلم من هؤلاء وأدرى في فنون العلم، لكنهم أخطؤوا كخطأ هؤلاء؛ وفي تفسير الزمخشري من دسائس الاعتزال ما لا يخفى، وليسوا بأعلم منه. وعلى كل حال فليسوا بحجة يعارض بها نصوص الكتاب والسنة، وما عليه سلف الأمة وأئمتها من الدين الحنيف الذي هو ملة إبراهيم الخليل -عليه السلام- ودين الرسل الذين قال الله -تعالى- فيه: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ} 1. فأولئك المعارضون للحق بمن ذكرنا وأمثالهم، فيهم شبه بمن قال الله فيهم: {وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} 2، وهذا على تقدير أنهم أصابوا في النقل عنهم، ولعلهم أخطؤوا وكذبوا عليهم، والله أعلم. والأدلة بالإجماع ثلاثة: الكتاب، والسنة وإجماع سلف الأمة وأئمتها. وأما القياس الصحيح فعند بعض العلماء حجة، إذا لم يخالف كتابا ولا سنة؛ فإن خالف نصا أو ظاهرا لم يكن حجة. وهذا هو الذي أجمع عليه العلماء سلفا وخلفا، وتفصيل ذلك في كتب أصول الفقه. لوازم معنى لا إله إلا الله وأما قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: "وكفر بما يعبد من دون الله" 3، فهذا شرط عظيم لا يصح قول لا إله إلا الله إلا بوجوده، وإن لم يوجد لم يكن من

_ 1 سورة الشورى آية: 13. 2 سورة الزخرف آية: 23. 3 مسلم: الإيمان (23) , وأحمد (3/ 472,6/ 394).

قال لا إله إلا الله معصوم الدم والمال، لأن هذا هو معنى لا إله إلا الله؛ فلم ينفعه القول بدون الإتيان بالمعنى الذي دل عليه من ترك الشرك والبراءة منه وممن فعله. فإذا أنكر عبادة كل ما يعبد من دون الله، وتبرأ منه، وعادى مَن فعل ذلك، صار مسلما معصوم الدم والمال؛ وهذا معنى قول الله -تعالى-: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} 1. وقد قيدت لا إله إلا الله في الأحاديث الصحيحة بقيود ثقال، لا بد من الإتيان بجميعها، قولا، واعتقادا، وعملا. فمن ذلك حديث عتبان الذي في الصحيح: "فإن الله حرم على النار من قال: لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله" 2، وفي حديث آخر: "صادقا من قلبه -خالصا من قلبه - مستيقنا بها قلبه -غير شاك" 3. فلا تنفع هذه الكلمة قائلها إلا بهذه القيود إذا اجتمعت له، مع العلم بمعناها ومضمونها، كما قال -تعالى-: {وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} 4. وقال -تعالى- لنبيه صلى الله عليه وسلم: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} 5، فمعناها يقبل الزيادة لقوة العلم، وصلاح العمل. فلا بد من العلم بحقيقة معنى هذه الكلمة علما ينافي الجهل، بخلاف من يقولها وهو لا يعرف معناها. ولا بد من اليقين المنافي للشك فيما دلت عليه من التوحيد. ولا بد من الإخلاص المنافي للشرك؛ فإن كثيرا من الناس يقولها وهو يشرك في العبادة، وينكر معناها، ويعادي من اعتقده وعمل به، ولا بد من الصدق المنافي للكذب، بخلاف حال المنافق الذي يقولها من غير صدق، كما قال -تعالى-: {يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ} 6. ولا بد من القبول المنافي للرد، بخلاف من يقولها ولا يعمل بها. ولا بد من المحبة لما دلت عليه من التوحيد والإخلاص وغير ذلك، والفرح بذلك المنافي

_ 1 سورة البقرة آية: 256. 2 البخاري: الصلاة (425) , ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (33). 3 مسلم: الإيمان (31). 4 سورة الزخرف آية: 86. 5 سورة محمد آية: 19. 6 سورة الفتح آية: 11.

لخلاف هذين الأمرين. ولا بد من الانقياد بالعمل بها وما دلت عليه، مطابقة وتضمنا والتزاما. وهذا هو دين الإسلام الذي لا يقبل الله دينا سواه. وأنت -أيها الرجل- ترى كثيرا ممن يدعي العلم والفهم قد عكس مدلول لا إله إلا الله، كابن كمال ونحوه من الطواغيت؛ فيثبتون ما نفته لا إله إلا الله من الشرك في العبادة، ويعتقدون ذلك الشرك دينا، وينكر ما دلت عليه من الإخلاص، ويشتم أهله، وقد قال -تعالى-: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} 1. وهذا النوع من الناس الذين قد فُتنوا وفَتنوا، يستجهلون أهل الإسلام، ويستهزئون بهم أسوة من سلف من أعداء الرسل، وقد قال الله -تعالى- في أمثال هؤلاء: {وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} 2. وأما ما سألت عنه من حديث: "خذ من القرآن ما شئت لما شئت" فهذا ليس بحديث، ولا يصح أن ينسب إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-. وأما حديث: "ويش الذي يغبا 3 يا رسول الله، قال: الذي ما كان"، فلا يجوز أن ينسب إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- هذا، كيف وقد قال الله -تعالى-: {وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} 4 فسماها غائبة، مع وجودها في السماء والأرض. وجوب تبليغ دعوة التوحيد حسب الاستطاعة (وأما المسألة الرابعة): فيمن يعرف التوحيد ويعتقده، ويقرأ في التفسير كتفسير البغوي ونحوه، فلا بأس أن يحدث بما سمعه وحفظه من العلم، ولو لم يقرأ في النحو. فمن المعلوم أن كثيرا من العلماء من المحدثين والفقهاء إنما كان دأبهم

_ 1 سورة الزمر آية: 2. 2 سورة الزمر آية: 45. 3 لعل المعنى: وأي شيء الذي يغيب إلخ. 4 سورة النمل آية: 75.

طلب ما هو الأهم، والنحو إنما يراد لغيره؛ فيأخذ الرجل منه ما يصلح لسانه. فانشر ما علمت من العلم خصوصا علم التوحيد، الذي هو في الآيات المحكمات كالشمس في نحر الظهيرة لمن رغب فيه، وأحبه، وأقبل عليه، وقد عرفت أن كتمان العلم مذموم بالكتاب والسنة، كما قال –تعالى-: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} 1 وقد أرشد الله–تعالى- عباده إلى تدبر كتابه، وذَمَّ مَنْ لم يتدبره، وقد قال –تعالى: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} 2. وأخبر عن جن نصيبين أنهم لما سمعوا قراءة النبي -صلى الله عليه وسلم- للقرآن بوادي نخلة منصرفة من الطائف: {وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ} 3 الآية، وأخبر -تعالى- عنهم في سورة الجن أنهم أنكروا الشرك الذي كان يفعله الإنس مع الجن من الاستعاذة بهم إذا نزلوا واديا. وأخبر تعالى عن هدهد سليمان أنه أنكر الشرك، وهو طائر من جملة الطير، قال -تعالى-: {فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَأٍ بِنَبَأٍ يَقِينٍ ِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} 4 الآية، فحدث الهدهد سليمان -عليه السلام- بما رآهم يفعلونه من السجود لغير الله، والسجود نوع من أنواع العبادة؛ فليت أكثر الناس عرفوا من الشرك ما عرفه الهدهد فأنكروه

_ 1 سورة البقرة آية: 159. 2 سورة العنكبوت آية: 51. 3 سورة الأحقاف آية: 29. 4 سورة النمل آية: 22.

وعرفوا الإخلاص فالتزموه. وبالله التوفيق، فسبحان من غرس التوحيد في قلب من شاء من خلقه، وأضل من شاء عنه بعلمه وحكمته وعدله!!. وأما الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فهو فرض باليد واللسان والقلب مع القدرة: فأما فرضه باليد واللسان فإنه من فروض الكفايات؛ إذا قام به طائفة سقط عن الباقين، وإن تركوه كلهم أثموا. وأما القلب فلا يسقط عنه بحال، قال الله -تعالى-: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} 1، وقال في حق من تركه: {كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} 2. وفي الحديث الصحيح: "من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان" 3 وفي رواية: "وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل" 4. وأما ما ذكرت بعد ذلك من الأسئلة في مخالطة المشركين، وأهل البدع فإن كان لك قدرة على الهجرة عنهم وجبت عليك، لما فيها من حفظ الدين ومفارقة المشركين والبعد عنهم. وأما من كان من المستضعفين الذين لا قدرة لهم على الهجرة، فعليه أن يعتزلهم ما استطاع، ويظهر دينه، ويصبر على أذاهم، فقد قال -تعالى-: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ} 5 الآية، والله المستعان. وأما السؤال عن قوله -تعالى-: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالأِيمَانِ} 6 فالآية نزلت في شأن عمار بن ياسر لما عذبه مشركو مكة، وحبسوه في بئر ميمون، وأكرهوه على كلمة كفر، فقالها تخلصا

_ 1 سورة آل عمران آية: 104. 2 سورة المائدة آية: 79. 3 مسلم: الإيمان (49) , والترمذي: الفتن (2172) , والنسائي: الإيمان وشرائعه (5008,5009) , وأبو داود: الصلاة (1140) , وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها (1275) والفتن (4013) , وأحمد (3/ 10,3/ 20,3/ 49,3/ 52,3/ 54,3/ 92). 4 مسلم: الإيمان (50). 5 سورة العنكبوت آية: 10. 6 سورة النحل آية: 106.

من عذابهم، فسئل النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: "فإن عادوا فعد" وهذا قبل وجوب الهجرة، فأنزل الله هذه الآية. وأما حديث: "أنا بريء من مسلم بين أظهر المشركين؛ لا تراءى ناراهما" فهذا في حق من له قدرة على البعد عنهم، وأما من لا يمكنه البعد عنهم بحيث لا يقدر على ذلك بوجه من الوجوه، فلا. وأما حديث: "من أنكر فقد برئ، ومن كره فقد سلم، ولكن من رضي وتابع، فأولئك هم الهالكون" 1 فقد تقدم بيان ذلك في معنى حديث: "من رأى منكم منكرا فليغيره بيده" 2. فالإنكار يجب مع الاستطاعة، والكراهة هي أضعف الإيمان؛ وأما الرضى بالمنكر والمتابعة عليه فهو الهلاك الذي لا يرجى معه فلاح، والله أعلم. ونسأل الله -تعالى- الثبات على الإيمان، وأن لا يزيغ قلوبنا عنه بعد إذا هدانا إليه، وصلى الله على سيد المرسلين وإمام المتقين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين. آمين، آمين، آمين.

_ 1 مسلم: الإمارة (1854) , والترمذي: الفتن (2265) , وأبو داود: السنة (4760) , وأحمد (6/ 295,6/ 305). 2 مسلم: الإيمان (49) , والترمذي: الفتن (2172) , والنسائي: الإيمان وشرائعه (5008,5009) , وأبو داود: الصلاة (1140) , وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها (1275) والفتن (4013) , وأحمد (3/ 10,3/ 20,3/ 49,3/ 52,3/ 54,3/ 92).

الرسالة الثالثة: بيان ما في البردة مما يخالف الدين

الرسالة الثالثة: بيان ما في البردة مما يخالف الدين بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الرحمن بن حسن بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب إلى الأخ عبد الله بن محمد. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وما ذكرت أنا ننصركم، فبلدكم بعيد لا يستطاع الوصول إليها، وأما نصرتكم بالحجة والبيان فالله تعالى قد قال في كتابه: {وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا} 1. والخصومة بينكم وبين الضد في عبادتهم غير الله -تعالى- من الأموات الذين لا يملكون لأنفسهم ضرا ولا نفعا، كما قال -تعالى-: {قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ} 2. وقد كان جل عبادتهم لهم في الرغبات والرهبات بالدعاء والاستغاثة، وقد قال -تعالى-: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} 3، و {أحدا} نكرة في سياق النهي تعم كل مدعو من دون الله، كالأنبياء ومن دونهم. وقد أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يعبد ربه وحده بالدعاء وغيره من أنواع العبادة، قال الله -تعالى- آمرا نبيه أن يدعو أمته أن يخلصوا الدعاء لربهم وخالقهم، فقال -تعالى-: {قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ} 4، وقال -تعالى-: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ} 5 فبين -تعالى- أنه المستحق لدعوة الحق، وأن الذين يدعون من دونه لا يستجيبون لهم بشيء، وأن دعوة غيره ضلال؛ والضلال ضد الهدى، وكفّرهم بذلك، وقال -تعالى-: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} 6.

_ 1 سورة الفرقان آية: 33. 2 سورة المائدة آية: 76. 3 سورة الجن آية: 18. 4 سورة الرعد آية: 36. 5 سورة الرعد آية: 14. 6 سورة المؤمنون آية: 117.

فكفّر من يدعو غيره في هاتين الآيتين، وقال: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} 1, وقال -تعالى-: {إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} 2. فهذه الآيات تقصم ظهر المشرك الملحد؛ فمن تمسك بها غلب خصمه المشرك كما قال شيخنا -رحمه الله تعالى-: "والعامي من الموحدين يغلب ألفا من علماء هؤلاء الشياطين". وما ذكرت من أنهم يأتون بفتاوى من علماء مكة، فليس مع من عارض أدلة التوحيد إلا شبهات شياطين؛ وقد كتبنا نسخة في هذا المعنى ردا على من زعم أن الاستمداد بالأموات جائز، وفيها كفاية لأهل الحق. ترك الحديث الصحيح والعمل بالمذهب وأما ما سألت عنه فيمن أنكر الحكم برجحان العمل بالحديث الصحيح في مقابلة المذهب الملتزم، فهذا من محدثات الأمور التي ما أنزل الله بها من سلطان قال -تعالى-: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} 3، وقال -تعالى-: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} 4 الآية. وهذا أصل عظيم من أصول الدين، قال العلماء -رحمهم الله-: "كل يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-"، وهذا قول الإمام مالك رحمه الله. وهذا القول الذي يقوله هؤلاء يفضي إلى هجران الكتاب والسنة، وتبديل أحكام النصوص كما فعل أهل الكتاب من اليهود والنصارى؛ والكتاب والسنة شفاء وهدى لمن أصغى إليهما.

_ 1 سورة الأحقاف آية: 5. 2 سورة فاطر آية: 14. 3 سورة الأعراف آية: 3. 4 سورة النساء آية: 59.

ومن طلب الحق منهما ناله وفهمه، وقد قال -تعالى-: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الأَلْبَابِ} 1، والأمر بتدبره، والتذكر ليس مخصوصا بالعلماء المجتهدين، بل عام لكل من ناله 2 فهم يدرك به معنى الكلام. والتقليد المفضي إلى هذا الإعراض عن تدبر الكتاب والسنة فيه شبه بمن قال الله فيهم: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} 3. وقوله: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} 4 وأهل الاجتهاد من العلماء، وإن كانوا معذورين باجتهادهم، إنما هو في معنى أدلة الكتاب والسنة، وينهون عن تقليدهم، فالأئمة -رحمهم الله- اجتهدوا ونصحوا؛ قال الإمام الشافعي: إذا جاء الحديث بخلاف قولي فاضربوا بقولي الحائط، فهو مذهبي. الفرق بين الشرك الأكبر والأصغر وأما قولكم: الفرق بين الشرك الأكبر والأصغر فالأصغر: كيسير الربا والحلف بغير الله، وقول الرجل: أنا في حسبك، ولولا الله وأنت، وأن يجاهد ويأمر بالمعروف لطلب رياسة أو مال أو وظيفة، كمن يتعلم العلم لوظيفة المسجد، أو يقرأ القرآن ليسأل الناس به، أو يبيع الختمات، أو يحج ليأخذ المال، أو يتصدق ليكثر ماله، أو نحو ذلك، وهذا إنما يتبين بالتمثيل والحد لا بالعد. وأما الشرك الأكبر، فهو اتخاذ الأنداد من أرباب القبور والغائبين، ومخاطبتهم بالحوائج، والذبح لهم، والنذر، واعتقاد أنهم ينفعون ويدفعون، وكاتخاذ الأشجار والأحجار والأصنام لجلب الخير ودفع الضر بها، وغير ذلك؛ وهو كثير جدا، وهو أن يرغب إلى شيء أو يدعوه أو يخافه أو يرجوه، أو يعكف عند القبر تعظيما له، ونحو ذلك. وأمور الشرك، أكبره، وأصغره لا تدرك بالعد، لكن الشرك الأكبر يخرج من الملة ويحبط الأعمال، لأنه أعظم ذنب عصي الله به، وهو أظلم الظلم،

_ 1 سورة ص آية: 29. 2 حاشا الفهم المخالف لفهم السلف، فإن هذا أصول جهم وشيعته. 3 سورة التوبة آية: 31. 4 سورة الشورى آية: 21.

لأن المشرك أخذ حق الله ووضعه فيمن لا يستحقه. وأما الشرك الأصغر فهو أكبر من الكبائر لقول النبي -صلى الله عليه وسلم- لمن رأى في يده حلقة من صفر فقال: "ما هذه؟ قال: من الواهنة، فقال: انزعها، فإنها لا تزيدك إلا وهنا، فإنك لو مت -وهي عليك- ما أفلحت أبدا"1. ولا يكفَّر الشرك أكبره وأصغره إلا بالتوبة منه قبل الممات، والأصغر لا يكفِّره في الدار الآخرة إلا كثرة الحسنات، لأن الأصغر لا يحبط إلا العمل الذي وقع فيه خاصة. [الذهاب إلى المقابر التي بني عليها القباب] وأما قولكم في الذهاب إلى المقابر التي بني عليها القباب، وأوقد فيها المصباح. فالجواب: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لعن اليهود والنصارى وقال: "لعنة الله على اليهود والنصارى؛ اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد"2، وقال: "لعن الله زوارات القبور، والمتخذين عليها المساجد والسرج"3. وبناء القباب على القبور وإسراجها، وسيلة إلى عبادتها والخضوع لها، والتذلل والتعظيم، وسؤالها ما لا يقدر عليه إلا الله؛ وفي الحديث الذي رواه مالك في الموطأ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد؛ اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد"4. [استغاثة الأحياء بالأموات] وأما مسألة استغاثة الأحياء بالموتى في طلب الجاه والسعة والرزق والأولاد، مثل أن يقال عند القبور: أن تدعوا الله في رفع فقرنا، وبسط رزقنا، وكثرة أولادنا وشفاء مريضنا؛ لأنكم سلف مستجابو الدعوات عند الله. فالجواب: هذا من الشرك الأكبر الذي لا يغفره الله، وهذا شرك في الربوبية والألوهية، وقد كان شرك المشركين في جاهليتهم بطلب الشفاعة والقربة. وأما طلب الرزق والأولاد وشفاء المرضى، فقد أقروا بأن آلهتهم لا تقدر على ذلك، كما قال -تعالى-: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّنْ

_ 1 ابن ماجه: الطب (3531) , وأحمد (4/ 445). 2 البخاري: الصلاة (436) , ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (531) , والنسائي: المساجد (703) , وأحمد (6/ 34,6/ 255) , والدارمي: الصلاة (1403). 3 الترمذي: الصلاة (320) , والنسائي: الجنائز (2043) , وأبو داود: الجنائز (3236) , وابن ماجه: ما جاء في الجنائز (1575) , وأحمد (1/ 229,1/ 287,1/ 324,1/ 337). 4 مالك: النداء للصلاة (416).

يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ} 1. فأقروا لله تعالى أنه الخالق الرازق المدبر لجميع الأمور، وقال: {أمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} 2 أي: يفعل ذلك؛ فأقروا لله بذلك، وصار إقرارهم حجة عليهم في اتخاذهم الشفعاء. وقد قال -تعالى- في فاتحة الكتاب: {إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} 3 أي: لا نعبد إلا إياك، ولا نستعين إلا بك؛ فهو المعبود وحده، وهو المستعان. وقد تقدم ما يبين أن الدعاء مخ العبادة، لأن الله -تعالى- نهى عن دعوة غيره، وأخبر أن المدعو لا يستجيب لداعيه، وأنه شرك وضلال، وأنه كفر بالله. وقد أوضحنا ذلك في الجواب في إبطال دعوة المدعي جواز الاستمداد بالأموات، ومن قال: إن الميت يسمع ويستجيب، فقد كذب على الله {وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكَافِرِينَ} 4، وقال -تعالى-: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ} 5 فأخبر -تعالى- أنه لا أضل ممن يدعو أحدا من دون الله غير الله، وما أخبر أن المدعو لا يستجيب، وأنه غافل عن الداعي ودعوته، وأنه عدوه يوم القيامة. فأهل التوحيد أعداء أهل الشرك في الدنيا والآخرة، قال الله -تعالى-: {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ فَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ} 6، فأخبر -تعالى- أن آلهتهم تبرأ منهم بين يدي الله ومن عبادتهم، ويستشهدون الله على أنهم في حال دعوتهم لهم غافلون لا يسمعون ولا يستجيبون. وهذا كتاب الله هو الحاكم بيننا، وبين جميع من

_ 1 سورة يونس آية: 31. 2 سورة النمل آية: 62. 3 سورة الفاتحة آية: 5. 4 سورة الزمر آية: 32. 5 سورة الأحقاف آية: 5. 6 سورة يونس آية: 28.

أشرك بالله من الأولين والآخرين، وليس فعل أحد من الناس، ولو من يظن أنه عالم يكون حجة على كتاب الله؛ بل القرآن هو الحجة على كل أحد، فلا تغتروا بقول بعضهم: قال فلان، وفعل فلان. [التحذير من دلائل الخيرات والبردة والهمزية] وأما السؤال عن دلائل الخيرات، فيكفي عن دراستها ما وردت به السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل عن كيفية الصلاة قال: "قولوا: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد"1 إلخ، وقد قال بعض العلماء لما قيل له: إن الشيخ محمد بن عبد الوهاب أحرق دلائل الخيرات، استحسن ذلك، فقال: وحرق عمدًا للدلائل دفترًا ... أصاب ففيها ما يجل عن العد غلو نهى عنه الرسول وفرية ... لا مرية فاتركه إن كنت تستهدي أحاديث لا تعزى إلى عالم فلا ... تساوي فليسًا إن رجعت إلى النقد وأما السؤال عن البردة للبوصيري والهمزية وأمثالهما في المديح، فالمنكر من ذلك ما كان فيه شرك، كقول صاحب البردة: "يا أكرم الخلق مالي من ألوذ به سواك"، فدعا غير الله، ولاذ به من دون الله، والدعاء مخ العبادة، واللياذ نوع من أنواع العبادة كالعياذ، وقد جاء النبي صلى الله عليه وسلم بتغيير ما كان عليه أهل الجاهلية من الاستعاذة بالجن إذا هبطوا واديا، يقولون: نعوذ بسيد هذا الوادي من سفهاء قومه، كما قال -تعالى-: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْأِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا} 2 أي: طغيانا. فشرع النبي صلى الله عليه وسلم لأمته قصر الاستعاذة على الله وأسمائه وصفاته، فقال في حديث خولة بنت حكيم، وهو في الصحيح: "من نزل منزلا، فقال: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق، لم يضره شيء حتى يرحل من منزله ذلك"3. وكذلك قول صاحب البردة:

_ 1 البخاري: أحاديث الأنبياء (3370) , ومسلم: الصلاة (406) , والترمذي: الصلاة (483) , والنسائي: السهو (1287,1288) , وأبو داود: الصلاة (976) , وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها (904) , وأحمد (4/ 241,4/ 244) , والدارمي: الصلاة (1342). 2 سورة الجن آية: 6. 3 مسلم: الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2708) , والترمذي: الدعوات (3437) , وابن ماجه: الطب (3547) , وأحمد (6/ 378,6/ 409) , والدارمي: الاستئذان (2680).

إن لم تكن في معادي آخذًا بيدي ... فضلا وإلا فقل يا زلة القدم وقوله: فإن من جودك الدنيا وضرتها ... ومن علومك علم اللوح والقلم فكل هذا شرك محرم بالكتاب والسنة. فما كان من جنس ذلك وجب إنكاره والنهي عنه وتغييره بطمسه؛ وهذا يتبين بما تقدم من الآيات المحكمات في النهي عن دعوة غير الله، والرغبة، والتوكل عليه، ورجاه. وأما الإجماع، فقد حكاه شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- فقال: من جعل بينه وبين الله وسائط يدعوهم، ويسألهم، ويتوكل عليهم كفر إجماعا، وأما البدعة المنهي عنها فكل ما حدث بعد النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ولا دل عليه قول؛ من النبي ولا فعل، وكذلك أصحابه الذين هم أحرص الأمة على فعل الخير، فكل ما حدث بعدهم في العبادات، وغيرها من أمور الدين فهو بدعة لقول النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه في خطبته: "وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة"1. وبسط القول في هذا يستدعي كتابا ضخما، لكن في أصول الأدلة ما يكفي المسافر إلى الله على صراط مستقيم، وكل ما لم يفعله أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم مما حدث بعدهم، فالجواب أن يقال: لو كان خيرًا ما سبقونا إليه. [السفر إلى قبر النبي] وأما السؤال عن السفر إلى قبر النبي -صلى الله عليه وسلم- فقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى"2، فالنهي عن شد الرحال إلى غير الثلاثة لفظ عام يتناول المساجد وغيرها، وفحوى الخطاب يدل عليه، لأن غير المساجد من باب أولى، ولكن إذا نوى الإنسان

_ 1 أبو داود: السنة (4607) , والدارمي: المقدمة (95). 2 أحمد (6/ 7).

السفر إلى مسجده حصلت زيارة القبر الشريف تبعا، فإنه إذا وصل إلى المسجد سلم على النبي -صلى الله عليه وسلم- من قرب، فيكون قد أخذ بعموم الحديث، وحصلت له الزيارة من غير أن يخصها بشد الرحال المنهي عنه. [الرسوم والعادات الجارية عند الأعاجم] وأما السؤال عن الرسوم والعادات التي شاعت وذاعت في الأعاجم -سيما في مشايخهم- إذا مرض أحدهم يخفون ويحيطون فيقرؤون شيئا من الآيات بحساب وأعداد معلومات، فإذا انتهى قالوا: يا قاضي الحاجات، ويا كاشف الكربات، ثم يأتون بالأطعمة النفيسة فيأكلونها بأجمعهم. فالجواب: أن الذي وردت به السنة دعاء العائد له وحده من غير تكلف ولا اجتماع، فإن شاء رقاه بما وردت به السنة، كما قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه لمَن نخستها عينها، إنما يكفيك أن تقولي: أذهب الباس رب الناس، واشف أنت الشافي لا شفاء إلا شفاؤك؛ شفاء لا يغادر سقما، هذا جنس المشروع. وأما على هذه الكيفية التي ذكرها السائل فبدعة تجري مجرى ما ذكره الله -تعالى- ردا على من ابتدع في دينه، فقال: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} 1. وأما ما ذكره السائل من أنه إذا مات أحدهم يتصدق أقاربه وعشائره، ويذبحون الذبائح، ويطبخون الطعام، ويفرشون الحرير، ويدعون الناس كلهم، الغني والفقير، فليس هذا من دين الإسلام؛ بل هو بدعة وضلالة ما أنزل الله بها من سلطان. وهذا من جنس ما أحدثه اليهود والنصارى من التغيير والتبديل في شريعتهم، خالفوا به ما جاءت به أنبياؤهم؛ فيجب اجتناب ذلك المأتم وما في معناه.

_ 1 سورة الشورى آية: 21.

[شد الرحال إلى مكانات مشرفة للأنبياء والأولياء] وأما ما سألت عنه من شد الرحال إلى مكانات مشرفة للأنبياء والأولياء، هل ممنوع ومحذور، أم لا؟ فالجواب: لا ريب أن هذا مما نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي تقدم، وهو قوله: "لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد"1، فإذا كان تبرك للمحل المزور فهو من الشرك، لأنهم قصدوا بذلك تعظيم المزور كقصد النبي صلى الله عليه وسلم أو الولي لتعود بركته عليه بزعمهم. وهذه حال عباد الأصنام، سواء كما فعله المشركون باللات والعزى ومناة، فإنهم يقصدونها لحصول البركة بزيارتهم وإتيانهم إليها، وفي الحديث الذي رواه الترمذي عن أبي واقد الليثي قال: "خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حنين، ونحن حدثاء عهد بكفر، وللمشركين سدرة يعكفون عندها، وينوطون بها أسلحتهم يقال لها: ذات أنواط. فمررنا بسدرة، فقلنا: يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: الله أكبر، إنها السنن. قلتم، والذي نفسي بيده كما قالت بنو إسرائيل لموسى: اجعل لنا إلها كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون. لتركبن سنن من كان قبلكم"، فجعل التبرك بالأشجار مثل قول بني إسرائيل: {اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا} 2؛ وهذا هو جنس عبادة الأشجار والأحجار. وأما قول بعضهم: إن أمور التعظيمات خصصه الله -تعالى- للذات وسماه بالعبادة كالسجود والركوع، والقيام كقيام الصلاة، والتصدق بالصدقات والصيام باسمه، وقصد السفر إلى بيته من المكانات البعيدات، فهذا من وحي الشيطان وزخرفته التي ألقاها على ألسن المشركين، فجمع لهم الشرك، وتعظيمه، والغلو فيه، والبدع والضلالات. وكل هذا باطل

_ 1 أحمد (6/ 7). 2 سورة الأعراف آية: 138.

ما أنزل الله به من سلطان، {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى} 1. [بطلان شبهة المشركين في دعاء غير الله] وأما سؤاله عن رجل بنى في جوار قبر صالح لإفاضة الفيوضات عليه وإصابه البركات، ورجل جلس مراقبة على قبر صالح. (فالجواب) من أخبر هذا المغرور أن بركة هذا المدفون تفيض عليه، وهذا من جنس ما قبله مما زين الشيطان، وأجراه على ألسن المغرورين المفتونين الذين أعرضوا عن كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم؛ ولما قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم: ما شاء الله وشئت، قال: "أجعلتني لله ندا؟! قل: ما شاء الله وحده"، وقال: "اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد"2. وقد صان الله قبر نبيه -صلى الله عليه وسلم- بأن صار قبره في حجرته، حذرا من هذه الأمور التي نهى عنها، قالت عائشة: ولولا ذلك لأبرز قبره، غير أنه خشي أن يتخذ مسجدا، وقال صلى الله عليه وسلم: "إياكم والغلو، فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو"3. والضابط أن ما كان يفعل مع الميت من رفع الأصوات على جنازته، والتبرك به وبتربته، والنذر له، وغير ذلك من الشرك كالذبائح والنذور التي يقصد بها الميت، حرام، وهي مما أهل به لغير الله، كما صرح به القرآن؛ قال -تعالى-: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} 4. وقد تضمنت هذه الأفعال التي ذكرت الشرك والبدع والغلو في الدين وخالف أهلها وصادموا ما بعث الله به رسله وأنزل به كتبه من إخلاص العبادة بجميع أنواعها لله -تعالى-، وتوجيه الوجه والقلب إلى الله -تعالى- بجميع الإرادات الشرعية، والأحوال الدينية. وقد أبطل الله في

_ 1 سورة النجم آية: 23. 2 مالك: النداء للصلاة (416). 3 النسائي: مناسك الحج (3057). 4 سورة المائدة آية: 3.

كتابه التعلق على غيره كائنا من كان؛ قال الله -تعالى-: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} 1، وقال -تعالى-: {وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ} 2، وقال -تعالى-: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ} 3 إلى قوله {يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُ وَمَا لا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ * يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ} 4، وقال -تعالى-: {مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ} 5 الآية، وقال -تعالى-: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} 6، وقال -تعالى-: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} 7، إلى قوله: {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} 8. [أصل عبادة الأصنام] إذا عرفت ذلك وما في معناه من الآيات المحكمات، فهذه الشبهات التي اعتمدها كثير من جملة المشركين كلها باطلة، تصادم كتاب الله وسنة رسوله. وأول من زخرف هذه الشبهات، وزين للجهال التعلق على الأموات: زنادقة الفلاسفة الكفار، الدعاة إلى الخلود في عذاب النار كابن سينا والفارابي؛ فإنهم أدخلوا على كثير ممن ينتسب إلى العلم كثيرا من الفلسفة، وزخرفوا هذه الشبهات التي صارت في أيدي المشركين، وحاولوا بها إبطال ما في الكتاب والسنة من توحيد المرسلين، وخالص حق رب العالمين. فإن حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا، فمن التفت إلى الأموات يستمد منهم نفعا وتبركا بهم، فقد اتخذهم أربابا من دون

_ 1 سورة الحج آية: 62. 2 سورة يونس آية: 106. 3 سورة الحج آية: 11. 4 سورة الحج آية: 12. 5 سورة المائدة آية: 72. 6 سورة الحج آية: 31. 7 سورة النحل آية: 17. 8 سورة النحل آية: 20.

الله، قال الله -تعالى-: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ} 1 إلى قوله: {وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} 2. وقد أخبر -تعالى- عن عيسى ابن مريم أنه قال: {مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} 3، وهو دليل على أن من مات فلا اطلاع له على الأحياء ولا علم له بهم؛ فكيف يدعو من لا يعلم حاله، ولا يدري ما يفعله وما يقوله، وقد تقدم في الآيات المحكمات ما يدل على ذلك، وأن المدعو لا يسمع ولا يستجيب، فما هذه التعلقات الشركية التي هي أضل الضلال، وأمحل المحال إلا من وحي الشياطين، وزخرفة أعداء المرسلين كما قال -تعالى-: {كَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الأِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ} 4. وكل هذه التعلقات على الأموات والغائبين هي أعمال الشرك من المشركين قديما وحديثا، وهو شرك قوم نوح لما صوروا الأصنام على صور صالحيهم، قال من بعدهم: ما عظم أولنا هؤلاء إلا وهم يرجون شفاعتهم؛ فعبدوهم، أي بطلب الشفاعة منهم واستمداد البركة بهم. وهذا هو شرك العالم، وهم في آخر هذه الأمة أشد وأعظم. فاستمسك بأدلة القرآن، وسبيل أهل الإيمان. وقد عرفت أن عبادة الأشجار والقبور والأحجار بدعائهم لها باستمداد البركة منها في زعمهم، أنه أبطل الباطل، وأمحل المحال، كما دل عليه الكتاب والسنة.

_ 1 سورة آل عمران آية: 79. 2 سورة آل عمران آية: 80. 3 سورة المائدة آية: 117. 4 سورة الأنعام آية: 112.

وهذا الجواب يكفيك عما تقدم من السؤالات؛ فكل ما كان يفعل عند القبور من التعظيم لها ولأربابها، وقصدها، والتبرك بها، والدعاء عندها أو لها، كل هذا شرك وضلال. فتأمل قوله عن خليله -عليه السلام-: {يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} 1، والحنيف هو المقبل على الله، المعرض عن كل ما سواه. فهذه الأدلة التي ذكرنا تبطل كل ما تعلق به المشركون مما كانوا يفعلونه مع العزى ومناة، ومن ادعى جواز شيء من ذلك، أو أنه يحتمل الجواز، فيطالب بالدليل من كتاب الله وسنة رسوله على أن هذا جائز. ولا يخفى أنه ينافي الإخلاص لما فيه من الإقبال على غير الله، والرغبة إليه، وجلب النفع والدفع منه، وكل هذا مردود بالآيات المحكمات، والأحاديث الصحيحة كما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح أنه قال: "لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله"2. وكل ما كان يفعل هؤلاء مع الأموات، فليس فيه مستحب ولا مباح، إلا زيارة القبور من غير شد رحل لتذكر الآخرة، والاستعداد لما بعد الموت من الإخلاص، والعمل المشروع من غير تحر لإجابة الدعاء عندها. والصلاة إليها ولو كانت لله، فهذا محرم، سدا لذريعة الشرك، وحماية لجناب التوحيد. [عصمة الأنبياء] وأما قولهم في عصمة الأنبياء، فالذي عليه المحققون أنه قد تقع منهم الصغائر، لكن لا يقرون عليها؛ وأما الكبائر فلا تقع منهم. وكل ما قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مما ثبت عنه فهو حق، كما قال -تعالى-: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} 3، كذلك تقريراته حق.

_ 1 سورة الأنعام آية: 78. 2 البخاري: أحاديث الأنبياء (3445) , وأحمد (1/ 23,1/ 24). 3 سورة النجم آية: 3.

[الغلو في صالحي أهل القبور] وأما قول أبو الوفاء ابن عقيل -رحمه الله تعالى- فهو حق، وأعظمه خطاب الموتى بالحوائج، وكتب الرقاع فيها: يا مولاي افعل كذا وكذا، وأخذ تربتها والتبرك بها؛ فهذا الشرك الأكبر الذي لا يغفره الله. وقد كتبنا الأدلة على ذلك في الرد على الذي يقول بالإمداد من الموتى فطالعه، وفيه ما يكفي، ويميز الحق من الباطل. وأما ما ذكره ابن عقيل -رحمه الله- من إفاضة الطيب على القبور وشد الرحال إليها، فهو من إفراطهم وغلوهم في الآلهة التي يعبدونها من دون الله، وكلامه عندنا -رحمه الله- مُسَلَّم لأنه اشتمل على إنكار الشرك من التعلق بالأموات، واعتقاد أن لهم قدرة على قضاء الحاجات، وتفريج الكربات، ويخاطبونهم بذلك من قريب وبعيد لاعتقادهم أن لهم تصرفات، وأنهم يعلمون الغيب، وأن لهم قدرة على ما أرادوا؛ والقرآن كله من أوله إلى آخره ينكر ذلك عليهم، ويبين أنه شرك وكفر وضلال، ودليله من الكتاب والسنة، وإجماع أهل السنة والجماعة مذكور على صاحب الرد في الإمداد. وأما قول الأئمة الأربعة فذلك مذكور في مذاهبهم، في باب حكم المرتد في كل مذهب. وأما مسح الرقبة فقال أبو حنيفة: وجمهور الفقهاء بخلافه، لا يرون ذلك، وفيه حديث ضعيف. [دعاء القنوت] وأما دعاء القنوت فبعد الركوع، ورفع اليدين فيه جائز، والتكبير قبله محدث. [قصر العبادة والاستعانة على الله دون كل ما سواه] وأما الرسالة التي أرسلتموها إلينا، فالجواب عليها يصل إليكم -إن شاء الله-، ويظهر بطلانها بالتمسك بالآيات المحكمات والوقوف عندها، ويكفي في ردها ما في سورة الفاتحة في قوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} 1 من قصر العبادة والاستعانة على الله دون كل ما سواه، فإن غالط فأدلة النهي عن دعوة غير

_ 1 سورة الفاتحة آية: 5.

الله، وأنها شرك وكفر تكفي المتمسك بها، وذكرنا من الأدلة ما فيه كفاية. ولو تتبعنا ما في كتاب الله وسنة رسوله من دلائل التوحيد، وكلام السلف والخلف من أهل السنة، لاحتمل مجلدا ضخما ومجلدات. [رجل لا يتكلم بعد صلاة العصر والصبح] وأما السؤال عن رجل لا يتكلم بعد صلاة العصر إلى غروب الشمس، وبعد صلاة الصبح إلى طلوع الشمس. (فالجواب): ما ذكرتموه من قصة أبي بكر مع المرأة الأحمسية، وقال لها: إن هذا لا يحل، فتكلمت. [ما أحدثه المشايخ من المراقبات واللطائف] وأما ما أحدثه المشايخ من المراقبات واللطائف، فإن كانت مما جاءت به السنة، وفعله أصحاب رسول الله-صلى الله عليه وسلم -، فاقبلوه، وما لم يفعلوه، ولم يقم عليه دليل فدعوه، فإن "كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار"1. [استواء الله على العرش وعلوه على خلقه] وأما قول أهل التأويل للصفات: إن الله -تعالى- منزه عن الجهات، فهذه شبهة أرادوا بها نفي علو الرب على خلقه واستوائه على عرشه؛ وقد ذكر استواءه على عرشه في سبعة مواضع من كتابه؛ قال الله -تعالى-: {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} 2 في آية الكرسي، وغيرها من القرآن، فأثبت لنفسه العلو بأنواعه الثلاثة: علو القهر، وعلو القدر، وعلو الذات. ومن نفى علو الذات فقد سلب الله -تعالى- وصفه، وقد قال -تعالى-: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} 3، وقال: {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} 4، وقال: {تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} 5. وحديث المعراج الذي تواترت به السنة يدل على علو الله على خلقه، وأنه على عرشه فوق سماواته؛ وهذا مذهب سلف الأمة وأئمتها، ومن تبعهم من أهل السنة والجماعة، يثبتون لله ما أثبت لنفسه وما أثبته له رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من صفات كماله، ونعوت جلاله، على ما يليق بجلال الله

_ 1 النسائي: صلاة العيدين (1578) , والدارمي: المقدمة (206). 2 سورة البقرة آية: 255. 3 سورة فاطر آية: 10. 4 سورة النساء آية: 158. 5 سورة المعارج آية: 4.

الرسالة الرابعة: الفرق بين الإسلام والإيمان والإحسان

وعظمته، إثباتا بلا تمثيل، وتنزيها بلا تعطيل، تعالى الله عما يقول المحرفون المخرفون عن الحق علوًّا كبيرًا. والله المستعان، وعليه التكلان، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلى الله على سيد المرسلين، وإمام المتقين، وعلى آله وصحبه أجمعين. آمين. الرسالة الرابعة [الفرق بين الإسلام والإيمان والإحسان] بسم الله الرحمن الرحيم وسئل -قدس الله روحه-: ما الفرق بين الإسلام والإيمان؟ ومسألة في زيارة قبر النبي -صلى الله عليه وسلم-. فأجاب بقوله: (الجواب) وبالله التوفيق: قد فسر النبي صلى الله عليه وسلم الإسلام والإيمان في حديث جبرائيل، وفسر الإسلام في حديث ابن عمر، وكلاهما في الصحيح، فقال: "الإسلام: أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا"1، وقال: "الإيمان: أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، وباليوم الأخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره"2، وقال في حديث ابن عمر: "بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان وحج البيت"3، وفي رواية "والحج، وصوم رمضان"4. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: جعل النبي صلى الله عليه وسلم الدين ثلاث درجات: أعلاها الإحسان، وأوسطها الإيمان، ويليه الإسلام؛ فكل محسن مؤمن، وكل مؤمن مسلم، وليس كل مؤمن محسنا، ولا كل مسلم مؤمنا كما دلت عليه الأحاديث. انتهى كلامه -رحمه الله-.

_ 1 مسلم: الإيمان (8) , والترمذي: الإيمان (2610) , والنسائي: الإيمان وشرائعه (4990) , وأبو داود: السنة (4695) , وابن ماجه: المقدمة (63) , وأحمد (1/ 27,1/ 51). 2 البخاري: تفسير القرآن (4777) , ومسلم: الإيمان (10) , والنسائي: الإيمان وشرائعه (4991) , وابن ماجه: المقدمة (64) , وأحمد (2/ 426). 3 البخاري: الإيمان (8) , ومسلم: الإيمان (16) , والترمذي: الإيمان (2609) , والنسائي: الإيمان وشرائعه (5001) , وأحمد (2/ 26). 4 البخاري: الإيمان (8) , ومسلم: الإيمان (16) , والترمذي: الإيمان (2609) , والنسائي: الإيمان وشرائعه (5001) , وأحمد (2/ 120).

فإن قيل: قد فرق النبي -صلى الله عليه وسلم- في حديث جبريل بين الإسلام والإيمان، والمشهور عن السلف وأئمة الحديث أن الإيمان قول وعمل ونية، وأن الأعمال كلها داخلة في مسمى الإيمان، وحكى الشافعي على ذلك إجماع الصحابة والتابعين ومن بعدهم ممن أدركهم. فالجواب أن الأمر كذلك، وقد دل على دخول الأعمال في الإيمان: الكتاب والسنة؛ أما من الكتاب فكقوله -تعالى-: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} 1، وأما من الحديث فكقوله في حديث أبي هريرة المتفق عليه: "الإيمان بضع وسبعون شعبة؛ أعلاها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق. والحياء شعبة من الإيمان"2 وغير ذلك. فمن زعم أن إطلاق الإيمان على الأعمال الظاهرة مجاز، فقد خالف الصحابة والتابعين والأئمة، إذا عرفت ذلك، فاعلم أنه يجمع بين الأحاديث بأن أعمال الإسلام داخلة في مسمى الإيمان، شامل لها، ففسرت بالإسلام، وهي جزء مسمى الإيمان، لكون الإيمان شاملها، ولغيرها من الأعمال الباطنة والظاهرة. فإذا أفرد الإيمان في آية أو حديث دخل فيه الإسلام، وإذا قرن بينهما فسر الإسلام بالأركان الخمسة، كما في حديث جبريل، فسر الإيمان بأعمال القلب، لأنها أصل الإيمان ومعظمه؛ وقوته وضعفه ناشئان عن قوة ما في القلب من هذه الأعمال أو ضعفها، وقد يضعف ما في القلب من الإيمان بالأصول الستة حتى يكون وزن ذرة، كما في الحديث الصحيح: "أخرجوا من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان"3. فبقدر ما في القلب من الإيمان تكون الأعمال الظاهرة التي هي داخلة في مسماه، وتسمى

_ 1 سورة الأنفال آية: 2. 2 مسلم: الإيمان (35) , والترمذي: الإيمان (2614) , والنسائي: الإيمان وشرائعه (5005) , وأبو داود: السنة (4676) , وابن ماجه: المقدمة (57) , وأحمد (2/ 379,2/ 414,2/ 445). 3 البخاري: الإيمان (22) , ومسلم: الإيمان (184) , وأحمد (3/ 56).

إسلامًا وإيمانًا كما في حديث وفد عبد القيس حين قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: "آمركم بالإيمان بالله وحده؛ أتدرون ما الإيمان بالله وحده؟ قالوا: الله أعلم ورسوله، قال: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وأن تؤدوا خمس ما غنتم"1. فهذه الأعمال أُدخلت في الإيمان وهي الإسلام، لأن الإسلام اسم لجميع الأعمال الظاهرة والباطنة. فمن ترك شيئا من الواجبات، أو فعل شيئا من المحرمات نقص إيمانه بحسب ذلك، وهو دليل على نقصان أصل الإيمان، وهو إيمان القلب. قال شيخ الإسلام ابن تيمية في الكلام على الإسلام، والإيمان، والإحسان، وما بين الثلاثة من العموم والخصوص: أما الإحسان فهو أعم من جهة نفسه، وأخص من جهة أصحابه من الإيمان. والإيمان أعم من جهة نفسه، وأخص من جهة أصحابه من الإسلام. فالإحسان يدخل فيه الإيمان، والإيمان يدخل فيه الإسلام، والمحسنون أخص من المؤمنين، والمؤمنون أخص من المسلمين. انتهى. وهذا يبين ما قررناه، فحينئذ يتبين الإيمان الكامل الذي صاحبه يستحق عليه دخول الجنة والنجاة من النار، هو فعل الواجبات، وترك المحرمات، وهو الذي يطلق على من كان كذلك بلا قيد، وهو الإيمان الذي يسميه العلماء: الإيمان المطلق. وأما من لم يكن كذلك، بل فرط في بعض الواجبات أو فعل بعض المحرمات، فإنه لا يطلق عليه الإيمان إلا بقيد فيقال: مؤمن بإيمانه، فاسق بكبيرته، أو يقال: مؤمن ناقص الإيمان، لكونه ترك بعض واجبات الإيمان، كما في حديث أبي هريرة: "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن"2 أي ليس موصوفا بالإيمان الواجب الذي يستحق صاحبه

_ 1 البخاري: المغازي (4368) , ومسلم: الإيمان (17) , والترمذي: الإيمان (2611) , والنسائي: الإيمان وشرائعه (5031) , وأبو داود: الأشربة (3692). 2 البخاري: المظالم والغصب (2475) , ومسلم: الإيمان (57) , والترمذي: الإيمان (2625) , والنسائي: قطع السارق (4870,4871) , وأبو داود: السنة (4689) , وابن ماجه: الفتن (3936) , وأحمد (2/ 317,2/ 386) , والدارمي: الأشربة (2106).

الوعد بالجنة والمغفرة والنجاة من النار، بل هو تحت المشيئة، إن شاء الله غفر له، وإن شاء عذبه على ترك ما وجب عليه من الإيمان، وارتكابه الكبيرة. وقيل: هذا يوصف بالإسلام دون الإيمان، ولا يسمى مؤمنا إلا بقيد، وهذا الذي يسميه العلماء مطلق الإيمان، أي أنه أتى بالأركان الخمسة، وعمل بها باطنًا وظاهرًا. وهذا الذي قلنا من معنى الإسلام والإيمان هو مذهب الإمام أحمد -رحمه الله-، وطائفة من السلف والمحققين، وذهبت طائفة من أهل السنة أيضا إلى أن الإسلام والإيمان شيء واحد وهو الدين، فسمي إسلاما وإيمانا، فهما اسمان لمسمى واحد، والأول أصح، وهو الذي نصره شيخ الإسلام ابن تيمية في كتبه، فلا نلتفت إلى ما يخالف هذين القولين، والله أعلم. [شد الرحل إلى قبر النبي] وأما قول السائل: هل يحرم شد الرحل إلى قبر النبي -صلى الله عليه وسلم-؟ فالجواب: إن بعض العلماء قد قال: يجوز السفر إلى قبور الأنبياء والصالحين. وهذا القول لصاحب المغني، وبعض المتأخرين من الحنابلة والشافعية، وهؤلاء يحتجون بقوله: "فزوروها". وأما ما يحتج به بعض من لا يعرف الحديث من قوله: "من زارني بعد مماتي فكأنما زارني في حياتي". فهذا الحديث لا تقوم به حجة عند من له معرفة بعلل الحديث. وأما ما يقوله بعض الناس إنه حديث "من حج فلم يزرني فقد جفاني". فهذا لم يروه أحد من العلماء، ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمة الله عليه-، ومثله حديث "من زارني ضمنت له على الله الجنة". قال الشيخ: وهذا باطل أيضا باتفاق العلماء -رحمهم الله تعالى-. قال: والصحيح ما ذهب إليه المتقدمون كأبي عبد الله بن بطة، وأبي الوفا ابن عقيل، وطوائف من المتقدمين من أن

هذا السفر منهي عنه، لا تقصر فيه الصلاة، وهو قول مالك والشافعي وأحمد، وحجتهم ما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، والمسجد الأقصى، ومسجدي هذا"1. وهذا الحديث اتفق الأئمة على صحته، والعمل به في الجملة. فلو نذر الرجل أن يصلي في مسجد، أو مشهد، أو يعتكف فيه، أو يسافر إليه غير هذه الثلاثة لم يجب عليه ذلك باتفاق العلماء. ولو نذر أن يأتي مسجد النبي صلى الله عليه وسلم أو المسجد الأقصى لصلاة أو اعتكاف وجب عليه الوفاء بهذا النذر عند مالك والشافعي وأحمد -رحمهم الله تعالى-، كما نص عليه شيخ الإسلام. إذا عرفت أقوال العلماء في هذه المسألة، فاعلم أن الزائر إذا نوى بالزيارة التي فيها شد الرحل لسفر زيارة مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم صار ذلك به سفر طاعة بإجماع العلماء -رحمهم الله-، ويحصل له زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم تبعا إذا وصل المسجد، وفعل ما هو المشروع من البداءة بتحية المسجد، ثم سلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم والزيارة والسلام على صاحبيه -رضي الله عنهما-، وذلك لا محذور فيه بوجه، بل هو مصلحة محضة. فأي محذور في تحصيل المصلحة المطلوبة على وجه صحيح بالإجماع؟ والله أعلم. وصلى الله على محمد وآله وصحبه، وسلم تسليمًا كثيرًا.

_ 1 البخاري: الجمعة (1197) والصوم (1996) , ومسلم: الحج (827) , والترمذي: الصلاة (326) , وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها (1410) , وأحمد (3/ 78).

الرسالة الخامسة: رسالة أهل نجد والجواب عليها

الرسالة الخامسة [رسالة أهل نجد والجواب عليها] {بسم الله الرحمن الرحيم} الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، المعرضين عن الحق المبين، وصلى الله على سيد المرسلين، وإمام المتقين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وسلم تسليما. أما بعد: فإنه ألقي إلينا رسالة من الأحساء مشتملة على الكذب والبهتان، والإثم والعدوان، والله تعالى عند لسان كل قائل وقلبه، وهو المستعان. وهذه الرسالة قد صدرها صاحبها بشبهة تنبي عن شك من صدرت منه، وارتيابه في هذا الدين، الذي بعث الله به المرسلين. والشبهة هي بذاتها وحروفها وكلماتها، هي التي أوردها أهل نجد على شيخنا الشيخ محمد بن عبد الوهاب، لما دعاهم إلى أن يعبدوا الله وحده لا شريك له، ويتركوا عبادة ما كانوا يعبدونه من الأوثان والطواغيت كتاج وشمسان، ويخلعوا عبادة الأوثان، مثل عبادتهم لزيد بن الخطاب، وغيره من أرباب القبور، والأشجار، والأحجار. وممن أورد هذه الشبهة عليه: عبد الله المويس راعي* حَرْمَة، وابن إسماعيل في الوشم، وسليمان بن عبد الوهاب في العارض، وزعموا أن الأمة لا يقع فيها شرك، فرد عليهم -رحمه الله- بالكتاب والسنة، وبين أن هذا الذي يفعلونه هو الشرك الأكبر الذي لا يغفره الله، بالأدلة والبراهين من كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. وبين ضلال هؤلاء وأمثالهم، وظهرت حجته عليهم وعلى أمثالهم ممن اشمأز عن التوحيد؛ فانتشرت دعوته

_ * في الأصل المطبوع: (واعي حرمه)، ولعل الصواب ما أثبت. و (حرمة) بلدة في إقليم سدير تقع على بعد 195 كم تقريبًا شمال غرب مدينة الرياض. [معد الكتاب للمكتبة الشاملة]

في الآفاق، وأقر بصحتها الخلق الكثير، والجم الغفير، فأنقذ الله بدعوته من الشرك والضلال أكثر أهل نجد، وما والاها، وبعض الأقاليم البعيدة؛ فالحمد لله على ظهور الحق ودحوض الباطل. ثم إن صاحب هذه الرسالة أظهر الشبهة المشار إليها فقال رسالته، يعني رجلا كان يكرهه لدينه، ويظن به ما قد أظهره في رسالته، فقال: أيها الرجل الجاهل المعجب بنفسه، لقد غويت وجهلت باعتقادك في هذه الأمة المحمدية التي قال الله فيها: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} 1، وقال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} 2 أي عدلا خيارا. وقال صلى الله عليه وسلم: "ألا وإن هذه توفي سبعين أمة هي خيرها وأكرمها عند الله عز وجل". قلت: فترك من الآيتين ما هو دليل عليه، وحرف الحديث وغيره. ثم قال: إنك جعلتهم ما بين مشرك، ومبتدع، وفاسق، وجاهل، وظالم، ولا هنا مسلم حقيقي إلا أنت وكم نفر من الذي تشتهي، ولا سبقك أحد بهذا الاعتقاد. فأقول قبل الجواب: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، ما أعظم هذه الفرية وأبينها ضلالة! أليس الله تعالى قد بعث محمدا صلى الله عليه وسلم إلى الأحمر والأسود، والجن والإنس، فآمن به من آمن، وكفر به من كفر، ونافق من نافق، وأنزل الله عليه الكتاب والحكمة، وفي كل سورة من السور المكية محاجة المشركين، والرد عليهم، وبيان ضلالهم. ولما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة أمره الله بالجهاد، وافترضه عليه وعلى المؤمنين فقال: {فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ} 3، وسمى

_ 1 سورة آل عمران آية: 110. 2 سورة البقرة آية: 143. 3 سورة النساء آية: 84.

الله تعالى في كتابه من لم يؤمن به كفارًا ومشركين، وأحل له دماءهم وأموالهم، وسبي نسائهم وذراريهم، وهذا أظهر من الشمس في نحر الظهيرة. وإذا كان الأمر كذلك، فلا يخلو هذا المشبه الجاهل الغاوي من أحد أمور ثلاثة، إما أن يقول: إن الذين سماهم الله كفارا ومشركين ومنافقين ليسوا من أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وهذا لا يقوله أحد حتى الزنادقة والشياطين، أو يقول: إن المؤمن والكافر والمنافق والمبتدع كلهم من أمة محمد صلى الله عليه وسلم خير أمة أخرجت للناس، فهذا لا يقوله إلا من ضل عن القرآن وخرج من الإيمان، وغوى عن الحق والهدى، وسلك سبيل أهل الزيغ والردى؛ حيث جعل المشركين والكفار كالمقربين والأبرار، وسوى بين أهل الجنة وأهل النار. فإن رجع عن هذين الأمرين خصم نفسه وأبطل شبهته. والبصير يعرف حال هذا الرجل في دينه وجهله، وأنه لا يقول هذا الأمر إلا من لا عقل له ولا دين، لكن يتعين علينا الجواب مخافة أن تكون هذه الشبهة قد دخلت على بعض العوام، وعلى بعض من ينتسب إلى العلم من المستكبرين المعرضين عن هذا الدين. [تمييز أمة الإجابة من أمة الدعوة] فأقول وبالله التوفيق: قال الله تعالى: {حم * تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ} إلى قوله: {فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ} 1، فأخبر تعالى في هذه الآيات أن الأكثر أعرضوا عن هذا القرآن، الذي أوحاه الله إلى نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، فلم يقبلوا ما جاءهم به، وهم الذين بعث فيهم صلى الله عليه وسلم من قريش وغيرهم، لا ريب أنهم من أمته صلى الله عليه وسلم، فصاروا فريقين: فريق آمنوا واتبعوه، والأكثر أعرضوا عنه، ونصبوا له

_ 1 سورة فصلت، الآيات: 1 - 5.

العداوة ولأتباعه؛ وهؤلاء كثير منهم من مات على كفره، ومنهم من قتل ببدر وأحد والخندق. ولا يمكن أحد له أدنى مسكة من عقل أن يقول: إن هؤلاء ليسوا من أمة محمد صلى الله عليه وسلم، ولا يمكنه أيضا أن يقول: إنهم من خير أمة أخرجت للناس؛ فظهر بهذا الدليل الواضح أن خير الأمة هم المؤمنون، الذين استجابوا لله ولرسوله، من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان، وهم الموصوفون في هذه الآية بقوله: {تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} 1، فخص بالثناء على الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، وأنهم خصوص أهل الإيمان دون من عداهم من مشرك ومنافق ومرتاب، فليسوا من خير أمة ولا كرامة، بل هم شرار الأمة. وقد بعث الله نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون، فأقام بمكة ثلاث عشرة سنة يوحى إليه السور المكية، وكلها جدال مع المشركين، وبيان وإيضاح للتوحيد، وبينات ودلالات، فلما قامت الحجة على من تخلف عن الإيمان به، شرع الله الهجرة، وأمره بالقتال بالسيوف، وضرب الرقاب والهام لمن خالف القرآن وعانده. ولما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وجد فيها ثلاث قبائل من اليهود: بني النضير، وبني قينقاع، وبني قريظة، وفيها من الأوس والخزرج من آمن به واتبعه، وفيهم أهل العقبة الذين بايعوه بمنى على أن يؤووه وينصروه، وفيهم من لم يؤمن به ويتبعه من المنافقين. وقد بعثه الله تعالى إلى الأسود والأحمر من بني آدم كما قال تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} 2، وقال تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} 3. وكل أهل الملل من اليهود والنصارى

_ 1 سورة آل عمران آية: 110. 2 سورة الفرقان آية: 1. 3 سورة الأعراف آية: 158.

والمجوس والصائبة من أمته الذين أرسل إليهم، وكلهم من أمة محمد، وهم أمة الدعوة، قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} 1. فمن لم يؤمن بالنبي صلى الله عليه وسلم ولم يتبعه من هذه الملل الخمسة فهو في النار كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ} 2، فأخبر تعالى أنهم في النار خالدين فيها، وأنهم شر البرية، مع كونهم من هذه الأمة؛ فبطل بهذين الوجهين ما زعمه هذا الجاهل الغافل المغفل، الذي لم يرفع بدين الإسلام رأسا. [تأييد الرد بالأدلة] ومعلوم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل كعب بن الأشرف اليهودي، وأجلى بني قينقاع لما أرادوا الغدر به وذلك بعد وقعة أحد، وقتل بني قريظة لما ظاهروا المشركين يوم الخندق، وكل هؤلاء كفارن ولا ريب أنهم من أمة الدعوة لا من أمة الإجابة. فيلزم على ما اعتقده هذا الضال الجاهل أن أولئك اليهود من خير أمة أخرجت للناس، وهذا لا يقوله من عرف الإسلام من الكفر؛ ومن يميز بين الكفر والإسلام فإنه لا يدري ما يقول. وفي صحيح مسلم عن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "والذي نفسي بيده لا يسمع بي رجل من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم لا يؤمن بي إلا دخل النار"3 رواه الإمام أحمد أيضا. وعن أبي هريرة مثله. فدل هذا الحديث أن اليهود والنصارى من هذه الأمة، وأن من لم يؤمن برسول الله صلى الله عليه وسلم ويتبعه منهم فهو من أهل النار. وقد قال تعالى: {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ} 4، وقال

_ 1 سورة الحج آية: 17. 2 سورة البينة آية: 6. 3 مسلم: الإيمان (153) , وأحمد (2/ 317). 4 سورة التوبة آية: 5.

تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} 1، فأمر تعالى بقتال المشركين من العرب وأهل الكتاب، وهذا فرض على المسلمين، وحكم ثابت إلى يوم القيامة على كل من قام بالإسلام من هذه الأمة، فيجب عليه قتال المشركين وأهل الكتاب حتى يسلموا؛ فإن كانوا أهل كتاب وبذلوا الجزية أخذت منهم، واشترط عليهم ما اشترطه عمر بن الخطاب صاروا أهل ذمة. وقد قال صلى الله عليه وسلم في المجوس: "سنوا بهم سنة أهل الكتاب"2. وقد شرع الله تعالى جهاد الكفار والمشركين من أهل الكتاب وغيرهم، كما قال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا}، وقال تعالى: {فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا} 3. ففعل النبي صلى الله عليه وسلم ما أمره الله تعالى به، فقاتل من كفر من العرب وسبى النساء والذرية، وكذلك أهل الكتاب قتلهم بخيبر وسبى نساءهم، وبعث سراياه إلى الشام، وغزا النصارى حتى بلغ تبوك، فلم يلق كيدا فرجع، وهي آخر غزوة غزاها صلى الله عليه وسلم. وعن بريدة قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمر أميرا على جيش أو سرية أوصاه بتقوى الله تعالى ومن معه من المسلمين خيرا، ثم قال: اغزوا باسم الله في سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله"4 الحديث؛ وسيره صلى الله عليه وسلم وغزواته مبسوطة في كتب السير وكتب الحديث.

_ 1 سورة التوبة آية: 29. 2 مالك: الزكاة (617). 3 سورة محمد آية: 4. 4 مسلم: الجهاد والسير (1731) , والترمذي: الديات (1408) , وأبو داود: الجهاد (2613) , وابن ماجه: الجهاد (2858) , وأحمد (5/ 352,5/ 358) , والدارمي: السير (2439).

فعلم مما ذكرناه وغيره من أدلة الكتاب والسنة أن الكفار والمشركين كانوا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ومن أمته؛ ولهذا وجب قتالهم. وهذا أظهر من الشمس في نحر الظهيرة، لكن خفيت على الأعمى الذي لا يبصر. وتبين بهذا خطأ من زعم أنه للناس وهم الأمة الوسط، ولا ريب أن قائل هذا لا يعرف القرآن ولا الرسول، ولا عرف الإسلام من الكفر، لأنه جعل الكل شيئا واحدا، ولو كان له أدنى نهمة إلى الإسلام لما خفي عليه هذا، لأن ما في الكتاب والسنة من ذلك أظهر شيء وأبينه، لا يخفى إلا على من هو أبعد الناس عن الحق ومعرفته، ومن لا علم له بالكتاب والسنة، فمن أين يهتدي إلى معرفة الحق وقبوله؟ اللهم إنا نسألك العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة. وما زال الجهاد بالحجة واللسان والسيف والسنان قائما في هذه الأمة، على الكفار والمشركين والمنافقين، وأهل البدع والفساد إلى قرب قيام الساعة. وسيأتي الإشارة إلى ذلك قريبا. وأصل دين الإسلام معرفة الشرك، والبراءة منه وإنكاره، ومعاداة أهله، ومعرفة التوحيد على الحقيقة، وقبوله ومحبته، وموالاة أهله، ومن لم يكن كذلك فليس له في الإسلام نصيب؛ لأن من لم يعرف الشرك لم يعرف التوحيد، ومن لم يعرفه كيف يعمل به، فمن وجد خيرا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه. وأما ما استدل به من الآيتين فهما حجة عليه، وذلك أن الله وصف خير أمة أخرجت للناس بثلاث صفات، وهي لأهل الإيمان خاصة، وليس لأهل الكفر والشرك والنفاق والبدع والفسوق فيها نصيب، فقال: {تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} 1، كما قال تعالى في

_ 1 سورة آل عمران آية: 110.

سورة براءة: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} 1 الآيتين. ووصف المنافقين بعكس هذه الصفات فقال تعالى: {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} 2، فوصفهم بالنفاق تارة وبالكفر تارة. وقوله: {لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} 3 فوصفهم بهذه الصفات التي صاروا بها في الدرك الأسفل من النار، وقد كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم ويشهدون أن لا إله إلا الله، ويصلون ويجاهدون، فلم ينفعهم ذلك، لعدم إيمانهم وقبولهم لما بعث الله به ورسوله من الهدى والعلم. ولهذا أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم بجهادهم فقال: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} 4 في سورة براءة والتحريم. [بعثة الرسول بأربعة أسياف] وذكر العماد ابن كثير -رحمه الله- في تفسيره عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بأربعة أسياف: سيف للمشركين: {فَإِذَا انْسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} 5، وسيف للكفار أهل الكتاب: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} 6، وسيف للمنافقين: {جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ} 7، وسيف للبغاة: {فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} 8؛ وهذا يقتضي أنهم يجاهدون بالسيوف إذا أظهروا النفاق، وهو اختيار ابن جرير. قلت: فإذا كان المستحقون لهذه السيوف التي بعث بها رسول الله

_ 1 سورة التوبة آية: 71. 2 سورة التوبة آية: 67. 3 سورة التوبة آية: 66. 4 سورة التوبة آية: 73. 5 سورة التوبة آية: 5. 6 سورة التوبة آية: 29. 7 سورة التوبة آية: 73. 8 سورة الحجرات آية: 9.

صلى الله عليه وسلم موجودين في حياته والقرآن ينزل، فلأن يوجد بعده وبعد القرون المفضلة أولى وأحرى، كما لا يخفى على من له بصيرة ومعرفة بأحوال الأمة، ولا يخفى هذا إلا على من هو أجهل خلق الله وأتركهم لدين الله. [خطأ من قال ليس في الأمة كافر ولا مبتدع] وأما ما استدل به على شبهته الواهية والباطلة من الآيتين: آية البقرة وآية آل عمران، فهما من أظهر الحجة عليه في إبطال شبهته، فإن قوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} 1 إنما خاطب بها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فالخطاب بها متوجه إليهم، فإنهم هم الموصوفون بهذه الصفات. فهو مؤمن من خير أمة أخرجت للناس، وهم الموعودون في كتاب الله وسنة رسوله بالفوز بالجنة والنجاة من النار؛ بخلاف الكفار والمشركين والمنافقين، فإنهم أهل المنكر، يفعلونه ويأمرون به ويوالون أهله، ويتركون المعروف وينهون عنه ويعادون أهله، فهم أعداء الله وأعداء رسوله حيث كانوا. وقد كان جنسهم في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وفيهم نزل القرآن، ووجودهم فيما بعد خير القرون أكثر، كما لا يخفى على من له عقل، بخلاف من ليس له عقل ولا دين يقول: ليس في الأمة كافر ولا مشرك ولا مبتدع. فأين ذهب عقل؛ هذا الجاهل عن القرآن والسنة؟! فإن الله بيَّن أحوال الكفار والمشركين والمنافقين، ومقتهم ولعنهم، وأمر بجهادهم ما داموا على كفرهم وشركهم وضلالهم، في كل زمان ومكان. قال تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ} 2. فقل لهذا الجاهل المغفل الحيران المفتون: أين ذهب بك الشيطان عن معرفة ما في القرآن؟ وأما آية البقرة فهي أيضا حجة على هذا في إبطال شبهته وبيان

_ 1 سورة آل عمران آية: 110. 2 سورة الأنفال آية: 39.

جهله وضلاله، فإن الله تعالى قال: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} 1 أي: عدلا خيارا؛ والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وهم المعنيون بهذه الآية أيضا، ومن كان مثلهم من أهل الإيمان لحق بهم. وأما الكفار والمشركون والمنافقون فهم أعداء الأمة الوسط في كل زمان ومكان، ولا يمكن أحد أن يزعم أنهم من الأمة الوسط إلا مثل هذا الجاهل الذي يقول: ليس في الأمة كافر ولا مشرك ولا مبتدع ولا فاسق. فكيف يثبت لهذا إيمان بالقرآن وهو يقول هذه المقالة التي في غاية البطلان والانحراف عن سبيل أهل الإيمان؟ قال الشاعر: لا تبلغ الأعداء من جاهل ... ما يبلغ الجاهل من نفسه ويلزمه من هذا القول أن الصحابة أخطؤوا في قتالهم من قاتلوه من العرب وبني حنيفة وغيرهم من فارس والروم؛ لأن الكل ليس فيهم كافر ولا مشرك ولا مبتدع، وكلهم من أمة محمد صلى الله عليه وسلم: وكذلك كل من قاتل أهل الكتاب والمجوس والنصارى والمشركين فإنما قاتل الأمة الوسط الخيار، وهلم جرا إلى يومنا هذا. وعلى هذا القول يلزمه أن من قاتل من خرج عن الشريعة فهو مخطئ، لأنه ليس في الأمة مبتدع ولا مشرك. وأنت تجد مثل هذا تظهر كراهته لمن أمره بمعروف أو نهاه عن منكر على صفحات وجهه وفلتات لسانه، وتجده محبا لأهل المنكر مواليا لهم، معاديا لأهل المعروف؛ فما رأيت شبيها له إلا رجلا بمصر، رأيته وضع يده على نصراني فقال: هؤلاء أسيادنا. نعوذ بالله من الضلال والخذلان، والخروج عن سبيل أهل الإيمان، ولنذكر ما يزيد هذا المقام. قال العماد ابن كثير -رحمه الله- في تفسيره في معنى قول الله تعالى:

_ 1 سورة البقرة آية: 143.

{الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} 1: أخبر تعالى أن في الأعراب كفارا ومنافقين ومؤمنين، وأن كفرهم ونفاقهم أعظم من غيره، {وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} 2 أي: عليم بمن يستحق أن يعلمه الإيمان والعلم، الحكيم فيما قسم بين عباده من العلم والجهل والإيمان والكفر والنفاق، لا يسأل عما يفعل لعلمه وحكمته، وقوله: {وَمِنَ الأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ} 3: هذا هو القسم الممدوح من الأعراب. قلت: وهم الموصوفون بالإيمان والإخلاص، فتبين أن الأعراب وهم من أمة محمد صلى الله عليه وسلم فيهم المشرك والكافر، والمنافق والمؤمن؛ وما زالوا كذلك في كل زمان إلى يومنا هذا وبعده، وشرهم اليوم أكثر، وكفرهم أكبر وأظهر، فيلزمه على أصله أن كلهم من خير أمة أخرجت للناس ومن الأمة الوسط، وأن من قاتلهم لشركهم وكفرهم فقد ظلمهم، فتدبر. ثم ذكر تعالى السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، والذين اتبعوهم بإحسان فقال تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} 4، وذكر قول الشعبي أن السابقين من أدرك بيعة الرضوان. قلت: والمذكور في هذه الآية هم الأمة الوسط، هم خير أمة أخرجت للناس. قال العماد ابن كثير: فيا ويل من أبغضهم أو سبهم أو أبغض أو سب بعضهم، ولا سيما سيد الصحابة بعد الرسول صلى الله عليه وسلم

_ 1 سورة التوبة آية: 97. 2 سورة التوبة آية: 97. 3 سورة التوبة آية: 99. 4 سورة التوبة آية: 100.

وخيرهم وأفضلهم، أعني الصديق الأكبر، والخليفة الأعظم أبا بكر بن أبي قحافة رضي الله عنه؛ فإن الطائفة المخذولة من الرافضة يعادون أفضل الصحابة، ويبغضونهم ويسبونهم -عياذا بالله من ذلك-، وهذا يدل على أن عقولهم معكوسة، وقلوبهم منكوسة، فأين هؤلاء من الإيمان بالقرآن إذ يسبون من رضي الله عنهم؟! [موالاة من والى الله ومعاداة من عاداه] وأما أهل السنة فإنهم يترضون عمن رضي الله عنه، ويسبون من سبه الله ورسوله، ويوالون من يوالي الله، ويعادون من يعادي الله، وهم متبعون لا مبتدعون، ومقتدون لا مبتدون؛ ولهذا هم حزب الله المفلحون وعباده المؤمنون. انتهى. قلت: فما أكثر الرافضة في زماننا هذا! -لا كثرهم الله-، وتأمل كيف حال هذا المشبه؟ فإنه جعل الرافضة والمشركين والكافرين والمنافقين مثل الصحابة. وأهل الإيمان هم أعداء الرافضة والمشركين في كل زمان ومكان، وقد ميز الله تعالى في كتابه السعداء والأشقياء بالأعمال في المآل، ولا يخفى هذا إلا على من أعمى الله بصيرته، فلا يعرف حقا ولا باطلا، نعوذ بالله من عمى البصيرة، وخبث السريرة، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. [ما جرى في الأمة من الشرك والبدع والضلال] ونشير إلى ما جرى في الأمة من الشرك والبدع والضلال، فمن ذلك: أن العرب لما سمعوا بوفاة النبي صلى الله عليه وسلم ارتد أكثرهم عن الإسلام، وقاتلهم أبو بكر رضي الله عنه بالصحابة، حتى دخلوا من الباب الذي خرجوا منه، وقتل من قتل منهم على ردته. وكذلك بنو حنيفة صدقوا مسيلمة لما ادعى النبوة، وكفروا، وقاتلهم أصحاب رسول الله -صلى

الله عليه وسلم-، وأمرهم خالد بن الوليد وهو أمير الجيش الذين قاتلوا من ارتد، ولا ريب أن بني حنيفة كفار، ومن قتل منهم قتل كافرًا، فلم ينفعهم مع الكفر بالله كونهم من هذه الأمة، وعلى رأي هذا المشبه ليسوا كفارا، والصحابة أخطؤوا في قتالهم. وكذلك الخوارج الذين قتلهم علي بن أبي طالب بالنهروان، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أخبره أنهم "يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية"1، وقال: "أينما لقيتموهم فاقتلوهم، فإن في قتلهم أجرا لمن قتلهم"2 ولا ريب أنهم من هذه الأمة، لكنهم من شرار الأمة، وهم الذين قتلوا علي بن أبي طالب، قتله عبد الرحمن بن ملجم وهو منهم. وكذلك الذين اعتقدوا الإلهية في علي بن أبي طالب، فخد لهم الأخاديد وأحرقهم بالنار لشركهم بالله. فاسأل هذا الجاهل المفتري: هل أصاب علي في قتلهم أم أخطأ؟ وهل كانوا كفارا أم لا؟ ومن لم يكفرهم فهو كافر. وكذلك الذين أخبر النبي صلى الله عليه وسلم قال: "سيكون في أمتي كذابون ثلاثون كلهم يزعم أنه نبي وأنا خاتم النبيين لا نبي بعدي"3 أيكون هؤلاء كفارا أم لا؟ فإن طرد أصله وقال: لم يكونوا كفارا، صار أخا لهم؛ لأنه زكاهم وتولاهم. نفاة القدر من شرار هذه الأمة وكذلك الذين أنكروا القدر، منهم معبد الجهني وغيلان القدري، الذين قال عبد الله بن عمر فيهم، لما أخبره يحيى بن يعمر قال له: إذا لقيت هؤلاء فأخبرهم أني بريء منهم، وأنهم برآء مني، والذي يحلف به عبد الله، إن أحدهم لو أنفق مثل أُحد ذهبا ما قبله الله منه حتى يؤمن بالقدر. وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنهم مجوس هذه الأمة، وأفتى العلماء -رحمهم الله- بقتل داعيتهم غيلان القدري، فقتله هشام بن عبد الملك في خلافته. وهم مبتدعة بإجماع العلماء لمخالفتهم ما دل عليه الكتاب

_ 1 البخاري: المناقب (3611) , ومسلم: الزكاة (1066) , والنسائي: تحريم الدم (4102) , وأبو داود: السنة (4767) , وأحمد (1/ 91,1/ 147). 2 البخاري: استتابة المرتدين والمعاندين وقتالهم (6930) , ومسلم: الزكاة (1066) , والنسائي: تحريم الدم (4102) , وأبو داود: السنة (4767) , وأحمد (1/ 81,1/ 131). 3 أبو داود: الفتن والملاحم (4252).

والسنة في إثبات القدر، وهو من أصول الإيمان كما في سؤال جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم: "قال: فأخبرني عن الإيمان، قال: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله وباليوم الآخر وبالقدر خيره وشره. قال: صدقت"1. والآيات والأحاديث في إثباته كثيرة جدا. والمقصود: أن نفاة القدر من هذه الأمة، وقد صاروا مبتدعة ضُلّالا، ومن كان كذلك فليس من خير أمة أخرجت للناس، بل هم من شر الأمة. صدق الله، وكذب المرتابون. ثم ظهرت بدعة الجهمية في آخر دولة بني أمية، فجحدوا ما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم من صفاته ونعوت جلاله. وكان أول من أظهر هذه البدعة الجعد بن درهم، فضحى به خالد بن عبد الله القسري -وكان إذ ذاك أميرا على العراق- فقال في خطبته يوم الأضحى: أيها الناس، ضحوا تقبل الله ضحاياكم، فإني مضحٍ بالجعد بن درهم، فإنه يزعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلا، ولم يكلم موسى تكليما. قال العلامة ابن القيم -رحمه الله تعالى- لما ذكر بدعة الجهمية: ولأجل ذا ضحى بجعد خالد الـ ... ـقسري يوم ذبائح القربان شكر الضحية كل صاحب سنة ... لله درك من أخي قربان وفي تلك الدولة، والإسلام ظاهر والسنة ظاهرة وأهلها، كذلك البدعة إذا ظهرت أنكرت، وعوقب أهلها بالقتل تارة، وبالحبس تارة، وبالتعزير. ثم إن جهم بن صفوان أظهر هذه البدعة في دولة بني العباس، فأنكر ذلك العلماء، وكفروه ومن تبعه على بدعته، منهم سفيان الثوري، وأبو حنيفة، والإمام مالك، وخلق كثير من أهل الحديث والفقه، قال ابن القيم -رحمه الله-:

_ 1 البخاري: تفسير القرآن (4777) , ومسلم: الإيمان (9,10) , والنسائي: الإيمان وشرائعه (4991) , وابن ماجه: المقدمة (64) , وأحمد (2/ 426).

ولقد تقلد كفرهم سبعون في ... عشر من العلماء في البلدان فعظمت بدعتهم، وتكلم العلماء في ردها وإبطالها، وصنفوا الكتب في ذلك. وممن صنف في رد هذه البدعة الإمام أحمد بن حنبل -رحمه الله-، وابنه عبد الله بن أحمد، وعثمان بن سعيد الدارمي، وأبو بكر المروزي صاحب الإمام أحمد، وإمام الأئمة محمد بن خزيمة في كتاب التوحيد له، واللالكائي في كتاب السنة، وأبو عثمان الصابوني، وخلق كثير. وبعض العلماء ضمن كتابه الرد عليهم كالبخاري، وغيره من أئمة الحديث، وممن رد عليهم شيخ الإسلام أبو إسماعيل الأنصاري في كتاب الفاروق له، وصنف شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام كتاب "العقل والنقل في الرد على الجهمية والفلاسفة"، كما قال العلامة ابن القيم -رحمه الله تعالى-: واقرأ كتاب العقل والنقل الذي ... ما في الوجود له نظير ثاني قلت: فلو عرف هذا الجاهل المشبه ما وقع في هذه الأمة من البدع والمنكرات، لم يتفوه بهذه الشبهة، لكنه جاهل لا يدري ما وقع في الأمة من خير وشر، وقد أعجب بنفسه، وهو من السفلة الضلال، فلا علم ينفعه، ولا عقل يردعه، نعوذ بالله من غرور الشيطان، والانحراف عن سبيل أهل الإيمان. وهذه البدع التي ذكرنا ظهرت في القرون المفضلة، لكنها تنكر وتغير. [الفتن في هذه الأمة وخير قرونها] وفي هذه القرون من الأمة المفضلة الخلق الكثير، والجم الغفير، لا يحصيهم إلا الله سبحانه-. وقد عرفت أن أهل البدع والنفاق بينهم مقهورون ذليلون قليلون؛ وأهل هذه القرون هم الذين عناهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: "أنتم توفون سبعين أمة، أنتم خيرها وأكرمها على الله"1،وهم المعنيون

_ 1 ابن ماجه: الزهد (4288) , وأحمد (4/ 447) , والدارمي: الرقاق (2760).

بقوله صلى الله عليه وسلم: "قال الله لعيسى ابن مريم: إني باعث بعدك أمة، إن أصابهم ما يحبون حمدوا وشكروا، وإن أصابهم ما يكرهون احتسبوا وصبروا، ولا حلم ولا علم، قال: يا رب كيف ولا حلم ولا علم؟ قال: أعطيهم من حلمي وعلمي"1. فإذا تصور العارف ما حصل في خلافة أبي بكر وعمر، ممن اجتمع من المسلمين على حرب فارس والروم لما أظهرهم الله عليهم، ملؤوا الشام والعراق والحجاز واليمن وغيرها، فما زالوا كذلك على السنة في القرون الثلاثة، والجهاد قائم بهم، والأقاليم مملوءة منهم. وفي مسند الإمام أحمد -رحمه الله تعالى- عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: "كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فنزلنا منزلا، فمنا من يضرب خباءه، ومنا من هو في جشره، ومنهم من ينتضل، إذ نادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم: الصلاة جامعة، فانتهيت إليه وهو يخطب الناس، ويقول: أيها الناس إنه لم يكن نبي قبلي إلا كان حقا عليه أن يدل أمته على ما يعلمه خيرا لهم، وينذرهم عما يعلمه شرا لهم. ألا وإن عافية هذه في أولها، وسيصيب آخرها بلاء وفتن يرقق بعضها بعضا. تجيء الفتنة فيقول المؤمن: هذه مهلكتي. ثم تنكشف فيقول: هذه هذه. ثم تنكشف، فمن أحب أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة فلتدركه منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر". ويشهد لهذا الحديث قوله صلى الله عليه وسلم: "خير القرون قرني، ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم، ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل" انتهى الحديث.

_ 1 أحمد (6/ 450).

قلت: وقد وقع ما أخبر به صلى الله عليه وسلم وفي آخر القرن، وفيه امتحن المأمون بن الرشيد علماء الحديث، وحملهم على القول بخلق القرآن، فمنهم من أجاب مكرها، ومنهم من لم يجب، وصبر على المحنة كالإمام أحمد، ومحمد بن نوح -رحمه الله تعالى-، واستمرت المحنة في خلافة أخيه المعتصم، وفي خلافة الواثق. فلما استخلف المتوكل رفع المحنة عن الإمام أحمد وأهل الحديث. ثم بعد ذلك ظهرت دولة القرامطة في المشرق، وصار لهم صولة، وأظهروا الكفر، وقتلوا الحجاج بمكة، وألقوهم في بئر زمزم، وقلعوا الحجر الأسود، ونقلوه إلى بلادهم. قال شيخ الإسلام: وهم من أشد الناس كفرا. وظهرت دولة بني بويه في أوائل القرن الرابع، فأظهروا الغلو في أهل البيت، وبنوا المساجد على قبورهم، وبنوا المشاهد، وعبدوها من دون الله، فأشبهوا اليهود والنصارى، كما في الحديث الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد"1 يحذر ما صنعوا. ولما ذكرت له أم سلمة وأم حبيبة كنيسة رأتاها بأرض الحبشة وما فيها من الصور فقال: "أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح أو العبد الصالح بنوا على قبره مسجدا، وصوروا فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة"2. وكذلك بنو عبيد القداح تغلبوا على مصر وبعض المغرب، وبنوا المساجد على القبور والمشاهد، بزعمهم أنها قبور أناس من أهل البيت، وهي الموجودة تعبد إلى الآن، وغيرها تعبد من دون الله. فظهرت المقالات والبدع من الفلاسفة، والجهمية، والمعتزلة، والكلابية، والكرامية، والأشاعرة، وغيرهم من أهل البدع، وفشا الشرك والزندقة في هذه

_ 1 البخاري: الصلاة (436) , ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (531) , والنسائي: المساجد (703) , وأحمد (1/ 218,6/ 34,6/ 80,6/ 252,6/ 255) , والدارمي: الصلاة (1403). 2 البخاري: الصلاة (434) , ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (528) , والنسائي: المساجد (704) , وأحمد (6/ 51).

الفرق وغيرها، وقلَّ أهل السنة والجماعة. وفي القرن السابع سار التتر، وقتلوا الخليفة العباسي ببغداد، وقتلوا العلماء، وألقوا الكتب من الحديث والسنة في شط دجلة. وتحصن أهل الشام عنهم في رؤوس الجبال، فقاتلهم سلطان مصر، ومن معه من أهل مصر والشام، فهزمهم الله؛ وذلك بسبب شيخ الإسلام ابن تيمية لما شجع السلطان. وفي تلك القرون اشتدت غربة الإسلام، وعاد المعروف منكرا والمنكر معروفا، والسنة بدعة والبدعة سنة، نشأ على هذا الصغير، وهرم عليه الكبير، قال بعض أهل السنة: "لا تستوحش من الطريق لقلة السالكين، ولا تغتر بالباطل لكثرة الهالكين". وفي هذه الحال يقول الشاطبي -رحمه الله-: وهذا زمان الصبر من لك بالتي ... كقبض على جمر فتنجو من البلا [غربة الإسلام في هذه الأزمنة] وذلك أن هذه الأزمنة هي التي أخبر عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الإسلام يعود غريبا كما بدأ، وأن القابض على دينه كالقابض على الجمر. قال ابن القيم: والحديث رواه الأعمش عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الإسلام بدأ غريبا وسيعود غريبا كما بدأ، فطوبى للغرباء. قيل: ومن الغرباء يا رسول الله؟ قال: النزاع من القبائل"1 وفي حديث عبد الله بن عمرو: "قيل يا رسول الله، من الغرباء؟ قال: ناس صالحون في أناس كثير، من يعصيهم أكثر ممن يطيعهم"2. قال العلامة ابن القيم: ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم أنهم النزاع من القبائل: أن الله سبحانه بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهل الأرض على أديان مختلفة، فهم بين عباد أوثان وعباد نيران وعباد صلبان

_ 1 الترمذي: الإيمان (2629) , وابن ماجه: الفتن (3988) , وأحمد (1/ 398) , والدارمي: الرقاق (2755). 2 أحمد (2/ 177).

ويهود وصابئة وفلاسفة، فكان الإسلام في أول ظهوره غريبا، فكان من أسلم منهم واستجاب لله ورسوله غريبا في حيه وقبيلته وقريته وأهله وعشيرته. وكان المستجيبون لدعوة الإسلام نزاعا من القبائل، آحادا منهم، تغربوا عن قبائلهم وعشائرهم، فكانوا هم الغرباء حقا، حتى ظهر الإسلام، وانتشرت دعوته، ودخل الناس فيه أفواجا، ثم أخذ في الاغتراب حتى عاد غريبا كما بدأ؛ بل الإسلام الحق الذي كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه اليوم أشد منه غربة في أول ظهوره، وإن كانت أعلامه ورسومه الظاهرة مشهورة معروفة، فالإسلام الحقيقي غريب جدا، وأهله غرباء بين الناس. وكيف لا تكون فرقة واحدة قليلة جدا غريبة بين اثنتين وسبعين فرقة ذات أتباع ورياسات، ومناصب وولايات، لا يقوم لها سوق إلا بمخالفة ما جاء به الرسول -صلى الله عليه وسلم-؟! فإن نفس ما جاء به يضاد أهواءهم ولذاتهم، وما هم عليه من الشبهات التي هي منتهى فضيلتهم وعلمهم، والشهوات التي هي غاية مقاصدهم وإرادتهم، فكيف لا يكون المؤمن السائر إلى الله على طريق المتابعة غريبا بين هؤلاء الذين اتبعوا أهواءهم، وأطاعوا شيخهم، وأعجبوا منه برأيه؟ انتهى. قلت: فإذا كان هذا في القرن السابع وما قبله، فما بعده أشد غربة للإسلام والسنة؛ وبسبب اشتداد الغربة أنكر الناس على من قام يدعوهم إلى أن يعبدوا الله ولا يشركوا به شيئا. [حديث علي مع اليهودي والنصراني في الافتراق] فقد ثبتت الأحاديث التي فيها افتراق هذه الأمة إلى ثلاث وسبعين فرقة ورواها عن النبي صلى الله عليه وسلم عدة من الصحابة، منهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه.

وقد رواه الإمام محمد بن نصر المروزي -رحمه الله- في كتاب الاعتصام، فنذكر من كل حديث ما دل على ذلك. فروى بإسناده إلى سعيد بن جبير عن أبي الصهباء قال: سمعت علي بن أبي طالب، وقد دعا رأس الجالوت وأسقف النصارى وقال: إني سائلكما عن أمر وأنا أعلم به منكما فلا تكتماني، يا رأس الجالوت: أنشدك الله الذي أنزل التوراة على موسى، وأطعمكم المن والسلوى، وضرب لكم في البحر طريقا، وأخرج لكم من الحجر اثنتي عشرة عينا، لكل سبط من بني إسرائيل عين، إلا ما أخبرتني عن كم افترقت بنو إسرائيل بعد موسى؟ فقال له: ولا فرقة واحدة. فقال له علي ثلاث مرات: كذبت، والله الذي لا إله إلا هو لقد افترقت على إحدى وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة. ثم دعا الأسقف وقال: أنشدك الله الذي أنزل الإنجيل على عيسى، وجعل على رحله البركة، وأراكم العبرة، فأبرأ الأكمه، وأحيا الموتى، وصنع لكم من الطين طيورا، وأنبأكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم، فقال: دون هذا أصدقك يا أمير المؤمنين، فقال: على كم افترقت النصارى بعد عيسى من فرقة؟ فقال: لا والله ولا فرقة. فقال ثلاث مرات: كذبت، والله الذي لا إله إلا هو لقد افترقت على اثنتين وسبعين فرقة كلها في النار إلا فرقة. فأما أنت يا يهودي فإن الله يقول: {وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ} 1، فهي التي تنجو، وأما أنت يا نصراني فإن الله يقول: {مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ} 2، فهي التي تنجو، وأما نحن فيقول: {وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ} 3، وهي التي تنجو من هذه الأمة. وبالسند إلى زاذان أبي عمرو قال: قال علي: يا أبا عمرو، أتدري كم

_ 1 سورة الأعراف آية: 159. 2 سورة المائدة آية: 66. 3 سورة الأعراف آية: 181.

افترقت اليهود؟ قال: قلت: الله ورسوله أعلم. قال: افترقت على إحدى وسبعين فرقة، كلها في الهاوية إلا واحدة هي الناجية. ثم قال علي: أتدري كم تفترق فيَّ؟ قلت: وإنه يفترق فيك يا أمير المؤمنين؟! قال: نعم، اثنتا عشرة فرقة كلها في النار إلا واحدة (هي) الناجية، وهي تلك الموحدة، يعني الفرقة من الثلاث والسبعين، وأنت منهم يا أبا عمرو. وبالسند إلى عبد الله بن يزيد عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سيأتي على أمتي ما أتى على بني إسرائيل مثلا بمثل حذو النعل بالنعل، وإنهم تفرقوا على اثنتين وسبعين ملة، وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين ملة، كلهم في النار غير واحدة. قالوا: يا رسول الله، وما تلك الواحدة؟ قال: هي ما أنا عليه اليوم وأصحابي"1. وبالسند إلى عبد الله بن عبدة عن بنت سعد عن أبيها سعد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "افترقت بنو إسرائيل على إحدى وسبعين فرقة، ولن تذهب الليالي والأيام حتى تفترق أمتي على مثلها -أو قال مثل ذلك- وكل فرقة منها في النار إلا واحدة، وهي الجماعة". وبالسند إلى سويد بن غفلة عن ابن مسعود قال: "دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا ابن مسعود. قلت: لبيك يا رسول الله. قال: أتدري أي الناس أعلم؟ قلت: الله ورسوله أعلم. قال: فإن أعلم الناس أبصرهم بالحق إذا اختلف الناس وإن كان مقصرا في العمل، واختلف من قبلي على اثنتين وسبعين فرقة ونجا منها ثلاثة وهلك سائرها، فرقة آذت الملوك وقاتلوهم على دينهم ودين عيسى وأخذوهم فقطعوهم بالمناشير، وفرقة لم يكن لهم طاقة في مؤاذاة الملوك ولا بأن يقيموا بين ظهرانيهم

_ 1 الترمذي: الإيمان (2641).

ويدعونهم إلى دين الله ودين عيسى بن مريم، فساحوا في البلاد وترهبوا وهم الذين قال الله فيهم: {ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله فما رعوها حق رعايتها} إلى قوله: {فاسقون} ". وقال صلى الله عليه وسلم "من آمن بي وصدقني واتبعني فقد رعاها حق رعايتها ومن لا يتبعني فأولئك هم الهالكون" قلت: فالفرقة الثالثة هي التي آمنت بمحمد صلى الله عليه وسلم واتبعته من بني إسرائيل وغيرهم. [الفرقة الناجية هي المتمسكة بالكتاب والسنة] وبالسند إلى يزيد الرقاشي حدثني أنس بن مالك مرفوعا أن بني إسرائيل افترقت على إحدى وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة، قال يزيد الرقاشي: وهي الجماعة. وفيه حديث معاوية وهو مشهور. فتبين بهذه الأحاديث أن الفرقة الناجية من الثلاث والسبعين هي التي تمسكت بكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعملوا بما في كتاب الله، وأخلصوا له العبادة، واتبعوا رسوله. فإن أصل دين الإسلام أن لا يعبدوا إلا الله، وأن لا يعبد إلا بما شرع، وأنت اليوم (ترى) أكثر من ينتسب إلى العلم لا يعرف من معنى "لا إله إلا الله" إلا ما دلت عليه التزاما، وهو توحيد الربوبية الذي أقر به المشركون. وذلك أن هؤلاء يفسرون الإله بالقادر على الاختراع، وما اهتدوا إلى ما دلت عليه كلمة الإخلاص مطابقة، وهو نفي ما يألهه المشركون من دون الله بأي نوع كان من العبادة، وهو المنتفي بجملة "لا إله"، ومعنى "إلا الله" أنه الذي يؤله ويعبد بكل نوع من أنواع العبادة دون كل ما سواه، وسيأتي مزيد لذلك إن شاء الله. وبسبب جهل كثير بما دلت عليه "لا إله إلا الله"، لم ينكروا عبادة الطواغيت والأشجار والأحجار والقبور وغير ذلك، وذلك أنه لا يعرف عن أحد من العلماء في

العصر الذي قام فيه شيخنا -رحمه الله- ولا من قبله أنه أنكر الشرك في الإلهية، ودعا الناس إلى عبادة الله وحده؛ فبسبب الجهل بهذا التوحيد الذي هو حق الله على عباده أنكروا على شيخنا -رحمه الله- دعاء الناس في القرن الثاني عشر إلى ما دعت إليه الرسل: {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ}،1 {أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ} 2، {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} 3. فالوقت الذي صارت دعوة الرسل فيه عند أهله منكرا، فالإسلام فيه قد بلغ في الغربة إلى غايتها ومنتهاها، وقد دل القرآن العزيز على أن الكفار الذين جحدوا هذا التوحيد كانوا يعرفون معنى ما دعاهم إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال لهم: "قولوا لا إله إلا الله"4، قال الله تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ} 5. فعرفوا أن معناها ترك الآلهة التي كانوا يعبدونها من دون الله، وقد أخبر الله تعالى عن قوم هود أنهم أجابوه لما قال لهم: {اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} 6، {قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ} 7، فتبين بهذه الآيات وجميع ما في القرآن أن الدعوة التي اتفق عليها الرسل هي إفراد الرب بالعبادة، كما في قوله تعالى في فاتحة الكتاب: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} 8: فتقديم المعمول يفيد الحصر، أي لا نعبد غيرك، ولا نستعين إلا بك. فالجهل بهذا التوحيد هو غاية الجهل، والإنكار على من دعا إليه هو الغاية في الكفر. وقد قال عالم صنعاء في منظومته المشهورة، التي بعث بها لشيخنا محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله تعالى-: لقد أنكرت كل الطوايف قوله ... بلا صدر في الحق منهم ولا ورد

_ 1 سورة الأعراف آية: 59. 2 سورة هود آية: 2. 3 سورة هود آية: 1. 4 أحمد (3/ 492). 5 سورة الصافات آية: 35. 6 سورة الأعراف آية: 65. 7 سورة الأعراف آية: 70. 8 سورة الفاتحة آية: 5.

وقد جاءت الأخبار عنه بأنه ... يعيد لنا الشرع الشريف بما يبدي وينشر جهرًا ما طوى كل جاهل ... ومبتدع منه فوافق ما عندي [قول ابن جرير في الدعاء والعبادة] والمقصود أن الله تعالى مَنَّ على الناس في آخر هذه الأعصار ببيان الدين الذي بعث الله به رسله، وهو الذي خلق الخلق لأجله، وبيان أدلته من الكتاب والسنة، ودعوة الناس إلى أن يتدبروا ذلك، ويعرفوا ما أراده الله تعالى من عباده، وبينه تعالى بقوله: {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} 1، وقوله: {قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي} 2، وقال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} 3. وقد ذكر الإمام محمد بن جرير في تفسيره: إن الدين المذكور في هذه الآيات وأمثالها الدعاء، والدعاء نوعان: دعاء عبادة، ودعاء مسألة؛ والكل عبادة. فمن أخلص الدعاء بنوعيه لله تعالى، ولم يجعل له فيه شريكا فقد وحد الله تعالى بعبادته، وأسلم لله. ومن جعل لله شريكا في ذلك فقد أشرك مع الله غيره، وهذا واضح في الآيات المحكمات كقوله تعالى: {قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} 4. وهذه الآية تشبه {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} 5، والمعنى: بل الله فاعبد لا غيره، فإن تقديم المعمول يفيد الحصر، وهذا هو الإخلاص، وهو معنى شهادة أن لا إله إلا الله، فمن لم يفهم دين الإسلام الذي رضيه الله تعالى لعباده من هذه الآيات المحكمات فأبعده الله، فإن الخصومة بين الرسل والأمم إنما كانت في إخلاص العبادة كما قال تعالى: {وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ

_ 1 سورة الزمر آية: 2. 2 سورة الزمر آية: 14. 3 سورة البينة آية: 5. 4 سورة الزمر آية: 64. 5 سورة الفاتحة آية: 5.

قَوْمَهُ بِالأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ} 1. وهذا هو الدين الذي دعا إليه شيخنا -رحمه الله- آخر الأعصار، لما اندرست أعلامه، وانمحت آثاره، واتخذ الناس الشرك في العبادة دينا، وأنزلوا حوائجهم بمن لا يملك لنفسه ضرا ولا نفعا، فكيف يملك لهم من الضر والنفع ما لا يملك لنفسه؟ قال تعالى: {أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} 2. والقرآن من أوله إلى آخره في بيان توحيد العبادة، وهو أظهر شيء في القرآن وأبينه، وقد أشرت إلى سبب خفاء هذا التوحيد على كثير من المتكلمين ومن سلك سبيلهم؛ فلهذا لم ينكروا الشرك الذي وقع في هذه الأمة من عبادة الأشجار والأحجار والطواغيت والجن، فصار هذا الشرك لهم عادة، نشأ عليها الصغير، وهرم عليها الكبير، وهذا هو سبب إنكارهم على من نهاهم عنه. فمن تدبر ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه"3 تبين له خطأ المغرورين في إنكارهم على من دعاهم إلى إخلاص العبادة لله وحده لا شريك له، واشمئزازهم من ذلك. فلنذكر ما ورد هذا المعنى: ففي الحديث الصحيح عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: "أنتم أشبه الناس ببني إسرائيل، والله لا تدعون شيئا عملوه إلا عملتموه، ولا كان فيهم شيء إلا سيكون فيكم مثله" وفي رواية عنه أنه قال: "أنتم أشبه الناس سمتا وهيئة ببني إسرائيل، تتبعون آثارهم حذو القذة بالقذة، لا يكون فيهم شيء إلا يكون فيكم مثله".

_ 1 سورة الأحقاف آية: 21. 2 سورة المائدة آية: 76. 3 البخاري: الاعتصام بالكتاب والسنة (7320) , ومسلم: العلم (2669) , وأحمد (3/ 84,3/ 89,3/ 94).

وبالإسناد إلى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: "لم يكن في بني إسرائيل شيء إلا كان فيكم". وعن عبد الله بن عمرو قال: "لتركبن سنن من كان قبلكم حلوها ومرها" وتقدم في الأحاديث المرفوعة مثل هذا. ولا يعرف ما وقع في الأمة من أنواع الشرك الأكبر وخفاءه على الأكثر، إلا من شرح الله صدره للإسلام وتدبر القرآن، بخلاف من أعرض عن كتاب الله، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، واعتمد على ما في كتب المتكلمين ومقلديهم، نعوذ بالله من عمى البصيرة، وفساد الطوية والسريرة. وقد اعترف عالم صنعاء الأمير "محمد بن إسماعيل" بما كان الناس عليه من الجهل بالتوحيد، في وقت ظهور شيخنا -رحمه الله تعالى وعفا عنه-، فمن ذلك قوله رحمه الله تعالى: أُسائل من دار الأراضي سياحة ... عسى بلدة فيها هدى وصواب فيخبر كلٌّ عن قبائح ما رأى ... وليس لأهليها يكون متاب لأنهم عدّوا قبائح فعلهم ... محاسن يرجى عندهن ثواب [مبدأ دعوة ابن عبد الوهاب] ونذكر شيئا من مبدأ دعوة شيخنا -رحمه الله- فنقول: لما شرح الله صدره للإسلام، وتبين له ما كان أكثر الناس عليه من الجهل بالتوحيد، وما وقعوا فيه من الشرك والتنديد، دعا من كان حوله إلى تدبر كتاب الله، ومعرفة التوحيد الذي خلقوا له، وبعث الله به رسله، وأنزل به كتبه، وضمنه أشرف كتبه، وهو القرآن الذي أنزله على رسوله صلى الله عليه وسلم وأن ما وقع منهم من الاعتقاد في الطواغيت، وأرباب القبور، والأشجار والأحجار، وهو الشرك الذي بعث الله رسله بإنكاره. فصاحوا به منكرين ما دعاهم إليه، واستنجدوا بالملوك من كل جانب، حتى أخرجوه من

بلده العيَينة*، فهاجر إلى الدرعية. فتلقاه شيخ البلد محمد بن سعود -رحمه الله- هو وأولاده وقرابته وأعيان أهل بلده، فقابلوا دعوته بالقبول، وجدوا في نصرته على ضعفهم وقلتهم، وكثرة عدوهم؛ واستصراخ أعدائهم الملوك عليهم، فما زالوا يرمونهم بقوس العداوة، وحزبوا عليهم مرارًا كثيرة من كل جهة، فأظهرهم الله على من عاداهم -على ضعفهم وقلتهم-، وأوقع بأسه بكل من عاداهم، حتى الملوك أهلكهم الله وأباد خضراءهم، وفي ذلك آيات لمن كان واعيا. وهذه الآية لا تخفى على من صحت بصيرته، وأما أعمى البصيرة فلا يبصر. وكلما كادهم عدو ورام إهلاكهم أهلكه الله، فما زالوا -بحمد الله- ظاهرين إلى يومنا هذا، {فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِين َوَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} 1. ولله در الشيخ حسين بن غنام، حيث قال لما ظهرت له أنوار التوحيد، أظهر ذلك في شعره نثرًا، وأجاب محمد بن فيروز في هجوه وسبه، ومنظومته موجودة في تاريخه، فمن قوله -رحمه الله-: نفوس الورى إلا القليل ركونها ... إلى الغي لا يلفى لدين حنينها فسل ربك التثبيت أي موحد ... فأنت على السمحاء باد يقينها وغيرك في بيد الضلالة سائر ... وليس له إلا القبور يدينها وأنت بمنهاج الشريعة سالك ... وسنة خير المرسلين تبينها [فساد اعتقاد صلاح جميع الأمة] قلت: ولا يخفى على ذوي البصائر أن من أعظم الجهل، وأبين الكذب، وأبعد الضلال، جحود من جحد أنه: ليس في هذه الأمة كافر ولا مشرك، ولا مبتدع، ولا فاسق، ولا ظالم. والقرآن كله من أوله إلى آخره يخبر عن الكفار والمشركين والمنافقين والفاسقين والظالمين، فسبحان الله! كيف

_ * في الأصل المطبوع: (العينية)، وهو خطأ مطبعي. [معد الكتاب للمكتبة الشاملة] 1 سورة الجاثية آية: 36.

أدته العداوة والبغضاء لمن قام بالدعوة إلى التوحيد إلى أن جحد الكثير من القرآن والسنة! وادعى أن الأمة كلها من أولها إلى آخرها كلهم خير أمة أخرجت للناس، وأنهم الأمة الوسط؛ فجحد ما لا يمكن جحوده في حق أحد، وحقيقة حال هذا أنه كذّب بما في القرآن من ذلك. فتأمل ما يترتب على هذا القول من الفساد والإلحاد، وكيف يمكن أحد أن يجحد ما وقع في هذه الأمة من ذلك من الكفر والشرك والبدع؟ وقد ذكرت في هذا الجواب بعض ما وقع في الأمة من ذلك -على سبيل الاختصار- لبيان بطلان هذه الشبهة، وشدة ضلال ملقيها. ثم إنه حرف القرآن والأحاديث، ووضعها في غير موضعها، فزعم أن المطيع والعاصي والمؤمن والكافر على حد سواء، وهذا ممتنع عقلا وشرعا وفطرة. وقد تقدم في هذا الجواب ما يبين الخطأ من الصواب -ولله الحمد والمنة- مع الاقتصار كما في الأثر: "خير الكلام ما قل ودل ولم يطل فيمل"، والقصد بذلك انتفاع طالب الحق بالجواب عن شبهة المشبهين، وتحريف الملحدين. وبالله التوفيق. وإلا ففي الواقع اليوم ممن هم من هذه الأمة ما يكفي البصير في رد الشبهة وإبطالها؛ فإن الرافضة اليوم كثيرون، وشركهم وبدعتهم لا يخفى على من يعرفهم، وكذلك أحوال الأعراب، وما فيهم من الفساد والجفا في الدين، واستحلال المحرمات، وسفك الدماء، ونهب الأموال، وإخافة السبيل وقطعها. والحمد لله الذي هدانا للإسلام، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، وصلى الله على سيد المرسلين وإمام المتقين، وعلى آله وصحبه أجمعين.

الرسالة السادسة: معنى لا إله إلا الله وشروطها

الرسالة السادسة [معنى لا إله إلا الله وشروطها] بسم الله الرحمن الرحيم ومن مسائل التوحيد: ما أجاب به بعض من طلب الفائدة. قال -رحمه الله-: وسرنا ما ذكرت من معرفتك جهل أكثر الناس بمعنى (لا إله إلا الله)، وإن تكلموا بها لفظا فقد أنكروها معنى؛ فانتبه لأمور ستة -أو سبعة- لا يسلم العبد من الكفر أو النفاق إلا باجتماعها، وباجتماعها والعمل بمقتضاها يكون العبد مسلمًا؛ إذ لا بد من مطابقة القلب للسان علما وعملا واعتقادًا وقبولا ومحبة وانقيادًا. فلا بد من العلم بها المنافي للجهل. ولا بد من الإخلاص المنافي للشرك. ولا بد من الصدق المنافي للكذب، بخلاف المشركين والمنافقين. ولا بد من اليقين المنافي للشك والريب، فقد يقولها وهو شاك في مدلولها ومقتضاها. ولا بد من المحبة المنافية للكراهة. ولا بد من القبول المنافي للرد، فقد يعرف معناها ولا يقبله كحال مشركي العرب. ولا بد أيضا من الانقياد المنافي للترك، لترك مقتضياتها ولوازمها وحقوقها المصححة للإسلام والإيمان. فمن تحقق ما ذكرته، ووقع منه موقعا، صرف الهمة إلى تعلم معنى "لا إله إلا الله"، وصار على بصيرة من دينه، وفرقان ونور وهدى واستقامة. وبالله التوفيق، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلى الله على محمد وآله وسلم.

الرسالة السابعة: التحذير من البردة وبيان ما فيها من الشرك

الرسالة السابعة [التحذير من البردة وبيان ما فيها من الشرك] بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الرحمن بن حسن وابنه عبد اللطيف إلى عبد الخالق الحفظي. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: فقد بلغنا من نحو سنتين اشتغالكم ببردة البوصيري، وفيها من الشرك الأكبر ما لا يخفى، من ذلك قوله: "يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به سواك" إلى آخر الأبيات، التي فيها طلب ثواب الدار الآخرة من النبي صلى الله عليه وسلم وحده. فأما دعاء الميت والغائب فقد ذكر الله في كتابه العزيز الذي أنزله على رسوله صلى الله عليه وسلم النهي عن دعوة الأموات والغائبين بقوله تعالى: {وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ} 1، ولم يستثن أحدا. والنبي صلى الله عليه وسلم هو المبلغ عن الله، وقال: {فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ} 2. فانظر إلى هذا الوعيد الشديد المترتب على دعوة غير الله، وخاطب به نبيه صلى الله عليه وسلم ليكون أبلغ للتحذير. فكيف يظن بالنبي صلى الله عليه وسلم أن الله تعالى ينهاه عن ذلك، ويذكر الوعيد عليه، ويرضاه أن يفعل ذلك أحد معه، أو مع غيره -صلوات الله وسلامه عليه-؟! ولما قال له رجل: ما شاء الله وشئت. قال: "أجعلتني لله ندًّا؟ بل ما شاء الله وحده"3. ودعوة غيره تنافي الإخلاص، الذي هو دينه، الذي لا يقبل الله دينا سواه. وذكر تعالى اختصاصه بالدعاء بقوله: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ

_ 1 سورة يونس آية: 106. 2 سورة الشعراء آية: 213. 3 أحمد (1/ 283).

وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ} 1 الآية، وأخبر أن دعوة الحق مختصة به، وما ليس بحق فهو باطل، ولا يحصل به نفع لمن فعله، بل هو ضرر في العاجل والآجل لأنه ظلم في حق الله تعالى. يقرر هذا تهديده تعالى لمن دعا الأنبياء والصالحين والملائكة بقوله: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلًا} 2، نزلت في عيسى وأمه والعزير والملائكة، باتفاق أكثر المفسرين من الصحابة والتابعين والأئمة، فكيف يظن من له عقل أنه يرضى منه في حقه قولا وعملا تهديد الله من فعله مع عيسى وأمه والعزير والملائكة؟ وكونه -صلى الله عليه وسلم- أفضل الأنبياء لا يلزم أن يختص دونهم بأمر نهى الله عنه عباده عموما وخصوصا، بل هو مأمور أن ينهى عنه، ويتبرأ منه كما تبرأ منه المسيح ابن مريم في الآيات في آخر سورة المائدة، وكما تبرأت منه الملائكة في الآيات التي في سورة سبأ. وأما اللياذ فهو كالعياذ سواء، فالعياذ لدفع الشر، واللياذ لجلب الخير، وحكى الإمام أحمد وغيره الإجماع على أنه لا يجوز العياذ إلا بالله وأسمائه وصفاته، وأما العياذ بغيره فشرك ولا فرق. وأما قوله: "فإن من جودك الدنيا وضرتها" فمناقض لما اختص به تعالى يوم القيامة من الملك في قوله: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} 3، وفي قوله تعالى في سورة الفاتحة: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} 4 وفي قوله تعالى: {يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} 5، وغير ذلك من الآيات لهذا المعنى. وقال غير ذلك في منظومته مما يستبشع من الشرك. [هدي السلف في مدح النبي] ومدح النبي صلى الله عليه وسلم شعراء العرب الفصحاء، ولم يقرب أحد منهم حول هذا الحمى، الذي هو لله وحده؛ بل مدحوه بالنبوة، وما

_ 1 سورة الرعد آية: 14. 2 سورة الإسراء آية: 56. 3 سورة غافر آية: 16. 4 سورة الفاتحة آية: 4. 5 سورة الانفطار آية: 19.

الرسالة الثامنة: أمر الإمامة والتدريس يرد إلى الإمام

خصه الله به من الفضائل والأخلاق الحميدة، مثل حسان بن ثابت، وكعب بن مالك، وكعب بن زهير، وأمثال هؤلاء، فما تعلقت قلوبكم يا عبد الخالق إلا بنظم للشيطان فيه حظ وافر، قد أنكره الله ورسوله على من قاله أو فعله. وهذه الأمور كانت عند محمد الحفظي وأبيه وأخيه فأقلعوا عنها، وتابوا إلى الله منها، وتجنبوا الشرك، وتبرؤوا إلى الله منه ومن أهله، وجاهدوا أهله نثرا ونظما، وقد نزلت المنزلة التي كانوا عليها في الجاهلية، ثم تابوا منها، فأصغ سمعك لكتاب الله، فإنه يكفيك ويشفيك في كل خير، ويعصمك من كل شر. اهـ آخر ما وجد والحمد لله. الرسالة الثامنة [أمر الإمامة والتدريس يُردُّ إلى الإمام] ومنها رسالة أرسلها إلى محمد بن عبد الله، وعبد الله بن سالم، وسببها أن الشيخ عبد اللطيف بن مبارك نصب في بعض مساجد الأحسا من يتهم بمذهب الأشاعرة من غير إذن الإمام فيصل بن تركي آل سعود -رحمه الله-، قال فيها: من عبد الرحمن بن حسن إلى الأخوين المكرمين محمد بن عبد الله، وعبد الله بن سالم. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: فقد وصل الكتاب، وفهمت ما تضمنه من الخطاب، وما ذكرتماه عن نصب الشيخ عبد اللطيف لهؤلاء الأولاد الثلاثة، فالعادة أن مثل هذا يرجع فيه إلى الإمام، لأن نصبه له في أمر خاص، وهو فصل القضايا بين الناس. وأما النظر فيما يصلح للإمامة والتدريس، فيرد إلى الإمام، وربما أن الإمام يجعل لنا فيه بعض الشورى، لأن كثيرا من الناس ما تخفانا حالهم وعقائدهم، ونصب الإمام لقضاة نجد كذلك. والشيخ أحمد بن مشرف

يسامي الأكابر ومثلهم ما ينسب له، والذي نعلم منه صحة المعتقد في توحيد الأنبياء والمرسلين، الذي جهله أكثر الطوائف، كذلك هو رجل سلفي يثبت من صفات الرب تعالى ما وصف به نفسه، ووصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم على ما يليق بجلال الله وعظمته. [أخطاء الأشاعرة في أصول الدين] وأما أهل بلدكم في السابق وغيرهم فهم أشاعرة، والأشاعرة أخطؤوا في ثلاث من أصول الدين، منها تأويل الصفات وهو صرفها عن حقيقتها التي تليق بالله. وحاصل تأويلهم: سلب صفات الكمال عن ذي الجلال، أيضا أخذوا ببدعة "عبد الله بن كلاب" في كلام الرب -تعالى وتقدس-. ورد العلماء عليهم في ذلك شهير، مثل الإمام أحمد والشافعي وأصحابه، والخلال في "كتاب السنة"، وإمام الأئمة محمد بن خزيمة، واللالكائي، وأبو عثمان الصابوني الشافعي، وابن عبد البر، وغيرهم من اتباع السلف، كمحمد بن جرير الطبري، وشيخ الإسلام الأنصاري. وقد رجع كثير من المتكلمين الخائضين كالشهرستاني شيخ أبي المعالي، وكذلك أبو المعالي، والغزالي، وكذلك الأشعري قبلهم، في كتاب "الإبانة والمقالات"، ومع هذا وغيره فبقي هذا في المتأخرين، المقلدين لأناس من المتأخرين، ليس لهم اطلاع على كلام العلماء، وإن كانوا يعدون من العلماء. وأخطؤوا أيضا في التوحيد، ولم يعرفوا من تفسير "لا إله إلا الله" إلا أن معناها: القادر على الاختراع، ودلالة "لا إله إلا الله" على هذا دلالة التزام، لأن هذا من توحيد الربوبية، الذي أقر به الأمم ومشركو العرب، كما قال تعالى: {قُلْ لِمَنِ الأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} 1 الآيات،

_ 1 سورة المؤمنون آية: 84.

وهي كثيرة في القرآن، يحتج تعالى عليهم بذلك على ما جحدوه من توحيد الإلهية، الذي هو معنى "لا إله إلا الله" مطابقة وتضمنا، وهو الذي دعا إليه الناس في أول سورة البقرة، وفي سورة آل عمران، والنساء، وغيرهما، ودعت إليه الرسل: {أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ} 1. وهو الذي دعا إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وفد نصارى نجران، ودعا إليه العرب قبلهم، كما قال أبو سفيان لهرقل لما سأله عما يقول: قال: يقول: اعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا. وكل السور المكية في تقرير معنى "لا إله إلا الله" وبيانه. فإذا كان العلماء في وقتنا هذا وقبله في كثير من الأمصار، ما يعرفون من "لا إله إلا الله" إلا توحيد الربوبية، كمن كان قبلهم في عصر شيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيم، وابن رجب، اغتروا بقول بعض العلماء من المتكلمين أن معنى "لا إله إلا الله" القادر على الاختراع، وبعضهم يقول: معناها الغني عما سواه، المفتقر إليه ما عداه. وعلماء الأحساء ما عادوا شيخنا -رحمه الله- في مبدأ دعوته إلا من أجل أنهم ظنوا أن عبادة يوسف والعيدروس وأمثالهم لا يستفاد بطلانها من كلمة الإخلاص، والله سبحانه بين لنا معنى هذه الكلمة في مواضع كثيرة من القرآن. قال تعالى عن خليله عليه السلام: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ? إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِين وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ} 2، فعبر عن هذه الكلمة بمعناها، وهو نفي الشرك في العبادة، وقصرها على الله وحده. وقال عن أهل الكهف: {وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ} 3. فإذا كان هذا التوحيد الذي هو حق الله على العباد قد خفي على أكابر العلماء في أزمنة سلفت، فكيف لا يكون بيانه أهم الأمور؟ خصوصا إذا كان الإنسان لا يصح له إسلام ولا إيمان إلا بمعرفة هذا التوحيد، وقبوله، ومحبته، والدعوة إليه،

_ 1 سورة هود آية: 2. 2 سورة الزخرف آية: 26. 3 سورة الكهف آية: 16.

الرسالة التاسعة: معنى لا إله إلا الله وشروطها السبعة

وتطلب أدلته، واستحضارها ذهنا وقولا وطلبا ورغبة. فهذه نصيحة مني لكل إنسان، دعاني إليها غربة الدين، وقلة المعرفة فيه، فينبغي أن تشاع وتذاع في مخاطر أهل العلم، يقبلها من وفقه الله تعالى للخير، فإنها خير مما كتبت فيه بأضعاف أضعاف، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وصلى الله على محمد وآله وسلم. الرسالة التاسعة [معنى لا إله إلا الله وشروطها السبعة] بسم الله الرحمن الرحيم الكلام في بيان ما أوردناه على الجهمي الذي في بني ياس، أما الكلام في معنى "لا إله إلا الله" فأقول وبالله التوفيق: أما هذه الكلمة العظيمة، فهي التي شهد الله بها لنفسه، وشهد بها له ملائكته، وأولو العلم من خلقه، كما قال تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} 1. فلا إله إلا الله هي كلمة الإسلام، لا يصح إسلام أحد إلا بمعرفة ما وضعت له ودلت عليه، وقبوله والانقياد للعمل. وهي كلمة الإخلاص المنافي للشرك، وكلمة التقوى التي تقي قائلها من الشرك بالله، فلا تنفع قائلها إلا بشروط سبعة: الأول العلم بمعناها نفيا وإثباتا، واليقين -وهو كمال العلم بها- المنافي للشك والريب، والإخلاص المنافي للشرك، والصدق المانع من النفاق، والمحبة لهذه الكلمة ولما دلت عليه، والسرور بذلك، والقبول المنافي للرد، فقد يقولها من يعرفها لكن لا يقبلها مما دعاه إليها تعصبًا وتكبرًا، كما هو قد وقع من كثير. السابع

_ 1 سورة آل عمران آية: 18.

الانقياد بحقوقها، وهي الأعمال الواجبة إخلاصا لله وطلبا لمرضاته. إذا عرفت ذلك فقولك: "لا إله إلا الله": فلا: نافية للجنس. والإله هو: المألوه بالعبادة، وهو الذي تألهه القلوب، وتقصده رغبة إليه في حصول نفع أو دفع ضر، كحال من عبد الأموات والغائبين والأصنام، فكل معبود مألوه بالعبادة. والخبر المرفوع محذوف تقديره: حق. وقوله: "إلا الله" استثناء من الخبر المرفوع. فالله سبحانه هو الحق، وعبادته وحده هي الحق، وعبادة غيره منتفية بلا في هذه الكلمة. قال الله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ} 1، فإلهية ما سواه باطلة، فدلت الآية على أن صرف الدعاء الذي هو مخ العبادة عنه لغيره باطل؛ فتبين أن الإلهية هي العبادة لأن الدعاء من أفرادها، فمن صرف منها شيئا لغيره تعالى فهو باطل. والقرآن كله يدل على أن الإلهية هي العبادة كما قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ? إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي} 2، فذكر البراءة من كل معبود سوى الله، ولم يستثن إلا عبادة من فطره سبحانه، ثم قال: {وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ} 3 أي: "لا إله إلا الله" فعبر عن الإلهية بالعبادة في النفي والإثبات. وقال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا} 4: فقوله {قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي} 5 هو معنى "إلا الله" في كلمة الإخلاص، وقوله: {وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا} 6 هو المنفي في كلمة الإخلاص ب "لا إله"؛ فتبين أن "لا إله إلا الله" دلت على البراءة من الشرك في العبادة في حق كل ما سوى الله. وقال الله تعالى: {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} 7 والدين هو العبادة، وقال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ} 8، وقال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} 9 أي: الذي لا تصلح الإلهية إلا له وحده، فانتفت الإلهية

_ 1 سورة الحج آية: 62. 2 سورة الزخرف آية: 26. 3 سورة الزخرف آية: 28. 4 سورة الجن آية: 20. 5 سورة الجن آية: 20. 6 سورة الجن آية: 20. 7 سورة الزمر آية: 11. 8 سورة الرعد آية: 36. 9 سورة الكهف آية: 110.

وبطلت في حق كل ما سوى الله، والقرآن يبين بعضه بعضًا ويفسره. والرسل إنما يفتتحون دعوتهم بمعنى "لا إله إلا الله": {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} 1، فتبين أن الإلهية هي العبادة؛ ولهذا قال قوم هود لما قال: {يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} 2 {قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} 3، فتبين بالآية أنهم لم يستنكفوا من عبادة الله، لكنهم أبوا أن يخلصوا العبادة لله وحده؛ فلم ينفوا ما نفته "لا إله إلا الله"، فاستوجبوا ما وقع بهم من العذاب، بعدم قبولهم من دعاهم إليه من إخلاص العبادة. كما قال تعالى: {وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ} 4 وهم الرسل جميعهم {أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ} 5 وهذا هو معنى كلمة الإخلاص الذي اجتمعت عليه الرسل، فقوله: {أن لا تعبدوا} هو معنى (لا إله) وقوله: {إِلَّا اللَّهَ} هو المستثنى في كلمة الإخلاص؛ فهذا هو تحقيق معناها -بحمد الله- إنذار الرسل جميعهم أممهم عن الشرك في العبادة، وأن يخلصوها لله وحده لا شريك له. ففي ما ذكرناه في هذه الآيات في معناه كاف واف شاف، ولله الحمد والمنة. [تعريف العبادة] وأما تعريف العبادة، فقد قال العلامة ابن القيم -رحمه الله- في الكافية الشافية: وعبادة الرحمن غاية حبه ... مع ذل عابده هما قطبان وعليهما فلك العبادة دائر ... ما دار حتى قامت القطبان ومداره بالأمر أمر رسوله ... لا بالهوى والنفس والشيطان فذكر أصل العبادة التي يصلح العمل مع حصولها إذا كان على السنة، فذكر قطبيها، وهما غاية المحبة لله في غاية الذل له. والغاية تفوت بدخول الشرك، وبه يبطل هذا الأصل، لأن المشرك لا بد أن يحب معبوده، ولا

_ 1 سورة الأعراف آية: 59. 2 سورة الأعراف آية: 59. 3 سورة الأعراف آية: 70. 4 سورة الأحقاف آية: 21. 5 سورة هود آية: 2.

بد أن يذل له، ففسد الأصل بوجود الشرك فيه. ولا تحصل الغاية فيهما إلا بانتفاء الشرك، وقصر المحبة والتذلل لله وحده؛ وبهذا تصلح جميع الأعمال المشروعة، وهي المراد بقوله: وعليهما فلك العبادة دائر. والدائرة هي الأعمال، ولا تصلح إلا بمتابعة السنة. وهذا معنى قول الفضيل بن عياض -رحمه الله- في قول الله تعالى: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} 1 قال: "أخلصه وأصوبه". قالوا: يا أبا علي، ما أخلصه وأصوبه؟ قال: "إن العمل إذا كان خالصا ولم يكن صوابا لم يقبل، وإذا كان صوابا ولم يكن خالصا لم يقبل، حتى يكون خالصا صوابا، والخالص ما كان لله، والصواب ما كان على السنة". [أقسام التوحيد] وأما أقسام التوحيد فهي ثلاثة: توحيد الإلهية: وهي العبادة كما تقدم، فهي تعلق بأعمال العبد وأقواله الباطنة والظاهرة، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "العبادة اسم جامع لكل ما يحبه الله من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة". قلت: فمن صرف منها شيئا لغير الله فهو مشرك بالله، وهذا هو الذي أرسلت الرسل، وأنزلت الكتب بالإنذار عنه، وترتبت عليه عقوبات الدنيا والآخرة في حق من لم يتب منه، ويسمى هذا التوحيد إذا كان لله وحده "توحيد القصد والطلب والإرادة" وهو الذي جحده المشركون من الأمم. وقد بعث الله نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم بالأمر به، والنهي عما ينافيه من الشرك، فأبى المشركون إلا التمسك بالشرك الذي عهدوه من أسلافهم، فجاهدهم صلى الله عليه وسلم على هذا الشرك، وعلى إخلاص العبادة لله وحده، كما قال تعالى: {وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا} 2 إلى قوله: {وَانْطَلَقَ الْمَلأُ مِنْهُمْ أَنِ

_ 1 سورة هود آية: 7. 2 سورة ص آية: 4.

امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ} 1. (النوع الثاني): توحيد الربوبية: وهو العلم والإقرار بأن الله تعالى رب كل شيء ومليكه، وهو المدبر لأمور خلقه جميعهم كما قال تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ} 2 إلى قوله: {وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ} 3، وقال: {قُلْ لِمَنِ الأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} 4 إلى قوله: {فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} 5. وأمثال هذه الآيات في القرآن كثير، وهذا النوع قد أقر به المشركون كما دلت عليه الآيات. (والنوع الثالث): توحيد الأسماء والصفات: وهو أن يوصف الله تعالى بما وصف به نفسه ووصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم من صفات الكمال، التي تعرف بها سبحانه إلى عباده، ونفي ما لا يليق بجلاله وعظمته، وهذا النفي أقسام، ذكرها العلامة ابن القيم -رحمه الله تعالى- في الكافية الشافية. فأهل السنة والجماعة سلفا وخلفا يثبتون لله هذا التوحيد، على ما يليق بجلال الله وعظمته إثباتا بلا تمثيل، وتنزيها بلا تعطيل، وهذا النوع والذي قبله هو توحيد العلم والاعتقاد. [تعريف التوحيد] وأما تعريف التوحيد فقد ذكره ابن القيم في الكافية الشافية فقال: فالصدق والإخلاص ركنا ذلك الـ ... ـتوحيد كالركنين للبنيان وحقيقة الإخلاص توحيد الـ ... ـمراد فلا يزاحمه مراد ثاني والصدق توحيد الإرادة وهو بذ ... ل الجهد لا كسلا ولا متواني ثم ذكر توحيد المتابعة فقال: والسنة المثلى لسالكها فتو ... حيد الطريق لأعظم السلطان

_ 1 سورة ص آية: 6. 2 سورة يونس آية: 31. 3 سورة يونس آية: 31. 4 سورة المؤمنون آية: 84. 5 سورة المؤمنون آية: 89.

فلواحد كن واحدًا في واحد ... أعني سبيل الحق والإيمان وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- الإخلاص بمثل ما ذكره ابن القيم -رحمه الله تعالى- فقال: "الإخلاص محبة الله وإرادة وجهه". [أقسام العلم النافع] وأما أقسام العلم النافع الذي يجب معرفته أو اعتقاده فهو يتضمن ما سبق ذكره، وهو ثلاثة أقسام، ذكرها العلامة ابن القيم -رحمه الله تعالى- في الكافية الشافية قال: والعلم أقسام ثلاث ما لها ... من رابع خلوا عن الروغان علم بأوصاف الإله وفعله ... وكذلك الأسماء للرحمن والأمر والنهي الذي هو دينه ... وجزاؤه يوم المعاد الثاني وبهذا تم الجواب عما أوردناه. وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم

الرسالة العاشرة: من لوازم ما دلت عليه لا إله إلا الله

الرسالة العاشرة [من لوازم ما دلَّت عليه لا إله إلا الله] بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، وصلى الله على سيد المرسلين محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. من عبد الرحمن بن حسن إلى الإمام المكرم أكرمه الله بالتوحيد، وحماه من شبه أهل الشرك والإلحاد والتنديد. سلام عليك ورحمة الله وبركاته. (وبعد): فاعلم أن "لا إله إلا الله" لها معنى عظيم، تستضيء به قلوب أهل الإسلام والإيمان، وهو الذي بعث الله به جميع الرسل من أولهم إلى آخرهم وخلقهم لأجله. والقرآن من أوله إلى آخره يبين معنى هذه الكلمة؛ ونذكر بعض ما دل عليه القرآن من معناها، وما ذكره العلماء من أئمة الإسلام، فدونك كلام العماد ابن كثير -رحمه الله تعالى- في تفسير سورة {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} 1. ذكر أن هذه السورة سورة البراءة من العمل الذي يعمله المشركون، وهي آمرة بالإخلاص، وأن قريشا دعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عبادة أوثانهم سنة ويعبدون إلهه سنة، فأنزل الله هذه السورة، وأمره فيها أن يتبرأ من دينهم بالكلية فقال: {لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} 2 يعني من الأصنام والأنداد، {وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} 3 وهو الله وحده؛ ولهذا كان كلمة الإسلام: "لا إله إلا الله محمد رسول الله". والمشركون يعبدون غير الله. (قلت): فدلت هذه السورة الكريمة على البراءة من عبادة أصنام المشركين وأوثانهم، فأمر الله تعالى نبيه أن يتبرأ من أوثان المشركين

_ 1 سورة الكافرون آية: 1. 2 سورة الكافرون آية: 2. 3 سورة الكافرون آية: 3.

وأصنامهم التي كانت موجودة في الخارج: اللات والعزى ومناة وغيرها. وقد أخبر تعالى عن خليله إبراهيم أنه قال لأبيه وقومه: {مَا تَعْبُدُونَ قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ} 1 إلى قوله: {قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الأَقْدَمُونَ فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ} 2، فصرح بعداوة أصنامهم بأعيانها وهي موجودة في الخارج، واستثنى من معبوداتهم رب العالمين، لأنهم كانوا يعبدون الله، لكنهم يعبدون معه الأصنام؛ فاستثنى المعبود الحق الذي لا تصلح العبادة إلا له. فأخبر تعالى عنه أنه قال لقومه: {أَإِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ} 3، وأخبر عنه أنه قال لقومه: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ * إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِين وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ} 4 وهي: "لا إله إلا الله" بإجماع أهل الحق؛ فعبر عنها بالبراءة من معبوداتهم التي كانوا يعبدونها في الخارج. فقوله: {إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ} 5 هو معنى النفي في قوله: "لا إله"، وقوله: {إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي} 6 هو معنى "إلا الله"، وهذا كاف في البيان لمثلك الذي قد عرفه معنى "لا إله إلا الله". وهذا المعنى في هذه الكلمة يعرفه حتى المشركون كما قال تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ} 7. عرفوا أن "لا إله إلا الله" علم على ترك عبادة آلهتهم التي كانوا يعبدونها من أوثانهم وأصنامهم، وكل الفرق يعرفون معناها، حتى أعداء الرسل كما قالت عاد: {قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} 8، فعرفوا على شدة كفرهم أنه أراد منهم ترك عبادة ما كان يعبده آباؤهم. [ما نفته لا إله إلا الله] فتبين بهذا أن "لا إله إلا الله" نفت كل ما كان يعبد من دون الله من صنم ومن وثن، من حين حدث الشرك في قوم نوح إلى أن تقوم الساعة.

_ 1 سورة الشعراء آية: 70. 2 سورة الشعراء آية: 75. 3 سورة الصافات آية: 86. 4 سورة الزخرف آية: 26. 5 سورة الزخرف آية: 26. 6 سورة الزخرف آية: 26. 7 سورة الصافات آية: 35. 8 سورة الأعراف آية: 70.

وهذا المعنى أكثر أهل العلم يسلمونه ويعرفونه، حتى الخوارج والرافضة والمعتزلة والمتكلمون، من كل أشعري وكرامي وماتريدي؛ وإنما اختلفوا في العمل بلا إله إلا الله. فبعضهم يظن أن هذا في حق أناس كانوا فبانوا، فخفي عليهم حقيقة الشرك. وأما الفلاسفة وأهل الاتحاد فإنهم لا يقولون بهذا المعنى ولا يسلمونه، بل يقولون: إن المنفي ب "لا إله إلا الله" كلي، لا يوجد منه في الخارج إلا فرد وهو الله، فهو المنفي وهو المثبت بناء على مذهبهم الذي صاروا به أشد الناس كفرا، وهو قولهم: إن الله هو الموجود المطلق. فلم يخرجوا من ذلك صنما ولا وثنا. ويشبه قولهم هذا أهل وحدة الوجود القائلين بأن الله تعالى هو الموجود بعينه، فيقولون: إن المنفي كلي، والمثبت بقوله "إلا" هو الوجود بعينه. ولا فرق عند الطائفتين بين الخالق والمخلوق، ولا بين العابد والمعبود، كل شيء عندهم هو الله، حتى الأصنام والأوثان، وهو حقيقة قول هذا الرجل سواء. فخذ قولي واقبله -وفقك الله-. فلقد عرفت -بحمد الله- ما أرادوه من قولهم: إن المنفي كلي لا يوجد منه في الخارج إلا فرد. ويدعي هذا مثل ما ادعته هذه الطائفة أن تقدير خبر "لا": موجود. وهذه الكلمة لم توضع لتقرير الوجود، وإنما وضعت لنفي الشرك، والبراءة منه، وتجريد التوحيد، كما دلت عليه الآيات المحكمات البينات، ودعوة الرسل من أولهم إلى آخرهم. وتقدير خبر "لا" بموجود لا يجري إلا على مذهب الطائفتين -لعنهم الله- على قولهم: إن الله هو الوجود، فلا موجود إلا الله. فهذا معنى قوله: إنه كلي لا يوجد منه في الخارج إلا فرد. فغير المعنى الذي دلت عليه "لا إله إلا الله" من نفي جميع المعبودات التي تعبد من دون الله، والمنفي إنما هو حقيقتها كما قال المسيح -عليه السلام-: {سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي

أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ} 1. [كل معبود سوى الله باطل] ولا ريب أن كل معبود سوى الله فهو باطل، والمنفي بـ"لا إله" هي المعبودات الباطلة، والمستثنى بـ"إلا" هو سبحانه، ويدل على هذا قوله تعالى في سورة الحج: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى} 2، وقال في آخر السورة: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ} 3، وقال في سورة لقمان: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ} 4. فقوله: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ} 5 هو المستثنى بـ"إلا الله"؛ وهو الحق، وقوله: {وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ} 6 هو المنفي بـ"لا إله"، وما بعد هذا إلا التلبيس على الجهال، وإدخال الشك عليهم في معنى كلمة الإخلاص؛ فكابر المعقول والمنقول بدفعه ما جاء به كل رسول. نسأل الله لنا ولكم علما نستضيء به من جهل الجاهلين، وضلال المضلين، وزيغ الزائغين، وفي الحديث: "رب لا تزغ قلبي بعد إذ هديتني"7. وقد كان أبو بكر الصديق رضي الله عنه يقرأ في الركعة الأخيرة بعد المغرب: {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} 8. وهذا -بحمد الله- كاف في بيان الحق، وبطلان الباطل. وصلى الله على سيد المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وسلم تسليما.

_ 1 سورة المائدة آية: 116. 2 سورة الحج آية: 6. 3 سورة الحج آية: 62. 4 سورة لقمان آية: 30. 5 سورة الحج آية: 6. 6 سورة الحج آية: 62. 7 أبو داود: الأدب (5061). 8 سورة آل عمران آية: 8.

القسم الثاني: رسائل وفتاوى الشيخ حمد بن ناصر بن عثمان بن معمر

مجموعة الرسائل والمسائل النجدية رسائل وفتاوى العلامة الشيخ حمد بن ناصر بن عثمان بن معمر الحنبلي رحمه الله تعالى طبع بأمر صاحب العظمة السلطان عبد العزيز آل سعود سلطان نجد وملحقاتها لا زال ناشرًا للعلم والدين، ومعزًّا للإسلام والمسلمين أشرف على طبعه وعلق عليه بعض الفوائد السيد محمد رشيد رضا منشئ مجلة المنار الطبعة الأولى في مطبعة المنار بمصر سنة 1344

رسالة الاجتهاد والتقليد

رسائل وفتاوى الشيخ حمد بن ناصر ... [رسالة الاجتهاد والتقليد] بسم الله الرحمن الرحيم {وبه استعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم} الحمد لله رب العالمين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين. {مسألة}: ما قولكم -نوَّر الله قلوبكم لفك المعضلات، ووفقكم للأعمال الصالحات-: هل يلزم المبتدئين المتعلمين الترقي إلى معرفة الدليل الناصّ على كل مسألة، ومعرفة طرقه وصحته؟ أم تقليد المخرجين للحديث أنه صحيح أو حسن، أو يكفيهم العمل بالفقهيات المجردة عن الدليل يغنيهم هذا فيمن طلب العلم وتأهل له. فما الحال في العوام، هل يجزئهم مجرد التقليد؟ وأيضا حكى بعض المتأخرين الإجماع على تقليد الأئمة الأربعة أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد، فأفيدونا واحتسبوا؛ فإن الحاجة ماسة إلى هذه المباحث، فإن تتفضلوا بطول الجواب، وذكر الدليل ومن قال به، فهو المطلوب. فأجاب الشيخ حمد بن ناصر بن عثمان بن معمر -رحمه الله تعالى-: الجواب وبالله التوفيق: [فريضة طاعة الله وطاعة رسوله] لا ريب أن الله -سبحانه- فرض على عباده طاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم قال الله تعالى: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ} 1، وقال تعالى: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ} 2 إلى قوله: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} 3. ولم يوجب الله على هذه الأمة طاعة أحد بعينه في كل ما يأمر به وينهى عنه، إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم

_ 1 سورة الأعراف آية: 3. 2 سورة النور آية: 54. 3 سورة النور آية: 54.

واتفق العلماء على أنه ليس أحد معصوما إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم. [نهي الأئمة الأربعة عن تقليدهم] وهؤلاء الأئمة الأربعة قد نهوا الناس عن تقليدهم في كل ما يقولون، فقال أبو حنيفة: "علمنا هذا رأي، وهو أحسن ما قدرنا عليه، ومن جاءنا بأحسن منه قبلناه منه". وقال معن بن عيسى: سمعت مالكا يقول: "إنما أنا بشر أخطئ وأصيب، فانظروا في قولي، فكل ما خالف الكتاب والسنة فاتركوه". وقال ابن القاسم: كان مالك يكثر أن يقول: {إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ} 1. وقال الشافعي: "إذا صح الحديث فاضربوا بقولي الحائط، وإذا رأيت الحجة على الطريق فهي قولي". والإمام أحمد كان يقول: "لا تقلدوني، ولا تقلدوا مالكا ولا الشافعي ولا الثوري، وتعلموا كما تعلمنا". وكان يقول: "من قلة علم الرجل أن يقلد دينه الرجال". وقال: "لا تقلد دينك الرجال؛ فإنهم لن يسلموا من أن يغلطوا". وقال ابن عبد البر: "أجمعَ الناس على أن المقلد ليس معدودا من أهل العلم، وأن العلم معرفة الحق بدليله". [من شروط القاضي الاجتهاد] ولهذا جعل الفقهاء من شروط القاضي أن يكون مجتهدا، فلا يصح أن يتولاه المقلد، هذا الذي عليه جمهور العلماء. قال في "الإفصاح":2 اتفقوا على أنه لا يجوز أن يولى القضاء من ليس من أهل الاجتهاد، إلا أبا حنيفة؛ فإنه قال: يجوز ذلك. وقال الموفق في "المغني"3: يشترط في القاضي ثلاثة شروط: (أحدها): الكمال؛ وهو نوعان: كمال الأحكام، وكمال الخلقة. (والثاني): العدالة. (والثالث): أن يكون من أهل الاجتهاد. وبهذا قال مالك والشافعي وبعض

_ 1 سورة الجاثية آية: 32. 2 "الإفصاح عن شرح معاني الصحاح" -أي أحاديث الصحيحين- لأبي المظفر يحيى بن محمد بن هبيرة الوزير المتوفى سنة 560. 3 "المغني في فقه المذاهب الإسلامية" للشيخ موفق الدين بن قدامة الحنبلي، المتوفى في سنة 620.

الحنفية، وقال بعضهم: يجوز أن يكون عاميا فيحكم بالتقليد؛ لأن الغرض فصل الخصومات، فإذا أمكنه ذلك بالتقليد جاز كما يحكم بقول المقومين، ولنا قوله تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} 1، ولم يقل بالتقليد، وقال: {لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} 2، وقال: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} 3. وروى بريدة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "القضاة ثلاثة؛ اثنان في النار وواحد في الجنة: رجل علم الحق فقضى به فهو في الجنة، ورجل قضى للناس على جهل فهو في النار، ورجل جار في الحكم فهو في النار"4 رواه ابن ماجه 5. والعامي يقضي على جهل، ولأن الحكم آكد من الفتيا، لأنه فتيا وإلزام، والمفتي لا يجوز أن يكون مقلدا، فالحاكم أولى، انتهى. وقال في "الإنصاف"6: ويشترط في القاضي أن يكون مجتهدا، هذا المذهب المشهور، وعليه معظم الأصحاب. قال ابن حزم: "يشترط كونه مجتهدا إجماعا"، وقال: "أجمعوا على أنه لا يحل لحاكم ولا لمفت تقليد رجل، فلا يحكم ولا يفتي إلا بقوله". وقال في "الإفصاح": الإجماع انعقد على تقليد كل من المذاهب الأربعة، وأن الحق لا يخرج عنهم، واختار في "الترغيب": ومجتهدًا 7 في مذهب إمامه للضرورة. واختار في "الإفصاح" و"الرعاية": ومقلدًا، (قلت): وعليه العمل من مدة طويلة وإلا تعطلت أحكام الناس، وقيل في المقلد: يفتي ضرورة.

_ 1 سورة المائدة آية: 48. 2 سورة النساء آية: 105. 3 سورة النساء آية: 59. 4 أبو داود: الأقضية (3573) , وابن ماجه: الأحكام (2315). 5 رواه أصحاب السنن الأربعة والحاكم، وهذا لفظ ابن ماجه. 6 يوجد عدة كتب سميت (الإنصاف في مسائل الخلاف)، أحدها: للقاضي أبي بكر بن العربي المالكي، المتوفى سنة 543. وثانيها: لأبي سعد محمد بن يحيى النيسابوري الشافعي، المتوفى سنة 548. وثالثها: للحافظ أبي الفرج بن الجوزي الحنبلي، المتوفى سنة 591. والظاهر أن هذا الأخير هو المراد هنا، فقوله: "معظم الأصحاب" يعني به الحنابلة. 7 الظاهر أنه معطوف على محذوف منصوب.

وذكر القاضي أن ابن شاقلا اعترض عليه بقول الإمام أحمد: "لا يكون فقيهًا حتى يحفظ أربعمائة ألف حديث"، فقال: إن كنت لا أحفظه فإنني أفتي بقول من يحفظ أكثر منه. قال القاضي: لا يقتضي هذا أنه كان يقلد أحمد لمنعه الفتيا بلا علم. قال بعض الأصحاب: ظاهره تقليده إلا أن يحمل على أخذ طرق العلم عنه. وقال ابن بشار من الأصحاب: لا أعيب على من يحفظ خمس مسائل لأحمد يفتي بها. قال القاضي: هذا منه مبالغة في فضله، وظاهر نقل عبد الله يفتي غير مجتهد، ذكره القاضي، وحمله الشيخ تقي الدين على الحاجة، انتهى ملخصا. [فتوى المقلد وحكمها] وذكر ابن القيم في مسألة التقليد في الفتيا ثلاثة أقوال: (أحدها): أنه لا يجوز الفتوى بالتقليد، لأنه ليس بعلم، والفتوى بغير علم حرام؛ ولا خلاف بين الناس أن التقليد ليس بعلم، وأن المقلد لا يطلق عليه اسم عالم، وهذا قول أكثر الأصحاب، وهو قول جمهور الشافعية. (والثاني): أن ذلك يجوز فيما يتعلق بنفسه، فيجوز أن يقلد غيره من العلماء إذا كانت الفتوى لنفسه، ولا يجوز أن يقلد العالم فيما يفتي به لغيره، وهذا قول ابن بطة وغيره من أصحابنا. (والقول الثالث): أنه يجوز ذلك عند الحاجة وعدم العالم المجتهد، وهو أصح الأقوال، وعليه العمل. انتهى كلام ابن القيم رحمه الله. فتبين بما ذكرناه أن المقلد ليس بعالم، وأن التقليد إنما يصار إليه عند الحاجة للضرورة، ولكن قد دعت الحاجة والضرورة إليه من زمان طويل، لا سيما في هذا الوقت، وحينئذ فيقال: التقليد ثلاثة أنواع: (أحدها): التقليد بعد قيام الحجة وظهور الدليل على خلاف قول

المقلَّد، فهذا لا يجوز، وقد اتفق السلف والأئمة على ذمه وتحريمه، قال الشافعي -رحمه الله-: أجمع المسلمون على أنه من استبانت له سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن له أن يدعها لقول أحد من الناس. (النوع الثاني): التقليد مع القدرة على الاستدلال والبحث عن الدليل، فهذا مذمومٌ أيضا لأنه عمل على جهل، وإفتاء بغير علم، مع قدرته وتمكنه من معرفة الدليل المرشد، والله تعالى- قد أوجب على عباده أن يتقوه بحسب استطاعتهم، فقال تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} 1، وقال النبي صلى الله عليه وسلم "إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم"2. فالواجب على كل عبد أن يبذل جهده في معرفة ما يتقيه مما أمره الله به ونهاه عنه، ثم يلتزم طاعة الله ورسوله. ولم يكلِّف الله عباده ما لا يطيقونه، بل الواجب على العبد ما يستطيعه من معرفة الحق، فإذا بذل جهده في معرفة الحق فهو معذورٌ فيما خفي عليه. (النوع الثالث) التقليد السائغ، وهو تقليد أهل العلم عند العجز عن معرفة الدليل، وأهل هذا النوع نوعان أيضا: (أحدهما): من كان من العوام الذين لا معرفة لهم بالفقه والحديث، ولا ينظرون في كلام العلماء، فهؤلاء لهم التقليد بغير خلاف، بل حكى غير واحد إجماع العلماء على ذلك. (النوع الثاني): من كان محصلا لبعض العلوم قد تفقه في مذهب من المذاهب، وتبصر في كتب متأخري الأصحاب؛ كـ"الإقناع" و"المنتهى" في مذهب الحنابلة، أو "المنهاج" ونحوه في مذهب الشافعية، أو "مختصر خليل" ونحوه في مذهب المالكية، أو "الكنز" ونحوه في مذهب الحنفية، ولكنه قاصر النظر عن معرفة الدليل ومعرفة الراجح من كلام العلماء، فهذا له

_ 1 سورة التغابن آية: 16. 2 البخاري: الاعتصام بالكتاب والسنة (7288) , ومسلم: الحج (1337) , والنسائي: مناسك الحج (2619) , وابن ماجه: المقدمة (1,2) , وأحمد (2/ 258,2/ 355,2/ 428,2/ 456,2/ 482,2/ 495).

التقليد أيضا، إذ لا يجب عليه إلا ما يقدر عليه، و {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} 1. ونصوص العلماء على جواز التقليد لمثل هذا كثيرة مشهورة؛ وذلك لقوله تعالى: {فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} 2، وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم-: "ألا سألوا إذ لم يعلموا، فإنما شفاء العي السؤال"3. ولم تزل العامة في زمن الصحابة والتابعين ومن بعدهم يستفتون العلماء ويتبعونهم في الأحكام الشرعية، والعلماء يبادرون إلى إجابة سؤالهم من غير إشارة إلى ذكر الدليل، ولا ينهونهم عن ذلك من غير نكير؛ فكان إجماعا على جواز اتباع العامي العلماء المجتهدين، ويلزم هذا العامي أن يقلد الأعلم عنده، كما يلزمه في مسألة القبلة، فإذا اجتهد مجتهدان عند اشتباه القبلة فاختلفا في الجهة، اتبع المقلد أوثقهما عنده. ولا يجوز له أن يتبع الرخص، بل يحرم ذلك عليه، ويفسق به. قال ابن عبد البر: "لا يجوز للعامي تتبع الرخص إجماعا". ولا يلزم العامي أن يتمذهب بمذهب يأخذ بعزائمه ورخصه. قال الشيخ تقي الدين في الأخذ برخص المذهب وعزائمه: "طاعة 4 غير النبي صلى الله عليه وسلم- في كل أمره ونهيه، وهو خلاف الإجماع"، وتوقف أيضًا في جوازه*. [مَنْ تُؤْخَذ عنه الفتوى] وبالجملة، فالعامي الذي ليس له من العلم حظ ولا نصيب، فرضه التقليد. فإذا وقعت له حادثة استفتى من عرفه عالما عدلا، أو رآه منتصبا للإفتاء والتدريس، واعتبر الشيخ تقي الدين وابن الصلاح الاستفاضة بأنه أهل للفتيا، ورجحه النووي في "الروضة"، ونقله عن أصحابه. وقال الشيخ تقي الدين: "لا يجوز أن يستفتى إلا من يفتي بعلم وعدل".

_ 1 سورة البقرة آية: 286. 2 سورة النحل آية: 43. 3 أبو داود: الطهارة (336). 4 قوله: طاعة إلخ خبر لمبتدأ محذوف تقديره هو: أي الأخذ المذكور طاعة لغير النبي إلخ، إلا أن يكون سقط من الناسخ بعض الكلم. * انظر "الفتاوى الكبرى" (5/ 556)، و"المستدرك على مجموع الفتاوى" (2/ 251). [معد الكتاب للمكتبة الشاملة]

فعلى هذا لا يكتفي بمجرد اعتزائه إلى العلم -ولو بمنصب تدريس أو غيره- لا سيما في هذا الزمان الذي غلب فيه الجهل، وقل فيه طلب العلم، وتصدى فيه جهلة الطلبة للقضاء والفتيا، فتجد بعضهم يقضي ويفتي وهو لا يحسن عبارة الكتاب، ولا يعلم صورة المسألة، بل لو طولب بإحضار تلك المسألة -وهي في الكتاب- لم يهتدِ إلى موضعها، فإنا لله وإنا إليه راجعون. لقد هزلت حتى بدا من هزالها ... كلاها وحتى استامها كل مفلس قال في "شرح مختصر التحرير": ويلزم ولي الأمر منع من لم يعرف بعلم أو جُهل حاله من الفتيا. قال ربيعة: بعض من يفتي أحق بالضرب من السراق. ولا تصح الفتيا من مستور الحال، وما يجيب به المقلد عن حكم فإخبار عن مذهب إمامه لا فتيا، قاله أبو الخطاب وابن عقيل والموفق، ويعمل بخبره إن كان عدلا، لأنه ناقل كالراوي. ولعامي تقليد مفضول من المجتهدين عند الأكثر من أصحابنا، منهم القاضي وأبو الخطاب وصاحب "الروضة"، وقاله الحنفية والمالكية وأكثر الشافعية، وقيل: يصح إن اعتقده فاضلا أو مساويا، لا إن اعتقده مفضولا لأنه ليس من القواعد أن يعدل عن الراجح إلى المرجوح. وقال ابن عقيل 1 وابن سريج والقفال والسمعاني: يلزمه الاجتهاد، فيقدم الأرجح، ومعناه قول الخرقي والموفق في "المقنع"، ولأحمد روايتان. ويلزمه -إن بان له الأرجح- تقليده في الأصح، زاد بعض أصحابنا وبعض الشافعية: "في الأظهر، ويقدم الأعلم على الأورع"، ويخير في تقليد أحد مستويين عند أكثر أصحابنا. قال في "الرعاية": ولا يكفيه من تسكن نفسه إليه، بل لا بد من سكون النفس والطمأنينة به. ويحرم عليه

_ 1 ابن عقيل من كبار فقهاء الحنابلة والثلاثة الذين ذكروا بعده من كبار الشافعية.

تتبع الرخص ويفسق به. وإن اختلف مجتهدان بأن أفتاه أحدهما بحكم والآخر بخلافه، تخير في الأخذ بأيهما شاء على الصحيح، اختاره القاضي والمجد وأبو الخطاب، وذكر أنه ظاهر كلام أحمد. وقيل: يأخذ بقول الأفضل منهما علما ودينا، وهذا اختيار الموفق في "الروضة". [التساهل والتقليد في الفتوى] ويحرم تساهل مفت وتقليد معروف به 1، لأن الفتيا أمر خطر، فينبغي أن يتبع السلف الصالح في ذلك؛ فقد كانوا يهابون الفتيا كثيرًا، وقد قال الإمام أحمد: "إذا هاب الرجل شيئا لا ينبغي أن يحمل على أن يقول به". قال بعض الشافعية: من اكتفى في فتياه بقول أو وجه في المسألة من غير نظر في الترجيح، فقد جهل وخرق الإجماع. وذكر عن أبي الوليد الباجي 2 أنه ذكر عن بعض أصحابهم أنه كان يقول: "الذي لصديقي علي أن أفتيه بالرواية التي توافقه"، قال أبو الوليد: "وهذا لا يجوز عند أحد يعتد به في الإجماع". انتهى كلامه في شرح المختصر ملخصا. وهذا الذي ذكره أبو الوليد ذكر مثله الشيخ تقي الدين وصاحب "الإنصاف" وغيرهما. قال في "الاختيارات": "وأجمع العلماء على تحريم الحكم والفتيا بالهوى، أو بقول أو وجه من غير نظر في الترجيح، ويجب العمل بموجب اعتقاده فيما له وعليه إجماعا". وشروط القضاء تعتبر حسب الإمكان، ويجب تولية الأمثل فالأمثل، وعلى هذا يدل كلام أحمد وغيره؛ فيولى -مع عدم العدل- أنفع الفاسقين وأقلهما شرًّا، وأعدل المقلدين وأعرفهما بالتقليد، فإن كان أحدهما أعلم والآخر أورع: قدم فيما قد يظهر حكمُه ويُخاف الهوى فيه الأورع، وفيما ندر حكمه ويُخاف فيه الاشتباه الأعلم. انتهى.

_ 1 أي التساهل. 2 هو من كبار المالكية.

[معرفة الدليل ولو للمتعلم] • هل يجب على المتعلم معرفة الدليل؟ (وقول السائل) وفقه الله-: هل يلزم المبتدئين المتعلمين الترقي إلى معرفة الدليل الناص على كل مسألة؟ (جوابه): يعلم مما تقدم، وهو أن عليه أن يتقي الله بحسب استطاعته، فيلزمه من ذلك ما يمكنه، ويسقط عنه ما يعجز عنه، ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها. فلا يهجم على التقليد ويخلد إلى أرضه مع قدرته على معرفة الدليل، لا سيما إذا كان قاضيا أو مفتيا وله ملكة قوية يقوى بها على الاستدلال ومعرفة الراجح؛ فإن الرجل النبيه -الذي له فهم وفيه ذكاء- إذا سمع اختلاف العلماء وأدلتهم في الكتب التي يذكر فيها أقوال العلماء وأدلتهم -كـ"المغني" و"الشرح"1 و"التمهيد" لابن عبد البر ونحو هذه الكتب- يحصل عنده في الغالب ما يعرف به رجحان أحد القولين. فإذا كان طالب العلم متمذهبا بأحد المذاهب الأربعة، ثم رأى دليلا مخالفا لمذهب إمامه، وذلك الدليل قد أخذ به بعض أئمة المذاهب، ولم يعلم له ناسخا ولا معارضا، فخالف مذهبه، واتبع الإمام الذي قد أخذ بالدليل، كان مصيبا في ذلك؛ بل هذا الواجب عليه، ولم يخرج بذلك عن التقليد فهو مقلد لذلك الإمام، فيجعل إماما بإزاء إمام، ويبقى له الدليل بلا معارض. قال في "الاختيارات": من كان متبعا لإمام فخالفه في بعض المسائل، لقوة الدليل، أو لكون أحدهما أعلم وأتقى، فقد أحسن. وقال أبو العباس في موضع آخر: بل يجب عليه، وإنَّ أحمد نص عليه،

_ 1 أي "الشرح الكبير" على المقنع الذي يطبع الآن مع المغني في مطبعة المنار، وكلاهما يذكر الأحكام بأدلتها.

ولم يقدح ذلك في عدالته بلا نزاع. وقال -أيضا-: أكثر من يميز في العلم من المتوسطين، إذا نظر وتأمل أدلة الفريقين بقصد حسن ونظر تام، ترجح عنده أحدهما؛ لكن قد لا يثق بنظره، بل يحتمل أن عنده ما لا يعرف جوابه، والواجب على مثل هذا موافقته للقول الذي ترجح عنده بلا دعوى منه للاجتهاد، كالمجتهد في أعيان المفتين والأئمة إذا ترجح عنده أحدهما قلده، والدليل الخاص الذي يرجح به قول على قول أولى بالاتباع من دليل عام، على أن أحدهما أعلم أو أدين، لأن الحق واحد ولا بد، ويجب أن ينصب الله على الحكم دليلا 1. انتهى. وقال الشيخ تقي الدين في بعض أجوبته*: قد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين"2، ولازم ذلك أن من لم يفقهه في الدين لم يرد به خيرا؛ فيكون التفقه في الدين فرضا. والفقه في الدين معرفة الأحكام الشرعية بأدلتها السمعية، فمن لم يعرف ذلك لم يكن متفقها. لكن من الناس من قد يعجز عن الأدلة التفصيلية في جميع أموره، فيسقط عنه ما يعجز عن معرفته، ويلزمه ما يقدر عليه. [تقليد القادر على الاستدلال] وأما القادر على الاستدلال فقيل: يحرم عليه التقليد مطلقا. وقيل: يجوز مطلقا. وقيل: يجوز عند الحاجة، كما إذا ضاق الوقت عن الاستدلال. وهذا القول أعدل الأقوال. والاجتهاد ليس هو أمرا واحدا لا يقبل التجزي والانقسام، بل قد يكون الرجل مجتهدا في فن أو باب أو مسألة دون فن وباب ومسألة؛ وكل أحد فاجتهاده بحسب وسعه. فمن نظر في

_ 1 يعني أبو العباس أن نصب الدليل على الحكم ثابت في الشرع قطعًا، ولا يريد أنه واجب على الله -تعالى-؛ فإنه سني سلفي لا معتزلي. * انظر مجموع الفتاوى (20/ 212). [معد الكتاب للمكتبة الشاملة] 2 البخاري: العلم (71) , ومسلم: الزكاة (1037) , وابن ماجه: المقدمة (221) , وأحمد (4/ 93,4/ 95) , ومالك: الجامع (1667) , والدارمي: المقدمة (224,226).

مسألة: تنازع فيها العلماء، ورأى مع أحد القولين نصوصا لم يعلم لها معارضا بعد نظر مثله فهو بين أمرين: إما أن يتبع قول القائل الأخير لمجرد كونه الإمام الذي اشتغل على مذهبه، ومثل هذا ليس بحجة شرعية، بل مجرد عادة يعارضها عادة غيره باشتغاله على مذهب إمام آخر. وإما أن يتبع القول الذي ترجح في نظره بالنصوص الدالة عليه، وحينئذ فيكون موافقته لإمام يقاوم به ذلك الإمام، وتبقى النصوص سالمة في حقه عن المعارض بالعمل، فهذا هو الذي يصلح. وإنما تنزلنا هذا التنزل لأنه قد يقال: إن نظر هذا قاصر، وليس اجتهاده تاما في هذه المسألة، لضعف آلة الاجتهاد في حقه؛ أما إذا قدر على الاجتهاد التام -الذي يعتقد معه أن القول الآخر ليس معه ما يدفع به النصوص- فهذا يجب عليه اتباع النصوص، وإن لم يفعل كان متبعا للظن وما تهوى الأنفس، وكان من أكبر العصاة لله ورسوله. بخلاف من يقول: قد يكون للقول الآخر حجة راجحة على هذا النص وأنا لا أعلمها، فهذا يقال له: قد قال الله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} 1، وقال النبي صلى الله عليه وسلم "إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم"2. والذي تستطيعه من العلم والفقه في هذه المسألة قد دلَّك على أن هذا القول هو الراجح، فعليك أن تتبع ذلك، ثم إن تبين لك فيما بعد أن للنص معارضا راجحا كان حكمك في ذلك حكم المجتهد المستقل إذا تغير اجتهاده. وانتقال الإنسان من قول إلى قول لأجل ما تبين له من الحق هو محمود فيه، بخلاف إصراره على قول لا حجة معه عليه، وترك القول الذي ترجحت حجته، وأما الانتقال عن قول إلى قول لمجرد عادة واتباع هوى فهذا مذموم. وإذا كان الإمام المقلد قد سمع الحديث وتركه -لا سيما إن كان قد رواه

_ 1 أبو داود: السنة (4643). 2 البخاري: الاعتصام بالكتاب والسنة (7288) , ومسلم: الحج (1337) , والنسائي: مناسك الحج (2619) , وابن ماجه: المقدمة (1,2) , وأحمد (2/ 258,2/ 355,2/ 428,2/ 456,2/ 482,2/ 495).

أيضا- فمثل هذا لا يكون عذرا في ترك النص؛ فقد بيَّنا فيما كتبناه في "رفع الملام عن الأئمة الأعلام" نحوًا من عشرين عذرًا للأئمة في ترك العمل ببعض الحديث، وبيَّنا أنهم يعذرون في الترك لتلك الأعذار. وأما نحن فلسنا معذورين في تركنا لهذا القول، فمن ترك الحديث لاعتقاده أن ظاهر القرآن يخالفه أو القياس أو عمل بعض الأمصار -وقد تبين لآخر أن ظاهر القرآن لا يخالفه، وأن نص الحديث الصحيح مقدم على الظواهر ومقدم على القياس والعمل-، لم يكن عذر ذلك الرجل عذرا في حقه. فإن ظهور المدارك الشرعية للأذهان وخفاءها عنها أمر لا ينضبط طرفاه، لا سيما إذا كان التارك للحديث معتقدا أنه قد ترك العمل به المهاجرون والأنصار من أهل المدينة النبوية، الذين يقال: إنهم لا يتركون الحديث إلا لاعتقادهم أنه منسوخ أو له معارض راجح، وقد بلغ من بعده أن المهاجرين والأنصار لم يتركوه، بل عمل به طائفة منهم أو من سمعه منهم، ونحو ذلك مما يقدح في هذا المعارض. وإذا قيل لهذا المستهدي المسترشد: "أنت أعلم أم الإمام الفلاني؟ " كانت هذه معارضة فاسدة، لأن الإمام الفلاني قد عارضه في هذه المسألة من هو نظيره من الأئمة، فكما أن الصحابة بعضهم لبعض أكفاء في موارد النزاع، وإذا تنازعوا في شيء رد ما تنازعوا فيه إلى الله والرسول -وإن كان بعضهم قد يكون أعلم في مواضع أخر- فكذلك موارد النزاع بين الأئمة. وقد ترك الناس قول عمر وابن مسعود في مسألة "تيمم الجنب"، وأخذوا بقول من هو دونهما، كأبي موسى الأشعري وغيره لما احتج بالكتاب والسنة، وتركوا قول عمر في "دية الأصابع"، وأخذوا بقول معاوية لما كان معه السنة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "هذه وهذه سواء"1. وقد كان بعض الناس يناظر ابن

_ 1 البخاري: الديات (6896) , والترمذي: الديات (1392) , والنسائي: القسامة (4847) , وأبو داود: الديات (4558) , وابن ماجه: الديات (2652) , وأحمد (1/ 227,1/ 339).

عباس في "المتعة"، فقال له: إن أبا بكر وعمر يقولان .. فقال ابن عباس: يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء، أقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقولون: قال أبو بكر وعمر؟! وكذلك ابن عمر لما سألوه عنها فأمر بها، فعارضوه بقول عمر، فبيَّن أن عمر يرد ما يقولونه، فألَّحُوا عليه، فقال: أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أحقُّ أن يُتَّبع أم أمر عمر؟ مع علم الناس أن أبا بكر وعمر أعلم ممن هو فوق ابن عمر وابن عباس. ولو فُتح هذا الباب لوجب أن يعرض عن أمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ويبقى كل إمام في أتباعه بمنزلة النبي في أمته، وهذا تبديل للدين يشبه ما عاب الله به اليهود والنصارى في قوله تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} 1. انتهى كلام الشيخ -رحمه الله تعالى-. [تقليد نقاد الحديث] • بحث تقليد نقاد الحديث في صحته وغيرها: وأما سؤال السائل عن الترقي إلى معرفة طرق الحديث وصحته، أم تقليد المخرجين للحديث في أنه صحيح أو حسن يكفيهم. فجوابه: أن ذلك يكفيهم. قال في "شرح مختصر التحرير": ويُشترط في المجتهد أن يكون عالما بصحة الحديث وضعفه سندا ومتنا، ولو كان علمه بذلك تقليدا، كنقله من كتاب صحيح من كتب الحديث المنسوبة إلى الأئمة، كمالك، وأحمد، والبخاري، ومسلم، وأبي داود، والترمذي، والدارقطني، والحاكم ونحوهم، لأنهم أهل المعرفة بذلك، فجاز الأخذ بقولهم كما يؤخذ بقول المقومين في القيم، انتهى. وقال في "مسودة بني تيمية": العامي الذي ليس معه آلة الاجتهاد في الفروع يجوز له التقليد فيها عند الشافعية والجمهور، قال أبو الخطاب: ويجوز

_ 1 سورة التوبة آية: 31.

له الرجوع إلى أهل الحديث في الخبر، وكون سنده صحيحا أو فاسدًا، ولا يلزمه أن يتعلم ذلك بالإجماع، انتهى. وقال عبد الرحيم بن الحسين العراقي في ألفيَّته: وأخذ متن من كتاب لعمل ... أو احتجاج حيث ساغ قد جعل عرضًا له على أصول يشترط ... وقال يحيى النووي أصل فقط ثم قال المؤلف في شرحه: أي: وأخذ الحديث من كتاب من الكتب المعتمدة لعمل به أو احتجاج به، إن كان ممن يسوغ له العمل بالحديث أو الاحتجاج به، جعل ابن الصلاح شرطه أن يكون ذلك الكتاب مقابلا بمقابلة ثقة على أصول صحيحة متعددة مروية بروايات متنوعة. قال النووي: فإن قابلها بأصل معتمد محقق أجزأه. وقال ابن الصلاح في قسم الحسن، حين ذكر أن نسخ الترمذي تختلف في قوله: حسن، أو حسن صحيح ونحو ذلك: "فينبغي أن تصحح أصلك بجماعة أصول، وتعتمد على ما اتفقت عليه. فقوله: "ينبغي" قد يشير إلى عدم اشتراط ذلك، وإنما هو مستحب، وهو كذلك. انتهى كلام العراقي. وقال أبو الحسن البكري الشافعي في كتابه "كنز المحتاج على المنهاج" -لما ذكر أن من شروط القاضي أن يكون مجتهدا إلا إذا فوضت إليه واقعة خاصة-: فيكفي الاجتهاد في تلك الواقعة بناء على تجزئ الاجتهاد وهو الأصح ... إلى أن قال: وقد يحصل الاجتهاد في باب دون باب آخر، ولا حاجة لتتبع الأحاديث، بل يكفي أصل مصحح اعتني فيه بجمع أحاديث الأحكام -كسنن أبي داود- ولا أن يعرف مواقع كل باب فيراجعه عند الحاجة، ولا إلى البحث عن رواة حديث أجمع السلف على قبوله أو تواترت عدالة

رواته ويقظتهم، وما عداه يكتفي في رواته بتعديل إمام مشهور عرفت صحة مذهبه جرحا وتعديلا، ولا إلى ضبط جميع مواضع الإجماع والاختلاف، بل يكفي معرفته بعدم مخالفة قوله الإجماع لموافقته بتقدم عليه أو غلبة ظن بتوليها في عصره، وكذا في معرفة الناسخ والمنسوخ، انتهى. وقال في "شرح الروض" للقاضي زكريا -لما ذكر أن من شروط القاضي أن يكون مجتهدا- قال: والمجتهد من علم ما يتعلق بالأحكام من الكتاب والسنة، وعرف منها العام والخاص، والمطلق والمقيد، والمجمل والمبين، والنص والظاهر، والناسخ والمنسوخ، والمتواتر والآحاد، والمرسل والمتصل، وعدالة الرواة وجرحهم، وأقاويل الصحابة -رضي الله عنهم- فمن بعدهم ... إلى أن قال: ولا يشترط التبحر في هذه العلوم، بل يكفي معرفة جمل منها، وأن يكون له في كتب الحديث أصل صحيح يجمع أحاديث الأحكام -كسنن أبي داود- فيعرف كل باب، فيراجعه إذا احتاج إلى العمل به. ويكتفي في البحث عن الآحاد بما قبله منها السلف وتواترت أهلية رواته من العدل والضبط، وما عداه يكتفي في أهلية رواته بتأهل إمام مشهور عرفت صحة مذهبه في الجرح والتعديل. ثم اجتماع هذه العلوم إنما يشترط في المجتهد المطلق الذي يفتي في جميع أبواب الشرع، ويجوز أن يتبعض الاجتهاد، بأن يكون العالم مجتهدا في باب دون باب، فيكفيه علم ما يتعلق بالباب الذي يجتهد فيه. انتهى كلام القاضي. فتبين -بما ذكرناه من النقول- جواز الاعتماد على نقل الأحاديث من الكتب المصححة، وكذلك التقليد لأهل الجرح والتعديل في تصحيح الحديث أو تضعيفه، والله -سبحانه- أعلم.

[تقليد الأئمة الأربعة] • ما قيل في تقليد الأئمة الأربعة: (وأما قول السائل) -وفقه الله لفهم المسائل-: حكى بعض المتأخرين الإجماع على تقليد الأئمة الأربعة: أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد رحمهم الله. فنقول: هذا الإجماع حكاه غير واحد من المتأخرين، وكلهم نسبوه إلى الوزير أبي المظفر يحيى بن هبيرة صاحب "الإفصاح عن معاني الصحاح"؛ فإنه ذكر نحوا من هذه العبارة، وليس مراده أن الإجماع منعقد على وجوب تقليد هؤلاء الأئمة الأربعة، وأن الاجتهاد بعد استقرار هذه المذاهب لا يجوز، فإن كلامه يأبى ذلك؛ وإنما أراد الرد على من اشترط في القاضي أن يكون مجتهدا، وأن المقلد لا ينفذ قضاؤه، كما هو مذهب كثير من العلماء المتقدمين والمتأخرين. وحمل كلام من اشترط في القاضي أن يكون مجتهدا على ما كانت عليه الحال قبل استقرار هذه المذاهب الأربعة، وأما بعد استقرار هذه المذاهب فيجوز تولية المقلد لأهلها، وينفذ قضاؤه. وليس في كلامه ما يدل على أنه يجب التقليد لهؤلاء الأئمة؛ بحيث أنْ يُلزم الرجل أن يتمذهب بأحد هذه المذاهب الأربعة، ولا يخرج عن مذهب من قلده كما قد يتوهم؛ بل كلامه يخالف ذلك ولا يوافقه. وعبارته في "الإفصاح": اتفقوا على أنه لا يجوز أن يولى القضاء من ليس من أهل الاجتهاد، إلا أبا حنيفة فإنه قال: "يجوز ذلك". ثم قال: والصحيح في هذه المسألة أن قول من قال: لا يجوز تولية قاض حتى يكون من أهل الاجتهاد، فإنه -إنما عنى به- ما كانت الحال عليه قبل استقرار هذه المذاهب الأربعة التي أجمعت الأمة أن كل واحد منها يجوز العمل به لأنه مستند إلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

"فالقاضي الآن، وإن لم يكن من أهل الاجتهاد، ولا يسعى في طلب الأحاديث وابتغاء طرقها، ولا عرف من لغة الناطق بالشريعة صلى الله عليه وسلم ما لا يعوزه معه معرفة ما يحتاج إليه فيه، وغير ذلك من شروط الاجتهاد، فإن ذلك مما قد فرغ منه، ودأب له فيما سواه، وانتهى له الأمر من هؤلاء الأئمة المجتهدين إلى ما أراحوا به من بعدهم، وانحصر الحق في أقاويلهم، ودونت العلوم، وانتهت إلى ما اتضح فيه الحق. فإذا عمل القاضي في أقضية بما يأخذ عنهم -أو عن الواحد منهم, فإنه في معنى من كان أداه اجتهاده إلى قول قاله. وعلى ذلك، فإنه إذا خرج من خلافهم -متوخيا مواطن الاتفاق ما أمكنه- كان آخذا بالحزم، عاملا بالأولى، وكذلك إذا قصد في مواطن الخلاف توخي ما عليه الأكثر منهم، والعمل بما قاله الجمهور دون الواحد؛ فإنه قد أخذ بالحزم والأحوط والأولى، مع جواز علمه أن يعمل بقول الواحد. إلا أنني أكره له أن يكون ذلك، من حيث إنه قد قرأ مذهب واحد منهم، أو نشأ في بلدة لم يعرف فيها إلا مذهب إمام واحد منهم، أو كان شيخه ومعلمه على مذهب فقيه من الفقهاء، فقصر نفسه على اتباع ذلك المذهب. حتى إنه إذا حضر عنده خصمان، وكان ما تشاجرا فيه مما يفتي الفقهاء الثلاثة فيه بحكم نحو الوكيل بغير رضاء الخصم، وكان الحاكم حنفيا، وقد علم أن مالكا والشافعي وأحمد اتفقوا على جواز هذا التوكيل، وأن أبا حنيفة يمنعه، فعدل عما اجتمع عليه هؤلاء الأئمة الثلاثة إلى ما ذهب إليه أبو حنيفة، من غير أن يثبت عنده بالدليل ما قاله، ولا أداه اجتهاده إلى أن أبا حنيفة أولى بالاتباع مما اتفق الجماعة عليه، فإني أخاف على هذا من الله عز وجل بأنه اتبع في ذلك هواه، وأنه ليس من الذين {يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ

فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ}. وكذلك إن كان القاضي مالكيا، فاختصم إليه اثنان في سؤر الكلب، فقضى بطهارته مع علمه بأن الفقهاء كلهم قضوا بنجاسته. وكذلك إن كان القاضي شافعيا، فاختصم إليه اثنان في متروك التسمية عمدا، فقال أحدهما: هذا منعني من بيع شاة مذكاة. فقال الآخر: إنما منعته من بيع الميتة. فقضى عليه بمذهبه وهو يعلم أن الأئمة الثلاثة على خلافه. وكذلك إن كان القاضي حنبليا، فاختصم إليه اثنان، فقال أحدهما: لي عليه مال. فقال الآخر: كان له علي مال فقضيته. فقضى عليه بالبراءة من إقراره، مع علمه بأن الأئمة الثلاثة على خلافه، فإن هذا وأمثاله -مما توخى اتباع الأكثرين فيه- أقرب عندي إلى الإخلاص، وأرجح في العمل. "وبمقتضى هذا فإن ولايات الحكام في وقتنا هذا صحيحة، وإنهم قد سدُّوا ثغرًا من ثغور الإسلام سَدُّهُ فرْضُ كفاية، ولو أهملت هذا القول ولم أذكره، ومشيت على الطريق التي يمشي عليها الفقهاء، الذين يذكر كل منهم في كتابٍ إنْ صَنَّفه، أو كلامٍ إنْ قالَهُ، أنَّه لا يصح أن يكون قاضيا، إلا من كان من أهل الاجتهاد. ثم يذكر من شروط الاجتهاد أشياء ليست موجودة في الحكام، فإن هذا كالإحالة والتناقض، وكأنه تعطيل للأحكام وسد لباب الحكم، وأن لا ينفذ حق، ولا يكاتب به، ولا يقام بينة، إلى غير ذلك من القواعد الشرعية، وهذا غير صحيح، بل الصحيح في المسألة أن ولاة الحكام جائزة، وأن حكوماتهم اليوم صحيحة نافذة، وولاياتهم جائزة شرعا. انتهى كلام ابن هبيرة رحمه الله 1.

_ 1 في هذا الكلام نظر من وجوه، ومما ينبغي التنبيه عليه في هذا المقام أن من أصول الشريعة اليسر ورفع الحرج، ومن هدي النبي "ص" أنه ما خُيِّرَ =

فقد تضمن هذا الكلام أن تولية المقلد جائزة إذا تعذرت تولية المجتهد، لأنه ذكر أن شروط الاجتهاد ليست موجودة في الحكام، وأن هذا كالإحالة، وكأنه تعطيل للأحكام وسد لباب الحكم، فينفذ قضاء المقلد للحاجة لئلا تتعطل الأحكام. وهكذا قال غير واحد من المتأخرين، الذين يذكرون أن من شروط القاضي أن يكون مجتهدا يذكر هذا، ثم يذكر القول الثاني أنه يجوز تولية المقلد للضرورة، كما ذكره متأخرو الحنابلة والمالكية والشافعية. وتضمن أيضا كلام ابن هبيرة أن إجماع الأئمة الأربعة حجة، وأن الحق لا يخرج عن أقوالهم، فلا يخرج القاضي عما أجمعوا عليه، فإن اختلفوا فالأولى أن يتبع ما عليه الأكثر، وصرح بأنه يكره له أن يقضي بما انفرد به الواحد منهم عما عليه الثلاثة، لكونه مذهب شيخه أو أهل بلده، وذكر أنه يخاف على هذا أن يكون متبعا لهواه. وتضمن كلامه -أيضا- أن الإجماع انعقد على تقليد كل واحد من المذاهب الأربعة دون من عداهم من الأئمة؛ لأن مذاهبهم مدونة قد حررت، ونقحها أتباعهم، بخلاف أقوال غيرهم من الأئمة، فلأجل هذا جاز تقليدهم، فليس في كلامه إلا حكاية الإجماع على جواز تقليدهم لا على وجوبه. بل صرح بأن القاضي لا ينبغي له الاقتصار على مذهب واحد منهم لا يفتي إلا به، بل ذكر أن الأولى للقاضي أن يتوخى مواطن الاتفاق

_ = بين أمرين إلا اختار أيسرهما، وهذا أفضل مرجح بين ما اختلف فيه الأربعة أو غيرهم، "ومنها" الترجيح بقوة الدليل، "ومنها" أن كتب هذه المذاهب وغيرها لا تغني عن الاجتهاد؛ لأن الناس يحدث لهم أقضية بما أحدثوا من أمور الكسب والعمران والنظم المالية، ومن الفجور أيضا كما قال الإمام عمر بن عبد العزيز "رض"، ويناسب هذا ما قاله الفقهاء في تعليق بعض الأعمال بالعرف الذي يختلف باختلاف الزمان والمكان، وكتبه محمد رشيد رضا.

إن وجده، وإلا توخى ما عليه الأكثر، فيعمل بما قاله الجمهور، لا بما قاله الواحد منهم مخالفا الأكثر. فقضية كلامه أن المقلد لا يخرج عن أقوال الأئمة الأربعة، بل يجتهد في أقوالهم، ويتوخى ما عليه أكثرهم، إلا أن يكون للواحد منهم دليل، فيأخذ بقول من كان الدليل معه، فيكون من {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} 1. وهذا من جنس ما أشرنا إليه فيما تقدم، من أن المقلد إذا كان نبيها، وله ملكة قوية، ونظر فيما تنازع فيه الأئمة الأربعة، وأمعن النظر في أدلتهم وتعليلاتهم، تبين له الراجح من المرجوح، وحينئذ فيعمل بما ترجح عنده أنه الصواب، ولا يخرج بذلك عن التقليد. فإذا كان الرجل شافعيا أو حنبليا، ونظر في كتب الخلاف، ووجد دليلا صحيحا قد استدل به مالك فعمل بالدليل، كان هذا هو المناسب في حقه، فيجعل إماما بإزاء إمام، ويسلم له الدليل بلا معارض. وليس هذا من الاجتهاد المطلق، بل هو من الاجتهاد المقيد، فهو يتبع الدليل، ويقلد الإمام الذي قد أخذ به. وأما الأخذ بالدليل من غير نظر كلام العلماء فهو وظيفة المجتهد المطلق، وأما المقلد الذي لم يجتمع فيه الشروط، ففرضه التقليد وسؤال أهل العلم. قال عبد الله بن الإمام أحمد: سألت أبي عن الرجل تكون عنده الكتب المصنفة فيها قول رسول الله صلى الله عليه وسلم واختلاف الصحابة والتابعين، وليس للرجل بصر بالحديث الضعيف المتروك، ولا الإسناد القوي من الضعيف، فيجوز أن يعمل بما شاء، ويتخير ما أحب منها، فيفتي به ويعمل به؟ قال: لا يعمل حتى يسأل ما يؤخذ به منها، فيكون يعمل على أمر صحيح، يسأل عن ذلك أهل العلم. انتهى كلامه.

_ 1 سورة الزمر آية: 18.

[طالب العلم يمكنه معرفة الراجح من الكتب الكبار] وأما إذا وجد الحديث قد عمل به بعض الأئمة المجتهدين، ولا يعلم عند غيره حجة يدفع بها الحديث فعمل به، كان قد عمل بالحديث، وقلد هذا الإمام المجتهد في تصحيحه وعدم ما يعارضه، فيكون متبعا للدليل غيرَ خارجٍ عن التقليد. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-*: طالب العلم يمكنه معرفة الراجح من الكتب الكبار، التي يذكر فيها مسائل الخلاف، ويذكر فيها الراجح، مثل كتاب "التعليق" للقاضي أبي يعلى، و"الانتصار" لأبي الخطاب، و"عمل الأدلة" لابن عقيل، و"تعليق" القاضي يعقوب البرزيني وأبي الحسن الزاغوني. ومما يعرف منه ذلك كتاب "المغني" للشيخ أبي محمد، وكتاب "شرح الهداية" لجدنا أبي البركات، ومن كان خبيرا بأصول أحمد ونصوصه عرف الراجح في مذهبه في عامة المسائل، ومن كان له بصر بالأدلة الشرعية عرف الراجح في الشرع. وأحمد -رحمه الله- أعلم من غيره بالكتاب والسنة، وأقوال الصحابة -رضي الله عنهم-، والتابعين لهم بإحسان -رحمهم الله-؛ ولهذا لا يكاد يوجد له قول يخالف نصا كما يوجد لغيره، ولا يوجد قول ضعيف -في الغالب- إلا وفي مذهبه ما يوافق القول القوي، وأكثر مفاريده التي لم يختلف فيها مذهبه يكون قوله فيها راجحا. انتهى كلامه -رحمه الله-. وهو موافق لما ذكره صاحب "الإفصاح" من أن القاضي عليه أن يتوخى إصابة الحق، فيتوخى مواطن الاتفاق، فيعمل بما اتفقوا عليه، فإن لم يكن الحكم متفقا نظر فيما عليه الجمهور إذا لم يكن مع مخالفهم دليل، فليس الناظر في كتب الخلاف ومعرفة الأدلة بخارج عن التقليد. وليس في كلام صاحب "الإفصاح" ما يقتضي التمذهب بمذهب لا يخرج عنه، بل كلامه

_ * انظر مجموع الفتاوى (20/ 227). [معد الكتاب للمكتبة الشاملة]

صريح في ضد ذلك. وهذه شبهة ألقاها الشيطان على كثير ممن يدعي العلم، وصار بها أكثرهم، فظنوا أن النظر في الأدلة أمر صعب لا يقدر عليه إلا المجتهد المطلق، وأن من نظر في الدليل، وخالف إمامه لمخالفة قوله لذلك الدليل فقد خرج عن التقليد، ونسب نفسه إلى الاجتهاد المطلق. واستقرت هذه الشبهة في قلوب كثير، حتى آل الأمر بهم إلى أن {فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} 1. وزعموا أن هذا هو الواجب عليهم، وأن من انتسب إلى مذهب إمام فعليه أن يأخذ بعزائمه ورخصه، وإن خالف نص كتاب أو سنة؛ فصار إمام المذهب عند أهل مذهبه كالنبي في أمته، لا يجوز الخروج عن قوله، ولا تجوز مخالفته. [التعصب للمذهب] فلو رأوا أحدا من المقلدين قد خالف مذهبه، وقلد إماما آخر في مسألة لأجل الدليل الذي استدل به، قالوا: هذا قد نسب نفسه إلى الاجتهاد، ونزل نفسه منزلة الأئمة المجتهدين، وإن كان لم يخرج عن التقليد، وإنما قلد إماما دون إمام آخر لأجل الدليل، وعمل بقوله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} 2. فالمتعصبون للمذاهب إذا وجدوا دليلا ردوه إلى نص إمامهم، فإن وافق الدليل نص الإمام قبلوه، وإن خالفه ردوه واتبعوا نص الإمام. واحتالوا في رد الأحاديث بكل حيلة يهتدون إليها، فإذا قيل: هذا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: أنت أعلم بالحديث من الإمام الفلاني؟ مثال ذلك: إذا حكمنا بطهارة بول ما يؤكل لحمه، وحكم الشافعي بنجاسته، وقلنا له: قد دل على طهارته حديث العرنيين، وهو حديث صحيح، وكذلك حديث أنس في الصلاة في مرابض الغنم، فقال هذا المنجس لأبوال مأكول

_ 1 سورة المؤمنون آية: 53. 2 سورة النساء آية: 59.

اللحم: أنت أعلم بهذه الأحاديث من الإمام الشافعي؟ فقد سمعها ولم يأخذ بها. فنقول له: قد خالف الشافعي في هذه المسألة من هو مثله أو أعلم منه، كمالك والإمام أحمد -رحمهما الله-، وغيرهما من كبار الأئمة، فنجعل هؤلاء الأئمة بإزاء الشافعي، ونقول: إمام بإمام. وتسلم لنا الأحاديث، ونرد الأمر إلى الله والرسول عند تنازع هؤلاء الأئمة، ونتبع الإمام الذي أخذ بالنص، ونعمل بقوله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} 1. فنمتثل ما أمر الله به، وهذا هو الواجب علينا، ولسنا في هذا العمل خارجين عن التقليد، بل خرجنا من تقليد إمام إلى تقليد إمام آخر لأجل الحجة التي أدلى بها من غير معارض لها ولا ناسخ. [الانتقال من مذهب إلى مذهب لأمر ديني] فالانتقال من مذهب إلى مذهب آخر لأمر ديني بأن تبين له رجحان قول على قول، فيرجع إلى القول الذي يرى أنه أقرب إلى الدليل- مثاب على فعله، بل واجب على كل أحد إذا تبين له حكم الله ورسوله في أمر، أن لا يعدل عنه، ولا يتبع أحدا في مخالفة حكم الله ورسوله؛ فإن الله فرض على الخلق طاعته، وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم في كل حال كما تقدم ذكره. وقد ذكرنا أن الشافعي -رحمه الله- قال: أجمع المسلمون على أن من استبانت له سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن له أن يدعها لقول أحد من الناس. [الانتقال من مذهب إلى مذهب لمجرد الهوى] • الانتقال من مذهب إلى آخر: وأما الانتقال من مذهب إلى مذهب لمجرد الهوى أو لغرض دنيوي، فهذا لا يجوز، وصاحبه يكون متبعا لهواه؛ وقد نص الإمام أحمد -رحمه الله- على أنه ليس لأحد أن يعتقد الشيء واجبًا أو محرما، ثم يعتقده غير واجب

_ 1 سورة النساء آية: 59.

أو محرم بمجرد هواه، وذلك مثل أن يكون طالبا للشفعة بالجوار، فيعتقدها أنها حق، ويقول: مذهب أبي حنيفة في هذه المسألة أرجح من مذهب الجمهور. ثم إذا طلبت منه الشفعة بالجوار اعتقد أنها ليست ثابتة، وقال: مذهب الجمهور في هذه المسألة أرجح. ومثل من يعتقد إذا كان أخا مع جد أن الإخوة تقاسم الجد -كما هو مذهب الأئمة الثلاثة- فإذا كان جدا مع أخ اعتقد أن الجد يسقط الإخوة كما هو مذهب أبي حنيفة، فهذا ونحوه لا يجوز، وصاحبه مذموم، بل يجب عليه أن يعتقد الحق فيما له وعليه، ولا يتبع هواه، ولا يتبع الرخص، فمتبع الرخص مذموم، والمتعصب للمذهب مذموم، وكلاهما متبعٌ هواه. المتعصبون لمذاهب الأئمة يأخذون من الأدنى دون الأعلى والمتعصبون لمذاهب الأئمة تجدهم -في أكثر المسائل- قد خالفوا نصوص أئمتهم، واتبعوا أقوال المتأخرين من أهل مذهبهم، فهم يحرصون على ما قاله الآخر فالآخر، وكلما تأخر الرجل أخذوا بكلامه، وهجروا -أو كادوا- يهجرون كلام من فوقه. فأهل كل عصر إنما يقضون بقول الأدنى فالأدنى إليهم، وكلما بعد العهد ازداد كلام المتقدمين هجرا ورغبة عنه، حتى إنَّ كُتب المتقدمين لا تكاد توجد عندهم، فإن وقعت في أيديهم فهي مهجورة. فالحنابلة قد اعتمدوا على ما في "الإقناع" و"المنتهى"، ولا ينظرون فيما سواهما، ومن خالف مذهب المتأخرين فهو عندهم مخالف لمذهب أحمد -رحمه الله-، مع أن كثيرا من المسائل التي جزم بها المتأخرون مخالفة لنصوص أحمد، يعرف ذلك من عرفه. وتجد كتب المتقدمين من أصحاب أحمد مهجورة عندهم، بل قد هجروا كتب المتأخرين، فـ"المغني" و"الشرح" و"الإنصاف" و"الفروع"، ونحو هذه الكتب التي يذكر فيها أهلها خلاف الأئمة أو خلاف الأصحاب

لا ينظرون فيها. فهؤلاء -في الحقيقة- أتباع الحجاوي وابن النجار لا أتباع الإمام أحمد. وكذلك متأخرو الشافعية هم -في الحقيقة- أتباع ابن حجر الهيتمي صاحب "التحفة"، وأضرابه من شراح "المنهاج"، فما خالف ذلك من نصوص الشافعي لا يعبؤون به شيئا. وكذلك متأخرو المالكية هم -في الحقيقة- أتباع خليل، فلا يعبئون بما خالف مختصر خليل شيئا، ولو وجدوا حديثا ثابتا في الصحيحين لم يعملوا به إذا خالف المذهب، وقالوا: الإمام الفلاني أعلم منا بهذا الحديث {فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} 1. فكل أهل مذهب اعتمدوا على كتب متأخريهم، فلا يرجعون إلا إليها، ولا يعتمدون إلا عليها. وأما كتب الحديث -كالأمهات الست وغيرها من كتب الحديث وشروحها-، وكتب الفقه الكبار التي يذكر فيها خلاف الأئمة وأقوال الصحابة والتابعين، فهي عندهم مهجورة، بل هي في الخزانة مسطورة، للتبرك بها لا للعمل. ويعتذرون بأنهم قاصرون عن معرفتها؛ فالأخذ بها وظيفة المجتهدين، والاجتهاد قد انطوى بساطه من أزمنة متطاولة، ولم يبقَ إلا التقليد، والمقلِّد يأخذ بقول إمامه، ولا ينظر إلى دليلِه وتعليلِه. ولم يميزوا بين المجتهد المطلق -الذي قد اجتمعت فيه شروط الاجتهاد، فهو يستقل بإدراك الأحكام الشرعية من الأدلة الشرعية من غير تقليد ولا تقييد- وبين المجتهد في مذهب إمامه، أو في مذهب الأئمة الأربعة من غير خروج عنها. فهو ملتزم لمذهب إمام من الأئمة، وينظر في كتب الخلاف، ويمعن النظر في الأدلة، فإذا رأى الدليل بخلاف مذهبه قلَّد الإمام الذي قد أخذ بالدليل، فهو اجتهاد مشوب بالتقليد، فينظر إلى ما اتفقوا عليه ويأخذ به، فإن اختلفوا نظر في الأدلة، فإن وجد مع أحدهم دليلا أخذ بقوله، فإن لم يجد في المسألة

_ 1 سورة المؤمنون آية: 53.

دليلا من الجانبين أخذ بما عليه الجمهور، فإن لم يجد ذلك، بل قوي الخلاف عنده من الجانبين التزم قول إمامه إذا لم يترجح عنده خلافه. فأكثر المقلدين لا يميزون بين المجتهد المستقل من غيره، وجعلوهما نوعا واحدا، وهذا غلط واضح؛ فإن من كان قاصرا في العلم لا يستقل بأخذ الأحكام من الأدلة، بل يسأل أهل العلم، كما نص عليه الإمام أحمد رحمه الله- في رواية ابنه عبد الله، وقد ذكرناه فيما تقدم. [الاجتهاد المقيد بمذاهب الأئمة وتوخي الحق بما دل عليه الدليل] وأما الاجتهاد المقيد بمذاهب الأئمة وتوخي الحق بما دل عليه الدليل وبما عليه الجمهور، فهذا هو الذي لا ينبغي العدول عنه، وهو الذي ذكره صاحب "الإفصاح". [لزوم التمذهب بمذهب بعينه] وأما لزوم التمذهب بمذهب بعينه؛ بحيث لا يخرج عنه وإن خالف نص الكتاب أو السنة، فهذا مذموم غير ممدوح، وقد ذمه صاحب "الإفصاح" كما تقدم ذكره، بل قد ذمه الأئمة رضي الله عنهم. قال الشافعي -رحمه الله-: طالب العلم بلا حجة كحاطب ليل يحمل حزمة حطب، وفيها أفعى تلدغه، وهو لا يدري. وقال أبو حنيفة وأبو يوسف: لا يحل لأحد أن يقول بقولنا حتى يعلم من أين قلناه. وقد صرح مالك بأن من ترك قول عمر بن الخطاب لقول إبراهيم النخعي أنه يستتاب، فكيف بمن ترك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لقول من هو دون إبراهيم أو مثله؟! فقال جعفر الفريابي: حدثني أحمد بن إبراهيم الدورقي، حدثني الهيثم بن جميل (قال): قلت لمالك بن أنس: يا أبا عبد الله، إن عندنا قوما وضعوا كتابا يقول أحدهم: حدثنا فلان عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه- بكذا وكذا، وفلان عن إبراهيم بكذا. ويأخذ بقول إبراهيم، قال مالك: وصح عندهم قول عمر؟ قلت:

إنما هي رواية كما صح عندهم قول إبراهيم، فقال: هؤلاء يستتابون. وقال أبو عمر بن عبد البر: يقال لمن قال بالتقليد: لم قلت به وخالفت السلف في ذلك، فإنهم لم يقلدوا؟ فإن قال: قلدت؛ لأنَّ كتاب الله لا علم لي بتأويله، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم- لم أحصها، والذي قلَّدتُه قد علم ذلك، فقلدت من هو أعلَم مني. قيل له: أما العلماء إذا أجمعوا على تأويل شيء من الكتاب، أو حكاية عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم-، أو اجتمع رأيهم على شيء فهو الحق لا شك فيه، ولكن قد اختلفوا فيما قلدت فيه بعضهم دون بعض، فما حجتك في تقليد بعضهم دون بعض وكلهم عالم، ولعل الذي رغبت عن قوله أعلم من الذي ذهبت إلى مذهبه؟ فإن قال: قلدته؛ لأني أعلم أنه على صواب. قيل له: علمت ذلك من كتاب الله، أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، أو إجماع؟ فإن قال: نعم. أبطل التقليد، وطولب بما ادعاه من الدليل. وإن قال: قلدته؛ لأنه أعلم مني. قيل له: فقلد كل من هو أعلم منك، فإنك تجد من ذلك خلقا كثيرا، ولا تخص من قلدته، إذ علتك فيه أنه أعلم منك. فإن قال: قلدته؛ لأنه أعلم الناس. قيل له: فهو إذًا أعلم من الصحابة. فكفى بقول مثل هذا قبحا 1. "فإن قال: أنا أقلد بعض الصحابة. قيل له: فما حجتك في ترك من لم تقلد منهم؟ ولعل من تركت منهم أفضل ممن أخذت بقوله؟ على أن القول لا يصح بفضل قائله، وإنما يصح بدلالة الدليل عليه. وقد ذكر ابن مدين، عن

_ 1 إنه على قبحه -بمخالفة إمامه وسائر الأئمة على تفضيل الصحابة على أنفسهم- باطل بالبداهة، فإن المجتهد لا يمكنه أن يعرف أعلم الناس على الإطلاق، فضلا عن المقلد الذي لا يعرف أدلة أحد منهم.

عيسى بن دينار، عن القاسم عن مالك قال: ليس كلما قال الرجل قولا -وإن كان له فضل- يتبع عليه؛ لقوله عز وجل-: {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} 1. فإن قال: قصري وقلة علمي تحملني على التقليد. قيل له: أما من قلَّد فيما ينزل به أحكام شريعة عالما يتفق له على علمه، فيصدر في ذلك عما يخبره به فمعذورٌ لأنه قد أتى ما عليه، وأدى ما لزمه فيما نزل به لجهله، ولا بد له من تقليد عالم فيما جهله، لإجماع المسلمين أن المكفوف يقلد من يثق بخبره في القبلة؛ لأنه لا يقدر على أكثر من ذلك. ولكن من كانت هذه حاله هل يجوز له الفتوى في شرائع دين الله، فيحمل غيره على إباحة الفروج، وإراقة الدماء، واسترقاق الرقاب، وإزالة الأملاك، يصيرها إلى غير من كانت في يده بقول لا يعرف صحته، ولا قام له الدليل عليه، وهو مقر أن صاحبه يخطئ ويصيب، وأن مخالفه في ذلك ربما كان المصيب فيما يخالفه فيه؟ فإن أجاز الفتوى لمن جهل الأصل والمعنى لحفظه الفروع، لزمه أن يجيزه للعامة، وكفى بذلك جهلا وردا للقرآن، قال الله -عز وجل-: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} 2، وقال تعالى: {أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} 3. وقد أجمع العلماء على أن ما لم يتبين ولم يستيقن فليس بعلم، وإنما هو ظن، والظن لا يغني من الحق شيئا. ثم ذكر حديث ابن عباس -رضي الله عنهما-: "من أفتى بفتيا وهو يعمي عنها كان إثمها عليه"4 موقوفا ومرفوعا، قال وهب عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث"5 قال: ولا خلاف بين أئمة الأمصار في فساد التقليد. انتهى كلام أبي عمر -رحمه الله تعالى-. فتأمل ما في هذا الكلام، من الرد على من يقول بلزوم التمذهب بمذهب من هذه المذاهب الأربعة، لا يخرج عن ذلك المذهب، ولو وجد

_ 1 سورة الزمر آية: 18. 2 سورة الإسراء آية: 36. 3 سورة الأعراف آية: 28. 4 الدارمي: المقدمة (160). 5 البخاري: النكاح (5144) , ومسلم: البر والصلة والآداب (2563) , والترمذي: البر والصلة (1988) , وأحمد (2/ 245,2/ 287,2/ 312,2/ 342,2/ 517,2/ 538) , ومالك: الجامع (1684).

دليلا يخالفه، لأن الإمام صاحب المذهب أعلم بمعناه، ويجعل هذا عذرًا له في رد الحديث، أو ترك العمل به. وتأمل قوله: لا خلاف بين أئمة الأمصار في فساد التقليد. ومراده: إذا كان المقلد قادرا على الاستدلال، وأما العاجز عنه فهو كالأعمى، يقلد في جهة القبلة، فهو معذور إذا كان عاجزا. وقد حكى الإمام أبو محمد بن حزم الإجماع على أنه لا يجوز التزام مذهب بعينه لا يخرج عنه، فقال: أجمعوا على أنه لا يجوز لحاكم ولا لمفت تقليد رجل، فلا يحكم ولا يفتي إلا بقوله. انتهى. فحكاية الإجماع من هذين الإمامين -أعني أبا عمر بن عبد البر وأبا محمد بن حزم- كافٍ في إبطال قول المتعصبين للمذهب، والله -سبحانه وتعالى- أعلم. ونسأل الله أن يهدينا لما اختلف فيه من الحق بإذنه، فإنه يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرًا، والحمد لله رب العالمين. آمين.

عدة رسائل في مسائل فقهية

عدة رسائل في مسائل فقهية تأليف العلامة الشيخ حمد بن ناصر بن عثمان بن معمر الحنبلي رحمه الله تعالى طبع بأمر صاحب العظمة السلطان عبد العزيز آل سعود سلطان نجد وملحقاتها لا زال ناشرًا للعلم والدين، ومعزًّا للإسلام والمسلمين الطبعة الأولى في مطبعة المنار بمصر سنة 1344

الرسالة الأولى

عدة رسائل في مسائل فقهية للشيخ: حمد بن ناصر بن عثمان بن معمر ... بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين الرسالة الأولى من حمد بن ناصر بن معمر إلى جناب الأخ المكرم جمعان بن ناصر -حفظه الله تعالى- آمين. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وموجب الخط إبلاغ السلام. وبعد: فالخط الشريف وصل -أوصلك الله إلى رضوانه-، وما ذكر جنابك صار لدَى محبك معلوما. ومن طرف المسائل التي تسأل عنها وتطلب جوابها: (حكم اشترط طلاق الضرة في عقد النكاح) (فالمسألة الأولى) فيمن شرطت على زوجها عند العقد طلاق ضرتها، فهذا الشرط اختلف العلماء فيه؛ هل هو صحيح أم فاسد، فذهب الحنابلة إلى صحته، فيجب عندهم الوفاء، وخيار الفسخ لها إذا لم يفِ. وذهب كثير من الفقهاء إلى أنه شرط. باطل للأحاديث الصحيحة في النهي عن ذلك، والنهي يقتضي الفساد، على هذا يبطل الشرط ويصح النكاح؛ لأن هذا ليس من الشروط المبطلة للعقد، كنكاح الشغار والتحليل والمتعة.

الشروط الصحيحة في عقد النكاح

(الشروطُ الصحيحة في عقدِ النِّكاح) (وأما المسألة الثانية) فيمن شرطت على الزوج عند العقد شرطًا صحيحا، ورضي بذلك، وقالت: إنْ فعلْتَ كذا فهو طلاقي. ثم لم يفِ لها، بل خالف ما شرطت عليه، فهذا الشرط -إن كان من الشروط الصحيحة- فلها الفسخ إن لم يفِ به. وإن لم تقل: "فهو طلاقي" فلها إلغاؤه وإبطاله، فإذا أسقطته بعد البينونة سقط، وجاز له أن يرجع إليها بنكاح جديد. وإن كان الإسقاط قبل البينونة سقط والنكاح بحاله، وليس لها مطالبته بذلك بعد إسقاطه. (حكمُ تَراضِي الزوجين علَى تعليقِ الطَّلاقِ بالتزَوُّجِ عَلَيْها) (وأما المسألة الثالثة) فيمن تشاجر هو وزوجته، ثم تراضيا على شروط صحيحة، كقوله: إن تزوجت عليك فهو طلاقك. ثم قالت له: أعد اللفظ. فأعاده مرتين أو ثلاثا، هل يثبت هذا الشرط، وإن كان بعد عقد النكاح؟ وهل يقع عليه الطلاق؟ وهل يفرق بين الحرفين فيما إذا قال: إن تزوجت فأنت طالق، أو إذا تزوجت؟ فنقول: هذا الشرط وهو تعليق الطلاق على التزوج، شرطٌ لازم، وتعليقه صحيح، فمتى تزوج طلقت. ثم ننظر في نيته حال تكراره لفظ الطلاق: فإنْ قصد بالتكرار إفهامها أو التأكيد لم تطلق إلا واحدة، وله أن يراجعها بعد التزوج بالأخرى، لأن هذا الشرط لم يوجد عند العقد، بل حدث بعد ذلك. فإنْ يقصد بالتكرار الإفهام ولا التأكيد طُلِّقَتْ ما نواه. فإن لم يكن له نية ففيه خلاف، والأشهر أنها تُطلَّق بعدد التكرار، وبعضهم يقول: لا تُطلَّق إلا واحدة. وأما التفرقة بين إن الشرطية وإذا، فالعامة لا يفرقون بينهما، فيحكم

طلاق غير البالغ

عليهم بلغتهم على قصدهم ونيتهم، مع أن في مثل هذه الصورة يقع الطلاق بكل حال. (طَلاقُ غير البالغ) (وأما المسألة الرابعة) وهي طلاق الصبي الذي لم يبلغ، فقد اختلف العلماء في ذلك، فذهب مالك وطائفة من العلماء إلى أنه لا يقع طلاقه حتى يبلغ، وذهب الإمام أحمد -في المشهور عنه- والشافعي وطائفة من العلماء إلى أنه إذا عقل، وعلم أن زوجته تبين منه بذلك -خصوصا إذا تجاوز العشر- فإنه يقع طلاقه. (أحكام زيادةِ الوكيلِ بالتطليق على الواحدة) (وأما المسألة الخامسة) فيمن وكَّل وكيلا في طلاق زوجته، هل للوكيل أن يزيد على طلقة إذا كان الموكل لم يأمره بكثير ولا قليل؟ وهل إذا طلق ثلاثا تقع أم لا؟ وهل يعتبر إنكار الموكل ذلك؟ فهذه المسألة الراجح فيها أن الوكيل لا يزيد على واحدة لأن الزيادة خلاف السنة، فإن زاد لم يقع إلا واحدة، إلا أن يأمره الموكل بذلك، فإن لم يأمره بذلك ولم يثبت ببينة ولا بإقرار الموكل، لم يثبت إلا طلاق السنة، وهي الطلقة الواحدة. (حكمُ تكرارِ لفظِ التطليقِ في الخُلْع) (وأما المسألة السادسة) فيمن بذلت لزوجها عوضا، كمخالعة الناس اليوم على أن يطلقها، فقبل العوض ثم قال: أنت طالق. ثم قال: أنت طالق. ثم قال: أنت طالق. ثلاث مرات أو أكثر، هل تبين منه باللفظة الأولى، ولم تلحقها البواقي عند من يقول: إن المختلعة لا يلحقها طلاق؟ فنقول: الذي ذكره

حكم من أخذ عوض الخلع ولم ينطق بما يدل على إنشائه

الفقهاء -رحمهم الله تعالى- أنها تبين بالأولى، ولا يلحقها ما بعدها لأنها بانت بالجملة الأولى، فإذا لحقها جملة ثانية وثالثة لم يصادف ذلك محلا، وأما عند من يقول: إن المختلعة يلحقها الطلاق كما ذكر كثير من التابعين، فالطلاق عندهم لاحق. (حُكْمُ مَن أَخَذَ عِوَضَ الخُلْعِ ولَمْ يَنْطِقْ بِمَا يَدُلُّ عَلَى إِنْشَائِهِ) (وأما المسألة السابعة) فيمن خالع زوجته بأن بذلت له العوض وقبله، ولم يتلفظ بخلع ولا طلاق ولا فسخ، هل تبين بمجرد أخذ العوض؟ فالذي عليه الجمهور: أنه لا بد من اللفظ، لقوله صلى الله عليه وسلم-: "اقبل الحديقة، وطلقها تطليقة"1. (تَعليقُ الطَّلاق) (وأما المسألة الثامنة) فيمن قال لزوجتهِ: إذا جاءني حقي فأنت طالق، وإن نزلت على أهلك فأنت طالق. فأقامت مدة لم تعطه، ولم تنزل على أهلها، هل الشرط لازم أم لهم إبطاله؟ فنقول: إذا علق طلاقها على ذلك فالشرط لازم، والتعليق ثابت ولو اتفقا على إبطاله، وفي الحديث: "ثلاث هزلهن جد، وجدهن جد"2 الحديث. (الوصيَّةُ بالأُضحيةِ وأكْلُ ورثةِ المُوصِي منها) (المسألة التاسعة) فيمن أوصى عند موته بأضحية، هل للموصى إليه أو غيره من ورثة الميت الأكل منها أم لا؟ فالذي يظهر لي من كلام العلماء أنه لا بأس بذلك، وإنما اختلفوا في أضحية اليتيم.

_ 1 البخاري: الطلاق (5273) , والنسائي: الطلاق (3463) , وابن ماجه: الطلاق (2056). 2 الترمذي: الطلاق (1184) , وأبو داود: الطلاق (2194) , وابن ماجه: الطلاق (2039).

المفاضلة بين التضحية عن الميت والتصدق بثمنها

(المفاضلة بين التضحية عن الميت والتصدق بثمنها) (وأما المسألة العاشرة) هل الأضحية عن الميت أفضل أم الصدقة بثمنها؟ فهذه المسألة اختلف العلماء فيها، فذهب الحنابلة وكثير من الفقهاء إلى أن ذبحها أفضل من الصدقة بثمنها، وهو اختيار الشيخ تقي الدين رحمه الله. وذهب بعضهم إلى أن الصدقة بثمنها أفضل، وهذا القول قوي في النظر؛ وذلك لأن التضحية عن الميت لم تكن معروفة عند السلف، إلا أنه ورد عن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- أنه كان يضحي عن النبي صلى الله عليه وسلم-، ويذكر أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أوصاه بذلك. والحديث ليس في الصحاح، وبعض أهل العلم تكلم فيه، وبعض الفقهاء لما سمعه أخذ بظاهره، وقال: لا يضحي عن الميت إلا أن يوصي بذلك، فإن لم يوصِ فلا يذبح عنه، بل يتصدق بثمنها، فإذا كان هذا صورة المسألة، فالأمر في ذلك واسع إن شاء الله تعالى. (حكمُ من ضحَّى عن غيره قبل نفسه أو وفاء نذره) (وأما المسألة الحادية عشرة): هل له أن يضحي عن غيره قبل أن يضحي لنفسه؟ وهل له أن يضحي وعليه نذر قبل أن يوفي بنذره؟ فمسألة التضحية عن الغير قبل أن يضحي لنفسه فلا أعلم فيها بأسا، وإنما المنع فيمن عليه حجة الإسلام، فليس له أن يحج عن غيره قبل أن يحج فريضة الإسلام. وأما تقديم الأضحية على النذر فالواجب يقدم على النافلة، فإذا كان المنذور أضحية ذبحها قبل أضحية التطوع، فإن تطوع وترك النذر الواجب وجب عليه أن يذبح الواجب أيضا، وأما إذا أراد أن يذبحهما جميعا لكنه

التفريق بين الأم وولدها الصغير وبين الأخوة في البيع

قدم التطوع على النذر، فلا أعلم في هذا منعا. (التفريقُ بين الأمِ وولدها الصغير وبين الأخوةِ في البيع) (وأما المسألة الثانية عشرة) وهي التفريق بين الوالدة وولدها قبل البلوغ، وكذلك بين الأخوة في البيع، فأما قبل البلوغ فلا يجوز التفريق، وأما بعد البلوغ ففيه خلاف، والمشهور عن أحمد وكثير من الفقهاء أنه لا يجوز، لحديث: "من فرق بين والدة وولدها فرق الله بينه وبين أحبته يوم القيامة"1، 2، وكذلك حديث علي في التفرقة بين الأخوة، وفيه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "رده، رده"3. (من أبان زوجًا من أربع ليس له التزوج بغيرها قبل انقضاء عدتها) (وأما المسألة الثالثة عشرة) فيمن معه أربع فطلق واحدة وأبانها، هل له أن يتزوج في مكانها أخرى، وإن كانت المطلقة لم تعتد لأنها بائن ليس له عليها رجعة، أم لا يجوز ذلك حتى تعتد المطلقة؟ فالذي نص عليه العلماء أن ذلك لا يجوز، بل لا بد من انقضاء العدة، ولا يجوز له أن يجمع ماءه في رحم خمس نسوة. وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.

_ 1 الترمذي: السير (1566) , وأحمد (5/ 412,5/ 414) , والدارمي: السير (2479). 2 رواه أحمد والترمذي والحاكم عن أبي أيوب وصحح. 3 الترمذي: البيوع (1284) , وابن ماجه: التجارات (2249) , وأحمد (1/ 102).

رسالة ثانية

رسالة ثانية بسم الله الرحمن الرحيم من حمد بن ناصر بن معمر إلى جناب الأخ المكرم جمعان بن ناصر -سلمه الله تعالى-، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، والمسائل وصلت، وهذا جوابها: (طلب إمام المسجد المعاونة من الفيء أو الزكاة) أما سؤال إمام المسجد المعاونة من الفيء والزكاة، فالسؤال من حيث هو مذموم إلا في حال الاضطرار، لكن إن كان السؤال من الفيء فهو موافق، لأن الفيء للمسلمين غنيهم وفقيرهم، وما من أحد من المسلمين إلا وله فيه نصيب، فإذا سأل الإنسان نصيبه من الفيء لم ينكر عليه. وأما إن كان السؤال من الزكاة، فإن كان السائل غنيا فهو حرام، ولا تحل له الزكاة، بل لو جاءته من غير سؤال لم تحل له، إلا إن كان من الخمسة المذكورين في الحديث؛ وذلك لأن الله تعالى قسمها بنفسه، ولم يرض فيها بقسم نبي ولا غيره. [حكم القيء] (فروع في العبادات) وأما القيء فالمشهور أنه نجس، وأما نقض الوضوء به ففيه خلاف، والمشهور أنه ينقض إذا كان كثيرا، ولا ينقض اليسير منه. وذهب مالك والشافعي وغيرهما إلى أنه لا ينقض الوضوء ولو كثر، لكن يستحب الوضوء، وهذا اختيار الشيخ تقي الدين. [الخروج من الصلاة لأجل الخارج] وأما الخروج من الصلاة لأجل الخارج اليسير من القيء أو الدم

فإذا كان يسيرًا لم يقطع الصلاة، ولا إعادة عليه، لأنه روي عن الصحابة نحو ذلك، فابن أبي أوفى بزق دما ثم قام فصلى. وابن عمر عصر بثرة فخرج دم، فصلى ولم يتوضأ. [إخراج الإنسان زكاته أو بعضها بنفسه] وأما إخراج الإنسان زكاته أو بعضها بنفسه، فذكر أهل العلم أنه لا يجوز أن يخرجها ولا بعضها إن كان الإمام عدلا يضعها في أهلها، (بل) يجب دفعها إليه. [قضاء الفوائت] وأما قضاء الفوائت، فالمشهور قضاء الفوائت على الفور مرتبا، قلت الفوائت أو كثرت. وإذا صلى الحاضرة قبل الفائتة، فإن كان ناسيا للفائتة سقط الترتيب، ويصلي الفائتة، ولا يقضي الحاضرة، لأن الترتيب يسقط بالنسيان. [الصلاة على الميت] وأما الصلاة على الميت فإن أوصى الميت بأن يصلي عليه رجل معين فهو أحق من غيره، ولا يقوم أحد في جنب الإمام، بل يقف الإمام وحده إلا أن يكون المكان ضيقا، بحيث لا يحصل له الوقوف في الصف، حينئذ يقف في جنب الإمام للحاجة. [العقد على المطلقة في العدة] وأما المطلقة فلا يجوز العقد عليها في العدة بإجماع أهل العلم، بل لا يجوز التصريح في خطبتها، فإن كانت رجعية حرم التعريض أيضا، لأنها زوجة ما دامت في العدة، فإن عقد عليها فالنكاح باطل، ولا يحتاج إلى طلاق، لأنه باطل إجماعا، بل يفرق بينهما. فإذا اعتدت فهو خاطب من الخطاب، وعند مالك أنها تحرم عليه أبدا؛ وهو إحدى الروايتين عن ابن عمر، والأول قول علي، وهو المشهور عن أحمد، والجديد من قولي الشافعي. [المطلقة التي مات زوجها] وأما المطلقة إذا مات زوجها وهي في العدة، فإن كانت رجعية استأنفت

عدة الوفاة أربعة أشهر وعشرًا بلا خلاف بين العلماء، وإن كانت بائنا بنت على عدة الطلاق، إلا أن يطلقها في مرض موته، فتعتد أطول الأجلين من عدة الوفاة أو ثلاثة قروء. وعند مالك والشافعي أنها تبني على عدة الطلاق؛ لأنها بائن وليست بزوجة، كما لو طلقها في الصحة. فأما إذا كان الطلاق البائن في الصحة، فإنها تبني على عدة الطلاق عند الأئمة الثلاثة، وعند أبي حنيفة تعتد أطول الأجلين. [طلق زوجته واختل عقله] وأما مسألة الذي طلق زوجته واختل عقله، فإن كان حال الطلاق ثابت العقل وطلق مختارا، فالطلاق واقع، فإن كانت آخر ثلاث تطليقات لم تحل له إلا بعد زوج وإصابة، ولو اختل عقله بعد ذلك، ولو آل به الأمر إلى الجنون. وإن كان الطلاق الذي وقع بكلمة واحدة جمع فيها الطلاق، فكذلك عند الأئمة الأربعة، وهو الذي يفتى به عندنا. وعند الشيخ تقي الدين وابن القيم أن طلاق الثلاث بكلمة واحدة مطلب يحسب طلقة واحدة، وحينئذ فله رجعتها، والعمل على كلام الجمهور. [الدعاء عند ختم القرآن] وأما الدعاء عند ختم القرآن، فروي عن أنس رضي الله عنه أنه كان يجمع أهله وولده، ويدعو عند ختم القرآن. وروي عن طائفة من السلف، وهو قول غير واحد من الفقهاء. وأما تعيين الدعاء فلم يثبت فيه دعاء مخصوص، ولهذا لم يستحبه بعض الفقهاء؛ قال: لأنه لم يرد فيه سنة عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. [التكبير في آخر كل سورة من سورة الضحى] وأما التكبير في آخر كل سورة من سورة الضحى إلى آخر القرآن، ففيه خلاف، ولم يستحبه الشيخ تقي الدين إلا لمن يقرأ بقراءة ابن كثير. وأما من قرأ بقراءة عاصم التي هي غالب قراءة الناس اليوم فلا. [الوقف على المسجد] وأما الرجل الذي وقف على المسجد بعض أملاكه، فإن عين القائمين

رسالة ثالثة

أو الإمام أو المؤذن تعين ما عينه الواقف من الجهات، فإن لم يعين جهة فالوقف على المسجد يدخل فيه الإمام والمؤذن والقيم، وكذا عمارته كتطيين سطحه، وإبدال خشبه لتكسير فيه، ونحو ذلك. والله -سبحانه وتعالى- أعلم، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم. رسالة ثالثة بسم الله الرحمن الرحيم من حمد بن ناصر إلى الأخ جمعان، رزقه الله العلم النافع والإيمان، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: الخط وصل -أوصلك الله إلى رضوانه-، والمسائل وصلت، وهذا جوابها واصلك إن شاء الله تعالى. [المنكر الذي يجب إنكاره] (المسألة الأولى) في المنكر الذي يجب إنكاره، هل يسقط الإنكار إذا بلغ الأمير أم لا؟ فاعلم أن إنكار المنكر يجب بحسب الاستطاعة، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان"1؛ وحينئذ إذا وقع المنكر وبلغ الأمير فلم يغيره، لم يسقط إنكاره، بل ينكره بحسب الاستطاعة؛ لكن إن خاف حصول منكر أعظم سقط الإنكار، وأنكر بقلبه. وقد نص العلماء على أن المنكر إذا لم يحصل إنكاره إلا بحصول منكر أعظم منه أنه لا ينبغي؛ وذلك لأن مبنى الشريعة على تحصيل المصالح وتقليل المفاسد، وفي الحديث: "لا تحل الصدقة لغني، ولا لذي مرة سوي"2. [العدل في عطية الأولاد] (وأما مسألة العطية) فلا خلاف بين أهل العلم في استحباب التسوية

_ 1 مسلم: الإيمان (49) , والترمذي: الفتن (2172) , والنسائي: الإيمان وشرائعه (5008) , وأبو داود: الصلاة (1140) , وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها (1275) , وأحمد (3/ 20,3/ 49,3/ 54). 2 الترمذي: الزكاة (652) , وأبو داود: الزكاة (1634) , وأحمد (2/ 192) , والدارمي: الزكاة (1639).

رسالة رابعة

بين الأولاد، وكراهة التفضيل، لكن اختلفوا في صفة التسوية، فالمشهور عن أحمد أن المستحب أن يقسم بينهم على حسب قسمة الله في الميراث، {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ} 1 وعند أبي حنيفة ومالك والشافعي أنه يعطى الأنثى مثل ما يعطي الذكر. رسالة رابعة بسم الله الرحمن الرحيم من حمد بن ناصر إلى الأخ جمعان -حفظه الله تعالى- آمين. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: الخط وصل -أوصلك الله إلى رضوانه-، وسر الخاطر سؤالك عما أشكل عليك، رزقنا الله وإياك العلم النافع والعمل الصالح. [كنايات الطلاق] فأما ما سألت عنه من استعمال كنايات الطلاق، فالذي عليه أكثر العلماء أن الكنايات لا يقع بها الطلاق إلا مع النية، فإذا تكلم الزوج بالكناية وقال: لم أرد طلاقك ولم أنوه، ولم يتكلم بذلك في حال الغضب وسؤالها الطلاق، فهذا يقبل قوله، ولا يقع به طلاق. وأما إن تكلم بذلك في حال الغضب فهذا مما اختلف الفقهاء فيه. فقال بعضهم: يقبل قوله إنه لم يرد طلاقا ولم ينوه. وقال بعضهم: لا يقبل قوله في ظاهر الحكم لأجل القرينة الدالة على إرادة الطلاق. وبعض أهل العلم يفرق بين الكنايات، ويقول: الكنايات التي يكثر استعمالها في الطلاق، ويعبرون أن من تلفظ بها فإنما يريد الطلاق، فهذا لا يقبل قوله. وأما الكنايات التي تستعمل في عرف أهل البلد في الطلاق وفي غيره، فهذا يقبل أنه ما أراد الطلاق، بل لو تلفظ بذلك وقال:

_ 1 سورة النساء آية: 11.

لم أرد الطلاق ولا غيره، لم تطلق إلا بالنية إذا كان الطلاق لفظا يستعمل في الطلاق وفي غيره. تكرير لفظ الطلاق (وأما المسألة الثانية): إذا قال: أنت طالق، أنت طالق، أنت طالق. فهذا إن نوى بالتكرار التأكيد أو إفهامها، لم يقع إلا واحدة. فإن نوى به طلاقا ثلاثا وقعت ثلاثا عند الجمهور. وأما إذا طلق بالنية، وقال: لم أرد به التأكيد والإفهام، ولا إيقاع ثلاث، بل عزبت نيته، فهذا محل الخلاف، فبعض أهل العلم يقول: يقع واحدة، إلا أن ينوي طلاق ثلاث فتقع. (وأما قولك): إذا توقف المفتي عن الإفتاء في الكنايات، هل يكون داخلا في الكتمان أم لا؟ فاعلم أن الذي يتناوله الوعيد هو من عنده علم من الله ورسوله، فيُسأل عنه فيكتمه. وأما من أشكل عليه الحكم ولم يتبين له حكم الله ورسوله، فهذا لا حرج عليه إذا توقف، ولو عرف اختلاف العلماء ولم يعلم الراجح من القولين. وأحمد -رحمه الله- وغيره من العلماء يتوقفون كثيرا في مسائل، مع معرفتهم بكلام العلماء قبلهم في تلك المسائل إذا لم يتبين لهم الصواب. وأحمد يتوقف عن الإفتاء في كنايات الطلاق في أكثر أجوبته، وبعض العلماء لا يفتي في مسائل الطلاق بالكلية؛ لعظم خطرها. والواجب على المفتي أن يراقب الله ويخشاه، ويعلم أنه قد عرض نفسه للحكم بين يدي الله وبين عباده، فيما أحل الله وحرم عليهم، فلا يتكلم إلا بعلم، وما أشكل عليه فليكله إلى عالمه. [دم المرأة الحامل في غير عادتها] (وأما مسألة الحامل) إذا رأت الدم فهذا ينظر فيه، وفي حال عادة المرأة، فإن كان ذلك ليس بعادة لها إذا حملت فهذا لا تلتفت إليه، بل تصلي فيه وتصوم، ويكون حكمها حكم المستحاضة، وليس في هذا اختلاف. وإنما الاختلاف فيما إذا كان عادة المرأة أنها تحيض وتطهر في عادة الطهر، فهذا

الذي اختلف فيه العلماء، والراجح في الدليل أنه حيض إذا كان على ما وصفنا، ولكن قليل الوقوع، وأكثر الواقع على متكرره وبين من ليس لها عادة، أو يضرب عليها الدم، فإنه يشتبه على كثير من الطلبة. [تزويج اليتيمة] (وأما مسألة اليتيمة) إذا طلبت الزوج، فيجوز لوليها تزويجها وإن لم تبلغ، إذا كانت لها تسع سنين، ولكن لا يجبرها، ولا يزوجها إلا برضائها إذا كانت يتيمة. وأما الأب فيجوز له إجبار الصغيرة التي لم تبلغ، والبلوغ يحصل بالحيض، ونبات الشعر الخشن حول القبل. [لحن الإمام في الفاتحة] (وأما مسألة الأمي) فالأمي الذي لا يحسن الفاتحة، أو يلحن فيها لحنا يغير المعنى، وأما إذا كان يحسن الفاتحة ولا يحيل ألفاظها عن معانيها، فهذا لا يسمى أميا. ولكن أحق الناس بالإمامة أقرؤهم لكتاب الله، فإن وجد القارئ قدم على غيره. وأما إذا أقيمت الصلاة، ثم جاء القارئ وهم يصلون، جاز للقارئ أن يصلي معهم إذا كان الإمام يحسن قراءة الفاتحة، ولا يلحن فيها لحنا يحيل المعنى. وأما الذي يلحن فيها لحنا يحيل المعنى فهذا هو الأمي، لا يجوز أن يصلي إلا بمثله، فلا يؤم أحدا يحسن الفاتحة. [تعيين الإمام] (وأما مسألة تعيين الإمام) كما هو الواقع في المساجد التي لها أئمة راتبون، فهذا إذا بان له أنه غير إمامه الراتب صحت صلاته لأن قصده الصلاة مع الجماعة، وليس له قصد في تعيين الإمام، والله أعلم.

رسالة خامسة: استخدام الدابة بجزء من الثمرة

رسالة خامسة [استخدام الدابة بجزء من الثمرة] بسم الله الرحمن الرحيم من حمد بن ناصر إلى الأخ جمعان بن ناصر -حفظه الله تعالى-، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: الخط وصل -أوصلك الله إلى رضوانه- وكذلك السؤال وصورته. ما قول العلماء فيمن دفع دابته إلى آخر يسقي عليها زرعا بجزء من الثمرة، سواء كان الدفع قبل وجود الزرع أو بعد ما اخضر الزرع، وسواء كان مدة السقي معلومة أو مجهولة، مثل إلى أن تهزل أو تعجف، هل هذا جائز يشبه دفع الدابة إلى من يعمل عليها ببعض مغلها؟ أم هذا ليس بصحيح لعدم معرفة الأجرة والجهل بالمدة إذ لم توقت؟ فنقول: هذه المسألة لم أقف عليها منصوصة في كلام العلماء، ولكنهم نصوا على ما يؤخذ منه حكم هذه المسألة؛ فمن ذلك أنهم ذكروا أن من شرط صحة الإجارة معرفة قدر الأجرة، ومعرفة قدر المدة. قال في "المغني": يشترط في عوض الإجارة كونه معلوما لا نعلم فيه خلافا، انتهى. ولكن هذه المسألة هل تلحق بمسائل الإجارة وتعطى أحكامها، أم تلحق بمسائل الشركة وتعطى أحكامها، مثل المساقاة والمزارعة والمضاربة، وغير ذلك من مسائل المشاركات؟ فإن قلنا: إنها بمسائل الإجارة أشبه، فالإجارة لا تصح إلا بأجرة معلومة على مدة معلومة؛ ولهذا اختلف العلماء في جواز إجارة الأرض ببعض ما يخرج منها كثلث أو ربع، فمنعه أبو حنيفة والشافعي وغيرهما، وعللوه بأن العوض مجهول، فلا تصح الإجارة بعوض مجهول، وأجازه الإمام أحمد، فمن أصحابه من

قال: هو إجارة. ومنهم من قال: بل هو مزارعة بلفظ الإجارة. قال في "الإنصاف": والصحيح من المذهب أن هذه إجارة؛ لأن الإجارة تصح بجزء مشاع معلوم مما يخرج من الأرض المأجورة، وهو من مفردات المذهب. انتهى. قال في "المغني": "إجارة الأرض بجزء مشاع مما يخرج منها، كنصف وثلث وربع، المنصوص عن أحمد جوازه، وهو قول أكثر الأصحاب. واختار أبو الخطاب أنها لا تصح، وهو قول أبي حنيفة والشافعي، وهو الصحيح -إن شاء الله-، لما تقدم من الأحاديث في النهي من غير معارض لها، ولأنها إجارة بعوض مجهول، فلم تصح كإجارتها بثلث ما يخرج من أرض أخرى، ولأنه لا نص في جوازها، ولا يمكن قياسها على المنصوص؛ فإن النصوص إنما وردت بالنهي عن إجارتها بذلك، ولا نعلم في تجويزها نصا. والمنصوص جواز إجارة ذلك بذهب أو فضة أو شيء معلوم، فأما نص أحمد فيتعين حمله على المزارعة بلفظ الإجارة. انتهى. وقال في "المغني" أيضا: قال إسماعيل بن سعيد: سألت أحمد عن الرجل يدفع البقرة إلى رجل على أن يعلفها ويحفظها، وما ولدت من ولد (فهو) بينهما؟ قال: "أكره ذلك". وبه قال أبو حنيفة وأبو خيثمة، ولا أعلم فيه مخالفا؛ وذلك لأن العوض معدوم مجهول أيوجد أم لا، والأصل عدمه. انتهى. وأما إن ألحقنا هذه المسألة المسؤول عنها بمسائل الشركة، وقلنا: هي بمسائل الشركة أشبه جرى فيها من اختلاف العلماء ما جرى في نظائرها. وأنا أذكر لك بعض ما ذكر العلماء في هذا الباب: قال في "المغني": وإن دفع دابته إلى آخر ليعمل عليها، وما رزق الله بينهما نصفين أو ثلاثا أو كيفما شرط صح، نص عليه في رواية الأثرم ومحمد بن سعيد، ونقل عن الأوزاعي ما يدل على هذا، وكره ذلك الحسن والنخعي. وقال الشافعي وأبو ثور وابن

المنذر وأصحاب الرأي: لا يصح، والربح كله لرب المال، وللعامل أجرة مثله. ولنا أنها عين نمت بالعمل عليها، فصح العقد عليها ببعض نمائها كالدراهم والدنانير، وكالشجر في المساقاة، والأرض في المزارعة، وقد أشار أحمد رحمه الله تعالى- إلى ما يدل على تشبيهه لمثل هذا بالمزارعة، فقال: لا بأس بالثوب يدفع بالثلث أو الربع، لحديث جابر: "أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أعطى خيبر على الشطر"1. وهذا يدل على أنه ظاهر في مثل هذا إلى الجواز، لشبهه بالمساقاة والمزارعة، لا إلى المضاربة ولا إلى الإجارة. ونقل أبو داود عن أحمد فيمن يعطي فرسه على النصف من الغنيمة، أرجو أن لا يكون به بأس. ونقل أحمد بن سعيد فيمن دفع عبده إلى رجل يكتسب عليه، ويكون له ثلث ذلك أو ربعه فجائز، والوجه فيه ما ذكرناه في مسألة الدابة. وإن دفع ثوبه إلى خياط ليفصله قميصا وله نصف ربحه بعمله جاز، نص عليه في رواية حرب. وإن دفع غزلا إلى رجل ينسجه ثوبا بثلث ثمنه أو ربعه جاز، نص عليه. ولم يجز مالك وأبو حنيفة والشافعي شيئا من ذلك. وقال الأثرم: سمعت أبا عبد الله يقول: لا بأس بالثوب يدفع بالثلث والربع. وسئل: عن الرجل يعطي الثوب بالثلث ودرهم أو درهمين؟ قال: أكرهه؛ لأن هذا شيء لا يعرف الثلث إذا لم يكن معه شيء نراه جائزا؛ لحديث جابر "أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى خيبر على الشطر"2. قيل لأبي عبد الله: فإن كان النساج لا يرضى حتى يزاد على الثلث درهما؟ قال: فليجعل له ثلثا وعشر ثلث، أو نصف عشر وما أشبهه، انتهى ملخصا. وقد نص أحمد أيضا على جواز دفع الثوب لمن يبيعه بثمن يقدر له، ويقول: ما زاد فهو لك. وقال في "الإنصاف": "ولو دفع عبده أو دابته إلى من يعمل بهما بجزء من الأجرة،

_ 1 البخاري: الإجارة (2286) , والترمذي: الأحكام (1383) , وأبو داود: البيوع (3408) , وابن ماجه: الأحكام (2467) , وأحمد (2/ 17,2/ 37). 2 البخاري: الإجارة (2286) , والترمذي: الأحكام (1383) , وأبو داود: البيوع (3408) , وابن ماجه: الأحكام (2467) , وأحمد (2/ 17,2/ 37).

أو ثوبا يخيطه، أو غزلا ينسجه بجزء من ربحه جاز، نص عليه، وهو المذهب، جزم به ناظم "المفردات"، وهو منها. وقال في "الحاوي الصغير": ومن استأجر من يجد نخله أو يحصد زرعه بجزء مشاع منه جاز نص عليه في رواية مهنا، وعنه لا يجوز وللعامل أجرة مثله. ونقل مهنا في "الحصاد": "هو أحب إلي من المقاطعة، وعنه له دفع دابته أو نخله لمن يقوم به بجزء من نمائه، اختاره شيخ الإسلام والمذهب، لا لحصول نمائه من غير عمله، انتهى ملخصا. وقال في "المغني": وإن اشترك ثلاثة من أحدهم الأرض، ومن الآخر البذر، ومن الآخر البقر، والعمل على أن ما رزق الله بينهم فعملوا، فهذا عقد فاسد نص عليه أحمد في رواية أبي داود ومهنا وأحمد بن القاسم، وبهذا قال مالك والشافعي وأصحاب الرأي. فعلى هذا يكون الزرع لصاحب البذر؛ لأنه نماء ماله، ولصاحبيه عليه أجرة مثلهما، انتهى. وقال في موضع آخر: فإن اشترك ثلاثة من أحدهم الدابة، ومن آخر راوية، ومن الآخر العمل، على أن ما رزق الله بينهم، صح في قياس قول أحمد، فإنه قد نص في الدابة يدفعها إلى آخر يعمل عليها، على أن لهم الأجرة على الصحة، وهذا مثله. وهكذا لو اشترك أربعة، من أحدهم دكان، ومن الآخر رحى، ومن آخر بغل، ومن آخر العمل على أن يطحنوا بذلك، فما رزق الله تعالى- بينهم صح، وكان بينهم على ما شرطوه. وقال القاضي: العقد فاسد في المسألتين جميعا. وهو ظاهر قول الشافعي، انتهى. ومن تأمل ما نقلناه تبين له حكم مسألة السؤال، والله أعلم.

رسالة سادسة

رسالة سادسة* بسم الله الرحمن الرحيم من حمد بن ناصر إلى الأخ جمعان بن ناصر، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: وصل الخط، وصلك الله إلى رضوانه، وتسأل فيه عن مسائل: [عدة البائن إذا مات زوجها] (الأولى): المطلقة البائن إذا مات زوجها الذي أبانها وهي في العدة، فهذه إن كان زوجها طلقها في الصحة- فإنها تبني على عدة الطلاق، ولا تعتد للوفاة، كما لو لم يمت. [عدة المتوفى عنها وهي حامل] (الثانية): المتوفى عنها وهي حامل، هل هي في حداد ولو اعتدت أربعة أشهر وعشرا؟ فالأمر كذلك هي في حداد حتى تضع حملها. [العبد المملوك إذا سرق من حرز من غير مال سيده] (الثالثة): العبد المملوك إذا سرق من حرز من غير مال سيده، هل يجب عليه القطع؟ فالأمر كذلك، وأما سيده فلا يقطع بسرقة ماله. [المطلقة ثلاثا قبل الدخول بها] (الرابعة) فيمن طلق امرأته قبل أن يدخل بها ثلاثا، هل إذا بانت بالأولى تحل له بملاك جديد، أم تحرم عليه إلا بعد الزوج الثاني بعد أن يجامعها؟ 1 ولا تحل للزوج الأول قبل جماع الزوج الثاني. وأما إن كان طلقها ثلاثا؛ واحدة بعد واحدة، فإنها تبين بالأولى، ولا يلحقها بقية الطلاق؛ لأن غير المدخول بها لا عدة عليها، ولا يلحقها الطلاق، فإذا بانت بالأولى حلت لزوجها بعقد ثان، وإن لم تتزوج غيره، وتبقى معه على طلقتين. [طلق زوجته تطليقتين بعد المسيس] (الخامسة) فيمن طلق زوجته تطليقتين بعد المسيس، ثم تزوجت

_ * هذه المسائل وردت قبل ذلك في 1/ 578. [معد الكتاب للمكتبة الشاملة] 1 الظاهر أن هذا آخر السؤال، وأن بدء الجواب بعده بالواو سهو.

لها زوجا ثانيا، وطلقها قبل أن يمسها، هل ترجع إلى الأول؟ فالأمر كذلك، ولا تأثير لهذا الزوج في حل العقد، لأنها حلال لزوجها قبله، فإذا اعتدت حلت لزوجها الأول بعقد جديد، فإن لم يكن خلا بها فلا عدة، ويعقد عليها الثاني في الحال. [وطء الصبي الصبية] (السادسة): إذا وطئ الصبي الصبية، هل يلزمهما غير التعزير؟ فلا يلزمهما حد، بل يعزران تعزيرا بليغا، قال الشيخ تقي الدين: لا خلاف بين العلماء أن غير المكلف يعزر على الفاحشة تعزيرا بليغا. [رمى صبية بالزنى أو صبيا] (السابعة) فيمن رمى صبية بالزنى أو صبيا، فإن كان يمكن الوطء من مثله -كبنت تسع وابن عشر- فهذا يقام الحد على قاذفهما، وإن لم يبلغا -بخلاف الصغير الذي لا يجامع مثله، والصغيرة التي لا يجامع مثلها- فليس على قاذفهما إلا التعزير، وأما الصغير إذا قذف الكبير فليس عليه إلا التعزير. [تفسير الشرطين] (الثامنة) عبارة "الشرح" في تفسير الشرطين، وكذلك عبارة "الإنصاف" التي نقلت، فالذي عليه الفتوى: أن الشرطين الصحيحين لا يؤثران في العقد كما هو اختيار الشيخ تقي الدين. [دية الجراح المقدرات] (التاسعة) الجراح المقدرات، مثل الموضحة والمأمومة والجائفة إذا كانت في العبد، فديتها في نسبتها من ثمنه، فالموضحة في الحر ديتها نصف عشر الدية، ومن العبد نصف عشر قيمته بعد البرء. [دية المملوك قيمته] (العاشرة): دية المملوك قيمته، سواء كثرت أو قلت، وإذا قتل الحر العبد لم يقد به؛ لقوله تعالى: {الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ} 1. [الإقرار بالزنى] (الحادية عشرة): الإقرار بالزنى هل يكفي فيه مرة أو أربع؟ فالمسألة خلافية بين العلماء، والأحوط أنه لا بد من الإقرار أربع مرات، كما هو مذهب

_ 1 سورة البقرة آية: 178.

رسالة سابعة

الإمام أحمد، ولا بد أن يقيم على إقراره، فإن رجع عن إقراره لم يقم عليه الحد، بل لو شرعوا في إقامة الحد عليه، فرجع ترك، لحديث ماعز، والله أعلم. رسالة سابعة بسم الله الرحمن الرحيم من حمد بن ناصر إلى الأخ جمعان جعله الله من أهل العلم، والإيمان، آمين. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، والخط وصل -أوصلك الله إلى رضوانه، وكذلك المسائل التي تسأل عنها. [سرقة الدابة] (الأولى): إذا سرقت الدابة، ونحرت ... إلخ. (فالجواب): إن الدابة إن سرقت من حرز مثلها كالبعير المعقول الذي عنده حافظ، أو لم يكن معقولا، وكان الحافظ ناظرا إليه أو مستيقظا بحيث يراه، ونحو ذلك مما ذكر الفقهاء في معرفة حرز المواشي، فهذه إذا سرقت من الحرز فعلى السارق القطع بشروطه. فإن لم تكن في حرز فلا قطع على السارق، وعليه غرامة مثلي قيمتها، وهو مذهب الإمام أحمد، واحتج بأن عمر غرم حاطب بن أبي بلتعة حين نحر غلمانه ناقة رجل من مزينة مثلي قيمتها. وأما من سرق من الثمرة، فإن كان بعدما آواها الجرين فعليه القطع. فإن كان قبل ذلك بأن سرق من الثمر المعلق فلا قطع، وعليه غرامة مثليه في مذهب الإمام أحمد. وقال أكثر الفقهاء: لا يجب فيه أكثر من مثله، وبالغ أبو عمر بن عبد البر، وقال: لا أعلم أحدا من الفقهاء قال بغرامة مثليه. والصحيح ما ذهب إليه الإمام أحمد لحديث عمرو بن شعيب عن أبيه

عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الثمر المعلق فقال: "من أصاب منه من ذي حاجة، غير متخذ خبنة 1، فلا شيء عليه. ومن خرج بشيء منه فعليه غرامة مثليه والعقوبة. ومن سرق منه شيئا بعد أن يؤويه الجرين فبلغ ثمن المجن، فعليه القطع" حديث حسن. قال الإمام أحمد: لا أعلم شيئا يدفعه، وأما ما عدا هذا من الثمرة والماشية، فالمشهور من مذهب الإمام أحمد أنه لا يغرم أكثر من القيمة، إن كان متقوما أو مثله إن كان مثليا، فالأصل وجوب غرامة المثل فقط، المتلف والمغصوب والنهب والاختلاس وسائر ما تجب غرامته مخالفة الأصل في هذين الموضعين لا أثر له، ويبقى ما عداهما على الأصل. واختار الشيخ تقي الدين -رحمه الله- وجوب غرامته المثلية في كل سرقة لا قطع فيها. وأما قول السائل -وفقه الله- إذا اختلفا في القيمة، ولا بينة لهما، من القول قوله؟ 2 فالظاهر من كلامهم أن القول قول الغارم. وأما قوله إذا سرقها، وباعها على من لا يعرف، فما الحكم؟ فنقول الحكم فيها كما تقدم، وهو غرامة المثلين على ما ذكرنا من تغريم عمر حاطبا، وعلى ما دل عليه حديث عمرو بن شعيب، فإن فيه أن السائل قال: الشاة الحريسة يا نبي الله؟ قال: "ثمنها ومثله معه"3 ولا فرق بين بيع الشاة، وبين ذبحها ونحر الناقة وبيعها. [دبر الرجل جاريته] (وأما المسألة الثانية): إذا دبر الرجل جاريته كقوله: أنت عتيقة على موتي، أو إذا مت فأنت حرة، فهل بين هذه الألفاظ فرق؟ (فالجواب): أنه لا فرق بين هذه الألفاظ، بل متى علق صريح العتق بالموت فقال: أنت حرة أو محررة أو عتيقة بعد موتي، صارت مدبرة بغير

_ 1 الخبنة كما في القاموس ما يحمله في حضنه. 2 أي فالقول لمن. 3 ابن ماجه: الحدود (2596).

خلاف علمته. وأما قوله إذا دبرها، وهي حامل أو حملت بعد التدبير، فما الحكم في ولدها؟ فنقول: أما إذا دبرها وهي حامل، فإن ولدها يدخل معها في التدبير بغير خلاف علمناه، لأنه بمنزلة عضو من أعضائها. وأما إذا حملت بعد التدبير، ففيه خلاف بين العلماء: فذهب الجمهور إلى أنه يتبع أمه في التدبير، ويكون حكمه حكمها في العتق بموت سيدها، وهو مروي عن ابن مسعود، وابن عمر، وبه قال سعيد بن المسيب، والحسن والقاسم ومجاهد والشعبي والنخعي وعمر بن عبد العزيز والزهري ومالك والثوري وأصحاب الرأي. وذكر القاضي أن حنبلا نقل عن أحمد أن ولد المدبرة عبد إذا لم يشترطه المولى قال: فظاهره أنه لا يتبعها، ولا يعتق بموت سيدها، وهذا قول جابر بن زيد، وهو اختيار المزني من أصحاب الشافعي. قال جابر بن زيد: إنما هو بمنزلة الحائط تصدقت به إذا مت، فإن ثمرته لك ما عشت، وللشافعي قولان كالمذهبين. [تصرف الفضولي] (وأما المسألة الثالثة) إذا تصرف الفضولي، وأنكره صاحب المال، فلم يجز التصرف، فما الحكم في نماء المبيع؟ (فنقول): اختلف الفقهاء في تصرف الفضولي إذا أجازه المالك، هل هو صحيح أم لا؟، والخلاف مشهور. وأما إذا لم يجز المالك لم ينعقد أصلا، ولا تدخل هذه المسألة في الخلاف، بل الملك باق على ملك صاحبه، ولا ينتقل بتصرف الفضولي، ونماؤه لمالكه. وأما قوله: إذا قال الفضولي للمشتري: أنا ضامن ما لحقك من الغرامة، هل يلزمه غرامة النماء؟ فنقول: إن كان المشتري جاهلا أن هذا مال الغير، أو كان عالما لكن جهل الحكم، وغره الفضولي، فما لزم المشتري من الغرامة

من هذا النماء الذي تلف تحت يده، فهو على الضامن من الغار. [إثبات الشفعة بالشركة والطريق] (وأما المسألة الرابعة) وهي قوله على القول بإثبات الشفعة بالشركة والطريق، هل إذا باع إنسان عقاره، وقد وقعت الحدود أن الشركة باقية في البئر والطريق ومسير الماء، هل يأخذ الشفيع المبيع كله لأجل الشركة في هذه الأمور؟ أم لا شفعة له في الطريق ومسير الماء؟ فنقول: على القول بإثبات الشفعة بالشركة في البئر والطريق، يأخذ الشفيع المبيع كله بالشركة في البئر والطريق، ولا يختص ذلك في البئر نفسها ولا بالطريق وحده، وقد نص على ذلك أحمد -رحمه لله- في رواية أبي طالب، فإنه سأله عن الشفعة لمن هي؟ فقال: للجار إذا كان الطريق واحدا؛ فإذا صرفت الطرق، وعرفت الحدود، فلا شفعة. ويدل على ذلك ما رواه أهل السنن الأربعة من حديث جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الجار أحق بشفعة جاره ينتظره بها، وإن كان غائبا إذا كان طريقهما واحدا"1. وفي حديث جابر المتفق عليه: "الشفعة في كل ما لم يقسم؛ فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق، فلا شفعة"2. فمفهوم الحديث الأخير موافق لمنطوق الأول بإثبات الشفعة إذا لم تصرف الطرق، والشركة في البئر تقاس على الشركة في الطريق لأن الشفعة إنما شرعت لإزالة الضرر عن الشريك، ومع بقاء الشركة في البئر والطريق يبقى الضرر بحاله، وهذا اختيار الشيخ تقي الدين -رحمه الله-، وهو الذي عليه الفتوى. وأما الشفعة فيما لا ينقل وليس بعقار كالشجر إذا بيع مفردا ونحو ذلك، فاختلف العلماء في ذلك، فالمشهور في المذهب أنها لا تثبت فيه، وهو قول الشافعي وأصحاب الرأي. وعن أحمد رواية أخرى أن الشفعة تثبت

_ 1 الترمذي: الأحكام (1369) , وأبو داود: البيوع (3518) , وابن ماجه: الأحكام (2494) , وأحمد (3/ 303) , والدارمي: البيوع (2627). 2 البخاري: الشفعة (2257) , ومسلم: المساقاة (1608) , والترمذي: الأحكام (1370) , والنسائي: البيوع (4646) , وأبو داود: البيوع (3514) , وابن ماجه: الأحكام (2499) , وأحمد (3/ 296,3/ 399).

في البناء والغراس، وإن بيع مفردًا، لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: "الشفعة فيما لم يقسم"1، ولأن الشفعة تثبت لدفع الضرر، والضرر فيما لم يقسم أبلغ منه فيما ينقسم، وقد روى الترمذي من حديث عبد العزيز بن رفيع عن ابن أبي مليكة عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "للشفيع شريك، والشفعة في كل شيء"2 وقد روي مرسلا، ورواه الطحاوي من حديث جابر مرفوعا، ولفظه: "قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشفعة في كل شيء"3. [وجوب الضيافة] (وأما مسألة الضيافة) والقول بوجوبها، فالضيف على من نزل به. وأما الغائب، ومن لم ينزل به الضيف، فلا يجب عليه معونة المنزول به إلا أن يختار المعين. [إبراء الغريم] (وأما مسألة الغريم) الذي أبرأ غرماءه مما عليهم من الدين، فلما برئ من المرض أراد الرجوع مما زاد على الثلث، فهذا لا رجوع فيه، بل سقط الدين بمجرد إسقاطه، وإنما التفضيل فيما إذا أبرأ من الدين ومات في ذلك المرض. (وأما الذي أبرأ غريمه على شرط مجهول) بأن شرط عليه ذلولا تمشي في الجهاد دائما، ومتى ماتت اشترى أخرى، أو شرط عليه أضحية كل سنة على الدوام، فهذا لا يصح، والبراءة والحالة هذه لا تصح، والله أعلم.

_ 1 ابن ماجه: الأحكام (2497). 2 الترمذي: الأحكام (1371). 3 البخاري: الشركة (2496) , ومسلم: المساقاة (1608) , والنسائي: البيوع (4701) , وأبو داود: البيوع (3514) , وابن ماجه: الأحكام (2499) , وأحمد (3/ 296) , والدارمي: البيوع (2628).

رسالة ثامنة

رسالة ثامنة بسم الله الرحمن الرحيم من حمد بن ناصر إلى الأخ جمعان -حفظه الله-، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: الخط وصل -أوصلك الله إلى رضوانه- وهذا جواب المسائل واصلك -إن شاء الله تعالى-. [طلق زوجته في مرض موته وأبانها] (الأولى) فيمن طلق زوجته في مرض موته، وأبانها؛ فالذي عليه العمل أنها ترثه، ما دامت في العدة في قول جمهور العلماء، وكذا ترثه بعد العدة ما لم تتزوج، كما ذهب إليه مالك والإمام أحمد في رواية؛ بل مذهب مالك: أنها ترثه ولو تزوجت، والراجح الأول. [المطلقة عليها أطول الأجلين] (المسألة الثانية) وهي قولهم في المطلقة عليها أطول الأجلين من ثلاث حيض أو أربعة أشهر وعشرا، فصورة المسألة على ما صورته في السؤال، وأما الخلاف فالمشهور عن أحمد المعمول به عند أصحابه أن المطلقة البائن في مرض الموت تعتد أطول الأجلين من عدة الوفاة أو ثلاثة قروء، وهذا مذهب أبي حنيفة، وقال مالك والشافعي: تبني على عدة الطلاق. [إجارة العين المستأجرة] (وأما المسألة الثالثة): فالمشهور جواز إجارة العين المستأجرة، قال في المغني: يجوز للمستأجر أن يؤجر العين المستأجرة إذا قبضها نص عليه أحمد، وهو قول سعيد بن المسيب وابن سيرين ومجاهد وعكرمة والنخعي والشعبي والثوري والشافعي وأصحاب الرأي. وأما إجارتها قبل قبضها، فلا يجوز من غير المؤجر في إحدى الوجهين، وهو قول أبي حنيفة، والمشهور

من قولي الشافعي، ويجوز للمستأجر إجارة العين بمثل الأجرة وزيادة، نص عليه أحمد، وهو مذهب الشافعي وابن المنذر. [الحرز] (وأما المسألة الرابعة) وهي مسألة الحرز، فالحرز ما جرت العادة بحفظ المال فيه، ويختلف باختلاف الأموال: فحرز الغنم الحظيرة، وحرزها في المرعى بالراعي، ونظره إليها إذا كان يراها في الغالب، وأما إذا نام عنها فقد خرج من الحرز. والضابط ما ذكرناه، وهو أن الحرز ما جرت العادة بحفظ المال فيه، والأموال تختلف؛ وتفصيل المسألة مذكور في باب القطع في السرقة، فراجعه. [السرقة من الثمر قبل إيوائه الحرز] (وأما المسألة الخامسة) وهي السرقة من الثمر قبل إيوائه الحرز، فهذا لا قطع فيه، ولو كان عليه حائط أو حافظ إذا كان في رؤوس النخل، لحديث رافع بن خديج: "لا قطع في ثمر ولا كثر" 1. وكذلك الماشية تسرق من المرعى إذا لم تكن محرزة، لا قطع فيها، وتضمن بمثل قيمتها. والثمر يضمن بمثلي قيمته لحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده؛ وروى الأثرم أن عمر غرم حاطب بن أبي بلتعة حين نحر غلمانه ناقة رجل من مزينة مثلي قيمتها، وهذا مذهب أحمد. وأما الجمهور فقالوا: لا يجب عليه إلا غرامة مثله، قال ابن عبد البر: لا أعلم أحدا قال بغرامة مثليه. وحجة أهل القول الأول حديث عمرو بن شعيب قال أحمد: لا أعلم شيئا يدفعه. وأما المختلس والمنتهب والخائن وغيرهم، فلا يغرم إلا مثله من غير زيادة على المثل والقيمة، لأن الأصل وجوب غرامة المثل بمثله، والمتقوم بقيمته خولف في هذين الموضعين للأثر، ويبقى ما عداهما على الأصل. [جامع جاهلا أو ناسيا في نهار رمضان] (وأما المسألة السادسة): إذا جامع جاهلا أو ناسيا في نهار رمضان، هل حكم الجاهل حكم الناسي أم بينهما فرق؟

_ 1 الترمذي: الحدود (1449) , والنسائي: قطع السارق (4960,4961,4962,4963,4964,4965,4966,4967,4968,4969,4970) , وأبو داود: الحدود (4388) , وابن ماجه: الحدود (2593) , وأحمد (3/ 463,3/ 464,4/ 140,4/ 142) , ومالك: الحدود (1583) , والدارمي: الحدود (2304,2305,2306,2308,2309).

فالمشهور أن حكمهما واحد عند من يوجب الكفارة، وبعض الفقهاء فرق بين أن يكون جاهلا بالحكم أو جاهلا بالوقت، فأسقط الكفارة عن الجاهل بالوقت، كما لو جامع أول يوم من رمضان يظن أنه من شعبان، أو جامع معتقدا أن الفجر لم يطلع، فبان أنه قد طلع، ومن أسقطها عن الجاهل بالوقت؛ فالناسي مثله وأولى. قال الشيخ تقي الدين: لا قضاء على من جامع جاهلا بالوقت أو ناسيا، ولا كفارة أيضا. [أقسام القذف] (وأما المسألة السابعة) وهي مسألة القذف، فالقذف ينقسم إلى صريح وكناية كالطلاق؛ فالصريح ما لا يحتمل غيره نحو: يا زاني يا عاهر، ونحو ذلك. والكناية التعريض بالألفاظ المجملة المحتملة للقذف وغيره، فإن فسر الكناية بالزنى فهو قذف، لأنه أقر بالقذف، وإن فسره بما يحتمله غير القذف قبل مع يمينه، ويعزر تعزيرا يردعه وأمثاله، ونحو ذلك، فمتى وجد منه اللفظ المحتمل للقذف وغيره، ولم يفسره بما يوجب القذف، فإنه يعزر، ولا حد عليه. [أخذ الأب صداق ابنته] (وأما المسألة الثامنة): هل للأب أن يأخذ من صداق ابنته أم لا؟ فالمشهور عن أحمد جوازه، وهو قول إسحاق بن راهويه. وقد روي عن مسروق أنه زوج ابنته، واشترط لنفسه عشرة آلاف يجعلها في الحج والمساكين، ثم قال للزوج: جهز امرأتك. وروي ذلك عن علي بن الحسين أيضا، واستدلوا لذلك بما حكى الله عن شعيب {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ} 1 وبقوله صلى الله عليه وسلم: "أنت ومالك لأبيك"2 وقوله: "إن أولادكم من كسبكم فكلوا من أموالهم"3 فإذا شرط لنفسه شيئا من الصداق كان آخذا من مال ابنته، وله ذلك.

_ 1 سورة القصص آية: 27. 2 ابن ماجه: التجارات (2291). 3 الترمذي: الأحكام (1358) , والنسائي: البيوع (4450) , وأبو داود: البيوع (3529) , وابن ماجه: التجارات (2290) , وأحمد (6/ 41,6/ 127,6/ 162,6/ 193,6/ 201) , والدارمي: البيوع (2537).

[استبدال الدين] (وأما المسألة التاسعة): إذا كان لإنسان طعام في ذمة رجل، وليس هو سلما، وذلك بأن يكون قرضا، أو إجارة أرض أو عمارة نخل، وأراد صاحبه أن يأخذ عنه جنسا آخر من الطعام، فهذا لا بأس به إذا لم يتفرقا وبينهما شيء. فإن اتفقا على المعاوضة، وتفرقا قبل التقابض لم يثبت الأول، ومتى تقابضا جازت المعاوضة، كما يجوز ذلك في بيع الأعيان، لقوله: صلى الله عليه وسلم: "إذا اختلفت هذه الأجناس، فبيعوا كيف شئتم يدا بيد"1، وكما وردت السنة بمثل ذلك في قبض الدراهم عن الدنانير، والدنانير عن الدراهم في حديث ابن عمر. [العاصب للميت من كان أقرب من غيره] (وأماالمسألة العاشرة) فالعاصب للميت من كان أقرب من غيره، بعد العاصب أو قرب، فمتى ثبت النسب بأن هذا ابن عم الميت، ولا يعرف أحد أقرب منه فهو العاصب، ولو بعد عن الميت. فإن عرف أن هذا الميت من هذه القبيلة، ولم يعرف له عاصب معين، وأشكل الأمر دفع إلى أكبرهم سنا، فإن كان للميت وارث ذو فرض أخذ فرضه، ولم يوجد عاصب، فالرد إلى ذوي الفروض أولى من دفعه إلى بيت المال، ويرد على أهل الفروض على حسب ميراثهم إلا الزوج والزوجة، فلا يرد عليهم. [تغريب المرأة البكر في الزنى] (وأماالمسألة الحادية عشرة): إذا زنت المرأة البكر وجلدت، فهل تغرب أم لا؟ والمسألة فيها خلاف بين العلماء، والمشهور أنها تغرب كما هو ظاهر الحديث، أعني قوله: صلى الله عليه وسلم: "البكر بالبكر، جلد مائة وتغريب عام"2. والله أعلم.

_ 1 مسلم: المساقاة (1587) , وأحمد (5/ 320). 2 أحمد (3/ 476).

رسالة تاسعة

رسالة تاسعة (قال جامع الرسائل): ومن جواب أسئلة وردت على حمد بن ناصر - رحمه الله وعفا عنه- قال: (التهليلات العشر من صلاتي المغرب والفجر) الحمد لله، أما المسائل التي سألت عنها، فأولها السؤال عن التهليلات العشر بعد صلاة الصبح والمغرب، إذا كان قد ثبت في الأحاديث: "من قال قبل أن ينصرف -وفي لفظ: دبر المغرب والصبح-: لا إله إلا الله، وحده لا شريك له"1 إلخ، وهو الذي يفعله الناس اليوم من الجهر، هل كان من هديه -صلى الله عليه وسلم- وفعله أصحابه والتابعون؟ وما أصل هذه التهليلات؟ فنقول، وبالله التوفيق: أما أصل التهليلات العشر، فهو ما أشار إليه السائل - وفقه الله- من الأحاديث الواردة فيه، فروى الترمذي في سننه حديث أبي ذر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من قال في دبر صلاة الصبح، وهو ثان رجليه قبل أن يتكلم: لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي، ويميت، وهو على كل شيء قدير -عشر مرات-، كتب له عشر حسنات، ومحي عنه عشر سيئات، ورفع له عشر درجات"2 ... الحديث. وروى الترمذي أيضا، والنسائي في اليوم والليلة من حديث عمارة بن شبيب مرفوعا: "من قال: لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيى ويميت، وهو على كل شيء قدير، على إثر المغرب، بعث الله له مَسْلحةً يحفظونه حتى يصبح"3 الحديث. قال الترمذي: غريب. فهذان

_ 1 أحمد (4/ 226). 2 الترمذي: الدعوات (3474). 3 الترمذي: الدعوات (3534).

المأثور في الأذكار عقب الصلاة ورفع الصوت بها

الحديثان هما أصل التهليلات العشر بعد صلاة الصبح والمغرب، وهما حجة على استحباب هذه التهليلات، ولهذا استحبها العلماء، وذكروها في الأذكار المستحبة دبر الصلاة، وأن المصلي يهلل بهن دبر صلاة الفجر وصلاة المغرب. (المأثور في الأذكار عقب الصلاة ورفع الصوت بها) وأما قول السائل: هل كان هذا من هديه صلى الله عليه وسلم أو فعله أصحابه؟ فهذا لم يبلغنا من فعله -صلى الله عليه وسلم-، والذي ثبت عنه الترغيب في ذلك، ويترتب الأجر العظيم على فعله، وذلك كاف في استحبابه. وهذا له نظائر كثيرة في السنة: فإذا وردت الأحاديث بالحث على شيء من العبادات ورغب فيه الشارع ثبت أنها مستحبة، وإن لم يرد عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه فعلها لم تستحب. ومن تأمل الأحاديث عرف ذلك، وليس في هذا اختلاف بين العلماء، وإنما الخلاف بينهم في استحباب رفع الصوت بالذكر عقب الصلاة المكتوبة، لأنه قد ثبت في الصحيحين من حديث ابن عباس: "أن رفع الصوت بالذكر حين ينصرف الناس من المكتوبة كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم"1. قال ابن عباس: كنت أعلم إذا انصرفوا بذلك، يعني بالجهر. ولهذا اختلف العلماء، هل الأصل الإسرار كما هو المشهور عند أتباع الأئمة؟ أم الجهر أفضل لهذا الحديث الصحيح؟ قال في الفروع: وهل يستحب الجهر لذلك كقول بعض السلف والخلف، وقاله شيخنا، أم لا؟ كما ذكره أبو الحسن بن بطال وجماعة، وأنه قول أهل المذاهب المتبوعة وغيرهم، وظاهر كلام أصحابنا مختلف، ويتوجه تخريج واحتمال يجهر لقصد التعليم فقط، ثم يتركه، وفاقا للشافعي، وحمل الشافعي خبر ابن عباس على هذا. انتهى

_ 1 البخاري: الأذان (841) , ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (583) , وأبو داود: الصلاة (1003) , وأحمد (1/ 367).

حكم التلقيح بالجدري

كلامه. فهذا الاختلاف في استحباب الجهر بعد الصلوات بالأذكار الواردة من حيث الجملة، وحديث ابن عباس دليل على الاستحباب. وأما تخصيص هذه التهليلات بالجهر دون غيرها من الأذكار، فلم نعلم له أصلا، ولكن لما أثبت ابن عباس أن رفع الصوت بالذكر كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم صح الاستدلال به على رفع الصوت بالتهليلات؛ إذ هو من جملة الأذكار الواردة، فمن رفع صوته بذلك لم ينكر عليه، بل يقال: رفع الصوت بالذكر بعد الصلاة مستحب، ومن أسر لم ينكر عليه، لأن ذلك من مسائل الاختلاف بين العلماء، وكل منهم قد قال باجتهاده، رضي الله عنهم. (حكم التلقيح بالجدري) وأما السؤال عن التوتين الذي يفعله العوام يأخذون قيحا من المجدور، ويشقون جلد الصحيح، ويجعلونه في ذلك المشقوق يزعمون أنه إن جدر يخفف عنه، فهذا ليس من التمائم المنهي عن تعليقها فيما يظهر لنا، وإنما هو من التداوي عن الداء قبل نزوله كما يفعلون بالمجدور إذا أخذته حمى الجدري لطخوا رجليه بالحنا لئلا يظهر الجدري في عينيه، وقد جرب ذلك، فوجد له تأثير، وهؤلاء يزعمون أن التوتين من الأسباب المخففة للجدري. والذي يظهر لنا فيه الكراهة، لأن فاعله يستعجل به البلاء قبل نزوله إلا أنه في الغالب إذا وتن ظهر فيه الجدري، فربما قتله، فيكون الفاعل لذلك قد أعان على قتل نفسه، كما قد ذكره العلماء فيمن أكل فوق الشبع؛ فمات بسبب ذلك فهذا وجه الكراهة 1.

_ 1 يظهر أن هذا التوتين الذي يسمى الآن التلقيح أو التطعيم لم يكن في عصر هذا المفتي أو في بلاده قد نجح كنجاحه المعروف الآن حتى في أمراض =

التوسل إلى الخالق بالمخلوقين

(التوسل إلى الخالق بالمخلوقين) وأما السؤال عن قول الخارج إلى الصلاة: اللهم إني أسألك بحق السائلين عليك، فهذا ليس فيه دليل على السؤال بالمخلوق كما قد توهمه بعض الناس، فاستدل به على جواز التوسل بذوات الأنبياء والصالحين، وإنما هو سؤال الله -تعالى- بما أوجبه على نفسه فضلا وكرما، لأنه يجيب سؤال السائلين إذا سألوه كما قال تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} 1، ونظيره قوله: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} 2، وقوله {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} 3، وقوله: {كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ} 4. هذا معنى ما ذكر العلماء في الحديث الوارد في ذلك إن صح، وإلا فهو ضعيف. وعلى تقدير صحته، فهو من باب السؤال بصفات الله، لا من السؤال بذات المخلوقين، والله أعلم.

_ = أخرى غير الجدري، ولذلك أثبت أنه مظنة الضرر فيكون مكروها، وقد حرمه في أول ظهوره كثير من أهل البلاد، والملل المختلفة حتى الإنكليز، وقد ثبت من عهد بعيد أنه يقي من هذا الداء الفتاك المشوه، وأن تأثير التلقيح الواقي خفيف جدا يتحمله الأطفال بسهولة، فالقول بوجوبه غير بعيد. 1 سورة البقرة آية: 186. 2 سورة الروم آية: 47. 3 سورة هود آية: 6. 4 سورة يونس آية: 103.

رسالة عاشرة

رسالة عاشرة بسم الله الرحمن الرحيم من حمد بن ناصر إلى الأخ إبراهيم بن محمد، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. (وبعد): وصل الخط -أوصلك الله إلى رضوانه-، وما ذكرت صار عندنا معلوما. [ما تضمنته سورة الإخلاص من التوحيد العلمي] ومن جانب السؤال عما تضمنته سورة الإخلاص من التوحيد العلمي، فيذكرون أهل العلم أن سورة الإخلاص متضمنة للتوحيد العلمي، و {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} 1 متضمنة للتوحيد العملي. فسورة {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} 2 فيها توحيد الاعتقاد والمعرفة، وما يجب إثباته للرب -تعالى- من الأحدية المنافية لمطلق الشركة، والصمدية المثبتة له جميع صفات الكمال الذي لا يلحقه نقص بوجه من الوجوه، ونفي الولد والوالد الذي هو من لوازم الصمدية، ونفي الكفو المتضمن لنفي التشبيه والتمثيل. فتضمنت هذه السورة إثبات كل كمال له، ونفي كل نقص عنه، ونفي الشبيه والمثيل، ونفي مطلق الشريك عنه. وهذه الأصول مجامع التوحيد العلمي الاعتقادي الذي يباين صاحبه فرق الضلال والشرك، ولذلك كانت تعدل ثلث القرآن. وبيان ذلك أن القرآن مداره على الخبر والإنشاء، والخبر نوعان: خبر عن الخالق، وأسمائه وصفاته وأحكامه، وخبر عن خلقه، فأخلصت سورة الإخلاص للخبر عنه -سبحانه- وعن أسمائه وصفاته، فعدلت ثلث القرآن، كما أخلصت سورة {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} 3 لبيان الشرك العملي القصدي.

_ 1 سورة الكافرون آية: 1. 2 سورة الإخلاص آية: 1. 3 سورة الكافرون آية: 1.

الشفاعة المثبتة والشفاعة المنفية

(الشفاعة المثبتة والشفاعة المنفية) وأما الفرق بين الشفاعة المثبتة والشفاعة المنفية، فهي مسألة عظيمة، ومن لم يعرفها لم يعرف حقيقة التوحيد والشرك. والشيخ -رحمه الله-1 عقد لها بابا في كتاب التوحيد فقال: (باب الشفاعة)، وقول الله -تعالى-: {وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ} 2، ثم ساق الآيات، وعقبه بكلام الشيخ تقي الدين. فأنت راجع الباب، وأمعن النظر فيه يتبين لك حقيقة الشفاعة، والفرق بين ما أثبته القرآن، وما نفاه. وإذا تأمل الإنسان القرآن، وجد فيه آيات كثيرة في نفي الشفاعة، وآيات كثيرة في إثباتها. فالآيات التي فيها نفي الشفاعة مثل قوله -تعالى-: {لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ} 3، ومثل قوله -تعالى-: {أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ} 4، وقوله: {مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ} 5، وقوله: {قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا} 6، إلى غير ذلك من الآيات. وأما الشفاعة التي أثبتها القرآن؛ فمثل قوله -تعالى-: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} 7، وقوله: {وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} 8 وقوله: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} 9، وقوله: {يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا} 10، إلى غير ذلك من الآيات. فالشفاعة التي نفاها القرآن هي التي يطلبها المشركون من غير الله، فيأتون إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم أو إلى قبر من يظنونه من الأولياء والصالحين، فيستغيث به، ويتشفع به إلى الله لظنه أنه إذا فعل ذلك شفع

_ 1 يعني الشيخ محمد عبد الوهاب قدس الله روحه. 2 سورة الأنعام آية: 51. 3 سورة الأنعام آية: 51. 4 سورة البقرة آية: 254. 5 سورة السجدة آية: 4. 6 سورة الزمر آية: 44. 7 سورة النجم آية: 26. 8 سورة سبأ آية: 23. 9 سورة الأنبياء آية: 28. 10 سورة طه آية: 109.

له عند الله، وقضى الله حاجته، سواء أراد حاجة دنيوية أو حاجة أخروية. كما حكاه -تعالى- عن المشركين في قوله: {وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} 1 لكن (كان) الكفار الأولون يتشفعون بهم في قضاء الحاجات الدنيوية. وأما المعاد فكانوا مكذبين به جاحدين له. وأما المشركون اليوم فيطلبون من غير الله حوائج الدنيا والآخرة، ويتقربون بذلك إلى الله، ويستدلون عليه بالأدلة الباطلة، و {حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ} 2. وأما الشفاعة التي أثبتها القرآن، فقيدها -سبحانه- بإذنه للشافع ورضاه عن المشفوع له، فلا يشفع عنده أحد إلا بإذنه، لا ملك مقرب، ولا نبي مرسل، ولا يأذن للشفعاء أن يشفعوا إلا لمن رضي قوله وعمله، وهو -سبحانه- لا يرضى إلا التوحيد، وأخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أن أسعد الناس بشفاعته أهل التوحيد والإخلاص. فمن طلبها منه اليوم حرمها يوم القيامة، والله -سبحانه- قد أخبر أن المشركين لا تنفعهم شفاعة الشافعين، وإنما تنفع من جرد توحيده لله بحيث أن يكون الله - وحده- هو إلهه ومعبوده، وهو -سبحانه- لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصا كما قال -تعالى-: {أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} 3. فإذا تأملت الآيات، تبين لك أن الشفاعة المنفية هي التي يظنها المشركون، ويطلبونها اليوم من غير الله. (وأما الشفاعة المثبتة) فهي التي لأهل التوحيد والإخلاص، كما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أن شفاعته نائلة من مات من أمته لا يشرك بالله شيئا. والله أعلم، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.

_ 1 سورة يونس آية: 18. 2 سورة الشورى آية: 16. 3 سورة الزمر آية: 3.

رسالة حادية عشرة

رسالة حادية عشرة بسم الله الرحمن الرحيم السؤال بخط منصور أبا حسين 1، والجواب بخط المجيب حمد بن ناصر -رحمه الله-. من منصور أبا حسين 2 إلى الأخ حمد بن ناصر - حفظه الله بما حفظ به عباده الصالحين، وجعله من أئمة المتقين، ومن أصحاب اليمين، آمين. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. (أما بعد): أفدني أثابك الله الجنة، ما صفة الواجب وحده والمسنون وحده؟ وما يترتب عليهما من الثواب والعقاب؟ كذلك ما صفة المكروه وحده، وصفة المحرم وحده؟ كذلك إذا دخل الرجل المسجد، هل يعمل على حديث النهي عن الصلاة في أوقات النهي، وهو داخل في وقت النهي، أو يعمل على حديث "إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس"3 ... إلخ؟ كذلك بيع الدين بالدين، وبيعتين في بيعة، مثّلهما لي، ولا تخلني من صالح دعاك، واستودعك الله وأنت سالم، والسلام. (تعريف الواجب والمسنون والمكروه والمحرم) الحمد لله رب العالمين، الواجب في الشرع ما ذم تاركه إذا تركه قصدا، وأثيب فاعله، وهو يرادف الفرض عند الحنابلة والشافعية وأكثر الفقهاء. وعن أحمد رواية أن الفرض آكد من الواجب، وهو قول أبي حنيفة.

_ 1 يظهر أن لغتهم بنجد إعراب لفظ أب المضاف بالألف مطلقا. 2 يظهر أن لغتهم بنجد إعراب لفظ أب المضاف بالألف مطلقا. 3 البخاري: الجمعة (1167) , ومسلم: صلاة المسافرين وقصرها (714) , والترمذي: الصلاة (316) , والنسائي: المساجد (730) , وأبو داود: الصلاة (467) , وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها (1013) , وأحمد (5/ 295,5/ 303,5/ 305,5/ 311) , والدارمي: الصلاة (1393).

تحية المسجد وقت الكراهية

وأما المسنون فهو ما أثيب فاعله، ولم يذم تاركه، والسنة في اللغة الطريقة والسيرة. وإذا أطلقت في الشرع، فإنما يراد بها ما أمر به النبي -صلى الله عليه وسلم- وندب إليه قولا وفعلا مما لم ينطق به الكتاب العزيز. وأما المكروه فهو ضد المندوب، وهو لغة ضد المحبوب، وشرعا ما مدح تاركه، ولم يعاقب فاعله. ومنه ما نهى عنه الشارع لرجحان تركه على فعله كالصوم في السفر إذا وجدت المشقة في الصوم، ونحو ذلك. وأما المكروه فهو في عرف المتأخرين ما نهي عنه نهي تنزيه. ويطلق على الحرام أيضا، وهو كثير في كلام المتقدمين كالإمام أحمد، وغيره كقول الإمام أحمد أكره المتعة والصلاة في المقابر، وهما محرمان، وقد ورد المكروه بمعنى الحرام في قوله تعالى: {كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا} 1. وأما الحرام، فهو ضد الحلال، وهو ما حرمه الله في كتابه أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم من ترك الواجبات وفعل المحرمات. وأصل التحريم في اللغة المنع، ومنه قوله تعالى: {وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ} 2. وحده شرعا ما ذم فاعله، ولو قولا كالغيبة والنميمة، ونحوهما مما يحرم التلفظ به، أو عمل القلب كالنفاق والحقد ونحوهما. (تحية المسجد وقت الكراهية) وأما قوله إذا دخل الرجل المسجد وقت النهي هل يترك التحية على أحاديث النهي ... إلخ؟ فهذه المسألة فيها خلاف بين العلماء، وفيها عن أحمد روايتان: إحداهما أنه لا يصلي التحية وقت النهي، وهو المذهب الذي عليه أكثر الأصحاب، وهو قول أصحاب الرأي لعموم النهي. والثانية يجوز

_ 1 سورة الإسراء آية: 38. 2 سورة القصص آية: 12.

وهو قول الشافعي، وهو اختيار الشيخ تقي الدين، لأنه قد ثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يركع ركعتين"1 وهو حديث صحيح، وهو يخص أحاديث العموم. وأهل هذا القول حملوا أحاديث النهي على ما لا سبب له، وأما ذوات الأسباب كركعتي الطواف، وتحية المسجد، وإعادة الصلاة إذا صلاها في رحله، وإعادة صلاة الفجر إذا صلاها في رحله ثم حضر الجماعة وهم يصلون، ونحو ذلك، فهذا يفعل في أوقات النهي لأدلة دلت على ذلك، وهي تخص عموم النهي، وكما أن الصلاة وقت الخطبة منهي عنها باتفاق العلماء، وقد ثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه أمر من دخل المسجد والإمام يخطب أن يصلي ركعتين، وليتجوز فيهما. وهذا نظير قوله في أبي قتادة: إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يركع ركعتين، فقد نهى عن الجلوس قبل الصلاة، وذلك أمر بالصلاة إذ لم يقل أحد أنه إذا دخل عقيب صلاة العصر يقوم قائما إلى غروب الشمس. ومما يبين رجحان هذا القول أن المانعين من فعل التحية وقت النهي أجازوا ما هو مثلها، فإن مذهب الإمام أحمد أن ركعتي الطواف تفعل في أوقات النهي، وكذلك المعادة مع إمام الحي إذا أقيمت، وهو في المسجد يصليها معهم في وقت النهي. وكذلك قضاء الفوائت تفعل في وقت النهي، وكذلك صلاة الجنازة تفعل في الوقتين الطويلين من أوقات النهي، هذا مذهب أحمد في هذه المسائل فما كان جوابهم ودليلهم على جوازه، فهو دليل من أجاز تحية المسجد في هذه الأوقات، فإن قوله: صلى الله عليه وسلم: "إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يركع ركعتين"2 أمر عام لجميع الأوقات فإذا قال منازعوهم: أحاديث النهي تخص

_ 1 البخاري: الجمعة (1167) , ومسلم: صلاة المسافرين وقصرها (714) , والترمذي: الصلاة (316) , والنسائي: المساجد (730) , وأبو داود: الصلاة (467) , وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها (1013) , وأحمد (5/ 295,5/ 303,5/ 305,5/ 311) , والدارمي: الصلاة (1393). 2 البخاري: الجمعة (1167) , ومسلم: صلاة المسافرين وقصرها (714) , والترمذي: الصلاة (316) , والنسائي: المساجد (730) , وأبو داود: الصلاة (467) , وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها (1013) , وأحمد (5/ 295,5/ 303,5/ 305,5/ 311) , والدارمي: الصلاة (1393).

بيع الدين بالدين

هذا العموم قالوا لهم: أنتم جوزتم الصلاة وقت الخطبة، وركعتي الطواف وإعادة الجماعة، وقضاء الفوائت وصلاة الجنازة، فلم تعملوا بأحاديث النهي على ظاهرها بل خالفتم ظاهرها في صور معلومة. [بيع الدين بالدين] وأما بيع الدين بالدين، فله صور: منها ما هو منهي عنه بالاتفاق، ومنها ما هو مختلف فيه. وهو ينقسم إلى بيع واجب بواجب، وساقط بساقط، وساقط بواجب، وواجب بساقط. فالذي لا شك في بطلانه بيع الكالئ بالكالئ، وهو بيع ما في الذمة مؤخرا بشيء في الذمة مؤخرا، فإن الكالئ هو المؤخر فإذا أسلم شيئا في ذمته في شيء في ذمة الآخر، وكلاهما مؤخر، فهذا لا يجوز باتفاق العلماء. ومثال الساقط بالساقط صورة المقاصة، فإن اتفق الدينان جنسا وأجلا فلا بأس بها، وإن اختلف الجنس كما لو كان لكل واحد من اثنين دين على صاحبه من غير جنسه كالذهب والفضة وتساقطا، ولم يحضرا شيئا فهذا فيه خلاف المنصوص عن أحمد أنه لا يجوز إذا كانا نقدين من جنسين، واختار الشيخ تقي الدين الجواز. وأما الساقط بالواجب فكما لو باعه دينا في ذمته بدين آخر من غير جنسه، فسقط الدين المبيع، ووجب عوضه، وهو بيع الدين الحال ممن هو في ذمته بدين لم يقبض. وأما بيع الواجب بالساقط، فكما لو كان لرجل دراهم في ذمة رجل آخر فجعل الدراهم سلما في طعام في ذمته، فقد وجب له عليه دين، وسقط عنه دين غيره؛ وقد حكى ابن المنذر إجماع من يحفظ عنه من أهل العلم على أنه لا يجوز، وليس في ذلك إجماع، بل قد أجازه بعض العلماء، لكن القول بالمنع هو قول الجمهور، والله أعلم.

البيعتان في بيعة

[البيعتان في بيعة] وأما البيعتان في بيعة: فالمشهور عن أحمد أنه اشتراط أحد المتعاقدين على صاحبه عقدًا آخر كبيع أو إجارة أو صرف الثمن أو قرض، ونحو ذلك، وعنه البيعتان في بيعة إذا باعه بعشرة نقدا أو عشرين نسيئة، وقال في العمدة: البيعتان في بيعة أن يقول: بعتك هذا بعشرة صحاح أو عشرين مكسرة، أو يقول بعتك هذا على أن تبيعني هذا. انتهى. فجمع بين الروايتين، وجعل كلا الصورتين داخلا في معنى بيعتين في بيعة، والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم. الرسالة الثانية عشرة في مسائل مختلفة بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا. وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم. [صلاة المسبوق] (أما بعد): المسألة الأولى: مسبوق دخل مع الإمام، ولم يعلم هل هو في أول الصلاة فيستفتح، ويقرأ سورة أم في آخرها فيسكت. (الجواب): إن أهل العلم اختلفوا في ذلك على قولين هما روايتان عن أحمد: (إحداهما): أن ما يدركه مع الإمام آخر صلاته، وما يقضيه أولها، قال في الشرح الكبير: هذا هو المشهور في المذهب يروى ذلك عن ابن عمر

ومجاهد وابن سيرين ومالك والثوري، وحكي عن الشافعي، وأبي حنيفة وأبي يوسف، لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "وما فاتكم فاقضوا"1 متفق عليه. فالمقضي هو الفائت، فعلى هذا ينبغي أن يستفتح، ويستعيذ، ويقرأ السورة. (القول الثاني): أن ما يدركه مع الإمام أول صلاته، والمقضي آخرها، وهو الرواية الثانية عن أحمد قال في الشرح: وبه قال سعيد بن المسيب والحسن، وهو ابن عبد العزيز وإسحاق، وهو قول الشافعي، ورواية عن مالك، واختاره ابن المنذر، لقوله - عليه السلام-: "وما فاتكم فأتموا" 2. فعلى هذه الرواية لا يستفتح. فأما الاستعاذة، فإن قلنا تسن في كل ركعة استعاذ، وإلا فلا. وأما السورة بعد الفاتحة، فيقرؤها على كل حال، قال شيخنا: لا أعلم خلافا بين الأئمة الأربعة في قراءة الفاتحة وسورة، وهذا مما يقوي الرواية الأولى. انتهى. وقال في الفروع: وقيل يقرأ السورة مطلقا، ذكر الشيخ أنه لا يعلم فيه خلافا بين الأئمة الأربعة، وذكر ابن أبي موسى المنصوص عليه، وذكره الآجري عن أحمد، وبنى قراءتها على الخلاف، ذكره ابن هبيرة وفاقا، وجزم به جماعة، واختاره صاحب المحرر، وذكر أن أصول الأئمة تقتضي ذلك. وصرح به منهم جماعة، وأنه ظاهر رواية الأثرم، ويخرج على الروايتين الجهر والقنوت وتكبير العيد وصلاة الجنازة، وعلى الأولى، يعني الرواية الأولى المشهورة أن ما يدركه المسبوق مع الإمام آخر صلاته إن أدرك من رباعية أو مغرب ركعة تشهد عقب قضاء أخرى، وفاقا لأبي حنيفة ومالك في إحدى الروايتين له كالرواية الثانية انتهى. وفي القواعد الفقهية لما ذكر ما ينبني على الروايتين من الفوائد: الفائدة الرابعة: مقدار القراءة، وللأصحاب في ذلك طريقان: أحدهما

_ 1 البخاري: الأذان (636) والجمعة (908) , ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (602) , والترمذي: الصلاة (327) , والنسائي: الإمامة (861) , وأبو داود: الصلاة (572) , وابن ماجه: المساجد والجماعات (775) , وأحمد (2/ 237,2/ 238,2/ 239,2/ 270,2/ 318) , ومالك: النداء للصلاة (152) , والدارمي: الصلاة (1282). 2 البخاري: الأذان (635) , ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (603) , وأحمد (5/ 306) , والدارمي: الصلاة (1283).

أنه إذا أدرك ركعتين من الرباعية، فإنه يقرأ في المقضيتين بالحمد وسورة معها على كلا الروايتين، قال ابن أبي موسى: لا يختلف قوله في ذلك، والطريق الثاني بناؤه على الروايتين، فإن قلنا: ما يقضيه أول صلاته فكذلك، وإلا اقتصر فيه على الفاتحة، وهي طريقة القاضي ومن بعده، وذكره ابن أبي موسى تخريجا، ونص عليه أحمد في رواية الأثرم، وأومأ إليه في رواية حرب. وأنكر صاحب المحرر الرواية الأولى، وقال: لا يتوجه إلا على رأي من يرى قراءة السورة في كل ركعة أو على رأي من يرى قراءة السورة في الأخريين إذا نسيها في الأوليين. انتهى ملخصا، والله أعلم. والذي يترجح عندنا أن ما أدركه المسبوق أول صلاته، لأن رواية من روى (فأتموا) أكثر، وأصح عند كثير من أهل الحديث مع أن رواية فاقضوا لا تخالف رواية (فأتموا)؛ لأن القضاء يرد في اللغة بمعنى التمام كما قال -تعالى-: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ} 1، وقال: {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ} 2، قال في "الفتح": قوله -صلى الله عليه وسلم-: "وما فاتكم فأتموا"3 أي: أكملوا، هذا هو الصحيح في رواية الزهري، ورواية ابن عيينة بلفظ: (فاقضوا)، وحكم مسلم عليه بالوهم في هذه اللفظة مع أنه خرج إسناده في صحيحه لكنه لم يسق لفظه قال، والحاصل أن أكثر الروايات، ورد بلفظ فأتموا، وأقلها بلفظ فاقضوا، وإنما تظهر فائدة ذلك إن جعلنا بين القضاء والإتمام مغايرة، لكن إذا كان مخرج الحديث واحدًا، واختلف في لفظة منه، وأمكن رد الاختلاف إلى معنى واحد، كان أولى. وهنا كذلك، لأن القضاء وإن كان يطلق على الفائت غالبا، لكنه يطلق على الأداء أيضا، ويرد بمعنى الفراغ كقوله تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ} 4 ... الآية، ويرد لمعان أخر، فيحمل قوله هنا: "فاقضوا" على معنى الأداء أو الفراغ، فلا

_ 1 سورة الجمعة آية: 10. 2 سورة البقرة آية: 200. 3 البخاري: الأذان (635) , ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (603) , وأحمد (5/ 306) , والدارمي: الصلاة (1283). 4 سورة الجمعة آية: 10.

يغاير قوله: فأتموا، فلا حجة فيه لمن تمسك برواية: "فاقضوا" على أن ما أدركه المأموم مع الإمام هو آخر صلاته حتى استحب له الجهر في الركعتين الأخريين وقراءة السورة وترك القنوت، بل هو أولها، وإن كان آخر صلاة إمامه، لأن الآخر لا يكون إلا عن شيء تقدم. وأوضح دليل على ذلك أنه يجب عليه أن يتشهد في آخر صلاته على كل حال، فلو كان ما يدركه مع الإمام آخرا له؛ لما احتاج إلى إعادة التشهد. انتهى ملخصا. فظهر لك أن هذا القول هو الراجح، والله -سبحانه وتعالى- أعلم. [تأخير الصلاة للمسافر عند فقد الماء] (المسألة الثانية): رجل في سفر، ودخل عليه وقت الزوال، وهو عادم الماء، فأخر صلاة الظهر ناويا التأخير إلى العصر، فوجد الماء في وقت الظهر، ولم يستعمله؛ فلما جاء وقت العصر إذا هو عادم للماء؟ (فالجواب وبالله التوفيق): أن المشهور عند الحنابلة أن مثل هذا لا إعادة عليه، لأنه يجوز له تأخير صلاة الظهر إلى وقت العصر، إذا كان ناويا للجمع. قال في الشرح الكبير: وإذا كان معه ماء فأراقه قبل الوقت، أو مر بماء قبل الوقت فتجاوزه، وعدم الماء في الوقت، صلى بالتيمم من غير إعادة، وهو قول الشافعي. وقال الأوزاعي: إن ظن أنه يدرك الماء في الوقت كقولنا، وإلا صلى بالتيمم، وعليه الإعادة، لأنه مفرط، ولنا أنه لم يجب عليه استعماله، أشبه ما لو ظن أنه يدرك الماء في الوقت. وفي شرح منصور على "المنتهى": من في الوقت أراقه، أي: الماء، أو مر به وأمكنه الوضوء منه، ولم يفعل وهو يعلم أنه لا يجد غيره، أو باعه، أو وهبه في الوقت لغير من يلزمه بذله له، حرم عليه ذلك، ولم يصح العقد من بيع أو هبة لتعلق حق الله -تعالى-بالمعقود عليه، فلم يصح نقل الملك فيه كأضحية معينة. ثم إن تيمم لعدم غيره،

ولم يقدر على رد المبيع أو الموهوب، وصلى، لم يعد، لأنه عادم للماء حال التيمم، أشبه ما لو فعل ذلك قبل الوقت. انتهى. فإذا كان لا يعيد إذا مر به في الوقت، ولم ينو الجمع، فكيف إذا كان ناويا للجمع؟ والله -سبحانه وتعالى- أعلم. [البينة على من ادعى واليمين على من أنكر] (المسألة الثالثة): رجل قضى رجلا مثلا جديدة 1 والذي عندهم أنها زينة، وأخذت أياما عنده يعبرها وترد عليه، وأخرجها من يده، وربما رفعها عند أهله، ولما لم تعبر جاء بها للذي قضاه، فأنكرها أن تكون جديدته التي دفعها إليه، ولم تكن بينة، فاليمين على من تكون. (الجواب): أن الذي يظهر من كلامهم في هذه الصورة أن القول قول الدافع بيمينه، أنها ليست جديدته التي دفعها إذا كانت قد خرجت من يده. وأما إذا لم تخرج من يده ففيها قولان في المذهب: أحدهما وهو المشهور في المذهب: أن القول قول المشتري مع يمينه. قال في الإنصاف: لو باع سلعة بنقد أو غيره معين حال العقد، وقبضه ثم أحضره، وبه عيب وادعى أنه الذي دفعه إليه المشتري، وأنكر المشتري كونه الذي اشتراه به، ولا بينة لواحد منهما، فالقول قول المشتري مع يمينه لأن الأصل براءة ذمته، وعدم وقوع العقد على هذا المعين، ولو كان الثمن في الذمة، ثم نقده المشتري أو قبضه من قرض أو سلم أو غير ذلك مما هو في ذمته، ثم اختلفا كذلك ولا بينة، فالقول قول البائع، وهو القابض مع يمينه على الصحيح، لأن القول في الدعاوي قول من الظاهر معه، والظاهر مع البائع، لأنه

_ 1 الجديدة نقد متداول بنجد، وزينة جيدة، ويعبرها يدفعها إلى الناس، ورفعها عند أهله حفظها عندهم، فحاصل السؤال أن رجلا دفع نقدا جيدا إلى آخر، فتصرف به أخذا وردا، وربما حفظيه عند أهله، ثم في آخر الأمر وقفت، فأنكرها صاحبها، ولم تكن بينة، فعلى من تكون اليمين؟

ثبت له في ذمة المشتري ما انعقد عليه العقد غير معين، فلم يقبل قوله في ذمته، -إلى أن قال-: ومحل الخلاف إذا لم يخرج عن يده. انتهى. ومراده أنه إذا أخرجه البائع من يده كما في الصورة المسؤول عنها، فالقول قول المشتري، وهو الدافع بلا خلاف عندهم، والله أعلم. [اشترط شرطا يخالف حكم الله ورسوله] (المسألة الرابعة): باع رجل ثمرة بعد بدو صلاحها بشرط القطع لنفي الضمان، لا حقيقة الشرط، هل يصح ذلك؟ وينتفي عنه الضمان أم لا؟ (فالجواب) وبالله التوفيق: إن مثل هذا الشرط الذي لا يقصد المتعاقدان حقيقته، وإنما قصدا إبطال ما أثبته الله ورسوله من وضع الجائحة؛ لأن المقصود في العقود معتبر، والأعمال بالنيات، ومن اشترط شرطا يخالف حكم الله ورسوله فهو باطل، وإن كان مائة شرط، وكذلك إذا اشترط شرطا لا حقيقة له، وإنما قصده ونيته غير الشرط. وقد ذكر الشيخ تقي الدين -رحمه الله تعالى-، وتليمذه ابن القيم -رحمه الله تعالى- من ذلك صورا كثيرة في كتاب الإعلام، والله أعلم. [الحلف لنفي عيب السلعة] (المسألة الخامسة): لو اشترى سلعة، وخرجت من يده، وظهر بها عيب، فهل يمين البائع على البت أو على نفي العلم؟ (فالجواب): أن هذه المسألة فيها قولان للعلماء، هما روايتان عن الإمام أحمد: (أحدهما): أن الأيمان كلها على البت في الإثبات والنفي إلا لنفي فعل غيره، أو لنفي الدعوى على الغير، فيحلف على نفي العلم، وهذا هو المشهور في المذهب. (والقول الثاني): أنها على نفي العلم مطلقا في النفي والإثبات، وهو الرواية الثانية عن أحمد، واختاره أبو بكر، واحتج بالخبر الذي ذكره أحمد وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا تضروا الناس في أيمانهم

أن يحلفوا على ما لا يعلمون". وعن أحمد -رحمه الله- رواية ثالثة: يحلف لنفي عيب السلعة على العلم، وهذا هو المروي عن عثمان رضي الله عنه في قصة العبد الذي باعه ابن عمر -رضي الله عنهما- ثم ظهر به عيب، فقال له عثمان: أتحلف أنك بعته، وما تعلم به عيبا؟ والله -سبحانه وتعالى- أعلم. [اشترى سلعة للسفر فوجد قيها عيبا] (المسألة السادسة): لو اشترى سلعة؛ ليسافر بها في بلد، ثم وجد بها عيبا، وأشهد على الرد، ولا حاكم يسلمها إليه، والطريق مخوف، ما وجه الحكم؟ (الجواب): أن الوجه المناسب له في هذه الصورة: أن يشهد من حضر أنه فسخ العقد، فإن أمكنه حفظها معه حتى يأتي صاحبها فعل، وإلا أودعها عند ثقة، والله -سبحانه وتعالى- أعلم. [خرج من يد المرتهن إلى الراهن] (المسألة السابعة): رجل أعار رجلا شيئا؛ ليرهنه، فرهنه عند آخر، فأودعه المرتهن المعير مع علمه، هل يزول اللزوم أم لا؟ (فالجواب): أن المشهور عند الحنابلة أن المرتهن إذا أخرجه من يده زال اللزوم، وبطل الرهن، لأن استدامة القبض عندهم شرط في لزومه، فمتى أخرجه من يده أو أعاده أو رده إلى مالكه بإعادة أو غيرها، زال لزومه. قال: في الإقناع، وإن آجره أي آجر الراهن الرهن أو أعاره، أي: الرهن لمرتهن أو لغيره بإذنه، فلزومه باق. انتهى. وعن أحمد -رحمه الله- رواية أخرى: أنه يلزم بمجرد العقد قبل القبض في غير المكيل والموزون، وممن أوجب استدامة القبض مالك، وأبو حنيفة، قال في الشرح الكبير: وهذا التفريع على القول الصحيح، فأما من قال: ابتداء القبض ليس بشرط، فأولى أن يقول الاستدامة غير شرط، لأن كل شرط يعتبر في الاستدامة يعتبر في الابتداء، وقد يعتبر في الابتداء ما لا يعتبر في

الاستدامة. وقال الشافعي: استدامة القبض ليست شرطا، لأنه عقد يعتبر القبض في ابتدائه، فلم يشترط استدامته كالهبة، ولنا قول الله - تعالى-: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} 1. ولأنها أحد حالتي الرهن، فكان القبض فيه شرطا كالابتداء، ويفارق الهبة، فإن القبض في ابتدائها يثبت الملك، فإذا ثبت استغنى عن القبض ثانيا، والرهن يراد للوثيقة ليتمكن من بيعه، واستيفاء الدين من ثمنه، فإذا لم يكن في يده لم يتمكن من بيعه. انتهى. وذكر في الإنصاف وغيره عن أحمد: أنه إن آجره أو أعاره لغير المرتهن زال لزومه، قال في الإنصاف: نصره القاضي، وقطع به جماعة، واختاره أبو بكر في الخلاف، قال المجد في شرحه: ظاهر كلام أحمد أنه لا يصير مضمونا بحال. انتهى. قال في الإنصاف: فلو استأجره المرتهن عاد اللزوم بمضي المدة، ولو سكنه بأجرته بلا إذنه، فلا رهن، نص عليهما. ونقل ابن منصور: إن كراه بإذن الراهن أو له، فإذا رجع صار رهنا، والكراء للراهن. انتهى. فظهر بما تقدم أن المشهور في المذهب: أنه إذا أعاره الراهن المرتهن أو غيره، أو آجره للمرتهن أو غيره بإذن المرتهن، أن لزومه باق بحاله. والقول الثاني: أنه متى خرج من يد المرتهن إلى الراهن أو غيره بإعارة أو إجارة، أو سكن المرتهن الدار بلا إذنه، فإنه يبطل لزومه، وهذا هو الذي ذكره في الإنصاف وغيره، منصوص أحمد، وهو طرد القول الصحيح عندهم، لأنهم ذكروا أنه إذا أعاره المرتهن الراهن أو استأجره زال لزومه، فأي فرق بينه وبين الأجنبي؟ مع أن الإمام أحمد -رحمه الله- نص على أنه إذا أخرجه من يده إلى الراهن أو غيره زال لزومه، كما تقدم في رواية ابن منصور وغيره. والله أعلم.

_ 1 سورة البقرة آية: 283.

[اختلاف المعير والمستعير] (المسألة الثامنة): أعاره سيفا ليرهنه، وقال: شرطت عليك رهنه عند زيد أو في جنس كذا أو في قدر كذا، فقال: أطلقت الإذن لي، فهل قوله معتبر لاتفاقهما على الإذن واختلافهما في الصفة، أم قول المعير؟ (فالجواب): أن القول في مثل هذا قول المالك لأنه منكر لما ادعاه خصمه، والقول قول المنكر بيمينه، لقوله عليه الصلاة والسلام: "البينة على المدعي، واليمين على من أنكر"1. قال في الإقناع وشرحه: وإن استعار أو استأجر شيئا ليرهنه، ورهنه بعشرة، ثم قال الراهن لربه: أذنت لي في رهنه بعشرة، فقال ربه: بل أذنت لك في رهنه بخمسة، فالقول قول المالك بيمينه لأنه منكر للإذن في الزيادة، ويكون رهنا بالخمسة فقط. [نبات الغرس الذي في أرض الزرع] (المسألة التاسعة): رجل استأجر أرضا للزرع، فنبت فيها غرس، لمن يكون الغرس؟ (فالجواب): أن الذي يظهر من كلامهم في مثل هذه الصورة أن الغراس يكون للمستأجر؛ لأنه نبت على مائه، فإن شاء قلعه وسوى الحفر، وإن شاء تركه لصاحب الأرض بقيمته، والخيرة في ذلك للمستأجر. [المطالبة بالأجرة بعد هلاك الدابة محل الإجارة] (المسألة العاشرة): إذا استأجر رجلا على رعي دابة، وعلى طلاها على جرب؛ فأخذ يرعاها، ثم ماتت الدابة حتف أنفها، هل يستحق شيئا من الأجرة في مقابلة رعيه وطلاه أم لا؟ (الجواب) وبالله التوفيق: أن هذه المسألة فيها قولان للعلماء، وهما روايتان عن الإمام أحمد: (إحداهما) لأنه لا يستحق شيئا من الأجرة إلا بتسليم العين، وهذا هو المشهور في المذهب، قال في الإنصاف: ويضمن الأجير المشترك ما جنت يده أو تلف بفعله على الصحيح من المذهب، وقال

_ 1 الترمذي: الأحكام (1341).

أيضا: وتجب الأجرة بنفس العقد، هذا المذهب، وتستحق كاملة بتسليم العين أو بفراغ العمل الذي بيد المستأجر، كطباخ استؤجر لعمل شيء في بيت المستأجر. انتهى. قال في "المغني": وإنما توقف استحقاق تسليمه على العمل؛ لأنه عوض فلا يستحق تسليمه إلا مع تسليم المعوض كالصداق، والثمن في البيع، ولا ضمان عليه أي الأجير المشترك، فيما تلف من حرزه أو بغير فعله إذا لم يتعد، قال في الإنصاف: هذا المذهب. قال الزركشي: هو المنصوص عليه في رواية الجماعة، ثم قال: ولا أجرة له فيما عمل فيه، أي الذي تلف في يده، سواء قلنا: إنه لا يضمن أو عليه الضمان، هذا المذهب مطلقا، وعليه أكثر الأصحاب. والقول الثاني أنه له أجرة ما عمل في بيت ربه دون غيره، وعنه له أجرة البناء لا غير، نص عليه في رواية ابن منصور، وعنه له أجرة البناء، والمنقول إذا عمله في بيت ربه. وقال ابن عقيل في "الفنون": له الأجرة مطلقا؛ لأن وضعه النفع فيما عينه له كالتسليم إليه كدفعه إلى البائع غرارة، وقال: ضع الطعام فيها، وكاله فيها، كان ذلك قبضا لأنها كيله؛ ولهذا لو ادعيا طعاما في غرارة أحدهما كان له، قال في "الإنصاف": وهو قوي. وقال في "المنتهى" وشرحه: وله أي: الحامل، أجرة حمله إلى محل تلفه، ذكره في التبصرة. واقتصر عليه في الفروع، لأن ما عمل فيه من عمل بإذن، وعدم تمام العمل ليس من جهته، وهذا القول هو الذي يترجح عندنا، والله -سبحانه وتعالى- أعلم. [الحلف بالحرام] (المسألة الحادية عشرة): لو حرم شيئا لا يفعله، هل يكون ظهارا أم لا؟ (فالجواب) وبالله التوفيق: أنه ذكر في الإنصاف وغيره من كتب المذهب أنه لو قال: علي الحرام، أو يلزمني الحرام، أو الحرام يلزمني، فهو

لغو، لا شيء فيه مع الإطلاق، وفيه مع قرينته أو نيته أي الطلاق وجهان، وأطلقهما في المغني والشرح والفروع. قلت: والصواب أنه مع النية والقرينة، كقوله: أنت علي حرام، ثم وجدت ابن رزين قدمه، وقال في الفروع: ويتوجه الوجهان إن نوى به طلاقا، وإن العرف قرينة، ثم قال: قلت: الصواب أنه مع القرينة أو النية، كأنت علي حرام، وهذا كله كلام الإنصاف. واعلم أن الحلف بالحرام له صيغتان: (إحداهما) أن يقول: إن فعلت كذا، فأنت علي حرام، أو أنت علي حرام إن فعلت كذا، أو إن فعلت كذا فامرأتي علي حرام، هذا كله صيغة واحدة. (والصيغة الثانية): أن يقول: الحرام يلزمني إن فعلت كذا، أو إن فعلت كذا فالحرام لازم، أو علي الحرام لا أفعل كذا، وما أشبه هذا؛ فكل هذا حلف بالحرام، وقد اختلف العلماء في ذلك قديما وحديثا حتى ذكر ابن القيم -رحمه الله تعالى- في كتاب الإعلام أن فيها خمسة عشر قولا، ثم سردها، ثم قال: وفي المسألة مذهب وراء هذا كله، وهو أنه إذا وقع التحريم كان ظهارا، ولو نوى أنه الطلاق، وإن حلف به كان يمينا مكفرة، قال: وهذا اختيار شيخ الإسلام، وعليه يدل النص والقياس. انتهى كلامه. وهذا هو الراجح عندي في هذه المسألة لأن أكثر الناس يقصدون بها الحلف عن الحض والمنع، فعلى هذا يكون من أيمان المسلمين التي فرض الله فيها الكفارة، كما قال تعالى في أول سورة التحريم: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} 1 بعد قوله: {لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} 2، فدل على أن الحلف بالحرام من أيمان المسلمين المكفرة، لكن هل

_ 1 سورة التحريم آية: 2. 2 سورة التحريم آية: 1.

تكون كفارته كفارة يمين مغلظة أو مخففة؟ وممن قال بأنه يكفر كفارة ظهار ابن عباس في إحدى الروايات عنه، وسعيد بن جبير وأبو قلابة ووهب بن منبه وعثمان البتي، وهو إحدى الروايات عن الإمام أحمد. وحجة هذا القول أن الله جعل تشبيه المرأة بأمه المحرمة عليه ظهارا، وجعله منكرا من القول وزورا، فالتشبيه بالمحرمة يجعله ظهارا، فإذا صرح بتحريمها كان أولى بالظهار. قال ابن القيم -رحمه الله تعالى-: وهذا أقيس الأقوال وأفقهها، ويؤيده أن الله لم يجعل للمكلف التحليل والتحريم، وإنما ذلك إليه -سبحانه-، وإنما جعل له مباشرة الأفعال والأقوال التي يترتب عليها التحليل والتحريم، فالسبب إلى العبد وحكمه إلى الله، فإذا قال: أنت علي كظهر أمي، أو قال: أنت علي حرام، فقد قال المنكر من القول والزور، وكذب، فإن الله لم يجعلها كظهر أمه، ولا جعلها عليه حراما، فأوجب عليه هذا القول المنكر والزور أغلظ الكفارتين، وهي كفارة الظهار. انتهى. وأما من قال: إنه يمين يكفر بما تكفر به اليمين بكل حال، وهو قول أبي بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، وابن عباس، وعائشة، وزيد بن ثابت، وابن مسعود، وعبد الله بن عمر، وجمع من التابعين، فحجة هذا القول ظاهر القرآن، فإن الله -سبحانه- فرض تحلة الأيمان عقب تحريم الحلال، فلا بد أن يتناوله يقينا، فلا يجوز جعل تحلة الأيمان بغير المذكور، ويخرج المذكور عن حكم التحلة التي قصد ذكرها لأجله، والله -سبحانه وتعالى- أعلم. [موت الموقوف عليه قبل الواقف] (المسألة الثانية عشرة): لو قال: عقاري هذا مسبل يفعل به فلان ما شاء أو أراد، ومات فلان قبله، والحال إن قصده من جهات بر معلومة كصوام أو مؤذن أو إمام، ما الحكم فيه؟

(فالجواب): أن مثل هذا وقف صحيح، وللواقف أن يعين الجهة، أو يعين رجلا غيره يجعله في أعمال البر، هذا هو الصحيح -إن شاء الله تعالى-. قال في الإقناع وشرحه: وإن قال: وقفت كذا، وسكت، ولم يذكر مصرفه، فالأظهر بطلانه. والذي في الإنصاف وفي الروضة لأن الوقف يقتضي التمليك، فلا بد من ذكر المملك، ولأن جهالة المصرف مبطلة، فعدم ذكره أولى بالإبطال. قال في الإنصاف: الوقف صحيح عند الأصحاب، وقطعوا به، وقال في الرعاية: على الصحيح عندنا، فظاهره أن في الصحة خلافا. انتهى. ومقتضاه أن صاحب الإنصاف لم يطلع فيه على خلاف للأصحاب، وكذا لم يحك الحارثي في صحته خلافا بين الأصحاب، قال: ولنا أنه إزالة ملك على وجه القربة، فصح مطلقا كالأضحية والوصية. أما صورة المجهول فالفرق بينهما أن الإطلاق يفيد مصرف البر لخلو اللفظ عن المانع منه، وكونه متعارفا فالعرف إليه ظاهر في مطابقة مراده، وكذلك التقييد بالمجهول، فإنه قد يريد به معينا غير ما قلنا من المتعارف، فيكون إذا الصرف إلى المتعارف غير المطابق لمراده، فينتفي الصرف بالكلية، فلم يصح الشرط. انتهى ما ذكره في الإقناع. وعبارة صاحب الإنصاف: وإن قال: وقفت وسكت، يعني حكمه حكم الوقف المنقطع الانتهاء، والوقف صحيح عند الأصحاب، وقطعوا به. وقال في الروضة: على الصحيح عندنا، فظاهره أن في الصحة خلافا، فعلى المذهب حكمه حكم الوقف المنقطع الانتهاء في مصرفه على الصحيح من المذهب كما قال المصنف هنا، وقطع به القاضي في المجرد، وابن عقيل، واختاره صاحب التلخيص وغيره، وقال القاضي وأصحابه: يصرف في وجوه البر. انتهى كلامه. وصورة

المسألة المسؤول عنها تقرب من هذه الصورة لأنه لم يعين الجهة، وقد تقرر أن الصحيح أن تعيين الجهة ليس بشرط. وأما إذا جعل النظر والتعيين إلى الرجل بعينه، فمات، فقال في الإقناع وشرحه: فإن لم يشترط الواقف ناظرا أو شرطه لإنسان، فمات المشروط له، فليس للواقف ولاية النصب، أي: نصب ناظر؛ لانتفاء ملكه فلم يملك النصب ولا العزل كل في الأجنبي، ويكون النظر للموقوف عليه إذا كان الموقوف عليه آدميا معينا كزيد، أو جمعا محصورا. انتهى. والله -سبحانه وتعالى- أعلم. [تأجير الوقف] (المسألة الثالثة عشرة): لو آجر الواقف مستحقه مدة طويلة، وحكم حاكم بلزومها، هل تلزم أم لا إلى أن يأتي محل الحكم، وهو موت المؤجر؟ (فالجواب): أن الذي قطع به مشايخ المذهب أن المستحق للوقف إذا كان هو الناظر، يجوز له إجارة الوقف مدة، ولم يقيدوها بطول أو قصر، فدل على جوازها وصحتها بالمدة الطويلة، ولم يذكروا في ذلك خلافا إلا تخريجا ذكره الموفق في المغني أنها تبطل. وإنما حكى الخلاف في انفساخها بموت المؤجر، هل تنفسخ بذلك أم لا؟ قال في المغني: إذا أجر الموقوف عليه مدة، فمات في أثنائها وانتقلت إلى من بعده، ففيه وجهان: (أحدهما): لا تنفسخ الإجارة لأنه أجر ملكه في زمن ولايته، فلم تبطل بموته كما لو آجر ملكه الطلق. (الثاني) تنفسخ الإجارة فيما بقي من المدة لأنا تبينا أنه آجر ملكه وملك غيره، فصح في ملكه دون ملك غيره كما لو آجر دارين إحداهما له، والأخرى لآخر، وذلك لأن المنافع بعد الموت حق لغيره، فلا ينفذ عقده عليها من غير ملك، ولا ولاية بخلاف الطلق، فإن الوارث من جهة الموروث، فلا يملك إلا ما خلف، وما تصرف فيه في

حياته لا ينتقل إلى الوارث، والمنافع التي آجرها قد خرجت من ملكه بالإجارة، فلا ينتقل إلى الوارث، والبطن الثاني في الوقف يملكون من جهة الواقف، فما حدث منها بعد البطن الأول كان ملكا لهم، فقد صادف تصرف المؤجر ملكهم من غير إذنهم، ولا ولاية له عليهم فلم يصح، ويتخرج أن تبطل الإجارة كلها بناء على تفريق الصفقة، وهذا التفصيل مذهب الشافعي. فعلى هذا إذا كان المؤجر قبض الأجر كله، وقلنا: تنفسخ الإجارة. فلمن انتقل إليه الوقف أخذه، ويرجع المستأجر على ورثة المؤجر بحصته للباقي من الأجرة، وإن قلنا لا تنفسخ، رجع من انتقل إليه الوقف على التركة بحصته. وقال في الإنصاف: يجوز إجارة الوقف، فإن مات المؤجر، فانتقل إلى من بعده لم تنفسخ الإجارة في أحد الوجهين، (أحدهما): لا تنفسخ بموت المؤجر، وهو المذهب كناظر الملك، وكملكه الطلق، قاله المصنف وغيره، وصححه جماعة، وقدمه في الفروع وغيره. وقال القاضي في المجرد: هذا قياس المذهب. (والثاني): تنفسخ، جزم به القاضي في خلافه، واختاره ابن عقيل والشيخ تقي الدين وغيرهم. قال القاضي: هذا ظاهر كلام أحمد في رواية صالح، وقال ابن رجب: وهو المذهب الصحيح، لأن الطبقة الثانية تستحق العين بمنافعها بانقراض الطبقة الأولى، قلت: وهو الصواب، وهو المذهب. وقال في الفائق: ويتخرج الصحة بعد الموت موقوفة لا لازمة، وهو المختار. انتهى. ومحل الخلاف المتقدم إذا كان المؤجر هو الموقوف عليه بأصل الاستحقاق، فأما إن كان المؤجر هو الناظر العام أو من شرط له، وكان أجنبيا، لم تنفسخ الإجارة بموته قولا واحدا، قاله الشيخ المصنف والشارح والشيخ تقي الدين وغيرهم. وقال ابن حمدان في رعايته وغيره: ومحل الخلاف إذا آجره مدة

يعيش فيها غالبا، فأما إن آجره مدة لا يعيش فيها غالبا، فإنها تنفسخ قولا واحدا، وما هو ببعيد. فعلى الوجه الأول من أصل المسألة، يستحق البطن الثاني حصتهم من الأجرة من تركة المؤجر إذا كان قبضها، وإن لم يكن قبضها فعلى المستأجر. وعلى الوجه الثاني، يرجع المستأجر على ورثة المؤجر القابض. قال الشيخ تقي الدين: والذي يتوجه أنه لا يجوز تسليف الأجرة للموقوف عليه؛ لأنه لا يستحق المنفعة المستقبلة ولا الأجرة عليها، فالتسليف لهم قبض ما لا يستحقونه بخلاف المالك؛ وعلى هذا فللبطن الثاني أن يطالبوا المستأجر بالأجرة؛ لأنه لم يكن له التسليف، ولهم أن يطالبوا الناظر، انتهى كلام صاحب الإنصاف، وفيه بعض تلخيص، والله -سبحانه وتعالى- أعلم. وأما إذا حكم حاكم ممن يجوز له الحكم لكونه أهلا لذلك في هذا العقد المختلف فيه ونحوه، فإنه لا يجوز له نقضه، والله أعلم. [الخلع على مجهول] (المسألة الرابعة عشرة): لو خلع زوجته على نفقة ولده منها، وشرطت إن مات فلا رجوع له، هل يصح الخلع والشرط أو يفسد؟ (فالجواب) وبالله التوفيق: أن الذي يظهر من كلام الأصحاب أن مثل هذا الشرط يصح، لأنهم صححوا الخلع على المجهول، كحمل أمتها، وما تحمل شجرتها، وعلى ما في يدها وهو لا يظهر، وأشباه هذا. قال في الإنصاف: إذا خالعها على ما في يدها من الدراهم، أو ما في بيتها من المتاع، فله ما فيهما، فإن لم يكن فيهما شيء، فله ثلاثة دراهم، وأقل ما يسمى متاعا، قال: وظاهر كلامه إن كان في يدها شيء من الدراهم، فهي له لا يستحق غيرها ولو كان دون ثلاثة دراهم، وهو صحيح، وهو المذهب؛ وقيل يستحق ثلاثة دراهم كاملة. قال: وإن خالعها على حمل أمتها، أو ما تحمل شجرتها، فله ذلك؛

فإن لم تحملا فقال أحمد: ترضيه بشيء، وهو المذهب. قال القاضي: لا شيء له، وتأول كلام أحمد: ترضيه بشيء، على الاستحباب. انتهى كلامه. فدل على صحة الخلع على المجهول، وهذه الصورة المسؤول عنها غايتها أن يكون بعضها مجهولا، وقد ذكروا أنه يجوز لها أن تخالعه على رضاع ولده عامين، قالوا: فإن مات رجع بأجرة الباقي، ومرادهم بذلك إذا لم تشترط أنه لا يرجع عليها إذا مات، والله -سبحانه وتعالى- أعلم. [تغيير شرط الواقف إلى ما هو أصلح منه] (المسألة الخامسة عشرة): رجل وقف وقفا على اللاعي، وهو الذي يسأل في المساجد، أو عند أبواب المساجد، ومات الموقف، ثم بعد زمان طويل قام ابن الموقف، وقال: لنا قرابة ضعفاء، ويزعم أن مفتيا أفتاه بأنه أحق به، والوقف معين على مسجد الجامع، من تكلم فيه من فقير غريب أو غيره. (فالجواب): أن المشهور عند أكثر الفقهاء من الحنابلة وغيرهم أن مثل هذا لا يجوز صرفه إلى غير من ذكر الواقف إذا كان ذلك في جهة بر. وقال الشيخ تقي الدين: يجوز تغيير شرط الواقف إلى ما هو أصلح منه باختلاف الزمان، كما لو وقف ذلك على الفقهاء والصوفية، فاحتاج الناس إلى الجهاد، صرف إلى الجند. قال في الإنصاف: يتعين مصرف الوقف إلى الجهة المعينة له على الصحيح من المذهب، ونقله الجماعة، وقطع به أكثرهم، وعليه الأصحاب، ثم ذكر كلام الشيخ المتقدم، والله أعلم. [من يثبت له خيار المجلس] (المسألة السادسة عشرة): قول منصور في خيار المجلس بوكالة، أو ولاية في بعض أفرادها مع ما في المغني من ذلك. (فالجواب): أن مراده بذلك أن الذي يتولى طرفي العقد لا يثبت له خيار المجلس، لأنه هو البائع المشتري كالوكيل على بيع سلعة، وشراها

أو الولي إذا باع ما ولي عليه، فاشتراه من نفسه لنفسه، لأنه يتولى في ذلك طرفي العقد، وعبارة منصور في شرح المنتهى: ويثبت في بيع غير كتابة، فلا خيار فيها تراد للعتق، وغير تولي طرفي عقد في بيع بأن انفرد بالبيع واحد لولاية أو وكالة، فلا خيار له كالشفيع، وغير شراء منه يعتق عليه كرحمة المحرم لعتقه بمجرد انتقال الملك إليه في العقد، أشبه ما لو مات قبل التفرق. قال المنقح: ويعترف بحريته قبل الشراء لأنه استنقاذ لا يشرى حقيقة لاعترافه بحريته، ثم ذكر الصور التي تكون بمعنى البيع ويثبت فيها خيار، كالصلح الذي بمعنى البيع، وكقسمة وهبة بمعنى البيع وإجارة، وما قبضه شرط لصحته كصرف وسلم وربوي بجنسه، والله -سبحانه وتعالى- أعلم. [طهارة الماء المتنجس بالنجاسة بتصفيته] (المسألة السابعة عشرة): الماء المتنجس بالتغيير وهو كثير، إذا حوض وترك حتى صفي، هل يطهر أم لا؟ قياسا على الخمرة إذا انقلبت لقصد التخليل. (الجواب): أن الذي ذكره الفقهاء أن الماء المتنجس بالنجاسة سواء تغير طعمه أو لونه أو ريحه، فإنه لا يطهر حتى يزول التغير بنزحه أو مكاثرته بالماء أو بزوال تغيره بنفسه إذا كان كثيرا. والكثير عند الحنابلة وغيرهم ما كان قلتين فأكثر. وأما التراب فالمشهور عندهم أنه لا يطهره؛ لأنه لا يدفع النجاسة عن نفسه، فعن غيره أولى. قال في الفروع: وقيل: بلى، وأطلق في الإيضاح روايتين، وللشافعي قولان. فعلى هذا إذا زال عنه أثر النجاسة بالكلية، ولم يبق فيه لون ولا طعم ولا ريح، فإنه يطهر لزوال النجاسة منه كالخمرة إذا انقلبت بنفسها خلا، وكذلك النجاسة إذا استحالت، والله -سبحانه وتعالى- أعلم. [ائتم مسبوق بمسبوق في الصلاة] (المسألة الثامنة عشرة): مسبوق ائتم بمثله حالة دخولهما مع الإمام،

وأنه يأتم أحدهما بصاحبه بعد المفارقة أو تكفي بعد السلام؛ لأنه وقت ائتمامه به. (فالجواب): إن هذه المسألة فيها وجهان لأصحاب أحمد، وبعضهم حكى فيها روايتين. قال في الإنصاف: وإن سبق اثنان ببعض الصلاة، فائتم أحدهما بصاحبه في قضاء ما فاتهما، فعلى وجهين. وحكى بعضهم في الخلاف روايتين، منهم ابن تميم: أحدهما يجوز ذلك، وهو المذهب، قال المصنف والشارح وصاحب الفروع، وغيرهم لما حكوا الخلاف: هذا بناء على الاستخلاف، وتقدم جواز الاستخلاف على الصحيح من المذهب، وجزم بالجواز هنا في الوجيز والإفادات، والمنور، وغيرهم، وصححه في التصحيح والنظم. (والوجه الثاني): لا يجوز، قال المجد في شرحه: هذا منصوص أحمد في رواية صالح، وعنه لا يجوز هنا، وإلا جوزنا الاستخلاف، اختاره المجد في شرحه، وفرق بينهما وبين مسألة الاستخلاف من وجهين انتهى، وفيه بعض تلخيص، والذي يترجح عندنا هو الوجه الأول، سواء نويا ذلك في حال دخولهما مع الإمام، والله -سبحانه وتعالى- أعلم. [تصاف اثنان في الصلاة ثم أتى ثالث ثم ذكر أحدهما أنه كان محدثا] (المسألة التاسعة عشرة): لو تصاف اثنان ثم أتى ثالث، ثم ذكر أحدهما أنه كان محدثا، وانصرف هل تصح صلاة الأول مع الثاني أم لا تصح صلاة الثلاثة؟ (فالجواب): أن ظاهر كلام أصحاب أحمد أن مثل هذا تصح صلاته، لأنه حال المصافة قد جهل حدثه، وقد مضوا على أنه إذا لم يعلم حدثه في

الرسالة الثالثة عشرة

حال المصافة، وجهله مصافه أيضا أنه لا يكون فذًّا. قال في الإنصاف عند قول المصنف: ومن لم يقف معه إلا كافر أو امرأة أو محدث يعلم حدثه فهو فذ. قال: (تنبيه) مفهوم كلام المصنف أنه إذا لم يعلم حدثه بل جهله، وجهله مصافه أيضا، أنه لا يكون فذا، وهو صحيح، وهو المذهب، نص عليه، وجزم به في الفائق والشرح، وقدمه في الفروع. وقال القاضي: وغيره حكمه حكم جهل المأموم حدث الإمام على ما سبق، والله -سبحانه وتعالى- أعلم. الرسالة الثالثة عشرة وهذه مسائل أخر سئل عنها الشيخ الإمام أحمد بن ناصر -رحمه الله-. [اقتتلت فئتان فتفرقوا عن قتيل من أحدهما] (المسألة الأولى) إذا التقى فئتان من المسلمين، ووقع بينهما قتال، وقتل من إحدى الطائفتين رجل، وعلم قاتله بعينه، ورضوا بالدية، فهل تكون الدية على القاتل أم على جميع الطائفة؟ فنقول، وبالله التوفيق: إذا اقتتلت طائفتان لعصبية أو رياسة، ونحو ذلك فهما ظالمتان، وتضمن كل واحدة ما أتلفت على الأخرى، صرح بذلك في الشرح الكبير والإنصاف والإقناع، والشيخ تقي الدين في السياسة الشرعية. قال في الإنصاف بعد قوله: "وتضمن كل، واحدة ما أتلفته على الأخرى": وهذا بلا خلاف أعلمه، لكن قال الشيخ تقي الدين: إن جهل قدر ما تهبه كل طائفة تساقطا، كمن جهل الحرام من ماله أخرج نصفه، والباقي له. وقال أيضا: أوجب الأصحاب الضمان على مجموع الطائفة، وإن لم يعلم عين المتلف. قال في الإقناع وشرحه: فلو دخل بينهم بصلح، وجهل قاتله ضمناه، وإن علم قاتله من طائفة، وجهل عينه ضمنته وحدها. قال ابن عقيل:

ويفارق المقتول في زحام الجامع والطواف، أن الزحام والطواف ليس فيه تعد، بخلاف الأول. انتهى. قال مالك في الموطأ في جماعة اقتتلوا، فانكشفوا، وبينهم قتيل أو جريح لا يدرى من فعل ذلك به: إن أحسن ما سمعه في ذلك العقل، وإن عقله على القوم الذين نازعوه، وإن كان القتيل أو الجريح من غير الفريقين، فعقله على الفريقين جميعا. انتهى. وقال في الشرح الكبير: إذا اقتتلت الفئتان، فتفرقوا عن قتيل من أحدهما، فاللوث على الطائفة الأخرى، ذكره القاضي. فإن كانوا بحيث لا يقتله سهام بعضهم بعضا، فاللوث على عاقلة القتيل، وهذا قول الشافعي. وروي عن أحمد أن عقل القتيل على الذين نازعوهم فيما إذا اقتتلت الفئتان إلا أن يدعوا على واحد بعينه، وهذا قول مالك. وقال ابن أبي ليلى: عقله على الفريقين جميعا، لأنه يحتمل أنه مات من فعل أصحابه، فاستوى الجميع فيه. وعن أحمد في قوم اقتتلوا، فقتل بعضهم وجرح بعض، فدية المقتولين على المجروحين تسقط منها دية الجراح. انتهى. وقال في الإنصاف بعد ما ذكر نص أحمد هذا: قال الإمام أحمد: قضى به علي، وحمله على من ليس به جرح من دية القتلى شيء فيه وجهان، قال ابن حامد: قلت: الصواب على أنهم يشاركونهم في الدية انتهى. فهذا كلام الفقهاء فيما إذا جهل عين القاتل، وأما إذا علم القاتل، ففيه تعلق الحكم به، فإن كان القتل عمدا، فأولياؤه يخيرون إن شاؤوا اقتصوا، أو إن شاؤوا أخذوا الدية، فإن قبلوا الدية فهو من مال القاتل دون العاقلة، ولا شيء على الطائفة التي هو منها إلا أن يكونوا قطاع الطريق لأنهم ردؤهم ومباشرهم سواء، وكذا إن تواطؤوا على قتله؛ فقتله بعضهم، وأعانه الآخرون

كالممسك مع القاتل عند مالك، وهو إحدى الروايتين عن أحمد، فتكون الدية على المباشر والمعين؛ لأنهم سواء عند الجمهور، ذكره الشيخ تقي الدين. [قول من ادعي عليه القتل فأقر به وادعى أنه قتله خطأ] (والمسألة الثانية): إذا ادعي على رجل أنه قتل رجلا، فأقر بالقتل، ولكن ادعى أنه قتله خطأ، فهل يقبل قوله أم لا؟ فنقول: إذا لم يكن للمدعي بينة، وعلم القتل، وصار ثبوت القتل بإقرار المدعى عليه، سئل المدعى عليه عن صفة القتل، فإن كان عمد الفعل بما يقتل غالبا على تفصيل الفقهاء في أول كتاب الجنايات، فهذا لا يقبل قوله في دعوى الخطأ لأنه أقر أنه ضربه بما يقتل غالبا. وإن أنكر أن يكون تعمد الفعل بل زعم أنه خطأ محض، وفسره بذلك، فالقول قوله، ولا قصاص عليه، لأن من شرطه أن يكون القتل عمدا محضا، والأصل عدم ذلك؛ وعلى هذا فتكون الدية في ماله دون عاقلته. [شهادة الخصم] (والمسألة الثالثة): إذا اقتتلت طائفتان، وادعت إحداهما بالتعدي من الأخرى، وجاؤوا بالشهود، وادعى المشهود عليهم بأن الشهود من الطائفة المقاتلة لهم، فهل ترد شهادتهم بذلك؟ فنقول: ينظر في حال الشهود، فإن كانوا عدولا، وادعوا أنهم لم يحضروا القتال، ولم يدخلوا معهم، وعلم صدقهم بقرائن الحال، لا ترد شهادتهم بمجرد دعوى الخصوم، لأن الخصم إذا جرح الشاهد العدل لا يقبل قوله فيه إلا ببينة. وأما إذا كان الشهود لا يعرفون بالعدالة، أو كانت القرائن تدل على أنهم حاضرون معهم، وأنهم من جملتهم، لم يقبلوا، ولم تسمع شهادتهم. ومن صور المسألة: ما جرى بين الوداعين وأهل ميراث، فإن الوادعين زعموا أن معهم البينة على أنهم لم يبدؤوا بقتال، وإنما قتلوا دفعا عن أنفسهم، فلما سألنا عن شهودهم إذا هم من جملتهم الذين غزوا، فقلنا لهم: هؤلاء من جملتكم، وعليهم من الدية بقدر نصيبهم منها، ولا تقبل

شهادتهم بأنهم يدفعون بها عن أنفسهم. والمسألة واضحة في كلام العلماء، لا تحتاج إلى نقل عبارات الفقهاء، والله أعلم. [إرضاع المطلقة ولدها بأجرة] (والمسألة الرابعة): إذا أرضعت امرأة مطلقة ولدها، ولم يجر بينها وبين الأب مشارطة على الرضاع، ولكنها نوت الرجوع عليه، وأشهدت على أنها محتسبة عليه، فهل لها ذلك؟ أم لا يثبت لها أجرة إلا بالمشارطة بينها وبين الأب؟ فنقول: قد ذكر الفقهاء أن الأم أحق برضاع ولدها إذا طلبت ذلك بأجرة مثلها، ولكن اختلفوا هل لها ذلك إذا كانت في حبال الزوج أم لا؟ وأما إذا كانت مطلقة فهي أحق برضاعه، وإن طلبت أجرة مثلها، ولو مع وجود متبرعة غيرها، واستدل صاحب الشرح بقوله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ} 1 فقدمهن على غيرهن، وقال: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} 2. وأما الدليل على وجوب تقديم الأم إذا طلبت أجرة مثلها، فما ذكرنا من الآيتين، ولأن الأم أحنى وأشفق، ولبنها امرأ من لبن غيرها، فكانت أحق به من غيرها، كما لو طلبت الأجنبية إرضاعه بأجرة مثلها، ولأن في إرضاع غيرها تفويتا لحق من الحضانة، وإضرارا بالولد، ولا يجوز تفويت حق الحضانة الواجب والإضرار بالولد لغرض إسقاط حق أوجبه الله على الأب. انتهى. فإذا عرفت أنها أحق بإرضاعه بأجرة المثل، ولو وجد الأب متبرعة تبين لك أن لها الرجوع بالأجرة على الأب إذا نوت ذلك، وأشهدت عليه، وإن لم تشارط الأب؛ لأن غاية ما يقال: لعل الأب يجد متبرعة أو يجد من يرضعه بدون أجرة المثل، فيقال في جواب ذلك: الأم أحق به، ولو حصل من يتبرع برضاعه، فحينئذ لا تأثير لكونها تشارط أو لا تشارط لأنها متى

_ 1 سورة البقرة آية: 233. 2 سورة الطلاق آية: 6.

أرضعته وطلبت أجرة مثلها لزم الأب ذلك، إلا أن تكون أرضعته متبرعة برضاع ابنها، ولو تنوي الرجوع على الأب، فلا شيء لها، والله أعلم. [منيحة الناقة] (المسألة الخامسة): هل منيحة الناقة ونحوها كالعارية، والقول فيهما سواء؟ فيقال: المنيحة عارية لأنه قبضها للانتفاع بلبنها، فهو قابض بحظ نفسه، وللمعير الرجوع في العارية متى شاء. فإن تلفت عند المستعير، فهل هي مضمونة بكل حال كما هو المشهور عن أحمد والشافعي، أم لا تضمن مطلقا كما هو المشهور عن مالك وأبي حنيفة، وهو اختيار ابن القيم في الهدي؟ أم لا تضمن إلا أن يشترط ضمانها، كما هو اختيار الشيخ؟ ولا يخفى الراجح عند التأمل، وبالله التوفيق، والحمد الله رب العالمين، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم. وقع ذلك سنة 1225 هجرية. {تمت والحمد لله}

القسم الثالث: رسائل وفتاوى الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين

القسم الثاني رسائل وفتاوى العلامة الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبي بطين المتوفى سنة 1282 رحمه الله تعالى طبع بأمر جلالة ملك الحجاز وسلطان نجد وملحقاتها عبد العزيز آل سعود أيده الله تعالى الطبعة الأولى في سنة 1345 مطبعة المنار بمصر

الرسالة الأولى: مذهب أهل السنة في كلام الله تعالى

رسائل وفتاوى العلامة الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبي بطين ... [الرسالة الأولى: مذهب أهل السنة في كلام الله تعالى] بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين وعليه نتوكل الحمد لله نحمده ونستعينه، ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا. أما بعد: فقد جرت مناظرة بيننا وبينكم في كلام الله -تعالى-، هل هو مخلوق أم لا؟ فذكرت أن اختياركم الوقف، فلا تقولون مخلوق، ولا غير مخلوق، وزعمت أن الخلاف في ذلك لفظي. فأما قولكم: إن الخلاف في ذلك لفظي، فليس الأمر كذلك، وإنما يقال: الخلاف لفظي بين المعتزلة والأشاعرة، لأن المعتزلة يقولون كلام الله مخلوق، والأشاعرة يقولون ليس بمخلوق، والكلام عندهم المعنى، ويقولون الحروف مخلوقة، فقالت المعتزلة لا خلاف بيننا، وبينكم، لأن الكلام هو الحروف؛ فإذا أقررتم بأن الحروف مخلوقة ارتفع النزاع، فيكون الخلاف بين الفريقين لفظيا. وأما مذهب أهل السنة والجماعة، فهو مخالف للمذهبين خلافا معنويا لأنهم يقولون كلام الله غير مخلوق، والكلام عندهم اسم للحروف والمعاني، فتبين بذلك غلط من قال: إن الخلاف في ذلك لفظي. ومذهب أهل التوحيد والسنة أن الله يتكلم بحرف وصوت، وأن القرآن كلام الله حروفه

ومعانيه، وأن موسى سمع كلام الله منه بلا واسطة. والقرآن والسنة يدلان على ذلك دلالة صريحة، ولله الحمد والمنة، قال الله تعالى: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ} 1 إلى قوله: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} 2، ففرق بين الإيحاء المشترك وبين التكليم الخاص، وقال تعالى: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ} 3 وقال تعالى: {يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي} 4، وقال تعالى: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي} 5، وقال تعالى: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ} 6، وقال: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا} 7، وقال تعالى: {أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ} 8، وقال تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} 9 والآيات في ذلك كثيرة. وأما السنة فأكثر من أن تحصى، منها أمره صلى الله عليه وسلم بالاستعاذة بكلمات الله في عدة أحاديث، وقوله صلى الله عليه وسلم: "ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه ليس بينه وبينه حجاب ولا ترجمان"10. فمن قال إن الله لا يتكلم، فقد رد على الله ورسوله، وكفره ظاهر. [وقوع المجاز في القرآن] وقد ذكرتم أن العرب يضيفون الفعل إلى غير الفاعل، فهذا لا ينكر، أعني وجود المجاز في لغة العرب، وأما وقوع المجاز في القرآن، ففيه خلاف بين الفقهاء حكاه شيخ الإسلام ابن تيمية، وذكر أن أكثر الأئمة لم يقولوا: إن في القرآن مجازا، ورد القول بوجود ذلك في القرآن، واستدل له بأدلة كثيرة. وعلى تقدير جواز وجوده في القرآن، فمن المعلوم أنه لا يجوز

_ 1 سورة النساء آية: 163. 2 سورة النساء آية: 164. 3 سورة الأعراف آية: 143. 4 سورة الأعراف آية: 144. 5 سورة الكهف آية: 109. 6 سورة لقمان آية: 27. 7 سورة الأنعام آية: 115. 8 سورة البقرة آية: 75. 9 سورة التوبة آية: 6. 10 البخاري: التوحيد (7443) , وأحمد (4/ 256).

صرف الكلام عن حقيقته حتى تجمع الأمة على أنه أريد به المجاز، إذ لا سبيل إلى اتباع ما أنزل إلينا من ربنا إلا على ذلك؛ ولو ساغ ادعاء المجاز لكل أحد ما ثبت شيء من العبادات، ولبطلت العقود كلها كالأنكحة والطلاق والأقارير وغيرها، وجل الله أن يخاطب الأمة إلا بما تفهمه العرب من معهود مخاطباتها مما يصح معناه عند السامعين. وأيضا فالكلام إذا قام الدليل على أن المتكلم به عالم ناصح مرشد، قصده البيان والهدى والدلالة والإيضاح بكل طريق، وحسم مواد اللبس ومواقع الخطأ، وأن هذا هو المعروف المألوف من خطابه، وأنه اللائق بحكمته، لم يشك السامع في أن مراده هو ما دل عليه ظاهر كلامه. قال شيخ الإسلام ابن تيمية في أثناء كلام له*: ومعلوم باتفاق العقلاء أن المخاطب المبين إذا تكلم بمجاز، فلا بد أن يقرن لخطابه ما يدل على إرادة المعنى المجازي، فإذا كان الرسول المبلغ المبين الذي بين للناس ما أنزل إليهم يعلم أن المراد بالكلام خلاف مفهومه أو مقتضاه، كان عليه أن يقرن لخطابه ما يصرف القلوب عن فهم المعنى الذي لم يرده، لا سيما إذا كان لا يجوز اعتقاده في الله، فإنه عليه أن ينهاهم عن أن يعتقدوا في الله ما لا يجوز اعتقاده، وإذا كان ذلك مخوفا عليهم، ولو لم يخاطبهم بما يدل على ذلك، فكيف إذا كان خطابه هو الذي يدلهم على ذلك الاعتقاد الذي تقول النفاة هو اعتقاد باطل - إلى أن قال: وهذا كلام مبين لا مخلص لأحد عنه. انتهى. [تكلم الله تعالى حقيقة لا مجاز] وأيضا فالأدلة الدالة على أن الله يتكلم حقيقة أكثر من أن يمكن ذكرها هاهنا، منها أن الله -سبحانه- فرق بين الإيحاء المشترك بين الأنبياء وبين التكليم الخاص لموسى فقال تعالى: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى

_ * انظر مجموع الفتاوى 5/ 167. [معد الكتاب للمكتبة الشاملة]

نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ} 1 إلى قوله: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} 2. فلو لم يكن موسى سمع كلام الله منه بلا واسطة لم يكن له مزية على غيره من الرسل، ولم يكن في تخصيصه بالتكليم فائدة، ولم يسم كليم الله. وقد قال تعالى: {يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي} 3، وأيضا فقد قال الفراء: إن الكلام إذا أكد بالمصدر ارتفع المجاز، وثبتت الحقيقة، وقد أكد الفعل بالمصدر في قوله: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} 4، وقال تعالى: {وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى} 5، وقال: {وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا} 6، وقال: {فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا رَبُّكَ} 7، وقال تعالى: {فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الأَيْمَنِ} 8 الآية. ففي هذا ونحوه دلالة صريحة أن الله كلم موسى، وناداه بنفسه بلا واسطة، وموسى سمع كلام الله، ونداءه، لأنه لا يجوز لغير الله أن يقول: {إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} 9. وقد ذكر الإمام أحمد -رضي الله عنه- في كتاب الرد على الجهمية: عن الزهري قال: لما سمع موسى كلام الله قال: يا رب هذا الكلام الذي سمعته هو كلامك؟ قال: نعم يا موسى، هو كلامي، وإنما كلمتك بقوة عشرة آلاف لسان، ولي قوة الألسن كلها، وأنا أقوى من ذلك، وإنما كلمتك بقدر ما يطيق بدنك، ولو كلمتك بأكثر من ذلك لمت. فلما رجع موسى إلى قومه قالوا: صف لنا كلام ربك. فقال: سبحان الله، وهل أستطيع أن أصفه لكم. قالوا: فشبهه، قال: هل سمعتم أصوات الصواعق التي تقبل في أحلى حلاوة سمعتموها، فكأنه مثله. وروى عبد الله بن أحمد في كتاب السنة قال: حدثني محمد بن بكار قال: أخبرنا أبو معشر عن محمد بن كعب قال: قال بنو إسرائيل لموسى:

_ 1 سورة النساء آية: 163. 2 سورة النساء آية: 164. 3 سورة الأعراف آية: 144. 4 سورة النساء آية: 164. 5 سورة الشعراء آية: 10. 6 سورة مريم آية: 52. 7 سورة طه آية: 11. 8 سورة القصص آية: 30. 9 سورة القصص آية: 30.

بم شبهت صوت ربك حين كلمك من هذا الخلق؟ قال: شبهت صوته بصوت الرعد حين لا يترجع، وأيضًا في الصحيحين عن عدي بن حاتم قال: قال: رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ما منكم من أحد إلا سيكلمه الله يوم القيامة، ليس بينه وبينه ترجمان، فينظر أيمن منه فلا يرى إلا شيئا قدمه، ثم ينظر أشأم منه فلا يرى إلا شيئا قدمه، ثم ينظر تلقاء وجهه فتستقبله النار، فمن استطاع منكم أن يقي وجهه النار، ولو بشق تمرة، فليفعل"1. وروى جابر بن عبد الله، قال: لما قتل عبد الله بن عمرو بن حرام قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا جابر ألا أخبرك ما قال الله لأبيك؟ قال: بلى. قال: وما كلم الله أحدا إلا من وراء حجاب، وكلم أباك كفاحا قال: يا عبد الله تمنَّ علي أعطك. قال: يا رب تحييني فأقتل فيك ثانية. قال: إنه سبق مني أنهم إليها لا يرجعون. قال: فأبلغ من ورائي، فأنزل الله عز وجل {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} ". رواه ابن ماجه، وغيره. ففي هذين الحديثين ما يبطل دعوى مدعي المجاز، ويدحض حجته، ويرغم أنفه، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ما تقرب العباد إلى الله بمثل ما خرج منه"2 يعني القرآن، وقال خباب بن الأرت: يا هنتاه! تقرب إلى الله بما استطعت، فلن تتقرب إليه بشيء أحب إليه مما خرج منه. وقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه لما قرئ عليه قرآن مسيلمة الكذاب فقال: إن هذا كلام لم يخرج من إلٍّ، يعني رب. فوضح بما ذكرناه أن الله يتكلم حقيقة، وأن من ادعى المجاز بعد هذا البيان، فقد شاق الله ورسوله {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} 3.

_ 1 البخاري: الزكاة (1413) والتوحيد (7443,7512) , ومسلم: الزكاة (1016) , والترمذي: صفة القيامة والرقائق والورع (2415) , وابن ماجه: الزكاة (1843) , وأحمد (4/ 377). 2 الترمذي: فضائل القرآن (2911) , وأحمد (5/ 268). 3 سورة النساء آية: 115.

فصل [في شبه المعتزلة في نفي كلام الله تعالى] وقد ذكرتم ما استدل به بعض المعتزلة على أن كلام الله مخلوق، وهو قوله -تعالى-: {هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ} 1، ولا يشك من له عقل أن مَنْ دل الخلق على أن كلام الله مخلوق بقوله: {هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ} 2، لقد أبعد النَّجْعة، هو إما مُلْغِز وإما مُدَلِّس، لم يخاطبهم بلسان عربي مبين، وقد قال تعالى-: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} 3. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه، فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم"4، مع أنه ليس في هذه الآية شبهة لمن احتج بها، فلله الحمد والمنة، ولا يشبِّه بها إلا مَنْ أزاغ الله قلبه على رعاع الناس، نسأل الله العافية. وقلتم الحروف يلزمها التعاقب، ويتقدم بعضها بعضا، فيلزم أن تكون مخلوقة. قلنا: إنما يلزم التعاقب في حق من يتكلم من المخارج، والله -سبحانه- غير موصوف بذلك. وأيضا فواجب على كل مكلَّف التسليم لما جاء في الكتاب والسنة، ولا يعارضه بزخارف المبطلين وهذيان الملحدين، قال-تعالى-: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} 5. فَمِنَ الله الرسالة، وعلى الرسول البلاغ، وعلينا التسليم.

_ 1 سورة الحديد آية: 3. 2 سورة الحديد آية: 3. 3 سورة آل عمران آية: 7. 4 البخاري: تفسير القرآن (4547) , ومسلم: العلم (2665) , والترمذي: تفسير القرآن (2994) , وأبو داود: السنة (4598) , وأحمد (6/ 48,6/ 124,6/ 132,6/ 256) , والدارمي: المقدمة (145). 5 سورة النساء آية: 65.

فصل [في مذهب السلف الصالح في خلق القرآن] وقلتم: إن القول بأن القرآن غير مخلوق لم يقله السلف، وإن عدم القول بذلك هو الصواب، وإنه هو اعتقادكم فلا تقولون: مخلوق ولا غير مخلوق. فأما قولكم: إن هذا القول لم يقله السلف، فلا ندري مَنْ تعني بالسلف عندكم. فإن كان يعني بالسلف عندكم جَعْدًا، وجَهْمًا، وابن أبي دؤاد وأتباعهم كأبي علي الجبائي وأبي هاشم، وأتباعهم من الجهمية والمعتزلة، فصدقتم بأن هؤلاء لم يقولوا هذه المقالة، وإنما قالوا القرآن مخلوق، وبُعْدًا لمن كان هؤلاء سلفه، واستبدل سبيلهم بسبيل النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته! وما عَوَّضَ لنا مِنْهَاج جَهْم ... بمنهاج ابن آمنة الأمين وإن كان يعني بالسلف عندكم: الصحابة، والتابعين، وأئمة الإسلام الذين لهم لسان صدق في الأمة الذين رفع الله قدرهم، وأعلى منزلتهم، الذين هم سلف الأمة حقا، فأخطأتم في نسبة عدم القول بذلك إليهم، فإنهم كلهم مجمعون على أن القرآن كلام الله غير مخلوق. قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه في القرآن: ليس بخالق ولا مخلوق، ولكنه كلام الله، منه بدا، وإليه يعود. ذُكر هذا الكلام عن علي الشيخ الحافظ عبد الغني المقدسي، وذكر -أيضا- عن عبد الله بن مسعود، وعبد الله بن عباس أنهما قالا: القرآن كلام الله منه بدا، وإليه يعود. فقولهم -رضي الله عنهم-: "منه بدا" أي: هو المتكلم به، وهو الذي أنزله من لدنه، ليس هو كما تقوله الجهمية: "إنه خُلِق في الهواء"، أو غيره، أو بدا من عند غيره. وأما "إليه يعود": فإنه يسرى به في آخر الزمان من المصاحف

والصدور، فلا يبقى منه في الصدور كلمة، ولا في المصاحف منه حرف. وقال سفيان بن عُيَيْنَة سمعت عمرو بن دينار يقول: أدركت مشايخنا والناس منذ سبعين سنة يقولون: "القرآن كلام الله غير مخلوق، منه بدا، وإليه يعود". رواه محمد بن جرير، وهِبَةُ الله بن الحسن الطبريان في كتاب "السُّنة" لهما. وقد أدرك عمرو بن دينار أبا هريرة، وابن عباس، وابن عمر، وغيرهم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. فهذا يدل على شهرة القول بذلك في زمن الصحابة الذين أدركهم عمرو بن دينار، وعلى شهرته عند التابعين، وأنهم كلهم على ذلك. وقال البخاري: حدثنا سفيان بن عيينة قال: أدركت مشيختنا منذ سبعين سنة، منهم عمرو بن دينار يقولون: "القرآن كلام الله غير مخلوق". فعمرو بن دينار حكاه عن مشيخته، والناس، وسفيان حكاه -أيضا- عن مشيخته؛ فهذا صريح في الدلالة على اشتهار هذا القول في القرون التي أثنى عليها النبي صلى الله عليه وسلم. وكلام أئمة الإسلام في ذلك أكثر من أن يمكن ذكره هنا، كأبي حنيفة ومالك، والأوزاعي والليث، والثوري والشافعي، وابن المبارك وأحمد، وإسحاق، وأبي عبيد، والبخاري، وغيرهم من أئمة الحديث، وكلهم على ذلك مُجْمِعُون، ولكتاب ربهم وسنة نبيهم متبعون، وحكى غير واحد الإجماع على ذلك. قال الإمام أبو محمد عبد الرحمن بن أبي حاتم سألت أبي، وأبا زرعة عن مذاهب أهل السنة في أصول الدين، وما أدركا عليه العلماء في جميع الأمصار حجازا، وعراقا، ومصرا، وشاما، ويمنا، فكان في مذاهبهم أن الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص، والقرآن كلام الله، غير مخلوق بجميع جهاته، والقدر خيره وشره من الله، وأن الله

-تعالى- على عرشه بائن مِنْ خلقه كما وصف نفسه في كتابه، وعلى لسان رسوله، بلا كَيْفٍ، أحاط بكل شيء علما {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}. وقد ذكرتم أن بعض السلف قال بخلق القرآن، كابن المديني، فلا شك أن ابن المديني، وابن معين وغيرهما من أئمة الحديث أجابوا في المحنة كرها، واعتذروا بالإكراه لمّا عاب عليهم الأئمة، وهجرهم الإمام أحمد، ولم يعذرهم. واحتج عليه ابن معين بعمار رضي الله عنه حين أكرهه أهل مكة على كلام الكفر، ورد عليه أحمد بأن قال: إن عمارا ضُرِب، وأنتم قيل لكم: نريد أن نضربكم. ومن المعلوم أنه لم يثبت في المحنة إلا القليل، والأكثرون أجابوا مُكرَهين. ومَن نسب القول بذلك إلى ابن المديني، أو غيره مِن أهل الحديث بعد تصريحهم بأنهم إنما أجابوا كرها فقد قال ما لا يعلم، ونسب إليهم ما هم براء منه. وذكرتم أن ابن علية قال بذلك، فهذا لا يُنكَر، وابن علية معروف عند أهل السنة بالبدعة، وكلام الأئمة في ذمه كثير، والبخاري وإن روى عنه، فهو عنده من أهل البدع. وقد روى البخاري عن غيره من أهل البدع، لأن الرجل إذا عُرِفَ منه الصدق والإتقان لما روى، جازت الروايةعنه، ولا يخرجه ذلك عن كونه مبتدعا. قال البيهقي في "مناقبه": ذكر الشافعي إبراهيم بن علية فقال: أنا مخالف له في كل شيء، وفي قول لا إله إلا الله، لست أقول كما يقول، أنا أقول: لا إله إلا الله الذي كلم موسى من وراء حجاب، وذلك يقول: لا إله إلا الله الذي خلق كلاما ما أسمعه موسى من وراء حجاب. وأما قولكم: إن الصواب في هذه المسألة الوقف، وإنه هو اعتقادكم، لا تقولون: مخلوق، ولا غير مخلوق. فمضمون هذه المقالة أن الله يحب منا أن نقف موقف الحيارى الشاكين، ونبقى في الجهل البسيط، لا نعرف الحق

من الباطل، ولا الهدى من الضلال {مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لا إِلَى هَؤُلاءِ وَلا إِلَى هَؤُلاءِ} 1، وأن الله يحب عدم العلم بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، ويحب منا الحيرة والشك. ومن المعلوم أن الله لا يحب الجهل ولا الشك ولا الحيرة ولا الضلال، وإنما يحب الدين والعلم واليقين، وقد ذم الله الحيرة بقوله -تعالى-: {قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُنَا وَلا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأَرْضِ حَيْرَانَ} 2. ومن المعلوم أنه لا بد أن يكون كلام الله في نفس الأمر مخلوقا، أو غير مخلوق، لا غير، وأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعتقد أحد الأمرين لا غير. وإذا كان الأمر كذلك، فلا بد أن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم قد دل أمته على ما يعتقدونه من ذلك، قال صلى الله عليه وسلم: "تركتكم على البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك"3، وقال فيما صح عنه أيضا: "ما بعث الله من نبي إلا كان حقا عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم، وينهاهم عن شر ما يعلمه لهم"4، وقال أبو ذر: لقد توفي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وما طائر يقلب جناحيه في السماء إلا ذكرنا منه علما. محال مع تعليمهم كل شيء لهم فيه منفعة في الدين -وإن دقت- أن يترك تعليمهم ما يقولونه بألسنتهم، ويعتقدونه بقلوبهم في ربهم ومعبودهم الذي معرفته غاية المعارف، وعبادته أشرف المقاصد، والوصول إليه غاية المطالب. فكيف يتوهم من في قلبه أدنى مسكة من إيمان وحكمة أن لا يكون بيان هذا الباب قد وقع من الرسول على غاية التمام، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأن أمته ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة

_ 1 سورة النساء آية: 143. 2 سورة الأنعام آية: 71. 3 ابن ماجه: المقدمة (44) , وأحمد (4/ 126). 4 مسلم: الإمارة (1844) , والنسائي: البيعة (4191) , وابن ماجه: الفتن (3956) , وأحمد (2/ 191).

فقد علم ما سيكون، ثم قال: "إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا: كتاب الله"1. فالرب -سبحانه وتعالى- عالم بما سيقع من التنازع، فقال: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} 2، ومن المحال أن يأمرهم برد ما تنازعوا فيه إلى ما لا يفصل النزاع، ويبين الحق من الباطل، وقد أمرنا الله -سبحانه- أن نقول: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} 3. وفي صحيح مسلم أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يقول إذا قام من الليل يصلي: "اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم"4. فهو يسأل ربه أن يهديه لما اختلف فيه من الحق، فكيف يكون محبوب الله عَدِمَ الهدى في مسائل الخلاف، وقد قال الله له: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} 5، وأيضا فالشك والحيرة ليست محمودة في نفسها باتفاق المسلمين. غاية ما في الباب أن من لم يكن عنده علم بالنفي ولا الإثبات يسكت، فأما مَن علم الحق بدليله الموافق لبيان رسول -الله صلى الله عليه وسلم- فليس للواقف الشاك الحائر أن ينكر على هذا العالم المتبع للرسول، العالم بالمنقول والمعقول. قال الإمام أحمد -رحمه الله-: مَن لم يقل: القرآن كلام الله، غير مخلوق، فهو يقول: مخلوق، والأمر كما قال رحمه الله. فإنا نجد بعض من يقول بالوقف يعيب على من ينفي الخلق عن كلام الله، ويحتج عليه بحجج القائلين بالخلق، كما أوردتم شيئا من ذلك، وعبتم على الإمام أحمد -رحمه الله- في كلامه في هذه المسألة قلتم: إن أحمد جعل هذه المسألة عديلة التوحيد. قلتم ذلك اتباعا لمن استوفى نصيبه

_ 1 الترمذي: المناقب (3788). 2 سورة النساء آية: 59. 3 سورة الفاتحة آية: 6. 4 مسلم: صلاة المسافرين وقصرها (770) , والترمذي: الدعوات (3420) , والنسائي: قيام الليل وتطوع النهار (1625) , وأبو داود: الصلاة (767) , وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها (1357) , وأحمد (6/ 156). 5 سورة طه آية: 114.

من الحمق والجهل صاحب الكتاب المسمى "بالعلم الشامخ"، وقد عاب في كتابه ذلك على الإمام أحمد، ونسبه إلى التعصب، وطعن -أيضا- على غيره من أئمة الحديث وأهل السنة، ولقد أحسن القائل: وإذا أتتك مذمتي من ناقص ... فهي الشهادة لي بأني فاضل فلو أن هذا المسكين أمسك لسانه عن تَنَقُّصِ أئمة الإسلام لكان أستر له، وهو لم يضر إلا نفسه، لا يضرهم كلامه كما قيل: وهل حط قدر البدر عند طلوعه ... كلاب إذا ما أنكرته فهرَّت وما إن يضر البحر أن قام أحمق ... على شطه يرمي إليه بصخرة والذي ينبغي لهذا وأمثاله إذ هجمت بهم ذنونهم عن استبانة الحق، أن يمسكوا ألسنتهم عن عيب أهل السنة، والطعن عليهم، ويلجؤوا إلى الله في سؤال الهداية. نسأل الله أن يهدينا وإخواننا المسلمين الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم عليهم، غير المغضوب عليهم ولا الضالين. فصل [ليس اللسان والفم شرطا في الكلام] وقد ذكرتم قول الجهمية: إن موسى لم يسمع كلام الله منه، إنما سمعه من غيره، من الشجرة أو غيرها؛ لأن الكلام لا يكون إلا من جوف وفم، ولسان وشفتين. فأما قولكم: إن موسى لم يسمع كلام الله منه حقيقة، وإنما سمعه من غيره فهذا ظاهر البطلان، لأنه لا يجوز لغير الله أن يقول: {يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} 1. {يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} 2. فمن زعم ذلك، فقد زعم أن غير الله ادعى الربوبية

_ 1 سورة القصص آية: 30. 2 سورة طه آية: 11.

والإلهية، ولو كان كما زعم القائل أن المخاطِب لموسى غير الله، كان يقول ذلك المخاطِب: يا موسى إن الله رب العالمين، يا موسى الله ربك، لا يجوز له أن يقول: إني أنا الله رب العالمين، إني أنا ربك، وهذا مما احتج به الإمام أحمد على الجهمية، فيا له من بيانٍ ما أوضحه! وحجةٍ ما أقطعها للمنازع! وأما قولكم: إن الكلام لا يكون إلا من جوف وفم ولسان وشفتين، فهذا باطل، لأن الله -تعالى- قال للسماوات والأرض: {ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} 1، أتُراها قالت بفم ولسان وشفتين؟! والجوارح إذا شهدت على الكافر فقالوا: {لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ} 2، أتراها نطقت بلسان وأدوات؟! وقال: {وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} 3 أتراها تكلمت بجوف وفم، ولسان وشفتين؟! ولكن الله أنطقها كيف شاء، فكذلك تكلم الله كيف شاء، من غير أن نقول: بجوف ولا فم، ولا لسان ولا شفتين، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إني لأعرف حجرا كان يسلم عليَّ"4 وسبح الحصى في كف رسول الله صلى الله عليه وسلم وكف أبي بكر وعمر، وعثمان، وقال ابن مسعود: كنا نسمع تسبيح الطعام وهو يؤكل، وجاء أن في آخر الزمان يكلم الرجل سوطه، ونحو ذلك كثير. ولا خلاف في أن الله قادر على أن ينطق الحجر الأصم من غير مخارج، فبطل ما ادعوه من أن الحروف لا تكون إلا من مخارج. ومن الدليل على اتصاف الله بالكلام حقيقة قوله -تعالى-: {وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا} 5، نبه بهذا الدليل على أن من لا يكلم ولا يهدي، لا يصلح أن يكون إلها، وكذلك قوله -تعالى- في الآية الأخرى عن العجل: {أَفَلا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ

_ 1 سورة فصلت آية: 11. 2 سورة فصلت آية: 21. 3 سورة يس آية: 65. 4 مسلم: الفضائل (2277) , والترمذي: المناقب (3624) , وأحمد (5/ 89,5/ 95) , والدارمي: المقدمة (20). 5 سورة الأعراف آية: 148.

إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا} 1. فجعل امتناع صفة الكلام والتكلم، وعدم ملك الضر والنفع، دليلا على عدم الإلهية، وهذا دليل عقلي سمعي على أن الإله لا بد أن يكلم ويتكلم، ويملك لعابده الضر والنفع، وإلا لم يكن إلها. ومما استدل به أحمد وغيره من الأئمة على أن كلام الله غير مخلوق قوله -تعالى-: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} 2. قالوا: فلما قال: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ} لم يبق شيء مخلوق إلا كان داخلا في ذلك، ثم ذكر ما ليس بمخلوق، فقال: {وَالأَمْرُ}. وأمْرُه هو: قولُه تبارك وتعالى، فلا يكون خلقا. واستدل الإمام أحمد -رحمه الله- أيضا على الجهمية لمَّا قالوا: "إن كلام الله مخلوق". فقال: وكذلك بنو آدم كلامهم مخلوق، فشبهتم الله بخلقه حين زعمتم أن كلامه مخلوق. ففي مذهبكم أن الله قد كان في وقت من الأوقات لا يتكلم حتى خلق التكلم فتكلم، وكذلك بنو آدم كانوا لا يتكلمون حتى خلق لهم كلاما، فجمعتم بين كفر وتشبيه، فتعالى الله عن هذه الصفة! ومما يبين أن السلف كانوا يعتقدون أن كلام الله غير مخلوق، أنهم أوجبوا الكفارة على من حلف بالقرآن إذا حنث في يمينه، وقال بعض الصحابة: عليه بكل آية كفارة، سمع ابن مسعود رجلا يحلف بالقرآن، فقال: أتراه مُكَفِّرا؟ إن عليه بكل آية كفارة. وقد أجمعوا على أنه لا يجوز الحلف بالمخلوق، ولا تنعقد به اليمين، فلو كان القرآن مخلوقا عندهم لم يجيزوا الحلف به، ولم يوجبوا على الحالف به إذا حنث كفارة، لأنه حلف بشيء مخلوق. وأيضا من زعم أن القرآن مخلوق، فقد زعم أن اسم الله في القرآن مخلوق، فيلزمه أن من حلف بالله الذي لا إله إلا هو، لا يحنث، لأنه حلف بشيء مخلوق. قال الإمام أحمد

_ 1 سورة طه آية: 89. 2 سورة الأعراف آية: 54.

في كتاب "الرد على الجهمية": وزعمتَ أن اسم الله في القرآن إنما هو اسم مخلوق، فقلنا: قبل أن يخلق هذا الاسم ما كان اسمه. قالوا: لم يكن له اسم. فقلنا: قبل أن يخلق العلم، أكان جاهلا لا يعلم حتى خلق لنفسه علما، وكان لا نور له حتى خلق لنفسه نورا، وكان لا قدرة له حتى خلق لنفسه قدرة. فعلم الخبيث أن الله قد فضحه، وأبدى عورته للناس حين زعم أن الله -سبحانه- في القرآن، إنما هو اسم مخلوق. فقلنا للجهمي: لو أن رجلا حلف بالله الذي لا إله إلا هو كاذبا، لا يحنث، لأنه حلف بشيء مخلوق، ولم يحلف بالخالق؛ ففضحه الله في هذه. وقلنا للجهمي: أليس النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، والخلفاء من بعدهم، والقضاة والحكام، إنما كانوا يُحَلِّفُونَ الناس بالله الذي لا إله إلا هو، وكانوا مخطئين في مذهبكم؟! إنما كان ينبغي للنبي صلى الله عليه وسلم- ولمن بعده في مذهبكم أن يحلفوا بالذي اسمه الله، وإذا أرادوا أن يقولوا: لا إله إلا الله، قالوا: لا إله إلا الذي خلق الله، وإلا لم يصح توحيدهم، ففضحه الله لما ادعى على الله الكذب. وأيضا فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم الاستعاذة بكلمات الله، وأرشد الأمة إلى ذلك، فقال فيما ثبت في صحيح مسلم، عن خولة بنت حكيم: "من نزل منزلا فقال: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق، لم يضره شيء حتى يرحل من منزله ذلك"1. ففي هذا دليل صريح على أن كلام الله غير مخلوق، لأن الاستعاذة بالمخلوق شرك، والنبي -صلى الله عليه وسلم- أبعد الناس عن الشرك.

_ 1 مسلم: الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2708) , والترمذي: الدعوات (3437) , وابن ماجه: الطب (3547) , وأحمد (6/ 378,6/ 409) , والدارمي: الاستئذان (2680).

فصل [أدلة كون كلام الله بصوت وحرف] وقد ذكرنا فيما تقدم أن مذهب أهل السنة أن الله يتكلم بحرف وصوت، فيصفون الله بالصوت، والصوت هو ما يتأتى سماعه، والقرآن والسنة يدلان على أن الله يتكلم بصوت، قال الله -تعالى-: {فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الأَيْمَنِ} 1 الآية، وقال -تعالى-: {فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا} 2 إلى قوله: {يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} 3، وقال -تعالى-: {فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا رَبُّكَ} 4، وقال -تعالى-: {وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى} 5، وقال: {وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا} 6. والنداء لا يكون إلا بصوت، فدل على أنه كلمه بصوت، وموسى لم يسمع إلا الحرف، والصوت هذا مما يُعلم بالاضطرار، وقال -تعالى-: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} 7 {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ} 8 وقال: {وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ} 9 الآية. والآيات في ذلك كثيرة. وأما السنة، ففي الصحيحين عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يقول الله يوم القيامة: يا آدم، فيقول: لبيك وسعديك. فينادي بصوت: إن الله يأمرك أن تبعث بعثا إلى النار. الحديث"10. وروى عبد الله بن أنيس رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "يحشر الله الناس يوم القيامة -وأشار بيده إلى الشام- عُرَاةً غُرْلا بُهْما، قال: قلت: ما بهما؟ قال: ليس معهم شيء. فيناديهم بصوت يسمعه مَنْ بَعُدَ كما يسمعه مَنْ قَرُبَ: أنا الملك، أنا الديان، لا ينبغي لأحد

_ 1 سورة القصص آية: 30. 2 سورة النمل آية: 8. 3 سورة النمل آية: 9. 4 سورة طه آية: 11. 5 سورة الشعراء آية: 10. 6 سورة مريم آية: 52. 7 سورة القصص آية: 62. 8 سورة القصص آية: 65. 9 سورة الأعراف آية: 22. 10 أحمد (1/ 388).

من أهل الجنة أن يدخل الجنة، وأحد من أهل النار يطلبه بمظلمة. ولا ينبغي لأحد من أهل النار أن يدخل النار، وأحد من أهل الجنة يطلبه بمظلمة حتى أقصه منه. قالوا: وكيف؟ وإنما نأتي الله عراة غرلا. قال: بالحسنات والسيئات" رواه أحمد وجماعة من الأئمة. وقال عبد الله بن أحمد، سألت أبي فقلت: إن الجهمية يزعمون أن الله لا يتكلم بصوت، فقال كذبوا، إنما يدورون على التعطيل. ثم قال: حدثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربي، ثنا سليمان بن مهران الأعمش قال: ثنا أبو الضحى عن مسروق عن عبد الله، قال: إذا تكلم الله بالوحي سمع صوته أهل السماء، فيخرون سُجَّدا، حتى إذا فزع عن قلوبهم قال: سكن عن قلوبهم، نادى أهلُ السماء أهلَ السماء: ماذا قال ربكم؟ قالوا: الحق، قال كذا وكذا. ذكره عبد الله في كتاب السنة بهذا الإسناد، ورواه أبو بكر الخلال. وروى ابن أبي حاتم في "الرد على الجهمية"، قال: أخبرنا أبو زرعة، أخبرنا عثمان بن أبي شيبة، أخبرنا جرير عن يزيد بن أبي زياد، عن عبد الله بن الحارث، عن ابن عباس قال: إن الله -تبارك وتعالى-إذا تكلم بالوحي، سمع أهل السماوات له صوتا كصوت الحديد إذا وقع على الصفا، فيخرون له سُجَّدًا. فإذا فزع عن قلوبهم، قالوا: ماذا قال ربكم؟ قالوا: الحق وهو العلي الكبير. وقد قدمنا ما حكاه الإمام أحمد عن الزهري، قال: لما سمع موسى كلام الله، قال: يا رب هذا الكلام الذي سمعته هو كلامك؟ قال: يا موسى هو كلامي .. إلى أن قال: فلما رجع موسى إلى قومه قالوا صف لنا كلام ربك. قال: سبحان الله! وهل أستطيع أن أصفه لكم! قالوا: فَشَبِّهْهُ. قال: هل سمعتم أصوات الصواعق التي تقبل في أحلى حلاوة سمعتموها، فكأنه مثله. وتقدم -أيضا- ما رواه عبد الله بن أحمد، عن محمد بن كعب قال: قال

بنو إسرائيل لموسى: بم شبهت صوت ربك حين كلمك من هذا الخلق؟ قال: شبهت صوته بصوت الرعد حين لا يترجع. وفيما ذكرناه كفاية لمن أراد الله هدايته {وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا} 1. وذكر أبو الفرج عبد الرحمن بن الفقيه نجم الدين الحنبلي، قال: كنت يوما عند القاضي فتناظروا في مسألة القرآن، وعندنا طرحان الضرير، فقال لنا: اسمعوا مني حكاية. قلنا: هات. قال: تناظر أشْعَرِي وحنبلي، فقال الأشعري للحنبلي: أخبرني إذا وقفك الله غدا بين يديه، فقال لك: من أين قلت إن كلامي بحرف وصوت؟ فماذ يكون جوابك؟ فقال الحنبلي: أقول يا رب، هو ذا أنا أسمع كلامك بحرف وصوت، قال: ثم سكت، فلم يرد هذا شيئا، فبهت القاضي، ولم يدر ما يقول، وانقطع الكلام على هذا. واحتج مَنْ ينفي الصوت، بأن قال: الصوت إنما هو أنين جِرمين، والله -سبحانه- متقدس عن ذلك. (والجواب): أن يُقَالَ: فهذا قياس منكم لله على خلقه، وتشبيه له بعباده، والله -تعالى- لا يُقَاسُ على مخلوقاته، ولا يشبه بمصنوعاته {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} 2. وأيضا فإنه يلزمهم سائر الصفات التي أثبتوها، فإن العلم في حقنا لا يكون إلا من قلب، والنظر لا يكون إلا من حدقة، والسمع لا يكون إلا من انخراق، والحياة لا تكون إلا في جسم، والله -تعالى- يُوصَف بهذه الصفات، من غير أن يوصف بهذه الأدوات، فكذلك الصوت، وإلا فما الفرق؟ واتفق سلف الأمة، وأئمتها على أن القرآن الذي يقرأه المسلمون كلام الله تعالى، فالصوت المسموع صوت القارئ، والكلام كلام الباري، فهم يميزون ما قام بالعبد، وما قام بالرب تبارك وتعالى. ولم يقل أحد منهم إن أصوات العباد، ولا مِدَادَ المصاحف قديم، مع اتفاقهم أن

_ 1 سورة الكهف آية: 17. 2 سورة الشورى آية: 11.

المثبت بين لَوْحَيِ المصحف كلام الله، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "زينوا القرآن بأصواتكم"1. فالكلام الذي يقرأه المسلمون كلام الله، والأصوات التي يقرؤونها بها أصواتهم، فالكلام شيء، والصوت شيء آخر. هذا مما لا يخفى على من لم يرسخ التعطيل في قلبه. ثم ليعلم أن معتمدنا في إثبات الصفات على الكتاب والسنة، فمهما جاء فيهما، فهو الحق والصدق، لا يجوز التعريج على ما سواه، ولا الالتفات إلى هذيان يخالفه؛ فإن الله تعالى- أمرنا بالأخذ بكتابه، والاقتداء برسوله، وأخبر عن رسوله، أنه قال: {إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ} 2، وقال: {وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} 3، وقال سبحانه وتعالى-: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ} 4 إلى قوله: {فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} 5، وقال {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} 6. وها نحن قد بينا أن قولنا في الكتاب والسنة، وإجماع الأمة؛ فهاتوا أن في الكتاب أو السنة أو قول صحابي أو إمام مرضي أن الله لم يتكلم، أو أنه يتكلم مجازا، أو أن كلامه مخلوق، أو أنه لا يتكلم بحرف وصوت، ولن تجدوا إلى ذلك سبيلا. فرحم الله من عَقَلَ عن الله، ورجع عن العقول التي تخالف الكتاب والسنة، وقال بقول أهل السنة، وترك دين جهم وشيعته. جعلنا الله -سبحانه- ممن هدي إلى صراطه المستقيم، ووفقنا لاتباع رب العالمين، والاقتداء بنبيه محمد صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين، والسلف الصالحين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

_ 1 النسائي: الافتتاح (1015) , وأبو داود: الصلاة (1468) , وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها (1342) , وأحمد (4/ 283,4/ 285,4/ 304) , والدارمي: فضائل القرآن (3500). 2 سورة الأنعام آية: 50. 3 سورة الزمر آية: 55. 4 سورة الأعراف آية: 157. 5 سورة الأعراف آية: 157. 6 سورة النور آية: 63.

الرسالة الثانية

[الرسالة الثانية] بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين من عبد الله بن عبد الرحمن (أبا بطين) إلى جناب الأخ المكرم الشيخ الأمجد عبد العزيز بن عثمان بن عبد الجبار. سلمه الله تعالى وعافاه، آمين. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: فالموجب لتحريره إبلاغ السلام، والسؤال عن حالكم لازلتم في خير وعافية. والخط الشريف وصل، وما ذكرتَ من المسائل التي تسأل عنها: [ثمن الكلب ومهر البغي وحلوان الكاهن وكسب الحجام] فثمن الكلب هو أخذ العوض عنه، ومهر البغي هو الجُعل التي تأخذه على زناها، وحُلْوانُ الكاهن هو ما يأخذه الكاهن في مقابلة أخباره بالمغيبات، وثمن السنور هو أخذ العوض عنه، وكسب الحَجَّامِ هو ما يأخذه أُجرة على حِجَامَتِهِ، فأما ما يُعْطَى إياه بغير شرط فرخَّص فيه بعض العلماء لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- أعطى الذي حَجَّمَه. قالوا: ولو كان حراما، لم يعطه؛ وحملوا النهي على الاشتراط خاصة. [بيع الخمر] وتحريم بيع الخمر ظاهر، وهو المعاوضة عنه، وهذا حكم كل مسكر، وبيع الميتة، وما حرم أكله، لما في الحديث المشهور: "إن الله إذا حرم شيئا، حرم ثمنه"1. [ثمن الحر وبيع عسب الفحل] وثمن الحر ظاهر، وهو أخذ العوض عنه، وبيع عسب الفحل وهو أخذ العوض عن ضرابه، كما يفعله كثير من الناس في أخذ العوض عن نزو الحصان على الرمكة. [منع فضل الماء] وأما نهيه صلى الله عليه وسلم عن منع فَضْلِ الماء؛ فهذا إذا كان لرجل بئر، واحتاج الناس لسقي بهائمهم، فلا يحل له أن يمنعهم ما فَضَلَ عن حاجته، وهذا إذا كان الماء في قراره. وأما ما يخرجه الإنسان من البئر، في بركته وآنيته، فإنه يملكه ويختص

_ 1 أبو داود: البيوع (3488) , وأحمد (1/ 322).

به، ويجوز له بيعه. [منع الكلأ] وأما نهيه عن منع الكلأ، فالكلأ هو العشب، ونحوه النابت في أرضه، وبعض العلماء يقول: إذا كان في أرض محوطة، فلا يدخلها إلا بإذن صاحبها، وقال الشيخ تقي الدين: إذا ترك زرع أرضه قاصدا كلأها، فإنه يختص به، ويجوز له بيعه. [بيع الحصاة] وأما بيع الحصاة فهو أن يقول: ارم بهذه الحصاة، فعلى أي ثوب وقعت، أو دابة، فهو لك بكذا، وفسر بأن يقول: أبيعك من هذه الأرض ما تبلغ هذه الحصاة، إذا رميت بها بكذا. [بيع الضرر] وبيع الضرر يدخل تحته صور كثيرة منها: بيع العبد الآبق، والدابة الشاردة ومنها: بيع الدَّيْنِ لمن هو في غير ذمته، إذا كان غير ملي، ويدخل تحته كل مَبيع لا يدري مشتريه، أيحصله أم لا؟ [بيع حبل الحبلة] (وأما) بيع حبل الحبلة، ففيه تفسيران: أحدهما: أن أهل الجاهلية كانوا يشترون الجزور، ونحوها إلى أن تلد الناقة، ثم يلد ولدها، فيكون النهي لأجل جهالة الأجل، وقيل: هو أن يبيعه نِتاج ما في بطن هذه الناقة وهو ولدها، لما فيه من بيع الضرر. [بيع الملامسة] (أما) بيع الملامسة: فنحو أن يقول: أي ثوب لمستُه، فهو لي بكذا، فيشتريه من غير نظر إليه، ولا تقليب. [بيع المنابذة] وبيع المنابذة: هو أن يقول: أي ثوب نبذته إلي، فهو عليَّ بكذا؛ والعلة في ذلك جهالة المبيع وقت العقد؛ ولهذا اشترط العلماء لصحة البيع معرفة المَبِيع. [بيع المحاقلة] (وأما) بيع المحاقلة فهو أن يبيعه زرعه القائم بكيل معلوم من الحب يقبضه. وبيع المخاضرة: هو بيع الزرع الأخضر قبل اشتداد حبه. [حكم المخابرة] (وأما) نهيه عن المخابرة؛ ففسر بأن يدفع إليه أرضه يزرعها بالربع أو الثلث ونحوهما، وفسر بأن يزارعه على أرضه بجزء معلوم كالربع ونحوه، ويشترط

زرع بقعة بعينها، أو يشترط زيادة آصع معلومة على الجزء المسمى. ونحو ذلك في المساقاة: أن يساقيه على نخله بالربع ونحوه، ويشترط زيادة نخلة معينة أو غير معينة يختارها كما يفعله كثير؛ وهذا حرام عند العلماء. [بيع المعاومة] وبيع المُعَاومَة نحو أن يشتري منه ثمرة هذه النخلة سنتين أو أكثر، وبيع الثمرة قبل بُدُوِّ صلاحها ظاهر. [بيع الثنيا] ونهيه عن الثنيا إلا أن تُعلم، فنحو أن يبيعه عددا من الدواب، أو الثياب ونحوها، ويستثني منها غير معين نحو أن يقول: بعتك هذه الغنم بكذا، ولي منها واحدة أختارها، وفيه صور كثيرة. [بيع الطعام قبل قبضه] وبيع الطعام قبل قبضه، إن كان بيعه على الكيل، فقبضه اكتياله، وإن كان جزافا، فقبضه بالتخلية، لكن لا يبيعه حتى ينقله من مكانه. [بيعه على بيع أخيه] وأما بيعه على بيع أخيه: فهو أن يقول لمن اشترى سلعة من مسلم بعشرة -مثلا-: أبيعك مثلها بتسعة ليفسخ البيع، ويعقد معه؛ وقيد بعضهم ذلك بمجلس الخيار. وقال بعض العلماء: هذا ممنوع بعد التفرق من المجلس لأن ذلك يوجب للمشتري التحيل على رد المبيع وفسخه. [بيع النجش] وأما النجش: فهو أن يزيد في ثمن السلعة مَنْ لا يريد شراءها، لِيَغُرَّ المشتري ويضر به. والتصرية معروفة، وهو الذي يسمى التحيين، وهو حرام. وجميع ما تقدم حرام عند العلماء. [بيع الحاضر للبادي] وبيع الحاضر للبادي معروف، والبادي مَنْ لا يكون مِنْ أهل البلد مِنْ غير أن يكون بدويا، واشترط بعض العلماء لذلك شروطا مذكورة في مواضعها. [تلقي الركبان] وأما تلقي الركبان فهو ظاهر، والبائع بالخيار إذا قدم البلد كما في الحديث. [ضابط الغش] وأما الغش فأنواع كثيرة، ضابطه إذا كان المبيع غير متساوي

أظهر الحسن للمشتري وأخفى الذي دونه، أو يخفي عيبا في المبيع ويكتمه عن المشتري، أو يفعل فعلا في المبيع فيحسنه في عين المشتري، وهو غير ثابت في المبيع كتحمير وجه الجارية المبيعة، وتسويد شعرها، ونحو ذلك. [حكم الاحتكار] وأما الاحتكار فنحو ما إذا كان بالناس حاجة إلى الطعام، فيشتري إنسان ما يُجْلَبُ للبلد من الطعام ليبيعه على أهل البلد؛ فنهي عن ذلك لما فيه من التضييق عليهم. [أكل الربا وتأكيله والشهادة عليه وكتابته] وأما أكل الربا وتأكيله والشهادة عليه وكتابته، فإنما يستحق هؤلاء الثلاثة اللعن إذا علموا به كما في الحديث، وأما الأصناف الستة الربوية المذكورة، فلا يجوز بيع واحد منها بجنسه إلا مِثلا بِمِثل، يدا بيد وأما بيعه بغير جنسه، فيجوز التفاضل فيه بشرط التقابض في مجلس العقد. [النهي عن بيعتين في بيعة] وأما النهي عن بيعتين في بيعة، فنحو أن يقول: أبيعك دابتي هذه بكذا، بشرط أن تبيعني السلعة الفلانية بكذا، أو تؤجرني دارك بكذا، أو يكتب عليه طعاما، ويشترط أن يشتري منه شيئا. ومنه أن يقول: أشتري دابتك هذه -مثلا- بعشرة، ويشترط عليه أن يأخذ عن العشرة أو بعضها ثوبا، أو صرفها، ونحو ذلك كما يفعله كثير، وضابطه أن يشتري شيئا، ويشترط أحدهما على صاحبه عقدا آخر. [النهي عن سلف وبيع] وأما النهي عن سلف وبيع فنحو أن يشتري منه سلعة، أو يكتب عليه طعاما أو غيره، ويشترط أن يقرضه شيئا. وأما ربح ما لم يُضمن، فهو أن يبيع ما لا يدخل في ضمانه، كأن يشتري طعاما، ويبيعه قبل اكتياله. [بيع المضامين والملاقيح] وأما بيع المضامين والملاقيح، فقيل: المضامين ما في بطون الإناث

والملاقيح: ما في ظهور الفحول، وفسر بالعكس. وبيع الغنيمة قبل القسمة، المراد به: الإنسان يبيع نصيبه من القسمة قبل تمييزه وقبضه. [بيع السلعة بنسيئة] وأما بيع السلعة بنسيئة، ثم يشتريها البائع بأقل مما باعها به نقدا، نحو أن يبيعه إياها بخمسين إلى أجل، ثم يشتريها بثلاثين نقدا قبل قبض الخمسين؛ فهذه مسألة العِينَة، لكن اشترط الفقهاء لعدم الجواز أن لا تتغير صفتها، فإن تغيرت بهزال أو نحوه، فلا بأس أن يشتريها بأقل مما باعها به نقدا. وبيع اللبن في الضرع، نحو أن يشتري منه حليبها أسبوعا، أو شهرا، أو نحو ذلك. [بيع الكالئ بالكالئ] وبيع الكالئ بالكالئ له صور كثيرة مذكورة في كتب الفقه، منها ما هو متفق عليه، ومنها ما فيه خلاف، وهو بيع مؤخر بمؤخر. ومنها أن يسلم إليه في طعام أو نحوه، ولم يُقْبِضْه رأس مال السلم في المجلس. ومنه عند كثير من العلماء أن يكون له في ذمته دراهم ويكتبها عليه في طعام في ذمته. والمسألة التي يسمونها التصحيح، إنما يفعلونها حيلة إلى التوصل إلى ذلك، لأنه يعطيه ريالا بكذا طعاما، ثم يرده إليه، فيرجع برياله، وهو لم يعطه إياه، ويملكه إياه تمليكا تاما، بل إنما أعطاه إياه بشرط أن يرده إليه في الحال، فيكون العقد وقع على ما في الذمة من الدراهم. [الإسلام في ثمرة نخل بعينه] وأما الإسلام في ثمرة نخل بعينه، أو زرع بعينه، فهذا لا يجوز، بل لا بد أن يكون السلم في ذمة. وإن أسلم إليه في ذمته، واشترط عليه أن يعطيه من ثمرة نخله، أو زرعه، فقد أجاز الشيخ تقي الدين هذا الشرط. [منع السلم بزرع غير معلوم] (وأما) منع السلم بزرع غير معلوم، أو كيل غير معلوم؛ فلما فيه من جهالة المسلم فيه، ومن شروط السلم ما في الحديث "من أسلف في شيء، فليسلف في كيل معلوم، ووزن معلوم، إلى أجل معلوم"1.

_ 1 البخاري: السلم (2239) , ومسلم: المساقاة (1604) , والترمذي: البيوع (1311) , والنسائي: البيوع (4616) , وأبو داود: البيوع (3463) , وابن ماجه: التجارات (2280) , وأحمد (1/ 217,1/ 222).

[بيع الدين المستقر لمن هو في ذمته] (وأما) بيع الدين المستقر لمن هو في ذمته، فيشترط لصحته أن يكون بسعر يومه، وأن يقبض العوض في المجلس كما إذا أخذ عن الذهب فضة وعكسه. وأما المنفعة التي يجرها القرض، فهي حرام، ومنه الهدية لأجل إقراضه إياه إلا إن حسبها من دينه، فلا بأس. وكذلك لو قضاه خيرا مما أخذ منه من غير شرط ولا مواطأة، فلا بأس، لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- استسلف بكرا، ورد خيرا منه، وقال: "خيركم أحسنكم قضاء"1. [انتفاع المرتهن بالمرهون] (وأما) الرهن إذا كان محلوبا، أو مركوبا؛ فإن المرتهن يحلب ويركب بقدر نفقته متحريا للعدل. (وأما) غير المحلوب والمركوب، فلا ينتفع به بغير إذن صاحبه، ومعنى الحديث المشهور "لا يغلق الرهن من صاحبه، له غنمه وعليه غرمه"2. فمعناه عند مالك، وأحمد، وغيرهما كما ذكرتم، وفسر بغير ذلك، وقول أحمد: "أكره قرض الدور .. إلى آخره"؛ وذلك لأنه قرض جر منفعة. وبعض الناس يتوصل إلى ذلك بحيلة باطلة إذا أراد أن يرتهن دارا أو أرضا في قرض، وينتفع بها، أظهروا صورة البيع وهو في باطن الأمر رهن، فيبيعه ما يساوي مائة بخمسين أو أقل أو أكثر، بأقل من قيمتها، ويشترط الخيار، وهذا يسميه بعض الناس بيع الأمانة. (وأما) إذا كان بيعا حقيقيا ظاهرا وباطنا بأن يبيعه إياها بقيمتها من غير نقص، ويشترط الخيار، فلا بأس بانتفاعه بالمبيع في مدة الخيار كما نص عليه أحمد. وهذه العقود المنهي عنها حرام عند العلماء، وقالوا: يحرم تعاطيهما عقدا فاسدا؛ فإذا كان العقد فاسدا فتعاطيه حرام على المتعاقدين جميعا. [بيع اللحم بثمر أو عيش نسيئة] (وأما) بيع اللحم بثمر، أو عيش نسيئة، فبعض العلماء رخص في

_ 1 البخاري: الوكالة (2305) , ومسلم: المساقاة (1601) , والترمذي: البيوع (1316) , والنسائي: البيوع (4618) , وابن ماجه: الأحكام (2423) , وأحمد (2/ 393,2/ 416,2/ 476,2/ 509). 2 ابن ماجه: الأحكام (2441) , ومالك: الأقضية (1437).

ذلك، وبعضهم يمنعه. والذين يسهلون فيه يقولون: اللحم موزون، والثمر والعيش مكيلان؛ هذا الأصل فيهما على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا اختلفت العلة، جاز بيع أحدهما بالآخر نسيئة. وهؤلاء يقولون: العلة في الأصناف الأربعة الطعم، فإنهم يمنعون ذلك. اشتراط البائع على المشتري اشتراء سلعة من غيره (وأما) اشتراط البائع على المشتري اشتراء سلعة من غيره، فالذي يظهر أن هذا شرط فاسد، وإذا استسلم رجل من آخر دراهم، ثم اشترى بها منه طعاما، فهذا إذا كان بشرط أو مواطأة، فلا يجوز. (وأما) إذا أخذ الدراهم، وذهب ليشتري بها من غيره، فلم يجد عند غيره شيئا، ثم رجع فاشترى منه، فلا بأس بذلك. [اشتراط صاحب الأرض على مستأجرها أن يستسلم منه] (وأما) اشتراط صاحب الأرض ونحوها على مستأجرها أن يستسلم منه، فلا يجوز، وهو كبيعتين في بيعة كما تقدم. [دم الذبيحة الذي يبقى في مذبحها ولحمها بعد الذبح] (وأما) دم الذبيحة الذي يبقى في مذبحها ولحمها بعد الذبح، فإنه طاهر، لأن الله إنما حرم الدم المسفوح، والمسفوح هو الذي يسيل. فالذي ليس بمسفوح، ليس بحرام، وحله يدل على طهارته. وهذه المسائل تحتاج إلى بسط وتفصيل، لكن الموضوع لا يتسع لذلك، والله -سبحانه وتعالى- أعلم. وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

الرسالة الثالثة: العمل بالكتاب والسنة

[الرسالة الثالثة: العمل بالكتاب والسنة] بسم الله الرحمن الرحيم ما قولكم -أدام الله النفع بعلومكم- فيمن اعتمد على كتب المتأخرين، من غير التفات إلى ما خالفها من نصوص القرآن والسنة، وكلام السلف، والعلماء المتقدمين، ورأى أن ما حوته هو الذي شرعه الله لرسوله، وأوجب أن يعبد به، وإن قيل له في ذلك، قال: قد اختار هذه الكتب من هو أعلم منا، وأبصر بشريعة محمد صلى الله عليه وسلم وما يقال في مثل هذا، وما يخاف عليه منه؟ أفيدونا أثابكم الله الجنة بمنِّه وكرمه. أجاب الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن (أبا بطين) -رحمه الله تعالى- فقال: (الجواب) وبالله التوفيق: لا ريب أن الله -سبحانه- فرض على عباده طاعته، وطاعة رسوله، قال -تعالى-: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ} 1، وقال -تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ} 2، وقال -تعالى-: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} 3، ولم يوجب الله -سبحانه- على الأمة طاعة أحد بعينه في كل ما يأمر به إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال ابن عبد البر: أجمع العلماء على أن المقلد ليس معدودا من أهل العلم، وأن العلم معرفة الحق بدليله. وقال الشافعي -رحمه الله-: أجمع المسلمون على أنه مَن استبانت له سُنَّةُ رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن له أن يدعها لقول أحد من الناس. انتهى وقال ابن هبيرة في "الإفصاح": اتفقوا على أنه لا يجوز أن يولَّى القضاء من ليس من أهل الاجتهاد، إلا أبا حنيفة، فإنه قال: يجوز ذلك. وقال الشيخ

_ 1 سورة الأعراف آية: 3. 2 سورة الأنفال آية: 20. 3 سورة النور آية: 54.

أبو محمد في "المغني": يشترط أن يكون من أهل الاجتهاد، وبهذا قال مالك، والشافعي، وبعض الحنفية. وقال بعضهم: يجوز أن يكون عاميا فيحكم بالتقليد، لأن الغرض منه فصل الخصومات، فإذا أمكنه ذلك بالتقليد، جاز كما يحكم بقول المقومين. ولنا قول الله تعالى-: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} 1، ولم يقل بالتقليد، وقال تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} 2. وروى بريدة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "القضاة ثلاثة: اثنان في النار، وواحد في الجنة، رجل علم الحق فقضى به، فهو في الجنة، ورجل قضى للناس على جهل فهو في النار، ورجل جار في الحكم فهو في النار"3 رواه ابن ماجه. قال: والعامي يقضي على جهل؛ ولأن الحكم آكد من الفتيا؛ لأنه فتيا وإلزام، والمفتي لا يجوز أن يكون مقلدا، فالحكم أولى. وقال في "الإنصاف": ويشترط في القاضي أن يكون مجتهدا، هذا المذهب .. إلى أن قال: واختار في "الترغيب": ومجتهدا في مذهب إمامه للضرورة، واختار في "الإفصاح" و"الرعاية": ومقلدًا. قلت: وعليه العمل من مدة طويلة، وإلا لتعطلت أحكام الناس. انتهى. [أقوال العلماء في التقليد في الفتيا] وذكر ابن القيم في مسألة التقليد في الفتيا ثلاثة أقوال: (أحدها): أنه لا يجوز الفتوى في التقليد، لأنه ليس بعلم، وأن المقلد لا يطلق عليه اسم عالم. وهذا قول أكثر الأصحاب وهو قول جمهور الشافعية. (والثاني): أن ذلك يجوز فيما يتعلق بنفسه، فيجوز أن يقلد غيره من العلماء إذا كانت الفتوى لنفسه. ولا يجوز أن يقلد العالم فيما يفتي به لغيره، وهذا قول ابن بطة، وغيره من أصحابنا. (والقول الثالث): أنه يجوز ذلك عند الحاجة

_ 1 سورة المائدة آية: 48. 2 سورة النساء آية: 59. 3 أبو داود: الأقضية (3573) , وابن ماجه: الأحكام (2315).

والضرورة، ولكن قد دعت الحاجة والضرورة إليه من زمان طويل لا سيما في هذا الوقت، وحينئذ فيقال: التقليد ثلاثة أنواع: (أحدها): التقليد بعد قيام الحجة وظهور الدليل، فهذا لا يجوز، كما قال الشافعي -رحمه الله-:أجمع المسلمون على أن من استبانت له سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن له أن يدعها لقول أحد من الناس. (النوع الثاني): التقليد مع القدرة على الاستدلال، والبحث عن الدليل بأن يكون متأهلا لذلك، فهذا مذموم -أيضا- لقدرته، وتمكنه من معرفة الدليل. (النوع الثالث): التقليد السائغ، وهو نوعان: (أحدهما): مَنْ كان مِن العوام الذين لا معرفة لهم بالحديث والفقه، وليس لهم نظر في كلام العلماء، فهؤلاء لهم التقليد بغير خلاف، فإذا وقعت له حادثة، استفتى مَنْ عَلِمَهُ عالما عدلا، ورآه منتصبا للإفتاء، والتدريس، واشترط الشيخ تقي الدين -مع ذلك- الاستفاضة بأنه أهل للفتيا. (النوع الثاني): مَن كان متأهلا لبعض العلوم، قد تفقه في مذهب من المذاهب، وتبصر في بعض كتب متأخري الأصحاب كالإقناع، والمنتهى عند الحنابلة، ولكنه قاصر النظر عن معرفة الدليل، ومعرفة الراجح من كلام العلماء، فهذا له التقليد أيضا، إذ لا يجب عليه إلا ما يقدر عليه، ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها. ونصوص العلماء على جواز التقليد لمثل هذا كثيرة، وذلك لقول الله -تعالى-: {فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} 1. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ألا سألوا إذا لم يعلموا، فإنما شفاء العي السؤال"2. ولكن هذا لا ينبغي له التسرع إلى إفتاء غيره، فإن دعت الحاجة إلى فتواه، فهو إخبار عن مذهب إمامه الذي ينتسب إليه لا فتيا. قاله جماعة من الأصحاب، وعليه أن يتقي الله ما استطاع.

_ 1 سورة النحل آية: 43. 2 أبو داود: الطهارة (336).

فإن كان له فهم قوي وإدراك بحيث إذا نظر المسائل الخلافية ورأى أدلة كل من المختلفين، وكان فيه ذكاء وفطنة يدرك بها الراجح من المرجوح فيما يراه، عمل بما ترجح عنده. فإذا كان طالب العلم متمذهبا بأحد المذاهب الأربعة، ثم رأى دليلا مخالفا لمذهب إمامه، وذلك الدليل قد أخذ به بعض أئمة المذاهب، ولم يعلم له معارضا، فخالف مذهبه وتبع ذلك الإمام الذي أخذ بالدليل، كان مصيبا؛ بل هذا هو الواجب عليه، ولا يخرج بذلك عن التقليد. فهو مقلد لذلك الإمام، فيجعل إماما بإزاء إمام، ويبقى له الدليل بلا معارض. قال الشيخ تقي الدين -رحمه الله تعالى-: من كان متبعا لإمام، فخالفه في بعض المسائل لقوة الدليل، أو لكون أحدهما أعلم أو أتقى، فقد أحسن. وقال في موضع آخر: بل يجب عليه، وأن أحمد نص على ذلك. انتهى. وعلى كل حال فلا ينبغي التسرع والجسرة بقول: هذا حلال، هذا حرام، هذا واجب، قال الله -تعالى-: {وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} 1. فمن عرف أحوال السلف وهيبتهم الإفتاء مع علمهم وفضلهم، أفاده ذلك اتهام فهمه، وعدم التسرع إلى الفتوى؛ لأنه يخبر عن الله، والمقلد إنما يحكي عن غيره. فالأولى إذا دعت الضرورة إلى فتواه أن يقول: ذكر أصحاب المذهب الفلاني، أو ذكر في الكتاب الفلاني كذا وكذا. [نهي الأئمة عن التقليد] وأما قول القائل: قد اختار هذه الكتب وما حوته مَنْ هو أعلم منا. (فيقال) له: هذا حق، هم أعلم منا، لكن لا يلزم من ذلك تقليدهم في كل ما وضعوه. فإذا قال كل أهل مذهب هذه المقالة في كتب من تقدمهم، فالمصيب عند الله واحد، فمن هو الذي يجب اتباعه؟ فإذا اختلفت المذاهب

_ 1 سورة النحل آية: 116.

في حكم مسألة، فالمصيب منهم واحد. والمجتهد المخطئ إذا كان أهلا فمأجور على اجتهاده، ولا يجوز له تقليده إذا بان له خطؤه مع كونه أعلم ممن بعده، والله سبحانه- إنما أمر بالرد عند التنازع إلى كتابه وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-. فمن قال: إن ما أودع في بعض الكتب المصنفة هو الذي يجب اتباعه، فهو مخطئ يخاف عليه العقوبة في قلبه، ولازم هذه المقالة أنه إذا وجد عن المعصوم -صلوات الله وسلامه عليه- ما يخالف بعض ما فيها، أن الذي في هذه الكتب هو الواجب الاتباع دون ما جاء عن الرسول -صلى الله عليه وسلم-؛ بل كثير منهم يصرحون بذلك، ويلتزمونه مع أنه مخالف للكتاب والسنة، فهو مخالف لقول الأئمة الأربعة الذين صنفت هذه الكتب على مذاهبهم؛ لأنهم نهوا عن تقليدهم. قال أبو حنيفة، وأبو يوسف: "لا يحل لأحد أن يقول بقولنا حتى يعلم من أين قلناه". وصرح مالك بأن من ترك قول عمر بن الخطاب لقول إبراهيم النخعي أنه يستتاب. وقال الشافعي: إذا صح الحديث فاضربوا بقولي الحائط. وقال الإمام أحمد: لا تقلدوني، ولا تقلدوا مالكا، ولا الشافعي، ولا الثوري، وتعلموا كما تعلمنا، وقال: لا تقلد دينك الرجال فإنهم لن يسلموا أن يغلطوا. وقال الإمام أحمد: عجبت لقوم عرفوا الإسناد وصحته يذهبون إلى رأي سفيان، والله -سبحانه- يقول: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} 1. أتدري ما الفتنة؟ الفتنة الشرك، لعله إذا رد بعض قوله أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك، ويقال أيضا لمن قال: وضع هذه الكتب مَنْ هو أعلم منا، إذا كان ممن ينتسب إلى الحنابلة فوضع كتب الشافعية والمالكية والحنفية من هو

_ 1 سورة النور آية: 63.

الرسالة الرابعة

أعلم منك، فما الذي أوجب اتباع بعضها دون بعض؟ فلو قال صاحب هذه المقالة: أنا أعلم أن التقليد ليس بعلم، وأن الواجب اتباع سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لكن قصور أفهامنا، وضعف إدراكنا أوجب لنا التقليد، وألجأت الضرورة إليه، فلو تبين لي في بعض ما قلدت فيه أنه مخالف للسنة اتبعت السنة، وهذا هو الواجب علي، لكني قليل التمييز لقصور فهمي، وأعتقد أن الواجب اتباع السنة، ولا عذر لأحد في مخالفتها إذا ثبتت عنده؛ وقائل ذلك يرجى له السلامة، وهذا كله في غير أصول الدين. فأما أصول الدين من التوحيد ومعرفة الرسالة وسائر الأصول، فلا يجوز فيها التقليد عند جميع العلماء. فنسأل الله العظيم، رب العرش الكريم، رب جبريل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أن يهدينا لما اخْتُلِفَ فيه من الحق بإذنه، إنه يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم، والله -سبحانه وتعالى- أعلم. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. [الرسالة الرابعة] بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله بن عبد الرحمن (أبا بطين) إلى الولد المكرم محمد بن عبد الله بن سليم سلمه الله تعالى. سلام عليكم، ورحمة الله وبركاته (وبعد): موجب الخط إبلاغ السلام والخط وصل -أوصلك الله إلى الخير-. وما ذكرت من المسائل: [القول بأن الرسول عليه السلام حي في قبره] فالأولى في قول من يقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم حي في قبره، فالله -سبحانه وتعالى- أخبر بحياة الشهداء، ولا شك أن الأنبياء أعلى رتبة من

الشهداء وأحق بهذا، وأنهم أحياء في قبورهم، ونحن نرى الشهداء رميما، وربما أكلتهم السباع، ومع ذلك {بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ} 1، فحياتهم حياة برزخية، الله أعلم بحقيقتها. والنبي صلى الله عليه وسلم قد مات بنص القرآن والسنة، ومَنْ شك في موته فهو كافر. وكثير من الناس خصوصا في هذه الأزمنة يدعون أنه صلى الله عليه وسلم حي كحياته لما كان على وجه الأرض بين أصحابه، وهذا غلط عظيم؛ فإن الله -سبحانه وتعالى- أخبر بأنه ميت، وهل جاء أثر صحيح أنه باعثه لنا في قبره كما كان قبل موته؟ وقد قام البرهان القاطع أنه لا يبقى أحد حيا حين يقول الرب -سبحانه-: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ} 2، فيكون -صلى الله عليه وسلم- قد مات، ثم بعث في قبره، ثم مات، فيكون له ثلاث موتات، ولغيره موتتان، وقد قال أبو بكر -رضي الله عنه- لما جاءه بعد موته: "أما الموتة التي كتبت عليك فقد متها، ولن يجمع الله عليك موتتين". وقال -سبحانه- عن جميع أهل الجنة: {لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الأُولَى} 3 يعني: التي كانت في الدنيا؛ أفيكون الرسول قد مات موتة ثانية بعد الموتة الأولى؟ وأيضا لو كان حيا في قبره مثل حياته على وجه الأرض، لسأله أصحابه عما أشكل عليهم، قال عمر رضي الله عنه "ثلاث وددت أني سألت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عنهن: الجد، والكلالة، وأبواب من الربا". فهلا جاء إلى قبره واستسقى بالعباس، ولم يجيئ إلى قبره يستسقي به! ومعلوم ما صار بعده صلى الله عليه وسلم من الاختلاف العظيم، ولم يجيئ أحد إلى قبره صلى الله عليه وسلم يسأله عما اختلفوا فيه. وفي

_ 1 سورة آل عمران آية: 169. 2 سورة غافر آية: 16. 3 سورة الدخان آية: 56.

الحديث المشهور: "ما من مسلم يسلم علي إلا رد الله علي روحي حتى أرد عليه السلام"1؛ فهذا يدل على أن روحه صلى الله عليه وسلم ليست دائمة في قبره. ومعرفة الميت زائره ليس مختصا به صلى الله عليه وسلم، والذين يظنون أن حياته في قبره كحياته قبل موته يقرؤون في "الشفاء" وغيره الحكاية المشهورة عندهم: أن الإمام مالكا قال للمنصور لما رفع صوته في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم: لا ترفع صوتك في مسجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ فإن حرمته ميتا كحرمته حيا، قد عقد ابن القيم -رحمه الله تعالى- في النونية فصلا على من ادعى هذه الدعوى، وأجاد رحمه الله. [منزلة علي من الرسول عليه الصلاة والسلام] والحديث الذي يروى: "أنا مدينة العلم وعلي بابها" ليس له أصل. وأما قوله لعلي رضي الله عنه: "أنت مني بمنزلة هارون من موسى"2 فهو حديث صحيح، وسببه أن النبي صلى الله عليه وسلم لما تجهز لغزوة تبوك، لم يأذن لعلي في الغزو، واستخلفه على أهله، فقال علي: يا رسول الله تخلفني مع النساء والصبيان. فقال صلى الله عليه وسلم: "أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى؟ "3. قال العلماء: يشير إلى قوله: {وَقَالَ مُوسَى لأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي} 4، فالمراد استخلافه صلى الله عليه وسلم عليا على أهله في سفر غزوه. [القول بشفاعة الرسول عليه السلام للمشركين يوم القيامة] وأما من قال أن النبي صلى الله عليه وسلم يشفع للمشركين يوم القيامة، فهذا كذب يرده قول النبي صلى الله عليه وسلم لما سأله أبو هريرة رضي الله عنه: "من أحق الناس بشفاعتك يا رسول الله؟ قال: من قال لا إله إلا الله، يبتغي بذلك وجه الله" فشفاعته -صلى الله عليه وسلم- لأهل التوحيد

_ 1 أبو داود: المناسك (2041) , وأحمد (2/ 527). 2 البخاري: المناقب (3706) والمغازي (4416) , ومسلم: فضائل الصحابة (2404) , والترمذي: المناقب (3731) , وابن ماجه: المقدمة (115,121) , وأحمد (1/ 170,1/ 173,1/ 174,1/ 175,1/ 177,1/ 179,1/ 182,1/ 184). 3 البخاري: المناقب (3706) والمغازي (4416) , ومسلم: فضائل الصحابة (2404) , والترمذي: المناقب (3731) , وابن ماجه: المقدمة (115,121) , وأحمد (1/ 170,1/ 173,1/ 174,1/ 175,1/ 177,1/ 179,1/ 182,1/ 184,1/ 185). 4 سورة الأعراف آية: 142.

لا للمشركين. وقال صلى الله عليه وسلم: "إني اختبأت دعوتي شفاعة لأهل الكبائر من أمتي، فهي نائلة -إن شاء الله تعالى- مَنْ مات لا يشرك بالله شيئا"1. [شبهات القبوريين في شركهم] وأما قول القائل: إن دعاءهم الأموات، وسؤالهم قضاء الحاجات مجاز، والله هو المسؤول حقيقة؛ فهذا حقيقة قول المشركين: {هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} 2، {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} 3؛ فهم يسألون الوسائط زاعمين أنهم يشفعون لهم عند الله في قضاء حوائجهم. قال شيخ الإسلام تقي الدين -رحمه الله تعالى-: فمن جعل بينه، وبين الله وسائط يدعوهم، ويتوكل عليهم، ويسألهم، كفر إجماعا. اهـ. وأما قول من يقول: إن الآيات التي نزلت بحكم المشركين الأولين، فلا تتناول من فعل فعلهم، فهذا كفر عظيم، مع أن هذا قول ما يقوله إلا ثور مرتكس في الجهل. فهل يقول: إن الحدود المذكورة في القرآن والسنة لأناس كانوا وانقرضوا؟ فلا يُحد الزاني اليوم، ولا تُقطع يد السارق ونحو ذلك! مع أن هذا قول يستحيا من ذكره. أفيقول هذا: إن المخاطبين بالصلاة والزكاة وسائر شرائع الإسلام انقرضوا، وبطل حكم القرآن؟! وأما قول من يقول: إن النبي أو غيره ينجي من عذاب الله، أو يغني من الله شيئا، فهذا كفر صريح يحكم بكفر صاحبه بعد تعريفه إن كان جاهلا؛ بل أبلغ من ذلك لو قال: إن أحدا يشفع عند الله من غير إذن له، فهو كافر. وأما قول بعض الناس إذا سئل عن شيء: الله ورسوله أعلم. فهذا يجري على ألسنة كثير من الناس من غير اعتقاد شيء، فالواجب تعليم مثل هذا، والله -سبحانه وتعالى- أعلم. وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

_ 1 مسلم: الإيمان (199) , وابن ماجه: الزهد (4307) , وأحمد (2/ 426). 2 سورة يونس آية: 18. 3 سورة الزمر آية: 3.

الرسالة الخامسة

[الرسالة الخامسة] بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين من عبد الله بن عبد الرحمن (أبا بطين) إلى جناب الولد المكرم عبد الرحمن بن محمد بن مانع زاده الله علما، ووهب لنا وله حكما. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. (وبعد): موجب الخط إبلاغ السلام، والخط وصل -أوصلك الله إلى خير الدنيا والآخرة-، وسرنا ما ذكرت -بارك الله فيك-، وما ذكرت من حال الاختلاف في الصوم والفطر، فالله سبحانه هو الهادي. [صوم يوم الشك] فأما صوم ليلة الثلاثين من شعبان إذا كان حائل، بحيث إنه لو كان هلال تعذرت رؤيته، فثبت عن ابن عمر وبعض الصحابة صيامه، وهو المشهور في مذهب أحمد، لكن على سبيل الاستحباب لا على الوجوب على الصحيح. وأكثر العلماء ما يرون صيام هذا اليوم، وهل هو مكروه، أو محرم على اختلاف بينهم؛ فمن صام ذلك اليوم لا ينكر عليه، ولكن بشرط وجود الحائل البين بحيث يتحقق أنه لو كان هلال، تعذرت رؤيته. وهذه المسألة كثرت فيها المصنفات من الجانبين، والأمر سهل ولله الحمد، وعند دخول الشهر لو اعتمد على ما ذكرت فلا بأس. وأما في طلوع الشهر، فلا يجوز الاعتماد على الصورة التي ذكرت، فلا يعمل بها في الفطر من رمضان. وأما من لم يصم ذلك اليوم، أعني: نهار الثلاثين من شعبان، فلا أدري، كل من جاءنا من البلدان ما ذكروا رؤية.

فإن صام إنسان احتياطا، فحسن إن شاء الله، وحديث "صومكم يوم تصومون، وفطركم يوم تفطرون"1 استدل به من يقول: إنه لو رأى وحده هلال شوال، لم يفطر إلا مع الناس، وهو قول الأكثرين. وقيل: يفطر سرا، وهو قول طائفة من العلماء. وأما إذا رأى هلال رمضان، ورُدَّت شهادته، لزمه الصوم عند الأربعة، وعن أحمد رواية: لا يلزمه الصوم؛ اختارها الشيخ تقي الدين للحديث السابق، وأما اختلاف الأهلة بالكبر والصغر، وارتفاع المنازل وانخفاضها، فلا حكم له، لأن ذلك يختلف كثيرا. [نهب البدو بعضهم بعضا] وأما نهب البدو بعضهم بعضا، فالذي أرى عدم الشراء منهم مطلقا إذا تحقق أنه بعينه نهب، لاشتباه أمرهم. وأما إذا عرف أحدهم ماله عند حضري، وثبت أنه منهوب منه بالبينة، فالذي نفتي به في زمن هذا الاختلاف أنه يعطي المشتري ثمنه الذي دفعه، ويأخذ ماله إن لم يكونوا حربا للحضر، وقد أفتى بذلك غير واحد من متأخري الأصحاب. [الجائحة في الإجارة] وأما مسألة الجائحة في الإجارة، فالشيخ تقي الدين -رحمه الله تعالى- يقول بثبوت الجائحة في الإجارة للأرض ونحوها، كما ثبت في الثمرة المشتراة بنص الحديث. وأكثر العلماء يفرقون بين الصورتين على خلاف ما قاله الشيخ تقي الدين، وهو الذي نفتي به، أعني بقول أكثر العلماء. [توديع الفطرة عند الجار] وأما ما يفعله بعض العامة من توديعهم الفطرة عند جار ونحوه إلى أن يجيء الذي يعطونها إياه، فهذا لا يجزي، بخلاف ما إذا دفعت لوكيله، فإنها

_ 1 الترمذي: الصوم (697) , وأبو داود: الصوم (2324).

الرسالة السادسة

تجزي، لأن يد الوكيل كيد القابض. والله -سبحانه وتعالى- أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. [الماء إذا خالطه بول أو روث] وأما الماء إذا خالطه بول أو روث ظاهر، فلا يضره إذا كان باقيا على إطلاقه، وما تلقيه الريح والسيول يعفى عنه، والله -سبحانه وتعالى- أعلم. [الرسالة السادسة] بسم الله الرحمن الرحيم من محمد بن عبد الله بن مانع إلى جناب شيخنا المكرم عبد الله بن عبد الرحمن (أبا بطين) سلمه الله تعالى وعافاه آمين. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. (وبعد): فما قولك -أمتعنا الله بحياتك- في رجل ساقى إنسانا على نخل، وعمل فيه مدة، ثم جاء آخر فاشترى منه عمله في سقيه للنخل تلك المدة، ونزل منزلته في المساقاة؛ هل يصح بيع هذا العمل ورهنه أم لا؟ وفي رجل ساقى إنسانا على نخل واحتاج إلى مؤونة المساقاة، واستدان دينا من دين سلم أو غيره، ورهن نصيبه من الثمرة بعد ظهورها في ذلك، ثم احتاج بعد ذلك إلى زيادة مؤونة، فأتى إلى المسلم له في الثمرة، وقال: أقرضني أو أسلم علي، وإلا استسلمت من غيرك، وقدمته في الثمرة الموجودة لئلا تتلف الثمرة، والثمرة لا تفي بجميع ذلك، هل يصح تقديم الثاني على المرتهن إذا امتنع من إعطائه والحالة هذه أم لا؟ أفتنا أثابك الله الجنة بمنه وكرمه.

بسم الله الرحمن الرحيم وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته وبعد فالجواب وبالله التوفيق: [بيع عمل المساقاة] أما المسألة الأولى: فإن كانت الثمرة قد ظهرت، فإنه لا يجوز بيعها لنهي النبي -صلى الله عليه وسلم- عن بيع الثمرة حتى يبدو صلاحها إلا إن باعها لمالك الأصل، فيصح على الصحيح من المذهب، وإن كانت الثمرة لم تظهر فباعه عمله وتعبه. فقد نص الإمام أحمد على أنه: لا يجوز للمزارع بيع عمله قبل ظهور الزرع، قال: لأنه لم يجب له شيء. وسئل الشيخ عبد الله بن محمد بن زهلان عن بيع العامل تعبته إذا أراد الظهور، فأجاب بأن ذلك لا يصح، لكن إذا كانت المساقاة صحيحة، فعليه تمام العمل، قال: فلو دفع إليه شيئا، وقال: أنا أقوم مقامك، ثم يتحاسبان، صح ذلك. انتهى. فَلْيُتَأمَّل قوله: "ثم يتحاسبان"، ولعل مراده أنه إذا دفع إليه شيئا، ثم حاسبه بعد ذلك بما غرم في سقيه، ويحسبه مما دفع إليه، فيصح على هذا الوجه لا على وجه البيع. والله أعلم. وأما الرهن فحكمه حكم البيع، فما صح بيعه، صح رهنه، وقد نصوا على أنه لا يصح رهن الثمرة قبل ظهورها، فعدم صحة رهن العمل أولى. [رهن الثمرة قبل ظهورها] وأما المسألة الثانية، فالذي أرى -والله أعلم- أنه يؤمر المرتهن بتقويم الكداد ببيع ونحوه دفعا لضرره إن لم يخف فوات مال المرتهن المقوم عند الكداد، فإن خيف فوات مال المقوم، فلا يزال الضرر بالضرر.

الرسالة السابعة

فأما أن يقال للكداد: ضمم كدك، أو يستأجر من يسقيه ويقوم عليه، وكذلك إذا عجز المقوم بأن لم يبق في يده ما يخرجه على الكداد، فأما أن يترك له بعض الكد، ويترك بعضه لمن يقومه بقية المدة، ونحو ذلك، ومما يرى فيه نظر للكل. وأما قول بعض الناس للمقوم إذا عجز أو خاف تلف ماله: أنفق وإلا قدمنا عليك من يقوم الكد، فهذا ليس بصواب. كيف يزال ضرر الكداد بضرر غريمه المنفق عليه؟! والذي نراه في مثل هذا النظر إلى حال الاثنين، ورفع الضرر مهما أمكن عنهما، ولا يزال ضرر أحدهما بارتكاب ضرر الآخر. والله سبحانه وتعالى أعلم. [الرسالة السابعة] بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله بن عبد الرحمن (أبا بطين) إلى جناب الشيخ المكرم الأخ علي بن فراج سلمه الله تعالى. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته والخط وصل. وما ذكرت من المسائل الثلاث: [شراء طعام بثمن ربوي نسيئة] فالمسألة الأولى: إذا اشترى إنسان من آخر طعاما يجري فيه الربا بنسيئة، ثم اشترى منه بذلك الثمن ما لا يجوز به بيعه نسيئة. ففي المسألة خلاف مشهور، فمذهب أحمد وطائفة تحريم ذلك، ومذهب الشافعي جوازه. واختار الشيخ تقي الدين جواز ذلك للحاجة. وكثير من أهل الزمان لو يأخذ منه غريمه طعاما ما أوفاه فلو امتنع من أخذ الطعام ذهب حقه، فالظاهر أن الشيخ يجيز ذلك؛ لأن هذا حاجته

أبلغ من احتياجه إلى الطعام، والحنابلة يتوصلون إلى إجازة ذلك بأن يشتري الذي له الدين من غريمه الطعام بثمن في الذمة؛ فإذا ثبت الثمن في ذمة المشتري الثاني قال لغريمه: في ذمتك لي -مثلا- ريال، وفي ذمتي لك ريال، فهذا بهذا، ولا ينقدك شيئا؛ ويسمون هذا مقاصة، وهو جائز عندهم، والله أعلم. [الصلاة في ثوب نجس لا يجد غيره] وأما المسألة الثانية: وهي ما إذا صلى إنسان في ثوب نجس لكونه لا يجد غيره، أو على بدنه نجاسة، لا يمكنه إزالتها؛ فهذا يصلي على حسب حاله، وهل يجب عليه إعادة أم لا؟ فقد حكوا فيمن لم يجد إلا ثوبا نجسا، وصلى فيه هل عليه إعادة؟ حكوا في المسألة قولين للعلماء، هما روايتان عن أحمد، والمشهور عن أحمد أنه يعيد، والله أعلم. [رمي البعير الذي لا يقدر على تذكيته] وأما المسألة الثالثة: وهي ما إذا رمى إنسان بعيرا، ولم يمكنه تذكيته، فهذا إذا شرد البعير، أو سقط في بئر، ولم يمكن نحره؛ فهذا حكمه حكم الصيد إذا رماه إنسان، فإن أدركه حيا حياة مستقرة، فلا بد من ذبحه. فإن لم يكن فيه حياة إلا مثل حياة المذبوح، فلا يحتاج إلى تذكية، وإن أصابه وغاب عنه، ثم وجده ميتا، ولا أثر به غير رميه، فإنه يباح، ويشترط التسمية عند رميه قاصدا قتل المرمي. وهذا حكم البعير الشارد، أو المتردي في بئر ونحوها، والله أعلم والسلام. انتهى، ومن خطه نقلت.

الرسالة الثامنة

[الرسالة الثامنة] بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله بن عبد الرحمن (أبا بطين) إلى جناب الشيخ المكرم علي بن فراج سلمه الله تعالى. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وموجب الكتاب إبلاغ السلام، والسؤال عن حالك، والخط الشريف وصل، وما ذكرت من حال المسائل: [بيع الرهن لسداد الدين] فرهن المعسر داره في دينه، أنت تعرف المذهب في أن دار المعسر لا تباع في دينه، لكن إذا رهنها في دين عليه اختيارا، فنحن نفتي ببيعها لوفاء ذلك الدين، فإذا كان هو فيها ولم يحل بين المرتهن وبينها، فلا يخفاك ما في اشتراط القبض للزوم الرهن من الخلاف، وإن المشهور في المذهب اشتراطه مطلقا. وعن أحمد رواية أخرى أنه لا يشترط في المتعين، اختارها كثير من الأصحاب، وقال بعضهم: إنها هي المذهب، والذي أدركنا عليه من قبلنا عدم اشتراطه القبض في مثل الدار والعقار ونحوهما، ويقضون بلزومه في مثل ذلك من غير اشتراط قبض، ونحن نقضي به فيما مضى، والشيخ عبد الرحمن بن حسن يشترط القبض في الجميع كما هو المشهور عند أكثر الأصحاب. [السلم في المجهول] وأما إذا أسلم رجل على آخر، مثل ما أسلم فلان على فلان، فهذا سلم فاسد، بل لا بد من تقديره بالكيل أو الوزن في مجلس العقد، والحديث الصحيح نص في ذلك. وأما ما ذكره الشيخ تقي الدين، وابن القيم من صحة البيع بثمن المثل، أي: بما ينقطع به السعر، وبما باع به فلان، فلا يقولان بذلك في السلم فيما أظن؛ لأنهما إنما ذكرا ذلك في البيع فقط، مع

أن الشارح قال: لا نعلم في اشتراط ذلك خلافا، والله أعلم. [التصرف في ثمن البيع الفاسد] وأما إذا باع الرجل بيعا فاسدًا، وقبض الثمن، ودفعه إلى غيره عن دين عليه، أو اشترى به منه شيئا، فإن صاحب الثمن الذي دفعه في الشراء الفاسد يرجع بثمنه على من هو في يده أو على البائع لكون قبض البائع للثمن، والحالة هذه، قبضا فاسدا، فيرجع دافع الثمن على مَن أَحَبَّ مِنْ البائع أو مَنْ قبضه من البائع، هذا في البيع الفاسد. وأما إذا كان فسخ البيع لأجل عيب في المبيع، فإن المشتري يرجع بثمنه على البائع فقط، لا على من قبضه من البائع؛ لكون قبض البائع قبضا صحيحا لصحة العقد، فليس له مطالبة غير البائع بالثمن، سواء كان معسرا أم لا. وأما إذا غرم المسروق ماله شيئا بسبب ذلك، فإنه يرجع به على السارق، لكونه السبب في ذلك، كما قاله الشيخ تقي الدين فيما إذا مطله غريمه فاحتاج إلى الشكاية، فما غرم بسببه لزم المماطل، وقال: لو غرم بسبب كذب عليه عند ولي الأمر، رجع به على الكاذب. انتهى، فمسألتنا أولى بالرجوع. وقد صرح بعض المتأخرين بأنه لو لم يحصل له ما سرق منه إلا ببذل بعض المال لحليف ونحوه، أنه يرجع بذلك على السارق. وأما إذا تنازع اثنان في أرض، فإن كان التنازع في الملك، فقد ذكر الفقهاء في ذلك من التفصيل ما ذكروا فيما إذا كانت في أيديهما، أو يد غيرهما، أو يد أحدهما، أو ليست في يد أحد، وفيما صرحوا به كفاية. [تحجر إنسان مواتا بما يعد تحجرا] وأما إذا تحجر إنسان مواتا بما يعد تحجرًا، كما ذكروه في باب إحياء الموات، فإنه أحق بها من غيره. وقد بين الفقهاء حكم المسألة في إحياء الموات. [التنازع على أرض ميتة] وأما إذا تنازعا أرضا ميتة، كل منهما يريدها له، ولم يسبق أحدهما الآخر، فلم أر صريحا في هذه

الرسالة التاسعة

المسألة من كلامهم، ولعل اقتسامهما على السواء -والحالة هذه- يشبه ما ذكروه في بعض المسائل. [زرع إنسان أرضا لغيره بجزء من الزرع] وأما إذا زرع إنسان أرضا لغيره بجزء من الزرع، فلا يلزم العامل إلا زكاة حصته خاصة، لكن إن شرط الزكاة على العامل، هل يصح أم لا؟ والله أعلم. [الرسالة التاسعة] بسم الله الرحمن الرحيم من محمد بن عبد الله بن مانع، إلى جناب الشيخ المكرم عبد الله بن عبد الرحمن (أبا بطين)، سلمه الله تعالى. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. (وبعد): فالموجب الكتاب إبلاغ السلام وغير ذلك. فما قولك -أدام الله النفع بعلومك- في دين السلم الثابت في الذمة، هل يصح الشراء به من صاحبه الذي هو في ذمته عرضا: كأرض، أو نخل، أو غير ذلك، أم لا؟ (الثانية): هل يصح السلم بالعروض كالحيوان وغيره. (الثالثة): هل يصح السلم في السمن بمطعوم مكيل أو موزون، أم لا؟ (الرابعة): هل يصح بيع اللحم بمطعوم مكيل أو موزون نسيئة، أم لا؟ أفتنا أثابك الله الجنة بمنه وكرمه. بسم الله الرحمن الرحيم وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته. (وبعد): فالجواب -وبالله التوفيق-: [شراء عرض بدين السلم] (أما المسألة الأولى): فلا يجوز عند أكثر العلماء أن يأخذ عوضا عن دين السلم ممن هو في ذمته، واحتجوا بحديث "من أسلم في شيء، فلا يصرفه إلى غيره"1 وعن أحمد رواية أخرى: أنه يجوز أن يأخذ عرضا بدون حقه، اختاره الشيخ تقي الدين؛ لقول ابن عباس: "إذا أسلفت في شيء

_ 1 أبو داود: البيوع (3468) , وابن ماجه: التجارات (2283).

الرسالة العاشرة

فإن أخذت ما أسلفت فيه، وإلا فخذ عرضا أنقص منه، ولا تربح مرتين". وعند مالك: يجوز أن يأخذ غير طعام يتعجله ولا يتأجله. فبان لك أن الجمهور على المنع مطلقا. واختيار الشيخ تقي الدين الذي هو رواية عن أحمد ما ذكرته، وعليه عمل أهل هذه البلدان فيما مضى، والله أعلم. [السلم بالعروض] (وأما الثانية): فيجوز جعل رأس مال السلم عرضا من العروض على الصحيح. [السلم في السمن بمطعوم مكيل أو موزون] (وأما الثالثة): فإن قلنا: إن السمن موزون، جاز أن يسلم فيه بمكيل، وإن قلنا: إنه مكيل، جاز أن يسلم فيه بموزون. وبعض الأصحاب يقول: إن السمن إذا كان جامدا موزون، وإن كان مائعا فهو مكيل. فعلى هذا إن أسلم مكيلا في سمن، اشترط أن يقبضه جامدا وزنا، وإن أسلم فيه موزونا: اشترط أن يأخذه مائعا كيلا. هذا الذي يظهر بناء على المشهور في المذهب من أنه يجوز بيع المكيل بالموزون نسيئة، وعلى القول الآخر لا يجوز مطلقا. [بيع المكيل بالموزون نسيئة] (وأما الرابعة): فيظهر جوابها من التي قبلها، وهو جواز بيع المكيل بالموزون نسيئة على المشهور في المذهب؛ فعلى هذا يجوز بيع البر ونحوه مما يكال بلحم نسيئة. وفي المسألة رواية أخرى: لا يجوز، وهو قول طائفة من العلماء. والله -سبحانه وتعالى- أعلم. وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم. [الرسالة العاشرة] بسم الله الرحمن الرحيم. من محمد بن عبد الله بن مانع إلى جناب الشيخ المكرم عبد الله بن عبد الرحمن (أبا بطين) سلمه الله تعالى. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. (وبعد): فأفتنا -أثابك الله الجنة- هل يصح الخيار في السلم؟ وعن الرهن والضمين فيه؟ وهل قبض الرهن واستدامة قبضه شرط للزوم الرهن أم لا؟ وما صورة القبض في غير

################

الرسالة الحادية عشر

بشرط في المتعين، فيلزم بمجرد القبض. قال القاضي في "التعليق": هذا قول أصحابنا، وقال في "التلخيص": هذا أشهر الروايتين، وهو المذهب عند ابن عقيل، وغيره، والله -سبحانه وتعالى- أعلم. [الرسالة الحادية عشر] بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله بن عبد الرحمن (أبا بطين) إلى الأخ المكرم سلمان بن عبد المحسن سلمه الله تعالى. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وموجب الخط إبلاغ السلام. [حرق ورق المصحف أو دفنه] وما ذكرت من جعل أوراق المصحف في قطائع، فلا ينبغي ذلك، لأن في ذلك ابتذالا له ينافي تعظيمه، فيتعين تغيير ذلك إما بالدفن، ولا بأس بدفنه بصحراء أو بمسجد، وإن حرق فلا بأس؛ لما في البخاري: إن الصحابة حرقته -بالحاء المهملة- لما جمعوه، قال ابن الجوزي: ذلك لتعظيمه وصيانته. وروي أن عثمان رضي الله عنه دفن المصاحف بين القبر والمنبر. [التشريك في سبع البدنة أو البقرة في الأضحية] وأما مسألة التشريك في سبع البدنة أو البقرة، فلم أر ما يدل على الجواز، ولا على عدمه، وإن كان بعض الذين أدركنا يفعلون ذلك، لكني ما رأيت ما يدل عليه، والله سبحانه أعلم. [ما يعمله من يتصدق عليه بجلد الأضحية أو لحمها] وأما الذي يتصدق عليه بجلد الأضحية أو لحمها، أو يهدى إليه ذلك، فإنه يتصرف فيه بما شاء من بيع وغيره. [حكم المقاصة] وأما مسألة المقاصة فتفهم كلامهم فيها، وصرح صاحب "المغني" بجواز المقاصة، لكن ذكر الخلوتي بحثا فقال: لعل ذلك ما لم يكن حيلة، ومراده في صورة المقاصة، وفيما إذا اشترى بثمن نقده ثم أوفاه به، ولا يبعد المنع من ذلك مع الحيلة، والله أعلم.

الرسالة الثانية عشر: الصدقة عن الميت يدفعها لقريبه الحي

[الرسالة الثانية عشر: الصدقة عن الميت يدفعها لقريبه الحي] بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله بن عبد الرحمن (أبا بطين) إلى الأخ المكرم صالح بن عبد الرحمن بن عيسى، سلمه الله تعالى. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، والخط الشريف وصل، أوصلك الله إلى كل خير. ومن طرف ما سألت عنه: (فالمسألة الأولى): فمن أحسن ما تفعل إذا أردت الصدقة للميت أن تعطي صدقتك له قريبه الحي، فالحي ينتفع بها، والثواب يحصل للميت إن شاء الله. وإحسانك -أيضا- إلى قريب الميت صلة للميت، فهذا أحسن ما أرى لك، فإن أعطيت الحي شيئا، وقلت: تصدق بهذا عن ميتك، فحسن؛ لكن قد يكون الحي محتاجا، فإعطاؤك إياه الشيء له ينتفع به بنفسه، وتنوي ثوابه للميت، أحب عندي. هذا إذا أردت الإحسان إلى أموات قرابتك، وصلتهم بالصدقة عنهم، وأنت على الثواب والأجر إن شاء الله بإحسانك إلى الميت والحي، ولكن كون غالب صدقتك تبقى ثوابها لك وحدك، وتعطيها قريبا محتاجا ينتفع بها، فهو أحسن، ومع هذا فلا تنسى الأموات ببعض الشيء صلةً لهم، وتخص نفسك بالكثير، فهو الأولى والأفضل، والله أعلم.

الرسالة الثالثة عشر

[الرسالة الثالثة عشر] بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين من عبد الله بن عبد الرحمن (أبا بطين) إلى الأخ المكرم صالح بن عبد الرحمن بن عيسى -سلمه الله تعالى-، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، [إخراج الزكاة عن الذهب والفضة] ومن حال ما ذكرت فلا شك أن الأفضل أن يخرج عن الذهب والفضة منهما لا من غيرهما، لكن إذا كان الشيء قليلا، والمستحق كثيرا، فأرجو أنه يجوز إخراج القيمة تمرا أو عيشا، والمحتاج الذي في بيته ما يسأل الناس أولى من الذي يسألهم. [زكاة الدين الذي في ذمم الناس] (وأما) الدَّيْنُ الذي في ذمم الناس، فلا يجب الإخراج عنه حتى يقبضه صاحبه، فإذا قبض شيئا أخرج زكاته. (وأما) إخراجها إذا حال الحول قبل قبضه، فهو أفضل، لكن لا يجب إخراج الزكاة قبل قبضه. [إعطاء الزكاة للأقارب] (وأما) إعطاء عيال إخوانك وأخواتك، فهو جائز -إن شاء الله تعالى-؛ فيجوز إعطاء إخوانك وأخواتك وعمتك، وكذلك بنات عيال أخيك يجوز إعطاؤهن. (وأما) القوي من عيال أخيك، فإن لم يكن كسب يكفيه، جاز أن يعطى من الزكاة. فإن كان لو يحترف كفى نفسه بحرفته، ولكن يترك الحرفة تكاسلا، فلا يُعْطَى منها. وأخوك سليمان يجوز إعطاؤه، ولكن نقلها في هذه المسافة فيه خلاف بين العلماء. وأرجو أن القول بجوازه للقريب ونحوه صواب، وأرجو أنه لا بأس إذا أرسلت إليه شيئا من الزكاة أو لعياله.

[القيلولة في المسجد] (وأما) مسألة التقدم للمسجد في مثل الظهر والقيلولة فيه، فإن كان الإنسان قصد المسجد لانتظار الصلاة المفروضة، فيصلي ما تيسر من النوافل، ثم يجلس في المسجد يقرأ القرآن أو يذكر الله، وهذا قصده، لكن في نيته إن حدث عليه نعاس، نام في المسجد، لم يقصد القيلولة فيه عادة، فهذا حسن -إن شاء الله تعالى-. (وأما) إن كان نيته أنه يقصد المسجد ليضع عصاه في الصف، ويصلي ما تيسر، ثم ينام، أعني: أنه قاصد النوم فيه، وعازم عليه، فهذا مكروه، أعني: اتخاذ المسجد مقيلا، فالأفضل في حق هذا أن يقيل في بيته، فإذا قضى حاجته من النوم، تطهر، وقصد المسجد. (وأما) جلوسه في سطح المسجد بين العشاءين لأجل البراد ونحوه، فلا بأس بذلك. [اتخاذ السترة في الصلاة] (وأما) السترة، فقد ذكر العلماء: أن المأموم لا يستحب له اتخاذ السترة وإنما اتخاذها مسنون للإمام والمنفرد، وكذلك يسن القرب منها بقدر ثلاثة أذرع من قدميه إليها. واتخاذ السترة سنة لا واجب، فإن مر بين يدي الإمام ما يبطل مروره الصلاة: كالكلب، والحمار، بطلت صلاته وصلاة المأمومين؛ وإن مر بين يديه ما لا يبطلها كمرور الرجل، لزمه دفعه، فإن لم يفعل، فالإثم عليه. [التضحية ممن لم يصل العيد] (وأما) الذي ضحى بعد صلاة الإمام فأضحيته مجزية، ولو لم يصل، لأن العبرة بصلاة الإمام لا صلاة كل إنسان بنفسه. ومِن طرف الصدقة بثمن الضحية، فذكر العلماء أن ذبحها أفضل من الصدقة بثمنها مطلقا. ومن طرف ما سألت عنه من الاقتصار في التراويح على أقل من عشرين ركعة، فلا بأس بذلك، وإن زاد فلا بأس.

الرسالة الرابعة عشر: ضمان ما تلف من ثمن المبيع

قال الشيخ تقي الدين: له أن يصلي عشرين كما هو المشهور في مذهب أحمد والشافعي، قال: وله أن يصلي ستة وثلاثين ركعة كما هو مذهب مالك، قال الشيخ: وله أن يصلي إحدى عشرة، أو ثلاث عشرة، قال: وكله حسن كما نص عليه الإمام أحمد. قال الشيخ: فيكون تكثير الركعات، وتقليلها بحسب طول القيام وقصره، وقد استحب أحمد أن لا ينقص في التراويح عن ختمه، يعني: في جميع الشهر، والله -سبحانه وتعالى- أعلم. [الرسالة الرابعة عشر: ضمان ما تلف من ثمن المبيع] بسم الله الرحمن الرحيم من محمد بن عبد الله بن مانع إلى جناب شيخنا المكرم الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن (أبا بطين) سلمه الله تعالى. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. (وبعد): فالموجب لتحرير الكتاب إبلاغ جنابك الشريف جزيل السلام والتحية، والاحترام وغير ذلك -أمتعنا الله تعالى بحياتك- فقد أشكل علينا ما إذا اشترى رجل ذهبا بفضة معلومة نسيئة، وأعطى زوجته الذهب، فباعته وأخذت ثمنه. ثم مات الزوج، وضاقت التركة عن وفاء دينه، تبينا أن العقد باطل، وقد أتلفت المرأة الذهب، ولم يُعلم المشتري الثاني، فمن يستقر الضمان عليه؟ أفتنا أثابك الله الجنة بمنه وكرمه. بسم الله الرحمن الرحيم وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته. (وبعد): فالجواب -وبالله التوفيق-: لبائع الذهب تضمين من شاء من الثلاثة المشتري منه، وزوجته، والمشترِي منها إن علم، ويستقر الضمان عليه، فلو ضمنه المالك القيمة، رجع على المرأة بما دفع من الثمن فقط، هذا هو الظاهر من كلام

################

مسائل سئل عنها الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن (أبا بطين)

بسم الله الرحمن الرحيم هذه مسائل سئل عنها الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن (أبا بطين) * رحمه الله تعالى: الأولى: فيما إذا كان لإنسان على آخر دين، وقال: دينك قادم في هذا الزرع أو هذه الثمرة، هل يكون هذا رهنا أم لا؟ وفي رجل عليه دين، ولا يفي دينه بما عليه، وعند إنسان له رهن هل صاحب الرهن مقدم على من سواه؟ وفيما إذا امتنع الراهن من قضاء الدين، وأبى أن يأذن في بيع الرهن، وتعذر إجباره، وتعذر الحاكم، فهل إذا قام عدل، وباع الرهن، فقضى الدين، هل ينفذ تصرفه أم لا؟ وهل إذا أعطت الأم ابنتها الصغيرة حليا تلبسه، ولم يقبضه وليها لها، وليست ذات زوج، فهل تملكه أم لا؟ وهل إذا شرط البائع للثمرة بعد بدو صلاحها على المشتري القطع، فتلفت بجائحة أو تعيبت بها، فهل يكون ضمانها على المشتري أم لا؟ وهل إذا باع الراهن الرهن بغير إذن المرتهن، فهل يكون بدله الذي أبدله به رهن، والحالة هذه أم لا؟ وإذا ادعى إنسان على آخر عقارا، فقال المدعَى عليه: ورثته من أبي، ولم أعلم لك فيه حقا، هل تقبل يمينه هذه على صفة جوابه؟ وإذا ادعى إنسان شيئا أنه يملكه الآن، وشهدت البينة أنه كان له أمس، أو لأبيه قبل موته إلى أن مات، هل تسمع أم لا؟ أفتونا مأجورين. الجواب وبالله التوفيق: [رهن الزرع بالدين] أما المسألة الأولى: فيما إذا قال: حقك أو دينك قادم في هذا الزرع ... إلخ، فهذا ليس برهن، وإنما هو وعد، فيصير المقول له ذلك أسوة الغرماء، وإن

_ * تقدم ذكر هذه المسائل في 1/ 674. [معد الكتاب للمكتبة الشاملة]

لم يكن غريم غيره، فيستحب للقائل الوفاء بوعده، ولا يجب عند أكثر العلماء. [المرتهن أحق بثمن الرهن من سائر الغرماء] وأما إذا ضاق مال الإنسان عن دينه، وكان له عين مرهونة عند بعض الغرماء؛ فإن المرتهن أحق بثمن الرهن من سائر الغرماء إذا كان رهنا لازما بلا نزاع. قال في الشرح: لا نعلم فيه خلافا، فإن كان الراهن حين الرهن قد ضاق ماله عن دينه، نبني صحة رهنه على جواز تصرفه وعدمه، وهو أنه هل يكون محجورا عليه إذا ضاق ماله عن ديونه بغير حكم حاكم، كما هو قول مالك، ويحكى رواية عن أحمد، اختاره الشيخ تقي الدين؟ أو لا يكون محجورا عليه إلا بحكم حاكم، كما هو قول أبي حنيفة والشافعي وأحمد في المشهور عنه؟ [امتنع الراهن من قضاء الدين] وأما إذا امتنع الراهن من قضاء الدين ... إلخ فقال الشيخ تقي الدين*: "جوز بعض العلماء للمرتهن دفع الرهن إلى ثقة يبيعه، ويحتاط بالإشهاد على ذلك، ويستوفي حقه إذا تعذر الحاكم، ولم يكن الراهن قد أذن للمرتهن في بيع الرهن بعد حل الأجل". انتهى. وهذا قول حسن -إن شاء الله تعالى- تدعو الحاجة إليه في كثير من البلدان والأزمان، والله أعلم. [نحلة الأبوين لبنتهما] وأما إذا ألبست الأم ابنتها حليا ... إلخ، فقد رأيت في ذلك جوابا لأحمد بن يحيى بن عطوة، فإنه سئل عما إذا وجد على البنت الصغيرة حلي وثياب فاخرة، فما حكم ذلك؟ وهل تسمع دعوى الأم أن ذلك لها، وإنما ألبستها إياه تجميلا، أو دعوى الورثة أنه لموروثهم، وإنما جملها به؟ وهل بين الصغيرة والكبيرة فرق في ذلك، أم لا؟ وهل ذلك عام بالأب والأم؟ أفتونا مأجورين. أجاب رحمه الله تعالى: الظاهر من شواهد الأحوال والعرف والعادة المستمرة أن تجميل الأبوين بنتهما بكل ما يعد تجميلا أنه تخصيص لها

_ * هذه المسألة في "مجموع الفتاوى" 29/ 538. [معد الكتاب للمكتبة الشاملة]

بذلك دون سائر من يرثهما، إذا لم تجر عادتهما بأنه عارية تجري عليها أحكامها، إذا علم ذلك فلا كلام لسائر الورثة في ذلك بعد موت المخصص المعطي للزوم ذلك بموته، كما صرح به الأصحاب، والتخصيص سائغ أيضا: في مسائل كفقر وعلم ونحوهما في رواية. وأما الأم فإن أقامت بينة شرعية أن ذلك لها، وأنه عارية ساغت دعواها، وإلا فلا فرق بين الصغيرة المميزة والكبيرة في ذلك. وأما غير المميزة فمحل نظر وتأمل، والذي يظهر لي أن ذلك عام في الأب والأم، وإنما يعد الأب لأنه الغالب، والشيء إذا خرج مخرج الغالب لا مفهوم له ... إلى أن قال: فحيث ثبت إمكان مِلك البنت في المسألة المذكورة بما ذُكر، فلا يجوز انتزاع ما صار إليها، إلا بدليل راجح يسوغ المصير إليه شرعا. انتهى. ومن جواب للشيخ سليمان بن علي بن مشرف -رحمه الله تعالى- وقد سئل عن هذه المسألة: إذا كان الحلي على البنت، ولو لم تذهب به إلى بيت زوج، وادعته الأم، لم تقبل إلا ببينة أنه للأم، وأنه على البنت عارية. ولو أقامت الأم بينة أنها التي اشترته، لم تقبل حتى تقول: وهو على البنت عارية. انتهى. [بيع الثمرة بعد بدو صلاحها بشرط القطع] وأما إذا باع الثمرة بعد بدو صلاحها بشرط القطع، فقدم في الشرح وغيره: يجوز هذا الشرط، وهو ظاهر. وإذا تلفت والحالة هذه، فإن كان تلفها قبل تمكن المشتري من أخذها، فهي من ضمان بائع، وإن كان تلفها بعد التمكن من أخذها، فهي من ضمان مشترٍ، لتفريطه. وقد صرح الأصحاب فيما إذا اشترى ثمرة قبل بدو صلاحها بشرط القطع، فتلفت بجائحة سماوية بعد تمكنه من قطعها، فهي من ضمانه، وإن تلفت قبل تمكنه من قطعها، فهي من ضمان بائع؛ لعموم الحديث.

################

مسائل سئل عنها الشيخ العالم العلامة عبد الله بن عبد الرحمن (أبا بطين)

صلى الله عليه وسلم"1؛ ولأنه لا يمكنه الإحاطة بفعل غيره بخلاف فعل نفسه، فوجب أن لا يكلف اليمين فيه على البت. وأما إذا ادعى أن هذه العين له الآن، وشهدت البينة بأنها كانت له أمس، أو أنها كانت في يده أمس، لم تسمع بينة لعدم تطابق البينة والدعوى. قال في الإنصاف في أصح الوجهين: حتى يتبين سبب يد الثاني نحو غاصبه بخلاف ما لو شهدت أنه كان ملكه، اشتراه من رب اليد، فإنها تقبل انتهى. وأما إذا شهدت البينة بأن هذه العين لهذا المدعي بهذه الصيغة، كفى ذلك، وسلمت إلى المدعي، ولو لم تقل وهي في ملكه الآن. وأما إذا ادعى أن هذه العين كانت ملكا لأبيه أو أمه أو أخيه، ومات وهي في ملكه، فصارت لي بالميراث، فإن شهدت البينة بأن هذه العين كانت ملكا لأبيه ونحوه، ومات وهي في ملكه سمعت البينة بذلك، وإن قالت البينة كانت ملكا لأبيه ونحوه، ولم تشهد بأنه خلفها تركة، لم تسمع هذه البينة. وفي الفروع والإنصاف عن الشيخ تقي الدين -رحمه الله- أنه قال فيمن بيده عقار، فادّعى آخر بثبوت عند حاكم أنه كان لجده إلى موته، ثم لورثته، ولم يثبت أنه مخلف عن موروثه - لا ينزع منه بذلك؛ لأن أصلين تعارضا، وأسباب انتقاله أكثر من الإرث، ولم تجر عادتهم بسكوتهم المدة الطويلة، ولو فتح هذا الباب لانتزع كثير من عقار الناس بهذا الطريق، والله -سبحانه وتعالى- أعلم. ... هذه مسائل سئل عنها الشيخ العالم العلامة عبد الله بن عبد الرحمن (أبا بطين) رحمه الله تعالى، ونصها:- ما يقول شيخنا وأستاذنا الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن (أبا بطين)

_ 1 أبو داود: الأيمان والنذور (3244).

أيده الله تعالى عن مسائل أشكلت علينا، وهي: الشفعة، هل تثبت للشريك مطلقا، أم لا تثبت إلا فيما يقسم قسمة إجبار؟ وعن ما إذا رهن إنسان شيئا معلوما في دين معلوم، وأراد الراهن أن يستدين من غير المرتهن، ويرهن عنده ما فضل بعد قدر دين المرتهن الأول، هل يصح ذلك أم لا؟ وعن ما إذا مات إنسان مسلم وله أولاد منهم مسلم وكافر، فأسلم الكافر بعد مدة طويلة أو غير طويلة، وبعض التركة بحاله، لم يبع، ولم يرهن، ولم يقسم، هل يرث الكافر من ذلك أم لا؟ وعما إذا وقف إنسان وقفا على مدرسة معينة أو سراج يوقد في مسجد معين، هل يجوز صرفه إلى مدرسة، أو مسجد غير ما عينه الواقف؟ وعما إذا ثبت لإنسان على إنسان دين، ثم ثبت على من لهم الحق دين لإنسان آخر، وقال للمدين الأول: لا تعط ديانك إلا بحضرتي؛ فإني قارع ما عليك له في يدك، فلم يعمل بقوله، وأوفى غريمه مع غيبة من قرع الدين في يده، هل يلزمه ضمان ما قرع في يده أم لا؟ وعن رجل وقف نخلة أو نخلتين -مثلا- يشتري بغلة ذلك الوقف أضحية كل سنة، واحتاج ولد الواقف حاجة شديدة، ربما أن من احتاج مثل حاجته يموت جوعا، هل يجوز بيع أصل الوقف أم لا؟ وإذا لم يبع الأصل فهل يجوز صرف الغلة إلى من احتاج من ولده، أم يلزم الوصي أن يشتري بها أضحية، ويمنع ورثته أكل الغلة مع حاجتهم؟ أفتونا مأجورين. (الجواب) وبالله التوفيق: [ما تثبت فيه الشفعة] أما المسألة الأولى: ففيها عن الإمام أحمد روايتان: (إحداهما): وهي المذهب عند أكثر الأصحاب: لا تجب الشفعة إلا فيما يقسم قسمة إجبار، فلا تجب في الدار الضيقة، والبئر، ونحو ذلك، لحديث جابر مرفوعا: أنه قضى بالشفعة في كل ما لم يقسم، فإذا وقعت الحدود وصرفت

الطرق فلا شفعة. قالوا: والحدود إنما تقع فيما يقبل القسمة ما لم يقسم. (والرواية الثانية): ثبوت الشفعة في ذلك، اختارها ابن عقيل، والشيخ تقي الدين وغيرهما، قال الحارثي: وهو الحق. وروى عبد الله بن أحمد عن عبادة مرفوعا: أنه قضى بالشفعة بين الشركاء في الدور والأرضين. [رهن المجهول] المسألة الثانية: إذا رهن إنسان شيئا معلوما ... إلخ، فنقول هذا رهن فاسد 1 لأن من شرط صحة الرهن أن يكون معلوما، وهذا ليس كذلك. وقد اختلف الفقهاء فيما إذا أرهن إنسان إنسانا شيئا في دين له، ثم قال الغريم: يعني كذا بكذا، ويكون الرهن الذي عندك رهنا به وبالدين الأول، والمذهب أن ذلك لا يصح. وأما الصورة المسؤول عنها، فلا أظن أن أحدا يجوزها. وقد ذكر في الشرح وغيره عدم صحة رهن المجهول كما لو قال: أرهنتك هذا الجراب بما فيه، ونحو ذلك، ولم يذكر في ذلك خلافا، والمسألة المسؤول عنها أولى بعدم الجواز؛ لأنه لا يعلم هل يبقى منها شيء بعد استيفاء المرتهِن الأول حقه أم لا، وهذا ظاهر لا خفاء به، ولله الحمد. [أسلم من الورثة قبل قسمة التركة] المسألة الثالثة: إذا مات مسلم ... إلخ، ففي هذه المسألة عن الإمام أحمد. روايتان: إحداهما وهي المذهب: أن من أسلم من الورثة قبل قسمة التركة - ورث، وكذلك إن أسلم وقد قسم بعضها، ورث مما لم يقسم، واحتجوا بما روى أبو داود عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "كل قسم قسم في الجاهلية فهو على ما قسم، وكل قسم أدركه الإسلام فهو على ما قسم الإسلام"2، وبما روى سعيد بن منصور في سننه عن عروة بن

_ 1 يريد به الرهن الثاني المذكور في أصل المسألة، وهو ما فضل عن الرهن الأول فهو مجهول. 2 أبو داود: الفرائض (2914) , وابن ماجه: الأحكام (2485).

أبي مليكة عن -النبي صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "من أسلم على شيء فهو له". ويروى أن عمر، وعثمان، قضيا بذلك. وعلى هذه الرواية إن كان الوارث واحدًا، فتصرفه في التركة، وحيازتها بمنزلة قسمها؛ ذكر ذلك الموفق، وغيره. والرواية الثانية: لا شيء له، لحديث "لا يرث المسلم الكافر، ولا الكافر المسلم"1. وهذا حين الموت كان كافرا؛ فلا يرث بمقتضى هذا الحديث، وهذا قول أكثر العلماء، والقول الأول من مفردات المذهب. [الوقف على شيء معين] المسألة الرابعة: إذا وقف إنسان وقفا على مدرسة معينة ... إلخ، فقد صرح الفقهاء بأن هذا شرط يجب العمل به، وإنما تنازعوا فيما فضل عن الجهة المعينة، فنص أحمد أن ما فضَل من وقف المسجد من حصره وزيته، عن حاجته، يجوز صرفه إلى مسجد آخر، ويجوز الصدقة به على فقراء المسلمين. وعنه رواية أخرى: يجوز صرفه في مثله دون الصدقة به. وقيل: إن علم أن ريعه يفضل عنه دائما، وجب صرفه، وإلا فلا، قاله الشيخ تقي الدين. [أوفى غريمه مع غيبة من قرع الدين في يده] المسألة الخامسة: إذا ثبت لإنسان على آخر دين ... إلخ، فلم أر للفقهاء في هذه المسألة نصا، ومقتضى أصولهم أنه لا يلزم المقول له إبقاء ما عنده، فإذا أعطى صاحب الحق حقه لم يكن ضامنا، لأنه ليس ضامنا، ولا محالا عليه، ومقتضى قوله -صلى الله عليه وسلم-: "أد الأمانة إلى من ائتمنك"2 - وجوب الدفع إلى المستحق حقه ولا يمنعه حقه بمجرد قول إنسان: لا تعطه، وقد يثبت لهذا القائل حق، وقد لا يثبت، ولكن ينبغي للمدعي رفع الأمر للحاكم، إن كان ثَم حاكم، وينظر الحاكم فيه بمقتضى الشرع إن رأى الحكم على الغائب، وقضى للمدعي بما ادعى به، وإن أمكن إحضار المدعى عليه - أحضره مع خصمه، ونظر في أمرهما، هذا ما ظهر لي، والله -سبحانه وتعالى- أعلم.

_ 1 البخاري: الفرائض (6764) , ومسلم: الفرائض (1614) , والترمذي: الفرائض (2107) , وأبو داود: الفرائض (2909) , وابن ماجه: الفرائض (2729,2730) , وأحمد (5/ 200,5/ 201,5/ 202,5/ 208,5/ 209) , ومالك: الفرائض (1104) , والدارمي: الفرائض (2998,3000,3001). 2 الترمذي: البيوع (1264) , وأبو داود: البيوع (3535) , والدارمي: البيوع (2597).

من عبد الله بن عبد الرحمن (أبى بطين) إلى جناب الأخ المكرم عثمان بن علي بن عيسى

[تغيير شرط الواقف] المسألة السادسة: فيمن وقف نخلة ونحوها على أضحية ونحوها ... إلخ، فأما بيع ذلك لما ذكر فلا يجوز، لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لا يباع أصلها، ولا يوهب، ولا يورث"1. وقد تنازع الفقهاء في جواز بيع الوقف إذا تعطلت منافعه، فأجازه أحمد وغيره، ومنعه الشافعي وغيره. وأما صرف غلة ذلك إلى المحتاج من أولاد الواقف، فقال الأصحاب يتعين صرف غلة الوقف إلى الجهة المعينة إلا ما فضل عنها، ونص على ذلك الإمام أحمد، ولم يفرق أحمد والأصحاب بين حالة الحاجة وغيرها. وقال الشيخ تقي الدين: يجوز تغيير شرط الواقف إلى ما هو أصلح، وإن اختلف ذلك باختلاف الأزمان، حتى لو وقف على الفقهاء والصوفية، واحتاج الناس إلى الجهاد، صرف إلى الجند. فعلى اختيار الشيخ -رحمه الله-: يجوز صرف ثمن الأضحية إلى من اشتدت حاجته من ولد الواقف، وذكر عبد الرزاق عن ابن جريج قال: قال رجل لعطاء: رجل جعل ذودا في سبيل الله، قال: أله ذوو قرابة محتاجون؟ قال: نعم. قال: فادفعها إليهم. فكانت هذه فتياه في هذا وأشباهه، والله -سبحانه وتعالى- أعلم، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم. بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين من عبد الله بن عبد الرحمن (أبى بطين) إلى جناب الأخ المكرم عثمان بن علي بن عيسى، سلمه الله تعالى. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. (وبعد): من طرف المسألتين المسؤول عنهما: [نذر التبرر إذا رده المنذور له] فالأولى: إذا نذر إنسان شيئا معينا لشخص معين نذر تبرر، فرده، أو مات

_ 1 البخاري: الوصايا (2764) , ومسلم: الوصية (1633) , والترمذي: الأحكام (1375) , وأبو داود: الوصايا (2878) , وأحمد (2/ 55,2/ 125).

قبل قبوله، أو قبله وقبضه ثم رده: فأما إذا رده، أو مات قبل القبول والرد، فالذي يظهر بطلان هذا النذر كما تبطل الصدقة بذلك لأن الصدقة نوع من الهبة، صرح به الأصحاب كما في المغني وغيره. وهو ظاهر كلام أحمد لقوله في رواية حنبل: إذا تصدق على رجل بصدقة دار أو ما أشبه ذلك، فإذا قبضها الموهوب له صارت في ملكه، انتهى. وقد صرحوا باعتبار القبول للهبة، وأنها تبطل بالرد وبموت الموهوب له قبل القبول، فإذا كان هذا حكم الهبة، والصدقة نوع من الهبة، وقد جعل الأصحاب حكم الصدقة المعينة حكم النذر، كما نقله في القواعد عنهم، ولفظه بعد كلام سبق، فإذا قال: هذه صدقة، تعينت، وصارت في حكم المنذورة، صرح به الأصحاب؛ لكن هل ذلك إنشاء للنذر، أو إقرار به؟ فيه خلاف بين الأصحاب، انتهى. فقوله: "هل ذلك إنشاء للنذر، أو إقرار به" صريح في أنه إذا تصدق بشيء معين، فقال: هذا صدقة، إنه نذر حقيقة، فإذا علمت ما ذكره علماؤنا -رحمهم الله تعالى- من أحكام الهبة، وقد صرحوا بأن الصدقة نوع من الهبة، لها حكم الهبة، بل صرحوا باعتبار القبول للصدقة، ولم يخصوا بذلك نوعا منها، وجعلوا حكم الصدقة المعينة حكم المنذورة، ظهر لك حكم مسألة السؤال، إن شاء الله تعالى. [الوصية في الثلث بدون إجازة الورثة] وأما المسألة الثانية: وهي ما إذا أوصى إنسان بشيء من ماله، يحج به لبعض ورثته، أو يضحي به عنه، فالذي يظهر صحة هذه الوصية ولزومها في الثلث بدون إجازة، لأن الموصى له لا يملكها، ولا ينفع بها، وإنما يرجو ثوابها في الآخرة، فهي كصدقته في مرضه، وجعل ثوابها للوارث، وقد قال الأصحاب في تعليل صحة وقف المريض ثلثه، أو وصيته بوقفه على بعض

من عبد الله بن عبد الرحمن (أبا بطين) إلى الأخ المكرم محمد آل عمر بن سليم

الورثة بأنهم لا يبيعون ذلك، ولا يهبونه، إنما ينتفعون به. ومسألة السؤال أولى بالجواز، لأن الموصى له بأن يحج عنه ونحوه لا يملك الموصى به، ولا ينتفع به في الدنيا، والموقوف عليه ينتفع به، ويملكه على المشهور. ولما ذكر الزركشي تعليل الأصحاب لمسألة الوقف المذكورة قال: قلت: وكأنه عتق الوارث، انتهى. يشير -والله أعلم- إلى ما ذكروه في تصرف المريض إذا ملك وارثه بشراء ونحوه، وقياس مسألتنا على مسألة العتق أولى، والله -سبحانه وتعالى- أعلم. ومن بعد ختم الكتاب عثرت على فتيا منسوبة لأبي المواهب الحنبلي: أنه سئل عمن أوصى بأن يحج عن أمه من ماله، وأمه حية، فأفتى بأن ذلك يقف على إجازة الورثة -والله أعلم-. والذي يترجح عندي ما ذكرته في جواب خطك، ولكن حصل بعض التردد، وأحببت تشريفك على ذلك لتنظر، وتتأمل، والسلام. ومن كلام لأحمد المذكور قال: وأما الحجة فليست بمال، ولا يقصد بها المال، وإنما هي قربة فلا يملك الموصى له بها لو كان حيا تصرفا، فلا تثبت بدون رجلين، والله أعلم. {بسم الله الرحمن الرحيم} من عبد الله بن عبد الرحمن (أبا بطين) إلى الأخ المكرم محمد آل عمر بن سليم، سلمه الله تعالى. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وغير ذلك من حال ما سألت عنه: [وضع الجار الخشب على جدار جاره] فقول الفقهاء: لا يزال الضرر بالضرار فهذا كما قالوا في أن الجار لا يملك

وضع الخشب على جدار جاره إلا عند الضرورة إليه، فإن كان جدار الجار يتضرر بوضع الخشب عليه، لم يجز، لأن الضرر لا يزال بالضرر. وكما لو كان مع إنسان طعام أو شراب، هو مضطر إليه، وإنسان آخر مضطر إلى ذلك، فصاحبه أحق به؛ فلا يزال ضرر غير المالك بإدخال الضرر على المالك، ويدخل في ذلك صور كثيرة. [الإمام إذا حصل في صلاته نقص] وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "يصلون لكم، فإن أصابوا فلكم ولهم، وإن أخطؤوا فلكم وعليهم"1، وهذا يدل على أن الإمام إذا حصل في صلاته نقص فالإثم عليه دون المأموم، حتى لو صلى الإمام محدثا، جاهلا أو ناسيا، ولم يعلم المأموم حتى فرغ، فصلاته صحيحة. وأما قول من قال من الفقهاء: أن صلاة المأموم تبطل ببطلان صلاة إمامه، فمرادهم كما لو أحدث في صلاته؛ فبطلت، فتبطل صلاة المأموم، إذا علم حدث إمامه؛ مع أن كثيرا من العلماء لا يرون بطلان صلاة المأموم إذا بطلت صلاة إمامه، وهو رواية عن أحمد وفاقا لمالك والشافعي. وأما إذا سلم الإمام من نقص سهوا، ثم تكلم في تلك الحال بكلام لمصلحة الصلاة، فالصحيح أن صلاته لا تبطل، في رواية مشهورة عن أحمد اختارها جماعة من أصحابه وفاقا للشافعي. [شرط المرأة على الزوج طلاق زوجته] وأما شرط المرأة على الزوج طلاق زوجته فأكثر الأصحاب يصححون هذا الشرط، بمعنى: أن لها الفسخ إذا لم يف. واختار الموفق، وجماعة من الأصحاب - عدم صحة هذا الشرط، وأنها لا تملك الفسخ إذا لم يف، للنهي عنه في الحديث الصحيح، وأرجو أن هذا القول أقرب. [قلب الدين] وأما مسألة قلب الدين في الصورة التي ذكرتم، وهي: ما إذا كان له على آخر دراهم، وطلب منه الوفاء، وادعى العسرة، فقال: أسلم إليك دراهم

_ 1 البخاري: الأذان (694) , وأحمد (2/ 355,2/ 536).

من محمد آل عمر بن سليم إلى جناب شيخنا المكرم عبد الله بن عبد الرحمن (أبا بطين)

في طعام توفيني بها، فإن كان المسلم إليه معسرا، وأكرهه غريمه على ذلك فهو حرام باتفاق الأئمة، قاله الشيخ تقي الدين، قال: لأنه مكره بغير حق. وإن كان المسلم إليه غير معسر، فالذي يظهر لنا عدم الجواز، لأن ذلك يتخذ حيلة على جعل الدين رأس مال سلم، والله -سبحانه وتعالى- أعلم وأحكم، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم. بسم الله الرحمن الرحيم من محمد آل عمر بن سليم إلى جناب شيخنا المكرم عبد الله بن عبد الرحمن (أبا بطين) سلمه الله تعالى. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: فأفتنا -عفا الله عنك- هل تعليم شيء من القرآن يجوز أن يكون صداقا أم لا؟ والحديث الذي فيه "أنه صلى الله عليه وسلم زوج رجلا على سورة من القرآن وقال: لا تكون لأحد بعدك مهرا"، هل هو صحيح أم لا؟ كذلك -عفا الله عنك- إذا زرع إنسان أرضا مغصوبة، هل يكون عيشها مكروها أم لا؟ وهل يجوز للإنسان أن يشتري منه أم لا، أو سلم له في عيشها؟ وعن ولد الزنى إذا صلح، هل يجوز له إهداء شيء من القرب، مثل: الحج والتضحية لوالديه أم لا؟ وهل هو مسنون؟ أو مكروه؟ كذلك الرقيق الذي ما يدري عن والديه إذا عتق؟ وعن قول بعض الناس لبعض في أثناء الكلام: يا ذخري كذا وكذا، ماذا يكون؟ وعن ما إذا كان طريق على طرف المقبرة، هل يكره للنساء المرور منه أم لا؟ وعن قول بعض الفقهاء وإن اجتازت المرأة بقبر، فسلمت عليه، فحسن. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

من محمد آل عمر بن سليم إلى جناب الشيخ المكرم عبد الله بن عبد الرحمن (أبا بطين)

الجواب، وبالله التوفيق. [جعل تعليم القرآن صداقا] المسألة الأولى: اختلف العلماء في جواز جعل تعليم القرآن صداقا، وفي ذلك عن أحمد روايتان إحداهما: لا يجوز. اختارها أكثر أصحابه وفاقا لمالك وأبي حنيفة، والرواية الثانية: يجوز، وفاقا للشافعي. وأما حديث: "لا تكون لأحد بعدك مهرا" فالظاهر عدم صحته، والله -سبحانه وتعالى- أعلم. [زرع الأرض المغصوبة] وأما زرع الأرض المغصوبة فلا علمت فيه حكما واضحا، والأولى التنزه عنه، ولا أحب المعاملة فيه. وإهداء ولد الزنى لوالديه المسلمين جائز حسن -إن شاء الله- أعني إهداء جميع القرب والتضحية عنهما، والحج وغير ذلك. وأما الرقيق الذي لا يعلم حال والديه فلا بأس بدعائه لهما، وكذا إهداء القرب. وقول بعض الناس: "يا عضيدي"، الظاهر أن المراد بمثل هذا المعاونة على ما ينوبه من أموره، مثل: انتصاره به على عدوه ونحوه، لا بأس به. وإذا كان للناس طريق على حد المقبرة، ومرت معه امرأة وسلمت فلا بأس, لأنها لا تسمى زائرة، والله -سبحانه وتعالى- أعلم. بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين من محمد آل عمر بن سليم إلى جناب الشيخ المكرم عبد الله بن عبد الرحمن (أبا بطين) سلمه الله تعالى، آمين. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. (وبعد): أفتنا -أثابك الله، وأحسن لك الخاتمة- عما إذا كان لإنسان على آخر دين، والمدين معسر، هل يجوز أن يسقط عنه قدر زكاة ذلك

الدين، ويكون ذلك زكاة الدين أم لا؟ وعما إذا كان مصرف ريع الوقف في أضحية وقربة، هل يجوز أن يجعل جلد الأضحية قربة، أم لا بد أن يشتري جلدا غير جلد الأضحية؟ وعن قول بعض الناس: يحق من الله أن يكون كذا، إذا كان أمر نعمة، وعن قول بعض الناس: وحق الله، هل هو حلف بغير الله، أو لغو؟ وعن قول بعض الناس: بالرحمن نفعل كذا، أو يكون كذا، أو ما صار كذا, أو ما فعلت كذا، وعن الدعاء عند دخول الإمام يوم الجمعة، وبين الخطبتين، وبين الإقامة والصلاة، وعن الدعاء بعد الفريضة، وبعد التسبيح والتحميد والتكبير ثلاثا وثلاثين، هل الدعاء في هذه المواضع مستحب أو مكروه أو مباح، أو بعضها مستحب، وبعضها مكروه؟ وعن رفع اليدين بالدعاء في هذه المواضع، هل هو مستحب أو مكروه أو مباح، أو ما كان مكروها فرفع اليدين فيه مكروه، وما كان مستحبا فرفع اليدين فيه مستحب؟. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. بسم الله الرحمن الرحيم وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته. (وبعد): فالجواب -وبالله التوفيق-: [أسقط عن المعسر أو فقير غير معسر زكاة الدين] المعروف، المعمول به في المذهب - أنه إذا أسقط عن المعسر، أو فقير غير معسر زكاة الدين الذي عليه، أن ذلك لا يجوز، ولا يجزئ. [شرط في غلة الوقف أضحية وقربة] وإذا شرط في غلة الوقف أضحية، وقربة، فالذي أرى أنه يلزمه شراء قربة، فلا يكتفي بجلد الأضحية، والله أعلم. وأما قول بعض الجهال: يحق من الله أن يكون كذا، فهذه كلمة قبيحة، يخاف أن تكون كفرًا، فينهى من قال ذلك، وينصح.

من عبد الله بن عبد الرحمن (أبا بطين) إلى جناب الولد المكرم عبد الرحمن بن محمد بن مانع

[الدعاء عند دخول الإمام يوم الجمعة وحال جلوسه بين الخطبتين] وأما الدعاء عند دخول الإمام يوم الجمعة، وحال جلوسه بين الخطبتين - فلا علمت فيه شيئا، ولا ينكر على فاعله الذي يتحرى الساعة المذكورة في يوم الجمعة. وأما الدعاء بعد الإقامة فلم يرد فيه شيء، والأولى عدم فعله، وأما الدعاء بعد الفرائض، فإن فعله إنسان بينه وبين الله، فحسن. وأما رفع اليدين في هذه الحال فلم يرد عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وخير الهدي هدي محمد، ومثل هذا ما أرى الإنكار على فاعله، ولو رفع يديه. [الحلف بحق الله] وأما الحلف بحق الله فكثير من أهل العلم يجوزه، وبعضهم يمنع منه، والمشهور في المذهب جوازه. وأما قول بعض الناس لك: لله ما فعلت كذا، فإذا لم يكن للقائل نية فهو لغو. وقول بعض الناس: بالرحمن نفعل، إن كان مراده الاستعانة فلا بأس، والله -سبحانه وتعالى- أعلم وأحكم، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم. بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله بن عبد الرحمن (أبا بطين) إلى جناب الولد المكرم عبد الرحمن بن محمد بن مانع، سلمه الله تعالى. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وموجب الخط إبلاغ السلام، والخط الشريف وصل، ومن حال المسائل المذكورة فيه: [السكة إذا كسدت بتحريم السلطان لها أو بغيره] فأما مسألة السكة إذا كسدت بتحريم السلطان لها أو بغيره، أو رخصت - فالأصحاب إنما أوجبوا القيمة، إذا حرمها السلطان، فمنع المعاملة بها سواء اتفق الناس على ترك المعاملة بها أو لا. وذكروا نص الإمام أحمد في القرض، وقاسوا عليه النقد المعين في المبيع، وثمن المبيع إذا رد بعيب ونحوه

بعد قبض البائع له ونحو ذلك، وقد ذكر المسألة ناظم المفردات وهي منها، فنذكر بعض كلامه، وكلام شارحها، فقال: والنقد في المبيع حيث عُيّنا ... وبعد ذا كساده تبينا نحو الفلوس ثم لا يعامل ... بها فمنه عندنا لا تقبل بل قيمة الفلوس يوم العقد ... والقرض أيضا هكذا في الرد أي: إذا وقع العقد بنقد معين: كدراهم مكسرة أو مغشوشة أو بفلوس، ثم حرمها السلطان، فمنع المعاملة بها مثل قبض البائع لها، لم يلزم البائع قبضها، بل له الطلب بقيمتها يوم العقد. وكذلك لو أقرضه نقدا، أو فلوسا، فحرم السلطان المعاملة بذلك، فرده المقترض، لم يلزم المقرض قبوله، ولو كان باقيا بعينه لم يتغير، وله الطلب بقيمة ذلك يوم القرض، وتكون من غير جنس النقد إن أفضى إلى ربا الفضل، فإذا كان دراهم أعطي عنها دنانير وبالعكس؛ لئلا يؤدي إلى الربا قال الناظم: ومثله من رام عود الثمن ... من رده المبيع خذ بالأحسن قد ذكر الأصحاب ذا في ذا الصور ... والنص في القرض عيانا قد ظهر أي: مثل ما تقدم من اشترى معيبا أو نحوه بدراهم مكسرة، أو مغشوشة أو فلوس، وأقبضها للبائع، فحرمها السلطان. [بيعتين في بيعة] وأما صورة بيعتين في بيعة فكثيرة جدًّا، وضابطه: أن يشترط أحد المتعاقدين على صاحبه عقدًا آخر، ونص الإمام أحمد على صور من ذلك: كأن يشترط أحدهما على صاحبه سلما أو قرضا أو بيعا أو شركة أو إجارة أو صرفا للثمن أو غيره. قال الأصحاب: وكذلك كل ما كان في معنى ذلك، مثل أن يقول:

بعتك كذا بكذا على أن تزوجني ابنتك، أو على أن أزوجك بنتي، وكذا أن تنفق على عبدي، أو دابتي، أو على حصتي من ذلك قرضا أو مجانا، فهذه الصور مما نص عليه الأصحاب وغيرهم، فإذا عرفت ضابط المسألة، تبين لك تفصيلها وأنواعها، فإذا أجره داره بكذا، بشرط أن يؤجره داره، أو يبيعه كذا بكذا، أو ساقاه على نخله، أو زارعه على أرضه، بشرط أن يبيعه كذا، أو يقرضه كذا، ونحو ذلك من اشتراط عقد في عقد آخر، فهو من نحو بيعتين في بيعة، وهو صفقتان في صفقة، وقد روى الإمام أحمد عن ابن مسعود مرفوعا: أنه نهى عن صفقتين في صفقة. وقد فسر جماعة من الأئمة البيعتين في بيعة بأن يقول بائع السلعة: هي بنقد بكذا، وبنسيئة بكذا. وحديث "من باع بيعتين في بيعة، فله أوكسهما أو الربا"1 رواه أبو داود عن أبي هريرة مرفوعا. قال الشيخ تقي الدين: للناس في بيعتين في بيعة تفسيران: (أحدهما) أن يقول: هو لك بنقد بكذا، وبنسيئة بكذا، كما رواه سماك بن حرب عن عبد الرحمن بن مسعود عن أبيه قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صفقتين في صفقة"2، قال سماك: "هو الرجل يبيع البيع، فيقول: هو بنساء بكذا، وهو ينقد بكذا وكذا" رواه الإمام أحمد. وعلى هذا فله وجهان: أحدهما: أن يبيعه بأحدهما مبهما، ويتفرقا على ذلك، وهذا تفسير جماعة من أهل العلم، لكنه يتعذر من هذا الحديث، يعني حديث "من باع بيعتين في بيعة، فله أوكسهما أو الربا"3 هذا لفظ الحديث، قال: فإنه لا مدخل للربا هنا، ولا صفقتين هنا، وإنما هي صفقة واحدة بثمن مبهم. والثاني: أن يقول: هي بنقد بكذا، وأبيعها بنسيئة بكذا، الصورة التي ذكرها ابن عباس رضي الله عنه فيكون قد جمع صفقتي النقد والنسيئة

_ 1 أبو داود: البيوع (3461). 2 أحمد (1/ 398). 3 أبو داود: البيوع (3461).

في صفقة واحدة، وجعل النقد معيار النسيئة، وهذا مطابق لقوله صلى الله عليه وسلم: "فله أوكسهما أو الربا"1، فإن مقصوده حينئذ هو بيع دراهم عاجلة بآجلة، فلا يستحق إلا رأس ماله، وهو أوكس الصفقتين، وهو مقدار القيمة العاجلة، فإن أخذ الربا فهو مربي. التفسير الثاني: أن يبيعه الشيء بثمن، على أن يشتري المشتري منه ذلك الثمن، أولى منه أن يبيعه السلعة على أن يشتريها البائع بعد ذلك، وهذا أولى بلفظ البيعتين في بيعة؛ فإنه باع السلعة وابتاعها، أو باع الثمن وابتاعه، وهذه صفقتان في صفقة، وهذا بعينه هو العينة المحرمة وما أشبهها. ومثل أن يبيعه نسأ، ثم يشتري بأقل نقدا أو بنقد، ثم يشتري بأكثر منه نسأ، ونحو ذلك؛ فيعود حاصل هاتين الصفقتين إلى أن يعطيه دراهم، ويأخذ أكثر منها، وسلعته عادت إليه؛ فلا يكون له إلا أوكس الصفقتين، وهو النقد، فإن ازداد فقد أربى. [مات ولم يحج] وأما من مات ولم يحج، فإن كان قد وجب عليه الحج قبل موته لاستكمال شروط الوجوب في حقه، وجب أن يحج عنه من رأس ماله أوصى به أم لا. وإن كان الميت لم يجب عليه الحج في حياته لعدم تكامل شرائط الوجوب في حقه في حياته، لم يجب أن يحج عنه من ماله إن لم يوص به؛ فإن أوصى به فمن ثلثه. هذا ما ذكره أصحابنا وغيرهم. [وضع الجائحة في الأرض المستأجرة] وأما ثبوت الجائحة في الأرض المستأجرة ونحوها، فاختيار الشيخ تقي الدين معلوم لديكم، وجمهور العلماء على خلافه. بل قال في المغني والشرح: لا نعلم فيه خلافا، ولفظ الشارح بأن استأجر أرضا، فزرعها، فتلف الزرع، فلا شيء على المؤجر، نص عليه أحمد، ولا نعلم فيه خلافا لأن المعقود عليه منافع الأرض، ولم تتلف، إنما تلف مال المستأجر فيها، فصار كدار استأجرها ليقصر فيها ثيابا،

_ 1 أبو داود: البيوع (3461).

مسائل سئل عنها الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن (أبا بطين)

فتلفت الثياب فيها، انتهى. ولم يحك صاحب الإنصاف إثبات الجائحة في الإجارة عن غير الشيخ تقي الدين إلا ما حكاه عن أبي الفضل في الحمام، وقد ذكر الشيخ عن اختياره أنه خلاف ما رآه عن أحمد. والذي نعتمده في المسألة الصلح إن تيسر، وإلا لم نحكم بوضع شيء من الأجرة، كما هو قول جمهور العلماء. والفرق بين الثمرة والأجرة أن المعقود عليه في شراء الثمرة هو عين الثمرة، والمعقود عليه في الإجارة منافع الأرض؛ ولهذا لو تركها المستأجر معطلة، فلم ينتفع بها لزمته الأجرة لتلف المنافع تحت يده. فالمعقودعليه في الإجارة نفع الأرض، فالتالف غير المعقود عليه. قال في الاختيارات لما ذكر إثبات الجائحة في أجرة الأرض: وبعض الناس يظن أن هذا خلاف ما في المغني من الإجماع، وهو غلط؛ فإن الذي في المغني أن نفس الزرع إذا تلف يكون من ضمان المستأجر صاحب الزرع، لا يكون كالثمرة المشتراة، فهذا ما فيه خلاف، وإنما الخلاف في نفس أجرة الأرض، ونقص قيمتها، فيكون كما لو انقطع الماء عن الرحى. [طلق زوجته وأقر أنها خرجت من العدة قبل مرضه] وأما الذي طلق زوجته، وأقر أنها خرجت من العدة قبل مرضه، فإنه يعمل بقوله، ولا يقبل قولها: أنه واقعها بعد ذلك، إلا ببينة والله -سبحانه وتعالى- أعلم وأحكم، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم. بسم الله الرحمن الرحيم هذه مسائل سئل عنها الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن (أبا بطين) رحمه الله تعالى. [دخل إليه مدينان ليدفعا إليه ماله عليهما ثم وجد نقصا] (الأولى): رجل دخل إليه مدينان ليدفعا إليه ماله عليهما، فأخرج أحدهما عشرة دراهم، وقال: هذه هي التي عندي لك، خذها لتحسبها، فقال: ضعها

وقال الآخر كذلك، وأمره أن يضعها على دراهم الأول، أو إلى جنبها، فأخذهما صاحب الحق جميعا، وحسبهما، فوجد نقصا، لا يدري من أيهما، فما الحكم في ذلك؟ (فأجاب رحمه الله تعالى) بأن له على كل منهما اليمين أنه دفع إليه حقه تاما، وليس له إلا ذلك، لأنه فرط في خلطهما، فلم تكن الدعوة على إنسان بعينه، بل عليهما جميعا، وهي لا تسمع إلا على معين. [موافقة الرسول ظاهرا وباطنا] (الثانية): ما معنى قول الحموية: أما الذين وافقوه ببواطنهم، وعجزوا عن إقامة الظواهر، أو الذين وافقوه بظواهرهم، وعجزوا عن تحقيق البواطن، أو الذين وافقوه ظاهرا وباطنا بحسب الإمكان، لا بد للمنحرفين عن سنته أن يعتقدوا فيهم نقصا يذمونهم به، ويسمونهم بأسماء مكذوبة، وإن اعتقدوا صدقها كقول الرافضة: من لم يبغض أبا بكر، وعمر، فقد أبغض عليا. (فأجاب رحمه الله تعالى): لما ذكر قبل ذلك: أن السنة هي ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتقادا واقتصادا وقولا وعملا، ثم ذكر التابعين له على بصيرة، الذين هم أولى الناس به في المحيا والممات، باطنا وظاهرا، ثم ذكر الفريق الذين وافقوه ببواطنهم وعجزوا عن إقامة الظواهر، فهم الذين وافقوه اعتقادا وعجزوا عن إقامة القول والعمل، كالدعوة إلى الله -سبحانه-، وطائفة وافقوه في الظواهر وعجزوا عن تحقيق البواطن على ما هي عليه من الفرق بين الحق والباطل بقلوبهم، ففيهم نقص من هذا الوجه، وفريق وافقوه ظاهرا، وباطنا، بحسب الإمكان، لكنهم دون الأولين التابعين له على بصيرة، اعتقادا واقتصادا قولا وعملا، والله -سبحانه وتعالى- أعلم. [إطلاق الإمامة على من ليس قرشي] (الثالثة): إن قال بعض الجهال: إن من شرط الإمام أن يكون قرشيا، ولم يقل عارضيا، يشير إلى أنه قد ادعاها من ليس من أهلها، يعني شيخ

الإسلام محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله تعالى- ومن قام معه وبعده بما دعا إليه، وأيضا: إن البغاة تحل دماؤهم دون أموالهم، وقد استحل الأموال، والدماء من العلماء وغيرهم، فما الجواب؟ أفدنا وفقك الله للصواب. (الجواب) وبالله التوفيق: إذا قال بعض الجهال ذلك فقل له: ولم يقل تركيًا، فإذا زال هذا الأمر عن قريش، فلو رجع إلى الاختيار لكان العرب أولى به من الترك؛ لأنهم أفضل من الترك؛ ولهذا ليس التركي كفوا للعربية، فلو تزوج تركي بعربية كان لمن لم يرض من الأولياء فسخ هذا النكاح، وهذا الذي يعظمه الناس تركي لا قرشي، وهم أخذوها بغيا على قريش. ومحمد بن عبد الوهاب -رحمه الله- ما ادعى إمامة الأمة، وإنما هو عالم، ودعا إلى هدى، وقاتل عليه، ولم يلقب في حياته بالإمام، ولا عبد العزيز بن محمد بن سعود، ما كان أحد منهما يسمى إماما في حياته، وإنما حدث تسمية من تولى إماما بعد موتهما. وأيضا، فالألقاب أمرها سهل، وهذا من صار واليا في صنعاء سمي إماما، وصاحب مقط يسمى إماما. وقتال الشيخ محمد بن عبد الوهاب من قاتله ليس لكونهم بغاة، وإنما قاتلهم على ترك الشرك، وإزالة المنكرات، وعلى إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والذين قاتلهم الصديق والصحابة لأجل منع الزكاة، لم يفرقوا بينهم وبين المرتدين في القتل وأخذ الأموال. قال شيخ الإسلام أبو العباس أحمد بن تيمية -رحمه الله تعالى-*: كل طائفة ممتنعة عن التزام شريعة من شرائع الإسلام الظاهرة المتواترة، فإنه يجب قتالهم حتى يلتزموا شرائعه، وإن كانوا مع ذلك ناطقين بالشهادتين، وملتزمين بعض شرائعه، كما قاتل الصديق والصحابة مانعي الزكاة، وعلى ذلك اتفق الفقهاء بعدهم ... إلى أن قال:

_ * انظر "السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية" ص 60. [معد الكتاب للمكتبة الشاملة]

فأيما طائفة امتنعت عن بعض الصلوات المفروضات أو الصيام أو الحج، أو عن التزام تحريم الدماء والأموال أو الخمر أو الزنى والميسر، أو عن التزام جهاد الكفار، وغير ذلك من واجبات الدين، ومحرماته التي لا عذر لأحد في جحودها وتركها، التي يكفر الجاحد لوجوبها، فإن الطائفة الممتنعة تقاتل عليها لوجوبها، وإن كانت مقرة بها، وهذا مما لا أعلم فيه خلافا بين العلماء ... إلى أن قال: وهؤلاء عند المحققين من العلماء ليسوا بمنزلة البغاة الخارجين على الإمام، أو الخارجين عن طاعته كأهل الشام مع أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه؛ فإن أولئك خارجون عن طاعة إمام معين، أو خارجون عليه لإزالة ولايته، وأما المذكورون فهم خارجون عن الإسلام بمنزلة مانعي الزكاة، انتهى. وأيضا، فالمشار إليهم في السؤال، لا نقول: إنهم معصومون، بل يقع منهم أشياء تخالف الشرع، ولولا ما يحدث من المخالفات، لم يسلط عليهم عدوهم، لكن عوقبوا بأن سلط عليهم من هم خير منهم وأحسن. "إذا عصاني من يعرفني سلطت عليه من لا يعرفني" والذي أدركنا من سيرة هذه الطائفة المشار إليها ما بقي منها إلا الاسم {وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} 1. واحتجاج بعض الناس بقول بعض العلماء: يباح الدعاء في الخطبة لمعين، ولم يقولوا: يسن، وأيضا فالدعاء حسن، يُدعَى له بأن الله يصلحه، ويسدده، ويصلح به، وينصره على الكفار، وأهل الفساد، وما في الخطب من الثناء، والمدح بالكذب الواجب على ولي الأمر، أولا- البداءة برعيته بإلزامهم شرائع الإسلام، وإزالة المنكرات، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وإقامة الحدود، فهذا أهم وأوجب من جهاد العدو الكافر، وهذا مما يستعان به على جهاد الكفار، لما روي: "إنما تقاتلون من تقاتلون بأعمالكم" وولي

_ 1 سورة البقرة آية: 213.

من جمعان بن ناصر إلى جناب الشيخ المكرم عبد الله بن عبد الرحمن (أبا بطين)

الأمر إنما يدعى له، لا يمدح، لا سيما بما ليس فيه. وهؤلاء الذين يُمدحون في الخطب هم الذين أماتوا الدين، فمادحهم مخطئ، وليس في الولاة اليوم من يستحق المدح، لا يثنى عليه، وإنما يُدعى لهم بالتوفيق، والهداية، والله -سبحانه وتعالى- أعلم، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم. بسم الله الرحمن الرحيم من جمعان بن ناصر إلى جناب الشيخ المكرم عبد الله بن عبد الرحمن (أبا بطين) سلمه الله تعالى. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. (وبعد): أمتعنا الله بحياتك، المرجو من إحسانك الإفادة عن القدَرية ومذهبهم، وعن المعتزلة ومذهبهم، وعن الخوارج ومذهبهم، أثابك الله الجنة بمَنِّه وكرمه. وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته. (وبعد): فالجواب -وبالله التوفيق-: [الإيمان بالقدر ومعناه] قد فسر النبي صلى الله عليه وسلم الإيمان في حديث جبريل بالاعتقاد الباطن فقال: "أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره"1. والأحاديث في إثبات القدر كثيرة جدا. والقدر الذي يجب الإيمان به على درجتين: الدرجة الأولى: الإيمان بأن الله سبق في علمه ما يعمله العباد من خير وشر، وطاعة ومعصية، قبل خلقهم وإيجادهم، ومن هو منهم من أهل الجنة، ومن هو من أهل النار؛ وأعد لهم الثواب، والعقاب جزاء لأعمالهم قبل خلقهم وتكوينهم؛ وأنه كتب ذلك عنده وأحصاه، وأن أعمال العباد تجري على ما سبق في علمه، وكتابه. والدرجة الثانية: الإيمان بأن الله خلق أفعال العباد كلها: من الكفر والإيمان، والطاعة والعصيان، وشاءها منهم؛ فهذه الدرجة يثبتها أهل السنة والجماعة،

_ 1 مسلم: الإيمان (8) , والترمذي: الإيمان (2610) , والنسائي: الإيمان وشرائعه (4990) , وأبو داود: السنة (4695) , وابن ماجه: المقدمة (63) , وأحمد (1/ 28).

وينكرها جميع القدرية، يقولون: إن الله لم يخلق أفعال العباد، ولا شاءها منهم، بل هم الذين يخلقون أفعال أنفسهم من خير وشر، وطاعة ومعصية. والدرجة الأولى نفاها غلاة القدرية: كمعبد الجهني، وعمرو بن عبيد؛ ونص أحمد والشافعي على كفر هؤلاء. [القول بأن الله لم يخلق أعمال العباد ولم يشأها] وأما من قال: إن الله لم يخلق أعمال العباد ولم يشأها منهم، مع إقرارهم بالعلم، ففي تكفيرهم نزاع مشهور بين أهل العلم. فحقيقة القدر الذي فرض علينا الإيمان به أن نعتقد أن الله -سبحانه وتعالى- علم ما العباد عاملون قبل أن يوجدهم، وأنه كتب ذلك عنده، وأن أعمال العباد خيرها وشرها مخلوقة لله، واقعة بمشيئته، فما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، قال الله -تعالى-: {كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} 1، وقال: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ} 2، {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا} 3، {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا} 4. فهذه الآيات ونحوها صريحة في أن أعمال العباد خيرها وشرها، وضلالهم واهتداءهم، كل ذلك صادر عن مشيئته، وقال -تعالى-: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} 5 وقال: {إِنَّ الأِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا} 6، فدل ذلك على أن الله -سبحانه- هو الذي جعلها فاجرة، أو تقية، وأنه خلق الإنسان هلوعا، خلقه متصفا بالهلع. وقال: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ} 7، ففي هذه الآية بيان أن الله خلق المؤمن وإيمانه، والكافر وكفره. وقد صنف البخاري -رحمه الله تعالى- كتاب خلق أفعال العباد، واستدل بهذه الآيات، أو بعضها على ذلك، وفي الحديث: "إن الله خلق كل صانع وصنعته". [الأدلة على تقدم علم الله سبحانه بجميع الكائنات قبل إيجادها] أما الأدلة على تقدم علم الله -سبحانه- بجميع الكائنات قبل إيجادها، وكتابته ذلك، ومنها السعادة والشقاوة، وبيان أهل الجنة وأهل النار قبل

_ 1 سورة المدثر آية: 31. 2 سورة الأنعام آية: 137. 3 سورة البقرة آية: 253. 4 سورة الأنعام آية: 107. 5 سورة الشمس آية: 7. 6 سورة المعارج آية: 19. 7 سورة التغابن آية: 2.

أن يوجدهم، فكثيرة جدًّا، كقوله -تعالى-: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} 1. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله كتب مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة وكان عرشه على الماء"2، وفي حديث آخر: "إن أول ما خلق الله القلم فقال له: اكتب فجرى القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة"3. والأحاديث في هذا كثيرة جدا، فهؤلاء الذين وصفنا قولهم بأن الله لم يخلق أفعال العباد، ولا شاءها منهم، هم القدرية الذين هم مجوس هذه الأمة. وقابلتهم طائفة أخرى غلوا في إثبات القدر، وهم يسمون الجبرية، فقالوا: إن العبد مجبور مقهور على ما يصدر منه، لا قدرة له فيه، ولا اختيار؛ بل هو كغصن الشجرة الذي تحركه الريح. والذي عليه أهل السنة، والجماعة: الإيمان بأن أفعال العباد مخلوقة لله، صادرة عن مشيئته، وهي أفعال لهم، وكسب لهم باختيارهم؛ فلذا ترتب عليها الثواب والعقاب. والسلف يسمون الجبرية قدرية؛ لخوضهم في القدر. ولهذا ترجم الخلال في كتاب السنة، فقال: الرد على القدرية، وقولهم: إن الله جبر العباد على المعاصي، ثم روى عن بقية، قال: سألت الزبيدي، والأوزاعي عن الجبر، فقال الزبيدي: أمر الله أعظم، وقدرته أعظم من أن يجبر أو يعضل، ولكن يقضي، ويقدر، ويخلق، ويَجبُل عبده على ما أحب. وقال الأوزاعي: ما أعرف للجبر أصلا من القرآن ولا السنة، فأهاب أن أقول ذلك، ولكن القضاء والقدر والجبل والخلق، فهذا يعرف من القرآن، والحديث. قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى-*: فهذان الجوابان اللذان

_ 1 سورة الحديد آية: 22. 2 مسلم: القدر (2653) , والترمذي: القدر (2156) , وأحمد (2/ 169). 3 الترمذي: تفسير القرآن (3319) , وأحمد (5/ 317). * انظر "درء تعارض العقل والنقل" 1/ 67، و"مجموع الفتاوى" 3/ 323. [معد الكتاب للمكتبة الشاملة]

ذكرهما هذان الإمامان في عصر تابعي التابعين من أحسن الأجوبة. أما الزبيدي فقال ما تقدم؛ وذلك لأن الجبر في اللغة: إلزام الإنسان بغير رضاه، كما يقول الفقهاء: هل تجبر المرأة على النكاح أم لا؟ وإذا عضلها الولي ماذا تصنع؟ فقال: الله أعظم من أن يجبر، أو يعضل؛ لأن الله قادر على أن يجعل العبد مختارا راضيا لما يفعله، مبغضا تاركا لما يتركه، فلا جبر على أفعاله الاختيارية، ولا عضل عما يتركه لكراهته أو عدم إرادته. وروي عن سفيان الثوري -رحمه الله تعالى- أنه أنكر جَبَرَ، وقال: الله -سبحانه- جَبَلَ العباد. وقال الراوي عنه: أراد قوله صلى الله عليه وسلم لأشج عبد القيس: "بل جبلت عليهما"1، فقال: الحمد لله الذي جبلني على خلقين يحبهما الله. يعني الحلم والإناءة. وقال المروزي للإمام أحمد: إن رجلا يقول: إن الله جبر العباد، فقال: لا نقول هكذا، وأنكر هذا، وقال: {يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} 2. [عقيدة المعتزلة] وأما المعتزلة: فهم الذين يقولون بالمنزلة بين المنزلتين، يعنون أن مرتكب الكبيرة يصير في منزلته بين الكفر والإسلام، فليس هو بمسلم ولا كافر. ويقولون: إنه يخلد في النار، ومن دخل النار لم يخرج منها بشفاعة، ولا غيرها. وأول من اشتهر عنه ذلك عمرو بن عبيد، وكان هو وأصحابه يجلسون معتزلين الجماعة، فيقول قتادة وغيره: أولئك المعتزلة؛ وهم كانوا بالبصرة بعد موت الحسن البصري. وضَم المعتزلة إلى ذلك التكذيب بالقدر، ثم ضموا إلى ذلك نفي الصفات، فيثبيتون الاسم دون الصفة، فيقولون: عليم بلا علم، سميع بلا سمع، بصير بلا بصر، وهكذا سائر الصفات؛ فهم قدرية جهمية، وامتازوا بالمنزلة بين المنزلتين، وخلود عصاة الموحدين في النار.

_ 1 ابن ماجه: الزهد (4187). 2 سورة المدثر آية: 31.

[عقيدة الخوارج] وأما الخوارج: فهم الذين خرجوا على علي رضي الله عنه وقبل ذلك قتلوا عثمان؛ وكفروا عثمان وعليا وطلحة والزبير ومعاوية وطائفتي علي ومعاوية، واستحلوا دماءهم. وأصل مذهبهم الغلو الذي نهى الله عنه، وحذر منه النبي صلى الله عليه وسلم فكفَّروا من ارتكب كبيرة، وبعضهم يكفر بالصغائر، وكفروا عليا، وأصحابه بغير ذنب، فكفروهم بتحكيم الحَكمَين: عمرو بن العاص، وأبي موسى الأشعري، وقالوا: لا حكم إلا لله، واستدلوا على قولهم بالتكفير بالذنوب بعمومات أخطؤوا فيها، وذلك كقوله -سبحانه وتعالى-: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} 1، {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا} 2، وقوله: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا} 3 الآية، وغير ذلك من الآيات. وأجمع أهل السنة، والجماعة أن أصحاب النار لا يخلدون في النار، إذا ماتوا على التوحيد، وأن من دخل النار منهم بذنبه يخرج منها كما تواترت بذلك الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم. وأيضا فلو كان الزاني، وشارب الخمر، والقاذف، والسارق، ونحوهم، كفارا مرتدين، لكان حكمهم في الدنياالقتل، الذي هو حكم الله في المرتدين، فلما حكم الله على الزاني البكربالجلد، وعلى السارق بالقطع، وعلى الشارب، والقاذف بالجلد، قلنا: حكم الله فيهم بذلك لأنهم لم يكفروا بهذه الذنوب كما تزعمه الخوارج. فإذا عرفت مذهب الخوارج أن أصله التكفير بالذنوب، وكفَّروا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم واستحلوا قتلهم متقربين بذلك إلى الله، فإذا تبين لك ذلك تبين ضلال كثير من أهل هذه الأزمنة، في زعمهم أن محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله تعالى- وأتباعه خوارج، ومذهبهم مخالف

_ 1 سورة الجن آية: 23. 2 سورة النساء آية: 14. 3 سورة النساء آية: 93.

لمذهب الخوارج، لأنهم يوالون جميع أصحاب رسول الله، -صلى الله عليه وسلم- ويعتقدون فضلهم على من بعدهم، ويوجبون أتباعهم، ويدعون لهم، ويضللون من قدح فيهم، أو تنقص أحدا منهم. ولا يكفرون بالذنوب، ولا يخرجون أصحابها من الإسلام، وإنما يكفرون من أشرك بالله، وحسن الشرك؛ والمشرك كافر بالكتاب والسنة والإجماع. فكيف يجعل هؤلاء مثل أولئك؟ وإنما يقول ذلك معاند يقصد التنفير للعامة، أو يقول ذلك جاهلا بمذهب الخوارج، ويقوله تقليدا. ولو قدرنا أن إنسانا يقع منه جراءة وجسرة على إطلاق الكفر جهلا منه، فلا يجوز أن ينسب إلى جميع الطائفة، وإنما ينسب إليهم ما يقوله شيخهم وعلماؤهم بعده؛ وهذا أمر ظاهر للمنصف، وأما المعاند المتعصب فلا حيلة فيه. إذا عرفت مذاهب الفرق المسؤول عنها، فاعلم أن أكثر أهل الأمصار اليوم أشعرية، ومذهبهم في صفات الرب -سبحانه وتعالى- موافق لبعض ما عليه المعتزلة الجهمية؛ فهم يثبتون بعض الصفات دون بعض. فيثبتون الحياة والعلم والقدرة والإرادة والسمع والبصر والكلام، وينفون ما سوى هذه الصفات بالتأويل الباطل، مع أنهم وإن أثبتوا صفة الكلام موافقة لأهل السنة فهم في الحقيقة نافون لها لأن الكلام عندهم هو المعنى فقط، ويقولون: حروف القرآن مخلوقة؛ لم يتكلم الله بحرف ولا صوت. فقالت لهم الجهمية: هذا هو نفس قولنا: إن كلام الله مخلوق لأن المراد الحروف لا المعنى. تقارب الأشعرية من المعتزلة والجهمية في بعض الصفات ومذهب السلف قاطبة: أن كلام الله غير مخلوق، وأن الله -تعالى- تكلم بالقرآن، حروفه ومعانيه، وأن الله -سبحانه وتعالى- يتكلم بصوت يسمعه من يشاء. والأشعرية لا يثبتون علو الرب فوق سماواته واستواءه على عرشه

ويسمون من أثبت صفة العلو والاستواء على العرش مجسما مشبها، وهذا خلاف ما عليه أهل السنة والجماعة؛ فإنهم يثبتون صفة العلو، والاستواء، كما أخبر الله -سبحانه- بذلك عن نفسه، ووصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم، من غير تكييف ولا تعطيل. وصرح كثير من السلف بكفر من لم يثبت صفة العلو والاستواء. والأشاعرة وافقوا الجهمية في نفي هذه الصفة، لكن الجهمية يقولون: أنه -سبحانه وتعالى- في كل مكان، ويسمون الحلولية، والأشعرية يقولون: كان ولا مكان، فهو على ما كان قبل أن يخلق المكان. والأشعرية يوافقون أهل السنة في رؤية المؤمنين ربهم في الجنة، ثم يقولون: إن معنى الرؤية إنما هو زيادة علم، يخلقه الله في قلب الناظر ببصره، لا رؤية بالبصر حقيقة عيانا. فهم بذلك نافون للرؤية التي دل عليها القرآن، وتواترت بها الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم. ومذهب الأشاعرة: أن الإيمان مجرد التصديق، ولا يدخلون فيه أعمال الجوارح. قالوا: وإن سميت الأعمال في الأحاديث إيمانا، فعلى المجاز لا الحقيقة. ومذهب أهل السنة والجماعة: أن الإيمان تصديق بالقلب، وقول باللسان، وعمل بالجوارح. وقد كفر جماعة من العلماء من أخرج العمل عن الإيمان. فإذا تحققت ما ذكرنا عن مذهب الأشاعرة من نفي صفات الله -سبحانه وتعالى- غير السبع التي ذكرنا، ويقولون: إن الله لم يتكلم بحرف، ولا صوت، وأن حروف القرآن مخلوقة، ويزعمون أن كلام الرب -سبحانه وتعالى- معنى واحد، وأن نفس القرآن هو نفس التوراة والإنجيل، لكن إن عبر عنه بالعربية فهو قرآن، وإن عبر عنه بالعبرانية فهو توراة، وإن عبر عنه بالسريانية فهو إنجيل، ولا يثبتون رؤية أهل الجنة ربهم بأبصارهم، إذا عرفت ذلك عرفت

خطأ من جعل الأشعرية من أهل السنة، كما ذكره السفاريني في بعض كلامه، ويمكن أنه أدخلهم في أهل السنة مدارة لهم لأنهم اليوم أكثر الناس، والأمر لهم، والله أعلم، مع أنه قد دخل بعض المتأخرين من الحنابلة في بعض ما هم عليه. [معنى يأس الشيطان من كفر جزيرة العرب] وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "إن الشيطان قد أيس من أن يعبده المصلون في جزيرة العرب"1 فقد يحتج بهذا الحديث من زعم أن هذه الأمور الشركية التي تفعل عند القبور ومع الجن، مثل سؤالهم قضاء الحاجات، وتفريج الكربات، والاستعاذة بهم، والتقرب إليهم بالذبح لهم، والنذر، وغير ذلك من أنواع العبادات، ليست عبادة لهم ولا شركا، فيقال: (أولا): إن النبي صلى الله عليه وسلم نسب الإياس إلى الشيطان، ولم يقل: إن الله آيسه، فالإياس الصائر من الشيطان لا يلزم تحقيقه واستمراره، ولكن عدو الله لما رأى ما ساءه من ظهور الإسلام في جزيرة العرب وعلوه أيس من ترك المسلمين دينهم الذي أكرمهم الله به، ورجوعهم إلى الشرك الأكبر، وهذا كما أخبر الله -سبحانه وتعالى- عن الكفار في قوله: {الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ} 2، قال المفسرون: لما رأى الكفار ظهور الإسلام في أرض العرب، وتمكنه فيها، يئسوا من رجوع المسلمين عن الإسلام إلى الكفر. قال ابن عباس وغيره من المفسرين: يئسوا أن تراجعوا دينهم، قال ابن كثير: وعلى هذا يرد الحديث الثابت في الصحيح أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن الشيطان يئس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب، ولكن في التحريش بينهم"3 يعني أن إياس الشيطان مثل إياس الكفار، وأن الكل يئس من ارتداد المسلمين، وتركهم دينهم، ولا يلزم من ذلك امتناع وجود الكفار في أرض العرب؛ ولهذا قال ابن رجب على الحديث: إن الشيطان يئس أن تجتمع

_ 1 مسلم: صفة القيامة والجنة والنار (2812) , والترمذي: البر والصلة (1937) , وأحمد (3/ 313,3/ 354,3/ 384). 2 سورة المائدة آية: 3. 3 مسلم: صفة القيامة والجنة والنار (2812) , والترمذي: البر والصلة (1937) , وأحمد (3/ 313,3/ 354,3/ 366,3/ 384).

الأمة على أصل الشرك الأكبر. يوضح ذلك ما حصل من ارتداد أكثر أهل الجزيرة بعد موت النبي -صلى الله عليه وسلم- وقتال الصديق والصحابة لهم على اختلاف تنوعهم في الردة، وقال أبو هريرة لما مات النبي -صلى الله عليه وسلم-: وكان أبو بكر وكفر من كفر من العرب، وردة بني حنيفة مشهورة. وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الشيطان يئس أن يعبده المصلون"1 معناه: أنه يئس أن يطيعه المصلون في الكفر بجميع أنواعه، لأن طاعته في ذلك هي عبادته، قال الله تعالى: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} 2. ومن استدل بالحديث على امتناع وجود كفر في جزيرة العرب، فهو ضال مضل، فماذا يقول هذا الضال في الذين قاتلهم الصديق والصحابة من العرب، وسموهم مرتدين كفارا؟ فلازم دعوى هذا الضال أنه لم يكفر أحد من العرب بعد موت النبي -صلى الله عليه وسلم-، وأن الصحابة أخطؤوا في قتالهم والحكم عليهم بالردة، وقد ثبت في الحديث الصحيح عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "لا تقوم الساعة حتى تعبد اللات والعزى" ومكانهما معلوم، وقال -صلى الله عليه وسلم-: "لا تقوم الساعة حتى تضطرب إليات نساء دوس عند ذي الخلصة"3 وهو صنم لدوس رهط أبي هريرة، بعث النبي -صلى الله عليه وسلم- جرير بن عبد الله البجلي وهدمه. وفي الحديث الصحيح من خبر الدجال: "أنه لا يدخل المدينة بل ينزل بالسبخة؛ فترجف المدينة ثلاث رجفات فيخرج منها على كافر ومنافق"4 فأخبر أن في المدينة إذ ذاك كفارا ومنافقين. ويقال -أيضا- لهذا المجادل: بين لنا الشرك الذي حرمه الله وعظم أمره

_ 1 مسلم: صفة القيامة والجنة والنار (2812) , والترمذي: البر والصلة (1937) , وأحمد (3/ 313,3/ 354,3/ 366,3/ 384). 2 سورة يس آية: 60. 3 البخاري: الفتن (7116) , ومسلم: الفتن وأشراط الساعة (2906) , وأحمد (2/ 271). 4 أحمد (4/ 338).

سئل الشيخ العالم العلامة عبد الله بن عبد الرحمن (أبا بطين)

فإنه لا يعرفه، أو يفسره بالشرك في الربوبية الذي أقر به المشركون، وحينئذ بينت له أن الشرك في الإلهية، وهو جعل شيء من العبادة لغير الله: كالسجود، ودعاء الأموات والغائبين، والذبح لهم، والنذر لهم، وهذه الأمور كانت تفعل عند مشاهد شركية في اليمن والحرمين، ومع الجن في نجد، وغيرها من الجزيرة. أيظن هؤلاء المجادلون بالباطل أن العلماء الذين نصوا على أن هذه الأفعال والأقوال من الشرك الأكبر - أنهم لا يعرفون معنى الحديث الذي أوردتموه؟ أو لا يعرفون الشرك؟ وهذا ظاهر ولله الحمد، ونص عليه العلماء، وحكوا الإجماع عليه، وأقاموا عليه الأدلة من الكتاب والسنة. فإن كابر، وعاند، فإنه لا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئا. نسأل الله أن لا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا، وأن يهب لنا من لدنه رحمة إنه هو الوهاب، والله -سبحانه وتعالى- أعلم، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم. ... [الكتابة على القبر] سئل الشيخ العالم العلامة عبد الله بن عبد الرحمن (أبا بطين) -رحمه الله تعالى- عن كتب اسم الميت على نصيبة القبر، فقال: داخل في عموم النهي عن الكتابة على القبر. [نصاب الزكاة في الأريل] وسئل كم نصاب الزكاة في الأريل*؟ فقال: إحدى وعشرون واثنان وعشرون. [الرسم على القبر] وسئل عن الرسم على القبر فقال: لا بأس، والنبي صلى الله عليه وسلم علّم على قبر عثمان بن مظعون بحجر، جعله علما عند رأسه. [فعل ذوات الأسباب في وقت النهي] وسئل عن فعل ذوات الأسباب في وقت النهي، فقال: الذي يظهر لي أن القول بجوازه أولى.

_ * أي: الريالات. [معد الكتاب للمكتبة الشاملة]

[قول "العمل لأجل الناس شرك وتركه لأجل الناس رياء"] وسئل أيضا عن "العمل لأجل الناس شرك وتركه لأجل الناس رياء"، فقال: هذا من كلام الفضيل بن عياض. [صحة قول "من مات بالحرمين بعث يوم القيامة آمنا"] وسئل عما يقولون: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من مات بالحرمين بعث يوم القيامة آمنا". فقال: كذب لا أصل له. [الصلاة على النبي عليه السلام بعد قنوت الوتر] وسئل عن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بعد قنوت الوتر فقال: مستحبة، فقيل: وآله، فقال: لا بأس كما في التشهد. [القول بان الريح أتت سليمان بن داود عليه السلام] وسئل عما ذكر من أن الريح أتت سليمان بن داود -عليه السلام-، فقال لا أصل له. [تعصيب الصبي] وسئل عما يفعل بالصبي، الذي يسمونه التعصيب، هل يجوز أم لا؟ فقال: ما علمت فيه شيئا، ولكني أكرهه، والله أعلم. [التداوي بالنجس] وسئل عما يحكى من دم البرزاني أنه دواء لعضة الكلب الكلب المسمى الآن بالمغلوث، فقال: لا أصل له، والتداوي بالنجس حرام. [سلم عليه أحد وسأله عن حاله، قال: الله يسأل عن حالك] وسئل عما يقول بعض الناس إذا سلم عليه أحد، وسأله عن حاله، قال: الله يسأل عن حالك، فقال: هذا كلام قبيح ينصح من تلفظ به. [قول البعض أمتعني الله بحياة فلان] وسئل عن قول الإنسان: أمتعني الله بحياة فلان، قال: مرادهم أن الله يبقيه ما دمت حيا، ولا يبين لي فيه بأس، والله -سبحانه- أعلم. [الوطء بعد الحيض قبل الغسل] وسئل عن الوطء بعد الحيض قبل الغسل، أفيه كفارة أم لا؟ فقال: الظاهر أنه ما فيه كفارة. [داوى عينه ليلا في رمضان فوجد طعمه نهارا في حلقه] وسئل عن ما إذا داوى الإنسان عينه ليلا في رمضان، فوجد طعمه نهارا في حلقه، هل يضر ذلك على صيامه؟ فقال: أرجو أنه ما يضر، والله -سبحانه وتعالى- أعلم.

[الاستجمار في الأرض] وسئل عن كراهة بعض الناس الاستجمار في الأرض، لأنه خُلق منها، فقال: هذا وسواس شيطاني، ما يلتفت إليه. [قول البعض: علي الحرام أو الحُرم] وسئل عما يجري على ألسنة بعض الناس من قولهم: عليّ الحرام، أو الحُرْمُ؟ فقال: إن نوى تحريم شيء فعلى نيته، وإن لم ينو شيئا فلغو، وقول: الله يحرم، بلفظ المضارع، ليس بشيء، والله -سبحانه وتعالى- أعلم. [حكم قول البعض: الله يخلي عنا] وسئل عما يجري على ألسنة بعض الناس من قولهم: الله يخلي عنا، هل فيها بأس؟ فقال: ما علمت فيها بأسا لأن معناها: الله يتسامح عنا، والله أعلم. [الحلف بقول: الله يعلم ما فعلت كذا] وسئل عن إقسام بعض الناس بقول: الله يعلم ما فعلت كذا، فقال: إن كان القائل صادقا في قوله فلا بأس، وإن كان كاذبا في قوله: الله يعلم ما فعلت كذا، وهو قد فعله، أو: الله يعلم ما صار كذا، وهو قد صار، فهذا حرام. ولو عرف القائل معنى قوله لكان قوله هذا كفرا، لأن مقتضى كلامه أن الله يعلم الأمر على غير ما هو عليه، فيكون وصفا لله بالجهل، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا، والله -سبحانه وتعالى- أعلم. [التحية التي شرعها الله] وسئل عما يستعمله كثير من الناس من قولهم في التحية: الله بالخير، فقال: هذا كلام فاسد خلاف التحية التي شرعها الله، ورضيها، وهو السلام، فقال: صبحك الله بخير، أو الله يصبحك بالخير بعد السلام، فلا ينكر، والله أعلم. [قول بعض الناس: نتبرك بالله ثم بكم] وسئل عن قول بعض الناس: نتبرك بالله، ثم بكم، نتبرك بدخولكم، نتبرك بحضرتكم، فقال: ما علمت فيه شيئا، ولا أحبه خاصة إذا قيل ذلك لمن لا يظن به خيرا. [القول بأن صخرة بيت المقدس نزلت من السماء] وسئل عما يحكى: أن صخرة بيت المقدس نزلت من السماء شيئا فشيئا، وإذا وصلت إلى الأرض قامت الساعة، فقال: هذا كذب باطل.

مسائل سئل عنها الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن (أبا بطين)

[قول بعض العوام مالك صفاتي] وسئل عما يقول بعض العوام: مالك صفاتي، ماذا يترتب عليه؟ فقال: هذا اللفظ قبيح، ولو قصد به نفي الوصيف مع أنه مراده فيما يظهر، ولو اعتقد معناه في نفي الصفات - كان كفرا، والله أعلم. [الأوراد التي تجزأ] وسئل عن الأوراد التي تجزَّأ: ورد يوم الجمعة، وورد يوم السبت، وورد يوم الأحد، ... إلخ، فقال: لا أصل له، الورد واحد لكل يوم. [معنى حديث: "أنا ابن عبد المطلب"] وسئل عن قول النبي صلى الله عليه وسلم لما غشيه الكفار يوم حنين: "أنا ابن عبد المطلب"1 فقال: هذا إظهار للافتخار، والقوة في تلك الحال. [مزق من كتب أهل السنة شيئا] وسئل عمن مزَّق من كتب أهل السنة شيئا، ما حكمه؟ فقال: إن كان الكتاب مشتملا على آيات وأحاديث، وفعل ذلك امتهانا له، واستهانة، فلا يبعد القول بكفره، والله -سبحانه وتعالى- أعلم، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم. بسم الله الرحمن الرحيم هذه مسائل سئل عنها الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن (أبا بطين) رحمه الله تعالى. [قص الشارب وحفه] (فأجاب): مسألة قص الشارب وحفه سنة مؤكدة، ويكره تركه، وصرح بعضهم بوجوب القص؛ فيكون عدم قصه محرما لحديث: "من لم يأخذ شاربه فليس منا" 2. [الموالاة في الوضوء إذا كان في بعض أعضاء الوضوء ما يتيمم له] (مسألة): اشتراط بعضهم مراعاة الموالاة في الوضوء، إذا كان ببعض أعضائه جرح، فيلزم من ذلك غسل الصحيح عند كل تيمم، وعدم

_ 1 البخاري: الجهاد والسير (2874) , ومسلم: الجهاد والسير (1776) , وأحمد (4/ 280,4/ 289,4/ 304). 2 الترمذي: الأدب (2761) , والنسائي: الطهارة (13) , وأحمد (4/ 366,4/ 368).

جواز الطهارة قبل الوقت، وفي ذلك مشقة، وأيُّ وجه يكون به الخروج؟ (الجواب): اشتراط الترتيب بين الوضوء والتيمم، إذا كان في بعض أعضاء الوضوء ما يتيمم له، فالذي يظهر لي عدم وجوب الترتيب، ولأن في ذلك حرجا، وما جعل عليكم في الدين من حرج. وكذلك يترجح عندي عدم وجوب الموالاة. فيعيد التيمم، إذا خرج الوقت الذي يتيمم فيه لبعض أعضاء الوضوء فقط، والله أعلم. [الماء القليل إذا خالطته نجاسة ولم يتغير] (مسألة): الماء إذا تغير وهو قليل فما الثابت فيه، وهل يفرق بين الجاري، والراكد أم لا؟ (الجواب): أما الماء القليل إذا خالطته نجاسة، ولم تغيره، فالذي يترجح عندنا طهارته، وأنه لا ينجس إلا بالتغير؛ لكن الاحتياط حسن، نفعله خروجا من الخلاف. [الماء إذا خالطه بول أو روث طاهر] (مسألة): ماء وردت عليه إبل، وغنم، وهو كثير، وتغير بأبوالها، هل يسلب ذلك طهوريته أم لا؟ (الجواب): الماء إذا خالطه بول، أو روث طاهر فلا يضره، إذا كان باقيا على إطلاقه. وما تلقيه الريح، والسيول يعفى عنه. [استدان من المرتهن دينا آخر وأدخله في الرهن] (مسألة): إذا كان على زيد لعمر دين، وله به رهن، وأعطاه دينا أيضا، وقال: أنا على رهني السابق، هل يجوز ذلك أم لا؟ (الجواب): وبالله التوفيق، ما يفعله بعض الناس اليوم، إذا كان عنده رهن -مثلا- في مائة -مثلا- ثم استدان من المرتهن دينا آخر، وأدخله في الرهن، فالأكثر من العلماء لا يجوزون ذلك، وهو المشهور في المذهب، وفيه قول آخر بالجواز، وعمل الناس عليه، ويحكم به، والله أعلم. [الحاج الذي نوى الإقامة بمكة فوق أربعة أيام، هل له القصر أم الجمع] (مسألة): من كان بعرفة ممن نوى الإقامة بمكة فوق أربعة أيام، هل

الأولى له القصر، أو الجمع؟ (الجواب): أما الحاج الذي نوى الإقامة أكثر من أربعة أيام بمكة، فالجمهور على أنه يجوز له الجمع بعرفة، ومزدلفة. وأما القصر بعرفة فالاحتياط الإتمام. [طهارة المني] (مسألة): اشتراط بعضهم أن طهارة المني لا تكون إلا بعد استنجاء، أو استجمار، وقال قائل: وكذا حكم رطوبة فرج المرأة، هل طهارتها على الإطلاق، أو يتوجه تقييدهم؟ (الجواب): أما القول في طهارة المني فهو مذهب أحمد، والشافعي، لكن الشافعية يشترطون كون خروجه بعد الاستنجاء بالماء. والحنابلة يقولون بطهارته، ولو كان خروجه بعد استجمار بالحجر، ونحوه، فإن لم يتقدمه استجمار شرعي ففي النفس منه شيء، ولم أر من صرح بحكمه والحالة هذه. واستدلوا على رطوبة فرج المرأة بدلالة السنة على طهارة المني، ولو كان من جماع، لحديث عائشة -رضي الله عنها-: أنها كانت تفرك المني من ثوب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا كان يابسا، وهو -صلى الله عليه وسلم- لا يحتلم، والحديث مطلق. ومني الرجل في الجماع يباشر رطوبة فرج المرأة، فدل على طهارتها، لكن صرح الشافعي بأن رطوبة فرج المرأة إذا انفصلت عن محلها تنجس من أصابته، ولم أر لأصحابنا تصريحا بذلك، والله أعلم. [بيع السلم لمن هو عليه بشرط قبضه ثمنه] (مسألة): بيع السلم لمن هو عليه بشرط قبضه ثمنه، هل يصح أم لا؟ (الجواب): أما دين السلم لمن هو عليه، فأكثر أهل العلم لا يجوزونه، والشيخ تقي الدين يرى الجواز. [صلاة من أدرك الإمام بعد الرفع من الركوع ولم يتابعه في السجود] (مسألة): إذا دخل المسبوق مع الإمام، ولم يدرك الركوع مع الإمام

من عبد الله بن عبد الرحمن (أبا بطين) إلى جناب الأخ المكرم صالح بن عبد الرحمن بن عيسى

[إذا لم يتابع إمامه في السجود، هل تبطل صلاته أم لا؟] (الجواب): أما الذي يدخل مع الإمام بعد رفعه من الركوع فإنه يجب عليه متابعته، لكن أرجو أن ذلك يغتفر في حق الجاهل. [رهن الضامن في الدين الذي ضمن] (مسألة): رهن الضامن في الدين الذي ضمن، يصح ذلك أم لا؟ (الجواب): أما رهن الضامن فلا يصح؛ لأنه لم يثبت له حق عند المضمون عنه، ولا يعلم أنه يؤول إلى الثبوت. [دخل المأموم مع الإمام بنية القصر] (مسألة): إذا دخل المأموم مع الإمام لظنه أنه مسافر لعلامة رآها، فأتم إمامه، ماذا له؟ (الجواب): إذا دخل المأموم مع الإمام بنية القصر لظنه أن الإمام مسافر، لعلامة رآها، فأتم إمامه، نوى الإتمام، وأجزأته صلاته، والله أعلم. [عق الابن عن نفسه إذا لم يعق عنه أبوه] (مسألة): إذا لم يعق الأب عن ابنه، هل للابن أن يعق عن نفسه؟ (الجواب) وبالله التوفيق: العقيقة مشروعة في حق الأب فقط، عند الجمهور، واستحب جماعة من الحنابلة أن يعق عن نفسه، إذا بلغ. وهي مشروعة، ولو بعد موت المولود، والله أعلم، وصلى على محمد وآله وصحبه وسلم. بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله بن عبد الرحمن (أبا بطين) إلى جناب الأخ المكرم صالح بن عبد الرحمن بن عيسى، سلمه الله تعالى. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. (وبعد): فالموجب لتحريره إبلاغ السلام، ومن حال ما سألت عنه، [حجز مكان في المسجد وخروج المعتكف من مسجده] فإذا صار إنسان يجلس في المسجد فلا بأس كونه يجعل عصاه في مكان فاضل، بحيث أنه ما يخرج من المسجد إلا لما لا بد منه، من نحو وضوء، وكذلك

من عبد الله بن عبد الرحمن (أبا بطين) إلى جناب الأخ المكرم الشيخ عثمان بن علي بن عيسى

لفطور، وسحور، ونحوه، فلا بأس بجعله عصاه في مكان فاضل. وإن كان يحط عصاه في مكان، ويخرج لأشغاله لنحو: بيع وشراء أو كد ونحوه، فلا ينبغي لمثل هذا يحط عصاه في مكان يحميه عن غيره. وأما الذي ما يخرج إلا لنحو أكل وشرب أو وضوء، فلا بأس بجعله عصاه في مكان فاضل؛ ليجوز فضيلة الصف الأول، أو وسط الصف، وكذلك الجمعة، وغيرها. وأما من دخل المسجد، ووجد فيه عصى يضعونها أهلها، ويخرجون لغُرضانهم - فلا بأس بتوخيرها، والمجيء في موضعها، فإن حاذرت من شيء يصير في نفس أخ لك، إذا أخرت عصاه، وجلست في مكانه، فالذي أُحِبُّ تركها، والجلوس في مكان آخر. ولا تنسنا -يا أخي- من دعائك في هذا الشهر المبارك، وفي الحديث الصحيح: "إن الإنسان إذا دعا لأخيه بظهر الغيب، قال الملك: ولك بمثل ذلك"1. ومن حال خروج المعتكف لغسل الجمعة، فلا يخرج له، ولا لغيره من السنن إلا أن يشترط ذلك في أول اعتكافه، فيجوز له الخروج، ويصح شرطه. وأما السحور: وهو مسنون، وإن قل، كما في الحديث "ولو أن يجرع أحدكم جرعة من ماء"2. والسلام، انتهى. بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله بن عبد الرحمن (أبا بطين) إلى جناب الأخ المكرم الشيخ عثمان بن علي بن عيسى، سلمه الله تعالى. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وموجب الخط إبلاغ السلام، [كتاب الحاكم إلى الولاة برؤية الهلال والعمل به] وما

_ 1 مسلم: الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2732) , وأبو داود: الصلاة (1534) , وابن ماجه: المناسك (2895) , وأحمد (5/ 195,6/ 452). 2 أحمد (3/ 12).

ذكرت من حال كتاب الحاكم برؤية الهلال، فالذي يظهر لي العمل به، والاعتماد عليه في ذلك، لأن الفقهاء ذكروا أنه إذا رُئِىَ هلال رمضان بمكان لزم جميع الناس الصوم؛ وإنما يثبت ذلك غالبا في حق غير أهل موضع الرؤية بأخبار الثقات فرعا عن أصل، وخطوط القضاة، بل أهل موضع الرؤية، ليسوا كلهم يأتون إلى الشاهد برؤية الهلال ليسمعوا شهادته، بل يعتمدون على أخبار بعضهم بعضا عن الشاهد، كشهادة الفرع على الأصل. فإذا تقرر قبول خبر الفرع، أو شهادته في ذلك، فكذا كتاب القاضي؛ لأن الفقهاء ذكروا أنه لا تقبل الشهادة على الشهادة إلا فيما يقبل فيه كتاب القاضي إلى القاضي، وأن كتاب القاضي حكمه كالشهادة على الشهادة. وكلامه في الكافي صريح في قبول الشهادة على الشهادة في ذلك، لما ذكر وجهين في قبول قول المرأة في هلال رمضان. قال في تعليل الوجه الثاني: ولهذا لا يقبل فيه شهادة الفرع مع إمكان شاهد الأصل، فدل كلامه على قبول شهادة الفرع مع الإمكان، ونظره صاحب الفروع بقوله: كذا قال، والذي يظهر لي أن تنظيره إنما هو لاعتباره لقبول شهادة الفرع عدم إمكان شاهد الأصل، كما قدمنا أن المسلمين يعتمدون على ذلك مع الإمكان وعدمه. ولعلك وقفت على قول شارح الإقناع عند قول الماتن في حكم كتاب القاضي: لا يقبل في حد لله -تعالى- كزنى، ونحوه، قال الشارح: وكالعبادات؛ ووجه ذلك لأنه لا مدخل لحكمه في عبادة، فكذا كتابه. قال الشيخ تقي الدين: أمور الدين والعبادات المشتركة لا يحكم فيها إلا الله ورسوله إجماعا، قال في الفروع عقبه: فدل أن إثبات سبب الحكم كرؤية الهلال، والزوال ليس بحكم ... إلخ، فدل ذلك أن كتاب

القاضي بإثبات رؤية الهلال ليس حكما في عبادة، ولا إثباتا لها، وإنما هو لإثبات سببها، فلا ينافي كونه لا يقبل في عبادة، وكونه لا يحكم فيها. وقد صرحوا بأنه لا مدخل لحكمه في عبادة ووقت، وإنما هو فتوى، فدل كلامهم على أن إثباته لرؤية الهلال -مثلا- فتوى، والفتوى يعمل فيها بالخط، وإن كان كتابه: شهد عندي فلان وفلان -مثلا- برؤية الهلال، ففرع على أصل، لا فتوى. والله -سبحانه- أعلم. ومن طرف هلال رمضان شهد على رؤيته رجلان من أهل الرَّسِّ، شهدا برؤيته ليلة الجمعة، وجماعتهم يزكونهم، ونحن نعمل بشهادتهما عند ظهوره، إن شاء الله -تعالى- أحببنا إخباركم. [استدخلت ذكر زوجها وهما محرمان] وما ذكرت من حال المرأة التي استدخلت ذكر زوجها، وهما محرمان، مرادكم وهو نائم، هل يجب عليه كفارة أم لا؟ وهل تحملها عنه الزوجة كالنفقة أم لا؟ فالظاهر وجوب الفدية عليه، لأن هذا نوع إكراه، والمكره تجب عليه الفدية على الصحيح من المذهب، قال في الإنصاف في باب ما يفسد الصوم، ويوجب الكفارة: عند قول المصنف: وإذا جامع في نهار رمضان ... إلخ شمل كلام المصنف المكره، وهو الصحيح من المذهب، نص عليه، وعليه أكثر الأصحاب، وسواء أُكره حتى فعله، أو فعل به من نائم، وغيره، إلى أن قال: وحيث فسد الصوم بالإكراه؛ فهو في الكفارة، كالناسي على الصحيح من المذهب، وقيل: يرجع بالكفارة على من أَكرهه، قلت: وهو الصواب، انتهى. فتبين بذلك أن المذهب وجوب الكفارة على من استدخلت زوجته ذكره، وهو نائم، وأنها لا تتحملها عنه على الصحيح من المذهب، كما تتحمل نفقة القضاء، والله أعلم.

العدد الذين تصح بهم الجمعة

[تعليق عتق الغلام على شرط] وأما من قيل له: لم ضربت غلامك، ولم أدميته؟ فقال: إن كان ظهر منه دم فهو حر، هل يعتق بذلك التعليق إذا وجد الشرط هو وظهور الدم؟ فالظاهر أنه يعتق، إذا كان قد وجد الشرط، وهو ظهور الدم، والتعليق على الماضي معلوم في الكتاب، والسنة، والله أعلم. [الاجتماع للصلاة عند نزول الوباء] وما سألت عنه، هل للاجتماع للصلاة عند نزول الوباء أصل؟ فأنا ما علمت لذلك أصلا من كونه يشرع لذلك صلاة كالاستسقاء، والكسوف، وإنما حصل الاختلاف في الفنون لرفعه. ولما وقع عندنا في السنة الماضية أكثروا علينا الجماعة، وذكرت لهم أني ما علمت لهذا أصلا، فبالغوا ظنا منهم أن ما بينه وبين رفعه إلا الصلاة، فوافقناهم، وقلنا: أتوا صلاة توبة. وأما ما يفعله بعض الناس من ذبح شاة، أو غيرها، يسمونه فدية، فهذا لا شك في أنه بدعة ما يجوز، انتهى. [العدد الذين تصح بهم الجمعة] بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله بن عبد الرحمن (أبا بطين) إلى جناب الولد المكرم سليمان بن عبد العزيز، سلمه الله تعالى. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. ومن حال عدد الجمعة، واعتبار الأربعين، وعدم اعتبار ذلك، فالخلاف فيه مشهور، وأظن عادة جماعتك في السابق أنهم يصلون جمعة مع نقصهم عن الأربعين، وأنهم فعلوا ذلك بفتوى مفتٍ، فإن استمررتم على عادتهم، فأرجو أن ما عليكم خلاف، فإن أحبوا أنهم يصلون ظهرا، ولا يجمعون - فهو فيما أرى أحوط، والله أعلم، انتهى. [الذي طلق زوجته وأقر أنها خرجت من العدة قبل مرضه] ومن جواب للشيخ عبد الله بن عبد الرحمن (أبا بطين) قال: وأما

قسمة الوقف على مستحقيه

الذي طلق زوجته، وأقر أنها خرجت من العدة قبل مرضه، فإنه يعمل بقوله، ولا يقبل قولها، إن واقعها بعد ذلك إلا ببينة، والله -سبحانه وتعالى- أعلم. [قسمة الوقف على مستحقيه] بسم الله الرحمن الرحيم من محمد بن عبد الله بن مانع إلى جناب الشيخ المكرم عبد الله بن عبد الرحمن (أبا بطين) سلمه الله تعالى. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وموجب الخط إبلاغ جنابك الشريف جزيل السلام، والسؤال عن الحال، لازلت محروسا في خير، وعافية، وغير ذلك. ما قولك -رفع الله قدرك- في ريع عقار وقف، انتقل من طبقة إلى طبقة أرضا، أو نخلا، من مزارعة أو مساقاة، أو أجرة بعد ظهور الثمرة، ومتى تستحق الطبقة الثانية لذلك، وهل بين من كان يستحقها بوصف، أو مقابلة عمل فرق؟ أفتونا مأجورين. بسم الله الرحمن الرحيم وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته. (وبعد): فالجواب -وبالله التوفيق-: الكلام في هذه المسألة كالكلام في الحمل، في أنه يتجدد حقه من الوقف بوضعه، لا قبله من ثمر وزرع، كتجدد حق المشتري، هذا هو المشهور في المذهب. ومن المعلوم أنه إذا بيعت أرض، وفيها زرع كبر، ونحوه، أنه للبائع ما لم يشترطه المشتري، فهكذا حكم الحمل المستحق للوقف بعد وضعه.

قال في المغني: ومن وقف على أولاده، وأولاد غيره، وفيهم حمل، لم يستحق شيئا قبل انفصاله. قال أحمد في رواية جعفر بن محمد فيمن وقف نخلا على قوم: وما توالدوا، ثم ولد مولود، فإن كان النخل قد أُبِّرت، فليس له فيه شيء، وهو للأول، وإن لم تكن قد أبرت فهو معهم. وإنما قال ذلك لأنها قبل التأبير تتبع الأصل في البيع، وهذا الموجود يستحق نصيبه، فيتبعه حصته من الثمر، كما لو اشترى ذلك النصيب من الأصل، وبعد التأبير لا تتبع الأصل، ويستحقها من كان له الأصل، فكانت للأول لأن الأصل كان كله له، فاستحق ثمرته، كما لو باع هذا النصيب منها، ولم يستحق المولود منها شيئا، كالمشتري، وهكذا الحكم في سائر ثمر الشجر الظاهر، فإن المولود لا يستحق منه شيئا، ويستحق مما ظهر بعد ولادته، وإن كان الوقف أرضا، فيها زرع، يستحقه البائع -فهو للأول، وإن كان مما يستحقه المشتري فللمولود حصته منه لأن المولود يتجدد استحقاقه للأصل كتجدد ملك المشتري فيه. انتهى كلامه. وهذا التعليل الذي علل به ظاهر في أن حكم الطبقة الثانية حكم الحمل، وهذا واضح، ولله الحمد. قال في الإنصاف: تجدد حق الحمل بوضعه من ثمر، وزرع كمشتر، نقله المروذي، وجزم به في المغني والشرح والحارثي، وقال: ذكره الأصحاب في الأولاد، وقدمه في الفروع. ونقل جعفر: يستحق من زرع قبل بلوغه الحصاد، ومن نخل لم يُؤَبَّر، فإن بلغ الزرع الحصاد، وأُبِّر النخل -لم يستحق شيئا ... إلى أن قال: قال في الفروع: ويشبه الحمل إن قدم إلى تغير موقوف عليه فيه، أو خرج منه إلى بلد موقوف عليه فيه، نقله يعقوب، قال: وقياسه

من نزل في مدرسة ونحوه. قال ابن عبد القوي: ولقائل أن يقول: ليس كذلك، لأن واقف المدرسة ونحوها، جعل ريع الوقف في السنة كالجعل على اشتغال من هو في المدرسة عاما، فينبغي أن يستحق بقدر عمله من السنة من ريع الوقف في السنة لئلا يفضي أن يحضر الإنسان شهرا -مثلا- فيأخذ مغل جميع الوقف ويحضر غيره باقي السنة بعد ظهور الثمرة، فلا يستحق شيئا؛ وهذا يأباه مقتضى الوقوف ومقاصدها. انتهى. قال الشيخ تقي الدين: يستحق بحصته من مغله، وقال: من جعله كالولد فقد أخطأ، وللورثة من المغل بقدر ما باشر مورثهم، انتهى. قال في القواعد الفقهية: واعلم أن ما ذكرناه في استحقاق الموقوف عليه هاهنا إنما هو إذا كان استحقاقه بصفة محضة مثل كونه ولدا، أو فقيرا، ونحوه. أما إن كان استحقاقه الوقف عوضا عن عمل، وكان المغل كالأجرة، فيقسط على جميع السنة، كالمقاسمة القائمة مقام الأجرة، حتى من مات في أثنائه استحق بقسطه، وإن لم يكن الزرع قد وجد، وبنحو ذلك أفتى الشيخ تقي الدين. انتهى. فظهر من كلامهم أن من كان استحقاقه بصفة ككونه ولدا فقيرا ونحو ذلك، أن حكمه في الاستحقاق من زرع الأرض الموقوفة، وثمر الشجر الموقوف حكم المشتري، هذا هو المعمول به في المذهب. وأما من كان استحقاقه في مقابلة عمل ففيه الخلاف كما تقدم، فصاحب الفروع قاس هذه المسألة قبلها، فقال: وقياسه من نزل في مدرسة ونحوه، وتبعه في الإقناع وغيره، وكلام الشيخ تقي الدين وابن عبد القوي وابن رجب بخلاف ذلك، والعمل به أولى، إن شاء الله تعالى.

وأما إن كان الوقف مؤجرا، فالذي ظهر لنا من كلامهم أن الأجرة تقسط على جميع السنة، فمن مات من المستحقين في أثناء السنة، فله من الأجرة بقدر ما مضى من السنة، وهو صريح في كلام بعضهم، كما قال ابن رجب -رحمه الله تعالى- في أثناء كلام له، قال: كما نقول في الوقف إذا انتقل إلى البطن الثاني، ولم تنفسخ إجارته، إنهم يستحقون الأجرة من يوم الانتقال، انتهى. فهذا على القول بأنها لا تنفسخ بموت المؤجر من الطبقة الأولى، وعلى القول الثاني الذي هو الصحيح عند ابن رجب، وصححه -أيضا- الشيخ تقي الدين، وصوبه في الإنصاف، أنها تنفسخ، فإن المنافع تنتقل للطبقة الثانية، فتكون الأجرة لهم من حين انتقل الوقف إليهم. قال ابن رجب -أيضا- في أثناء كلام له: ومن أمثلة ذلك الوقف، إذا زرع فيه أهل البطن الأول، أو من حين أجروه، ثم انتقل إلى البطن الثاني، والزرع قائم. فإن قيل: أن الإجارة لا تنفسخ، وللبطن الثاني حصتهم من الأجرة، فالزرع يبقى لمالكه بالأجرة السابقة. وإن قيل بالانفساخ -وهو المذهب الصحيح- فهو كزرع المستأجر بعد انقضاء المدة، إذا كان بقاؤه بغير تفريط من المستأجر فيبقى بالأجرة إلى أوان أخذه. وقد نص عليه الإمام أحمد -رحمه الله تعالى- في رواية مُهَنَّا في مسألة الإجارة المنقضية، وأفتى به في الوقف الشيخ تقي الدين، والله -سبحانه وتعالى- أعلم. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

من محمد بن عبد الله بن سليم إلى جناب شيخنا المكرم عبد الله بن عبد الرحمن (أبا بطين)

بسم الله الرحمن الرحيم من محمد بن عبد الله بن سليم إلى جناب شيخنا المكرم عبد الله بن عبد الرحمن (أبا بطين)، سلمه الله تعالى. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وموجب الخط إبلاغ السلام. وبعد ذلك أمتعنا الله بحياتك، ما قولك في حديث "ليس في أهل البدع غيبة" رواه البيهقي في الشعب بسند جيد، فهل يؤخذ من هذا جواز أهل البدع على الإطلاق؟ وما جنس البدع التي تبيح العرض؟ الثانية: "من ألقى جلباب الحياء فلا غيبة له" رواه البيهقي في السنن، والشعب عن أنس. وقال: ليس بالقوي، ما معنى هذا الكلام؟ الثالثة: حديث: "بئس مطية الرجل: زعموا"1 رواه أحمد، وأبو داود عن حذيفة، وابن مسعود. ما معناه؟ الرابعة: ما يُروى: عرضنا على رسول -الله صلى الله عليه وسلم- رقية الحمد، فأذن فيها، وقال: "إنما هي من مواثيق الجن وهي هذه: بسم الله شجة قرينة قفطاء" رواه الطبراني في الأوسط، هكذا ذكره ابن الجزري في الحصن الحصين. وذكر -أيضا- موقوفا "إذا خَدَرت رجله فليذكر أحب الناس إليه". الخامسة: لما قال الخضر لموسى -عليه السلام- لما نقر العصفور في البحر: ما نقص علمي وعلمك من علم الله إلا كما نقص هذا العصفور من هذا البحر، قال بعضهم: فهذا وما شاكله راجع إلى المعلومات؛ لأن علم الله الذي هو صفة لا يتبعض، ما هذا الكلام المتفرع على كلام الخضر؟ وما يروى عن ابن عمر: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نشرب على بطوننا، ونهانا أن نغرف باليد الواحدة كما يشرب القوم الذين سخط الله عليهم، ولا

_ 1 أبو داود: الأدب (4972) , وأحمد (4/ 119,5/ 401).

يشرب في الليل في إناء حتى يحركه إلا أن يكون مخمرًا، ومن شرب بيد وهو يقدر على إناء يريد التواضع كتب له الله بعدد أصابعه حسنات، وهو إناء عيسى بن مريم عليه السلام". وما يروى: "من قرأ آية الكرسي دبر كل صلاة كان الذي يتولى قبض روحه ذو الجلال والإكرام". وما يروى عن علي رضي الله عنه قال: سمعت نبيكم على أعواد المنبر، وهو يقول: "من قرأ آية الكرسي لم يمنعه من دخول الجنة إلا الموت، ولا يواظب عليها إلا صديق أو عابد" إلخ. وإذا رأى هلال شوال عدلان، ولم يشهدا عند الحاكم، أو شهدا، وردت شهادتهما للجهل بحالهما، فهل الأولى لهما أو لمن عرف عدالتهما الفطر أم لا؟ وإذا أُشْهِدَ أحد من الأعراب في دخول رمضان، أو غيره من الشهور، فهل تقبل شهادته أم لا؟ وعن قوله -صلى الله عليه وسلم-: "لا تزال الملائكة تصلي على أحدكم ما دام في مجلسه الذي صلى فيه ما لم يُحْدِث"1 فهل إذا تحول الإنسان من مجلسه إلى موضع آخر في المسجد، هل يحصل له ذلك، أم لا بد من تخصيص موضع الصلاة نفسه؟ وعن قول الشيخ عثمان -رحمه الله تعالى-: والحاصل أن الصفة تعتبر من حيث هي هي، وتارة من حيث قيامها به تعالى، وتارة من حيث قيامها بغيره، وليست الاعتبارات الثلاث متماثلة؛ إذ ليس كمثله شيء: لا في ذاته، ولا في شيء من صفاته، ولا في شيء من أفعاله، وهو السميع البصير. فاحفظ هذه القاعدة؛ فإنها مهمة جدا، بل هي التي أغنت السلف الصالح

_ 1 البخاري: الصلاة (445) , ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (649) , والنسائي: المساجد (733) , وأبو داود: الصلاة (469) , وأحمد (2/ 289,2/ 312) , ومالك: النداء للصلاة (382).

عن تأويل آيات الصفات، وأحاديثها، وهي العاصمة لهم من أن يفهموا من الكتاب والسنة مستحيلا عن الله -تعالى- من تجسيم، أو غيره، ثم بعد إثباتي لهذه القاعدة رأيتها منصوصة في كلام السيد المعين، ثم رأيته قد سبقه إليها العلامة ابن القيم، انتهى. بين لنا هذه العبارات الثلاث، ومن هو السيد الذي ذكر؟ وعن قوله عز وجل {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} 1، قال سفيان: فرق الله بين الخلق والأمر، فمن جمع بينهما فقد كفر، بين لنا قول سفيان، وما صفة الجمع وضده في قوله: فمن جمع بينهما فقد كفر. أفتنا، أثابك الله الجنة والسلام. بسم الله الرحمن الرحيم وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته. وبعد: (فالجواب)، وبالله التوفيق: [حديث ليس في أهل البدع غيبة] أما الأثر المروي عن الحسن -رحمه الله تعالى- قوله: "ليس لأهل البدع غيبة"، فمعناه صحيح، نص العلماء على جواز غيبة أهل البدع، وأطلقوا؛ فيتناول كل مبتدع، وبعضهم خص ذلك بالداعي إلى البدعة. قال الشيخ تقي الدين أحمد بن تيمية -رحمه الله تعالى- بعد ما أَنجز كلامه في الغيبة، فقال: لكن يباح من ذلك ما أباحه الله ورسوله، وهو ما يكون على وجه القصاص والعدل، وما يحتاج إليه لمصلحة الدين، ونصيحة المسلمين. فالأول: كقول المشتكي المظلوم: فلان ضربني، وأخذ مالي، ومنعني حقي ... إلى أن قال، وكذلك بيان أهل العلم، من غلط في أمر رآه في أمر الدين من المسائل العلمية، والعملية، فهذا إذا تكلم فيه الإنسان بعلم، وعدل، وقصد

_ 1 سورة الأعراف آية: 54.

النصيحة فالله يثيبه على ذلك، لا سيما إذا كان المتكلم فيه داعيا إلى بدعته، فهذا يجب بيان أمره للناس؛ فإن دفع شره عنهم أعظم من دفع شر قاطع الطريق، انتهى. فدل كلامه على جواز ذلك في جميع أهل البدع، بل استحبابه بالشرط الذي ذكره، وأن ذلك واجب في حق الداعي إلى بدعته. وذكر النووي في رياض الصالحين ستة أسباب تباح فيها الغيبة، ذكرها عن العلماء، قال: ومنها إذا رأى متفقها يتردد إلى مبتدع، أو فاسق، يأخذ عنه العلم، وخاف أن يتضرر المتفقه بذلك فعليه نصيحته ببيان حاله، بشرط أن يقصد النصيحة ... إلى أن قال: (الخامس) أن يكون مجاهرا بفسقه، وبدعته، إلى آخر كلامه، رحمه الله تعالى. واستدل لذلك بأحاديث منها: حديث عائشة -رضي الله عنها- أن رجلا استأذن على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "ائذنوا له بئس أخو العشيرة"1 قال: واحتج به البخاري في جواز غيبة أهل الريب، والفساد. وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني -رحمه الله تعالى- في شرح هذا الحديث بعد كلام سبق: بل كل من اطلع من حال شخص على شيء، وخشي أن غيره يغتر بجميل ظاهره؛ فيقع في محذور ما، فعليه أن يطلعه على ما يحذر من ذلك قاصدا نصيحته. والإمام أحمد -رحمه الله تعالى- مع ورعه -قد تكلم في أناس بأعيانهم، وحذر منهم، ومنهم من ليس معروفا بالبدعة، مثل: كلامه في الحارث المحاسبي، وقال: لا يغُرَّنك لينه، وخشوعه؛ فإنه رجل سوء، لا يعرفه إلا من خَبَرَه. وكلامه -رحمه الله تعالى- في أهل البدع، والتحذير منهم كثير. [حديث: "من ألقى جلباب الحياء فلا غيبة له"] وأما ما روي: "من ألقى جلباب الحياء فلا غيبة له" فالمراد به: المجاهر

_ 1 البخاري: الأدب (6054) , وأبو داود: الأدب (4792) , وأحمد (6/ 38,6/ 79).

بالمعصية، فإنه يجوز ذكره بما يجاهر به، كما تقدم من كلام الثوري، ونقله ذلك عن العلماء. [حديث "بئس مطية الرجل زعموا"] وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "بئس مطية الرجل: زعموا"1، فهذا مثل ما في الحديث الصحيح: "إن الله كره لكم قيل وقال"2 ومعناه: أن يُحَدَّث الإنسان بكل ما سمع، فيقول: قيل كذا، وقال فلان كذا، مما لا يعلم صحته، ولا يظنها، وهو معنى الحديث الآخر "كفى بالمرء كذبا أن يحدث بكل ما سمع"3. وشبه حديث الإنسان الذي يحدث به، ويخبر به بالمطية التي يركبها، والله أعلم. [حديث "الرقية الذي فيه إنها من مواثيق الحمد"] والحديث الذي فيه الرُقْيَة، التي قال فيها: إنها من مواثيق الجن، ما أعرف معنى هذه الألفاظ، ولعلها ألفاظ ليست عربية، والله أعلم. وأما الأثر الذي فيه: أن من خدرت رجله فليذكر أحب الناس إليه، فهذا الأثر مروي عن ابن عمر، أو ابن عباس من قوله: ليس مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم. وفي الأثر أن المقول له قال: محمد، يعني أن أحب الناس إليه محمد صلى الله عليه وسلم، فلما قال ذلك زال خدره، فإن صح فلعل الله -سبحانه وتعالى- جعل في ذكر النبي صلى الله عليه وسلم عند هذا الأمر خاصية، والله أعلم. ولم يقل: يا محمد، أزل خدري، أو أشكو إليك خدر رجلي، كما قد احتج بهذا من يجوز دعاء النبي صلى الله عليه وسلم والاستغاثة به، وسؤاله قضاء الحاجات، وتفريج الكربات. [المقصود بعلم الله تعالى] وأما قول من قال في قول الخضر لموسى: ما نقص علمي وعلمك من علم الله إلا كما نقص هذا العصفور من البحر، وقال: إن المراد بعلم الله معلومه، فهذا على طريقة أهل التأويل في صفات الرب -سبحانه- كما يقوله البيضاوي

_ 1 أبو داود: الأدب (4972) , وأحمد (4/ 119,5/ 401). 2 مسلم: الأقضية (593). 3 مسلم: مقدمة (5) , وأبو داود: الأدب (4992).

وأمثاله في قوله -سبحانه-: {وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ} 1 أي: من معلومه. وأما مفسرو أهل السنة: كابن جرير، والبغوي، وابن كثير فأقروه على ظاهره، فقالوا: {وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ} 2 أي: لا يطلع أحد من علم الله على شيء إلا بما علَّمه الله -سبحانه- وأطلعه الله عليه. وقول الخضر يشهد له قول الله عز وجل: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} 3، هل يسوغ أن يقال: وما أوتيتم من المعلوم إلا قليلا؟ وقال تعالى {لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ} 4 قال ابن كثير: أنزله بعلمه أي فيه علمه الذي أراد أن يطلع العباد عليه من البينات، والهدى، والفرقان، وما يحبه الله، وما يكرهه، وما فيه من العلم بالغيب، وما فيه من ذكر صفاته المقدسة، كما قال تعالى: {وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ} 5. وقال الخضر لموسى: إني على علم من علم الله لا تعلمه أنت، وأنت على علم من علم الله علَّمَك إياه لا أعلمه؛ فهذا كله يبطل قول من تأول العلم بالمعلوم، وأي محذور في إجرائه على ظاهره، والله أعلم. [الشرب باليد الواحدة والشرب على البطن] وما ذكرت من النهي عن الشرب باليد الواحدة، وحديث الترغيب في الشرب باليد، فلا أظن لذلك أصلا، والله أعلم. وأما الشرب على البطن يراد به: الكرع في الماء، فقد ورد حديث يدل على جواز الكرع، ففي البخاري أن -النبي صلى الله عليه وسلم- دخل على رجل من الأنصار، فقال له: "إن كان عندك ماء بات هذه الليلة في شنة وإلا كَرَعنا"6 والكرع: هو الشرب من النهر ونحوه، بالفم من غير إناء، ولا يد. وورد حديث رواه ابن ماجه بالنهي عن الشرب كذلك، فيحمل هذا إن صح على ما إذا انبطح الشارب على بطنه، وحديث البخاري إذا لم ينبطح،

_ 1 سورة البقرة آية: 255. 2 سورة البقرة آية: 255. 3 سورة الإسراء آية: 85. 4 سورة النساء آية: 166. 5 سورة البقرة آية: 255. 6 البخاري: الأشربة (5613,5621) , وأبو داود: الأشربة (3724) , وأحمد (3/ 328,3/ 343,3/ 344,3/ 355).

أو يحمل النهي على التنزيه، وحديث البخاري على الجواز، والله أعلم. [الأحاديث الواردة في فضل آية الكرسي] وأما الأحاديث الواردة في فضل آية الكرسي، فمنها ما هو صحيح ثابت، ومنها ما ليس بصحيح، والظاهر أن الحديث الذي فيه: "إن الله يتولى قبض روح من قرأها دبر كل صلاة" لا يصح، وكذلك الحديث المروي عن علي رضي الله عنه، الظاهر عدم صحته، والله -سبحانه وتعالى- أعلم. وروى النسائي وابن حبان عن أبي أمامة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من قرأ دبر كل صلاة مكتوبة آية الكرسي، لم يمنعه من دخول الجنة إلا أن يموت"، قال ابن القيم: بلغني عن شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- أنه قال: ما تركتها بعد كل صلاة إلا نسيانا؛ أو نحوه، وقال شيخنا أبو الحجاج المزي: إسناده على شرط البخاري. قال ابن كثير: وروى ابن مردويه من حديث علي، وجابر، والمغيرة نحو ذلك، وفي أسانيدها ضعف. [حديث صلاة الملائكة على المصلي ما دام في مجلسه] وأما حديث صلاة الملائكة على المصلي ما دام في مجلسه الذي صلى فيه، فالذي يظهر أن حكم المسجد الذي صلى فيه حكم موضع صلاته، والله أعلم. [شهد عدلان برؤيه الهلال وردت شهادتهما لجهالة حالهما] وأما قبول شهادة الأعراب بالهلال فحكمهم حكم الحضر: لا يحكم بشهادة مجهول الحال، والأعرابي الذي عمل النبي صلى الله عليه وسلم بشهادته يحتمل أنه يعرف حاله. والعلماء لم يفرقوا في هذه المسألة بين البادية والحاضرة. وأما مسألة الرؤية لهلال شوال إذا شهد به شاهدان، ولم يشهدا عند الحاكم، أو شهدا عنده ولم يحكم بشهادتهما، فهل لهما ولمن عرف عدالتهما الفطر أم لا؟ أما إذا انفرد واحد بالرؤية فنص أحمد أنه لا يفطر، وهو قول مالك وأبي حنيفة، وهو مروي عن عمر وعائشة، لحديث: "صومكم يوم تصومون،

وفطركم يوم تفطرون"1 وقيل: يفطر سرا، وهو قول الشافعي. قال المجد: ولا يجوز إظهاره بالإجماع، وكذا الحكم إذا رآه عدلان ولم يشهدا عند الحاكم، أو شهدا عنده، ورَدَّ شهادتهما لجهله بحالهما، فالمذهب أنه لا يجوز لهما ولا لمن عرف عدالتهما الفطر، للحديث السابق، ولما فيه من الاختلاف وتشتيت الكلمة، وجعل مرتبة الحكم لكل أحد. وهذا القول اختيار الشيخ تقي الدين، واختار الموفق أنه يجوز له الفطر، لحديث: "وإن شهد شاهدان، فصوموا وأفطروا"2 رواه أحمد وغيره. [تأويل آيات الصفات وأحاديثها] وقول الشيخ عثمان: إن الصفة تعتبر من حيث هي هي ... إلخ، يعنى لها ثلاث اعتبارات: تارة تعتبر من حيث هي هي، أي: تعتبر منفردة من غير تعلقها بمحل، مثال ذلك: البصر، فيقال: البصر من حيث هو هو ما تدرك به المُبْصَرات، ومن حيث تعلقه بمخلوق فيقال: هو نور في شَحمة تسمى إنسان العين، تحت سبع طبقات في حدقة ينطبق عليها جفنان. وأما بالنسبة إلى الرب -سبحانه- فنقول: هو -سبحانه- سميع يسمع، بصير يبصر، ليس كسمع المخلوق، ولا كبصر المخلوق، وهكذا سائر الصفات، والله -سبحانه- أعلم. ومراده بالسيد معين الدين: هو أبو المعالي محمد بن صفي الدين. [الرد على من يقول: إن كلام الله مخلوق] وأما قول سفيان في قوله: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} 3، فمراده بذلك الرد على من يقول: إن كلام الله مخلوق، يقول: إن الله -سبحانه- عطف الأمر على الخلق، وأمره هو كلامه، فمن قال: إن كلام الله مخلوق، فقد جعل أمره مخلوقا، فجمع بين الخلق والأمر، والله -سبحانه- قد فرق بينهما بعطفه الأمر على الخلق، فالمعطوف غير المعطوف عليه.

_ 1 الترمذي: الصوم (697). 2 النسائي: الصيام (2116) , وأحمد (4/ 321). 3 سورة الأعراف آية: 54.

من عبد الله بن عبد الرحمن (أبا بطين) إلى جناب الأخ المكرم علي بن سليم

والمراد بسفيان: هو سفيان بن عيينة، الإمام المعروف، -رحمه الله تعالى-. هذا ما ظهر لي، والله -سبحانه وتعالى- أعلم وأحكم، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم. بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله بن عبد الرحمن (أبا بطين) إلى جناب الأخ المكرم علي بن سليم، سلمه الله تعالى وعافاه، آمين. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. (وبعد): من حال ما سألت عنه: [البلد التي فيها شيء من مشاهد الشرك] (فالأولى): البلد التي فيها شيء من مشاهد الشرك والشرك فيها ظاهر، مع كونهم يشهدون أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، مع عدم القيام بحقيقتهما، ويؤذنون، ويصلون الجمعة والجماعة، مع التقصير في ذلك، هل تسمى دار كفر، أو دار إسلام؟ فهذه المسألة يؤخذ جوابها مما ذكره الفقهاء في بلدة كل أهلها يهود أو نصارى، أنهم إذا بذلوا الجزية صارت بلادهم بلد إسلام، وتسمى دار إسلام. فإذا كان أهل بلدة نصارى، يقولون في المسيح: إنه ابن الله، أو ثالث ثلاثة، أنهم إذا بذلوا الجزية سميت بلادهم بلد إسلام، فبالأولى فيما أرى أن البلد التي سألتم عنها، وذكرتم حال أهلها، أولى بهذا الاسم؛ ومع هذا يُقاتَلون لإزالة مشاهد الشرك، والإقرار بالتوحيد، والعمل به، بل لو أن طائفة امتنعت من شريعة من شرائع الإسلام قوتلوا، وإن لم يكونوا كفارا ولا مشركين، ودارهم دار إسلام. قال الشيخ تقي الدين -رحمه الله تعالى-: أجمع العلماء على أن كل طائفة

امتنعت من شريعة من شرائع الإسلام أنها تقاتل حتى يكون الدين كله لله، كالمحاربين، وأولى. انتهى. وما ذكرناه عن العلماء: من أنهم يسمون البلد التي أهلها يهود أو نصارى، دار إسلام، يذكرونه في باب اللقيط، وفي غيره، والله -سبحانه وتعالى- أعلم. [بيع من أجر أرضه لغرسها] (المسألة الثانية): فيمن دفع أرضه لإنسان ليغرسها بما اتفقا عليه من نصيب كل منهما، فهل يجوز لصاحب الأرض بيع نصيبه من الغرس، ولو لم تتم المدة التي بينه وبين المغارس؟ (الجواب) وبالله التوفيق: يجوز لصاحب الأرض بيع نصيبه من الغرس، ولو لم تتم المدة التي بينه وبين المغارس؛ لأن بيع المشاع صحيح، والمشتري يقوم مقام البائع في إلزام العامل بإتمام العمل الذي شرط عليه في العقد. وإذا تلف نصيب الغارس من النخل، رفع يده عن الأرض، ليس له فيها حق، بل لو شرط في ابتداء العقد أن له شيئا من الأرض فسد العقد بلا خلاف بين العلماء. والمشتري من مالك الأرض إن كان إنما اشترى نصيبه من الغرس فهو صحيح كما ذكرنا، وإن كان الشراء لنصيبه من الغرس وجميع الأرض فالذي أرى أنه ما يصح، لأنه ما يمكنه تسليم الأرض، والحالة هذه، والله -سبحانه وتعالى- أعلم. [الصرف من منافع الوقف في قضاء دين الواقف بعد موته] (الثالثة): فيمن وقف وقفا، وجعل للناظر وضعه فيما يراه أنفع، والمراد: فيما يراه أكثر ثوابًا، هل يجوز للناظر أويجب أو يستحب له صرف شيء من منافع الوقف في قضاء دين الواقف بعد موته؟ فنقول: لا يجب صرف شيء من غلة الوقف في قضاء دين الواقف حيا كان أو ميتا، بل لا يستحب،

################

من الولد علي آل محمد إلى جناب شيخنا المكرم الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن (أبا بطين)

بسم الله الرحمن الرحيم من الولد علي آل محمد إلى جناب شيخنا المكرم الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن (أبا بطين) لا زال علمه منتشرا في جميع البلاد، منتفعا به كافة العباد، الحاضر منهم والباد، آمين. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأزكى وأشرف تحياته. (وبعد): فموجب الخط إبلاغ جنابك الشريف جزيل السلام، والسؤال عن حالك، لا زلت محروسا في خير، وعافية، وغير ذلك، متعنا الله بحياتك. من حال المغارسة في الوادي أو غيره، إذا قطع، هل ترجع الأرض لأهلها؟ أو تكون في يد المغارس؟ وهل الحكم واحد، إذا بقي فيها شيء، أو لم يبق فيها شيء من الغرس الأول؟ (الثانية): إذا اشترى إنسان نخلا في الوادي، والخيار للمشتري، وبعدما نزل محمد آل فيصل الوادي، وبدؤوا يقطعون في النخل فسخ خياره، هل له ذلك، أم لا؟ كذلك إنسان طلق زوجته، ومات، والشهود ما عندهم علم من وقت طلاقه، ولا يعلم هل خرجت من العدة أم لا، هل تقول: إن الأصل عدم خروجها من العدة وترث، أم لا؟ كذلك المرأة التي فيها عوار، ولا تحققت خروج الولد، هل تبقى في عدة، ولو أكثر من أربع سنين، وهل إذا كان في كل شهر يأتيها الحيض، وهي ما تحققت سقوطه، فالحكم فيها واحد، تبقى في عدة ولو تكرر، ولو طالت كذلك؟ (مسألة الوقف) إذا قال: وقفت على أولادي، أو ذريتي، فالحكم فيها واحد، هل يستحقون مرتبا؟ وهل إذا قال: على أولادي، كُلٌّ على قدر ميراثه، ثم بعد ذلك لم يكن له إلا بنت، أو بنات، وأولاد بنين، هل يستحقون أولاد البنين شيئا؟ أو حتى ينقرضن البنات جميعهن؟ أفتنا، أثابك الله الجنة بمنه وكرمه، والسلام.

بسم الله الرحمن الرحيم الجواب، وبالله التوفيق: [الغرس في الإقطاعات] أما إذا قطع الغراس، فالذي أرى أن الأرض ترجع إلى صاحبها، وليس للعامل إحداث غرس إلا بعقد جديد بتراضيهما. وأما إذا بقي شيء من الغرس، قليل أو كثير، ففيه إشكال، والذي أرى: أنه يشبه. (مسألة): من اشترى أرضا وغرس فيها، ثم أخذت بالشفعة، أن الشفيع يدفع قيمة الغراس إن لم يختر صاحبه قلعه، وكذا إن انقضت مدة الإجارة وغرسه باق، مع أن التالف في هذه الحادثة يقل ويكثر؛ فيحتاج أن ينظر فيها الأضر فيه على صاحب الأرض والغارس، والصلح جائز بين المسلمين. [فسخ المشتري للعقد قبل قطع النخل] (وأما المسألة الثانية): فإذا فسخ المشتري قبل قطع النخل، صح الفسخ، فإذا ثبت قطع شيء منه قبل الفسخ فعلى المشتري لأن الملك للمشتري، فضمانه عليه. [إذا لم تعلم انقضاء عدتها قبل موت زوجها] (وأما المسألة الثالثة): فيحكم للمرأة بالإرث، ما لم يعلم انقضاء عدتها قبل موته. [البقاء في العدة ما لم تتحقق سقوط الحمل] (وأما المسألة الرابعة): فالذي أرى أنها باقية في العدة، ما لم تتحقق سقوطه. والتحديد بأربع سنين، الظاهر أنه اعتبار بالغالب، وإلا فقد يبقى أكثر من ذلك، كما حققه ابن القيم، وهو مشاهد اليوم. وأما تكرر الدم عليها في كل شهر فيحتمل أنه دم فساد، وأيضا فعند الشافعي، ورواية عن أحمد: أن الحامل تحيض، والله أعلم.

من عبد الله بن عبد الرحمن (أبا بطين) إلى الأخ المكرم جمعان بن ناصر

[الوقف على الأولاد والذرية] (وأما مسألة الوقف): فالحكم فيما إذا قال: على أولادي، أو على ذريتي، مختلف. أما إذا قال: على أولادي، فما دام باقيا من أولاده أحد، ذكر أو أنثى، استحق جميع الوقف. فإذا انقرض البطن الأول صار لولدهم، وفي دخول أولاد البنات خلاف مشهور، كذا إذا قال: على أولادي، كل على قدر ميراثه فلا يستحق البطن الثاني شيئا حتى ينقرض الأول. وأما الوقف على الذرية: فيتناول قريبهم وبعيدهم، ذكورهم وإناثهم سواء، وفي دخول أولاد البنات أيضا الخلاف المشهور، والله -سبحانه وتعالى- أعلم، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم. بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله بن عبد الرحمن (أبا بطين) إلى الأخ المكرم جمعان بن ناصر -سلمه الله تعالى آمين-. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وموجب الخط إبلاغ السلام، [عيب المبيع إذا علمه المشتري] وما سألت عنه في دعوى عيب المبيع، إذا علمه المشتري وأمسكه ليرجع بالأرش، فهل يقبل قوله بلا بينة، أم لا؟ فاختلف في هذه المسألة فقهاء نجد: فبعضهم يقول: يقبل قوله بيمينه، وبعضهم يقول: لا يقبل قوله إلا ببينة أشهدها حين بان له العيب، وهذا هو الذي يترجح عندي. [رد المبيع إذا اشترى خيرا منه] وأما قولهم: من اشترى متاعا، فوجده خيرًا مما اشترى، فعليه رده؛ فهذا كما لو اشترى عباءة، يقول صاحبها: إنها صوف أو قز، فوجدها المشتري قيلان، والبائع جاهل الحال، كما لو اشتراها على أنها قيلان، فوجدها المشتري صوفا ونحوه، فله ردها. وكما لو اشترى غازيا على أنه ناقص، فوجده

وافيا، فله رده. والظاهر أنه إذا أخبر صاحبه بالحال، فسمحت به نفسه، جاز. [أجرة الأجير المشترك] وأما قولهم في الأجير المشترك: لا أجرة له فيما عمل فيه حتى يسلمه لربه معمولا، فالذي نرى ونعمل به في حال رعاة الإبل، كمعاملة الحضر مع البدو. واليوم في الذي يأخذ إبل الناس ليرعاها، ويقوم عليها أنه لا يستحق شيئا، ما لم يسلمها لربها لأنه مشترك؛ فلو هلكت قبل تسليمها لربها لم يستحق شيئا، والله أعلم. [من خلص متاع غيره من هلكة] وأما قولهم: إن من خلّص متاع غيره من هلكة استحق أجرة المثل، قالوا: كما لو أخرجه من بحر، أو خلصه من فم سبع، أو وجده بمهلكة، بحيث يظن هلاكه في تركه لأنه يخشى هلاكه وتلفه على مالكه، بخلاف اللقطة، وفيه حث وترغيب في إنقاذ الأموال من الهلكة. لكن لو قيل في هذه الأزمنة: إن من وجد حيوان غيره بمهلكة، بحيث يظن هلاكه بتركه، فأنقذه بنية الرجوع على ربه بما غرمه، أو بأجرة عمله، والحال إن لم يكتمه لم يكن بعيدا رجوعه، ولا يفهم من قولهم هذا أن المشتري من الغاصب ونحوه يرجع بثمنه على المغصوب منه، إذا أخذ سلعة لأنهم ذكروا هذه المسألة، وفسروها بما ذكرنا. وذكروا أن المشتري من الغاصب يرجع بثمنه على من اشترى منه، لا على من عرف سلعته وأخذها، وهذا ظاهر قولهم: من خلص متاع غيره ... إلخ، من جملة ما تضمنه كلام الشيخ في قوله: ومن لم يخلص مال غيره من القلق إلا بما أدى، رجع به في أظهر قولي العلماء لأنه محسن، فقوله: "لأنه محسن" مشعر بأن ذلك فيمن خلص مال غيره استفادة لصاحبه، لا ليتملكه لأنه الذي يوصف بالإحسان. [الشراء من الغاصب] وأما الذي يشتري من الغاصب ونحوه للتملك، ويستعمل المبيع

الخلع على البراءة من الحمل وتوابعه

ويعجفه إن كان حيوانا، فهذا لا يوصف بأنه محسن. وأيضا الحديث المرفوع الذي احتج به الأئمة أحمد وغيره: "من وجد متاعه عند إنسان، فهو أحق به"1، ويتبع المبتاع من باعه، لا يجوز أن يعارض بقول أحد كائنا من كان. [الخلع على نفقة الحامل ورضاع الولد ثم تبين عدمه] وأما الخلع على نفقة الحامل، ورضاع الولد، ثم تبين عدمه، فالموافق لقاعدة المشهور من المذهب صحة الخلع، ويرجع عليها بقدر النفقة المشترطة، وهي نفقة الحامل. وقدر أجرة المرتضع حولين، إذا كان الخلع على نفقتها، ورضاع ولدها. إذا تلف الشيء المعلق عليه الطلاق ومن قال لزوجته: أنت طالق بالثلاث إن لم تعطيني كذا، فإن كانت نيته الفورية أو مع قرينة تقتضي الفورية وقع الطلاق بفوات الفورية، إن لم ينو الفورية. ولا قرينة تدل على الفورية، فهو للتراخي. لكن لو تلف الشيء المعلق عليه الطلاق، والحالة هذه وقع الطلاق، والله -سبحانه وتعالى- أعلم، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم. [الخلع على البراءة من الحمل وتوابعه] بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله بن عبد الرحمن (أبا بطين) إلى الأخ المكرم محمد بن عبد الله -سلمه الله تعالى-. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وما ذكرت من صورة الخلع، فإن كانت الزوجة قالت: إني حامل، وطلبت من الزوج يطلقها على البراءة من الحمل وتوابعه، وصار ما فيها حمل، فالذي يبين لي من كلام العلماء أن الزوج يرجع عليها بقيمة ما غرته به. فإن كانت المرأة ما ادعت الحمل، لكن الزوج خاف أنها حامل، وطلب البراءة، فلا أرى له عليها شيئا. وأما الطلاق فيقع

_ 1 البخاري: في الاستقراض وأداء الديون والحجر والتفليس (2402) , ومسلم: المساقاة (1559) , وأبو داود: البيوع (3523) , وابن ماجه: الأحكام (2358) , وأحمد (2/ 347) , ومالك: البيوع (1382,1383) , والدارمي: البيوع (2590).

من عبد الله بن عبد الرحمن (أبا بطين) إلى الولد المكرم عبد الرحمن بن محمد بن مانع

بكل حال، وليس له منعها من نكاح غيره، إذا كانت قد انقضت عدتها، وهو يطالبها بالغرامة في صورة الغرور منها، والله -سبحانه وتعالى- أعلم، ومن خطه نقلت. بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله بن عبد الرحمن (أبا بطين) إلى الولد المكرم عبد الرحمن بن محمد بن مانع، زاده الله علما، ووهب لنا وله حكما، آمين. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. (وبعد): فموجب الخط إبلاغ السلام، والخط وصل -أوصلك الله إلى ما تحب-، وسرنا ما ذكرت، أتم الله على الجميع نعمته، [نكاح المسلم الكتابية] وما ذكرت من نكاح المسلم الكتابية، فأهل الكتاب هم أهل التوراة والإنجيل، وأما الإنكليز فالظاهر أنهم نصارى، فإن كانوا ينتسبون إلى عيسى وأتباع الإنجيل فهم كذلك. [من مات في زمان الفترات] وأما حكم من مات في زمان الفترات ولم تبلغه دعوة رسول، فالله -سبحانه- أعلم بهم. واسم الفترة لا يختص بأمة دون أمة، كما قال الإمام أحمد في خطبة على الزنادقة والجهمية: الحمد الذي جعل في كل زمان فترة من الرسل بقايا من أهل العلم، ويروي هذا اللفظ عن عمر رضي الله عنه. والكلام في حكم أهل الفترة لسنا مكلفين به، والخلاف في المسألة معروف لما تكلم في الفروع على حكم أطفال المشركين، وكذا من بلغ منهم مجنونا، قال: ويتوجه مثلهما من لم تبلغه الدعوة، وقاله شيخنا. وفي الفنون عن أصحابنا: لا يعاقب، وذكر عن ابن حامد: يعاقب مطلقا، إلى أن قال القاضي أبو يعلى في قوله -تعالى-: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} 1: في هذا دليل أن معرفة الله لا تجب عقلا، وإنما تجب

_ 1 سورة الإسراء آية: 15.

بالشرع، وهو بعثة الرسل، وأنه لو مات الإنسان قبل ذلك لم يقطع عليه بالنار، انتهى. وقال ابن القيم -رحمه الله تعالى- في طبقات المكلفين: الطبقة الرابعة عشر: قوم لا طاعة لهم ولا معصية، ولا كفر ولا إيمان، قال: وهؤلاء أصناف: منهم من لم تبلغه الدعوة بحال ولا سمع لها بخبر، ومنهم المجنون الذي لا يعقل شيئا، ومنهم الأصم الذي لا يسمع شيئا أبدا، ومنهم أطفال المشركين الذين ماتوا قبل أن يميزوا شيئا؛ فاختلفت الأمة في حكم هذه الطبقة اختلافا كثيرا، وذكر الأقوال، واختار ما اختاره شيخه أنهم يكلفون يوم القيامة. واحتج بما رواه الإمام أحمد في مسنده عن الأسود بن سريع مرفوعا، قال: "أربعة يمتحنون يوم القيامة: رجل أصم لا يسمع، ورجل أحمق، ورجل هرم، ورجل مات في الفترة. أما الأصم فيقول: رب لقد جاء الإسلام وأنا ما أسمع شيئا. وأما الأحمق فيقول رب لقد جاء الإسلام والصبيان يرمونني بالبعر. وأما الهرم فيقول: رب لقد جاء الإسلام وما أعقل. وأما الذي مات في الفترة فيقول: رب ما أتاني من رسول. فيأخذ مواثيقهم ليطيعنه، فيرسل إليهم رسولا أن ادخلوا النار، فوالذي نفسي بيده لو دخلوها لكانت عليهم بردا وسلاما" ثم رواه من حديث أبي هريرة بمثله، وزاد في آخره: "ومن لم يدخلها رد إليها" انتهى. وذكر ابن كثير عند تفسير قوله -تعالى-: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} 1، قال: وهنا مسألة اختلف الأئمة فيها، وهي مسألة الولدان الذين ماتوا وهم صغار، وآباؤهم كفار، وكذا المجنون، والأصم، والخرِف، ومن مات في الفترة. وقد روي في شأنهم أحاديث، أنا ذاكرها بعون الله وتوفيقه.

_ 1 سورة الإسراء آية: 15.

ثم ذكر في المسألة عشرة أحاديث، افتتحها بالحديث الذي ذكرناه، ثم أشار إلى الخلاف، ثم قال: ومن العلماء من ذهب إلى أنهم يمتحنون يوم القيامة: فمن أطاع دخل الجنة، وانكشف علم الله فيه، ومن عصى دخل النار، وانكشف علم الله فيه، وهذا القول يجمع بين الأدلة، وقد صرحت به الأحاديث المتقدمة المتعاضدة الشاهد بعضها لبعض. وهذا قول حكاه الأشعري عن أهل السنة، ثم ردَّ قول من عارض ذلك بأن الآخرة ليست بدار تكليف ... إلى أن قال: ولما كان الكلام في هذه المسألة يحتاج إلى دلائل صحيحة، وقد يتكلم فيها من لا علم عنده، ذكر جماعة من العلماء الكلام فيها، روي ذلك عن ابن عباس، وابن الحنفية، والقاسم بن محمد، وغيرهم، قال: وليعلم أن الخلاف في الولدان مخصوص بأولاد المشركين. فأما ولدان المؤمنين فلا خلاف بين العلماء؛ حكاه القاضي أبو يعلى الحنبلي عن الإمام أحمد أنه قال: لا يختلف فيهم أنهم من أهل الجنة. فأما ما ذكره ابن عبد البر: أنهم توقفوا في ذلك، وأن الولدان كلهم تحت المشيئة، وهو يشبه ما رسم مالك في موطّئِه في أبواب القدر، فهذا غريب جدا، وذكر القرطبي في التذكرة نحوه. [إخبار الإمام للمأمومين بنيته الجمع بين الصلاتين] وما ذكرت من قول الإمام إذا نوى الجمع بين الصلاتين، فأرجو أنه لا بأس به أن يعلمهم أنه ناوٍ الجمعَ لأن المشهور في المذهب وفاقا لمالك والشافعي اشتراط نية الجمع. ولم أسمع في ذلك شيئا عن الصحابة، كما هو حجة من لم يشترط النية للجمع، وهو اختيار الشيخ تقي الدين؛ لكن الخروج

سئل الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن (أبا بطين) عما إذا كان لرجل على آخر ريالات، وأراد أن يعطيه عنها نوعا آخر من الفضة، مثل هذه التي يسمونها المجيديات، أو غيرها

من الخلاف لا بأس به، والله -سبحانه وتعالى- أعلم. وسلم لنا على الوالد والإخوان، ومن لدينا العيال والطلبة يسلمون، فأنت سالم، والسلام. ومن خطه نقلت. [بيع الفضة بالفضة] بسم الله الرحمن الرحيم سئل الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن (أبا بطين) عما إذا كان لرجل على آخر ريالات، وأراد أن يعطيه عنها نوعا آخر من الفضة، مثل هذه التي يسمونها المجيديات، أو غيرها. (فأجاب): هذا حرام بلا شك؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- في أحاديث كثيرة اشترط المماثلة في بيع الفضة بالفضة، كما في الصحيحين من حديث أبي سعيد مرفوعا: "لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلا بمثل، ولا تبيعوا الورق بالورق إلا مثلا بمثل، ولا تشفوا بعضها على بعض"1. والأحاديث في هذا كثيرة، ولم يستثن صورة من ذلك، كما استثني العرايا من المزابنة بشروطها، فمن الذي يجترئ على تخصيص هذه العمومات بالرأي؟ والنبي صلى الله عليه وسلم سمى مبادلة الذهب بالذهب، والفضة بالفضة بيعا، ولا فرق بين كون العوضين عينين، أو أحدهما في الذمة لوجود المبادلة فيها، التي عرَّف بها الفقهاء البيع، فقالوا في حده: هو مبادلة مال بمال، وقالوا: بيع الدين المستقر لمن هو في ذمته، فسموا المبادلة بما في الذمة بيعا، والفقهاء يسمون الاعتياض عما ما في الذمة من أحد النقدين بجنسه صرفا. كما قالوا فيما إذا انفسخ عقد السلم: إنه يرد رأس ماله، إن كان موجودا، أو يرد عوضه إن لم يوجد، فإن كان رأس مال السلم نقدا، وأخذ عينه نقدا من

_ 1 البخاري: البيوع (2177) , ومسلم: المساقاة (1584) , وأحمد (3/ 61) , ومالك: البيوع (1324).

جنسه فصرف له حكمه، وقالوا فيما إذا اقترض دراهم مكسرة، وحرمها السلطان، ورد المقترض فضة فصرف، نعتبر له شروطه. وقال في الشرح الكبير في مسألة اقتضاء أحد النقدين من الآخر: إنه يشترط لجواز ذلك أن يكون بالسعر، وأنه قول الجمهور خلافا لأصحاب الرأي، واستدل لقول الجمهور بحديث ابن عمر، وعلله بأن هذا جرى مجرى القضاء، فتقيد بالمثل، كالقضاء من الجنس قال: والتماثل هنا بالقيمة لتعذر التماثل بالصورة، انتهى. فكلامه صريح في أنه إذا كان القضاء من الجنس فلا بد من التماثل بالصورة، وجعل ذلك أصلا لمسألة الخلاف، فدل أنه لا بد من التماثل في الصورة، إذا كان القضاء من الجنس بلا خلاف، وهذا أمر ظاهر. وقد علمتم كلام الفقهاء: إن من اشترى طعاما بكيل لا يصح قبضه جزافا؛ لحديث: "إذا سميت الكيل فكل"1 وغير ذلك، وليس في حديث جابر ما يستدل به للجواز، وقد استدل به ابن عبد البر، وجماعة على جواز أخذ الثمر على الشجر عن ما في الذمة، إذا علم أنه دون حقه إرفاقا بالمدين، وإحسانا إليه. وهذا يشبه مسألة ذكرها الفقهاء في الصلح فيما: إذا أقر إنسان لآخر بدين في ذمته، فصالحه بجنسها، قل أو كثر على سبيل المعاوضة لم يجز. وإن صالحه بأقل على سبيل الإبراء والهبة، لا بلفظ الصلح فهو جائز. وقولهم: إن الناس لا مفك لهم عن ذلك فهذه حجة فاسدة، وللناس عن ذلك مندوحة، بأن يشتري بالمجيديات أو القطع، ولا يسمي الريالات. لكن الشيطان يضيق طرق الحلال، ويفسح طرق الحرام، نسأل الله لنا ولكم الهدى والسداد، والله -سبحانه وتعالى- أعلم، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

_ 1 ابن ماجه: التجارات (2230).

من محمد بن عبد الله بن مانع إلى جناب شيخنا المكرم عبد الله بن الرحمن (أبا بطين)

بسم الله الرحمن الرحيم من محمد بن عبد الله بن مانع إلى جناب شيخنا المكرم عبد الله بن الرحمن (أبا بطين) -وفقه الله لإيضاح المشكلات، وكشف المعضلات، آمين-. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. (وبعد): أمتعنا الله بحياته، إذا اشترى إنسان قهوة من آخر مثلا، واكتالها كيلا جيدا، أو اشترط أنه يكيلها فلان مثلا، وأراد بعد ذلك بيعها، فلما باعها قال المشتري: أكيلها أنا أو فلان، والحالة أنه هو أو فلان كيلهما أنقص من ذلك الكيل الأول، هل يكون ذلك ممنوعا في الشرع المطهر، أم لا؟ أيضا -سلمك الله-: إذا اشترط البائع على المشتري أنه لا يكيلها إلا أنت أو فلان، والحالة أنه هو أو فلان لا يحسنون الكيل الذي يساوي كيله أولا، والتزم له المشتري بذلك، هل يسوغ هذا الشرط أم لا؟ نلتمس من فيض أفضالكم تحرير الجواب باختصار وإيجاز، ولكم بذلك من الله -تعالى- الثواب الجزيل والمفاز. سلمك الله، حصل زيادة بين كيل البائع، وكيل المشتري بلا شرط على المشتري، والحال أن المشتري الأول مشترط على البائع الأول أن يكيلها فلان، والمشتري الثاني لم يشترط كيل أحد، وأنت في أمان الله وحفظه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. (الجواب) وبالله التوفيق: [اشتراط الكيل في القهوة] الذي أرى -والله أعلم- أنه إذا قال المشتري: أكيلها أنا أو فلان، والحالة أن كيله أو كيل فلان أنقص من الكيل الأول الذي اكتاله البائع، إن ذلك لا يمنع، وأما إذا اشترط البائع على المشتري أنه لا يكيلها إلا أنت أو فلان

ما قولكم -أدام الله النفع بعلومكم- في قول بعض شراح عقيدة الشيباني

فهذا الشرط غير صحيح، ويجوز أن يتولى الكيل غير المعين المشروط، كما قالوا: إذا شرط في السلم مكيالا معين لنا عرف أنه لا يصح هذا الشرط، ولا يلزم التعيين، والله -سبحانه وتعالى- أعلم، انتهى. ومن خطه نقلت. بسم الله الرحمن الرحيم ما قولكم -أدام الله النفع بعلومكم- في قول بعض شراح عقيدة الشيباني -رحمه الله- على قول الناظم: وخصص موسى ربنا بكلامه ... على الطور ناداه وأسمعه الندا قال الشارح: خص الله موسى بتكليمه على الطور، وأسمعه نداه إذ لم تكن لموسى جهة يسمع منها الكلام، ولا يرى منها النار، أو سمع في الوادي المقدس كلاما بلا حرف ولا صوت، ونارا إلا في جهة محدودة، وإنما يعرف ذلك أهله، وأما غير أهله فلا يدري كيف ذلك. وقال على قول الناظم: ومنه بدأ قولا قديما، وأنه ... إلخ، أي: وهو منه، أي: من الرحمن بدأ قولا، أي: قاله في القدم حيث لا أكوان ولا أزمان، ويعود إليه كما بدأ منه. وهذه الحروف، والأصوات التي تعبر عن القرآن ليس هي القرآن لأن القرآن صفة الحق، والصفة لا تنفصل عن موصوفها، والحروف والأصوات تتصل وتنفصل، فهي صفات لا صفاته، لأنه باين، أي: منفرد عن خلقه بذاته وصفاته، وبذلك اغتر من اغتر، أفتونا -أثابكم الله الجنة بمنه وكرمه- ما معنى قوله هذا؟ أجاب الشيخ الإمام العالم العلامة عبد الله بن عبد الرحمن (أبا بطين) أثابه الله الغرف العلية، فقال:

بسم الله الرحمن الرحيم [النور الذي كلم الله منه موسى] ما ذكره هذا الشارح بناء على أصلين فاسدين للأشعرية: (أحدهما): إنكار علو الرب -سبحانه- فوق سماواته، واستوائه على عرشه. (والثاني): إنكارهم تكلم الرب -سبحانه- بالحرف والصوت، والكلام عندهم هو: المعنى النفسي القائم بذات الرب -سبحانه وتعالى-. فلما رأى الشارح كلام المفسرين، وقولهم: إن النار التي رأى موسى هو نور الرب -تبارك وتعالى-، وأن القرآن يدل على أن ذلك النور في مكان، قالوا: يلزم من كون نور الرب في مكان جواز كون الله -سبحانه- في مكان؛ فيلزم إثبات علوه -سبحانه- فوق السماء، واستوائه على العرش. فقال: لم يكن لموسى جهة يسمع منها، ولا يرى منها النار، وسمع كلاما بلا حرف، ولا صوت، ونارا لا في جهة محدودة، قلت: القرآن صريح في أن موسى -عليه السلام- رأى نارا في موضع معين، قال تعالى: {فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ} 1، وقال -تعالى-: {فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ} 2، فدل قوله: (أتاها)، و (جاءها)، أنها في موضع مخصوص، قال -تعالى-: {وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا} 3، وقال -تعالى-: {فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ} 4. قال شيخ الإسلام تقي الدين -رحمه الله-*: وقوله: من الشجرة هو بدل من قوله: من شاطئ الوادي الأيمن، فالشجرة كانت فيه؛ فالنداء كان من الجانب الأيمن من الطور، ومن الوادي؛ فإن شاطئ الوادي جانبه، فذكر أن النداء كان من موضع معين، وهو الوادي المقدس طوى، من شاطئه الأيمن، من جانب الطور الأيمن من الشجرة، انتهى.

_ 1 سورة النمل آية: 8. 2 سورة طه آية: 11. 3 سورة مريم آية: 52. 4 سورة القصص آية: 30. * انظر "شرح حديث النزول" ص 102، و"مجموع الفتاوى" 5/ 463. [معد الكتاب للمكتبة الشاملة]

فالآيات تدل على أن النور كان في موضع معين، وأن النداء كان من موضع معين. قال ابن عباس في قوله -تعالى-: {فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ} 1 قال: الله في النور، ونودي من النور. وروى عطية عن ابن عباس: {فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ} 2، يعني نفسه، قال: كان نور رب العالمين، قال: في الشجرة ومن حولها، وقال عكرمة: {أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ} 3 قال: كان الله في نوره، وقال سعيد بن جبير: {أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ} 4 قال: ناداه وهو في النور. وقال ابن ضمرة: {أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ} 5، قال: إنها لم تكن نارا، ولكنه كان نور الله، وهو الذي كان في ذلك. النور، وإنما كان ذلك النور منه، وموسى حوله. وقال ابن عباس في قوله: {وَمَنْ حَوْلَهَا} الملائكة، وروي عن عكرمة، والحسن، وسعيد بن جبير، وقتادة مثل ذلك، وقول الشارح: وإنما يعرف ذلك أهله، لما كان قولهم هذا ظاهر البطلان، وأنه ليس لهم حجة على صحته، أراد التمويه بقوله ذلك، إلا أن لقولهم هذا وجها صحيحا ومحملا يخفى على من لم ير رأيهم. وأما قوله: ومنه بدأ قولا قديما، وأنه ... إلخ، فهذا ما عليه الأشاعرة المخالفون للكتاب، والسنة، وسلف الأمة، فقد أجمع أهل السنة والجماعة على ما دل عليه كتاب الله، وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم من أن الله يتكلم بحرف وصوت، وأن القرآن كلام الله، حروفه ومعانيه. وعند الأشعرية أن الكلام هو: المعنى النفسي، وأن الله لا يتكلم بحرف ولا صوت، وقد صنف شيخ الإسلام تقي الدين -رحمه الله تعالى- مصنفا ذكر فيه تسعين وجها في

_ 1 سورة النمل آية: 8. 2 سورة النمل آية: 8. 3 سورة النمل آية: 8. 4 سورة النمل آية: 8. 5 سورة النمل آية: 8.

بيان بطلان هذا القول: (منها): إن الله -سبحانه وتعالى- قال كذا، ويقول كذا، ونادى، وينادي، والقول إنما يكون حرفا، والنداء إنما هو بحرف وصوت، وكذلك الكلام لا يكون إلا قولا لا حديث نفس، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله عفا لأمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تعمل أو تتكلم"1 فجعل الكلام غير حديث النفس. وأجمع العلماء على أن المصلي إذا تكلم في صلاته عالما عامدا لغير مصلحتها، أن صلاته فاسدة، مع إجماعهم أن حديث النفس لا يبطلها؛ ففي ذلك، وما أشبهه دلالة صريحة على أن المعنى الذي يكون في النفس ليس بكلام. وعند الأشاعرة أن الله لم يكلم موسى، وإنما اضطره إلى معرفة المعنى القائم بالنفس، من غير أن يسمع منه كلمة، وما يقرؤه القارئون ويتلوه التالون فهو عبارة عن ذلك المعنى، وأن الحروف مخلوقة، وفي حديث عبد الله بن أنيس المشهور: "فيناديهم بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب: أنا الملك أنا الديان" ... الحديث. وقال عبد الله بن الإمام أحمد: سألت أبي فقلت: إن الجهمية يزعمون أن الله لا يتكلم بصوت، فقال: كذبوا، إنما يدورون على التعطيل، ثم قال: حدثنا عبد الله بن محمد المحاربي قال: حدثني الأعمش، عن أبي الضحى، عن مسروق، عن عبد الله قال: إذا تكلم الله بالوحي سمع صوته أهل السماء. وعند الأشاعرة أن المعنى النفسي القائم بذات الرب الذي يسمونه كلاما شيء واحد لا يتبعض، وأن معنى الأمر والنهي والخبر واحد، وأن معنى القرآن والتوراة والإنجيل واحد، إن عبر عنه بالعربية فهو القرآن، وإن عبر عنه بالعبرانية فهو التوراة، وإن عبر عنه بالسريانية فهو إنجيل، وهذا مما يقطع ببطلانه.

_ 1 البخاري: الطلاق (5269) , ومسلم: الإيمان (127) , والترمذي: الطلاق (1183) , والنسائي: الطلاق (3435) , وابن ماجه: الطلاق (2040) , وأحمد (2/ 393,2/ 474,2/ 481,2/ 491).

حديث خلق الله آدم بيده على صورته

وقول الشارح: وبذلك اغتر من اغتر، فقد قال تعالى: {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا} 1، {وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ} 2 فنسأل الله أن يهدينا صراطه المستقيم آمين، وصلى الله على أشرف المرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه، وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين. [حديث خلق الله آدم بيده على صورته] بسم الله الرحمن الرحيم ما يقول العلماء أئمة الدين -رضي الله عنهم أجمعين- في حديث: "خلق الله آدم بيده على صورته"3 هل الكناية في قوله: على صورته راجعة إلى آدم، وأن الله خلقه على الصورة التي خلقه عليها، أم لها معنى، وتأويل غير ذلك؟ وأجيبوا -أدام الله النفع بعلومكم- وابسطوا الجواب، أثابكم الله الجنة بمنه وكرمه. الجواب: للشيخ عبد الله بن عبد الرحمن (أبا بطين) -رحمه الله تعالى- قال: هذا الحديث المسؤول عنه ثابت في صحيحي البخاري ومسلم، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "خلق الله آدم على صورته، طوله ستون ذراعا"4. وفي بعض ألفاظ الحديث: "إذا قاتل أحدكم فليتق الوجه، فإن الله خلق آدم على صورته". قال النووي: هذا من أحاديث الصفات، ومذهب السلف أنه لا يتكلم في معناه، بل يقولون: يجب علينا أن نؤمن بها، ونعتقد لها معنى يليق بجلال الله -تعالى-، مع اعتقادنا أن ليس كمثله شيء، انتهى. وقال بعض أهل التأويل: الضمير في قوله: "صورته" راجع إلى آدم، وقال بعضهم: الضمير راجع على صورة الرجل المضروب، ورد هذا التأويل بأنه إذا كان الضمير عائدا على آدم فأي فائدة في ذلك؟ إذ ليس

_ 1 سورة فاطر آية: 8. 2 سورة النمل آية: 24. 3 البخاري: الاستئذان (6227) , ومسلم: الجنة وصفة نعيمها وأهلها (2841) , وأحمد (2/ 315,2/ 323). 4 صحيح البخاري: كتاب الاستئذان (6227) , وصحيح مسلم: كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها (2841) , ومسند أحمد (2/ 315).

يشك أحد أن الله خالق كل شيء على صورته، وأنه خلق الأنعام، والسباع على صورها، فأي فائدة في الحمل على ذلك. ورد تأويله بأن الضمير عائد على ابن آدم المضروب، بأنه لا فائدة فيه؛ إذ الخلق عالمون بأن آدم خلق على خلق ولده، وأن وجهه كوجوههم. ويرد هذا التأويل كله بالرواية المشهورة: "لا تقبحوا الوجه، فإن ابن آدم خلق على صورة الرحمن" وقد نص الإمام أحمد على صحة الحديث، وإبطال هذه التأويلات، فقال في رواية إسحاق بن منصور: "لا تقبحوا الوجه، فإن الله خلق آدم على صورته" صحيح. وقال في رواية أبي طالب: من قال: إن الله خلق آدم على صورة آدم، فهو جهمي، وأي صورة كانت لآدم قبل أن يخلقه؟ وعن عبد الله بن الإمام أحمد قال: قال رجل لأبي: إن فلانا يقول في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله خلق آدم على صورته"1 فقال: على صورة الرجل، فقال أبي: كذب، هذا قول الجهمية، وأي فائدة في هذا؟ وقال أحمد في رواية أخرى: فأين الذي يروي: "إن الله خلق آدم على صورة الرحمن"؟ وقيل لأحمد عن رجل: إنه يقول: على صورة الطين، فقال: هذا جهمي، وهذا كلام الجهمية، واللفظ الذي فيه على صورة الرحمن رواه الدارقطني، والطبراني، وغيرهما بإسناد رجاله ثقات. قاله ابن حجر، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم وأخرجها ابن أبي عاصم عن أبي هريرة مرفوعا، قال: "من قاتل فليجتنب الوجه، فإن صورة وجه الإنسان على صورة وجه الرحمن" وصحح إسحاق بن راهويه اللفظ فيه على صورة الرحمن، وأما أحمد فذكر أن بعض الرواة وقفه على ابن عمر، وكلاهما حجة.

_ 1 أحمد (2/ 251).

نهب البدو بعضهم بعضا

وروى ابن منده، عن ابن راهويه قال: قد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن آدم خلق على صورة الرحمن" وإنما علينا أن ننطق به، قال القاضي أبو يعلى: والوجه فيه أنه ليس في حمله على ظاهره ما يزيل صفاته، ولا يخرجها عما ما تستحقه، لأننا نطلق تسمية الصورة عليه، لا كالصور كما أطلقنا تسمية ذات ونفس، لا كالذوات والأنفس. وقد نص أحمد في رواية يعقوب بن يختان قال: خلق آدم على صورته، لا نفسره كما جاء الحديث. وقال الحميدي لما حدث بحديث: "إن الله خلق آدم على صورته"1 قال: لا نقول غير هذا على التسليم، والرضى بما جاء به القرآن والحديث، ولا نستوحش أن نقول كما قال القرآن والحديث. وقال ابن قتيبة: الذي عندي -والله أعلم- أن الصورة ليست بأعجب من اليدين، والأصابع والعين، وإنما وقع الألف لمجيئها في القرآن، ووقعت الوحشة من هذه لأنها لم تأت في القرآن، ونحن نؤمن بالجميع، هذا كلام ابن قتيبة. وقد ثبت في الصحيحين قوله صلى الله عليه وسلم: "فيأتيهم الله في صورة غير الصورة التي يعرفون فيقول: أنا ربكم فيقولون: نعوذ بالله منك، هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا، فإذا أتانا ربنا عرفناه، فيأتيهم الله في الصورة التي يعرفون"2 وفي لفظ آخر: "صورته التي يعرفون فيقول: أنا ربكم فيقولون: أنت ربنا فيعرفونه"3 الحديث، فالذي ينبغي في هذا ونحوه إمرار الحديث كما جاء على الرضى والتسليم، مع اعتقاد أنه ليس كمثله شيء، وهو السميع البصير، والله -سبحانه- أعلم. [نهب البدو بعضهم بعضا] * وما ذكرت من السؤال، فالمسألة الأولى وهي: نهب البدو بعضهم

_ 1 أحمد (2/ 251). 2 البخاري: الرقاق (6574) , ومسلم: الإيمان (182). 3 البخاري: التوحيد (7438) , ومسلم: الإيمان (182). * هذه المسألة والتي تليها جزء من رسالة تقدمت في (2/ 3/ 131)، وذكرت مستقلة أيضًا في (1/ 667). [معد الكتاب للمكتبة الشاملة]

الجائحة في الإجارة

بعضا، فالذي أرى عدم الشراء منهم مطلقا إذا تحقق أنه نهب بعينه لاشتباه أمرهم. وأما إذا عرف أحدهم ماله عند حضري، وثبت أنه منهوب منه بالبينة، فالذي نفتي به في أزمنة هذا الاختلاف أنه يعطي المشتري ثمنه الذي دفع إليه، ويأخذ ماله إن لم يكونوا حربا للحضر، وقد أفتى بذلك غير واحد من متأخري الأصحاب. [الجائحة في الإجارة] * وأما مسألة الجائحة في الإجارة: قال الشيخ تقي الدين -رحمه الله-: يقول بثبوت الجائحة في الإجارة للأرض ونحوها، كما تثبت في الثمرة المشتراة بنص الحديث. وأكثر العلماء يفرقون بين الصورتين، على خلاف ما قاله الشيخ، وهو الذي نفتي به، أعني بقول أكثر العلماء، والله أعلم. [أخذ الرجل من لحيته إذا كانت دون القبضة] بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله بن عبد الرحمن إلى الولد المحب علي بن عبد الله القاضي -ألهمه الله رشده وهداه، ووفقه لما يحبه ويرضاه. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. (وبعد): موجب الخط إبلاغك السلام، والخط وصل، أوصلك الله إلى ما تحب. ومن حال ما ذكرت من أخذ الرجل من طول لحيته، إذا كانت دون القبضة، فالظاهر الكراهة، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "اعفوا اللٍّحَى" وفي حديث آخر: "أرخوا اللحى". والسنة عدم الأخذ من طولها مطلقا، وإنما رخص بعض العلماء في أخذ ما زاد على القبضة لفعل ابن عمر رضي الله عنه، وبعض العلماء يكره ذلك لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "أعفوا اللحى"1. وأما حلق ما على الخدين من الشعر فلا شك في كراهته لمخالفة قوله -صلى الله عليه وسلم-: "أعفوا اللحى"2، واللحية في اللغة: اسم للشعر

_ * هذه المسألة والتي قبلها جزء من رسالة تقدمت في (2/ 3/ 131). [معد الكتاب للمكتبة الشاملة] 1 مسلم: الطهارة (259) , والترمذي: الأدب (2763,2764) , والنسائي: الزينة (5046) , وأبو داود: الترجل (4199) , وأحمد (2/ 16,2/ 52,2/ 156). 2 مسلم: الطهارة (259) , والترمذي: الأدب (2763,2764) , والنسائي: الزينة (5046) , وأبو داود: الترجل (4199) , وأحمد (2/ 16,2/ 52,2/ 156).

سئل شيخنا عبد الله (أبا بطين) عن قول السيوطي على قوله -تعالى- في آخر سورة المائدة، من الجلالين: {وهو على كل شيء قدير} قال: "وخص العقل ذاته، فليس عليها بقادر"

النابت على الخدين والذقن. ومعنى قوله: "أعفوا اللحى"1 أي: وفروها، واتركوها على حالها. مع أنه ورد حديث في النهي عن ذلك، فروى الطبراني عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من مثل بالشعر ليس له عند الله خلاق" قال الزمخشري: معناه: صيره مُثلة: بأن نتفه، أو حلقه من الخدود، أو غيره بسواد، وقال في النهاية: مثل بالشعر حلقه من الخدود، وقيل: نتفه، أو تغيره بسواد؛ فهذا الحديث ظاهره تحريم هذا الفعل والله -سبحانه- أعلم. وقال أصحابنا: يباح للمرأة حلق وجهها وحفه، ونص الإمام أحمد على كراهة حف الرجل شعر وجهه، والحف: أخذه بالمقراض، والحلق بالموسى، فإذا كره الحف فالحلق أولى بالكراهة، ويكفي في ذلك أنه مخالف لسنة النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: "أعفوا اللحى"2، وفي الحديث الآخر: "وفروا اللحى، خالفوا المشركين"3. [ضياع العبادة مع الجهل] بسم الله، والحمد لله، وصلى -الله- على نبينا محمد. سئل شيخنا عبد الله (أبا بطين) عن قول السيوطي على قوله -تعالى- في آخر سورة المائدة، من الجلالين: {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} 4 قال: "وخص العقل ذاته، فليس عليها بقادر". فأجاب: الظاهر أن مراده: أن الرب -سبحانه- يستحيل عليه ما يجوز على المخلوق من العدم والعيب والنقص، وغير ذلك من خصائص المخلوقين، فلكون ذلك يستحيل على ذات الرب -سبحانه- عبر عنه بأنه لا يدخل تحت القدرة، وأنا ما رأيت هذه الكلمة لغيره، والنفس تنفر منها. وقد روي عن ابن عباس حكاية على غير هذا الوجه، وهو: أن الشياطين قالوا لإبليس: يا سيدنا، ما لنا

_ 1 مسلم: الطهارة (259) , والترمذي: الأدب (2763,2764) , والنسائي: الزينة (5046) , وأبو داود: الترجل (4199) , وأحمد (2/ 16,2/ 52,2/ 156). 2 مسلم: الطهارة (259) , والترمذي: الأدب (2763,2764) , والنسائي: الزينة (5046) , وأبو داود: الترجل (4199) , وأحمد (2/ 16,2/ 52,2/ 156). 3 البخاري: اللباس (5892) , ومسلم: الطهارة (259). 4 سورة المائدة آية: 120.

نراك تفرح بموت العالم ما لا تفرح بموت العابد؟ والعالم لا نصيب منه، والعابد نصيب منه، قال: انطلقوا إلى عابد، فأتوه في عبادته، فقالوا: إنا نريد أن نسألك، فانصرف، فقال إبليس: هل يقدر ربك أن يخلق مثل نفسه؟ فقال: لا أدري، فقال أترونه! لم تنفعه عبادته مع جهله، فسألوا عالما عن ذلك، فقال: هذه المسألة محال لأنه لو كان مثله لم يكن مخلوقا؛ فكونه مخلوقا وهو مثل نفسه مستحيل، فإذا كان مخلوقا لم يكن مثله، بل كان عبدا من عبيده. فقال: أترون هذا! يهدم في ساعة ما أبنيه في سنين. والله أعلم. وقال -أيضا-: والذي ذكره السيوطي لفظ لم يأت في الكتاب ولا في السنة، ولا رأينا أحدا من أهل السنة ذكرها في عقائدهم، ولا ريب أن ترك فضول الكلام من حسن الإسلام، وهذه كلمة ما نعلم مراد قائلها: يحتمل أنه أراد بها معنى صحيحا، ويحتمل أن يراد بها باطل، فالواجب اعتقاد ما نطق به القرآن من أن الله على كل شيء قدير، وأنه إذا أراد شيئا قال له: كن، فيكون كما أراد، وأنه ليس كمثله شيء، فلا يكون شيء مثله -سبحانه وتعالى وتقدس-. وجواب العالم الذي قال: لا يكون المخلوق مثل الخالق جواب صحيح، لأنه الذي غاظ الشيطان، وهو نتيجة العلم، ويدل على أنه لو قال: قادر، أو غير قادر لم يكن جوابا صحيحا. وما ذكرنا من جواب هذا العالم فيه مشابهة لكلام السيوطي من بعض الوجوه. واعلم أن طريقة أهل السنة أن كل لفظ لا يوجد في الكتاب ولا في السنة، ولا في كلام أحد من الصحابة والتابعين لهم بإحسان وسائر أئمة المسلمين، لا نفيه ولا إثباته، لا يثبت ولا ينفي إلا بعد الاستفسار عن معناه، فإن وجد معناه ما أثبته الرب لنفسه أثبت، وإن وجد مما نفاه

من جري بن فهد الصميت إلى الأخ في الله والمحب فيه الشيخ المكرم عبد الله بن عبد الرحمن (أبا بطين)

الرب عن نفسه نفي. وإن وجد اللفظ أثبت به حق وباطل، وكان مجملا يراد به حق وباطل، فهذا اللفظ لا يطلق نفيه ولا إثباته، وذلك كلفظ: الجسم، والجوهر، والجهة ونحوها. وكره السلف والأئمة الكلام المحدث لاشتماله على كذب وباطل، وقول على الله بلا علم، وما ذكره السيوطي من هذا النوع. وضد القدرة العجز، وهل يسوغ أن يقال: إن الله عاجز عن كذا، وإنما يقال: إنه -سبحانه- يستحيل وصفه بما يتضمن النقص والعيب، تعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا. اهـ. نقلته من قلم تلميذ الشيخ عبد الرحمن بن مانع. بسم الله الرحمن الرحيم من جري بن فهد الصميت إلى الأخ في الله والمحب فيه الشيخ المكرم عبد الله بن عبد الرحمن (أبا بطين)، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. (وبعد): منّ الله عليك، أسألك عما يوجد على هذه الأماكن التي ينتابها الأعراب ونحوهم، يزعمون أنها تعافي المريض والمبتلَى ونحوهم، مما سول لهم الشيطان، مثل: عبل الرياش بأعلى شعيب الشعرا، أو مثل شجرة خنوقه، وغار في حرة حرب ينتابها الأعراب بالمرضى، حتى ربما قربوا لها شيئا, من دم، أو طعام، أو شراب، أو متاع. أما اللحم تبينا أنه يحرم أكله لأنه أُهِّل به لغير الله، لكن الطعام الذي غير اللحم المبتاع، والشراب من لبن ونحوه، هل يحل تناوله أم لا، وأكله وأخذ ما عليه؟ وأخبرني عن رجل حرم امرأته، ورجل حرم أمَته، هل حكم التحريمين واحد متفرق؟ لأن الله -تعالى- قال لنبيه في سورة التحريم:

{قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} 1 في شأن أمته. وفي "المنتقي" في الرجل الذي قال: "يا رسول الله إني حرمت امرأتي، فقال -صلى الله عليه وسلم-: كذبت إنها لم تحرم ولكن عليك أغلظ الكفارة: عتق رقبة"، أم هذه الكفارة مخصوص بها نبينا -صلى الله عليه وسلم-؟ كذلك في حديث ابن عباس في "المنتقي" قال: إذا حرم الرجل امرأته فهي يمين يكفرها، وقال لكم في رسول الله (أسوة حسنة) متفق عليه. بيّن لنا صفة الأمر- من الله عليك-. كذلك ذكر لنا بعض العوام، ينسبه عن بعض العلماء، قال: إذا بدأك رجل بتحية قبل السلام، فرد عليه أنت: وعليكم السلام، هل كان صحيح قوله، أم لا؟ وأخبرني -بارك الله فيك- عن الجعل على عقد النكاح، هل يحل، أم لا يحل قليل دون كثير؟ بين لنا -أثابك الله الجنة-. كذلك رجل أوصى أخا له حين أراد الحج أن يهدي له سبعا من طوافه ونحوه، هل يصح له ذلك؟ وإذا ذكرت أمواتي، فدعوت لهم، أو أهديت لهم ركعتين نفلا، أو شيئا من تلاوة قرآن، ونحو ذلك؟ وسلم لي على العيال، والإخوان، ومن لدينا الجماعة يسلمون، والسلام. وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته. [تناول ما يقربه الأعراب في الأماكن التي يزعمون شفائها للمريض والمبتلى] وبعد ما ذكرت مما يطلبه الأعراب عند هذه المواضع التي يعظمونها، فما سوى الذبيحة أرجو أنه لا بأس به. [يمين الحرام] وأما تحريم الإنسان أمته، أو الطعام، والشراب، أو اللباس، ونحو ذلك، ففيه كفارة يمين. أما تحريم الزوجة ففيه خلاف مشهور، وأقوال العلماء كثيرة: قيل طلاقُ ثلاثٍ، وقيل: طلقةٌ بائنةٌ، وقيل: يمين فيه كفارة، وقيل: ظهار فيه كفارةُ

_ 1 سورة التحريم آية: 2.

قلب الدين على المعسر

الظهار، وهذا القول هو المشهور عند الحنابلة، والله أعلم. [أخذ الجعل على عقد النكاح] وأما أخذ الجعل على عقد النكاح فلا بأس به إذا أُعْطِيَ بغير شرط، فإن كان بشرط فلا أدري، وأنا أكرهه. [الرد على من بدأ بتحية قبل السلام] وأما من بدأ بتحية قبل السلام، فلا يرد عليه إلا مثل تحيته، أو يترك؛ لحديث: "من بدأ بالكلام قبل السلام فلا تجيبوه". وأما بيع الخيل بالثاني 1 فهو حرام، لا تجوز الشهادة عليه، ولا الكتابة بينهم. [إهداء ثواب العبادات لحي أوميت] وأما كون الإنسان يطوف ما أحب، ويهدي ثوابه لحي، أو ميت، فهو جائز، وكذلك لو صلى ركعتين، أو صام، وجعل ثوابه لغيره، جاز عند كثير من العلماء، وكذلك إهداء ثواب القراءة لميت، أو حي، وأفضل من ذلك: الدعاء لهم، والصدقة. [الذي له غنم ويفرقها فِرارا من الزكاة] وأما الذي له غنم، ويفرقها فِرارا من الزكاة، فلا تسقط الزكاة عنه، بل يجب عليه زكاة جميع ماله، ولا ينفعه فراره من الزكاة. فإن كان ماله متفرقا من غير قصد الفرار، وأن الذي هو معه يزكيه مع ماله، فلا بأس، والله -سبحانه وتعالى- أعلم. وَسَلِّمْ لنا على جميع من ذكرتَ، ومن لدينا العيال والإخوان يسلمون، وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته. [قلب الدين على المعسر] بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله بن عبد الرحمن (أبا بطين) إلى صالح العثمان -سلمه الله تعالى-. وما ذكرت من حال المسألتين اللتين ذكرت، ما قلب الدَّيْن؟ فشيخ الإسلام -رحمه الله- ذكر حكم القلب على المعسر في الصورة التي لا خلاف فيها، أي: عدم جوازها، وعلَّله بالإكراه، وأما غيرها من صور القلب التي

_ 1 كذا في الأصل ولم يسبق سؤال عنه.

لا إكراه فيها، وربما يُجَوِّزُهَا مَن لا يمنع بعض الحِيَل من الحنفية، والشافعية، فلم يصرّح بها في الموضع، وكلامه معروف في إبطال الحيل، وصنَّف في ذلك كتابه المعروف، وهو قول الإمام مالك، والإمام أحمد، وأصحابهما، وقول أئمة الحديث. وبعض أهل زماننا أخذ من قول الشيخ في المسألة: أنه إذا كان ذلك برضاء الغريم فلا بأس به، والذي نرى، ونفتي به -المنع في الصورة التي يسميها العامة التصحيح، فيما إذا كان لإنسان على آخر عشرة -مثلا- فقال: ما عندي ما أعطيك، ولكن يقول في لفظ العامة: أما أكتبها علي، فيقول: كَتْب الذي في الذمة لا يجوز، ولكن نصحح، اكتب عليك عشرة، توفيني بها، إذا قبضتها، أو يقول ذلك في العادة المستمرة. والعرف المُطَّرِد كالتواطؤ أنه يرد عليه دراهمه في المجلس غالبا، فيكون ذلك في العادة مواطأة، والقابض للدراهم لا يتصرف فيها، فلا يصير ملكه تاما عليها، بل يردها عليه بعينها في الحال، فدراهمه رجعت إليه، ويصير رأس مال السلم الذي في الذمة، وربما يكون أصل الدين عشرة، فيصل بالقلب مرة بعد مرة إلى مائة، أو أكثر. وذكر الإمام مالك -رحمه الله- في "الموطأ" مسألة تشبه هذه المسألة، فقال: من اشترى طعامًا بثمن معلوم إلى أجل مسمًى، فلما دخل الأجل قال الذي عليه الطعام لصاحبه: ليس عندي طعام، فبعني الطعام الذي عليَّ إلى أجل، فيقول صاحب الطعام: هذا لا يصلح لأنه قد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الطعام حتى يُسْتَوْفَى. فيقول الذي عليه الطعام لغريمه: فبعني طعاما إلى أجل حتى أقضيك، فهذا لا يصلح لأنه إنما يعطيه طعاما، ثم يرده إليه، فيصير الذهب الذي أعطاه ثمن الطعام الذي كان عليه، ويصير الطعام الذي أعطاه محللا فيما بينهما، ويكون ذلك -إذا فعلاه- بيع الطعام قبل أن يستوفى. انتهى. وفي

مسألتنا تكون الدراهم للذي يعطيه، ثم يردها إليه وفاء محللا، ويكون رأس مال السلم في ذمة غريمه، هذا الذي يظهر لي، والله أعلم. وإن رأيت ذلك فتذكر لمن استنصحك، ولا تجادل، ولا تنازع. ثم ذكر الشيخ المسألة الثانية، والجواب، وقد تقدمت مفردة، وهي: ما إذا كان لرجل على آخر ريالات، وأراد أن يعطيه عنها فضة، مثل الذي يسمى المجيديات ... إلى آخره، ثم قال -رحمه الله-: ونذكر لكم صورة من صور قلب الدَّين، ذكرها مالك في "الموطأ" يفعلها بعض الناس، إذا صار له على آخر مائة -مثلا- وطلبها منه، قال: ما عندي نقد، لكن بعني سلعة بثمن مؤجل. كما يقول بعضهم: العشر اثنا عشر، فيبيعه سلعة بمائة وعشرين مؤجلة، تساوي مائة نقدا، ثم يبيعها المشتري، ويعطيه ثمنها مائة. قال مالك -رحمه الله- في الرجل: يكون له على الرجل مائة دينار إلى أجل، فإذا حلَّتْ، قال الذي عليه الدين: بعني سلعة يكون ثمنها مائة دينار نقدا بمائة وخمسين إلى أجل، قال مالك: هذا بيع لا يصلح، ولم يزل أهل العلم ينهون عنه. قال: إنما كره ذلك لأنه إنما يعطيه ثمن ما باعه بعينه، ويؤخر عنه المائة الأولى إلى الأجل الذي ذكره له آخر مرة، ويزداد عليه خمسين دينارا في تأخيره عنه، فهذا مكروه لا يصح، وهو يشبه حديث زيد بن أسلم في بيع أهل الجاهلية أنهم كانوا إذا حلت ديونهم قالوا للذي حل عليه الدين: إما أن تقضي، وإما أن ترابي، فإن قضى أخذوا، وإلا زادوهم في حقوقهم، وزادوهم في الأجل. انتهى. والسلف يعبرون كثيرا بالكراهة فيما هو محَرَّم عندهم، وقوله: إنما يعطيه ثمن ما باعه، يعني: أن مشتري السلعة يبيعها على غيره، ويعطيه ثمنها

الموصى بوقفه إذا نما بعد الموت وقبل إيقافه

مائة، وأخبر -رحمه الله تعالى- أن أهل العلم لم يزالوا ينهون عن ذلك، والله أعلم، وصلى الله على محمد وآله وصحبه، وسلم تسليما كثيرا، آمين. [الموصى بوقفه إذا نما بعد الموت وقبل إيقافه] بسم الله الرحمن الرحيم مسألة سئل عنها الشيخ عبد الله (أبا بطين) فوجدت ما هذه صورته بخطه، ولم أجد غيره من كلام السائل. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. (وبعد): الذي ذكرت وصل، ومن جهة الحجة فالذي بان لي من كلام العلماء -رحمهم الله تعالى- أن هالنخل وما حصل منه يُصْرَف كله في حِجَجٍ عن الموصِي، والله -سبحانه- أعلم. ونصَّ الإمام أحمد -رحمه الله- فيمن أوصى بدراهم في وجه البر، أو ليشتري بها ما يُوقف، فاتجر بها الوصي، فربحه مع أصل المال فيما أوصى فيه، ولا زكاة فيه، وإن خسر ضمن النقص، هكذا نص أحمد -رحمه الله- نقله عنه جماعة من أصحابه. وذكر الشيخ تقي الدين -رحمه الله- غيره في الموصَى بوقفه: أنه إذا نما بعد الموت، وقبل إيقافه أن نماه يُصْرَف مصرف الوقف، والله -سبحانه وتعالى- أعلم، هكذا كلام السائل وجدناه. [وصية الميت بالحج عنه من ماله] بسم الله الرحمن الرحيم من عبد العزيز بن عبد الله بن مفدا إلى الأخ الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن -رحمه الله-. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد ذلك -مَتَّعَ الله بك- أوصت أمي بستة وعشرين ريالا، ثلاثة عشر لها حَجة، وحَجَّهَا خالي في حياتها، وأوصت لأمها بثلاثة عشر، ولا توفق لها حجة زمان توصي بها، وشرينا بهن نخلا، وجمعنا من غلته ما يَرْهَى على الحجة، أفتني -عفا الله

حكم مال المسلم إذا استولى عليه الكفار

عنك، وثبتك بالقول الثابت. أخبرنا، وأيش نصنع بما فضل عقب الحجة؟ والسلام. أجابه الشيخ بما قدمنا أعلاه، والله أعلم. [حكم مال المسلم إذا استولى عليه الكفار] قال شيخنا عبد الرحمن بن حسن بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب -رحمهم الله تعالى-: ما قولكم -دام فضلكم- في رجل مسلم، له ثمرة نخل أخذها جيرانه بدعوى أنهم اشْتَرَوْهَا من رجل آخر، اشتراها من إبراهيم باشا، وأقام صاحب الثمرة بينة أن هذا الرجل الذي باعها على جيرانه أنه استوهبها من الباشا، فوهبها له، والبينة تشهد بإقرار البائع لها، وكذلك تشهد البينة على إقرار المشترين الذين باشروا أخذها من رؤوس النخل، فما حكم ذلك؟ هل يرجع صاحب الثمرة على من أخذها وحدها؟ وهل تقبل بينتهم على الشراء من الباشا، مع بينة الإقرار بالهبة أم لا؟ حَقِّقُوا لنا الجواب، أثابكم الله تعالى. فأجاب شيخنا عبد الله بن عبد الرحمن (أبا بطين)، آتاه الله الأجر مرتين، وكبت شانئه في الدارين- الحمد لله رب العالمين. لا بد من الكلام على أصل المسألة، وهو: ما حكم مال المسلم إذا استولى عليه الكفار، هل يملكونه بذلك، أم لا؟ وفي المسألة قولان مشهوران للعلماء، هما روايتان عن الإمام أحمد، حكاهما أكثر الأصحاب: (أحدهما): لا يملكونه بذلك، اختارها جماعة من الأصحاب، وهذا مذهب الشافعي. والرواية الأخرى: يملكونه، وهو قول مالك، وأبي حنيفة، وعلى هذا فهل يملكونه بمجرد الاستيلاء، أو بالحيازة إلى دارهم؟ (الثاني) قول أبي حنيفة، قال في "القواعد الفقهية": وهو المنصوص عن أحمد، قال في الفروع: نص عليه فيما بلغ به قبرس يُرَدُّ إلى أصحابه، ليس غنيمة، ولا يُؤْكل؛ لأنهم لم يحوزه إلى بلادهم، ولا إلى أرض هم أغلب عليها؛ ولهذا قيل له: أصبنا في قبرس من متاع

المسلمين، قال: يُعَرَّفُ. وقال أبو العباس -رحمه الله تعالى-: لم ينص أحمد على الملك، ولا على عدمه، وإنما نص على أحكام أخذ منها ذلك، قال: والصواب أنهم يملكونها ملكا مقيدا، لا يساوي أملاك المسلمين من كل وجه. انتهى. ولهذا إذا وجدها صاحبها قبل القسمة أخذها مجانا. ومن فوائد الخلاف في المسألة أن من أثبت الملك للكفار في أموال المسلمين، أباح للمسلمين إذا ظهروا عليها، قسمتها والتصرف فيها ما لم يعلموا صاحبها. وأن الكافر إذا أسلم، وهي في يده، فهو أحق بها. ومن لم يُثْبت الملك لم يُجَوِّز قسمتها، وتوقف إذا جهل ربها. ولربه أخذه بغير شيء حيث وجده، ولو بعد القسمة، أو الشراء منهم، أو إسلام آخذه وهو معه، فيأخذه من مشتريه مجانا. فعلى القول بعدم الملك، ومقتضى اختيار أبي العباس أن الثمرة المذكورة باقية على ملك صاحبها، يرجع مجانا على من هي بيده. ومقتضى هذا القول -أيضا- أن صاحبها يُضَمِّنها مَن انتفع بها، إذا كانت تالفة. وعلى القول الثاني يأخذها صاحبها ممن هي في يده مجانا، إن كان متهبا، وإن كان مشتريا أعطاه الثمن الذي اشتراها به. وإذا اختلفا في كونه مشتريا، أو متهبا، وأقام من هي في يده بينة أنه مشتر، وأقام صاحب الثمرة بينة أنه أقر أنه متهب، فالظاهر تعارض البينتين، ويصيران كمن لا بينة لهما، ويكون القول قول صاحب الثمرة بيمينه: أن من هي في يده متهب لأنه غارم، كالمذهب فيمن اشترى أسيرا مسلما من الكفار ببينة الرجوع، وتنازعا في قدر ما دفع فيه، أن القول قول الأسير لأنه منكر للزيادة، ولأنه غارم. وكلامهم هذا، واختلافهم -إنما هو في الكفار الأصليين. وأما المرتدون، فكلامهم -رحمهم الله- صريح في أن حكمهم ليس كذلك، وأنهم لا يملكون ما استولَوْا عليه من أموال المسلمين، لأنهم صرحوا

الرد على ما يقوله صاحب البردة في الرسول صلى الله عليه وسلم

إن المرتد إذا أسلم، وفي يده مال مسلم، أن صاحبه يأخذه مطلقا، ولم نَرَهُم ذكروا في ذلك خلافا، وإنما تنازعوا في تضمينه ما أتلفه حال ردته. وفي تضمينه ذلك قولان، هما روايتان عن الإمام أحمد، والمذهب منهما عند أصحابه الضمان، ومن لم يُضَمِّنه علل ذلك: بأن في تضمينه تنفيرا له عن الإسلام، لم يعللوه بأنه ملكه. وقد أجمعوا أن الكافر الأصلي لا يضمن ما أتلفه حال كفره على القولين جميعا، أعني ملكه حال إسلامه وعدمه. ولم نعلم بينهم نزاعا في أن المرتد إذا أسلم يرد ما في يده من أموال المسلمين. واختلفوا في الأصلي إذا أسلم، هل يُنْزَع ما في يده من أموال المسلمين؟ فظهر من كلامهم الفرق بين الأصلي والمرتد، وأن المرتد لا يملك مال المسلم بالاستيلاء. وعلى هذا: فمن انتقل إليه مال مسلم من مرتد بقهر، أو هبة، أو شراء، فصاحبه أحق به، إذا وجده بغير شيء، إذا ثبت ذلك فهؤلاء -العدوين- الذين استولوا على نجد وأهلها، من حكمنا بكفره منهم -فحكمه حكم المرتدين لا الأصليين؛ لأن دارهم دار إسلام، وحكم الإسلام غالب عليها، وإن كان الشرك موجودا فيه كثير. فهذا الذي نراه، ونعتقده، والله -سبحانه وتعالى- أعلم. [الرد على ما يقوله صاحب البردة في الرسول صلى الله عليه وسلم] بسم الله الرحمن الرحيم منقول من البردة للبوصيري، وتشطيرها لداود بن سليمان بن جرجيس البغدادي، الداعي إلى الشرك، -عافانا الله والمسلمين مما ابتلاه به، وعصمنا من متابعة الهوى والشيطان- قال في حق الرسول صلى الله عليه وسلم:

يا خير من يَمَّمَ العافون ساحته ... فحَصَّلُوا من نداه أوفر القسم ومن رجاه فما إن خاب حيث أتى ... سعيا فوق متون الأينق الرسم ومنها -أيضا- وتشطيرها لداود المذكور: فإن لي ذمة منه بتسميتي ... كاسمه ذا مقام بالسعود سمي شاركته بحروف الاسم حيث غدا ... محمدًا وهو أوفى الخلق بالذمم إن لم تكن في معادي آخِذًا بيدي ... ومنقذي من عذاب الله والألم أو شافعا لي مما قد جنيت غدا ... فضلا وإلا فقل يا زلة القدم حاشاه أن يحرم الراجي مكارمه ... فيرجعن منه صفر الكف ذا عدم فلا يظن به تخييب ذا أمل ... أو يرجع الجار منه غير محترم ومنها -أيضا- وتشطيرها لداود المذكور: يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به ... عند الزحام إذا ما اشتد بي ندمي إن لم تكن لي فمن أرجوه يشفع لي ... سواك عند حلول الحادث العمم ولن يضيق رسول الله جاهك بي ... وقد وسعت به للرسل والأمم فانظر إليَّ بعين اللطف لا سيما ... إذا الكريم تحلى باسم منتقم فإن من جودك الدنيا وضرتها ... حاشاك تبخل عني معدن الكرم وكيف تغفل عن مثلي وتهمله ... ومن علومك علم اللوح والقلم ونقلنا هذه الأبيات التي فيها من الشرك ما لا يخفى، إلا على من أعمى الله بصيرته، وطبع الله على قلبه، وأركسه بكسبه، وأرسلتها إلى شيخنا ناصر الكتاب والسنة، وقامع الشرك والبدعة، عبد الله بن عبد الرحمن (أبا بطين) -نصر الله به الوحيَيْن، وجعله ممن يُؤْتَى أجره مرتين- وسألناه: أيتعين علينا نصح مستصحبها، أم هجره، والتحذير عنه، بحسب

الإمكان، وكتب تحتها ما يكفي أقلُّ منه لمَن بصَّره الله، وعافاه من الهوى والتعصب، فجزاه الله عن المسلمين خيرا، وجعله ممن يدعو إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة، آمين. أجاب -عفا الله عنه وأيده، آمين-: هذه الأبيات تتضمن تنْزيل الرسول -صلوات الله وسلامه عليه- بمنزلة رب العالمين، إذ مضمونها: أن الرسول هو المسؤول المَرْجُوّ لكشف أعظم الشدائد، وهو عذاب الآخرة، وأن الدنيا والآخرة من جوده وأفضاله، وأنه يعلم الغيب، وهذه هي خصائص الربوبية، والألوهية التي جعلتها النصارى للمسيح ابن مريم، ففيه مصداق قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لتتبعن سَنن من كان قبلكم"1. وهؤلاء، وإن لم يقولوا: إن محمدا هو الله، لكن أثبتوا له خصائص الرب الإله، تعالى الله عن قولهم علوا كبيرا. فانظر قوله: إن لم تكن في معادي آخذا بيدي ... ومنقذي من عذاب الله والألم وانظر قول الله -سبحانه- لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم قل يا محمد: {قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} 2. وهذا الضال يزعم أن محمدا ينقذ مَن شاء مِن عذاب الله، وقال -تعالى- عن صاحب يس: {إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلا يُنْقِذُونِ} 3. ووازن بينه وبين البيت المذكور، وقوله: أو شافعا لي ... إلخ. فالقرآن يخبر أن مَن أراده الله بضر فلا مُنْقِذ له، ولا شافع، وهذا يزعم أن الرسول ينقذ من عذاب الله، ويشفع فيمن عذَّبه الله، فأثبت هذين الأمرين اللذين نفاهما القرآن، فأيّ محادة للقرآن أعظم من ذلك؟! وقال تعالى: {يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} 4. ونحو ذلك في القرآن كثير، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-:

_ 1 البخاري: أحاديث الأنبياء (3456) , ومسلم: العلم (2669) , وأحمد (3/ 84,3/ 89). 2 سورة الأنعام آية: 15. 3 سورة يس آية: 23. 4 سورة الانفطار آية: 19.

"يا بني كعب بن لؤي أنقذوا أنفسكم من النار ... ، إلى أن قال: يا بني عبد المطلب أنقذوا أنفسكم من النار، يا فاطمة بنت محمد أنقذي نفسك من النار، فإني لا أملك لكم من الله شيئا"1. وهذا المفتري يزعم أن النبي ينقذ مِن عذاب الله من شاء، فأي مشاقة لله ورسوله أعظم من هذا؟! وقال -سبحانه-: {قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَدًا} 2. وقال: {قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلا نَفْعًا} 3، أي: أنا عبد ضعيف لا أملك لنفسي اجتلاب نفع، ولا دفع ضر، كالمملوك، إلا ما شاء الله مالكي من النفع لي، والدفع عني. فكيف يجتمع في قلب عبدٍ الإيمانُ بما ذكرنا من الآيات، ونحوها من آي القرآن، وقوله -صلى الله عليه وسلم- لابنته: "أنقذي نفسك من النار، فإني لا أملك لك من الله شيئا"4، كيف يجتمع الإيمان بذلك، والإيمان بقول الضال: إن لم تكن في معادي آخِذًا بيدي ... ومنقذي من عذاب الله والألم ويزعم بعض المتعصبين لهم أن مرادهم بذلك طلب الشفاعة، فيقال: أولا: طلب الشفاعة من النبي صلى الله عليه وسلم بعد موته ممتنع شرعا، وعقلا. وأيضا فالمستشْفِع يقول للمستشْفَع به: اشفع لي، ادع الله لي، لا يقول: أعطني كما كان الصحابة يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم في حياته: استسق لنا، استنصر لنا، لا يقولون: اسقنا، أو أغثنا، أو انصرنا على عدونا. فمن استشفع بالنبي أو غيره إلى الله في جلب رزق، أو دفع ضر، أو دفعه، لا يقول: ارزقني أو اكشف ضري، بل يقول: ادع الله لي، وأيضا- فقول الناظم أولا: إن لم تكن في معادي آخِذًا بيدي ... ومنقذي من عذاب الله والألم ثم قال: أو شافعا لي ... إلخ، فعطف الشفاعة على الأخذ باليد والإنقاذ،

_ 1 البخاري: الوصايا (2753) وتفسير القرآن (4771) , ومسلم: الإيمان (204) , والترمذي: تفسير القرآن (3185) , والنسائي: الوصايا (3644,3646,3647) , وأحمد (2/ 360) , والدارمي: الرقاق (2732). 2 سورة الجن آية: 21. 3 سورة الأعراف آية: 188. 4 مسلم: الإيمان (204) , والترمذي: تفسير القرآن (3185) , والنسائي: الوصايا (3644) , وأحمد (2/ 333,2/ 360,2/ 519).

فالمعطوف غير المعطوف عليه، فهو يقول: إن لم يحصل منك إنقاذ بالفعل، فانزل إلى مرتبة الشفاعة، وحاشاك أن تُخَيِّبَ رجائي فيك. وقد أبطل -سبحانه- هذين الأمرين الذين تعلق بهما المشركون، كما في قوله: {مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ} 1، فالولي هو: الناصر المعين بالقول، وهذا كثير في القرآن، يقرر أنه لا ولي من دونه، ولا شفيع من دونه. وأما قوله: فإن من جودك الدنيا وضرتها ... ومن علومك علم اللوح والقلم فجعل الدنيا والآخرة من عطاء النبي وأفضاله، والجود هو: العطاء والإفضال. فمعنى الكلام: أن الدنيا والآخرة له صلى الله عليه وسلم والله -سبحانه وتعالى- يقول: {وَإِنَّ لَنَا لَلآخِرَةَ وَالأُولَى} 2 {فَلِلَّهِ الآخِرَةُ وَالأُولَى} 3، وأيّ غلو أكبر من هذا؟! وكذا قوله: ... ... ... ... ... ... ... ..... ومن علومك علم اللوح والقلم فجعل ما جرى بالقلم السابق في اللوح المحفوظ بعض علوم محمد صلى الله عليه وسلم، والله -سبحانه- يقول: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} 4. ومقتضى قوله، بل صريح قوله: ومن علومك علم اللوح والقلم، أنه يجوز أن يقال: ومحمد يعلم ذلك، وأنه يجوز أن يقال: مفاتح الغيب لا يعلمها إلا الله ومحمد، وقال -سبحانه-: {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} 5، فيجوز عند الناظم أن يقال: لا يعلم مَن في السموات والأرض الغيبَ إلا اللهُ ومحمدٌ صلى الله عليه وسلم وهذا صريح كلامه، وإن تأوله بعض المتعصبين بتأويلات بعيدة لا يحتملها اللفظ. وقد قال -سبحانه- لنبيه: {قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ

_ 1 سورة السجدة آية: 4. 2 سورة الليل آية: 13. 3 سورة النجم آية: 25. 4 سورة الأنعام آية: 59. 5 سورة النمل آية: 65.

الْغَيْبَ} 1، وأن يقول: {وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ} 2، فقال صلى الله عليه وسلم "إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إليَّ، ولعل بعضكم أن يكون أَلْحَنَ بحُجَّتِهِ من بعض فأقضي له على نحو ما أسمع"3. والآيات والأحاديث في هذا كثيرة مع أن هذا لا يحتاج إلى إقامة الأدلة على بطلانه؛ لأنه معلوم بالاضطرار من دين الرسل كلهم -أن الدنيا والآخرة لله وحده، وأنه لا يعلم الغيب إلا هو، ولقد أحسن القائل: الحق شمسٌ والعيون نواظر ... ولا يخفى إلا على العُمْيَان ويشبه قوله هذا قوله في الهمزية، في مخاطبته للنبي صلى الله عليه وسلم إلى أن قال: الأمان الأمان إن فؤادي ... من ذنوب أتيتهن هواء فهذه علتي وأنت طبيبي ... وليس يخفى عليك في القلب داء فانظر إلى طلبه الأمان من النبي صلى الله عليه وسلم وقوله: ... ... ... ... ... ... ... ..... وليس يخفى عليك في القلب داء يزعم أن النبي صلى الله عليه وسلم يعلم علل القلوب وأدواءها وأنه لا يخفى عليه ما في القلوب، وقد قال الله -سبحانه وتعالى-: {وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ} 4. وغير ذلك من أدلة الكتاب والسنة التي تدل على أنه صلى الله عليه وسلم لا يعلم ما في القلوب إلا مِمَّا أطْلَعَهُ الله عليه، قال -تعالى-: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} 5 أي: فإنه يُطْلِعه على ما يشاء من غيبه. والله المسؤول المرجو أن يهدينا إلى صراطه المستقيم، ويتوفانا مسلمين غير مُغَيِّرين، ولا مُبَدِّلين، وهو أرحم الراحمين.

_ 1 سورة الأنعام آية: 50. 2 سورة الأعراف آية: 188. 3 البخاري: الأحكام (7169) , ومسلم: الأقضية (1713) , والنسائي: آداب القضاة (5401) , وأبو داود: الأقضية (3583) , وأحمد (6/ 290,6/ 320) , ومالك: الأقضية (1424). 4 سورة التوبة آية: 101. 5 سورة الجن آية: 26.

من عبد الله بن عبد الرحمن (أبا بطين) إلى الولدين المكرمين محمد آل عبد الله، ومحمد آل عمر آل سليم

بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله بن عبد الرحمن (أبا بطين) إلى الولدين المكرمين محمد آل عبد الله، ومحمد آل عمر آل سليم، زادهما الله علما وفهما، ووهب لنا ولهما حكما ... [اتباع اليهود والنصارى فيما أحدثوا] إلى أن قال: وكذلك الأبيات التي نقلتم، كتبنا عليها ما اتسع له المحل، وبطلانُ ما تضمنته ظاهرٌ، ولله الحمد ما يخفى إلا على من أعمى الله بصيرته، ولكن إذا تحققتم بقول الصادق المصدوق: "إن هذه الأمة تتبع اليهود والنصارى فيما أحدثوا حذو القذة بالقذة" مع قوله صلى الله عليه وسلم: "بدأ الإسلام غريبا، وسيعود غريبا كما بدأ"1. فإذا صدَّق الإنسان بذلك، لم يستنكر ما حدث من الشرك، والبدع، وظهور المنكرات، وتضييع شرائع الإسلام، وتعطيل حدود الله، فإذا عرف الإنسان ذلك، وعلم أنه لم يُضِلّ اليهودَ والنصارى إلا علماؤهم، علم أن سبب ضلال هذه الأمة علماؤهم، كما في الحديث المشهور: "علماؤهم شر من تحت أديم السماء، منهم خرجت الفتنة وفيهم تعود". وقول القائل: لو أن هذا ما يجوز ما خفي على فلان وفلتان، فهذه شبهة باطلة. وقد روى ابن وضَّاح عن عمر رضي الله عنه قال: "أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بلحيتي وأنا أعرف الحزن في وجهه فقال: {إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} 2، فقلت: أجل إنا لله وإنا إليه راجعون، فما ذلك يا رسول الله؟ قال: أتاني جبريل فقال: إن أمتك مُفْتَتَنَة بعد قليل من الدهر غير كثير، قلت: ففيه كفر، أم فتنة ضلالة؟ قال: كلٌّ سيكون. قلت: وأين يأتيهم ذلك وأنا تارك فيهم كتاب الله؟ قال: بكتاب الله يضلون" أي يتأولونه على غير تأويله، وزاد "من قِبَل قُرَّائهم وأمرائهم". قال محمد بن وضَّاح: الخير بعد الأنبياء ينقص،

_ 1 مسلم: الإيمان (145) , وابن ماجه: الفتن (3986) , وأحمد (2/ 389). 2 سورة البقرة آية: 156.

والشر يزداد، وقال: إنما هلك بنو إسرائيل على يد قرائهم وفقهائهم، وستهلك هذه الأمة على أيدي قرائهم وفقهائهم، قال ابن المبارك: "وهل أفسد الدينَ إلا الملوكُ وأحبار سوء ورهبانها". وقد أخبر الله -سبحانه- عن اليهود أنهم يحرِّفون الكلم عن مواضعه، أي: يتأولون كتاب الله على غير ما أراد الله، وقال: {وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} 1. وأخبر عنهم أنهم {يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا} 2. ولا بد أن يوجد في هذه الأمة من يتابعهم على ما ذَمَّهم الله به. والإنسان إذا عرف الحق من ضده، لم يبال بمخالفة من خالف كائنًا من كان، ولا يكبر في صدره مخالفة عالم، ولا عابد؛ لأن هذا أمر لا بد منه، وما أخوفني على من عاش أن يرى أمورا عظيمة لا منكر لها، والله المستعان. [وقوع الشرك من كثير من المتأخرين] والاستغاثة بالنبي -صلى الله عليه وسلم- صدرت من كثير من المتأخرين ممن يُشَار إليه بالعلم. وقد صنَّف رجلٌ يقال له: ابن البكري كتابا في الاستغاثة بالنبي صلى الله عليه وسلم، ورد عليه شيخ الإسلام ابن تيمية في مجلد، بيَّن فيه بطلان ما ذهب إليه، وبيَّن أنه من الشرك. قال الشيخ -رحمه الله-*: وقد طاف هذا -يعني: ابن البكري- على علماء مصر فلم يوافقه منهم أحد، وطاف عليهم بجوابي الذي كتبته، وطلب منهم معارضته، فلم يعارضه أحد منهم، مع أن عند بعضهم من التعصب ما لا يخفى، ومع أن قوما كان لهم غرض وجهل بالشرع قاموا في ذلك قياما عظيما، واستعانوا بمن له غرض من ذي سلطان، مع فرط عصبيتهم، وكثرة جمعهم، وقوة سلطانهم، ومكايدة شيطانهم. قال -رحمه الله تعالى-**: والاستغاثة بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد

_ 1 سورة البقرة آية: 75. 2 سورة النساء آية: 51. * "الرد على البكري" 2/ 486. [معد الكتاب للمكتبة الشاملة] ** "الرد على البكري" 2/ 479. [معد الكتاب للمكتبة الشاملة]

موته موجودة في كلام بعض الناس، مثل: يحيى الصرصري، ومحمد بن النعمان، وهؤلاء لهم صلاح، لكن ليسوا من أهل العلم، بل جَرَوْا على عادة كعادة من يستغيث بشيخه في الشدائد، ويدعوه. انتهى. والمقصود أن نوع الشرك من الاستغاثة بالنبي وغيره جرى في زمان الشيخ، والشر يزيد، لا يأتي عام إلا والذي بعده شر منه، والله المستعان، وفي هذه الأزمنة يقال: العجب لمن نجى، كيف نجى؟! ليس العجب لمن هلك، كيف هلك؟! وقول من يقول: استعملها من هو أعلم منا، وأعرف بكلام العرب، فبئس الحجة الواهية، والله -سبحانه- لم يأمرنا باتباع من رأيناه أعلم منا، وإنما أوجب علينا عند التنازع الرد إلى كتابه، وسنة نبيه، قال -تعالى-: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} 1 خاصة في أصول الدين؛ بأنه لا يجوز التقليد فيها بإجماع العلماء؛ ولأن أدلته -ولله الحمد- ظاهرة، ولم يقل الله -سبحانه-: إذا تنازعتم فاتبعوا ما عليه أكثر الناس، ولا ما عليه بلد من البلدان. وأكثر الناس اليوم -خصوصا طلبة العلم- خفي عليهم الشرك، وشيخ الرجل المذكور يُجَوِّز الاستغاثة بالأموات فكيف بالنبي -صلى الله عليه وسلم-؟! كلامه صريح ما يحتمل تأويلا، كقوله: ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... منقذي من عذاب الله والألم نسأل الله السلامة، وابن عجلان أقل الأحوال: هجره. وأما النصيحة فلا تفيد في مثله، وأمره هذا، إن وصل الشيخ عبد الرحمن بن حسن أو فيصلا أو ابن سعود الأدنى فأخاف على نفسه، ولو له عقل ما أظهر مثل هذا الأمر الذي يجر عليه شَرًّا، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.

_ 1 سورة النساء آية: 59.

مسائل سئل عنها الشيخ عبد الله (أبا بطين)

مسائل سئل عنها الشيخ عبد الله (أبا بطين) فأجاب: [إذا ترك الساعي في الخَرْص لرب المال أشياء من كمال النصاب] (مسألة): إذا ترك الساعي في الخَرْص لرب المال أشياء من كمال النصاب، كما إذا كان عنده خمسة أوسق، فترك منها وسقا، فقد ذكروا: إن كان رب المال أكل هذا الوسق المتروك، فلا يجب عليه شيء في الأربعة الأوسق الباقية، وإن لم يأكل هذا الوسق المتروك -زَكَّى الأربعة الأوسق فقط. [الزكاة في غلة الوقف] (الثانية): وجوب الزكاة في غلة الوقف، فإن كان الوقف على معين واحد أو جماعة، وحصل لكل واحدة نصاب زَكَّاهُ، وإن كان الوقف على غير معين لم يجب فيه شيء. [إذا كان عند إنسان نصاب في الشتاء وبعض نصاب في القيظ] (الثالثة): إذا كان عند إنسان نصاب في الشتاء وبعض نصاب في القيظ - أخرج زكاة نصاب الشتاء، ولم يجب عليه شيء في زرع القيظ إذا لم يبلغ نصابا. [إذا دَبَّر عبده وأوصى بثلث ماله] (الرابعة): إذا دَبَّر عبده، وأوصى بثلث ماله في جهة بر، كان الجميع يخرج من الثلث؛ لأن التدبير وصيةٌ على المشهور، وله الرجوع في الوصية وبيع المدبر، على اختلاف في ذلك. [بيع السلم قبل قبضه] (الخامسة): السلم، فلا يباع قبل قبضه، ولا يؤخذ ممن هو عليه عوض عن دين السلم، في قول أكثر العلماء. [هل للعصبة ولاية مع عدم حاكم ووصي] (السادسة): إذا مات الوصي أقام الحاكم عدلا في ذلك من العصبة أو غيرهم، وليس للعصبة ولاية إلا مع عدم حاكم ووصي، على قول غير مشهور، لكنه متوجه مع عدم الحاكم. [الطلاق على عوض] (السابعة): إذا طلق الرجل زوجته؛ فإنها تقع الثلاث لو كان على عوض. [الطلاق المعلق ثلاثا] (الثامنة): إذا قال الزوج لامرأته: إن خرجت فأنت طالق، وكرره

ثلاثا، ثم خرجت فإنها تطلق ثلاثا، ولو لم ينو شيئا، وإن ادعى إرادة الإفهام بالتكرير قُبِلَ منه. [قال لامرأته: أمرك بيدك] (التاسعة) إذا قال الرجل لامرأته: أمرك بيدك، فإنها تملك ثلاثا، ولو قال طلقي نفسك. لم تملك إلا واحدة. [إذا وقف نخلة معينة ثم سقطت] (العاشرة): إذا وقف نخلة معينة، فالذي نرى أن موضعها لا يكون وقفا بذلك، فإذا سقطت النخلة زال حق أهل الوقف. وقد صرح بذلك الفقهاء فيما إذا أقر له بنخلة أو باعه إياها، تناول ذلك الجذع فقط، فإذا سقطت لم يكن له إعادتها، كما نص عليه الإمام أحمد فيما إذا أقر له بنخلة، والله -سبحانه وتعالى- أعلم. [ما ينبت من النخل ونحوه على ماء الشريك في المشاع] (مسألة): ما حكم ما يغرس أو ينبت من النخل ونحوه على ماء الشريك في المشاع، إذا أراد الشركاء القسمة؟ الجواب: الحمد لله، أما ما غرسه الشريك في الأرض المشاعة بغير إذن شريكه فقد صرح الأصحاب بأن حكمه حكم غرس الغاصب، ونص على ذلك الإمام أحمد -رحمه الله-؛ فإنه سئل عمن غرس نخلا في أرض بينه وبين قوم مشاعا. قال: إن كان بغير إذنهم قلع نخله. قال في "الإنصاف": قلت: وهذا مما لا شك فيه، قالوا: وكذا لو غرس نوى، فصار شجرا، فحكمه كحكم الغرس لا كالزرع، على الصحيح من المذهب. وأما قول الشيخ -رحمه الله تعالى-: من زرع بلا إذن شريكه، والعادة بأن من زرع فيها له نصيب معلوم، وله بها نصيب قسم ما زرعه في نصيب شريكه كذلك. فالظاهر أن هذا في الزرع خاصة دون الغرس، ولجريان العادة بذلك.

[حكم ما ينبت في الأرض وقت استئجارها] وأما إذا نبت في الأرض المشاعة شجر بغير فعل صاحب الماء، وإنما نبت على مائة بغير فعل منه، فلم أر في كتب الأصحاب ذكرا لهذه المسألة بعينها، ورأيت جوابا للشيخ عبد الله بن محمد بن ذهلان النجدي في هذه المسألة: اعلم أن الغرس النابت في الأرض المأجورة أو الموقوفة، لم نظفر فيه بنص، وتعبنا من زمن، وجاءنا فيه جواب للبلباني -أظنه غير محرر- وأرسلنا من زمن طويل للشيخ عبد الرحمن بن عبد الله الشافعي المفتي بالأحساء فيمن استأجر أرضا مدة طويلة، فنبت فيها غراسٌ، الظاهر سقوطه في مدة الإجارة، ونما بعمل المستأجر، ما حكمه؟ فأجاب: إذا استأجر شخص أرضا مدة طويلة، ووقع منه نوى في الأرض المذكورة، ولم يعرض عنه، كان النابت ملكا للمستأجر؛ إن تحقق أن النوى ملكه، وإن لم يتحقق أنه ملكه، أو أعرض عنه، وهو ممن يصح إعراضه، فهو ملك لصاحب الأرض، وإن نما بعمل المستأجر. هذا جوابه، ومن جواب محمد بن عثمان الشافعي: الودي النابت في الأرض لمالكها لا للمستأجر، وإن حصل نموه بفعل المستأجر من سقيه ومعاهدته. انتهى. وقال في الشرح: وإن رهن أرضا، فنبت فيها شجر، فهو رهن؛ لأنه من نماء الأرض، سواء نبت بفعل الراهن أو بغيره. وكذا قال في "المغني" وغيره، فتعليلهم أن النابت من نماء الأرض ربما يُلْحَظ منه شيء، والله -سبحانه وتعالى- أعلم. ... 1 ... ...

_ 1 قد حذفنا مسألة السكة، لأنها تقدمت في صفحة 163.

[حديث الخراج بالضمان وما يتناوله] وأما حديث: "الخراج بالضمان"1، وفي لفظ: "الغلة بالضمان"2، فهذا الحديث، وإن كان واردًا في صورة رد المبيع المعيب، فيتناول بعمومه صورًا كثيرة غير صورة الرد بالعيب كالنماء الحاصل في مدة الخيار، وفيما إذا رد المبيع بالإقال، وقد نما عند المشتري، وفي الشقص المشفوع؛ إذا أخذه الشفيع، وقد نما عند المشتري، وفي العين عند المفلس؛ إذا أخذها بائعها، وقد نمت عند المفلس، وفي هبة الأب لولده؛ إذا رجع فيها، وقد نمت عند الولد، وفي الصداق إذا نما بيد الزوجة، ثم رجع نصفه إلى الزوج بنحو طلاق قبل الدخول ونحوه، وغير ذلك فالنماء المنفصل ... 3 [تأثير الخلطة في غير الماشية] وأما تأثير الخلطة في غير الماشية في باب الزكاة، فالخلاف في ذلك مشهور بين القائل بتأثير الخلطة في الماشية، فالمشهور في مذهب أحمد، وهو مذهب مالك، عدم تأثير الخلطة في الجملة. وعن أحمد رواية بتأثير خلطة الأعيان في غير السائمة، وهو مذهب الشافعي. وعلى هذا، فهل تؤثر خلطة الأوصاف؟ فيه وجهان للأصحاب، ودليل كل من القولين مذكور في محله، وإن كانت حجة القول الأول أظهر، والقائلون به أكثر، والله أعلم. [ضم الثمار والزروع بعضها إلى بعض في تكميل النصاب] وأما ضم ثمرة العام وزرعه بعض إلى بعض في تكميل النصاب، فأما الثمار فلا يُضَمُّ جنس إلى آخر كالتمر إلى الزبيب، إجماعا، وتضم أنواع الجنس بعضها إلى بعض. وأما الزرع فالمشهور في مذهب أحمد أنه لا يضم جنس منه إلى آخر، وهو مذهب الشافعي والحنفية. وعن أحمد رواية بضم الحنطة إلى الشعير، والقطاني بعضها إلى بعض، واختار هذه الرواية الخرقي وأبو بكر، وهو مذهب

_ 1 الترمذي: البيوع (1285) , والنسائي: البيوع (4490) , وأبو داود: البيوع (3508) , وابن ماجه: التجارات (2243). 2 أحمد (6/ 80). 3 في الأصل بياض وفي هامشه هكذا: بياض لكلمة مختلطة.

مالك. وعن أحمد رواية ثالثة بضم الحبوب بعضها إلى بعض مطلقا، والقطاني: اسم لحبوب كثيرة منها: الحمص، والعدس، واللوبيا، والدُّخْن، والرز، والباقلا. [إذا بذلت المرأة العوض للزوج في حال طلب الخلع] وأما إذا بذلت المرأة العوض للزوج في حال طلب الخلع، وقبله الزوج، وقال: الله يرزقك، ونحو ذلك من ألفاظ العامة التي يعتقدها اللافظ بها طلاقا؛ ولهذا يقول: إذا صدر منه نحو هذا اللفظف طلقت امرأتي، فالأمر في هذه المسألة مشكل جدا. قال أبو العباس: المنقول عن أحمد وقدماء أصحابه، ألفاظهم كلها صريحة في أن الخلع بلفظ البيع فسخ، وبأيّ لفظ كان، وأفتى بعض متأخري الأصحاب بأن الزوجة إذا طلبت التخلاة على عوض بذلته لزوجها، فقال: خلعت جوازك، صح وبانت، قال: لأن ذلك لغة أهل بلدنا، قال: والعبرة في ذلك ومثله بلغة المتكلمين به. وقال الشيخ تقي الدين، بعد أن ذكر ألفاظ العقود في الماضي والمضارع واسم الفاعل واسم المفعول: وإنها لا تنعقد بالمضارع، وما كان من هذه الألفاظ محتملا، فإنه يكون كناية حيث تصح الكناية له، كالطلاق ونحوه، ويعتبر دلالات الأحوال. وهذا الباب عظيم المنفعة، خصوصا في الخلع وبابه. وقد ذكروا من ألفاظ الكناية: أغناك الله، وقول القائل: "الله يرزقك" دعاء منه لها، ويظهر أن مراده بهذا اللفظ في حال سؤالها الطلاق، وبذلها العوض الطلاق. ... 1 ... ... ...

_ 1 حذفت مسألة تقسيم ريع وقف العقار على الطبقات، لأنها تقدمت في صفحة 191.

إذا منع التعامل بالدراهم أو قلت قيمتها

[إذا منع التعامل بالدراهم أو قلت قيمتها] ما قولكم، رفع الله قدركم، وأدام فضلكم، فيما إذا غلت، أو رخصت الدراهم المُتَعَامَل بها بين الناس، فما قولكم فيمن باع إلى أجل بعشرة دراهم، وهي قيمة الدينار وقت العقد، فلما حل الأجل، وإذا الدراهم المذكورة بعدُ ما هي قيمة الدينار صارت نصف قيمته أو عكسه، هل للبائع على المشتري دراهمه المسماة أو قيمتهن وقت العقد، أو قيمتهن وقت حلول الأجل، فيما إذا أخر المطالبة لغيبة أو مَطْل أو غير ذلك؟ وهل حكم القَرْض حكم ثمن المبيع الذي في الذمة أم لا؟ وما معنى كلام الناظم في قوله: والنص بالقيمة في بطلانها ... لا في ازدياد القدر أو نقصانها بل إن غلت فالمثل فيها أحرى ... كذا عشرين صار عشرا ما الحكم في ذلك؟ أفتونا مأجورين، أثابكم الله الجنة بمنه وكرمه، آمين. الحمد لله {الجواب، والله أعلم بالصواب}: قد ذكر الأصحاب -رحمهم الله تعالى- أنه إذا وقع البيع بنقد معين كدراهم مكسرة أو مغشوشة أو فلوس، ثم حرمها السلطان فمنع المعاملة بها قبل قبض البائع لها -لم يلزم البائعَ قبضُها، بل له الطلب بقيمتها يوم العقد، وكذا لو أقرضه نقدا أو فلوسا، فحرم السلطان المعاملة بذلك، فرده المقترض، لم يلزم المقرضَ قبولُه، ولو كان باقيا بعينه لم يتغير، وله الطلب بقيمة ذلك يوم القرض، وتكون من غير جنس النقد؛ إن أفضى إلى ربا الفضل، ووجه رد القيمة فيما ذكرنا. أما في مسألة البيع، فلأنها من ضمان المشتري حتى يقبضها البائع، وقد بقيت بيد المشتري، فلم يلزم البائعَ قبولُها.

وأما في مسألة القرض، فلأنها بقيت في ملك المقترض، فلم يملك ردها، وإنما يملك القيمة -والحالة هذه- على المذهب فيما إذا منع السلطان المعاملة بها خاصة، أما إذا زادت قيمتها، أو نقصت مع بقاء التعامل بها وعدم تحريم السلطان لها، فيرد مثلها، سواء غلت، أو رخصت، أو كسدت، هذا حاصل المذهب في المسألة عند أكثر الأصحاب. وقال شيخ الإسلام تقي الدين -رحمه الله-: قياس القرض فيما تقدم جميع الديون من بدل المتلف والمغصوب، والصداق، والصلح عن القصاص، والكتابة، قال: وكذا نص أحمد في جميع الديون. قال الأثرم: سمعت أبا عبد الله سئل عن رجل له على رجل دراهم مكسرة، فسقطت المكسرة أو فلوس، قال: يكون له عليه قيمتها من الذهب. انتهى. وقال الشيخ -أيضا-: وقد نصوا في القرض على أن الدراهم المكسرة إذا مُنِعَ التعاملُ بها، فالواجب القيمة، فيخرج في سائر المتلفات، كذلك في الغصب والقرض؛ فإنه معلوم أنه ليس المراد عيب الشيء المعين، فإنه ليس هو المستحق، وإنما المراد عيب النوع، والأنواع لا يُعْقَل عيبُها إلا نقصان قيمتها. فإذا أقرضه، أو غصبه طعاما، فنقصت قيمته -فهو نقص النوع، فلا يُجْبَر على أخذه ناقصا، فيرجع إلى القيمة، وهذا هو العدل؛ فإن المالين إنما يتماثلان؛ إذا استوت قيمتهما، وأما مع اختلاف القيمة فلا تماثل، فعيب الدين إفلاس المدين، وعيب العين المعينة خروجها عن الكمال بالنقص، وأما الأنواع فلا عيب فيها بالحقيقة، وإنما نقصانها كعيبها. انتهى. فالحاصل أن الأصحاب إنما أوجبوا رد قيمة ما ذُكِرَ في القرض والثمن

ما معنى قوله صلى الله عليه وسلم "وأنا الحاشر يحشر الناس على قدمي" وفي لفظ "على عقبي"؟ وما يظهر لكم في رجل أخذ من آخر مجيديات فضة مضاربة واشترى بها عروض وبهائم، وباعها بريالات النقد الرابح اليوم وظهر ربح بينهما، هل يدفع المضارب إلى الدافع ريالات بثمن

المعين، خاصة فيما إذا منع السلطان التعامل بها فقط، ولم يَرَوْا رد القيمة في غير القرض والثمن المعين، وكذا لم يُوجِبوا ردَّ القيمة -والحالة هذه- فيما إذا كسدت بغير تحريم السلطان لها، ولا فيما إذا غلت، أو رخصت. وأما الشيخ تقي الدين فأوجب رد القيمة في القرض والثمن المعين، وكذلك سائر الديون فيما إذا كسدت مطلقا، وكذلك إذا نقصت القيمة فيما ذكر، وفي جميع المثليات، والله -سبحانه وتعالى- أعلم. {الحمد لله وحده} سلمكم الله، وعافاكم، ووفقكم، وحماكم 1، ما معنى قوله صلى الله عليه وسلم "وأنا الحاشر، يحشر الناس على قدمي"2. وفي لفظ: "على عقبي"؟ وما يظهر لكم في رجل أخذ من آخر مجيديات فضة مضاربة، واشترى بها عروض وبهائم، وباعها بريالات النقد الرابح اليوم، وظهر ربح بينهما، هل يدفع المضارب إلى الدافع ريالات بثمن المجيديات، أم لا يدفع له إلا مجيديات أو ذهب مما لا يجري فيه الربا؟ أفتونا مأجورين، أثابكم الله جزيل الثواب بمَنِّه وكرمه، آمين. * * * أجاب شيخنا مفتي الديار النجدية الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن (أبا بطين) أمتعنا الله به. وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته. [معنى قوله: (وأنا الحاشر يحشر الناس على قدمي)] قوله صلى الله عليه وسلم: "لي خمسة أسماء"، وذكر منها "الحاشر 3 الذي يحشر الناس على قدمي" قوله: (قدمي) روي بتخفيف الياء على الإفراد، وتشديدها على التثنية، وفي رواية: "على عقبي"

_ 1 في هامش الأصل: السؤال بخط محمد بن مانع. 2 البخاري: المناقب (3532) , ومسلم: الفضائل (2354) , والترمذي: الأدب (2840) , وأحمد (4/ 80,4/ 84) , ومالك: الجامع (1891) , والدارمي: الرقاق (2775). 3 في هامش الأصل قال: وفي النهاية في أسماء النبي -صلى الله عليه وسلم-: وأنا الحاشر الذي يحشر الناس خلفه وعلى ملته دون ملة غيره.

جواب في مسائل سئل عنها الفقير إلى الله عبد الرحمن بن عدوان

أي: على أثري وزمان نبوتي ورسالتي؛ إذ لا نبي بعده. وقيل معناه: يقدمهم وهم خلفه، أو على أثره في المحشر؛ لأنه أول من تنشق عنه الأرض. والعاقب: هو الذي يخلف من كان قبله في الخير، ومنه عقب الرجل لولده، وقيل: معناه؛ لأنه ليس بعده نبي؛ لأن العاقب هو الآخر، فهو عقب الأنبياء، أي: آخرهم. [إذا طلب المالك من العامل أن يرد رأس ماله كما أخذه] وأما مسألة المضاربة، فإن طلب المالك من العامل أن يرد رأس ماله كما أخذه، لزمه ذلك بطريق مباح. وأما إذا رضي رب المال بقبض الريالات الرابحة، فالذي أرى أن هذا جائز لا محذور فيه؛ لأنه عين ماله انقلب بالتجارة فيه من نوع إلى نوع آخر لم يكن في ذمة العامل، بل رأس المال والمنضوض ملك لرب المال، والله -سبحانه وتعالى- أعلم. فإن كان قد ظهر ربح قوم، وأعطي العامل حصته من الربح من الناض لا من رأس المال. انتهى جواب الشيخ من خطه. ... ... ... ... .... 1 بسم الله الرحمن الرحيم قال شيخنا العلامة عبد الرحمن بن حسن -رحمه الله، وكثَّر فوائده-: (جواب) في مسائل سئل عنها الفقير إلى الله عبد الرحمن بن عدوان، قال بعد السلام: هذا جواب المسائل: [إذا قبض دين السلم قبضا تاما] أما (الأولى) وهي: ما إذا قبض دين السلم قبضا تاما يتمكن من التصرف فيه جاز له أن يبيعه على مَن أوفاه به مطلقا، وليست هذه من صور عكس العِينَة. [قلب الدين] (الثانية): رجل اشترى تمرا نسيئة من آخر، ثم رده عليه عما في ذمته.

_ 1 حذفت مسألة الرهن المعسر داره في دينه لأنها تقدمت في صفحة 137.

(الجواب): إن كان قبضه قبضا صحيحا جاز أن يوفيه به المشتري؛ إذا كان له قدرة على أن يوفيه دينه من غيره، بخلاف ما إذا كان لا يقدر على الوفاء؛ لعسرته، واضطره إلى أن يستدين له من نفسه ليوفيه، فهذا لا يجوز لوجهين: أحدهما: أن المعسر يجب إنظاره، وهذا إضرار به يزيد به عسرته. الثاني: أنه من قلب الدين الذي نص عليه العلماء -رحمهم الله- كشيخ الإسلام ابن تيمية أنه لا يجوز. [خرْص النخل وإعطاؤه للشريك] (الثالثة): خرْص النخل وإعطاؤه للشريك ليأخذ مثله وقت الجذاذ، فالظاهر أن هذا لا يجوز؛ لأنه من صور بيع الجنس بجنسه، وشرطه: جواز التماثل والتقابض، والذي يجوز في ذلك أن يقتسماه على رؤوس النخل خَرْصًا، فيأخذ كل واحد منهما مثل ما أخذه شريكه؛ فيختص كل واحد بما أخذ بالقسمة، فلا يكون في ذمة أحدهما للآخر شيء. [من صور قلب الدين] (الرابعة): مَلِيٌّ عليه دين لآخر، فأسلم إليه دراهم، فقضاه دينه منها. (الجواب): أن هذه الصورة من صور قلب الدين، وقد نصوا على أنه يضارع الربا. وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية أن السلف منعوا منه، وأفتى هو بالمنع، وكذا شيخنا الإمام أحمد -رحمه الله تعالى-؛ وذلك لأنه تنمية للدين في ذمة المدين بمجرد القلب، وهو بمعنى ربا الجاهلية: إما أن تقضي، وإما أن ترابي. [التفرق قبل قبض رأس مال السلم] (الخامسة): إذا تقايلا دين السلم، فهل يجوز التفرق قبل قبض رأس سن المال أم لا؟ (الجواب): قال في "المنتهى": ويجوز إقالة في سلم وبعضه بدون قبض رأس ماله أو عوضه إن تعذر في مجلسها؛ لأنه إذا حصل الفسخ ثبت الثمن في ذمة البائع، فلم يشترط قبض بدله في المجلس كالقرض، وفيه وجه يشترط. انتهى. [ما تراه الحائض من النشاف في أيام الحيض] (السادسة): ما تراه الحائض من النشاف في أيام الحيض

بيع الكاليء بالكاليء

الجواب: المذهب أن النقاء طهر، وإن لم تر معه بياضا؛ فعليها أن تغتسل، وتصلي، وفيه قول؛ لأن البياض الذي يأتي المرأة عقب انقطاع الحيض، هو الطهر الصحيح، وإليه يميل شيخنا -رحمه الله- فيما يرى، والله أعلم. انتهى. [بيع الكاليء بالكاليء] بسم الله الرحمن الرحيم وجدت بخط الأشياخ قوله: ولا يصح بيع كالئ بكالئ، ولها صور منها: بيع ما في الذمة حالّ، وعروض وأثمان بثمن إلى أجل ممن هو عليه أو غيره، ومنها جعله رأس مال سلم كما ذكره المصنف -رحمه الله-، ومنها لو كان لكل واحد من اثنين دينا على صاحبه من غير جنسه، كالذهب والفضة، وتصارفا، ولم يحضر شيئا، فإنه لا يجوز سواء كانا حالَّين أو مؤجلين. ثم اعلم أن قول المصنف -رحمه الله-: ولا يحل بيع كالئ بكالئ -يشمل ثمان صور: الأولى: بيع حالٍّ بحَالٍّ لمن هو عليه. السادسة: بيع حال بمؤجل لغيره. السابعة: بيع مؤجل لمن هو عليه. الثامنة: بيع مؤجل بمؤجل لغيره. فلا يصح في هذه الصور جميعها إلا في الأولى والثانية، تمت، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على محمد وآله وصحبه. بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد: فهذه خمس مسائل سئل عنها شيخنا عبد الله بن عبد الرحمن (أبا بطين) رحمه الله. الحمد لله وحده [البلدة التي فيها شيء من مشاهد الشرك] (المسألة الأولى): عن البلدة التي فيها شيء من مشاهد الشرك، والشرك فيها ظاهر، مع كونهم يشهدون "أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله" مع عدم القيام بحقيقتهما، ويؤذنون، ويصلون الجمعة والجماعة، مع التقصير في ذلك.

فهذه المسألة يؤخذ جوابها مما ذكره الفقهاء في بلدةٍ كلُّ أهلها يهود أو نصارى أنهم إذا كانوا يقولون في المسيح: إنه الله، أو ابن الله، أو ثالث ثلاثة، وأنهم إذا بذلوا الجزية سميت بلادهم بلاد إسلام؛ فبالأولى فيما أرى أن البلاد التي سألتم عنها، وذكرتم حال أهلها أولى بهذا الاسم، ومع هذا يُقَاتلون لإزالة مشاهد الشرك والإقرار بالتوحيد والعمل به، بل لو أن طائفة امتنعت من شريعة من شرائع الإسلام -قُوتِلُوا، وإن لم يكونوا كفارا، ولا مشركين، ودارهم دار إسلام. قال الشيخ تقي الدين -رحمه الله-: أجمع العلماء أن كل طائفة امتنعت من شريعة من شرائع الإسلام -تُقَاتَلُ حتى يكون الدين كله لله كالمحاربين وأولى. انتهى. وما ذكرناه عن العلماء: من أنهم يسمون البلد التي أهلها يهود أو نصارى أنهم يسمونها دار إسلام، ويذكرون ذلك في باب اللقيط وفي غيره. [من قصد إنسانا بخشبة ونحوها ليضربه بها] (المسألة الثانية): فيمن قصد إنسانا بخشبة ونحوها؛ ليضربه بها، فللمقصود دفعُه بالأسهل، أو بالهرب عنه، إن أمكن، فإن لم يندفع بذلك فله ضربُه بما يندفع به، وأرجو أنه ما يضمن، والحالة هذه. [من دفع أرضه لإنسان ليغرسها بما اتفقا عليه من نصيب كل منهما] (المسألة الثالثة): فيمن دفع أرضه لإنسان؛ ليغرسها بما اتفقا عليه من نصيب كل منهما، فيجوز لصاحب الأرض بيع نصيبه من الغرس، ولو لم تتم المدة التي بينه وبين الغارس؛ لأن بيع المشاع صحيح، والمشتري يقوم مقام البائع في إلزام العامل بإتمام العمل الذي شرط عليه في العقد. وإذا تلف نصيب الغارس من النخل رفع يده عن الأرض التي ليس له فيها حق، بل لو اشترط في ابتداء العقد أن له شيئا من الأرض فسد العقد

بلا خلاف بين العلماء، والمشتري من مالك الأرض، إن كان إنما اشترى نصيبه من الغرس، فهو صحيح كما ذكرنا، وإن كان اشترى نصيبه من الغرس وجميع الأرض، فالذي أرى أنه ما يصح؛ لأنه ما يمكنه تسليم الأرض -والحالة هذه- والله أعلم. [وطء الأب مملوكة ولده] (المسألة الرابعة): في وطء الأب مملوكة ولده، فهو حرام يوجب التعزير. فإن حملت من الأب صارت أم ولد له، وولده حر، ولا حد ولا مهر عليه، فإن كان الابن قد وطئها، ولو لم تلد منه، لم يملكها الأب بالإحبال، ولم تَصِرْ أمّ ولد له، وحرمت عليهما، هكذا ذكره الفقهاء. [حكم مال الغريم إذا ضاق ماله عن الديون التي عليه] (المسألة الخامسة): في حكم مال الغريم إذا ضاق ماله عن الديون التي عليه، فالمشهور في المذهب فيها معروف، وأنه يُتْرَك له المسكن والخادم؛ إذا كان مثله يُخْدَمُ، ما لم يكونا عين مال غريم، ويُشترى، أو يُكترى له بدلهما، ويُترك له ما يَتَّجِر به؛ إن كان تاجرا، ويترك له آلة محترف؛ إن كان ذا صنعة، ومقتضى قولهم: إنه إذا كانت حرفته الحراثة أن يُترك له ما يحرث عليه من سوان وآلة حراثة. ومقتضى قولهم: أنه إذا لم يكن له حرفة، وله عقار، أنه يُترك له؛ إذا لم يكن فيه فضل عما يقوم به معاشه، والذي أرى أنه ما يمكن العمل اليوم بالمذهب في بلدان نجد؛ لقلة أموالهم، والغالب على الحُرَّاث الفقر. ويمكن أحدهم أن يشتري من الناس أموالهم، ويشتري بها دارا أو عقارا، أو يشتري بها سواني، فإذا طلب أهل الحقوق حقوقهم، لم يجدوا إلا هذه التي ذكرنا، فيقال: تترك له الدار، ويترك له العقار يَتَعَيَّش به؛ إذا لم يكن له ما يعيش به، أو تترك له السواني؟ وإن كان تاجرا، وفي يده رأس مال، قيل: يترك له ما يتجر به، وهذا فيه إشكال.

وأما ما سوى مذهب أحمد، فأبو حنيفة يقول: يترك له المسكن فقط، وقال مالك والشافعي: تباع ويكترى له بدلها؛ لحديث: "خذوا ما وجدتم". والقول بأنه يترك له ما يتجر به؛ إن كان تاجرا، أو آلة الحرفة إن كان له صنعة، فمن مفردات المذهب. ونقل عبد الله عن أبيه: يباع الكل إلا المسكن وما يواريه من ثياب وخادم يحتاجه، وفي رواية أخرى: يُترك له ما يقوم به معاشه. قال في "الشرح الكبير": وهذا في حق الشيخ وذوي الهيئات الذين لا يمكنهم التصرف بأبدانهم، ومع ذلك قال أصحابنا: إن كانت أمواله كلها أعيان أموال أناس، أفلس بأثمانها، أخذوها بشروطها؛ لقوله صلى الله عليه وسلم "من وجد متاعه بعينه عند إنسان قد أفلس، فهو أحق به" 1 انتهى. لكن إن كانت الدار ونحوها رهنا، ففي حكمها على المذهب تردد؛ ولهذا قال صاحب "الغاية": إن كانت الدار ونحوها رهنا، توجه احتمالان، والله أعلم، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم. {تمت} * * * طبعت هذه المجموعة عن الأصل المرسل من نجد بحسب ترتيبه في النسخ بغير تصرف ما، وقد كتب في آخر النسخة التي طبعنا عنها ما نصه: "وقع الفراغ من نسخ هذه المسائل الفقهية في آخر اليوم السادس والعشرين من شهر جمادى الأولى سنة 1329 بمعونة الله الفرد الصمد، بقلم عبده الفقير إليه، الغني به عما سواه -إن شاء الله- سليمان بن عبد الله بن سليمان بن ماجد الحنبلي مذهبًا، والسلفي معتقدًا، غفر المولى له ولوالديه ولمعلميه وللمسلمين والمسلمات آمين.

_ 1 البخاري: في الاستقراض وأداء الديون والحجر والتفليس (2402) , ومسلم: المساقاة (1559) , والترمذي: البيوع (1262) , وأبو داود: البيوع (3519) , وابن ماجه: الأحكام (2358) , وأحمد (2/ 228,2/ 247,2/ 249,2/ 347,2/ 468,2/ 474,2/ 487) , ومالك: البيوع (1383) , والدارمي: البيوع (2590).

الجزء الثالث

مجموعة الرسائل والمسائل النجدية الجزء الثالث تأليف الإمام العالم العلامة الشيخ عبد اللطيف الأزهري بن الشيخ عبد الرحمن بن حسن ابن صاحب الدعوة الإسلامية الشيخ محمد بن عبد الوهاب غفر الله لهم أجمعين المولود سنة 1225 هـ والمتوفى في ذي القعدة سنة 1292 هـ جمعها العالم العامل والأستاذ الفاضل الشيخ سليمان بن سحمان طبع بأمر ونفقة صاحب الجلالة السعودية الإمام عبد العزيز آل سعود ملك الحجاز وسلطان نجد وملحقاتها أيده الله تعالى أشرف على تصحيحه وعلق عليه بعض الحواشي السيد محمد رشيد رضا منشئ مجلة المنار الطبعة الأولى في سنة 1345 مطبعة المنار بمصر

مقدمة جامع الكتاب

بسم الله الرحمن الرحيم مقدمة جامع الكتاب الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى. أما بعد فإن هذه الرسائل المفيدة، والأجوبة القاطعة السديدة، قد اشتملت على أصول أصيلة، ومباحث جليلة، لا تكاد تجدها في كثير من الكتب المصنفة، والدواوين المشهورة المؤلفة إذا سرح العالم النحرير إنسان نظره في رصانة معانيها، وأسام ثاقب فكره في مطارح مروجها ومبانيها، وورد من نمير معينها الصافي البحور الزاخرة، وارتوى من سلسال لطائف تلك المعارف والعلوم الفاخرة، علم أن هذا الإمام قد حاز قصب السبق في الفروع والأصول, واحتوى منها على ما سمق وبسق به الأئمة الفحول، وأنه قد أمّ إلى هام العلى فعلا ذُراها، وسما من العلوم النبوية إلى علالي معالمها وعلاها، فرحمة الله عليه من إمام بلتع، وفاضل فصيح مصقع، فلقد تبحر في جميع فنون العلوم، وبلغ شأو المتنبي في رصانة المنثور والمنظوم، وهذه رسائله تطلعك على ما هنالك، وثواقب علومه يهتدي بها السائر عن سلوك معاطب المهالك. فيا من هو العالي على كل خلقه ... وسوَّى السمواتِ العلى وبناها وكان لها -سبحانه جل- ممسكا ... بغير عماد في الوجود نراها وزيَّن أدناها بشهب ثواقب ... مصابيح في دَيجورها ودُجاها وأطَّد بالأطواد أرضًا بسيطة ... وأحكمها -سبحانه- ودَحاها

بأسمائك الحسنى وأوصافك العلى ... أذقهُ مِن الفرْدوس طيبَ جناها وأوْلِ الرضا هذا الإمام الذي له ... مآثر يزهو في الأنام سناها وبوئه في الفردوس والخلد منزلا ... وألبسْه من أثوابها وحُلاها فقد قام في نصر الشريعة جاهدًا ... ولم يألُ جهدًا في ارتفاع ذُراها وردَّ على من ندَّ من كل ملحد ... عن السنة الغرَّا ورام خفاها وقد شيدتْ أركانَ سنةِ أحمد ... رسائلُه اللاتي أضاء ضياها فأشرف منها الحقُّ للخلق ناصعا ... وأعشى عيون الملحدينَ سناها وأجوبةٌ تسمو وتسمق بالهدى ... لأسئلة قد أشكلت فجلاها يضوع لأهل الحق منها نواشرٌ ... يفوق عبيرَ المسك طيب شذاها إذا أرسل النحرير ثاقب فكره ... بفيح معانيها وشأو ذُراها أقرَّ له بالفضل والعلم والحجى ... وأن قد تسامى للعلى فعلاها وهذا نص الموجود من رسائله:

الرسالة الأولى: الإنكار على من كفر المسلمين بغير ما أجمع عليه الفقهاء

الرسالة الأولى [الإنكار على من كفر المسلمين بغير ما أجمع عليه الفقهاء] بسم الله الرحمن الرحيم من عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن إلى عبد العزيز الخطيب. سلام على عباد الله الصالحين. وبعد: فقرأت رسالتك، وعرفت مضمونها، وما قصدته من الاعتذار، ولكن أسأت في قولك: إن ما أنكره شيخنا الوالد من تكفيركم أهل الحق واعتقاد إصابتكم أنه لم يصدر منكم، وتذكر أن إخوانك من أهل النقيع يجادلونك، وينازعونك في شأننا، وأنهم ينسبوننا إلى السكوت عن بعض الأمور، وأنت تعرف أنهم يذكرون هذا غالبا على سبيل القدح في العقيدة، والطعن في الطريقة، وإن لم يصرحوا بالتكفير فقد حاموا حول الحمى. فنعوذ بالله من الضلال بعد الهدى، ومن الغي عن سبيل الرشد والعمى، وقد رأيت سنة أربع وستين رجلين من أشباهكم المارقين بالأحساء قد اعتزلا الجمعة والجماعة، وكفّرا من في تلك البلاد من المسلمين، وحجتهم من جنس حجتكم، يقولون: أهل الأحساء يجالسون ابن فيروز، ويخالطونه هو وأمثاله ممن لم يكفر بالطاغوت، ولم يصرح بتكفير جده الذي رد دعوة الشيخ محمد ولم يقبلها وعاداها. قالا: ومن لم يصرح بكفره فهو كافر بالله لم يكفر بالطاغوت 1، ومن جالسه فهو مثله. ورتبوا على هاتين المقدمتين الكاذبتين الضالتين ما يترتب على الردة الصريحة من الأحكام، حتى

_ 1 قوله: لم يكفر بالطاغوت إما تعليل لكفره بالله على طريقة الاستئناف البياني، فالكفر بالطاغوت شرط لصحة الإيمان بالله وإما خبر بعد خبر.

تركوا رد السلام، فرفع إلي أمرهم؛ فأحضرتهم وهددتهم، وأغلظت لهم القول. فزعموا أولا أنهم على عقيدة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وأن رسائله عندهم؛ فكشفت شبهتهم وأدحضت ضلالتهم، بما حضرني في المجلس، وأخبرتهم ببراءة الشيخ من هذا المعتقد والمذهب، فإنه لا يكفر إلا بما أجمع المسلون على تكفير فاعله من الشرك الأكبر، والكفر بآيات الله ورسله أو بشيء منها، بعد قيام الحجة وبلوغها المعتبر، كتكفير من عبد الصالحين، ودعاهم مع الله، وجعلهم أندادا فيما يستحقه على خلقه من العبادات والإلهية. وهذا مجمع عليه عند أهل العلم والإيمان، وكل طائفة من أهل المذاهب المقلدة يفردون هذه المسألة بباب عظيم يذكرون فيه حكمها، وما يوجب الردة ويقتضيها، وينصون على الشرك الأكبر. وقد أفرد ابن حجر 1 هذه المسألة بكتاب سماه (الإعلام بقواطع الإسلام). وقد أظهر الفارسيان المذكوران التوبة والندم، وزعما أن الحق ظهر لهما، ثم لحقا بالساحل، وعادا إلى تلك المقالة؛ وبلغنا عنهم تكفير أئمة المسلمين، بمكاتبة الملوك المصريين، بل كفروا من خالط من كاتبهم من مشايخ المسلمين، ونعوذ بالله من الضلال بعد الهدى، والحور بعد الكور 2. وقد بلغنا عنكم نحو من هذا، وخضتم في مسائل من هذا الباب، كالكلام في الموالاة والمعاداة، والمصالحة والمكاتبات، وبذل الأموال والهدايا، ونحو ذلك من مقالة أهل الشرك بالله والضلالات، والحكم بغير ما أنزل الله عند البوادي ونحوهم من الجفاة، لا يتكلم فيها إلا

_ 1 هو العلامة أحمد بن حجر الهيتمي الفقيه الشافعي. 2 الحور بعد الكور معناه النقصان بعد الزيادة كالعصيان بعد الطاعة والجهل بعد الحلم.

العلماء من ذوي الألباب. ومن رزق الفهم عن الله وأوتي الحكمة وفصل الخطاب. والكلام في هذا يتوقف على معرفة ما قدمناه، ومعرفة أصول عامة كلية لا يجوز الكلام في هذا الباب وفي غيره لمن جهلها وأعرض عنها وعن تفاصيلها؛ فإن الإجمال والإطلاق، وعدم العلم بمعرفة مواقع الخطاب وتفاصيله، يحصل به من اللبس والخطأ وعدم الفقه عن الله ما يفسد الأديان، ويشتت الأذهان، ويحول بينها وبين فهم القرآن. قال ابن القيم في كافيته -رحمه الله تعالى-: فعليك بالتفصيل والتبيين فالإ ... طلاق والإجمال دون بيان قد أفسدا هذا الوجود وخبطا الأ ... ذهان والآراء كل زمان وأما التكفير بهذه الأمور التي ظننتموها من مكفرات أهل الإسلام، فهذا مذهب الحرورية المارقين الخارجين على علي بن أبي طالب أمير المؤمنين ومن معه من الصحابة، فإنهم أنكروا عليهم تحكيم أبي موسى الأشعري، وعمرو بن العاص في الفتنة التي وقعت بينه وبين معاوية وأهل الشام. فأنكرت الخوارج عليه ذلك، وهم في الأصل من أصحابه من قراء الكوفة والبصرة، وقالوا: حكمت الرجال في دين الله، وواليت معاوية وعمرا، وتوليتهما وقد قال -تعالى -: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} 1 وضربت المدة بينكم وبينهم، وقد قطع الله هذه الموادعة والمهادنة منذ أنزلت براءة. وطال بينهما النّزاع والخصام، حتى أغاروا على سرح المسلمين، وقتلوا من ظفروا به من أصحاب علي؛ فحينئذ شمر -رضي الله عنه- لقتالهم، وقتلهم دون النهروان بعد الإعذار والإنذار، والتمس المخدج المنعوت في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم وغيره من أهل السنن، فوجده علي فسرّ بذلك،

_ 1 سورة الأنعام آية: 57.

وسجد لله شكرًا على توفيقه، وقال: لو يعلم الذين يقاتلونهم ماذا لهم على لسان محمد صلى الله عليه وسلم لنكلوا عن العمل، هذا وهم أكثر الناس عبادة وصلاة وصوما. فصل [في مراتب الإيمان والكفر والنفاق والمعاصي] ولفظ الظلم والمعصية والفسوق والفجور والموالاة والمعاداة والركون والشرك ونحو ذلك من الألفاظ الواردة في الكتاب والسنة قد يراد بها مسماها المطلق وحقيقتها المطلقة، وقد يراد بها مطلق الحقيقة، والأول هو الأصل عند الأصوليين، والثاني لا يحمل الكلام عليه إلا بقرينة لفظية أو معنوية. وإنما يعرف ذلك بالبيان النبوي، وتفسير السنة، قال -تعالى-: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} 1 الآية، وقال: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} 2. وكذلك اسم المؤمن، والبر، والتقي يراد بها عند الإطلاق والثناء غير المعنى المراد في مقام الأمر والنهي، ألا ترى أن الزاني، والسارق، والشارب يدخلون في عموم قوله -تعالى -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ} 3، وقوله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى} 4 الآية، وقوله -تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ} 5، ولا يدخلون في مثل قوله {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا} 6، وقوله تعالى {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ} 7 الآية. وهذا هو الذي أوجب للسلف ترك تسمية الفاسق باسم الإيمان والبر.

_ 1 سورة إبراهيم آية: 4. 2 سورة النحل آية: 43. 3 سورة المائدة آية: 6. 4 سورة الأحزاب آية: 69. 5 سورة المائدة آية: 106. 6 سورة الحجرات آية: 15. 7 سورة الحديد آية: 19.

وفي الحديث: "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، ولا ينتهب نهبة يرفع الناس إليه أبصارهم فيها وهو مؤمن"1، وقوله "لا يؤمن من لا يأمن جاره بوائقه "2، 3. لكن نفي الإيمان هذا لا يدل على كفره، بل يطلق عليه اسم الإسلام، ولا يكون كمن كفر بالله ورسله. وهذا هو الذي فهمه السلف، وقرروه في باب الرد على الخوارج والمرجئة ونحوهم من أهل الأهواء، فافهم هذا فإنه مضلة أفهام، ومزلة أقدام. وأما إلحاق الوعيد المرتب على بعض الذنوب والكبائر، فقد يمنع منه مانع في حق المعين كحب الله ورسوله، والجهاد في سبيله، ورجحان الحسنات، ومغفرة الله ورحمته، وشفاعة المؤمنين، والمصائب المكفرة في الدور الثلاثة. وكذلك لا يشهدون لمعين من أهل القبلة بجنة ولا نار، وإن أطلقوا الوعيد كما أطلقه القرآن والسنة، فهم يفرقون بين العام المطلق، والخاص المقيد، وكان عبد الله (حمار) 4 يشرب الخمر فأتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلعنه رجل، وقال: ما أكثر ما يؤتي به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تلعنه، فإنه يحب الله ورسوله"5 مع أنه لعن الخمر وشاربها وبائعها وعاصرها ومعتصرها وحاملها والمحمولة إليه. [قصة حاطب وآيات سورة الممتحنة في موالاة المشركين] وتأمل قصة حاطب بن أبي بلتعة وما فيها من الفوائد، فإنه هاجر إلى الله ورسوله، وجاهد في سبيله، لكن حدث منه أنه "كتب بسر رسول

_ 1 البخاري: المظالم والغصب (2475) , ومسلم: الإيمان (57) , والترمذي: الإيمان (2625) , والنسائي: قطع السارق (4870 ,4871 ,4872) والأشربة (5659 ,5660) , وأبو داود: السنة (4689) , وابن ماجه: الفتن (3936) , وأحمد (2/ 243 ,2/ 317 ,2/ 386) , والدارمي: الأشربة (2106). 2 أحمد (2/ 288). 3 الحديث الأول رواه الشيخان وغيرهما، والثاني رواه البخاري بلفظ والله لا يؤمن والله لا يؤمن والله لا يؤمن - قيل من يا رسول الله؟ قال: الذي لا يأمن جاره بوائقه ورواه أحمد أيضا ولا أذكر لفظه. 4 صحابي معروف وحمار لقب له. 5 صحيح البخاري: كتاب الحدود (6780).

الله صلى الله عليه وسلم إلى المشركين من أهل مكة يخبرهم بشأن رسول الله صلى الله عليه وسلم ومسيره لجهادهم ليتخذ بذلك يدا عندهم يحمي أهله وماله بمكة. فنَزل الوحي بخبره. وكان قد أعطى الكتاب ظعينة جعلته في شعرها، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا والزبير في طلب الظعينة، وأخبر أنهما يجدانها في روضة خاخ. فكان ذلك، فتهدداها حتى أخرجت الكتاب من ضفائرها، فأتي به رسول الله صلى الله عليه وسلم. فدعا حاطب بن أبي بلتعة فقال له: ما هذا؟ فقال: يا رسول الله إني لم أكفر بعد إيمان، ولم أفعل هذا رغبة عن الإسلام، وإنما أردت أن تكون لي عند القوم يد أحمي بها أهلي ومالي، فقال -صلى الله عليه وسلم-: صدقكم خلوا سبيله. واستأذن عمر في قتله فقال: دعني أضرب عنق هذا المنافق، فقال: وما يدريك أن الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم". وأنزل الله في ذلك صدر سورة الممتحنة فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} 1 الآيات، فدخل حاطب في المخاطبة باسم الإيمان ووصفه به، وتناوله النهي بعمومه وله خصوص السبب الدال على إرادته، مع أن في الآية الكريمة ما يشعر أن فعل حاطب نوع موالاة، وأنه أبلغ إليهم بالمودة، فإن فاعل ذلك قد ضل سواء السبيل؛ لكن قوله "صدقكم خلوا سبيله" ظاهر في أنه لا يكفر بذلك إذا كان مؤمنا بالله ورسوله غير شاك ولا مرتاب، وإنما فعل ذلك لغرض دنيوي. ولو كفر لما قيل: "خلوا سبيله". لا يقال قوله صلى الله عليه وسلم لعمر: "وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم"2 هو المانع من تكفيره، لأنا نقول: لو كفر لما بقي من حسناته ما يمنعه من لحاق الكفر وأحكامه.

_ 1 سورة الممتحنة آية: 1. 2 البخاري: الجهاد والسير (3007) , ومسلم: فضائل الصحابة (2494) , والترمذي: تفسير القرآن (3305) , وأبو داود: الجهاد (2650) , وأحمد (1/ 79 ,1/ 105).

فإن الكفر يهدم ما قبله لقوله -تعالى-: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِالأِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ} 1، وقوله -تعالى-: {وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} 2، والكفر محبط للحسنات والإيمان بالإجماع؛ فلا يظن هذا. وأما قوله {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} 3، وقوله {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} 4، وقوله -تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} 5، فقد فسرته السنة وقيدته وخصته بالموالاة المطلقة العامة. وأصل الموالاة هو الحب والنصرة والصداقة، ودون ذلك مراتب متعددة، ولكل ذنب حظه وقسطه من الوعيد والذم، وهذا عند السلف الراسخين في العلم من الصحابة والتابعين معروف في هذا الباب وغيره. وإنما أشكل الأمر، وخفيت المعاني، والتبست الأحكام على خلوف من العجم والمولدين الذين لا دراية لهم بهذا الشأن، ولا ممارسة لهم بمعاني السنة والقرآن، ولهذا قال الحسن رضي الله عنه: من العجمة أتوا. وقال عمرو بن العلاء لعمرو بن عيد لما ناظره في مسألة خلود أهل الكبائر في النار: واحتج ابن عبيد أن هذا وعد، والله لا يخلف وعده، يشير إلى ما في القرآن من الوعيد على بعض الكبائر والذنوب بالنار والخلود، فقال له ابن العلاء: من العجمة أتيت، هذا وعيد لا وعد، وأنشد قول الشاعر: وإني وإن أوعدته أو وعدته ... لمخلف إيعادي ومنجز موعدي وقال بعض الأئمة فيما نقل البخاري، أو غيره: إن من سعادة الأعجمي والأعرابي إذا أسلما أن يوفقا لصاحب سنة، وإن من شقاوتهما أن يمتحنا

_ 1 سورة المائدة آية: 5. 2 سورة الأنعام آية: 88. 3 سورة المائدة آية: 51. 4 سورة المجادلة آية: 22. 5 سورة المائدة آية: 57.

وييسرا لصاحب هوى وبدعة. ونضرب لك مثلا هو أن رجلين تنازعا في آيات من كتاب الله أحدهما خارجي، والآخر مرجئ، قال الخارجي: إن قوله {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} 1 دليل على حبوط أعمال العصاة والفجار وبطلانها، إذ لا قائل إنهم من عباد الله المتقين. قال المرجئ: هي في الشرك فكل من اتقى الشرك يقبل عمله لقوله -تعالى-: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} 2. قال الخارجي: قوله -تعالى-: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} 3 يرد ما ذهبت إليه. قال المرجئ: المعصية هنا الشرك بالله واتخاذ الأنداد معه لقوله: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} 4. قال الخارجي: {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا} 5 دليل على أن الفساق من أهل النار الخالدين فيها. قال له المرجئ في آخر الآية: {وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} 6 دليل على أن المراد من كذب الله ورسوله، والفاسق من أهل القبلة مؤمن كامل الإيمان. ومن وقف على هذه المناظرة من جهال الطلبة والأعاجم ظن أنها الغاية المقصودة، وعض عليها بالنواجذ، مع أن كلا القولين لا يرتضى، ولا يحكم بإصابته أهل العلم والهدى، وما عند السلف والراسخين في العلم خلاف هذا كله لأن الرجوع إلى السنة المبينة للناس ما نزل إليهم. وأما أهل البدع والأهواء فيستغنون عنها بآرائهم وأهوائهم وأذواقهم. وقد بلغني أنكم تأولتم قوله -تعالى-: في سورة محمد: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الأَمْرِ} 7 على بعض ما يجري من أمراء الوقت من مكاتبة، أو مصالحة، أو هدنة لبعض رؤساء الضالين، والملوك المشركين

_ 1 سورة المائدة آية: 27. 2 سورة الأنعام آية: 160. 3 سورة الجن آية: 23. 4 سورة النساء آية: 48. 5 سورة السجدة آية: 18. 6 سورة السجدة آية: 20. 7 سورة محمد آية: 26.

ولم تنظروا لأول الآية وهي قوله: {إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى} 1، ولم تفقهوا المراد من هذه الطاعة، ولا المراد من الأمر بالمعروف المذكور في قوله -تعالى- في هذه الآية الكريمة وفي قصة صلح الحديبية، وما طلبه المشركون، واشترطوه، وأجابهم إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يكفي في رد مفهومكم ودحض أباطيلكم. فصل [في أصول لا بد من بيانها] وهنا أصول: [السنة هي المبينة للأحكام القرآنية] (أحدها) أن السنة والأحاديث النبوية هي المبينة للأحكام القرآنية، وما يراد من النصوص الواردة في كتاب الله في باب معرفة حدود ما أنزل الله، كمعرفة المؤمن والكافر، والمشرك والموحد، والفاجر والبر، والظالم والتقي، وما يراد بالموالاة والتولي، ونحو ذلك من الحدود، كما أنها المبينة لما يراد من الأمر بالصلاة على الوجه المراد في عددها وأركانها وشروطها وواجباتها. وكذلك الزكاة فإنه لم يظهر المراد من الآيات الموجبة، ومعرفة النصاب والأجناس التي تجب فيها من الأنعام والثمار والنقود، ووقت الوجوب واشتراط الحول في بعضها، ومقدار ما يجب في النصاب وصفته إلا ببيان السنة وتفسيرها. وكذلك الصوم والحج جاءت السنة ببيانهما وحدودهما وشروطهما ومفسداتهما، ونحو ذلك مما توقف بيانه على السنة. وكذلك أبواب الربا وجنسه ونوعه، وما يجري فيه وما لا يجري، والفرق بينه وبين البيع الشرعي. وكل هذا البيان أخذ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم برواية الثقات العدول عن مثلهم إلى أن تنتهي السنة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. فمن أهمل هذا

_ 1 سورة محمد آية: 25.

وأضاعه فقد سد على نفسه باب العلم والإيمان ومعرفة معاني التنْزيل والقرآن. [بيان شعب الإيمان] (الأصل الثاني): إن الإيمان أصل له شعب متعددة كل شعبة منها تسمى إيمانا، فأعلاها شهادة أن لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق. فمنها ما يزول الإيمان بزواله إجماعا كشعبة الشهادتين، ومنها ما لا يزول بزوالها إجماعا كترك إماطة الأذى عن الطريق. وبين هاتين الشعبتين شعب متفاوتة منها ما يلحق بشعبة الشهادة ويكون إليها أقرب، ومنها ما يلحق بشعبة إماطة الأذى ويكون إليها أقرب؛ والتسوية بين هذه الشعب في اجتماعها مخالف للنصوص، وما كان عليه سلف الأمة وأئمتها. وكذلك الكفر أيضا ذو أصل وشعب، فكما أن شعب الإيمان إيمان، فشعب الكفر كفر، والمعاصي كلها من شعب الكفر كما أن الطاعات كلها من شعب الإيمان، ولا يسوى بينهما في الأسماء والأحكام. وفرق بين من ترك الصلاة والزكاة والصيام، وأشرك بالله أو استهان بالمصحف، وبين من سرق، أو زنى، أو شرب، أو انتهب، أو صدر منه نوع من موالاة 1 كما جرى لحاطب، فمن سوى بين شعب الإيمان في الأسماء والأحكام، وسوى بين شعب الكفر في ذلك فهو مخالف للكتاب والسنة، خارج عن سبيل سلف الأمة، داخل في عموم أهل البدع والأهواء. [الإيمان مركب من قول وعمل] (الأصل الثالث): إن الإيمان مركب من قول وعمل، والقول قسمان: قول القلب وهو اعتقاده، وقول اللسان وهو التكلم بكلمة الإسلام. والعمل قسمان: عمل القلب وهو قصده واختياره ومحبته ورضاه وتصديقه، وعمل الجوارح كالصلاة والزكاة والحج والجهاد ونحو ذلك من الأعمال

_ 1 ولعل الأصل موالاة المشركين أو الكفار.

الظاهرة. فإذا زال تصديق القلب ورضاه ومحبته لله وصدقه زال الإيمان بالكلية، وإذا زال شيء من الأعمال كالصلاة والحج والجهاد مع بقاء تصديق القلب وقبوله فهذا محل خلاف. هل يزول الإيمان بالكلية إذا ترك أحد الأركان الإسلامية كالصلاة والحج والزكاة والصيام أو لا يكفر؟ وهل يفرق بين الصلاة وغيرها أو لا يفرق؟ وأهل السنة مجمعون على أنه لا بد من عمل القلب الذي هو محبته ورضاه وانقياده. والمرجئة تقول يكفي التصديق فقط، ويكون به مؤمنا. والخلاف -في أعمال الجوارح هل يكفر أو لا يكفر- واقع بين أهل السنة، والمعروف عند السلف تكفير من ترك أحد المباني الإسلامية كالصلاة والزكاة والصيام والحج. والقول الثاني: إنه لا يكفر إلا من جحدها. والثالث: الفرق بين الصلاة وغيرها. وهذه الأقوال معروفة. وكذلك المعاصي والذنوب التي هي فعل المحظورات فرقوا فيها بين ما يصادم أصل الإسلام وينافيه وما دون ذلك، وبين ما سماه الشارع كفرا وما لم يسمه. هذا ما عليه أهل الأثر المتمسكون بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأدلة هذا مبسوطة في أماكنها. [أنواع الكفر والشرك والنفاق] (الأصل الرابع): إن الكفر نوعان: كفر عمل، وكفر جحود وعناد، وهو أن يكفر بما علم أن الرسول جاء به من عند الله جحودا وعنادا من أسماء الرب وصفاته وأفعاله وأحكامه التي أصلها توحيده وعبادته -وحده لا شريك له-، وهذا مضاد للإيمان من كل وجه. وأما كفر العمل فمنه ما يضاد الإيمان كالسجود للصنم، والاستهانة بالمصحف، وقتل النبي وسبه. وأما الحكم بغير ما أنزل الله وترك الصلاة، فهذا كفر عمل لا كفر اعتقاد،

وكذلك قوله: "لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض"1، 2، وقوله: "من أتى كاهنا فصدقه، أو أتى امرأة في دبرها، فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم"3، 4. فهذا من الكفر العملي وليس كالسجود للصنم، والاستهانة بالمصحف، وقتل النبي وسبه، وإن كان الكل يطلق عليه الكفر. وقد سمى الله -سبحانه- من عمل ببعض كتابه، وترك العمل ببعضه مؤمنا بما عمل به، وكافرا بما ترك العمل به، قال -تعالى-: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ} 5 إلى قوله {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} 6 الآية، فأخبر -سبحانه- أنهم أقروا بميثاقه الذي أمرهم به، والتزموه؛ وهذا يدل على تصديقهم به. وأخبر أنهم عصوا أمره، وقتل فريق منهم فريقا آخر، وأخرجوهم من ديارهم، وهذا كفر بما أخذ عليهم. ثم أخبر أنهم يفدون من أسر من ذلك الفريق، وهذا إيمان منهم بما أخذ عليهم في الكتاب، وكانوا مؤمنين بما عملوا به من الميثاق كافرين بما تركوه منه. فالإيمان العملي يضاده الكفر العملي، والإيمان الاعتقادي يضاده الكفر الاعتقادي. وفي الحديث الصحيح: "سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر"7 فرق بين سبابه وقتاله، وجعل أحدهما فسوقا لا يكفر به، والآخر كفر، ومعلوم أنه إنما أراد الكفر العملي لا الاعتقادي؛ وهذا الكفر لا يخرجه من الدائرة الإسلامية والملة بالكلية، كما لم يخرج الزاني والسارق والشارب من الملة، وإن زال عنه اسم الإيمان.

_ 1 البخاري: العلم (121) , ومسلم: الإيمان (65) , والنسائي: تحريم الدم (4131) , وابن ماجه: الفتن (3942) , وأحمد (4/ 358 ,4/ 363 ,4/ 366) , والدارمي: المناسك (1921). 2 رواه أحمد والشيخان وغيرهما. 3 الترمذي: الطهارة (135) , وأبو داود: الطب (3904) , وابن ماجه: الطهارة وسننها (639) , وأحمد (2/ 408 ,2/ 429 ,2/ 476) , والدارمي: الطهارة (1136). 4 في الجامع الصغير "من أتى عرافا أو كاهنا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد"، رواه أحمد والحاكم من حديث أبي هريرة، (وحسنه) وفيه من حديثه عند أحمد وأصحاب السنن الأربعة: "من أتى كاهنا فصدقه بما يقول، أو أتى امرأة حائضا، أو أتى امرأة في دبرها فقد برئ مما أنزل على محمد". 5 سورة البقرة آية: 84. 6 سورة البقرة آية: 85. 7 البخاري: الإيمان (48) , ومسلم: الإيمان (64) , والترمذي: البر والصلة (1983) والإيمان (2634 ,2635) , والنسائي: تحريم الدم (4105 ,4106 ,4108 ,4109 ,4110 ,4111 ,4112 ,4113) , وابن ماجه: المقدمة (69) والفتن (3939) , وأحمد (1/ 385 ,1/ 411 ,1/ 417 ,1/ 433 ,1/ 439 ,1/ 446 ,1/ 454 ,1/ 460).

وهذا التفصيل هو قول الصحابة الذين هم أعلم الأمة بكتاب الله وبالإسلام والكفر ولوازمهما، فلا تتلقى هذه المسألة إلا عنهم. والمتأخرون لم يفهموا مرادهم فانقسموا فريقين: فريقا أخرجوا من الملة بالكبائر، وقضوا على أصحابها بالخلود في النار، وفريقا جعلوهم مؤمنين كاملي الإيمان، فأولئك غلوا، وهؤلاء جفوا، وهدى الله أهل السنة للطريقة المثلى والقول الوسط الذي هو في المذاهب كالإسلام في الملل. فهاهنا كفر دون كفر، ونفاق دون نفاق، وشرك دون شرك، وظلم دون ظلم، فعن ابن عباس في قول: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} 1 قال: ليس هو الكفر الذي تذهبون إليه، رواه عنه سفيان وعبد الرزاق، وفي رواية أخرى كفر لا ينقل عن الملة، وعن عطاء كفر دون كفر، وظلم دون ظلم، وفسق دون فسق، وهذا بيِّن في القرآن لمن تأمله؛ فإن الله -سبحانه- سمى الحاكم بغير ما أنزل الله كافرا، وسمى الجاحد لما أنزل الله على رسوله كافرا، وسمى الكافر ظالما في قوله: {وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} 2. وسمى من يتعدى حدوده في النكاح والطلاق والرجعة والخلع ظالما، وقال: {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} 3، وقال يونس -عليه السلام-: {إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} 4، وقال آدم: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا} 5، وقال موسى: {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي} 6، وليس هذا الظلم مثل ذلك الظلم. وسمى الكافر فاسقا في قوله: {وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ} 7، وقوله: {وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ} 8، وسمى العاصي فاسقا في قوله -تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} 9، وقال في الذين يرمون المحصنات: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} 10، وقال: {فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ

_ 1 سورة المائدة آية: 44. 2 سورة البقرة آية: 229. 3 سورة الطلاق آية: 1. 4 سورة الأنبياء آية: 87. 5 سورة الأعراف آية: 23. 6 سورة القصص آية: 16. 7 سورة البقرة آية: 26. 8 سورة البقرة آية: 99. 9 سورة الحجرات آية: 6. 10 سورة النور آية: 4.

فِي الْحَجِّ} 1، وليس الفسوق كالفسوق 2. وكذلك الشرك شركان شرك ينقل عن الملة، وهو الشرك الأكبر، وشرك لا ينقل عن الملة وهو الأصغر كشرك الرياء، وقال -تعالى- في الشرك الأكبر: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} 3، وقال: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ} 4 الآية. وقال في شرك الرياء: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} 5، وفي الحديث: "من حلف بغير الله فقد أشرك"6، ومعلوم أن حلفه بغير الله لا يخرجه عن الملة، ولا يوجب له حكم الكفار، ومن هذا قوله صلى الله عليه وسلم: "الشرك في هذه الأمة أخفى من دبيب النمل"7. فانظر كيف انقسم الشرك والكفر والفسوق والظلم إلى ما هو كفر ينقل عن الملة، وإلى ما لا ينقل عنها. وكذلك النفاق نفاقان نفاق اعتقاد ونفاق عمل، ونفاق الاعتقاد مذكور في القرآن في غير موضع أوجب لهم -تعالى- به الدرك الأسفل من النار، ونفاق العمل جاء في قوله صلى الله عليه وسلم: "أربع من كن فيه كان منافقا خالصا، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر، وإذا اؤتمن خان"8، وكقوله صلى الله عليه وسلم: "آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب،

_ 1 سورة البقرة آية: 197. 2 كذا ولعل أصله: وليس الفسوق هنا كالفسوق هناك، كما قال في الظلم قبله. 3 سورة المائدة آية: 72. 4 سورة الحج آية: 31. 5 سورة الكهف آية: 110. 6 الترمذي: النذور والأيمان (1535) , وأبو داود: الأيمان والنذور (3251) , وأحمد (2/ 34 ,2/ 69 ,2/ 86 ,2/ 125). 7 أحمد (4/ 403). 8 البخاري: الإيمان (34) , ومسلم: الإيمان (58) , والترمذي: الإيمان (2632) , والنسائي: الإيمان وشرائعه (5020) , وأبو داود: السنة (4688) , وأحمد (2/ 189 ,2/ 198).

وإذا اؤتمن خان، وإذا وعد أخلف"1، 2. قال بعض الأفاضل: وهذا النفاق قد يجتمع مع أصل الإسلام، ولكن إذا استحكم وكمل فقد ينسلخ صاحبه عن الإسلام بالكلية، وإن صلى وصام، وزعم أنه مسلم 3؛ فإن الإيمان ينهى عن هذه الخلال، فإذا كملت للعبد لم يكن له ما ينهاه عن شيء منها، فهذا لا يكون إلا منافقا خالصا. [إتيان الإنسان شعبة من شعب الإيمان أو الكفر] (الأصل الخامس): أنه لا يلزم من قيام شعبة من شعب الإيمان بالعبد أن يسمى مؤمنا، ولا يلزم من قيام شعبة من شعب الكفر أن يسمى كافرا، وإن كان ما قام به كفر، كما أنه لا يلزم من قيام جزء من أجزاء العلم به، أو من أجزاء الطب، أو من أجزاء الفقه أن يسمى عالما، أو طبيبا، أو فقيها، وأما الشعبة نفسها فيطلق عليها اسم الكفر كما في الحديث: "ثنتان في أمتي هما بهم كفر: الطعن في الأنساب والنياحة على الميت "4، 5، وحديث "من حلف بغير الله فقد كفر"6، 7، ولكنه لا يستحق اسم الكافر على الإطلاق. فمن عرف هذا عرف فقه السلف، وعمق علومهم وقلة تكلفهم، قال ابن مسعود: من كان متأسيا فليأتس بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنهم أبر هذه الأمة قلوبا، وأعمقها علما، وأقلها تكلفا، قوم اختارهم الله لصحبة نبيه؛ فاعرفوا لهم حقهم فإنهم كانوا على الهدي المستقيم، وقد كاد الشيطان بني آدم بمكيدتين عظيمتين لا يبالي بأيهما ظفر: إحداهما الغلو ومجاوزة الحد والإفراط، والثانية: هي الإعراض والترك والتفريط. قال ابن القيم لما ذكر

_ 1 البخاري: الشهادات (2682) , ومسلم: الإيمان (59) , والترمذي: الإيمان (2631) , والنسائي: الإيمان وشرائعه (5021) , وأحمد (2/ 357 ,2/ 397 ,2/ 536). 2 الحديث الأول رواه الجماعة عن ابن عمر وقيل إلا ابن ماجه وفي روايات الخصال تقديم وتأخير. والثاني رواه منهم الشيخان والترمذي والنسائي عن أبي هريرة. 3 هذا القيد روي في بعض ألفاظ الحديث. 4 مسلم: الإيمان (67) , والترمذي: الجنائز (1001) , وأحمد (2/ 291 ,2/ 377 ,2/ 414 ,2/ 431 ,2/ 441 ,2/ 455 ,2/ 496 ,2/ 526 ,2/ 531). 5 رواه أحمد ومسلم عن أبي هريرة ولفظ مسلم "اثنتان في الناس" ولا نحفظه إلا هكذا. 6 الترمذي: النذور والأيمان (1535) , وأحمد (2/ 34 ,2/ 125). 7 رواه أحمد والترمذي والحاكم عن ابن عمر.

شيئا من مكائد الشيطان: قال بعض السلف: ما أمر الله بأمر إلا وللشيطان فيه نزغتان، إما إلى تفريط وتقصير، وإما إلى مجاوزة وغلو، ولا يبالي بأيهما ظفر، وقد اقتطع أكثر الناس إلا القليل في هذين الواديين، وادي التقصير، ووادي المجاوزة والتعدي، والقليل منهم جدا الثابت على الصراط الذي كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه. وعد -رحمه الله- كثيرا من هذا النوع إلى أن قال: وقصر بقوم حتى قالوا إيمان أفسق الناس وأظلمهم كإيمان جبريل وميكائيل فضلا عن أبي بكر وعمر، وتجاوز بآخرين حتى أخرجوا من الإسلام بالكبيرة الواحدة. هذا آخر ما وجد من هذه الرسالة العظيمة المنافع، القاضية بالبراهين والدلائل القواطع، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.

الرسالة الثانية: التحرج عن رمي من ظاهره الإسلام بالكفر

{يقول جامع الكتاب} الرسالة الثانية [التحرج عن رمي من ظاهره الإسلام بالكفر] بسم الله الرحمن الرحيم من عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن إلى الابن المكرم النجيب إبراهيم بن عبد الملك، سلمه الله ورحم أباه، وزينه بزينة خاصته وأوليائه، آمين. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. أما بعد: فأحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، وهو للحمد أهل، وهو على كل شيء قدير، والخط قد وصل، وقد سألت فيه عن خمس مسائل: (أولاها): قولك: إنه قد وقع من بعض الإخوان تكفير من أحب انتصار آل شامر على المسلمين، وفرح بذبحهم، هل له مستند في ذلك أم لا؟ {الإنكار على من كفر أناسا شمتوا بانتصار أعداء الوهابية عليهم} الجواب: إني لا أعلم مستندًا لهذا القول، والتجاسر على تكفير من ظاهره الإسلام من غير مستند شرعي، ولا برهان مرضي، يخالف ما عليه أئمة العلم من أهل السنة والجماعة. وهذه الطريقة هي طريقة أهل البدع والضلال، ومن عدم الخشية والتقوى فيما يصدر عنه من الأقوال والأفعال، والفرح بمثل هذه القضية قد يكون له أسباب متعددة لا سيما وقد كثر الهرج، وخاضت الأمة في الأموال والدماء، واشتد الكرب والبلاء، وخفي الحق والهدى، وفشا الجهل والهوى، وكثر الخوض والردى، وغلب الطغيان والعمى، وقل المتمسك بالكتاب والسنة، بل قل من يعرفهما،

ويدري حدود ما أنزل الله من الأحكام الشرعية، كالإسلام والإيمان والكفر والشرك والنفاق ونحوهما. وقد جاء في الحديث: "من قال لأخيه: يا كافر، فقد باء بها أحدهما"1، 2. فإطلاق القول بالتكفير والحالة هذه دليل على جهل المكفر وعدم علمه بمدارك الأحكام، وتأول أهل العلم ما ورد من إطلاق الكفر على بعض المعاصي كما في حديث: "سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر"3، 4، وحديث: "لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض"5، 6، وحديث: "لا ترغبوا عن آبائكم، فإنه كفر بكم أن ترغبوا عن آبائكم"7، 8؛ فهذا ونحوه تأولوه على أنه كفر عملي ليس كالكفر الاعتقادي الذي ينقل عن الملة كما جزم به العلامة ابن القيم -رحمه الله- وغيره من المحققين. هذا مع أنه باشره عمل، وفرح، وأطلق عليه الشارع هذا الوصف فكيف بمجرد الفرح. وذكر عن الإمام أحمد -رحمه الله- أنه قال: أمِرُّوا هذه النصوص كما جاءت، ولا تعرضوا لتفسيرها. وقد ذكر شيخ الإسلام في الفتاوى المصرية أن السلف متفقون على عدم تكفير البغاة، فكيف بمجرد الفرح، وقد قابل هذا الصنف من الإخوان قوم كفروا أهل العارض، أو جمهورهم في هذه الفتنة، واشتهر عن بعضهم أنه تلا عند سماع وقعة آل شامر قوله -تعالى-: {وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا} 9

_ 1 البخاري: الأدب (6104) , ومسلم: الإيمان (60) , والترمذي: الإيمان (2637) , وأحمد (2/ 112) , ومالك: الجامع (1844). 2 رواه الخطيب عن ابن عمر بلفظ: من كفر أخاه فقد باء بها أحدهما، ورواه أحمد والبخاري عنه بلفظ: إذا قال الرجل لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما، والثاني به عن أبي هريرة، ورواه مسلم والترمذي عن ابن عمر بلفظ: "أيما امرئ قال ... إلخ، وأبو داود عنه بلفظ أيما مسلم كفر رجلا مسلما فإن كان كافرا وإلا كان هو الكافر. 3 البخاري: الإيمان (48) , ومسلم: الإيمان (64) , والترمذي: البر والصلة (1983) والإيمان (2634 ,2635) , والنسائي: تحريم الدم (4105 ,4106 ,4108 ,4109 ,4110 ,4111 ,4112 ,4113) , وابن ماجه: المقدمة (69) والفتن (3939) , وأحمد (1/ 385 ,1/ 411 ,1/ 417 ,1/ 433 ,1/ 439 ,1/ 446 ,1/ 454 ,1/ 460). 4 رواه الجماعة إلا أبا داود من حديث ابن مسعود. 5 البخاري: العلم (121) , ومسلم: الإيمان (65) , والنسائي: تحريم الدم (4131) , وابن ماجه: الفتن (3942) , وأحمد (4/ 358 ,4/ 363 ,4/ 366) , والدارمي: المناسك (1921). 6 رواه الجماعة كلهم عن عدة من الصحابة مرفوعا. 7 البخاري: الحدود (6830) , وأحمد (1/ 47 ,1/ 55). 8 رواه الشيخان من حديث أبي هريرة بلفظ: لا ترغبوا عن آبائكم فمن رغب عن أبيه فقد كفر. ورويا معناه بألفاظ أخرى عن غيره. 9 سورة محمد آية: 10.

وعللوا بأشياء متعددة من فرح، ومكاتبة، وموالاة، وغير ذلك؛ والفريقان ليس لهم لسان صدق، ولا هدى ولا كتاب منير. قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: لا بد للمتكلم في هذه المباحث ونحوها أن يكون معه أصول كلية يرد إليها الجزئيات ليتكلم بعلم وعدل، ثم يعرف الجزئيات كيف وقعت وإلا فيقع في كذب وجهل في الجزئيات، وجهل وظلم في الكليات. وأطال الكلام في الفرق بين المتأول والمتعمد، ومن قامت عليه الحجة وزالت عنه الشبهة، والمخطئ الذي التبس عليه الأمر، وخفي عليه الحكم. وقرر مذهب علي بن أبي طالب في عدم تكفير الخوارج المقاتلين له المكفرين له ولعثمان، ولمن والاهما -رضي الله عنهما-، ونقل قول علي رضي الله عنه لما سئل عن الخوارج أكفار هم؟ قال: من الكفر فروا. وقوله: إن لكم علينا أن لا نقاتلكم حتى تبدؤونا بالقتال، ولا نمنعكم مساجد الله، ولا نمنعكم حقا هو لكم في مال الله. ومع هذا هم مصرحون بتكفيره، مقاتلون له، مستحلون لدمه، فكيف بمجرد الفرح؟ وقد ذكر في الزواجر أن الفرح بمثل هذه المعاصي من المحرمات ولم يقل: إنه كفر. ثم اعلم أن الفتنة في هذا الزمان بالبادية والبغاة، وبالعساكر الطغاة، فتنة عمياء صماء، عم شرها، وطار شررها، ووصل لهيبها إلى العذارى في خدورهن، والعواتق وسط بيوتهن، ولم يتخلص منها إلا من سبقت له الحسنى، وكان له نصيب وافر من نور الوحي والنور الأول يوم خلق الله الخلق في ظلمة، وألقى عليهم من نوره، وما أعز من يعرف هذا الصنف، بل ما أعز من لا يعاديهم ويرميهم بالعظائم؟ وأكثر الناس كما وصفهم علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- فيما رواه كميل بن زياد: لم يستضيئوا بنور

العلم، ولم يلجؤوا إلى ركن وثيق، ومجرد الانتساب إلى الإيمان والإخوان والتزيي بزي أهل العلم والإيمان، مع فقد الحقيقة لا يجدي. والناس مشتبهون في إيرادهم ... وتفاضل الأقوام في الإصدار فصل {في حظر الإقامة حيث يهان الإسلام ويعظم الكفر} (المسألة الثانية): فيمن يجيء من الأحساء بعد استيلاء هذه الطائفة الكافرة على أهل الأحساء ممن يقيم فيه للتكسب، أو للتجارة، ولا اتخذه وطنا، وإن بعضهم يكره هذه الطائفة، ويبغضها يعلم منه ذلك، وبعضهم يرى ذلك، ولكن يعتقد أنه حصل به راحة للناس وعدم ظلم وتعد على الحضر إلى آخر ما ذكرت. (فالجواب): أن الإقامة ببلد يعلو فيها الشرك والكفر، ويظهر الرفض ودين الإفرنج ونحوهم من المعطلة للربوبية والألوهية، ويرفع فيها شعارهم، ويهدم الإسلام والتوحيد، ويعطل التسبيح والتكبير والتحميد، وتقلع قواعد الملة والإيمان، ويحكم بينهم بحكم الإفرنج واليونان، ويشتم السابقون من أهل بدر وبيعة الرضوان، فالإقامة بين ظهرانيهم والحالة هذه لا تصدر عن قلب باشره حقيقة الإسلام والإيمان والدين، وعرف ما يجب من حق الله في الإسلام على المسلمين؛ بل لا يصدر عن قلب رضي بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد نبيا؛ فإن الرضى بهذه الأصول قطب رحى الدين، وعليه تدور حقائق العلم واليقين، وذلك يتضمن من محبة الله، وإيثار مرضاته، والغيرة لدينه، والانحياز إلى أوليائه ما يوجب البراءة

كل البراءة، والتباعد كل التباعد عمن تلك نحلته وذلك دينه؛ بل نفس الإيمان المطلق في الكتاب والسنة لا يجامع هذه المنكرات كما علم من تقرير شيخ الإسلام ابن تيمية في كتاب الإيمان. وفي قصة إسلام جرير بن عبد الله أنه قال: "يا رسول الله، بايعني واشترط، فقال صلى الله عليه وسلم: تعبد الله ولا تشرك به شيئا، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وأن تفارق المشركين" خرجه أبو عبد الرحمن النسائي، وفيه إلحاق مفارقة المشركين بأركان الإسلام ودعائمه العظام، وقد عرف من آية سورة براءة أن قصد أحد الأغراض الدنيوية ليس بعذر شرعي، بل فاعله فاسق لا يهديه الله كما هو نص الآية؛ والفسوق إذا أطلق ولم يقترن بغيره فأمره شديد، ووعيده أشد وعيد. وأي خير يبقى مع مشاهدة تلك المنكرات، والسكوت عليها وإظهار الطاعة والانقياد لأوامر من هذا دينه وتلك نحلته، والتقرب إليهم بالبشاشة والزيارة والهدايا، والتنوق في المآكل والمشارب؟ وإن زعم أن له غرضا من الأغراض الدنيوية، فذلك لا يزيده إلا مقتا، كما لا يخفى على من له أدنى ممارسة للعلوم الشرعية، واستئناس بالأصول الإسلامية؛ وقد جاء القرآن العظيم بالوعيد الشديد، والتهديد الأكيد، على مجرد ترك الهجرة، كما في آية سورة النساء 1. وقد ذكر المفسرون هناك ما به الكفاية والشفاء، وتكلم عليه شيخنا محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله تعالى- وأفاد وأوفى، ودعوى التقية لا تفيد مع القدرة على الهجرة؛ ولذلك لم يستثن الله إلا المستضعفين من الأصناف الثلاثة. وقد ذكر علماؤنا تحريم الإقامة

_ 1 يعني قوله -تعالى-: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا} ... إلخ (4: 96).

والقدوم إلى بلد يعجز فيها عن إظهار دينه؛ والمقيم للتجارة والتكسب والمستوطن حكمهم وما يقال فيهم حكم المستوطن لا فرق. وأما دعوى البغض والكراهة مع التلبس بتلك الفضائح فذلك لا يكفي في النجاة، ولله حكم وشرع وفرائض وراء ذلك كله. إذا تبين هذا فالأقسام مشتركون في التحريم متفاوتون في العقوبة قال -تعالى-: {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا} 1، وأخبث هؤلاء وأجهلهم من قال: إنه حصل بهم للناس راحة وعدم ظلم وتعد على الحضر، وهذا الصنف أضل القوم وأعماهم عن الهدى، وأشدهم محادة لله ورسوله ولأهل الإيمان والتقى، لأنه لم يعرف الراحة التي حصلت بالرسل، وبما جاؤوا به في الدنيا والآخرة، ولم يؤمن بها الإيمان النافع. والمسلم يعرف الراحة كل الراحة والعدل كل العدل، واللذة كل اللذة في الإيمان بالله ورسوله، والقيام بما أنزل الله من الكتاب والحكمة، وإخلاص الدين له وجهاد أعدائه وأعداء رسله، وأنه باب من أبواب الجنة يحصل به النعيم والفرح واللذة في الدور الثلاث، قال -تعالى-: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} 2 الآية. ولو علم هذا المتكلم أن الشرك أظلم الظلم، وأكبر الكبائر، وأقبح الفساد وأفحشه لكان له منه مندوحة عن مثل هذا الجهل الموبق، قال -تعالى-: {وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا} 3، وقال -تعالى-: {يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} 4. فجعل الخسار كله بحذافيره في أهل هذه الخصال الثلاث كما يفيد الضمير المقحم

_ 1 سورة الأنعام آية: 132. 2 سورة البقرة آية: 177. 3 سورة الأعراف آية: 56. 4 سورة البقرة آية: 26.

بين المبتدأ والخبر وقال تعالى-: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} 1، فهذا الفساد المشار إليه في هذه الآيات الكريمات هو الفساد الحاصل بالكفر والشرك وترك الجهاد في سبيل الله، واتخاذ أعداء الله أولياء من دون المؤمنين. وبالجملة فمن عرف غول هذا الكلام أعني قول بعضهم: إنه حصل بهم راحة للناس وعدم ظلم وتعد على الحضر، تبين له ما فيه من المحادة والمشاقة لما جاءت به الرسل، وعرف أن قائله ليس من الكفر ببعيد. والواجب على مثلك أن يجاهدهم بآيات الله ويخوفهم من الله وانتقامه، ويدعو إلى دينه وكتابه، والهجر مشروع إذا كان فيه مصلحة راجحة، ونكاية لأرباب الجرائم؛ وهذا يختلف باختلاف الأحوال والأزمان والله المستعان. (حكم تصرف الوالد في مال ولده الصغير مقيد بالمصلحة) (وأما المسألة الثالثة): هل للوالد أن يتصرف في مال ولده الصغير بما ليس فيه مصلحة، أم هو أسوة غيره من الأولياء ليس له النظر إلا فيما فيه مصلحة؟ (والجواب): إن الواجب على كل من كانت له ولاية أن يتقي الله فيها، ويصلح، ولا يتبع سبيل المفسدين، وفي الحديث: "كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته"2؛ بل يحرم على المكلف إضاعة مال نفسه وإنفاقه في غير مصلحة، وهو من الإسراف إلا أن الوالد ليس كغيره في العزل ورفع اليد إذا ثبت رشده.

_ 1 سورة الأنفال آية: 73. 2 البخاري: النكاح (5200) , ومسلم: الإمارة (1829) , والترمذي: الجهاد (1705) , وأبو داود: الخراج والإمارة والفيء (2928) , وأحمد (2/ 5 ,2/ 54 ,2/ 111 ,2/ 121).

{تملك الوالد مال ولده وشرطه} (وأما المسألة الرابعة): هل للوالد أن يتملك جميع مال ولده الصغير أو بعض ماله الذي يضر به، أم حكم الصغير حكم الكبير يعتبر للتملك من مال الصغير ما يعتبر للتملك من مال الكبير؟ وهل يفرق بين الغني والفقير أم الحكم واحد؟ (فالجواب): أن للأب أن يتملك من مال ولده ما شاء، صغيرًا كان الولد أو كبيرًا، غنيا كان الأب أو فقيرا، بشروط ستة مقررة في محلها: (منها): أن لا يضر بالولد ضررا يلحقه في الحاجات الضروريات كتملك سريته ونحو ذلك، وأن لا يكون في مرض موت أحدهما، وأن لا يعطيه ولدا آخر، وأن لا يكون عينا موجودة. وله الرجوع في الهبة إذا كانت عينا باقية في ملك الابن لم يتعلق بها حق أجنبي ولا رغبة كمداينة الأجنبي، وأن لا تزيد زيادة متصلة، وعنه الرجوع فيما زاد زيادة متصلة كالمنفصلة، وليس من جنس النماء كما توهمه السائل بل ذاك من التصرفات في الهبة. وقد نص فقهاؤنا على أن كل تصرف لابن لا يمنعه من التصرف في العين ليس بمانع للأب من الرجوع في هبته والتصرف فيها، والنقص الحاصل بقلع الغراس وأخذ الحلية لا يمنع الرجوع. [المصالحة في الدَين] وأما المسألة الخامسة: وهي إذا كان لرجل على آخر دين، مثل الصقيب يكون له الدين الكثير، يصطلحان بينهما على أن الدين يكون نجوما إلى آخر ما ذكرت. (فالجواب): إن هذا ليس يصلح، ولا يدخل في حد الصلح كما نص عليه الحجاوي وغيره، بل هو وعد يستحب الوفاء به على المشهور، وكونه فيه إرفاق فذلك لا يغير الحدود الشرعية، ولا يدخل في مسمى الصلح كما لا تدخله الهبة والعطية، والله أعلم.

الرسالة الثالثة: السفر إلى بلاد الأعداء من المشركين والكفار

الرسالة الثالثة [السفر إلى بلاد الأعداء من المشركين والكفار] بسم الله الرحمن الرحيم من عبد اللطيف بن عبد الرحمن إلى الابن المكرم إبراهيم بن عبد الملك -سلمه الله تعالى-. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: فأحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو على نعمائه، والخط الذي تسأل فيه عما نفتي به في مسألة السفر إلى بلاد المشركين قد وصل إلينا، والذي كتبناه للإخوان به فيه كفاية للطالب وبيان، ولم نخرج فيه عما عليه أهل الفتوى عند جماهير المتأخرين. نعم فيه التغليظ على من يسافر إلى بلاد هجم عليها العدو الكافر الحربي المتصدي لهدم قواعد الإسلام، وقلع أصوله وشعائره العظام، ورفع أعلام الكفر والتعطيل، وتجديد معاهد الشرك والتمثيل، وإطفاء أنوار الإسلام الظاهرة، وطمس منار أركانه الباهرة، وهو العدو الذي اشتدت به الفتنة على الإسلام والمسلمين، وعز بدولته جانب الرافضة والمرتدين، ومن على سبيلهم من المنحرفين والمنافقين، فمثل هذه البلدة تخص من عمومات الرخصة لوجوه: (منها): أن إظهار الدين على الوجه الذي تبرأ به الذمة متعذر غير حاصل كما هو مشاهد معلوم عند من خبر القوم مع من يجالسهم ويقدم إليهم. وقل أن يتمكن ذو حاجة لديهم إلا بإظهار عظيم من الركون والموالاة والمداهنة، وهذا مشهور متواتر، لا ينكره إلا جاهل أو مكابر لا غيرة له على دين الله وشرعه، ولا توقير لعظمته ومجده، قد اتخذ ظواهر عبارات لم

يعرف حقيقتها، ولم يدر مراد الفقهاء منها، ترسًا يدفع به في صدور الآيات والسنن، ويصدف به عن أهدى منهج وسنن؛ فهو كحجر في الطريق بين السائرين إلى الله والدار الآخرة يحول بينهم وبين مرادهم، ويثبطهم عن سيرهم وعزماتهم. وقد كثر هذا الضرب من الناس في المتصدين للفتوى في مثل هذه المسائل، وبهم حصل الإشكال، وضلت الأفهام، واستحبت مساكنة عباد الأوثان والأصنام. وافتتن بهم جملة الرجال، وقصدتهم الركائب والأحمال، وسار إليهم ربات الخدور والحجال، عملا بقول رؤوس الفتنة والضلال، ولا يصل إلى الله ويحظى بقربه، ويرد نهر التحقيق وعذبه، من أصغى إليهم سمعه، واتخذهم أخدانا يرجع إليهم في أمر دينه ومهمات أمره. وقد قال بعض السلف: إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم. ومن خاض في مثل هذه المباحث الدينية من غير ملكة ولا روية، فما يفسد أكثر مما يصلح، وضلاله أقرب إليه من أن يفلح، وقد قيل: يفسد الأديان نصف متفقه، ويفسد اللسان نصف نحوي، ويفسد الأبدان نصف متطبب. فعليك بمعرفة الأصول الدينية، والمدارك الحكمية، ولترتفع همتك إلى استنباط الأحكام من الآيات القرآنية، والسنن الصحيحة النبوية، ولا تقنع بالوقوف مع العادات، وما جرى به سنن الأكثرين في الديانات، فقد قال بعضهم: من أخذ العلم من أصله استقر، ومن أخذه من تياره اضطرب، وما أحسن ما قال في الكافية الشافية: ولقد نجا أهل الحديث المحض أتـ ... ـباع الرسول وتابع القرآن عرفوا الذي قد قال مع علم بما ... قال الرسول فهم أولو العرفان وسواهمو في الجهل والدعوى مع ... الكبر العظيم وكثرة الهذيان

مدوا يدا نحو العلى بتكلف ... وتخلف وتكبر وهوان أترى ينالوها وهذا شأنهم ... حاشى العلى من ذا الزبون الفاني فقال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله- في المواضع التي نقلها من السيرة: إنه لا يستقيم للإنسان إسلام، ولو وحد الله، وترك الشرك إلا بعداوة المشركين والتصريح لهم بالعداوة والبغض. فانظر إلى تصريح الشيخ بأن الإسلام لا يستقيم إلا بالعداوة والبغضاء. فأين التصريح من هؤلاء المسافرين، والأدلة من الكتاب والسنة ظاهرة متواترة على ما ذكره الشيخ، وهو موافق لكلام المتأخرين في إباحة السفر لمن أظهر دينه؛ ولكن الشان كل الشان في إظهار الدين، وهل اشتدت العداوة بينه صلى الله عليه وسلم وبين قريش إلا لما كافحهم بمسبة دينهم وتسفيه أحلامهم وعيب آلهتهم؟. وأي رجل تراه يعمل المطي جادا في السفر إليهم واللحاق بهم حصل منه، ونقل عنه ما هو دون هذا الواجب، والمعروف المشتهر عنهم ترك ذلك كله بالكلية، والإعراض عنه واستعمال التقية والمداهنة؛ وشواهد هذا كثيرة شهيرة، والحسيات والبديهيات غنية عن البرهان. [حكم قتال من هجم على بلاد المسلمين] (الوجه الثاني): إن قتال من هجم على بلاد المسلمين من أمثال هؤلاء فرض عين لا فرض كفاية كما هو مقرر مشهور، فلا يحل، ولا يسوغ والحالة هذه تركه، والعدول عنه لغرض دنيوي. وقواعد الإسلام ومدارك الأحكام ترد القول بإباحة ترك الفروض العينية لأغراض دنيوية. ومن عرف هذا عرف الفرق بين مسألتنا وبين عبارة من قال بجواز السفر لمن قدر على إظهار دينه لو فرضناه حاصلا، فكيف والأمر كما قدمت؟ [من يرخص له السفر إلى بلاد الكفار وأصحاب البدع] (الوجه الثالث): إن نص عبارات علمائنا، وظاهر كلامهم، وصريح

إشاراتهم أن من لم يعرف دينه بأدلته وبراهينه لا يباح له السفر إليهم؛ فالرخصة مخصوصة بمن عرفه بأدلته المتواترة في الكتاب والسنة، ومثل هذا هو الذي يتأتى منه إظهار دينه والإعلان به، وكيف يظهره من لا يدريه ولا إلمام له بأدلته القاطعة للخصم ومبانيه؟ شعرا: فقر الجهول بلا علم إلى أدب ... فقر الحمار بلا رأس إلى رسن حتى ذكر جمع تحريم القدوم إلى بلد تظهر فيه عقائد المبتدعة كالخوارج والمعتزلة والرافضة إلا لمن عرف دينه في هذه المسائل، وعرف أدلته، وأظهره عند الخصم. وقد عرف -أرشدك الله- أن الزمن زمن فترة من أهل العلم، غلبت فيه العادات الجاهلية، والأهواء العصبية، وقل من يعرف الإسلام العتيق، وما حرمه الله -تعالى- من موالاة أعدائه المشركين ومعرفة أقسامها، وأن منها ما يكفر به المسلم، ومنها ما هو دونه، وكذلك المداهنة والركون، وما حرم الله -تعالى- ورسوله، وما الذي يوجب فسق فاعله أو ردته. وأين القلوب التي ملئت من الغيرة لله وتعظيمه وتوقيره عن كفر هؤلاء الملاحدة وتعطيلهم، وصار على نصيب وحظ وافر من مصادمة أعداء الله ومحاربتهم ونصر دين الله ورسله، ومقاطعة من صد عنه وأعرض عن نصرته "وإن كان الحبيب المواتيا"؟ فالحكم لله العلي الكبير. وأين من يبادئهم بأن ما هم عليه كفر وضلال بعيد، ومسبة لله العزيز الحميد، يمانع أصل الإيمان والتوحيد، وأن ما هم عليه هو الكفر الجلي البواح، وهو في ذلك على نور من ربه، وبصيرة في دينه، فسل أهل الريب والشبهات هل يغتقر الجهل بذلك والإعراض عنه علما وعملا، ويكتفي بمجرد الانتساب إلى الإسلام عند قوم ينتسبون إليه أيضا، وهم من أشد خلق الله كفرًا به وجحدًا له؟

وردًا لأحكامه واستهزاء بحقائقه. فإن قالوا: يكتفي بذلك الانتساب، وتبرأ به الذمة، فقد عادوا على ما نقلوه وأصلوه من دليلهم بالرد والهدم، ومن حقق النظر وعرف أحوال القوم وسيرهم، علم أن معولهم على اتباع أهوائهم والميل مع شهواتهم، نسأل الله لنا ولهم العافية. هواي مع الركب اليمانين مصعد ... يسير 1 وجثماني بمكة موثق ومن هان عليه أمره -تعالى- فعصاه، ونهيه فارتكبه، وحقه فضيعه، وذكره فأهمله، وأغفل قلبه عنه، وكان هؤلاء آثر عنده من طلب رضاه، وطاعة المخلوق أهم عنده من طاعة ربه، فلله الفضلة من قلبه وقوله وعمله، وسواه المقدم في ذلك، فما قدره حق قدره، وما عظمه حق عظمته، وهل قدره حق قدره من سالم أعداءه الجاحدين له المكذبين لرسله، وأعرض عن جهادهم وعيبهم والطعن عليهم، ولاقاهم بوجه منبسط، ولسان عذب، وصدر منشرح، ولم يراع ما وجب عليه من إجلال الله وتعظيمه وطاعته جراءة على ربه وتوثبا على محض حق وامتهانا بأمره؟ خلافا لأصحاب الرسول وبدعة ... وهم عن سبيل الحق أعمى وأجهل [السفر إلى بلاد المشركين عند أمن الفتنة] (الوجه الرابع): أنه لا بد في إباحة السفر إلى بلاد المشركين من أمن الفتنة، فإن خاف بإظهار دينه الفتنة بقهرهم وسلطانهم، أو شبهات زخرفهم وأقوالهم، لم يبح له القدوم إليهم والمخاطرة بدينه. وقد فر عن الفتنة من السابقين الأولين إلى بلاد الحبشة من تعلم من المهاجرين كجعفر بن أبي طالب وأصحابه. وقد بلغكم ما حصل من الفتنة على كثير ممن خالطهم وقدم إليهم، حتى جعلوا مسبة من نهاهم عن ذلك وأمرهم بمجانبة المشركين دينا يدينون به،

_ 1 الرواية المشهورة في كتب البيان: جنيب.

ويفتخرون بذكره في مجالسهم ومجامعهم، وقد نقل ذلك عن غير واحد: {وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا} 1، وبعض من رحل إليهم من جهتكم حمل رسائلهم ومكاتبتهم إلى أهل الإسلام يدعونهم إلى الدخول تحت طاعتهم ومسالمتهم، وأن تضع الحرب أوزارها بينهم وبين من كاتبوه، واستحسن ذلك كثير من الملأ، والله المستعان. وقد شاع لديكم خبر من افتتن بمدحهم والثناء عليهم ونسبتهم إلى العدل وحسن الرعاية إلى ما هو أعظم من ذلك وأطمّ، من مشاقة الله ورسوله، واتباع غير سبيل المؤمنين، ومن لم يشاهد هذا منكم ولم يسمعه من قائله قد بلغه وتحققه؛ فأجهل الخلق وأضلهم عن سواء السبيل من ينازع في تحريم السفر إليهم والحالة هذه ويرى حله وجوازه. [سد الذرائع وقطع الوسائل من أكبر أصول الدين وقواعده] (الوجه الخامس): أن سد الذرائع وقطع الوسائل من أكبر أصول الدين وقواعده، وقد رتب العلماء على هذه القاعدة من الأحكام الدينية تحليلا وتحريما ما لا يحصى كثرة، ولا يخفى على أهل العلم والخبرة. وقد ترجم شيخ الدعوة النجدية -قدس الله روحه- لهذه القاعدة في كتاب التوحيد فقال: (باب ما جاء في حماية المصطفى صلى الله عليه وسلم جناب التوحيد وسده كل طريق يوصل إلى الشرك)، وساق بعض هذه القاعدة. وقد قرأت علينا في الرسالة المدنية لشيخ الإسلام ابن تيمية أن اعتبار هذا من محاسن مذهب مالك، قال: ومذهب أحمد قريب منه في ذلك، ولو أفتينا بتحريم السفر رعاية لهذا الأصل فقط وسدا لذرائعه المفضية لكنا قد أخذنا بأصل أصيل ومذهب جليل. [السفر إلى بلاد المحاربين للإسلام] (الوجه السادس): أنا لا نسلم دخول هذه البلدة التي الكلام بصددها في عبارات أهل العلم ورخصتهم لأن صورة الأمر وحقيقته سفر إلى

_ 1 سورة الفرقان آية: 31.

معسكر العدو الحربي الهاجم على أهل الإسلام المستولي على بعض ديارهم، المجتهد في هدم قواعد دينهم وطمس أصوله وفروعه، وفي نصرة الشرك والتعطيل وإعزاز جيوشه وجموعه، فالمسافر إليهم كالمسافر إلى معسكر هو بصدد ذلك، كمعسكر التتر، ومعسكر قريش يوم الخندق ويوم أحد، أفيقال هنا بجواز السفر لأن السفر إلى بلاد المشركين يجوز لمن أظهر دينه؟ وهل لهذا القول حظ من النظر والدليل، وهو سفسطة وضلال عن سواء السبيل؟ والعلم ليس بنافع أربابه ... ما لم يفد نظرًا وحسن تبصر وفي سنن أبي داود ومسند الإمام أحمد - الذي قال فيه قد جمعته للناس إمامًا - من حديث أبي بكرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ينْزل ناس من أمتي بغائط يسمونه البصرة، عند نهر يقال له دجلة، يكون عليه جسر. يكثر أهلها، ويكون من أمصار المهاجرين وفي رواية والمسلمين. فإذا كان آخر الزمان جاء بنو قنطوراء عراض الوجوه صغار الأعين حتى ينزلوا على شط النهر، فيفترق أهلها ثلاث فرق فرقة يأخذون أذناب البقر والبرية وهلكوا، وفرقة يأخذون لأنفسهم وكفروا، وفرقة يجعلون ذراريهم خلف ظهورهم ويقاتلونهم وأولئك هم الشهداء"1. والحديث -وإن كان في سنده سعيد بن جهمان، فقد وثقه أبو داود الذي ألين له الحديث كما ألين لداود الحديد- فقسمهم ثلاث فرق، وأخبر أن من أخذ لنفسه وألقى السلم، وترك الجهاد فقد كفر، ومن أعرض عن جهادهم وتباعد عنهم مقبلا على إصلاح دنياه وحرثه فقد هلك، ولم ينج إلا من قام بجهادهم، وانتصب لحربهم، ونصر الله ورسوله، وأخبر أن أولئك هم الشهداء، وأنهم مخصوصون بالشهادة دون سائر الشهداء، كما يستفاد من الجملة الاسمية المعرفة الطرفين

_ 1 سنن أبي داود: كتاب الملاحم (4306).

ومن ضمير الفصل المقحم بين المبتدأ والخبر. والحصر وإن كان ادعائيا فهو يدل على شرف الصنف وفضيلته، والحديث وإن كان تأوله بعضهم في حادثة التتر في القرن السابع فقائله لا يمنع من دخول سواها في الخبر، وأن لها ذيولا وبقية، ولا ريب أن الذي حصل هذا الزمان إن لم يكن منها فهو يشبه بها من كل وجه. فإن لا يكنها أو تكنه فإنه ... أخوها غذته أمه بلبانها وقد قال شيخ الإسلام في اختياراته: من جمز إلى معسكر التتر، ولحق بهم ارتد، وحل ماله ودمه 1. فتأمل هذا فإنه إن شاء الله يزيل عنك إشكالات كثيرة طالما حالت بين قوم وبين مراد الله ورسوله، ومراد أهل العلم من نصوصهم، وصريح كلامهم. ثم اعلم أن النصوص الواردة في وجوب الهجرة، والمنع من الإقامة ببلد الشرك والقدوم إليها، وترك القعود مع أهلها ووجوب التباعد عن مساكنتهم ومجامعتهم، نصوص عامة مطلقة وأدلة قاطعة محققة، ومن قال بالتخصيص، أو التقييد لها إنما يستدل بقضايا عينية خاصة، وأدلة جزئية لا عموم لها عند جماهير الأصوليين والنظار، بل هي في نفسها محتملة للتقييد والتخصيص. ومن قال بالرخصة لا ينازع في عموم الأدلة الموجبة للهجرة المانعة من المجامعة والمساكنة، غاية ما عند الخصم أن يقيس حكما على حكم، وفرعا على فرع، وقضية على قضية، والمنازع له يتوقف في صحة هذا القياس، لأنه معارض لدليل العموم والإطلاق. وقد رأيت محمد بن علي الشوكاني

_ 1 وكذا كل من لحق بالكفار المحاربين للمسلمين وأعانهم عليهم وهو صريح قوله تعالى {ومن يتولهم منكم فإنه منهم}.

جزم فيما كتبه على المنتقى برد قول الماوردي بجواز الإقامة بدار الشرك، وفضيلة ذلك لمن أظهر دينه ورجا إسلام غيره. قال: وهذا القول معارض لعموم النص فلا يسلم ولا يلتفت إليه، مع أن الذي كتبناه في هذه المسألة موافق للمشهور عند المتأخرين لم نخرج عنه كما تقدم ذكره، والقصد أن المسألة من أصلها فيها بحث قوي ومجال للنظر فإن بقي عليك فراجعني، وإياك والسكوت على ريبة. وقد رأيت بخط الوالد -قدس الله روحه- ما نصه: شمر إلى طلب العلوم ذيولا ... وانهض لذلك بكرة وأصيلا وصل السؤال وكن هديت مباحثا ... فالعيب عندي أن تكون جهولا {مسألة الكفار ما يستعينون به على المسلمين} وأما مسألة المبايعة فلم يسألني عنها أحد، ولم يتقدم لي فيها كلام. وقد بسط شيخ الإسلام الكلام على مبايعة أهل الذمة، ومنع من يبيع ما يستعينون به على كفرهم وأعيادهم. وأما الكافر الحربي فلا يمكن مما يعينه على حرب أهل الإسلام ولو بالميرة والمال ونحوه والدواب والرواحل؛ حتى قال بعضهم بتحريق ما لا يتمكن المسلمون من نقله في دار الحرب من أثاثهم وأمتعتهم، ومنعهم من الانتفاع به فكيف بيعهم وإعانتهم على أهل الإسلام؟ فإن انضاف إلى ذلك ما هو الواقع من المسافرين في هذا الزمان مما تقدم ذكره فالأمر أغلظ وأفحش، وذلك فرد من وراء الجمع. وأكثر الناس يخفى عليه أن المرتد من أهل تلك الديار التي استولى عليها الكافر الحربي أغلظ كفرا، وأعظم جرما بجميع ما تقدم من الأحكام، ولذلك تجد لهم عند القادمين إليهم من المباسطة والمؤانسة والإكرام ما هو

الرسالة الرابعة: حكم من يسافر إلى بلاد المشركين

أعظم مما مرت حكايته من صنيعهم مع هذا الكافر الحربي، فافهم ذلك. والله المسؤول المرجو الإجابة أن ينصر دينه وكتابه ورسوله وعباده المؤمنين، وأن يظهر دينه على الدين كله ولو كره المشركون، وصلى الله على عبده ورسوله النبي الأمي، وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين. الرسالة الرابعة [حكم من يسافر إلى بلاد المشركين] (قال جامع الرسائل): وله أيضا -قدس الله روحه ونور ضريحه- رسالة إلى محمد بن علي آل موسى في مسألة السفر إلى بلاد المشركين، وقد ذكر له -أعني محمد بن علي- من جهة فتوى الشيخ الإمام، وعلم الهداة الأعلام الشيخ عبد الرحمن بن حسن فيمن يسافر إلى بلد المشركين، فشرح ووضح فتوى والده، وكشف القناع عن محاسن معانيها وقطع -بالوجوه الساطعة أساريرها الراسخة مبانيها- ما يتعلق به كل مبطل، وأزاح بما أبداه غبار كل مشكل، وهذا نصها: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد اللطيف بن عبد الرحمن إلى الأخ المكرم محمد بن علي آل موسى -سلمه الله تعالى-، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وسبق إليك خط مع البداة، أشرت فيه إلى المسألة التي ذكرت لي من جهة فتوى الوالد الشيخ -قدس الله روحه ونور ضريحه- فيمن يسافر إلى بلاد المشركين. وفي هذه الأيام ورد علينا خط من ولد العجيري ذكر فيه أن لفظ الوالد في جوابه قوله: وأما السفر إلى بلاد المشركين للتجارة فقد عمت به البلوى، وهو نقص في دين من فعله لكونه عرض نفسه للفتنة بمخالطة المشركين فينبغي هجره وكراهته، هذا هو الذي يفعله المسلمون معه من غير تعنيف ولا سب

ولا ضرب، ويكفي في حقه إظهار الإنكار عليه، وإنكار فعله، ولو لم يكن حاضرا؛ والمعصية إذا وجدت أنكرت على من فعلها، أو رضيها إذا اطلع عليها. انتهى ما نقله. وهذه العبارة بحمد الله ليس فيها ما يتعلق به كل مبطل لوجوه: (منها): أن الذي وقع في هذه الأعصار -وكلامنا بصدده- أمر يجل عن الوصف، وقد اشتمل مع السفر على منكرات عظيمة منها موالاة المشركين وقد عرفتم ما فيها من النصوص القرآنية والأحاديث النبوية، وعرفتم أن مسمى المولاة يقع على شعب متفاوتة، منها ما يوجب الردة كذهاب الإسلام بالكلية، ومنها ما هو دون ذلك من الكبائر والمحرمات. وعرفتم قوله -تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} 1، وأنها نزلت فيمن كاتب المشركين بسر رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد جعل ذلك من الموالاة المحرمة، وإن اطمأن قلبه بالإيمان، وكذلك من رأى أن في ولايتهم مصلحة للناس أو للحضر، وهذا واقع مشاهد تعرفونه من حال أكثر هؤلاء الذين يسافرون إلى تلك البلاد، وربما نقل بعضهم من المكاتبات إلى أهل الإسلام ما يستفزونهم به، ويدعونهم إلى طاعتهم وصحبتهم والانحياز إلى ولايتهم. فالذي يظهر هذه الفتوى، ويستدل بها على مثل هذه الحال من أجهل الناس بمدارك الشرع ومقاصد أهل العلم، وهو كمن يستدل بتقبيل الصائم على أن الوطء لا يبطل صيامه، وهذا من جنس ما حصل من هؤلاء الجهلة في رسالة ابن عجلان، وما فيها من الاستدلال على جواز خيانة الله ورسوله، وتخلية بلاد المسلمين، وتسليط أهل الشرك عليها وأهل التعطيل، والكفر بآيات الله، وغير ذلك من ظهور سلطانهم وإبطال الشرع بالكلية بمسألة خلافية في جواز الاستعانة بمشرك ليس له دولة ولا صولة ولا دخل

_ 1 سورة الممتحنة آية: 1.

في الرأي مع أنها من المسائل المردودة على قائلها كما بسط في غير موضع. وبالجملة فإظهار مثل هذه الفتوى في هذه الأعصار من الوسائل المفضية إلى أكبر محذور، وأعظم المفاسد والشرور، مع أن عبارة الشيخ إذا تأملها المنصف وجد فيها ما يرد على هؤلاء المبطلة، وقول الشيخ قد عمت به البلوى يبين أن الجواب في الجاري في وقته مع ظهور الإسلام وغربته، وإظهار دين من سافر إلى جهاتهم، وليس في ذلك ما في السفر إليهم في هذه الأوقات، إذ هو مسالمة وإعراض عما وجب من فروض التعيين. وإذا هجم العدو وصار الجهاد فرض عين يحرم تركه ولو للسفر المباح، فكيف هذا السفر؟ وأيضا فكلام الشيخ يحمل على ما ذكره الفقهاء في أن عامة الناس ليس لهم أن يفتاتوا على ولي الأمر في الحدود والتعزيرات إلا بإذن. وقد عرفتم حال أكثر الولاة في عدم الاهتمام بهذا الأصل، فالافتيات عليهم بالحبس والضرب ونحو ذلك مفسدة تمنعها الشريعة ولا تقرها، ودرء المفاسد مقدم على جلب المصالح، فهذا يوجب للشيخ وأمثاله مراعاة المصلحة الشرعية في الفتوى الجزئية لا سيما في مخاطبة العامة. وقول الشيخ: لكونه عرض نفسه للفتنة بمخالطة المشركين صريح في أن الكلام فيمن لم يفتتن، ولم يستخف بدينه، وقد عرفتم حال أكثر الناس في هذا الوقت، وأقل الفتنة أن يستخفي بدينه، وجمهورهم يظهر الموافقة بلسان الحال ولسان المقال، فهذا الضرب ليس داخلا في كلام الشيخ -رحمه الله-. وقوله: ينبغي هجره وكراهته بيان ما يستطيعه كل أحد، وأما ولاة الأمور ومن له سلطان أو قدرة فعليه تغيير المنكر باليد، ومن لم يستطع فباللسان، ومن لم

يستطع فبالقلب؛ وهذا نص الحديث النبوي فلا يجوز العدول عنه وإساءة الظن بأهل العلم، بل يحمل كلامهم على ما وافقه. والمصرّ المكابر لا ينتهي إلا إذا غير فعله بالأدب، أو الحبس، وهو داخل في عموم الحديث. وقد شاهدنا من الوالد -رحمه الله- تعنيف هذا الجنس وذمهم، وذكر حكم الله ورسوله في تحريم مخالطة المشركين مع عدم التمكن من إظهار الدين. وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية أن التعزيرات تفعل بحسب المصلحة، وليس لها حد محدود، بل بحسب ما يزيل المفسدة ويوجب المصلحة، وذكر قتل شارب الخمر في الرابعة وأنه من هذا الباب، وأشار إلى ذلك في اختياراته. وكذلك غيره من المحققين ذكروا أن التعزير على الكبائر والمحرمات غير مقدر، بل بحسب المصلحة؛ وهذه قواعد كلية تدخل فيها تلك القضية الجزئية. وقول الشيخ: والمعصية إذا وجدت أنكرت على من فعلها ورضيها، ليس فيه أن الإنكار بمجرد القول، بل هو بحسب المراتب الثلاث المذكورة في الحديث، وإلا لخالف نص الحديث، بل يتعين حمل كلام الشيخ عليه لموافقة الحديث النبوي لا على ما خالفه، وأسقط من الإنكار ركنه الأعظم. ومن شم رائحة العلم لم يعرض هذه الفتوى لأهل هذه القبائح الشنيعة، ويجعلها وسيلة إلى مخالفة واجبات الشريعة؛ ومثل هذا الذي أظهر الفتوى يجعله بعض المنتسبين منفاخا ينفخ به ما يستتر من إظهاره وإشاعته. والواجب على مثلك النظر في أصول الشريعة ومعرفة مقادير المصالح والمفاسد، وتأمل قوله -تعالى-: {وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا} 1 الآية، وانظر ما ذكره المفسرون حتى أدخل بعضهم لياقة الدواة وبري القلم في الركون. وذلك لأن ذنب الشرك أعظم ذنب عصي الله به على اختلاف رتبه،

_ 1 سورة الإسراء آية: 74.

فكيف إذا انضاف إليه ما هو أفحش من الاستهزاء بآيات الله، وعزل أحكامه وأوامره، وتسمية ما ضاده وخالفه بالعدالة؟ والله يعلم ورسوله والمؤمنون أنها الكفر والجهل والضلالة. ومن له أدنى أنفة وفي قلبه نصيب من الحياة يغار لله ورسله وكتابه ودينه، ويشتد إنكاره وبراءته في كل محفل وكل مجلس؛ وهذا من الجهاد الذي لا يحصل جهاد العدو إلا به. فاغتنم إظهار دين الله، والمذاكرة به، وذم ما خالف والبراءة منه ومن أهله، وتأمل الوسائل المفضية إلى هذه المفسدة الكبرى، وتأمل نصوص الشارع في قطع الوسائل والذرائع. وأكثر الناس ولو تبرأ من هذا ومن أهله فهو جند لمن تولاهم، وأنس بهم، وأقام بحماهم والله المستعان. وهذا الخط اقرأه على من تحب من إخوانك وبلغ سلامي والدك، وخواص الإخوان.

الرسالة الخامسة: الهجرة والإقامة بين أظهر المشركين

الرسالة الخامسة [الهجرة والإقامة بين أظهر المشركين] وله أيضا -قدس الله روحه ونور ضريحه- رسالة في وجوب الهجرة وتحريم الإقامة بين أظهر المشركين، وسبب ذلك أن حسن بن عبد الله آل الشيخ لما كتب إلى عبد الرحمن الوهيبي يناصحه عن الإقامة بين أظهر المشركين، ويبين له وجوب الهجرة بالدلائل والبراهين كتب إليه، واحتج بما ستقف عليه في ضمن جواب الشيخ -رحمه الله-. وهذا نص رسالة الشيخ: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد اللطيف بن عبد الرحمن إلى ابن الأخ حسن بن عبد الله: سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: يذكر لي ما كتب إليك عبد الرحمن الوهيبي من الشبهة لما ذكرت له قوله -تعالى-: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} 1 ونصحته عن الإقامة بين أظهر العساكر الشركية، وأنه احتج عليك بأن الآية فيمن قاتل المسلمين، وقال: تجعلون إخوانكم مثل من قاتل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه؟ وهذا جهل منه بمعنى الآية وصريحها، ومخالفة لإجماع المسلمين وما يحتجون به على تحريم الإقامة بين أظهر المشركين، مع العجز عن القدرة على الإنكار والتغيير. قال ابن كثير: هذه الآية عامة في كل من أقام بين ظهراني المشركين، وهو قادر على الهجرة، وليس متمكنا من إقامة الدين؛ فهو ظالم لنفسه مرتكب حراما بالإجماع وبنص هذه الآية حيث يقول -تعالى-: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} 2 أي: بترك الهجرة {قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ} 3 أي: لم كنتم ها هنا وتركتم الهجرة {قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ} 4 أي: لا نقدر على الخروج ولا الذهاب

_ 1 سورة النساء آية: 97. 2 سورة النساء آية: 97. 3 سورة النساء آية: 97. 4 سورة النساء آية: 97.

في الأرض {قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} 1. وساق -رحمه الله- ما رواه أبو داود عن سمرة بن جندب: أما بعد، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من جامع المشرك 2 وسكن معه فإنه مثله". قلت: فانظر حكاية الإجماع على تحريم ذلك، وانظر تقريره معنى الآية، وتعليق ما فيها من الأحكام والوعيد على مجرد الإقامة بين أظهر المشركين، وأن هذه الآية نص في ذلك. وانظر خطاب الملائكة لهذا الصنف، وأنه على المكث والإقامة بدار الكفر. وانظر ما أجابتهم الملائكة عن قولهم: لا نقدر على الخروج، وكل ذلك ليس فيه ذكر للقتال. فتأمل هذا يطلعك على بطلان هذه الشبهة وجهل مبديها. وتأمل حديث سمرة وما فيه من تعليق هذا الحكم بنفس المجامعة والسكنى، واعرف معنى كونه مثله. وكذلك ما رواه ابن جرير عن عكرمة قال: كان أناس من أهل مكة قد أسلموا أفمن مات منهم بها هلك؟ قال -تعالى-: {فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ} 3 الآية. وروى ابن جرير من تفسير ابن أبي حاتم: فزاد فيه: فكتب المسلمون إليهم بذلك، وخرجوا، ويئسوا من كل خير، ثم نزلت: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا} 4. فكتبوا إليهم بذلك أن قد جعل الله مخرجا لكم، فخرجوا فأدركهم المشركون فقتلوهم حتى نجا من نجا، وقتل من قتل. وروي عن ابن عباس في الآية: هم قوم تخلفوا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وتركوا أن يخرجوا معه، فمن مات منهم

_ 1 سورة النساء آية: 97. 2 جامعه: خالطه وعاشره، فالمجامعة: المشاركة في الاجتماع من سكنى ومعاشرة، هذه حقيقته، واستعماله في المخالطة الزوجية كناية. 3 سورة النساء آية: 97. 4 سورة النحل آية: 110.

قبل أن يلحق بالنبي صلى الله عليه وسلم ضربت الملائكة وجهه ودبره. وأظن هذا الجاهل رأى ما روي عن عكرمة عن ابن عباس أن قوما من أهل مكة أسلموا فاستخفوا بإسلامهم، وأخرجهم المشركون يوم بدر معهم، وأصيب بعضهم وقتل بعض، فقال المسلمون: كان أصحابنا هؤلاء مسلمين، وأكرهوا فاستغفروا لهم فنَزلت {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ} 1 الآية، فهذا القول ونحوه مما فيه ذكر من أخرج مع المشركين يوم بدر، لا يدل على أن الآية خاصة بهم بل يدل على أنها متناولة للعموم اللفظي، والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. وكذلك من قال من السلف: إن هذه الآية نزلت في أناس من المنافقين تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وخرجوا مع المشركين، فمرادهم أن هذه الآية تتناولهم بعمومها، ولم يريدوا أن هذا النفاق والقتال مع المشركين هو الذي نيط به الحكم ورتب عليه الوعيد، فإنهم أجل وأعلم من أن يفهموا ذلك. والسلف يعبرون بالنوع، ويريدون الجنس العام، ومن لم يمارس العلوم ولم يتخرج على حملة العلم وأهل الفقه عن الله، وتخبط في العلوم برأيه فلا عجب من خفاء هذه المباحث عليه وعدم الاهتداء لتلك المسالك التي لا يعرفها إلا من مارس الصناعة، وعرف ما في تلك البضاعة، وهذا الرجل من أجهل الناس بالضروريات فكيف بغيرها من حقائق العلم ودقائقه؟ وليتهم (أعني) هو وأمثاله اقتصروا على مجرد الإقامة، ولم يصدر عنهم ما اشتهر وذاع من الموالاة الصريحة وإيثار الحياة الدنيا على محبة الله ورسوله، وما أمر به وأوجبه من توحيده، والبراءة ممن أعرض عنه، وعدل به غيره وسوى به سواه.

_ 1 سورة النساء آية: 97.

وتأمل كلام شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله تعالى- على هذه الآية فإنه أفاد وأجاد: وتأمل ما ذكره الفقهاء في حكم الهجرة واستدلالهم بهذه الآية على تحريم الإقامة بين ظهراني المشركين لمن عجز عن إظهار دينه، فكيف بمن أظهر لهم الموافقة على بعض أمرهم وعلى أنهم مسلمون من أهل القبلة المحمدية؟ وصاحب هذا القول الذي شبه عليكم ينزل درجة درجة: أول ذلك شراؤه المراتب الشرعية والأوقاف التي على أهل العلم، حتى صرفت له من غير استحقاق ولا أهلية، ثم لما جاءت هذه الفتنة صار يتزين عند المسلمين بحمد الله على عدم حضوره بتلك البلد، ثم جمز ولحق بأهلها، ونقض غزله، وأكذب نفسه، ثم ظهر لهم في مظهر الصديق الودود، وبالغ في الكرامة والوليمة والتحف والهدايا والمجالسة والتردد شغفا بالجاه والرياسة ولو في زمرة من حاد الله ورسوله. (وأما): ما نقل عنه من التحريض على أهل الإسلام، فهو إن صح أقبح من هذا كله وأشنع، وحسابه على الله الذي تنكشف عنده السرائر، وتظهر مخبئات الصدور والضمائر، وروى السدي قال: "لما أسر العباس وعقيل ونوفل قال النبي صلى الله عليه وسلم للعباس: افد نفسك وابن أخيك، قال: يا رسول الله، ألم نصل قبلتك ونشهد شهادتك؟ قال: يا عباس إنكم خاصمتم فخصمتم، ثم تلا عليه هذه الآية: {ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها} ". فتأمل هذه القصة وما فيها من التصريح بأن الخصومة في الهجرة، وأن من ادعى الإسلام والتوحيد وهو مقيم بين ظهراني أهل الشرك بالله، والكفر بآيات الله فهو مخصوم محجوج؛ وهذا يعرفه طلبة العلم والممارسون، وتأمل قوله تعالى: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ

الرسالة السادسة: شدة ظهور غربة الإسلام وأهله

لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} 1. كيف حكم على أن من أطاع أولياء الشيطان في تحليل ما حرم الله أنه مشرك، وأكد ذلك بأن المؤكدة، وأن ذلك صادر عن وحي الشيطان. فاحذر هذا الضرب من الناس، وليكن لك نهمة في طلب العلم من أصوله ومظانه، والله -تعالى- أسأل أن يمن علينا وعليكم بالهداية إلى سبيله، ومعرفة دينه بدليله، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرا. الرسالة السادسة [شدة ظهور غربة الإسلام وأهله] وله أيضا -قدس الله روحه ونور ضريحه- رسالة إلى الشيخ حمد بن عبد العزيز، وقد كان كتب إليه (أعني) الشيخ حمد رسالة ذكر له فيها أن الغربة اشتدت، وأنه قد أنكر عليه الفتوى بحل ما أخذ في درب العقير مع العسكر والزوار، فأجابه بما نصه: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد اللطيف بن عبد الرحمن إلى الأخ المكرم حمد بن عبد العزيز، سلمه الله تعالى وهداه، وألهمه رشده وتقواه، آمين. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: فأحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو وإن أتى الدهر بمر القضاء، والخط وصل -وصلك الله بحبله المنير، ونظمك في سلك أنصار الملة والدين-، وقد عرفت أن الله -سبحانه- ليس كمثله شيء في أفعاله أو قضائه، كما أنه ليس كمثله شيء في ذاته وصفاته. وهذه الحوادث العظام التي هدمت أركان الإسلام لله فيها سر وحكمة بالغة يطلع من يشاء من عباده على عنوان وأنموذج من سر القدر والقضاء، وأكثر الناس في خفارة جهله وكثافة

_ 1 سورة الأنعام آية: 121.

طبعه كالبعير الذي يعقله أهله ثم يطلقونه، لا يدري فيم عقل ولا فيم أطلق. وتذكر أن الغربة اشتدت، والأمر كما وصفت، وأعظم مما إليه أشرت، ولكن ليكن لك على بال، ما ورد في فضل الغرباء ووصفهم؛ فاغتنم نصرة الإسلام والدعوة إليه، ونصره ونشره وتعريفه وتقريره في كل مجلس ومجمع. فإن أكثر الناس قد ضل عنه ولا يدري حقيقته ومسماه، وقد وقع ذلك ممن ينتسب إلى الدين، ونسي ما كان عليه من تقرير التوحيد وأدلته، وجاء بما يناقضه، ويقوي عضد المشركين، ويقتضي نصرة أعداء الملة والدين. وقد بلغنا عن عبد الرحمن الوهيبي وأمثاله بعد ذهابه إليهم ما تصان عن ذكره الأسماع، وصار يعترض على من أنكر طريقته وذمها. ويزعم أنه قد خالف طريقة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وصرح بمسبة من أنكر عليه ونسبه إلى موالاتهم، فالذي يجادل عنه داخل في عموم قوله تعالى {وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ} 1. وكذلك ما ذكرت عن الذي أنكر عليكم الفتوى بحل ما أخذت في درب العقير مع العسكر والزوار؛ فلا يصدر هذا الإنكار إلا عن جهل بحقيقة الإسلام وقواعده، وسرية ابن الحضرمي في عهده صلى الله عليه وسلم مشهورة معروفة، وهي أول دم أهريق في الإسلام وقصدت عير قريش. وقريش في ذلك الوقت مع كفرهم وضلالهم، أهدى من كثير من العسكر والزوار من الرافضة بكثير، فكيف وقد بلغ شركهم إلى تعطيل الربوبية والصفات العلية، وإخلاص العبادات للمعبودات الوثنية، ومعارضة الشريعة المحمدية، بأحكام الطواغيت والقوانين الإفرنجية؟ فمن جادل عمن خالط هؤلاء ودخل لهم في الشورى، وترك الهجرة إلى الله ورسوله، وافتتن به كثير من

_ 1 سورة غافر آية: 5.

الرسالة السابعة: خطر الفتنة ومضارها والسبيل لنجاة المسلم منها

خفافيش البصائر، فالمجادل فيه وفي حل ما أخذ من العسكر والزوار لا يدري ما الناس فيه من أمر دينهم، فعليه أن يصحح عقيدته، ويراجع دين الإسلام من أصله، ويتفطن في النّزاع الذي جرى بين الرسل وأممهم في أي شيء وبأي شيء؟ {وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا} 1. والذي أوصيك به الثبات والغلظة على هؤلاء الجهلة الذين يسعون في هدم أركان الإسلام ومحو أساسه، وبلغ سلامنا من لديك من الإخوان والسلام. الرسالة السابعة [خطر الفتنة ومضارها والسبيل لنجاة المسلم منها] وله أيضا -قدس الله روحه ونور ضريحه- رسالة إلى الإخوان من أهل الفرع: عثمان بن مرشد، ومحمد بن علي، وإبراهيم بن راشد، وإبراهيم بن مرشد، في قطع الوسائل والذرائع المفضية إلى محبة من حاد الله ورسوله، واختار ديارهم ومساكنتهم وولايتهم، ومحبة ظهورهم، لأن اختيار ديارهم ومساكنتهم وولايتهم ومحبة ظهورهم، والثناء عليهم وتفضيلهم بالعدل على أهل الإسلام وإعانتهم على المسلمين، وجرهم على بلاد أهل الإسلام، ردة صريحة بالاتفاق. فقطع -رحمه الله تعالى- الأسباب والوسائل المفضية إلى ذلك بالأدلة القاطعة والبراهين الساطعة، وهذا نصها: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد اللطيف بن عبد الرحمن إلى الإخوان عثمان بن مرشد ومحمد بن علي وإبراهيم بن راشد وإبراهيم بن مرشد: سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: الخط وصل -وصلكم الله ما يرضيه-، وما ذكرتم من طلب النصيحة، فقد تقدمت إليكم بحمد الله مرارا، أو قامت الحجة، ويبلغني تصميم الأكثر على رأيه الأول وعدم الانتفاع. ومن أكبر أسباب شرح الصدر

_ 1 سورة الفرقان آية: 31.

للنصائح والمواعظ وقبولها ما يعلمه الله من حرص العبد على الخير والهدى والتجرد من ثوبي التعصب والهوى، والبعد عن الإعجاب بالنفس وإيثار الشهوات الدنيوية؛ فالقلب إذا سلم من هذا، وابتهل إلى الله بالأدعية المأثورة كدعاء الاستفتاح "اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل"1 الحديث، لا سيما في أوقات الإجابة فإن هذا لا تكاد تسقط له دعوة، والتوفيق له أقرب من حبل الوريد. قال الله -تعالى-: {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لأسْمَعَهُمْ} 2. والواجب عند ورود الشبهات هو القيام لله مثنى وفرادى، والتفكر لا سيما عند هذه الفتنة التي عمت وطمت، وأعمت وأصمت، فإنها كما في حديث حذيفة: "قال: قلت: يا رسول الله، إنا كنا في شر فذهب الله بذلك الشر، وجاء بالخير على يديك، فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال: نعم، قال: ما هو؟ قال: فتن كقطع الليل المظلم يتبع بعضها بعضا، تأتيكم مشتبهة كوجوه البقر لا تدرون أيا من أي"3، 4. فهذه الفتن الواقعة في هذا الزمان من جنس ما أشير إليه في هذا الحديث الذي خرجه الإمام أحمد في مسنده؛ فتعين الاهتمام بالمخرج منها والنجاة فيها، لا سبيل إلى ذلك إلا بالاعتصام بحبل الله ومعرفة ما أوجب وندب إليه في كتابه من شرائع الإيمان وحدوده، وما نهى عنه وحرمه من شعب الكفر والنفاق وحدوده، وقد نص على هذا صلى الله عليه وسلم لما سأله حذيفة عن الفتن، فعن حذيفة: "كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير وأسأله عن الشر، وعرفت أن الخير لن يسبقني قلت:

_ 1 مسلم: صلاة المسافرين وقصرها (770) , والترمذي: الدعوات (3420) , والنسائي: قيام الليل وتطوع النهار (1625) , وأبو داود: الصلاة (767) , وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها (1357) , وأحمد (6/ 156). 2 سورة الأنفال آية: 23. 3 أحمد (5/ 391). 4 الحديث رواه البخاري مطولا وابن ماجه مختصرا والظاهر أن هذا اللفظ الذي ذكره المؤلف وما بعده للإمام أحمد.

يا رسول الله، أبعد هذا الخير شر؟ قال: يا حذيفة تعلم كتاب الله واتبع ما فيه، ثلاث مرار، قال: قلت: يا رسول الله، أبعد هذا الخير شر؟ قال: فتنة وشر، قال: قلت: يا رسول الله، أبعد هذا الشر خير؟ قال: هدنة على دخن، وجماعة على أقذاء، قال: قلت: يا رسول الله، الهدنة على دخن ما هي؟ قال: لا ترجع قلوب أقوام على الذي كانت عليه، قال: قلت: يا رسول الله، أبعد هذا الخير شر؟ قال: يا حذيفة، تعلَّم كتاب الله واتبع ما فيه ثلاث مرار، قال: قلت: يا رسول الله أبعد هذا الخير شر؟ قال: فتنة عمياء صماء عليها دعاة على أبواب النار، وإن تمت يا حذيفة وأنت عاض على جذل، خير لك من أن تتبع أحدا منهم". (قلت): فتأمل ما أرشد إليه حذيفة، وأوصاه عند حدوث الفتن العظام التي لا يبصر أهلها الحق، ولا يسمعون من الداعي والناصح، وتكريره الوصية بقراءة كتاب الله واتباع ما فيه، لأن المخرج من كل فتنة موجود فيه مقرر، لكن لا يفقهه ولا يفهمه إلا من تعلم كتاب الله ألفاظه ومعانيه، ووفق للعمل بما فيه، فذلك جدير أن يهبه الله نورا يمشي به في الناس، ولا يخفى عليه ما وقع فيه الأكثر من الشك والريب والالتباس. وهذا الصنف عزيز الوجود في القراء ومن ينتصب إلى العلم والطلب فكيف بغيرهم؟ شعر: أما الخيام فإنها كخيامهم ... وأرى نساء الحي غير نسائها فعليكم بلزوم الوصية النبوية لصاحب السر حذيفة بن اليمان، وبتدبر القرآن والتفقه في معانيه، يعرف العبد إن عقل عن الله أن أوجب واجب فيه وأهمه وآكده وزبدته معرفة الله -تعالى- بما تعرّف به إلى عباده من صفات كماله ونعوت جلاله، وبديع أفعاله، وإحاطة علمه، وشمول قدرته، وكمال عزته، وعميم رحمته، وبمعرفة ذلك يهتدي العبد إلى محبته وتعظيمه

وإسلام الوجه له وإنابة القلب إليه، وإفراده بالقصد والطلب، وسائر العبادات كالخشية والرجاء والاستعانة والاستغاثة والتوكل والتقوى، ويرضى به ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد رسولا ونبيا، ويذوق من طعم الإيمان ما يوجب له كمال حب الله وحب رسوله، ويعرف الوسائل إلى هذا المطلوب الأكبر والمقصود الأعظم ويهتم به غاية الاهتمام، ويطلبه منتهى الطلب، ويعرف ما يضاد هذا الأصل ويناقضه من تعطيل، وكفر، وشرك، ويعرف وسائلها وذرائعها الموصلة إليها المُفْضِيَة إلى اقتحامها وارتكابها، فيهتم بتحصيل وسائل التوحيد، ويهتم بالتباعد عن وسائل الكفر والتعطيل والتنديد، كما يستفاد من قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} 1. فمن عرف هذا الأصل الأصيل عرف ضرر الفتنة الواقعة في هذه الأزمان بالعساكر التركية، وعرف أنها تعود على هذا الأصل الأصيل بالهد والهدم والمحو بالكلية، وتقتضي ظهور الشرك والتعطيل ورفع أعلامه الكفرية، وأن مرتبتها من الكفر وفساد البلاد والعباد فوق ما يتوهمه المتوهمون، أو يظنه الظانون. وبه يعلم أن ما وقع من الوسائل إلى تهوين تلك الفتنة، وتسهيل أمرها والسكوت عن التغليظ فيها من أكبر أسباب وقوع الشرك ومحو أعلام التوحيد؛ والوسيلة لها حكم الغاية، فإن انضاف إلى تسهيلها إكرام من أقام بديارهم، وتلطخ بأوضارهم، وشهد مهرجانهم وتوقيره والمشي إليه، وصنع الولائم له، فعند ذلك ينعي الإسلام ويبكيه {لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} 2 وفي الحديث: "من وَقَّرَ صاحبَ بدعة فقد أعان على هدم الإسلام"3 فكيف بما هو أعظم وأطم من البدع؟ فالله المستعان.

_ 1 سورة الفاتحة آية: 5. 2 سورة ق آية: 37. 3 رواه الطبراني في الكبير عن عبد الله بن بشر وسنده ضعيف ومعناه صحيح.

وأعجب من هذا أن بعض مَنْ يتولى خدمة من حادَّ الله ورسوله، ويُحَسِّنُ أمرهم، ويُرَغِّبُ في ولائهم، ويقدح في أهل الإسلام وربما أشار بحربهم، فإذا قدم بلاد بعض أهل الإسلام تلقاه منافقوها وجهالها بما لا يليق إلا مع خواص الموحدين، فافهم أسباب الشرك ووسائله، ومن كان في قلبه حياة وله رغبة وله غيرة وتوقير لرب الأرباب يأنف ويشمئز مما هو دون ذلك؛ ولكن الأمر كما قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب: إنما تُنْقَضُ عُرَى الإسلام عروة عروة إذا نشأ في الإسلام من لا يعرف الجاهلية 1. وما جاء في القرآن من النهي والتغليظ والتشديد في موالاتهم وتوليهم دليل على أن أصل الأصول لا استقامة ولا ثبات له إلا بمقاطعة أعداء الله وحربهم وجهادهم والبراءة منهم، والتقرب إلى الله بمقتهم وعيبهم. وقد قال تعالى لما عقد الموالاة بين المؤمنين وأخبر أن الذين كفروا بعضهم أولياء بعض قال {إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} 2، وهل الفتنة إلا الشرك، والفساد الكبير هو انتثار عُقَد التوحيد والإسلام، وقَطْعُ ما أحكمه القرآن من الأحكام والنظام، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ} 3 الآية. قال بعض السلف: ليتق أحدكم أن يكون يهوديا أو نصرانيا وهو لا يشعر، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى

_ 1 يعني أنهم يجهلون ما أزاله الإسلام من الشرك والكفر فلا يعرفون قيمة ما جاء فيه من الإصلاح وربما عادوا إلى ما كان عليه الجاهلية وهم لا يدرون. 2 سورة الأنفال آية: 73. 3 سورة المائدة آية: 51.

الصَّلاةِ} 1 الآية. قلت: فليتأمل مَنْ نصح نفسه ما يجري من هؤلاء العسكر عند سماع الأذان من المعارضة بالطبل والبوق والمزمار، واستبداله به عما اشتمل عليه الأذان من توحيد الله وتعظيمه وتكبير الملك القهار، قال تعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} 2. وقال تعالى: {لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً} 3، وقد جزم ابن جرير في تفسيره بكفر من فعل ذلك، قال تعالى: {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الأِيمَانَ} 4. فليتأمل من نصح نفسه هذه الآيات الكريمات، وليبحث عما قاله المفسرون وأهل العلم في تفسيرها وتأويلها، وينظر ما وقع من أكثر الناس اليوم، فإنه يتبين له -إن وُفِّقَ وَسُدِّدَ- أنها تتناول مَن ترك جهادهم، وسكت عن عيبهم، وألقى إليهم السلم، أو أثنى عليهم، أو فَضَّلَهُمْ بالعدل على أهل الإسلام، واختار ديارهم ومساكنتهم وولايتهم، وأحب ظهورهم، فإن هذا ردة صريحة بالاتفاق قال تعالى: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِالأِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ} 5. وقد عرفتم ما كان عليه أسلافكم من أهل الإسلام؛ وما مَنَّ الله به عليكم من دعوة شيخنا -رحمه الله- إلى توحيد الله والإيمان به، وإخلاص الدين له، والبراءة من أعدائه وجهادهم؛

_ 1 سورة المائدة آية: 57. 2 سورة المائدة آية: 78. 3 سورة آل عمران آية: 28. 4 سورة المجادلة آية: 22. 5 سورة المائدة آية: 5.

وببركة دعوته وبيانه حصل للإسلام من الظهور والنصر وإعلاء كلمة الله ما لم يحصل مثله في دياركم وأوطانكم منذ قرون متطاولة. فيجب شكر هذه النعمة ورعايتها حق الرعاية والعض عليها بالنواجذ، وأن لا يستبدل بموالاة أعداء الله ورسله والانحياز إلى دولتهم والرضى بطاعتهم، قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ} 1 الآية. فاتقوا الله عباد الله، واتقوا يوما ترجعون فيه لله، ودعوا اللجاج والمِرَاء، وتمسكوا بما جاء عن الله وعن رسله من البينات والهدى، ولا يسهل لديكم مبارزة رب السموات العلى، بما عليه غالب الناس اليوم من الكفر والتعطيل والشرك والجدال والمراء، ولا تفتحوا أبواب الفتن للمُشَاقَّة والتفرق والقدح في أهل الإسلام، فإن ذلك من الصد عن سبيل الله، ومن الفتنة عن دينه الذي ارتضاه، وقد جاء في الحديث: "إن هذا الحي من مُضَر لا تدع في الأرض لله عبدا صالحا إلا فتنته وأهلكته، حتى يدركها الله بجنود من عنده فيذلها حتى لا تمنع ذَنَبَ تَلْعَة"2. وبعض مَنْ يدعي الدين إنما يتعبد بما يحسن في العادة ويثنَى عليه به، وما فيه مقاطعة ومجاهدة وهجر في ذات الله ومراغمة لأعدائه فذاك ليس منه على شيء؛ بل ربما ثَبَّطَ عنه وقدح في فاعله، وهذا كثير في المنتسبين إلى العبادة والمنتسبين إلى العلم والدين، والشيطان أحرص شيء على ذلك منهم، لأنهم يرونه غالبا دينا وحسن خلق فلا يُتَابُ منه ولا يستغفر؛ ولأن غيرهم يقتدي بهم، ويسلك سبيلهم فيكونون فتنة لغيرهم، ولهذا حَذَّرَ الشارع من فتنة مَنْ فسد من العلماء والعُبَّاد وخافه على أمته. فالمؤمن إذا حصل له ظفر بحقائق الإيمان، وصار

_ 1 سورة إبراهيم آية: 28. 2 أحمد (5/ 390).

على نصيب من مرضاة الملك الرحمن، فقد حصل له الحظ الأوفى والسعادة، وإن قيل ما قيل (شعر): إذا رضي الحبيب فلا أبالي ... أقام الحي أم جد الرحيل وينبغي لك يا عثمان أن تقرأ هذه النصيحة على جماعتك، وتبين لهم معانيها، وما في الفُرْقَة والاختلاف من فتح أبواب الشر والفساد؛ فاحرص على ذلك، واعتدَّ به مِنْ صالح أعمالك، وقد قال صلى الله عليه وسلم لعلي -رضي الله عنه-: "فوالله لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم"1، 2. والشيطان قاعد على الصراط المستقيم، فإن عارض أحد بشبهة، فيلزمكم تبليغها، وطلب كشفها، ولا يحل السكوت على الشبه التي توقع في الريب والشك، وتفضي إلى ما تقدم من المفاسد. وإن رأيتم في كلامي مجازفة أو مخالفة لما قاله أهل العلم فاذكروه لي، وإن جاءنا عنكم نصيحة، أو تنبيه على شيء من الغلط، فنُشهد الله على قبوله ممن كان. وبلِّغُوا سلامَنا إخوانَكم، والعيالُ والإخوان ينهون إليكم السلام، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.

_ 1 البخاري: الجهاد والسير (3009) , ومسلم: فضائل الصحابة (2406) , وأبو داود: العلم (3661) , وأحمد (5/ 333). 2 هو في صحيح البخاري.

الرسالة الثامنة: التذكير بآيات الله والحث على لزوم الجماعة

الرسالة الثامنة [التذكير بآيات الله والحث على لزوم الجماعة] وله أيضا، قدس الله روحه ونور ضريحه، نصيحة لكافة المسلمين في التذكير بآيات الله، والحث على لزوم الجماعة والقيام بأصول الدين وقواعد الإسلام التي هي أربح تجارة وبضاعة، والحض على جهاد أعداء الله ورسوله، القائمين في هدم قواعده وأصوله وهذا نصها: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد اللطيف بن عبد الرحمن إلى من يراه من المسلمين، وفقهم الله لنصر الإسلام والدين. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. (وبعد) فموجب هذا هو التذكير بآيات الله، والحث على لزوم جماعة المسلمين، وقد ينتفع بالنصائح مَنْ أراد الله هدايته، قال تعالى: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} 1. وأهم ما يُبْدَأ به في التعليم هو معرفة أصول الدين وقواعد الإسلام التي لا يحصل بدونها ولا يستقيم بناؤه إلا عليها، لا سيما معرفة ما دلت عليه كلمة التوحيد -شهادة أن لا إله إلا الله- من الإيمان بالله ومعرفته وتوحيده بإخلاص العبادة بأنواعها له سبحانه، والبراءة من كل معبود سواه، والقيام بذلك علما وعملا؛ فإن هذا هو أصل الدين وقاعدته، وهي الحكمة التي لأجلها خُلِقَتْ الخليقةُ، وَشُرِعَتْ الطريقةُ، وأُرْسِلَتْ لأجلها الرسل، وبها أُنْزِلَتْ الكتبُ، وجميع أحكام الأمر والنهي تدور عليها وترجع إليها. وقد رأيتم ما حدث في هذا الأصل العظيم من الإضاعة والإهمال والإعراض عن حقائقه وواجباته حتى ظهر الشرك وظهرت وسائله وذرائعه ممن

_ 1 سورة الذاريات آية: 55.

ينتسب إلى الإسلام، ويزعم أنه من أهله، وذلك بأسباب: منها الجهل بحقيقة ما أمر الله به ورَضِيَهُ لعباده من أصول التوحيد والإسلام، وعدم معرفة ما ينافيه ويناقضه، أو يضادُّ الكمال والتمام من موالاة أعداء الله على اختلاف شعبها ومراتبها. فمنها المكفرات والموبقات، ومنها ما هو دون ذلك. وأكبر ذنب وأضله وأعظمُه منافاةً لأصل الإسلام: نصرةُ أعداء الله ومعاونتهم، والسعي فيما يظهر به دينهم، وما هم عليه من التعطيل والشرك والموبقات العظام، وكذلك انشراح الصدر لهم وطاعتهم والثناء عليهم، ومدح من دخل تحت أمرهم، وانتظم في سلكهم، وكذلك ترك جهادهم ومسالمتهم، وعقد الأخوة والطاعة لهم، وما هو دون ذلك من تكثير سوادهم ومساكنتهم ومجامعتهم 1. ويلتحق بالقسم الأول: حضور المجالس المشتملة على رد أحكام الله وأحكام رسوله، والحكم بقانون الإفرنج والنصارى والمعطلة، ومشاهدة الاستهزاء بأحكام الإسلام وأهله. ومن في قلبه أدنى حياة وأدنى غيرة لله وتعظيم له، يأنف ويشمئز من هذه القبائح، ومجامعة أهلها ومساكنتهم؛ ولكن ما لجرح بميت إيلام. فليتق اللهَ عبدٌ مؤمنٌ بالله واليوم الآخر، وليجتهد فيما يحفظ إيمانه وتوحيده قبل أن تَزِلَّ القدمُ، فلا ينفع حينئذ الأسف والندم. ومن أهم المقاصد الشرعية، والمطالب العلية: جهاد أعداء الله ومن صَدَفَ عن دينه الذي ارتضاه، وقد أوجب الله سبحانه الجهاد في سبيله وأكده ورغَّب فيه، ووعد أهله بما أعد لأوليائه وأهل طاعته من مرضاته وكرامته ومجاورته في دار النعيم، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا

_ 1 أي مخالطتهم في الاجتماع والمعاشرة كما تقدم.

هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} 1 إلى آخر السورة 2. فانظر إلى ما دلت عليه هذه الآية الكريمة من لطافة الخطاب، والإرشاد إلى مناهج الهداية والصواب، وما رتب على ذلك من غاية الفوز ومنتهى السعادة، وما فيها من البشارة بكل فلاح ونجاح في العاجل والآجل. فانظر كيف ختم السورة بأمر عباده المؤمنين أن يكونوا أنصارا له، وأن يقتدوا بمن سلف من الصالحين؛ وانظر إلى ما حكم به من إيمان من نصره وقام بما أمر به. وتأمل كُفْر الطائفة المُعْرِضة عن طاعة رسله والجهاد في سبيله؛ وتأمل ما وعد به عباده من النصر والظهور على من خالفهم وخذلهم، وكذلك قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ} 3 إلى قوله: {وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} 4، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً} 5 الآية. وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيله، ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض"6، وعنه صلى الله عليه وسلم قال: "مَنْ مات ولم يَغْزُ ولم يُحَدِّثْ نفسَه بالغزو، مات على شُعْبَة من النفاق"7. فاغتنموا -رحمكم الله- حضور المشاهد التي يترتب عليها إعلاء كلمة الله، ونصر دينه ورسوله، ومُرَاغَمَة أعدائه، فإن هذه المشاهد من الموجبات للرحمة والمغفرة والسعادة الأبدية، وما يدريك أن الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم. وإذا هجم العدو على بلاد الإسلام، صار الجهاد فرض عين، فأجمعوا أمركم على جهاد عدوكم لابتغاء مرضاة ربكم، وأطيعوا ذا أمركم، وأخلصوا النية، وأصلحوا الطوية؛

_ 1 سورة الصف آية: 10. 2 أي سورة الصف. 3 سورة التوبة آية: 111. 4 سورة التوبة آية: 111. 5 سورة التوبة آية: 123. 6 البخاري: التوحيد (7423) , وأحمد (2/ 335 ,2/ 339). 7 مسلم: الإمارة (1910) , والنسائي: الجهاد (3097) , وأبو داود: الجهاد (2502).

الرسالة التاسعة: تفنيد رسالة ابن عجلان وما فيها من المفاسد

فإنما لكل امرئ ما نوى. واتقوا الله عباد الله، وراقبوه مراقبة مَنْ يعلم أنه يسمعه ويراه، فقد رأيتم ما بلغ من مكائد الشيطان وتفريق كلمة أهل الإيمان حتى انسلخ الأكثر من الدين، ولحق فِئَامٌ من المسلمين بأعداء الله والدين. نسأل الله لنا ولكم العافية، والثبات على دينه الذي ارتضاه لنفسه، وارتضاه لعباده، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. الرسالة التاسعة [تفنيد رسالة ابن عجلان وما فيها من المفاسد] وله أيضا، قدَّس الله روحه، ونور ضريحه، رسالة إلى عبد الرحمن بن إبراهيم أبي الغنيم يعظه فيها عن مجالسة مَنْ افْتُتِنَ بموالاة أعداء الله ورسوله من العساكر الهاجمة على بلاد المسلمين، والتحذير عن رسالة ابن عجلان، وقد سماها الشيخ -رحمه الله- حبالة الشيطان، وذكر أنها دِهْليز يُفْضِي إلى استباحة موالاة المشركين والاستنصار بهم. وكذلك ذكر فيها حكم المتغلب إذا كان مسلما، وأن ما وقع منه من الظلم والغَشَم وسفك الدماء ونهب الأموال، كل ذلك لا يُوجِب الخروج عليه، ولا نَزْعَ اليد عن طاعته، وهذا نصها: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد اللطيف بن عبد الرحمن إلى الأخ عبد الرحمن بن إبراهيم أبي الغنيم، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، والخط وصل، وصلك الله بالفقه والبصيرة، وأصلح لك العمل والسيرة، وما ذكرت من المحبة والمودة فما كان لله يبقى، وإن طال الزمان به، ويذهب ما سواه. والذي أوصيك به: تقوى الله -تعالى- والنظر في سبب ما جرى عند هذه الفتنة الظلماء من المُهَاجَرة بيننا والمقاطعة، وشرحه لك فيه تذكرة وموعظة. لما وقعت الفتنة نَأَيْتَ بجانبك عن الاسترشاد والاستفادة، واستحسنتَ المِرَاء في الدين واللجاجة. صدر ذلك منك في غير ما مجلس، حتى أسأت الأدب في

السوق وخاطبتني خطاب من لا يدري الحقائق، ولا يهتدي لأوضح المسالك والطرائق، ونظرت بعين وغمضت الأخرى، ونكبتَ عما هو الأَوْلى بالإصابة والأحْرَى، وأقبلت في تلك الأيام على الملأ المفتونين بخطوط العساكر التي وصلت إلى بلدتنا، وأنت تدري ما فيها من الصد عن سبيل الله وهدم دينه ومطردات أوليائه، والتَّنْوِيه بذكر أعداء الله ورسله، والدعوة إلى طاعتهم، والدخول تحت أمرهم، وتخويف المسلمين منهم، وقد صرح كثير من الناس بالدخول تحت أمرهم، وظهر الفرح والسرور من كثير ممن يدعي الإسلام. وأنت أيها الرجل ممن يتردد إلى هؤلاء المفتونين، ويأنس ببعضهم ويصغي إلى شبهاتهم وجهالاتهم، ولم تلتفت إلى بَحْث ومُحَاقَّة ولا استرشاد، كما هو الواجب لله عند تلك الفتنة والشبهات، لكنك غَلَّبْتَ جانبَ الهوى وأكثرْتَ تلك الأيام من مجالسة مَنْ يضر ولا ينفع، ولا يَنِي عن إغوائه ولا ينزع، وقد جاء الأثر: إن مَنْ جَالَسَ صاحب بدعة نُزِعَتْ منه العصمة، فكيف بما هو أكبر من البدعة وأعظم. ولم يبلغني عنك تلك الأيام ما يسرني من قيام لله ونصرة لدينه، اللهم إلا ما يجري على لسانك من دعوى البراءة من الشرك وأهله على سبيل الإجمال لا التفصيل، وقد علم الله أن العبرة بالحقائق، وليس الإيمان بالتحلي ولا بالتمني ولكن ما وقر في القلوب وصدقته الأعمالُ. ولم تَزَلْ على ما وصفنا تطير مع مَن طار، وتُغِير علينا بالتخطئة والمِرَاء مع مَن أغار، ومثلك كان يُظَنُّ به الخير، ويأسى عليه الصاحب، وأنت -وإن لم تكن كل الفقيه والطالب- فقد حَنَّكَتْكَ التجاربُ، وَقَعَّدَتْكَ الحوادثُ والمذاهبُ، لولا ما عارَضَهَا من صحبة جلساء السوء الذين يدعونك إلى أهوائهم

وأغراضهم الفاسدة، لا سيما أخصهم لديك، وأحبهم إليك، فإنه كما قيل: المَسُّ مَسُّ أرنب، والطبع طبع ثعلب. وقد اتهم بالسعي فيما يقوي عضد المشركين، ويوهن عزم الموحدين، وإلى الله المصير، وهو الحَكَم بيننا وبين مَن أعان على هدم الإسلام من صغير وكبير، مأمور وأمير. وأيضا فأهل الإحساء قد اشتهر حالهم، وأنهم ألقوا السلم إلى عساكر الدولة واختاروا ولايتهم، وصرحوا بطاعتهم، ونصروهم بالقول وعاملوهم معاملة الأخ مع أخيه، بل جاءت خطوط التجار المترفين أولي النعمة بتزكيتهم والثناء عليهم، وانتصب ولدك لخدمتهم وقضاء حوائجهم، ولم يظهر لي منك قيام بحق الله عند هذه الدواهي العظام، التي تمانع الإيمان والقرآن والإسلام، وتنثر منه عقد النظام، والله أعلم بسرك، وهو الرقيب عليك، لكني أحكي ما ظهر لي منك ذاك الوقت. وقد أظهر أثر ما ذكرنا، وعقوبة ما إليه أشرنا، بإقبالك واشتغالك بحبالة الشيطان (رسالة ابن عجلان) فطرتَ بها طيران من لا يلوي على أهل ولا صاحب، كأنها العهد الرباني والوصية النبوية، واشتغلت بقراءتها وسماعها مع جماعة من العوام والصبيان؛ وتلك الرسالة دهليز يفضي إلى استباحة موالاة المشركين، والاستنصار بهم على المسلمين، والحكم على أهل عصر شيخ الإسلام ابن تيمية من أهل مصر والشام بالشرك والمكفرات، وفيها: أن جَلْب عُبَّاد الأصنام إلى بلاد الإسلام والاستعانة بهم على مَن خرج عن الطاعة ليس بذنب، ولولا أن حجاب الجهل والهوى أكثف الحجب وأغلظها لتبين شناعةُ ما فيها للناظرين من أول وهلة وبمجرد الفطرة (شعر): أكل امرئ تحسبن امرأ ... ونارٍ توقَّد في الليل نارا

ثم هنا مسألة أخرى، وداهية كبرى، دَهَى بها الشيطانُ كثيرا من الناس فصاروا يسعون فيما يفرق جماعة المسلمين، ويوجب الاختلاف في الدين، وما ذمه الكتاب المبين، ويقضي بالإخلاد إلى الأرض وترك الجهاد ونصرة رب العالمين، ويفضي إلى منع الزكوات، ويُشِبُّ نار الفتن والضلالات، فتلطف الشيطان في إدخال هذه المكيدة ونصب لها حُجَجًا ومقدمات، وأوهمهم أن طاعة بعض المتغلبين فيما أمر الله به ورسوله من واجبات الإيمان وفيما فيه دفعٌ عن الإسلام وحماية لحوزته لا تجب، والحالة هذه ولا تشرع، ولم يدر هؤلاء المفتونون أن أكثر ولاة أهل الإسلام من عهد يزيد بن معاوية -حاشا عمر بن عبد العزيز، ومن شاء الله من بني أمية- قد وقع منهم ما وقع من الجراءة والحوادث العظام، والخروج والفساد في ولاية أهل الإسلام، ومع ذلك فسيرة الأئمة الأعلام والسادة العظام معهم معروفة مشهورة، لا ينزعون يدا من طاعة فيما أمر الله به ورسوله من شرائع الإسلام وواجبات الدين. وأضرب لك مثلا بالحجاج بن يوسف الثقفي، وقد اشتهر أمره في الأمة بالظلم والغَشَم، والإسراف في سفك الدماء، وانتهاك حرمات الله، وقتل من قتل من سادات الأمة كسعيد بن جبير، وحاصر ابن الزبير وقد عَاذَ بالحرم الشريف، واستباح الحرمة، وقتل ابن الزبير مع أن ابن الزبير قد أعطاه الطاعة وبايعه عامة أهل مكة والمدينة واليمن وأكثر سواد العراق، والحجاج نائب عن مروان ثم عن ولده عبد الملك، ولم يعهد أحد من الخلفاء إلى مروان، ولم يبايعه أهل الحل والعقد، ومع ذلك لم يتوقف أحد من أهل العلم في طاعته والانقياد فيما تسوغ طاعته فيه من أركان الإسلام وواجباته. وكان ابن عمر ومن أدرك

الحجاج من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا ينازعونه ولا يمتنعون من طاعته فيما يقوم به الإسلام ويكمل به الإيمان، وكذلك من في زمنه من التابعين كابن المسيب والحسن البصري وابن سيرين وإبراهيم التيمي وأشباههم ونُظَرَائِهم من سادات الأمة. واستمر العمل على هذا بين علماء الأمة من سادات الأمة وأئمتها، يأمرون بطاعة الله ورسوله، والجهاد في سبيله مع كل إمام بر أو فاجر، كما هو معروف في كتب أصول الدين والعقائد. وكذلك بنو العباس استولوا على بلاد المسلمين قهرا بالسيف لم يساعدهم أحد من أهل العلم والدين، وقتلوا خلقا كثيرا وَجَمًّا غفيرا من بني أمية وأمرائهم ونُوَّابهم، وقتلوا ابن هبيرة أمير العراق، وقتلوا الخليفة مروان، حتى نُقِلَ أن السفاح قَتَلَ في يوم واحد نحو الثمانين من بني أمية، ووضع الفرش على جثثهم وجلس عليها، ودعا بالمطاعم والمشارب، ومع ذلك فسيرة الأئمة كالأوزاعي ومالك والزهري والليث بن سعد وعطاء بن أبي رباح مع هؤلاء الملوك لا تخفى على مَن له أدنى مشاركة في العلم والاطلاع. والطبقة الثانية من أهل العلم: كأحمد بن حنبل ومحمد بن إسماعيل ومحمد بن إدريس، وأحمد بن نوح وإسحاق بن راهويه وإخوانهم وقع في عصرهم من الملوك ما وقع من البدع العظام وإنكار الصفات، ودعوا إلى ذلك، وامتحنوا فيه، وقتل من قتل كمحمد بن نصر، ومع ذلك فلا يعلم أن أحدا منهم نزع يدا من طاعة، ولا رأى الخروج عليهم. وإلى الآن يبلغني عنك أنك تميل إلى ذلك الضرب من الناس الذين وصفنا حالهم فرضيت بهم في أمر دينك، وضربت عن سيرة الأئمة صَفْحًا، وطويتَ على هجرها كَشْحًا، فإن تبينَ لك هذا، ومَنَّ الله عليك بمعرفته، فأنت أخونا وصاحبنا

القديم العهد، والجُرْح جُبَار، ولا حَرَج ولا عار. وإن بقيت عندك شبهة أو جادل مجادل، فاكتب واسأل كشفها ولا تكتمها، فإني أخشى عليك قطاع الطريق، لا سيما مع فقد الرفيق والعدة، فإن حاك في صدرك شيء فأَكْثِرْ من التضرع إلى الله والتوسل بالأدعية المأثورة، ومنها ما في حديث ابن عباس -حديث الاستفتاح- وكرر النظر فيما اشتمل عليه تاريخ ابن غنام من كلام شيخ الإسلام -رحمه الله- فقد بسط هذه المسألة في رسائله واستنباطه ورأيت له عبارة يَحْسُنُ ذكرُهَا قال -رحمه الله- لما اختلف الناس بعد مقتل عثمان: "وبإجماع أهل العلم كلهم لا يقال فيهم إلا الحسنى مع أنهم عَثَوْا في دمائهم، ومعلوم أن كلا من الطائفتين معتقدة أنها على الحق، والأخرى ظالمة، ونبغ من أصحاب علي مَن أشرك بعلي، وأجمع الصحابة على كفرهم وردتهم وقتلهم، أترى أهل الشام لو حملتهم مخالفةُ عَلِيٍّ عَلَى الاجتماع بهم والاعتذار عنهم والمقاتلة معهم، لو امتنعوا أترى أن أحدا من الصحابة شك في كفر مَن التجأ إليهم، ولو أظهر البراءة من اعتقادهم، وإنما التجأ إليهم لأجل الاقتصاص من قتلة عثمان؟ قال -رحمه الله-: فتفكر في هذه القصة، فإنها لا تُبْقِي شبهةً إلا على مَن أراد الله فتنته. انتهى كلامه، والله أعلم، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.

الرسالة العاشرة: حكم الاستنصار بالكفار على البغاة من أهل الإسلام

الرسالة العاشرة: [حكم الاستنصار بالكفار على البغاة من أهل الإسلام] وله أيضا، رحمه الله وعفا عنه بِمَنِّهِ وكرمه، رسالة إلى الشيخ محمد بن عجلان -رحمه الله- وسبب ذلك: أن الشيخ محمد بن عجلان كتب رسالة أيام الفتنة التي وقعت بين عبد الله بن فيصل وأخيه سعود ذكر فيها: جواز الاستنصار بالكفار على البغاة من أهل الإسلام، وهي التي سماها الشيخ عبد اللطيف: حبالة الشيطان، فكتب عليها الشيخ عبد اللطيف جوابا قطع فيه كل ما يتعلق به كل مُبْطِل، وأزَال بالبراهين والدلائل كل مُشْكِل، وقرَّر فيها أن ما كتبه ونقله من آية أو سنة أو أثر فهو عليه لا له، لأنه يدل بوضعه أو تَضَمُّنِهِ أو التزامه على البراءة من الشرك وأهله، ومباينتهم في المُعْتَقَد والقول والعمل، وبغضهم وجهادهم حسب الطاقة لكني إلى الآن لم أجدها، ثم كاتبه الشيخ محمد بن عجلان وذكر فيما كتبه الوصية بما تضمنته سورة العصر، فكتب إليه الشيخ رحمه الله هذه الرسالة، وهذا نصها: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد اللطيف بن عبد الرحمن إلى جناب الشيخ محمد بن إبراهيم بن عجلان، حفظه الله من طوائف الشيطان، ورزقه الفقه في السنة والقرآن، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته: وبعد، فأحمد الله إليه، وأثني بنعمه عليه، والخط وصل، وما ذكرت فيه من التنبيه على ما تضمنته السورة الكريمة سورة العصر فقد سرني، وقد عرفت ما قاله الشافعي -رحمه الله- لو فكر الناس فيها لكفتهم. قلت: لأنها تتضمن الأصول الدينية والقواعد الإيمانية والشرائع الإسلامية والوصايا المَرْضِية، فتفكرْ فيها، واعلم أنك نبهتني على إعلامك ببعض ما تضمنته رسالتك لابن عبيكان، وقد كتبت حين رأيتها ما شاء الله أن

أكتب ونهيت عن إشاعتها خوفا منك وعليك، ولكن رأيت ما الناس فيه من الخوض ونسيان العلم وعبادة الهوى، فخشيت من مفسدة كبيرة برد السنة والقرآن، ودفع الحجة والسلطان، وقررتُ فيها أن ما كتبته ونقلته من آية أو سنة أو أثر فهو عليك لا لك لأنه يدل بوضعه أو تضمُّنِه أو التزامه على البراءة من الشرك وأهله ومباينتهم في المعتقد والقول والعمل، وبغضهم وجهادهم والبراءة من كل مَن اتخذهم أولياء من دون المؤمنين، ولم يجاهدهم حسب طاقته، ولم يتقرب إلى الله بالبعد عنهم وبغضهم ومراغمتهم، وأكثر نصوصك التي ذكرت دالة على ذلك كقوله تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا} 1 الآية قبلها والآية بعدها، وما ذكره ابن كثير هنا، كل هذا نص فيما قلناه. وقد بسطت القول في ذلك، وكذلك كل أحاديث السمع والطاعة والأمر بلزوم الجماعة نص فيما قلنا عند مَن فقه عن الله ورسوله، وما ذكرت من استعانته بابن أريقط: فهذا اللفظ ظاهر في مشاقة قوله في حديث عائشة: "إنا لا نستعين بمشرك"2 وابن أريقط: أجيرٌ مستخدمٌ، لا مُعينٌ مكرم، وكذلك قولك: إن شيخ الإسلام ابن تيمية استعان بأهل مصر والشام وهم حينئذ كفار: وَهْلَةٌ عظيمةٌ وزَلَّةٌ ذميمةٌ، كيف والإسلام، إذ ذاك، يعلو أمره، ويقدم أهله، ويهدم ما حدث من أماكن الضلال وأوثان الجاهلية، ويظهر التوحيد، ويقرر في المساجد والمدارس، وشيخ الإسلام نفسه يسميها بلاد إسلام، وسلاطينهم سلاطين إسلام، ويستنصر بهم على التَّتَر والنُّصَيْرِيَّة ونحوهم، كل هذا مستفيضٌ في كلامه وكلام أمثاله. وما يحصل من بعض العامة والجهال إذا صارت الغلبة لغيرهم لا يحكم به على البلاد وأهليها، وكذلك ما زعمته من أن أكابر العسكر أهل تعبد ونحو هذا

_ 1 سورة آل عمران آية: 103. 2 مسلم: الجهاد والسير (1817) , والترمذي: السير (1558) , وأبو داود: الجهاد (2732) , وابن ماجه: الجهاد (2832) , وأحمد (6/ 67 ,6/ 148) , والدارمي: السير (2496).

فهذه دسيسةٌ شيطانيةٌ، وقاكَ الله شرَّهَا، وحماك حرَّها، لو سلم تسليما جَدَلِيًّا فابن عربي وابن سبعين وابن الفارض لهم عبادات وصدقات، ونوع تقشف وتزهد، وهم أكفر أهل الأرض أو من أكفر أهل الأرض، وأين أنت من قوله تعالى: {وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} 1، وقوله تعالى: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} 2. وأما إِجَازَتُك الاستنصارَ بهم: فالنّزاع في غير هذه المسألة بل في توليتهم، وجلبهم، وتمكينهم من دار إسلامية هدموا بها شعار الإسلام وقواعد الملة وأصول الدين وفروعه، وعند رؤسائهم قانون وطاغوت وضعوه للحكم بين الناس في الدماء والأموال وغيرها مُضادٌ ومخالفٌ للنصوص، إذا وردت قضية نظروا فيه وحكموا به ونبذوا كتاب الله وراء ظهورهم. وأما مسألة الاستنصار بهم فمسألة خلافية، والصحيح الذي عليه المحققون منعُ ذلك مطلقا وحجتهم حديث عائشة، وهو متفق عليه، وحديث عبد الرحمن بن حبيب، وهو حديث صحيح مرفوع اطلبهما تجدهما فيما عندك من النصوص. والقائل بالجواز احتج بمرسل الزهري، وقد عرفت ما في المراسيل إذا عارضت كتابا أو سنة. ثم القائل به قد شرط أن يكون فيه نصح للمسلمين ونفع لهم، وهذه القضية فيها هلاكهم ودمارهم، وشرط أيضا أن لا يكون للمشركين صَوْلَة ودولة يُخْشَى منها، وهذا مبطل لقولك في هذه القضية، واشترط كذلك أن لا يكون له دخل في رأي ولا مشورة بخلاف ما هنا. كل هذا ذكره الفقهاء وشراح الحديث، ونقله في شرح المنتقى، وضعَّف مرسل الزهري جدا، وكل هذا في قتال المشرك

_ 1 سورة الأنعام آية: 88. 2 سورة الزمر آية: 65.

للمشرك مع أهل الإسلام. أما استنصار المسلم بالمشرك على الباغي: فلم يقل بهذا إلا مَن شذَّ واعتمد القياس، ولم ينظر إلى مناط الحكم، والجامع بين الأصل وفرعه. ومَن هجم على مثل هذه الأقوال الشاذة، واعتمدها في نقله وفتواه فقد تتبع الرُّخَص ونَبَذَ الأصلَ المقرَّرَ عند سلف الأمة وأئمتها المستفاد من حديث الحسن وحديث النعمان بن بشير، وما أحسن ما قيل: والعلم ليس بنافع أربابه ... ما لم يُفِدْ نظرًا وحُسْن تَبَصُّر وفي رسالتك مواضع أعرضنا عنها خشية الإطالة، هذا كله من التواصي بالحق والصبر عليه، وإن لام لائِمٌ، وشَنَأ شَانِئٌ، ولولا ما تقرر في الكتاب والسنة وإجماع الأمة من تفصيل الحكم في المخطئ والمتعمد، لكان الشأن غيرَ الشأن {وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} 1. وبَلِّغْ سلامنا من لديك من الإخوان، وعيالنا وإخواننا بخير وينهون السلام، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين.

_ 1 سورة الأحزاب آية: 4.

الرسالة الحادية عشرة: الفتنة والشقاق بين آل سعود

الرسالة الحادية عشرة [الفتنة والشقاق بين آل سعود] وله أيضا -قدس الله روحه- ونوَّر ضريحه، رسالة إلى زيد بن محمد وصالح بن محمد الشثري -رحمهما الله تعالى- وهي آخر ما كتب -رحمه الله تعالى، وعفا عنه- ثم علم أن كل من دعا إلى الله وجاهد في الله ولله، فلا بد أن يُؤْذَى وَيُنَالَ منه؛ والعاقبة للمتقين، وهذا نصها: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد اللطيف بن عبد الرحمن إلى الأخوين المكرمين زيد بن محمد وصالح بن محمد الشثري -سلمهما الله تعالى-. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته: وبعد: فأحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو على نعمه، والخط وصل، أوصلكم الله إلى ما يرضيه. وما ذكرتموه كان معلوما وموجب تحرير هذا ما بلغني بعد قدوم عبد الله وغزوه من أهل الفرع، وما جرى لديكم من تفاصيل الخوض في أمرنا، والمِرَاء والغيبة، وإن كان قد بلغني أولا كثير من ذلك، لكن بلغني مع ما ذُكِرَ تفاصيل ما ظننتها، فأما ما صدر في حقي من الغيبة والقدح والاعتراض والمسبة، ونسبتي إلى الهوى والعصبية، فتلك أعراض انْتُهِكَتْ وَهُتِكَتْ في ذات الله، أعدُّها لديه -جل وعلا- ليوم فقري وفاقتي، وليس الكلام فيها. والقصد بيان ما أشكل على الخواص والمنتسبين من طريقتي في هذه الفتنة العمياء الصماء، فأول ذلك مفارقة سعود لجماعة المسلمين وخروجه على أخيه، وقد صدر منا الرد عليه وتسفيه رأيه ونصيحة ولد عائض وأمثاله من الرؤساء عن متابعته والإصغاء إليه ونصرته، وذكرناه

ما ورد من الآثار النبوية والآثار القرآنية بتحريم ما فعل، والتغليظ على مَن نَصَره، ولم نزل على ذلك إلى أن وقعت وقعة جودة، فَثَلَّ عرش الولاية، وانتثر نظامها، وحبس محمد بن فيصل، وخرج الإمام عبد الله شاردًا، وفارقه أقاربه وأنصاره، وعند وداعه وَصَّيْتُهُ بالاعتصام بالله، وطلبِ النصر منه وحده، وعدم الركون إلى الدولة الخاسرة، ثم قدِم علينا سعود بمن معه من العجمان والدَّوَاسِر وأهل الفرع وأهل الحريق وأهل الأفلاج وأهل الوادي ونحن في قلة وضعف، وليس في بلدنا من يبلغ الأربعين مقاتلا، فخرجتُ إليه وبذلتُ جهدي ودافعتُ عن المسلمين ما استطعت، خشيةَ استباحته البلدة، وممن معه من الأشرار وفُجَّار القُرَّاء مَن يحثه على ذلك ويتفوه بتكفير بعض رؤساء بلدتنا، وبعض الأعراب يطلقه بانتسابهم إلى عبد الله بن فيصل، فوقى الله شر تلك الفتنة ولطف بنا، ودخلها بعد صلح وعقد. وما جرى من المظالم والنكث دون ما كنا نتوقع، وليس الكلام بصدده، وإنما الكلام في بيان ما نراه ونعتقده وصارت له ولاية بالغلبة والقهر تنفذ بها أحكامه، وتجب طاعته في المعروف كما عليه كافة أهل العلم على تقادُم الأعصار ومر الدهور. وما قيل من تكفيره لم يثبت لديَّ فسرتُ على آثار أهل العلم، واقتديت بهم في الطاعة في المعروف وترك الفتنة، وما توجب من الفساد على الدين والدنيا، والله يعلم أني بارٌّ راشدٌ في ذلك. ومن أشكل عليه شيء من ذلك، فليراجع كتب الإجماع كمصنف ابن حزم ومصنف ابن هبيرة، وما ذكره الحنابلة وغيرهم. وما ظننت أن هذا يخفى على مَن له أدنى تحصيل وممارسة، وقد قيل: سلطان ظلوم، خير من فتنة تدوم. وأما الإمام عبد الله فقد نصحت له كما تقدم أشد النصح وبعد

مجيئه، لمَّا أخرجَ شيعةُ عبدِ الله سعود*، وقدم من الإحساء ذاكرته في النصيحة وتذكيره بآيات الله وحقه وإيثار مرضاته والتباعد عن أعدائه وأعداء دينه أهل التعطيل والشرك والكفر البواح، وأظهر التوبة والندم، واضمحل أمر سعود، وصار مع شرذمة من البادية حول آل مرة، والعجمان. وصار لعبد الله غلبةٌ ثبتت بها ولايته على ما قرره الحنابلة وغيرهم، كما تقدم أن عليه عمل الناس من أعصار متطاولة. ثم ابتلينا بسعود، وقدم إلينا مرة ثانية وجرى ما بلغكم من الهزيمة على عبد الله وجنده ومر بالبلدة منهزما لا يلوي على أحد، وخشيت من البادية، وعَجَّلْتُ إلى سعود كتابا في طلب الأمان لأهل البلدة، وكف البادية عنهم، وباشرت بنفسي مُدَافعة الأعراب مع شرذمة قليلة من أهل البلد ابتغاء ثواب الله ومرضاته، فدخل البلد وتوجه عبد الله إلى الشمال، وصارت الغلبة لسعود، والحكم يدور مع علته. وأما بعد وفاة سعود فَقدم الغزاة، ومن معهم من الأعراب العتاة، والحضر الطغاة، فخشينا الاختلاف، وسفك الدماء وقطيعة الأرحام بين حمولة آل مقرن مع غيبة عبد الله. وتعذرت مبايعته بل ومكاتبته، ومن ذكره يخشى على نفسه وماله، أفيحسن أن يترك المسلمون وضعفاؤهم نَهْبًا وسَبْيًا للأعراب والفُجار، وقد تحدثوا بنهب الرياض قبل البيعة، وقد رامها من هو شر من عبد الرحمن وأطغى، ولا يمكن ممانعتهم ومراجعتهم، ومن توهم أني وأمثالي أستطيع دفع ذلك مع ضعفي وعدم سلطاني وناصري فهو من أسفه الناس وأضعفهم عقلا وتصورًا. ومن عرف قواعدَ الدين، وأصول الفقه، وما يطلب من تحصيل المصالح ودفع المفاسد، لم يشكل عليه شيء من هذا، وليس الخطاب مع

_ * كذا في الأصل المطبوع، والصواب (سعودًا). [معد الكتاب للمكتبة الشاملة]

الجهلة والغوغاء، إنما الخطاب معكم معاشر القضاة والمَفَاتِي، والمتصدين لإفادة الناس وحماية الشريعة المحمدية، وبهذا ثبتت بيعته وانعقدت؛ وصار من ينتظر غائبا لا يحصل به المصالح فيه شبه ممن يقول بوجوب طاعة المنتظر، وأنه لا إمامة إلا به. ثم إن حمولة آل سعود صارت بينهم شحناء وعداوة، والكل يرى له الأولوية بالولاية، وصرنا نتوقع كل يوم فتنة، وكل ساعة محنة، فلطف الله بنا، وخرج ابن جلوي من البلدة، وقتل ابن صنيتان، وصار لي إقدام على محاولة عبد الرحمن في الصلح، وترك الولاية لأخيه عبد الله؛ فلم آل جهدي في تحصيل ذلك والمشورة عليه، مع إني قد أكثرتُ في ذلك حين ولايته. ولم أزل أكرر عليه في ذلك يوما فيوما حتى يسر الله قبل قدوم عبد الله بنحو أربعة أيام أنه وافق على تقديم عبد الله وعزل نفسه، ورأى الحق له وأنه أولى منه لكبر سنه وقدم إمامته. فلما نزل الإمام عبد الله بساحتنا اجتهدتُ إلى أن محمد بن فيصل يظهر إلى أخيه ويأتي بأمان لعبد الرحمن وذويه وأهل البلد، وسعيت في فتح الباب واجتهدت في ذلك، ومع ذلك كله فلما خرجت للسلام عليه وإذا أهل الفرع وجهلة البوادي، ومن معهم من المنافقين يستأذنونه في نهب نخيلنا وأموالنا، ورأيت معه بعض التغير والعبوس. ومن عامل الله ما فقد شيئا، ومن ضيع الله ما وجد شيئا. ولكنه بعد ذلك أظهر الكرامة ولين الجانب، وزعم أن الناس قالوا ونقلوا -وبئس مطية الرجل زعموا- وتحقق عندي دعواه التوبة، وأظهر لديَّ الاستغفار والتوبة والندم، وبايعته على كتاب الله وسنة رسوله. هذا مختصر القضية، ولولا أنكم من طلبة العلم والممارسين الذين يكتفون

بالإشارة وأصول المسائل لكتبت رسالة مبسوطة، ونقلت من نصوص أهل العلم وإجماعهم ما يكشف الغمة ويزيل اللبس. ومن بقي عليه إشكال فليرشدنا -رحمه الله- ولو أنكم أرسلتم بما عندكم مما يقرر هذا ويخالفه، وصارت المذاكرة، لانكشف الأمر من أول وهلة، ولكنكم صممتم على رأيكم، وترك النصيحة ممن كان عنده علم، واغتر الجاهل ولم يعرف ما يَدِينُ الله به في هذه القضية، وتكلم بغير علم، ووقع اللبس والخلط والمراء، والاعتداء في دماء المسلمين وأموالهم وأعراضهم، وهذا بسبب سكوت الفقيه وعدم البحث واستغناء الجاهل بجهله، واستقلاله بنفسه. وبالجملة فهذا الذي نعتقد ونَدِينُ الله به، والمسترشد يذاكر ويبحث، والظالم والمعتدي حسابنا وحسابه إلى الله الذي عنده تنكشف السرائر، وتظهر مُخَبَّئَات الصدور والضمائر، يوم يبعثر ما في القبور، ويحصل ما في الصدور. وأما ما ذكرتم من التنصل والبراءة مما نسب في حقي إليكم فالأمر سهل والجُرْح جُبَار، ولا حرج ولا عار، وأوصيكم بالصدق مع الله، واستدراك ما فرطتم فيه من الغلظة على المنافقين الذين فتحوا للشر كل باب، وركن إليهم كل منافق كذاب. وتأمل قول الله تعالى بعد نهيه عن موالاة الكافرين: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ} 1 والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.

_ 1 سورة آل عمران آية: 30.

الرسالة الثانية عشرة: الوصية بلزوم الكتاب والسنة والعمل بما فيهما

الرسالة الثانية عشرة [الوصية بلزوم الكتاب والسنة والعمل بما فيهما] بسم الله الرحمن الرحيم من عبد اللطيف بن عبد الرحمن إلى الأخ عبد الله بن عبد العزيز الدوسري، وفقه الله لما يحبه ويرضاه. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: فأحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو على نعمه، جعلنا الله وإياك شاكرين. والخط وصل بما تضمن من الوصية، وفقنا الله وإياك لقبول الوصايا الشرعية، وأعاذنا من سيئات الأعمال الكسبية، وأوصيك بما أوصيتني به وبلزوم الكتاب والسنة والرغبة فيهما، فإن أكثر الناس نَبذوهما ظِهْرِيًا، وزهدوا فيما تضمناه من العلم والعمل، اللهم إلا أن يوافق الهوى، واذكر قوله صلى الله عليه وسلم لحذيفة لما سأله عن الفتن قال: "اقرأ كتاب الله واعمل بما فيه"1 كررها ثلاثا. والحكمة -والله أعلم- شدة الحاجة وقت الفتن وخوف الفتنة والتغلب، وأكثر الناس من أهل نجد ليسوا على شيء في هذه الأزمان، والمؤمن مَن اشترى نفسه، ورغب فيما أعرض عنه الجهال والمترفون. نسأل الله لنا ولكم الثبات والعفو والعافية. ولا تَدَّخِر المذاكرة فيما ابْتُلِيَ به الناس من فتنة العساكر ومن والاهم؛ فإن هذا من أعظم ما دهم الإسلام وأهله، ومن أسباب محو الدين والإيمان وهدم قواعده. ومن أفضل الأعمال القيام لله عند ذلك على بصيرة والدعوة إلى سبيله. وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرًا.

_ 1 أحمد (5/ 406).

الرسالة الثالثة عشرة: دعوة الشيخ ابن عبد الوهاب هي دعوة إلى التوحيد الخالص

الرسالة الثالثة عشرة [دعوة الشيخ ابن عبد الوهاب هي دعوة إلى التوحيد الخالص] وله أيضا -قدس الله روحه ونور ضريحه- رسالة أرسلها إلى أهل عُنَيْزَة، وهذا نصها: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد اللطيف بن عبد الرحمن إلى من يصل إليه هذا الكتاب من أهل عنيزة، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: تجري عندكم أمور يتألم منها المؤمنون، ويرتاح لها المنافقون، ولا بد من النصيحة مَعْذِرَةً إلى الله -تعالى- وطلبا لرضاه، وإلا فالحجة قد قامت، وجمهوركم يَتَجَشَّمُ ما يأتي لأسباب لا تخفى. من ذلك: قصد المشاقة، والمعاندة بإكرام داود العراقي، مع اشتهاره بعداوة التوحيد وأهله، والتصريح بإباحة دعاء الصالحين 1 والحث عليه، وغير ذلك مما يطول عده. ولا بد من تقديم مقدمة ينتفع بها الواقف على هذا فنقول: لما وقع في آخر هذه الأمة ما أخبر به نبيها من اتباع سَنَن من قبلها من أهل الكتاب وفارس والروم، وتزايدت تلك السنن حتى وقع الغلو في الدين، وعُبِدَتْ قبور الأولياء والصالحين، وجُعِلَتْ أوثانًا تُقْصَد من دون الله رب العالمين، عَظَّمَهَا قوم لم يعرفوا حقيقة الإسلام، ولم يشموا رائحة العلم، ولم يحصلوا على شيء من نور النبوة، ولم يفقهوا شيئا من أخبار الأمم قبلهم، وكيف كان بدء شركهم ومنتهى نِحْلَتَهم، وحقيقة طريقتهم، وما هذا الذي عابه القرآن عليهم وذمه، وتلطف الشيطان في كيد هؤلاء الغلاة في قبور الصالحين

_ 1 هذه الإضافة للمفعول أي: إباحة أن يُدْعَى الصالحون فيما لا يطلب إلا من الله؛ لأنه وراء الأسباب وهو شرك.

بأن دَسَّ عليهم تغييرَ الأسماء والحدود الشرعية والألفاظ اللغوية، فسمى الشركَ وعبادةَ الصالحين توسلا ونداء، وَحُسْنَ اعتقاد في الأولياء وتشفعا بهم، واستظهارا بأورادهم الشريفة. فاستجاب له صبيان العقول وخفافيش البصائر، وداروا مع الأسماء ولم يقفوا مع الحقائق، فعادت عبادة الأولياء والصالحين ودعاء الأوثان والشياطين كما كانت قبل النبوة وفي أزمان الفترة حذو النعل بالنعل، وحَذْو القُذَّة بالقُذَّة، وهذا من أعلام النبوة كما ذكره غير واحد. ولم يزل ذلك في ظهور وازدياد، حتى عَمَّ ضررُهُ وبلغ شررُهُ الحاضرَ والباد، ففي كل إقليم وكل مدينة وقرية ممن ينتسب إلى الإسلام وَلائِجٌ يدعونهم مع الله، ويلتمسون بدعائهم قرب الرب ورضاه، يفزعون إليهم في المهمات والشدائد، ويلوذون بهم في النوائب والحاجات، وبعضهم لا يَرِدُ على خاطره ولا يلم بباله دعاء الله في شيء من ذلك؛ لاستشعاره حصول مقصوده ونجاح مطلوبه من جهة الأولياء والأنداد. وقد رأينا وسمعنا من ذلك ما يَعِزُّ حصرُهُ واستقصاؤُهُ، ولو كان يخفى لَعَرَّجْنَا على ذكره وتفصيله، ولكنه أشهرُ من الشمس في نَحْرِ الظهيرة. إذا عرف هذا وتحقق، فاعلموا أن الله أطلع شمس الإيمان به وتوحيده في آخر هذا الزمان على يد مَنْ أقامه الله في هذه البلاد النجدية داعيا إلى الله على بصيرة، مُذكرًا به، آمِرًا بتوحيده وإخلاص الدين له، ورَدِّ العباد إلى فاطرهم وباريهم وإلههم الحق الذي لا إله غيره ولا رب سواه، ينهى عن الشرك به، وصرف شيء من العبادات إلى غيره، وابتداع دين لم يأذن به الله، لا سلطان ولا حجة على مشروعيته، واستدل على ذلك وقَرَّرَ وصَنَّفَ وحَرَّرَ ونَاظَرَ المبطلين، ونازع الغلاة والمارقين، حتى ظهر دين الله على كل

دين. فتنازع المخالفون أمره، وجحدوا برهان صدقه. فقوم قالوا: هذا مذهب الخوارج المارقين، وطائفة قالت: هو مذهب خامس لا أصل له في الدين، وآخرون قالوا: هو يُكَفِّرُ أهلَ الإسلام، وَصِنْفٌ نسبوه إلى استحلال الدماء والأموال الحرام، ومنهم من عابه بوطنه وأنه دار مسيلمة الكذاب. وكل هذه الأقاويل لا تَرُوجُ على من عرف أصل الإسلام وحقيقة الشرك وعبادة الأصنام، وإنما يحتج بها قومٌ عَزُبَتْ عنهم الأصولُ والحقائقُ، ووقفوا مع الرسوم والعادات في تلك المناهج والطرائق: {قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ} 1؛ فهم من شأنه في أمر مريج، وما ذاك إلا أنه أشرقت له شموس النبوة فقصدها، وظهرت له حقائق الوحي والتنْزيل فآمن بها واعتقدها، وترك رسوم الخلق لا يعبأ بها، ورفض تلك العوائد والطرائق الضالة لأهلها. واترك رسوم الخلق لا تعبأ بها ... في السعد ما يغنيك عن دبران وقد صنف بعض علماء المشركين في الرد عليه، ودفع ما قرره ودعا إليه، واسْتَهْوَتْهُمْ الشياطينُ، حتى سَعَوْا في آيات الله مُعَاجِزِينَ، وقد بَدَّدَ الله شملهم فتمزقوا أيدي سَبَا، وذهبتْ أباطيلُهم وأراجيفهم حتى صارت هبا. نعم بقيت لتلك الشبهة بقية بأيدي قوم ليس لهم في الإسلام قَدَمٌ، ولا في الإيمان دراية، يتخافتون بينهم ما تضمنته تلك الكتب من الشُّبَه الشِّرْكِية، ويتواصون بكتمانها كما تكتم كتب التنجيم والكتب السحرية، حتى أُتِيحَ لهم هذا الرجل من أهل الفرق فألقيت إليه هذه الكتب فاستعان بها على إظهار أباطيله، وتسطير إلحاده وأساطيله، وزاد على ما في تلك المصنفات، وأباح لغير الله أكثر العبادات، بل زعم أن للأولياء تدبيرا وتصريفا مع

_ 1 سورة المائدة آية: 104.

الله، وأجاز أن يَكِلَ اللهُ أمور ملكه وعباده إلى الأولياء والأنبياء، ويفوض إليهم تدبير العالم. وهذا موجود عندنا بنص رسائله، وَشَبَّهَ على الجهال الذين أعمى الله بصائرهم، أتباع كل ناعق، الذين لم يستضيئوا بنور العلم، ولم يلجؤوا إلى ركن وثيق من الإيمان والفهم، بشبهات ضالة كقوله: إن دعاء الموتى ونحوه لا يُسمى دعاء وإنما يُسمى نداء، وإن العبادات التي صُرفت لأهل القبور لا تسمى عبادة ولا شركا إلا إذا اعتقد التأثير لأربابها من دون الله. وقوله: من قال لا إله إلا الله واستقبل القبلة فهو مسلم، وإن لم يرغب عن ملة عُبَّاد القبور الذين يدعونها مع الله، ويكذب على أهل العلم من الحنابلة وغيرهم، ويزعم أنهم قالوا وأجمعوا على استحباب دعاء الرسول بعد موته صلى الله عليه وسلم، وَيُلْحِد في آيات الله وأحاديث رسول الله ونصوص أهل العلم، ويتعمد الكذب على الله، وعلى رسوله، وعلى العلماء، يَعْرِفُ ذلك من كلامه مَن له أدنى نهمة في العلم، والتفات إلى ما جاءت به الرسل، ولا يَرُوج باطلُه إلا على قوم لا شعور لهم بشيء من ذلك، عمدتهم في الدين النظر إلى الصور وتقليد أهلها. ومن شبهاته قوله في بعض الآيات: هذه نزلت فيمن يعبد الأصنام، هذه نزلت في أبي جهل، هذه نزلت في فلان وفلان، يريد -قاتله الله- تعطيلَ القرآن عن أن يَتناول أمثالهم وأشباههم ممن يعبد غير الله، ويعدل بربه، ويزعم أن قوله تعالى: {وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} 1 دليل على استحباب دعاء الصالحين مع الله، ويظن أن الشرك الذي جاءت الرسل بتحريمه هو الوسيلة إلى الله، ويحتج على ذلك بما يُمَجُّ سماعه، ويستوحش منه عوامُّ المسلمين لمجرد الفطرة، فسبحان مَن أضلَّه وأعْمَاه {كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} 2.

_ 1 سورة المائدة آية: 35. 2 سورة يونس آية: 33.

وهذا الرجل يأنس إلى بلدتكم ويعتاد المجيء إليها، وله من ملئها وأكابرها مَن يعظِّمه ويواليه وينصره، ويأخذ عنه ما تقدم من الشُّبَه وأمثالها؛ ولذلك أسباب منها البغضاء ومتابعة الهوى وعدم قبول ما مَنَّ الله به من النور والهدى حيث عرف من جهة المُعَارِض، وتأملوا قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ} 1. وقد أجمع العلماء على أن نعمة الله المقصودة هنا هي بعثة محمد صلى الله عليه وسلم بالهدى ودين الحق اللَّذَيْنِ أَصْلُهُمَا وأساسُهما: عبادةُ الله وحده لا شريك له، وخلعُ ما سواه من الآلهة والأنداد. والكفر بهذه النعمة هو ردها وجحدها واختيار دعاء الصالحين، والتعلقُ على الأولياء والمقربين. فرحم الله امرأ تفكر في هذا، وبحث عن كلام المفسرين من أئمة الدين، وعلم أنه مُلاق ربه الذي عنده الجنة والنار. ثم فيما أجرى الله عليكم من العِبَر والعِظَات ما يُنَبِّه من كان له قلب أو فيه أدنى حياة، قال تعالى لنبيه موسى: {وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ} 2 وجماعتكم أعيى المسلمين داؤهم، وعَزَّ عمّا هم عليه انتقالهم، وما أحسن ما قال أخو بني قريظة لقومه: أفي كل موطن لا تعقلون {وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} 3 وصلى الله على محمد وآله وصحبه أجمعين وسلم تسليما كثيرًا.

_ 1 سورة إبراهيم آية: 28. 2 سورة إبراهيم آية: 5. 3 سورة الأحزاب آية: 4.

الرسالة الرابعة عشرة

الرسالة الرابعة عشرة وله أيضا -قدس الله روحه، ونور ضريحه- رسالة تكلم فيها على سبيل الإيجاز والاختصار جوابا لمسائل سأله عنها علي بن حمد بن سليمان لمَّا قدم إلى بلدة فارس، وهذا نصها: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد اللطيف بن عبد الرحمن إلى الابن علي بن حمد بن سلمان، سلمه الله تعالى وزينه بزينة الإيمان. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. [الهجرة من أركان الدين] وبعد، فأحمد إليك الله على إنعامه، والخط وصل، وما ذكرت صار معلوما. فأما رغبتك عن البلد التي تظهر فيها أعلام الكفر والشركيات، وتهدم قواعد الإسلام والتوحيد، ويرفع فيها إلى غير أحكام القرآن المجيد، فقد أحسنتَ فيما فعلت، والهجرة ركن من أركان الدين، نسأل الله أن يكتب لك أجر المخلصين الصادقين. وأما وصولك إلى بلدة فارس فالذين رأيتهم ينتسبون إلى متابعة الشيخ محمد -رحمه الله- فهم كما ذكرت في خطك، لكن فيهم جهال لا يعرفون ما كان الشيخ عليه وأمثاله من أئمة الهدى، وفيهم من بدعة المعتزلة والخوارج، ولا معرفة لهم بالعقائد والنِّحَل واختلاف الناس. والزمانُ زمانُ فَتْرَةٍ يُشبه زمنَ الجاهلية، وإن كانت الكتب موجودة، فهي لا تغني ما لم يُساعدهم التوفيق، وتؤخذ المعاني والحدود والأحكام من عالم رباني كما قيل: والجهل داء قاتل وشفاؤه ... أمران في التركيب متفقان نص من القرآن أو من سنة ... وطبيب ذاك العالم الرباني

والكتب السماوية بأيدي أهل الكتاب، وقد صار منهم ما صار. وأسباب الجهل والهلاك قد تواترت جدًّا، وقد قال بعض الأفاضل منذ أزمان: ليس العجب ممن هلك كيف هلك، إنما العجب ممن نجا كيف نجا. وهؤلاء الذين ذكرتهم من أهل فارس وذكرت عنهم تلك العقائد الخبيثة ليسوا بعرب يفهمون الأوضاع العربية، والحقائق الشرعية والحدود الدينية، ولا يرجعون إلى نص من كتاب ولا سنة، وإنما هو تقليد لمن يحسنون به الظن من غير فهم ولا بصيرة، قال الحسن البصري في أمثالهم من المعتزلة من العجم: إنَّ عُجْمَتَهُم قَصُرَتْ بهم عن إدراك المعالي الشرعية، والحقائق الإيمانية؛ وكذلك لما نَاظَرَ عمرو بن العلاء عمرو بن عبيد من رؤوس المعتزلة وَجَدَهُ لا يُفرق بين الوعد والوعيد، فقال: من العُجْمَة أُتِيتَ. وأما عبد الرحمن البهمني فهو -على ما نقلت عنه- في غاية الجهالة والضلالة، وله من طريق غلاة الجهمية نصيب وافر، وله من الاعتزال ومن نِحْلَة الخوارج نصيبٌ. وكلام أهل الإسلام وأئمة العلم في الجهمية والمعتزلة والخوارج مشهور. فأما جهم بن صفوان فطريقته في التعطيل، ونفي العلو، والاستواء، والكلام، وسائر الصفات قد أخذها عن الجعد بن درهم، والجعد أخذها بالواسطة عن لبيد بن الأعصم اليهودي الذي صنع السحر لرسول الله صلى الله عليه وسلم وكانوا يخفون مقالتهم ومن أظهر شيئا من ذلك قُتِلَ كما صنع خالد بن عبد الله القسري أمير واسط بالجعد بن درهم فإنه ضَحَّى به يوم العيد، وقال على المنبر: أيها الناس ضَحُّوا -تقبل الله ضحاياكم- فإني مُضَحٍّ بالجعد بن درهم، إنه يزعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلا، ولم يكلم موسى تكليما، تعالى الله عما يقول الجعد

علوًّا كبيرًا، ثم نزل فذبحه، والجهم قُتِلَ أيضا لَمَّا ظهرتْ مقالته. [قول العلماء في الجهمية والرد عليهم] ثم لما كان في زمن الخليفة المأمون العباسي ظهرتْ في الناس تلك المقالات بواسطة بعض الوزراء والأمراء، وكثُر الخوضُ فصاح بهم أهل الإسلام من كل ناحية وبَدَّعُوهُمْ وفَسَّقُوهُمْ، وكَفَّرُوهم. قال ابن المبارك، الإمام الجليل من أكابر أهل السنة: مَن لم يعرف أن الله فوق عرشه بائن من خلقه فهو كافر يُسْتَتَاب، فإن تاب وإلا قتل، ولا يدفن في مقابر المسلمين ولا مقابر أهل الذمة لئلا يتأذى به أهل الذمة من اليهود والنصارى. وقال الفضيل بن عياض، ويوسف بن أسباط: الجهمية ليست من الثلاث والسبعين فرقة التي افترقت إليها هذه الأمةُ، يعني أنهم لا يدخلون في أهل القبلة. وقد صُنِّفَت التصانيفُ وجُمِعَتْ النصوصُ والآثارُ في الرد عليهم وتكفيرهم، وأنهم خالفوا المعقول والمنقول، وأن قولهم يؤول إلى أنهم لا يُثْبِتُونَ رَبًا يُعْبَد، ولا إلها يُصلى له ويسجد، وإنما هو تعطيل محض، ولذلك كفروهم. قال ابن القيم في الكافية الشافية: ولقد تقلد كفرهم خمسون في ... عشر من العلماء في البلدان يعني أن خمسمائة عالم، أئمةٌ مشاهيرٌ جزموا بكفرهم ونصوا عليه، وحُجَجُهُم وشُبَهاتهم واهيةٌ داحضةٌ لا تروج على مَن شَمَّ رائحة الإسلام، قال بعض العلماء: أهل البدع لهم نصوص يُدْلُون بها، قد اشتبه عليهم معناها ولم يهتدوا فيها، إلا الجهمية فليس معهم شيء مما جاءت به الرسل ونزلت به الكتب انتهى. والقرآن والسنة كلّها رَدَّ عليهم، قال بعض أصحاب الإمام الشافعي -رحمه الله-: في القرآن ألف دليل على علو الله على خلقه، وأنه فوق العرش، وذكر ابن القيم طرفا صالحا في نونيته من ذلك، وأما نصوص السنة وكلام

أهل العلم فلا يحصيها ويحيط به إلا الله. ويكفي المؤمن أن يعلم أن كل من عرف الله بصفات جلاله ونعوت كماله، وتبين له شيء من ربوبيته وأفعاله يعلم ويتقن أنه هو العلي الأعلى الذي على عرشه استوى، وعلى الملك احتوى، وأنه القاهر فوق عباده، وأنه يدبر الأمر من السماء إلى الأرض، ولا يشك في ذلك إلا مَن اجْتَالَتْهُ الشياطين عن الفطرة التي فطر الله الناس عليها. والكلام يستدعى بسطا طويلا، فعليك بكتب أهل السنة، واحذر كتب المبتدعة، فإنهم سوَّدُوها بالشبهات والجهالات التي تَلَقُّوهَا عن أسلافهم وشِيَعِهِم. وأما دعواهم أن النبي صلى الله عليه وسلم حيٌّ في قبره: فإن أرادوا الحياة الدنيوية فالنصوص والآثار والإجماع والحس يكذبه، قال تعالى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} 1، وقال تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} 2. وقد قام أبو بكر في الناس يوم مات النبي صلى الله عليه وسلم وقال: أما بعد، فمن كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، وتلا هذه الآية: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} 3 وأما إن أرادوا الحياة البرزخية كحياة الشهداء، فللأنبياء منها أفضلها وأكملها، ولنبينا محمد صلى الله عليه وسلم الحظ الوافر والنصيب الأكمل؛ ولكنها لا تنفي الموتَ، ولا تمنع إطلاقه على النبي والشهيد؛ وأمر البرزخ لا يعلمه ولا يحيط به إلا الله تعالى الذي خلقه وقدره. والواجب علينا: الإيمان بما جاءت به الرسل، ولا نتكلف ولا نقول بغير علم، والحياة الأخروية بعد البعث والنشور أكمل مما قبلها وأتم للسعداء والأشقياء.

_ 1 سورة الزمر آية: 30. 2 سورة الأنبياء آية: 34. 3 سورة آل عمران آية: 144.

[دعوى أن العبادة هي السجود فقط] وأما دعواه أن العبادة هي السجود فقط: فهذا الجهل ليس بغريب من مثل هذا الملحد. والنصوص القرآنية والأحاديث النبوية قد فصَّلتْ أنواع العبادة تفصيلا، وقسمتها تقسيما ونوَّعَتها تنويعا، قال تعالى: {الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ} 1 إلى قوله: {أُولَئِكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} 2 وهل المهتدون والمفلحون إلا خَوَاص عباد الله؟ وقال تعالى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} 3 إلى قوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} 4 فخصهم بالصدق والتقوى وحصرها فيهم، لأن ما ذُكِرَ: رأسُ العبادة والإيمان مُتضمنٌ لما لم يُذْكَر، مستلزمٌ له، فلهذا حَسُنَ الحصرُ. وقال تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرائيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} 5 إلى قوله: {وَآتُوا الزَّكَاةَ} 6، فبدأ بذكر العبادة المجملة، ثم خص بعض الأفراد تنبيها على الاهتمام، وأنها من أصول الدين، ولئلا يتوهم السامع أن العبادة تختص بنوعٍ دون ما ذكر في قوله: {وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ} 7، ومعلوم أن إقامة الصلاة داخلة فيما قبلها لأنها آكد الأركان الإسلامية بعد الشهادتين. وكذلك قوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} 8، والاستعانة: عبادة بالإجماع، وعطفها على ما قبلها اهتماما بالوسيلة وتنبيها على التوكل؛ وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالأِحْسَانِ} 9 إلى قوله: {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} 10 والعدل: يدخل فيه الواجبات كلها. والإحسان تدخل فيه نوافلُ الطاعات. وإيتاء ذي القربى يدخل فيه حق الأرحام ونحوها من العبادات المتعدية، والنهي عن الفحشاء والمنكر يدخل فيه ما نهى الله عنه من ظاهر الإثم وباطنه،

_ 1 سورة البقرة آية: 2. 2 سورة البقرة آية: 5. 3 سورة البقرة آية: 177. 4 سورة البقرة آية: 177. 5 سورة البقرة آية: 83. 6 سورة البقرة آية: 83. 7 سورة الأعراف آية: 170. 8 سورة الفاتحة آية: 5. 9 سورة النحل آية: 90. 10 سورة النحل آية: 90.

وتركه من أَجَلِّ العبادات. والبغي من أكبر السيئات، وتركه من أهم الطاعات، فهذا كله داخل في العبادة بالإجماع. وقال تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} 1 إلى قوله: {وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا} 2 فابتدأ الآية بالأمر بعبادته وحده لا شريك له؛ وعطف بقية العبادة المذكورة اهتماما بها وتنويها بشأنها. ولا قائل: إن ما ذكر ليس بعبادة؛ بل أهل اللغة وأهل الشرع من المفسرين وغيرهم، مُجْمِعُون على أن ما أمر به في هذه الآيات من أفضل ما يتقرب به العبد من القُرَب والعبادات، وما علمتُ أحدا من أهل العلم واللغة ينازع في ذلك؛ ولكن القوم كما تقدم عجمٌ أو مُوَلَّدُونَ. قال تعالى: {مَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ} 3، فعطف إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة على ما قبله، وإن كان يدخل فيه عند الإطلاق، تنبيهًا على ما تقدم من الاهتمام، والحض على ما ذكر في حديث جبريل المشهور في الكتب الستة وغيرها: "أن جبريل أتى النبي صلى الله عليه وسلم في صورة رجل وهو جالس في أصحابه فقال له: ما الإسلام؟ قال: الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا. قال: صدقت، قال: ما الإيمان؟ قال: أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، والبعث بعد الموت، وبالقدر خيره وشره. قال: صدقت. قال: فما الإحسان؟ قال: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك. ثم قال: هذا جبريل أتاكم يعلمكم أمر دينكم"4 فجعل هذا كله هو الدين. والدين بمعنى العبادة بدليل قوله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ

_ 1 سورة الإسراء آية: 23. 2 سورة الإسراء آية: 39. 3 سورة البينة آية: 5. 4 البخاري: الإيمان (50) , ومسلم: الإيمان (9 ,10) , والنسائي: الإيمان وشرائعه (4991) , وابن ماجه: المقدمة (64) والفتن (4044) , وأحمد (2/ 426).

وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَة ِ} 1 فجعل عبادة الله هي دين القيمة. وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الإيمان بضع وستون أو بضع وسبعون شعبة: أعلاها شهادة أن لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق"2، ومن قال: ليست هذه الشعبة عبادة، فهو من أشر الدواب وأجهل الحيوان. وقد حصر النبي صلى الله عليه وسلم العبادة في بعض أفرادها، كما في حديث النعمان بن بشير أنه قال: "الدعاء هو العبادة"3، وفي حديث أنس: "الدعاء مخ العبادة"4 وكقوله: "الدعاء سلاح المؤمن وعماد الدين"، وكل ما ورد من فضائل الأعمال وأنواع الذكر داخلٌ في مسمى العبادة. وقد جمع ابن السني والنسائي في عمل اليوم والليلة من ذلك طَرَفًا يبين أن العبادة في أصل اللغة بمعنى الذل والخضوع كما قال بعضهم 5. تباري عتاقا ناجيات وأتبعت ... وظيفا وظيفا فوق مور معبد أي: طريق مُذَلَّل قد ذَلَّلَتْه الأقدام، مأخوذٌ من معنى الذل والخضوع يقال: دِنْتُهُ فَدَانَ أي: ذَلَّلْتُهُ فَذَلَّ. وفي الاصطلاح الشرعي: يدخل فيه كل ما يحبه ويرضاه من الأعمال الظاهرة والباطنة، الخاصة والمتعدية، البدنية والمالية. وكذلك عَرَّفَهَا الفقهاء بأنها: ما أُمِرَ به شرعًا من غير اطِّرَاد عُرْفي ولا اقتضاء عقلي. إذا عرف هذا، فالتقوى والعبادة والدين إذا أُفْرِدَتْ ولم تقترن بغيرها دخل فيها مجموع الدين وسائر العبادات، وإذا اقترنت بغيرها فُسِّرَ كل واحد بما يخصه، كالإيمان والعمل الصالح والإسلام والإيمان وصدق الحديث، وكالإيمان والصبر وكالعبادة والاستعانة، وكالتقوى وابتغاء الوسيلة،

_ 1 سورة البينة آية: 5. 2 مسلم: الإيمان (35) , والترمذي: الإيمان (2614) , والنسائي: الإيمان وشرائعه (5005) , وأبو داود: السنة (4676) , وابن ماجه: المقدمة (57) , وأحمد (2/ 414 ,2/ 445). 3 الترمذي: تفسير القرآن (2969) , وابن ماجه: الدعاء (3828). 4 الترمذي: الدعوات (3371). 5 هو طرفة بن العبد في معلقته الشهيرة.

فَيُفَسَّرُ كُلٌّ بما يناسبه ويخصه كما في سورة الأحزاب: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ} 1، ففسر كل اسم بما يخصه مع الاقتران، وإذا أطلق اسم العبادة كما في قوله تعالى: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ} 2 واسم الأبرار، واسم الإيمان، واسم الإسلام في مقام المدح والثناء، دخل فيه الدين كله. فمن عرف هذا تبين له اصطلاحُ القرآن والسنة، وعرف أن هؤلاء المبتدعة من أجهل الناس بحدود ما أنزل الله على رسوله، والصلاة نفسها تشتمل على أقوال وأفعال غير السجود، وكلها عبادة بإجماع المسلمين، والقراءة عبادة، والقيام عبادة، والركوع عبادة، والرفع منه عبادة، والسجود عبادة، والجلوس عبادة، والأذكار المشروعة في تلك المواطن عبادة، والتكبير عبادة والتسليم عبادة. [القول بأن قبر الولي أفضل من الحجر الأسود] وأما قوله: إن قبر الولي أفضل من الحجر الأسود، فهذا من جنس ما قبله في الفساد والضلال. فإن الحجر الأسود يمين الله في أرضه، من صافحه واستلمه فكأنما بايع ربه، قال تعالى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدىً لِلْعَالَمِينَ فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} 3، ولم يرد في قبور الأولياء ما يدل على مثل ذلك، فضلا عن أن يكون أفضل منه. والحج ركن من أركان الإسلام، والطواف بالبيت أحد أركان الحج، والركن الذي فيه الحجر الأسود أفضل من أركان البيت، والطواف من أفضل العبادات وأوجبها؛ والطواف بالقبور واستلامها والعُكُوف عندها من أوضاع المشركين والجاهلية؛ وفيه مُضَاهَاة لما يفعله اليهود والنصارى عند قبور أحبارهم ورهبانهم.

_ 1 سورة الأحزاب آية: 35. 2 سورة الفرقان آية: 61. 3 سورة آل عمران آية: 96.

وأفضل القبور على الإطلاق قبره صلى الله عليه وسلم، ولا يشرع تقبيله واستلامه بالإجماع، ولا يشرع الدعاء عنده، فلا يُشَبَّهُ بيت المخلوق ببيت الخالق، وبيت العبد ببيت الرب. وبالجملة فهذا القول قول شنيع، لا مُسْتَنَدَ له، ولا دليل عليه. وتقبيل الحجر الأسود مشروع، وكذا استلامه باليد، فإن استلمه بالمحجن ونحوه لعذر، فقد صح أن النبي صلى الله عليه وسلم أشار إلى الحجر الأسود، واستلمه بمحجن كان في يده. [صفة العلو والرد على منكريها] وأما قوله: إنكم تعتقدون العُلُوَّ، فنعم نعتقده ونُشْهِدُ اللهَ عليه، وكل مسلم عرف الله بأسمائه وصفاته يعتقد أنه هو العلي الأعلى، الذي على العرش استوى، وعلى الملك احتوى، هذا نص القرآن وقد قال تعالى: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ} 1. وأول من أنكر العلو فرعون إذ قال: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ} 2 فيما جاء به من الله، أن الله هو العلي الأعلى، وأنه فوق عباده مستو على عرشه. وأما الآية الكريمة التي احتج بها هذا الضال، فلم يعرف معناها، ولم يَدْرِ المرادَ منها، وأهل التفسير متفقون على أن المراد بقوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ} 3 أنه معبود في السماء ومعبود في الأرض لأنه الإله المعبود كما في قوله تعالى: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ} 4، وقال تعالى: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} 5. وَالحُلُولِيَّة من غلاة الجهمية يرون أنه حَالٌّ بذاته في كل مكان، لم ينَزِّهُوه عن شيء، تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا، وأما حديث: "أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد"6 فهو حديث

_ 1 سورة هود آية: 17. 2 سورة غافر آية: 36. 3 سورة الزخرف آية: 84. 4 سورة الأنعام آية: 3. 5 سورة مريم آية: 93. 6 مسلم: الصلاة (482) , والنسائي: التطبيق (1137) , وأبو داود: الصلاة (875) , وأحمد (2/ 421).

صحيح جليل مثل قوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} 1 فالقرب في هذا ونحوه أضيف إلى العبد؛ والقلب إذا أناب إلى الله، وأخلص في عبادته، وصدق في معاملته، كان له من القرب بحسب صدقه وإخلاصه ورتبته من الإيمان، فترتفع عنه حُجُب الشهوات والشبهات، ويَنْقَشِعُ عنه ليلُها وظلامُها، وهذا المعنى حق لا يشك فيه. ويضاف القرب إلى الله كما في قوله تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} 2، فهذا قرب خاص للسائلين والداعين، وقد يقرب من عباده ومن القلوب الطيبة كيف ما شاء، لكنه قرب خاص، ليس كما يظنه الجهميُّ من أن ذاته تحل في المخلوقات، فهو -سبحانه- ليس كمثله شيء في صفاته وكمال عظمته وقدرته، ينْزل إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر، وهو مستو على عرشه، عالٍ فوق خلقه، لا تحيط به المخلوقات، ولا تحتوي عليه الكائنات، ويدنو عَشِيَة عرفة فيباهي ملائكته بأهل الموقف، ومع ذلك فصفة العلو والاستواء ثابتة في تلك الحال، لا يخلو العرش منه، ولا يعلم قدر عظمته إلا هو جل ثناؤه، وتقدست أسماؤه. وقد يكون المؤمن المخلص القريب من الله في مكان، معه مَن هو ملعون مطرود عن رحمة الله، وهما في مكان واحد، كما جرى لموسى وفرعون. فالقرب الذي وردت به الأحاديث، وصرحت به النصوص، حجة على الجهمي المعطل للعلو القائل بأن الله في كل مكان، تعالى الله وتقدس. فهؤلاء الجهال خاضوا فيما قَصُرَتْ عقولهم وأفهامهم عن إدراك معناه وما يراد به، فصاروا في بحر الشبهات غرقى، لا يعرفون ربا، ولا يستدلون بصفة من صفاته على معرفة كماله وجلاله. وقد بَلَّغَ الرسولُ ما أنزل إليه من ربه قراءة على الناس، وأكثره في معرفة

_ 1 سورة الإسراء آية: 57. 2 سورة البقرة آية: 186.

الرب وصفاته، وربوبيته وتوحيده، سَمِعَه منهم قَرَوِيُّهم وبَدَوِيُّهم، خاصهم وعامهم، عربهم وعجمهم، ولم يُشْكِلْ على أحد منهم ذاك ولا شك فيه، بل آمنوا به وعرفوا المراد منه، ومضت القرون الثلاثة على إثبات ذلك والإيمان به، وتلقي معناه عن الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى: {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} 1. وإن جحد بعض المنافقين فهو مدحورٌ مقهورٌ حتى حدث ما حدث في آخر القرن الثالث وما بعده. [الآيات في بطلان الشرك] وأما دعواه أن الأولياء يقدرون على خلق ولد من غير أب، فهذه طامةٌ كبرى ورِدَّةٌ صريحة، وتكذيبٌ لجميع الكتب السماوية، ورَدٌّ على كل رسول، ومخالفةٌ لإجماع الأمم المنتسبين إلى الرسل والكتب السماوية؛ فإنهم مجمعون على أن الله هو الخالق وحده، وغيره مخلوق، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} 2، وقال تعالى: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} 3، وقال تعالى: {أَيُشْرِكُونَ مَا لا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ} 4، ولو كان لغير الله شركة في الخلق والتأثير لكان له شركة في الربوبية والإلهية، وقال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ} 5 الآية، فنفى سبحانه عن غيره أن يكون له ملك في السماوات والأرض، ولو قلَّ كمثقال ذرة، ونفى الشركة أيضا في القليل والكثير، ونفى أن يكون له ظهير وعون يعاونه في خلق أو تدبير؛ فإنه الغني بذاته عن كل ما سواه، والخلق بأسرهم فقراء إليه، ثم نفى الشفاعة إلا لمن أذن له.

_ 1 سورة النجم آية: 4. 2 سورة فاطر آية: 3. 3 سورة الأنعام آية: 102. 4 سورة الأعراف آية: 191. 5 سورة سبأ آية: 22.

قال بعض السلف: هذه تقطع عروق شجرة الشرك من أصلها، ومعلومٌ أنَّ مَنْ يُخْلَقُ له مُلْكٌ مَا خَلَقَهُ، ولو كان ثَمَّ خالق غير الله تعددت الأرباب والآلهة، قال الله تعالى: {لوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ} 1، وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} 2، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} 3، فعيسى دخل في عموم هذه الآيات، ولم يخالف في ذلك إلا من ضل من النصارى، قال تعالى في خصوص عيسى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} 4، فكان عيسى بكن كما كان آدم، وقال تعالى: {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} 5 إلى قوله: {مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ} 6، فاعترف أن الله ربه وخالقه ومعبوده، فكفى بهذه النصوص ردًّا على من أشرك بالله وجعل معه خالقًا آخر. وما احتج الملحد من قوله حاكيا عن جبريل أنه قال لمريم: {قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لأَهَبَ لَكِ غُلامًا زَكِيًّا} 7، فيقال قراءة البصريين (ليهب لك) بالياء وهي تفسير للقراءة 8، وعلى القراءة الأخرى نسبة الهبة إليه أنه بسبب نفخ الروح في درعها، والسبب يضاف إليه الفعل كما جزم به البيضاوي وغيره في هذه الآية، والله -سبحانه وتعالى- ينفذ أمره الكوني على يد من يشاء من ملائكته، وربما نسب الفعل إليهم كما قال تعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا} 9، وقال تعالى في موضع آخر: {وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ} 10، وقال تعالى:

_ 1 سورة الأنبياء آية: 22. 2 سورة آل عمران آية: 6. 3 سورة البقرة آية: 21. 4 سورة آل عمران آية: 59. 5 سورة المائدة آية: 116. 6 سورة المائدة آية: 117. 7 سورة مريم آية: 19. 8 لعل أصله: لقراءة لأهب. أو للقراءة الأخرى. 9 سورة الزمر آية: 42. 10 سورة الأنفال آية: 50.

{حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ} 1، فأضافه إليهم لأنهم موكلون بقبض الأرواح، ولما كانوا لا يستقلون بشيء من دونه، ولا يفعلون إلا بمشيئته وحوله وقوته، صرح بهذا المعنى في الآية الأولى، فقال: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا} 2. وأبلغ من هذا أنه نسب إليهم التدبير في قوله تعالى: {فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا} 3 لأنهم رسل بأمره الكوني، وأخبر بأنه المدبر الفاعل المختار في غير آية من كتاب الله كقوله: {يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ} 4، وقال: {يُدَبِّرُ الأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ} 5، وقوله: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ} 6 إلى قوله: {وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ} 7، إلى غير ذلك من الآيات الدالة على اختصاصه تعالى بالتدبير والإيجاد، وفي الحديث القدسي: "ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي، فلْيخلقوا ذرة، أو يخلقوا شعيرة"8، وقال تعالى: {الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} 9. وأكابر الخلق كالملائكة والأنبياء لم يَدَّعِ أحدٌ منهم أنه إله، وأنه يخلق كما قال في حق الملائكة: {بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} 10 وقال تعالى: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} 11، فأخبر أن اتخاذهم

_ 1 سورة الأنعام آية: 61. 2 سورة الزمر آية: 42. 3 سورة النازعات آية: 5. 4 سورة السجدة آية: 5. 5 سورة يونس آية: 3. 6 سورة يونس آية: 31. 7 سورة يونس آية: 31. 8 البخاري: التوحيد (7559) , ومسلم: اللباس والزينة (2111) , وأحمد (2/ 232 ,2/ 259 ,2/ 451 ,2/ 527). 9 سورة الحج آية: 73. 10 سورة الأنبياء آية: 26. 11 سورة آل عمران آية: 79.

أربابا كفرٌ بعد الإسلام، وأيضا فآخر الآية وهو قوله تعالى: {قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً} 1، وهو الذي قدره وقضاه. كل هذا يرد على المبطل، فَتَفَطَّنْ له هَدَاك الله، الأدلة على تَفَرُّدِهِ سبحانه وتعالى بالخلق والإيجاد والتدبير لا يحيط بها إلا هو سبحانه. وفي كل شيء له آية ... تدل على أنه واحد وأما كونهم لا يشهدون الجمعة والجماعة، ولا يسلمون، ولا يردون السلام، فهم بذلك مُخَالِفُونَ لأهل السنة والجماعة من سلف الأمة وأئمتها، ولو وجد في الإمام من الفجور ما لا يخرجه عن الإسلام، فأهل السنة يصلون خلف أهل الأهواء إذا تعذرت الجمعة والجماعة خلف غيرهم. وإن كانوا يَرَوْنَ كُفْر من لا يوافقهم على أهوائهم، فهم من جنس الخوارج الذين وردت فيهم الأحاديث الصحيحة بأنهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، وأنهم كلاب أهل النار. وصلى الله على سيد ولد آدم وعلى آله وصحبه الذين جاهدوا في الله حق جهاده آمين، والحمد لله على التمام وحسن الختام.

_ 1 سورة مريم آية: 21.

الرسالة الخامسة عشرة

الرسالة الخامسة عشرة وله أيضا -قدس الله روحه، ونوَّر ضريحه- رسالة إلى زيد بن محمد، هذا نصها: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد اللطيف بن عبد الرحمن إلى الأخ المكرم زيد بن محمد، زاده الله علما، ووهب لنا وله حُكْمًا. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد، فالخط الذي فيه المسائل وصل، وحصل من الاشتغال والموانع ما اقتضى تأخير الجواب، ونسأل الله لنا الإعانة على ما يقرب إليه من العلم والعمل. [تفسير قوله تعالى {ويعبدون من دون الله ما لايضرهم ولا ينفعهم}] أما المسألة الأولى: عن قوله تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ} 1، وقول السائل: إن الرب -تبارك وتعالى- لا يخفى عليه شيء، وقد قال في سورة العنكبوت: {إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ} 2. فالجواب -وبالله التوفيق- أن كلا من الآيتين الكريمتين على عمومهما وإطلاقهما يُصَدِّق بعضها بعضا، فأما آية يونس، ففيها الإخبار بنفي ما ادعاه المشركون، وزعموه من وجود شفيع يشفع بدون إذنه -تبارك وتعالى- وأن هذا لا يعلم الله وجوده لا في السماوات ولا في الأرض، بل مجرد زعم وافتراء، وما لا يعلم وجوده مستحيل الوجود، منفي غاية النفي. فالآية رد على المشركين الذين تعلقوا بالشركاء والأنداد بقصد الشفاعة عند الله

_ 1 سورة يونس آية: 18. 2 سورة العنكبوت آية: 42.

والتقرب إليه. وأما آية العنكبوت ففيها إثبات علمه -سبحانه- لكل مدعو ومعبود من أي شيء كان، ولا يخفى عليه خافية، ولا يعزب عنه مثقال ذرة. ففي الأولى: نفي العلم بوجود ما لا وجود له بحال، والآية الثانية: فيها إثبات العلم بوجود ما عبدوه ودعوه مع الله من الآلهة التي لا تضر ولا تنفع. قال ابن جرير -رحمه الله- في الكلام على آية يونس: يقول -تعالى ذكره-: ويعبد هؤلاء المشركون -الذين وصفت صفتهم- الذي لا يضرهم شيئا ولا ينفعهم في الدنيا ولا في الآخرة؛ وذلك هو الآلهة والأصنام التي كانوا يعبدونهم رجاء شفاعتهم عند الله، قال تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: {قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ} 1 يقول: أتخبرون الله بما لا يكون في السماوات ولا في الأرض؟ وذلك أن الآلهة لا تشفع لهم عند الله في السماوات ولا في الأرض؛ وكان المشركون يزعمون أنها تشفع لهم عند الله، فقال الله لنبيه صلى الله عليه وسلم قل لهم: أتخبرون الله بما لا يشفع في السماوات ولا في الأرض ليشفع لكم فيها؟ وذلك باطل لا يعلم حقيقته وصحته، بل يعلم أن ذلك خلاف ما تقولون؛ وأنها لا تشفع لأحد ولا تنفع ولا تضر. انتهى. وحاصله أن النفي واقع على ما اعتقدوه وظنوه من وجود شفيع يشفع وينفع، ويقرب إلى الله، وذلك الظن والاعتقاد وَهْمٌ وخيالٌ باطلٌ لا وجود له. وبنحو ذلك قال ابن كثير: يقول: ينكر تعالى على المشركين الذين عبدوا مع الله غيره ظانين أن تلك الآلهة تنفعهم شفاعتها عند الله، وأخبر أنها لا تنفع ولا تضر، ولا تملك شيئا، ولا يقع شيء مما يزعمون فيها، ولا يكون هذا أبدا، ولهذا قال تعالى: {قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي

_ 1 سورة يونس آية: 18.

السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ} 1. انتهى. وقال أبو السعود الرومي 2 في قوله: {قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ} 3 أعني: أتخبرونه بما لا وجود له أصلا؟ وهو كون الأصنام شفعاءهم عند الله، إذ لو كان ذلك: لعلمه علام الغيوب، وفيه تقريع لهم وتَهَكُّمٌ بهم، وبما يَدَّعُونَ من المُحَال الذي لا يكاد يدخل تحت الصحة والإمكان. وقوله: {فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ} 4: حال من العائذ المحذوف في "يعلم" مؤكِّدَة للنفي؛ لأن ما لا يوجد فيها فهو منتف عادة. انتهى. وقال العلامة ابن القيم -رحمه الله- في الكلام على هذه الآية: هذا نفيٌ لما ادعاه المشركون من الشفعاء، لِنَفْيِ علم الرب -تعالى- بهم المستلزِم لنفي المعلوم، ولا يمكن أعداء الله المكابرة، وأن يقولوا: قد علم الله وجود ذلك لأنه تعالى إنما يعلم وجود ما أوجده وكَوَّنَهُ، ويعلم أن سيوجد ما يريد إيجاده، فهو يعلم نفسه، وصفاته، ومخلوقاته التي دخلت في الوجود وانقطعت، والتي دخلت في الوجود وبقيت، والتي لم توجد بعد. وأما وجود شيء آخر غير مخلوق ولا مربوب، فالرب -تعالى- لا يعلم لأنه مستحيل في نفسه، فهو سبحانه يعلمه مستحيلا لا يعلمه واقعا، ولو علمه واقعا لكان العلم به عين الجهل، وذاك من أعظم المحال، فكذلك

_ 1 سورة يونس آية: 18. 2 هو أبو السعود ابن العماد، صاحب التفسير المشهور، المطبوع في حواشي التفسير الكبير للرازي. نسبه إلى الروم لأنه كان شيخ الإسلام للدولة العثمانية، وكانت تسمى دولة الروم، ويلقب شيخ الإسلام فيها بمفتي الروم؛ لأن عاصمتها "القسطنطينية" وما يحيط بها من البلاد كانت بلاد الروم، وما اشتهرت باسم الدولة التركية والعثمانية إلا في القرن الماضي، والإفرنج هم الذين سموها "تركيا". ولكن أبا السعود هذا عربي الأصل، ونشأ في تلك البلاد. 3 سورة يونس آية: 18. 4 سورة يونس آية: 18.

حُجَج الرب -تبارك وتعالى- على بطلان ما نسبه إليه أعداؤه المفترون التي هي كالضريع الذي لا يسمن ولا يغني من جوع، فإذا وازنت بينها ظهرتْ لك الفاصلةُ إن كنت بصيرا: {وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا} 1 انتهى. [تفسير {وما يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء}] (وأما المسألة الثانية) عن قوله تعالى: {وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ} 2 الآية، فقد أشكل معناها على كثير من المفسرين، فزعموا أن المعنى: نفي اتباعهم شركاء فجعلوا (ما) نافية و (شركاء) مفعول يتبع، أي: لم يتبعوا في الحقيقة شركاء، بل هم عباد مخلوقون مربوبون، والله هو الإله الحق لا شريك له. وأما ابن جرير فقرر أن (ما) في هذا المحل استفهامية لا نافية قال -رحمه الله-: ومعنى الكلام أيّ شيءٍ يَتَّبِعُ مَن يقول: لله شركاء في سلطانه وملكه كاذبا؟ والله المتفرد بملك كل شيء في سماء كان أو أرض،: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ} 3 يقول: ما يتبعون في قيلهم ذلك إلا الظن، يقول: إلا الشك لا اليقين: {وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ} 4 انتهى. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-*: ظن طائفة أن (ما) هاهنا نافية، وقالوا: ما يدعون من دون الله شركاء في الحقيقة، بل هم غير شركاء، وهذا خطأ، ولكن (ما) هاهنا حرف استفهام، والمعنى: وأيّ شيء يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء؟ ما يتبعون إلا الظن، وإن هم إلا يخرصون. ف"شركاء": مفعول يدعون، لا مفعول يتبع؛ فإن المشركين يدعون من دون الله شركاء، كما أخبر عنهم بذلك في غير موضع، فالشركاء موصوفون في القرآن بأنهم يُدْعَوْنَ من دون الله، ولم يوصفوا بأنهم يُتَّبعون، فإنما الأئمة الذين كانوا يَدَّعُونَ هذه الآية، ولهذا قال بعدها: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ} 5 ولو أراد

_ 1 سورة الإسراء آية: 72. 2 سورة يونس آية: 66. 3 سورة يونس آية: 66. 4 سورة الأنعام آية: 116. * انظر "تفسير آيات أشكلت" 1/ 144 و"مجموع الفتاوى" 15/ 61. [معد الكتاب للمكتبة الشاملة] 5 سورة يونس آية: 66.

أنهم ما يتبعون في الحقيقة شركاء لقال: إن يتبعون إلا من ليسوا بشركاء؛ بل هو استفهام يبين أن المشركين الذين دَعَوْا من دون الله شركاء، ما اتبعوا إلا الظن، ما اتبعوا علما؛ فإن المشرك لا يكون معه علم مطابق، وهو فيه ما يتبع إلا الظن، وهو الخَرْص والحزر وهو كذب وافتراء كقوله: {قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ} 1. [معنى أسألك بعقد العز من عرشك] (وأما المسألة الثالثة) عن قوله: أسألك بعقد العز من عرشك، وقول السائل ما معناه؟ فلا يخفى أن هذا ليس من الأدعية المرفوعة، ولذلك اختلف الناس فيه: فكره أبو حنيفة -رحمه الله- المسألة بعقد العز، وأجازها صاحبه أبو يوسف لأنه قد يراد بهذه الكلمة المحل، أي: محل العقد وزمانه، ك "مَذْهَب" يُطلق على محل الذهاب وزمانه. وربما أريد بها المفعول ك"مَرْكِب" بمعنى المركوب، ويكون هنا اسم مصدر من عقد يعقد عقدا، والاسم معقد، ويكون صفة ذات، ولهذا قال أبو يوسف: معقد العز هو الله، وأما أبو حنيفة فنظر إلى أن اللفظ محتملٌ لمعاني متعددة، فلذلك كره المسألة به، وبهذا يتبين المعنى. [معنى دعاء: إلى من تكلني إلى بعيد يتجهمني] (وأما المسألة الرابعة): عن قوله صلى الله عليه وسلم في الدعاء المشهور: "إلى من تكلني؟ إلى بعيد يتجهمني؟ " فاعلم أن التَّجَهُّم: الغلظة والعبوس والاستقبال بالوجه الكريه، والجَهْم: الغليظ المجتمِع، وجَهُمَ كَكَرُمَ جَهَامَة وجُهُومَة: استقبله بوجه كريه كَتَجَهُّمِهِ، والجَهْمَة: آخر الليل، أو بقية سواد من آخره، واجْتَهَمَ: دخل فيه. انتهى. وبه يظهر أن التجهم يقع على الاستقبال بوجه مظلم عبوس ومن صفات الجهم ... 2

_ 1 سورة الذاريات آية: 10. 2 سقط هاهنا كلام نترك له بياضا ليضعه فيه من وجده، فإن ضاق عنه: وضع الباقي في الحاشية.

[المراد بالنور في قوله صلى الله عليه وسلم: أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات] (وأما المسألة الخامسة) عن قوله صلى الله عليه وسلم: "أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات"، وقوله في حديث أبي موسى: "حجابه النور، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه"1، وقول السائل: هل يفسر بهذا النور أو لا؟ فالجواب: أن النور يضاف إلى الله إضافة الصفة إلى الموصوف، ويضاف إليه إضافة المفعول إلى فاعله، كما أشار إليه العلامة ابن القيم في نونيته، وما في دعائه -صلى الله عليه وسلم- مَخْرَجَهُ من الطائف من الأول 2 بلا ريب، فهو صفة ذات، وكذلك تسمى تعالى وتقدس بهذا الاسم الأنْفَس. وأما ما في حديث أبي موسى من ذكر السُّبُحَات المضافة إلى وجه الله -تعالى- فهي من إضافة الصفة إلى الموصوف على ما يأتي تفسيره. وأما قوله: "حجابه النور" فقد ذكر السيوطي وغيره في الحجب آثارا عن السلف تدل على أن الله احتجب بحُجُبٍ من النور مخلوقة له، وكلام صاحب الكافية الشافية يشير إليه لأنه عطفه في الذكر على ما تقدم من أوصاف الذات، والأصل في العطف أن يكون في المُغَايَرَة. وقال في "الجيوش الإسلامية": والله -سبحانه- سَمَّى نفسه نورا، وجعل كتابه نورا، ورسوله صلى الله عليه وسلم نورا، ودينه نورا، واحتجب من خلقه بالنور، وجعل دار أوليائه نورا، وقال تعالى: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} 3 الآية، وقد فُسِّرَ بكونه منورَ السماوات والأرض، وهذا إنما هو فعل، وإلا فالنور

_ 1 مسلم: الإيمان (179) , وابن ماجه: المقدمة (195) , وأحمد (4/ 400 ,4/ 405). 2 قوله: مَخْرَجَهُ من الطائف: ظرف متعلق بدعائه يقولون: فعل هذا مُنْصَرَفه من مكان كذا أو مخرجه من بلد كذا - والمعنى هنا دعاؤه "ص" وقت خرجه من الطائف. 3 سورة النور آية: 35.

الذي هو من أوصافه قائم به، ومنه اشتق له اسم النور الذي هو أحد الأسماء الحسنى. فالنور يضاف إليه سبحانه- على أحد وجهين: إضافة صفة إلى موصوفها، وإضافة فعل إلى فاعله، فالأول كقوله: {وَأَشْرَقَتِ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا} 1 إذا جاء لفصل القضاء، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم في الدعاء المشهور: "أعوذ بنور وجهك الكريم أن تُضِلَّنِي لا إله إلا أنت" وفي الأثر الآخر: "أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات" فأخبرصلى الله عليه وسلم أن الظلمات أشرقت بنور وجه الله، كما أخبر -تعالى- أن الأرض تشرق يوم القيامة بنوره. وفي معجم الطبراني والسنة له، وكتاب عثمان الدارمي وغيرهما، عن ابن مسعود رضي الله عنه: "ليس عند ربكم ليل ولا نهار، نور السموات والأرض من نور وجهه"، وهذا الذي قاله ابن مسعود رضي الله عنه أقرب إلى تفسير الآية من قول من فسرها: أنه هادي أهل السماوات والأرض. وأما من فسرها: بأنه مُنور السماوات والأرض، فلا تنافيَ بينه وبين قول ابن مسعود، والحق أنه نور السماوات والأرض بهذه الاعتبارات كلها. وفي صحيح مسلم وغيره من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: "قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمس كلمات: أن الله لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام"2 فذكرها. وفي صحيح مسلم عن أبي ذر رضي الله عنه قال: "سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم هل رأيتَ ربك؟ قال: نورٌ أَنَّى أراه؟ "3 قال شيخ الإسلام: معناه كان ثَمَّ نورٌ، أو حَالَ دون رؤيته نورٌ، وأَنَّى أراه؛ قال: ويدل عليه أن في بعض الألفاظ الصحيحة: هل رأيت ربك؟ قال: "رأيت نورا"، وذكر الكلام في الرؤية، ثم قال 4: ويدل على صحة ما قال شيخنا في معنى حديث أبي ذر رضي الله عنه

_ 1 سورة الزمر آية: 69. 2 مسلم: الإيمان (179) , وأحمد (4/ 400, 4/ 405). 3 مسلم: الإيمان (178) , والترمذي: تفسير القرآن (3282) , وأحمد (5/ 157, 5/ 170, 5/ 175). 4 يعني ابن القيم.

قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الآخر: "حجابه النور"1 فهذا النور هو -والله أعلم- النور المذكور في حديث أبي ذر "رأيت نورا"2. وأما السبحات فهي نور الذات المقدسة العلية، وهي النور الذي استعاذ به صلى الله عليه وسلم وكلامه فيه إيماء إلى أنه -تعالى- احتجب بهذا النور المذكور، وهو الذي حجبه صلى الله عليه وسلم عن رؤية الباري -تعالى وتقدس-،وهذا النور الذي رآه صلى الله عليه وسلم كما تقدم في حديث أبي ذر: "رأيت نورا"3 وقد احتجب -سبحانه وتعالى- بحجب عن خلقه من نور، ومن غيره كما ذكر في آثار مروية عن السلف جمع كثيرا منها السيوطي في كتاب الهيئة السنية، وإذا فسرت السبحات بنور وجهه الكريم جازت الاستعاذة بها لأنهاوصف ذات. ويؤيد ما أومأ إليه ابن القيم -رحمه الله- قول ابن الأثير: سبحات الله -جل جلاله- عظمته، وهي في الأصل جمع سبحة، وقيل: ضوء وجهه، وقيل سبحات وجهه محاسنه، وقيل: معناه تنْزيهه له أي سبحان وجهه، وقيل: إن سبحات الوجه كلام معترض بين الفعل والمفعول، أي: لو كشفها لأحرقت كل شيء أبصرت. (قلت): يريد أن السبحات هي النور الذي احتجب به، ولذلك قال: لو كشفها، قال: وأقرب من هذا أن المعنى لو انكشف من أنوار الله -تعالى- التي تحجب العباد شيء لأهلك كل من وقع عليه ذلك النور كما خر موسى صعقا، وتقطع الجبل دكا لما تجلى الله -سبحانه وتعالى-، ففي كلام ابن الأثير ما يدل على أن الحجاب نفس أنوار الذات، فتأمله. وذكر ابن الأثير وغيره أن جبريل قال: لله دون العرش سبعون حجابا

_ 1 مسلم: الإيمان (179) , وابن ماجه: المقدمة (195) , وأحمد (4/ 400 ,4/ 405). 2 مسلم: الإيمان (178). 3 مسلم: الإيمان (178).

لو دنونا من أحدها لأحرقتنا سبحات وجهه. انتهى. ومقتضى ما قال القرطبي في حديث أبي موسى "حجابه النور - أو النار": إن هذا حجاب منفصل عن أنوار الذات، لكنه يجري في هذه المباحث على طريق المتكلمين فيما جاء في هذا الباب من صفات الكمال ونعوت الجلال 1. [معنى قوله تعالى: {لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودن في ملتنا}] (وأما المسألة السادسة) عن قوله -تعالى- في قصة شعيب: {قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا} 2، وقول السائل: وهم لم يدخلوا فيها؟ فاعلم أن هذه المسألة شاعت وذاعت واشتهرت وانتشرت، والخلاف فيها قديم بين أهل السنة والمعتزلة، وبين أهل السنة بعضهم لبعض، والذي روى ابن أبي حاتم عن عطية عن ابن عباس كانت الرسل والمؤمنون يستضعفهم قومهم، ويقهرونهم، ويدعونهم إلى العود في ملتهم، فأبى الله لرسله والمؤمنين أن يعودوا في ملتهم

_ 1 قد أوجز -رحمه الله تعالى- واختصر في هذه المسألة، حتى فيما نقله عن المحقق ابن القيم. وقد حققنا مبحث النور والحجب الإلهية في الكلام على رؤية الرب -تعالى- من تفسير آية الأعراف (7: 142)، فقد بلغ الكلام في تفسيرها زهاء سبعين صفحة، ونقلنا في بحث النور والحجب منها كلاما نفيسا لابن القيم من مدارج السالكين ومن الوابل الصيب، ووضحناه بما يزيل إشكال من استشكله، ونبهنا في إيضاحه إلى الحاشية الوجيزة التي علقناها على عبارة الوابل الصيب من مجموعة الحديث النجدية، أردنا منها: أن آخر ما وصل إليه علماء الكون في النور والتكوين يؤيده، ويؤيده مذهب السلف، ويبطل قاعدة المتأولة الذي أولوا النور في الآيات والأحاديث، ثم قلت بعد هذا: وقد علمنا أن بعض الذين اطلعوا على هذه الحاشية في مجموعة الحديث لم يفهموها، فاضطربوا فيها، ولهم العذر؛ فإنها على غرابة موضوعها مبهمة لم توضح المقام لأمثالهم كما كان يجب" اهـ. فليراجع البحث كله في الجزء التاسع من تفسيرنا. 2 سورة الأعراف آية: 88.

في ملة الكفر، وأمرهم أن يتوكلوا عليه. وقد رواه السدي عن أشياخه، وتأوله عطية على أنه العود إلى السكوت كما كانت الرسل قبل الرسالة، وأنهم كانوا أغفالا قبل النبوة، أي: لا علم لهم بما جاءهم من عند الله. قال: وذلك عند الكفار عود في ملتهم. وهذا الذي رأيته منصوصا عن مفسري السلف، وأما من بعدهم كابن الأنباري والزجاج وابن الجوزي والثعلبي والبغوي، فهؤلاء يؤولون ذلك على معنى لتصيرن، ولتدخلن، وجعلوه بمعنى الابتداء، لا بمعنى الرجوع إلى شيء قد كان، وأنشدوا على ذلك ما اشتهر عنهم في تفاسيرهم كقول الشاعر: فإن تكن الأيام أحسنَّ مرة ... إليَّ لقد عادت لهن ذنوب وكقوله: وما المرء إلا كالشهاب وضوؤه ... يحور رمادًا بعد ما كان ساطعا وقول أمية: تلك المكارم لا قعبان من لبن ... شيبا بماء فعادا بعد أبوالا وأمثال ذلك مما يدل على الابتداء. وبعضهم أبقاه على معناه، وقال: هو التغليب، لأن قومهم كانوا في ملة الكفر، فغلب الجمع على الواحد؛ لكن تعقب ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- فقال*: وأما التغليب فلا يتأتى في سورة إبراهيم 1. وأما جعلها بمعنى الابتداء والصيرورة، فالذي في الآيات الكريمة عود مقيد بالعود في ملتهم، فهو كقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "العائد في هبته كالعائد في

_ * فيما يلي نقل طويل عن شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- تجده في كتاب "تفسير آيات أشكلت" 1/ 171 - 232. [معد الكتاب للمكتبة الشاملة] 1 المراد آية: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا}، ولم يتكرر فيها ذكر العود كآية الأعراف.

قيئه"1، وقوله: "وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه"2، وقوله - تعالى-: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ} 3 ـ فالعود في مثل هذا الموضع عود مقيد صريح بالعود إلى أمر كان عليه الرسل وأتباعهم، لا يحتمل غير ذلك؛ ولا يقال: إن العود في مثل هذا يكون عودًا مبتدأ، وما ذكر من الشواهد فأفعال مطلقة ليس فيها أنه عاد لكذا، ولا عاد فيه. قال: ولهذا يسمى المرتد عن الإسلام مرتدا، وإن كان ... 4 ولو على الإسلام، ولم يكن كافرًا عند عامة العلماء. قال: وأما قولهم: إن شعيبًا والرسل ما كانوا في ملتهم قط، وهي ملة الكفر فهذا فيه نزاع مشهور، وبكل حال فهو خبر يحتاج إلى دليل عقلي، وليس في أدلة الكتاب والسنة والإجماع ما يخبر بذلك، وأما العقل ففيه نزاع، والذي تظاهر عليه أهل السنة أنه ليس في العقل ما يمنع ذلك. وقال أبو بكر الخطيب البغدادي: وقال كثير منهم، ومن أصحابنا، وأهل الحق: إنه لا يمتنع بعثة من كان كافرا، أو مصيبا للكبائر قبل بعثته، قال: ولا شيء عندنا يمنع من ذلك على ما نبين القول فيه، ثم ذكر الخطيب الخلاف في إصابته الذنوب بعد البعثة، وأطال الكلام ثم قال: [بعثة من كان مصيبا للكفر والكبائر قبل الرسالة] {فصل في بعثة من كان مصيبا للكفر والكبائر قبل الرسالة} قال: والذي يدل على ذلك أمور: أحدها: أن إرسال الرسول، وظهور الأعلام عليه اقتضى ودل لا محالة على إيمانه وصدقه وطهارة سريرته، وكمال علمه ومعرفته بالله، وأنه مؤد عنه دون غيره لأنه إنما يظهر الأعلام ليستدل بها على صدقه فيما يدعيه من الرسالة، فإذا كان بدلالة ظهورها عليه إلى هذه الحال من الطهارة والنّزاهة والإقلاع عما كان

_ 1 البخاري: الهبة وفضلها والتحريض عليها (2621) , ومسلم: الهبات (1622) , والترمذي: البيوع (1298) , والنسائي: الهبة (3693 ,3694 ,3695 ,3696 ,3697 ,3698 ,3699 ,3700 ,3701 ,3702 ,3703 ,3704 ,3705) والرقبى (3710) , وأبو داود: البيوع (3538) , وابن ماجه: الأحكام (2385) , وأحمد (1/ 217 ,1/ 237 ,1/ 250 ,1/ 280 ,1/ 289 ,1/ 291 ,1/ 327 ,1/ 339 ,1/ 342 ,1/ 345 ,1/ 349). 2 البخاري: الإيمان (21) , ومسلم: الإيمان (43) , والترمذي: الإيمان (2624) , والنسائي: الإيمان وشرائعه (4987 ,4988 ,4989) , وابن ماجه: الفتن (4033) , وأحمد (3/ 103 ,3/ 113 ,3/ 172 ,3/ 174 ,3/ 230 ,3/ 248 ,3/ 278 ,3/ 288). 3 سورة المجادلة آية: 8. 4 بياض في الأصل.

عليه لا يمنع بعثته وإلزام توقيره وتعظيمه، وإن وجد منه ضد ذلك قبل الرسالة، وأطال الكلام. ثم قال شيخ الإسلام: تحقيق القول في ذلك: إن الله -سبحانه وتعالى- إنما يصطفي لرسالته من كان خيار قومه كما قال: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} 1، وقال: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ} 2 وقال: ومن نشأ بين قوم مشركين جهال لم يكن عليه نقص ولا غضاضة إذا كان على مثل دينهم إذا كان عندهم معروفا بالصدق والأمانة وفعل ما يعرفون وجوبه، واجتناب ما يعرفون قبحه، وقد قال -تعالى-: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا ً} 3. ولم يكن هؤلاء مستوجبين العذاب قبل الرسالة إذا كان لا هو ولا هم يعلمون ما أرسل به، وفرق بين من يرتكب ما لا يعلم قبحه، وبين من يفعل ما لا يعرف؛ فإن هذا الثاني لا يذمونه، ولا يعيبونه عليه، ولا يكون ما فعله مما هم عليه منفردا عنه بخلاف الأول؛ ولهذا لم يكن في أنبياء بني إسرائيل من كان معروفا بشرك، فإنهم نشؤوا على شريعة التوراة، وإنما ذكر هذا فيمن كان قبلهم. وأما ما ذكر -سبحانه- في قصة شعيب، والأنبياء فليس في هذا ما ينفر أحدًا عن القبول منهم، وكذلك الصحابة الذين آمنوا بالرسول صلى الله عليه وسلم بعد جاهليتهم، وكان فيهم من كان محمود الطريقة قبل الإسلام كأبي بكر الصديق رضي الله عنه، فإنه لم يزل معروفا بالصدق، والأمانة، ومكارم الأخلاق، ولم يكن فيه قبل الإسلام ما يعيبونه به، والجاهلية كانت مشتركة فيهم كلهم. وقد تبين أن ما أخبر عنه قبل النبوة في القرآن من أمر الأنبياء ليس فيه ما ينفر أحدا عن تصديقهم، ولا يوجب طعن قومهم، ولهذا لم يكن يذكر عن أحد

_ 1 سورة الأنعام آية: 124. 2 سورة الحج آية: 75. 3 سورة الإسراء آية: 15.

من المشركين عدَّ هذا قادحا في نبوته، ولو كانوا يرونه عيبا لعابوه، ولقالوا: كنتم أنتم أيضا على الحالة المذمومة، ولو ذكروا هذا للرسل؛ لقالوا: كنا كغيرنا لم نعرف ما أوحي به إلينا، ولكنهم قالوا: {إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا} 1، فقالت الرسل: {إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} 2. (قال): وقد اتفقوا كلهم على جواز بعثة رسول لم يعرف ما جاءت به الرسل قبله من أمور النبوة والشرائع، ومن لم يقر بهذا الرسول بعد الرسالة فهو كافر. والرسل قبل الوحي قد كانت لا تعلم لهذا فضلا عن أن تقر به، فعلم أن عدم هذا العلم والإيمان لا يقدح في نبوتهم، بل الله إذا نبأهم علمهم ما لم يكونوا يعلمون. (قلت): وقوله: وقد اتفقوا كلهم يعني أهل السنة والمعتزلة. ثم قال -تعالى-: {يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} 3، وقال -تعالى-: {يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ} 4، فجعل إنذارهم بعبادته وحده كإنذار يوم التلاق، كلاهما عرفوه بالوحي، واستدل على هذا بآيات إلى أن قال: وقد تنازع الناس في نبينا صلى الله عليه وسلم قبل النبوة، وفي معاني بعض هذه الآيات في قوله -تعالى-: {وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ} 5، وفي قوله: {مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الأِيمَانُ} 6، وقوله: {وَوَجَدَكَ ضَالًا فَهَدَى} 7، وما تنازعوا في معنى آية الأعراف وآية إبراهيم، فقال قوم: لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم على دين قومه، ولا كان يأكل ذبائحهم، وهذا هو المنقول عن أحمد، قال: من زعم أنه على دين قومه، فهو قول سوء، أليس كان لا يأكل ما ذبح على النصب؟ ثم قال الشيخ: ولعل أحمد قال: أليس كان لا يعبد الأصنام؟ فغلط

_ 1 سورة إبراهيم آية: 10. 2 سورة إبراهيم آية: 11. 3 سورة غافر آية: 15. 4 سورة النحل آية: 2. 5 سورة يوسف آية: 3. 6 سورة الشورى آية: 52. 7 سورة الضحى آية: 7.

الناقل عنه، فإن هذا قد جاء في الآثار أنه كان لا يعبد الأصنام، وأما كونه لا يأكل من ذبائحهم، فهذا لا يعلم أنه جاء به أثر، وأحمد من أعلم الناس بالآثار، قال: والشرك حرم من حين أرسل الرسل، وأما تحريم ما ذبح على النصب، فإنه ما ذكر إلا في سورة المائدة، وقد ذكر في السور المكية كالأنعام والنحل تحريم ما أهل به لغير الله، وتحريم هذا إنما عرف من القرآن، وقبل القرآن لم يكن يعرف تحريم هذا بخلاف الشرك. ثم ذكر الفرق بين ما ذبحوه للحم، وبين ما ذبحوه للنصب على جهة القربة للأوثان قال: فهذا من جنس الشرك لا يقال قط في شريعة بحلها كما كانوا يتزوجون المشركات أولا. (قال: والقول الثاني): إطلاق القول بأنه صلى الله عليه وسلم كان على دين قومه، وفسر ذلك بما كان عليه من بقايا دين إبراهيم، لا بالموافقة لهم على شركهم، وذكر أشياء مما كانوا عليه من بقايا الحنيفية كالحج والختان وتحريم الأمهات والبنات والأخوات والعمات والخالات. قال الشيخ: وهؤلاء إن أرادوا أن هذا الجنس مختص بالحنفاء، لا يحج يهودي ولا نصراني لا في الجاهلية ولا في الإسلام، فهو من لوازم الحنيفية، كما أنه لم يكن مسلما إلا من آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم، وأما قبل محمد، فكان بنو إسرائيل على ملة إبراهيم، وكان الحج مستحبا قبل محمد لم يكن مفروضا، ولهذا حج موسى ويونس وغيرهما من الأنبياء. ثم قال: ولكن تحريم المحرمات لا يشاركهم فيه أهل الكتاب، والختان يشاركهم فيه اليهود، وأطال في الرد والنقل عن ابن قتيبة، وذكر كلام ابن عطية في قوله: {وَوَجَدَكَ ضَالًا فَهَدَى} 1 أنه أعانه، وأقامه على غير الطريق

_ 1 سورة الضحى آية: 7.

التي كان عليها. هذا قول الحسن والضحاك، قال: والضلال يختلف فمنه القريب، ومنه البعيد، وكون الإنسان واقفا لا يميز بين المهيع ... 1 ضلال قريب لأنه لم يتمسك بطريقة ضالة بل كان يرتاد، وينظر. [حفظ الرسول -عليه السلام- من مفاسد الجاهلية] (قال): والمنقول أنه -عليه السلام- كان قبل النبوة يبغض عبادة الأصنام، ولكن لم يكن ينهى عنها نهيا عاما، وإنما كان ينهي خواصه، وساق ما رواه أبو يعلى الموصلي، وفيه: "فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فطاف بالبيت، وبين الصفا والمروة، وكان عند الصفا والمروة صنمان من نحاس أحدهما أساف، والآخر نائلة، وكان المشركون إذا طافوا تمسحوا بهما فقال النبي صلى الله عليه وسلم لزيد: لا تمسحهما فإنهما رجس، فقلت في نفسي لأمسنهما حتى انظر ما يقول، فمسستهما فقال: يا زيد ألم تنهه؟ " وقال أبو عبد الله المقدسي: هذا حديث حسن له شاهد في الصحيح. والحديث معروف قد اختصره البيهقي، وزاد فيه: قال زيد بن حارثة: والذي أكرمه وأنزل عليه الكتاب ما استلم صنما قط حتى أكرمه الله بالذي أكرمه. وفي قصة بحيرا الراهب حين حلف باللات والعزى فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تسألن باللات والعزى، فوالله ما أبغضت بغضهما شيئا قط". وكأن الله قد نزهه عن أعمال الجاهلية، ولم يكن يشهد مجامع لهوهم، وكان إذا هم بشيء من ذلك ضرب الله على أذنه فأنامه، وقد روى البيهقي وغيره في ذلك آثارا. وقد كانت قريش يكشفون عوراتهم لشيل حجر ونحوه، فنزهه الله عن ذلك كما في الصحيحين من قول جابر، وفي مسند أحمد زيادة: "فنودي: لا تكشف عورتك، فألقى الحجر ولبس ثوبه"2.

_ 1 بياض بالأصل. 2 أحمد (5/ 454).

وكانوا يسمونه الصادق الأمين، وكان الله - عزوجل- قد صانه عن قبائحهم، ولم يعرف منه قط كذبة، ولا خيانة، ولا فاحشة، ولا ظلم قبل النبوة، بل شهد مع عمومته حلف المطيبين على نصرة المظلومين. وأما الإقرار بالصانع وعبادته، والإقرار بأن السماوات والأرض مخلوقة له، محدثة بعد أن لم تكن، وأنه لا خالق غيره؛ فهذا كان عامتهم يعرفونه، ويقرون به فكيف لا يعرفه هو، ويقر به؟ وذكر الشيخ بعض علامات النبوة، وتغير العالم بمولده، ثم قال: لكن هذا لا يجب أن يكون مثله لكل نبي، فإنه أفضل الأنبياء، وهو سيد ولد آدم، والله -سبحانه- إذا أهّل عبدا لأعلى المنازل والمراتب، رباه على قدر تلك المرتبة، فلا يلزم إذا عصم نبينا أن يكون معصوما قبل النبوة من كبائر الإثم، والفواحش صغيرها وكبيرها، أن يكون كل نبي كذلك، ولا يلزم إذا كان الله بغض إليه شرك قومه قبل النبوة أن يكون كل نبي كذلك، كما عرف من حال نبينا -صلى الله عليه وسلم- وفضائله لا تناقض من أخبار غيره إذا كان كذلك، ولا يمنع كونه نبيا لأن الله فضل بعض النبيين على بعض، كما فضلهم بالشرائع والكتب والأمم. وهذا أصل يجب اعتباره، وقد أخبر الله أن لوطا كان من أمة إبراهيم، وممن آمن له أن الله أرسله، والرسول الذي نشأ بين أهل الكفر الذين لا نبوة لهم، ثم يبعثه الله فيهم يكون أكمل وأعظم ممن كان من قومه لا يعرفونه، فإنه يكون بتأييد الله له أعظم من جهة تأييده بالعلم والهدى، ومن جهة تأييده بالنصر والقهر.* (قلت): وبهذا يظهر اختلاف درجات الأنبياء والرسل وعدم الاحتياج إلى التكلف في الجواب عن مثل آية إبراهيم ونحوها، وأن قصارى ما يقال

_ * إلى هنا انتهى النقل الطويل عن شيخ الإسلام ابن تيمية من كتاب "تفسير آيات أشكلت" 1/ 177 - 232، والذي ابتدأه المصنف في ص 104.

الرسالة السادسة عشرة: رؤية الله سبحانه وتعالى في الجنة، والفرق بين صفات المعاني والمعنوية

في مثل قوله لنبينا: {وَوَجَدَكَ ضَالًا فَهَدَى} 1، وقوله: {مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الأِيمَانُ} 2، هو عدم العلم بما جاء من النبوة والرسالة، وتفاصيل ما تضمن ذلك من الأحكام الشرعية والأصول الإيمانية. وهذا غاية ما تيسر لنا في هذا المقام الضنك الذي أحجم عنه فحول الرجال، وأهل الفضائل والكمال، ونستغفر الله من التجاسر والوثوب على الكلام في مثل هذا المبحث الذي زلت فيه أقدام، وضلت فيه أفهام، واضطربت فيه أقوال الأئمة الأعلام، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين. الرسالة السادسة عشرة [رؤية الله سبحانه وتعالى في الجنة، والفرق بين صفات المعاني والمعنوية] وله أيضا -قدس الله روحه، وعفا عنه- رسالة إلى محمد بن عون نزيل عمان، وسبب ذلك أوراق ألقيت إلى حضرة الشيخ الإمام وعلم الهداة الأعلام الشيخ عبد اللطيف -رحمه الله تعالى-، وحاصلها التلبيس والتشويش على عوام المسلمين، فأجابه -رحمه الله تعالى- بما كشف عن قناع هذه الشبهة الباطلة، والتمويهات التي هي عن الصراط السوي مائلة، مع أن صاحبها من الجهلة الطغام، ومن جملة سائمة الأنعام، وهذا نص الجواب: بسم الله الرحمن الرحيم من: عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى الأخ المكرم: محمد بن عون، سلمه الله تعالى، وأعانه على ذكره، وشكره، ووفقه للجهاد في سبيله، ومراغمة من تجهم أو نافق أو ارتد من أهل دهره، وعصره، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد، فنحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو على ما من به من سوابغ إنعامه، وجزيل فضله وإكرامه، والخط وصل-وصلك الله إلى ما يرضيه-، ويسرنا سلامتكم، وعافيتكم، وما ذكرت صار معلوما. والواجب على المكلفين في كل

_ 1 سورة الضحى آية: 7. 2 سورة الشورى آية: 52.

زمان ومكان الأخذ بما صح، وثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس لأحد أن يعدل عن ذلك إلى غيره. ومن عجز عن ذلك في شيء من أمر دينه، فعليه بما كان عليه السلف الصالح والصدر الأول. فإن لم يدر شيئا من ذلك، وصح عنده عن أحد الأئمة الأربعة المقلدين الذين لهم لسان صدق في الأمة، فتقليدهم سائغ حينئذ. فإن كان المكلف أنزل قدرا وأقل علما وأنقص فهما من أن يعرف شيئا من ذلك، فليتق الله ما استطاع، وليقلد الأعلم من أهل زمانه أو من قبلهم خصوصا من عرف بمتابعة السنة، وسلامة العقيدة، والبراءة من أهل البدع، فهؤلاء أحرى الناس، وأقربهم إلى الصواب، وأن يلهموا الحكمة، وتنطق بها ألسنتهم؛ فاعرف هذا، فإنه مهم جدا. ثم لا يخفاك أنه قد ألقي إلينا أوراق وردت من جهة عمان، كتبها بعض الضالين ليلبس بها، ويشوش بها على عوام المسلمين، ويتشبع بما لم يعط من معرفة الإيمان والدين، وبالوقوف على أوراقهم يعرف المؤمن حقيقة حالهم بعد ضلالهم، وكثافة أفهامهم، وأنه ملبوس عليهم لم يعرفوا ما جاءت به الرسل، ولم يتصوروه فضلا عن أن يدينوا به، ويلتزموه، وأسئلتهم ما وقعت لطلب الفائدة والفهم، بل للتشكيك والتمويه والتحلي بالرسم والوهم، ومن السنن المأثورة عن سلف الأمة وأئمتها. وعن إمام السنة أبي عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل -قدس الله روحه- التشديد في هجرهم وإهمالهم وترك جدالهم واطراح كلامهم، والتباعد عنهم حسب الإمكان، والتقرب إلى الله بمقتهم وذمهم وعيبهم. وقد ذكر الأئمة من ذلك جملة في كتب السنة مثل كتاب السنة لعبد الله بن الإمام أحمد، والسنة للخلال، والسنة لأبي بكر الأثرم، والسنة لأبي القاسم اللالكائي وأمثالهم،

فالواجب نهي أهل الإسلام عن سماع كلامهم ومجادلتهم، لا سيما وقد أقفر ربع العلم في تلك البلاد، وانطمست أعلامه، قال في الكافية الشافية: فانظر ترى لكن نرى لك تركها ... حذرا عليك مصايد الشيطان فشباكها, والله لم يعلق بها ... من ذي جناح قاصر الطيران ألا رأيت الطير في شبك الردى ... يبكي له نوح على الأغصان إذا عرف هذا، فإحدى الورقتين المشار إليهما ابتدأها الملحد بسؤال يدل على إفلاسه من العلم، ويشهد بجهالته وضلالته، وهو قوله: الرؤية ثابتة عند أهل السنة والجماعة في الجنة، هل هي بصفات الجلال والجمال والكمال؟ ولم يشعر هذا الجاهل الضال أن الرؤية تقع على الذات المتصفة بكل وصف يليق بعظمته وإلهيته وربوبيته من جلال وجمال وكمال، وأن صفات الجلال ترجع إلى الملك والمجد والسلطان والعزة، والجمال وصف ذاتي، كما أن الجلال كذلك. والكمال حاصل بكل صفة من صفاته العلى، فله الجلال الكامل، والجمال الكامل، والمجد والعزة التي لا تضاهي ولا تماثل؛ فهذه أوصاف ذاتية لا تنفك عنه في حال من الأحوال. وإنما يقال: تجلى بالجلال والمجد والعزة والسلطان إذا ظهرت آثار تلك الصفات، كما يقال: تجلى بالرحمة والكرم والعفو والإحسان إذا ظهرت آثار تلك الصفات في العالم، ويستحيل أن يرى -تعالى- وقد تخلف عنه صفة جلال وجمال وكمال. ولو وقف هذا الغبي على ما جاء في الكتاب والسنة من إثبات الرؤية وتقريرها، ولم يتجاوز ذلك إلى تخليط صدر عمن لا يدري السبيل، ولم يقم بقلبه عظمة الرب الكبير الجليل؛ لكان أقرب إلى إيمانه وإسلامه. أما قوله: وما الفرق بين صفات المعاني والمعنوية، فهذه الكلمة لو

فرضت صحتها، فالجهل بها لا يضر، ولم تأت الرسل بما يدل بحال أن من صفات الله ما هو من المعاني، وما هو من الصفات المعنوية. وهذا التقسيم يطالب به الأشعرية والكرامية ونحوهم، فلسنا منهم في شيء. والعلم آية محكمة أو فريضة عادلة أو سنة متبعة، وما سوى ذلك هكذا سبيله، فالواجب اطراحه وتركه؛ والعلم كل العلم في الوقوف مع السنة، وترك ما أحدثه الناس من العبادات المبتدعة. [لا يوصف الله إلا بما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله] ومن الأصول المعتبرة والقواعد المقررة عند أهل السنة والجماعة، أن الله -تعالى- لا يوصف إلا بما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله، لا يتجاوز ذلك أهل العلم والإيمان، ولا يتكلفون علم ما لم يصف الرب -تبارك وتعالى- به نفسه، وما لم يصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم. والله أكبر وأجل وأعظم في صدور أوليائه وعباده المؤمنين من أن يتكلموا في صفاته بمجرد آرائهم واصطلاحاتهم وعبارات متكلمهم. وأما قول السائل: وهل صفات المعاني ثابتة في ذات الله؟ فهذه عبارة نبطية أعجمية، لأنه إن أريد بالإضافة إضافة الدال على المدلول، فكل صفاته -تعالى- لها معان ثابتة لذاته المقدسة، وأي وصف ينفك عن هذا لو كانوا يعلمون؟ وإن أريد بالإضافة إضافة الصفة للموصوف أي المعاني الموصوفة فالمعاني الموصوفة منها صفات أفعال، وصفات ذات. [الاعتبارات والوجود الأربع] (وأما قوله): وأما الاعتبارات الأربع؛ فهذه كلمة ملحونة أعجمية، والعرب تقول: الاعتبارات الأربعة، لا الأربع، والحكم معروف في باب العدد 1، وأما معناها فهو إلى الألغاز والأحاجي أقرب منه إلى الكشف والإيضاح

_ 1 يعني أنها جمع اعتبار، وهو مذكر فيؤنث وصفه.

في السؤال، فالحساب تجري فيه اعتبارات أربعة من جهة لفظه وإفراده وجمعه وتصحيحه وكسره وضربه وطرحه، وتجري الاعتبارات الأربعة، فما فوق في أبوب الفقه من كتب الفروع من كتاب الطهارة إلى أبواب العتق والإقرار، وكثير من عباراته تختلف مفهوماتها باختلاف عباراتها. وكذلك المقدمات العقلية، والأدلة النظرية، والبديهيات الذهنية، والضروريات الحسية، لها اعتبارات، ولها حالات، ولها مراتب ودرجات يطلق عليها لفظ الاعتبارات. وكذلك قوله: وما الوجود الأربع؟ عبارة ملحونة أعجمية. فقد يراد بها ما يوجد في الأعيان والأذهان واللسان والبنان، وقد يراد بها غير ذلك من مراتب وجود العلم أو وجود الوحي، فإنه قسم هذا التقسيم باعتبار إدخال الإلهام في مسمى الوحي. وكذلك الجهل له مراتب أربع، فمنه الجهل المركب، ومنه البسيط، وكل منهما إما في السمعيات أو العقليات؛ وكذلك الأخبار قطعية، وظنية. وبالجملة فالاعتبارات الأربعة والوجود ونحو ذلك تقع على كل ما تناله العبارة ويصدق عليه اللفظ في أي فن وأي حكم. فإن قال: المراد بالاعتبارات والوجود باعتبار صفاته -تعالى-، قلنا: تقسيم الاعتبارات والوجود يختلف باختلاف المقاصد والاصطلاح، وليس في كلام السلف ما يجيز الخوض في اصطلاحات المتكلمين والأشاعرة. [الفرق بين الدليل والبرهان والعهد والميثاق] وأما الفرق بين الدليل والبرهان، فالدليل في اصطلاح الأصوليين والفقهاء ما يستدل به على إثبات الحكم وصحته، والبرهان ذكر الحجة بدليلها. وأما الفرق بين العهد، والميثاق، فهو اعتباري، والمفهوم واحد. قال -تعالى-: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرائيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلًّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} 1، وقال -تعالى-: {لَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرائيلَ} 2، وقال -تعالى-: {أَلَمْ أَعْهَدْ

_ 1 سورة البقرة آية: 83. 2 سورة المائدة آية: 12

إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ} 1. وقال: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} 2، وقال -تعالى-: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ} 3 إلى قوله: {وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي} 4، وطالع عبارات المفسرين. وأما العهود التي أخذها الله من عباده، فلا يسأل عن كميتها. إذ لا يعلمها إلا الله، قال -تعالى-: {وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ} 5. وكل رسول يؤخذ عليه وعلى قومه العهد، فكيف يسئل عن كميتها؟ ومن ادعى علمها فهو كاذب. نعم ما ذكر في القرآن من أخذ العهد على الأنبياء وعلى الأمم كبني إسرائيل وعلى بني آدم كافة كما في آية يس، وأخذ العهد على الذرية، فهذا معروف محصور. (وأما قوله): وما العهود التي عاهدها معهم؟ فهذه عبارة أعجمية جاهلية، فالله عهد إليهم، ولم يعاهد هو، بل هم عاهدوه كما قال -تعالى-: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ} 6، ولم يقل عاهدهم الله أبدا فالمعاهدون هم العباد، والله عهد إليهم، وعاهدوه هم، ولم يعاهدهم هو؛ فاعرف جهل السائل وعجمته. (وأما قوله): وكم من تعلقات للقدرة والإرادة والعلم والكلام؟ فاللفظ أعوج ملحون. لا تأتي "من" بعد كم الاستفهامية أبدا. والرجل غلبت عليه العجمة في الفهم والتعبير، فإن أريد بالتعلق كون الأشياء بالقدرة والإرادة والعلم والكلام، فأي فرد من أفراد الكائنات يخرج عن هذا ولا يتعلق به؟ [علة نفي الحروف السبعة من فاتحة الكتاب] (وأما قوله): وما علة نفي الحروف السبعة من فاتحة الكتاب؟ فهذا عدم لا نفي، والعدم لا يعلل، فلا يقال: لم عدمت بقية حروف الهجاء من سورة الإخلاص مثلا، أو من بسم الله الرحمن الرحيم؟ لأن المعنى المراد

_ 1 سورة يس آية: 60. 2 سورة النحل آية: 91. 3 سورة آل عمران آية: 81. 4 سورة آل عمران آية: 81. 5 سورة النساء آية: 164. 6 سورة التوبة آية: 75.

الرسالة السابعة عشرة: تفسير السبحات بالنور

حاصل بالحروف المذكورة، والتراكيب المسطورة؛ والعدم لا يعلل، وإن علل فعلة عدمية. والسائل رأى كلمات مسطورة، فظنها داخلة في مسمى العلة ومذكورة، وإنما هي جهالات وخيالات {كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا} 1. هذا آخر ما وجد من هذه الرسالة. الرسالة السابعة عشرة [تفسير السبحات بالنور] وله أيضا -قدس الله روحه، ونور ضريحه- رسالة إلى صالح بن محمد الشثري -رحمه الله- جوابا على سؤاله عن تفسير السبحات بالنور، هل هو من التأويل المردود أو لا؟ فأجابه -رحمه الله بما نصه-: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى الأخ المكرم: صالح بن محمد الشثري -سدده الله فيما يعيد ويبدي-. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد، فأحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو على سوابغ نعمه، والخط وصل، وصلك الله إلى ما يرضيه، وتقبل دعواتك، وتجاوز عن سيئاتي وسيئاتك، وسرنا بالأخبار عن عافيتك، وسلامتك. ونهنيك بما هنيتنا به، جعلنا الله وإياك من الفائزين برضاه، والمسارعين إلى العمل بما يحبه ويرضاه، ومن علينا باغتنام الصحة والفراغ، وأعاذنا من الغبن في هاتين النعمتين اللتين هما سفينة النجاة، ومركب أهل الصدق في المعاملات. وتسأل -رحمك الله- عن تفسير السبحات بالنور

_ 1 سورة النور آية: 39.

هل هو من التأويل المردود أو لا؟ فلا يخفاك أن التأويل بالمعنى الأعم يدخل فيه مثل هذه، وقد حكاه جمع من أهل الإثبات. وأما التأويل بالمعنى الأخص عند الجهمية ومن نحا نحوهم، فليس هذا منه لأنهم أولوا النور الذي هو اسمه وصفته بما يرجع إلى فعله وخلقه، وليس هذا منه. وقد فسرت السبحات بالعظم لأن أصل السبحة من التنْزيه والتقديس، وفسرت بضوء الوجه المقدس، وفسرت بمحاسنه لأن من رأى الشيء الحسن، والوجه الحسن سبح بارئه وخالقه. وقيل: هي باقية على أصلها، لأن التسبيح التنْزيه. وقيل: سبحات وجهه في الحديث جملة معترضة، يريد قائل هذا إسناد الفعل إلى الوجه المنزه حكاه ابن الأثير، وقال: الأقرب أن المعنى لو انكشف من أنواره التي تحجب العباد شيء، لهلك كل من وقع عليه ذلك النور، كما خر موسى صعقا، وتقطع الجبل -تجلى سبحانه وتعالى-، وهذا لا يبعد إن أريد نور الذات، هذا ما ظهر لي 1 لما. وصلى الله على محمد، وبلغ سلامنا الشيخ عبد الملك والأخ حمد وعيالكم، ولا تنسانا من صالح الدعاء في هذه الليالي المباركات، والعيال بخير، وينهون السلام.

_ 1 أي ما ظهر له في ذلك الوقت، أو بالنسبة إلى حال السائل. وقد سبق له بحث طويل في النور الإلهي والسبحات والحجب في الرسالة الخامسة عشرة في صفحة 99.

الرسالة الثامنة عشرة

الرسالة الثامنة عشرة وله -قدس الله روحه، ونور ضريحه- رسالة جوابا لمسائل وردت عليه من محمد بن راشد الجابري. (الأولى) فيمن آمن بلفظ الاستواء، ولكن نازع في المعنى، وزعم أنه هو الاستيلاء. (الثانية) عن رفع اليدين بالدعاء في الصلاة. (الثالثة) عن الفطرة عن صوم رمضان. (الرابعة) عن الابتداء بفاتحة الكتاب كلما أراد تلاوة القرآن. (الخامسة) عن الرجل الذي يخالط أهل بلده ومحلته، ويرجو بمخالطتهم أن يجيبوه إلى الإسلام وإلى السنة، ويتركوا ما هم عليه من شرك أو بدعة أو فواحش. (السادسة) البداءة بالسلام على الكافر. فأجاب بما نصه: بسم الله الرحمن الرحيم من: عبد اللطيف بن عبد الرحمن إلى الأخ المكرم: محمد بن راشد الجابري -سلمه الله تعالى-، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد، فنحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو، وهو للحمد أهل، وهو على كل شيء قدير، والسؤالات وصلت: [الإيمان بالاستواء وتأويله] (أما السؤال الأول) فيمن آمن بلفظ الاستواء الوارد في كتاب الله، لكن نازع في المعنى، وزعم أنه هو الاستيلاء، فهذا جهمي معطل ضال، مخالف لنصوص الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة. وهذا القول هو المعروف عند السلف عن جهم وشيعة الجهمية، فإنهم لم يصرحوا برد ألفاظ القرآن كالاستواء وغيره من الصفات، وإنما خالفوا السلف في المعنى المراد. وقولهم هذا لا يعرف في المسلمين إلا عن الجهم بن صفوان تلميذ الجعد

ابن درهم، وكان الجعد قد سكن حران، وخالط الصابئة واليهود، وأخذ عنهم من المقالات والمذاهب المكفرة ما أنكره عليه كافة أهل الإسلام، وكفروه بذلك؛ حتى إن خالد بن عبد الله القسري أمير واسط في خلافة بني أمية قتل الجعد، وضحى به يوم العيد الأكبر، فقال وهو على المنبر: أيها الناس ضحوا تقبل الله ضحاياكم، فإني مضح بالجعد بن درهم. إنه زعم أن الله لم يكلم موسى تكليما، ولم يتخذ إبراهيم خليلا. ثم نزل فذبحه، وشكره على هذا الفعل وصوبه جميع أهل السنة. وإنما قال الجعد هذه المقالة لاعتقاده أن الخلة والتكليم والاستواء ونحو ذلك من الصفات لا تكون إلا من صفات المخلوقات، وخصائص المحدثات، وهذا المذهب نشأ من سوء اعتقادهم، وعدم فهمهم لما يراد، وما يليق من المعنى المختص بالله، فظنوا ظن السوء بالله وصفاته. ثم أخذوا في نفيها وتعطيلها، وتحريف الكلم عن مواضعه، والإلحاد في أسمائه. ولو عرفوا أن ما يثبت لله من الصفات لا يشبه صفات المخلوقات، بل هو بحسب الذات، وكل شيء صفاته بحسب ذاته، فكما أننا نثبت له ذاتا لا تشبه الذوات، فكذلك نثبت له صفات لا تشبه صفات المخلوقات. لو عرفوا هذا لسلموا من التعطيل، وعلى قولهم ومذهبهم الخبيث لا يعبدون ربا موصوفا بصفات الكمال، وصفات العظمة والجلال، وإنما يعبدون ذاتا مجردة عن الصفات؛ فهم -كما قال بعض العلماء- لا يعبدون واحدا أحدا فردا صمدا، وإنما يعبدون خيالا عدما. وهذا المذهب اشتهر بعد الجعد بن درهم عن تلميذه جهم بن صفوان، ولذلك يسمى أهل هذا المذهب عن السلف وأئمة الأمة جهمية نسبة

إلى جهم، ثم أعلن به، وأظهره بشر المريسي وأصحابه في أوائل المئة الثالثة؛ لأنهم تمكنوا من بعض ملوك بني العباس، وصار لهم عنده جاه ومنْزلة، فقويت بذلك شوكة الجهمية، وكثر شرهم، وعظم على الإسلام وأهله كيدهم وضررهم، حتى امتحنوا من لم يوافقهم على بدعتهم، وضلالتهم، فشردوا بعض أهل السنة عن أوطانهم، وحبسوا، وضربوا، وقتلوا على هذا المذهب. وجرى على إمام السنة الإمام المبجل أحمد بن حنبل من ذلك أشد امتحان، وأعظم بلية، وضُرب حتى أغشي عليه من الضرب، وإذا جادله منهم مجادل قال: ائتوني بشيء من كلام الله، وكلام رسوله حتى أجيبكم إليه، فيأبون، ويعرضون، ويرجعون إلى شبه الفلاسفة واليونان، وهو مع ذلك يكشف لهم الشبه، ويبين بطلانها بأدلة الكتاب والسنة وإجماع الأمة والأدلة العقلية الصريحة؛ وصنف في ذلك كتابه المعروف في الرد على الزنادقة والجهمية، وهو كتاب جليل لا يستغني عنه طالب العلم. والمقصود أن علماء الأمة أنكروا مذهب الجهمية أشد الإنكار، وصرحوا بأنه من مذاهب الضُلّال والكفار، ولم يخالف في ذلك أحد منهم. وقد جمع اللالكائي جملة من كلام السلف في تكفيرهم، وتضليلهم في كتابه الذي سماه: "كاشف الغمة عن معتقد أهل السنة"، ومختصر كتابه موجود عندكم في الساحل قدم به عبد الله بن معيذر عام اثنين وسبعين، وهو وقف على طلبة العلم الشريف. [بدعة الجهمية وفتنتهم لأهل السنة] إذا عرف هذا، فأهل السنة متفقون في كل عصر ومصر على أن الله موصوف بصفات الكمال ونعوت الجلال التي جاء بها الكتاب والسنة، يثبتون لله ما أثبته لنفسه المقدسة، وماوصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم

من غير تمثيل ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تشبيه، لا يبتدعون لله وصفا لم يرد به كتاب ولا سنة؛ فإن الله -تعالى- أعظم وأجل وأكبر في صدور أوليائه المؤمنين من أن يتجاسروا على وصفه، ونعته بمجرد عقولهم وآرائهم وخيالات أوهامهم، بل هم منتهون في ذلك إلى حيث انتهى بهم الكتاب والسنة، لا يتجاوزون ذلك بزيادة على ما وصف الرب به نفسه، أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا يعطلون ما ورد في الكتاب والسنة من صفات الكمال ونعوت الجلال، وينكرون تعطيل معنى الاستواء وتفسيره بالاستيلاء، ويتبرؤون من مذهب من قال ذلك، وعطل الصفات من الجهمية وأتباعهم. وقد وقع في هذا كثير ممن ينتسب إلى أبي الحسن الأشعري، وظنه بعض الناس من مذهب أهل السنة والجماعة، وسبب ذلك هو الجهل بالمقالات والمذاهب، وما كان عليه السلف. قال حذيفة رضي الله عنه: كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير، وكنت أسأله عن الشر مخافة الوقوع فيه، فالواجب على من له نهمة في الخير وطلب العلم أن يبحث عن مذهب السلف وأقوالهم في هذا الأصل العظيم، الذي قد يكفر الإنسان بالغلط فيه، ويعرف مذاهب الناس في مثل ذلك، وأن يطلب العلم من معدنه ومشكاته، وهو ما جاء به محمدصلى الله عليه وسلم من الكتاب والحكمة، وما كان عليه سلف الأمة. قال -تعالى-: {المص كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} 1، وقال -تعالى-: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} 2. فإذا وفق العبد لهذا، وبحث عن

_ 1 سورة الأعراف آية: 2. 2 سورة الأنعام آية: 155.

تفاسير السلف وأئمة الهدى، ورزق مع ذلك معلما من أهل السنة، فقد احتضنته السعادة، ونزلت به أسباب التوفيق والسيادة. وإن كان نظر العبد وميله إلى كلام اليونان، وأهل المنطق والكلام، ومشايخه من أهل البدعة والجدل، فقد احتوشته أسباب الشقاوة، ونزلت وحلت قريبا من داره موجبات الطرد عن مائدة الرب وكتابه. ومن عدم العلم فليبتهل إلى معلم إبراهيم، في أن يهديه صراطه المستقيم، وليتفطن لهذا الدعاء إذا دعا به في صلاته، ويعرف شدة فقره إليه وحاجته. [كفر من جحد الاستواء وتأوله بما يخالف النصوص] وأما من جحد لفظ الاستواء، ولم يؤمن به فهو أيضا كافر، وكفره أغلظ وأفحش مِنْ كفر مَنْ قبله، وهو كمن كفر بالقرآن كله. ولا نعلم أحدا قال هذا القول ممن يدعي الإسلام، ويؤمن برسالة محمد صلى الله عليه وسلم، والجهمي يوافق على كفر هذا؛ ولا يشكل كفر هذا على من عرف شيئا من الإسلام قال -تعالى-: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ} 1 أي بالقرآن. وأما قول القائل: استوى من غير مماسة للعرش، فقد قدمنا أن مذهب السلف وأئمة الإسلام عدم الزيادة والمجاوزة لما في الكتاب والسنة وأنهم يقفون، وينتهون حيث وقف الكتاب والسنة وحيث انتهيا. قال الإمام أحمد -رحمه الله-: لا يوصف الله -تعالى- إلا بماوصف به نفسه، ووصفه به رسوله، انتهى، وذلك لعلمهم بالله، وعظمته في صدورهم، وشدة هيبتهم له، وعظيم جلاله. ولفظ المماسة لفظ مخترع مبتدع لم يقله أحد ممن يقتدى به ويتبع، وإن أريد به نفي ما دلت عليه النصوص من الاستواء والعلووالارتفاع والفوقية فهو قول باطل ضال قائله مخالف للكتاب والسنة،

_ 1 سورة هود آية: 17.

ولإجماع سلف الأمة مكابر للعقول الصحيحة والنصوص الصريحة، وهو جهمي لا ريب من جنس ما قبله. وإن لم يرد هذا المعنى بل أثبت العلو والفوقية والارتفاع الذي دل عليه لفظ الاستواء، فيقال فيه: هو مبتدع ضال، قال في الصفات قولا مشتبها موهما. فهذا اللفظ 1 لا يجوز نفيه ولا إثباته، والواجب في هذا الباب متابعة الكتاب والسنة والتعبير بالعبارات السلفية الإيمانية وترك المتشابه. وأما من يقول: إذا قلتم: "إن الله على العرش استوى" فأخبروني قبل أن يخلق العرش كيف كان، وأين كان، وفي أي مكان؟ فجوابه أن يقال: أما كيف كان، فقد أجاب عنها إمام دار الهجرة الذي تضرب إليه أكباد الإبل في طلب العلم النبوي والميراث المحمدي، قال له السائل: يا أبا عبد الرحمن {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} 2 كيف استوى فقال مالك: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والسؤال عنه بدعة، وأمر بالسائل فأخرج عنه. فأخبر -رحمه الله- أن الكيف غير معلوم، لأنه لا يعلم إلا بعلم كيفية الذات؛ وقد حجب العباد عن معرفة ذلك لكمال عظمته وعظم جلاله. وعقول العباد لا يمكنها إدراك ذلك، ولا تحمله، وإنما أمروا بالنظر والتفكر فيما خلق وقدر. وإنما يقال: كيف هو؟ لمن لم يكن ثم كان، فأما الذي لا يحول، ولا يزول، ولم يزل، وليس له نظير. ولا مثل، فإنه لا يعلم كيف هو إلا هو، وكيف يعرف قدر من لم يبد، ولا يموت ولا يبلى، وكيف يكون لصفة شيء منه حد ومنتهى يعرفه عارف، أو يحد قدره، واصف؟

_ 1 يعني قوله: "استوى من غير مماسة للعرش" فإن نفيه قد يستلزم نفي ما هو ثابت بالنصوص القطعية، وإثباته باطل لفظا ومعنى. 2 سورة طه آية: 5.

لأنه الحق المبين لا حق أحق منه، ولا شيء أبين منه، والعقول عاجزة قاصرة عن تحقيق صفة أصغر خلقه كالبعوض وهو لا يكاد يرى، ومع ذلك يحول ويزول، ولا يرى له سمع ولا بصر، فما يتقلب به، ويحتال من عقله أخفى وأعضل مما ظهر من سمعه وبصره {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} 1 {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} وقد قال بعضهم 2 مخاطبا للزمخشري منكرا عليه نفي الصفات شعرا: قل لمن يفهم عني ما أقول ... قصر القول فذا شرح يطول أنت لا تفهم إياك, ولا ... من أنت ولا كيف الوصول لا ولا تدري خفايا ركبت ... فيك حارت في خباياها العقول أنت أكل الخبز لا تعرفه ... كيف يجري منك أم كيف تبول أين منك الروح في جوهرها ... كيف تسري فيك أم كيف تجول فإذا كانت طواياك التي ... بين جنبيك كذا فيها ضلول 3 كيف تدري من على العرش استوى ... لا تقل كيف استوى كيف النّزول وبالجملة فهذا السؤال سؤال مبتدع جاهل بربه، وكيف يقول: إذا قلتم: إن الله على العرش استوى، وهو يسمع إثبات الاستواء في سبعة مواضع من القرآن. [إبطال ايرادات على الاستواء على العرش] وأما قوله: أين كان قبل أن يخلق العرش؟ فهذه المسألة ليس فيها تكييف، ولا ابتداع، وقد خرج الترمذي جوابها مرفوعا من حديث أبي رزين العقيلي أنه قال: "يا رسول الله، أين كان ربنا قبل أن يخلق الخلق؟ قال: في

_ 1 سورة المؤمنون آية: 14. 2 المشهور أنه أبو حامد الغزالي رحمه الله. 3 الرواية التي نحفظها: بها أنت جهول، بدل: كذا فيها ضلول.

عماء، ما فوقه هواء، وما تحته هواء"1 انتهى الحديث. فهذا جواب مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم قد قبله الحفاظ، وصححوه، والعماء هو السحاب الكثيف. قال يزيد بن هارون إمام أهل اليمن من أكابر الطبقة الثالثة من طبقات التابعين، ومن سادتهم: معناه ليس معه شيء. وأما قول السائل ... 2 وفي زعم هذا القائل أنه بذلك ينبغي حاجة الرب إلى العرش؛ فيقال: ليس في إثبات الاستواء على العرش ما يوجب الحاجة إليه أو فقر الرب -تبارك وتعالى- إلى شيء من خلقه؛ فإنه -سبحانه تعالى وتقدس- هو الغني بذاته عما سواه، وغناه من لوازم ذاته. والمخلوقات بأسرها، العرش فما دونه، فقيرة محتاجة إليه -تعالى- في إيجادها وفي قيامها لأنه لا قيام لها إلا بأمره، قال -تعالى-: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ بِأَمْرِهِ} 3. والسماء اسم لما علا وارتفع، فهو اسم جنس يقع على العرش، قال -تعالى-: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} 4 الآية، وبحوله وقوته حمل العرش، وحمل حملة العرش، وهو الذي {يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولا} 5 الآية 6، وجميع المخلوقات مشتركون في الفقر والحاجة إلى بارئهم وفاطرهم. وقد قرر -سبحانه- كمال غناه، وفقر عباده إليه في مواضع من كتابه، واستدل بكمال غناه المستلزم لأحديته في الرد على النصارى، وإبطال ما قالوه من الإفك العظيم والشرك الوخيم، قال -تعالى-: {قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ} 7 الآية. وكمال غناه يستلزم نفي الصاحبة والولد، ونفي الحاجة إلى جميع المخلوقات. ولا

_ 1 الترمذي: تفسير القرآن (3109) , وابن ماجه: المقدمة (182) , وأحمد (4/ 11 ,4/ 12). 2 لم يذكر مقول القول، والظاهر أنه سقط من الناسخ هنا "وفي أي مكان" فإنه تتمة الأسئلة، والجواب رد له. 3 سورة الروم آية: 25. 4 سورة الملك آية: 16. 5 سورة فاطر آية: 41. 6 أي اقرأ الآية في هذا، وهي {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ} 7 سورة يونس آية: 68.

يظن أحد يعرف ربه، أو شيئًا من عظمته وغناه ومجده أنه محتاج إلى العرش وغيره، وإنما يتوهم هذا من هو في غاية الجهالة والضلالة، ومن لم يعرف شيئا من آثار النبوة والرسالة، ومن فسدت فطرته، ومسخ عقله بنظره في كلام الجهمية وأشباههم حتى اجتالته الشياطين؛ فلم يبق معه أثارة من علم ولا نصيب من فهم؛ بل استواؤه على العرش صفة كمال وعز وسلطان، وهو من معنى اسمه الظاهر، ومعناه الذي ليس فوقه شيء، والعلو علو الذات وعلو القهر وعلو السلطان، كلها ثابتة لله، وهي صفات كمال تدل على غناه، وعلى فقر المخلوقات إليه. والذي ينبغي لأمثالنا ترك الخوض مع هؤلاء المبتدعة الضلال، وترك مجالستهم قال -تعالى-: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} 1. وأكثر المعطلة يزعمون أن تعطيلهم تنْزيه للرب عما لا يليق به، فساء ظنهم، وغلظ حجابهم؛ حتى توهموا أن إثبات ما في الكتاب والسنة إلى ما فهمه سلف الأمة مما ينزه الرب -تبارك وتعالى- عنه. [رفع اليدين بالدعاء في الصلاة] (وأما مسألة) رفع اليدين بالدعاء في الصلاة، فالذي ثبت عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه كان يرفع يديه إذا اجتهد في الدعاء، وليس ذلك من السنن المتعلقة بالصلاة كما يظنه بعض من لم يعرف السنة؛ فإنه لم ينقل عنه صلى الله عليه وسلم ولا عن أصحابه ملازمة ذلك وفعله عقب كل صلاة. [الفطرة عن صوم رمضان] وأما الفطرة عن صوم رمضان، فجمهور العلماء يرون أنه لا يجزي إلا صاع كامل من أي صنف من الأصناف المذكورة في حديث أبي سعيد وابن عمر وغيرهما، وهي الطعام والشعير والتمر والأقط والزبيب، وذهب جمع إلى جواز الإخراج من غالب قوت البلد، أي

_ 1 سورة الأنعام آية: 68.

قوت كان كالذرة والأرز ونحوهما. وذهب بعضهم إلى أن نصف الصاع من سمراء الشام، وهي البر (يجزي) عن صاع من غيره، وهذا القول قاله معاوية، ورآه رأيا له، وليس بمرفوع، وقد خالفه أبو سعيد الخدري، ولم يوافقه عليه، وبعض العلماء وافق معاوية على ذلك، وقليل ما هم. [الابتداء بفاتحة الكتاب عند تلاوة القرآن] وأما الابتداء بفاتحة الكتاب كلما أراد تلاوة القرآن، فلا أرى الإنكار على من فعل ذلك، لما ثبت في الحديث الصحيح من قصة الأنصاري الذي كان يقرأ سورة (قل هو الله أحد) في كل ركعة يكررها إذا أراد القراءة بغيرها، فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "سلوه لم فعل ذلك؟ فقال: إني أحبها لأن فيها صفة الرحمن، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أخبروه أن الله يحبه"؛ فمن قرأ فاتحة الكتاب أو غيرها بقصد يضاهي هذا أو يشابهه فلا حرج عليه. وأما إن قرأها قبل كل قراءة معتقدا أن الله أمر بذلك أو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سنه فهذا يعرف بالسنة، ويخبر بها أنها إنما ابتدئت بها القراءة في الصلاة لا في سائر أحوال التلاوة. [مخالطة أهل الشرك والبدعة لدعوتهم للإسلام] وأما الرجل الذي يخالط أهل بلده ومحلته، ويرجو بمخالطتهم أن يجيبوه إلى الإسلام وإلى السنة، ويتركوا ما هم عليه من شرك أو بدعة أو فواحش، فهذا يلزمه خلطتهم ودعوتهم إن أمن الفتنة، لما في ذلك من المصلحة الراجحة على مصلحة الهجر والاعتزال، ورؤية المنكر إذا رجا بها إزالته وتغييره، وأمن الفتنة به، ولم يمكن تحصيل المصالح الدينية إلا بذلك؛ فلا حرج عليه بل ربما تأكد واستحب. وبلغني أن شيخ الإسلام ابن تيمية -قدس الله روحه- كان يخرج إلى عسكر التتار لما نزلوا الشام المرة الأولى

حول دمشق، ويجتمع بأميرهم، ويأمره وينهاه، ويرى في خروجه عندهم أشياء من المنكرات، وقد أراد بعض الأفاضل ممن صحبه في إحدى تلك المرات أن ينكر على جماعة منهم ما رأوه يدور بينهم من كاسات الخمر، فقال له الشيخ: لا تفعل؛ إنهم لو تركوا هذا لزاد شرهم على المسلمين وجرمهم. [مبادأة الكافر بالسلام] وأما البداءة بالسلام فلا ينبغي أن يبدأ الكافر بالسلام، بل هو تحية أهل الإسلام، لكن إن خاف مفسدة راجحة، وفوات مصلحة كذلك، فلا بأس بالبداءة لا سيما من ينتسب إلى الإسلام، ولكن يخفى عليه شيء من أصوله وحقوقه. وقد كان صلى الله عليه وسلم يأتي المشركين من العرب في منازلهم أيام الموسم، ويدعوهم إلى توحيد الله وترك عبادة ما سواه، وأن يقولوا: لا إله إلا الله، ويتلو عليهم القرآن، ويبلغهم ما أمر بتبليغه مع ما هم عليه من الشرك والكفر والرد القبيح، لما في ذلك من المصلحة الراجحة على مصلحة الهجر والتباعد. والهجر إنما شرع لما فيه من المصلحة وردع المبطل، فإذا انتفى ذلك، وصار فيه مفسدة راجحة فلا يشرع. ومن تأمل السيرة النبوية والآثار السلفية يعرف ذلك، ويتحققه. وقد أمر الله بالدعوة إليه على بصيرة قال -تعالى-: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ} 1، وقال -تعالى-: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ} 2. والجهاد بالحجة والبيان يقدم على الجهاد بالسيف والسنان. وقد مرصلى الله عليه وسلم على مجلس فيه أخلاط من المسلمين والمنافقين واليهود، وفيه عبد الله بن أُبَيّ رأس المنافقين، فسلم صلى الله عليه وسلم ونزل عن دابته، ودعاه إلى الإسلام، وذلك حين ذهب إلى سعد بن عبادة يعوده في منْزله، والقصة مشهورة. وكثير من العلماء يبتلى بخلطة هذا الضرب من الناس

_ 1 سورة يوسف آية: 108. 2 سورة الحج آية: 78.

الرسالة التاسعة عشرة: الطعن في كتاب الإحياء

لكنه يكون مباركا أينما كان، داعيا إلى الله مذكرًا به هاديا إليه، كما قال عن المسيح -عليه السلام-: {وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ} 1 أي: داعيا إلى الله مذكرا به معلما بحقوقه. فهذه هي البركة المشار إليها، ومن عدمها محقت بركة عمره وساعاته وخلطته ومجالسته، ونسأل الله العظيم لنا ولكم علما نافعا، يكون لنا لديه يوم القيامة شافعا. أسأل الله العظيم أن يغفر زلتي، ويقبل توبتي، ويقيل عثرتي، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم. الرسالة التاسعة عشرة [الطعن في كتاب الإحياء] وله أيضا -قدس الله روحه، ونور ضريحه، وعفا عنه- رسالة إلى عبد الله بن معيذر، وكان قد بلغ الشيخ أنه يشتغل بكتاب الإحياء للغزالي، ويقرأ فيه عند العامة؛ وكان كتاب الإحياء مشتملا على ما يمج سماعه من التحريفات الجائرة، والتأويلات الضالة الخاسرة، وإن كان فيه بعض المباحث المستحسنة، لكن فيه من الداء الدفين، والفلسفة في أصل الدين، ما تنفر منه طباع الموحدين، ويخاف منه على ضعفاء البصائر من العامة والجاهلين، وهذا نصها: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له الملك الحق المبين، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الصادق الأمين، صلى الله عليه وعلى أصحابه صلاة دائمة مستمرة إلى يوم الدين. وبعد، فإني رأيت بعض أهل وقتنا يشتغل بكتاب الإحياء للغزالي عند العامة، وهو لا يحسن فهم معانيه، ولا يعرف ما تحت جمله ومبانيه، ليست له أهلية في تمييز الخبيث من الطيب، ولا دراية بما تحت ذلك البارق

_ 1 سورة مريم آية: 31.

من ريح عاتية أو صيب، فكتبت إليه نصيحة، وأرسلت إليه بعض أصحابه، وأرشدته إلى الدواوين الإسلامية المشتملة على الأحاديث النبوية، والسير السلفية، والرقائق الوعظية، فلم يقبل، واستمر على رأيه، وأعجب بنفسه، وأظهر ذلك لبعض من يجالسه، وحط من قدر الناهي له، فكتبت إليه كتابا فلم يصغ، ولم يلتفت، وزعم أنه على بصيرة، وأبدى من جهله الأعاجيب الكثيرة، فأحببت أن أذكر للطلبة والمستفيدين بعض ما قاله أئمة الإسلام والدين في هذا الكتاب المسمى بالإحياء؛ ليكون الطالب على بصيرة من أمره؛ ولئلا يلتبس عليه ما تحت عباراته من زخرف القول. وصورة ما كتبت أولا: من: عبد اللطيف بن عبد الرحمن إلى الأخ: عبد الله: سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد. فقد بلغني عنك ما يشغل كل من له حمية إسلامية، وغيرة دينية على الملة الحنيفية، وذلك أنك اشتغلت بالقراءة في كتاب الإحياء للغزالي، وجمعت عليه من لديك من الضعفاء والعامة الذين لا تمييز لهم بين مسائل الهداية والسعادة ووسائل الكفر والشقاوة، وأسمعتهم ما في الإحياء من التحريفات الجائرة، والتأويلات الضالة الخاسرة، والشقاشق التي اشتملت على الداء الدفين، والفلسفة في أصل الدين، وقد أمر الله -تعالى- وأوجب على عباده أن يتبعوا الرسول، وأن يلتزموا سبيل المؤمنين، وحرم اتخاذ الولائج من دون الله ورسوله، ومن دون عباده المؤمنين، وهذا الأصل المحكم لا قوام للإسلام إلا به، وقد سلك في الإحياء طريق الفلاسفة والمتكلمين في كثير من مباحث الإلهيات وأصول الدين، وكسا

الفلسفة لحاء الشريعة؛ حتى ظنها الأغمار والجهال بالحقائق من دين الله الذي جاءت به الرسل، ونزلت به الكتب، ودخل به الناس في الإسلام، وهي في الحقيقة محض فلسفة منتنة، يعرفها أولو الأبصار، ويمجها من سلك سبيل أهل العلم كافة في القرى والأمصار، قد حذر أهل العلم والبصيرة عن النظر فيها، ومطالعة خافيها وباديها. بل أفتى بتحريقها علماء المغرب ممن عرف بالسنة، وسماها كثير منهم إماتة علوم الدين، وقام ابن عقيل أعظم قيام في الذم والتشنيع، وزيف ما فيه من التمويه والترقيع، وجزم بأن كثيرًا من مباحثه زندقة خالصة لا يقبل لصاحبها صرف ولا عدل. قال شيخ الإسلام: ولكن أبو حامد دخل في أشياء من الفلسفة، وهي عند ابن عقيل زندقة، وقد رد عليه بعض ما دخل فيه من تأويلات الفلاسفة، ورد عليه شيخ الإسلام في السبعينية. وذكر قوله في العقول والنفوس، وأنه مذهب الفلاسفة، فأفاد وأجاد، ورد عليه غيره من علماء الدين. وقال فيه تلميذه ابن العربي المالكي: شيخنا أبو حامد دخل في جوف الفلسفة، ثم أراد الخروج؛ فلم يحسن. وكلام أهل العلم معروف في هذا لا يشكل إلا على من هو مزجى البضاعة، أجنبي من تلك الصناعة، ومشايخنا -تغمدهم الله برحمته- مضوا على هذا السبيل والسنن، وقطعوا الوسائل إلى الزندقة والفلسفة والفتن، وأدبوا على ما هو دون ذلك، وأرشدوا الطالب إلى أوضح المناهج والمسالك. وشكرهم على ذلك كل صاحب سنة وممارسة للعلم النبوي، وأنت قد خالفت، وخرجت عن مناهجهم، وضللت المحجة، وخالفت مقتضى البرهان والحجة، واستغنيت برأيك، وانفردت بنفسك، عن المتوسمين بطلب العلم المنتسبين إلى السنة. ما أقبح

الحور بعد الكور! وما أوحش زوال النعم، وحلول النقم! إذا سمعت بعض عباراته المزخرفة قلت: كيف ينهانا عن هذا فلان، ويأمر بالإعراض عن هذا الشان، كأنك سقطت على الدرة المفقودة، والضالة المنشودة. وقد يكون ما أطربك، وهز أعطافك، وحركك، فلسفة منتنة وزندقة مبهمة، أخرجت في قالب الأحاديث النبوية، والعبارات السلفية، فرحم الله عبدا عرف نفسه، ولم يغتر بجاهه، وأناب إلى الله، وخاف الطرد عن بابه، والإبعاد عن جنابه. وينبغي للإمام -أيده الله- أن ينزع هذا الكتاب من أيديكم، ويلزمكم بكتب السنة من الأمهات الست وغيرها، والله يقول الحق، وهو يهدي السبيل، انتهى. [أقوال المنكرين على الغزالي] ثم جمعت بعض أقوال أهل العلم، وما أفتوا به في هذا الكتاب، وتحذيرهم للطالب والمسترشد، فمن ذلك قول الذهبي في ترجمته للغزالي: وأخذ في تأليف الأصول والفقه والكلام والحكمة، وأدخله سيلان ذهنه في مضايق الكلام، ومزال الأقدام، ولله سر في خلقه. وساق الكلام إلى أن قال: ذكر هذا عبد الغافر إلى أن قال: ثم حكي عنه أنه راجع العلوم، وخاض في الفنون الدقيقة، والتقى بأربابها، حتى تفتحت له أبوابها، وبقي مدة، وفتح عليه باب من الخوف بحيث يشغله عن كل شيء ... إلى أن قال: ومما كان يعترض به عليه وقوع خلل من جهة النحو في أثناء كلامه، وروجع فيه فأنصف، واعترف بأنه ما مارسه، ومما نقم عليه ما ذكر من الألفاظ المستبشعة بالفارسية في كيمياء السعادة والعلوم، وشرح بعض الصور، والمسائل بحيث لا يوافق مراسم الشرع، وظواهر ما عليه قواعد الملة، وكان الأولى به، والحق أحق ما يقال، ترك ذلك التصنيف، والإعراض عن الشرح له، فإن

العوام ربما لا يحكمون أصول القواعد بالبراهين والحجج، فإذا سمعوا شيئا من ذلك تخيلوا منه ما هو أضر بعقائدهم، وينسبون ذلك إلى بيان مذهب الأوائل. قال الذهبي: ما نقله عبد الغافر على أبي حامد في الكيمياء، فله أمثاله في غضون تواليفه. حتى قال أبو بكر بن العربي: شيخنا أبو حامد بلع الفلسفة، وأراد أن يتقاياها فما استطاع، انتهى. ومن معجم أبي علي الصدفي في تأليف القاضي عياض له قال: الشيخ أبو حامد ذو الأنباء الشنيعة، والتصانيف العظيمة، غلا في التصوف، وتجرد لنصر مذهبهم، وصار داهية في ذلك، وألف فيه تواليفه المشهورة، أخذ عليه فيها مواضع، وساءت به ظنون أمة، والله أعلم بسره، ونفذ أمر السلطان عندنا بالغرب، وفتوى الفقهاء بإحراقها، والبعد عنها فامتثل ذلك. انتهى. ونقل أبو المظفر يوسف سبط ابن الجوزي المتهم بالتشيع في كتابه (رياض الأفهام) قال: ذكر أبو حامد في كتاب (سر العالمين وكشف ما في الدارين) وقال في حديث: "من كنت مولاه فعلي مولاه"1 أن عمر قال: بخٍ بخٍ أصبحت مولى كل مؤمن ومؤمنة. قال أبو حامد: وهذا تسليم ورضى، ثم بعد هذا غلب عليه الهوى حبا للرياسة وعقد البنود وأمر الخلافة ونهيها، فحملهم على الخلافة {فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ} 2. وسرد كثيرا من هذا الكلام الفسل الذي تزعم الإمامية. قال الذهبي: وما أدري ما عذره في هذا؟ الظاهر أنه رجع عنه، وتبع الحق (قلت): هذا إن لم يكن من وضع هذا، وما ذاك ببعيد، ففي هذا التأليف بلايا لا تستطاب. (قلت): ما ذكره الذهبي ممكن، والغرض أن ما ينسب إلى هذا الرجل

_ 1 الترمذي: المناقب (3713) , وأحمد (1/ 118 ,4/ 368 ,4/ 370 ,4/ 372). 2 سورة آل عمران آية: 187.

لا يغتر به، ويجب هجره وإطراحه؛ لما في كتبه من الداء العضال، والعثرات التي لا تقال. قال الذهبي: قد ألف الرجل في ذم الفلاسفة كتاب التهافت، وكشف عوراتهم، ووافقهم في مواضع ظنا منه أن ذلك حق أو موافق للملة. ولم يكن له علم بالآثار، ولا خبرة بالسنن النبوية القاضية على العقل، وحبب إليه إدمان النظر في كتاب رسائل إخوان الصفا، وهو داء عضال، وجرب مُرْدٍ، وسم قاتل، ولولا أن أبا حامد من الأذكياء، وخيار المخلصين لتلف. فالحذر الحذر من هذه الكتب! واهربوا بدينكم من شبه الأوائل، وإلا وقعتم في الحيرة، فمن رام النجاة والفوز، فليلزم العبودية، وليكثر الاستغاثة بالله، وليبتهل إلى مولاه في الثبات على الإسلام، وأن يتوفى على إيمان الصحابة وسادة التابعين، والله الموفق. فبحسن قصد العلم يغفر له، وينجو إن شاء الله. [ما أنكره أهل الأثر على الغزالي] وقال أبو عمر بن الصلاح: (فصل) في بيان أشياء مهمة أنكرت على أبي حامد، ففي تواليفه أشياء لم يرضها أهل مذهبه من الشذوذ (منها) قوله في المنطق: هو مقدمة العلوم كلها، ومن لا يحيط به، فلا ثقة له بمعلوم أصلا، قال: فهذا مردود. إذ كل صحيح الذهن منطقي بالطبع، وكم من إمام ما رفع بالمنطق رأسا. (فأما كتاب) "المضنون به على غير أهله"، فمعاذ الله أن يكون له. شاهدت على نسخة منه بخط القاضي كمال الدين محمد بن عبد الله الشهرزوري أنه موضوع على الغزالي، وأنه مخترع من كتاب (مقاصد الفلاسفة)، وقد نقضه الرجل بكتاب التهافت. وقال أحمد بن صالح الجيلي في تاريخه: وقد رأيت كتاب (الكشف والإنباء عن كتاب الإحياء) للمازري: الحمد لله الذي أنار الحق وأداله،

وأباد الباطل وأزاله. ثم أورد المازري أشياء مما تنقَّده على أبي حامد يقول: ولقد أعجب من قوم مالكية، يرون الإمام مالكا يهرب من التحديد، وإيجاب أن يرسم رسما، وإن كان فيها أثر ما أو قياس ما، تورعا وتحفظا من الفتوى فيما يحمل الناس عليه، ثم يستحسنون من الرجل فتاوى مبناها على ما لا حقيقة له، وفيه كثير عن النبي صلى الله عليه وسلم لفق منه الثابت بغير الثابت. وكذا ما أورد عن السلف لا يمكن ثبوته كله، وأورد من نزعات الأولياء، ونفثات الأصفياء، ما يجل موقعه، لكن مزج فيه النافع بالضار، كإطلاقات يحكيها عن بعضهم، لا يجوز إطلاقها لشناعتها، وإن أخذت معانيها على ظواهرها كانت كالرموز لقدح الملحدين، ولا تنصرف معانيها إلى الحق إلا بتعسف، على أن اللفظ مما لا يتكلف العلماء مثله إلا في كلام صاحب الشرع الذي اضطرت المعجزات الدالة على صدقه المانعة من جهله وكذبه إلى طلب التأويل 1 كقوله: "إن القلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن"2 وأن "السموات على أصبع"3 وكقوله: "لأحرقت سبحات وجهه"4 وكقوله: "يضحك الله"، إلى غير ذلك من الأحاديث الواردة ظاهرها مما أحاله العقل 5 - إلى أن قال-: فإذا كانت العصمة غير

_ 1 قوله: إلى طلب التأويل إلخ كلام باطل مستدرك مردود على قائله، فالذي درج عليه السلف الصالح وأهل التحقيق من أهل العلم أن هذه الأحاديث تجري على ظواهرها ولا يتعرض لها بتأويل، فمن تأولها فقد سلك غير سبيل المؤمنين، ونحا طريقة المتكلمين المتكلفين الحيارى المفتونين، فعليك بما كان عليه السلف الصالح والصدر الأول، والله أعلم. سليمان بن سحمان. انتهى من حاشية الأصل. 2 الترمذي: القدر (2140) , وابن ماجه: الدعاء (3834). 3 البخاري: تفسير القرآن (4811) , ومسلم: صفة القيامة والجنة والنار (2786) , والترمذي: تفسير القرآن (3238) , وأحمد (1/ 378). 4 مسلم: الإيمان (179) , وأحمد (4/ 400 ,4/ 405). 5 وهذه الأحاديث وأشباهها لا تحيلها العقول السليمة، فإن الله ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في أسمائه وصفاته، وهو على كل شيء قدير، بل نقطع على أنها حق على حقيقتها، ولا نتعرض لها بكيف ولا تأويل، بل نصف الله بما وصف به نفسه ووصفه به رسوله، ولا نتجاوز القرآن والسنة، والله أعلم. سليمان بن سحمان. انتهى من حاشية الأصل.

مقطوع بها في حق الولي، فلا وجه لإضافة ما لا يجوز إطلاقه إليه إلا أن يثبت، وتدعو ضرورة إلى نقله فيتأول ... إلى أن قال: ألا ترى لو أن منصفا أخذ يحكي عن بعض الحشوية مذهبه في قدم الصوت والحرف وقدم الورق، لما حسن به أن يقول: قال بعض المحققين: إن القارئ إذا قرأ كتاب الله عاد القارئ في نفسه قديما بعد أن كان محدثا، وقال بعض الحذاق: إن الله محل للحوادث إذا أخذ في حكاية مذاهب الكرامية. وقال قاضي الجماعة أبو عبد الله محمد بن حمد القرطبي: إن بعض من يعظ ممن كان ينتحل رسم الفقه، ثم تبرأ منه شغفا بالشرعة الغزالية، والنحلة الصوفية، أنشأ كراسة تشتمل على معنى التعصب لكتاب أبي حامد إمام بدعتهم، فأين هو من تشانيع مناكيره، وتضليل أساطيره المباينة للدين، وزعم أن هذا من علم المعاملة المفضي إلى علم المكاشفة، الواقع بهم على سر الربوبية، الذي لا يسفر عن قناعه، ولا يفوز باطلاعه، إلا من تمطى إلى شيخ ضلالته التي رفع لهم أعلامها، وشره أحكامها؟ قال أبو حامد: وأدنى ... 1 من هذا العلم التصديق به، وأقل عقوبته أن لا يرزق المنكر منه شيئا. فأعرض من قوله على قوله: ولا تشتغل بقراءة قرآن، ولا بكتب حديث، لأن ذلك يقطعه عن الوصول إلى إدخال رأسه في كم جيبه، والتدثر بكسائه، فيسمع نداء الحق فهو يقول: ذروا ما كان السلف عليه، وبادروا إلى ما آمركم به، ثم إن القاضي أقذع وسب وكفر. وقال أبو حامد: وصدور الأحرار قبور الأسرار، ومن أفشى سر الربوبية كفر، ورأى مثل قتل الحلاج خيرًا من إحياء عشرة لإطلاقه ألفاظًا،

_ 1 بياض بالأصل.

ونقل عن بعضهم قال: للربوبية سر لو ظهر لبطلت النبوة، وللنبوة سر لو كشف لبطل العلم، وللعلم سر لو كشف لبطلت الأحكام. قلت: سر العلم قد كشف بصوفية أشقياء، فانحل النظام، وبطل لديهم الحلال والحرام. قال ابن حمد: ثم قال الغزالي: القائل بهذا إن لم يرد إبطال النبوة في حق الضعفاء، فما قال ليس بحق، فإن الصحيح لا يتناقض، وإن الكامل لا يطفئ نور معرفته نور ورعه. وقال الغزالي: العارف يتجلى له أنوار الحق، وتنكشف له العلوم المرموزة المحجوبة عن الخلق، فيعرف معنى النبوة، وجميع ماوردت به ألفاظ الشريعة التي نحن منها على ظاهرها، قال عن بعضهم: إذا رأيته في البداية قلت: صديقا، فإذا رأيته في النهاية قلت: زنديقا، ثم فسره الغزالي فقال: إذا رأيتم الزنديق لا يلصق إلا بمعطل الفرائض لا بمعطل النوافل، وقال: وذهبت الصوفية إلى العلوم الإلهامية دون التعليمية. فيجلس فارغ القلب مجموع الهم، يقول: الله الله الله على الدوام فيتفرغ قلبه، ولا يشتغل بتلاوة، ولا كتب حديث، فإذا بلغ هذا الحد التزم الخلوة ببيت مظلم، ويدثر بكسائه، فحينئذ يسمع نداء الحق: (يا أيها المزمل - يا أيها المدثر). قلت؛ إنما سمع شيطانا أو سمع شيئا لا حقيقة له من طيش دماغه، والتوقيف في الاعتصام بالكتاب والسنة والإجماع. قال أبو بكر الطرطوشي: شحن أبو حامد كتاب الإحياء بالكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما على بسيط الأرض أكثر كذبا منه. شبكه بمذاهب الفلاسفة، ومعاني رسائل إخوان الصفا، وهم قوم يرون النبوة مكتسبة، وزعموا أن المعجزات حيل ومخاريق.

[أقوال العلماء في الغزالي] قال ابن عساكر: حج أبو حامد وأقام بالشام نحوًا من عشرين سنة ونصف، وأخذ نفسه بالمجاهدة، وكان مقامه بدمشق في المنارة الغربية من الجامع، سمع صحيح البخاري من أبي سهل الحمصي، وقدم دمشق في سنة تسع وثمانين. وقال ابن خلكان: بعثه النظام على مدرسة ببغداد في سنة أربع وثمانين، وتركها في سنة ثمان وثمانين، وزهد، وحج، وأقام بدمشق مدة بالزاوية الغربية، ثم انتقل إلى بيت المقدس يتعبد، ثم قصد مصر، وأقام مدة بالإسكندرية، فقيل عزم على المضي إلى يوسف بن تاشفين سلطان مراكش فبلغه نعيه. ثم عاد إلى طوس، وصنف البسيط، والوسيط، والوجيز، والخلاصة، والإحياء، وألف المستصفى في أصول الفقه، والمنخول، واللباب، المنتحل في الجدل، وتهافت الفلاسفة، ومحك النظر، ومعيار العلم، وشرح الأسماء الحسنى، ومشكاة الأنوار، والمنقذ من الضلال، وحقيقة القولين، وأشياء، انتهى. وقال عبد الله بن علي الأثيري: سمعت عبد المؤمن بن علي القيسي سمعت عبد الله بن تومرت يقول: أبو حامد الغزالي قرع الباب، وفتح لنا. قال أبو محمد العثماني وغيره: سمعنا محمد بن يحيى العذري المؤدب يقول: رأيت بالإسكندرية سنة خمسمائة كأن الشمس طلعت من مغربها، فعبرها لي عابد ببدعة تحدث فيهم، فبعد أيام، وصل الخبر بإحراق كتب الغزالي من البريد. قال أبو بكر بن العربي في شرح الأسماء الحسنى: قال شيخنا أبو حامد قولا عظيما انتقده عليه العلماء، قال: وليس في قدرة الله -تعالى- أبدع من

هذا العالم في الإتقان والحكمة، ولو كان في القدرة أبدع وأحكم منه ولم يفعله، لكان ذلك قضاء للجور، وذلك محال. ثم قال: والجواب أنه باعد في اعتقاد عموم القدرة، ونفي النهاية عن تقدير المقدرات المتعلقة بها، ولكن في تفصيل هذا العلم المخلوق لا في سواه، وهذا رأي فلسفي قصدت به الفلاسفة قلب الحقائق، ونسبة الإتقان إلى الحياة مثلا، والوجود إلى السمع والبصر حتى لا يبقى في القلوب سبيل إلى الصواب؛ واجتمعت الأمة على خلاف هذا الاعتقاد، وقالت عن بكرة أبيها: إن المقدورات لا نهاية لها بكل مقدور الوجود، لا بكل حاصل الوجود، إذ القدرة صالحة. ثم قال: وهذه وهلة لا لعا بها ومنزلة لا تمسك فيها، ونحن وإن كنا نقطة من بحره، فإنا لا نرد إلا بقوله. ومما أخذ عليه قوله: إن للقدر سرا نهينا عن إفشائه، فأي سر للقدر؟ فإن كان مدركا بالنظر وصل إليه ولا بد، وإن كان مدركا بالخبر فما ثبت فيه شيء، وإن كان يدرك بالحيل والعرفان، فهذه دعوى محضة، فلعله عني بإفشائه إن تعمق في القدر، وبحث فيه. قال الذهبي: أنبأنا محمد بن عبد الكريم: أنبأنا أبو حسن السخاوي أنبأنا: خطاب بن قمرية الصوفي: أنبأنا سعد بن أحمد الإسفراييني بقراءتي: أنبأنا أبو حامد محمد بن محمد بن محمد الطوسي قال: اعلم أن الدين شطران: أحدهما ترك المناهي، والآخر فعل الطاعات. وترك المناهي هو الأشد، وفعل الطاعات يقدر عليه كل أحد، وترك الشهوات لا يقدر عليه إلا الصديقون، ولذلك قال أبو عامر العبدي: سمعت أبا نصر أحمد بن محمد بن عبد القاهر الطوسي يحلف بالله أنه أبصر في نومه كأنه ينظر في كتب الغزالي؛ فإذا هي كلها تصاوير.

وقال أبو الوليد الطرطوشي في رسالته إلى ابن المظفر: فأما ما ذكرت من أبي حامد فقد رأيته، وكلمته، ورأيته جليلا من أهل العلم، واجتمع فيه العقل، والفهم، ومارس العلوم طول عمره، وكان على ذلك معظم زمانه، ثم بدا له عن طريقة العلماء، ودخل في غمار العمال، ثم تصوف، وهجر العلوم وأهلها، ودخل في علوم الخواطر، وأرباب القلوب، ووساوس الشيطان، ثم شابها بآراء الفلاسفة، ورموز الحلاج، وجعل يطعن على الفقهاء والمتكلمين. ولقد كاد أن ينسلخ من الدين، فلما عمل الإحياء عمد أن يتكلم في علوم الأحوال ومرامز الصوفية، وكان غير أنيس بها، ولا خبير بمعرفتها، فسقط على أم رأسه، وشحن كتابه بالموضوعات. قال الذهبي بعد أن ساق كلام ابن الوليد الطرطوشي: قلت: أما الإحياء ففيه من الأحاديث الباطلة جملة، وفيه خير كثير لولا ما فيه من آداب ورسوم وزهد من طريق الحكماء ومنحرف الصوفية، نسأل الله علما نافعا، تدري ما العلم النافع؟ هو ما نزل به القرآن، وفسره الرسول -صلى الله عليه وسلم- قولا وفعلا، ولم يأت نهي عنه، قال عليه السلام: "من رغب عن سنتي فليس مني"1. فعليك يا أخي بتدبر كتاب الله، وبإدمان النظر في الصحيحين، وسنن النسائي، ورياض النووي، وأذكاره تفلح وتنجح، وإياك وآراء عباد الفلاسفة، ووظائف أهل الرياضات، وجوع الرهبان، وخطاب طيش رؤوس أصحاب الخلوات، فكل الخير في متابعة الحنيفية السمحة، فواغوثاه بالله! اللهم اهدنا الصراط المستقيم. انتهى. [ملخص حال الغزالي] ولمحمد بن علي المازني الصقيلي كلام على الإحياء قال فيه: قد تكررت مكاتبتكم في استعلام مذهبنا في الكتاب المترجم بإحياء علوم الدين، وذكرتم

_ 1 البخاري: النكاح (5063) , ومسلم: النكاح (1401) , والنسائي: النكاح (3217) , وأحمد (3/ 241 ,3/ 259 ,3/ 285).

أن آراء الناس فيه قد اختلفت، فطائفة انتصرت، وتعصبت لإشهاره، وطائفة حذرت منه ونفرت، وطائفة لكتبه أحرقت، وكاتبوني أهل المشرق أيضا يسألوني، ولم يتقدم لي قراءة هذا الكتاب سوى نبذة منه، فإن نفس الله في العمر مددت منه الأنفاس، وأزلت عن القلوب الالتباس، اعلموا أن هذا رأيت تلامذته فكل منهم حكى لي نوعا من حاله ما قام مقام العيان، فأنا أقتصر على ذكر حاله، وحال كتابه، وأذكر جملا من مذاهب الموحدين والمتصوفة، وأصحاب الإشارات والفلاسفة، فإن كتابه متردد بين هذه الطوائف. (ثم قال): وأما علم الكلام الذي هو أصل الدين فإنه صنف فيه، وليس بالمتبحر فيها، ولقد فطنت لعدم استبحاره فيها؛ وذلك أنه قرأ علوم الفلسفة قبل استبحاره في علم الأصول فأكسبته الفلسفة جرأة على المعاني، وتسهيلا للهجوم على الحقائق، لأن الفلاسفة تمر مع خواطرها لا ينزعها شرع. وعرفني صاحب له أنه كان له عكوف على رسائل إخوان الصفا، وهي إحدى وخمسون رسالة، ألفها من قد خاض في علم الشرع والنقل وفي الحكمة، فمزج بين العلمين، وقد كان رجل يعرف بابن سينا ملأ الدنيا تصانيف أدته قوته في الفلسفة إلى أن حاول رد أصول العقائد إلى علم الفلسفة، وتلطف جهده حتى تم له ما لم يتم لغيره 1 ورأيت هذا آخر الموجود من الرسالة.

_ 1 هذا قول مقتضب محرف من كلام المازري، وقد استوفاه الأخ السبكي في طبقاته، ورد عليه وعلى الطرطوشي، فأما أبو حامد فقد رد على الفلاسفة ردًّا لم يسبقه مسلم إلى مثله. ورسائل إخوان الصفاء، ويعزوها شيخ الإسلام إلى الباطنية، وقد ألف أبو حامد عدة كتب في الرد عليهم لم يسبقه إلى مثله مسابق، ولم يلحقه لاحق، وليس كل ما في كل هذه الرسائل خطأ، ولا أبو حامد بالبليد الجاهل الذي يقلد صاحب كل كتاب يقرأه، ولماذا لم يذكر عكوفه بعد ذلك على البخاري ومسلم وموته على ذلك؟ فالحق في أبي حامد، والإحياء ما أبينه ملخصا: =

_ = الحق أن أبا حامد الغزالي -رحمه الله تعالى- كان من نوابغ علماء الملة وأنصار الدين الداعين إليه والمدافعين عنه؛ ولذلك لقب بحجة الإسلام، وقيل هذا اللقب الخاص والعام إلا الخصوم الذين لم يسلم نابغ منهم. ولإخلاص أبي حامد لله -تعالى- في علمه، وعمله جعل خاتمته خيرا من بدايته، فقد كانت عنايته أولا بالفقه، وأصوله، ثم بالمعقولات، وهي علم الكلام، وما يتعلق به من المنطق والفلسفة، ثم بالتصوف علما وعملا ورياضة، وأما خاتمته فكانت بالرجوع إلى كتب السنة، والعكوف على صحيحي البخاري ومسلم، والأخذ بمذهب السلف الصالح فيها. وأما كتابه الإحياء فقد ألفه في أثناء تصوفه، وكان يعتمد فيما ينقله فيه من الأحاديث، والآثار على كتب الحديث، وكتب التصوف من غير بحث في الروايات، وتمييز الصحيح وغير الصحيح منها، فوقع فيه كثير من الروايات الضعيفة والموضوعة، وكثير من نظريات الفلسفة التي رآها موافقة للدين، وما كل ما في الفلسفة -ولا سيما الأدبية منها - مخالف للدين، ولا أكثرها أيضا. فكان خصومه يشنعون عليه بهذا وذاك. فأما المحدثون فقد شنع عليه بعضهم بذكر ما لا يحتج به من الأحاديث والآثار، وأجيب عنه بأنه لم يكن منفردا بذلك، فأكثر المؤلفين في الفقه والتصوف والأدب والتاريخ قد وقعوا في مثل ذلك؛ لأنهم لم يكونوا من نقاد الحديث، ولا من حفاظه، بل وقع في بعض كتب المحدثين روايات واهية وموضوعة، لم ينبهوا عليها، بل منهم من صحح بعضها كالحاكم على جلالة قدره. ولم يشنع أحد من هؤلاء الخصوم على هؤلاء، ولا أولئك كما شنعوا عليه مع العلم بأنه هو لم يضع حديثا، ولم يدّع تصحيح ما لا يصح. وأما التشنيع عليه ببعض المسائل الكلامية والفلسفية والصوفية فالعبرة فيها بإقامة الدليل على بطلان كلامه فيها، وقد رأينا أن العلامة صاحب هذه الرسائل قد عني بنقل كل ما اطلع عليه من الطعن في الغزالي، ولم نر فيها إلا عبارات قليلة منكرة كمبالغته في مدح علم المنطق، وقوله: ليس في الإمكان أبدع مما كان. وقد ذكرها عنها بتعبير شنيع، لا أدري أقاله أم هو نقل لعبارته هذه بالمعنى، وقد أجاب عنها كثير من العلماء أجوبة تنطبق على قواعد الشرع، وردّها بعضهم بكل حال، وهؤلاء لم ينكروا على غيره من المخالفين لظواهر النصوص في التصوف بالشدة التي أنكروا بها على أبي حامد، بل أولوا لغيره ما لا يقبل التأويل، وما هو كفر صريح، بل نرى كل طائفة ترفق بمن كان منها فيما يخالف اعتقادها، وتتأول له كما فعل الحافظ الذهبي، والمحقق ابن القيم في الإنكار على شيخ الإسلام أبي إسماعيل الهروي المحدث السلفي الصوفي، فالأول تمنى لو لم يؤلف كتاب "منازل السائرين" في التصوف، والثاني تأول له بعض العبارات المخالفة لظواهر الكتاب والسنة وهدي السلف؛ حتى ما أنكره عليه شيخه شيخ الإسلام من أبياته الشهيرة في حقيقة =

_ = التوحيد عند الصوفية: ما وحد الواحد من واحد ... إذ كل من وحده جاحد وكلهم يلقبونه بشيخ الإسلام. وقد أنكر بعض العلماء على شيخ الإسلام ابن تيمية النابغة الكبير بأشد مما انتقده خصوم أبي حامد عليه، وهو منهم، حتى إنهم كفروه، وما زال أخلافهم المقلدون يتحامون كتبه، ويحذرون المسلمين منها بأشد مما حذر العلامة الشيخ عبد اللطيف هنا من كتاب الإحياء. على أن شيخ الإسلام ابن تيمية قد امتاز على أهل الحديث والأثر بالإطلاع الواسع على علوم الكلام والمنطق والفلسفة التي كان السلف والمقتدون بهم من الخلف يحذرون منها، ولكن لو لم يطلع عليها شيخ الإسلام إطلاعا واسعا لما استطاع أن ينصر السنة ومذهب السلف على كل ما خالفه منها، كما كان أقرانه في علم الحديث يعجزون عن ذلك، وفي مقدمتهم صديقه الحافظ الذهبي رحمهم الله -تعالى-. والقول الحق في كتاب الإحياء: أن أكثر ما فيه حق ونافع وقوي التأثير في تقوية الإيمان والترغيب في العبادة والتقوى والورع، وإنني ممن انتفع به كثيرا في بدايته، ولا أنكر أنني تضررت أيضا ببعض آرائه، وآراء أمثاله في الجبر، والغلو في الزهد، وأما الحديث، فإن الله -تعالى- ألهمني في أوائل طلب العلم الاشتغال به، فكان ذلك سببا لاقتنائي شرح الإحياء للزبيدي المشتمل على تخريج أحاديثه. وأقول: إن اشتغال أهل نجد بكتب السنة واعتمادهم في العقائد ورد الشبه في آداب الشرع والتصوف السني على كتب شيخي الإسلام يغنيهم عن كتاب الإحياء، وينبغي أن لا يطلع عليه منهم إلا العلماء، إن وجدوا مقتضيا، ولكنني أنصح بأن لا يطعنوا في أبي حامد، ولا يعدوه مضلا، فإننا إذا أردنا أن نعد كل من أخطأ من العلماء، وأمكن الاستدلال على خطئه ببعض النصوص الصحيحة، أو آثار السلف ضالا مضلا، ولم نميز بين المجتهد المتأول، والمعاند فإنه لا يكاد يسلم لنا من أعلام هذه الملة إلا النادر؛ فإنا نرى أئمة الفقهاء من المذاهب الأربعة قد خالفوا باجتهادهم بعض هذه النصوص. ونرى فروعا كثيرة في الحلال والحرام، قد قيلت بالرأي المخالف لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "وسكت عن أشياء رحمة بكم غير نسيان فلا تسألوا عنها" فهل نقول في متبعي أئمتهم فيها: إنه ينطبق عليهم حديث عدي بن حاتم المرفوع في تفسير: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} بأنهم كانوا يتبعونهم فيما يحلون لهم، ويحرمون عليهم؟ قال الإمام مالك -رحمه الله-: كل أحد يؤخذ من كلامه، ويرد عليه إلا صاحب هذا القبر -، ويشير إلى قبره صلى الله عليه وسلم. وكتبه محمد رشيد رضا.

الرسالة العشرون: السمت والتؤدة والاقتصاد في الأمور

الرسالة العشرون [السمت والتؤدة والاقتصاد في الأمور] وله أيضًا -قدس الله روحه، ونور ضريحه- رسالة إلى صالح بن عثمان بن عقيل هذا نصها:- بسم الله الرحمن الرحيم من: عبد اللطيف بن عبد الرحمن إلى الأخ المكرم: صالح بن عثمان بن عقيل، سلمه الله تعالى وتولانا وإياه في الدنيا والآخرة. سلام عليكم، ورحمة الله وبركاته. أما بعد: فأحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو على ما أنعم به من سوابغ نعمه، وألبس من ملابس فضله وكرمه، جعلنا الله وإياكم ممن عرف نعمة الله عليه، فاستعان بها فيما يقرب إليه. والوصية الجامعة العظمى، وما وصى الله به -سبحانه- من التقوى وتفاصيلها على القلوب والجوارح بحسب الأحوال والأوقات، لا يخفى على من له به اهتمام، وله إليه التفات. والأحاديث التي سألت عن معناها قد تكلم عليها بعض العلماء بما حاصله أن السمت والهدي في حالة الرجل في مذهبه وخلقه. وأصل السمت في اللغة الطريق المنقاد، ثم نقل لحالة الرجل وطريقته في مذهبه وخلقه. والاقتصاد سلوك القصد في الأمر، والدخول فيه برفق، وعلى سبيل يمكن الدوام عليه. وأما التؤدة فهي التأني والتمهل وترك العجلة، وسبق الفكر والرؤية للتلبس في الأمور. وأما كون هذه الخصال جزءًا من أربع وعشرين جزءًا من النبوة، فقد قيل: إن هذه الخلال من شمائل الأنبياء -عليهم السلام- ومن

الخصال المعدودة من خصالهم، وأنها جزء من أجزاء فضائلهم فاقتدوا بهم فيها، وتابعوهم عليها. (قالوا): وليس معنى الحديث أن النبوة تتجزأ، ولا أن من جمع هذه الخلال كان فيه جزء من النبوة، فإن النبوة غير مكتسبة، ولا مجتلبة بالأسباب، وإنما هي كرامة من الله، وخصوصية لمن أراد الله إكرامه من عباده: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} وقد انقطعت النبوة بمحمد صلى الله عليه وسلم. وفيه وجه آخر، وهو أن يكون معنى النبوة هاهنا ما جاءت به النبوة، ودعت إليه الأنبياء عليهم السلام، يعني أن هذه الخلال من أربعة وعشرين جزءا مما جاءت به النبوات، ودعت إليه الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم، وقد أمرنا باتباعهم في قوله -عزوجل-: {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ}. قالوا: وقد يحتمل وجها آخر، وهو أن من اجتمعت له هذه الخصال لقيه الناس بالتعظيم والتوقير، وألبسه الله -تعالى- لباس التقوى الذي يلبسه أنبياءه، فكأنها جزء من النبوة. قلت: وما قبل هذا أليق بمعنى الحديث. وأما حديث الرؤيا: فقيل: معناه تحقيق أمر الرؤيا وتأكيده، وهو جزء من أجزاء النبوة في الأنبياء -صلوات الله وسلامه عليهم- دون غيرهم، لأن رؤيا الأنبياء وحي، قال عمرو بن دينار عن عبد الله بن عمير: رؤيا الأنبياء عليهم السلام وحي، وقرأ قوله -تعالى -: {إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ} وأما تحديد الأجزاء بالعدد المذكور في الحديث، فقد قال فيه بعض أهل العلم: إنه أوحي إليه صلى الله عليه وسلم بمكة ستة أشهر في منامه، ثم توالى الوحي يقظة إلى أن توفي صلى الله عليه وسلم

وكانت مدة الوحي ثلاثا وعشرين سنة منها نصف سنة في أول الأمر يوحى إليه في منامه، ونسبة ستة الأشهر لبقية مدة الوحي جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة. وسئل بعض أهل العلم عن هذا الحديث قال: معناه أن الرؤيا تجيء على موافقة النبوة لأنها جزء من باقي النبوة. وقال بعضهم: إنها جزء من أجزاء علم النبوة باق، والنبوة غير باقية بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ذهبت النبوة، وبقيت المبشرات (وهي) الرؤيا الصالحة يراها المسلم أو ترى له. وعندي أن النبوة التي هي الوحي بشرائع الأنبياء عبارة عن نبأ أو شأن عظيم في القوة، وإفادة اليقين. والرؤيا الصالحة التي هي من أقسام الوحي جزء باعتبار القوة، وإفادة العلم من ستة وأربعين جزءا، ولا يقتضي هذا تجزؤ النبوة، وأنها مكتسبة، ولا إطلاق اسم النبوة على هذا الجزء، لأن المسمى هو الكل المستجمع لجميع الأجزاء؛ فلا محذور. ويمكن أن يقال: هذا فيما تقدم معه قوله: "الهدي الصالح، والسمت الحسن، والاقتصاد جزء من خمسة وعشرين جزءا من النبوة"1 هذا ما ظهر لي، والله أعلم، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.

_ 1 هذا حديث رواه الترمذي، والطبراني عن عبد الله بن سرجس مرفوعا، ولكن بلفظ "أربعة، وعشرين جزءا"،ولكن ذكره الخطابي في الكلام على حديث الرؤيا بلفظ "خمسة، وعشرين" كما هنا، والقرطبي في شرح مسلم بلفظ "ستة، وعشرين" كما نبه عليه الحافظ في الفتح، ومن المؤسفات أن هذه الرسائل لم يذكر فيها نصوص الأسئلة التي أجيب فيها عنها.

الرسالة الحادية والعشرون: مؤاخذة أنصار الجاني وأقاربه بجريرة فعله

الرسالة الحادية والعشرون [مؤاخذة أنصار الجاني وأقاربه بجريرة فعله] وله أيضا -قدس الله روحه، ونور ضريحه- سؤال سأل عنه والده الشيخ الإمام المبجل، والفاضل النبيل المفضل، الشيخ عبد الرحمن بن حسن، ثم ذيل الشيخ عبد اللطيف على الجواب ذيلا، وهذا نصهما: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد؛ فإني قد سألت والدي -قدس الله روحه، ونور ضريحه- عما يفعله بعض الأمراء بنجد من أخذ ابن العم بجريمة ابن عمه، أو غير ابن عمه من الأصول والفروع، هل له مستند شرعي، أو لا مستند له؟ فأجاب -رحمه الله- بقوله: الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيد المرسلين وإمام المتقين محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليما. أما بعد، فقد سألني من لا تسعني مخالفته أن أكتب فيما يفعله الأئمة من أخذ ابن العم وحبسه فيما يأخذه ابن عمه من مال غيره بغير حق، هل له مسوغ في الشرع أو لا؟ فالجواب: اعلم -وفقك الله- أن أهل نجد كانوا قبل ظهور هذه الدعوة الإسلامية فيهم بأسوإ حال، أما الأعراب فلا يلتفت أحد منهم لشريعة الإسلام لا في العبادات، ولا في غيرها من الأحكام في الدماء، ولا في الأموال، ولا في النكاح والطلاق والمواريث، وغير ذلك. وكانوا في شر عظيم فيما بينهم من الحروب، كل طائفة تقاتل الأخرى، وتستحل دماءها وأموالها،

والحضر عندهم في غاية الذل، يأخذون المال منهم كرها. فلما مَنَّ الله بهذه الدعوة، وقام الجهاد، أجلبوا كلهم على محاربة من دعاهم إلى الإسلام والتزام شرائعه وأحكامه، فحصل التأييد من الله لمن قام بدينه، فجاهدوا الأعراب وغيرهم على طاعة ربهم، والتزام ما شرعه، فبقوا على جهاد الأعراب كلما أسلمت قبيلة جاهدوا بها الأخرى، فما زالوا يجاهدونهم على أن يسلموا، ويصلوا ويزكوا. وأكثرهم ألقى السلم لأهل الإسلام، لكن بقي من البغي والظلم والعدوان على من قدروا عليه واستضعفوه ممن دخل فيما دخلوا فيه من الإسلام، فكل من نهب أو قطع طريقا أو قتل استند إلى قبيلة، فلا يقدر أحد من ولاة الأمر أن يأخذ الحق منهم. والحالة هذه فلو تركوا رأسا، ولم ينظر إلى جنايتهم، ونظر إلى جناية المباشر فقط، لفهم يفهمه بعض القاصرين من حديث "لا يجني جان إلا على نفسه" لضاعت حقوق الناس، ودماؤهم، وأموالهم، وعطلت القاعدة الشرعية، وقصر بالحديث عما يتناوله، ويدل عليه عند إمعان النظر، فعلى قدر ما أحدثوا من البغي، والظلم والعدوان والتعاون على ذلك، ساغ للأئمة أن يحبسوا ابن العم في ابن عمه ليقوم بأداء ما وجب عليه من الحق والطاعة في المعروف من نصرة المظلوم، وإغاثة الملهوف، والبراءة من المحاربين وقطع السبيل. ومثل هذه القبائل لما تركوا ما وجب من أمر الشرع مع القدرة على القيام، ورضوا بمحاربة الله ورسوله ساغ للأئمة ما ذكر، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، وأيضا فلو خلوا بين أهل الإسلام وبين هذا الجاني من أبناء عمهم لتمكن المظلوم من أخذ حقه، ورد مظلمته؛ فهم قد آووا محدثا، وفي الحديث "لعن الله من آوى محدثا"، وفي الحقيقة هذا إحسان إلى

القبيلة، وسبب لتخليصهم من ارتكاب ما حرم عليهم، وهذا الذي أخذ في ابن عمه لم يقصد ماله، بل حبس لأخذ ما بيد مولاه الذي هو ابن عمه. وبالجملة فهذا من أسباب صلاح الناس وصيانتهم، وهذا الذي ذكرنا هو الذي تأوله الأئمة، وظهرت مصلحته، وقلت مفسدته، والذي أخذ النبي صلى الله عليه وسلم ناقته العضباء قال له: لم تأخذ سابقة الحاج؟ قال: "أخذتها بجريرة حلفائك من ثقيف" أو كما قال صلى الله عليه وسلم تسليما كثيرا، وعلى آله وأصحابه والتابعين. (قلت): فظهر من هذا البيان الذي أفاده شيخنا -رحمه الله- أن الحكم خاص بأهل القوة والنصرة بخلاف المستضعف الذي لا قدرة له، ولا جناية ولا مصلحة في حبسه ولا يؤبه له عند قبيلته، فعلى الحاكم إمعان النظر في جلب المنافع ودفع المفاسد، أملاه شيخنا عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن -قدس الله روحه، ونور ضريحه-، ثم ذيل على ذلك ذيلا فقال -رحمه الله-: ما قاله شيخنا ووالدنا -حفظه الله- في أسر ابن العم في ابن عمه لمصلحة فهو الحكم العدل، وهو الذي عليه أكثر السلف، فإن الرجل إذا قطع السبيل وأخافه، وامتنع بنفسه، وترك من يأويه وينصره، صار قوة له، وإعانة له على ظلمه؛ فإن أخذ بجريرته، وأسر فيه؛ حصل له رد وامتناع، وهذا يعلم بالاضطرار. [أخذ الحليف بجريرية حليفه] قال الخطابي في شرح سنن أبي داود في باب النذر فيما لا يملك ابن آدم: حدثنا سليمان بن حرب، ومحمد بن عيسى قالا: حدثنا حماد عن أيوب عن أبي قلابة عن أبي المهلب عن عمران بن حصين قال: "كانت العضباء لرجل من بني عقيل، وكانت من سوابق الحاج، قال: فأسر، فأتي به النبي صلى الله عليه وسلم وهو في وثاق، والنبي صلى الله عليه وسلم على حمار عليه قطيفة، فقال: يا محمد علام تأخذني، وتأخذ سابقة الحاج؟ قال: آخذك بجريرة

حلفائك من ثقيف، وكانت ثقيف قد أسروا رجلين من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم-". (قال الشيخ): قوله: (آخذك بجريرة حلفائك من ثقيف) اختلفوا في تأويله فقال بعضهم: هذا يدل على أنه كان بنو عقيل عاهدوا أن لا يتعرضوا للمسلمين، ولا أحد من حلفائهم، فنقض حلفاؤهم العهد، ولم ينكره بنو عقيل، فأخذ بجريرتهم. وقال آخرون: هذا الرجل كافر، ولا عهد له، وقد يجوز أخذه وأسره وقتله، فإن جاز أن يؤخذ بجريرة نفسه، وهي كفره، جاز أن يؤخذ بجريرة غيره ممن كان على مثل حاله من حليف وغيره، ويحكى معنى هذا عن الشافعي. وفيه وجه ثالث، وهو أن يكون في الكلام إضمار، يريد أنك إنما أخذت ليدفع بك جريرة حلفائك، ويفدوا بك الأسيرين اللذين أسرتهم ثقيف ألا تراه يقول: ففدي الرجل بعد بالرجلين. انتهى. فتأمل هذا؛ فإنه يدلك على صواب الحكم. والآية، وهي قوله: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} ليس فيها ما يدفع هذا، ولا يرده، والله الموفق للصواب، وهو أعلم بمواقع الخطاب، وصلى الله على عبده ورسوله محمد وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرا. أملاه شيخنا الشيخ عبد اللطيف بن الشيخ عبد الرحمن بن حسن بن شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمهم الله -تعالى- وعفا عنهم بمنه، وكرمه آمين.

الرسالة الثانية والعشرون: إسكان النبي عليه السلام المهاجرات دور أزواجهن ميراثا

الرسالة الثانية والعشرون [إسكان النبي عليه السلام المهاجرات دور أزواجهن ميراثا] وله أيضا -رحمه الله، وعفا عنه- رسالة إلى زيد بن محمد؛ وقد سأله عن حديث زينب -رضي الله عنها- وما وجه اختصاص النساء المهاجرات بدور المهاجرين؟ فأجابه -رحمه الله تعالى-: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد اللطيف بن عبد الرحمن إلى الأخ زيد بن محمد، زاده الله من العلم والإيمان، وألبسه من ملابس التقوى والإحسان. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد؛ فإنا نحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، وهو للحمد أهلٌ، والخط وصل -وصلك الله ما يرضيه- وسَرَّنَا ما ذكرته، والحمد لله على التيسير والتسديد، ومن جهة كتاب الطرق، فالوالد أعاره محمد بن فيصل قبل وصول خطك، وحين فراغه نبعث به إليك، إن شاء الله تعالى. وأما السؤال عن حديث زينب -رضي الله عنها- فاعلم أن الحديث قد دل بمنطوقه على أن امرأة عثمان بن عفان ونساء من المهاجرات اشتكين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ضِيقَ المنازل وإخراجهن منها، فأمر صلى الله عليه وسلم أن تُوَرَّثَ دورُ المهاجرين النساءَ المهاجرات، وتورث بضم التاء وفتح الواو وتشديد الراء، معناه: أن تُجْعَل الدورُ لهن ميراثًا، فمات عبد الله بن مسعود فورثتْ امرأته داره في المدينة أخذًا بهذا الحديث. هذا معناه، والناس مختلفون في وجه اختصاص النساء بذلك؛ فقال بعضهم: يشبه أن يكون ذلك على معنى القسمة بين الورثة، وإنما

خصهن بالدور لأنهن بالمدينة غرائب لا عشيرة لهن، فحاز لهن الدور لما رأى من المصلحة؛ وهذا مُخْتَص بالمهاجرات لاختصاصهن بعلة الحكم على هذا الوجه. وقد أَلْغَزَ في ذلك بعض الأفاضل فقال: سلم على مفتي الأنام وقل له ... هذا سؤال في الفرائض مبهم قوم إذا ماتوا يحوز ديارهم ... زوجاتهم ولغيرهم لا تُقْسَم وبقية المال الذي قد خَلَّفُوا ... يجري على أهل التوارث منهم وقيل: هو أمر منه صلى الله عليه وسلم باختصاص الزوجات المهاجرات سكنى دور أزواجهن مدة حياتهن، على سبيل الإرفاق بالسكنى دون الملك، كما كانت دور النبي صلى الله عليه وسلم وحُجَره في أيدي نسائه بعده لا على سبيل الميراث لقوله عليه السلام: "نحن لا نُورثُ ما تركناه صدقة". لكن يُحْكَى عن سفيان بن عيينة أنه قال: نساء النبي صلى الله عليه وسلم في معنى المعتدات لأنهن لا ينكحن بعده، وللمعتدات السكنى، فجعل لهن سكنى البيوت ما عشن لا تملكها. ويشبه أن يكون أمره بذلك قبل نزول آية الفرائض، فقد كانت الوصية للوالدين والأقربين مفروضة، وقد كان المهاجرون والأنصار يتوارثون بالمؤاخاة بينهم، فنسخ بآية الفريضة، وبقوله تعالى: {وَأُولُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ}، وعمل الناس يدل على هذا ويرجحه. وأما استدلال أبي داود في باب إحياء الموات فتأوله على وجهين: (أحدهما) أنه إنما أقطعهم العَرْصَة؛ ليبنوا فيها الدور، وعليه يصح ملكهم في البناء الذي أحدثوه في العرصة، وهذا الذي يظهر من صنع أبي داود. (والوجه الثاني) أنهم إنما أُقْطِعُوا الدور عارية؛ ولهذا ذهب أبو إسحاق

الرسالة الثالثة والعشرون: نصيحة الشيخ للإمام فيصل بن تركي

المرروزي؛ وَيُرَشِّحُ ذلك أن إقطاع الإرفاق وقع في المقاعد في الأسواق والمنازل في الأسفار، وهي يُرْتَفَقُ بها ولا تُمْلَكُ. ومن هنا يحصل احتمالٌ رابع في معنى اختصاص النساء بالدور دون سائر الورثة، وتقريره على هذا الوجه أن يقال: الدور لم تملك بالإقطاع بل هي عارية في يد أربابها، وبعد هلاكهم أمْرُها إلى الإمام يُسْكِنُهَا مَن شاء بحسب المصلحة؛ فلذلك أمرصلى الله عليه وسلم باختصاص المهاجرات بها دون سائر الورثة، وقول بعضهم: إن الميراث لا يجري إلا فيما كان المورث مالكا له، فيه نظر ظاهر، والله أعلم. الرسالة الثالثة والعشرون [نصيحة الشيخ للإمام فيصل بن تركي] وله أيضا -رحمه الله، وعفا عنه- رسالة إلى الإمام فيصل -رحمه الله- نصحه فيها وذَكَّرَهُ نعمةَ الله على خلقه ببعثة محمد صلى الله عليه وسلم حتى أكمل الله به الدين وَبَلَّغَ البلاغ المبين، وترك الناس على المحجة، حتى لم يبق لأحد على الله حجة. وذكر أنه صلى الله عليه وسلم مع ما أيده الله به من الآيات والأدلة القاطعة، والبراهين الساطعة الدالة على صدقه وثبوت رسالته، كابر من كابر، وعاند من عاند، حتى ظهر الإسلام ظهورا ما حصل قبل ذلك، وعلتْ كلمة الله وظهر دينه فيما هناك. ولم يزل ذلك في زيادة وظهور حتى حدث في الناس من فتنة الشهوات، والاتساع في الحرمات، فَضَعُفَتْ القوة الإسلامية، وغلظت الحُجُب الشهوانية حتى ضعُفَ العلمُ بحقائق الإيمان، وما كان عليه الصدر الأول من العلوم والشأن، فوقعت عند ذلك فتنة الشبهات، وتوالدت تلك المآثم والسيئات. وذكر له -رحمه الله- أن الله يبعث لهذه الأمة في كل قرن مَن يجدد لها أمر دينها، ولكن لا بد له من معارض ومعاند. ثم ذكر -رحمه الله- ما مَنَّ الله به عليهم، واختصهم به من بين سائر الأمم بدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب أجزل الله له الأجر والثواب، وأدخله الجنة بغير حساب ولا عذاب، وما حصل بها من ظهور الإسلام وتبيين الدين والأحكام إلى أن حصل

فيمن بعده من فتنة الشهوات والسلوك إلى مَفَاوِز المهالك نظير ما وقع بعد الصدر الأول من ذلك، ثم رد الله لهم الكَرَّة بعد تلك العساكر الطاغية وأشرار الحاضرة والبادية، فظهر الإسلام، وانتشر في البلاد، وسمعت أحكام الشريعة، وانتشرت في العباد. ولكن حصل في خلال ذلك مَنْ أظهر الطعن في العقائد، وتكلم كل مَن كان للحق معاند، وصار أمر العلم والعقائد لَعِبًا لكل منافق وحاسد. وكتب -رحمه الله- له هذه النصيحة، وحذره من الوقوع في أسباب النقم والفضيحة، ولم أجد تصديرها باسمه، وإنما وجدت (كتب بعضهم إلى الإمام ما صورته) وهي بقلم كاتبه وهذا نصها: بسم الله الرحمن الرحيم إلى الإمام المكرم فيصل -وفقه الله لقبول النصائح، وجنبه أسباب الندم والفضائح- سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. [حالة العالم قبل البعثة المحمدية] وبعد: فلا يخفى عليك أن الله -تعالى- ما أنعم على خلقه نعمة أجل وأعظم من نعمته ببعثة عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم؛ فإن الله بعثه وأهل الأرض -عربهم وعجمهم، كتابيهم وأميهم، قرويهم وبدويهم- جُهَّال ضُلال على غير هدى، ولا دين يُرْتَضَى، إلا من شاء الله من أهل الكتاب، فصدع بما أوحي إليه، وأمر بتبليغه، وبَلَّغَ رسالة ربه، وأنكر ما الناس عليه من الديانات المتفرقة والملل المتباينة المتنوعة. ودعاهم إلى صراط مستقيم ومنهج واضح كريم يصل بسالكه إلى جنات النعيم، ويتطهر من كل خلق ذميم، وجاءهم من الآيات والأدلة القاطعة الدالة على صدقه وثبوت رسالته ما أعجزهم وأفحمهم عن معارضته، ولم يبق لأحد على الله حجة. ومع ذلك كابر من كابر وعاند من عاند، وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق، ورأوا أن الانقياد له صلى الله عليه وسلم وترك ما هم عليه من النِّحَل والمِلَل يجر

عليهم من مَسَبَّة آبائهم وتسفيه أحلامهم، ونقص رياستهم أو ذهاب مآكلهم ما يحول بينهم وبين مقاصدهم ومآربهم. فلذلك عدلوا إلى ما اختاروه من الرد والمكابرة والتعصب على باطلهم والمثابرة، وأكثرهم يعلمون أنه مُحِقٌّ، وأنه جاءهم بالهدى، ودعا إليه لكن في النفوس موانع، وهناك إرادات ومؤاخاة ورياسات لا يقوم ناموسها، ولا يحصل مقصودها: إلا بمخالفته وترك الاستجابة له وموافقته. وهذا هو المانع في كل زمان ومكان من متابعة الرسل، وتقديم ما جاؤوا به، ولولا ذلك ما اختلف من الناس اثنان، ولا اختصم في الإيمان بالله وإسلام الوجه له خَصْمَان. وما زال حاله صلى الله عليه وسلم مع الناس كذلك حتى أيد الله دينه ونصر رسوله بصفوة أهل الأرض، وخيرهم ممن سبقت له من الله السعادة، وتأهل بسلامة صدره لمراتب الفضل والسيادة، وأسلم منهم الواحد بعد الواحد، وصار بهم على إبلاغ الرسالة مُعَاوَن ومُسَاعَد حتى مَنَّ الله على ذلك الحي من الأنصار بما سبقت لهم به من الحسنى والسيادة والأقدار، فاستجاب لله ورسوله منهم عصابة حصل بهم من العز والمَنَعَة ما هو عنوان التوفيق والإصابة. وصارت بلدهم بلد الهجرة الكبرى والسيادة الباذخة العظمى، هاجر إليها المؤمنون، وقصدها المستجيبون حتى إذا عز جانبهم وقويت شوكتهم أذن لهم في الجهاد بقوله: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ}. ثم لما اشتد ساعدهم وكثر عددهم أنزلت آية السيف، وصار الجهاد من أفرض الفروض، وآكد الشعائر الإسلامية، فاستجابوا لله ورسوله، وقاموا بأعباء ذلك وجردوا في حب الله ونصرة دينه السيوف، وبذلوا الأموال والنفوس، ولم يقولوا كما قالت بنو إسرائيل لموسى: {فَاذْهَبْ أَنْتَ

وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} فلما علم الله منهم الصدق في معاملته، وإيثار مرضاته ومحبته، أيدهم بنصره وتوفيقه، وسلك بهم منهج دينه وطريقه فَأَذَلَّ بهم أُنُوفًا شامخةً عاتيةً، ورد بهم إليه قلوبًا شاردةً لاهيةً، جاسوا خلال ديار الروم والأكاسرة، ومَحَوْا آثار ما عليه تلك الأمم العاتية الخاسرة. وظهر الإسلام في الأرض ظهورا ما حصل قبل ذلك، وعلت كلمة الله، وظهر دينه فيما هنالك، واستبان لذوي الألباب، والعلوم من أعلام نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ما هو مُقَرَّرٌ معلومٌ. ولم يَزَلْ ذلك في زيادة وظهور، وَعَلَمُ الإسلام في كل جهة من الجهات مَرْفَوعٌ منصورٌ، حتى حدث في الناس من فتنة الشهوات، والاتساع والتمادي في فعل المحرمات، ما لا يمكن حصره ولا استقصاؤه؛ فضعفتْ القوى الإسلامية، وقويت الحجب الشهوانية حتى ضعف العلم بحقائق الإيمان، وما كان عليه الصدر الأول من العلوم والشأن، فوقعت عند ذلك فتنة الشبهات، وتوالدت تلك المآثم والسيئات. وظهرت أسرار قوله تعالى: {كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} الآية، وقوله صلى الله عليه وسلم: "لتتبعن سنن من كان قبلكم" ولكن لله في خلقه عناية وأسرار لا يعلم كنهها إلا العليم الغفار. [المجددون وعلامتهم التي يعرفون بها] من ذلك: أن الله -تعالى- يبعث لهذه الأمة في كل قرن من يجدد لها أمر دينها، ويدعو إلى واضح السبيل ومستبينها؛ كي لا تبطل حجج الله وبيناته؛ ويضمحل وجود ذلك وتعدم آياته؛ فكل عصر يمتاز فيه عالم بذلك يدعو إلى تلك المناهج والمسالك. وليس من شرطه: أن يُقْبَل منه ويُسْتَجَاب، ولا أن يكون معصوما في كل ما يقول، فإن هذا لم يثبت لأحد دون الرسول. ولهذا المُجَدِّد علامةٌ يعرفها المُتَوَسِّمُونَ، وينكرها المبطلون؛ أوضحها وأجلاها، وأصدقها، وأولاها: محبة الرعيل الأول من هذه

الأمة، والعلم بما كانوا عليه من أصول الدين، وقواعده المهمة التي أصلها الأصيل، وَأُسُّهَا الأكبرُ الجليل: معرفة الله بصفات كماله ونعوت جلاله، وأن يوصف بما وصف به نفسه ووصفه به رسوله من غير زيادة ولا تحريف، ومن غير تكييف ولا تمثيل، وأن يعبدوه وحده لا شريك له، ويكفروا بما سواه من الأنداد والآلهة، هذا أصل دين الرسل كافة، وأول دعوتهم وآخرها، وَلُبُّ شعائرهم، وحقيقةُ مِلَّتِهِمْ. وفي بسط هذه الجملة من العلم به وبشرعه ودينه وصرف الوجوه إليه ما لا يتسع له هذا الموضع. وكل الدين يدور على هذا الأصل ويتفرع عنه. ومن طاف البلاد، وخَبرَ أحوال الناس منذ أزمان متطاولة عرف انحرافهم عن هذا الأصل الأصيل، وبُعْدَهُم عما جاءت به الرسل من التفريع والتأصيل. فكل بلد وكل قطر وكل جهة -فيما نعلم- فيها من الآلهة التي عُبِدَتْ مع الله بخالص العبادات وَقُصِدَتْ من دونه في الرغبات والرهبات ما هو معروف مشهور لا يمكن جحده ولا إنكاره، بل وصل بعضهم إلى أن ادعى لمعبوده مشاركة في الربوبية بالعطاء والمنع والتدبيرات، ومن أنكر ذلك عندهم فهو خَارِجِيٌّ ينكر الكرامات، وكذلك هم في باب الأسماء والصفات، ورؤساؤهم وأحبارهم مُعَطِّلة. وكذلك يدينون بالإلحاد والتحريفات، وهم يظنون أنهم من أهل التنزيل والمعرفة باللغات، ثم إذا نظرت إليهم وَسَبَرْتَهُمْ في باب فروع العبادات، رأيتهم قد شرعوا لأنفسهم شريعة لم تأت بها النبوات، هذا وصف من يدعي الإسلام منهم في سائر الجهات. وأما من كذَّب بأصل الرسالة، أو أعرض عنها ولم يرفع بذلك رأسا، فهؤلاء نوع آخر، وجنس ثان ليسوا مما جاءت به الرسل في شيء، بل هم

كما قال تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ} الآية. فمن عرف هذا حق المعرفة، وتبين له الأمر على وجهه، عرف حينئذ قدرَ نعمة الله عليه، وما اختصه به إن كان من أهل العلم والإيمان، لا من ذوي الغفلة عن هذا الشأن. [الإمام محمد بن عبد الوهاب وبدء دعوته] وقد اختصكم الله - تعالى- من نعمة الإيمان والتوحيد بِخَالِصَةٍ، ومنَّ عليكم بمِنَّةٍ عظيمة صالحة من بين سائر الأمم وأصناف الناس في هذه الأزمان؛ فأتاح لكم من أحبار الأمة وعلمائها حَبْرًا جليلا وعَلَمًا نبيلا فقيها عارفًا بما كان عليه الصدر الأول، خبيرا بما انْحَلَّ من عُرَى الإسلام وتحول. فتجرد إلى الدعوة إلى الله، وردِّ الناس إلى ما كان عليه سلفُهم الصالح في باب العلم والإيمان، وباب العمل الصالح والإحسان، وترك التعلق على غير الله من الأنبياء والصالحين وعبادتهم، والاعتقاد في الأحجار والأشجار والعيون والمَغَار، وتجريد المتابعة لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الأقوال والأفعال. وهجر ما أحدثه الخلوف والأغيار، فجادل في الله، وقَرَّرَ حُجَجَه وبيناته، وبذل نفسه لله، وأنكر على أصناف بني آدم الخارجين عما جاءت به الرسل المعرضين عنه، التاركين له. وصنَّفَ في الرد على مَن عاند أو جادل ومَاحَلَ، وجرى بينهم من الخصومات والمحاربات ما يطول عدُّهُ. وكثير منكم يعرف بعضه ووازره -على ذلك- مَن سبقت له من الله سابقة السعادة. وأقبل على معرفة ما عنده من العلم، وأراده من أسلافك الماضين وآبائك المتقدمين -رحمهم الله رحمة واسعة، وجزاهم عن الإسلام خيرًا- فما زالوا من ذلك على آثار حميدة، ونِعَمٍ عديدة، يصنع لهم -تعالى- من عظيم صنعه، وخفي لطفه، ما هداهم به إلى دينه الذي ارتضاه لنفسه، واختص به مَنْ شاء كرامته وسعادته من خلقه، وأظهر لهم من الدولة ما ظهروا به

على كافة العرب. فلم يزل الأمر في مزيد حتى توفى الله شيخ هذه الدعوة ووزيره العبد الصالح -رحمهما الله-، ثم حدث فيهم من فتنة الشهوات ما أفسد على الناس الأعمال والإرادات، وجرى من العقوبة والتطهير، ما يعرفه الفَطِن الخبير، ثم أَدْرَكَكُمْ من رحمته تعالى وألطافه ما رَدَّ لكم به الكَرَّة، ونصركم -ببركته- المرة بعد المرة، ولله -تعالى- عليك خاصة نِعَمٌ لا يحصيها العَدُّ والإحصا، ولا يحيط بها إلا عالم السر والنجوى. فكم أنقذك من هول وشدة، وكم أظهرك على مَنْ ناوأك مع كثرة العدد منهم والعدة، ولم تزل نِعَمُهُ عليك تترى، وحوله وقوته يرفعك إلى ما ترى؛ حتى آلت إليك سياسة هذه الشريعة المطهرة، وآل إليك ما كان إلى أسلافك ومن قبلهم ممن قام بنصر الدين وأظهره. وقد عرفت ما حدث من الخلوف في الأصول والفروع، وما آل إليه الحال في ترك الأخذ بأحكام المنهج المشروع حتى ظهر الطعن في العقائد، وتكلم كل كَارِهٍ للحق معاندٍ، وصار أمر العلم والعقائد لَعِبًا لكل منافق وحاسد، وكتبت في الطعن على أهل هذه الملة الرسائلَ والأوراقَ. وتكلم في عيبهم وذمهم أهل البغي والشقاق، فصار أمر الدين والعلم مُمْتَهَنًا عند الأكثرين من العامة والمتقدمين، وإقبالهم إنما هو على نَيْلِ الخصوص الدنيوية والشهوات النفسانية، وعدم الالتفات والنظر للمصالح الدينية والواجبات الإسلامية، وتفصيل ذلك يعرفه من حاسب نفسه قبل أن يحاسب. والمؤمن: من يعلم أن لهذه الأمور غائلة، وعاقبة ذميمة وخيمة آخرها الأجل المقدور، وإلى الله عاقبة الأمور، فالسعيد من بادر إلى الإقلاع والمتاب، وخاف سوء الحساب وعمل بطاعة الله قبل أن يغلق الباب ويسبل الحجاب. وفقنا الله وإياكم لقبول أمره وترك مناهيه وخوف زواجره، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرًا إلى يوم الدين.

الرسالة الرابعة والعشرون: رسالة الشيخ محمد بن عجلان ورد الشيخ حمد بن عتيق عليها

الرسالة الرابعة والعشرون [رسالة الشيخ محمد بن عجلان ورد الشيخ حمد بن عتيق عليها] وله أيضا -رحمه الله- رسالة إلى زيد بن محمد آل سليمان، وسببها: التحذير عما انهمك الناس فيه وشاع عنهم من الخوض والمراء والاضطراب، والإعراض عن منهج السنة والكتاب وَمَيْل الأكثرين إلى موالاة عُبَّاد الأصنام، والفرح بظهور الكفرة الطغام والانحياز إلى حماهم، وتفضيل مَن يتولاهم أيضا، والانتصار للشيخ حمد بن عتيق -رحمه الله- لما اعترض عليه من اعترض فيما كتبه إلى بعض الإخوان، بأن ما كتبه ابن عجلان ردة صريحة فصرح المعترض بجهله، ونال من عرضه، وتعاظم هذه العبارة، وزعم أنه غلا وتجاوز الحد. فبين الشيخ -رحمه الله- ما في كلام ابن عتيق من بعض الخطأ في التعبير، وأن ذلك من الغيرة لله والنكير، فلا ينبغي معارضة مَن انتصر لله ولكتابه وذَبَّ عن دينه، وأغلظ في أمر الشرك والمشركين، ولا يلتفت إلى زلاته، والاعتراض على عباراته، فمحبة الله والغيرة لدينه ونصرة كتابه ورسوله مرتبةٌ علية محبوبةٌ لله مَرْضِيَّةٌ يُغْتَفَرُ فيها العظيم من الذنوب. وقد أَبْلَجَ الشيخ في هذه الرسالة الحق وأوضحه، وأثلج به الصدور، فانكشف عنها الغطاء، فما أنصحه، واستبان الصوابُ لذوي الألباب، فما أصرحه. وهذا نص الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد اللطيف بن عبد الرحمن إلى الأخ المكرم زيد بن محمد آل سليمان -حفظه الله من طوائف الشيطان، وحماه من طوارق المحن والافتتان، وجعله من عسكر السنة والقرآن-. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد فأحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو على سَوَابِغ نعمائه، ولطفه عند قدره وقضائه، والخط وصل -وصلك الله ما يرضيه، ووفقك لجهاد من يناويه ويعاديه- وما ذكرتَ من حال الأخ صالح فهو عند الإمام

مَكِينٌ يحسن الدخول في الأمر والخروج. وما ذكرت من جهة ما يلقى إليك من الخطوط، فلا بأس بإرسالها إليَّ، وأما ما كتبت في هذه المحنة من الشبه، فقد عرفت أن الفتنة بالمشركين فتنة عظيمة وداهية عمياء ذميمة لا تبقي من الإسلام ولا تذر، لا سيما في هذا الزمان الذي فشا فيه الجهل وقُبِضَ فيه العلم، وتوافرتْ أسباب الفتن وغلب الهوى، وانطمست أعلام السنن، وابتُلي المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا، وعند ذلك: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} وقد شاع ما الناس فيه من الخوض والمراء والاضطراب، والإعراض عن منهج السنة والكتاب، ومال الأكثرون إلى موالاة عُبَّاد الأصنام، والفرح بظهورهم والانحياز إلى حماهم، وتفضيل من يتولاهم، "وحُبُّك الشيءَ يُعْمِي وَيُصِمُّ". وقد صدر من الشيخ محمد بن عجلان رسالة، ما ظننتها تصدر من ذي عقل وفهم، فضلا عن ذي الفقه والعلم، وقد نبَّهت على ما فيها من الخطأ الواضح، والجهل الفاضح، وكتمت عن الناس أول نسخة وردت علينا حذرًا من إفشائها وإشاعتها بين العامة والغوغاء. ولكنها فشت في الخرج والفرع، وجاء منها نسخة إلى بلدتنا، وافتُتِنَ بها مَن غلب عليه الهوى، وضل عن سبيل الرشاد والهدى: {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} وأخبرت من يجالسني أن جميع ما فيها من النقول الصحيحة والآثار حجة على منشيها، تهدم ما بناه مبديها، وأنه وضع النصوص في غير موضعها ولم يُعْطِ القوسَ باريها. وبلغني عن الشيخ حمد أنه أنكر واشتد نكيره، ورأيت له خَطًّا أرسله إلى بعض الإخوان بأن ما كتبه ابن عجلان

ردة صريحة. وبلغني أن بعضهم دخل من هذا الباب، واعترض على ابن عتيق، وصرح بجهله، ونال من عرضه، وتعاظم هذه العبارة، وزعم أنه غلا وتجاوز الحد، فحصل بذلك تنفيس لأهل الجفاء وعُبَّاد الهوى. والرجل، وإن صدر منه بعض الخطأ في التعبير، فلا ينبغي معارضة من انتصر لله ولكتابه وَذَبَّ عن دينه، وأغلظ في أمر الشرك والمشركين على من تَهَاون أو رَخَّصَ وأباح بعض شعبه، وفتح باب وسائله وذرائعه القريبة المفضية إلى ظهوره وعلوه، ورفض التوحيد ونكَّس أعلامه ومحا آثاره، وقلع أصوله وفروعه، ومَسَبَّة من جاء به؛ لِقَوْلَةٍ رآها، وعبارة نقلها وما دراها، من إباحة الاستعانة بالمشركين مع الغفلة والذهول عن صورة الأمر والحقيقة؛ وأنه أعظم وأطم من مسألة الاستعانة والانتصار، بل هو تَوْلِيَة وتَخْلِيَة بينهم وبين أهل الإسلام والتوحيد، وقلع قواعده وأصوله وسفك دماء أهله واستباحة حرماتهم وأموالهم. [وصف الأحوال الحاصلة بنجد] هذا حقيقة الجاري والواقع، وبذلك ظهر في تلك البلاد من الشرك الصريح والكفر البواح ما لا يُبْقِي من الإسلام رَسْمًا يُرْجَعُ إليه، وَيُعَوَّلُ في النجاة عليه، كيف وقد هُدِمَتْ قواعد التوحيد والإيمان، وعطلت أحكام السنة والقرآن، وصُرِّحَ بِمَسَبَّةِ السابقين الأولين من أهل بدر وبيعة الرضوان، وظهر الشرك والرفض جهرا في تلك الأماكن والبلدان. ومن قَصُرَ الواقع على الاستعانة بهم فما فَهِمَ القضية، وما عرف المصيبة والرزية، فيجب حماية عرض من قام لله، وسعى في نصر دينه الذي شرعه وارتضاه، وترك الالتفات إلى زلاته، والاعتراض على عباراته؛ فمحبة الله والغيرة لدينه ونصرة كتابه ورسوله مرتبةٌ عَلِيَّةٌ محبوبةٌ لله مرضيةٌ يُغْتَفَر فيها العظيمُ من الذنوب، ولا يُنْظَرُ معها إلى تلك الاعتراضات الواهية،

والمناقشات التي تَفُتُّ في عَضُدِ الداعي إلى الله. والملتمس لرضاه، وَهَبْهُ كما قيل، فالأمر سهل في جنب تلك الحسنات: "وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم"1 شعر: فليصنع الركب ما شاؤوا لأنفسهم ... هم أهل بدر فلا يخشون من حرج ولما قال المتوكل لابن الزيات: يا ابن الفاعلة، وقذف أمه، قال الإمام أحمد -رحمه الله-: أرجو أن الله يغفر له نظرا إلى حسن قصده في نصر السنة وقمع البدعة. ولما قال عمر لحاطب ما قال، ونسبه إلى النفاق، لم يعنفه النبي صلى الله عليه وسلم وإنما أخبره أن هناك مانعا. والتساهل في رد الحق وقمع الداعي إليه يترتب عليه قلع أصول الدين، وتمكين أعداء الله المشركين من الملة والدين، ثم إن القول قد يكون ردة وكفرا، ويطلق عليه ذلك، وإن كان ثَمَّ مانعٌ من إطلاقه على القائل. وصريح عبارة الشيخ حمد التي رأينا ليست في الاستعانة خاصة، بل في تسليم بلاد المسلمين إلى المشركين، وظهور عبادة الأصنام والأوثان، ومن المعلوم أن من تصور هذا الواقع، ورضي به وصوب فاعله، وذب عنه، وقال بحله فهو من أبعد الناس عن الإسلام والإيمان، إذا قام الدليل عليه. وأما مَنْ أخطأ في عدم الفرق، ولم يَدْرِ الحقيقةَ، واعتزَّ بمسألةٍ خلافية، فحكمه حكم أمثاله من أهل الخطأ، إذا اتقى الله ما استطاع، ولم يُغَلِّبْ جانبَ الهوى. والمقصود أن الاعتراض والمِرَاء من الأسباب في مَنْع الحق والهُدَى، ومَن عرف القواعد الشرعية، والمقاصد الدينية والوسائل الكُفْرِية، عرف

_ 1 يمثل المصنف -رحمه الله- بهذا الحديث الذي قاله النبي صلى الله عليه وسلم في زلة حاطب بن أبي بلتعة البدري؛ إذ أراد إخبار مشركي مكة بالزحف عليها؛ للتشابه بين المسألتين في أن الحسنات يذهبن السيئات.

ما قلناه. [الدعوة إلى التمسك بالكتاب والسنة] والمعترضون على الشيخ ليسوا هم في الحقيقة أهلا لإقامة الحجج الشرعية والبراهين الْمَرْضِيَّة على ما يَدَّعُونَ من غلطه وخطئه، إنما هي اعتراضات مشوبة بأغراض فاسدة وما أحسن ما قيل: أقلوا عليه لا أبا لأبيكمو ... من اللوم أو سدوا المكان الذي سدا وأكثرهم يرى السكوت عن كشف اللبس في هذه المسألة التي اغترَّ بها الجاهلون، وضَلَّ بها الأكثرون، وطريقة الكتاب والسنة وعلماء الأمة تخالف ما استخفه هذا الصنف من السكوت والإعراض في هذه الفتنة العظيمة، وإعمال ألسنتهم في الاعتراض على من غار لله ولكتابه ولدينه. فليكن لك يا أخي طريقة شرعية وسيرة مَرْضِيَّة في رد ما ورد من الشبه، وكشف اللبس، والتحذير من فتنة العساكر، والنصح لله، ولكتابه، ولدينه، ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم. وهذا لا يحصل مع السكوت وتسليك الحال على أيِّ حال فاغتنم الفرصة، وأَكْثِرْ من القول في ذلك، واغْتَنِمْ أيام حياتك، فعسى الله أن يحشرنا وإياك في زمرة عساكر السنة والقرآن، والسابقين الأولين من أهل الصدق والإيمان. [الاستعانة بالمشرك عند الضرورة] والشبهة التي تمسك بها مَن قال بجواز الاستعانة، هي ما ذكرها بعض الفقهاء من جواز الاستعانة بالمشرك عند الضرورة، وهو قول ضعيفٌ مردودٌ مبنيٌّ على آثار مرسلة تَرُدُّهَا النصوص القرآنية، والأحاديث الصحيحة الصريحة النبوية. ثم القول بها -على ضعفه- مشروط بشروط نَبَّهَ عليها شراح الحديث، ونقل الشوكاني منها طَرَفًا في شرح المنتقى، منها: أمن الضرر والمفسدة، وأن لا يكون لهم شوكة وصولة، وأن لا يدخلوا في الرأي والمشورة. وأيضا ففرضها في الانتصار بالمشرك على المشرك، وأما الانتصار بالمشرك على

الباغي عند الضرورة فهو قول فاسد لا أثر فيه، ولا دليل عليه، إلا أن يكون محض القياس؛ وبطلانه أظهر شيء في الفرق بين الأصل والفرع، وعدم الاجتماع في مناط الحكم، شعر: وليس كل خلاف جاء معتبرا ... إلا خلاف له حظ من النظر والمقصود: المذاكرة في دين الله، والتواصي بما شرعه من دينه وهداه، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم. (حاشية لجامع الرسالة) غلط صاحب الرسالة في معرفة الضرورة، فظنها عائدة إلى مصلحة ولي الأمر في رياسته وسلطانه، وليس الأمر كما زعم ظنه؛ بل هي ضرورة الدين وحاجته إلى مَنْ يعين عليه؛ وتصلح به مصلحته؛ كما صرح به من قال بالجواز؛ وقد تقدم ما فيه، والله أعلم، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

الرسالة الخامسة والعشرون: حال فتنة الأمراء بنجد وأحوالها ومآلها

الرسالة الخامسة والعشرون [حال فتنة الأمراء بنجد وأحوالها ومآلها] وله أيضا رسالة إلى علي بن محمد وابنه محمد آل موسى وقد ذكرا له في أمر هذه الفتن والحوادث، وما حصل في ضمنها من عظيم الكوارث، فبين لهما -رحمه الله- مبدأ هذه الفتنة والحكم في أهلها وجندها، لأنه قد خفي على بعض المنتسبين إلى العلم والدين حقيقة الحكم الشرعي. والقول الصواب المرضي، وهو أن مَنْ استولى على المسلمين بالغلبة والسيف، فالبيعة ثابتة له، تنفذ أحكامه؛ وتصح إمامته باتفاق أهل العلم والدين وأئمة الإسلام، لا يختلف في ذلك منهم اثنان، وأنهم يرون المنع من الخروج عليه بالسيف وتفريق الأمة، وإن كانت الأئمة ظلمة فسقة، ما لم يروا كفرا بواحا. وقد جرى في تلك الفتنة من الخوض والمراء والجدل والاضطراب، والإعراض عن منهج السنة والكتاب، ما عَمَّ ضررُهُ، وطار في الأقطار شررُهُ، وصار سببا وسلما لولاية المشركين، إلخ ما ذكره، وهذا نص الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد اللطيف بن عبد الرحمن إلى الأخوين المكرمين علي بن محمد وابنه محمد بن علي -سلمهما الله تعالى من الأسوا، وحماهما من طوارق المحن والبلوى-. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد، فأحمد إليكما الله الذي لا إله إلا هو وهو للحمد أهلٌ، وهو على كل شيء قدير، والخط وصل -وصلكما الله بما يرضيه، وجعلكما ممن يحبه ويتقيه- وما ذكرتما صار معلوما. وهذه الحوادث والفتن أكبر مما وصفتم، وأعظم مما إليه أشرتم. كيف لا وقد تلاعب الشيطان بأكثر المنتسبين، وصار سُلَّمًا لولاية المشركين، وسببًا لارتداد المرتدين، وموجبًا لخفض أعلام الملة والدين، وذريعة إلى تعطيل توحيد رب العالمين، وإلى استباحة دماء المسلمين، وهتك أعراض عباده

المؤمنين، فتنة لا يصل إليها حديث ولا قرآن 1، ولا يرعوي أبناؤها عما يهدم الإسلام والإيمان؛ يعرف ذلك مَنْ منَّ الله عليه بالعلم والبصيرة، وصار على حظ من أنوار الشريعة المطهرة المنيرة، وصار على نصيب من مراقبة عالم السر والسرائر. وقد عرفتم مبنى هذه الفتنة وأولها والحكم في أهلها وجندها، ثم صار لهم دولة بالغلبة والسيف، واستولوا على أكثر بلاد المسلمين وديارهم، وصارت الإمامة لهم بهذا الوجه، ومن هذا الطريق كما عليه العمل عند كافة أهل العلم من أهل الأمصار في أعصار متطاولة. وأول ذلك ولاية آل مروان لم تصدر لا عن بيعة، ولا رأي، ولا عن رضى من أهل العلم والدين، بل بالغلبة، حتى صار على ابن الزبير ما صار، وانقاد لهم سائر أهل القرى والأمصار. وكذلك مبدأ الدولة العباسية ومخرجها من خراسان وزعيمها رجل فارسي مُدَّعِي؛ أيامهم صَالَ على مَن يَلِيهِ ودعا إلى الدولة العباسية وشَهَرَ السيف، وقتل مَن امتنع عن ذلك وقاتل عليه، وقتل ابن هبيرة أمير العراق، وقتل خلقا كثيرا لا يحصيهم إلا الله؛ وظهرت الرايات السود العباسية وجاسوا خلال الديار قتلا ونهبا في أواخر القرن الأول. وشاهد ذلك أهل القرن الثاني والثالث من أهل العلم والدين وأئمة الإسلام، كما لا يخفى على من شم رائحة العلم، وصار على نصيب من معرفة التاريخ وأيام الناس. وأهل العلم مع هذه الحوادث متفقون على طاعة من تغلب عليهم في المعروف، يرون نفوذ أحكامه وصحة إمامته لا يختلف في ذلك اثنان، ويرون

_ 1 أي لا يصل إلى بيان المخرج منها حديث نبوي ولا قرآن إلهي بنص صريح لا يحتمل التأويل. فكل فريق يتأول نصوصها بما يجعله المحق وخصمه المبطل، حتى إن أحد أنصار الحق قد طعن في دينه من يظاهرهم على خصمهم، وهو صاحب الرسالة التي يدافع الشيخ عنها.

المنع من الخروج عليهم بالسيف وتفريق الأمة، وإن كان الأئمة فسقة ما لم يروا كفرا بواحا، ونصوصهم في ذلك موجودة عن الأئمة الأربعة وغيرهم وأمثالهم ونظرائهم. [ما اتفق عليه أهل الحل والعقد في حكومة نجد من تقرير إمامة سعود] إذا عرفت هذا، فالحاصل في هذا العصر بين أهل نَجْد له حُكْم أمثاله من الحوادث السابقة في زمن أكابر الأئمة الأربعة وغيرهم، كما قدمنا، وصارت ولاية المتغلب ثابتة كما إليه أشرنا، ووقع اتفاق ممن ينتسب إلى العلم لديكم على هذا كالشيخ إبراهيم الشثري في الحوطة، وحسين وزيد في الحريق، وخطوطهم عندنا محفوظة معروفة، فيها تقرير إمامة سعود، ووجوب طاعته، ودفع الزكاة إليه، والجهاد معه، وترك الاختلاف عليه. كل هذا موجود بخطوطهم، فلا جرم قد صار العمل على هذا والاتفاق، ثم توفى الله سعودا، واضطرب أمر الناس، وخشينا الفتنة واستباحة المحرمات مِن بَادٍ وحَاضِرٍ، وتوقعنا حصولَ ذلك وانسلاخ أمر المسلمين. فاستصحبنا ما ذكر وبَنَيْنَا عليه، واختار أهل الحل والعقد من حمولة آل سعود، ومن عندهم ومن يليهم نصب (عبد الرحمن بن فيصل) وذلك صريح في عدم الالتفات منهم إلى ولاية غير آل سعود، ولهذا كتبنا من الرسائل التي فيها الإخبار بالبيعة والنهي عن سلوك طريق الفتن والاختلاف، وأن يكون المسلمون يدا واحدة. وذكَّرْناهم قوله تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا} 1 ونحو ذلك من الآيات، وبعضا مما ورد من الأحاديث الصحيحات. فترك بعضُ مَن لديكم هذا المنهج وسلكوا طريقا وَعِرَة تُفْضِي إلى سفك الدماء، واختلاف الكلمة، وتضليل من خالفهم، ودعا بعضهم إلى ذلك، واستحسنه من غير مشورة ولا بينة، ولم ينصحوا إخوانهم

_ 1 سورة آل عمران آية: 103.

ويوضحوا لهم وجه الإصابة فيما اختاروه وارتضوه. وكان الواجب على من عنده علم أن ينصح الأمة وينصح أولا لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم، ويكرر الحجة، وينظر في الدليل ويرشد الجاهل ويهدي الضال، بحسن البيان وتقرير صواب المقال؛ لكنهم أحجموا عن ذلك كله، ولم يلتفتوا إلى المُحَاقَّة والله هو ولي الهداية، الحافظُ الواقي من موجبات الجهل والغواية. وقد أوجب الله البيانَ وتركَ الكتمان، وأخذ الميثاق على ذلك على من عنده علم وبرهان؛ هذه صورة الأمر وحقيقة الحال، وقد عرفتموه أولا وآخرا في المُكَاتَبَات الوَارِدَة عليكم؛ فلا يلتبس عليك الحال، ولا يشتبه سبيل الهدى بالجهل والضلال، واذكر قوله: {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا} 1. إذا رضي الحبيب فلا أبالي ... أقام الحي أم جد الرحيل وأما الصلح بين المسلمين فهو من واجبات الإيمان والدين، ولكن يحتاج إلى قوة وبصيرة يحصل بها نفوذ ذلك والإجبار عليه؛ فإن وجدت إلى ذلك سبيلا فاذكره لي أولا، ولا تألو جهدا -إن شاء الله- فيما يكف الفتن، ويصلح به بين المسلمين، وأسأل الله أن يمن بذلك، ويوفق لما هنالك، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.

_ 1 سورة الأحزاب آية: 39.

الرسالة السادسة والعشرون: الفتن الحاصلة بسبب الإمارة

الرسالة السادسة والعشرون [الفتن الحاصلة بسبب الإمارة] وله أيضا -قدس الله روحه- رسالة إلى الإخوان: الشيخ إبراهيم ورشيد بن عوين وعيسى بن إبراهيم وإخوانهم، مضمونها التحريض على لزوم الجماعة والإمامة لأن إضاعتها من أسباب الخزي والندامة، وبالتزامها تحصل السلامة والاستقامة؛ وعَرَّفَهُمْ في هذه الرسالة ما سبق منه في أول هذه الفتنة من المكاتبات، وما مَنَّ الله به عليه من المذاكرة والمناصحات، بلزوم بيعة الإمام عبد الله، والتصريح بأن راية أخيه سعود راية جاهلية عمية. ثم لما صدر من عبد الله ما صدر من جلب الدولة إلى البلاد الإسلامية والجزيرة العربية، وإعطائهم الأحساء والقطيف والخط، تبرأ مما تبرأ الله منه ورسوله، واشتد نكيره عليه شِفَاهًا ومراسلة، كما مر ذلك فيما سبق من الرسائل، وثبت لأخيه سعود البيعة والغلبة والقهر. ثم بعد ذلك قدم عبد الله من الأحساء، وادعى التوبة والندم وأكثر من التأسف والتوجع فيما صدر منه، وبايعه البعض وكتب الشيخ إلى الشيخ حمد بن عتيق: إن الإسلام يَجُبُّ ما قبله، والتوبة تهدم ما قبلها، وذكر له أن الواجب السعي فيما يصلح الإسلام والمسلمين، ثم إنه تغلب سعود على جميع البلاد النجدية، وبايعه الجمهور وسموه باسم الإمامة، وقد علمت أن الحكم يدور مع علته يثبت بثباتها وينتفي بانتفائها، وهذا نص الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد اللطيف بن عبد الرحمن إلى الأخ المكرم الشيخ إبراهيم ورشيد بن عوين، وعيسى بن إبراهيم، ومحمد بن علي، وإبراهيم بن راشد، وعثمان بن رقيب، وإخوانهم، سلك الله بنا وبهم سبل الاستقامة، وأعاذنا وإياهم من سُبُل الخزي والندامة. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعدُ تفهمون أنه لا إسلام إلا بجماعة،

ولا جماعة إلا بإمامة، وقد حصل من التفرق والاختلاف والخوض في الأهواء المُضِلَّة ما هدم من الدين أصله وفرعه، وطمس من الدين 1 أعلامه الظاهرة وشرعه. وهذه الفتنة يحتاج الرجل فيها إلى بصر نافذ عند ورود الشبهات، وعقل راجح عند حلول الشهوات، والقول على الله بلا علم، والخوض في دينه من غير دراية ولا فهم، فوق الشرك واتخاذ الأنداد معه. وقد صار لديكم وشاع بينكم ما يعز حصرُهُ واستقصاؤه، فينبغي للمؤمن الوقوف عند كل همة وكلام، فإن كان لله مضى فيه، وإلا فَحَسْبُهُ السكوتُ، وقد عرفتم حالنا في أول هذه الفتنة، وما صدر لديكم من المكاتبات والنصائح، وفيها الجزم بإمامة عبد الله ولزوم بيعته، والتصريح بأن راية أخيه راية جاهلية عمية، وأوصيناكم بما ظهر لنا من حكم الله وحكم رسوله ووجوب السمع والطاعة. فلما صدر من عبد الله ما صدر من جلب الدولة إلى البلاد الإسلامية والجزيرة العربية، وإعطائهم الحسا والقطيف والخط، تبرأنا مما تبرأ الله منه ورسوله، واشتد النكير عليه شِفَاهًا ومراسلة لمن يقبل مني ويأخذ عني، وذكرت لكم أن بعض الناس جعله تُرْسًا تُدْفَع به النصوص والأحاديث والآثار، وما جاء من وجوب جهادهم والبراءة منهم وتحريم موادتهم وموآخاتهم من النصوص القرآنية، والأحاديث الصحيحة الصريحة النبوية. والقول بأنهم جاؤوا لنصرة إمام أو دين قول يدل على ضعف دين قائله، وعدم بصيرته، وضعف عقله وانقياده لداعي الهوى، وعدم معرفته بالدول والناس، وذلك لا يروج إلا على سواسية الأعراب، ومن نَكَبَ عن طريق الحق والصواب.

_ 1 لعل الأصل الإسلام.

وأعجب من هذا: نسبة جوازه إلى أهل العلم، والجزم بإباحة ذلك، والصورة المختلف فيها مع ضعف القول بجوازها وإباحتها والدفع في صدرها كما هو مبسوط في حديث "إنا لا نستعين بمشرك"1، هي صورة غير هذه، ومسألة أخرى. وهذه الصورة حقيقتها تولية وتخلية وخيانة ظاهرة كما يعرفه مَنْ له أدنى ذوق وتهمة في العلم. لكن بعد أن قدم عبد الله من الأحساء ادعى التوبة والندم، وأكثر من التأسف والتوجع فيما صدر منه، وبايعه البعض، وكتب إلى ابن عتيق أن الإسلام يَجُبُّ ما قبله، والتوبة تهدم ما قبلها، فالواجب السعي فيما يصلح الإسلام والمسلمين، ويأبى الله إلا ما أراد: {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} 2. [تغلب سعود على نجد ومبايعة الجمهور له] والمقصود: كشف حقيقة الحال في أول الأمر وآخره، وقد تغلب سعود على جميع البلاد النجدية، وبايعه الجمهور، وسموه باسم الإمامة، وقد عرفتم أن أمر المسلمين لا يصلح إلا بإمام، وأنه لا إسلام إلا بذلك، ولا تتم المقاصد الدينية ولا تحصل الأركان الإسلامية، ولا تظهر الأحكام القرآنية، إلا مع الجماعة والإمامة، والفرقة عذاب، وذهاب في الدين والدنيا، ولا تأتي شريعة بذلك قط. ومن عرف القواعد الشرعية عرف ضرورة الناس وحاجتهم في دينهم ودنياهم إلى الجماعة والإمامة، وقد تغلب من تغلب في آخر عهد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعطوه حكم الإمامة، ولم ينازعوا كما فعل ابن عمر وغيره، مع أنها أخذت بالقهر والغلبة. وكذلك بعدهم في عصر الطبقة الثالثة، تغلب من تغلب، وجرت أحكام الجماعة والإمامة، ولم يختلف أحد في ذلك، وغالب الأئمة بعدهم على هذا القبيل وهذا النمط، ومع ذلك فأهل العلم والدين يَأْتَمِرُونَ بما أَمَرُوا به من المعروف، وينتهون عما نُهُوا

_ 1 مسلم: الجهاد والسير (1817) , والترمذي: السير (1558) , وأبو داود: الجهاد (2732) , وابن ماجه: الجهاد (2832) , وأحمد (6/ 67 ,6/ 148) , والدارمي: السير (2496). 2 سورة يوسف آية: 21.

عنه من المنكر، ويجاهدون مع كل إمام كما هو منصوص عليه في عقائد أهل السنة. ولم يقل أحد منهم بجواز قتال المتغلب والخروج عليه، وترك الأمة تموج في دمائها وتستبيح الأموال والحرمات، ويجوس العدو الحربي خلال ديارهم وينزل بحماهم، هذا لا يقول بجوازه وإباحته إلا مُصَاب في عقله، مَوْتُورٌ في دينه وفهمه، وقد قيل: لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم ... ولا سراة إذا جهالهم سادوا بل هذا الحكم الديني يؤخذ من قوله تعالى: {اعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا} 1، لأنه لا يحصل القيام بهذا الواجب إلا بما ذكرنا، وتركُهُ مفسدةٌ محضةٌ، ومخالفةٌ صريحةٌ قال تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} 2. وفي الحديث: "إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه"3، لا سيما وقد نزل العدو بأطرافكم، واسْتَخَفَّ الشيطانُ أكثرَ الناس، وزَيَّنَ لهم الموالاة واللحاق بالمشركين، وإسناد أمر الرياسة إليهم، وأنهم ولاة أمر يَعْرِفُونَ ويُوَلُّونَ، ويَنْصُرُونَ وَيُنَصِّبُونَ، وأنهم جاؤوا لنصرة فلان كما ألقاه الشيطان على ألسن المفتونين، وصاروا بعد التَّرَسُّمِ بالدين من جملة أعوان المشركين، المبيحين لترك جهاد أعداء رب العالمين، فما أعظمها من مكيدة، وما أكبرها من خطيئة، وما أبعدها من دين الله ورسوله: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} 4. وما صدر من بعض الإخوان من الرسائل المُشْعِرَةِ بجواز الاستنصار بهم وتهوين فتنتهم، والاعتذار عن بعض أكابرهم، زلةٌ لا يرقى سليمها، وورطةٌ قد هلك وضلَّ زعيمُها، وما أحسن قوله: {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا} 5 فاقبلوا وامتثلوا

_ 1 سورة آل عمران آية: 103. 2 سورة المائدة آية: 2. 3 البخاري: الاعتصام بالكتاب والسنة (7288) , ومسلم: الحج (1337) , والترمذي: العلم (2679) , والنسائي: مناسك الحج (2619) , وابن ماجه: المقدمة (1 ,2) , وأحمد (2/ 508). 4 سورة الأعراف آية: 187. 5 سورة سبأ آية: 46.

موعظة ربكم وجاهدوا في الله حق جهاده. وقد أجمع المسلمون على جهاد عدوهم مع الإمام سعود -وفقه الله-، وقد قرر أهل السنة في عقائدهم أن الجهاد ماض مع كل إمام، وهو فرض على المشهور، أو ركن من أركان الإسلام لا يبطله جَوْرُ جَائِرٍ. قال بعض السلف لَمَّا لامَهُ بعضُ الناس على الصلاة خلف المبتدعة: إنْ دَعَوْنَا إلى الله أجبنا، وإن دَعَوْنَا إلى الشيطان أَبَيْنَا، وفي الحديث: "جاهدوا المشركين بأنفسكم وأموالكم وألسنتكم"1. وفقنا الله وإياكم للجهاد في سبيله، والإيمان بوعده وقِيلِهِ، واحذروا المِرَاء والخوض في دين الله بغير علم، فإنه من أسباب الهلاك كما صح بذلك الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. والله يقول الحق وهو يهدي السبيل، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.

_ 1 النسائي: الجهاد (3096) , وأبو داود: الجهاد (2504) , وأحمد (3/ 124 ,3/ 153 ,3/ 251) , والدارمي: الجهاد (2431).

الرسالة السابعة والعشرون: مداهنة المشركين والسفر إلى بلادهم وعقاب فاعله

الرسالة السابعة والعشرون [مداهنة المشركين والسفر إلى بلادهم وعقاب فاعله] وله أيضا -رحمه الله تعالى، وصَبَّ عليه من شآبيب بره ووالى- رسالة إلى محمد بن علي آل موسى، وإبراهيم بن راشد وإبراهيم مرشد، وقد ذكروا له ما وقع الناس فيه من مُدَاهَنَة المشركين، والإعراض عن دين المرسلين. وقد تقدم نظيرُ هذه الرسالة في المعنى، ولكن لِمَسِيسِ الحاجة والسبب الباعث ما اكتفى بما سبق ولا استغنى، بل نصح ووضَّح وكشف قناع الإشكال، وما أبقى لِمُشْتَبِهٍ من حجة ولا مقال، وذلك بسبب ما حدث من تسهيل أمر السفر إلى بلاد المشركين، وإن غاية ما يفعل مع المسافر الهجرُ، وتركُ السلام من غير تعنيف ولا تخشين. والمُشْتَبِهُ يزعم أن الشيخ عبد الرحمن أفتى بذلك -إن صح الخبر- فإن ثبت فيحمل على قضية خاصة، يحصل بها المقصود والقصد ممن هجر، أو بما ستقف عليه من المحامل التي لا يعرفها كل مشتبه جاهل. والوجوه التي ذكرها الشيخ إذا تأملتها -أيها المنصف- وتعقلتها بشراشر قلبك لعلك عن الشبهات أن تعزف، وللحق الواضح والباطل الفاضح تفرق وتعرف، وهذا نص الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد اللطيف بن عبد الرحمن إلى الإخوان المكرمين محمد بن علي آل موسى وإبراهيم بن راشد وإبراهيم بن مرشد -سلمهم الله تعالى وتولاهم-. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: فأحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو على نعمه، والخط وصل -وصلكم الله بما يرضيه- وسرنا سلامة مَن نحب ونشفق عليه. وما ذكرتم مما وقع فيه الناس من مداهنة المشركين، والإعراض عن دين المرسلين، فالأمر كما ذكرتم، أو فوق ما إليه أشرتم، وقد سبق لكم مني جواب. وأخبرتكم أن هذا من أكبر الوسائل، وأعظم الذرائع إلى ظهور الشرك ونسيان التوحيد، وإنَّ

من أعظم ذلك وأفحشه: ما يصدر مِن بعض مَن يظنه العامةُ مِن أهل العلم وحَمَلة الدين، وما يصدر منهم من التشبيه، والعبارات التي لم يتصل سندُها ولم يُعصم قائلُها، وبهذا ونحوه اتسع الخرق، وفي حديث ثوبان: "وإنما أخاف على أمتي الأئمة المضلين"1، وهو يتناول مَن له إمامة ممن ينتسب إلى العلم والدين، وكذلك الأمراء. وأبيات عبد الله بن المبارك معلومةٌ لديكم في هذين الصنفين أعني قوله: وهل أفسد الدين إلا ... الملوك ... إلى آخره وفي مثل هؤلاء قال قتادة: فوالله ما آسى عليهم، ولكن آسى على مَن أهلكوا، وكما نقلتم عن بعضهم زعم أن الشيخ الوالد -قدس الله روحه، ونور ضريحه- أفتى فيمن يسافر إلى بلاد المشركين بأن غاية ما يفعل معه هو الهجر، وترك السلام بلا تعنيف ولا ضرب، وهذه غلطة من ناقلها لم يفهم مراد الشيخ -إن صح نقله- ولم يدر ما يراد بها. وهذا النقل يطالب بصحته أولا، فإن ثبت بنقل عدل ضابط فيحمل على قضية خاصة يحصل بها المقصود بمجرد الهجر، وهي فيمن ليس له ولاية ولا سلطان له على الأمراء والنواب، ويترتب على تعزيره بغير الهجر مفسدة الافتيات على ولي الأمر والنواب، ونحو هذه المحامل. ويتعين هذا -إن صحت-، لأن هذا ذنب قد تقرر أنه من الكبائر المُتَوَعَّدُ صاحبها بالوعيد الشديد بنص القرآن وإجماع أهل العلم، إلا لمن أظهر دينه، وهو العارف به، القادر على الاستدلال وعلى إظهاره، فإنه مُستثنًى من العموم، وأما غيره فالآية تتناوله بنصها لأن الإقامة تصدق على القليل والكثير. فالكبائر التي ليس فيها حَدٌّ يُرجع فيها إلى ما تقتضيه المصلحة من التعزير كالهجر والضرب، وقد يقع التعزير بالقتل كما في حديث

_ 1 الترمذي: الفتن (2229) , وأبو داود: الفتن والملاحم (4252) , وابن ماجه: الفتن (3952) , وأحمد (5/ 278 ,5/ 284) , والدارمي: المقدمة (209).

شارب الخمر: "فإن شربها في الرابعة فاقتلوه"1. وقد أفتى شيخ الإسلام بقتل من شرب الخمر في نهار رمضان إذا لم يندفع شره إلا بذلك، وأفتى بِحِلِّ دمِ مَن جَمَزَ إلى معسكر التتار وَكَثَّرَ سوادهم، وأَخْذِ ماله، وكل هذا من التعازير التي يرجع فيها إلى ما يحصل به درء المفسدة وحصول المصلحة، وأفتى بالتعزير في أخذ المال إذا كان فيه مصلحة. وقد عرفتم أن من أكبر المصالح مَنْعُ هذا الضرب بأي طريق، وأنه لا يستقيم حالٌ وإسلامٌ لمَن ينتسب إلى الإسلام مع المخالطة والمُقَارَفَة الشِّرْكِيَّة لوجوه: (منها): عدم معرفة أصول الدين وأحكام الله في هذا ونحوه. (ومنها): العجز عن إظهاره لو عرفوه. (ومنها): أن العدو مُحارب قد سار إلى بلاد المسلمين واستولى على بعضها؛ فليس حكمه كحكم غيره؛ بل هذا جهاده يجب على كل أحد فرض عين لا فرض كفاية، كما هو منصوص عليه. (ومنها): أن تلك البلاد مُلِئَتْ بالمشبهين والصادين عن سبيل الله ممن ينتسب إلى العلم، ويُسَمُّونَ أهلَ التوحيدِ: الغلاةَ كما سماهم إخوانهم: خوارجَ. والهجرة لها مقصودان: الفرارُ من الفتنة، وخوفُ المفسدة الشركية. والثاني: مجاهدة أعداء الله والتَّحَيُّزُ إلى أهل الإسلام. وقد كانت شرطا في أول الإسلام مع ضعف المسلمين وخوف المشركين وشدة بَأْسِهِم، وكثرة الأسباب الداعية إلى الفتنة، والسر فيها لا يُهْدَر ولا يُطْرَح في كل مقام، لا سيما والمُقَارِف لهذا الفعل وغيره من الأفعال الموجبة للردة كثيرٌ جدا، فالنجا النجا، والوحا الوحا قبل أن يَعَضَّ الظالمُ على يديه، ويقول: يا ليتني اتخذتُ مع الرسول سبيلا. ولعل الله أن يَمُنَّ بخطٍ مبسوطٍ يأتيكم بعد هذا، فيه التعريجُ على شيء من نصوص أهل العلم، وبيان كَذِب هذا المُفْتَرِي على الشيخ. وأهل المذهب لا يختلفون في أن حكم السفر حكمُ الإقامة، يُمْنَع منه مَن عَجَزَ عن

_ 1 الترمذي: الحدود (1444) , وأبو داود: الحدود (4482) , وابن ماجه: الحدود (2573) , وأحمد (4/ 93 ,4/ 95 ,4/ 96 ,4/ 97 ,4/ 100).

إظهار دينه، وفي الحديث: "ما ضل قوم بعد هدًى كانوا عليه إلا أعطوا الجدل ومُنِعُوا العملَ"1 وما وقع فيه الناس وابتلي به الأكثر من ثلب بعض مشايخكم، فقد علمتم ما يُؤْثَر عن السلف أن علامة أهل البدع الوقوعُ في أهل الأثر، وهؤلاء إذا قيل لهم: هاتوا، حقِّقُوا، واكتبوا لنا ما تَنْقِمُونَ، وقَرِّرُوا الحجةَ بما تَدَّعُونَ، أحجموا عن ذلك وعجزوا عن مقاومة الخصوم، ومتى يُدرك الظَّالِعُ شَأْوَ الضليع (شعر): أماني تلقاها لكل متبر ... حقيقتها نبذ الهدى والشعائر وحسابنا وحسابهم على الله الذي تنكشفُ عنده السرائرُ، وتظهر مخبآت الصدور والضمائر، جعلنا الله وإياكم من الذين جردوا متابعة الرسول {وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلا رَسُولِهِ وَلا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً} 2، ولم ينتسبوا إلى قَيْسٍ وَيَمَنٍ، كما قد وقع عندكم فيمن فَرَّقُوا دينهم وكانوا شِيَعًا، حمانا الله وإياكم، وثبتنا على دينه وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.

_ 1 الترمذي: تفسير القرآن (3253) , وابن ماجه: المقدمة (48). 2 سورة التوبة آية: 16.

الرسالة الثامنة والعشرون: [تكفير الترك للنجديين والتقاتل بينهم]

الرسالة الثامنة والعشرون: [تكفير الترك للنجديين والتقاتل بينهم] وله أيضا -قدس الله روحه، ونور ضريحه- رسالة إلى الإخوان من بني تميم، يُعَزِّيهم في الشيخ عبد الملك -رحمه الله تعالى- ويخبرهم بالصلح الذي وقع بينه وبين سعود بن فيصل، لَمَّا خرج من الأحساء يريد نجدا، بعد وقعة جوده، ورجوع عبد الله إلى الرياض، وليس معه إذ ذاك إلا نَزْرٌ قليلٌ من البادية والحاضرة؛ ومع سعود خلقٌ كثيرٌ وجمٌّ غفيرٌ، فلما رأى -رحمه الله- كثرةَ تلك البوادي، وشدة الحَنَق والغيظ من أولئك الأعادي، وخشي على البلد من الدمار وخراب الدين والدنيا وهتك الأستار، سعى في الصلح، ودافع عن الإسلام والمسلمين، وبذل الجهد وأخذ العهد على ضعفة المسلمين عن أولئك المعتدين، وهذا نص الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد اللطيف بن عبد الرحمن إلى الإخوان من بني تميم -سلمهم الله تعالى-. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعدُ: نحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو على نعمه، وعلى أقداره وحِكَمِهِ، ونسأل الله أن يحسن عزاءنا وعزاءكم في الشيخ عبد الملك بن حسين -غفر الله ذنبه، ورحمه ورفع في المقربين درجته- وما ذكرتم من جهة حالكم مع عبد الله وصدقكم معه صار معلوما -نسأل الله لنا ولكم التوفيق-. وقد بذلنا الاستطاعة في نصرته، حتى نزل بالمسلمين ما لا قِبَلَ لهم به، وخشينا على كافة المسلمين من أهل البلد من السبي وهتك الأستار وخراب الدين والدنيا والدمار، ونزلنا وسعينا بالصلح بإذن من عبد الله في الصلح وَأَلْجَأَتْنَا إليه الضرورةُ ودفعنا عن الإسلام والمسلمين ما لا قِبَلَ لهم به، فإن يكُ صوابًا فمن الله، وإن يك خطأ فمنا ومن الشيطان.

وفي السِّيَر ما يؤيد ما فعلناه، وينصر ما انْتَحَلْنَاهُ؛ وقد صالح أهل الدِّرْعِيَّة وآل الشيخ وعلماؤهم وفقهاؤهم على الدرعية لما خيف السبي والاستئصال، وعبد الله ظهر بمرحلة البلد ونزل الحائر ولم يحصل منه نصر ولا دفاع، {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} 1. ثم بلغنا أن الدولة ومَنْ والاهم مِن النصارى وأشباههم نزلوا على القطيف يزعمون نصرة عبد الله وهم يريدون الإسلام وأهله، وحضينا سعودَ على جهادهم، وَرَغَّبْنَاهُ في قتالهم، وكتبنا لبلاد المسلمين بذلك. قال الله تعالى: {وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ} 2، والعاقل يدور مع الحق أينما دار، وقتال الدولة والأتراك 3 والإفرنج وسائر الكفار من أعظم الذخائر المنجية من النار. والله يقول الحق، وهو يهدي السبيل والسلام. وصلى الله على محمد وصحبه وسلم

_ 1 سورة يوسف آية: 21. 2 سورة الأنفال آية: 72. 3 قد يظن بعض من يطلع على هذا مِن غير أهل نجد أنه من عدوانهم على الترك بغير حق. ولكن الواقع أن الترك كانوا هم المعتدين بِسَوْقِ عسكرهم إلى نجد وقتال أهلها وتكفيرهم وبماذا كَفَّرُوهم؟ ولماذا قاتلوهم؟ كفروهم بما أحيوه في بلادهم من دعوة الإسلام بالتوحيد الخالص وإقامة أركان الإسلام كلها وإزالة البدع والخرافات، وإزالة الشرك وجميع المنكرات، وإنما قاتلوهم: لئلا يجددوا استقلال العرب، ولكن جعلوه باسم الدين، مع أنهم لم يقاتلوا أحدا من قبل لأجل إقامة الإسلام، ولم يمنعوا من بلادهم شيئا من الشرك والبدع. وكان النَّجْدِيُّونَ يرون قوادهم يشربون الخمور ويستبيحون الفواحش ويحكمون بغير ما أنزل الله، وقد فُتِنَ بهم بعضُ أهل البلاد. فهل من المعقول أن يقول لهم علماؤهم: إنهم صادقون في تكفيرنا، ومُحِقُّونَ في قتالنا، وهم يعتقدون أنه لو لم يقم من الأدلة على كفرهم وقتالهم: إلا تكفيرهم لهم وقتالهم إياهم بهذه الحجة لكفى.

الرسالة التاسعة والعشرون: شروط السفر إلى بلد الشرك وحكم الهجرة

الرسالة التاسعة والعشرون [شروط السفر إلى بلد الشرك وحكم الهجرة] وله أيضا رسالة إلى الإخوان محمد بن علي وإبراهيم بن راشد وإخوانهم، يحرِّضُهم فيها ويُذَكِّرهم ما سبق من المُكَاتَبات في شأن هذه الحوادث العُمْيِ العظائم التي قَلَعَتْ أصولَ الدين، والْتَبَسَ الأمرُ بسببها على مَن ينتسب إلى العلم، وخفي عليه المخرج والحكم. واتَّبعهم في ذلك جمهورُ أهل الأهواء، ولم يلتفتوا إلا إلى مَن منهجه الإهلاك والإغواء، وتركوا طريقة مَن يدعوهم إلى الحق والهدى، ويُبَصِّرُهم -بنور الله- أسباب النجاة والتقى، حتى أعضل فادح تلك الحوادث، وطغى على القلوب ما طغى من تلك الكوارث فما ارْعَوَى إلى الحق أكثرُهم وما استرشد، ولم يستبينوا الرشد إلا ضحى الغد. وقد سأله الإخوان عن حكم من يسافر إلى بلاد المشركين التي يعجز فيها عن إظهار ما وجب لله من التوحيد والدين، ويُعَلِّلُ بأنه لا يسلم عليهم، ولا يجالسهم، ولا يبحثون عن سره إلى غير ذلك من تعاليلُ الجاهلين، فأجاب بما ستقف عليه من التحقيق والسلوك إلى أقوم نهج وطريق، وهذا نص الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد اللطيف بن عبد الرحمن إلى الأولاد المكرمين محمد بن علي وإبراهيم بن راشد وإبراهيم بن مرشد وعثمان بن مرشد -سلَّمَهم الله تعالى-. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعدُ: فنحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو، كثير الخير دائم المعروف، والخط وصل بما اشتمل عليه من الوصية -جعلنا الله وإياكم ممن يقبل النصائح، ويدرأ المقت والفضائح- وجاءكم مني مكاتبات في هذه الحوادث العُمْيِ. ولم يبلغني ما يسرني عنكم من القبول، والقيام لله، والحق على طالب العلم والمنتسب إلى الدين والفهم أكبر منه على غيره، والواجب عليه آكد، والعاقل لا يرضى لنفسه سبيل أهل المداهنة والبطالة، وقد دهم الإسلام من الحوادث ما تعجز عن حمله الجبالُ الراسياتُ،

وتصغر في جنبه كل المحن والمصيبات، فما مضت فتنة إلا إلى ما هو من أكبر الشرك والكُفْرِيَّات. ومع ذلك فكثير من الناس قد التبس عليه الأمر، وخفي عليه المخرجُ والحكمُ، وكثر الخوضُ والاعتراضُ من بعض مَن ينتسب إلى القراءة ويَدَّعِي الفهم والطلب، واتبع جمهور أولئك ما يَهْوَاه من غير بينة ولا سلطان، ولا يتهم أحد رأيه، ولم يرجع إلى المُحَاقَّة والفكرة، حتى انهدم بنيان الإسلام، ولم يستوحش الأكثرون من ولاية عباد الأوثان والأصنام. وما أحسن ما قال سهل بن حنيف فيما رواه البخاري قال: حدثنا الحسن بن إسحاق ثنا محمد بن سابق ثنا مالك بن مغول قال: سمعت أبا حصين قال: قال ابن وائل: لما قدم سهل بن حنيف من صفين نَسْتَخْبِره فقال: اتهموا الرأي فقد رأيتني يوم أبي جندل ولو أستطيع أن أرد على رسول الله صلى الله عليه وسلم لرددت، والله ورسوله أعلم، وما وضعنا أسيافنا عن عواتقنا إلا أسهل بنا إلى أمر لا نعرفه قبل هذا الأمر، وما نَسُدُّ منها خصمًا إلا انفجرَ خصمٌ ما ندري كيف نأتي له. وأما السؤال عمن يسافر إلى بلد المشركين التي يعجز فيها عن إظهار ما وجب لله من التوحيد والدين، ويعلل بأنه لا يُسَلِّمُ عليهم ولا يجالسهم، ولا يبحثونه عن سره، وأنه يقصد التوصل إلى غير بلاد المشركين، ونحو ذلك من تعاليل الجاهلين. فاعلم أن تحريم ذلك السفر قد اشتهر بين الأئمة، وأفتى به جماهيرهم، وما ورد من الرخصة محمول على مَن يقدر على إظهار دينه أو على ما كان قبل الهجرة. ثم إن الحكم قد أُنِيطَ بالمُجَامعة والمُسَاكنة، وإن لم يحصل سلام ولا مجالسة، ولا بحث عن سره، كما في حديث سمرة: "من جامع المشرك وسكن معه فإنه مثله"1. فانظر ما علق به الحكم من

_ 1 أبو داود: الجهاد (2787).

المساكنة والاجتماع، وتعليق الحكم بالمشتق يؤذن بالعلة، فإن وقع مع ذلك سلام ومجالسة، أو فتنة بالبحث عن عقيدته وسره، عظم الأمر واشتد البلاء، وهذه محرمات مستقلة يضاعف بها الإثم والعذاب. وكيف تروج عليكم هذه الشبهات، ولكم في طلب العلم سنوات، وخوف الفتنة أحد مقاصد الهجرة، وهو غير منتفٍ مع هذه التعاليل. ومن مقاصد الهجرة الانحياز إلى الله بعبادته، والإنابة إليه، والجهاد في سبيله، ومراغمة أعدائه وإلى رسوله بطاعته وتعزيره ونصره ولزوم جماعة المسلمين، ولذلك يقرن الهجرة بالإيمان في غير موضع من كتاب الله. وكل هذا غير حاصل، وإن فرض صدق القائل فيما علل به، والغالب كذب هذا الجنس، فإن الأعمال الظاهرة تنشأ عما في القلوب من الصدق والإخلاص أو عدمهما. وقد عرفتم أن العامي الذي لا يعرف حدود ما أنزل الله على رسوله، ولم يلتفت إلى العلم تسرع إليه الفتنة أسرع من السيل إلى مُنْحَدره، ولذلك غلب على كثير من الناس عدم النُّفْرَة فرحل إليهم مَن رحل، وقبلوا رسائلهم وأفشوها في الناس، وأعانهم بعض المفتونين عن دينهم وجالسهم وراسلهم بعضُ من يقول: الدين في القلوب، ولم يلتفتوا إلى الأعمال الإسلامية والشرائع الإيمانية، ولو صدق ما زعموه في قلوبهم لأطاعوا الله ورسوله واعتصموا به، أعاذنا الله وإياكم من مُضَلات الفتن. وحماية جَنَاب التوحيد وسدُّ الذرائع الشركية، من أكبر المقاصد الإسلامية، وقد ترجم شيخنا في كتاب التوحيد لهذه القاعدة، فرحمه الله من إمام، ما أفقهه في دين الله! وما أعظم غيرته لربه وتعظيمه لحرماته! وما أحسن أثره على الناس! والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.

الرسالة الثلاثون: الحاجة إلى العلم في حال الفتن

الرسالة الثلاثون [الحاجة إلى العلم في حال الفتن] وله أيضًا -رحمه الله- رسالة إلى من تقدم ذكرهم من إخوان وهذا نصها: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد اللطيف بن عبد الرحمن إلى الإخوان المكرمين محمد بن علي وإبراهيم بن مرشد وإبراهيم بن راشد وعثمان بن مرشد -سلمهم الله تعالى، وعافاهم، وأصلح بالهم، وتولاهم-. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: فنحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو على نعمه، وعلى أقداره وحكمه، والخط وصل -وصلكم الله إلى ما يرضيه- وما ذكرتم صار معلوما، والله المسؤول أن يمن علينا وعليكم عند الوحشة بذكره والأنس بمجالسته، وعند ذهاب الإخوان بروح منه وسلطان. والذي أوصيكم به تقوى الله ومعرفة تفاصيل ذلك على القلوب والجوارح، ومعرفة الأحكام الشرعية الدينية عند تغير الزمان، وكثرة الفتن وظهور الهرج، وقد ورد أن الله يحب البصر الناقد عند ورود الفتن والشبهات، والعقل الراجح عند منازعة الشهوات. وذكر أبو داود وغيره من أهل السنن ما ينبغي مراجعته واستحضاره عند ذكر الفتن والملاحم، وذكر ابن رجب في رسالته "كشف الكربة في فضل الغربة" ما يسلي المؤمن ويعزيه. وذكر ابن القيم -رحمه الله- في المَدَارج جملة صالحة، وفي الأثر: "العبادة في الهَرْج كهجرة إليَّ"1، وفي حديث الغرباء: "للعامل منهم أجر خمسين من أصحاب

_ 1 مسلم: الفتن وأشراط الساعة (2948) , والترمذي: الفتن (2201) , وابن ماجه: الفتن (3985) , وأحمد (5/ 25 ,5/ 27).

الرسالة الحادية والثلاثون: التمسك بالميراث النبوي والحث على مذاكرة العلم

رسول الله صلى الله عليه وسلم"1. والذي أرى لكم في هذه الخلطة: الصبر على مقام الدعوة، والتلطف بالإبلاغ عن نبيكم، وهذا -مع القدرة وأمن الفتنة-، أفضل من العزلة. والإقلال من مخالطة الناس لمن أمكنه أسلم، وإني لأود أن أكون مثل أحدكم في هذا الزمان، ولكنني ابتليت بالناس وحِيلَ بيني وبين ذلك، والله المستعان، وعليه التكلان، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم. الرسالة الحادية والثلاثون [التمسك بالميراث النبوي والحث على مذاكرة العلم] وله أيضا -رحمه الله- رسالة إلى مَن تقدم ذكرُهم إلا محمد بن علي، وهذا نصها: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد اللطيف بن عبد الرحمن إلى الإخوان المكرمين إبراهيم بن راشد وإبراهيم بن مرشد وعثمان بن مرشد سلمهم الله تعالى، وتولاهم في الدنيا والآخرة. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعدُ: فأحمد إليكم الله على سوابغ إنعامه ومزيد إحسانه وإكرامه، جعلنا الله وإياكم ممن عرف قدر نعمة الله عليه، واستعملها فيما يقرب إليه، والخط وصل -وصلكم الله بالرضى- والعذر مقبول. نسأل الله لنا ولكم العفو والقبول، ونوصيكم بما أوصيتمونا به، ونزيدكم الوصية بميراث نبيكم والرغبة فيه، والمُذاكرة في كل أوقاتكم، فإنكم في زمن قُبِضَ فيه العلم، وفَشَا الجهل، وعُدِمَتْ الحقائقُ الدينية، وإنما هي عادات ورسوم ينتحلها أكثرُ الخلق. أما الخيام فإنها كخيامهم ... وأرى نساء الحي غير نسائها جعلنا الله وإياكم من الفائزين بالقبول والرضى، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.

_ 1 الترمذي: تفسير القرآن (3058) , وأبو داود: الملاحم (4341) , وابن ماجه: الفتن (4014).

الرسالة الثانية والثلاثون: الغلظة على الكفار ومتى أمر النبي صلى الله عليه وسلم بها

الرسالة الثانية والثلاثون [الغلظة على الكفار ومتى أمر النبي صلى الله عليه وسلم بها] وله أيضا -قدس الله روحه، ونَوَّرَ ضريحه، وتجاوز عن ذنوبه- رسالة إلى الشيخ حمد بن عتيق -رحمه الله- وقد راسله أعني: الشيخ حمد برسالة كأنه أساء فيها الأدب، ولم يراع فيها حق مَن يتزاحم العلماء عنده بالركب. بل جرى على عادته في المراسلات والمكاتبة، ولم يُمْعِن النظرَ فيما أوعز به من المخاطب، وكأنه في رسالته يحرض على التغليظ في الدعوة إلى الله من غير نظر إلى جلب المصالح ودرء المفاسد. فَبَيَّنَ له الشيخ -رحمه الله- الخلق العظيم والرأي الرشيد الحليم الذي كان لسيد المرسلين وإمام المتقين، أنه يبدأ أولا بالتلطف واللين، ثم آخرا بالغلظة؛ وذلك مع قوة الإسلام والمسلمين، وأن الغلظة ليست ديدانا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولا لأتباعه في الدعوة إلى الله. ويا لله كم في هذه الرسالة من الأصول الأصلية والمباحث الجليلة التي تطلع منها على بلاغة مبديها، وجلالة منشيها، وأن له في الميراث النبوي الحظَّ الوافرَ، وأن ينابيع علومه تتفجر من ذلك البحر الزاخر، وهذا نص الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد اللطيف بن عبد الرحمن إلى الشيخ المكرم حمد بن عتيق، سلك الله بي وبه أهدى نهج وطريق، ومنحنا بِمَنِّهِ حُسْنَ الدعوة إليه بالتحقيق. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: فإني أحمد إليك الله -سبحانه- على نعمه، والخط وصل -وصلك الله بما يقربك إليه- وما أشرت إليه صار معلوما، لا سيما الإشارة الخفية والنكت الأدبية، التي منها تشبيه أخيك بالطير المُبَرْقَع، وإيراد المواعظ وأنت بمكان علو أرفع، وكنت حال وصوله قد قرأته بمرأى من أهل الأدب ومسمع، فمن قائل عند سماعه: هذا الرجل طبعه الغلظة والجمود، وآخر

يقول: كأنه لا يحسن الدعوة إلى ربنا المعبود. فقلت: كلا إنه ابن جلا، وله السبق في مضمار الديانة والعلى، لكن من عادته أن يتجاسر على أحبابه، ويزدري رتب أخدانه وأترابه، والمحب له الدلال، والمرء يشرف بالزلال. فاعلم -هُدِيتَ الطريق، وفزتَ بحظ من النظر والتحقيق- أن الله لما بعث نبيه صلى الله عليه وسلم بهذا الدين الحنيفي ولم يكن أحد من أهل الأرض -عربيهم وعجميهم قرويهم وبدويهم- يعرف الحق ويعمل به إلا بقايا من أهل الكتاب. وأما الأكثرون فقد اجتالتهم الضلالات والعادات عن فطرة الله التي فطر الله الناس عليها، فأيد الله دينه مع غربة هذا الدين، ومخالفته لما عليه الأكثرون، بأعظم حجة وآية، كانت لأكثر مَن أسلم سبب وقاية، وتلك هي الخلق العظيم، والرأي الراشد الحليم، فمكث على ذلك يدعو ويُذَكِّر، ويعظ ويُنْذِر، مع غاية اللطف واللين. فتارة يُكَنِّي المخاطبين، وطورًا يأتي نادي المتقدمين أو المترئسين، وحينا يقول: "اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون"1، ونَاهِيك بخُلُق مدحه القرآن، وأثنى على حلمه في الدعوة والبيان. ولا يرد على المعنى قوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} 2 الآية، كما ظنه بعض المتطوعة دَيْدَنًا لرسول الله رضي الله عنه، فإن هذا يُصَار إليه إذا تعينتْ الغلظةُ ولم يُجْدِ اللينُ، كما هو ظاهرٌ مستبينٌ، كما قيل: آخر الطب الكيُّ، وهو أيضا مع القدرة. ويشترط أن لا يترتب عليه مفسدة كما قال تعالى: {وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْر ِ} 3. وقد أخذ بعض الناس من هذا أن دَرْء المفاسد يُقَدَّم على جلب المصالح، كما هو مُقَرَّر في علم الأصول. ثم إن الآيةَ: آيةَ الغلظة مدنيةٌ بعد تمكن الرسول وأصحابه من الجهاد

_ 1 البخاري: أحاديث الأنبياء (3477) , ومسلم: الجهاد والسير (1792) , وابن ماجه: الفتن (4025) , وأحمد (1/ 380 ,1/ 427 ,1/ 432 ,1/ 441 ,1/ 456). 2 سورة التوبة آية: 73. 3 سورة الأنعام آية: 108.

باليد وظهور الاستمرار على الكفر من أعدائهم، فوقعت الغلظة في مركزها حيث لم ينفع اللين. وأسعد الناس بوراثة الرسول في دعوة الخلق أكملهم في متابعته له في هذا، وكان الصِّدِّيق أكمل الناس؛ ولذلك أسلم على يده وانتفع به أممٌ كثيرةٌ بخلاف غيره فقد قيل لبعضهم: إن منكم منفرين. والقصد من التشريع والأوامر: تحصيل المصالح ودرء المفاسد حسب الإمكان، وقد لا يمكن إلا مع ارتكاب أخف الضررين، أو تفويت أدنى المصلحتين، واعتبار الأشخاص والأزمان والأحوال: أصل كبير فمَنْ أهمله وضَيَّعه فجنايته على الناس وعلى الشرع أعظم جناية. وقد قرَّر العلماء هذه الكليات والجزئيات، وفصَّلُوا الآدابَ الشرعية، فمن أراد أن ينصب نفسه في مقام الدعوة، فليتعلم أولا؛ وليزاحم رُكَب العلماء قبل أن يرأس، فيدعو بحجة ودليل، ويدري كيف السير في ذلك السبيل، فإن الصبابة لا يعرفها إلا مَن يعانيها، والعلوم لا يدريها إلا مَن أخذها عن أهلها وصحب راويها: ما كل من طلب المعالي نافذا ... فيها ولا كل الرجال فحولا وهذا، وقد كنت أظن أنكم تحبون مَن هاجر إليكم، وتراعون حق أسلافه في المشيخة عليكم، ومكان العلم وتعليمه، وحق الشيخ وتكريمه غير معتبر لدى الجمهور، قبل قصدهم المناصب والظهور، قال الشيخ، وحدثنا، وجلس الأستاذ، ونبأنا - هو غاية قصد الأكثرين، إلا عباد الله المخلصين. والسلام عليك وعلى من حضر من المسلمين لديك، وما بسطت لك الكلام، إلا محبة وإعلام، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.

الرسالة الثالثة والثلاثون

الرسالة الثالثة والثلاثون وله أيضا -رحمه الله تعالى- رسالة إلى عيسى بن إبراهيم جوابًا لأربع مسائل: (الأولى): عن قوله تعالى: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ} 1 الآية؟ (والثانية): عن الفرق بين المرفوع والمُسْنَد والمتصل وأيها أصح؟ (الثالثة): عن قول شارح الزاد غير تراب ونحوه؟ (الرابعة): عن قول شارح الزاد أيضا نقلا عن النظم: وتحرم القراءة في الحش وسطحه وهو متوجه إلى حاجته، ثم إن الشيخ استشعر منه أنه يشير إلى رسم فائدة زائدة. فأجاب بما يشفي العليل، ويروي الغليل، ويهدي إلى أقوم نهج وسبيل، بأوضح عبارة وأبين دليل. فرحمه الله من إمام للسنة ما أعلمه، وبعلم التفسير ما أفهمه، وبالفقه وغيره من العلوم ما أحكمه، فلقد فاق بذلك على أقرانه، وكان وحيد عصره وفريد زمانه. وهذا نص الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد اللطيف بن عبد الرحمن إلى الأخ المحب عيسى بن إبراهيم -سلك الله بي وبه صراطه المستقيم-. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو على نعمه. والخط وصل؛ فسرني نبأه عن سلامة تلك الأحوال والذوات، لا زالت سالمة من الآفات، وما أشرت إليه قد علم. وجواب مسألتك ها هو ذا قد رسم -نسأل الله التوفيق والإصابة، وحسن القصد والإثابة-: [مشروعية بر الكافر غير المحارب والقسط إليه] فأما قوله تعالى: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ} 2 الآية. فالذي يظهر أن هذا إخبارٌ من الله -جل ذكره- لعباده المؤمنين بأنه لم يَنْهَهُمْ عن البر والعدل والإنصاف في معاملة أي كافر كان من أهل الملل، إذا لم يقاتلهم في الدين ولم يخرجهم من

_ 1 سورة الممتحنة آية: 8. 2 سورة الممتحنة آية: 8.

ديارهم؛ إذ العدل والإحسان والإنصاف مطلوبٌ محبوبٌ شرعا ولذا علل هذا الحكم بقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} 1. وأما قوله {أَنْ تَبَرُّوهُمْ} 2 فقد قال بعض المُعْرِبِينَ: إنه بدل من الموصول بدل اشتمال، و"أن" وما دخلت عليه: في تأويل مصدر، والتقدير: لا ينهاكم الله عن بِرِّ مَن لم يقاتل في الدين، ولو قال هذا البعض: إنه بدل 3 بُدَاءً: لكان أظهر؛ إذ لا يظهر الاشتمال بأنواعه هنا؛ والأظهر عندي أنْ لا بدلَ مطلقا؛ وأن الموصول معمولٌ للمصدر المتأخر المأخوذ من "أن" وما دخلت عليه؛ فالموصول إذًا في محل نصب بالمصدر المسبوك؛ وتَأَخُّرُ العاملِ لا يضر، وأما على البدلية فهو في محل جر. وقوله: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} 4، أكد الجملة هنا لمناسبة مقتضى الحال؛ إذ المقام مظنة لغلط الأكثر؛ ولتوهم خلاف المراد فاقتضى التأكيد والتوفية بالأداة؛ كما يعلم من فن المعاني؛ وقوله: {فِي الدِّينِ} الفاء سببية كما في قوله: "دخلت النار امرأة في هرة"5 الحديث. وسبب النّزول ما رواه الإمام أحمد في مسنده حدثنا أبو معاوية حدثنا هشام بن عروة عن فاطمة بنت المنذر عن أسماء بنت أبي بكر -رضي الله عنها- قالت: قدمت أمي وهي مشركة في عهد قريش إذ عاهدوا، فأتيتُ النبي صلى الله عليه وسلم فقلت يا رسول الله: "إن أمي قدمتْ وهي راغبة، أفأصلها؟ قال: نعم صلي أمك"6، وهذا الحديث أخرجه البخاري ومسلم. وفي بعض الطرق: أنها جاءت لابنتها بهدية ضباب وأقط وسمن، فأبت أسماء أن تقبل منها وتدخل البيت حتى سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله هذه الآية. وأما قول ابن زيد وقتادة: إنها منسوخة، فلا يظهر؛ لوجوه: منها: أن الجمع بينها وبين آية القتال ممكنٌ غيرُ متعذرٍ، ودعوى النسخ يصار إليها

_ 1 سورة الممتحنة آية: 8. 2 سورة الممتحنة آية: 8. 3 كذا في الأصل. 4 سورة الممتحنة آية: 8. 5 البخاري: بدء الخلق (3318) , ومسلم: السلام (2243) والبر والصلة والآداب (2619) , وابن ماجه: الزهد (4256) , وأحمد (2/ 507). 6 البخاري: الهبة وفضلها والتحريض عليها (2620) , ومسلم: الزكاة (1003) , وأبو داود: الزكاة (1668) , وأحمد (6/ 347).

عند التعذر وعدم إمكان الجمع إن دل عليه دليل. (ومنها): أن السُّنَّة متظاهرةٌ بطلب الإحسان والعدل مطلقا، ولا قائل بالنسخ، لكن قد يجاب عن ابن زيد وقتادة بأن النسخ في كلامهما بمعنى التخصيص؛ وهو مُتَّجِهٌ على اصطلاح بعض السلف؛ ولا شك أن القتال بالسيف وتوابعه من العقوبات والغلظة في محلها مخصوص من هذا العموم. ووجه مناسبة الآية لما قبلها من الآي: أنه لما ذكر -تعالى- نهيه عبادَه المؤمنين عن اتخاذ عدوه وعدوهم أولياء يلقون إليهم بالمودة؛ ثم ذكر حال خليله، ومن آمن معه في قولهم، وبراءتهم من قومهم المشركين حتى يؤمنوا. وذكر أن لعباده المؤمنين أسوة حسنة خيف أن يتولاهم، ويظن أن البر والعدل داخلان في ضمن ما نهى عنه من الموالاة، وأمر به أن يدفع هذا 1 بقوله تعالى: {لا يَنْهَاكُمُ} 2 الآية. [اصطلاحات حديثية] الحديث المرفوع والمسند والمتصل: وأما المسألة الثانية في الفرق بين المرفوع والمسند والمتصل: فاعلم أن المرفوع: ما أضيف إلى النبي صلى الله عليه وسلم قولا، أو فعلا، أو حكما. واشترط الخطيب البغدادي كون المضيف صحابيا، والجمهورُ على خلافه. والمسند: هو المرفوع، فهو مرادفٌ له، وقد يكون متصلا كمالك عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم وقد يكون منقطعا كمالك

_ 1 قد أوجز الشيخ -رحمه الله- فجاء كلامه غيرُ كافٍ في بيان المراد، فأجاز البر والعدل لمن نهى الله عن ولايتهم في الآية، وهم المحاربون للمسلمين لأجل صدهم عن دينهم. والمُتَبَادَرُ من الاستئناف البياني في قوله: {لا يَنْهَاكُمُ} إلى آخره الذي هو استدراك على النهي عن الموالاة والمودة للكفار المعادين المحاربين في الدين هو أن من ليس كذلك من الكفار لا يدخلون في عموم النهي الأول من كل وجه بل يجوز برهم والعدل إليهم؛ ولذلك أكد الآية الأولى بالثانية وهي: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ} إلخ. 2 سورة الممتحنة آية: 8.

عن الزهري عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم إذ الزهري لم يسمع من ابن عباس، فهو بسند منقطع. وقد صرح ابن عبد البر -رحمه الله- بترادفهما؛ والانقطاع يدخل عليهما جميعا وقيل: إن المسند ما وصل إسناده (إلى الصحابي) ولو موقوفا عليه؛ فالمسند والمتصل سواء؛ إذ هذا بعينه هو تعريف المتصل فعلى هذا يفارق المرفوع بقولنا: ولو موقوفا؛ فبينه وبين المرفوع على هذا القول عمومٌ وخصوصٌ وجهي يجتمعان فيما اتصل سنده ورفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم. وينفرد المرفوع في المنقطع المرفوع، وينفرد المسند في الموقوف والأكثر على التعريف الأول، والعموم والخصوص الوجهي، كذلك يجري أيضا بين المرفوع والمتصل كما يعلم مما تقدم. وأما قولك: أيهما أصح؟ فاعلم أن الصحة غير راجحة لهذه الأوصاف باعتبار حقيقتها، وإنما الصحة والحُسن والضعف أوصاف تدخل على كل مِنَ المرفوع والمسند والمتصل، فمتى وُجِدَتْ حُكِمَ بمُقتضاها لموصوفها. لكن المرفوع أولى من المتصل إذا لم يرفع؛ ومن المسند على القول الثاني إذا لم يرفع أيضا، لا من حيث الصحة بل من حيث رفعه إلى النبي صلى الله وسلم وأما الصحة فقد ينفرد بها بعض هذه الأقسام لا من حيث ذاته؛ والمرفوع إذا لم يبلغ درجة الصحة احتج به في الشواهد والمتابعات كما عليه جَمْعٌ. [مصطلحات فقهية] اصطلاحات فقهية: وأما الجواب عن قول شارح الزاد: "غير تراب ونحوه": فاعلم أن نحو التراب هنا: كل ما كان من الأجزاء الأرضية كالرمل والنورة، أو من المائعات الطاهرة، وكذا كل ما لا يدفع النجاسة عن نفسه فإنه لو أضيف

أحد هذه الأشياء إلى الماء الكثير المتنجس لم يطهر بإضافته إليه؛ لكون المضاف لا يدفع عن نفسه فعن غيره أولى، ولو زال به التغير على أظهر الوجهين. وأما نحو التراب في باب التيمم، فهو كل ما كان له غبار يعلق باليد؛ وفي باب إزالة النجاسة هو كل جامد مُنَقٍّ كالأشنان والصابون والسدر، فيفسر النحو في كُلٍّ بما يناسبه. [القراءة في الحش وسطحه وهو متوجه إلى حاجته] وأما المسألة الرابعة في قول شارح الزاد نقلا عن النظم: "وتحرم القراءة في الحش وسطحه، وهو متوجه على حاجته". فاعلم أن قوله: "وهو متوجه" من كلام صاحب الفروع، ومعناه أن التحريم يتوجه إذا كان المتخلي جالسا على حاجته بهذا القيد؛ فافهم ذلك وتفطن؛ والكلام في التحريم والكراهة وبيان المختار يستدعي طولا لا يليق باختصار هذه الأسطار. [نصيحة عامة للمسلمين] (نصيحة في إيثار الآخرة والعلم والعمل): ثم إنك تشير إلى رسم فائدة زائدة، وقد وقع نظري عند إملائي هذا على عبارة ابن الجوزي في "السر المصون" ونصها: من علم أن الدنيا دار سباق وتحصيل للفضائل، وأنه كلما علت مرتبته في علم وعمل زادت المرتبة في دار الجزاء، انْتَهَبَ الزمانَ ولم يُضَيِّع لحظة، ولم يترك فضيلة تمكنه إلا حَصَّلَهَا. مَنْ وُفِّقَ لهذا، فليبكر زمانه بالعلم، وليصابر كلَّ محنة وفقر، إلى أن يحصل له ما يريد؛ وليكن مخلصا في طلب العلم عاملا به حافظا له، فإما أن يفوته الإخلاص، فذلك تضييع زمان وخسران الجزاء، وإما أن يفوته العمل به فذاك يقوي الحجة عليه والعقاب له. وأما جمعه من غير حفظه، فإن العلم ما كان في الصدر لا في القمطر، ومتى أخلص في طلبه دله على الله عز وجل، فليبعد عن مخالطة الخلق مهما أمكن، خصوصا العوام، وليصرف نفسه عن

الرسالة الرابعة والثلاثون: الأمر بالاعتصام والنهي عن التفرق والاختلاف

المشي في الأسواق فربما وقع البصر على فتنة؛ وليجتهد في مكان لا يسمع فيه أصوات الناس، ومن علم أنه مَارُّ إلى الله عز وجل وإلى العيش معه وعنده، وأن الدنيا أيام سفر، صبر على تفث السفر ووسخه، إن الراحة لا تُنَال بالراحة 1؛ فمن زرع حصد، ومن جدَّ وجد. خاضوا من أمر الهوى في فنون ... فزادهم في اسم هواهم حرف نون أحسن الله لي ولك العواقب، ووفقنا لنيل أرفع الدرجات والمراتب، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم، ومَن لدينا الوالد -حفظه الله-2. الرسالة الرابعة والثلاثون [الأمر بالاعتصام والنهي عن التفرق والاختلاف] وله أيضا، تغمده الله بإحسانه، وصب عليه من شآبيب بره وامتنانه، ونفعنا بعلومه الداعية إلى الرشاد، ورسائله المرشدة إلى هدي خير العباد، ونصائحه المؤذنة بحسن الدعوة إلى الله، ورد العباد إلى عبادة من لا رب لنا سواه، ولا نعبد إلا إياه، رسالة إلى من وصلت إليه من المسلمين يحرِّضهم فيها على الجهاد في سبيل الله والتزام أصول الدين، والاعتصام بحبل الله المتين. ويذَكِّرهم نعمة الله التي امتنَّ بها عليهم على يد شيخ الإسلام، وقدوة العلماء الأعلام، الشيخ محمد بن عبد الوهاب؛ إذ كانوا قبله على جاهلية جهلاء، وضلالة عمياء وبدعة صماء، لا يعرفون من الإسلام إلا اسمه، ولا من القرآن إلا رسمه، لا شعور لهم بدين الله الذي بعث به رسوله، ولا يعرفون منه على التحقيق لا فروعه ولا أصوله، فأنقذهم الله بدعوته من الغواية، وسلك بهم طريق أهل السعادة والهداية، وكثَّرَهم الله به بعد القلة، وأعزهم به بعد الذلة. وصاروا بهذا الدين للعباد قادة، وانتهت إليهم به الرياسة والسيادة، ثم سار أبناؤه بعده على منهاج الدعوة إلى الله، والحضّ على الجهاد في سبيل الله، ورد العباد إلى ما يحبه الله ويرضاه، فجزاهم الله عن الإسلام والمسلمين أحسن الجزاء، وبَوَّأَهُمْ بفضله ورحمته الدرجات العلى، وهذا نص الرسالة:

_ 1 الراحة الأولى ضد التعب، والثانية راحة اليد. يعني أن الراحة ليست شيئا قريب المنال كالشيء الذي يتناول باليد من غير سعي ولا تعب. وفي معناه قول بعضهم: لا تنال الراحة إلا بالتعب. 2 كذا في الأصل والظاهر أنه سقط منه: يسلم عليكم.

بسم الله الرحمن الرحيم من عبد اللطيف بن عبد الرحمن إلى من وصل إليه من المسلمين -وفقهم الله للبر والتقوى، وسلك بهم سبيل الرشد والهدى-. سلام عيكم ورحمة الله وبركاته. وبعدُ: فقد سبق إليكم من النصائح والتذكير بآيات الله، والحث على لزوم جماعة المسلمين ما فيه كفاية وهداية لمن أحيا الله قلبه وأراد هدايته، وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الدين النصيحة، قالها ثلاثا، قالوا: لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم"1. فجعل الدين محصورا في النصيحة، لأنها تتضمن أصوله وفروعه وقواعده المهمة، فيدخل الإيمان بالله ومحبته وخشيته، والخضوع له وتعظيم أمره ونهيه، وتنزيهه عما لا يليق بجلاله وعظمته من تعطيل وإلحاد وشرك وتكذيب؛ لأن النصيحة لله: خلوص الباطن والسر من الغش والريب والحقد والتكذيب، وكل ما يضاد كمال الإيمان ويعارضه. وكذلك النصيحة لكتابه تتضمن العمل بِمُحْكَمِهِ، والإيمان بمتشابهه، وتحليل حلاله وتحريم حرامه، والاعتبار بأمثاله، والوقوف عند عجائبه، ورد مسائل النزاع إليه، وترك الإلحاد في ألفاظه ومعانيه. والنصح لرسوله يقتضي الإيمان به وتصديقه ومحبته وتوقيره، وتعزيره ومتابعته، والانقياد لحكمه، والتسليم لأمره، وتقديمه على كل ما عارضه وخالفه من هوى أو بدعة أو قول، والنصح لأئمة المسلمين أمرهم بطاعة الله ورسوله، وطاعتهم في المعروف، ومعاونتهم على القيام بأمر الله، وترك مُشَاقَّتهم ومنازعتهم. والنصح لعامة المسلمين هو: تعليمهم وإرشادهم لما فيه

_ 1 مسلم: الإيمان (55) , والنسائي: البيعة (4197 ,4198) , وأبو داود: الأدب (4944) , وأحمد (4/ 102).

صلاحهم وفلاحهم، والرفق بهم، وكفُّهُم عما فيه هلاكهم وشقاؤهم وذهاب دينهم ودنياهم من معصية الله ورسوله، ومخالفة أمره، ومشابهة الجاهلين فيما كانوا عليه من التفرق والاختلاف وترك الحقوق الإسلامية. وفي الحديث: "ثلاث لا يُغَلُّ عليهن قلب مسلم: إخلاص الدين لله، ومناصحة أئمة المسلمين، ولزوم جماعتهم، فإن دعوتهم تحيط من ورائهم"، فأفاد أن هذه الثلاث لا يدعها المسلم إلا لِغِلٍّ في قلبه، بل المسلم الصادق في إسلامه لا يكون إلا: مُخْلِصًا دينَه لله، مُنَاصِحًا لإمامه، مُلازِمًا لجماعة المسلمين. وقد دل القرآن على هذا في غير موضع، كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} 1. فابتدأ الآية بالأمر بأن يُتَّقَى حَقَّ التُّقَاة، وأمر بالتزام الإسلام، والعض عليه بالنواجذ حتى الممات، لأن قوله: {وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} 2 تحضيضٌ وحَثُّ على التزامه في جميع أوقات العمر والساعات، ومن عاش على شيء مات عليه 3

_ 1 سورة آل عمران آية: 102 - 103. 2 سورة آل عمران آية: 102. 3 هذا هو الغالب في البشر بحسب سنة الله -تعالى-: من أن المرء يموت على ما عاش عليه، ويبعث على ما مات عليه كما ورد. أما الثاني ففي صحيح مسلم، وأما الأول فلا أذكر مُخَرِّجَه الآن، وتدل عليه ظواهر آيات وأحاديث كثيرة منها: حديث علي المرفوع في الصحيحين "ما منكم من أحد إلا وقد كتب مقعده من النار أو الجنة" فقال رجل من القوم: ألا نتكل يا رسول الله؟ قال "لا، اعملوا فكل ميسر لما خلق له" ثم قرأ {فأما من أعطى واتقى} الآية أي وما بعدها، وهذا الحديث مروي عن عدة من الصحابة. وقد يعارضه عبد الله بن مسعود في الصحيحين وغيرهما "فوالله إن أحدكم -أو الرجل- ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها غير ذراع =

وقد أمر بالاعتصام بحبله وهو دينه وكتابه أمرًا عامًّا لجميع المكلفين وسائر المخاطبين، لأن التقوى والتزام الإسلام يتوقف على ذلك؛ ولا يحصل المقصود منه إلا بالاعتصام بحبل الله وترك التفرق والاختلاف؛ لما فيهما من فساد الدين وهدم أصوله وقواعده. ثم ذَكَّرَهم بنعمته عليهم بتأليف قلوبهم واجتماعها بعد العداوة والبغضاء، فإن التفرق والاختلاف عذاب وهلاك وشقوة في العاجل والآجل، والجماعة والائتلاف رحمة وسعادة ونعيم في العاجل والآجل. وأخبرهم أنهم كانوا على شفا حفرة من النار بما كانوا عليه من الضلالة والجاهلية، فامتَنَّ عليهم وأنقذهم واجتباهم وهداهم، وجمع قلوبهم وشملهم بعد الفرقة والشتات، وأعزهم وأغناهم بعد الفقر والحاجات، فيا لها من نعم ما أجلّها‍! ومواهب ما أعظمها وأبرها، لمن عقلها وشكرها! ‍ ولذلك ختم الآية بقوله: {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} 1: فيه بيان الحكمة المقتضية لبيان الآيات والتذكير بالنعم، وأن المراد بها حصول الاهتداء، وترك أسباب الشقاء والردى.

_ = أو باع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها" إلخ. وأجاب عنه الجمهور: بأن هذا بيان للنادر وحديث علي وما في معناه هو الأكثر، وهذا الذي اعتمده شراح الصحيحين على أن بعض المحدثين قالوا: إن عبارة "فوالله إن أحدكم ليعمل" إلخ مُدْرَجَة في الحديث من كلام ابن مسعود، لا مرفوعة كما رواه بعضهم صريحا، بلفظ "فوالذي نفس عبد الله بيده" إلخ. وحكى ابن التين أن عمر بن عبد العزيز لما سمع هذا الحديث أنكره، وقال: كيف يصح أن يعمل العبد عمره الطاعة لا يدخل الجنة؟ وفيه إشكال آخر، وهو: أنه ينافي ما صح من سبق رحمة الله لغضبه. والتحقيق -عندي- أن المراد بمن يعمل عمل أهل الجنة وهو من أهل النار: أنه لا بد أن يكون مع عمله منطويا على شيء من عقائد الشرك؛ كما كان يقول الأستاذ العلامة الشيخ عبد الغني الرافعي -رحمه الله تعالى-. وأكتفي بهذه الحاشية الموجزة لتصحيح رأي من أنكر عبارة الشيخ عبد اللطيف من قليلي الاطلاع على كتب السنة. 1 سورة آل عمران آية: 103.

[تذكير أهل نجد بمشابهة حالهم لحال الأنصار رضي الله عنهم] وقد عرفتم ما كنتم عليه قبل هذه الدعوة الإسلامية التي امتُنَّ بها على يد شيخنا -رحمه الله-: كنتم على جاهلية جهلاء، وضلالة عمياء، وبدعة صماء، لا شعور لكم بدينه الذي ارتضاه لنفسه، ولا دراية لكم بما يجب له من صفات كماله وجلال قُدْسِه، ولا معرفة لديكم بما شرعه من أمره ونهيه. كنتم على غاية من التفرق والاختلاف، فَبَصَّرَكم الله بهذه الدعوة المباركة من العَمَى، وسلك بكم سبيل السعادة والهدى، وعَلَّمَكم من دينه وشرعه ما اصطفاكم به واختاركم على مَن ضَلَّ وغوى، وجمعكم بعد الفُرْقَة، وألف بين قلوبكم بعد العداوة والمُشَاقَّة، وأعزكم على من عاداكم بعد المسكنة والذلة، فاشكروه على هذه النعم العظيمة بالتزام طاعته، والمسارعة إلى مرضاته ومغفرته، ولا تكونوا كالذين: {بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَار ِ} 1، واشتروا الضلالة بالهدى، واستبدلوا السعادة بالشقاء، وتركوا البصيرة واختاروا العمى. وقد عرفتم أن الله افترض عليكم الجهاد في سبيله وابتلاكم بأعداء دينه، ليعلم الذين صدقوا ويعلم الكاذبين، {وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ} 2، وما أجرى الله وابتلى به من الزعازع والمحن من أكبر أسبابه. وأعظم موجباته: مخالفة الأمر الشرعي وترك طاعة الله ورسوله والجهاد في سبيله؛ ولهذا يسلط العدو، وتنزع المهابة من صدور أعدائكم، وتضربون بسوط الذلة والمهانة كما جاءت به الآثار، وصحت به الأخبار، وشهد له النظر والاعتبار، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ

_ 1 سورة إبراهيم آية: 28. 2 سورة محمد آية: 4.

الرسالة الخامسة والثلاثون: تفسير قوله عز وجل: {وما خلقت الجن والأنس إلا ليعبدون}

الْعَظِيمُ * وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ} 1 إلى قوله: {ظَاهِرِينَ}. وفي الحديث: "من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه بالغزو: مات على شعبة من النفاق"2، وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن في الجنة مائة درجة: أعلاها للمجاهدين في سبيله ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض"3. فاتقوا الله عباد الله: {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} 4. جعلنا الله وإياكم ممن يقبل المواعظ والنصائح، ويدرأ أسباب المقت والفضائح، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم. الرسالة الخامسة والثلاثون [تفسير قوله عز وجل: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}] وله أيضا -قدس الله روحه، ونور ضريحه- رسالة إلى الشيخ عبد الله بن نصير، وقد ذكر الشيخ عبد الله في رسالة كلام أبي بكر بن العربي المالكي في معنى قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} 5. فأجاب -رحمه الله- بهذا الجواب الباهر الفائق، وأرخى عنان قلمه بميدان المعارف والحقائق، وكشف له القناع عن مدارك أحكام أهل التحقيق، ورفع له الأعلام إلى المَهْيَع والطريق، وبَيَّنَ له -رحمه الله- غلطَ أبي بكر بن العربي فيما زعمه وقرره، من أن معناه لبعض أهل السنة، وليس كما زعمه وحرره. بل إن ما اعتمده وعول عليه في معنى هذه الآية هو: كلام القدرية المجبرة، فإما أن يكون جهلا منه بأنه مخالف لقول أهل السنة، أو تقليدا منه لمن كان يحسن فيه ظنه، هذا إن لم يكن موافقا لهم في أصل الجبر والقول به، فقد يدخل عليه كلامهم وكلام نظرائهم، فلا ينكره، بل يقرره، ويأخذ به، وهذا نص الرسالة:

_ 1 سورة الصف آية: 10. 2 مسلم: الإمارة (1910) , والنسائي: الجهاد (3097) , وأبو داود: الجهاد (2502). 3 البخاري: الجهاد والسير (2790) , وأحمد (2/ 335 ,2/ 339). 4 سورة البقرة آية: 281. 5 سورة الذاريات آية: 56.

بسم الله الرحمن الرحيم من عبد اللطيف بن عبد الرحمن إلى الأخ المحب الشيخ عبد الله بن نصير -سلمه الله تعالى-: سلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد: فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو على نعمه، والخط الذي ذكرت فيه كلام أبي بكر بن العربي المالكي في معنى قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} 1 قد وصل، وتأملته فوجدته قد اعتمد وعول في معنى هذه الآية على كلام القدرية المجبرة، وغلط في زعمه أن معناه لبعض أهل السنة، وابن العربي إن لم يكن موافقا لهم في أصل الجبر والقول به، فقد يدخل عليه كلامهم وكلام نظرائهم ولا ينكره، بل يأخذ به ويقرره، إما جهلا منه بأنه مخالف لقول أهل السنة، أو تقليدًا لمن يحسن به الظن، أو لأسباب أخر. وليس هذا خاصا به، بل قد وقع فيه كثير من أتباع الأئمة المنتسبين إلى السنة، فإن قوله في تفسير قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} 2 أي: إلا لتجري أفعالهم على مقتضى قضائي، فيكون فعل العبد على مقتضى حكم المولى، وإنما يخرج فعل العبد عن حكم المولى إذا كان مغلوبا، والغالب لا يخرج شيء عن فعله، وهو الله وحده. انتهى. وهذا الكلام بعينه هو: كلام القدرية المجبرة، فيما حكاه عنهم غير واحد، وهذا التعليل هو تعليلهم بعينه، وهذا القول يقتضي أنه سبحانه خلق الشاكر ليشكر، والفاجر ليفجر، والكافر ليكفر، فما خرج أحد عما خلق له على هذا القول، لأن القدر جَارٍ بذلك كله، والقدرية المجبرة دعاهم

_ 1 سورة الذاريات آية: 56. 2 سورة الذاريات آية: 56.

لهذا فيما يزعمون إبطال قول القدرية النفاة، ومصادمتهم في قولهم: إن الإرادة هي الأمر، يأمر بها الطائفتين، فهؤلاء عبدوه بأن أحدثوا إرادتهم وطاعتهم، وهؤلاء عصوه بأن أحدثوا إرادتهم ومعصيتهم. وحاصل قولهم: إنكار القدر وأن الأمر أُنُف 1، فقابلهم أولئك بالقول بالجبر، وأنهم لا يخرجون عن قدره وقضائه، نظرا منهم إلى أن الأمر كائن بمشيئة الله وقدره، وأنه ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، وأنه -تعالى- خالق كل شيء وربه ومليكه، ولا يكون في ملكه شيء إلا بقدرته وخلقه ومشيئته. كما قال تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} 2،: {مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} 3،: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ} 4،: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ} 5، ونحو ذلك من الآيات. ولا ريب أن هذا أصل عظيم من أصول الإيمان، لا بد منه في حصول الإيمان، وبإنكاره ضلت القدرية النفاة وخالفوا جميع الصحابة وأئمة الإسلام، لكن لا بد معه من الإيمان بالإرادة الشرعية الدينية، التي نزلت بها الكتب السماوية، ودلّت عليها النصوص النبوية. [تفسير العبادة لغة وشرعا] وأئمة المسلمين قد أثبتوا هذه وهذه، وذكروا الجمع بينهما، وآمنوا بكلا الأصلين، وفرقوا بين لام العلة الباعثة الفاعلة، وبين لام الغاية والصيرورة والعاقبة، والقرآن قد جاء ببيان اللامين، فالأولى في قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} 6،: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ} 7،: {لِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} 8. والثانية في قوله تعالى: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا} 9،: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ} 10،: {وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} 11 على أحد القولين. فمن نفى الإرادة

_ 1 أُنُف بضم الهمزة والنون: أي كل شيء يخلقه الله فهو مستأنف جديد لم يكن مقدرا ولا مكتوبا. 2 سورة القمر آية: 49. 3 سورة الأنعام آية: 111. 4 سورة الأنعام آية: 112. 5 سورة الإنسان آية: 30. 6 سورة الذاريات آية: 56. 7 سورة النساء آية: 64. 8 سورة البقرة آية: 185. 9 سورة القصص آية: 8. 10 سورة الأعراف آية: 179. 11 سورة يونس آية: 119.

الأمرية فهو جبري ضال مبتدع، ومن نفى الإرادة الكونية القدرية فهو قدري ضال مبتدع. ومن قال: إن العبادة في قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} 1 بمعنى: إلا لتجري أفعالهم على مقتضى إرادتي الكونية، فقد أدخل جميع الخلق مؤمنهم وكافرهم، برهم وفاجرهم في هذه العبادة، وجعل عابد الأصنام والشيطان، والأوثان عابدا للرحمن، قائما بما خلق الله له الإنس والجان، لكن بمعنى جريان الإرادة القدرية الكونية عليهم، لا بمعنى الاتحاد والحلول الذي قاله صاحب الفصوص، وطائفة الاتحاد الكفار. وقال قائلون بالجبر: لا شك أن الخلق معبدون بجريان الأقدار عليهم. يريدون أن ذلك هو المقصود بالآية، كما سيأتي حكاية هذا عن غيرهم، والعبادة وإن كانت لغة أقصى غاية الذل والخضوع مطلقا، كما في قوله: تباري عتاقًا ناجيات وأتبعت ... وظيفًا وظيفًا فوق مور معبد فهي في الشرع أخص من ذلك، لأنها اسم للطاعة والانقياد للأوامر الشرعية الدينية التي دعت إليها الرسل، ودلت عليها الكتب السماوية، كما فسر ابن عباس رضي الله عنه قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا} 2 بتوحيده وإخلاص العبادة له، نظرًا منه إلى الحقيقة الشرعية لا إلى أصل الأوضاع اللغوية. وقد اعترض ابن جرير هنا بأصل الوضع واللغة، والحق ما قاله ابن عباس خلافا لابن جرير، بدليل قوله تعالى: {لا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} 3، وتعليلهم ما قالوه، بأن العبد لا يخرج عن فعل المولى إلا إذا كان المولى مغلوبا، والله -تعالى- هو الغالب وحده، أو نحو هذا التعليل. فهذا قد احتجوا به على القدرية النفاة، وهو احتجاج صحيح على من نفى القدر، وزعم أن العبد يخلق أفعال نفسه لأن الله -تعالى- لا يعصى عنوة، بل علمه

_ 1 سورة الذاريات آية: 56. 2 سورة البقرة آية: 21. 3 سورة الكافرون آية: 3.

وقدرته وعزته وحكمته وربوبيته العامة، وكلماته التامة التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر مانعة ومبطلة لقول القدرية النفاة. فإن الصحابة قاطبة، وسائر أهل السنة والجماعة متفقون على أنه ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، ويؤمنون بأن الله -تبارك وتعالى- عالم بجميع الكائنات قبل أن تكون كيف تكون؛ وغلاة منكري القدر قد أنكروا هذا العلم، فكفرهم بذلك الأئمة أحمد وغيره. وأما من قال بإثبات القدر، خيره وشره، حلوه ومره، فلا يلزمه ولا يرد عليه ما ورد على القدرية النفاة من لزوم خروج العبد عن فعل المولى. وإن قال: إن العبد قد يخرج عن الإرادة الدينية الشرعية إلى ما يضادها من المعاصي والكفر والفسوق، فيكون بذلك مخالفا للأوامر الشرعية، وإن كان داخلا تحت المشيئة الكونية القدرية. فالخروج عن القدر والمشيئة نوع، والخروج عن الأوامر الشرعية نوع آخر. فالأول غير ممكن لجميع المخلوقات لجريان الأقدار عليهم طوعا وكرها. أما الثاني فيقع من الأكثر: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} 1، ولله -سبحانه وتعالى- في خروج الأكثر عن أمره حكمة، يحبها ويرضاها، لائقة بعلمه وحكمته وعدله وربوبيته، يستحق أن يُحمد عليها. [الأقوال في قوله عز وجل {إلا ليعبدون}] وقد رأيت لشيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- كلاما حسنا في معنى قوله -تعالى-: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} 2، ذكر فيه ستة أقوال*: (أحدها): قول نفاة الحكم كالأشاعرة ومن وافقهم كالقاضي أبي يعلى وابن الزاغوني والجويني والباجي، وهو قول جهم بن صفوان ومن اتبعه من المجبرة، قائلين بنفي الحكمة، وأنها تفضي إلى الحاجة. فنفوا أن يكون في القرآن لام كي، وقالوا: يفعل ما يشاء لا لحكمة، فأثبتوا القدرة والمشيئة

_ 1 سورة يوسف آية: 103. 2 سورة الذاريات آية: 56. * انظر "مجموع الفتاوى" 8/ 37 - 57. [معد الكتاب للمكتبة الشاملة]

وهذا تعظيم، ونفوا الحكمة لظنهم أنها تستلزم الحاجة. (الثاني) قول المعتزلة ومن وافقهم: وهو أنه -تعالى- يخلق ويأمر لحكمة تعود إلى العباد، وهي نفعهم والإحسان إليهم، فلم يخلق ولم يأمر إلا لذلك، لكن قالوا بأنه يخلق من يتضرر بالخلق، فتناقضوا بذلك. ثم افترقوا على قولين: من أنكر القدر، ووضع لربه شرعا بالتجويز والتعديل، وهذا هو قول القدرية، ومنهم من أقر بالقدر، وقال: حكمته حقت علينا، وهذا قول ابن عقيل وغيره من المثبتين للقدر، فهم يوافقون المعتزلة على إثبات الحكم، وأنها ترجع إلى المخلوق، ويقرون بالقدر. (الثالث): قول من أثبت حكمة تعود إلى الرب، لكن بحسب علمه فقال: خلقهم ليعبدوه ويحمدوه. فمن وجد منه ذلك فهو مخلوق له وهم المؤمنون، ومن لم يوجد منه ذلك فليس بمخلوق له. وهذه حكمة مقصودة، وهي واقعة، بخلاف الحكمة التي أثبتتها المعتزلة، فإنهم أثبتوا حكمة هي نفع العباد؛ ثم قالوا: خلق من علم أنه لا ينتفع بالخلق، بل يتضرر، فتناقضوا كما تقدم. ونحن أثبتنا حكمة علم أنها تقع فوقعت، وقد يخلق من يتضرر بالخلق لنفع الآخرين، وفعل الشر القليل لأجل الخير الكثير حكمة، كإنزال المطر لأجل نفع العباد، وإن تضرر البعض. قالوا: وفي خلق الكفار وتعذيبهم اعتبار للمؤمنين، وجهادهم ومصالحهم، وهذا اختيار القاضي أبي حازم ابن القاضي أبي يعلى، قالوا: فقوله -تعالى-: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} 1 هو مخصوص بمن وقعت منه العبادة. وهذا قول طائفة من السلف والخلف، وهو قول الكرامية. وعن سعيد بن المسيب في معنى الآية قال: ما خلقت من يعبدني إلا ليعبدني، كذلك قال الضحاك والفراء وابن قتيبة، هذا خاص بأهل طاعته. قال الضحاك: هي للمؤمنين. وهذا اختيار أبي بكر بن

_ 1 سورة الذاريات آية: 56.

الطيب، وأبي يعلى، وغيرهما ممن يقول: لا يفعل لعلة، قالوا: واللفظ لأبي يعلى هذا بمعنى الخصوص، لأن البُله والأطفال والمجانين لا يدخلون تحت الخطاب، وإن كانوا من الإنس، وكذلك الكفار، بدليل قوله -تعالى-: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ} 1، فمن خلق للشقاء ولجهنم لم يخلق للعبادة. (قلت): قوله: وهذا قول طائفة من السلف والخلف، يعني بالتخصيص في الآية، لا أصل القول الثالث، ثم قال شيخ الإسلام: قلت: قول الكرامية ومن وافقهم، وإن كان أرجح من قول المعتزلة، لما أثبتوه من حكمة الله، وقولهم في تفسير الآية، وإن وافقوا فيه بعض السلف، فهو قول ضعيف، مخالف لقول الجمهور. (والقول الرابع): إنه على العموم، لكن المراد بالعبادة تعبيده لهم، وقهرهم ونفوذ قدرته ومشيئته فيهم، وأنه أصارهم إلى ما خلقوا له من السعادة والشقاوة، وفسروا العبادة بالتعبيد القدري، وهذا يشبه قول من يقول من المتأخرين: أنا كافر برب يعصى. فإنه جعل كل ما يقع من العباد طاعة، كما قال قائلهم: أصبحت منفعلا لما يختاره ... مني ففعلي كله طاعات وأما هؤلاء فجعلوا عبادة الله كون العباد تحت المشيئة، وكان بعض شيوخهم يقول عن إبليس: إن كان قد عصى الأمر فقد أطاع القدر والمشيئة. وما رواه ابن أبي حاتم عن زيد بن أسلم في قوله: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} 2 قال: جبلهم على الشقاوة والسعادة. وقال وهب: جبلهم على الطاعة، وجبلهم على المعصية. وقد روي أيضا عن طائفة نحوه، وهؤلاء، وإن وافقوا من قبلهم في معنى الآية فهم -أعني زيد بن أسلم ووهب بن منبه- من أعظم الناس

_ 1 سورة الأعراف آية: 179. 2 سورة الذاريات آية: 56.

تعظيما للأمر والنهي والوعد والوعيد، وأما من قبلهم فهم إباحية يسقطون الأمر والنهي. (والقول الخامس): قول من يقول: إلا ليخضعوا لي، ويذلوا لي، قالوا: ومعنى العبادة في اللغة: الذل والانقياد. وكل مخلوق من الجن والإنس خاضع لقضاء الله، ومتذلل لمشيئته، لا يملك أحد لنفسه خروجا عما خلق له. وقد ذكر أبو الفرج عن ابن عباس: إلا ليقروا بالعبادة طوعا وكرها، قال: وبيان هذا قوله: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} 1، وهذه الآية توافق قول من قال: إلا ليعرفوني -كما سيأتي- وهؤلاء الذين أقروا بأن الله خالقهم، لم يقروا بذلك كرها، بخلاف إسلامهم وخضوعهم له، فإنه يكون كرها، وأما نفس الإقرار فهو فطري فطروا عليه وبذلوه طوعا. وقال السدي: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} 2 قال: خلقهم للعبادة، ولكن من العبادة عبادة تنفع، ومن العبادة عبادة لا تنفع: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ} 3 الآية هذا منهم عبادة، وليس تنفعهم مع شركهم. وهذا المعنى صحيح؛ ولكن المشرك يعبد الشيطان، وما عدل به الله، وهذا ليس مراد الآية، فإن مجرد الإقرار بالصانع لا يسمى عبادة لله مع الشرك به، ولكن يقال كما قال -تعالى-: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} 4. هذا آخر ما وجدت من هذه الرسالة، والحمد لله رب العالمين. وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.

_ 1 سورة لقمان آية: 25. 2 سورة الذاريات آية: 56. 3 سورة لقمان آية: 25. 4 سورة يوسف آية: 106.

الرسالة السادسة والثلاثون

الرسالة السادسة والثلاثون وله أيضا جواب مسائل سُئل عنها، وهذا نصها: [بيع دَيْن السَّلَم قبل قبضه] (المسألة الأولى): رجل أعطى رجلا دراهم مضاربة يسلمها في الثمرة، فأسلمها في طعام إلى الحصاد. وبعد ذلك احتاج صاحب الدراهم، وقال لصاحبه: رد علي الدراهم، ويصير لك الطعام المؤجل. (الجواب): الحمد لله، إن هذا بيع لدَيْن السَّلَم قبل قبضه، وفي الحديث الذي رواه الجماعة: "من ابتاع طعاما فلا يبعه حتى يستوفيه"1. [الجنب إذا أصابه المطر] (المسألة الثانية): في الجنب إذا أصابه المطر حتى غسل بدنه وأنقاه، هل يرفع حدثه؟ (الجواب): الحمد لله، نعم يرتفع إذا نوى رفع الحدث عند إصابة المطر لحديث: "إنما الأعمال بالنيات"2. [ما ذبح إلى غير القبلة عمدا وسهوا] (المسألة الثالثة): فيما ذبح إلى غير القبلة عمدًا وسهوًا. (فالجواب): إن استقبال القبلة عند الذبح ليس بشرط، ولا واجب، وإنما استحبه بعضهم، ومن تركه فلا حرج عليه. [اختلاج الأعضاء] (المسألة الرابعة): فيمن يقول إذا أكلته يده أو شهق: إنه يأكل كذا وكذا، وإذا أكله عقب قدمه قال: إنه يحكى فيه، أهل هذا شرك أو لا؟ (فالجواب): إن الاستدلال بأكل اليد والشهيق، وأكلة العقب على ما ذكر جهل وضلال، من أوضاع الجهلة الضالين، وبعض الرافضة يزعم أن اختلاج الأعضاء يدل على الحوادث، وينسبونه إلى جعفر الباقر؛ وقد ذكر أهل العلم: أنه كذب على جعفر، وأنه من أوضاع الرافضة المشركين

_ 1 البخاري: البيوع (2126) , ومسلم: البيوع (1526) , والنسائي: البيوع (4595 ,4596 ,4604) , وأبو داود: البيوع (3492 ,3495) , وابن ماجه: التجارات (2226) , ومالك: البيوع (1335 ,1336) , والدارمي: البيوع (2559). 2 البخاري: بدء الوحي (1) , ومسلم: الإمارة (1907) , والترمذي: فضائل الجهاد (1647) , والنسائي: الطهارة (75) والطلاق (3437) والأيمان والنذور (3794) , وأبو داود: الطلاق (2201) , وابن ماجه: الزهد (4227) , وأحمد (1/ 25 ,1/ 43).

الغالين في أهل البيت، سلام الله على أهل بيت رسوله. [أبقى عند صاحبه سلعة، فقال: بعها بعشرة، فباعها بزيادة على العشرة] (المسألة الخامسة): رجل أبقى عند صاحبه سلعة، فقال: بعها بعشرة، فباعها بزيادة على العشرة، هل يحل للبائع أخذ الزيادة. (فالجواب): لا يحل له ذلك، والزيادة لصاحب السلعة، والمودع أمين ليست من ضمانه، ولا يستحق شيئا من الزيادة. [التقويم بسعر الوقت] (المسألة السادسة): رجل له مائة صاع دين سلم، وارتهن نخلا وأرضا، وغير ذلك، فلما مضى أكثر الأجل اتفق الطالب والمطلوب على تقويم ذلك الرهن بثمن حاضر، وحسبوا الطعام المؤجل بسعر وقته بدراهم على صاحب الرهن. (الجواب): هذا لا يجوز، لأنه اعتياض دراهم زائدة على رأس ماله، فهذا عين الربا، وليس له إلا ما أسلم فيه، ورأس ماله إن اتفقا على فسخ العقد، وأما الربح، والتقويم بسعر الوقت فهذا لا يصح. [قول: يا سيد، ومولاي] (المسألة السابعة): قول: يا سيد، ومولاي. (فالجواب): هذه الألفاظ تستعملها العرب على معان، كسادة الرياسة والشرف، والمولى يطلق على السيد والحليف والمعتق والموالي بالنصرة، والمحبة والعشق، وأطلق على الزوج، كما قال -تعالى-: {وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ} 1، فإطلاق هذه الألفاظ على هذا الوجه معروف لا ينكر، وفي السنة من ذلك كثير. وأما إطلاق ذلك في المعاني المحدثة، كمن يدعي أن السيد هو الذي يدعى ويعظم، والولي هو الذي يبغى منه النصر والشفاعة، ونحو ذلك من المقاصد الخبيثة، فهذا لا يجوز، بل هو من أقسام الشرك. [قول: طعامك أو شرابك أو مالك علي حرام] (المسألة الثامنة): قول الرجل لولده أو غيره: طعامك أو شرابك أو مالك علي حرام.

_ 1 سورة يوسف آية: 25.

(فالجواب): إن تحريم ما أحل الله لا يحرم بنص القرآن كما في سورة التحريم. واختلفوا هل عليه كفارة يمين أو لا؟ وكثير من أهل العلم يرى أن عليه كفارة يمين. [تقبيل اليد والرِّجل] (المسألة التاسعة): قُبلة اليد والرِّجل هل هي جائزة أو لا؟ (فالجواب): إن بعض أهل العلم منعها، وشدد فيها، وبعضهم أجازها لمثل الوالد، وإمام العدل على سبيل التكرمة، ولا يتخذ ذلك ديدنا دائما 1 بل في بعض الأحوال على ما ورد. [الرقية بالقرآن إذا كان الراقي يبصق بريقه] (المسألة العاشرة): في الرقية بالقرآن، إذا كان الراقي يبصق بريقه. (الجواب): هذا جائز لا بأس به، وريق الراقي على هذه الصفة لا بأس به، بل يستحب الاستشفاء به، كما في حديث الرقية بالفاتحة. وأما ما يفعله بعض الناس مع من يقدم من المدينة، من الاستشفاء بريقهم على الجراح، فهذا لا أصل له، ولم يجئ فيمن أتى من المدينة خصوصية توجب هذا، والحاج أفضل منه. ولا يعرف أن أحدا من أهل العلم فعل هذا مع الحاج، وإنما الوارد الاستشفاء بريق المسلم مع تربة الأرض، إذا سمى الله في ذلك، كما في حديث: "بسم الله، تربة أرضنا، بريقة بعضنا، يشفى سقيمنا بإذن ربنا"2 فهذه الرقية من المسلم الموحد، على هذا الوجه، قد جاءت بها الأحاديث. [حملت وصار الحمل سقطا يرتفع وينْزل] (وأما مسألة) المرأة التي حملت، وصار الحمل سقطا، يرتفع وينزل، وأخذ ثلاثة عشر سنة، إلى آخر السؤال.

_ 1 الأظهر أن يكون الأصل: ولا دائما، فإن جعله دينا ممنوع، وإن لم يكن دائما، إذ ليس لأحد أن يشرع في الدين عبادة دائمة، ولا موقوتة، وكذلك الدوام ممنوع، ولو لم يجعل دينا يتعبد به بدليل قوله: بل في بعض الأحوال. 2 البخاري: الطب (5745) , ومسلم: السلام (2194) , وأبو داود: الطب (3895) , وابن ماجه: الطب (3521) , وأحمد (6/ 93).

(فاعلم) أنه لا حمل بعد أربع سنين على المشهور عند العلماء، وهذه الحركة عرضت بعد الموت، وإذا مات الحمل في بطنها لم يثبت لها أحكام الحمل، فتعتد عدة المتوفى عنها، ولا تلتفت لهذا الحمل، فإنه لا حكم له. [خبر الكاهن] (وأما مسألة): الكاهن إذا سأله عن دواء مباح، والسائل والمريض مسلمان. (فالجواب): إن كان خبر الكاهن بالدواء ومنافعه من طريق الكهانة فلا يحل تصديقه، وهو داخل في الوعيد، وإن كان من جهة الطب، ومعرفة منافع الأدوية فلا يدخل في مسألة الكاهن. وأما من قال لصاحب السلعة: إن خليت عني من قيمة ما يشتري به رفاقتي، أو حصل منك ثمن قهوة، جبرتهم على الشراء منك، فهذا لا يحل، وجبرهم لا يجوز، ولا يستحق هذا شيئا، إلا أن يكون سمسارا يمشي بينهما على العادة المعروفة، فيستحق به العادة للدلال. [إضافة أشياء إلى النجوم] وأما مسألة من يقول في الرياح: هذه هبوب الثريا، هذه هبوب التويبع، هذه هبوب الجوزاء، فهذا لا يجوز، شدد في المنع منه مالك وغيره؛ ولا يجوز إضافة هذه الأشياء إلى النجوم. قال قتادة: خلق الله هذه النجوم لثلاث: زينة السماء، ورجوم للشياطين، وعلامات يهتدى بها. فمن تأول فيها غير ذلك فقد أخطأ وأضاع نصيبه، وتكلف ما لا علم له به. [صلى وعلى رأسه عمامة حرير] وأما من صلى وعلى رأسه عمامة حرير، فالمشهور من مذهب الحنابلة صحة الصلاة، بخلاف ستر العورة بحرير، فإنها لا تصح، وقال بعض أهل العلم بعدم الصحة. [أهل البدع] وأما أهل البدع: فمنهم الخوارج الذين خرجوا على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه وقاتلوه واستباحوا دماء المسلمين، وأموالهم متأولين في ذلك، وأشهر أقوالهم تكفيرهم بما دون الشرك من الذنوب،

فهم يكفرون أهل الكبائر، والمذنبين من هذه الأمة. وقد قاتلهم علي بن أبي طالب، ومن معه من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصحت فيهم الأحاديث. روى مسلم منها عشرة أحاديث، وفيها الأمر بقتالهم، وأنهم شر قتلى تحت أديم السماء، وخير القتلى من قتلوه، وأنهم يقاتلون أهل الإسلام، ويدعون أهل الأوثان. وفي الأحاديث: "يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية، أينما لقيتموهم فاقتلوهم، فإن في قتلهم أجرا لمن قتلهم عند الله"1. ومن أهل البدع: الرافضة الذين يتبرؤون من أبي بكر وعمر، ويدعون موالاة أهل البيت؛ وهم أكذب الخلق وأضلهم، وأبعدهم عن موالاة أهل البيت، وعباد الله الصالحين. وزادوا في رفضهم حتى سبوا أم المؤمنين -رضي الله عنها وأكرمها-، واستباحوا شتم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه وسلم إلا نفرا يسيرا. وأضافوا إلى هذا المذهب الغالية الذين عبدوا المشايخ والأئمة وعظموهم بعبادتهم، وصرفوا لهم ما يستحقه -سبحانه- من التأله والتعظيم، والإنابة والخوف، والرجاء والتوكل، والرغبة والرهبة، وغير ذلك من أنواع العبادات. وغلاتهم يرون أن عليًّا ينزل في آخر الزمان. ومنهم من يقول غلط الأمين، وكانت النبوة لعلي. وهم جهمية في باب صفات الله، زنادقة منافقون في باب أمره وشرعه. ومن أهل البدع: القدرية الذين يكذبون بالقدر، وبما سبق في أم الكتاب، وجرى به القلم، ومنهم القدرية المجبرة الذين يقولون: إن العبد مجبور، لا فعل له ولا اختيار. ومن أهل البدع: المرجئة الذين يقولون: إن

_ 1 مسلم: الزكاة (1066) , وأحمد (1/ 91).

الإيمان هو التصديق، وإنه شيء واحد يتفاضل 1. ومن أهل البدع وأكفرهم: الجهمية الذين ينكرون صفات الله التي جاء بها الكتاب والسنة، ويؤولون ذلك، كالاستواء والكلام والمجيء والنّزول والغضب والرضى، والحب والكراهة، وغير ذلك من الصفات الذاتية والفعلية. ومن أهل البدع الضالين: أصحاب الطرائق المحدثة، كالرفاعية والقادرية والبيومية، وأمثالهم كالنقشبندية، وكل من أحدث بدعة لا أصل لها في الكتاب والسنة. [فاتته الجمعة وقد صلاها الإمام قبل الزوال] ومن فاتته الجمعة وقد صلاها الإمام قبل الزوال فيصليها ظهرًا بعد الزوال. [صلاة الفذ ركعة خلف الصف] وأما صلاة الفذ ركعة خلف الصف فمقتضى كلام الفقهاء أنه يستأنف الصلاة، ولا يبني، ويدخل في ذلك تكبيرة الإحرام، والله -سبحانه وتعالى- أعلم.

_ 1 كذا في النسخة التي بأيدينا، ولا بد أن يكون الأصل يقولون: إن الإيمان هو التصديق وحده -أي لا يدخل فيه العمل- وإنه شيء واحد لا يتفاضل. فهم كذلك، ولا يكفي هذا في تعريفهم، بل لا بد من بيان أنهم يقولون: إنه لا يضر مع الإيمان ذنب إلخ.

الرسالة السابعة والثلاثون: الرهن وشروطه

الرسالة السابعة والثلاثون [الرهن وشروطه] وله أيضا -قدس الله روحه، ونور ضريحه- في مسألة الرهن ما نصه: (حاصل ما ذكره العلماء في صحة الرهن وفساده ولزومه وعدمه) اتفقوا على أن من شرطه أن يكون إقراره في يد المرتهن من قبل الراهن، وذهب مالك إلى أنه يجوز أن يؤخذ الرهن في جميع الأثمان الواقعة في جميع البياعات إلا الصرف، ورأس مال السلم المتعلق بالذمة؛ وعنده يجوز الرهن في السلم، وفي القرض، وفي الغصب، وفي قيم المتلفات، وأرش الجنايات في الأموال، وفي الجراح التي لا قود فيها، ولا يجوز في الحدود، ولا في القصاص، ولا في الكتابة. واشترط الشافعية في الرهن ثلاثة شروط: (أحدها): أن لا يكون دينا؛ فإن الدين لا يرهن بعين. (الثاني): أن يكون واجبا، فلا يرهن قبل الوجوب، مثل أن يسترهنه فيما يستقرضه، ويجوز عند مالك. (الثالث): أن لا يكون لزومه متوقعا. وأما شروط الرهن، فالمنطوق بها في الشرع ضربان: شروط الصحة، وشروط الفساد. فأما شروط الصحة فشرطان: (أحدهما): متفق عليه في الجملة. (والثاني) مختلف في اشتراطه، أما القبض فاتفقوا في الجملة على أنه شرط في الرهن، لقول الله: {فَرِهَانٌ

مَقْبُوضَةٌ} 1، واختلفوا: هل هو شرط للتمام أو شرط للصحة؟ وفائدة الفرق أن من قال: هو شرط للصحة قال: ما لم يقع القبض لم يلزم الرهن. وقال مالك: القبض شرط لتمام الرهن، وقال: يلزم بالعقد، ويجبر الراهن على الإقباض إلا أن يتراخى المرتهن عن المطالبة. وذهب الشافعي وأبو حنيفة وأهل الظاهر إلى أنه من شروط الصحة، وعمدتهم قوله -تعالى-: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} 2. وعند مالك أن من شرط صحة الرهن: استدامة القبض، وأنه متى عاد إلى يد الراهن بإذن المرتهن بعارية، أو وديعة، أو غير ذلك فقد خرج من اللزوم. وقال الشافعي: ليس استدامة القبض من شرط الصحة، فمالك عمم الشرط على ظاهر ما لزم من قوله -تعالى-: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} 3، وشرط وجوب القبض: استدامته. والشافعي يقول: إذا وجد القبض فقد صح الرهن والعقد، فلا يحل ذلك بإعارته، ولا غير ذلك من التصرف؛ وقد كان الأولى بمن يشترط القبض في صحة العقد أن يشترط الاستدامة، ومن لم يشترطه في الصحة لا يشترط الاستدامة. وأما الشرط المحرم الممنوع بالنص فهو: أن يرهن الرجل رهنا على أنه إن جاءه بحقه عند أجله، وإلا فالرهن له، فاتفقوا على أن هذا الشرط يوجب الفسخ، وأنه معنى قوله صلى الله عليه وسلم: "ولا يغلق الرهن"4. ومن مسائل هذا الباب المشهورة: اختلافهم في نماء الرهن المنفصل، مثل الثمرة في الشجر المرهون، ومثل الغلة، هل يدخل في الرهن أو لا؟ فذهب قوم إلى أن نماء الرهن المنفصل لا يدخل شيء منه في الرهن، أعني: الذي يحدث منه في يد المرتهن، وهذا قول الشافعي. وذهب آخرون إلى أن جميع ذلك يدخل، وبه قال أبو حنيفة والثوري. وأما مالك ففرق فقال: ما كان من نماء الرهن المنفصل على خلقة المرهون وصورته، فإنه داخل في الرهن، كولد الجارية، وأما ما لم يكن على خلقته، فإنه لا يدخل في الرهن متولدا عنه، كثمرة النخل، أو غير متولد ككراء الدار، وخراج الغلام. انتهى ما لخصته. فتبين من هذا أن ما اعتمده القاضي حسين لنفسه من دعواه أنه أحق

_ 1 سورة البقرة آية: 283. 2 سورة البقرة آية: 283. 3 سورة البقرة آية: 283. 4 ابن ماجه: الأحكام (2441) , ومالك: الأقضية (1437).

بالثمرة من سائر الغرماء، لكونها أو أصلها رهنا له، فلا يتمشى على قول أحد من العلماء، فإن الشافعي يشترط لصحة الرهن ولزومه: القبض حال العقد، وفي واقعة القاضي المذكور لا قبض، فلا يصح الرهن ولا يلزم. وأما مالك فيصحح الرهن بالعقد، لكن لا يتم ولا يلزم إلا بالقبض والاستدامة عنده، وهذا هو الصحيح المعتمد في مذاهب أحمد. ومذهب مالك: أن الثمرة الحادثة في يد المرتهن لا تتبع، وفي هذه القضية التي وقعت من قاضي الحريق، إنما حدثت الثمرة فيما لم يقبض، فتكون الثمرة لا يصح رهنها على قول مالك، وعلى قوله، وقول الجمهور ليس صحيحا في الأصل، ولا في الثمرة. وعلى كل حال، فهذا الرهن إما صحيح غير لازم، فيكون أسوة الغرماء، أو يكون فاسدا؛ وعلى كلا الحالين فلا يختص بشيء من ثمرة المدين، أعاذه الله من التدحمل والتدعثر، آخرها والحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.

الرسالة الثامنة والثلاثون

الرسالة الثامنة والثلاثون وله أيضا -قدس الله روحه- رسالة إلى إبراهيم بن عبد الله بن عمار جوابا لسبع مسائل: (الأولى): رفع اليدين إذا قام من التشهد الأول. (الثانية): عن صوم يوم الثلاثين من شعبان إذا حال دون منظره غيم أو قتر. (الثالثة): عن الرهن، هل القبض والاستدامة شرط للزوم صحته أو لا؟ (الرابعة): عن الحكم في قطع يد السارق. (الخامسة): عن الطلاق في الحيض والطهر الذي جامعها فيه. (السادسة): عن الوقف على الضعيف. (السابعة): عن عاق والديه، هل عليه حد مقدر؟ فأجاب -رحمه الله- عن مسائله بأصح عبارة، وأوجزها، وقرر في مسألة صيام يوم الشك ما عليه المحققون، وما تضمنته الأحاديث الصحيحة، بخلاف ما اعتمده المقلدون، وإن من صامه من السلف لم يوجبه، ولم يأمر به الناس، ولم يوقع بمن تركه العقوبات، كما فعله أهل الجهل والإفلاس، فإنهم في هذه الأزمان يوجبونه، ويأمرون الناس بالتزامه. ومنهم من ضرب وأجلى من نهى عن صيامه، فياليت شعري، أين وجدوا ذلك؟ وأي الكتب اعتمده أولئك؟ نعم، قد وجد في بعض الروايات الوجوب عن الأصحاب، فأين وجدوا الضرب والجلاء والسباب؟ وإذا قيل لأحدكم: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: قال المذهب كذا، وبه قال الإمام المعظم. فيا ليت شعري كيف ساغ لهم تقليده في هذه، وغيرها من المسائل، ولم يسغ لهم تقليده -رحمه الله- في قوله: عجبت لقوم عرفوا الإسناد وصحته، يذهبون إلى رأي سفيان، والله -تعالى- يقول: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} 1 أتدري ما الفتنة؟ الفتنة: الشرك، لعله إذا رد بعض شيء من قوله أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك. فإذا عرفت هذا، فقد صح الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك كما رواه البخاري في صحيحه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته، فإن غم عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين يوما"2. والمقصود من هذا الكلام: إيقاع بعضهم بمن نهى عن صيامه أنواع العقوبات، وردهم أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم لبعض هذه الروايات. وهذا نص الرسالة:

_ 1 سورة النور آية: 63. 2 البخاري: الصوم (1909) , ومسلم: الصيام (1081) , والترمذي: الصوم (684) , والنسائي: الصيام (2117 ,2118 ,2119 ,2123) , وابن ماجه: الصيام (1655) , وأحمد (2/ 259 ,2/ 263 ,2/ 281 ,2/ 287 ,2/ 415 ,2/ 422 ,2/ 430 ,2/ 438 ,2/ 454 ,2/ 456 ,2/ 469 ,2/ 497) , والدارمي: الصوم (1685).

بسم الله الرحمن الرحيم من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى الأخ المكرم: إبراهيم بن عبد الله بن عمار -سلمه الله، وصرف عنا وعنه عذاب النار-. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: فوصل خط السائل، [رفع اليدين إذا قام من التشهد الأول] والجواب عن مسألة رفع اليدين إذا قام في التشهد الأول، فهو في هذا الموضع ثابت في الصحيح من حديث عبد الله بن عمر، وثابت أيضا من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه عند الإمام أحمد، خرجه في المسند، وكذلك في سنن أبي داود والنسائي وابن ماجه، وهو أصح الروايتين عند أصحاب الإمام أحمد. [صيام يوم الثلاثين من شعبان] وأما مسألة: السنة لمن صام يوم الثلاثين من شعبان، إذا حال -ليلة الثلاثين- دون الهلال غم أو قتر. فالقائلون بصومه -وجوبا أو استحبابا- يجزيه عندهم إذا نواه من رمضان، والصحيح الذي عليه المحققون: أنه لا يجب صومه، ولا يؤمر به، ومن صامه من السلف لم يوجبه. والحُجَّة لمن منع صومه -مطلقا- ما في صحيح البخاري، أنه قال صلى الله عليه وسلم "صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته، فإن غم عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين يوما"1 انتهى، وليس لأحد بلغته سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وصح عنده الحديث أن يعدل إلى غيره لرأي أحد من الناس، كائنا من كان. أقول: وله في هذه المسألة كلام مبسوط، رد على عثمان بن منصور، أوضح فيه كلام الأئمة، وجلى غياهب الشُّبه فيه عن الأمة، فأبصروا بنور الله حقائق التحقيق ومدارك الأحكام، وانجلى عن بصائرهم ذلك القتر

_ 1 البخاري: الصوم (1909) , ومسلم: الصيام (1081) , والترمذي: الصوم (684) , والنسائي: الصيام (2117 ,2118 ,2119 ,2123) , وابن ماجه: الصيام (1655) , وأحمد (2/ 259 ,2/ 263 ,2/ 281 ,2/ 287 ,2/ 415 ,2/ 422 ,2/ 430 ,2/ 438 ,2/ 454 ,2/ 456 ,2/ 469 ,2/ 497) , والدارمي: الصوم (1685).

والقتام، وذكر فيه عن الإمام أحمد سبع روايات أوردها بعض الأصحاب والصحيح منها: الاستحباب من غير شك ولا ارتياب. فراجعه إن كنت مشتاقا إلى ذلك التحقيق، واسمُ بهمتك إلى معالم ذلك المهيع والطريق. [هل القبض والاستدامة شرط للزوم صحة الرهن؟] ثم قال -رحمه الله-: وأما مسألة الرهن، فاعلم أن القبض والاستدامة شرط للزومه لا لصحته؛ فيصح ولو لم يحصل قبض ولا استدامة، لكن لو تصرف الراهن ببيع أو هبة صح ذلك، بخلاف المقبوض المستدام فلا يتصرف فيه إلا بإذن المرتهن، ولمصلحة وفائه. [قطع يد السارق] وأما السارق فلا تقطع يده إلا بإذن الإمام أو نائبه في الحكم. [الطلاق في الحيض والطهر الذي جامعها فيه] وأما مسألة الطلاق في الحيض، وفي الطهر الذي جامعها فيه، فمسألة معروفة مشهورة، وجمهور أهل العلم يوقعون الطلاق فيها، ويرون أنه طلاق بدعة محرم، فاعله مستهزئ بآيات الله. [الوقف على الضعيف] وأما الوقف على الضعيف، فكثير من الناس يستعمل الضعيف بمعنى الفقير، والفقير عندهم من لا يجد كفاية، ولو بالقدرة على الكسب، والفقراء متفاوتون بعضهم أحوج من بعض، فيلزم الناظر أن يعطي كلا بحسبه. [عاق والديه هل عليه حد مقدر؟] وأما عاق والديه فليس عليه حد مقدر، لكن يعزر بقدر ما يردعه، ويردع أمثاله. وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم تسليما.

الرسالة التاسعة والثلاثون

الرسالة التاسعة والثلاثون وله أيضا -قدس الله روحه، ونور ضريحه- رسالة إلى عبد الله بن عمير صاحب الأحساء، لما بلغه مسبة مشائخ المسلمين، والوقوع في أعراضهم، ليتوصل هو وإخوانه بذلك إلى أغراضهم، من القدح فيما عليه المشايخ من العقيدة والدين، ونسبهم إلى تكفير المؤمنين والمسلمين، مع ما هو قائم به وأخدانه من أهل الأحساء من سوء العقيدة، وسلوك طريق أهل البدع والأهواء، ممن ينتسب في العقيدة إلى الأشعرية من تلامذة الجهمية الجاحدين لعلوه -سبحانه- على خلقه، واستوائه على عرشه، خلاف العقيدة المرْضِية والطريقة السلفية. وقد اتهم بإلقاء ورقة فيها الطعن في عقيدة من دعا الناس إلى عبادة الله، وترك عبادة ما سواه، وكذلك الطعن على الشيخ العلامة، والإمام الفاضل الفهامة الشيخ: عبد الرحمن بن حسن بأنه قبل جوائز ابن بنيان، وأنه بنى بيته من أموال محرمة. وحاشا لله، فقد برأ الله الشيخ من ذلك وكرمه، فإنه لو فرض وجود ذلك في بيت مال المسلمين، فلا يقتضي تحريمه على من خفي عليه عين ذلك، ولا نميز لديه بما اغتصبه أولئك، والمسؤول عن التخليط أولو الأمر من الأئمة، لا من أخذه ولم يعلم عينه، دع من قصد ذلك وأَمَّهُ، كما ستقف عليه من كلام الأئمة الفحول، الذين لهم دراية بالفروع والأصول، وهذا نص الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى: عبد الله بن عمير. سلام على عباد الله الصالحين. وبعد: فقد بلغنا ما أنت عليه، أنت ومن غرك وأغواك، من مسبة مشايخ المسلمين، والقدح فيما هم عليه من العقيدة والدين، ونسبتهم إلى تكفير المؤمنين والمسلمين، وقد عرفت أني لما أتيتكم عام أربع وستين، بلغني أنك على طريقة من ينتسب إلى الأشعري، من تلامذة الجهمية الذين جحدوا

علوه -تعالى- على خلقه، واستواءه على عرشه، وزعموا أن كتابه الكريم، الذي نزل به جبرائيل على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم عبارة أو حكاية عما في نفس الباري، لا أنه تكلم به حقيقة، وسمع كلامه الروح الأمين، وكذلك بقية الصفات التي ذهب الأشاعرة فيها إلى خلاف ما كان عليه سلف الأمة وأئمتها 1. ونقل عنك ما كنت تنتحله، من تصحيح العقود الباطلة في الإجارات، وشافهتك في البحث عن بعض ذلك فاعتذرت وتنصلت، وطلبت الكف عن هذه المادة، وأنك لا تعود إلى شيء من ذلك، فجريت معك بالسيرة الشرعية في الكف عمن أظهر الخير والتزمه، وترك السرائر إلى الله الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور. [تكفير من أنكر الاستواء على العرش] وقد بلغنا عنك بعد ذلك أنك أبديت لأخدانك وجلسائك شيئا مما تقدمت الإشارة إليه، من السباب والقدح، لا سيما إذا خلوت بمن يعظمك، ويعتقد فيك من أسافل الناس وسقطهم، الذين لا رغبة لهم فيما جاءت به الرسل، من معرفة الله ومعرفة دينه وحقه، وما شرع من حقوق عباده المؤمنين، وقد عرفت يا عبد الله أن من باح بمثل هذا، وأظهر ما انطوى عليه من سوء المعتقد، وطعن في شيء من مباني الإسلام وأصول الإيمان، فدمه هدر وقتله حتم. وقد حكى ابن القيم -رحمه الله- عن خمسمائة إمام من أئمة الإسلام،

_ 1 قد فتن جماهير الأشاعرة في القرون الوسطى بنظريات المعتزلة والفلاسفة، فتأولوا صفات الله -تعالى- بما يخالف هدي السلف، مع أن الأشعري نفسه رجع إلى مذهب السلف، في آخر أمره، كما فصله في كتابه "الإنابة"، فالظاهر من قول الشيخ: "طريقة من ينتسب إلى الأشعري" أنه يبرّئ الأشعري من هذا التأويلات، وإنما يلصقها بالذين كانوا دائما يطعنون بالحنابلة وأهل الحديث، وينبزونهم بالألقاب.

ومفاتيه العظام أنهم كفّروا من أنكر الاستواء، وزعم أنه بمعنى الاستيلاء، ومن جملتهم إمامك الشافعي -رحمه الله-، وجملة من أشياخه كمالك وعبد الرحمن بن مهدي والسفيانين، ومن أصحابه أبو يعقوب البويطي والمزني، وبعدهم إمام الأئمة ابن خزيمة الشافعي، وابن سريج، وخلق كثير. وقولنا: إمامك الشافعي مجاراة للنسبة، ومجرد الدعوى، وإلا فنحن نعلم أنكم بمعزل عن طريقته في الأصول، وكثير من الفروع، كما هو معروف عند أهل العلم والمعرفة. [تكفير من أجاز دعاء غير الله والتوكل عليه] وأما تكفير من أجاز دعاء غير الله، والتوكل على سواه، واتخاذ الوسائط بين العباد وبين الله في قضاء حاجاتهم، وتفريج كرباتهم، وإغاثة لهفاتهم، وغير ذلك من أنواع عباداتهم، فكلامهم فيه، وفي تكفير من فعله أكثر من أن يحاط به ويحصر. وقد حكى الإجماع عليه غير واحد ممن يقتدى به ويُرجَع إليه من مشايخ الإسلام، والأئمة الكرام، ونحن قد جرينا على سنتهم في ذلك، وسلكنا منهاجهم فيما هنالك، لم نكفر أحدا إلا من كفره الله ورسوله، وتواترت نصوص أهل العلم على تكفيره، ممن أشرك بالله، وعدل به سواه، أو عطل صفات كماله، ونعوت جلاله، أو زعم أن لأرواح المشايخ والصالحين تصرفا وتدبيرا مع الله؛ تعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا. وقد رأيت ورقة، فيها الطعن على من دعا الناس إلى توحيد الله، وما دلت عليه كلمة الإخلاص من الإيمان به، والكفر بالطاغوت، وبعبادة سواه -تعالى- وفيها ذم من قرر للناس أن دعاء مثل الحسين وعلي والعباس وعبد القادر، وغيرهم ممن يدعى مع الله هو الشرك الأكبر، البواح الجلي، الذي لا يغفر إلا بالتوبة والتزام الإسلام. وقرر أن هذا ونحوه هو ما كانت عليه العرب في عباداتها الملائكة والأوثان والأصنام، قبل ظهور الإيمان

والإسلام. وفي ورقة المشبه المبطل أنكم كفّرتم خير أمة أخرجت للناس، وقصده هؤلاء المشركون، وزعم أنهم هم الأمة الوسط، وأنهم صفوف أهل الجنة، وأنهم عتقاء الله في شهر الصيام، وأن من كفّرهم فقد كفّر أمة محمد لأنهم يتكلمون بالشهادتين. وهذا الكلام من أوضح الأدلة وأبينها على ضلال مبديه، وسفاهة ملقيه، وأنه أضل من الأنعام، ويكفي في رده مجرد حكايته، فإن الفطر السليمة تقضي برده وبطلانه، والأدلة من الكتاب والسنة والإجماع تدل على أن قائله عدو النصوص، والفطرة والعقل والنظر، ولا يبعد أنه تلقاه من مثلك، ووصل إليه من أبناء جنسك. وما أظن اجتماعك بهذا الضرب من الناس إلا على هذا، وجنسه من الشبهات والجهالات التي حاصلها القدح في أصول الإيمان، وعيب أهله وذمهم، و: {لِكُلِّ نَبَأٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} 1. [إطلاق لفظ الأمة والخطاب المخصوص في قوله: "كنتم خير أمة"] وهذه الشبه يعرف فسادها كل من كانت له ممارسة في العلم -وإن قلّت- فإن لفظ الأمة -مفردا ومضافا- يقع على المستجيب المهتدي، ويقع -أيضا- على المكذب المعاند، فالأول كقوله -تعالى-: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} 2، وقوله: {أُمَّةً وَسَطًا} 3، وقوله: {وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ} 4، وفي الحديث: "أنتم توفون سبعين أمة، أنتم خيرها وأكرمها على الله"5، وفيه: "إن أهل الجنة مائة وعشرون صفا، هذه الأمة منها ثمانون"6. فهذا ونحوه يطلق ويراد به المؤمنون والمسلمون. وقد يطلق هذا اللفظ ويتناول المكذبين والضالين، كما قال -تعالى-: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ} 7، فأطلق الأمة على الفريقين، وتناول لفظها

_ 1 سورة الأنعام آية: 67. 2 سورة آل عمران آية: 110. 3 سورة البقرة آية: 143. 4 سورة الأعراف آية: 181. 5 الترمذي: تفسير القرآن (3001) , وابن ماجه: الزهد (4287 ,4288) , والدارمي: الرقاق (2760). 6 أحمد (1/ 453). 7 سورة النحل آية: 36.

الحزبين. وكذلك قوله: {وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيهَا نَذِيرٌ} 1، وقع الاسم على من أجاب النذير ومن عصاه، وقوله في خصوص هذه الأمة: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا} 2. فالإشارة في الآية إلى هذه الأمة، وقد نص على أن منهم من كفر وعصى الرسول، وكذلك قوله -تعالى-: {وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا ثُمَّ لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ} 3، وقوله: {وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلاءِ} 4، وقوله -تعالى-: {وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا} 5 الآيتين، فانظر إلى ما دلت عليه الآيات من التقسيم، إن كنت ذا عقل سليم. وفي الحديث: "افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة، وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة"6، وفي الحديث: "والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به، إلا كان من أصحاب النار"7، وفيه: "القدرية مجوس هذه الأمة"8. وخرّج ابن ماجه عن ابن عباس وجابر: "صنفان من أمتي ليس لهما في الإسلام نصيب: المرجئة والقدرية"9. إذا عرفت هذا فاعلم أن نفس الآية التي يوردها المبطل وهي قوله -تعالى-: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} 10 فيها الدليل الكافي والبرهان الشافي على إبطال قول المشبه المرتاب، ورد شبهته؛ فإن الخطاب في هذه الآية مخصوص بأهل الإيمان، الذي أصله ورأسه معرفة الله وتوحيده، وإخلاص العبادة له، وهو الذي دلت عليه كلمة الإخلاص، ومن عدا هؤلاء ليس

_ 1 سورة فاطر آية: 24. 2 سورة النساء آية: 41. 3 سورة النحل آية: 84. 4 سورة النحل آية: 89. 5 سورة الجاثية آية: 28. 6 الترمذي: الإيمان (2640) , وأبو داود: السنة (4596) , وأحمد (2/ 332). 7 مسلم: الإيمان (153) , وأحمد (2/ 317 ,2/ 350). 8 أبو داود: السنة (4691) , وأحمد (2/ 86). 9 الترمذي: القدر (2149) , وابن ماجه: المقدمة (62). 10 سورة آل عمران آية: 110.

بداخل في أصل الخطاب، بل هو ساقط من أول رتب الأعداد، كما لا يخفى إلا على من طبع الله على قلبه. (الثاني): أنه ذكر العلة والمقتضي بقوله: {تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} 1 وتعليق الحكم بالمشتق يؤذن بالعلة؛ وأحق الناس بهذا الوصف وأولاهم به من دعا إلى توحيد الله، وخلع ما سواه، من الأنداد والآلهة، وقرر أن دعاء عبد القادر وأمثاله هو الشرك الأكبر، الذي يحول بين العبد وبين الإسلام والإيمان، وأن أهله ممن عدل بالله، وسوّى برب العالمين سواه، بل قد وصلوا في عبادتهم للمشايخ والأولياء إلى غاية ما وصل إليها مشركو العرب، كما يعرف ذلك من عرف الإسلام، وما كانت عليه الجاهلية قبل ظهوره. فمقت هؤلاء المشركين وعيبهم وذمهم وتكفيرهم والبراءة منهم هو حقيقة الدين، والوسيلة العظمى إلى رب العالمين؛ ولا طيب لحياة مسلم وعيشه إلا بجهاد هؤلاء ومراغمتهم وتكفيرهم، والتقرب إلى الله بذلك واحتسابه لديه: {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} 2. فهذا المقام الشريف، والوصف المنيف، هو الذي أنكرتموه، واستحللتم به أعراض المسلمين، ورميتموهم لأجله بالعظائم، وإلى الله نمضي جميعا وعنده تنكشف السرائر، وتبدو مخبآت الضمائر، ويعلم من عادى حزبه وأولياءه، ووالى حربه وأعداءه، ماذا جنى على نفسه، وأي الفريقين أولى به، وأي الدارين أليق به، فالمرء مع من أحب ونصر ووالى شاء أم أبى. وهل حدث الشرك في الأرض إلا برأي أمثال هؤلاء المخالفين الذين يظهرون للناس في زي العلماء، وملابس الصلحاء؟ وهم من أبعد خلق الله عما جاءت به الرسل من توحيده ومعرفته، والدعاء إلى سبيله؛ بل هم

_ 1 سورة آل عمران آية: 110. 2 سورة الشعراء آية: 88.

جند محضرون للقباب وعابديها. وقد عقدوا الهدنة والمؤاخاة بينهم وبين من عبد الأنبياء والمشايخ، وأوهموهم أنهم إذا أتوا بالشهادتين، واستقبلوا القبلة لا يضرهم مع ذلك شرك ولا تعطيل، وأنهم هم المسلمون، وهم خير أمة أخرجت للناس، وهم صفوف أهل الجنة؛ فاغتروا بهذا القول منهم، وغلوا في شركهم وضلالهم، حتى جعلوا لمعبوديهم التصرف والتدبير، والتأثير من دون الله رب العالمين. فهل ترى، يا ذا العقل السليم، أضل وأجهل ممن هذا شأنه، وهذه طريقه وعقيدته؟ وإن كان في هذه المظاهر الظاهرة، والرسوم الشائعة، معدودا من أهل العلم بالشرع والإسلام، فهو والله أضل من سائمة الأنعام. وأهل العلم والإيمان لا يختلفون في أن من صدر منه قول أو فعل يقتضي كفره أو شركه أو فسقه، أنه يحكم عليه بمقتضى ذلك، وإن كان ممن يقر بالشهادتين، ويأتي ببعض الأركان، وإنما يكف عن الكافر الأصلي إذا أتى بهما، ولم يتبين منه خلافهما ومناقضتهما، وهذا لا يخفى على صغار الطلبة. وقد ذكروه في المختصرات من كل مذهب، وهو في مواضع من كتاب الروض، الذي تزعم أنك تقرأه، وتدري ما فيه. ولكن الأمر كما قال -تعالى-: {وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا} 1 الآية. بل قد ذكروا أنه من أنكر فرعا مجمعا عليه كتوريث البنت والجد أنه يكفر بذلك، ولا يكون من خير أمة أخرجت للناس، وهذا منصوص في كتب الشافعية وغيرهم، فكيف ترى يا هذا فيمن أنكر التوحيد، الذي هو حق الله على العبيد، ودان بمحض الشرك والتنديد؟ فقاتل الله الجهل، ماذا يفعل بأهله! (الثالث): قوله -تعالى-: {تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ}، وأصل الإيمان بالله: هو عبادته وحده لا شريك له، وقد فسره النبي -صلى الله عليه وسلم- بذلك في حديث

_ 1 سورة المائدة آية: 41.

وفد عبد القيس. هذا هو الإيمان الذي اختص به المؤمنون، وجحده المشركون، وفيه وقع النّزاع، وله شرع الجهاد، وانقسم العباد. وقد ابتليت أنت بأمور أوجبت لك الجهل بأصل الإسلام، وعدم الرغبة في البحث عن قواعده، ومبانيه العظام، من ذلك أنك تبعث مشايخ الطوائف الذين جعلتموهم من خير أمة أخرجت للناس، في طلب العلم والأخذ به، وهم قد خفي عليهم معنى كلمة الإخلاص، التي هي أصل الدين، وما دلت عليه من وجوب عبادة الله رب العالمين، والبراءة من دين الجهلة المشركين. وأكثرهم يقرر أن معناها إثبات قدرته على الاختراع، ونفي ذلك عما سوى الله، والإله عندهم هو القادر على الاختراع. وبعضهم يرى أن الفناء في توحيد الربوبية هو الغاية التي شمر إليها السالكون، وبعضهم قرر أن معناها أنه -تعالى- هو الغني عما سواه، المفتقر إليه كل ما عداه، كما يذكر عن السنوسي صاحب "الكبرى" في العقائد المبتدعة 1. [كلمة التوحيد وما تدل عليه من المعاني] وهذه المعاني ليست هي المقصودة بالوضع والأصالة من هذه الكلمة الشريفة، التي هي الفارقة بين المسلم والكافر؛ وأكثر الكفار لا ينازعون في قدرة الرب وغناه. وإنما المقصود بالوضع: نفي الإلهية واستحقاق العبادة عن غيره، وإثباتها له -تعالى- على أكمل الوجوه وأتمها، كما يعلم من كتب اللغة والتفسير، وكلام أئمة العلم، الذين إليهم المرجع في هذا الشأن. والمعنى الأول

_ 1 معنى كون "عقائد السنوسي الكبرى" مبتدعة: أنها مبنية على اصطلاحات علوم المنطق والكلام والفلسفة، لا على منهج القرآن والسنة، وآثار سلف الأمة الصالح، وقد عد أئمة السلف الكلام من البدع، وحكى بعض نصوصهم الغزالي في "الإحياء"، واعتذر عنها بأن الكلام ليس من علوم الدين، ولكن عرضت له الضرورة، فهو كحرس الحاج الذي يحميهم من قطاع الطريق. ولكن الحق أن سلوك منهج النصوص أقوى في حماية الدين.

لازم للمعنى المراد، لا ينفك عنه، لأنه المقصود بالوضع والأصالة، فإن المستحق لأنْ يعبد ويعظم، ويقصد دون غيره، لا بد أن يكون قادرا غنيا، ومن عداه فقيرا محتاجا، لا قدرة له. فبهذا السبب خفي عليك ما هو واضح في نفسه، ولولا حجاب التقليد، وحسن الظن بهؤلاء الطوائف لاتَّضَح الحكم لديك، ولم يخفَ أمره عليك. ومنها أنك رغبت عن الطريقة الشرعية، والمحجة الواضحة السويّة، وأخذت عن حسين النقشبندي طريقة مبتدعة، وعبادة مخترعة، لا أصل لها في شريعة محمد صلى الله عليه وسلم 1 وأنت ظننتها الغاية المقصودة، والدرة المفقودة، وهي البدع المضلة الخارجة عن المنهاج والملة. وقد نص العلماء الأعلام على دخولها فيما حذر عنه نبينا -عليه أفضل الصلاة والسلام- في غير ما حديث، كحديث العرباض بن سارية، وحديث ابن مسعود، وحديث حذيفة، وغيرهم. وقد اشتملت هذه الطريقة على خلوات ورياضات، مخالفة لواضح الأخبار والآيات، قال الله -تعالى-: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} 2، وقال -تعالى-: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} 3. ومن المعروف عن أهل العلم والتجربة أن المعتني بهذه الخلوات والرياضات المبتدعة، يحصل له تنزل شيطاني، وخطاب شيطاني، وبعضهم تطير به الشياطين من مكان إلى مكان، ومن بلد إلى بلد 4؛ ومن طلب التنزل الرحماني الرباني الإلهي

_ 1 يعني الشيخ بهذا ما يسمونه الرابطة، وهي أن يتخيل مريد الذكر شيخه، أو بعض شيوخ الطريقة الموتى، فيمثله أمامه، وقلبه متصلا بقلبه يمده - فعد هذا من العبادة شرك صريح، ويقل فهم من لا يقصد به العبادة، ويعده عادة مفيدة في السلوك، لا قربة شرعية. 2 سورة الشورى آية: 21. 3 سورة الأعراف آية: 3. 4 قال بهذا بعض الأجلاء، وما أظنه يثبت.

من غير طريقة رسول الله صلى الله عليه وسلم يبتلى بالتنزل الشيطاني. وبعض هؤلاء يقول: ذكر العامة "لا إله إلا الله"، وذكر الخاصة "الله الله"، وذكر خاصة الخاصة "هو هو". وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أفضل الكلام بعد القرآن أربع، وهن من القرآن: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر"1، 2. والاسم المفرد -مظهرا أو مضمرا- ليس بذكر، ولا كلام، ولم يرد ما يدل على مشروعيته، وعمدتهم في ذلك طلب تفريغ الخاطر من الواردات، وجمع القلب حتى تستعد النفس لما ينزل عليها، وقد خفي على هؤلاء المبتدعة أن الوارد الشرعي الديني ممنوع ومحظور على من لم يأت من الباب النبوي، والطريق المحمدي، وأن السنة كسفينة نوح من ركبها نجا، ومن تخلف عنها هلك. [ذكر الله حصن حصين من الشيطان] وقد دل الكتاب والسنة على أن التحصن من الشيطان لا يحصل إلا بذكر الله، وعدم فراغ الذهن والقلب من ذلك قال -تعالى-: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} 3 الآية، وفي حديث يحيى بن زكريا: "وآمركم بذكر الله، فإن مثل ذلك كمثل رجل جد العدو في طلبه فأوى إلى حصن حصين". [القول بأن النبوة مكتسبة] وبعضهم آل القول به إلى القول بأن النبوة مكتسبة، وأنه قد حصل له مثل ما حصل للأنبياء. وأعظم هذه الكفريات سببها الخروج عما شرعه الله ورسوله، ومن ابتلي بشيء منها، فاته من العلم والهدى بحسب ما فيه، ولولا الامتحان والابتلاء، لما سارعت وهرولت إلى هذا النقشبندي، مع خلعه لربقة الإسلام، وتركه لما عليه العلماء الأعلام، ثم ابتليت بسميّه، مع ما هو فيه من الريب في هذه الدعوة الإسلامية

_ 1 مسلم: الآداب (2137) , وأحمد (5/ 10 ,5/ 11 ,5/ 21). 2 ذكره في الجامع الصغير، بعلامة الإمام أحمد عن رجل، وعلّم عليه بالصحة. ولكن ليس فيه ذكر القرآن، فلعلها رواية أخرى. 3 سورة الزخرف آية: 36.

التي مَنَّ الله بها في هذه الأزمان، التي هي أشبه بأيام الفترات، لبعد العهد، وغربة الدين. والذباب يأبى إلا السقوط على العذرة، وقد ابتليت وابتلي صاحبك بعيب أهلها وذمهم، وموالاة أعدائهم، الذين هم ما بين جهمي أو رافضي، أو من عباد القبور، وغرك ما يعِده ويُمَنِّيه من نيل رتبة القضاء، "ودون عليان القتادة والخرط". المسلمون في حرج من كون مثلك يؤم في المساجد، وينتصب في المدارس، فكيف بالقضاء ونحوه، يأبى الله ذلك والمؤمنون، وإن مناك به الجهلة المبطلون. واعلم أن إمامنا -وفقه الله تعالى- على طريقة أسلافه وأعمامه في الدعوة الإسلامية، وحماية هذا الدين. وأخشى إن كثر فيك القول، وظهر له منك ما أشرنا إليه من الجنف والعول، أن يسلك بك مسلك من سلف من أشرار الأحساء الذين لم يقبلوا ما مَنَّ الله به من النور والهدى، فأوقع بهم الإمام "سعود" من بأسه ما خمدت به نار الفتنة والجحود. كأني بكم والليت آخر قولكم ... ألا ليتنا كنا إذ الليت لا يغني [أموال السلطان وجوائز الأمراء] (فصل) وأما طعنكم على الشيخ المكرم بأنه قبل جوائز ابن ثنيان، وأنه بنى بيت الشيخ من أموال محرمة، فهذا القول منكم مبني على ما في أول هذه الورقة من الطعن في العقيدة، وأنهم كفّروا خير أمة أخرجت للناس، واستباحوا دماءهم وأموالهم، وجعلوها بيت مال بغير حق شرعي، كما فعل الخوارج المعتدون. هذه عقيدتكم وطريقتكم التي أنتم عليها في أمر هذه الدعوة الإسلامية، وقد أظهرها الله، وأبدى ضغينتكم، وكشف لعباده سريرتكم، قال -تعالى- لنبيه صلى الله عليه وسلم {فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ} 1. وهذا تصريح منكم يعرفه كل عاقل، والإمام وغيره من

_ 1 سورة محمد آية: 30.

ذوي الألباب، يعرفون هذا من نفس خطابكم، وأن تخصيص ابن ثنيان تستر وخوف من السيف، وإلا فهم عندكم على طريقة واحدة، ومذهب واحد. فقد كنت تُخفي حُبَّ سَمْراءَ حِقبةً ... فبُحْ لان 1 منها بالذي أنت بائحُ ولو حقق الأمر، لم يوجد عندكم فارق بين ابن ثنيان وغيره. إذا عرف هذا، فلو سلم تسليما صناعيا أن قصدكم الأموال المغصوبة، فوجودها في بيت المال لا يقتضي التحريم على من لم يعلم عين ذلك، ولم يميز لديه، والمسؤول عن التخليط ولي الأمر، لا من أخذ منه، إذا لم يعلم عين المغصوب، وقد ذكر ذلك أئمتكم من الشافعية، وغيرهم من أهل العلم، بل ذكر ابن عبد البر إمام المالكية في وقته أنه لا يعرف تحريم أموال السلاطين عن أحد ممن يعتد به من أهل العلم. وقال في رسالته لمن أنكر عليه ذلك: قل لمن ينكر أكلي ... لطعام الأمراء أنت من جهلك عندي ... بمحل السفهاء فإن الاقتداء بالسلف الماضين هو ملاك الدين. ثم قال بعد ذلك: ومن حكي عنه أنه تركها، كأحمد وابن المبارك وسفيان، وأمثالهم فذاك من باب الزهد في المباحات، وهجر التوسعات، لا لاعتقاد التحريم ... إلى أن قال: وقد قال عثمان رضي الله عنه: جوائز السلطان لحم ظبي ذكيّ، وقد قال ابن مسعود لما سئل عن طعام من لا يجتنب الربا في مكسبه، قال: لك المهنا وعليه المأثم، ما لم تعلم الشيء بعينه حراما.

_ 1 "لان" مخففة من الآن لضرورة الوزن. ولو قال الشاعر: "بح" بغير فاء، لزالت هذه الضرورة.

وحكي عن أحمد -رحمه الله-: جوائز السلطان، أحب إلينا من صلة الإخوان، لأن الإخوان يمنون، والسلطان لا يمن. قال: وكان ابن عمر يقبل جوائز صهره المختار، وكان المختار غير مختار. حكى هذا عنه شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله، وناهيك به حفظا وأمانة- عند الكلام على حديث: "إذا دخل أحدكم بيت أخيه فأطعمه من طعامه، أو سقاه من شرابه، فليأكل من طعامه، وليشرب من شرابه، ولا يسأل عنه"1 والحديث معروف في السنن. قال الحافظ الذهبي: قيل لعبد الله بن عثمان بن خيثم: ما كان من معاش عطاء؟ قال صلة الإخوان، ونيل السلطان. وهذا مشهور بين أهل العلم، وقد قال صالح بن أحمد لأبيه، لما ترك الأكل مما بيد ولده من أموال الخلفاء: أحرام هي يا أبتِ؟ قال: متى بلغك أن أباك حرمها؟ وأما إذا علم الإنسان عين المال المحرم، لغصب أو غيره، فلا يحل له الأكل بالاتفاق، والمشتبه الذي ندب إلى تركه هو ما لم يعلم حله ولا تحريمه. وأما إذا امتاز بحال، وعرف الحكم، فهو لاحق بالبين لا الاشتباه، وفي دخول أموال السلاطين في المشتبه بحث جيد، لا يخاطب به إلا من سلمت -في السلف الصالح- سريرته، وحسنت في المسلمين عقيدته، والمرتاب يصان عنه العلم، ولا يخاطب إلا بما يزجره ويردعه، وقد قبل النبي صلى الله عليه وسلم الهدايا من المقوقس، وصاحب دومة الجندل، وغيرهما، وهوصلى الله عليه وسلم لا يقبل إلا طيبا، ولا يأكل إلا طيبا. وأموال الكفار لا يبيحها الغصب لمثل المقوقس، وإنما تباح، وتملك بالقهر والغلبة والاستيلاء للمسلمين. وهذا كله منا على سبيل التنزل والمجاراة، وإلا فنحن نعلم أنكم لا تذكرون هذا إلا على سبيل العيب، والمذمة والغيبة لا عن ورع فيكم، ولا تحر للصواب،

_ 1 أحمد (2/ 399).

وطلب للفقه لديكم، بل أنتم كما قال -تعالى- في أهل الكتاب: {وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الأِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} 1. [شرط حل الأكل من الأوقاف] وقد اشتهر أنكم في المزاحمة على الأموال المحرمة أحمق من نعجة على حوض، وغالب ما في أيديكم من الأوقاف، والريع والمآكل إنما وصل إليكم من جهة من لا يعرف الدعوة الإسلامية، وليست لهم ولاية شرعية، كرؤساء الأحساء قبل المسلمين من آل حميد، والأتراك وتجار البحر، الذين لا يحرمون ما حرم الله ورسوله، ولا يدينون دين الحق، فكيف تلمزون بأمراء المسلمين، وهذا حالكم، وهذه مآكلكم؟ وما فرض من ذلك على الوجه الشرعي فهو لا يباح إلا لمن قام في وظيفة التدريس والإمامة بما شرع الله ورسوله، من دعاء الخلق إلى توحيده، ونهيهم عن الشرك واتخاذ الأنداد معه، وقرر ما تعرّف الله به إلى عباده من صفات كماله، ونعوت جلاله، وأظهر مسبة من جحدها وألحد فيها، ونفى عن كتاب الله تحريف المبطلين، وتأويل الجاهلين، وزيغ الزائغين، وجرد المتابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يتخذ من دون الله ولا رسوله ولا المؤمنين وليجة. ومن لم يكن هكذا فهو غاش للمسلمين، غير ناصح لهم، متشبع بما لم يعط، كلابس ثوبي زور في انتصابه في المدارس والمساجد. والعلم معرفة الهدى بدليله، وإدراك الحكم على ما هو عليه في نفس الأمر، ليس إلا. وأما التَّزَيِّي بالملابس، والتحلي بالمظاهر، والانتصاب في المدارس، من غير غيرة لدين الله، ولا نصرة لأوليائه، ولا مراغمة لأعدائه، ولا دعوة إلى سبيله، فما ذاك إلا حرفة الفارغين البطالين، الذين صحبوا الأماني، وقنعوا من الخَلاق بالخسيس الفاني،

_ 1 سورة المائدة آية: 62.

وهذا لا يفيد إيمان الرجل، فضلا عن كونه عالما. فلا يباح، والحالة هذه لمن كان هكذا أن يحوز أوقافا قصد بها التقرب إلى الله، والإعانة على إظهار دينه، والتماس مرضاته، والدعوة إلى سبيله، ومن أكل منها وهو مجانب لهذه الأوصاف، فقد أكل ما لا يحل له، وما لا يستحقه. وهذا يستفاد من قول الفقهاء: يشترط أن يكون الوقف على جهة بر، ولا يستحقه إلا من كان من أهل تلك الجهة. وفي الحديث: "إن هذا المال حلوة خَضِرة، فمن أخذه بحقه بورك له فيه، ورب متخوض في مال الله بغير حق ليس له يوم القيامة إلا النار"1، والأوقاف من مال الله. ولهذا عزل الخليفة المتوكل كل من يتهم بشيء من بدعة الجهمية عن المساجد والقضاء وغيره من الوظائف الدينية، وذلك بأمر من الإمام أحمد -رحمه الله-. فإنه -رحمه الله- توجه إليه الفتح بن خاقان -وزير المتوكل- بورقة فيها أسماء القضاة والأئمة، فقرأها الفتح على الإمام، فأمر بعزل من يُعرف منه شيء من ذلك، أو يتهم به، فعُزل خلق كثير، وهو عند المسلمين في ذلك بارّ راشد، متبع لأمر الله ورسوله. [ما جاء في رؤيا الطفيل] (فصل) ما جاء في رؤيا الطفيل: "أنه مر على نفر من اليهود فقال لهم: إنكم لأنتم القوم، لولا أنكم تقولون: عزير ابن الله. قالوا: وأنتم القوم، لولا أنكم تقولون: ما شاء الله وشاء محمد. ومر على ملأ من النصارى فقال: إنكم لأنتم القوم، لولا أنكم تقولون: المسيح ابن الله، قالوا: وأنتم لأنتم القوم، لولا أنكم تقولون: والله والكعبة"2. فأخبر الطفيل برؤياه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنهى الناس عن هذه الأقوال، وقرر حكم هذه الرؤيا. والغرض منها هنا ذكر المشابهة بينكم وبينهم في إدراك الخفي، فما زعمتموه عيبا مع العمى، والجهل بما أنتم عليه، فأعجب لها من نادرة قال حسان:

_ 1 البخاري: فرض الخمس (3118) , والترمذي: الزهد (2374) , وأحمد (6/ 377). 2 أحمد (5/ 72).

تعدون قتلا في الحرام عظيمة ... وأعظم من ذا لو يرى الرشد راشد صدودكمو عن مسجد الله أهله ... وإخراجكم من كان لله ساجد [كثرة المخالطة لها تأثير ظاهر في الأخلاق والطباع] (تنبيه) طول المعاشرة، وكثرة المخالطة لها تأثير ظاهر، وفعل بيّن في الأخلاق والطباع والشيم والعقائد والديانات، كما هو مشاهد محسوس، حتى إن الإنسان قد يسري إليه ما جبل بعض الحيوانات عليه، كما يشير إليه قوله صلى الله عليه وسلم: "الغلظة في الفدّادين أهل الوبر والشعر، والسكينه في أهل الغنم". ولا يخفى ما أنتم عليه من كثرة المعاشرة، وطول المزاولة لجيرانكم، الذين ابتلوا بسب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وخيار هذه الأمة، حتى رموهم بما يستحى من ذكره، وكثرة ثنائهم وموالاتهم للزنادقة والكفار من أعداء هذه الملة، ولعل ما جاء عنكم من الذم والقيل، هو من ذلك القبيل. شعر: لما رأت أختها بالأمس قد خرب ... كان الخراب لها أعدى من الجرب [ما قام به والد الشيخ من الإصلاح الديني] وأما عمى بصائركم عمّا منّ الله به على هذا الشيخ، من النعم الباطنة والظاهرة، وكونه نصّب نفسه بحمد الله ومنّته لحماية هذا الدين، والذب عنه، ومراغمة أعدائه، فقام في وجوه من أجاز دعاء غير الله، والاعتماد عليه، والتوكل على غيره، وذم من حسن حالهم، وذب عنهم وتصدى للرد عليه، وتجهيله وتضليله. وقام في وجوه أهل البدع المنكرة كالجهمية والأشاعرة والسالمية والكرامية، وقمعهم الله به، وصاروا في بلدتكم يستترون، وكذلك أهل الموالد والأعياد الجاهلية، كبتهم الله بما أبداه وقرره من عيبهم وتضليلهم، وقد من عليه بنشر العلم، وانتفع الناس به بعدما كاد يعدم في البلاد النجدية، بعد المحنة المصرية، فجدد الله به آثار سلفه الصالح. وجمهور من له معرفة بالعلم، وما جاءت به الرسل من أهل هذه البلاد النجدية إنما تخرّج

عليه، وسمع منه، وتربى بين يديه، ومن لم يحط بهذا فهو دون غيره، كما لا يخفى على عارف. والمنصف من الأعداء يعترف بهذا، وقد عرف العامة والخاصة مناصحته لولاة الأمور، وحثهم على ما ينتفعون به في الدنيا والآخرة، من تحكيم كتاب الله، والجهاد لإعلاء كلمته، ونصحهم عن الإصغاء إلى أهل الريب والشك في الدعوة الإسلامية، والحقائق التوحيدية، الذين يبغونها عوجا، ولا يحبون ظهور هذا الدين وعلوه. فهو قد نصح ولاة الأمر منهم، وكبت الله بسببه وأخزى منهم عددا كثيرا، وهو قائم على قضاة تلك البلاد في النظر في أحكامهم، يرد كثيرا مما أجمع على بطلانه منها، وينقضها بالقانون الشرعي، والمنهاج المرعي، وهذا مشهور لا ينكره إلا مكابر. (شعر): وما ضر عين الشمس إن كان ناظرا ... إليها عيون لم تزل دهرها عميا وقد عرف من كان له فضل وعلم، أن كلام أمثالكم، وبهت أشباهكم مما يدل على فضله وجلالته وهيبته وفطانته، وأن ذلك مما يزيده الله به -إن شاء- رفعة وشرفا في الدنيا والآخرة، ويوجب -إن شاء الله- حسن العاقبة، قال -تعالى-: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالأِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الأِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ} 1، وقال -تعالى- {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} 2. ومما يستحسن لشيخ الإسلام ابن تيمية -قدس الله روحه، ونور ضريحه- قوله: ولم تكن لي في القلوب مهابة ... لم تكثر الأعداء فيَّ وتقدح كالليث لما هيب خط له الزبى ... وعوت لهيبته الكلاب النبح

_ 1 سورة النور آية: 11. 2 سورة آل عمران آية: 186.

يرمونني شزر العيون لأنني ... غلست في طلب العلا وتصبحوا وقال أبو الطيب: وإذا أتتك مذمتي من ناقص ... فهي الشهادة لي بأني كامل وقد أنطق الله ألسن المسلمين بالثناء والدعاء لهذا الشيخ، ونرجو أن الله يقبل شهادتهم، ويجيب لهم دعوتهم، ويقيل عثرته وعثرتهم. اللهم اغفر لنا ما لا يعلمون، واجعلنا خيرا مما يظنون، والمغرور من اغتر بثناء الناس عليه، ولم يعرف حقيقة ما منه وما لديه، لكن الغرض تعريفك أن كلامكم زاده الله به رفعة وشرفا. كم كان في نكث أسباب العهود بها ... إلى المخدرة العذراء من سبب وأما من بهته فقد أصبح بين أهل الإسلام والكمال كقبر أبي رغال، مرجوما بشهب المذمة والمقال، معدودا في زمرة أهل الغي والضلال. ما يبلغ الأعداء من جاهل ... ما يبلغ الجاهل من نفسه [فضيلة الاشتغال بالحرث والزرع وذم الأكل بالدين] عجيبة عبتم على الشيخ حرثه، وطلبه الرزق باتخاذه النخيل والزروع، مع أن هذا هو حرفة السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، جمهورهم أهل نخيل وحروث، ولما فتحوا خيبر اقتسموها وعاملوا عليها أهلها، وصار لرسول الله صلى الله عليه وسلم سهمه المعروف. ولما أجلى عمر رضي الله عنه اليهود تولى المسلمون العمل فيها بأنفسهم، وهذا معدود من مناقبهم، ولم يذهبوا إلى ما ذهبت إليه اليهود والنصارى، ومن شابههم، من هذه الأمة من الأكل بدينهم، وجعله آلة تكتسب بها الدنيا، ويحتال بها على أكل الحبوس والأوقاف. وكثير من علمائكم جزم بأن الحرث أفضل المكاسب، ونصوصهم موجودة عندكم، ولكن الهوى والعداوة أدياكم إلى أن جعلت المناقب مثالب،

ولا ذنب للشيخ عندكم يقتضي هذا أو يوجبه، لم يحل بينكم وبين مأكلكم ولا رياستكم، ولكن يدعوكم إلى الرغبة في الدين، ونشره في بلاد المسلمين، وترك شبه المرتابين والضالين، والرغبة عن تقليد المشايخ الماضين. (شعر): أصبحت بين معاشر هجروا الهدى ... وتقبلوا الأخلاق من أسلافهم قوم أحاول رشدهم وكأنما ... حاولت نتف الشعر من آنافهم [الإنكار على الإمام بناء المسجد الجامع] (فصل) بلغنا عن خدنك، ومن يلوذ بك، أنهم أنكروا على الإمام بناء المسجد الجامع، فقيل له: إنه قد بناه سعود -رحمه الله- أولا. فقالوا: هذا من باب قوله -تعالى-: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ} 1، وقالوا: ومن يصلي في هذا، وقد بني من مال حاله كيت وكيت، وهذا يدل على ما قلناه: إن اعتقادكم في الإمام مثل اعتقادكم في ابن ثنيان، سواء بسواء. ومهما تكن عند امرئ من خليقة ... وإن خالها تخفى على الناس تعلم وهذا ثابت بنقل العدد الكثير من أهل نجد والأحساء، وإنكاره مكابرة، ورد للواضحات. وقد علم أن الاقتداء بأهل الدين في البر والخير، والعمل الصالح كبناء المساجد، ورفع شأنها من آكد ما شرع، ومن أفضل ما سعي فيه وصنع، والاستدلال عليه بقوله -تعالى-: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} 2 أقرب للصواب. والله أسأل أن ينصر دينه، ويعلي كلمته، ويحسن العاقبة لعباده المؤمنين، وأوليائه المتقين، إنه ولي ذلك كله، وهو على كل شيء قدير. وصلى الله على نبينا محمد سيد المرسلين، وإمام المتقين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وسلم تسليما كثيرا.

_ 1 سورة الزخرف آية: 23. 2 سورة الأنعام آية: 90.

الرسالة الأربعون: شبهات الجهمية ونفاة الصفات

الرسالة الأربعون [شبهات الجهمية ونفاة الصفات] وله أيضا -قدس الله روحه، ونور ضريحه- رسالة إلى محمد بن عون، رجل من أهل عمان، قد ألقيت إليه شبهات وضلالات، من أضاليل الجهمية النفاة، فبعث بها إلى الشيخ الإمام، وقدوة العلماء الأعلام، الشيخ: عبد اللطيف بن الشيخ عبد الرحمن. فأجاب عليها بأدل دليل وأوضح برهان. وقد سأل هذا الجهمي عن هذه الأسئلة، فمنها قوله: هل لكلمة التوحيد -وهي لا إله إلا الله- شروط وأركان وآداب؟ فإن قلت: نعم، فما هي؟. ومنها قوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} 1 ما معناه: استواؤه مختص بالعرش أو به وبغيره، لأنه -تعالى- ما نفى استواءه من غيره، فإذا زعمت أن استواءه مختص بالعرش، فمن أي شيء علم ذلك؟ وهل أتى -سبحانه- بحروف الحصر، وحروف الاختصاص؟ وهل تعرف حروف الاختصاص، وحروف الحصر أم لا؟ وما هي؟ فإذا قلت -مثلا-: زيد استوى على الدار. فهل علم منه أنه لا يستوي على غيره؟ والعاقل يعلم ذلك بأدنى تأمل. ومنها قوله: وإذا أقررت بأن لله مكانا معينا، فما معنى قوله -تعالى-: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} 2، وقال: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} 3، وقال: {إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ} 4، وقال صلى الله عليه وسلم "حيث ما كنتم فإنه معكم". فإذا قلت: هذه الآيات مؤولة، وأقررت بالتأويل، فالآية الأولى أولى به لأنها بلا تأويل تخالف الإجماع، وتعارض الآيات والأحاديث. أما الآيات الأخيرة، فقد قيل في الآية الأولى: إنها ليست من المتشابهات لأن الاستواء معلوم، والكيف مجهول، وما نفي الاستواء عن غير العرش، هذا كلامه بحروفه، نقله الشيخ على ما فيه من التحريف واللحن، ليعتبر الناظر، ويعرف المؤمن المثبت حال هؤلاء الجهال الضلال الحيارى. وقد أجاب عليها -رحمه الله- إفادة لمحمد بن عون إذ كان من أهل التوحيد والإثبات، وممن جاهد الجهمية في تلك الجهات، وإلا فليس هذا الجهمي الكافر كفؤا للجواب لأنه من العجم الطغام، بل هو أضل من سائمة الأنعام، إذ لا فكرة ثاقبة، ولا روية كاسبة، ولا طريقة صائبة، يتشبع بما لم يعط من العلم، ويتزيى بزي أهل الذكاء والفهم، وليس له في ذلك ملكة

_ 1 سورة طه آية: 5. 2 سورة البقرة آية: 115. 3 سورة ق آية: 16. 4 سورة سبأ آية: 50.

ولا روية، ولا معرفة له بالعلوم ولا درية، لا يعرف من الإسلام أصلا ولا فرعا، بل هو ممن ضل سعيهم في الحياة الدنيا، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا. وقد موّه هذا الجهمي الكافر بهذه السفسطة والجعجعة، وهرقع بهذه المخرقة والقعقعة، وظن أن ليس في حمى التوحيد من أهله ضيارم، ولا لتلك الشبه المتهافتة من عالم مصارم. كلا والله، إن الليث مفترش على براثنه، لحماية حمى التوحيد وقاطنه، فلا يأتي صاحب بدعة ليقلع من التوحيد الأواسي، ويهدم منه الرعان الشامخات الرواسي، إلا ودفع في صدره بالدلائل القاطعة، والبراهين المنيرة الساطعة. فرحمه الله من إمام جِهبذ ألمعي، ومقول بارع لوذعي، أحكم وأبرم من الشريعة المطهرة أمراسها، وأوقد منها للورى نبراسها، وسقى عللا بعد نهل غراسها، فأورقت وبسقت أشجارها، وأينعت -بحمد الله- ثمارها، فجنى من ثمارها كل طالب مسترشد، وورد من معينها الصافي كل موحد. إمام هدى فاضت ينابيع علمه ... فأم الأوام الواردون معينها فبلّوا الصدي من صفوها وتضلعوا ... وضعضع من تيارهن مهينها كهذا الذي أبدى معرة جهله ... وكان يرى أن قد أجاد رصينها فضعضعها بالرد والهد جِهبذ ... وأبدى عوارًا قد رأى أن يزينها وما هو إلا كالسراب بقيعة ... يلوح لظمآن فلاقى منونها فإن كنت مشتاقا إلى كشف زهوها ... فإن الإمام الشيخ أبدى كمينها وجلّى ظلام الجهل بالعلم مدحضًا ... ضلالات كفر غثها وسمينها وأطلع شمس الحق للخلق جهرة ... وشاد لعمري للبرية دينها وقد سمعت أنوار برهان علمه ... وقد بلغت غرب البلاد رصينها وردَّ على من ردَّ سنة أحمد ... ورام سفاها بالهوى أن يشينها ومن ندّ من أتباع جهم ونحوهم ... وقد رام جهلا أن يهد مكينها بنفي استواء الرب جل جلاله ... على عرشه إذ رام أن يستهينها وقد أوضحت بل صرحت بعلوه ... وقرر أعلام الهدى مستبينها وفي سبع آيات ثبوت استوائه ... على العرش فاقرأ يا مهين رصينها

وهذا جواب إحدى الورقتين التي أرسلها محمد بن عون، وقد تقدم جواب الورقة الثانية فيما سبق، ولم أجدها تامة، لكن لمسيس الحاجة إليها أثبتناها. بسم الله الرحمن الرحيم من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى الأخ المكرم: محمد بن عون، سلمه الله تعالى وأعانه، وبالعلم كمله وزانه. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: فنحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو على نعمه، جعلنا الله وإياكم من عباده الشاكرين. وسبق إليكم مكاتبات قبل هذا، وقد بلغني ما منَّ الله به عليك من جهادك أهل البدع والإغلاظ، في الإنكار على الجهمية المعطلة ومن والاهم، وهذا من أجلّ النعم وأشرف العطايا، وهو من أوجب الواجبات الدينية. فإن الجهاد بالعلم والحجة مقدم على الجهاد باليد والقتال، وهو من أظهر شعائر السنة وآكدها، وإنما يختص به في كل عصر ومصر أهل السنة، وعسكر القرآن، وأكابر أهل الدين والإيمان، فعليك بالجد والاجتهاد، واعتد به من أفضل الزاد للمعاد، قال -تعالى-: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} 1. [إنكار الجهمية لصفات الله وعلوه وزعمهم أنه في كل مكان] هذا وقد ألقي إلي ورقة، جاءت من نحوكم، سودها بعض الجهمية المعطلة، مشتملة على إنكار علو الله على خلقه، واستوائه على عرشه، كما هو رأي جهم وأشياعه، محتجا صاحبها بشبهات كسراب بقيعة، من نظر إليها من أهل العلم والمعرفة تيقن أنه من الأدلة على أن قائله قد عدم

_ 1 سورة غافر آية: 51.

العلم والإيمان والحقيقة، وأنه أضل ممن ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا. وقد أبداه قائله ليتشبع بما لم يعط من العلم، ويتزيا بغير زيه، فكشف الله سوءته، وأبدى خزيه، وصار كلامه دليلا على جهله وعماه، وضلاله عن سبيل رشده وهداه. [شروط وأركان وآداب كلمة الإخلاص] فأول ما رسم في هذه الورقة -المشار إليها- قوله -وفقك الله لأقوم طريق-: هل لكلمة التوحيد -وهي لا إله إلا الله- شروط وأركان وآداب؟ فإن قلت: نعم، فما هي؟ هذا لفظه، وقد عرفت أن هذا الرجل ليس من أهل هذا الفن، ولا يدري ما هنالك، والتوحيد عند هذه الفرقة الجهمية حقيقة تعطيل الأسماء والصفات، لأن عندهم تعدد الصفات يقتضي تعدد الموصوف، والوحدة عندهم والتوحيد ينافي ذلك؛ فيثبتون ذاتا مجردة، وحقيقة مطلقة غير موصوفة بصفة ثبوتية، ويفسرون الواحد بأنه الذي لا يقبل الانقسام. هذا كلام شيوخه وأسلافه من الجهمية الضالين الذين ينكرون العلو والاستواء، ويزعمون أنه بذاته مستو في كل مكان، فما نزّهوه عن شيء من الأماكن القذرة، التي ينزه عنها آحاد خلقه، فما أجرأهم! وما أكفرهم! وما أضلهم عن سواء السبيل!. ومنكر الاستواء هذا توحيده، وهذا رأيه، وأما التوحيد الذي اشتملت عليه كلمة الإخلاص، فهو أجنبي عنه لا يدريه، وكيف يدري ذلك من أنكر أظهر الصفات التي بنيت عليها كلمة الإخلاص، واستحق بها الرب ما له من صفات الإلهية والربوبية والكمال المطلق؟! فما للجهمية وهذا؟ وهم إنما يعبدون عدما؟ وإنما يبحث عن هذا ويدريه من يعبد إلها واحدًا فردًا صمدا. وشروط كلمة الإخلاص يعرفها بحمد الله صغار الطلبة من المسلمين

أهل الإثبات، ويتبين ذلك بتعريف الشرط: وهو أنه ما يلزم من عدمه العدم، ولا يلزم من وجوده الوجود لذاته. وإذا عرف هذا، فالعقل يلزم من عدمه العدم، والتمييز يلزم من عدمه العدم، والعلم يلزم من عدمه العدم، هذه شروط الصحة. وأما شروط القبول: فالالتزام والإيثار والرضى. وإذا اجتمعت هذه الشروط حصل القول المنجي، والشهادة النافعة، ومصدر هذه الشروط عن علم القلب وعمله، وهناك يصدر التلفظ بها عن يقين وصدق. والجهمية لم يتصفوا بشرط من هذه الشروط، وقد صرح أهل السنة بذلك، وحاجة معطلة الصفات إلى معرفة التوحيد في العبادات كحاجة من عدم الرأس من الحيوانات إلى الرسن. قال أبو الطيب: فقر الجهول بلا علم إلى أدب ... فقر الحمار بلا رأس إلى رسن ولها أيضا شروط منها: معرفة الإله الحق بصفات كماله، ونعوت جلاله، التي علوه وارتفاعه واستواؤه على عرشه من أظهرها وأوجبها، وكذلك معرفة أمره ونهيه ودينه الذي شرعه، والوقوف مع أمر رسوله وحدوده، ومنها كون الطبيعة لينة منقادة سلسلة قابلة. وهذه الشروط معدومة في السائل، قد اتصف بضدها، معبوده مسلوب الصفات، لا وجود له في الحقيقة، وأمره ونهيه منبوذ عند هذه الطائفة، لا يهتدون بكتابه، ولا يأتمرون بأمره، والمعول عندهم على شبهات منطقية، وخيالات كلامية، يسمونها قواطع عقلية، ومقدمات يقينية، ونصوص الكتاب والسنة عندهم ظواهر لفظية، وأدلة ظنية. وأما طبائعهم فأقسى الخلق وأعتاهم وأعظمهم ردا على الرسل، واعتمادا على أقوال الصابئة والفلاسفة، وأمثالهم من شيوخ القوم، الذين لم يلتفتوا إلى ما جاءت به الرسل، ولم يرفعوا به رأسا فضلا عن معرفته

وقبوله، فما لهذا السائل وآداب كلمة الإخلاص؟ وأما الأركان، فركناها: النفي والإثبات؛ نفي استحقاق الإلهية عما سوى الله، وإثباتها لله وحده على وجه الكمال. وأما الآداب: فالدين كله يدخل في مدلولها وآدابها، وأرفع مراتب الآداب وأعلاها مرتبة: الإحسان وهي أعلى مقامات الدين، وبسطها يعلم من معرفة شُعَب الإيمان وواجباته ومستحباته، وعندهم أن الإيمان مجرد التصديق، فلا يشترط عمل القلب وعمل الأركان في حصول الحقيقة المميزة بين المسلم والكافر. هذا رأي الجهمية الجبرية، فالأعمال ليست من مسماه، والتصديق والإخلاص ليسا من أركانه، وهذا يعرفه صغار الطلبة، فكيف يترشح هذا الجهمي لما ليس من فنه ولا من علمه؟ وفي المثل: "ليس هذا عشك فادرجى". والمقصود إفادة مثلك، وأما السائل فليس كفوا للرشاد للهدى. [اختصاص الاستواء بالعرش] ثم قال الجهمي في ورقته: قوله -تعالى-: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} 1 ما معناه؟ استواؤه مختص بالعرش أو به وبغيره؟ لأنه -تعالى- ما نفى استواءه عن غيره، فإذا زعمت أن استواءه مختص بالعرش، فمن أي شيء علم ذلك؟ وهل أتى -سبحانه- بحرف الحصر، وحروف الاختصاص؟ وهل تعرف حروف الاختصاص، وحروف الحصر أم لا؟ وما هي؟ فإذا قلت -مثلا-: زيد استوى على الدار. فهل علم منه أنه لا يستوي على غيره؟ والعاقل يعلم ذلك بأدنى تأمل. اهـ. وجوابه أن يقال: قد ثبت من غير طريق، عن مالك بن أنس -رحمه الله- وعن شيخه ربيعة بن عبد الرحمن، بل ويروى عن أم سلمة -أم المؤمنين رضي الله عنها- أنهم قالوا: الاستواء معلوم، والكيف مجهول. وفي

_ 1 سورة طه آية: 5.

بعض طرقه: والكيف غير معقول، والسؤال عنه بدعة. وزاد مالك فقال للسائل: وما أراك إلا رجل سوء. وأمر به فأُخرج. وعلى هذا درج أهل السنة، من عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى وقتنا هذا، ولم يخالف في ذلك إلا الطائفة الضالة الملعونة الجهمية وأشياخهم من غلاة الاتحادية والحلولية، وأما أهل السنة فعرفوا المراد وعقلوه، ومنعتهم الخشية والهيبة والإجلال والتعظيم من الخوض والمراء والجدال، والكلام الذي لم يؤثر ولم ينقل. وقد عرفوا المراد من الاستواء، وصرح به أكابر المفسرين، وأهل اللغة، فثبت عنهم تفسيره بالعلو والارتفاع، وبعض أكابرهم صرح بأنه صعد، ولكنهم أحجموا عن مجادلة السفهاء -الجهمية- تعظيما لله، وتنزيها لرب البرية، وإذا أخبر -جل ذكره- أنه استوى على العرش وعلا وارتفع، وكل المخلوقات وسائر الكائنات تحت عرشه، وهو بذاته فوق ذلك، وفي الحديث: "أنت الظاهر فليس فوقك شيء"1. فإذا عرف هذا، عرف معنى اختصاص العرش بالاستواء، وأن هذه الصفة مختصة بالعرش، وقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم قال للرجل الذي قال له: إنا نستشفع بك على الله، وبالله عليك، قال: "الله أكبر، الله أكبر! إن شأن الله أعظم من ذلك، ويحك! أتدري ما الله؟ الله على عرشه -وأشار بيده كالقبة- وأنه ليئط به أطيط الرحل الجديد براكبه؟ "2. وهذا الحديث لا يستطيع سماعه الجهمي، ولا يؤمن به إلا أهل السنة والجماعة، الذين عرفوا الله بصفات كماله، وعرفوا عظمته، وأنه لا يليق به غير ما وصف به نفسه، من استوائه على عرشه، ونزهوه أن يستوي على ما لا يليق بكماله وقدسه من سائر مخلوقاته. [وصف الله بما وصف به نفسه] ومن أصول أهل السنة والجماعة: أنه -سبحانه- لا يوصف إلا بما وصف به

_ 1 مسلم: الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2713) , والترمذي: الدعوات (3400 ,3481) , وأبو داود: الأدب (5051) , وابن ماجه: الدعاء (3831) , وأحمد (2/ 381 ,2/ 404 ,2/ 536). 2 أبو داود: السنة (4726).

نفسه، ولم يصف نفسه بأنه استوى على شيء غير العرش؛ وكذلك رسله وأنبياؤه وورثتهم، لم يصفوه إلا بما وصف به نفسه، فإنكار هذا الجهمي اختصاص الاستواء بالعرش، تكذيب لما جاءت به الرسل، ورد لما فطر الله عليه بني آدم، من التوجه إلى جهة العلو، وطلب معبودهم وإلههم فوق سائر الكائنات.: {فَبُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} 1. وتخصيص العرش بالاستواء نص لا 2 لم يستو على غيره. والسائل أعجمي، لا خبرة له بموضوع الكلام ودلالاته. قال الحسن في مثل هؤلاء: دهمتهم العجمة. ونفي الاستواء عن غير العرش معلوم من السياق، مع دلالة النص والإجماع والفطرة، كذلك دلالة الأسماء الحسنى، كالعلي والأعلى والظاهر، ونحو ذلك، ولفظ العلو والارتفاع والصعود يشعر بذلك، ويستحيل أن يستوي على شيء مما دون العرش، لوجوب العلو المطلق والفوقية المطلقة. (وأما قوله): وهل أتى -سبحانه- بحرف الحصر والاختصاص؟ فدلالة الكلام على الحصر والاختصاص تارة تكون بالحروف، وتارة تكون بالتقديم والتأخير، وتارة تكون من السياق، وتارة تكون بالاقتصار على المذكور في الحكم، ولا يختص الاختصاص بالحروف قال -تعالى-: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} 3، وهذا الضمير الظاهر ليس من حروف الحصر، وإنما عرف واستفيد من التقديم والتأخير 4، وتارة يستفاد من الحروف، كقوله: "إنما الأعمال بالنيات"5 وكقوله: {أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} 6 وتارة من الاستثناء بإلا بعد النفي كقوله: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} 7، {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ

_ 1 سورة المؤمنون آية: 41. 2 والظاهر أن الأصل: في أنه إلخ. 3 سورة الفاتحة آية: 5. 4 أي من تقديم المفعول وهو "إياك" وتأخير عامله وهو "نعبد" و"نستعين". 5 البخاري: بدء الوحي (1) , ومسلم: الإمارة (1907) , والترمذي: فضائل الجهاد (1647) , والنسائي: الطهارة (75) والطلاق (3437) والأيمان والنذور (3794) , وأبو داود: الطلاق (2201) , وابن ماجه: الزهد (4227) , وأحمد (1/ 25 ,1/ 43). 6 سورة الكهف آية: 110. 7 سورة الأنبياء آية: 107.

خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ} 1، ونحو ذلك. والسائل حصرها يظنها منحصرة في الحروف، وهذا من جهله، ثم يسأل هنا عن أقسام الحصر، كم هي؟ وما الفرق بين حصر الأفراد وحصر القلب؟ والحصر الادعائي ومقابله، ويسأل هل دلالة الحصر نصية أو ظاهرية؟ وهل هي لفظية أو عقلية؟ وما أظنه يحسن شيئا من ذلك، وإذا أخبر -تعالى- أنه استوى على العرش فلا يقال: يجوز أنه استوى على غيره، لوجوه منها: أنه لا يوصف إلا بما وصف به نفسه، والتجاسر على مقام الربوبية بوصفه بما لم يصف به نفسه وزيادة نعت لم يعرف عنه، ولا عن رسله، قول على الله بغير علم، وهو فوق الشرك في عظم الذنب والإثم 2؛ وأكذب الخلق من كذب على الله. قال الله: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} 3 إلى قوله: {وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} 4. (الوجه الثاني): أن الله -سبحانه- يستحق من الصفات أعلاها وأجلها وأشرفها، والعرش أعظم المخلوقات، وهو سقفها الأعلى، وقد وصفه الله -تعالى- بالعظم، فقال: {رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} 5، وقال: {ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ} 6، ووصفه بالسعة فقال: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلا يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} 7. فكيف يوصف بالاستواء على ما دونه، وقد تمدح وأثنى على نفسه باستوائه عليه، ووصفه بما لم يصف به غيره من مخلوقاته. (الوجه الثالث): أن تمثيله بقول القائل: زيد استوى على الدار، وأن ذلك لا يعلم منه أنه لا يستوي على غيرها، فهذا جهل عظيم؛ والكلام يختلف

_ 1 سورة آل عمران آية: 144. 2 يعني أن هذا النوع من الكفر أعظم إثما من كفر الشرك، واستشهد عليه بالآية التي ذكرت أصول المحرمات بطريقة الترقي من الأدنى إلى ما فوقه تحريما وكفرا، وعال المحقق ابن القيم ذلك بأن الشرك كفر قاصر إثمه على صاحبه. والقول على الله بغير علم كفر متعد يضل به خلق كثير. 3 سورة الأعراف آية: 33. 4 سورة الأعراف آية: 33. 5 سورة التوبة آية: 129. 6 سورة البروج آية: 15. 7 سورة البقرة آية: 255.

باختلاف حال الموصوف، وما يليق له من الصفات، وأصل ضلال هذه الطائفة أنهم فهموا من صفات الله الواردة في الكتاب والسنة ما يليق بالمخلوق ويختص به، فلذلك أخذوا في الإلحاد والتعطيل، شبهوا أولا وعطلوا ثانيا. (الوجه الرابع:) أن هذا التمثيل الذي أبداه السائل قد نص القرآن على إبطاله، قال -تعالى-: {فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} 1؛ وأصل الشرك: تشبيه المخلوق بالخالق. [السؤال عن مكان الله تعالى] (فصل): قال الجهمي في ورقته: وإذا قررت لله مكانا معينا فما معنى قوله -تعالى-: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} 2، وقال: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} 3، وقال: {قَرِيبٍ} إنه وقال صلى الله عليه وسلم: "حيثما كنتم فإنه معكم". فإذا قلت: هذه الآيات مؤولة، وأقررت بالتأويل، فالآية الأولى أولى به، لأنها بلا تأويل تخالف الإجماع، وتعارض الآيات والأحاديث، أما الآيات الأخيرة فقد قيل في الأولى: إنها من المتشابهات لأن الاستواء معلوم، والكيف مجهول، وما نفي الاستواء عن غير العرش. هذا كلامه بحروفه نقلناه على ما فيه من التحريف واللحن، ليعتبر الناظر، ويعرف المؤمن المثبت حال هؤلاء الجهال الضلال الحيارى. أما قوله: "فإذا قررت لله مكانا معينا". فاعلم أن أهل السنة والجماعة ورثة الرسل، وأعلام الهدى لا يصفون الله إلا بما وصف به نفسه، أو وصفه به رسوله من غير زيادة ولا نقص، ينتهون حيث انتهى بهم تعظيما للموصوف، وخشية وهيبة وإجلالا. [مذهب أهل البدع في صفات الله تعالى] وأما أهل البدع فيخوضون في ذلك، ويصفونه بما لم يصف به نفسه، ويلحدون فيما وصف به نفسه، أو وصفه به رسوله، ولا يتحاشون من

_ 1 سورة النحل آية: 74. 2 سورة البقرة آية: 115. 3 سورة ق آية: 16.

الكلام في ذلك بالبدع التي لا تعرف. وقد ذم الله هذا الصنف في كتابه، ووصفهم بالخوض بما لم يأتهم عنه، ولا عن رسله. وذكر الله عن أهل النار أنهم قالوا لما قيل لهم: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ} 1، فوصفهم بالعتو عن طاعته، وعدم الانقياد لعبادته بقوله: {لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ} 2، ووصفهم بعدم الإحسان والمعروف بقوله: {وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ} 3، ووصفهم بالخوض في شأن دينهم وما جاءت به رسلهم، وعدم وقوفهم مع ما أمروا به، وتعديهم إلى ما يرونه ويهوونه بقوله: {وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ} 4، وهذا حال أهل البدع والضلالات، الذين لم يؤسسوا دينهم على ما جاءت به الرسل. إذا عرفت ذلك، فلفظ المكان لم يرد نفيا ولا إثباتا، وقد يراد به معنى صحيح كالعلو والاستواء، والظهور قد يراد به غير ذلك من الأماكن المحصورة. فالواجب ترك المشتبه، والوقوف مع نصوص الكتاب والسنة. فيقال لهذا الجهمي: نحن لا نقر لله من الصفات إلا ما نطق به الكتاب العزيز، وصحت به السنة النبوية، ولا يلزم من أثبت ذلك شيء من البدعيات والأوضاع المختلفة. [تفسير قوله تعالى: {فثم وجه الله}] وأما قوله: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} 5 فسياق الآية الكريمة يدل على أنها في شأن القبلة، قال ابن عباس: خرج نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر قبل تحويل القبلة، فأصابهم الضباب، وحضرت الصلاة، وصلّوا وتحرّوا القبلة، فلما ذهب الضباب استبان لهم أنهم لم يصيبوا، فلما قدموا سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فنزلت هذه الآية. وقال ابن عمر: نزلت في المسافر يصلي التطوع حيثما توجهت به راحلته. وقال عكرمة: نزلت في تحويل القبلة. وقال أبو العالية: عيرت اليهود المؤمنين لما

_ 1 سورة المدثر آية: 42. 2 سورة المدثر آية: 43. 3 سورة المدثر آية: 44. 4 سورة المدثر آية: 45. 5 سورة البقرة آية: 115.

صرفت القبلة، فنزلت هذه الآية وقال مجاهد والحسن: نزلت في الداعي يستقبل أي جهة كان، لأنهم قالوا لما نزلت: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} 1: أين ندعوه؟ قال الكلبي: {فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} 2: فثم الله يعلم ويرى، والوجه صلة، كقوله: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلََّا وَجْهَهُ} 3 أي: إلا هو. وقال الحسن ومجاهد وقتادة ومقاتل بن حيان: فثم قبلة الله، والوجه والوجهة والجهة: القبلة، وقوله: {وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} 4، ختم هذه الآية بهذين الاسمين الشريفين يشعر بما قاله الكلبي من أنه يعلم ويرى. ومن كان له أدنى شعور بعظمة الله وجلاله عرف صغر المخلوقات بأجمعها في جنب ما له -تعالى- من الصفات المقدسة، ولم يختلج في قلبه ريب ولا شك في الإيمان بهذه النصوص كلها، وعرف الجمع بينها وبين ما تقدم. فسبحان من جلت صفاته، عظمت أن يحاط بشيء منها. [معنى قرب الله تعالى من خلقه] وأما قوله: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} 5، فهذا القرب لا ينافي علوه على خلقه، واستواءه على عرشه، وفي الحديث: "وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء"6. ولا يعرف هذا من ضاق نطاقه عن الإيمان بما جاءت به الرسل، وإنما يعرفه رجال آمنوا بالله، وصدقوا المرسلين. ومن أسمائه: العلي الأعلى، ومن أسمائه: القريب المجيب، ومن أسمائه: الظاهر الباطن. وكذلك قوله -تعالى-: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ} 7 وقد حرّف السائل هذه الآية وقال: إنه قريب، وهذا قرب خاص يدعيه، وفي الحديث: "أقرب ما يكون العبد إلى ربه وهو ساجد"8، حال السجود غاية في العبودية والخضوع، ولذلك صار له قرب خاص لا يشبهه سواه، وهذا مما يبين لك بطلان قول الجهمي: "إنه بذاته في كل مكان". ولو كان الأمر كما قال الضال لم يكن للمصلي والداعي خصوصية بالقرب، ولكان المصلي وعابد

_ 1 سورة غافر آية: 60. 2 سورة البقرة آية: 115. 3 سورة القصص آية: 88. 4 سورة البقرة آية: 115. 5 سورة ق آية: 16. 6 مسلم: الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2713) , والترمذي: الدعوات (3400 ,3481) , وأبو داود: الأدب (5051) , وابن ماجه: الدعاء (3831) , وأحمد (2/ 381 ,2/ 404 ,2/ 536). 7 سورة البقرة آية: 186. 8 مسلم: الصلاة (482) , والنسائي: التطبيق (1137) , وأبو داود: الصلاة (875) , وأحمد (2/ 421).

الصنم سواء في القرب إليه -تعالى- الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا. [معية الله لعباده وقربه منهم] قال العلامة ابن القيم -رحمه الله-تعالى-: المعية نوعان: عامة، وهي: معية العلم والإحاطة، كقوله -تعالى-: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} 1، وقال: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} 2، وخاصة وهي معية القرب، كقوله: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} 3، {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} 4، {وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} 5. فهذه معية قرب تتضمن الموالاة والنصر والحفظ. وكلا المعيتين مصاحبة منه للعبد، لكن هذه مصاحبة اطلاع وإحاطة، وهذه مصاحبة موالاة ونصر وإعانة. فمع في لغة العرب للصحبة اللائقة لا تشعر بامتزاج ولا اختلاط ولا مجاورة ولا مجانبة، فمن ظن شيئا من هذا فمن سوء فهمه أُتِيَ. وأما القرب: فلم يقع في القرآن إلا خاصًّا، وهو نوعان: قربه من داعِيهِ بالإجابة، وقربه من عابده بالإثابة، فالأول كقوله -تعالى-: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} 6، ولهذا نزلت جوابا للصحابة -رضي الله عنهم- وقد سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أربُّنا قريب فنناجيه؟ أم بعيد فنناديه؟ فأنزل الله هذه الآية، والثاني كقول النبي صلى الله عليه وسلم: "أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد، وأقرب ما يكون العبد من ربه في جوف الليل"7: فهذا قربه من أهل طاعته. وفي الصحيح عن أبي موسى رضي الله عنه قال: "كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر فارتفعت أصواتنا بالتكبير فقال: يا أيها الناس اربَعُوا على أنفسكم! فإنكم لا تدعون أصم ولا غائبا. إن الذي تدعونه سميع قريب، أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته"8 فهذا خاص بالداعي دعاء العبادة والثناء والحمد.

_ 1 سورة الحديد آية: 4. 2 سورة المجادلة آية: 7. 3 سورة النحل آية: 128. 4 سورة البقرة آية: 153. 5 سورة العنكبوت آية: 69. 6 سورة البقرة آية: 186. 7 مسلم: الصلاة (482) , والنسائي: التطبيق (1137) , وأبو داود: الصلاة (875) , وأحمد (2/ 421). 8 البخاري: الجهاد والسير (2992) , ومسلم: الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2704) , والترمذي: الدعوات (3461) , وأبو داود: الصلاة (1526) , وأحمد (4/ 394 ,4/ 402 ,4/ 403 ,4/ 417).

وهذا القرب لا ينافي كمال مباينة الرب لخلقه، واستوائه على عرشه، بل يجامعه ويلازمه؛ فإنه ليس كقرب الأجسام بعضها من بعض تعالى الله علوا كبيرا، ولكنه نوع آخر. والعبد في الشاهد يجد روحه قريبة جدا من محبوب بينه وبينه مفاوز تنقطع فيها أعناق المطي، ويجده أقرب إليه من جليسه كما قيل: ألا رب من يدنو ويزعم أنه ... يحبك والنائي أحب وأقرب وأهل السنة أولياء رسول الله صلى الله عليه وسلم وورثته وأحباؤه الذي هو عندهم أولى بهم من أنفسهم، وأحب إليهم منها، يجدون نفوسهم أقرب إليه، وهم في الأقطار النائية عنه، من جيران حجرته في المدينة، والمحبون المشتاقون للكعبة البيت الحرام يجدون قلوبهم وأرواحهم أقرب إليها من جيرانها ومن حولها، هذا مع عدم تأتي القرب منها. فكيف بمن يقرب من خلقه كيف يشاء وهو مستو على عرشه؟ وأهل الذوق لا يلتفتون في ذلك إلى شبهة مبطل بعيد من الله خلي من محبته ومعرفته. والقصد أن هذا القرب يدعو صاحبه إلى ركوب المحبة، وكلما ازداد حبا ازداد قربا؛ فالمحبة بين قربين: قرب قبلها وقرب بعدها، وبين معرفتين: معرفة قبلها حملت عليها، ودعت إليها، ودلت عليها، ومعرفة بعدها هي من نتائجها وآثارها. [مسألة الاشتقاق] وأما مسألة الاشتقاق فينبغي أن يسأل هذا أولا ما معنى الاشتقاق، وما يراد به عند المحققين؟ وأنه زعم أنه أخذ الأسماء من مصادرها، وأن المصادر متقدمة، فهذا يلزم عليه سبق مادة أخذ منها الاسم، ومجرد القول بهذا لا يرتضى عند المحققين من أئمة الهدى. فإن عرف ذلك وأجابك عن معنى الاشتقاق على الوجه الذي أشرنا إليه فأخبره أن البصريين والكوفيين اختلفوا في الاسم من حيث هو هل مشتق من السمو أو من

السمة؟ ذهب البصريون إلى الأول، والكوفيون إلى الثاني. وأصله عند البصريين سمو على وزن فعل فحذفت لام الكلمة وهي الواو، ثم سكن أوله تخفيفا، ثم أتي بهمزة الوصل توصلا بالنطق بالساكن فصار "اسم"؛ وعليه فوزنه افع، ففيه إعلالات ثلاثة وهي: الحذف، ثم الإسكان، والإتيان بهمزة الوصل. وأما على مذهب الكوفيين فأصله وسم على وزن فعل حذفت فاء الكلمة، وهي الواو اعتباطا، ثم عوض عنها همزة الوصل، وعلى هذا فوزنه اعل. ويسأل عن معنى الإعلال وما يقابله، وعن الاشتقاق الأكبر والأصغر والكبير، وعن معنى الاشتقاق في الأكبر مع المباينة في أكثر الحروف ما معناه، فإذا أجابك عن هذا فأجبه عن سؤاله، وإلا فكيف يسأل عن التفاصيل من أضاع القواعد والجمل؟ [الفرق بين القدر والقضاء] وأما سؤاله عن الفرق بين القدر والقضاء، فإن القدر في الأصل مصدر قدر، ثم استعمل في التقدير الذي هو التفصيل والتبيين، واستعمل أيضا بعد الغلبة في تقدير الله للكائنات قبل حدوثها. وأما القضاء فقد استعمل في الحكم الكوني بجريان الأقدار وما كتب في الكتب الأولى. وقد يطلق هذا على القدر الذي هو التفصيل والتمييز، ويطلق القدر أيضا على القضاء الذي هو الحكم الكوني بوقوع المقدرات، ويطلق القضاء على الحكم الديني الشرعي، قال تعالى: {ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ} 1. ويطلق القضاء على الفراغ والتمام {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ} 2. ويطلق على نفس الفعل، قال تعالى: {فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ} 3. ويطلق على الإعلام والتقدم بالخبر قال تعالى: {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرائيل َ} 4. ويطلق على الموت ومنه قوله: قضى فلان أي مات، قال تعالى: {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا

_ 1 سورة النساء آية: 65. 2 سورة الجمعة آية: 10. 3 سورة طه آية: 72. 4 سورة الإسراء آية: 4.

رَبُّكَ} 1. ويطلق على وجود العذاب قال تعالى: {وَقُضِيَ الأَمْرُ} ويطلق على التمكن من الشيء وتمامه كقوله: {وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ} 2. ويطلق على الفصل والحكم كقوله: {وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ} 3. ويطلق على الخلق كقوله: {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ} 4. ويطلق على الحتم كقوله: {وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا} 5. ويطلق على الأمر الديني كقوله: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} 6. ويطلق على بلوغ الحاجة، ومنه: قضيت وطري، ويطلق على إلزام الخصمين بالحكم. ويطلق بمعنى الأداء كقوله تعالى: {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ} 7. والقضاء في الكل مصدر، واقتضى الأمر الوجوب دل عليه، والاقتضاء هو العلم بكيفية نظم الصيغة، وقولهم: لا أقضي منه العجب. قال الأصمعي: يبقى ولا ينقضي. وقال السائل: ما معنى قوله صلى الله عليه وسلم: "وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار"8، وأي شيء حقيقة البدعة، وهل يؤول الكلام أم لا؟ فإذا قلت: لا فأكثر ما تستعملونه في شرب القهوة ولبس المحارم وغيرها بدعة لا تثبت من الرسول صلى الله عليه وسلم ولا ممن يعتبر بهم. فجوابه أن يقال: هذا السؤال دليل على جهل السائل بالرواية والدراية وباللسان العربي، فكلام هذا الضرب من الناس يكفي من هداه الله، وفي هذا بيان جهلهم وضلالهم، أما جهله بالدراية فمن وجوه: أحدها: قوله: هل يؤول الكلام أم لا؟ والتأويل في عرف هؤلاء صرف الكلام عن ظاهره، وعن المعنى الراجح إلى المعنى المرجوح، ومن سلك هذه الطريقة في أخبار الرسول ونصوص القرآن فقد فتح على نفسه باب الإلحاد والزندقة، وليس في كلام الله وكلام رسوله ما ظاهره ومعناه الراجح

_ 1 سورة الزخرف آية: 77. 2 سورة طه آية: 114. 3 سورة الزمر آية: 69. 4 سورة فصلت آية: 12. 5 سورة مريم آية: 21. 6 سورة الإسراء آية: 23. 7 سورة البقرة آية: 200. 8 مسلم: الجمعة (867) , والنسائي: صلاة العيدين (1578) , وابن ماجه: المقدمة (45) , والدارمي: المقدمة (206).

غير المراد، لأن الظاهر هو اللائق بحال الموصوف وبلغة المتكلم وعرفه، لا ما يظنه الأغبياء الجهال مما لا يصح نسبته إلى الله وإلى رسوله. وكذلك قوله: أكثر ما تستعملونه من شرب القهوة ولبس المحارم بدعة، وهذا من أدلة جهله وعدم معرفته للأحكام الشرعية والمقاصد النبوية، فإن الكلام في العبادات لا في العادات، والمباحث الدينية نوع، والعادات الطبيعية نوع آخر، فما اقتضته العادة من أكل وشرب ولبس ومركب ونحو ذلك ليس الكلام فيه، والبدعة ما ليس لها أصل في الكتاب والسنة، ولم يرد بها دليل شرعي، ولم تكن من هديه -صلى الله عليه وسلم- وهدي أصحابه. وأما ما له أصل كإرث ذوي الأرحام وجمع المصحف والزيادة في حد الشارب وقتل الزنديق ونحو ذلك، فهذا -وإن لم يفعل في وقته صلى الله عليه وسلم- فقد دل عليه الدليل الشرعي، وبهذا التعريف تنحل إشكالات طالما عرضت في المقام. وأما ما فيه من جهة اللسان العربي، فإن هل لا تقابل بأم، لأن ما يقابل بأم همزة الاستفهام كما يعلم من محله، ومنها قوله: لا تثبت من الرسول، فإن الإثبات يتعدى بعن لا بمن، وكذلك قوله: ولا ممن يعتبر بهم، فإن الاعتبار نوع والاعتداد نوع آخر فيعتد بالصالحين، وأهل العلم، والاعتبار لا يختص بهم، بل لما ذكر تعالى فعل بني النضير بأنفسهم وديارهم قال: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ} 1. وذكر السائل سؤالا عن الترشيح والإطلاق أيهما أبلغ؟ وكذلك الإطلاق والتجريد، فينبغي أن يسأل عن الترشيح والإطلاق والتجريد ما يراد بهن عند أهل الفن؟ فإن عبارته تفيد عدم معرفته، إذ لا مقابلة بين الترشيح والإطلاق والتجريد في الأبلغية، فسؤاله نص ظاهر في جهله، فإن الترشيح يراد به تقوية الشبه بين المشبه والمشبه به بأن يذكر

_ 1 سورة الحشر آية: 2.

ما هو من خواص المشبه به كقوله: أنشبت المنية أظفارها، فإن هذا من ذكر التقوية بما هو من خواص المشبه به وهي الأظفار، فالترشيح قوى المعنى المراد. وأما الإطلاق في الاستعارة فيقابله التقييد، والتجريد معناه أن يجرد المتكلم من نفسه مخاطبا كقول الشاعر: . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . [اختلاف البلاغة باختلاف الأحوال] وأيضا فالبلاغة تختلف باختلاف الأحوال فتوصف بها الكلمة والكلام والمتكلم، وحقيقتها مطابقة الكلام مقتضى الحال، فإن كان الحال يقتضي الترشيح فهو أبلغ، وإلا فلكل مقام مقال. وأما الإخبار عن الاسم بالذي فهو كثير في القرآن وغيره قال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ} 1 فأخبر بالذي عن اسمه الشريف الذي هو أعرف المعارف، و (الذي) اسم أيضا بخلاف ما يفيده السؤال. وأما الإخبار عن اسم بأل فكقول الشاعر: ما أنت بالحكم الترضى حكومته وكذا كل فعل مضارع دخلت عليه أل. وأما الإخبار عن اسم من الأسماء بالذين فكقوله تعالى: {الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ} 2. وأما الإخبار بالذين فكقوله: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالأِنْسِ} 3. وقال تعالى: {وَالَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا} 4. وأما الكل والكلي، فالكل يراد به الجميع كقوله: كل المؤمنين يدخلون الجنة، والكلي ما يقع على الأكثر والغالب كقولك: كل بني تميم يحملون الصخرة العظيمة. يقول جامع الرسائل: هذا آخر ما وجد من هذه الرسالة، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.

_ 1 سورة الأنعام آية: 1. 2 سورة آل عمران آية: 172. 3 سورة فصلت آية: 29. 4 سورة النساء آية: 16.

الرسالة الحادية والأربعون: ما جرى من مفاسد العساكر التركية

الرسالة الحادية والأربعون [ما جرى من مفاسد العساكر التركية] وله أيضا -قدس الله روحه ونور ضريحه- منظومة فيما جرى من مفاسد العساكر والبوادي، وما حصل قبل ذلك من ظهور الإسلام وسوابغ الأيادي، بدعوة شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب -أجزل الله له الأجر والثواب، وأدخله الجنة بغير حساب ولا عذاب- فانتشرت بدعوته الملة الإسلامية، والطريقة المحمدية، واستقام الإسلام وانتشرت أعلام الجهاد، وانمحت آثار الضلالة والفساد. ولما كانت هذه المنظومة من جملة الرسائل والأجوبة على المسائل، وكانت من غرر القصائد، وبدائع الفوائد، وأشد ما يكون على الأعداء وثباتها، تعين بل وجب إثباتها. وقد أنشأها -رحمه الله- وهو إذ ذاك في شدة مقاساة أهوال تلك الفتن، ومعاناة أثقال تلك الحوادث والمحن، وقلة من المساعد، وكثرة من المعاند والمكايد، تغدو عليه الأراجيف وتروح، وتظهر أنياب النفاق إذ ذاك وتلوح، وثم من يقود المشركين، ويؤزهم على عباد الله الموحدين. وقد ابتلي الناس مع ذلك بجور الأئمة والولاة، واستباح الأموال والدماء طغاة الحضر والبوادي العتاة، وأصبح أهل الحق ما بين معاقب مكبل في الحديد، وما بين شريد في القبائل طريد. فاشتد البلاء وأعضل البأس، وكثر الجهل وعظم الالتباس، وقلت الديانة في كثير من الناس، وساروا إلى البلاد التي هجمت عليها العساكر، وظهرت بها أنواع الفسوق والمناكر. وصار لأهل الرفض والشرك بها الصولة، وكان لهم في تلك الجهات الغلبة والدولة، وضيعت بها أحكام الشريعة المطهرة، وظهرت بها أحكام الكفرة الفجرة، فبذل الجد والاجتهاد بإرسال الرسائل والنصائح، وحذرهم أسباب الندم والفضائح، كما قد مر عليك، ويأتي -إن شاء الله- من الرسائل في التغليظ في السفر والركون إليهم بأوضح البراهين والدلائل. والمنظومة جواب أبيات وردت عليه نحوا من عشرين بيتا فقال -رحمه الله وعفا عنه-: ورد من بعض الأدباء ما صورته: رسائل شوق دائم متواتره ... إلى فرع شمس الدين بدر المنابر سلالة مجد من كرام عشائره ... يعيد بديعا من كنوز المحابر

ويبدي لك التوحيد شمسًا منيرة ... ولكن أهل الزيغ عمي البصائر سقيا لعهدكمو 1 عهد الشريعة والتقى ... وتعظيم دين الله أزكى الشعائر مدارس وحي شرفت بأكابر ... على ملة بيضاء تبدو لسائر فيا راكبًا بلغ سلامي وتحفة ... تعزيه فيما قد مضى في العشائر وأعظم من ذا يا خليلي كتائب ... تهدم من ربع الهدى كل عامر ويبدو بها التعطيل والكفر والزنا ... ويعلو من التأذين صوت المزامر فقد سامنا الأعداء في كل خطة ... وأصل من الإسلام سوم المقامر أناخ لدينا للضلالة شيعة ... أباحوا حمى التوحيد من كل فاجر وقابلهم بالسهل والرحب عصبة ... على أمة التوحيد أخبث سائر يقولون: لكنا رضينا تقية ... تعود على أموالنا والذخائر فضحك ولهو واهتزاز وفرحة ... وألوان مأكول ونشوة ساكر مجالس كفر لا يعاد مريضها ... يراح إليها في المسا والبواكر ويرمون أهل الحق بالزيغ ويْحهم ... أما رهبوا سيفًا لسطوة قاهر وأما رباع العلم فهي دوارس ... تحن إلى أربابها والمذاكر مصاب يكاد المستجن بطيبة ... ينادي بأعلى الصوت هل من مثابر؟ فجد لي برد منك تبرد لوعتي ... ويحدى به في كل ركب وسامر وتنصر خلًّا في هواك مباعدًا ... ولولاك لم تبعث به أم عامر فأكثر أو أقلل ما لها الدهر صاحب ... سواك فقابل بالمنى والبشائر فأجاب -رحمه الله- بما يثلج الصدور، ويبعث الانشراح والسرور، ويحدى به في كل ركب وناد. وهذا نصه: رسائل إخوان الصفا والعشائر ... أتتك فقابل بالمنى والبشائر تذكرنا أيام وصل تقدمت ... وعهدًا مضى للطيبين الأطاهر ليالي كانت للسعود مطالعًا ... وطائرها في الدهر أيمن طائر

_ 1 كذا وهو مختل الوزن، ولعل أصله: سقى عهدكم إلخ.

وكان بها ربع المسرة آهلا ... تمتّع في روض من العلم زاهر وفيها الهداة العارفون بربهم ... ذوو العلم والتحقيق أهل البصائر محابرهم تعلو بها كل سنة ... مطهرة أنعم بها من محابر مناقبهم في كل مصر شهيرة ... رسائلهم يغدو بها كل ماهر وفيهم من الطلاب للعلم عصبة ... إذا قيل: من للمشكلات البوادر وفيها الحماة الناصرون لربهم ... معاقلهم شهب القنا والخناجر وهندية قد أحسن القين صقلها ... مجربة يوم الوغى والتشاجر ورومية خضراء قد ضم جوفها ... من الجمر ما يفري صميم الضمائر وكانت بهم تلك الديار منيعة ... محصنة من كل خصم مقامر غدت بهمو تلك الفتون وشتتوا ... فلست ترى إلا رسوما لزائر وحل بهم ما حل بالناس قبلهم ... أكابر عرب أو ملوك الأكاسر وبدل منهم أوجهًا لا تسرني ... قبائل يام أو شعوب الدواسر يذكرنيهم كل وقت وساعة ... عصائب هلكى من وليد وكابر وأرملة تبكي بشجو حنينها ... لها رنة بين الربى والمحاجر وهذا زمان الصبر من لك بالتي ... تفوز بها يوم اختلاف المصادر؟ {فصل} فيما جرى من مفاسد العساكر والبوادي: ودارت على الإسلام أكبر فتنة ... وسلت سيوف البغي من كل غادر وذلت رقاب من رجال أعزة ... وكانوا على الإسلام أهل تناصر وأضحى بنو الإسلام في كل مأزق ... تزورهمو غُرْث السباع الضوامر وهتّك ستر للحرائر جهرة ... بأيدي غواة من بواد وحاضر وجاؤوا من الفحشاء ما لا يعده ... لبيب ولا يحصيه نظم لشاعر

وبات الأيامى في الشتاء سواغبًا ... يبكين أزواجا وخير العشائر وجاءت غواش يشهد النص أنها ... بما كسبت أيدي الغواة الغوادر وجر زعيم القوم للترك دولة ... على ملة الإسلام فعل المكابر ووازره في رأيه كل جاهل ... يروح ويغدو آثما غير شاكر وآخر يبتاع الضلالة بالهدى ... ويختال في ثوب من الكبر وافر وثالثهم لا يعبأ الدهر بالتي ... تبيد من الإسلام عزم المذاكر ولكنه يهوى ويعمل للهوى ... ويصبح في بحر من الريب غامر وقد جاءهم فيما مضى خير ناصح ... إمام هدى يبني رفيع المفاخر وينقذهم من قعر ظَلما مضلة ... لسالكها حر اللظى والمساعر ويخبرهم أن السلامة في التي ... عليها خيار الصحب من كل شاكر فلما أتاهم نصر ذي العرش واحتوى ... أكابرهم كنْز اللهى والذخائر سعوا جهدهم في هدم ماقد بنى لهم ... مشايخهم واستنصحوا كل داغر وساروا لأهل الشرك واستسلموا لهم ... وجاؤوا بهم مع كل إفك وساحر ومذ أرسلوها أرسلوها ذميمة ... تهدّم من ربع الهدى كل عامر وباؤوا من الخسران بالصفة التي ... يبوء بها من دهره كل خاسر وصار لأهل الرفض والشرك صولة ... وقام بهم سوق الردى والمناكر وعاد لديهم للواط وللخنا ... معاهد يغدو نحوها كل فاجر وشُتت شمل الدين وانبتَّ حبله ... وصار مضاعا بين شر العساكر وأذَّن بالناقوس والطبل أهلها ... ولم يرض بالتوحيد حزب المزامر وأصبح أهل الحق بين معاقب ... وبين طريد في القبائل طائر فقل للغوي المستجير بظلمهم ... ستحشر يوم الدين بين الأصاغر

ويكشف للمرتاب أي بضاعة ... أضاع وهل ينجو مجير أم عامر؟ ويعلم يوم الجمع أي جناية ... جناها وما يلقاه من مكر ماكر * * * فيا أمة ضلت سبيل نبيها ... وآثاره يوم اقتحام الكبائر يعز بكم دين الصليب وآله ... وأنتم بهم ما بين راض وآمر وتهجر آيات الهدى ومصاحف ... ويحكم بالقانون وسط الدساكر هوت بكمو نحو الجحيم هوادة ... ولذات عيش ناعم غير شاكر سيبدو لكم من مالك الملك غير ما ... تظنون إن لاقى مزير المقابر يقول لكم ماذا فعلتم بأمة ... على ناهج مثل النجوم الزواهر سللتم سيوف البغي فيهم وعطلت ... مساجدهم من كل داع وذاكر وواليتمو أهل الجحيم سفاهة ... وكنتم بدين الله أول كافر نسيتم لنا عهدا أتاكم رسولنا ... به صارخا فوق الذرى والمنابر فسل ساكن الأحساء هل أنت مؤمن ... بهذا وما يحوي صحيح الدفاتر؟ وهل نافع للمجرمين اعتذارهم ... إذا دار يوم الجمع سَوء الدوائر؟ وقال الشقي المفتري: كنت كارها ... ضعيفا مضاعا بين تلك العساكر أماني تلقاها لكل متبّر ... حقيقتها نبذ الهدى والشعائر تعود سرابا بعدما كان لامعا ... لكل جهول في المهامه حائر * * * فإن شئت أن تحظى بكل فضيلة ... وتظهر في ثوب من المجد باهر وتدنو من الجبار -جل جلاله- ... إلى غاية فوق العلى والمظاهر فهاجر إلى رب البرية طالبا ... رضاه وراغم بالهدى كل جائر

الرسالة الثانية والأربعون: حكم نهب الأعراب

وجانب سبيل العادلين بربهم ... ذوي الشرك والتعطيل من كل غادر وبادر إلى رفع الشكاية ضارعا ... إلى كاشف البلوى عليم السرائر وكابد إلى أن تبلغ النفس عذرها ... وترفع من ثوب من العفو ساتر ولا تيأسنْ من صنع ربك إنه ... مجيب وإن الله أقرب ناصر ألم تر أن الله يبدي بلطفه ... ويعقب بعد العسر يسرًا لصابر؟ وأن الديار الهامدات يمدها ... بوبل من الوسمي هام وماطر فتصبح في رغد من العيش ناعم ... وتهتز في ثوب من الحسن فاخر الرسالة الثانية والأربعون [حكم نهب الأعراب] وله أيضا -قدس الله روحه ونور ضريحه- رسالة إلى عبد الله بن محمد بن عتيق، وقد سأله عن نهائب الأعراب، فأجابه -رحمه الله- بما ستقف عليه، وذكر -رحمه الله- أن من التزم الأحكام في التحليل والتحريم، وتحاشى من الاعتداء إلا على من اعتدى عليه، أنه لا يعجبه أكل ما أخذ منهم على هذا الوجه. فإذا عدمت هذه الأمور في بادية من البوادي قحطان أو غيرهم أو وجدت، فالحكم بحاله في جواز شرائه أو عدمه على الاستحباب، وهذا نص الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد اللطيف بن عبد الرحمن إلى الأخ عبد الله بن محمد بن عتيق -سلمه الله تعالى- سلام عليكم ورحمة الله وبركاته: وبعد: فأحمد إليك الله على نعمه. والخط وصل وما ذكرت من السؤال، فالذي جاءكم مع الخشل هو مما نهبوا من مال قحطان، ولا يخفاكم أن كثيرا

الرسالة الثالثة والأربعون: بيان مضار الفتنة ومفاسد العسكر

من قحطان يلتزم الأحكام في التحليل والتحريم ويتحاشى من الاعتداء عليه، ولا يعجبني أكل ما أخذ منهم على هذا الوجه. وأما نهائب الأعراب التي لا يعرف حال أهلها، فلبعض أهل العلم كلام في جواز شرائها وتملكها، وأما استحباب اجتناب ذلك، فهو طريقة جمهور أهل العلم، وصلى الله على محمد. الرسالة الثالثة والأربعون [بيان مضار الفتنة ومفاسد العسكر] وله أيضا -رحمه الله- منظومة أنشأها لما اشتدت الكربة، واستحكمت الغربة، وقل المعاون والمساعد، وكثر المخالف والمعاند، ودهمت فوادح معضلات الحوادث، وهجمت بكلاكلها الخطوب الأثائث، التي تشيب من أهوالها النواصي، وتعجز عن حمل أعبائها الجبال الرواسي. فأول ذلك الفتنة التي وقعت بين المسلمين، وانثل بها عرش الملة والدين، وانهدم بها سور الإسلام، وصار الأمر بأيدي البوادي الطغام، فانفجرت ذات البين، وانكشفت العورة لأهل الكفر والمين، فعند ذلك فدحت المعضلات العظام، وانهدمت أصول الدين والإسلام، وانطمست المعالم والأحكام، فقدمت العساكر إلى البلاد الإسلامية، فانكسفت شمس الرسالة المحمدية، وافتتن كثير من جهلة الناس، بفتوى من ينتسب إلى العلم من أهل الجهل والإفلاس، بأن تلك العساكر التي هجمت على بلاد أهل الإسلام، إنما جاؤوا لنصرة ذلك الإمام، فأنشأ هذه المنظومة من حرارة الجوى، وخوفا على الناس من سلوك مفاوز النوى، وأساء على من هلك بشبه المشبهين، وتمويهات الأئمة المضلين، ويذكر مآثر أهل الإسلام، الذين استجابوا لله ورسوله بدعوة شيخ الإسلام، وعلم الهداة الأعلام، الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وما كانوا عليه من المعتقد وحسن السيرة، وخلوص الطوية والسريرة، ويحذر من طريقة أقوام إنما نشؤوا في ظل عافية الإسلام، ولم يعرفوا ما عليه أهل الجاهلية من عبادة الأوثان والأصنام، والذرائع المفضية إلى الدخول في ولاية من حادّ الله ورسوله وموالاتهم، والرضا بأحكامهم وقوانينهم، وقد

حملت إليهم الأثقال، ورحلت الرواحل، واستفاء بظلهم من آثر العاجل وغمض الطرف عن الآجل، فكم هلك بسببهم من هلك، وانتظم في سلكهم من شك في دينه وارتبك، فنعوذ بالله من مضلات الفتن، ما ظهر منها وما بطن. وإذا أردت ترى مصارع من توى ... ممن تربص وارتضى بهوان 1 وتروم مصداق الذي قد قاله ... شيخ الوجود العالم الرباني فاستقرئ الأخبار ممن جاءهم ... ماذا رأوا من أمة الكفران نبذوا الكتاب وراءهم واستبدلوا ... عن ذاك بالقانون ذي الطغيان 2 وعن الأذان استبدلوا من زيغهم ... بالبوق تشريعا من الشيطان 2 وكذا مسبة ربنا سبحانه ... والجعل للأنداد للرحمان وكذاك شرب المسكرات مع الزنا ... وكذا اللواط وسائر النكران وكذلك الأرفاض قام شعارهم ... بل أظهروا كفرانهم بأمان هل يرتضي بالمكث بين ظهورهم ... عبد يشم روائح الإيمان؟ والله ما يرضى بهذا مؤمن ... أنى يكون وليس في الإمكان حاش الذي ما اسطاع يوما هجرة ... أو مظهر للدين ذا تبيان لكنما المقصود من لم يرفعوا ... رأسا بما قد جاء في القرآن أو صح في الأخبار عن خير الورى ... والصحب والأتباع بالإحسان ورضوا ولاية دولة قد عارضت ... أحكامه بزبالة الأذهان وضعوا قوانينا تخالف وحيه ... واستبدلوا الإيمان بالكفران 2

_ 1 هذا الشعر لجامع الرسائل. 2 يظهر أنه ضمن استبدل معنى استعاض؛ إذ لا يصح أن تكون بمعناها الأصلي المقتضي لدخول الباء على المبدل منه، ونصب البدل كقوله تعالى: {أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ}.

فسل المقيم بظلهم وحماهمو ... هل أنكروا ما فيه من طغيان؟ أو زايلوا أصحابه أو قاطعوا ... أخدانهم من كل ذي خسران لكنهم قد آثروا الدنيا على الأ ... خرى فيا سحقا لذي العصيان بل ليتهم كفوا عن استجلابهم ... من غاب من صحب ومن إخوان بل صح عن بعض الملا تسفيههم ... أحلام أهل الحق والإيمان تبا لهاتيك العقول وما رأت ... واستحسنت من طاعة الشيطان وقد قال الشيخ -رحمه الله- فيما تقدم من الرسائل: إن الإقامة ببلد يعلو فيها الشرك والكفر، ويظهر الرفض ودين الإفرنج ونحوهم من المعطلة للربوبية والإلهية، ويرفع فيها شعارهم، ويهدم الإسلام والتوحيد، ويعطل التكبير والتسبيح والتحميد، وتقلع قواعد الملة والإيمان، ويحكم بينهم بحكم الإفرنج واليونان، ويشتم السابقون من أهل بدر وبيعة الرضوان، فالإقامة بين ظهرانيهم -والحالة هذه- لا تصدر عن قلب باشرته حقيقة الإسلام والإيمان والدين، وعرف ما يحب من حق الله في الإسلام على المسلمين، بل لا يصدر عن قلب رضي بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيا. ثم إنه رحمه الله بذل الوسع بكتب الرسائل والنصائح، والتحذير عن أسباب الندم والفضائح، والمنظومة المشار إليها من كلامه -رحمه الله تعالى- مسودة ولم أجدها تامة، وهذا نص الموجود منها. قال -رحمه الله وعفا عنه-: دع عنك ذكر منازل ومغاني ... بدور أنس قد بدت وغوان وجؤزرا في روضة يشدو بها ... صوت النديم وشادن فتان لا تصغ للعشاق سمعك إنما ... منادمهم بين البرية عان والعشق داء قاتل ودواؤه ... في السنة المثلى عن الأعيان

قطع الوسائل والذرائع والتي ... بين الورى أحبولة الشيطان واقرأ كتاب الله إن رمت الهدى ... أو رمت ترقى ذروة الإحسان واعكف بقلبك في آرائك روضة ... مملوءة بالعلم والإيمان وانظر إلى تركيبه واعمل به ... إن كنت ذا بصر بهذا الشان هذا ولا ينجيك طب في التي ... ترجو بغير مشيئة الرحمن فاسأله في غسق الليالي والدجى ... يا دائم المعروف والسلطان وانظر إلى ما قاله علم الهدى ... عند ازدحام عساكر الشيطان أشكو إليك حوادثا أنزلتها ... فتركتني متواصل الأحزان من لي سواك يكون عند شدائدي ... إن أنت لم تكلأ فمن يكلاني لولا رجاؤك والذي عودتني ... من حسن صنعك لاستطير جناني واذكر مآثر أقوام قد انتدبوا 1 ... يوما لنصر الدين بالإحسان من صالحي الإخوان أعلام الهدى ... من أطدوا التوحيد ذا الأركان قامت بهم أركان شرعة أحمد ... وعلت سيوف الحق والإيمان وغدا الزمان بذكرهم متبسما ... يبدي سنا للطالب الولهان سارت بهم أبناء مجد في الورى ... يغشي سناها عابد الأوثان قد جددوا للدين أوضح منهج ... يبدي ضيًا للسالك الحيران حتى علا في عهدهم شأن الهدى ... وانقض ركن الشرك في الأديان أما العقائد إن ترد تحقيقها ... عنهم بلا شك ولا كتمان إن الإله مقدس سبحانه ... رب عظيم جل عن حدثان حقا على عرش السماء قد استوى ... ويرى ويسمع فوق ست ثمان

_ 1 هذا الشطر من بحر البسيط والقصيدة من بحر الكامل، فهو إما سهو من الناظم، وإما تحريف من الناسخ.

يعطي ويمنع من يشاء بحكمة ... في كل يوم ربنا ذو شان خضعت لعزة وجهه وجلاله ... حقا وجوه الخلق والأكوان بل كل معبود سواه فباطل ... من دون عرش للثرى التحتاني فاحذر توالي في حياتك غيره ... من كل معبود ومن شيطان واحذر طريقة أقوام قد افتتنوا 1 ... في حب أدنى أو خسيس فان واقطع علائق حبها وطِلابها ... إذ قطعوا فيها عرى الإيمان لهفي عليهم لهفة من والهٍ ... متوجعا من قلة الأعوان قد صاده المقدور بين معاشر ... في غفلة عن نصرة الرحمن واستبدلوا بعد الهدى طرق الهوى ... لما عموا عن واضح البرهان واقطع علائق حبهم في ذاته ... لا في هواك ونخوة الشيطان واهجر مجالس غيهم إذ قطعوا ... فيها عرى التوحيد والإيمان لا سيما لما ارتضاهم جاهل ... ذو قدرة في الناس مع سلطان لما بدا جيش الضلالة هادما ... ربع الهدى وشرائع الإحسان قوم سكارى لا يفيق نديمهم ... أبد الزمان يعود بالخسران قوم تراهم مهطعين لمجلس ... فيه الشقاء وكل كفر دان بل فيه قانون النصارى حاكما ... من دون نص جاء في القرآن بل كل أحكام له قد عطلت ... حتى النِّدا بين الورى بأذان ويرون أحكام النبي وصحبه ... في شرعه من جملة الهذيان ويرون قتل القائمين بدينه ... في زعمهم من أفضل القربان والفسق عندهمو فأمر سائغ ... يلهو به الأشياخ كالشبان

_ 1 يقال في هذا ما قيل في سابقه.

المنع في قانونهم وطريقهم ... غصب اللواط كذاك والنسوان فانظر إلى أنهار كفر فُجّرت ... قد صادمت لشريعة الرحمن بل لا يزال لجريها بين الورى ... من هالك متجاهل خوان والله لولا الله ناصر دينه ... لتفصمت فينا عرى الإيمان فالله يجزي من سعى في سدها ... من أمة التوحيد والقران والله يعطي من يشاء بفضلة ... فوق الجنان عطية الرضوان وكذا يجازي من سعى في رفعها ... ما قد أعد لصاحب الكفران يا رب وأحكم بيننا في عصبة ... شدوا ركائبهم إلى الشيطان سلوا سيوف البغي من أغمادها ... وسعوا بها في ذلة وهوان واستبدلوا بعد الدراسة والهدى ... بالقدح في صحب وفي إخوان صرفوا نصوص الوحي عن أوضعها ... وسعوا بها في زمرة العميان فتحوا الذرائع والوسائل للتي ... يهوى هواها عابدو الصلبان وسعوا بها في كل مجلس جاهل ... أو مشرك أو أقلف نصراني وقضوا بأن السير نحو يارهم ... في كل وقت جائز بأمان لم يفقهوا معنى النصوص ولم يعوا ... ما قال أهل العلم والعرفان ما وافق الحكم المحل ولا هو اسـ ... ـتوفى الشروط فصار ذا بطلان فادرأ بها في نحرهم تلقى الهدى ... وارجمهموا بثواقب الشهبان واقعد لهم في كل مقعد فرصة ... واكشف نوابغ جهلهم بيان حتى يعود الحق أبلج واضحًا ... يبدو سنا للسالك الحيران وقضوا بأن العهد باق للذي ... ولَّى الولاية شيعة الشيطان تبا لهم من معشر قد أشربوا ... حب الخلاف ورشوة السلطان

الرسالة الرابعة والأربعون: الظهار وتعليقه بالمشيئة

وقضوا له بالجزم أن متابه ... قد هد ما أعلى من البنيان وطلابه للأمر والحرب الوبي ... فعلى طريق العفو والغفران هذا آخر ما وجد منها، فرحمه الله وعفا عنه، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم. الرسالة الرابعة والأربعون [الظهار وتعليقه بالمشيئة] وله أيضا -قدس الله روحه ونور ضريحه- رسالة إلى الشيخ عبد الرحمن بن عدوان -رحمه الله-، وقد سأله عن قول الرجل لامرأته: أنت عليّ كظهر أمي إلا أن يشاء الله. فأجابه -رحمه الله- بما عليه أهل التحقيق في هذه المسألة، وبين له أن الواجب على المفتي والقاضي أن يتبصر، ويتعقل معاني الألفاظ والتراكيب قبل أن تزل قدم بعد ثبوتها، وهذا نص الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد اللطيف بن عبد الرحمن إلى الأخ المكرم عبد الرحمن بن عدوان. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. (وبعد): فاعلم أن قول الرجل لزوجته: أنت علي كظهر أمي إلا أن يشاء الله، إن فعلت كذا وكذا، ظهار لا يمنع وجوب الكفارة ما ذكره من الاستثناء بغير خلاف. وقول بعضهم إنما فيه كفارة كاليمين بالله والظهار لا يحنث إن استثنى فيه، وقال: إن شاء الله، محله إذا رجع الاستثناء إلى الفعل أو الترك لا على نفس اليمين. قال ابن مفلح -رحمه الله- في هذا المبحث: وكلامهم يقتضي أن رده - أي الاستثناء - إلى يمينه لم ينفعه لوقوعها ولتبين مشيئة الله، وبه احتج الموقع في: أنت طالق إن شاء الله.

وقال أبو يعلى الصغير في اليمين بالله ومشيئة الله: وتحقيق مذهبنا أنها تقف على إيجاد فعل أو ترك، فالمشيئة معلقة على الفعل، فإذا وجد تبينا أن الله شاءه وإلا فلا، وفي الطلاق المشيئة انطبقت على اللفظ بحكمه الموضوع، وهو الوقوع. انتهى. وقال شيخ الإسلام: الاستثناء إذا رجع إلى فعل أو ترك محلوف عليه، إنما يفيد أن الفعل المعلق أو الترك لا يتعين فعله لتعليقه، لأن الجزاء إذا وقع لا كفارة فيه. وقال -رحمه الله-*: الاستثناء إنما يقع لما علق به الفعل، فإن الأحكام التي هي الطلاق والعتاق ونحوها لا تعلق على مشيئة الله بعد وجود أسبابها، فإنها واجبة بوجوب أسبابها، فإذا انعقدت أسبابها فقد شاء الله تعالى، وإنما يعلق على المشيئة الحوادث قد يشاؤها الله، وقد لا يشاؤها. وقال في هذا المبحث أيضًا**: المشيئة تعود عند الإطلاق إلى الفعل المحلوف عليه، والمعنى إني حالف على هذا الفعل إن شاء الله فعله. فإذا لم يفعله لم يكن قد شاءه فلا يكون ملتزما له، وإلا فلو نوى عوده إلى الحلف بأن يقصد إني حالف إن شاء الله أن أكون حالفا، كان معنى هذا معنى الاستثناء في الاستثناءات كالطلاق والعتاق، وعلى مذهب الجمهور لا ينفعه. وأيضًا فإنها بفعل المحلوف عليه يتبين إن شاء الله فوقع ما علق عليه، ومن فقه هذا عرف معنى كلام الفقهاء، وأما المراد بالاستثناء المانع من الحث. والواجب على المفتي والقاضي أن يتبصر ويتعقل معاني الألفاظ والتراكيب قبل أن تزل قدم بعد ثبوتها وما أحسن ما قيل: والعلم ليس بنافع أربابه ... ما لم يفد نظرًا وحسن تبصر

_ * مجموع الفتاوى 35/ 286. [معد الكتاب للمكتبة الشاملة] ** القواعد النورانية الفقهية ص 348، ومجموع الفتاوى 35/ 285. [معد الكتاب للمكتبة الشاملة]

الرسالة الخامسة والأربعون: التحريض على لزوم الجماعة

وأيضا، فإن الظاهر في مثل هذه الصورة لا يقبل منه دعوى الاستثناء لو كان راجعًا إلى الفعل إلا ببينة عادلة، لأن الظهار ثبت بشهادة الغير فلا بد من شاهد على الاستثناء. ثم لو سلمنا أنه ثبت بإقراره أو من جهته، فدعواه الاستثناء لا تقبل أيضا لأنها له وإقراره بالظهار عليه. وفي الحديث: "لو يعطى الناس بدعواهم"1 الحديث. وقال شيخ الإسلام*: والتحقيق أن يقال: إن المخبر إن أخبر بما على نفسه فهو مقر، وإن أخبر بما على غيره لنفسه فهو مدع. (قال جامع الكتاب): هذا آخر ما وجدت من هذه الرسالة، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات. الرسالة الخامسة والأربعون [التحريض على لزوم الجماعة] وله أيضا -قدس الله روحه وعفا عنه- رسالة إلى سالم بن سلطان أمير الشارقة من ساحل عمان يحرضه على لزوم الجماعة، والانحياز إلى المسلمين، وترك المفارقة ونبذ الطاعة، وذلك بعدما حصل الخلل في المسلمين بسبب الفتنة التي بين آل سعود ومقتل تركي بن أحمد السدير أمير آل سعود في عمان، فخرج عزان الإباضي فاستولى على ممالك المسلمين التي بتلك الجهات إلا ما كان من سالم بن سلطان؛ فإنه لم ينزع يدا من طاعة، ولم يفارق الجماعة، فكتب له الشيخ يحضه على الثبات والانحياز إلى المسلمين، وعدم الدخول تحت طاعة عزان الإباضي ومن ساعده من الجهمية والمشركين، وهذا نص الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد اللطيف إلى الأمير المكرم سالم بن سلطان -سلمه الله تعالى-. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: فأحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو على نعمه، وبلغنا خبر

_ 1 البخاري: تفسير القرآن (4552) , ومسلم: الأقضية (1711) , والنسائي: آداب القضاة (5425) , وابن ماجه: الأحكام (2321) , وأحمد (1/ 342 ,1/ 351 ,1/ 363). * الاختيارات الفقهية ص 646، والمستدرك على مجموع الفتاوى 5/ 215. [معد الكتاب للمكتبة الشاملة]

الفتنة التي حصلت عندكم من عزان ومن اتبعه ممن استزلهم الشيطان، وبلغنا أنك لم تشهد هذا المشهد ولم تحضر ما جرى في ذلك العهد، وسرنا هذا لأنا نحب لكم ما جرى عليه أسلافكم من الانحياز إلى المسلمين، ولزوم الجماعة، وترك المفارقة، ونبذ الطاعة، فالله سبحانه يبتلي العبد على حسب إيمانه ليعلم الذين صدقوا ويعلم الكاذبين. فعليكم بالجد والاجتهاد فيما يحفظ الله به عليكم الإيمان والتوحيد، وينجيكم من الركون إلى أهل الكفر والإشراك والتنديد. قال تعالى: {وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ} 1، وقال تعالى: {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} 2 الآية، وقال تعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} 3، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} 4، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} 5 فتأمل قوله تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} 6، فإن هذا الحرف وهو "إن" الشرطية تقتضي نفي شرطها إذا انتفى جوابها، ومعناه أن من اتخذهم أولياء فليس بمؤمن. فعليكم بتقوى الله ولزوم طاعته والعمل لوجهه، واحذروا أن يضيع الإسلام لديكم، أو يلتبس الحق عليكم: {فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا

_ 1 سورة هود آية: 113. 2 سورة المجادلة آية: 22. 3 سورة المائدة آية: 78. 4 سورة الممتحنة آية: 1. 5 سورة المائدة آية: 57. 6 سورة المائدة آية: 57.

السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} 1. نسأل الله لنا ولكم الثبات في الأمر والاستقامة على الرشد وأن لا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا، وأن لا ينْزع عنا ما من به علينا من الإيمان والتوحيد بعدما تفضل علينا وأعطانا، وقد وعد الله عباده المؤمنين وحزبه المفلحين بالنصر والظفر وحسن العاقبة قال تعالى: {وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} 2، وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} 3، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} 4. وقد كتبنا هذا تذكرة، ولم يبلغنا عنك في فتنة عزان ما يوجب اتهامك، ولكن أحببنا الموعظة، والتذكرة والواصل إليك ولدنا علي بن سليم بتدبير الإمام بتذكير أهل الإسلام وحثهم على الثبات، والتمسك بدين الله الذي ارتضاه لنفسه، واختار القدوم عليكم لأنكم أخص، والله الموفق الهادي وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.

_ 1 سورة النحل آية: 94. 2 سورة الصافات آية: 173. 3 سورة النحل آية: 128. 4 سورة التوبة آية: 123.

الرسالة السادسة والأربعون: بيان خطبة الشيخ عبد اللطيف في الفتنة بين سعود وأخيه

الرسالة السادسة والأربعون [بيان خطبة الشيخ عبد اللطيف في الفتنة بين سعود وأخيه] وله أيضا -قدس الله روحه ونور ضريحه- رسالة إلى الشيخ حمد بن عتيق في شأن الفتنة الواقعة بين آل سعود، وكيف كان أول هذه الفتنة وآخرها، وقد تقدم نظيرها إلى أهل الحوطة، ولكن هذه أبسط. فصّل الشيخ رحمه الله فيها ما عنده وشرحه كأن الشيخ حمد قد كتب إليه بما عنده في ذلك وأوضحه، وقد حثه فيها -رحمه الله- على بذل الجد والاجتهاد في تحريض الناس على جهاد أعداء الله ورسوله الذين قلعوا أصول الدين والإسلام، وهدموا قواعده العظام، وطمسوا منه المنار والأعلام، وعطلوا الأحكام الشرعية وأظهروا القوانين الإفرنجية. وهذه وظيفة العلماء قديما وحديثا يتواصون بالنصح لعباد الله وردهم إليه تحضيضا وحثا، وليس من شأنهم السكوت، وتمشية الحال على أي حال كما هي حال من لا غيرة له على دين الله من أئمة الجهل والضلال، الذين يرون أن الكف لهم أسلم وأن هذا الرأي أحكم، وهذا نص الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد اللطيف بن عبد الرحمن إلى الأخ المكرم حمد بن عتيق، سلمه الله تعالى ونصر به شرعه ودينه، وثبت إيمانه ويقينه. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد فأحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو على حلو نعمه، ومر بلوائه وبديع حكمه. والخط وصل، وما ذكرت صار معلوما، وكتبت لك خطا أولا على نشر النصائح، وكتب الرسائل لأني استعظمت ما فعل سعود من خروجه على الأمة وإمامها، يضرب برها وفاجرها إلا من أطاعه وانتظم في سلكه، و (عبد الله) له بيعة وله ولاية شرعية في الجملة. ثم بعد ذلك بدا لي

منه أنه كاتب الدولة الكافرة الفاجرة، واستنصرها واستجلبها على ديار المسلمين فصار كما قيل: والمستجير بعمرو عند كربته ... كالمستجير من الرمضاء بالنار فخاطبته شفاها بالإنكار والبراءة، وأغلظت له بالقول أن هذا هو هدم لأصول الإسلام، وهدم لقواعده، وفيه، وفيه، وفيه مما لا يحضرني تفصيله الآن؛ فأظهر التوبة والندم وأكثر الاستغفار، وكتبت على لسانه لوالي بغداد أن الله قد أغنى ويسر وانقاد لنا من أهل نجد والبوادي ما يحصل به المقصود -إن شاء الله-، ولا حاجة لنا بعساكر الدولة، وكلام من هذا الجنس. وأرسل الخط فيما أرى، وتبرأ مما جرى، فاشتبه علي أمره وتعارضا عندي موجب إمامته ومبيح خلعه، حتى نزل سعود بمن معه من أشرار نجد وفجارها ومنافقيها، فعثا في الأرض بسفك الدماء، وقطع الثمار وإخافة الأرامل والمحصنات، وانتهاك حرمة اليتامى والأيامى. هذا وأخوه منحصر في شعب الحائر، وقد ظهر عجزه واشتهر، وأهل البلد معهم من الخوف ومحبة المسارعة إليه ما قد عرف. فرأيت من المتعين على مثلي الأخذ على يد أهل البلاد، والنّزول إلى هذا الرجل والتوثق منه ودفع صولته، حقنا لدماء المسلمين، وصيانة لعوراتهم ونسائهم، وحماية لأموالهم وأعراضهم. وكان لم يعهد لي شيئا، ولكن الأمر إذا لم يدرك كان الرأي فيه أصوبه وأكمله وأعمه نفعا. فلما واجهت سعودا وخاطبته فيما يصلح الحال بينه وبين أخيه اشترط شروطا ثقالا على أخيه، ولم يتفق الحال، فصارت الهمة فيما يدفع الفتنة، ويجمع الكلمة، ويلم الشعث ويستدرك البقية، وخشيت من عنوة على البلدة يبقى عارها، بعد سفك دمائهم ونهب أموالها، والسفاح

بنسائها لما رأيت أسباب ذلك متوفرة، وقد رفع الإيمان بالله ورسله والدار الآخرة، وخرج عرفاؤه والمعروفون من رجالها فبايعوا سعودا بعدما أعطاهم على دمائهم وأموالهم محسنهم ومسيئهم عهد الله وأمانه عهدا مغلظا؛ فعند ذلك كتبت إليك الخط الثاني بما رأيت من ترك التفرق والاختلاف ولزوم الجماعة. وبعد ذلك أتانا النبأ الفادح الجليل، والخطب الموجع العظيم، الذي طمس أعلام الإسلام، ورفع الشرك بالله وعبادة الأصنام، في تلك البلاد التي كانت بالإسلام ظاهرة، ولأعداء الملة قاهرة، وذلك بوصول عساكر الأتراك واستيلائهم على الحسا والقطيف يقدمهم طاغيتهم داود بن جرجيس، داعيا إلى الشرك بالله وعبادة إبليس؛ فانقادت لهم تلك البلاد، وأنزلوا العساكر بالحصون والقلاع، ودخلوها بغير قتال ولا نزال، فطاف بهم إخوانهم من المنافقين، وظهر الشرك برب العالمين، وشاعت مسبة أهل التوحيد والدين، وفشا اللواط والمسكر والخبث المبين، ولم ينتطح في ذلك شاتان، لما أوحاه وزينه الشيطان، من أن القوم أنصار لعبد الله بن فيصل. فقبل هذه الحيلة من آثر الحياة الدنيا وزينتها، على الإيمان بالله ورسله وكف النفس عن هلاكها وشقاوتها. وبعضهم يظن أن هذه الحيلة لها تأثير في الحكم لأنهم لم يستضيئوا بنور العلم، ولم يلجؤوا إلى ركن وثيق. بل بلغني أن بعض من يدعي طلب العلم يحتج بقول شاذ مطرح، وهو أن لولي الأمر أن يستعين بالمشرك عند الحاجة، ولم يدر هذا القائل أن هذا القول يحتج قائله بمرسل ضعيف مدفوع بالأحاديث المرفوعة الصحيحة، وأن قائله اشترط أن لا يكون للمشركين رأي في أمر المسلمين ولا سلطان، لقوله تعالى: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ

الرسالة السابعة والأربعون: الحث على الجهاد

لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} 1. فكيف بما هو أعظم من ذلك وأطم من الانسلاخ الكلي، والخدمة الظاهرة لأهل الشرك. إذا عرفت هذا عرفت شيئا من جناية الفتن، وأن منها قلع قواعد الإسلام، ومحو أثره بالكلية. وعرفت حينئذ أن هذه الفتنة من أعظم ما طرق أهل نجد في الإسلام، وأنها شبيهة بأول فتنة وقعت فيه، فالله الله في الجد والاجتهاد، وبذل الوسع والطاقة في جهاد أعداء الله وأعداء رسله قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ} 2، إلى أمثال ذلك في القرآن يعرفها الخبير بهذا الشأن. هذا ما عندي في هذه الحادثة قد شرحته وبسطته كما ذكرت لي ما عندك. وأسأل الله أن يهديني وإياك إلى صراطه المستقيم، وأن يمُنّ علينا وعليك بمخالفة أصحاب الجحيم، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم. الرسالة السابعة والأربعون [الحث على الجهاد] وله أيضًا -قدس الله روحه ونور ضريحه- رسالة إلى الشيخ حمد بن عتيق أيضا يحضه على الغلظة في معاداة من والى المشركين، وركن إليهم أو سافر إلى بلادهم، وشهد كفرياتهم ومبارزتهم لرب العالمين، لأن بعضا ممن ينتسب إلى العلم والدين ما كبر همه بهذه القضية، ولا عرف المصيبة والرزية، وبعضا أنكر وتبرأ لكن مع الهُوَينا ولين الجانب، وهذا لا يستقيم معه إسلام بل هو للهدي النبوي مجانب، وهذا نص الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد اللطيف بن عبد الرحمن إلى الأخ المكرم الشيخ حمد بن عتيق -سلمه الله تعالى وفرج له من كل هم وضيق.

_ 1 سورة النساء آية: 141. 2 سورة آل عمران آية: 187.

سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: أوصيك بتقوى الله، والصدق في معاملته، ونصر دينه والتوكل عليه في ذلك، وأكثر الناس استنكروا الإنكار على من والى عساكر المشركين وركن إليهم وراح إلى بلادهم، وشهد كفرياتهم ومبارزتهم لرب العالمين، بالقبائح والكفريات المتعددة. هذا مع قرب العهد بدعوة شيخنا، والقراءة في تصانيفه ورسائله وأصوله، وهذا مما يستبين به ميل النفوس إلى الباطل ومسارعتهم إليه ومحبتهم له، قال تعالى: {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ} 1، ويبلغنا عنك ما يسر، ولكننا نرجو لنا ولك فوق ذلك مظهرا، وبعض الإخوان ما كبر همه بهذه القضية، ولا اشتد إنكاره ولا ظهر منه غضب لله ولا حمية لدينه، وأنفة من ذهاب الإسلام وهدم قواعده. وإن أنكر بعضهم وذم ذلك، وتبرأ منه لكنه مع الهُوَينا في ذلك ولين الجانب ومحبته للأغراض وعدم البحث. وأظن الشيطان قد بلغ مراده منهم في ذلك، واكتفى به لما فيه من الغرض ولعلمه بغائلته وغايته، وأن الدين لا يستقيم معه قال تعالى: {فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا} 2 أي: بالقرآن. وللشيطان وأعوانه غرض في المداهنة لأنها وسيلة إلى السلم، ووضع الحرب بين الطائفتين قال تعالى: {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} 3 شعرا: وثمود لو لم يدهنوا في ربهم ... لم تُدْم ناقتهم بسيف قدار فعليك بالجد والحذر من خدع الشيطان. جعلنا الله وإياك من أنصار السنة والقرآن. ثم قال -رحمه الله تعالى-: ولا تدخر حض أهل الأفلاج، وحثهم على جهاد هذه الطائفة الكافرة. وأهل نجد كادهم الشيطان وبلغ مبلغا عظيما

_ 1 سورة المؤمنون آية: 71. 2 سورة الفرقان آية: 52. 3 سورة القلم آية: 9.

وصل بهم إلى عدم الوحشة من أكفر خلق الله، فأضلهم عن سواء السبيل الذين جمعوا بين الشرك في الإلهية والشرك في الربوبية وتعطيل صفات الله، ومعهم جملة من عساكر الإنكليز، المعطلة لنفس وجود الباري القائلين بالطبائع والعلل وقدم العالم وأبديته، وبلغنا أنهم كتبوا خطوط الجهات بنجد مضمونها: إنا مسلمون نشهد أن لا إله إلا الله ونحو هذا الكلام، وبسطوا القول في أمر الدولة والترهيب منهم والترغيب فيهم. إذا عرفت هذا، فاعلم أن الله قد استخلفكم في الأرض بعد ذلك القرن الصالح لينظر كيف تعملون، فاحذر أن تلقاه مداهنا في دينه، أو مقصرا في جهاد أعدائه، وفي النصح له ولكتابه ولرسوله، واجعل أكثر درسك في هذا، ولو اقتصدت في التعليم، والقلوبُ أوعية يعطى كل وعاء بحسبه. (يقول جامع الرسائل): وقد اختصر هذه الرسالة من نقلها لنا، فقال: هذا منقول، وما بعده من كلام الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن -رحمه الله وعفا عنه-. ثم قال الناقل: قال -رحمه الله-: وأما مسألة دعوى المودع انتقال الوديعة إليه بالبيع فهذا مما لا يقبل قوله فيه، بل حكمه حكم سائر المودعين، وكلام الفقهاء صريح في أنه لا يقبل قوله مطلقا، بل فيه مسائل مخصوصة بعضهم اكتفى بعدها عن حدها، وما عداها فهو باق على أصله. وقد أشار بعضهم إلى ذلك في الكلام على قبول قول الأمين في المضاربة وغيرها من مسائل هذا الباب، وعموم قولهم في باب الدعاوي والبينات داخل فيه ما لم ينص على استثنائه. وإن وقفت على كلام

خاص في هذه المسألة رفعته إليك إن شاء الله، وذكر ابن رجب في شرح الأربعين في شرح حديث: "لو يعطى الناس بدعواهم" 1 شيئا من تعريف المدعي، فراجعه إن شئت. وأما الفرق بين الفلاسفة الإلهيين والفلاسفة المشائين فذكر شارح رسالة ابن زيدون أن المشائين أفلاطون ومن اتبعه؛ وأنهم أول من قال بالطبائع، وتكلم فيها وأمر بالرياضة والمشي لمعاونة قوة الطبيعة، وتحليل ما يضادها من الأخلاط، وأمر بالمشي والرياضة عند المذاكرة في مسائل الطبيعة فسموا مشائين لهذا. وأما الإلهيون فهم قدماؤهم من أهل النظر والكلام في الأفلاك العلوية وحركاتها، وما يزعمونه وينتحلونه من إفاضتها وتأثيرها. وفي اللغة إطلاق الإله على المدبر والمؤثر كما يطلق على المعبود، وقد عرفت أن جمهورهم وقدماءهم ليسوا مما جاءت به الرسل في شيء، ومذهبهم أكفر المذاهب وأبطلها وأضلها عن سواء السبيل 2. وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.

_ 1 البخاري: تفسير القرآن (4552) , ومسلم: الأقضية (1711) , والنسائي: آداب القضاة (5425) , وابن ماجه: الأحكام (2321) , وأحمد (1/ 342 ,1/ 351 ,1/ 363). 2 إن شارح قصيدة ابن زيدون أديب قليل البضاعة في الفلسفة فهو لم يبين حقيقة هؤلاء الفلاسفة المعروفة في كتب الفلسفة وتاريخ الفلاسفة، ومن هؤلاء الفلاسفة الذين ذكرهم من يؤمنون بالبرهان العقلي بأن للعالم ربا عليما حكيما قديرا متصفا بالكمال منزها عن النقص، ويدعون إلى الفضائل، وينفرون من الرذائل بحسب ما وصل إليه علمهم واجتهادهم، ولكن توحيدهم وعلمهم بالإلهيات والآداب لا يتفق مع كل ما جاء به الرسل -عليهم الصلاة والسلام- وأنّى لهم ذلك، وهو يتوقف على الوحي ولا يستقل به العقل. وهم على مذاهب أكفرها وأبطلها وأضلها مذهب الماديين الذين ينكرون كل ما وراء المادة التي تعرف بالحواس وقواها.

الرسالة الثامنة والأربعون: الحث على الدعوة إلى الله ونشر العلم بين الناس

الرسالة الثامنة والأربعون [الحث على الدعوة إلى الله ونشر العلم بين الناس] وله أيضا -قدس الله روحه ونور ضريحه- رسالة إلى الشيخ حمد بن عتيق أيضًا يحضه على الدعوة إلى الله، وبث العلم ونشره في الناس خصوصا التحذير عن موالاة أعداء الله ورسله، والحث على جهادهم واستنقاذ بلاد المسلمين من أيديهم، وهذا نصها: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن إلى الأخ المكرم الشيخ حمد بن عتيق، سلمه الله تعالى ووفقه للصبر واليقين، ورزقه الهداية بأمره والإمامة في الدين. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: فأحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، وهو للحمد أهل، وأسأله الثبات على دينه الذي رغِب عنه الجاهلون، ونكب عنه المبطلون. والخط وصل وسرني ما فيه من الإخبار عن عافيتكم وسلامتكم والحمد لله على ذلك. وما ذكرته صار معلوما، لا سيما ما أشرت إليه من حال الجاهلين، وخوضهم في مسائل العلم والدين، وليس العجب ممن هلك كيف هلك إنما العجب ممن نجا كيف نجا. قال تعالى: {وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ} 1. والواجب على من يرزقه الله علما وحكمة أن يبثه في الناس، وينشره لعل الله أن ينفع به، ويهدي على يديه من أدركته السعادة وسبقت له الحسنى. واعلم أن الإمام سعودا قد عزم على الغزو والجهاد كتبت لك خطا فيه الإلزام بوصول الوادي وحث من فيه من المسلمين

_ 1 سورة البينة آية: 4.

على الجهاد في سبيل الله، واستنقاذ بلاد المسلمين من أيدي أعداء الله المشركين. وقد بلغك ما صار من صاحب بريدة وخروجه عن طاعة المسلمين، ودخوله تحت طاعة أعداء رب العالمين، ونبذ الإسلام وراء ظهره. كذلك حال البوادي والأعراب استخفهم الشيطان، فأطاعوه وتركوا ما كانوا عليه من الانتساب إلى الإسلام. فتوكل على الله واحتسب خطواتك وكلماتك وحركاتك وسكناتك، وشمِّر عن ساعد جدك واجتهادك، فقد اشتد الكرب، وتفاقم الهول والخطب والله المستعان. وقد عرفت القراء في زمانك وأن أكثرهم قد راغ روغان الثعالب، فلا يؤمن على مثل هذه المقاصد والمطالب، والله سبحانه المسؤول المرجو الإجابة أن يمن علينا وعليك بالتوفيق والتسديد، وأن ينفع بك الإسلام والتوحيد: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} 1. يا سعد إنا لنرجو أن تكون لنا ... سعدا ومرعاك للزوار سعدانا وأن يضر بك الرحمن طائفة ... ولت وينصر من بالخير والانا وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.

_ 1 سورة العنكبوت آية: 69.

الرسالة التاسعة والأربعون: غربة الدين وقلة الأنصار

الرسالة التاسعة والأربعون [غربة الدين وقلة الأنصار] وله أيضا رحمه الله- رسالة إلى الشيخ حمد بن عتيق أيضا، وهذا نصها: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد اللطيف بن عبد الرحمن إلى الأخ المكرم الشيخ حمد بن عتيق، أمده الله بالتسديد والتوفيق، وأذاقه حلاوة الإيمان والتحقيق. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: فأحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو على نعمه. والخط وصل مع الغزو، وما ذكرت صار معلوما، وأرجو أن الله يسدد أمر ولي المسلمين، ويمُنّ عليه بمعرفة هذا الدين، والرغبة فيه، واتباع ما منّ الله به من الهدى الذي جاءت به رسله. وأكثر الناس ما رغبوا في هذا ولا رفعوا به رأسا، ونشكو إلى الله ما نحن فيه من غربة الدين وقلة الأنصار وما ذكرت من جهة ... 1 وأنك ترى العفو والصفح، فاعلم أن الحق في ذلك لله، والواجب على المسلم تغيير المنكر بحسب الاستطاعة، وليس له العفو والصفح إلا في حق نفسه؛ وما ورد من النصوص في الصفح عن أعداء الله إنما هو في الآي المكية، وقد صرح القرآن بنسخه وجاءت السنة ببيان ذلك، ولم يرد في الآيات المدنية الأمر بالصفح عن المشركين وأعداء الدين، بل جاء الأمر بجهادهم والغلظة عليهم في غير موضع، وجاء الأمر بإعلان الإنكار على المجاهر من الفساق ولو كان مسلما، ومن جاهر بالمعاصي ونصرة

_ 1 بياض بالأصل.

أولياء المشركين فلا حرمة لعرضه، ولا يشرع الستر عليه بترك الإنكار، وفي قصة حاطب ما يدلك على هذا، وهو صحابي بدري، وقد قال تعالى: {وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} 1. وقد ذكر ابن القيم طرَفا من الفروق في كتاب الروح، فينبغي مراجعته ومعرفة حدود ما أنزل الله على رسوله. ومثلك يقتدى به، وقد نفع الله بإنكارك وشدتك على أهل الزيغ، فلا ينبغي العدول إلى خيال لا يعرج عليه؛ وقد عرفت حال أهل وقتك من طلبة العلم، وأنهم ما بين مجاهر بإنكار الحق قد لبس عليه أمر دينه، أو مداهن مع هؤلاء ومع هؤلاء، غاية قصده سلوكه مع الناس وإرضاؤهم، أو ساكت معرض عن نصرة الحق ونصرة الباطل يرى الكف أسلم، وأن هذا الرأي أحكم. هذا حال فقهاء زمانك فقُل لي: من يقوم بنصر الحق وبيانه وكشف الشبه عنه ونصرته إذا رأيت السكوت والصفح كما في البيتين اللذين في الخط؟ فينبغي النظر في زيادة قيد في تلك الأبيات لئلا يتوجه الإيراد، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.

_ 1 سورة النور آية: 2.

الرسالة الخمسون: جواب عن سؤال في حديث جابر بن عبد الله والدين الذي كان عليه لليهودي

الرسالة الخمسون [جواب عن سؤال في حديث جابر بن عبد الله والدَين الذي كان عليه لليهودي] وله أيضا -رحمه الله وعفا عنه- رسالة إلى الشيخ عبد العزيز بن حسن بن يحيى قاضي المحمل، وقد سأله عن حديث جابر بن عبد الله لما توفي أبوه، وعليه ثلاثون وسقا لرجل من اليهود، وفي الحديث: "فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وكلم اليهودي ليأخذ ثمر نخله بالذي له فأبى"1. قال السائل: وظاهر هذا إباحة المجهول بالمعلوم في الجنس، وهذا ممنوع شرعا فأجابه -رحمه الله-، وذكر تراجم الأئمة، وتعددها بحسب ما تضمن من الفقه، وأن قول السائل: وهو ممنوع شرعا - عبارة لا ينبغي أن تورد على الأحاديث النبوية، وهي خطأ منه في التعبير وغفلة، وقد بين الشيخ فسادها في نفسها، وهذا نص الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد اللطيف بن عبد الرحمن إلى الأخ المكرم عبد العزيز بن حسن -سلمه الله تعالى وهداه- آمين. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: فأحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو على نعمه، والخط وصل -وصل الله حبلك وأعلا مجدك- وما ذكرته قد علم، وحديث جابر حديث صحيح مشهور خرجه الجماعة، وترجم له تراجم متعددة بحسب ما تضمن من الفقه. قال البخاري: باب إذا قاصه وجازفه في الدَّين تمرا بتمر وغيره، وذكره وقال: باب: إذا قضى دون حقه فهو جائز، وكذلك أهل السنن وسياقهم متقارب. وقال البخاري في باب المقاصة والمجازفة: قال وهب بن كيسان: إن جابر بن عبد الله أخبره أن أباه توفي، وترك عليه ثلاثين وَسْقا لرجل من اليهود فاستنظره جابر فأبى أن يُنظِره، فكلم جابر رسول الله صلى الله عليه

_ 1 البخاري: في الاستقراض وأداء الديون والحجر والتفليس (2396) , والنسائي: الوصايا (3639 ,3640) , وأبو داود: الوصايا (2884) , وابن ماجه: الأحكام (2434) , وأحمد (3/ 373).

وسلم ليشفع له إليه، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وكلم اليهودي ليأخذ ثمر نخله بالذي له، فأبى، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم النخل فمشى فيه، ثم قال لجابر: "جُذَّ له فأوف له الذي له"1، فجذه بعدما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأوفاه ثلاثين وَسْقا، وفضلت له سبعة عشر، فجاء جابر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليخبره بالذي كان فوجده يصلي العصر فلما انصرف أخبره بالفضل فقال: "أخبر بذلك ابن الخطاب"2. فجاء جابر إلى عمر فقال عمر: لقد علمت حين مشى فيها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- َليبارَكنّ فيها، وقبل هذا قال -رحمه الله-: باب: إذا قضى دون حقه أو حلله فهو جائز، وساق الحديث مختصرا من طريق آخر، لكن ذكر فيه شاهدا للترجمة، وهو قوله: فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فسألهم أن يقبلوا ثمر حائطي ويحللوا أبي. إذا عُرِف هذا بطل قول السائل: وظاهر هذا إباحة بيع المجهول بالمعلوم في الجنس، فلا جهالة والحالة هذه لأن الحديث صريح في أن ثمر الحديقة دون الثلاثين، وإنما بُورِك فيه لما مشى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقول السائل: وهو ممنوع شرعا، عبارة لا ينبغي أن تورد على الأحاديث النبوية، وهل الشرع إلا ما جاء عن الله وعن رسوله؟ وأيضا فهي فاسدة في نفسها، فإن الاعتياض بالمجهول عن المعلوم في الجنس جائز في غير رِبا الفضل إذا حصل التراضي، لأن للمدِين أن يزيد، و"خيركم أحسنكم قضاء" ولرب الدَّين أن يضع من دينه ما شاء، وفي حديث كعب: "ضع الشطر"3 وأن تمنع هذه المسألة لما فيه ضرر وغرر من المبايعات والمعاملات. هذا ما ظهر لي، وهو المعروف من القواعد الشرعية فانتبه -لازالت قريحتك وقّادة زكية- وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.

_ 1 البخاري: في الاستقراض وأداء الديون والحجر والتفليس (2396) , وأبو داود: الوصايا (2884) , وابن ماجه: الأحكام (2434). 2 البخاري: في الاستقراض وأداء الديون والحجر والتفليس (2396) , وابن ماجه: الأحكام (2434). 3 البخاري: الصلاة (471) , ومسلم: المساقاة (1558) , والنسائي: آداب القضاة (5408) , وأبو داود: الأقضية (3595) , وابن ماجه: الأحكام (2429) , وأحمد (3/ 454 ,3/ 460 ,6/ 386) , والدارمي: البيوع (2587).

الرسالة الحادية والخمسون: استعمال الماضي موضع المضارع

الرسالة الحادية والخمسون [استعمال الماضي موضع المضارع] وله أيضا -رحمه الله- رسالة أيضا إلى الشيخ عبد العزيز بن حسن هذا نصها: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد اللطيف بن عبد الرحمن إلى الأخ المكرم عبد العزيز بن حسن بن يحيى -سلمه الله تعالى ورزقه الفقه في الدين-. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو على سوابغ نعمه، والخط وصل يوم ركوبنا، ولا كتبت جوابه إلا بعد تثويرتنا، وأما الأول فلم ألتفت إلى جوابه لما كنت بصدده من الاشتغال بالحج. إذا عرفت هذا، فاعلم أن المسألة الأولى التي هي استعمال الماضي موضع المضارع لهم وجهان: أحدهما: أن في استعمال الصيغة الماضية بدل المضارعية تنبيها، وإشارة إلى تحقيق النفي في الحال والاستقبال كتحقيق مضي الماضي من الأفعال والأحوال وذلك باستعارة ما وضع للماضي لما قصد به الحال والاستقبال تقوية وتأكيدا لمضمون الجملة المنفية، وذلك شائع في لسانهم، وفي التنْزيل: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ} 1 {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ}، والمعنى: يأتي ويقول. ومنه استعمال المضارع بدل الماضي إشارة إلى التجدد والاستمرار شيئا فشيئا فقوله تعالى: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ} 2، {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ} 3، {قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ} 4، والمعنى: قد علمنا، ومنه قول الأعشى: وأرى من عصاك أصبح محرو ... با وكعب الذي يطيعك عال وقد أسبي الفتاة فتعصي ... كل واشٍ يريد جزم حبال

_ 1 سورة النحل آية: 1. 2 سورة الأنعام آية: 33. 3 سورة الحجر آية: 97. 4 سورة الأحزاب آية: 18.

يريد رأيت وأسبيت (والوجه الثاني): أن الكلمة إن دلت على معنى في نفسها واقترنت بزمان ففعل، فإن كان الزمان الذي دلت عليه ماضيا، فالفعل ماض، وإن كان للحال والاستقبال، فالفعل مضارع، وإن كان مستقبلا فقط، فالفعل أمر كما هو مقرر في موضعه فلو عبر بالمضارع، وقال: لا ألبس ممتثلا لاحتمل أنه قصد النفي في الحال فقط أو فيما يستقبل فقط، لأن ذلك جرى في لسانهم ومنه: {لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ} 1، {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ} 2 واحتمل وقوع استثناء يعقبه، فلما عبر بالماضي (زال) الاحتمال وانقطع التوقع. وقصد المعنى الأصلي وهو النفي في الماضي لا يتوهم، لأن النفي في الحال والاستقبال تقول: لا لبست، لا ضربت، لا ظلمت قاصدا الحال والاستقبال بخلاف، ما ضربت، ما لبست، فإنها للنفي في الماضي. [معنى النفي في قولهم: لا قتلت الميت] وأما المسألة الثانية وهي قولك: ما معنى النفي في قولهم: لا قتلت الميت؟ فالذي في الحلف بالطلاق وتعلقه بالمستحيل: لأقتلن، بلام التوكيد الموطئة للقسم، والفعل بعدها مؤكد بنون التوكيد الثقيلة ولا نفي فيها، فتنبه، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.

_ 1 سورة التوبة آية: 92. 2 سورة الأنبياء آية: 47.

الرسالة الثانية والخمسون

الرسالة الثانية والخمسون وله أيضا -قدس الله روحه ونور ضريحه- رسالة إلى عبد الرحمن بن محمد بن جربوع، وقد راسله عبد الرحمن، وسأله عن تفصيل ما يجب على الإنسان من التوحيد وأنواعه، وما يجب فيه من المعاداة والموالاة، وعن كيفية طلب العلم للمبتدي وما يكون سببا لتحصيله؟ فأجابه -رحمه الله- على سؤاله على طريق الإيجاز والإجمال؛ إذ التفصيل يستدعي طولا؛ فبين له -رحمه الله- الأصول والقواعد، وأرشده إلى تلك المعارف والمقاصد، التي تندرج فيها كل عبادة، وينال بها من رام أسباب نجاته ما أمّله وأراده، وبين له حقيقة الموالاة والمعاداة، التي هي على العباد من أوجب الواجبات، مع أنها قد سفت عليها السوافي فانمحت آثارها، وهجم ليل الأهواء بكلاكله لما أفَلت أقمارها، فيا له من جواب ما أجزله على إيجازه واختصاره! وما أعظم فائدته لمن ألقى السمع وأصغى بقلبه وأفكاره! وهذا نص الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد اللطيف بن عبد الرحمن إلى الأخ المكرم عبد الرحمن بن محمد بن جربوع، سلمه الله تعالى، وسلك به السبيل المشروع. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. [إخلاص العبادة لله] وبعد: فالخط وصل وصلك الله ما يرضيه، وتغتبط في خطك بنعمة الإسلام، ومعرفة التوحيد في هذا الزمان، زادك الله اغتباطا، وأوزعك شكر هذه النعم التي أنعم بها علينا وعليكم، ووفقنا للعمل الصالح الذي يرضاه، وتسأل عن تفصيل ما يجب على الإنسان من التوحيد وأنواعه، وما يجب فيه من المعاداة والموالاة، وكيفية طلب العلم للمبتدي، وما يكون سببا لتحصيله؛ فمعرفة التفاصيل تتوقف على معرفة الأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية. فالدين كله توحيد، لأن التوحيد إفراد الله بالعبادة وأن

تعبده مخلصا له الدين. والعبادة اسم جامع لكل ما يحبه الله، ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة، فيدخل في ذلك قول القلب وعمله وقول اللسان وعمل الجوارح. وترك المحظورات والمنهيات داخل في مسمى العبادة، ولذلك فسر قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} 1 بالتوحيد في العبادة لأن الخصومة فيه، وهو تفسير ابن عباس. إذا عرفت هذا عرفت أن على العبد أن يخلص أقواله وأعماله لله، وأن من صرف شيئا من ذلك لغيره فقد أشرك في عبادة ربه، ونقص توحيده وإيمانه، وربما زال بالكلية إذا اقتضى شركه التسوية بربه والعدل به، وتضمن مسبة لله، فإن الشرك الأكبر يتضمنها، ولهذا ينزه الرب تعالى ويقدس نفسه عن ذلك الشرك في مواضع من كتابه كقوله سبحانه: {سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} 2، {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} 3، {وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} 4، ومحَل تفاصيلها الكتب المصنفة في بيان الأحكام الشرعية وواجباتها ومستحباتها، سواء كانت في معرفة القلوب وعلمها، أو عملها وسيرها. فالأول العقائد وهي: التوحيد العلمي، وقد صنف أهل السنة فيها مصنفات من أحسنها كتب شيخ الإسلام ابن تيمية. وأما الثاني وهو علم أعمال القلوب وسيرها المسمى: علم السلوك، فقد بسط القول فيه ابن القيم -رحمه الله تعالى- في شرح المنازل، وفي سفر الهجرتين. وأما أعمال الجوارح الظاهرة فالمصنفات فيها أكثر من أن تُحصر، وبالجملة فمعرفة جميع تفاصيل العبادة تتعذر؛ إذ ما من عالم إلا وفوقه من هو أعلم منه حتى ينتهي العلم إلى الله. [الموالاة والمعاداة] وأما الموالاة والمعاداة فهي من أوجب الواجبات، وفي الحديث:

_ 1 سورة البقرة آية: 21. 2 سورة القصص آية: 68. 3 سورة الصافات آية: 180. 4 سورة يوسف آية: 108.

"أوثق عُرى الإيمان: الحب في الله، والبُغض في الله"1. وأصل الموالاة الحب، وأصل المعاداة البغض، وينشأ عنهما من أعمال القلوب والجوارح ما يدخل في حقيقة الموالاة والمعاداة كالنُّصرة والأُنس والمعاونة، وكالجهاد والهجرة ونحو ذلك من الأعمال، والولي ضد العدو. [كيفية طلب العلم] وأما كيفية طلب العلم، ففي حديث ابن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث معاذا إلى اليمن فقال: "إنك تأتي قوما من أهل الكتاب"2 الحديثَ، فيه بيان كيفيته والبُداءة بالأهم فالأهم من واجبات الإيمان وأركان الإسلام، وينتقل درجة درجة من الأعلى إلى ما دونه، ثم بعد ذلك يتعلم ما يجب من الحقوق في الإسلام، بخلاف ما يفعله بعض الطلبة من الاشتغال بالفروع والذيول. وفي كلام شيخ الإسلام -قدس الله روحه-: مَن ضيّع الأصول، حُرم الوصول. ومن ترك الدليل، ضل السبيل. وأما السبب في تحصيله فلا أعلم سببا أعظم وأنفع وأقرب في تحصيل المقصود من التقوى قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا} 3 وفي الأثر "من عمل بما عَلِم ورّثه الله عِلم ما لم يعلم" قال الشافعي -رحمه الله-: شكوت إلى وكيع سُوء حفظي ... فأرشدني إلى ترك المعاصي وقال: اعلم بأن العلم نور ... ونور الله لا يُؤْتاه عاصي ومن الأسباب الموجبة لتحصيله: الحرص والاجتهاد، قال تعالى: {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لأسْمَعَهُمْ} 4 ومنها: إصلاح النية، وإرادة وجه الله والدار الآخرة، فإن النية عليها مدار الأعمال، ولا يتم أمر ولا تحصل بركته إلا بصلاح القصد والنية. وهناك أسباب أُخَر تُذكر في الكتب المؤلفة في آداب العلم والتعلم ليس هذا محل بسطها، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.

_ 1 أبو داود: السنة (4599) , وأحمد (5/ 146). 2 البخاري: المغازي (4347) , ومسلم: الإيمان (19) , والترمذي: الزكاة (625) والبر والصلة (2014) , والنسائي: الزكاة (2435) , وأبو داود: الزكاة (1584) , وابن ماجه: الزكاة (1783) , وأحمد (1/ 233) , والدارمي: الزكاة (1614). 3 سورة النساء آية: 66. 4 سورة الأنفال آية: 23.

الرسالة الثالثة والخمسون: إلى علماء الحرمين الشريفين

الرسالة الثالثة والخمسون [إلى علماء الحرمين الشريفين] وله أيضا -قدس الله روحه ونور ضريحه- رسالة إلى علماء الحرمين الشريفين زادهما الله تشريفا وتعظيما إلى يوم الدين. وسبب ذلك أنه لما ورد أمر السلطان بأن يعطل الأذان في الحرمين الشريفين، وأن يكشف النساء عن وجوههن للفَجرة والفاسقين، حملته الحمية الإسلامية، والغَيرة الحنيفية والأنَفة العربية، إلى مكاتبتهم في شأن هذا الفادح العظيم، والحدثان الفظيع الذميم، ودفع مفاسد ما أراده أعداء الملة والدين، وتغيير شعائر الإسلام، وهدم معالمه العظام. واعلم أن الشيخ -رحمه الله- من أعظم الناس في الغلظة في شأن الشرك والمشركين، ومجاهدة من والاهم وركن إليهم ممن ينتسب إلى الإسلام والمسلمين، لكنه تلطف في هذه الرسالة، لعل الله أن يبطل ما قصدوه من الضلالة، وأن يمحو بذلك ما رامه أهل الغواية والجهالة. وانظر إلى ما أعطاه الله تعالى من حسن التخلص برسم التحية، لمن نكب عن الطريقة المرضية، حيث قال: بعد إهداء التحية لأنصار الملة الحنيفية، وحماة الشريعة المحمدية، ولم يعين إنسانا بعينه من العلماء المترئسين، والمتصدرين للتدريس في حرم الرسول والبلد الأمين، وبهذا يندفع توهم إرادة السهولة واللين، أو أن هذه مخالفة لما تقدم من الرسائل من الغلظة والتخشين، فرحمه الله من إمام ما أعظم غيرته لله، وما أحرصه على إعلاء كلمة الله، ولزوم كتابه وسنة رسوله! وهذا نص الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، وكفى بالله شهيدا، وجعل في كل زمان فترة من الرسل بقايا من أهل العلم يجددون ما اندرس من أعلام الملة والدين تجديدا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأكبره تكبيرا، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله

أرسله بين يدي الساعة بشيرا ونذيرا، وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الذين آمنوا به، وعزروه ونصروه وسلم تسليما كثيرا. إلى جناب المفضل، والشيخ المبجل، شيخ المدرسين والمتصدرين بحرم الرسول، ومن لديه من العلماء الأفاضل الفحول، بعد إهداء السلام والتحية لأنصار الملة الحنيفية وحماة الشريعة المحمدية، صدرت هذه الرسالة، وسودت هذه العجالة، لما شاع في البلاد العربية، اليمانية منها والعراقية والتهامية والنجدية ما دهم الإسلام وعراه، وأناخ بحرمه وحماه، من الخطب العظيم، والهول الجسيم والكفر الواضح المستبين، والأمر بهدم أظهر شعائر الملة والدين، وأن لا ينادَى بالصلوات الخمس في أوقاتها بالتأذين، والأمر بهتك ستر حرم المسلمين، وكشف وجوههن للفجرة والفاسقين: {تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّا ً} 1، وتطير قلوب أهل الإسلام إعظاما لشناعته وكفره وردّا؛ كيف تهدم قواعد الملة والإسلام، وتظهر شعار الكفر وعبادة الأصنام، وترفع رايتها بين الأنام، بالحرم والبلدة الحرام؟!: {فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ} 2 أمَا في الزوايا خبايا؟! أمَا للعلم والرجال بقايا؟! وقد قال صلى الله عليه وسلم لعدي بن حاتم لما وفد عليه بعد أن فر إلى الشام هاربا: "ما يُفرّك؟ أتفر من أن يقال الله أكبر؟! فهل تعلم شيئا أكبر من الله؟! "3 فتعسا لها من حادثة وقضية، جاءت بهدم الإيمان والأركان الإسلامية، وقلع القواعد النبوية. يكاد لهذا المستجن بطيبة ... ينادي بأعلى الصوت يا آل هاشم وقد بلغنا عنكم ما تسر به نفوس المسلمين، من رد ذلك الإفك المبين.

_ 1 سورة مريم آية: 90. 2 سورة هود آية: 116. 3 الترمذي: تفسير القرآن (2954) , وأحمد (4/ 378).

والواجب علينا وعليكم أعظم من ذلك، من الجد والاجتهاد في رفع أعلام أوضح الشرائع والمسالك. وقد تواترت عندنا بحمد الله الأخبار، عن كافة العرب من جميع الأقطار بإنكار ذلك وردّه، والحكم بأنه من أظهر شعائر الكفار، ومن فعله وجب معالجته بالحرب والدمار، والكل منهم يعاهد على أنه السابق في تلك الحلبة والمضمار. فاستعينوا بالله واصبروا، واعلموا أن أنصاركم ومددكم جميع أهل الإسلام، وذوو البصائر من أهل النخوة والإقدام. فإياكم إياكم والمداهنة والتساهل في الجهاد والإنكار، فتزل قدم بعد ثبوتها، أو تهوي إلى الدرك الأسفل من النار. كفى حزنا بالدين أن حماته ... إذا خذلوه قل لنا كيف ينصر؟ قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ} 1، فتدبروا هذه الآية الكريمة، وتفطنوا لما دلت عليه أداة الشرط من نفي الإيمان عمن ترك التقوى، ولم يأتمر بما أمر به، ولم ينته عما نهي عنه، من موالاة أهل الكفر والردى، والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب كما هو مقرر عند أهل العلم والهدى. ونحن نعلم أن الله سينصر دينه ويعلي كلمته، وأنه لا يصلح عمل المفسدين؛ ولكن نحب لكم الاعتصام بحبل الله والدخول في جملة أنصاره: {مَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} 2. والمعهود عن الدولة العثمانية من عهد السلطان سليم بن السلطان با يزيد، من وقت ولايتهم على الحرمين الشريفين من أوائل القرن العاشر إلى وقتنا وأوائل عصرنا، هو المبالغة في تعظيم الحرمين الشريفين،

_ 1 سورة المائدة آية: 57. 2 سورة الأنفال آية: 10.

الرسالة الرابعة والخمسون: نصر مذهب السلف على علم الكلام

زادهما الله تشريفا وتكريما ومهابة وتعظيما؛ فلعل هذه الحوادث عن بعض النواب والوزراء الذين لا خبرة لهم بسبيل الرشد والهدى، ولا علم لهم بأسباب السعادة والتقى، وصلى الله على إمام المتقين، وعلى آله وصحبه والتابعين، آمين. الرسالة الرابعة والخمسون [نصر مذهب السلف على علم الكلام] وله أيضا -رحمه الله- رسالة إلى الشيخ أبي بكر بن محمد آل الملا المعروفين ببلد الأحساء، وكان أبو بكر هذا وأشياعه متهمين بطريقة التأويل والتعطيل الكلامية، وكانوا في حال ظهور هذا الإسلام يخفون ذلك. فكتب هذا الشيخ رسالة إلى بعض إخوانه يحضه، وكانت مشتملة على ما يمج سماعه من الزور والبهتان، والدفع لصريح السنة والقرآن، كقوله فيها: إن الله لا داخل العالم ولا خارجه، وإن آيات الصفات وأحاديثها من المتشابه، فكتب عليها الشيخ المبجل، والإمام الجليل المفضل، الشيخ عبد الرحمن بن حسن جوابا بين فيه ما فيها من الزيغ والتعطيل، وأقام على ذلك البرهان والدليل، فزعم أنها ليست له، بل لبعض علماء الأحساء وكان معطلا متأولا. فحكم الشيخ بخط أبي بكر عليه، وأشار برد أباطيله إليه؛ لأن من اعتنى، واشتغل بنسخ كتب الزندقة والتعطيل والتجهم، وأقر ما فيها من نفي إثبات الصفات المؤدي إلى التعطيل، وصمم بل زعم أنه لم يظهر له ما فهمه أهل الإثبات للصفات على ما يليق بعظمة الله وجلاله، ونعوت صفاته وكماله، ويدعي مع ذلك أنه لا يعتقد ما فيها، لكنه ما رد ولا أنكر ما اشتملت عليه من البدع والأهواء، ولم يسلك مناهج أهل الحق والهدى، فدعواه دعوى باطلة جدلية، وسفسطة ظاهرة جلية. ثم إنه كتب يتظلم من تلك الرسالة، وأنها مخالفة لمعتقده ومقاله، فكتب إليه الشيخ عبد اللطيف هذا الجواب، وأبان ما في كلامه من الزيغ والارتياب، وأن الأدلة والقرائن القوية، تدل على استحسانه لتلك الاعتقادات الوبية. فنعوذ بالله من الخِذلان ومخالفة السنة والقرآن. وهذا نص الرسالة:

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي افترض تغيير المنكر باليد واللسان والجنان، وأخذ الميثاق على ورثة الرسل بالبلاغ والبيان، وأن لا يداهنوا في دين الله مغرورا بحبائل الشيطان، وأن لا يركنوا إلى مفتون بزخارف الهذيان، وإن ظن أنه من أهل البصيرة والإيمان، والصلاة والسلام على سيد من جاهد في ذات الله، وإمام من حارب كل من استعبده صنمه أو جاهه أو هواه. من الفقير إلى الله سبحانه عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن إلى الشيخ أبي بكر بن محمد، جمعنا الله وإياه على الطاعة وجنبنا سبل الفتنة والشناعة. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. أما بعد: فقد وصلت إليّ رسالتك إلى شيخنا الوالد حفظه الله ومتعنا والمسلمين بحياته، وقد أحسنت فيها بذكر المعتقد وبيانه، وأنك اقتديت فيه بكلام أئمة الدين كالإمام أبي حنيفة وغيره من السلف الماضين، وهذا هو القصد منكم، وقد أشرت به إليك وقت اجتماعنا؛ إذ بذكرك معتقدك وتقريره والتبري من أهل البدع كالجهمية والمعتزلة والأشعرية والكرّامية والماتُريدية، يحصل لنا نحن، وإياك اتفاق الكلمة وصلاح الطوية، نسأل الله أن يمن بذلك. لكنك أسأت بذكر أمور يحصل منها نفور واشمئزاز، وهذه معاكسة ظاهرة لما أشرت به إليك شفاها، ومتابعة لغرض نفسي شيطاني، لا لقصد شرعي إيماني، من ذلك أنك لما ذكرت أن الرسالة ليست لك بل لبعض أسلافك من علماء الأحساء وأنه كان أشعري الاعتقاد اعترفت، وصرحت بأنك نقلتها لبعض الإخوان بخطك، وهذا فيه ما لا يخفى من

التهمة القوية، حيث أثبتها بخطك، وأشعتها في قومك، ورهطك، غير ملتفت لرد ما فيها من الزور والبهتان، وأن آيات الصفات وأحاديثها من المتشابه، وغير ذلك مما ساق من خرافاته، ومما نمق من غلطاته ووهلاته، وأنت مع ذلك لم تتحاشَ من نقلها وإهدائها إلى الإخوان. وكذلك سميت هذا الرجل وعددته -مع ما ارتكبه- من علماء المسلمين، وما هكذا المعروف من هدي أهل العلم والإيمان، فإنهم لا يكتبون الضلال والباطل والزور، إلا لرده ودفعه في نفس ذلك المزبور، وأنت قد خالفت هديهم وخرجت عن طريقتهم، ومن سلك مسالك التهم فلا يلومن من أساء به الظن. [الاحتجاج بالخط على كاتبه] ثم إن خط الرجل حجة عليه، ودعواه أنه ناقل دعوى تفتقر إلى إثبات ودليل، فلا غَرو أن حكم شيخنا الوالد بخطك عليك، وأشار برد أباطيله إليك. وقد ذكرت أنك كنت متأسيا حال النقل بما في الفقه الأكبر لأبي حنيفة في العقيدة السليمة الحميدة، وعسى الله أن يحقق ذلك، وعلى تسليمه كيف ساغ لك أن تكتب ضدها ولا تبين ما فيه؟! ولو أخذت بواجب أمر الفرقان، وتخلقت بخلق أهل الإيمان، المذكور في قوله سبحانه: {وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا} 1 لما وجه الوالد ولا غيره إليك ردًا ولا ملاما، ولكن: * عرضت نفسك للبلا فاستهدف * ومن ذلك قولك: قد تمادى بنا الكلام، حتى خرجنا عن المقام، تشبيها لأولي الأفهام، ودفعا للكثير من الأوهام، وهذا تصريح منك بأن أخذك بخطك من باب الوهم، ومن المعلوم أنه لم يكن مما يفيد اليقين والثبوت، فأقل أحواله تنْزيلا أن يكون من باب الفراسة والحكم بالقرائن القوية، ومن زعم أن الحكم بها من باب الأوهام فسفسطته وجدله مما لا يحتاج برهانه وتقريره بسط

_ 1 سورة الفرقان آية: 72.

كلام. ولا يشك من له أدنى مسكة من عقل أن من اعتنى بنسخ كتب الزندقة والتعطيل والتجهم مع دعواه أنه لا يعتقدها، فهو مخبول العقل ليس عنده من وازع الدين ما يقتضي تركها. هذا لو سلمنا هذه الدعوى وتركنا الأدلة والقرائن على استحسانها واعتقادها، وأدهى من هذا وأمر وأوضح منه من نظر في خطك واعتبر أنك تقول: إنه لم يظهر لك في حال نقلك لتلك الرسالة من نفي إثبات الصفات المؤدي إلى التعطيل ما فهمه شيخنا الوالد -حفظه الله-، فإن كنت لا تفهم من قول هذا الرجل في ربه: إنه لا داخلَ العالم ولا خارجه ولا فوقه، وإن ما دل على حقائق صفات الله سبحانه، ونعوت جلاله من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية معدود عند السلف من المتشابه، ونحو ذلك من كلامه، فإن كنت لا تفهم من هذا نفيا ولا تعطيلا فلتبك عقلك النوائح. أين أولو البصائر والأفهام؟! أين المناضلون عن ملة الإسلام؟! ما هذه إلا مكابرة جلية، وسفسطة جدلية، فإن صبيان المكاتب، فضلا عن أولي العلم والمراتب، يعلمون أن هذه العبارة صريحة في التعطيل، غير محتملة للتصحيح والتأويل، وقد كنت أظن بك دون هذه المكابرة، وأحسب أنك ترعوي عند المحاقّة والمخابرة، لا سيما بعد اطلاعك على هذا الرد النفيس، وما تضمنه من براهين الإثبات والتقديس، فخلت أن همتك ترتفع به إلى فوق، وأنك لا ترضى سبيل الميل والعوق، وأن أفراخ اليونان لا تعوقك عن الوصول، وأن أسلاف القوم لا يصدونك عن سنن الرسول، لكن كما قيل: خفافيش أعشاها النهار بضوئه ... ووافقها قطع من الليل مظلم وقولك: إن المفاهيم تتفق وتختلف جوابه: أن الاتفاق والاختلاف إنما يقع عند ذوي البصائر والعقول والأفهام السليمة في غير صرائح العبارات

ومنطوقها، وفي غير الدلالة المطابقية، ولا يمتري عاقل فضلا عن عالم أن الذي خالف فهمك فهم شيخنا فيه، صريحه ومنطوقه يرد زعمك وينافيه. [قبول كتاب الفقه الأكبر عند النجديين] ثم إنك ادعيت أولا أنك سليم العقيدة، موافق لما في الفقه الأكبر لأبي حنيفة، ولما عليه الأئمة الذين حكيت أقوالهم، وهذا حسن جيد لكن يعكر عليك ويناقضه قولك بعد: "لكني وقفت بعد ذلك على كلام لبعض العلماء ينافي بعض ما فيها فملت إليه، وعولت عليه، لكونه أقرب للسلامة، وأشبه بهدي أهل الاستقامة"، وهذا تصريح منك بالميل إلى خلافها، والتعويل على سواها بعد اعتقادها، وهو مخالف ومناقض لكلامك الأول حيث زعمت أنك كنت في حال نقلها متأسيا بما في الفقه الأكبر. ثم يا هذا: قد استدللت على رجوعك بقضية عمر في المشتركة، وبما صح من رجوع كثير من أئمة الاجتهاد عن أقوال ظهر لهم الحق في خلافها والرجوع إلى الحق أولى وأحق، لكن لا يخفى أن رجوعهم من اجتهاد إلى اجتهاد بخلاف من رجع من ذنب يأثم به ولا يؤجر عليه بل غايته بعد التوبة أن يغفر، ولذلك قالوا بصحة الاجتهاد الأول. فإن قلت: الشبه ليس من كل الوجوه بل من حيث الرجوع إلى الحق، قلت: لأي شيء؟ عدلت عن قوله: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} 1 والعدول عن الدليل الصريح المطابق من كل الوجوه يقدح في فهم الرجل وتأليفه. ثم إنك تقول: اعلم أني بحمد الله غير مستنكف عن قبول الحق ولا مستكبر ولا مستحقر. وأقول: أي كبر أعظم وأدهى من أنفة الرجل أن يدعى إلى الله ظاهرا، ويرد قوله الذي قد شاع وينسخ جهارا، ويعد هو ذنوبه وخطاياه من باب الاجتهاد؟ وقد أعرضنا عن غير ذلك

_ 1 سورة الزمر آية: 53.

من علامات بطر الحق، وأما كون شيخنا الوالد صرح باسمك في الرياض فهو منه اهتمام بالواجب الشرعي، فإن الرجل إذا خيف أن يفتن به الجهال، ومن لا تمييز عندهم في نقد أقاويل الرجال، فحينئذ يتعين الإعلان بالإنكار، والدعوة إلى الله في السر والجهار، ليعرف الباطل فيجتنب، وتهجر مواقع التهم والريب، ولو طالعت كتب الجرح والتعديل، وما قاله أئمة التحقيق والتأصيل، فيمن اتهم بشيء يقدح فيه أو يحط من رتبة ما يحدّث به ويرويه، لرأيت من ذلك عجبا، ولعرفت أن سعي الشيخ محمود قولا وسببا. ثم إنك تذكر أن الرد صار للعوام والطغام سلما للوقيعة في أعراض علماء الإسلام، وفي هذا من تزكية نفسك والتنويه بذكرها ما لا يخفى، وما أظن عالما يقول: أنا عالم، وقد قال عمر رضي الله عنه من قال: أنا عالم فهو جاهل، ومن قال: أنا مؤمن فهو كافر، ومن قال: أنا في الجنة فهو في النار انتهى. والعالم من يخشى الله، وهذا مأخوذ من قوله تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} 1 فإن الآية تقتضي حصر العلماء في أهل الخشية كما تقتضي حصر الخشية في العلماء، وحقيقة العلم هو ما جاءت به الرسل من معرفة الله سبحانه بصفات الكمال، ونعوت الجلال إثباتا لا تعطيلا، وتنْزيها لا تمثيلا، وذلك يقتضي من إسلام الوجه له، والتبتل إليه وحده لا شريك له حبا وإجلالا وتعظيما وذلا وإخلاصا وانقيادا، وهو محسن في ذلك بعدم الانحراف عما جاءت به الرسل طاعة لهم وتكريما. وهذا أيضا يقتضي العلم بالأوامر الشرعية لأن الجاهل لا يحسن السير، ولا بد في العلم بهذا من النفوذ إلى ما جاءت به الرسل، فيعرف الحكم من دليله. وأما غير ذلك من أنواع العلوم التي أُحدثت بعد خير القرون في العقائد والعبادة بما لم يشرع

_ 1 سورة فاطر آية: 28.

كما عليه كثير ممن يدعي العلم في باب معرفة الله -سبحانه وتعالى-، فإنهم أخذوا العقيدة في هذا الباب عن أهل القوانين الكلامية، كالجهمية وغيرهم ممن خرج عن العقائد السلفية، وكما عليه كثير من أهل الطريق والتصوف؛ فإنهم أحدثوا من التعبد بالذوق والعقول ما لم ترد به هذه الشريعة. وكذلك من اقتصر على تقليد المتأخرين في الأحكام، ولم يلتفت إلى أخذ الحكم من هدي سيد الأنام، فهذا ونحوه وإن جاز لهم التقليد فليسوا من أهل العلم بالإجماع كما حكاه الحافظ ابن عبد البر -رحمه الله-. [حقيقة العلم] وبالجملة، فلو عرفت حقيقة العلم لأحجمت عن عد نفسك من أهله، ولأيقنت أن من ابتغى معرفة الله سبحانه وتعالى مما نصبه مشايخ اليونان والفلاسفة من الأدلة العقلية والموازين الكلامية، وأخذ عن تلامذتهم الذين نشؤوا على ملتهم، ودانوا ببدعتهم، ولم يلتفت إلى ما جاء به الوحي من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، زاعما بأنها ظواهر لفظية، ومجازات لغوية، وأن قانون المنطق هو القواطع العقلية، والبراهين الجلية، وأن ما جاءت به الكتب وأخبرت به الرسل من صفات الله معدود من متشابه الكلام، مصروف عن حقيقته عند ذوي البصائر والأفهام، فنفى لذلك صفات الكمال، وأغرب في سلب نعوت الجلال، وأضاف إلى ذلك تقليد مشايخه في الأحكام والفروع، فلم يأخذ من هدي الرسل العلم المتبوع، فهذا ونحوه من أضل الناس وأبعدهم عن هدي المرسلين، فضلا عن أن يكون من علماء المسلمين، وإن انضم إلى ذلك الضلال عن معرفة توحيد العبادة الذي هو فعل العبد وعمله وكسبه، فاتخذ الآلهة من دون الله أربابا، فأحبهم كحب الله وذل وخضع واستغاث واستعان، وذبح لغير الله القربان، وحلف تعظيما وتفخيما، ورجا

أن يكون الند له شفيعا وعونا، فهناك تشتد الرزية وتعظم البلية، ويعلم أن هؤلاء الضرب من الناس بينهم وبين الإسلام أبعد بون، وأن الأمر كما قيل: نزلوا بمكة من قبائل هاشم ... ونزلت بالبيداء أبعد منْزل والمقام يستدعي أكثر من هذا، ولكن العاقل يسير فينظر، والسلف قد أنكروا على من سماهم علماء، فما بالك بمن سمى نفسه عالما، وتشبع بما لم يعط؟ نعوذ بالله من الخذلان. هذا، وفي رسالتك شيء من الهمز والتصنع والمداهنة، والغش والحقد والمشاحنة، وعدم التثبت، وأن الأولى الإسرار إليك، وترك ما كتبته، وكذلك في تسمية من خاض في هذا عواما، أهل لغو بالفضول، ما لا يخفى على أرباب العقول، ولو شئت أن أبين لك مَن الأولى بذلك كله، فأقيم لك البراهين على أنك متصف به لفعلت، وسجلت وقررت وحققت، ولكن سأترك ذلك ليوم تبدو فيه السرائر، ويظهر الله مكنون الضمائر، ولو صرحت بما في نفسك من الرد، وسجلت وناضلت لكان أليق بك، فإن من أظهر ما في نفسه حري بالرجوع إلى الحق، بخلاف من كتم وداهن، كما قيل: فلست أرى إلا عدوا محاربا ... أو آخر خيرا منه عندي المحارب وكان قصدي منك -أيها الشيخ- أن تكتب ما تعتقده، وتدع التزكية والعتاب، وتطرح كل شك وارتياب، فإن ذلك أجمع للقلوب، وأقرب للاتفاق، {وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} 1، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.

_ 1 سورة الأحزاب آية: 4.

الرسالة الخامسة والخمسون: نصر الدين والسنة من أفضل شعب الإيمان

الرسالة الخامسة والخمسون [نصر الدين والسنة من أفضل شعب الإيمان] وله أيضا -قدس الله روحه، ونور ضريحه- رسالة، وهذا صورة ما وجدته مرسوما، ووضع ما ألفيته مرقوما: كتب شيخنا عبد اللطيف بن عبد الرحمن -أدام الله إفادته- إلى بعض الولاة؛ بسبب أنه توسم فيه محبة الخير، وقبوله للنصيحة ما صورته -حفظه الله- من طوائف الشيطان، ووفقه للعلم والإيمان. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. ونحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو على ما أسبغ من جزيل نعمائه، واعلم أنه إنما حملني على مكاتبتك، وابتدائك بالخطاب ما بلغني عنك من الميل إلى الإسلام والسنة ومحبة أهله ونصرتهم؛ وهذا من أجل النعم، وأفضل العطايا الإلهية والمنح الربانية. وأنت في مكان وزمان قلّ خيره، وكثر شره، وقبض فيه العلم وفشا الجهل، وكثر الجدال والمراء، وتطاول أهل البدع والأهواء، فإنْ منّ الله عليك بقبول الإسلام والسنة ونصرتهما، ومحبة أهلهما، والقيام بما أمر الله به من أداء الواجبات، وترك الفواحش والمنكرات، رجوت لك الظهور والنصر والإقبال في الدنيا والآخرة. وربما كثر لديك محب الدين والقائم به، واستأنس بك أهل الخير، وصرت حصنا ومعقلا يرجع إليه في نصرة الدين. ولعمر الله إن هذا من أفضل شعب الإيمان الواجبة، وأعلاها وأحبها إلى الله وأسناها، بل هو أفضل من نوافل العبادة القاصرة، وأين تقع النوافل؟ ومتى ينتفع بها من أهل نصرة الإسلام والسنة مع القدرة على ذلك؟ وهل يرجى الخير من رجل يرى حرمات الله تنتهك، ودينه يمتهن، وسنة نبيه تترك وتطرح، ولا يجد من نفسه حمية ولا غيرة ولا أنفة من ترك دين الله، ومن معصيته، وهجر ما جاء به رسوله من توحيد

الرسالة السادسة والخمسون

الله -تعالى- والإيمان به؟ هذا الصنف لا يرجى خيره، وإن زعم أنه من عباده المؤمنين الأفراد، فتأمل هذا، وليكن منك على بال قول الشاعر: قد رشحوك لأمر لو فطنت له ... فاربأ بنفسك أن ترعى مع الهمل وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم. الرسالة السادسة والخمسون وله أيضا -قدس الله روحه، ونور ضريحه- رسالة إلى عبد الله بن علي بن جريس، وقد راسله يسأله عن صلاة التراويح في السفر جماعة، وعن اتفاق الغزو على الصوم فيه، فأجابه -رحمه الله تعالى- فقال: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن إلى الأخ المكرم عبد الله بن علي بن جريس -سلمه الله تعالى-: [الحث على التقوى] سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: فأحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو على نعمه، والخط وصل، وسرّنا ما ذكرت من الأخبار عنكم، وعن الإمام، وعن عمان، فالحمد لله على سوابغ الفضل والإحسان، وأوصيك بتقوى الله والرغبة فيما عنده والتماس مرضاته، والحذر من الاغترار بهذه الحياة الدنيا؛ فإن الله حذر عن الاغترار بها في مواضع من كتابه، واذكر قول العلامة ابن القيم -رحمه الله تعالى-: وإن تك قد عاقتك سُعدى فقلبك الـ ... ـمُعنّى رهين في يديها مسلّم والبيتين بعده، واعرف المراد بسعدى. [صلاة النافلة في السفر] وتسأل في خطك عن صلاة التراويح

في السفر جماعة؛ فاعلم أن العبادات توقيفية، وترك الشارع للفعل مع قيام مقتضيه دليل للترك، كما أن فعله دليل لطلب الفعل، وقد سافر هو صلى الله عليه وسلم وأصحابه عدة أسفار في رمضان، ولم ينقل عنه، ولا عن أحد من أصحابه فيما بلغنا فعلها جماعة، وهذا دليل كاف سالم من المعارض. (والثاني): أن المشروع في السفر قصر الرباعية، وترك النوافل الرواتب، وهي آكد النوافل على الصحيح، بل لم يشرع الجمعة والعيدان وهما فرضان، وهذا بيّن -بحمد الله-. وأيضا فقول شيخ الإسلام ومن وافقه: تفعل النوافل المطلقة في السفر لا المقيدة، يدخل هذه القضية، ويستفيدها طالب العلم منه. وقولك في الورقة: "وهو مما تسن له الجماعة" عبارة فيها تساهل، والجماعة تشرع له تبعا لا استقلالا كما هو مقرر في محله. [اتفاق الغزو على الصوم] وأما اتفاق الغزو على الصوم، فكنت أحب لهم فعل الأفضل، وموافقة السنة في عدم الاتفاق على ترك قبول الرخصة التي يحبها الله. هذا، واعلم أن هذا هو الموجب لترك فعلها جماعة، وأما النهي عن ذلك فلم أنْهَ عنه أحدا، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.

الرسالة السابعة والخمسون: تحريم تعدد الجمعة في القرية الواحدة

الرسالة السابعة والخمسون [تحريم تعدد الجمعة في القرية الواحدة] وله أيضا -قدس الله روحه، ونور ضريحه- رسالة إلى جماعة أهل الزلفى هذا نصها: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد اللطيف بن عبد الرحمن إلى الأمير المكرم ناصر آل عبد الله آل راشد، والإخوان عبد المحسن السلمان، وأحمد آل عبيد، وجار الله آل حمد، ورشيد آل علي، وموسى الشايع، وحمود آل عبد الله آل جار الله سلمهم الله -تعالى-. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: وصلت خطوطكم، وتذكرون أن بعض جماعتكم انفردوا بأنفسهم، وفارقوا جماعتهم، وجعلوا لهم جمعة في المحلة الأولة، وأنهم قبل ذلك كانوا مجتمعين مع جماعتهم، يصلون جمعة واحدة، وأن بعض من ينتسب إلى العلم أفتاهم بانفرادهم، وصلاتهم جمعة ثانية في البلد لغير حاجة تدعو إلى ذلك، فاعلموا أن الذي عليه جمهور أهل العلم تحريم تعدد الجمعة في قرية واحدة يشملها اسم القرية، وكذا ما قرب منها عرفا، أو سمع النداء فلا يجوز تعدد الجمعة وتفريق جماعة المسلمين إلا لحاجة كضيق المسجد، وبعدهم عن القرية. وقد كان الناس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتون الجمعة من العوالي وما حاذاها، وهي على ثلاثة أميال من المدينة، وجرى العمل بذلك على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعهد أبي بكر وعمر ومن بعدهم. وصرح علماؤنا ببطلان صلاة من صلى جمعة ثانية بغير إذن الإمام، وبغير حاجة داعية، وأوجبوا عليه الإعادة ظهرا، وقواعد الشرع تدل على هذا، فالجماعة إنما شرعت للائتلاف والمودة

الرسالة الثامنة والخمسون: حكم الجهمية والصلاة خلفهم

والمعاونة على ذكر الله، وتفقه أهل الإسلام بعضهم من بعض، وتحصيل الفضل بالكثرة، وإغاظة العدو بترك الفرقة. ودلت أصول الشريعة -أيضا- على تحريم ما أوجب الفرقة، واختلاف الكلمة والمشاقة، قال تعالى: {اعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا} 1. وانفرادهم عن الجماعة بالسكنى في عقدة أخرى، لا يبيح مفارقة الجماعة بإحداث جمعة أخرى، ومن رأى هذا من المسوغات والمبيحات لهذا الفعل المخالف لأصول الشرع، فهو مصاب في عقله؛ فالواجب عليكم نصحهم وإرشادهم، ودعوتهم إلى الله برفق: {وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} 2، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم. الرسالة الثامنة والخمسون [حكم الجهمية والصلاة خلفهم] وله -أيضا- رسالة إلى عبد الله بن علي بن جريس، وقد راسله عبد الله يسأله عما أورده بعض الملحدين: أن شيخ الإسلام ابن تيمية -قدس الله روحه- ذكر أن الإمام أحمد -رحمه الله- كان يصلي خلف الجهمية، فأجابه -رحمه الله- بما يكفي ويشفي، وأن الصلاة خلفهم، لا سيما صلاة الجمعة، لا تنافي القول بتكفيرهم، حيث لا يمكن الصلاة خلف غيرهم، وأما مع إمكان الصلاة خلف غيرهم فلا، لكن إن صلى خلفهم فعليه الإعادة. وهذا نص الجواب: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد اللطيف بن عبد الرحمن إلى الأخ عبد الله بن علي بن جريس، ألهمه الله الرشد في أمره والكيس. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. والخط وصل، وسرّنا عافيتكم، وحال أهل عمان ما تخفاكم: قل العلم وفشا الجهل، وتجاسر المبتدعة، والواجب التجرد للدعوة إلى الله، والجهاد في سبيله

_ 1 سورة آل عمران آية: 103. 2 سورة الأحزاب آية: 4.

حسب الطاقة، لا سيما بالحجة والبيان، وأحق خلق الله بالجهاد، من يليكم من الجهمية الضلال، ونشر العلم وبيان السنة من أوجب الواجبات، وأفضل الطاعات، ووصل إلينا السؤال الذي يورده بعض الملحدين، وهو أنه نسب إلى شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- أنه ذكر عن الإمام أحمد أنه كان يصلي خلف الجهمية. وجواب هذا لو سلم من أوضح الواضحات عند طلبة العلم وأهل الأثر، وذلك أن الإمام أحمد وأمثاله من أهل العلم والحديث، لا يختلفون في تكفير الجهمية، وأنهم ضلال زنادقة، وقد ذكر مَن صنف في السنة تكفيرهم عن عامة أهل العلم والأثر؛ وعد اللالكائي -رحمه الله تعالى- منهم عددا يقعد من ذكرهم في هذه الرسالة، وكذا عبد الله بن الإمام أحمد في كتاب السنة، والخلال وابن أبي مليكة في كتاب السنة، وإمام الأئمة ابن خزيمة قرر كفرهم، ونقله عن أساطين الأئمة. وقد حكى كفرهم شمس الدين ابن القيم في كافيته عن خمسمائة من أئمة المسلمين وعلمائهم. والصلاة خلفهم، لا سيما صلاة الجمعة، لا تنافي القول بتكفيرهم، لكن تجب الإعادة حيث لا تمكن الصلاة خلف غيرهم. والرواية المشهورة عن الإمام أحمد هي المنع من الصلاة خلفهم، وقد يفرق بين من قامت عليه الحجة التي يكفر تاركها، وبين من لا شعور له بذلك، وهذا القول يميل إليه شيخ الإسلام في المسائل التي قد يخفى دليلها على بعض الناس؛ وعلى هذا القول فالجهمية في هذه الأزمنة قد بلغتهم الحجة، وظهر الدليل، وعرفوا ما عليه أهل السنة واشتهرت الأحاديث النبوية، وظهرت ظهورا ليس بعده إلا المكابرة والعناد، وهذا حقيقة الكفر والإلحاد؛ كيف لا، وقولهم يقتضي تعطيل الذات

والصفات، والكفر بما اتفقت عليه الرسالة والنبوات، وشهدت به الفطر السليمات، ما لا يبقى معه حقيقة للربوبية والإلهية، ولا وجود للذات المقدسة المتصفة بجميل الصفات، وهم إنما يعبدون عدما لا حقيقة لوجوده، ويعتمدون من الخيالات والشبه ما يعلم فساده بضرورة العقل من دين الإسلام عند من عرفه، وعرف ما جاءت به الرسل من الإثبات. ولبشر المريسي وأمثاله من الشبه والكلام من نفي الصفات ما هو من جنس هذا المذكور عند الجهمية المتأخرين، بل كلامه أخف إلحادا من بعض هؤلاء الضلال، ومع ذلك فأهل العلم متفقون على تكفيره، وعلى أن الصلاة لا تصح خلف كافر جهمي أو غيره. وقد صرح الإمام أحمد فيما نقل عنه ابنه عبد الله وغيره أنه كان يعيد صلاة الجمعة وغيرها، وقد يفعله المؤمن مع غيرهم من المرتدين إذا كانت لهم شوكة ودولة؛ والنصوص في ذلك معروفة مشهورة نحيل طالب العلم إلى أماكنها ومظانها. وبهذا ظهر الجواب عن السؤال الذي وصل منكم، ورسالتك وصلت، وسرنا حسن جوابكم، وما فيها من النقول عن أهل العلم. ونرجو أن الله يوفقنا وإياكم لما يحب ويرضى، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.

_ (يقول محمد رشيد رضا): فرق فقهاء الحنابلة في الصلاة خلف المبتدعة بين من يعلن بدعته ويدعو إليها فلا يصلي خلفه، وإذا صلى لعذر أعاد. قال الخرقي في منّته: "ومن صلى خلف من يعلن ببدعة أو يسكر، أعاد". وفرقوا بين الجمعة والعيدين وغيرهما. قال ابن قدامة في شرح عبارة الخرقي: فأما الجمعة والأعياد فإنها تصلى خلف كل بر وفاجر، وقد كان أحمد يشهدها مع المعتزلة، وكذلك العلماء الذين في عصره. وذكر الإمام أحمد روايتين في إعادتها. (يراجع التفصيل في صفحة 26 من الجزء الثاني من المغني المطبوع بمطبعة المنار).

الرسالة التاسعة والخمسون: فشو الشرك والتعطيل

الرسالة التاسعة والخمسون [فشو الشرك والتعطيل] وله أيضا -قدس الله روحه، ونور ضريحه- رسالة إلى منيف بن نشاط؛ وقد اشتكى إليه منيف غربة الإسلام، وذكر في رسالته ونظمه معتقده، وما هو عليه من الدعوة إلى دين الله ومكابدة أعداء الله، فأجابه الشيخ -رحمه الله تعالى- يحرضه ويحضه على الاستقامة على هذا المعتقد السليم، ومجانبة أصحاب الجحيم، وعلى الاجتهاد في طلب العلم وتعليمه، والدعوة إلى دين الله وسبيله، وأن ما ذكره في شأن الأعراب من الفرق بين من استحل الحكم بغير ما أنزل الله، ومن لم يستحل، هو الذي عليه العمل وإليه المرجع عند أهل العلم، يعني أن من استحل الحكم بغير ما أنزل الله، ورأى أن حكم الطاغوت أحسن من حكم الله، وأن الحضر لا يعرفون إلا حكم المواريث، وأن ما هم عليه من السوالف والعادات هو الحق فمن اعتقد هذا فهو كافر. وأما من لم يستحل هذا، ويرى أن حكم الطاغوت باطل، وأن حكم الله ورسوله هو الحق، فهذا لا يكفر، ولا يخرج من الإسلام،: {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا} 1. وهذا نص الجواب: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد اللطيف بن عبد الرحمن إلى الأخ المكرم منيف بن نشاط -سلمه الله، وشد حبله (بالعروة) الوثقى وناط، ومن عليه بالتزام التوحيد والفرح به والاغتباط. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: فأحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، وهو للحمد أهل وهو على كلِ شيْء قدير، وأسأله اللطف بي وبكم في تيسير كل عسير، مما جرت به الأقضية الربانية والمقادير، وأحوالنا على ما تعهد من الصحة والسلامة وترادف النعم لولا غلبة الإعراض عن شكر تلك النعم والتقصير، نشكو

_ 1 سورة الأنعام آية: 132.

إلى الله قلوبنا القاسية، ونفوسنا الظالمة، فنعم المشتكى، ونعم المولى، ونعم النصير. وكتابك وصل إلينا مع النظم اللطيف، الصادر عن الأخ منيف، فسرنا بإفصاحه وإعلامه عن صحتكم، وسلامتكم وحسن معتقدكم وطويتكم، فالحمد لله على اللطف والتسديد، ومعرفة حقه -سبحانه- وما يجب له على العبيد. فاجتهد في طلب العلم وتعليمه، والدعوة إلى دين الله وسبيله، فإنك في زمان قبض فيه العلم وفشا الجهل، وبدل الدين وغيرت السنن، لا سيما أصول الدين، وعمدة أهل الإسلام واليقين، في باب معرفة الله بصفات كماله، ونعوت جلاله. وقد ألحد في هذا من ألحد، وأعرض عن الحق فيه من أعرض وجحد، حتى عطلوا صفات الله تعالى التي وصف بها نفسه، وتعرف بها إلى عباده، كعلوه على خلقه، واستوائه على عرشه، وكلامه وتكليمه، ومحبته وخلته، ورضاه وغضبه، ومجيئه ونزوله؛ فسلطوا التأويل على ذلك ونحوه، حتى عطلوا الصفات عن حقائقها، وحرفوها عن موضعها، وصرفوها عن دلالتها. وكذلك الحال في عبادته وحده وتوحيده، ومعرفة حقه على عبيده، فأكثر الناس والمنتسبين إلى الإسلام ضلوا في هذا الباب، فصرفوا للأولياء والصالحين، والقبور والأنصاب والشياطين، خالص العبادة ومحض حق رب العالمين، كالحب والدعاء والاستغاثة، والتوكل والإجلال والتعظيم والذل والخضوع، بل غلاتهم صرحوا بإثبات التدبير والتصريف لمعبوداتهم مع الله، فجمعوا بين الشرك في الإلهية والشرك في الربوبية، وهذا أمر لا يتحاشون عنه، بل يصرحون به ويفخرون به، ويدعون أنهم من أهل الإسلام،: {لا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ} 1 وهذا الشرك لم يصل إليه شرك جاهلية العرب وقد جرى كما ترى من أناس يقرؤون القرآن ويدعون أنهم من

_ 1 سورة المجادلة آية: 18.

أتباع الرسول، فنعوذ بالله من الحور بعد الكور، ومن الضلال بعد الهدى، ومن الغي بعد الرشاد. كذلك باب تجريد متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم في الأصول والفروع قد ترك، وسد عن أكثر من يدعي العلم والدين، والعمدة والمرجع إلى أقوال من يعتقدونه من المنتسبين والمدعين، ولو تكلم أحد بإنكار ذلك لعد عندهم من البله والمجانين. هذه أحوال جمهور المتشرعين والمتدينين، فهل ترى فوق هذا غاية في غربة الحق والدين؟ فعليك بالجد والاجتهاد في معرفة الإيمان وقبوله، وإيثاره والتواصي به، لعلك أن تنجو من شرك هذا الشرك والتعطيل، الذي طبق الأرض، وهلك به أكثر الخلق جيلا بعد جيل. وما ذكرته عن الأعراب من الفرق بين من استحل الحكم بغير ما نزل الله، ومن لم يستحل، فهو الذي عليه العمل وإليه المرجع عند أهل العلم، ولعل الكلام يقع شفاها إذا وصلت إلينا، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.

الرسالة الستون

الرسالة الستون وله أيضا -قدس الله روحه-، رسالة إلى منيف بن نشاط، وقد سأله عن قول مَن يستدل على حل ذبيحة الوثني والمرتد بقوله -تعالى-: {فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} 1 وعمن كان في سلطان المشركين، وعرف التوحيد وعمل به، ولكن ما عاداهم ولا فارق أوطانهم، فأجابه -رحمه الله تعالى- "وصب عليه من شآبيب بره" ووالى، وبين له في وجوب المسألة الثانية الفرق بين من عجز عن إظهار عداوة المشركين لأجل الخوف وأنه يعذر بذلك، وبين وجود العداوة، لأنه لا بد منها. فإن من لم توجد العداوة من قلبه لم يعاد المشركين، بخلاف الأول فإنها موجودة في قلبه، لكن عجز عن إظهارها، فالواجب عليه مفارقة أوطانهم، والبعد عنهم، فإن لم يهاجر فهو عاص لله بإقامته بين أظهر المشركين. وكذلك سأله عمن كان في دار الإسلام ولم يتعلم أصول الدين، وصار لأجل الجهل بالإسلام يعزر ويوقر أعداء الدين، فبين له في الجواب أن الناس يتفاوتون تفاوتا عظيما بحسب درجاتهم في الإيمان إذا كان أصل الإيمان موجودا، والتفريط والترك إنما هو فيما دون ذلك من الواجبات والمستحبات. فتدبر كلامه -رحمه الله- فإنه قد يتكلم في هذه المسألة من لا علم عنده ولا معرفة بمدارك الأحكام، ويظن أن من لم يعرف الواجبات والمستحبات والمسنونات من الأقوال والأفعال على التفصيل، أنه ممن أعرض عن تعلم هذا الدين، وخلع ربقة الإسلام عن عنقه، وفارق المسلمين. وهذا نص الجواب. بسم الله الرحمن الرحيم من عبد اللطيف بن عبد الرحمن إلى الأخ منيف بن نشاط، لا زال بين اسمه واسم أبيه ارتباط. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. والخط وصل -وصلك الله لما يرضيه- تذكر حديث أبي سعيد، فقول الرسول مقبول، وعلى العين والرأس

_ 1 سورة الأنعام آية: 118.

محمول، وما دل عليه يحصل إن شاء الله، ولكن أنتم أبيتم إلا الخروج والتعلم عن ابن عتيق، وهذا -إن شاء الله- به كفاية. [ذبائح المشركين وطعامهم] فأما مسألة الذبائح، ومن استدل على ذبيحة الوثني والمرتد بقوله -تعالى-: {فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} 1، فهو من أجهل الناس بكتاب الله وسنه نبيه وإجماع الأمة، وهو كمن يستدل على لبس الحرير بقوله -تعالى-: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ} 2 والجهل بالتأويل، وأسباب التنْزيل ضرره وصل كبائر العمائم، فكيف الحال بالحفاة والعوام. واعلم أن قوله -تعالى-: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} 3 فسر بحل الذبائح وأنها هي الطعام، ومفهوم الآية: تحريم ذبائح غير أهل الكتاب من الكفار والمشركين؛ واحتج بهذا أهل العلم، ومفاهيم كلام الله، وكلام رسوله حجج شرعية، وفسر المراد من قوله تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} 4 بأن المراد به ذبيحة المسلم والكتابي إذا ذكر اسم الله عليه أخذ من مفهوم آية المائدة، وهذا هو المشهور المقرر. وفي ذلك كلام وأبحاث لا يحتاج إليها في مثل هذا المقام، لكن من أهمها أن بعض المحققين ذكروا أن الحكمة في تخصيص ذبائح أهل الكتاب بأنهم يذكرون اسم الله، ولا يذكرون اسم من عبدوه عند الذبائح للأكل واللحم، وأما ما ذبحوه تقربا إلى غير الله فهو حرام، وإن ذكرت التسمية عليه، والمقصود ما ذبح للحم. وذكروا أن تحريم ذبيحة المشرك غير الكتابي؛ لأنه لا يأتي بالتسمية ويستحل الميتة، وهذا نظر منهم لأصل من علق الحكم بالمظنة كما علق الحدث بوجود النوم لأنه مظنة. فقول القائل: إن ذبيحة المشرك تباح إذا ذكر اسم الله جهل بهذا، وخروج عن سبيل المؤمنين، وقول السائل: هل التسمية كلا إله إلا الله؟ فليست مثلها من كل الوجوه، ولا ينظر في ذلك إلى هذا البحث.

_ 1 سورة الأنعام آية: 118. 2 سورة الأعراف آية: 32. 3 سورة المائدة آية: 5. 4 سورة الأنعام آية: 118.

[عداوة المشركين وإظهارها] (وأما المسألة الثانية) وهي قولك: من كان في سلطان المشركين، وعرف التوحيد وعمل به. ولكن ما عاداهم ولا فارق أوطانهم؟ (الجواب): أن هذا السؤال صدر عن عدم تعقل لصورة الأمر، والمعنى المقصود من التوحيد والعمل به، لأنه لا يتصور أن يعرف التوحيد ويعمل به، ولا يعادي المشركين، ومن لم يعادهم، لا يقال له عرف التوحيد وعمل به. والسؤال متناقض، وحسن السؤال مفتاح العلم، وأظن مقصودك من لم يظهر العداوة ولم يفارق، ومسألة إظهار العداوة غير مسألة وجود العداوة؛ (فالأول) يعذر به مع الخوف، والعجز لقوله -تعالى-: {إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً} 1 (والثاني) لا بد منه لأنه يدخل في الكفر بالطاغوت، وبينه وبين حب الله ورسوله تلازم كلي لا ينفك عن المؤمن. فمن عصى الله بترك إظهار العداوة فهو عاص لله، فإذا كان أصل العداوة في قلبه فله حكم أمثاله من العصاة، فإذا انضاف إلى ذلك ترك الهجرة، فله نصيب من قوله -تعالى- {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} 2 الآية لكنه لا يكفر لأن الآية فيها الوعيد لا التكفير. (وأما الثاني) الذي لا يوجد في قلبه شيء من العداوة فيصدق عليه قول السائل: لم يعاد المشركين، فهذا هو الأمر العظيم، والذنب الجسيم، وأي خير يبقى مع عدم عداوة المشركين؟ والخوف على النخل والمساكن، ليس بعذر يوجب ترك الهجرة، قال -تعالى-: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ} 3. [الجهل بقواعد الإسلام وتوقير أعدائه] (وأما المسألة الثالثة) وهي: من كان في دار الإسلام، ولا تعلم أصول الدين ولا قواعده، ولأجل الجهل بها صار يعزر ويوقر أعداء الدين.

_ 1 سورة آل عمران آية: 28. 2 سورة النساء آية: 97. 3 سورة العنكبوت آية: 56.

(فالجواب): أن أحوال الناس تتفاوت تفاوتا عظيما، وتفاوتهم بحسب درجاتهم في الإيمان إذا كان أصل الإيمان موجودا، والتفريط والترك إنما هو فيما دون ذلك من الواجبات والمستحبات، وأما إذا عدم الأصل الذي يدخل به في الإسلام، وأعرض عن هذا بالكلية، فهو كفر إعراض، فيه قوله -تعالى-: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالأِنْسِ} 1 الآية، وقوله: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا} 2 الآية. ولكن عليك أن تعلم أن المدار على معرفة حقيقة الأصل، وحقيقة القاعدة، ويعبر بغير التعبير المشهور، وتعزيرهم وتوقيرهم، كذلك تحته أنواع أيضا؛ أعظمها رفع شأنهم، ونصرتهم على أهل الإسلام ومبانيه، وتصويب ما هم عليه، فهذا وجنسه من المكفرات، ودونه مراتب من التوقير بالأمور الجزئية كلياقة الدواة ونحوها. وأما قوله لأبي شريح، فليس فيه ما يدل على تحسين الباطل والحكم به، بل ذكروا وجوها متعددة في معنى ذلك، كلها تفيد البعد والتحريم لمثل فعل البوادي. ومِن أحسن ما قيل: إن هذا تحسين لفعل صدر في الجاهلية، قبل ظهور الشرائع الإسلامية، فلما جاء الشرع أبطل ذلك، و"إذا جاء نهر الله بطل نهر معقل"، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.

_ 1 سورة الأعراف آية: 179. 2 سورة طه آية: 124.

الرسالة الحادية والستون: الفتن والامتحانات التي وقعت بين آل سعود وحكمة الله فيها

الرسالة الحادية والستون [الفتن والامتحانات التي وقعت بين آل سعود وحكمة الله فيها] وله أيضا -رحمه الله، وعفا عنه- رسالة إلى محمد بن علي فيما جرى من الفتن والامتحانات التي وقعت بين آل سعود، وسارع أكثر الناس إليها، واستشرف لها. وكان من جملة من سارع إلى سعود بعد قتله المسلمين علي بن محمد، فصار ابنه يعتذر عنه، ويطلب من الشيخ أن يكتب له كتابا، ولكن علم الشيخ -رحمه الله- أن أباه قد تلبس بالفتنة، وأنه لا ينجع فيه شيء، وهذا نص الجواب: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى الابن محمد بن علي، كشف الله عنه كل ريب وغمه، وسلك بنا وبه سبل سلف الأمة. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد: فأحمد إليك الله -تعالى- على ما اختصنا به من سوابغ إنعامه، وما ألبسناه من ملابس إكرامه، والخط وصل، وما ذكرته صار معلوما. فأما ما أجرى الله من الفتن والامتحان، فلله -سبحانه- فيها حكم يستحق عليها الحمد، منها تمييز الخبيث من الطيب، والصادق من الكاذب، وذي البصيرة من الأعمى، كما دل عليه صدر سورة العنكبوت، والآيات من سورة البقرة وآل عمران، وغير ذلك من آي القرآن. ونذكر أن أباك يوم يركب ما ظن لعبد الله ولاية، ولا أن عبد الله سيعود إليه عن قريب، والظن أكذب الحديث، وظن السوء أورد أهله الموارد المهلكة في الدنيا والآخرة. والعجب من فقيه يحكي هذا محتجا به، وقد تربى -بحمد الله- بين يدي طلبة العلم وأهل الفتوى، أي حجة في هذا لو كانوا يعلمون؟! ولو دعوت أباك إلى لزوم السنة والجماعة، والوفاء بالعهد الذي يُسأل

عنه يوم تنكشف السرائر، لكان هذا من أعظم البر وأرجحه في ميزانك، لا سيما وقد جاءك من العلم ما لم يؤته. ثم لو فرض أن هذا الظن متحقق في نفس الأمر، فأي مسوغ للمسارعة إلى الذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءتهم البينات، وسفكوا الدماء بغير بينة ولا سلطان؟ ينبغي أن يتنزه عن هذا سوقة الناس وعامتهم، وإنما خاطبتك بلسان العلم لحسن ظني، والأكثر قد تحققت هلاكهم، وأنهم في ظلمة الجهل، لم يستضيئوا بنور العلم ولم يلجؤوا إلى ركن وثيق، وبعض من ينتسب إلى الدين قد عرف ما هناك، ولكنه آثر العاجلة، وأخلد إلى الأرض واتبع هواه، وأبدى من المعاذير ما لا ينجي يوم العرض على الله. وأما يمينك على أنك تحققت من أبيك أنه لا ينكث عهده، ولو يقال لك: الدنيا ومثلها معها، فعجب لا ينقضي، والله يغفر لك، وهل لنكث العهد حقيقة تباين ما وقع؟ "اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون". وقولك: {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ} 1 حق نؤمن به، ولا نحتج به على شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا. وأما الخط مني له فخطي إليك يكفي، ومثلك لا يخفى عليه وجوب الجهاد، وأنه ركن من أركان الإسلام، وذروة سنامه كما هو مقرر في محله، والآيات القرآنية لا يتسع هذا الموضع لسياقها. بقي أن يقال: هل الجهاد في هذه القضية جهاد في سبيل الله؟ وهذه المسألة لا يختص بها طالب علم، بل كل من كان له نصيب من نور الفطرة ونور الإسلام يعرف هذه المسألة، ولا تلتبس عليه.

_ 1 سورة يوسف آية: 21.

ومن المقرر في عقائد أهل السنة: أن الجهاد ماض مع كل إمام بر أو فاجر؛ وأبوك وغيره يعلمون أن المسلمين بايعوا عبد الله، وسعود من جملة من بايع، وأن البيعة صدرت عن مشورة المسلمين على يد شيخهم وإمامهم في الدين، والدنا -قدس الله روحه-، فأي شيء نسخ هذا؟ أنت وأبوك تعرفون حال عبد الله منا فيما سلف، والمؤمن يعامل ربه، ولا يتشفى بما يفسد دينه. نسأل الله لنا ولكم الثبات على دينه الذي ارتضاه لنفسه، ونعوذ بالله من اتباع خطوات الشيطان، والرغبة عن سبيل أهل السنة والقرآن. وذكر أباك حديث ابن عباس في استفتاحه صلى الله عليه وسلم في صلاته إذا قام من الليل، وذاكره بما ظهر لك فيه من حقائق العلم والإيمان، واعرف جلالة هذا المطلوب وعظيم قدره وقدر ما توسل به السائل إلى مطلوبه، والمقام يقتضي البسط لحاجة السائل وغيره، ولعل الله يمنُّ بذلك، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.

الرسالة الثانية والستون

الرسالة الثانية والستون وله أيضا -قدس الله روحه، ونور ضريحه- كلام في توحيد الأسماء والصفات، وتوحيد العبادة، أبلغ فيه غاية البلاغة، وأفصح في ترصينه وترصيعه بأوضح عبارة. فحقيق لمن نصح نفسه، ولها عنده قدر وأحب سعادتها، وسعى في نجاتها وتخليصها، وأراد إفادتها أن يتحقق بما اشتمل عليه من الحقائق والمعارف، ويسيم ثاقب فكره في مروج معانيه، وما احتوى عليه من العلوم النافعة واللطائف، لأن ما اشتمل عليه هو أهم الأشياء وأجل العلوم، وعليه المدار، وعنه السؤال يوم القيامة. وأمر هذا شأنه حقيق بأن تثنى عليه الخناصر، ويعض عليه بالنواجذ، وقبض فيه على الجمر، فتدبره تجده قد أودعه من الكنوز ما لم تجده في المطولات، بأتم عبارة وأوضح بيان لأهل العقول المستنيرات، وأجلى عن محاسن معانيها غياهب الشكوك والضلالات، وأوهام أرباب الشبه والجهالات، فصار قرة عيون الموحدين، وقذى في عيون المشركين. فيا حي يا قيوم يا من له الثنا ... ويا من على العرش استوى فهو بائن أنله الرضى والعفو فضلا ورحمة ... فإن (الفتى) يجزى بما هو دائن وقد بذل المجهود في نصرة الهدى ... وإعلائه حتى علا لا يداهن وأبدى كنوزًا في العبادة للورى ... لكي يستبين الرشد مَن هو مائن أماط القذى عنها وصفى معينها ... لواردها الصادي وما هو شائن فرد منهلا عذبا زلالا فإنه ... يزيل الصدى والحق كالشمس بائن وهذا نصه: بسم الله الرحمن الرحيم [الإيمان بالأسماء الحسنى بلا تكييف ولا تعطيل] اعلم -أرشدك الله- أن الله -تعالى- خلق الخلق لعبادته، الجامعة لمعرفته ومحبته، والخضوع له وتعظيمه، والإنابة إليه، والتوكل عليه، وإسلام الوجه له، وهذا هو الإيمان المطلق المأمور به في جميع الكتب السماوية وسائر الرسالات النبوية. ويدخل في باب معرفة الله توحيد الأسماء والصفات،

فيوصف -سبحانه- بما وصف به نفسه من الصفات، ونعوت الجلال، وبما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم لا يتجاوز، ولا يوصف إلا بما ثبت في الكتاب والسنة. وجميع ما في الكتاب والسنة يجب الإيمان به من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل، قال الله -تعالى-: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} 1 فأسماؤه كلها حسنى لأنها تدل على الكمال المطلق، والجلال المطلق، والصفات الجميلة؛ فنثبت ما أثبته الرب لنفسه، وما أثبته رسوله، ولا نعطله، ولا نلحد فيه، ولا نشبه صفات الخالق بصفات المخلوق؛ فإن تعطيل الصفات عما دلت عليه كفر، والتشبيه فيها كذلك كفر. وقد قال مالك بن أنس -رحمه الله- لما سأله رجل فقال: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى 2} فاشتد ذلك على مالك حتى علته الرحضاء إجلالا منه، وهيبة له من الخوض في ذلك، ثم قال -رحمه الله-: "الاستواء معلوم، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة". يريد -رحمه الله- السؤال عن الكيفية، وهذا الحق يقال في جميع الصفات؛ لأنه يجمع الإثبات والتنْزيه. [الإيمان بتوحيد الربوبية] ويدخل في الإيمان بالله ومعرفته، الإيمان بربوبيته العامة الشاملة لجميع الخلق والتكوين، وقيوميته العامة الشاملة لجميع التدبير والتيسير والتمكين، فالمخلوقات بأسرها مفتقرة إليه في خلقها وإنشائها وإبداعها، قال -تعالى-: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ} 3. [الإيمان بتوحيد الألوهية] ويدخل في الإيمان إيمان العبد بتوحيد الإلهية الذي تتضمنه شهادة الإخلاص: لا إله إلا الله، فقد تضمنت نفي استحقاق العبادة

_ 1 سورة طه آية: 8. 2 سورة طه آية: 5. 3 سورة فاطر آية: 15.

بجميع أنواعها عما سواه -تبارك وتعالى- من كل مخلوق ومربوب، وأثبتت ذلك على وجه الكمال الواجب والمستحب لله -تعالى، فلا شريك له في فرد من أفراد العبادة؛ إذ هو الإله الحق المستحق المستقل بالربوبية والملك والعز والغنى والبقاء، وما سواه فقير مربوب، معبد خاضع، لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا، فعبادة سواه أظلم الظلم، وأسفه السفه. والقرآن كله رد على من أشرك بالله في هذا التوحيد، مبطل لمذاهب جميع أهل الشرك والتنديد، آمر مرغب في إسلام الوجه لله والإنابة إليه، والتوكل عليه، والتبتل في عبادته، والعبادة في أصل اللغة لمطلق الذل والخضوع، ومنه طريق معبد إذا كان مذللا قد وطأته الأقدام، كما قال الشاعر: تبارى عتاقًا ناجيات وأتبعت ... وظيفا وظيفا فوق مور معبد واستعملها الشارع في العبادة الجامعة لكمال المحبة وكمال الذل والخضوع، وأوجب الإخلاص له فيها، كما قال -تعالى-: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} 1. وهذا هو التوحيد الذي جاءت به الرسل، ونزلت به الكتب. والعبادة إذا خالطها الشرك أفسدها وأبطلها، ولا تسمى عبادة إلا مع التوحيد. انتهى. [العبادة الشرعية] ويدخل في العبادة الشرعية كل ما شرعه الله ورضيه من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة كمحبة الله وتعظيمه وإجلاله وطاعته، والتوكل عليه، والإنابة إليه، ودعائه خوفا وطمعا، وسؤاله رغبا ورهبا، وصدق الحديث، وأداء الأمانة، والوفاء بالعهود، وصلة الأرحام، والإحسان إلى الجار واليتيم، والمسكين وابن السبيل، وكذا النحر والنذر فإنهما من أجل العبادات وأفضل الطاعات، وكذا الطواف ببيته -تعالى-، وحلق

_ 1 سورة الزمر آية: 2.

الرأس تعظيما وعبودية، وكذا سائر الواجبات والمستحبات. فحق الله على العباد أن يعبدوه وحده لا شريك له، ولا يشركوا به شيئا؛ والشرك في العبادة ينافي هذا التوحيد ويبطله، كما قال -تعالى-، لما ذكر خواص أوليائه ومقربي رسله: {ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} 1. والشرك قد عرفه النبي صلى الله عليه وسلم بتعريف جامع كما في حديث ابن مسعود أنه قال: "يا رسول الله أي الذنب أعظم؟ قال: أن تجعل لله ندا، وهو خلقك"2 والند المثل والشبيه. [الإخلاص شرط قبول العبادة] فمن صرف شيئا من العبادات لغير الله فقد أشرك به شركا يبطل التوحيد وينافيه؛ لأنه شبه المخلوق بالخالق وجعله في مرتبته؛ ولهذا كان أكبر الكبائر على الإطلاق، ولما فيه من سوء الظن به -تعالى-، كما قال الخليل -عليه السلام-: {أَإِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} 3، قال العلامة ابن القيم: أي فما ظنكم أن يجازيكم إذا لقيتموه، وقد عبدتم غيره؟ وما ظننتم بأسمائه وصفاته وربوبيته من النقص حتى أحوجكم ذلك إلى عبودية غيره؟ فلو ظننتم به ما هو أهله من أنه: {كُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} 4، و: {كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} 5، وأنه غني عن كل ما سواه، وكل ما سواه مفتقر إليه، وأنه قائم بالقسط على خلقه، وأنه المتفرد بتدبير خلقه، لا يشرك فيه غيره، والعالم بتفاصيل الأمور، ولا تخفى عليه خافية من خلقه، والكافي لهم -وحده- لا يحتاج إلى معين، والرحمن بذاته، فلا يحتاج في رحمته إلى من يستعطفه. [الله غني عن عباده] وهذا بخلاف الملوك وغيرهم من الرؤساء؛ فإنهم محتاجون إلى من يعرفهم أحوال الرعية وحوائجهم، والذي يعينهم على قضاء حوائجهم، وإلى من يسترحمهم ويستعطفهم بالشفاعة، فاحتاجوا إلى الوسائط ضرورة لحاجتهم

_ 1 سورة الأنعام آية: 88. 2 البخاري: الأدب (6001) , ومسلم: الإيمان (86) , والترمذي: تفسير القرآن (3182 ,3183) , والنسائي: تحريم الدم (4013 ,4014 ,4015) , وأبو داود: الطلاق (2310) , وأحمد (1/ 380 ,1/ 431 ,1/ 434 ,1/ 462 ,1/ 464). 3 سورة الصافات آية: 86. 4 سورة البقرة آية: 29. 5 سورة البقرة آية: 20.

وعجزهم وضعفهم وقصور علمهم، فأما القادر على كل شيء، الغني بذاته عن كل شيء، العالم بكل شيء، الرحمن الرحيم الذي وسعت رحمته كل شيء، فإدخال الوسائط بينه وبين خلقه تنقيص لحق ربوبيته وإلهيته وتوحيده، وظن به ظن السوء، وهذا يستحيل أن يشرعه لعباده، ويمتنع في العقول والفطر، وقبحه مستقر في العقول السليمة فوق كل قبح. انتهى. [حقيقة الإخلاص كمال المحبة] إذا عرفت هذا فصلاح العبد وفلاحه، وسعادته ونجاته، وسروره ونعيمه، في إفراد الله بهذه العبادات، والإنابة إليه بما شرعه لعباده منها، وأصلها كمال المحبة وكمال الذل والخضوع كما تقدم. هذا سر العبادات وروحها، ولا بد في عبادة الله من كمال الحب وكمال الخضوع، فأحب خلق الله إليه، وأقربهم منزلة عنده، من قام بهذه المحبة والعبودية، وأثنى عليه -سبحانه- بذكر أوصافه العلى، فمن أجل ذلك كان الشرك أبغض الأشياء إليه لأنه ينتقص هذه المحبة والخضوع والإنابة والتعظيم، ويجعل ذلك بينه وبين من أشرك به، والله: {لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} 1 لأنه يتضمن التسوية بينه -تعالى- وبين غيره في المحبة والتعظيم، وغير ذلك من أنواع العبادة. قال -تعالى-: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا} 2: أخبر -سبحانه- أن من أحب شيئا دون الله كما يحب الله، فقد اتخذه ندا، وهذا معنى قول المشركين لمعبوداتهم: {إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} 3، فهذه تسوية في المحبة والتأله، لا في الذات والأفعال والصفات؛ فمن صرف ذلك لغير آلهة الحق فقد أعرض عنه، وأبق عن مالكه وسيده، فاستحق مقته وبغضه، وطرده عن دار كرامته ومنزل أحبابه.

_ 1 سورة النساء آية: 48. 2 سورة البقرة آية: 165. 3 سورة الشعراء آية: 97.

[أقسام المحبة] والمحبة ثلاثة أنواع: محبة طبيعية كمحبة الجائع للطعام، والظمآن للماء، وغير ذلك، وهذا لا يستلزم التعظيم. (والنوع الثاني): محبة رحمة وإشفاق كمحبة الوالد لولده الطفل ونحوها؛ وهذه أيضا لا تستلزم التعظيم. (والنوع الثالث): محبة أنس وألفة؛ وهي محبة المشتركين في صناعة أو علم، أو مرافقة، أو تجارة، أو سفر بعضهم لبعض، وكمحبة الأخوة بعضهم بعضا، فهذه المحبة التي تصلح للخلق بعضهم لبعض ووجودها فيهم لا يكون شركا في محبة الله -سبحانه-، ولهذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب الحلوى والعسل، وكان أحب الشراب إليه الحلو البارد، وكان أحب اللحم إليه الذراع، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب نساءه، وكانت عائشة أحبهن إليه، وكان يحب أصحابه، وأحبهم إليه الصديق. وأما المحبة الخاصة التي لا تصلح إلا لله وحده، ومتى أحب العبد بها غيره كان شركا لا يغفره الله، فهي محبة العبودية المستلزمة للذل والخضوع والتعظيم وكمال الطاعة، وإيثاره على غيره، فهذه المحبة لا يجوز تعلقها بغير لله أصلا، وهي التي سوى المشركون بين آلهتهم وبين الله فيها، وهي أول دعوة الرسل، وآخر كلام العبد المؤمن الذي إذا مات عليه دخل الجنة، اعترافه وإقراره بهذه المحبة، وإفراد الرب بها، فهي أول ما يدخل به في الإسلام، وآخر ما يخرج به من الدنيا إلى الله. وجميع الأعمال كالأدوات والآلات لها، وجميع المقامات وسائل إليها، وأسباب لتحصيلها وتكميلها وتحصينها من الشوائب والعلل؛ فهي قطب رحى السعادة، وروح الإيمان، وساق شجرة الإسلام، ولأجلها أنزل الله الكتاب والحديد، فالكتاب هاد إليها، ودال عليها، ومفصل لها، والحديد لمن خرج عنها، وأشرك مع الله غيره فيها، ولأجلها خلقت

الجنة والنار؛ فالجنة دار أهلها الذين أخلصوها لله وحده، وأخلصهم لها، والنار دار من أشرك فيها مع الله غيره، وسوى بينه وبين الله فيها؛ فالقيام بها واجب علما وعملا وحالا، وتصحيحها هو تصحيح شهادة أن لا إله إلا الله. فحقيق لمن نصح نفسه، وأحب سعادتها ونجاتها، أن يتفطن لهذه المسألة، وتكون أهم الأشياء عنده، وأجل علومه وأعماله؛ فإن الشأن كله فيها والمدار عليها، والسؤال عنها يوم القيامة، كما قال -تعالى-: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} 1، قال غير واحد من السلف عن قول لا إله إلا الله: وهذا حق؛ فإن السؤال كله عنها، وعن أحكامها وحقوقها، قال أبو العالية: كلمتان يسأل عنها الأولون والآخرون: ماذا كنتم تعبدون؟ وماذا أجبتم المرسلين؟ فالسؤال عما كانوا يعبدون سؤال عنها نفسها، والسؤال عماذا أجابوا المرسلين سؤال عن الطريق والوسيلة المؤدية هل سلكوها، وأجابوا الرسل لما دعوهم إليها؟ فعاد الأمر كله إليها. وأمر هذا شأنه حقيق بأن تثنى عليه الخناصر، ويعض عليه بالنواجذ، ويقبض فيه على الجمر، ولا يؤخذ بأطراف الأنامل، ولا يطلب فضلة، بل يجعل هو الطلب الأعظم، وما سواه إنما يطلب فضلة. والله المسؤول أن يمن علينا بتحقيق ذلك علما وعملا وحالا، ونعوذ بالله أن يكون حظنا من ذلك مجرد حكايته، وصلى الله على عبده ورسوله محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرًا.

_ 1 سورة الحجر آية: 92.

الرسالة الثالثة والستون

الرسالة الثالثة والستون وله أيضا -قدس الله روحه، وعفا عنه- رسالة إلى أهل الحوطة يذكر ما منَّ الله به عليهم من دعوة شيخ الإسلام، وعلم الهداة الأعلام، الشيخ محمد بن عبد الوهاب، إلى ما دعت إليه الرسل من معرفة الله وخشيته وعبادته، والقيام بأركان الإسلام وأصول الإيمان، فقال -رحمه الله-: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد اللطيف بن عبد الرحمن إلى الإخوان من أهل الحوطة، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. [دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب إلى تجديد الدين] وبعد: اعلموا أن الله بعث محمدًا بالهدى ودين الحق، فالهدى هو العلم النافع، ودين الحق هو العمل الصالح، ولا يكفي أحدهما عن الآخر في النجاة والسلامة من الوعيد الدنيوي والأخروي. وقد منَّ الله -تعالى- عليكم بدين الإسلام، واختصكم به دون كثير من الأنام لما أتاح الله لكم شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب، فدعا إلى ما دعت إليه الرسل من معرفة الله وخشيته، وعبادته وحده لا شريك له، والقيام بالأركان الإسلامية والأصول الإيمانية. فأعز الله بذلك من قبله ونصره، ورفع قدرهم وشأنهم، وجعلهم ملوكا تهابهم الأمم، وينقاد لأمرهم جمهور العرب باديتهم وحاضرتهم. ولم يزالوا كذلك قاهرين حتى حدث ما حدث، ووقع ما وقع من الإعراض والقسوة، والتمادي على معاصي الله؛ فسلط عليهم العدو، وافترقت الكلمة وانخرم النظام، وعثا الفجرة اللئام في دماء أهل الإسلام وأموالهم، وكثر الخوض، ونسي العلم، والتبس أمر التوحيد والإيمان على كثير من الخلق.

وصارت فتنة عمياء صماء، لا يبصر صاحبها ولا يسمع، وما زال غمامها لم ينقشع، وليلها يحلولك ولا يدبر، وأبناؤها بساحتكم يحاولون إطفاء نور الله .. فسارعوا وبادروا إلى التوبة والإقلاع والندم والاستغفار، وتعاونوا على البر والتقوى وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، قال -تعالى-: {وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ} 1. فراجعوا دينكم قبل أن يحل من أمر الله ما لا تدفعون، وينزل من بأسه ما لا تردون: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} 2. ويجب على من كان يؤمن بالله واليوم الآخر أن يعينهم بحسب طاقته بيده أو بلسانه، وهذا من أسباب بقاء التوحيد فيكم والإسلام، وحمايتكم دياركم من عبادة الأوثان والأصنام، وحفظ ما خولكم الله من سوابغ الفضل والإنعام. وكثير من الناس يحصل منهم أسباب ووسائل وذرائع إلى زوال النعم، وحلول السخط والنقم، منها التهاون بنعمة الإسلام والتوحيد، واختلاف القلوب والعداوة الظاهرة، وترك نصرة الإسلام، والتوجع لمصابه، والإقبال على الدنيا ونسيان الآخرة، والاستخفاف بالأركان الإسلامية كإضاعة الصلاة، ومنع الزكاة وأخذها بغير حقها، وترك السمع والطاعة لأولي الأمر من الأمراء والعلماء؛ فهذه أسباب وعلامات على نزول العقوبة، وحلول النقمة، وانتقال النعمة، قال -تعالى-: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا} 3. ودائرتكم ليست على الحال الأولى في مبدأ الإسلام وبعده، والعاقل يعرف ذلك في نفسه وأهل بلده، وقد ذم الله -تعالى- من قست قلوبهم، ولم يتضرعوا عند حلول بأسه وانتقامه، قال: {فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا

_ 1 سورة الأعراف آية: 170. 2 سورة آل عمران آية: 104. 3 سورة الإسراء آية: 16.

وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} 1. [الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر] وذم الله تعالى من ليس فيهم بقية ينهون عن الفساد في الأرض، ويأخذون على يد السفهاء فقال -تعالى -: {فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ} 2، يخبر -تعالى- أنهم اتبعوا الشبهات، وآثروا اللذات، فكانوا من جملة المجرمين، وقال -تعالى -: {فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} 3. فدلت هذه الآية على أن الإيمان والعمل الصالح يكشف العذاب عند نزوله، ويمتع به المؤمن حينا من الدهر. وقد أمدكم الله بنعمه، وعمر بلدكم ومساكنكم بالإسلام والسمع والطاعة، فاحذروا الرجوع على أعقابكم وتبديل النعمة، قال -تعالى-: {وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} 4، وقال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لِسَبَأٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُور َ} 5 إلى قوله -تعالى-: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} 6. فتدبروا ما في هذه الآيات الكريمات، التي هي من أوضح الواضحات، وأبين الحجج والبينات، وتفطنوا فيما ذكر من الإعراض عن الشكر وما اقتضوه من العقوبة والعذاب؛ وفقنا الله وإياكم لتدبر القول وحسن العمل والختام، وصلى الله على رسوله ونبيه محمد وآله وصحبه وسلم.

_ 1 سورة الأنعام آية: 43. 2 سورة هود آية: 116. 3 سورة يونس آية: 98. 4 سورة البقرة آية: 211. 5 سورة سبأ آية: 15. 6 سورة سبأ آية: 19.

الرسالة الرابعة والستون: تفسير قوله تعالى: {ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع}

الرسالة الرابعة والستون [تفسير قوله تعالى: {ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع}] وله أيضا -رحمه الله، وعفا عنه- رسالة إلى الشيخ حمد بن عتيق لما سأله عن كلام الشارح الشيخ سليمان بن عبد الله على قوله -تعالى-: {لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ} 1، فقال -رحمه الله تعالى-: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى الأخ الشيخ حمد بن عتيق، سلمه الله تعالى: سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: فنحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، وخطك الشريف وصل -وصلك الله لما يرضيه- وما ذكرته صار معلوما؛ والله أسأل أن يصلح السريرة والعلانية، ويصلح ما بيننا وبين خلقه، وما توفيقنا إلا بالله. وما ذكرت من جهة كلام الشارح على آية الأنعام، وأن قوله-تعالى-: {لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ} 2 نصب على الحال، فهذا عليه غير واحد من المفسرين: قال الجلال: وجملة النفي حال من ضمير يحشروا، وهي محل الخوف. وقال البيضاوي: {لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ} 3 في موضع الحال من (يحشروا)؛ فإن المخوف هو الحشر على هذه الحالة. وقد سبقهم إلى هذا الزجاج، وابن كثير حلّ المعنى ولم يتعرض لإعرابه، ويظهر مراده من تقريره كلامه، قال: وقوله تعالى: {وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ} 4 الآية، أي: أنذر بهذا القرآن يا محمد {الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ} 5

_ 1 سورة الأنعام آية: 51. 2 سورة الأنعام آية: 51. 3 سورة الأنعام آية: 51. 4 سورة الأنعام آية: 51. 5 سورة المؤمنون آية: 57.

الذين {وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُم وَيَخَافُونَ سُوء الْحِسَابِ} 1. {الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ} 2؛ أي: يوم القيامة، {لَيْسَ لَهُمْ} أي: يومئذ، {مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ} 3 أي: في التقريب له، {وَلا شَفِيعٌ} 4 فيهم من عذابه إن أرادهم به، {لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} 5 يعملون في هذه الدار عملا ينجيهم الله به يوم القيامة من عذابه، ويضاعف لهم الجزاء من ثوابه. انتهى. وهو يشير إلى جواز جعله صفة لمحذوف دل عليه السياق، والعائد في الجملة الوصفية يكفي تقديره، كقوله -تعالى-: {وَاتَّقُوا يَوْمًا لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا} 6 والبغوي لم يتعرض لتقدير شيء. وبهذا يظهر الجواب عن قولك: ما يقال في تقريره؟ فإن الله أمر رسوله أن ينذر بالقرآن عباده المؤمنين الذين يؤمنون بلقائه، ويخافون فيه سوء الحساب، في يوم لا ولي لهم فيه ولا شفيع من دونه": {لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} ذلك بفعل ما أمروا به وترك ما نهوا عنه؛ وعلى الأول يخافون الحشر وسوء الحساب، في حال تخليهم وانفرادهم عن الأولياء والشفعاء، وخصوا بذلك لأنهم هم المتقون بالإنذار، المتقون عذاب ذلك اليوم وعقابه، بخلاف من تعلق بالأولياء والشفعاء، واعتمد عليهم في نجاته، فإنه غير خائف، ولا متق لسكون جأشه، واطمئنان قلبه بوليه وشفيعه. والله الهادي الموفق، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.

_ 1 سورة الرعد آية: 21. 2 سورة الأنعام آية: 51. 3 سورة الأنعام آية: 51. 4 سورة الأنعام آية: 51. 5 سورة الأنعام آية: 51. 6 سورة البقرة آية: 48.

الرسالة الخامسة والستون: رد مطاعن على الشيخ محمد بن عبد الوهاب

الرسالة الخامسة والستون [رد مطاعن على الشيخ محمد بن عبد الوهاب] وله أيضا -رحمه الله تعالى- رسالة إلى عبد العزيز بن إبراهيم بن عبد اللطيف صاحب الفرعة من بلد الوشم، لما سأله عن بعض ما يذكر الناس من إنكاره، وما نسب لعثمان بن منصور من عداوة الدين، وموالاة المشركين، ومسبة أئمة المسلمين، وجعلهم من الخوارج المارقين، فكشف له عن حاله، بما ستقف عليه مما ظهر واشتهر من حاله ومقاله، وما صرح به في مصنفاته من مسبة أهل الإسلام، ونسبتهم إلى مذهب الخوارج المارقين، ونسبة الشيخ إلى أنه أجهل من أبي جهل، وأنه ضال مضل. وهذا نص الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد اللطيف بن عبد الرحمن إلى جناب الأخ المكرم عبد العزيز بن إبراهيم بن عبد اللطيف -سلمه الله تعالى-. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد، فنحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو، والخط وصل، وسرّنا سلامتك وعافيتك، جعلنا الله وإياك من أهل العافية في الدنيا والآخرة. وتذكر أن بعض الناس عندكم ينكر ما نسب إلى ابن منصور من عداوة الدين وموالاة المشركين، ومسبة أئمة المسلمين، وجعلهم من الخوارج المارقين؛ وهذا أظهر شيء وأبينه، عند من عرف حال هذا الرجل وجالسه، ونظر في كلامه، فإنه يبديه كثيرا لجلسائه، ويذكر في رسائله ومصنفاته، وهوامشه التي يعلقها. والرجل فيه رعونة تمنعه من المداراة والتقية، حتى في كتابه الذي زعم أنه شُرح على التوحيد، رأيت فيه من الدواهي والمنكرات ما لا يحصيه إلا الله، من ذلك قوله في الكلام على قوله -تعالى-:

{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} 1 أن ابن العربي المالكي قال: العبادة هي موافقة القضاء والقدر، وابن عباس يقول: كفر الكافر تسبيح، وهذا رأيته بخط ابن نصر الله من أهل دائرته في كلامه على كتاب التوحيد؛ ولهذه نظائر وأخوات لا يعرفها إلا من وقف على كلامه من طلبة العلم، ونبرأ إلى الله أن نبهت مسلما، وأن نفتري عليه ونؤذيه بغير ما اكتسب، وإنما يظن هذا بنا حزب الشيطان وجنده من الجاهلين الذين لم يستضيئوا بنور العلم، وكتابه الذي وقفنا عليه في هذه الأيام بخط يده، نظر فيه من يعرفه يقينا من أهل سدير عبد العزيز بن عبيان وغيره وعلي بن عيسى من أهل الوشم. وكثير من طلبة العلم والعامة شهدوا بأن هذا خطه بيده، ومسبته فيه للتوحيد ومن جاء به حشو بالزنبيل، وتصريحه بتزكية أهل الأمصار ممن عبَدَ القباب والصالحين، وجعلهم: {خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} 2، والشيخ وأتباعه على إفراد الله بالعبادة عنده خوارج من أهل النهروان. ويصرح بأن الشيخ ضال مضل، وأنه أجهل من أبي جهل بمعنى لا إله إلا الله، وأنه ضل في تخطئة صاحب البردة، وأن دعاء رسول الله وطلب الشفاعة منه بعد موته جائز، وأن الله ابتلى أهل نجد بهذا الرجل، بل ابتلى به جزيرة العرب، وأنه لم يتخرج على العلماء، وأن أهل الأمصار يبنون المساجد والمنارات، وأنه أخذ بلدان المسلمين بيت مال له ولعياله، وأنه أتى الأمة من الباب الضيق وهو تكفيرها، ولم يأتها من الباب الواسع. ورد مسائل في كشف الشبه ومسائل في كتاب التوحيد، ومن الستة المواضع التي تكلم الشيخ عليها من السيرة، وأتى بجهالات وضلالات، ووقاحة ومسبة لا تصدر ممن يؤمن بالله واليوم الآخر؛ ومن كذب بهذا النقل فهو مكابر معاند،

_ 1 سورة الذاريات آية: 56. 2 سورة آل عمران آية: 110.

جاحد للحسيات والمتواترات، والغالب أن هذه المكابرة لا تقع من محب لما جاء به الشيخ من توحيد الله ودينه، وإنما يذهب إليها من في قلبه مرض يتوصل بهذه المكابرة والمباهتة إلى رد التوحيد، وبغضه وبغض أهله؛ وأكثر هذا الصنف ليس لهم التفات إلى ما جاءت به الرسل، والغالب عليهم هو الغفلة عن ذلك والإعراض عنه. وقد قال -تعالى-: {فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى} 1 واقرأ هذه الرسالة على من ارتاب في أمره، وماحل وجادل في دين الله: {وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} 2. وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم، ثم قال -رحمه الله-: [مسألة في الخلع] وأما المسألة التي سألت عنها في الخلع، فجوابها: أن الخلع يقع بائنا، لا تحل الزوجة بعده لزوجها إلا بعقد جديد، وليس له استرجاعها كما نص عليه أهل العلم، والله أعلم.

_ 1 سورة النجم آية: 29. 2 سورة الأحزاب آية: 4.

الرسالة السادسة والستون: رد على الشيخ عثمان بن منصور

الرسالة السادسة والستون [رد على الشيخ عثمان بن منصور] وله -رحمه الله تعالى- رسالة إلى عثمان بن منصور قبل أن يتبين من أمره ما تبين، وقبل أن يتضح أمره وتظهر مصنفاته ورسائله، لكنه قد يظهر من حاله، وبعض مقاله، ويلوح من صفحات وجهه وفلتات لسانه ما يغمص به، وتنسب إليه هفوات، وشيء من الكوارث القوادح والمعضلات، وكان مع ذلك يظهر الموافقة، وهو يبطن -والعياذ بالله- المخالفة والمشاقة، حتى وضح أمره واشتهر، فلم يخف ذلك على من له بصر، وله معرفة ونظر، والله أعلم بما آل إليه أمره، وختم له به، ونعوذ بالله من غضبه وأليم عقابه. وهذا نص الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن إلى الأخ الشيخ عثمان بن منصور، أنقذه الله من طوارق الفتن والشرور، ورفع نعته عن سفاسف الأمور. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد: فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو على ما ألبسنا من ملابس فضله، التي لا تخلعها الأنداد، وأستزيده من خزائن بره، التي ليس لها انقضاء ولا نفاد. أما بعد: فقد وصل إلينا منك خطابان: (فأولهما) صادف حين الاشتغال بلقاء الأحبة والآل، (وأما الثاني) فبعد أن ألقيت عصا الترحال، وارتاح من ألم شوقه القلب والبال، فبمجرد الوقوف على خطك ومطالعة نقشك ووشيك، بحثت عن الوجه الذي تدلي به علينا، وعن حقيقة المعنى الذي تشير به إلينا، وما هو اللائق في إجابة أمثالك، وهل يحسن بنا النسج على منوالك، أو نقتصر على موجب: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ} 1 إذ ليس وراءها مزية

_ 1 سورة النساء آية: 86.

دينية شرعية، لأكون على بصيرة من أمري، ومعرفة للحقائق قبل اقتداح زندي. فأخبرني الثقة بالجرح والتعديل، الخبير بما قد شاع عنك من القيل، أن صاحب الخط ينتمي إلى ممارسة العلوم، المنقول منها والمفهوم، غير أنه قد نسب عنه هفوات، إن صحت فهي من عظائم المعضلات، ولم نقف لها على تصحيح يعتمد، ولم نلتفت إلى البحث في متنها والسند، اكتفاء بإعراضه عن الابتهاج بهذه الدعوة لهذا الأصل والمذاكرة، واستغناء بعدم التفاته إلى المؤاخاة في الله والمؤازرة، بل كل الناس لديه إخوان، والضدان عنده يجتمعان، يصاحب أولياء الأوثان، كما يصاحب عابد الرحمن، ويأنس لمنقلب على عقبه، كما يأنس بالثابت على الإيمان، مع أنه قد شرح التوحيد، وادعى الإتيان بكل معنى موجز سديد. يوما بحُزوى ويوما بالعقيق وبالـ ... ـعذيب يوما ويوما بالخليصاء وتارة تنتحي نجدا وآونة ... شعب الغوير وطورًا قصر تيماء فهو إن انتسب إلى الحق، فقد والى من خرج عنه وعق. فقلت: إيهٍ له من رجل لو استقام، وصارم لولا ما عراه من الانثلام، لكني أعلم أن للعلم بركات، وللملك لمات، فأرجو أن يقوده العلم إلى ثمراته، وأن يحول بينه وبين الشيطان وخطواته، {اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} 1 والقلب بين إصبعين من أصابع الرحمن، كما رواه المحدثون من الأعيان، فلعل ميت رجائنا يحييه من يحيي عظام الميت وهي رميم، ولهذا أشرت إلى الشيخ الوالد -أعز الله قدره، ورفع بوراثة النبيين مجده وفخره- بأن يرد لك الجواب، ويعلمك بالخطب أتى من أي باب، طمعا لك في الأوبة والفلاح، وحرصا على سلوك سبيل الهداية

_ 1 سورة الحديد آية: 17.

الرسالة السابعة والستون: رسالة إلى أهل الحوطة بالاعتصام بالتوحيد الخالص

والصلاح، لئلا تتوهم غير ذلك من الأسباب، التي تنقل عنك من الاستطالة في الأعراض والاغتياب، إذ هي لا يلتفت إليها المؤمن العاقل، ولا يأخذ بها إلا غرّ مُماحل، وهي باقية ليوم ترجعون فيه إلى الله، ويجزي كل قائل بما زوره وافتراه، ولعل الله أن يمن برجوعك إلى الحق بعد الشرود، ويقضي بصحبتك على توحيد ربنا المعبود، فإني أتأسف على تنكب أمثالك، {وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} 1، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم. الرسالة السابعة والستون [رسالة إلى أهل الحوطة بالاعتصام بالتوحيد الخالص] وله أيضا -رحمه الله، وعفا عنه- رسالة إلى أهل الحوطة، هذا نصها: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد اللطيف بن عبد الرحمن إلى الإخوان المكرمين من أهل الحوطة -سلمهم الله تعالى وهداهم-: سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: فأوصيكم بتقوى الله وطاعته، والاعتصام بحبله، وترك التفرق والاختلاف، ولزوم جماعة المسلمين، فقد قامت الحجة بكتاب الله وسنة رسوله، وعرفتم أنه لا إسلام إلا بجماعة، ولا جماعة إلا بإمارة، ولا إمارة إلا بطاعة. وقد أناخ بساحتكم من الفتن والمحن ما لا نشكوه إلا إلى الله، فمن ذلك الفتنة الكبرى، والعيبة العظمى، الفتنة بعساكر الشرك، أعداء الملة والدين. وقد اتسعت وأضرت، ولا ينجو المؤمن منها إلا بالاعتصام بحبل الله وتجرد التوحيد، والتحيز إلى أولياء الله؛ عباده المؤمنين، والبراءة كل البراءة ممن أشرك بالله وعدل به غيره، ولم ينزهه عما انتحله المشركون، وافتراه المكذبون.

_ 1 سورة الأحزاب آية: 4.

وأفضل القرب إلى الله مقت أعدائه المشركين، وبغضهم، وعداوتهم، وجهادهم، وبهذا ينجو العبد من توليهم من دون المؤمنين، وإن لم يفعل ذلك فله من ولايتهم بحسب ما أخل به وتركه من ذلك. فالحذر الحذر مما يهدم الإسلام، ويقلع أساسه! قال الله -تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} 1 وانتفاء الشرط يدل على انتفاء الإيمان بحصول الموالاة؛ ونظائر هذه الآية في القرآن كثير. وكذلك الفتنة بالبغاة والمحاربين توجب من الاختلاف والتفرق، والبغضاء، وسفك الدماء، ونهب الأموال، وترك أوامر الله ورسوله، والإفساد في الأرض ما لا يحصيه إلا الله، وذلك مما لا يستقيم معه إسلام ولا يحصل بملابسته من الإيمان ما ينجي العبد من غضب الله وسخطه. وهذه الحالة وتلك الطريقة بها ذهاب الإسلام وأهله، وتسلط أعداء الله، وتمكنهم من بلاد المسلمين وهدم مبانيه والإعلام، فكيف يسعى فيها من يؤمن بالله واليوم الآخر، ويؤمن بالجنة والنار، ويخاف سوء الحساب؟ فاتقوا الله عباد الله! ولا تذهب بكم الدنيا والأهواء، وشياطين الإنس والجن إلى ما يوجب الهلاك الأبدي، والشقاء السرمدي، والطرد عن الله وعن بابه، والخروج عن جملة أوليائه وأحبابه، قال -تعالى-: {قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ} 2 فتدبروا هذه الآيات الكريمات، وسارعوا إلى ما يحبه الرب ويرضاه من الجماعة والطاعات، وائتموا بالقرآن

_ 1 سورة المائدة آية: 57. 2 سورة الزمر آية: 15.

وقفوا عند عجائبه، وما فيه من الحجة والبرهان؛ فإن الله تكفل لمن قرأ القرآن وعمل بما فيه أن لا يضل في الدنيا، ولا يشقى في الآخرة، وهو حبل الله المتين، ونوره المبين، فيه نبأ من كان قبلكم، وفصل ما بينكم، لا يضل متبعه ولا يطفأ نوره، فما هذه المشاقة؟ وما هذا الاختلاف والتفرق، وقد جاءتكم النصائح، وتكررت إليكم المواعظ؟ قال -تعالى-: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} 1، وقال الله -تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} 2. وقد خرج الإمام أحمد من حديث الحارث الأشعري، بعد أن ذكر ما أمر به يحيى بن زكريا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وآمركم بخمس الله أمرني بهن: الجماعة، والسمع والطاعة، والهجرة والجهاد في سبيل الله، فإنه من خرج من الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه إلا أن يراجع، ومن دعا بدعوى الجاهلية فهو من جثي جهنم، قالوا: يا رسول الله وإن صلى وصام، قال: وإن صلى وصام، وزعم أنه مسلم"3. فادعوا المسلمين بأسمائهم على ما سماهم الله به عز وجل المسلمين، المؤمنين، عباد الله؛ وهذه الخمس المذكورة في الحديث ألحقها بعضهم بالأركان الإسلامية التي لا يستقيم بناء ولا يستقر إلا بها، خلافا لما كانت عليه الجاهلية من ترك الجماعة والسمع والطاعة. نسأل الله لنا ولكم الثبات على دينه والاعتصام بحبله، والامتثال لأمره، واتقاء غضبه وسخطه، فاحذروا الاختلاف: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} 4،: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} 5،: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} 6. وصلى الله على عبده ورسوله محمد النبي الأمي العربي الهاشمي وآله وصحبه وسلم.

_ 1 سورة النساء آية: 115. 2 سورة النساء آية: 59. 3 الترمذي: الأمثال (2863) , وأحمد (4/ 202). 4 سورة الأنفال آية: 1. 5 سورة النور آية: 31. 6 سورة النحل آية: 91.

الرسالة الثامنة والستون: النصيحة إلى كافة المسلمين

الرسالة الثامنة والستون [النصيحة إلى كافة المسلمين] وله أيضا -قدس الله روحه- رسالة إلى كافة المسلمين وخاصتهم من العلماء والأمراء ينصحهم فيها، ويحضهم على القيام بما أمر الله به من لزوم الجماعة والسمع والطاعة، ويذكرهم ما منّ الله عليهم به من الاجتماع على هذا الدين بدعوة شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب، بعد أن كانوا قبل دعوته على غاية من الجهالة والضلالة، فجمعهم الله به على هذا الدين. ثم لما خرج من خلع البيعة، وفارق الجماعة، وشق العصا كتب لهم هذه الرسالة يحذرهم عما وقعوا فيه من الفتنة، وسفك الدماء، ونهب الأموال، ولكن قد سبق القضاء بما هو كائن: {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا} 1. وهذا نص الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، وصلى الله على سيد المرسلين، محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. من عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن إلى من يصل إليه من علماء المسلمين وأمرائهم وعامتهم، جعلنا الله وإياهم ممن عرف النعمة وشكرها، في طاعة من أنعم بها ويسرها. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: فالذي أوجب هذا الكتاب: ذكر ما أنعم الله به عليكم من نعمة الإسلام الذي عرفكم به، وهداكم، وتسمون به، فلا يعني باسم المسلمين إلا أنتم، وما أعطاكم الله في هذا الدين من النعم أكثر من أن يحصر، لكن منها نعم، كل واحدة منها حصولها نعمة عظيمة، لأن المعارض لها قوي جدا، أولها: كون الدعوة إلى دين الإسلام ما قام في بيانها والدعوة إليها إلا رجل، فلما

_ 1 سورة الأحزاب آية: 38.

شرح الله صدره، واستنار قلبه بنور الكتاب والسنة، وتدبر الآيات، وطالع كتب التفسير وأقوال السلف في المعنى والأحاديث الصحيحة فسافر إلى البصرة، ثم إلى الأحساء والحرمين، لعله أن يجد من يساعده على ما عرف من دين الإسلام. فلم يجد أحدا، كلهم قد استحسن العوائد، وما كان عليه غالب الناس في هذه القرون المتأخرة إلى منتصف القرن الثاني عشر، ولا يعرف أن أحدا دعا فيها إلى توحيد العبادة، أو أنكر الشرك المنافي له، بل قد ظنوا جواز ذلك أو استحبابه. وذلك قد عمت به البلوى من عبادة الطواغيت والقبور، والجن، والأشجار والأحجار، في جميع القرى والأمصار والبوادي وغيرهم. فما زالوا كذلك إلى القرن الثاني عشر، فرحم الله كثيرا من هذه الأمة بظهور شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله- وكان قد عزم، وهو بمكة أن يصل الشام مع الحاج فعاقه عنهم عائق، فقدم المدينة، وأقام بها. ثم إن العليم الحكيم رده إلى نجد رحمة لمن أراد أن يرحمه بمن يؤويه وينصره، وقدم على أبيه وصنوه وأهله ببلد حريملا فناداهم بالدعوة إلى التوحيد، ونفي الشرك والبراءة منه ومن أهله، وبيّن لهم الأدلة على ذلك من الكتاب والسنة وكلام السلف -رحمهم الله-. فقبل منهم من قبل، وهم الأقلون، وأما الملأ والكبراء الظلمة الفسقة فكرهوا دعوته، فخافهم على نفسه، وأتى العينية وأظهر الدعوة بها، وقبل منه كثير منهم حتى رئيسهم عثمان بن أحمد بن معمر. ثم إن أهل الأحساء، وهم خاصة العلماء أنكروا دعوته، وكتبوا شبهات تنبئ عن جهلهم وضلالهم، وأغروا به شيخ بني خالد؛ فكتب لابن معمر أن يقتل هذا الشيخ أو يطرده فما تحمل مخالفته، فنفاه من بلده إلى الدرعية. فتلقاه محمد بن سعود -رحمه الله- بالقبول، وبايعه على أن يمنعه مما يمنع منه أهله وولده

وهذه أيضا نعمة عظيمة، وكون الله أتاح له من ينصره ويؤويه، والذي أقوى من ابن سعود، وأكثر لم يحصل منه ذلك، وصبر محمد على عدوه الأدنى والأقصى أهل نجد، والملوك من كل جهة. وبادأهم دهام بن دواس؛ فهجم إلى الدرعية على غرة من أهلها، وقتل أولاد محمد فيصلا وسعودا؛ فما زاد محمد إلا قوة وصلابة في دينه -رحمه الله- على ضعف منه، وقلة في العدد والعدد وكثرة من عدوهم، وذلك من نعمة الله وآياته علينا وعليكم. فرحم الله هذا الشيخ الذي أقامه الله مقام رسله وأنبيائه في الدعوة إلى دينه، ورحم الله من آواه ونصره، فلله الحمد على ذلك. وفيما جرى من ابن سعود شبه لما جرى من الأنصار في بيعة العقبة. ثم إن أهل نجد وبني خالد وأهل العراق والأشراف والبوادي وغيرهم تجردوا لعداوة هذا الشيخ، ومن آواه ونصره، وأقبلوا على حربهم بحدهم وحديدهم، وكثرة جنودهم، وكيدهم؛ فأبطل الله كيد كل من عاداهم، وكل من رام من هؤلاء الملوك وأعوانهم أن يطفئ هذا النور، أطفأ الله ناره، وجعلها رمادا، وجعل كثيرا من أموالهم فيئا للمسلمين، وهذه عبرة عظيمة ونعمة جسيمة. ثم إن الله بفضله وإحسانه أظهر هذا الدين في نجد، وأذل من عاداه، فعمت النعمة أهل نجد ومن والاهم شرقا وغربا، وحفظ الله عليكم نعمة الإسلام التي رضيها -سبحانه- لعباده دينا، فلم يقدر أحد أن يغيرها بقوته وقدرته. فاشكروا ربكم الذي حفظ عليكم دينكم، ورد لكم الكرة على من خرج عنه؛ وذلك بالإقبال على التوحيد تعلما وتعليما، والأمر بما يحبه الله من طاعته، والنهي عما نهى الله عنه من المعاصي. وفي كلام بعض العلماء ما يبين حال أكثر هذه الأمة قبل هذه الدعوة من الشرك العظيم؛ فمن ذلك قول عالم صنعاء الأمير محمد بن إسماعيل الصنعاني -رحمه الله- عن شيخ

الإسلام محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله تعالى-: وقد جاءت الأخبار عنه بأنه ... يعيد لنا الشرع الشريف بما يبدي وينشر جهرا ما طوى كل جاهل ... ومبتدع منه فوافق ما عندي ويعمر أركان الشريعة هادمًا ... (مشاهد) ضل الناس فيها عن الرشد أعادوا به معنى سواع ومثله ... يغوث وود بئس ذلك من ود وقد هتفوا عند الشدائد باسمها ... كما يهتف المضطر بالصمد الفرد وكم عقروا في سوحها من عقيرة ... أهلت لغير الله ظهرًا على عمد وكم طائف حول القبور مقبل ... ومستلم الأركان منهم باليد [وجوب التواصي بحفظ نعم الله] ثم إن الله -تعالى- لما جمعكم على إمام ترضونه، وقد حصل لكم من الأمن والراحة والعافية وكف أيدي الظلمة عنكم ما لا يخفى، ثم لما تبين من خلع الطاعة، وفارق الجماعة، وسعى في الخروج إلى ما لا يحبه الله ولا يرضاه من الفتنة في الدين، وشق عصا المسلمين، أوقع الله بهم، وبمن جمع بأسه، وقتل أشرار من معه، وأظهر الله جماعة المسلمين وإمامهم على كل من أفسد ممن قتل في هذه الفتن ونهب، وصاروا أذلة، وحفظ الله عليكم الجماعة. فالواجب علينا وعليكم التواصي بهذه النعم العظيمة، والتنافس في هذا الدين الذي منَّ الله به عليكم؛ وهو الذي بعث الله به رسله، وأنزل به كتبه، ورضيه لعباده كما قال -تعالى-: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الأِسْلامَ} 1، وقال -تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ * وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ} 2. واحذروا نسيان ربكم بالإعراض

_ 1 سورة المائدة آية: 3. 2 سورة الحشر آية: 18 - 20.

عما افترضه عليكم، وأقبلوا على توحيده وطاعته، واطلبوا بذلك الجنة والنجاة من النار، والحق على العلماء والأمراء أعظم لأن العامة يتبعونهم، ويتقربون إليهم بما يحبون، ومن أحب شيئا أكثر من ذكره. فكونوا أئمة في هذا الدين الذي هو معنى لا إله إلا الله؛ وقد بين الله معناها في آيات كثيرة من كتابه، فإنها دالة على نفي الشرك، والبراءة منه وممن فعله، وإخلاص العبادة لله وحده لا شريك له، وذلك في آي كثيرة؛ فمن ذلك قوله -تعالى-: {وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} 1، فقوله: {أَقِمْ وَجْهَكَ} فيه الإخلاص، و: {حَنِيفًا} فيه ترك الشرك، وقوله: {وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} 2 فيه البراءة منهم ومن دينهم، قال -تعالى-: {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} 3. والآيات في معنى لا إله إلا الله أكثر من أن تحصر كقوله: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} 4. والمراد فتح الباب لكم في معنى التوحيد الذي فيه الفلاح والنجاة، وصلاح الدنيا والآخرة؛ فلا تنسوا ربكم بالإعراض عن الهدى فينسيكم أنفسكم، ومن عقوبة الإعراض عمى البصيرة في الدنيا والآخرة، ولا باقي معكم إلا دينكم لمن منّ الله عليه بحفظه، والإقبال عليه، والعمل به، ولتفهموا أن الدنيا ما للإنسان منها إلا ما كان لله، وغير ذلك زائل. هذا ما نوصيكم به وندلكم عليه عامة، والعلماء والأمراء خاصة، فيجب عليهم أن يكونوا صدرا في هذا الدين بالرغبة فيه والترغيب، وأن يكونوا سندا وعونا لمن أمر بالمعروف ونهى عن المنكر، وأن يتفقدوا أهل بلدهم في صلاتهم وتعليم دينهم، وكفهم عن السفاهة، وما يحرم عليهم، لأن الله سائلهم عنهم، وبالله التوفيق، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين.

_ 1 سورة يونس آية: 105. 2 سورة يونس آية: 105. 3 سورة الزمر آية: 2. 4 سورة يوسف آية: 40.

الرسالة التاسعة والستون

الرسالة التاسعة والستون وله أيضا -قدس الله روحه، ونور ضريحه- رسالة إلى عبد الرحمن بن محمد بن مانع، وقد سأله عبد الرحمن بن مانع عمن يرى أن أحاديث الصفات تجري على ظاهرها من غير اعتقاد حقائقها ويتستر بالتفويض، فأجابه بما كان عليه أهل السنة والجماعة في هذا الباب، وأنه لا بد من اعتقاد المعاني على حقائقها. وبيّن له أن معنى التفويض عند السلف إنما هو في العلم بالكيفية؛ لأنها دلت عليها النصوص من إثبات صفات الكمال. وكذا أجابه عن سؤاله فيما أشكل من أمر الصخرة التي كان الأنبياء يستقبلونها ببيت المقدس. وهذا نص الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد اللطيف بن عبد الرحمن: الأخ المكرم عبد الرحمن بن محمد بن مانع -سلمه الله تعالى-، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: فأحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، والخط وصل -وصلك الله لما يرضيه-، وسرّنا ما ذكرت من العافية، والحمد لله على ذلك. وتسأل -أرشدك الله- عمن يرى أن أحاديث الصفات تجري على ظاهرها، وشك في معناها من غير اعتقاد حقيقته، ويتستر بالتفويض، فهل نكفره بدعواه، أو حتى يختبر؟ [ما يجب الإيمان به من صفات الله] فاعلم -أرشدك الله- أنه لا بد من الإيمان بأن الله مستو على عرشه، بائن من خلقه، قاهر فوق عباده، ليس في ذاته شيء من مخلوقاته، ولا في مخلوقاته شيء من ذاته، كما دلت على هذا الكتب السماوية والنصوص النبوية والقواطع العقلية، وأجمعت عليه الأمم التي تؤمن بوجود الله، وبربوبيته

العامة، ولكن لما خاض الناس في علم الكلام، وعربت كتب اليونان وقدماء الفلاسفة الذين هم من أجهل خلق الله، وأضلهم في النظريات والضروريات، فضلا عن السمعيات مما جاءت به النبوات، حدث بسبب ذلك من الخوض والجدال في صفات الله ونعوت جلاله التي جاءت بها الكتب، وأخبرت بها الرسل، ما أوجب لكثير من الناس تعطيل وجود ذاته وربوبيته كما جرى للاتحادية والحلولية. فمن باب الكلام والمنطق دخلوا في هذا الكفر الشنيع، والإفك الفظيع، ومنهم من عطل صفات كماله ونعوت جلاله، التي وصف بها نفسه، ووصفته بها رسله؛ وتمدح بها، وأثنى عليه بها صفوة خلقه وخلاصة بريته؛ حتى آل هذا القول والتعطيل بأهله إلى أن شبهوه بالعدم المحض، فلم يصفوه إلا بصفات سلبية، ولم يثبتوا له من صفات كماله ونعوت جلاله ما هو عين الكمال والتعظيم والإيمان والإجلال. واختلف هذا القسم اختلافا كثيرا في أصول المقالات وفروعها: فمنهم من طرد الباب في جميع الصفات. ومنهم من أثبت بعضا زعما منه أن العقل لا يثبت سواها، ونفى ما عاداها من الصفات كما هو المعروف عمن ينتسب إلى الأشعري والكرامي، ثم هؤلاء قد يقولون في آيات الصفات وأحاديثها: تجرى على ظاهرها، يريدون أنها تتلى ولا يتعرض لإثبات ما دلت عليه من المعنى المراد، والحقيقة المقصودة، بل يصرحون برد ذلك ونفيه. ومقصود السلف بقولهم: أمِرُّوها كما جاءت، وقول من قال: تجرى على ظاهرها، إثبات ما دلت عليه من الحقيقة، وما يليق بجلال الله وعظمته وكبريائه ومجده وقيوميته وحده، كما ذكر الوليد بن مسلم عن مالك والليث وسفيان الثوري، والأوزاعي أنهم قالوا: أمرُّوها كما جاءت بلا كيف،

فقولهم: أمرُّوها كما جاءت رد على المعطلة الذين لا يرون ما دلت عليه وجاءت به من الحقيقة المقصودة والمعنى المراد، وقولهم: بلا كيف، رد للممثلة الذين يعتقدون أن ظاهرها فيه تمثيل وتكييف: {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا} 1. ومذهب السلف: إثبات ما دلت عليه الآيات والأحاديث على الوجه اللائق بجلال الله وعظمته وكبريائه ومجده، ومن قال: تجرى على ظاهرها وأنكر المعنى المراد كمن يقول في قوله -تعالى-: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} 2 أنه بمعنى استولى، وفي قوله: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} 3 أنه بمعنى القدرة، مع ذلك يقول: تجرى على ظاهرها، فهذا جاهل متناقض، لم يفهم ما أريد من قولهم: تجرى على ظاهرها، ولم يفهم أن الظاهر هو ما دلت عليه نصا أو ظاهرا في معناه المراد. ولا ينبغي في الإيمان الإتيان بقول ظاهر يوافق ما كان عليه السلف وأهل العلم، مع اعتقاد نقيضه في الباطن؛ بل هذا عين النفاق، وهو من أفحش الكفر في نصوص الكتاب والسنة. والسلف، وأهل العلم والفتوى لا يكتفون بمجرد الإيمان بألفاظ الكتاب والسنة في الصفات من غير اعتقاد لحقيقتها وما دلت عليه من المعنى؛ بل لا بد من الإيمان بذلك، وكذا الاستواء على العرش العلو والارتفاع. وحديث الجارية نص في أن اعتقاد العلو والفوقية لا بد منه في الإيمان، وكما دلت عليه النصوص المتظاهرة من الكتاب والسنة، كقوله -تعالى-: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} 4، {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} 5، {تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} 6، {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} 7، وحديث الأوعال، وحديث الرقية، وحديث الاستسقاء، وغير ذلك مما لا يكاد يحصى. قال أبو مطيع: قال أبو حنيفة في الفقه الأكبر: من قال: لا أعرف ربي في السماء أم في الأرض، فقد كفر، لأن الله يقول: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} 8.

_ 1 سورة الإسراء آية: 43. 2 سورة طه آية: 5. 3 سورة ص آية: 75. 4 سورة الأنعام آية: 18. 5 سورة فاطر آية: 10. 6 سورة المعارج آية: 4. 7 سورة غافر آية: 2. 8 سورة طه آية: 5.

[حكم تعطيل الصفات] وعرشه فوق سماواته، قلت: فإن قال: إنه على العرش استوى، ولكن لا أدري العرش في السماء أم في الأرض، فهو كافر، لأنه أنكر أن يكون الله في السماء، لأنه -تعالى- في أعلى عليين، وأنه يدعى من أعلى لا من أسفل. وهذا يدل على أن من آمن بنفس اللفظ، ونفى ما يدل عليه من العلو، فهو كافر عنده، وغيره من الأئمة لا يخالفه، وقال مالك -رحمه الله-: الله في السماء، وعلمه بكل مكان. وقد بسط اللالكائي -رحمه الله- أقوال الأئمة من السلف ومن بعدهم على تكفير هذا الضرب من الناس. وقد حبس هشام بن عبد الله الرازي -قاضي الري- رجلا في التجهم، فأظهر التوبة، فأحضر عنده، فقال: الحمد لله على التوبة، فقال هشام: اشهد أن الله على عرشه بائن من خلقه، فقال: أشهد أن الله على عرشه، ولا أدري ما بائن من خلقه، فقال: ردوه فإنه لم يتب. وذكر الحكم بإسناد صحيح عن محمد بن إسحاق بن خزيمة -رحمه الله- أنه قال: من لم يقل: إن الله فوق سماواته على عرشه، بائن من خلقه، وجب أن يستتاب، فإن تاب وإلا ضربت عنقه، ثم يلقى في مزبلة لئلا يتأذى بنتن ريحه أهل القبلة وأهل الذمة. وبهذا تعلم أن التفويض عند السلف إنما هو في العلم بالكيفية لا فيما دلت عليه النصوص من إثبات صفات الكمال كالعلو والارتفاع والفوقية، فإن هذا لا بد من اعتقاده والإيمان به. وقال ابن أبي زيد القيرواني في قوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} 1 أي بذاته، وقد أنكر عليه من لا علم له، ولا اطلاع على مذهب السلف والأئمة المقلدين -رضي الله عنهم أجمعين- وخبط في هذا المقام بما لا طائل تحته من فضول الكلام الدال على فساد القصد، وعدم رسوخ الأفهام، فنعوذ بالله من معرة الجهل والأوهام، ونستجير به من مزلة الأقدام.

_ 1 سورة طه آية: 5.

الرسالة السبعون: فضل الدعوة إلى الله

[قبة الصخرة] (وأما المسألة الثانية): فيما أشكل من أمر الصخرة، فما ذكر الشيخ لا إشكال فيه، ولا يدل أنها على الأرض ولا بعضها كما توهمه صاحب الهامش لأن ارتفاع الصخرة زمن سليمان -عليه السلام- اثنا عشر ذراعا بذراع الإنسان، ذراع وشبر وقبضة، لكن دفنها بختنصر فإنه أمَرَ عسكره أن يملا كل إنسان منهم ترسه ترابا ويقذفه ببيت المقدس، وبعده الروم استولوا على بيت المقدس، وطرحوا الزبل والتراب الكثير على الصخرة مغايظة لبني إسرائيل. فلما فتحها عمر رضي الله عنه سنة 16 بسط رضي الله عنه رداءه، وجعل يكنس التراب والزبل فيه، فأخذ المسلون يكنسون معه ويفعلون ما فعل. فإن قصد صاحب الهامش أنها كانت على الأرض قبل أن تكشف فصحيح، وإلا فوهم، والله أعلم، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم. الرسالة السبعون [فضل الدعوة إلى الله] وله أيضا -قدس الله روحه، ونور ضريحه- رسالة إلى سهل بن عبد الله التويجري، ومحمد آل عثمان يحضهما على الدعوة إلى الله، وقد سألاه عن هذا الحديث: "ثلاثة لا يغل عليهن قلب مسلم"1 الحديث، فأفاد وأجاد، وبلغ من الإفادة غاية المراد، فتأمله، فإنه مفيد جدا، والله المستعان، وهذا نصها: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد اللطيف بن عبد الرحمن إلى الأخوين المكرمين سهل بن عبد الله ومحمد بن عثمان، حفظهما الله من طوائف الشيطان، وزينهما بزينة العلم والإيمانز سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، ما تعاقبت غدوات الدهر وروحاته، والخط وصل -وصلكم الله إلى مرضاته- وسرّني ما ذكرتما من الدعوة إلى الله

_ 1 الترمذي: العلم (2658).

وما حصل بكما من الانتفاع، فالحمد لله على ذلك، وفي الحديث: "نضّر الله امرأ سمع مقالتي فوعاها، وحفظها، وبلّغها؛ فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه" قلت: وهذا من عاجل ثواب الله لأهل العلم. [الحث على تبليغ الدعوة الإسلامية إلى الناس] وفي الحديث المبلغين 1 عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم فإنهم يعطون نضرة في وجوههم يمتازون بها عن سائر الخلق، وفي صحيح البخاري: "خيركم من تعلم القرآن وعلمه"2 3. وتعليمه يتناول تعليم معانيه، وما دل عليه من الأصول الإيمانية والقواعد الشرعية، فإن المعنى هو المقصود، وفي الحديث: "من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من اتبعه، من غير أن ينقص ذلك من أجورهم شيئا" 4. والأحاديث في المعنى كثيرة. وللحديث الأول بقية قد سألني سهل عنها، وهي قوله صلى الله عليه وسلم: "ثلاث لا يغل عليهن قلب مسلم: إخلاص العمل لله، ومناصحة أئمة المسلمين، ولزوم جماعتهم، فإن دعوتهم تحيط من ورائهم"5 ذكر العلامة ابن القيم وغيره: أن المعنى لا يحمل الغل ويبقى فيه مع وجود هذه الثلاث، فإنها تنفي الغل والغش وهو فساد القلب وسخائمه، فالمخلص لله إخلاصه يمنع وجود الغل في قلبه، ويخرجه ويزيله؛ لأنه قد انصرفت دواعي قلبه وإرادته إلى مرضاة ربه فلم يبق فيه موضع للغل. [إخلاص العمل لله] وقد أشار -تعالى- إلى هذا المعنى بقوله: {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} 6، فلما أخلص لربه صرف عنه دواعي السوء والفحشاء، ولما علم إبليس هذا المعنى استثناهم في قوله: {إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} 7. فالإخلاص

_ 1 كذا ولا بد أن يكون قد سقط هنا كلمة مضافة إلى المبلغين فلعل الأصل: وفي الحديث: فضل المبلغين عن الله إلخ. 2 البخاري: فضائل القرآن (5027) , والترمذي: فضائل القرآن (2907 ,2908) , وأبو داود: الصلاة (1452) , وابن ماجه: المقدمة (211) , وأحمد (1/ 57 ,1/ 58 ,1/ 69) , والدارمي: فضائل القرآن (3338). 3 هو حديث مرفوع رواه أحمد، وأكثر أصحاب السنن أيضا. 4 مسلم: العلم (2674) , والترمذي: العلم (2674) , وأبو داود: السنة (4609) , وأحمد (2/ 397) , والدارمي: المقدمة (513). 5 الترمذي: العلم (2658). 6 سورة يوسف آية: 24. 7 سورة الحجر آية: 40.

[لزوم جماعة المسلمين] هو سبيل الخلاص، والإسلام مركب السلامة، والإيمان خاتم الأمان. ومناصحة المسلمين تنافي الغل أيضا؛ فإن النصح لا يجامع الغل إذ هو ضده. وكذلك لزوم جماعة المسلمين مما يطهر القلب من الغل، فإن صاحبه للزومه الجماعة يحب لهم ما يحب لنفسه، ويكره لهم ما يكره لها، ويسوؤه ما يسوؤهم، ويسره ما يسرهم، وهذا بخلاف من انحاز عنهم، واشتغل بالطعن عليهم والعيب والذم كما يفعله الجهال والضلال مع شيخ الإسلام وأتباعه على توحيد الله ودينه. وكما فعله إخوانهم الرافضة والخوارج والمعتزلة والجهمية، فإن قلوبهم ممتلئة غلا وغشا، ولهذا تجدهم من أبعد الناس عن الإخلاص وأغشهم للأئمة والأمة، ولا يكونون -قط- إلا أعوانا على أهل الإسلام مع أي عدوّ نأواهم، وهذا أمر شاهدته الأمة، ومن لم يشاهده فقد سمع منه ما يصم الآذان ويشجي القلوب. وقوله صلى الله عليه وسلم: "فإن دعوتهم تحيط مِنْ ورائهم" 1 هو بكسر الميم وإسكان النون، وهذا من أحسن الكلام وأوجزه، شبه دعوة المسلمين بالسور والسياج المحيط بهم، المانع من دخول عدوهم عليهم؛ فكانت دعوة الإسلام سورا وحصنا لمن لزمها تحيط بتلك الدعوة، فالدعوة تجمع شمل الأمة وتلم شعثها وتحيط بها، فمن دخل في جماعتها أحاطت به وشملته. هذا وما ذكرتما من الأخبار صار معلوما، والجواب من الرأس عن قريب إن شاء الله -تعالى-، وبلغوا سلامنا محمدا، ومحمدا، وإخوانكم من الطلبة، ومن لدينا الشيخ الوالد المكرم وأولاده وأولادنا بخير وينهون السلام وحال التاريخ، وفي عزمنا الركوب غزاة مع الإمام -أيدنا الله وإياه بالنصر للدين-، والسلام.

_ 1 ابن ماجه: المناسك (3056) , وأحمد (4/ 80 ,4/ 82) , والدارمي: المقدمة (227).

الرسالة الحادية والسبعون: حال الأمة الإسلامية قبل ظهور الشيخ محمد بن عبد الوهاب

الرسالة الحادية والسبعون [حال الأمة الإسلامية قبل ظهور الشيخ محمد بن عبد الوهاب] وله قدس الله روحه، ونور ضريحه رسالة إلى الشيخ محمد بن سليمان البغدادي يبين له فيها ما عليه أهل هذه الأزمان من عبادة غير الله، وإشراكهم بالله، وصرف عبادتهم للأولياء والصالحين، ويذكره نعمة الله عليه بمعرفة هذا الدين، ومعرفة ما عليه أهل هذه الأزمان من هذا الشرك العظيم، الذي قد عم وطم، ولم ينج منه إلا الأفراد؛ فتأملها فإنها مفيدة، وهذا نصها. بسم الله الرحمن الرحيم من عبد اللطيف بن عبد الرحمن إلى جناب الأخ المكرم الشيخ محمد بن سليمان آل عبد الكريم البغدادي وفقه الله للإيمان به وتقواه، وأطلع للطالبين بدر توفيقه وهداه. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو وهو للحمد أهل، وهو على كل شيء قدير. والكتاب الكريم وصل إلينا وصلك الله برضاه، ونظمك في سلك خاصته وأوليائه، وقد سرني غاية المسرة، وسرحت نظري في رياضه المرة بعد المرة. وحمدت الله على ما من به عليك، وأهداه إليك من المنة العظمى، والموهبة الكبرى، التي هي أسنى المواهب، وأشرف المطالب: معرفة دين الإسلام والعمل به، والبراءة مما وقع فيه الأكثرون من الشرك الصراح، والكفر البواح، من دعاء الموتى والغائبين، والاستغاثة بهم في كشف شدائد المكروبين، ونيل مطالب الطالبين، وتحصيل رغبات الراغبين، عدلا

منهم بالله رب العالمين، وصرف خالص محبة العبودية، وما يجب من الخضوع لرب البرية، إلى الأنداد والشركاء، والوسائل والشفعاء. بل وسائر العبادات الدينية، صرفت إلى المشاهد الوثنية والمعابد الشركية، وصرحت بذلك ألسنتهم، وانطوت عليه ضمائرهم، وعملت بمقتضاه جوارحهم، ولم ينج من شرك هذا الشرك إلا الخواص والأفراد والغرباء في سائر البلاد؛ وذلك مصداق ما أخبر به الصادق المصدوق بقوله: "بدأ الإسلام غريبا، وسيعود غريبا كما بدأ"1. قال بعض الأفاضل من أزمان متطاولة: الإسلام في وقتنا أشد غربة منه في أول ظهوره، قلت: وذلك أنه في أول وقت ظهوره يعرفه الكافرون والمنكرون والمنكر له كما قال تعالى حاكيا عنهم أنهم قالوا: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} 2. وأكثر المنتسبين إلى الإسلام في هذه الأزمان يعتقدون أنه هو الاعتقاد في الصالحين ودعوتهم والاستغاثة بهم والتقرب إليهم بأنواع العبادات كالذبح والنذر والحلف وغير ذلك من أنواع الطاعات، وذلك لأنه ولد عليه صغيرهم، وشاب عليه كبيرهم، واعتادته طباعهم. فتراهم عند تجريد التوحيد يقولون: هذا مذهب خامس، لأنهم لا يعرفون غير ما نشؤوا عليه واعتادوه لا سيما إذا ساعد العادة والاغترار بمن ينتسب إلى العلم والدين، وهو عند الله معدود في زمرة الجاهلية والمشركين. فهذا وأمثاله هم الحجاب الأكبر بين أكثر العوام، وبين نصوص الكتاب والسنة، وما فيهما من الدين والهدي، ثم أكثرهم قد تجاوز القنطرة، وغرق في بحار الشرك في الربوبية، مع ما هو فيه من الشرك في الإلهية؛ فادعى أن للأولياء والصالحين شركة في التدبير والتأثير، وشركة في تدبير ما جاءت به المقادير. وأوحى إليهم إبليس اللعين، أن هذا من أحسن الاعتقاد في

_ 1 مسلم: الإيمان (145) , وابن ماجه: الفتن (3986) , وأحمد (2/ 389). 2 سورة ص آية: 5.

الصالحين، وأن هذا من كرامة أولياء الله المقربين؛ تعالى الله عما يقول الظالمون، وتقدس عما افتراه أعداؤه المشركون، وسبحان الله رب العرش عما يصفون. وحيث منَّ الله عليك بمعرفة الهدى ودين الحق وظهر لك ما هم عليه من الشرك المبين، فاعرف هذه النعمة الكبرى وقم بشكرها، وأكثر من حمد ربك والثناء عليه، واحرص أن تكون إماما في الدعوة إليه تعالى وإلى سبيله، ومعرفة الحق بدليله، فإن هذا أرفع منازل أولياء الله وخواصه من خلقه. فاغتنم -يا أخي- مدة حياتك لعلك أن تربح بها السعادة الأبدية، ومرافقة النبيين والصديقين والشهداء والصالحين في جنات علية. وتأمل ما عند إخوانك من الطلبة في القصيم من رسائل مشايخ الإسلام الداعين إلى الله على بصيرة. والزم مذاكرة الإخوان، والبحث معهم في هذا الشأن، وفي غيره من العلوم، فإنهم من خواص نوع الإنسان، ومن جواهر الكون في هذا الزمان، وفقهم الله وكتب في قلوبهم الإيمان. وما ذكرت من الشوق إلى اللقاء والاجتماع بنا فنحن إلى إخواننا في الله أشوق وأحرص، فعسى الله أن يمن بالتلاق، ويطوي ما بيننا من البعد والفراق. وبلغ سلامنا من لديك من الإخوان المحبين وأنت في أمان الله وحفظه وحسن رعايته والسلام.

الرسالة الثانية والسبعون: وصف رسالة من رسائل الشيخ ومدحه هو وآله

الرسالة الثانية والسبعون [وصف رسالة من رسائل الشيخ ومدحه هو وآله] وله أيضا رسالة إلى زيد بن محمد آل سليمان -رحمه الله تعالى- يعاتبه فيها على ترك المساعدة وعدم المعاضدة، على إظهار دين الله والمجاهدة، بعد مراسلات بذلك عديدة، ومذاكرة ومناصحات مفيدة، وتحريض وتغليظ في سد وسائل الشرك وذرائعه، والمساعدة على قطع أسبابه وتوابعه. وكأنه -رحمه الله- وجد منه عند تلك الحوادث والكوارث فتورا، ورأى منه في حق من تجانف أو تساهل في ذلك تقصيرا أو قصورا، وقد وضح له في ذلك الحق واستبان، وكان من ذوي المعرفة والإتقان، وخاصة خلاصة الإخوان. فعاتبه بهذه المعاتبة الرصينة المباني، وأفصح له بهذه الرسالة البليغة المعاني، التي يحار في يهماء مطاوح معانيها البليغ المصقع، ويتلكأ عن درك غويص عويصها اللوذعي البلتع، فلله دره من إمام فاضل فصيح، ومجاهد جاهد محب نصيح. فلقد أبلغ في هذه الرسالة من الإيجاز وعدم الإطالة، وقد جاهد لله وفي الله حق جهاده، وما رده وصده عن النصح لعباده قلة المعاون والمساعد، ولا كثرة المكايد والمعاند؛ فتدبر -رحمك الله- ما تضمنته هذه الرسالة من الرصانة، لتعرف قدر منشئها من العلم ومكانه: معاني مبانيها الطوامح في العلا ... لآلئ أصداف البحور الزواخر ويحتار في يهما مطاوح ما انطوت ... عليه من الترصين قس المحاضر وأبدى بديعًا من غويص عويصه ... تشام المعاني المحكمات لسابر لقد جد في نصر الشريعة والهدى ... وسد ينابيع الغواة الأخاسر وإعلاء دين الله جل ثناؤه ... وتأسيس أصل الدين سامي الشعائر وإحيائه بعد الدروس ونشره ... وقمع لمن ناواه من كل غادر وإبعاد أعداء الهوى وجهادهم ... وتحذيره عنهم بكل الزواجر وقد رد بل قد سد كل ذريعة ... تؤول إلى رفض الهدى من مقامر قفا إثْر آباء كرام أئمة ... أولي العلم والحلم الهداة الأكابر ببذلهمو للجد والجهد في الدعا ... إلى الله من قد نَدّ من كل نافر

همو أظهروا الإسلام من بعد ما عفا ... من الأرض فاستعلى به كل ناصر فكم فتحوا بالعلم والدين والهدى ... قلوبا لعمري مقفلات البصائر وكم شيدوا ركنًا من الدين قد وهى ... وأقوى ففازوا بالهنا والبشائر وكم هدموا بنيان شرك قد اعتلى ... وشادوا من الإسلام كل الشعائر وكم كشفوا من شبهة وتصدروا ... لحل عويص المشكلات البوادر وكم سنن أحيوا وكم بدع نفوا ... وكم أرشدوا نحو الهدى كل حائر لقد أطدوا الإسلام بالعلم والهدى ... وبالسمر والبيض المواضي البواتر تغمدهم رب العباد بفضله ... ورحمته والله أقدر قادر وهذا نص الموجود منها ولم أجدها تامة وكأنها مسودة وقد ضاع أولها. [تضمين الشيخ للكلام المنسوب إلى أبي بكر الصديق] بسم الله الرحمن الرحيم إلى الأخ زيد بن محمد وبعد: فقد بلغني عنك من نوادر الكواثر وكوارث الحوادث 1. لم أجد إلا تلكؤ وشماس، وتهمهم ونفاس 2 إذ لا فكرة ثاقبة، ولا

_ 1 هاهنا بياض في الأصل. وأقول أنا (محمد رشيد رضا) المشرف على تصحيح هذه الرسائل: إن الشيخ عبد اللطيف -رحمه الله وتولانا وإياه بلطفه- قد أكثر الأخذ والتضمين في هذه الرسالة من رسالة أبي بكر الصديق وعمر إلى علي -رضي الله عنهم- في شأن المبايعة وهي من أبلغ الكلام على صناعة متقنة فيها، والمحدثون يقولون: إنها موضوعة وضعها أبو حيان التوحيدي كما في "الميزان" و"لسان الميزان". وفيما وجده جامع الرسائل منها تحريف كثير. ولعل سبب أخذ الشيخ عبد اللطيف ما أخذ منها أنه كان مطابقا لحالهم مع المرسلة إليه، ونحن نرجع كل شيء إلى أصله مع تفسير بعض غريبه. 2 أصله أن أبا عبيدة قال: بلغ أبا بكر -رضي الله عنه- عن علي -رضي الله عنه- تلكؤ وشماس وتهمهم ونفاس، والتلكؤ التأخير والشماس النفار، والتهمهم الهمهمة وهو الكلام غير البين، والنفاس المنافسة، ولا يصح أن يكون أول الجملة هنا "لم أجد" لأنه يقتضي نصب المستثنى بأن يقول: إلا تلكؤا وشماسا إلخ.

روية كاسبة، ولا طريقة صائبة، وكرهت أن يتمادى بك الأمر 1، وتبدو العورة فتنفرج ذات البين، ويصير ذلك دربة لجاهل مغرور، أو عاقل ذى دهاء وفجور، أو صاحب سلامة ضعيف العنان، خوار الجنان، وكنت فيما مضى ظهيرا لي على دفع ركضة الشيطان، وتفنيد رسالة ابن عجلان، وكنت أتيامن ناصيتك، وأستبين الخير بين عارضيك 2. وقد كنت من العلوم والمذاكرة بالمكان المحوط، والمحل المغبوط، ولم تزل بحمد الله للمؤمنين أخا ولإخوانك ردءا. وهذا الحدثان العظيم ما بعده من خطر مخوف، أو صلاح معروف، ولا أظن جرحه يندمل بمسبرك، ولا إخال حيته تموت برقيتك، فقد وقع اليأس، وأعضل البأس، واحتيج إلى النظر فيما يصلح نفسك وخاصتك، وتفوز منه بإرشاد جنانك، والأخذ بناصيتك، والله أسأل تمام ذلك لي ولك، وتطلبه على يدي ويديك، والله كالئ وناصر وهاد ومبصر لكل من لاذ بجنابه، ووقف سائلا ببابه، وبه الحول والتوفيق.

_ 1 الأصل من كلام أبي عبيدة متصلا بما قبله، وأصله: وكره أن يتمادى الحال وتبدو العدا-أو العورة- وما بعده سواء إلى قوله: خوار الجنانوالسجعتان بعده للشيخ عبد اللطيف. 2 قوله: وكنت أتيامن ناصيتك إلخ أصله من كلام أبي بكر لأبي عبيدة: ما أيمن ناصيتك، وأبين الخير بين عارضيك، ولقد كنت من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالمكان المحوط، والمحل المغبوط ... إلى أن قال له: قد أردتك لأمر ما بعده خطرولا خوف وصلاحه معروف، فإن لم يندمل جرحه بمسبرك، ولم تستجب حيته لرقيتك، فقد وقع اليأس، وأعضل البأس، واحتيج بعد ذلك إلى ما هو أمرُّ وأعلق، وأعسر منه وأغلق، والله أسأل تمامه بك، ونظامه على يديك اهـ وقد تصرف الشيخ في هذا التضمين بما يناسب الحال وزاد عليه قوله: والله كالئ وناصر إلخ.

واعلم أن البحر مغرقة، والبر مفرقة 1، والجو أكلف والليل أغلف، والسماء جلواء، والأرض صلعاء، والصعود متعذر، والهبوط متعسر، والحق رؤوف عطوف، والباطل شنوف عنوف، والعجب قادحة الشر، والضغن رائد البوار، والتعريض شجار الفتنة، والفرقة تعرف العداوة، وهذا الشيطان متكئ على شماله، متحبل بيمينه فاتح حضنيه لأهله، ينتظر بهم الشتات والفرقة. ويدب بين الأمة بالشحناء والعداوة، عنادا لله ولرسوله ولدينه، تأليبا وتأنيبا 2 يوسوس بالفجور، ويدلي بالغرور، ويزين بالزور، ويمني أهل الشرور، ويوحي إلى أوليائه بالباطل، دأبا له منذ كان، وعادة له منذ أهانه الله تعالى في سابق الأزمان، لا ينجو منه إلا من آثر الآجل، وغض الطرف عن العاجل، ووطئ هامة عدو الله وعدو الدين بالأشد فالأشد، والأجد بالأجد، وقد أرشدك والله من آوى ضالتك، وصافاك من أحيا مودتك بعتابك، وأراد الخير بك من آثر البقيا معك. ما هذا الذي تسول لك نفسك، وينبو به قلبك 3، ويلتوي عليه رأيك

_ 1 البحر مغرقة، إلخ. هذا أول بلاغ أبي بكر الذي عهد إلى أبي عبيدة بحمله إلى علي -رضي الله عنهم- ومعناه أن البحر موضع الغرق، والبر موضع الفرق بالتحريك وهو الخوف. وكان اللفظان مصحفين في الرسالة، وسقط منها لفظ رءوف في وصف الحق، وفيها زيادة: والعجب قادحة الشر، فهل هي رواية أم زادها الشيخ لمناسبة المقام؟ وفيها: والفرقة تعرف العداوة، وهي محرفة أصلها "والقعة ثقوب العداوة". 2 قوله: تأليبا وتأنيبا، معناه ظاهر ولكن الرواية "ناكبا" أي: منحرفا مائلا عن الحق إلى الباطل من قوله تعالى: {وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ} وهنالك اختلاف بألفاظ أخرى صححنا منها ما هو ظاهر التحريف وأبقينا ما صح معناه. 3 في الرواية: "ويدوي به قلبك" وهو إما من الدوي، وهو الصوت المخصوص، وإما من الدوى كالهوى وهو المرض.

ويتخاوص له 1 طرفك، ويتردد معه نفسك، ويكثر عنده حلك وترحالك، ويتلون به رأيك وحقالك؟ ولم تبح به لإخوانك ونصحائك، وخاصتك وأعوانك، ولم تنبذ إليهم على سوى، ولم تملك ما تجده من الغيظ والجوى، أعجمة بعد إفصاح؟ أتلبس بعد إيضاح؟ أدين غير دين الله؟ أخلق غير خلق الله؟ أهدي غير هدي محمد؟ أمثلك يمشي لإخوته الضراء، وتدب إليهم منه الحمراء؟ أمثلك يضيق به الفضاء، وتنكسف في عينيه القمراء؟ ما هذا القعقعة بالشنان؟ وما هذه الوعوعة باللسان؟ [وصف حال آل الشيخ في زمن الفتنة] أما أنك عارف 2 بأن الرأي الذي امتطينا صهوته، وركبنا غاربه، هو الرأي الأسد، والمنهج الأسعد، بكل دليل ورد، ممن لا يحيط به الحزر والعدد، مع أننا في زمن ووقت أنت منه في كن العافية وظلها غافلا عما نحن فيه لا تدري 3 ما يراد بنا ويشاد، ولا تحصل على علم ما يساق منا ويقاد، نعاني أحوالا تزيل الرواسي، ونقاسي أهوالا تشيب النواصي، خائضين غمارها، راكبين تيارها، نتجرع من صلبها، ونكرع في عبابها، ونحكم مراسها، ونبرم أمراسها، والعيون تحدج إلينا بالحسد، والأنوف تعطس بالكبر، والصدور تستعر بالغيظ، والأعناق تتطاول بالفخر، والشفار تشحذ

_ 1 في الرواية: ويتخاوص دونه، ومعنى تخاوص: غض من بصره، وحدق نظره إلى الشيء كمن يقوّم سهما أو ينظر إلى الشمس. وفي الرواية هنا: ويسري فيه ظعنك، ويتردد معه نفسك، وتكثر معه صعداؤك. وليس فيها: ويكثر معه حلك، وترحالك، فهذا وما بعده إلى قوله: الغيظ والجوى من كلام الشيخ عبد اللطيف -رحمه الله تعالى-. 2 قوله: أما أنك عارف -الرواية جد عارف- وما بعده إلى قوله: غافلا عما نحن فيه. أخذه الشيخ من الكلام المعزو إلى الصدِّيق -رضي الله عنه- بالمعنى دون اللفظ، فهو هنالك في الإيمان والهجرة. 3 قوله: لا تدري إلخ. أصله: لا تعي. وما بعده أخذ بلفظه مع حذف بعض الجمل وتقديم بعضها وتأخير بعض.

بالمكر، والأرض تميد بالخوف، فلا ننتظر عند الصباح مساء، ولا عند المساء صباحا. وأنت لا تدري سوى ما أنت عليه من غايتك التي إليها غدي بك، وعندها حط رحلك، بل ونحن في كل يوم وكل ساعة 1 تغدو علينا الأراجيف وتروح، وتظهر أنياب النفاق فيما بيننا وتلوح، وعندنا من يقود المشركين، ويأزهم أزا إلى عباد الله الموحدين، من لا تدري خبره، ولم تعرف نبأه، وسوء طويته بالإسلام وأهله، ونحن ندافعهم عن الإسلام بالمال والآل، والعم والخال، والنشب والسبد واللبد 2، بطيب نفس، وقرة عين، ورحب أعطان، وثبات عزائم، وطلاقة أوجه، وذلاقة لسان، هذا إلى خفيات أسرار، ومكنونات أخبار، أنت عنها غافل، وعن الخوض في غمارها والدفع في صدرها معرض متجاهل. والآن قد بلغ فيك الأمر 3، ونهض لك الخبر، وجعل مرادك بين يديك، وعقلك بين عينيك، عن علم أقول ما تسمع، فاستقبل زمانك، وقلص أردانك، ودع التحبس والتعبس مع من لا يهرع لك إذا خطا،

_ 1 قوله: بل نحن في كل يوموكل ساعة -إلى قوله: بالإسلام وأهله- من كلام الشيخوهو في رصانة الأصل ومتانته، وأسلوبه وصناعته. 2 قوله: ونحن ندافعهم عن الإسلام بالمال والآل، والعم والخال أصله: "فادين لرسول الله صلى الله عليه وسلم بالأب والأم، والخال والعم، والنشب والسبد واللبد، زاد بعده: "والهلة والبلة" وما بعده سواء. 3 قوله: والآن قد بلغ فيك الأمر ... إلى قوله: إذا أعطى ... فيه شيء من التحريف أو التصرف في الأصل. فالرواية: والآن قد بلغ الله بك، وأرض الخير لك، وجعل مرادك بين يديك، وعن علم أقول ما تسمع، فارتقب زمانك، وقلص إليه أردانك، ودع التجسس والتعسس، لمن لا يظلع إليك إذا خطا، ولا يتزحزح عنك إذا عطا اهـ. وتأريض الخير له تهيئته والتأريض أيضا الإصلاح والتشذيب. وقوله: يظلع معناه يمشي وهو يغمز برجله والظلع دون العرج، وقوله: "عطا" لعل صوابها أعطى، وهما ضدان فعطا بمعنى أخذ وتناول، وأعطى بمعنى ناول غيره وحباه.

ولا يتزحزح عنك إذا أعطى. وأنت ولله الحمد 1 من مفاتي هذه الأمة في عصرك، يشار إليك ويقتدى بك بين أهل دهرك، وقد عرفت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قال في هذا الأمر 2: هو لمن يقال: هو لك، لا لمن يقول: هو لي، ومن رغب عنه لا لمن تجاحش عليه، والآثار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحكامه مضبوطة مسطورة، محررة في دواوين الإسلام مشهورة، فهلم فالحكم مرضي والحق مطاع: فيا سادتنا هاتوا لنا من جوابكم ... ففيكم لعمري ذو أفانين مقول أأهل كتاب نحن فيه وأنتمو ... على ملة نقضي بها ثم نعدل أم الوحي منبوذ وراء ظهورنا ... ويحكم فينا المرزبان المرفل أتظن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك الأمر سدى بددا 3 مباهل غباهل طلاحي، مفتونة بالباطل مغبونة عن الحق، لا رائد ولا قائد، ولا ضابط ولا حافظ، ولا ساقي ولا واقي، ولا هادي ولا حادي، كلا والله ما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا سأل ربه المصير إليه إلا وقد ترك الأمة على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك. ولقد توفي رسول صلى الله عليه وسلم وما من طائر يقلب جناحيه إلا وقد ذكر للأمة منه علما. {هذا آخر ما وجد من هذه الرسالة، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم}

_ 1 قوله: وأنت ولله الحمد إلخ. هو من كلام الشيخ لمخاطبهوهو في موضع قول الصدِّيق لعلي -رضي الله عنه-: وأنك أديم هذه الأمة فلا تحكم لجاجا، وسيفها العضب فلا تنب اعوجاجا، وماؤها العذب فلا تحل أجاجا. 2 قوله: وقد عرفت أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: إلخ. أصله من الكلام المعزو إلى الصدِّيق -رضي الله عنه- ولقد سألت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن هذا الأمر فقال لي: يا أبا بكر هو لمن يرغب عنه، لا لمن يرغب فيه ويجاحش عليه، ولمن تضاءل له لا لمن تنفج إليه، ولمن يقال: هو لك، لا لمن يقول: هو لي. والمراد بالأمر الخلافة، وما بعد هذا إلى آخر الأبيات مما أورده الشيخ ليس فيه من الرواية شيء. 3 قوله: أتظن أن رسول الله .. إلى قوله: ولا حادي .. من الأصل المنسوب إلى الصدِّيق بلفظه، وما بعده للشيخ لفظا لا معنى وأسلوبا. وجملة القول أنه -رحمه الله- أتقن الأخذ والتضمين، ولكن مثله في كثرته يعاب إذا لم يصرح آخذه بأنه قد أخذ وضمن، ولعل الشيخ فعل هذا أو أشار إليه فيما فقد من الرسالة.

الرسالة الثالثة والسبعون: شبهات في تحريم القهوة

الرسالة الثالثة والسبعون [شبهات في تحريم القهوة] وله أيضا قدس الله روحه ونور ضريحه جواب سؤال ورد عليه من عبد العزيز بن حسن بن مزروع، وذلك في شأن القهوة، طلب فيه من الشيخ الجواب عما أورده من السؤال، ومقصوده أن يوافقه على الحكم والجزم بالتحريم وعدم الإحلال، لما أورده بزعمه في سؤاله من استيفاء التعليل والاستدلال. وكان الأليق بالسائل طلب بيان ما هو الأرجح في شأنها من الأقوال، إذ كان للعلماء فيها كلام ومحل للنظر ومجال، لكنه في سؤاله أصل وفصل، واستدل وعلل، وانتضى لتحريمها صارما عضبا، وارتقى لذلك من الشريعة مرتقى صعبا؛ فلأجل ذلك عدل الشيخ عن ذكر أقوال العلماء هنالك، وعما هو الأعدل والأرجح في ذلك، وأخذ في إبطال ما علله، وهدم ما قعده وأصله. ثم بعد ذلك أرشده إلى ما هو اللائق بصرف الهمة إليه، من الحض على دفع ما تعطل من أصول الدين ودعائم الملة وقبض العلم وارتفاع الجهال، وترك الالتفات إلى تربية أهل الملة بتعليم ما يحتاجونه من أصول دينهم، وما جاء به نبيهم صلى الله عليه وسلم وهذا نص السؤال. قال السائل: تفهم أن مدار الشريعة على رفع المفاسد، وجلب المنافع، ومنها ما صرح به الكتاب والسنة، ومنها ما هو في ضمنه ويشهد له. وبنو آدم لهم مألوفات إذا درجوا إليها أحبوها وألفوها ولو فيها ضرر، ومن البلاوي على أهل الوقت عامة، وعلى أهل نجد خاصة في دنياهم القهوة مع ضعف معايشهم، وفي الماضي ما يستعملها إلا القليل، للبلد مجمع وبعض القرى ما يعرفها. واليوم هذا الذي ترون الغني والفقير والمرأة والصغير، ولا يحصى ما يصرف فيها من المال، ولو كان ما فيها إلا ضرر مفرد، كيف وأول مضارها في الأبدان! وإذا كان الخمر يزيل العقل شربه، فهي شاهدناها تخامر العقل عند فقدها، كذلك إضاعة المال، وفي مجالسها القيل والقال، وتحول الفقراء إلى السؤال، وتلهي كثيرا من الناس عن الصلاة، وتضيع عليهم الأوقات، هذا ولا تروي ولا تغني من جوع، ومزرعها ومخرجها من بلد كفار. وأما من ضررها على أهل الجهات فظاهر

معلوم إذا لاقوا العدو ومرارا تكون على شرابها، ويصرف فيها من بيت المال ما لو يصرف في آلة الجهاد والفقراء والمساكين كان هو الواجب. وتفهم أن عند خروجها حصل من أهل العلم فيها خوض ومقتها بعض، وحرمها بعض، وهي ما بلغت هذا المبلغ ومصرف أهل نجد فيها اليوم وما يتعلق به ألوف لو يضعها عليهم واضع ما حملتها عقولهم، فالمطلوب تجيبون عن هذا وتوضحون ما يجب فيها من حكم، ولا هو أول محظور منعوا منه أهل نجد وامتنعوا، وهم ولله الحمد لهم قابلية، وإذا عرضت مضارها على العاقل منهم شهد بها وعابها، وبعضهم يقول: نصرف فيها أكثر مما نصرف في الزاد. والإمام أطال الله بقاءه، ووفقه لما يرضاه قد حصل عنده فيها مجال ويود سببا يرفعها به عن رعيته، هذا وإذا وزنتها العقول السليمة لا شك أنها لهو ولعب. وفقك الله للصواب. انتهى. فأجابه رحمه الله عن سؤاله فقال: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد اللطيف بن عبد الرحمن إلى الأخ عبد العزيز بن حسن، سلك الله به أهدى السنن. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: فنحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو على نعمه، والخط وصل والسؤال عن القهوة وصل مع اشتماله على الجزم بالحكم، واستيفاء الدليل بالتعليل والتدليل، هذا غاية ما يطلب من الجواب. ومن كان له ملكة وعنده معرفة توجب الجزم بالحكم باليقين، والاستدلال على الأحكام والدين، فليست به حاجة إلى سؤال المستضعفين والقاصرين، نسأل الله لنا ولكم الثبات على دينه والعصمة من القول عليه بلا علم. والكلام على القهوة قد سبقنا إليه، وأفاضل أهل العلم كل منهم أبدى ما عنده وما لديه،

وحسبنا السير على منهاجهم واقتفاء آثارهم، وذكر المنقور في مجموعه طرفا من ذلك والمجموع عند ابن مانع. وما ذكرت من أن مدار الشريعة على رفع المفاسد وجلب المنافع، فنعم هو ذاك، ولكن ينبغي أن يعلم أن المفاسد ما عارضت الأمر والنهي الشرعيين بالفعل أو بالوسيلة، والمنافع المطلوبة ما يحصل بها مقصود الشارع من الأمر والنهي بالفعل أو بالوسيلة، وبهذا تعلم فساد التعبير بقولك رفع المفاسد، فإن هذا لا يرتفع، فالصواب دفع المفاسد لا رفع المفاسد. وقولك: منها ما صرح به الكتاب والسنة، ومنها ما هو في ضمنه، تقسيم فاسد بل الكتاب والسنة صرحا بذلك وأوضحاه قال تعالى: {وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} 1 ولم يخرج فرد من ذلك: ولو قلت فقد صرح بذلك الكتاب والسنة أو تضمناه، لصح التعبير. وقولك: ومن البلاوي على أهل الوقت عامة وعلى أهل نجد خاصة في دنياهم القهوة مع ضعف معايشهم، فلا أدري ما يراد بالبلوى هنا؟ أهي الابتلاء في الدين أو هي الابتلاء بالنفقة فقط؟ فإن كان الأول، فلا يسلم بمجرد الدعوى، وإن كان الثاني، فالناس درجات وطبقات في اليسر والعسر والمعيشة، وتوسع الأغنياء إنما يذم لوجوه لا تختص بالقهوة أيضا، بل يجري في غير ذلك من سائر المباحات. وأما التعليل بأن فيها مضارا للأبدان، فلا ينبغي أن يؤخذ على إطلاقه، فإن الأبدان الدموية والبلغمية تنتفع بها بلا نزاع، والسوداوي والصفراوي يمكنه التعديل بالتمر الذي هو غالب غذاء أهل نجد، وقال داود في "تذكرته": يعد لها كل حلو.

_ 1 سورة هود آية: 118.

وأما قولك: وإذا كان الخمر يزيل العقل عند شربه، فهي شاهدناها تخامر العقل عند فقدها، فهذا الكلام لا ينبغي أن يقال؛ لأن الخمر تزيل العقل بمخامرته أي: تغطيته وهي لا تزيل العقل ولا تخامره، بل ربما كان شاربها قوي الذهن حاد الإدراك جيد الحافظة، والموجود عند فقدها لا يسمى مخامرة وإنما كسل وفتور لها لا بها 1. فافهم -أيها الأخ- وأعط القوس باريها. [تفنيد الأدلة بتحريم القهوة] وأما قولك: وإذا عرضت مضارها على العاقل منهم شهد بها وعابها فيقال: أي عاقل يراد بهذا؟ أما العامة ومن لا عناية له بمعرفة الأحكام الشرعية والأصول الدينية، فعقولهم لا تصلح أن تكون ميزانا أو أن تستقل بحكم. وأما أهل العلم والدين، وأهل البصائر من ورثة سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم فعقولهم يرجع إليها مع اتفاقهم، وإن اختلفوا، فالميزان هو الكتاب والسنة. وقولك: وإذا وزنتها العقول السليمة، فلا شك أنها لهو ولعب، فاللهو واللعب ما لا يعود بمنفعة أصلا ويعود بمضرة رجحت على مصلحته، وإدخال القهوة في هذا التعريف يحتاج إلى أصول ومقدمات "لو يعطى الناس بدعواهم"2 الحديث. وما ذكرت من التعليل قد يجري في كل مباح، كإضاعة المال

_ 1 التحقيق الذي يثبته الطب أن شرب القهوة والشاي والدخان يحدث تنبيها في العصب، وهو المراد بما أشار إليه الشيخ منه حدة الذهن، ثم يحدث عقب ذلك التنبيه فتور بمقتضى ما يسمى سنة "رد الفعل". وهو معنى قول علمائنا: ما جاوز حده رجع إلى ضده، فالفتور الذي ذكره الشيخ هو ضد ذلك التنبيه، وهو من تأثير المادة السامة التي توجد في كل من القهوة والشاي والدخان، وهو يزول بشربها لما فيه من التنبيه. ومثل هذا يوجد في الخمر، وهو المراد بقول الشاعر الفاسق: * وداوني بالتي كانت هي الداء * وقوله: وكأس شربت على لذة ... وأخرى تداويت منها بها ولكن ما تحدثه الخمر من تنبه العصب ومن الفتور الذي يعقبه ليس هو العلة في تحريمها بل علته ذهاب العقل والنشوة التي هي مثار العداوة والبغضاء والصد عن ذكر الله وعن الصلاة. 2 البخاري: تفسير القرآن (4552) , ومسلم: الأقضية (1711) , والنسائي: آداب القضاة (5425) , وابن ماجه: الأحكام (2321) , وأحمد (1/ 342 ,1/ 351 ,1/ 363).

والاجتماع على القيل والقال، والحاجة إلى السؤال، وليس ذلك الوصف لازما للقهوة، وكذلك كونها تلهي كثيرا من الناس عن الصلاة، وتضيع عليه الأوقات، فهذا قد يجري لأهل الشهوات والمبايعات والمزاورات قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ} 1 الآية. وأما كونها لا تغني من جوع ولا تروي، فهذا الوصف يأتي على كثير مما يتعاطونه من المباحات، ولم تأت الشريعة بتحريم ما لا يغني من جوع ولا يروي: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} 2. وأما كون مزرعها من بلاد الكفار، فمتى كان عندكم امتناع عما زرعه الكفار ونسجه الكفار وخرج من بلاد الكفار، وجمهور أموالكم ومآكلكم من هذا الضرب؟ "ثكلتك أمك يا معاذ"3 و"ويح عمار"4 قد كانت المدينة في عهد النبوة يجلب إليها من بلاد الكفار أنواع المآكل والأدهان والملابس التي نسجت وصبغت ببلاد الكفار، كما لا يخفى على من له أدنى نظر في الأخبار. وأما ما زعمت من ضررها على أهل الجهاد، فمن الظرائف التي لا يستظرفها إلا فقيه النفس ذكي الطبع، وربما قيل بعكس القضية، لما فيها من تنشيف البلغم وتخفيف المواد المكسلة الردية. وأما قولك: ويصرف فيها من بيت المال كيت وكيت، فمتى كان النظر -أصلحك الله- منصرفا إلى توفير هذه الجهة ووضعها في مواضعها الشرعية؟ والصرف في المباح أولى من الصرف في المحرم الصرف. وأما اختلاف أهل العلم عند خروجها -ولو قيل عند حدوثها لكان أليق باللغة الشرعية- فنعم هو ذاك، ولكن لا دليل فيه على المنع، وقد قيل:

_ 1 سورة المنافقون آية: 9. 2 سورة مريم آية: 64. 3 الترمذي: الإيمان (2616) , وابن ماجه: الفتن (3973) , وأحمد (5/ 231 ,5/ 237). 4 البخاري: الصلاة (447) , ومسلم: الفتن وأشراط الساعة (2915) , وأحمد (3/ 5 ,3/ 90).

تخالف الناس حتى لا اتفاق لهم ... إلا على شجب والخلف في الشجب وأما صرف الأموال العظيمة من أهل نجد، فهذا القول من جنس ما قبله، فإن مجاوزة الحد في كل مباح داخلة في حقيقة السرف، والمحرم نفس السرف، ولو في المآكل الضرورية. ولو صرف الأخ النجيب فكرته، ونظر إلى ما تعطل من أصول الدين ودعائم الملة، وما تلاعب به الجهال من الأحكام الشرعية الدينية، وما دهم أهل نجد في هذه السنين من قبض العلم وارتفاع الجهال، وترك الالتفات إلى تربية أهل الملة بتعليم ما يحتاجونه من أصول دينهم، وما جاء به نبيهم صلى الله عليه وسلم والتفطن لذلك والاهتمام به، وصرف الهمة إلى تحصيله، وأن لا يطلب على الفضلة إن طلب، لكان هذا أولى وأجدر أن تقع المذاكرة فيه والسؤال عنه. وأما أمر القهوة، فقد كفانا شأنه من سلف من أهل العلم والدين، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.

الرسالة الرابعة والسبعون: نفي كون ما جاء به الشيخ محمد بن عبد الوهاب مذهبا خامسا

الرسالة الرابعة والسبعون [نفي كون ما جاء به الشيخ محمد بن عبد الوهاب مذهبا خامسا] في بيان ما دعا إليه الشيخ محمد عبد الوهاب وكونه حقيقة الإسلام، وتضليل من زعم أنه مذهب خامس، وهو جواب لسؤال ورد على الشيخ من عمان. الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، محمد وآله وصحبه أجمعين: أما بعد: فقد وصلت إلينا الأسئلة التي صدرت من جهة الساحل الشرقي على يد الأخ سعد البواردي. السؤال الأول: قول الملحد الضال المجادل في دين الله: إن الأمر الذي جاء به الشيخ محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله- مذهب خامس، وغش للأمة، فهل يكون هذا القائل سنيًا أو مبتدعا؟ فالجواب: وبالله التوفيق إنما تدل مقالته هذه على أنه من أجهل خلق الله في دين الله، وأبعدهم عن الإسلام وأبينهم ضلالة. فإن شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله- إنما دعا الناس إلى أن يعبدوا الله وحده لا شريك له ولا يشركوا به شيئا، وهذا لا يرتاب فيه مسلم أنه دين الله الذي أرسل به رسله وأنزل به كتبه، كما سنذكره -إن شاء الله تعالى-. وقوله: مذهب خامس يبين جهله، وأنه لا يعرف العلم ولا العلماء، فإن الذي قام به شيخ الإسلام لا يقال له مذهب، وإنما يقال له: دين وملة، فإن التوحيد هو دين الله وملة خليله إبراهيم ودين جميع الأنبياء والمرسلين، وهو الإسلام الذي بعث الله به محمدا صلى الله عليه وسلم وأجمع عليه علماء الأمة سلفا وخلفا؛ ولا يخالف في هذا إلا من هو مشرك كما قال تعالى: {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ أَلا

لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} 1، وقال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} 2، فسماه الله تعالى في هاتين الآيتين وغيرهما من آي القرآن دينا ولم يسمه مذهبا. [معنى المذهب وسبب المذاهب وأئمتها] وأما ما جرى على ألسن العلماء من قولهم: مذهب فلان أو ذهب إليه فلان، فإنما يقع في الأحكام لاختلافهم فيها بحسب بلوغ الأدلة وفهمها، وهذا لا يختص بالأئمة الأربعة -رحمهم الله- بل مذاهب العلماء قبلهم وبعدهم في الأحكام كثيرة فقد جرى الخلاف بين الصحابة -رضي الله عنهم-، وللصدِّيق رضي الله عنه مذهب تفرد به، ولابن مسعود كذلك، وكذا ابن عباس وغيرهم من الصحابة، وكذا الفقهاء السبعة من التابعين خالف بعضهم بعضا في مسائل، وغيرهم من التابعين كذلك، وبعدهم أئمة الأمصار كالأوزاعي إمام أهل الشام، والليث بن سعد إمام أهل مصر، وسفيان بن عيينة (سفيان) والثوري إمام أهل العراق. فلكل مذهب معروف في الكتب المصنفة في اختلاف العلماء، ومثلهم الأئمة الأربعة، وجاء بعدهم أئمة مجتهدون خالفوا الأئمة الأربعة في مسائل معروفة عند العلماء كأهل الظاهر؛ ولذلك تجد من صنف في مسائل الخلاف إذا عنى الأربعة قال: اتفقوا، وفي مسائل الإجماع التي أجمع عليها العلماء سلفا وخلفا يقول: أجمعوا. وذكر المذاهب لا يختص بأهل السنة من الصحابة فمن بعدهم، فإن بعض أهل البدع صنفوا لهم مذهبا في الأحكام يذكرونه عند أئمتهم، كالزيدية لهم كتب معروفة يفتي بها أهل اليمن، والإمامية الرافضة لهم مذهب مدون خالفوا في كثير منه أهل السنة والجماعة. والمقصود أن قول هذا الجاهل مذهب خامس، قول فاسد لا معنى له كحال أمثاله من

_ 1 سورة الزمر آية: 2. 2 سورة البينة آية: 5.

أهل الجدل والزيغ في زماننا. (شعر): يقولون أقوالا ولا يعرفونها ... وإن قيل هاتوا حققوا لم يحققوا (وأما قوله): وغش الأمة، فهذا الجاهل الضال بنى هذا القيل الكاذب على سوء فهمه وانصرافه عن دين الإسلام، لأنه عدو لمن قام به ودعا إليه وعمل به؛ ومن المعلوم عند العقلاء وأهل البصائر أن من دعا الناس إلى توحيد ربهم وطاعته أنه الناصح لهم حقا. وأما من حسَّن الشرك والبدع ودعا إليها، وجادل بالباطل وألحد في أسماء الله وصفاته، فهو الظالم الغاش لعباد الله؛ لأنه يدعوهم إلى ضلالة. نعوذ بالله من جهد البلاء، ودرك الشقاء، وسوء القضاء، وشماتة الأعداء. [التوحيد الذي دعا إليه الشيخ محمد بن عبد الوهاب] ونذكر ما قام به الشيخ محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله-، فإنه نشأ في أناس قد اندرست فيهم معالم الدين، ووقع فيهم من الشرك والبدع ما عم وطم في كثير من البلاد، إلا بقايا متمسكين بالدين يعلمهم الله تعالى. وأما الأكثرون فعاد المعروف بينهم منكرا، والمنكر معروفا، والسنة بدعة والبدعة سنة، نشأ على هذا الصغير، وهرم عليه الكبير، ففتح الله بصيرة شيخ الإسلام بتوحيد الله الذي بعث به رسله وأنبياءه، فعرف الناس ما في كتاب ربهم من أدلة توحيده الذي خلقهم له، وما حرمه عليهم من الشرك الذي لا يغفره الله إلا بالتوبة منه، فقال لهم ما قاله المرسلون لأممهم: {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} 1. فحجب كثيرا منهم عن قبول هذه الدعوة ما اعتادوه، وما نشؤوا عليه من الشرك والبدع؛ فنصبوا العداوة لمن دعاهم إلى توحيد ربهم وطاعته، وهو شيخنا -رحمه الله-. ومن استجاب له، وقبل دعوته وأصغى

_ 1 سورة الأعراف آية: 59.

إلى حجج الله وبيناته، كحال من خلا من أعداء الرسل كما قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الأِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا} 1، وقال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا} 2. وأدلة ما دعا إليه هذا الشيخ -رحمه الله- من التوحيد في الكتاب والسنة أظهر شيء وأبينه. اقرأ كتاب الله من أوله إلى آخره تجد بيان التوحيد والأمر به، وبيان الشرك والنهي عنه مقررا في كل سورة، وفي كثير من سور القرآن يقرره في مواضع منها، يعلم ذلك من له بصيرة وتدبر. ففي فاتحة الكتاب {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} 3: فيها نوعا التوحيد: توحيد الإلهية وتوحيد الربوبية، وفي {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} 4: النوعان، وقصر العبادة والاستعانة على الله عز جل أي: لا نعبد غيرك ولا نستعين إلا بك 5. أول أمر في القرآن يقرع سمع السامع والمستمع قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} إلى قوله: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} 6. فأمرهم بتوحيد الإلهية، واستدل عليه بالربوبية، ونهاهم عن الشرك به، وأمرهم بخلع الأنداد التي يعبدها المشركون من دون الله. وافتتح -سبحانه- كثيرا من سور القرآن بهذا التوحيد: {الم اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} 7، {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} إلى قوله: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ} 8 أي: المألوه

_ 1 سورة الأنعام آية: 112. 2 سورة الفرقان آية: 31. 3 سورة الفاتحة آية: 2. 4 سورة الفاتحة آية: 5. 5 هذا التفسير للقصر المذكور، ومعنى الآية في جملتها نعبدك ولا نعبد غيرك، ونستعينك ولا نستعين سواك، فهي جامعة بين إثبات العبادة والاستعانة لله، ونفيهما عن سواه. 6 سورة البقرة آية: 21 - 22. 7 سورة آل عمران آية: 1 - 2. 8 سورة الأنعام آية: 1 - 3.

المعبود في السماوات والأرض، وفي هذه السورة 1 من أدلة التوحيد ما لا يكاد أن يحصر، وفيها من بيان الشرك والنهي عنه كذلك. وافتتح سورة هود بهذا التوحيد فقال: {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ} 2، فأحكم تعالى آيات القرآن، ثم فصلها ببيان توحيده والنهي عن الإشراك به. وفي أول سورة طه قال تعالى: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} 3. وافتتح سور الصافات بهذا التوحيد، وأقسم عليه فقال: {وَالصَّافَّاتِ صَفًّا فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِد رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ} 4. وافتتح سورة الزمر بقوله: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} 5. وفي هذه السورة من بيان التوحيد والأمر به، وبيان الشرك والنهي عنه، ما يستضيء به قلب المؤمن، وفي السورة بعدها كذلك، وفي سورة: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} 6 نفى الشرك في العبادة إلى آخره. وفي سورة: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} 7 توحيد الألوهية وتوحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصفات. وهذا ظاهر لمن نور الله قلبه بفهم القرآن. وفي خاتمة المصحف: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ مَلِكِ النَّاسِ إِلَهِ النَّاسِ} 8 بين أن ربهم وخالقهم ورازقهم والمتصرف فيهم 9 بمشيئته وإرادته، وهو ملكهم الذي نواصي الملوك بيده، وجميع الخلق في قبضته، يعز هذا ويذل هذا

_ 1 يعني سورة الأنعام، وهي أجمع سور القرآن لعقائد الإسلام في الإلهيات والنبوة والبعث، ورد شبهات المشركين. 2 سورة هود آية: 1. 3 سورة طه آية: 8. 4 سورة الصافات آية: 1. 5 سورة الزمر آية: 1. 6 سورة الكافرون آية: 1. 7 سورة الإخلاص آية: 1. 8 سورة الناس آية: 1. 9 لعل أصله هو المتصرف فيهم، فيكون خبر أن ربهم وإلا فأين الخبر.

ويهدي من يشاء، ويضل من يشاء، {لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} 1، وهو معبودهم الذي لا يستحق لأن يعبد سواه، فهذه إشارة إلى ما في القرآن. [دعوة الشيخ إلى أركان الإسلام وشعب الإيمان] وأما السنة: ففيها من أدلة التوحيد ما لا يمكن حصره، كقوله في حديث معاذ الذي في الصحيحين: "فإن حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا"2، وفي حديث ابن مسعود الصحيح: "من لقي الله لا يشرك به شيئا، دخل الجنة. ومن لقيه يشرك به، دخل النار"3، والحديث الذي في معجم الطبراني: "إنه لا يستغاث بي، وإنما يستغاث بالله عز وجل"، ولما قال له رجل: "ما شاء الله وشئت، قال: أجعلتني لله ندا؟ بل ما شاء الله وحده"4 وأمثال هذا لا يحصى كما تقدم ذكره. وأدلة التوحيد في الكتاب أبين من الشمس في نحر الظهيرة، لكن لمن له فهم ثاقب، وعقل كامل، وبصر ناقد، وأما الأعمى فلا يبصر للشمس ضياء، ولا للقمر نورًا. [عداوة أكثر الناس لإصلاح الرسل وورثتهم] ثم إن شيخنا -رحمه الله- كان يدعو الناس إلى الصلوات الخمس، والمحافظة عليها حيث ينادى لها؛ وهذا من سنن الهدى ومعالم الدين كما دل على ذلك الكتاب والسنة. ويأمر بالزكاة والصيام والحج، ويأمر بالمعروف ويأتيه، ويأمر الناس أن يأتوه ويأمروا به، وينهى عن المنكر ويتركه، ويأمر الناس بتركه والنهي عنه. وقد تتبع العلماء مصنفاته -رحمه الله- من أهل زمانه وغيرهم، فأعجزهم أن يجدوا فيها ما يعاب. وأقواله في أصول الدين مما أجمع عليه أهل السنة والجماعة، وأما في الفروع والأحكام، فهو حنبلي المذهب، لا يوجد له قول

_ 1 سورة الرعد آية: 41. 2 البخاري: الجهاد والسير (2856) , ومسلم: الإيمان (30) , والترمذي: الإيمان (2643) , وابن ماجه: الزهد (4296) , وأحمد (3/ 260 ,5/ 228 ,5/ 229 ,5/ 230 ,5/ 234 ,5/ 236 ,5/ 238 ,5/ 242). 3 مسلم: الإيمان (93) , وأحمد (3/ 325 ,3/ 344 ,3/ 374 ,3/ 391). 4 أحمد (1/ 214).

مخالف لما ذهب إليه الأئمة الأربعة، بل ولا خرج عن أقوال أئمة مذهبه، على أن الحق لم يكن محصورا في المذاهب الأربعة كما تقدم، ولو كان محصورا فيهم لما كان لذكر المصنفين في الخلاف، وأقوال الصحابة والتابعين، ومن بعدهم مما خرج عن أقوال الأربعة فائدة. والحاصل: أن هذا المعترض المجادل مع جهله، انعكس عليه أمره، فقبل قلبه ما كان منكرًا، ورد ما كان معروفًا؛ فأعداء الحق وأهله من زمن قوم نوح إلى أن تقوم الساعة، هذه حالهم وطريقتهم، فمن حكمة الرب أنه ابتلى عباده المؤمنين الذين يدعون الناس إلى ما دعا إليه النبي صلى الله عليه وسلم من الدين بثلاثة أصناف من الناس وكل صنف له أتباع. (الصنف الأول): من عرف الحق، فعاداه حسدًا وبغيًا كاليهود، فإنهم أعداء الرسل والمؤمنين كما قال تعالى: {بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ} 1،: {وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} 2. (الصنف الثاني): الرؤساء أهل الأموال الذين فتنتهم دنياهم وشهواتهم لأنهم يعلمون أن الحق يمنعهم من كثير مما أحبوه، وألفوه من شهوات الغنى، فلم يعبؤوا بداعي الحق ولم يقبلوا منه. (الصنف الثالث): الذين نشؤوا في باطل وجدوا عليه أسلافهم يظنون أنهم على حق، وهم على باطل، فهؤلاء لم يعرفوا إلا ما نشؤوا عليه، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا. وكل هذه الأصناف الثلاثة وأتباعهم، هم أعداء الحق من لدن زمان نوح إلى أن تقوم الساعة.

_ 1 سورة البقرة آية: 90. 2 سورة البقرة آية: 146.

(فأما الصنف الأول): فقد عرفت ما قال الله فيهم. (وأما الصنف الثاني): فقد قال فيهم: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} 1. وقال عن الصنف الثالث: {قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} 2،: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ} 3، وقال: {إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ} 4. وهؤلاء هم الأكثرون كما قال تعالى: {وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الأَوَّلِينَ} 5، وقال تعالى في سورة الشعراء عقب كل قصة: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} 6، وقال تعالى: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} 7، وقال تعالى في قصة نوح عليه السلام: {وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ} 8، وقال: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ} 9. فيا من نصح نفسه، تدبر ما ذكر الله في كتابه من ضلال الأكثرين لئلا تغتر بالكثرة من المنحرفين عن الصراط المستقيم، الذي هو سبيل المؤمنين، وتدبر ما ذكر الله من أحوال أعداء المرسلين، وما فعل الله بهم، قال تعالى: {مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ} 10 الآية، وقال تعالى: {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} 11. والآيات في هذا المعنى كثيرة، تبين أن أهل الحق أتباع الرسل

_ 1 سورة القصص آية: 50. 2 سورة الشعراء آية: 74. 3 سورة الزخرف آية: 22. 4 سورة الصافات آية: 69. 5 سورة الصافات آية: 71. 6 سورة الشعراء آية: 8. 7 سورة يوسف آية: 103. 8 سورة هود آية: 40. 9 سورة الأنعام آية: 116. 10 سورة غافر آية: 4. 11 سورة غافر آية: 83.

هم الأقلون عددًا، الأعظمون عند الله قدرًا، وأن أعداء الحق هم الأكثرون في كل مكان وزمان. وفي الأحاديث الصحيحة ما يرشد إلى ذلك كما في الصحيح: أن ورقة بن نوفل قال للنبي صلى الله عليه وسلم: "يا ليتني كنت فيها جذعا، ليتني أكون حيا إذ يخرجك قومك، قال: أومخرجي هم؟ قال: نعم، لم يأت أحد قط بمثل ما جئت به إلا عودي"1. فإذا كان هذا حال أكثر الخلق مع المرسلين، مع قوة عقولهم وفهومهم وعلومهم، فلا تعجب مما جرى في هذه الأوقات ممن هم مثلهم في عداوة الحق وأهله، والصد عن سبيل الله، مع ما في أهل هذه الأزمان من الرعونات والجهل، وفرط الغلو في الأموات، كما قال تعالى عن أسلافهم وأشباههم: {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ} 2. فاحتج سبحانه على بطلان دعوتهم غيره بأمور: (منها) أنهم: {لا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ} 3 فالمخلوق لا يصلح أن يقصد بشيء من خصائص الإلهية، لا دعاء ولا غيره و "الدعاء مخ العبادة" 4 (الثاني): كون الذين يدعونهم من دون الله أمواتا غير أحياء والميت لا يقدر على شيء فلا يسمع الداعي ولا يستجيب له، ففيها معنى قوله تعالى: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} 5، وفي هذه الآية أربعة أمور تبطل دعوة غير الله، وتبين ضلالة من دعا غير الله، فتدبرها.

_ 1 البخاري: بدء الوحي (4) , ومسلم: الإيمان (160) , وأحمد (6/ 223 ,6/ 232). 2 سورة النحل آية: 20. 3 سورة النحل آية: 20. 4 الترمذي: الدعوات (3371). 5 سورة فاطر آية: 13.

(والأمر الثالث) في هذه الآية قوله: {وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُون َ} 1، ومن لا يدري متى يبعث لا يصلح أن يدعى من دون الله، لا دعاء عبادة ولا دعاء مسألة. ثم بين تعالى ما أوجبه على عباده من إخلاص العبادة لله، وأنه هو المألوه المعبود دون كل من سواه، فقال: {إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} 2. وهذا هو الذي بعث الله به رسله، وأنزل به كتبه كما قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} 3. ثم بين تعالى حال أكثر الناس مع قيام الحجة عليهم، وبطلان ما هم عليه من الشرك بالله، وبيان ما افترض عليهم من توحيده فقال: {فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ} 4، فذكر سببين حائلين بينهم، وبين قبول الحق الذي دعوا إليه: (فالأول): عدم الإيمان باليوم الآخر. (والثاني): التكبر، وهو حال الأكثرين كما قد عرف من حال الأمم الذين بعث إليهم رسله، كقوم نوح وقوم هود وقوم صالح وغيرهم، وكيف جرى منهم وما حل بهم، وكحال كفار قريش والعرب وغيرهم مع النبي صلى الله عليه وسلم لما بعثه الله بالتوحيد والنهي عن الشرك والتنديد، فقد روى مسلم وغيره من حديث عمرو بن عبسة أنه "قال للنبي صلى الله عليه وسلم لما قال له: أنا نبي، قال: وما نبي؟ قال: أرسلني الله، قال: بأي شيء أرسلك؟ قال: بصلة الأرحام، وكسر الأوثان، وأن يوحد الله ولا يشرك به شيء، قال: فمن معك على هذا؟ قال: حر وعبد"5، ومعه يومئذ أبو بكر وبلال. وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ، فطوبى للغرباء الذين يصلحون إذا فسد الناس"6، وفسر الغرباء بأنهم النزاع من القبائل، فلا يقبل الحق من القبيلة إلا نزيعة الواحد والاثنان؛ ولهذا قال بعض السلف: لا تستوحش من الحق لقلة السالكين، ولا تغتر

_ 1 سورة النحل آية: 21. 2 سورة البقرة آية: 163. 3 سورة الأنبياء آية: 25. 4 سورة النحل آية: 22. 5 مسلم: صلاة المسافرين وقصرها (832) , وأحمد (4/ 112). 6 مسلم: الإيمان (145) , وابن ماجه: الفتن (3986) , وأحمد (2/ 389).

بالباطل لكثرة الهالكين. وعن بعضهم: ليس العجب ممن هلك كيف هلك؟ إنما العجب ممن نجا كيف نجا؟ فإذا كان الأمر كذلك، فلا تعجبوا من كثرة المنحرفين الناكبين عن الحق المبين، المجادلين في أمر الدين، كما قال تعالى: {الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ} 1. فأعظم منة على من رزقه الله معرفة الحق، الاعتصام بكتابه، والتمسك بتوحيده وشرعه، مع كثرة المخالف والمجادل بالباطل و: {مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدا ً} 2. وصلى الله على محمد سيد المرسلين وإمام المتقين، وعلى آله وصحبه أجمعين وسلم تسليما كثيرا، والحمد لله رب العالمين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

_ 1 سورة غافر آية: 35. 2 سورة الكهف آية: 17.

الرسالة الخامسة والسبعون: في ترجمة الشيخ محمد بن عبد الوهاب وما قام به ودعا إليه

الرسالة الخامسة والسبعون في ترجمة الشيخ محمد بن عبد الوهاب وما قام به ودعا إليه بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله، أرسله بين يدي الساعة بشيرًا ونذيرًا. [تقديم لترجمة الشيخ محمد بن عبد الوهاب] أما بعد: فقد سألت -أرشدك الله- أن أرسل إليك نبذة مفيدة كاشفة عن حال الشيخ الإمام، العلم القدوة، المجدد لما اندرس من دين الإسلام، والقائم بنصرة شريعة سيد الأنام، الشيخ محمد بن عبد الوهاب، أحسن الله له المآل وضاعف له الثواب، ويسر له الحساب. وذكرت -أرشدك الله- أن جهتكم لا يوجد فيها ذلك، وأن عندكم من الطلبة من يتشوق على تلك المناهج والمسالك، فكتبت إليك هذه الرسالة، وسودت إليك هذه الكراسة والعجالة، ليعلم الطالب، ويتحقق الراغب، حقيقة ما دعا إليه هذا الإمام، وما كان عليه من الاعتقاد والفهم التام، ويستبين للناظر فيها ما يبهت به الأعداء، من الأكاذيب والافتراء، التي يرومون بها تنفير الناس عن المحجة والسبيل، وكتمان البرهان والدليل. وقد كثر أعداؤه ومنازعوه، وفشا البهت بينهم فيما قالوه ونقلوه، فربما اشتبه على طالب الإنصاف والتحقيق، والتبس عليه واضح المنهج والطريق، فإن استصحب الأصول الشرعية، وجرى على القوانين المرضية، عرف أن لكل نعمة حاسدًا، ولكل حق

جاحدًا، ولا يقبل في نقل الأقوال والأحكام إلا العدول الثقاة الضابطون من الأنام، ومن استصحب هذا استراح عن البحث فيما ينقل إليه ويسمع، ولم يلتفت إلى أكثر ما يختلف فيه ويصنع، وكان من أمره على منهاج واضح ومشرع. [ترجمة الشيخ محمد بن عبد الوهاب] فصل: [نسبه] فأما نسب هذا الشيخ، فهو الإمام العلم القدوة البارع محمد بن عبد الوهاب بن سليمان بن علي بن محمد بن أحمد بن راشد بن بريد بن محمد بن بريد بن مشرف. [مولده] ولد -رحمه الله- سنة خمس عشرة بعد المائة والألف من الهجرة في بلد العيينة من أرض نجد، ونشأ بها وقرأ القرآن بها حتى حفظه وأتقنه قبل بلوغه العشر، وكان حاد الفهم سريع الإدراك والحفظ، يتعجب أهله من فطنته وذكائه. [طلبه للعلم] وبعد حفظ القرآن اشتغل بالعلم وجد في الطلب، وأدرك بعض الأرب قبل رحلته لطلب العلم. وكان سريع الكتابة ربما كتب الكراسة في المجلس؛ قال أخوه سليمان: كان والده يتعجب من فهمه، ويعترف بالاستفادة منه مع صغر سنه. ووالده هو مفتي تلك البلاد، وجده مفتي البلاد النجدية، آثاره وتصنيفه وفتاواه تدل على علمه وفقهه، وكان جده إليه المرجع في الفقه والفتوى، وكان معاصرا للشيخ منصور البهوتي الحنبلي خادم المذهب اجتمع به بمكة. وبعد بلوغ الشيخ سن الاحتلام، قدمه والده في الصلاة ورآه أهلا للائتمام، ثم طلب الحج إلى بيت الله الحرام، فأجابه والده إلى ذاك المقصد والمرام، وبادر إلى قضاء فريضة

الإسلام، وأداء المناسك على التمام. ثم قصد المدينة المنورة على ساكنها أفضل الصلاة والسلام، وأقام بها قريبا من شهرين، ثم رجع إلى وطنه قرير العين، واشتغل بالقراءة في الفقه على مذهب الإمام أحمد -رحمه الله-. ثم بعد ذلك رحل يطلب العلم، وذاق حلاوة التحصيل والفهم، وزاحم العلماء الكبار، ورحل إلى البصرة والحجاز مرارا، واجتمع بمن فيها من العلماء والمشايخ الأحبار، وأتى الأحساء، وهي إذ ذاك آهلة بالمشايخ والعلماء؛ فسمع وناظر وبحث واستفاد، وساعدته الأقدار الربانية بالتوفيق والإمداد. [شيوخه] وروى عن جماعة منهم الشيخ عبد الله بن إبراهيم النجدي ثم المدني، وأجازه من طريقين، وأول ما سمع منه الحديث المسلسل بالأولية، كتب السماع بالسند المتصل إلى عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا مَنْ في الأرض يرحمكم مَنْ في السماء"1. وسمع منه مسلسل الحنابلة بسنده إلى أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا أراد الله بعبده خيرا استعمله، قالوا: كيف يستعمله؟ قال: يوفقه لعمل صالح قبل موته"2، وهذا الحديث من ثلاثيات أحمد -رحمه الله-. وطالت إقامة الشيخ ورحلته بالبصرة، وقرأ بها كثيرا من كتب الحديث والفقه والعربية، وكتب من الحديث والفقه واللغة ما شاء الله في تلك الأوقاف. [دعوته] وكان يدعو إلى التوحيد، ويظهره لكثير ممن يخالطه ويجالسه ويستدل عليه، ويظهر ما عنده من العلم وما لديه. كان يقول: إن الدعوة كلها لله، لا يجوز صرف شيء منها إلى سواه، وربما ذكروا بمجلسه إشارات

_ 1 الترمذي: البر والصلة (1924) , وأبو داود: الأدب (4941). 2 الترمذي: القدر (2142) , وأحمد (3/ 106 ,3/ 120).

الطواغيت أو شيئا من كرامات الصالحين الذين كانوا يدعونهم، ويستغيثون بهم ويلجؤون إليهم في الملمات والمهمات، فكان ينهى عن ذلك ويزجر، ويورد الأدلة من الكتاب والسنة ويحذر، ويخبر أن محبة الأولياء والصالحين إنما هي متابعتهم فيما كانوا عليه من الهدى والدين، وتكثير أجورهم بمتابعتهم على ما جاء به سيد المرسلين؛ وأما دعوى المحبة والمودة، مع المخالفة في السنة والطريقة، فهي دعوى باطلة مردودة، غير مسلمة عند أهل النظر والحقيقة، ولم يزل على ذلك -رحمه الله-. ثم رجع إلى وطنه، فوجد والده قد انتقل إلى بلده حريملا، فاستقر معه فيها، يدعو إلى السنة المحمدية ويبديها، ويناصح من خرج عنها ويفشيها، حتى رفع الله شأنه ورفع ذكره، ووضع له القبول، وشهد له بالفضل ذووه من أهل المعقول والمنقول. وصنف كتابه المشهور في التوحيد، وأعلن بالدعوة إلى الله العزيز الحميد؛ وقرأ عليه هذا الكتاب المفيد، وسمعه كثير ممن لديه من طالب ومستفيد. وشاعت نسخه في البلاد، وطار ذكره في الغور والأنجاد، وفاز بصحبته واستفاد، من جرد القصد وسلم من الأشر والبغي والفساد. وكثر بحمد الله محبوه وجنده، وصار معه عصابة من فحول الرجال، وأهل السمت الحسن والكمال، يسلكون معه الطريق، ويجاهدون كل فاسق وزنديق. فصل: [حال بلاد نجد وغيرها عند ظهور الشيخ] كان أهل عصره ومصره في تلك الأزمان قد اشتدت غربة الإسلام بينهم، وعفت آثار الدين لديهم، وانهدمت قواعد الملة الحنيفية، وغلب

على الأكثرين ما كان عليه أهل الجاهلية، وانطمست أعلام الشريعة في ذلك الزمان، وغلب الجهل والتقليد والإعراض عن السنة والقرآن. وشب الصغير وهو لا يعرف من الدين إلا ما كان عليه أهل تلك البلدان، وهرم الكبير على ما تلقاه عن الآباء والأجداد. وأعلام الشريعة مطموسة، ونصوص التنزيل وأصول السنة فيما بينهم مدروسة، وطريقة الآباء والأسلاف مرفوعة الأعلام، وأحاديث الكهان والطواغيت مقبولة، غير مردودة ولا مدفوعة. قد خلعوا ربقة التوحيد والدين، وجدوا واجتهدوا في الاستغاثة والتعلق بغير الله من الأولياء والصالحين، والأوثان والأصنام والشياطين؛ وعلماؤهم ورؤساؤهم على ذلك مقبلون، ومن بحره الأجاج شاربون وبه راضون، وإليه مدى الزمان داعون. قد أعشتهم العوائد والمألوفات، وحبستهم الشهوات والإرادات، عن الارتفاع إلى طلب الهدى من النصوص المحكمات، والآيات البينات، يحتجون بما رووه من الآثار الموضوعات، والحكايات المختلفة والمنامات، كما يفعله أهل الجاهلية وغبر الفترات. وكثير منهم يعتقد النفع والضر في الأحجار والجمادات، ويتبركون بالآثار والقبور في جميع الأوقات: {نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} 1،: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} 2،: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالأِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} 3. فأما بلاد نجد، فقد بالغ الشيطان في كيدهم وجد، وكانوا ينتابون قبر

_ 1 سورة الحشر آية: 19. 2 سورة الأنعام آية: 1. 3 سورة الأعراف آية: 33.

زيد بن الخطاب، ويدعونه رغبا ورهبا بفصيح الخطاب، ويزعمون أنه يقضي لهم الحوائج، ويرونه من أكبر الوسائل والولائج. وكذلك عند قبر يزعمون أنه قبر ضرار بن الأزور، وذاك كذب ظاهر، وبهتان مزور. وكذلك عندهم نخل فحال، ينتابه النساء والرجال يفعلون عنده أقبح الفعال، والمرأة إذا تأخر الزواج عنها ولم يرغب فيها الأزواج، تذهب إليه فتضمه بيدها وتدعوه برجاء وابتهال، وتقول: يا فحل الفحول، أريد زوجا قبل الحول. وشجرة عندهم تسمى: الطريقة أغراهم الشيطان بها وأوحى إليهم التعلق عليها، وأنها ترجى منها البركة ويعلقون عليها الخرق، لعل الولد يسلم من السوء. وفي أسفل بلدة الدرعية مغارة في الجبل يزعمون أنها انفلقت من الجبل لامرأة تسمى: بنت الأمير، أراد بعض الناس أن يظلمها ويضير، فانفلق الغار ولم يكن له عليها اقتدار، كانوا يرسلون إلى هذا المكان من اللحم والخبز ما يقتات به جند الشيطان. وفي بلدتهم رجل يدعي الولاية يسمى: تاج يتبركون به ويرجون به ويرجون منه العون والإفراج. وكانوا يأتون إليه، ويرغبون فيما عنده من المدد بزعمهم ولديه، فتخافه الحكام والظلمة، ويزعمون أن له تصرفا وفتكا بمن عصاه وملحمة، مع أنهم يحكون عنه الحكايات القبيحة الشنيعة التي تدل على انحلاله عن أحكام الملة والشريعة. وهكذا سائر بلاد نجد على ما وصفنا من الإعراض عن دين الله، والجحد لأحكام الشريعة والرد. ومن العجب أن هذه الاعتقادات الباطلة، والمذاهب الضالة، والعوائد الجائرة، والطوائف الخاسرة، قد فشت وظهرت وعمت وطمت، حتى بلاد الحرمين الشريفين: فمن ذلك ما يفعل عند قبر محجوب وقبة أبي طالب، فيأتون قبره بالسماعات والعلامات للاستغاثة

عند نزول المصائب وحلول النواكب، وكانوا له في غاية التعظيم، ولا ما يجب عند البيت الكريم. [الفتنة بالقبور ومفاسدها] فلو دخل سارق أو غاصب، أو ظالم قبر أحدهما، لم يتعرض له أحد، لما يرون له من وجوب التعظيم والاحترام والمكارم. ومن ذلك ما يفعل عند قبر ميمونة أم المؤمنين -رضي الله عنها- في سرف. وكذلك عند قبر خديجة -رضي الله عنها- يفعل عند قبرها ما لا يسوغ السكوت عليه من مسلم يرجو الله واليوم الآخر، فضلا عن كونه من المكاسب الدنيئة الفاجرة، وفيه من اختلاط النساء بالرجال، وفعل الفواحش والمنكرات وسوء الأفعال، ما لا يقره أهل الأديان والكمال، وكذلك سائر القبور المعظمة المشرفة في بلد الله الحرام مكة المشرفة. وفي الطائف قبر ابن عباس رضي الله عنه، يفعل عنده من الأمور الشركية التي تشمئز منها نفوس الموحدين، وتنكرها قلوب عباد الله المخلصين، وتردها الآيات القرآنية وما ثبت من النصوص عن سيد المرسلين: منها وقوف السائل عند القبر متضرعا مستغيثا، وإبداء الفاقة إلى معبودهم مستكينا مستعينا، وصرف خالص المحبة التي هي محبة العبودية والنذر والذبح لمن تحت تلك المشهد والبنية، وأكثر سوقتهم وعامتهم يلهجون بالأسواق اليوم: على الله وعليك يا ابن عباس، فيستمدون منه الرزق والغوث وكشف الضر والباس. وذكر محمد بن حسين النعيمي الزبيدي -رحمه الله- أن رجلا رأى ما يفعل أهل الطائف من الشعب الشركية والوظائف فقال: أهل الطائف لا يعرفون الله، إنما يعرفون ابن عباس، فقال له بعض من يترشح للعلم: معرفتهم لابن عباس كافية لأنه يعرف الله، فانظر إلى هذا الشرك الوخيم! والغلو الذميم المجانب للصراط المستقيم! ووازن بينه

وبين قوله: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} 1 الآية، وقوله -جل ذكره-: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} 2. وقد لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم اليهود والنصارى باتخاذهم قبور أنبيائهم مساجد يعبد الله فيها، فكيف بمن عبد الصالحين ودعاهم مع الله؟ والنصوص في ذلك لا تخفى على أهل العلم. [البدع الوثنية والشرك في الأمصار والأقطار] كذلك ما يفعل بالمدينة المشرفة، على ساكنها أفضل الصلاة والسلام، هم من هذا القبيل، بالبعد عن منهاج الشريعة والسبيل. وفي بندر جُدة ما قد بلغ من الضلال حده، وهو القبر الذي يزعمون أنه قبر حواء، وضعه لهم بعض الشياطين، وأكثروا في شأنه الإفك المبين، وجعلوا له السدنة والخدام، وبالغوا في مخالفة ما جاء به محمد -عليه أفضل الصلاة والسلام- من النهي عن تعظيم القبور والفتنة بمن فيها من الصالحين والكرام. وكذلك مشهد العلوي، بالغوا في تعظيمه وتوقيره، وخوفه ورجائه، وقد جرى لبعض التجار أنه انكسر بمال عظيم لأهل الهند وغيرهم، وذلك في سنة عشر ومائتين وألف، فهرب إلى مشهد العلوي مستجيرا ولائذا به مستغيثا، فتركه أرباب الأموال، ولم يتجاسر أحد من الرؤساء والحكام على هتك ذلك المشهد والمقام، واجتمع طائفة من المعروفين، واتفقوا على تنجيمه في مدة سنين؛ فنعوذ بالله من تلاعب الفجرة والشياطين. وأما بلاد مصر وصعيدها وفيومها وأعمالها، فقد جمعت من الأمور الشركية، والعبادات الوثنية، والدعاوى الفرعونية، ما لا يتسع له كتاب، ولا يدنو له خطاب، لا سيما عند مشهد أحمد البدوي

_ 1 سورة البقرة آية: 186. 2 سورة الجن آية: 18.

وأمثاله من المعتقدين المعبودين، فقد جاوزوا بهم ما ادعته الجاهلية لآلهتهم، وجمهورهم يرى له من تدبير الربوبية، والتصرف في الكون بالمشيئة والقدرة العامة، ما لم ينقل عن أحد مثله بعد الفراعنة والنماردة. وبعضهم يقول: يتصرف في الكون سبعة، وبعضهم يقول: أربعة، وبعضهم يقول: قطب يرجعون إليه، وكثير منهم يرى أن الأمر شورى بين عدد ينتسبون إليه، فتعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا: {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا} 1. وقد استباحوا عند تلك المشاهد، من المنكرات والفواحش والمفاسد، ما لا يمكن حصره، ولا يستطاع وصفه، واعتمدوا في ذلك من الحكايات والخرافات والجهالات، ما لا يصدر عمن له أدنى مسكة أو حظ من المعقولات، فضلا عن النصوص الشرعيات. كذلك ما يفعل في بلدان اليمن، جار على تلك الطريق والسنن: ففي صنعاء وبرع والمخا وغيرها من تلك البلاد، ما يتنزه العاقل عن ذكره ووصفه، ولا يمكن الوقوف على غايته وكشفه، ناهيك بقوم استخفهم الشيطان، وعدلوا عن عبادة الرحمن إلى عبادة القبور والشياطين، فسبحان من لا يعجل بالعقوبة على الجرائم، ولا يهمل الحقوق والمظالم، وفي حضرموت والشحر وعدن ويافع، ما تستك عن ذكره المسامع، يقول قائلهم: شيء لله يا عيدروس، شيء لله يا محيي النفوس. وفي أرض نجران، من تلاعب الشياطين، وخلع ربقة الإيمان ما لا يخفى على أهل العلم بهذا الشأن، كذلك رئيسهم المسمى بالسيد، لقد أتوا من تعظيمه وطاعته وتقديسه وتصديره والغلو فيه، بما أفضى بهم إلى مفارقة الملة والإسلام، والانحياز إلى عبادة الأوثان

_ 1 سورة الكهف آية: 5.

والأصنام،: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} 1. وكذلك حلب ودمشق وسائر بلاد الشام، فيها من النصب والأعلام، ما لا يجامع عليه أهل الإيمان والإسلام، من أتباع سيد الأنام، وهي تقارب ما ذكرنا في الكفريات المصرية، والتلطف والأحوال الوثنية الشركية. وكذلك الموصل وبلاد الأكراد، ظهر فيها من أصناف الشرك والفجور والفساد. وفي العراق من ذلك بحره المحيط بسائر الخلجان، وعندهم المشهد الحسيني، وقد اتخذه الرافضة وثنا، بل ربا مدبرا، وخالقا ميسرا، وأعادوا به المجوسية، وأحيوا به معاهد اللات والعزى، وما كان عليه أهل الجاهلية. وكذلك مشهد العباس ومشهد علي ومشهد أبي حنيفة ومعروف الكرخي والشيخ عبد القادر، فإنهم قد افتتنوا بهذه المشاهد، رافضتهم وسنتهم، وعدلوا عن أسنى المطالب والمقاصد، ولم يعرفوا ما وجب عليهم من حق الله الفرد الصمد الواحد، وبالجملة فهم شر تلك الأمصار، وأعظمهم نفورا عن الحق واستكبارا. والرافضة يصلون لتلك المشاهد، ويركعون ويسجدون لمن في تلك المعاهد، وقد صرفوا من الأموال والنذور، لسكان تلك الأجداث والقبور، ما لا يصرف عشر معشاره للملك العلي الغفور؛ ويزعمون أن زيارتهم لعلي وأمثاله، أفضل من سبعين حجة، تعالى الله وتقدس في مجده وجلاله. ولآلهتهم من التعظيم والتوقير والخشية والاحترام، ما ليس معه من تعظيم الله وتوقيره وخشيته وخوفه شيء للإله الحق والملك العلام، ولم يبق مما عليه النصارى سوى دعوى الولد، يرفع أن بعضهم يرى الحلول لأشخاص بعض البرية.:

_ 1 سورة التوبة آية: 31.

{سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ} 1. وكذلك جميع قرى الشط والمجرة على غاية من الجهل، والمعروف في القطيف والبحرين من البدع الرافضية، والأحداث المجوسية، والمقامات الوثنية، ما يضاد ويصادم أصول الملة الحنيفية. فمن اطلع على هذه الأفاعيل، وهو عارف بالإيمان والإسلام وما فيهما من التفريع والتأصيل، تيقن أن القوم قد ضلوا عن سواء السبيل، وخرجوا من مقتضى القرآن والدليل، وتمسكوا بزخارف الشيطان، وأحوال الكهان، وما شابه هذا القبيل؛ فازداد بصيرة في دينه، وقوي بمشاهدة إيمانه ويقينه، وجد في طاعة مولاه وشكره؛ واجتهد في الإنابة إليه وإدامة ذكره، وبادر إلى القيام بوظائف أمره، وخاف أشد الخوف على إيمانه من طغيان الشيطان وكفره. فليس العجب ممن هلك كيف هلك، إنما العجب ممن نجا كيف نجا، ولقد أحسن العلامة محمد بن إسماعيل الأمير، فيما أبداه من أهل وقته من التبديل والتغيير. فصل: [غلبة الجهال والمبتدعة على أهل العلم والدين] وهذه الحوادث المذكورة، والكفريات المشهورة، والبدع المزبورة، قد أنكرها أهل العلم والإيمان، واشتد نكيرهم حتى حكموا على فاعلها بخلع ربقة الإسلام والإيمان؛ ولكن لما كانت الغلبة للجهال والطغام، انتقض عرى الدين وانثلمت أركانه، وانطمست منه الأعلام. وساعدهم على ذلك من قل حظه ونصيبه من الرؤساء والحكام، والمنتسبين من الجهال إلى معرفة الحلال من الحرام، فاتبعتهم العامة والجمهور من الأنام، ولم يشعروا بما هم

_ 1 سورة الصافات آية: 180.

عليه من المخالفة والمباينة لدين الله الذي اصطفاه لخاصته وأوليائه وصفوته الكرام. ومع عدم العلم والإعراض عن النظر في آيات الله، والفهم لا مندوحة للعامة عن تقليد الرؤساء والسادة، ولا يمكن الانتقال عن المألوف والعادة، ولهذا كرر -سبحانه وتعالى- التنبيه على هذه الحجة الداحضة، والعادة المطردة الفاضحة، قال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا} 1، وقوله: {وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ} 2 الآية، قد قرر هذا المعنى في القرآن لحاجة العباد وضرورتهم إلى معرفته والحذر منه وعدم الاغترار بأهله، وما أحسن ما قال عبد الله بن المبارك -رحمه الله-: وهل أفسد الدين إلا الملو ... ك وأحبار سوء ورهبانها [حديث ذات أنواط والبدع التي يعدها الجهال عبادات] إذا عرفت هذا، فليس إنكار الحوادث من خصائص هذا الشيخ، بل له سلف صالح من أئمة العلم والهدى، قاموا بالنكير والرد على من ضل وغوى، وصرف خالص العبادة إلى من تحت أطباق الثرى، وسنسرد لك من كلامهم ما تقر به العين وتثلج به الصدور، ويتلاشى معه ما أحدثه الجهال من البدع والإشراك والزور. .قال الإمام أبو بكر الطرطوشي في كتابه المشهور الذي سماه "الباعث على إنكار البدع والحوادث": روى البخاري 3 عن أبي واقد الليثي قال:

_ 1 سورة لقمان آية: 21. 2 سورة سبأ آية: 44. 3 أخطأ الطرطوشي رحمه الله في عزو هذا الحديث إلى البخاري، وإنما نعرفه من تخريج أحمد والترمذي والنسائي وكبار رواة التفسير المأثور وغيرهم، وهو صحيح على كل حال كما قال الترمذي ولفظه "سبحان الله! هذا كما قال موسى: {اجعل لنا إلها كما لهم آلهة} والذي نفسي بيده لتركبن سنة من كان قبلكم".

"خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل حنين، ونحن حديث عهد بكفر، وللمشركين سدرة يعكفون عندها، وينوطون بها أسلحتهم يقال لها: ذات أنواط، فمررنا بسدرة، فقلنا: يا رسول الله، اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الله أكبر! هذا كما قالت بنو إسرائيل لموسى: {اجعل لنا إلها كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون} لتركبن سنن من كان قبلكم". فانظروا -رحمكم الله- أينما وجدتم سدرة أو شجرة، فقصدها الناس يعظمون من شأنها، ويرجون البرء والشفاء من قبلها، وينوطون بها الخرق والمسامير، فهي ذات أنواط، فاقطعوها. انتهى كلامه -رحمه الله-. فانظر -رحمك الله- إلى تصريح هذا الإمام، بأن كل شجرة يقصدها الناس، ويعظمونها ويرجون الشفاء والعافية من قبلها، فهي ذات أنواط التي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه لما طلبوا منه أن يجعل لهم شجرة كذات أنواط، فقال: "الله أكبر! هذا كقول بني إسرائيل: {اجعل لنا إلها} "1 مع أنهم لم يطلبوا إلا مجرد مشابهتهم في العكوف عندها، وتعليق الأسلحة للتبرك؛ فتبين لك بهذا أن من جعل قبرا أو شجرة أو شيئا حيا أو ميتا مقصودا له، ودعاه واستغاث به، وتبرك به وعكف على قبره، فقد اتخذه إلها مع الله. فإذا كان الرسول صلوات الله وسلامه عليه أنكر عليهم مجرد طلبهم منه مشابهة المشركين في العكوف، وتعليق الأسلحة للتبرك، فما ظنك بما هو أعظم من ذلك وأطم؟ الشرك الأكبر الذي حرمه الله ورسوله، وأخبر أن أصلح الخلق لو يفعله لحبط عمله، وصار من الظالمين. فصلوات الله وسلامه عليه كما بلغ البلاغ المبين، عرفنا بالله وأوضح لنا الصراط المستقيم، فحقيق بمن نصح نفسه، وآمن بالله واليوم الآخر أن لا يغتر بما عليه أهل

_ 1 الترمذي: الفتن (2180) , وأحمد (5/ 218).

الشرك من عبادة القبور من هذه الأمة. ومن ذلك ما ذكره الإمام محدث الشام عبد الرحمن بن إسماعيل بن إبراهيم -المعروف بأبي شامة- من فقهاء الشافعية وقدمائهم في كتابه الذي سماه: "الباعث على إنكار البدع والحوادث" في فصل البدع المستقبحة، قال: البدع المستقبحة تنقسم على قسمين: قسم تعرفه العامة والخاصة أنه بدعة محرمة وإما مكروهة، وقسم يظنه معظمهم -إلا من عصمه الله- عبادات وقربات وطاعات وسننا، فأما القسم الأول فلا نطول بذكره، إذ كفانا مؤنة الكلام منه اعتراف فاعله أنه ليس من الدين. لكن تبين من هذا القسم مما قد وقع فيه جماعة من جهال العوام، النابذين لشريعة الإسلام، التاركين الاقتداء بأئمة الدين من الفقهاء، وهو ما يفعله طوائف من المنتسبين للفقر الذي حقيقته الافتقار عن الإيمان، مؤاخاة النساء الأجانب والخلوة بهن، واعتقادهم في مشايخ لهم ضالين مضلين، يأكلون في نهار رمضان من غير عذر، ويتركون الصلاة، ويخامرون النجاسات غير مكترثين لذلك، فهم داخلون تحت قوله تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} 1؛ ولهذه الآية وأمثالها كان مبادئ ظهور الكفر من عبادة الأصنام وغيرها. [الافتتان ببعض الأماكن والاعتقاد في بعض الأشياء] ومن هذا القسم أيضا، ما قد عم الابتلاء به من تزيين الشيطان للعامة تخليق الحيطان، والعمد والسرج مواضع مخصوصة في كل بلد، يحكي حاك أنه رأى في منامه بها أحدا ممن شهر بالصلاح والولاية، فيفعلون ذلك ويحافظون عليه مع تضييعهم فرائض الله تعالى وسننه، ويظنون أنهم متقربون بذلك. ثم يتجاوزون هذا إلى أن يعظم وقع تلك الأماكن في قلوبهم فيعظمونها، ويرجون الشفاء لمرضاهم وقضاء حوائجهم

_ 1 سورة الشورى آية: 21.

بالنذر لهم، وهي من بين عيون وشجر، وحائط وحجر. وفي مدينة دمشق -صانها الله- من ذلك مواضع متعددة، كعوينة الحمى خارج بلد توما، والعمود المخلق خارج الباب الصغير، والشجرة الملعونة اليابسة خارج باب النصر في نفس قارعة الطريق -سهل الله قطعها واجتثاثها من أصلها-. فما أشبهها بذات أنواط الواردة في الحديث الذي رواه محمد بن إسحاق، وسفيان بن عيينة عن الزهري ... 1 عن سنان بن أبي سفيان عن أبي واقد الليثي رضي الله عنه قال: "خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حنين، وكانت لقريش شجرة خضراء عظيمة يأتونها كل سنة، فيعلقون عليها سلاحهم، ويعكفون عندها ويذبحون لها"، وفي رواية: "خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم قبل حنين، ونحن حديثو عهد بكفر وللمشركين سدرة يعكفون عليها، وينوطون بها أسلحتهم، يقال لها: ذات أنواط. فمررنا بسدرة، فتنادينا من جانبتي الطريق، ونحن نسير إلى حنين: يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: الله أكبر! هذا كما قال قوم موسى: {اجعل لنا إلها كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون} لتركبن سنن من كان قبلكم". أخرجه الترمذي بلفظ آخر والمعنى واحد، وقال: هذا حديث حسن صحيح. قال الإمام أبو بكر الطرطوشي في كتابه المتقدم ذكره: فانظروا -رحمكم الله- أينما وجدتم سدرة أو شجرة يقصدها الناس، ويعظمون من شأنها، ويرجون البرء والشفاء من قبلها أو ينوطون بها المسامير والخرق، فهي ذات أنواط فاقطعوها. 2

_ 1 بياض في الأصل، وبعده سنان بن أبي سفيان، وهو من تحريف النساخ والصواب ما صححناه به كما في جامع الترمذي. 2 كان بقرب بلدنا زيتونة يسمونها: "زيتونة الولية" يعتقد الجمهور بركتها، فلما قرأت لأهل البلد عقيدة التوحيد في أيام طلبي للعلم أغريتهم بقلعها، فقلعوها ليلا، وكان هنالك عليقة منسوبة لولي ينوطون بها الخرق، فما زلت بهم حتى منعتهم من ذلك.

(قلت): ولقد أعجبني ما فعله الشيخ أبو إسحاق الحسائي -رحمه الله تعالى- أحد الصالحين ببلاد أفريقية حكى عنه صاحبه الصالح أبو عبد الله محمد بن أبي العباس المؤدب أنه كان إلى جانبه عين تسمى: عين العافية، كانت العامة قد افتتنوا بها يأتونها من الآفاق، من تعذر عليها نكاح أو ولد قالت: امضوا بي إلى العافية، فتعرف بها الفتنة. قال أبو عبد الله: فأنا في السحر ذات ليلة إذ سمعت أذان أبي إسحاق نحوها، فخرجت فوجدته قد هدمها، وأذن الصبح عليها. ثم قال: اللهم إني هدمتها لك، فلا ترفع لها رأسا. قال: فما رفع لها رأس إلى الآن. قلت: وأدهى من ذلك وأمر، إقدامهم على قطع الطريق السابلة يجيزون في أحد الأبواب الثلاثة القديمة العادية التي هي من بناء الجن في زمن نبي الله سليمان بن داود -عليه السلام- ومن بناء ذي القرنين، وقيل فيها: غير ذلك مما يؤذن بالتقدم على ما نقلناه في كتاب "تاريخ مدينة دمشق" -حرسها الله- وهو الباب الشمالي، ذكر لهم بعض من لا يوثق به في شهور سنة 636 أنه رأى مناما يقتضي أن ذلك المكان دفن فيه بعض أهل البيت. وقد أخبرني عنه ثقة أنه اعترف له أنه افتعل ذلك، فقطعوا طريق المارة فيه، وجعلوا الباب بكماله أصل مسجد مغصوبا، وقد كان الطريق يضيق بسالكيه، فتضاعف الضيق والحرج على من دخل ومن خرج، ضاعف الله عذاب من تسبب في بنائه، وأجزل ثواب من أعان على هدمه وإزالة اعتدائه، اتباعا لسنة النبي صلى الله عليه وسلم في هدم مسجد الضرار، المرصد لأعدائه من الكفار، فلم ينظر الشارع إلى كونه مسجدا، وهدمه لما قصد به من السوء والردى، وقال الله لنبيه: {لا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا} 1. نسأل الله الكريم معافاتنا من كل ما يخالف

_ 1 سورة التوبة آية: 108.

رضاه، وأن لا يجعلنا ممن أضله واتخذ إلهه هواه. وهذا الشيخ أبو شامة من كبار أئمة الشافعيين في أوائل القرن السابع. وقال الإمام أبو الوفاء بن عقيل الحنبلي -رحمه الله-: لما صعبت التكاليف على الجهلة والطغام، عدلوا عن أوضاع الشرع إلى أوضاع وضعوها لأنفسهم، فسهلت عليهم إذ لم يدخلوا بها تحت أمر غيرهم، قال: وهم عندي كفار لهذه الأوضاع مثل تعظيم القبور وإكرامها وإلزامها، لما نهى عنه الشارع من إيقاد السرج وتقبيلها وتخليقها 1 وخطاب الموتى بالحوائج، وكتب الرقاع التي فيها: يا مولاي افعل بي كذا وكذا وأخذ ... 2 تبركا بها. وأما إفاضة الطيب على القبور، وشد الرحال إليها، وإلقاء الخرق على الشجر اقتداء بمن عبد اللات والعزى، والويل عندهم لمن لم يقبل مشهد الكفار، ولم يتمسح بآجر المدينة يوم الأربعاء، ولم يقبل الجملون على جنازة الصدِّيق أبي بكر وعلي، أو لم يعقد على قبر أبيه أزجا (؟) بالجص والآجر ولم يخرق ثيابه إلى الذيل، ولم يرق ماء الورد على القبر. انتهى. فتأمل -رحمك الله- ما ذكره هذا الإمام الذي هو أجل أئمة الحنابلة، بل من أجل أئمة الإسلام، وما كشفه من الأمور التي يفعلها الخواص من الأنام، فضلا عن النساء والغوغاء والعوام، مع كونه في سادس القرون، والناس إذ ذاك لما ذكره يفعلون، وجهابذة العلماء والنقدة يشهدون، وحظهم من النهي مرتبته الثانية فهم بها قائمون، يتضح لك فساد ما زخرفه المبطلون، وموَّه به المتعصبون والملحدون. [سؤال الميت والغائب قضاء الحاجات والاستسقاء بالصالحين] قال الشيخ تقي الدين*: وأما سؤال الميت والغائب، نبيا كان أو غيره،

_ 1 أي: تضميخها بالخلوق، وهو نوع من الطيب، والمراد هنا جنس الطيب. 2 بياض الأصل. * هذا نقل طويل عن شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- من كتابه "الرد على البكري" (1/ 448 وما بعدها)، وينتهي هذا النقل في ص 412. [معد الكتاب للمكتبة الشاملة]

فهو من المحرمات المنكرة باتفاق أئمة المسلمين، لم يأمر الله به ولا رسوله، ولا فعله أحد من الصحابة ولا التابعين لهم بإحسان، ولا استحبه أحد من أئمة المسلمين. وهذا مما يعلم بالاضطرار من دين الإسلام، فإن أحدا منهم ما كان يقول -إذا نزلت به ترة أو عرضت له حاجة- لميت: يا سيدي يا فلان، أنا في حسبك أو اقض حاجتي، كما يقول بعض هؤلاء المشركين، لمن يدعونهم من الموتى والغائبين، ولا أحد من الصحابة استغاث بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد موته، ولا بغيره من الأنبياء، لا عند قبور الأنبياء، ولا الصلاة عندها. ولما قحط الناس في زمن عمر بن الخطاب، استسقى بالعباس وتوسل بدعائه وقال: "اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبيك إذا أجدبنا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا"، كما ثبت ذلك في صحيح البخاري. وكذلك معاوية رضي الله عنه لما استسقى بأهل الشام بيزيد بن الأسود الجرشي. فهذا الذي ذكره عمر رضي الله عنه توسل منه بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم وشفاعته في حياته، ولهذا توسلوا بعده بدعاء العباس، وبدعاء يزيد بن الأسود، وهذا هو الذي ذكره الفقهاء في كتاب الاستسقاء فقالوا: يستحب أن يستسقى بالصالحين، وإذا كان من أقارب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأفضل. [السنة في زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم] وكره العلماء كمالك وغيره أن يقوم الرجل عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم يدعو لنفسه، وذكروا أن هذا من البدع التي لم يفعلها السلف. قال أصحاب مالك: إذا دخل المسجد يدنو من القبر، فيسلم على النبي صلى الله عليه وسلم ويدعو مستقبل القبلة، يوليه ظهره، وقيل: لا يوليه ظهره، وإنما اختلفوا لما فيه من استدباره، أما إذا جعل الحجرة عن يساره، فقد زال المحذور بلا خلاف، ولعل هذا الذي ذكره الأئمة أخذوه من كراهة

الصلاة إلى القبر. فإذا كان قد ثبت النهي عن النبي صلى الله عليه وسلم، فلما نهى أن يتخذ القبر مسجدا أو قبلة، أمروا بأن لا يتحرى الدعاء إليه كما لا يصلى إليه. قال مالك في المبسوط: لا أرى أن يقف عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم يدعو، ولكن يسلم ويصلي. ولهذا -والله أعلم- حرفت الحجرة، وثلثت لما بنيت، فلم يجعل حائطها الشمالي على القبلة، ولا جعل سطحا. وذكر الإمام وغيره: أنه يستقبل القبلة، ويجعل الحجرة عن يساره لئلا يستدبره، وذلك بعد تحيته والصلاة والسلام عليه، ثم يدعو لنفسه. وذكروا أنه إذا حياه وصلى يستقبل وجهه -بأبي وأمي صلى الله عليه وسلم-، فإذا أراد الدعاء جعل الحجرة عن يساره، واستقبل القبلة ودعا، وهذا مراعاة منهم أن يفعل الداعي أو الزائر ما نهي عنه من تحري الدعاء عند القبر. وقد ذكر مالك -رحمه الله- وغيره من أهل المدينة: كلما دخل أحدهم المسجد أن يجيء؛ فيسلم على النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبيه، قال: وإنما يكون ذلك لأحدهم إذا قدم من سفر أو أراد سفرا ونحو ذلك، ورخص بعضهم في السلام عليه إذا دخل للصلاة ونحوها. وأما قصده دائما للصلاة والسلام عليه، فما علمت أحدا رخص في ذلك، لأن ذلك نوع من اتخاذه عيدا، وأيضا، فإن ذلك بدعة، فقد كان المهاجرون والأنصار في عهد أبي بكر وعمر وعثمان وعلي -رضي الله عنهم- بما كان النبي صلى الله عليه وسلم يكرهه من ذلك وما نهاهم عنه 1؛ ولأنهم كانوا يسلمون عليه حين دخول المسجد والخروج منه، وفي آخر الصلاة في التشهد، كما كانوا يسلمون عليه كذلك في حياته، والمأثور عن ابن عمر يدل على ذلك. قال أبو سعيد في سننه: حدثنا عبد الرحمن بن يزيد حدثني أبي عن ابن

_ 1 كذا، وفي العبارة قلق واضطراب.

عمر أنه كان إذا قدم من سفر أتى قبر النبي صلى الله عليه وسلم فصلى وسلم عليه وقال: السلام عليك يا أبا بكر، السلام عليك يا أبتاه، وعبد الرحمن بن يزيد وإن كان يضعف، لكن الحديث الصحيح عن نافع يدل على أن ابن عمر لم يكن يفعل ذلك دائما ولا غالبا. وما أحسن ما قال مالك -رحمه الله-: لن يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها، ولكن كلما ضعف تمسك الأمم بعهود أنبيائهم ونقصوا إيمانهم، عوضوا عن ذلك بما أحدثوه من البدع والشرك وغيره، ولهذا كرهت الأمة استلام القبر وتقبيله، وبنوه بناء منعوا الناس أن يصلوا إليه. ومما يبين حكمة الشريعة، وأنها كما قيل: سفينة نوح، من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق، أن الذين خرجوا عن المشروع، زين لهم الشيطان أعمالهم حتى خرجوا إلى الشرك، فطائفة من هؤلاء يصلون للميت، ويستدبر أحدهم القبلة ويسجد للقبر، ويقول أحدهم: القبلة قبلة العامة، وقبر الشيخ فلان قبلة الخاصة، وهذا يقوله من هو أكثر الناس عبادة وزهدا، وهو شيخ متبوع ولعله أمثل أتباع شيخه يقول في شيخه. وآخر من أعيان الشيوخ المتبوعين أصحاب الصدق والاجتهاد في العبادة والزهد، يأمر المريد أول ما يتوب أن يذهب إلى قبر الشيخ، ويعكف عليه عكوف أهل التماثيل عليها. [الاستغاثة بالنبي والافتتان بالصالحين] وجمهور هؤلاء المشركين بالقبور يجدون عند عبادة القبور من الرقة والخشوع، والذل وحضور القلب، ما لا يجده أحدهم في مساجد الله التي أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه. وآخرون يحجون القبور، وطائفة صنفوا كتبا، وسموها: "مناسك حج المشاهد" كما

صنف أبو عبد الله محمد بن النعمان الملقب: "بالمفيد" أحد شيوخ الإمامية كتابا في ذلك، وذكر فيه من الحكايات المكذوبة على أهل البيت ما لا يخفى كذبه على من له معرفة بالنقل. وآخرون يسافرون إلى قبور المشايخ، وإن لم يسموا ذلك نسكا وحجا، فالمعنى واحد. وكثير من هؤلاء أعظم قصده من الحج قصد قبر النبي صلى الله عليه وسلم لا حج البيت. وبعض الشيوخ المشهورين بالدين والزهد والصلاح، صنف كتابا سماه الاستغاثة بالنبي صلى الله عليه وسلم في اليقظة والمنام، وقد ذكر في مناقب هذا الشيخ: أنه حج مرة وكان قبر النبي صلى الله عليه وسلم منتهى قصده، ثم رجع إلى مكة، وجعل هذا من مناقبه، فإن كان هذا مستحبا؛ فينبغي لمن يجب عليه حج البيت إن حج أن يجعل المدينة منتهى قصده، ولا يذهب إلى مكة؛ فإنه زيادة كلفة ومشقة مع ترك الأفضل، وهذا لا يقوله عاقل. وبسبب الخروج عن الشريعة صار بعض أكابر الشيوخ عند الناس -ممن يقصده الملوك والقضاة والعلماء والعامة- على طريقة ابن سبعين، قيل عنه: أنه كان يقول: البيوت المحجوجة ثلاثة: مكة، وبيت المقدس، والبيت الذي للمشركين في الهند؛ وهذا لأنه كان يعتقد أن دين اليهود حق، ودين النصارى حق. وجاءه بعض إخواننا العارفين قبل أن يعرف حقيقته فقال له: أريد أن أسلك على يديك، فقال: على دين اليهود أو النصارى أو المسلمين؟ فقال له: واليهود والنصارى ليسوا كفارا؟ فقال الشيخ: لا تشدد عليهم، ولكن الإسلام أفضل. ومن الناس من يجعل مقبرة الشيخ بمنزلة عرفات، يسافرون إليها وقت الموسم، فيعرفون بها كما يعرف المسلمون بعرفات كما يفعل هذا في المشرق والمغرب. ومنهم من يحكي عن الشيخ الميت أنه قال: كل خطوة إلى قبري كحجة، ويوم

القيامة لا أبيع بحجة، فأنكر بعض الناس ذلك، فتمثل له الشيطان بصورة الشيخ ... 1 عن إنكار ذلك. وهؤلاء وأمثالهم صلاتهم ونسكهم لغير الله رب العالمين، فليسوا على ملة إمام الحنفاء، وليسوا من عُمَّار مساجد الله التي قال الله فيها: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ} 2، وعُمار مشاهد القبور يخشون غير الله، ويرجون غير الله، حتى أن طائفة من أرباب الكبائر الذين لا يخشون الله فيما يفعلونه من القبائح، فإذا رأى قبة الميت أو الهلال الذي على رأس القبة، فيخشى من فعل الفواحش، ويقول أحدهم لصاحبه: ويحك هذا هلال القبة، فيخشون المدفون تحت الهلال، ولا يخشون الذي خلق السماوات والأرض، وجعل أهلة السماء مواقيت للناس والحج. وهؤلاء إذا نوظروا خوفوا مناظرهم كما صنع المشركون مع إبراهيم عليه الصلاة والسلام، قال تعالى: {وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} 3 إلى قوله: {وَهُمْ مُهْتَدُونَ} 4. [الافتتان بأصحاب القبور] وآخرون قد جعلوا الميت بمنزلة الإله، والشيخ الحي المتعلق به كالنبي، فمن الميت طلب قضاء الحاجات وكشف الكربات، وأما الحي، فالحلال ما حلله والحرام ما حرمه؛ وكأنهم في أنفسهم قد عزلوا الله أن يتخذوه إلها، وعزلوا محمدا صلى الله عليه وسلم أن يتخذوه رسولا. وقد يجيء الحديث

_ 1 بياض بالأصل، لعل مكانه كلمة: فنهاه. 2 سورة التوبة آية: 18. 3 سورة الأنعام آية: 80. 4 سورة الأنعام آية: 82.

العهد بالإسلام والتابع لهم المحسن الظن بهم أو غيره يطلب من الشيخ الميت إما دفع ظلم ملك يريد أن يظلمه، أو غير ذلك، فيدخل ذلك السادن، فيقول قد قلت للشيخ، والشيخ يقول للنبي، والنبي يقول لله، والله قد بعث رسولا إلى السلطان فلان؛ فهل هذا إلا محض دين المشركين والنصارى؟ وفيه من الكذب والجهل ما يستجيزه كل مشرك أو نصراني ولا يروج عليه، ويأكلون من النذور والمنذور ما يؤتى به إلى قبورهم ما يدخلون به في معنى قوله تعالى: {إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ} 1، يعرضون بأنفسهم ويمنعون غيرهم؛ إذ التابع لهم يعتقد أن هذا هو سبيل الله ودينه؛ فيمتنع بسبب ذلك من الدخول في دين الحق الذي بعث الله به رسله وأنزل به كتبه، والله سبحانه لم يذكر في كتابه المشاهد، بل ذكر المساجد، وأنها خالصة لوجهه، قال تعالى: {وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} 2، وقال {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} 3، وقال: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} 4، وقال تعالى: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا} 5، ولم يذكر بيوت الشرك كبيوت النيران والأصنام والمشاهد؛ لأن الصوامع والبيع لأهل الكتاب. فالممدوح من ذلك ما كان مبنيًّا قبل النسخ والتبديل، يؤمنون بالله واليوم الآخر ويعملون الصالحات، فبيوت الأوثان وبيوت النيران وبيوت الكواكب وبيوت المقابر لم يمدح الله شيئا منها، ولم يذكر ذلك إلا في قصة من لعنهم النبي صلى الله عليه وسلم قال تعالى: {قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدا ً} 6، فهؤلاء الذين اتخذوا مسجدا على أهل الكهف كانوا من النصارى

_ 1 سورة التوبة آية: 34. 2 سورة الأعراف آية: 29. 3 سورة التوبة آية: 18. 4 سورة النور آية: 36. 5 سورة الحج آية: 40. 6 سورة الكهف آية: 21.

الذين لعنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم- حيث قال: "لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد"1، وفي رواية "وصالحيهم"، ودعاء المقبورين من أعظم الوسائل إلى ذلك. وقد قدم بعض شيوخ المشرق، فتكلم معي في هذا، فبينت له فساد هذا فقال: أليس قد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا أعيتكم الأمور، فعليكم بأصحاب القبور"؟ فقلت: هذا كذب باتفاق أهل العلم، لم يروه عن النبي صلى الله عليه وسلم أحد من علماء الحديث. وبسبب هذا وأمثاله ظهر مصداق قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه، قال: يا رسول الله، اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟ " 2، 3. [عزو بعض الدجل والحيل عند القبور وغيرها إلى الشياطين] وهؤلاء الغلاة المشركون إذا حصل لأحدهم مطلبه ولو من كافر، لم يقبل على الرسول بل يطلب حاجته من حيث إنها تقضى، فتارة يذهب إلى ما يظنه قبر رجل صالح، ويكون فيه قبر كافر أو منافق، وتارة يعلم أنه كافر أو منافق فيذهب إليه كما يذهب قوم إلى الكنيسة، أو إلى مواضع يقال لهم: إنها تقبل النذور؛ فهذا يقع فيه عامتهم، وأما الأول فيقع فيه خاصتهم، والمقصود هنا أن كثيرا من الناس يعظم قبر من يكون في الباطن كافرا أو منافقا، ويكون هذا عنده والرسول من جنس واحد، لاعتقاده أن الميت يقضي حاجته إذا كان رجلا صالحا، وكلا هذين من جنس واحد يستغيث به. وكم من مشهد يعظمه الناس، وهو كذب بل يقال: إنه قبر كافر، كالمشهد الذي بسفح جبل

_ 1 البخاري: الصلاة (436) , ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (531) , والنسائي: المساجد (703) , وأحمد (1/ 218 ,6/ 34 ,6/ 80 ,6/ 121 ,6/ 146 ,6/ 252 ,6/ 255 ,6/ 274) , والدارمي: الصلاة (1403). 2 البخاري: أحاديث الأنبياء (3456) , ومسلم: العلم (2669) , وأحمد (3/ 84 ,3/ 89 ,3/ 94). 3 رواية الشيخين في الصحيحين من حديث أبي سعيد الخدري "لتتبعن سنن من قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع حتى لو دخلوا جحر ضب دخلتموه" ولفظ مسلم "لاتبعتموهم"، وفي رواية البخاري "لو سلكوا حجر ضب .. " إلخ قلنا يا رسول الله: اليهود والنصارى؟ قال: "فمن؟ ".

لبنان الذي يقال: إنه قبر نوح، فإن أهل المعرفة كانوا يقولون إنه قبر بعض العمالقة. وكذلك مشهد الحسين الذي بالقاهرة، وقبر أبي بن كعب الذي بدمشق، اتفق العلماء على أنهما كذب. ومنهم من قال: إنهما قبرا نصرانيين، وكثير من المشاهد تنازع (الناس) فيها، وعندها شياطين تضل بسبها من تضل. ومنهم من يرى في المنام شخصا يظن أنه المقبور، ويكون ذلك شيطانا متصورا بصورته كالشياطين الذين يكونون بالأصنام، وكالشياطين الذين يتمثلون لمن يستغيث بالأصنام والموتى والغائبين. وهذا كثير في زماننا وغيره، مثل أقوام يرصدون بعض التماثيل التي بالبراري بديار مصر بأخميم وغيرها، يرصدون التمثال مدة لا يتطهرون طهر المسلمين، ولا يصلون صلاة المسلمين، ولا يقرؤون حتى يتعلق الشيطان تلك الصورة فيراها تتحرك، فيطمع فيها، أو غيرها، فيرى شيطانا قد خرج له، فيسجد لذلك الشيطان حتى يقضي بعض حوائجه. ومثل هؤلاء كثير في شيوخ الترك الكفار يسمونه البوشت، وهو المخنث عندهم إذا طلبوا منه بعض هذه الأمور أرسلوا إليه بعض من ينكحه ونصبوا له حركات عالية في ليلة ظلماء، وقربوا له خبزا وميتة، وغنوا غناء يناسبه بشرط أن لا يكون عنده من يذكر الله، ولا هناك شيء فيه شيء من ذكر الله، ثم يصعد ذلك الشيخ المفعول به في الهواء، ويرون الدف يطير في الهوى. ويضرب من مد يديه إلى الخبز، ويضرب الشيطان بآلات اللهو وهم يسمعون، ويغني لهم الأغاني التي كانت تغنيها آباؤهم الكفار، ثم قد يغيب وكذلك الطعام، وقد نقل إلى بيت البوشت وقد لا يغيب، ويقربون له ميتة يحرقونها بالنار فيقضي بعض حوائجهم. ومثل هذا كثير جدا للمشركين، فالذي يجري عند المشاهد من جنس

ما يجري عند الأصنام. [صور من الشرك] وقد تيقنت بطرق متعددة أن ما يشرك به من دون الله من صنم وقبر وغير ذلك تكون عنده شياطين تضل من أشرك به، وإن تلك الشياطين لا يقضون إلا بعض أغراضهم، وإنما يقضون بعض أغراضهم إذا حصل لهم من الشرك والمعاصي ما يحبه الشيطان، وقد ينهاه عما أمر به من التوحيد والإخلاص والصلوات الخمس وقراءة القرآن ونحو ذلك. والشياطين تغوي الإنسان بحسب ما تطمع منه، فإن كان ضعيف الإيمان أمرته بالكفر البين، وإلا أمرته بما هو فسق، أو معصية، وإن كان قليل العلم، أمرته بما لا يعرف أنه مخالف للكتاب والسنة. وقد وقع في هذا النوع كثير من الشيوخ الذين لهم نصيب وافر من الدين والزهد والعبادة، لكن لعدم علمهم بحقيقة الدين الذي بعث الله به رسوله -صلى الله عليه وسلم- طمعت فيهم الشياطين حتى أوقعوهم فيما يخالف الكتاب والسنة. وقد جرى لغير واحد من أصحابنا المشايخ يستغيث بأحدهم بعض أصحابه، فيرى الشيخ في اليقظة حتى قضى ذلك المطلوب. وإنما (هي) شياطين تتمثل للمشركين الذين يدعون غير الله، والجن بحسب الإنس، فالكافر للكافر، والجاهل للجاهل، والفاجر للفاجر، وأما أهل العلم والإيمان فأتباع الجن لهم كأتباع الإنس يتبعونه فيما أمر الله به رسوله. وكان رجل يباشر التدريس، وينتسب إلى الفتيا كان يقول: النبي صلى الله عليه وسلم يعلم ما لا يعلمه الله، ويقدر على ما لا يقدر الله عليه، وإن هذا السر انتقل بعده إلى الحسن. ثم انتقل في ذرية الحسن إلى الشيخ أبي الحسن الشاذلي. وقالوا: هذا مقام القطب الغوث الفرد الجامع. وكان شيخ آخر معظم

عند أتباعه يدعي هذه المنزلة، ويقول: إنه المهدي الذي بشر به النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه يزوج عيسى ابنته، وأن نواصي الملوك بيده، والأولياء بيده، يولي من يشاء، ويعزل من يشاء، وأن الرب يناجيه دائما، وأنه الذي يمد حملة العرش وحيتان البحر. وقد عزرته تعزيرا بليغا في يوم مشهود في حضرة من أهل المسجد الجامع يوم الجمعة بالقاهرة؛ فعرفه الناس، وانكسر بسببه أشباهه من الدجاجلة. ومن هؤلاء من يقول: قول الله -سبحانه وبحمده-: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} 1 إلى قوله: {بُكْرَةً وَأَصِيلًا} أن الرسول هو الذي يسبح بكرة وأصيلا، ومنهم من يقول إن الرسول صلى الله عليه وسلم يعلم مفاتيح الغيب الخمس التي قال النبي صلى الله عليه وسلم: "مفاتيح الغيب خمس لا يعلمهن إلا الله: {إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت} "2 وقال: بأنه علمها بعد أن أخبر أنه لا يعلمها إلا الله. ومنهم من قال: أسقط الربوبية، وقل في الرسول ما شئت. ومنهم من يقول: نحن نعبد الله ورسوله، ومنهم من يأتي قبر الميت فيقول: اغفر لي، وارحمني، ولا توقفني على زلة إلى أمثال هذه الأمور التي يتخذ فيها المخلوق إلها. أقول: وهذه سنة مأثورة، وطريقة مسلوكة، والله غير مهجورة، وضلالة واضحة مشهورة، وبدعة مشهورة غير منكورة، وأعلامها مرفوعة منشورة، وراياتها منصوبة غير مكسورة، وبراهينها غير محدودة ولا محصورة، ودلائلها في كثير من المصنفات والمناظيم مذكورة، كما قال ذلك في البردة وبين في ذلك قصده:

_ 1 سورة الفتح آية: 8. 2 البخاري: تفسير القرآن (4627) , وأحمد (2/ 24 ,2/ 52 ,2/ 58 ,2/ 85 ,2/ 122).

دع ما ادعته النصارى في نبيهم ... واحكم بما شئت مدحًا فيه واحتكم فإن من جودك الدنيا وضرتها ... ومن علومك علم اللوح والقلم ولو نطيل بذكر هذه الأخبار لحررنا منها أسفارا، فلنكف عن قلم اليراع (؟) في هذا الميدان، فالحكم والله لا يخفى على ذي عيان، بلى أجلى من ضياء الشمس في البيان. فلما استقر هذا في نفوس عامتهم، نجد أحدهم إذا سئل عمن ينهاهم: ما يقول هذا؟ فيقول: فلان ما ثم عنده إلا الله، لما استقر في نفوسهم أن يجعلوا مع الله إلها آخر. وهذا كله وأمثاله وقع ونحن بمصر، وهؤلاء الصالحون مستخفون بتوحيد الله، ويعظمون دعاء غير الله من الأموات، فإذا أمروا بالتوحيد، ونهوا عن الشرك استخفوا بالله، كما أخبر الله تعالى عن المشركين بقول: {وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ} 1، فاستهزؤا بالرسول لما نهاهم عن الشرك. وقال عن المشركين: {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَوَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ} 2، وقال تعالى: {وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} 3. [تفضيل المشركين لمعبوداتهم على خالقهم] وما زال المشركون يسفهون الأنبياء، ويصفونهم بالجنون والضلال والسفاهة، كما قال قوم نوح لنوح، وعاد لهود عليهما السلام: {قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} 4. فأعظم ما سفهوه لأجله، وأنكروه هو التوحيد؛ وهكذا تجد من فيه شبه من

_ 1 سورة الأنبياء آية: 36. 2 سورة الصافات آية: 35. 3 سورة ص آية: 4. 4 سورة الأعراف آية: 70.

هؤلاء من بعض الوجوه إذا رأى من يدعو إلى توحيد الله وإخلاص الدين له، وأن لا يعبد الإنسان إلا الله، ولا يتوكل إلا عليه، استهزأ بذلك لما عنده من الشرك. وكثير من هؤلاء يخربون المساجد، ويعمرون المشاهد؛ فتجد المسجد الذي يبنى للصلوات الخمس معطلا مخربًا ليس له كسوة إلا من الناس، وكأنه خان من الخانات، والمشهد الذي بني على الميت فعليه المستور، وزينة الذهب والفضة والرخام، والنذور تغدو إليه وتروح، فهل هذا إلا من استخفافهم بالله وآياته ورسوله وتعظيمهم للشرك! فإنهم يعتقدون أن دعاءهم للميت الذي بني له المشهد، والاستغاثة به أنفع لهم من دعاء الله، والاستغاثة به في البيت الذي بني لله -عز وجل-؛ ففضلوا البيت الذي بني لدعاء المخلوق على البيت الذي بنى لدعاء الخالق. وإذا كان لهذا وقف ولهذا وقف، كان وقف الشرك أعظم عندهم، مضاهاة لمشركي العرب الذين ذكر الله حالهم في قوله: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيبًا} 1 الآية: كانوا يجعلون له زرعا وماشية، ولآلهتهم زرعا وماشية، فإذا نضب نصيب آلهتهم أخذوا من نصيب الله فوضعوه فيه، وقالوا: الله غني وآلهتنا فقيرة، فيفضلون ما يجعل لغير الله على ما يجعل لله. وهكذا حال أهل الوقوف والنذور التي تبذل عندهم للمشاهد أعظم عندهم مما يبذل للمساجد ولعمار المساجد والجهاد في سبيل الله. وهؤلاء إذا قصد أحدهم القبر الذي يعظمه بكى عنده وخضع، ويدعو، ويتضرع، ويحصل له من الرقة والتواضع والعبودية وحضور القلب ما لا يحصل له مثله في الصلوات الخمس والجمعة وقيام الليل وقراءة القرآن. فهل هذا الأمر إلا من حال المشركين المبتدعين؟ لا الموحدين

_ 1 سورة الأنعام آية: 136.

المخلصين المتبعين لكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. ومثل هذا إذا سمع الأبيات يحصل له من الحضور والخشوع والبكاء ما لا يحصل له مثله عند سماع آيات الله؛ فيخشع عند سماع المبتدعين المشركين، ولا يخشع عند سماع المتقين المخلصين. بل إذا سمعوا آيات الله استثقلوها وكرهوها واستهزؤوا بها، فيجعل له أعظم نصيب من قوله: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ} 1؛ وإذا سمعوا القرآن سمعوه بقلوب لاهية، وألسن لاغية كأنهم صم عمي؛ وإذا سمعوا الأبيات حضرت قلوبهم، وسكتت ألسنتهم، وسكتت حركاتهم، حتى لا يشرب العطشان منهم. ومن هؤلاء من إذا كانوا في سماعهم فأذن المؤذن قالوا: نحن في شيء أفضل مما دعانا إليه. ومنهم من يقول: كنا في الحضرة فإذا قمنا إلى الصلاة صرنا إلى الباب. وقد سألني بعضهم عمن قال ذلك من هؤلاء الشيوخ الضلال، فقلت: كان في حضرة الشيطان فصار على باب الله، فإن البدع والضلال فيها من حضور الشيطان ما قد فصل في غير هذا الموضع. والذين جعلوا دعاء الموتى من الأنبياء والأئمة والشيوخ أفضل من دعاء الله أنواع متعددة: منهم من تقدم، ومنهم من يحكي أنواعا من الحكايات فلم يخرجه، ودعا بعض المشايخ الموتى فأخرجه إلى بلاد الإسلام 2. وحكاية أن بعض المشايخ قال لمريده: إذا كانت لك إلى الله حاجة فتعال إلى قبري، وآخر قال: فتوسل إلى الله بي، وآخر قال: قبر فلان هو الترياق المجرب. فهؤلاء وأشباههم يرجحون هذه الأدعية على أدعية

_ 1 سورة التوبة آية: 65. 2 هذا السطر غير مفهوم إذ ليس قبله اسم يظهر أنه فاعل لقوله فيه فلم يخرجه وقوله فأخرجه. فالظاهر أنه سقط من الكلام قبله شيء. وهذه الرسالة كثيرة الغلط.

المخلصين لله، مضاهاة للمشركين. وهؤلاء يتمثل لكثير منهم صورة شيخه الذي يدعوه فيظنه إياه، أو ملكا على صورته، وإنما هو شيطان أغواه. ومن هؤلاء من إذا نزلت به شدة لا يدعو إلا شيخه، ولا يذكر إلا اسمه قد لهج به كما يلهج الصبي بذكر أمه، فيتعس أحدهم فيقول: يا فلان، وقد قال الله تعالى للمؤمنين: {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا} 1. ومن هؤلاء من يحلف بالله ويكذب، ويحلف بشيخه وإمامه فيصدق، فيكون شيخه عنده وفي صدره أعظم. [القبوريون ليس لهم حجة على دعواهم] فإذا كان دعاء الموتى مثل الأنبياء والصالحين يتضمن هذا الاستهزاء بالله وآياته ورسوله، فأي الفريقين أحق بالاستهزاء بآيات الله ورسوله؟ من كان يأمر بدعاء الموتى والاستغاثة بهم مع ما يترتب على ذلك من الاستهزاء بالله وآياته ورسوله، أو من كان يأمر بدعاء الله وحده لا شريك له كما أمرت رسله، ويوجب طاعة الرسول ومتابعته في كل ما جاء به؟. وأيضًا فإن هؤلاء الموحدين من أعظم الناس لجانب الرسول تصديقًا له فيما أخبر، وطاعة له فيما أمر، واعتناء بما بعث به، ولتميز ما روي عنه من الصحيح والضعيف والصدق والكذب، واتباع ذلك دون ما خالفه عملا بقوله تعالى: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} 2. وأما أولئك الضلال أشباه المشركين والنصارى فعمدتهم إما أحاديث ضعيفة، أو موضوعة، أو منقولة عمن لا يحتج بقوله، إما أن تكون كذبا عليه، وإما أن تكون غلطا منه إذ هي نقل غير مصدق عن قائل غير معصوم، وإن اعتصموا بشيء مما ثبت عن الرسول حرفوا الكلم عن مواضعه، وتمسكوا بمتشابهه

_ 1 سورة البقرة آية: 200. 2 سورة الأعراف آية: 3.

وتركوا محكمه، كما فعل النصارى. هذا ما علمته ينقل عن أحد من العلماء لكنه موجود في كلام بعض الناس مثل الشيخ يحي الصرصري ففي شعره قطعة منه، والشيخ محمد بن النعمان وكتاب المستغيثين بالنبي صلى الله عليه وسلم في اليقظة والمنام، وهؤلاء لهم صلاح ودين، لكن ليسوا من أهل العلم العالمين بمدارك الأحكام، الذين يؤخذ بقولهم في شرائع الإسلام، ومعرفة الحلال والحرام. وليس لهم (دليل) شرعي، ولا نقل عن عالم مرضي، بل عادة جروا عليها كما جرت عادة كثير من الناس بأنه يستغيث شيخه في الشدائد، ويدعوه. وكان بعض الشيوخ الذين أعرفهم ولهم صلاح وعلم وزهد إذا نزل به أمر، خطا إلى جهة الشيخ عبد القادر خطوات معدودة واستغاث به 1. وهذا يفعله كثير من الناس، ولهذا لما نبه من نبه له من فضلائهم، تنبهوا، وعلموا أن ما كانوا عليه ليس من دين الإسلام، بل هو مشابهة لعباد الأصنام، ونحن نعلم بالاضطرار من دين الإسلام أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يشرع لأمته أن يدعوا أحدًا من الأموات، لا الأنبياء ولا غيرهم بلفظ الاستغاثة ولا بغيرها، كما أنه لم يشرع السجود لميت ولا إلى ميت ونحو ذلك، بل نعلم أنه نهى عن كل هذه الأمور؛ وإن ذلك من الشرك الذي حرمه الله ورسوله، لكن لغلبة الجهل وقلة العلم بآثار الرسالة في كثير

_ 1 قد ذكروا في بعض الكتب وما زالوا يتناقلون أن من أصابته شدة فليصل ركعتين ثم ليتوجه إلى الشرق -أي إلى بغداد- وينادي الشيخ وينشد هذين البيتين في الاستغاثة والاستجارة به: أيدركنى ضيم وأنت ذخيرتي ... وأظلم في الدنيا وأنت مجيري وعار على راعي الحمى وهو في الحمى ... إذا ضاع في الهيجا عقال بعير ويقول: سيدي عبد القادر اقض حاجتي ويذكرها. قالوا: فإنها تقضى وإن ذلك مجرب، وقد يروون ذلك عنه، برأه الله من شركهم بالله وكفرهم بدينه.

من المتأخرين لم يمكن تكفيرهم بذلك حتى يبين لهم ما جاء به الرسول مما يخالفه. ولهذا ما بينت المسألة قط لمن يعرف دين الإسلام إلا تفطن لهذا، وقال: هذا أصل الإسلام. وكان بعض أكابر الشيوخ العارفين من أصحابنا يقول: هذا أعظم ما بينه لنا، لعلمه أن هذا أصل الدين، وكان هذا أو أمثاله في ناحية أخرى يدعون الأموات، ويسألونهم ويستجيرون بهم، ويتضرعون إليهم. [دعاء أصحاب القبور والصالحين] وربما كان الذي يفعلونه بالأموات أعظم، لأنهم إنما يقصدون الميت في ضرورة نزلت بهم، فيدعون دعاء المضطر راجين قضاء حاجاتهم بدعائه، أو الدعاء به، أو الدعاء عند قبره، بخلاف عبادتهم للذي دعاهم إياه، فإنهم يفعلونه في كثير من الأوقات على وجه العادة والتكلف، حتى إن العدو الخارج عن شريعة الإسلام لما قدم دمشق خرجوا يستغيثون بالموتى عند القبور التي يرجون عندها كشف ضرهم، قال بعض الشعراء: يا خائفين من التتر * لوذوا بقبر أبي عمر * ينجيكمو من الضرر فقلت لهؤلاء الذين يستغيثون بهم: لو كانوا معكم في القتال لانهزموا كما انهزم من انهزم من المسلمين يوم أحد، فإنه كان قد قضي أن العسكر ينكسر لأسباب اقتضت ذلك ولحكمة كانت لله في ذلك، ولهذا كان أهل المعرفة بالدين والمكاشفة لم يقاتلوا في تلك المرة لعدم القتال الشرعي الذي أمر الله به ورسوله. فلما كان بعد ذلك جعلنا نأمر بإخلاص الدين لله والاستعانة به، وأنهم لا يستعينون إلا إياه، ولا يستغيثون بملك مقرب ولا نبي مرسل. فلما أصلح الناس أمورهم، وصدقوا في الاستغاثة بربهم، نصرهم الله على عدوهم نصرًا عزيزًا لم يتقدم نظيره، ولم يهزم التتار مثل هذه الهزيمة

أصلا لما صح من توحيد الله وطاعة رسوله بما لم يكن قبل ذلك، فالله ينصر رسله: {وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ} 1 كما قال -تعالى- في يوم بدر: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ} 2. وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في كل يوم: "يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث"3، وفي لفظ "أصلح لي شأني كله ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين، ولا إلى أحد من خلقك"4. وهؤلاء يدعون الميت والغائب فيقول أحدهم: بك أستغيث، بك أستجير، أغثنا أجرنا، ويقول: أنت تعلم ذنوبي، ومنهم من يقول للميت: اغفر لي، وارحمني، وتب على، ونحو ذلك. ومن لم يقل من عقلائهم فإنه يقول: أشكو إليك ذنوبي، وأشكو إليك عدوي، وأشكو إليك جور الولاة، وظهور البدع، أو جدب الزمان وغير ذلك، فيشكون إليه ما حصل من ضرر في الدين والدنيا، ومقصوده في الشكوى أن يُشكيه 5 فيزيل ذلك الضرر. وقد يقول مع ذلك للميت: أنت تعلم ما نزل بنا من الضرر، وأنت تعلم ما فعلته من الذنوب، فيجعل الميت والحي والغائب عالمًا بذنوب العباد ومجرياتهم التي يمتنع أن يعلمها بشر حي أو ميت 6. وعقلاؤهم يقولون: مقصودنا أن يسأل الله لنا، ويظنون أنهم إذا سألوه بعد موته أن يسأل الله لهم فإنه يسأل الله لهم 7، فإنه يسأل ويشفع كما كان يسأل ويشفع لما سأله الصحابة الاستسقاء وغيره، وكما يشفع يوم القيامة إذا سئل الشفاعة، ولا يعلمون أن سؤال الميت والغائب غير مشروع البتة، ولم يفعله أحد

_ 1 سورة غافر آية: 51. 2 سورة الأنفال آية: 9. 3 الترمذي: الدعوات (3524). 4 أبو داود: الأدب (5090) , وأحمد (5/ 42). 5 يشكيه بضم الياء من الإشكاء وهو إزالة ما يشكو منه من ضر. 6 ومن كلمات خواصهم التي سمعت من بعض قضاة الشرع وغيرهم من أهل العلم قولهم عند القبر المنسوب إلى الحسين -رضي الله عنه-: ياسيدي العارف لا يعرف إلخ. 7 قد سقط من هنا كلام فيه ذكر النبي -صلى الله عليه وسلم-.

من الصحابة، بل عدلوا عن سؤاله، وطلبوا الدعاء منه، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم وسائر الأنبياء والصالحين وغيرهم لا يطلب من أحدهم بعد موته من الأمور ما كان يطلب منه في حياته. انتهى كلام الشيخ -رحمه الله- ملخصًا. [أنواع عبادة القبور ومخالفة النصوص فيها] فانظر -رحمك الله- إلى ما ذكره هذا الإمام من أنواع الشرك الأكبر الذي قد وقع في زمانه ممن يدعي العلم والمعرفة، وينتصب للفتيا والقضاء، لكن لما نبههم الشيخ -رحمه الله- على ذلك، وبين لهم أن هذا من الشرك الذي حرمه الله ورسوله، تنبه من تنبه منهم وتاب إلى الله، وعرف أن ما كان عليه شرك وضلال، وانقاد للحق؛ وهذا مما يبين لك غربة الإسلام في ذلك الوقت عند كثير من الأنام. وأن هذا مصداق ما تواترت به الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لتتبعن سنن من كان قبلكم"1 الحديث، أو قوله: "بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ"2 وبهذا ينكشف لك ويتضح عندك بطلان ما عليه كثير من أهل الزمان، من أنواع الشرك والبدع والحدثان، قلا تغتر بما هم عليه، وهذه هي البلية العظيمة، والخصلة القبيحة الذميمة، وهي الاغترار بالآباء والأجداد، وما استمر عليه عمل كثير من أهل البلاد، وتلك الحجة التي انتحلها أهل الشرك والكفر والعناد، كما حكى الله عنهم ذلك في محكم التنْزيل، من غير شك ولا تأويل، حيث قال وهو أصدق القائلين، حكاية عن فرعون اللعين، أنه قال لموسي وأخيه هارون الكريمين: {قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأُولَى} 3، فأجابه -عليه السلام- بقوله: {عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسَى} 4. فمن امتطى كاهل الصدق والوفاء، وسلم من التعصب والعناد والجفاء،

_ 1 البخاري: أحاديث الأنبياء (3456) , ومسلم: العلم (2669) , وأحمد (3/ 84 ,3/ 89 ,3/ 94). 2 مسلم: الإيمان (145) , وابن ماجه: الفتن (3986) , وأحمد (2/ 389). 3 سورة طه آية: 51. 4 سورة طه آية: 52.

وتوسط في المحجة، وقنع في قبول الحق بالحجة، كان ذلك طريقه ونهجه وأشرق في صدره مصباح القبول، وأوقد فيه بزيت المعرفة والوصول، وكان من ضوء التوحيد على حصول، قال ابن القيم -رحمه الله- في "الإغاثة"*: قال صلى الله عليه وسلم: "لا تتخذوا قبري عيدا"1، وقال: "للهم لا تجعل قبري وثنا يعبد، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد"2، وفي اتخاذها عيدا من المفاسد ما يغضب لأجله من في قلبه وقار لله وغيرة على التوحيد، ولكن * ما لجرح بميت إيلام * منها الصلاة إليها والطواف بها، واستلامها وتعفير الخدود على ترابها وعبادة أصحابها، وسؤالهم النصر والرزق والعافية، وقضاء الديون، وتفريج الكربات التي كان عباد الأوثان يسألونها أوثانهم. وكل من شم أدنى رائحة من العلم يعلم أن من أهم الأمور سد الذريعة إلى ذلك، وأنه صلى الله عليه وسلم أعلم بعاقبة ما نهى عنه، وأنه يؤول إليه، وإذا لعن من اتخذ القبور مساجد يعبد الله فيها، فكيف بملازمتها واعتياد قصدها وعبادتها؟ ومن جمع بين سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في القبور، وما أمر به، وما نهى عنه، وما عليه أصحابه، وبين ما عليه أكثر الناس اليوم، رأى أحدهما مضادا للآخر. فنهى عن اتخاذها مساجد؛ وهؤلاء يبنون عليها المساجد. ونهى عن تسريجها، وهؤلاء يوقفون الوقوف على إيقاد القناديل بل عليها. ونهى عن أن تتخذ عيدًا، وهؤلاء يتخذونها أعيادا، ونهى عن تشريفها، وأمر بتسويتها كما في صحيح مسلم عن علي رضي الله عنه وهؤلاء يرفعونها ويجعلون عليها القباب. ونهى عن تجصيص القبر والبناء عليه كما في صحيح مسلم عن جابر، ونهى عن الكتابة عليها كما رواه الترمذي في صحيحه عن جابر، ونهى أن يزاد عليها غير ترابها كما رواه أبو داود عن

_ * هنا نقل طويل عن الإمام ابن القيم -رحمه الله- من كتابه "إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان" (1/ 193 - 2/ 225)، وينتهي النقل في ص 415. [معد الكتاب للمكتبة الشاملة] 1 أبو داود: المناسك (2042) , وأحمد (2/ 367). 2 مالك: النداء للصلاة (416).

جابر، وهؤلاء يتخذون عليها الألواح، ويكتبون عليها القرآن، ويزيدون على ترابها بالجص والآجر والأحجار. وقد آل الأمر بهؤلاء الضلال المشركين إلى أن شرعوا للقبور حجا، ووضعوا لها مناسك، حتى صنف بعضهم في ذلك كتابا سماه مناسك حج المشاهد. [لن يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها] ولا يخفى أن هذا مفارقة لدين الإسلام ودخول في دين عباد الأصنام، فانظر إلى هذا التباين العظيم بين ما شرعه الرسول صلى الله عليه وسلم لأمته، وبين ما شرعه هؤلاء. والنبي صلى الله عليه وسلم أمر بزيارة القبور لأنها تذكر الآخرة، وأمر الزائر أن يدعو لأهل القبور، ونهاه أن يقول هجرا؛ فهذه الزيارة التي أذن رسول الله فيها لأمته وعلمهم إياها، هل تجد فيها شيئا مما يعتمد عليه أهل الشرك والبدع، أم تجدها مضادة لما هم عليه من كل وجه؟ وما أحسن ما قال الإمام أحمد 1 - رحمه الله-: لن يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها، ولكن كلما ضعف تمسك الأمم بعهود أنبيائهم، عوضوا عن ذلك بما أحدثوا من البدع والشرك، ولقد جرد السلف الصالح التوحيد وحموا جانبه، حتى كان أحدهم إذا سلم على النبي صلى الله عليه وسلم ثم أراد الدعاء جعل ظهره إلى جدار القبر ثم دعا، وقد نص على ذلك الأئمة الأربعة أنه يستقبل القبلة للدعاء حتى لا يدعو عند القبر، فإن الدعاء عبادة. [الدعاء للميت لا الاستشفاع به] وبالجملة فإن الميت قد انقطع عمله فهو محتاج إلى من يدعو له، ولهذا شرع في الصلاة عليه من الدعاء ما لم يشرع مثله للحي، ومقصود الصلاة على الميت الاستغفار له والدعاء له، وكذلك الزيارة مقصودها الدعاء للميت والإحسان

_ 1 هذه الكلمة مأثورة عن الإمام مالك فالظاهر أن الناسخ كتب "الإمام أحمد" سهوا منه. ويحتمل أنها مروية عن الإمامين -رحمهما الله تعالى-.

إليه وتذكير الآخرة، فبدل أهل البدع والشرك قولا غير الذي قيل لهم، فبدلوا الدعاء له بدعائه نفسه، والشفاعة له بالاستشفاع به، والزيارة التي شرعت إحسانا إلى الميت وإلى الزائر بسؤال الميت والإقسام به على الله، وتخصيص تلك البقعة بالدعاء الذي هو محض العبادة، وحضور القلب عندها وخشوعه أعظم منه في المساجد. ثم ذكر حديث ذات أنواط، ثم قال: فإذا كان اتخاذ الشجرة لتعليق الأسلحة والعكوف لها اتخاذ إله مع الله، وهم لا يعبدونها ولا يسألونها، فما الظن بالعكوف حول القبر ودعائه، والدعاء عنده والدعاء به؟ وأي نسبة للفتنة بشجرة إلى الفتنة بالقبر لو كان أهل الشرك والبدع يعلمون؟! [التخلص مما يؤدي بالناس إلى الشرك] ومن له خبرة بما بعث الله به رسوله، وبما عليه أهل الشرك والبدع اليوم في هذا الباب وغيره، علم أن ما بين السلف وبينهم أبعد مما بين المشرق والمغرب. والأمر والله أعظم مما ذكرنا، وعمى الصحابة قبر دانيال بأمر عمر رضي الله عنه، ولما بلغه أن الناس ينتابون الشجرة التي بويع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تحتها، أرسل إليها وقطعها. قال عيسى بن يونس: هو عندنا من حديث ابن عوف عن نافع، فإذا كان هذا فعله في الشجرة التي ذكرها الله في القرآن، وبايع تحتها الصحابة -رضي الله عنهم- رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فماذا حكمه فيما عداها؟ وأبلغ من ذلك أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هدم مسجد الضرار، ففيه دليل على هدم المساجد التي هي أعظم فسادا منه كالمبنية على القبور، وكذلك قبابها فتجب المبادرة إلى هدم ما لعن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فاعله؛ والله يقيم لدينه من ينصره ويذب عنه. وكان بدمشق كثير من هذه الأنصاب فيسر الله -سبحانه- كسرها

على يد شيخ الإسلام، وحزب الله الموحدين. وكان العامة يقولون للشيء منها: إنه يقبل النذر، أي يقبل العبادة من دون الله؛ فإن النذر عبادة يتقرب بها الناذر إلى المنذور، ولقد أنكر السلف التمسح بحجر المقام الذي أمر الله أن يتخذ منه مصلى. قال قتادة في الآية: إنما أمروا أن يصلوا عنده ولم يؤمروا بمسحه، ولقد تكلفت هذه الأمة شيئًا ما تكلفته الأمم قبلها، ذكر لنا من رأى أثر أصابعه فما زالت هذه تمسحه حتى اخلولق (؟). [الفتنة بالقبور أصل عبادة الأصنام] وأعظم من الفتنة بهذه الأنصاب فتنة أصحاب القبور، وهي أصل فتنة عباد الأصنام كما ذكر الله في سورة نوح فى قوله: {وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا} 1 الآية، ذكر السلف في تفسيرها أن هؤلاء أسماء رجال صالحين في قوم نوح، فلما ماتوا عكفوا على قبورهم، ثم صوروا تماثيلهم، ثم طال عليهم الأمد فعبدوهم 2، وتعظيم الصالحين إنما هو باتباع ما دعوا إليه دون اتخاذ قبورهم أعيادا وأوثانا، فأعرضوا عن المشروع واشتغلوا بالبدع. ومن أصغى إلى كلامه وتفهمه أغناه عن البدع والآراء، ومن بعد عنه فلا بد أن يتعوض بما لا ينفعه؛ كما أن من عمر قلبه بمحبة الله وخشيته والتوكل عليه أغناه عن محبة غيره وخشيته والتوكل عليه. فالمعرض عن التوحيد مشرك شاء أم أبى، والمعرض عن السنة مبتدع شاء أم أبى، والمعرض عن محبة الله عبد الصور شاء أم أبى. وهذه الأمور المبتدعة عند القبور أنواع أبعدها عن الشرع أن يسأل الميت حاجته كما يفعله كثير، وهؤلاء من جنس عباد الأصنام؛ ولهذا يتمثل لهم الشيطان في صورة

_ 1 سورة نوح آية: 23. 2 رواه البخارى عن ابن عباس -رضي الله عنه- بابسط من هذا.

الميت كما يتمثل لعباد الأصنام، وكذلك السجود للقبر وتقبيله والتمسح به. (النوع الثاني): أن يسأل الله به، وهذا يفعله كثير من المتأخرين، وهو بدعة إجماعا. (النوع الثالث): أن يظن أن الدعاء عنده مستجاب، وأنه أفضل من الدعاء في المسجد، فيقصد القبر لذلك. فهذا أيضًا من المنكرات إجماعا، وما علمت فيه نزاعا بين أئمة الدين، وإن كان كثير من المتأخرين يفعله. وبالجملة فأكثر أهل الأرض مفتونون بعبادة الأصنام، ولم يتخلص منها إلا الحنفاء أتباع ملة إبراهيم. وعبادتها في الأرض من قبل نوح، وهياكلها ووقوفها وسدنتها وحجابها، والكتب المصنفة في عبادتها طبق الأرض. قال إمام الحنفاء عليه السلام: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ} 1، وكفى في معرفتهم أنهم أكفر أهل الأرض بما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أن بعث النار من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون، وقد قال تعالى: {فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا} 2، وقال تعالى: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} 3، ولو لم تكن الفتنة بعبادتهم الأصنام عظيمة، لما أقدم عبادها على بذل نفوسهم وأموالهم وأبنائهم دونها، يشاهدون مصارع إخوانهم، وما حل بهم، ولا يزيدهم ذلك إلا حبا وتعظيما، ويوصي بعضهم بعضًا بالصبر عليها. انتهى كلام الشيخ -رحمه الله- ملخصًا. [من طرق تحقيق التوحيد الذي هو أصل الدين ورأسه] وقال الشيخ تقي الدين في (الرسالة السنية) * لما ذكر حديث الخوارج ومروقهم من الدين وأمره صلى الله عليه وسلم بقتلهم قال: فإذا كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفائه من انتسب إلى الإسلام والسنة، ففي هذه الأزمان قد مرق أيضًا

_ 1 سورة إبراهيم آية: 35. 2 سورة الإسراء آية: 89. 3 سورة الأنعام آية: 116. * "الرسالة السنية إلى الطائفة العدوية" هي الرسالة المعروفة بـ"الوصية الكبرى" لابن تيمية، انظر "مجموع الفتاوى" 3/ 383. [معد الكتاب للمكتبة الشاملة]

من الإسلام 1. وذلك بأسباب: منها الغلو الذي ذمه الله في كتابه حيث قال: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} 2 الآية، وعلي بن أبي طالب رضي الله عنه حرق الغالية من الرافضة، وأمر بأخاديد خدَّت عند باب كندة، فقذفهم فيها. واتفق الصحابة على قتلهم، لكن ابن عباس -رضي الله عنه- مذهبه أن يقتلوا بالسيف بلا تحريق، وهو قول أكثر العلماء، وقصصهم معروفة عند العلماء. وكذلك الغلو في بعض المشايخ، بل الغلو في علي بن أبي طالب، بل الغلو في الشيخ ونحوه، فكل من غلا في نبي، أو رجل صالح، وجعل فيه نوعا من الإلهية مثل أن يقول: يا سيدي فلان انصرني، أو أغثني، أو ارزقني، أو آجرني، أو أنا في حسبك، ونحو هذه الأقوال، فكل هذا شرك وضلال يستتاب صاحبه، فإن تاب وإلا قتل. فإن الله إنما أرسل الرسل، وأنزل الكتب ليعبدوه وحده لا يجعلون معه إلهاً آخر. والذين يدعون مع الله آلهة أخرى مثل المسيح والملائكة والأصنام، لم يكونوا يعتقدون أنها تخلق الخلائق، أو تنزل المطر، أو تنبت النبات، وإنما كانوا يعبدونهم، أو يعبدون قبورهم، أو صورهم يقولون: إنما نعبدهم ليقربونا إلى الله زلفى: {وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} 3؛ فبعث الله رسوله ينهى أن يدعى أحد من دونه لا دعاء عبادة ولا دعاء استغاثة، وقال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً * أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} 4 الآية. قال طائفة من السلف: كان أقوام يدعون المسيح وعزيراً ... إلى أن قال:

_ 1 كذا في الأصل والكلام كما ترى قد سقط منه شيء والمراد منه مفهوم بالقرينة وهو أن المروق من الإسلام غير مستغرب في هذا الزمان بعد أن علم مروق أناس منه في خير القرون. 2 سورة النساء آية: 171. 3 سورة يونس آية: 18. 4 سورة الإسراء آية: 56.

وعبادة الله هي أصل الدين، وهي التوحيد الذي بعث الله به الرسل، وأنزل به الكتب، قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} 1، وقال: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ} 2. وكان النبي صلى الله عليه وسلم يحقق التوحيد، ويعلم أمته حتى قال رجل: ما شاء الله وشئت، قال: "أجعلتني لله ندا؟ قل: ما شاء الله وحده"3، ونهى عن الحلف بغير الله وقال: "من حلف بغير الله فقد أشرك"4 وقال في مرض موته: "لعن الله اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد"5، يحذر ما فعلوا، وقال: "اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد"6. ولهذا اتفق أئمة الإسلام على أنه لا يشرع بناء المساجد على القبور ولا الصلاة عندها، وذلك لأن من أكبر أسباب عبادة الأوثان تعظيم القبور. ولهذا اتفق العلماء على أن من سلم على النبي -صلى الله عليه وسلم- عند قبره فلا يشبه بيت المخلوق ببيت الخالق 7، كل هذا لتحقيق التوحيد الذي هو أصل الدين ورأسه الذي لا يقبل الله عملا إلا به، ويغفر لصاحبه، ولا يغفر لمن تركه، كما قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً} 8. ولهذا كانت كلمة التوحيد أفضل الكلام، وأعظم آية في القرآن آية الكرسي: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} 9. وقال صلى الله عليه وسلم: "من كان آخر كلامه من الدنيا لا إله إلا الله، دخل الجنة"10، ولا إله إلا الله الذي تأله القلوب عبادة واستعانة ورجاء وخشية وإجلالا. انتهى كلامه -رحمه الله-. فتأمل أول كلامه وآخره، وتأمل كلامه فيمن دعا نبيا، أو وليا مثل أن يقول: يا سيدي أغثني، ونحوه، أنه يستتاب، فإن تاب وإلا قتل، تجده صريحا في تكفير أهل

_ 1 سورة النحل آية: 36. 2 سورة الأنبياء آية: 25. 3 ابن ماجه: الكفارات (2117) , وأحمد (1/ 214). 4 الترمذي: النذور والأيمان (1535) , وأبو داود: الأيمان والنذور (3251) , وأحمد (2/ 34 ,2/ 69 ,2/ 86 ,2/ 125). 5 البخاري: الصلاة (436) , ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (531) , والنسائي: المساجد (703) , وأحمد (1/ 218 ,6/ 34 ,6/ 80 ,6/ 121 ,6/ 146 ,6/ 252 ,6/ 255 ,6/ 274) , والدارمي: الصلاة (1403). 6 مالك: النداء للصلاة (416). 7 في العبارة سقط وتحريف فليتأمل. 8 سورة النساء آية: 48. 9 سورة البقرة آية: 255. 10 أبو داود: الجنائز (3116) , وأحمد (5/ 233 ,5/ 247).

الشرك وقتلهم بعد الاستتابة وإقامة الحجة عليهم، وأن من غلا في نبي أو رجل صالح، وجعل فيه نوعا من الآلهية فقد اتخذه إلها مع الله، لأن الإله هو المألوه الذي يألهه القلب أي: يقصده بالعبادة والدعوة والخشية والإجلال والتعظيم، وإن زعم أنه لا يريد إلا الشفاعة والتقرب عند الله، لأنه بين أن هذا مطلوب المشركين الأولين، فاستدل على ذلك بالآيات الصريحات القاطعات. والله أعلم. [الإهلال لغير الله] وقال -رحمه الله- في الكلام على قوله تعالى: {وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} 1: ظاهره أن ما ذبح لغير الله سواء لفظ به أو لم يلفظ، وتحريم هذا أظهر من تحريم ما ذبحه للحم، وقال فيه: باسم المسيح، ونحوه. كما أن ما ذبحناه متقربين به إلى الله تعالى كان أزكى مما ذبحناه للحم، وقلنا عليه: باسم الله، فإن عبادة الله بالصلاة والنسك له أعظم من الاستغاثة باسمه في فواتح الأمور. والعبادة لغير الله أعظم كفرا من الاستغاثة بغير الله، فلو ذبح لغير الله متقربا إليه لحرم، وإن قال فيه باسم الله، كما قد يفعله طائفة من منافقي هذه الأمة، وإن كان هؤلاء لا تباح ذبيحتهم بحال، لكن يجتمع في الذبيحة مانعان، ومن هذا ما يفعل بمكة وغيرها من الذبح للجن. انتهى كلام الشيخ -رحمه الله-. فتأمل -رحمك الله- هذا الكلام وتصريحه فيه بأن من ذبح لغير الله من هذه الأمة، فهو كافر مرتد لا تباح ذبيحته، لأنه يجتمع فيها مانعان: الأول: أنها ذبيحة مرتد، وذبيحة المرتد لا تباح بالإجماع، الثاني: أنها مما أهل به لغير الله، وقد حرم الله ذلك في قوله: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} 2. وتأمل قوله: ومن هذا ما يفعل بمكة وغيرها من الذبح للجن. والله أعلم.

_ 1 سورة المائدة آية: 3. 2 سورة الأنعام آية: 145.

فصل [من صور الشرك الأكبر] قال ابن القيم في شرح المنازل في باب التوبة: وأما الشرك فهو نوعان: أكبر وأصغر، فالأكبر لا يغفره الله إلا بالتوبة: وهو أن يتخذ من دون الله ندا يحبه كما يحب الله؛ وهو الشرك الذي تضمن تسوية آلهة المشركين برب العالمين، ولهذا قالوا لآلهتهم في النار: {تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} 1، مع إقرارهم بأن الله وحده خالق كل شيء وربه ومليكه، وأن آلهتهم لا تخلق، ولا ترزق، ولا تحيي، ولا تميت، وإنما كانت هذه التسوية في المحبة والتعظيم والعبادة كما هو حال أكثر مشركي العالم، بل كلهم يحبون معبوديهم، ويعظمونها، ويوالونها من دون الله. وكثير منهم بل أكثرهم يحبون آلهتهم أعظم من محبة الله، ويستبشرون بذكرهم أعظم من استبشارهم إذا ذكر الله وحده، ويغضبون لمنتقص معبوديهم وآلهتهم من المشايخ أعظم مما يغضبون إذا انتقص أحد رب العالمين. وإذا انتهكت حرمة من حرمات آلهتهم ومعبوديهم غضبوا غضب الليث إذا حرد، وإذا انتهكت حرمات الله لم يغضبوا لها، بل إذا قام المنتهك لها بإطعامهم شيئاً رضوا عنه، ولم تتنكر له قلوبهم. وقد شاهدنا هذا نحن وغيرنا منهم جهرة، وترى أحدهم قد اتخذ ذكر إلهه ومعبوده من دون الله على لسانه، إن قام وإن قعد، وإن عثر، وإن مرض، وإن استوحش؛ فذكر إلهه ومعبوده من دون الله هو الغالب على قلبه ولسانه، وهو لا ينكر ذلك، ويزعم أنه باب حاجته إلى الله وشفيعه عنده، ووسيلته إليه، وهكذا كان عباد الأصنام سواء. وهذا القدر هو الذي قام بقلوبهم، وتوارثه المشركون

_ 1 سورة الشعراء آية: 97.

بحسب اختلاف آلهتهم، فأولئك كانت آلهتهم من الحجر، وغيرهم اتخذها من البشر، قال تعالى حاكيا عن أسلاف هؤلاء المشركين: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} 1. ثم شهد عليهم بالكفر والكذب، وأخبر أنه لا يهديهم فقال: {إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} 2، فهذه حال من اتخذ من دون الله وليا، يزعم أنه يقربه إلى الله، وما أعز من تخلص من هذا! بل ما أعز من لا يعادي من أنكره! والذي قام بقلوب هؤلاء المشركين وسلفهم، أن آلهتهم تشفع لهم عند الله، وهذا عين الشرك. وقد أنكر الله عليهم ذلك في كتابه وأبطله، وأخبر أن الشفاعة كلها لله 3، قال الله تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} 4، فالمشرك إنما يتخذ معبوده لما يحصل له به من النفع. والنفع لا يكون إلا ممن فيه خصلة من هذه الأربع: إما مالك لما يريده عابده منه، فإن لم يكن مالكا كان شريكا للمالك، فإن لم يكن شريكا له كان معينا له وظهيرا، فإن لم يكن معينا ولا ظهيرا كان شفيعا عنده. فنفى -سبحانه- المراتب الأربع نفياً مترتبا متنقلا من الأعلى إلى ما دونه: فنفى الملك والشركة والمظاهرة والشفاعة التي يظنها المشرك، وأثبت شفاعة لا نصيب فيها لمشرك، وهي الشفاعة بإذنه. فكفى بهذه الآية نوراً وبرهانا ونجاة وتجريداً للتوحيد، وقطعا لأصول الشرك ومواده لمن عقلها.

_ 1 سورة الزمر آية: 3. 2 سورة الزمر آية: 3. 3 قد سقط من هذا المحل مقدار ثلاث صفحات أو أكثر لم نثبتها كما أثبتنا كثيرا من الكلم والجمل التي سقطت من هذا النقل عن مدارج السالكين وأصلحنا كثيرا من التحريف. 4 سورة سبأ آية: 22.

والقرآن مملوء من أمثال هذه الآية ولكن أكثر الناس لا يشعرون بدخول الواقع تحته وتضمنه له، ويظنه في نوع وقوم قد خلوا من قبل، ولم يعقبوا وارثا؛ وهذا هو الذي يحول بين المرء وفهم القرآن، ولعمر الله إن كان أولئك قد خلوا فقد ورثهم من هو مثلهم، أو شر منهم، أو دونهم، وتناول القرآن لهم كتناوله لأولئك. ولكن الأمر كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: إنما تنقض عرى الإسلام عروة عروة إذا نشأ في الإسلام من لا يعرف الجاهلية، وهذا لأن من لم يعرف الشرك وما عابه القرآن وذمه وقع فيه، وأقره، ودعا إليه، وصوبه، وحسنه، وهو لا يعرف أنه الذي كان عليه أهل الجاهلية، أو نظيره، أو شر منه، أو دونه فينتقض بذلك عرى الإسلام، ويعود المعروف منكرا، والمنكر معروفا، والسنة بدعة، والبدعة سنة، ويكفَّر الرجل بمحض الإيمان وتجريده التوحيد، ويبدع تجريد متابعة الرسول ومفارقة الأهواء والبدع ومن له بصيرة وقلب حي يرى ذلك عيانا والله المستعان 1. ومن أنواعه طلب الحوائج من الموتى، والاستغاثة بهم، والتوجه إليهم؛ وهذا أصل شرك العالم، لأن الميت قد انقطع عمله، وهو لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً فضلا لمن استغاث به، وسأله قضاء حاجته، أو سأله أن يشفع له إلى الله فيها، وهذا من جهله بالشافع والمشفوع له عنده. فإن الله تعالى لا يشفع عنده أحد إلا بأذنه، والله لم يجعل سؤال غيره سببا لإذنه، وإنما السبب لإذنه كمال التوحيد؛ فجاء هذا المشرك بسبب يمنع الإذن، فهو بمنزلة من استعان في حاجة بما يمنع حصولها. وهذه حالة كل مشرك. والميت محتاج إلى من يدعو له، ويترحم عليه ويستغفر له كما أوصانا النبي صلى الله عليه وسلم

_ 1 هذا آخر فصل من فصول مدارج السالكين ومما بعده من أثناء فصل آخر.

إذا زرنا قبور المسلمين أن نترحم عليهم، ونسأل لهم العافية والمغفرة، فعكس هذا المشركون وزاروهم زيارة العبادة واستقضاء الحوائج والاستغاثة بهم، وجعلوا قبورهم أوثانا تعبد، وسموا قصدها حجا، واتخذوا عندها الوقفة وحلق الرأس؛ فجمعوا بين الشرك بالمعبود وتغيير دينه ومعاداة أهل التوحيد، ونسبتهم إلى تنقيص الأموات. وهم قد تنقصوا الخالق بالشرك، وأولياءه الموحدين له الذين لم يشركوا به شيئا بذمهم وعيبهم ومعاداتهم، وتنقصوا من أشركوهم به غاية التنقص إذ ظنوا أنهم راضون منهم بهذا، وأنهم أمروهم به، وأنهم يوالونهم عليه؛ وهؤلاء أعداء الرسل والتوحيد في كل زمان ومكان. وما أكثر المستجيبين لهم، ولله در خليله إبراهيم -عليه السلام- حيث قال: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ} 1. وما نجا من شرك هذا الشرك الأكبر إلا من جرد توحيده لله، وعادى المشركين في الله، وتقرب بمقتهم إلى الله تعالى. انتهى كلامه -رحمه الله تعالى-. فتأمل -رحمك الله- كلام هذا الإمام وتصريحه بأن من دعا الموتى، وتوجه إليهم، واستغاث بهم ليشفعوا له عند الله، فقد فعل الشرك الأكبر الذي بعث الله محمداًصلى الله عليه وسلم بإنكاره وتكفير من لم يتب منه وقتاله ومعاداته؛ وأن هذا قد وقع في زمانه، وأنهم غيروا دين الرسول صلى الله عليه وسلم وعادوا أهل التوحيد الذين يأمرونهم بإخلاص العبادة لله وحده لا شريك له. وتأمل أيضاً قوله: وما أعز من تخلص من هذا! بل ما أعز من لا يعادي من أنكره! يتبين لك الأمر إن شاء الله. ولكن تأمل أرشدك الله قوله: وما نجا من شرك هذا الشرك الأكبر إلا من عادى المشركين ... إلى آخره،

_ 1 سورة إبراهيم آية: 35.

يتبين لك أن الإسلام لا يستقيم إلا بمعاداة أهل هذا الشرك، فإن لم يعادهم فهو منهم وإن لم يفعله. والله أعلم. [لا يجوز إبقاء مواضع الشرك بعد القدرة على هدمها] وقال -رحمه الله- في كتاب (زاد المعاد في هدي خير العباد) في الكلام على غزوة أهل الطائف، وما فيها من الفقه قال: ومنها أنه لا يجوز إبقاء مواضع الشرك والطواغيت، بعد القدرة على هدمها وإبطالها، يوما واحدًا؛ فإنها من شعائر الكفر والشرك، وهي أعظم المنكرات؛ فلا يجوز الإقرار عليها مع القدرة البتة. وهكذا حكم المشاهد التي بنيت على القبور التي اتخذت أوثانا وطواغيت تعبد من دون الله، والأحجار التي تقصد لأجل التعظيم وللتبرك والتقبيل، لا يجوز إبقاء شيء منها على وجه الأرض مع القدرة على إزالته، وكثير منها بمنزلة اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى، أو أعظم شركا بها وعندها، والله المستعان. ولم يكن أحد من أرباب هذه الطواغيت يعتقد أنها تخلق، وترزق، وتحيي، وتميت، وإنما كانوا يفعلون عندها وبها ما يفعله إخوانهم من المشركين اليوم عند طواغيتهم؛ فاتبع هؤلاء سنن من كان قبلهم، وسلكوا سبيلهم حذو القذة بالقذة، وأخذوا مأخذهم شبرًا بشبر، وذراعا بذراع. وغلب الشرك على أكثر النفوس لظهور الجهل وخفاء العلم، وصار المعروف منكرًا والمنكر معروفا، والسنة بدعة والبدعة سنة، ونشأ في ذلك الصغير، وهرم عليه الكبير، وطمست الأعلام، واشتدت غربة الإسلام، وقل العلماء، وغلبت السفهاء، وتفاقم الأمر، واشتد البأس،: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ} 1؛ ولكن لا تزال طائفة من الأمة المحمدية قائمين، ولأهل الشرك والبدع مجاهدين، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وهو خير الوارثين.

_ 1 سورة الروم آية: 41.

[لا تكون العصمة إلا مع التزام شرائع الإسلام] وقال الشيخ تقي الدين لما سئل عن قتال التتار مع تمسكهم بالشهادتين، ولما زعموا من اتباع أصل الإسلام*: كل طائفة ممتنعة من التزام شرائع الإسلام الظاهرة المتواترة من مقاتلي هؤلاء القوم وغيرهم، فإنه يجب قتالهم حتى يلتزموا شرائعه، وإن كانوا مع ذلك ناطقين بالشهادتين ملتزمين بعض شرائعه، كما قاتل أبو بكر والصحابة -رضي الله عنهم- مانعي الزكاة، وعلى ذلك اتفق العلماء بعدهم بعد سابقة مناظرة عمر لأبي بكر رضي الله عنه، فاتفق الصحابة على القتال على حقوق الإسلام عملا بالكتاب والسنة؛ وكذلك ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من عشرة أوجه عن الخوارج والأمر بقتالهم، وأخبر أنهم شر الخلق والخليقة مع قوله: "تحقرون صلاتكم من صلاتهم، وصيامكم مع صيامهم" 1. فعلم أن مجرد الاعتصام بالإسلام، مع عدم التزام شرائعه العظام ليس بمسقط للقتال، فالقتال واجب حتى يكون الدين كله لله، وحتى لا تكون فتنة؛ فمتى كان الدين لغير الله فالقتال واجب. فأيما طائفة امتنعت عن الصلوات المفروضات، أو الصيام، أو الحج، أو عن التزام تحريم الدماء والأموال، أو الخمر، أو الزنى، أو الميسر، أو نكاح ذوات المحارم، أو عن التزام جهاد الكفار، أو ضرب الجزية على أهل الكتاب، أو غير ذلك من التزام واجبات الدين، أو محرماته التي لا عذر لأحد في جحودها، أو تركها الذي يكفر الواحد بجحودها، فإن الطائفة الممتنعة تقاتل عليها وإن كانت مقرة بها؛ وهذا مما لا أعلم فيه خلافا بين العلماء. وإنما اختلف الفقهاء في الطائفة الممتنعة إذا أمرت، على ترك بعض السنن كركعتي الفجر أو الأذان، أو الإقامة عند من لا يقول بوجوبها، ونحو ذلك من الشعائر، فهل تقاتل الطائفة الممتنعة على تركها أم لا؟

_ * انظر الفتوى المذكورة في "مجموع الفتاوى" 28/ 501 - 508. [معد الكتاب للمكتبة الشاملة] 1 البخاري: فضائل القرآن (5058) , ومسلم: الزكاة (1064) , وأحمد (3/ 33 ,3/ 56 ,3/ 60).

فأما الواجبات أو المحرمات المذكورة ونحوها فلا خلاف في القتال عليها، وهؤلاء عند المحققين من العلماء ليسوا بمنزلة البغاة الخارجين على الإمام والخارجين عن طاعته، كأهل الشام مع أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فإن أولئك خارجون عن طاعة إمام معين، أو خارجون عليه لإزالة ولايته. وأما المذكورون فهم خارجون عن الإسلام بمنزلة مانعي الزكاة، أو بمنزلة الخوارج الذين قاتلهم علي رضي الله عنه، ولهذا افترقت سيرته رضي الله عنه في قتاله لأهل البصرة وأهل الشام، وفي قتاله لأهل النهروان، وإن كانت سيرته مع البصريين والشاميين سيرة الأخ مع أخيه، ومع الخوارج بخلاف ذلك. وثبتت النصوص عن النبي صلى الله عليه وسلم بما استقر عليه إجماع الصحابة من قتال الصديق لمانعي الزكاة، وقتال علي للخوارج. انتهى كلامه -رحمه الله-. فتأمل -رحمك الله- تصريح هذا الإمام في هذه الفتوى بأن من امتنع من شريعة من شرائع الإسلام الظاهرة كالصلوات الخمس، أو الزكاة، أو الحج، أو ترك المحرمات كالزنى، أو تحريم الدماء والأموال، وشرب الخمر، أو المسكرات، أو غير ذلك، أنه يجب قتال الطائفة الممتنعة عن ذلك حتى يكون الدين كله لله، ويلتزموا شرائع الإسلام، وإن كانوا مع ذلك ناطقين بالشهادتين ملتزمين شرائع الإسلام؛ وأن ذلك مما اتفق عليه الفقهاء من سائر الطوائف من الصحابة فمن بعدهم، وأن ذلك عمل بالكتاب والسنة. فتبين لك أن مجرد الاعتصام بالإسلام مع عدم التزام شرائعه

ليس بمسقط للقتال، وأنهم يقاتلون قتال كفر وخروج عن الإسلام، كما صرح به في آخر الفتوى بقوله: وهؤلاء عند المحققين من العلماء ليسوا بمنزلة مانعي الزكاة. والله أعلم. وقال في الإقناع من كتب الحنابلة التي يعتمد عليها عندهم في الفتوى: وأجمعوا على وجوب قتل المرتد، فمن أشرك بالله فقد كفر بعد إسلامه كقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} 1، أو جحد ربوبيته، أو وحدانيته كفر لأن جاحد ذلك مشرك بالله تعالى ... إلى أن قال: قال الشيخ: أو كان مبغضًا لرسوله، أو ما جاء به اتفاقا، أو جعل بينه وبين الله وسائط يدعوهم، ويتوكل عليهم ويسألهم، كفر إجماعا لأن ذلك كفعل عابدي الأصنام قائلين: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} 2. فصل [أنواع المكفرات] وأما كلام الحنفية فقال في كتاب تبين المحارم المذكورة في القرآن: باب الكفر: وهو ... 3 وجحود الحق وإنكاره، وهو أول ما ذكر في القرآن العظيم من المعاصي، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} 4 الآية؛ وهو أكبر الكبائر على الإطلاق فلا كبيرة فوق الكفر ... إلى أن قال: واعلم أن ما يلزم به الكفر أنواع: فنوع يتعلق بالله -سبحانه-، ونوع يتعلق بالقرآن وسائر الكتب المنزلة، ونوع يتعلق بنبيناصلى الله عليه وسلم وسائر الأنبياء والملائكة والعلماء، ونوع يتعلق بالأحكام. فأما ما يتعلق به -سبحانه- إذا وصف الله -سبحانه- بما لا يليق به، بأن شبه الله -سبحانه- بشيء من المخلوقات، أو نفى صفاته، أو قال بالحلول، أو

_ 1 سورة النساء آية: 48. 2 سورة الزمر آية: 3. 3 بياض بالأصل. 4 سورة البقرة آية: 6.

################

الرسالة السادسة والسبعون: الرد على عبد اللطيف الصحاف

################

################

العلماء والمتعلمين، على قبرين يعذبان فشق جريدة ووضعها عليهما وقال: "لعله أن يخفف عنهما ما لم ييبسا"1، ولم يقل: لمروري ومرور أصحابي عليهما يخفف عنهما كما زعمه هذا الجاهل. وكأي من قرية عذبت وأتاها أمر الله بغتة، وأنبياؤهم وعلماؤهم قبل ذلك يدعونهم، وهم ينظرون إلى وجوههم، ويخاطبونهم، ويسمعون كلامهم، فما أغنى عنهم ذلك إِذ لم يؤمنوا بآيات الله وأصابهم من العذاب ما أصابهم، وكان الأولى بهذا الرجل أن لا يخوض فيما لا يدريه، وأن يعطي القوس باريه. (شعر): لا يعرف الشوق إلا من يكابده ... ولا الصبابة إلا من يعانيها [أقوال الحفاظ في حديث أصحابي كالنجوم] وأما قوله: إن في الحديث: "أصحابي كالنجوم 2 بأيهم اقتديتم اهتديتم"، فهذا الحديث لم يثبته الحفاظ من أهل العلم بل ذكروا أنه موضوع. قال ابن عبد البر إمام المغرب في وقته، وحامل لواء المالكية في زمانه: حدثنا محمد بن إبراهيم بن سعد أن أبا عبد الله بن مفرج حدثه قال: حدثنا محمد بن أيوب المصموت قال: قال لنا البزار: وأما ما يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أصحابي كالنجوم"، فهذا الكلام لا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم. قال ابن قيم الجوزية بعد أن ذكر طرق هذا الحديث: لا يثبت شيء منه، ثم قال ما معناه: إن الأخذ بعمومه يقتضي أن الاهتداء يحصل بالاقتداء بكل صحابي، ولو تخالفت أقوالهم، وتباينت آراؤهم، وأن الشخص مخير بين الأخذ بالقول وضده، فيخير في مسألة الجد والإخوة بين مذهب أبي بكر ومن خالفه، وفي مسألة جعل الطلاق الثلاث واحدة بين رأي عمر وغيره، وفي مسألة المتوفى عنها زوجها بين الاعتداد بالوضع

_ 1 البخاري: الوضوء (216) , ومسلم: الطهارة (292) , والنسائي: الطهارة (31) والجنائز (2068) , وأبو داود: الطهارة (20) , وأحمد (1/ 225) , والدارمي: الطهارة (739). 2 وذكر بلفظ "أهل بيتي كالنجوم ... " إلخ، وهو من نسخة نبيط الكذاب.

وتربص أقصى الأجلين، وفي مسألة استرقاق المرتدات بين مذهب أبي بكر وعمر، ويخير في بيع أمهات الأولاد بين مذهب من يقول بجوازه كعلي، ومن يقول بمنعه كعمر، ومن وافقه. وبالجملة فإطلاق هذا يوجب أن الاهتداء يحصل بأحد الضدين، ولا نعلم قائلا به من أهل العلم والإيمان، والحق واحد في نفسه لا يتعدد، وقد قال تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} 1، والخطاب عام لجميع الأمة الصحابة وغيرهم، وهي نص في أن الاهتداء لا يحصل مع النّزاع والاختلاف إلا بالرد إلى الله والرسول، لا بالاقتداء بأحد من الخلق كائنا من كان، وأما مع عدم النص المخالف، فالاقتداء بمن هدى الله من النبيين هو الواجب كما قال تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} 2. [فتنة المبتدعة بمشايخهم وعلمائهم] وأما ثناء الصحاف على مشايخه الستة الذين سماهم، وادعى أنهم من أهل العلم والفضل، وقدمهم على من سواهم، فيقال له: هذه الدعوى وهذا الثناء هو بحسب ما عندك وما ظهر لك. ومن تجاوزت به الغفلة والجهالة إلى أن يجعل عباد الله الموحدين من أهل الضلالة الذين يكفرون أهل لا إله إلا الله، ويجعل عباد الأولياء والصالحين الذين يفزعون إليهم بالدعوة من دون رب العالمين هم أهل (لا إله إلا الله)، كيف يعرف العلم والإيمان؟ أو يرجع إليه في تحقيق هذا الشأن؟ شعر: ما أنت بالحكم الترضى حكومته ... ولا الأصيل ولا ذي الرأي والجدل وشهادة من لا يعرف العلم، أو النحو، أو الهندسة، أو الطب مثلا لشخص بأنه عالم، أو نحوي، أو مهندس، أو طبيب شهادة زور، وقول بلا علم، وفي المثل:

_ 1 سورة النساء آية: 59. 2 سورة الأنعام آية: 90.

لا يعرف الفضل إلا ذووه، ولو عرف هذا الرجل الفضل وأهله والعلم ومحله، لأحجم عن هذا الهذيان. وقد نقل لنا عن بعض هؤلاء الستة الذين سماهم واختارهم ما يقتضي -إن صح- أن يحكم على صاحبه بأنه من المعطلة الضالين. ويقال أيضًا: هذه الدعوى قد ادعاها كل أحد لشيخه ومتبوعه: فادعتها الجهمية والقدرية والخوارج والمعتزلة والروافض والنصيرية ونحوهم من كل مبتدع ضال؛ فكل أحد يدعي أن شيخه وإمامه أولى بالعلم والإيمان من خصومه، والدعاوى المجردة لسنا منها في شيء. وقد قال تعالى: {وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} 1، فإسلام الوجه لله هو عبادته، والكفر بعبادة من سواه، وهذا معنى شهادة أن لا إله إلا الله. وهذه الكلمة تتضمن العلم والعمل مع القول، فلا يكتفى ببعض ذلك بل لا بد من العلم والعمل والشهادة. وأما الإحسان فهو أن تعبد الله بما شرع، لا بالأهواء والبدع. وهذا هو حقيقة شهادة أن محمدًا رسول الله، فإنها تقتضي، وتتضمن وجوب متابعته، وتحريم معصيته، وأن السير إلى الله من طريقه ومحجته، وهذا هو حقيقة اتباع الرسول والشهادة له بالرسالة والدين، كل يدخل في هذه الجملة الشريفة، وبسط الكلام عليها يستدعي أسفارًا. [أنواع التكفير للمسلمين وحكم كل منها] والسؤال الذي أجاب عنه هذا الرجل في رسالتهِ، يلزم المفتي، ويجب عليه التفصيل في جوابه، ولا يجوز له إطلاق القول، لأن الحكم يختلف باختلاف الحال، وإطلاق القول بتكفير كل صالح من صلحاء الأمة من غير تعيين يدخل فيه كل موصوف بهذه الصفة من حين مبعثه صلى الله عليه وسلم إلى يوم الدين. وما أظن هذا يقع من عاقل يتصور ما يقول مسلما كان أو كافرًا، سنيا كان

_ 1 سورة البقرة آية: 111.

أو بدعيا، لأن الكافر لا يرى الحكم والإسلام إذ هي أحكام شرعية لا يقول بها إلا أهل الشريعة، وأما المسلم فلا يتصور أن يكفر صلحاء أهل ملته ودينه، وكذلك السني والبدعي كل منهما يدعي موالاة صلحاء الأمة، ويرى أنهم هم أسلافه وأئمته، وكل طائفة تدعي موالاة الصلحاء والبراءة من الفساق ونحوهم. وأما إن كان قصد السائل من يكفر معينا من هذه الأمة، فعليه أن يعبر بغير هذه العبارة الموهمة، والمجيب عليه أن يستفصل لأن ترك الاستفصال فيه إيهام، ولا شك أن تكفير بعض صلحاء الأمة ممكن الوقوع، بل قد وقع من الخوارج وغيرهم من أهل البدع فيقال حينئذ: إن كان المكفر لبعض صلحاء الأمة متأولا مخطئا، وهو ممن يسوغ له التأويل، فهذا وأمثاله ممن رفع عنه الحرج والتأثيم لاجتهاده، وبذل وسعه كما في قصة حاطب بن أبي بلتعة، فإن عمر رضي الله عنه وصفه بالنفاق، واستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قتله، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وما يدريك أن الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم"1. ومع ذلك فلم يعنف عمر على قوله لحاطب: إنه قد نافق، وقد قال الله تعالى: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا} 2، وقد ثبت أن الرب -تبارك وتعالى- قال بعد نزول هذه الآية وقراءة المؤمنين لها: قد فعلت. وأما إن كان المكفر لأحد من هذه الأمة يستند في تكفيره له إلى نص وبرهان من كتاب الله وسنة نبيه، وقد رأى كفرًا بواحا كالشرك بالله وعبادة ما سواه، والاستهزاء به تعالى، أو بآياته، أو رسله، أو تكذيبهم، أو كراهة ما أنزل الله من الهدى ودين الحق، أو جحد صفات الله تعالى ونعوت جلاله ونحو ذلك، فالمكفر بهذا وأمثاله مصيب مأجور، مطيع لله ورسوله.

_ 1 البخاري: الجهاد والسير (3007) , ومسلم: فضائل الصحابة (2494) , والترمذي: تفسير القرآن (3305) , وأبو داود: الجهاد (2650) , وأحمد (1/ 79 ,1/ 105 ,1/ 131). 2 سورة البقرة آية: 286.

قال الله تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ} 1، فمن لم يكن من أهل عبادة الله تعالى وإثبات صفات كماله ونعوت جلاله مؤمنا بما جاءت به رسله، مجتنبا لكل طاغوت يدعو إلى خلاف ما جاءت به الرسل، فهو ممن حقت عليه الضلالة، وليس ممن هدى الله للإيمان به، وبما جاءت به الرسل عنه. والتكفير بترك هذه الأصول وعدم الإيمان بها من أعظم دعائم الدين يعرفه كل من كانت له نهمة في معرفة دين الإسلام، وغالب ما في القرآن إنما هو في إثبات ربوبيته تعالى وصفات كماله، ونعوت جلاله، ووجوب عبادته وحده لا شريك له، وما أعد لأوليائه الذين أجابوا رسله في الدار الآخرة، وما أعد لأعدائه الذين كفروا به وبرسله، واتخذوا من دونه الآلهة والأرباب. وهذا بين بحمد الله. وقد يصدر التكفير لصلحاء الأمة من أعداء الله ورسوله أهل الإشراك به، والإلحاد في أسمائه، فهؤلاء يكفرون المؤمنين بمحض الإيمان وتجريد التوحيد، ويعيبون أهل الإسلام، ويذمونهم على إخلاص الدين وتجريد المتابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، بل قد يقاتلونهم على ذلك، ويستحلون دماءهم وأمولهم، كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيق} 2. فمن كفر المسلمين أهل التوحيد، أو فتنهم بالقتال، أو التعذيب فهو من شر أصناف الكفار، ومن الذين بدلوا نعمة الله كفرا، وأحلوا قومهم دار البوار، جهنم يصلونها وبئس القرار. وفي الحديث: "من قال لأخيه: يا كافر، فقد باء بها أحدهما"3. وأما من أطلق لسانه بالتكفير لمجرد عداوة

_ 1 سورة النحل آية: 36. 2 سورة البروج آية: 10. 3 البخاري: الأدب (6104) , ومسلم: الإيمان (60) , والترمذي: الإيمان (2637) , وأحمد (2/ 112) , ومالك: الجامع (1844).

أو هوى أو لمخالفة في المذهب كما يقع لكثير من الجهال، فهذا من الخطأ البين. والتجاسر على التكفير أو التفسيق والتضليل لا يسوغ إلا لمن رأى كفرا بواحا عنده فيه من الله برهان، والمخالفة في المسائل الاجتهادية التي قد يخفى الحكم فيها على كثير من الناس لا تقتضي كفرًا ولا فسقا، وقد يكون الحكم فيها قطعيا جليا عند بعض الناس، وعند آخرين يكون الحكم فيها مشتبها خفيا، والله لا يكلف نفسا إلا وسعها. والواجب على كل أحد أن يتقي الله ما استطاع. وما يظهر لخواص الناس من الفهوم والعلوم لا يجب 1 على من خفيت عليه عند العجز عن معرفتها، والتقليد ليس بواجب بل غايته أن يسوغ عند الحاجة. وقد قرر بعض مشايخ الإسلام أن الشرائع لا تلزم إلا بعد البلوغ وقيام الحجة؛ ولا يحل لأحد أن يكفر أو يفسق بمجرد المخالفة للرأي والمذهب. وبقي قسم خامس وهم الذين يكفرون بما دون الشرك من الذنوب كالسرقة والزنى وشرب الخمر، وهؤلاء هم الخوارج، وهم عند أهل السنة ضلال مبتدعة قاتلهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن الحديث قد صح بالأمر بقتالهم والترغيب فيه، وفيه أنهم "يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم". وقد غلط كثير من المشركين في هذه الأعصار، وظنوا أن من كفر من تلفظ بالشهادتين فهو من الخوارج وليس كذلك، بل التلفظ بالشهادتين لا يكون مانعا من التكفير إلا لمن عرف معناهما، وعمل بمقتضاهما، وأخلص العبادة لله ولم

_ 1 قوله: لا يجب -يعني اتباعه والأخذ به- ولعله قد سقط من الناسخ أحد اللفظين أو ما هو بمعناهما. وقوله خفيت عليه إلخ يعني العلوم والمفهوم التي ظهرت لغيره، وهذه المسألة من حقائق العلم وكذا ما بعدها من حكم التقليد، فينبغي أن تحفظ ولا تنسى.

يشرك به سواه، فهذا تنفعه الشهادتان. وأما من قالهما، ولم يحصل منه انقياد لمقتضاهما، بل أشرك بالله واتخذ الوسائط والشفعاء من دون الله، وطلب منهم ما لا يقدر عليه إلا الله، وقرب لهم القرابين، وفعل لهم ما يفعله أهل الجاهلية من المشركين، فهذا لا تنفعه الشهادتان، بل هو كاذب في شهادته كما قال تعالى: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} 1، ومعنى شهادة أن لا إله إلا الله هو عبادة الله وترك عبادة ما سواه؛ فمن استكبر عن عبادته، ولم يعبده فليس ممن يشهد أن لا إله إلا الله؛ ومن عبده، وعبد معه غيره فليس هو ممن يشهد أن لا إله إلا الله. [التكفير اجتهادا وتأولا والتكفير تقليدا وعصبية] وأما قول السائل في سؤاله: ويعتقد أن أهل (القسم) كلهم كفار معطلون كاليهود والنصارى، ومن لم يكفرهم فهو كافر، وإذا لقيه أحد من المسلمين، وسلم عليه قال: عليكم ... إلى آخر ما قال. فاعلم أن أهل (القسم) يخفى حالهم علينا، ولا ندري ما هم عليه من الدين، وفيما تقدم من التفصيل كفاية. فالمكفر لهم لا يخرج عن الأقسام المتقدمة، والصحاف قد خلط هنا، وأطال الهذيان، وزعم أن من كفرهم يكفر، ولا يصلى خلفه؛ وقد عرفت أن المسألة فيها تفصيل كما قدمناه، وبه يعرف حكم الصلاة خلفه، وأنها لا تصح خلف من أشرك بالله، أو جحد أسماءه وصفاته لكفره؛ وأهم شروط الصلاة والإمامة هو الإسلام معرفته والعمل به، ومن كفر المشركين ومقتهم، وأخلص دينه لله فلم يعبد سواه فهو أفضل الأئمة، وأحقهم بالإمامة لأن التكفير بالشرك والتعطيل هو أهم ما يجب من الكفر بالطاغوت.

_ 1 سورة المنافقون آية: 1.

وأما من كفر من ليس من أهل الكفر لكنه متأول يسوغ تأويله، فهو أيضا من الأئمة المرضيين إذا تمت له شروط الإمامة، وخطؤه مغفور له بنص الحديث. وأما من يكفر لهوى، أو عصبية، أو لمخالفة في المذهب، أو لأنه يرى رأي الخوارج، فهو فاسق لا يصلى خلفه إذا أمكنت الصلاة مع غيره إلا إن كان ذا سلطان تخشى سطوته، فيصلى خلفه كما يصلى خلف أئمة الظلم والجور. إذا عرفت هذا، فاعلم أن الصحاف ذكر في جوابه ما لا يتعلق بالسؤال كمسبته وعيبه من يعيب مشايخه الذين ذكرهم، وترضى عنهم كابن كمال وعبد الله البصري وحسين الدوسري وغيرهم ممن ذكر، وحكمه على من عابهم أنه من الجهال المبتدعة أكلة الحرام الذين لا همَّ لهم في الدين، وأنهم ممن قال فيهم صاحب الزبد: وعالم بعلمه لم يعملن ... معذب من قبل عباد الوثن وأن همهم في جمع الدرهم والدينار، يعملون في تحصليها أنواع الحيل بالليل والنهار، فهذا الكلام مجرد دعوى ومسبة ينزه العاقل نفسه عن مثلها، ويكفي في ردها منعها وتكذيبها. ويمكن خصم الصحاف أن يقابلها، ويعارضها بما هو محق فيه، كقوله: بل أنتم أهل الجهل بما بعث الله به رسله، وأنزل به كتبه، لم تعرفوه بما وصف به نفسه، وبما وصفته به رسله من صفات الكمال، ونعوت الجلال، ولكنكم أخذتم العقيدة في ذلك عن أفراخ الفلاسفة واليونان، الذين هم من أعظم الخلق مناقضة لما نطق به القرآن، وما وصف به الرب نفسه في كتابه العزيز. وكذلك أنتم في باب معرفة حق الله وتوحيده من أضل الناس وأجهلهم، تجعلون عبادة غير الله

ودعاءه، والاستغاثة والاستعاذة به، والذبح والنذر (له)، والحب مع الله 1، توسلا بالصالحين وتشفعا بهم. وقد صرح بهذا أشياخ هذا الصحاف وأشياعه، وكتبوا به إلينا وإلى شيخنا -رحمه الله تعالى-، وعندهم أن الإنسان لا يكفر، ولا يكون مشركا إلا إذا اعتقد التأثير له من دون الله، ولم يفقهوا أن الله حكى عن المشركين في غير موضع من كتابه أنهم يعترفون له بأنه هو المختص بالإيجاد والتأثير والتدبير، وأن غيره لا يستقل بشيء من ذلك ولا يشاركه فيه، وحكى عن المشركين أنهم ما قصدوا بعبادة من سواه إلا القربان والشفاعة، كما ذكر ذلك في غير موضع من كتابه. قال تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ؟ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ} 2، وقال: {قُلْ لِمَنِ الأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ؟ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ * قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ

_ 1 يعني والحب الذي هو من جنس حب الله، والمؤمن لا يحب مع الله أحدًا من جنس حبه أي التعظيم المبني على اعتقاد السلطان الغيبي، وهو المذكور في قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ}، ومعلوم أن الحب أنواع كحب الوالدين والأولاد والأقربين والأزواج والمعلمين والعلماء العاملين وأمراء العدل والصالحين والشجعان والمحسنين والحسان الوجوه. وكل نوع منها يخالف الآخر وأما حب الله تعالى فهو جنس آخر أعلى من جميع هذه الأنواع لأن مناطه منتهى الكمال المطلق والإحسان الأكمل، والعبودية الخالصة المبنية على الإيمان بالسلطان الغيبي الذي سخر الأسباب، وقيد تصرف خلقه بها. وهو الصمد الذي يقصد ويلجأ ويتوجه إليه وحده فيما يعجز عنه عباده المقيدون بالأسباب. فمن توجه إلى غيره في ذلك، ولجأ إليه، أو استغاثه، واستعانه، أو توكل عليه، أو جعل له تأثيرًا معه، أو عنده في قضاء حاجاته من هذا الجنس، فقد عبده. ومن أحب غيره لرجائه فيه أو خوفه منه فيما وراء الأسباب العامة فقد اتخذه ندًا وشريكًا له وكان حبه له من جنس حبه، وهو شرك لا يتفق مع دين الإسلام، وإن سماه أصحابه توسلا وتشفعا وأنكروا تسميته شركا. 2 سورة يونس آية: 31.

الْعَرْشِ الْعَظِيمِ؟ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ * قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ؟ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} 1. ومثل هذا كثير في القرآن يخبر فيه تعالى أن المشركين يعترفون بأن الله هو المتفرد بالإيجاد والتأثير والتدبير. وقال تعالى في صفة شرك المشركين وبيان قصدهم: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} 2، وقال: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} 3، وقال: {فَلَوْلا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آلِهَةً؟ بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ. وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} 4، فأبيتم علينا هذا كله، وقلتم: هذا دين الوهابية ونعم هو ديننا بحمد الله. ورضي الله عن الشافعي إذ يقول: يا راكبا قف بالمحصب من منى ... واهتف بقاعد خيفها والناهض إن كان رفضًا حب آل محمد ... فليشهد الثقلان أني رافضي فصل [ذكر الله وكيفيته والابتداع فيه] قال الصحاف: وإنهم إذا سمعوا من يذكر الله جهرا بأنواع الأذكار، ويصلي على الرسول جهرا خصوصا على المنار، كما يفعله سائر أهل الأمصار، أنكروا ذلك ونفروا عنه وفروا. فيقال: أما ذكر الله جهرا بأنواع الأذكار، فلا نعلم أحدًا من المسلمين -بحمد الله تعالى- ينكره أو ينفّر عنه، وإطلاق هذه العبارة من الكذب البين والبهت الظاهر الذي لا يمتري فيه من عرف حال من يشير إليهم هذا الرجل. وليس هذا بعجيب من جرأته وظلمه. وقد قال تعالى: {إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ} 5.

_ 1 سورة المؤمنون آية: 84 - 89. 2 سورة يونس آية: 18. 3 سورة الزمر آية: 3. 4 سورة الأحقاف آية: 28. 5 سورة النحل آية: 105.

نعم، قد أنكروا ما يفعله كثير من جهلة أهل الطرائق المبتدعة من الاجتماعات على السماع الشيطاني، وقيامهم بين يدي المنشد يميلون ويرقصون، وبعضهم يذكر الله بمجرد الاسم الظاهر أو المضمر ويزعم أن هذا هو ذكر الخواص أهل المعرفة والتحقيق؛ فهؤلاء مبتدعة ضلال، وما فعلوه ليس بذكر شرعي، بل هو دين مبتدع غير مرضي، قال الله تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} 1، وقال تعالى: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} 2. وفي الحديث: "أن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة"3. وكل عالم يعرف أن هذا السماع الشيطاني مبتدع لم يحدث إلا بعد القرون المفضلة، وقد أنكره عامة أئمة الإسلام، وأشدهم في ذلك أتباع الإمام مالك بن أنس الذي ينتسب هذا الرجل إلى مذهبه، وكفى به جهلا وضلالا أن يعيب ما عليه قدماء أئمته وفضلاؤهم، ونصوصهم موجودة بأيدينا في إنكار هذا السماع الشيطاني، وتضليل فاعله وتفسيقه. وقد صنف ابن قيم الجوزية في هذا الذكر المبتدع كتابا مستقلا قرر فيه مذاهب الأئمة في حكم هذا السماع، وأنه محرم لا يجوز. وإن كان قصد هذا المعترض خصوص رفع الصوت بالصلاة على الرسول -صلى الله عليه وسلم- بعد الأذان كما يفعله أهل الأمصار، فقد صدق في حكاية إنكار هذا منهم والنهي عنه، وهم لا ينازعون في مشروعية الصلاة على الرسول -صلى الله عليه وسلم- سرا وجهرا، بل يستحبونها ويوجبونها في الصلاة، ويرون أنها من جملة الأركان فيها، لكنهم يرون أن ما يفعله أهل الأمصار على المنائر بعد الأذان مبتدع محدث في القرن الخامس والسادس، وسبب

_ 1 سورة الشورى آية: 21. 2 سورة الجاثية آية: 18. 3 مسلم: الجمعة (867) , والنسائي: صلاة العيدين (1578) , وابن ماجه: المقدمة (45) , وأحمد (3/ 310 ,3/ 319 ,3/ 371) , والدارمي: المقدمة (206).

إحداثه رؤيا رآها بعض ملوك مصر على ما ذكره بعض المؤرخين. وقد أنكره بعض الأئمة وقالوا: هو بدعة لم يفعله -صلى الله عليه وسلم- مع التمكن من فعله، ولم يفعله أحد من أئمة الهدى بعده، ولا غيرهم من أهل القرون المفضلة؛ وقد أمرنا بالاتباع، ونهينا عن الابتداع. قال ابن مسعود: اتبعوا ولا تبتدعوا، ومن كان منكم مستنا فعليه بأصحاب محمد، أبر هذه الأمة قلوبًا، وأعمقها علما، وأقلها تكلفا. قوم اختارهم الله لصحبة نبيه، والقيام بدينه؛ فاعرفوا لهم حقهم، وتمسكوا بما استطعتم من أخلاقهم. أو كما قال وقد تقدم من الآيات والأحاديث ما يدل لقوله ويشهد له. وكتب قدماء أهل المذاهب الأربعة وجمهور متأخريهم ليس فيها استحباب هذا ولا الأمر به، بل فيها ما يدل على منعه؛ وأن الواجب هو ما شرعه الله ورسوله. قالوا: وأما الصلاة والسلام عليه سرا بعد الأذان، وسؤال الله له الوسيلة والفضيلة، فهذا مشروع قد ورد به الخبر، وصح به الأثر، وليس مع من خالفهم من الأدلة ما يجب المصير إليه. وإنما يعيب على من منع البدع واختار السنن أهل الجهالة والسفاهة: {وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ} 1. ثم إن هذا المفتري الصحاف أطلق لسانه بالمسبة، وأطال في ذلك: {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} 2 وقد قيل في المثل: وقال العلي أنا ذاهب إلى المغرب، فقالت الحماقة وأنا معك. [الخلاف في الهبة والعقد على اليتيمة] وقد ذكر في جوابه من الحشو والكلام الذي لا يقتضيه المقام ما يدل على قصوره وعجزه وعدم ممارسته لصناعة العلم، كما ذكر قضيته مع راشد بن عيسي في مسألة الهبة واختلافهما في لزومها، ومسألة العقد على

_ 1 سورة إبراهيم آية: 3. 2 سورة الشعراء آية: 227.

اليتيمة فلقد أبدى بذلك ما خفي من جهله، ورب كلمة تقول دعني. وكلامهم في الهبة ولزومها كلام غير محقق، والناس مختلفون في الهبة ولزومها هل هو بالعقد فقط أو لا بد من القبض؟ وعن بعضهم ما يقتضي التفرقة بين المكيل والموزون وغيرهما. واختلف الناس أيضا هل تبطل بالموت قبل القبض أو لا. واختلف القائلون باشتراط القبض هل يشترط فيما وهبه لزوجته أو لا يشترط؟ وأدلة هذه الأقوال ومآخذها والرد على المخالف مبسوط في المطولات ولا غرض لنا في ذكره، وإنما قصدنا أن حكم هذا الصحاف على أحد الأقوال بالصحة مع قصوره عن معرفتها، ومعرفة أدلتها والتزامه التقليد - حكم باطل لا يجوز، وما للأعمى ونقد الدراهم؟ وحكمه على الذي أفتى بخلاف قوله بأنه ضال عن سبيل الرشاد، حكم باطل أوجبه ما بينهما من التنافس والعناد، ومثل هذه المسائل الاجتهادية لا يجوز لأحد أن ينكر فيها على خصمه بمجرد التقليد وحكاية فروع المذهب، بل لا بد من الدليل على ذلك من كتاب أو سنة أو إجماع أو قياس صحيح. ومن كلام شيخ الإسلام: من ترك الدليل، ضل السبيل. [عدم جواز التقليد في الأحكام إلا بدليل] وجميع ما ذكره إنما هو مجرد نقل لأقوال بعض المالكية كالشيخ خليل وعبد الباقي وابن عرفة وأمثالهم، وتقليد هؤلاء إنما يسوغ عند الضرورة، والمقلد لهم أو لغيرهم ليس من أهل العلم بالإجماع كما حكاه ابن عبد البر إمام المالكية عمن يحفظ قوله من أهل العلم، فكيف والحال هذه يحكم هذا الجاهل الذي ليس هو من أهل العلم عند أئمة مذهبه وغيرهم بصحة جوابه وفساد قول خصمه وضلاله؟ وهل يعلم هذا إلا بالنص من كلام الله أو كلام رسوله أو إجماع الأمة؟ فما للمقلد والحكم

بالصحة والصواب، وقد جهل نصوص السنة والكتاب؟ ومن تشبع بما لم يعط فهو كلابس ثوبي زور 1. وقوله: فلا شك أن الطاعن في أهل القسم من أهل النار بعيد عن الهدى، وأنه لا يفلح أبدا في الدنيا خاسر أي خاسر، وفي الآخرة إلى النار صائر، إلى آخر عبارته. فهذا الكلام لا يصدر من عاقل يعرف ما خرج من بين شفتيه نعوذ بالله من الجهل المردي، والهوى المعمي، وهذه المسبة والحكم على المخالف في هذه المسألة بالنار، مما تقشعر منه جلود الذين آمنوا وما أشبهها بأخلاق أهل المجون، وأصحاب الوقاحة والجنون، وكان ينبغي لنا أن نعد هذه الفتوى من جملة هذيان الضالين، وأن نكف القلم عن إجابة هذا النوع من المفترين، ولكن الضرورة اقتضت، فلا إله إلا الله، بما أشد غربة الدين، وما أقل العارفين له والمميزين، كيف يقر مثل هذا بين ظهراني من له عقل يميز به الخبيث من الطيب، ويفرق به بين الآجن والصيب. وأصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لم يكفروا من كفرهم من الخوارج الحرورية، وقد سئل علي رضي الله عنه فقيل له: أكفارٌ هم؟ فقال: من الكفر فروا. وفي الحديث: "أن رجلا فيمن قبلنا رأى من يعمل بالمعاصي فاستعظم ذلك وقال: والله لن يغفر الله لفلان، فقال الله: من ذا الذي يتألى علي أن لا أغفر لفلان، إني قد غفرت له". [الكفر المنافي لكلمة التوحيد] وأما قوله: ومن تسمى بالإسلام، وأحب محمدًا سيد الأنام، وأحب أصحابه الكرام، واتبع العلماء الأعلام، لا يكفر أحدا من سائر المسلمين، فضلا عن هداتهم في الدين، اللهم إلا أن يكون من الغلاة الذين أسقطوا حرمة (لا إله إلا الله) وسوَّل لهم الشيطان وأملى لهم حيث استباحوا دماء المسلمين ... إلى آخر رسالته.

_ 1 فيه تضمين "المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور" متفق عليه.

فيقال في جوابه: هذا الجاهل يظن أن من أشرك بالله واتخذ معه الأنداد والآلهة ودعاهم مع الله لتفريج الكربات، وإغاثة اللهفات، يحكم عليه والحال هذه بأنه من المسلمين، لأنه يتلفظ بالشهادتين، ومناقضتهما لا تضره، ولا توجب عنده كفره؛ فمن كفره فهو من الغلاة الذين أسقطوا حرمة (لا إله إلا الله)؛ وهذا القول مخالف لكتاب الله وسنة رسوله وإجماع الأمة. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: من جعل بينه وبين الله وسائط يدعوهم ويسألهم ويتوكل عليهم كفر إجماعا. انتهى 1. ومجرد التلفظ من غير التزام لما دلت عليه كلمة الشهادة لا يجدي شيئا، والمنافقون يقولونها وهم في الدرك الأسفل من النار. نعم، إذا قالها المشرك ولم يتبين منه ما يخالفها فهو ممن يكف عنه بمجرد القول ويحكم بإسلامه، وأما إذا تبين منه وتكرر عدم التزام ما دلت عليه من الإيمان بالله وتوحيده والكفر بما يعبد من دونه، فهذا لا يحكم له بالإسلام ولا كرامة له؛ ونصوص

_ 1 تنبيه: أن شيخ الإسلام أحمد تقي الدين بن تيمية كان أكبر وأعلم دعاة التوحيد والإصلاح الديني في القرون الوسطى بعد فشو الجهل وانتشار الشرك في العبادة، وهو قد بلغ درجة الاجتهاد المطلق، ولكن المقلدين انتقدوا عليه بعض المسائل والاختيارات ولكن لم ينتقد عليه أحد ما كتبه في هذه المسألة ولم ينازعه أحد في أنها إجماعية. وكان أعظم المجددين لدعوة التوحيد الخالص عقب موته تلميذه المحقق ابن القيم، وقد شرح ذلك في عدة من مصنفاته ولم ينتقد عليه أحد. ثم جاء الشيخ محمد عبد الوهاب المجدد في القرن الثاني عشر فاقتفى أثر الشيخين ولم يخرج عما قرراه في كتبهما في هذا الركن الأعظم للإسلام، وتلاه في ذلك أولاده وأحفاده ومن اهتدى بدعوته من علماء نجد. وإنما أنكر هذا الصحاف وغيره عليهم لأن غربة الإسلام والجهل به قد وصلا إلى أسفل الدركات، ولم يكونا كذلك في عهد الشيخين وما بعد عدة قرون. وكتبه محمد رشيد رضا.

الكتاب والسنة وإجماع الأمة يدل على هذا. فمن تسمى بالإسلام حقيقة وأحب محمدًا واقتدى به في الطريقة، وأحب أصحابه الكرام ومن تبعهم من علماء الشريعة، يجزم ولا يتوقف بكفر من سوَّى بالله غيره ودعا معه سواه من الأنداد والآلهة؛ ولكن هذا الصحاف يغلط في مسمى الإسلام ولا يعرف حقيقته، وكلامه يحتمل أنه قصد الخوارج الذين يكفرون بما دون الشرك من الذنوب، وحينئذ يكون له وجه، ولكنه احتمال بعيد والظاهر الأول. [كلمة التوحيد وحدها لا تعصم المسلم] وقد ابتلي بهذه الشبهة وضل بها كثير من الناس، وظنوا أن مجرد التكلم بالشهادتين مانع من الكفر، وقد قال تعالى: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} 1، فكفّره بدعاء غيره تعالى، وقال تعالى: {وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ} 2، وقال تعالى: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ} 3 فالتكفير بدعاء غير الله هو نص كتاب الله. وفي الحديث: "من مات وهو يدعو لله ندًا، دخل النار"4، وفي الحديث أيضا أن رسول -صلى الله عليه وسلم- قال: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دمائهم وأموالهم، إلا بحقها"5، وفي رواية "إلا بحق الإسلام"6 وأعظم حق الإسلام وأصله الأصيل هو: عبادة الله، وحده والكفر بما يعبد من دونه؛ وهذا هو الذي دلت عليه كلمة الإخلاص. فمن قالها وعبد غير الله أو استكبر عن عبادة الله فهو مكذب لنفسه شاهد عليها بالكفر والإشراك. وقد عقد كل طائفة من أتباع الأئمة في كتب الفقه بابا مستقلا في حكم

_ 1 سورة المؤمنون آية: 117. 2 سورة يونس آية: 106. 3 سورة الرعد آية: 14. 4 البخاري: تفسير القرآن (4497) , ومسلم: الإيمان (92) , وأحمد (1/ 374 ,1/ 402 ,1/ 407 ,1/ 443 ,1/ 462 ,1/ 464). 5 الترمذي: تفسير القرآن (3341) , وأحمد (3/ 295 ,3/ 300 ,3/ 332 ,3/ 394). 6 البخاري: الإيمان (25) , ومسلم: الإيمان (22).

المرتد، وذكروا أشياء كثيرة يكفر بها الإنسان ولو كان يشهد أن لا إله إلا الله. وقد قال تعالى في النفر الذين قالوا في غزوة تبوك بعض القول الذي فيه ذم لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومن معه من أصحابه: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} 1، فكفرهم بعد إيمانهم بالاستهزاء ولو كان على وجه المزح واللعب، ولم يمنع ذلك قولهم: لا إله إلا الله 2. وكذلك إجماع الأمة على كفر من صدق مسيلمة الكذاب، ولو شهد أن لا إله إلا الله. وقد كفر الصحابة أهل مسجد بالكوفة بكلمة ذكرت عنهم في احتمال مسيلمة، ولم يلتفت أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى أنهم يشهدون أن لا إله إلا الله، لأنه قد وجد ما ينافيها ويناقضها: {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُور} 3. وبالجملة فالذي يقوم بحرمة لا إله إلا الله هم الذين جاهدوا الناس عليها، ودعوهم إلى التزامها علما وعملا كما هي طريقة رسل الله وأنبيائه ومن تبعهم بإحسان كشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى، وأما من أباح الشرك بالله وعبادة غيره وتولى المشركين وذب عنهم، وعادى الموحدين وتبرأ منهم، فهو الذي أسقط حرمة لا إله إلا الله ولم يعظمها ولا قام بحقها. ولو زعم أنه من أهلها القائمين بحرمتها. [الشيخ يلتزم في التكفير الدليل والإجماع] وأما ما ساقه هذا الصحاف من كلام شيخه (حسين الدوسري)، فالخصم يعارضه ويمنعه، وما ذكره ليس بحمد الله تعالى من أوصاف أهل التوحيد،

_ 1 سورة التوبة آية: 65. 2 أي ولا الصلاة والجهاد مع الرسول -صلى الله عليه وسلم-. 3 سورة النور آية: 40.

ولكنه وصف أهل الشرك والتنديد، والذي أنكر الطاعة، وعصى ربه في كل ساعة، واتبع هوى نفسه الخداعة، وشذ عن السنة وفارق الجماعة، ووافق الشبهة وأهل الإضاعة، هو من كانت طريقته عبادة غير الله، والاستعانة بغير مولاه، وصرف الوجه لغير من خلقه وسواه، والتعبد بغير الذي شرعه الله، على لسان عبده الذي اصطفاه من أهل التعطيل والتضليل، والإلحاد والتمثيل، الذين اختلفوا في الكتاب، وخالفوا الكتاب، وضلوا عن الصواب. وأما قول الصحاف نقلا عن شيخه الدوسري: أما كفروا العلماء؟ أما سفكوا الدماء، أما استحلوا المحرمات؟ أما روعوا المسلمين والمسلمات؟ أما أسخطوا رب السماوات، أما رجفوا أهل الحرم، أما تجاسروا على حجرة من صلى الله عليه وسلم؟ فلا أفلح من ظلم. فالجواب عن هذا أن يقال: كل عاقل يعرف سيرة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله يعلم أنه من أعظم الناس إجلالا للعلم والعلماء، ومن أشد الناس نهيا عن تكفيرهم وتنقصهم وأذيتهم، بل هو ممن يدين بتوقيرهم وإكرامهم والذب عنهم، والأمر بسلوك سبيلهم، عملا بقوله تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} 1 الآية، وبقوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالأِيمَانِ} 2 الآية، وبقوله تعالى: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} 3. فالإيمان والتقوى هما أصل العلم بالله وبدينه وشرعه، فكيف يظن بمسلم فضلا عن شيخ الإسلام أنه يكفر العلماء؟: {سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} 4. والشيخ رحمه الله لم يكفر إلا من كفره الله ورسوله، وأجمعت الأمة على كفره، كمن اتخذ الآلهة والأنداد لرب العالمين، ولم يلتزم ما جاءت به الرسل

_ 1 سورة التوبة آية: 71. 2 سورة الحشر آية: 10. 3 سورة يونس آية: 62. 4 سورة النور آية: 16.

من الإسلام والدين، أو جحد ما نطق به الكتاب المبين، من صفات الكمال، ونعوت الجلال، لرب العالمين. وكذلك من نصب نفسه لنصرة الشرك والمشركين، وزعم أنه توسل بالأنبياء والصالحين، وأنه مما يسوغ في الشرع والدين، فالشيخ وغيره من جميع المسلمين، يعلمون أن هذا من أعظم الكفر وأفحشه، ولكن هذا الجاهل يظن أن من زعم أنه يعرف شيئا من أحكام الفروع وتسمى بالعلم وانتسب إليه يصير بذلك من العلماء، ولو فعل ما فعل، ولم يدر هذا الجاهل أن الله كفر علماء أهل الكتاب والتوراة والإنجيل بأيديهم، وكفرهم رسوله لما أبوا أن يؤمنوا بما جاء به محمد -صلى الله عليه وسلم- من الهدى ودين الحق. ولا ضير على الشيخ بمسبة هؤلاء الجهال وله أسوة بمن مضى من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومن بعدهم من أهل الإيمان والاهتداء. قال الشافعي -رحمه الله-: ما أرى الناس ابتلوا بسب أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلا ليزيدهم الله بذلك ثوابا عند انقطاع أعمالهم. وما أحسن ما قيل شعرًا: قدمت لله ما قدمت من عمل ... وما عليك بهم ذموك أو شكروا عليك في البحث أن تبدي غوامضه ... وما عليك إذا لم تفهم البقر وقد اعترضت اليهود والنصارى على عبد الله ورسوله بالقتال وسفك الدماء وسبي الذرية وقالوا: إنما يفعل هذا الملوك المسلطون، وحكاياتهم في ذلك معروفة مشهورة عند أهل العلم، ويكفي في ذلك قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ} 1 الآية. [رد شبهة الإرجاف في الحرم] وأما قوله: أما رجفوا أهل الحرم؟ فلا يخفى أن الذي جرى في الحرمين من أتباع الشيخ محمد بن عبد الوهاب هو هدم القباب التي أسست على

_ 1 سورة النساء آية: 51.

معصية الله ورسوله وصارت من أعظم وسائل الشرك وذرائعه، وكسروا آلات التنباك وسائر المسكرات، وألزموا الناس المحافظة على الصلوات في الجماعات، ونهوا عن لبس الحرير، وألزموهم بتعلم أصول الدين، والالتفات إلى ما في الكتاب والسنة من أدلة التوحيد وبراهينه، وقرروا الكتب المصنفة في عقائد السلف أهل السنة والجماعة في باب معرفة الله بصفات كماله، ونعوت جلاله، وقرروا إثبات ذلك من غير تحريف ولا تعطيل، ولا تشبيه ولا تمثيل، وأنكروا على من قال بقول الجهمية في ذلك وبدعوه وفسقوه، فإن كان هذا إرجافا للحرم فحبذا هو! وما أحسن ما قيل: وعيرني الواشون أني أحبها ... وتلك شكاة ظاهر عنك عارها وقد أمر الله تعالى من خاض في مثل هذا إن يتكلم بعلم وعدل كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ} 1 الآية. وهذا الرجل كلامه جهل محض وجور ظاهر، وأصله الذي يرجع إليه هو الانتصار للنفس والهوى، لا لنصر الحق والهدى. [الوهابيون والمال الذي أخذوه من الحجرة النبوية] وأما التجاسر على حجرة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فكأنه يشير به إلى المال الذي استخرجه الأمير سعود من الحجرة الشريفة وصرفه في أهل المدينة ومصالح الحرم، وهو رحمه الله لم يفعل هذا إلا بعد أن أفتاه علماء المدينة من الحنفية والمالكية والشافعية والحنبلية، فاتفقت فتواهم على أنه يتعين ويجب على ولي الأمر إخراج المال الذي في الحجرة وصرفه في حاجة أهل المدينة وجيران الحرم، لأن المعلوم السلطاني قد منع في تلك السنة، واشتدت الحاجة والضرورة إلى استخراج هذا المال وإنفاقه، ولا حاجة لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى إبقائه في حجرته وكنزه لديه، وقد حرم كنز الذهب والفضة

_ 1 سورة النساء آية: 135.

وأمر بالإنفاق في سبيل الله، لا سيما إذا كان المكنوز مستحقا لفقراء المسلمين وذوي الحاجة منهم كالذي بأيدي الملوك والسلاطين؛ فلا شك أن استخراجها على هذا الوجه وصرفها في مصارفها الشرعية أحب إلى الله ورسوله من إبقائها واكتنازها. وأي فائدة في إبقائها عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأهل المدينة في أشد الحاجة والضرورة إليها؟ وتعظيم الرسول وتوقيره إنما هو في اتباع أمره، والتزام دينه وهديه، فإن كان عند من أنكر علينا دليل شرعي يقتضي تحريم صرفها في مصالح المسلمين فليذكره لنا. ولم يضع هذا المال أحد من علماء الدين الذين يرجع إليهم، وليس عند هؤلاء إلا اتباع عادة أسلافهم ومشايخهم. يعرف هذا من ناظرهم ومارسهم، ودعواهم عريضة وعجزهم ظاهر. وقد أطال هذا الصحاف فيما نقله عن شيخه حسين الدوسري وأكثر فيه من النصيحة، ولا بأس بالنصائح لمن أراد الحق وتوخاه، ونهى عما يسخطه الرب ولا يرضاه، ولم يلحد في أسمائه ولم يعبد سواه، فهذا هو الصادق في نصحه وقوله الذي أبداه، بخلاف من توهم الأمر على خلاف ما هو عليه، ولبس الحق بالباطل لديه، واعتقد أن المجاهد لإعلاء كلمة الله يشار بالذم إليه، فعمل مثل هذا: {سَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ * أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ، ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ، إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا. وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} 1. نسأل الله تعالى أن يمن علينا بالهداية إلى صراطه المستقيم، والفوز لديه بجنات النعيم.

_ 1 سورة النور آية: 39.

ذيل لهذه المجموعة في فتويين للشيخ رحمه الله تعالى وجدتا في أثنائها

أملاه الفقير إلى الله عبد اللطيف بن الشيخ عبد الرحمن بن حسن بن شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله تعالى وعفا عنه. وقع الفراغ من نسخه منها نهار الثلاثاء من ربيع الآخر وذلك في سنة 1338 بقلم الفقير إلى الله عز شأنه صالح بن سليمان بن سحمان، غفر الله له ولوالديه وللمسلمين، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرًا. آمين. {ذيل لهذه المجموعة في فتويين للشيخ رحمه الله تعالى وجدتا في أثنائها} (1) (سؤال عن بيع عقار الميت لوفاء دينه) قال السائل بعد رسوم الخطاب والسلام المشروع: ما قولكم في بيع عقار الميت لوفاء دينه إذا خيف عليه التلف؟ وهل للمسغبة تأثير في البيع وتركه؟ وهل يجوز للحاكم منع الغرماء عن استيفاء الدين حتى تزول المسغبة وتعود الرغبة أم لا؟ أفتونا مأجورين أثابكم الله الجنة. أجاب رحمه الله فقال: عليكم السلام ورحمة الله وبركاته: بيع العقار إذا خيف عليه التلف خير وأولى من تلفه، والمسغبة لا تأثير لها في البيع وتركه. وعبارة بعضهم: إذا كسد العقار كسادًا ينقصه عن مقاربة ثمن المثل ويضر بالمالك فلا يباع حتى تعود الرغبة، وعلى القول به محله إذا أمن التلف ولم يرج زوال الرغبة مع حياة المدين، وأما مع موته فلا حق للورثة إلا فيما أبقته الديون والوصايا، وليس للحاكم منعهم من استيفاء الدين والحالة هذه. والله أعلم. قاله كاتبه عبد اللطيف بن عبد الرحمن، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

2 - سؤال عن تركة ميت قسم ماله بين أولاده وأوصى لصغارهم

(2) (سؤال عن تركة ميت قسم ماله بين أولاده وأوصى لصغارهم) سئل قدس الله روحه ونور ضريحه عن قسمة الوالد ماله بين ورثته قبل موته، هل هي قسمة شرعية أو لا؟ وكذلك ما أوصى به لأولاده الصغار القاصرين على سبيل التعديل بينهم وبين الراشدين، قال السائل: بسم الله الرحمن الرحيم ماقول علماء الإسلام، أدام الله نفعهم للأنام، في رجل مات وقبل موته حرر له وصية وعين له وصيًا على ما خلف وعلى القاصرين من أولاده، وأوصى أن الذي يخص القاصرين من أولاده يبقى بيد فلان -رجل معين- على نظر الوصي. وسلم قبل مماته بعضًا من (أريل) بيد هذا الرجل المعين المذكور أعلاه. هذا والوكيل الذي هو الوصي ليس بحاضر، فلما حضر أخذ في جمع المال وقبض ما هنا لك من المال، ودفع بيد الرجل المذكور أعلاه شطرًا من المقبوض، وكتب الوصي عليه ورقة قبض ما استلما من يده بنظره. وبعد ذلك اختلف الحال ووقع على الوصي جبر من الحاكم وأخذ المال من يده ومن عند غيره، ولم يبق من المال، يعني من بعد المدفوع لذلك الرجل المذكور أعلاه، إلا شيء يسير لم يعلمه الحاكم. والمال الذي بيد الإنسان المعين حيث إنه بعيد عنه لم يتمكن من أخذ المال منه لكونه بعيدًا عنه، وليس من أهل حكومته. ثم بعد مضي بضع من السنين مات الحاكم المجبر، ورجع الوصي على وكالته الأصلية، ومراد الوصي الآن يعمل العمل الذي تخلص به ذمته ولم يكن على أحد من الورثة حيف ولا ضرر، ويخرج الثلث الموصى به فهل يجمع ما تحصل من المال الموروث قليلا كان أو كثيرًا ويضيفه إلى المال الغائب عند الرجل المذكور أعلاه، وتقع المقاسمة حينئذ على الوجه

المشروع من إخراج الثلث وما بعده على جملة الورثة المكلف منهم والقاصر، قسمة مبتدأة كأن الميت مات الآن، بناء على أن التركة ما قسمت أبدا، ولأن الجبر الصادر من الحاكم قبل القسم؟ أو أن التالف من نصيب الراشدين والثلث؟ وإن كان عليهم ضرر ظاهر وحيف في القسمة، والسالم هناك من نصيب القاصرين كما أراد الوصي أو لا ظانا سلامة ماله كله، وأنه لا يقع حيف ولا جور، فهل له إفراز سهم القاصرين خاصة في حياته قبل مماته، ويعتبر ذلك بحيث لا مشاركة للورثة لهم وإن تلف المال قبل المقاسمة كما وقع أو لا؟ فأي الوجهين الموافق للحق ليعمل به الوصي وتبرأ ذمته؟ أفتونا مأجورين فإن الحاجة داعية إليه، والوصي متحير، وكل ذي حق من الورثة يطالب بحقه، لازلتم أهلا لكل فضيلة. فأجاب رحمه الله بما نصه: الحمد لله وحده. قسمة الوالد قبل موته ماله بين ورثته قسمة غير لازمة لوقوعها قبل انتقال المال واستحقاقهم له إرثًا، وقسمة الولي الشرعي وتعيينه ما بيد الرجل المودع للصغار القاصرين قبل تلف ما بيده قسمة شرعية تثبت بالإفراز والتعيين، فما تلف بعدها فهو مختص لمستحقه من القسمة الصادرة من الولي وتعيين حصة الصغار فقط قسمة شرعية، وإن تلف الباقي قبل قسمته بين الثلث والكبار الراشدين، والحيف والإضرار يعتبر حال القسمة ويرجع إلى العدل والتسوية. وأما بالنظر للتلف أو الكساد الحادث بعد القسمة فلا حيف ولا ضرر في الإفراز والقسمة والحالة هذه. أملاه الفقير إلى رحمة ربه عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن. {تمت المجموعة مع ذيلها ولله الحمد}

كلمة في هذه المجموعة

كلمة في هذه المجموعة {وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} يظهر لقارئ هذه الرسائل أن صاحبها العلامة الشيخ عبد اللطيف لم يكن هو الجامع لها، إذ لو جمعها هو لجمع معها المكتوبات والأسئلة التي أجاب بها عنها، وإنما جمعها بهذا الترتيب الأستاذ المعاصر صاحب المصنفات العديدة الشيخ سليمان بن سحمان أثابه الله تعالى، وهو رجل ضرير لم ينسخ منها شيئًا بيده ولم ينظر ما كتب غيره، وإنما كان يؤتى بالرسالة منها تامة أو ناقصة فيضع له مقدمة في موضوعها والثناء عليها يمليها على كاتب نجدي فينسخها، ولذلك وقع فيها أغلاط أكثرها من قبل الصرف والرسم صححنا منها ما أيقنا أنه من خطأ النسخ ولو ظفر بالمكتوبات التي هي أجوبة عنها لجمعها معها لأن فهمها التام يتوقف عليها، والظاهر أنه لم يعرف تاريخ كتابة كل منها ولو عرف ذلك وبينه لكان مفيدًا. ثم إنه لم يعن بترتيبها بحسب موضوعاتها كجعل الرسائل الخاصة بالتوحيد والاتباع وما ينافيهما من الشرك والابتداع متناسقة في باب، والرسائل والفتاوى في الفروع متناسبة في باب آخر، والرسائل المتعلقة بالفتنة والشقاق الذي وقع بين آل سعود بسبب التنازع على الإمارة متتابعة في باب ثالث - لكانت الفائدة أتم، ولا سيما لو كتب لهذا الباب مقدمة تاريخية لخص بها حوادث تلك الفتنة وانتهاز الترك لها للتدخل في شؤون نجد من باب مساعدة أحد الأميرين على الآخر - ولعله يؤلف لنا رسالة خاصة في ذلك يشرح فيها المفاسد التي حدثت من قبل الترك وأهل البدع والقبائل الهمجية التي سخروها لمساعدتهم، فكانت هي السبب لما ألم به الشيخ

من الطعن فيهم، ليعلم الناس كافة أي الفريقين كان المعتدي وأيهما السابق للطعن في دين الآخر، ويعلمون مع ذلك أيهما المعتصم بكتاب الله، والمستمسك بعروة سنة رسوله والوثقى. حال بلاد نجد في عهد كتابة هذه الرسائل المؤثرة في نفس الكاتب لها: إن معنى السنة الذي كان يقصده السلف الصالح ويفهمونه من قوله صلى الله عليه وسلم: ((فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي)) هو السيرة العملية التي كان عليها الرسول -بأبي هو وأمي- ثم كان عليها خلفاؤه الراشدون من بعده (رضي الله عنهم) وهذا المعنى هو الذي أراده الخليفة الرابع بقوله لعبد الله بن عباس (رضي الله عنهم) حين أرسله إلى محاجة الخوارج: احملهم على السنة فإن القرآن ذو وجوه. وكما أن القرآن ذو وجوه باحتمال ألفاظه للتأويلات المختلفة فالأحاديث النبوية القولية كذلك، دون السنن العملية. ولا نعرف في تاريخ الإسلام شعبًا دخل في جميع الأطوار التي دخل فيها الإسلام في نشأته الأولى غربة وجهادًا وهجرة وحجاجًا غير هذا الشعب النجدي، فقد ظهر الشيخ محمد بن عبد الوهاب في وقت كان حال أهله شرًّا من حال المشركين وأهل الكتاب في زمن البعثة، من شرك وخرافات، وبدع وضلالات، وجهالة غالبة، فدعا إلى عبادة الله وحده والرجوع إلى أصل الإسلام الذي كان عليه النبي (صلى الله عليه وسلم) وأصحابه (رضي الله عنهم) فعاداه في بلاده الأكثرون، ووالاه فيها الأقلون، فنصر الله تعالى أولياءه من أمراء آل سعود وأتباعهم على أعدائهم، ثم تصدى لعداوتهم الترك وأعوانهم، فكانت الحرب سجالًا بينهم، وعاقب الله السعوديين زمنًا ما بما كان من تخاذل بينهم، وتقصير في إقامة بعض سنن الله في دولتهم، ثم كانت العاقبة الحسنى لهم، عندما

تابوا من ذنبهم، ورجعوا إلى وحدتهم، واعتبروا بقول الله تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} وقوله في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما ظهر عليهم المشركون في غزوة أحد: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا؟ قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} وقوله تعالى: {وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ}. امتحن الله النجديين بتصدي الترك لعداوتهم، وتأليب العرب وشرفاء الحجاز والمصريين عليهم، لئلا يعيدوا ملك العرب وسلطانهم الذي سلبوه منهم، فحاربوهم باسم الإسلام، ونشروا الكتب والفتاوي في رميهم بالكفر والابتداع، وقد اغتر كثيرون بما فعلوه باسم الإسلام وشايعهم عليه أفراد وجماعات هم دون الخوارج الذين خرجوا على الإمام الحق أمير المؤمنين الخليفة الرابع للرسول (صلى الله عليه وسلم) وكفروه أو تبرءوا منه، ودون الذين بغوا عليه وحاربوه مع معاوية: نعم هم دونهم علمًا بالدين وعملًا به، بل كفرهم وقاتلهم أخلاط منهم المسلم والكافر، والزنديق والمنافق، وعسكر لا يقيم الصلاة ولا يؤدي الزكاة ولا يحرم ما حرم الله ورسوله من الخمر والزنا واللواط وأكل أموال الناس بالباطل والقتال لطاعة الرؤساء ولو في معصية الله تعالى. بهذا كله كان علماؤهم وأمراؤهم في حال تشبه حال مسلمي الصدر الأول في مقاومة المشركين الذين يدعون غير الله ويجعلون لله أندادًا كالذين جاهدهم النبي (صلى الله عليه وسلم)، وفي مقارعة تاركي الصلاة ومانعي الزكاة كالذين قاتلهم أبو بكر الخليفة الأول (رضي الله عنه)، وفي مجالدة البغاة المعتدين كالذين قاتلهم الخليفة الرابع علي (رضي الله عنه)، وفي مجادلة المبتدعين من الروافض والجهمية كالذين ناضلهم الإمام أحمد وإخوانه أئمة السنة بالحجة - فأعادوا نشأة الإسلام

العملية سيرتها الأولى في الصدر الأول من ولاية وبراءة وهجرة وجهاد بالسيف والسنان، وبالحجة والبرهان، على حين صارت النصوص الخاصة بهذه الأحوال منسية أو كالمنسية عند غيرهم من شعوب الإسلام ودوله، لا يتعلق بها عمل من الأعمال ولا حكم من الأحكام. واتفق في زمن العلامة الشيخ عبد اللطيف أن وقعت فتنة وشقاق في شأن الإمارة بين أميرين من آل سعود لكل منهما أنصار، وتطلع في عهده ما كان قد قبع من رءوس شياطين النفاق، فبمجموع هذه الحوادث يُعلم الشعور الذي كان غالبًا عليه أثناء كتابة رسائله هذه، فإن كان قد أقام الحجج على وجوب معاداة العساكر التي أرسلتها الدولة لإبطال دعوة التوحيد والتجديد التي قام بها جده الأعلى وأيدها جده الأدنى وأبوه وأعمامه وسائر علماء نجد وأمرائها، ووجوب البراءة منهم ومجاهدتهم والهجرة من ديارهم، وتحريم موالاتهم ومساكنتهم ومساكنة أنصارهم، فما ذاك بجهاد هجوم ولكنه جهاد دفاع، وما هو إلا الاتباع يجاهد الابتداع، على أنه فرق في عدة من رسائله بين معاملة المشركين المحاربين للمسلمين، والمعادين لهم في الدين، وبين غيرهم، وبين البلاد التي يفتن فيها المسلم الموحد ويهان الدين والسنة، من حيث يعظم الكفر والبدعة، ولا يستطيع المؤمن أن يقيم فيها دينه - والبلاد التي ليست كذلك، وقد حقق هذه المسائل بما لم يحققها غيره، فقيد ما أطلقه بعض علمائهم من هذه المسائل ووضع كل حكم في موضعه، وقد وضعت بعض التعليقات على ما اشتبه على بعض مصححي المطبعة من كلامه للعلم بأنه قد يشتبه على أمثاله، وما العصمة إلا لكتاب الله وبلاغ رسوله صلى الله عليه وسلم. كتبه محمد رشيد رضا

الجزء الرابع

كتاب الجواهر المضية لمجدد الدعوة النجدية شيخ الإسلام، علم الهداة الأعلام، الشيخ محمد عبد الوهاب أجزل الله له الأجر والثواب، وأدخله الجنة بغير حساب وفيه بيان عقيدته وما دعا إليه، ويليه بضع رسائل له في بيان حقيقة التوحيد وكلمته، والشرك الجلي والخفي، والنفاق الاعتقادي والعملي من مطبوعات صاحب الجلالة السعودية، ومحيي السنة المحمدية الإمام عبد العزيز آل سعود ملك الحجاز ونجد وملحقاتها أيده الله تعالى {وهو وقف لله تعالى لا يباع ولا يشترى} الطبعة الأولى في سنة 1349 مطبعة المنار بمصر

عقيدة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى

الجواهر المضية، في بيان عقيدة أهل نجد السلفية ... {عقيدة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى} بسم الله الرحمن الرحيم من محمد بن عبد الوهاب إلى من يصل إليه من المسلمين. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: أخبركم أني، ولله الحمد، عقيدتي وديني الذي أدين الله به: مذهب أهل السنة والجماعة الذي عليه أئمة المسلمين، مثل الأئمة الأربعة وأتباعهم إلى يوم القيامة، لكني بَيَّنْتُ للناس إخلاصَ الدين ونهيتهم عن دعوة الأنبياء والأموات من الصالحين وغيرهم، وعن إشراكهم فيما يعبد الله به من: الذبح والنذر والتوكل والسجود، وغير ذلك مما هو حق الله الذي لا يشركه فيه ملك مقرب ولا نبي مرسَل، وهو الذي دعت إليه الرسل من أولهم إلى آخرهم، وهو الذي عليه أهل السنة والجماعة. وأنا صاحب منصب في قريتي، مسموع الكلمة، فأنكر هذا بعض الرؤساء؛ لكونه خالف عادة نشؤوا عليها. وأيضا ألزمتُ مَن تحت يدي بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وغير ذلك من فرائض الله. ونهيتهم عن الربا وشرب المسكر وأنواع من المنكرات، فلم يمكن الرؤساء القدح في هذا وعيبه؛ لكونه مُسْتَحْسَنًا عند العوام؛ فجعلوا قدحهم وعداوتهم فيما آمُرُ به من التوحيد، وما نهيتهم عنه من الشرك، ولَبَّسُوا على العوام أن هذا خلاف ما عليه الناس، وكبرتْ الفتنة جدا، وأجلبوا علينا بخيل الشيطان ورجله، فنقول: [توحيد الألوهية وما طرأ عليه من الشرك بدعاء غير الله] التوحيد نوعان توحيد الربوبية، وهو أن الله سبحانه- متفرد بالخلق والتدبير عن الملائكة والأنبياء وغيرهم، وهذا حق لا بد منه؛ لكن لا يُدْخِلُ الرجلَ في الإسلام، بل أكثر الناس مقرّون به، قال الله -تعالى-: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ} 1. وإن الذي يدخل

_ 1 سورة يونس آية: 31.

الرجلَ في الإسلام هو: توحيد الإلهية، وهو: أن لا يعبد إلا الله، لا ملكا مقربا ولا نبيا مرسلا. وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم بُعِثَ والجاهلية يعبدون أشياء مع الله: فمنهم من يعبد الأصنام، ومنهم من يدعو عيسى، ومنهم من يدعو الملائكة؛ فنهاهم عن هذا، وأخبرهم أن الله أرسله لِيُوَحَّدَ؛ ولا يُدْعَى أحدٌ لا الملائكة ولا الأنبياء، فمن اتبعه ووحد الله: فهو الذي شهد أن لا إله إلا الله، ومن عصاه ودعا عيسى أو الملائكة واستنصرهم، والتجأ إليهم فهو الذي جحد لا إله إلا الله مع إقراره أنه لا يخلق ولا يرزق إلا هو. وهذه جملة لها بسطٌ طويلٌ، ولكن الحاصل أن هذا مجمع عليه بين العلماء. فلما جرى في هذه الأمة ما أخبر به نبيها صلى الله عليه وسلم حيث قال: "لتتبعن سَنَن من كان قبلكم حذو القُذَّة بالقُذَّة، حتى لو دخلوا جُحْر ضَبٍّ لدخلتموه"1، وكان من قبلهم كما ذكر الله عنهم: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} 2 وصار ناس من الضالين يدعون أناسا من الصالحين في الشدة والرخاء مثل عبد القادر الجيلاني، وأحمد البدوي، وعدي بن مسافر، وأمثالهم من أهل العبادة والصلاح، صاح عليهم أهل العلم من جميع الطوائف أعني على الداعين. وأما الصالحون الذين يكرهون ذلك فحاشاهم، وبَيَّنَ أهل العلم في أمثال هذا أنه هو الشرك الأكبر وعبادة الأصنام، فإن الله سبحانه إنما أرسل الرسل وأنزل الكتب لِيُعْبَدَ وحدَهُ، ولا يدعى معه إله آخر. والذين يدعون مع الله آلهة أخرى، مثل: الشمس والقمر والصالحين، والتماثيل المصورة على صورهم لم يكونوا يعتقدون أنها تُنْزِلُ المطرَ أو تُنْبِتُ النباتَ، وإنما كانوا يعبدون الملائكة والصالحين، ويقولون: هؤلاء شفعاؤنا عند الله. فبعث الله الرسل وأنزل الكتب تَنْهَى عن أن يُدْعَى أحدٌ من دونه، لا دعاء عبادة ولا دعاء استغاثة. واعلم أن المشركين في زماننا قد زادوا على الكفار في زمن النبي صلى الله عليه وسلم

_ 1 البخاري: الاعتصام بالكتاب والسنة (7320) , وابن ماجه: الفتن (3994) , وأحمد (2/ 511). 2 سورة التوبة آية: 31.

بأنهم يدعون الملائكة والأولياء والصالحين، ويريدون شفاعتهم والتقرب إليهم، وإلا فهم مقرون بأن الأمر لله، فهم لا يدعونهم إلا في الرخاء، فإذا جاءت الشدائد أخلصوا لله. قال الله تعالى: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ} 1 الآية. [دعوة الرسل إلى توحيد الألوهية] واعلم أن التوحيد هو: إفراد الله سبحانه- بالعبادة، وهو دين الرسل الذي أرسلهم الله به إلى عباده. فأولهم نوح -عليه السلام- أرسله الله إلى قومه؛ لما غَلَوْا في الصالحين: وَدًّا وسوَاع ويَغوث ويعوق ونسرا. وآخرهم محمد صلى الله عليه وسلم وهو الذي كسَّر صورَ هؤلاء الصالحين، أرسله الله إلى أناس يتعبدون ويحجون ويتصدقون، ويذكرون الله كثيرا، ولكنهم يجعلون بعض المخلوقات وسائط بينهم وبين الله تعالى يقولون: نريد منهم التقرب إلى الله، ونريد شفاعتهم عنده، مثل: الملائكة وعيسى ومريم، وأناس غيرهم من الصالحين. فبعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم يجدد لهم دين أبيهم إبراهيم، ويخبرهم أن هذا التقرب والاعتقاد محضُ حق الله تعالى لا يصلح منه شيء لا لملك مقرب ولا لنبي مرسل، فضلا عن غيرهما، وإلا فهؤلاء المشركون يشهدون أن الله هو الخالق وحده لا شريك له، وأنه لا يخلق ولا يرزق إلا هو، ولا يحيي ولا يميت إلا هو، وأن جميع السماوات السبع ومن فيهن، والأرضين السبع ومن فيهن كلهم عبيده وتحت تصرفه وقهره. فإذا أردت الدليل على أن هؤلاء المشركين الذين قاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يشهدون بهذا، فاقرأ قوله تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ} 2. وقوله تعالى: {قُلْ لِمَنِ الأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ * قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ * قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ

_ 1 سورة الإسراء آية: 67. 2 سورة يونس آية: 31.

شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} 1. وغير ذلك من الآيات الدالات على تحقق أنهم يقرون بهذا كله، وأنه لم يدخلهم في التوحيد الذي دعاهم إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم. وعرفت 2 أن التوحيد الذي جحدوه، وهو توحيد العبادة الذي يسميه المشركون في زماننا الاعتقاد، كما كانوا يدعون الله -سبحانه وتعالى- ليلا ونهارا خوفا وطمعا. ثم منهم من يدعو الملائكة والأنبياء والصالحين لأجل صلاحهم وقربهم من الله عز وجل ليشفعوا لهم، ويدعو رجلا صالحا مثل اللات، أو نبيا مثل عيسى، وعرفت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قاتلهم على ذلك، ودعاهم إلى إخلاص العبادة لله كما قال تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} 3. وقال تعالى: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ} 4 الآية. وعرفت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قاتلهم ليكون الدين كله لله، والدعاء كله لله، والذبح كله لله، والنذر كله لله، والاستغاثة كلها بالله، وجميع أنواع العبادات كلها لله، وعرفت أن إقرارهم بتوحيد الربوبية لم يُدْخِلهم في الإسلام، وأن قصدهم الملائكة والأنبياء والأولياء يريدون شفاعتهم والتقرب لله بذلك هو الذي أحل دماءهم وأموالهم - عرفت 5 حينئذ التوحيد الذي دعت إليه الرسل وأبى عن الإقرار به المشركون. وهذا التوحيد هو معنى قولك: لا إله إلا الله، فإن الإله عندهم هو الذي يُقْصَد لأجل هذه الأمور سواء كان ملكا أو نبيا، أو وليا أو شجرة، أو قبرا أو جنيا، لم يريدوا أن الإله هو: الخالق الرازق المدبر، فإنهم يقرون أن ذلك لله

_ 1 سورة المؤمنون آية:84: 89. 2 قوله وعرفت - لم يتقدمه ما يصح عطفه عليه ولعل أصل الكلام: فإذا عرفت أن التوحيد إلخ وإلا كان هنالك شرط عطف هذا عليه، وسقط من الناسخ كان يكون: إذا عرفت ذلك. 3 سورة الجن آية: 18. 4 سورة الرعد آية: 14. 5 هذه الجملة جواب الشرط المذكور.

وحده، كما قدمت لك، وإنما يعنون بالإله: ما يعني المشركون في زماننا بلفظ السيد. فأتاهم النبي صلى الله عليه وسلم يدعوهم إلى كلمة التوحيد وهي: لا إله إلا الله. والمراد من هذه الكلمة: معناها لا مجرد لفظها، والكفار الجهال يعلمون أن مراد النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الكلمة هو: إفراد الله بالتعلق، والكفر بما يُعْبَد من دونه والبراءة منه، فإنه لما قال لهم قولوا: لا إله إلا الله، قالوا: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} 1. فإذا عرفت أن جهال الكفار يعرفون ذلك؛ فالعجب ممن يدعي الإسلام، وهو لا يعرف من معنى هذه الكلمة ما عرفه جهال الكفار، بل يظن أن ذلك هو التلفظ بحروفها من غير اعتقاد القلب بشيء من المعاني، والحاذق منهم يظن أن معناها: لا يخلق ولا يرزق، ولا يحيي ولا يميت، ولا يدبر الأمر إلا الله. فلا خير في رجل، جهال الكفار أعلم منه بمعنى لا إله إلا الله. [الشرك بدعاء الصالحين وغيرهم هو شرك عباد الأصنام] فإذا عرفت ما قلت لك معرفة قلب، وعرفت الشرك بالله الذي قال فيه: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ} 2 الآية، وعرفت دين الله الذي بعث به الرسل من أولهم إلى آخرهم الذي لا يقبل الله من أحد دينا سواه، وعرفت ما أصبح غالب الناس اليوم فيه من الجهل بهذا، أفادك فائدتين: الأولى: الفرح بفضل الله ورحمته، قال الله تعالى: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} 3. وأفادك أيضا الخوف العظيم، فإنك إذا عرفت أن الإنسان يكفر بكلمة يخرجها من لسانه، وقد يقولها وهو جاهل فلا يعذر بالجهل، وقد يقولها وهو يظن أنها تقربه إلى الله كما ظن المشركون، خصوصا إن ألهمك الله ما قص عن قوم موسى مع صلاحهم وعلمهم أنهم أتوه قائلين: {اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} 4، فحينئذ يعظم خوفك وحرصك على ما يخلصك من هذا وأمثاله. واعلم أن الله سبحانه- من حكمته لم يبعث نبيا بهذا التوحيد إلا جعل له أعداء كما قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الأِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي

_ 1 سورة ص آية: 5. 2 سورة النساء آية: 48. 3 سورة يونس آية: 58. 4 سورة الأعراف آية: 138.

بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا} 1. وقد يكون لأعداء التوحيد علوم كثيرة، وكتب وحجج كما قال تعالى: {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ} 2. فإذا عرفتَ ذلك، وعرفتَ أن الطريق إلى الله لا بد له من أعداء قاعدين عليه، أهل فصاحة وعلم وحجج كما قال تعالى: {وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} 3 الآية. فالواجب عليك أن تعلم مِن دين الله ما يصير لك سلاحا تقاتل به هؤلاء الشياطين الذين قال إمامهم ومُقَدَّمهم لربك عز وجل: {لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} 4 ولكن إن أقبلت على الله، وأصغيت إلى حجج الله وبيناته، فلا تخف ولا تحزن: {إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا} 5. والعامي من الموحدين يغلب الألف من علماء هؤلاء المشركين، كما قال تعالى: {وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} 6؛ فجنده هم الغالبون بالحجة واللسان، كما أنهم الغالبون بالسيف والسنان. وإنما الخوف على الموحد الذي يسلك الطريق وليس معه سلاح، وقد مَنَّ الله علينا بكتابه الذي جعله تِبْيَانًا لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين، فلا يأتي صاحب باطل بحجة إلا وفي القرآن ما ينقضها ويُبَيِّنُ بطلانها كما قال تعالى: {وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا} 7. قال بعض المفسرين: هذه الآية عامة في كل حجة يأتي بها أهل الباطل إلى يوم القيامة. [بيان من كفرهم إمام الوهابية ومن قاتلهم] والحاصل: أن كل ما ذكر عنا من الأسباب غير دعوة الناس إلى التوحيد والنهي عن الشرك، فكله من البهتان، وما أعجب ما جرى من الرؤساء المخالفين! ‍ فإني لما بينتُ لهم كلام الله، وما ذكر أهل التفسير في قوله تعالى: {ولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} 8 الآية، وقوله: {وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} 9، وقوله: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} 10، وما ذكر الله من إقرار الكفار في قوله: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ

_ 1 سورة الأنعام آية: 112. 2 سورة غافر آية: 83. 3 سورة الأعراف آية: 86. 4 سورة الأعراف آية: 16. 5 سورة النساء آية: 76. 6 سورة الصافات آية: 173. 7 سورة الفرقان آية: 33. 8 سورة الإسراء آية: 57. 9 سورة يونس آية: 18. 10 سورة الزمر آية: 3.

وَالأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ} 1 الآية. وغير ذلك، قالوا: لا يجوز العمل لنا ولا لمثلنا بكلام الله ولا بكلام الرسول، ولا بكلام المتقدمين، ولا نطيع إلا ما ذكره المتأخرون. ولما قلت لهم: أنا أخاصم الحنفي بكلام المتأخرين من الحنفية، والمالكي والشافعي والحنبلي؛ كُلٌّ أخاصمه بكتب المتأخرين من علمائهم الذين يعتمدون عليهم، فلما أبوا ذلك نقلت كلام العلماء من كل مذهب لأهله. وذكرتُ كل ما قالوا بعدما صُرِّحَتْ الدعوةُ عند القبور والنذر لها، فعرفوا ذلك وتحققوه؛ فلم يزدهم إلا نفورا. وأما التكفير: فإني أكفر مَنْ عرف دين الرسول، ثم بعد ما عرفه سَبَّهُ ونَهَى الناس عنه، وعادى مَنْ فعله، فهذا هو الذي أُكَفِّرُهُ، وأكثر الأمة -ولله الحمد- ليسوا كذلك. وأما القتال: فلم نقاتل أحدا إلى اليوم إلا دون النفس والحرمة، وهم الذين أَتَوْنَا في ديارنا ولا أبقوا ممكنا، ولكن قد نقاتل بعضهم على سبيل المقابلة، وجزاء سيئة سيئة مثلها. وكذلك مَنْ جَاهَرَ بسَبِّ دين الرسول بعد ما عرفه. فإن تبين لكم أن هذا هو الحق الذي لا ريب فيه؛ وأن الواجب إشاعته في الناس، وتعليمه النساء والرجال، فرحم الله من أدى الواجب عليه، وتاب إلى الله، وأقر على نفسه، فإن التائب من الذنب كمن لا ذنب له, ونسأل الله أن يهدينا وإياكم لما يحب ويرضى. والله أعلم.

_ 1 سورة يونس آية: 31.

رسالة في المسائل الخمس الواجب معرفتها

رسالة في المسائل الخمس الواجب معرفتها ... رسالته في المسائل الخمس (الواجبة معرفتها) وله أيضا -قدس الله روحه، ونور ضريحه- ما نصه: الواجب عليك أن تعرف خمس مسائل: [الإنذار عن الشرك بالله] (الأولى): أن الله لما أرسل محمدا صلى الله عليه وسلم بالهدى ودين الحق، كان أول كلمة أرسله الله بها قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} 1، ومعنى قوله: {فَأَنْذِرْ}: الإنذار عن الشرك بالله. وكانوا يجعلونه دينا يتقربون به إلى الله تعالى مع أنهم يفعلون من الظلم والفواحش ما لا يحصى، ويعلمون أنه معصية. فمن فهم فهما جيدا أن الله أمره بالإنذار عن دينهم الذي يتقربون به إلى الله قبل الإنذار عن الزنى ونكاح الأمهات والأخوات، وعرف الشرك الذي يفعلونه، رأى العجب العجاب، خصوصا إن عرف أن شركهم دون شرك كثير من الناس اليوم لقوله تعالى: {وَإِذَا مَسَّ الأِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ} 2. [التوحيد هو إخلاص الدين لله تعالى] (الثانية): أنه لما أنذرهم عن الشرك، أمرهم بالتوحيد الذي هو إخلاص الدين لله تعالى، وهو معنى قوله تعالى: {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} 3، يعني: عظمه بالإخلاص. وليس المراد تكبير الأذان وغيره؛ فإنه لم يشرع إلا في المدينة. فإذا عرف الإنسان أن ترك الشرك لا ينفع إلا إذا لبس ثوب الإخلاص، وفهم الإخلاص فهما جيدا، وعرف ما عليه كثير من الناس من ظنهم أن الإخلاص وترك دعوة الصالحين نقص لهم، كما قال النصارى: إن محمدا يشتم عيسى، لما ذكر أنه عبد الله ورسوله ليس يعبد مع الله تعالى، فمن فهم هذا عرف غربة الإسلام، خصوصا إن أحضر بقلبه ما فعل الذين يَدَّعُونَ

_ 1 سورة المدثر آية:1: 3. 2 سورة الزمر آية: 8. 3 سورة المدثر آية: 3.

أنهم من العلماء؛ من معاداة هذه المسألة وتكفيرهم مَن دَانَ بها وجاهدهم مع عُبَّاد قُبة أبي طالب وأمثالها، وقبة الكواز وأمثالها، وفتواهم لهم بحل دمائنا وأموالنا؛ لتركنا ما هم عليه. ويقولون لهم: إنهم ينكرون دينكم. فلا تعرف هذه والتي قبلها إلا بإحضارك في ذهنك ما علمت أنهم فعلوا مع أهل هذه المسألة، وما فعلوا مع المشركين؛ فحينئذ تعرف أن دين الإسلام ليس مجرد المعرفة: فإن إبليس وفرعون يعرفونه، وكذلك اليهود يعرفونه كما يعرفون آباءهم، وإنما الإسلام هو: العمل بذلك والحب والبغض، وترك موالاة الآباء والأبناء في هذا. [الرسول عليه السلام جاء ليصدق ويتبع] (الثالثة): أن تُحْضِر بقلبك أن الله -سبحانه- لم يرسل الرسول إلا لِيُصَدَّقَ وَيُتَّبَعَ، ولم يرسله لِيُكَذَّبَ وَيُعْصَى. فإذا تأملتَ إقرار من يدعي أنه من العلماء بالتوحيد وأنه دين الله ورسوله، لكن من دخل فيه فهو من الخوارج الذين تحل دماؤهم وأموالهم، ومن أبغضه وسَبَّهَ وَصَدَّ الناسَ عنه فهو الذي على الحق، وكذلك إقرارهم بالشرك وقولهم: ليس عندنا قبة نعبدها، بل جهادهم الجهاد المعروف مع أهل القباب، وأن من فارقهم حل ماله ودمه، فإذا عرف الإنسان هذه المسألة الثالثة كما ينبغي، وعرف أنه اجتمع في قلبه، ولو يوما واحدا أن قلبه قَبِلَ كلامهم: أن التوحيد دينُ الله ورسوله، ولكن لا بد من بغضه وعداوته، وأن ما عليه أهل القباب هو الشرك، ولكن هم السواد الأعظم، وهم على الحق، ولا يقول: إنهم يفعلون الشرك، فاجتماع هذه الأضداد في القلب مع أنها أبلغ من الجنون؛ فهي من أعظم قدرة الله تعالى وهي من أعظم ما يعرفك بالله وبنفسك، ومن عرف نفسه وعرف ربه، ثم أمره. فكيف إذا علمت أن هذين الضدين اجتمعا في قلب صالح وحيوان وأمثالهما أكثر من عشرين سنة. [الشرك يحبط العمل ولو لأجل الإسلام] (الرابعة): أنك تعلم أن الله أنزل على رسوله: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} 1، مع أنهم راودوه

_ 1 سورة الزمر آية: 65.

على قول كلمة أو فعل مرة واحدة، ووعدوه أن ذلك يقودهم إلى الإسلام. إذا عرفت أن أعظم أهل الإخلاص وأكثرهم حسنات، لو قال كلمة الشرك مع كراهيته لها ليقود غيره بها إلى الإسلام حبط عمله وصار من الخاسرين؛ فكيف بمن أظهر أنه منهم، وتكلم بمائة كلمة؛ لأجل تجارة، أو لأجل أن يحج؛ لما مَنَعُوا الموحدين من الحج كما منعوا النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه حتى فتح الله مكة؟ فمن فهم هذا فهما جيدا، انفتح له معرفة قدر التوحيد عند الله عز وجل وقدر الشرك. ولكن إن عرفت هذه بعد أربع سنين فَنِعِمَّى لك، أعني: المعرفة التامة كما تعرف أن قطرة من البول تنقض الوضوء الكامل إذا خرجت ولو بغير اختياره. [الإيمان بما جاء به الرسول عليه السلام كله] (الخامسة): أن الرسول صلى الله عليه وسلم فرض الإيمان بما جاء به كله لا تفريق فيه، فمن آمن ببعضٍ وكفر ببعض، فهو كافر حقا، بل لا بد من الإيمان بالكتاب كله. فإذا عرفت أن من الناس من يصلي ويصوم، ويترك كثيرا من المحرمات؛ لكن لا يُوَرِّثُونَ المرأةَ، ويزعمون أن ذلك هو الذي ينبغي اتباعه، بل لو ورثها أحد عندهم وخالف عادتهم لأنكرت قلوبهم ذلك. أو ينكر عدة المرأة في بيت زوجها مع علمه بقول الله تعالى: {لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} 1، ويزعم أن تركها في بيت زوجها لا يصلح، وأن إخراجها منه هو الذي ينبغي فعله، أو أنكر التحية بالسلام مع معرفته أن الله شرعها حبا لتحية الجاهلية لما ألفها، فهذا يكفر؛ لأنه آمن ببعض، وكفر ببعض، بخلاف مَن فعل المعصية أو ترك الفرض مثل فعل الزنى وترك بر الوالدين مع اعترافه أنه مخطيء وأن أمر الله هو الصواب 2. واعلم أني مثلتُ لك بهذه الثلاث؛ لتحذو عليها؛ فإن عند الناس من هذا

_ 1 سورة الطلاق آية: 1. 2 يعني أن الكفر في: استقباح شرع الله، وتفضيل العادات المحرمة عليه؛ لا مجرد فعل المحرم مع اعتقاد فاعله أنه مذنب وأن فعله قبيح.

رسالة في النفاق الأكبر والأصغر وصفات المنافقين

كثير يخالف ما حد الله في القرآن، وصار المعروف عندهم ما ألفوه عند أهلهم، ولو يفعل أحدٌ ما ذكر الله ويترك العادة لأنكروا عليه وَاسْتَسْفَهُوهُ، بخلاف مَن يفعل أو يترك مع اعترافه بالخطأ، وإيمانه بما ذكر الله. واعلم أن هذه المسألة الخامسة من أشد ما على الناس خطرا في وقتنا بسبب غربة الإسلام، والله أعلم. [رسالة في النفاق الأكبر والأصغر وصفات المنافقين] رسالة في النفاق بقسميه وصفات المنافقين قال -أسكنه الله الفردوس الأعلى-: اعلم -رحمك الله- أن الله تعالى منذ بعث محمدًا صلى الله عليه وسلم وأعزَّهُ بالهجرة والنصر صار الناس ثلاثة أقسام: قسم مؤمنون، وهم الذين آمنوا به ظاهرا وباطنا، وقسم كفار: وهم الذين أظهروا الكفر به، وقسم منافقون: وهم الذين آمنوا به ظاهرا لا باطنا. ولهذا افتتح الله سورة البقرة بأربع آيات في صفة المؤمنين، وآيتين في صفة الكافرين، وثلاث عشرة في صفة المنافقين. [النفاق الأكبر والأصغر] وكل واحد من: الإيمان، والكفر، والنفاق، له دعائم وشُعَب كما دل عليه الكتاب والسنة، وكما فسره علي بن أبي طالب رضي الله عنه في الحديث المأثور عنه. فمن النفاق ما هو: نفاق أكبر، ويكون صاحبه في الدرك الأسفل من النار، كنفاق عبد الله بن أبي وغيره، مثل أن يُظْهِر تكذيب الرسول، أو جحود بعض ما جاء به، أو بغضه، أو عدم اعتقاد وجوب اتباعه، أو المَسَرَّة بانخفاض دينه، أو المَسَاءة بظهور دينه، ونحو ذلك مما لا يكون صاحبه إلا عدوا لله ورسوله، وهذا القدر موجود في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم. وما زال بعده أكثر من عهده؛ لكون موجبات الإيمان على عهده أقوى، فإذا كانت مع قوتها، والنفاق موجود فوجوده فيما دون ذلك أولى به، وهذا ضرب النفاق الأكبر، والعياذ بالله.

وأما النفاق الأصغر: فهو نفاق الأعمال ونحوها، مثل أن يكذب إذا حدَّث، ويُخلف إذا وعد، أو يخون إذا ائتُمِنَ، للحديث المشهور عنه صلى الله عليه وسلم قال: "آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتُمِنَ خان، وإن صلى وصام وزعم أنه مسلم"1. [صفات المنافقين] ومن هذا الباب: الإعراض عن الجهاد، فإنه من خصال المنافقين لقوله صلى الله عليه وسلم: "من مات ولم يَغْزُ، ولم يحدث نفسه بالغزو مات على شعبة من النفاق"2 رواه مسلم. وقد أنزل الله سورة براءة التي تُسَمَّى الفاضحة؛ لأنها فضحت المنافقين كما قاله ابن عباس رضي الله عنه- قال: "هي الفاضحة، ما زالت تنْزل (ومنهم، ومنهم) حتى ظنوا أن لا يبقى أحد إلا ذُكِرَ فيها"، وعن المقداد بن الأسود قال: هي سورة البَحُوث؛ لأنها بحثَتْ عن سرائر المنافقين. وقال قتادة: هي المثيرة؛ لأنها أثارت مخازي المنافقين. وهذه السورة نزلت في آخر مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم غزوة تبوك، وقد أعز الله الإسلام وأظهره؛ فكشف فيها عن أحوال المنافقين، ووصفهم فيها بالجبن والبخل. فأما الجبن فهو: ترك الجهاد، وأما البخل فهو: عن النفقة في سبيل الله. وقال تعالى: {وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ} 3 الآية. وقال: {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ} 4 الآية. فأما وصفهم فيها بالجبن والفزع فقد قال تعالى: {وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً} 5 يلجؤون إليه مثل المعاقل والحصون {أَوْ مَغَارَاتٍ} يغورون فيها كما يغور الماء، {أَوْ مُدَّخَلًا} وهو الذي يتكلف الدخول إليه ولو بكُلْفَة ومشقة، {لَوَلَّوْا إِلَيْهِ} عن الجهاد {وَهُمْ يَجْمَحُونَ} 6 أي: يسرعون إسراعا لا يردهم شيء؛ كالفرس الجَمُوح الذي إذا حمل لم يرده اللجام. وقد قال تعالى: {إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ

_ 1 البخاري: الإيمان (33) , ومسلم: الإيمان (59) , والترمذي: الإيمان (2631) , والنسائي: الإيمان وشرائعه (5021) , وأحمد (2/ 357 ,2/ 397 ,2/ 536). 2 مسلم: الإمارة (1910) , والنسائي: الجهاد (3097) , وأبو داود: الجهاد (2502). 3 سورة آل عمران آية: 180.

وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} 1. فحصر المؤمنين فيمن آمن وجاهد. وقال تعالى: {لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} 2 الآيتين. فهذا إخبار من الله أن المؤمن لا يستأذن في ترك الجهاد، وإنما يستأذن الذين لا يؤمنون بالله، فكيف بالتارك من غير استئذان؟ وقال في وصفهم بالشح: {وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ} 3 إلى قوله: {وَلا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ} 4؛ فإذا كان هذا ذَمُّ الله -تبارك وتعالى- لمن أنفق وهو كاره، فكيف بمن ترك النفقة رأسا؟ وقد أخبر أن المنافقين لما قربوا من المدينة؛ تارة يقولون للمؤمنين: هذا الذي جرى علينا بشؤمكم، فأنتم الذين دعوتم الناس إلى هذا الدين، وقاتلتم عليه وخالفتموهم. وتارة يقولون: أنتم الذين أشرتم علينا بالمقام هنا، وإلا لو كنا قد سافرنا، ما أصابنا هذا. وتارة يقولون: أنتم مع قلتكم وضعفكم تريدون أن تكسروا العدو، وقد غركم دينكم. وتارة يقولون: أنتم مجانين لا عقل لكم تريدون أن تهلكوا أنفسكم وتهلكوا الناس معكم. وتارة يقولون أنواعا من الكلام المؤذي، فأخبر الله عنهم بقوله عز وجل: {يَحْسَبُونَ الأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الأَعْرَابِ يَسْأَلونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا} 5، فوصفهم -تبارك وتعالى- بثلاثة أوصاف: الأول: أنهم -لخوفهم- يحسبون الأحزاب لم ينصرفوا عن البلد، وهذا حال الجبان الذي في قلبه مرض، فإن قلبه يبادر إلى تصديق الخبر المخوف، وتكذيب خبر الأمن. الوصف الثاني: أن الأحزاب إذا جاؤوا تَمَنَوْا أن لا يكونوا بينكم؛ بل في البادية بين الأعراب يسألون عن أنبائكم: أيش خبر المدينة؟ وأيش خبر الناس؟. الوصف الثالث: أن الأحزاب إذا أتوا، وهم فيكم لم يقاتلوا إلا قليلا. وهذه الصفات الثلاث منطبقة على كثير من الناس.

_ 1 سورة الحجرات آية: 15. 2 سورة التوبة آية: 44. 3 سورة التوبة آية: 54. 4 سورة التوبة آية: 54. 5 سورة الأحزاب آية: 20.

رسالة في كلمة لا إله إلا الله

رسالة في كلمة لا إله إلا الله بين فيها حقيقة التوحيد ومعناه، وكونه لا يُنَجِّي من النار سواه وله في معنى لا إله إلا الله ما نصه: قال -رحمه الله تعالى-: هذه كلمات في بيان شهادة أن لا إله إلا الله، وبيان التوحيد الذي هو: حق الله على العبيد، وهو أفرض من الصلاة والزكاة وصوم رمضان، فرحم الله امرأ نصح نفسه وعرف أن وراءه جنة ونارا، وأن الله عز وجل جعل لكل منهما أعمالا. فإن سأل عن ذلك وجد رأس أعمال أهل الجنة: توحيد الله تعالى. فمن أتى به يوم القيامة فهو من أهل الجنة قطعا، ولو كان عليه من الذنوب مثل الجبال، ورأس أعمال أهل النار: الشرك بالله. فمن مات على ذلك، فلو أتى يوم القيامة بعبادة الله الليل والنهار والصدقة والإحسان؛ فهو من أهل النار قطعا، كالنصارى الذين يبني أحدهم صومعة في البرية؛ ويزهد في الدنيا ويتعبد الليل والنهار، لكنه خلط ذلك بالشرك بالله؛ تَعَالى اللهُ عن ذلك. قال الله عز وجل: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} 1. وقال تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ} 2 الآية. فرحم الله امرأ تنبه لهذا الأمر العظيم، قبل أن يعض الظالم على يديه ويقول: يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا! نسأل الله أن يهدينا، وإخواننا المسلمين إلى الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم عليهم، وأن يجنبنا طريق المغضوب عليهم، وهم: العلماء الذين علموا ولم يعملوا، وطريق الضالين وهم: العباد الجهال فما أعظم هذا الدعاء! وما أحوج مَن دعا به أن يُخلص قلبه في كل ركعة

_ 1 سورة الفرقان آية: 23. 2 سورة إبراهيم آية: 18.

إذا قرأ بها بين يدي الله -تعالى- أن يهديه وأن ينجيه؛ فإن الله قد ذكر أنه يستجيب هذا الدعاء الذي في الفاتحة؛ إذا دعا به الإنسان من قلب حاضر. [حقيقة معنى لا إله إلا الله] (فنقول): لا إله إلا الله هي: العروة الوثقى، وهي كلمة التقوى، وهي الحنيفية ملة إبراهيم، وهي التي جعلها الله عز وجل كلمة باقية في عقبه، وهي التي خلقت لأجلها المخلوقات، وبها قامت الأرض والسماوات، ولأجلها أرسلت الرسل وأنزلت الكتب، قال الله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} 1. وقال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} 2، والمراد معنى هذه الكلمة، وأما التلفظ باللسان مع الجهل بمعناها فلا ينفع، فإن المنافقين يقولونها، وهم تحتَ الكفارِ في الدرك الأسفل من النار. (فاعلم) أن معنى هذه الكلمة نفيُ الإلهية عما سوى الله -تبارك وتعالى- وإثباتها كلها لله وحده لا شريك له، ليس فيها حق لغيره لا لملك مقرب ولا لنبي مرسل، كما قال تعالى: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدًا} 3. وقال تعالى: {يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا} 4. وقال تعالى: {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا} 5 الآية. فإذا قيل: لا خالق إلا الله؛ فهذا معروف، لا يشاركه في ذلك ملك مقرب ولا نبي مرسل. وإذا قيل: لا يرزق إلا الله فكذلك. فإذا قيل: لا إله إلا الله فكذلك. فتفكر رحمك الله! واسأل عن معنى لا إله إلا الله، كما تسأل عن معنى الخالق والرازق. فاعلم أن الإله هو المعبود؛ هذا هو تفسير هذه اللفظة بإجماع أهل العلم، فمن عبد شيئا فقد اتخذه إلها من دون الله، وجميع ذلك باطل، إلا إله واحد وهو الله وحده تبارك وتعالى علوا كبيرا. [العبادة وأنواعها] والعبادة أنواع كثيرة لكني أُمَثُّلُهَا بأنواع كثيرة لا تُنْكَر: من ذلك السجود:

_ 1 سورة الذاريات آية: 56. 2 سورة النحل آية: 36. 3 سورة مريم آية:93، 95. 4 سورة النبأ آية: 38. 5 سورة النحل آية: 111.

فلا يجوز لعبد أن يضع وجهه على الأرض ساجدًا إلا لله وحده لا شريك له، لا لملك مقرب، ولا لنبي مرسل ولا لِوَلِيٍّ. ومن ذلك الذبح: فلا يجوز لأحد أن يذبح إلا لله وحده، كما قرن الله بينهما في القرآن في قوله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ} 1 والنسك هو: الذبح، وقال: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} 2؛ فتفطن لهذا. واعلم أن مَن ذبح لغير الله من جني أو قبر، فهو كما لو سجد له. وقد لعنه رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح قال: "لعن الله من ذبح لغير الله"3. ومن أنواع العبادة: الدعاء: كما كان المؤمنون يدعون الله ليلا ونهارا في الشدة والرخاء وحده، لا يشك أحد أن هذا من أنواع العبادة 4. فتفكر -رحمك الله- أنه فيما حَدَثَ في الناس اليوم من دعاء غير الله في الشدة والرخاء: هذا يريد سفرا فيأتي عند قبر أو غيره، فيدخل عليه بماله على من يَنْهَبه. وهذا تلحقه الشدة في البر أو البحر فيستغيث بعبد القادر أو السمان أو بنبي من الأنبياء أو ولي من الأولياء، أن ينجيه من هذه الشدة. فيقال لهذا الجاهل: إن كنت تعرف أن الإله هو: المعبود، وتعرف أن الدعاء من العبادة؛ فكيف تدعو مخلوقا ميتا عاجزا وتترك الحي القيوم، الرؤوف الرحيم القدير؟ فيقول هذا المشرك: إن الأمر بيد الله، ولكن هذا العبد الصالح يشفع لي عند الله وتنفعني شفاعته وجاهه، ويظن أن ذلك يسلمه من الشرك.

_ 1 سورة الأنعام آية: 162. 2 سورة الكوثر آية: 2. 3 مسلم: الأضاحي (1978) , والنسائي: الضحايا (4422) , وأحمد (1/ 108 ,1/ 118 ,1/ 152). 4 وهو أعلى الأنواع، وأدلها على الإيمان الصحيح والتوحيد الخالص، فالسجود إنما كان عبادة بحكم الشرع، وقد كان عادة في التحية من قبل، ومنه سجود يعقوب وأولاده لولده يوسف عليهم السلام. وأما الدعاء فهو: ركن العبادة الأعظم بمقتضى الفطرة، وفي دين الله على ألسنة جميع الأمم، ولذلك قال (ص): "الدعاء هو العبادة" رواه أحمد والبخاري في الأدب المفرد وأصحاب السنن الأربعة وغيرهم من حديث النعمان بن بشير وأبو يعلى من حديث البراء؛ وفي معناه: "الدعاء مخ العبادة" رواه الترمذي من حديث أنس.

فيقال لهذا الجاهل: المشركون عباد الأصنام الذين قاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وغنم أموالهم وأبنائهم ونساءهم كلهم يعتقدون أن الله هو النافع الضار الذي يدبر الأمر، وإنما أرادوا ما أردت من الشفاعة عند الله، كما قال تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} 1. وقوله {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} 2. وإلا فهم يعترفون بأن الله هو الخالق الرازق النافع الضار كما أخبر عنهم بقوله: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ} 3. فليتدبر اللبيب العاقل الناصح لنفسه الذي يعرف أن بعد الموت جنة ونارا، هذا الموضع، ويعرف الشرك بالله الذي قال الله فيه: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} 4 الآية. وقال: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ} 5. فما بعد هذا البيان بيان! إذا كان الله عز وجل قد حكى عن الكفار أنهم يقرون أنه هو الخالق الرازق، والمحيي المميت الذي يدبر الأمر، وإنما أرادوا من الذين يعتقدون فيهم التقرب والشفاعة عند الله -تعالى-. (فكم من) آية في القرآن ذكر الله فيها هذا، كقوله تعالى: {قُلْ لِمَنِ الأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ} 6 - إلى قوله- {فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} 7. وكقوله: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} 8 {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} 9، وغير ذلك من الآيات التي أخبر الله بها عنهم أنهم أقروا بهذا لله وحده، وأنهم ما أرادوا من الذين يعتقدون فيهم إلا الشفاعة، لا غير ذلك. [الشرك بعبادة الأصنام كالشرك بعبادة الأنبياء والصالحين] فإن احتج بعض المشركين أن أولئك يعتقدون في أصنام من حجارة وخشب، ونحن نعتقد في الصالحين. قيل له: والكفار أيضا منهم من يعتقد في الصالحين مثل:

_ 1 سورة يونس آية: 18. 2 سورة الزمر آية: 3. 3 سورة يونس آية: 31. 4 سورة النساء آية: 48. 5 سورة المائدة آية: 72. 6 سورة المؤمنون آية: 84. 7 سورة المؤمنون آية: 89. 8 سورة العنكبوت آية: 61. 9 سورة العنكبوت آية: 63.

الملائكة وعيسى بن مريم. وفي الأولياء مثل: العزير واللات، وناس من الجن. وقد ذكر الله عز وجل في كتابه ما يدل على هذا، فقال في الذين يعتقدون في الملائكة ليشفعوا لهم: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُون َ قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ} 1. وقال: {لا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} 2. وقال فيمن اعتقد في عيسى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ} 3. وقال: {قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} 4؛ فإذا كان عيسى بن مريم -وهو من أفضل الرسل- قيل فيه هذا، فكيف بعبد القادر أو غيره؛ إذ يقال فيه: إنه يملك ضرا أو نفعا؟. وقال في حق الأولياء: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلًا أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} 5. قال طائفة من السلف: كان أقوام يدعون الملائكة وعزيرا والمسيح فقال الله: هؤلاء عبيدي كما أنتم عبيدي، يرجون رحمتي كما ترجون أنتم رحمتي، ويخافون عذابي كما تخافون عذابي. فرحم الله امرأ تفكر في هذه الآية العظيمة، وفيما نزلت فيه، وتفكر أن الذين اعتقدوا فيهم إنما أرادوا التقرب إلى الله والشفاعة عنده بهم، وهذا كله يدور على كلمتين: الأولى: أن تعرف أن الكفار يعرفون أن الله -سبحانه- هو الخالق الرازق الذي يدبر الأمر وحده، وإنما أرادوا التقرب بهؤلاء إلى الله -تعالى-. والثانية: أن تعرف أن منهم أُنَاسًا يعتقدون في أناس من الأنبياء والصالحين مثل: عيسى والعزير والأولياء، فصاروا هم والذين يعتقدون في الأصنام من الحجر والشجر واحدا، فلما جاءهم رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يفرق بين الذين يعتقدون في الأوثان من الخشب والحجر، والذين يعتقدون في الأنبياء والصالحين؛

_ 1 سورة سبأ آية: 40. 2 سورة الأنبياء آية: 28. 3 سورة النساء آية: 171. 4 سورة المائدة آية: 76. 5 سورة الإسراء آية: 56.

إذا تبين هذا لك عرفت دين الله. ولو قال المشرك بعد ذلك: هذا بَيِّنٌ نعرفه في أول الأمر ولا نخاف منه. [عناية القرآن بمحو الشرك من القلوب والبراءة من أهله] قيل: إن كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يعرفوا هذا إلا بعد التعلم، ومن أنواع الشرك أشياء ما عرفوها إلا بعد سنين، فإن عرفت هذا بلا تعلم فأنت أعلم منهم، بل الأنبياء لم يعرفوا هذا إلا بعد أن علَّمَهم الله تعالى، قال الله تعالى لأعلم الخلق محمد صلى الله عليه وسلم: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} 1 وقال تعالى: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} 2. فإذا كان هذا حال نبينا، وحال الخليل إبراهيم -عليه السلام- إذ يوصي بها أولاده وهم أنبياء. قال الله تعالى: {وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} 3. وقال تعالى: {وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لاِبْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} 4؛ فإذا كان هذا الأمر لا يخاف على المسلمين منه، فما بال الخليل يخاف على نفسه وعلى بنيه، وهم أنبياء؛ حيث قال: {رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ} 5. ما بال العليم الحكيم لما أنزل كتابه ليخرج الناس من الظلمات إلى النور جعله في هذا الأمر، وأكثر الكلام فيه وبَيَّنَه، وضرب فيه الأمثال، وحَذَّرَ منه وأبدى وأعاد؟ فإذا كان الناس يفهمونه بلا تعلم، ولا يخاف عليهم منه، فما بال رب العالمين جعل أكثر كتابه فيه؟ فسبحان من طَبَعَ على قلب من شاء من خلقه، فأصمهم وأعمى أبصارهم! وأنت يا مَنْ مَنَّ الله عليه بالإسلام، وعرف معنى: لا إله إلا الله، لا تظن أنك إذا قلت: هذا هو الحق وتارك ما سواه 6، لكن لا أتعرض لهم ولا أقول فيهم شيئا، لا تظن أنك غير عاصٍ ربك، بل لا بد من بغضهم وبغض من يحبهم، ومسبتهم

_ 1 سورة محمد آية: 19. 2 سورة الزمر آية: 65. 3 سورة البقرة آية: 132. 4 سورة لقمان آية: 13. 5 سورة إبراهيم آية: 35. 6 كذا في الأصل ويظهر أنه سقط من هنا شيء.

ومعاداتهم، كما قال أبوك إبراهيم والذين معه لقومهم: {إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} 1. وقال تعالى: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} 2 الآية، وقال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} 3. ولو قال رجل: أنا أتبع النبي صلى الله عليه وسلم وهو على الحق، لكن لا أتعرض للات والعزى، ولا أتعرض لأبي جهل وأمثاله، ما عليَّ منهم؟ لم يصح إسلامه. وأما مجادلة بعض المشركين بأن هؤلاء الطواغيت ما أمروا الناس بهذا ولا رضوا به، فهذا لا يقوله إلا مشرك مكابر، فإن هؤلاء ما أكلوا أموال الناس بالباطل ولا ترأسوا عليهم، ولا قربوا ما قربوا إلا بهذا، وإذا رأوا رجلا موحدا منكرا لهذا الشرك سبوه وآذوه، وإذا رأوا مشركا كافرا تابعا للشيطان قربوه وأحبوه وزوجوه بناتهم وعَدُّوا ذلك شرفًا. وهذا القائل يعلم أن قوله ذلك كذب، فإنه لو يحضر عندهم ويسمع بعض المشركين يقول: جاءتني شدة فجئت الشيخ فلان أو السيد فلان فنذرت له فخلصني، لم يجز أن يقول هذا القائل: لا يضر ولا ينفع إلا الله، بل لو قال هذا وأشاعه في الناس لأبغضه الطواغيت، بل لو قدروا على قتله لقتلوه. وبالجملة لا يقول هذا إلا مشرك مكابر، وإلا فدَعْوَاهم هذه وتخويفهم الناس، وذكرهم السوالف الكفرية التي اشتهرت عن آبائهم مشهور، لا ينكره من عرف حالهم كما قال تعالى: {شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ} 4. [العبرة فيما ذكر الله عن المشركين إذا مسهم الضر] ولنختم الكتاب بذكر آية من كتاب الله فيها عبرة لمن اعتبر. قال تعالى في حق الكفار: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ} 5، فذكر عن الكفار أنهم إذا جاءتهم الشدة تركوا غيره، وأخلصوا له الدين، وأهل زماننا إذا جاءتهم الشدة والضر التجؤوا إلى غير الله -سبحانه وتعالى- عن ذلك. فرحم الله مَن تفكر في هذه الآية وغيرها من الآيات.

_ 1 سورة الممتحنة آية: 4. 2 سورة البقرة آية: 256. 3 سورة النحل آية: 36. 4 سورة التوبة آية: 17. 5 سورة الإسراء آية: 67.

وأما مَنْ مَنَّ الله عليه بالمعرفة، فليحمد الله تعالى. وإن أشكل عليه شيء، فليسأل أهل العلم عما قال الله ورسوله ولا يبادر بالإنكار؛ لأنه إن رَدَّ: رَدَّ على الله. قال الله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ} 1. [الباطل لا يصير حقا بعظمة قائله وجلالته] اعلم -رحمك الله- أن أشياء من أنواع الشرك الأكبر وقع فيها بعض المصنفين -على جهالة- لم يُفْطَن لها؛ من ذلك قوله في البردة: يا أكرم الخلق مالي من ألوذ به ... سواك عند حلول الحادث العمم وفي الهمزية من جنس هذا وغيره أشياء كثيرة، وهذا من الدعاء الذي هو العبادة التي لا تصلح إلا لله وحده، وإن جادلك بعض المشركين بجلالة هذا القائل وعلمه وصلاحه، وقال بجهله: كيف هذا؟ فقل له: أعلم منه وأجل أصحاب موسى الذين اختارهم الله وفضلهم على العالمين، وقد قالوا: {يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} 2؛ فإذا خفي هذا على بني إسرائيل مع جلالتهم وفضلهم، فما ظنك بغيرهم 3. وقل لهذا الجاهل:

_ 1 سورة السجدة آية: 22. 2 سورة الأعراف آية: 138. 3 فيه أن بني إسرائيل الذين قالوا هذا القول: لم يكونوا أصحاب جلالة وفضل ولا علم بالدين، ولا كانت التوراة نزلت عليهم، وإنما كانوا مشركين أنقذهم موسى عليه السلام- من ظلم فرعون وقومه؛ ليتخذ منهم شعبا يعبد الله وحده ويقيم دينه، وقد أجابهم موسى -عليه السلام- بقوله: {إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ}، وقد اتخذوا العجل بعد ذلك وعبدوه. وفي القرآن، وكذا في التوراة من ذم قوم موسى وتمردهم وعنتهم وإيذائهم له في عهد التشريع العجب العجاب، وأما تفضيل بني إسرائيل على العالمين في زمانهم، فالمراد به جملتهم بما كان فيهم من الأنبياء والصالحين من قبل موسى إلى عهد عيسى -عليهم السلام- {وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ}.

أصلح من الجميع وأعلم أصحاب محمد 1 لما مروا بشجرة فقالوا: يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط، فحلف رسول الله صلى الله عليه وسلم أن هذا كما قال بنو إسرائيل لموسى: {اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} 2. ففي هذا عبرتان عظيمتان: (الأولى): أن النبي صلى الله عليه وسلم صرح أن من اعتقد في شجرة أو تبرك بها أنه متخذها إلها، وإلا فأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرفون أنها لا تخلق ولا ترزق، وإنما ظنوا أن النبي صلى الله عليه وسلم إذا أمرهم بالتبرك بها صار فيها بركة. (والعبرة الثانية): أن الشرك قد يقع ممن هو أعلم الناس وأصلحهم وهو لا يدري، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "الشرك أخفى من دبيب النمل"3 بخلاف قول الجاهل: هذا بَيِّنٌ نعرفه. فإذا أشكل عليك من هذا شيء، وأردت بيانه من كلام أهل العلم، وإنكار جنس الشرك الذي حرمه الله فهو موجود، وابحث عن كلام العلماء في هذا، إن أردت من الحنابلة، وإن أردت من غيرهم. والله أعلم.

_ 1 كان ينبغي أن يقال: بعض أصحاب محمد -صلّى الله عليه وسلّم- من أهل مكة، فإن الذين قالوا هذا ليسوا أعلمهم كالخلفاء والعبادلة مثلا، وإنما هم الطلقاء الذين كانوا حديثي عهد بالشرك، بل كان بعضهم لا يزال على شركه كما ظهر في غزوة حنين فتنبه. وكتبه محمد رشيد. 2 سورة الأعراف آية: 138. 3 أحمد (4/ 403).

رسالة في الشهادتين ودلائل نبوة محمد صلى الله عليه وسلم

رسالة في الشهادتين ودلائل نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ... رسالة أخرى في الشهادتين (وبعثة محمد -صلّى الله عليه وسلّم- ودلائل رسالته) قال -صب الله عليه من شآبيب بره ورحمته ووالى-: هذه كلمات في معرفة شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، وقد غلط أهل زماننا فيها، وأثبتوا لفظها دون معانيها، وقد يأتون بأدلة على ذلك تلتبس على الجاهل المسكين، ومن ليس له معرفة في الدين، وذلك يُفْضِي إلى أعظم المهالك. [معنى كون أهل السنة لا يكفرون أهل القبلة] فمن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، فإذا قالوها؛ عصموا مني دماءهم وأموالهم"1 الحديث. وكذا قوله صلى الله عليه وسلم لما سئل عن شفاعته: من أحق بها يوم القيامة؟ قال: "من قال لا إله إلا الله خالصا من قلبه"2. وقوله صلى الله عليه وسلم: "من كان آخر كلامه لا إله إلا الله، دخل الجنة" 3. وكذلك حديث عتبان بن مالك: "فإن الله حرم على النار من قال: لا إله إلا الله، يبتغي بذلك وجه الله"4. وهذه الأحاديث الصحيحة إذا رآها هذا الجاهل أو بعضها أو سمعها من غيره طابت نفسه، وقرتْ عينه، واستنقذه المساعد على ذلك، وليس الأمر كما يظنه هذا الجاهل المشرك. فلو أنه دعا غير الله أو ذبح له، أو حلف به، أو نذر له: لم ير ذلك شركا، ولا محرما، ولا مكروها؛ فإذا أنكر عليه أحدٌ بعضَ ما ينافي التوحيد لله، والعمل بما أمر الله اشمأز ونفر وعارض بقوله: قال رسول الله، وقال رسول الله، وهذا لم يدر حقيقة الحال. فلو كان الأمر كما قال؛ لما قال الصديق -رضي الله عنه- في أهل الردة: والله لو منعوني عناقا -أو قال عقالا- كانوا يؤدونه إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لقاتلتهم عليه. أفيظن هذا الجاهل أنهم لم يقولوا لا إله إلا الله؟ وما يصنع هذا الجاهل بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخوارج: "أينما لقيتموهم فاقتلوهم، فإن في قتلهم أجرا لمن قتلهم، فإنهم شر قتيل

_ 1 البخاري: الجهاد والسير (2946) , ومسلم: الإيمان (21) , والترمذي: الإيمان (2606) , والنسائي: الجهاد (3090 ,3095) وتحريم الدم (3971 ,3972 ,3974 ,3976 ,3977 ,3978) , وأبو داود: الجهاد (2640) , وابن ماجه: الفتن (3927 ,3928) , وأحمد (1/ 11 ,2/ 377 ,2/ 423 ,2/ 502 ,2/ 528 ,3/ 300 ,3/ 332 ,3/ 339 ,3/ 394). 2 البخاري: العلم (99) , وأحمد (2/ 373). 3 أبو داود: الجنائز (3116) , وأحمد (5/ 233 ,5/ 247). 4 البخاري: الصلاة (425) والأطعمة (5401) , ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (33).

تحت أديم السماء"1؟ أفيظن هذا الجاهل أن الخوارج الذين قال فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا، أنهم لم يقولوا لا إله إلا الله؟ وقال صلى الله عليه وسلم: "في هذه الأمة -ولم يقل منها- قوم يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، وقراءته مع قراءتهم يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم"2، 3. وكذلك أهل حلقة الذكر؛ لما رآهم أبو موسى في المسجد في كل حلقة رجل يقول: سَبِّحُوا مائة، هَلِّلُوا مائة. الحديث؛ فلما أنكر عليهم عبد الله بن مسعود صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: والله ما أردنا إلا الخير. قال: كم من مريد للخير لم يصبه 4 إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثنا: "أن قوما يقرؤون القرآن لا يجاوز حلوقهم"5 أو قال: "تراقيهم"6. وأيم الله لا أدري أن يكون أكثرهم إلا منكم، قال عمرو بن سلمة: فما كان إلا قليل حتى رأوا أولئك يطاعنون أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم النهروان مع الخوارج. أفيظن هذا الجاهل المشرك أنهم يتركون ذلك؛ لكونهم يسبحون ويهللون ويكبرون؟ وكذلك المنافقون على عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم يجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم؛ ويصلون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلوات الخمس ويحجون معه، قال الله تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} 7. أفيظن هذا الجاهل أنهم لم يقولوا: لا إله إلا الله؟ وكذلك قاتل النفس بغير حق يقتل؛ أفيظن هذا الجاهل أنه لم يقل: لا إله إلا الله؟ وأنه لم يقلها خالصا من قلبه؟ فسبحان من طبع على قلب من شاء من عباده، وأخفى عليه الصواب، وأسلكه مسلك البهائم والدواب: {أُولَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ} 8، حتى قال هؤلاء الجهلة ممن ينتسب

_ 1 البخاري: استتابة المرتدين والمعاندين وقتالهم (6930) , ومسلم: الزكاة (1066) , والنسائي: تحريم الدم (4102) , وأبو داود: السنة (4767) , وأحمد (1/ 81 ,1/ 131). 2 البخاري: المناقب (3610) , ومسلم: الزكاة (1064) , وأحمد (3/ 33 ,3/ 60 ,3/ 65). 3 فيه أن الخليفة الرابع -رضي الله عنه- قاتلهم ببغيهم، ولم يحكم بكفرهم، وكانوا متأولين، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية في عدة مواضع. 4 أنكر ابن مسعود (رض) ذلك على قائله؛ لأنه بدعة كما بينه الشاطبي في الاعتصام وغيره. 5 البخاري: المناقب (3610) , ومسلم: الزكاة (1064) , والنسائي: الزكاة (2578) وتحريم الدم (4101) , وأبو داود: السنة (4764) , وأحمد (3/ 4 ,3/ 33 ,3/ 60 ,3/ 68 ,3/ 73). 6 البخاري: استتابة المرتدين والمعاندين وقتالهم (6934) , ومسلم: الزكاة (1068). 7 سورة النساء آية: 145. 8 سورة الأعراف آية: 179.

إلى العلم والفقه: قِبْلَتُنا مَنْ أَمَّها لا يكفر 1. فلا إله إلا الله: نَفْيُ وإثباتُ الإلهية كلها لله، فمن قصد شيئا من قبر أو شجر أو نجم أو ملك مقرب أو نبي مرسل؛ لجلب نفع وكشف ضر فقد اتخذه إلها من دون الله، فَكَذَّبَ بلا إله إلا الله؛ يستتاب؛ فإن تاب وإلا قتل. [الشرك بعبادة غير الله للتبرك] فإن قال هذا المشرك: لم أقصد إلا التبرك، وإني لأعلم أن الله هو الذي ينفع ويضر. فقل له: إن بني إسرائيل ما أرادوا إلا ما أردتَ، كما أخبر الله عنهم، أنهم لما جاوزوا البحر أتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم قالوا: {يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ}، فأجابهم بقوله: {إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} 2 الآيتين. وحديث أبي واقد الليثي قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حنين، ونحن حدثاء عهد بكفر، وللمشركين سدرة يعكفون عندها وينوطون بها أسلحتهم، يقال لها: ذات أنواط، فمررنا بسدرة، فقلنا يا رسول الله: اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "الله أكبر إنها السنن 3، قلتم والذي نفسي بيده كما قال بنو إسرائيل لموسى {اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ}، لتركبن سنن من كان قبلكم". وقال تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى} 4، وفي الصحيح عن ابن عباس وغيره أنه رجل صالح كان يلت السويق للحاج، فمات فعكفوا على قبره. فيرجع هذا المشرك ويقول: هذا الشجر والحجر، وأنا أعتقد في أناس

_ 1 يعني الشيخ -رحمه الله- أن هؤلاء الجهلة لم يفهموا قول أهل السنة: أنهم لا يكفرون أحدا من أهل القبلة، وأنهم يعنون به عدم التكفير بالذنب لا بالشرك، والكفر الذي لا يحتمل التأويل. والتأويل الذي يمنع تكفير الشخص المُعَيَّن: إنما يمنعه ما دام محتملا فإذا قامت عليه الحجة، وذهب احتمال التأويل ظهر أنه مُرتد ليس له عذر. 2 سورة الأعراف آية: 138. 3 الضمير هنا ضمير القصة والشأن، والسنن: سنن الله في الأمم، وهي قواعد الاجتماع والأحوال التي يستن فيها بعض الناس بما كان عليه غيرهم. 4 سورة النجم آية: 19.

صالحين أنبياء وأولياء، أريد منهم الشفاعة عند الله، كما يشفع ذو الحاجة عند الملوك، وأريد منهم القربة إلى الله، فقل له: هذا مذهب الكفار بعينه، كما أخبر سبحانه بقوله: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} 1 وقوله: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} 2. وقد ذكر أناسا يعبدون المسيح وعزيرا، فقال الله: هؤلاء عبيدي يرجون رحمتي كما ترجون، ويخافون عذابي كما تخافون، وأنزل الله -سبحانه-: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلًا} 3 الآيتين، وقال تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ} 4 الآيتين. والقرآن، بل والكتب السماوية من أولها إلى آخرها مصرحة ببطلان هذا الشرك وكفر أهله، وأنهم أعداء الله ورسوله، وأنهم أولياء الشيطان، وأنه سبحانه لا يغفر لهم ولا يقبل عملهم، كما قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} 5. وقال تعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} 6. وقال تعالى: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} 7. قال ابن مسعود وابن عباس: لا تجعلوا له أكفاء من الرجال تطيعونهم في معصية الله. وقال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم ما شاء الله وشئت فقال: "أجعلتني لله ندا؟ قل: ما شاء لله وحده". وقال صلى الله عليه وسلم لأصحابه: "أخوف ما أخاف عليكم: الشرك الأصغر. فسئل عنه فقال: الرياء"8. [لم يتخلص من عبادة الأوثان إلا أتباع ملة إبراهيم عليه السلام] وبالجملة، فأكثر أهل الأرض مفتونون بعبادة الأصنام والأوثان، ولم يتخلص من ذلك إلا الحنفاء: أتباع ملة إبراهيم -عليه السلام-، وعبادتها في الأرض من قبل قوم نوح، كما ذكر الله، وهي كلها، ووقوفها وسدانتها وحجابتها، والكتب المصنفة في شرائع عبادتها طبقت الأرض، قال إمام الحنفاء: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ} 9، كما قص الله ذلك عنهم في القرآن وأنجى الرسل وأتباعهم من الموحدين. وكفى في معرفة كثرتهم، وأنهم أكثر أهل الأرض ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أن

_ 1 سورة الزمر آية: 3. 2 سورة يونس آية: 18. 3 سورة الإسراء آية: 56. 4 سورة سبأ آية: 40. 5 سورة النساء آية: 48. 6 سورة الفرقان آية: 23. 7 سورة البقرة آية: 22. 8 أحمد (5/ 428). 9 سورة إبراهيم آية: 35.

بَعْثَ النار من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون، قال الله تعالى: {فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا} 1. وقال: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} 2. وقال: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} 3. [دلائل نبوة نبينا عليه السلام] ولما أراد سبحانه إظهار توحيده، وإكمال دينه، وأن تكون كلمته هي العليا، وكلمة الذين كفروا هي السفلى، بعث محمدا خاتم النبيين، وحبيب رب العالمين، وما زال في كل جيل مشهورا، وفي توراة موسى وإنجيل عيسى مذكورا، إلى أن أخرج الله تلك الدرة، بين بني كنانة وبني زهرة، فأرسله على حين فَتْرَةٍ من الرسل، وهداه إلى أقوم السُّبُل، فكان له صلى الله عليه وسلم من الآيات الدالة على نبوته قبل مبعثه ما يعجز أهل عصرها. فمن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "أنا دعوة أبي إبراهيم، وبشارة عيسى، ورؤيا أمي التي رأت حين وضعتني أنه خرج منها نور أضاءت له بُصْرَى من أرض الشام"4. وولد صلى الله عليه وسلم ليلة الاثنين الثاني عشر من ربيع الأول عام الفيل، وانشق إيوان كسرى ليلةَ مولده حتى سمع انشقاقه وسقط أربعة عشر شرفة 5 وهو باق إلى اليوم آية من آيات الله، وخمدت نار فارس، ولم تخمد قبل ذلك، وغاضت بحيرة ساوة، وكانت بحيرة عظيمة في مملكة العراق عراق العجم وهمدان تسير فيها السفن، وهي أكثر من ستة فراسخ، فأصبحت ليلة مولده يابسة ناشفة، كأن لم يكن بها ماء، واستمرت على ذلك حتى بني مكانها مدينة ساوة وهي باقية إلى اليوم، وأرسلت الشهب على الشياطين كما أخبر الله بقوله: {وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ} 6 الآية. وأنبته الله نباتا حَسَنًا، وكان أفضل قومه مروءة وأحسنهم خلقا، وأعزهم جوارا، وأعظمهم حلما، وأصدقهم حديثا حتى سماه قومه: "الأمين" لما جعل الله فيه من الأحوال الصالحة والخصال المرضية؛ ووصل بُصْرَى من أرض الشام مرتين فرآه بحيرا الراهب فعرفه، وأخبر

_ 1 سورة الإسراء آية: 89. 2 سورة الأنعام آية: 116. 3 سورة يوسف آية: 103. 4 أحمد (4/ 127). 5 كذا في الأصل؛ ولا بد أن يكون صوابه: أربع عشرة شرفة منه أو من شرفاته. 6 سورة الجن آية: 9.

عمه أنه رسول الله، ونصحه أن يرده، فرده مع بعض غلمانه، وقال لعمه: احتفظ به فلم نجد قدما أشبه بالقدم الذي بالمقام 1 من قدمه. واستمرت كفالة أبي طالب له كما هو مشهور، وَبُغِّضَ إليه الأوثان ودين قومه فلم يكن شيء أبغض إليه من ذلك. والدليل على أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم من العقل والنقل: فأما النقل فواضح. وأما العقل فنبه عليه القرآن: من ذلك: أن ترك الله خلقَه بلا أمر ولا نهي لا يناسب في حق الله، ونَبَّهَ عليه في قوله: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ} 2 ومنه أن قول الرجل: إني رسول الله؛ إما أن يكون خير الناس وإما أن يكون شرهم وأكذبهم. والتمييز بين ذلك سهل يعرف بأمور كثيرة، ونبه على ذلك بقوله: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} 3 الآيات. ومنه شهادة الله بقوله: {قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ} 4. ومنها شهادة أهل الكتاب بما في كتبهم كما في هذه الآية. ومنها -وهي أعظم الآيات العقلية-: هذا القرآن الذي تحداهم بسورة من مثله، ونحن إن لم نعلم وجه ذلك من جهة العربية فنحن نعلمه من معرفتنا بشدة عداوة أهل الأرض له، علمائهم وفصحائهم، وتكريره هذا واستعجازهم به، ولم يتعرضوا لذلك على شدة حرصهم على تكذيبه، وإدخال الشبهة على الناس. ومنها: تمام ما ذكرنا، وهو إخباره -سبحانه- أنه لا يقدر أحد أن يأتي بسورة مثله إلى يوم القيامة، فكان كما ذكر، مع كثرة أعدائه في كل عصر، وما أُعْطُوا من الفصاحة والكمال والعلوم. ومنها: نصرُهُ مَنْ اتَّبَعَهُ، ولو كانوا أضعف الناس. ومنها: خذلان من عاداه وعقوبته في الدنيا، ولو كانوا أكثر الناس وأقواهم. ومنها: أنه رجل أمي لا يخط ولا يقرأ الخط، ولا أخذ عن العلماء، ولا ادعى

_ 1 مقام إبراهيم، يعني أنه -صلى الله عليه وسلم- أشبه الناس بإبراهيم. 2 سورة الأنعام آية: 91. 3 سورة الشعراء آية: 221. 4 سورة الرعد آية: 43.

ذلك أحد من أعدائه مع كثرة كذبهم وبهتانهم، ومع هذا أتى بالعلم الذي في الكتب الأولى، كما قال تعالى: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} 1. [الدعوة إلى التوحيد والتحذير من الشرك] وقال -رحمه الله تعالى-: ولما بلغ أربعين سنة، بعثه الله بشيرا ونذيرا {وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا} 2 ولما أتى قومه بلا إله إلا الله قالت قريش: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا} 3. قال الترمذي: حدثني محمد بن صالح عن عاصم بن عمر بن قتادة وزيد بن مروان وغيرهم قالوا: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث سنين مُسْتَخْفِيًا، ثم أعلن في الرابعة، فدعا عشر سنين يوافي الموسم كل عام فيقول: "أيها الناس، قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا، وتملكوا بها العرب، وتدين لكم بها العجم، فإذا متم كنتم ملوكا في الجنة"4. وأبو لهب وراءه يقول: لا تطيعوه فإنه صابئٌ كذابٌ، فيردون عليه أقبح الرد. ولما أمره الله بالهجرة، هاجر وأظهر الله دينه على الدين كله، وقاتل جميع المشركين؛ ولم يميز بين مَن اعتقد في نبي ولا ولي ولا شجر ولا حجر، وما زال يعلم الناس التوحيد، ويقمع من دعاة الشرك كل شيطان مريد، حتى أزال الله الجهل والجهال، وبان للناس من التوحيد ساطعُ الجمالِ. وعن أنس قال: قال أناس: يا رسول الله، يا خيرنا وابن خيرنا، وسيدنا وابن سيدنا. فقال صلى الله عليه وسلم: "يا أيها الناس أنا محمدٌ عبدُ الله ورسوله، ما أحب أن ترفعوني فوق منْزلتي التي أنزلني الله عز وجل"5. وعن عبد الله بن الشخير قال: انطلقت في وفد بني عامر إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: أنت سيدنا. فقال: "السيد الله"6. وعن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تُطْرُونِي كما أَطْرَتْ النصارى المسيحَ ابن مريم؛ إنما أنا عبد الله ورسوله"7. وما زال صلى الله عليه وسلم مُعَلِّمًا لأصحابه هذا التوحيد، َومُحَذِّرًا من الشرك، حتى أتاهم مرة وهم يتذاكرون الدجال فقال: "ألا أخبركم بما هو أخوف

_ 1 سورة العنكبوت آية: 48. 2 سورة الأحزاب آية: 46. 3 سورة ص آية: 5. 4 أحمد (3/ 492). 5 أحمد (3/ 249). 6 أبو داود: الأدب (4806). 7 البخاري: أحاديث الأنبياء (3445) , وأحمد (1/ 23 ,1/ 24 ,1/ 47 ,1/ 55).

ما أخاف عليكم عندي من المسيح الدجال؟ قالوا: بلى يا رسول الله. قال: الشرك الخفي: يقوم الرجل فيصلي فيزين صلاته لِمَا يَرَى مِن نظر رجل"، وحتى قال: "لا تحلفوا بآبائكم، من حلف بالله فليصدق، ومن حُلِفَ له بالله فَلْيَرْضَ، ومن لم يرض فليس من الله في شيء"1 وحتى قال: "لا يقول أحدكم: ما شاء الله وشاء فلان"2 وحتى قال: "لا تقولوا: لولا الله وفلان" وحتى قال: "لا يقول أحدكم: عبدي وأمتي"3 وحتى قال: "من حلف بغير الله فقد أشرك أو كفر"4. وحذرهم من الشرك بالله في الأقوال والأعمال، حتى قال: "إنما أنا بشر، يوشك أن يأتيني رسول ربي فأجيب، وأنا تارك فيكم الثقلين: كتاب الله فيه الهدى والنور، ومن تركه كان على الردى"5، وحتى قال: "خير الحديث: كتاب الله، وخير الهدي هَدْيُ محمد، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار"6 وحتى أنه لم يترك النهي عند الموت والتحذير لنا من هذا الشرك حتى قال: "اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد، اشتد غضبُ الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد"7. وحتى قال: "دخل الجنة رجل في ذباب، ودخل النار رجل في ذباب" الحديث. وحتى حذرهم عن الكفر بنعمة الله، قيل: هو قول الرجل: هذا مالي ورثته من آبائي، وقال بعضهم: هو كقوله: الريح طيبة والملاح حاذق، ونحو ذلك. [الصلاة والزكاة من حق الإسلام يقاتل تاركهما] ولما ذكر شيخ الإسلام تقي الدين الأحاديث*: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله"8، وكذلك حديث ابن عمر في الصحيحين: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة"9. وقال: "إن الصلاة من حقها، والزكاة من حقها"، كما قال الصِّدِّيق لعمر، ووافقه عمر وسائرهم على ذلك. ويكون ذلك أنه قال: قد شرع في العصمة وإلا بطل. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم كل واحد من الحديثين في وقت ليعلم المسلمون أن الكافر إذا قالها جَبَّ الكفر عنه، ثم صار القتال مجردًا إلى الشهادتين؛

_ 1 ابن ماجه: الكفارات (2101). 2 أبو داود: الأدب (4980) , وأحمد (5/ 384 ,5/ 398). 3 البخاري: العتق (2552) , ومسلم: الألفاظ من الأدب وغيرها (2249) , وأبو داود: الأدب (4975) , وأحمد (2/ 316 ,2/ 423 ,2/ 463 ,2/ 484 ,2/ 491 ,2/ 508). 4 الترمذي: النذور والأيمان (1535) , وأبو داود: الأيمان والنذور (3251) , وأحمد (2/ 76 ,2/ 125). 5 مسلم: فضائل الصحابة (2408). 6 مسلم: الجمعة (867) , والنسائي: صلاة العيدين (1578) , وابن ماجه: المقدمة (45) , وأحمد (3/ 371) , والدارمي: المقدمة (206). 7 مالك: النداء للصلاة (416). * انظر "شرح عمدة الفقه لابن تيمية - كتاب الصلاة" ص 62. [معد الكتاب للمكتبة الشاملة] 8 البخاري: الإيمان (25) , ومسلم: الإيمان (22). 9 البخاري: الإيمان (25) , ومسلم: الإيمان (22).

ليعلم أن تمام العصمة يحصل بذلك لئلا يقع شبهة؛ وأما مجرد الإقرار فلا يعصمهم على الدوام 1 كما وقعت لبعض الصحابة حتى جلاها الصديق رضي الله عنه ووافقوه. وقال ابن القيم في شرح المنازل 2: شهادة أن لا إله إلا الله الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوا أحد. هذا هو التوحيد الذي نفى الشرك الأعظم، وعليه نصبت القبلة، وبه حقنت الدماء والأموال، وانفصلت دار الإيمان من دار الكفر، وصحت به الملة للعامة، وإن لم يقوموا بحسن الاستدلال بعد أن يسلموا من الشبهة والحيرة والريبة بصدق شهادة صححها قبول القلب، وهذا توحيد العامة، الذي يصح بالشواهد، وهي إرسال الرسل الصنائع 3، ويجب بالسمع، ويوجد بِتَبْصِيرِ الحق، وينمو على مشاهدة الشواهد 4. والحمد لله رب العالمين.

_ 1 الإقرار بالشهادتين هو المدخل في الإسلام، والعنوان على ترك الكفر السابق، فهما كافيتان في العصمة من القتل في أثناء القتال؛ وأما الاعتداد بإسلام قائليها بعد ذلك: فلا بد فيه من إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة؛ لقوله تعالى: (فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم) وقال بعدها: (فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين). 2 هذه العبارة التي نقلها هنا هي عبارة كتاب المنازل لا شارحه ابن القيم. 3 عبارة المنازل: وهي "أي الشواهد" الرسالة والصنائع. قال ابن القيم: ومقصوده أن الشواهد نوعان آيات متلوة وهي الرسالة، وآيات مرئية وهي الصنائع. 4 هذه آخر عبارة المنازل.

رسالة في كلمة التوحيد

رسالة في كلمة التوحيد وله أيضا - قدس الله روحه ونور ضريحه- ما نصه: [معرفة شهادة أن لا إله إلا الله] اعلم -رحمك الله- أن فرض معرفة شهادة أن لا إله إلا الله قبل فرض الصلاة والصوم، فيجب على العبد أن يبحث عن معنى ذلك أعظم من وجوب بحثه عن الصلاة والصوم، وتحريم الشرك والإيمان بالطاغوت أعظم من تحريم نكاح الأمهات والجدات. فأعظم مراتب الإيمان بالله: شهادة أن لا إله إلا الله. ومعنى ذلك أن يشهد العبد أن الإلهية كلها لله؛ ليس منها شيء لنبي ولا لملك ولا لولي؛ بل هي حق لله على عباده والإلهية هي التي تسمى في زماننا السر. والإله في كلام العرب هو الذي يسمى في زماننا الشيخ والسيد الذي يُدْعَى ويستغاث به؛ فإذا عرف الإنسان أن هذا الذي يعتقده كثيرون في السمان 1 وأمثاله، أو في قبر بعض الصحابة، هو العبادة التي لا تصلح إلا لله، وأن من اعتقد في نبي من الأنبياء 2 فقد كفر، وجعله مع الله إلها آخر، فهذا لم يكن قد شهد أن لا إله إلا الله. ومعنى الكفر بالطاغوت: أن تَبْرَأَ من كل ما يعتقد فيه غير الله من جني أو إنسي، أو شجر أو حجر، أو غير ذلك، وتشهد عليه بالكفر والضلال وتبغضه، ولو كان أباك وأخاك. فأما من قال: أنا لا أعبد إلا الله، وأنا لا أتعرض السادة والقباب على القبور.

_ 1 السمان: شيخ كان أهل نجد يعتقدون ولايته فيدعونه في الشدائد. 2 أي أنه يُدْعَى ويُسْتَغَاث به فيدعوه لكشف الضر وجلب النفع، سواء اعتقد المعتقد أنه يفعل ما يدعي له بنفسه أو بتأثيره عند الله -تعالى-، فإن اعتقاد هذا التأثير في إرادة الله وفعله: عين الإشراك في حصول المقصود، فهو من الشرك.

رسالة أخرى في كلمة التوحيد وكونها تنفي أربعا وتثبت أربعا

وأمثال ذلك، فهذا كاذب في قول: لا إله إلا الله، ولم يؤمن بالله، ولم يكفر بالطاغوت. وهذا كلام يسير، يحتاج إلى بحث طويل واجتهاد في معرفة دين الإسلام، ومعرفة ما أرسل الله به رسوله صلى الله عليه وسلم، والبحث عما قال العلماء في قوله: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} 1، ويجتهد في تعلم ما عَلَّمَ اللهُ رسولَه، وما علَّمه الرسول لأمته من التوحيد. ومن أعرض عن هذا فطبع الله على قلبه، وآثر الدنيا على الدين، لم يعذره الله بالجهالة، والله أعلم. [رسالة في كلمة التوحيد وما تنفي وما تثبت] رسالة أخرى في كلمة التوحيد (وكونها تنفي أربعًا وتثبت أربعًا) قال -رحمه الله تعالى-: [كلمة التوحيد تنفي أربعا وتثبت أربعا] اعلم -رحمك الله- أن معنى لا إله إلا الله: نَفْيٌ وإثباتٌ، تنفى أربعة أنواع؛ وتثبت أربعة أنواع، تنفي: الآلهة، والطواغيت، والأنداد، والأرباب. فالآلهة: ما قصدته بشيء من جلب خير أو دفع ضر، فأنت مُتَّخِذُهُ إِلَهًا. والطواغيت: مَنْ عُبِدَ وهو راضٍ أو رُشِّحَ للعبادة، مثل السمان أو تاج، أو أبي حديدة. والأنداد: ما جذبك عن دين الإسلام من أهل، أو مسكن أو عشيرة، أو مال فهو نِدٌّ؛ لقوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} 2. والأرباب: من أفتاك بمخالفة الحق وأطعته؛ مِصْدَاقًا لقوله تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} 3. وتثبت أربعة أنواع: القصد: وهو كونك ما تقصد إلا الله. والتعظيم والمحبة؛ لقوله عز وجل: {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} 4 والخوف والرجاء؛ لقوله تعالى: {وَإِنْ

_ 1 سورة البقرة آية: 256. 2 سورة البقرة آية: 165. 3 سورة التوبة آية: 31. 4 سورة البقرة آية: 165.

مذاكرة الشيخ مع أهل حريملاء في كلمة التوحيد، وفيمن يجمع بينها وبين الشرك

يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} 1. فمن عرف هذا، قطع العلاقة مع غير الله. ولا تكبر عليه جَهَامة الباطل، كما أخبر الله عن إبراهيم -على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام- بتكسيره الأصنام وَتَبَرِّيهِ من قومه؛ لقوله تعالى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ} 2 الآية. [مذاكرة الشيخ مع أهل حريملاء في كلمة التوحيد، وفيمن يجمع بينها وبين الشرك] مذاكرة الشيخ محمد رحمه الله مع أهل بلد حريملة في كلمة التوحيد، والجمع بين التوحيد والشرك قال لهم: لا إله إلا الله قد سألنا عنها كل من جاءنا منكم من مطوع 3 وغيره، ولا لقينا عندهم إلا أنها لفظة ما لها معنى، ومعناها: لفظها، ومن قالها فهو مسلم، وقد يقولون لها معنى لكن معناها لا شريك له في ملكه. ونحن نقول: لا إله إلا الله ليست باللسان فقط؛ لا بد للمسلم إذا لفظ بها أن يعرف معناها بقلبه، وهي التي جاءت لها الرسل وإلا الملك ما جاءت الرسل له. وأنا أُبَيِّنُ لكم -إن شاء الله- مسألة التوحيد، ومسألة الشرك. تعرفون المشهد فيه قبة؛ والذي صلى الظهر من الرجال، قام وتقبل القبر، وولى الكعبة قفاه وركع لِعَلِيٍّ ركعتين: صلاته لله توحيد، وصلاته لِعَلِيٍّ شركٌ، أأنتم فهمتم؟ قالوا: فهمنا، صار هذا مشركا صلى لله، وصلى لغيره. ولله -سبحانه- حق على عبده في البدن والمال. والصلاة زكاة البدن، والزكاة في المال حق له تعالى فإذا زكيت لله وخرجت بشيء تُفَرِّقُهُ عند القبة؛ فزكاتك لله توحيد، وزكاتك للمخلوق شرك.

_ 1 سورة يونس آية: 107. 2 سورة الممتحنة آية: 4. 3 المطوع: هو الذي يُعَلِّمُ العامة ويفقههم، وهو دون العالم.

رسالة أخرى في كلمة التوحيد

كذلك سفك الدم إن ذُبِحَتْ لله توحيد، وإن ذبحت لغيره صار شركا، كما قال تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ} 1 والنسك: سفك الدم 2. كذلك التوكل من أنواع العبادة، إن توكلت على الله صار توحيدا، وإن توكلت على صاحب القبة صار شركا. قال تعالى: {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} 3. وأكبر من ذلك كله: الدعاء، تفهمون أنه يُذْكَرُ 4 أن الدعاء مخ العبادة؟ قالوا: نعم، قال الله تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} 5 أنتم تفهمون أن هنا من يدعو الله ويدعو الزبير، ويدعو الله ويدعو عبد القادر، الذي يدعو الله وحده مخلصٌ، وإن دعا غيره صار مشركا. فهمتم هذا؟ قالوا: فهمنا. قال الشيخ: هذا إن فهمتموه: فهذا الذي بيننا وبين الناس، فإن قالوا: هؤلاء يعبدون أصناما يدعونهم يريدون منهم، ونحن عبيد مذنبون وهم صالحون ونبغي بجاههم، فقل لهم: عيسى نبي الله -عليه السلام- وأمه صالحة، والعزير صالح، والملائكة كذلك، والذين يدعونهم أخبر الله عنهم أنهم ما أرادوا منهم ما أرادوا بجاههم إلا قربة وشفاعة، واقرأ عليه الآيات في الملائكة في قوله تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ} 6 الآية، وفي الأنبياء قوله: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} 7 الآية، وفي الصالحين: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ} 8 الآية، ولم يفرق بينهم النبي صلى الله عليه وسلم. رسالة أخرى في كلمة التوحيد وله أيضًا -رحمه الله تعالى-: اعلم -أرشدك الله- أن الله خلقك لعبادته، وأوجب عليك طاعته، ومن أفرض عبادته عليك: معرفة لا إله إلا الله علما وقولا وعملا، والجامع لذلك قوله تعالى:

_ 1 سورة الأنعام آية: 162. 2 أي: لأجل القربة كالأضحية، وفدية الإحرام، ومثلها النذر لله وحده. 3 سورة هود آية: 123. 4 أي يذكر في الحديث عن النبي (ص). 5 سورة الجن آية: 18. 6 سورة سبأ آية: 40. 7 سورة النساء آية: 171. 8 سورة الإسراء آية: 56.

{وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا} 1. وقوله تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} 2. [كلمة التوحيد الفارِقة بين الكفر والإسلام] فاعلم أن وصية الله لعباده: هي كلمة التوحيد الفارِقة بين الكفر والإسلام، فعند ذلك افترق الناس سواء جهلا أو بغيا أو عنادا. والجامع لذلك: اجتماع الأمة على وفق قول الله تعالى: {أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} 3، وقوله: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} 4 الآية. فالواجب على كل أحد إذا عرف التوحيد، وأقر به أن يحبه بقلبه، وبنصره بيده ولسانه، وينصر من نصره ووالاه وإذا عرف الشرك وأقر به أن يبغضه بقلبه، ويخذله بلسانه، ويخذل من نصره ووالاه باليد واللسان والقلب هذه حقيقة الأمرين، فعند ذلك يدخل في سلك من قال الله فيهم: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا} 5. فنقول: لا خلاف بين الأمة أن التوحيد لا بد أن يكون بالقلب الذي هو العلم، واللسان الذي هو القول، والعمل الذي هو تنفيذ الأوامر والنواهي، فإنْ أخَلَّ بشيء من هذا، لم يكن الرجل مسلما، فإن أقر بالتوحيد ولم يعمل به فهو كافر معاند كفرعون وإبليس، وإن عمل بالتوحيد ظاهرا، وهو لا يعتقده باطنا فهو منافق خالص، وهو شر من الكافر، والله أعلم. [توحيد الألوهية هو الفارق بين الكافر والمسلم] قال -رحمه الله-: وهو نوعان: توحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية: أما توحيد الربوبية فيقر به الكافر والمسلم، وأما توحيد الألوهية فهو الفارق بين الكفر والإسلام. فينبغي لكل مسلم أن يميز بين هذا وهذا، ويعرف أن الكفار لا ينكرون أن الله الخالق الرازق المدبر، قال الله تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ} 6 الآية. {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ

_ 1 سورة آل عمران آية: 103. 2 سورة الشورى آية: 13. 3 سورة الشورى آية: 13. 4 سورة يوسف آية: 108. 5 سورة آل عمران آية: 103. 6 سورة يونس آية: 31.

مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} 1 الآية. فإذا ثبت لك أن الكفار يقرون بذلك عرفت أن قولك، لا يخلق ولا يرزق إلا الله، ولا يدبر الأمر إلا الله، لا يُصَيِّرُكُ مسلمًا حتى تقول: لا إله إلا الله مع العمل بمعناها. فهذه الأسماء كُلٌّ منها له معنًى يخصه. أما قولك: الخالق؛ فمعناه الذي أوجد جميع مخلوقاته بعد عدمها. وأما قولك: الرازق؛ فمعناه أنه لما أوجد الخلق أجرى عليهم أرزاقهم. وأما المدبر: فهو الذي تنْزل الملائكة من السماء إلى الأرض بتدبيره، وتصعد إلى السماء بتدبيره، ويسير السحاب بتدبيره، وتصرف الرياح بتدبيره، وكذا جميع خلقه، هو الذي يدبرهم على ما يريد. فهذه الأسماء تتعلق بتوحيد الربوبية الذي يقر به الكفار. وأما توحيد الألوهية فهو قولك: لا إله إلا الله، وتعرف معناها كما عرفت معنى الأسماء المتعلقة بالربوبية، فقولك: لا إله إلا الله نَفْيٌ وإثباتٌ: فتنفي الألوهية كلها عن غير الله، وتثبتها لله وحده، فمعنى الإله في زماننا: الشيخ والسيد الذي يقال فيهم سر ممن يعتقد فيهم أنهم يجلبون منفعة أو يدفعون مضرة. فمن اعتقد في هؤلاء أو غيرهم؛ نبيا كان أو غيره هذا الاعتقاد فقد اتخذه إلها من دون الله، فإن بني إسرائيل لما اعتقدوا في عيسى ابن مريم وأمه سَمَّاهم لله إلهين، قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ} 2. ففي هذا دليل على أن مَن اعتقد في مخلوق جَلْبَ منفعةٍ أو دفعَ مضرةٍ فقد اتخذه إلها، فإذا كان الاعتقاد في الأنبياء هذه حاله فما دونهم أولى.

_ 1 سورة العنكبوت آية: 61. 2 سورة المائدة آية: 116.

وأيضًا فإن من تبرك بحجر أو شجر، أو مسح على قبر أو قبة يتبرك بهم، فقد اتخذهم آلهة 1. والدليل على ذلك أن الصحابة لما قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط، يريدون بذلك التبرك، قال: "الله أكبر إنها السنن، قلتم والذي نفسي بيده كما قالت بنو إسرائيل لموسى: {اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ إِنَّ هَؤُلاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} "2. فوصف قول الصحابة في ذات أنواط بقول بني إسرائيل وسماه إلها 3. ففي هذا دليلٌ على أن مَن فعل مِن ذلك شيئا مما ذكرناه: فقد اتخذه إلها. [الإله الذي لا تصلح العبادة إلا له هو الله وحده] والإله هو: المعبود الذي لا تصلح العبادة إلا له، وهو الله وحده، فمن نذر لغير الله أو ذبح له فقد عبده، وكذلك من دعا غير الله، قال تعالى: {وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ} 4، وفي الحديث:

_ 1 كذا في الأصل بضمير العقلاء. ويعني بالتبرك المنافي للتوحيد: ما فشا في العوام من اعتقاد أن هذه الأشياء المُتَبَرَك بها تنفع فتشفي من المرض وبرد البلاء وغير ذلك، بخلاف التبرك المَرْوِي عن بعض الصحابة بآثار النبي -صلّى الله عليه وسلّم- وبدم حجامته ونخامته، وتبرك الشافعي بقميص الإمام أحمد الذي روي بالسند كما في طبقات السبكي، ولكن شيخ الإسلام ابن تيمية قال: إن هذه الرواية غيرُ ثابتة، وعلى تقدير ثبوتها يراد بها وبأمثالها ذكرى الحب كالمعهود من عشاق الحسان. 2 سورة الأعراف آية: 138: 140. 3 إن الذين قالوا للنبي (ص) ما ذُكِرَ كانوا حديثي عهد بالشرك، فظنوا أن ما يجعله لهم النبي -صلّى الله عليه وسلّم- من ذلك يكون مشروعا لا ينافي الإسلام. وأما بنو إسرائيل الذين طلبوا من موسى جعل الآلهة لهم فكانوا جاهلين بحقيقة التوحيد بما تَرَبَوْا عليه من شرك الفراعنة كما تقدم في حاشية سابقة. 4 سورة يونس آية: 106.

"إن الدعاء مخ العبادة"1، وكذلك من جعل بينه وبين الله واسطةٌ، وزعم أنها تقربه إلى الله فقد عبده. وقد ذكر الله ذلك عن الكفار؛ فقال تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} 2. وقال تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} 3. وكذلك ذَكَرَ عن الذين جعلوا الملائكة وسائط فقال: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ} 4. فذكر سبحانه أن الملائكة نَزَّهُوهُ عن ذلك، وأنهم تبرؤوا من هؤلاء، وأن عبادتهم كانت للشياطين الذين يأمرونهم بذلك. وذكر سبحانه عن الذين جعلوا الصالحين وسائط، فقال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلًا أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} 5. وذكر سبحانه أنهم لا يملكون كشف الضر عن أحد ولا عن أنفسهم، وأنهم لا يُحَوِّلُونَهُ عن أحد، وأنهم يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب، ويرجون رحمته ويخافون عذابه. فهذا يثبت لك معنى لا إله إلا الله؛ فإذا عرفت حال المعتقدين في عيسى بن مريم والمعتقدين في الملائكة، والمعتقدين في الصالحين، وحالهم معهم أنهم لا يملكون لأنفسهم ضرا ولا نفعا فضلا عن غيرهم عرفتَ أن مَن اعتقد فيمن دونهم فهو أضل سبيلا، فحينئذ يثبت لك معنى لا إله إلا الله، والله أعلم.

_ 1 الترمذي: الدعوات (3371). 2 سورة يونس آية: 18. 3 سورة الزمر آية: 3. 4 سورة سبأ آية:40: 41. 5 سورة الإسراء آية:56، 66.

رسالة في حقيقة الإسلام من الكتاب والسنة ومن خالفهما من أدعياء العلم والعرفان

[رسالة في حقيقة الإسلام ومن خالفه من أدعياء العلم] رسالة في حقيقة الإسلام من الكتاب والسنة (ومن خالفهما من أدعياء العلم والعرفان) قال -رحمه الله تعالى-: اعلم -وفقنا الله وإياك للإيمان بالله ورسله- أن الله سبحانه قال في كتابه: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا} 1. فتأمل هذا الكلام، وأن الله أمر بقتلهم وحصرهم والقعود لهم كل مرصد إلى أن يتوبوا من الشرك ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة. وأيضا فقد قال صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام، وحسابهم على الله تعالى"2 فهذا كلام رسوله. وقد أجمع العلماء عليه من كل مذهب، وخالف ذلك من هؤلاء الجهال الذين يسمون العلماء فقالوا: من قال لا إله إلا الله فهو المسلم، حرام الدم والمال. وقد بَيَّنَ النبي صلى الله عليه وسلم الإسلام في حديث جبريل لما سأله عن الإسلام فقال: "الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا"3. فهذا تفسير رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهؤلاء يقولون: البدو إسلام؛ لأنهم يقولون لا إله إلا الله، فمن سمع كلامهم وسمع كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا بد له من أحد أمرين: إما أن يصدق الله ورسوله ويتبرأ منهم ويكذبهم، وإما أن يصدقهم ويكذب الله ورسوله؛ فنعوذ بالله من ذلك، والله أعلم. فتأمل أصول الدين: (الأولى): أن الله أرسل الرسل وأنزل الكتب لبيان الحق من الباطل. (الثانية): بيان ما اختلف فيه الناس أن الواجب عليهم اتباع

_ 1 سورة التوبة آية: 5. 2 البخاري: الإيمان (25) , ومسلم: الإيمان (22). 3 مسلم: الإيمان (8) , والترمذي: الإيمان (2610) , والنسائي: الإيمان وشرائعه (4990) , وأبو داود: السنة (4695) , وابن ماجه: المقدمة (63) , وأحمد (1/ 27 ,1/ 51 ,2/ 107).

ما أنزل إليهم من ربهم. (الثالثة): أن مَن لم يرفع به رأسا فهو منافق جاهل. (الرابعة): رد ما تنازعوا فيه إلى الكتاب والسنة. (الخامسة): أن من اتَّبَعَ الهدى الذي جاءت به الرسل من عند الله لا يضل ولا يشقى. (السادسة): أن من أعرض عن ذلك حُشِرَ أعمى ضالا شقيا مُبْعَدًا. (السابعة): أن الذين في قلوبهم مرض يتبعون ما تشابه منه. {تكفير المسلم بالشرك بالله وموالاة المشركين على المؤمنين} (قال الشيخ محمد -رحمه الله تعالى-): إذا شهد الإنسان أن هذا دين الله ورسوله؛ كيف لا يَكْفُرُ مَن أنكره، وَقَتَلَ مَنْ آمَنَ به وحَبَسَهُمْ؟ كيف لا يَكْفُرُ مَنْ أتَى المشركين يحثهم على لزوم دينهم، ويُزَيِّنه لهم، ويحثّهم على معاداة الموحدين وأخذ أموالهم؟ كيف لا يكفر؛ ويشهد أن هذا الذي يحث عليه أن الرسول صلى الله عليه وسلم أنكره، ونهى عنه وسماه الشرك بالله؟ وهذا الذي يبغضه ويبغض أهله ويأمر المشركين بقتلهم هو دين الله ورسوله. واعلم أن الأدلة على تكفير المسلم الصالح إذا أشرك بالله، أو صار مع المشركين على الموحدين ولم يشرك: أكثر من أن تُحْصَر من كلام الله، وكلام رسوله، وكلام العلماء. وأنا أذكر لك آية من كلام الله؛ أجمع أهل العلم على تفسيرها، وأنها في المسلمين، وأن الرجل إذا قال ذلك فهو كافر في أيّ زمان كان. قال الله تعالى: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالأِيمَانِ} 1 الآية. وفيها ذكر أنهم استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة، فإذا كان العلماء ذكروا أنها نزلت في الصحابة؛ لما فتنهم أهل مكة، وذكروا أن الصحابي إذا تكلم بكلام الشرك بلسانه مع بغضه لذلك وعداوة أهله لكن خوفا منهم، فهو كافر بعد إيمانه؛ فكيف بالمؤمن في زماننا إذا تكلم بالبصرة أو الإحساء أو مكة أو غير ذلك، خوفا منهم لكن قبل الإكراه؟ إذا كان هذا يكفر، فكيف بمن كان معهم وسكن معهم، وصار من جملتهم؟ فكيف بمن أعانهم على الشرك وزينه لهم؟ فكيف بمن أمرهم

_ 1 سورة النحل آية: 106.

ذبيحة المرتد وما يكفر به المسلم وحكمه

بقتل الموحدين وحثهم على لزوم دينهم؟ فأنتم -وفقكم الله- تأملوا هذه الآية، وتأملوا مَنْ نزلت فيه، وأجمع العلماء على تفسيرها، وتأملوا ما جرى بيننا وبين أعداء الله، نطلبهم دائما للرجوع إلى كتبهم التي بأيديهم في مسألة التكفير والقتال، فلا يجاوبوننا إلا بالشكوى عند الشيوخ وأمثالهم. ونسأل الله أن يوفقكم لدينه القيم، ويرزقكم الثبات عليه، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم. {ذبيحة المرتد وما يكفر به المسلم وحكمه} وسئل عن ذبيحة المرتد، وتكفير من يعمل بفرائض الإسلام إلخ. فأجاب: قوله تعالى: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} 1 الآية. وقوله: {فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} 2 الآيات، لا اختلاف في حكمهن بين أحد عرف كتاب الله. ولكن الكلام في حكم الذابح هل هو مسلم فيدخل حكمه في حكم الآية؛ إذا ذبح وسمى الله عليها؛ فلو ترك التسمية نسيانا حلت ذبيحته، وكانت من الطيبات، بخلاف من ترك التسمية عمدا فلا تحل ذبيحته. وكذلك أهل الكتاب أعني: اليهود والنصارى، ذبيحتُهم ومناكحتُهم حلالٌ؛ لقوله تعالى {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} 3 الآية. وأما المرتد فلا تحل ذبيحته؛ وإن قال فيها: بسم الله؛ لأن المانع لذلك ارتداده عن دين الإسلام، لا ترك التسمية؛ لأن المرتد شر عند الله من اليهود والنصارى من وجوه: (أحدها): أن ذبيحته من الخبائث. (الثانية): أنها لا تحل مناكحته بخلاف أهل الكتاب. (الثالثة): أنه لا يُقَرُّ في بلد المسلمين لا بجزية ولا بغيرها. (الرابعة): أن حكمه يضرب عنقه بالسيف؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "من بدل دينه فاقتلوه"4، بخلاف أهل الكتاب. فإذا تقرر هذا عندك: فاعرف أن الكلام في تحريم ذبيحة المرتد، لا في أن الله أمر بأكل ما سمي الله عليه، ولا تحليل طعام أهل الكتاب. [تكفير من يعمل بفرائض الإسلام] وقولكم: لِمَ تُكفِّرُون مَن يعمل بفرائض الإسلام الخمس؟ فقد كان في زمن

_ 1 سورة المائدة آية: 4. 2 سورة الأنعام آية: 118. 3 سورة المائدة آية: 5. 4 البخاري: الجهاد والسير (3017) واستتابة المرتدين والمعاندين وقتالهم (6922) , والنسائي: تحريم الدم (4059) , وأبو داود: الحدود (4351) , وابن ماجه: الحدود (2535) , وأحمد (1/ 217 ,1/ 282 ,1/ 322).

الرسول صلى الله عليه وسلم مَن انتسب إلى الإسلام ثم مَرَقَ من الدين 1 كما في الحديث الصحيح: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث البراء بن عازب معه الراية إلى رجل تزوج امرأة أبيه؛ ليقتله ويأخذ ماله، وقد انتسب إلى الإسلام وعمل به. ومثل قتال الصديق والصحابة -رضي الله عنهم- مانعي الزكاة وسبي ذراريهم وغنيمة أموالهم وتسميتهم مرتدين بعد ما عملوا بشرائع الإسلام. ومثل اجتماع التابعين على قتل الجعد بن درهم وهو مشتهر بالعلم والدين إلى غير ذلك، وقد جرى وقائع لا تُعَدُّ ولا تُحْصَى، ومثل بني عُبَيْدٍ الذين ملكوا مصر والشام وغيرها مع تظاهرهم بالإسلام، وصلاة الجمعة والجماعة، ونصب القضاة والمفتين. لما أظهروا من الأقوال والأفعال ما أظهروا: لم يتوقف أحد من أهل العلم والدين عن قتالهم مع ادعائهم الملة، ومع قولهم: لا إله إلا الله، أو لأجل إظهار شيء من أركان الإسلام إلا ما سمعنا منكم. فما معنى الباب الذي ذكر العلماء في كل مذهب وهو (باب حكم المرتد) وهو المسلم الذي يكفر بعد إسلامه، حتى ذكروا فيه أنواعا كثيرة كل نوع منها يُكَفِّر الإنسان، ويحل دمه وماله، حتى ذكروا أشياء يسيرة مثل كلمة يذكرها بلسانه دون قلبه، أو كلمة يذكرها على وجه المَزْح واللعب، والذين قال الله فيهم: {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ} 2 الآية. أسمعت! الله كفَّرَهم بكلمة مع كونهم في زمن النبي صلى الله عليه وسلم يجاهدون معه، ويصلون، ويزكون، ويصومون، ويحجون، ويوحدون الله سبحانه. وكذلك الذين قال الله فيهم: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ} 3 الآية، قالوا كلمة على وجه المزح واللعب 4، فصرح

_ 1 كذا في الأصل وقد سقط منه الخبر أي كذلك يحكم بكفره ويقتل. 2 سورة التوبة آية: 74. 3 سورة التوبة آية: 65. 4 تلك الكلمة تتضمن تكذيب النبي -صلى الله عليه وسلم- أو الشك في نبوته، قيل: هي قول بعضهم: إن كان ما يقول محمد حقا فهم شر من الحمير، وقيل: هي استهزاؤهم بقتاله للروم، وعلى كل حال قد ثبت بالآية أن الذي يصلي ويصوم ويجاهد قد يُحْكَم بكفره بكلمة استهزاء بالدين أو بالرسول -صلى الله عليه وسلم-.

الله أنهم كفروا بعد إيمانهم، وهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك؛ فتأمل -أرشدك الله- من انتسب إلى الإسلام مرق من الإسلام؛ لما أظهر خلاف ذلك، فكيف بما هو أظهر من ذلك؟ فإذا كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه مَن انتسب إلى الإسلام مَن مرق منه، مع عبادته العظيمة، حتى أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتالهم، فعلم أن المُنْتَسِب إلى الإسلام في هذه الأزمان قد يمرق من الإسلام. [الإسلام لا يصلح إلا بمعاداة أهل الشرك] وقولكم: هل يعلمون للنبي صلى الله عليه وسلم دينا إلا الإسلام الذي جاء به جبرئيل؟ فمعلوم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام يدعو الناس إلى التوحيد سنين عديدة، قبل أن يدعوهم إلى أركان الإسلام. ومعلوم أن التوحيد الذي جاء به جبرئيل أعظم فريضة، وهو أعظم من الصلاة والزكاة والصوم والحج، فكيف إذا جحد الإنسان شيئا من أركان الإسلام كفر، ولو عمل بكل ما جاء بها الرسول صلى الله عليه وسلم، وإذا جحد التوحيد الذي هو دين الرسل من نوح إلى محمد لا يكفر؛ لأنه يقول: لا إله إلا الله؛ أو لأنه يفعل كذا وكذا؟ فما الذي فَرَّقَ بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين قريش؟ هل هو عند الملك والرياسة والتطاول؟ أو عند لا إله إلا الله محمد رسول الله؟ فتفرقوا عند ذلك وقالوا: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} 1. أتظن أن قريشا لو يعلمون أن هذا الكلام مجرد قول بلا عمل، وأنهم يقولون لا إله إلا الله، وينشؤون على دينهم، ولا يضرهم، وأن النبي صلى الله عليه وسلم يرضى منهم بذلك وأنه ما يحاربهم ولا يكفرهم ولا يقاتلهم؟ أتراهم يتركون التلفظ بلا إله إلا الله كما هو اعتقادكم، أَوَ دِينُ الإسلام لفظُ لا إله إلا الله؟ وأن من قالها فهو المسلم، وتؤثرون عليها حديث جبرئيل، وحديث: بني الإسلام على خمسة أركان، وحديث أمرت أن أقاتل الناس. وحديث أسامة. وحديث من صلى صلاتنا. وحديث أنه كان إذا أغار على القرية؛ إن سمع أذانا كَفَّ عنها، وإلا أغار عليها، ولكن الأمر كما قال عمر -رضي الله عنه-: "إنها لا تنقض عُرَى الإسلام عروة عروة حتى ينشأ في الإسلام

_ 1 سورة ص آية: 5.

من لا يعرف الجاهلية". فذلك أنه إذا لم يعرف من الشرك ما عابه القرآن وما ذمه وقع فيه، وهو لا يعرف أنه الذي كان عليه أهل الجاهلية أو فوقه أو دونه أو شر منه، فَتُنْقَضُ بذلك عرى الإسلام، ويعود المعروف منكرا والمنكر معروفا، والبدعة سنة والسنة بدعة، ويكفَّر الرجل بمَحْضِ الإيمان وتَجْرِيد التوحيد، وَيُبَدَّعُ بمتابعة الرسول، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. فإن كان سؤالك مُسْتَرْشِدًا فاسأل عن قول الله في إبراهيم: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ} 1. قال: وما نجا من شر هذا الشرك الأكبر إلا مَن جَرَّدَ التوحيد لله، وعادَى المشركين في الله وتقرب بِمَقْتِهِمْ إلى الله. فتأمل أن الإسلام لا يصح إلا بمعاداة أهل الشرك، وإن لم يعادهم فهو منهم ولو لم يفعله، واسأل عن معنى قوله تعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} 2 إلى قوله: {وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ} 3، وقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} 4 إلى قوله: {وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} 5 الآيات. وقال تعالى: {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} 6 الآيات، وما أشبه ذلك. واسأل عن سبب نزول الآية، وما معناها، وإن كان غير ذلك، فلا تأس على الهالكين. وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم. {انتهت رسائل الشيخ محمد عبد الوهاب -رحمه الله تعالى-}

_ 1 سورة إبراهيم آية: 35. 2 سورة المائدة آية: 78. 3 سورة المائدة آية: 81. 4 سورة الممتحنة آية: 1. 5 سورة الممتحنة آية: 4. 6 سورة المجادلة آية: 22.

كتاب جواب أهل السنة النبوية في نقض كلام الشيعة والزيدية

كتاب جواب أهل السنة النبوية في نقض كلام الشيعة والزيدية وهو رد على بعض علماء الزيدية، فيما اعترض به على دعوة التوحيد الوهابية تأليف الشيخ الإمام عبد الله بن شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمهم الله تعالى طبع على نفقة صاحب الجلالة السعودية، ومحيي السنة المحمدية الإمام عبد العزيز آل سعود ملك الحجاز ونجد وملحقاتها {وقد جعله كسابقه ولاحقه وقفًا لله تعالى}

بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا. من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، -صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليما. (أما بعد): فإنه قد وصل إلينا كتابكم الذي فيه الاعتراض على الجواب الذي قد أتاكم العام الماضي صحبة رسولكم؛ واعتراض المعترض عليه فاسد من وجوه كثيرة، وهو يدل على جهالة قائله ومكابرته ومعاندته لأهل البيت النبوي، وغيرهم من أهل السنة والجماعة المقتدين بكتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم كما سنبينه -إن شاء الله تعالى-. والجاهل يبين جهله وضلاله بالأدلة، فإذا عاند وكابر صار جهاده بالسيف، كما قال تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} 1. أما قوله: إن سبب الاختلاف بين السائل والمسؤول هو أن عَلِيًّا -عليه السلام- فارقه وحاربه معاويةُ بن أبي سفيان رضي الله عنه، وقتل علي رضي الله عنه بعد أن كانت الحرب بينهما أربعين يوما إلى آخره. [الشرك بالله سبب الاختلاف بين أهل نجد والرافضة] فنقول: هذا مما يدل على جهل المعترض أو تجاهله، وذلك أن الاختلاف الذي بيننا وبينكم ليس هذا سببه، وإنما سبب الاختلاف والعداوة والمقاتلة لمن قاتلناه هو: الشرك بالله، الذي قد انتشر وذاع في سائر البلاد، من يَمَنٍ وشام ومغرب

_ 1 سورة الحديد آية: 25.

ومشرق، وهو: الاستغاثة بالصالحين ودعوتهم في كشف الشدائد وجلب الفوائد الذي قال الله فيه وفيمن فعله: {مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} 1. وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا} 2. وقال تعالى في حق الأنبياء: {وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} 3. وقال لنبينا صلى الله عليه وسلم {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} 4. وقال تعالى: {وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ} 5. وقد صح عندنا بالنقل المتواتر أن هذا يُفْعَل عندكم في كثير من بلاد اليمن ولا تُزِيلُونه ولا تُنْكِرُونه على مَن فعله، والأوثان والبنايات التي على القبور موجودة عندكم. وقد ثبت في صحيح مسلم عن أبي الهياج الأسدي قال: قال لي عليٌّ رضي الله عنه ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا أَدَعُ تمثالا إلا طمستُه، ولا قبرًا مشرفا إلا سويته"6.

_ 1 سورة المائدة آية: 72. 2 سورة النساء آية: 48. 3 سورة الأنعام آية: 88. 4 سورة الزمر آية: 65. 5 سورة يونس آية: 106. 6 ورُوِيَ: "ألا تَدَعَ تمثالا" بالخطاب إلخ.

الاختلاف بين علي ومعاوية ورأي أهل السنة في هذه الفتن

الاختلاف بين علي ومعاوية {ورأي أهل السنة في هذه الفتن} 1 [سبب الفتن والحروب في عهد الصحابة] وأما الاختلاف الذي بين علي ومعاوية: فتلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولنا ما كسبنا، ولا نسأل عما كانوا يعملون، كما قال الله تعالى؛ لأهل الكتاب لما احتجوا بإبراهيم وإسحاق ويعقوب: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} 2. وأما قوله: فلما مات الحسن اسْتَتَمَ لمعاوية هذا الأمر، فهذا مما يدل على جهله بالسِّيَر والأخبار، فإن الأمر قد استتم لمعاوية قبل موت الحسن بسنين، وبايعه جميع المسلمين بالخلافة سنة انخلع الحسن من الخلافة، وسلمها إلى معاوية، وصالحه على ذلك في سنة إحدى وأربعين. وذلك أنه ولي الخلافة بعد قتل أبيه رضي الله عنه فأقام فيها ستة أشهر وأياما، ثم سار إليه معاوية وأرسل إليه الحسن يبذل تسليم الأمر إليه واشترط عليه شروطا، فأجاب معاوية إلى ذلك، وظهرت المعجزة النبوية في قوله صلى الله عليه وسلم في الحسن بن علي: "إن ابني هذا سيد؛ ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين"3. وكان نزوله عنها في شهر ربيع الأول من السنة المذكورة، وقيل في جماد الأول 4. وتوفي الحسن رضي الله عنه بالمدينة سنة تسع وأربعين، وقيل: في خامس ربيع الأول سنة خمس وأربعين، وقيل سنة إحدى

_ 1 هذا العنوان وأمثاله من وضع المطبعة لا من وضع المؤلف، والغرض منها الترغيب في المطالعة وتسهيل المراجعة، اقتداء بوضع الأمة أسماء السور في المصحف ووضع العلماء أبوابًا لصحيح مسلم. 2 سورة البقرة آية: 134. 3 البخاري: الصلح (2704) , والترمذي: المناقب (3773) , والنسائي: الجمعة (1410) , وأبو داود: السنة (4662) , وأحمد (5/ 37 ,5/ 49). 4 كذا في الأصل، ولعله تحريف من النساخ، فالصواب: جمادى الأولى.

وخمسين. كذا ذكره السيوطي وغيره من أهل التواريخ، وبهذا يتبين لك تخبط المجيب في كلامه، وجهله بالنقل. [نكبة المسلمين الكبرى وفتنتها بقتل عثمان] وأما قوله: فلما قتل علي، ومات ابنه الحسن استتم لمعاوية الأمر، فذلت له الرقاب، وافترقت الأمة إلى فرقتين إلى آخر كلامه. فيقال: وهذا أيضا من عجيب جهله، فإن الافتراق العظيم الواقع بين الأمة سببه قتل أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه وبعد قتله افترقت القلوب حتى آل الأمر إلى القتال بالسيف، وجرى بين علي وطلحة والزبير وقعة الجمل المشهورة؛ قتل فيها بين الفريقين نحو ثمانية عشر ألفا، ثم جرت بين علي ومعاوية وقعة "صفين". ودام القتال بينهم نحو مائة يوم وعشرة أيام، وقتل بين الفريقين نحو مائة ألف وعشرة آلاف، فمن أهل الشام تسعون ألفا، ومن أهل العراق عشرون ألفا كما ذكر ذلك المسعودي، وغيره من أهل العلم بالتاريخ. وجرى في أيام علي من الفتن والحروب والقتل بين المسلمين ما هو معروف، وكل ذلك بسبب قتل عثمان رضي الله عنه 1. وقد أخرج ابن عدي وابن عساكر من حديث أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن لله سيفا مغمودا في غمده ما دام عثمان، فإذا قتل عثمان جرد ذلك السيف، فلم يغمد إلى يوم القيامة"، قال السيوطي: تفرد به عمرو بن فائد وله مناكير. وأخرج ابن عساكر عن حذيفة قال: "أول الفتن قتل عثمان، وآخر الفتن خروج الدجال. والذي نفسي بيده، لا يموت رجل وفي قلبه مثقال حبة من حب قتل عثمان إلا وقع في فتنة الدجال، وإن لم يدركه آمن به في قبره". وأخرج ابن عساكر 2: لو لم يطلب الناس بدم عثمان لرموا بالحجارة من السماء.

_ 1 وأما السبب الباطن لهذه الفتن فهي دعاية التشيع لعلي -كرم الله وجهه- التي بثها الخبيث عبد الله بن سبأ اليهودي الزنديق في المسلمين، فكان الغلو فيها سبب غلو الخوارج في عداوة علي وأنصاره، وغيرهم من أهل السنة. 2 لم يذكر صاحب هذا الأثر، والظاهر أنه حذيفة، فيراجع في تاريخ ابن عساكر.

وأخرج عن سمرة قال: "إن الإسلام كان في حصن حصين، وأنهم ثلموا في الإسلام ثلمة بقتلهم عثمان لا تسد إلى يوم القيامة، وأن أهل المدينة كانت فيهم الخلافة فأخرجوها، ولم تعد إليهم". وأخرج عبد الرزاق في مصنفه عن حميد بن هلال قال: كان عبد الله بن سلام يدخل على محاصري عثمان فيقول: "لا تقتلوه، فوالله لا يقتله رجل منكم إلا لقي الله أجذم؛ لا يد له، وإن سيف الله لم يزل مغمودا، وإنكم والله إن قتلتموه لسله الله ثم لا يغمده عنكم أبدا. وما قتل نبي قط إلا قتل به سبعون ألفا، ولا خليفة إلا قتل به خمسة وثلاثون ألفا قبل أن يجتمعوا"1. وأخرج الحاكم عن الشعبي قال: ما سمعت من مراثي عثمان أحسن من قول كعب بن مالك، حيث قال: فكف يديه ثم أغلق بابه ... وأيقن أن الله ليس بغافل وقال لأهل الدار: لا تقتلوهم ... عفا الله عن كل امرئ لم يقاتل فكيف رأيت الله صب عليهم الـ ... ـعداوة والبغضاء بعد التواصل؟ وكيف رأيت الخير أدبر بعده ... عن الناس إدبار الرياح الجوافل؟ [اتفاق كلمة المسلمين بنُزول الحسن لمعاوية عن الخلافة] وأما بعد مبايعة الحسن لمعاوية فاجتمعت الكلمة واصطلح الناس، ولأجل ذلك سمي العام عام الجماعة، فكيف يقول هذا الجاهل: افترقت الأمة بعد أن استتم لمعاوية الأمر فرقتين ... إلى آخر كلامه 2. وقد ذكر أهل العلم بالسير والتواريخ أن معاوية لما تولى الخلافة، واستتم له الأمر -حين عزل الحسن نفسه- اتفقت كلمة المسلمين، وكانوا في ولايته متفقين غير

_ 1 من مرويات عبد الله بن سلام من كتب بني إسرائيل اهـ من حاشية الأصل. 2 قوله: هذا اصطلاح للشيعة يعنون به أن فريقا من الناس صاروا عثمانيين ويعنون بهم أهل السنة، وفريقا صاروا علويين ويعنون بهم أنفسهم، كما سيأتي مع رد المؤلف عليه.

مختلفين، يغزون العدو ويجاهدون في سبيل الله. فلما مات معاوية جرت الفتن العظيمة، منها قتل الحسين وأهل بيته، ومنها حصار ابن الزبير بمكة، ووقعة الحرة بالمدينة، ثم لما مات يزيد، جرت فتنة بالشام بين مروان والضحاك بمرج راهط. ثم وثب المختار بن عبيد على ابن زياد فقتله، وجرت فتنة مصعب بن الزبير وقتله، ثم حاصر الحجاج ابن الزبير فقتله وجرت فتنة، ثم لما تولى الحجاج العراق خرج عليه عبد الرحمن بن الأشعث مع خلق عظيم من القراء، وكانت فتنة كبيرة. فهذا كله بعد موت معاوية رضي الله عنه ثم جرى بعد ذلك -أيضا- فتنة ابن المهلب بخراسان، وقتل زيد بن علي بالكوفة، وجرت فتن. ثم قام أبو مسلم وغيره بخراسان، وجرت فتن يطول وصفها وتزايد شرها. [مزايا معاوية وفضل ملكه على من بعده] وبالجملة فلم يكن ملك من ملوك المسلمين خير من معاوية إذا نسبت أيامه إلى أيام من بعده. وقد روى أبو بكر الأثرم: حدثنا محمد بن عمرو، حدثنا مروان عن يونس، عن قتادة قال: لو أصبحت في مثل عمل معاوية لقال الناس: هذا المهدي. وكذا رواه ابن بطة بإسناده الثابت من وجهين عن الأعمش، عن مجاهد، قال: لو أدركتم معاوية لقلتم هذا المهدي. وروى عبد الله بن أحمد بن حنبل: حدثنا أبو سعيد الأشج، حدثنا أبو أسامة، حدثنا الثقة، عن أبي إسحاق السبيعي أنه ذكر معاوية فقال: لو أدركتموه أو أدركتم أيامه لقلتم هذا المهدي 1.

_ 1 أكبر فضيلة لمعاوية عند هؤلاء المثنين عليه وغيرهم أنه قدر على حفظ المملكة الإسلامية من التقاتل بين المسلمين، ووجه همتهم وقوتهم إلى الكفار، وفتح الأمصار، وأكبر غائلة له إخراج منصب الإمامة العظمى عما وضعها فيه الصحابة بهداية الله ورسوله، وهو الانتخاب الاختياري، إلى عصبية النسب بجعلها في ولده يزيد الفاجر، ثم إرثا يتداوله بنو أمية، فكان هذا سببا لجعلها كالكرة يتقاذفها الأقوياء بالعصبية دون هداية الصحابة، وبذلك صارت ملكا عضوضا بعد الراشدين كما ورد في الحديث.

وفي الصحيحين: "أن رجلا قال لابن عباس: هل لك في أمير المؤمنين معاوية إنه أوتر بركعة؟ فقال: أصاب، إنه فقيه"1، فهذه شهادة ابن عباس بفقه معاوية. وابن عباس من علماء أهل البيت، ومعاوية ليس من السابقين الأولين، بل قد قيل: إنه من مسلمة الفتح، وقيل: بل أسلم قبل ذلك، وكان يعترف بأنه ليس من فضلاء الصحابة، ومعلوم بإجماع المسلمين أنه ليس قريبا من عثمان وعلي فضلا عن أبي بكر وعمر. وقد تبين بما ذكرنا لكل منصف أريب، ولمن له قلب منيب، جهل هذا المعترض وطائفته بما عليه أهل البيت، وأن دعواهم ومحبتهم كذب وافتراء، ومجرد دعوى لا حقيقة لها، كما أن اليهود والنصارى يدعون اتباع أنبيائهم، وهم قد خالفوهم وسلكوا غير طريقهم. وكذلك الرافضة والشيعة يدعون اتباع علي وأهل بيته، وهم قد خالفوا طريقهم، وسلكوا غير منهاجهم، وأن أسعد الناس باتباعهم ومحبتهم أهل السنة والجماعة القائلون بما دل عليه الكتاب والسنة.

_ 1 البخاري: المناقب (3765).

مدة الحرب بين علي ومعاوية

مدة الحرب بين علي ومعاوية وأما قوله: بعد أن كانت الحرب بينهما أربعين يوما، فالجواب أن يقال: هذا مما يدل على جهل هذا المعترض بالسير والأخبار، وأنه يخبط في كلامه خبط عشواء بلا دليل ولا مستند ولا استبصار، ولا معرفة بما نقله أهل تواريخ الإسلام والعلماء الكبار، فإن كان مراده يوم "صفين" خاصة، فقد ذكر أهل التواريخ الإسلامية أن الحرب أقامت بين علي ومعاوية في يوم صفين 1 نحو مائة يوم وعشرة أيام، وجرى بينهم في تلك المدة نحو تسعين وقعة. وذلك أنهم ذكروا أن ابتداء القتال في أول يوم من صفر سنة سبع وثلاثين من الهجرة، فدامت الحرب بينهم ثلاثة أشهر وعشرين يوما، كما ذكر معنى ذلك المسعودي عن أهل السير والأخبار كما تقدم ذلك عنه. وذكر القرطبي، صاحب التفسير الكبير، أن مقام علي ومعاوية بصفين سبعة أشهر، وقيل: تسعة، وقيل: ثلاثة، وكان بينهم قبل القتال نحو من سبعين يوما زحفا في ثلاثة أيام من أيام البيض؛ وهي ثلاثة عشر، وأربعة عشر، وخمسة عشر، وقتل ثلاثة وسبعون ألفا من الفريقين، ذكره الثقة العدل إبراهيم بن الحسن الكسائي الهمذاني. وفي تلك الليالي ليلة الهرير؛ جعل بعضهم يهر إلى بعض، والهرير:

_ 1 إن قيل: كيف قال يوم صفين، ثم قال: إنه كان 110 أيام؟ (قلنا): إن لفظ "اليوم" في أصل اللغة معناه الزمن الذي يحدده ما يقع فيه قل أو كثر، فيوم صفين هو الزمن الذي وقعت فيه الحرب بين علي ومعاوية وقدره 110 أيام فلكية، وهكذا يقال في يوم الجمل، وأيام العرب وغيرها. ويوم القيامة زمن مقداره خمسون ألف سنة كما قال الله -تعالى-.

الصوت يشبه النباح؛ لأنهم تراموا بالنبل حتى فنيت، وتطاعنوا بالرماح حتى اندقت، وتضاربوا بالسيوف حتى تقصفت، ثم نزل القوم بعضهم إلى بعض، قد كسروا جفون سيوفهم، واضطربوا بما بقي من السيوف وعمد الحديد، فلا تسمع إلا غمغمة القوم والحديد في الهام. فلما صارت السيوف كالمناجل، تراموا بالحجارة، ثم جثوا على الركب فتحاثوا بالتراب، ثم تكادموا بالأفواه، وكسفت الشمس وثار القتام، وارتفع الغبار، وتقطعت الألوية والرايات، ومرت أوقات أربع صلوات؛ لأن القتال كان بعد صلاة الصبح، واقتتلوا إلى نصف الليل، وذلك في شهر ربيع الأول سنة سبع وثلاثين، قاله الإمام أحمد في تاريخه. انتهى ما ذكره القرطبي 1. وأما إن كان مراده محاربة علي ومعاوية، وعدم تسليم معاوية الأمر له، فهذا أعظم جهلا وأكبر خطأ مما قبله. فإن معاوية أقام محاربا لعلي مدة خلافته كلها من حين قتل عثمان إلى أن قتل علي رضي الله عنه وذلك نحو خمس سنين إلا ثلاثة أشهر، وقيل: أربع سنين وتسعة أشهر وثلاثة أيام، وقيل: وستة أيام، وقيل: وأربعة عشر يوما، وقيل: أربع سنين وثمانية أشهر وثلاثة وعشرين يوما.

_ 1 ولا يخفى ما في كلام القرطبي من الكذب والغلو والتشنيع المخالف لصحيح التاريخ. اهـ من حاشية الأصل. والقرطبي لم يكن هو المفتري، ولكنه اغتر ببعض ما كتبه أصحاب الأهواء في ذلك.

فصل: في افتراق الأمة بعد قتل عثمان

فصل [في افتراق الأمة بعد قتل عثمان] وأما قوله: افترقت الأمة فرقتين: فرقة توالي معاوية باطنا وظاهرا، وهم الذين قاتلوا معه ونصروه وسموا أنفسهم أهل السنة والجماعة، كما أخبرت بذلك التواريخ. فالجواب أن يقال: هذا أيضا جهل وتخبيط وقصور فهم وغباوة شديدة، فإن الأمة قد افترقت بعد قتل عثمان رضي الله عنه ثلاث فرق: فرقة بايعت عليا رضي الله عنه ودخلوا في طاعته، وهم أكثر الصحابة وجمهور المسلمين، وفرقة امتنعت عن الدخول في طاعته ومبايعته، وأظهروا الطلب بدم عثمان رضي الله عنه وهم معاوية ومن تابعه، وكان هو الأمير عليهم في خلافة عمر رضي الله عنه وخلافة عثمان، وأرسلوا إلى علي: إن كنت تريد أن نبايعك فادفع إلينا قتلة عثمان، فأبى علي رضي الله عنه ذلك. والطائفة الثالثة لم يبايعوا عليا ولا معاوية، واعتزلوا الفريقين جميعا، لم يعينوا هؤلاء ولا هؤلاء، ولم يدخلوا في تلك الحروب والفتن، ولم يحضروها؛ منهم سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أحد العشرة المبشرين بالجنة، ومنهم أسامة بن زيد، وعبد الله بن عمر بن الخطاب، ومحمد بن مسلمة الأنصاري، وأبو موسى الأشعري، وعمران بن حصين الخزاعي، وأبو بكرة الثقفي، وأهبان بن صيفي. ومن التابعين شريح والنخعي -رضي الله عنهم أجمعين-. وأخرج ابن ماجة عن أبي بردة، قال: دخلت على محمد بن مسلمة، فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إنها ستكون فتنة وفرقة واختلاف، فإذا كان ذلك فائت بسيفك أُحُدا فاضربه به حتى ينقطع، ثم اجلس في بيتك حتى تأتيك يد خاطئة، أو منية قاضية"1، فقد وقعت وفعل ما قال النبي صلى الله عليه وسلم. ومن هؤلاء من بايع عليا رضي الله عنه ولم يقاتل معه في حروبه، قال أبو عمر

_ 1 ابن ماجه: الفتن (3962).

ابن عبد البر في "الاستيعاب": وتخلف عن بيعة علي أقوام، فلم يكرههم علي، وسئل عنهم فقال: أولئك قوم قعدوا عن الحق، ولم يدخلوا في الباطل. وقال غيره: إن كثيرا من المسلمين حتى من أهل المدينة ومكة لم يكونوا بايعوه، دع الذين كانوا بعيدين كأهل الشام ومصر والمغرب وخراسان والعراق. انتهى. وقد قال غير واحد من أهل العلم: إن جمهور الصحابة ما دخلوا في الفتنة، قال عبد الله بن الإمام أحمد: حدثنا أبي ثنا إسماعيل، يعني ابن علية، حدثنا أيوب السختياني عن محمد بن سيرين قال: هاجت الفتنة، وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرة آلاف، فما حضرها منهم مائة، بل لم يبلغوا ثلاثين. هذا إسناد من أصح إسناد على وجه الأرض، ومحمد بن سيرين من أورع الناس في منطقه، ومراسيله من أصح المراسيل. وقال عبد الله: حدثنا أبي، ثنا إسماعيل، ثنا منصور بن عبد الرحمن 1 قال: قال الشعبي: لم يشهد الجمل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم غير علي وعمار وطلحة والزبير، فإن جاؤوا بخامس فأنا كذاب. وقال عبد الله بن أحمد: ثنا أبي، ثنا أمية بن خالد، قال: قيل لشعبة: إن أبا شيبة روى عن الحكم عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: شهد صفين من أهل بدر سبعون رجلا، فقال: كذب والله، لقد ذاكرت الحكم بذلك، وذاكرناه في بيته فما وجدنا شهد صفين من أهل بدر غير خزيمة بن ثابت، وهذا النفي يدل على قلة من حضرها، وقيل: إنه حضرها سهل بن حنيف وأبو أيوب، وكلام ابن سيرين متقارب فما يكاد يذكر مائة واحد. وقد روى ابن بطة بإسناده عن بكير بن الأشج قال: أما إن رجالا من أهل بدر لزموا بيوتهم بعد قتل عثمان رضي الله عنه فلم يخرجوا إلا لقبورهم.

_ 1 قال أبو حاتم: لا يحتج به. اهـ من حاشية الأصل.

فصل: في تفضيل أهل السنة عليا على معاوية

فصل [في تفضيل أهل السنة عليا على معاوية] وأما قوله في معاوية -رضي الله عنه-: لمّا استتم له الأمر فذلت له الرقاب، افترقت الأمة إلى فرقتين: فرقة توالي معاوية باطنا وظاهرا؛ وهم الذين قاتلوا معه، وسموا أنفسهم أهل السنة والجماعة، كما أخبرت به كتب التواريخ، وبدّعوا من والى عليا وأهله. فالجواب أن يقال: هذا من الكذب والبهتان الظاهر لكل من له معرفة بما عليه أهل السنة والجماعة، بل معاوية وأصحابه الذين قاتلوا عليا ومن معه لا يبدّعونه ولا يبدّعون من والاه، بل العلماء منهم مقرون بفضله ودينه وورعه وسابقته، وحسن بلائه في الإسلام، حتى معاوية نفسه يقر بذلك في المحافل والمجالس، كما ذكر ذلك أهل العلم في كتبهم. فروى يحيى الجعفي في كتاب صفين بإسناده: حدثني يعلى بن عبيد حدثنا أبي قال أبو مسلم الخولاني وجماعة لمعاوية: أأنت تنازع عليا؟ أم أنت مثله؟ قال: لا والله إني لأعلم أن عليا أفضل مني، وأحق بالأمر، ولكن ألستم تعلمون أن عثمان قتل مظلوما، وأنا ابن عمه، وإنما أطلب بدمه، فأتوا عليا فليدفع إليّ قتلة عثمان وأسلم له، فأتوا عليا فكلموه، فلم يدفعهم إليه. فانظر وتأمل يتبين لك كذب المعترض ونسبته إلى الصحابة ما لا يليق بهم، كذلك نسبته إلى أهل السنة والجماعة تبديع من والى عليا وأهل بيته وشيعته، فإن هذا كذب وافتراء على القوم، بل جميع أهل السنة يتولون عليا وأهل البيت، ويقدمونه على معاوية، بل وعلى من هو أفضل من معاوية، فإن الذي عليه جمهور أهل السنة والجماعة أن أفضل هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر، ومن بعد أبي بكر عمر، ثم بعد عمر عثمان، ثم بعد عثمان علي، ثم بقية العشرة، ثم أهل بدر، ثم أهل بيعة الرضوان، ثم بقية الصحابة -رضي الله عنهم أجمعين-، وأهل السنة يعلمون أن معاوية ليس من السابقين الأولين، بل هو من مسلمة الفتح، ومن المؤلفة قلوبهم، ولكنه ممن حسن إسلامه بعد ذلك، وصار يكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم لما توفي

أبو بكر خرج إلى الجهاد مع أخيه يزيد بن أبي سفيان. ثم لما توفي يزيد استعمله عمر رضي الله عنه على الشام، فأقام أميرا عشرين سنة، وخليفة عشرين سنة، وكانت رعيته تحبه لحسن سيرته. [اعتراف معاوية بفضل علي] وقد ثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم، وتصلون عليهم ويصلون عليكم، وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم، وتلعنونهم ويلعنونكم"1. ومما يدل على اعتراف معاوية بفضل علي ما أخرجه غير واحد من أهل السنة في كتبهم، وذكره أبو عمر بن عبد البر في كتاب "الاستيعاب" في ترجمة علي حيث قال: حدثنا عبد الله بن محمد بن يوسف، قال: حدثنا يحيى بن مالك، قال: حدثنا أبو الحسن محمد بن محمد بن مقلد البغدادي بمصر، قال: حدثنا أبو بكر محمد بن الحسن بن درية، قال: حدثنا الكلبي عن الحرماوي عن رجل من همدان، قال: قال معاوية لضرار الصدائي: يا ضرار، صف لي عليا، قال: اعفني يا أمير المؤمنين، قال: فلتصفه لي، قال: "أما إذ لا بد من وصفه؛ فكان والله بعيد المدى، شديد القوى، يقول فصلا، ويحكم عدلا، يتفجر العلم من جوانبه، وتنطق الحكمة من نواحيه، يستوحش من الدنيا وزهرتها، ويأنس بالليل ووحشته، وكان غزير العبرة، طويل الفكرة، يعجبه من اللباس ما قصر، ومن الطعام ما خشن، كان فينا كأحدنا، يجيبنا إذا سألناه، ويأتينا إذا دعوناه، ونحن والله مع تقريبه إيانا وقربه منا لا نكاد نكلمه هيبة له، يعظم أهل الدين ويقربهم، ويحب المساكين، لا يطمع القوي في باطله، ولا ييئس الضعيف من عدله. وأشهد لقد رأيته في بعض مواقفه، وقد أرخى الليل سدوله، وغارت نجومه، قابضا على لحيته، يتململ تململ السليم، ويبكي بكاء الحزين، ويقول: يا دنيا غري غيرى، إليّ تقرّبت؟ أم إليّ تشوفت؟ هيهات هيهات، بتتك ثلاثا لا رجعة فيها، فعمرك قصير، وخطرك حقير، آه من قلة الزاد، وبعد السفر، ووحشة الطريق! ".

_ 1 مسلم: الإمارة (1855) , وأحمد (6/ 24 ,6/ 28) , والدارمي: الرقاق (2797).

فبكى معاوية وقال: رحم الله أبا الحسن، كان والله كذلك، فكيف حزنك عليه يا ضرار؟ قال "حزن من ذبح واحدها في حجرها". وكان معاوية رضي الله عنه يكتب فيما ينْزل به إلى علي بن أبي طالب يسأله عن ذلك، فلما بلغه قتله، قال: ذهب الفقه والعلم بموت ابن أبي طالب، فقال له عتبة أخوه: لا يسمع هذا منك أهل الشام. انتهى ما ذكره أبو عمر. وكذلك الصحابة الذين قاتلوا عليا مع معاوية ليس فيهم من يقول: إن معاوية أفضل من علي، وإنما قاتلوه ومن معهم من أهل الشام للطلب بدم عثمان رضي الله عنه. وكانوا يقولون: إن معاوية هو ولي عثمان والطالب بدمه، كما ذكر ذلك غير واحد من أهل العلم بالأخبار والتواريخ وأيام الناس. قال مجالد عن الشعبي: لما قتل عثمان أرسلت أم حبيبة بنت أبي سفيان إلى أهل عثمان: أرسلوا إلي بثياب عثمان، وبالخصلة الشعر التي نتفت من لحيته، ثم دعت النعمان بن بشير فبعثته إلى معاوية، فمضى بذلك وبكتابها فصعد معاوية المنبر، وجمع الناس، ونشر القميص عليهم، وذكر ما صنع بعثمان ودعا إلى الطلب بدمه، فقام أهل الشام فقالوا: هو ابن عمك وأنت وليه، ونحن الطالبون معك بدمه، فبايعوا له. وقال يونس عن الزهري: لما بلغ معاوية قتل طلحة والزبير، وظهور علي، دعا أهل الشام للقتال معه على الشورى، والطلب بدم عثمان، فبايعوه على ذلك أميرا غير خليفة. وقد روى الطبراني عن ابن عباس قال: ما زلت موقنا أن معاوية سيلي الملك والسلطان من هذه الآية {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا} 1، 2. [أهل السنة يتولون عليا وأهل البيت] وأما سائر أهل السنة والجماعة فكلهم يتولون عليًّا وأهل البيت، ويحبونهم،

_ 1 سورة الإسراء آية: 33. 2 ولكن قال الله بعد ذلك: (فلا يسرف في القتل)، وقد أسرف معاوية، وقامت عليه الحجة بما رواه هو وغيره من قوله -صلى الله عليه وسلم- لعمار: "تقتلك الفئة الباغية" ثم ماذا فعل بقتلة عثمان، بعد أن انتهى إليه السلطان؟؟ (*) (*) هذا استدراك خاطئ من طابع الكتاب! فمعاوية -رضي الله عنه وأرضاه- من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ومن أصول السنة: الترضي عن الصحابة جميعًا، وعدم انتقاص أحد منهم أو بغضه لحدث كان منه وعدم ذكر مساوئه، فأدناهم منزلة أفضل مِن كل مَن جاء بعدهم. فكيف لو كان هذا الصحابي مجتهدًا دائرًا بين الأجر والأجرين؟! فاللهم غفرًا. [معد الكتاب للمكتبة الشاملة]

وينكرون على بني أمية الذين يسبون عليًّا، وكتبهم مشحونة بالثناء عليه ومحبته وموالاته، وجميع كتب الحديث مذكور فيها فضل علي وأهل البيت، ولكنهم يتولون سائر الصحابة ويحبونهم، ويترضون عنهم طاعة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم. فإن الله -تعالى- ذكر الصحابة في كتابه، وأحسن الثناء عليهم، فقال -تعالى-: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} 1 الآية، وقال -تعالى-: {لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ} 2 الآية. وأثنى -تعالى- على من جاء من بعدهم، ودعا لهم بالمغفرة، فقال -تعالى-: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالأِيمَانِ} 3 الآية. فتبين بما ذكرنا جهالة المعترض وكذبه على أهل السنة بأنهم بدعوا من والى عليا وأهل بيته. * * * وأما قوله: ولذلك قال الشافعي لما رأى التبديع لأهل الحق: إن كان رفضًا حب آل محمد ... فليشهد الثقلان أني رافضي فجميع أهل السنة وأكثر أهل البدعة من المعتزلة والمرجئة وغيرهم يقولون كما قال الشافعي، ويقولون -أيضا- كما قال بعض العلماء: إن كان نصبا حب صحب محمد ... فليشهد الثقلان أني ناصبي فالبيت الأول إرغام للخوارج وطائفة من بني أمية الذين يبغضون عليا -رضي الله عنه- وأهل بيته، ومنهم من يكفره، والبيت الثاني إرغام للروافض والزيدية الذين يبغضون بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وذلك أن الله -تبارك وتعالى- هدى أهل السنة والجماعة لما اختلف فيه من الحق {وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} 4، وذلك أنهم آمنوا بجميع المنَزل من عند الله، وجميع ما ورد عن رسول الله من الأحاديث الصحيحة الثابتة، ولم يغلوا غلو الروافض والزيدية، ولم يقصروا تقصير الخوارج، ومن نحا نحوهم.

_ 1 سورة الفتح آية: 29. 2 سورة الحديد آية: 10. 3 سورة الحشر آية: 10. 4 سورة البقرة آية: 213.

فصل: في إنصاف أهل السنة وكذب الروافض

فصل [في إنصاف أهل السنة وكذب الروافض] وأما قوله: ولهذا الافتراق روى مسلم في صحيحه عن أبي إسحاق ما معناه: أنه لما وقعت الفتنة قال بعض المحدثين لبعض إذا حدثوا: بيّنوا لنا رجالكم، وكانوا قبل الفتنة يقبلون المرسل، ولا يسألون عن رجال السنة. فيقال: هذا مما يدل على إنصاف أهل السنة والجماعة، ونصحهم لله ولرسوله ولدينه، خصوصا أئمة الحديث وجهابذته. وذلك أنه دين فلا يجوز لهم الأخذ عن كل من روى الحديث حتى يعرفوا حاله هل هو ثقة حافظ ضابط لما يرويه؟ وهل هو من أهل السنة، أو من أهل البدعة؟ فإذا عرفوا الرجل بالكذب بينوا حاله، وإذا عرفوه بالبدعة بينوا حاله، فإذا عرفوا أن الرجل ثقة أخذوا عنه، وقبلوا حديثه، ولو كان من أهل البدع. وإذا كان الرجل قليل الضبط، أو معروفا بالكذب، أو بالتخليط، أو الاضطراب في حديثه تركوا حديثه، وبينوا حاله، وإن كان من أهل السنة ومن أهل الصلاح. يعرف ذلك من طالع كتب الجرح والتعديل، وفي البخاري ومسلم والسنن الأربعة رجال من أهل البدع يروون عنهم الحديث من الخوارج والقدرية والمرجئة والشيعة وغيرهم؛ إذ كانوا معروفين بالصدق والضبط. ولكن أهل الحديث وأهل العلم يعلمون أن أكذب الطوائف هم الرافضة والشيعة ومن نحا نحوهم، وذلك أن عمدتهم في المنقولات على تواريخ منقطعة الإسناد وكثير من وضع المعروفين بالكذب. قال أبو حاتم الرازي: سمعت يونس بن عبد الأعلى يقول: قال أشهب بن عبد العزيز: سئل مالك عن الرافضة فقال: لا ترو عنهم، ولا تكلمهم فإنهم يكذبون. وقال أبو حاتم: حدثنا حرملة قال: سمعت الشافعي يقول: لم أر أحدًا أشهدَ بالزور من الرافضة. وقال مؤمل بن

إهاب: سمعت يزيد بن هارون يقول: يكتب عن كل صاحب بدعة، إذا لم يكن داعية إلا الرافضة فإنهم يكذبون. وقال محمد بن سعيد الأصبهاني: سمعت شريكا يقول: احمل العلم عن كل من لقيت إلا الرافضة؛ فإنهم يضعون الحديث فيتخذونه دينا، وشريك هذا هو شريك بن عبد الله القاضي بالكوفة من أقران الثوري وأبي حنيفة، وهو من الشيعة الذي يقول بلسانه: أنا من الشيعة، وهذه شهادته. ومن تأمل كتب الجرح والتعديل المصنفة في أسماء الرواة والنقلة وأحوالهم؛ مثل كتب يحيى بن سعيد القطان، وعلي بن المديني، ويحيى بن معين، والبخاري، وأبي زرعة، وأبي حاتم الرازي، والنسائي، وأبي حاتم بن حبان، وأبي أحمد بن عدي، والدارقطني، وإبراهيم بن يعقوب الجوزجاني، ويعقوب بن سفيان، والعجلي، والعقيلي، والموصلي، والحاكم النيسابوري، والحافظ عبد الغني بن سعيد المصري، وأمثال هؤلاء الذين هم جهابذة نقاد، ولهم المعرفة التامة بأحوال الإسناد، علم أن المعروف عندهم بالكذب في الشيعة أكثر منهم في جميع الطوائف، حتى أن أصحاب الصحيح كالبخاري وغيره لم يرووا عن أحد من قدماء الشيعة مثل عاصم بن ضمرة، والحارث الأعرج، وعبد الله بن سلمة، مع أن هؤلاء من خيار الشيعة، وإنما يروون حديث علي عن أهل بيته كالحسن والحسين ومحمد بن الحنفية، وكاتبه عبيد الله بن أبي رافع، وعن أصحاب ابن مسعود كعبيدة السلماني، والحارث بن قيس وأشباههم. وهؤلاء أئمة النقل ونقاده من أبعد الناس عن الهوى، وأخبرهم بالناس، وأقولهم بالحق، لا يخافون في الله لومة لائم. ولهذا قال أحمد بن حنبل -رحمه الله- لما قيل له: إن ابن أبي قتيلة يقول: إن أصحاب الحديث قوم سوء، فقام أحمد ينفض ثوبه، ويقول: زنديق، زنديق، زنديق. وقال بعضهم: إذا رأيت من يبغض أحمد بن حنبل فاعلم أنه مبتدع، وإذا

فصل: في موالاة أهل السنة لعلي وتفسيقهم لمن سبوه وطغوا عليه

رأيت من يبغض يحيى بن معين فاعلم أنه كذاب، ولا يبغض يحيى بن معين ويتكلم فيه وفي أمثاله إلا من هو من أهل الكذب. فصل [في موالاة أهل السنة لعلي وتفسيقهم لمن سبوه وطغوا عليه] وأما قوله: ونشأ من هذا الافتراق الأمر العظيم، وهو استمرار لعن علي -عليه السلام- على المنابر حتى قطعه عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه. فيقال: أما لعن علي رضي الله عنه فإنما فعله طائفة قليلة من بني أمية، وهم عند أهل السنة ظلمة فسقة، وأهل السنة ينكرون عليهم ذلك بألسنتهم، ويروون الأحاديث الصحيحة في فضائل علي، وذلك أنهم أرادوا وضعه عند الناس، وحط رتبته ومحبته من قلوبهم، فجازاهم الله بنقيض قصدهم، ورفعه الله. وأظهر أهل السنة والجماعة فضائله، وحدثوا بها الناس، فاشتهرت عند العامة فضلا عن الخاصة، وجميع أهل السنة يحبونه ويوالونه رضي الله عنه. فلما زالت دولة بني أمية، وجاءت دولة بني العباس في سنة ثنتين وثلاثين ومائة انقطع لعن علي رضي الله عنه. وأما قول المعترض: أن ابن تيمية روى في منهاجه أنه استمر لعن علي إلى زمانه، وأما في أيامه فقد انقطع، فهذا كذب ظاهر على ابن تيمية -رحمه الله-، وقلة حياء فيمن نسب ذلك إليه، ومنهاج السنة موجود عندنا، ولم يذكر هذا فيه، وابن تيمية أجل من أن يخفى عليه هذا الأمر الواضح الذي يعرفه أدنى من له معرفة بالسير والتواريخ، وأنه انقطع من الشام، وغيره من بلاد الإسلام. ثم ظهرت الدولة العباسية وانقطعت الدولة الأموية في أيام السفاح الذي كان هو أول ملوك بني العباس، وقتل مروان الملقب بالحمار الذي هو آخر ملوك بني أمية سنة اثنتين وثلاثين ومائة.

وأعجب من هذا قوله: إن ابن تيمية أيضًا روى في منهاج السنة أن كثيرًا من علماء السنة والجماعة حكموا بتخطئة علي في حروبه، إلا أحمد بن حنبل إمام الشيعة عند التحقيق، فإنه قال: من خطأ عليا في حروبه فهو كحمار أهله. انتهى معنى كلام ابن تيمية. والجواب أن يقال: إن هذا من الكذب الظاهر على ابن تيمية، وعلى أحمد ابن حنبل -رحمهما الله-، وهذا نص لفظ ابن تيمية في المجلد الأول من كتاب "منهاج السنة النبوية في الرد على الشيعة والقدرية"*: قال رحمه الله: "ولهذا اضطرب الناس في خلافة علي على أقوال، فقالت طائفة: إنه إمام، وأن معاوية إمام، وأنه يجوز نصب إمامين في وقت واحد إذا لم يمكن الاجتماع على إمام واحد، وهذا يحكى عن الكرامية وغيرهم، وقالت طائفة: لم يكن في ذلك الزمان إمام عام، بل كان زمان فتنة، وهذا قول طائفة من أهل الحديث البصريين وغيرهم. ولهذا لما أظهر الإمام أحمد التربيع بعلي في الخلافة، وقال: من لم يربّع بعلي فهو أضل من حمار أهله، أنكر طائفة من هؤلاء، وقالوا: قد أنكر خلافته من لا يقال فيه هو أضل من حمار أهله، يريدون من تخلف عنها من الصحابة. واحتج أحمد وغيره على خلافة علي بحديث سفينة عن النبي صلى الله عليه وسلم: "تكون خلافة النبوة ثلاثين سنة، ثم تصير ملكا"1 وهذا الحديث قد رواه أهل السنن كأبي داود وغيره. وقالت طائفة ثالثة: علي هو الإمام، وهو مصيب في قتاله لمن قاتله، وكذلك من قاتله من الصحابة كطلحة والزبير كلهم مجتهدون مصيبون، وهذا قول من يقول: كل مجتهد مصيب، كقول البصريين من المعتزلة، وأبي الهذيل وأبي هاشم ومن وافقهم من الأشعرية كالقاضي أبي بكر وأبي حامد، وهو المشهور عند أبي الحسن الأشعري. وهؤلاء -أيضا- يجعلون معاوية مجتهدا مصيبا في قتاله، كما أن عليا مصيب. وهذا قول طائفة من الفقهاء من أصحاب أحمد وغيره، ذكره أبو عبد الله بن حامد. وذكر لأصحاب أحمد في المقتتلين يوم

_ * منهاج السنة النبوية 1/ 537. [معد الكتاب للمكتبة الشاملة] 1 الترمذي: الفتن (2226) , وأبو داود: السنة (4646 ,4647) , وأحمد (5/ 221).

الجمل وصفين ثلاثة أوجه: (أحدها): كلاهما مصيب. (والثاني): المصيب واحد لا بعينه. (والثالث): أن عليا هو المصيب، ومن خالفه مخطئ. "والمنصوص عن أحمد وأئمة السنة أنه لا يذم أحد منهم، وأن عليا أولى بالحق من غيره. أما تصويب القتال فليس هو قول أئمة السنة، بل هم يقولون: إن تركه كان أولى. وطائفة رابعة تجعل عليا هو الإمام، وكان مجتهدا مصيبا في القتال، ومن قاتله كانوا مجتهدين مخطئين، وهذا قول كثير من أهل الكلام والرأي من أصحاب أبي حنيفة، ومالك، والشافعي وأحمد. وطائفة خامسة تقول: إن عليا مع كونه كان خليفة، وهو أقرب إلى الحق من معاوية، فكان ترك القتال أولى. وينبغي الإمساك عن القتال لهؤلاء وهؤلاء، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ستكون فتنة؛ القاعد فيها خير من القائم، والقائم فيها خير من الساعي"1. وقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم قال في الحسن: "إن ابني هذا سيد، ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المؤمنين"2 فأثنى على الحسن بالإصلاح. ولو كان القتال واجبا أو مستحبا لما مدح تاركه. قالوا: وقتال البغاة لم يأمر الله به ابتداء، ولم يأمر بقتال كل باغ، بل قال: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} 3 فأمر إذا اقتتل المؤمنون بالإصلاح بينهم، فإن بغت إحداهما على الأخرى قوتلت. قالوا: ولهذا لم يحصل بالقتال مصلحة، والأمر الذي لم يأمر الله به لا بد أن يكون مصلحته راجحة على مفسدته، وفي سنن أبي داود: ثنا الحسن بن علي، ثنا يزيد، ثنا هشام عن محمد بن سيرين، قال: قال حذيفة: ما أحد من الناس تدركه الفتنة إلا أنا أخافها عليه إلا محمد بن مسلمة، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا تضره الفتنة"4، فهذا يبين أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن محمد بن مسلمة لا تضره الفتنة، وهو ممن اعتزل في القتال، فلم يقاتل مع علي، ولا مع معاوية، كما اعتزل سعد بن أبي وقاص، وأسامة بن زيد، وعبد الله بن عمر،

_ 1 البخاري: المناقب (3602) , ومسلم: الفتن وأشراط الساعة (2886) , وأحمد (2/ 282). 2 البخاري: الصلح (2704) والمناقب (3629 ,3746) والفتن (7109) , والنسائي: الجمعة (1410) , وأحمد (5/ 44). 3 سورة الحجرات آية: 9. 4 أبو داود: السنة (4664).

وأبو بكرة، وعمران بن حصين، وأكثر السابقين الأولين. وهذا يدل على أنه ليس هناك قتال واجب ولا مستحب؛ إذ لو كان كذلك لم يكن ترك ذلك مما يمدح به الرجل، بل كان من فعل الواجب أو المستحب أفضل ممن تركه، ودل ذلك أن القتال قتال فتنة، كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ستكون فتنة؛ القاعد فيها خير من القائم، والقائم فيها خير من الماشي، والماشي فيها خير من الساعي، والساعي فيها خير من المُوضِع"1، 2. وأمثال ذلك من الأحاديث الصحيحة التي تبين أن ترك القتال كان خيرا من فعله من الجانبين، وعلى هذا جمهور أئمة الحديث والسنة، وهذا هو مذهب مالك، والثوري، وأحمد، وغيره، وهذه أقوال مَن يحسن القول في علي، وطلحة، والزبير، ومعاوية، ومَن سوى هؤلاء من الخوارج، والروافض، والمعتزلة، فمقالتهم في الصحابة نوع آخر؛ فالخوارج يكفرون عليا وعثمان ومن والاهما، والروافض يكفرون جمهور الصحابة ومن والاهم، أو يفسقوهم، ويكفرون من قاتل عليا، ويقولون: هو إمام معصوم، وطائفة من المروانية تفسقه، وتقول: إنه ظالم معتد. وطائفة من المعتزلة تقول: قد فسق؛ إما هو وإما من قاتله، لكن لا يعلم عينه. وطائفة أخرى منهم تفسق معاوية، وعمرو بن العاص، دون طلحة، والزبير، وعائشة". انتهى ما ذكره الشيخ تقي الدين بن تيمية في منهاج السنة. فانظر -رحمك الله- بعين الإنصاف إلى كلام هذا الإمام، ثم انظر إلى كلام المعترض يتبين لك تحريفه للكلم عن مواضعه، فإن ابن تيمية إنما ذكر أن جمهور أئمة السنة يرون أن ترك قتال علي أولى من القتال، وأن تركه أحب إلى الله، وإلى رسوله لأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم في الحسن بن علي، وغيره الدال على هذا المعنى، وتقدمت الإشارة إلى بعضها.

_ 1 البخاري: المناقب (3602) , ومسلم: الفتن وأشراط الساعة (2886) , وأحمد (2/ 282). 2 الموضع كالمسرع وزنًا ومعنى.

وأما تخطئتهم عليا في ذلك فحاشا وكلا، بل كثير من أهل السنة والجماعة يرون أن عليا مصيب في قتاله لمعاوية، ومن معه، وكلهم متفقون على أنه أقرب إلى الحق، وأولى به من معاوية، ومن معه. وأما ما ذكره عن أحمد بن حنبل، فإنما أراد أحمد بذلك: ومن لم يجعل عليا رابع الخلفاء الراشدين. وقال: من لم يربع بعلي في الخلافة، فهو أضل من حمار أهله. وأما لفظ المعترض الذي ذكره عن أحمد: أن من خطأ عليا في حروبه فهو كحمار أهله، فليس هذا لفظ أحمد، ولا هو معنى كلامه، ولا ذكره الشيخ ابن تيمية -رحمه الله- عن أحمد، ولكن نعوذ بالله من التعصب، واتباع الهوى اللذَين يصدان عن اتباع الحق، ويحملان على كتمان الحق، ولبسه بالباطل؛ وقد نهى الله -سبحانه- في كتابه عن هاتين الخصلتين، فقال -تعالى-: {وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} 1. ومن العجب أن هذا المعترض وأشباهه يعلمون أن الحسن بن علي رضي الله عنه وغيره من أهل البيت يرون أن ترك القتال أولى من فعله، وأحب إلى الله وإلى رسوله، كما اختاره كثير من أهل السنة والحديث، ومع هذا ينكرون على أهل السنة ذلك، مع زعمهم أنهم من شيعة أهل البيت. ويزعمون أن أهل السنة يبغضون أهل البيت، ومن والاهم، وقد كذبوا؛ فإن أهل السنة والحديث أولى باتباع أهل البيت منهم، وهم شيعتهم على الحقيقة؛ لأنهم سلكوا طريقتهم، واتبعوا هديهم، وقد قال -تعالى- لليهود والنصارى -لما ادعى كل طائفة منهم أن إبراهيم كان منهم-: {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا} 2.

_ 1 سورة البقرة آية: 42. 2 سورة آل عمران آية: 68.

فصل: الأقوال والآراء في قتال الحسين رضي الله عنه ليزيد

فصل {الأقوال والآراء في قتال الحسين -رضي الله عنه- ليزيد} [كيفية التغيير بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر] وأما قوله: ومما نشأ من هذا الافتراق أن كثيرًا من علماء أهل السنة، والجماعة حكموا بأن الحسين بن علي باغ على يزيد بن معاوية. فيقال: قد اختلف أهل السنة والجماعة في هذه المسألة، وكذلك أهل البيت؛ فذهبت طائفة من أهل السنة -رضي الله عنهم- من الصحابة، فمَن بعدهم كسعد بن أبي وقاص، وأسامة ابن زيد، ومحمد بن مسلمة، وعبد الله بن عمر -رضي الله عنهم-، وغيرهم، وهو قول أحمد بن حنبل، وجماعة من أصحاب الحديث، إلى أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر باللسان -إن قدر على ذلك-، وإلا فبالقلب فقط، ولا يكون باليد، وسل السيوف، والخروج على الأئمة، وإن كانوا أئمة جور. واستدلوا بأحاديث صحاح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم منها ما أخرجاه في الصحيحين، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من رأى من أميره شيئا يكرهه، فليصبر عليه، فإنه ليس أحد من الناس يخرج من السلطان شبرا فمات، إلا مات ميتة جاهلية"1. وفي لفظ: "من فات الجماعة شبرا فمات، مات ميتة جاهلية"2. وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من خرج من الطاعة، وفارق الجماعة، ثم مات، مات ميتة جاهلية"3 الحديث. وفي صحيح مسلم عن حذيفة قال: "قلت: يا رسول الله، إنا كنا في جاهلية وشر، فجاءنا الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال: نعم. فقلت: فهل بعد ذلك الشر من خير؟ قال: نعم وفيه دخن، قلت: وما دخنه؟ قال قوم يستنون بغير سنتي، ويهتدون بغير هديي، تعرف منهم وتنكر فقلت: فهل بعد ذلك الخير شر؟ قال: نعم، دعاة على أبواب جهنم، مَن أجابهم قذفوه فيها، فقلت: يا رسول الله، صفهم لنا. قال: نعم قوم من جلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا، قلت: يا رسول الله،

_ 1 البخاري: الفتن (7053) , ومسلم: الإمارة (1849) , وأحمد (1/ 310). 2 البخاري: الفتن (7054) , ومسلم: الإمارة (1849) , وأحمد (1/ 275 ,1/ 297) , والدارمي: السير (2519). 3 مسلم: الإمارة (1848) , والنسائي: تحريم الدم (4114) , وأحمد (2/ 296 ,2/ 306 ,2/ 488).

فما ترى إن أدركني ذلك؟ قال: تلزم جماعة المسلمين، وإمامهم، قلت: فإن لم يكن لهم جماعة، ولا إمام؟ قال: فاعتزل تلك الفرق كلها، ولو أن تعض على أصل شجرة حتى يدركك الموت، وأنت على ذلك". والأحاديث في هذا المعنى كثيرة جدًّا. وذهبت طائفة أخرى من الصحابة -رضي الله عنهم- ومن بعدهم من التابعين، ثم الأئمة بعدهم إلى أن سل السيوف في الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر واجب، إذا لم يقدر على إزالة المنكر إلا بذلك، وهو قول علي بن أبي طالب، وكل من معه من الصحابة -رضي الله عنهم-؛ كعمار بن ياسر، وابن عباس، وأبي سعيد الخدري، وغيرهم، وهو قول أم المؤمنين، ومن معها من الصحابة؛ كعمرو بن العاص، والنعمان بن بشير، وأبي العادية السلمي وغيرهم، وهو قول عبد الله بن الزبير، والحسين بن علي، وهو قول كل من قام على الفاسق الحجاج؛ كعبد الرحمن بن أبي ليلى، وسعيد بن جبير، وأبي البختري الطائي، وعطاء السلمي، والحسن البصري، والشعبي، ومن بعدهم؛ كالناسك الفاضل عبد الله بن عبد العزيز بن عبد الله بن عمر، وعبيد الله بن حفص بن عاصم، وسائر من خرج مع محمد بن عبد الله بن الحسين بن الحسن بن علي بن أبي طالب، ومع أخيه إبراهيم بن عبد الله، وهشيم بن بشير، والوراق، وغيرهم. [خروج الحسين لقتال يزيد ومخالفة الصحابة له] وقد ذكر ابن كثير في تاريخه عن طاوس، عن ابن عباس قال: استشارني الحسين بن علي في الخروج إلى العراق، فقلت: لولا أن يزري بي وبك الناس لنشبت يدي في رأسك، فلم أتركك تذهب، فكان الذي رد علي أن قال: لأن أُقتل في مكان كذا أحب إلي من أن أقتل بمكة، قال: وكان هذا الذي سلى نفسي عنه. وقال غير واحد عن شبابة بن سوار: حدثنا يحيى بن إسماعيل بن سالم الأسدي، قال: سمعت الشعبي يحدث عن ابن عمر: أنه كان بمكة، فبلغه أن الحسين بن علي قد توجه إلى العراق، فلحقه على مسيرة ثلاث ليال، فقال: أين تريد؟ قال: العراق، وإذا معه طوامير وكتب، فقال: هذه كتبهم وبيعتهم، فقال ابن عمر: لا تأتهم، فأبى،

فقال ابن عمر: إني محدثك حديثا: "إن جبريل أتى النبي صلى الله عليه وسلم فخيره بين الدنيا والآخرة، فاختار الآخرة ولم يرد الدنيا، وذلك بضعة من رسول الله صلى الله عليه وسلم والله لا يليها أحد منكم أبدا، وما صرفها الله عنكم إلا للذي هو خير لكم" فأبى أن يرجع، فاعتنقه ابن عمر، وبكى، وقال: أستودعك الله من قتيل. وقال أبو سعيد الخدري: غلبني الحسين بن علي على الخروج، وقد قلت له: اتق الله في نفسك، ولا تخرج على إمامك، والزم بيتك. وقال أبو واقد الليثي: بلغني خروج الحسين، فأدركته، فناشدته الله أن لا يخرج، فإنه يخرج في غير وجه خروج، إنما يقتل نفسه، فقال: لا أرجع. وقال جابر بن عبد الله: كلمت حسينا فقلت له: اتق الله، ولا تضرب الناس بعضهم ببعض، فوالله ما حمدتم ما صنعتم، فعصاني. وقال سعيد بن المسيب: لو أن حسينا لم يخرج لكان خيرا له، وكتب إليه المسور بن مخرمة: إياك أن تغتر بكتب أهل العراق، ويقول لك ابن الزبير: ألحق بهم فإنهم ناصروك، إياك أن تبرح الحرم، فإنهم إن كان لهم بك حاجة، فسيضربون إليك آباط الإبل حتى يوافوك، فتخرج في قوة وعدة، فجزاه خيرا، وقال: أستخير الله في ذلك. وكتب إليه عبد الله بن جعفر بن أبي طالب كتابا يحذره أهل الكوفة، ويناشده الله أن يشخص إليهم، فكتب إليه الحسين: "إني رأيت رؤيا، ورأيت فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمرني بأمر أنا ماض له، ولست بمخبر بها أحدا، حتى ألاقي عملي". وذكر محمد بن سعد -رحمه الله- بأسانيده: أنه لما بايع معاوية الناس ليزيد، كان حسين ممن لم يبايع له، وكان أهل الكوفة يكتبون إليه يدعونه إلى الخروج إليهم في خلافة معاوية؛ كل ذلك يأبى عليهم، فقدم منهم قوم إلى محمد بن الحنفية يطلبون إليه أن يخرج معهم، فأبى، وجاء إلى الحسين يعرض عليه أمرهم، فقال له الحسين: إن القوم إنما يريدون أن يأكلوا بنا، ويستطيلوا بنا، ويشيطوا دماء الناس ودماءنا.

فأقام الحسين على ما هو عليه من الهموم مدة يريد أن يسير إليهم، ومدة يجمع الإقامة عنهم، فجاءه أبو سعيد الخدري فقال: يا أبا عبد الله، إني لكم ناصح، وإني عليكم مشفق، وقد بلغني أنه قد كاتبكم قوم من شيعتكم بالكوفة يدعونك إلى الخروج إليهم، فلا تخرج إليهم، فإني سمعت أباك بالكوفة يقول: "والله لقد مللتهم وملوني، وأبغضتهم وأبغضوني". وكلمه في ذلك أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، فلم يطع أحدًا منهم، وصمم على المسير. وقال له ابن عباس: والله أني أظنك ستقتل بين نساءك وولدك، كما قتل عثمان، فلم يقبل منه. وكذلك أخوه محمد بن الحنفية نهاه عن ذلك وأعلمه أن الخروج ليس له برأي يومه هذا، فأبى الحسين أن يقبل، فحبس محمد بن الحنفية ولده فلم يبعث معه أحدا منهم، حتى وجد حسين في نفسه على محمد. والمقصود من هذا: أن ابن عباس وغيره من الصحابة أنكروا على الحسين خروجه على يزيد، ونهوه عن ذلك؛ خوفا عليه مما جرى عليه وعلى أهل بيته، ولكن لا رادّ لما قضى الله. وما جرى على الحسين رضي الله عنه وعلى أهل بيته مما يعظم الله به أجورهم، ويرفع به درجاتهم -رضي الله عنهم أجمعين-. وأهل السنة يبغضون يزيد، ومنهم من يلعنه، ليس كما يظنه المعترض فيهم ويرميهم به من بغضهم عليا وأهل بيته، يعرف ذلك كل من طالع كتب القوم.

فصل: بيان مذهب الزيدية من البدع، وأقوال المحدثين في الإمام زيد بن علي، وبراءتهم من الشيعة

فصل {بيان مذهب الزيدية من البدع} (وأقوال المُحدِّثين في الإمام زيد بن عليّ وبراءتهم من الشيعة) وأما قوله: (ومن عجائب الانحراف عن آل محمد: أن عالم أهل السنة والجماعة الذهبي لما عدّد في ميزانه المذاهب الإسلامية قال ما معناه عن يحيي بن معين: وللزيدية مذهب بالحجاز، وهو معدود من مذاهب أهل البدع. فهذا يخبرك بأن علماء أهل السنة والجماعة لم يعرفوا طريقة أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ... إلى آخره. فيقال: هذا من أعظم الجهل؛ فإن علماء أهل السنة والجماعة، خصوصا أئمة الحديث؛ كيحيى بن معين، وأشباهه من أخبر الناس بأحوال الرجال، ويقولون الحق الذين يدينون الله به، لا يخافون في الله لومة لائم. فإذا كان للزيدية مذهب ينسبونه إلى زيد بن علي -وأهل العلم يعرفون كذبهم وافتراءهم عليه في ذلك- بينوه إذا كان ذلك مخالفا لكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وما كان عليه علماء أهل البيت كعلي وابن عباس، وليس كل من انتسب إلى أحد من أهل البيت، أو غيرهم من الأئمة يكون صادقا في انتسابه إليهم ونقله عنهم. فهؤلاء الروافض الذين يسبون الشيخين وجمهور الصحابة ويكفرونهم، ينتسبون إلى علي وأولاده، ويقولون: نحن شيعة آل محمد، أفكانوا صادقين في ذلك؟ كلا، بل هم أعداؤهم حقًا، وأهل البيت براء منهم. وكذلك اليهود والنصارى ينتسبون إلى أنبيائهم، ويزعمون أنهم على دينهم، وعلى طريقتهم، وهم قد باينوهم أشد المباينة. وكذلك أهل البدع من هذه الأمة ينسبون مذاهبهم الباطلة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أو إلى أصحابه. وكلام علماء أهل الحديث والسنة في زيد بن علي، وأمثاله من علماء أهل البيت معروف مشهور.

قال أبو حاتم البستي: لما ذكر قتل زيد بن علي بالكوفة قال: كان من أفاضل أهل البيت وعلمائهم، وكانت الشيعة تنتحله. انتهى. ومن زمن خروج زيد افترقت الشيعة إلى رافضة وزيدية، فإنه لما سئل عن أبي بكر وعمر فترحم عليهم رفضه قوم، فقال: رفضتموني، فسموا رافضة لرفضهم إياه. ولا يبغض علماء أهل الحديث، ويتكلم فيهم إلا من هو من أهل البدع والكذب والفجور. وقد تقدم كلام أحمد في ابن أبي قتيلة لما قيل له: إن أصحاب الحديث قوم سوء، فقام أحمد ينفض ثوبه، ويقول: زنديق، زنديق، يعني أنه لا يتكلم فيهم إلا من هو منافق؛ لأن الله حفظ بهم الدين، وميزوا بين صحيح الأخبار وسقيمها، ولهذا قال أحمد بن هارون الفلاس: إذا رأيت الرجل يقع في يحيى بن معين، فاعلم أنه كذاب يضع الحديث. وقال ابن حجر- في كتاب "تهذيب التهذيب في معرفة الرجال": زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب أبو الحسين المديني روى عن أبيه، وأخيه، وأبي جعفر الباقر، وأبان بن عثمان، وعروة بن الزبير، وعبيد الله بن أبي رافع، روى عنه ابناه حسين وعيسى، وابن أخيه جعفر بن محمد، والزهري، والأعمش، وشعبة، وسعيد بن هشيم 1 وإسماعيل، وزبيد اليامي، وزكريا بن أبي زائدة، وعبد الرحمن بن الحارث بن عياش بن أبي ربيعة، وأبو خالد عمرو بن خالد الواسطي، وابن أبي الزناد، وعده ابن حبان في الثقات. وقال: روي عن جماعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال السدي عن زيد بن علي: "الرافضة حربي، وحرب أبي في الدنيا والآخرة". وروى الحافظ أبو الحجاج المزي بإسناده عن الفضل بن مرزوق، قال: سألت عمر بن علي، وحسين بن علي: هل فيكم إنسان مفترضة طاعته؟ فقال: لا، والله ما هذا فينا، مَن قال هذا فهو كذاب، فقلت لعمر بن علي: رحمك الله، إنهم يزعمون أن النبي

_ 1 في تهذيب التهذيب: سعيد بن خيثم.

فصل: في قول ابن معين في مذهب الزيدية

صلى الله عليه وسلم أوصى إلى علي، وأن عليا أوصى إلى الحسن، وأن الحسن أوصى إلى الحسين، وأن الحسين أوصى إلى ابنه علي، وابنه علي أوصى إلى ابنه محمد بن علي؟ فقال: "والله لقد مات أبي، فما أوصى بحرفين، ما لهم -قاتلهم الله-؟ والله إن هؤلاء إلا متأكلة بنا". وقال يحيى بن سعيد الأنصاري: سمعت علي بن الحسين، وكان أفضل هاشمي رأيته، يقول: "أحبونا حب الإسلام، فما برح بنا حبكم، حتى صار علينا عارًا". فانظر -رحمك الله- إلى ما نقله أهل العلم عن أهل البيت علي بن الحسين وأولاده، يتبين لك أن الشيعة من الرافضة والزيدية هم المنحرفون عن آل محمد، لا أهل السنة والحديث. فصل [في قول ابن معين في مذهب الزيدية] وأما قوله: (ويا ليت شعري، هل سمع ابن معين من رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه عد مذهب أولاده من البدع؟). فهذا من عظيم جهل المعترض وافترائه على ابن معين وغيره من أهل السنة والجماعة؛ فإن ابن معين لم يقل: إن مذهب زيد بن علي وآبائه وأجداده من البدع، بل قال ما نقله عنه المعترض: وللزيدية مذهب بالحجاز، وهو معدود من مذاهب أهل البدع -يعني بذلك الزيدية الذين ينتسبون إلى زيد بن علي، وليسوا على طريقته-، ومجرد الانتساب إلى زيد أو غيره من أهل البيت لا يصير به الرجل متبعا لطريقتهم حتى يعرف طريقتهم، ويتبعهم عليها، كما قال الحسن البصري -رحمه الله- في قوله صلى الله عليه وسلم: "المرء مع من أحب"1 إن اليهود والنصارى يحبون أنبياءهم، فلا تغتروا. وابن معين -رحمه الله- سمع حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد"2 فهذه كلمة جامعة بين فيها صلى الله عليه وسلم أن كل من أحدث ما يخالف أمر الله ورسوله فهو مردود عليه. وكذلك قوله في حديث العرباض بن

_ 1 البخاري: الأدب (6168) , ومسلم: البر والصلة والآداب (2641) , وأحمد (1/ 392 ,4/ 405). 2 البخاري: الصلح (2697) , ومسلم: الأقضية (1718) , وأبو داود: السنة (4606) , وابن ماجه: المقدمة (14) , وأحمد (6/ 146 ,6/ 180 ,6/ 240 ,6/ 256 ,6/ 270).

فصل: الشيعة المعتدلون من أئمة الحديث

سارية: "وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة"1، والرسول صلى الله عليه وسلم أُعطي جوامع الكلم، فأفاد أمته، وأعلمهم -صلوات الله وسلامه عليه-: "أن كل بدعة ضلالة "2. فإذا تبين لأهل العلم أن طائفة من طوائف الزيدية أو غيرهم، خالفوا ما عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، بينوا للناس أنهم أهل بدعة، وضلالة لئلا يغتر بهم الجاهل، كما بينوا فساد مذهب الرافضة المنتسبين إلى علي وأولاده، وكذلك بينوا فساد مذهب القدرية المنكرين أن يكون الله خلق أعمال العباد وقدرها عليهم، وكذلك بينوا فساد مذهب الخوارج الذين كفّروا عليا وعثمان ومن والاهما؛ وهم مع ذلك ينتسبون إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وإلى أبي بكر، وعمر، ويتولونهما، ويستدلون بآيات من القرآن لا تدل على ما قالوه. وهذا الجاهل يظن أن من انتسب إلى زيد بن علي، وغيره من أهل البيت لا يذم ولا يعاب، ولو خالف الكتاب والسنة. وهذا جهل عظيم لا يمتري فيه إلا من أضله الله، وختم على سمعه وقلبه، وجعل على بصره غشاوة، نعوذ بالله من الخذلان. فصل {الشيعة المعتدلون من أئمة الحديث} وأما قوله: (وممن رموه بالتشيع: أهل السنة والجماعة المذكورون: علي بن المديني شيخ البخاري، وعبد الرزاق الصنعاني، وأحمد بن عقدة، والدارقطني، والحاكم ... إلخ. فيقال: هذا مما يبين لك معرفة أهل الحديث بأحوال الرجال، وبعدهم عن التعصب والهوى، وهؤلاء الأئمة الذين عددتهم هم عند أهل السنة والجماعة من أئمة العلم يقتدون بهم، ويأخذون عنهم، ويرحلون إليهم، ولو كان فيهم بعض التشيع الذي لا يخرجهم عن أن يكونوا أئمة هدى يقتدى بهم، والتشيع الذي

_ 1 أبو داود: السنة (4607) , والدارمي: المقدمة (95). 2 أبو داود: السنة (4607) , وابن ماجه: المقدمة (42).

فصل: افتراء الشيعة على أهل السنة الانحراف عن آل البيت وتولي الدول الجائرة

لا يخرج صاحبه عن الحق، لا يذم به صاحبه، ولا يخرجه عن أهل السنة والجماعة، فإن لفظ التشيع ليس مذموما في الشرع، بل قال -تعالى- لما ذكر نوحا -عليه السلام-، قال بعده: {وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لإِبْرَاهِيمَ} 1 أي: من أهل دينه، وإنما صار مذموما عند أهل السنة لما كان أهل البدع كالرافضة وأمثالهم الذين يسمون أنفسهم الشيعة يقولون: نحن شيعة آل محمد، وهم قد كذبوا في ذلك، بل هم أعداؤهم؛ لأنهم خالفوا هديهم، وسلكوا غير طريقتهم. وقد ثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن آل أبي فلان ليسوا لي بأولياء، إنما وليي الله، وصالح المؤمنين"2. فصل {افتراء الشيعة على أهل السنة الانحراف عن آل البيت وتولي الدول الجائرة} وأما قوله: (وسبب انحراف من ذكر عن أهل البيت وشيعتهم أنهم تولوا -اليوم- الدول الجائرة، وأطاعوهم، وصححوا ولايتهم، واستدلوا على ذلك بأحاديث كثيرة رووها، فلما سمعها أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وجدوها مخالفة لكتاب الله -تعالى- في قوله: {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} 3. وقوله: {وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ} 4. وقوله: {وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا} 5، إلى غير ذلك من الآيات الكريمة. ونظروا في الأحاديث الموجبة لطاعة أئمة الجور، فوجدوها قد رواها خصومهم تقريرا لمذهبهم، وردوها للقاعدة التي قررها أهل الأصول، وأهل الحديث في أنه لا يجب على الخصم قبول رواية خصمه، فيما يقرر مذهبه الذي يرى خصمه أنه عنده بدعة). فيقال: الجواب عن هذا الكلام من وجوه: (أحدها): أن هذا كذب على

_ 1 سورة الصافات آية: 83. 2 البخاري: الأدب (5990) , ومسلم: الإيمان (215) , وأحمد (4/ 203). 3 سورة البقرة آية: 124. 4 سورة هود آية: 113. 5 سورة الكهف آية: 51.

أهل السنة والجماعة، لا يمتري فيه أحد عرف مذهبهم، وطالع كتبهم، فإنهم لم ينحرفوا عن أهل البيت، بل من أصول الدين عندهم: محبة أهل البيت النبوي، وموالاتهم، والصلاة عليهم في الصلاة وغيرها، ولو ذهبنا نذكر نصوصهم في ذلك لطال الكلام جدا. (الثاني): أنهم لم يتولوا الدول الجائرة، كما ذكره هذا المعترض، بل هم يبغضونهم ويكرهونهم، ويسمونهم ظلمة، وأئمة جور، وإنما أوجبوا طاعتهم إذا أمروا بطاعة الله ورسوله، ويستدلون على ذلك بأحاديث ثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم منها أنه قال: "على المرء السمع والطاعة ما لم يؤمر بمعصية؛ فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة"1 وثبت في الصحيحين من حديث ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من رأى من أميره شيئا يكرهه فليصبر، وأنه ليس أحد يفارق الجماعة شبرا فيموت، إلا ويموت ميتة جاهلية"2. والأحاديث في هذا المعنى كثيرة من رواية أهل البيت وغيرهم من الصحابة -رضي الله عنهم- بأسانيد ثابتة بنقل العدول من أهل الحديث. (الوجه الثالث): أن أهل السنة والجماعة لم يصححوا ولايتهم، إلا إذا تولوا على الناس، وبايعهم على ذلك أهل الشوكة، وأهل الحل والعقد، فإذا كان كذلك صحت ولايته، ووجبت طاعته في طاعة الله، وحرمت طاعته في المعصية، ولكن لا يجوزون الخروج عليه، ومحاربته بالسيف؛ لأن ذلك يؤول إلى الفتن العظيمة، وسفك الدماء، والهرج الكثير. هذا الذي عليه أهل السنة والجماعة، وهذا القول هو الذي تدل عليه النصوص النبوية، وعليه كثير من أهل البيت. (الوجه الرابع): أن قوله في الأحاديث التي يستدل بها أهل السنة على السمع والطاعة لولي الأمر: (فلما سمعها أهل البيت وجدوها مخالفة لكتاب الله)، كذب ظاهر على أهل البيت -عليهم السلام-؛ فإن كثيرا من أهل البيت، مذهبهم مذهب

_ 1 البخاري: الأحكام (7144) , ومسلم: الإمارة (1839) , والترمذي: الجهاد (1707) , وأبو داود: الجهاد (2626) , وابن ماجه: الجهاد (2864) , وأحمد (2/ 17 ,2/ 142). 2 البخاري: الفتن (7054) , ومسلم: الإمارة (1849) , وأحمد (1/ 275 ,1/ 297) , والدارمي: السير (2519).

أهل السنة والجماعة في هذه المسألة، هذا الحسن بن علي رضي الله عنه انخلع لمعاوية رضي الله عنه وبايعه، وأمر كل من بايعه، وبايع أباه بمبايعة معاوية، والسمع والطاعة له، وهو عند هذا المعترض وأمثاله من أئمة الجور. وأما عند أهل السنة والجماعة فهو من خيار ملوك الإسلام، وأعدلهم، وأحسنهم سيرة، ونهى أخاه الحسين عند موته عن طاعة سفهاء الكوفة. وهذا ابن عباس، وهو من أئمة أهل البيت، نهى ابن عمه الحسين رضي الله عنه عن الخروج، وكذلك محمد بن الحنفية، وعبد الله بن جعفر -رضي الله عنهم-، وهؤلاء من أئمة أهل البيت، وقد تقدم النقل عنهم بذلك. وذكرنا من رواه من الأئمة. (الوجه الخامس): أن أهل السنة -رحمهم الله- بينوا أن هذه الأحاديث المروية عنهم في السمع والطاعة لولي الأمر هي الموافقة لكتاب الله حقا، لا تخالفه، بل القرآن يصدقها، ويدل على ما دلت عليه؛ لأن الجميع من عند الله. والرسول صلى الله عليه وسلم أعلم بكتاب الله من أهل البدع، وكذلك أصحابه، وأهل بيته. قال العلماء: كان جبريل ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم بالسنة كما ينْزل بالقرآن، وقد أمر الله بطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم في القرآن في أكثر من سبعين موضعا، وأخبر أن من يطع الرسول فقد أطاع الله، وقد أمر الله بطاعة أولي الأمر في القرآن، فقال -تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} 1 الآية، قال أئمة التفسير: هم العلماء والأمراء. (الوجه السادس): أن هذه الآيات التي ذكر أنها تخالف هذه الأحاديث، قد بين أهل التفسير معناها، وليس فيها ما يخالف كلام الرسول صلى الله عليه وسلم ولا ما يدل على مراد هذا المعترض، وأشباهه من أهل البدع؛ كالخوارج، والمعتزلة. ونحن نذكر كلام أئمة التفسير -رحمهم الله- في هذه الآيات؛ لنبين بطلان ما ذهب إليه هذا المعترض. قال أبو حيان -رحمه الله- في تفسيره المسمى بالبحر: والعهد -يعني في الآية-

_ 1 سورة النساء آية: 59.

الإمامة، قاله مجاهد، أو النبوة قاله السدي، أو الأمان قاله قتادة، وروي عن السدي واختاره الزجاج، أو الثواب، قاله قتادة أيضا، أو الرحمة قاله عطاء، أو الدين قاله الضحاك والربيع، أو لا عهد عليك لظالم أن تطيعه في ظلمه قاله ابن عباس، أو الأمر من قوله: {إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا} 1. {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ} 2، أو إدخاله الجنة من قوله: "كان له عهد عند الله أن يدخله الجنة"، أو طاعتي 3 قاله الضحاك، أو الميثاق، أو الأمانة، والظاهر من هذه الأقوال: أنها الإمامة؛ لأنها هي المصدر بها، فأعلم الله إبراهيم -عليه السلام- أن الإمامة لا تنال الظالمين. انتهى كلامه. وقد جمع لك كلام المفسرين في هذه الآية في هذا المختصر، ولم يذكر أحد من المفسرين أن الآية تدل على الخروج على ولي الأمر ومقاتلته بالسيف، وأنه لا يطاع إذا أمر بطاعة الله وطاعة رسوله. وأهل السنة أهل عدل وإنصاف واتباع للحق؛ لأنهم لم يأمروا بطاعة ولي الأمر في المعصية، بل أمروا بطاعته إذا أمر بطاعة الله، فإذا أمر بالمعصية، فلا سمع له ولا طاعة. لكن لا يجوزون الخروج عليه 4 ولا يكون عندهم إماما في الدين إذا كان ظالما. والآية تدل على أن الظالم لا يكون إماما في الدين، وليس فيها ما يدل على أنه إذا غصب الناس، وتولى عليهم، وصار معه أهل الشوكة، وأهل الحل والعقد لا تجوز طاعته في الطاعة ومبايعته، فيتبين بما ذكرنا: أن هذه الآية ليس فيها دليل على ما ذهب إليه أهل البدع، والله أعلم. وأما الآية الثانية التي احتج بها وهي قوله -تعالى-: {وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ} 5، فقال أبو العالية: في معنى {وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا

_ 1 سورة آل عمران آية: 183. 2 سورة يس آية: 60. 3 هذا تفسير لكلمة (عهدي) من الآية، وبقية الألفاظ تفسير للعهد فيها غير مضاف. 4 لأن خروج الناس عليه والشوكة بيده مدعاة للفتن الداخلية، واقتتال الأمة بما يجعل بأسها بينها، ويقوي أعداءها عليها، ولكن عدم طاعتها له في المعصية تضطره إلى التزام الشريعة. وأما أهل الحل والعقد فيجب عليهم إقرار الإمامة في قرارها الشرعي إذا قدروا. 5 سورة هود آية: 113.

فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ} 1، قال: المعنى: لا ترضوا بأعمالهم، وقال ابن عباس: معنى الركون: الميل، وقال السدي، وابن زيد: لا تداهنوا الظلمة، وقال سفيان: لا تدنوا من الذين ظلموا. وقال جعفر الصادق: {إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا} إلى أنفسهم؛ فإنها ظالمة، وقيل: لا تشبهوا بهم. ذكر هذه الأقوال كلها أبو حيان النحوي في تفسيره "البحر"، ولم يذكر أحد من المفسرين أن الآية تدل على أن الظالم إذا تولى على الناس وقهرهم بشوكته وسلطانه، لا تصح ولايته، ولا تجوز طاعته إذا أمر بطاعة الله. وجميع أهل السنة والجماعة متفقون على أن الركون إلى الظلمة لا يجوز على ما فسره علماء التفسير، كابن عباس، وأبي العالمية، فلا يجوز الميل إليهم، ولا الرضى بأعمالهم التي تخالف كتاب الله وسنة رسوله. وكذلك لا تجوز مداهنتهم، بل ينكر عليهم ما فعلوه من المنكر بلسانه إذا قدر على ذلك، فإن لم يقدر أنكره بقلبه، كما في الحديث المرفوع أنه لما ذكر الظلمة قال: "من أنكره فقد سلم، ومن كره فقد برئ، ولكن من رضي وتابع"2، 3. فتبين بما ذكرناه أن الآية لا تدل على ما ذهب إليه هذا المعترض، ومن نحا نحوه من أهل البدع. وأما الآية الثالثة وهي: قوله -تعالى-: {وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا} 4، قال أهل التفسير: {الْمُضِلِّيْنَ} يعني الشياطين؛ لأنهم الذين يضلون الناس، {عَضُدًا} قال قتادة: أعوانا يعضدونني إليها، والعضد كثيرا ما يستعمل في معنى العون، وذلك أن العضد قوام اليد، ومنه قوله: {سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ} 5 أي: سنعينك ونقويك به، فهذا إخبار عن كمال قدرته، واستغنائه عن الأنصار والأعوان، والله -تبارك وتعالى- لا يحتاج إلى إعانة أحد من خلقه، بل هو الغني عما سواه، وكل ما سواه فقير إليه، فلا حول ولا قوة إلا بالله، فهل في هذه الآية ما يدل على مقصود هذا المعترض، الجاهل بوجه من الوجوه؟ (الوجه السابع): أن يقال: احتجاجه بهذه الآيات على معارضة الأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في السمع والطاعة لولي الأمر ومناصحته، من جنس

_ 1 سورة هود آية: 113. 2 مسلم: الإمارة (1854) , والترمذي: الفتن (2265) , وأبو داود: السنة (4760) , وأحمد (6/ 295,6/ 305). 3 أي: فهو المذنب المؤاخذ. 4 سورة الكهف آية: 51. 5 سورة القصص آية: 35.

احتجاج الخوارج وأشباههم على بطلان ولاية علي وإمامته، بقوله -تعالى-: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} 1. وقوله: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} 2، وإنما أتوا من قلة معرفتهم بتفسير كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ومن جنس احتجاج الرافضة، ومَن نحا نحوهم على كفر الصحابة، وظلمهم بقوله -تعالى-: {مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ} 3. وكذلك احتجاجهم على إمامة علي بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله -تعالى-: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا} 4 الآية. وكذلك احتجاج الجهمية، والمعتزلة على نفي الصفات الواردة في القرآن والسنة بقوله -تعالى-: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} 5 وقوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} 6. وكل هذه الآيات لا تدل على ما ذهبوا إليه، وإنما تدل على ما أجمع عليه سلف الأمة، وأئمتها من الصحابة، والتابعين -رضي الله عنهم-؛ لأن القرآن يصدق بعضه بعضا، وكذلك الأحاديث يصدق بعضها بعضا، والسنة الصحيحة لا تخالف الكتاب؛ لأن الجميع من مشكاة واحدة {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا} 7. (الوجه الثامن): أن يقال: قوله: (ونظروا في الأحاديث الموجبة لطاعة أئمة الجور، فوجدوها قد رواها خصومهم عنه) كذب ظاهر، وتمويه على الجهال الأصاغر، فإن الأحاديث التي فيها السمع والطاعة لولي الأمر قد رواها جماعة كثيرة من الصحابة من أهل البيت وغيرهم، ولم يردها علماء أهل البيت، بل تلقوها بالقبول كما تقدم النقل عنهم بذلك 8. وبينا أن أهل البيت اختلفوا في جواز الخروج على أئمة الجور.

_ 1 سورة الزمر آية: 65. 2 سورة المائدة آية: 44. 3 سورة المائدة آية: 54. 4 سورة المائدة آية: 55. 5 سورة مريم آية: 65. 6 سورة الشورى آية: 11. 7 سورة النساء آية: 82. 8 بقي شيء آخر: وهو أن رواة الأحاديث الذين دونوها ومحصوا أسانيدها، ليسوا خصوما فيها لآل البيت، ولا للشيعة وغيرهم من المبتدعة، بل يروون عن كل من ثبت عندهم عدالته في الرواية، وإن كان مخالفا لهم في بعض الأصول والفروع، لا يتعصبون لمذهب أحد في الرواية؛ فالمجتهد منهم يروي كل ما سمعه من الرواة، ويتبع ما صح عنده بحسب فهمه، ومن نشأ على مذهب كالذهبي والمزي وابن حجر العسقلاني لا يأبى أن يصحح ما خالف مذهبه، وأن يضعف ما وافقه، فتمحيص الأسانيد عندهم مقدم على كل شيء، وعلماء الشيعة المتعصبون من الزيدية والإمامية يعلمون هذا، ولكنهم يوهمون عوامهم أن حفاظ الحديث خصوم لهم؛ ليقطعوا طريق الأدلة الصحيحة عليهم.

فصل: في أهواء الشيعة والخوارج في حديث الردة وحديث الوصية بآل البيت

فمنهم من يرى ذلك ويفعله، ومنهم من لا يرى ذلك ولا يفعله، بل ينهى عنه ويكرهه. ولو لم يكن إلا فعل الحسن رضي الله عنه لكفى به تكذيبا لما حكاه هذا المعترض، ولكن هذا وأشباهه من أهل البدع ينتسبون إلى أهل البيت، وينقلون مذاهبهم الباطلة عنهم، فينسبونها إليهم، ويكذبون عليهم، ولا يميزون بين الصدق والكذب، فلا نقل صحيح، ولا عقل مليح، نسأل الله العفو والعافية. فصل (في أهواء الشيعة والخوارج في حديث الردة وحديث الوصية بآل البيت) وأما قوله: (ولقد قرر هذا الواقع على أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ما حذر عنه الأمة والصحابة من لا ينطق عن الهوى صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه البخاري ومسلم عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إنكم محشورون إلى الله؛ حفاة، عراة، غرلا"1 الحديث، وكذلك حديث ابن مسعود وما في معناهما، وكذلك قوله: وقد فسر هذين الحديثين للذين ذكرهما صلى الله عليه وسلم بمخالفة كتاب الله عز وجل وأهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أخرجه الطبراني في "الكبير" عن زيد بن أرقم قوله صلى الله عليه وسلم "إني لكم فرط"2 الحديث وما في معناه من الأحاديث). فالجواب عن ذلك من وجوه: (أحدها): أن يقال: حديث ابن عباس، وحديث ابن مسعود المتفق عليهما وما في معناهما من الأحاديث الصحيحة 3 قد رواها أهل العلم، وفسروها بأن المراد بها الذين ارتدوا بعد موت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقاتلهم أبو بكر الصديق والصحابة معه، كأصحاب مسيلمة الكذاب، والأسود العنسي، وطليحة، ومن معهم من قبائل العرب، فجهز أبو بكر رضي الله عنه الجيوش، وأمَّر عليهم خالد بن الوليد، وقاتلهم حتى قتل منهم على الردة جماعة كثيرة، ودخل

_ 1 البخاري: أحاديث الأنبياء (3349) والرقاق (6524) , ومسلم: الجنة وصفة نعيمها وأهلها (2860) , والترمذي: صفة القيامة والرقائق والورع (2423) وتفسير القرآن (3167 ,3332) , والنسائي: الجنائز (2081 ,2082 ,2087) , وأحمد (1/ 220 ,1/ 223 ,1/ 229 ,1/ 235 ,1/ 253) , والدارمي: الرقاق (2802). 2 البخاري: المغازي (4085) , ومسلم: الفضائل (2296) , والنسائي: الجنائز (1954) , وأحمد (4/ 149 ,4/ 153 ,4/ 154). 3 التي فيها أن بعض من يرد عليه -صلى الله عليه وسلم- الحوض، تذودهم الملائكة، ويعللون طردهم بقولهم له -صلى الله عليه وسلم-: "إنك لا تدري مما أحدثوا بعدك"، فيقول: "بعدا لهم وسحقا".

بقيتهم في الإسلام طوعا وكرها، وظهر مصداق ما أخبر الله به في كتابه حيث قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} 1 الآية. قال الحسن البصري -رحمه الله-: هم والله أبو بكر، وأصحابه. وقد روى البخاري في صحيحه تفسير ذلك بما ذكرنا، فقال في ترجمة مريم من (أحاديث الأنبياء)، قال الفربري: عن أبي عبد الله البخاري، عن قبيصة قال: هم الذي ارتدوا على عهد أبي بكر، فقاتلهم أبو بكر، يعني حتى قتلهم، وماتوا على الكفر. قال الخطابي: لم يرتد من الصحابة أحد، وإنما ارتد قوم من جفاة الأعراب ممن لا بصيرة له في الدين، وذلك لا يوجب قدحا في الصحابة المذكورين. قال الحافظ: ورجح عياض والباجي وغيرهما ما قاله قبيصة راوي الخبر، ولا يبعد أن يدخل في ذلك -أيضا- من كان في زمنه من المنافقين، كما في حديث الشفاعة: "وتبقى هذه الأمة فيها منافقوها"2، فدل على أنهم يحشرون مع المؤمنين. (الوجه الثاني): أن يقال: الخوارج، ومن سلك سبيلهم يحملون هذه الأحاديث على علي رضي الله عنه ومن والاه، ويقولون: إنهم ارتدوا، وأشركوا، فكما أنهم مخطئون ظالمون في ذلك، فكذلك الروافض، والشيعة الذين يحملون هذه الأحاديث على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كأبي بكر وعمر وجمهور الصحابة، أو على معاوية ومن قاتل معه عليا؛ بل قولهم أظهر فسادا، وأبعد عن الحق والصواب من قول الخوارج، فإن كان كلامهم صحيحا فكلام الخوارج أقرب إلى الصحة. (الوجه الثالث): أن أهل البيت الذين ذكروا في حديث زيد بن أرقم، وما في معناه هم قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين حرمت عليهم الصدقة، قال: علي، وآل جعفر، وآل العباس، وآل أبي لهب، كما أخبر بذلك زيد بن أرقم، وهو راوي الخبر، كما ذكر ذلك مسلم في صحيحه، والإمام أحمد في مسنده، وغيرهما من أهل الحديث، وهذا لفظهما، وروايتهما: حدثنا إسماعيل بن إبراهيم عن أبي حيان اليمني، حدثني يزيد بن حبان، قال: انطلقت أنا وحصين بن سبرة، وعمرو بن مسلم إلى زيد بن أرقم،

_ 1 سورة المائدة آية: 54. 2 البخاري: التوحيد (7438) , ومسلم: الإيمان (182) , وأحمد (2/ 275).

فلما جلسنا إليه، قال له حصين: لقد لقيت يا زيد خيرًا كثيرًا؛ رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وسمعت حديثه وغزوت معه، وصليت معه، لقد لقيت يا زيد خيرا كثيرا، حدِّثْنا يا زيد ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا ابن أخي، والله لقد كبر سني، وقدم عهدي، ونسيت بعض الذي كنت أعي من رسول الله صلى الله عليه وسلم فما حدثتكم فاقبلوه، وما لا فلا تكلفونيه. ثم قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما خطيبا بماء يدعى (خما) بين مكة والمدينة، فحمد الله، وأثنى عليه، وذكر، ووعظ، ثم قال: "أما بعد؛ ألا أيها الناس إنما أنا بشر يوشك أن يأتيني رسول ربي فأجيب، وإني تارك فيكم ثقلين: أولهما كتاب الله؛ فيه الهدى والنور، فخذوا بكتاب الله، واستمسكوا به"1، فحث على كتاب الله ورغب فيه، وقال: "وأهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي"2، فقال له حصين: ومن أهل بيته يا زيد؟ أليس نساؤه من أهل بيته؟ قال: إن نساءه من أهل بيته، ولكن أهل بيته من حرم الصدقة بعده، قال: ومن هم؟ قال: هم آل علي، وآل عقيل، وآل جعفر، وآل العباس، قال: أكل هؤلاء حُرِمَ الصدقة؟ قال: نعم. فانظر -رحمك الله- إلى كلام الصحابي، راوي الخبر، وإخباره أن أهل البيت كل من حرم الصدقة بعده 3، والرافضة والشيعة تحمل هذه الأحاديث على آل علي خاصة. (الوجه الرابع): أن يقال: هذه الأحاديث أكثرها مطعون في صحتها، لا تقوم بها حجة، والصحيح منها لا يدل على مقصود هذا المعترض وأشباهه من أهل البدع، وذلك لأن مدلولها يعم أهل البيت، كآل علي، وآل العباس، وآل عقيل، وآل جعفر، وغيرهم ممن حُرِّمت عليه الصدقة، وتدل على أن إجماعهم حجة، وأنهم لا يجمعون على مخالفة كتاب الله وسنة رسوله. وأما إذا اختلفوا لم يكن قول أحدهم حجة على الآخر، بل يجب الرد عند التنازع إلى الله، وإلى الرسول، كما قال -تعالى-: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} 4.

_ 1 مسلم: فضائل الصحابة (2408) , وأحمد (4/ 366) , والدارمي: فضائل القرآن (3316). 2 مسلم: فضائل الصحابة (2408) , وأحمد (4/ 366) , والدارمي: فضائل القرآن (3316). 3 والتحقيق أنهم بنو هاشم وبنو المطلب. 4 سورة النساء آية: 59.

فصل: في تفسير {قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى}

(الوجه الخامس): أن يقال: الذين ظلموا أهل البيت وقتلوهم، أو أحدا منهم، هم عند أهل السنة والجماعة أئمة جور وظلم، لا يحبونهم ولا يوالونهم، بل يبغضونهم ويعادونهم، ويلعنون من ظلمهم، وهذه كتبهم محشوة بالثناء على أهل البيت، والدعاء لهم، والترضي عنهم، وذم من ظلمهم، ولو ذهبنا نذكر نص كلامهم، لطال الكتاب جدا. فتبين بما ذكرنا أن مذهب أهل السنة والجماعة هو الحق الذي لا يجوز العدول عنه، وأن مذهب الرافضة والزيدية هو المخالف لكتاب الله وسنة رسوله، ولما أجمع عليه أهل البيت النبوي. والله أعلم. فصل (في تفسير {قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى}) وأما قوله: (وأما أدلة السائل وحجته على أن معتمده وطريقه إلى جده صلى الله عليه وسلم أهل الحق، أعني أهل البيت، سلام الله عليهم في الكتاب والسنة، أما الكتاب فآيات قد أضاء نورها، أولها قوله -تعالى-: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} 1. وقوله: {قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} 2 ووجه الدلالة: أن الله لا يأمر بمودة من ليس على الحق ... إلى آخره. فيقال: هذا من تمويهه على الجهال؛ الذين لا يميزون بين الحق والباطل، وليس كل من احتج بالقرآن يدل على ما احتج به عليه، وإنما يعرف معاني القرآن والسنة أهل العلم من الصحابة والتابعين لهم بإحسان؛ كابن عباس -رضي الله عنهما- وعلي بن الحسين، ومن شابههم من أهل العلم، الذين يعرفون مراد الله ورسوله. وقد صح عن ابن عباس أنه فسر قوله -تعالى -: {قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} 3 بأن المراد بذلك: أن يصلوا ما بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم من قرابة، ويكفوا عنه الأذى، ويدعوه يبلغ رسالات ربه، كما قال البخاري في صحيحه: حدثنا محمد بن بشار، حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة عن عبد الملك بن ميسرة،

_ 1 سورة الأحزاب آية: 33. 2 سورة الشورى آية: 23. 3 سورة الشورى آية: 23.

سمعت طاووسا، عن ابن عباس أنه سئل عن قوله: {إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} 1، فقال سعيد بن جبير: قربى آل محمد. فقال ابن عباس: عجلت، إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن بطن من قريش إلا كان له فيهم قرابة، فقال: "إلا أن تصلوا ما بيني وبينكم من القرابة"2 انفرد به البخاري. ورواه الإمام أحمد عن يحيى القطان، عن شعبة به. قال ابن كثير: وهكذا روى عامر الشعبي، والضحاك، وعلي بن أبي طلحة، والعوفي، ويوسف بن مهران، وغير واحد عن ابن عباس، وبه قال مجاهد، وعكرمة، وقتادة، والسدي، رواه الطبراني بإسناده عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا أسألكم عليه أجرا إلا أن تودوني في نفسي؛ لقرابتي منكم، وتحفظوا القرابة التي بيني وبينكم". وروى الإمام أحمد بإسناده عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا أسألكم على ما آتيتكم من البينات والهدى أجرا، إلا أن تودوا الله، وتتقربوا إليه بطاعته"، هكذا روى قتادة عن الحسن البصري، عن ابن عباس مثله. وهذا كأنه تفسير بقول ثان، وقول ثالث، وهو ما حكاه البخاري وغيره عن سعيد بن جبير ما معناه أنه قال: معنى ذلك أن تودوني في قرابتي، أي تبروهم وتحسنوا إليهم. قال ابن كثير: والحق تفسير الآية بقول حبر الأمة، وترجمان القرآن؛ عبد الله بن عباس كما رواه عنه البخاري 3؛ ولا ننكر الوصاة بأهل البيت، والأمر بالإحسان إليهم واحترامهم،

_ 1 سورة الشورى آية: 23. 2 البخاري: تفسير القرآن (4818) , والترمذي: تفسير القرآن (3251) , وأحمد (1/ 229 ,1/ 286). 3 نعم هذا هو الحق وما عداه باطل، مخالف لنصوص القرآن القطعية الناطقة بأن رسل الله -تعالى- لم يسألوا على تبليغ وحي الله ودينه أجرا، بل صرحوا بأن أجرهم على الله وحده، كما تراه في قصص الرسل في سورتي هود والشعراء وغيرهما، وما كان خاتم النبيين بدعا من الرسل، فما ينبغي له، وهو أفضلهم أن يسأل قومه أجرا على تبليغ الدين، أن يودوا قرابته، وأكثر البشر يسعون، ويكدحون لأجل أولي قرباهم، وقد حكى الله -تعالى- عنه ذلك، كما حكى عنهم في سور الأنعام، ويوسف والفرقان، وسبأ، وص، والشورى، وفيها استثناء (إلا المودة في القربى)، وهو استثناء منقطع قطعا لئلا تختلف مع بقية الآيات التي جاءت على أصل العقيدة في سائر الرسل -عليهم السلام- فمعناها: لا أسألكم عليه أجرا مطلقا، ولكن أسألكم المودة في القرابة، وصلة الرحم بيني وبينكم كسائر الأقربين، كما استثنى في آية الفرقان (إلا من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلا).

فصل: في تفسير {إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت} وتحريف الشيعة لها

وإكرامهم، فإنهم من ذرية طاهرة، وأشرف بيت وجد على ظهر الأرض فخرا، وحسبا ونسبا، ولا سيما إذا كانوا متبعين للسنة النبوية الصحيحة الواضحة الجلية، كما كان عليه سلفهم كالعباس وبنيه، وعلي، وأهل بيته وذويه. ثم ذكر ابن كثير -رحمه الله- الأحاديث في وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم بهم وساقها من وجوه متعددة. فصل (في تفسير {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ} وتحريف الشيعة لها) وأما قوله: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} 1، فقال الحافظ ابن كثير في تفسيره: هذا نص في دخول أزواج النبي صلى الله عليه وسلم في أهل البيت؛ لأنهن سبب نزول هذه الآية، وسبب النُزول داخل فيه قولا واحدا. إما وحده على قول، أو مع غيره على الصحيح. وروى ابن أبي حاتم بإسناده عن ابن عباس في قوله: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ} 2 قال: نزلت في نساء النبي صلى الله عليه وسلم. وقال عكرمة: من شاء باهلته؛ إنها نزلت في أزواج النبي صلى الله عليه وسلم. فإن كان المراد أنهن سبب النُزول دون غيرهن فهذا حق، وإن كان المراد أنها لا تعم غيرهن ففي هذا نظر؛ فإنه قد وردت أحاديث تدل على أن المراد أعم من ذلك، ثم ساق الأحاديث بطولها. انتهى معنى ما ذكره ابن كثير. ومن تدبر القرآن لم يشك أن نساء النبي صلى الله عليه وسلم داخلات في قوله: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ} 3؛ لأن سياق الكلام معهن 4. ولهذا قال

_ 1 سورة الأحزاب آية: 33. 2 سورة الأحزاب آية: 33. 3 سورة الأحزاب آية: 33. 4 التحقيق المتبادر من الآيات أنها في نساء النبي وحدهن دون غيرهن، وإنما ذكر الضمير في قوله (ليذهب عنكم الرجس أهل البيت) لدخوله -صلّى الله عليه وسلّم- معهن في ذلك، ولكون ما أريد من التشديد عليهن بهذه الوصايا، وحكمته هو تطهير بيته (ص) مما يدنسه بانحرافهن عن صراط التقوى - (برأهن الله من ذلك) - ومن المعلوم بالبداهة: أن الرجل لا يلحقه من العار بارتكاب أحد أولاد عمه لفاحشة ما مثل ما يلحقه باقتراف زوجه للفاحشة.

بعد هذا كله: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ} 1 أي: واعملن بما أنزل الله على رسوله في بيوتكن، من الكتاب والسنة، قاله قتادة، وغير واحد من المفسرين، وعائشة بنت الصديق -رضي الله عنها وعن أبيها- أولاهن بهذه النعمة، وأحظاهن بهذه الغنيمة، فإنه لم ينْزل على رسوله صلى الله عليه وسلم الوحي في فراش امرأة سواها، كما نص على ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال بعض العلماء: لأنه لم يتزوج بكرا غيرها، ولم ينم معها رجل في فراشها غيره صلى الله عليه وسلم فناسب أن تخص بهذه المزية، وأن تفرد بهذه المرتبة العلية. والمقصود: أن هذه الآية تناقض مذهب هذا المعترض، وترد عليه، وتنادي ببطلان مذهبه من وجوه كثيرة: (منها): أنها عامة في جميع أهل البيت كآل العباس، وآل جعفر، وآل الحارث بن عبد المطلب، وهو إنما يظن أن المراد بها آل علي خاصة. (ومنها): أن أزواجه داخلات في جملة أهل البيت، وهم يزعمون أن عائشة، ومن معها من الصحابة -رضوان الله عليهم أجمعين- مخطئون عاصون في قتالهم عليا وأصحابه. (ومنها): أنه ليس فيها دليل على عصمة أهل البيت؛ لأن العلماء -رحمة الله عليهم- ذكروا أن الإرادة في القرآن نوعان: إرادة شرعية دينية، وإرادة قدرية كونية؛ فالأولى كقوله في هذه الآية: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ} 2 وقوله: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} 3 الآية وقوله: {وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ} 4. وأخبر أنه يريد أن يتوب على المؤمنين ويطهرهم، وفيهم من تاب ومن لم يتب، ومن تطهر ومن لم يتطهر، فلا يكون فيها دليل على العصمة، ولا الإمامة 5. وأما الإرادة الكونية القدرية فكقوله: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا} 6 الآية، وقوله: {وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا} 7 وقوله: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً} 8 الآية،

_ 1 سورة الأحزاب آية: 34. 2 سورة الأحزاب آية: 33. 3 سورة النساء آية: 26. 4 سورة المائدة آية: 6. 5 ومثله في حكمة الرخصة في الصيام (يريد الله بكم اليسر) الآية. 6 سورة الأنعام آية: 125. 7 سورة المائدة آية: 41. 8 سورة الإسراء آية: 16.

فصل: في أهواء الشيعة في مناقب أحاديث آل البيت

وقوله: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ} 1 الآية. وهذه هي الكلمات التي لا يجاوزهن بر، ولا فاجر. ولفظ (الرجس) أصله القذر، ويراد به الشرك كقوله -تعالى-: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ} 2، ويراد به الخبائث المحرمة كقوله: {أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ} 3. ونحن نقطع أن الله أذهب عنهم الرجس والخبائث، فمن تاب وقع ذنبه مكفرا، أو مغفورا له، فقد طهره الله تطهيرا. فتبين بما ذكرنا: أن الآيات التي احتج بها قد أضاء نورها في بطلان ما ذهب إليه هذا المعترض، وهو المطلوب. فصل {في أهواء الشيعة في مناقب أحاديث آل البيت} وأما قوله: (وأما الأحاديث ففي الترمذي عن زيد بن أرقم قوله صلى الله عليه وسلم: "إني تارك فيكم ما إن استمسكتم به لن تضلوا بعدي"4 إلى آخره، وكذلك حديث أبي سعيد الذي أخرجه ابن أبي شيبة، وابن سعد وأحمد، وكذلك حديث أبي ذر: "مثل أهل بيتي فيكم مثل سفينة نوح في قومه" إلى آخره، وكذلك حديث ابن الزبير، وكذلك حديث أبي سعيد وغيره مما ذكر). (فالجواب) أن يقال: قد تقدم الجواب عن حديث الثقلين، وما في معناه قريبا، وبينا أنها لا تدل على مقصود هذا المعترض، بل تدل على نقيض مقصوده، وإنما تدل على أن إجماع أهل البيت حجة، وأنهم لا يجمعون على باطل؛ لأن الله عصمهم من ذلك، كما عصم هذه الأمة أن تجتمع على ضلالة، وهذا قول طائفة من أصحاب أحمد وغيره، ذكره القاضي في المعتمد. ومن العجب قوله: قال بعض أهل التحقيق: إن حديث الثقلين متلقى بالقبول،

_ 1 سورة القصص آية: 5. 2 سورة الحج آية: 30. 3 سورة الأنعام آية: 145. 4 الترمذي: المناقب (3788).

فصل: جدليات الشيعة في أهل السنة وآل البيت

################

{قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ} 1. فلقد فرقت بين النبي صلى الله عليه وسلم وآله، وقطعت ما وصله الله ورسوله، وخالفت قوله صلى الله عليه وسلم فيما قاله لعلي: "أما 2 تكون رابع أربعة: أول من يدخل الجنة أنا وأنت، والحسن والحسين، وأزواجنا عن أيماننا وشمائلنا، وذرياتنا خلف أزواجنا" أخرجه الثعلبي، وأحمد في المناقب، وفي رواية أخرى أخرجها بعد ذكر الذرية: "وأشياعنا عن أيماننا وشمائلنا" إلى آخره. (فالجواب) أن يقال: في هذا الكلام من الكذب والزور والظلم أنواع كثيرة: (الأول): قوله: قد تحجرت واسعا، قال الله -تعالى-: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} وقد جعلت سيد المرسلين الذي هو رحمة للعالمين، رحمة لك، ولأهل مذهبك. وهذا كذب ظاهر على المجيب؛ لأنه لم يخص أحدا معينا، بل أخبر أن مذهبه في هذه الآيات وما أشبهها من الأحاديث، مذهب السلف الصالح، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، فهذا كلامه صريحا في تكذيب هذا المعترض. (الثاني): قوله: فقد جعلت سيد المرسلين الذي هو رحمة للعالمين، رحمة لك، ولأهل مذهبك. وهذا أيضا كذب ظاهر على المجيب؛ لأن ظاهر كلامه على صريحه يناقض ما ذكره هذا المعترض، وكل من اتبع كتاب الله وسنة رسوله من جميع الطوائف فهو عنده من أهل الرحمة الناجين، ولا يخالف في هذه المسألة أحد من أمته -صلى الله عليه وسلم-؛ لا من أهل السنة، ولا من أهل البدعة، وإنما الشأن في تحقيق هذه الدعوى بالعمل، وقد قال -تعالى- في كتابه: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ} 3 الآية، فدلت هذه الآية الكريمة على أن كل من أطاع الله ورسوله من الأولين والآخرين، فهو من أهل الجنة الناجين. (الثالث): قوله: وللمتسمّين بأهل السنة والجماعة خاصة. وهذا أيضا كذب على المجيب؛ لأن الذي ذكر المجيب -كما نقله هو عنه- أنه ما درج عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم

_ 1 سورة الزمر آية: 28. 2 كذا في الأصل، ولعله "أما ترضى أن تكون، إلخ" أو نحو هذا. 3 سورة النساء آية: 69.

################

################

فصل

إبراهيم خليلا على غير مدلولها، كما ذكر ذلك أهل العلم من أهل التواريخ وغيرهم. فقد خالفت ما عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهل بيته، والتابعون لهم بإحسان، واتبعت سبيل المبتدعة الضالين، وذممت طريقة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وكل من اتبعهم وزعمت أنها تقتضي التشبيه والتجسيم، ومدحت طريقة جهم بن صفوان، وجعد بن درهم، وزعمت أنها هي الحق الذي يجب اتباعه، ونسبتها -بجهلك- إلى رسول الله، وأهل بيته. وقد ذكر البخاري -رحمه الله- في كتابه (خلق أفعال العباد) قصة جهم بن صفوان وجعد بن درهم، وكان جعد أخذ هذا المذهب عن الصابئين، وأخذه عنه الجهم بن صفوان. قال -رحمه الله-: حدثنا قتيبة، حدثني القاسم بن محمد بن حبيب بن أبي حبيب، عن أبيه عن جده، قال: شهدت خالد بن عبد الله القسري بواسط في يوم الأضحى وقال: "ارجعوا وضحوا تقبل الله منكم، فإني مضح بالجعد بن درهم؛ زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلا، ولم يكلم موسى تكليما، سبحانه وتعالى عما يقول الجعد بن درهم علوا كبيرا" ثم نزل فذبحه. قال أبو عبد الله: بلغني أن جهما كان يأخذ هذا الكلام عن الصائبة. فصل وأما قوله: فلقد فرقت بين النبي صلى الله عليه وسلم وقطعت ما وصله الله ورسوله. فهذا كذب وافتراء على المجيب، لا يمتري فيه ذو قلب منيب، وذلك أن المجيب قرر في كلامه مذهب السلف الصالح، وهو ما عليه رسول الله وأصحابه، وذكر الأدلة على ذلك من كلام الله، وكلام رسوله، وكلام أهل العلم. وإنما الذي قطع ما أمر الله به أن يوصل وفرق بين رسول الله صلى الله عليه وسلم هم أهل البدع والضلال الذين شاقوا الله ورسوله من بعد ما تبين لهم الهدى، واتبعوا غير سبيل المؤمنين، فأولئك يوليهم الله ما تولوا، ويصليهم جهنم وساءت مصيرا، ولو ادعوا اتباعهم، وانتحلوا طريقتهم كذبا وافتراء عليهم.

فصل: زعم الزيدي أن الوهابي كفر من خالف مذهبه، وإبطاله

فصل (زعم الزيدي أن الوهابي كفّر من خالف مذهبه، وإبطاله) وأما قوله: أولم تدر أنك ضللت، وكفّرت من خالف مذهبك؟ استنادًا إلى الأوزاعي الذي يدعي أن الحق معه، وأن التابعين أجمعوا على ما ادعاه. (فالجواب) أن يقال: في هذا الكلام من الكذب والظلم والجهل أنواع كثيرة: (الأول) قوله: إنك ضللت، وكفّرت من خالف مذهبك في مسألة الصفات، فإن الأمة اختلفوا في هذه المسائل اختلافا كثيرا، ولم يكفّر بعضهم بعضا، وإنما يكفّرون من خالف نص كتاب أو سنة، وقامت عليه الحجة، واعتقد أن الحق خلاف ذلك. وأما نحن فلم نكفّر أحدا بهذه الأمور، وإنما كفّرنا من أشرك بالله، وعبد معه غيره، وقامت عليه الحجة، واستهزأ بالدين الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من عند الله، أو شيء منه، أو كرهه وأبغضه. والأدلة على ذلك كثيرة في الكتاب والسنة كقوله -تعالى-: {مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ} 1. وقال -تعالى- لنبيه صلى الله عليه وسلم: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} 2. وقال -تعالى-: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} 3. وقال -تعالى-: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ} 4 الآية. وقال -تعالى-: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} 5. وقال -تعالى-: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} 6. (الثاني): قوله: استنادًا إلى الأوزاعي، الذي ادعى أن الحق معه؛ لأن الأوزاعي -رحمه الله- لم يدع أن الحق معه، بل ذكر أن مذهبه هو ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وما أجمع عليه التابعون. ومعلوم أن الحق معهم لا يمتري في ذلك مسلم، وإذا تنازع الناس في مسألة من المسائل الأصولية والفروعية، فالصواب

_ 1 سورة المائدة آية: 72. 2 سورة الزمر آية: 65. 3 سورة النساء آية: 48. 4 سورة الحج آية: 31. 5 سورة التوبة آية: 65، 66. 6 سورة محمد آية: 9.

والحق مع من كان الدليل معه كائنا من كان. (الثالث): قوله: وإن التابعين أجمعوا على ما ادعاه؛ لأن الإجماع في هذه المسألة قد حكاه غير واحد من أهل العلم، كمحمد بن الحسن صاحب أبي حنيفة، وأبي عمر بن عبد البر وغيرهما. فثبت عن محمد بن الحسن صاحب أبي حنيفة أنه قال: "اتفق الفقهاء من الشرق والغرب على أن الإيمان بالقرآن والأحاديث التي جاء بها الثقات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في صفة الرب عز وجل من غير تفسير، ولا تشبيه، فمن فسر شيئا من ذلك، فقد خرج مما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وفارق الجماعة؛ فإنهم لم يصفوا ولم يفسروا، ولكن آمنوا بما في الكتاب والسنة، فمن قال بقول جهم فارق الجماعة". انتهى. فانظر -رحمك الله- إلى هذا الإمام، كيف حكى الإجماع في هذه المسألة؟ ولا خير فيما خرج عن إجماعهم، ولو لزم التجسيم عن السكوت عن تأويلها لفروا منه، فإنهم أعرف الأمة بما يجوز على الله، وما يمتنع عليه. وثبت عن إسماعيل بن إبراهيم بن عبد الرحمن الصابوني أنه قال: "إن أصحاب الحديث، المتمسكين بالكتاب والسنة، يعرفون ربهم -تبارك وتعالى- بصفاته التي نطق بها كتابه، وتنْزيله، وشهد بها رسوله صلى الله عليه وسلم على ما وردت به الأخبار الصحاح، ونقله العدول الثقات، ولا يعتقدون تشبيها لصفاته بصفات خلقه، ولا يكيفونها تكييف المشبهة، ولا يحرفون الكلم عن مواضعه؛ تحريف المعتزلة والجهمية". وقد أعاذ الله أهل السنة من التحريف والتشبيه، ومن عليهم بالتفهيم والتعريف حتى سلكوا سبيل التوحيد والتنْزيه، وتركوا القول بالتشبيه، واكتفوا بنفي النقائص بقوله عز وجل: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} 1. وبقوله -تعالى-: {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَد وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} 2. فتبين بما ذكرنا بطلان قول المعترض؛ استدلالك بما رواه الأوزاعي من الإجماع آحادي، ولا يجوز تكفير المسلمين إلا بقطعي المتن والدلالة.

_ 1 سورة الشورى آية: 11. 2 سورة الإخلاص آية: 3.

فصل: قول السلف في الاستواء على العرش

فصل [قول السلف في الاستواء على العرش] وأما قوله: (إنك ادعيت أن الذي تذهب إليه ترك التعرض لتفسير آيات الصفات، والأوزاعي روى خلاف ما تدعي، فإنه قال: كنا والتابعون نقر بأن الله فوق عرشه. وإذا أثبت التابعون والأوزاعي الفوقية لله على العرش فقد فسروا 1، فكأنهم قالوا معنى قوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} 2 أي كان فوقه، وأنت تقول: إنك لا تتعرض لتفسير آيات الصفات، فما الجامع بين كلامك، وكلام الأوزاعي والتابعين؟ فكيف تستدل به على تكفير المسلمين؟). (فالجواب) أن يقال: هذا الكلام من المعترض مما يدل على جهله، وقلة معرفته بكلام الأئمة ومرادهم، فإن كلام الأوزاعي وغيره من أهل السنة معناه: أنهم لا يفسرون، ولا يكيفون صفات الله كالاستواء على العرش، والنُزول، والمجيء، والغضب، والرضى، والمحبة وغير ذلك من الصفات. فيقولون مثلا في الاستواء: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، كما قال الإمام مالك ابن أنس رحمه الله، فقيل له: يا أبا عبد الله {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} 3، كيف استوى؟ فأطرق مالك، وعلاه الرحضاء -يعني العرق-، وانتظر القوم ما يجيء منه، فرفع رأسه إليه، وقال: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، وأحسبك رجل سوء، وأمر به فأخرج. ومَن أوّل الاستواء بالاستيلاء فذاك هو الذي فسر، وهذا تأويل الجهمية والمبتدعة الضالين، وهم أئمة هذا المعترض، الذين فارقوا ما عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وابتدعوا في الدين ما لم يأذن به

_ 1 التفسير في اللغة المبالغة في توضيح ما فيه خفاء، وبهذا المعنى كان يذكره المتقدمون، فقول الأوزاعي بعدم تفسير الصفات الإلهية أنهم يرونها على ظاهر مدلول اللغة، مع اعتقاد تنزيهه -تعالى- عن مشابهة خلقه. 2 سورة طه آية: 5. 3 سورة طه آية: 5.

الله، والدليل على أن مذهب السلف ما ذكرنا أنهم نقلوا إلينا القرآن العظيم، وإخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم نقل مصدق لها، يؤمن بها غير مرتاب فيها ولا شاك في صدق قائلها، ولم يفسروا ما يتعلق بالصفات بتأويل ولا غيره، ولا شبهوه بصفات المخلوقين؛ إذ لو فعلوا شيئا من ذلك لنقل عنهم، ولم يجز أن يكتم بالكلية، إذ لا يجوز التواطؤ على كتمان ما يحتاج إلى نقله ومعرفته؛ لجريان ذلك في القبح مجرى التواطؤ على نقل الكذب، وفعل ما لا يحل، بل بلغ من مبالغتهم في السكوت عن هذا، أنهم كانوا إذا رأوا من يسأل عن المتشابه بالغوا في كفه وزجره، تارة بالقول العنيف، وتارة بالضرب، وتارة بالإعراض الدال على شدة الكراهة لمسألته. ولذلك لما بلغ عمر رضي الله عنه أن صبيغا يسأل عن المتشابه، أعد له عراجين النخل، ثم أمر به فضرب ضربا شديدا، وبعث به إلى البصرة، وأمرهم أن لا يجالسوه فكان بها كالبعير الأجرب؛ لا يأتي مجلسا إلا قالوا: عزله أمير المؤمنين فتفرقوا عنه. وقال سعيد بن جبير: ما لم يعرفه البدريون فليس من الدين. وثبت عن الربيع بن سليمان قال: سألت الشافعي رضي الله عنه عن صفات الله -تعالى-، فقال: حرام على العقول أن تمثل الله -تعالى-، وعلى الأوهام أن تحده، وعلى الظنون أن تقطع، وعلى النفوس أن تفكر، وعلى الضمائر أن تتعمق، وعلى الخواطر أن تحيط، وعلى العقول أن تعقل إلا ما وصف الله به نفسه، أو على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم. وثبت عن الحميدي أبي بكر عبد الله بن الزبير أنه قال: أصول السنة، فذكر أشياء- ثم قال: وما نطق به القرآن، والحديث مثل: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ} 1. ومثل: {وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} 2. وما أشبه هذا من القرآن والحديث، ولا نزيد فيه، ولا نفسره. ونقف على ما وقف عليه القرآن والسنة، ونقول: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} 3. فمن زعم غير هذا فهو جهمي، فمذهب السلف -رحمة الله عليهم-: إثبات الصفات، وإجراؤها على ظاهرها

_ 1 سورة المائدة آية: 64. 2 سورة الزمر آية: 67. 3 سورة طه آية: 5.

فصل: في إنكار الزيدي صفة العلو والفوقية لله تعالى، والرد عليه

ونفي الكيفية عنها؛ لأن الكلام في الصفات فرعٌ عن الكلام في الذات، وإثبات الذات إثبات وجود لا إثبات كيفية، وعلى هذا مضى السلف كلهم. ولو ذهبنا نذكر ما اطَّلعْنا عليه من كلام السلف في ذلك لخرج بنا عن المقصود في هذا الجواب، فمن كان قصده الحق وإظهار الصواب اكتفى بما قدمنا، ومن كان قصده الجدال والقيل والقال والمكابرة لم يزده التطويل إلا ضلالا، والله الموفق للصواب. فصل {في إنكار الزَّيْدِي صفة العلو والفوقية لله تعالى، والرد عليه} وأما قوله: (وأنت -أيضا- قد ناقضت كلامك بكلامك؛ حيث قلت: وذلك مثل وصف نفسه -تبارك وتعالى- بأنه فوق السماوات مستوٍ على عرشه. فقد فسرت كتاب الله، وأثبتَّ له صفة وهي الفوقية المستلزمة للتجسيم، وليست الفوقية مذكورة في قوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} 1). (فالجواب) أن يقال: قد ذكرنا أن تفسير الصفات -الذي نفيناه في كلامنا، وذكرنا نفيه عن السلف- هو تأويل آيات الصفات وأحاديثها بتأويلات الجَهْمِيَّة والمُعْتَزَلَة، الذين يفسرون الاستواء بالاستيلاء والفوقية بالقهر، واليد بالنعمة، وما أشبه ذلك. ويفسرونها بتفسير المُشَبِّهَة، الذين يقولون: استوى كاستواء المخلوق على سريره، ويفسرون اليد بالجارحة كجارحة المخلوق. فكل هذا من التفسير المردود المُبْتَدَع المُحْدَث في الدين، ولم ينقل هذا عن أحد من السلف بإسناد صحيح ولا ضعيف، حتى إن المخالفين لهم في ذلك يقرون بأن مذهب السلف في آيات الصفات وأحاديثها إمرارها كما جاءت، من غير تعرض لتفسير أو تأويل، مع نفي التشبيه عنها، ويقولون: هذا أسلم. وأما مذهب الخلف فهو تأويلها وتفسيرها بما يليق بالله -سبحانه-، فحصل الاتفاق من الموافق والمخالف على أن مذهب السلف ما ذكرنا، ولله الحَمْدُ والمِنَّة.

_ 1 سورة طه آية: 5.

وأما وصف الرب بالفوقية فقد صرحت الآيات الكريمات بذلك، وكذلك الأحاديث الثابتة المتواترة، وأجمعت عليه الأمم عربهم وعجمهم؛ لأن الله فَطرَهم على ذلك، إلا من شذّ واجتالته الشياطين عن فطرته التي فطره الله عليها، وهذا كتاب الله -تعالى-، وسنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. وعامة كلام الصحابة والتابعين، ثم عامة كلام سائر الأمة مملوء بما هو؛ إما نص، وإما ظاهر، في أن الله هو العليّ الأعلى، وأنه فوق كل شيء، وأنه عالٍ على كل شيء، وأنه فوق العرش، وأنه فوق السماء، مثل قوله: {لَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} 1، {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} 2 {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} 3، {تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} 4، {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} 5، {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} 6 في ستة مواضع، إلى أمثال ذلك مما لا يحصى إلا بكلفة. يا سبحان الله! كيف لم يقل الرسول صلى الله عليه وسلم يوما من الدهر، ولا أحد من سلف الأمة: هذه الأحاديث والآيات لا تعتقدوا ما دلت عليه، لكن اعتقدوا الذي تقتضي مقاييسكم؛ فإنه الحق، وما خالفه فلا تعتقدوه وانفوه. ولازم هذه المقالة أن يكون ترك الناس بلا رسالة خيرا لهم في أصل دينهم؛ لأن مردَّهم قبل الرسالة وبعدها واحد، وإنما الرسالة زادتهم شقاء وضلالا. ونحن لم نصف الله بالفَوقية، وإنما هو -سبحانه- هو الذي وصف نفسه بذلك، فبطل قول المعترض، وكلامه صريح بأنه اتبع ما قاله الله ورسوله، وأن الله هو الذي وصف نفسه بذلك. وأما قوله: "فقد فسرت كتاب الله". فهذا كذب وافتراء على المجيب، يعرفه كل منصف لبيب، وهذا المعترض لا يستحي من كثرة الكذب، نعوذ بالله من ارتكاب الهوى، والتعصب على الباطل، اللذين يصدان عن اتباع الحق وإرادته. وقوله: "وأثبت لله صفة وهي الفوقية المستلزمة للتجسيم". كذب ظاهر؛ لأن إثبات الفوقية لا يلزم منه ذلك عند من قال به، والله -سبحانه وتعالى- أعلم من خلقه بما يجوز عليه وما يمتنع عليه، ولكن هذا شأن أهل البدع والضلال، يردون ما جاء

_ 1 سورة فاطر آية: 10. 2 سورة آل عمران آية: 55. 3 سورة الملك آية: 16. 4 سورة المعارج آية: 4. 5 سورة النحل آية: 50. 6 سورة الأعراف آية: 54.

فصل: الاحتجاج بالمرسل ورد دعوى تكفير الوهابية لمن خالفهم مطلقا

به الرسول -صلى الله عليه وسلم- من عند الله بهذه الأمور القبيحة، كما أن الجَهْمِيَّة أنكروا تكليم الله لموسى -عليه السلام- وغيره من خلقه، وزعموا أن القرآن مخلوق، قالوا: لأن الكلام إذا أطلق على ظاهره يلزم منه الجسم. وكذلك أنكروا رؤية الله في الآخرة، وزعموا أن المرئيات لا تكون إلا جسما، ولهذا لما ظهرت الفتنة في إمارة المأمون العَبَّاسي، وامتحن العلماء بالضرب والحبس على أن يقولوا: "القرآن مخلوق، وأن الله لا يُرى في الآخرة"، وجرى أمور عظيمة، وقتلوا بعض العلماء، وضربوا الإمام أحمد لما امتنع من القول بذلك. ولما ناظره بُرْغُوث تلميذ حسين النجار بأن الله لو كان متكلما لكان جسما، قال الإمام أحمد: لا أدري ما تقولون، ولكن أقول: {اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} 1 فأجابهم الإمام أحمد بطريقة الأنبياء وأتباعهم، وهو الاعتصام بكتاب الله، وترك البدع والمقاييس التي لم يأت بها كتاب ولا سنة، والله -سبحانه وتعالى- أعلم. فصل [الاحتجاج بالمُرْسَل ورد دعوى تكفير الوهابية لمن خالفهم مطلقا] وأما قوله: (إن روايتك عن الأوزاعي مرسلة لم تذكر طريقها، ولا مخرجها، ولا من صححها، فكيف تكفر بها المسلمين؟). (فالجواب) أن يقال: هذا المعترض لا يعرف معنى المرسل عند أهل الحديث، ولا يميز بينه وبين المنقطع أو المعضل؛ لأن هذا لا يُسمى مرسلا، وإنما المرسل ما أرسله التابعي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وسقط الصحابي، كما إذا روى سَعِيد بن المُسَيَّبِ أو الزُّهْرِيُّ أو الحَسَنُ أو مَكْحُولٌ وأمثالهم عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأما مثل هذا فلا يُسمى مرسلا، وإنما يُسمى مُعْضَلا أو مُنْقَطِعًا. ويقال -أيضا-: استنادنا في هذه المسألة ليس إلى قول الأوزاعي خاصة، ولا إلى قول من هو أجلّ من الأوزاعي، وإنما استنادنا في هذه المسألة وأمثالها من صفات الله إلى نصوص الكتاب والسنة

_ 1 سورة الإخلاص آية: 1.

فصل: في بدعة إنكار القدر وتقدمها على بدعة تأويل الصفات

وإجماع أهل العلم من السلف الصالح، فقد نقل الإجماع في هذه المسألة غير واحد كما تقدم التنبيه عليه. وقوله: "فكيف يكفر بها المسلمين؟ " فيا سبحان الله! كيف تفتري الكذب الظاهر على المجيب؟ فقد بيَّنَّا فيما تقدم أننا لم نكفر أحدا بالجهل في هذه المسألة -أعني تأويل آيات الصفات وأحاديثها، ومخالفة ما عليه السلف- ولا نكفر إلا من أنكر ما علم مجيء الرسول صلى الله عليه وسلم به ضرورة. فصل [في بدعة إنكار القدر وتقدمها على بدعة تأويل الصفات] وأما قولك: (إن الأَوْزَاعِيَّ -الراوي لذلك الإجماع- قد ناقض نفسه، فقد حكى عنه الذَّهَبِيُّ أنه قال: لا نعلم أحدًا ينسب إلى القدر من التابعين أجلّ من الحَسَنِ ومَكْحُول رحمهما الله). فالجواب: أن هذا المعترض لا يعرف المناقضة؛ لأن إثبات القدر أو نفيه من باب إثبات فعل العبد لله -تعالى- أو نفيه، لا من باب تفسير الصفات وتأويلها، والذي ذكره الأَوْزَاعِيُّ عن التابعين إثبات الصفات لله -تبارك وتعالى- وعدم تفسيرها وتأويلها، فأين في هذا ما يناقض ما ذكره الأوزاعي في قوله: "كنا والتابعون متوافرون نقول: إن الله فوق عرشه. ونؤمن بما وردت به السنة من صفاته"؟ وقد رواه البَيْهَقِيُّ وغيره، بإسناده عن الأَوْزَاعِيِّ. وإثبات خلق الله -تعالى- للأشياء المخلوقة لا ينازع فيه أحد من الناس، حتى عبدة الأوثان يقرون بذلك، كما أخبر الله عنهم بقوله: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} 1. وقوله: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} 2 إلى قوله: {وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ} 3. وإنما نازع من نازع من المُعْتَزَلَة في فعل العبد خاصة، فالمُعْتَزَلَة ينكرون أن الله خلق أفعال العباد؛ خيرها وشرها.

_ 1 سورة الزخرف آية: 87. 2 سورة يونس آية: 31. 3 سورة يونس آية: 31.

وفي صحيح مسلم: أن أول من قال ذلك بالبصرة مَعْبَدٌ الجُهَنِيُّ، فلما ذكر ذلك لعبد الله بن عمر تبرأ منه، واستدل على إثباته بما سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم في إثبات القدر حين سأله جِبْرِيلُ -عليه السلام- عن الإسلام والإيمان والإحسان، كما ذكر ذلك مُسْلِمٌ في أول كتاب الإيمان من صحيحه. وكذلك ابن عَبَّاس ثبت عنه أنه تبرأ ممن أنكر ذلك. ومن العجب قوله: (وأيضا ينتقض بما رُوي عن عامر الشَّعْبِيّ التابعي أنه قال: "إن أحببنا أهل البيت هلكت دنيانا، وإن أبغضناهم هلك ديننا"). فأين المناقضة في هذا الكلام يا جاهل؟ وأهل السنة كلهم يحبون آل محمد، مع إثباتهم لصفات الله تعالى التي نطق بها القرآن. فإن قلت: إن أهل البيت ينكرون هذه الصفات، ويتأولون ظواهر هذه الآيات، طالبناك بصحة النقل عنهم بذلك، وهيهات؛ لأن أهل البيت لا يفارقون كتاب الله ولا يخالفونه، كما ورد في الحديث أنه قال: "ولن يفترقا حتى يردا علي الحوض"1 كما تقدم في حديث زَيْد بن أَرْقَمَ وغيره. وأنت لا تنكرنَّ ظواهر الآيات والأحاديث المذكورة فيها صفة الرب بصفاته العلى وأسمائه الحسنى، كالعلي الأعلى، وأنه فوق عرشه استوى، وأنه فوق عباده. ولم ينقل عن أحد من الصحابة أنه فسر هذه الآيات بتفسير المُعْتَزَلَة والجَهْمِيَّة الذي يذهب إليه هذا المعترض، ولا قالوا للناس: اعلموا أن ظاهر هذه النصوص غير مراد فلا تعتقدوه فإنه يقتضي التشبيه والتجسيم، بل سكتوا عن ذلك، ووصى بعضهم بعضا بالسكوت عنها، وإنما فسرها وتأولها أهل الضلال والبدع. وما أحسن ما قال عُمَرْ بنُ عبدِ العَزِيز بنُ عبدِ اللهِ بنُ أَبِي سَلَمَةَ المَاجِشُونُ: "عليك بلزوم السنة؛ فإنها لك -بإذن الله- عصمة، فإن السنة إنما جعلت ليستن بها ويقتصر عليها، وإنما سنها من قد علم ما في

_ 1 الترمذي: المناقب (3788) , وأحمد (3/ 14 ,3/ 17 ,3/ 26 ,3/ 59).

فصل: في مسألة القدر وإثبات السلف والخلف من أهل السنة له

خلافها من الزلل والخطأ والحمق والتعمق، فارْضَ لنفسك بما رضوا به، فإنهم عن علم وقفوا، وببصر ناقد كفوا، ولهم كانوا على كشفها أقوى، وبتفصيلها كانوا أحرى، وإنهم لهم السابقون". "وقد بلغهم عن نبيهم ما يجري من الاختلاف بعد القرون الثلاثة، فلئن كان الهدى ما أنتم عليه لقد سبقتموهم، ولئن قلتم حدث حدث بعدهم، فما أحدثه إلا من اتبع غير سبيلهم ورغب بنفسه عنهم واختار ما تحته، فكره على ما تلقوه عن نبيهم، وتلقاه عنهم من اتبعهم بإحسان، ولقد وصفوا منه ما يكفي، وتكلموا منه بما يشفي، فمن دونهم مقصر، ومن فوقهم مفرط، لقد قصر دونهم أناس فجَفوا، وطمح آخرون فغَلَوا، وإنهم فيما بين ذلك لعلى هدى مستقيم". فصل {في مسألة القدر وإثبات السلف والخلَف [من] أهل السنة له} وأما قوله: (وقد رُوي التكلم في القدر عن مُحمد بن سِيرِين وقَتَادَة -إلى قوله-: ومن تكلم في القدر فقد تكلم في الصفات، وسواء كان من جانب المُعْتَزَلَة؛ كالحَسَن ومَكْحُول، ومن ذكروا من جانب الأشعرية، فمن التابعين من هو سلف للأشاعرة. وقلنا: إن التكلم في القدر تكلُّم في الصفات، إذ معناه عند الحَسَن ومَكْحُول أن الله -تعالى- متصف بعدم خلق أفعال العباد، أي: لم يؤثر فيها، ومن أثبت لله خلق الأفعال فقد وصف الله بأنه مؤثر فيها. وهذان المذهبان قد اشتهرا وشاعا في التابعين؛ فمنهم الذاهب مذهب المُعْتَزَلَة كالحَسَن ومَكْحُول ومن ذكرنا، ومنهم الذاهب مذهب الأشعرية). (فالجواب) من وجوه: (أحدها) أن يقال: إثبات القدر أو نفيه ليس من باب إثبات الصفات، ولا تفسيرها عند المثبتين ولا عند النافين كما تقدم التنبيه عليه، وإنما ذلك من باب إثبات الفعل والخلق. فالْمُعْتَزَلَة ينفون أن الله قدر أفعال العباد، ويقولون: إن الله لا يقدرها عليهم ثم يعذبهم عليها، وإنما يكون ذلك ابتداء من

عند أنفسهم، ويوردون على ذلك شبهات من الكتاب والسنة. وأما السلف وأهل السنة، ومن اتبعهم من أتباع الأئمة الأربعة من الأشعرية وغيرهم، فيثبتون أن الله قدَّر أفعال العباد وشاءها منهم، ولا يكون في ملكه إلا ما يريد، ويستدلون على ذلك بالآيات القرآنية الصريحة في أن الله خلق العباد وأعمالهم، كقوله تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} 1، وقوله: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} 2، وقوله: {مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا} 3. وبالأحاديث الصحيحة الصريحة المتواترة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن الله قدر أعمال العباد، وأن كلا مُيَسَّر لما خُلق له، كما قال تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} 4. (الوجه الثاني) أن يقال: هؤلاء الذين ذكرهم مع المُعْتَزَلَة -كالحَسَن وابن سِيرِين ومَكْحُول- كلهم قد صح عنهم الإيمان بالقدر وإثباته؛ موافقة لأهل السنة، وإن كان قد نسب إلى بعضهم موافقة المُعْتَزَلَة، فليس كل ما ينسب إلى شخص يكون ثابتا عنه، فليس مجرد نسبة بعض الناس إليهم ذلك يكون صدقا؛ وذلك لأن المُعْتَزَلَة إنما اشتهر أمرهم بعد موت الحَسَن البَصْرِيّ، لأنهم اعتزلوا أصحاب الحسن بعد موته فسُمُّوا المُعْتَزَلَة لذلك، وهم الذين يسمون القَدَرِيَّة؛ لأنهم ينكرون أن يكون الله -تبارك وتعالى- قدر أفعال العباد وشاءها منهم. وغلاتهم ينكرون أن يكون الله علم ذلك، ومن أنكر علم الله بذلك فقد كفر عند أئمة أهل السنة، ولهذا قال من قال من أئمة أهل السنة: ناظروا القَدَرِيَّة بالعلم، فإن أنكروه كفروا، وإن أقروا به خصموا. (الثالث): أن أهل السنة الذين حكينا مذهبهم في الصفات، وأنهم لا يتعرضون لها بتفسير ولا تأويل، بل يثبتونها صفات لله، ولا يلزم من إثباتهم الصفات لله أنهم يفسرونها أو يتأولونها. كما أنهم وغيرهم يثبتون لله ذاتا وفعلا وحياة وقدرة،

_ 1 سورة الصافات آية: 96. 2 سورة القمر آية: 49. 3 سورة الكهف آية: 17. 4 سورة الليل آية: 5: 10.

ولا يكيفونها، ولا يفسرونها، بل يثبتون ما أثبته لنفسه، ويسكتون عما سكت عنه، وينَزهونه عن مشابهة المخلوقات، ومذهبهم وسط بين الغالي فيه والجافي عنه، فلا يتأولونها تأويل المبتدعة، ولا يشبهونها بصفات المخلوقين، وقد قال تعالى: {فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} 1. (الوجه الرابع) أن هذا المعترض جزم في كلامه بأن الحَسَن ومَكْحُولا ومن ذكر معهم قد ذهبوا مذهب المُعْتَزَلَة، وهذا كذب ظاهر عليهم، فإن كان مراده أن هؤلاء نسب إليهم القول بمذهب المُعْتَزَلَة، فقد بيَّنَّا أن مجرد نسبته إليهم لا يلزم منه صحة ذلك عنهم، والمنقول عنهم في ذلك -من موافقة أهل السنة والجماعة في إثبات القدر والإيمان به- هو الثابت عنهم. وأنت تعلم أن كثيرا من الناس قد نقل عن عَلِيٍّ رضي الله عنه وأهل البيت أشياء كثيرة، ونسبوا إليهم أقوالا قد برأهم الله منها، والرسول صلى الله عليه وسلم قد نسب إليه أقوال كثيرة، وأهل العلم يعرفون أنها مكذوبة عليه. ومن هؤلاء المذكورين من تكلم في شيء من القدر ثم رجع عنه كوَهْبِ بنِ مُنَبِّهٍ، كما قال الحَافِظُ أَبُو الحَجَّاجِ المِزِّيُّ في تهذيبه، قال أَحْمَدُ بنُ حَنْبَلٍ عن عَبْدِ الرَّزَّاقِ: سمعت أبي يقول: "حج عامة الفقهاء سنة مائة، وحج وهب بن منبه، فلما صلوا العشاء أتاه نفر فيهم عطاء والحَسَن بن أبي الحَسَن، وهم يريدون أن يذاكروه في باب من الحمد، فما زال فيه حتى طلع الفجر، فافترقوا ولم يسألوه عن شيء". قال أحمد: "وكان يتهم بشيء من القدر ورجع". وقال حمَّاد بن سَلَمَةَ عن أبي سِنَانٍ، قال: سمعت ابن مُنَبِّه يقول: كنت أقول بالقدر، حتى قرأت بضعة وسبعين كتابا من كتب الأنبياء، في كلها: "من جعل إلى نفسه شيئا من المشيئة فقد كفر". فتركت قولي. فتبين بما ذكرنا أن جزم هذا المعترض -بأن هؤلاء الأئمة المذكورين يقولون بمقالة المُعْتَزَلَة، كذب ظاهر، وقول بلا دليل.

_ 1 سورة البقرة آية: 213.

فصل: المبتدعة ترد ما وصف الله به نفسه بزعم التجسيم

(الوجه الخامس): أن من المعلوم عند أهل العلم أن أول من تكلم في آيات الصفات وأحاديثها بهذه التأويلات الباطلة المخالفة للظاهر هم المُعْتَزَلَة والجَهْمِيَّة خاصة، وأما الصحابة والتابعون لهم بإحسان فكلهم متفقون على الإيمان بها، والسكوت عن البحث عن كيفيتها. فصل [المبتدعة ترد ما وصف الله به نفسه بزعم التجسيم] وأما قوله: (فمن أعجب ما سمعنا: قولك بأن مذهبك الذي درج عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم كما هو معنى كلامك، فإن أهل السنة والجماعة هم الذين ملؤوا كتبهم بروايات التجسيم لله -تعالى- والكيفية في الصفات، وفسروا صفاته، فلو ادعيت ذلك التنْزيه على ما في نفسك، لكان أحسن من تحجر الواسع الذي يريد قومك من أهل السنة والجماعة. فاسمع ما رواه السُّيوطِيّ في "الدُّرِّ المنثور" قال: أخرج ابن جرير والحاكم 1 وابن مردويه "أن موسى -عليه السلام- لما كلمه ربه أحب أن ينظر إليه، فسأله فقال: {لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ} 2. قال: فحف حول الجبل الملائكة، وحف حول الملائكة بنار، وحف حول النار بملائكة، وحف حولهم بنار، ثم تجلى ربك للجبل، تجلى منه مثل الخنصر، وجعل الجبل دكا فخر موسى صعقا" إلى آخر الحديث الذي في تفسير قوله تعالى: {قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ} 3. ثم ذكر حديث ابن عباس نحو ما تقدم، وكذلك أخرج أبو الشيخ عن أبي هُرَيْرَة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لما تجلى الله لموسى كان ينظر إلى دبيب النمل في الليلة الظلماء من مسيرة عشرة فراسخ" فهذا في التجسيم والتكييف). (فالجواب) أن يقال: كلام هذا المعترض يدل على رسوخه في الجهل العظيم، واتباعه لأهل البدع والضلال، وعداوته لله ورسوله وعباده المؤمنين، وذلك

_ 1 راجعت المستدرك للحاكم في تفسير قوله تعالى: (فلما تجلى ربه للجبل). فلم أجده في المستدرك، وهو من رواية ابن إسحاق عن بني إسرائيل اهـ من هامش الأصل. 2 سورة الأعراف آية: 143. 3 سورة الأعراف آية: 143.

أن مثل هذا الذي زعم أنه تجسيم وتكييف قد ورد ما هو مثله أو أبلغ منه في كتاب الله، وفي الأحاديث الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإذا كان هذا عنده تجسيمًا وتكييفًا فلازم كلامه أن الله وصف نفسه بالتجسيم والتكييف، وكذلك رسوله صلى الله عليه وسلم، ومن زعم هذا فقد انسلخ من العقل والدين. فاسمع الآن ما ذكر الله في كتابه: قال الله تعالى:? {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ} 1. وقال تعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ} 2. وقال تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} 3 في ستة مواضع من كتابه العزيز. وقال تعالى:? {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا} 4، ووصف نفسه بأنه يحب عباده المؤمنين. وكذلك وصف نفسه بالغضب والسخط في غير آية من القرآن، وكذلك وصف نفسه بأنه سميع بصير، وبأن له يدين، كقوله تعالى: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} 5، وقوله: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} 6، وبأنه يقبض الأرض يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه، سبحانه وتعالى عما يشركون. وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أن الله يقبض الأرض يوم القيامة ويطوي السماوات بيمينه، ثم يهزهن بيده، ثم يقول: أنا الملك، أين ملوك الأرض؟ "7. وقال تعالى:? {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} 8. وأمثال ذلك كثير في الكتاب والسنة، وقد أمرنا الله بتدبر القرآن وتفهمه. إذا تبين هذا، فقد أوجب الله تصديق الرسول صلى الله عليه وسلم على كل مسلم فيما أخبر به عن الله من أسمائه وصفاته، مما جاء في القرآن وفي السنة الثابتة عنه، كما كان عليه السابقون الأولون من المهاجرين، والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان، رضي الله عنهم ورضوا عنه. فإن هؤلاء الذين تلقوا عنه القرآن، كعُثْمَان بن عَفَّان وعبد الله بن مَسْعُود وغيرهم، قد أخبروا أنهم كانوا إذا تعلموا من النبي صلى الله عليه وسلم

_ 1 سورة البقرة آية: 210. 2 سورة الأنعام آية: 158. 3 سورة الأعراف آية: 54. 4 سورة الملك آية: 16، 17. 5 سورة ص آية: 75. 6 سورة المائدة آية: 64. 7 البخاري: تفسير القرآن (4812) , ومسلم: صفة القيامة والجنة والنار (2787) , وابن ماجه: المقدمة (192) , وأحمد (2/ 374) , والدارمي: الرقاق (2799). 8 سورة الفجر آية: 22.

فصل: في شبهة تأويل بعض السلف للصفات

عشر آيات لم يجاوزوها حتى يتعلموا ما فيها من العلم والعمل، قالوا: "فتعلمنا القرآن والعلم والعمل جميعا". ولم يقل الرسول صلى الله عليه وسلم يوما من الدهر ولا أحد من أصحابه -فيما بلغنا- أن ظواهر هذه الآيات وما في معناها من الأحاديث تقتضي التشبيه والتكييف والتجسيم فلا تعتقدوها، بل أولوها على التأويلات المستكرهة، كما يقول من يقوله من الجَهْمِيَّة والرَّافِضَة وغيرهم من أهل البدع والضلال، بل أطلقوا هذه النصوص وبَلَّغُوها لجميع الخلق. ومعلوم أن في زمانهم الذكي والبليد من أهل البادية والحاضرة والرجال والنساء، فلم يقولوا لأحد منهم: لا تعتقدوا ظواهر هذه النصوص، ولا فسروها بما يخالف ظاهرها. فهذا سبيل السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار ومن اتبعهم بإحسان إلى يوم القيامة، ومن أعرض عن ذلك واتبع غير سبيل المؤمنين ولاه الله ما تولى، وأصلاه جهنم وساءت مصيرا. فصل {في شبهة تأويل بعض السلف للصفات} وأما قوله: (وأما تفسير الصفات وتأويلها فروى -أيضا- السُّيوطِي في "الدر المنثور" في قوله تعالى: {وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ} 1 قال: أخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عَبَّاس في قوله تعالى: {وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ} 2 قال: شديد القوة. وعنه أيضا: شديد المكر والعداوة. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس أيضا: شديد الحول. وأخرج ابن جرير عن عَلِيٍّ رضي الله عنه قال: شديد الأخذ. وأخرج ابنُ أبي حاتِم عن مُجَاهِد قال: شديد الانتقام. وأخرج أبو الشيخ عن عَلِيّ قال: شديد الحقد. وأخرج عبد الرزَّاق وابن أبي حاتم وابن جرير وأبو الشيخ عن قَتَادَة: شديد المحال: القوة والحيلة، انتهى.

_ 1 سورة الرعد آية: 13. 2 سورة الرعد آية: 13.

قال المعترض: (فهؤلاء الأجلة من الصحابة والتابعين، قد روى عنهم من هو إمام في حزبك وسلفك: السيوطي، ما ترى من تفسير الصفات وتأويلها، بل روى التجسيم عن سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم، وقد اشتهر اشتهار الشمس في كتب قومك وسلفك حديث: "سترون ربكم كالقمر ليلة البدر"1 فهل بعد هذا التكييف من بلاء وعمى؟ نسأل الله لك الهداية، والسلامة من نزغات الشيطان). (فالجواب) من وجوه كثيرة: (أحدها) أن يقال: ما ذكرت من رواية السيوطي عن ابن عباس وغيره من الصحابة والتابعين ليس من باب تفسير الصفات وتأويلها الذي ينكره أهل السنة والجماعة، بل فسروها على ظواهر الآيات، ووصفوا الله بما وصف به نفسه، وبما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم، وهذا من أوضح الدلائل في الرد عليك أيها المعترض، وعلى أشباهك المنكرين لصفات الله -تعالى-، فلم يفعلوا فعل الجاهلية النفاة الذين لم يثبتوا لله صفة ولا فعلًا، الممثلة المُشَبِّهَة الذين يشبهون صفاته بصفات خلقه. (الوجه الثاني): أن جميع الصحابة والتابعين لهم بإحسان يصفون الله بأنه شديد القوة، وكذلك شديد المكر، وشديد الأخذ، كما وصف نفسه بذلك في غير آية من كتابه، كقوله: {إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} 2 وقوله: {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} 3. وقال: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} 4. وقال: {إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} 5. وقال: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً} 6. فيمرون هذه الآيات على ظواهرها، ويعرفون معناها ولكن لا يكيفونها، ولا يشبهونها بصفات المخلوقين. هذا مجمع عليه بينهم، ولله الحمد والمنَّة. فأين في هذا ما يدل علي أنهم أوَّلُوا صفات الله بتأويلات الجَهْمِيَّة والمُعْتَزَلَة والرَّافِضَة، ومن نحا نحوهم ممن أزاغ الله قلبه واتبع المتشابه وترك المحكم؟ كما قال تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الأَلْبَابِ

_ 1 البخاري: مواقيت الصلاة (554) , ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (633) , والترمذي: صفة الجنة (2551) , وأبو داود: السنة (4729) , وابن ماجه: المقدمة (177) , وأحمد (4/ 360 ,4/ 362 ,4/ 365). 2 سورة هود آية: 102. 3 سورة الأنفال آية: 30. 4 سورة الذاريات آية: 58. 5 سورة الأنعام آية: 165. 6 سورة فصلت آية: 15.

رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} 1. جعلنا الله وسائر إخواننا ممن يقول هذه المقالة التي علمنا الله إياها، وأعاذنا من طريق المغضوب عليهم والضالين. فأما المغضوب عليهم فيتركون الحق ولا يريدونه، مع معرفتهم به، وأما الضالون فالجهال الذين جهلوا الحق فلم يعرفوه، بل عملوا على جهل. وذكر المفسرون أن المراد من المغضوب عليهم اليهود؛ لأنهم عرفوا الحق معرفة تامة وتركوا اتباعه، والمراد بالضالين النصارى؛ لأنهم عبدوا الله على جهل، وقد نزه الله نبيه عن هذين الوصفين، فقال تعالى: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى} 2 وقد قال سُفْيان بن عُيَيْنَة وغير واحد من السلف: "من فسد من علمائنا ففيه شبه من اليهود، ومن فسد من عبادنا ففيه شبه من النصارى". (الوجه الثالث) أن يقال: قوله: بل قد روي التجسيم عن سيد المرسلين، كذب ظاهر، لأن السيوطي وغيره من أهل السنة ينفون عن الله مشابهة المخلوقات ومماثلة الأجسام المصنوعات. فإن قال: إن لازم كلامهم يقتضي التجسيم والتشبيه. قلنا هذا ممنوع عند أهل السنة، فإنهم يقولون: إن إثبات الصفات لله -تبارك وتعالى-، وإثبات رؤيته -تعالى- لا يقتضي ذلك ولا يلزم منه التجسيم، ولكن هذا شأن أهل البدع والضلال، يردون كتاب الله وسنة رسوله بهذه الخرافات الباطلة، والجهالات والضلالات الكاذبة الفاسدة. (الوجه الرابع) أن يقال: القرآن مملوء من صفات الله -تبارك وتعالى- وأسمائه الحسنى، وقصص الأنبياء المتضمنة لإثبات الصفات والأفعال الاختيارية لله -تبارك وتعالى-، كالمجيء والمناداة والتكلم والقبض والبسط والغضب والرضى. أفيقول مسلم أو عاقل إن الله وصف نفسه بالتجسيم والتكييف؟! أو وصفه به رسله وأنبياؤه؟ فإذا قلتم: إن لازم تلك النصوص إثبات التجسيم والتكييف، فهذه النصوص

_ 1 سورة آل عمران آية: 7، 8. 2 سورة النجم آية: 1، 2.

الواردة في القرآن أبلغ منها فيما ذكرتم. سبحان الله! ما أعجب هذا الجهل، ولازم هذه المقالة أن ظواهر القرآن والسنة تجسيم وتكييف. (الوجه الخامس) أن يقال: قوله قد اشتهر اشتهار الشمس في كتب قومك وسلفك حديث: "إنكم سترون ربكم"1 إلخ. فيقال: هذا حق وصدق تواترت به الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودلَّ على ذلك آيات كثيرة من القرآن كقوله: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} 2، ووجه الدلالة من هذه الآية الكريمة: أنه -سبحانه- نفى إدراك الأبصار له، وأثبت له إدراكها، ونفي الإدراك لا يستلزم نفي الرؤية، فمفهوم الآية أن الله يرى ولا يدرك. وبما ذكرنا فسر الآية حبر الأمة وترجمان القرآن عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما- كما روى ذلك أئمة التفسير عنه، كابن جرير وابن أبي حاتم عن عِكْرِمَة عن ابن عباس قال: رأى محمد ربه، فقلت: أليس الله يقول {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ} 3 الآية، فقال لي: لا أُمَّ لك، ذلك نور إذا تجلى بنوره لا يدركه شيء، قال عكرمة لمن قال له لا تدركه الأبصار: ألست ترى السماء؟ قال بلى، قال؟ فكلها ترى؟ 4. ولابن أبي حاتم بسنده عن أبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ} 5 قال: "لو أن الجن والإنس والشياطين والملائكة منذ خلقوا إلى أن فنوا صفوا صفا واحدا، ما أحاطوا بالله عز وجل". ويدل على ذلك قوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} 6 فسرها أئمة التفسير بأن المراد بذلك أن المؤمنين يرون ربهم يوم القيامة؛ ولهذا قال الإمام أحمد بن حَنبَل -رحمه الله- في كتاب "الرد على الزَّنَادِقَة والجَهْمِيَّة": (باب بيان ما جحدت الجَهْمِيَّة) {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} 7.

_ 1 البخاري: مواقيت الصلاة (554) , ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (633) , والترمذي: صفة الجنة (2551) , وأبو داود: السنة (4729) , وابن ماجه: المقدمة (177) , وأحمد (4/ 360 ,4/ 362 ,4/ 365). 2 سورة الأنعام آية: 103. 3 سورة الأنعام آية: 103. 4 يعني أنها لو كانت ترى كلها لكانت رؤيتها إدراكا، فإن الإدراك هو الإحاطة، فنفي الإدراك لا يستلزم نفي الرؤية التي دون الإحاطة بالمرئي. 5 سورة الأنعام آية: 103. 6 سورة القيامة آية: 22، 23. 7 سورة القيامة آية:22، 23.

فقلنا لهم: لم أنكرتم أن أهل الجنة ينظرون إلى ربهم؟ فقالوا: لا ينبغي لأحد أن ينظر إلى ربه؛ لأن المنظور إليه معمول موصوف، فقلنا لهم: أليس الله يقول: {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} 1؟ فقالوا: إنما معناه أنها تنظر الثواب من ربها، وإنما ينظرون إلى فعله وقدرته، وتلوا آية من القرآن: {أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ} 2 المعنى: ألم تر إلى فعل ربك. فقلنا: إن فعل الله لم يزل العباد يرونه، وإنما قال: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} 3، فقالوا: إنما تنتظر الثواب من ربها. فقلنا: إنها مع ما تنتظر من الثواب، هي ترى ربها. فقالوا: إن الله لا يرى في الدنيا ولا في الآخرة، وتلوا آية من المتشابه من قوله -جل ثناؤه-: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} 4. وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يعرف معنى قول الله: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} 5 وقال: "إنكم سترون ربكم"6 وقال الله لموسى -عليه السلام {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ 7 ولم يقل لن أرى، فأيهما أولى أن يتبع؟ النبي صلى الله عليه وسلم حين قال: "إنكم سترون ربكم"8 أم جهم حين قال: لا ترون ربكم؟ والأحاديث في أيدي أهل العلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أن أهل الجنة يرون ربهم، لا يختلف أهل العلم في ذلك. ومن حديث سفيان، عن أبي إسحاق، عن عامر بن سعد في قول الله: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} 9 قال: النظر إلى وجه الله. ومن حديث ثابت البُناني عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: "إذا استقر أهل الجنة في الجنة نادى منادٍ: يا أهل الجنة إن الله قد أذن لكم في الزيارة، قال: فيكشف الحجاب، فينظرون إلى الله لا إله إلا هو". وإنا لنرجو أن يكون جهم وشيعته ممن لا ينظرون إلى ربهم ويحجبون عن الله؛ لأن الله قال للكفار: {كَلا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} 10. فإذا كان الكافر يُحجب عن الله، والمؤمن يُحجب عن الله، فما فضل المؤمن على الكافر؟ فالحمد لله الذي لم يجعلنا مثل جهم وشيعته، وجعلنا ممن اتبع، ولم يجعلنا ممن ابتدع. انتهى كلام أحمد بحروفه ولفظه. وهذا الكتاب -الذي نقلت منه هذا الكلام- رواه عن أحمد أئمة أصحابه

_ 1 سورة القيامة آية: 23. 2 سورة الفرقان آية: 45. 3 سورة القيامة آية: 22. 4 سورة الأنعام آية: 103. 5 سورة الأنعام آية: 103. 6 البخاري: مواقيت الصلاة (554) , ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (633) , والترمذي: صفة الجنة (2551) , وأبو داود: السنة (4729) , وابن ماجه: المقدمة (177) , وأحمد (4/ 360 ,4/ 362 ,4/ 365). 7 سورة الأعراف آية: 143. 8 البخاري: مواقيت الصلاة (554) , ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (633) , والترمذي: صفة الجنة (2551) , وأبو داود: السنة (4729) , وابن ماجه: المقدمة (177) , وأحمد (4/ 360 ,4/ 362 ,4/ 365). 9 سورة يونس آية: 26. 10 سورة المطففين آية: 15.

وهو مشهور عند العلماء، وفي هذا ما يبين أن هذا المعترض اتبع قول جَهْم وشيعته، وترك ما عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهل بيته وأصحابه. ومن العجب أنه يدعي أن الإمام أحمد هو إمام الشيعة عند الحقيقة، وقد خالف مذهبه في هذه المسألة وغيرها من مسائل أصول الدين، فكيف بمسائل الفروع؟ وأعجب من هذا قوله: إن رواية هذا الحديث -أعني حديث الرؤية وما شابهه- تكييف وعماء وضلال، فإذا كان موسى -عليه السلام- قال لربه:? {أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ} 1 أفيسأل موسى -عليه السلام- ما هو تكييف وتجسيم وعماء وضلال؟ ويكون موسى -عليه السلام- لا يعرف ما يجوز على الله وما يمتنع عليه، ويعرف ذلك جهم وشيعته؟! فلا إله إلا الله ما أقبح هذا الجهل وأبعده عن السداد والصواب عند أولي الألباب!! وقد صرح بعض شياطين هؤلاء المبتدعة الضلال بأن عيسى -عليه السلام- شبه حيث قال: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} 2، وكذلك موسى -عليه السلام- حيث قال: {رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ} 3. وكذلك جهم، ذكر البخاري -رحمه الله- في كتاب خلق أفعال العباد بسنده أن جهما قرأ في المصحف، فلما أتى على هذه الآية {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} 4 قال: "والله لو قدرت لحككتها من المصحف". وذكر أبو الحجَّاج المِزِّي في (كتاب تهذيب الكمال في معرفة الرجال) أن عَمْرو بن عُبَيدٍ شيخ القَدَرِيَّة قال في حديث الصادق المصدوق، المخرج في الصحيحين وغيرهما، من كتب الإسلام عن عبد الله بن مسعود قال: "حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق: إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يوما نطفة"5 إلخ، فقال: لو سمعت الأَعْمَشَ يقول هذا لقلت له: كذبت، ولو سمعت زَيْد بن وَهْبٍ يقول ذلك لقلت له: كذبت، ولو سمعت ابن مَسعُودٍ يقول ذلك ما قبلته، ولو سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ذلك لرددته، ولو سمعت الله يقول ذلك لقلت: ليس على هذا أخذت ميثاقنا أو كلاما هذا معناه. فنسأل الله العظيم المنَّان أن لا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا، وأن يهب لنا منه رحمة، إنَّه الوهَّاب.

_ 1 سورة الأعراف آية: 143. 2 سورة المائدة آية: 116. 3 سورة الأعراف آية: 143. 4 سورة طه آية: 5. 5 البخاري: بدء الخلق (3208) وأحاديث الأنبياء (3332) والقدر (6594) والتوحيد (7454) , ومسلم: القدر (2643) , والترمذي: القدر (2137) , وأبو داود: السنة (4708) , وابن ماجه: المقدمة (76) , وأحمد (1/ 382 ,1/ 414 ,1/ 430).

فصل: تشنيع المبتدع على أهل السنة في مسألة الصفات، ورده

فصل [تشنيع المبتدع على أهل السنة في مسألة الصفات، ورده] وأما قوله: (فاركب السفينة، وادخل من باب حِطَّة، حتى تدخل بنور قلبك، حقيقة عاقبة أمرك، وما حصلت عليه من التكفير للمسلمين بسبب الاستناد والركون إلى سلفك، والمتسمين بأهل السنة والجماعة، والحال أنهم قد نقضوا غزلك، فبَيْنَا أنت تأوي إلى كهفهم من أنهم لا يفسرون ولا يؤولون آيات الصفات، إذ جاؤوك بالمُدْلَهِمَّات من التجسيمات والتأويلات، ورووها عمن ركنت إلى إجماعهم، وهم التابعون الذين رووه لك عن الأوزاعي، فكنت كالساعي إلى مثعب موائلا من سل لراعد، وانظر -هداك الله- وتدبر، فإنك تخوض في بحر الغرق، وهو تكفير أهل الإسلام، ولم تأوِ إلى ركن شديد، ولم تركب سفينة نوح، فقد أردت أن تنَزه ربك بما يلزم منه التجسيم، كما نبينه إذا جاء قومك بالقراقر، وهو صريح التجسيم والتكييف). (فالجواب) أن يقال: قد تقدم ما يبطل دعواك فيما ذكرت في هذا الكلام بما فيه كفاية، ولله الحمد والمنَّة. وهذا الكلام فيه أنواع من الكذب والزور والبهتان، يتضح لكل من له أدنى بصيرة من علم وإيمان: (منها): قوله: "وما حصلت عليه من تكفير المسلمين"، فأين في كلام المجيب أنه صرح بتكفير المسلمين؟! (الثاني): قوله: "والحال أنهم قد نقضوا غزلك"، فأين فيما ذكرت عنهم أيها الجاهل في النقض على المجيب؟ وقد بيَّنَّا أن كلامهم موافق لما ذكره المجيب لا مخالف له، وإنما فيه النقض عليك وعلى سلفك من المُعْتَزَلَة والجَهْمِيَّة الذين ينفون صفات الله ويعطلونها عن حقائقها. (الثالث): قوله: "فبَيْنَا أنت تأوي إلى كهفهم من أنهم لا يفسرون ولا يؤولون آيات الصفات، إذ جاؤوك بالمُدْلَهِمَّات من التجسيمات والتأويلات". وهذا -أيضا- من أظهر

الكذب والفجور عليهم؛ لأن جميع ما ذكره عنهم لا يدل على التجسيم ولا التأويل الباطل بوجه من الوجوه، وإنما يدل على أنهم يصفون الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلى، وهم قد صرَّحوا بذلك، وتحملوا إثمه عنك وعن سلفك؛ طاعة لربهم ومعبودهم ونبيهم صلى الله عليه وسلم كما قال القائل: وعيَّرها الواشُون أنِّي أُحبُّها ... وتِلكَ شكاةٌ ظَاهرٌ عَنْكَ عَارُها ويقال لهذا وأشباهه من أهل البدع والضلال: أأنتم أعلم أم الله؟ (الرابع): قوله: "فإنك تخوض في بحر الغرق، وهو تكفير أهل الإسلام". فيقال: أين في كلام المجيب أنه كفر أحدا من المسلمين بتأويل آيات الصفات وأحاديثها؟ أما تستحي من كثرة الكذب وترداده في السطر الواحد والاثنين والثلاثة والأربعة من كلامك؟ أما عندكم رجل رشيد ينصح هذا الجاهل، ويستر عورته إذا كشفها؟ (الخامس): قوله: "ولم تأوِ إلى ركن شديد، ولا ركبت سفينة نوح". وهذا أيضا من الكذب والزور والبهتان؛ لأن المجيب قد أوى إلى ركن شديد، وركب سفينة نوح التي من ركبها نجا، ومن تخلف عنها غرق، وقد احتج في كلامه بكتاب الله وسنة رسوله، وبما أجمع عليه السلف الصالح من صدر هذه الأمة. (السادس) قوله: "وقد أردت أن تنَزه ربك بما يلزم منه التجسيم". كذب ظاهر؛ لأنا قد بيَّنَّا أن ما وصف الله به نفسه أو وصفه به رسوله حق وصدق وصواب، ولازِم الحقِ حقٌ بلا ريب، ولا نسلِّم أن ذلك يلزم منه التجسيم، بل جميع أهل السنة المثبتة للصفات ينازعون في ذلك، ويقولون لمن قال لهم ذلك: لا يلزم منه التجسيم كما لا يلزم من إثبات الذات لله تعالى، والحياة، والقدرة، والإرادة، والكلام، تجسيم وتكييف عند المنازع. ومعلوم أن المخلوق له ذات، ويوصف بالحياة والقدرة والإرادة والكلام، ومع هذا لا يلزم من إثبات ذلك لله -تبارك وتعالى- إثبات التجسيم والتكييف، تعالى الله عن ذلك عُلوًّا كبيرا.

فصل: في إبطال زعم أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يفسر الصفات

ومعلوم أن هذه الصفات في حق المخلوق إما جواهر وإما أعراض، وأما في حقه -تبارك وتعالى- فلا يعلمها إلا هو، بلا تفسير ولا تكييف. (السابع) قوله: "إذ جاء قومك بالقراقر". وهو صريح التكييف والتجسيم؛ لأن ما ذكره عن أهل السنة ليس فيه تصريح بالتجسيم، وإنما يقول المخالف: إنه يلزم منه ذلك، وقد تقرر عند علماء الأصول وغيرهم أن: "لازمِ المذهبِ ليس بمذهب"، وهو نفسه ذكر أن ذلك يلزم منه التجسيم، ومنازعه يقول: لا يسلم له ذلك. ثم في آخر كلامه، في موضع واحد يقول: "وهو صريح التجسيم"، وليس فيما ذكره عن المجيب ولا عن سلفه من أهل السنة ما هو صريح في ذلك، والصريح في ذلك أن يقول القائل: أن لله جِسما كما يقوله بعض أئمة الرَّافِضَة، كهِشَام بن الحَكَم وغيره من أهل الكوفة، كما يذكر ذلك عنهم أهل المقالات. فاتَّقِ الله أيها الرجل، واحذر أن تكون من الذين يفترون الكذب، وقد قال تعالى: {إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ} 1. فصل [في إبطال زعم أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يفسر الصفات] وأما قوله -جوابا عن كلام المجيب "وهو ما درج عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم"-: (فنقول: هات لنا حديثا واحدا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قطعي الدلالة، متواتر المتن، أو مُتلقى بالقبول عند الأمة، بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم منع من تفسير آيات الصفات وتأويلها؛ حتى يكون حجة لك على من خالفك في تكفيرك له. وأما أنه -صلى الله عليه وسلم- لم يتعرض للتفسير والتأويل فإنه لا يكفيك في تكفير المسلمين، مع أنا قد ذكرنا لك أن قومك قد رووا عنه صلى الله عليه وسلم التفسير والتأويل والتجسيم، فاختر لنفسك ما يحلو، ولا حول ولا قوة إلا بالله). (فالجواب) من وجوه: (أحدها) أن يقال: أن المجيب قد ذكر من الأدلة القاطعة من الكتاب والسنة أن الله وصف نفسه بالاستواء واليدين والمجيء والرضى والسخط

_ 1 سورة النحل آية: 105.

والغضب والمحبة وغير ذلك من أسمائه الحسنى، وصفاته العليا، ما يشفي ويكفي لمن أراد الله هدايته. (الثاني): أنه لم يدع أن معه دليلا حديثا قطعي الدلالة بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم منع من تفسير آيات الصفات وتأويلها حتى يقال له: هات ما ادعيت. وإنما دعواه أن آيات الصفات وأحاديثها قد وردت في الكتاب والسنة، وتلقاها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه والتابعون لهم بإحسان بالقبول والتصديق والإيمان. ولم يَرِدْ عن أحد منهم -لا بإسناد صحيح ولا حسن- أنهم فسروا ذلك، أو قال الرسول أو أحد من أصحابه للناس: لا تعتقدوا ظواهر هذه النصوص بل تأولوها على ما تقتضيه عقولكم ومقاييسكم، بل سكتوا عن ذلك، وأمروا بتبليغ القرآن والسنة، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "بلِّغوا عني ولو آية"1، وقال الله لنبيه صلى الله عليه وسلم {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} 2 الآية، {فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ} 3، {مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ} 4. (الثالث): أنك قد أقررت أنه صادق في هذه الدعوى بقولك: وأما أنه صلى الله عليه وسلم لم يتعرض للتفسير والتأويل فإنه لا يكفيك، فقد صرحت بأنه صلى الله عليه وسلم لم يتعرض لها بتفسير ولا تأويل، وهو المطلوب. فإذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه قد درجوا على ما ذكره المجيب من إمرارها كما جاءت من غير تعرض لها بتفسير ولا تأويل، وقد أقررت بذلك ولم تنكره، أفلا يسعك ما وسع رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفاءه الراشدين المهديين كأَبِي بَكْرٍ وعُمَرَ وعُثْمِانَ وعَلِيٍّ وأولاده، والعباس وابنه عبد الله بن عباس، والحَسَن والحُسَين ابني علي، وأخاهما محمد بن الحَنَفِيَّة، وعبد الله بن جَعْفَر، وعلماء العترة رضي الله عنهم؟ فلا وسع الله لمن لا يسعه ما وسعهم؛ فإنهم أئمة المتقين، وهداة الغر المحجلين. وقد قال تعالى في سورة المائدة -وهي من آخر القرآن نزولا-: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ

_ 1 البخاري: أحاديث الأنبياء (3461) , والترمذي: العلم (2669) , وأحمد (2/ 159 ,2/ 202 ,2/ 214) , والدارمي: المقدمة (542). 2 سورة المائدة آية: 67. 3 سورة الرعد آية: 40. 4 سورة المائدة آية: 99.

لَكُمُ الأِسْلامَ دِينًا} 1. والإسلام هو ما درج عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم وسكت عنه وجب على الأمة السكوت عنه، فالأمور التي ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكلام فيها يجب على الأمة اتباعهم فيها، كما أن الأمور التي فعلها وأمر بها يجب على الأمة اتباعه في ذلك، وهذا هو دين الإسلام الذي رضيه الله لهذه الأمة حيث قال: {وَرَضِيتُ لَكُمُ الأِسْلامَ دِينًا} 2 وقال {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الأِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} 3. وثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رَدٌّ"4 وفي حديث أنه قال: "تركتكم على المَحَجَّة البيضاء، ليلها كنهارها، لا يَزيغ عنها بعدي إلا هالك"5. وقال أبو ذر: "لقد تُوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وما من طائر يقلب جناحيه في الهواء إلا ذكر لنا منه علما"6. وفي صحيح مسلم وجامعِ الترمِذِيّ وغيرهما: "عن سَلْمَان أنه قيل له: قد علمكم نبيكم كل شيء حتى الخِرَاءه؟ فقال سلمان: أَجَلْ". أفليس في هذا بيان للمؤمن أن كل ما حدث بعدهم فليس من دين الإسلام، بل من البدع والمنكرات العظام؟ وقد قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} 7 وأثنى الله -تبارك وتعالى- على من اتبع سبيلهم، واقتفى منهاجهم، فقال تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} 8. (الوجه الرابع) أن يقال: الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا أقدر على تفسيرها وتأويلها ممن بعدهم، فلم يسكتوا عن ذلك إلا لعلمهم بأن الصواب فيما سلكوه، والحق فيما أصلوه، فإنهم ينابيع العلم، ومصابيح الدُّجَى، كما قال عبد الله بن مسعود (رض): "من كان منكم مستنا فليستن بمن قد مات؛ فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة. أولئك أصحاب مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم أبر هذه الأمة قلوبا وأعمقها علما، وأقلها تكلفا

_ 1 سورة المائدة آية: 3. 2 سورة المائدة آية: 3. 3 سورة آل عمران آية: 85. 4 البخاري: الصلح (2697) , ومسلم: الأقضية (1718) , وأبو داود: السنة (4606) , وابن ماجه: المقدمة (14) , وأحمد (6/ 146 ,6/ 180 ,6/ 240 ,6/ 256 ,6/ 270). 5 ابن ماجه: المقدمة (44) , وأحمد (4/ 126). 6 أحمد (5/ 153). 7 سورة الأحزاب آية: 21. 8 سورة التوبة آية: 100.

قوم اختارهم الله لصحبة نبيه، وإقامة دينه فاعرفوا لهم حقهم، وتمسكوا بهديهم؛ فإنهم كانوا على الهدي المستقيم". وقال رضي الله عنه لقوم رآهم قد تحلقوا في مسجد الكوفة، وواحد منهم يقول لهم: سبِّحُوا مائة. فيسبحون جميعا، فإذا فرغوا قال: كبِّرُوا مائة. فإذا فرغوا قال: هلِّلُوا مائة. فجاءهم، فلما رأى صنيعهم قال: "والذي نفسي بيده لقد فضلتم أصحاب مُحَمَّدٍ علما، أو لقد جئتم ببدعة ظلما". قالوا: والله ما جئنا ببدعة ظلما، ولا فضلنا أصحاب مُحَمَّدٍ علما. قال: "بلى، والذي نفس ابن مسعود بيده لقد فضلتم أصحاب محمد علما، أو لقد جئتم ببدعة ظلما". فانظر -رحمك الله- إلى كلام هذا الإمام الذي هو من سادات الصحابة ونجبائهم وفضلائهم، كيف أخبر وأقسم على ذلك بأن من فعل ما لم يفعله أصحاب محمد فقد جاء ببدعة، نسأل الله أن يرزقنا سلوك طريقهم وسيرتهم وهديهم. (الوجه الخامس): قوله: "وأما أنه صلى الله عليه وسلم لم يتعرض للتفسير والتأويل، فإنه لا يكفيك في تكفير المسلمين". فيقال: هذا كذب ظاهر على المجيب، من جنس ما تقدم من كذب هذا المعترض وفجوره، فإن المجيب لم يذكر في كلامه تكفير أحد من المسلمين خالفه في هذه المسألة؛ لأن ذلك مما تنازعت فيه الأمة، حتى إن طوائف من أتباع الأئمة الأربعة وغيرهم يذهبون إلى تأويل آيات الصفات وأحاديثها، وهم من جملة أهل السنة والجماعة، وإن كانوا عند المجيب مخطئين في ذلك؛ لأن مذهبه وعقيدته اتِّباع السلف الصالح في السكوت عنها، وإمرارها كما جاءت، مع نفي الكيفية والتشبيه عنها. (الوجه السادس): قوله: "مع أنا قد ذكرنا أن قومك قد رووا عنه صلى الله عليه وسلم التفسير والتأويل والتجسيم". وهذا كذب ظاهر؛ فإنه لم يذكر فيما نقل عن أهل السنة شيئا مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم في تفسير الصفات، فضلا عن التأويل والتجسيم.

فصل

وقد ذكرنا نص كلامه بحروفه، وجميع ما نقله من "الدر المنثور" عن الصحابة والتابعين من تفسير قوله: {شَدِيدُ الْمِحَالِ} 1 أي: شديد القوة أو المكر أو الحول، قد بيَّنَّا أن ذلك ليس هو تفسير آيات الصفات وتأويلها الذي وقع النّزاع فيه بين أهل الإثبات وأهل النفي، بل ذلك من باب وصف الله -سبحانه- بأسمائه بالحسنى، وصفاته وأفعاله اللازمة، والتعدية مع قطع النظر عن معرفة كيفية ذلك، أو تأويله بالتأويلات المبتدعة. (الوجه السابع): قوله: "فاختر لنفسك ما يحلو، ولا حول ولا قوة إلا بالله"، فنقول: قد اخترنا لأنفسنا ما اختاره الله لنا في كتابه، وهو الاقتداء والتأسِّي بما درج عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه في هذه المسألة وغيرها، كما وصَّانا الله بذلك في كتابه حيث قال: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} 2، وقال: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} 3، وقال في آخر السورة: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} 4، وقال تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} 5، والرد إلى الله هو الرد إلى كتابه بإجماع المفسرين، والرد إلى الرسول هو الرد إلى سنته بعد وفاته. والحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا إذ هدانا الله، لقد جاءت رسل ربنا بالحق، والله -سبحانه وتعالى- أعلم. فصل وأما قوله: (ثم لا يخفى أن المجيب قد جعل أهل السنة والجماعة هم أهل الحديث الذين لم يتكلموا في القدر، ولم يفسروا آيات الصفات ولا تأولوها، فنطلب منه التحقيق والإفادة، بأن يبين لنا من روى من أهل العلم المحقق بأن هذا الاصطلاح مخصوص بمن ذكره؛ فإن العلماء مختلفة أقوالهم في إطلاقهم أهل السنة والجماعة كما عرفت).

_ 1 سورة الرعد آية: 13. 2 سورة الأحزاب آية: 21. 3 سورة الأعراف آية: 3. 4 سورة الأنعام آية: 153. 5 سورة النساء آية: 59.

(فالجواب) أن يقال: المجيب إنما ذكر كلاما عاما في أن أهل السنة والجماعة هم الذين اقتفوا ما عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه والتابعون لهم بإحسان، ومعلوم أن أهل الحديث هم أعظم طوائف الأمة بحثا ومعرفة بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك لأنهم قد اشتغلوا بذلك، وأفنوا أعمارهم في طلب ذلك ومعرفته، واعتنوا بضبط ذلك وجمعه وتنقيته؛ حتى بيَّنُوا صحيح ذلك من ضعيفه من كذبه، ولا ينازع في ذلك إلا عدو لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم ولعباده المؤمنين. (الوجه الثاني): أن ظاهر كلام المجيب ... 1 وكلامه يبين أنه لم يخص بذلك طائفة معينين، بل كل من سلك هذه الطريقة فهو منهم من جميع الطوائف، وهو داخل في قوله: وهم أهل السنة والحديث من هذه الأمة. (الوجه الثالث): قوله: "الذين لم يتكلموا في القدر"، وهذا كذب ظاهر على المجيب وعلى أهل الحديث، فإن أهل السنة والحديث من هذه الأمة يتكلمون في القدر، بمعنى أنهم يؤمنون به ويثبتونه، ويقولون: إن الله قدر أفعال العباد؛ خيرها وشرها. وهو من أصول الإيمان عندهم، كما ثبت ذلك في الصحيحين في حديث جبرائيل -عليه السلام- لما سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإيمان فأخبره بأنه: "الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وبالقدر خيره وشره"2. فهذا هو الذي عليه جماعة أهل السنة والجماعة والحديث، وعليه يدل كتاب الله والأحاديث المتواترة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ولولا خوف الإطالة لذكرنا من ذلك شيئا كثيرا، وليس هذا موضع بسط ذلك وذكر الدلائل عليه. وأما الْمُعْتَزَلَة الذين ينفون أن الله قدر أفعال العباد عليهم أو شاءها منهم، فهم الذين ينكرون ذلك، ومن اتبعهم من الروافض والزيدية الذين ينكرون أن الله قدر أفعال العباد وشاءها منهم.

_ 1 هنا في الأصل بياض قدر كلمة. 2 مسلم: الإيمان (8) , والترمذي: الإيمان (2610) , والنسائي: الإيمان وشرائعه (4990) , وأبو داود: السنة (4695) , وابن ماجه: المقدمة (63) , وأحمد (1/ 28)

فصل: في إبطال زعم أن الطائفة الناجية هم أهل البيت فقط

(الوجه الرابع): أن الاصطلاح لا حجة فيه عند أهل العلم وغيرهم، فإذا سمى أحد طائفة من الناس بأنهم أهل السنة والجماعة، لم يمنع من ذلك إلا إذا كانوا مخالفين لما عليه جماعة أهل السنة والجماعة، كأهل البدع الذين يسمون أنفسهم بذلك مع مباينتهم لطريقة الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه والتابعين لهم بإحسان. (الوجه الخامس): أن كثيرا من علماء السنة ذكروا أن أهل الحديث هم الفرقة الناجية التي قال فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تزال طائفة من أمتي قائمة على الحق، لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم، حتى تقوم الساعة"1 كما ثبت ذلك في الصحيحين وغيرهما. وذكر البخاري عن علي بن المديني أنهم أهل الحديث، وكذلك قال أحمد بن حنبل: "إن لم يكونوا أهل الحديث فلا أدري من هم؟ ". فصل [في إبطال زعم أن الطائفة الناجية هم أهل البيت فقط] وأما قوله: (وأنت خبير أن الطائفة التي أشار إليها سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم هم أهل بيته، فإن الناس أذعنوا لأهل الشام، ولم يقدروا على منازعتهم، إلا أهل البيت وشيعتهم، فكن -أيها المجيب- من تلك الطائفة الناطقة بالحق، الخارجة عن حزب أهل الشام؛ لتحشر في الطائفة المخالفة لهم، ولا تكن في حزب أهل الشام محبا لهم، فإن المرء يحشر مع من أحب). (فالجواب) من وجوه: (أحدها): أن الطائفة الناجية جاء في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بينها لما سُئل عنها، فقال: "من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي"2 فمن سلك سبيلهم، واقتفى منهاجهم، وتبعهم بإحسان فهو من هذه الطائفة، سواء كان من أهل البيت -رضي الله عنهم- أو من غيرهم من جميع الطوائف، ومن خالف ما عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه فهو مع الهالكين، سواء كان من أهل البيت أو من غيرهم؛ ولهذا قال -تعالى- في نساء النبي صلى الله عليه وسلم، وهن من أهل البيت قطعا: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ} 3.

_ 1 البخاري: المناقب (3641) , ومسلم: الإمارة (1037). 2 الترمذي: الإيمان (2641). 3 سورة الأحزاب آية: 30.

إلى قوله: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ} 1 الآية. وثبت في الصحيحين أنه قال: "إن آل أبي فلان ليسوا لي بأولياء، وإنما وليّي الله وصالح المؤمنين"2. وفي الحديث الصحيح: "من أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه"3، قال تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} 4، وقال تعالى: {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ} 5، وقال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} 6 الآية. (الوجه الثاني): قوله: "فإن الناس أذعنوا لأهل الشام، ولم يقدروا على منازعتهم، إلا أهل البيت وشيعتهم". وهذا كذب ظاهر يعرفه من له أدنى معرفة بالأخبار والتواريخ؛ وذلك لأن بني أُمَيَّة قد نازعهم في خلافتهم غير أهل البيت، فنازعهم ابن الزبير حتى تولى على الحجاز والعراق واليمن وغير ذلك من بلاد الإسلام، ولم يخرج عن ولايته إلا طائفة قليلة من أهل الشام، فأرسل مَرْوَان بن الحَكَم إليهم ليأخذ بيعته، فخلعه وأخذ البيعة لنفسه، وبايعه كثير من أهل الشام، كما ذكر ذلك أبو مُحَمَّد بن حَزْم في سيرته. ثم خرج على مروان كثير من أهل الشام، فنازعوه وقاتلوه، ثم جرت وقعة بـ"مَرْجِ رَاهِطٍ" بين الضَحَّاك ومروان، وقُتِل النُّعْمَان بن بَشِيرٍ -رضي الله عنهما-، والأصح -كما قال الذهبي وغيره من أهل العلم- أن مروان لا يُعَدُّ في إمرة المؤمنين، بل باغٍ خارج على ابن الزُّبَير، ولا عهده على ابنه عبد الملك صحيح، وإنما صحت خلافة عبد الملك حين قتل ابن الزبير. وذلك أن عبد الملك جهّز لقتاله الحجاجَ في أربعين ألفا، فحصره بمكة أشهرًا، ورمى عليه بالمنجنيق، وخذل ابنَ الزبير أصحابُه، فتسللوا إلى الحجاج، فظفر به، وقتله وصلبه. وفي أيام ابن الزبير خرج المختار بن أبي عُبَيد، وتبعه طوائف من الناس، وقاتلوا عبد الله بن زياد فقتلوه، وأرسل المختار برأسه إلى زَيْنِ العَابِدِين عَلِيّ بن الحُسَيْن بالمدينة، وتولى على العراق وطرد بني أمية عنه، ثم بعد ذلك ادَّعَى النبوة، فأرسل إليه عبد الله بن الزبير أخاه مُصْعَبا معه جيش، فحاربوه حتى قتلوه، وأخذوا منه العراق. وفي أيام يزيد بن

_ 1 سورة الأحزاب آية: 32. 2 البخاري: الأدب (5990) , ومسلم: الإيمان (215) , وأحمد (4/ 203). 3 مسلم: الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2699) , والترمذي: القراءات (2945) , وابن ماجه: المقدمة (225) , وأحمد (2/ 252) , والدارمي: المقدمة (344). 4 سورة الحجرات آية: 13. 5 سورة آل عمران آية: 68. 6 سورة آل عمران آية: 31.

معاوية خرج عليه أهل المدينة وخلعوه، وأخرجوا أميره من المدينة، فأرسل إليهم يزيدُ مُسلمَ بنَ عُقْبَةَ المُرِّيِّ بجيش عظيم حتى قتل أهل المدينة، وجرت فتنة عظيمة قُتل فيها من الصحابة -رضي الله عنهم- مَعْقِل بن يَسَار الأَشْجَعِيُّ، وعبدُ الله بنُ حَنْظَلَةَ الغَسِيل الأَنْصَاري، وعبدُ الله بنُ زيدِ بنُ عاصِم المَازِنِيُّ، وقُتل من أولاد المهاجرين والأنصار نحو ثلاثمائة وستة أنفس. وفي أيام ابن الزبير خرجت طوائف من الخَوَارِج يسمون الأَزَارِقَة، فتولى محاربتهم المُهلَّبُ بن أبي صُفْرَةَ، وأباد منهم ألوفًا، كما ذكره الذهبي وغيره. وفي أيام عبد الملك خرج عبد الرَّحْمَن بنُ الأَشْعَث، وتبعه خلق عظيم من القرَّاء وغيرهم، وقاتلوا الحجاج، وجرت بينهم وقائع عظيمة، فغلب الحجاج حتى قتل ابن الأشعث، وقتل معه خلق عظيم. ولو ذهبنا نذكر كل من خرج على بني أمية وبني العباس لطال الكلام جدا، وبعض من خرج عليهم يبغضون عليا رضي الله عنه ويكفرونه، فتبين لكل ذي معرفة بالسير والأخبار بطلان قول هذا المعترض: "أن الناس أذعنوا لأهل الشام ولم يقدروا على منازعتهم إلا أهل البيت وشيعتهم". (الوجه الثالث): أن يقال: إن هذا المعترض جعل الفرقة الناجية هم أهل البيت وشيعتهم، وجعل الدليل على ذلك هو منازعتهم لأهل الشام، فعلى كلامه أن كل من نازعهم وخرج عليهم هو الناجي، ومن الطائفة التي أشار إليها سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم مع أن أكثر الناس خروجا عليهم هم الخَوَارِج الذين يكفرون عليا رضي الله عنه ومعاوية وغيرهما من الصحابة ومن والاهما. فانظر -رحمك الله- إلى هذا الجهل والتخبيط الذي لا يصدر ممن له أدنى مسكة من علم وعقل. (الوجه الرابع): أنه جعل أهل الشام كلهم قد والوا بني أمية، وصاروا معهم المستقدمين منهم كالذين كانوا في زمانهم، والمستأخرين من أهل الشام بعد

فصل: جدل المعترض في صفات الله تعالى، والرد عليه

انقراض الدولة الأموية، وهذا معلوم البطلان بالضرورة؛ لأن كثيرا من أهل الشام -من العلماء وغيرهم- يبغضون أئمة الجور من بني أمية، ويطلقون ألسنتهم بذمهم والطعن عليهم. وقد تقدم كلام الذهبي في مَرْوَان وابنه عبد الملك قريبا. ولو ذهبنا نذكر كلام علماء الشام -من المتقدمين والمتأخرين- في ذم بني أمية والطعن عليهم لطال الكلام جدا، وليس هذا الجواب محل التطويل والبسط، فمن أراد ذلك فلينظر في كتب القوم حتى يتبين له جهل هذا المعترض وتخبيطه في كلامه بما تَمُجّه الأسماع، وتنبو منه الطباع. والله أعلم. فصل [جدل المعترض في صفات الله تعالى، والرد عليه] وأما قول المعترض: (قولك: "ونقر بها ونعلم أنها صفات". فإما أن تجعل الواو عاطفة في قولك: "ونعلم"، أو تكون جملة أخرى منفصلة، فما معنى الإقرار بها؟ هل المراد الإقرار بمتونها أو كلماتها، أو كونها من عند الله جل وعلا؟ فالمسلمون جميعا مثلك، ولا يخالفك أحد من المسلمين، فما فائدة إخبارك بأنك تقر بها؟ وإن أردت بالواو أنها للحال، أي: نقر بها حال كونها صفات. فإما أن تريد بها قول الواصف فلا معنى لذلك، وتريد أنها تضمنت معنى خاصا للموصوف، أو أنها لفظ دلَّ على ذات باعتبار معنى هو المقصود كما ذكره ابن الحاجب؟ وهذان التعريفان قد ذكرهما العلماء اصطلاحا وتعريفا في محاورتهم. فإن ترد أنها تدل على معنى زائد على الذات لزمك ما لزم الأَشَاعِرَة، وهو أن يكون مع الله قدماء، وهي المعاني التي لحقت ذاته -تعالى- بالوصف، ونحن نبرأ من هذا نحن وأنت. وإن ترد أن الصفة دلت على معنى لذاته -تعالى-، وتغمض عن كيفيته وتصوره في الذهن بأي كيفية، وهذا هو المفهوم من كلامك، فلا تساعدك لغة العرب؛ لأن الصفات قوالب لمعاني مفهومة معقولة مبينة للموصوف معينة له، فقد جزمت بأنها غير مكيفة، كما يفهم من كلامك أيضا مع

مخالفة لغة العرب ولزمك التجسيم. أما مخالفة لغة العرب فلا يجوز لك أن تخالفها وتفسر كتاب الله -جل وعلا- بغيرها؛ لمخالفتك لما أنزل الله فيه، وقد قال تعالى: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} 1 وقال تعالى: {حم * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} 2 إلى غير ذلك من الآيات. فهل يجوز لك أن تقول: استوى بلا كيف بعد أن قال مبين، وقال: {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} 3؟ ما كأنك إلا قلت: ما تبين لنا ولا عقلناه، فخاطبنا ربنا بما لا نتبينه ولا نعقله، وليس هو من جنس لغة العرب ولو كان عربيا لتبين لنا وعقلناه. ووجه المخالفة على التحقيق أن كلمات كتاب الله -تعالى- على مقتضى لغة العرب، مبينة مفهومة، فلا بد أن تدل الكلمة على معنى حقيقي أو مجازي على مقتضى استعماله، فنقول لك: قد صرحت بأن قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} 4 دلّ على الاستواء على العرش، كما فهمناه من كلامك وخطابك. ولغة العرب حاكمة بأن حقيقة الاستواء على العرش الجلوس عليه، وهو القعود مع تعطف الرجلين ورجوع بعضها على بعض، تعالى الله عن ذلك. فهذا حقيقته عند العرب، فلما أن خشيت لزوم التجسيم في حق الباري، ولجأت إلى التنْزيه له -تعالى-، فلم تجد مهربا، وتوحشت من هذا الأمر الشنيع؛ لفطرة التعظيم لربك -جل وعلا-، فلم تجد إلى الهرب سبيلا إلا بالبَلْكَفَة التي قد تستر بها مشايخك، فقلت: استوى بلا كيف، واستأنست بذلك الطيف. فلما ظننت إنك قد حفظت نفسك من التجسيم قلنا لك: هل تقول العرب استوى، أي: جلس جلوسا غير مكيف -بتعطيف الأرجل- ولا مستقر ونحو ذلك، حيث يريدون حقيقة الاستواء والجلوس؟ فإن كان هذا من روايتك عن العرب، وأنهم يطلقون على ما أردت من عدم الكيف ما ذكرناه لك، وهيهات، فلن تستطيع له طلبا. وإن لم يكن، قلنا لك: يا هذا، قد خالفت القرآن العربي المبين، وفسرته بلسان قومك الذين تستروا بالبَلْكَفَة، ولم يستروا عوراتهم، ولم تخرج عن شبهة

_ 1 سورة الشعراء آية: 193 - 194. 2 سورة الزخرف آية:1: 3. 3 سورة الزخرف آية:1: 3. 4 سورة طه آية: 5.

التجسيم، إذ قد أثبت لله تعالى الاستواء فوق العرش، وأقررت بذلك الحدث واعتقدته له -تعالى-، وهو يستلزم التجسيم عقلا ولغة، فإن العقل -أولا- يحكم بالذات، وبأن هذا الحدث -وهو الاستواء- لا يكون إلا من جسم قبل أن تلتفت إلى كيفيته. وكذلك اللغة، فإن مفهوم الاستواء الحدث، وقد فسروا الحدث بالأثر أو مؤثره على خلاف بين اللغويين، وقد حكمت على الله ووصفته بالاستواء، وجعلته -تعالى- محلا له كما هو قاعدة الصفة، ولم تقدر أن تخرجه عن الحدث وتجعله غير الحدث بعد أن أقررت بالاستواء الذي هو غير الحدث كما عرفناك، فلزمك أن يكون الله -تعالى- محلا للاستواء، والمحل لا يكون إلا جسما. إلى قوله: وقد كان له مندوحة عن هذا، وتخلص كما تخلص أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم من حملها على المجاز، وإخراجها عن الحقائق، التي أوقعته في المضايق، ولم يسعه بعد ذلك إلا أضغاث أحلام ظن بها أنها أخرجته إلى التنْزيه ولم تفده، فلو أخرجها إلى المجاز المأنوس المألوف في لغة العرب المنادي بفصاحة كتاب الله وأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم على الوجه الأكمل والتنْزيه لله -تعالى- على الطريق اللائق بجلاله الأعدل، لكان مناسبا لكمال إعجازه والرد إلى محكمه على وجه أبلغ من الحقيقة، وأسلم من التستر بالبَلْكَفَة التي كشفت ضعف كلامه وسخفه). [الوجه الأول في الرد على شبهات المعترض] (فالجواب) أن يُقال: الواو عاطفة، والمعنى نقر بها بألسنتنا ونعلم أنها صفات لله عز وجل كما يليق بجلاله وعظمته وكبريائه، وإن رغمت أنوف أهل البدع والضلال. فقوله: "فما معنى الإقرار بها؟ هل المراد الإقرار بمتونها وكلماتها؟ " فذلك هو مراد المجيب، مع اعتقاد أنها صفات لله -تعالى- لا تشبه صفات المخلوقين. فهذا معنى قول المجيب: ونعلم أنها صفات لله -تبارك وتعالى-، فالواو الأولى عاطفة، والثانية حالية أي نقر بها حال كوننا نعلم أنها صفات لله، كما هو مذهب أهل السنة والجماعة. [الوجه الثاني: المؤمن يخبر بإيمانه بالله ورسوله وإقراره بأصول الدين] (الوجه الثاني): قوله: "فالمسلمون جميعا مثلك، ولا يخالفك أحد من المسلمين،

فما فائدة إخبارك بأنك تقر بها؟ ". فنقول: هذا يدل على جهله، فإن المؤمن يخبر بإيمانه بالله ورسوله، وإقراره بأصول الدين التي هي أشهر وأعظم من هذه المسألة، كالشهادتين وغيرهما من الأصول العظيمة. ولا يقال: إن ذلك يعرفه المسلمون كلهم، ولهذا شُرع الأذان دائما، وتكراره دائما كل وقت، وشُرع للرجل إذا فرغ من الوضوء أن يقول: "أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله". وأن يقول إذا صلى: "لا إله إلا الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرون، لا إله إلا الله ولا نعبد إلا إياه، له النعمة، وله الفضل، وله الثناء الحسن" وأمثال ذلك كثير. [الوجه الثالث: وجوب الإيمان بما جاء عن الله ورسوله كما جاء] (الوجه الثالث): قوله: "فأما أن تريد بها قول الواصف ولفظه". فلا معنى لذلك، أو تريد أنها تضمنت معنى حاصلا للموصوف، أو أنها لفظ دلّ على ذات باعتبار معنى هو المقصود كما ذكره ابن الحاجب؟ فمراد المجيب أنها تدل على معنى حاصل للموصوف على ما أراده الله ورسوله كما قال الإمام الشافعي -رضي الله عنه-: "آمنت بالله، وبما جاء عن الله على مراد الله، وآمنت بما جاء عن رسول الله على مراد رسول الله". وذلك أنه يجب على الخلق الإقرار بما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم من القرآن والسنة المعلومة جملة وتفصيلا، فلا يكون الرجل مؤمنا حتى يقر بما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم جملة، وذلك هو تحقيق "شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله". فمن شهد أنه رسول الله شهد أنه صادق فيما يخبر به عن الله -عز وجل- من أسمائه وصفاته وأفعاله، وما يجوز عليه وما يمتنع عليه، ووعده ووعيده، وأمره ونهيه، وخبره عما كان وما يكون، فإن هذا هو حقيقة الشهادة له بالرسالة، وهذا معلوم بالاضطرار من دين الإسلام، وهو متفق عليه بين الأمة. إذا تقرر هذا فقد وجب على كل مسلم تصديقه فيما أُخبر به عن الله من أسمائه وصفاته مما جاء في القرآن، وفي السنة الثابتة عنه صلى الله عليه وسلم كما كان عليه السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار، والذين اتبعوهم بإحسان، رضي الله عنهم ورضوا عنه.

(الوجه الرابع): قوله: "فإن ترد أنها تدل على صفات زائدة على الذات لزمك ما لزم الأَشَاعِرَة، وهو أن يكون مع الله قدماء، وهي المعاني التي لحقت ذاته تعالى بالوصف، ونحن نبرأ من هذا نحن وأنت". فيقال: أهل السنة والجماعة يقولون: إن الله -تبارك وتعالى- موجود كامل بجميع صفاته، فإذا قال القائل: "دعوت الله" أو "عبدت الله"، كان اسم الله متناولا للذات المتضمنة لصفاتها، ليس اسم الله اسما للذات مجردة عن صفاتها اللازمة لها، وحقيقة ذلك أنه لا يكون نفسه إلا بنفسه، ولا يكون ذاته إلا بصفاته، ولا يكون نفسه إلا بما هو داخل في مسمى اسمها، وهذا حق. ولكن قول القائل: إنه يلزم أن يكون مع الله قدماء، تلبيس. فإن ذلك يشعر أن مع الله قدماء غيره منفصلة عنه، وهذا لا يقوله إلا من هو أكفر الناس وأجهلهم بالله كالفلاسفة؛ لأن لفظ الغير ُيراد به ما كان مفارقا له بوجود أو زمان أو مكان، ويُراد به ما أمكن العلم دونه. فالصفة لا تسمى غيرا له، فعلى المعنى الأول يمتنع أن يكون معه غيره، وأما على المعنى الثاني فلا يمتنع أن يكون وجوده مشروطا بصفات، وأن يكون مستلزما لصفات لازمة له، وإثبات المعاني القائمة التي توصف بها الذات لا بد منها لكل عاقل، ولا خروج عن ذلك إلا بجحد وجود الموجودات مطلقا. وأما من جعل وجود العلم هو وجود القدرة، ووجود القدرة هو وجود الإرادة، فطرد هذه المقالة يستلزم أن يكون وجود كل شيء هو عين وجود الخالق تعالى، وهذا منتهى الاتحاد، وهو مما يعلم بالحس والعقل والشرع أنه في غاية الفساد، ولا مُخَلِّصَ من هذا إلا بإثبات الصفات، مع نفي مماثَلة المخلوقات، وهو دين الذين آمنوا وعملوا الصالحات. وذلك أن نُفاة الصفات -من المتفلسفة ونحوهم- يقولون: إن العاقل والمعقول، والعاشق والمعشوق، واللذة واللذيذ والملتذ هو شيء واحد، وأنه موجود واجب له عناية، ويفسرون عنايته بعلمه أو عقله، ثم يقولون: وعلمه أو عقله هو ذاته، وقد يقولون: إنه حي عليم قدير، مريد متكلم، سميع بصير. ويقولون: إن

ذلك شيء واحد، فإرادته عَيْنُ قدرته، وقدرته عين علمه، وعلمه عين ذاته؛ وذلك لأن من أصلهم أنه ليس له صفة ثبوتية، بل صفاته؛ إما سلبية، كقولهم: "ليس بجسم، ولا متحيز، ولا جوهر، ولا عرض". وإما إضافة، كقولهم: "مبدأ وعلة". وإما مؤلف منهما، كقولهم: "عاقل ومعقول وعقل". ويعبرون عن هذه المعاني بعبارات هائلة، كقولهم: إنه ليس فيه كثرة "كم" ولا كثرة "كيف"، وإنه ليس له أجزاء "حد" ولا أجزاء "كم"، أو إنه لا بد من إثبات واحد موحدا توحيدا منَزها عن المقولات العشر، عن الكم والكيف والأين والوضع والإضافة، ونحو ذلك. ومضمون هذه العبارات وأمثالها نفي صفاته التي جاء بها الرسول صلى الله عليه وسلم، وهم يسمون نفي الصفات توحيدا، وكذلك المُعْتَزَلَة ومن ضاهاهم من الجَهْمِيَّة يسمون ذلك توحيدا، وهم ابتدؤوا هذا التعطيل الذي يسمونه توحيدا، وجعلوا اسم التوحيد واقعا على غير ما هو واقع عليه في دين المسلمين. فإن التوحيد -الذي بعث الله به رسله، وأنزل به كتبه- هو أن يعبد الله لا يشرك به شيئا، كما قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} 1. ومن تمام التوحيد أن يوصف الله -تعالى- بما وصف به نفسه، وبما وصفه به رسوله، فيصان ذلك عن التحريف والتعطيل والتكييف والتمثيل، كما قال تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ ?} 2. ومن هنا ابتدع من ابتدع لمن اتبعه على نفي الصفات اسم الموحدين، وهؤلاء منتهاهم أن يقولوا: هو الوجود بشرط الإطلاق، كما قاله طائفة منهم، أو بشرط نفي الأمور الثبوتية كما قاله ابن سينا وأتباعه، أو يقولون: هو الوجود المطلق لا بشرط، كما يقوله القونوي وأمثاله، ومعلوم بصريح العقل -الذي لم يكذب قط- أن هذه الأقوال متناقضة باطلة من وجوه: (أحدها): أن جعل عين العلم عين القدرة، ونفس القدرة هي نفس الإرادة،

_ 1 سورة الأنبياء آية: 25. 2 سورة الإخلاص آية: 1: 4.

ونفس الحياة هي نفس العلم، ونفس العلم نفس الفعل، ونفس الحياة هي نفس العلم والإبداع، ونحو ذلك معلوم الفساد بالضرورة؛ فإن هذه حقائق متنوعة، فإن جعلت هذه الحقيقة هي تلك كان بمنْزلة من يقول: أن حقيقة السواد حقيقة البياض، وحقيقة البياض حقيقة الطعم، وحقيقة الطعم حقيقة اللون. وأمثال ذلك مما يجعل الحقائق المتنوعة حقيقة واحدة فمن قال: إن العلم هو المعلوم، والمعلوم هو العلم فَضَلالُه بيِّن، فالتمييز بين مسمى المصدر ومسمى اسم الفاعل واسم المفعول، والتفريق بين الصفة والموصوف مستقر في فِطَر الناس وعقولهم، وفي لغات جميع الأمم، ومن جعل أحدهما هو الآخر كان قد أتى بما لا يخفى فساده على من تصور ما يقول. فمن قال: إن ذاته تعرف بدون معرفة شيء من أسمائه وصفاته الثبوتية والسلبية، فقوله معلوم البطلان، ممتنع وجود ذلك في الأعيان. ولو قدر إمكان ذلك، وفرض العبد في نفسه ذاتا مجردة عن جميع القيود السلبية والثبوتية فليس ذلك معرفة بالله البتة، وليس رب العالمين ذاتا مجردة عن كل أمر سلبي أو ثبوتي، ولهذا كان كثير من الملاحدة لا يصلون إلى هذا الحد، بل يقولون كما يقول أبو يعقوب السجستاني وغيره من الملاحدة: نحن لا ننفي النقيضين، بل نسكت عن إضافة واحد منهما إليه، فلا نقول هو موجود ولا معدوم، ولا حي ولا ميت، ولا عالم ولا جاهل. فيقال لهم: إعراض قلوبكم عن العلم به، وكف ألسنتكم عن ذكره لا يوجب أن يكون هو في نفسه مجردا عن النقيضين، بل يفيد كفركم بالله وكراهتكم لمعرفته وذكره وعبادته، وهذا حقيقة مذهبكم. [الوجه الخامس: إثبات أهل السنة لذات الله وصفاته وتنزيههما] (الوجه الخامس): أن يقال: مذهب أهل السنة والجماعة ومن تبعهم بإحسان أن كل ما وَصَف به الرب نفسه من صفاته فهي صفات مختصة به، غير مخلوقة بائنة منفصلة عنه، بل يمتنع أن يكون له فيها مشارك أو مماثل، فإن ذاته المقدسة لا تماثل شيئا من الذوات، وكذلك صفاته المختصة به لا تماثل شيئا من الصفات؛ لأنه -سبحانه- أحد صمد، لم يلد، ولم يولد، ولم يكن له كفوا أحد، فاسمه الأَحَد دلَّ على نفي المشاركة والمماثلة، واسمه الصَّمَد دلَّ على أنه مستحق لصفات الكمال.

والمقصود هنا أن صفات التنْزيه يجمعها هذان المعنيان المذكوران في هذه السورة: (أحدهما): نفي النقائص عنه، وذلك من لوازم إثبات صفات الكمال، فمن ثبت له الكمال التام انتفى عنه النقصان المضاد له، والكمال من مدلول اسمه الصَّمَد. (والثاني): أنه ليس كمثله شيء في صفات الكمال الثابتة، وهذا من مدلول اسمه الأَحد. فهذان الاسمان العظيمان -الأَحد، الصَّمد- يتضمنان تنْزيهه عن كل نقص وعيب، وتنْزيهه في صفات الكمال أن يكون له مماثل في شيء منهما. فالسورة تضمنت كل ما يجب نفيه عن الله، وتضمنت كل ما يجب إثباته لله من وجهين؛ من جهة اسمه "الصَّمد"، ومن جهة أن ما نُفي عنه من الأصول والفروع والنظير استلزم ثبوت صفات الكمال؛ فإن كل ما يمدح به الرب -تبارك وتعالى- من النفي فلا بد أن يتضمن ثبوتا، بل وكذلك كل ما يُمدح به شيء من الموجودات من النفي فلا بد أن يتضمن ثبوتا، وإلا فالنفي المحض معناه عدم محض، والعدم المحض ليس بشيء، فضلا عن أن يكون صفة كمال. وهذا كما يذكر -سبحانه- في آية الكرسي: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} 1، فنفي أخذ السنة والنوم له مستلزم لكمال حياته وقيوميته، فإن النَّوم أخو الموت، ولهذا كان أهل الجنة لا ينامون. ثم قال: {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} 2، فنفي الشفاعة بدون إذنه مستلزم لكمال ملكه، إذ كل من يشفع إليه شافع بلا إذنه، فقبل شفاعته كان منفعلا عن ذلك الشافع، قد أثرت شفاعته فيه، فصيرته فاعلا بعد أن لم يكن، وكان ذلك الشافع شريك المشفوع إليه في ذلك الأمر المطلوب بالشفاعة إذا كان بدون إذنه، لا سيما والمخلوق إذا شفع إليه بغير إذنه فقبل الشفاعة فإنما يقبلها لرغبة أو لرهبة، إما من الشافع وإما من غيره. وإلا فلو كانت داعيته من تلقاء نفسه، تامة مع القدرة لم يحتج إلى شفاعته، والله -تعالى- مُنَزَّه عن ذلك كما قال في الحديث الإلهي: "إنكم لن تبلغوا ضَرِّي فتضروني، ولن تبلغوا نَفْعِي فتنفعوني" 3 ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يأمر أصحابه بالشفاعة إليه إذا أتاه طالب حاجة يقول: "اشفعوا تؤجروا، ويقضي الله على

_ 1 سورة البقرة آية: 255. 2 سورة البقرة آية: 255. 3 مسلم: البر والصلة والآداب (2577).

لسان نبيه ما شاء"1. أخرجاه في الصحيحين، وهو إنما يفعل ما أمر الله به. ثم قال: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ} 2، بيَّن أنهم لا يعلمون من علمه إلا ما علمهم إياه، كما قالت الملائكة: {لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا} 3؛ فكان في هذا النفي إثبات أنه عالم، وأن عباده لا يعلمون إلا ما علمهم إياه، فأثبت أنه الذي يعلمهم لا ينالون العلم إلا منه، فإنه الذي خلق الإنسان من علق، وعلَّم بالقلم، علَّم الإنسان ما لم يعلم. ثم قال: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلا يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا} 4 أي: لا يثقله ولا يكربه، وهذا النفي يتضمن كمال قدرته، فإنه -مع حفظه السماوات والأرض- لا يثقل ذلك عليه كما يثقل على من في قوته ضعف، وهذا كقوله: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} 5 فنَزَّه نفسه عن اللغوب. قال أهل اللغة: "اللغوب" هو الإعياء والتعب. وكذلك قوله: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} 6 والإدراك -عند السلف والأكثرين- هو الإحاطة، وقالت طائفة: هو الرؤية، وهو ضعيف؛ لأن نفي الرؤية لا مدح فيه، فإن العدم لا يرى، وكل وصف لا يشترك فيه الوجود، والعدم لا يستلزم أمرا ثبوتيا، ولا يكون فيه مدح، إذ هو عدم محض بخلاف ما إذا قيل: لا يحاط به، فإنه يدل على عظم الرب -جل جلاله-، وأن العباد -مع رؤيتهم له- لا يحيطون به رؤية، كما أنهم -مع معرفتهم- لا يحيطون به علما، وكما أنهم -مع مدحهم له، وثنائهم عليه- لا يحصون ثناء عليه، بل هو كما أثنى على نفسه المقدسة، كما قال أفضل الخلق -صلى الله عليه وسلم-: "لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك"7. [الوجه السادس: صفات الله ليست عينا له ولا غيرا مباينا له] (الوجه السادس): أن يقال: قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول: "أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك"8 أخرجاه في الصحيحين، وهذا مما يدل على تغاير صفات الله؛ لأنه استعاذ برضاه من سخطه، وبمعافاته من عقوبته، فدلَّ ذلك على أن الرضى غير السخط، والمعافاة غير العقوبة، ومن جعل نفس إرادته هي رحمته وهي غضبه يكون معنى قوله صلى الله عليه وسلم: "أعوذ برضاك من سخطك"9 عنده أنه استعاذ بنفس الإرادة منها، وهذا ممتنع؛ فإنه ليس عنده للإرادة صفة ثبوتية

_ 1 البخاري: الزكاة (1432) , ومسلم: البر والصلة والآداب (2627) , والنسائي: الزكاة (2556) , وأبو داود: الأدب (5131) , وأحمد (4/ 400 ,4/ 413). 2 سورة البقرة آية: 255. 3 سورة البقرة آية: 32. 4 سورة البقرة آية: 255. 5 سورة ق آية: 38. 6 سورة الأنعام آية: 103. 7 مسلم: الصلاة (486) , والترمذي: الدعوات (3493) , والنسائي: التطبيق (1100 ,1130) , وأبو داود: الصلاة (879) , وابن ماجه: الدعاء (3841) , وأحمد (6/ 58) , ومالك: النداء للصلاة (497). 8 مسلم: الصلاة (486) , والترمذي: الدعوات (3493) , والنسائي: التطبيق (1100 ,1130) والاستعاذة (5534) , وأبو داود: الصلاة (879) , وابن ماجه: الدعاء (3841) , وأحمد (6/ 58) , ومالك: النداء للصلاة (497). 9 مسلم: الصلاة (486) , والترمذي: الدعوات (3493) , والنسائي: التطبيق (1100 ,1130) والاستعاذة (5534) , وأبو داود: الصلاة (879) , وابن ماجه: الدعاء (3841) , وأحمد (6/ 58) , ومالك: النداء للصلاة (497).

يستعاذ بها من أحد الوجهين باعتبار ذلك الوجه منها باعتبار الوجه الآخر، بل الإرادة لها عنده مجرد تعلق بالمخلوق، والتعلق أمر عدمي، وهذا بخلاف الاستعاذة به منه؛ لأن له صفات متنوعة، فيستعاذ به باعتبار ومنه باعتبار. ومن قال: إنه ذات لا صفة لها، أو وجود مطلق لا يتصف بصفة ثبوتية. فهذا يمتنع وجوده في الخارج، وإنما يمكن تقدير هذا في الذهن كما تُقَدَّر الممتنعات، فضلا عن كونه يكون ربا خالقا للمخلوقات. وهؤلاء إنما ألجأهم إلى هذا مضايقات الجَهْمِيَّة والمُعْتَزَلَة لهم في مسائل الصفات، فإنهم صاروا يقولون: كلام الله هو الله أو غير الله؟ فإن قلتم: هو غيره. فما كان غير الله فهو مخلوق، وإن قلتم: هو هو، فهو مكابرة، وهذا أول ما احتجوا به على الإمام أحمد -رحمه الله- في المحنة، فإن المعتصم لمّا قال لهم: ناظروه. قال له عبد الرحمن ابن إسحاق: ما تقول في القرآن، أو قال: في كلام الله، أهو الله أو غيره؟ فقال له أحمد: ما تقول في علم الله، أهو الله أو غيره؟ فعارض أحمد بالعلم فسكت، وهذا من حسن معرفة أبي عبد الله -رحمه الله- بالمناظرة، فإن المبتدع بنَى مذهبه على أصل فاسد، متى ذكرتَ له الحق الذي عندك ابتداء أخذ يعارضك فيه لما قام بنفسه من الشبهة. فينبغي -إذا كان المناظر مدَّعيا أن الحق معه- أن يبدأ بهدم ما عنده، فإذا انكسر وطلب الحق أُعطيه، وإلا فما دام معتقدا نقيض الحق لم يدخل الحق أذن قلبه، كاللوح الذي كُتب فيه كلام باطل، فامْحُه أولا ثم اكتب فيه الحق، فهؤلاء كان قصدهم الاحتجاج لبدعتهم، فذكر لهم أحمد من المعارضة والنقض ما يبطلها. وقد تكلم أحمد -في ردِّه على الجَهْمِيَّة- في جواب هذا، وبين أن لفظ "الغير" مجمل، يراد بالغير ما هو منفصل عن الشيء، ويراد بالغير ما ليس هو الشيء، فلهذا لا يطلق القول بأن كلام الله وعلمه ونحو ذلك هو هو؛ لأن هذا باطل، ولا يطلق أنه غيره؛ لئلا يُفهم أنه بائن عنه، منفصل عنه كما رواه الخَلَّال -رحمه الله- قال: أخبرني الخضر ابن المثنى الكندي، قال: حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل -رحمه الله- قال: هذا ما أخرجه أبي -رحمه الله- في الرد على الزَّنَادِقَة والجَهْمِيَّة فيما شكت فيه من متشابه القرآن، وتأولته غير تأويله. فقال أحمد بن حنبل -رضي الله عنه:

رد الإمام أحمد على الزنادقة والجهمية

رَدُّ الإمام أحمد على الزَنَادِقة والجَهْميّة "الحمد لله الذي جعل في كل زمان فترة من الرسل بقايا من أهل العلم يدعون من ضل إلى الهدى، ويصبرون منهم على الأذى، يحيون بكتاب الله الموتى، ويبصرون بنور الله أهل العمى، فكم من قتيل لإبليس قد أحيوه، وكم من ضال تائه قد هدوه، فما أحسن أثرهم على الناس، وأقبح أثر الناس عليهم، ينفون عن كتاب الله تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين، الذين عقدوا ألوية البدع، وأطلقوا مقال الفتنة، فهم مختلفون في الكتاب، يقولون على الله، وفي الله، وفي كتاب الله بغير علم، يتكلمون بالمتشابه من الكلام، ويخدعون جهال الناس بما يشبهون عليهم، فنعوذ بالله من فتن المضلين، وكذلك الجهم وشيعته دعوا الناس إلى المتشابه من القرآن والحديث، فَضَلُّوا وأَضَلُّوا بكلامهم بشرا كثيرا. "فكان مما بلغنا من أمر الجهم -عدو الله- أنه كان من أهل خراسان من أهل ترمذ، وكان صاحب خصومات وكلام، وكان أكثر كلامه في الله، فلقي أناسا من المشركين يقال لهم: السمنية، فعرفوا الجهم، فقالوا له: نكلمك، فإن ظهرت حجتنا عليك دخلت في ديننا، وإن ظهرت حجتك علينا دخلنا في دينك. فكان مما كلموا به الجهم أن قالوا: ألست تزعم أن لك إلها؟ قال الجهم: نعم. فقالوا له: فهل رأيت إلهك؟ قال: لا. قالوا: فهل سمعت كلامه؟ قال: لا. قالوا: فشممت له رائحة؟ قال لا. قالوا: فوجدت له حسا؟ قال: لا. قالوا: فوجدت له مجسا؟ قال: لا. قالوا: فما يدريك أنه إله؟ قال: فتحير الجهم، فلم يدر من يعبد أربعين يوما. ثم إنه استدرك حجة مثل حجة زَنَادِقَة النصارى، وذلك أن زنادقة النصارى يزعمون أن الروح الذي في عِيسَى هو روح الله من ذات الله، فإذا أراد أن يحدث أمرا دخل في بعض خلقه فتكلم على لسان خلقه، فيأمر بما شاء، وينهى عما شاء، وهو روح

غائب عن الأبصار. فاستدرك الجَهْم حجة مثل هذه الحجة، فقال للسمني: ألست تزعم أن فيك روحا؟ قال: نعم. قال: فهل رأيت روحك؟ قال: لا. قال: فسمعت كلامه؟ قال: لا. قال: فوجدت له حسا أو مجسا؟ قال: لا. قال: فكذلك الله، لا يرى له وجه، ولا يسمع له صوت، ولا يشم له رائحة، وهو غائب عن الأبصار، ولا يكون في مكان دون مكان. ووجد ثلاث آيات في القرآن من المتشابه؛ قوله -عز وجل-: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} 1 {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ} 2 و {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ} 3. فبنى أصل كلامه على هؤلاء الآيات، وتأوّل القرآن على غير تأويله، وكذّب بأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وزعم أن من وصف الله بشيء -مما وصف به نفسه أو حدث عنه رسوله- كان كافرا، وكان من المُشَبِّهَة، وأضلَّ بكلامه بشرا كثيرا، واتَّبعه على قوله رجال من أصحاب أبي حنيفة وأصحاب عمرو بن عبيد بالبصرة، ووضع دين الجَهْمِيَّة. فإذا سألهم الناس عن قول الله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} 4 يقولون: ليس كمثله شيء من الأشياء، وهو تحت الأرض السابعة، كما هو على العرش، لا يخلو منه مكان، ولا يكون في مكان دون مكان، ولا يتكلم، ولا ينظر إليه أحد في الدنيا ولا في الآخرة، ولا يوصف، ولا يعرف بصفة ولا بفعل، ولا له غاية، ولا له مُنْتَهَى، ولا يُدرك بعقل، وهو وَجْهٌ كُلّه، وهو عِلْم كُلّه، وهو سَمْع كلّه، وهو بَصَر كلّه، وهو نُور كلّه، وهو قُدْرَة كلّه، ولا يُوصف بوصفين مختلفين، وليس له أعلى ولا أسفل، ولا نواحٍ ولا جوانب، ولا يمين ولا شمال، ولا هو ثقيل ولا خفيف، ولا له نور ولا جسم، وليس هو معلول 5، وكل ما خطر على قلبك أنه شيء تعرفه فهو على خلافه. فقلنا: هو شيء؟ فقالوا: هو شيء لا كالأشياء. فقلنا: إن الشيء الذي لا كالأشياء قد عرف أهل العقل أنه لا شيء. فعند ذلك تبين للناس أنهم لا يثبتون شيئا، ولكنهم يدفعون عن أنفسهم الشنعة بما يقرون من العلانية.

_ 1 سورة الشورى آية: 11. 2 سورة الأنعام آية: 3. 3 سورة الأنعام آية: 103. 4 سورة الشورى آية: 11. 5 لعله: معلوم ولا معقول.

فإذا قيل لهم: من تعبدون؟ قالوا: نعبد من يدبر أمر هذا الخلق. فقلنا: هذا الذي يدبر أمر هذا الخلق هو مجهول لا يعرف بصفة؟ قالوا: نعم. قلنا: قد عرف المسلمون أنكم لا تأتون بشيء، وإنما تدفعون عن أنفسكم الشنعة بما تظهرون. فقلنا لهم: هذا الذي يدبر هو الذي كلم موسى؟ قالوا: لم يتكلم، ولا يتكلم؛ لأن الكلام لا يكون إلا بجارحة، والجوارح عن الله منفية. فإذا سمع الجاهل قولهم ظن أنهم من أشد الناس تعظيما لله، ولا يعلم أنهم إنما يعود قولهم إلى ضلال وكفر، فما يُسأل عنه الجهمي يقال له: تجد في كتاب الله أنه يخبر عن القرآن أنه مخلوق؟ فلا يجد. فيقال له: فتجد في سنة رسول الله أنه قال: إن القرآن مخلوق؟ فلا يجد. فيقال له: فمن أين قلت؟ فيقول: من قول الله: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} 1. وزعم أن جعل مخلوق مجعول هو مخلوق 2، فادَّعى كلمة من الكلام المتشابه يحتج بها من أراد أن يلحد في تنْزيلها، وكما يبتغي الفتنة في تأويلها، وذلك أن "جعل" في القرآن من المخلوقين على وجهين: على معنى تسمية، وعلى معنى فعل من أفعالهم، فقوله: {الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ} 3، قالوا: هو شعر وأساطير الأولين، وأضغاث أحلام. فهذا على معنى تسمية. وقال: {وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا} 4 يعني: إنهم سموهم إناثا، ثم ذكر "جعل" على غير معنى تسمية، فقال: {يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ} 5 فهذا على معنى فعل من أفعالهم. وقال: {حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا} 6 هذا على معنى "جعل"، فهذا على جعل المخلوقين، ثم جعل من أمر الله على معنى خلق لا يكون إلا خلق، ولا يقوم إلا مقام خلق لا يزول عنه المعنى. وإذا قال الله: "جعل" على غير معنى خلق لا يكون خلق، ولا يقوم مقام خلق، ولا يزول عنه المعنى، فمما قال الله جعل على معنى خلق قوله: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} 7، يعني: وخلق الظلمات والنور. وقال: {وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ} 8.

_ 1 سورة الزخرف آية: 3. 2 كذا في الأصل. 3 سورة الحجر آية: 91. 4 سورة الزخرف آية: 19. 5 سورة البقرة آية: 19. 6 سورة الكهف آية: 96. 7 سورة الأنعام آية: 1. 8 سورة النحل آية: 78.

يقول: وخلق لكم. وقال: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ} 1، يقول: وخلقنا الليل والنهار آيتين. وقال: {وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا} 2، وقال: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} 3، يقول: وخلق منها زوجها، يقول: خلق من آدم. وقال: {وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ} 4، يقول: وخلق لها رواسي، ومثله في القرآن كثير، فهذا وما كان على مثاله لا يكون إلا على معنى خلق. "ثم ذكر جعل على معنى غير خلق قوله: {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سَائِبَةٍ} 5، لا يعني: ما خلق الله من بحيرة ولا سائبة، وقال الله لإبراهيم: {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا} 6، لا يعني: إني خالقك للناس إماما؛ لأن خلق إبراهيم كان متقدما 7. قال إبراهيم: {رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا} 8. وقال إبراهيم: {رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ} 9، لا يعني: اخلقني مقيم الصلاة. وقال: {يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ} 10. وقال لأم موسى: {إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} 11 لا يعني: وخالقوه من المرسلين؛ لأن الله وعد أم موسى أن يرده إليها ثم يجعله من بعده رسولا، وقال: {وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ} 12 وقال: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً} 13 لا يعني: ونخلقهم أئمة، وقال: {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا} 14، ومثله في القرآن كثير. "فهذا -وما كان على مثاله- لا يكون على معنى خلق، فإذا قال الله: "جعل" على معنى خلق، وقال: "جعل" على غير معنى خلق، فبأي حجة قال الجهمي جعل على معنى خلق؟ فإن رد الجهمي الجعل إلى المعنى الذي وصفه الله فيه، وإن كان لا كان من الذين يسمعون كلام الله، ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون. فلما قال الله: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} 15 يقول: "جعله عربيا" جعله جعلا على معنى فعل من أفعال على غير معنى خلق، وقال في سورة الزخرف: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} 16، وقال: {لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} 17، وقال: {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ} 18.

_ 1 سورة الإسراء آية: 12. 2 سورة نوح آية: 16. 3 سورة الأعراف آية: 189. 4 سورة النمل آية: 61. 5 سورة المائدة آية: 103. 6 سورة البقرة آية: 124. 7 أي: متقدما على إمامته. 8 سورة إبراهيم آية: 35. 9 سورة إبراهيم آية: 40. 10 سورة آل عمران آية: 176. 11 سورة القصص آية: 7. 12 سورة الأنفال آية: 37. 13 سورة القصص آية: 5. 14 سورة الأعراف آية: 143. 15 سورة الزخرف آية: 3. 16 سورة الزخرف آية: 3. 17 سورة الشعراء آية: 194. 18 سورة مريم آية: 97.

فلما جعل الله القرآن عربيا، ويسَّره بلسان نبيه صلى الله عليه وسلم كان ذلك فعلا من أفعال الله -تبارك وتعالى- جعل القرآن به عربيا بينا يعني هذا بيان، لمن أراد الله هداه. ثم إن الجهمي ادَّعى أمرًا آخر وهو من المحال، فقال: أخبرونا عن القرآن، هو الله أو غير الله؟ فادعى في القرآن أمرا، فوهم للناس. فإذا سئل الجاهل عن القرآن: هو الله أو غير الله؟ فادعى في ال من أن 1 يقول أحد القولين، فإن قال: هو الله. قال له الجهمي: كفرت. وإن قال: هو غير الله. قال: صدقت. فلم لا يكون غير الله مخلوقا؟ فيقع في نفس الجاهل من ذلك ما يميل به إلى قول الجهمي، وهذه المسألة من الجهمي هي من المغاليط. (فالجواب) للجهمي إذا سأل فقال: أخبرونا عن القرآن: هو الله، أو غير الله؟ قيل له: إن الله -جل ثناؤه- لم يقل: في القرآن إن القرآن أنا، ولم يقل: هو غيري، وقال: هو كلامي، فسميناه باسم سمَّاه الله به، فقلنا: كلام الله، فمن سمَّى القرآن باسم سمَّاه الله به كان من المهتدين، ومن سمَّاه باسم غيره كان من الضالين. وقد فَصَلَ الله بين قوله وبين خلقه، ولم يسمه قولا، فقال: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} 2، فلما قال: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ} 3 لم يبق شيء مخلوق إلا كان داخلا في ذلك، ثم ذكر ما ليس بخلق فقال: {وَالأَمْرُ} فأمره هو قوله: {تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} 4 أن يكون قوله خلقا. وقال: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} 5، ثم قال للقرآن: {أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا} 6، وقال: {لِلَّهِ الأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ} 7 يقول: لله القول من قبل الخلق ومن بعد الخلق، فالله يخلق ويأمر، وقوله غير خلقه. وقال: {ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ} 8، وقال: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ} 9. ثم قال أحمد -رحمه الله-:

_ 1 الظاهر أن العبارة هكذا: فلا بد أن يقول أحد القولين، اهـ من الأصل. 2 سورة الأعراف آية: 54. 3 سورة الأعراف آية: 54. 4 سورة الأعراف آية: 54. 5 سورة الدخان آية: 3. 6 سورة الدخان آية: 3. 7 سورة الروم آية: 4. 8 سورة الطلاق آية: 5. 9 سورة هود آية: 40.

{باب بيان ما فصل الله به بين قوله وبين خلقه} وذلك أن الله -جل ثناؤه- إذا سمى الشيء الواحد باسمين أو ثلاثة أسامٍ فهو مرسل غير مفصل، وإذا سمى شيئين مختلفين لم يدعهما مرسلا حتى يفصل بينهما، من ذلك قوله: {يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا} 1 فهذا شيء واحد سماه بثلاثة أسامٍ وهو مرسل، ولم يقل: إن له أبا وشيخا وكبيرا. وقال: {عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ} 2، ثم قال: {وَأَبْكَارًا} فلما كانت البكر غير الثَّيِّب لم يدعه مرسلا حتى فصل بينهما، وذلك قوله: {وَأَبْكَارًا}. وقال: {وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى} 3، ثم قال: {وَالْبَصِيرُ}. فلما كان البصير غير الأعمى فصل بينهما، ثم قال: {وَلا الظُّلُمَاتُ وَلا النُّورُ وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ} 4. فلما كان كل واحد من هذا غير الشيء الآخر فصل بينها، ثم {هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ} 5، كله شيء واحد، فهذا مرسل ليس بمفصل. فكذلك إذا قال الله: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} 6 لأن الخلق غير الأمر، فهو مفصل، انتهى ما ذكره أحمد -رحمه الله-. وهذا الذي ذكره أحمد -رحمه الله- هو الذي عليه الحذاق من أئمة السنة، وهو قول ابن كلاب وغيره، فهؤلاء لا يطلقون القول بأن صفات الله هي الله، ولا أنها غيره؛ وذلك لأن هذا إثبات قسم ثالث وهو خطأ، ففرق بين إطلاق اللفظين لما في ذلك من الإجماع، وبين نفي مسمى اللفظين مطلقا وإثبات معنى ثالث خارج من مسمى اللفظين. فجاء بعد هؤلاء أبو الحسن الأشعري وكان أحذق ممن بعده، فقال بنفي مفرد لا مجموعا، فيقول مفردا: ليست الصفة هي الموصوف؟ ويقول مفردا: ليست غيره؟ ولا يجمع بينهما، فلا يقال: لا هي هو، ولا هي غيره؛ لأن الجمع بين النفي فيه من الإيهام ما ليس في التفريق. وجاء بعده

_ 1 سورة يوسف آية: 78. 2 سورة التحريم آية: 5. 3 سورة فاطر آية: 19. 4 سورة فاطر آية:20، 21. 5 سورة الحشر آية: 23، 24. 6 سورة الأعراف آية: 54.

أقوام فقالوا: بل ينفى مجموعا، فيقال: لا هي هو، ولا هي غيره، ثم كثير من هؤلاء إذا بحثوا يقولون: هذا المعنى إمَّا أن يكون هذا وإمَّا أن يكون غيره؛ فيتناقضون، وسبب ذلك أن لفظ الغير مجمل يُراد بالغير: المباين المنفصل، ويُراد به ما ليس هو غير الشيء، وقد يعبر عن الأول بأن الغيرين ما جُوِّزَ وجودُ أحدهما وعدمه، أو ما جاز مفارقة أحدهما للآخر بزمان أو مكان أو وجود، ويعبر عن الثاني بأنه ما جاز العلم بأحدهما مع عدم العلم بالآخر. فبين هذا وهذا فرق ظاهر. فصفات الرب اللازمة لا تفارقه البتة، فلا يكون غيرًا بالمعنى الأول، ويجوز أن يعلم بعض الصفات دون بعض، ويعلم الذات دون الصفة فيكون غيرًا باعتبار الثاني. ولهذا أطلق كثير من مثبتة الصفات عليها أنها أغيار للذات، وقالوا: إنها غير الذات. ولا يقولون إنها غير الله، فإن لفظ الذات لا يتضمن الصفات، بخلاف اسم الله فإنه يتناول الصفات. ولهذا كان الصواب -على قول أهل السنة- هو أن لا يقال في الصفات: إنها زائدة على اسم الله، بل من قال ذلك فقد غلط عليهم، وإذا قيل: هي زائدة على الذات أم لا؟ كان الجواب أن الذات الموجودة في نفس الأمر مستلزمة للصفات، فلا يمكن وجود الذات مجردة عن الصفات، بل ولا يوجد شيء من الذوات مجردا عن جميع الصفات، بل لفظ "الذات" تأنيث "ذو"، ولفظ "ذو" مستلزم للإضافة، وهذا اللفظ مولد، وأصله أن يقال: ذات علم وذات قدرة، وذات سمع، كما قال الله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ} 1 ويقال: فلانة ذات مال وجمال. ثم لما علموا أن نفس الرب ذات علم وقدرة، وسمع وبصر، عرفوا لفظ الذات ردًّا على من نفى صفاتها، وصار التعريف يقوم مقام الإضافة، بحيث إذا قيل لفظ الذات فهو ذات كذا. فالذات لا يكون إلا ذات علم وقدرة، ونحوه من الصفات لفظا ومعنى. وإنما يريد محققو أهل السنة بقولهم: "الصفات زائدة على الذات" أنها زائدة على ما أثبته نفاة الصفات من الذات، فإنهم أثبتوا ذاتا مجردة

_ 1 سورة الأنفال آية: 1.

لا صفات لها، فأثبت أهل السنة الصفات زائدة على ما أثبته هؤلاء، فهي زيادة في العلم والاعتقاد والخبر، لا زيادة على نفس الله -جل جلاله-، بل نفسه المقدسة متصفة بهذه الصفات، لا يمكن أن تفارقها، ولا توجد الصفات بدون الذات، ولا الذات بدون الصفات. والمقصود هنا بيان بطلان كلام هذا المعترض وقوله: إن من أثبت الصفات لله تبارك وتعالى لزمه أن يكون مع الله قدما، فظهر -بما ذكرنا عن أهل السنة والجماعة- أن كلامه هذا تلبيس وجهل وضلال، وأن مذهب أهل السنة والجماعة في إثبات الصفات الثابتة في القرآن والسنة هو الصواب الموافق لصريح المعقول، كما أنه هو الوارد في صحيح المنقول. [الوجه السابع: الأقسام الممكنة في آيات الصفات وأحاديثها] (الوجه السابع) أن يقال: الأقسام الممكنة في آيات الصفات وأحاديثها ستة أقسام، كل قسم عليه طائفة من أهل القبلة: قسمان يقولان: تجري على ظواهرها، وقسمان يقولان: هي على خلاف ظواهرها، وقسمان يسكتان. أما الأولون فقسمان: (أحدهما): من يجريها على ظواهرها، ويجعل ظاهرها من جنس صفات المخلوقين، فهؤلاء المُشَبِّهَة، ومذهبهم باطل بالكتاب والسنة، ولهذا أنكره السلف عليهم، وإليه توجه الرد بالحق. (والثاني): من يجريها على ظاهرها اللائق بجلال الله -تعالى-، كما يجري اسم الله العليم والقدير والرب والإله والموجود والذات ونحو ذلك على ظاهرها اللائق بجلال الله -تعالى-، فإن ظواهر هذه الصفات في حق المخلوقين؛ إما جوهر محدث، وإما عرض قائم، فالعلم والقدرة والمشيئة والرحمة والرضى والغضب ونحو ذلك في حق العبد أعراض. والوجه واليدان والعين في حق المخلوق أجسام. فإذا كان الله موصوفا عند عامة أهل الإثبات بأن له علما وقدرة وكلاما ومشيئة، وإن لم تكن أعراضا يجوز عليها ما يجوز على صفات المخلوقين، فلم لا يجوز أن

يكون وجه الله ويداه ليست أجساما لا يجوز عليها ما يجوز على صفات المخلوقين؟ وهذا هو المذهب الذي حكيناه عن أهل السنة، وهو الذي نعتقده وندين لله به، وهو الذي يدل عليه كلام علماء السنة، وهذا أمر واضح، ولله الحمد والمنة، ولا يلزم عليه شيء من اللوازم الباطلة؛ وذلك لأنه حق، ولازم الحق حق، فإن الصفات كالذات. فكما أن ذاته ثابتة حقيقة من غير أن تكون من جنس ذوات المخلوقات، فكذلك صفاته ثابتة حقيقة من غير أن تكون من جنس صفات المخلوقات، فمن قال: لا أعقل علما ويدا واستواء إلا من جنس العلم واليد والاستواء المعهود. قيل له: فكيف تعقل ذاتا من غير جنس ذوات المخلوقين؟ [الوجه الثامن: صفات كل موصوف تناسب ذاته وتلائم حقيقته] (الوجه الثامن) أن يقال: صفات كل موصوف تناسب ذاته، وتلائم حقيقته، فمن لم يفهم من صفات الرب الذي ليس كمثله شيء إلا ما يناسب المخلوقين فقد ضل في عقله ودينه، وخالف لغة العرب وما فطر الله عليه عباده. فتبين -بما ذكرنا- أن هذه اللوازم التي ذكرها هذا المعترض لا تلزم على قولنا الذي حكيناه عن أهل السنة والجماعة. [الوجه التاسع: لوازم الصفات التي يدعيها المبتدعة إنما تلزم على مذهبهم دون مذهب السلف] (الوجه التاسع) أن يقال: اللوازم الشنيعة الفظيعة المخالفة لصحيح المعقول وصريح المنقول، إنما تلزم على قول هذا المعترض وسلفه المتكلمين من الجَهْمِيَّة والمُعْتَزَلَة والقَدَرِيَّة، ومن نحا نحوهم من الشِّيعَة والزَّيْدِيَّة. وبيان ذلك أنه إذا كان الكتاب والسنة مملوءان مما ظاهره عندهم تشبيه وتجسيم وتكييف، كيف يجوز على الله -تعالى-، ثم على رسوله صلى الله عليه وسلم ثم على الصحابة أنهم يتكلمون دائما بما هو نص أو ظاهر في خلاف الحق، ثم الحق الذي يجب اعتقاده لا يبوحون به، ولا يدلون عليه، حتى يجيء أنباط الفرس والروم والفلاسفة فيثبتون للأمة العقيدة الصحيحة التي يجب على كل مكلف أو كل فاضل اعتقادها؟ لئن كان الحق فيما يقوله هؤلاء المتكلمون لقد كان ترك الناس بلا كتاب ولا سنة أهدى لهم وأنفع على هذا التقدير، بل

كان وجود الكتاب والسنة ضررًا محضا في أصل الدين، فإن حقيقة الأمر على ما يقوله هؤلاء: إنكم -معاشر العباد- لا تطلبوا معرفة الله ولا ما يستحقه من الصفات نفيا وإثباتا، لا من الكتاب ولا من السنة، ولا من طريق سلف الأمة، ولكن انظروا أنتم فما وجدتموه مستحقا له من الصفات فصفوه به، سواء كان موجودا في الكتاب والسنة أو لم يكن، وما لم تجدوه مستحقا له في عقولكم فلا تصفوه به، وإليه عند التنازع فارجعوا؛ فإنه الحق الذي تعبدتكم به. وما كان مذكورا في الكتاب والسنة مما يخالف قياسكم هذا فاجتهدوا في تخريجه على شواذ اللغة، ووحشي الألفاظ، وغرائب الكلام، أو اسكتوا عنه مفوضين علمه إلى الله، مع نفي دلالته على شيء من الصفات. هذا حقيقة الأمر على رأي هؤلاء، وهو لازم لهم لزوما لا محيد عنه. ومضمونه أن كتاب الله لا يهتدى به في معرفة الله، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم معزول عن التعليم والإخبار بصفات من أرسله، وما أشبه حال هؤلاء بالذين قال الله فيهم: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالًا بَعِيدًا وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا} 1 إلى قوله: {إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا} 2. فإن الرد إلى الله هو الرد إلى كتابه، والرد إلى الرسول هو إلى سنته بعد وفاته، فإن هؤلاء إذا دعوا إلى ذلك أعرضوا، ورأيتهم يصدون عنه صدودا، ويقولون: يلزم منه كذا، وما قصدنا إلا إحسانا وتوفيقا بين هذه الطريقة التي سلكناها وبين الدلائل النقلية. ثم عامة هذه الشبهات -التي يسمونها دلائل- إنما قلدوا فيها طاغوتا من طواغيت المشركين والصابئين، أو بعض ورثته الذين أمروا أن يكفروا به، وقد قال تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي

_ 1 سورة النساء آية: 60، 61. 2 سورة النساء آية: 62.

أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} 1. وقال تعالى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ} 2 إلى قوله: {وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} 3. [الوجه العاشر: لا يجوز تفسير كتاب الله تعالى بغير لغة العرب] (الوجه العاشر) قوله: "أما مخالفة لغة العرب فلا يجوز لك أن تخالفها وتفسر كتاب الله -جل وعلا- بغيرها؛ لمخالفتك لما أنزل الله فيه، فقد قال تعالى: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ} 4 الآية، وقال: {قُرْآنًا عَرَبِيًّا} ". فهذا الكلام حق أُريد به باطل، كما قال أمير المؤمنين علي رضي الله عنه للخوارج، لما قالوا له: أشركت؛ لأنك حَكَّمْتَ الرجالَ في دين الله، وقد قال تعالى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} 5 قال: "كلمة حق أريد بها باطل". وهذا من أعظم حجج المُشَبِّهَة القائلين بأنا لا نعقل من هذه الصفات إلا مثل صفاتنا؛ لأنه نزل بلغة العرب، فهم أسعد منك بهذه الحجة؛ لأن اللفظ يُحمل على ظاهره عند العرب كما تزعم. وأما السلف وأهل السنة والجماعة فلا تلزمهم هذه الحجة؛ لأنهم يقولون: إنها على ظاهرها في حقه -تبارك وتعالى-، لكنها كما يليق بجلاله وعظمته؛ لأن الصفات تابعة للذات، كما تقدم تقريره قريبا. [الوجه الحادي عشر: لو كانت أسماء الصفات مجازات لجاز نفيها ككل مجاز] (الوجه الحادي عشر) قوله: "هل يجوز لك أن تقول: استوى بلا كيف بعد أن قال: {مُبِينٌ} وقال: {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} 6؟ ما كأنك إلا قلت: ما تبين لنا ولا عقلناه، فخاطبنا ربنا بما لا نتبينه ولا نعقله، وليس هو من جنس لغة العرب، ولو كان عربيا لتبين لنا وعقلناه ... " إلى آخر كلامه. فيقال: هذا مما يدل على جهلك وعدم معرفتك بالحجج التي تحتج بها؛ وذلك لأن المُشَبِّهَة يردون عليك بكلامك هذا: "نحن لا نعقل من لغة العرب إلا ما قلنا"، والعرب يحملون الكلام على حقيقته، فما المانع من حمل هذه النصوص على ظواهرها في حقنا، والمجاز إنما يُصار إليه عند الضرورة، ولا ضرورة هنا؟ وأيضًا

_ 1 سورة النساء آية: 65. 2 سورة البقرة آية: 213. 3 سورة البقرة آية: 213. 4 سورة الشعراء آية: 193. 5 سورة الزمر آية: 65. 6 سورة الزخرف آية: 3.

يقولون: من قاعدة المجاز جواز نفيه، ولا يجوز لأحد أن ينفي تلك الصفات عن الله -عز وجل- فيقول: ليس بسميع، ليس بحي، ليس ببصير، ليس بقادر، ليس بمتكلم، ليس بمستوٍ على العرش، فكيف تقولون: إنها من المجاز ومن قاعدة العرب أنهم يجوزون نفي المجاز؟ فإذا قالوا للشجاع: هذا أسد، إذا أرادوا تشبيهه بالأسد في الشجاعة، جوَّزُوا أن ينفى ذلك عنه، ويقال ليس بأسد، بل هذا إنسان ناطق متكلم عاقل. وكذلك إذا قالوا للبليد: حِمار، تشبيها له بالحمار في الجهالة، جوزوا أن ينفي ذلك عنه، فيقال: ليس هذا بحمار، وإنما هو شبه له بالجهل، وأشباه ذلك كثير في كلامهم. وأما إذا قال أهل السنة: إن الله أخبرنا أنه استوى على العرش، ولم يخبرنا بكيفية ذلك، فقلنا بما قال الله، وسكتنا عما سكت الله عنه، وحملنا الاستواء على حقيقته في حق الباريء تعالى، فإذا قيل لنا: كيف استوى؟ قلنا: لم يخبرنا الله بذلك، فهذا معنى قولنا: "بلا كيف"، فأين في هذا ما يخالف لغة العرب؟ وما أحسن ما قال بعض أهل السنة: إذا قال لك الجهمي: كيف استوى؟ أو كيف ينْزل إلى سماء الدنيا؟ أو كيف يداه؟ أو نحو ذلك، فقل له: كيف هو في نفسه؟ فإذا قال: لا يعلم ما هو إلا هو؟ وذات الباريء غير معلومة للبشر، فقل له: فالعلم بكيفية الصفة مستلزم للعلم بكيفية الموصوف، فكيف يمكن أن يعلم كيفيته؟ وإنما تعلم الذات والصفات من حيث الجملة على الوجه الذي ينبغي لذلك الموصوف، بل هذه المخلوقات في الجنة قد ثبت عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أنه: "ليس في الدنيا مما في الجنة إلا الأسماء". وقد أخبر الله -تعالى- أنه: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} 1 الآية، وقال صلى الله عليه وسلم: "يقول الله: أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر"2. فإذا كان نعيم الجنة -وهو خلق من خلق الله- كذلك، فما الظن بالخالق -سبحانه وتعالى-؟ أفلا يعتبر العاقل بهذا عن الكلام في كيفية الله -تعالى-؟ وقد قال -تعالى-: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} 3.

_ 1 سورة السجدة آية: 17. 2 البخاري: بدء الخلق (3244) , ومسلم: الجنة وصفة نعيمها وأهلها (2824) , والترمذي: تفسير القرآن (3197) , وابن ماجه: الزهد (4328) , وأحمد (2/ 313 ,2/ 438 ,2/ 466 ,2/ 495) , والدارمي: الرقاق (2828). 3 سورة الشورى آية: 11.

فصل: مذهب آل البيت في الصفات

وبما ذكرنا يتبين للمنصف اللبيب أن أهل السنة والجماعة هم أسعد الناس بفهم كتاب الله وتعقله وتفهمه وتدبره، وقد هداهم الله لما اختُلف فيه من الحق، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم. [الوجه الثاني: عشر حقيقة الاستواء في لغة العرب] (الوجه الثاني عشر): قوله: (قد صرَّحت بأن قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} 1 دلَّ على الاستواء على العرش كما فهمناه من كلامك وخطابك. ولغة العرب حاكمة بأن حقيقة الاستواء على العرش الجلوس عليه، وهو القعود مع تعطف الرجلين ورجوع بعضها إلى بعض، تعالى الله عن ذلك، فهذا حقيقته عند العرب). فيقال: هذا كذب ظاهر على اللغة العربية، وليس هذا حقيقته عند العرب في حق الباريء -تعالى-، وإذا كان علماء العربية قد بينوا أن الاستواء في حق المخلوق يطلق على معانٍ كثيرة، كالاستيلاء والاستقرار وغير ذلك، فكيف يقول هذا الجاهل: إن لغة العرب حاكمة بأن حقيقة الاستواء على العرش الجلوس عليه، وهو القعود مع تعطف الرجلين ورجوع بعضها على بعض، تعالى الله عن ذلك، فهذا حقيقته عند العرب. ولكن هذا المعترض وشيعته -لظلمة قلوبهم وزيغها عن الحق- لا يفهمون من صفات الله إلا ما يفهمونه من صفات المخلوقين؛ ولذلك زعموا أن ظاهر هذه النصوص الواردة في القرآن والسنة تشبيه وتجسيم وتكييف، وكلامنا في هذا الوجه وما قبله من الوجوه شافٍ كافٍ في نقض كلامه وبيان بطلانه لمن أراد الله هدايته، والله أعلم. فصل [مذهب آل البيت في الصفات] وأما قوله: (فإن قلت: قد أَبَنْت خطأ المجيب وتخليطه، وذكرت في كلامك أن المرجع عند الشبه إلى قرناء كتاب الله -تعالى- أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما تحقيق مذهبهم في الصفات؟ وما أثبت الله -تعالى- لنفسه في صريح الآيات من اليد والاستواء وغيرهما حتى تطمئن القلوب إليه، ويكون المُعَوِّل في الاعتقاد عليه). ثم نقل عن

_ 1 سورة طه آية: 5.

محمد بن عز الدين المفتي في كتاب "البدر الساري شرح: واسطة الدراري، في توحيد الباري" من نحو قادر وعالم وموجود وقديم وحي ... إلى آخر كلامه، وكذلك ما ذكره عن "عقد النظام" وغيره. ثم قال: "ولو اتسع المقام، لذكرنا أقوال علماء الآل -عليهم السلام- قولا قولا، والوجه على ما ذهبوا إليه، هو أنهم اطلعوا على حقيقة ما هو قرينهم كتاب الله -تعالى- الذين هم تراجمته، وفهموه بفهم جدهم صلى الله عليه وسلم حيث قال: "فهمهم فهمي". (فالجواب) أن يقال: (أولا): نطالبك بصحة هذا عن زين العابدين رضي الله عنه. ويقال: (ثانيا): مَنْ رواه مِنْ الأئمة المعروفين بالعلم ومعرفة الحديث: كالإمام أحمد ومالك بن أنس، والشافعي والزهري، والحسن بن أبي الحسن البصري، وسعيد بن المسيب وقتادة، وأمثال هؤلاء الذين اشتهر عند الأمة أنهم أهل صدق فيما نقلوه عن أهل البيت وغيرهم. ومجرد نقل من ذكرت عنه لا يوجب صحة النقل عنه بذلك، وهؤلاء الذين ذكرت أنهم نقلوا ذلك عنه لا يُعرفون عند أهل العلم بصدق ولا أمانة ولا ديانة، كما يعرف أئمة أهل البيت: مثل زين العابدين، وابنه زيد بن علي، وأشباههم رضي الله عنهم. ويقال: (ثالثا): قد نقل عن أهل البيت ما يخالف ما نقلته عمن ذكرت، فمن ذلك ما نقل البغوي في تفسيره المشهور، قال فيه: قال ابن عباس رضي الله عنه وأكثر المفسرين من السلف: "استوى إلى السماء: ارتفع إلى السماء". وكذلك قال الخليل بن أحمد، وهو من أئمة اللغة المشهورين. وروى البيهقي بإسناده قال الفراء: "استوى إلى السماء أي: صعد. " قاله ابن عباس. والتفاسير المأثورة عن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين مثل: تفسير محمد بن جرير الطبري، وتفسير عبد الرحمن بن إبراهيم المعروف بدحيم، وتفسير عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي، وتفسير ابن المنذر، وتفسير أبي بكر عبد العزيز وتفسير أبي الشيخ

فصل: مذهب السلف والخلف في الصفات، وجهل المعترض ذلك

الأصبهاني، وتفسير أبي بكر بن مردويه، وما قبل هؤلاء من التفاسير، مثل: تفسير الإمام أحمد بن حنبل، وإسحاق بن إبراهيم، وبقي بن مخلد، ومن قبلهم، مثل: تفسير عبد بن حميد، وتفسير سنيد، وتفسير عبد الرازق، ووكيع بن الجراح، فيها من هذا الباب الموافق لقول أهل السنة والجماعة ما لا يحصى، فمن أراد ذلك فليطالع في تلك الكتب. وهؤلاء الأئمة هم الذين يعرفون مذهب أهل البيت، ويميزون بين صحيح القول من ذلك والمكذوب منه، وهم المتبعون لأهل البيت حقا؛ وبهذا تبين بطلان قول المعترض. فصل [مذهب السلف والخلف في الصفات، وجهل المعترض ذلك] وأما قوله في الكلام على الاستواء: (وقوله: قال الإمام الأعظم القاسم بن محمد في كتابه "الأساس": جمهور أئمتنا أن العرش عبارة عن عز الله وملكه ... إلى آخره) قال في شرحه: اعلم أن تأويل الاستواء على العرش متفق عليه إلا عند مثل ابن عربي والمُجَسِّمَةِ، ثم ذكر الحامل له على التأويل). (فالجواب) أن يقال: هذا يدل على جهل المعترض، وأنه لا يعرف المذاهب في هذه المسألة، وجهل من نقل عنه ذلك؛ فإن مذهب أهل السنة في هذه المسألة من التابعين وأتباعهم، والأئمة الأربعة وأصحابهم، أمر مشهور معلوم عند من له أدنى معرفة بمذاهب الناس، حتى المُأَوِّلَة من المعتزلة والأشعرية وغيرهم يقرون بذلك إذا ذكروا آيات الصفات، وأحاديثها في تفاسيرهم، وعقائدهم يقولون: فيها مذهبان: مذهب السلف، وهو إمرارها كما جاءت مع اعتقاد أنها صفات لله، لا تشبه صفات المخلوقين. وقالوا ذلك أسلم، (والثاني) مذهب الخلف: وهو تأويلها وصرفها عن ظاهرها كتأويل الاستواء بالاستيلاء، واليد بالقدرة والنعمة، وأشباه ذلك. وقد نقل مذهب السلف في هذه المسألة -كما ذكرنا- غير واحد من الأئمة: كحرب الكرماني صاحب الإمام

نقول مصنفي السلف في مذهب أهل السنة في صفات الله تعالى

أحمد في "مسائله"، والإمام البخاري صاحب "الصحيح" في كتاب خلق أفعال العباد، والخلال في كتاب "السنة"، وأبي عثمان إسماعيل الصابوني، وعثمان بن سعيد الدارمي الذي هو من أقران البخاري ومسلم، وذكروا مذهب التأويل عن جهم بن صفوان، وبشر المريسي، وأشباههم ممن هو معروف بالبدعة والضلالة، وهذا نص كلامهم بحروفه: {نُقُول مصنفي السلف في مذهب أهل السنة في صفات الله تعالى} قال أبو محمد حرب الكرماني في مسائله المعروفة التي نقلها عن الإمام أحمد وإسحاق وغيرهما، وذكر من الآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وغيرهم ما ذكر، وهو كتاب كبير صنفه على طريقة "الموطأ" ونحوه من المصنفات. قال في آخره في الباب الجامع: قول الإمام الكرماني في مذهب السلف: (باب القول في المذهب): هذا مذهب أئمة العلم، وأصحاب الأثر، وأهل السنة المعروفين بها، المقتدى بهم فيها، وأدركت من أدركت من علماء أهل الشام والعراق والحجاز وغيرهم عليها، فمن خالف شيئا منها، أو طعن فيها، أو عاب قائلها، فهو مبتدع خارج من الجماعة، وزائل عن منهج السنة وسبيل الحق. وهو مذهب أحمد، وإسحاق بن إبراهيم، وبقي ابن مخلد، وعبد الله بن الزبير الحميدي، وسعيد بن منصور وغيرهم ممن جالسنا، وأخذنا عنهم العلم، وذكر الإيمان في القدر والوعد والوعيد والإمامة، وما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم من أشراط الساعة، وغير ذلك ... إلى أن قال: "وهو سبحانه بائن عن خلقه، لا يخلو من علمه مكان". ولله عرش، وللعرش حملة يحملونه، وله حد، والله أعلم بحده، والله على عرشه -عَزَّ ذِكره وتعالى جده، ولا إله غيره-. والله سبحانه سميع لا يشك، بصير لا يرتاب، عليم لا يجهل، جواد لا يبخل، حليم لا يعجل، حفيظ لا ينسى، رقيب لا يغفل، يتكلم ويتحرك 1 ويسمع

_ 1 يعني بالتحرك: ما ورد في مجيئه وإتيانه، وهو في القرآن، ومن نزوله إلى سماء الدنيا في الحديث، ولكن لفظ التحرك لا نعرفه في الكتاب والسنة ولا آثار الصحابة.

ويبصر وينظر، ويقبض ويبسط ويعرج، ويحب ويكره، ويبغض ويرضى، ويسخط ويغضب، ويرحم ويعفو ويغفر، ويعطي ويمنع، وينْزل كل ليلة إلى سماء الدنيا كيف شاء، وكما شاء {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} 1 إلى أن قال: ولم يزل الله متكلما عالما، فتبارك الله أحسن الخالقين". قول الإمام الأثرم في مذهب السلف: وقال الفقيه الحافظ أبو بكر الأثرم صاحب الإمام أحمد في كتاب "السنة"، وقد نقله عنه الخلال في "السنة": حدثنا إبراهيم بن الحارث -يعني: العبادي- حدثني الليث بن يحيى، سمعت إبراهيم بن الأشعث: قال أبو بكر صاحب الفضيل: سمعت الفضيل ابن عياض يقول: "ليس لنا أن نتوهم في الله كيف وكيف، لأن الله وصف نفسه فأبلغ، فقال: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} 2. فلا صفة أبلغ مما وصف به نفسه، وكل هذا النُزول، وهذه المباهاة، وهذا الاطلاع، كما شاء أن ينْزل، وكما شاء أن يباهي، وكما شاء أن يطلع، وكما شاء أن يضحك. فليس لنا أن نتوهم كيف وكيف، وإذا قال لك الجهمي: أنا كافر برب يتحرك، أو يزول عن مكانه. فقل: أنا مؤمن برب يفعل ما يشاء. وقد ذكر هذا الكلام الأخير عن الفضيل بن عياض -رحمه الله- البخاري -رحمه الله- في كتاب "خلق أفعال العباد"، هو وغيره من أئمة أهل السنة، وتلقوه بالقبول، قال البخاري: وحدث يزيد بن هارون عن الجهمية فقال: "من زعم أن {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} 3 على خلاف ما يقر في قلوب العامة، فهو جهمي". قول إسحاق بن إبراهيم في كتاب "السنة": وقال إسحاق بن إبراهيم في كتاب السنة: أخبرني عبيد الله بن حنبل أخبرني أبي حنبل بن إسحاق قال: قال عمي أحمد بن حنبل: "نحن نؤمن بأن الله على العرش كيف شاء بلا حد، ولا صفة يبلغها واصف، أو يحده أحد، فصفات الله له ومنه، وهو

_ 1 سورة الشورى آية: 11. 2 سورة الإخلاص آية:1: 4. 3 سورة طه آية: 5.

كما وصف نفسه، لا تدركه الأبصار بحد ولا غاية، وهو يدرك الأبصار، وهو عالم الغيب والشهادة، وعلام الغيوب، ولا يدركه وصف واصف، وهو كما وصف نفسه. وليس من الله شيء محدود، ولا يبلغ علم قدرته أحد، غلب الأشياء كلها بقدرته وسلطانه {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} 1، وكان الله قبل أن يكون شيء. والله هو الأول والآخر لا يبلغ أحد حَدَّ صفاته". قال: وأخبرني علي بن عيسى أن حنبلا حدثهم، قال: سألت أبا عبد الله عن الأحاديث التي تروى "أن الله -تبارك وتعالى- ينْزل كل ليلة إلى سماء الدنيا"، و"أن الله يُرَى"، و"أن الله يضع قدمه"، وما أشبه هذه الأحاديث. فقال أبو عبد الله: "نؤمن بها ونصدق بها، ولا كيف ولا معنى" أي: لا نكيفها ولا نحرفها بالتأويل، فنقول: معناها كذا، ولا نرد منها شيئا، ونعلم أن ما جاء به الرسول حق، إذا كان بأسانيد صحاح، ولا نرد على الله قوله، ولا يوصف الله بأكثر مما وصف به نفسه بلا حد ولا غاية {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} 2. وقال حنبل في موضع آخر، عن أحمد، قال: "ليس كمثله شيء في ذاته كما وصف به نفسه، وقد أجمل -تبارك وتعالى- بالصفة لنفسه، فحد لنفسه صفة ليس يشبهه شيء، فصفاته غير محدودة ولا معلومة إلا بما وصف نفسه. قال: فهو سميع بصير بلا حد، ونؤمن بالقرآن كله محكمه ومتشابهه، ولا نزيل عنه صفات من صفاته لشناعة شنعت، لا نتعدى القرآن والحديث، والخبر. "يضحك الله" ولا يُعْلَمُ كيف ذلك إلا بتصديق الرسول صلى الله عليه وسلم. لا يصفه الواصفون، ولا يحده أحد. تعالى الله عما يقول الجهمية والمُشَبِّهَةُ". قلت: والمُشَبِّهَةُ ما يقولون؟ قال: "مَنْ قال بصر كبصري، ويد كيدي، وقدم كقدمي. فقد شبه الله بخلقه، وهذا يحده، وهذا كلام سوء، وهذا محدود، والكلام في هذا لا أحبه". انتهى.

_ 1 سورة الشورى آية: 11. 2 سورة الشورى آية: 11.

والكتب الموجودة فيها ألفاظهم الثابتة بأسانيدها عنهم، وغير أسانيدها كثير، مثل: كتاب "الرد على الجهمية" لابن أبي حاتم، والرد عليهم لمحمد بن عبد الله الجعفي شيخ البخاري، والرد عليهم للحكم بن معبد الخزاعي، وكتاب "السنة" لعبد الله بن أحمد بن حنبل، و"السنة" لحنبل ابن عم الإمام أحمد، و"السنة" لأبي داود السجستاني، و"السنة" للأثرم، و"السنة" لأبي بكر الخلال، و"الرد على الجهمية" للدارمي، ونقضه على "الكاذب العنيد فيما افترى على الله في التوحيد". وكتاب "التوحيد" لابن خزيمة، و"السنة" للطبراني ولأبي الشيخ الأصبهاني، و"شرح السنة" للالكائي، و"الإبانة" لابن بطة، وكتب ابن منده، و"السنة" لأبي ذر الهروي، و"الأسماء والصفات للبيهقي"، و"الأصول" لأبي عمر الطلمنكي، وكتاب "الفاروق" لأبي إسماعيل الأنصاري، و"الحجة" لأبي القاسم التيمي، وغير ذلك من الكتب التي يذكر مصنفوها مذاهب السلف بالنقول الثابتة بألفاظهم الكثيرة المتواترة في إثبات علو الله على خلقه، واستوائه على عرشه تبارك وتعالى. فكيف يقول هذا الجاهل: "إن تأويل الاستواء متفق عليه إلا عند ابن عربي والمجسمة؟ اللهم إلا أن يريد بالمجسمة أهل السنة والحديث: كالصحابة والتابعين، والأئمة الأربعة وأتباعهم من أهل الحديث وغيرهم كما يلقبهم بذلك الجهمية والمعتزلة؛ فإنهم يسمون كل من أثبت صفات الله مُجَسِّمًا. وأما ابن عربي وأمثاله من أهل وحدة الوجود، فهم من غُلاة الجهمية، وإنما حملهم على ذلك المبالغة في إنكار الصفات؛ وذلك أن الجهمية لما أنكروا أن يكون الله تكلم بالقرآن، قالوا: "إن الله خلقه، وأحدثه في بعض الأجسام، فنسبة ذلك إلى الله مجاز، فلزم أن يكون كلام جميع الخلق كلام الله؛ لأنه خلق ذلك فيهم". ولهذا قال ابن عربي: وكل كلام في الوجود كلامه ... سواء علينا نثره نظامه ومعلوم أن من خالف ما جاءت به الرسل عن الله بمجرد عقله، فهو أولى بالكفر والجهل والتشبيه، والتجسيم ممن لم يخالف ما جاءت به الرسل، وإنما خالف

فصل: في إبطال تأويل الاستواء بالاستيلاء

ما علم بالعقل؛ إن كان ذلك حقا، كما قال بعض نُفَاةِ الصفات لما تأمل أحوال أصحابه، وحال مثبتيها، قال: لا ريب أن حال هؤلاء عند الله خير من حالنا؛ فإنهم إن كانوا مصيبين نالوا الدرجات العالية، والرضوان الأكبر، وإن كانوا مخطئين، فإنهم يقولون: يا ربّ نحن صدقنا ما دل عليه كتابك وسنة رسولك، إذ لم يتبين لنا بالكتاب والسنة نفي الصفات كما دل كلامك على إثباتها. فنحن أثبتنا ما دل عليه كلامك، وكلام رسولك محمد صلى الله عليه وسلم، فإن كان الحق بخلاف ذلك، فلم يبين لنا الرسول صلى الله عليه وسلم ما يخالف ذلك، ولم يكن خلاف ذلك مما يعلم ببدائه العقول، بل إن قُدِّرَ أنه حق، فإنما يعلمه الأفراد، فكيف والمخالفون في ذلك يقرون بالحيرة والارتياب. قال النافي: فإن كنا نحن المصيبين، فإنه يقال لنا: أنتم قلتم شيئا لم آمركم بقوله، وطلبتم علما لم آمركم بطلبه، فالثواب إنما يكون لأهل الطاعة، وأنتم لم تمتثلوا أمري. قال: وإن كنا مخطئين فقد خسرنا خسرانا مبينا. فصل [في إبطال تأويل الاستواء بالاستيلاء] وأما قوله في تأويل الاستواء بالاستيلاء، ويساعده من كلام العرب ما نقله الغزالي من قول الشاعر: قد استوى عمرو على العراق ... من غير سيف أو دم مهراق (فالجواب) أن يقال: أنت قد نقضت كلامك المتقدم، وقولك: ولغة العرب حاكمة بأن حقيقة الاستواء على العرش: الجلوس عليه، وهو القعود مع تعطف الرجلين ورجوع بعضها على بعض. وبيان ذلك أن الشاعر أخبر أن عمرًا استوى على العراق أي: ملَكه، فتقول: إن معناه جلس على العراق كله، وعطف رجليه على جميعه! فإن قلت هذا، فهذا مكابرة، وإن قلت: إن المعنى باستواء عمرو على العراق: ملكه، فقد نقضت ما أَصّلتَه، وهدمت ما قررته، فأعجب لِبَانٍ يُخَرِّبُ ما بَنَى. ولم تعلم

بجهلك بلغة العرب، وما يجوز على الله، وما يمتنع عليه أن ذلك لا يجوز في حقه -تبارك وتعالى-، وذلك أن الله -تعالى- مُسْتَوْلٍ على الكونيْن والجنة والنار وأهلها. فأيّ فائدة في تخصيص العرش؟ وأيضًا الاستيلاء يكون بعد قهر وغلبة، والله تعالى منَزه عن ذلك. وقد أخرج اللالكائي في "السنة" عن ابن الأعرابي -وهو من أكابر أئمة اللغة- أنه سئل عن معنى: {اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} 1 فقال: هو على عرشه كما أخبر، فقيل: يا أبا عبد الله، معناه استولى؟ فقال: اسكت. لا يقال: استولى على الشيء إلا إذا كان له مضادٌّ، فإذا غلب أحدهما. قيل: استولى. وقد ذكر غير واحد من أهل العلم أن الاستواء في لغة العرب يطلق على معانٍ متعددة: (أحدها): بمعنى الاستقرار، كقوله: {وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ} 2. (ثانيها): بمعنى الاستيلاء، ومنه قول الشاعر: فلما علونا واستوينا عليهم ... تركناهم صرعى لنسر وكاسر (وثالثها): القصد والإقبال على الشيء، كقول القائل: "كان الأمير يدبر أمر الشام، ثم استوى إلى أهل الحجاز". أي: تحول فعله وتدبيره إليهم. (رابعها): أنه بمعنى التمام والكمال، كقوله -تعالى-: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى} 3 أي: كمل عقله. فتبين بذلك كذب هذا المفتري وجهله بلغة العرب، وما أحسن ما قال بعضهم: "أكثر ما يفسد الناس نصف متكلم، ونصف متفقه، ونصف متطبب، ونصف نحوي. هذا يفسد الأديان، وهذا يفسد البلدان، وهذا يفسد الأبدان وهذا يفسد اللسان".

_ 1 سورة الأعراف آية: 54. 2 سورة هود آية: 44. 3 سورة القصص آية: 14.

فصل: نقض حجة الزيدي من كلام من احتج بهم

فصل [نقض حجة الزيدي من كلام من احتج بهم] أما قوله: (وقد ذكر القاضي العلامة إسحاق بن محمد العبدي -رحمه الله- في كتاب "الاحتراس" بعد أن طوَّل بما يشفي الصدور في تقرير حجة المأولين للعرش بالعز، والملك والاستواء بالاستيلاء والقهر. ولكنه كلام طويل تضيق عنه هذه الرسالة، فاقتصرنا على آخر كلامه، قال ما لفظه: "إذا استبان لك ما أشرنا إليه، فأمر الاختيار مفوض إليك. فأما جمهور العدلية من المعتزلة وغيرهم، فقد جنحوا إلى التأويل، ورأوا أن ذلك أوفق وأليق لمن يرد إلى سواء السبيل. وأما المحافظون على بقاء الظواهر، وكذلك التاركون للتفصيل والتأويل، فقد ظنوا أن في ذلك نوعا من التعطيل، وما التفتوا إلى التأويل، وما يرفع الشبه لا بد منه عند الفريقين، إما في نفس العرش، أو الاستواء عليه، وإما أن يكون التأويل تفصيليا أو إجماليا، وإذا كان لا بد من التأويل، فالتأويل بما يرفع مطالبة الوهم بالكيف، ويقطع مادة تلفته إلى إدراك تلك الحقيقة أحق وأوفق وأليق. وقد كشفت لك الغطاء في التعيين والتوقف والتأويل، وأنت بعد ذلك مخير على أي جانبيك تميل، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل"). (فالجواب) أن يقال: هذا الذي نقلته من هذا الكلام، قد نقض عليك ما نقلته قبل ذلك بأسطر يسيرة من أن تأويل الاستواء على العرش متفق عليه، إلا عند مثل ابن عربي والمجسمة، وذلك أنه ذكر في كلامه الأقوال في المسألة. فذكر أن جمهور العدلية من المعتزلة وغيرهم يميلون إلى التأويل. فكلامه يدل على أن بعض المعتزلة يميل إلى القول المقابل لقول أهل التأويل؛ ولهذا قال: وأما المحافظون على بقاء الظواهر، وكذا التاركون للتفصيل والتأويل، فقد ظنوا أن في ذلك نوعا من التعطيل. ثم إنه خيَّر الناظر في كلامه على أي وجه يميل إليه من تلك الأقوال، وإن كان القول الأول هو الأوفق والأليق والراجح عنده. فلو أن هذا المعترض

قال مثل مقالة هذا الرجل لكان أليق به وأوفق. وأما ما ذكره من كلام الزمخشري وغيره من أئمة المعتزلة. فكلامهم في نفي الصفات، والقول بخلق القرآن مشهور معروف، وليسوا من أئمة العلم والدين المقتدى بهم، بل هم من أئمة البدع والضلال؛ ولهذا نقل عن بشر بن غياث المريسي حديثا عن ابن عباس رضي الله عنهما. فإذا كان رجاله الذين ينقل عنهم كلام أهل البيت مثل بشر بن غياث المريسي، وأضرابه الذين كفرهم أهل العلم، وبَدَّعُوهم، واشتهروا بينهم بالزندقة والكفر والكذب، تبين لك أن عامة ما ينقله هذا وأشباهه عن أهل البيت كذب وافتراء عليهم. نسأل الله أن ينتقم لأهل البيت ممن كذب عليهم وأبغضهم، وقد قال البخاري -رحمه الله- في كتاب "خلق أفعال العباد": حدثني أبو جعفر، حدثني أحمد بن خالد الخلال، قال: سمعت يزيد بن هارون ذكر أبا بكر الأصم وبشر المريسي، فقال: "هما والله زنديقان، كافران بالرحمن، حلالا الدم". وقال الخطيب في تاريخه المشهور: "وبشر بن غياث من أصحاب الرأي، أخذ الفقه من أبي يوسف القاضي، إلا أنه اشتغل بالكلام، وجرد القول بخلق القرآن، وحكى عنه أقوالا شنيعة، ومذاهب مستنكرة، أساء أهل العلم قولهم فيه بسببها، وكفره أكثرهم لأجلها". ثم ذكر الخطيب كلام أهل العلم في تكفيره، والأمر بقتله. وقد صنف علماء السنة مصنفات كثيرة في الرد على بشر المريسي، ونحوه من أئمة الجهمية والمعتزلة. فمن ذلك ما صنفه أبو سعيد عثمان بن سعيد الدارمي الإمام المشهور من طبقة البخاري، ومسلم، والترمذي، وأبي داود، وطبقتهم، وسماه "نقض عثمان بن سعيد، على المريسي الجهمي العنيد، فيما افترى على الله في التوحيد" قال فيه: "وقد اتفقت الكلمة من المسلمين، والكافرين أن الله في السماء، إلا المريسي الضال وأصحابه، حتى الصبيان الذين لم يبلغوا الحنث، قد عرفوه بذلك: إذا ضرب الصبي رفع يده إلى السماء يدعو ربه، وكلامه بالله وبمكانه أعلم من الجهمية"، حدثنا

أحمد بن منيع، حدثنا معاوية، عن شبيب بن شيبة، عن عمران بن حصين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبيه: "يا حصين كم تعبد اليوم؟ قال: سبعة: ستة في الأرض، وواحدا في السماء. قال: فأيهم تعد لرغبتك ورهبتك؟ قال: الذي في السماء"1 فلم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم على الكافر إذ عرف أن إله العالمين في السماء. فحصين الخزاعي في كفره يومئذ كان أعلم بالله الجليل من بشر المريسي وأصحابه مع ما ينتحلون من الإسلام، إذ ميز بين الإله الخالق الذي في السماء، وبين الآلهة والأصنام المخلوقة في الأرض. (قال): وادعى المعارض -أيضًا- أن قول النبي صلى الله عليه وسلم "إن الله ينْزل إلى سماء الدنيا حين يمضي ثلث الليل، فيقول: هل من مستغفر؟ هل من داع؟ هل من تائب؟ "2 فادعى أن الله لا ينزل بنفسه، إنما ينْزل أمره ورحمته، وهو على العرش، وبكل مكان من غير زوال؛ لأنه الحي القيوم، والقيوم بزعمه لا يزول. (قال): فيقال لهذا المعارض: وهذا أيضا من حجج النساء والصبيان، ومن ليس عنده بيان، ولا لمذهبه برهان؛ لأن أمر الله ورحمته ينزلان في كل ساعة ووقت وأوان، فما بال النبي صلى الله عليه وسلم يحد لنُزوله الليل دون النهار؟ ويوقت من الليل شطره أو الأسحار؟ فأمره ورحمته يدعوان العباد إلى الاستغفار؟ أَو يَقْدِرُ الأمر والرحمة أن يتكلما دونه فيقولان: هل من داع فأجيب؟ هل من مستغفر فأغفر؟ هل من سائل فأعطي؟ فإن قررت مذهبك لزمك أن تدعي أن الرحمة والأمر هما اللذان يدعوان إلى الإجابة والاستغفار بكلامهما دون الله. وهذا محال عند السفهاء، فكيف عند الفقهاء؟! وقد علمتم ذلك، ولكن تكابرون، وما بال رحمته وأمره ينْزلان من عنده شطرا من الليل، ثم لا يمكثان إلا إلى طلوع الفجر، ثم يرفعان؟ لأن رفاعة يرويه في حديثه حتى ينفجر الفجر، وقد علمتم -إن شاء الله- أن هذا التأويل أبطل باطل، ولا يقبله إلا كل جاهل.

_ 1 الترمذي: الدعوات (3483). 2 مسلم: صلاة المسافرين وقصرها (758) , وأحمد (2/ 433 ,3/ 43 ,3/ 94).

وأما دعواك أن تفسير الحي القيوم: الذي لا يزول عن مكانه، ولا يتحرك، فلا يقبل هذا التفسير إلا بأثر صحيح مأثور عن رسول -الله صلى الله عليه وسلم- أو عن بعض أصحابه أو التابعين؛ لأن الحي القيوم يفعل ما يشاء، ويتحرك إذا شاء، ويهبط ويرتفع إذا شاء، ويقبض ويبسط إذا شاء، ويجلس إذا شاء؛ لأن أمارة ما بين الحي والميت التحرك، فكل حي متحرك لا محالة. ومن يلتفت إلى تفسيرك وتفسير صاحبك مع تفسير نبي الرحمة ورسول رب العزة إذ فسر نزوله مشروحا منصوصا، ووَقّتَ لنُزوله وقتا مخصوصا، لم يدع لك ولا لأصحابك فيه لبسا. (قال): ثم أجمل المُعارض جميع ما تنكره الجهمية من صفات الله -تعالى- وذاته المسماة في كتابه، وفي آثار رسوله صلى الله عليه وسلم، فعد منها بضعة وثلاثين صفة نسقا، وأخذ يحكم عليها، ويفسرها بما حكم به المريسي، وفسرها وتأولها حرفا حرفا، معتمدا فيها على تفسير الزائغ الجهمي بشر بن غياث المريسي، متسترا عند الجهال بالتشنيع على قوم يؤمنون بها، ويصدقون الله ورسوله فيها بغير تكييف ولا تمثيل. فزعم أن هؤلاء مؤمنين بها يكيفونها، ويشبهونها بذوات أنفسهم، وأن العلماء -بزعمه- قالوا: ليس في شيء منها اجتهاد رأي ليدرك كيفية ذلك، أو يشبه شيئا منها بشيء مما هو للخلق موجود. قال: وهنا خطأ، كما أن الله ليس كمثله شيء، فكذلك ليس ككيفيته شيء. قال أبو سعيد: فقلنا لهذا المعارض المشنع: أما قولك: إن كيفية هذه الصفات، وتشبيهها بما هو في الخلق خطأ. فإنا لا نقول: إنه خطأ كما قلت، بل هو عندنا كفر، ونحن بكيفيتها، وتشبيهها بما هو في الخلق موجود أشد اتقاء منكم، غير أنا كما أنا لا نشبهها ولا نكيفها، ولا نكفر بها ولا نكذب بها، ولا نبطلها بتأويل الضلال كما أبطلها إمامك المريسي في أماكن من كتابك. وأما ما ذكرت من اجتهاد الرأي في تكييف صفات الله. فإنا لا نجيز اجتهاد الرأي في كثير من الفرائض والأحكام التي نراها بأعيننا، ونسمعها في آذاننا، فكيف في صفات الله التي لم ترها العيون، وقصرت عنها الظنون؟ غير أنا

لا نقول فيها كما قال إمامك المريسي: إن هذه الصفات كلها كشيء واحد، وليس السمع منه غير البصر، ولا الوجه منه غير اليد، ولا اليد منه غير النفس، وأن الرحمن ليس يعرف -زعمكم- لنفسه سمعا من بصر، ولا وجها من يدين، ولابصرا من سمع، هو كله -بزعمكم- سمع وبصر، ووجه ويد، ونفس وعلم، ومشيئة وإرادة، مثل الأرضين والسماء والجبال والتلال والهواء التي لا يعرف لشيء منها شيء من هذه الصفات والذوات. والله تعالى عندنا متعال أن يكون كذلك، فقد ميز الله في كتابه السمع من البصر، فقال: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} 1، وقال: {إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ} 2، وقال: {وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ} 3، ففرق بين الكلام والنظر دون السمع، فقال عند السماع: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا} 4 إلى قوله: {إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} 5، وقال -تعالى-: {لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ} 6، ولم يقل: قد رأى الله، وقال في موضع الرؤية: {الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ (وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ} 7، وقال: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ} 8، ولم يقل: سمع الله تقلبك، وسمع عملكم. فلم يذكر الرؤية فيما يسمع، ولا السماع فيما يرى، كما أنهما عنده خلاف ما عندكم. وكذلك قال الله -تعالى-: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} 9، وقال: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} 10 ولم يقل لشيء من ذلك: على سمعي. فكما أنا لا نكيف هذه الصفات، لا نكذب بها كتكذيبكم، ولا نفسرها كباطل تفسيركم. انتهى. فتأمل -رحمك الله- كلام هذا الإمام بعين البصيرة يتبين لك بطلان كلام هذا المعترض، وكذبه على أهل البيت، وأنه هو وشيعته من أبعد الناس عن اتباعهم، وإنما يتبعون أعداء الملة الإسلامية والطريقة المحمدية، كجهم والمريسي وأحزابهما من أهل البدع والضلال، والله أعلم.

_ 1 سورة طه آية: 46. 2 سورة الشعراء آية: 15. 3 سورة آل عمران آية: 77. 4 سورة المجادلة آية: 1. 5 سورة المجادلة آية: 1. 6 سورة آل عمران آية: 181. 7 سورة الشعراء آية:218، 219. 8 سورة التوبة آية: 105. 9 سورة القمر آية: 14. 10 سورة طه آية: 39.

فصل: اختلاف أهل البيت في الصفات وغيرها كغيرهم

فصل [اختلاف أهل البيت في الصفات وغيرها كغيرهم] قال المعترض: (فإن قلت: أنت تروي إجماع أهل البيت في هذه المسائل، وقد عرفت تفرقهم في المذاهب: فمنهم الأشعري، والحنبلي وغير ذلك. قلت: أجل، ولكن لم يحدث التفرق إلا بعد انعقاد إجماع الآل في العصور المتقدمة، ولا يضر ذلك التفرق بعد وشب فروخ من ذكر عن منهج أهل البيت الأولين نشأتهم بين من لم يعرف أهل البيت ولا كتبهم فأخذوا عن العلماء ... إلى آخره). (فالجواب) أن يقال: قد نقضت بكلامك هذا الأصل الذي أصلته، وهو أن جميع أهل البيت لا يخالفون كتاب الله، وأنهم العصمة، وباب حطة، وجميع دلائلك التي استدللت بها من الآيات والأحاديث ينازعك خصومك في دلالتها على ما أردت، وقد تقدم جواب ذلك مبينا. وهذا على التقدير والتّنَزّل؛ وإلا فأكثر هذه الأحاديث التي رويتها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد طعن فيها أهل العلم بالإخبار، وبينوا أنها من وضع الكذابين على رسول الله صلى الله عليه وسلم. فإذا كنت قد أقررت أن أهل البيت في هذا الزمان وقبله بأزمنة متطاولة قد افترقوا وصار بعضهم مع خصومكم. فكذلك أهل البيت في العصر الأول، ودعواك إجماعهم كذب ظاهر. وهذه نصوص أهل البيت، قد نقلناها لك فيما تقدم من الرد عليك. وهذا ابن عباس -رضي الله عنهما- من أكابر علماء أهل البيت، وقد فسر الاستواء في حقه -تبارك وتعالى- بالاستقرار، كما حكى ذلك مقاتل والكلبي عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "استوى بمعنى استقر". وقد ذكر الطبرسي، وهو من أئمة الشيعة في كتاب "مجمع البيان بعلوم القرآن" في تفسير قوله: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ} 1 فقال ما لفظه: اختلف فيه على أقوال: (أحدها): وسع علمه السماوات والأرض. عن ابن عباس ومجاهد،

_ 1 سورة البقرة آية: 255.

فصل: ما قيل في إسرار النبي إلى بعض أزواجه حديثا

وهو المروي عن أبي جعفر، وأبي عبد الله، ويقال للعلماء: "كراسي"، كما يقال لهم: "الأوتاد"؛ لأن بهم قوام الدين والدنيا. (وثانيها): أن الكرسي ههنا: هو العرش. عن الحسن: وإنما سمي كرسيا لتركيب بعضه على بعض. (وثالثها): أن المراد بالكرسي ههنا الملك والسلطان والقدرة. (ورابعها): أن الكرسي سرير دون العرش. وقد روي ذلك عن أبي عبد الله، وقريب منه ما روي عن عطاء، أنه قال: "ما السماوات والأرض عند الكرسي إلا كحلقة في فلاة". ومنهم من قال: إن السماوات والأرض جميعا على الكرسي، والكرسي تحت العرش، والعرش فوق السماوات. وروى الأصبغ بن نباتة أن عليا -رضي الله عنه- قال: "السماوات والأرض وما فيهما من مخلوق في جوف الكرسي، وله أربعة أملاك يحملونه بإذن الله تعالى" انتهى. وهذا يبين كذب هذا المعترض على أهل البيت في دعوى الاتفاق منهم في هذه المسائل. فصل [ما قيل في إسرار النبي إلى بعض أزواجه حديثا] وأما قوله في الاعتراض على قول المجيب في قوله: {وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا} 1، ثم ذكر أن مراد السائل من ذلك استظهار ما عند المسؤول، هل يقدم أبا بكر -رضي الله عنه- على علي -رضي الله عنه- في الخلافة أم العكس؟ وأن المجيب أتى بما يعهده من تفسير الآية، فأعرض عن غرض السائل وقصده. ثم إنه قد اطلع على روايات مسندة أن الحديث الذي أسره رسول الله صلى الله عليه وسلم هي خلافة علي على الأمة، وتقديمه على أبي بكر رضي الله عنه. ثم قال المعترض: وأنا أقول: يُنظر في تصحيح هذه الروايات، وإذا صحت فما فائدة الإسرار بولاية علي رضي الله عنه؟ (فالجواب) أن يقال: هذا المعترض قد كفانا المؤنة في رد هذه الروايات الباطلة، وذكر أنها إذا صحت فما فائدة الإسرار بولاية علي -رضي الله عنه-، وذلك

_ 1 سورة التحريم آية: 3.

فصل: رأي الزيدية في الإمامة وغلو الإمامية والباطنية

أن الأمر إذا صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه فعله أو أمر به، لا يقال فيه: فما فائدة الإسرار بذلك؟ بل إذا صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل شيئا أو أمر به، فلا يفعله ولا يأمر به إلا لما فيه من الفائدة العظيمة، والمصلحة العميمة، ولا يقول مثل هذا الكلام إلا من هو من أجهل الجاهلين، وأبطل المبطلين. كيف يجوز عند من له أدنى مسكة من العقل والدين أن يصح عنده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل شيئا أو أمر به، ولا يكون في ذلك فائدة أصلا؟ ولكن هذا شأن أهل البدع والضلال، لا يقدرون رسول الله صلى الله عليه وسلم حق قدره، نعوذ بالله من موجبات غضبه، وأليم عقابه. فصل [رأي الزيدية في الإمامة وغلو الإمامية والباطنية] زعم الزيدية أن النبي صلى الله عليه وسلم نص على تقديم علي في الخلافة وأما قوله: (وقد علمنا بالتواتر المعنوي من السنة أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أعلن وأنذر وأفصح وأكثر في تقديم علي رضي الله عنه على غيره من الصحابة -رضي الله عنهم- في الولاية، ولكن أهل البيت بعد علمهم بتقديم علي، لم يخوضوا في جانب من تقدم إلا كخوضه رضي الله عنه من إبانة الحق للأمة، وأنه الأقدم. والتوجع فقط في مواطن، خروجا منه عن التلبيس والمداهنة في الدين، إذ الحق لله -تعالى- فإذا هو رضي الله عنه قد فرض أنه أسقط حقه، وجب عليه إبانة ما هو لله إذ هو المولى له، فلم يسكت، بل أعلن رضي الله عنه بما يجب عليه، وأهل البيت وصفوة شيعته لم يصنعوا إلا كما صنع علي، فلم يغلوا غلو الإمامية ولا الباطنية، نسأل الله السلامة). (فالجواب) من وجوه: (أحدها): أن هذا من أظهر الكذب على الله وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم وعلى علي رضي الله عنه، وقد ثبت في صحيح البخاري وغيره بالأسانيد الثابتة قصة خروج علي والعباس من عند النبي صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي توفي فيه حين قال الناس لعلي: "يا أبا الحسن، كيف أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: أصبح بحمد الله بارئًا. فقال له العباس -رضي الله عنه-: أنت والله بعد ثلاث عبد العصا، إني لأعرف وجوه بني عبد المطلب عند الموت. اذهب بنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم نسأله:

فيمن هذا الأمر فإن كان فينا عرفنا ذلك، وإن كان في غيرنا علمناه، فأوصى بنا. فقال علي رضي الله عنه: إنا والله لئن سألناها رسول الله صلى الله عليه وسلم فمنعناها، لا يعطيناها الناس بعده، وإني والله لا أسألها رسول الله صلى الله عليه وسلم"1 أخرجه البخاري عن إسحاق. أخبرنا بشر بن شعيب بن أبي حمزة، حدثني أبي عن الزهري، أخبرني عبد الله بن كعب بن مالك الأنصاري، وكان كعب أحد الثلاثة الذين تيب عليهم: أن ابن عباس أخبره أن علي بن أبي طالب خرج من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في وجعه الذي توفي منه، وذكر الحديث كنحو ما سقناه. وكل هؤلاء الذين رووا هذا الحديث أئمة مشاهير. (الوجه الثاني): ما أخرجه أحمد والبيهقي بسند حسن، عن علي أنه قال -لما ظهر يوم الجمل-: "أيها الناس، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يعهد إلينا في هذه الإمارة شيئا، حتى رأينا من الرأي أن نستخلف أبا بكر، فأقام واستقام حتى مضى لسبيله، ثم إن أبا بكر رأى من الرأي أن يستخلف عمر، فأقام واستقام، ثم ضرب الدين بِجِرَانِهِ، ثم إن أقواما طلبوا الدنيا، فكانت أمور يقضي الله فيها". (الوجه الثالث): ما روى جمع من أهل الحديث: كالدارقطني وابن عساكر والذهبي وغيرهم: أن عليا أقام بالبصرة حين بايعه الناس، فقام إليه رجلان، فقالا له: أخبرنا عن مسيرك هذا الذي سرت فيه؛ لتستولي على الأمر وعلى الأمة، تضرب بعضها ببعض، أعهد من رسول الله صلى الله عليه وسلم عهده إليك؟ فحدثنا، فأنت الموثوق به، والمأمون على ما سمعت. فقال: "أما أن يكون عندي عهد من رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك، فلا، والله لأن كنت أول من صدق به، فلا أكون أول من كذب عليه، ولو كان عندي منه عهد في ذلك ما تركت أخا بني تيم بن مرة، وعمر بن الخطاب يثبان على منبره، ولقاتلتهما بيدي، ولو لم أجد إلا بردي هذه، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يُقْتَلْ قتلا، ولم يمت فجأة، ومكث في مرضه أياما وليالي يأتيه المؤذن فيؤذنه لصلاة، فيأمر أبا بكر، فيصلي بالناس، وهو يرى مكاني. ولقد أرادت امرأة من

_ 1 البخاري: المغازي (4447) , وأحمد (1/ 263 ,1/ 325).

نسائه تصريفه عن أبي بكر، فأبى وغضب، وقال: "أنتن صواحب يوسف، مروا أبا بكر فليصل بالناس"1. فلما قبض رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نظرنا في أمورنا، فاخترنا لدنيانا مَنْ رضيه رسول الله صلى الله عليه وسلم لديننا، وكانت الصلاة أعظم شعائر الإسلام، وقوام الدين، فبايعنا أبا بكر رضي الله عنه فكان لذلك أهلا، لم يختلف عليه منا اثنان -وفي رواية- فأديت إلى أبي بكر حقه، وعرفت له طاعته، وغزوت معه في جنوده، فكنت آخذ إذا أعطاني، وأغزو إذا أغزاني، وأضرب بين يديه الحدود بسوطي. فلما قُبِضَ رضي الله عنه بايعنا عمر، لم يختلف عليه منا اثنان، فأديت له حقه، وغزوت معه، وعرفت طاعته، وكنت آخذ إذا أعطاني، وأغزو إذا أغزاني، وأضرب بين يديه الحدود بسوطي. فلما قبض رضي الله عنه تذكرت في نفسي قرابتي وسابقتي وفضلي، وأنا أظن أن لا يُعْدَل بي، ولكن خشي أن لا يعمل الخليفة بعده شيئا إلا لحقه في قبره. فأخرج منها نفسه وولده، ولو كانت محاباة لآثر بها ولده وبرئ منها لرهط أنا أحدهم، فظننت ألا يعدلوا بي، فأخذ عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه مواثيقنا على أن نسمع ونطيع لمن ولاه الله أمرنا، ثم بايع عثمان، فنظرت فإذا طاعتي قد سبقت بيعتي، وإذا ميثاقي قد أخذ لغيري، فبايعنا عثمان، فأديت له حقه، وعرفت له طاعته، وغزوت معه، وكنت آخذ إذا أعطاني، وأغزو إذا أغزاني، وأضرب بين يديه الحدود بسوطي. فلما أصيب فإذا الخليفتان اللذان أخذاها بعهد من رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهما بالصلاة قد مضيا، وهذا الذي أخذ له ميثاقي قد أصيب، فبايعني أهل الحرمين وأهل هذين المصرين -الكوفة والبصرة- فوثب فيها من ليس مثلي، ولا قرابته كقرابتي، ولا علمه كعلمى، ولا سابقته كسابقتي، وكنت أحق بها منه، يعني: "معاوية". أخرجه هؤلاء الأئمة. وأخرجه إسحاق بن راهويه من طرق أخرى، قال الذهبي: وهذه طرق يقوي بعضها بعضا، قال: وأصحها ما رواه إسماعيل بن علية، فذكره وفيه: لما قيل لعلي: أخبرنا عن مسيرك، أعهد عهده إليك النبي صلى الله عليه وسلم أم رأي رأيته؟

_ 1 البخاري: الأذان (664) , ومسلم: الصلاة (418) , والترمذي: المناقب (3672) , وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها (1232) , وأحمد (6/ 34 ,6/ 96 ,6/ 210 ,6/ 224 ,6/ 270) , ومالك: النداء للصلاة (414).

فهذه الطرق كلها عن علي رضي الله عنه متفقة على نفي النص بإمامته، ووافقه على ذلك علماء أهل بيته. فقد أخرج أبو نعيم عن المثني بن الحسن السبط، أنه لما قيل له: "من كنت مولاه فعلي مولاه" نص في إمامة علي. فقال: "أما والله لو أراد النبي صلى الله عليه وسلم بذلك الإمارة والسلطان، لأفصح لهم به؛ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أفصح الناس، ولقال لهم: يا أيها الناس هذا ولي أمري، والقائم عليكم بعدي، فاسمعوا له وأطيعوا. ما كان من هذا شيء، فوالله لئن كان الله ورسوله اختارا عليا لهذا الأمر، والقيام به للمسلمين من بعده، ثم ترك علي أمر الله ورسوله أن يقوم به، أو يعذر فيه للمسلمين، إن كان أعظم الناس خطيئة لعلي إذ ترك أمر الله ورسوله، وحاشاه من ذلك" وكلام علي وأهل بيته في الثناء على أبي بكر وعمر كثير جدا بعد ما أفضت إليه الخلافة، وتواتر عنه أنه قال: "خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر، ثم عمر". وروى البخاري في صحيحه عن سفيان الثوري عن منذر عن محمد بن الحنفية، قلت لأبي: يا أبت، من خير الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: "يا بني، أبو بكر". قلت: ثم من؟ قال: "عمر". فخشيت أن يقول: ثم عثمان. فقلت: ثم أنت؟ فقال: "يا بني، إنما أنا رجل من المسلمين". وصح هذا عنه من وجوه كثيرة، وطرق متغايرة يصدق بعضها بعضا. قال بعض أهل الحديث: إنه رواه عن أكثر من ثمانين نفسا من خواص أصحابه وأهل بيته. فقد تبين بما ذكرنا بطلان دعوى المعترض أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نص على إمامته. فإذا ادعوا أن هذا مكذوب على أهل البيت، أمكن خصومهم أن يدعوا الكذب فيما رووه عن أهل البيت. والدلائل الصحيحة التي احتجوا بها على النص على إمامة علي رضي الله عنه كقوله -تعالى-: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ} 1، وكحديث غدير خم وقوله: "من كنت مولاه فعلي مولاه" فكل هذا ليس بصريح في

_ 1 سورة المائدة آية: 55.

النص على إمامته، والله -تبارك وتعالى- قد فرض على رسوله صلى الله عليه وسلم البلاغ المبين الذي يفهمه عامة الناس وخاصتهم، وتلك الدلائل معارضة بما هو أصح منها وأصرح، لكن هؤلاء لا يقبلون رواية أهل السنة، فلا حاجة إلى الإطالة بذكرها. (الوجه الرابع): أن دعواهم النص على إمامته رضي الله عنه قد عارضها أقوام ادعوا النص على العباس، وعلى غيره، فالدعاوي الباطلة تمكن كل واحد. وقد قال الإمام أبو محمد بن حزم في كتاب "الملل والنحل": "اتفق جميع فرق أهل القبلة، وجميع المعتزلة وجميع المرجئة، وجميع الشيعة، وجميع الخوارج -حاشا النجدات من الخوارج خاصة 1 - على وجوب الإمامة فرضا، وأن على الأمة الانقياد لإمام عدل يقيم فيهم أحكام الله عز وجل ويسوسهم بأحكام الشريعة. [مذاهب فرق المسلمين في الإمامة] ثم اختلف القائلون بوجوب الإمامة على فرقتين: فذهب أهل السنة، وجميع الشيعة، وجمهور المرجئة، وبعض المعتزلة إلى أن: الإمامة لا تجوز إلا في قريش، خاصة مَنْ كان مِنْ ولد فهر بن مالك. وذهبت الخوارج كلها، وبعض المرجئة، وبعض المعتزلة إلى أنها جائزة في كل من قام بالكتاب والسنة، قرشيا كان أو عربيا أو عجميا. قال أبو محمد: وبوجوب الإمامة في ولد فهر بن مالك نقول؛ لنص رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن الأئمة من قريش. وهذه رواية جاءت مجيء التواتر، رواها أنس بن مالك، وعبد الله بن عمر بن الخطاب، ومعاوية رضي الله عنهم، وروى (جابر) بن عبد الله، وجابر بن سمرة، وعبادة بن الصامت -رضي الله عنهم- معناها. ومما يدل على معناها إذعان الأنصار يوم السقيفة، وهم أهل الدار والمنعة والعدد والسابقة في الإسلام -رضي الله عنهم-، ومن المحال الممتنع الباطل أن يتركوا اجتهادهم لاجتهاد غيرهم لولا قيام الحجة عليهم بنص رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن الحق لغيرهم في ذلك. ثم قال: ولا يخلو قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الأئمة من قريش"2 من أحد

_ 1 وهم المنسوبون إلى نجدة بن عمير الحنفي القائم باليمامة. 2 أحمد (3/ 129).

وجهين لا ثالث لهما: إما أن يكون أمرًا، وإما أن يكون خبرًا، فإن كان أمرا، فمخالف أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فاسق، وعمله مردود، وإن كان خبرا، فمجيز تكذيب رسول الله صلى الله عليه وسلم كافر. [اختلاف الفرق في الإمامة] ثم اختلف القائلون بأن الإمامة لا تكون إلا في صلبة قريش، فقالت طائفة: هي جائزة في جميع ولد فهر بن مالك فقط، وهذا قول أهل السنة، وجميع المرجئة، وبعض المعتزلة. وقالت طائفة: لا تجوز الخلافة إلا في ولد جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه، ثم قصروها على عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر. وقال بعض بني الحارث بن عبد المطلب: لا تجوز الخلافة إلا لبني عبد المطلب خاصة، وهم أربعة فقط لم يعقب لعبد المطلب غيرهم، وهم: العباس والحارث وأبو طالب وأبو لهب. وبلغنا عن رجل من أهل طبرية الأردن: لا تجوز الخلافة إلا في بني أمية بن عبد شمس، وكان له في ذلك تأليف مجموع. ورأينا كتابا مؤلفا لرجل من ولد عمر بن الخطاب رضي الله عنه يحتج فيه بأن الخلافة لا تجوز إلا في ولد أبي بكر وعمر -رضي الله عنهما- فقط. قال أبو محمد: "وهذه الفرق الأربعة لم نجد لهم شبهة تستحق أن يشتغل بها إلا دعاوي كاذبة، لا وجه لها مع انقطاع القائلين بها ودثورهم". وقالت طائفة: لا تجوز الخلافة إلا في ولد العباس، وهو قول الراوندية 1، واحتجوا بأن العباس كان عاصب رسول الله صلى الله عليه وسلم ووارثه. قالوا: فإذا كان كذلك، فقد ورث مكانه، وهذا ليس بشيء؛ لأن الميراث لو صح له، لما كان ذلك إلا في المال خاصة، وأما المرتبة فما جاء قط في الديانة أنها تورث، فبطل هذا التمويه جملة، ولله الحمد. وقد صح بإجماع جميع أهل القبلة -حاشا الروافض- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إنا لا نورث، ما تركناه صدقة"2 فاعترضوا بقول الله عز وجل: {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ} 3 وقوله -تعالى- حاكيا عن زكريا: {فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي

_ 1 نسبة إلى ابن الراوندي. 2 البخاري: المناقب (3712) والمغازي (4036 ,4241) والفرائض (6725 ,6730) , والترمذي: السير (1610) , وأبو داود: الخراج والإمارة والفيء (2968) , وأحمد (1/ 48) , ومالك: الجامع (1870). 3 سورة النمل آية: 16.

وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ} 1. وهذا لا حجة لهم فيه؛ لأن الرواة، وحملة الأخبار، وجميع التواريخ القديمة، وكواف بني إسرائيل ينقلون بلا خلاف نقلا يوجب العلم: أن داود -عليه السلام- كان له بنون ذكور جماعة غير سليمان؛ فصح أن سليمان ورث النبوة، وهكذا القول في ميراث يحيى بن زكريا -عليهما السلام- وبرهان ذلك من نص الآية نفسها قول زكريا -عليه السلام-: {يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ} 2. فأي شيء كان يرث من آل يعقوب؟ لكل سبط من أسباط يعقوب عصبات عظيمات، وهم مئو ألوف، فصح أنه إنما رغب في ولد يرث عنه، وعن آل يعقوب النبوة فقط. وأيضا فمن المحال أن يرغب زكريا في ولد يحجب عصبته عن ميراث إذ إنما يرغب في هذا ذو الحرص على الدنيا وحطامها. وقد كان العباس حيا قائما إذ مات رسول الله صلى الله عليه وسلم فما ادعى العباس لنفسه في ذلك حقا، لا حينئذ، ولا بعد ذلك. فصح أنه رأي محدث فاسد لا وجه للاشتغال به، وما رضيه أحد قط من خلف ولده، ولا من أماثلهم ترفعا عن سقوط هذه الدعوى ووهنها، وبالله التوفيق. [مذهب الروافض والزيدية في الإمامة] وأما القائلون بأن الإمامة لا تكون إلا في ولد علي بن أبي طالب رضي الله عنه فإنهم انقسموا قسمين: فقالت طائفة: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نص على علي رضي الله عنه بأنه الخليفة بعده. وإن الصحابة -رضي الله عنهم- بعد موته اتفقوا على ظلم علي رضي الله عنه وعلى كتمان ذلك النص. وهؤلاء هم الروافض. وطائفة قالت: لم ينص النبي صلى الله عليه وسلم على علي، لكنه كان أفضل الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحقهم بالخلافة، وهؤلاء هم الزيدية "نسبوا إلى زيد بن علي بن الحسين رضي الله عنهم"، ثم اختلفت الزيدية فرقا، فقالت طائفة أن الصحابة ظلموه، فكفروا كل من خالفه من الصحابة -رضي الله عنهم- وهم الجارودية. وقالت طائفة: لم يظلموه، لكن طابت نفسه بتسليم حقه إلى أبي بكر وعمر -رضي الله عنهما- وأنهما إماما هدى، ووقف بعضهم في عثمان -رضي الله عنه- وتولاه بعضهم. وجميع الزيدية لا يختلفون في أن الإمامة في جميع بني

_ 1 سورة مريم آية:5، 6. 2 سورة مريم آية: 6.

علي بن أبي طالب رضي الله عنه، من خرج منهم يدعو إلى الكتاب والسنة، وجب سل السيف معه. وقالت الروافض بأجمعهم: الإمامة في علي رضي الله عنه وحده بالنص عليه، ثم في الحسن، ثم في الحسين رضي الله عنهما. وادعوا نصا آخر من النبي صلى الله عليه وسلم عليهما بعد أبيهما، ثم علي بن الحسين؛ لقول الله -عز وجل-: {وَأُولُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} 1. قالوا: فولد الحسين أحق من بني أخيه الحسن، ثم محمد بن علي بن الحسين، ثم في جعفر بن محمد، ثم افترقت الرافضة بعد موت هؤلاء المذكورين وموت جعفر بن محمد. فقالت طائفة بإمامة ابنه إسماعيل بن جعفر وادعوا أنه حي لم يمت، والذي لا شك فيه أنه مات في حياة أبيه، وهو كان أكبر بنيه. وقالت طائفة بإمامة ابنه محمد بن جعفر. وقالت طائفة جعفر بن محمد حي لم يمت. وقال جمهور الروافض بإمامة ابنه موسى بن جعفر، ثم علي بن موسي، ثم محمد بن علي بن موسى، ثم علي بن محمد بن على بن موسى، ثم الحسن بن علي، ثم مات الحسن عن غير عقب، فافترقوا فرقا، وثبت جمهورهم على أنه ولد للحسن ولد فأخفاه، وقيل: بل ولد له بعد موته من جارية له اسمها صقيل. وكانت طائفة قديمة رئيسهم المختار بن أبي عبيد الثقفي، وكيسان المكنى بأبي عمرة وغيرهم، يذهبون إلى أن الإمام بعد الحسين بن على رضي الله عنه أخوه محمد المعروف بابن الحنفية، ومن هذه الطائفة السيد بن إسماعيل الحميري الشاعر، وكثير عزة الشاعر، وكانوا يقولون: إن محمد بن الحنفية حي بجبل رضوى، ولهم من التخليط ما تضيق عنه الصحف الكثيرة. وعمدة هذه الطوائف كلها في الاحتجاج أحاديث مكذوبة ;موضوعة، لا يعجز عن توليد مثلها من لا دين له ولا حياء. قال أبو محمد: "لا معنى لاحتجاجنا عليهم برواياتنا، فهم لا يصدقونها، وإنما يجب أن

_ 1 سورة الأنفال آية: 75.

يحتج الخصوم بعضهم على بعض بما يصدقه الذي تقام به عليه الحجة سواء صدقه المحتج به أو لم يصدقه؛ لأن من صدق شيئا لزمه القول به، أو بما يوجب العلم الضروري، فيصير الخصم حينئذ -إن خالفه- مكابرا بالباطل منقطعا. إلا أن بعض ما يشغبون به أحاديث صحيحة، منها: قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي: "أنت مني بمنْزلة هارون من موسى، إلا أنه لا نبي بعدي"1. قال أبو محمد: "وهذا لا يوجب فضل علي على من سواه، ولا استحقاق الإمامة بعده؛ لأن هارون -عليه السلام- لم يل أمر بني إسرائيل بعد موسى -عليهما السلام- وإنما ولي الأمر بعد موسى -عليه السلام- فتاه يوشع بن نون، وهو صاحبه الذي سافر معه في طلب الخضر عليهما السلام. كما ولي الأمر بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- صاحبه في الغار الذي سافر معه إذ هاجر صلى الله عليه وسلم إلى المدينة. وإذا لم يكن علي نبيا كما كان هارون، ولا كان هارون خليفة على بني إسرائيل بعد موسى -عليهما السلام-، فقد صح أن كونه من رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنْزلة هارون من موسى -عليهما السلام- إنما هو في القرابة فقط. وأيضا فإنما قال رسول -الله صلى الله عليه وسلم- هذا القول إذ استخلفه على المدينة في "غزوة تبوك"، فقال المنافقون: استثقله فَخَلَّفَهُ. فلحق علي رضي الله عنه برسول الله صلى الله عليه وسلم حينئذ، فشكا إليه، فقال -صلى الله عليه وسلم-: "أنت مني بمنْزلة هارون من موسى"2 لاستخلافه إياه على المدينة مختارا له. ثم قد استخلف صلى الله عليه وسلم قبل تبوك وبعدها على المدينة في غزواته وعُمَرِهِ وحجه رجالا سوى علي رضي الله عنه فصح أن هذا الاستخلاف لا يوجب لعلي فضلا على غيره ممن استخلفه، ولا يوجب -أيضا- ولاية الأمر بعده صلى الله عليه وسلم كما لم يوجب ذلك لغيره من المستخلفين. قال أبو محمد: "وعمدة ما احتجت به الإمامية أنه لا بد أن يكون إمام معصوم، عنده جميع علم الشريعة، يرجع الناس إليه في أحكام الدين؛ ليكونوا مما تعبدوا به على يقين. قال أبو محمد: "هذا لا شك فيه، وهو معروف ببراهينه الواضحة، وأعلامه

_ 1 البخاري: المغازي (4416) , ومسلم: فضائل الصحابة (2404) , والترمذي: المناقب (3731) , وابن ماجه: المقدمة (121) , وأحمد (1/ 175 ,1/ 177 ,1/ 179 ,1/ 182 ,1/ 184 ,1/ 185). 2 البخاري: المغازي (4416) , ومسلم: فضائل الصحابة (2404) , والترمذي: المناقب (3731) , وابن ماجه: المقدمة (121) , وأحمد (1/ 175 ,1/ 177 ,1/ 179 ,1/ 182 ,1/ 184 ,1/ 185).

المعجزة وآياته الباهرة، وهو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب رسول الله إلينا ببيان دينه الذي ألزمنا إياه صلى الله عليه وسلم فكان كلامه، وعهوده وما بَيَّنَ وبلغ من كلام الله عز وجل حجة باقية معصومة من كل آفة إلى كل من بحضرته، وإلى من كان في حياته غائبا عن حضرته، وإلى كل من يأتي بعد موته صلى الله عليه وسلم إلى يوم القيامة من جن وإنس، قال عز وجل: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} 1. فهذا نص ما قلنا، وإبطال اتباع أحد دون رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما الحاجة إلى فرض الإمامة؛ لينفذ الإمام عهود الله -عز وجل- الواردة إلينا من عنده فقط، لا لأن يأتي الناس بما لا يشاؤونه في معرفته من الدين الذي أتاهم به رسول الله صلى الله عليه وسلم. ووجدنا عليا رضي الله عنه إذا دعي إلى التحاكم بالقرآن، أجاب، وأخبر أن التحاكم إلى القرآن حق، فإن كان علي رضي الله عنه أصاب في ذلك فهو قولنا، وإن كان أجاب إلى الباطل، فهذه غير صفته رضي الله عنه. ولو كان التحاكم إلى القرآن لا يجب إلا بحضرة الإمام؛ لقال علي حينئذ: كيف تطلبون تحكيم القرآن، وأنا الإمام المبلغ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. [دحض ابن حزم شبهة الروافض في الإمام المعصوم] فإن قالوا: إذ مات رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا بد من إمام يبلغ الدين. قلنا: هذا باطل، ودعوى بلا برهان، وقول لا دليل على صحته، وإنما الذي يحتاج إليه أهل الأرض من رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو بيانه صلى الله عليه وسلم وتبليغه فقط، سواء في ذلك من كان بحضرته، ومن غاب عنه، ومن جاء بعده، إذ ليس في شخصه المقدس صلى الله عليه وسلم إذا لم يتكلم أو يعمل بيان عن شيء من الدين فالمراد عنه صلى الله عليه وسلم +ق أبدا مبلغ إلى كل من في الأرض. وأيضا فلو كان ما قالوا من الحاجة إلى إمام موجود أبدا؛ لكان ذلك مُنْتَقَضًا عليهم بمن كان غائبا عن حضرة الإمام في أقطار الأرض، إذ لا سبيل

_ 1 سورة الأعراف آية: 3.

إلى مشاهدة الإمام لجميع أهل الأرض في المشرق والمغرب، من فقير وضعيف، وامرأة ومريض، ومشغول بمعاشه الذي يهلك إن أغفله، فلا بد من التبليغ عن الإمام. فالتبليغ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى بالاتباع من التبليغ عمن دونه. وهذا ما لا انفكاك منه. قال أبو محمد: "لا سيما وجميع أئمتهم الذين يدعون بعد علي بن أبي طالب، والحسن والحسين ابنيه -رضي الله عنهم- ما أمروا قط في غير منازل سكناهم، ولا حكموا على قرية فما فوقها بحكم. فما الحاجة إليهم لا سيما منذ مائة ونيف وثمانين عاما! فإنهم ينتظرون إماما ضالة من الضوال، لم يُخلق كعنقاء مغرب، هم أولو فحش وقِحَةٍ وبهتان، ودعوى كاذبة لا يعجز عنها أحد. "ويقال لهم -أيضا-: كون الدين كله عند إمام واحد معصوم من حين موت النبي صلى الله عليه وسلم إلى انقضاء الدهر، لا يخلو من أن يكون أحكام الدين عند ذلك الإمام من أحد ثلاثة أوجه لا رابع لها: إما عن وحي من الله عز وجل فهذه نبوة. ومن قال بنبوة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم غير المسيح، فقد كفر وارتد وحل دمه. أو عن إلهام، وهذا وسواس من الشيطان، وليس هو أولى بدعوى الإلهام من غيره، أو بتعليم من رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلم سائر الناس بما أعلم به علي بن أبي طالب، فعليّ وغيره في ذلك سواء ولا فرق، وإن كان صلى الله عليه وسلم كتم من سائر الناس ما علمه علي بن أبي طالب، فلم يبلغ كما أُمِرَ. قال -تعالى-: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} 1 فمن قال: إنه صلى الله عليه وسلم لم يبين للناس ما أنزل الله إليه، بل كتمهم إياه، وخص به علي بن أبي طالب سرا، فقد كفر إذ وصف النبي صلى الله عليه وسلم بأنه عصى أمر ربه -تعالى- له بالبيان للناس جهارا. فبطل ما ادعوه يقينا من كل وجه، والحمد لله رب العالمين. "وأيضا فنقول لهؤلاء المخاذيل، وبالله التوفيق: هل بيَّن هؤلاء ما ادعوه من

_ 1 سورة النحل آية: 44.

الدين أو لم يبينوا؟ ولا بد من أحدهما، فإن قالوا: بينوا ما عندهم. قلنا: وتبيين أولهم يكفي عن الآخر منهم؛ لأنه يصير ما بين عند الناس ينقلونه جيلا عن جيل، فبطلت الحاجة إليهم. فإن قالوا: لم يبينوا -وهو قولهم- لأنهم عندهم صامتون حتى يأتي الإمام الناطق (الثاني عشر). قلنا لهم: فهل حاقت بهم اللعنة من الله -تعالى- بنص القرآن إذ لم يبينوا ما عندهم من الهدى. وبالجملة فما أمة أحمق من الروافض والنصارى جملة. قال أبو محمد: "وبرهان آخر ضروري، وهو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مات وجمهور الصحابة -رضي الله عنهم- حضور -حاشا مَنْ كان منهم في النواحي- فما منهم أحد أشار إلى الناس في علي بكلمة يذكر فيها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نص عليه، ولا ادعى ذلك علي رضي الله عنه قط، لا في ذلك الوقت ولا بعده، ولا ادعاه أحد له، ولا بعده في ذلك الوقت. ومن المحال الممتنع الذي لا يمكن البتة، ولا يجوز اتفاق أكثر من عشرين ألف إنسان متنابذي الهمم والنيات والأنساب، أكثرهم موتور من صاحبه في الدماء من الجاهلية على طي عهده صلى الله عليه وسلم إليهم. وما وجدنا قط رواية عن أحد بهذا النص المدعى، إلا رواية موضوعة واهية عن قوم مجهولين، لا يعرفهم أحد، عن مجهول يكني أبا الحمراء لا يُعرف من هو، ووجدنا عليا -رضي الله- عنه قد توقف عن بيعة أبي بكر رضي الله عنه ستة أشهر، فما أكرهه أبو بكر على البيعة حتى بايع طائعا مبادرا، راجعا عن تأخره عنها، مختارا غير مكره. فكيف حل لعلي عند هؤلاء النوكى أن يبايع طائعا لرجل كافر أو فاسق، جاحد لنص رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن يعينه على أمره، وأن يشاهد في مجلسه، وأن يواليه إلى أن مات. ثم بايع بعده عمر بن الخطاب رضي الله عنه مبادرا غير متردد ساعة فما فوقها، غير مكره، بل طائعا، وصحبه وأعانه على أمره، وأنكحه ابنته من فاطمة رضي الله عنها، ثم قبل إدخاله في الشورى أحد ستة رجال؟ فكيف حل لعلي -رضي الله عنه- عند هؤلاء الجهال أن

يشارك بنفسه في شورى ضلالة أو كفر، وأن يغر الأمة هذا الغرور؟ هذا الأمر أدى أبا كامل -وهو من أئمة الروافض- إلى تكفير علي؛ لأنه زعم أنه أعان الكفار على كفرهم، وأيدهم على كتمان الديانة، وعلى ستر ما لا يتم الدين إلا به. [البراهين على بطلان دعوى النص على إمامة علي] قال أبو محمد: "ولا يجوز أن يظن بعلي رضي الله عنه أنه أمسك عن ذكر النص عليه خوف الموت، وهو الأسد شجاعة، قد عرض نفسه للموت بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم مرات، ثم يوم الجمل وصفين، فما الذي جبنه بين هاتين الحالتين؟ وما الذي ألف بين بصائر الناس على كتمان حق علي رضي الله عنه ومنعه حقه مذ مات رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن قتل عثمان، رضي الله عنه؟ ثم ما الذي جلى بصائرهم في عونه إذ دعا لنفسه، فقامت معه طوائف من المسلمين عظيمة، وبذلوا دماءهم دونه، ورأوه حينئذ صاحب الأمر، والأولى بالحق ممن نازعه؟ فما الذي منعه، ومنعهم من الكلام، وإظهار النص الذي يدعيه الكذابون إذ مات عمر رضي الله عنه وبقي الناس بلا رأس ثلاثة أيام، أو يوم السقيفة؟ وأظرف من هذا كله بقاؤه ممسكا عن بيعة أبي بكر رضي الله عنه ستة أشهر، فما سُئِلَهَا، ولا أجبر عليها ولا كلفها، وهو متصرف بينهم في أموره، فلولا أن رأى الحق فيها، فاستدرك أمره، فبايع طالبا حظ نفسه في دينه، راجعا عن الخطأ إلى الحق - لما بايع. فإن قالت الروافض: إنه بعد ستة أشهر رأى الرجوع عن الحق إلى الباطل، فقولهم هو الباطل حقا، لا ما فعل علي رضي الله عنه, ثم ولي علي رضي الله عنه فما غير حكما من أحكام أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم، ولا أبطل عهدا من عهودهم، ولو كان ذلك عنده باطلا، لما كان في سعة من أن يمضي الباطل وينفذه، وقد ارتفعت التقية عنه. وأيضا فقد نازع الأنصار -رضي الله عنهم- أبا بكر رضي الله عنه ودعوا إلى بيعة سعد بن عبادة. ودعا المهاجرون إلى بيعة أبي بكر رضي الله عنه، وقعد علي رضي الله عنه في بيته، لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، ليس معه أحد غير الزبير بن العوام رضي الله عنه

ثم استبان الحق للزبير فبايع سريعًا، وبقي علي وحده لا يرقب عليه، ولا يمنع من لقاء الناس، ولا يمنع أحد من لقائه. فلا يخلو رجوع الأنصار كلهم إلى بيعة أبي بكر رضي الله عنه من أن يكون عن أحد ثلاثة أوجه، لا رابع لها البتة: إما عن غلبة، وإما عن ظهور حقه إليهم فأوجب عليهم الانقياد لبيعته، وإما فعلوا ذلك مطارفة لغير معنى. فإن قالوا: بايعوه بغلبة، ظهر فاحش كذبهم؛ لأنه لم يكن هناك قتال ولا تضارب، ولا سباب ولا تهديد، ولا وقت طويل ينفسح للوعيد، ولا سلاح مأخوذ، ومن المحال الممتنع أن يترك أزيد من ألفي فارس أنجاد أبطال، كلهم عشيرة واحدة، وقد ظهر من شجاعتهم ما لا مرمى وراءه، وهو أنهم بقوا ثمانية أعوام متصلة محاربين لجميع العرب في أقطار بلادهم، مُوَطَّنِين على الموت، متعرضين مع ذلك لحرب قيصر والروم بمؤتة وغيرها، ولحروب كسرى والفرس ببصرى، من يخاطبهم يدعوه ويدعوهم إلى اتباعه، وأن يكونوا كأحد من بين يديه. هذه صفة الأنصار التي لا ينكرها إلا رقيع مجاهر بالكذب. "فمن المحال الممتنع الذي لا يمكن ألبتة أن يرهبوا أبا بكر ورجلين أتيا إلى مجلسهم فقط، وأبو بكر رضي الله عنه لا يرجع إلى عشيرة كثيرة، ولا إلى موالي، ولا إلى عصبة، ولا إلى مال، فرجعوا إليه -وهو عندهم مبطل- وبايعوه بلا تردد نصف يوم فأكثر. وكذلك يبطل أن يرجعوا عن قولهم، وما كانوا قد رأوه من أن الحق حقهم، وعن بيعة ابن عمهم مطارفة بلا معنى ولا خوف ولا ظهور الحق إليهم. فمن المحال اتفاق أهواء هذا العدد العظيم على ما يعرفون أنه باطل دون خوف يضطرهم إلى ذلك، ودون طمع يتعجلونه من مال أو جاه، بل فيما فيه ترك العز والرياسة والدنيا، وتسليم كل ذلك لرجل أجنبي لا عشيرة له ولا منعة، ولا حاجب ولا حراس على بابه، ولا قصر يمنعه ولا موالي ولا مال، فأين كان علي وهو الذي لا نظير له في

الشجاعة، ومعه جماعة بني هاشم، وبني المطلب من قتل هذا الشيخ الذي لا دافع دونه لو كان عنده ظالما، أو عن منعه وزجره إن لم يستحل قتله؟ بل قد علم -والله- علي أن أبا بكر رضي الله عنه على الحق، وأن من خالفه على الباطل، فأذعن للحق إذ تبينه بعد ما عرضت له فيه كبوة. وكذلك الأنصار -رضي الله عنهم- إنما رجعوا إلى بيعته بلا شك ولا مرية؛ لبرهان حق صح عندهم عن النبي صلى الله عليه وسلم لا لاجتهاد كاجتهادهم، ولا لظن كظنهم إذ لم يبق غير ذلك، وبطل كل ما سواه يقينا. "وإذ قد بطل أن يكون الأمر في الأنصار، وزالت الرياسة عنهم. فما الذي حملهم كلهم أولهم عن آخرهم على أن يتفقوا على جحد نص النبي صلى الله عليه وسلم على إمامة علي رضي الله عنه؟ ومن المحال الممتنع أن تتفق آراؤهم كلهم على معاونة من ظلمهم، وغصبهم حقهم بالباطل، إلا أن يدعي الروافض أنهم كلهم اتفق لهم نسيان ذلك العهد. فهذه أعجوبة من المحال غير ممكنة، ثم لو أمكنت، لجاز لكل أحد أن يدعي فيما شاء من المحال أنه قد كان، وأن الناس كلهم نسوه، وهذا إبطال الحقائق كلها. "وأيضا فإن كان جميع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم اتفقوا على جحد ذلك النص وكتمانه، واتفقت طبائعهم كلهم على نسيانه، فمن أين وقع إلى الروافض علمه؟ ومن بلغه إليهم؟ وهذا هوس ومحال. فبطل الأمر في دعوى النص على علي رضي الله عنه بيقين لا يشك فيه، والحمد لله رب العالمين. "فإن قال قائل: إن علي بن أبي طالب رضي الله عنه كان قد قتل الأقارب بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتولد له بذلك حقد في قلوب جماعة من الصحابة رضي الله عنهم؛ فلذلك انحرفوا عنه. قلنا لهم: هذا تمويه ضعيف كاذب؛ لأنه إن ساغ لكم في بني عبد شمس، وبني مخزوم، وبني عبد الدار، وبني عامر بن لؤي؛ لأنه قتل من كل قبيلة من هذه القبائل رجلا أو رجالا، فقتل من بني عامر بن لؤي رجلا

واحدًا فقط، وهو عمرو بن عبد ود، وقتل من بني مخزوم وبني عبد الدار رجالا، وقتل من بني عبد شمس الوليد بن عتبة بن ربيعة، وقيل: إنه قتل عقبة بن أبي معيط، وقيل: لم يقتله إلا عاصم بن ثابت الأنصاري رضي الله عنه. ولا مزيد فقد علم كل من له أقل علم بالأخبار أنه لم يكن لهذه القبائل، ولا لأحد منها يوم السقيفة عقد ولا حل، ولا رأي ولا أمر، اللهم إلا أن أبا سفيان بن حرب بن أمية كان مائلا إلى علي رضي الله عنه في ذلك تعصبا للقرابة لا تدينا، وكان ابنه يزيد، وخالد بن سعيد بن العاص، والحارث بن هشام المخزومي -رضي الله عنهم- مائلين مع الأنصار تدينا، والأنصار -رضي الله عنهم- قتلوا أبا جهل أخا الحارث. وكان محمد بن أبي حذيفة بن عتبة بن ربيعة شديد الميل إلى علي رضي الله عنه حين قصة عثمان رضي الله عنه وبعد ذلك؛ ولذلك قتله معاوية رضي الله عنه صبرا على عثمان -رضي الله عنه-. فعرفونا من قتل علي من بني تيم بن مرة، أو من بني عدي بن كعب، أو من بني الحارث بن فهر رهط أبي عبيدة -رضي الله عنه- حتى يظن أهل القحة أنهم حقدوا عليه؟ ثم أخبرونا من قتل علي من الأنصار -رضي الله عنهم- أو من جرح منهم، أو من آذى منهم؟ ألم يكونوا معه في تلك المشاهد كلها، بعضهم متقدم، وبعضهم مساو له، وبعضهم متأخر عنه؟ فأي حقد له في قلوب الأنصار حتى يطبقوا كلهم على جحد النص عليه، وعلى إبطال حقه، وعلى ترك ذكر اسمه جملة، وعلى إيثار سعد بن عبادة عليه، وعلى إيثار أبي بكر وعمر وعثمان -رضي الله عنهم- عليه، والمسارعة إلى بيعتهم دونه بالخلافة، وهو بين أظهرهم، يرونه غدوا وعشيا، لا يحول أحد بينهم وبينه؟ ثم أخبرونا مَنْ قتل علي مِنْ أقارب المهاجرين من العرب من مضر وربيعة، واليمن وقضاعة حتى يطبقوا كلهم على كراهة ولايته، ويتفقوا كلهم على جحد النص عليه؟ وإن هذه العجائب لا يمكن اتفاق مثلها في العالم أصلا

"ولقد كان لطلحة والزبير وسعد بن أبي وقاص من القتل في المشركين كالذي كان لعلي، فما الذي خصه باعتقاد الأحقاد له لو كان للروافض حياء وعقل؟ ولقد كان لأبي بكر رضي الله عنه في مضادة قريش في الدعاء إلى الإسلام ما لم يكن لعلي، فما منعهم ذلك من بيعته، وهو أسوأ الناس أثرا عندهم في حال كفرهم. ولقد كان لعمر بن الخطاب رضي الله عنه في مغالبة كفار قريش، وإعلانه الإسلام على زعمهم ما لم يكن لعلي. فليت شعري! ما الذي أذهب آثار هؤلاء، وأوجب أن ينسى، وأوجب أن يعادوا عليا من بينهم كلهم؟ لولا قلة حياء الروافض، وصفاقة وجوههم، حتى بلغ الأمر بهم إلى أن عدوا على سعد وأسامة وابن عمر رضي الله عنهم، وعلى رافع بن خديج، ومحمد بن مسلمة، وزيد بن ثابت، وأبي هريرة، وأبي الدرداء، وجماعة من الصحابة -رضي الله عنهم- سواء هؤلاء من المهاجرين والأنصار - أنهم لم يبايعوا عليا إذ دعا إلى نفسه، ثم بايعوا معاوية -رضي الله عنه-، ويزيد ابنه -من أدركه منهم-، وادعوا أن تلك الأحقاد حملتهم على ذلك. قال أبو محمد: حمق الروافض، وشدة ظلمة جهلهم وقلة حيائهم هورهم في الدمار والبوار، والعار والنار، وقلة المبالاة بالفضائح. وليت شعري! أيُّ خُمَاشة، وأي كلمة خشنة كانت بين علي وبين هؤلاء أو واحد منهم؟ وإنما كان هؤلاء، ومن جرى مجراهم لا يرون بيعة في فرقة، فلما أصفق المسلمون على من أصفقوا عليه كائنا ما كان، دخلوا في الجماعة، وهكذا فعل من أدرك من هؤلاء ابن الزبير ومروان؛ فإنهم قعدوا عنهما، فلما انفرد عبد الملك بن مروان دخلوا في الجماعة، وبايعه من أدركه منهم لا رضى عنه، ولا عداوة لابن الزبير، ولا تفضيلا لعبد الملك على ابن الزبير، لكن لما ذكرناه. وهكذا كان أمرهم في علي ومعاوية رضي الله عنهما. فلاحت نُوكَةُ هؤلاء المجانين، والحمد لله رب العالمين.

"فصحّ ضَرُورَة بِكُل مَا ذكرنَا أَن الْقَوْم أنزلوه مَنْزِلَته غير غالين فيه، وَلَا مقصرين به رَضِي الله عَنْهُم أَجْمَعِينَ، وَأَنَّهُمْ قدمُوا الأحق فَالْأحق وَالْأَفْضَل فَالْأَفْضَل، وساووه بنظرائه مِنْهُم. "ثمَّ أوضح برهَان وَأبين بَيَان فِي بطلَان أكاذيب الروافض أَن عليا رَضِي الله عَنهُ إذ دعا لنَفسه بعد قتل عُثْمَان رَضِي الله عَنهُ سارعت طوائف من الْمُهَاجِرين وَالْأَنْصَار إِلَى بيعَته، فَهَل ذكر أحد من النَّاس قط أن أحدًا مِن الذين بايعوه اعتذر إِلَيْهِ مِمَّا سلف من بيعتهم لأبي بكر وَعمر وَعُثْمَان رضي الله عنهم؟ أَو هَل تَابَ أحد مِنْهُم من جَحده للنَّص على إِمَامَته؟ أَو هل قَالَ أحد مِنْهُم: لقد ذكرت النَّص الَّذِي كنت نسيته فِي أَمر هَذَا الرجل؟ إن عقولاً خَفِي عَلَيْهَا هَذَا الظَّاهِر اللائح لَعقول مخذولة لم يرد الله أَن يهديها. "ثمَّ مَاتَ عمر رَضِي الله عَنهُ وَترك الْأَمر شُورَى بَين سِتَّة من الصَّحَابَة رضي الله عنهم عَليّ أحدهم، وَلم يكن فِي تِلْكَ الْأَيَّام الثَّلَاثَة سُلْطَان يخَافه أحد وَلَا رَئِيس يتوقع، وَلَا مَخَافَة من أحد، وَلَا جند معد للتغلب. "أفَتُرى لَو كَانَ لعَلي رَضِي الله عَنهُ حق ظَاهر يخْتَص بِهِ من نَص عَلَيْهِ من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أَو من فضل بَائِن على من مَعَه ينْفَرد بِهِ عَنْهُم. أما كَانَ الْوَاجِب على عَليّ رضي الله عنه أَن يَقُول: أَيهَا النَّاس كم هَذَا الظُّلم لي؟ وَكم هَذَا الكتمان لحقي؟ وَكم هَذَا الْجحْد لنَصّ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم علَي؟ وَكم هَذَا الْإِعْرَاض عَن فضلي الْبَائِن على هَؤُلَاءِ المقرونين بِي؟ فَإِذا لم يفعل فلَا أدْرِي لماذا؟ أما كَانَ فِي بني هَاشم -على كثرتهم يومئذ- أحد لَهُ دين يَقُول هَذَا الْكَلَام؟ إمّا الْعَبَّاس عَمه -وَجَمِيع الْمسلمين على توقيره وتعظيمه، حَتَّى أَن عمر رضي الله عنه توسل بِهِ إِلَى الله عز وجل بِحَضْرَة المسلمين فِي الاسْتِسْقَاء-، وَإمّا أحد بنيه، وَإمّا عقيل، وَإمّا أحد بني جَعْفَر وبني الحارث أو بني لهب أو مواليهم. فَإِذا لم يكن أحد منهم يَتَّقِي الله عز وَجل وَلَا يَأْخُذهُ فِي قَول

فصل: في وصف العالم الزيدي الشيعة الإمامية بالغلو كالباطنية، وإثبات غلو الزيدية دون غلوهما

الحق مداهنة، أما كان في جميع أهل الإسلام من المهاجرين والأنصار وغيرهم واحد يقول: يا معشر المسلمين، قد زالت الرقبة، وهذا الرجل علي بن أبي طالب له حق واجب بالنص عليه، وله فضل بائن ظاهر لا يمترى فيه، فبايعوه، فأمره بين أصفاق جميع الأمة أولها عن آخرها، من برقة إلى خراسان، ومن أذربيجان وأرمينيه إلى أقصى اليمن، إذ بلغهم الخبر على السكوت عن حق هذا الرجل، واتفاقهم على ظلمه، ومنعه من حقه، وليس هنالك شيء يخافونه، لإحدى عجائب المحال الممتنع، وفيهم الذين بايعوه بعد ذلك إذ صار الحق حقه، وقتلوا أنفسهم دونه. فأين كانوا عن إظهار ما تنبهت له الروافض الأنذال بعد مائة وخمسين عاما؟ ثم مع هذا الكتمان والنسيان كيف بلغ الروافض علمه؟ ومن بلغه إليهم؟ ثم العجب إذا كان غيظهم عليه -هذا الغيظ الذي تزعمه الروافض- كذبا منهم، واتفاقهم على جحد حقه هذا الاتفاق، كيف تورعوا عن قتله ليستريحوا منه؟ أم كيف أكرموه وبروه؟ ". انتهى ما ذكرته من كلام الإمام أبي محمد بن حزم ملخصا، وهو شاف كاف في الرد على هذا المعترض وأهل مذهبه. فصل {في وصف العالم الزيدي الشيعة الإمامية بالغلو كالباطنية، وإثبات غلو الزيدية دون غلوهما} وأما قوله: (وأهل البيت وصفوة شيعهم لم يصنعوا إلا كما صنع علي، فلم يغلوا غلو الإمامية ولا الباطنية، نسأل الله العافية). (فالجواب) أن يقال: ما ذكره هذا المعترض كاف في غلوه في حق علي رضي الله عنه وفي الكذب على الله، وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم وفي قلة الحياء، ودعواه تشبه دعوى الإمامية؛ لأن دعوى الفريقين مِنْ أَبْطَلِ الباطل، وأبين المحال، وإن كان

قول الإمامية والباطنية أظهر بطلانا، وأبين ضلالا، وعندهم من الدلائل الباطلة، والأحاديث المكذوبة أكثر مما عند هذا وسلفه، حتى إنهم يستدلون بآيات كثيرة من القرآن كما رأيناه مسطورا في كتبهم. وفي هذا لك عبرة عظيمة، تبين لك أن ليس كل من ادعى اتباع أهل البيت مصيب في دعواه. والله أعلم. وأما قوله في المسألة الرابعة: ما المراد بقوله -تعالى-: {وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ} 1 ثم ذكر ما ذكره ابن مردويه عن أسماء بنت عميس: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "وصالح المؤمنين: علي بن أبي طالب"، فهذا أصل دعوى أهل البيت -سلام الله عليهم- وشيعتهم في تخصيص عليّ بالآية الكريمة ... إلى قوله: "وانظر بعين الإنصاف في آية المباهلة حين جعل علي -عليه السلام- مع أخيه المصطفى نفس الأنفس، وهل أخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم بيانا للأنفس غير علي؟ بل ترك القريب والبعيد، وأبرز عليا وفاطمة والحسين سلام الله عليهم). (فالجواب) من وجوه: (الوجه الأول): أن يقال: ذكر صاحب "الدر المنثور" في تفسير الآية أقوالا عن المفسرين. فأول ما ذكر في ذلك قال: أخرج ابن عساكر من طريق الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس قال: كان أبي يقرؤوها: وصالح المؤمنين أبو بكر وعمر. وأخرج ابن عساكر، عن ميمون بن مهران مثله، وأخرج ابن عساكر، عن الحسن البصري في قوله: {وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِيْن} عمر بن الخطاب رضي الله عنه. وأخرج ابن عساكر، عن مقاتل بن سليمان قال: أبو بكر وعمر وعلي. وأخرج ابن عساكر من طريق مالك بن أنس، عن زيد بن زيد في قوله: {وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِيْن}، قال: الأنبياء. وأخرج ابن عساكر عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: {وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِيْن} 2 أبو بكر وعمر. وأخرج الطبراني، وابن مردويه، وأبو نعيم، في: "فضائل الصحابة" عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: {وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِيْن} 3. قال: "صالح المؤمنين أبو بكر وعمر". وأخرج في "الأوسط" وابن مردويه عن ابن عمر

_ 1 سورة التحريم آية: 4. 2 سورة التحريم آية: 4. 3 سورة التحريم آية: 4.

وابن عباس في قوله: {وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِيْن} 1 قال: "نزلت في أبي بكر وعمر". وأخرج سعيد بن منصور، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن سعيد بن جبير في قوله: {وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِيْن} قال: "نزلت في عمر بن الخطاب خاصة". وأخرج الحاكم عن أبي أمامة في قوله: {وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِيْن} قال: أبو بكر وعمر. فكل هذه الروايات نقلها السيوطي، ثم ذكر الروايات في أنها في "علي"، وذكر أن إسنادها ضعيف. فهؤلاء أئمة التفسير قد نقضوا عليك ما ادعيت من الخصوص. (الوجه الثاني): قوله: (الملازم له في جميع الطرائق، المؤنس له في مدلهمات المضايق). فيقال: تخصيص "علي" بذلك دون سائر الصحابة كذب ظاهر، ومكابرة عند أولي البصائر، كما يعرف ذلك من طالع كتب السير والتواريخ، وهو رضي الله عنه من صغار السابقين الأولين في السن. (الوجه الثالث): قوله: (وعند ابتداء النبوة والتفرد عن الناس بدين الله الأتم المُسْتَنْكَرِ عند أهله وقومه صلى الله عليه وسلم استوحش غاية الوحشة، وكان علي هو الولي الأتم، والفاضل الأقدم). فيقال: تخصيص "علي" بذلك دون خديجة، وزيد بن حارثة، وأبي بكر الصديق -رضي الله عنهم أجمعين- كذب ظاهر فاحش، وغلو لا يَمْتَرِي فيه إلا كل جاهل غبي. ومعلوم أن خديجة -عليها السلام ورضي الله عنها- أعظم من آنسه عند ابتداء الوحي، كما ثبت في الصحيحين والمسانيد والسنن والسير وكتب التفاسير: "أنه -عليه السلام- لما نزل عليه الوحي في غار حراء، وغطه الملك ثلاث مرات حتى بلغ منه الجهد، ثم أرسله، وقال له {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} 2 إلى قوله: {مَا لَمْ يَعْلَمْ} 3، فرجع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم يرجف فؤاده حتى دخل على خديجة، وقال: "زملوني زملوني ... وأخبرها الخبر، وقال: لقد خشيت على نفسي، فقالت له خديجة: أبشر، فوالله لا يخزيك الله أبدا، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكلَّ، وتقري الضيف، وتكسب المعدوم،

_ 1 سورة التحريم آية: 4. 2 سورة العلق آية:1. 3 سورة العلق آية:5.

وتعين على نوائب الحق، ثم ذهبت به إلى ابن عمها ورقة بن نوفل -وكان قد تنصر في الجاهلية وقرأ الكتب- فقالت: يا ابن عم، اسمع من ابن أخيك، فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم بما رأى، فقال ورقة: هذا الناموس الذي أنزل الله على موسى، ليتني فيها جذع، ليتني أكون حيا إذ يخرجك قومك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أو مخرجي هم؟ قال: نعم، لم يأت أحد بمثل ما جئت به إلا عودي. وإن يدركني يومك أنصرك نصرا مؤزرا" الحديث بطوله؛ ولهذا استحقت أن يرسل إليها ربها -تبارك وتعالى- بالسلام على لسان رسوليه جبرائيل ومحمد عليهما الصلاة والسلام، كما ثبت ذلك بالأسانيد الصحيحة. (الوجه الرابع): أنه من المعلوم المقرر عند أهل الأخبار والسير أن علي بن أبي طالب كان حال البعثة صغيرا، قيل: ابن ثمان سنين، وقيل: عشر. فهم متفقون على أنه لم يبلغ الحلم حين البعثة. وأما أبو بكر الصديق، وزيد بن حارثة، وغيرهما من كبار الصحابة. فلم يختلف أحد من أهل العلم في أنهم حال البعثة رجال بالغون، وهم أعظم ملازمة ومؤانسة للنبي صلى الله عليه وسلم إذ ذاك من علي؛ ولهذا ذكر أهل العلم أن زيد بن حارثة هو الذي كان معه حال خروجه إلى الطائف يدعوهم إلى الله، وأن أهل الطائف لما ضربوه وأخرجوه، وأمروا سفهاءهم وصبيانهم يرمونه بالحجارة حتى دميت قدماه، جعل زيد بن حارثة يقيه بنفسه؛ ولهذا ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث عائشة -رضي الله عنها- أنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم "هل أتى عليك يوم أشد عليك من يوم أحد؟ فقال: لقد أتى علي من قومك، وكان أشد ما لقيت منهم إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن كلال، فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب" الحديث. وكذلك أبو بكر رضي الله عنه ثبت في الصحيحين من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص أنه قيل له: أخبرنا بأشد شيء صنعه المشركون برسول الله صلى الله عليه وسلم؟

قال: "بينما النبي صلى الله عليه وسلم يصلي في حجر الكعبة، إذ أقبل عقبة بن أبي معيط، فوضع ثوبه في عنقه فخنقه خنقا شديدا، فأقبل أبو بكر حتى أخذ بمنكبه، ودفعه عن النبي صلى الله عليه وسلم وقال: {أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ} 1 الآية"2 - الحديث، وكان رفيقه وأنيسه، وصاحبه في الغار وسفر الهجرة. كما اتفق عليه الموافق والمخالف. (الخامس): قوله: حتى أحجم أصحاب أخيه صلى الله عليه وسلم ... ثم ذكر قصة قتل علي رضي الله عنه عمرو بن عبد ود. (فيقال): قوله: إن الصحابة أحجموا عن عمرو كذب ظاهر، وأما كون علي رضي الله عنه هو الذي قتله فأمر مشهور، وذلك لا يقتضي فضله على من سواه. وقد ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم الخندق: "من يأتينا بخبر القوم؟ فقال الزبير: أنا. ثم قال: من يأتينا بخبر القوم؟ فقال الزبير: أنا. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن لكل نبي حواري، وإن حواريّي الزبير"3. وفي رواية: "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ندب الناس فانتدب الزبير، ثم ندبهم فانتدب الزبير، فقال النبي صلى الله عليه وسلم إن لكل نبي حواري وإن حواريّي الزبير"4، فالسابقون الأولون قد ورد لهم من الفضائل; والخصائص مثل ما ورد لعلي. (الوجه السادس): قوله: "حتى ردت راية رسول الله صلى الله عليه وسلم ... حتى قال: لأبعثن بالراية رجلا يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله". فيقال: قد ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال هذا لغيره من الصحابة، وليست من خصائصه، بل هي فضيلة شاركه فيها غيره، بخلاف ما ثبت من فضائل أبي بكر وعمر؛ فإن كثيرا منها خصائص لهما لا سيما فضائل أبي بكر، فإن عامتها خصائص لم يشركه فيها غيره، كما ثبت في الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن أَمَنَّ الناس علَيّ في صحبته وذات يده: أبو بكر"5 وقال: "ما نفعني مال ما نفعني مال أبي بكر" 6. (الوجه السابع): احتجاجه بحديث: "أنت مني بمنْزلة هارون من موسى"7، تقدم الجواب عليه في كلام ابن حزم بما يكفي

_ 1 سورة غافر آية:28. 2 البخاري: المناقب (3856) , وأحمد (2/ 204). 3 البخاري: المغازي (4113) , ومسلم: فضائل الصحابة (2415) , والترمذي: المناقب (3745) , وابن ماجه: المقدمة (122) , وأحمد (3/ 307 ,3/ 338 ,3/ 345 ,3/ 365). 4 البخاري: المغازي (4113) , ومسلم: فضائل الصحابة (2415) , والترمذي: المناقب (3745) , وأحمد (3/ 307 ,3/ 338 ,3/ 345 ,3/ 365). 5 البخاري: الصلاة (466) , ومسلم: فضائل الصحابة (2382) , والترمذي: المناقب (3660) , وأحمد (3/ 18). 6 الترمذي: المناقب (3661) , وابن ماجه: المقدمة (94) , وأحمد (2/ 253 ,2/ 366). 7 البخاري: المناقب (3706) والمغازي (4416) , ومسلم: فضائل الصحابة (2404) , والترمذي: المناقب (3731) , وابن ماجه: المقدمة (115 ,121) , وأحمد (1/ 170 ,1/ 173 ,1/ 174 ,1/ 175 ,1/ 177 ,1/ 179 ,1/ 182 ,1/ 184 ,1/ 185).

فصل: الاستدلال بالأحاديث الضعيفة والموضوعة

وأما احتجاجه بحديث المباهلة، فنفس الحديث يدل على أن ذلك ليس من خصائص علي رضي الله عنه؛ لأنه قد شاركه فيه فاطمة وحسن وحسين، كما شاركوه في حديث الكساء، فعلم أن ذلك لا يختص بالرجال ولا بالذكور ولا بالأئمة، بل شركه فيه المرأة والصبي؛ فإن الحسنين كانا صغيرين عند المباهلة. فإن المباهلة كانت لما قدم وفد نجران بعد فتح مكة سنة تسع أو سنة عشر، والنبي صلى الله عليه وسلم مات ولم يستكمل الحسين سبع سنين، والحسن أكبر منه بنحو سنة، وإنما دعا هؤلاء؛ لأن الله أمر أن يدعو كل واحد من المتباهلين الأبناء والنساء والأنفس، فيدعو الواحد من أولئك أبناءه، ونساءه، وأخص الرجال به نسبا، وهؤلاء أقرب الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلا كان غيرهم أفضل منهم عنده، فلم يؤمر أن يدعو أفضل أتباعه؛ لأن المقصود أن يدعو كل واحد أخص الناس به، لما في جبلة الإنسان من الخوف عليه، وعلى ذوي رحمه الأقربين إليه؛ ولهذا خصهم في حديث الكساء لهم. والمباهلة مبناها على العدل، فأولئك أيضا يحتاجون أن يدعوا أقرب الناس إليهم نسبا، فهم يخافون عليهم ما لا يخافون على الأجانب، والله -سبحانه وتعالى- أعلم. فصل [الاستدلال بالأحاديث الضعيفة والموضوعة] وأما قوله: (حتى روى المحدثون من فضائله قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنت مني كرأسي من جسدي"). فالجواب أن يقال: هذا الحديث لا يعرف في شيء من الكتب المعتمدة: كالصحيحين والسنن والمسانيد، ولم يصححه أحد من أهل الحديث المعروفين بنقد الحديث، والتمييز بين صحيحه من موضوعه. ومجرد رواية بعض أهل الكتب لا توجب صحته؛ لأن كثيرا من أهل الكتب يروون في كتبهم الصحيح والحسن والضعيف والموضوع؛ وذلك لأنهم يميزون بين الحديث الذي تقوم به الحجة

فصل: انصراف وصيته -صلى الله عليه وسلم- بأهل بيته إلى من في زمنه منهم

مما لا تقوم به الحجة. ولهذا كانوا يخرجون في كتبهم جميع الأحاديث الصحيحة والضعيفة والحسنة والموضوعة، وأهل الخبرة بالحديث وعلله ورجاله يميزون الحديث الصحيح من غيره، كما يميز الصيرف البصير الدراهم المغشوشة، والله -سبحانه وتعالى- أعلم. فصل [انصراف وصيته -صلّى الله عليه وسلّم- بأهل بيته إلى من في زمنه منهم] ثم قال المعترض: (فإذا تقرر ذلك، فقد قال كثير من العلماء المحققين: إن المطلق إذا ورد صرف، وخص بالأغلب المألوف المعروف حال الورود، مثل تحريم الميتة في قوله -تعالى-: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} 1 فإنه ينصرف إلى الأكل خاصة دون الانتفاع والترطب، ولا يدخل تحريم غير الأكل بالآية بأدلة السنة، فكذلك نصنع في قوله: {وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ} 2 فإنه مطلق فيصرف إلى تخصيص الولاية بعلي رضي الله عنه. ويؤيد التخصيص الإضافة؛ لتتم فائدتها وهو التخصيص، إذ هو أولى من جعلها للعموم كما ذكره المجيب؛ لأن العموم يوجب المصير إلى كون الإضافة بيانية، وهو خلاف الغالب في الإضافة، ولو جازت غلبت الولاية، وحصلت لصحابي بملازمته لرسول الله صلى الله عليه وسلم مثل علي عليه السلام؛ لتلقيناه بالقبول، ووضعناه على الرأس، ولا نحسد الناس على ما آتاهم الله من فضله). (فالجواب) من وجوه: (أحدها): أن يقال: أمكنت والله الرامي من سواء الثغرة، ونقضت الأصل الذي أصلت، والدلائل التي أوردت من الأحاديث التي سطرت، كحديث زيد بن أرقم في قوله: "فانظروا كيف تخلفوني في الثقلين: كتاب الله، وعترتي أهل بيتي" ... إلخ. فيقول لك خصمك: هذا محمول على أهل بيته المعهودين المعروفين في زمانه، ولا يدخل فيهم من بعدهم من الذرية. وهذا عكس مراد المعترض؛ لأنه قرر في كلامه أن أهل البيت كلهم، من كان منهم من الصحابة، ومن جاء بعدهم من ذرياتهم - أنهم كلهم داخلون في عموم هذه الآيات التي

_ 1 سورة المائدة آية: 3. 2 سورة التحريم آية: 4.

أورد، والأحاديث التي ذكر، فكيف يقول هذا الجاهل بكلام الله ورسوله، وكلام أهل العلم: إن المطلق إذا ورد صرف، وخص بالأغلب المألوف المعروف حال الورود. فيقول لك خصمك: دلائلك هذه التي أوردت محمولة على أهل بيته المعهودين المعروفين في زمانه: كالعباس وأولاده، وجعفر وأولاده، وعقيل وأولاده، وأبي سفيان بن الحارث وأولاده، وأولاد أبي لهب، وعلي وأولاده منهم، ولا يدخل فيهم من بعدهم من الذرية، فما هذا الاعتراض البارد الذي كشف الله به عورتك، وجعلك به ضحكة عند من نظر في كلامك؟ وهذا الوجه كاف في رد كلام هذا المعترض. (الوجه الثاني): أن يقال قوله عن كثير من العلماء المحققين: "إن المطلق إذا ورد صرف، وخص بالأغلب المألوف المعروف حال الورود، مثل تحريم الميتة في قوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} 1، فإنه ينصرف إلى الأكل خاصة دون الانتفاع، والترطب ... إلخ. فهذا يدل على جهل هذا المعترض بما ذكره علماء الأصول المحققون. فقد قال أبو زرعة أحمد بن الإمام عبد الرحيم بن الحسين العراقي الشافعي في "شرحه على جمع الجوامع" لابن السبكي تقي الدين رحمه الله، وهذا لفظ الماتن والشارح: (العام لفظ يستغرق الصالح له من غير حصر) (ش) فهم من تصدير تعريف العام باللفظ أنه من عوارض الألفاظ، والمراد لفظ واحد للاحتراز عن الألفاظ المتعددة الدالة على أشياء متعددة، وخرج بقوله: (يستغرق) المطلق، فإنه لا يدل على شيء من الإفراد أصلا. والنكرة في سياق الإثبات مفردة كانت أو مثناة أو مجموعة أو عددا، فإنها إنما تتناول الإفراد على سبيل البدل. واحترز بقوله: (الصالح له عما لا يصلح، فعدم استغراق "ما" -لمن يعقل- إنما هو لعدم صلاحيتها له، أي: عدم صدقها عليه، لا لكونها غير عامة. وخرج بقوله: (من غير حصر) أسماء العدد، فإنها متناولة للصالح لها، لكن مع الحصر، وهذا مبني على أنها ليست عامة. وتبعه المصنف هناك، وزاد البيضاوي وغيره في هذا التعريف "بوضع واحد" ليخرج المشترك إذا أريد به معناه،

_ 1 سورة المائدة آية: 3.

فإنه مستغرق لما يصلح له، لكن بوضعين لا بوضع واحد، فتناوله لهما ليس من العموم. (ص) والصحيح دخول النادرة، وغير المقصودة تحته، وأنه قد يكون مجازا، وأنه من عوارض الألفاظ، قيل والمعاني وقيل به في الذهن، ويقال للمعنى أعم، واللفظ عام. (ش) فيه مسائل: (الأولى): الصحيح أن الصورة النادرة تدخل في العموم، وقال الشارح: زعم المصنف أن الشيخ أبا إسحاق الشيرازي حكى فيه خلافا، ولم أجده في كتبه، وإنما يوجد في كلام الأصوليين اضطراب فيه يمكن أن يؤخذ منه الخلاف، وكذا في كلام الفقهاء؛ ولهذا اختلفوا في المسابقة على الفيل على وجهين: (أصحهما) نعم؛ لقوله -عليه السلام-: "لا سبق إلا في خف أو حافر"1 (والثاني) لا؛ لأنه نادر عند المخاطبين في الحديث. [دخول الصور النادرة والمجاز في صيغة العموم] (الثانية): الصحيح دخول الصور التي ليست مقصودة في العموم؛ فإن اللفظ متناول لها، ولا انضباط للمقاصد، وممن حكى الخلاف في ذلك القاضي عبد الوهاب، ويوجد في كلام أصحابنا؛ ولهذا قال في البسيط، بعد حكاية الخلاف في ذلك، فيما لو وكله بشراء عبد، فاشترى من يعتقه على الموكل. ومثار الخلاف التعلق بالعموم، والالتفات إلى المقصود. (الثالثة): الصحيح أن المجاز كالحقيقة في أنه قد يكون عاما، فلم ينقل عن أحد من أئمة اللغة أن الألف واللام، أو النكرة في سياق النفي، أو غيرهما من صيغ العموم، لا تفيد العموم إلا في الحقيقة، وخالف فيه بعض الحنفية، فزعم أن المجاز لا يعم بصيغته؛ لأنه على خلاف الأصل. (الرابعة): لا خلاف أن العموم من عوارض الألفاظ، وليس المراد وصف اللفظ به مجردا عن المعنى، بل باعتبار معناه الشامل للكثرة. وعطف المصنف ذلك على ما عبر فيه بالأصح يقضي خلافا فيه. قال الشارح: وينبغي أن يجعل استئنافا لا عطفا على ما قبله. قلت: يمكن أنه أراد أنه من عوارض الألفاظ فقط، فيرجع

_ 1 الترمذي: الجهاد (1700) , والنسائي: الخيل (3589) , وابن ماجه: الجهاد (2878) , وأحمد (2/ 256 ,2/ 358 ,2/ 474).

التصحيح إلى تضعيف القول بأنه من عوارض المعاني أيضا، لا إلى كونه من عوارض الألفاظ؛ ولذلك عقبه بقوله: (قيل والمعاني). والذاهبون إليه اختلفوا في أن عروضه للمعاني: هل هو حقيقة أو مجاز، فقال بعضهم: حقيقة، فكما صح في الألفاظ شمول أمر لمتعدد، صح في المعاني شمول معنى لمعاني متعددة بالحقيقة فيها. وقال القاضي عبد الوهاب: مراد قائله حمل الكلام على عموم الخطاب، وإن لم يكن هناك صيغة تعمها، كقوله -تعالى-: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} 1 إن نفس الميتة وعينها لما لم يصح تناول التحريم لها، عممنا بالتحريم جميع التصرف فيها، من الأكل والبيع واللبس وسائر أنواع الانتفاع، وإن لم يكن للأحكام ذكر في التحريم لا بعموم ولا بخصوص. انتهى ما ذكره ابن السبكي، وأبو زرعة أحمد بن عبد الرحيم في الشرح المذكور. [تحريم الميتة يشمل جميع أنواع الانتفاع بها] وقال المقدسي من الحنابلة: قوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} 2 هي ظاهرة في جميع أنواع التصرف، واستدل على أن المراد جميع أنواع التصرف فيها بأدلة ذكرها. وكذلك قال ابن عقيل: يحرم جميع الأفعال فيها، وقد ذكر أنه قول الجبائي، وابنه وعبد الجبار، فظاهر هذا، بل صريحه أن هذه الآية عامة في كل نوع من الانتفاع؛ ولهذا احتج بها أحمد في دباغ جلود الميتة. قال في رواية صالح: إن الله قال: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} 3، فالجلد هو من الميتة، وههنا احتج بها أحمد على عدم الانتفاع بالجلد. فظهر بما ذكر عن هؤلاء الأئمة بطلان ما ذكره هذا المعترض في عدم شمول الآية في أنواع الانتفاع؛ ولهذا ثبت في الصحيح والسنن من حديث جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال -عام الفتح وهو بمكة-: "إن الله حرم بيع الخمر والميتة والخنْزير والأصنام. فقيل: يا رسول الله أرأيت شحوم الميتة، فإنه يطلى بها السفن، ويدهن بها الجلود، ويستصبح بها الناس؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا، هو حرام. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك: قاتل الله اليهود، إن الله -تعالى- لما حرم عليهم شحوم الميتة جملوها، ثم باعوها فأكلوا ثمنها"4.

_ 1 سورة المائدة آية: 3. 2 سورة المائدة آية: 3. 3 سورة المائدة آية: 3. 4 البخاري: البيوع (2236) , ومسلم: المساقاة (1581) , والترمذي: البيوع (1297) , والنسائي: الفرع والعتيرة (4256) والبيوع (4669) , وأبو داود: البيوع (3486) , وابن ماجه: التجارات (2167) , وأحمد (3/ 326).

فصل: رواة أهل السنة لا يتعصبون في الروايات كالشيعة

وروى أبو داود في السنن عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسا عند الركن، قال: فرفع بصره إلى السماء، فضحك، فقال: "لعن الله اليهود -ثلاثا-. إن الله -تعالى- حرم عليهم الشحوم، فباعوها وأكلوا أثمانها، وإن الله عز وجل إذا حرم على قوم أكل شيء حرم عليهم أكل ثمنه"1. فصل [رواة أهل السنة لا يتعصبون في الروايات كالشيعة] وأما قوله: (فلو جاءت غلبة الولاية، وحصلت لصحابي؛ لملازمته لرسول الله صلى الله عليه وسلم مثل "علي" لتلقيناه بالقبول، ووضعناه على الرأس، ولا نحسد الناس على ما آتاهم الله من فضله). (فالجواب) أن يقال: قد كذبت في هذه الدعوى، فقد علمتم أنه قد ورد لغيره من الفضائل ما هو مثل فضائل علي رضي الله عنه أو أعظم، ولم تضعونها على الرأس، بل كذبتم به، ورددتموه بمجرد الدعاوي الباطلة التي يمكن كل أحد أن يدعيها فيمن يحبه ويهواه. فإن كنت صادقا كما زعمت فقل لنا، حتى نكتب لك ذلك، وننقله من الكتب الصحيحة، والتفاسير المأثورة. فإن قلتم: لا نقبل رواية خصومنا. قال لكم خصومكم: لا نقبل روايتكم؛ لأنكم خصومنا، والروايات التي رويناها في فضائل أهل البيت قد روينا في فضائل الصحابة ما هو مثلها أو أعظم منها، ولم يمكنكم أن تحتجوا عليهم بحجة صحيحة لا معارض لها. فاستحيوا من الله ;-تعالى- ومن خلقه، من هذا الجنون، والخبال الذي يفضحكم عند الرجال والنساء. فصل [بغي بعض المسلمين على بعض لا يقتضي الكفر ولا ينفي محبتهم جميعا] وأما قوله -في الاعتراض على كلام المجيب على حديث عمار رضي الله عنه- وذكر أن المجيب (قد أقر على لسان أهل السنة والجماعة بأن معاوية رضي الله عنه

_ 1 أبو داود: البيوع (3488) , وأحمد (1/ 247 ,1/ 293 ,1/ 322).

قد أخطأ وأذنب، وقد قال -تعالى-: {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} 1 ثم قال: وقد نص -تعالى- على موجب الظلم، وما يحكم به لصاحبه فقال -عز من قائل-: {مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ} 2. ثم إنك أقررت ببغي معاوية رضي الله عنه وأصحابه، ثم حكمت له بالمغفرة، وبالجنة بعد ثبوت الفاحشة منه، وهو البغي. وقد قال -تعالى-: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} 3، ويقرنه بالفحشاء والمنكر، ويدخل فاعله -الذي لم يتب منه، ومات مُصِرًّا عليه- الجنة؟ ما هذا حكم بالعدل!). (فالجواب) من وجوه: (أحدها): أن يقال: أنت قد نقضت كلامك هذا كله في كلامك الذي قبل هذا بأسطر يسيرة بقولك: قال كثير من العلماء المحققين: إن المطلق إذا ورد صرف، وخص بالأغلب المألوف المعروف حال الورود ... إلى آخره. وذلك أنه من المعلوم أن هذه الآيات التي جعلتها متناولة لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو معاوية رضي الله عنه ومن معه، يقول لك منازعوك: إن المعروف المشهور عند أهل التفسير أنها نزلت في أهل الشرك والكفر، فكيف جعلتها في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم تخص بها أهل الكفر المألوف المعروف في حقهم؟ (الوجه الثاني): أن المجيب ذكر أن الحديث على ظاهره ولم يغيره ولم يؤوله، ولكن ذكر أن إثبات البغي لهم لا يوجب فسقهم ولا كفرهم إذا كانوا متأولين مخطئين في ذلك. والمجيب لا ينْزههم من الذنوب والخطأ، لكنه ذكر ما دل عليه كتاب الله من أن البغي لا ينفي الإيمان عمن فعله، كما قال -تعالى-: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} 4، فسماهم الله مقتتلين مع الإيمان. (الوجه الثالث): قوله: فأين فائدة كلام الحكيم صلى الله عليه وسلم؟ فيقال: إنما يعرف فائدة كلام الرسول صلى الله عليه وسلم أهلُ العلم والإيمان، فهم الذين يهتدون به ويعرفون معناه

_ 1 سورة الطلاق آية: 1. 2 سورة غافر آية: 18. 3 سورة النحل آية: 90. 4 سورة الحجرات آية: 9.

ويعقلونه كعلي -رضي الله عنه- وأصحابه، ومن شابههم من أهل الفهم والمعرفة لكتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. وأما أهل الجهل والضلال فهو عليهم عمى وضلال كما قال -تعالى-: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمىً أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} 1، كهذا المعترض ومن شاكله الذي يتناقض في السطر الواحد، ويرد كلامه بعضه بعضا، وهو لا يشعر ولا يدري. والفائدة في حديث عمار قد عقلها أهل السنة والجماعة، وهو أنهم علموا أن قتلة عمار فئة باغية على الإمام، وأن عليا رضي الله عنه وأصحابه أولى بالحق من معاوية رضي الله عنه وأصحابه، وهذا هو الفائدة في الحديث؛ ومن فهم منه غير ذلك فقد أبعد النجعة، وتكلف ما لا علم له به. (الوجه الرابع): أن يقال: حمله هذه الآيات التي ذكرها على معاوية وأصحابه مثل حمل الخوارج آيات الشرك والكفر والظلم على علي رضي الله عنه وأصحابه سواء بسواء، فكما أن كلام الخوارج معلوم البطلان بضرورة العقل، فكذلك حمل هذه الآيات على معاوية رضي الله عنه وأصحابه معلوم البطلان بالضرورة. فما هذه الوقاحة، وقلة الحياء، وصفاقة الوجوه؟! (الوجه الخامس): أن يقال قوله: ما هذه السوابق والحسنات التي لهم؟ هل قتل عمار وخزيمة ذي الشهادتين وأبي الهيثم بن التيهان وغيرهم من المهاجرين والأنصار؟ فيقال: الحسنات العظيمة التي لا مطمع لأحد فيها هي صحبتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم وجهادهم معه الذي لو أنفق الرجل مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم، ولا نصيفه. كما ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لخالد بن الوليد لما جرى بينه وبين عبد الرحمن بن عوف -رضي الله عنهما- كلام ومنازعة، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "يا خالد، دع عنك أصحابي، فوالذي نفسي بيده لو أنفقت مثل أحد ذهبا ما بلغت مد أحدهم ولا نصيفه"2 هذا كلامه في خالد وهو من جملة الصحابة. لكنه ليس من السابقين الأولين، فكيف بمن لم يصحبه؟

_ 1 سورة فصلت آية: 44. 2 البخاري: المناقب (3673) , ومسلم: فضائل الصحابة (2541) , والترمذي: المناقب (3861) , وأبو داود: السنة (4658) , وأحمد (3/ 11 ,3/ 54 ,3/ 63).

فصل: مخالفة الشيعة لأهل السنة في الصحابة وآل البيت

وأما قتل عمار وخزيمة وأبي الهيثم وغيرهم -رضي الله عنهم- فإنما فعلوا ذلك بتأويل واجتهاد، وكل من الفريقين يظن أن الحق والصواب معه. وعلي -رضي الله عنه- وأصحابه قتلوا الزبير بن العوام، وطلحة بن عبيد الله، وغيرهم من السابقين ومن الصحابة -رضي الله عنهم- فما ذكرت في معاوية وأصحابه ففي علي وأصحابه ما هو مثلهم. فصح -يقينا- أن مذهب أهل السنة والجماعة هو الحق والصواب، وهو محبة جميع الصحابة -رضي الله عنهم- والترضي عنهم، والدعاء لهم، والكف عما شجر بينهم، رضي الله عنهم أجمعين. فصل [مخالفة الشيعة لأهل السنة في الصحابة وآل البيت] وأما قوله: (فهذا ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم محمد بن علي بن القاسم أبو طالب -حفظه الله- قد حكمك، وفوض إليك بسؤاله بأن تحكم بين جده علي بن أبي طالب، ومن معه من المهاجرين والأنصار وشيعة أهل العراق. وأهل اليمن أهل الإيمان من حمير وهمدان، وبين معاوية ومن معه من أهل الشام الطغام أعداء الرحمن، فحكمت بما قاله خصماء علي بن أبي طالب، وهم ممن رضي فواقر معاوية وصنيعه، وهم الموالون له، المحبون له ولأصحابه، المتسمون بأهل السنة والجماعة. فكأن السائل عندكم لم يعرف كتاب الله، ولا ما جاء به جده صلى الله عليه وسلم ... إلى قوله: وهيهات أن يطمع في ذلك طامع، فقلوبهم قد نبت فيها حب آل محمد صلى الله عليه وسلم ورسخ لما رأوا من حلاوته، وقد سقاه حسن الوفاء بأجر سيد المرسلين من المودة لذريته المباركة، نجوم أهل الأرض، وباب حطة، وباب السلام، وسفينة نوح، وقرناء القرآن، والله المستعان). (فالجواب) من وجوه: (أحدها): أن يقال: قوله "فحكمت بما قاله خصماء علي بن أبي طالب رضي الله عنه وهم ممن رضي فواقر معاوية وصنيعه" كذب ظاهر؛ فإن المجيب قد بين أن قوله هو الذي يدل عليه كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم،

وبما تواتر عن علي رضي الله عنه أنه كان يسمي أهل الشام إخوانه، وقال: "هؤلاء إخواننا قد بغوا علينا" كما ذكره غير واحد من علماء السير والتواريخ. (الوجه الثاني): قوله في أهل الشام: الطغام أعداء الرحمن، كذب وفجور، وقول بلا دليل، ومخالفة لما عليه جماعة جميع أهل البيت، ولازمه الطعن في أكابر أهل البيت كالحسن والحسين، وابن عباس وابن جعفر؛ لأن هؤلاء كلهم قد بايعوا معاوية -رضي الله عنه- وصاروا من جملة رعيته بلا إكراه كما تقدم تقريره، وكما سيأتي في فصل كلام أهل البيت -رضي الله عنهم- في معاوية رضي الله عنه. (الوجه الثالث): قوله في أهل السنة: وهم ممن رضي فواقر معاوية. وهذا أيضا كذب بين وبهتان؛ فإن المجيب وسلفه من أهل السنة لا يرضون بقتال معاوية وأصحابه لعلي، بل الصواب عندهم أن معاوية ومن معه في طاعة أمير المؤمنين وبيعته، ولا يرضون بسب علي وأهل بيته، بل ينكرونه على من فعله أو رضيه، كما ملئت كتبهم بذلك، وهذا المعترض يعلم، ولكنه ممن يجادل بالباطل. (الوجه الرابع): قوله: وهم الموالون له، المحبون له ولأصحابه. فهذا صدق وصواب؛ فإن أهل السنة يتولون جميع الصحابة كلهم، ويطهرون ألسنتهم من الخوض في تلك الحروب الواقعة بينهم، بمعنى أنهم يحملون ذلك على المحمل الحسن اللائق بهم؛ لأن الله أثنى على جميع الصحابة في كتابه العزيز بقوله: {لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} 1 ويعرفون للسابقين الأولين حقهم على من بعدهم، وينْزلون كلا منْزلته التي أنزله الله إياها فلم يفعلوا كفعل الروافض، والزيدية، والخوارج الذين يفرقون بينهم، فيتولون بعضهم، ويبغضون ويتبرؤون من بعضهم، وهذا هو الذي تدل عليه الدلائل الصحيحة من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية الثابتة بالأسانيد المرضية.

_ 1 سورة الحديد آية: 10.

(الوجه الخامس): قوله: فوجدك قد قلت بمقالة أهل الانحراف عن الآل. وهذا أيضا من نمط ما تقدم من كذبه وفجوره وقلة حيائه من الناس؛ فإن المجيب قد بين أن مقالته التي ذهب إليها هو وسلفه هي التي عليها آل محمد صلى الله عليه وسلم. وقد نقل في كلامه لفظهم بحروفه، وبين أن دعوى المعترض اتباع الآل كذب وجهل وخبال، لا يعجز عنه أحد من الناس. (الوجه السادس): قوله عن أهل السنة: أنهم أصلوا أصولهم، وقعدوا قواعدهم على أساس أسسه لهم بنو أمية وبنو العباس. وهذا أيضا من كذبه وفجوره، وذلك أن أهل السنة إنما أصلوا أصولهم على ما دل عليه كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم من وجوب طاعة أولي الأمر كما تقدم ذكر الدلائل على ذلك من الكتاب والسنة أول هذا الجواب بما أغنى عن إعادته. فإن قال: إن تلك الآيات والأحاديث لا تدل على ذلك، أو إنها مخالفة لكتاب الله، أو إنها مكذوبة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، أمكن خصمك أن يقول مثل ذلك في الأصول التي أصلت، والدلائل التي قررت. [بغض الشيعة لأناس وهم من آل محمد وعترته] (الوجه السابع): أن يقال: أنت قد تبرأت وتنصلت من الملوك الظلمة من بني العباس، وهم من آل محمد بالإجماع، وداخلون في مسمى عترته عند جميع فرق الأمة، فهذا يبطل جميع ما أوردته من الدلائل التي معك في اتباع أهل البيت، فإذا كان من أهل البيت مَنْ هو من الملوك الظلمة أئمة جور، فكذلك يقال في من خالفوا الكتاب والسنة من آل علي سواء بسواء، ولا يمكنك أن تأتي بحجة صحيحة لا معارض لها في دخول آل علي في تلك الدلائل، وخروج غيرهم منها، فأبطلت بكلامك ما أصلته ورددت على نفسك بنفسك ما قررته وأنت لا تشعر، وهذا حال من يتكلم في مثل هذه الأمور العظيمة بمثل هذه الجهالات والخبالات التي يأنف منها أهل العرفان، بل ينفر منها الصبيان، عياذا بالله من الخزي والخذلان.

[اختلاف جيش علي عليه واتفاق جيش معاوية عليه] (الوجه الثامن) أن يقال: قوله عن السائل وشيعته: وهم أهل اليمن من همدان وحمير وذرية من قاتل معاوية، وأهل الشام في صفين مع وصي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخيه القائل في همدان، حين شقت سيوفهم قلوب العدوان من أهل الشام الطغام في ذلك الأوان: فلو كنت بوابا على باب جنة ... لقلت لهمدان ادخلوا بسلام فهذا من أظهر الكذب وأفجر الفجور في أنه قد مدحهم بما ليس فيهم، والدليل على ذلك ما ذكره أهل الأخبار والسير من أن عسكر علي اختلفوا عليه اختلافا كثيرا، وآذوه أذى عظيما، حتى مل منهم، وتمنى الموت. وقد قال أبو عبيد القاسم بن سلام -وهو من أئمة الحديث والفقه واللغة- عمن حدثه عن أبي سنان العجلي قال: قال ابن عباس لعلي رضي الله عنه: "ابعثني إلى معاوية، فوالله لأفتلن له حبلا لا ينقطع وسطه". فقال: "لست من مكري ومكره في شيء، ولا أعطيه إلا السيف حتى يغلب الحق الباطل". فقال ابن عباس رضي الله عنه: "أوغير ذلك؟ " قال: "كيف؟ " قال: "إنه يطاع ولا يعصى، وأنت عن قريب تعصى ولا تطاع". قال: فلما جعل أهل العراق يختلفون على علي رضي الله عنه قال: "لله ابن عباس، إنه لينظر إلى الغيب من ستر رقيق". وحدثني خلاد بن يزيد الجعفي، حدثنا عمرو بن شمر عن جابر الجعفي عن الشعبي أو أبي جعفر الباقر -شك خلاد- قال: "لما ظهر أمر معاوية -رضي الله عنه- دعا علي -رضي الله عنه- رجلا، وأمره أن يسير إلى دمشق، فيعقل راحلته على باب المسجد، ويدخل بهيئة السفر، ففعل الرجل، وكان قد وصاه، فسألوه: من أين جئت؟ قال من العراق. قالوا: ما وراءك؟ قال: تركت عليا قد حشد إليكم، ونهد في أهل العراق، فبلغ معاوية رضي الله عنه، فأمر أبا الأعور السلمي يحقق أمره، فأتاه فسأله، فأخبره بالأمر الذي شاع، فنودي: الصلاة جامعة، فامتلأ الناس في المسجد، فصعد معاوية المنبر، وتشهد

ثم قال: إن عليا قد نهد إليكم في أهل العراق، فما الرأي؟ فضرب الناس أذقانهم على صدورهم، ولم يرفع إليه أحد طرفه، فقام ذو الكلاع الحميري، فقال: عليك الرأي وعلينا أم فعال -يعني الفعال-. فنَزل معاوية، ونودي في الناس: اخرجوا إلى معسكركم، ومن تخلف بعد ثلاث أحل نفسه. فخرج رسول علي حتى وافاه، وأخبره بذلك، فأمر علي رضي الله عنه فنودي: الصلاة جامعة، فاجتمع الناس، فصعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: "إن رسولي الذي أرسلته إلى الشام قد قدم علي، وأخبرني أن معاوية قد نهد إليكم في أهل الشام، فما الرأي؟ قال: فأضب أهل المسجد يقولون: يا أمير المؤمنين، الرأي كذا الرأي كذا، فلم يفهم علي كلامهم من كثرة كلامهم، وكثرة اللغط، فنَزل وهو يقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، ذهب بها ابن أكَّالة الأكباد"، يعني: معاوية رضي الله عنه. وقال الأعمش: حدثني مَنْ رأى عليا يوم صفين يصفق بيديه ويعض عليها، ويقول: "يا عجبًا أُعْصَى ويُطَاع معاوية! " [ظلم بسر بن أرطأة وعدم ثبوت صحبته] وذكر ابن الأنباري عن أبيه عن أحمد بن عبيد عن هشام بن محمد عن أبي مخنف لوط قال: لما توجَّه بسر بن أبي أرطاة أخبر عبيد الله بن عباس بذلك، وهو على اليمن عامل لعلي رضي الله عنه فدخل بسر بن أبي أرطاة اليمن، فأتى بابني عبيد الله بن عباس، فذبحهما وهما صغيران، فنال أمهما عائشة بنت عبد الدان من ذلك أمر عظيم. وذكر أبو عمرو الشيباني في خروج بسر أنه أغار على همدان، فقتل وسبى نساءهم، وكن أول نساء سبين في الإسلام، وبسر هذا له أخبار سوء بجانب علي رضي الله عنه ولا تصح له صحبة، قاله الإمام أحمد ويحيى بن معين، قال يحيى بن معين: كان رجل سوء، وذكر أن عليا رضي الله عنه دعا عليه أن يطيل الله عمره، ويذهب عقله، فكان كذلك.

قال ابن دحية: ولما ذبح الصغيرين، وفقدت أمهما عقلها، كانت تقف بالمواسم تنشد شعرا يبكي العيون، ويهيج بلابل الأحزان والغبون: ها من أحس بني اللذين هما ... كالدرتين تشظى عنهما الصدف ها من أحس بني اللذين هما ... سمعي وعقلي فقلبي اليوم مختطف حدثت بسرا وما صدقت ما زعموا ... من قولهم ومن الإفك الذي اقترفوا أحنى على ودجي ابني مرهفة ... مشحوذة وكذاك الإثم يقترف [خذلان أهل العراق للحسين ووجود بعض أهل اليمن مع معاوية] ومعلوم عند من له أدنى معرفة بالأخبار ما جرى من أهل الكوفة مع الحسين بن علي -رضي الله عنهما- حين كاتبوه، وأمروه بالشخوص والقدوم عليهم، ووعدوه أن يبايعوه، فاغتر بهم وبمواعيدهم الكاذبة، وأمانيهم الباطلة، فشخص إليهم بأهله وولده، وكان قد أرسل إليهم قبل ذلك ابن عمه مسلم بن عقيل -رضي الله عنهما-، فلما قرب الحسين منهم خذلوه، وأسلموه للقتل، وقُتِلَ معه اثنان وثمانون رجلا من أصحابه مبارزة، ثم قتل جميع بنيه إلا عليا المسمى بعد ذلك بزين العابدين، كان مريضا فأخذ أسيرا، وقتل أكثر إخوة الحسين وبني أعمامه. فهؤلاء شيعة أهل البيت الذين أثنى عليهم هذا المعترض، وهم أهل اليمن من همدان وحمير، وقد كان مع معاوية رضي الله عنه جموع كثيرة من حمير وغيرها من قبائل اليمن، منهم: ذو الكلاع الحميري، كان من أشراف أصحاب معاوية وساداتهم وقتل يومئذ، ومن أصحاب معاوية وأمرائه يومئذ كريب بن الصباح الحميري أحد الأبطال، قتل يومئذ جماعة ثم بارزه علي فقتله.

فصل: في اعتدال أهل السنة بين غلو الشيعة وجفوة النواصب

فصل [في اعتدال أهل السنة بين غلو الشيعة وجفوة النواصب] وأما قوله: (وانظر تواريخ الإسلام وما قال الناس، هل أحد روى أن معاوية وأصحابه ضمنوا ما أفسدوا من حقوق المسلمين، وأنهم تابوا من تلك الطامة، والفاحشة العامة، والمعصية الكبيرة، وهو البغي الذي أقررت به، وهل ودوا عمارا وخزيمة وأبا الهيثم وأويسا القرني -سيد التابعين- وغيرهم، وسلموا دياتهم إلى أهليهم، أم ماتوا متلطخين بدمائهم وبالفسق والعصيان؟) (فالجواب): أن يقال كل ما ذكرت في معاوية وأصحابه قد جرى مثله لعلي وأصحابه أو ما هو أعظم من ذلك، وهو قتل طلحة والزبير ومن معهما من المهاجرين والأنصار، وأعظم من ذلك أن قتلة عثمان أمير المؤمنين رضي الله عنه كانوا مع علي، وكانوا من رؤوس عسكره، فما قلت في معاوية يقال في علي رضي الله عنه فكما تأوَّل علي رضي الله عنه في الدماء كذلك تأوَّل معاوية وأصحابه، فإن صحَّت هذه الدعوى ففيها من القدح والغضاضة في علي والحسن والحسين وابن عباس -رضي الله عنهم- ما لا يخفى. وهذه الحجة التي ذكرت مما يحتج بها معاوية رضي الله عنه وأصحابه على علي رضي الله عنه وأصحابه، ولا يمكنك أن تأتي بحجة صحيحة تُبَرِّيء بها عليا وأصحابه دون معاوية وأصحابه، إلا بالمكابرة والمعاندة. فظهر بما ذكرناه أن مذهب أهل السنة والجماعة هو الصواب الذي لا يتناقض؛ لأن الباغي قد يكون متأوِّلا معتقدا أنه على حق، وقد يكون متعمدا يعلم أنه باغٍ، وقد يكون بغيه مركبا من شبهة وشهوة وهو الغالب، وعلى كل تقدير فهذا لا يقدح فيما عليه أهل السنة، فأصلهم مستقيم مطرد في هذا الباب، وأما أنتم فمتناقضون. وذلك أن النواصب من الخوارج وغيرهم الذين يُكَفِّرون عليا أو يُفسِّقُونه أو يشكون في عدالته من المعتزلة والمروانية وغيرهم لو قالوا لكم: ما الدليل على إيمان

علي وإمامته وعدله؟ لم يكن لكم حجة، فإنكم إن احتججتم بما تواتر من إسلامه وعبادته، قالوا لكم: وهذا متواتر عن الصحابة والتابعين والخلفاء الثلاثة وغيرهم. فليس قدحنا في إيمان علي وأصحابه إلا مثل قدحكم في إيمان معاوية وأصحابه. وإن احتججتم بما في القرآن من الثناء والمدح على الصحابة، قالوا: آيات القرآن عامة تتناول غير علي منهم مثل ما تتناول عليا رضي الله عنه، وإن أخرجتم هؤلاء من المدح والثناء، فإخراجنا عليا أيسر وأهون، فإن احتججتم عليهم بالنص الذي تدعونه، كان احتجاجهم بالنصوص التي يدعونها في أبي بكر، بل في العباس معارضا لذلك -رضي الله عنهم-، ولا ريب عند كل من يعرف الحديث أن تلك أولى بالقبول والتصديق. فإذا قال الرافضي: إن معاوية رضي الله عنه كان باغيا ظالما، قال له الناصبي: وعلي كان باغيا ظالما، قتل المسلمين على إمارته، وبدأهم بالقتال، وصال عليهم، وسفك دماء الأمة بغير فائدة لهم لا في دينهم ولا في دنياهم، وكان السيف في خلافته مسلولا على أهل الملة مكفوفا عن الكفار. والقادحون في علي رضي الله عنه طوائف: طائفة تقدح فيه وفيمن قاتل جميعا. وطائفة تقول: فسق أحدهما لا بعينه، كما يقول ذلك عمرو بن عبيد وغيره من شيوخ المعتزلة، يقولون في أهل الجمل: فسقت إحدى الطائفتين لا بعينها، وهؤلاء يُفَسِّقُون معاوية. وطائفة تقول: هو الظالم دون معاوية كما تقوله المروانية. وطائفة تقول: كان في أول الأمر مصيبا فلما حكَّم الحَكَمَيْن كفر وارتدَّ، وهؤلاء الخوارج، وكلهم مخطئون في ذلك ضالون مبتدعون، وخطأ الشيعة مثله أو أظهر بطلانا منه. فإن قال الذابُّ عن علي رضي الله عنه هؤلاء الذين قاتلهم علي كانوا بغاة؛ لما ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعمار: "تقتلك الفئة الباغية"1، فللناس في هذا الحديث أقوال منهم: مَنْ قدح في حديث عمار، ومنهم مَنْ تأوَّله على أن الباغي الطالب، وهو ضعيف، ومنهم مَنْ تأوَّله على عليٍّ وأصحابه كما قال معاوية لَمَّا

_ 1 مسلم: الفتن وأشراط الساعة (2916) , وأحمد (6/ 289 ,6/ 300 ,6/ 311 ,6/ 315).

فصل: مذهب الزيدية في لعن معاوية

قيل له: إن عمارا قُتِل، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "تقتلك الفئة الباغية"1، فقال: "أفنحن قتلناه؟ إنما قتله علي وأصحابه، جاؤوا به حتى ألقوه بين أسيافنا ورماحنا، وإنما ندفع عن أنفسنا". وهذا تأويل باطل؛ ولهذا ردَّه أمير المؤمنين علي رضي الله عنه بما لا حيلة فيه، فقال: إذًا فرسول الله صلى الله عليه وسلم قتل حمزة رضي الله عنه حين جاء به يقاتل المشركين. وأما أهل السنة والجماعة -رحمهم الله - فكلامهم مستقيم، ولا مطعن فيه لأحد؛ لأنهم اتفقوا على أنه لا تُفَسَّقُ واحدة من الطائفتين، وإن قالوا في إحداهما إنهم كانوا بغاة؛ لأنهم كانوا متأوِّلين مجتهدين، والمجتهد المخطئ لا يُكَفَّر ولا يُفَسَّق، وإن تعمَّد البغي فهو ذنب من الذنوب، والذنوب يُرْفَعُ عقابها بأسباب متعددة كالتوبة، والحسنات الماحية، والمصائب المكفرة، وشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم ودعاء المؤمنين، وغير ذلك من الأسباب؛ ولهذا قال محمد بن شهاب الزهري -وهو من أئمة التابعين-: "هاجت الفتنة وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم متوافرون، فأجمع رأيهم على أن كل دم أو مال أصيب بتأويل القرآن فهو هدر" أو كلاما هذا معناه، أخرجه غير واحد من الأئمة. فصل [مذهب الزيدية في لعن معاوية] وأما قوله في تحقيق مذهب الزيدية في لعن معاوية: (أنهم يظهرون -حيث يخشون التهمة- بموالاته المحرمة بنص الكتاب العزيز، حيث قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} 2 فلا يوجبونها مطلقا ولا يستحبونها مطلقا ...) إلى آخر كلامه. (فالجواب): أن يقال: أنت قرَّرت في أول اعتراضك أنه لو جاء ملك بلعن إبليس -لعنه الله- على المنابر لَعُدَّ مبتدعا، فكيف استجزتم -أيها المنتسبون إلى زيد رضي الله عنه- لعن معاوية -رضي الله عنه-؟! ما هذا التناقض العظيم والتهور فيما يوجب العذاب الأليم؟!

_ 1 مسلم: الفتن وأشراط الساعة (2916) , وأحمد (6/ 289 ,6/ 300 ,6/ 311 ,6/ 315). 2 سورة الممتحنة آية: 1.

فصل: لا أحد يشهد لأحد بالجنة أو النار إلا من ثبت له ذلك

وأما استدلاله بهذه الآية الكريمة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} 1، وقوله: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ} 2 الآية، فهي دعوى باطلة كدعوى الخوارج والمبغضين لعلي رضي الله عنه وأهل بيته بأن هذه الآيات فيهم، فكما أن دعواهم ظاهرة البطلان، فكذلك دعواكم. [دعوى أن أهل السنة رضوا بسب علي رضي الله عنه] وأما دعواه أن أهل السنة قد رضوا بسبِّ علي رضي الله عنه فكذب عليهم لا يمتري فيه أحد، بل هم ينكرون سب علي رضي الله عنه أشد الإنكار في قديم الزمان وحديثه، وهم الذين عملوا بقوله -تبارك وتعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ} 3 الآية. فصل [لا أحد يشهد لأحد بالجنة أو النار إلا من ثبت له ذلك] وأما قوله: (قد حكمت بدخوله الجنة). (فالجواب): أن يقال: هذا كذب ظاهر على المجيب؛ وذلك أنه هو وسلفه من أهل السنة والجماعة لا يشهدون لِمُعَيَّنٍ بالجنة إلا لمن شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه من أهل الجنة، كالعشرة وغيرهم من الصحابة -رضي الله عنهم-، الذين ثبتت الأحاديث في تعيينهم أنهم من أهل الجنة. وأما مَنْ سواهم فلا يشهدون له بذلك، ولكنهم يرجون لجميع المؤمنين دخول الجنة، ويخافون على مَنْ أذنب من النار، ولا يقطعون لمعين بأنه من أهل الجنة أو من أهل النار إلا من ثبت له ذلك في القرآن كأبي لهب والوليد بن المغيرة وقوم نوح، وجميع المهلكين من الأمم، ومَنْ ذكره رسول الله صلى الله عليه وسلم. [لعنهم لمعاوية يستلزم الطعن في الحسن والحسين وسائر آل البيت] ويقال أيضا: إن كان ما قلت حقا فأول مَنْ يدخل في هذه الآيات الحسن بن علي -رضي الله عنهما- وأخوه الحسين، ومن معهما من أهل البيت وربيعة ومضر وهمدان، حين انخلع الحسن لمعاوية رضي الله عنه من الخلافة، وولَّى عليها من هو عدو لله ورسوله صلى الله عليه وسلم عندكم، ووافقه على ذلك أخوه الحسين، وكل مَنْ معه من

_ 1 سورة الممتحنة آية: 1. 2 سورة الأنعام آية: 68. 3 سورة النساء آية: 135.

فصل: حمل الشيعة أخبار المرتدين على من قاتلهم من الصحابة لا عليهم

المسلمين، ورضوا بذلك من غير إكراهٍ ولا غلبة من معاوية وأهل الشام، بل بمجرد ما تقابل الجمعان جرت بينهما المفاوضة في الصلح قبل أن يقع بينهما قتال، أفلا يستحي العاقل من هذه الخرافات التي تنادي على قائلها بالارتكاس في الظلمات؟! وهذا كافٍ في بطلان كلامك. فصل [حمل الشيعة أخبار المرتدين على من قاتلهم من الصحابة لا عليهم] وأما قوله: (وإذا كان معاوية في الجنة، فليت شعري، أين تضع الأحاديث الواردة في دواوين الإسلام، كقوله -عليه الصلاة والسلام-: "يُؤْتَى برجال من أصحابي فَيُؤْخَذُ بهم ذات الشمال"1 إلى آخره، أفتنَزه معاوية ومَنْ معه مثل عمرو بن العاص وابنه عبد الله، وتضعها في سعد بن معاذ وعمار وخزيمة -ذي الشهادتين- ومن قاتل مع علي رضي الله عنه بصفين؟! أم في العشرة المبشرة بالجنة -رضي الله عنهم-؟! فاختر لنفسك أين تضعها على مقتضى شهواتك أنت وأهل السنة والجماعة ...) إلى آخره. (فالجواب): أن يقال: قد بيَّنا فيما تقدم أن أهل العلم الذين رووا هذه الأخبار حملوها على مَن ارتدَّ من جفاة الأعراب بعد موت الرسول صلى الله عليه وسلم وماتوا على الردة، كالأسود العنسي وأصحابه الذي تنبَّأ بصنعاء، وتبعه خلق من أهل اليمن حتى قتله الله، وكمسيلمة صاحب اليمامة وأصحابه، وكأصحاب طليحة الأسدي الذين قتلهم خالد، وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانوا خلقا عظيما. ومنهم مَنْ قدم على النبي صلى الله عليه وسلم وصحبه، أفتنكر أنه لم يقع ردة بعد النبي ولا كفر أحد ممن أسلم في حياة النبي صلى الله عليه وسلم حتى جرى قتال معاوية لعلي -رضي الله عنهما-؟ ويقال أيضًا: دعواك أن هذه الأحاديث محمولة على معاوية، ومن معه من الصحابة من جنس دعوى الخوارج الذين يُكَفِّرون عليا ومن والاه، ويحملون هذه الأحاديث عليهم، فما يمكنك أن تأتي بحجة إلا عارضوك بما هو من جنسها، فاتق الله، ولا تكن من الذين يجادلون بالباطل؛ فتكون مع الهالكين.

_ 1 البخاري: تفسير القرآن (4625) , ومسلم: الجنة وصفة نعيمها وأهلها (2860) , والترمذي: صفة القيامة والرقائق والورع (2423) وتفسير القرآن (3167) , والنسائي: الجنائز (2087) , وأحمد (1/ 235 ,1/ 253).

فصل: تفسير الشيعة وأهل السنة لآية {وإن طائفتان} الخ

فصل [تفسير الشيعة وأهل السنة لآية {وإن طائفتان} الخ] وأما قوله: (إن المراد بقوله تعالى: {إِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} 1 أي: أرادوا الاقتتال، وأنها كقوله تعالى: {مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ} 2، وقول الرسول صلى الله عليه وسلم "من بدَّل دينه فاقتلوه"3 إلى آخر كلامه). (فالجواب): أن يقال: هذا لو عارضناه بكلام أهل التفسير من أهل السنة والجماعة، أو بما رووه من الأحاديث لم يقبل ذلك، فالواجب معارضته بما لا يقدر على إنكاره، وهو ما اتفقنا نحن وهم عليه، وهو أن الحسن بن علي -رضي الله عنهما- انخلع من الخلافة لمعاوية مع حضور أهل البيت وجمهور المسلمين معه، أفتقول: إن الحسن لا يفهم كلام الله ولا كلام رسوله صلى الله عليه وسلم، وإنما عرفته أنت وشيعتك؟ فيلزم من كلامك أن الحسن ومَنْ معه هم الذين سلَّطوا الكفار والفساق على فساد الدين، والكفر برب العالمين. (وجواب ثان): وهو أنه تواتر عن علي رضي الله عنه أنه لَمَّا قتل أهل الجمل، لم يفعل فيهم كفعله في الكفار المرتدين من السبي، وأخذ الأموال، والإجهاز على الجريح كما احتجَّ بهذه الحجة على الخوارج حبر الأمة، وترجمان القرآن ابن عباس -رضي الله عنهما-. (وجواب ثالث): وهو أن يقال: الآية نفسها مصرِّحة بنقيض ما فسَّرها به هذا المعترض؛ لأن الله -تبارك وتعالى- قال في أولها: "اقتتلوا" وهذا فعل ماض بإجماع النحويين، ثم قال: {فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى} 4 أي: بعد الاقتتال والإصلاح، ثم قال: {فَإِنْ فَاءَتْ} 5 أي: رجعت عن البغي {فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} 6 ثم قال: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ

_ 1 سورة الحجرات آية: 9. 2 سورة المائدة آية: 54. 3 البخاري: الجهاد والسير (3017) , والترمذي: الحدود (1458) , والنسائي: تحريم الدم (4059 ,4060 ,4061 ,4062 ,4064 ,4065) , وأبو داود: الحدود (4351) , وابن ماجه: الحدود (2535) , وأحمد (1/ 217 ,1/ 282 ,1/ 322). 4 سورة الحجرات آية: 9. 5 سورة الحجرات آية: 9. 6 سورة الحجرات آية: 9.

أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} 1. فالآية من أولها إلى آخرها تنادي بتكذيب هذا المعترض الذي يفسر كتاب الله برأيه. (وجواب رابع): وهو أن يقال: إذا جوَّزت أن يكون المراد بقوله -تبارك وتعالى-: {إِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} 2 أن يكون المعنى أي: أرادوا الاقتتال، أو قوله: {فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى} 3 أي: أرادوا البغي؛ جاز أن يقال ذلك في قوله صلى الله عليه وسلم "من بدَّل دينه فاقتلوه" 4، فيكون معنى الحديث عندكم: مَنْ أراد تبديل دينه وَهَمَّ بذلك -وإن لم يتكلم ويعمل- فاقتلوه. وهذا لا يقوله من يفهم ما يقول؛ وذلك لأن ما في القلوب من الإرادات والنيات لا يعلمه إلا الله، وجاز أن يكون معنى قوله: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ} 5 أي: يرد قتله وإن لم يقتله، وجازه -أيضا- ذلك في جميع آيات الوعد والوعيد كقوله تعالى: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا} 6 أي: يرد أن يعصي الله ورسوله ويتعد حدوده، وإن لم يفعل ذلك، فإن طردت ما قلت لزمك أن تقول ذلك في جميع ما شابهها في آيات الوعد والوعيد والأمر والنهي. [حكاية مكذوبة] وأما الحكاية التي ذكرها أن معاوية رضي الله عنه أظهر لأهل الشام، أن عليا لا يصلي، حتى حاجَّ بذلك بعض أهل الشام هاشم بن عتبة رضي الله عنه فهي من أظهر الكذب والبهتان عند من له أدنى معرفة بهذا الشأن، وقد ذكرنا بالنقول المتواترة أن أهل الشام إنما قاتلوا عليا ومَن معه للطلب بدم عثمان -رضي الله عنه-؛ لأن قتلة عثمان كانوا رؤوس جيش علي، ولا يحكي مثل هذه الحكاية إلا من لا يستحي من الكذب.

_ 1 سورة الحجرات آية: 10. 2 سورة الحجرات آية: 9. 3 سورة الحجرات آية: 9. 4 البخاري: الجهاد والسير (3017) , والترمذي: الحدود (1458) , والنسائي: تحريم الدم (4059 ,4060 ,4061 ,4062 ,4064 ,4065) , وأبو داود: الحدود (4351) , وابن ماجه: الحدود (2535) , وأحمد (1/ 217 ,1/ 282 ,1/ 322). 5 سورة النساء آية: 93. 6 سورة النساء آية: 14.

فصل: حديث غدير خم، وزيادة الشيعة فيه لفظ ومعنى

فصل [حديث غدير خم، وزيادة الشيعة فيه لفظ ومعنى] وأما ذكره من استدلاله بحديث غَدِير خُمٍّ، وأنه ورد من روايات جماعة من الصحابة، فقد قدَّمنا الجواب عنه، وقد بيَّن أهل العلم أنه لا يدل على ما ذهب إليه الروافض والزيدية؛ لأن المولى يطلق على معاني متعددة. وأما قوله: "اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه، وانصر من نصره، وأعن من أعانه"، فهذا ليس في الأحاديث الصحيحة التي صحَّحها أهل العلم بالحديث، بل طعن كثير منهم في هذه الزيادة، قالوا: والواقع يشهد بكذبها؛ لأن النصر والغلبة والإعانة وقع لمن حاربه وقاتله، ومعلوم أن دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم مجاب، فلو كان هذا حقا وصدقا لوقع الأمر بخلاف ما وقع، وأنت لا تنكر أن الغلبة والظفر والإعانة كان لمن قاتله وحاربه، فبطل ما ذكرت -ولله الحمد والمنة-. وأكثر هذه الأحاديث التي ذكرها في أول هذا الاعتراض وآخره قد بين أهل العلم بالحديث أنها كذب موضوعة مفتراة على رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم من العجب استدلاله بكلام عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه حين ذكروا عثمان وعليا وطلحة والزبير -رضي الله عنهم- وما كان منهم، فأكثروا وعمر ساكت، فقال القوم: ألا تتكلم يا أمير المؤمنين؟ قال: "لا أقول شيئا، تلك دماء طَهَّرَ الله منها كفي، فلا أغمس فيها لساني". اهـ. وهذا هو الذي أراد المجيب؛ لأن الله أثنى عليهم في كتابه جملة قال تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} 1، وأثنى على من جاء بعدهم، فدعا لهم بالمغفرة، فقال تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} 2. فإن قلت: إن هؤلاء الآيات في السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار،

_ 1 سورة الفتح آية: 29. 2 سورة الحشر آية: 10.

قلنا: جاءتك قاصمة الظهر، وهي قوله -تبارك وتعالى-: {لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} 1. [أحاديث في مناقب معاوية وعمرو بن العاص رضي الله عنهما] ومعلوم بإجماعنا وإجماعكم أن معاوية وعمرو بن العاص -رضي الله عنهما- ممن أسلم بعد الفتح، والأحاديث الواردة في فضل معاوية وعمرو بن العاص -رضي الله عنهما- قد رواها مَنْ روى تلك الأحاديث في فضل علي رضي الله عنه وأهل البيت، فإما أن تقبل الجميع، وإما أن ترد الجميع، وأما أن تقبل ما وافق هواك، وترد ما خالفه بلا برهان ولا حجة يوافقك عليها أهل المعرفة، فهذا تناقض، وقد قال السيوطي: أخرج الترمذي وحسَّنه عن عبد الرحمن بن أبي عمرة الصحابي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لمعاوية: "اللهم اجعله هاديا مهديا"2. وأخرج الإمام أحمد في مسنده عن العرباض بن سارية سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "اللهم علمه الكتاب والحساب، وقه العذاب"3. وأخرج ابن أبي شيبة في المصنف والطبراني في الكبير عن عبد الملك بن عمير قال: "قال لي معاوية رضي الله عنه: ما زلت أطمع في الخلافة منذ قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم يا معاوية، إذا ملكت فأحسن". وأخرج الترمذي عن أبي إدريس الخولاني قال: "لما عزل عمر بن الخطاب رضي الله عنه عمير بن سعد عن حمص، وولَّى معاوية رضي الله عنه، فقال الناس: عزل عميرا وولى معاوية، فقال عمير: لا تذكروا معاوية إلا بخير، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: اللهم اهد به"4. وقال آدم عن حماد بن سلمة عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم "أبناء العاص مؤمنان عمرو وهشام"5 وقال عبد الجبار بن الورد عن ابن أبي مليكة قال طلحة: "ألا أحدثكم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم

_ 1 سورة الحديد آية: 10. 2 الترمذي: المناقب (3842) , وأحمد (4/ 216). 3 أحمد (4/ 127). 4 الترمذي: المناقب (3843). 5 أحمد (2/ 304).

فصل: كذب الشيعة على معاوية وما أنكره أهل السنة عليه

بشيء؟ ألا إني سمعته يقول: "عمرو بن العاص من صالح قريش"1 وسمعته صلى الله عليه وسلم يقول: "نعم أهل البيت: أبو عبد الله، وأم عبد الله، وعبد الله"2. اهـ ما ذكره الحافظ أبو الحجاج المزي في تهذيبه. فصل [كذب الشيعة على معاوية وما أنكره أهل السنة عليه] وأما ما ذكره من إحداثات معاوية، منها: إلحاقه زياد بن سمية بأبيه، فأهل العلم ينكرون ذلك على معاوية في قديم الزمان وحديثه، وكذلك أخذ البيعة لابنه الظالم، ينكرون ذلك ولا يرضونه حتى أنكر مَنْ أنكر منهم ذلك عليه بنفسه في حياته، وأما قوله: إنه أمر علماء السوء بأن يضعوا أحاديث في فضائل الصحابة الذين تقدموا عليا، وفي مثالب علي، فهذا من أظهر الكذب عند الخاصة والعامة من أهل العلم بالأخبار والسير، وأهل الوضع للحديث هم الشيعة كما تقدم ذكره عن أهل الحديث. وأما لعن علي رضي الله عنه فهو من المنكرات، وأهل السنة والجماعة ينكرون على من فعله كائنا من كان. ومن العجب قوله: ولو لم يقطعه عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه لبقي في الشام إلى اليوم. فيقال: وما يدريك بذلك، أقرأت في اللوح المحفوظ، فكتبت هذا الكلام منه؟! أم بلغك ذلك في حديث صحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أخبر بذلك فهو الصادق فيما أخبر به؟ وأيضا أنت ذكرت عن ابن تيمية -رحمه الله- في أول كتابك، وفي هذا الموضع أنه لم ينقطع إلا قبل وقته، فهذا يرد قولك أنه لو لم يقطعه عمر لبقي إلى اليوم، وأيضا أنت كذبت على ابن تيمية، فإنه لم يقل ذلك، وابن تيمية -رحمه الله- أجلُّ من أن يقول مثل هذه الخرافات والجهالات في المنقولات. وأيضًا من المعلوم المتواتر أن بني أمية بعد موت عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه استمروا على سبِّ علي، ولم ينقطع من الشام ولا من غيره من بلاد الإسلام إلا بعد انقراض دولة بني أمية في ولاية بني العباس.

_ 1 الترمذي: المناقب (3845). 2 أحمد (4/ 150).

فصل: دعوى الزيدية العصمة لعلي كدعوى الإمامية النص على إمامته

وأما قوله: ومن إحداثاته ترك الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم في أول السورة، فهذا كذب ظاهر، وما ذكره عن الرازي دعوى مجردة لا دليل عليها، وأيضا معارضة بما هو من أصح الأسانيد، وهو ما ثبت في الصحيحين عن أنس رضي الله عنه أنه قال: "صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم ومع أبي بكر وعمر، فكانوا يستفتحون بالحمد لله رب العالمين، لا يذكرون بسم الله الرحمن الرحيم في أول القراءة ولا في آخرها"1. وأما تشريعه الإقامة في صلاة العيدين، فكذب ظاهر، فإن الذي أحدثه بنو أمية بعد معاوية في العيدين هو تقديم الخطبة على الصلاة كما في الصحيحين: أن أول من فعل ذلك مروان بن الحكم، فأنكر عليه أبو سعيد الخدري وغيره من الصحابة -رضي الله عنهم- أجمعين. فصل [دعوى الزيدية العصمة لعلي كدعوى الإمامية النص على إمامته] وأما دعواه العصمة لعلي رضي الله عنه وقوله: (قد حصل القطع بها، ولا ينكرها إلا مكابر، إلى آخره. (فالجواب): أن يقال: (أولا) هذه الدعوي من جنس دعوى الإمامية بالنص والعصمة لعلي وأولاده، ومن جنس دعوى الباطنية، وجنس دعوى السبائية في محمد بن علي -المعروف بابن الحنفية-، وما أحسن ما قال بعضهم: لي حيلة فيمن ينم ... وليس في الكذاب حيلة من كان يخلق ما يقو ... ل فحيلتي فيه قليلة وقد تقدم الجواب عن أدلته التي ذكر مفصلا مبينا، ولكن نذكر فصلا نختم به كتابنا هذا، ننقل فيه كلام أهل البيت في الرد على هذا المعترض وأشباهه؛ ليتبين الحق لمن أراد الله هدايته، وأما من أراد الله به الشقاء والخذلان، فذلك لا حيلة فيه كما قال تعالى: {وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ} 2 الآية.

_ 1 البخاري: الأذان (743) , ومسلم: الصلاة (399) , والترمذي: الصلاة (246) , والنسائي: الافتتاح (902 ,903) , وأبو داود: الصلاة (782) , وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها (813) , وأحمد (3/ 101 ,3/ 111 ,3/ 168 ,3/ 176 ,3/ 179 ,3/ 203 ,3/ 205 ,3/ 223 ,3/ 255 ,3/ 264 ,3/ 273 ,3/ 275 ,3/ 278 ,3/ 289) , والدارمي: الصلاة (1240). 2 سورة المائدة آية: 41.

فصل: في كلام بعض أهل البيت في الثناء على معاوية

فصل {في كلام بعض أهل البيت في الثناء على معاوية} في ذكر شيء من كلام أهل البيت -رضي الله عنهم- في الثناء على معاوية رضي الله عنه. من ذلك ما أخرجه غير واحد من أهل العلم أن عليا رضي الله عنه قال: "لا تكرهوا إمارة معاوية، فإنكم لو فقدتموه لرأيتم الرؤوس تندر على كواهلها"، وثبت في صحيح البخاري عن ابن عباس رضي الله عنه أن رجلا قال له: هل لك في أمير المؤمنين معاوية أنه أوتر بركعة؟ فقال: "أصاب إنه فقيه" فهذه شهادة ابن عباس، وهو من أكابر علماء أهل البيت. [ترك الحسن الخلافة لمعاوية وكلامه في إمامة والده] ومن ذلك انسلاخ الحسن رضي الله عنه عن الخلافة لمعاوية رضي الله عنه قال أبو عمر بن عبد البر في كتاب "الاستيعاب في معرفة الأصحاب" في ترجمة الحسن بن علي رضي الله عنه: "كان -رحمه الله- حليما ورعا، دعاه ورعه وفضله إلى أن ترك الملك والدنيا رغبة فيما عند الله". وقال: "والله ما أحب منذ عرفت ما ينفعني وما يضرني أن ألي أمر أمة محمد صلى الله عليه وسلم على أن يهراق في ذلك محجمة دم". وكان من المبادرين إلى نصرة عثمان رضي الله عنه والذابِّين عنه، ولما قتل أبوه علي رضي الله عنه بايعه أكثر من أربعين ألفا كلهم قد بايعوا أباه عليا قبل موته على الموت، وكانوا أطوع للحسن وأحب فيه منهم في أبيه. فبقي نحو سبعة أشهر خليفة في العراق وما وراءها من خراسان، ثم سار إلى معاوية وسار معاوية إليه -وذكر ما جرى بينهما، إلى أن قال-: وكان كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن ابني هذا سيد، وسيصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين"1. وكان أصحاب الحسن يقولون: "يا عار المؤمنين". فيقول: "العار خير من النار" وذكر بإسناده عن أبي روق الهمداني أن أبا العريف حدثه قال: "كنا في مقدمة الحسن بن علي اثني عشر ألفا مستميتين، تقطر

_ 1 البخاري: الصلح (2704) , والترمذي: المناقب (3773) , والنسائي: الجمعة (1410) , وأبو داود: السنة (4662) , وأحمد (5/ 37 ,5/ 49).

أسيافنا من الجد والحرص على قتال أهل الشام، وعلينا أبو العمرطة، فلما جاءنا صلح الحسن بن علي كأنما كسرت ظهورنا من الغيظ والحزن، فلما جاء الحسن الكوفة أتاه شيخ منا يُكْنَى أبا عامر فقال: السلام عليك يا مذل المؤمنين. فقال: لا تقل هكذا يا أبا عامر، فإني لم أذل المؤمنين، ولكني كرهت أن أقتلهم على طلب الملك. قال أبو عمر: وروينا من وجوه أن الحسن بن علي رضي الله عنه لما حضرته الوفاة قال للحسين أخيه: "يا أخي، إن أباك -رحمه الله- لمَّا قُبِضَ رسول الله صلى الله عليه وسلم استشرف لهذا الأمر ورجا أن يكون صاحبه، فصرف الله ذلك عنه ووليها أبو بكر، فلما حضرت أبا بكر الوفاة تشوَّف إليها وصرفت عنه إلى عمر، فلما احتضر عمر جعلها شورى بين ستة هو أحدهم، فلم يشك أنها لا تعدوه، فصرفت عنه إلى عثمان. فلما هلك عثمان بويع، ثم نوزع حتى جرَّد السيف، فطلبها وما صفا له شيء منها. وإني والله ما أرى أن يجمع الله فينا -أهل البيت- النبوة والخلافة، فلأعرفن ربما استخفَّك سفهاء الكوفة فأخرجوك". انتهى. فانظر -رحمك الله- إلى كلام هذا السيد، وما فيه من الرد على هذا المعترض من دعواه النص على عليٍّ رضي الله عنه وغير ذلك من الدعاوى الباطلة يتبين لك مخالفته لأهل البيت، وأن دعواه محبة أهل البيت كذب وافتراء ودعوى لا حقيقة لها. [كيف كان الصلح بين الحسن ومعاوية] ومن العجب أن يدَّعي عصمة أهل البيت فيحتج بالأحاديث والآيات على ذلك، وأنهم كسفينة نوح وباب حطة، ثم يخالفهم ويرد كلامهم، ولازم كلامه أن فعل الحسن رضي الله عنه من نزوله عن الخلافة ومصالحته معاوية هو سبب افتراق الأمة وضلالتها، وأن كلام الحسن لأخيه الحسين -رضي الله عنهما- كلام باطل، بل الواجب على الحسين وغيره من المسلمين الخروج على معاوية رضي الله عنه ومقاتلته وانتزاع الخلافة منه، ونحن نقول: بل الحسن مصيب بارٌّ راشد ممدوح، وليس يجد في صدره مما صنع حرجا ولا تلوُّما ولا ندما، بل هو راضٍ بذلك مستبشر به، وإن كان هذا قد ساء خلقا من ذويه وشيعته ولا سيما بعد ذلك بمدد وهلم جرا

إلى يومنا هذا. والحق في ذلك اتباع السنة، وقد مدحه جده صلى الله عليه وسلم كما ثبت في صحيح البخاري ومسلم وغيرهما بالأسانيد الصحيحة عن الحسن البصري -وكان من سادات التابعين وأفاضلهم- قال: "استقبل الحسنُ بن علي معاويةَ بكتائب أمثال الجبال، فقال عمرو بن العاص لمعاوية: إني لأرى كتائب لا تُوَلِّي حتى تقتل أقرانها، فقال له معاوية -وكان والله خير الرجلين-: أي عمرو، إن قتل هؤلاء هؤلاء، وهؤلاء هؤلاء، مَنْ لي بأمور المسلمين، من لي بنسائهم، من لي بضيعتهم؟ فبعث إليه رجلين من قريش من بني عبد شمس، فقال: اذهبا إلى هذا الرجل، فاعرضا عليه وقولا له واطلبا إليه، فأتياه فدخلا عليه وتكلما وقالا له وطلبا إليه، فقال لهما الحسن رضي الله عنه: إنا بنو عبد المطلب قد أصبنا من هذا المال، وإن هذه الأمة قد عاثت في دمائها. قالا له: فإنه يعرض عليك كذا وكذا ويطلب إليك ويسألك، قال: مَنْ لي بهذا، من لي بهذا؟ قالا: نحن لك به، فما سألهما شيئا إلا قالا: نحن لك به، قال الحسن: فصالحه. قال الحسن: ولقد سمعت أبا بكرة رضي الله عنه يقول: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم والحسن بن علي رضي الله عنه إلى جنبه، وهو ينظر إلى الناس مرة، وإليه مرة، ويقول: إن ابني هذا سيد، ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين". [ما فعله الحسن من الصلح مع معاوية مما يحبه الله ورسوله] ففي هذا الحديث الصحيح أن معاوية رضي الله عنه هو الذي طلب إليه الصلح، والذي ذكره أهل السير والأخبار أن الحسن هو الذي كتب إلى معاوية يخبره أنه يصير الأمر إليه على شروط اشترطها عليه. وقد أخرج الحاكم عن جبير بن نفير قال: قلت للحسن: إن الناس يقولون: إنك تريد الخلافة؟ فقال: "قد كانت جماجم العرب في يدي يحاربون من حاربت، ويسالمون من سالمت، تركتها ابتغاء وجه الله، وحقن دماء أمة محمد صلى الله عليه وسلم من أهل الحجاز". أو كما قال.

ففي هذا من الرد على المعترض ما يعرفه كل منصف، وذلك أن هذا المعترض جعل هذا الصلح والاجتماع الذي فعله الحسن بن علي، ووافقه عليه أهل بيته وجمهور المسلمين هو سبب فساد الأمة وافتراقها، فعلى كلامه يكون الحسن هو الذي تسبَّب في فساد الأمة، وظهور الفتن فيها. فإن قال: ألجأه إلى ذلك الخوف والضعف. قلنا: هذا باطل من وجوه كثيرة: (منها): ما تقدم من كثرة جيش الحسن رضي الله عنه ومحبة الناس له وانقيادهم معه، وقد بيَّن رضي الله عنه أن الذي حمله على ذلك هو كفُّ الفتنة، وإيثار الآخرة على الدنيا؛ ولهذا مدحه النبي صلى الله عليه وسلم على فعله ذلك. قال العلماء -رحمة الله عليهم-: فدلَّ هذا على أن قتال أهل الشام ليس بواجب قد أوجبه الله ورسوله، ولو كان واجبا لم يمدح النبي صلى الله عليه وسلم الحسن بتركه. فدل الحديث على أن ما فعله الحسن بن علي مما يحبه الله ورسوله، وتواترت الأخبار عن علي رضي الله عنه بكراهة القتال في آخر الأمر، لما رأى اختلاف الناس، واختلاف شيعته عليه وتفرقهم، وكثرة الشر الذي أوجب أنه لو استقبل من أمره ما استدبر ما فعل ما فعل، وكان يقول رضي الله عنه ليالي صفين: "لله در مقام قامه عبد الله بن عمر وسعد بن مالك: إن كان برا إن أجره لعظيم، وإن كان إثما إن خطره ليسير"، وكان يقول لابنه الحسن رضي الله عنه: "يا حسن، يا حسن، ما ظن أبوك أن الأمر يبلغ إلى هذا، ود أبوك لو مات قبل هذا بعشرين سنة". [ما كان بين علي ومعاوية -رضي الله عنه- من المهادنة بعد صفين] حتى ذكر ابن كثير وغيره من أهل التواريخ أن في سنة أربعين بعد وقعة صفين جرت بين علي ومعاوية المهادنة على وضع الحرب، وأن يكون ملك العراق لعلي، ولمعاوية ملك الشام، ولا يدخل أحد على صاحبه في عمله بجيش ولا غارة ولا غيرها، ذكر ذلك من رواية زياد عن ابن إسحاق؛ وذلك لأن معاوية رضي الله

عنه بعد أن رجع من صفين إلى الشام، ورجع علي رضي الله عنه إلى الكوفة فرَّق معاوية رضي الله عنه جيوشا كثيرة في أطراف معاملات علي رضي الله عنه، فبعث النعمان بن بشير في ألفي فارس على عين النمر، وبها مالك بن كعب في ألف فارس مسلَّحة لعلي رضي الله عنه، فلما سمعوا بقدوم الشاميين ارفضّوا عنهم، فلم يبق مع مالك إلا مائة رجل، فكتب إلى علي يخبره بأمر النعمان، فندب علي الناس إلى إغاثته، فتثاقلوا عليه ونكلوا ولم يجيبوا إلى الخروج، فخطبهم علي رضي الله عنه فقال في خطبته: "يا أهل الكوفة كلما سمعتم بمسيرٍ لأهل الشام قد أظلكم انحجر كل امرئ منكم في بيته، وغلق عليه بابه انحجار الضب في جحره، والضبع في وجاره، المغرور مَنْ غررتموه، ومن فاز بكم فاز بالسهم الأخيب، لا أحرار عند النداء، ولا إخوان ثقة عند الالتجاء، إنا لله وإنا إليه راجعون، ما هذا ملئت به منكم، عمي لا تبصرون، وبكم لا تنطقون، وصم لا تسمعون، إنا لله وإنا إليه راجعون". قال أهل الأخبار: حتى كره الحياة بينهم وتمنَّى الموت، وكان يكثر أن يقول: "ماذا يحبس أشقاها؟ " أي: ما ينتظر؟ ما له لا يقتل؟ ثم يقول: "والله لتخضبن هذه -ويشير إلى لحيته- من هذه -ويشير إلى هامته-". قال ابن كثير -في تاريخه-: وقد روى ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم من طرق كثيرة ثم سرد تلك الطرق. [ما يروى من ذم علي وكراهته لأهل العراق] وقال الأعمش عن عمرو بن مرة عن عبد الله بن الحارث عن زهير بن الأرقم قال: خطبنا علي رضي الله عنه قال: "نبئت أن قراءكم قد خلعوا الإمام، وإني والله لأحسب هؤلاء القوم سيظهرون عليكم، وما يظهرون عليكم إلا بعصيانكم إمامكم وطاعتهم إمامهم، وخياناتكم أماناتكم، وأدائهم أمانتهم، وإفسادكم في أرضكم، وإصلاحهم في أرضهم، قد بعثت فلانا فخان وغدر، وبعثت فلانا فخان وغدر، وبعث بالمال إلى معاوية، لو أئتمنت أحدكم على قدح لأخذ علاقته. اللهم سئمتهم وسئموني

وكرهتهم وكرهوني، اللهم فأرحني منهم وأرحهم مني". قال فما صلى الجمعة الأخرى حتى قُتِلَ. انتهى ما نقله من تاريخ ابن كثير الذي سمَّاه "البداية والنهاية". [لم يعهد الرسول -صلى الله عليه وسلم- إلى علي من دماء أهل القبلة شيئا] وقد كان رآه عليا رضي الله عنه في دماء أهل القبلة لم يعهده إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أمره به، كما في سنن أبي داود وغيره: "عن قيس بن عباد قال: قلت لعلي أخبرنا عن مسيرك هذا، عهد عهده إليك رسول الله صلى الله عليه وسلم أم رأي رأيته؟ قال: ما عهد إلي النبي صلى الله عليه وسلم شيئا"1، وهذا أمر ثابت عنه؛ ولهذا لم يرو علي في قتال أهل الجمل وصفين عن النبي صلى الله عليه وسلم كما روى في قتال الخوارج، فإنه روى هو وغيره من الصحابة في قتال الخوارج أحاديث كثيرة، أخرجها علماء أهل السنة كالبخاري ومسلم وأبي داود والترمذي والنسائي وابن ماجه، قال الإمام أحمد: "صحَّ الحديث في الخوارج عن النبي صلى الله عليه وسلم من عشرة أوجه". وأما الحديث الذي يروى أنه أمر بقتل الناكثين والقاسطين والمارقين، فقد قال أهل العلم بهذا الشأن: إنه حديث موضوع على النبي صلى الله عليه وسلم. [ماجرى بعد موت معاوية من فتن قتل الحسين غيرها] وقد روى البخاري وغيره عن سهل بن حنيف -وهو ممن قاتل مع علي بصفين-: "أيها الناس اتهموا الرأي على الدين، لقد رأيتني يوم أبي جندل، ولو أستطيع أن أرد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم لرددته، وما أردت بذلك إلا الخير، وما رفعنا سيوفنا على عواتقنا إلا أسلمنا بها إلى أمر نعرفه، غير أمركم هذا؛ ما سددنا خصما إلا انفجر لنا خصم آخر"2؛ وذلك لأن هذا القتال لم يحصل به مصلحة للمسلمين لا في دينهم ولا في دنياهم، بل أُريقت به دماء ألوف مؤلَّفة من المسلمين، ونقص الخير عما كان، وزاد الشر على ما كان، ولما تولى معاوية رضي الله عنه الخلافة واستتم له الأمر اتفقت الكلمة، وكان الناس في ولايته متفقين يغزون العدو، ويجاهدون في سبيل الله، فلما مات معاوية -رحمه الله- جرت فتن عظيمة منها قتل الحسين وأهل بيته، ثم جرت فتنة الحرة بالمدينة، ثم حصر ابن الزبير بمكة. ثم لما مات

_ 1 أبو داود: السنة (4666). 2 البخاري: الجزية (3181) , ومسلم: الجهاد والسير (1785) , وأحمد (3/ 485).

يزيد جرت فتنة بالشام بين مروان والضَّحَّاك بمرج راهط، وجرت فتنة مصعب بن الزبير، وقتل مصعب، ثم حاصر الحجاج ابن الزبير وقتله. وجرت فتنة لما تولى الحجاج العراق، وخرج عليه عبد الرحمن بن الأشعث معه خلق عظيم من القراء، وكانت فتنة كبيرة. [من أثنى من علماء التابعين على معاوية] وبالجملة، فلم يكن ملك من ملوك الإسلام خيرا من معاوية، ولا كان الناس في زمن ملك من ملوك المسلمين خيرا منهم في زمن معاوية، إذا نسبت أيامه إلى أيام من بعده. وقد روى أبو بكر الأثرم حدثنا محمد بن عمرو حدثنا محمد بن مروان عن يونس عن قتادة قال: "لو أصبحت في مثل عمل معاوية لقال أكثركم: هذا المهدي"، وكذلك رواه ابن بطة بإسناده الثابت من وجهين عن الأعمش عن مجاهد قال: "لو أدركتم معاوية لقلتم: هذا المهدي". ومعلوم بإجماع المسلمين أنه ليس قريبا من عثمان وعلي -رضي الله عنهما- فضلا عن أبي بكر وعمر -رضي الله عنهما- فكيف يُشبَّه غير الصحابة بهم، والله أعلم. وروى أسد بن موسى قال: حدثنا محمد بن مسلم الطائفي عن إبراهيم بن ميسرة قال: "ما بلغني أن عمر بن عبد العزيز جلد سوطا في خلافته إلا رجلا شتم معاوية عنده، فجلده ثلاثة أسواط". وروى أسد -أيضا- قال: حدثنا أبو هلال قال: حدثنا قتادة قال: قلت للحسن: "يا أبا سعيد، إن ههنا أناسا يشهدون على معاوية أنه من أهل النار. قال: لعنهم الله، وما يدريهم من في النار". فقد تبين بما ذكرنا لكل منصف أريب، ولمن له قلب منيب، جهل هذا المعترض وأشباهه بما عليه أهل البيت، وأن دعواه اتباعهم ومحبتهم كذب وافتراء، ومجرد دعوى لا حقيقة لها، كما أن اليهود والنصارى يدعون اتباع أنبيائهم، وهم قد خالفوهم وسلكوا غير طريقهم، وكذلك الإمامية والغالية من الرافضة يدعون اتباع علي

وأهل بيته، وهم قد خالفوا طريقتهم وسلكوا غير منهاجهم. فقد تقرر وظهر -ولله الحمد والمنة- أن أسعد الناس باتباع أهل البيت ومحبتهم هم أهل السنة والجماعة، القائلون بما دل عليه كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وقد قال تعالى: {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ} 1 الآية، وقال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي} 2 الآية. ونسأل الله أن يوفقنا وسائر إخواننا المسلمين لما يحبه ويرضاه من القول والعمل، وأن يجنبنا ما يسخطه من الخطأ والزلل، ويرينا الحق حقا ويوفقنا إلى اتباعه، ويرينا الباطل باطلا، ويوفقنا إلى اجتنابه، ولا يجعله ملتبسا علينا فنضل. [الدعاء المأثور عند الاشتباه] وينبغي للمؤمن عند الاشتباه أن يلجأ إلى الله، ويضرع إليه، ويدعو بما دعا به رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاة الليل وهو: "اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اخْتُلِفَ فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم"3. وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا. انتهى. {تم الكتاب} طبع عن نسخة كتب في آخرها:- وقع الفراغ من نسخه نهار الأربعاء عاشر رجب سنة 1343 بقلم الفقير إلى رحمة ربه القدير، المقر بالذنب والتقصير عبد الرحمن بن محمد بن براك، غفر الله له ولوالديه ولإخوانه المسلمين. آمين.

_ 1 سورة آل عمران آية: 68. 2 سورة آل عمران آية: 31. 3 مسلم: صلاة المسافرين وقصرها (770) , والترمذي: الدعوات (3420) , والنسائي: قيام الليل وتطوع النهار (1625) , وأبو داود: الصلاة (767) , وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها (1357) , وأحمد (6/ 156).

كتاب بيان المحجة في الرد على اللجة

كتاب بيان المحجة في الرد على اللجة تأليف شيخنا وإمامنا، ناصر السنة، وقامع البدعة الشيخ عبد الرحمن بن الشيخ حسن بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب أجزل الله لهم الأجر والثواب آمين من مطبوعات صاحب الجلالة السعودية ومحيي السنة المحمدية الإمام عبد العزيز آل سعود ملك الحجاز ونجد وملحقاتها وقد وقفه على من ينتفع به من أهل العلم والدين لا يحل لمن وقع بيده بيعه

نفي ما في البردة من شرك نشأ عن جهل وفساد تصور

بسم الله الرحمن الرحيم قال شيخنا الشيخ عبد الرحمن بن حسن بن الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب، أجزل الله لهم الأجر والثواب، وأدخلهم الجنة بغير حساب ولا عذاب: اللهم لك الحمد أنت نور السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت قيوم السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت ملك السماوات والأرض ومن فيهن، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له {الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا * وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا} 1. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، الذي قال الله تعالى خطابا له: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا} 2. اللهم صل على محمد وعلى آل محمد وأصحابه، من أذهب الله عنهم الرجس، وطهَّرهم تطهيرا. أما بعد: [نفي ما في البردة من شرك نشأ عن جهل وفساد تصور] فإني وقفت على جواب للشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبي بطين، وقد سئل عن أبيات من البردة، وما فيها من الغلو والشرك العظيم المضاهي لشرك النصارى ونحوهم ممن صرف خصائص الربوبية والإلهية لغير الله تعالى، كما هو صريح الأبيات المذكورة في البردة، لا يخفى على مَنْ عرف دين الإسلام أنه الشرك الأكبر الذي بعث الله رسله، وأنزل كتبه بالنهي عنه، وبيَّن أنه لا يغفره لمن لم يتب منه، وأن الجنة عليه حرام.

_ 1 سورة الفرقان آية:2، 3. 2 سورة الأحزاب آية:45، 46.

وذكر الشيخ -رحمه الله- في جوابه: أن الأبيات المذكورة تضمَّنت الشرك، وصرف خصائص الربوبية والإلهية لغير الله، فاعترض عليه جاهل ضالٌّ فقال مبرئا لصاحب الأبيات من ذلك الشرك بقوله: حماه الله من ذلك، ويكفيه في نفي هذه الشناعة قوله أول المنظومة: * دع ما ادعته النصارى في نبيهم * البيت المطابق لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم"1. (الجواب): أن هذه التبرئة إنما نشأت عن الجهل وفساد التصور، فلو عرف الناظم وهذا المعترض ومن سلك سبيلهما حق الله على عباده، وما اختصَّ به من ربوبيته وإلهيته، وعرفوا معنى كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم لَمَا قالوا ما قالوا هم وأمثالهم ممن جهل التوحيد، كما قال تعالى في حق من هذا وصفه: {وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ} 2. فالجهل بما بعث الله به رسله قد عمَّ كثيرا من هذه الأمة، وظهر فيها ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: "لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة، حتى لو دخلوا حجر ضب لدخلتموه. قالوا: يا رسول الله، اليهود والنصارى؟ قال: "فمن؟ "3 ونحو هذا من الأحاديث. وقوله: ويكفيه في نفي هذه الشناعة قوله أول المنظومة: * دع ما ادعته النصارى في نبيهم * ... ... .... البيت (الجواب): أن هذا يزيده شناعة ومقتا؛ لأن هذا تناقض منه بيِّن، وبرهان على أنه لا يعلم ما يقول، فلقد وقع فيما وقعت فيه النصارى من الغلو العظيم الذي نهى الله عنه ورسوله، ولعن النبي صلى الله عليه وسلم من فعله، أو فعل ما يوصل إليه بقوله: "لعنة الله على اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد. يحذر ما صنعوا"4. وقال:

_ 1 البخاري: أحاديث الأنبياء (3445) , وأحمد (1/ 23 ,1/ 24 ,1/ 47). 2 سورة الأنعام آية: 119. 3 البخاري: أحاديث الأنبياء (3456) , ومسلم: العلم (2669) , وأحمد (3/ 84 ,3/ 89 ,3/ 94). 4 البخاري: الصلاة (436) , ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (531) , والنسائي: المساجد (703) , وأحمد (1/ 218 ,6/ 34 ,6/ 80 ,6/ 121 ,6/ 255) , والدارمي: الصلاة (1403).

هدم الإسلام للشرك ثم عودته إلى المسلمين وفشوه فيهم

"لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله"1، وقوله لما قال له رجل: ما شاء الله وشئت. قال: "أجعلتني لله ندا؟! بل ما شاء الله وحده"2 وقال: "إنه لا يستغاث بي، وإنما يستغاث بالله عز وجل". فلقد حذر أمته صلى الله عليه وسلم وأنذرهم عن الشرك ووسائله، وما دقَّ منه وجلَّ، ودعا الناس إلى التوحيد ونهاهم عن الشرك، وجاهدهم على ذلك، حتى أزال الله به الشرك والأوثان من جميع الجزيرة وما حولها من نواحي الشام واليمن وغير ذلك. وقد بعث السرايا في هدم الأوثان وإزالتها، كما هو مذكور في كتب الحديث والتفسير والسير، كما في حديث أبي الهياج الأسدي الذي في الصحيح، قال: قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه "ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ أن لا أدع قبرا مشرفا إلا سويته، ولا تمثالا إلا طمسته"3. وقد بعثه النبي صلى الله عليه وسلم يوم الفتح لهدم (مناة) وبعث خالد بن الوليد يومئذ لهدم بيت العزى، وقطع السمرات التي كانت تعبدها قريش وهذيل، وبعث المغيرة بن شعبة لهدم اللات فهدمها، وأزال عن جزيرة العرب وما حولها جميع الأصنام والأوثان التي كانت تعبد من دون الله. والصحابة -رضي الله عنهم- تعاهدوا هذا الأمر واعتنو بإزالته أعظم الاعتناء بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بما يقع في أمته من الاختلاف، كما في حديث العرباض بن سارية قال: "فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافا كثيرا"4 الحديث، فوقع ما أخبر به صلى الله عليه وسلم، وعظم الاختلاف في أصل الدين بعد القرون المفضلة كما هو معلوم عند العلماء، ولو أخذنا نذكر ذلك أو بعضه لخرج بنا عن المقصود من الاختصار. [هدم الإسلام للشرك ثم عودته إلى المسلمين وفشوه فيهم] فانظر إلى ما وقع اليوم من البناء على القبور والمشاهد وعبادتها، فلقد عمَّت هذه البلية كثيرا من البلاد، ووقع ما وقع من الشرك وسوء الاعتقاد في أناس

_ 1 البخاري: أحاديث الأنبياء (3445) , وأحمد (1/ 23 ,1/ 24 ,1/ 47). 2 أحمد (1/ 214). 3 مسلم: الجنائز (969) , والترمذي: الجنائز (1049) , والنسائي: الجنائز (2031) , وأبو داود: الجنائز (3218) , وأحمد (1/ 96 ,1/ 128 ,1/ 145 ,1/ 150). 4 الترمذي: العلم (2676) , وأبو داود: السنة (4607) , وابن ماجه: المقدمة (44) , وأحمد (4/ 126) , والدارمي: المقدمة (95).

أبيات البردة فيها الاستعانة والاستغاثة بغير الله

ينسبون إلى العلم، قال سليمان التيمي: "لو أخذت بزلة كل عالم لاجتمع فيك الشرك كله". فإنا لله وإنا إليه راجعون. وقوله المطابق لقول النبي: "لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم"1. (أقول): لا ريب أن المطابقة وقعت منه ولا بد، لكنها في المنهي عنه لا في النهي، فالذي نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم من الإطراء طابقته الأبيات من قوله: يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به ... سواك ... إلى آخرها فقد تضمَّنت غاية الإطراء والغلو الذي وقعت فيه النصارى وأمثالهم، فإنه قصر خصائص الإلهية والربوبية التي قصرها الله على نفسه، وقصرها عليه رسوله صلى الله عليه وسلم فصرفها لغير الله؛ فإن الدعاء مخ العبادة، واللياذ من أنواع العبادة. [أبيات البردة فيها الاستعانة والاستغاثة بغير الله] وقد جمع في أبياته الاستعانة والاستغاثة بغير الله، والالتجاء والرغبة إلى غير الله، فإن غاية ما يقع من المستغيث والمستعين والراغب إنما هو الدعاء واللياذ بالقلب واللسان. وهذه هي أنواع العبادة، ذكرها الله تعالى في مواضع كثيرة من كتابه وشكرها لمن قصرها على الله، ووعده على ذلك الإجابة والإثابة، كقوله تعالى: {هُوَ الْحَيُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} 2. وقوله: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} 3 الآية، وقوله: {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَدا قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا} 4 الآيات. فهذا هو الدين الذي بعث الله به نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم، وأمره أن يقول لهم: {إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا} 5، فقصر الدعاء على ربه الذي هو توحيد الإلهية، وقال: {قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَدا} 6 إلى آخر الآيات، وهذا هو توحيد الربوبية، فوحَّد الله في إلهيته وربوبيته، وبيَّن للأمة ذلك كما أمر الله تعالى.

_ 1 البخاري: أحاديث الأنبياء (3445) , وأحمد (1/ 23 ,1/ 24 ,1/ 47). 2 سورة غافر آية: 65. 3 سورة غافر آية: 60. 4 سورة الجن آية: 19. 5 سورة الجن آية: 20: 23. 6 سورة الجن آية: 21.

عبادة النصارى وتأليههم للمسيح

وقال تعالى {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} 1 أمره بقصر الرغبة على ربه تعالى، وقال: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} 2 ونهى عن الاستعاذة بغيره بقوله تعالى عن مؤمني الجن: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الأِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا} 3. واحتجَّ الإمام أحمد -رحمه الله تعالى- وغيره على القائلين بخلق القرآن بحديث خولة بنت حكيم مرفوعا: "من نزل مَنْزلا فقال: أعوذ بكلمات الله التامات"4 الحديث، على أن القرآن غير مخلوق، إذ لو كان مخلوقا لَمَا جاز أن يستعاذ بمخلوق؛ لأن الاستعاذة بالمخلوق شرك، وأمثال ذلك في القرآن والحديث كثير يظهر بالتدبر. [عبادة النصارى وتأليههم للمسيح] وأما قول المعترض: إن النصارى يقولون: إن المسيح ابن الله. نعم قاله طائفة منهم، وطائفة قالوا: هو الله، والطائفة الثالثة قالوا: هو ثالث ثلاثة، وبهذه الطرق الثلاث عبدوا المسيح -عليه السلام-، فأنكر الله عليهم تلك الأقوال في المسيح، وأنكر عليهم ما فعلوه من الشرك كما قال تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} 5. فأنكر عليهم عبادتهم للمسيح والأحبار والرهبان: أما المسيح فعبادتهم له بالتألُّه وصرف خصائص الإلهية له من دون الله كما قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ} 6، فأخبر أن الإلهية وهي العبادة حق لله لا يشركه فيها أولو العزم ولا غيرهم، يبين ذلك قوله: {مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ} 7. [اتخاذ أهل الكتاب أحبارهم ورهبانهم أربابا] وأما عبادتهم للأحبار والرهبان فإنهم أطاعوهم في تحليل ما أحلوه لهم من الحرام، وتحريم ما حرموه من الحلال عليهم.

_ 1 سورة الشرح آية:7، 8. 2 سورة الأنبياء آية: 90. 3 سورة الجن آية: 6. 4 مسلم: الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2708) , والترمذي: الدعوات (3437) , وابن ماجه: الطب (3547) , وأحمد (6/ 377) , والدارمي: الاستئذان (2680). 5 سورة التوبة آية: 31. 6 سورة المائدة آية: 116. 7 سورة المائدة آية: 117.

نبذ الشرك وعبادة الله وحده

ولما قدم عدي بن حاتم على النبي صلى الله عليه وسلم بعد فراره إلى الشام -وكان قبل مقدمه على النبي صلى الله عليه وسلم نصرانيًّا- فلما قدم على النبي صلى الله عليه وسلم مسلمًا، تلا عليه هذه الآية: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} 1 قال: يا رسول الله، لسنا نعبدهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أليسوا يحلون لكم ما حرم الله فتحلونه ويحرمون عليكم ما أحل الله فتحرمونه؟ " قال: بلى. قال: "فتلك عبادتهم". ففيه بيان أن من أشرك مع الله غيره في عبادته، أو أطاع غير الله في معصيته فقد اتخذه ربا ومعبودا، وهذا بيِّن بحمد الله. [نبذ الشرك وعبادة الله وحده] فلو تأمل هذا الجاهل قول الله تعالى: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ} 2، لعلم أن الله قد أنكر على النصارى قولهم وفعلهم، وعلى كل من عبد مع الله غيره بأي نوع من أنواع العبادة، لكن هذا وأمثاله كرهوا التوحيد، وألفوا الشرك وأحبوه وأحبوا أهله، فترامى بهم هذا الداء العضال إلى ما ترى من التخليط والضلال والاستغناء بالجهل ووساوس الشيطان، فمن وجد خيرا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه، ولا شفاء لهذا الداء العظيم إلا بالتجرد عن الهوى والعصبية والإقبال على تدبر الآيات المحكمات في بيان التوحيد الذي بعث الله به المرسلين. كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} 3، ومثل قوله تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} 4. أمره تعالى أن يدعو أهل الكتاب إلى أن يخلصوا العبادة لله وحده، ولا يشركوا فيها أحدا من خلقه، فإنهم كانوا يعبدون أنبياءهم كالمسيح ابن مريم ويعبدون أحبارهم ورهبانهم. وتأمَّل قوله: {كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} 5، وهذا هو التوحيد الذي بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم إلى جميع من أرسل إليه كما قال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ

_ 1 سورة التوبة آية: 31. 2 سورة المؤمنون آية: 91. 3 سورة يونس آية: 57. 4 سورة آل عمران آية: 64. 5 سورة آل عمران آية: 64.

دعوة جميع الرسل إلى عبادة الله وحده

اللَّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ} 1. وقوله: {وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا} 2 يعم كل شرك دقَّ أو جلَّ، كثر أو قل. [دعوة جميع الرسل إلى عبادة الله وحده] قال العماد ابن كثير في تفسيره: "هذا الخطاب مع أهل الكتاب من اليهود والنصارى ومن جرى مجراهم، وقوله: {سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} 3 أي: عدل ونصف نستوي نحن وأنتم فيها، ثم فسرها بقوله: {أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا} 4 لا وثنا ولا صنما ولا صليبا ولا طاغوتا ولا نارا ولا شيئا، بل نفرد العبادة لله وحده لا شريك له". (قلت): وهذا هو معنى لا إله إلا الله. ثم قال: "وهذه دعوة جميع الرسل قال الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} 5، وقال: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} 6". انتهى المقصود منه. وقال -رحمه الله تعالى- في تفسير قوله {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ} 7 الآية: قال محمد بن إسحاق: حدثنا محمد بن أبي محمد، عن عكرمة أو سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: "قال أبو رافع القرظي -حين اجتمعت الأحبار من اليهود والنصارى من أهل نجران عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعاهم إلى الإسلام-: أتريد يا محمد أن نعبدك كما عبدت النصارى عيسى بن مريم؟ فقال رجل من أهل نجران يقال له الرئيس: أَوَذَاك تريد منا يا محمد وإليه تدعونا؟ -أو كما قال- فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: معاذ الله أن نعبد غير الله أو نأمر بعبادة غير الله ما بذلك بعثني ولا بذلك أمرني" أو كما قال صلى الله عليه وسلم. فأنزل الله عز وجل في ذلك {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ} 8 إلى قوله: {بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} 9 قوله: {ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ} 10 أي: ما ينبغي لبشر آتاه الله الكتاب والحكم والنبوة أن يقول للناس:

_ 1 سورة الرعد آية: 36. 2 سورة آل عمران آية: 64. 3 سورة آل عمران آية: 64. 4 سورة آل عمران آية: 64. 5 سورة الأنبياء آية: 25. 6 سورة النحل آية: 36. 7 سورة آل عمران آية: 79. 8 سورة آل عمران آية: 79. 9 سورة آل عمران آية: 80. 10 سورة آل عمران آية: 79.

إخلاص الدعاء لغير الله

اعبدوني من دون الله، أي: مع الله، وإذا كان هذا لا يصلح لنبي ولا لمرسل فَلأَنْ لا يصلح لأحد من الناس بطريق الأولى والأحرى. ولهذا قال الحسن البصري: "لا ينبغي هذا لمؤمن أن يأمر الناس بعبادته، وذلك أن القوم كان يعبد بعضهم بعضا"، يعني: أهل الكتاب، وقوله: {أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا} 1 أي: لا يأمركم بعبادة أحد غير الله، لا ملك مقرب، ولا نبي مرسل، {أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} 2 أي: لا يفعل ذلك؛ لأن من دعا إلى عبادة غير الله فقد دعا إلى الكفر، والأنبياء إنما يأمرون بالإيمان، وهو عبادة الله وحده لا شريك له، كما قال تعالى: {مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} 3. وقال: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} 4. وقال في حق الملائكة: {وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} 5 انتهى. وهو في غاية الوضوح. وبيان التوحيد، وخصائص الربوبية والإلهية، ونظائر هذه الآيات كثير في القرآن، وفي السنة من الأحاديث كذلك. [إخلاص الدعاء لغير الله] فإذا كان من المستحيل عقلا وشرعا على رسول الله صلى الله عليه وسلم هو وجميع الأنبياء والمرسلين أن يأمروا أحدا بعبادتهم، فكيف جاز في عقول هؤلاء الجهلة أن يقبلوا قول صاحب البردة: يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به ... سواك عند حلول الحادث العمم وقد أخلص الدعاء الذي هو مخ العبادة، واللياذ الذي هو من أنواع العبادة لغير الله، وتضمَّن إخلاص الرغبة والاستكانة والاستغاثة والالتجاء إلى غير الله؟ وهذه هي معظم أنواع العبادة كما أشير إلى ذلك في قوله تعالى: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ} 6 الآية. وقوله: {قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُنَا وَلا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي

_ 1 سورة آل عمران آية: 80. 2 سورة آل عمران آية: 80. 3 سورة الأنبياء آية: 25. 4 سورة الزخرف آية: 45. 5 سورة الأنبياء آية: 29. 6 سورة الرعد آية: 14.

تفسير قوله {يوم لا تملك نفس لنفس شيئا والأمر يومئذ لله}

اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا} 1 إلى قوله: {قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} 2. وعن أنس مرفوعا: "الدعاء مخ العبادة"3 رواه الترمذي. [تفسير قوله {يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ}] وقوله: إن لم تكن في معادي آخذا بيدي ... فضلا، وإلا فقل يا زلة القدم المنافي لقوله تعالى: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ * ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} 4. وقوله: {قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَدًا} 5. وقوله: {قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلا نَفْعًا} 6 الآية. وفي الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لابنته فاطمة وأحب الناس إليه: "يا فاطمة بنت محمد سليني من مالي ما شئت، لا أغني عنك من الله شيئا"7. فتأمَّل ما بين هذا وبين قول الناظم من التضاد والتباين، ثم المصادمة منه لما ذكره الله -تعالى- وذكره رسوله صلى الله عليه وسلم كقوله: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} 8. وتأمل ما ذكره العلماء في سبب نزول هذه الآية، وأمثال هذه الآية كثير لم يُنْسَخ حكمها ولم يُغَيَّر، ومَنْ ادَّعى ذلك فقد افترى على الله كذبا، وأضل الناس بغير علم كقوله تعالى: {وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} 9. وبهذا يعلم أن الناظم قد زلَّت قدمه، اللهم إلا أن يكون قد تاب قبل الوفاة، والله أعلم. [لا شريك لله في ملكه كما لا شريك له في إلهيته وربوبيته] وأما قوله: فإن من جودك الدنيا وضرتها ... ... ... ... ... ... فمن المعلوم أن الجواد لا يجود إلا بما يملكه، فمقتضى ذلك: الدنيا والآخرة ليست لله بل لغيره، وأن أهل الجنة من الأولين والآخرين لم يدخلهم الجنة الرب الذي خلقهم وخلقها لهم، بل أدخلهموها غيره {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ

_ 1 سورة الأنعام آية: 71. 2 سورة الأنعام آية: 73: 75. 3 الترمذي: الدعوات (3371). 4 سورة الانفطار آية: 17. 5 سورة الجن آية: 21. 6 سورة يونس آية: 49. 7 البخاري: الوصايا (2753) وتفسير القرآن (4771) , ومسلم: الإيمان (206) , والنسائي: الوصايا (3646) , والدارمي: الرقاق (2732). 8 سورة آل عمران آية: 128. 9 سورة هود آية: 123.

إحاطة العلم بالمعلومات كلياتها وجزئياتها

عَمَّا يَصِفُونَ} 1. وفي الحديث الصحيح: "لن يدخل أحد منكم الجنة بعمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمته"2. وقد قال تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} 3 وقوله -تبارك وتعالى-: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} 4، وقوله: {قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ} 5، وقوله: {وَإِنَّ لَنَا لَلآخِرَةَ وَالأُولَى} 6. فلا شريك لله في ملكه كما لا شريك له في إلهيته وربوبيته، والآيات في هذا المعنى كثيرة جدا. [إحاطة العلم بالمعلومات كلياتها وجزئياتها] وقوله: ... ... ... ... ... ... ومن علومك علم اللوح والقلم وهذا أيضًا كالذي قبله، لا يجوز أن يقال إلا في حق الله تعالى الذي أحاط علمه بكل شيء كما قال تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} 7. وقال: {وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} 8. وقوله: {قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ} 9. وقال تعالى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} 10. وقال تعالى: {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللهُ} 11 والآيات في هذا المعنى كثيرة تفوت الحصر. وكل هذه الأمور من خصائص الربوبية والإلهية التي بعث الله رسله، وأنزل كتبه لبيانها واختصاصها بالله -سبحانه وتعالى- دون كل من سواه، وقال تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} 12، كقوله في آية الكرسي: {وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ} 13 الآية، فقد أطلع الله مَنْ شاء من أنبيائه ورسله على ما شاء من الغيب بوحيه إليهم. فمن ذلك ما جرى من الأمم السالفة، وما جرى عليهم كما قال تعالى: {تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا} 14، وكذلك

_ 1 سورة الصافات آية: 180. 2 البخاري: الرقاق (6467). 3 سورة النساء آية: 134. 4 سورة الملك آية: 1. 5 سورة الأنعام آية: 12. 6 سورة الليل آية: 13. 7 سورة الأنعام آية: 73. 8 سورة يونس آية: 61. 9 سورة الأنعام آية: 50. 10 سورة الأنعام آية: 59. 11 سورة النمل آية: 65. 12 سورة الجن آية: 26. 13 سورة البقرة آية: 255. 14 سورة هود آية: 49.

الموافقة في الاسم لا تنفع إلا بالموافقة في الدين واتباع السنة

ما تضمَّنه الكتاب والسنة من أخبار المعاد والجنة والنار ونحو ذلك، أطلع الله عليه رسوله، والمؤمنون عرفوه من كتاب الله وسنة رسوله، وآمنوا به. وأما إحاطة العلم بالمعلومات كلياتها وجزئياتها، وما كان منها وما لم يكن، فذاك إلى الله وحده لا يُضاف إلى غيره من خلقه، فمن ادَّعى ذلك لغير الله فقد أعظم الفرية على الله وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم. فما أجرأ هذا القائل على الله في سلب حقه! وما أعداه لرسوله صلى الله عليه وسلم ولمن تولاه من المؤمنين والموحدين! قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى-* وذكر قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه "إنما تنقض عُرَى الإسلام عروة عروة إذا نشأ في الإسلام مَنْ لا يعرف الجاهلية": "وهذا لأنه إذا لم يعرف الجاهلية والشرك وما عابه القرآن وذمه وقع فيه وأقرَّه، ودعا إليه وصوَّبه وحسَّنه، وهو لا يعرف أنه الذي كان عليه أهل الجاهلية أو نظيره أو شر منه أو دونه، فتنتقض بذلك عرى الإسلام ويعود المعروف منكرا، والمنكر معروفا، والبدعة سنة، والسنة بدعة، ويُكَفَّر الرجل بمحض الإيمان وتجريد التوحيد، ويُبَدَّعُ بتجريد متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم ومفارقة الأهواء والبدع، ومن له بصيرة وقلب حي يرى ذلك عيانا، والله المستعان". انتهى. (قلت): وقد رأينا ذلك -والله- عيانا من هؤلاء الجهلة الذين ابتلينا بهم في هذه الأزمنة، أشربت قلوبهم الشرك والبدع، واستحسنوا ذلك، وأنكروا التوحيد والسنة، وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق فضلوا وأضلوا. [الموافقة في الاسم لا تنفع إلا بالموافقة في الدين واتباع السنة] وأما قول الناظم: * فإن لي ذمة منه بتسميتي محمدًا * ... البيت فهذا من جهله، إذ من المعلوم عند كل من له أدنى مسكة من عقل أن الموافقة في الاسم لا تنفع إلا بالموافقة في الدين واتباع السنة، فأولياء الرسول صلى الله عليه وسلم أتباعه

_ * لم أجد هذا النقل عن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، ولكن وجدته بحروفه في كتاب "مدارج السالكين" للإمام ابن القيم رحمه الله 1/ 351. [معد الكتاب للمكتبة الشاملة]

موت أبي طالب على الشرك

على دينه، والعمل بسنته، كما دلَّ على ذلك الكتاب والسنة، قال تعالى: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنَا يُؤْمِنُونَ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالأِنْجِيلِ} 1 إلى قوله: {فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} 2. [موت أبي طالب على الشرك] وتأمَّل قصة أبي طالب عم النبي صلى الله عليه وسلم وقد كان يحوطه ويحميه وينصره، ويجمع القبائل على نصرته صلى الله عليه وسلم وحمايته من أعدائه، وقد قال في حق النبي صلى الله عليه وسلم: لقد علموا أن ابننا لا مكذب ... لدينا ولا يعنى بقول الأباطل حدبت بنفسي دونه وحميته ... ودافعت عنه بالذرى والكلاكل ولما لم يتبرأ من دين أبيه عبد المطلب، ومات على ذلك، وقال النبي صلى الله عليه وسلم "لأستغفرن لك ما لم أُنْهَ عنه"3 أنزل الله -سبحانه-: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} 4. [لا وسيلة للعبد إلى نيل شفاعة النبي -صلّى الله عليه وسلّم- إلا بالإيمان به وبما جاء به من توحيد الله] فلا وسيلة للعبد إلى نيل شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم إلا بالإيمان به، وبما جاء به من توحيد الله، وإخلاص العبادة له وحده لا شريك له، ومحبته واتباعه وتعظيم أمره ونهيه، والدعوة إلى ما بعث به من دين الله، والنهي عما نهى عنه من الشرك بالله والبدع، وما لا فلا. فعكس الملحدون الأمر، وطلبوا الشفاعة التي بعث الله رسوله صلى الله عليه وسلم بالنهي عنها وإنكارها، وقتال أهلها بالشرك، وإحلال دمائهم وأموالهم، وأضافوا إلى ذلك إنكار التوحيد، وعداوة من قام به، واقتفى أثر النبي صلى الله عليه وسلم كما تقدَّم في كلام شيخ الإسلام -رحمه الله تعالى- من قوله: ويكفّر الرجل بمحض الإيمان، وتجريد التوحيد إلى آخر كلامه. وأما قول الناظم:

_ 1 سورة الأعراف آية: 156، 157. 2 سورة الأعراف آية: 157. 3 البخاري: الجنائز (1360) , ومسلم: الإيمان (24) , والنسائي: الجنائز (2035) , وأحمد (5/ 433). 4 سورة التوبة آية: 113.

* ولن يضيق رسول الله جاهك بي * ... البيت فهذا هو الذي ذكر الله عن المشركين، من اتخاذهم الشفعاء ليشفعوا لهم، ويقربوهم إلى الله زلفى، قال الله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} 1. فهذا هو دين الله الذي لا يقبل الله من أحد دينا سواه، ثم ذكر بعد ذلك دين المشركين فقال: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} 2. فتأمَّل كون الله تعالى كفَّرهم بقولهم: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} 3 وقال في آخر هذه السورة: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلا يَعْقِلُونَ قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا} 4 الآية. (قلت): وقد وقع من هؤلاء من اتخاذهم شفعاء بدعائهم، وطلبهم ورغبتهم، والالتجاء إليهم، وهم أموات غافلون عنهم لا يقدرون، ولا يسمعون لما طلبوا منهم وأرادوه، وقد أخبر تعالى أن الشفاعة ملكه لا ينالها من أشرك به غيره، وهو الذي له ملك السماوات والأرض، كما قال تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} 5 فعاملهم الله بنقيض قصدهم من جميع الوجوه، وسجَّل عليهم بالضلال، ولهذه الآية نظائر كثيرة كقوله: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} 6. فبيَّن أن دعوتهم غير الله شرك بالله، وأن المدعو من غيره لا يملك شيئا، وأنه

_ 1 سورة الزمر آية:2، 3. 2 سورة الزمر آية: 3. 3 سورة الزمر آية: 3. 4 سورة الزمر آية: 43، 44. 5 سورة الأحقاف آية:5، 6. 6 سورة فاطر آية:13، 14.

الشفاعة الشركية والشفاعة الشرعية بقيديها

لا يسمع دعاء الداعي، ولا يستجيب له، وأن المدعو ينكر ذلك الشرك ويتبرَّأ منه، ومن صاحبه يوم القيامة. فمن تأمَّل هذه الآيات، انزاحت عنه بتوفيق الله وفتحه جميع الشبهات، ومما يشبه هذه الآية -في حرمان من أنزل حوائجه بغير الله، واتخذه شفيعا من دون الله بتوجيه قلبه وقالبه إليه، واعتماده في حصول الشفاعة عليه، كما قد تضمنه بيت الناظم- قول الله تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} 1. [الشفاعة الشركية والشفاعة الشرعية بقيديها] فانظر كيف حرمهم الله الشفاعة لما طلبوها من غيره، وأخبر أن حصولها مستحيل في حقهم بطلبها في دار العمل من غيره، وهذه هي الشفاعة التي نفاها القرآن كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ} 2. وقال: {وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ} 3. فهذه الشفاعة المنفية هي التي فيها شرك، وأما الشفاعة التي أثبتها القرآن فإنما ثبتت بقيدين عظيمين: إذن الرب تعالى للشفيع، ورضاه عن المشفوع له، وهو لا يرضى من الأديان الستة المذكورة في قوله: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا} 4 الآية، إلا الإيمان الذي أصله وأساسه التوحيد والإخلاص، كما قال تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} 5، وقال: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} 6، وقال: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} 7، وقال تعالى: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} 8 إلى قوله: {مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ} 9.

_ 1 سورة يونس آية: 18. 2 سورة البقرة آية: 254. 3 سورة الأنعام آية: 51. 4 سورة الحج آية: 17. 5 سورة البقرة آية: 255. 6 سورة الأنبياء آية: 28. 7 سورة النجم آية: 26. 8 سورة الأعراف آية: 54. 9 سورة يونس آية: 3.

وفي الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم لما ذكر شفاعته قال: "وهي نائلة من شاء الله ممن مات لا يشرك بالله شيئا". وقال له أبو هريرة رضي الله عنه: "من أسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة؟ قال: من قال لا إله إلا الله خالصا من قلبه"1. قال شيخ الإسلام في هذا الحديث: "فتلك الشفاعة لأهل الإخلاص بإذن الله، ولا تكون لمن أشرك بالله". وقد كشفنا -بحمد الله- بهذه الآيات المحكمات تلبيس هذا المعترض الملبس ولجاجه وافتراءه على الله ورسوله، فإن دعوة غير الله ضلال وشرك ينافي التوحيد، وإن اتخاذ الشفعاء إنما هو بدعائهم، والالتجاء إليهم، وسؤالهم أن يشفعوا للداعي، وقد نهى الله عن ذلك، وبيَّن أن الشفاعة له، فإذا كانت له وحده فلا تُطْلَب إلا ممن هي ملكه، فيقول: اللهم شفِّع نبيك في؛ لأنه تعالى هو الذي يأذن للشفيع أن يشفع فيمن يرضى دينه، وهو الإخلاص كما تقدم بيانه. وأما قول المعترض: إن المعتزلة احتجُّوا بالآيات التي فيها نفي الشفاعة على أنها لا تقع لأهل الكبائر من الموحدين. فأقول: لا ريب أن قولهم هذا بدعة وضلالة، وأنت أيها المجادل في آيات الله بغير سلطان مع المعتزلة في طرفي نقيض، تقول: إن الشفاعة تثبت لمن طلبها وسألها من الشفيع، فجعلت طلبها منه موجبا لحصولها، والقرآن قد نفى ذلك وأبطله في مواضع كثيرة -بحمد الله-، والحق أنها لا تقع إلا لمن طلبها من الله وحده، ورغب إليه فيها، وأخلص له العبادة بجميع أنواعها. وهذا هو الذي تقع له الشفاعة قبل دخول النار أو بعده إن دخلها بذنوبه، فهذا هو الذي يأذن الله للشفعاء أن يشفعوا له بما معه من الإخلاص كما صرحت بذلك الأحاديث، والله أعلم. وقد قدمنا ما دلَّ عليه الكتاب والسنة أن ما في القرآن من ذكر الشفاعة نفيا

_ 1 البخاري: العلم (99) والرقاق (6570) , وأحمد (2/ 373).

حديث الشفاعة العظمى

وإثباتا فحق لا اختلاف فيه بين أهل الحق، فالشفاعة المنفية إنما هي في حق المشرك الذي اتخذ له شفيعا يطلب الشفاعة منه؛ فيرغب إليه في حصولها، كما في البيت المتقدم، وهو كفر كما صرَّح به القرآن. [حديث الشفاعة العظمى] وأما الشفاعة التي أثبتها الكتاب والسنة فقد ثبتت للمذنبين الموحدين المخلصين، وهذا هو الذي تظاهرت عليه النصوص واعتقده أهل السنة والجماعة، ودانوا به. والحديث الذي أشار إليه المعترض من قوله: "أنا لها، أنا لها"1 لا ينافي ما تقرر، وذلك أن الناس في موقف القيامة إذا فزعوا إلى الرسل ليشفعوا لهم إلى الله في إراحتهم من كرب ذلك المقام بالحساب، وكلٌّ ذكر عذره، قال النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث: "فيأتوني فَأَخِرُّ بين يدي الله ساجدا -أو كما قال- فأحمده بمحامد يفتحها علي، ثم يقال: ارفع رأسك، وقل يسمع، وسل تعطه، واشفع تُشَفَّع، قال: فَيُحَدُّ لي حدا، فأدخلهم الجنة". فتأمَّل كون هذه الشفاعة لم تقع إلا بعد السجود لله ودعائه وحمده والثناء عليه، وقوله: "فيحد لي حدا" فيه بيان أن الله هو الذي يحد له. [سؤال الحي الحاضر والتوسل إلى الله بدعائه] وهذا الذي يقع من الناس يوم القيامة مع الرسل هو من باب سؤال الحي الحاضر، والتوسل إلى الله بدعائه كما كان الصحابة -رضي الله عنهم- يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته أن يدعو لهم إذا نابهم شيء كما في حديث الاستسقاء وغيره. ولما توفى الله رسوله صلى الله عليه وسلم لم يكونوا يفعلون عند قبره شيئا من ذلك البتة، ففرَّق أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، -وهم أعلم الأمة وأفضلها- بين حالتي الحياة والممات. وكانوا يصلون على النبي صلى الله عليه وسلم عند دخول المسجد والخروج منه، وفي الصلاة والخطب وعند ذكره امتثالا لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا تجعلوا قبري عيدا، ولا بيوتكم قبورا، وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني أينما كنتم"2. [التوسل بالنبي -صلّى الله عليه وسلّم- بعد وفاته لا يجوز] ولما أراد عمر رضي الله عنه أن يستسقي بالناس، أخرج معه العباس بن

_ 1 البخاري: التوحيد (7510) , ومسلم: الإيمان (193). 2 أبو داود: المناسك (2042) , وأحمد (2/ 367).

عبد المطلب رضي الله عنه فقال: "اللهم إنا كنا إذا أجدبنا توسلنا إليك بنبينا؛ فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا"، فيدعو. فلو جاز أن يتوسل عمر والصحابة بذات رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد وفاته، لما صلح منهم أن يعدلوا عن النبي صلى الله عليه وسلم إلى عمه العباس، فلما عدلوا عنه إلى العباس علم أن التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاته لا يجوز في دينهم، وصار هذا إجماعا منهم. قال العلامة ابن القيم -رحمه الله تعالى-*: "وقد أنكر أئمة الإسلام ذلك، فقال أبو الحسن القدوري -في شرح كتاب الكرخي- قال بشر بن الوليد: سمعت أبا يوسف يقول: قال أبو حنيفة: لا ينبغي لأحد أن يدعو الله إلا به، وأكره أن يقول: بحق فلان، أو بحق أنبيائك ورسلك، أو بحق البيت الحرام. قال أبو الحسن: أما المسألة بغير الله فتكره في قولهم؛ لأنه لا حق لغير الله عليه، وإنما الحق لله على خلقه. وقال ابن بلدمي -في شرح المختار-: ويكره أن يدعو الله إلا به، فلا يقول: أسألك بفلان أو بملائكتك أو بأنبيائك ونحو ذلك؛ لأنه لا حق للمخلوق على خالقه، وما يقول فيه أبو حنيفة وأصحابه: أكره كذا، هو عند محمد حرام، وعند أبي حنيفة وأبي يوسف هو إلى الحرام أقرب، وجانب التحريم عليه أغلب 1. فإذا قرر الشيطان عنده أن الإقسام على الله به، والدعاء به أبلغ في تعظيمه واحترامه وأنجع لقضاء حاجته، نقله درجة أخرى إلى أن يتخذ قبره وثنا يعكف عليه، ويوقد عليه القنديل، ويعلق عليه الستور، ويبني عليه المسجد، ويعبده بالسجود له والطواف، وتقبيله

_ * النقل من "إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان" 1/ 216 - 218. [معد الكتاب للمكتبة الشاملة] 1 لكن نقل الشافعي في "الأم" عن أبي يوسف: أن الحرام ما كان يطلق عند السلف إلا على ما كان بيِّنا في كتاب الله بلا تفسير، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "أن السلف ما كانوا يحرمون شيئا إلا بدليل قطعي". نقله عنه ابن مفلح في "الآداب الشرعية"، وذكر أن في مذهب أحمد روايتين في المسألة الثانية أن التحريم يثبت بالدليل الظني، أيضا. اهـ بالمعنى، ونحن نتبع السلف -رضي الله عنهم-.

مراتب البدع عند القبور

واستلامه والحج إليه والذبح عنده، ثم ينقله درجة أخرى إلى دعاء الناس لعبادته، واتخاذه عيدًا ومنسكا، وأن ذلك أنفع لهم في دنياهم وأخراهم. [مراتب البدع عند القبور] قال شيخنا -قدَّس الله روحه-*: "وهذه الأمور المبتدعة عند القبور مراتب؛ أبعدها عن الشرع أن يسأل الميت حاجته ويستغيث به فيها، كما يفعله كثير من الناس. قال: وهؤلاء من جنس عُبَّاد الأصنام، وهذا يحصل للكفار من المشركين وأهل الكتاب، يدعو أحدهم من يعظمه، ويتمثَّل لهم الشيطان أحيانًا وقد يخاطبهم ببعض الأمور الغائبة. ثم ذكر المرتبة الثانية وهي أن يسأل الله به. قال: وهو بدعة باتفاق المسلمين. (والثالثة): أن يظن أن الدعاء عند قبره مستجاب، أو أنه أفضل من الدعاء في المسجد، فهذا أيضا من المنكرات المبتدعة باتفاق المسلمين وهي محرمة، وما علمت في ذلك نزاعًا بين أئمة الدين، وإن كان كثير من الناس يفعل ذلك". انتهى. ففرض على كل أحد أن يعلم ما أمر الله ورسوله به، من إخلاص العبادة لله وحده، فإنه الدين الذي بعثه الله به، وأن يترك ما نهى الله عنه ورسوله صلى الله عليه وسلم من الشرك فما دونه كما قال تعالى: {وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ} 1 الآية، وأن لا يدين الله تعالى إلا بما دلَّ الدليل على أنه من دين الله، ولا يكون إمعة يطير مع كل ريح. فإن الناس من أمة محمد صلى الله عليه وسلم والأمم قبلها قد تنازعوا في ربهم وأسمائه وصفاته، وما يجب له على عباده، وقد قال تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} 2. فيا سعادة من تجرَّد عن العصبية والهوى، والتجأ إلى حصن الكتاب والسنة، فإن العلم معرفة الهدى بدليله، وما ليس كذلك فجهل وضلال. [النبي ينهى أمته عن كل ما يؤول بهم إلى الغلو] وأما قول المعترض: فانظر إلى (الشفاء) تجده حكى كفر مَنْ قال مثل هذه الكلمة

_ * يعني شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، والنقل من كتاب "إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان" للإمام ابن القيم (1/ 217)، وقد أدرج في "المستدرك على مجموع الفتاوى" (1/ 22)، وأصله مذكور في "الرد على البكري" (1/ 145). [معد الكتاب للمكتبة الشاملة] 1 سورة يونس آية: 106. 2 سورة النساء آية: 59.

توحيد الرب ونفي خصائصه عما سواه

أي: الكلمة التي ذكرها المجيب في معنى قوله: {قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَدًا} 1 الآيات، ذكر عبارة النسفي في معناها، وهي قوله: "هو إظهار للعبودية وبراءة عما يختص بالربوبية من علم الغيب، أي: أنا عبد ضعيف لا أملك لنفسي اجتلاب نفع ولا دفع ضر" إلى آخر كلامه. إذ من عادة هذا المعترض الجاهل رد الحق والمكابرة في دفعه والغلو المتناهي، وإلا فمن المعلوم عند من له معرفة بدين الإسلام أن المجيب إنما أتى في جوابه بتحقيق التوحيد، ونفي الشرك بالله، وذلك تعظيم لجانب الرسالة. وكان النبي صلى الله عليه وسلم ينهى أمته عن كل ما يؤول بهم إلى الغلو، ولما قيل له صلى الله عليه وسلم أنت سيدنا وابن سيدنا، وخيرنا وابن خيرنا. قال: "يا أيها الناس، قولوا بقولكم أو بعض قولكم، ولا يستهوينكم الشيطان، أنا عبد الله ورسوله، ما أحب أن ترفعوني فوق منْزلتي التي أنزلني الله تعالى"2. والنبي صلى الله عليه وسلم هو أحق الخلق بالتواضع لله وحده -سبحانه-، وفي الحديث: "فإنك إن تكلني إلى نفسي تكلني إلي ضيعة وعورة، وذنب وخطيئة، وإني لا أثق إلا برحمتك"3 الحديث، والأحاديث في هذا المعنى كثيرة يخبر بذلك عن نفسه، ويعترف بذلك لربه، وهو الصادق المصدوق. فإذا قال المسلم: مثل هذا في حقه صلى الله عليه وسلم وأخبر عنه بما أخبر به عن نفسه لم يكن منتقصا له، بل هذا من تصديقه والإيمان به. [توحيد الرب ونفي خصائصه عما سواه] قال شيخ الإسلام -رحمه الله تعالى-*: إذا كان الكلام في سياق توحيد الرب ونفي خصائصه عما سواه لم يجز أن يقال: هذا سوء عبارة في حق من دون الله من الأنبياء والملائكة، فإن المقام أجلُّ من ذلك، وكل ما سوى الله يتلاشى عند تجريد توحيده، والنبي صلى الله عليه وسلم كان أعظم الناس تقريرا لما يقال على هذا الوجه، وإن كان نفسه المسلوب، كما في الصحيحين في حديث الإفك لما نزلت براءة عائشة من السماء، وأخبرها النبي صلى الله عليه وسلم بذلك قالت لها أمها: "قومي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت: والله لا أقوم إليه، ولا أحمده ولا إياكما، ولا أحمد إلا الله الذي أنزل براءتي"4.

_ 1 سورة الجن آية: 21. 2 أحمد (3/ 249). 3 أحمد (5/ 191). * النقل من كتاب "الرد على البكري" 2/ 647، ونقله مختصرًا الإمام محمد بن عبد الوهاب في "مسائل لخصها من كلام ابن تيمية" ص 104. [معد الكتاب للمكتبة الشاملة] 4 البخاري: الشهادات (2661) , ومسلم: التوبة (2770) , وأحمد (6/ 194).

الشرك بالله هضم للربوبية وتنقص للإلهية

فأقرها النبي صلى الله عليه وسلم وأبوها على هذا الكلام الذي نفت فيه أن يُحْمَدَ رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي رواية: "بحمد الله لا بحمدك"، ولم يقل أحد هذا سوء أدب عليه صلى الله عليه وسلم. وأخرج البيهقي بسنده إلى محمد بن مسلم: سمعت حبان صاحب ابن المبارك يقول: قلت لعبد الله بن المبارك: قول عائشة للنبي صلى الله عليه وسلم: "بحمد الله لا بحمدك" إني لأستعظم هذا! فقال عبد الله: "ولت الحمد أهله". وكذلك الحديث الذي رواه الإمام أحمد بسنده عن الأسود بن سريع: "أن النبي صلى الله عليه وسلم أُتِيَ بأسير فقال: اللهم أني أتوب إليك ولا أتوب إلى محمد. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: عرف الحق لأهله"1. [الشرك بالله هضم للربوبية وتنقُّص للإلهية] وهذا المعترض وأمثاله ادَّعوا تعظيم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بما قد نهى عنه من الغلو والإطراء، وهضموا ربوبية الله، وتنقَّصوا إلهيته، وأتوا بزخارف شيطانية، وحاولوا أن يكون حق الله تعالى من العبادة التي خلق لها عباده نُهْبَى بين الأحياء والأموات: هذا يصرفه لنبي، وهذا لملك، وهذا لصالح، أو غير هؤلاء ممن اتخذوهم أندادا لله، وعبدوا الشياطين بما أمروهم به من ذلك الشرك بالله، فإن عبادتهم للملائكة والأنبياء والصالحين إنما تقع في الحقيقة على مَنْ زيَّنها لهم من الشياطين، وأمرهم بها كما قال تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُون قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ} 2. ونحو هذه الآية كثير في القرآن. ولما ذكر العلامة ابن القيم -رحمه الله تعالى- ما وقع في زمانه من الشرك بالله قال: "وهذا هضم للربوبية، وتنقُّص للإلهية، وسوء ظن برب العالمين، وذكر أنهم إنما ساووهم بالله في العبادة كما قال تعالى عنهم وهم في النار: {تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} 3. [الله يستدرج أهل الشرك بأمور تقع لهم يظنونها كرامات عقوبة لهم] وأما ما ذكره عن خالد الأزهري، فخالد وما خالد؟ أغرك منه كونه شرح

_ 1 أحمد (3/ 435). 2 سورة سبأ آية: 40، 41. 3 سورة الشعراء آية:97، 98.

حكمة الرب في خلق السماوات والأرض

التوضيح والآجرومية في النحو؟! وهذا لا يمنع كونه جاهلا في التوحيد الذي بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم كما جهله من هو أعلم منه، وأقدم منه ممن لهم تصانيف في المعقول كالفخر الرازي وأبي معشر البلخي ونحوهما ممن غلط في التوحيد. وقد كان خالد هذا يشاهد أهل مصر يعبدون البدوي وغيره فما أنكر ذلك في شيء من كتبه، ولا نقل عنه أحد إنكاره، فلو صحَّ ما ذكره خالد من حال الناظم لم يكن جسرا تذاد عنه النصوص من الآيات المحكمات القواطع، والأحاديث الواضحات البينات كقوله تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} 1 وقوله: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} 2، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "من مات وهو يدعو لله ندا، دخل النار"3. وقد يستدرج الله أهل الشرك بأمور تقع لهم يظنونها كرامات عقوبة لهم، وكثير منها أحوال شيطانية أعانوا بها أولياءهم من الإنس كما قد يقع كثيرا لعباد الأصنام، وما أحسن ما قال بعضهم: تخالف الناس فيما قد رأوا ورووا ... وكلهم يدعون الفوز بالظفر فخذ بقول يكون النص ينصره ... إما عن الله أو عن سيد البشر وقد حاول هذا الجاهل المعترض صرف أبيات البردة عما هو صريح فيها نص فيما دلَّت عليه من الشرك في الربوبية والإلهية ومشاركة الله في علمه وملكه، وهي لا تحتمل أن تصرف عما هي فيه من ذلك الشرك والغلو، فما ظفر هذا المعترض من ذلك بطائل، غير أنه وسم نفسه بالجهل والضلال والزور والمحال، ولو سكت لسلم من الانتصار لهذا الشرك العظيم الذي وقع فيه. [حكمة الرب في خلق السماوات والأرض] وأما قول المعترض: ورد في الحديث: "لولا حبيبي محمد ما خلقت سمائي ولا أرضي ولا جنتي ولا ناري" فهذا من الموضوعات لا أصل له، ومَنْ ادَّعى خلاف ذلك فليذكر من رواه من أهل الكتب المعتمدة في الحديث، وأنى له ذلك؟ بل هو

_ 1 سورة النساء آية: 36. 2 سورة المؤمنون آية: 117. 3 البخاري: تفسير القرآن (4497) , وأحمد (1/ 374 ,1/ 402 ,1/ 407 ,1/ 462 ,1/ 464).

التصرف في الكون لله وحده

من أكاذيب الغلاة الوضاعين، وقد بيَّن الله تعالى حكمته في خلق السماوات والأرض في كثير من سورة القرآن كما في الآية التي تأتي بعد، وهي قول الله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} 1، ولها نظائرها تبين حكمة الرب في خلق السماوات والأرض. وقوله: وكيف ينكر تصرفه في إعطاء أحد بإذن الله من الدنيا في حياته، أو في الآخرة بعد وفاته؟ [التصرف في الكون لله وحده] (أقول): هذا كلام من اجترأ وافترى وأساء الأدب مع الله، وكذب على رسوله صلى الله عليه وسلم ولم يعرف حقيقة الشفاعة، ولا عرف تفرُّد الله بالملك يوم القيامة. وهل قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أو أحد من أصحابه أو من بعدهم من أئمة الإسلام: إن أحدا يتصرَّف يوم القيامة مع الله في ملكه؟ ولو أطلقت هذه العبارة في حق رسول الله صلى الله عليه وسلم لادَّعاها كلٌّ لمعبوده من نبي أو ملك أو صالح أنه يشفع له إذا دعاه. {سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ} 2، وقال تعالى: {يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ} 3 الآية، وقال: {لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا} 4. وهذا القول الذي قاله هذا الجاهل قد شافهنا به جاهل مثله بمصر، يقول: الذي يتصرف في الكون سبعة: البدوي والإمام الشافعي والشيخ الدسوقي، حتى أكمل السبعة من الأموات، هذا يقول: هذا وليُّ له شفاعة، وهذا صالح كذلك، وقد قال الله تعالى: {لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاق يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} 5 إلى قوله: {مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ} 6. وأي ظلم أعظم من الشرك بالله، ودعوى الشريك له في الملك والتصرف؟ وهذا غاية الظلم. قال شيخ الإسلام -رحمه الله تعالى-* في معنى قوله تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ

_ 1 سورة الطلاق آية: 12. 2 سورة الفرقان آية: 18. 3 سورة هود آية: 105. 4 سورة النبأ آية: 38. 5 سورة غافر آية: 15، 16. 6 سورة غافر آية: 18. * هذا النقل من كتاب "الإيمان" ص 66، وهو في "مجموع الفتاوى" 7/ 77. [معد الكتاب للمكتبة الشاملة]

نفي الملك والشركة والمظاهرة والشفاعة التي يطلبها المشرك

فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ * وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ} 1: نفى الله عما سواه كل ما يتعلق به المشركون، فنفى أن يكون لغيره ملك أو قسط منه، أو يكون عونا لله، ولم يبق إلا الشفاعة، فبين أنها لا تنفع إلا لمن أذن له الرب. فالشفاعة التي يظنها المشركون منتفية كما نفاها القرآن، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه يأتي فيسجد لربه ويحمده، لا يبدأ بالشفاعة أولا، ثم يقال له: "ارفع رأسك وقل يسمع وسل تعطه واشفع تشفع"2. وقال له أبو هريرة رضي الله عنه: "من أسعد الناس بشفاعتك؟ قال: من قال لا إله إلا الله خالصا من قلبه"3، فتلك الشفاعة لأهل الإخلاص بإذن الله، ولا تكون لمن أشرك بالله. وحقيقته أن الله سبحانه هو الذي يتفضَّل على أهل الإخلاص؛ فيغفر لهم بواسطة دعاء من أذن له أن يشفع ليكرمه، وينال المقام المحمود، فالشفاعة التي نفاها القرآن ما كان فيها شرك؛ ولهذا أثبت الشفاعة بإذنه في مواضع، وقد بيَّن النبي صلى الله عليه وسلم أنها لا تكون إلا لأهل الإخلاص والتوحيد. انتهى. [نفي الملك والشركة والمظاهرة والشفاعة التي يطلبها المشرك] وقال العلامة ابن القيم -رحمه الله تعالى- في مدارج السالكين: "وقد قطع الله الأسباب التي يتعلق بها المشركون جميعها، فقال الله تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ} 4. فالمشرك إنما يتخذ معبوده لما يحصل له به من النفع، والنفع لا يكون إلا ممن فيه خصلة من هذه الأربع: إما مالك لما يريد عابده منه، فإن لم يكن مالكا كان شريكا للمالك، فإن لم يكن شريكا له كان معينا له وظهيرا، فإن لم يكن معينا ولا ظهيرا كان شفيعا عنده، فنفى -سبحانه- المراتب الأربع نفيا مرتبا منتقلا من الأعلى إلى الأدنى، فنفى الملك والشركة والمظاهرة والشفاعة التي يطلبها المشرك، وأثبت شفاعة لا نصيب فيها لمشرك، وهي الشفاعة بإذنه. فكفى بهذه الآية نورًا

_ 1 سورة سبأ آية:22، 23. 2 البخاري: التوحيد (7410) , ومسلم: الإيمان (193) , وابن ماجه: الزهد (4312) , وأحمد (3/ 116 ,3/ 144 ,3/ 244 ,3/ 247) , والدارمي: المقدمة (52). 3 البخاري: العلم (99) والرقاق (6570) , وأحمد (2/ 373). 4 سورة سبأ آية:22، 23.

وبرهانا وتجريدًا للتوحيد وقطعًا لأصول الشرك ومواده لمن عقلها، والقرآن مملوء من أمثالها ونظائرها، ولكن أكثر الناس لا يشعرون بدخول الواقع تحته وتضمنه له، ويظنه في نوع وقوم قد خلوا من قبل، ولم يعقبوا وارثا، فهذا هو الذي يحول بين القلب وفهم القرآن. ولعمر الله إن كان أولئك قد خلوا فقد ورثهم من هو مثلهم أو دونهم، وتناول القرآن لهم كتناوله لأولئك"، إلى أن قال: "ومن أنواعه -أي الشرك-: طلب الحوائج من الموتى، والاستغاثة بهم والتوجه إليهم، وهذا أصل شرك العالم، فإن الميت قد انقطع عمله، وهو لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا فضلا عن أن يملك لمن استغاث به، وسأله قضاء حاجته، أو سأله أن يشفع له إلى الله، وهذا من جهله بالشافع والمشفوع عنده، فإنه لا يقدر أن يشفع له عند الله إلا بإذنه، والله لم يجعل استغاثته وسؤاله سببا لإذنه، وإنما السبب لإذنه كمال التوحيد. فجاء هذا المشرك بسبب يمنع الإذن، وهو بمنْزلة مَنْ استعان في حاجته بما يمنع حصولها، وهذه حالة كل مشرك، فجمعوا بين الشرك بالمعبود وتغيير دينه، ومعاداة أهل التوحيد ونسبة أهله إلى النقص بالأموات، وهم قد تنقَّصوا الخالق بالشرك به، وأولياءه الموحدين له بذمهم وعيبهم ومعاداتهم، وتنقَّصوا مَنْ أشركوا به غاية التنقص إذ ظنوا أنهم راضون منهم بهذا، وأنهم يوالونهم عليه. وهؤلاء هم أعداء الرسل في كل زمان ومكان، وما أكثر المستجيبين لهم! قال: وما نجا من شرك هذا الشرك الأكبر إلا من جرَّد توحيده لله، وعادى المشركين في الله، وتقرب بمقتهم إلى الله، واتخذ الله وحده وليه وإلهه ومعبوده، فجرَّد حبه لله، وخوفه لله، ورجاءه لله، وذله لله، وتوكله على الله، واستعانته بالله، والتجاءه إلى الله، وأخلص قصده لله متبعا لأمره متطلبا لمرضاته. إذا سأل سأل الله، وإذا استعان استعان بالله، وإذا عمل عمل لله وبالله ومع الله". انتهى. فرحم الله هذا الإمام وشيخه فلقد بينا حقيقة الشرك وطرقه وما يبطله.

طلب الشفاعة ممن لا يملكها كالأموات شرك بالله

وفي حديث ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: "إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله"1 ولم يقل: فاسألني أو استعن بي. فقصر السؤال والاستعانة على الله الذي لا يستحقه سواه، كما في قوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} 2. فمن صرف ذلك لغير الله فقد عصى الله ورسوله، وأشرك بالله. وللمعترض كلام ركيك لا حاجة لنا إلى ذكر ما فيه، وإنما نتتبع من كلامه ما يحتاج إلى رده وإبطاله كجنس ما تقدم. [طلب الشفاعة ممن لا يملكها كالأموات شرك بالله] واعلم أنه قال -لما ذكر قول المجيب-: إنه لا يجتمع الإيمان بالآيات المحكمات، وتلك الأبيات لما بينهما من التنافي والتضاد. قال المعترض أقول: يجتمعان بأن يفرد الله بالعبادة، ولا يقدح فيه تشفُّعُه بأحبابه إليه، وكيف يحكم عليه بالضلال بمجرد طلبه الشفاعة ممن هو أهل لها كما في الحديث: "أنا لها، أنا لها"3، ومعلوم أن الضلال ضد الحق؟ (فالجواب): لا يخفى ما في كلامه من التخليط والتلبيس والعصبية المشوبة بالجهل المركب، لا يدري ولا يدري أنه لا يدري. وقد بينا فيها تقدم أن دعوة غير الله ضلال، وأن اتخاذ الشفعاء الذي أنكره الله تعالى إنما هو بدعائهم والالتجاء إليهم والرغبة إليهم فيما أراده الراغب منهم من الشفاعة التي لا يقدر عليها إلا الله، وذلك ينافي الإسلام والإيمان بلا ريب؛ فإن طلبها من الأموات والغائبين طلب لما لا يقدر عليه إلا الله، وهو خلاف لما أمر الله به تعالى، وارتكاب لما نهى عنه كما تقدم بيانه في معنى قوله تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} 4 الآية، وقوله: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلًا} 5 الآية، وقوله: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} 6. فطلب الشفاعة من النبي

_ 1 الترمذي: صفة القيامة والرقائق والورع (2516) , وأحمد (1/ 293 ,1/ 303 ,1/ 307). 2 سورة الفاتحة آية: 5. 3 البخاري: التوحيد (7510) , ومسلم: الإيمان (193). 4 سورة يونس آية: 18. 5 سورة الإسراء آية: 56. 6 سورة الزمر آية: 3.

صلى الله عليه وسلم أو غيره بعد وفاته وبعده عن الداعي، لا يحبه الله تعالى ولا يرضاه ولا رسوله صلى الله عليه وسلم، وهو التوسل الذي ذكره العلامة ابن القيم -رحمه الله تعالى- وشيخه -رحمه الله تعالى- وصرَّحا بأنه شرك، وللعلامة من أبيات في المعنى، وهي قوله: والشرك فهو توسل مقصوده الز ... لفى من الرب العظيم الشان بعبادة المخلوق من حجر ومن ... بشر ومن قبر ومن أوثان والناس في هذا ثلاث طوائف ... ما رابع أبدًا بذي إمكان إحدى الطوائف مشرك بإلهه ... فإذا دعاه دعا إلهًا ثاني هذا وثاني هذه الأقسام ذ ... لك جاحد يدعو سوى الرحمان هو جاحد للرب يدعو غيره ... شركًا وتعطيلًا له قدمان هذا وثالث هذه الأقسام خير ... الخلق ذاك خلاصة الإنسان يدعو إله الحق لا يدعو ولا ... أحدًا سواه قط في الأكوان يدعوه في الرغبات والرهبات والـ ... ـحالات من سر ومن إعلان وقد أنكر الله ذلك الدعاء على من زعم في الرسل والملائكة ذلك كما قال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلًا} 1. قال طائفة من السلف: كان أقوام يدعون المسيح وأمه وعزيرا والملائكة، فأنكر الله ذلك، وقال: هؤلاء عبيدي كما أنتم عبيدي، يرجون رحمتي كما ترجون رحمتي، ويخافون عذابي كما تخافون عذابي. وهؤلاء الذين نزلت هذه الآية في إنكار دعوتهم هم من أوليائه وأحبائه، وقد تقدَّم أن الدعاء وجميع أنواع العبادة حق لله مختص به، كما تقدم في الآيات. والحاصل أن الله تعالى لم يأذن لأحد أن يتخذ شفيعًا من دونه يسأله ويرغب إليه ويلتجئ إليه، وهذا هو العبادة، ومن صرف من ذلك شيئًا لغير الله فقد أشرك مع الله غيره كما دلت عليه الآيات المحكمات، وهذا ضد إفراد الله بالعبادة

_ 1 سورة الإسراء آية: 56.

تعليم النبي صلى الله عليه وسلم ابن عباس الدعاء

وكيف يتصور أفراده بالعبادة وقد جعل له العبد ملاذا ومفزعا سواه؟ فإن هذا ينافي الإفراد، فأين ذهب عقل هذا وفهمه؟! ‍‍‍‍‍ قال شيخ الإسلام -رحمه الله تعالى-*: "العبادة اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة". انتهى. وقد تبين أن الدعاء مخ العبادة، وهو مما يحبه ويأمر به عباده، وأن يخلصوه له، وقد تقدم من الآيات ما يدل على ضلال من فعل ذلك وكفره. وبهذا يحصل الجواب عن قول المعترض: أن الشفاعة المنفية إنما هي في حق الكفار. (فنقول): فمن اتخذ معبودا سوى الله يرجوه أو يخافه فقد كفر، وتأمَّل قول الله تعالى: {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُون إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} 1 فبيَّن تعالى أن المخلوق لا يصلح أن يُدْعَى من دون الله، وأن مَنْ دعاه فقد أشرك مع الله غيره في الإلهية، والقرآن من أوله إلى آخره يدل على ذلك، وكذلك سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن الملحدين محجوبون عن فهم القرآن، كما حُجِبُوا عن الإيمان بجهلهم وضلالهم وإعراضهم عما أنزل الله في كتابه من بيان دينه الذي رضيه لنفسه ورضيه لعباده. قال شيخ الإسلام -رحمه الله تعالى-**: "وحقيقة التوحيد أن يعبد الله وحده ولا يدعى إلا هو، ولا يخشى ولا يتقى إلا هو، ولا يتوكل إلا عليه، ولا يكون الدين إلا له، وأن لا تتخذ الملائكة والنبيون أربابا فكيف بالأئمة والشيوخ؟! ‍‍‍‍‍‍‍ فإذا جعل الإمام والشيخ كأنه إله يدعى مع غيبته وموته، ويستغاث به، ويطلب منه الحوائج، كان مشبها بالله، فيخرجون عن حقيقة الإسلام الذي أصله شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله". انتهى. [تعليم النبي -صلّى الله عليه وسلّم- ابن عباس الدعاء] وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لابن عباس -رضي الله عنهما-: "إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله"2، فلو جاز أن يسأل صلى الله عليه وسلم، لما قصر سؤاله

_ * مسألة "العبودية" ص 44، وهي في "مجموع الفتاوى" 10/ 149. [معد الكتاب للمكتبة الشاملة] 1 سورة النحل آية: 20: 22. ** كتاب "منهاج السنة النبوية" 3/ 490. [معد الكتاب للمكتبة الشاملة] 2 الترمذي: صفة القيامة والرقائق والورع (2516) , وأحمد (1/ 293 ,1/ 303 ,1/ 307).

الفتنة بالعالم الفاجر والعابد الجاهل أضر من كل فتنة

واستعانته على الله وحده، وابن عباس من أحق الناس بأن يعلمه النبي صلى الله عليه وسلم ما فيه له منفعة، فلو جاز صرف ذلك لغير الله لقال: واسألني واستعن بي، بل أتى صلى الله عليه وسلم في مقام الإرشاد والإبلاغ والنصح لابن عمه بتجريد إخلاص السؤال، والاستعانة على الله -تعالى-. فأين ذهبت عقول هؤلاء الضُّلال عن هذه النصوص؟ والله المستعان. وقال الشيخ -رحمه الله تعالى-*: واعلم أن لفظ الدعاء والدعوة في القرآن يتناول معنيين: دعاء العبادة ودعاء المسألة، وكل عابد سائل، فكل سائل: عابد، وأحد الاسمين يتناول الآخر عند تجرده عنه. وإذا جمع بينهما؛ فإنه يراد بالسائل الذي يطلب لجلب المنفعة ودفع المَضَرّة بِصِيَغ السؤال والطلب، ويراد بالعابد: من يطلب ذلك بامتثال الأمر، وإن لم يكن هناك صيغة سؤال، ولا يتصور أن يخلو داعٍ لله؛ دعاء عبادة أو دعاء مسألة، مِنَ الرَّغَب والرَّهَبِ والخوف والطمع. انتهى. فتبين أن أبيات البُرْدَةِ التي قدمنا الكلام عليها: تنافي الحق وتناقضه. وماذا بعد الحق إلا الضلال؟ [الفتنة بالعالم الفاجر والعابد الجاهل أضر من كل فتنة] وقول المعترض: لا سيما، والناظم على جانب عظيم من الزهد والورع والصلاح؛ بل وله يد في العلوم، كما حكى ذلك مترجموه. وهذا صار كله هباء منثورا؛ حيث لم يرضوا عنه. (أقول): هذه دعوى تحتمل الصدق والكذب. والظاهر أنه لا حقيقة لذلك فإنه لا يعرف إلا بهذه المنظومة فلو قدر أن لذلك أصلا فلا ينفعه ذلك مع تلك الأبيات، لأن الشرك يحبط الأعمال كما قال تعالى {وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} 1، وقد صار العمل مع الشرك هباء منثورا. قال سفيان بن عيينة: "احذروا فتنة العالم الفاجر، والعابد الجاهل، فإن فتنتهما فتنة لكل مفتون". فإن كان في الرجل عبادة فقد فتن بأبياته كثيرا من الجهال، وعبادته -إن كانت- لا تمنع كونه ضالا؛ كما يرشد إلى ذلك آخر الفاتحة. قال سفيان ابن عيينة: "من فسد

_ * يعني شيخ الإسلام ابن تيمية، والنقل من كتاب "مختصر الفتاوى المصرية" ص 128، وانظر الفتوى بتمامها في "مجموع الفتاوى" 10/ 237 - 336. [معد الكتاب للمكتبة الشاملة] 1 سورة الأنعام آية: 88.

حجة الجاهلين منامات وحكايات مجهولة عن مجهول

من علمائنا ففيه شبه من اليهود، ومن فسد من عبادنا ففيه شبه من النصارى". فالواجب علينا أن نبين ما في كلامه مما يُسْخِطُ الله ورسوله من الشرك والغلو. وأما هذا الشخص وأمثاله ممن قد مات، فيسعنا السكوت عنه؛ لأنا لا ندري ما آل أمره إليه، وما مات عليه، وقد عرفت أن كلام خالد الأزهري لا حجة فيه. [حجة الجاهلين منامات وحكايات مجهولة عن مجهول] وأهل الغلو والشرك ليس عندهم إلا المنامات والأحوال الشيطانية التي يحكيها بعضهم عن بعض؛ كما قال لي بعض علماء مصر: إن شيخًا مشى بأصحابه على البحر وقال: لا تذكروا غيري، وفيهم رجل ذكر الله، فسقط في البحر، فأخذ بيده الشيخ فقال: ألم أقل لكم لا تذكروا غيري! فقلت: هذه الحكاية تحتمل أحد أمرين لا ثالث لهما: أحدهما: أن تكون مكذوبة مثل أكاذيب سَدَنة الأوثان. أو أنها حال شيطانية. وأسألك أيها الحاكي لذلك: أيكون فيها حجة على جواز دعوة غير الله؟ فأقَرَّ، وقال: لا حجة فيها على ذلك. والمقصود أنه ليس عند الغلاة من الحجة إلا ما زَخْرَفُوهُ أو حَرَّفُوهُ أو كذبوه، وأما قال الله قال رسوله: فهذا -بحمد الله- كله عليهم لا لهم، وما حرفوه من ذلك: رُدَّ إلى صحيح معناه الذي دل عليه لفظه مطابقةً وتضمنًا والتزامًا، قال الله -تعالى-: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الأِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ} 1. وذكر المعترضُ حكايةً، يقول: عن غير واحد من العلماء العظام أنهم رأوا النبي صلى الله عليه وسلم والمنظومة تُنْشَد بين يديه -إلى قوله- لكن للخصم منع ذلك كله، بقوله: إنهم كفار. (فالجواب) أن يقال: ليس هذا وجه المنع، وإنما وجهه أنها حكاية عن مجهول، وهذا من جنس إسناد الأكاذيب؛ فلو قيل: من هؤلاء العظام؟ وما أسماؤهم؟ وما زمنهم؟ وما طبقتهم؟ لم يُدْرَ عنهم، وأخبار المجهولين: لا تُقْبَلُ، شهادةً ولا روايةً يقظةً، فكيف إذا كانت أحلامًا؟ والمعترض كثيرا ما يحكي عن هيان بن بيان.

_ 1 سورة الأنعام آية: 112.

تسوية المخلوق بالخالق خلاف العقل

ثم قال المعترض -على قول المجيب: وطلب الشفاعة من النبي صلى الله عليه وسلم ممتنعٌ شرعًا وعقلا، قال المعترض-: من أين هذا الامتناع؟ وما دليله من العقل والسمع؟ (فالجواب) أن يقال: معلوم أن دليله من الجهتين لا تعرفه أنت، ومن كان مثلك، وإنما معرفتك في اللجاج، الذي هو كالعجاج الذي يحوم في الفجاج، أما دليله من السمع: فقد تقدم في آيات الزُّمَر ويونس وغيرها، وقد بسطنا القول في ذلك بما يغني عن إعادته؛ فليرجع إليه. وأما دليله من العقل: فالعقل الصحيح يقضي ويحكم بما يوافق النقل: بأن النجاة والسعادة والفلاح، وأسباب ذلك كله لا تحصل إلا بالتوجه إلى الله -تعالى- وحده، وإخلاص الدعاء والالتجاء له وإليه؛ لأن الخير كله بيديه، وهو القادر عليه. [تسوية المخلوق بالخالق خلاف العقل] وأما المخلوق فليس في يده من هذا شيء، كما قال تعالى: {مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ} 1، فتسوية المخلوق بالخالق خلاف العقل، كما قال تعالى: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} 2. فالذي له الخلق والأمر والنعم كلها منه، وكل مخلوق فقيرٌ إليه لا يَستغني عنه طرفة عين، هو الذي يستحق أن يُدْعَى وَيُرْجَى ويُرْغَبُ إليه، وَيُرْهَبُ منه، ويُتَّخَذَ مَعَاذًا ومَلاذًا، ويُتَوَكَّلُ عليه، وقد قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} 3. [التوكل على الله جماع الإيمان] وقال المفسرون المحققون السلفيون المتَّبِعُون في قول الله تعالى: {وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} 4 أي: لا يرجون سواه، ولا يقصدون إلا إياه، ولا يلوذون إلا بجنابه، ولا يطلبون الحوائج إلا منه، ولا يرغبون إلا إليه. ويعلمون أنه ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، وأنه المتصرف في الملك وحده لا شريك له، لا معقب لحكمه وهو سريع الحساب؛ ولهذا قال سعيد بن جبير: التوكل جماع الإيمان. ذكره العماد ابن كثير في تفسيره. ولْيُتَأَمَّل ما ذكره الله -تعالى- عن صاحب يس من قوله: {أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ

_ 1 سورة فاطر آية: 13. 2 سورة النحل آية: 17. 3 سورة فاطر آية: 15. 4 سورة الأنفال آية: 2.

الإحاطة بما في اللوح المحفوظ علما ليس إلا لله تعالى وحده

آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلا يُنْقِذُون ِإِنِّي إِذًا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} 1 فهذا دليل فطري عقلي سمعي. [الإحاطة بما في اللوح المحفوظ علما ليس إلا لله -تعالى- وحده] وأما قول المعترض: إن قول الناظم: ومن علومك علم اللوح والقلم: أن "من" بيانية. (فالجواب): أنه ليس كما قال؛ بل هي تبعيضية، ثم لو كانت بيانية فما ينفعه، والمحذور بحاله، وهو أنه يعلم ما في اللوح المحفوظ، وقد صَرَّحَ المعترضُ بذلك فقال: ولا شك أنه أوتي علم الأولين والآخرين، وعلم ما كان وما يكون. (فالجواب): هذه مُصادمة لما هو صريح في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم بأن الإحاطة بما في اللوح المحفوظ علما ليس إلا لله -تعالى- وحده، كذلك علم الأولين والآخرين ليس إلا لله وحده، إلا ما أطلع الله عليه نبيه في كتابه كما قال تعالى: {وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ} 2. فالرجل في عمًى عن قول الله -تعالى-: {بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ} 3. وقال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} 4 وقد تقدم لهذه الآيات نظائر. [اختص الله -تعالى- بعلم الغيب كله] فإحاطة العلم بالموجودات والمعدومات التي وجدت أو ستوجد، لله وحده لم يجعل ذلك لأحد سواه، وقال -تعالى-: {يَسْأَلونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ} 5 فأسند علم وقت الساعة إلى ربه بأمره؛ كقوله تعالى: {يَسْأَلونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا} 6. وأمثال هذه الآيات مما يدل على أن الله -تعالى- اختص بعلم الغيب كله إلا ما استثناه بقوله: {وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ} 7 و"من" تبعيضية ههنا بلا نزاع. وقد قال الخضر لموسى -عليهما السلام -: "ما نقص علمي وعلمك من علم الله إلا

_ 1 سورة يس آية: 23. 2 سورة البقرة آية: 255. 3 سورة البقرة آية: 255. 4 سورة الطلاق آية: 12. 5 سورة الأعراف آية: 187. 6 سورة النازعات آية: 42. 7 سورة البقرة آية: 255.

كذب المعترض على أهل العلم ما لم يقولوه في معنى مفاتيح الغيب

كما نقص هذا العصفور من هذا البحر"، فتأمل هذا وتدبر! [كذب المعترض على أهل العلم ما لم يقولوه في معنى مفاتيح الغيب] وأما قول المعترض وتأويله لقول الله -تعالى-: {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} 1، فتأويلٌ فاسدٌ، ما قاله أحد غيره؛ ولا يقوله مسلم من أنه يعلم الغيب بتعليم الله له، والمنفي في الآية: أن يعلمه بنفسه بدون أن يُعْلِمَهُ الله ذلك، فما أجرأ هذا الجاهل على هذا التأويل، وما أجهله بالله وبكتابه! (فيقال في الجواب): لا ينفعك هذا التأويل الفاسد؛ إذ لو كان يعلم أحد جميع الغيب بتعليم الله؛ لصدق عليه أن يقال: هذا يعلم الغيب كله الذي يعلمه الله، فما بقي على هذا -لقصر علم الغيب على الله- في هذه الآية معنى، وحصل الاشتراك، نعوذ بالله من الافتراء على الله، وعلى كتابه، وخرق ما لم ينْزل الله به سلطانا. وأما قوله في قول الناظم: * إن لم تكن في معادي آخذًا بيدي * ... -: إن الأخذ باليد بالشفاعة. (فالجواب): أن حقيقة هذا القول وصريحه: طلب ذلك من غير الله، فلو صح هذا الحمل فالمحذور بحاله، لما قد عرفتَ من أن الاستغاثة بالأموات والغائبين والاستشفاع بهم في أمر هو في يد الله ممتنعٌ حصوله لكونه تأليها وعبادة. وقد أبطله القرآن، فهذا المعترِض الجاهل يدور على منازعة الله في حقه وملكه وشمول علمه، والله يجزيه بعمله. وأما قوله: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ} 2 فقيل: المراد بها: الخمس المذكورة في سورة لقمان. وهذا قبل أن يُطْلِع الله نبيه عليها، وإلا فقد ذكر عامة أهل العلم أنه لم يتوفاه الله -تعالى- حتى علَّمه كل شيء حتى الخمس. (فالجواب): انظر إلى هذا المفتري الجاهل البليد، كيف اقتفى أثر صاحب الأبيات في جميع ما اختلقه وافتراه، وأكثر من الأكاذيب على أهل العلم في قوله: ذكر عامة أهل العلم أنه لم يتوفاه الله حتى علَّمه كل شيء حتى الخمس؟ فحاشا أهل

_ 1 سورة النمل آية: 65. 2 سورة الأنعام آية: 59.

قول أهل العلم في معنى مفاتيح الغيب

العلم الذين يعرفون بأنهم أهل العلم من هذه المقالة، وعامة أهل العلم بل كلهم على خلاف ما ادعاه سلفًا وخلفًا. [قول أهل العلم في معنى مفاتيح الغيب] قال أبو جعفر محمد بن جرير الطبري -رحمه الله تعالى- في تفسيره الكبير الذي فاق على أكثر التفاسير: ابتدأ -تعالى- ذكر الخبر عن علمه بمجيء الساعة فقال: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} 1 التي تقوم فيها القيامة، لا يعلم ذلك أحد غيره {وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ} 2 من السماء لا يقدر على ذلك أحدٌ غيره {وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ} 3، أرحام الإناث {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا} 4، يقول: وما تعلم نفس حي ماذا تعمل في غد {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} 5، يقول: وما تعلم نفس حي بأيِّ أرضٍ تكون ميتتها، {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} 6، يقول: إن الذي يعلم ذلك كله هو الله دون كل أحد سواه، وذكر بسنده عن مجاهد: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} 7. قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال امرأتي حبلى: فأخبرني ماذا تلد؟ وبلادنا محل جدبة فأخبرني متى ينْزل الغيث؟ وقد علمت متى ولدت فمتى أموت؟ فأنزل الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} 8 إلى آخر السورة. قال: فكان مجاهد يقول: هن مفاتح الغيب التي قال الله -تعالى-: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ} 9. وأخرج بسنده عن قتادة: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} 10 الآية: خمس من الغيب استأثر الله بهن، فلم يطلع عليهن ملكا مقربا ولا نبيا مرسلا. وبسنده عن عائشة -رضي الله عنها- "من قال إن أحدًا يعلم الغيب إلا الله فقد كذب" وأعظم الفِرْيَة على الله، قال الله -تعالى-: {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} 11. وبالسند عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "مفاتح الغيب خمس لا يعلمهن إلا الله"12 {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ

_ 1 سورة لقمان آية: 34. 2 سورة لقمان آية: 34. 3 سورة لقمان آية: 34. 4 سورة لقمان آية: 34. 5 سورة لقمان آية: 34. 6 سورة لقمان آية: 34. 7 سورة لقمان آية: 34. 8 سورة لقمان آية: 34. 9 سورة الأنعام آية: 59. 10 سورة لقمان آية: 34. 11 سورة النمل آية: 65. 12 البخاري: الجمعة (1039) , وأحمد (2/ 52).

قول السلف في مفاتيح الغيب

أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} 1. ثم قال: "لا يعلم أحد ما في غد إلا الله، ولا يعلم أحد متى ينْزل الغيث إلا الله، ولا يعلم أحد متى قيام الساعة إلا الله، ولا يعلم أحد ما في الأرحام إلا الله، ولا تدري نفس بأي أرض تموت إلا الله"2. وبسنده عن مسروق عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "من حدثك أنه يعلم ما في غد فقد كذب" ثم قرأت: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا} 3. وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "خمس لا يعلمهن إلا الله"4 {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} 5. انتهى ما ذكره ابن جرير -رحمه الله تعالى-. وذكر البغوي في تفسيره حديث ابن عمر وعائشة -رضي الله عنهما- المتقدم ثم قال: وقال الضحاك ومقاتل: مفاتح الغيب خزائن الأرض، وقال عطاء ما غاب عنكم من الثواب، وقيل: انقضاء الأجل، وقيل: أحوال العباد من السعادة والشقاوة وخواتيم أعمالهم، وقيل ما لم يكن بعدُ، أنه يكون أم لا يكون، وما لا يكون كيف يكون، وما لا يكون، إن لو كان كيف يكون. انتهى. [قول السلف في مفاتيح الغيب] (قلت): ولا يُعْرَفُ عن أحد من أهل العلم خلافُ ما دلت عليه هذه الآيات المُحْكَمَات، ونعوذ بالله من مخالفة ما أنزله الله في كتابه، وما أخبر به عن نفسه، أو أخبر به رسوله صلى الله عليه وسلم وأجمع العلماء عليه، فإن الله استأثر بعلمه عن خلقه ووصف نفسه بأنه علام الغيوب، ونعوذ بالله من حال أهل الافتراء والتكذيب. [لا أحد يكفر أحدا مات وظاهره الإسلام] وأما قوله: ولو أن عبارات أهل العلم مثل البيضاوي وأبي السعود والقسطلاني وأمثالهم تُجْدِي لديكم شيئا لذكرناها، لكنها تُمْحَى بلفظة واحدة وهي: أنهم كلهم كفار. انظر كيف خرج به البغض والتعصب لمذهبه وهواه إلى البُهْت البحت؛ فلا يقبل منهم أحدًا، ومَن هذا حاله، فلا حيلة به.

_ 1 سورة لقمان آية: 34. 2 البخاري: تفسير القرآن (4697) , وأحمد (2/ 24 ,2/ 52 ,2/ 58 ,2/ 85 ,2/ 122). 3 سورة لقمان آية: 34. 4 البخاري: الإيمان (50) , ومسلم: الإيمان (9 ,10) , والنسائي: الإيمان وشرائعه (4991) , وابن ماجه: المقدمة (64) والفتن (4044) , وأحمد (2/ 426). 5 سورة لقمان آية: 34.

عيوب الكشاف

(فالجواب): أنه ليس للبيضاوي، ومن ذكر، عبارةٌ تخالف ما قاله السلف والعلماء في معنى الآيات، ومعاذ الله أن يقول المجيب: إن هؤلاء كفار، ولا يوجد عن أحد من علماء المسلمين أنه كَفَّرَ أحدًا قد مات من هذه الأمة ممن ظاهره الإسلام، فلو وجد في كلامه زلة من شرك أو بدعة، فالواجب التنبيه على ذلك والسكوت عن الشخص؛ لما تقدم من أنا لا ندري ما خاتمته. وأما هؤلاء الذين ذكرهم من المفسرين فإنهم من المتأخرين الذين نشؤوا في اغتراب من الدين. [عيوب الكشاف] والمتأخرون يغلب عليهم الاعتماد على عبارات أهل الكلام المُخَالِفَة لما عليه السلف وأئمة الإسلام من: الإرجاء، ونفي حكمة الله، وتأويل صفات الله -تعالى- وسلب معانيها ما يقارب ما في كشاف الزمخشري والإرجاء والجبر يقابل ما فيه من نفي القدر، وكلاهما في طَرَفَيْ نَقِيضٍ، وكُلٌّ خَالَفَ ما عليه أهل السنة والجماعة في ذلك. ومعلوم أن صاحب الكشاف أقدمُ من هؤلاء الثلاثة، وأرسخ قدما منهم في فنون من العلم، ومع هذا فقد قال شيخ الإسلام البلقيني: استخرجتُ ما في الكشاف من دسائس الاعتزال بالمناقيش، وقال أبو حيان -وقد مدح الكشاف وما فيه من لطيف المعنى ثم قال-: ولكنه فيه مجال لناقد ... وزلات سوء قد أخذن المخانقا فيثبت موضوع الأحاديث جاهلا ... ويعزو إلى المعصوم ما ليس لائقا وينسب إبداء المعاني لنفسه ... ليوهم أغمارا وإن كان سارقا ويُسهِبُ في المعنى الوجيز دلالة ... بتكثير ألفاظ تسمى الشقاشقا يُقَوِّلُ فيها اللهَ ما ليس قائلا ... وكان مُحِبا في المخاطب وامقا ويشتم أعلام الأئمة ضلة ... ولا سيما إن أولجوه المضايقا إلى أن قال-: لئن لم تداركه من الله رحمة ... لسوف يُرَى للكافرين مرافقا

أفضل كتب التفاسير

فإذا كان هذا في تفسير مشهور، وصاحبه معروف بالذكاء والفهم، فمَن دونه من المتأخرين أولى بأن لا يُتَلَقَّى من كلامه بالقبول إلا ما وافق تفسير السلف، وقام عليه الدليل. [أفضل كتب التفاسير] وهذا المعترض من جهله يحسب أن كل بيضاء شحمة، يُعَظِّم المفضولَ من الأشخاص والتصانيف، ولا يعرف ما هو الأفضل. ولو كان له أدنى مِسْكَة من فهم، ومعرفة للعلماء ومصنفاتهم: لعلم أن أفضل ما في أيدي الناس من التفاسير هذه الثلاثة التي نقلنا منها: تفسير أبي جعفر محمد بن جرير الطبري، وتفسير الحسين بن مسعود البغوي، وتفسير العماد إسماعيل بن كثير. فهذه أجلّ التفاسير، ومُصَنِّفُوهَا أئمةٌ مشهورون، أهل سنة ليسوا بجهمية، ولا معتزلة ولا قَدَرية ولا مجبرة، ولا مرجئة بحمد الله. وأكثر ما في هذه التفاسير: الأحاديث الصحيحة، وآثار الصحابة، وأقوال التابعين وأتباعهم، فلا يَرغب عنها إلا الجاهلون الناقصون المنقوصون، والله المستعان. والمصنِّفُون في التفسير وغيره -غير ما ذكر المعترض- كثيرون، وأحسن من البيضاوي وأبي السعود: البحر لأبي حيان؛ لأنه كثيرا ما ينقل في تفسيره عن السلف والأئمة، وكذلك تفسير الخازن. وبالجملة فمن كان من المصنفين أبعدُ عن تقليد المتكلمين وذِكْر عباراتهم؛ ويعتمد أقوال السلف، فهو الذي ينبغي النظر إليه والرغبة فيه. وعلى كل حال، فليس في تفسير البيضاوي وأبي السعود وشرح القسطلاني ومواهبه ما ينفع هذا الجاهل المفتري، وَكُلٌّ يُؤْخَذ من قوله ويترك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم. [حدوث الشرك والبدع والفرقة في الأمة] وقول المعترض على قول المجيب: علماؤهم شَرُّ مَنْ تحت أديم السماء، فيقال: قد ورد هذا الحديث في أهل العراق، فهم على عهد النبي صلى الله عليه وسلم كفار مجوس، أو فيما يأتي فهذه شَنَاعَةٌ على غالب علماء الأمة، ومنهم الإمام أبو حنيفة والإمام أحمد وأمثالهم.

لا يأتي على الناس زمان إلا والذي بعده شر منه

(فالجواب): أن هذا كلام مَن لا يعقل ولا يفهم شيئا ولا يفرق بين أهل السنة والجماعة وأهل البدعة والضلالة؛ ففي الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم. قال: "لا تقوم الساعة حتى يعبد فِئَامٌ من أمتي الأوثان، ولا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك"1 رواه البرقاني في صحيحه. وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم "أن أمته ستفترق كما افترقت اليهود والنصارى فاليهود افترقت على إحدى وسبعين، والنصارى على ثنتين وسبعين، وهذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة؛ كلها في النار إلا واحدة؛ وهي الجماعة"2. وأول من فارق الجماعة في عهد الصحابة -رضي الله عنهم-: الخوارج قاتلهم علي رضي الله عنه بالنَّهْروان. والقدرية في أيام ابن عمر وابن عباس، وأكثر الصحابة موجودون، ومن دعاتهم معبد الجهني وغيلان القدري الذي قتله هشام بن عبد الملك. كذلك الغُلاة في عليٍّ الذين خدّ لهم علي الأخَادِيد وحَرَّقَهم بالنار، منهم المختار بن أبي عبيد الذي قتله مصعب بن الزبير، ادعى النبوة، وتبعه خلق كثير. ثم ظهرت فتنة الجهمية، وأول من أظهرها الجعد بن درهم قتله خالد بن عبد الله القسري، والصحابة -رضي الله عنهم- والتابعون والأئمة متوافرون وقتَ ظهور مبادئ هذه البِدَع، لم يلحقهم من ضلال هذه الفرق شناعة ولا غضاضة؛ لأنهم متمسكون بالكتاب والسنة، منكرون لما خالف الحق. [لا يأتي على الناس زمان إلا والذي بعده شر منه] وصح من حديث أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يأتي على الناس زمان إلا والذي بعده شر منه حتى تلقَوْا ربكم"3 سمعته من نبيكم صلى الله عليه وسلم. وظهرت بدعة جهم بن صفوان في زمن أبي حنيفة، وأنكرها وناظرهم. وانتشرت في زمان الإمام أحمد -رحمه الله تعالى- والفقهاء وأهل الحديث. وامتُحِنَ الإمام أحمد فتمسك بالحق وصبر. وصَنَّفَ العلماء -رحمهم الله تعالى- المصنفات الكبار في

_ 1 مسلم: الإمارة (1920) , وابن ماجه: المقدمة (10) , وأحمد (5/ 278). 2 ابن ماجه: الفتن (3993) , وأحمد (3/ 120 ,3/ 145). 3 البخاري: الفتن (7068) , والترمذي: الفتن (2206) , وأحمد (3/ 132 ,3/ 177 ,3/ 179).

رد أهل السنة للبدع وأشهر أئمتهم في ذلك

الرد على الجهمية القائلين بخلق القرآن، المعطلين لصفات الملك الديان، كالإمام أحمد في رده المعروف، وابنه عبد الله، وعبد العزيز الكناني في كتابه "الحيدة" وأبي بكر الأثرم والخَلال وعثمان بن سعيد الدارمي، وإمام الأئمة محمد بن خزيمة، واللالكائي، وأبي عثمان الصابوني، وقبلهم وبعدهم ممن لا يُحْصَى، وهذا كله إنما هو في القرون الثلاثة المفضلة. ثم بعدها ظهرت كل بدعة: بدعة الفلاسفة، وبدعة الرافضة، وبدعة المعتزلة، وبدعة المجبرة، وبدعة أهل الحلول، وبدعة أهل الاتحاد، وبدعة الباطنية الإسماعيلية، وبدعة النُّصَيْرِيَّة والقرامطة ونحوهم. [رد أهل السنة للبدع وأشهر أئمتهم في ذلك] وأما أهل السنة والجماعة فيردون بدعة كل طائفة من هؤلاء الطوائف بحمد الله. فالأئمة متمسكون بالحق في كل زمان ومكان، والبلد الواحد من هذه الأمصار يجتمع فيها أهل السنة وأهل البدعة، وهؤلاء يناظرون هؤلاء ويُنَاضِلُونَهُم بالحُجَج والبراهين، وظهر معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: "خير القرون قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم إنها تَخْلُفُ من بعدهم خُلُوفٌ يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل"1. وقال صلى الله عليه وسلم: "بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ فطوبى للغرباء الذين يَصْلُحُونَ إذا فسد الناس"2، وفي رواية "يُصْلِحُونَ ما أفسد الناس"3. وقد صنف العلماء -رحمهم الله تعالى- في بيان الثنتين والسبعين الفرقة عدة مصنفات، وبيَّنُوا ما انْتَحَلَتْهُ كل فرقة من بدعتها المخالفة لما عليه الفرقة الناجية، وليس على الفرقة الناجية شناعة ولا نقص في مخالفة هذه الفرق لها. وإنما ظهر فضل هذه الفرقة بتمسكها بالحق، وصبرها على مخالفة هذه الفِرَق الكثيرة، والاحتجاج بالحق ونصرته. وما ظهر فضل الإمام أبي حنيفة، والإمام أحمد، ومن قبلهما من الأئمة

_ 1 مسلم: الإيمان (50). 2 مسلم: الإيمان (145) , وابن ماجه: الفتن (3986) , وأحمد (2/ 389). 3 الترمذي: الإيمان (2630).

ظهور الفتن والبدع في كل بلد لا يختص بها قطر

ومن بعدهما إلا بتمسكهم بالحق ونُصْرته وردهم الباطل. وما ضر شيخ الإسلام أحمد بن تيمية -رحمه الله تعالى- وأصحابه حين أجلب عليهم أهل البدع وآذوهم؛ بل أظهر الله بهم السنة، وجعل لهم لسان صدق في الأمة. وكذلك من قبلهم ومن بعدهم، كشيخنا شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله تعالى- لما دعا إلى التوحيد وبَيَّنَ أدلته، وَبَيَّنَ الشركَ وما يبطله. وفيه قال الإمام العلامة الأديب أبو بكر حسين بن غنام -رحمه الله تعالى-: وعاد به نهج الغواية طامسا ... وقد كان مسلوكا به الناسُ ترتع وجرت به نجد ذيول افتخارها ... وحق لها بالألمعي تَرَفّع فآثاره فيها سوام سوافر ... وأنواره فيها تضيء وتسطع فهذا المعترض لو تصور وعقل لتبينَ له أن ما احتج به ينقلب حجة عليه. [ظهور الفتن والبدع في كل بلد لا يختص بها قطر] وقول المعترض: وإن كان قد ورد في حق أهل الحرمين، فهذا ظاهر البطلان، إذ هي مهبط الوحي ومنبع الإيمان، ولو قيل: إن هذا الحديث وأمثاله ورد في ذم نجد وأهلها، فقد ورد في ذمهم أحاديث كثيرة شهيرة؛ منها قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يزالون في شر من كذابهم إلى يوم القيامة". (فالجواب) أن نقول: الأحاديث التي وردت في غربة الدين وحدوث البدع وظهورها؛ لا تختص بمكة والمدينة، ولا غيرهما من البلاد، والغالب أن كل بلد لا يخلو من بقايا متمسكين بالسنة، فلا معنى لقوله: وإن كان قد ورد في حق أهل الحرمين، والواقع يشهد لما قلنا. وقد حدث في الحرمين في أواخر عهد الصحابة -رضي الله عنهم- بل وفي وقت الخلفاء الراشدين ما هو معروف عند أهل العلم مشهور في السير والتاريخ: وأول ذلك مقتل أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه، ثم وقعة الحرة

الأرض لا تقدس أحدا وإنما يقدس المرء عمله

المشهورة، ومقتل ابن الزبير في مكة، وما جرى في خلال ذلك من الفتن، وصارت الغلبة في الحرمين وغيرها لأهل الأهواء. فإذا كان هذا وقع في خير القرون، فما ظنك فيما بعدُ، حين اشتدت غربةُ الإسلام، وعاد المعروف منكرا، والمنكر معروفا؟ نشأ على هذا الصغير، وهرم عليه الكبير. [الأرض لا تقدس أحدًا وإنما يُقَدِّسُ المرءَ عملُهُ] وأما قوله: إذ هي مهبط الوحي ومنبع الإيمان. (فالجواب): أن نقول: مهبط الوحي في الحقيقة: قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قال تعالى: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ} 1. وقال تعالى: {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} 2، فهذا محل الوحي ومستقره. وقوله: "ومنبع الإيمان". الإيمان ينْزل به الوحي من السماء لا ينبع من الأرض، ومحله قلوب المؤمنين، وهذه السور المكية في القرآن معلومةٌ -التي نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم، وأكثر من في مكة المشركون- وفيها ذمهم والردُّ عليهم؛ كقوله: {وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ} 3، وقوله: {وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ} 4، وقوله: {فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} 5، ونحو هذه الآيات، كما في فصلت والمدثر وغيرهما. ثم هاجر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى المدينة، وأهل الشرك لم يزالوا بها، ومنعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه من دخولها بالوحي، وقاتلوهم ببدر وأحد والخندق، وهم كانوا آخر العرب دخولا في الإسلام، حاشا مَنْ هاجر. وكل هذا بعد نزول الوحي. ونحن -بحمد الله- لا ننكر فضل الحرمين، بل ننكر على من أنكره، ولكن، نقول: الأرض لا تقدس أحدًا، وإنما يُقَدِّسُ المرءَ عملُهُ، فالمحل الفاضل قد يجتمع فيه المسلم والكافر، وأهل الحق وأهل الباطل كما تقدم. فأهل الحق يزدادون بالعمل الصالح في المحل الفاضل لكثرة ثوابه، وأهل الباطل لا يزيدهم ذلك إلا شرا، تعظم فيه

_ 1 سورة الشعراء آية: 193. 2 سورة العنكبوت آية: 49. 3 سورة الأنعام آية: 66. 4 سورة الأنعام آية: 26. 5 سورة الأنعام آية: 33.

الحديث في فتن نجد إنما يظهر في نجد المدينة وهو العراق

سيئاتهم؛ كما قال -تعالى- في حرم مكة: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} 1. فإذا كان هذا الوعيد في الإرادة، فعمل السوء أعظم، فالمعول عليه هو الإيمان والعمل الصالح، ومحله: قلب المؤمن، والناس مَجْزِيُونَ بأعمالهم إن خيرا فخير، وإن شرا فشر. [الحديث في فتن نجد إنما يظهر في نجد المدينة وهو العراق] وقوله: ولو قيل: إن هذا الحديث ورد في ذم نجد وأهلها إلى آخره. (فأقول): الذم إنما يقع في الحقيقة على الحال لا على المحل، والأحاديث التي وردت في ذم نجد، كقوله صلى الله عليه وسلم "اللهم بارك لنا في يَمَنِنَا، اللهم بارك لنا في شامنا" 2 قالوا: وفي نجدنا، قال: "هناك الزلازل والفتن، وبها يطلع قرن الشيطان" 3 قيل: إنه أراد نجد العراق؛ لأن في بعض ألفاظه ذكر المشرق، والعراق شرقي المدينة، والواقع يشهد له، لا نَجْدَ الحجازِ، ذكره العلماء في شرح هذا الحديث. فقد جرى في العراق من الملاحم والفتن ما لم يَجْرِ في نجد الحجاز، يعرف ذلك مَنْ له اطلاع على السير والتاريخ، كخروج الخوارج بها، الذين قاتلهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وكمقتل الحسين، وفتنة ابن الأشعث، وفتنة المختار وقد ادعى النبوة، وقتال بني أمية لمصعب بن الزبير وقتله، وما جرى في ولاية الحجاج بن يوسف من القتال وسفك الدماء وغير ذلك مما يطول عده. وعلى كل حالٍ، فالذمُّ يكون في حالٍ دون حالٍ، ووقتٍ دون وقتٍ بحسب حال الساكن؛ لأن الذم إنما يكون للحال دون المحل؛ وإن كانت الأماكن تتفاضل، وقد تقع المُدَاولة فيها؛ فإن الله يداول بين خلقه حتى في البقاع، فمحل معصية في زمن؛ قد يكون محل طاعة في زمن آخر وبالعكس. * * * وأما قول المعترض: منها قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يزالون في شر من كذابهم". (فالجواب): هذا من جملة كَذِبِهِ على رسول الله صلى الله عليه وسلم وجهله بالعلم لا يميز

_ 1 سورة الحج آية: 25. 2 البخاري: الجمعة (1037) , والترمذي: المناقب (3953) , وأحمد (2/ 90 ,2/ 118 ,2/ 124 ,2/ 126). 3 البخاري: الجمعة (1037) , والترمذي: المناقب (3953) , وأحمد (2/ 118).

رؤيا النبي دار الهجرة وذهاب وهله أنها اليمامة

بين الحديث وغيره. وهذا الكلام ورد عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه في نفر من بني حنيفة سكنوا الكوفة في ولاية ابن مسعود عليها، وكانوا في مسجد من مساجدها، فسمع منهم كلمة تُشْعِر بتصديق مسيلمة، فأخذهم عبد الله بن مسعود، وقتل كبيرهم ابن النواحة، وقال في الباقين: "لا يزالون في بَلِيَّة من كذابهم" يعني: ذلك النفر، فلا تُذَمُّ نَجْدُ بنَفَرٍ أحدثوا حَدَثًا في العراق. وقد أفنى الله كل من حضر مسيلمة في القرن الأول؛ ولم يبق بنجد من يصدق مسيلمة الكذاب، بل من كان في أواخر عهد الصحابة -رضي الله عنهم- ومن بعدهم بنجد يكفرون مسيلمة ويكذبونه، فلم يبق بنجد من فتنة مسيلمة لا عين ولا أثر. فلو ذم نجد بمسيلمة بعد زواله، وزوال من يصدقه؛ لذم اليمن بخروج الأسود العنسي ودعواه النبوة. وما ضر المدينةَ سُكْنَى اليهود فيها، وقد صارت مُهَاجَر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وَمَعْقِل الإسلام، وما ذُمَّتْ مكةُ بتكذيب أهلها الرسولَ صلى الله عليه وسلم وشدة عداوتهم له، بل هي أحب أرض الله إليه. [رؤيا النبي دار الهجرة وذهاب وهله أنها اليمامة] فإذا كان الأمر كذلك فأرض اليمامة لم تَعْصِ الله، وإنما ضَرَّتِ المعصيةُ ساكنيها بتصديقهم كذابهم، وما طالت مدتهم على ذلك الكفر بحمد الله، فَطَهَّرَ الله تلك البلاد منهم، ومن سلم منهم من القتل دخل في الإسلام، فصارت بلادهم بلادَ إسلام، بُنِيَتْ فيها المساجد، وأقيمت فيها الشرائعُ، وعُبِدَ الله فيها في عهد الصحابة -رضي الله عنهم- وبعدهم. ونَفَرَ كثير منهم مع خالد بن الوليد لقتال العجم، فقاتلوا مع المسلمين، فنال تلك البلاد من الفضل ما نال غيرَها من بلاد أهل الإسلام، على أنها تفضل على كثير من البلاد بالحديث الذي رواه البخاري في صحيحه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال -وهو بمكة لأصحابه-: "أُرِيتُ دارَ هجرتكم، فوصفها، ثم قال: فذهب وَهَلِي إلى أنها اليمامة أو يثرب"1. ورؤيا النبي صلى الله عليه وسلم وَحْيٌ حَقٌّ، وكفى بهذا فضلا لليمامة وشرفا لها على غيرها، فإن ذهاب وَهَله صلى الله عليه وسلم في رؤياه إليها لا بد أن يكون له أثر في الخير يظهر، فظهر ذلك

_ 1 أحمد (6/ 198).

فشو الشرك المخالف لفاتحة الكتاب وسورة الناس

الفضل بحمد الله في القرن الثاني عشر، فقام الداعي بها يدعو الناس إلى ما دعت إليه الرسل من إفراد الله بالعبادة، وترك عبادة ما سواه، وإقامة الفرائض والعمل بالواجبات، والنهي عن مُوَاقَعَة المُحَرَّمَات. وظهر فيها الإسلام أعظم من ظهوره في غيرها في هذه الأزمان، ولولا ذلك ما سَبَّ هؤلاء نجدا واليمامة بمسيلمة. إذا عرف ذلك، فليعلم أن مسيلمة وبني حنيفة إنما كفروا بجحودهم بعض آية من كتاب الله جهلا أو عنادا، وهذا المعترض وأمثاله جحدوا حقيقة ما بعث الله به رسله من التوحيد الذي دلت عليه الآيات المحكمات التي تفوت الحصر، وعصوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بارتكاب ما نهى عنه من الغلو والشرك، فَجَوَّزُوا أن يُدْعَى مع الله غيره؛ وقد نهى الله ورسوله عن ذلك في أكثر سور القرآن. وَجَوَّزُوا أن يُسْتَعَان بغير الله، وقد نهى الله ورسوله عن ذلك وجوَّزُوا الالتجاء إلى الغائبين والأموات والرغبة إليهم، وقد نهى الله ورسوله عن ذلك أشد النهي. وجعلوا لله شريكا في ملكه وربوبيته كما جعلوا له شريكا في إلهيته، وجعلوا له شريكا في إحاطة العلم بالمعلومات كلياتها وجزئياتها. وقد قال -تعالى- مبينا لما اختص به من شمول علمه: {اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ} 1 إلى قوله: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ} 2 الآيات. [فشو الشرك المخالف لفاتحة الكتاب وسورة الناس] وهذه الأصول كلها في الفاتحة؛ يبين تعالى أنه هو المختص بذلك، دون كل من سواه: ففي قوله: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} 3 اختصاص لله بالحمد لكماله في ربوبيته وإلهيته وملكه وشمول علمه وقدرته، وكماله في ذاته وصفاته. {رَبِّ الْعَالَمِينَ} 4 هو ربهم وخالقهم ورازقهم ومليكهم، والمتصرف فيهم بحكمته ومشيئته ليس ذلك إلا له. {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} 5 فيه تفرده بالملك كقوله: {يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} 6، وقوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ

_ 1 سورة الرعد آية:8، 9. 2 سورة الرعد آية: 14. 3 سورة الفاتحة آية: 2. 4 سورة الفاتحة آية: 2. 5 سورة الفاتحة آية: 4.

وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} 1 فيه قَصْرُ العبادة عليه -تعالى- بجميع أفرادها، وكذلك الاستعانة. وفي {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} 2 أيضا توحيد الربوبية. وهذه الأصول أيضا في: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} 3 فهو ربهم ورازقهم، والمتصرف فيهم، والمدبر لهم: {مَلِكِ النَّاسِ} 4 هو الذي له الملك كما في الحديث الوارد في الأذكار "لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير"5. وقوله: {إِلَهِ النَّاسِ} 6 هو مَأْلُوهُهُمْ ومَعْبُودُهم، لا معبود لهم سواه، فأهل الإيمان خَصُّوهُ بالإلهية، وأهل الشرك جعلوا له شريكا يَأْلَهُونَهُ بالعبادة كالدعاء والاستعانة والاستغاثة والالتجاء والرغبة والتعلق عليه، ونحو ذلك. وفي: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} 7 براءة النبي صلى الله عليه وسلم من الشرك والمشركين. {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} 8 إلى قوله: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} 9 فهذا هو التوحيد العملي، وأساسه البراءة من الشرك والمشركين باطنا وظاهرا، وفي {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} 10 توحيد العلم والعمل. {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} 11 يعني هو الواحد الأحد الذي لا نظير له ولا وزير، ولا نِدَّ، ولا شبيه ولا عديل، ولا يطلق هذا اللفظ في الإثبات إلا على الله -عز وجل-؛ لأنه الكامل في جميع صفاته وأفعاله. وقوله: {اللَّهُ الصَّمَدُ} 12 قال عكرمة عن ابن عباس: يعني الذي يَصْمُدُ الخلائقُ إليه في حوائجهم ومسائلهم. (قلت): وفيه توحيد الربوبية وتوحيد الإلهية. وقال الأعمش عن شقيق أبي وائل: {الصَّمَدُ} السيد الذي قد انتهى سُؤْدُدُهُ، وقال الحسن أيضا: {الصَّمَدُ} الحي القيوم الذي لا زوال له، وقال الربيع بن أنس: هو الذي لم يلد ولم يولد، كأنه جعل ما بعده تفسيرا له، وقال سفيان عن منصور عن مجاهد: {الصَّمَدُ} المُصْمَتُ الذي لا جوف له، قال أبو القاسم الطبراني في كتاب السنة: وكُلُّ هذه صحيحةٌ، وهي صفات ربنا عز وجل.

_ 1 سورة الفاتحة آية: 5. 2 سورة الفاتحة آية: 5. 3 سورة الناس آية: 1. 4 سورة الناس آية: 2. 5 البخاري: الأذان (844) , ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (593) , والنسائي: السهو (1341 ,1342 ,1343) , وأبو داود: الصلاة (1505) , وأحمد (4/ 247 ,4/ 250 ,4/ 251) , والدارمي: الصلاة (1349). 6 سورة الناس آية: 3. 7 سورة الكافرون آية: 1. 8 سورة الكافرون آية:1، 2. 9 سورة الكافرون آية: 6. 10 سورة الإخلاص آية: 1. 11 سورة الإخلاص آية: 1. 12 سورة الإخلاص آية: 2.

كلام ابن تيمية في شرك القبوريين

وقال مجاهد: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} 1 يعني: لا صاحبة له، وهذا كما قال تعالى: {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} 2 أي: هو مالك كل شيء وخالقه، فكيف يكون له من خلقه نظيرٌ يساميه، أو قريبٌ يدانيه؟ تعالى وتقدَّس وتنَزه. (قلت): فتدبر هذه السورة ما فيها من توحيد الإلهية والربوبية، وتنزيه الله عن الشريك والشبيه والنظير، وما فيها من مجامع صفات كماله ونعوت جلاله، ومَن له بعضُ تصورٍ يدرك هذا بتوفيق الله {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} 3. [كلام ابن تيمية في شرك القبوريين] وأما قول المعترض: على قول المجيب: ونوع الشرك جرى في زمن شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى-. أقول: هذه البردة متقدمة على زمن شيخ الإسلام، ولم ينقل عنه فيها كلمة واحدة. (فالجواب): تقدُّم البردة على زمن شيخ الإسلام إن كان كذلك فماذا يُجْدِي عليه؟ وما الحجة منه على جواز الشرك؟ وأيضا فشهادته هذه على شيخ الإسلام غيرُ محصورة، فلا تُقْبل. وهو لم يطلع إلا على النّزر اليسير من كلام شيخ الإسلام، ولم يفهم معنى ما اطلع عليه، وهو في شِقٍّ، وشيخ الإسلام في شِقٍّ، وليس في كلام شيخ الإسلام إلا ما هو حجة على هذا المعترض، لكنه يتعلق في باطله بمثل خيط العنكبوت، فإن كان يقنعه كلام شيخ الإسلام -رحمه الله تعالى- المُؤَيَّد بالبرهان، فقد تقدم من كلامه ما يكفي ويشفي في تمييز الحق من الباطل. وكلامه -رحمه الله تعالى- في أكثر كتبه يُبَيِّنُ هذا الشركَ ويُنكره ويَرده، كما قد رد على البكري حين جَوَّزَ الاستغاثة بغير الله. ولا يشك مَن له أدنى مِسْكَة من عقلٍ وفهمٍ أن كلام صاحب البُرْدَة داخلٌ تحت كلام شيخ الإسلام في الرد عليه والإنكار.

_ 1 سورة الإخلاص آية: 4. 2 سورة الأنعام آية: 101. 3 سورة النور آية: 40.

آيات القرآن في أن دعاء غير الله شرك

وأنا أُورِدُ هنا جوابًا لشيخ الإسلام* عن سؤالِ مَن سأله عن نوع هذا الشرك وبعض أفراده، فأتى بجواب عام شامل، كافٍ وَافٍ. [آيات القرآن في أن دعاء غير الله شرك] قال السائل: ما قول علماء المسلمين فيمن يستنجد بأهل القبور، ويطلب منهم إزالة الألم، ويقول: يا سيدي أنا في حسبك، وفيمن يستلم القبر، ويمرغ وجهه عليه، ويقول قضيت حاجتي ببركة الله، وبركة الشيخ، ونحو ذلك؟ (الجواب): الحمد لله رب العالمين، الدين الذي بعث الله به رسله، وأنزل به كتبه هو: عبادة الله وحده لا شريك له، واستعانته والتوكل عليه، ودعاؤه لجلب المنافع ودفع المضار، كما قال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} 1 الآيات. وقال: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} 2، وقال: {فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} 3 وقوله: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلًا} 4 الآيات. قال طائفة من السلف: كان أقوام يدعون المسيح وعزيرا والملائكة، فقال الله تعالى: هؤلاء الذين تدعونهم عبادي يرجون رحمتي كما ترجون رحمتي، ويخافون عذابي كما تخافون عذابي، فإذا كان هذا حال من يدعو الأنبياء والملائكة، فكيف بمن دونهم؟. قال تعالى: {أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ} 5 الآية. وقال: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} 6. فبيَّنَ سبحانه أن مَن دُعِيَ من دون الله من جميع المخلوقات: الملائكة، والبشر، وغيرهم، أنهم لا يملكون مثقال ذرة في ملكه، وأنه ليس له شريك في ملكه {لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ 7، وأنه ليس له عَوْنٌ، كما يكون للملك أعوان وظهراء، وأن الشفعاء لا يشفعون عنده إلا لمن ارتضى، فنفى بذلك وجوه الشرك

_ * المنقول هنا هو المسألة الشهيرة بـ"زيارة القبور والاستنجاد بالمقبور" مع شيء من الاختصار، وهي في مجموع الفتاوى 27/ 64 - 105. [معد الكتاب للمكتبة الشاملة] 1 سورة الزمر آية: 2. 2 سورة الجن آية: 18. 3 سورة غافر آية: 65. 4 سورة الإسراء آية: 56. 5 سورة الكهف آية: 102. 6 سورة سبأ آية: 22. 7 سورة التغابن آية: 1.

نفي الشفاعة الشركية

وذلك أن مَن دُعِيَ من دونه، إما أن يكون مالكا، وإما أن لا يكون مالكا، وإذا لم يكن مالكا، فإما أن يكون شريكا، وإما أن لا يكون شريكا، وإذا لم يكن شريكا فإما أن يكون معاونًا، وإما أن يكون سائلا طالبا. [نفي الشفاعة الشركية] فأما الرابع: فلا يكون إلا من بعد إذنه، كما قال تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} 1، وكما قال تعالى: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} 2. وقال: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلا يَعْقِلُون َقُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} 3. وقال: {لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ} 4 وقال: {مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ} 5. وقال: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ} 6 إلى قوله: {وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} 7. فبيَّنَ سبحانه أن من اتخذ الملائكة والنبيين أربابا كان كافرا، فكيف بمن اتخذ من دونهم من المشايخ وغيرهم أربابا؟ فلا يجوز أن يقول لملك ولا لنبي ولا لشيخ، سواء كان حيا أو ميتا: اغفر ذنبي، وانصرني على عدوي، أو اشْفِ مريضي، أو ما أشبه ذلك؛ ومن سأل ذلك مخلوقا كائنًا مَن كان، فهو مشرك بربه من جنس المشركين الذين يعبدون الملائكة والأنبياء والتماثيل التي يصورونها على صورهم، ومن جنس دعاء النصارى للمسيح وأمه، قال الله -تعالى-: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ} 8 الآية. وقال: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ

_ 1 سورة البقرة آية: 255. 2 سورة النجم آية: 26. 3 سورة الزمر آية: 43، 44. 4 سورة الأنعام آية: 51. 5 سورة السجدة آية: 4. 6 سورة آل عمران آية: 79. 7 سورة آل عمران آية: 80. 8 سورة المائدة آية: 116، 117.

شبهة من يدعو غير الله

ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} 1. وإن قال: أنا أسأله؛ لأنه أقرب إلى الله مني؛ ليشفع لي؛ لأني أتوسل إلى الله به، كما يتوسل إلى السلطان بِخَوَاصه وأعوانه، فهذا من أفعال المشركين والنصارى فإنهم يزعمون أنهم يتخذون أحبارهم ورهبانهم شفعاء، يستشفعون بهم في مطالبهم؛ ولذلك أخبر الله عن المشركين، أنهم قالوا: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} 2. وقد قال سبحانه: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ} 3، إلى قوله: {تُرْجَعُونَ}. وقال: {مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ} 4. وقال: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} 5. فبيَّن الفرق بينه وبين خلقه، فإن من عادات الناس أن يستشفعوا إلى الكبير بمن يَكْرُمُ عليه، فيسأله ذلك الشفيع فيقضي حاجته إما رغبة، وإما رهبة، وإما حياء، وإما غير ذلك، فالله -سبحانه- لا يشفع عنده أحد حتى يأذن هو للشافع، فلا يفعل إلا ما يشاء، وشفاعة الشافع عن إذنه، والأمر كله له، فالرغبة يجب أن تكون إليه كما قال تعالى: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} 6. والرهبة تكون منه، قال تعالى: {فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} 7. وقال: {فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ} 8. وقد أمرنا أن نصلي على النبي صلى الله عليه وسلم في الدعاء، وجعل ذلك من أسباب إجابة دعائنا. وقول كثير من الضُّلال: هذا أقرب إلى الله مني، وأنا بعيد منه، لا يمكن أن ندعوه إلا بهذه الواسطة، ونحو ذلك - هو من قول المشركين، فإن الله -تعالى- يقول: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} 9. وقد روي أن الصحابة -رضي الله عنهم- قالوا: يا رسول الله، ربنا قريب فنناجيه، أم بعيد فنناديه؟ فنَزلت الآية. وقد أمر الله تعالى العباد كلهم بالصلاة له ومناجاته، وأمر كُلا منهم أن يقول: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} 10. [شبهة من يدعو غير الله] ثم يقال لهذا المشرك: أنت إذا دعوتَ هذا، فإن كنت تظن أنه أعلم بحالك

_ 1 سورة التوبة آية: 31. 2 سورة الزمر آية: 3. 3 سورة الزمر آية: 43. 4 سورة السجدة آية: 4. 5 سورة البقرة آية: 255. 6 سورة الشرح آية:7، 8. 7 سورة النحل آية: 51. 8 سورة المائدة آية: 44. 9 سورة البقرة آية: 186. 10 سورة الفاتحة آية: 5.

لعن متخذي القبور مساجد

أو يقدر على إجابة سؤالك، أو أرحم بك من ربك فهذا جهل وضلال وكفر. وإن كنت تعلم أن الله -تعالى- أعلم وأقدر وأرحم؛ فلماذا عدلت عن سؤاله إلى سؤال غيره؟ وإن كنت تعلم أنه أقرب إلى الله منك، وأعلى منْزلة عند الله منك فهذا حقٌّ أُرِيدَ به باطلٌ، فإنه إذاكان أقرب منك وأعلى درجة فإن معناه أن يثيبه ويعطيه؛ ليس معناه أنك إذا دعوته كان الله يقضي حاجتك أعظم مما يقضيها إذا دعوته أنت، فإنك إن كنت مُسْتَحِقًّا للعقاب؛ ورد الدعاء، فالنبي والصالح لا يعين على ما يكرهه الله، ولا يسعى فيما يُبَغِّضُك إليه، وإن لم يكن كذلك فالله أولى بالرحمة والقبول منه. فإن قلت: هذا إذا دعا الله أجاب دعاءه أعظم مما يجيب إذا دعوته أنا، فهذا هو القسم الثاني، وهو أن يطلب منه الفعل ولا يدعوه، ولكن يطلب أن يدعو له، كما يقال للحي: ادع لي، وكما كان الصحابة يطلبون من النبي صلى الله عليه وسلم الدعاء فهذا مشروع في الحي. وأما الميت من الأنبياء والصالحين وغيرهم فلم يشرع لنا أن نقول: ادع لنا، ولا اسأل لنا ربك، ونحو ذلك، ولم يفعل ذلك أحد من الصحابة والتابعين، ولا أمر به أحد من الأئمة، ولا ورد في ذلك حديث، بل الذي ثبت في الصحيح: أنهم لما أَجْدَبُوا زمن عمر استسقى بالعباس -رضي الله عنهما- فقال: "اللهم إنا كنا إذا أجدبنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا، فاسقنا "فيسقون، فلم يجيئوا إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم قائلين: يا رسول الله ادع الله، أو استسق لنا، ونحن نشكو إليك ما أصابنا ونحو هذا، ولم يقله أحد من الصحابة قط، بل هو بدعة ما أنزل الله بها من سلطان، بل كانوا إذا جاؤوا عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم يسلمون عليه، ثم إذا أرادوا الدعاء لم يدعوا الله مستقبلي القبر، بل ينحرفون فيستقبلون القبلة، ويدعون الله وحده لا شريك له كما كانوا يدعونه في سائر البقاع. [لعن متخذي القبور مساجد] وفي الموطأ وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم: قال "اللهم لا تجعل قبري وثنا يُعْبَدُ؛

اشتد غضبُ الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد"1؛ وفي السنن أيضا أنه قال: "لا تتخذوا قبري عيدا، وصلوا عليَّ حيثما كنتم، فإن صلاتكم تبلغني"2. وفي الصحيح أنه قال في مرضه الذي لم يقم منه: "لعن الله اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد"3 يحذر ما فعلوا. قالت عائشة -رضي الله عنها-: ولولا ذلك؛ لأبرِزَ قبرُهُ، لكن خُشِيَ أن يتخذ مسجدا، وفي سنن أبي داود عنه أنه قال: "لعن الله زوارات القبور، والمتخذين عليها المساجد والسرج"4. ولهذا قال العلماء: لا يجوز بناء المساجد على القبور، وقالوا: إنه لا يجوز أن يُنْذَر لقبر، ولا للمجاورين عند القبر شيئا، لا من دراهم ولا زيت، ولا شمع ولا حيوان، ولا غير ذلك كله نذر معصية، ولم يقل أحد من أئمة المسلمين: إن الصلاة عند القبور، وفي المشاهد مستحبةٌ، ولا أن الدعاء هناك أفضل، بل اتفقوا كلهم على أن الصلاة في المساجد، وفي البيوت أفضل من الصلاة عند قبر، لا قبر نبي ولا صالح؛ سواء سُمِّيَتْ مشاهد أم لا. وقد شرع الله ذلك في المساجد دون المشاهد، وقال: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا} 5، ولم يقل في المشاهد، وقال تعالى: {قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} 6، وقال: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} 7 الآية. وذكر البخاري في صحيحه والطبري وغيره في تفاسيرهم في قوله تعالى: {وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} 8، قالوا: هذه أسماء قوم صالحين في قوم نوح، فلما ماتوا عكفوا على قبورهم، ثم طال عليهم الأمد فاتخذوا تماثيلهم أصناما. فالعكوف على القبور، والتمسح بها، وتقبيلها، والدعاء عندها هو أصل الشرك، وعبادة الأوثان، ولهذا اتفق العلماء على أنَّ من زار قبر النبي صلى الله عليه وسلم أو قبر غيره من الأنبياء والصالحين؛ فإنه لا يَتَمَسَّح به ولا يقبِّله. وليس في الدين ما شُرِعَ تقبيلُهُ إلا الحجر الأسود

_ 1 مالك: النداء للصلاة (416). 2 أبو داود: المناسك (2042) , وأحمد (2/ 367). 3 البخاري: المغازي (4441) , ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (531) , والنسائي: المساجد (703) , وأحمد (1/ 218 ,6/ 34 ,6/ 80 ,6/ 121 ,6/ 146 ,6/ 255) , والدارمي: الصلاة (1403). 4 الترمذي: الصلاة (320) , والنسائي: الجنائز (2043) , وأبو داود: الجنائز (3236) , وابن ماجه: ما جاء في الجنائز (1575) , وأحمد (1/ 229 ,1/ 287 ,1/ 324 ,1/ 337). 5 سورة البقرة آية: 114. 6 سورة الأعراف آية: 29. 7 سورة التوبة آية: 18.

كراهة السلف لتعظيم القبور والاستغاثة بالموتى

وقد ثبت في الصحيحين أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: والله إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك. ولهذا لا يُسَنُّ أن يقبل الرجل ويستلم ركني البيت اللذين يليان الحجر، ولا جدران البيت، ولا مقام إبراهيم، ولا صخرة بيت المقدس، ولا قبر أحد من الأنبياء والصالحين. اهـ. [كراهة السلف لتعظيم القبور والاستغاثة بالموتى] وقال -رحمه الله تعالى- في "الرد على البكري"* -بعد كلام له سبق-: لكن من هو الذي جعل الاستغاثة بالمخلوق ودعاءه سببا في الأمور التي لا يقدر عليها إلا الله؟ ومن الذي قال: إنك إذا استغثت بميت أو غائب من البشر، نبيا كان أو غير نبي، كان ذلك سببا في حصول الرزق والنصر والهدى وغير ذلك مما لا يقدر عليه إلا الله؟ ومن الذي شرع ذلك وأمر به؟ ومن الذي فعل ذلك من الأنبياء والصحابة والتابعين لهم بإحسان؟ فإن هذا المقام يحتاج إلى مقدمتين: (إحداهما): أن هذه أسباب لحصول المطالب التي لا يقدر عليها إلا الله. (والثانية): أن هذه الأسباب مشروعة لا يحرم فعلها، فإنه ليس كل ما كان سببا كونيا يجوز تعاطيه ... إلى أن قال: وهذا المقام مما يظهر به ضلال هؤلاء المشركين خلقا وأمرا، فإنهم مطالبون بالأدلة الشرعية على أن الله شرع لخلقه أن يسألوا ميتا أو غائبا وأن يستغيثوا به، سواء كان ذلك عند قبره، أو لم يكن عند قبره، بل نقول: سؤال الميت والغائب، نبيا كان أو غير نبي، من المحرمات المنكرة باتفاق أئمة المسلمين، لم يأمر الله به، ولا رسوله ولا فعله أحد من الصحابة، ولا التابعين لهم بإحسان، ولا استحبه أحد من أئمة المسلمين. وهذا مما يعلم بالاضطرار من دين المسلمين، فإن أحدا منهم ما كان يقول -إذا نزلت به شدة، أو عرضت له حاجة لميت-: يا سيدي فلان أنا في حسبك، أو اقض حاجتي، كما يقوله بعض هؤلاء المشركين لمن يدعونهم من الموتى والغائبين. ولا أحد من الصحابة استغاث بالنبي

_ * "الرد على البكري" 1/ 446. [معد الكتاب للمكتبة الشاملة]

ليس لسؤال الموتى تأثير في الإجابة

صلى الله عليه وسلم بعد موته، ولا بغيره من الأنبياء، لا عند قبورهم ولا إذا بعدوا عنها، بل ولا أقسم بمخلوق على الله أصلا، ولا كانوا يقصدون الدعاء عند قبور الأنبياء، ولا قبور غير الأنبياء، ولا الصلاة عندها. وقد كره العلماء كمالك وغيره أن يقوم الرجل عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم يدعو لنفسه، وذكروا أن هذا من البدع التي لم يفعلها السلف. [ليس لسؤال الموتى تأثير في الإجابة] وأما ما يُرْوَى عن بعضهم أنه قال: قبر معروف: الترياقُ المُجَرَّب، وقول بعضهم: فلان يدعى عند قبره. وقول بعض الشيوخ: إذا كانت لك حاجة فاستغث بي، أو قال استغث عند قبري، ونحو ذلك، فإن هذا قد وقع فيه كثير من المتأخرين وأتباعهم؛ ولكن هذه الأمور كلها بدعٌ محدثةٌ في الإسلام بعد القرون الثلاثة المفضلة، وكذلك المساجد المبنية على القبور التي تسمى المشاهد محدثةٌ في الإسلام، والسفر إليها محدث في الإسلام لم يكن شيء من ذلك في القرون الثلاثة المفضلة، بل ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لعن الله اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد"1 يحذر ما فعلوا - قالت عائشة -رضي الله عنها-: ولولا ذلك لأبرز قبره، ولكن كره أن يتخذ مسجدا. وثبت في الصحيح عنه أنه قال -قبل أن يموت بخمس-: "إِنَّ مَن كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد؛ ألا فلا تتخذوا القبور مساجد؛ فإني أنهاكم عن ذلك"2. وقد تقدم أن عمر لما أجدبوا استسقى بالعباس فقال: اللهم إنا كنا إذا أجدبنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا، فَيُسْقَوْنَ. فلم يذهبوا إلى القبور، ولا توسلوا بميت ولا غائب، بل توسلوا بالعباس وكان توسلهم به توسلا بدعائه، كالإمام مع المأموم، وهذا تعذر بموته. فأما قول القائل -عن ميت من الأنبياء والصالحين-: اللهم أني أسألك بفلان، أو بجاه فلان، أو بحرمة فلان، فهذا لم يُنْقَل لا عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن الصحابة ولا التابعين؛ وقد نص غير واحد من العلماء أنه لا يجوز، فكيف يقول القائل للميت: أنا أستغيث بك وأستجير بك، وأنا في حسبك، أو سل لي الله، ونحو ذلك؟

_ 1 البخاري: المغازي (4441) , ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (531) , والنسائي: المساجد (703) , وأحمد (1/ 218 ,6/ 34 ,6/ 80 ,6/ 121 ,6/ 146 ,6/ 255) , والدارمي: الصلاة (1403). 2 مسلم: المساجد ومواضع الصلاة (532).

الأنبياء والصالحون لم يعبدوا إلا بعد موتهم

فتبيَّن أن هذا ليس من الأسباب المشروعة، لو قُدِّرَ أن له تأثيرا، فكيف إذا لم يكن له تأثير صالح؟ [الأنبياء والصالحون لم يُعْبَدُوا إلا بعد موتهم] وذلك أن من الناس الذين يستغيثون بغائب أو ميت من تتمثل له الشياطين، وربما كانت على صورة ذلك الغائب، وربما كلمته، وربما قضتْ له أحيانا بعضَ حوائجه، كما تفعل شياطين الأصنام، فإن أحدا من الأنبياء والصالحين لم يُعْبَد في حياته؛ إذ هو يَنْهَى عن ذلك. وأما بعد الموت فهو لا يقدر أن ينهى؛ فيفضي ذلك إلى اتخاذ قبره وثنا يُعْبَد. ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تتخذوا قبري عيدا .. إلخ"1 وقال: "اللهم لا تجعل قبري وثنا يُعْبَد"2. وقال غير واحد من السلف في قوله تعالى: {وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ} 3 الآية: إن هؤلاء كانوا قومًا صالحين في قوم نوح، فلما ماتوا عكفوا على قبورهم، ثم صوروا تماثيلهم، ثم طال عليهم الأمد فعبدوهم؛ ولهذا المعنى لعن النبي صلى الله عليه وسلم الذين اتخذوا قبور الأنبياء والصالحين مساجد. انتهى ملخصا. وأخرج ابن أبي شيبة عن ابن الزبير أنه رأى قوما يمسحون المقام فقال: لَم تُؤْمَرُوا بهذا، إنما أُمِرْتُم بالصلاة عنده. وأخرج عَبْدُ بنُ حُمَيْدٍ وابن جرير وابن المنذر عن قتادة في قول الله -تعالى-: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً} 4 قال: إنما أمروا أن يصلوا عنده، ولم يؤمروا بمسحه، ولقد تكلفت هذه الأمة أشياء ما تكلفته الأمم قبلها. فإذا كان المعترض يستدل بكلام شيخ الإسلام؛ فهذا صريح كلامه المُؤَيَّد بالأدلة والبراهين. وكلام العلماء كمثل كلام شيخ الإسلام في هذا المعنى كثيرٌ جدا، لو ذكرناه لطال الجواب. وأما قول المعترض: بل مدح الصرصري، وأثنى عليه بقوله: قال الفقيه الصالح يحيى بن يوسف الصرصري في نظمه المشهور. (فالجواب): أن هذا من جملة أكاذيب المعترض على شيخ الإسلام وغيره،

_ 1 أحمد (2/ 367). 2 مالك: النداء للصلاة (416). 3 سورة نوح آية: 23. 4 سورة البقرة آية: 125.

وقد كذب على "الإقناع" و"الشفاء"، وليس في الكتابين إلا ما يبطل قوله. وفي الحديث "إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستح فاصنع ما شئت"1 وإلا فكلام شيخ الإسلام في رد ما يقوله الصرصري وإنكاره: موجود بحمد الله. قال -رحمه الله تعالى- في رده على البكري* بعد وجهين ذكرهما: (الثالث): أنه أدرج سؤاله أيضا في الاستغاثة به، وهذا جائز في حياته، لكنه أخطأ في التسوية بين المحيا والممات، وهذا ما عَلِمْتُهُ يُنْقَلُ عن أحد من العلماء، لكنه موجود في كلام بعض الناس مثل الشيخ يحيى الصرصري ففي شعره قطعة، وكمحمد بن النعمان؛ وهؤلاء لهم صلاح ودين، ولكنهم ليسوا من أهل العلم العالمين بمدارك الأحكام الذين يؤخذ بقولهم في شرائع الإسلام، وليس معهم دليل شرعي، ولا نقل عن عالم مَرْضِي، بل عادة جَرَوْا عليها كما جرت عادة كثير من الناس بأنه يستغيث بشيخه في الشدائد ويدعوه. وأكثر منه: مَن يأتي إلى قبر الشيخ يدعوه، ويدعو به ويدعو عنده، وهؤلاء ليس لهم مُسْتَنَد شرعي من كتاب، أو سنة، أو قول عن الصحابة والأئمة، وليس عندهم إلا قول طائفة أخرى: قبر معروف: ترياقٌ مجربٌ، والدعاء عند قبر الشيخ مجابٌ، ونحو ذلك، ومعهم أن طائفة استغاثوا بحي أو ميت، فَرَأَوْهُ قد أتى في الهواء، وقضى بعض تلك الحوائج، وهذا كثير واقع في المشركين الذين يدعون الملائكة والأنبياء والصالحين، أو الكواكب والأوثان، فإن الشياطين كثيرا ما تتمثل لهم فيرونها، وقد تخاطب أحدهم ولا يراها، ولو ذكرتُ ما أعلم من الوقائع الموجودة في زماننا لطال المقال. وكلما كان القوم أعظم جهلا وضلالا كانت هذه الأحوال الشيطانية عندهم أكثر، وقد يأتي الشيطان أحدهم بمال أو طعام أو لباس أو غير ذلك، وهو لا يرى أحدا أتاه به فيحسب ذلك كرامة، وإنما هو من الشيطان، وسببُه شركُه بالله، وخروجه عن طاعة الله ورسوله إلى طاعة الشيطان، فأضلتهم الشياطين بذلك كما كانت تضل عُبَّاد الأصنام. انتهى ما ذكره شيخ

_ 1 البخاري: أحاديث الأنبياء (3483 ,3484) والأدب (6120) , وأبو داود: الأدب (4797) , وابن ماجه: الزهد (4183) , وأحمد (4/ 121 ,4/ 122 ,5/ 273). * "الرد على البكري" 2/ 478. [معد الكتاب للمكتبة الشاملة]

الفتنة بقصائد المتأخرين في مدح النبي وغيره والاستغاثة بهم

الإسلام -رحمه الله تعالى- من إنكاره ما في شعر الصرصري وغيره من هذه الأمور الشركية وبيان أسبابها. [الفتنة بقصائد المتأخرين في مدح النبي وغيره والاستغاثة بهم] وأما قول المعترض: وفيه توسل عظيم، إن لم يزد على قول صاحب البردة لم ينقص عنه. (فالجواب): أن هذا من عدم بصيرته وكبير جهله، فإن مَن له أدنى معرفة وفهم يعلم أن بين قول صاحب البردة وقول الصرصري في أبياته تفاوتا بعيدا؛ فقد نبهنا على ما يقتضيه كلام صاحب البردة من قصر الإلهية والربوبية والملك وشمول العلم على عبد شَرَّفَه الله بعبوديته ورسالته، ودعوة الخلق إلى عبادته وحده، وجهاد الناس على ذلك، وبَلَّغَ الأمةَ ما أنزله الله -تعالى- عليه في الآيات المُحْكَمَات من تجريد التوحيد والنهي عن الشرك ووسائله، كما قدمنا الإشارة إليه. وأما الصرصري ففي كلامه التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم والاستغاثة به، لكن لا قصر ولا حصر للاستعانة والاستغاثة في جانب المخلوق، وقد أنكره شيخ الإسلام -رحمه الله تعالى- وذكر أنه لا دليل من كتاب ولا سنة عليه، ولا قال به أحد من الصحابة والتابعين والأئمة، وقد بيَّن -رحمه الله تعالى- أن استغاثة الحي بالحي إنما هو بدعائه وشفاعته. وأما الميت والغائب فلا يجوز أن يُسْتَغَاثُ به، وكذلك الحي فيما لا يقدر عليه إلا الله، وأن أهل الإشراك ليس معهم إلا الجهل والهوى، وعوائد نشؤوا عليها بلا برهان، وقد عرفتَ أن هذا المعترض لم يأت إلا بشبهات واهية، وحكايات سوفسطائية، أو منامات تضليلية، كما قال كعب بن زهير: فلا يغرنك ما مَنَّتْ وما وَعَدَتْ ... إن الأماني والأحلام تضليل وليس مع هؤلاء المشركين إلا دعوى مجردة مَحْشُوَّة بالأكاذيب، وليس معهم -بحمد الله- دليل من كتاب أو سنة أو قول واحد من سلف الأمة وأئمتها،

مقصود زيارة الموحدين للقبور

وقد جئناهم بأدلة الكتاب والسنة، وما عليه الصحابة والأئمة، ولو استقصينا ذكر الأدلة، وبسط القول لاحتمل مجلدا ضخما. وسبب الفتنة بقصائد هؤلاء المتأخرين كقصائد البوصيري والبرعي، واختيارها على قصائد شعراء الصحابة كحسان بن ثابت، وكعب بن مالك، وكعب بن زهير، وغيرهم من شعراء الصحابة -رضي الله عنهم- وفيها من شواهد اللغة والبلاغة ما لم يُدْرِك هؤلاء المتأخرون منه عُشْرَ المِعْشَار، وما ذاك إلا لأن قصائد هؤلاء المتأخرين تجاوزوا فيها الحد إلى ما يكرهه الله ورسوله، فَزَيَّنَهَا الشيطانُ في نفوس الجُهَّال والضُلال، فمالت إليها نفوسهم عن قصائد الصحابة التي ليس فيها إلا الحق والصدق، وما قصروا فيها جهدهم عما يصلح أن يمدح به رسول الله صلى الله عليه وسلم وتَحَرَّوْا فيها ما يرضيه، وتجنبوا ما يُسْخِطهُ صلى الله عليه وسلم وما نهى عنه من الغلو. فما أشبه هؤلاء بقول أبي الوفاء بن عقيل - وهو في القرن الخامس: "لما صعبت التكاليف على الجُهَّال والطِّغَام عدلوا عن أوضاع الشرع إلى أوضاعٍ وضعوها لأنفسهم، فسهلت عليهم؛ إذ لم يدخلوا بها تحت أمر غيرهم. قال: وهم عندي كفار بهذه الأوضاع ... إلى آخره. [مقصود زيارة الموحدين للقبور] ومما يتعين أن نختم به هذا الجواب: فصل ذكره العلامة ابن القيم* -رحمه الله تعالى ونفعنا بعلمه- قال، بعد أن ذكر زيارة الموحدين للقبور وأن مقصودها ثلاثة أشياء: (أحدها): تذكير الآخرة والاعتبار والاتعاظ. (الثاني): الإحسان إلى الميت، وأن لا يطول عهده به فيتناساه، فإذا زاره وأهدى إليه هدية من دعاء أو صدقة، ازداد بذلك سروره وفرحه. ولهذا شرع النبي صلى الله عليه وسلم للزائر أن يدعو لأهل القبور بالمغفرة والرحمة، ويسأل لهم العافية فقط، ولم يشرع أن يدعوهم ولا يدعو بهم ولا يصلي عندهم. (الثالث): إحسان الزائر إلى نفسه باتباع السنة، والوقوف عند ما شرعه الرسول صلى الله عليه وسلم.

_ * ذكره في "إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان" 1/ 218. [معد الكتاب للمكتبة الشاملة].

الشفاعة جميعها لله يأذن لمن شاء لمن ارتضى

وأما الزيارة الشركية، فأصلها مأخوذٌ عن عباد الأصنام، قالوا: الميت المعظم الذي لروحه قربٌ ومَزِيَّة عند الله -تعالى- لا يزال تأتيه الألطاف من الله -تعالى- وتفيض على روحه الخيرات. فإذا علق الزائر روحه به، وأدناها منه، فَاضَ من روح المَزُور على روح الزائر من تلك الألطاف بواسطتها كما ينعكس الشعاع من المرآة الصافية والماء على الجسم المقابل له. قالوا: فتمام الزيارة أن يتوجه الزائر بروحه وقلبه إلى الميت، ويعكف بهمته عليه، ويوجه قصده كله وإقباله عليه، بحيث لا يبقى فيه التفاتٌ إلى غيره. وكلما كان جمع القلب والهمة عليه أعظم: كان أقرب إلى الانتفاع به. وقد ذكر هذه الزيارة ابن سينا والفارابي وغيرهما، وصرح بها عباد الكواكب في عبادتها، وهذا بعينه هو الذي أوجب لعباد القبور اتخاذها أعيادا وتعليق السُّتُور عليها، وإيقاد السُّرُج، وبناء المساجد عليها، وهو الذي قصد رسول الله صلى الله عليه وسلم إبطالَه ومَحْوَهُ بالكلية، وسد الذرائع المُفْضِيَة إليه، فوقف المشركون في طريقه وناقضوه في قصده. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم في شِقٍّ وهؤلاء في شِقٍّ. وهذا الذي ذكره هؤلاء في زيارة القبور والشفاعة التي ظنوا أن آلهتهم تنفعهم بها، وتشفع لهم عند الله، قالوا: فإن العبد إذا تعلقت روحه بروح الوَجِيهِ المُقَرَّب عند الله، وتوجه بهمته إليه وعكف بقلبه عليه، صار بينه وبينه اتصالٌ يفيض عليه نصيب مما يحصل له من الله. وشَبَّهُوا ذلك بمن يخدم ذا جاهٍ وحظوةٍ وقُرْبٍ من السلطان، وهو شديد التعلق به، فما يحصل لذلك من السلطان من الإنعام والإفضال ينال ذلك المتعلقَ به بحسب تعلقه به. فهذا سر عبادة الأصنام، وهو الذي بعث الله رسله؛ وأنزل كتبه بإبطاله وتكفير أصحابه، ولعنهم وأباح دماءهم وأموالهم وسبي ذراريهم، وأوجب لهم النار. [الشفاعة جميعها لله يأذن لمن شاء لمن ارتضى] والقرآن من أوله إلى آخره مملوء من الرد على أهله وإبطال مذهبهم، قال الله تعالى: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلا يَعْقِلُونَ *

قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} 1 فأخبر أن الشفاعة لمن له ملك السماوات والأرض، وهو الله وحده، وهو الذي يشفع بنفسه إلى نفسه؛ ليرحم عبده، فيأذن هو لمن يشاء أن يشفع فيه؛ فصارت الشفاعة في الحقيقة إنما هي له. والذي يشفع عنده إنما يشفع بإذنه وأمره، بعد شفاعته -سبحانه- إلى نفسه، وهي إرادته من نفسه أن يرحم عبده. وهذا ضد الشفاعة الشركية التي أثبتها هؤلاء المشركون وَمَن وافَقَهم، وهي التي أبطلها الله -سبحانه وتعالى- بقوله: {وَاتَّقُوا يَوْمًا لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ} 2، وقوله: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ} 3، وقال: {وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ} 4. وأخبر -سبحانه- أنه ليس للعباد شفيع من دونه؛ بل إذا أراد -سبحانه- رحمة لعبده أذن هو لمن يشفع فيه، كما قال تعالى: {مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ} 5. وقال: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} 6. فالشفاعة بإذنه، ليست شفاعة من دونه، ولا الشافع شفيعٌ من دونه، بل يشفع بإذنه. والفرق بين الشَّفِيعَيْن كالفرق بين الشريك والعبد المأمور، فالشفاعة التي أبطلها شفاعة الشريك فإنه لا شريك له، والتي أثبتها شفاعة العبد المأمور الذي يشفع ولا يتقدم بين يدي مالكه حتى يأذن له، ويقول: أشفع في فلان. ولهذا كان أسعد الناس بشفاعة سيد الشفعاء يوم القيامة أهل التوحيد الذين جردوا التوحيد، وخَلَّصُوه من تعلقات الشرك وشوائبه، وهم الذين ارتضى الله -سبحانه-. قال تعالى: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} 7، وقال تعالى: {يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا} 8، فأخبر أنه لا تحصل يومئذ شفاعة تنفع إلا بعد رضى قول المشفوع له، وإذنه للشافع. فأما المشرك فإنه لا يرضاه، ولا

_ 1 سورة الزمر آية: 43،44. 2 سورة البقرة آية: 123. 3 سورة البقرة آية: 254. 4 سورة الأنعام آية: 51. 5 سورة يونس آية: 3. 6 سورة البقرة آية: 255. 7 سورة الأنبياء آية: 28. 8 سورة طه آية: 109.

الفرق بين شفاعة المخلوق إلى الخالق وشفاعته إلى المخلوق

يرضى قوله، فلا يأذن للشفعاء أن يشفعوا فيه فإنه -سبحانه- علَّقَها بأمرين: رضاه عن المشفوع له، وإذنه للشافع. فما لم يوجد مجموع الأمرين لم توجد الشفاعة. وسر ذلك أن الأمر كله لله وحده، فليس لأحد معه من الأمر شيء، وأعلى الخلق وأفضلهم وأكرمهم عنده هم الرسل، والملائكة المقربون، وهم عبيدٌ محضٌ: لا يسبقونه بالقول، ولا يتقدمون بين يديه، ولا يفعلون شيئا إلا من بعد إذنه لهم، ولا سيما يوم لا تملك نفسٌ لنفس شيئا. فهم مملوكون مربوبون، أفعالهم مقيدة بأمره وإذنه، فإذا أشركهم به المشرك، واتخذهم شفعاء من دونه ظَنًّا منه أنه إذا فعل ذلك تقدموا وشفعوا له عند الله، فهو من أجهل الناس بحق الرب -سبحانه- وما يجب له ويمتنع عليه، فإن هذا مُحَالٌ ممتنعٌ يشبه قياس الرب -سبحانه- على الملوك والكبراء، حيث يتخذ الرجل من خواصهم وأوليائهم مَن يشفع له عندهم في الحوائج. وبهذا القياس الفاسد عُبِدَتْ الأصنام، واتخذ المشركون من دون الله الشفيع والولي. والفرق بينهما هو الفرق بين الخالق والمخلوق، والرب والمربوب، والسيد والعبد، والمالك والمملوك، والغني والفقير، والذي لا حاجة به إلى أحد قط، والمحتاج من كل وجه إلى غيره. [الفرق بين شفاعة المخلوق إلى الخالق وشفاعته إلى المخلوق] فالشفعاء عند المخلوقين هم شركاؤهم، فإن قيام مصالحهم بهم، وهم أعوانهم وأنصارهم الذين قيام أمر الملوك والكبراء بهم، ولولا هم لما انبسطت أيديهم وألسنتهم في الناس؛ فلحاجتهم إليهم يحتاجون إلى قبول شفاعتهم، وإنْ لم يأذنوا فيها، ولم يرضوا عن الشافع؛ لأنهم يخافون أن يردوا شفاعتهم، فتنقص طاعتهم لهم، ويذهبون إلى غيرهم فلا يجدون بُدًّا من قبول شفاعتهم على الكُرْهِ والرضى. فأما الذي غناه من لوازم ذاته، وكلُّ ما سواه فقيرٌ إليه لذاته، وكل مَن في السماوات والأرض عبيدٌ له مقهورون؛ لقهره، مُصَرَّفُونَ بمشيئته، لو أهلكهم جميعا لم ينقص من عزه وسلطانه وملكه وربوبيته وإلهيته مثقال ذرة. قال تعالى:

شفاعة المخلوق إلى المخلوق لا يفتقر فيها إلى المشفوع عنده

{لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعًا} 1؛ وقال في -سيدة آي القرآن- آية الكرسي: {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} 2 وقال: {قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} 3، فأخبر أن مُلْكَهُ السماواتِ والأرضَ يُوجِبُ أن تكون الشفاعة كلها له وحده، وأن أحدا لا يشفع عنده إلا بإذنه، فإنه ليس بشريك، بل مملوك محضٌ، بخلاف شفاعة أهل الدنيا بعضهم عند بعض. فتبين أن الشفاعة التي نفاها الله -سبحانه- في القرآن هي هذه الشفاعة الشركية التي يفعلها بعضهم مع بعض. ولهذا يطلق نفيها تارة بناء على أنها هي المعروفة عند الناس، ويقيدها تارة بأنها لا تنفع إلا بإذنه. وهذه الشفاعة في الحقيقة هي منه، فإنه الذي أَذِنَ، والذي قبل، والذي رضي عن المشفوع، والذي وَفَّقَهُ لفعل ما يستحق به الشفاعة. [شفاعة المخلوق إلى المخلوق لا يفتقر فيها إلى المشفوع عنده] وقوله: فَمُتَّخِذُ الشفيع لا تنفعه شفاعته، ولا يشفع فيه، ومتخذ الرب وحده إلهه ومعبوده ومحبوبه ومَرْجُوَّه ومخوفه، الذي يتقرب إليه وحده ويطلب رضاه، ويتباعد من سخطه، هو الذي يأذن الله -سبحانه- للشفيع أن يشفع له، قال تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} 4. فبيَّن -سبحانه وتعالى- أن متخذي الشفعاء مشركون، وأن الشفاعة لا تحصل باتخاذهم. وسر الفرق بين الشفاعتين: أن شفاعة المخلوق للمخلوق، وسؤاله للمشفوع عنده لا يفتقر فيها إلى المشفوع عنده لا خلقا ولا أمرا ولا إذنا، بل هو سبب مُحَرِّك له من خارج كسائر الأسباب، وهذا السبب المحرك قد يكون عند المحرك؛ لأجله ما يوافقه، كمن يشفع عنده في أمر يحبه ويرضاه، وقد يكون

_ 1 سورة المائدة آية: 17. 2 سورة البقرة آية: 255. 3 سورة الزمر آية: 44. 4 سورة يونس آية: 18.

الله تعالى هو الذي يحرك الشفيع حتى يشفع

عنده ما يخالفه كمن يشفع إليه في أمر يكرهه، ثم قد يكون سؤاله وشفاعته أقوى من المُعَارض فيقبل شفاعة الشافع. وقد يكون المُعَارض الذي عنده أقوى من شفاعة الشافع فيردها، وقد يتعارض عنده الأمران، فيبقى مترددا بين ذلك المعارض الذي يوجب الرد، وبين الشفاعة التي تقتضي القبول، فيتوقف إلى أن يترجح عنده أحد الأمرين بِمُرَجِّح. وهذا بخلاف الشفاعة عند الرب -سبحانه وتعالى- فإنه ما لم يخلق شفاعة الشافع، ويأذن له فيها، ويحبها منه، ويرضى عن الشافع، لم يمكن أن توجد. والشافع لا يشفع عنده بمجرد امتثال أمره وطاعته له. فهو مأمور بالشفاعة مطيع بامتثال الأمر، فإن أحدا من الأنبياء والملائكة وجميع المخلوقات لا يتحرك بشفاعة ولا غيرها إلا بمشيئة الله وخلقه. [الله تعالى هو الذي يُحَرِّك الشفيع حتى يشفع] فالرب -تعالى- هو الذي يحرك الشفيع حتى يشفع، والشفيع عند المخلوق، هو الذي يحرك المشفوع إليه حتى يقبل، والشافع عند المخلوق مُسْتَغْن عنه في أكثر أموره، وهو في الحقيقة شريكه ولو كان مملوكه وعبده، فالمشفوع عنده محتاج إليه فيما يناله من النفع والضر والمعاونة وغير ذلك. كما أن الشافع محتاج إليه فيما يناله من رزق أو نصر أو غيره؛ فكل منهما محتاج إلى الآخر. ومن وَفَّقَهُ الله لفهم هذا الموضوع، تَبَيَّنَ له حقيقة التوحيد والشرك، والفرق بين ما أثبته الله من الشفاعة وما نفاه وأبطله، ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور. ومَن له خبرةٌ بما بعث الله به رسوله، وبما عليه أهل الشرك والبدع اليوم: عَلِمَ أن بين السلف وبين هؤلاء الخُلُوف من البعد أبعد مما بين المشرق والمغرب، وأنهم على شيء والسلف على شيء كما قيل: سَارَتْ مُشَرِّقَةً وَسِرْتُ مُغَرِّبًا ... شَتَانَ بين مُشَرِّقٍ وَمُغَرِّب والأمر والله أعظم مما ذكرناه. انتهى. وبه كمل الجواب، والحمد لله الذي هدانا لدينه الذي رضيه لعباده، وما كنا

لنهتدي؛ لولا أن هدانا الله، وصلى الله على سيد المرسلين، وإمام المتقين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وسلم تسليما كثيرا. تم نسخ ذلك في 5 رمضان سنة 1346، بقلم الفقير إلى الله عبد الله بن إبراهيم الربيعي، غفر الله له ولوالديه، ولجميع المسلمين خصوصًا أهل هذه الدعوة النجدية، والطريقة المحمدية، أئمتنا ومشايخنا، عليهم الرضوان والرحمة ما تعاقب المَلَوَان، ونطقت شَفَة ولسان آمين

كتاب المورد العذب الزلال في كشف شبه أهل الضلال

كتاب المورد العذب الزلال في كشف شبه أهل الضلال تأليف شيخنا وإمامنا، ناصر السنة، وقامع البدعة الشيخ عبد الرحمن بن الشيخ حسن بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب أجزل الله لهم الأجر والثواب آمين من مطبوعات صاحب الجلالة السعودية ومحيي السنة المحمدية الإمام عبد العزيز آل سعود ملك الحجاز ونجد وملحقاتها وقد وقفه على من ينتفع به من أهل العلم والدين لا يحل لمن وقع بيده بيعه

المورد العذب الزلال في كشف شبه أهل الضلال ورد مفتريات رجل من أهل الخرج ... بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، مُعِزّ الإسلام بنصره، ومُذِلّ الشرك بقهره، ومُصَرِّف الأمور بأمره، ومُسْتَدْرِج العاصين بِمَكْرِهِ، الذي أظهر دينه على الدين كله، القاهر فوق عباده فلا يُمَانَع، الظاهر على خلقه فلا يُنَازَع، الحكيم فيما يريد فلا يُدَافَع. أحمده على إعزازه لأوليائه، ونصرته لأنصاره، وخفضه لأعدائه، حَمْدَ من استشعر الحمد باطن سره وظاهر جهاره. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد؛ شهادة مَن طهَّر بالتوحيد قلبه، وأرضى بالمعاداة فيه والموالاة ربَّه، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، رافع الشك، وخافض الشرك، وقامع الكذب والإفك، اللهم صَلِّ على محمد وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرا. (وبعد): فاعلم أيها الطالب للسلامة، الساعي في أسباب تحصيل الفوز والكرامة، أني وقفتُ على رسالة لمن لم يُسَمِّ نفسه، مُشْعِرَة بأنه من بلاد الخَرْج 1 متضمنة لأنواع من الكذب والمرج، جامعة لأمور من الباطل، لا يَسَعُ مسلمًا السكوتُ عليها خشيةَ أن يفتن بها بعض الجاهلين فيعتمد عليها، فإن كل عصر لا يخلو من قائل بلا علم، ومتكلم بغير إصابة ولا فهم. وقد جعل الله في كل زمان فترة، بقايا من أهل العلم يدعون مَنْ ضَلَّ إلى الهدى، ويُبَصِّرُونَ بدين الله أهل العمى، ويحيون بكتاب الله الموتى، فكم من قتيل لإبليس قد أَحْيُوهُ، وتَائِهٍ ضالٍّ قد هَدُوهُ، فما أحسن أثرهم على الناس، وما أقبح أثر الناس عليهم،

_ 1 في بلاد نجد.

نواقض التوحيد

وقد عَنَّ لي الجواب؛ لتمييز الخطأ من الصواب، فلا بد من ذكر مقدمة نافعة لتكون هي المقصودة بالذات، رجاء أن تكون سَبَبًا موصلا إلى رضوان الله، يستبصر بها طالب الهُدَى من عباد الله، وذلك بتوفيق الله الذي لا إله سواه، ولا حول ولا قوة إلا بالله. اعلم أيها المُنْصِفُ أن دين الله القَوِيم، وصراطه المستقيم، إنما يتبين بمعرفة أمور ثلاثة، هي مدار دين الإسلام، وبها يتم العمل بأدلة الشريعة والأحكام، ومتى اخْتَلَّتْ وتَلاشَتْ وقع الخلل في ذلك النظام: (الأمر الأول): أَنْ تَعْلَمَ أنَّ أصلَ دين الإسلام وأساسه، وعماد الإيمان ورأسه، هو: توحيدُ الله -تعالى- الذي بعث به المرسلين، وأنزل به كتابه المحكم المبين، قال تعالى: {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ} 1، وهذا هو مضمون شهادة أن لا إله إلا الله؛ فإن أصل دين الإسلام: أن لا يُعْبَد إلا الله، وأن لا يُعْبَد الله إلا بما شرع، لا بالأهواء والبدع. وقد قال شيخنا -رحمه الله تعالى- إمام الدعوة الإسلامية، والداعي إلى الملة الحنيفية: أصل دين الإسلام وقاعدته أمران: الأمر بعبادة الله وحده، والتحريض على ذلك والموالاة فيه، وتكفير من تركه. والنهي عن الشرك بالله في عبادته، والتغليظ فيه والمعاداة فيه، وتكفير من فعله. والمُخَالِف في ذلك أنواع، ذكرها -رحمه الله تعالى-. [نواقض التوحيد] وهذا التوحيد له أركان وفروع، ومقتضيات وفرائض، ولوازم، لا يحصل الإسلام الحقيقي على الكمال والتمام إلا بالقيام بها عِلْمًا وعملا. وله نواقض ومبطلات تُنَافِي ذلك التوحيد، فمن أعظمها أمور ثلاثة: (الأول): الشرك بالله في عبادته كدعوة غير الله، ورجائه والاستعانة به، والاستغاثة به، والتوكل عليه، ونحو ذلك من أنواع العبادة، فمن صَرَفَ منها شيئا لغير الله كَفَرَ، ولم يصح له عمل، وهذا الشرك هو أعظم

_ 1 سورة هود آية: 1.

مُحْبِطَات الأعمال كما قال تعالى: {وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} 1. وقوله: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِين َ بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} 2، ففي هذه الآية: نَفْي الشرك وتغليظه، والأمر بعبادة لله وحده. ومعنى قوله: {بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ} 3 أي: لا غيره، فإن تقديم المَعْمُول يُفيد الحصرَ عند العلماء قديما وحديثا. (الأمر الثاني من النواقض): انشراح الصدر لمن أشرك بالله ومُوَادَّة أعداء الله 4 كما قال تعالى: {وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} 5 الآية، إلى قوله: {أنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} 6. فمن فعل ذلك فقد أبطل توحيده ولو لم يفعل الشرك بنفسه. قال الله -تعالى-: {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} 7 الآية؛ قال شيخ الإسلام: أخبر -سبحانه- أنه لا يوجد مؤمن يُوَادُّ كافرًا، فمن وَادَّهُ فليس بمؤمن. قال: والمشابهةُ مَظِنَّة الموادَّة، فتكون مُحَرَّمَة. قال العماد ابن كثير في تفسيره: قيل: نزلتْ في أبي عبيدة حين قتل أباه يوم بدر، {أَوْ أَبْنَاءَهُم} في الصديق يومئذ هَمَّ بقتل ابنه عبد الرحمن، {أَوْ إِخْوَانَهُم} في مصعب بن عمير قتل أخاه عبيد بن عمير، {أَوْ عَشِيْرَتَهُم} في عمر قتل قريبا له يومئذ أيضا، وحمزة وعلي وعبيدة بن الحارث قتلوا عتبةَ وشيبةَ والوليدَ بن عتبة يومئذ. قال: وفي قوله: {رَضِيَ الله عَنْهُم وَرَضُوا عَنْهُ} سرٌ بديعٌ، وهو أنهم لما

_ 1 سورة الأنعام آية: 88. 2 سورة الزمر آية: 65،66. 3 سورة الزمر آية: 66. 4 أي موادتهم وانشراح الصدر لهم؛ لأجل شركهم وعداوتهم؛ لأن تعليق الحكم على المشتق يدل على أنه علة له كما قالوه في آية حد السارق، ولذلك استدل هنا بآية (ولكن من شرح بالكفر صدرا) إلخ، ولا يدخل في ذلك الصحبة بالمعروف؛ لأجل القرابة ونحوها -مع كراهة الكفر نفسه-؛ لقوله -تعالى- في الوالدين المشركين: (وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفا) الآية. 5 سورة النحل آية: 106. 6 سورة النحل آية: 107. 7 سورة المجادلة آية: 22.

موالاة المشركين بالنصرة والإعانة ناقض للإسلام

سخطوا على القرائب والعشائر في الله عوضهم الله بالرضى عنهم، ورضاهم عنه بما أعطاهم من النعيم المقيم، والفوز العظيم، والفضل العميم، ونَوَّهَ بفلاحهم وسعادتهم ونصرتهم في الدنيا والآخرة في مقابلة ما ذكر عن أولئك من أنهم حزب الشيطان: {أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ} 1. [موالاة المشركين بالنصرة والإعانة ناقض للإسلام] (الأمر الثالث): موالاة المشرك، والركون إليه، ونصرته وإعانته باليد، أو اللسان، أو المال كما قال تعالى: {فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِلْكَافِرِينَ} 2. وقال: {رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ} 3. وقال: {إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} 4. وهذا خطاب من الله -تعالى- للمؤمنين في هذه الأمة؛ فانظر أيها السامع أين تقع من هذا الخطاب وحكم هذه الآيات. ولما أعانت قريش بني بكر على خزاعة سرا، وقد دخلوا في صلح رسول الله صلى الله عليه وسلم، انتقضَ عهدهم وغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم لذلك غضبا شديدا، وتَجَهَّزَ لحربهم، ولم يَنْبِذْ إليهم؛ لما كتب لهم حاطبٌ كتابا يخبرهم بذلك إخبارا أنزل الله -تعالى- في ذلك هذه السورة بكمالها، ابتدأها بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ} 5 إلى قوله: {وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ} 6. ثم أمر تعالى بالتأسي بخليله -عليه السلام- وإخوانه من المرسلين بالعمل بدينه الذي بعثهم به فقال: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ} 7 أي: من إخوانه المرسلين: {إِِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} 8. فذكر أمورًا خمسة لا يقوم التوحيد إلا بها علما وعملا، وعند القيام بهذه الخمسة مَيَّزَ الله الناسَ لَمَّا ابْتَلاهم بعَدِّوهم، كما قال تعالى: {الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ? وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا

_ 1 سورة المجادلة آية: 19. 2 سورة القصص آية: 86. 3 سورة القصص آية: 17. 4 سورة الممتحنة آية: 9. 5 سورة الممتحنة آية: 1. 6 سورة الممتحنة آية: 1. 7 سورة الممتحنة آية: 4. 8 سورة الممتحنة آية: 4.

وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} 1. وحذَّر تعالى عباده عن تَوَلِّيهِمْ عَدُّوَهُم. قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} 2. وقال تعالى: {بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا} 3 الآية. وقال تعالى: {تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} 4. فتأمل ما في هذه الآيات، وما رتب الله -سبحانه وتعالى- على هذا العمل من سخطه، والخلود في عذابه، وسلب الإيمان وغير ذلك؛ وذكر ابن جرير -رحمه الله تعالى- في تفسير سورة آل عمران عند قوله تعالى: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ} 5 أنه ردة عن الإسلام. وفي سورة محمد -صلى الله عليه وسلم- ما يدل على ذلك؛ قال الله -تعالى-: {إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ} 6 إلى قوله: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الأَمْرِ} 7. والسين: حرف تنفيس؛ تفيد استقبال الفعل، فدل على أنهم وعدوهم ذلك سرا بدليل قوله تعالى: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ} 8 والآيات في هذا المعنى كثيرة؛ والمقصود بيان عِظَم هذا الذنب عند الله، وما رتب عليه من العقوبات عاجلا وآجلا. نسأل الله الثبات على الإسلام والإيمان، ونعوذ بالله من الخيبة والخذلان. وقد ذكر شيخنا -رحمه الله تعالى- في مختصر السيرة له: ذكر الواقدي أن خالد بن الوليد لما قَدِمَ العارض قَدَّمَ مائتي فارس، فأخذوا مجَّاعة بن مُرَارة في ثلاثة عشر رجلا من قومه بني حنيفة، فقال لهم خالد بن الوليد: ما تقولون في صاحبكم؟ فشهدوا أنه رسول الله، فضرب أعناقهم، حتى إذا بقي سارية بن عامر قال:

_ 1 سورة العنكبوت آية: 2. 2 سورة المائدة آية: 57. 3 سورة النساء آية: 138. 4 سورة المائدة آية:80، 81. 5 سورة آل عمران آية: 28. 6 سورة محمد آية: 25. 7 سورة محمد آية: 26. 8 سورة محمد آية: 26.

لا يثبت الإسلام ولا يتحقق إلا بالعمل بشرائعه

يا خالد، إن كنت تريد بأهل اليمامة خيرًا أو شرًّا فاسْتَبْقِ مجَّاعة، وكان شريفًا، فلم يقتله وترك سارية أيضًا، فأمر بهما فَأُوثِقَا في مَجَامع من حديد، فكان يدعو مجَّاعة، وهو كذلك، فيتحدث معه، وهو يظن أن خالدًا يقتله، فقال يا ابن المغيرة: إن لي إسلاما، والله ما كفرت، فقال خالد: إن بين القتل والترك منْزلة، وهي الحبس حتى يقضي الله في أمرنا ما هو قاض. ودفعه إلى أم مُتَمِّم زوجته، وأمرها أن تُحْسِن إِسَارَهُ، فظن مجَّاعة أن خالدا يريد حبسه ليخبره عن عدوه، وقال: يا خالد قد علمتَ أني قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فبايعته على الإسلام، وأنا اليوم على ما كنت عليه بالأمس. فإن يَكُ كَذَّابٌ قد خرج فينا، فإن الله يقول: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} 1. فقال: يا مجَّاعة تركت اليوم ما كنتَ عليه أمس، وكان رضاك بأمر هذا الكذاب، وسكوتك عنه، وأنت من أعز أهل اليمامة إقرارًا له ورضاء بما جاء به، فهل أبديتَ عُذْرًا، فتكلمت فيمن تكلم؟ فقد تكلم ثُمَامة فرد وأنكر، وتكلم اليشكريّ، فإن قلتَ: أخاف قومي، فهلا عمدتَ إليَّ أو بعثتَ إليَّ رسولا؟ فتأمل كيف جعل خالدٌ سكوتَ مجَّاعة رِضًى بما جاء به مسيلمة وإقرارًا، فأين هذا ممن أظهر الرضاء، وظاهر، وأعان وجد، وشمَّر مع أولئك الذين أشركوا مع الله في عبادته، وأفسدوا في أرضه؟ فالله المستعان. [لا يثبت الإسلام ولا يتحقق إلا بالعمل بشرائعه] (الأمر الثاني): من الأمور التي لا يصلح الإسلام إلا بها: العملُ بشرائعه وأحكامه، وبالقيام بذلك يقوم الدين وتستقيم الأعمال كما قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا} 2 الآية، وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرا ً?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} 3، وقال تعالى: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} 4 الآية. وقال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا

_ 1 سورة الأنعام آية: 164. 2 سورة النساء آية: 66. 3 سورة النساء آية:58، 59. 4 سورة الشورى آية: 10.

مما يثبت به الإسلام أداء الأمانات واجتناب المحرمات

مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُبِينًا} 1. وقال تعالى: {وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} 2 وقال تعالى: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ} 3 الآية، وقال تعالى: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا} 4. وفي هذا المعنى قال أبو تمام: وعبادة الأهواء في تطويحها ... بالدين مثل عبادة الأوثان هذا هو الغالب على كثير من الناس: رَدُّ الحق؛ لمخالفة الهوى ومعارضته بالآراء، وهذا من نقص الدين وضعف الإيمان واليقين. [مما يثبت به الإسلام أداء الأمانات واجتناب المحرمات] (الأمر الثالث): أداء الأمانات، واجتناب المحرمات والشهوات، والجد في أداء الفرائض، والعبادات الواجبات، والقيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكرات، وقد وقع الخلل العظيم في ذلك كما قال تعالى: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} 5 الآية، وبذلك وقعت الغفلة والإعراض عن كتاب الله -تعالى- واشتغل أكثر الناس بدنياهم عن طاعة مولاهم، وزهدوا في كل ما يعود نفعه إليهم في دنياهم وأخراهم مما يوجب رضى ربهم ومولاهم؛ فيجب على مَن نصح نفسه ممن جعل الله له القدرة والسلطان ونفوذ الكلمة أن يهتم بحفظ هذه الثغور الثلاثة، فإنها ثغور الإسلام، وقد سعى في خرابها مَن ليس من أهلها. ومن أسباب حفظها: الإخلاص لله، والصدق، واللُّجْء إليه، وتعظيم أمره ونهيه، والتوكل عليه، وتمييز الخبيث من الطيب. فإن الله -تعالى- مَيَّزَهم لعباده؛ لَمَّا ابتلاهم؛ فعليك بِبُغْضِ أعداء الله، والاهتمام بما يرضيه، ومحبة ما يحبه، وكراهة ما يكرهه، وخشيته ومراقبته، والله المستعان.

_ 1 سورة الأحزاب آية: 36. 2 سورة النور آية: 48. 3 سورة القصص آية: 50. 4 سورة الفرقان آية: 43. 5 سورة مريم آية: 59.

فصل: في الإشارة إلى ما تضمنته لا إله إلا الله من نفي الشرك وإبطاله، وتجريد التوحيد لله تعالى والإشارة إلى بعض ما تنتقض به عرى الدين الذي بعث الله به المرسلين

[فيما تضمنته كلمة التوحيد في نفيها وإثباتها] فصل في الإشارة إلى ما تضمنَتْهُ لا إله إلا الله من نَفْيِ الشرك وإبطاله، وتجريد التوحيد لله تعالى والإشارة إلى بعض ما تُنْتَقَضُ به عُرَى الدين الذي بعث الله به المرسلين. والباعث لذلك: ما بلغني عن رجل كان قبل طُرُوق الفتن يغلو في التكفير، ويُكَفِّر بأشياء لم يُكَفِّر بها أحدٌ من أهل العلم، ثم إنه بعد ذلك قال: من قال: لا إله إلا الله فهو المسلم المعصوم، وإن قال ما قال. فأقول -وبالله التوفيق-: اعلم أنَّ لا إله إلا الله: كلمةُ الإسلام، ومفتاحُ دار السلام، وقد سمَّاها الله -تعالى- كلمة التقوى، والعروة الوثقى، وهي كلمة الإخلاص التي جعلها إبراهيم الخليل عليه السلام كلمة باقية في عَقِبِهِ. ومضمونها: نَفْيُ الإلهية عما سوى الله وإخلاص العبادة بجميع أفرادها لله وحده، كما قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ} 1، وقال عن يوسف -عليه السلام-: {وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ} 2 وقال بعدها: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} 3. وقال تعالى لخاتم رسله: {قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ} 4 الآية، وقال: {أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ} 5. وقال: {إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِد رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ} 6. وقد تفاوت الناس في هذه الكلمة بحسب حالهم علما وعملا، فمنهم من يقولها وهو يجهل مدلولها ومقتضاها، فلا يعرف الإله المنفي بأداة النفي، ولا الإلهية المثبتة لله -تعالى-، فهذا لا تنفعه بلا ريب، تجده يأتي بما يناقضها وهو لا يدري. [شروط كلمة التوحيد] واعلم أن لها شروطا ثقالا: (منها): العلم بمدلولها ومقتضاها وحقوقها ولوازمها ومُكَمِّلاتها. ومن شروطها: الصدق واليقين، وإرادة وجه الله، والكفر بما يُعْبَدُ من

_ 1 سورة الزخرف آية: 26، 27. 2 سورة يوسف آية: 38. 3 سورة يوسف آية: 40. 4 سورة الرعد آية: 36. 5 سورة هود آية: 2. 6 سورة الصافات آية: 4.

بعض أعمال المنافقين وأقوالهم التي عدت كفرا

دون الله كما قال تعالى: {إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} 1 قال ابن جرير: يعلمون حقيقة ما شهدوا به. وقال: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} 2 وصحت الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم بذكر هذه الشروط كلها، ومن لم يكن كذلك لم تنفعه لا إله إلا الله؛ لأن القول بلا علم هباءٌ. قال شيخ الإسلام: ومَنْ فَقَدَ الدليلَ: ضَلَّ السبيلُ.* وكذلك من يقولها، وهو لا يجهل مضمونها ومقتضاها، لكن يمنعه مِن قَصْد ذلك واتِّبَاع الحق، والعمل به مَوَانِعٌ من آفات النفوس. فتجده ينكر التوحيد تارة، ويبغض أهله، ويُحب الشرك وأهله، كحال الذين قالوا: {قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ} 3 قال الله -تعالى-: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} 4. فلو أن مجرد القول ينفع بدون الإخلاص والصدق واليقين القلبي لنفع هؤلاء، فكذلك من يقول ظَانًّا أنه أتى بمضمونها ومقتضاها، ويأتي بما يناقضها من موالاة المشركين، ومظاهرتهم على المسلمين والاستبشار بنصرهم وظهورهم، وغير ذلك من الأمور التي عَدَّهَا العلماء من نواقض الإسلام. قال الله تعالى: {وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ} 5 الآية، وقال تعالى: {وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِلْكَافِرِينَ * وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} 6، ومعنى: {وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ} 7 أي: إلى توحيده واتباع أمره وترك نهيه، ثم قال: {وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} 8. [بعض أعمال المنافقين وأقوالهم التي عُدَّت كفرا] فذكر أمورًا أربعة، كلها تُنَافِي قول لا إله إلا الله. يحقق ذلك نَهْيُ الله -تبارك وتعالى- عبادَهُ المؤمنين عن موالاة أعدائه في أول سورة الممتحنة وفي غيرها، وقال: {وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ} 9. وتدبر تلك الآيات، وما رتب الله -تعالى- من الوعيد الأكيد والعذاب الشديد

_ 1 سورة الزخرف آية: 86. 2 سورة محمد آية: 19. * نقلها عنه تلميذه الإمام ابن القيم في "مفتاح دار السعادة" 1/ 83 بلفظ: "من فارق الدليل ضل السبيل". وقد أدرجت ضمن "المستدرك على مجموع الفتاوى" 2/ 6. [معد الكتاب للمكتبة الشاملة] 3 سورة المنافقون آية: 1. 4 سورة المنافقون آية: 1. 5 سورة الأحزاب آية: 26. 6 سورة القصص آية: 86. 7 سورة القصص آية: 86. 8 سورة القصص آية: 88. 9 سورة الممتحنة آية: 1.

ونفي الإيمان، وحبوط الأعمال على هذه الأمور التي لا يَعُدُّهَا مَنْ وقعتْ منه كبيرَ ذنب، فإنا لله وإنا إليه راجعون. وبالجملة فلو بقي لهؤلاء دين -مع ذلك- لسلموا من العقوبات؛ لأن الإيمان أمن، والإسلام سلامة، كما قال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} 1؛ فإن تدارك الله من شاء منهم بتوبة نصوح فهو فضله سبحانه وإلا فيا خسرهم. وقد بَيَّنَ الله -تعالى- في كتابه كثيرا من نواقض الإسلام والإيمان؛ فإن سبب نزول قوله تعالى: {لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} 2 أن أناسا كانوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك يجاهدون عدوه، فقال رجل منهم: ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء، أرغب بطونًا، وأكذب ألسنة، وأجبن عند اللقاء، فأنزل الله هذه الآية. والقصة مشهورة في التفسير وكتب الحديث، فانظر كيف أبطلوا إيمانهم وكفروا بربهم، فلم ينفعهم قول لا إله إلا الله، ولا صلاتهم، ولا جهادهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال تعالى: {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ} 3 نزلت -على ما ذكره المفسرون- في الجلاس بن عمرو، قال: إن كان ما يقول محمدٌ حَقًّا فنحن شر من الحمير، ولو يقولها أحد في زماننا هذا لم يعد كافرا ولا عاصيا. ولا ريب أن هؤلاء كانوا يشهدون أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، ويصلون ويزكون ويجاهدون، ولم يُظَاهِرُوا على المسلمين عدوا. وكذلك أهل مسجد الضرار كانوا من جملة الأنصار، وفعلوا ما هو في الظاهر قربة، فلما أضمروا خلاف ما أظهروا أنزل الله في شأنهم: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ} 4، وهو أبو عامر الفاسق. قال الله -تعالى-: {وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى

_ 1 سورة الأنعام آية: 82. 2 سورة التوبة آية: 66. 3 سورة التوبة آية: 74. 4 سورة التوبة آية: 107.

دعوة الرسل والأنبياء أقوامهم إلى عبادة الله وحده

وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} 1 إلى قوله تعالى: {لا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ} 2 أي: بالموت. أيظن مَن عرف موقع كتاب الله وآياته أنه ينفع مَن أحب المشركين قولٌ يقوله، أو عملٌ يعمله؟ وهو يعلم ما وقع بهؤلاء من عقوبة الله على ما أسروه؟ هذا لا يظنه مَن له مِسْكَة من عقل؛ لأن ما كلف به عوقب به من بعدهم على مثل ما عُوقبوا به بلا ريب، اللهم إلا أن يتدارك الله -تعالى- من شاء بتوبة ماحِية، وإلا فالخطر عظيم. وكذلك قوله تعالى: {فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ} 3 وسبب نزولها، ومن نزلت فيه معروف في كتب التفسير. [دعوة الرسل والأنبياء أقوامهم إلى عبادة الله وحده] ومن زعم أن المراد من لا إله إلا الله: مجرد القول، فقد خالف ما جاءت به الرسل والأنبياء من دين الله، واتبع غير سبيل المؤمنين، قال الله -تعالى- عن نوح -عليه السلام- أنه قال لقومه: {إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ} 4، فأجابوه بقولهم: {لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا} 5 الآية. علموا -على كفرهم وضلالهم- أنه لم يُرِدْ منهم مجرد الإقرار، وإنما أراد منهم الاتباع، والعمل، وترك عبادة الأصنام، وأخبر تعالى عن هود -عليه السلام- أنه قال لقومه: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} 6، وذكر تعالى عنهم في جوابهم له: {أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} 7؛ علموا أنه أراد منهم قصر العبادة على الله، وترك عبادة من سوى الله، وهذا هو مضمون لا إله إلا الله ومعناها. ولما دعا الخليل -عليه السلام- أباه إلى التوحيد بقوله: {يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا} 8، أجابه بقوله: {قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ} 9. عرف أنه أراد ترك عبادة ما سوى الله، والرغبة عن ذلك إلى إخلاص العبادة لله وحده، ثم قال الخليل -عليه السلام-: {وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ

_ 1 سورة التوبة آية: 107. 2 سورة التوبة آية: 110. 3 سورة التوبة آية: 77. 4 سورة نوح آية: 2. 5 سورة نوح آية: 23. 6 سورة الأعراف آية: 65. 7 سورة الأعراف آية: 70. 8 سورة مريم آية: 42. 9 سورة مريم آية: 46.

القرآن تحقيق لمعنى كلمة التوحيد

اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي} 1 فذكر مضمون لا إله إلا الله ولازمها. كما ذكر تعالى مثل ذلك عن أهل الكهف في قولهم: {وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقًا} 2؛ وقال تعالى عن صاحب ياسين: {يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ وَمَا لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلا يُنْقِذُونِ إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} 3. وتأمل أيضا قوله تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ} 4. عرفوا -وهم كفار- أن مطلوب النبي صلى الله عليه وسلم من قولهم: "لا إله إلا الله"، أنه ترك عبادة الأوثان، فيا له من بيان ما أوضحه! [القرآن تحقيق لمعنى كلمة التوحيد] والمقصود أن القرآن من أوله إلى آخره يُحَقِّق معنى لا إله إلا الله بنفي الشرك وتوابعه، ويقرر الإخلاص وشرائعه. لكن لما اشتدت غُرْبَة الدين بهجوم المفسدين وقع الريب والشك بعد اليقين، وانتقض أكثر عرى الإسلام، كما قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه: إنما تنقض عرى الإسلام عروة عروة إذا نشأ في الإسلام من لا يعرف الجاهلية. ومما انتقض من عُرَاه: الحب في الله، والبغض في الله، والمعاداة والموالاة لله، كما في الحديث الصحيح: "أوثق عرى الإيمان: الحب في الله والبغض في الله"5. وأنت ترى حال الكثير حبه لهواه وبغضه لهواه، فلا يسكن إلا إلى ما يلائم طبعه، ويوافق هواه، ولو غَرَّه وأغواه، فتأمل: تجد هذا هو الواقع، فلا حول ولا قوة إلا بالله. والحاصل أن كل قول وعمل صالح يحبه الله ويرضاه: فهو من مدلول كلمة الإخلاص، فدلالتها على الدين كله إما مطابقة، وإما تضمنا، وإما التزاما، يقرر ذلك أن الله سماها كلمة التقوى، والتقوى: أن يتقي سخط الله وعقابه بترك الشرك والمعاصي وإخلاص العبادة لله واتباع أمره على ما شرعه، وقد فسرها ابن مسعود

_ 1 سورة مريم آية: 48. 2 سورة الكهف آية: 16. 3 سورة يس آية: 20: 24. 4 سورة الصافات آية: 35. 5 أبو داود: السنة (4599).

جواب الشيخ محمد بن عبد الوهاب لمن سأله عما يقاتلون عليه وما يكفر به

رضي الله عنه "أن تعمل بطاعة الله على نور من الله ترجو ثواب الله، وأن تترك معصية الله على نور من الله تخاف عقاب الله". وقد أخرج الترمذي وابن ماجه من حديث عبد الله بن زيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يبلغ العبد أن يكون من المتقين، حتى يَدَع ما لا بأس به حَذَرًا مما به بأس"1. وقال شيخ الإسلام أحمد بن عبد السلام بن تيمية -رحمه الله تعالى- في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} 2: قال أبو بكر الصديق: فلم يلتفتوا عنه يمنة ولا يسرة، أي لم يلتفتوا بقلوبهم إلى ما سواه، لا بالحب ولا بالخوف ولا بالرجاء، ولا بالتوكل عليه، بل لا يحبون إلا الله، ولا يحبون إلا لله. اهـ.* [جواب الشيخ محمد بن عبد الوهاب لمن سأله عما يقاتِلون عليه وما يكفِّر به] وقال شيخنا شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله تعالى-: سألني الشريف عما نقاتل عليه وما نُكَفِّر به؟ فقلت في الجواب: إنا لا نقاتل إلا على ما أجمع عليه العلماء كلهم، وهو الشهادتان بعد التعريف، إذا عرف ثم أنكر. فنقول: أعداؤنا معنا على أنواع: الأول: من عرف أن التوحيد دين الله ورسوله، وأن هذه الاعتقادات في الحجر والشجر والبشر الذي هو دين غالب الناس اليوم، أنه الشرك الذي بعث الله رسوله بالنهي عنه، وقتال أهله ليكون الدين كله لله، ولم يلتفت إلى التوحيد، ولا تعلمه، ولا دخل فيه، ولا ترك فيه الشرك، فهذا كافر نقاتله؛ لأنه عرف دين الرسول فلم يتبعه، وعرف دين المشركين فلم يتركه، مع أنه لم يبغض دين الرسول، ولا من دخل فيه، ولا يمدح الشرك ولا يزينه.

_ 1 الترمذي: صفة القيامة والرقائق والورع (2451) , وابن ماجه: الزهد (4215). 2 سورة الأحقاف آية: 13. * من "رسالة إلى أصحابه وهو في سجن الإسكندرية" ضمن "مجموع الفتاوى" 28/ 32. [معد الكتاب للمكتبة الشاملة]

النوع الثاني: من عرف ذلك، ولكن تبين في سب دين الرسول مع ادعائه أنه عامل به وتبين في مدح من عبد يوسف والأشقر وأبي علي والخضر، وفضلهم على من وحد الله وترك الشرك، فهذا أعظم كفرا من الأول، وفيه قوله تعالى: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ} 1 الآية. وممن قال الله فيهم: {وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ} 2 الآية. النوع الثالث: من عرف التوحيد وأحبه واتبعه وعرف الشرك وتركه، لكن يكره من دخل في التوحيد ويحب من بقي على الشرك، فهذا أيضا كافر وفيه قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} 3. النوع الرابع: من سلِم من هذا كله لكن أهل بلده يصرحون بعداوة التوحيد واتباع أهل الشرك ويسعون في قتالهم، وعذره أنّ ترك وطنه يشق عليه فيقاتل أهل التوحيد مع أهل بلده ويجاهد بماله ونفسه، فهذا أيضا كافر؛ لأنهم لو أمروه بترك صيام رمضان ولا يمكنه ذلك إلا بفراق وطنه فعل، ولو أمروه أن يتزوج امرأة أبيه ولا يمكنه مخالفتهم إلا بذلك فعل. وأما موافقته على الجهاد معهم بماله ونفسه مع أنهم يريدون قطع دين الله ورسوله صلى الله عليه وسلم فأكبر مما ذكرنا بكثير، فهذا أيضا كافر ممن قال الله فيهم: {سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ} 4 الآية. والله -سبحانه وتعالى- أعلم وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.

_ 1 سورة البقرة آية: 89. 2 سورة التوبة آية: 12. 3 سورة محمد آية: 9. 4 سورة النساء آية: 91.

فصل: وهذا شروع في الجواب المشار إليه سابقا

[إيذاء أهل الباطل لأهل الحق] فصل: وهذا شروع في الجواب المشار إليه سابقًا، وقد كنت عزمت أن أتتبع كلامه وأجيب عنه تفصيلا، ثم إنه عرض لي ما يجب أن يكون هو المقصود بالذات مما قدمته حماية لجانب التوحيد والشريعة. ثم بدا لي أن أقتصر في جواب الرجل لما في الاقتصار من رعاية الصبر والاصطبار؛ لأنا لو أجبناه بكل ما يليق في الجواب لم نسلم من أمثاله ممن ينسج على منواله، كما هو الواقع من أكثر البشر قديما وحديثا مع كل من قام بالحق أو نطق بالصدق. فكل من كان أقوم في دين الله كان أذى الناس إليه أسرع والعداوة له أشد وأفظع. وأفضل خلق الله رسله وقد عالجوا من الناس أشد الأذى، حكمة بالغة. قال الله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا} 1 والآيات والأحاديث في ذلك كثيرة جدا. ينبئك عن تفصيل هذا ما ذكره الله تعالى في كتابه عن أنبيائه لما دعوا أممهم إلى التوحيد كيف قيل لهم؟ وما خوطبوا به؟ وتأمل ما جرى لخيار هذه الأمة كالخلفاء الراشدين وسادات أصحاب سيد المرسلين من أعدائهم كالرافضة والخوارج ونحوهم، وما جرى لأعيان التابعين ومن بعدهم من أعيان الأئمة كالإمام أحمد بن حنبل ومحمد بن نوح وأحمد بن نصر الخزاعي وأمثال هؤلاء ممن لا يمكن حصرهم، ولو ذكرنا جنس ما جرى لهم من الأذى لطال الجواب. والقصد هو الاقتصار، ومن أراد الوقوف على ذلك فعليه بالسيَر والتاريخ ولله درّ أبي تمام حيث يقول: وإذا أراد الله نشر فضيلة ... طويت أتاح لها لسان حسود وقال أبو الطيب: وشأن صدقك عند الناس كذبهم ... وهل يطابَق معوج بمعتدل؟

_ 1 سورة الفرقان آية: 31.

الرد على من طعن في الشيخ عبد الرحمن بن حسين

[الرد على من طعن في الشيخ عبد الرحمن بن حسين] إذا علمت ذلك، فإن هذا الرجل ذكر عن الشيخ عبد الرحمن بن حسين أنه لا يصلي بهم، ولا يقدم من يهوونه، ولا يقطع خصومة، وعدوه من نظر في كتاب أو نطق بصواب. هذا كلامه فيه. عد هذه الأمور من المثالب. والبصير إذا تأمل رآها من المناقب؛ لأن المسلم لا يجوز أن يحمل إلا على الخير فيما خفي عذره فيه حتى يتبين ما يرفع الاحتمال. وهذه العيوب الخمسة محتملة لأمور: (الأول): منها يحتمل أنه فعله تأثما من الصلاة بالناس لعذر خفي يوجب ذلك، فإن الأعذار عن الإمامة كثيرة. (الثاني): يحتمل نصحه لهم فيختار لهم من يصلح لذلك المقام، ونظره لهم خير من نظرهم لأنفسهم. (والثالث): فيه التثبت في الفتيا بالنظر والتأمل والمراجعة في كتب الأحكام، وهذا مطلوب من كل مفتٍ لا سيما في هذا الوقت. (والرابع والخامس): فيه حماية جانب العلم عمن يجهل، ولا يدري أنه يجهل، والمطلوب سد أبواب الاختلاف في أحكام الدين، فإن الله ذمه في كتابه، فإذا حمل مثله على غير ذلك أوقع في اغتياب المسلم، وقد حرمه الله في كتابه، فإن عده المغتاب له نصيحة فقد أحل ما حرمه الله ورسوله، وهو أمر عظيم، وفيه تشيين المسلم بما يحتمل ضد ذلك. * * * وأما تحذير هذا الرجل للإمام من أولاد الشيخ كلهم وأنه لا يجوز له أن يصغي إليهم ولا يدين لهم جانبا. (فالجواب): نعم هذا رأيه للإمام وهو الذي يحبه له ويرضاه، لكن رأي المسلمين خصوصا من ينسب منهم إلى الدين، والحب في الله والبغض فيه، وكذلك العقلاء، يخالفونه في ذلك. وفي نصيحة المسلمين للإمام الحث على طاعة أولئك

حل جوائز السلطان

والأخذ منهم، وقبول نصيحتهم ورأيهم كما هو الواقع من الإمام. فلا يخلو إما أن يكون الصواب مع هذا الرجل، وأما أن يكون مع أعيان المسلمين وأهل الدين الذين لهم لسان صدق ومحبة في الناس {وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ} 1. [حل جوائز السلطان] وأما قوله: إن ابن ثنيان يلقمهم الحرام. (فالجواب): أن يقال: وهل شاهدت ذلك وعرفت أن ما أعطاهم حرام بعينه، أو رأى ذلك من يوثق بخبره؟ هذا أمر لا يقدر هو ولا غيره أن يثبت ذلك لكنه كما قيل: يقولون أقوالا ولا يعلمونها ... وإن قيل هاتوا حققوا لم يحققوا والذي يأخذون منه ومن غيره من الأئمة هو مما أفاء الله على المسلمين المسمى بيت المال أو من الزكاة ونحوها، وهذا لا يقول أحد من العلماء أنه حرام. والذي نص عليه الفقهاء من أهل الحديث وغيرهم أنه يجوز الأخذ لمن يستحقه ما لم يعلم أنه حرام بعينه، ذكره ابن رجب عن الزهري ومكحول، قال: ورخص قوم من السلف في الأكل ممن يعلم في ماله حرام، ما لم يعلم أنه حرام بعينه. قال: وروي في ذلك آثار كثيرة عن السلف، وكان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يعاملون المشركين وأهل الكتاب مع علمهم أنهم لا يجتنبون الحرام كله. قال: وروى الحارث عن علي رضي الله عنه أنه قال -في جوائز السلطان-: لا بأس بها، ما يعطيكم من الحلال أكثر مما يعطيكم من الحرام، وقال ابن مسعود: إنما الهناء لكم والوِزر عليهم. وذكر في المغني أن الحسن البصري أخذ جائزة عمرو بن هبيرة وردها ابن سيرين، فعتب الحسن عليه ذلك. ونقل عن الإمام أحمد أنه قال: جوائز السلطان

_ 1 سورة البقرة آية: 220.

أخذ العلماء أرزاقهم من بيت المال

أحب إليّ من الصدقة. يعني أن الصدقة أوساخ الناس صين عنها آل رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يصانوا عن جوائز السلطان. وذكر عنه أيضا أنه احتج بأن جماعة من الصحابة تنْزهوا عن مال السلطان، منهم حذيفة وأبو عبيدة ومعاذ وأبو هريرة وابن عمر، قال: ولم يرَ أبو عبد الله ذلك حراما، فإنه سئل فقيل له: مال السلطان حرام؟ قال: لا. وفي رواية قال: ليس أحد من المسلمين إلا وله في هذه الدراهم حق، فكيف أقول سحت؟ وقد كان الحسن والحسين وعبد الله بن جعفر وكثير من الصحابة يقبلون جوائز معاوية. قال: ولأن جوائز السلطان لها وجه في الإباحة والتحليل، فإن لها جهات كثيرة من الفيء والصدقة وغيرهما اهـ. [أخذ العلماء أرزاقهم من بيت المال] (قلت): وما زال العلماء في كل عصر يأخذون أرزاقهم من بيت المال ولم ينكر ذلك أحد من أهل الورع ولا غيرهم، ويرونه حلالا. أما أولئك الظلمة الذين جاروا على أهل نجد بغيا وعدوانا، فلا ريب أن ما أخذوه كله ظلم؛ لأنهم إنما جاؤوا بالباطل والظلم والعدوان، فلا يسوغ لهم أخذ شيء مما أباح الله لولاة أهل الإسلام أخذه من زكاة وفيء أو غير ذلك، فما أخذه أولئك ظلم بحت. فلينظر في حال هذا الطاعن على أهل العلم وأمثاله، فإن كانوا قد كرهوا ما أخذه هؤلاء المسرفون المعتدون ولم يقبلوا شيئا منه ولم يبق إلا أنهم جهلوا حكم أموال الفيء، فالمصيبة أهون. وأما إذا كانوا أخذوا من أولئك من تلك الأموال على الوجه الذي ذكرناه، فالمصيبة أعظم، وذلك أنهم حرموا على علماء المسلمين أن يأخذوا ما حل لهم، ويأخذونه من أولئك ويأكلونه حراما صرفا من غير تأويل. وعلى كل حال؛ فإنهم لما رأوا هؤلاء الأشياخ من أقرب الناس دعوة إلى التوحيد وإرشادًا إلى طاعة ربهم واتباع نبيهم، فتوصل شرار أهل نجد بمسبتهم إلى مسبة

الوهابية لا يكفرون إلا بما أجمع العلماء على أنه كفر

الدين لمخالفته أهواءهم، ولا ريب أن هذا تحته كل عيب، ويستدل به العارف على أنه إنما صدر منهم عن شك في حقيقة الإسلام وريب. [الوهابية لا يكفرون إلا بما أجمع العلماء على أنه كفر] ثم إن هذا المعترض قال في سبابه لأهل العلم المشار إليهم سابقا: إنهم نظروا إلى سد باب القبلة ومصر ولم ينظروا إلى أبواب السماء. يشير إلى أنهم وسعوا للمتولي أمرهم في مداهنة تلك الجهات. (فالجواب): إنه لا يخلو إما أن يكون هذا الرجل من أشد الناس غباوة وأجهلهم بأحوال الناس، ولا معرفة له بالواقع أصلا، وإما أنه تعمد الكذب والتشيين لأولئك الأئمة وهو يعرف أنه قد كذب عليهم وافترى، فإن من المعلوم من طريقتهم ورأيهم ونصحهم أنهم لا يجوزون المداهنة في الدين، ولا يرضون ذلك من كبير ولا صغير. ولهذا صار الأعداء يطعنون عليهم بذلك عند مبغضيهم ويقولون: إنهم يكفّرونكم، وحقيقة أمرهم أنهم لا يكفّرون أحدا إلا بعمل صرح القرآن بتكفير فاعله، ولا يقولون على شخص بعينه إنه كافر ولا على جماعة إنهم كفار إلا إذا ارتكبوا أعمالا من المكفّرات وثبت ذلك بطريق من طرق العلم، إما مشاهدة أو سماعا أو تواترا. وقد تقدم عن شيخنا إمام الدعوة الإسلامية أنه قال في جوابه للشريف: إنا لا نكفر إلا بما أجمع العلماء عليه أنه كُفر. وعلى هذا فيقال لهذا الرجل: إذا كان هذا الذي تنسبه إليهم من مداهنة أهل القبلة ومصر عيبا يعاب به من فعله، فأنت ممن داهنهم وأطاعهم وتابعهم وخدمهم، فهلا عبت على نفسك هذا الذي اعترفت بأنه عيب كبير؟ وما مثلك إلا كما قيل في المثل: رمتني بدائها وانسلت. فيقال لإمام المسلمين -أعزه الله بالدين-: تأمل ما ذكره الله في كتابه المبين، واتبِعه، فإن هذا هو الواجب على كل أحد، لا سيما من ولاه الله أمر الناس، فإن الله

فشو الشرك بالدعاء والاستغاثة بغير الله

افترض عليه أن يعمل فيهم بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فإنه لا صلاح لهم بدون ذلك أصلا، علما وعملا. وعليه أن يصلح نفسه بما يرضي الله من إقامة دينه وأن لا يخاف في الله لومة لائم، وأن يحب في الله ويبغض فيه ويوالي لله ويعادي فيه، وأن يميز الناس بتمييز الله، فإن الله ميز أولياءه من أعدائه. ولا شك أن هذا من فرائض التوحيد، وليكن على حذر من الناس وأهوائهم؛ فإنهم لا يرضون إلا بمتابعة أهوائهم، وقد قال تعالى: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ} 1. واعتبِرْ بما جرى من أكثر الناس من أنواع الشرك والظلم والفساد كما قد جرى فيما مضى، كما ذكر العلامة ابن القيم -رحمه الله تعالى- حيث يقول: ولقد رأينا من فريق يدعي الـ ... إسلام شركا ظاهر التبيان جعلوا له شركاء والوهم وسا ... ووهم به في الحب لا السلطان والله ما ساووهمو بالله بل ... زادوا لهم حبًّا بلا كتمان [فشو الشرك بالدعاء والاستغاثة بغير الله] وهذا وأمثاله هو الواقع في هذه الأزمنة، يعرفه من تدبر القرآن وفهم أدلة التوحيد، فلقد كثر هذا الشرك بنوعيه من دعوة غير الله والاستغاثة به وتعظيمه والحلف به، حتى إن بعض الجهال يستنكفون من قول القائل: محمد عبد الله ورسوله فينكرون قوله: عبد الله. ولا ريب أن الله -تبارك وتعالى- شرفه بعبوديته له الخاصة والرسالة. وأما أهل الإسلام على الحقيقة والإيمان فيخلصون إرادتهم وأعمالهم لله -تعالى- وحده دون من سواه، فلا يدعون ولا يرجون ولا يستغيثون ولا يتوكلون ولا يتقربون بنوع من أنواع العبادة إلا إلى ربهم ومليكهم وخالقهم والقائم عليهم والمتصرف فيهم بمشيئته وإرادته، ويعملون بما شرعه لهم في كتابه، وسنه لهم نبيهم صلى الله عليه وسلم من شريعته، معتصمون

_ 1 سورة الجاثية آية:18، 19.

امتحان الله الناس في الفتن للتمييز بينهم

بحبل الله متعاونون على طاعة الله. فاعرف كلا من الفريقين بشواهد الأحوال والأعمال، واستشهد على كل من الفريقين بصريح القرآن وصحيح الأخبار، واستدع بكتب العلماء المحققين العدول الأخيار، فإن البهرج لا يميزه إلا أولو البصائر والاستبصار؛ ومن لم يميز الناس بتمييز الله لهم عظمت مصيبته ودامت حسرته. [امتحان الله الناس في الفتن للتمييز بينهم] فإن الله -وله الحمد- أجرى العادة بمقتضى الحكمة البالغة أن يبتلي عباده بوقوع الفتن ليميز الصادق من الكاذب والمؤمن من المنافق، بما يضمرونه ويظهرونه من ترك طاعته والعمل بمعصيته، ومن هو بخلاف ذلك {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى} 1. قال الله تعالى:? {الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} 2 إلى قوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ} 3 - إلى آخر السياق-. وقال تعالى: {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} 4. وقال تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلا رَسُولِهِ وَلا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} 5. وقد بلا الله أخبار الناس بما جرى في هذه الأعوام وميز بها من قاتل أهل الإسلام وسبهم، ممن والاهم وأحبهم، والله يعلم أنا لم نرد بهذا تشيين أحد أو عداوته، ولكنا تأثمنا من كتمان العلم، ورغبنا في إرشاد العباد إلى طاعة ربهم ومعبودهم، لما ابتُلينا بأناس من أهل نجد يقولون على الله بلا علم، ويتكلمون في أشياء من غير رواية ولا فهم. فكان الواجب على من منحه الله علما أن ينشر منه ما تيسر وقت الاحتياج إليه، وخصوصا في هذه الأزمنة لما قل العلم وكثر الجهل وغلبت الأهواء اشتغل الناس فيه بمحبة دنياهم، وإيثارها على طاعة مولاهم والعمل لأخراهم.

_ 1 سورة النجم آية: 31. 2 سورة العنكبوت آية: 1: 3. 3 سورة العنكبوت آية: 10. 4 سورة آل عمران آية: 179. 5 سورة التوبة آية: 16.

دعاء النبي للمؤمنين الذين عجزوا عن الهجرة معه

والله تعالى هو المرجو المسؤول أن يرفع عنا وعن المسلمين العقوبة، وأن يكتب لنا المثوبة بتحري رضاه، وأن يوفقنا للاستقامة على طاعته وتقواه، وأن يحقق لنا وإخواننا ما طلبناه ورجوناه إنه هو البر الرحيم. وحسبنا الله ونعم الوكيل. [دعاء النبي للمؤمنين الذين عجزوا عن الهجرة معه] واعلم أن هذا الرجل وأمثاله لما امتلأت قلوبهم بالعداوة والبغض وظهرت على صفحات وجوههم وفلتات ألسنتهم، وأتَوا بكل بلية ورمية -كما تقدم- طمعوا فيما هو أعظم من ذلك، وأكبر ضررا مما هنالك. فأوردوا على الجهال شبهات تحسينا لما قد فعلوه، وتزيينا لسبيلهم الذي سلكوه. والعارف إذا نظر إليها علم أنهم قد أقروا على أنفسهم وعلى الذين والوهم وآووهم بما قد لا يصرح به غيرهم فيهم ابتداء فمن ذلك قول بعضهم: إن الله تعالى يقول: {وَلَوْلا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَأُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ} 1 الآية. يشير إلى أنه معذور بإقامته مع هؤلاء كما عذر من أقام من المؤمنين بمكة مع المشركين، فيقال له (أولا): إن هؤلاء الذين سماهم الله مؤمنين لم يظاهروا على المؤمنين مشركا ولا منافقا ولا باغيا ولا ظالما ولا سبوا مؤمنا ولا عادوه. ومنهم من قيده أهله بمكة ومنعوه من الهجرة كأبي جندل بن سهيل. فإنه خرج يوم الحديبية من مكة يرسف بقيوده، فلو أن أحدا منهم سب المسلمين أو عابهم أو أعان عدوهم انتقض إسلامه بلا ريب، لكن الله تعالى حفظهم من هذه الأمور وعذرهم باستضعافهم وعجزهم، ولهذا ثبت في الصحيح وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدعو لهم في الفريضة، كما أخرج البخاري -رحمه الله تعالى- في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد أن يدعو على أحد أو يدعو لأحد قنت بعد الركوع، وربما قال إذا قال سمع الله لمن حمده: "ربنا ولك الحمد اللهم أنج الوليد بن الوليد، وسلمة بن هشام، وعياش

_ 1 سورة الفتح آية: 25.

الظالمون لأنفسهم بترك الهجرة وحالهم عند الموت

ابن أبي ربيعة، والمستضعفين من المؤمنين"1. وقوله: والمستضعفين من المؤمنين هو من عطف العام على الخاص بلا ريب، ومن المحال أن يسميهم الله ورسوله مؤمنين، وقد وقع منهم ما ينافي الإيمان قال الله تعالى: {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} 2، فعلم من هذه الآية أن أولئك المستضعفين من المؤمنين لما كانوا بمكة مع قريش أنهم لم يتخذوهم أولياء من دون المؤمنين ولم يطمعوا منهم بموادة ولا ركون، وحاشاهم من ذلك، فلهذا وصفهم الله بالإيمان وقد أخبر تعالى أن الإيمان ينتفي بموالاة أعدائه كما قال تعالى: {وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} 3. [الظالمون لأنفسهم بترك الهجرة وحالهم عند الموت] قال بعض المفسرين -في الآية الأولى-: من الممتنع أن تجد قوما من المؤمنين يوادّون من حاد الله ورسوله. ويقال أيضا: إن الله تعالى بيّن حال الذين عذرهم عن الهجرة وميزهم بالوصف ممن لم يعذرهم فقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ} 4 قال في شرح البخاري: والسؤال للتوبيخ، أي: لِمَ تركتم الجهاد والهجرة والنصرة؟ {قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} 5. وروى البخاري في صحيحه عن عبد الرحمن بن الأسود قال: "قطع على أهل المدينة بعث، فاكتتبت فيه، فلقيني عكرمة فأخبرته، فنهاني أشد النهي وقال: أخبرني ابن عباس أن أناسا من المسلمين كانوا مع المشركين يكثرون سواد المشركين يأتي السهم فيصيب أحدهم فيقتله أو يضربه فيقتله، فأنزل الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً} 6 الآيتين".

_ 1 البخاري: تفسير القرآن (4560) , ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (675) , وأبو داود: الصلاة (1442) , وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها (1244) , وأحمد (2/ 239 ,2/ 255 ,2/ 396 ,2/ 407 ,2/ 418 ,2/ 470 ,2/ 502 ,2/ 521) , والدارمي: الصلاة (1595). 2 سورة المجادلة آية: 22. 3 سورة المائدة آية: 81. 4 سورة النساء آية: 97. 5 سورة النساء آية: 97. 6 سورة النساء آية: 97.

وعيد من ترك الهجرة إلا المستضعفين

فتأمل كيف ترتب عليهم هذا الوعيد وأوجب لهم النار؟ وقد ورد أنهم كانوا مكرهين على تكثير سواد المشركين فقط، فكيف بمن كثر سوادهم بغير إكراه وأعان وظاهر، وقال وفعل من غير استضعاف ولا إكراه؟ أترى بقي مع هذا شيء من الإيمان والحالة هذه؟ [وعيد من ترك الهجرة إلا المستضعفين] ثم إن الله تعالى بين في هذه الآية من خرج من هذا الوعيد بأوصاف لا تخفى على البليد فقال: {إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا * فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا} 1، فذكر أنهم الذين {لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا} 2، وهم العاجزون عن الهجرة من كل وجه، وهؤلاء هم الذين دعا لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة المتقدم، بخلاف من لم يعجز عن الهجرة، بل اختارهم ورغب إليهم وسكن إليهم ووافقهم وتأيد بهم واستنصر مثل عبد الله بن أبي سرح ومقيس بن صبابة الليثي وأمثالهما مما تزين له الباطل، كجبلة بن الأيهم الغساني، وأمثال هؤلاء كثيرون. نسأل الله الثبات على الإسلام والعفو والعافية في الدنيا والآخرة. والأمر الثاني: استدلالهم على جواز الإقامة مع المشركين أو تركهم الهجرة؛ لأن الصحابة هاجروا إلى الحبشة وفيها نصارى. فيقال: (أولا): لا يجوز عند من له أدنى معرفة أن يستدل على ترك الهجرة بأن الصحابة هاجروا، وكيف يجوز في عقل من له أدنى مسكة من عقل أن يستدل لترك شيء بأن ذلك الشيء الذي تركه قد فعله غيره؟ وقد عرفت أن الله سجل على من ترك الهجرة بالوعيد الشديد وبرئ منه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأثنى على من هاجر، ووعدهم على الهجرة بخيري الدنيا والآخرة كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} 3. وقال: {فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ

_ 1 سورة النساء آية:98: 99. 2 سورة النساء آية: 98. 3 سورة النحل آية: 41.

هجرة الصحابة إلى الحبشة وإكرام النجاشي لهم

دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ} 1، وأي جهل أعظم من جهل من يسوي بين حسنات المقربين الأبرار، وسيئات العصاة الأشرار؟ {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لا يَسْتَوُونَ} 2. [هجرة الصحابة إلى الحبشة وإكرام النجاشي لهم] وهذا سياق قصة مهاجرة الحبشة. قال أبو نعيم في منتقاه من سيرة ابن هشام: قال ابن إسحاق: حدثنا محمد بن مسلم الزهري عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام عن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: "لما نزلنا أرض الحبشة جاورنا بها خير جار -النجاشي-، أمِنا على ديننا وعبدنا الله لا نؤذى ولا نسمع شيئا نكرهه. فلما بلغ ذلك قريشا ائتمروا بينهم أن يبعثوا إلى النجاشي فينا رجلين جَلْدين، وأن يهدوا للنجاشي هدايا مما يستطرف من متاع مكة. وكان من أعجب ما يأتيه منها الأدم، فجمعوا له أدما كثيرا، ولم يتركوا من بطارقته بطريقا إلا أهدوا له هدية، ثم بعثوا بذلك عبد الله بن أبي ربيعة وعمرو بن العاص وأمروهما بأمرهم، وقالوا لهما: ادفعا إلى كل بطريق هديته قبل أن تكلما النجاشي فيهم، ثم قدّما إلى النجاشي هداياه، ثم اسألاه أن يسلمهم إليكما قبل أن يكلمهم. قالت: فخرجا حتى قدِما على النجاشي، ونحن عنده بخير دار عند خير جار ... إلى أن قالت: وكان الذي كلمه جعفر بن أبي طالب. وقال له: أيها الملك كنا قوما أهل جاهلية نعبد الأصنام ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل القوي الضعيف، وكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولا منا نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه، فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان. وأمرنا بصدق الحديث وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكفّ عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش وقول الزور، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنات. وأمرنا أن نعبد الله لا نشرك

_ 1 سورة آل عمران آية: 195. 2 سورة السجدة آية: 18.

حال المسلم الذي يقيم بين المشركين المعادين للإسلام

به شيئا، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام. قالت: فعدد عليه أمور الإسلام، فصدقناه وآمنا به واتبعناه على ما جاء به من الله، فعبدنا الله وحده فلم نشرك به شيئا، وحرّمنا ما حرم علينا، وأحللنا ما أحل لنا. فعدا علينا قومنا وعذبونا وفتنونا عن ديننا ليردونا إلى عبادة الأوثان من عبادة الله، وأن نستحل من الخبائث ما حرم الله علينا. فلما قهرونا وظلمونا وحالوا بيننا وبين ديننا خرجنا إلى بلادك، واخترناك على من سواك، ورغبنا في جوارك، ورجونا أن لا نُظلم عندك أيها الملك. قالت: فقال له النجاشي: هل معك مما جاء به عن الله من شيء؟ قالت: فقال جعفر: نعم، فقال له النجاشي: اقرأه علي، فقرأ عليه صدرًا من {كهيعص} قالت: فبكى النجاشي حتى أخضل لحيته، وبكت أساقفته حتى أخضلوا مصاحفهم حين سمعوا ما تلي عليهم، ثم قال النجاشي: إن هذا والله والذي جاء به موسى لَيخرج من مِشكاة واحدة، انطلقا فلا -والله- لا أسلمهم إليكم ولا أكاد" ثم ساقت القصة. قال ابن إسحاق: وحدثني يزيد بن رُومان عن عروة عن عائشة قالت: لما مات النجاشي كان يتحدث: أنه لا يزال على قبره نور. انتهى. (قلت): وقد أنزل الله في النجاشي وأصحابه آيات في سورة المائدة من قوله: {وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى} 1 إلى قوله: {وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ} 23. وكل من له أدنى معرفة لا يفهم من هذه القصة إلا أنها حجة عظيمة على الهجرة الواجبة من وجوه لا تخفى على البليد، اللهم إلا من ابتلي بسوء الفهم وفساد التصور وكابر العقل والشرع فلا حيلة فيه، يا ربنا نسألك الثبات على الإسلام. [حال المسلم الذي يقيم بين المشركين المعادين للإسلام] وأورد أيضا حديث: "أنا بريء من مسلم بين أظهر المشركين، لا تراءى ناراهما"4، والحجة منه أن النبي صلى الله عليه وسلم سماه مسلما، فيفيدان إقامته بين أظهر المشركين لا تخرجه عن الإسلام.

_ 1 سورة المائدة آية: 82. 2 سورة المائدة آية: 82. 3 الغاية التي ذكرها سهو فإن الآيات الثلاث التي بعدها فيهم أيضا. 4 الترمذي: السير (1604) , وأبو داود: الجهاد (2645).

(فالجواب): أن براءة النبي صلى الله عليه وسلم ممن جلس بين ظهرانيهم إنما كان عقوبة له على مجرد الإقامة بين أظهرهم. وأما إيواؤهم ونقض العهد لهم ومظاهرتهم ومعاونتهم والاستبشار بنصرهم وموالاة وليهم ومعاداة عدوهم من أهل الإسلام، فكل هذه الأمور زائدة على مجرد الإقامة بين أظهرهم، وكل عمل من هذه الأعمال قد توعّد الله عليه بالعذاب والخلود فيه وسلب الإيمان، وحلول السخط به وغير ذلك مما هو مضمون الآيات المحكمات التي قد تقدمت، وكل ذنب من هذه الذنوب له عقوبة تخصه، كلما ازداد منه زاد الله له في العقوبة. فإن لم يؤمن بتلك الآيات المحكمات ويعترف بصدور تلك الأعمال منه فما أشبه حاله بحال من قال الله فيهم: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ} 1. واعلم أن هؤلاء المشركين لا يرضون من هذا وأمثاله بمجرد الموالاة والنصرة دون عبادتهم وتسويتهم لهم بالله في التعظيم والإجلال والتودد إليهم. فمن ذلك الانحناء لهم والإشارة باليد إلى أشرف أعضاء السجود وهو الجبهة والأنف. وكل ذلك من خصائص الإلهية، وذلك أمر لا محيد لهم عنه، كما قال تعالى عن أهل الكهف: {إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا} 2. ولهذا لم يجدوا من مفارقتهم بُدا، حتى ذهبوا إلى غار في رأس جبل خوفا من ذهاب دينهم فآثروا الله على كل ما سواه. قال شيخنا -في هذه القصة-: فيه اعتزال أهل الشرك واعتزال معبوداتهم وقوله: {فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ} 3 فيه شدة صلابتهم في دينهم حيث عزموا على ترك الرياسة الكبرى والنعمة العظيمة واستبدلوا بها كهفا في رأس جبل. (قلت): ومثل ذلك ما ذكره الله عن سحرة فرعون لما استنارت قلوبهم

_ 1 سورة البقرة آية: 85. 2 سورة الكهف آية: 20. 3 سورة الكهف آية: 10.

شبهة استئجار أبي بكر لعبد الله بن أريقط والرد عليها

بالإيمان قالوا لفرعون لعنه الله: {لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} 1. واعلم أن حقيقة حال هؤلاء المشبهة أن الله تعالى أمر بقتال المشركين فقاتلوا معهم، وأمرهم بالبعد عنهم فآووهم وقربوا منهم، وأمر بمعاداتهم فوالوهم، وأمرهم ببغضهم فوادوهم، وأمرهم بأن ينصروا أهل الإسلام فاستنصروا بالكفرة عليهم، ونهوا عن مداهنتهم فداهنوهم. ونهاهم عن كتمان ما أنزل الله من هذا وغيره فكتموه وشبهوا كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} 2. وقال: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ} 3 الآية. فجمعوا بين الكتمان والرد على من بين ولم يكتم، والتشبيه والجدال بالباطل، فتركوا ما أوجب الله عليهم وارتكبوا ما حرم عليهم. وهذا ظاهر جدا لا يرتاب فيه من له أدنى معرفة بالناس وما وقع منهم، فلا يأمنهم ويقربهم بعد هذه العظائم إلا من سفه نفسه. [شبهة استئجار أبي بكر لعبد الله بن أريقط، والرد عليها] ولهم شبهة أخرى، وهي أن أبا بكر استأجر عبد الله بن أريقط في طريق الهجرة إلى المدينة وكان هاديا خِرِّيتا يدلهم على الطريق، فأحسن رسول الله صلى الله عليه وسلم صحبته؛ فتكون صحبة العسكر وإعانتهم على المسلمين ونصرتهم لا بأس بها. فيقال: (أولا): قد ذكرت في الشبهة التي قبل هذه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أنا بريء من مسلم بين أظهر المشركين"4 وهذا يناقض ما استدللت به هنا، وحاشا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتبرأ من صاحب عمل وهو يفعله، ومثل هذا قوله: "من جامع المشرك أو ساكنه فهو مثله"5. والآيات المحكمات صريحة في التحذير من موالاتهم ناطقة بالوعيد الشديد على موادتهم ونصرتهم. إذا عرف هذا فالفرق بين الدليل والمدعى أبعد مما بين المشرق والمغرب

_ 1 سورة طه آية: 72. 2 سورة البقرة آية: 174. 3 سورة البقرة آية: 174. 4 الترمذي: السير (1604) , وأبو داود: الجهاد (2645). 5 أبو داود: الجهاد (2787).

وذلك أن ابن أريقط أعان رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبر البر بعد الإسلام، وأفرض الفرائض بعد الإيمان، وسعى لرسول الله صلى الله عليه وسلم في مصالحه التي يتوصل بها إلى رضاء مولاه، ومراغمة أعدائه. ولا ريب أن هذا لو صدر من ابن أريقط بنية لكان من أفضل الأعمال، فإذا أسلم كتب له ذلك من أفضل حسناته على حديث حكيم: "أسلمت على ما أسلفت من خير"، بخلاف من آوى المشركين ورضي بهم بدلا من المسلمين وأعانهم، واستنصر بهم وفرح بنصرهم وظهورهم، ودعا الناس إلى متابعتهم. فالفرق بين الفعلين كالفرق بين فعل أبي طالب من النصرة والحياطة والحماية، وفعل أبي جهل وعقبة بن أبي مُعيط والنضر بن الحارث، فلو أسلم أبو طالب لكان فعله من أعظم القربات، وفعل أبي جهل وأمثاله من أعظم الكفر الموصل إلى الدركات في العذاب وحلول المثُلات، فأين من أعان الباطل ووادّ أهله ونصرهم وظاهَرهم ممن أعان المسلمين وسعى في مصالحهم وراغم عدوهم؟ سارت مشرقّة وسرت مغرّبا ... شتان بين مشرّق ومغرّب فابن أُريقط فعل خيرا جره إلى الإسلام كما جر سراقة بن مالك، وقد فعل من النصيحة في حال كفره ما يحمد به باطنا وظاهرا، بخلاف من والى المشركين ونصح لهم فإنه قد وقع في الوعيد والسخط والمقت وفساد الدين، ومفارقة المؤمنين، والله أعلم بما يؤول إليه حال أعيان أولئك الضُلَّال، لكنه يخشى عليهم أن يصيبهم مثل ما قصه الله في شأن بلعام، وكذلك أهل مسجد الضرار، وقد كانوا قبل ذلك في عداد الأنصار. فيا مقلّب القلوب ثبّت قلوبنا على الإيمان. ولا ريب أن عدول هذا المستدل عن الآيات المحكمات وصحيح الأخبار ترك للمحكم واتباع للمتشابه، وقد قال تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ

مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ} 1 الآية. وعن عائشة -رضي الله عنها- مرفوعا "إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه، فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم"2. وحاصل ما قدمنا من الجواب على ما أورده المشبه هنا يتضمن خمسة أوجه: (الأول): أن ابن أريقط أجير ومن شأن الأجير أن يخدم المستأجر؛ لأنه ملك منافعه بعقد الإجارة، والأجير تحت المستأجر. (الوجه الثاني): أن ذلك مستأجر في مصلحة دينية هي من أكبر مصالح الدين، فإعانته للمسلم وقت الحاجة إليه لا محذور فيها لكونها مصلحة محض، فكيف يجوز أن يستدل بذلك على ما هو أعظم المفاسد في الدين من موالاة المشركين وإعانتهم على باطلهم والصد عن سبيل الله؟ شتان بين الحالتين فمن يرد ... جمعا فما الضدان يجتمعان (الوجه الثالث): أن استئجار الكافر للمصلحة نظير استرقاق الكافر، وذلك جائز بخلاف العكس، فإنه لا يجوز؛ لأن الإسلام يعلو ولا يعلى عليه. وهذا المشبه كأمثاله صاروا لأهل مصر 3 كالمماليك في طاعتهم، ومتابعتهم، وإعانتهم اختيارا منهم لا اضطرارا. (الوجه الرابع): أن ما فعله ابن أريقط لا يعاب عليه عقلا ولا شرعا بل قد يثاب عليه في حال كفره في الدنيا، وربما صار سببا لإسلامه لقربه من الإسلام بإعانة أهله على طاعة ربهم، بخلاف من أعان على معصية الله والصد عن سبيله، فأين من كان مع أهل الحق ممن كان مع عدوهم؟ وهل سمعت بتفاوت أعظم من هذا التفاوت؟ والله ما اجتمعا ولن يتلاقيا ... حتى تشيب مفارق الغربان

_ 1 سورة آل عمران آية: 7. 2 البخاري: تفسير القرآن (4547) , ومسلم: العلم (2665) , والترمذي: تفسير القرآن (2994) , وأبو داود: السنة (4598) , وأحمد (6/ 124 ,6/ 256) , والدارمي: المقدمة (145). 3 المراد من أهل مصر الجنود الذين قاتلوا جماعة المؤلف وكانوا من شعوب مختلفة وأصل الكلام في الذين ساعدوهم من أهل الحجاز وغيرهم.

(الوجه الخامس): أن ما فعله ابن أريقط يغيظ كفار قريش، وإغاظة الكفار يحبها الله تعالى، بخلاف من يفعل معهم ما يسرهم ويغيظ عدوهم من المؤمنين، فأين هذا من هذا لو كانوا يعلمون؟ والبصير يعلم أن هذا التشبيه من هؤلاء على العوام صد لهم عن سبيل الله، وأنه من آثار عقوبة تلك الأعمال. اللهم إنا نعوذ بك أن نفتن عن ديننا، وأن نرد على أعقابنا، وحسبنا الله ونعم الوكيل، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيد المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين وسلم تسليما. وهذا آخر ما تيسر جمعه، والله أسأل أن يعمم بنفعه أملاه وجمعه الفقير إلى الله تعالى عبده عبد الرحمن بن حسن بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب وكتبه الفقير إلى الله عبده علي بن عبد الله البواردي وذلك في سنة 1261 من هجرته صلى الله عليه وسلم وكتبه من قلم كاتبه حرفا بحرف عبده الفقير إليه عبد الله بن إبراهيم الربيعي وذلك في 25 صفر سنة 1346 وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرًا آمين

كتاب بيان كلمة التوحيد والرد على الكشميري عبد المحمود

كتاب بيان كلمة التوحيد والرد على الكشميري عبد المحمود تأليف شيخنا وإمامنا، ناصر السنة، وقامع البدعة الشيخ عبد الرحمن بن الشيخ حسن بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب أجزل الله لهم الأجر والثواب آمين من مطبوعات صاحب الجلالة السعودية ومحيي السنة المحمدية الإمام عبد العزيز آل سعود ملك الحجاز ونجد وملحقاتها وقد وقفه على من ينتفع به من أهل العلم والدين لا يحل لمن وقع بيده بيعه

قال الشيخ الإمام شيخ الإسلام عبد الرحمن بن حسن بن شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب -رحمهم الله تعالى- آمين -ورضي عنهم-: بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولا مثل ولا معين، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله سيد الأولين والآخرين، صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليما. اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات، وألف بين قلوبهم، وأصلح ذات بينهم، وانصرهم على عدوك وعدوهم، واهدهم سبل السلام، وأخرجهم من الظلمات إلى النور، وجنبهم الفواحش ما ظهر منها وما بطن، واجعلهم شاكرين لنعمتك، مثنين بها عليك، فاقبلها منهم وأتمها عليهم. اللهم انصر دينك وكتابك ورسولك وعبادك المؤمنين. اللهم أظهِر دينك دين الهدى، ودين الحق الذي بعثت به نبيك محمدا صلى الله عليه وسلم على الدين كله. اللهم عذب الكفار والمنافقين الذين يصدون عن سبيلك، ويبدلون دينك، ويعادون عبادك المؤمنين، اللهم خالف بين كلمتهم، وشتت بين قلوبهم، واجعل تدميرهم في تدبيرهم، وأدر عليهم دائرة السوء، اللهم أنزل بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين، اللهم منَزل الكتاب، ومجري السحاب، وهازم الأحزاب، اهزمهم وزلهم وانصرنا عليهم، اللهم أعنا ولا تعن علينا، واهدنا ويسر الهدى لنا، وانصرنا على من بغي علينا. اللهم اجعلنا شاكرين

دعوة الرسل كلهم إخلاص العبادة لله وحده

ذاكرين مطاويع إليك مخبتين، أواهين منيبين، اللهم تقبل توبتنا واغسل حوبتنا واهد قلوبنا وثبت حجتنا، واسلل سخيمة صدورنا يا رب العالمين. (أما بعد): فاعلموا معشر الإخوان أن الله تعالى أرسل رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم بالهدى ودين الحق ليخرج الناس من الظلمات إلى النور، وعرفهم ما خلقوا له من إخلاص العبادة لله وحده لا شريك له، وترك عبادة ما كانوا يعبدونه من دون الله، والرغبة عن عبادة غيره والبراءة منها والكفر بالطاغوت -وهو الشيطان- وما زينه من عبادة الأوثان. فدعا قريشا والعرب إلى أن يقولوا لا إله إلا الله لما دلت عليه من بطلان عبادة كل ما يعبد من دون الله، وإخلاص العبادة لله وحده دون كل ما سواه. وهذا هو التوحيد الذي خلق الله الخلق لأجله، وأرسل الرسل لأجله، وأنزل الكتب لأجله. وهو أساس الإيمان والإسلام ورأسه، وهو الدين الحق الذي لا يقبل الله من عبد دينا سواه. قال الله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} 1 أي: يوحدون، وقال تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} 2، وهذه الآية تفسر الآية قبلها. وتبين أن المراد بالعبادة التوحيد، وأن يكون سبحانه وتعالى هو المعبود وحده دون كل ما سواه، والقرآن كله في تقرير هذا التوحيد وبيانه، وبين ذلك قوله تعالى: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} 3. [دعوة الرسل كلهم إخلاص العبادة لله وحده] والرسل عليهم الصلاة والسلام افتتحوا دعوتهم لقومهم بهذا التوحيد {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} 4. وقال تعالى: {وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا، إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ

_ 1 سورة الذاريات آية: 56. 2 سورة الإسراء آية: 23. 3 سورة يوسف آية: 40. 4 سورة المؤمنون آية: 32.

كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} 1. وقوله: {فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ} 2 يعني قوم نوح وعاد وثمود وأصحاب مدين والمؤتفكات، وهم قوم لوط، وقد قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ} 3. وكل رسول يدعو قومه إلى أن يخلعوا عبادة ما كانوا يعبدونه من دون الله ويخلصوا أعمالهم كلها عن الأصنام والأوثان التي اتخذوها وجعلوها أندادا لله بعبادتهم، كما قال تعالى: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ} 4. وهذا هو معنى لا إله إلا الله لا يشك في هذا مسلم كما قال تعالى: {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} 5، فأجابوه بقولهم: {قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ، وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ، وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ * إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ، قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ، وَاشْهَدُوا، أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ} 6. وهذا هو المنفي في كلمة الإخلاص {أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِهِ} 7 كما قال تعالى مخبرا عن جميع رسله أنهم قالوا لقومهم: {إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} 8. والإيمان بالله وحده هو البراءة مما كانوا يعبدونه من الأصنام والأوثان وإخلاص العبادة لله وحده؛ لا يرتاب في هذا مسلم. فمن شك في أن هذا هو معنى لا إله إلا الله فليس معه من الإسلام ما يزن حبة خردل. والقرآن أفصح عن معنى لا إله إلا الله في آيات كثيرة يطول الكتاب بذكرها، ويأتي بعضها إن شاء الله في هذا الجواب. وأنتم معشر المخاطبين بهذا قد تقرر عند من له علم فيكم حتى العامة من أكثر

_ 1 سورة العنكبوت آية:16: 18. 2 سورة العنكبوت آية: 18. 3 سورة النحل آية: 36. 4 سورة يس آية: 74. 5 سورة الأعراف آية: 65. 6 سورة هود آية: 53. 7 سورة هود آية: 54. 8 سورة الممتحنة آية: 4.

ورقة في معنى كلمة التوحيد لكاتب مجهول

من مائة وثلاثين سنة أن هذا هو التوحيد الذي بعث الله به رسله وأنزل به كتبه، فما بال أناس يرغبون عما عرفوه وعُرفوه من كتاب الله وسنة رسوله إلى طلب العلم ممن لم يعرف هذا التوحيد ولا نشأ في تعلمه ولا عرفه، كما هو ظاهر في كلامه؟ يعرف من له عقل وبصيرة أنه لا يتكلم به إلا من لم يعرف ما بعث الله به المرسلين من توحيد رب العالمين. وقد علمتم معشر الموحدين ما حال بين كثير من الناس وبين معرفة التوحيد من العوائد الشركية والشبهات الخيالية لما افترقت الأمة إلى ثلاث وسبعين فرقة. فلقد عظمت نعمة الإسلام على من عرفها وقبلها وأحبها وصار مستيقنا بها قلبه، مخلصا صادقا، ورزق الثبات والاستقامة على ذلك، فيا لها من نعمة ما أعظمها وموهبة ما أجملها! نعوذ بالله أن يصدف عنها صادف أو يصرف عنها صارف، ونعوذ بالله من مُضلّات الفتن ما ظهر منها وما بطن. فاتقوا الله عباد الله وارغبوا فيما كنتم فيه من نعمة الإسلام والإيمان، وجددوا وجدوا واجتهدوا في معرفته على الحقيقة بأدلته وبراهينه التي نصبها عليه رب العالمين في كتابه المبين، وبينها لكم نبيه الصادق المصدوق الأمين، -صلوات الله وسلامه عليه وعلى من اتبعه إلى يوم الدين-. [ورقة في معنى كلمة التوحيد لكاتب مجهول] ثم إنه قد تكلم غريب في معنى لا إله إلا الله لا يعرف ما هو ولا ممن هو؟ وكتب في ذلك ورقة تبين فيها من الجهل والضلال ما سنذكره لكم حذرًا وتحذيرًا وإعذارًا وتعذيرًا، والقلوب بين أصابع الرحمن، نسأل الله الثبات على الإسلام والإيمان. ذكر ما في الورقة: قال: الحمد لله المتوحد بجميع الجهات. (الجواب) وبالله التوفيق: لا يخفى على من له ذوق وممارسة ومعرفة بمذاهب المبتدعة أن هذا لفظ لا معنى له إلا على قول أهل الحلول من الجهمية ومن تابعهم؛ فإنهم يقولون: إن الله تعالى حالّ في جميع الجهات وفي كل مكان، ويجحدون ما تقرر

غلط كثير من الطوائف في مسمى التوحيد

في القرآن من علو الله على جميع خلقه واستوائه على عرشه {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا} 1. وهذا الرجل إنما تكلم بألسنتهم، فهذا محصوله من العلم الذي ادعاه قد ظهر واستبان على صفحات وجهه، وفلتات اللسان. وأهل السنة ينكرون هذه الألفاظ، ويشيرون إلى ما فيها من دسائس أهل البدع أسوة أمثال هذا من الفلاسفة وأهل الوحدة وغيرهم ممن لم يستضئ بنور العلم، ولم يلجأ إلى ركن وثيق، فلا تنظر إلى منظر الرجل وانظر إلى مخبره. [غلط كثير من الطوائف في مسمى التوحيد] وقد غلط أكثر الفرق الثلاث والسبعين في مسمى التوحيد، وكل فرقة لها توحيد تعتقد أنه هو الصواب حتى الأشاعرة القائلين بأن معنى الإله: الغني عما سواه، المفتقر إليه ما عداه 2، ويقولون أنهم أهل السنة وهيهات هيهات، ولم يصبر منها على الحق إلا فرقة واحدة وهم الذين عرفوا التوحيد على الحقيقة من الآيات المحكمات وصحيح السنة. جعلنا الله وإياكم من الفرق الناجية. وقد أشار شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- إلى هذا المعنى فقال: "وقد غلط في مسمى التوحيد طوائف من أهل النظر والكلام، ومن أهل الإرادة والعبادة".* وهذا يفيد الحذر من مخالطة كل من لا يعرف دينه، وقد كان بعض العلماء إذا دخل عليه مبتدع جعل أصبعيه في أذنيه حتى يفارقه حذرًا من أن يلقي إليه كلمة تفتنه. فارجعوا رحمكم الله إلى صريح القرآن فإنه حبل الله المتين والذكر الحكيم والصراط المستقيم، وهو النور كما قال تعالى: {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} 3.

_ 1 سورة الإسراء آية: 43. 2 هذه العبارة هي التي بنى عليها السنوسي عقيدته الصغرى المشهورة وزعم أنها معنى كلمة التوحيد واستنبط الصفات السلبية والثبوتية منها وما هي إلا من لوازمها، وما كل الأشعرية يقول بأنها معناها. * كتاب "اقتضاء الصراط المستقيم" 2/ 385. [معد الكتاب للمكتبة الشاملة] 3 سورة المائدة آية: 15، 16.

الرد على تفسير الورقة لكلمة إله

[الرد على تفسير الورقة لكلمة إله] ثم إن هذا قال في ورقته: اعلم أن الإله هو المعبود فقط غير مقيد بقيد الحقيقة والبطلان إذ اشتقاقه من ألهه، إذا عبده، يوجب اتحاده معه في المعنى لعدم وجوده بدونه، إذ الاشتقاق وجود التناسب في اللفظ والمعنى. (فالجواب): أن نقول: سبحان الله، كيف يشكل على من له أدنى مسكة من عقل ما في هذا القول من الكذب والضلال والإلحاد والمحال؟ فلقد صادم الكتاب والسنة والفطر والعقول واللغة والعرف. أما مصادمته الكتاب والسنة فإن الله تعالى يقول: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ} 1 في عدة مواضع من الكتاب والسنة، فالله تعالى الحق وعبادته وحده هي الحق أزلا وأبدا، وما يدعى من دونه هو الباطل قبل وضع اللغات وبعدها، وهذا لا يمتري فيه مسلم أصلا. وأما مصادمته للعقل: فإن كلّ مألوه معبود ولا بد أن يكون حقا أو باطلا، فإن كان هو الله فهو الحق سبحانه كما في حديث الاستفتاح الذي رواه البخاري وغيره: "ولك الحمد، أنت الحق، ووعدك حق"2. وإن كان المعبود غيره فهو باطل بنص القرآن. والقرآن كله يدل على أن الله هو الحق وأن ما يدعى من دونه فهو باطل. وأما مخالفته للفطر: فباتفاق الناس على ما دل عليه الكتاب والسنة والمعقول، حتى أهل البدع من كل طائفة لا يقول بهذا القول الذي قاله هذا أحد منهم، لكن كل طائفة تدعي أنها أسعد من غيرها بالدليل، على ما في أدلة كل طائفة من التحريف والتأويل. وأما مخالفته للغة: فلا ريب أن الواضع وضَع الألفاظ بإزاء معانيها، فكل لفظ وضع لمدلوله الذي وضع له لأجل الدلالة عليه، والواضع وضع الألفاظ دالة على معانيها، فاللفظ دال والمعنى مدلوله، يعرف هذا كل من له أدنى مسكة من عقل. وكل ما ذكرناه لا نزاع فيه ولا يعرف أن أحدا قال بخلاف ما ذكرنا.

_ 1 سورة الحج آية: 62. 2 البخاري: الجمعة (1120) , ومسلم: صلاة المسافرين وقصرها (769) , والترمذي: الدعوات (3418) , والنسائي: قيام الليل وتطوع النهار (1619) , وأبو داود: الصلاة (771) , وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها (1355) , وأحمد (1/ 298 ,1/ 308 ,1/ 358) , ومالك: النداء للصلاة (500) , والدارمي: الصلاة (

أصل دعوة الرسل عبادة الله وحده

وواضع اللغة قال بعض العلماء: هو الله تعالى، وقال بعضهم وضعها غيره من بني آدم المتقدمين بإلهام منه تعالى وجبلة جبلهم عليها. واللغات وإن تعددت فهي بإلهام من الله، وبها يعرف مراد المتكلم ومقصوده. إذا عرفت ذلك، فيلزم على قول هذا الجاهل أن الملائكة قبل خلق آدم وذريته كانت عبادتهم لله تعالى غير مقيدة بحق ولا باطل، وهذا اللازم باطل فبطل الملزوم. وكذلك عبادة آدم وذريته قبل حدوث الشرك في قوم نوح لا توصف عبادتهم لله بأنها حق أو باطل، وهذا اللازم باطل، فبطل الملزوم. وكذلك قوم نوح لما عبدوا آلهتهم، وقالوا لما دعاهم نوح عليه السلام: {لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} 1، فيلزم على قول هذا أن عبادتهم لتلك الأصنام ليست باطلة، وهذه اللوازم الباطلة تلزمه، وببطلانها يبطل ملزومها الذي ذكرناه عنه. وأيضا ففي قوله هذا مضاهاة لقول ابن عربي إمام أهل الوحدة: وعباد عجل السامري على هدى ... ولائمهم في اللوم ليس على رشد فمن وجد خيرا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه. فلا تعجب، فكل صاحب بدعة لا بد أن يجادل عن بدعته، والعلم نور يهبه الله لمن يشاء من عباده وهو معرفة الهدى بدليله، والناس ليسوا كلهم كذلك إلا أقل القليل الذين تمسكوا بالكتاب والسنة وما عليه سلف الأمة وأئمتها علما وعملا، ومن تدبر القرآن رأى العجب فيما قصه الله تعالى عن الرسل مع أممهم قديما وحديثا كما قال تعالى: {مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ * كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ} 2. [أصل دعوة الرسل عبادة الله وحده] فإذا كان الكلام في بيان معنى لا إله إلا الله؛ فإن الله تعالى هو الذي تولى بيانه في مواضع

_ 1 سورة نوح آية: 23. 2 سورة غافر آية: 4.

من كتابه وأجمعت عليه الرسل من أولهم إلى آخرهم، كما قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} 1 بل القرآن كله في بيان معناها، كما قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} 2 أي: إليها من البراءة من عبادة كل معبود سوى الله، وإخلاص العبادة له تعالى كقول إمام الحنفاء -عليه الصلاة والسلام- في هذه الآية {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انْفِصَامَ لَهَا} 3 وهي لا إله إلا الله، وقال تعالى: {وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ} 4. والطاغوت: الشيطان وما زينه للمشركين من عبادة معبوداتهم التي كانوا يعبدونها من دون الله تعالى، كأصنام قوم نوح وأصنام قوم إبراهيم، واللات والعزى ومناة، وما لا يحصى كثرة في العرب والعجم وغيرهم، وهي موجودة في الخارج معينة معلومة الوجود كأصنام قوم نوح وغيرها مما لا يحصى كثرة. فمن قال: لا إله إلا الله بصدق وإخلاص وتعيين، فقد برئ من كل معبود يعبد من دون الله ممن كان يعبده أهل الأرض. وهذه الكلمة دلت على البراءة من الشرك والكفر به تضمنا، ودلت عليه وعلى إخلاص العبادة لله تعالى مطابقة، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} 5 بيّن تعالى أن الحكمة في خلق الجن والإنس أن يعبدوه وحده لا شريك له ومن المعلوم أنه خلق الجن قبل الإنس، فيلزم على هذا القول الفاسد الذي أبداه هذا الجاهل أن العبادة التي خلق تعالى لها الثقلين لا توصف بحق ولا باطل حين خلقهم لها. واللازم باطل فبطل الملزوم. وهذا الموضع الذي بيّنا بطلانه بالمعقول والمنقول هو ثاني موضع زلت فيه قدم هذا الذي يدعي أنه على شيء وليس معه شيء يلتفت إليه بما يوجب إنكاره عليه، وقد قال تعالى: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} 6. وقال تعالى: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأَمْرِ

_ 1 سورة الأنبياء آية: 25. 2 سورة الزخرف آية: 26: 28. 3 سورة البقرة آية: 256. 4 سورة الزمر آية: 17. 5 سورة الذاريات آية: 56. 6 سورة العنكبوت آية: 51.

قول الورقة: إن الإله مشتق من ألهه

فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ * إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ} 1. وقال تعالى: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} 2. وعن زياد بن حدير قال: قال لي عمر: هل تعرف ما يهدم الإسلام؟ قلت: لا. قال "يهدمه زلة العالم، وجدال المنافق بالكتاب، وحكم الأئمة المضلين" رواه الدارمي. فرضي الله تعالى عن أمير المؤمنين عمر كأنه ينظر إلى ما وقع في هذه الأمة من جدال أهل الأهواء بالكتاب، وكثرة الآراء المخالفة للحق التي بها كثر أهل الضلال، وكثرت بها البدع، وتفرقت الأمة واشتدت غربة الإسلام، حتى عاد المعروف منكرا والمنكر معروفا، والسنة بدعة والبدعة سنة، نشأ على هذا الصغير، وهرم عليه الكبير. وما أحسن ما قال بعض السلف: "لا تستوحش من الحق لقلة السالكين، ولا تغتر بالباطل لكثرة الهالكين". وقال بعضهم: "ليس العجب ممن هلك كيف هلك إنما العجب ممن نجا كيف نجا". فالناصح لنفسه يتهم رأيه وهواه، ويرجع إلى تدبر كتاب الله سبحانه لا إله غيره ولا رب سواه، وإلى ما سنه الرسول -صلى الله عليه وسلم- وما عليه سلف الأمة وأئمتها قبل حدوث الأهواء وتفرق الآراء، وليكن من الشيطان وجنده على حذر. اللهم اجعلنا هادين مهتدين غير ضالين ولا مضلين، سِلما لأوليائك. حربا لأعدائك، نحب بحبك من أحبك، ونعادي بعداوتك من خالفك. اللهم هذا الدعاء وعليك الإجابة، اللهم هذا الجهد وعليك التُكلان. [قول الورقة: إن الإله مشتق من ألهه] وأما قول هذا في ورقته: (إذ اشتقاقه من ألهه بوجوب اتحاده معه في المعنى). (أقول): قد عرفتم ما ذكرناه من تناقضه في هذه العبارة وما قبلها، وقد أخطأ أيضا فيما عبر به عن الاشتقاق من وجهين: (الأول): أنه جعل ألهه مشتقا منه وهو فهل يشتق ولا يشتق منه، والمصدر

_ 1 سورة الجاثية آية: 18، 19. 2 سورة الأعراف آية: 3.

قول الورقة: إن العرف خص معنى الإله بالمعبود بحق

هو الذي يشتق منه الفعل كما قال في الخلاصة 1: * وكونه أصلا لهذين انتخب * ومصدره أله إلاهة قال في القاموس: أله إلاهة وألوهة وألوهية: عبد عبادة. ومنه لفظ الجلالة وأصله إله كفعال بمعنى مألوه، وكل ما اتخذ معبودا إله عند متخذه. انتهى. (الوجه الثاني): قوله: ألهه إذا عبده فجعل عبده مشتقا من ألهه وهو من غير مادته وهو فعل أيضا، فإن عبده مشتق من عبادة يقال: عبده عبادة فمادته عبد لكن، عبد تفسير لأله فاتفقا في المعنى لا في اللفظ. وأيضا فقوله: ألهه إذا عبده يناقض ما سلف من كلامه. وأما قوله: يوجب اتحاده معه في المعنى لعدم وجوده بدونه. (فالجواب): أن قوله: يوجب اتحاده معه في المعنى، ليس كذلك بل لا بد أن يتضمن أحدهما وهو الفعل معنى المصدر وزيادة لدلالته على الحدث والزمان، والمصدر إنما يدل على الحدث فقط، وهذا أمر معروف عند النحاة وغيرهم، محسوس. فعبارته تدل على أنه لا يعرف معنى الاشتقاق الذي ذكره العلماء، ولو سئل عن معناه لما أجاب، ولكنه خلا بأناس عظموه في نفسه فأراد أن يأخذ العلوم بمجرد الدعوى. ومن نظر في كلامه عرف أنه لا شيء هناك فتجده يأتي بعبارات متضمنة لجهالات لم يسبقه إليها سابق كما قد عرفتم وتعرفونه فيما يأتي من كلامه وما فيه من التناقص، فما أقبح جهل من يدعي العلم، وما أفحش خطأ من يدعي الفهم. والله أسأل أن يُوزِعنا شكر ما أنعم به علينا مما علمناه وفهمناه. فلله الحمد لا نحصي ثناء عليه، ونسأله الثبات والاستقامة، والعفو والعافية في الدنيا والآخرة، ولكل من عرف الإسلام وقبله ودان به، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. [قول الورقة: إن العرف خصَّ معنى الإله بالمعبود بحق] وأما قوله: ثم استعمل في العرف على الأغلب والأكثر على المعبود بحق لعدم تحقق العبادة إلا بعد اعتقاد العابد استحقاق المعبود لها. وإلا فلا تسمى عبادة.

_ 1 المعروفة بألفية ابن مالك.

(فالجواب): أن قوله: ثم استعمل في العرف أي: بعد أن كان الإله المعبود لغة غير مقيد بقيد الحقيقة والبطلان كما تقدم صريحا في كل أمة. فليت شعري، متى هذا العرف الذي وضع للألفاظ اللغوية معناها؟ ومن هم أهل هذا العرف؟ هل كانوا في قوم نوح أو قوم هود، فيسأل هذا متى كانوا؟ فما أقبح هذه الأقوال المختلقة التي غايتها التمويه والتلبيس! فلا منقول ولا معقول ولم يسبقه إليها أحد. وقدم تقدم ما يلزم على هذا القول من اللوازم الباطلة، فتبين أن قوله هذا كذب على اللغة لا يعرف عن أحد لغوي ولا عن عربي، والعرف لا يغير اللغة عن أصلها لفظا ومعنى. وهذه كتب اللغة كالقاموس وصحاح الجوهري وغيره ليس فيها ما يدل على هذا القول الباطل، فيكون قد كذب على اللغة والعربية وعلى غيرها من اللغات، وعلى كتاب الله وسنة رسوله. وقال شيخ الإسلام أحمد بن تيمية -رحمه الله تعالى-: الإله هو الذي تألهه القلوب محبة ورجاء وتوكلا وغير ذلك من أنواع العبادة، وهذا قول أهل السنة قاطبة لا يختلف فيه اثنان.* وأما قوله: (على الأغلب والأكثر على المعبود بحق) فمفهومه أنه يستعمل في غير الأغلب والأكثر على غير المعبود بحق، فهذا صحيح لكنه لا يختص بالعرف بل هو في اللغة كذلك، فإذا كان يطلق على غير المعبود بحق كما تفهمه كل أمة، فهذا حجة عليه؛ فإن جميع الأصنام والأوثان وما يعبد من دون الله كلها آلهة معبودة بغير حق، باطلة بكلمة الإخلاص لا إله إلا الله. ففيها النفي والإثبات، كما سيأتي بيان ذلك. وكل ما نفته لا إله إلا الله من الأصنام والأنداد فليس كليا لا يوجد إلا ذهنا كما يقوله المفتري أفلاطون الفيلسوف وشيعته، وإنما كانت أشخاصا متعددة يباشرها عبادها بالعبادة بالدعاء، والاستغاثة والاستشفاع بها، والعكوف عندها، والتبرك بها كأصنام قوم نوح، وأصنام قوم عاد القائلين: {إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ

_ * لم أجد هذا اللفظ بعينه، ولكن ورد تعريف (الإله) في عدة مواضع؛ مثل: "مجموع الفتاوى" (11/ 524)، و"الواسطة بين الحق والخلق" (ص 42)، و"قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة" (ص 333)، و"الرد على البكري" (1/ 141)، و"درء التعارض" (9/ 377)، وغيرها. [معد الكتاب للمكتبة الشاملة]

النفي والإثبات في كلمة التوحيد

آلِهَتِنَا بِسُوءٍ} 1. وأصنام نمروذ التي تبرأ منها خليل الرحمن بقوله: {إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ} 2 أي: هذه الكلمة، وهي عبادة الله وحده لا شريك له، وخلع ما سواه من الأوثان، وهي لا إله إلا الله، وجعلها في ذريته باقية {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} 3 أي: إليها. [النفي والإثبات في كلمة التوحيد] فالخليل -عليه السلام- فسر لا إله إلا الله بمدلولها من النفي والإثبات، فالنفي في قوله: {إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ} 4، فالبراءة منها وإبطالها نفيها، وقوله: {إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي} 5 استثنى الإله الحق الذي لا تصلح العبادة إلا له، وهو الذي فطره أي: خلقه، وخلق جميع المخلوقات {رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ} 6. وقد قال تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} 7 {فَإِنْ تَوَلَّوا} أي: عما تدعوهم إليه من عبادة الله وحده لا شريك له، والرغبة عما كانوا يعبدونه من دون الله كالمسيح وأمه عليهما السلام. فإن سبب نزول الآية في نصارى نجران وكانوا يعبدون آلهة أخرى، فقوله: {أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ} 8 ينفي كل معبود سوى الله ويثبت العبادة لله وحده التي لا يستحقها غيره. وهذا ظاهر جلي لا يخفى على من له أدنى بصيرة، وسبب النّزول لا يمنع عموم النهي لجميع الأمة كما هو ظاهر في قوله: {أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ} 9 فلم يستثن أحدا سواه لا ملكا ولا نبيا ولا من دونهما كما قال تعالى: {وَقَالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} 10. وقوله: {وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} 11 أي: من جميع المخلوقات من بشر وحجر وغير ذلك، لكن قوله: {وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا} 12 يختص بالبشر لما تقدم من أنهم كانوا يعبدون المسيح وأمه وغيرهما من الأنبياء والصالحين، ويشمل غيرهم من باب أولى. وقد قال تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} 13،

_ 1 سورة هود آية: 54. 2 سورة الزخرف آية: 26 - 28. 3 سورة الزخرف آية: 28. 4 سورة الزخرف آية: 26. 5 سورة الزخرف آية: 27. 6 سورة الصافات آية: 5. 7 سورة آل عمران آية: 64. 8 سورة آل عمران آية: 64. 9 سورة هود آية: 2. 10 سورة النحل آية: 51. 11 سورة آل عمران آية: 64. 12 سورة آل عمران آية: 64. 13 سورة الجن آية: 18.

و {أَحَدًا} نكرة في سياق النهي، وهي تعم كل مدعو من دون الله من أهل السماوات والأرض. وتأمل قوله: {مَعَ الله} وخبر "لا" التي لنفي الجنس محذوف تقديره: حق، كما دل عليه القرآن قال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ} 1. وهذا قول أهل السنة والجماعة اتباعا لما دل عليه القرآن. ومن قدر الخبر المحذوف غير ذلك كقول بعضهم: إن المحذوف "أحد" فلا حجة له ولا برهان. ينبئك عن هذا المعنى العظيم ما قرره ابن القيم -رحمه الله تعالى- قال: "فإن قوام السماوات والأرض والخليقة بأن تأله الإله الحق، فلو كان فيهما آلهة أخرى غير الله لم يكن إلها حقا، إذ الإله الحق لا شريك له ولا سميَّ له ولا مثل له. فلو تألهت غيره لفسدت كل الفساد بانتفاء ما فيه صلاحها؛ إذ صلاحها بتأله الإله الحق كما أنها لا توجد إلا باستنادها إلى الرب الواحد القهار، ويستحيل أن تستند في وجودها إلى ربين متكافئين، فكذلك يستحيل أن تستند في تألهها إلى إلهين متساويين".* وقد قال -رحمه الله- في قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} 2 الآية، قال: "فالمؤمنون أشد حبا لربهم ومعبودهم من كل محب لكل محبوب. وليست هذه المسألة من المسائل التي للعبد عنها غنى أو منها بُد؛ بل هذه أفرض مسألة على العبد، وهي أصل عقد الإيمان الذي لا يدخل فيه الداخل إلا بها ولا فلاح للعبد ولا نجاة له من عذاب الله إلا بها. فليشتغل العبد بها أو ليعرض عنها، ومن لم يتحقق بها علما وعملا وحالا لم يتحقق شهادة أن لا إله إلا الله فإنها سرها وحقيقتها ومعناها، وإن أبى ذلك الجاحدون وقصر عن علمه الجاهلون؛ فإن الإله هو المحبوب المعبود الذي تألهه القلوب بحبها وتخضع له وتذل له وتخافه، وترجوه وتنيب إليه في شدائدها وتدعوه في مهماتها، وتتوكل عليه في مصالحها، وتلجأ إليه وتطمئن بذكره وتسكن إلى

_ 1 سورة الحج آية: 62. * كتاب "طريق الهجرتين" ص 57. [معد الكتاب للمكتبة الشاملة] 2 سورة البقرة آية: 165.

زعم عدم تحقق العبادة إلا بعد استحقاق المعبود لها

حبه. وليس ذلك إلا لله وحده. ولهذا كانت أصدق الكلام وكان أهلها أهل الله وحزبه، والمنكرون لها أعداؤه وأهل غضبه ونقمته. فهذه المسألة قطب رحى الدين الذي عليه مداره وإذا صحت صح بها كل مسألة وحال وذوق، وإذا لم يصححها العبد فالفساد لازم له في علومه وأعماله وأحواله وأقواله ولا حول ولا قوة إلا بالله".* انتهى. فما أحسن هذا من بيان. [زعم عدم تحقق العبادة إلا بعد استحقاق المعبود لها] وأما قول الملحد في ورقته: (لعدم تحقق العبادة إلا بعد اعتقاد استحقاق المعبود لها). (فالجواب): هذا القيد ممنوع وهو من جملة اختلاقاته وأكاذيبه؛ لأنه فاسد شرعا ولغة وعرفا. ومما يبين فساده ما في الحديث من قصة الرجلين الذَين مرا على صنم قوم لا يجاوزه أحد إلا قرب له شيئا، فقالوا لأحد الرجلين: قرِّب فقال: ما عندي شيء أقرب. قالوا: قرب ولو ذبابا، فقرب ذبابا فخلوا سبيله فدخل النار، أي: بتقريبه الذباب لصنمهم. وهو إنما قربه للتخلص من شرهم من غير اعتقاد استحقاقه لذلك، فصار عبادة للصنم دخل بها النار. وهذا يدل على أن هذا الفعل منه هو الذي أوجب له دخول النار؛ لأنه عبد مع الله غيره بهذا الفعل. وقالوا للآخر: قرب فقال: ما كنت لأقرب لأحد شيئا دون الله عز وجل، فضربوا عنقه فدخل الجنة. وأيضا فقد قال أبو طالب: لقد علموا أن ابننا لا مكذب ... لدينا ولا يعنى بقول الأباطل وقوله يخاطب النبي صلى الله عليه وسلم: ودعوتني وعرفت أنك ناصحي ... ولقد صدقت وكنت ثم أمينا وعرضت دينا قد عرفت بأنه ... من خير أديان البرية دينا لولا الملامة أو حذار مسبة ... لوجدتني سمحا بذاك مبينا

_ * كتاب "طريق الهجرتين" ص 319 - 320. [معد الكتاب للمكتبة الشاملة]

قوله: إن المعبودات الباطلة سميت آلهة من حيث اعتقاد عبادها

فثبت بهذا أن أبا طالب لم يعتقد أن ما كان قومه عليه من الشرك حقا ولم يمنعه من الدخول في الإسلام إلا خوف أن يسب أسلافه فقط، ومع هذا مات مشركا كما ثبت في الصحيح، وهذا يبين فساد هذا القيد. فإذا عرف ذلك، تبين أن هذا الرجل يختلق أقوالا لا برهان عليها ولا حجة، ثم إن من المعلوم أن كل من عبد معبودا غير الله وأصر على عبادته له أنه يعتقد استحقاقه للعبادة، وهذا هو الغالب على المشركين في حق معبوداتهم، ولهذا تجدهم يجادلون عنها ويناضلون مجادلة من يعتقد أنها تستحق ما كانوا يفعلونه لها من العبادة. [قوله: إن المعبودات الباطلة سميت آلهة من حيث اعتقاد عبَّادها] وقوله: (في كل أمة أيضا) اعتراف منه بأن الإله يطلق على كل معبود يعتقد عابده أنه يستحق العبادة كما هو حال أكثر المشركين، فاحفظ هذا الاعتراف منه فسيأتي في كل أمة ما يناقضه. وأما قوله: (ولهذا ذهب كثير من المتبحرين إلى أنه عبارة عن المعبود بحق، وما قيل من أن كثيرا ما يطلق على الآلهة الباطلة كما ورد في أكثر موارد القرآن وهو يوجب عدم صحة المدعى، فمدفوع بأن إطلاقه عليها بالنظر إلى اعتقاد عبادها لا باعتبار نفس الأمر). (فالجواب) أن يقال: هذا يناقض ما تقدم له من أن العابد إذا اعتقد استحقاق معبوده للعبادة صار إلها، ولا يخفى مناقضة هذا له، فإنه أقر فيما تقدم قريبا أن المعبود يكون إلها باعتقاد عابده استحقاقه للعبادة في نفس الأمر، وقد عرفت أن القيد ممنوع، فأخطأ في الموضعين أي: في هذا والذي قبله وتناقض. وأما قوله: ولهذا ذهب كثير من المتبحرين ... إلخ، فهذا القول مجهول قائله لا يعرف أن أحدا من المسلمين قاله، والقائل به مجهول لا يقبل له قول، وقد أجمع العلماء قديما وحديثا على أن المجهول لا يقبل له قول ولا خبر، ولا

وقوله: (كما ورد في أكثر موارد القرآن)

تقوم به حجة في شيء من أبواب العلم، فكيف إذا كان إلحادا وطعنا في أصل الدين؟ وقد أجمع المحدثون على أن رواية المجهول لا تقبل كذلك، فسقط هذا القول من أصله وفسد. وقوله: (كما ورد في أكثر موارد القرآن)، انظر إلى هذا الجهل العظيم في محاولته رد ما ورد في أكثر موارد القرآن، بقول المجهولين الذين لا يعتد بقولهم عند أحد من طوائف العلماء، وموارد القرآن يحتج بها لا يحتج عليها بقول أحد، وهي الحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه كما قال تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} 1 الآية، فما وافق القرآن سواء كان نصا أو ظاهرا قبل، وما خالفه رد على من قاله كائنا من كان. فقد ارتقى هذا مرتقى صعبا بتهجينه القرآن وإبطال دلالته عنه بما زخرفه ونسبه إلى مجهولين، فسبحان الله كيف يخفى هذا على أحد؟ فمن تدبر هذا المحل تبين له ضلاله. وأما قوله: (فمدفوع بأن إطلاقه عليها بالنظر إلى اعتقاد عبادها). (فالجواب): أن هذا يبطله القرآن كما قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} 2. وقال: {أَإِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ} 3 فسماها الخليل آلهة مع كونها باطلة، وكونها باطلة لا ينافي تسميتها آلهة. كما قال موسى عليه الصلاة والسلام، لما قال له بنو إسرائيل: {اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ ِنَّ هَؤُلاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} 4. وقال: {أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا} 5 فسماه الكليم إلها مع إنكاره عليهم ما طلبوا، وهو قد أقر فيما تقدم أن يطلق على غير الإله الحق، فتناقض؛ والإلهية المنفية في كلمة الإخلاص بدخول أداة النفي عليها، وهي لا النافية. فالمراد بنفيها إبطالها والبراءة منها والكفر بها واعتزالها وغير ذلك مما سيأتي ذكره إن شاء الله تعالى، فكما تسمى آلهة وأندادا وأربابا وشركاء وأولياء؛ لأن من عبدها فقد جعلها مألوهة له وجعل

_ 1 سورة النساء آية: 59. 2 سورة الأنعام آية: 74. 3 سورة الصافات آية: 86. 4 سورة الأعراف آية: 138، 139. 5 سورة الأعراف آية: 140.

الإله المنفي في كلمة الإخلاص

لها شركة في العبادة التي هي حقه، ومثلها بالله في عبادته لها، واتخذها أربابا وأولياء، وكل هذا في القرآن كما قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} 1. وقد تقدم كلام العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى على هذه الآية العظيمة. وقال تعالى: {وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ} 2. وقال تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} 3. وقال: {أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ} 4. وهذا في القرآن كثير، فصارت تطلق عليها هذه الأوصاف بجعل عابديها واتخاذهم لها كذلك بعبادتهم وإرادتهم كما تقدم بيانه في هذه الآيات، كما في قوله تعالى: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ} 5. {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا} 6، فصارت آلهة بالفعل والاتخاذ والإرادة والقصد، واستشهد العلماء على ذلك بقول رؤبة بن العجاج: لله درّ الغانيات المدّه ... سبحن واسترجعن من تألهي أي: من تعبدي، وتقدم كلام صاحب القاموس على هذا المعنى. وقرأ ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما- {وَيَذَرَكَ وَإِلَاهَتَكَ} 7 أي: عبادتك قال: لأنه كان يعبد وتقدم تقرير هذا في كلام العلماء. وهذا يبين أن كل معبود إله، حقا كان أو باطلا؛ لأنه قد ألهه العابد بالعبادة، وتبين بهذا أن هذا الرجل يتكلم في هذه الأمور بلا علم، ويأتي بما يخالف القرآن واللغة والسلف والعلماء، ويتناقض. [الإله المنفي في كلمة الإخلاص] ومن فرط جهله قوله: (وبهذا تعين فساد ما توهم من أن الإله المنفي بلا، في الكلمة الطيبة هو المطلق غير المقيد بالحق أو الباطل). وهذا القول الذي أقر بفساده هو الذي قاله آنفا وبينا فساده في محله، فتأمل ما في هذا الكلام من الفساد والضلال، فإنه جعل المنفي في كلمة الإخلاص قابلا للوصفين أي: الحق والباطل، فإنه لا شك أن الإله المنفي باطل. ولا بد من

_ 1 سورة البقرة آية: 165. 2 سورة القصص آية: 64. 3 سورة التوبة آية: 31. 4 سورة الكهف آية: 102. 5 سورة يس آية: 74. 6 سورة مريم آية: 81. 7 سورة الأعراف آية: 127.

إعراب لا إله إلا الله

تقييده بالبطلان؛ لأن المنفي في كلمة الإخلاص هي الطواغيت والأصنام وكل ما عبد من دون الله، وكلها باطلة بلا ريب: كما قال لبيد في شعره الذي سمعه منه النبي صلى الله عليه وسلم: * ألا كل شيء ما خلا الله باطل * ومن لم يعتقد هذا فليس من الإسلام في شيء، وتقدم في الآيات أن المستثنى في كلمة الإخلاص "بإلا" هو الله الحق كما قال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ} 1. وهذا الرجل قد افترى على اللغة وكذب عليها بقوله المتقدم: أن الإله هو المعبود لا بقيد الحقيقة ولا البطلان، فهو دائما يتناقض، يذكر قولا وينفيه ثم يذكره بعده ويثبته، ثم ينفيه. ومن وقف على ما كتبته في هذا المعنى عرف ذلك من حاله ومقاله، ومحط رحله هو قول الفلاسفة كابن سينا والفارابي وابن العلقمي القائلين بأن مدلول لا إله إلا الله نفيا وإثباتا فرد هو الوجود المطلق، أو قول الاتحادية أنه الوجود بعينه. وكلام هذا وعبارته المتقدم منها والآتي يدل على أنه يقول بقولهم، ويحمل معنى كلمة الإخلاص "لا إله إلا الله" على إلحادهم، يعرف هذا من له فهم واطلاع على ما ذكره العلماء في بيان حقيقة قول هاتين الطائفتين الكفريتين كما سيأتي في كلام شيخ الإسلام وابن القيم وغيرهم. [إعراب لا إله إلا الله] وهذا إعراب كلمة الإخلاص الذي يعرفه أهل العربية وغيرهم من العلماء في إعرابها فيقولون: لا نافية للجنس، واسمها إله، مبني معها على الفتح، منفي بلا، والإله جنس يتناول كل معبود من بشر أو حجر أو شجر أو مدر أو غير ذلك، فهذا الجنس على تعدد أفراده منفي بلا، وخبر لا محذوف على الصحيح كما في الآيات، وتقدم ذكره،

_ 1 سورة الحج آية: 62.

ما يقتضيه إعراب المعترض لها من الفساد

والاستثناء من الخبر، وإلا أداة الاستثناء، والله هو المستثنى بإلا، وهو الإله الحق وعبادته حق وقوله الحق. والصحيح أنه مخرج من اسم لا وحكمه كما قرره العلامة ابن القيم -رحمه الله تعالى-، والأدلة على هذا في القرآن أكثر من أن تحصر، وقد صرحت بذلك الآيات المحكمات كقوله تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ} 1، وهذا هو المنفى بلا في كلمة الإخلاص. وقوله: {وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ} 2 هو معنى إلا الله، وهذا هو الذي أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يدعو أمته إليه، وما خالف هذا فهو تلبيس وتشبيه وبهرج وباطل. نعوذ بالله من كل قول يؤخذ عن غير القرآن، وعن غير ما دان به أهل الإسلام والإيمان. [ما يقتضيه إعراب المعترض لها من الفساد] ثم إن هذا الرجل انتهى أمره فيما كتبه إلى أن زعم أن المنفي بلا كلي، وهذا الكلي منوي ذهنا لا يوجد منه في الخارج إلا فرد، وذلك الفرد المنفي بلا هو المستثنى بعينه وهذا صريح كلامه وأتى فيه بثلاث عظائم هي إلى الكفر أقرب منها إلى الإيمان: (الأولى): أنه زعم أن المنفي بلا كلي لا يوجد إلا ذهنا، فعنده أنها لم تنف طاغوتا ولا وثنا ولا صنما ولا غيرها مما يعبد من دون الله. فخالفوا أيضا أهل المنطق، فإن الكلي عندهم مقول على كثيرين مختلفين بالعدد دون الحقيقة، ولم يقولوا: إنه منوي لا يوجد منه في الخارج إلا فرد. (الثانية): أنه زعم أن ذلك الفرد الذي لا يوجد غيره، لما كان منفيا بلا صار ثابتا بإلا، وهو فرد واحد، فصار الإله عنده متصفا بالنفي والإثبات، والنفي والإثبات في فرد نقيضان، ومقتضاه أن هذا الفرد صار أولا باطلا؛ لأنه منفي ثم صار حقا؛ لأنه استثني بإلا، فاجتمع فيه الوصفان. نعوذ بالله من هذا التهافت والإلحاد والتناقض والعناد.

_ 1 سورة يونس آية: 104. 2 سورة يونس آية: 104.

وجوب تحقيق معنى لا إله إلا الله

وقد عرفت أن النحاة وأهل الكلام كالرازي وغيره ومن قبلهم يعلمون أن المنفي غير المثبت كما سنذكر عنهم اتفاقهم على ذلك، وأنه لا يحصل التوحيد إلا بذلك. وهذا أمر يعرفه كل أحد حتى مشركو العرب ومن ضاهاهم من الأمم أعداء الرسل، يعلمون أنها نفت الآلهة التي كانت تُعبد من دون الله، وأثبتت إلهية الحق الذي أقروا أنه رب كل شيء ومليكه، وخالق كل شيء ورازق كل حي، وذلك هو الله العلي الأعلى القاهر فوق عباده. (والثالثة): أنه صرح أن المنفي كلي، والفرد الموجود في الخارج جزئي، تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا، وهذا هو حقيقة قول هذا ولهذا مثّله بقوله: لا شمس إلا الشمس. [وجوب تحقيق معنى لا إله إلا الله] ومن أشكل عليه فساد قول هذا وضلاله فلْيتدبر القرآن، ولْيراجع كلام المفسرين في معنى كلمة الإخلاص، وما وضعت له وما دلت عليه هذه الكلمة العظيمة، فقد قال تعالى: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} 1، فدلت الآية على أنه لا يكون مستمسكا بلا إله إلا الله إلا إذا كفر بالطاغوت، وهي العروة الوثقى التي لا انفصام لها، ومن لم يعتقد هذا فليس بمسلم؛ لأنه لم يتمسك بلا إله إلا الله. فتدبر واعتقد ما ينجيك من عذاب الله، وهو تحقيق معنى لا إله إلا الله نفيا وإثباتا، وتدبر قوله تعالى عن خليله عليه السلام: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} 2. والكلمة هي لا إله إلا الله بإجماع المفسرين. فلا أحسن من هذا التفسير ولا أبين منه، وليس للجنة طريق إلا بمعرفته وقبوله واعتقاده والعمل به. نسأل الله أن يُوزعنا شكر ما أنعم به علينا من هذا التوحيد والبصيرة فيه، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

_ 1 سورة البقرة آية: 256. 2 سورة الزخرف آية: 26: 28.

أقوال كبار المتكلمين في معنى لا إله إلا الله وإعرابها

فتأمل كيف عبر الخليل عليه السلام عن هذه الكلمة بمدلولها الذي وضعت له من البراءة من عبادة كل معبود سوى الله من وثن وصنم وغير ذلك، وقصر العبادة على الله وحده بقوله: {إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي} 1. ودلت على أن المنفي جنس تحته أفراد موجودة في الخارج يعبدها المشركون وليست آلهة إلا في حق من يعبدها ويتألهها، دون من يكفر بها ويتبرأ منها ويعاديها ويعادي من عبدها. [أقوال كبار المتكلمين في معنى لا إله إلا الله وإعرابها] إذا ثبت ذلك وعرفت أن الحق فيما دل عليه كتاب الله وسنة رسوله في بيان معنى هذه الكلمة، فاعلم أن النحاة والمتكلمين اختلفوا: هل تحتاج لا النافية لخبر مضمر أم لا؟ فمنعه الرازي والزمخشري وأبو حيان، وقالوا: إنه يكفي في الدلالة على التوحيد ما تضمنته من النفي والإثبات، بناء على أن أصلها مبتدأ وخبر، ثم قدم الخبر على المبتدأ، ثم دخل حرف النفي على الخبر المقدم، ودخل حرف إلا مستثنى على المبتدأ، فانتفت الإلهية عن كل ما سوى الله من كل ما يعبد من دونه من صنم ووثن وطاغوت وغير ذلك. هذا مضمون ما ذهب إليه هؤلاء، وغيرهم وافقهم في المعنى فاتفقوا أن المستثنى مخرج بإلا، ولولا الاستثناء لدخل. قال الكسائي: هو مخرج من اسم لا، وقال الفراء: مخرج من حكم اسمها وهو النفي، والصحيح أنه مخرج منهما كما قرره العلامة ابن القيم -رحمه الله تعالى-. إذا عرفت ذلك، فأكثر النحاة وغيرهم يقولون لا بد لها من خبر مضمر قال بعض من صنف في إعراب هذه الكلمة ومعناها -بعد كلام له سبق- أقول: قد عرفت أن المضمر على تقدير أن يكون في الكلام إضمار إما الخبر أو المرفوع بإلا المكتفى به عن الخبر، وقد عرفت أيضا أن المعنى المقصود في لا إله إلا الله هو قصر الألوهية على الله تعالى. والعلامة الدواني قائل بهذا كما يشير إليه في البحث الخامس من رسالته، وصرح به في شرحه للعقائد العضدية حيث قال: واعلم أن التوحيد إما بحصر وجوب

_ 1 سورة الزخرف آية: 27.

الوجود أو بحصر الخالقية أو بحصر العبودية. ثم قال: الأول كذا والثاني كذا. وساق الكلام وحقق المقام، أي: في رده إلى أن قال: والثالث وهو حصر العبودية، وهو أن لا يشرك بعبادة ربه أحدا، فقد دلت عليه الدلائل السمعية، وانعقد عليه إجماع الأنبياء عليهم السلام، وكلهم دعوا المكلفين أولا إلى هذا التوحيد، ونهوهم عن الإشراك في العبادة قال تعالى: {قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} 1. انتهى. ثم قال الناقل: ومصداق إجماع الأنبياء قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} 2 بعد قوله تعالى: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ} 3. وقوله تعالى: {يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ} 4. وقوله تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} 5. وقال تعالى: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} 6. إلى أن قال: فإثبات الألوهية له تعالى على وجه الانحصار فرع على أصل ثبوتها له -تعالى-، وأصل ثبوتها له -تعالى- فرع على ثبوته تعالى في نفسه؛ بل أصل ثبوت الألوهية له -تعالى- أيضا على ما يقتضيه دلالة هذا الكلام لغة أمر مسلم الثبوت مفروغ منه لا نزاع فيه. وإنما النّزاع -أي: مع المشركين- في قصر الألوهية عليه تعالى، فالموحد يخصها به فيقول: لا إله إلا الله، والمشرك ينكر ذلك استكبارا، فيقول: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} 7. قال تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ} 8. إلى أن قال: فإذا تمهد هذا، فنقول: لما كان في لا إله إلا الله نفي وإثبات فهي في الحقيقة جملتان اسميتان؛ لأن كلا من النفي والإثبات يقتضي طرفين

_ 1 سورة الصافات آية: 95، 96. 2 سورة الأنبياء آية: 25. 3 سورة الأنبياء آية: 24. 4 سورة النحل آية: 2. 5 سورة النحل آية: 36. 6 سورة الزخرف آية: 45. 7 سورة ص آية: 5. 8 سورة الصافات آية: 35.

ينعقد الحكم بينهما، فطرف الإثبات هو الاسم الجليل مع صحة الإيجاب من إله، فصح أن يقصر بالأولى استمرار الثبوت الممتنع الانفكاك، وبالثانية استمرار النفي الممتنع الانفكاك، ومقام الدعوة إلى كلمة التوحيد قرينة على أن المعنى المراد من لا إله إلا الله نفيا وإثباتا هو هذا الاستمرار الممتنع الانفكاك ضرورة أن الشارع لا يقول إلا صدقا، واستمرار ثبوت الإلهية له -تعالى- على سبيل امتناع الانفكاك واستمرار انتفاء الألوهية عن غيره -تعالى- هو المطابق لما في نفس الأمر، فهو المقصود للشارع فلم يبق إلا أن أهل اللسان: هل فهموا ذلك منه حتى يكون دلالته لغوية أم لا؟ فنقول: إنهم قد فهموا منه ذلك بدليل قوله تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ} 1. ووجه دلالته على ما ذكرناه هو أن الصادق أخبر بأن إنكارهم لما يلزم من الاعتراف بلا إله إلا الله من تركهم آلهتهم واختصاصه -تعالى- بالألوهية - إنكار بمحض استكبار، لا لتمسك عقلي. انتهى ما نقلته وهو تقرير حسي موافق لما دل عليه الكتاب والسنة، كما عرفت من صريح الآيات والأحاديث. لكن قوله: وأصل ثبوتها له -تعالى- فرع على ثبوته -تعالى- في نفسه أمر فطري مسلم حتى عند أعداء الرسل؛ فإنهم يعرفونه ويعبدونه لكن عبدوا معه غيره. فدلالتها على وجوده -تعالى- دلالة التزام، فيلزم من اختصاصه بالإلهية وجوده وكماله في ذاته وصفاته ومباينته للمخلوقين، وأنه أحد صمد لا كُفؤ له ولا مثل له ولا شريك له، ولا ظهير له ولا نِد له -تعالى وتقدس- كما قال تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} 2. وقال تعالى {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} 3 إلى أمثال هذه الآيات.

_ 1 سورة الصافات آية: 35، 36. 2 سورة الإخلاص آية: 1: 4. 3 سورة الشورى آية: 11.

عود إلى الآيات في معنى لا إله إلا الله

رجعنا إلى تقرير معنى هذه الكلمة العظيمة قال الله تعالى: {فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ} 1. [عود إلى الآيات في معنى لا إله إلا الله] قال العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى في هذه الآية: {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ} 2 فالآية إنما سِيقت فيمن يعبد غير الله، فما عبد إلا الضلال المحض والباطل البحت. انتهى. وقد فسر العلماء من المفسرين وغيرهم سلفا وخلفا معنى قوله تعالى: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} 3 أن الطاغوت هو الشيطان، وما زينه من عبادة الأوثان كما تقدم. ولا ريب أن الكفر بالشيطان يحصل بالبراءة منه ومعصيته في كل ما أمر به ونهى عنه. وكان موجودا أعاذنا الله من عبادته، وكذلك الأوثان يكفر بها المؤمنون ويتبرؤون من عبادتها مع وجودها ومن عبادة المشركين لها. والمقصود أن نفي الأوثان الذي دلت عليه كلمة الإخلاص يحصل بتركها والرغبة عنها والبراءة منها، والكفر بها وبمن يعبدها، واعتزالها واعتزال عابديها، وبغضها وعداوتها. وكل هذا في القرآن مبينا، وقد انتفت عبادة كل ما عبد من دون الله مما هو موجود في الخارج مما يعبده المشركون سلفا وخلفا بهذه الكلمة كما تقدم. وقد ذكر -تعالى- عن خليله -عليه السلام- أنه قال: {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ} 4 الآيات، وبالله التوفيق. وصح عن أهل السير والمغازي وغيرهم من العلماء أن الله تعالى لما أرسل محمدا صلى الله عليه وسلم يدعو الناس إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأنه رسول الله، وكان حول الكعبة ثلاثمائة وستون صنما تعبدها قريش، وكانوا يعبدون اللات والعزى ومناة -وهي أكبر الطواغيت التي يعبدها أهل مكة والطائف ومن حولهم-

_ 1 سورة يونس آية: 32. 2 سورة يونس آية: 32. 3 سورة البقرة آية: 256. 4 سورة الشعراء آية: 77، 78.

شكوى قريش لأبي طالب من النبي وكلامه

فاستجاب للنبي صلى الله عليه وسلم من استجاب من السابقين الأولين، وهاجر من هاجر منهم إلى الحبشة، وكل من آمن منهم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله رغبة عن الشرك وعبادة الأوثان وكفرا بها، وبراءة منها، ومسبة لها، فصح إسلامهم وإيمانهم بذلك مع كونها موجودة يعبدها من يعبدها ممن لم يرغب عنها وعن عبادتها. [اقتضاء كلمة التوحيد إبطال عبادة كل ما عبد من دون الله] فبهذا يتبين أنه ليس المراد من نفي الأوثان والأصنام وغيرها في كلمة الإخلاص زوال ماهية الأصنام ونفي وجودها، وإنما المراد إنكار عبادتها والكفر بها وعداوتها كما تقدم بيانه، وكل من تبرأ منها ورغب عنها فقد نفاها بقول لا إله إلا الله، وأثبت الألوهية لله تعالى دون كل ما يعبد من دونه. فلما تمكن صلى الله عليه وسلم من إزالة هذه الأصنام كسرها، وبعث من يزيل ما بعد عنه منها، فخلت الجزيرة من أعيانها، وهذا معنى قوله تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ} 1. وفيه الرد على الفلاسفة وأهل الاتحاد القائلين بأن المنفي كلي يوجد ذهنا ولا يوجد منه في الخارج إلا فرد، بناء على ما اعتقدوه في الله تعالى من الكفر به وبكتابه وبرسوله، وقد عرفت أن المنفي بها أفراد متعددة من الأصنام والأنداد والشركاء والأولياء، من حين حدث الشرك بعبادة الأصنام في قوم نوح إلى أن تقوم الساعة. فيجب بلا إله إلا الله البراءة من كل ما يعبده المشركون من دون الله. فلا بد من نفي هذا كله بالبراءة من عبادته ومن عابديه. فمن تبرأ من عبادتها كلها وأنكرها وكفر بها، فقد قال لا إله إلا الله وأخلص العبادة لله وحده، وصار بهذا التوحيد مسلما مؤمنا. وتأمل ما ذكره المفسرون في قول الله تعالى: {وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} 2. [شكوى قريش لأبي طالب من النبي وكلامه] قال أبو جعفر ابن جرير -رحمه الله تعالى-: أنبأ أبو كريب وابن وكيع قال: ثنا أبو أسامة أنبأ الأعمش ثنا عباد عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: لما مرض

_ 1 سورة الأنفال آية: 39. 2 سورة ص آية: 4، 5.

زعم أن كلمة التوحيد لا تنفي إلا مفهوما كليا

أبو طالب دخل عليه رهط من قريش فيهم أبو جهل، فقالوا: إن ابن أخيك يشتم آلهتنا ويفعل ويفعل ويقول ويقول، فلو بعثت إليه فنهيته. فبعث إليه، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فدخل البيت وبينهم وبين أبي طالب قدر مجلس رجل، قال فخشي أبو جهل إن جلس النبي صلى الله عليه وسلم إلى جنب أبي طالب أن يكون أرق عليه فوثب فجلس في ذلك المجلس، ولم يجد رسول الله صلى الله عليه وسلم مجلسا قرب عمه فجلس عند الباب. فقال له أبو طالب: أي ابن أخي، ما بال قومك يشكونك يزعمون أنك تشتم آلهتهم وتقول وتقول؟ قال: وأكثروا عليه القول. وتكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "يا عم، إني أريدهم على كلمة واحدة يقولونها، تدين لهم بها العرب، وتؤدي إليهم بها العجم الجزية"1 ففزعوا لكلمته ولقوله، فقال: القوم كلمة واحدة؟ نعم وأبيك عشرا، فقالوا وما هي؟ وقال أبو طالب: وأي كلمة هي يا ابن أخي؟ قال: (لا إله إلا الله) فقاموا فزعين ينفضون التراب عنهم ويقولون: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} 2 إلى قوله: {لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ} 3 لفظ أبي كريب. وهكذا رواه الإمام أحمد والنسائي من حديث محمد بن عبد الله بن نمير، كلاهما عن أبي أسامة عن الأعمش عن عباد منسوبا به نحوه، ورواه الترمذي والنسائي وابن أبي حاتم وابن جرير كلهم من تفاسيرهم من حديث سفيان الثوري عن الأعمش عن يحيى بن عمارة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس. وقال الترمذي: حسن. [زعم أن كلمة التوحيد لا تنفي إلا مفهوما كليا] ففي هذا من البيان والعلم، أن لا إله إلا الله تبطل عبادة كل ما يعبده المشركون من دون الله، وتنفي ما كان بينهم من معبوداتهم الموجودة في الخارج بأعيانها، وفيه أن المشركين عرفوا معناها الذي وضعت له ودلت عليه من إبطال عبادة كل معبود سوى الله. فإذا كان معناها هذا يعرفه كل أحد حتى المشركون يعرفون ما نفته وما أثبتته، فإذا جاء ملحد لا يعرف معناها من كتاب الله ولا سنة رسوله ولا لغة

_ 1 الترمذي: تفسير القرآن (3232) , وأحمد (1/ 362). 2 سورة ص آية: 5. 3 سورة ص آية: 8.

الوجوه المبطلة للقول بأن نفي الكلي ليس له أفراد في الخارج

ولا عُرْف ولا عَرَف من معناها ما عرفه المشركون. وقال: إن لا إله إلا الله لم تنف إلا كليا منويا لا يوجد منه في الخارج إلا فرد، وهذا الفرد المنفي هو المثبت، فأين هذا من معناها الذي يعرفه المسلمون وبه يدينون، ويعرفه المشركون أيضا ويشمئزون منه وينفرون؟ كما قال تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ} 1. فالمشركون عرفوا وأنكروا مدلولها، وهذا الملحد أنكر مدلولها مع الجهل بمعناها الذي يعرفه كل أحد حتى أعداء الرسل القائلون: {أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ} 2. فسبحان الله ما أبين ضلال هذا الملحد عند أهل البصيرة من أهل التوحيد، وعند أهل الفطر والعقول قاطبة! فكل ذي عقل ينكر هذا القول ويعرف بطلانه. [الوجوه المبطلة للقول بأن نفي الكلي ليس له أفراد في الخارج] ونذكر وجوها تبين بطلان هذا القول مع ما تقدم: (الأول): أن هذا يناقض ما شهد الله به وشهدت به ملائكته وأولو العلم من عباده قال تعالى {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} 3. فلم يبق معبود يعبده الأولون والآخرون من دون الله إلا بطلت عبادته وإلهيته بشهادة الله عز وجل وملائكته وأولي العلم قاطبة، وأن المعبودات التي بطلت بشهادة الله ليست كليا لا يوجد منه في الخارج إلا فرد كما يقوله الملحد، بل كل ما يوجد في الأمم وفي العرب من الأوثان والأصنام التي لا تحصى كثرة كأصنام قوم نوح وغيرها. ومن لم يعتقد أن هذا هو الذي شهد الله به وملائكته وأنبياؤه بنفيه عن هذه الأصنام، وكل ما عبد من دون الله، فما قال لا إله إلا الله، وما عرف من الإسلام ما يعصم دمه وماله، وصار عما شهد الله به في معزل. (الوجه الثاني): أن هذا القول ينافي ما بينه الله تعالى في كتابه من ملة الخليلين لقوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ} 4 الآية وقد تقدمت. وقال تعالى: {وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وأطيعون ذَلِكُمْ

_ 1 سورة الصافات آية: 35، 36. 2 سورة الأعراف آية: 70. 3 سورة آل عمران آية: 18. 4 سورة الزخرف آية: 26.

خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا} 1. فذكرها عليه السلام بصيغة الجمع. أيجوز في عقل عاقل أن ما ذكره تعالى عن خليله من إنكاره لعبادة هذه الأوثان، وإخباره أنهم لا يملكون لعابديهم رزقا؛ أنها لا توجد في الخارج؟ ولا ريب أنه لا يجحد هذا إلا مكابر معاند مخالف لما جاءت به الرسل من التوحيد. وقوله تعالى عن خليله وقال: {إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} 2 الآية. أيشك من له عقل أن تلك الأوثان موجودة عند عابديها يباشرونها بالعبادة؟ وهل يعرف أحد من هذا السياق إلا أنها موجودة معبودة منتفية بلا إله إلا الله. وكذلك قول الله تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} 3. ولا خلاف أن الصنم شيء مصور على صورة شخص يعبد من دون الله، وذلك لا يكون إلا موجودا في الخارج، فسماه الخليل أوثانا وآلهة، وأنكرها وتبرأ منها وممن عبدها. (الوجه الثالث): أن الله بعث محمدا ينهى قريشا والعرب وغيرهم من المشركين عن أن يعبدوا مع الله غيره كاللات والعُزى ومناة والأصنام التي كانت حول الكعبة كما تقدم، وقد قال تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى} 4 إلى قوله: {إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} 5. أيشك أحد بعد هذا أنها موجودة تعبد من دون الله؟ بل لا يشك مسلم ولا مشرك في وجودها وأن قريشا وغيرهم يعبدونها. (الوجه الرابع): أن الله تعالى قال: {إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ * أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ} 6، فأجابوا ردا عليه فيما دعاهم إليه وقالوا: {وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} 7.

_ 1 سورة العنكبوت آية: 16، 17. 2 سورة العنكبوت آية: 25. 3 سورة الأنعام آية: 74. 4 سورة النجم آية: 19. 5 سورة النجم آية: 23. 6 سورة نوح آية: 1: 3. 7 سورة نوح آية: 23.

ومعلوم عند العلماء قاطبة بل وعند العامة أنها أسماء رجال صالحين صورها قومهم أصناما على صورهم وسموها بأسمائهم، فآل بهم الأمر إلى أن عبدوها وهي موجودة في الخارج لا يشك في وجودها أحد، ولا ريب أنها منتفية بكلمة الإخلاص لا إله إلا الله. وهذه الأصنام استخرجها عمرو بن لحي الخزاعي الكاهن لما كان واليًا على مكة قبل قريش وفرقها في العرب فعبدوها كما عبدها قوم نوح كما ذكره البخاري في صحيحه. (الوجه الخامس): ما ذكره الله عن قوم هود لما دعاهم هود عليه السلام إلى أن يعبدوا الله وحده ويتقوه، قال لهم: {مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} 1، 2، فأجابوا بقولهم: {قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} 3، فظهر أن لهم ولآبائهم معبودات في الخارج يعبدونها من دون الله، ودعوة الرسل تبطل عبادتها. وتقدم ما ذكره الله تعالى في سورة هود من قولهم لهود عليه السلام: {إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ} 4، وهذا لا يقال إلا على آلهة موجودة تعبد، ودلت هذه الآيات على أن الإلهية هي العبادة، وأن المشركين وضعوها فيمن لا يستحقها من صنم ووثن وطاغوت وغير ذلك. (الوجه السادس) قول يوسف عليه السلام: {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} 5. فسبحان الله أين ذهب عقل الفيلسوف حين اعتقد أن المنفي كلي لا يوجد إلا ذهنا؟! ومعلوم أنه لا يكون له إعداد على هذا الاعتقاد الباطل، وتبين أن كلمة الإخلاص نفت أربابا متفرقين وضعت عليها أسماء ما أنزل

_ 1 سورة يوسف آية: 40. 2 هذه الآية في قول يوسف عليه السلام. أما قول هود -عليه السلام- فهو: (أتجادلونني في أسماء إلخ) من سورة الأعراف. 3 سورة الأعراف آية: 70. 4 سورة هود آية: 54. 5 سورة يوسف آية: 39، 40.

الإله هوالمعبود. والعبادة حق الله وحده بالإجماع

الله بها من سلطان، كما كان أهل الأوثان يسمون آلهتهم، وفيما ذكرنا في هذه الوجوه كفاية. فلو ذكرنا ما يبطل قوله من الوجوه لبلغ مائة أو أكثر. [الإله هو المعبود، والعبادة حق الله وحده بالإجماع [ وقد قدمنا عن أئمة اللغة في معنى الإله موافقتهم في لغتهم لما دل عليه الكتاب والسنة من معنى كلمة الإخلاص وما دلت عليه مطابقة وتضمنا والتزاما. وكذلك النحاة وجميع العلماء من المفسرين وغيرهم أجمعوا قاطبة على أن الإله هو المعبود، وأن العبادة حق لله لا يجوز أن يصرف منها شيء لغير الله كائنا ما كان، وأن المنفي في كلمة الإخلاص كل ما كان يعبد من دون الله من بشر أو ملك أو شجر أو حجر أو غير ذلك. ولولا قصد الاختصار لبسطت القول في هذا المعنى العظيم الذي لا يصلح لأحد دين إلا إذا عرفه على الحقيقة، وقبل ما دل عليه الكتاب والسنة من بيان توحيد الله، وقصر العبادة عليه دون كل ما سواه. [رد قول أن المنفي بلا إله إلا الله كلي منوي] واعلم أنني لما كتبت قبل هذا في رد قول هذا الملحد أن المنفى بلا إله إلا الله كلي منوي لا يوجد منه في الخارج إلا فرد وهو المستثنى، فأجبت بما حاصله: إذا كانت لا إله إلا الله لم تنف إلا كليا منويا، فعلى هذا القول الباطل لم تنف لا إله إلا الله صنما ولا وثنا ولا طاغوتا، وصار النفي منصبا على الفرد، فهو المنفي وهو المستثنى، وتناقض هذا لا يخفى على من له عقل وفهم. وقد عرفت أن هذه دعوى منه مخالفة لما بعث الله به رسله من توحيده، وعلى قول هذا لم يكن للا إله إلا الله مدخل في الكفر بالطاغوت والبراءة من الأوثان التي صرح القرآن بنفيها بكلمة الإخلاص -لا إله إلا الله- كما في آية البقرة وغيرها، وقد تقدم بيان ذلك. وبهذا يتبين لمن له فهم أن قول هذا الرجل من أبطل الباطل وأبين الضلال وأمحل المحال.

الزعم بأن المستثنى بها هو المفهوم العام

والمسلم الموحد يعلم من الكتاب والسنة ومن قول أهل العقول الصحيحة والفطر السليمة أن لا إله إلا الله لها موضوع عظيم، ومدلولها هو حقيقة الإسلام والإيمان. فإنها إنما وضعت للرغبة عن عبادة كل ما يعبد من دون الله، والبراءة منه والكفر به، وإنكار ذلك وبغضه وعداوته وعداوة من اتخذ الشرك في العبادة دينا، وهذا هو أظهر ما في القرآن، وأبينه إيضاحا وتقريرا. وجواب ثانٍ وهو قولي: كيف يجوز أن يكون الفرد الذي وجد من الكلي المنفي داخلا في المنفي بإلا خارجا بالاستثناء، فيكون متصفا بالنفي والإثبات وأحدهما نقيض الآخر، وأن لا إله إلا الله لا تدل إلا على هذا الفرد خاصة نفيا وإثباتا؟. هذا لا يقبله إلا من كان عقله فاسدا لا يعرف حقا من باطل ولا هدى من ضلال، كيف يصح استثناء فرد منفي ويكون هو المستثنى فأين المستثنى والمستثنى منه الذي يعرفه العرب من لغتهم المستعمل في الكتاب والسنة وأقوال سلف الأمة وأئمتها وأهل العربية وغيرهم ويعرفه أهل اللغات؟ فما أبعد ضلال هذا وأجهله وأبعده عن العلم وأهله! [الزعم بأن المستثنى بها هو المفهوم العام] ثم إن هذا الرجل سمع بما كتبته على قوله من الرد والإبطال. فأجاب بقوله: قلنا: إنما يلزم هذا لو أريد بالمستثنى منه فرد خاص جزئي، وإنما أريد منه المفهوم العام المتناول لأفراد المعبود بحق سواء كانت في الذهن أو في الخارج. (فالجواب): أنه عدل عن قوله الأول إلى ما هو أفظع منه وأشنع، فزعم أن المستثنى منه إنما أريد منه المفهوم العام المتناول لأفراد المعبود بحق، فصرح بأن المستثنى منه إنما أريد منه المفهوم العام المنفي مرادا، فصار المفهوم العام المنفي له أفراد. ومعلوم أن الأفراد لا توجد في الذهن وإنما توجد في الخارج، فتراه يحوم حول الباطل ويتهافت. وأعظم من هذا قوله: إن المفهوم العام المنفي متناول لأفراد

قول أفلاطون وأتباعه: إن الله هو الوجود المطلق

المعبود بحق فجعل للمعبود بحق أفرادا منفية بلا، وكلها حق، فكيف يجوز أن ينفي ما هو حق؟ وكيف تكون الأفراد كلها حقا؟ فتدبر يتضح لك الحال. فهذه فنون من الضلال والإلحاد يبديها تارة، ثم يأتي بما هو أعظم منها وأبين في الضلال والمحال، والمنفي بلا في كلمة الإخلاص لا يكون حقا، بل هو الباطل كما دل عليه الكتاب والسنة وما عليه المسلمون، والحق في كلمة الإخلاص هو المستثنى، وهو الله -تعالى- {الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا} 1 لا شريك له في إلهيته، ولا في ربوبيته، ولا في أفعاله، ولا مثل له، ولا كفء له، ولا ند له، وكل معبود سواه فباطل، ومن لم يعتقد هذا فليس بمسلم. ولا يخفى أنه يلزم على قول هذا أن للكلي أفرادا معبودة، فإذا كانت كلها معبودة بحق جاز أن تقصد بالعبادة، وهذا دين المشركين الذي بعث الله رسله بإنكاره وإبطاله كما قال -تعالى-: {وَقَالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ} 2 وقال -تعالى-: {وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} 3. والآيات في المعنى كثيرة جدا، فمن عبد مع الله غيره فقد ألحد وأشرك. وكل هذه العبارات التي ذكرها هذا في ورقته ينكرها كل من له عقل. [قول أفلاطون وأتباعه: إن الله هو الوجود المطلق] وأصل هذا الرجل الذي اعتمده وعبر عنه هو بعينه الذي ذكره شيخ الإسلام -رحمه الله- عن أفلاطون الفيلسوف وأتباعه، بناء منهم على كفرهم، فإنهم يقولون: إن الله هو الوجود المطلق. ومعلوم أن هذا لا يكون له وجود متميز بنفسه مباين للمخلوقات، إذ الكلي كالجنس والفصل والخاصة والعرض العام لا يوجد في الخارج منفصلا عن الأعيان الموجودة، وهذا معلوم بالضرورة، متفق عليه بين العقلاء.

_ 1 سورة الفرقان آية: 59. 2 سورة النحل آية: 51. 3 سورة الشعراء آية: 213.

رد شيخ الإسلام على قول أفلاطون

قال شيخ الإسلام: وإنما يحكى الخلاف في ذلك عن شيعة أفلاطون ونحوه، الذين يقولون بإثبات المثل الأفلاطونية، وهي الكليات المجردة عن الأعيان خارج الذهن.* (قلت): وهذا قول هذا الرجل في ورقته تبع فيه أفلاطون، وهو قوله: إن المنفي في "لا إله إلا الله" كلي لا يوجد منه في الخارج إلا فرد واحد وهو المستثنى. وقد عرفت بطلان هذا القول من الكتاب والسنة، وأن العلماء أنكروا هذا القول غاية الإنكار -كما سيأتي في كلام شيخ الإسلام-؛ لأن المنفي بـ"لا إله إلا الله" كل ما يعبد من دون الله، وهي أجناس موجودة في الخارج، كما قال الخليل عليه السلام: {إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ} 1. وقال -تعالى- عن أهل الكهف: {وإذ اعتزلتموهم وما يعبدون إلا الله} ولا ريب أن المنفي ما كان أهل الشرك يباشرونه بعباداتهم، وهي أنداد موجودة في الخارج. [رد شيخ الإسلام على قول أفلاطون] قال شيخ الإسلام -رحمه الله تعالى- في رده قول أفلاطون ومن تبعه: "والمعلم الأول أرسطو وأتباعه متفقون على بطلان قول هؤلاء، فلو ظنوا أن البارئ هو الوجود المطلق بهذا الاعتبار لوقعوا فيما منه فروا، فإن هذا يستلزم مباينته لجميع المخلوقات وانفصاله عنها، مع أن عاقلا لا يقول أن الكليات هي المبدعة لمعيّناتها، بل هم يقولون: إن العلم بالقضية المعينة المطلوب إثباتها -وهو علو الله على العالم- معلوم بالضرورة والفطرة، ويعلمون بطلان نقيضها بالفطرة والضرورة، ويعلمون أنه إذا لم يكن مباينا كان داخلا محايدا فيلزم الحلول والاتحاد".** وذكر -رحمه الله تعالى- في موضع آخر: أن قدماء الفلاسفة خالفوا أفلاطون وأتباعه في الكلي والجزئي؛ لأنه قول غير معقول. ... (قلت): وبهذا يعلم أن قول هذا الرجل: أن المنفي كلي لا يوجد في الخارج. قول غير معقول. وذكر شيخ الإسلام -رحمه الله تعالى- أن جميع الطوائف من المسلمين وغيرهم

_ * "مجموع الفتاوى" 5/ 276. [معد الكتاب للمكتبة الشاملة] 1 سورة الزخرف آية: 26. ** "مجموع الفتاوى" 5/ 275 - 276. [معد الكتاب للمكتبة الشاملة] ... لم أجد مصدر هذا النقل عن شيخ الإسلام ابن تيمية. [معد الكتاب للمكتبة الشاملة]

الرد على تفسير الورقة لكلمة التوحيد

خالفوا هذا القول، وذكروا أنه لا يعقل.* وذكر -رحمه الله تعالى- أن الفلاسفة وأهل الاتحاد لم يفرقوا بين القديم والحديث، ولا بين المأمور والمحظور، وقد وقع كثير من الصوفية في هذا الضلال، وكلتا الطائفتين ضلوا، وأضلوا عن سواء السبيل.** وقال -رحمه الله تعالى-: إن ابن سينا ومن تبعه أخذوا أسماء جاء بها الشرع، ووضعوا لها مسميات مخالفة لمسميات صاحب الشرع، فأخذوا مخ الفلسفة وكسوه ثوب الشريعة، وهذا كلفظ الملك والملكوت والجبروت واللوح المحفوظ، كما يوجد في كلام أبي حامد -يعني الغزالي- ونحوه من أصول هؤلاء الفلاسفة الملاحدة، الذين يحرفون كلام الله ورسوله. ... (قلت): ومن ذلك ما ذكره العلامة ابن القيم عنهم من أنهم يقولون: "عناية إلهية"، وتحت هذه الكلمة نفي القدر والحكمة.**** [الرد على تفسير الورقة لكلمة التوحيد] ثم إن هذا في ورقته صرح بأن معنى "لا إله إلا الله" مثل: "لا شمس إلا الشمس" استثناء للشيء من نفسه، وهذا قول في غاية الضلال والجهل، باطل بأدلة الكتاب والسنة، لا يقوله أحد من الأولين والآخرين، ولا في لغة أحد، وليس في المعقول والمنقول إلا رده وإبطاله، ومن لم يعرف بطلان هذا القول فلا حيلة فيه. وتأمل قول هذا أيضا: وخلاصة المعنى سلب مفهوم الإله لما سوى الله، وإيجابه له، وانحصاره فيه، وصرح بهذا المراد بـ "إلا الله". (قلت): من يسمع كلامه هذا ظن أنه حق، وقد بناه على ما مثل به: "لا شمس إلا الشمس"، وحقيقة هذا القول أن الإله واحد، يبينه قوله: سلب مفهوم الإله على ما تقدم له من أن المنفي كلي لا يوجد منه في الخارج إلا فرد. وقد عرفت مما قدمناه أن توحيد الأنبياء والمرسلين البراءة من عبادة الأصنام والأوثان والطواغيت، وكلها موجودة في الخارج بأعيانها كما قال -تعالى- عن قوم نوح: {وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ

_ * لم أجد مصدر هذا النقل عن شيخ الإسلام ابن تيمية. [معد الكتاب للمكتبة الشاملة] ** لم أجد مصدر هذا النقل عن شيخ الإسلام ابن تيمية، ولعل المصنف عندما يصدّر النقل عن شيخ الإسلام بـ"وذكر" فإنه ينقله بالمعنى، والله أعلم. [معد الكتاب للمكتبة الشاملة] ... "مجموع الفتاوى" 10/ 402. [معد الكتاب للمكتبة الشاملة] **** انظر "طريق الهجرتين" لابن القيم ص 110. [معد الكتاب للمكتبة الشاملة]

المنفي بكلمة التوحيد كل ما عبد ويعبد من دون الله

وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} 1. فتبين أن نوحا -عليه السلام- دعا قومه إلى ترك عبادة هذه الأصنام، والبراءة منها، والكفر بها. وكذلك هود -عليه السلام- دعا قومه إلى عبادة الله وحده، وترك ما كان يعبده آباؤهم كما أخبر تعالى عنهم أنهم قالوا له: {أجئتنا لنعبد الله وحده ونذر ماكان يعبد آباؤنا} 2. ومعلوم أن آباءهم لم يكونوا يعبدون كليا ذهنيا لا يوجد إلا في الذهن، بل يعبدون أشخاصا موجودة في الخارج، وقد قالوا لهود -عليه السلام-: {إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ} 3. وقد تقدم من الأدلة ما يدل على أن المنفي والمنهي عنه هو عبادة الأصنام والأوثان والطواغيت التي تعبد من دون الله كما قال -تعالى-: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} 4، {وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ} 5. فلا يشك مسلم -بل كل من له عقل- أن الطواغيت التي يعبدها المشركون موجودة في الخارج، والقرآن من أوله إلى آخره يدل على هذا. [المنفي بكلمة التوحيد كل ما عبد ويعبد من دون الله] فيا من لا يعرف من كلمة الإخلاص ما عرفه عوام المسلمين! ارجع إلى نفسك، وتأمل ما وقعت فيه، أما علمت أن لا النافية إنما وضعت لغة لنفي الجنس تنصيصا؟ والجنس الذي وضعت له لا بد له من أشخاص متعددة في الخارج، قديمة وحديثة، يعبدها كل مشرك؟ وليست كليا لا يوجد إلا في الذهن؟ فإن هذه الدعوى الباطلة لم يقل بها مسلم في معنى كلمة الإخلاص، حتى المشركين في لغاتهم لا يعرفون أن هذا معناها، ولا أنها سلبت مفهوم الإله، بل عرفوا كلهم أن من دعاهم إلى أن يقولوا: "لا إله إلا الله". فإنما أراد منهم ترك ما كانوا يعبدونه من أصنامهم وأوثانهم، وطواغيتهم التي كانت عندهم يعبدونها من دون الله. أما قريش والعرب، فأخبر الله -تعالى- عنهم أنهم لما قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قولوا لا إله إلا الله"6 قالوا: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا} 7 إلى قوله: {وَانْطَلَقَ الْمَلأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ} 8، وآلهتهم: اللات والعزى ومناة التي

_ 1 سورة نوح آية: 23. 2 سورة الأعراف آية: 70. 3 سورة هود آية: 54. 4 سورة النحل آية: 36. 5 سورة الزمر آية: 17. 6 الترمذي: تفسير القرآن (3232) , وأحمد (1/ 227). 7 سورة ص آية: 5. 8 سورة ص آية: 6.

التوحيد هو الكفر بالطواغيت والأصنام وإخلاص العبادة لله وحده

كانت حول الكعبة، فهذا هو المراد من هذه الكلمة من لغتهم، لا يعرفون غير ذلك. فمعنى النفي في هذه الكلمة ترك عبادة الأوثان، والبراءة منها، والكفر بها، وعداوتها، وعداوة من عبدها. وقد كان العرب يقولون في تلبيتهم: "لبيك لا شريك لك، إلا شريكا هو لك، تملكه وما ملك". والشريك إنما هو أوثانهم، أشركوها مع الله في العبادة، واتخذوها أندادا كما قال -تعالى-: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} 1، ومفهوم الإله الذي لا يوجد إلا ذهنا لا يوصف بالاتخاذ ولا بالمحبة، بل ولا له ثبوت. [التوحيد هو الكفر بالطواغيت والأصنام وإخلاص العبادة لله وحده] وتأمل ما فهمه أعداء الرسل لما دعتهم الرسل إلى أن يعبدوا الله وحده: قال -تعالى- عن قوم هود: {إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ} 2، وقالوا: {قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا} 3، عرفوا أنه دعاهم إلى ترك عبادتها والبراءة منها، قال -تعالى-: {فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ} 4. والمفهوم الكلي الذي لا يوجد في الخارج لا يوصف بهذه الصفات، ولا يجمع بهذا الجمع، بل ولا يتصور أن يدعى من دون الله. وقال -تعالى- عن قوم صالح: {قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} 5 عرفوا أنه أراد منهم ونهاهم أن يعبدوا ما يعبد آباؤهم من الأوثان. وقال -تعالى- عن قوم شعيب: {أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} 6، عرفوا في لغاتهم أنه نهاهم عن عبادة ما كان يعبد آباؤهم من الأوثان الموجودة في الخارج. وتأمل قول الله -تعالى-: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا} 7، وقال: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ} 8، وقال: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ} 9، وقال: {أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلًا} 10، وقال: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ} 11. ولا شك عند من له أدنى مسكة من عقل أن

_ 1 سورة البقرة آية: 165. 2 سورة هود آية: 54. 3 سورة الأحقاف آية: 22. 4 سورة هود آية: 101. 5 سورة هود آية: 62. 6 سورة هود آية: 62. 7 سورة مريم آية: 81. 8 سورة الأنبياء آية: 24. 9 سورة الزمر آية: 43. 10 سورة الكهف آية: 102. 11 سورة الشورى آية: 6.

معنى لا إله إلا الله وإعرابها عند الكوراني

الذي اتخذه المشركون يعبدونه من دون الله أشخاصًا متعددة في القرآن من هذا النمط لا تحصى. والمقصود أن الرسل من أولهم إلى آخرهم دعوا أممهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له، وترك عبادة ما كانوا يعبدونه من دونه، والكفر به، والبراءة منه، كما أفصح عن ذلك خليل الرحمن إبراهيم كما قال -تعالى-: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} 1، وقال: {إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا} 2، وقال: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} 3. فالنهي عن عبادة الأصنام والطواغيت، والبراءة منها، والكفر بها، وإخلاص العبادة لله وحده هو التوحيد الذي دعت إليه الرسل، وأفصح القرآن عنه، وجرى بسبب جحوده على الأمم والمشركين ما جرى من العذاب والذهاب والعقاب، فإن هذا من سلب مفهوم ذهني لا يفيد شركا ولا براءة ولا عداوة. فسبحان من طبع من شاء من عباده عن فهم ما بعث الله به رسله من توحيده في العبادة، وصرفهم عن فهم الأدلة التي أظهر فيها لعباده مراده، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. وبهذا يتبين فساد ما لبس به هذا المفتري في معنى كلمة التوحيد، وأنه مصادم لما في كتاب الله من تفسير هذه الكلمة العظيمة، ومناقض لما بعث الله به رسله من إخلاص العبادة له، وترك عبادة ما سواه، والبراءة منها؛ وهذا أظهر شيء في القرآن وأبينه، لا يمتري فيه مسلم. ونشير إلى ما ذكره بعض العلماء في أصل هذه المقالة وبطلانها. [معنى لا إله إلا الله وإعرابها عند الكوراني] قال إبراهيم بن سعد الكوراني في مصنفه في بيان معنى "لا إله إلا الله" وإعرابها،

_ 1 سورة الأنعام آية: 74. 2 سورة العنكبوت آية: 17. 3 سورة الممتحنة آية: 4.

الرد على من صرف كلمة التوحيد عن معناها

وإنها دلت على توحيد الإلهية مطابقة وتضمنا وما دلت عليه التزاما، وذكر كلاما في تقرير هذا المعنى، وذكر أن بعضهم اشترط في لا النافية للجنس في هذه الكلمة الوحدة الذهنية، فجعلوا الجنس المنفي واحدا لا يوجد إلا ذهنا. قال: وبما ذكرناه يتضح أنه لا يصح أن يقال: نأخذ الجنس بشرط الوحدة الذهنية فتكون القضية طبيعية. (أما أولا): فالمراد بالجنس -بلا شرط- الصالح للصدق على الأفراد، كما هو الشأن في موضوع القضايا. (وأما ثانيا): فلأن الكلام يخرج عن إفادة التوحيد بالكلية، لأن حاصله حينئذ هذا الجنس المأخوذ بشرط الوحدة الذهنية المغايرة لله تعالى منتف، وليس هذا من التوحيد في شيء، ولا شم من رائحة الدلالة عليه. (ويقال ثالثا): إن أريد أن هذا الجنس منتف في الذهن فهو قطعي البطلان، إذ كل من ينطق بهذا التوحيد مستحضرا لمعناه قد تحقق هذا الجنس في ذهنه، فكيف يصلح نفيه؟ وعلى كل حال فلا يصح تفسيرا لهذه الكلمة، لأن المراد من "لا إله إلا الله" هو الدلالة على توحيد الألوهية، وهذا معلوم بالضرورة، وعلى تفسيرهم يكون بينه وبين الدلالة على التوحيد بُعد المشرقين. (قلت): وهذا الذي ذكره إبراهيم بن سعد من اشتراطهم أن يكون الجنس فردا لا يؤخذ إلا ذهنا، هو الذي صرح به هذا الملحد في ورقته، وهو أن "لا" في كلمة التوحيد سلبت مفهوم الإله الذي لا يوجد إلا ذهنا، وقد عرفت بعد هذا عن التوحيد الذي دلت عليه كلمة الإخلاص. ولقد صرفوا هذه الكلمة العظيمة عما وضعت له وأريد بها لغة وشرعا وعقلا وفطرة، فإنها وضعت للبراءة من كل ما يعبد من دون الله، وإبطال عبادته، والكفر به؛ وقد عرف هذا كل أحد حتى مشركو الأمم، ومشركو العرب كما تقدم بيانه. [الرد على من صرف كلمة التوحيد عن معناها] وأما قوله: وخلاصة المعنى سلب مفهوم الإله لما سوى الله وإيجابه له وانحصاره

فيه. وصرح بهذا المراد بـ"إلا الله"، فمراده بقوله: وإيجابه له وانحصاره فيه، هذا هو توحيد الفلاسفة وأهل الوحدة، فإن الله عندهم مسماه: الكون المطلق، فكل ما كان خارجا عن الذهن من الأشخاص فقد دخل في مسمى الله، فكل ما في الكون من خبيث وطيب فهو الله، كما ذكره شيخ الإسلام وابن القيم وغيره عنهم. فواجب الوجود والممكن كله داخل في هذا المسمى عندهم، وقد صرحوا بهذا في كتبهم، فلم يفرقوا بين الخالق والمخلوق، وقد قدمنا التنبيه في كلام شيخ الإسلام وابن القيم -رحمهما تعالى- كما ذكر إبراهيم بن سعد ذلك عنهم، وكما قال العلامة ابن القيم -رحمه الله تعالى-: يا أمة معبودها موطوؤها ... أين الإله وثغرة الطعان؟ والناصح لنفسه يكون من هؤلاء الملبسة على حذر، ولا يهمل السؤال عنهم وعن مذاهبهم، وما يخدعون به العامة من زخرف القول، الذي ربما يظن الجاهل أنه حق، وهو عبارة هؤلاء عن باطلهم، كما نبه على ذلك شيخ الإسلام من وضعهم أسماء الحق على باطلهم، وكل طائفة من أهل البدع لها توحيد. وهذا الذي ذكرناه هو توحيد الفلاسفة والاتحادية، وقد أضلوا بما موهوا به كثيرا ممن ينتسب إلى العلم. يا قومنا, الله في إسلامكم ... لا تفسدوه لنخوة الشيطان وتأمل ما ذكره الفخر الرازي في معنى "لا إله إلا الله"، فإنه قال: التحقيق أن المضمر المرفوع بـ"إله" راجع بالحقيقة إلى نفي الأعيان التي سموها آلهة من حيث إنها آلهة، لا إلى وجودها في حد ذاتها ضرورة أنها موجودة في الخارج بالفعل محسوسة. وحاصله نفي كل فرد من أفراد إله من تلك الحيثية غير الله راجع إلى نفي الألوهية عن كل موجود غير الله. انتهى. فتأمل قوله: راجع إلى نفي الأعيان التي سموها آلهة. (قلت): وهو الحق، لأنها نفت إلهية كل مألوه يألهه المشركون غير الله، من كل صنم ووثن وشريك

المنفي في كلمة التوحيد الإلهية الكثيرة الموجودة في الخارج

وطاغوت، وهذا هو مدلول "لا إله إلا الله": نفي إلهية كل ما يؤله من دون الله. وقوله: لا إلى وجودها، دفعا لقول من قال: إن الخبر المضمر موجود، وقد بيّن وجه ذلك، وتقديره للخبر بأحد قريب مما تقدم في المعنى. [المنفي في كلمة التوحيد الإلهية الكثيرة الموجودة في الخارج] وتأمل قوله: وحاصله نفي كل فرد من أفراد إله. فبيّن أن المنفي له أفراد كثيرة، وهذا ظاهر بيّن لا يمنعه أحد، كما هو ظاهر في الكتاب والسنة واللغة والفطرة خلافا للفلاسفة. وكذلك قوله: راجع إلى نفي الإلهية عن كل موجود غير الله، وهذا هو الذي يعرفه الناس كلهم إلا ما كان من هذه الطائفة ومن أهل الوحدة، فإنهم ألحدوا في التوحيد، وأتوا بكل ما يستحيل عقلا وشرعا. فسبحان الله، والله أكبر، أيجوز في عقل أن المشركين من أولهم إلى آخرهم الذين عبدوا مع الله غيره أنهم إنما عبدوا فردا في الذهن لا وجود له في الخارج؟! هذا أمحل المحال، وأبطل الباطل. وقد نبهت فيما تقدم على أنهم أرادوا بهذا أن الأصنام والأوثان والطواغيت لا تدخل في المنفي لأنها من جملة الوجود الذي يسمونها الله. وأقول أيضا: الآلهة هي الأنداد والطواغيت والشركاء، وقد قال -تعالى-: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} 1، فذكرها مجموعة لكثرة أفرادها في الخارج، وقال: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} 2، فذكرها بصيغة الجمع يدل على كثرة أفرادها، وقال -تعالى-: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} 3، وقال: {وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا} 4. وهذه الآيات تدل على أن المعبودات التي تعبد من دون الله كثيرة من الطواغيت وغيرها كقوله في آية البقرة: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ} 5، وكقوله: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ} 6، ولا ريب أن الجن لهم وجود في الخارج، وقوله: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} 7. فدلت هذه الآيات على أن لهذه المعبودات أفرادا كثيرة، وكلها منتفية بـ"لا إله إلا

_ 1 سورة البقرة آية: 22. 2 سورة البقرة آية: 165. 3 سورة البقرة آية: 256. 4 سورة الزمر آية: 17. 5 سورة البقرة آية: 257. 6 سورة الأنعام آية: 100. 7 سورة الشورى آية: 21.

وضع الأسماء الشرعية للمسميات البدعية

الله"، كما قال -تعالى-: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ} 1، وهذا واضح بحمد الله، فبطل ما اختلقه الفيلسوف، وتبين به إلحاده في التوحيد الذي بعث الله به رسله، وأنزل به كتبه {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ} 2. [وضع الأسماء الشرعية للمسميات البدعية] واعلم أن هؤلاء الزنادقة قد طردوا أصلهم هذا حتى في الإيمان، كما قال شيخ الإسلام -رحمه الله تعالى- في كتاب الإيمان عن هؤلاء: إنهم يثبتون لهذه المسميات وجودا مطلقا مجردا عن جميع القيود والصفات، وهذا لا حقيقة له في الخارج، وإنما هو شيء يقدره الإنسان في ذهنه، كما يقدر موجودا لا قديما ولا محدثا، ويقدر إنسانا لا موجودا ولا معدوما، ويقول الماهية من حيث هي لا توصف بوجود ولا عدم، ويقول الماهية من حيث هي هي شيء يقدره الذهن، وذلك موجود في الذهن لا في الخارج، فهكذا الإيمان يقدر إيمانا لا يتصف به مؤمن، بل هو مجرد عن كل قيد، كتقدير إنسان لا يكون موجودا ولا معدوما، بل ما ثم إيمان إلا مع المؤمنين.* (قلت): وكذلك إله لا يوجد إلا مع مألوه تألهه القلوب بالعبادة، وقد أشرت إلى ما ذكره شيخ الإسلام عن هذه الطائفة كابن سينا ومن سبقه، أخذوا أسماء جاء بها الشرع، ووضعوا لها مسميات مخالفة لمسميات صاحب الشرع، ثم صاروا يتكلمون بتلك الأسماء، فيظن الجاهل أنهم قصدوا بها ما قصده صاحب الشرع، فأخذوا مخ الفلسفة فكسوه ثوب الشريعة، وهذا كلفظ الملك والملكوت والجبروت واللوح المحفوظ، والملك والملكوت والشيطان والحدث والقدم وغير ذلك. وقد ذكرنا من ذلك طرفا في الرد على الاتحادية، لما ذكرنا قول ابن سبعين، وابن عربي، وما يوجد في كلام أبي حامد، وغيره من أصول الفلاسفة

_ 1 سورة الأنبياء آية: 24. 2 سورة الحشر آية: 2. * كتاب "الإيمان" ص 317. [معد الكتاب للمكتبة الشاملة]

تفسير العلماء لكلمة التوحيد

والملاحدة التي يحرفون بها كلام الله ورسوله عن مواضعه، كما فعلت القرامطة الباطنية. انتهى كلامه -رحمه الله تعالى-.* والمقصود من هذا الجواب بيان ما قد يفتريه الجاهل من كلام هؤلاء الذين يلبسون على العامة، فيأتونهم بما لا يعرفون أنه حق وباطل، فربما اعتقدوه تعليلا لهؤلاء، فيقعون في حيرة وشك، وهم قبل الابتلاء بهؤلاء في عافية. فسبحان مقلب القلوب. والأصل في ذلك ما أشار إليه شيخ الإسلام -رحمه الله تعالى- في مثل هؤلاء: أنه ليس عندهم من علم القلب ومعرفته ويقينه ما يدفع الريب، ولا عندهم من قوة الحب لله ورسوله ما يقدمونه على الأهل والمال، وهؤلاء إن عوفوا من المحنة وماتوا دخلوا الجنة، وإن ابتلوا بمن يدخل عليهم شبهات توجب ريبهم فإن لم ينعم الله عليهم بما يزيل الريب، وإلا صاروا مرتابين، وانتقلوا إلى نوع من النفاق. انتهى كلامه -رحمه الله تعالى-.** فليكن العبد المؤمن من المحنة بأهل الأهواء على حذر، ومن دنياه على خطر، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. اللهم مصرف القلوب اصرف قلوبنا على توحيدك وطاعتك وتقواك، وأقم لنا ديننا الذي ارتضيته لنا، وثبتنا عليه، اللهم زيّنا بزينة الإيمان، واجعلنا هداة مهتدين. [تفسير العلماء لكلمة التوحيد] ونختم الجواب بذكر ما ذكر العلماء -رحمهم الله تعالى- في معنى "لا إله إلا الله": قال ابن رجب -رحمه الله تعالى-: الكلام على "لا إله إلا الله": الإله هو الذي يطاع فلا يعصى، هيبة له وإجلالا ومحبة وخوفا ورجاء وتوكلا وسؤالا منه ودعاء له. ولا يصلح ذلك كله إلا لله عز وجل، فمن أشرك مخلوقا في شيء من هذه الأمور التي هي من خصائص الإلهية كان ذلك قدحا في إخلاصه في قول "لا إله إلا الله"، وكان فيه من عبودية المخلوق بحسب ما فيه من ذلك. وقال البقاعي: "لا إله إلا الله" أي: انتفى انتفاء عظيما أن يكون معبودا بحق

_ * "مجموع الفتاوى" 10/ 402. [معد الكتاب للمكتبة الشاملة] ** كتاب "الإيمان" ص 213. [معد الكتاب للمكتبة الشاملة]

غير الملك الأعظم، فإن هذا العلم هو أعظم الذكرى المنجية من أهوال الساعة، وإنما يكون علما نافعا إذا كان مع الإذعان والعمل بما تقتضيه، وإلا فهو جهل صرف. وقال الطيبي: الإله فعال بمعنى مفعول، كالكتاب بمعنى المكتوب، من أله إلاهة، أي عبد عبادة. (قلت): وهذا الذي ذكره الطيبي -رحمه الله تعالى- على معنى ما ثبت عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أنه قرأ: {ويذرك وإلاهتك} قال: لأنه كان يعبد ولا يعبد. وهذا ظاهر بحمد الله لمن تدبر القرآن، وعرف حقيقة الإسلام والإيمان. والله المستعان، وعليه التكلان، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلى الله على محمد وآله وصحبه، وسلم تسليما كثيرا.

ذيل للرد للعلامة ابن بطين

[ذيل للرد للعلامة ابن بطين] بسم الله الرحمن الرحيم قال الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبو بطين -وفقه الله -تعالى- ورحمه وغفر له- لما ذكر له الشيخ عبد الرحمن بن حسن أن يرد على المحمود لما غلط في معنى "لا إله إلا الله"، وقال بعد السلام ورحمة الله وبركاته وغير ذلك: ذكرت لي أني أكتب على كلام الدرويش الذي عندكم في بيان بعض ما فيه من العيب، والذي كتبتم عليه فيه كفاية، لكن نذكر على بعض ألفاظه بيان مخالفته للحق. منها قوله: "الحمد لله المتوحد بجميع الجهات" فنقول: لا يشك من سمع هذا الكلام في أن المراد بالجهات الجهات الست، التي يقول المعطل فيها: إن الرب -سبحانه وتعالى- من الجهات الست خالٍ، والاتحادي يقول: إنه سبحانه متحد فيها، والحلولي يقول: إن الله سبحانه حالٌّ فيها. تعالى الله عما يقول الجميع علوا كبيرا. وأهل السنة والجماعة يقولون: إن الرب سبحانه مستو على عرشه بائن من خلقه. وظاهر قول الرجل: "المتوحد بجميع الجهات"، يشبه قول الاتحادية، وإن حملت الباء على الظرفية شابه قول الحلولية، وربما يظن أنه لعجمته يعبر بعبارات لا يعرف معناها، لكن سمعت أنه قد شرع في وضع حاشية على النونية، ولا يتنَزل لذلك إلا من يدعي تمام المعرفة. وحكي عنه أنه يقول: مرادي بالجهات جهات التوحيد الثلاث وهو توحيد الربوبية، والإلهية، والأسماء والصفات. وهذا بعيد من كلامه لأن هذه تسمى أنواعا لا جهات. وبكل حال فظاهر كلامه يخالف ما عليه أهل السنة والجماعة، لكن ينبغي أولا إحضاره، ويبين له ما في كلامه مما ظاهره خلاف الحق، وتبين له الأدلة الشرعية على خلاف ما يوهمه كلامه، فإن اعترف فهو المطلوب والحمد لله. وفي كلامه من العيب والركاكة كثير، كقوله: "لا شريك له في الذات ولا في

الصفات" فنفى الشركة في الذات، ولم يقل أحد من بني آدم إن لله -سبحانه وتعالى- شريكا في ذاته حتى يحتاج إلى نفي ذلك، وإنما يقول أهل الحق: "لا شبيه له في ذاته ولا في صفاته" ردا لقول المشبهة. فهذا من قوله: "لا شريك له في ذاته" يدل على قلة معرفته في هذا الباب. وكذلك قوله: "لا شريك له في الملك فضلا عن الملكوت". فأشار بقوله: "فضلا عن الملكوت" إلى بعد ما بينهما، وقد ذكر العلماء أن الملكوت هو الملك، وإنما زيدت التاء للمبالغة في التعظيم. وكذلك قوله في إعراب "لا إله إلا الله ": "من قبيل استثناء الجزئي من الكلي". فجعله استثناء للاسم الكريم من نوع استثناء الجزئي من الكلي غلط، بل الجزئي مقابل الكلي وقسيمه لا قسم منه، فالكلي ما اشترك في معناه كثيرون كالإنسان والحيوان، والجزئي يراد به الأسماء الأعلام كزيد وعمرو، والاسم الكريم أعرف المعارف كما قال سيبويه وغيره. وكذلك قوله في إعراب "لا إله إلا الله": "إنه كقولنا لا شمس إلا الشمس". لأن قول القائل: "لا شمس إلا الشمس" لفظ لا فائدة فيه، وأيضا فاسم الشمس من الألفاظ الكلية؛ لقولهم في تعريف الكلي: ما لا يمنع تصور معناه من وقوع الشركة فيه، فهو الكلي سواء وقعت الشركة كالإنسان، أو لم تقع وأمكنت كالشمس، أو استحالت كالإله. فإن استحالة ذلك للأدلة القاطعة عليه، فجعل الاسم الكريم الذي هو أرفع الأعلام، وأعرف المعارف مثل الشمس التي هي من الألفاظ الكلية غلط. بل الموافق لقولنا: "لا شمس إلا الشمس" قول القائل: "لا إله إلا الإله"، وهذا لفظ مع الإطلاق، لا يستفاد منه توحيد الإلهية لله رب العالمين. هذا وكثير من كلامه جعجعة بلا طحن، فنسأل الله -سبحانه وتعالى- أن يهدينا وجميع الأمة إلى صراطه المستقيم. وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.

مسائل وفتاوى للشيخ عبد الرحمن بن حسن

مسائل وفتاوى تأليف شيخنا وإمامنا، ناصر السنة، وقامع البدعة الشيخ عبد الرحمن بن الشيخ حسن بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب أجزل الله لهم الأجر والثواب آمين من مطبوعات صاحب الجلالة السعودية ومحيي السنة المحمدية الإمام عبد العزيز آل سعود ملك الحجاز ونجد وملحقاتها وقد وقفه على من ينتفع به من أهل العلم والدين لا يحل لمن وقع بيده بيعه

جوابه عن قول الخطيب: الحمد لله الذي تحيرت العقول في مبدأ أنواره ... الخ

مسائل وفتاوى للشيخ: عبد الرحمن بن حسن بن محمد بن عبد الوهاب ... [جوابه عن قول الخطيب: الحمد لله الذي تحيرت العقول في مبدأ أنواره ... الخ] بسم الله الرحمن الرحيم سئل الشيخ عبد الرحمن بن حسن -متع الله المسلمين بحياته، وبارك لهم في ساعاته- عن قول الخطيب: "الحمد لله الذي تحيرت العقول في مبدأ أنواره، وتاهت الألباب في صمديته وكنه ذاته"؟ فهذه الألفاظ ابتدعها من تمسك بقول أهل الكلام الحادث المذموم، فإنهم الذين تاهوا وتحيروا في الإيمان الذي دعت إليه الرسل، ونزلت به الكتب، وإلا فطريقة القرآن حمد الله لنفسه بأسمائه وصفاته وما يعرف به، ويوجب الإيمان به، ومعرفته، وإثبات ربوبيته، وصفات كماله. فهذا هو توحيد المعرفة والإثبات الذي هو توحيد المرسلين، ودعوا به الأمم إلى توحيد الإرادة والقصد، الذي هو توحيد الإلهية. فإن الرب الذي أبدع لخلقه ما يشاهدونه من عظيم مخلوقاته، وتعرف إليهم بذلك، وبما دلهم عليه من كمال صفاته، وتصرفه في مخلوقاته، وهو الرب الذي لا يستحق العبادة غيره، واستدل بأدلة ربوبيته على ما يستلزمه منه إلهيته فقال: {ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} 1، فأنكر الشرك في حق من هذا وصفه، وإنكار الشرك يقتضي توحيد العبادة بأن لا يراد غيره، ولا يقصد سواه، فانتظم ذلك نوعي التوحيد. وقال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا قَيِّمًا} 2، فحمد نفسه على إنزال الكتاب الذي هو أعظم نعمة أنعمها على أهل الأرض، وهو يقتضي الإيمان بالكتب والرسل، وهو صراط الله المستقيم الذي لا تزيغ به الأهواء، فهذا وأمثاله هو طريقة القرآن: يحمد نفسه على ما يتعرف به إلى خلقه ليعرفوه بذلك الذي أبدعه وأوجده وأنعم به كقوله: {الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} 3 الآية. وأمثال هذا في القرآن كثير وتدبره والعلم به

_ وأمثال هذا في القرآن كثير، وتدبره والعلم به 1 سورة الأنعام آية: 1. 2 سورة الكهف آية: 1. 3 سورة فاطر آية: 1.

الفرق بين الرخصة والعزيمة، وحكم الشرع فيهما

يحصل كمال الإيمان، وتنتفي الحيرة، ويحصل كمال الهداية، ويعصم القلوب أن تتيه في ربها وصفاته؛ فكل ما وصف به نفسه فلا حيرة فيه عند أهل الإيمان، الذين عرفوه بما تعرف به إليهم في كتابه، واطمأنت قلوبهم بالإيمان به، وجعلوه قصدهم ومرادهم. وأما أهل الجدل من أهل الكلام فهم الذين تحيروا وتاهوا، كما أخبر بذلك نفر من متقدميهم، كما هو معروف لديكم بحمد الله. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. الفرق بين الرخصة والعزيمة {وحكم الشرع فيهما} بسم الله الرحمن الرحيم من عبد اللطيف بن عبد الرحمن إلى الأخ المكرم صالح الشثري: سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وموجب الخط إبلاغك السلام، وما أشرت إليه في تحرير قول الفقهاء في الرخصة: إنها ما ثبتت على خلاف دليل شرعي لمعارض راجح، وضدها العزيمة. فأقول: اعلم أن العزيمة شرعا حكم ثابت بدليل شرعي خالٍ عن معارض راجح. فقوله: بدليل شرعي، احتراز عما ثبت بدليل عقلي. وقوله: خال عن معارض، احتراز عما ثبت بدليل، فالرسل وأتباع الرسل كمل الله إيمانهم بذلك العلم والعمل، فقد قال -تعالى-: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} 1، فحمد نفسه بما يوجب الإيمان به ومعرفته من عظيم مخلوقاته. لكن لذلك الدليل معارض مساو أو راجح لأنه إن كان المعارض مساويا لزم الوقوف، وأثبتت العزيمة، ووجب طلب المرجح الخارجي. وإن كان راجحا لزم العمل بمقتضاه، وانتفت العزيمة، وثبتت الرخصة، كتحريم الميتة عند عدم المخمصة. فالتحريم فيها عزيمة لأنه

_ 1 سورة الأنعام آية: 1.

مسألة الجد والإخوة

حكم ثابت بدليل شرعي خال عن معارض، فإذا وجدت المخمصة حصل المعارض لدليل التعليم، وهو راجح عليه حفظا للنفس، فجاز الأكل وحصلت الرخصة. وأما الرخصة فهي ما ثبت على خلاف دليل شرعي لمعارض راجح. فقوله: ما ثبت على خلاف دليل شرعي، احتراز عما ثبت على وفق الدليل، فإنه لا يكون رخصة، بل عزيمة، كالصوم في الحضر. وقوله: لمعارض راجح، احتراز عما كان لمعارض غير راجح، بل إما مساويا فيلزم الوقوف على حصول المرجح، أو قاصرا عن مساواة الدليل الشرعي فلا يؤثر، وتبقى العزيمة بحالها. وعلى التعريف المذكور يدخل في العزيمة الأحكام الخمسة الثابتة بالأدلة الشرعية، ويدخل في الرخصة ما عارض تلك الأحكام، وخالفها لمعارض راجح عليها كأكل الميتة عند المخمصة. انتهى. [مسألة الجد والإخوة] بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الرحمن بن حسن إلى الأخ الشيخ محمد بن عجلان -سلمه الله -تعالى-: وبعد ما ذكرت من مسألة الجد والإخوة، فذكر في الاختيارات: أن الجد يحجب الأخوة وهو قول أبي بكر، وقال به غيره من الصحابة، وهو رواية عن أحمد -رحمه الله تعالى- وهو الذي يختاره أشياخنا. والله أعلم. [قلب الدَّيْن على من له عقار وعوامل ونواضح ونحوها] * بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد، وآله وصحبه والتابعين والعلماء العاملين. من عبد الرحمن بن حسن إلى من يصل إليه من الإخوان، وفقني الله وإياهم لسلوك منهج العلم والإيمان. آمين. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: فقد سألني بعض الإخوان عن قلب الدَّين إن كان له عقار وعوامل ونواصح ونحوها.

_ * هذه المسألة ناقصة، وقد ذكرت من قبل بتمامها في 1/ 381. [معد الكتاب للمكتبة الشاملة]

في الرد على الجهمية والرافضة

فأجبت إلى أنه لا يخلو من ثلاثة أحوال: الحال الأولى أن يضيق المال عن الدَّين، فهذا مفلس عند العلماء -رحمهم الله-. إذا سأل غرماؤه الحاكم -ولو بعضهم- لزمه الحجر عليه في ماله. وذهب جمع من المحققين إلى أنه يكون محجورا عليه بدون حكم الحاكم، وهذا لا يجوز قلب الدَّين عليه بحال لعجزه عن وفاء ما عليه من الدَّين. في الرد على الجهمية والرافضة بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، محمد وعلى آله وصحبه ومن أحبه ووده. من عبد الرحمن بن حسن إلى أخيه راشد بن مطر -سلمه الله تعالى، وزاده علما وإيمانا وتوفيقا وتحقيقا وإذعانا-. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته: وبعد: فقد وصل إليّ خطك، وسرنا ما أشعر به من حسن الحال من معرفة الإسلام ومحبته وقبوله، فتلك النعمة التي لا أشرف منها ولا أنفع {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} 1، فرحمته: الإسلام والإيمان، وقيل: القرآن، وهما متلازمان، ورحمته أن جعلكم من أهله، كما فسر الصحابي رضي الله عنه الآية بهذا. وما ذكرت من قيام الجهمية والرافضة والمعتزلة عليكم، فلا يخفاك أن هذه الفرق الثلاث قد ابتلي بهم أهل السنة والجماعة قديما وحديثا، وتشعبت هذه الأهواء شعبا، وكل من أقامه الله بدينه والدعوة إليه ناله منهم عناء ومشقة. فهم أعداء أهل الحق في كل زمان ومكان، حكمة بالغة ليمتحن حزبه بحربه كما جرى

_ 1 سورة يونس آية: 58.

للرسل من أعدائهم في الدين، قال -تعالى-: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ} 1، ليتميز الصادق بصدقه وصبره على دينه، وليتخلف من ليس كذلك، ممن ليس له قدم راسخ في الإيمان {وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} 2. وبعد الابتلاء والامتحان يحصل النصر والتمكين للمؤمنين الصادقين الصابرين، كما قال -تعالى-: {وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} 3، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ} 4 الآية. فمن قامت عليه الحجة فلم يقبل وجادل بالباطل وجبت عداوته، والبراءة منه، ومفارقته بالقلب والبدن. وأما قول الأشاعرة في نفي علو الله -تعالى- على عرشه، فهو قول الجهمية سواء بسواء. وذلك يرده ويبطله نصوص الكتاب والسنة، كقول الله -تعالى-: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} 5، {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} 6 في سبعة مواضع، وكقوله: {تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} 7 والعروج إنما هو من أسفل إلى فوق، وقوله: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} 8، {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} 9، {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} 10 الآيتين. وكل هذه الآيات نصوص في علو الله -تعالى- على خلقه، واستوائه على عرشه، على ما يليق بجلاله، بلا تكييف. وقول هؤلاء الأشاعرة: إنه من الجهات الست خالٍ. قد وصفوه بما يوصف به المعدوم، وهو قد وصف نفسه بصفات الموجود، القائم على كل نفس بما كسبت. وفي الأحاديث من أدلة العلو ما لا يكاد يحصر إلا بكلفة، كقوله في حديث الرقية: "ربنا الله الذي في السماء، تقدَّس اسمك"11 الحديث. وجوهرة السنوسي ذكر فيها مذهب الأشاعرة، وأكثره مذهب الجهمية المعطلة، لكنهم تصرفوا فيه تصرفا لم يخرجهم عن كونهم جهمية. ومذهبهم أن القرآن عبارة عن كلام الله، لا أنه كلامه الذي تكلم به، وخالفوا الكتاب والسنة. قال -تعالى-: {يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ} 12، {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} 13،

_ 1 سورة الفرقان آية: 31. 2 سورة العنكبوت آية: 3. 3 سورة الصافات آية: 173. 4 سورة محمد آية: 7. 5 سورة طه آية: 5. 6 سورة الأعراف آية: 54. 7 سورة المعارج آية: 4. 8 سورة النحل آية: 50. 9 سورة آل عمران آية: 55. 10 سورة الملك آية: 16. 11 أبو داود: الطب 3892. 12 سورة الفتح آية: 15. 13 سورة التوبة آية: 6.

{وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} 1، {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ} 2. والأدلة على هذا كثيرة جدا. والأشعري له كتب في إثبات الصفات، وهذا المذهب الذي نسبه إليه هؤلاء تبرَّأ منه في كتابيه (الإبانة)، و (المقالات) وغيرهما، وكثير من أهل العلم يكفرون نفاة الصفات؛ لتركهم ما دل عليه الكتاب والسنة، وعدم إيمانهم بآيات الصفات. [جحود توحيد الألهية ودعاء غير الله كفر] وأما من جحد توحيد الإلهية، ودعا غير الله فلا شك في كفره، وقد كفَّره القرآن. والسنوسي وأمثاله من المتأخرين، ليس من السلف ولا من الخلف المعروفين بالنظر والبحث، بل هو من جهلة المتأخرين المقلدين لأهل البدع، وهؤلاء ليسوا من أهل العلم. والخلف فيهم من انحرف عن السنة إلى البدع، وفيهم من تمسَّك بالسنة، فلا يسب منهم إلا من ظهرت منه البدعة. وأما ابن حجر الهيتمي فهو من متأخري الشافعية، وعقيدته عقيدة الأشاعرة النفاة للصفات، ففي كلامه حق وباطل. وأما الدعاء بعد المكتوبة ورفع الأيدي فليس من السنة، وقد أنكره شيخ الإسلام؛ لعدم وروده على هذا الوجه. وأما أهل البدع فيجب هجرهم والإنكار عليهم إذا ابتليتم بهم. وتأمَّلوا مصنفات الشيخ، وتأملوا كلامه -رحمه الله تعالى- تجدوا فيه البيان والفرقان. وحديث افتراق الأمة إلى ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة، وهي التي تمسَّكت بما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه. [الرد على الجهمية والرافضة] وأما الأفغانيون الذين جاؤوا فبلغنا أنهم يرون رأي الخوارج، معهم غلو، وقد شدَّد النبي صلى الله عليه وسلم في الغلو، وأخبر عن الخوارج أنهم: "يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية"3 وأمر بقتلهم.

_ 1 سورة النساء آية: 164. 2 سورة لقمان آية: 27. 3 البخاري: المناقب 3611 , ومسلم: الزكاة 1066 , والنسائي: تحريم الدم 4102 , وأبو داود: السنة 4767 , وأحمد 1/ 81 ,1/ 88 ,1/ 91 ,1/ 131 ,1/ 147 ,1/ 151 ,1/ 156 ,1/ 160.

مسائل شتى سئل عنها الشيخ عبد الله أبو بطين

وسبب غلوهم: الجهل بما دل عليه الكتاب والسنة؛ فأدَّاهم جهلهم وقصورهم في الفهم إلى أن كفَّروا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من السابقين الأولين. فإذا كان قد جرى في عهد النبوة من يطعن على رسول الله صلى الله عليه وسلم ويكفر أصحابه، فلا يبعد أن يجيء في آخر هذه الأمة من يقول بقولهم ويرى رأيهم، وهؤلاء الناس الذين هاجروا إلينا وبايعونا ما ندري عن حقيقة أمرهم. وعلى كل حال إذا عملتم بالتوحيد، وأنكرتم الشرك والضلال، وفارقتم أهل البدع، فلا يلزمكم هجرة عن الوطن والمال، بل يجب عليكم الدعوة إلى الله، وطلب أدلة التوحيد في كتاب الله، وتأمل كلام الشيخ في مصنفاته، فإنه -رحمه الله تعالى- بيَّن وحقق، وأنتم سالمين. والسلام. مسائل شتى سئل عنها الشيخ عبد الله أبو بطين [ثلاث مسائل] مسألة: قول الشيخ عثمان -رحمه الله تعالى-: والحاصل أن الصفة تارة تعتبر من حيث هي هي، وتارة من حيث قيامها به، وتارة من حيث قيامها بغيره، وليست الاعتبارات الثلاث متماثلة، إذ {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} 1 لا في ذاته، ولا في شيء من صفاته، ولا في شيء من أفعاله، {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} 2. فاحفظ هذه القاعدة فإنها مهمة جدا، بل هي التي أغنت السلف الصالح عن تأويل آيات الصفات وأحاديثها، وهي العاصمة لهم من أن يفهموا من الكتاب والسنة مستحيلا على الله -تعالى- من تجسيم أو غيره. ثم بعد إثباتي لهذه القاعدة رأيتها منصوصة في كلام السيد المعين، ثم رأيته قد سبقه إليها العلامة ابن القيم. انتهى. بيّن لنا هذه الاعتبارات الثلاث التي ذكر، وما يتعلق بها من ذكر الدليل، ومن هو السيد الذي ذكر؟

_ 1 سورة الشورى آية: 11. 2 سورة الشورى آية: 11.

مسألة أيضًا: قوله عزّ وجل: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} 1، قال سفيان -رحمه الله-: "فرَّق الله بين الخلق والأمر، فمن جمع بينهما فقد كفر". بيّن لنا قول سفيان -قدَّس الله روحه، ونوَّر ضريحه-، وما صفة الجمع وضده في قوله: فمن جمع .. إلخ؟ مسألة أيضًا: ما يروى عن ابن عمر: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نشرب على بطوننا، ونهانا أن نغرف باليد الواحدة كما يشرب القوم الذين سخط الله عليهم، ولا نشرب بالليل في إناء حتى نحركه إلا أن يكون مخمرا، ومن شرب بيد وهو يقدر على إناء يريد التواضع كتب الله له بعدد أصابعه حسنات، وهو إناء عيسى بن مريم -عليه السلام-"2 في إسناده بقية بن الوليد. جواب الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبو بطين، آتاه الله أجره مرتين: [الإيمان بالصفات] قول الشيخ عثمان: الصفة تعتبر من حيث هي هي إلخ. يعني لها ثلاث اعتبارات: تارة تعتبر من حيث هي هي، أي تعتبر منفردة من غير تعلقها بمحل، مثال ذلك: البصر، فيقال: البصر من حيث هو هو: ما تدرك به المبصرات، ومن حيث تعلقه بمخلوق فيقال: هو نور في شحمة تسمى إنسان العين تحت سبع طبقات في حدقة ينطبق عليها جفنان. وأما بالنسبة إلى الرب -سبحانه- فنقول: هو سبحانه سميع بسمع، بصير ببصر، ليس كسمع المخلوق، ولا كبصر المخلوق، وهكذا سائر الصفات. ومراده بالسيد معين الدين: هو أبو المعالي محمد بن صفي الدين الحنبلي. [الخلق والأمر] وأما قول سفيان في قوله -سبحانه-: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} 4، فمراده بذلك الرد على من يقول: إن كلام الله مخلوق. يقول: إن الله -سبحانه وتعالى- عطف الأمر على

_ 1 سورة الأعراف آية: 54. 2 ابن ماجه: الأشربة 3431. 3 سورة الأعراف آية: 54.

معنى قول الشيخ محمد بن إسماعيل الأمير الصنعاني -رحمة الله عليه-: ولا ينفع المشرك قوله: أنا لا أشرك بالله شيئا لأن فعله أكذب قوله ...

الخلق، وأمره هو كلامه، فمن قال: إن كلام الله مخلوق فقد جعل أمره مخلوقا، فجمع بين الخلق والأمر، والله -سبحانه- قد فرق بينهما بعطفه الأمر على الخلق، فالمعطوف غير المعطوف عليه. والمراد بسفيان هو سفيان بن عيينة الإمام المعروف -رحمه الله تعالى-. [السنة في الشرب] وما ذكرت من النهي عن الشرب باليد الواحدة، وحديث الترغيب في الشرب باليد، فلا أظن لذلك أصلا. وأما الشرب على البطن يراد به الكرع في الماء، فقد ورد حديث يدل على جواز الكرع. ففي البخاري: "أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على رجل من الأنصار فقال له: إن كان عندك ماء بات هذه الليلة في شنة وإلا كرعنا"1، والكرع هو: الشرب من النهر ونحوه بالفم من غير إناء ولا يد. وورد حديث رواه ابن ماجه بالنهي عن الشرب كذلك، فيحمل هذا إن صح على ما إذا انبطح الشارب على بطنه، وحديث البخاري إذا لم ينبطح، أو يحمل النهي على التنْزيه، وحديث البخاري على الجواز. والله -سبحانه وتعالى- أعلم. * * * وسئل أيضا: الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن عن معنى قول الشيخ محمد بن إسماعيل الأمير الصنعاني -رحمة الله عليه-: ولا ينفع المشرك قوله: أنا لا أشرك بالله شيئا لأن فعله أكذب قوله، فإن قلت: هم جاهلون أنهم مشركون بما يفعلون، قلت: قد صرَّح الفقهاء في باب الردة أن من تكلم بكلمة الكفر يكفر وإن لم يقصد معناها. وهذا دال على أنهم لا يعرفون حقيقة الإسلام، ولا ماهية التوحيد، فصاروا حينئذ كفارا كفرا أصليا، فإن الله -تعالى- قد فرض على عباده إفراده بالعبادة، أن لا يعبدوا إلا إياه. ذكره في تطهير الاعتقاد.

_ 1 البخاري: الأشربة 5613 , وأبو داود: الأشربة 3724 , وابن ماجه: الأشربة 3432 , وأحمد 3/ 328 ,3/ 343 ,3/ 344 ,3/ 355 , والدارمي: الأشربة 2123.

مسائل وفتاوى للشيخ عبد الرحمن بن حسن

فأجاب -رحمه الله تعالى-: قول محمد بن إسماعيل الأمير: إنه لا ينفع قول من فعل الشرك: أنا لا أشرك بالله، يعني أنه إذا فعل الشرك فهو مشرك، وإن سمَّاه بغير اسمه ونفاه عن نفسه. وقوله: قد صرَّح الفقهاء في كتبهم بأن من تكلم بكلمة الكفر يكفر وإن لم يقصد معناها، فمرادهم بذلك من تكلم بكلام كفر مازحا وهازلا، وهو عبارة كثير منهم في قولهم: من أتى بقول أو فعل صريح في الاستهزاء بالدين وإن كان مازحا، لقوله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} 1. وأما من تكلم بكلمة كفر لا يعلم أنها كفر، يُعرَّف بذلك، فإن رجع فإنه لا يحكم بكفره كالذين قالوا: "اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط"2. وقوله: فصاروا كفارا كفرا أصليا. يعني: أنهم نشؤوا على ذلك، فليس حكمهم كالمرتدين الذين كانوا مسلمين، ثم صدرت منهم هذه الأمور الشركية. والله -سبحانه وتعالى- أعلم، وصلى الله على محمد وآل محمد وأصحاب محمد، وسلم تسليما كثيرا. [مسائل وفتاوى للشيخ عبد الرحمن بن حسن] معنى قوله في الاستفتاح "ولا إله غيرك" بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الرحمن بن حسن إلى الأخ المحب الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن -غمره الله بأنعمه، وزاده من فواضل جوده وكرمه-. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: فالخط وصل، وبه الأنس والسرور حصل، حيث أنبأ عن حال الأخ -جعلها الله حالا مرضية، وبالتوفيق مرعية-. وحيث سألت عني فأحمد الله إليك، وأنا بخير وعافية -جعلنا الله وإياكم من الشاكرين-. والأحوال من فضل الله جميلة، نسأل الله -تعالى- أن يصلح قلوبنا، ويغفر ذنوبنا، ويستر عيوبنا، وأن يمن على الجميع

_ 1 سورة التوبة آية: 65، 66. 2 الترمذي: الفتن 2180 , وأحمد 5/ 218.

مسألة في بعض ما يتعلق بغلة الوقف

بالهدى والسداد، والفوز بالرضوان يوم المعاد، إنه هو الكريم الجواد، اللطيف بالعباد. ويا أخي: مر علينا في شرح الزاد في معنى قوله في الاستفتاح: "ولا إله غيرك". أي: لا يستحق أن يعبد غيرك، وهو يؤيد ما قد قلته لك من أن المقدر في كلمة الإخلاص إذا قال الموحد: "لا إله إلا الله" أي: لا إله حق إلا الله، والعامل في هذا المقدر "لا" على أنه خبرها في قول الأخفش. وعلى قول سيبويه لم تعمل فيه "لا"، وإنما عمل فيه المبتدأ وهو "لا" مع اسمها، فإن "لا" مع اسمها في محل رفع على الابتداء، والمقصود أن المقدر"حق" ليطابق ما في الآيتين في سورة الحج ولقمان. وأبلغ محمد بن مانع ومن بحضرتك من الطلبة والإخوان والجماعة السلام. ومن لدينا العيال وخواص إخوانكم بخير، وينهون السلام وأنت سالم. والسلام. مسألة في بعض ما يتعلق بغلة الوقف بسم الله الرحمن الرحيم وما ذكرت من وصول الجواب، فالحمد لله على ذلك، ونسأله التوفيق والإصابة، والإعانة مع السداد والإثابة، إنه هو الكريم الجدير بالإجابة. وتذكر أن عدم الإجبار في المسألة التي وصل إليكم جوابها عندكم ظاهر، أما عدم جوازها بالتراضي فمشكل. فأقول: نص العلماء -رحمهم الله تعالى- على المنع من قسمة مثل هذا إذا كان الوقف شيئا مقدرا من الغلة، ودليل المنع ظاهر في كلامهم سأشير إليه بعد -إن شاء الله-. وأما ما سنح لك من القول بالجواز فمشكل حتى على قولك، لأن التراضي من جهة الموقف متعذر، لكونه على الوجوه التي ذكرت، ولعدم أهلية ناظر الوقف. وأما قولك: إن العقار المذكور مقدم في غلته صبرة وباقيه طلق.

فهذا علة المنع من القسمة والبيع، لأن غلة الأصل قد تنقص فلا يبقى منها إلا بقدر المقدر للوقف أو دونه فيستغرق الأصل. وأما قولكم: فهي كالخراج في الأرض الخراجية .. إلى آخره. فأقول: لا يقاس الوقف على أرض الخراج، وما علمت من العلماء أحدا سبق له مثل هذا القياس، وهو أيضا قياس مع الفارق، فإن الزكاة لا تجب في الوقف على غير معين بخلاف الخراجية، فإنه يجب فيها العشر والخراج ففارقها بذلك. والخراج الذي وضعه عمر رضي الله عنه لا ينقص الغلة، ولا يمنع من هي في يده استغلالها لقلة الخراج، وكل إمام عدل لا يضع على الأرض من الخراج إلا ما تطيقه، فلا يمنع أهلها من الاستغلال؛ فلذلك قال العلماء -رحمهم الله تعالى-: إنه لا يزاد فيه ولا ينقص إلا إذا تغير السبب. ففارقت مسألتنا هذه من هاتين الجهتين أيضا. فتأمل، فإن هذا الوقف لا يزاد ولا ينقص، ولو لم يبق من المغل إلا قدره. وقولكم: كما منعوا بيع أرض العَنْوَة لوقفها. أقول: هذا مما يؤيد المنع من البيع والقسمة في هذه الصورة، وإن كنا نرى أن سبب المنع غير هذا. وأما قولكم: الثانية: أنهم قد صرَّحوا بجواز قسمة الوقف على جهة واحدة على ما ظهر صاحب الفروع من كلام الأصحاب. أقول: ما نقلته عن صاحب الفروع صحيح، لكن ذكر في الإنصاف عن القواعد ما يخالف ما في الفروع فقال: وقال في القواعد: هل يجوز قسمته؟ فيه طريقان: أحدهما: أنه كإفراز الطلق من الوقف، وهو المجزوم به في المحرر. والطريق الثاني: أنه لا يصح قسمته على الوجهين جميعا على الأصح، وهي طريقة صاحب الترغيب. وعلى القول بالجواز، فهو مختص بما إذا كان وقفا على جهتين، لا على جهة واحدة. صرح به الأصحاب، نقله الشيخ تقي الدين. انتهى.*

_ * "الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف" للمرداوي 11/ 260. [معد الكتاب للمكتبة الشاملة]

إذا عرفت أن القول بالجواز الذي هو خلاف الأصح بهذه الصورة بعينها، فأين هذه من مسألتنا؟ وهي لا يمكن فيها معرفة مقدار ما يخص هذه الغلة الموقوفة من أصلها التي عينت فيه، مع ما في ذلك أيضا من الضرر الظاهر على الوقف، من تفريقه في أيدي أناس، لا يمكن تمييز نصيبهم بدون مشاركة الوقف لهم. وقولكم: فليس هو كالوقف المحض الذي فيه كلام الشيخ. أقول: نعم، ليس كهو، فإذا كان الشيخ قد منع من قسمة الوقف إذا كان على جهة واحدة، مع إمكان إفراز نصيب كل واحد من العدد الموقوف عليهم المحصورين، مع ما في ذلك من مصلحة انتفاء ضرر المشاركة، فَلَأَن يمنع من قسمة وقف لا يمكن معرفة ما يخصه من الأصل لتطرق النقصان على الغلة غالبا من باب أولى. وقولكم: إن قسمته تقلل أيدي الملاك عليه فلا يكونون شركاء متشاكسين، أقول: تقليل أيدي الملاك مما يزيد التشاكس في الوقف ويفرقه، مع ما يفضي إليه استيلاء هذه الأيدي من إتلاف هذا الوقف، وإتعاب ناظره بتكثير الطامع فيه، فقد ظهر من هذا الجواب بعض مآخذ المانعين. فتأمله يظهر لك صحة مأخذهم، وحسن مداركهم. وأما ما ذكرته عن "الإقناع" في قسمة المهايآت؛ فقد ذكرت في الجواب قبل هذا عبارة لشيخ الإسلام -رحمه الله-، وقال في "الإنصاف": إذا اقتسما المنافع بالزمان والمكان صح، وكان ذلك جائزا على الصحيح من المذهب، قدمه في"المغني والشرح والنظم والرعايتين والحاوي الصغير والفروع وغيرهم"، ثم قال عن الشيخ تقي الدين: لا تنفسخ حتى ينقضي الدور، ويستوفي كل واحد حقه. انتهى.* وآثرنا الإيجاز والاختصار على التطويل والإكثار، وبالله التوفيق، والسلام وافرًا على من نظر إليه من الإخوان.

_ * "الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف" للمرداوي 11/ 260، وكلمة شيخ الإسلام موجودة في "الاختيارات الفقهية لشيخ الإسلام ابن تيمية" لابن اللحام ص 637. [معد الكتاب للمكتبة الشاملة]

نصيحة لولي الأمر بالحرص على إقامة الدين

نصيحة لولي الأمر بالحرص على إقامة الدين بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الرحمن بن حسن إلى إمام المسلمين، وخليفة سيد المرسلين في إقامة العدل والدين، وهو سبيل المؤمنين والخلفاء الراشدين، فيصل بن تركي -جعله الله في عدادهم، متبعا لسيرهم وآثارهم، آمين-. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: اعلم أن الله -تعالى- أنعم علينا وعليكم وعلى كافة أهل نجد بدين الإسلام، الذي رضيه لعباده دينا، وعرفنا ذلك بأدلته وبراهينه دون الكثير من هذه الأمة، الذين خفي عليهم ما خلقوا له من توحيد ربهم الذي بعث به رسله، وأنزل به كتبه. ولا صلاح للعباد في معاشهم ومعادهم إلا بمعرفة هذا الدين، وقبوله ومحبته والعمل به، واستفراغ الوسع إلى ذلك علما وعملا ودعوة إليه ورغبة فيه، وأن يكون أكبر هم الإنسان ومبلغ علمه ليحصل له النعيم الأبدي، والسرور السرمدي. وقد وقع أكثر من أنعم الله عليه بهذه النعمة في التفريط في شكرها، والتهاون بها، وعدم الرغبة فيها، والتحدث بها، والعمل بموجبها. وقد وقع بالغفلة عن شكر هذه النعمة من التفريط فيها، والاشتغال بما يشغل عنها، من الرغبة في الدنيا، والإقبال عليها ما لا يخفى على ذوي البصائر. وقد ذم الله -تعالى- في كتابه أهل الغفلة والإعراض -أعاذنا الله وإياكم من اتباع سبلهم- فقال: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالأِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} 1. فعلينا وعليكم أن نقوم على من قدرنا على القيام عليه ببذل الجهد، والاجتهاد بالنصيحة لجميع المسلمين، بتذكيرهم ما أنعم الله عليهم به من الدين،

_ 1 سورة الأعراف آية: 179.

وتعليمهم ما يجب عليهم تعلمه مما فيه صلاحهم، وفلاحهم ونجاحهم وسعادتهم، ونجاتهم من شرور الدنيا والآخرة. وقد قال -تعالى-: {أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ} 1. فإذا كان هذا في أناس في عهد النبوة والقرآن ينْزل، فمَن بعدهم أحرى أن يكونوا كذلك، فيجب على من أقدره الله من المسلمين أن يقوم بنصيحة العباد بهذا الدين علما وعملا، ودعوة إليه وتعلما وتعليما، ولا يخفى أن العامة تتبع الخاصة فيما أحبوه وقالوه وعملوا به. وقد حذر الله -تعالى- عباده من عقوبات الدنيا والآخرة على الإعراض عما خلقوا له كما قال -تعالى-: {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ} 2، وقال -تعالى-: {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ} 3، وقال في حق نبيه: صلى الله عليه وسلم {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} 4. وعلينا أن نحذر ونحذّر عما حذرنا الله -تعالى- منه، من التفريط في طاعة الله وطاعة رسوله، والقيام بدينه كما ينبغي. [الغفلة توقع فيما لا يحبه الله] وبسبب الغفلة عن هذه الأمور الواجبة وقع في كثير من الناس أشياء مما لا يحبه الله ويرضاه، كما لا يخفى على من ينظر بنور الله، وقد قال -تعالى-: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} 5، والفساد: المعاصي وآثارها في الأرض، ولكن كما قيل: إذا كثر الإمساس قل الإحساس. نعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا. ومن موجبات الغفلة: الإعراض عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإنه لا صلاح للعباد في دينهم ودنياهم إلا بالقيام بحقه. واليوم ما في البلدان من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر إلا على ضعف. وفي تركه الوعيد الشديد، وفعله علامة الإيمان. وهو من فروض الكفايات التي إذا قام بها البعض سقط الوجوب عن الباقين، وإذا لم يحصل القيام بذلك أثموا كلهم.

_ 1 سورة التوبة آية: 126. 2 سورة الذاريات آية: 50. 3 سورة غافر آية: 18. 4 سورة النور آية: 63. 5 سورة الروم آية: 41.

[فروض الكفاية أشد على الناس من فروض العين] قال بعض العلماء: فروض الكفاية أشد على الناس من فروض العين لأن فرض العين تخص عقوبته تاركه، وفرض الكفاية تعم عقوبته كل من كان له قدرة. فأوصيكم معشر الإخوان من الخاصة والعامة: أن ترغبوا فيما رغبكم الله فيه، وأن تهتموا به كاهتمامكم بدنياكم، لتسعدوا وتسلموا وتغنموا. الشأن كل الشأن بالاهتمام فيما يرضي الله عنكم، ويدفع الله به عنكم عقوبات الدنيا والآخرة. وعلى الإمام -وفقه الله- أن يبعث للدين عمالا كما يبعث للزكاة عمالا ليعلموهم دينهم، ويأمروهم وينهوهم، وهذا مما يجب على الإمام. أعانه الله على ذلك، ووفقه للقيام بوظائف الدين؛ نصيحة لله ولكتابه ولرسوله وللمسلمين. وأوصيكم بالتوبة إلى الله عما فرطتم فيه من العمل بدينه، وتعلمه وتعليمه وتكميله، فإن الله -تعالى- أكمله لكم، وهو أعظم نعمة أنعم بها عليكم. فالله الله في الأخذ بأسباب الفلاح والنجاة! وعلى كل منكم أن يحاسب نفسه لربه قبل القدوم عليه، والرجوع إليه. ولا ينفع قول إلا بعمل، ولا عمل إلا بنيّة. فاشكروا الله -تعالى- على ما أعطاكم، ومنَّ به عليكم من دين الإسلام، وما حصل به من النعم التي لا تحصى. وقد خطب نبيكم صلى الله عليه وسلم أصحابه وأنذرهم وحذرهم فقال: "إني نذير لكم بين يدي عذاب شديد" 1 فاحذروا وحذِّروا؛ فإن الأمر عظيم، قال الله -تعالى-: {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا} 2. قال بعض العلماء في قوله: {أَنْ تَقُومُوا} فيه وجوب القيام لله فيما شرعه وأمر به، وقوله: {لله} فيه التنبيه على إخلاص العبد في قيامه لربه وطاعته؛ فجمعت هذه الآية العمل بالتوحيد وحقوقه ولوازمه، والقيام بذلك جدا واجتهادا. ويشبه هذه الآية قوله تعالى: {وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ} 3 إلى قوله: {وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ

_ 1 البخاري: تفسير القرآن 4770 , ومسلم: الإيمان 208 , وأحمد 1/ 281 ,1/ 307. 2 سورة سبأ آية: 46. 3 سورة إبراهيم آية: 42.

وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ} 1. فجمع تعالى الدين كله في هاتين الكلمتين {نُجِبْ دَعْوَتَكَ} فيه التوحيد لأنه الذي دعا إليه رسله، وفي قوله: {وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ} العمل بكتابه واتباع رسوله صلى الله عليه وسلم؛ لأن من اتبع كتابه ورسوله فقد اتبع الرسل جميعهم. فمن عمل بهاتين الكلمتين فيما كان طاعة لله ولرسوله فقد فاز ونجا، وحصل ما تمناه المفرطون يوم القيامة. فالله الله في الاهتمام بهذا الشأن والقيام به حسب الإمكان {وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} 2. [الصدقة على الفقراء تدفع العقوبة] ومما يدفع الله به العقوبات، ويزيد به الحسنات: الصدقة على الفقراء والمساكين، كما قال -تعالى-: {وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ} 3، وقال -تعالى-: {وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} 4. وقد ورد: "باكروا بالصدقة فإن البلاء لا يتخطاها، والحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة" وفي الحديث: "اتقوا النار ولو بشق تمرة"5 والآيات والأحاديث في فضل الصدقة كثيرة، وهي من الباقيات الصالحات، وقد قال -تعالى-: {وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا} 6. نسأل الله لنا ولكم العفو والعافية، والعون على مرضاته، فإنه ولي ذلك والقادر عليه، ولا ملجأ منه إلا إليه، بالتوبة النصوح، والإيمان، والعمل الصالح، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وهو حسبنا ونعم الوكيل، وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه، وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين.

_ 1 سورة إبراهيم آية: 44. 2 سورة هود آية: 88. 3 سورة الحديد آية: 7. 4 سورة المزمل آية: 20. 5 البخاري: الزكاة 1417 , ومسلم: الزكاة 1016 , والنسائي: الزكاة 2552 ,2553 , وأحمد 4/ 256. 6 سورة الكهف آية: 46.

جواب فيصل للشيخ عبد الرحمن عن نصيحته المتقدمة

جواب فيصل للشيخ عبد الرحمن عن نصيحته المتقدمة بسم الله الرحمن الرحيم من فيصل بن تركي إلى من وصلت إليه هذه النصيحة وسمعها أن يعمل بما ذكر فيها، ولا لأحد عذر إلا من منع أو ردع، فلا يعذر حتى يبلغنا، فإذا بلغنا من منعه فهو معذور. والموجب أن حوائج الناس ما تقف عنا، القوي يوصل حاجة الضعيف، ويعين عليه بذكر حاله، ولا بأس في هذا، ويثاب عليه، فليكن إلى الله أعظم وألزم، فتوكلوا على الله، وافعلوا ما أمركم به، وتآمروا بالمعروف، وتناهوا عن المنكر، ويكون ذلك على علم وحلم، فإن جبنتم فالله حسيب عليكم، وهو حسبنا ونعم الوكيل، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم. الرد على من قال بقول الفلاسفة في دعاء الموتى والتعلق بأرواحهم بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين. قال الشيخ الإمام العالم العلامة عبد الرحمن بن حسن: اعلم أنه ورد من مصر جواب عن سؤال، وذلك الجواب يتضمن القول بجواز بناء المساجد على القبور، والتعلق بأرواح أربابها، وحصول البركات والمنافع بما يفيض عليه من تلك الأرواح، كما كان يعتقده عباد الأصنام المصورة بصور الملائكة والصالحين، فتعين علي وعلى أمثالي رد ذلك وإبطاله، فأقول -مستعينا بالله،

طالبا في ذلك رضى الله وجزيل ثوابه، والحمد لله رب العالمين-: الجواب وبالله التوفيق: لا ريب أن الذي أجاب به هذا المجيب باطل من وجوه: أحدها: أن لفظة الاستظهار بأرواح الأموات إنما أراد بها التعلق بالأموات، والالتجاء والرغبة إليهم، لكنه قصد أن يزخرف العبارة إضلالا للعوام والجهال، فكم تحت هذه اللفظة من شرك، ومحادة لدين الله، ولإخلاص العبادة له وحده لا شريك له. وقد قال -تعالى-: {فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} 1، وقال -تعالى-: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} 2 الآية، وقال: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} 3. وقال -تعالى-: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} 4 الآية. [حقيقة إخلاص الدين لله] وإقامة الوجه هو إخلاص الدين له، وإفراده بجميع أنواع العبادة، كما ذكره المفسرون، والحنيف: المقبل على الله، المعرض عن كل ما سواه. وهذا الذي ذكره هؤلاء المخرفون عن التوحيد لا ريب أن الله -تعالى- لم يشرعه ولا رسوله، بل نهى عنه أشد النهي كما سنذكره إن شاء الله -تعالى-. فقد أكمل الله لنا ديننا، وأتم علينا نعمته، وبين رسوله صلى الله عليه وسلم ما شرعه الله من دينه أتم بيان، قال الله -تعالى-: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الأِسْلامَ دِينًا} 5. وقد بين تعالى أصل دين الإسلام، وأساسه الذي تبنى عليه الأعمال وتصح به، كما قال -تعالى-: {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} 6. وما لم يشرعه الله فليس من دين الإسلام، كما في حديث عائشة الذي في الصحيحين: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد"7. وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "وإياكم ومحدثات الأمور! فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة"8. وقد بين صلى الله عليه وسلم ما شرعه في زيارة القبور، فثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "كنت نهيتكم عن زيارة القبور، فزوروها؛ فإنها تذكركم الآخرة"9. وقد

_ 1 سورة غافر آية: 14. 2 سورة البينة آية: 5. 3 سورة الزمر آية: 2، 3. 4 سورة الروم آية: 30. 5 سورة المائدة آية: 3. 6 سورة البقرة آية: 112. 7 البخاري: الصلح 2697 , ومسلم: الأقضية 1718 , وأبو داود: السنة 4606 , وابن ماجه: المقدمة 14 , وأحمد 6/ 73 ,6/ 146 ,6/ 180 ,6/ 240 ,6/ 256 ,6/ 270. 8 أبو داود: السنة 4607 , والدارمي: المقدمة 95. 9 ابن ماجه: ما جاء في الجنائز 1571 , وأحمد 1/ 452.

شرع الله -تعالى- ورسوله الدعاء للميت في الصلاة عليه وغيرها لأنه محتاج لدعاء الحي لانقطاع عمله. [الاستظهار بأرواح الصالحين من أعظم الشرك] وأما الاستظهار بروحه فإنه لا يعرف له معنى غير ما عبر به المجيب عنه من الرغبة إلى الميت، والتعلق به، والالتجاء إليه، وذلك هو أصل دين المشركين، ويترتب على ذلك من أنواع العبادة جلها ومعظمها كالمحبة والدعاء والتوكل والرجاء ونحو ذلك، وكل هذا عبادة لا يصلح منه شيء لغير الله أبدا، وهؤلاء كما قال الله -تعالى-: {وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَوَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ} 1 الآية. والله -تعالى- هو المتفرد بالخلق والتدبير والنفع والضر والعطاء والمنع، والميت غافل عاجز، لا يسمع ولا ينفع كما قال -تعالى-: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ} 2 الآية، وقال -تعالى-: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِير إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ} 3 الآية. وقد قصر الله رغبة عباده عليه، بل كل العبادة بأنواعها كما قال -تعالى-: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} 4، وقال: {بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ} 5، وتقديم المعمول يفيد الحصر والاختصاص. والشفعاء يوم القيامة لا يشفع أحد منهم إلا بإذنه، {وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} 6 كما قال -تعالى-: {قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا} 7، فهي ملكه، يشفع من شاء فيمن شاء، بإذنه للشافع ورضاه عن المشفوع له، كما قال -تعالى-: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} 8، وقال -تعالى-: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} 9، وقال: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا

_ 1 سورة يونس آية:106، 107. 2 سورة الأحقاف آية: 5. 3 سورة فاطر آية: 13، 14. 4 سورة الشرح آية: 7، 8. 5 سورة الزمر آية: 66. 6 سورة الأنبياء آية: 28. 7 سورة الزمر آية: 44. 8 سورة البقرة آية: 255. 9 سورة الأنبياء آية: 28.

مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ * وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} 1 الآية. [إخلاص العبادة لله واتقاء الشرك] قال أبو العباس ابن تيمية: نفى الله عما سواه كل ما يتعلق به المشركون، فنفى أن يكون لغيره ملك، أو قسط منه، أو يكون عونا لله، ولم يبق إلا الشفاعة، فبين أنها لا تنفع إلا لمن أذن له الرب كما قال: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} 2، فهذه الشفاعة التي يظنها المشركون هي منفية يوم القيامة كما نفاها القرآن. فالشفاعة لأهل الإخلاص بإذنه، ولا تكون لمن أشرك، وحقيقتها أن الله سبحانه هو الذي يتفضل على أهل الإخلاص، فيغفر لهم بواسطة دعاء من أذن له أن يشفع ليكرمه، وينال المقام المحمود. وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أن الشفاعة لا تكون إلا لأهل التوحيد والإخلاص.* انتهى ملخصًا. وهو سبحانه لا يرضى من عبده إلا التوحيد الذي هو دينه الذي بعث به رسله وأنزل به كتبه كما قال -تعالى-: {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} 3، وقال -تعالى-: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ} 4. فهذا هو حكم الله الشرعي الذي حكم به على خلقه بأن يصرفوا أعمالهم له وحده دون كل من سواه؛ ولهذا قال: {وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ} 5، وقال في سورة يوسف: {أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} 6. فالعبد وأعماله الظاهرة والباطنة كلها ملك لله، لايصلح أن يصرف منها شيء لغير الله، فإن صرف العبد منها شيئا لغير الله فقد وضعه في غير موضعه، وذلك هو الظلم العظيم كما قال: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} 7. وأنفع ما للعبد في معاشه ومعاده أن يوجه وجهه وقلبه إلى الله، ويجمع همته عليه في جميع مطالبه الدنيوية والأخروية، كما قال العارف بالله الذي استنار قلبه بآيات الله وحججه وبيناته: وإذا تولاه امرؤ دون الورى ... طرًّا تولاه العظيم الشان

_ 1 سورة سبأ آية: 22، 23. 2 سورة الأنبياء آية: 28. * كتاب "الإيمان" ص 66 - 67، وهو في "مجموع الفتاوى" 7/ 77 - 79. [معد الكتاب للمكتبة الشاملة] 3 سورة الزمر آية: 11. 4 سورة الأنعام آية: 162، 163. 5 سورة الأنعام آية:163. 6 سورة يوسف آية: 40. 7 سورة لقمان آية: 13.

فالعبد مضطر إلى الله الذي محياه ومماته له، فهو قبلة قلبه ووجهه كما أخبر عن خليله -عليه السلام- أنه قال: {إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} 1. وإنما شرع الله ورسوله زيارة القبور لتذكر الآخرة كما قال صلى الله عليه وسلم: "كنت نهيتكم عن زيارة القبور، فزوروها؛ فإنها تذكركم الآخرة"2 أي لتسعوا لها سعيها. {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ} 3 فجعلوها محطا للرحال، ومطلبا للآمال، ومعاذا وملاذا. وهذا هو الشرك الذي لم يشرعه الله، بل شدد النهي عنه والوعيد عليه، وأخبر أنه لا يغفره. قال -تعالى-: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} 4، وقال -تعالى-: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} 5، وقال: {حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُوا أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ} 6، وقال -تعالى-: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} 7 وهي نكرة في سياق النهي فتعم. فلو جاز الاستظهار بأرواح الأموات -كما قاله هذا الجاهل بالله وبدينه- لجاز أن يستظهر العبد بالحفظة من الملائكة، الذين هم معه لا يفارقونه بيقين، وهم كما وصف الله: {عِبَادٌ مُكْرَمُونَ لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} 8، وهذا لا يقوله مسلم أصلا، بل لو فعله أحد كان مشركا بالله. فإذا لم يجز ذلك في حق الملائكة الحاضرين، فأن لا يجوز في حق أرواح أموات قد فارقت أجسادها لا يعلم مستقرها إلا الله أولى، قال -تعالى-: {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ * أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ * إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ} 9. وأنت ترى أكثر الناس انصرفت قلوبهم عن فهم الحق ومعرفته بدليله، حتى تمكنت الشبهات منهم

_ 1 سورة الأنعام آية: 79. 2 ابن ماجه: ما جاء في الجنائز 1571 , وأحمد 1/ 452. 3 سورة البقرة آية: 59. 4 سورة النساء آية: 115. 5 سورة المؤمنون آية: 117. 6 سورة الأعراف آية: 37. 7 سورة الجن آية: 18. 8 سورة الأنبياء آية: 26، 27. 9 سورة النحل آية: 20: 22.

فظنوها بينات، فأضلوا كثيرا، وضلوا عن سواء السبيل. وهذا هو الواقع لا يخفى على ذوي البصائر، وقد أنزل الله كتابه موعظة {وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} 1 كما قال -تعالى-: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ * إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئا} 2 إلى قوله: {وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ} 3. [النهي عن اتخاذ قبور الصالحين مساجد] الوجه الثاني: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حذر فيما تواتر عنه من النهي عن وسائل هذا التعلق والالتجاء بالأموات والرغبة إليهم، فنهى عن اتخاذ القبور مساجد، وصرح طوائف من أصحاب الإمام أحمد وغيرهم كأصحاب مالك والشافعي بالتحريم لذلك. وقد حكى شيخ الإسلام -رحمه الله- الإجماع على التحريم لذلك، وهو الإمام الذي لا يجارى في ميدان معرفة الخلاف والإجماع، لما في صحيح مسلم عن جندب بن عبد الله: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت بخمس وهو يقول: "إني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل، فإن الله قد اتخذني خليلا. كما اتخذ إبراهيم خليلا. ولو كنت متخذا من أمتي خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا، ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد؛ فإني أنهاكم عن ذلك"4. وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "قاتل الله اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد"5، وفي رواية لمسلم: "لعن الله اليهود والنصارى"6 الحديث. وفي الصحيحين عن عائشة وابن عباس -رضي الله عنهما- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في مرضه: "لعن الله اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد"7 يحذر ما صنعوا، ولولا ذلك لأبرز قبره، غير أنه خشي أن يتخذ مسجدًا. قوله: "خشي" تعليل لمنع إبراز قبره. فقد نهى صلى الله عليه وسلم عن اتخاذ القبور مساجد

_ 1 سورة يونس آية: 57. 2 سورة الجاثية آية: 18، 19. 3 سورة الجاثية آية: 19. 4 مسلم: المساجد ومواضع الصلاة 532. 5 البخاري: الصلاة 437 , ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة 530 , وأبو داود: الجنائز 3227 , وأحمد 2/ 284 ,2/ 396 ,2/ 453 ,2/ 518. 6 مسلم: المساجد ومواضع الصلاة 530 , والنسائي: الجنائز 2047 , وأحمد 2/ 246 ,2/ 285 ,2/ 366. 7 مسلم: المساجد ومواضع الصلاة 530 , والنسائي: الجنائز 2047 , وأحمد 2/ 246 ,2/ 285 ,2/ 366.

في آخر حياته، ثم إنه لعن -وهو في السياق- من فعله؛ وذلك لأن الفتنة بالصلاة عند القبور ومشابهة عباد الأوثان أعظم من الصلاة عند طلوع الشمس وعند غروبها، وقد نهى عن الصلاة في هذه الأوقات سدا لذريعة التشبه بالمشركين التي لا تكاد تخطر ببال المصلي، فكيف بهذه الذريعة القريبة التي تدعو فاعلها إلى الشرك الذي أصله التعظيم بما لم يشرع والغلو فيها. [تعظيم القبور أعظم أبواب الشرك] وقد أخرج الإمام أحمد وأهل السنن عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج"1. ومعلوم أن إيقاد السرج إنما لعن فاعله لكونه وسيلة إلى تعظيمها، وجعلها نصبا يوفض إليها المشركون، وكذلك اتخاذ المساجد على قبور الأنبياء والصالحين. ووجه الدلالة من هذه الأحاديث أنه إذا لعن من فعل ما هو وسيلة إلى التعظيم والغلو، وإن كان المصلي عندها ومتخذها مساجد إنما وجه وجهه وقلبه إلى الله وحده، فكيف إذا وجه وجهه إلى أرباب القبور، وأرواح الأموات، وأقبل عليها بكليته، وطلب النفع منها من دون الله -تعالى-؟ فإنه قد صرف ما هو من خصائص الربوبية لمن لا يملك لنفسه ضرا ولا نفعا، ولا موتا ولا حياة ولا نشورا. فمن جعل لله شريكا يلتجئ إليه، ويعلق به قلبه، ويوجه إليه وجهه، ويرغب إليه دون الله، فقد جعله لله ندا، كما في الصحيحين عن ابن مسعود رضي الله عنه "قلت: يا رسول الله أي الذنب أعظم؟ قال: أن تجعل لله ندا وهو خلقك"2 الحديث. وقد بين تعالى في كتابه دينه الحنيف فيما ذكر عن خليله إبراهيم -عليه السلام- أنه: {قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} 3 وقال -تعالى-: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا وَلا تَكُونَنَّ مِنَ

_ 1 الترمذي: الصلاة 320 , والنسائي: الجنائز 2043 , وأبو داود: الجنائز 3236 , وابن ماجه: ما جاء في الجنائز 1575 , وأحمد 1/ 229 ,1/ 287 ,1/ 324 ,1/ 337. 2 البخاري: الأدب 6001 , ومسلم: الإيمان 86 , والترمذي: تفسير القرآن 3182 ,3183 , والنسائي: تحريم الدم 4013 ,4014 ,4015 , وأبو داود: الطلاق 2310 , وأحمد 1/ 380 ,1/ 431 ,1/ 434 ,1/ 462 ,1/ 464. 3 سورة الأنعام آية:78، 79.

الْمُشْرِكِينَ} 1. وبهاتين الآيتين وأمثالهما في القرآن يميز المؤمن دين المرسلين من دين المشركين؛ فإقامة الوجه لله بإخلاص العبادة لله بجميع أنواعها هو دين المرسلين، وتوجيه الوجه بشيء من أنواعها لغير الله هو الشرك الذي لا يغفره الله. وتدبر قول الله -تعالى- في وصف أهل الإخلاص: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} 2، فالرهبة والرغبة، والخشوع، وغير ذلك من أنواع العبادة كالمحبة، والدعاء، والتوكل، ونحو ذلك مختص بالله -تعالى-، لا يصلح منه شيء لغيره كائنا من كان. وتأمل قوله تعالى: {وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} 3 فإنه ظاهر بأن ذلك الخشوع ونحوه مختص بالله -تعالى-، كما ذكر اختصاصه بالعبادة عموما في قوله: {بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} 4. ولا يخفى أن هذا المجيب قد صرف جل العبادة ومعظمها لغير الله، وقد قال -تعالى-: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ} 5، وقال: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} 6، فالخبير سبحانه أبطل الأكاذيب الشيطانية، والتعلقات الشركية في هذه الآية ونظائرها. [وقوع الأمراض العامة عند معظمي القبور] فتدبر إن كنت للتوحيد طالبا، وفي دين المرسلين راغبا، وقد أجرى الله سبحانه العادة بوقوع الأمراض العامة والمصائب العظام في كل مدينة فيها بعض من قبور الأولياء والصالحين، فلا يجد أهلها تأثيرا للتعلق بهم في دفع ما نزل من تلك المصائب، وذلك برهان على أن الميت لا ينفع ولا يضر، ولا يغني عمن تعلق به شيئا كما قال -تعالى-: {قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ} 7.

_ 1 سورة يونس آية: 104، 105. 2 سورة الأنبياء آية: 90. 3 سورة الأنبياء آية: 90. 4 سورة الزمر آية: 66. 5 سورة الرعد آية: 14. 6 سورة فاطر آية:13، 14. 7 سورة الزمر آية: 38.

[نهي النبي أمته أن يجعلوا قبره عيدا] الوجه الثالث: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أمته أن يجعلوا قبره عيدا. أخرج أبو داود بسند حسن عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تجعلوا بيوتكم قبورا، ولا تجعلوا قبري عيدا، وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني حيثما كنتم"1. وأخرج أبو يعلى في مسنده، والحافظ الضياء في المختارة، عن علي بن الحسين أنه رأى رجلا يجيء إلى فرجة كانت عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم فيدخل فيها فيدعو، فنهاه وقال: ألا أحدثكم حديثا سمعته من أبي عن جدي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا تتخذوا قبري عيدا، ولا بيوتكم قبورا، فإن تسليمكم يبلغني أين كنتم"2. وأخرج سعيد بن منصور في سننه عن سهل بن سهيل قال: رآني الحسن بن الحسن بن علي رضي الله عنه عند القبر فناداني-وهو في بيت فاطمة يتعشى- فقال: هلم إلى العشاء. فقلت: لا أريده، فقال: ما لي رأيتك عند القبر؟ فقلت: سلمت على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: سلم إذا دخلت المسجد، ثم قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلمقال: "لا تتخذوا قبري عيدا، ولا تتخذوا بيوتكم مقابر، لعن الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني حيثما كنتم"3، ما أنت ومن بالأندلس إلا سواء. فهذا علي بن الحسين أفضل التابعين من أهل البيت، والحسن بن الحسن سيد أهل البيت في زمانه، لم يفهموا من نهي النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: "لا تتخذوا قبري عيدا"4 إلا نهي أمته عن اعتياد المجيء إلى قبره وملازمته، لأن الصلاة عليه تبلغه صلى الله عليه وسلم من المصلي وإن كان بعيدا عن قبره. ولما في ذلك النهي من سد الذريعة عن العكوف عند القبر، وتعظيمه بما لم يشرع. والعكوف عبادة شرعها رسول الله صلى الله عليه وسلم في المساجد تقربا بها إلى الله، فلا يجوز أن يفعل ما هو مشروع في المساجد عند القبور، فإن الملازمة والعكوف عندها

_ 1 أبو داود: المناسك 2042 , وأحمد 2/ 367. 2 أبو داود: المناسك 2042 , وأحمد 2/ 367. 3 أبو داود: المناسك 2042 , وأحمد 2/ 367. 4 أبو داود: المناسك 2042 , وأحمد 2/ 367.

ذريعة قريبة إلى عبادتها، فتعظيمها بما لم يشرعه الله ورسوله غلو، والغلو أعظم وسائل الشرك. والذي فهمه هذان السيدان الجليلان هو الذي فعله السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار، فإن الثابت عنهم المتواتر أنهم كانوا إذا دخلوا المسجد صلوا على النبي صلى الله عليه وسلم واكتفوا بذلك عن المجيء إلى قبره صلى الله عليه وسلم؛ وذلك لعلمهم بما شرعه الله ورسوله. وكان ابن عمر رضي الله عنه إذا قدم من سفر سلم على النبي صلى الله عليه وسلم ثم على أبي بكر، ثم على أبيه، ثم انصرف. فهذا حال الصحابة -رضي الله عنهم-، وهم أشد الناس تمسكا بالسنة، وأعلم الناس بما يجوز وما لا يجوز. قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام -رحمهم الله تعالى-: ووجه الدلالة من هذا الحديث أن قبر النبي صلى الله عليه وسلم أفضل قبر على وجه الأرض، وقد نهى عن اتخاذه عيدا، فغيره أولى.* قال: والعيد ما يعتاد قصده ومجيئه من مكان أو زمان.** [أحاديث النهي عن اتخاذ القبور مساجد] قال العلامة ابن القيم -رحمه الله-: وقد حرف هذه الأحاديث بعض من أخذ شبها من اليهود بالتحريف، وشبها من النصارى بالشرك، مراغمة لما قصده الرسول صلى الله عليه وسلم وقلبا للحقائق، ولا ريب أن ارتكاب كل كبيرة دون الشرك أقل إثما، وأخف عقوبة من تعاطي مثل ذلك في دينه وسنته. ولو أراد الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله: "لا تجعلوا قبري عيدا"1 أمرا بملازمة قبره واعتياد قصده، لما نهى عن اتخاذ قبور الأنبياء مساجد، ولعن من فعل ذلك، ولما قال أعلم الخلق به: ولولا ذلك لأبرز قبره، غير أنه خشي أن يتخذ مسجدا. انتهى. ... قلت: وفي هذه الأحاديث ما يبطل هذا التحريف الذي أشار إليه العلامة كتحريف شارح المشارق، فإن قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تتخذوا قبري

_ 1 أبو داود: المناسك 2042 , وأحمد 2/ 367. * من كتاب "اقتضاء الصراط المستقيم" 2/ 173. [معد الكتاب للمكتبة الشاملة] ** هذا قول الإمام ابن قيم الجوزية، وهو في "إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان" 1/ 190. [معد الكتاب للمكتبة الشاملة] ... من كتاب "إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان" 1/ 192. [معد الكتاب للمكتبة الشاملة]

عيدا"1 مسبوق وملحوق بما يبين معناه كقوله: "وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني حيثما كنتم"2، وكقوله في الحديث الذي رواه الحسن بن الحسن: "لعن الله اليهود، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد"3، وغير ذلك مما هو ظاهر يبين مراده صلى الله عليه وسلم أنه خشي على أمته تعظيم القبور والغلو فيها. كما في الموطأ عن عطاء بن أبي رباح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد. اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد"4، وهذا الحديث صريح في بيان مراد النبي صلى الله عليه وسلم بالجملة الأولى من الحديث والجملة الثانية، فقد حمى صلى الله عليه وسلم حِمى التوحيد. ومثل هذه الأحاديث قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله"5. [أعظم أسباب الشرك تعظيم القبور] فقد عرفت مما تقدم أن من أعظم أسباب الشرك تعظيم القبور والعكوف عندها، ولا ريب أن ذلك يفضي إلى الالتجاء إليها، والتعلق بها، والرغبة إليها؛ ونحو ذلك من المحبة، وخطابها بالحوائج، وغير ذلك مما لا يمكن عده كالخشوع، والبكاء والنحيب رغبة ورهبة إليها. وهذا هو العبادة التي قصرها الله -تعالى- عليه دون كل من سواه. قال الله -تعالى-: {قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} 6، وقوله: {صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ} 7، وقال -تعالى-: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ} 8 الآيات. فتدبر هذه الآيات، وما فيها من البيان، والحجة القاطعة على أن كل من وجه وجهه وقلبه إلى غير الله فهو مشرك شركا ينافي الإخلاص. وتأمل ما فيها من اختصاص الرب تعالى بجميع أنواع العبادة كالالتجاء، والتعلق، والرغبة والرهبة، وغير ذلك من أنواع العبادة. والله المستعان.

_ 1 أبو داود: المناسك 2042 , وأحمد 2/ 367. 2 أبو داود: المناسك 2042 , وأحمد 2/ 367 ,2/ 388. 3 مسلم: المساجد ومواضع الصلاة 530 , والنسائي: الجنائز 2047 , وأحمد 2/ 366. 4 مالك: النداء للصلاة 416. 5 البخاري: أحاديث الأنبياء 3445 , وأحمد 1/ 23 ,1/ 24 ,1/ 47. 6 سورة الأنبياء آية: 108. 7 سورة البقرة آية:138، 139. 8 سورة الحج آية: 71.

ولقد أحسن العلامة ابن القيم -رحمه الله تعالى- في كافيته إذ يقول: ولقد نهى ذا الخلق عن إطرائه ... فعل النصارى عابدي الصلبان ولقد نهانا أن نصير قبره ... عيدًا حذار الشرك بالرحمن ودعا بأن لا يجعل القبر الذي ... قد ضمه وثنًا من الأوثان فأجاب رب العالمين دعاءه ... وأحاطه بثلاثة الجدران حتى غدت أرجاؤه بدعائه ... في عزة وحماية وصيان ولقد غدا عند الوفاة مصرحا ... باللعن يصرخ فيهم بأذان وعنى الأُلى جعلوا القبور مساجدًا ... وهم اليهود وعابدو الصلبان والله لولا ذاك أبرز قبره ... لكنهم حجبوه بالحيطان قلت: والآيات المحكمات أصرح شيء وأوضحه في بيان حقيقة الشرك في الإلهية: وهو صرف العبد شيئًا من أنواع العبادة التي يصلح التقرب بها إلى الله، فيتقرب بها إلى غيره. فإن العبادة بجميع أنواعها حق لله، ومختصة به. وكذلك هذه الأحاديث المذكورة ونحوها أبين شيء وأجلاه في تحريم وسائل هذا الشرك، لكن الكثير من متأخري هذه الأمة وقعوا في هذا الشرك لما طال عليهم الأمد، وبعدوا عن عصر سلف هذه الأمة، وزمن أتباعهم من الأئمة، الذين أجمع العلماء من أهل السنة على هدايتهم ودرايتهم، فانتشرت البدع بعدهم، والتبس الحق بالباطل بظهور علم الكلام والفلسفة. فيا لها مصيبة ما أعظمها! فلما استمكنت أصول تلك البدع في قلوب من ينتسب إلى العلم من المتأخرين، حاولوا صرف المعنى الذي دلت عليه النصوص، وأراده الله ورسوله بالنهي عنه، والتغليظ فيه، إلى ضروب من التحريف، فرارا من أن يدخل الواقع منهم تحت ذلك النهي. فلما لبسوا لبس عليهم؛ فإنا لله وإنا إليه راجعون {مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا} 1.

_ 1 سورة الكهف آية: 17.

[شبهة وجود الأرواح عند القبور والانتفاع بها] الوجه الرابع: أن هذا الذي يدعيه المجيب من الاستظهار بأرواح أهل القبور لا حقيقة له؛ فإنه اعتقاد فاسد من تضليل الشيطان لجهال الأمة، وإلا فمن أين لهذا المدعي أن الأرواح تنْزل كذلك، وقد عرفت أن التعلق بها وعبادتها شرك بالله. وهذا من التخيلات الشيطانية الشركية بلا ريب، نظير ما ادعى المشركون في قولهم في معبوداتهم: {هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} 1، قال -تعالى-: {قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} 2، فأكذبهم الله في دعواهم هذه، وبين أنه لا حقيقة لها، وأن اتخاذهم شفعاء من دون إذنه شرك نزه نفسه عنه. ونظائر هذه الآية في القرآن كثير كقوله تعالى: {أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي الأَرْضِ أَمْ بِظَاهِرٍ مِنَ الْقَوْل} 3 الآية. فأخبر تعالى عن أهل الشرك أنهم يدعون في معبوديهم أشياء لا حقيقة لها في الخارج أصلا، وإنما هي تصورات وخيالات ذهنية شيطانية {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى} 4. وقوله: {أَمَّنْ يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} 5. ولقد بين تعالى في كتابه دينه وأمره الشرعي في آيات كثيرة، من ذلك ما ذكر عن نبيه يوسف -عليه السلام- من قوله: {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} 6. وقد عرفت مما تقدم أن الله -تعالى- قصر أنواع العبادة من خلقه عليه، ولم يأذن لهم أن يصرفوا منها شيئا لغيره أصلا، كما في فاتحة الكتاب: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} 7. وتوحيد الإلهية من اسمه تعالى"الله"، فهذا الاسم الأعظم دل على أنه سبحانه هو المألوه المعبود، كما ذكر في الدر المنثور وغيره عن ابن عباس قال: معنى

_ 1 سورة يونس آية: 18. 2 سورة يونس آية: 18. 3 سورة الرعد آية: 33. 4 سورة النجم آية: 23. 5 سورة النمل آية: 64. 6 سورة يوسف آية: 39، 40. 7 سورة الفاتحة آية: 5.

الله: أي ذو الألوهية والعبودية على خلقه أجمعين. فمن تدبر هذه الآيات ونظائرها علم أن هؤلاء القبوريين المفتونين بالأموات قد خالفوا ما أمرهم الله -تعالى- به من إفراده بالألوهية والعبودية الخاصة له، فتألهت قلوبهم غيره، وتعلقت أفئدتهم بمن لا يملك لنفسه ضرا ولا نفعا، ولا موتا ولا حياة ولا نشورا. قال الله -تعالى-: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ} 1 الآية، وتقدمت، وقال -تعالى-: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} 2. فتأمل هذه الآية وما فيها من البيان والبرهان على ضلال من وجه وجهه وقلبه لغير الله بأي نوع كان من أنواع العبادة، وهذا لا يخفى إلا على من عميت بصيرته، وضل سعيه، وفسد فهمه، {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} 3. [الأرواح لا يعلم مقرها إلا خالقها] الوجه الخامس: أن المجيب ومن يقول بقوله إنما وجهوا وجوههم وقلوبهم إلى أرواح الأموات، وقد فارقت تلك الأرواح أجسادها، لا يعلم أين صارت ولا إلى ما صارت إلا الله، إلا ما ورد أن أرواح الشهداء والسعداء تسرح في الجنة. وقد جعل الله موتهم دليلا وبرهانا على بطلان عبادتهم، قال الله -تعالى-: {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ} 4. ولا ريب أن من له بصيرة يعلم أن الميت لا شعور له بحاله، فكيف بغيره؟ وقد تقدم دليله. فبطل بهذه الآيات المحكمات وما في معناها كل ما تعلق به المشركون من طلب وأمل ورجاء ورغبة صرفوه لغير الله، وبين تعالى أن ذلك يعود عليهم وبالا في الدار الآخرة. نعوذ بالله من ضلال السعي والخيبة والخسران.

_ 1 سورة فاطر آية: 13. 2 سورة الأحقاف آية: 5، 6. 3 سورة النور آية: 40. 4 سورة النحل آية: 20: 22.

ولقد أحسن من قال: يقضى على المرء في أيام محنته ... حتى يرى حسنًا ما ليس بالحسن [الاحتجاج بأقوال المتكلمين في التوحيد دون علماء السلف] الوجه السادس: أن المجيب أجاب بما يخالف مطلوب السائل، فإن السائل إنما طلب منه قول الأئمة الذين يرجع إليهم في أصول الدين وفروعه، ممن أجمع أهل السنة على هدايتهم ودرايتهم وعلمهم وصدقهم وتمسكهم بالحق، وهم كثير في القرون المفضلة وبعدها، ولم يسأله عن قول من لا يعرف بعلم ولا ثقة ولا صدق ولا عدالة؛ وكلامه الذي نقله عن المجيب من شرحه كلام محرف للسنة، قد دخل في الكلام المذموم والفلسفة، ومثل هذا لا يحتج بقوله من له أدنى فهم ومعرفة بأحوال العلماء. فسبحان الله يا هذا! كيف تقلد في دينك من لا يعرف بعلم ولا صدق وأمانة وعدالة؟! فما أكثر من اغتر بأقوال من هو مثله ممن أخذ عن أرباب أهل البدع! فهلا أجبت بأقوال الصحابة والتابعين كالفقهاء السبعة، وكالزهري والحسن وابن سيرين والحمادين والأوزاعي والثوري والليث بن سعد، والأئمة الأربعة، وإسحاق بن إبراهيم وأبي عبيد ومحمد بن نصر المروزي وابن جرير الطبري وأبي عمر بن عبد البر النمري صاحب التمهيد والاستذكار، وأمثال هؤلاء من أئمة الإسلام أهل العروة الوثقى! فإنهم -بحمد الله- كثير في الأمة، يعرفهم من له إلمام بالعلم والعلماء والفضل والفضلاء، ومعاذ الله أن تجد في كلام هؤلاء وأمثالهم من يجوز تعلق القلب والهم والإرادات بغير الله، سبحانه وتعالى، وتقدس عن الشرك في الإرادات والنيات والأعمال. ولو قيل لهذا المجيب: عرفنا بشارح المشارق هذا، ومن ذكره من المصنفين من أهل الجرح والتعديل، لم يجد إلى ذلك من سبيل. وعلى كل حال فليس في كلامه حجة ولا دليل، فإن كلامه يعرف بحقيقة حاله

والحجة التي لا تعارض ولا تدافع إنما هي فيما قاله الله ورسوله، وما كان عليه المسلمون في عصر الخلفاء الراشدين والأئمة المهتدين، قبل حدوث البدع وتشعب الأهواء واختلاف الآراء، قال الله -تعالى-: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} 1. [حماية النبي للتوحيد الخالص] ولا يخفى على من له دين وإلمام بالعلم النافع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حمى حِمى التوحيد، وسد كل طريق يوصل إلى الشرك الأكبر والأصغر، فقد ثبت عنه أنه لما قال له رجل: ما شاء الله وشئت. قال: "أجعلتني لله ندا؟ بل ما شاء الله وحده"2. وفي المسند عن عمران بن حصين رضي الله عنه: "أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلا في يده حلقة من صفر. فقال: ما هذه؟ قال: من الواهنة. فقال: انزعها؛ فإنها لا تزيدك إلا وهنا، وإنك لو مت وهي عليك ما أفلحت أبدا"3 فانظر إلى هذه العقوبة العظيمة لمن علق قلبه بحلقة دون الله. وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من تعلق شيئا وكل إليه"4 أخرجه النسائي من حديث أبي هريرة. ولأحمد عن عقبة بن عامر: "من تعلق تميمة فلا أتم الله له، ومن تعلق ودعة فلا ودع الله له"5، وفي رواية: "من تعلق تميمة فقد أشرك"6. [التمسك بالتوحيد وعدم التعلق بأرواح الأموات] ومن المعلوم أن التعلق بأرواح الأموات أعظم شركا من تعليق التمائم، وهذا لا يخفى على من له بصيرة في الدين، فإن الفتنة بها أعظم، والتعلق بها أشد. والعبادة عبادة حيثما صرفت: فإن قصرت على المستحق لها وهو الله فهو التوحيد، وإن صرف منها نوع فأكثر لغير الله فهو شرك بالله، قال الله -تعالى-: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} 7. والصحابة -رضي الله عنهم- قد تمسكوا بما علموه من حال نبيهم صلى الله عليه وسلم من تحقيق التوحيد وحمايته عن الشرك. فقد ثبت عن حذيفة بن اليمان صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه رأى رجلا في يده خيط من

_ 1 سورة الأنعام آية: 116، 117. 2 أحمد 1/ 214. 3 ابن ماجه: الطب 3531 , وأحمد 4/ 445. 4 الترمذي: الطب 2072. 5 أحمد 4/ 154. 6 أحمد 4/ 156. 7 سورة النساء آية: 48.

الحمى فقطعه وتلا قوله: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} 1. [تمسك السلف بالتوحيد وفشو الشرك في الخلف] ومن المعلوم أن الشرك في عصر الصحابة -رضي الله عنهم- كان قليلا جدًّا، فإذا رأوا شيئا منه أعظموه وأنكروه. وحذيفة رضي الله عنه استدل بهذه الآية الكريمة على أن هذا شرك بالله، فأين هذا مما وقع فيه أكثر الناس اليوم من طلب النفع ودفع الضر من الأموات، الذين لا إحساس لهم بما يطلبه الداعي منهم، ولم يدفعوا عن أنفسهم فضلا عن غيرهم؟! وأما التابعون للصحابة وأتباعهم فإنهم سلكوا سبيل النبي صلى الله عليه وسلم، فإنهم أبدوا وأعادوا في إنكار ما حدث من الشرك. فقد ثبت عن سعيد بن جبير رضي الله عنه أنه قال: "من قطع تميمة من إنسان كانت كعدل رقبة". فانظر إلى هذا التشديد من هذا الإمام في تعليق التميمة! فأين هذا مما قرر المجيب جوازه من التعلق بأرواح الأموات التي لا يعلم مستقرها إلا الله ولا تنفع ولا تضر؟! {قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُنَا وَلا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} 2. [الإسلام لرب العالمين هو إسلام الوجه والقلب بإخلاص العبادة] وقد عرفت أن الإسلام لرب العالمين هو إسلام الوجه والقلب بإخلاص العبادة بجميع أنواعها لله تعالى، فمن صرف شيئا من العبادة لغير الله فقد أشرك بالله. قال الله -تعالى-: {ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآياتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} 3 الآيات. فيا له من بيان ما أوضحه! وحجة ما أقطعها للشرك! و {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا

_ 1 سورة يوسف آية: 106. 2 سورة الأنعام آية: 71. 3 سورة الروم آية: 28.

وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} 1، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} 2. ولقد أحسن من قال في بيان التوحيد، أي توحيد الإلهية: فالقصد وجه الله بالأقوال والأ ... عمال والطاعات والشكران فبذاك ينجو العبد من إشراكه ... ويصير حقا عابد الرحمن [الشرك بالله مسبة لله] وبهذا يعلم أن الشرك بالله مسبة لله، وتنقيص له، ورغبة عنه إلى غيره، وهضم لربوبيته تعالى. فمعظم هؤلاء الجاحدون لتوحيد الله مخلوقه وعبده لتنقصهم لله تعالى، ومسبتهم له، بزعمهم أن معبوديهم صالحون وأولياء، فأنزلوهم منْزلة الله، وسلبوا لهم حقه، والنبي والصالح حقه متابعته فيما هو فيه من التوحيد، والعمل الذي صار به صالحا، فلم يقتدوا بهم في الدين ولا في العمل، فأخذوا حقهم من الاقتداء بهم في الدين واتباعهم، وحرفوه لجهال المتفلسفة، ومن أخذ عنهم كشارح المشارق، وأمثاله من المحرفين. [مشابهة الأمة للأمم السابقة] الوجه السابع: أن مما يبين خطأ المجيب وضلاله مع ما تقدم من الأوجه ما أخرجه الترمذي بسنده عن أبي واقد الليثي قال: "خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حنين، ونحن حدثاء عهد بكفر، وللمشركين سدرة يعكفون عندها، وينوطون بها أسلحتهم، يقال لها: ذات أنواط. فمررنا بسدرة، فقلنا: يا رسول الله، اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: الله أكبر، إنها السنن، قلتم والذي نفسي بيده كما قالت بنو إسرائيل لموسى: {اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ إِنَّ هَؤُلاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} لتركبن سنن من كان قبلكم". وفي هذا الحديث من الفوائد أن التبرك بالأشجار ونحوها شرك وتأليه لغير الله، ولهذا شبه قولهم

_ 1 سورة الأعراف آية: 43. 2 سورة يونس آية:57، 58.

"اجعل لنا ذات أنواط"1 بقول بني إسرائيل: {اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا} 2، ومنها أن حقيقة الشيء لا تتغير بتغير الاسم، ومنها خطر الشرك والجهل، فكادوا أن يقعوا في الشرك لما جهلوه، فإذا كان هذا في عهد النبوة وإقبال الدين، فكيف لا يقع بعد تقادم العهد، وتغير الأحوال، واشتداد غربة الدين؟! ومنها مشابهة هذه الأمة لأهل الكتاب فيما وقع منهم كما في الحديث الآخر: "لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه، قالوا: يا رسول الله، اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟ "3. فإذا تبين أن التعلق بالأشجار ونحوها عبادة لها من دون الله، ووضع للعبادة في غير موضعها، فلا فرق بين أن يصرف لشجرة أو قبر أو غير ذلك. ومعلوم أن الشجر له حياة بحسبه، مطيع لربه، يسبح بحمده، وما عبدت اللات والعزى ومناة إلا بمثل ذلك التعلق والاعتقاد، قال مجاهد: اللات كان رجلا صالحا يلت السويق للحاج، فمات، فعكفوا على قبره. وكذا قال أبو الجوزاء عن ابن عباس. وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ، فطوبى للغرباء"4. فقد -والله- اشتدت غربة الإسلام حتى عاد الشرك بالله دينا وقربة يتقرب به إلى الله، وهو أعظم ذنب عصي الله به كما قال تعالى: {لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} 5، وقال: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ} 6، وقال: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} 7. [شبهة اتصال روح زائر القبر بروح الميت واستمداده منه] الوجه الثامن: أن هذا الذي أجازه هذا المجيب هو بعينه قول الفلاسفة المشركين، فإنهم قالوا: إن الميت المعظم الذي لروحه قرب ومزية عند الله لا تزال تأتيه الألطاف من الله، وتفيض على روحه الخيرات، فإذا علق الزائر روحه به

_ 1 الترمذي: الفتن 2180 , وأحمد 5/ 218. 2 سورة الأعراف آية: 138. 3 البخاري: أحاديث الأنبياء 3456 , ومسلم: العلم 2669 , وأحمد 3/ 84. 4 الترمذي: الإيمان 2629 , وابن ماجه: الفتن 3988 , وأحمد 1/ 398 , والدارمي: الرقاق 2755. 5 سورة لقمان آية: 13. 6 سورة المائدة آية: 72. 7 سورة الحج آية: 31.

وأدناها منه، فاض من روح المزور على روح الزائر من تلك الألطاف بواسطتها، كما ينعكس الشعاع من المرآة الصافية والماء ونحوه على الجسم المقابل له. قالوا: فتمام الزيارة أن يتوجه الزائر بوجهه وقلبه وروحه إلى الميت، ويعكف بهمته عليه، ويوجه قصده كله وإقباله عليه، بحيث لا يبقى فيه التفات إلى غيره؛ فكلما كان جمع الهمة والقلب عليه أعظم كان أقرب إلى انتفاعه به وشفاعته له. [رد ابن القيم على شبهة اتصال الأرواح] قال ابن القيم -رحمه الله-: وقد ذكر هذه الزيارة على هذا الوجه ابن سينا والفارابي وغيرهما، وصرح بها عباد الكواكب في عبادتها، وقالوا: إذا تعلقت النفس الناطقة بالأرواح العلوية فاض عليها منها النور. وبهذا السر عبدت الكواكب، واتخذت لها الهياكل، وصنفت لها الدعوات، واتخذت الأصنام المجسدة لها، وهذا بعينه هو الذي أوجب لعباد القبور اتخاذها أعيادا، وتعليق الستور عليها، واتخاذ السرج وبناء المساجد عليها، وهو الذي قصد رسول الله صلى الله عليه وسلم إبطاله ومحوه بالكلية، وسد الذرائع المفضية إليه، فوقف المشركون في طريقه، وناقضوه في قصده. وكان النبي صلى الله عليه وسلم في شق وهؤلاء في شق، هذا الذي ذكره هؤلاء المشركون في زيارة القبور والشفاعة التي ظنوا أن آلهتهم تنفعهم بها، وتشفع لهم عند الله. قالوا: فإن العبد إذا تعلقت روحه بروح الوجيه المقرب عند الله، وتوجه بهمته إليه، وعكف بقلبه عليه، صار بينه وبينه اتصال يفيض به عليه نصيب مما يحصل له من الله. وشبهوا ذلك بمن يخدم ذا جاه وحظوة يقرب من السلطان، فهو شديد التعلق به فيما يحصل لذلك من السلطان من الإنعام والأفضال، ينال ذلك المتعلق منه بحسب تعلقه. وهذا شر عبادة الأصنام، وهو الذي بعث الله رسله وأنزل كتبه بإبطاله، وتكفير أصحابه ولعنهم، وإباحة دمائهم وأموالهم، وسبي نسائهم وذراريهم، وأوجب لهم النار. والقرآن من أوله إلى آخره مملوء من الرد على أهله وإبطال مذهبهم. انتهى.*

_ * من كتاب "إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان" 1/ 219. [معد الكتاب للمكتبة الشاملة]

[إبطال التعلق بغير الله] قلت: وتأمل ما ذكره الله في سورة يس من قوله: {وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ * اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ * وَمَا لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلا يُنْقِذُون * إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} 1 الآية. ففي هذه الآية العظيمة وما في معناها ما يكفي ويشفي في إبطال هذا المذهب الخبيث، من تعلق أهل الإشراك بغير الله، وافترائهم على الله، وإضلالهم العباد عن توحيد الله والتوجه إليه وحده بالإخلاص، الذي هو دينه الذي لا يرضى لعباده دينا سواه، كما قال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ * أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} 2. ففرق تعالى في هذه الآية بين دينه الذي أرسل به رسله وأنزل به كتبه، ودين هؤلاء المشركين الذي أنكره عليهم، وأكذبهم فيما زعموه، وأكفرهم بما انتحلوه واعتمدوه من الشرك العظيم، الذي لا يحبه ولا يرضاه، وينكره ويأباه. كما قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ * إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ} 3، والأسباب هي الوصلة والمودة التي كانت بين العابد والمعبود، أخبر سبحانه أنها تتقطع يوم القيامة. {وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّأُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} 4، فهذا ما يؤول إليه أمر هؤلاء المشركين يوم القيامة. ونظائر هذه الآية كثير في القرآن كقوله: {وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} 5.

_ 1 سورة يس آية: 20: 24. 2 سورة الزمر آية: 2، 3. 3 سورة البقرة آية: 165، 166. 4 سورة البقرة آية: 167. 5 سورة العنكبوت آية: 25.

الوصية بتدبر كتاب الله

فتأمل ما يؤول إليه أمر أهل هذه التوجهات والتعلقات بغير الله، من كفرهم بمن تعلقوا عليهم، ولعنهم لهم، وجزائهم عند الله بعذاب النار، وغير ذلك مما أخبر له تعالى عن أحوالهم، فلا شافع يشفع لهم، ولا ناصر ينصرهم، فعادت تلك التعلقات الشركية، والهمم الشيطانية، والأماني الكاذبة عليهم حسرة ووبالا. هذا ما تيسر تعليقه -بحمد الله- في هدم أصول هؤلاء المشركين، وفيه الكفاية لمن نور الله قلبه، {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} 1 وصلى الله على سيد المرسلين وإمام المتقين محمد، وعلى آله وصحبه، وسلم تسليما كثيرا. * * * نصائح وفتاوى فقهية للشيخ عبد الرحمن بن حسن رحمه الله وأحسن إليه [الوصية بتدبر كتاب الله] بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الرحمن بن حسن إلى الإخوان صالح بن محمد الشثري، وزيد بن محمد آل سليمان، وإخوانهم -سلمهم الله تعالى-. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: فموجب الخط إبلاغكم السلام، والسؤال عن الحال، جعلنا الله وإياكم ممن عرف الحق فاتبعه، وقابل النعم بشكرها. وقد خطيت لك في أول رمضان خطا أراد الله أن الطروش 2 فاتونا ولا راح، مضمونه بعض الإشارات النافعة، منها: إني أوصيك بتدبر أنوار الكتاب، التي هي أظهر من الشمس في نحر الظهيرة، ليس دونها قتر ولا سحاب، لا سيما دوال التوحيد، والتفكر في مدلولاته ولوازمه، وملزوماته ومكملاته ومقتضياته، ثم التفطن

_ 1 سورة النور آية: 40. 2 الطروش هم المسافرون.

الجواب عن مسائل اختلف فيها طلبة العلم

فيما يناقضه وينافيه من نواقضه ومبطلاته. فالخطر فيه شديد، ولا يسلم منه إلا من وفق للصبر والتأييد، والفعل الحميد، والقول السديد، وخالط قلبه آيات الوعد والوعيد، وعرف الله بأسمائه وصفاته التي تجلو الريب والشك عن قلب كل مريد، واعتصم بها عن كل شيطان مريد. {إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} 1 الآيات. فقد عمت البلوى بالجهل المركب والبسيط {إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} 2. فالله الله في التحفظ على القلب بكثرة الاستغفار من الذنب، جعلنا الله وإياكم ممن نجا من ظلمة الجهالة، وأخلص لله أقواله وأعماله. وبلغ حمد والعيال والإخوان السلام، ومن لدينا العيال والإخوان بخير، وينهون السلام، وأنت سالم، والسلام. [الجواب عن مسائل اختلف فيها طلبة العلم] نصيحة في الزجر عن طلب العلم لغير الله بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الرحمن بن حسن إلى الأخ فايز بن علي وإخوانه من طلبة العلم -سلمهم الله تعالى-. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: وصل خطك -وصلك الله بما يرضيه-، والذي أوصيكم به جميعا ونفسي بتقوى الله تعالى، والإخلاص لوجهه الكريم في طلب العلم وغيره لتفوز بالأجر العظيم. وليحذر كل عاقل أن يطلب العلم للمباراة والمباهاة، فإن في ذلك خطرا عظيما، ومثل ذلك طلب العلم لغرض الدنيا أو لجاهها، والترؤس بين أهلها، وطلب المحمدة، وذلك هو الخسران المبين. ولو لم يكن في الزجر عن ذلك إلا قول الله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ

_ 1 سورة البروج آية:12: 16. 2 سورة آل عمران آية: 120.

إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} 1. وفي حديث أنس مرفوعا: "من تعلم العلم ليباهي به العلماء، أو ليماري به السفهاء، أو ليصرف به وجوه الناس إليه، فهو في النار"2 وهذا القول كاف في النصيحة. وفقنا الله وإياكم لحسن القبول. وقد بلغني أنكم اختلفتم في مسائل أدى إلى النّزاع والجدال، وليس هذا شأن طلاب الآخرة، فاتقوا الله، وتأدبوا بآداب العلم، واطلبوا الثواب من الله في تعلمه وتعليمه، وأتبعوا العلم العمل، فإنه ثمرته في حصوله، كما في الأثر: "من عمل بما علم أورثه الله علم ما لم يعلم"، وكونوا متعاونين على البر والتقوى. ومن علامة إخلاص طالب العلم أن يكون صموتا عما لا يعنيه، متذللا لربه، متواضعا لعباده، متورعا متأدبا، لا يبالي ظهر الحق على لسانه أو لسان غيره، ولا ينتصر لنفسه ولا يفتخر، ولا يحقد ولا يحسد، ولا يميل به الهوى، ولا يركن إلى زينة الدنيا. [طواف القدوم والسعي من الحائض] وأما المسألة الأولى وهي: هل يصح من الحائض إذا قدمت مكة أن تسعى قبل الطواف أم لا؟ الجواب: لا يصح السعي إلا بعد طواف صحيح لنسك من الأنساك، أما المفرد والقارن، فسعيهما بعد طواف القدوم مجزئ لحجتهما كما يجزئ للقارن لعمرته، وأما المتمتع فيسعى بعد طواف العمرة لها، ولا يجزئه للحج إلا أن يسعى بعد طواف الإفاضة. قال بعضهم: يطوف للقدوم ويسعى بعده. والمختار أنه لا يطوف للقدوم، وليس إلا طواف الزيارة، وعليه أن يسعى بعده للحج، فإن سعى قبله لم يجزه. قالوا: ويجب أن يكون السعي بعد، طواف واجب أو مستحب. هذا كلام الحنابلة، لا اختلاف بينهم في ذلك. وقال الشافعية: لو سعى ثم تيقن أنه ترك شيئا من الطواف لم يصح سعيه، فيلزمه أن يأتي ببقية الطواف. فإذا أتى ببقيته أعاد

_ 1 سورة هود آية: 15. 2 الترمذي: العلم 2654.

السعي، نص عليه الشافعي، وبنحوه قال مالك وأبو حنيفة. ومما يستدل لذلك حديث عائشة وفيه: "فلما كنا في بعض الطريق حضت، فدخل عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أبكي فقال: ما يبكيك؟ قلت: وددت أني لم أكن خرجت العام، فقال: ارفضي عمرتك، وانقضي رأسك وامتشطي، وأهلي بالحج"1. ومعنى ارفضي العمرة رفض أعمالها، فلو صح سعي قبل الطواف لما منع منه حيضها كما لا يمنع من سائر المناسك. والله أعلم. [إعادة المتيمم الصلاة عند وجود الماء] وأما السؤال الثاني: عن قوله صلى الله عليه وسلم في شأن الرجل الذي صلى بالتيمم، فلم يعد لما وجد الماء: "أصبت السنة وأجزأتك صلاتك"2، وقال للذي أعاد: "لك أجرك مرتين". فلا شك أن الذي لم يعد أصاب الحكم الشرعي بدليل قوله صلى الله عليه وسلم: "أصبت السنة، وأجزأتك صلاتك"3. وأما الذي أعاد فهو مجتهد فيما فعل، فأثيب على الصلاة الأولى والثانية؛ لكونه صلى الثانية مجتهدا، فأثيب على اجتهاده للصلاة الثانية، كما أثيب على الصلاة الأولى. ومن المعلوم أن الفريضة أفضل من التطوع من جنسه أو غير جنسه إلا في أربعة أشياء، ذكرها الجلال السيوطي ضمنها بيتين، والأخير لمحمد الخلوتي الحنبلي: الفرض أفضل من تطوع عابد ... حتى ولو قد جاء منه بأكثر إلا التوضؤ قبل وقت وابـ ... ـتداء بالسلام وإبراء للمعسر وكذا ختان المرء قبل بلوغه ... تمم به نظم الإمام المكثر [الجمع في الصلاة عند فقد الماء] وأما السؤال الثالث: فيمن نوى جمع التأخير حيث يجوز الجمع، فدخل وقت الثانية قبل أن يصلوا إلى الماء، فالأفضل في حقهم أن يؤخروا الصلاة إلى أن يصلوا إلى الماء ما لم يدخل وقت الضرورة، فإن صلوا قبل وصولهم إليه أجزأتهم الصلاة بالتيمم، ولا إعادة عليهم. وقول السائل: فهل يكون وقت الاختيار للثانية وقتا للأولى أم لا؟ الجواب: نعم يكون وقتا لها في حق من يجوز له الجمع إذا نواه، فتنبه! والله أعلم. وصلى الله على محمد وسلم.

_ 1 البخاري: الحيض 317 والحج 1556 ,1783 ,1786 والمغازي 4395 , ومسلم: الحج 1211 , وأبو داود: المناسك 1778 , وابن ماجه: المناسك 3000 , وأحمد 6/ 163 ,6/ 177 , ومالك: الحج 940. 2 النسائي: الغسل والتيمم 433 , وأبو داود: الطهارة 338 , والدارمي: الطهارة 744. 3 النسائي: الغسل والتيمم 433 , وأبو داود: الطهارة 338 , والدارمي: الطهارة 744.

فتاوى فقهية في خروج النساء ولبس الحرير وغير ذلك

{فتاوى فقهية في خروج النساء ولبس الحرير وغير ذلك} بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الرحمن بن حسن إلى الأخ علي بن فواز -سلمه الله تعالى-. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: فهذا جواب السائل: أما خروج النساء من البيوت بالزينة، فيحرم مخافة الفتنة بالنساء، فإنهن فتنة لكل مفتون. [الضرب بالدف] وأما الدف، فيحصل الإعلام بضربه في الزفاف وقبل الدخول، في وقت من النهار، وأما ضربه في الليل، ففيه من المفاسد ما لا يخفى، ومن أقرهم على ذلك ممن له قدرة على منعهم، فقد ظلم نفسه. [الاحتكار] وأما الاحتكار، فإذا شراه أحد من الأسواق ينتظر الغلاء، فهو احتكار. [خلط البر بالشعير وتلقي الركبان] وأما خلط البر بالشعير للبيع فلا يجوز، لما ورد في ذلك من الآثار التي رواها ابن أبي شيبة في مسنده. وأما تلقي الركبان للشراء منهم ما جلبوه، فيلزم منعهم من ذلك، وأما التزعفر فقد ورد ما يدل على جوازه، فلا ينكر والحالة هذه. [مذهب الخوارج] وأما مذهب الخوارج، فإنهم يكفرون أهل الإيمان بارتكاب الذنوب ما كان منها دون الكفر والشرك. وإنهم قد خرجوا في خلافة علي رضي الله عنه وكفروا الصحابة بما جرى بينهم من القتال، واستدلوا على ذلك بآيات وأحاديث، لكنهم أخطؤوا في الاستدلال. [المعاصي التي يكفر فاعلها] فما دون الشرك والكفر من المعاصي فلا يكفر فاعله، لكنه ينهى عنه إذا أصر على كبيرة ولم يتب منها، فيجب نهيه والقيام عليه. وكل منكر يجب إنكاره، من ترك واجب أو ارتكاب محرم، لكن لا يكفر إلا من فعل مكفرا دل الكتاب والسنة على أنه كفر، وكذا ما اتفق العلماء على أن

قوله صلى الله عليه وسلم: "الدين النصيحة"

من فعله أو اعتقده كفر، كما إذا جحد وجوب ما هو معروف من الدين بالضرورة، أو استحل ما هو معروف بالضرورة أنه محرم. فهذا مما أجمع العلماء على أنه كفر إذا جحد الوجوب، إلا إذا ترك الصلاة تهاونا وكسلا، فالمشهور في مذهب أحمد أنه يستتاب، فإن تاب وإلا قتل كافرا، وأما الثلاثة فلا يكفرونه بالترك، بل يعدونه من الكبائر، وكذلك إذا فعل كبيرة كما تقدم، فلا يكفر عند أهل السنة والجماعة إلا إذا استحلها. [السفر إلى بلاد المشركين] وأما السفر إلى بلاد المشركين للتجارة، فقد عمت به البلوى، وهو نقص في دين من فعله لكونه عرض نفسه للفتنة بمخالطة المشركين، فينبغي هجره وكراهته. فهذا هو الذي يفعله المسلمون معه من غير تعنيف ولا سب ولا ضرب، ويكفي في حقه إظهار الإنكار عليه وإنكار فعله، ولو لم يكن حاضرا؛ والمعصية إذا وجدت أنكرت على من فعلها أو رضيها إذا اطلع عليها. وأما المعاصي التي فيها الحدود، فلا يقيمه إلا الإمام أو نائبه، وأما الحدود إذا بلغت السلطان، فالمراد بالسلطان الأئمة والقضاة كمن يستنيبهم الإمام ويوليهم في بلدهم. وذكرت في جوابي للربع 1 إلّي في خاطري مما يوجب اجتماع الكلمة والسلام. قوله صلى الله عليه وسلم: "الدين النصيحة" بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الملك العلام، ذي الجلال والإكرام، أحمده أن منَّ علينا بالإسلام، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ذو الطول والإنعام، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الذي أكمل به الشرائع والأحكام، وجعله مبينًا لحدود الحلال والحرام، اللهم صل على محمد وأصحابه هداة الأنام وسلم تسليما.

_ 1 هم جماعة الرجل وأصحابه.

أما بعد: فإنه قد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث تميم الداري رضي الله عنه أنه قال: "الدين النصيحة، ثلاثا، قلنا: لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم"1 رواه مسلم فما أعظم شأن هذا الحديث، وأنفعه لمن عقله ورزق العمل به! ولقد أحسن من قال: لقد نصحت لأقوام وقلت لهم ... أنا النذير فلا يغرركم أحد وقد بعث الله محمدًا صلى الله عليه وسلم بالهدى ودين الحق ليخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد، وأوجب على الخلق طاعته واتباعه كما قال سبحانه: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ} 2 ... الآية، وقال تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} 3 ... الآية، وقال: {فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ} 4 ... الآية. قال شيخ الإسلام: الإيمان به تصديقه وطاعته واتباعه.* انتهى. والآيات في هذا المعنى كثيرة جدا. [النهي عن لبس الحرير للرجال] فإذا عقلت هذا الأصل، فاعلم أن الأحاديث قد تظاهرت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنهي عن الحرير وتحريمه على ذكور هذه الأمة، فقد أخرج البخاري ومسلم والنسائي عن حذيفة رضي الله عنه قال: "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا تلبسوا الحرير ولا الديباج، ولا تشربوا في آنية الذهب والفضة، ولا تأكلوا في صحافهما، فإنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة"5. وأخرج الإمام أحمد والترمذي والنسائي عنه عن أبي موسى رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أحل الذهب والحرير لأناث أمتي وحرم على ذكورها"6. وأخرج أبو داود والنسائي وابن ماجه عن علي رضي الله عنه قال: "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ حريرا فجعله في يمينه، وذهبا فجعله في شماله، ثم قال: إن هذين حرام على ذكور أمتي"7 وأحاديث هذا الباب يتعذر استقصاؤها، فنبهت ببعضها على نوعها.

_ 1 مسلم: الإيمان 55 , والنسائي: البيعة 4197 ,4198 , وأبو داود: الأدب 4944 , وأحمد 4/ 102. 2 سورة النور آية: 54. 3 سورة النور آية: 63. 4 سورة الأعراف آية: 157. * من كتاب "اقتضاء الصراط المستقيم" 1/ 295. [معد الكتاب للمكتبة الشاملة] 5 البخاري: الأطعمة 5426 , ومسلم: اللباس والزينة 2067 , والنسائي: الزينة 5301 , وأحمد 5/ 396 ,5/ 397 ,5/ 408 , والدارمي: الأشربة 2130. 6 الترمذي: اللباس 1720 , والنسائي: الزينة 5148. 7 النسائي: الزينة 5144 , وأبو داود: اللباس 4057 , وابن ماجه: اللباس 3595.

وقد حكى الإجماع على تحريم الحرير على الذكور غير واحد من الأئمة إلا ما استثناه الشارع، كما في حديث عمر، وهو عند البخاري ومسلم وأهل السنن عن أبي عثمان النهدي: "أتانا كتاب عمر، ونحن مع عقبة بن فرقد بأذربيجان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الحرير إلا هكذا، وأشار بأصبعيه اللتين تليان الإبهام. قال: فيما علمنا أنه يعني الأعلام"1 ولأبي داود في الحديث: "نهى عن الحرير إلا هكذا وهكذا، أصبعين أو ثلاثا أو أربعا"2. وبهذا الحديث احتج أهل العلم على أنه لا يباح من الحرير في الثوب ونحوه إلا مقدار أربع أصابع. قال في الفروع: ويباح منه العلم إذا كان أربع أصابع مضمومة فأقل، ونص عليه. انتهى. وقال في المبدع: ويباح العلم الحرير، وهو طراز الثوب إذا كان أربع أصابع مضمومة فما دون، نص عليه وجزم به في المغني والشرح. وقال في الإنصاف: ويباح علم الحرير في الثوب إذا كان أربع أصابع فما دون. وقال في جمع الجوامع: ولبنة الجيب وسجف الفراء كالعلم في الإباحة والقدر، وفي حاشية المنتهى على قول المصنف: لا فوق أربع أصابع، يعني أن ما ذكر من العلم والرقاع والسجف ولبنة الجيب أنها تباح إذا كان أربع أصابع معتدلة مضمومة فما دون، لا إن كان أكثر منها. انتهى. وهذا الذي ذكره هؤلاء كغيرهم من الفقهاء إنما هو فيما إذا كان الحرير منفردا متميزا سواء كان منسوجا في الثوب كالعلم، أو مجعولا فيه بعد النسج كلبنة الثوب والسجف، وسواء كان مفرقا أو مجموعا. وكذا إذا كان مشوبا بغيره على الصحيح المعتمد عند جمع من كبار الأئمة المحققين، كما صرح به شارح المنتقى، ونقله عن تقي الدين بن دقيق العيد. قال الشارح: وقد عرفت مما سلف من الأحاديث الواردة في تحريم الحرير بدون تقييد، والظاهر منها تحريم ماهية الحرير، سواء وجدت منفردة أو مختلطة

_ 1 البخاري: اللباس 5828 , ومسلم: اللباس والزينة 2069 , والنسائي: الزينة 5312 , وأبو داود: اللباس 4042 , وأحمد 1/ 15 ,1/ 50. 2 البخاري: اللباس 5828 ,5829 , ومسلم: اللباس والزينة 2069 , وأبو داود: اللباس 4042 , وأحمد 1/ 51.

بغيرها، ولا يخرج عن التحريم إلا ما استثناه الشارع من مقدار الأربع الأصابع من الحرير الخالص، سواء وجد ذلك القدر مجتمعا كما في القطعة الخالصة أو متفرقا كما في الثوب المشوب. وقد نقل الحافظ في الفتح عن العلامة ابن دقيق العيد أنه إنما يجوز من المخلوط ما كان مجموع الحرير فيه أربع أصابع لو كانت منفردة بالنسبة إلى جميع الثوب. اهـ. قلت: وقد قرر هذا الحافظ في فتح الباري بأدلته فقال: واستدل بالنهي عن لبس القسي على منع لبس ما خالطه الحرير من الثياب لتفسير القسي بأنه ما خالط غير الحرير فيه الحرير، ويؤيده عطف الحرير على القسي في حديث البراء. ووقع كذلك في حديث علي عند أحمد وأبي داود والنسائي بسند صحيح على شرط الشيخين من حديث عبيدة بن عمرو عن علي -رضي الله عنه- قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن القسي والحرير"1، فعلى هذا يحرم الذي يخالطه الحرير. اهـ. فهذا حافظ الدنيا في عصره صرح بتحريم لبس ما خالطه الحرير، وهذا مقتضى الدليل. وقال البخاري في صحيحه: قال عاصم عن أبي بردة قلنا لعلي: ما القسية؟ قال: "ثياب أتتنا من الشام أو مصر مضلعة فيها حرير، وفيها أمثال الأترج". وقال جرير عن يزيد: ثياب مضلعة يجاء بها من مصر فيها الحرير، ثم ساق بسنده حديث البراء بن عازب قال: "نهانا النبي صلى الله عليه وسلم عن المياثر الحمر والقسي"2 وفي رواية له: "ونهانا عن لبس الحرير والديباج والقسي والإستبرق ومياثر الحمر"3. اهـ. وقال النسائي: القسي ثياب من كتان مخلوط بحرير، يؤتى بها من مصر نسبت إلى قرية على ساحل البحر قريب من تنيس يقال لها: القس بفتح القاف. اهـ. وقال أبو عبيد: هي ثياب يؤتى بها من مصر فيها حرير، قال في جمع الجوامع: قال شيخ الإسلام: وقد اتفقوا كلهم على أنها ثياب فيها حرير، وليست بحرير مصمت. اهـ.* وأخرج البخاري وأبو داود والنسائي عن عمر رضي الله عنه "أنه رأى حلة

_ 1 مسلم: اللباس والزينة 2078 , والترمذي: الصلاة 264 واللباس 1725 ,1737 والأدب 2808 , والنسائي: التطبيق 1040 , وأبو داود: اللباس 4044 والخاتم 4225 , وأحمد 1/ 80 ,1/ 81 ,1/ 92 ,1/ 93 ,1/ 104 ,1/ 114 ,1/ 119 ,1/ 121 ,1/ 126 ,1/ 127 ,1/ 133 ,1/ 134 ,1/ 138 ,1/ 146 , ومالك: النداء للصلاة 177. 2 البخاري: اللباس 5838 , ومسلم: اللباس والزينة 2066 , والنسائي: الزينة 5309 , وأحمد 4/ 284 ,4/ 299. 3 البخاري: اللباس 5849 , ومسلم: اللباس والزينة 2066 , والترمذي: الأدب 2809 , والنسائي: الجنائز 1939 والزينة 5309 , وأحمد 4/ 284 ,4/ 287 ,4/ 299. * في كتاب "شرح عمدة الفقه - كتاب الصلاة" ص 301، وهو في "الاختيارات الفقهية" ص 436. [معد الكتاب للمكتبة الشاملة]

سيراء تباع فقال: يا رسول الله، لو ابتعتها تلبسها للوفد إذا أتوك والجمعة؟ فقال: إنما يلبس هذا من لا خلاق له في الآخرة"1. قال أبو داود والنسائي: السيراء المضلع بالقز، وقال في النهاية: السيراء بكسر السين وفتح الياء والمد، نوع من البرود يخالطه حرير كالسيور، وأخرجه الأئمة من حديث علي رضي الله عنه. قال شيخ الإسلام -رحمه الله تعالى-: حديث السيراء والقسي يستدل به على تحريم ما ظهر فيه الحرير، لأن ما فيه خيوط أو سيور لا بد أن تنسج مع غيرها من الكتان والقطن، فالنبي صلى الله عليه وسلم حرمها لظهور الحرير فيها، ولم يسأل هل وزن ذلك الموضع من الكتان والقطن أكثر أم لا، مع أن عادته أنه أقل. انتهى.* وقال: والمنصوص عن أحمد، وقدماء الأصحاب إباحة الخز دون الملحم وغيره.* اهـ من جمع الجوامع. ومما يدل لما قرره هؤلاء الأئمة الحفاظ ما أخرجه البزار والطبراني عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: "رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم جبة مجيبة بحرير، فقال: طوق من نار يوم القيامة" قال الحافظ المنذري: رواته ثقاة، مجيبة بضم الميم وفتح الجيم بعدها ياء مثناة تحت مفتوحة ثم باء موحدة أي: لها جيب من حرير، وهو الطوق. انتهى. وبهذا يتبين لك أن هذه المحارم المسماة بأخضر قز ونحوها، لا يجوز استعمالها للذكور مطلقا لما فيها من الحرير الخالص الزائد على أربع أصابع بأضعاف كثيرة من باب الإضافة البيانية، وتعريفها بأخضر قز من الإضافة البيانية. والقز من الحرير، فلا يجوز استعمال ما ظهر فيه الحرير إذا زاد على القدر المستثنى في حديث عمر وتقدم تقريره، اللهم اجعلنا ممن يقبل هداك ويتبع رضاك. ولقد أحسن أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه حيث يقول: لا عذر لأحد بعد السنة في ضلالة ركبها يحسب أنه على هدى.

_ 1 البخاري: الهبة وفضلها والتحريض عليها 2619 , ومسلم: اللباس والزينة 2068 , والنسائي: الجمعة 1382 والزينة 5299 , وأبو داود: الصلاة 1076 واللباس 4040 , وابن ماجه: اللباس 3591 , وأحمد 2/ 20 ,2/ 103 , ومالك: الجامع 1705. * من كتاب "الاختيارات الفقهية" ص 436. [معد الكتاب للمكتبة الشاملة] * نفس الموضع السابق. [معد الكتاب للمكتبة الشاملة]

تقريظ للرسالة الماضية في حكم الحرير، لبعض الأفاضل

وقال أبو الوفاء بن عقيل في الفنون: من أعظم منافع الإسلام، وآكد قواعد الأديان: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتناصح، فهذا أشق ما تحمله المكلف لأنه مقام الرسل، حيث يثقل صاحبه على الطباع، وتنفر منه نفوس أهل اللذات، ويمقته أهل الخلاعة، وهو إحياء السنن وإماتة البدع ... إلى أن قال: لو سكت المحقون، ونطق المبطلون لتعود السوى ما شاهدوا، وأنكروا ما لم يشاهدوا، فمتى رام المتدين إحياء سنة أنكرها الناس فظنوها بدعة، وقد رأينا ذلك في جمع الجوامع. وكلما حرم من الثياب وغيرها، حرم بيعه وخياطته وأجرته، نص عليه كبيع عصير لمن يتخذه خمرا. قال: ويحرم بيع الحرير والمنسوج بالذهب والفضة للرجل، قطع به جماعة من أصحابنا، والمراد به إذا كان يلبسه، وكذا خياطته وأخذ أجرتها. وذكر ابن أبي المجد ما حرم استعماله من حرير ومصور وغيرهما، حرم بيعه وشراؤه وعمله وأخذ أجرته لإعانته على الإثم انتهى. وما أحسن ما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رضي الله عنه: ثم لو فرض أنا علمنا أن الناس لا يتركون المنكر، ولا يعرفون بأنه منكر، لم يكن ذلك مانعا من إبلاغ الرسالة وبيان العلم، بل ذلك لا يسقط وجوب الإبلاغ، ولا وجوب الأمر والنهي في إحدى الروايتين عن أحمد، وقول كثير من أهل العلم. اهـ.* وبه تمت الرسالة والله المستعان، وصلى الله على أشرف المرسلين محمد وعلى آله وصحبه وسلم. (تقريظ للرسالة الماضية) في حكم الحرير، لبعض الأفاضل نظرت في هذه الرسالة لوحيد دهره، وفريد عصره شيخنا الشيخ عبد الرحمن بن حسن، فرأيت صحة ما ضمنها من تحريم المحرمة المسماة بأخضر قز -وفقنا الله وإياه للصواب- قال ذلك، وكتبه عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين. ونقل ذلك

_ * من كتاب "اقتضاء الصراط المستقيم" 1/ 172. [معد الكتاب للمكتبة الشاملة]

الكتب التي يؤخذ منها التوحيد، والنهي عن الحرير

حمد بن عبد الله المذكور من نقل عبد الله المسطور، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم. ما ذكره شيخنا الشيخ عبد الرحمن بن حسن في هذه الرسالة من حظر المحرمة المسماة بأخضر قز هو الصواب -جزاه الله عن المسلمين خيرا- أملاه إبراهيم بن سيف وكتبه ابنه، ونقله حمد بن عبد الله من كلام شيخه من نقل ابنه، رفع الله لنا ولهم ولمشايخنا ولأئمتنا، وعامة إخواننا المؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات الدرجات العلى، وأسكننا أعلى الفردوس مع نبيه المصطفى، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم. {الكتب التي يؤخذ منها التوحيد، والنهي عن الحرير} بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الرحمن بن حسن إلى من يراه من الإخوان. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: طلبنا أخوكم سعد بن كسران الفائدة في أصل الدين فأجبناه، فأحسن ما نجد في بيان أصل الدين في الآيات المحكمات، فتدبر ما قص الله تعالى عن رسله، وما دعوا إليه من بعثوا إليهم يتبين لك أصل الدين، وما ينافيه من الشرك. وذكر شيخ الإسلام -رحمه الله تعالى- في كتاب "التوحيد" على اختصاره كثيرا من الأدلة المعرفة بأصل الدين، كذلك كتاب "كشف الشبهات"، و"أربع القواعد" و"معنى شهادة أن لا إله إلا الله"، فأوصيك بالاشتغال والمطالعة في كتبه، وتأمل ما فيها من الأدلة. [النهي عن الحرير] وأما المحرمة التي أخضرها حرير، فلا شك في أنها حرام، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن لبس الحرير فقال: "إنما يلبس هذا من لا خلاق له في الآخرة"1، وقال: "من لبسه في الدنيا لم يلبسه في الآخرة"2. وفي الصحيح: "أنه أخذ حريرا

_ 1 البخاري: الهبة وفضلها والتحريض عليها 2619 , ومسلم: اللباس والزينة 2068 , والنسائي: الجمعة 1382 وصلاة العيدين 1560 والزينة 5295 ,5299 ,5306 ,5307 , وأبو داود: الصلاة 1076 واللباس 4040 , وابن ماجه: اللباس 3591 , وأحمد 2/ 20 ,2/ 103 , ومالك: الجامع 1705. 2 البخاري: اللباس 5833 , والنسائي: الزينة 5304 , وأحمد 4/ 5.

فتاوى ومسائل فقهية في الطلاق الثلاث وغيره

فجعله في يمينه، وذهبا فجعله في يساره، ثم قال: إن هذين حرام على ذكور أمتي"1. وفي حديث عمر: "نهى عن الحرير إلا موضع أصبعين أو ثلاثة أو أربعة"2، وبعد الاستثناء يقتصر على القدر المستثنى، فما زاد على الأربع الأصابع حرام، سواء كان مفرقا أو مجتمعا كما عليه جماهير العلماء، وهو ظاهر الأحاديث، وفيها ما يدل على المنع منه، وإن لم يكن مجموعا. فاجتنب هذه المحرمة فإنها محرمة، فإن كان عندك شيء منها، فلا تبعها على مسلم، بعها في غير بلاد المسلمين. هذا، وبلغ سلامنا الإخوان، وكاتبه وخواص الإخوان يسلمون عليكم، وأنتم سالمين وسلام، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم. {فتاوى ومسائل فقهية - في الطلاق الثلاث وغيره} بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد، هذه مسائل سأل عنها إبراهيم بن عبيد الشيخ عبد الرحمن بن حسن رحمه الله: [نوى الطلاق ولم ينو الثلاث] فمنها إذا قال إنسان لزوجته: الله يرزقك بالثلاث ناويا الطلاق لكنه لم يرد الثلاث. الجواب تقع الثلاث، ولا يقبل قوله أنه لم يردها مع وجود اللفظ منه، والله أعلم. [القبول من المرأة في البيع] وسئل عن سكوت المرأة عن بيع نصيبها من العقار، هل يوجب صحة البيع، أم لا إلخ؟ الجواب: لا يجب به بيع لعدم وجود الرضى منها صريحا، وهي على ملكها، والمشتري يرجع على من باعه سواء أدرك منه الثمن أم لا، والمرأة لا رجوع عليها والحالة هذه، وما استغل من عقارها رده إليها أو مثله إن تلف. وأما طلبها بالشفعة في نصيب الباقي من الشركاء، فإن كان قد تقدم منها طلب بالشفعة وقت البيع، فلم تجب لوجود معارض، فلها الشفعة. أما إذا لم تطلب أو طلبت

_ 1 النسائي: الزينة 5144 , وأبو داود: اللباس 4057 , وابن ماجه: اللباس 3595. 2 البخاري: اللباس 5828 ,5829 , ومسلم: اللباس والزينة 2069 , والنسائي: الزينة 5312 ,5313 , وأبو داود: اللباس 4042 , وابن ماجه: الجهاد 2820 , وأحمد 1/ 51.

ولا معارض، فأعرضت رغبة عنه، سقطت شفعتها. فحقق الواقعة وانظر فيها، فإن ظهر لك أحد الأمرين، وإلا فالتوقف أسلم والله أعلم. {وهذه مسائل}: [قال الرجل لامرأته الله يرزقك] الأولى: إذا قال الرجل لامرأته: الله يرزقك، وطلعت من العدة، فلا له طريق عليها إلا بملاك، وأيضا إن كان الرجل القائل لحرمته: الله يرزقك ثلاث مرات، ونيته أنها ثلاث طلقات، فلا له طريق إلا عقب ما تأخذ رجلا آخر ويطلقها. [نفقة المطلقة] الثانية: إذا طلق امرأة زوجها الطلاق، وتبريه من النفقة وطلقها ثم طلبت النفقة، إن كانت الحرمة مبغضة للرجل يوم يطلقها البغضاء المعروفة، فلا لها عليه طريق في النفقة. وإن كان يوم تطلبه الطلاق، وهو مضيق عليها ومشين عليها الطبع، فنفقتها تلزمه إلى أن تعتد، وإن كانت حاملا فإلى أن تضع. [نشوز المرأة] الثالثة: إذا عصت المرأة، وخرجت من بيت الرجل، فالمعصية عليها، ولا نفقة عليه. [سقوط النفقة] الرابعة: إذا طلق الرجل امرأته الطلقة الثالثة، ففيما يظهر ما لها عليه نفقة. [العدل في القسمة بين الزوجات] الخامسة: إذا كان لرجل امرأتان، فالتي يأتيها الحيض، فهو يقسم لها في وقت الحيض والنفاس، في عرفنا أنها لا تشره عليه 1 أنه يقاضيها. [من طلق زوجته عدد خوص النخل] السادسة: إذا طلق الرجل امرأته عدد خوص النخل، فلا له طريق عليها. [اختلاف المأمومين في عدد الركعات] السابعة: إذا سلم الإمام فقال بعض الجماعة: نقص ركعة، وبعضهم يقول: تامة، فهو يعمل بقول الذين عليهم العمل وأكثر ظنه، إلا إن كان يلحق شك، فيعمل بقول الآخرين. [قراءة فاتحة الكتاب في الصلاة] الثامنة: إذا قرأ الرجل في الركعتين الأخيرتين غير الفاتحة ساهيا، فلا علمنا عليه شيء. [المراجعة في العدة] التاسعة: إذا طلق الرجل امرأته مرة أو مرتين، ولو قال: أنا طايبة نفسي

_ 1 أي: لا تطمع.

فهو يراجعها، فإن كانت طالعة من العدة، فهو يراجعها إن اشتهته. [المطلقة قبل الدخول] العاشرة: إذا طلق الرجل امرأته عقب ما تملك قبل أن يدخل بها، فلها نصف الجهاز مثل أبناء جنسها. [يمين الظهار] الحادية عشرة: إذا قال الرجل لامرأته: أنت علي مثل أمي، فعليه كفارة الظهار. [قال الرجل علي الحرام] الثانية عشرة: إذا قال الرجل: علي الحرام لا فعل شيئا، ففعل ما هو حالف عنه، فعليه كفارة. [رضعت بنت من امرأة وهي أم أربع أو خمس] الثالثة عشرة: إذا رضعت بنت من امرأة، وهي أم أربع أو خمس، فهي ما تحرم. [ألفاظ الكناية في الطلاق] الرابعة عشرة: إذا قال الرجل لامرأته: الله يرزقك ثم طلقها طلقتين تتالا، فهو يُنشد عن نيته هو ناو ثلاثا، أو هو يبي 1 يسمّعها وقصده طلقة واحدة، فإن كان قصده واحدة فهي تحل له. والله أعلم، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم. [إذا أصاب ثوب المسافر نجاسة فلم يجد الماء] وهذه مسائل: (الأولى) إذا أصاب ثوب المسافر نجاسة، فلم يجد الماء، فإنه يصلي فيه؛ وإن وجد الماء غسله، ويزيلها بما استطاع. فإن كان عليه ثوب آخر صلى في الطاهر وترك النجس. [الذي يصلي الرواتب في البر لا ينكر عليه] (الثانية) الذي يصلي الرواتب في البر لا ينكر عليه، والأفضل تركه الرواتب إلا الوتر أو سنة الفجر. [تنخم الرجل في الصلاة] (الثالثة) إذا تنخم الرجل في صلاته، فلا يبطلها إن شاء الله تعالى. أفتى بهذا عبد الله بن الشيخ. والله أعلم، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.

_ 1 أي: يبتغي ويريد.

معنى التقوى وتفسير قول الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته} إلى قوله {وأولئك لهم عذاب عظيم}

معنى التقوى وتفسير قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} إلى قوله: {وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} 1 بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الرحمن بن حسن إلى من يصل إليه هذا الكتاب من الإخوان، وفقنا الله وإياهم لإقامة شرائع الدين، واستعملنا فيما استعمل فيه أهل الإيمان واليقين، وجعلنا من الشاكرين لنعمة الإسلام، المثنين بها عليه، ونسأله أن يتقبلها منا، ويتمها علينا بالرغبة فيما يوجب الفوز لديه. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته أما بعد: فأوصيكم وإياي بتقوى الله -تعالى- في الغيب والشهادة، قال الله -تعالى-: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} 2 الآية، قال طلق بن حبيب -رحمه الله-: التقوى أن تعمل بطاعة الله على نور من الله ترجو ثواب الله، وأن تترك معصية الله على نور من الله تخاف عقاب الله. ولا وصية أعظم، ولا أنفع مما وصى الله به عباده المؤمنين، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ * وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} 3.

_ 1 سورة آل عمران آية: 102: 105. 2 سورة النساء آية: 131. 3 سورة آل عمران آية: 102: 105.

وينبغي أن نشير إلى بعض ما ورد عن السلف -رحمهم الله تعالى- في معنى هذه الوصية العظيمة المتضمنة لأصول الدين، وما يقوم عليه من الأعمال. فعن ابن مسعود -رضي الله تعالى عنه- موقوفا -وروي مرفوعا- والموقوف أشهر {حَقَّ تُقَاتِهِ} 1 أن يطاع فلا يعصى، ويذكر فلا ينسى، ويشكر فلا يكفر. وأصل الإسلام وأساسه أن ينقاد العبد لله -تعالى- بالقلب والأركان، مذعنا له بالتوحيد، مفردا له بالإلهية والربوبية دون كل ما سواه، مقدما مراد ربه على كل ما تحبه نفسه وتهواه، وهذا معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: "الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا"2 الحديث. [ما ورد في معنى حبل الله] وحبل الله دينه الذي أمركم به، وعهده إليكم في كتابه من الألفة والاجتماع على كلمة الحق والتسليم لأمر الله. قال أبو جعفر ابن جرير -رحمه الله تعالى-: وهو جامع لكل ما ورد عن السلف في معناه كما روي عن ابن مسعود قال: حبل الله الجماعة، وعن أبي العالية: اعتصموا بالإخلاص لله وحده، وعن ابن زيد قال: الحبل الإسلام، وقيل: هو القرآن لما روى ابن مردويه عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن هذا القرآن هو حبل الله المتين، وهو النور المبين، وهو الشفاء النافع، عصمة لمن تمسك به، ونجاة لمن اتبعه"3. [عليكم بالطاعة والجماعة] ثم قال تعالى: {وَلا تَفَرَّقُوا} 4. عن عبد الله بن مسعود أنه قال: "يا أيها الناس، عليكم بالطاعة والجماعة، فإنها حبل الله الذي أمر به، وإن ما تكرهون في الطاعة والجماعة، هو خير مما تحبون في الفرقة". وأخرج محمد بن نصر المروزي وغيره من حديث عبد الله بن يحيى أبي عامر أن معاوية رضي الله عنه قام حين صلى الظهر بمكة فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم

_ 1 سورة آل عمران آية: 102. 2 مسلم: الإيمان 8 , والترمذي: الإيمان 2610 , والنسائي: الإيمان وشرائعه 4990 , وأبو داود: السنة 4695 , وابن ماجه: المقدمة 63 , وأحمد 1/ 27 ,1/ 51 ,2/ 107. 3 الدارمي: فضائل القرآن 3315. 4 سورة آل عمران آية: 103.

قال: "إن أهل الكتاب افترقوا في دينهم على ثنتين وسبعين فرقة، وإن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين ملة -يعني الأهواء- كلها في النار إلا واحدة، وهي الجماعة"1. والله يا معشر العرب إن لم تقوموا بما جاء به نبيكم صلى الله عليه وسلم لغيركم من الناس أحرى أن لا يقوم به. وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: "اتبعوا ولا تبتدعوا، فقد كفيتم، فكل بدعة ضلالة"2. [جاء الله بالإسلام فألف به بين الناس] ثم قال تعالى: {وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} أي: اذكروا ما أنعم به عليكم من الألفة والاجتماع على الإسلام، حين كنتم أعداء على شرككم، يقتل بعضكم بعضا، عصبية في غير طاعة الله ولا طاعة رسوله، فألف الله بين قلوبكم تواصلون بألفة الإسلام واجتماع كلمتكم عليه. وذكر عن قتادة: كنتم تذابحون، يأكل شديدكم ضعيفكم، حتى جاء الله بالإسلام، فألف به بينكم، فوالله الذي لا إله إلا هو إن الألفة رحمة، وإن الفرقة لعذاب. [معنى قوله تعالى: {وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها}] وقوله: {وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا} 3 يقول تعالى: وكنتم على طرف جهنم بكفركم الذي كنتم عليه، فأنقذكم الله بالإيمان الذي هداكم به. وذكر عن قتادة في الآية: كان هذا الحي من العرب أذل الناس ذلا، وأشقاه عيشا، وأبينه ضلالة، وأعراه جلودا، وأجوعه بطونا، مكفوفين على رأس حجر بين الأسدين: فارس والروم. لا والله ما في بلادهم يومئذ من شيء يحسدون عليه. من عاش منهم عاش شقيا، ومن مات ردي في النار، يؤكلون ولا يأكلون. والله ما نعلم قبيلا يومئذ من حاضر الأرض كانوا فيها أصغر حظا، وأدق شأنا منهم. حتى جاء الله بالإسلام، فورثكم به الكتاب، وأحل به دار الجهاد، ووضع لكم به الرزق، وجعلكم به ملوكا على رقاب الناس، وبالإسلام أعطى الله ما رأيتم. فاشكروا نعمه فإن ربكم منعم يحب الشاكرين؛ وإن أهل الشكر في مزيد من الله، فتعالى ربنا وتبارك. [قوله تعالى: {كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون}] وقوله: {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ الله لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُم تَهْتَدُون} 4 أي: يعرفكم في

_ 1 أبو داود: السنة 4597 , وأحمد 4/ 102 , والدارمي: السير 2518. 2 الدارمي: المقدمة 205. 3 سورة آل عمران آية: 103. 4 سورة آل عمران آية: 103.

كل ذلك مواقع نعمه وصنائعه فيكم، ويبين لكم حجته في تنْزيله على رسوله صلى الله عليه وسلم لتهتدوا إلى سبيل الرشاد، وتسلكوها فلا تضلوا عنها. [الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر] وقوله: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ} 1 الآية، قال ابن كثير في تفسيره: المقصود من هذه الآية أن تكون فرقة من الأمة متصدية للقيام بأمر الله في الدعوة إلى الخير، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإن كان ذلك واجبا على كل فرد من الأمة بحبسه، كما ثبت في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فمن لم يستطع فبلسانه، فمن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان"2. وفي المسند عن حذيفة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقابا من عنده ثم لتدعنه، فلا يستجيب لكم"3 انتهى. قلت: وروى محمد بن نصر من حديث يزيد بن مرثد مرسلا قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كل رجل من المسلمين على ثغرة من ثغور الإسلام، الله الله لا يؤتى الإسلام من قبلك". وروى بسنده عن الحسن بن حي: "إنما المسلمون على الإسلام بمنْزلة الحصن، فإذا أحدث المسلم حدثا ثغر في الإسلام من قبله، فإن أحدث المسلمون كلهم، فاثبت أنت على الأمر الذي لو اجتمعوا عليه لقام الدين لله بالأمر الذي أراده من خلقه". [النهي عن الاختلاف والفرقة] وقوله: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} 4. قال ابن عباس في الآية: أمر الله المؤمنين بالجماعة، ونهاهم عن الاختلاف والفرقة، وأخبرهم أنه إنما هلك من كان قبلهم بالمراء، والخصومات في دين الله. قلت: فتأمل كيف نهى الله سبحانه في هذه الآيات عن التفرق في موضعين، وأخبر أنه من موجبات العذاب العظيم، وأرشد إلى أسباب الاجتماع على دينه وشرعه.

_ 1 سورة آل عمران آية: 104. 2 مسلم: الإيمان 49 , والترمذي: الفتن 2172 , والنسائي: الإيمان وشرائعه 5008 , وأحمد 3/ 20 ,3/ 49 ,3/ 54 ,3/ 92. 3 أحمد 5/ 388. 4 سورة آل عمران آية: 105.

ومن أعظمها الاعتصام بكتابه ودينه علما وعملا، وأداء شكره، والقيام بما فرضه على عباده من الدعوة إلى الخير، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر. [الفساد بالإعراض عن كتاب الله والخير في اتباعه] ومن هنا تعلم أن من أعظم الفساد، الإعراض عن كتاب الله وما بعث الله به رسوله من الهدى والعلم، واتباع الأهواء والآراء المضلة، نعوذ بالله من ذلك، فإذا وقع ذلك ترتب عليه من أنواع الفساد ما لا يكاد يبلغه الوصف. فمن ذلك الاختلاف في الدين والتحاسد، والتدابر والتقاطع، فلا تكاد ترى إلا من هو معجب برأيه، منتقص لغيره، مخلد إلى الأرض عن تعلم العلم وتعليمه. فالواجب على من أعطاه الله شيئا من العلم أن يبذله لطالبيه، وأن يقوم بما أوجب الله -تعالى- عليه من النصيحة لله ولرسوله ولكتابه، ولأئمة المسلمين وعامتهم، وعلى الخاصة والعامة أن يعظموا كتاب ربهم ودينه وشرعه، ويقبلوا بكليتهم على ما ينفعهم من تعلم دينهم وطاعة ربهم، وترك معاصيه، وأن يقوموا بما وجب عليهم مع ذلك من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على علم وبصيرة، وأن يهتموا بما يصلح ذلك من الإخلاص لله تعالى في أمور دينهم. وعلى من نصح نفسه أن يكون حذرا من الأسباب التي تضعف الإيمان، وتجلب أسباب المآثم والعصيان، من الهلع والطمع والرضاء بالدنيا، والاطمئنان بها، وفي الحديث: "حب الدنيا رأس كل خطيئة". وأخرج البخاري وغيره من حديث أبي سعيد: "أن النبي صلى الله عليه وسلم جلس ذات يوم على المنبر، وجلسنا حوله فقال: إن مما أخاف عليكم من بعدي ما يفتح عليكم من زهرة الدنيا وزينتها، فقال رجل: يا رسول الله أفيأتي الخير بالشر؟ فسكت النبي صلى الله عليه وسلم، فقيل له: ما شأنك تكلم النبي صلى الله عليه وسلم ولا يكلمك؟ فرأينا أنه ينْزل عليه. قال: فمسح عنه الرحضاء، فقال: أين السائل؟ وكأنه حمده، فقال: إنه لا يأتي الخير بالشر، وإن مما ينبت الربيع يقتل أو يلم، إلا آكلة الخضر إذا أكلت

حتى إذا امتدت خاصرتاها، استقبلت عين الشمس فثلطت وبالت ورتعت، وإن هذا المال خضرة حلوة، فنعم صاحبه المسلم ما أعطى منه المسكين واليتيم وابن السبيل". أو كما قال النبي صلى الله عليه وسلم "وإن من يأخذه بغير حقه، كالذي يأكل ولا يشبع، فيكون شهيدا عليه يوم القيامة". انتهى. فهذا مثل ضربه رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين فيه أن من جمع الدنيا أو طلبها من غير حلها، وصرفها في غير حقها، صارت عليه وبالا، ومن أجمل في طلبها وأخذها من حلها، وأدى حق الله فيها، ولم يشتغل بها عن طاعة مولاه، فإنها تكون في حقه نعمة وعطية، ولغيره محنة وبلية. هذا وقد أعطاكم الله من أصناف نعمه ما تحبون، وصرف عنكم ما تكرهون، ابتلاء وامتحانا لتعرفوا نعمه وتشكروها {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا} 1. فانظروا -رحمكم الله- بماذا تقابلونها، أباستعمالها في طاعته ودينه ومراضيه؟ أم تجعلونها سلما إلى الإعراض عن دينه وارتكاب معاصيه من الظلم والبغي والأشر والبطر، واللهو، واللعب، وقول الزور، والسخرية ونحو ذلك مما لا يحبه الله ولا يرضاه؟ نسأل الله السلامة من أسباب التغيير، قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ} 2. اللهم إنا نعوذ بك من زوال نعمتك، وتحول عافيتك، وفجأة نقمتك، وجميع سخطك، اللهم إنا نعوذ بك من جهد البلاء، ودرك الشقاء، وسوء القضاء، وشماتة الأعداء. الله الله عباد الله، قيدوا نعم الله بشكره واتباع ما يرضيه، وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه، فإن الله خولكم نعمه لتطيعوه ولا تعصوه، وتعملوا بدينه وشرعه

_ 1 سورة إبراهيم آية: 34. 2 سورة الرعد آية: 11.

كتابه إلى محمد بن عمر وفيه ذكر تآليف ابن منصور

وتعظموه، لا لتشتغلوا بها عن ذلك أو تمتهنوه. اللهم أوزعنا شكر ما أنعمت به علينا من هذه النعم الظاهرة والباطنة، واستعملنا فيما يرضيك عنا، وعافنا واعف عنا، برحمتك يا أرحم الراحمين، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم. {كتابه إلى محمد بن عمر وفيه ذكر تآليف ابن منصور} بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الرحمن بن حسن إلى الأخ محمد بن عمر، عمر الله دارهم بالإيمان والقرآن، ووفقهم لاتباع داعي الإسلام والإيمان. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: وصل الخط، وصلك الله بما يرضيه وسرنا طيبك وعافيتك، جعلنا الله وإياكم من الطيبين المهتدين. [ذكر ما في تآليف ابن منصور] ومن طرف تصانيف ابن منصور، فلا يستنكر ذلك منه، كما قيل: ليس العجب ممن هلك كيف هلك إنما العجب ممن نجا كيف نجا، ولا ضر إلا نفسه. رد على الشيخ -رحمه الله تعالى- في دعوته أناس متشبهون بأهل العلم، فأبطل الله كيدهم، وصار وبالا عليهم. ولكن هذا الرجل فعل فعلا ما فعله أحد قبله ممن كره هذا الدين، والله أعلم بما وافى به الله من إصرار أو توبة، نسأل الله تعالى أن يجعلنا وإياكم ممن عرف لله حقه، وجرد إخلاصه وصدقه، وذلك فضله سبحانه ورحمته. فلو أنت طرشت الكتاب 1 مع إبراهيم بن عبد الرحمن، ما كرهنا الإشراف عليه، وسلم لنا على الوالد ومحمد بن عبد الله وسهل وعبد الرحمن بن جاسر ومطلق وعبد الله بن ثاقب وربعه وموسى بن صالح وفرحان بن خير الله وإخوانهم الذين ما سمينا، ومن لدينا الإمام وأولاده وإخوانه، وعبد اللطيف وإخوانه وخواص الإخوان بخير، وينهون السلام. كاتبه إبراهيم يسلم على الإخوان المحبين وأنت سالم والسلام. حرر نقل سنة 1286.

_ 1 أي: أرسلته وبعثت به.

كتاب آخر إلى محمد بن عمر وفيه الرد على من زعم أنه لا يصح تبديع مسلم ولا تفسيقه

كتاب آخر إلى محمد بن عمر (وفيه الرد على من زعم أنه لا يصح تبديع مسلم ولا تفسيقه) {بسم الله الرحمن الرحيم} من عبد الرحمن بن حسن إلى الأخ محمد بن عمر بن سليم سلمه الله تعالى. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: وصل الخط وصلك الله بما يرضيه، وسرنا طيبكم وعافيتكم جعلنا الله وإياكم من الطيبين، ونحمد إليكم الله تعالى على ما أولاه من النعم، وما صرف من النقم، نسأل الله لنا ولكم معرفة الحق، والعمل به والصبر والاستقامة، والثبات على الإسلام. [القول في أهل البدع والفسقة] وما ذكرت من الورقة التي رميت، يقول صاحبها: إنكم جعلتم الناس بين مشرك ومبتدع وفاسق وجاهل ظالم، ولا سبقكم أحد بهذا الاعتقاد، فهذا ما ضر إلا نفسه، وهذه الشبهة قد تلقاها الجهال في وقت ظهور شيخنا -رحمه الله- وهذه من أفسد شبههم لأن الذي تدخل معه يدل على جهله، وانحرافه عن دين الله، ومخالفته للكتاب والسنة، لأن الله تعالى ذكر الكفار والمشركين من هذه الأمة، وأمر بقتالهم وأباح دماءهم وأموالهم، وكذلك أهل البدع هم الكثير وهم دول، وأهل الفسوق كذلك. وهذا الأمر ما يخفى على أبلد الناس، ولكن ما حصل إلا المسبة مثل من أغار على فريق، وأخذوه ولا أبقوا له شيئا، وصار هذا باعثا على رد هذه الشبهة، وإن كان شيخنا قد ردها في "كشف الشبهات"، لكن بسطنا الرد عليها على سبيل الاختصار، وإلا فردها يحتمل مجلدا، وصار جوابا نافعا لكل موحد، وأرسله الإمام للأحساء يقرأ في المدارس والمساجد والمجالس لأنه ربما دخل على بعض من ينتسب إلى العلم وهم جهال، وما جرى منهم، فهو خير بلا شر، وهو في الحقيقة نعمة، ووباله على من أبداه، ولا هذا بأول نار قد أضرمها علينا ناس من الأشرار، ولا ندري عنهم، ويكفيناهم الله، ولله الحمد. وسلم لنا على الوالد، ومحمد بن عبد الله وخواص الإخوان، ومن لدينا عبد اللطيف بخير، وينهون السلام وكاتبه يسلم، وأنت سالم والسلام. 27 شعبان سنة 1277.

جواب سؤال عمن يجتمع للصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة في المسجد، وعن صلاة الجمعة قبل الزوال، ومسائل أخرى

(جواب سؤال عمن يجتمع للصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة في المسجد، وعن صلاة الجمعة قبل الزوال، ومسائل أخرى) {بسم الله الرحمن الرحيم} من عبد الرحمن بن حسن إلى جناب الأخ إبراهيم بن محمود، سلمه الله تعالى. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: فهذا جواب سؤال: المسألة الأولى: عن أناس يجتمعون ويصلون على النبي صلى الله عليه وسلم. فالجواب: أن هذا ليس مشروعا، وإنما المشروع الصلاة، وقراءة القرآن قبل دخول الإمام، فإذا دخل الإمام وأخذ في الخطبة وجب الإنصات للخطبة كما في الحديث "إذا قلت لصاحبك: أنصت، والإمام يخطب، فقد لغوت"1. وأما تقدم الخطيب في المسجد يصلي ويقرأ قبل الخطبة والصلاة، فلا بأس به لكن ينبغي أن يكون في ناحية يراه المأمومون إذا خرج إليهم للخطبة. [صلاة الجمعة قبل الزوال] وأما صلاة الجمعة قبل الزوال، فهو وقت لها عند الإمام أحمد -رحمه الله-، وخالفه بعض الأئمة، وقال: وقتها بعد الزوال، فتأخيرها إلى الزوال خروجا من خلاف العلماء، لكن هذا القول الثاني مجمع عليه. [الأمراض الحادثة] كذلك الأمراض الحادثة وقع مثلها في وقت الصحابة -رضي الله عنهم- فلم يفتوا فيها، ولو كان خيرا سبقونا إليه. [جعل الذهب في الجنبين والسيف] وأما جعل الذهب في الجنبين والسيف، وفي خاتم رجل، فلا يجوز إلا الفضة، وأما الذهب فلا. [صاحب السفينة وقوله: سلفني] وأما صاحب السفينة وقوله: سلفني، فلا ولو يجعله من الأجرة، ويقدمها عليه جاز. [كفارة اليمين] وأما كفارة اليمين، فيطعم عشرة مساكين قدرها العالي لكل مسكين مد من البر، والمد وزن ثلاثين ريالا، فإن كان شعيرا، فمدان وكذلك التمر.

_ 1 البخاري: الجمعة 934 , ومسلم: الجمعة 851 , والترمذي: الجمعة 512 , والنسائي: صلاة العيدين 1577 , وأبو داود: الصلاة 1112 , وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها 1110 , وأحمد 2/ 244 ,2/ 272 ,2/ 280 ,2/ 393 ,2/ 396 ,2/ 485 ,2/ 518 ,2/ 532 , ومالك: النداء للصلاة 232 , والدارمي: الصلاة 1548 ,1549.

جوابه عن كتاب من محمد آل عمر السليم: ذكر كلام ابن القيم في حياة القلب

وأما قوله: إذا حلف وقال: وعهد الله، فهو كقوله: والله. [مسائل في الحج] وأما الحج، فمن أخذها ليحج صح، وأما إذا حج ليأخذ، فلا يصح 1. كذلك ما يصح له أن يوكل غيره، لا في بلد الميت ولا في غيرها. فإن استأجر من يحج بدله من بلد هي أقرب إلى مكة من بلد الميت، فهذا لا يصح أيضا. وقولك من يأخذ الحجة لاشتياقه إلى البيت، ومشاعر الحج وللعمل الصالح لما فيه من زيادة الفضل، فهذا هو الذي يصح نيابته كما تقدم، فإن كان قصده التوصل إلى البيت، فلواجب لقصده ذلك، وما فعله غير المناسك التي هي أركان الحج وواجبات وسنن، فثوابه له وأما الأركان والواجبات والسنن، فثواب ذلك يرجع للذي هو نائب عنه، وفضل الله واسع. وأما إذا أخذ مالا من عمان لصاحب له في نجد، فلا يجوز؛ لأن الواجب الحج للميت من بلده التي هي أبعد من مكة. وسلم لنا على إخوانك وعبد اللطيف وإخوانه، والإمام وأولاده والإخوان بخير، وينهون السلام، حرر سنة 1282. (جوابه عن كتاب من محمد آل عمر السليم) [ذكر كلام ابن القيم في حياة القلب] بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الرحمن بن حسن إلى الأخ المكرم محمد آل عمر السليم -سلمه الله تعالى- من كل آفة وآمنه من كل مخافة، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد: وصل الخط، وصلك الله بما يرضيه، ونحمد إليك الله -تعالى- على ما أسبغ من نعمه الباطنة والظاهرة، جعلنا الله وإياكم من الشاكرين الذاكرين. ونعمة الله عليكم عظيمة حيث أقامكم في ناحية، أهلها جهال بالتوحيد، ما له عندهم قدر ولا قيمة، وجعلكم تدعون إليه وتبينونه وتحملون الناس عليه، وجعل لكم أصحاب قابلين هذه

_ 1 الظاهر أن هذا جواب عمن يحج بالنيابة عن غيره بالأجرة، فالمراد أخذ الدراهم.

نصيحة بالعمل بما دلت عليه الشهادتان، كتبها إلى أمير الأحساء وأعيانها

الدعوة 1 ومحبينها، ومعادين فيها وموالين فيها، ويا أخي هذه النعمة علينا وعليكم عظيمة، واحمدوا الله -سبحانه وتعالى- وتبرؤوا من الحول والقوة، وانسبوا النعمة إلى ربكم. قال ابن القيم -رحمه الله تعالى- لما ذكر حياة القلب، وصف القلب الحي بقوله: "أن يكون مدركا للحق، مريدا له، مؤثرا له على غيره". والكتاب وصل، وشرعنا نقرأ فيه، ووجدناه صحيح ولله الحمد وموافق، ولو ثمنه غالي، كل ثمن يساق فيه ليس بكثير. وسلم لنا على الوالد ومحمد، وجميع الإخوان بالتخصيص، والتنصيص ومن لدينا الإمام وتركي ومحمد وعبد اللطيف وإسماعيل وجميع العيال بخير، ويبلغون السلام وأنت سالم والسلام، وصلى الله على محمد وعلى آله وسلم، خطه سنة 1284 ونقلته من خطه، وعليه ختمه. غرة ربيع أول سنة 1345. {نصيحة بالعمل بما دلت عليه الشهادتان} (كتبها إلى أمير الأحساء وأعيانها) بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الرحمن بن حسن إلى الإخوان الأمير محمد بن أحمد والشيخ عبد اللطيف بن مبارك وأعيان أهل الأحساء، وعامتهم، رزقنا الله وإياهم الاعتصام بالكتاب والسنة، وجنبنا وإياهم سبل أهل البدع والأهواء، ووفقنا وإياهم لمعرفة ما بعث الله به رسوله من الهدى والنور. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد: [النصيحة لله ولكتابه ورسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم] فإن الباعث على هذا الكتاب هو النصيحة لله، ولكتابه ورسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم، وأوصيكم بما دلت عليه شهادة أن لا إله إلا الله، وما تضمنته من نفي الآلهية عما سوى الله، وإخلاص العبادة لله وحده لا شريك له، والبراءة من كل دين يخالف ما بعث الله به رسله من التوحيد.

_ 1 قوله: أصحاب إلخ. ترك فيه وفي أمثاله مقتضى الإعراب مجاراة للغة العوام في خطابهم.

كما قال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ} 1. وقال تعالى: {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ إِذْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ} 2 وهذه الآيات وما في معناها تتضمن النهي عن الشرك في العبادة، والبراءة منه ومن المشركين من الرافضة وغيرهم، والقرآن من أوله إلى آخره يقرر هذا الأصل العظيم، فلا غنى لأحد عن معرفته، والعمل به باطنا وظاهرا. قال بعض السلف: كلمتان يسأل عنهما الأولون والآخرون: ماذا كنتم تعبدون؟ وماذا أجبتم المرسلين؟ وقال تعالى: {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ وَأُمِرْتُ لأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ} 3 وهذا هو مضمون شهادة أن لا إله إلا الله كما تقدم الإشارة إليه. ومضمون شهادة أن محمدا رسول الله وجوب اتباعه، والرضاء به نبيا ورسولا، ونفي البدع والأهواء المخالفة لما جاء به صلى الله عليه وسلم. فلا غناء لأحد عن معرفة ذلك، وقبوله ومحبته والانقياد له قولا وعملا، باطنا وظاهرا. [العلم بالله وما يجب له على عباده من دينه] ومما أوجب ذكر ذلك ما بلغنا وتحققناه من غفلتكم عن هذا الأصل العظيم الذي لا نجاة للعبد إلا بمعرفته والعمل به، فالعامة منكم ما يبالون بحقوق الإسلام ولو ضيعت، وصار اشتغال أهل العلم بالعلوم التي هي فرع عن هذا الأصل العظيم، ولا تنفع بدونه، ولا صلاح للعباد في معاشهم ومعادهم إلا بالعلم بالله، وما يجب له على عباده من دينه الذي رضيه لهم، فبالقيام به صلاح الدنيا والآخرة، وفي الغفلة عنه زوال النعم، وحلول النقم، وقد وقع فيكم بسبب الغفلة عن هذا ما قد علمتم كما قال تعالى: {وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} 4. [جمع المدرسين وأئمة المساجد بالحضور عند قاضي البلد] إذا عرفتم ذلك، فيلزم الأمير أن يأمر على جميع المدرسين وأئمة المساجد بالحضور عند قاضي البلد الشيخ عبد اللطيف بن مبارك، ويلزمهم القراءة فيما جمعه

_ 1 سورة فصلت آية: 6. 2 سورة فصلت آية:13، 14. 3 سورة الزمر آية: 11، 12. 4 سورة الأعراف آية: 168.

بعض رسائل الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن

شيخنا -رحمه الله- في كتاب التوحيد من أدلة الكتاب والسنة، التي فيها الفرقان بين الحق والباطل، فقد جمع على اختصاره خيرا كثيرا، وضمنه من أدلة التوحيد ما يكفي من وفقه الله، وبين فيه الأدلة في بيان الشرك الذي لا يغفره الله، ويلزمهم سؤال العامة عن أصول الدين الثلاثة بأدلتها وأربع القواعد، فما أعظم نفعها على اختصارها لطالب الهدى! [تفقد الناس في المساجد] وكذلك يلزمهم تفقد الناس في المساجد، حتى يعرف من يتخلف عن الصلاة ويتهاون بها، ويجعل للناس نوابا في القيام على الناس بالاجتماع للصلاة في جميع البلدان والقرى، فإن هذا مما شرعه الله ورسوله، وأوجبه كما دل على ذلك الكتاب والسنة، وقد ورد الزجر والوعيد للمتخلفين عن الصلوات الخمس في المساجد حيث ينادى لها، والأحاديث في هذا المعنى كثيرة. الصلاة لا تقام إلا بالاجتماع لها. ومن المعلوم أن الصلاة لا تقام إلا بالاجتماع لها، والتهاون بذلك من أسباب إضاعتها، وذلك يوجب عقوبة الدنيا والآخرة كما قال تعالى: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} 1 نسأل الله لنا ولكم العون على مرضاته، وأنتم سالمين والسلام. (بعض رسائل الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن) {رسالة في الكلام على "أما" بالتخفيف، وإعراب "عدد خلقه" إلخ} بسم الله الرحمن الرحيم من عبد اللطيف بن عبد الرحمن إلى الأخ المكرم عبد العزيز بن حسن -سلك الله بنا وبه أهدى السنن-. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: فأحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو على سوابغ نعمائه، وجزيل فضله

_ 1 سورة مريم آية: 59.

وعطائه، جعلنا الله وإياك ممن عرف نعمة الله عليه فاستعان بها على ما يقربه إليه، والخط وصل -وصلك الله بالرضى-، وما أشرت إليه صار لدينا معلوما. [الكلام على "أما" بالتخفيف] أما الخطوط التي تذكر أنك أرسلتها إلينا قبل هذا الخط الأخير فلم تصل، ولم يصل منك في هذا العام قبل هذا خط. وأما الجواب عن المسألتين فلا يخفى أن "أما" بالتخفيف تأتي على وجهين: أحدهما: أن تكون حرف استفتاح كما في قوله: "أما إني لم أكن في صلاة" ويكثر ذلك قبل القسم كما في قوله: أما والذي أبكى وأضحك والذي ... أمات وأحيا والذي أمره الأمر لقد تركتني أحسد الوحش إن أرى ... أليفين منها لا يروعهما الذعر وقول الآخر: أما والذي حجت له العيس وارتمى ... لمرضاته شعث طويل ذميلها لئن نائبات الدهر يوما أدلن لي ... على أم عمرو دولة لا أقيلها وقال الآخر: أما يستفيق القلب أنى بدا له ... توهم صيف من سعاد ومربع أخادع عن إطلالها العين إنه ... متى تعرف الأطلال عيني تدمع عهدت بها وحشا عليها براقع ... وهذي وحوش أصبحت لم تبرقع وهذا إذا قصد به تنبيه المخاطب لما بعدها، والإشارة إلى أن ما بعدها مما يهتم به ويلتفت إليه، كما في قوله صلى الله عليه وسلم: "ألا لعنة الله على اليهود والنصارى"1، "ألا هل بلغت"، "ألا ليبلغ الشاهد منكم الغائب"2. وكقول الشاعر: ألا لا يجهلن أحد علينا ... ... ... ... ... وكما في قوله: ألا ليت حظي من عطاياك أنني ... علمت وراء الرمل ما أنت صانع

_ 1 البخاري: الصلاة 436 , ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة 531 , والنسائي: المساجد 703 , وأحمد 1/ 218 ,6/ 34 ,6/ 80 ,6/ 121 ,6/ 146 ,6/ 255 , والدارمي: الصلاة 1403. 2 البخاري: العلم 105 , ومسلم: القسامة والمحاربين والقصاص والديات 1679 , وابن ماجه: المقدمة 233 , وأحمد 5/ 37 ,5/ 39 ,5/ 49 , والدارمي: المناسك 1916.

والثاني: بمعنى حقا أو أحقا، وزعم بعض الناس أنها تكون حرف عرض بمعنى لولا، فتختص بالفعل، كما في قولك: أما يقول، أما يقعد، ونحوه. وأما نحو: أما كان فيهم من يفهم؟ فالهمزة للاستفهام، وما حرف نفي وليست مما نحن فيه. فتنبه. [في إعراب: عدد خلقه ورضى نفسه وزنة عرشه] وأما المسألة الثانية وهي: قولك: ما وجه نصب "عدد خلقه، ورضى نفسه، وزنة عرشه، ومداد كلماته"؟ فاعلم أن نصب هذه المصادر على أنه نعت لسبحان، لأنه اسم محذوف العامل وجوبا لكونه بدلا من اللفظ بفعل مهمل، كقول الشاعر: ثم قالوا تحبها؟ قلت بهرًا ... عدد الرمل والحصى والتراب فبهرا اسم منصوب على المفعولية المطلقة لكونها هنا بمعنى عجبا، لكن فعله مهمل غير مستعمل، فلذلك حذف وجوبا، وعدد الرمل في البيت نعت له، ويحتمل أن "عدد" وما عطف عليه، نصب على المفعولية المطلقة، والعامل يقدر: سبحته أو نزهته، فهو كقوله: {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} 1 لأن سبحان علم على معنى التنْزيه والبراءة أو على لفظه، فلا يعمل في المفعول. ويمكن أن يقال: لا حاجة إلى هذا التقدير؛ لأن الاسم قد يعمل لما فيه من رائحة الفعل، ويكون النصب بسبحان، ويقويه قول ابن مالك: بمثله أو فعل أو وصف نصب ... وكونه أصلا لهذين انتخب وأما "زنة" فمعناها الموازنة والثقل، بخلاف ما إذا كان من بعده الفعل مستعمل كقوله: أذِلّا إذا شب العدى نار حربهم ... وزهوا إذا ما يجنحون إلى السلم وقول الآخر: خمولا وإهمالا وغيرك مولع ... بتثبيت أسباب السيادة والمجد تمت، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.

_ 1 سورة النور آية: 4.

حكمة الله في ابتلائه المؤمنين

{حكمة الله في ابتلائه المؤمنين} بسم الله الرحمن الرحيم قال الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن في رسالته إلى البويري: فمن حكمة الرب تعالى أنه ابتلى عباده المؤمنين الذين يدعون الناس إلى ما دعا إليه النبي صلى الله عليه وسلم من الدين بثلاثة أصناف من الناس، وكل صنف له أتباع: الصنف الأول من عرف الحق فعاداه حسدا وبغيا كاليهود، فإنهم أعداء الرسول والمؤمنين كما قال تعالى: {بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ} 1، {وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} 2. الصنف الثاني: الرؤساء أهل الأصول، الذين فتنتهم دنياهم وشهواتهم، لما يعلمون من أن الحق يمنعهم من كثير مما أحبوه وألفوه من شهوات الغي، فلم يعبئوا بداعي الحق، ولم يقبلوا منه دعوته. الصنف الثالث: الذين نشؤوا في باطل وجدوا عليه أسلافهم، فهم يظنون أنهم على حق وهم على الباطل، فهؤلاء لم يعرفوا إلا ما نشؤوا عليه، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا. وكل هذه الأصناف الثلاثة وأتباعهم أعداء الحق من لدن زمن نوح إلى أن تقوم الساعة. فأما الصنف الأول فقد عرفت ما قال الله فيهم، وأما الصنف الثاني فقد قال الله فيهم: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} 3. وقال عن الصنف الثالث: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ} 4. وقال: {إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ} 5.

_ 1 سورة البقرة آية: 90. 2 سورة البقرة آية: 146. 3 سورة القصص آية: 50. 4 سورة الزخرف آية: 22. 5 سورة الصافات آية: 69، 70.

شكر النعمة يوجب زيادتها، ومعنى قوله تعالى: {وإذ قال موسى لقومه يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكا} الآية

شكر النعمة يوجب زيادتها ومعنى قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا} 1 الآية بسم الله الرحمن الرحيم من عبد اللطيف بن عبد الرحمن إلى من يصل إليه هذا الكتاب من الإخوان -سلمهم الله تعالى-. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد: فموجب هذا والباعث عليه هو النصح الذي يجب علينا من حقكم، وقد قال تعالى: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} 2. فاذكروا ما من الله به عليكم وخصكم به في هذا الزمان من نعمة الدين، التي هي أشرف النعم وأجلها، وما حصل في ضمنها من المصالح التي لا تعد ولا تحصى. وقد أخبر الله تعالى عن كليمه موسى -عليه السلام- أنه ذكر قومه هذه النعمة كما قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا} 3 الآية. فذكرهم أولا بالنعمة العظمى، وهي أن جعل فيهم أنبياء يرشدونهم إلى ما فيه صلاحهم وخلاصهم، وسعادتهم في الدنيا والآخرة. وقد امتن الله سبحانه على عباده في كتابه بهذه النعمة، وذكرهم بها في مواضع كما قال تعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} 4.

_ 1 سورة المائدة آية: 20. 2 سورة الذاريات آية: 55. 3 سورة المائدة آية: 20. 4 سورة الجمعة آية: 2.

وأخبر عن مراده فيما شرعه في تحويل القبلة إلى بيته الحرام، وأن ذلك قد قصد به وأراد منه إتمام نعمته، وليحصل لهم الاهتداء، وذكرهم عند ذلك هذه النعم، وأنه فعل ذلك كما منَّ عليهم قبل بمبعث الرسول فقال: {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ} 1. [أعظم نعم الله هي إرساله الرسل] فبعث الأنبياء، وإرسال الرسل هو الذي حصل به العلم النافع والعمل الصالح، كمعرفة الله بصفات كماله، ونعوت جلاله، والاستدلال بآياته ومخلوقاته، والقيام له بما أوجب على خلقه من العبادة والتوحيد، والعمل بما يرضي الرب ويريد، فإن بهذا تحصل زكاة العبد ونموه، وصلاحه وفلاحه، وسعادته في الدنيا والآخرة. وفي ضمن تعليمه الكتاب والحكمة من تفاصيل العلوم والأعمال والمعارف، والأمثال الدالة على وحدانيته وقدرته ورحمته وعدله وفضله، وإعادته لخلقه وبعثه إياهم، ومجازاتهم على أعمالهم، وذكر أيامه في أنبيائه وأوليائه، وما فعل ويفعل بأعدائهم وأعدائه، وإخباره بإلحاق النظير بالنظير، والشبيه بالشبيه، والمثل بالمثل، ما يوجب للعبد من العلم بالله، ومعرفة قدرته، وحكمته في أقداره، ومراده من شرعه وخلقه، وغير ذلك من الأحكام الكلية والجزئية ما لا يمكن حصره ولا استقصاؤه. فما أنعم الله على أهل الأرض من نعمة إلا وهي دون نعمة إرسال الرسل وبعث النبيين، خصوصا رسالة محمد سيد ولد آدم صلى الله عليه وسلم صاحب اللواء المعقود، والمقام المحمود، والحوض المورود، فإنه قد حصل برسالته من عموم الرحمة لكافة العالمين، ومن السعادة والفلاح، والتزكية والهدى والرشاد لمن اتبعه ما لم يحصل مثله، ولا قريب منه ببعث غيره من الأنبياء. فمن كان له من قبول ما جاء به والإيمان به حظ ونصيب فعليه من شكر الله على هذه النعمة، وطاعته، وإدامة ذكره، والثناء بنعمه، ما ليس على من قل حظه ونصيبه من ذلك.

_ 1 سورة البقرة آية: 151.

وقد منَّ الله عليكم -رحمكم الله- في هذا الزمن الذي غلبت فيه الجهالات، وفشت بين أهله الضلالات، والتحق بعصر الفترات، من يجدد لكم أمر هذا الدين، ويدعو إلى ما جاء به الرسول الأمين من الهدى الواضح المستبين، وهو شيخ الإسلام والمسلمين، ومجدد ما اندرس من معالم الملة والدين، الشيخ محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله تعالى-. فبصر العدد العديد من العماية، وهدى بما دعا إليه من الضلالة، وأغنى بما فتح عليكم وعليه من العالة، وحصل من العلم ما يستبعد على أمثالكم في العادة، حتى ظهرت الحجة البيضاء، التي كان عليها صدر هذه الأمة وأئمتها في باب توحيد الله بإثبات صفات كماله، ونعوت جلاله، والإيمان بقدره وحكمه في أفعاله. فإنه قرر ذلك، وتصدى -رحمه الله- للرد على من نكب عن هذا السبيل، واتبع سبل التحريف والتعطيل، على اختلاف نحلهم وبدعهم، وتشعب مقالاتهم وطرقهم، متبعا -رحمه الله- ما مضى عليه السلف الصالح من أهل العلم والإيمان، وما درج عليه القرون المفضلة بنص الحديث. ولم يلتفت -رحمه الله- إلى ما عدا ذلك من قياس فلسفي، أو تعطيل جهمي، أو إلحاد حلولي أو اتحادي، أو تأويل معتزلي أو أشعري، فوضح معتقد السلف الصالح، بعد ما سفت عليه السوافي، وذرت عليه الذواري، وندر من يعرفه من أهل القرى والبوادي، إلا ما كان مع العامة من أصل الفطرة، فإنه قد يبقى ولو في زمن الغربة والفترة. وتصدى أيضا للدعوة إلى ما يقتضيه هذا التوحيد وما يستلزمه، وهو وجوب عبادة الله وحده لا شريك له، وخلع ما سواه من الأنداد والآلهة، والبراءة من عبادة كل ما عبد من دون الله. وقد عمت في زمنه البلوى بعبادة الأولياء والصالحين وغيرهم، وأطبق على ترك الإسلام جمهور أهل البسيطة، وفي كل مصر من الأمصار، وبلد من البلدان، وجهة من الجهات، من الآلهة والأنداد لرب العالمين ما لا يحصيه إلا الله، على اختلاف معبوداتهم، وتباين اعتقاداتهم. فمنهم من يعبد الكواكب ويخاطبها

بالحوائج ويبخر لها التبخيرات، ويرى أنها تفيض عليه أو على العالم، وتقضي لهم الحاجات، وتدفع عنهم البليات. ومنهم من لا يرى ذلك ويكفر أهله ويتبرأ منهم، لكنه قد وقع في عبادة الأنبياء والصالحين، فاعتقد أنه يستغاث بهم في الشدائد والملمات، وأنهم هم الواسطة في إجابة الدعوات وتفريج الكربات؛ فتراه يصرف وجهه إليهم، ويسوي بينهم وبين الله في الحب والتعظيم والتوكل والاعتماد والدعاء والاستغاثة والاستعانة، وغير ذلك من أنواع العبادات. [ما كانت عليه الجاهلية حين مبعث الرسول -صلّى الله عليه وسلّم-] وهذا هو دين جاهلية العرب الأولى، كما أن الأول هو دين الصابئة الكنعانيين، وقد بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم {بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} 1. وكانت العرب في وقته وزمن مبعثه معترفين لله بتوحيد الربوبية والأفعال، وكانوا على بقية من دين إبراهيم الخليل -عليه السلام-، قال تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ} 2. وقال تعالى: {قُلْ لِمَنِ الأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} 3 إلى قوله {قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} 4. والآيات في المعنى كثيرة، ولكنهم أشركوا في توحيد العبادة والإلهية، فاتخذوا الشفعاء والوسائط من الملائكة والصالحين وغيرهم، وجعلوهم أندادا لله رب العالمين فيما يستحقه عليهم من العبادات، والإرادات كالحب والخضوع والتعظيم والإنابة والخشية، وغير ذلك من أنواع العبادات والطاعات؛ لأجل جاههم عند الله، والتماس شفاعتهم، والاعتقاد والتدبير والتأثير كما ظنه بعض الجاهلين. قال تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} 5 الآية، وقال: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلا يَعْقِلُونَ} 6. وقال تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ

_ 1 سورة التوبة آية: 33. 2 سورة يونس آية: 31. 3 سورة المؤمنون آية: 84. 4 سورة المؤمنون آية: 89. 5 سورة يونس آية: 18. 6 سورة الزمر آية: 43.

زُلْفَى} 1 الآية. فنهاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذا الشرك، وكفر أهله، وجهلهم وسفه أحلامهم، ودعاهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله، وبين أن مدلولها الالتزام بعبادة الله وحده لا شريك له، والكفر بما يعبدون من دون الله. وهذا هو أصل الدين وقاعدته، ولهذا كانت هذه الكلمة كلمة الإسلام، ومفتاح دار السلام، والفارق بين الكافر والمؤمن من الأنام، ولها جردت السيوف وشرع الجهاد، وامتاز الخبيث من طيب العباد، وبها حقنت الدماء وعصمت الأموال. وقد بلغ الشيطان مراده من أكثر الخلق، وصدق عليهم إبليس ظنه فاتبعه الأكثر، وتركوا ما جاءت به الرسل من دين الله الذي ارتضاه لنفسه، وتلطف الشيطان في التحيل والمكر والمكيدة، حتى أدخل الشرك وعبادة الصالحين وغيرهم على كثير ممن ينتسب إلى دين الإسلام في قالب محبة الصالحين والأنبياء، والتشفع بهم، وأن لهم جاها ومنزلة يشفع بها من دعاهم ولاذ بحماهم. وأن من أقر لله وحده بالتدبير، واعتقد له بالتأثير والخلق والرزق فهو مسلم، ولو دعا غير الله، واستعاذ بغيره ولاذ بحماه، وأن مجرد شهادة أن لا إله إلا الله تكفي مثل هذا، وإن لم يقارنها علم ولا عمل ينتفع به، وأن الدعاء والاستغاثة والاستعانة والحب والتعظيم ونحو ذلك ليس بعبادة، وإنما العبادة السجود والركوع، ونحو هذه الزخرفة والمكيدة، وهذا بعينه هو الذي تقدمت حكايته عن جاهلية العرب. [سبب حدوث الشرك في قوم نوح] وذكر المفسرون وأهل التاريخ من أهل العلم في سبب حدوث الشرك في قوم نوح مثل هذه المكيدة، فإن ودا وسواعا ويغوث ويعوق ونسرا أسماء رجال صالحين في قوم نوح، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن ينصبوا تماثيلهم ويصوروا صورهم؛ ليكون ذلك أشوق إلى العبادة، وأنشط في الطاعة. فلما هلك من فعل هذا أوحى الشيطان إلى من بعدهم أن أسلافهم كانوا يعبدونهم، وبهم يسقون المطر، فعبدوهم لذلك. فأصل الشرك هو تعظيم الصالحين بما لم يشرع، والغلو في ذلك.

_ 1 سورة الزمر آية: 3.

فأتاح الله بمنه في هذه البلاد النجدية والجهات العربية من أحبار الإسلام وعلمائه الأعلام من يكشف الشبهة، ويجلو الغمة، وينصح الأمة، ويدعو إلى محض الحق وصريح الدين، الذي لا يخالطه ولا يمازجه دين الجاهلية المشركين، فنافح عن دين الله، ودعا إلى ما دعا إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وصنف الكتب والرسائل، وانتصب للرد على كل مبطل ومماحل، وعلم من لديه كيف يطلب العلم وأين يطلب، وبأي شيء يقهر المشبه المجادل ويغلب. واجتمع له من عصابة الإسلام والإيمان طائفة يأخذون عنه، وينتفعون بعلمه، وينصرون الله ورسوله، حتى ظهر واستنار ما دعا إليه، وأشرقت شموس ما عنده من العلم وما لديه، وعلت كلمة الله حتى أغشى إشراقها وضوؤها كل مبطل ومماحل، وذل لها كل منافق مجادل. وحقق الله وعده لأوليائه وجنده كما قال تعالى: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ} 1. وقوله: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} 2 الآية. [دعوة التوحيد في نجد] فزال -بحمد الله- ما كان بنجد وما يليها من القباب، والمشاهد والمزارات والمغارات، وقطع الأشجار التي يتبرك بها العامة، وبعث السعاة لمحو آثار البدع الجاهلية، من الأوتاد والتعاليق والشركيات، وألزم بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصيام رمضان وحج البيت وبسائر الواجبات. وحث من لديه من القضاة والمفتين على تجريد المتابعة لما صح وثبت عن سيد المرسلين، مع الاقتداء في ذلك بأئمة الدين، والسلف الصالح المهديين. ونهاهم عن ابتداع قول لم يسبقهم إليه إمام يقتدى به، أو علم يهتدى به. وأنكر ما كان عليه الناس في تلك البلاد وغيرها من تعظيم الموالد والأعياد الجاهلية التي لم ينْزل في تعظيمها سلطان، ولم يرد به حجة شرعية ولا برهان، لأن ذلك فيه مشابهة للنصارى الضالين، في أعيادهم الزمانية والمكانية ما هو باطل مردود في شرع سيد المرسلين.

_ 1 سورة غافر آية: 51. 2 سورة النور آية: 55.

وكذلك أنكر ما أحدثه جهلة المتصوفة، وضلال المبتدعة من التدين والتعبد باللهو واللعب والمكاء والتصدية، والأغاني التي صدهم بها الشيطان عن سماع آيات القرآن، وصاروا بها من أشباه عباد الأوثان، الذين قال الله فيهم: {وَمَا كَانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً} 1. وكل من عرف ما جاء به الرسول تبين له أن هؤلاء من أضل الفرق وأخبثهم نحلة وطريقة، والغالب على كثير منهم النفاق، وكراهة سماع كلام الله ورسوله. [هدم الشرك وآثاره في نجد] وأنكر -رحمه الله- ما أحدثته العوام والطغام من اعتقاد البركة والصلاح في أناس من الفجار والطواغيت، الذين يترشحون لتأله العباد بهم، وصرف قلوبهم إليهم باسم الولاية والصلاح، وأن لهم كرامات ومقامات، ونحو هذا من الجهالات، فإن هؤلاء من أضر الناس على أديان العامة. وأنكر -رحمه الله- ما يعتقده العامة في البله والمجاذيب وأشباههم، الذين أحسن أحوال أحدهم أن يرفع عنه القلم ويلحق بالمجانين. وأرشد -رحمه الله- إلى ما دل عليه الكتاب وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم من الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان. وساق الأدلة الشرعية التي يتميز بها كل فريق، ويعتمدها أهل الإيمان والتحقيق. فإن الله -جل ذكره- وصف الأبرار ونعتهم بما يمتازون به ويعرفون، بحيث لا يخفى حالهم ولا يلتبس أمرهم، وكذلك وصف تعالى أولياء الشيطان من الكفار والفجار، ونعتهم بما لا يخفى معه حالهم، ولا يلتبس أمرهم على من له أدنى نظر في العلم وحظ من الإيمان. وكذلك قام بالنكير على أجلاف البوادي، وأمراء القرى والنواحي، فيما يتجاسرون عليه ويفعلونه من قطع السبيل، وسفك الدماء، ونهب الأموال المعصومة، حتى ظهر العدل واستقر، وفشا الدين واستمر، والتزمه كل من كانت عليه الولاية من البلاد النجدية وغيرها، والحمد لله على ذلك.

_ 1 سورة الأنفال آية: 35.

والتذكير بهذا يدخل فيما امتن الله به على المؤمنين وذكرهموه من بعث الأنبياء والرسل. ومدار العبادة والتوحيد على ركنين عظيمين هما الحب والتعظيم. وبمشاهدة النعمة يحصل ذلك، ويخبت القلب لطاعة من أنعم بها عليه، وكلما: ازداد العبد علما بذلك، ومعرفة لحقيقة النعمة ومقدارها، ازداد طاعة ومحبة وإنابة وإخباتا وتوكلا، ولذلك يذكر تعالى عباده بنعمه الخاصة والعامة، وآلائه الظاهرة والباطنة، ويحث على التفكر في ذلك والتذكر، وأن يعقل العبد عن ربه، فيقوم بشكره ويؤدي حقه. ومبنى الشكر على ثلاثة أركان: معرفة النعمة وقدرها، والثناء بها على مسديها، واستعمالها فيما يحب موليها ومعطيها. فمن كملت له هذه الثلاث فقد استكمل الشكر، وكلما نقص العبد منها شيئا فهو نقص في إيمانه وشكره، وقد لا يبقى معه من الشكر ما يعتد به ويثاب عليه. والمقصود أن الذكرى فيها من المصالح الدينية والشعب الإيمانية ما هو أصل كل فلاح وخير. وبدأ في هذه الآية بأعظم النعم وأجلها على الإطلاق، وهو جعله الأنبياء فيهم يخبرونهم عن الله بما يحصل لهم به السعادة الكبرى، والمنة الجليلة العظمى، وكل خير حصل في الأرض من ذلك فأصله مأخوذ عن الرسل والأنبياء، إذ هم الأئمة الدعاة الأمناء، وأهل العلم عليهم البلاغ، ونقل ذلك إلى الأمة؛ فإنهم واسطة في إبلاغ العلم ونقله. [معنى قوله تعالى {وَجَعَلَكُم مُلُوكًا}] وأما قوله: {وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا} 1 فهذه نعمة جليلة يجب شكرها، وتتعين رعايتها؛ فإنها من أفضل النعم وأجلها. والشكر قيد النعمة، إن شكرت قرت، وإن كفرت فرت. ولم تحصل هذه النعمة إلا باتباع الأنبياء وطاعة الرسل، فإن بني إسرائيل إنما صاروا ملوك الأرض بعد فرعون وقومه باتباع موسى، وطاعة الله ورسوله والصبر على ذلك، قال تعالى: {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ

_ 1 سورة المائدة آية: 20.

مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرائيلَ بِمَا صَبَرُوا} 1. وقد حصل باتباع محمد صلى الله عليه وسلم لمن آمن به من العرب الأميين، وغيرهم من أجناس الآدميين من الملك وميراث الأرض فوق ما حصل لبني إسرائيل، فإنهم ملكوا الدنيا من أقصى المغرب إلى أقصى المشرق، وحملت إليهم كنوز كسرى ملك الفرس، وقيصر ملك الروم، وصارت بلادهم وبلاد المغرب والمشرق ولاية لهم، ورعية تنفذ فيهم أحكامهم، ويجبى إليهم خراجهم. ومكثوا على ذلك ظاهرين قاهرين لمن سواهم من الأمم، حتى وقع فيهم ما وقع في بني إسرائيل من الخروج عن اتباع الأنبياء، وترك سياستهم، والانهماك في أهوائهم وشهواتهم، فجاء الخلل، وسلط العدو، وتشتت الناس، وتفرقت الكلمة، وصارت الدول الإسلامية يسوسها في كثير من البلاد وفي أوقات كثيرة من الملوك أهل النفاق والزندقة والكفر والإلحاد، الذين لا يبالون بسياسات الأنبياء وما جاؤوا به من عند الله، وربما قصدوا معاكستهم. فذهب الملك بذلك، وضاعت الأمانة، وفشا الظلم والخيانة، وصار بأسهم بينهم، وسلط عليهم العدو، وأخذ كثيرا من البلاد. ولم يقنع منهم إبليس عدو الله بهذا حتى أوقع كثيرا منهم في البدع والشرك، وسعى في محو الإسلام بالكلية. وكلما بعد عهد الناس بالعلم وآثار الرسالة، ونقص تمسكهم بعهود أنبيائهم، تمكن الشيطان من مراده في أديانهم ونحلهم واعتقاداتهم؛ ولكن من رحمة الله ومنته جعل في هذه الأمة بقية، وطائفة على الحق ظاهرين، لا يضرهم من خذلهم، حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك. وكلما حصل لهذه الطائفة قوة وسلطان في وجهة أو بلد، حصل من الملك والعز والظهور لهم بقدر تمسكهم بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم؛ ولذلك صار لشيخنا شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب، ولطائفته وأنصاره من الملك والظهور والنصر بحسب نصيبهم

_ 1 سورة الأعراف آية: 137.

وحظهم من متابعة نبيهم صلى الله عليه وسلم والتمسك بدينه، فقهروا جمهور العرب من الشام إلى عمان، ومن الحيرة إلى اليمن. وكلما كان أتباعهم وأنصارهم أقوى تمسكا كانوا أعز وأظهر، وربما نال منهم العدو وحصل عليهم من المصائب ما تقتضيه الذنوب والمخالفة، والخروج عن متابعة نبيهم، وما يعفو الله من ذلك أكثر وأعظم. [كل خير حصل للناس فهو باتباع الرسول] والمقصود أن كل خير ونصر حصل، وعز وسرور اتصل، فهو بسبب متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم وتقديم أمره في الفروع والأصول، وقد منَّ الله عليكم في هذه الأوقات بما لم يعطه سواكم في غالب البلاد والجهات، من النعم الدينية والدنيوية، والأمن في الأوطان. فاذكروا الله يذكركم، واشكروا نعمه يزدكم، و {قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} 1 بمعرفة الله، ومحبته وطاعته وتعظيمه، وتعليم أصول الدين، وتعظيم ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من الأمر والنهي والتزامه، والمحافظة على توحيد الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج بيت الله الحرام، والجهاد في سبيله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وترك الفواحش الباطنة والظاهرة، وسد الوسائل التي توقع في المحذور، وتفضي إلى ارتكاب الآثام والشرور. ويجمع ذلك قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالأِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} 2. والله المسؤول أن يمن علينا وعليكم بسلوك سبيله، وأن يجعلنا ممن عرف الهدى بدليله، وصلى الله على عبده ورسوله محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

_ 1 سورة التحريم آية: 6. 2 سورة النحل آية: 90.

كتاب منه إلى سهل بن عبد الله يرشده فيه إلى تدبر كتاب الله

كتاب منه إلى سهل بن عبد الله {يرشده فيه إلى تدبر كتاب الله} بسم الله الرحمن الرحيم من عبد اللطيف بن عبد الرحمن إلى الأخ المكرم سهل بن عبد الله، سلمه الله تعالى وسهل أمره، وشرح لدينه صدره. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: فأحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو على جزيل نعمه ووافر عطائه، والخطوط وصلت وسرت وقرت، حيث أشعرت وأخبرت بسلامة المحب وطيبه، وعمارة الأوقات بالقراءة في كتب الأصول والصحاح والتفاسير، وأن الإخوان في ازدياد، وأن الأشرار والأضداد في انقماع وانقباض. فالحمد لله وحده، والشكر له على نصر دينه، وإظهار حجته. الله المسؤول أن يمن علينا وعليكم باليسر في الأمر، والعزيمة على الرشد، وأن يوزعنا شكر نعمه، وحسن عبادته، وتطلب الفائدة. وأرشدك إلى التأمل في قوله تعالى: {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ} 1 الآية. فاحذروا معاشرة الغر، وأخلصوا العمل لوجهه الكريم الأعلى. وقد حدثني بعض الثقات أنه اجتمع ببعض الأفاضل من أولاد الشيخ محمد بمكة سنة 1221، قال: فشيعته لما أراد الذهاب إلى وطنه، وسألته الوصية، فقال لي -وقد ثنى رجله على رحله-: تأمل قوله تعالى: {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ} 2 إلى قوله: {إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} 3، ثم ودعني وانفتلت به راحلته. ونخبرك أن الشيخ والأولاد والإمام وأولاده وكافة الإخوان يهدوك السلام، وبلغ سلامنا الإخوان محمد ومحمد وسائر القراء والطلبة، وأنت في أمان الله وحفظه. والسلام.

_ 1 سورة البقرة آية: 266. 2 سورة يونس آية: 61. 3 سورة يونس آية: 61.

جواب كتاب منه إليه يشنع فيه على حج المشاهد والمقابر

{جواب كتاب منه إليه يشنع فيه على حج المشاهد والمقابر} بسم الله الرحمن الر حيم من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى الأخ المحب المكرم: سهل بن عبد الله، سهل الله له الطريق الموصلة إليه، ووالى إفضاله وإنعامه عليه. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: فأحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو على إنعامه. والخط وصل وصلك الله بما يرضيه، وجعلك ممن يخافه ويتقيه، وسرنا سلامتك وعافيتك الحمد لله على ذلك. وخطك لابن عجلان وجوابه لك وصلنا، والواجب على من عوفي في دينه من هذه الورطات أن يكثر من ذكر الله وشكره. وفي جوابه من الفهاهة والظلمة ما لا يعرفه إلا أرباب البصائر، ولو سلم دينه وصح معتقده لكانت له مندوحة عن معاشرة أعداء الله، ومداهنتهم، والصلاة خلفهم، ولو نوى الانفراد. وأما ما نقل عن داود من قصد الزيارة، وأنه ما قصد الحج، فنعم؛ وهكذا الحال عند الغلاة في الأنبياء والصالحين، حتى صنف بعضهم كتابًا سماه: حج المشاهد، وربما فضل هذه الزيارة على حج بيت الله. فأوصيك بتقوى الله، وطلب العلم والإيمان، عله أن يجعل لك نورًا تسير به إلى الإله الحق، الذي في وصولك إليه كل السعادة والهداية والسيادة في دورك الثلاثة. واعلم أن من حقوق الأخوة في الله: إدامة الدعاء لإخوانك في أوقات الإجابة. وبلغ سلامي إخوانك إجازة عامة مطلقة، ولدينا الوالد والأولاد بخير وينهون السلام.

التحذير عن البطالة

التحذير عن البطالة بسم الله الرحمن الرحيم من عبد اللطيف بن عبد الرحمن إلى الأخ المحب المكرم محمد بن عمر سلمه الله تعالى، وأسبغ عليه نعمه ووالى. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: فأحمد إليك الله على سوابغ نعمه، وخفي لطفه وكرمه، المحب في أنس بالاشتغال بالعلوم الشرعية، جعلها الله وصلة إلى الدرجات العلية في دار السعادة الأبدية، إلا أن بعد مثلك يشوش بعض الأحيان، ونشكو إلى الله فساد أهل الزمان، ونسأله أن يصلح الحال والشأن. والخطوط وصلت وسرت بما أبدته من أخبار سلامتك، وما يتيسر لك من الكتب المفيدة الشرعية، جعلك الله تعالى من وعاة العلم ورواته الفائزين بحسن ثواب الله ومرضاته. فإياك إياك والبطالة والإهمال، والاشتغال بتحصيل عرض ومال. وقد قيل في المثل: "ومن خطب الحسناء لم يغله المهر"، وبلغ سلامي الوالد والأولاد، والأخ محمد وسهل ومن لديك من الإخوان. والسلام الوصية الجامعة لزوم التقوى في كل حال بسم الله الرحمن الرحيم من عبد اللطيف بن عبد الرحمن إلى الأخ المحب المكرم محمد بن عمر الرسلي - سلمه الله تعالى وسلك به الطريق المستقيم. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: فأحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو

كتابه إلى محمد آل عمر وفيه ذكر شرحه كتاب الكبائر

على نعمه، ومزيد إحسانه وكرمه، جعلنا الله وإياكم من عباده الشاكرين، وأحبابه التائبين، وسبق إليك مع اخْويا 1 مهنا خطوط ولا جانا لك جواب، فلعلها وصلت وأنت بخير وعافية. وحرر هذا لإبلاغ السلام والتحية، وتذكر تلك العهود السالفة المرضية، وتعاهد الأخوة الدينية الشرعية، جعلنا الله وإياكم ممن رعاها حق رعايتها، وحفظها في ذات الله وما ضيعها. والوصية الجامعة لزوم التقوى من حيث كنت، مع النظر في حقيقتها، وما اشتملت عليه من أعمال القلوب والجوارح، وتوقفها على العلم، ومعرفة حدود ما أنزل الله على رسوله، من باب توقف اللازم على الملزوم، والمسبب على سببه. والجملة شرحها يطول، ولكن الإشارة كافية، وهي عند اللبيب تقوم مقام العبارة الوافية. هذا ومن حق الأخوة ملازمة الدعاء بظهر الغيب، والظن بك عدم الإهمال، وبلغ سلامي الإخوان: محمد وسهل ومطلق وابن جاسر، ومن عز عليك، ومن لدينا الوالد والأولاد وجملة الإخوان بخير، ويهدوك السلام. والسلام. {كتابه إلى محمد آل عمر وفيه ذكر شرحه كتاب الكبائر} بسم الله الرحمن الرحيم من عبد اللطيف بن عبد الرحمن إلى الأخ المكرم محمد آل عمر بن سليم، سلمه الله تعالى وتولاه، وأسعده بالإيمان به وتقواه. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: فنحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو على نعمه، والخطوط وصلت، وصلك الله بما يرضيه، وجعلك ممن يخافه ويتقيه، وقد سرتني سلامتك وعافيتك

_ 1 أي إخوان.

كتاب منه إلى صالح آل عثمان

-جعلنا الله وإياك من أهل العافية في الدنيا والآخرة-. والمحب لم ينس عهدكم، ولم يؤخر جواب خطكم عن ريبة جفا، أو تغير مودة وصفا، كيف ولكم من المنْزلة والتكريم ما يشهد به كل مصاحب وحميم؟ لكن الأمور بأوقاتها منوطة، وبآجالها مربوطة، والمرء غالبا يؤتى من قبل التسويف، والسماحة خلق جليل شريف، وما أحسن ما قيل: وما الود إدمان الزيارة من فتى ... ولكن على ما في القلوب المعول والمحب والشيخ الوالد على ما تظنون من القيام بحقكم، ومراعاة غيبتكم عند الإمام وابنه، ولا ندخر الذب والحماية ما استطعنا. وما أشرت إليه من جهد شرح كتاب الكبائر، فقد هممت به، وسودت منه ما تيسر. ونسأل الله أن يمن بالإتمام، وأن يجعله خالصا لوجهه الكريم، إنه ولي ذلك، وهو على كل شيء قدير. فإن حصل المقصود نسخنا لكم نسخة -إن شاء الله-. وبلغ سلامي محمد آل عبد الله وسهل وإبراهيم القصير وابن جاسر ومطلق ومحمد آل عثمان وعلي بن صنيع. ومن لدينا الوالد والعيال والطلبة بخير، ويهدون إليكم السلام. انتهى {كتاب منه إلى صالح آل عثمان} بسم الله الرحمن الرحيم من عبد اللطيف بن عبد الرحمن إلى الأخ صالح آل عثمان، سلمه الله تعالى وحفظه من طائف الشيطان. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، على ما أولاه من الإنعام،

جعلنا الله وإياك من أوليائه الذاكرين الشاكرين. والخط وصل، أوصلك الله إلى ما يرضيه، وسرنا ما أخبرت به عن نفسك من المجاهدة والعبادة، نسأل الله لنا ولك الثبات في الأمر، والعزيمة على الرشد. وأما المسألة التي سألت عنها في معنى قوله صلى الله عليه وسلم: "ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة"1. فمن أحسن ما قيل في معناه: قول العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى -في باب المعاينة من شرح المنازل- لما تكلم على ما يزعمه القوم من إدراك نفس الحقيقة والأنوار التي يجدونها، وأنها أمثلة وشواهد، قال: وحقيقتها هي وقوع القوة العاقلة على المثال العلمي المطابق للخارجي، فيكون إدراكه له بمنْزلة إدراك العبد للصورة الخارجية، وقد يقوى سلطان هذا الإدراك الباطن بحيث يصير الحكم له، ويقوى استحضار القوة العاقلة لمدركها بحيث يستغرق فيه، ويغلب حكم القلب على حكم الحس والمشاهدة، ويستولي على السمع والبصر بحيث يراه ويسمع خطابه في الخارج، أو في النفس والذهن. لكن لغلبة الشهود، وقوة الاستحضار، وتمكن حكم القلب واستيلائه على القوى صار كأنه مرئي بالعين، مسموع بالأذن، بحيث لا يشك المدرك في ذلك ولا يرتاب البتة، ولا يقبل عذلا. وحقيقة الأمر أن ذلك كله شواهد وأمثلة علمية تابعة للمعتقد ... إلى أن قال: وليس مع القوم إلا الشواهد والأمثلة العلمية والرقائق، التي هي ثمرة قرب القلب من الرب وأنسه، واستغراقه في محبته وذكره، واستيلاء سلطان معرفته عليه، والرب تبارك وتعالى وراء ذلك كله، منَزه مقدس عن اطلاع البشر على ذاته، وأنوار ذاته أو صفاته، وإنما هي الشواهد التي تقوم بقلب العبد كما يقوم بقلبه شاهد الآخرة، والجنة والنار، وما أعد الله لأهلهما. وهذا هو الذي وجده عبد الله بن حرام يوم أحد لما قال: "واها لريح الجنة، إني لأجد ريحها دون أحد". ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا مررتم برياض الجنة

_ 1 البخاري: الجمعة 1195 , ومسلم: الحج 1390 , والنسائي: المساجد 695 , وأحمد 4/ 39 ,4/ 40 ,4/ 41 , ومالك: النداء للصلاة 463.

حسن الالتجاء إلى الله والثقة به

فارتعوا"1. وقوله: "ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة"2 فهي روضة لأهل العلم والإيمان؛ لما يقوم بقلوبهم من شواهد الجنة حتى كأنها لهم رأي العين. وإذا قعد المنافق هناك لم يكن ذلك المكان في حقه روضة من رياض الجنة، فالعمل إنما هو على الشواهد، وعلى حسب شاهد العبد يكون عمله. انتهى ملخصا. وبه يظهر معنى الحديث، وأن اختصاص هذا المكان بكونه روضة من رياض الجنة لما يقوم بقلب العبد من المثال والشاهد الذي يقوي سلطانه هناك وتظهر ثمرته، ويجد المؤمن من لذته وروحه حتى كأنه رأي عين. وفي هذا القدر كفاية. والله الموفق. ولا تدخر عمارة مجلسك بذكر الله، والدعوة إليه، ونشر العلم الذي أنزله على رسوله صلى الله عليه وسلم من الكتاب والحكمة. حسن الالتجاء إلى الله والثقة به بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله وحده. أنشدنا شيخنا الشيخ عبد اللطيف -دامت إفادته- هذه الأبيات: يا من له الفضل محضا في بريته ... وهو المؤمل في الضراء والباس عودتني عادة أنت الكفيل بها ... فلا تكلني إلى خلق من الناس ولا تذل لهم من بعد عزته ... وجهي المصون ولا تخفض لهم راسي وابعث على يد من ترضاه من بشر ... رزقي وصنه عمن قلبه قاسي فإن حبل رجائي فيك متصل ... بحسن صنعك مقطوعا عن الناس أنشدنا هذه الأبيات شيخنا شرف الدين الشيخ عبد اللطيف بن الشيخ عبد الرحمن -أدام الله إفادتهما-، وذكر شيخنا عبد اللطيف أن الله بعث لمنشئها رزقا بسبب فأرة خرجت من جحر وبفيها دينار، فحفره فوجد دنانير كثيرة. نقل من خط الشيخ محمد آل عمر آل سليم. قال الشيخ محمد بن عمر آل سليم -رحمه الله-:

_ 1 الترمذي: الدعوات 3509. 2 البخاري: الجمعة 1195 , ومسلم: الحج 1390 , والنسائي: المساجد 695 , وأحمد 4/ 39 ,4/ 40 ,4/ 41 , ومالك: النداء للصلاة 463.

في تعظيم أوامر الله ومجاهدة أعدائه، والولي في النكاح، وسؤال الله بحق نبيه

أملى علي شيخنا الشيخ عبد اللطيف -دامت إفادته- هذه النصيحة، وهي: من عبد اللطيف بن عبد الرحمن إلى جناب الإمام المكرم فيصل بن تركي، وفقه الله لقبول النصائح، وجنبه أسباب الندم والفضائح آمين. سلام عليكم ورحمة الله. وبعد: فلا يخفى عليك ما من الله به تعالى ... * {في تعظيم أوامر الله ومجاهدة أعدائه} {والولي في النكاح، وسؤال الله بحق نبيه} بسم الله الرحمن الرحيم من عبد اللطيف بن عبد الرحمن إلى الأخ المكرم حمد بن عبد العزيز العريني -سلمه الله تعالى-. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: [في تعظيم أوامر الله ومجاهدة أعدائه] فأحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو على نعمه، والخط وصل. وما ذكرت من غربة الدين فالأمر أجلّ وأكبر من الغربة، أكثر أصوله وشعبه معدومة في الخواص. فكيف بالسوقة، ومن لا نهمة لهم في معرفة ما جاءت به الرسل كالغيرة لله ولحرماته، وتعظيم أوامره، ومجاهدة أعداء دينه، والبراءة من موالاة المشركين، وأعداء رب العالمين، والتحيز إلى أهل الإيمان، وموالاتهم ونصرهم، ولزوم جماعة المسلمين، وغير ذلك من حقائق الدين، وشعب الإيمان، وهذه معدومة، نسأل الله لنا ولكم الثبات على دينه، والتمسك به عند فساد الزمان. [الولي في النكاح] وما ذكرت من مسألة الولي، فالمشهور الذي عليه الأكثر تقديم المكلف الرشيد في تزويج مولاته على من هو أقرب منه ممن لم يبلغ التكليف، ولم يعرف مصالح النكاح. [سؤال الله بحق نبيه أو وليه] وأما سؤال الله بحق نبيه أو وليه، فلا تصدر إلا من جاهل بأحكام الشريعة، وما يستحب وما يكره. والأولى تنبيه هذا الخطيب على أن هذا قد منعه أئمة الإسلام، وأهل الحل والعقد في الأحكام. (تمت)

_ * تقدم ذكر هذه الرسالة بتمامها في 3/ 154. [معد الكتاب للمكتبة الشاملة]

رسالة في القول فيما يذهب إليه الناس اليوم من العقيدة الأشعرية وإمامة من يعتقدها وتوليه القضاء

رسالة في القول فيما يذهب إليه الناس اليوم من العقيدة الأشعرية وإمامة من يعتقدها وتوليه القضاء بسم الله الرحمن الرحيم ومن رسائل الشيخ رسالة أرسلها إلى محمد بن عبد الله، وعبد الله بن سالم، وسببها أن الشيخ عبد اللطيف بن مبارك نصب في بعض مساجد الأحساء من يتهم بمذهب الأشاعرة من غير إذن الإمام فيصل بن تركي آل سعود -رحمه الله- قال فيها: من عبد الله بن حسن إلى الأخوين المكرمين محمد بن عبد الله، وعبد الله بن سالم. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: فقد وصل الكتاب، وفهمت ما تضمنه من الخطاب، وما ذكرتما من نصب الشيخ عبد اللطيف لهؤلاء الأولاد الثلاثة، فالعادة أن مثل هذا يراجع فيه الإمام؛ لأن نصبه له في أمر خاص، وهو فصل القضايا بين الناس. وأما النظر فيمن يصلح للإمامة والتدريس، فيرد إلى الإمام، وربما أن الإمام يجعل لنا فيه بعض الشورى؛ لأن كثيرا من الناس ما تخفانا حالهم وعقائدهم، ونصب الإمام لقضاة نجد كذلك. [صحة المعتقد في توحيد الأنبياء والمرسلين] والشيخ أحمد بن مشرف يسامي الأكابر ومثلهم ما ينسب له، والذي نعلم منه صحة المعتقد في توحيد الأنبياء والمرسلين الذي جهله أكثر الطوائف، كذلك هو رجل سلفي، يثبت من صفات الرب تعالى ما وصف به نفسه، ووصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم على ما يليق بجلال الله وعظمته. وأما أهل بلدكم في السابق وغيرهم فهم أشاعرة، والأشاعرة أخطؤوا في ثلاث مسائل من أصول الدين، منها: تأويل الصفات، وهو صرفها عن حقيقتها التي تليق بالله،

وحاصل تأويلهم سلب صفات الكمال عن ذي الجلال. أيضا أخذوا ببدعة عبد الله بن كلاب في كلام الرب -تعالى وتقدس-، ورد العلماء عليهم في ذلك شهير، مثل الإمام أحمد والشافعي ... 1 وأصحابه، والخلال في كتاب السنة، وإمام الأئمة محمد بن خزيمة، واللالكائي، وأبي عثمان الصابوني الشافعي، وابن عبد البر، وغيرهم من أتباع السلف كمحمد بن جرير الطبري، وشيخ الإسلام الأنصاري. [تقليد المتأخرين لأناس لا اطلاع لهم على التوحيد الصحيح] وقد رجع كثير من المتكلمين الخائضين كالشهرستاني شيخ أبي المعالي، والغزالي، وكذلك الأشعري -قبلهم- في كتابي الإبانة والمقالات. ومع هذا وغيره فبقي هذا في المتأخرين المقلدين لأناس من المتأخرين، ليس لهم اطلاع على كلام العلماء، وكانوا يعدون من العلماء. وأخطؤوا أيضا في التوحيد، ولم يعرفوا من تفسير "لا إله إلا الله" إلا أن معناها: القادر على الاختراع. ودلالة "لا إله إلا الله" مع هذا دلالة التزام؛ لأن هذا من توحيد الربوبية الذي أقرت به الأمم ومشركو العرب كما قال تعالى: {قُلْ لِمَنِ الأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} 2 الآيات. وهي كثيرة في القرآن. يحتج تعالى عليهم بذلك على ما أنكروه من توحيد الإلهية، الذي هو معنى "لا إله إلا الله" مطابقة وتضمنا، وهو الذي دعا إليه الناس في أول سورة البقرة، وفي سورة آل عمران والنساء وغيرها، ودعت إليه الرسل {أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ} 3. وهو الذي دعا إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وفد نصارى نجران، ودعا إليه العرب قبلهم، كما قال أبو سفيان لهرقل لما سأله عما يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يقول: "اعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا"4 وكل السور المكية في تقرير معنى "لا إله إلا الله" وبيانه. فإذا كان العلماء في وقتنا هذا وقبله في كثير من الأمصار ما يعرفون من "لا إله إلا الله" إلا توحيد الربوبية، كمن كان قبلهم في عصر شيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيم، وابن رجب، اغتروا بقول بعض العلماء من المتكلمين أن

_ 1 بياض في الأصل. 2 سورة المؤمنون آية:84، 85. 3 سورة هود آية: 2. 4 أحمد 3/ 493.

معنى "لا إله إلا الله": القادر على الاختراع، وبعضهم يقول: معناها: الغني عما سواه، الفقير إليه ما عداه. [سبب عداوة أهل الأحساء للشيخ ابن عبد الوهاب] وعلماء الأحساء ما عادوا شيخنا -رحمه الله- في مبدأ دعوته إلا من أجل أنهم ظنوا أن عبادة يوسف والعيدروس وأمثالهم لا يستفاد بطلانها من كلمة الإخلاص، والله سبحانه بين لنا معنى هذه الكلمة في مواضع كثيرة من القرآن. قال تعالى عن خليله -عليه السلام-: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ} 1، فعبر عن هذه الكلمة بمعناها، وهو نفي الشرك في العبادة، وقصرها على الله وحده. وقال عن أهل الكهف: {وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ} 2. فإذا كان هذا التوحيد الذي هو حق الله على العباد خفي على أكابر العلماء في أزمنة سلفت، فكيف لا يكون بيانه أهم الأمور؟ خصوصا إذا كان الإنسان لا يصح له إسلام ولا إيمان إلا بمعرفة هذا التوحيد، وقبوله ومحبته والدعوة إليه، وتطلب أدلته واستحضارها ذهنا وقولا وطلبا ورغبة. فهذه نصيحة مني لكل إنسان، دعاني إليها غربة الدين وقلة المعرفة فيه، فينبغي أن تشاع وتذاع في محاضر أهل العلم، يقبلها من وفقه الله تعالى للخير، فإنها خير مما كتبت فيه بأضعاف أضعاف. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وصلى الله على محمد، وآله وصحبه وسلم.

_ 1 سورة الزخرف آية: 26: 28. 2 سورة الكهف آية: 16.

فتاوى في مسائل مختلفة، في الديات والجروح ودم الذمي والمعاهد والحربي

فتاوى في مسائل مختلفة {في الديات والجروح ودم الذمي والمعاهد والحربي} بسم الله الرحمن الرحيم (ولا حول ولا قوة إلا بالله) من عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن، إلى الأخ سعيد بن أحمد. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: [اليد إذا قطعت من المرفق] وصل خطك، تسأل عن اليد إذا قطعت من المرفق، ولم يبق فيها إلا جلدة يسيرة. الجواب: أن في اليد نصف الدية ولا عبرة في الجلدة. [تقدير الجروح في الرجل والفخذ] المسألة الثانية: عن رجل ضرب في فخذه بسهم، فخرجت منه وأصابت الفخذ الآخر، فأبانت اللحم والجلد. والجواب: أن الجروح في الرجل والفخذ لا تقدير فيها إذا سلم العظم، ولم تتعطل منفعة العضو، ولكن فيها حكومة وهي: أن يقوَّم المجني عليه قيمة عبد، ثم ينظر ما نقصته الجروح، فإن نقصت عشر القيمة أو ثمنها مثلا فيعطى من دية الحر الخمس أو العشر. [رجل ضرب في كفه الأيمن وحصل به عيب] المسألة الثالثة: رجل ضرب في كفه الأيمن وحصل بالكف عيب، فإن تعطل بالكلية ففيه الدية، وإن تعطل بعض الأصابع ففي كل أصبع إذا تعطلت عشر الدية. [قتل المسلم للمشرك الحربي] المسألة الرابعة: لا يمنع المسلم عن قتل المشرك الحربي، ولو كان جارا للمسلم، أو معه في الطريق إلا إذا أعطاه ذمة أو أمنه أحد من المسلمين، ففي الحديث: "ذمة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم"1. [دية المشرك إذا ضرب وجرح] المسألة الخامسة: إذا ضرب المشرك وجرح فدمه هدر، إلا الذمي والمعاهد والمستأمن؛ فديتهم إذا أصيبت نفس أحدهم ثمانمائة درهم، والجروح ينظر فيها على قدر دياتهم.

_ 1 البخاري: الحج 1870 والجزية 3172 ,3180 والفرائض 6755 والاعتصام بالكتاب والسنة 7300 , ومسلم: العتق 1370 , والترمذي: الولاء والهبة 2127 , والنسائي: القسامة 4734 ,4735 ,4745 ,4746 , وأبو داود: المناسك 2034 والديات 4530 , وأحمد 1/ 79 ,1/ 81 ,1/ 118 ,1/ 119 ,1/ 122 ,1/ 126 ,1/ 151.

المسألة السادسة: المساقاة، هل يصح من كل نخلة عذقا؟ الجواب: لا تصح المساقاة بعذق معين، أو ثمرة نخلة معينة، وأما بالسدس أو السبع أو أقل أو أكثر من غير تعيين الشجر فيصح. [أخذ الزكاة دراهم عن ثمرة النخل إذا بيعت] المسألة السابعة: هل يصح أخذ الزكاة دراهم عن ثمرة النخل إذا بيعت؟ الجواب: أكثر العلماء لا يجيزون هذا، وأجازه شيخ الإسلام ابن تيمية، وهو إمام جليل -رحمه الله-. [نفقة الحامل والمرضع] المسألة الثامنة: نفقة الحامل والمرضع الجواب: الحامل ينفق عليها بحسب يسار الزوج وعسره، وبحسب حالها، فلا تجعل بنت الأغنياء المتنعمين مثل الفقيرة، وأما المرضع إذا لم تكن في عدة فتعطى أجرة المثل. [ما تفعله المعتدة من الوفاة] المسألة التاسعة: المعتدة من الوفاة ما تفعل؟ والجواب: تعتد أربعة أشهر وعشرا، تلزم فيها البيت الذي توفي زوجها عنها فيه، ولا تخرج إلا لحاجة لا بد منها، وتجتنب الزينة من الثياب والكحل والحنا والحلي والأدهان. [حاضت المرأة حيضتين بعد الطلاق ثم تزوجت] المسألة العاشرة: إذا حاضت المرأة حيضتين بعد الطلاق، وتزوجت قبل الثالثة فالنكاح باطل، وتعتد من الأول والثاني. [ولاية المشرك على المسلمة] المسألة الحادية عشرة: هل للمشرك ولاية على المسلمة؟ الجواب: ليس للمشرك على المسلمة ولاية، فإن لم يكن لها ولي مسلم، فأمرها إلى الأمير. [امتناع المسلم عن تزويج موليته من غير وجه شرعي] المسألة الثانية عشرة: إذا امتنع المسلم عن تزويج موليته من غير وجه شرعي فهو عاضل، تنتقل الولاية إلى أقرب عصبتها بعده، ويزوجها إذا عضل من هو أقرب منه. [الصغير وولاية العقد] المسألة الثالثة عشرة: الصغير قبل البلوغ لا يصح أن يلي العقد، فإن زوج يعاد العقد على يد الولي البالغ الرشيد. [صوم الصبي] المسألة الرابعة عشرة: متى يجب على الصبي الصوم؟

الجواب: العبادات كلها لا تجب إلا بعد البلوغ، وأما ولي الصغير فيجب عليه أمره وتدريبه على العبادات إذا ميز وعقلها؛ ليعتادها ويألف الخير. [وقت دفع مال اليتيم إليه] المسألة الخامسة عشرة: متى يدفع إلى اليتيم ماله؟ الجواب: إذا بلغ خمس عشرة سنة، أو نبتت العانة، أو احتلم مع رشده، فإذا ظهر رشده في المال دفع إليه. [زوج ولي الأمر والأولياء حاضرون بغير إذنهم] المسألة السادسة عشرة: إذا زوج ولي الأمر والأولياء حاضرون بغير إذنهم لم يصح العقد لحديث: "لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل"1 وأما إذا امتنع الولي، ولم يكن سواه من الأولياء إلا ولي الأمر، فيزوج إذا كان القريب عاضلا يمنع الكفء، أو يطلب دراهم لنفسه. [ضمان ما أكلت الدواب] المسألة السابعة عشرة: الخضرة أو ثمرة القطن أو غيره إذا أكلته الدواب. ما حكمه؟ الجواب: على أهل الدواب أن يحفظوها ليلا، وما أكلته بالليل فهو مضمون لصاحبه بقيمته، وما أكلته نهارا فلا ضمان فيه؛ لأن الحفظ والحراسة في النهار على أهل المزارع والخضرة، إلا إن فتح صاحب الدابة لها بابا مغلقا، أو هدم جدارا وأدخلها، فيضمن حينئذ. [قطع الشجرة المثمرة بغير إذن مالكها] المسألة الثامنة عشرة: الشجرة المثمرة يحرم قطعها بغير إذن المالك، وعلى من قطع الضمان بالقيمة، وكذلك إذا قطع السعف من النخل ففيه القيمة بحسب حال البلد. [المشرك إذا أودع المسلم أو أودعه المسلم] المسألة التاسعة عشرة: المشرك إذا أودع المسلم، أو أودعه المسلم؟ الجواب: يصح الإيداع والتوديع والرهن وشبهه، وعليه الحذر من المداهنة، والمجالسة التي يرى أو يسمع فيها المنكر. [طلب من الثمرة عند الجذاذ] المسألة العشرون: من طلب من الثمرة عند الجذاذ يعطى إذا كان فقيرا أو مسكينا ما يسد جوعته، وأما إذا طلب من الزكاة فيعطى بحسب الزكاة، وقدرها، وكثرة المساكين.

_ 1 الترمذي: النكاح 1101 , وأبو داود: النكاح 2085 , وابن ماجه: النكاح 1881 , وأحمد 4/ 394 ,4/ 418.

حكم وطء الرجل مملوكة ولده

وأما الحادية والعشرون: إذا طلق على عوض هل رجعتها بيده أم لا؟ الطلاق بائن إذا كان على عوض لا رجعة له، بل لا بد من عقد جديد إن استكمل ثلاث طلقات للحر واثنتين للعبد. [الأولى بحضانة الأولاد] الثانية والعشرون: الأم أولى بحضانة أولادها إلا إذا تزوجت، فتنتقل الحضانة إلى غيرها كالجدة والأخت والخالة. واليتيم إذا كان له مال فيتولاه الوصي من جهة أبيه، فإن لم يكن هناك وصي فيجب على الحاكم الشرعي -وهو قاضي البلد أو الأمير- أن يولي على مالهم من يحفظه من أهل الأمانة والديانة. [الوصي على صدقة الميت] الثالثة والعشرون: الوصي على صدقة الميت فطرة أو غيرها أحق بالولاية من الورثة والعصبة؛ لأن الميت اختاره ورضيه. والله أعلم. [زوج غير الولي] الرابعة والعشرون: إذا زوج غير الولي فالنكاح فاسد، ولا ترث بالنكاح الفاسد. والله أعلم. {حكم وطء الرجل مملوكة ولده} بسم الله الرحمن الرحيم مسألة: ما قولكم في رجل وطئ جارية ابنته ولم يتملكها قبل ذلك، وبنته محتاجة إليها، وهي قد ملكتها بالميراث من زوجها. فأجاب الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بقوله: لا يجوز له أن يطأ مملوكة ولده ما دامت في ملك الولد، وأما إذا تملكها تملكا شرعيا، بشرط أن لا يضر بولده، ولا تتعلق بها حاجة الولد، ولا يقصد إعطاءها لولد آخر، فإذا تمت هذه الشروط وقبضها جاز له بعد الاستبراء أن يطأها. والله أعلم.

رسالة في الاعتصام والاتباع والنهي عن التفرق والابتداع

رسالة (في الاعتصام والاتباع والنهي عن التفرق والابتداع) بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فقد غوى، ولن يضر إلا نفسه، ولن يضر الله شيئا. وصلى الله على محمد وآله وصحبه، وسلم تسليما كثيرا. أما بعد: [الاعتصام والاتباع والنهي عن التفرق والابتداع] فقد قال الله تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} 1. وقال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} 2. وقال تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} 3. وقال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الأِسْلامَ دِينًا} 4. فأخبر سبحانه أنه أكمل الدين، وأتمه على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم وأمرنا بلزوم ما أنزل إلينا من ربنا، وترك البدع والتفرق والاختلاف، فقال تعالى: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} 5. وقال تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} 6. والرسول صلى الله عليه وسلم قد أخبر بأن أمته تأخذ مأخذ القرون قبلها شبرا بشبر وذراعا بذراع، وثبت في الصحيحين وغيرهما عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه. قالوا: يا رسول الله،

_ 1 سورة يوسف آية: 108. 2 سورة آل عمران آية: 31. 3 سورة الحشر آية: 7. 4 سورة المائدة آية: 3. 5 سورة الأعراف آية: 3. 6 سورة الأنعام آية: 153.

اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟ "1. وأخبر في الحديث الآخر أن أمته "ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة. قالوا: من هي يا رسول الله؟ قال: من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي"2. إذا عرف هذا فمعلوم ما قد عمت به البلوى من حوادث الأمور، التي أعظمها الإشراك بالله، والتوجه إلى الموتى، وسؤالهم النصر على الأعداء، وقضاء الحاجات، وتفريج الكربات التي لا يقدر عليها إلا رب الأرض والسماوات، وكذلك التقرب إليهم بالنذور، وذبح القربان، والاستغاثة بهم في كشف الشدائد وجلب الفوائد، إلى غير ذلك من أنواع العبادة التي لا تصلح إلا الله. وصرف شيء من أنواع العبادة لغير الله كصرف جميعها، وإنه سبحانه أغنى الأغنياء عن الشرك، ولا يقبل من العمل إلا ما كان خالصا، كما قال تعالى: {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ * أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} 3. [من جعل بينه وبين الله وسائط يدعوهم فقد عبدهم] فأخبر سبحانه أنه لا يرضى من الدين إلا ما كان خالصا لوجه الله، وأخبر أن المشركين يدعون الملائكة والأنبياء والصالحين ليقربوهم إلى الله زلفى، ويشفعوا لهم عنده، وأخبر أنه لا يهدي من هو كاذب كفار، فكذبهم في هذه الدعوى وكفَّرهم فقال: {إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} 4. وقال تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ، قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} 5. فأخبر أن من جعل بينه وبين الله وسائط يدعوهم ويسألهم الشفاعة فقد عبدهم وأشرك بهم، وذلك أن الشفاعة كلها لله كما قال: {قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا} 6، فلا يشفع عنده أحد إلا بإذنه كما قال تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} 7.

_ 1 البخاري: أحاديث الأنبياء 3456 , ومسلم: العلم 2669 , وأحمد 3/ 84. 2 الترمذي: الإيمان 2641. 3 سورة الزمر آية: 2، 3. 4 سورة الزمر آية: 3. 5 سورة يونس آية: 18. 6 سورة الزمر آية: 44. 7 سورة البقرة آية: 255.

وقال تعالى: {يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا} 1. وهو سبحانه لا يرضى إلا التوحيد كما قال تعالى: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} 2. وقال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} 3، فالشفاعة حق، ولا تطلب في دار الدنيا إلا من الله كما قال تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} 4. وقال: {وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ} 5. فإذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو سيد الشفعاء، وصاحب المقام المحمود، وآدم فمن دونه تحت لوائه، لا يشفع إلا بإذن الله، لا يشفع ابتداء، بل يأتي فيخر ساجدا، فيحمد الله بمحامد يعلمه إياها، ثم يقال: ارفع رأسك، وقل يسمع، وسل تعط، واشفع تشفع، ثم يحد له حدا فيدخلهم الجنة، فكيف بغيره من الأنبياء والأولياء؟ وهذا الذي ذكرناه لا يخالف فيه أحد من علماء المسلمين، بل قد أجمع عليه السلف الصالح من الصحابة، والتابعين، والأئمة الأربعة، وغيرهم ممن سلك سبيلهم، ودرج على منهجهم. وأما ما حدث من سؤال الأنبياء والأولياء الشفاعة بعد موتهم، وتعظيم قبورهم ببناء القباب عليها، وإسراج السرج، والصلاة عندها، واتخاذها أعيادا، وجعل السدنة والنذور لها، فكل ذلك من حوادث الأمور التي أخبر بوقوعها النبي صلى الله عليه وسلم: "إنه لا تقوم الساعة حتى يلحق حي من أمتي بالمشركين، وحتى يعبد فئام من أمتي الأوثان". وهو صلى الله عليه وسلم حمى جناب التوحيد أعظم حماية، وسد كل طريق يوصل إلى الشرك، فنهى أن يجصص القبر، وأن يبنى عليه، كما ثبت في صحيح مسلم من حديث جابر. [دعوة أهل نجد الناس إلى ترك البدع] وثبت فيه أيضا أنه بعث علي بن أبي طالب وأمره "أن لا يدع قبرا مشرفا إلا

_ 1 سورة طه آية: 109. 2 سورة الأنبياء آية: 28. 3 سورة سبأ آية: 22، 23. 4 سورة الجن آية: 18. 5 سورة يونس آية: 106.

سواه، ولا تمثالا إلا طمسه"1. ولهذا قال غير واحد من العلماء: يجب هدم القباب المبنية على القبور؛ لأنها أسست على معصية الرسول صلى الله عليه وسلم. هذا هو الذي أوجب الاختلاف بيننا وبين الناس، حتى آل بهم الأمر إلى أن كفرونا، وقاتلونا، واستحلوا دماءنا وأموالنا، حتى نصرنا الله عليهم، وأظفرنا بهم، وهو الذي ندعو الناس إليه، ونقاتلهم عليه، مع ما نقيم عليهم من الحجة من كتاب الله، وسنة رسوله، وإجماع السلف الصالح من الأئمة، ممتثلين لقوله سبحانه: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} 2. فمن لم يجب الدعوة بالحجة والبيان دعوناه بالسيف والسنان، كما قال تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} 3. وندعو الناس إلى إقام الصلاة في الجماعة على الوجه المشروع، وإيتاء الزكاة، وصوم شهر رمضان، وحج بيت الله الحرام، ونأمر بالمعروف وننهى عن المنكر، كما قال تعالى: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} 4. فهذا هو الذي نعتقده وندين الله به، فمن عمل بذلك فهو أخونا المسلم، له ما لنا وعليه ما علينا. ونعتقد أيضا أن أمة محمد صلى الله عليه وسلم المتبعين لسنته لا تجتمع على ضلالة، وأنه لا تزال طائفة من أمته على الحق منصورة، لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم، حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك. وصلى الله على محمد وآله وصحبه، وسلم تسليما كثيرًا.

_ 1 مسلم: الجنائز 969 , والترمذي: الجنائز 1049 , والنسائي: الجنائز 2031 , وأبو داود: الجنائز 3218. 2 سورة الأنفال آية: 39. 3 سورة الحديد آية: 25. 4 سورة الحج آية: 41.

الجزء الخامس

رسائل وفتاوى تأليف شيخنا وإمامنا، ناصر السنة، وقامع البدعة العلامة الشيخ عبد الله بن الشيخ عبد الرحمن أبي بطين أجزل الله لهم الأجر والثواب آمين من مطبوعات صاحب الجلالة السعودية ومحيي السنة المحمدية الإمام عبد العزيز آل سعود ملك الحجاز ونجد وملحقاتها وقد وقفه على من ينتفع به من أهل العلم والدين لا يحل لمن وقع بيده بيعه

تشديد الشيخ ابن تيمية وتلميذه في أمر الشرك إنما هو اتباع لما جاء عن الله ورسوله في ذلك

بسم الله الرحمن الرحيم تشديد الشيخ ابن تيمية وتلميذه في أمر الشرك (إنما هو اتباع لما جاء عن الله ورسوله في ذلك) من عبد الله بن عبد الرحمن -أبا بطين-، إلى جناب الأخ إبراهيم بن عجلان، وفقه الله لطاعته، وهداه بهدايته. آمين. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. والخط وصل، وصلك الله إلى الخير، وصرف عنا وعنكم كل ضير، وذكرت في خطك أشياء ينبغي تنبيهك عليها. "منها": قولكم: "إن الشيخ تقي الدين ابن تيمية شدد في أمر الشرك تشديدا لا مزيد عليه" فالله -سبحانه- هو الذي شدد في ذلك، لقوله -سبحانه-: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} 1 في موضعين من كتابه، وقال على لسان المسيح لبني إسرائيل: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ} 2 الآية، وقال الله -تعالى- لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} 3 الآية، وقال: {وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} 4، وقال سبحانه-: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ} 5. وفي السنة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم من التحذير عن الشرك والتشديد فيه ما لا يحصى. وغالب الأحاديث التي يذكر فيها صلى الله عليه وسلم الكبائر يبدأها بالشرك. ولما سئل صلى الله عليه وسلم أي الذنب أعظم عند الله؟ قال: "أن تجعل لله ندا، وهو خلقك"6.

_ 1 سورة النساء آية: 48. 2 سورة المائدة آية: 72. 3 سورة الزمر آية: 65. 4 سورة الأنعام آية: 88. 5 سورة التوبة آية: 5. 6 البخاري: تفسير القرآن "4477" , ومسلم: الإيمان "86" , والترمذي: تفسير القرآن "3182 ,3183" , والنسائي: تحريم الدم "4013 ,4014 ,4015" , وأبو داود: الطلاق "2310" , وأحمد "1/ 380 ,1/ 431 ,1/ 434 ,1/ 462 ,1/ 464".

إذا عرف ذلك، تعين على كل مكلف معرفة حد الشرك وحقيقته، لا سيما في هذه الأزمنة التي غلب فيها الجهل بهذا الأمر العظيم. والشيخ تقي الدين وتلميذه إنما بالغا في بيان الشرك، وإيضاحه لما شاهدا من ظهوره في زمنهما، وكثرته في بلاد الإسلام؛ وبينا بطلانه بالأدلة والبراهين القاطعة الواضحة، كما قال أبو حيان في حق الشيخ: قام ابن تيمية في نصر شرعتنا ... مقام سيد تيم إذ عصت مضر وأظهر الحق إذ آثاره اندرست ... وأخمد الكفر إذ طارت له شرر [الفرق بين الشرك الأكبر والشرك الأصغر] وقولك: إن هذه الأمور المحدثة منها ما هو شرك أكبر، ومنها وما هو أصغر، فالأمر كذلك، لكن يتعين معرفة الأكبر المُخرج من الملة، الذي يحصل به الفرق بين المسلم والكافر، وهو عبادة غير الله؛ فمن جعل شيئا من العبادة لغير الله، فهو المشرك الشرك الأكبر. من ذلك الدعاء الذي هو مخ العبادة، كالتوجه إلى الموتى، والغائبين بسؤالهم قضاء الحاجات، وتفريج الكربات، كذلك الذبح، والنذر لغير الله. كذلك يتعين البحث عن الشرك الأصغر؛ فمنه الحلف بغير الله، ونحو تعليق الخرز والتمائم من العين، وكيسير الرياء في أنواع كثيرة لا تحصى. ومن كلام الشيخ تقي الدين، وقد سئل عن الوسائط، فقال بعد كلام: "وإن أراد بالواسطة أنه لا بد من واسطة يتخذها العباد بينهم وبين الله في جلب المنافع ودفع المضار، مثل أن يكونوا واسطة في رزق العباد ونصرهم وهداهم، يسألونهم ذلك، ويرجعون إليهم فيه؛ فهذا من أعظم الشرك الذي كفّر الله به المشركين؛ حيث اتخذوا من دون الله أولياء وشفعاء، يجلبون بهم المنافع، ويدفعون بهم المضار"، إلى أن قال: "قال -تعالى-: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلًا} 1 إلى قوله: {إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} 2.

_ 1 سورة الإسراء آية: 56. 2 سورة الإسراء آية: 57.

قال طائفة من السلف: كان أقوام من الكفار يدعون عيسى، وعزيرا، والملائكة، والأنبياء، فبيّن الله لهم أن الملائكة والأنبياء لا يملكون كشف الضر عنهم ولا تحويله، وأنهم يتقربون إليه، ويرجون رحمته، ويخافون عذابه"، -إلى أن قال رحمه الله-: "فمن جعل الملائكة والأنبياء وسائط يدعوهم، ويتوكل عليهم، ويسألهم جلب المنافع، ودفع المضار، مثل أن يسألهم غفران الذنوب، وهداية القلوب، وتفريج الكربات، وسد الفاقات، فهو كافر مشرك بإجماع المسلمين"، إلى أن قال: وفي القرآن من الرد على هؤلاء ما لا تتسع له هذه الفتوى ... فإن هذا دين المشركين، عباد الأوثان الذين كانوا يقولون: إنها تماثيل الأنبياء والصالحين، وإنها وسائل يتقربون بها إلى الله. وهو من الشرك الذي أنكره الله على النصارى"،* إلى أن قال: "وأما الشفاعة التي نفاها القرآن -كما عليه المشركون والنصارى ومن ضاهاهم من هذه الأمة- فينفيها أهل العلم والإيمان، مثل أنهم يطلبون من الأنبياء والصالحين والغائبين والميتين قضاء حوائجهم، ويقولون: إنهم إن أرادوا ذلك قضوها، ويقولون: إنهم عند الله كخواص الملوك عند الملوك، ولهم على الملوك إدلال يقضون به حوائجهم، فيجعلونهم لله بمنْزلة شركاء الملك، والله -سبحانه- قد نزه نفسه عن ذلك".** انتهى ملخصًا.

_ * من بداية النقل عن شيخ الإسلام إلى هنا من "الواسطة بين الحق والخلق" ص 20 - 39، ومجموع الفتاوى 1/ 123 - 135. [معد الكتاب للمكتبة الشاملة] ** هذ النقل في مجموع الفتاوى 24/ 342. [معد الكتاب للمكتبة الشاملة]

فهذا الذي ذكر الشيخ -رحمه الله- إجماع المسلمين على أن مرتكبه مشرك كافر يقتل، هو الذي زعم داود البغدادي أنه جائز، بل زعم أن الله أمر به؛ وأنه معنى الوسيلة التي أمر الله بها في قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} 1. وزعم أن الوسيلة التي أمر الله بها أمر إيجاب أو استحباب بطلب الحاجات، وتفريج الكربات من الأموات والغائبين. وزعم أن الشرك هو السجود لغير الله فقط، وأن دعاء الأموات والغائبين والتقرب إليهم بالنذور والذبائح ليس بشرك، بل هو مباح. ثم زاد على ذلك بالكذب على الله، وعلى رسوله، وزعم أن الله أمر بذلك وأحبه. لم يقتصر على دعوى إباحة ذلك، بل زعم أن الله أمر عباده المؤمنين أن يقصدوا قبور الأموات، ويسألونهم قضاء حاجاتهم، وتفريج كرباتهم، فسبحان الله! ما أجرأ هذا على الافتراء، والكذب على الله! فلو أن إنسانا ادعى إباحة بعض صغائر الذنوب، كأن يزعم أنه يباح للرجل تقبيل المرأة الأجنبية لكان كافرًا بإجماع المسلمين، وإن زاد على ذلك بأن قال: إن الله يحب ذلك ويرضاه، فقد ازداد كفرا على كفره، فكيف بمن زعم أن الله أباح الشرك الأكبر؟ ثم زاد على ذلك بأن قال: إن الله أمر به، وأحب من عباده المؤمنين أن يسارعوا إليه؟ ما أعظم هذه الجراءة! وكلام شيخ الإسلام في هذه المسألة كثير، لا يخلو غالب مصنفاته من الكلام عليها. وذكر -رحمه الله- عن بعض علماء عصره أنه قال: هذا من أعظم ما بينته لنا*. وذكر -رحمه الله- في الرسالة السنية، لما ذكر حديث الخوارج قال: وإذا كان في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قد مرق من الدين مع عبادته العظيمة، فليعلم أن المنتسب إلى الإسلام في هذا الزمان قد يمرق أيضا، وذلك بأمور: منها الغلو الذي

_ 1 سورة المائدة آية: 35. * انظر "الرد على البكري" 2/ 731. [معد الكتاب للمكتبة الشاملة]

ذمه الله ... كالغلو في بعض المشايخ، مثل الشيخ عدي 1، بل الغلو في علي بن أبي طالب، بل الغلو في المسيح؛ فكل من غلا في نبي، أو رجل صالح، وجعل فيه نوعا من الإلهية، مثل أن يدعوه من دون الله بأن يقول: يا سيدي فلان، أغثني، أو أجرني، أو توكلت عليك، أو أنا في حسبك، فكل هذا شرك وضلال يستتاب صاحبه، فإن تاب وإلا قتل؛ فإن الله أرسل الرسل، وأنزل الكتب ليعبد وحده، ولا يجعل معه إله آخر. والذين يجعلون مع الله آلهة أخرى مثل: الملائكة، والمسيح، وعزير، والصالحين، أو قبورهم، لم يكونوا يعتقدون أنها ترزق وتدبر أمر من دعاها، وإنما كانوا يدعونهم يقولون: {هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللهِ}، فبعث الله الرسل تنهى أن يدعى أحد من دونه لا دعاء عبادة، ولا دعاء استعانة.* وكلامه -رحمه الله- في هذا الباب كثير. وكذلك ابن القيم بالغ في إيضاح هذا الأمر، وبيّن بطلانه، كقوله في شرح المنازل: ومنه -أي الشرك- طلب الحوائج من الموتى، والاستعانة بهم، والتوجه إليهم، فإن هذا أصل شرك العالم؛ فإن الميت قد انقطع عمله، وهو لا يملك لنفسه ضرا، ولا نفعا، فضلا عمن استغاث به، وسأله أن يشفع له. انتهى. وهذا الذي قال: إنه أصل شرك العالم هو الذي يزعم داود البغدادي أن الله أمر به، تعالى الله عما يقول المفترون علوًّا كبيرًا. [وجوب هدم مواضع الشرك والطاغوت] وقال ابن القيم في الهدي -في فوائد غزوة الطائف- ومنها: أنه لا يجوز إبقاء مواضع الشرك والطواغيت بعد القدرة على هدمها وإبطالها، يوما واحدا، فإنها شعائر الكفر والشرك، ولا يجوز الإقرار عليها البتة. قال: وهذا حكم المشاهد التي بنيت على القبور التي اتخذت أوثانا، وطواغيت تعبد من دون الله، وكذا الأحجار

_ 1 لعله الشيخ عدي بن مسافر الذي تؤلهه فرقة اليزيدية بالعراق، والذين يقال عنهم: إنهم يعبدون الشيطان. * مجموع الفتاوى 3/ 383، 395. [معد الكتاب للمكتبة الشاملة]

التي تقصد بالتعظيم، والتبرك، والنذر، والتقبيل، فلا يجوز إبقاء شيء منها على وجه الأرض، مع القدرة على إزالتها. وكثير منها بمنْزلة اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى، بل أعظم شركا عندها وبها. والله المستعان. ولم يكن أحد من أرباب هذه الطواغيت يعتقد أنها تخلق، وترزق، وتحيي وتميت، وإنما كانوا يفعلون عندها وبها ما يفعله إخوانهم من المشركين اليوم عند طواغيتهم، اتبع هؤلاء سنن من كان قبلهم، وسلكوا سبيلهم حذو القذة بالقذة، وأخذوا مأخذهم شبرا بشبر، وذراعا بذراع. وغلب الشرك على أكثر النفوس لظهور الجهل، وخفاء العلم، وصار المعروف منكرا، والمنكر معروفا، والسنة بدعة، والبدعة سنة. ونشأ في ذلك الصغير، وهرم عليه الكبير، وطمست الأعلام، واشتدت غربة الإسلام، وقلّ العلماء، وغلب السفهاء، وتفاقم الأمر، واشتد البأس، وظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس. ولكن لا تزال طائفة من العصابة المحمدية بالحق قائمين، ولأهل الشرك والبدع مجاهدين، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وهو خير الوارثين. انتهى. [عبادة القبور واتخاذها أوثانا] فانظر قوله في المشاهد التي بنيت على القبور، كونها اتخذت أوثانا وطواغيت، وربما ينفر قلب الجاهل من تسمية قبر نبي، أو رجل صالح وثنا، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد"1. فهذا الحديث يبين أنه لو قصد قبر النبي صلى الله عليه وسلم بعبادة له، كان قاصده بذلك قد اتخذه وثنا، فكيف بغيره من القبور؟ وقوله -رحمه الله-: كثير منها بمنْزلة اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى، بل أعظم شركا عندها وبها. صدق -رحمه الله- لما شاهدنا في هذه الأزمنة من الغلو والشرك العظيم، من كون كثير من الغلاة عند الشدائد في البر والبحر يخلصون الدعاء لمعبوديهم، وكثير منهم ينسون الله عند الشدائد كما هو مستفيض عند الخاصة

_ 1 أحمد "2/ 246".

والعامة، وقد أخبر الله عن المشركين الأولين أنهم يخلصون عند الشدائد الدعاء له -سبحانه وتعالى- وينسون آلهتهم. ونصوص القرآن في ذلك كثيرة كما قال -سبحانه-: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} 1، {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلا إِيَّاهُ} 2، وقال: {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ} 3، {وَإِذَا مَسَّ الْأِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا} 4. فهذا إخباره -سبحانه- عن المشركين الذين بعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهاهم عن الشرك، ويأمرهم بالتوحيد. وغالب مشركي أهل هذا الزمان بعكس ذلك. [لا يأتي زمان إلا والذي بعده شر منه] وقول ابن القيم -رحمه الله-: غلب الشرك على أكثر النفوس، وسبب ذلك كله: ظهور الجهل وقلة العلم. فهذا قوله فيما شاهده في زمانه ببلاد الإسلام، فكيف لو رأى هذا الزمان؟ وفي الحديث: "لا يأتي زمان، إلا والذي بعده شر منه"5 قال ابن مسعود: "لا أقول زمان أخصب من زمان، ولا أمير خير من أمير، ولكن بذهاب خياركم وعلمائكم"، فكيف لو شاهد من يقول: إن الله أمر بطلب الحاجات من الأموات، ويقول: إنما الشرك هو السجود لغير الله لا غير، كما قال ذلك داود البغدادي مشافهة لي، فيلزمه إن قصد المشركين الأولين لآلهتهم كاللات والعزى ومناة، وكذلك هبل إذ طلب الحاجات منها، وكشف الكربات، والتقرب إليها بالنذور والذبائح، إن هذا ليس بشرك إذا لم يسجدوا لها. فيا سبحان الله!! كيف يبلغ الجهل بمن ينسب إلى علم إلى هذه الفضيحة! [البدع التي يعذر فاعلها بالجهل والتأول ما لم تكن شركا بينا] وقال ابن القيم -رحمه الله-: رأيت لأبي الوفاء ابن عقيل فصلا حسنا، فذكرته بلفظه قال: لما صعبت التكاليف على الجهال والطغام، عدلوا عن أوضاع الشرع إلى أوضاع وضعوها لأنفسهم، فسهلت عليهم، إذ لم يدخلوا بها تحت أمر غيرهم.

_ 1 سورة العنكبوت آية: 65. 2 سورة الإسراء آية: 67. 3 سورة الأنعام آية: 40، 41. 4 سورة الزمر آية: 8. 5 البخاري: الفتن "7068" , وأحمد "3/ 132 ,3/ 177 ,3/ 179".

قال: وهم عندي كفار بهذه الأوضاع، مثل تعظيم القبور، وإكرامها بما نهى عنه الشرع من إيقاد السرج عليها، وتقبيلها، وتخليقها 1 وخطاب أهلها بالحوائج، وكتابة الرقاع فيها: يا مولاي افعل لي كذا وكذا، وأخذ تربتها تبركا، وإفاضة الطيب على القبور، وشد الرحال إليها، وإلقاء الخرق على الشجر، اقتداء بمن عبد اللات والعزى. وقولك: إن الشيخ تقي الدين وابن القيم يقولان: إن من فعل هذه الأشياء لا يطلق عليه أنه كافر مشرك، حتى تقوم عليه الحجة الإسلامية من إمام، أو نائبه، فيصر، وأنه يقال: هذا الفعل كفر، وربما عذر فاعله لاجتهاد، أو تقليد، أو غير ذلك: فهذه الجملة التي حكيت عنهما لا أصل لها في كلامهما. وأظن اعتمادك في هذا على ورقة كتبها داود، نقل فيها نحو هذه العبارة من اقتضاء الصراط المستقيم للشيخ تقي الدين، لما قدم عنيزة المرة الثانية معه هذه الورقة، يعرضها على ناس في عنيزة، يشبه بها، ويقول: لو سلمنا أن هذه الأمور التي تفعل عند القبور شرك -كما تزعم هذه الطائفة- فهذا كلام إمامهم ابن تيمية، الذي يقتدون به يقول: إن المجتهد المتأول، والمقلد، والجاهل، معذورون، مغفور لهم فيما ارتكبوه. فلما بلغني هذا عنه أرسلت إليه، وحضر عندي، وبينت له خطأه، وأنه وضع كلام الشيخ في غير موضعه، وبينت له أن الشيخ إنما قال ذلك في أمور بدعية ليست بشرك، مثل تحري دعاء الله عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم وبعض العبادات المبتدعة، فقال في الكلام على هذه البدع: "وقد يفعل الرجل العمل الذي يعتقده صالحا، ولا يكون عالما أنه منهي عنه، فيثاب على حسن قصده، ويعفى عنه لعدم علمه، وهذا باب واسع. وعامة العبادات المنهي عنها قد يفعلها بعض الناس، ويحصل له نوع من الفائدة، وذلك لا يدل على أنها مشروعة. ثم العامل قد يكون متأولا، أو مجتهدا مخطئا، أو مقلدا، فيغفر له خطأه، ويثاب على ما فعله من المشروع المقرون بغير المشروع".* فهذا كلامه في الأمور التي ليست شركا.

_ 1 تخليقها: تطييبها بالحلوق، ومثله كل عطر وطيب. * "اقتضاء الصراط المستقيم" 2/ 290. [معد الكتاب للمكتبة الشاملة]

وأما الشرك فقد قال -رحمه الله-: "إن الشرك لا يغفر، وإن كان أصغر"*؛ نقل عنه ذلك تلميذه صاحب الفروع فيه، وذلك -والله أعلم- لعموم قوله -تعالى-: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} 1 مع أن الشيخ -رحمه الله- لم يجزم أنه يغفر لمن ذكرهم، وإنما قال: قد يكون. وقد قال -رحمه الله- في شرح العمدة، لما تكلم في كفر تارك الصلاة فقال: "وفي الحقيقة فكل رد لخبر الله أو أمره فهو كفر، دق أو جل، لكن قد يعفى عما خفيت فيه طرق العلم، وكان أمرًا يسيرًا في الفروع، بخلاف ما ظهر أمره، وكان من دعائم الدين من الأخبار والأوامر"، يعني فإنه لا يقال: قد يعفى عنه.** وقال -رحمه الله- في أثناء كلام له في ذم أصحاب الكلام، قال: "والرازي من أعظم الناس في باب الحيرة، له نهمة في التشكيك، والشك في الباطل خير من الثبات على اعتقاده، لكن قل أن يثبت أحد على باطل محض، بل لا بد فيه من نوع من الحق ... وتوجد الردة فيهم كثيرًا كالنفاق ... وهذا إذا كان في المقالات الخفية، فقد يقال: لم تقم عليه الحجة التي يكفر صاحبها، لكن يقع ذلك في طوائف منهم في أمور يعلمها العامة والخاصة، بل اليهود والنصارى يعلمون أن محمدًا بعث بها، وكفر من خالفها، مثل عبادة الله وحده لا شريك له، ونهيه عن عبادة غيره، فإن هذا أظهر شرائع الإسلام، ومثل أمره بالصلوات الخمس، ومثل معاداة المشركين وأهل الكتاب، ومثل تحريم الفواحش، والربا، والميسر، ونحو ذلك". ... وقولك: إن الشيخ يقول: إن من فعل شيئًا من هذه الأمور الشركية لا يطلق عليه أنه كافر مشرك، حتى تقوم عليه الحجة الإسلامية. فهو لم يقل ذلك في الشرك الأكبر، وعبادة غير الله، ونحوه من الكفر، وإنما قال هذا في المقالات الخفية، كما قدمنا من قوله: وهذا إذا كان في المقالات الخفية، فقد يقال: لم تقم عليه الحجة التي يكفر صاحبها، فلم يجزم بعدم كفره وإنما قد يقال.

_ * المستدرك على مجموع الفتاوى 3/ 193، وانظر "الرد على البكري" 1/ 301. [معد الكتاب للمكتبة الشاملة] 1 سورة النساء آية: 48. ** لم أجده في المطبوع من كتاب "شرح العمدة" ولا غيره من كتب شيخ الإسلام. [معد الكتاب للمكتبة الشاملة] ... مجموع الفتاوى 4/ 28، 18/ 54. [معد الكتاب للمكتبة الشاملة]

وقوله: "قد يقع ذلك في طوائف منهم يعلم العامة والخاصة، بل اليهود والنصارى يعلمون أن محمدًا بعث بها وكفر من خالفها، مثل عبادة الله وحده لا شريك له ونهيه عن عبادة غيره، فإن هذا أظهر شرائع الإسلام"*. يعني: فهذا لا يمكن أن يقال: لم تقم عليه الحجة التي يكفر تاركها. والأمر بعبادة الله وحده لا شريك له والنهي عن عبادة غيره هو ما نحن فيه، قال -تعالى-: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} 1. وقوله -رحمه الله-: "بل اليهود والنصارى يعلمون ذلك". حكي لنا عن غير واحد من اليهود في البصرة أنهم عابوا على المسلمين ما يفعلون عند القبور، قالوا: إن كان نبيكم أمركم بهذا فليس بنبي، وإن لم يأمركم فقد عصيتموه. [من جعل شيئا من العبادة لغير الله فهذا هو الشرك الأكبر الذي لا يغفره الله] وعبادة الله وحده لا شريك له هي أصل الأصول الذي خلق الله الجن والإنس لأجله، قال -تعالى-: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالاِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ} 2: أي يعبدوني وحدي، وهو الذي أرسل به جميع الرسل، قال -تعالى-: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} 3 والطاغوت اسم لكل ما عبد من دون الله، وقال -تعالى-: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ} 4. وكل رسول أرسله الله، فأول ما يدعوهم إليه هذا التوحيد، قال -تعالى-: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} 5، {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} 6، {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} 7، {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} 8. فمن جعل شيئا من العبادة لغير الله، فهذا هو الشرك الأكبر الذي لا يغفره الله، قال الله -تعالى-: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} 9؛ فمن زعم أن الله -سبحانه- يغفره فقد رد خبر الله -سبحانه-.

_ * تقدم هذا النقل وتوثيقه في الصفحة الفائتة 4/ 474. [معد الكتاب للمكتبة الشاملة] 1 سورة النساء آية: 165. 2 سورة الذاريات آية: 56. 3 سورة النحل آية: 36. 4 سورة الأنبياء آية: 25. 5 سورة الأعراف آية: 59. 6 سورة الأعراف آية: 65. 7 سورة الأعراف آية: 73. 8 سورة الأعراف آية: 85. 9 سورة النساء آية: 48.

وحد العبادة وحقيقتها: طاعة الله؛ فكل قول، وعمل ظاهر وباطن يحبه الله فهو عبادة. فكل ما أمر به شرعا أمر إيجاب أو استحباب فهو عبادة. فهذا حقيقة العبادة عند جميع العلماء التي من جعل منها لغير الله شيئا فهو كافر مشرك. [الجهل بحقيقة التوحيد وأصول الدين ليس عذرا لأحد] ومما يبين أن الجهل ليس بعذر في الجملة قوله صلى الله عليه وسلم في الخوارج ما قال، مع عبادتهم العظيمة؛ ومن المعلوم أنه لم يوقعهم فيما وقعوا إلا الجهل، وهل صار الجهل عذرا لهم؟ يوضح ما ذكرنا أن العلماء من كل مذهب يذكرون في كتب الفقه "باب حكم المرتد"؛ وهو المسلم الذي يكفر بعد إسلامه، وأول شيء يبدؤون به من أنواع الكفر: الشرك، يقولون: من أشرك بالله كفر، لأن الشرك عندهم أعظم أنواع الكفر، ولم يقولوا: إن كان مثله لا يجهله، كما قالوا فيما دونه. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل: أي الذنب أعظم إثما عند الله؟ قال: "أن تجعل لله ندا وهو خلقك"1، ولو كان الجاهل أو المقلد غير محكوم بردته إذا فعل الشرك لم يغفلوه، وهذا ظاهر. وقد وصف الله -سبحانه- أهل النار بالجهل كقوله: {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} 2، وقال: {وَلَقَدْ ذَرَانَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالانْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} 3، وقال: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} 4، وقال -تعالى-: {فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُون} 5، قال ابن جرير، عند تفسير هذه الآية: وهذا يدل على أن الجاهل غير معذور. ومن المعلوم أن أهل البدع، الذين كفرهم السلف والعلماء بعدهم، أهل علم وعبادة،

_ 1 البخاري: تفسير القرآن "4477" , ومسلم: الإيمان "86" , والترمذي: تفسير القرآن "3182 ,3183" , والنسائي: تحريم الدم "4013 ,4014 ,4015" , وأبو داود: الطلاق "2310" , وأحمد "1/ 380 ,1/ 431 ,1/ 434 ,1/ 462 ,1/ 464". 2 سورة الملك آية: 10. 3 سورة الأعراف آية: 179. 4 سورة الكهف آية: 103، 104. 5 سورة الأعراف آية: 30.

وفيهم زهد ولم يوقعهم فيما ارتكبوه إلا الجهل، والذين حرقهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه بالنار هل آفتهم إلا الجهل؟ [من كفر جاهلا أو مقلدا غير معذور] ولو قال إنسان: أنا أشك في البعث بعد الموت، لم يتوقف من له أدنى معرفة في كفره، والشاك جاهل. قال -تعالى-: {وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ} 1، وقد قال الله -سبحانه- عن النصارى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ} 2 الآية. قال عدي بن حاتم للنبي صلى الله عليه وسلم ما عبدناهم. قال: "أليس يحلون ما حرم الله فتحلونه، ويحرمون ما أحل الله فتحرمونه؟ قال: بلى قال: فتلك عبادتهم" فذمهم الله -سبحانه-، وسماهم مشركين مع كونهم لم يعلموا أن فعلهم معهم هذا عبادة لهم، فلم يعذروا بالجهل. ولو قال إنسان عن الرافضة في هذه الأزمان: إنهم معذورون في سبهم الشيخين وعائشة لأنهم جهال مقلدون، لأنكر عليه الخاص والعام. وما تقدم من حكاية شيخ الإسلام -رحمه الله- إجماع المسلمين على أن من جعل بينه وبين الله وسائط يتوكل عليهم، ويسألهم جلب المنافع، ودفع المضار أنه كافر مشرك، يتناول الجاهل وغيره، لأنه من المعلوم أنه إذا كان إنسان يقر برسالة محمد صلى الله عليه وسلم ويؤمن بالقرآن، ويسمع ما ذكر الله -سبحانه- في كتابه من تعظيم أمر الشرك بأنه لا يغفره، وأن صاحبه مخلد في النار، ثم يقدم عليه، وهو يعرف أنه شرك، هذا ما لا يفعله عاقل، وإنما يقع فيه مَن جهل أنه شرك. وقد قدمنا كلام ابن عقيل في جزمه بكفر الذين وصفهم بالجهل فيما ارتكبوه من الغلو في القبور. نقله عنه ابن القيم مستحسنا له. والقرآن يرد على من قال: إن المقلد في الشرك معذور، وقد افترى وكذب على الله، وقد قال الله عن المقلدين من أهل النار: {وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا

_ 1 سورة الجاثية آية: 32. 2 سورة التوبة آية: 31.

فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا} 1، وقال -سبحانه- حاكيا عن الكفار قولهم: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ} 2، وفي الآية الأخرى: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ} 3. [الواجب على كل مسلم قبول الحق من كل مَن بينه بالحجة] واستدل العلماء بهذه الآية ونحوها على أنه لا يجوز التقليد في التوحيد والرسالة وأصول الدين، وأن فرضا على كل مكلف أن يعرف التوحيد بدليله، وكذلك الرسالة وسائر أصول الدين لأن أدلة هذه الأصول ظاهرة، ولله الحمد، لا يختص بمعرفتها العلماء. وقولك: حتى تقوم عليه الحجة الإسلامية من إمام أو نائبه، معناه: أن الحجة الإسلامية لا تقبل إلا من إمام أو نائبه، وهذا خطأ فاحش، لم يقله أحد من العلماء، بل الواجب على كل أحد قبول الحق ممن قاله كائنا من كان. ومقتضى هذا: أن من ارتكب أمرا محرما شركا فما دونه بجهل، وبيّن له من عنده علم بأدلة الشرع أن ما ارتكبه حرام، وبيّن له دليله من الكتاب والسنة أنه لا يلزمه قبوله، إلا أن يكون ذلك من إمام أو نائبه، وأن حجة الله لا تقوم عليه، إلا أن يكون ذلك من الإمام أو نائبه. وأظنك سمعت هذا الكلام من بعض المبطلين، وقلدته فيه، وما فطنت لعيبه، وإنما وظيفة الإمام أو نائبه: إقامة الحدود، واستتابة من حكم الشرع بقتله كالمرتد في بلاد الإسلام. وأظن هذه العبارة مأخوذة من قول بعض الفقهاء في تارك الصلاة: إنه لا يقتل حتى يدعوه إمام أو نائبه إلى فعلها، والدعاء إلى فعل شيء غير بيان الحجة على خطئه، أو صوابه، أو كونه حقا أو باطلا بأدلة الشرع. فالعالم مثلا يقيم الأدلة الشرعية على وجوب قتل تارك الصلاة، ثم الإمام، أو نائبه يدعوه إلى فعلها، ويستتيبه. وقولك: إنك رأيت كثيرا من هذه الأمور التي نقول إنها شرك ظاهرة في الشام والعراق والحجاز، ولم تسمع منكرا. فمن رزقه الله بصيرة بدينه ما راج عليه

_ 1 سورة الأحزاب آية: 67. 2 سورة الزخرف آية: 22. 3 سورة الزخرف آية: 23.

ذلك، والمتعين على الإنسان معرفة الحق بدليله، فإذا عرف الحق بالأدلة الشرعية عرض أعمال الناس عليه، فما وافق الحق عرفه وقبله، وما خالفه رده، ولا يغتر بكثرة المخالف. قال رجل لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه أترى أننا نظن إنك على الحق، وفلانا على باطل؟ فقال علي: ويحك يا فلان، إن الحق لا يعرف بالرجال، اعرف الحق تعرف أهله. وقد سبق كلام ابن القيم في وصفه أهل زمانه: [من له بصيرة بالحق لم يغتر بكثرة المخالف] وقوله: "غلب الشرك على أكثر النفوس، لظهور الجهل، وخفاء العلم، وصار المعروف منكرا والمنكر معروفا، والسنة بدعة والبدعة سنة، ونشأ في ذلك الصغير وهرم عليه الكبير، وطمست الأعلام، واشتدت غربة الإسلام، وقلّ العلماء، وغلب السفهاء"؛ هذا وصفه لزمانه، فما ظنك بأهل زمان بعده بخمسمائة عام؟ لأنه "لا يأتي عام إلا والذي بعده شر منه" بخبر الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم، مع قوله: "لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة"1، مع أننا قد سمعنا وبلغنا عن كثير من علماء الزمان إنكار هذه الأمور المبتدعة الشركية. سمعنا من ناس في الحرمين واليمن، وبلغنا عن أناس في مصر والشام إنكار هذه المحدثات، لكن همتهم تقصر عن إظهار ذلك؛ لأن عمارة هذه المشاهد الشركية أكثرها من تحت أيدي ولاة الأمور، وأهل الدنيا، ووافقهم على ذلك وزينه لهم علماء السوء، بسبب ذلك استحكم الشر وتزايد، والشر في زيادة والخير في نقصان. وفي حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "هلكت بنو إسرائيل على يدي قرائهم وفقهائهم، وستهلك هذه الأمة على يدي قرائها وفقهائها". فما أصدق قول عبد الله بن المبارك رحمه الله: وهل أفسد الدين إلا الملو ... ك وأحبار سوء ورهبانها

_ 1 البخاري: أحاديث الأنبياء "3456" , ومسلم: العلم "2669" , وأحمد "3/ 84 ,3/ 89 ,3/ 94".

ومما يبين لك عدم الاغترار بالكثرة: أن أكثر أهل هذه الأمصار التي ذكرت مخالفون للصحابة والتابعين وأئمة الإسلام، خصوصًا الإمام أحمد، ومن وافقه في صفات الرب -تبارك وتعالى-، يتأولون أكثر الصفات بتحريف الكلم عن مواضعه، من ذلك قولهم: إن الله لا يتكلم بحرف وصوت، وأن حروف القرآن مخلوقة، ويقولون: الإيمان مجرد التصديق. وكلام السلف والأئمة في ذم أهل هذه المقالات كثير، وكثير منهم صرح بكفرهم، وأكثر الأئمة ذما لهم وتضليلا الإمام أحمد -رحمه الله- وأفاضل أصحابه بعده. وأكثر هذه الأمصار اليوم على خلاف ما عليه السلف والأئمة، ومن له بصيرة بالحق لم يغتر بكثرة المخالف، فإن أهل الحق هم أقل الناس فيما مضى، فكيف بهذه الأزمان التي غلب فيها الجهل، وصار -بسبب ذلك- المعروف منكرا، والمنكر معروفا؟ نسأل الله أن يهدينا وإخواننا صراطه المستقيم؛ صراط الذين أنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين. وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم تسليما. {انتهت الرسالة} طبعت عن نسخة كتب في آخرها ما نصه: بقلم الفقير إلى الله عبد الله الرشيد الفرج، من خط المصنف -رحمه الله- سنة 1345.

رسالة في دحض شبهات على التوحيد من سوء الفهم لثلاثة أحاديث

رسالة في دحض شبهات على التوحيد من سوء الفهم لثلاثة أحاديث (حديث: يئس الشيطان من عبادته في جزيرة العرب، وحديث: يا عباد الله احبسوا، وحديث: عصمة كلمة التوحيد لدم قائلها وماله) تأليف {العلامة مفتي الديار النجدية وعالم الطائفة السلفية} الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن المشتهر بأبا بطين رحمه الله تعالى من مطبوعات صاحب الجلالة السعودية، ومحيي السنة المحمدية الإمام عبد العزيز آل سعود ملك الحجاز ونجد وملحقاتها (وقد وقفها على من ينتفع بها من أهل العلم والدين) {لا يحل لمن وقعت بيده بيعها}

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا وآله وصحبه أجمعين. قال الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن، مفتي الديار النجدية المعروف "بأبا بطين"، عليه الرحمة والغفران: أما بعد: فقد طلب مني بعض الإخوان أن أكتب له جوابا عما يورده بعض الناس من قوله صلى الله عليه وسلم: "إن الشيطان يئس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب"1 ويستدل به على استحالة وقوع شيء من الشرك في جزيرة العرب. والحديث المروي: "يا عباد الله، احبسوا، احبسوا" وعما يورده بعضهم من قوله صلى الله عليه وسلم لأسامة: "أقتلته بعد ما قال: لا إله إلا الله"2، وقوله: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله"3 ويستدل بذلك على أن من قال: لا إله إلا الله لا يجوز قتاله، ولا قتله. (فالجواب): أما قوله صلى الله عليه وسلم: "إن الشيطان يئس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب"4 فيقال: (أولا): من المعلوم بالضرورة أن الله -سبحانه- بعث محمدًا صلى الله عليه وسلم يدعو إلى التوحيد وهو توحيد الألوهية، وينهى عن الشرك وهو عبادة غير الله. وأما الشرك بالربوبية، فمن المعلوم بنصوص الكتاب أن المشركين الذين بعث إليهم رسول الله وقاتلهم، يقرون بتوحيد الربوبية، وأن شركهم هو في توحيد العبادة، وهو توحيد الألوهية الذي هو مضمون شهادة أن لا إله إلا الله. فعبدوا من عبدوه من دون الله ليشفعوا لهم عنده في نصرهم ورزقهم وغير ذلك، كما قال -تعالى- إخبارا عنهم: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} 5، {هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} 6. فبعث الله رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم ينهاهم عن هذا الشرك، ويدعوهم إلى توحيد

_ 1 مسلم: صفة القيامة والجنة والنار "2812" , والترمذي: البر والصلة "1937" , وأحمد "3/ 313 ,3/ 354 ,3/ 366 ,3/ 384". 2 البخاري: المغازي "4269" , ومسلم: الإيمان "96" , وأبو داود: الجهاد "2643" , وأحمد "5/ 200 ,5/ 207". 3 البخاري: الصلاة "393" , والترمذي: الإيمان "2608" , والنسائي: تحريم الدم "3966 ,3967" والإيمان وشرائعه "5003" , وأبو داود: الجهاد "2641" , وأحمد "3/ 199 ,3/ 224". 4 مسلم: صفة القيامة والجنة والنار "2812" , والترمذي: البر والصلة "1937" , وأحمد "3/ 313 ,3/ 354 ,3/ 366 ,3/ 384". 5 سورة الزمر آية: 3. 6 سورة يونس آية: 18.

العبادة وهذه دعوة الرسل من أولهم إلى آخرهم، قال -تعالى-: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} 1، وقوله: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ} 2. وهذا الأصل هو الذي خلق الله الجن والإنس لأجله. قال -تعالى-: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} 3. فإذا تبين أن هذا هو أصل الأصول، علمنا يقينا أن الله -سبحانه- لا يترك هذا الأمر ملتبسا، بل لا بد أن يكون بيّنا واضحا، لا لبس فيه ولا اشتباه، لأنه أصل الدين، ومعرفته فرض على كل مسلم مكلف، ولا يجوز فيه التقليد. وحقيقة ذلك أن الشرك هو عبادة غير الله -تعالى-؛ والعبادة هي الطاعة بفعل ما أمر الله به ورسوله من واجب ومندوب؛ فمن أخلص ذلك لله فهو الموحد، ومن جعل شيئا من العبادة لغير الله فهو مشرك. قال -تعالى-: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئا} 4 أي: في العبادة، وقال -تعالى-: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا} 5 الآية. فإذا علم الإنسان حقيقة الشرك عرف يقينا أن الشرك وقع في الجزيرة كثيرًا: عند مشاهد وقبور يمنًا وحجازًا، من دعاء الأموات والغائبين، والاستغاثة بهم وسؤال الحاجات، وتفريج الكربات، والتقرب إليهم بالنذور والذبائح، وكذلك الذبح للجن والاستغاثة بهم؛ وهذا أمر معلوم بالتواتر عند من شاهد ذلك. فإذا تحقق الإنسان ذلك علم أن قوله صلى الله عليه وسلم: "إن الشيطان قد يئس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب"6 ليس فيه معارضة لهذا الأصل العظيم، الذي هو أصل الأصول، وليس فيه دلالة على استحالة وجود الشرك في أرض العرب. فمن استدل بهذا الحديث على استحالة وجود الشرك في أرض العرب يقال له: بيّن لنا الشرك الذي حرمه الله، وأخبر أنه لا يغفره، فإن فسره بالشرك في توحيد

_ 1 سورة النحل آية: 36. 2 سورة الأنبياء آية: 25. 3 سورة الذاريات آية: 56. 4 سورة النساء آية: 36. 5 سورة الكهف آية: 110. 6 مسلم: صفة القيامة والجنة والنار "2812" , والترمذي: البر والصلة "1937" , وأحمد "3/ 313 ,3/ 354 ,3/ 366 ,3/ 384".

الربوبية، فنصوص القرآن تبطل قوله لأنه -سبحانه- أخبر عن المشركين أنهم يقرون بتوحيد الربوبية، كما في قوله: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} 1؛ والآيات في ذلك كثيرة. وإن فسر الشرك ببعض أنواع العبادة دون بعض، فهو مكابر، ويخاف على مثله أن يكون من الذين في قلوبهم زيغ، يتركون المحكم، ويتبعون المتشابه؛ مع أنه ليس في الحديث حجة لهم ولا شبهة، وإنما معنى الحديث: أنه يئس أن يجتمعوا كلهم على الكفر. [معنى يئس الشيطان من عبادة الناس له] قال ابن رجب على الحديث: المراد أنه يئس أن تجتمع الأمة كلها على الشرك الأكبر. وأشار ابن كثير إلى هذا المعنى عند تفسير قوله -تعالى-: {الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ} 2 قال ابن عباس رضي الله عنه: يعني: يئسوا أن تراجعوا دينهم. وكذا قال عطاء والسدي ومقاتل، قال: وعلى هذا يرد الحديث الصحيح: "إن الشيطان يئس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب"3. فأشار إلى أن معنى الحديث موافق لمعنى الآية، وأن معنى الحديث أنه يئس أن يرجع المسلمون عن دينهم إلى الكفر. قال غير واحد من المفسرين: إن المشركين كانوا يطمعون في عود المسلمين إلى دينهم، فلما قوي الإسلام وانتشر يئسوا من رجوعهم عن الإسلام إلى الكفر، وكذا معنى إياس الشيطان لما رأى من ظهور الإسلام وانتشاره، وتمكنه من القلوب ورسوخه فيها. وعلى هذا فلا يدل الحديث أن الشيطان يئس من وجود شرك في جزيرة العرب أبد الآبدين. ويدل لما ذكرناه ما رواه الإمام أحمد عن ابن عباس قال: لما افتتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة رن إبليس رنة اجتمع إليه جنوده فقال: ايئسوا أن تردوا أمة محمد إلى الشرك بعد يومكم هذا، ولكن افتنوهم؛ فافشوا فيهم النوح. وأيضا ففي الحديث نسبة اليأس إلى الشيطان مبنيا للفاعل لم يقل أيس بالبناء

_ 1 سورة الزخرف آية: 9. 2 سورة المائدة آية: 3. 3 مسلم: صفة القيامة والجنة والنار "2812" , والترمذي: البر والصلة "1937" , وأحمد "3/ 313 ,3/ 354 ,3/ 366 ,3/ 384".

للمفعول، ولو قدر أنه يئس من عبادته في أرض العرب إياسا مستمرا، فإنما ذلك ظن منه وتخمين، لا عن علم لأنه لا يعلم الغيب، وهذا غيب لا يعلمه إلا الله: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} 1 فإنه يطلعه على ما يشاء من الغيب، وقد قال -تعالى-: {مَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدا} 2 أي من خير وشر، وهذا من مفاتيح الغيب التي لا يعلمها إلا الله، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "مفاتح الغيب خمس لا يعلمها إلا الله: لا يعلم ما تغيض الأرحام إلا الله، ولا يعلم ما في غد إلا الله"3 الحديث. وكانت الشياطين في زمن سليمان بن داود -عليهما السلام- يدعون علم الغيب، فلما مات سليمان لم يعلموا بموته إلا بعد سنة، وهم في تلك السنة دائبون في التسخير والأعمال الشاقة، فلما علموا بموته تبين لهم أنهم لا يعلمون الغيب، قال -تعالى-: {فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَا دَابَّةُ الأَرْضِ تَاكُلُ مِنْسَأَتَهُ} 4 إلى قوله: {فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ} 5. ونبينا صلى الله عليه وسلم أخبر: "أنه يجاء برجال من أمته يوم القيامة، فيؤخذ بهم ذات الشمال إلى النار فيقول: أصحابي أصحابي، فيقال له: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك" 6. فكيف يقال: إن الشيطان يعلم ما تستمر عليه الأمة من خير وشر، وكفر وإسلام، وهذا غيب لا يعلمه إلا الله، ومن يطلعه عليه من رسله؟ [لا دلالة في حديث "يئس الشيطان" على عدم وقوع الشرك] فتبين بما ذكرنا أنه لا دلالة في الحديث على استحالة وقوع الشرك في جزيرة العرب؛ ويوضح ذلك أن أكثر العرب ارتدوا بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم. فكثير منهم رجعوا إلى الكفر وعبادة الأوثان، وكثير صدقوا من ادعى النبوة كمسيلمة وغيره، ومن أطاع الشيطان في نوع من أنواع الكفر فقد عبده. لا تختص عبادة الشيطان بنوع من الشرك لقوله -تعالى-: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ} 7 أي: لا تطيعوه، فعبادته طاعته. يوضح ذلك تفسير النبي صلى الله عليه وسلم لقوله -تعالى-: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ

_ 1 سورة الجن آية: 26. 2 سورة لقمان آية: 34. 3 البخاري: التوحيد "7379" , وأحمد "2/ 24 ,2/ 52 ,2/ 58 ,2/ 85 ,2/ 122". 4 سورة سبأ آية: 14. 5 سورة سبأ آية: 14. 6 البخاري: الرقاق "6576" والفتن "7049" , ومسلم: الفضائل "2297" , وابن ماجه: المناسك "3057" , وأحمد "1/ 384 ,1/ 402 ,1/ 406 ,1/ 407 ,1/ 425 ,1/ 439 ,1/ 453 ,1/ 455 ,5/ 387 ,5/ 393 ,5/ 400". 7 سورة يس آية: 60.

دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ} 1 الآية، أن طاعتهم في التحريم والتحليل. فسمى الله ذلك شركا، وعبادة منهم للأحبار والرهبان. وأيضا فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا تقوم الساعة حتى تعبد اللات والعزى"2، 3، وقال: "لا تقوم الساعة حتى تضطرب أليات نساء دوس حول ذي الخلصة"4، 5، وهو صنم كان لهم في الجاهلية بعث النبي صلى الله عليه وسلم لهدمه جرير بن عبد الله. [وقوع عبادة الشيطان في هذه الأمة] فتبين أن عبادة الشيطان وجدت بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم في جزيرة العرب، وتوجد آخر الزمان، بهذه النصوص الثابتة، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة؛ حتى لو دخلوا حجر ضب لدخلتموه، قالوا: يا رسول الله، اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟ "6، وقال: "لتأخذن هذه الأمة مأخذ الأمم قبلها شبرا بشبر، وذراعا بذراع، قالوا: يا رسول الله، فارس والروم؟ قال: ومن الناس إلا أولئك". فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن هذه الأمة تفعل كما فعلت الأمم قبلها: اليهود والنصارى وفارس والروم، وأن هذه الأمة لا تقصر عما فعلته الأمم قبلها، وقال: "لا تزال طائفة

_ 1 سورة التوبة آية: 31. 2 مسلم: الفتن وأشراط الساعة "2907". 3 هو في صحيح مسلم من حديث عائشة مرفوعا بلفظ "لا يذهب الليل والنهار حتى تعبد اللات والعزى، قالت: فقلت يا رسول الله: إن كنت لأظن حين أنزل الله "هو الذي أرسل رسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون" إن ذلك تام. قال "إنه سيكون من ذلك ما شاء الله"" إلخ. 4 البخاري: الفتن "7116" , ومسلم: الفتن وأشراط الساعة "2906" , وأحمد "2/ 271". 5 رواه مسلم. وذو الخلصة: بيت كان فيه صنم لدوس، وخثعم، وبحيلة، وغيرهم، وقيل: ذو الخلصة: الكعبة اليمانية التي كانت باليمن، فأنفذ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- جرير بن عبد الله فخربها، وقيل: ذو الخلصة: الصنم نفسه. والمعنى أنهم يرتدون ويعودون إلى جاهليتهم في عبادة الأوثان، فتسعى نساء بني دوس طائفات حول ذي الخلصة فترتج أعجازهن. اهـ من النهاية لابن الأثير. 6 البخاري: أحاديث الأنبياء "3456" , ومسلم: العلم "2669" , وأحمد "3/ 84 ,3/ 89 ,3/ 94".

من أمتي على الحق منصورة؛ لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله"1. نسأل الله أن يجعلنا منهم بفضله، ورحمته، وكرمه. ["يا عباد الله احبسوا" ليس بحديث، ومعناه على فرضه] وأما الجواب عن الحديث المروي فيمن انفلتت دابته في السفر أن يقول: يا عباد الله: احبسوا، فأجيب بأنه غير صحيح؛ لأنه من رواية معروف بن حسان، وهو منكر الحديث، قاله: ابن عدي. ومن المعلوم -إن كان صحيحًا- أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يأمر من انفلتت دابته أن يطلب ردها، وينادي من لا يسمعه ولا يقدر على ردها، بل نقطع أنه إنما أمره أن ينادي من يسمعه، وله قدرة على ذلك، كما ينادي الإنسان أصحابه الذين معه في سفره ليردوا دابته. وهذا يدل -إن صح- على أن لله جنودا يسمعون ويقدرون: {مَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلا هُوَ} 2 وروي زيادة لفظه في الحديث "فإن الله حاضر"، فهذا صريح في أنه إنما ينادي حاضرا يسمع، فكيف يستدل بذلك على جواز الاستغاثة بأهل القبور والغائبين؟ فمَن استدل بهذا الحديث على دعاء الأموات لزمه أن يقول: إن دعاء الأموات ونحوهم، إما مستحب أو مباح لأن لفظ الحديث "فليناد" وهذا أمر أقل أحواله الاستحباب أو الإباحة. ومن ادعى أن الاستغاثة بالأموات والغائبين مستحب أو مباح فقد مرق من الإسلام. فإذا تحققت أن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يأمر من انفلتت دابته أن ينادي من لا يسمعه، ولا قدرة له على ذلك، وكما دل عليه قوله "فإن الله حاضر" تبين لك ضلال من استدل به على دعاء الغائبين والأموات، الذين لا يسمعون ولا ينفعون، وهل هذا إلا مضادة لقول الله -تعالى-: {وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ} 3، وقوله: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ

_ 1 مسلم: الإمارة "1920" , والترمذي: الفتن "2229" , وأبو داود: الفتن والملاحم "4252" , وابن ماجه: المقدمة "10" والفتن "3952" , وأحمد "5/ 279". 2 سورة المدثر آية: 31. 3 سورة يونس آية: 106.

مِنْ قِطْمِيرٍ * إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ} 1 الآية، وقوله: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ} 2، {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} 3، وقال: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ} 4 الآية. فهذه الآيات وأضعافها نص في تضليل من دعا من لا يسمع دعاءه، ولا قدر له على نفعه ولا ضره، ولو قدر سماعه فإنه عاجز. فكيف تترك نصوص القرآن الواضحة، وترد بقوله: "يا عباد الله: احبسوا"، مع أنه ليس في ذلك معارضة لما دل عليه القرآن، ولا شبهة معارضة؟ ولله الحمد. [قول: "لا إله إلا الله" وحده غير كاف في العصمة] وأما من ادعى أن من قال: لا إله إلا الله، فإنه لا يجوز قتله، ولا قتال الطائفة الممتنعة، إذا قالوا هذه الكلمة وإن فعلوا أي ذنب، فهذا قول مخالف للكتاب والسنة والإجماع، ولو طرد هذا القائل أصله لكان كافرا بلا شك. أما الكتاب: فقول الله -تعالى-: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} 5 إلى قوله: {فَإِنْ تَابُوا} 6 أي: عن الشرك {وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} 7، فجعل قتالهم ممدودا إلى إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، بعد الإتيان بالتوحيد. وقال -تعالى-: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ} 8 أي: شرك {وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} 9. وأما السنة: فكثير جدا: "منها": ما ثبت في الصحيحين من حديث ابن عمر -رضي الله عنهما- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم، وأموالهم إلا بحقها"10. وفي الصحيحين عن أبي هريرة قال: لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم استخلف

_ 1 سورة فاطر آية: 13، 14. 2 سورة الأحقاف آية: 5. 3 سورة الجن آية: 18. 4 سورة الرعد آية: 14. 5 سورة التوبة آية: 5. 6 سورة التوبة آية: 5. 7 سورة التوبة آية: 5. 8 سورة الأنفال آية: 39. 9 سورة الأنفال آية: 39. 10 البخاري: الإيمان "25" , ومسلم: الإيمان "22".

أبو بكر، وكفر من كفر من العرب. قال عمر لأبي بكر: كيف تقاتل الناس، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها "1؟ فقال أبو بكر: "لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة؛ فإن الزكاة حق المال، فوالله لو منعوني عقالا كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعه"، فقال عمر: "فوالله ما هو إلا أن رأيت الله قد شرح صدر أبي بكر للقتال، فعرفت أنه الحق". فقد جعل الصديق رضي الله عنه المبيح للقتال: مجرد المنع، لا جحد الوجوب. وقال النووي في شرح مسلم: "باب الأمر بقتال الناس، حتى يقولوا: لا إله إلا الله محمد رسول الله، ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، ويؤمنوا بجميع ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، وأن من أتى بذلك عصم نفسه وماله إلا بحقها، ووكلت سريرته إلى الله، وقتال من منع الزكاة وغيرها من حقوق الإسلام، واهتمام الإمام بشرائع الإسلام"، ثم ساق الحديث، ثم قال: قال الخطابي في شرح هذا الكتاب كلاما حسنا، لا بد من ذكره لما فيه من الفوائد: [قتال الصحابة لمن فرق بين الصلاة والزكاة] قال رحمه الله: مما يجب تقديمه أن يعلم أن أهل الردة كانوا صنفين ارتدوا عن الدين، ونابذوا الملة وعادوا لكفرهم، وهم الذين عنى أبو هريرة بقوله: "وكفر من كفر من العرب". "والصنف الثاني": فرقوا بين الصلاة والزكاة، فأقروا بالصلاة، وأنكروا فرض الزكاة، ووجوب أدائها إلى الإمام. وقد كان في ضمن هؤلاء المانعين من يكاد يسمح بالزكاة ولا يمنعها، إلا أن رؤساءهم صدوهم عن ذلك الرأي، وقبضوا على أيديهم في ذلك، كبني يربوع، فإنهم جمعوا صدقاتهم، وأرادوا أن يبعثوا بها إلى أبي بكر، فمنعهم مالك بن نويرة من ذلك وفرقها فيهم، وفي أمر هؤلاء عرض الخلاف، ووقعت الشبهة عند عمر -رضي الله

_ 1 البخاري: الصلاة "393" , والترمذي: الإيمان "2608" , والنسائي: تحريم الدم "3966 ,3967" والإيمان وشرائعه "5003" , وأبو داود: الجهاد "2641" , وأحمد "3/ 199 ,3/ 224".

عنه -، فراجع أبا بكر، وناظره، واحتج عليه بقول النبي صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أقاتل الناس، حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فمن قال: لا إله إلا الله، فقد عصم نفسه وماله"1. وكان هذا من عمر تعلقا بظاهر الكلام قبل أن ينظر في آخره، ويتأمل شرائطه، فقال له أبو بكر "الزكاة حق المال"، يريد أن القضية قد تضمنت عصمة دم ومال معلقة بإيفاء شرائطها. والحكم المعلق بشرطين لا يحصل بأحدهما والآخر معدوم، ثم قايسه بالصلاة، ورد الزكاة إليها. وكان في ذلك من قوله دليل على قتال الممتنع من الصلاة، وإن كان إجماعا من الصحابة -رضي الله عنهم-، ولذلك رد المختلف فيه إلى المتفق عليه. فلما استقر عندهم رأي أبي بكر رضي الله عنه وبان لعمر صوابه، تابعه على قتال القوم، وهو معنى قوله: "فلما رأيت الله شرح صدر أبي بكر للقتال، عرفت أنه الحق"، يريد انشراح صدره بالحجة التي أدلى، والبرهان الذي أقامه نصا ودلالة. انتهى. [قول النووي والخطابي في حديث: "أمرت أن أقاتل الناس"] وقال النووي أيضا: وقال الخطابي -ويبين لك أن حديث أبي هريرة مختصر-: إن عبد الله بن عمر وأنسًا روياه بزيادة لم يذكرها أبو هريرة. ففي حديث ابن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أمرت أن أقاتل الناس، حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها"2. وفي رواية أنس: "أمرت أن أقاتل الناس، حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وأن يستقبلوا قبلتنا، وأن يأكلوا ذبيحتنا، وأن يصلوا صلاتنا، فإذا فعلوا ذلك حرمت علينا دماؤهم إلا بحقها، ولهم ما للمسلمين، وعليهم ما على المسلمين"3 انتهى. "قلت": وقد ثبت في الطريق الثالث المذكور في الكتاب من رواية أبي

_ 1 البخاري: الصلاة "393" , والترمذي: الإيمان "2608" , والنسائي: تحريم الدم "3966 ,3967" والإيمان وشرائعه "5003" , وأبو داود: الجهاد "2641" , وأحمد "3/ 199 ,3/ 224". 2 البخاري: الإيمان "25" , ومسلم: الإيمان "22". 3 البخاري: الصلاة "393" , والترمذي: الإيمان "2608" , والنسائي: تحريم الدم "3967" والإيمان وشرائعه "5003" , وأبو داود: الجهاد "2641" , وأحمد "3/ 224".

هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أمرت أن أقاتل الناس، حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، ويؤمنوا بي وبما جئت به، فإذا قالوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم، إلا بحقها"1. وفي استدلال أبي بكر واعتراض عمر -رضي الله عنهما- دليل على أنهما لم يحفظا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما حفظه ابن عمر وأنس وأبو هريرة، وكان هؤلاء الثلاثة سمعوا هذه الزيادة في روايتهم في مجلس آخر، فإن عمر لو سمع ذلك لما خالف، ولما كان احتج بالحديث، فإن هذه الزيادة حجة عليه، ولو سمع أبو بكر هذه الزيادة لاحتج بها، ولمَا كان احتج بالقياس والعموم. والله أعلم. انتهى كلام النووي -رحمه الله-. وقال النووي في شرح قوله صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أقاتل الناس، حتى يقولوا لا إله إلا الله، فمن قالها عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه، وحسابه على الله"2. [معنى قوله عليه السلام: "وحسابه على الله"] قال الخطابي: معلوم أن المراد بهذا أهل الأوثان دون أهل الكتاب لأنهم يقولون: لا إله إلا الله، ثم يقاتلون، ولا يرفع عنهم السيف. قال: ومعنى "وحسابه على الله"، أي فيما يسرونه ويخفونه، ففيه: أن من أظهر الإسلام، وأسر الكفر يقبل إسلامه في الظاهر، وهذا قول أكثر العلماء. وذهب مالك إلى أن توبة الزنديق لا تقبل، ويحكى ذلك عن أحمد بن حنبل. هذا كلام الخطابي. وذكر القاضي عياض معنى هذا، وزاد عليه، ووضحه، فقال: اختصاص عصمة المال والنفس لمن قال: لا إله إلا الله؛ تعبير عن الإجابة إلى الإيمان، وأن المراد مشركو العرب وأهل الأوثان، ومن لا يوحد، وهم أول من دعي إلى الإسلام وقوتل. فأما غيرهم ممن يقر بالتوحيد فلا يكتفى في عصمته بقول: لا إله إلا الله إذ كان يقولها في كفره، وهي من اعتقاده، فلذلك جاء في الحديث الآخر: "أني رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة"3 وهذا كلام القاضي.

_ 1 مسلم: الإيمان "21". 2 البخاري: الصلاة "393" , والترمذي: الإيمان "2608" , والنسائي: تحريم الدم "3966 ,3967" والإيمان وشرائعه "5003" , وأبو داود: الجهاد "2641" , وأحمد "3/ 199 ,3/ 224". 3 البخاري: الإيمان "25" , ومسلم: الإيمان "22".

[قول فقهاء المذاهب فيمن قال لا إله إلا الله وعمل بضدها] "قلت": ولا بد من الإيمان بما جاء به الرسول، كما جاء في الرواية الأخرى عن أبي هريرة: "حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، ويؤمنوا بي، وبما جئت به"1 انتهى كلام النووي. ولازم قول من قال: أنه لا يجوز قتال من قال: لا إله إلا الله، تخطئة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في قتالهم مانعي الزكاة، وإجماعهم على قتال من لا يصلي، إذا كانوا طائفة ممتنعين؛ بل يلزم من ذلك تخطئة جميع الصحابة في قتالهم بني حنيفة، وتخطئة علي بن أبي طالب رضي الله عنه في قتال الخوارج؛ بل لازم ذلك رد النصوص، بل رد نصوص القرآن -كما قدمنا-، ورد نصوص رسول الله صلى الله عليه وسلم التي لا تحصى. ويلزم صاحب هذه المقالة الفاسدة أنه لا يجوز قتال اليهود؛ لأنهم يقولون: لا إله إلا الله. فتبين بما قررناه أن صاحب هذا القول مخالف للكتاب، والسنة، والإجماع. ونذكر بعض ما اطلعنا عليه من كلام فقهاء المذاهب: قال الشيخ علي الأجهوري المالكي: من ترك فرضا أخره لبقاء ركعة بسجدتيها من غير الضرورة، قتل بالسيف حدا على المشهور. وقال ابن حبيب وجماعة: ظاهر المذهب كفر، واختاره ابن عبد السلام. وقال: في فضل الأذان معنيان: "أحدهما": إظهار الشعائر، والتعريف بأن الدار دار إسلام، وهو فرض كفاية، يقاتل أهل القرية حتى يفعلوه، إن عجز عن قهرهم على إقامته إلا بقتال. "والثاني": الدعاء إلى الصلاة، والإعلام بوقتها. وقال الأبي في شرح مسلم: والمشهور أن الأذان فرض كفاية على أهل المصر لأنه شعار الإسلام، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إن لم يسمع أذانا أغار، وإلا أمسك. وقول المصنف: يقاتلون عليه، ليس القتال عليه من خصائص القول بالوجوب، لأنه نص عن عياض في قول المصنف: والوتر غير واجب؛ لأنهم اختلفوا في التمالؤ

_ 1 مسلم: الإيمان "21" , وابن ماجه: المقدمة "71".

على ترك السنن، هل يقاتلون عليها؟ والصحيح قتالهم وإكراههم لأن في التمالؤ على تركها إماتتها. اهـ. وقال في فضل صلاة الجماعة: صلاة الجماعة مستحبة للرجل في نفسه، فرض كفاية في الجملة، يعني أهل المصر، قال: ولو تركوها قوتلوا، كما تقدم. اهـ. وقال الشيخ أحمد بن حمدان الأدرعي الشافعي في كتاب "قوت المحتاج في شرح المنهاج": من ترك الصلاة جاحدا وجوبها كفر بالإجماع، وذلك جار في جحود مجمع عليه، معلوم من الدين بالضرورة. فإن تركها كسلا قتل حدّا على الصحيح والمشهور. أما قتله، فلأن الله قال: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} 1. ثم قال: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} 2 فدل على أن القتل لا يرفع إلا بالإيمان، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، ولما في الصحيحين: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم، إلا بحقها"3 إلى أن قال في الروضة: تارك الصلاة يقتل على الصحيح، جزم به الشيخ أبو حامد. وفي البيان: لو صلى عريانا مع القدرة على السترة، أو صلى الفريضة قاعدا بلا عذر، قُتل، إلى أن قال: والصحيح قتله بصلاة واحدة، بشرط إخراجها عن وقت الضرورة. وقال ابن حجر الهيتمي في التحفة "في باب حكم تارك الصلاة": إن ترك الصلاة جاحدا وجوبها كفر بالإجماع، أو تركها كسلا مع اعتقاد وجوبها قتل، للآية {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} 4، وحديث: "أمرت أن أقاتل الناس"5 الحديث، فإنهما شرطا في الكف عن القتل والمقاتلة: الإسلام، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة. لكن الزكاة يمكن الإمام أخذها، ولو بالمقاتلة ممن امتنعوا وقاتلوا، فكانت فيها على حقيقتها، بخلافها في الصلاة، فإنه لا يمكن فعلها بالمقاتلة، فكانت فيها بمعنى القتل. اهـ.

_ 1 سورة التوبة آية: 5. 2 سورة التوبة آية: 5. 3 البخاري: الإيمان "25" , ومسلم: الإيمان "22". 4 سورة التوبة آية: 5. 5 البخاري: الصلاة "393" , والترمذي: الإيمان "2608" , والنسائي: تحريم الدم "3966 ,3967" والإيمان وشرائعه "5003" , وأبو داود: الجهاد "2641" , وأحمد "3/ 199 ,3/ 224

[مجرد الاعتصام بالإسلام مع عدم التزام شرائعه ليس بمسقط القتال] وأما كلام الحنابلة، فصرحوا بأن أهل البلد إذا تركوا الأذان والإقامة قوتلوا؛ أي: قاتلهم الإمام، أو نائبه حتى يفعلوهما. وكذا قالوا في صلاة الجماعة يقاتل تاركها، وكذا قالوا في صلاة العيد يقاتل أهل بلد تركوها، وكذا قالوا في قتال مانعي الزكاة، وأن الواجد إذا امتنع من أداء الزكاة، ولم يمكن أخذها منه قهرا، قتل بعد الاستتابة. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى-: "كل طائفة ممتنعة عن التزام شريعة من شرائع الإسلام الظاهرة المتواترة، فإنه يجب قتالهم حتى يلتزموا شرائعه، وإن كانوا مع ذلك ناطقين بالشهادتين، وملتزمين بعض شرائعه، كما قاتل الصديق رضي الله عنه مانعي الزكاة، وعلى ذلك اتفق الفقهاء بعدهم بعد سابقة مناظرة عمر لأبي بكر -رضي الله عنهما-، فاتفق الصحابة -رضي الله عنهم- على القتال على حقوق الإسلام، عملا بالكتاب والسنة. وكذلك ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من عشرة أوجه الحديث عن الخوارج، وأخبر أنهم شر الخلق والخليقة، مع قوله: "تحقرون صلاتكم مع صلاتهم، وصيامكم مع صيامهم"1، فعلم أن مجرد الاعتصام بالإسلام مع عدم التزام شرائعه، ليس بمسقط القتال. فالقتل واجب حتى يكون الدين كله لله، وحتى لا تكون فتنة، فمتى كان الدين لغير الله فالقتال واجب. فأيما طائفة ممتنعة امتنعت من بعض الصلوات المفروضة، أو الصيام، أو الحج، أو عن التزام تحريم الدماء والأموال، والخمر والميسر، ونكاح ذوات المحارم، أو عن التزام جهاد الكفار، أو ضرب الجزية على أهل الكتاب، أو غير ذلك من التزام واجبات الدين، أو محرماته التي لا عذر لأحد في جحودها، أو تركها التي يكفر الواحد بجحودها، فإن الطائفة الممتنعة تقاتل عليها، وإن كانت مقرة بها. وهذا مما لا أعلم فيه خلافا بين العلماء. وإنما اختلف الفقهاء في الطائفة إذا أصروا على ترك بعض السنن كركعتي الفجر، والأذان، والإقامة عند

_ 1 البخاري: فضائل القرآن "5058" , ومسلم: الزكاة "1064" , وأحمد "3/ 33 ,3/ 56 ,3/ 60 ,3/ 65".

من لا يقول بوجوبهما، ونحو ذلك من الشعائر، فهل تقاتل الطائفة الممتنعة على تركها أم لا؟ فأما الواجبات أو المحرمات المذكورة، ونحوها فلا خلاف في القتال عليها"،* انتهى. وأيضا فالمقصود من لا إله إلا الله البراءة من الشرك، وعبادة غير الله -تعالى-. ومشركو العرب يعرفون المراد منها لأنهم أهل اللسان، فإذا قال أحدهم: لا إله إلا الله، فقد تبرأ من الشرك وعبادة غير الله -تعالى-. فلو قال: لا إله إلا الله، وهو مصر على عبادة غير الله لم تعصمه هذه الكلمة؛ لقوله -سبحانه وتعالى-: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ} 1 أي: شرك {وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} 2، وقوله: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} 3. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "بعثت بالسيف بين يدي الساعة، حتى يُعبد الله وحده، لا شريك له"4، وهذا معنى قوله -تعالى-: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ} 5 أي: الطاعة وهذا معنى لا إله إلا الله. نسأل الله أن يجعلها آخر كلامنا، ويتوفانا مسلمين برحمته فهو أرحم الراحمين. وصلى الله على سيدنا ونبينا محمد ........ وعلى آله وصحبه والتابعين لهم ............. بإحسان إلى يوم الدين تمت هذه النسخة الشريفة، المحتوية على الألفاظ المنيفة اللطيفة .... أسكن الله -تعالى- مؤلفها الغرف العالية الرفيعة. آمين ........ وصلى الله على عبده ورسوله محمد وعلى آله .................... وصحبه وسلم تسليما ........................... كثيرا

_ * مجموع الفتاوى 28/ 502 - 503. [معد الكتاب للمكتبة الشاملة] 1 سورة الأنفال آية: 39. 2 سورة الأنفال آية: 39. 3 سورة التوبة آية: 5. 4 أحمد "2/ 50". 5 سورة البقرة آية: 193.

رسالة: معنى قوله صلى الله عليه وسلم "إن لله تسعة وتسعين اسما من أحصاها دخل الجنة"، ومحاجة آدم لموسى عليهما السلام

(رسالة) معنى قوله صلى الله عليه وسلم "إن لله تسعة وتسعين اسمًا من أحصاها دخل الجنة"، ومحاجة آدم لموسى -عليهما السلام- بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله بن عبد الرحمن -أبا بطين- إلى الإخوان محمد آل عمر، وصالح آل عثمان، ومحمد آل إبراهيم، ثبتهم الله على الإسلام، ووفقهم للتمسك بسنة سيد الأنام، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. "وبعد" فموجب الخط: إبلاغ السلام، والوصية بالتمسك بما من الله به عليكم من معرفة التوحيد، الذي هو حق الله على العبيد، فاعرفوا حق هذه النعمة، وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر، نسأل الله أن يجعلنا وإياكم ممن إذا أنعم الله عليه شكر، وإذا ابتلي صبر، وإذا أذنب استغفر. [معنى إحصاء أسماء الله] وما سألتم عنه من معنى قوله صلى الله عليه وسلم: "إن لله تسعة وتسعين اسما، فمن أحصاها دخل الجنة"1 فقد ذكر ابن القيم -رحمه الله تعالى- ما معناه: إن الإحصاء يتناول ثلاثة أمور: "الأول": حفظها، "الثاني": معرفة معانيها، "الثالث": اعتقاد ما دلت عليه، والعمل بمقتضاه. [محاجة آدم لموسى] وأما معنى محاجة آدم موسى -عليهما السلام- ولوم موسى لآدم، فذكر شيخ الإسلام وغيره: أن لوم موسى لآدم إنما هو على المصيبة التي لحقت الذرية بسبب الذنب، وآدم إنما احتج بالقدر على المصيبة، لا على الذنب. يوضح ذلك: أنه لو جاز الاحتجاج بالقدر على الذنب، وأنه حجة صحيحة، لكان حجة لإبليس وجميع العصاة، وهذا باطل بدلائل الكتاب والسنة، وإجماع أهل الحق من الأمة، والله -سبحانه وتعالى- أعلم، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.

_ 1 البخاري: الشروط "2736" , ومسلم: الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار "2677" , والترمذي: الدعوات "3508" , وابن ماجه: الدعاء "3860" , وأحمد "2/ 258 ,2/ 267 ,2/ 427 ,2/ 499 ,2/ 503 ,2/ 516".

الطلاق على عوض

الطلاق على عوض بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله بن عبد الرحمن -أبا بطين- إلى الأخ المكرم إبراهيم آل علي -سلمه الله تعالى-، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. "وبعد" موجب الخط: إبلاغك السلام، والخط وصل -أوصلك الله إلى ما تحب-، وما ذكرت من حال طلاق الذي يذكر أنه طلق زوجته طلقة على عوض منها، ثم بعد ذلك طلقها ثلاثا، فإذا صدقته الزوجة على قوله: إنه طلقها الأولى على عوض منها، فلا يلحقها الطلاق الذي بعد ذلك، وتجوز له بعقد جديد. وما ذكرت من حال الذي يبغي يعطي الأمير، فالذي تراه مبارك؛ إن أعطى سعر مثله فهو المطلوب، فإن قصر عن السعر، ولا سمحت نفسه بالتمام، فهذا شيء زهيد ما يسوى يكتب من طرفه، ومتى ما شفت له مبيعه تبيعه -إن شاء الله-. وسلم لنا على العيال، والأمير، وولدنا عبد العزيز، وإخوانه، وآل محمد، والطلبة يسلمون عليكم، وأنت في حفظ الله وأمانه. والسلام. (نصيحة في التمسك بالتوحيد، والأمر بإنكار المنكر) بسم الله الرحمن الرحيم "وبه نستعين" من عبد الله بن عبد الرحمن -أبا بطين- إلى الإخوان عبد الله آل علي، وحمود، وعلى آل عبد الله التويجر، وفقهم الله لطاعته، وحفظهم بكلاءته. سلام عليكم ورحمته وبركاته.

وبعد: موجب الخط: إبلاغكم السلام، والسؤال عن حالكم -أصلح الله لنا ولكم الدين والدنيا والآخرة-، وخطكم وصل -أوصلكم الله إلى الخير-، نسأل الله أن يحيينا، وإياكم حياة طيبة، وهي الحياة في الطاعة، وأوصيكم بتقوى الله، والاستكثار من أعمال الخير، والتمسك بما تعرفون من التوحيد الذي دعا إليه الشيخ محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله-. فأكثر الناس اليوم صار المعروف عندهم منكرا، والمنكر معروفا، وهذا زمان القابض فيه على دينه كالقابض على الجمر، وكل زمان شر مما قبله، وتصدّر للفتوى جهال؛ أضلوا الناس، اجتمع فيهم الجهل والفجور. وبعض من عنده معرفة، صار يناظر وجوه أهل الدنيا 1، والمنصف اليوم أعز من الكبريت الأحمر، والحق -ولله الحمد- عليه نور. قال صلى الله عليه وسلم: "تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها"2 والحق مع ظهوره في غاية الغربة، ويرى المؤمن ما يذوب من قلبه. ونرجو أن المتمسك بدين الله اليوم يحصل له أجر خمسين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأجل ظهور الشرك في الأمصار، وظهور المنكرات، وإضاعة الصلوات. فلم يبق -والله- من الإسلام إلا اسمه، وهذا مصداق ما أخبر به الصادق المصدوق -صلوات الله وسلامه عليه، وعلى سائر الأنبياء والمرسلين-. نسأل الله أن يهدينا وإياكم صراطه المستقيم، ويتوفانا مسلمين، ويجعلنا وإياكم مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين. هذا، وأنتم في أمان الله وحفظه. والسلام، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.

_ 1 أي يجتهد أن يكون نظيرهم في الجاه والمال. 2 ابن ماجه: المقدمة "44" , وأحمد "4/ 126"

فتاوى في الاستشفاع والاستغاثة وغيرها

فتاوى في الاستشفاع والاستغاثة وغيرها سئل الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن -أبا بطين-، عن المسائل الآتية، فأجاب عنها بما نصه:- [معنى الاستشفاع والاستغاثة] وما سألت عنه من إنكار النبي صلى الله عليه وسلم على من قال: نستشفع بالله عليك، ولم ينكر قوله: نستشفع بك على الله؛ لأن معنى قوله: نستشفع بك على الله، أي نطلب منك أن تدعو الله أن يغيثنا؛ لأن الداعي شافع، ومعنى نستشفع بالله عليك: نطلب من الله أن يطلب منك أن تدعو لنا، وتستسقي لنا، والله -سبحانه وتعالى- يُشفع إليه، ولا يشفع هو إلى أحد. وأما آخر الحديث الذي أشار إليه بعد قوله: "لا يستشفع به على أحد، شأن الله أعظم من ذلك. إن الله على عرشه، وإن عرشه على سمواته وأرضه هكذا"1 وقال بأصابعه مثل القبة، وفي لفظ: "وإن عرشه فوق سماواته، وسماواته فوق أرضه هكذا"2 - وقال بأصابعه مثل القبة 3. وأما قوله في الحديث الآخر: "إنه لا يستغاث بي" الحديث، فإن كان 4

_ 1 أبو داود: السنة "4726". 2 أبو داود: السنة "4726". 3 يراجع ما قاله شيخ الإسلام في هذا الحديث في رسالة العرش. 4 هكذا في الأصل وليس بعد هذا الشرط جزاء له. ومن المعلوم أن الاستغاثة كالاستعانة والدعاء، منها ما هو عادي، وما هو عبادة. فالعادي ما يطلب من الناس من الأمور العادية التي تدخل في كسبهم وقدرتهم، وأما العبادة فهو طلب ما لا يدخل في كسب العباد، ولا في نظام الأسباب والمسببات، وهذا لا يطلب إلا من الله القادر على كل شيء، فإذا وجه إلى مخلوق كان عبادة له، وشركا بالله -تعالى-، ومن ذلك دعاء الموتى والاستغاثة بهم، وقد انقطع كسبهم، وصاروا في عالم الغيب، الذي لا يعلم شأنهم فيه إلا الله -تعالى-.

النبي صلى الله عليه وسلم أراد بهذا الحماية لجانب التوحيد، وإن كانت الاستغاثة بالمخلوق فيما يقدر عليه جائزة، كقوله -تعالى-: {فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ} 1، وإذا أقبل عليك عدو ونخيت على ربعك 2 يعاونونك، فهذا استغاثة بهم، والاستغاثة بالمخلوق فيما يقدر عليه جائزة. [ضعف الإيمان في القلوب حتى أصبحت لا تحس بما يقع من الشرك] والحديث المروي: "يأتي على الناس زمان يذوب فيه قلب المؤمن" الحديث؛ فهذه الأزمنة، والله كذلك، ولكن لضعف الإيمان ما نحس بذلك على حقيقته، وقد اشتدت -والله- غربة الإسلام. وأي غربة أعظم من غربة من وفقه الله لمعرفة التوحيد، الذي اتفقت عليه جميع الرسل الذي هو حق الله على عباده، مع جهل أكثر الناس اليوم به، وإنكارهم له، والأمر كما قال الله -تعالى-: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} 3. نسأل الله لنا ولكم الوفاة على التوحيد؛ الذي هو إخلاص العبادة لله وحده. وقول الحسن -رحمه الله-، فما أحسن ذلك وأجله، وتوجعه وتأوهه، فما رأى في زمانه المثنى على أهله، ولا يأتي زمان إلا والذي بعده شر منه، كما قال الصادق المصدوق، لكن لغلبة الجهل وقلة العلم، وإلف العادة، ضعف استنكار المنكر وعُدِم .. فالله المستعان، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.

_ 1 سورة القصص آية: 15. 2 الربع: جماعة الرجل وقبيلته. ونخيت، أصله: أنخت بعيرك، والمعنى: نزلت عليهم، واستنصرت على العدو. 3 سورة يونس آية: 58.

معنى كلمة التوحيد وحكم من قالها ولم يكفر بما يعبد من دون الله

معنى كلمة التوحيد وحكم من قالها ولم يكفر بما يعبد من دون الله بسم الله الرحمن الرحيم سئل الشيخ أبا بطين 1 - رحمه الله- عن معنى لا إله إلا الله، وعمن قالها، ولم يكفر بما يعبد من دون الله. وهل من قالها، ودعا نبيا، أو وليا هل تنفعه؟ أو هو مباح الدم والمال ولو قالها؟ [معنى كلمة التوحيد نفيا وإثباتا ومعنى المعبود والعبادة] أجاب -رحمه الله وعفا عنه-: معنى لا إله إلا الله عند جميع أهل اللغة وعلماء التفسير والفقهاء، كلهم يفسرون الإله بالمعبود، والتأله: التعبد. وأما العبادة فعرفها بعضهم بأنها ما أمر به شرعا من غير اطراد عرفي، ولا اقتضاء عقلي. والمأثور عن السلف تفسير العبادة بالطاعة، فيدخل في ذلك فعل المأمور وترك المحظور من واجب ومندوب، وترك المنهي عنه من محرم ومكروه. فمن جعل نوعا من أنواع العبادة لغير الله كالدعاء، والسجود، والذبح، والنذر، وغير ذلك لغير الله فهو مشرك. ولا إله إلا الله متضمنة للكفر بما يعبد من دونه، لأن معنى لا إله إلا الله إثبات العبادة لله وحده، والبراءة من كل معبود سواه، وهذا معنى الكفر بما يعبد من دونه، لأن معنى الكفر بما يعبد من دونه البراءة منه واعتقاد بطلانه، وهذا معنى الكفر بالطاغوت في قول الله -تعالى-: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} 2. والطاغوت: اسم لكل معبود سوى الله،

_ 1 هذا اللفظ علم محكي كما كانوا ينطقون به في أحوال الإعراب الثلاثة فهو هنا محله الرفع كما هو ظاهر. 2 سورة البقرة آية: 256.

كما في قوله -تعالى-: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} 1، وقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: "من قال: لا إله إلا الله، وكفر بما يعبد من دون الله، حرم ماله ودمه، وحسابه على الله"2. فقوله: "وكفر بما يعبد من دون الله"3 الظاهر أن هذا زيادة إيضاح؛ لأن لا إله إلا الله متضمنة للكفر بما يعبد من دون الله، ومن قال: لا إله إلا الله، ومع ذلك يفعل الشرك الأكبر، كدعاء الموتى والغائبين، وسؤالهم قضاء الحاجات، وتفريج الكربات، والتقرب إليهم بالنذور والذبائح، فهذا مشرك شاء أم أبى، والله لا يغفر أن يشرك به {مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَاوَاهُ النَّارُ} 4. ومع هذا فهو مشرك، ومن فعله كان كافرا، ولكن على ما قال الشيخ: لا يقال فلان كافر حتى يبين له ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، فإن أصرَّ بعد البيان حكم بكفره وحل دمه وماله، وقال -تعالى-: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ} 5 أي: شرك {وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} 6. فإذا كان في بلد وثن يعبد من دون الله، قوتلوا لأجل هذا الوثن، أي: لإزالته وهدمه وترك الشرك، حتى يكون الدين كله لله. والدعاء دين، سماه الله دينا كما في قوله -تعالى-: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} 7 أي: الدعاء. وقال صلى الله عليه وسلم: "بعثت بالسيف بين يدي الساعة، حتى يعبد الله وحده لا شريك له"8. فمتى كان شيء من العبادة مصروفا لغير الله، فالسيف مسلول عليه. والله أعلم، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.

_ 1 سورة النحل آية: 36. 2 مسلم: الإيمان "23" , وأحمد "3/ 472 ,6/ 394". 3 صحيح مسلم: كتاب الإيمان "23" , ومسند أحمد "3/ 472 ,6/ 394". 4 سورة المائدة آية: 72. 5 سورة الأنفال آية: 39. 6 سورة الأنفال آية: 39. 7 سورة العنكبوت آية: 65. 8 أحمد "2/ 50".

معنى كلمة التوحيد وما تنفي وما تثبت

[معنى كلمة التوحيد وما تنفي وما تثبت] بسم الله الرحمن الرحيم سأل بعض الإخوان الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن -رحمة الله تعالى علينا وعليه- عن معنى لا إله إلا الله، وما تنفي وما تثبت. فأجاب -رحمه الله تعالى-: وما سألت عن معنى لا إله إلا الله، وما تثبت وما تنفي، "فأول" واجب على الإنسان معرفة معنى هذه الكلمة، قال الله -تعالى- لنبيه صلى الله عليه وسلم: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ} 1، وقال: {وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ} 2 أي: بلا إله إلا الله {هُمْ يَعْلَمُونَ} 3 بقلوبهم ما شهدوا به بألسنتهم. فأفرض الفرائض معرفة معنى هذه الكلمة، ثم التلفظ بمقتضاها، فالإله هو المعبود والتأله التعبد. لا معبود إلا الله: نفت الإلهية عمن سوى الله، وأثبتتها لله تعالى وحده. فإذا عرفت أن الإله هو المعبود، والإلهية هي العبادة، والعبادة: اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأفعال، فالإله هو المعبود المطاع، فمن جعل شيئا من العبادة لغير الله فهو مشرك، وذلك كالسجود، والدعاء، والذبح، والنذر، وكذلك التوكل والخوف والرجاء، وغير ذلك من أنواع العبادة الظاهرة والباطنة. وإفراد الله -سبحانه- بالعبادة، ونفيها عمن سواه هو حقيقة التوحيد، وهو معنى لا إله إلا الله. فمن قال: لا إله إلا الله بصدق ويقين، أخرجت من قلبه كل ما سوى الله محبة وتعظيما وإجلالا ومهابة وخشية وتوكلا، فلا يصير في قلبه محبة لما يكرهه الله ولا كراهة لما يحبه، وهذا حقيقة الإخلاص الذي قال فيه صلى الله عليه وسلم: "من قال لا إله إلا الله مخلصا من قلبه دخل الجنة، أو حرم الله عليه النار"4. قيل للحسن البصري: إن ناسا يقولون: من قال لا إله إلا الله دخل الجنة، فقال: من قال لا إله إلا الله فأدَّى حقها وفرضها. وغالب من يقول لا إله إلا الله إنما يقولها تقليدًا، ولم يخالط الإيمان بشاشة قلبه

_ 1 سورة محمد آية: 19. 2 سورة الزخرف آية: 86. 3 سورة الزخرف آية: 86. 4 أحمد "5/ 236".

فتاوى فقهية ومسائل: في تصرف وصي الصبي في ماله، وفي الطلاق، وأيهما يقدم من مال الميت: سداد الدين أو الحج عنه؟

فلا يعرف ما ... 1 ومن لا يعرف ذلك يخفى عليه أن يصرف عنها عند الموت، وفي القبور أمثال هؤلاء يقولون كما في الحديث: "سمعت الناس يقولون شيئا فقلته"2. نسأل الله أن يثبتنا وإياكم بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، والله أعلم. اهـ. (نقل من خط من يزعم أنه نقله من خط الشيخ العلامة والعالم الفاضل البحر الفهامة، وحيد زمانه، وفائق أقرانه، وفارس المعاني والألفاظ، وأوحد الأجلة الحفاظ، ذي الهمم السنية، والمفاخر العلية، مفتي الديار النجدية، نادرة العصر، وزينة الدهر، عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين -رحمه الله تعالى-). فتاوى فقهية ومسائل (في تصرف وصي الصبي في ماله، وفي الطلاق، وأيهما يقدم من مال الميت: سداد الدين أو الحج عنه؟) بسم الله الرحمن الرحيم أفتنا -عفا الله عنك-: إذا كان هنا وكيل لعيال صغار قاصرين، والوكيل كأخ، أو عم، أو أجنبي، هل تمضي وكالته بكل حال كقسم عقار، أو تصرف بمال أو غيره، أو تمضي بشيء دون شيء؟ "مسألة": إذا طلَّق رجل امرأته في حال صحته بائنا بعوض، أو ثلاث، فمات وهي في عدته، هل يجب عليها حداد أو يستحب، أم لا؟ "مسألة": إذا مات إنسان وفي ذمته دين آدميين وحجة الإسلام، وتركته ما توفي الجميع، هل يقدم الدين أو الحجة أو يتحاصَّان؟ أفتنا مأجورا. انتهى.

_ 1 بياض بالأصل ولعله "تنفيه وتثبته". 2 البخاري: العلم "86" , ومسلم: الكسوف "905" , وأحمد "6/ 345 ,6/ 354" , ومالك: النداء للصلاة "447".

رسالة في هبة ثواب الأعمال إلى الميت هل يجوز أم لا؟

أجاب الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين -رحمه الله تعالى-: [وصي الصغير وتصرفاته في مال الصغير] "الجواب": من طرف المسألة الأولى فالوصي على الصغار إنما يملك التصرف فيما وصي عليه به، فإذا أوصاه أبو الصغار عليهم في النظر في مالهم، وما يصلح لهم، ملك التصرف فيما فيه مصلحة لهم، وكذلك إذا كان لهم شريك في شيء، وطلب القسمة فالوصي عليهم يقسم لهم، وتمضي قسمته. ولا يملك الوصي تزويج صغير إلا إن نص له الأب على التزويج بأن يقول: وصيت إليك بتزويج بناتي ونحو هذا. [البائن في الصحة] وأما البائن في الصحة فلا يلزمها إحداد إذا مات زوجها وهي في عدته، ولا تنتقل عن عدة الطلاق، بل تتم عدة طلاق فقط، ولا يستحب لها الإحداد أيضا؛ لأنها غير وارثة منه. [مات وكان قد وجب عليه الحج في حياته لاستكمال شروطه وعليه دين] وأما من مات وعليه حجة الإسلام بأن يكون قد وجب عليه الحج في حياته لاستكمال شروطه حج عنه من ماله، فإن كان عليه دين، وماله لا يفي، فالدين ونفقة الحج سواء يقسم بالحصص. والله أعلم وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم. {رسالة في هبة ثواب الأعمال إلى الميت هل يجوز أم لا؟} {بسم الله الرحمن الرحيم} هذا جواب مسائل وردت على شيخنا فقال: أما ما ذكرت من إيراد عثمان بعض عبارات الأصحاب على جواز التشريك في نفس العمل، فهو إيراد غير صحيح، ولا ينبغي للطالب العدول عن صريح كلامهم ومعارضته بما يحتمل من موافقة الصريح من كلامهم، ويحتمل ضده ثم يحمله على ما يخالف الصريح، بل الذي ينبغي رد المحتمل من كلامهم على صريحه ومنصوصه كما يجب رد المتشابه إلى المحكم. وأما ما رواه الكحَّال عن أحمد قال: قيل لأبي عبد الله: الرجل يعمل الشيء

من الخير، من صلاة وصدقة أو غير ذلك، فيجعل نصفه لأبيه أو لأمه. قال: أرجو، فهذا يحتمل أن المراد جعل نصف نفس العمل، ويحتمل نصف ثوابه، ويتعين حمله على الاحتمال الثاني لوجهين: "أحدهما": أن الأصحاب لما ذكروا جواز إهداء ثواب العمل، احتجوا لقولهم برواية الكحال عن الإمام، فدلَّ على أن هذا معنى الرواية عندهم. "الوجه الثاني": أنهم لما نصوا على أنه إذا حرم عن اثنين وقع عن نفسه قاسوا ذلك على الصلاة، فدلَّ على أن كون الصلاة لا تقع عن اثنين لا خلاف فيه عندهم لأنهم جعلوه أصلا، وقاسوا عليه الحج، فدلَّ على أنهم لم يفهموا من رواية الكحال إلا التشريك في نفس العمل، وإنما معناها التشريك في الثواب. ولما ذكر ابن القيم -رحمه الله تعالى- وصول ثواب القربات إلى الأموات، وذكر ما في المسألة من الخلاف، وصحَّح القول بوصولها، وذكر حجج المخالفين، وذكر من حججهم قولهم: لو ساغ ذلك لساغ إهداء نصف الثواب وربعه إلى الميت. فأجاب بوجهين: "أحدهما": منع الملازمة. "الثاني": التزام ذلك والقول به، نصَّ عليه الإمام أحمد من رواية محمد بن يحيى الكحال، قال: ووجه هذا أن الثواب ملك له، فله أن يهديه جميعا، وله أن يهدي بعضه، يوضحه أنه لو أهداه إلى أربعة مثلا - تحصل لكل منهم ربعه، فإذا أهدى الربع، وأبقى لنفسه الباقي جاز كما لو أهداه إلى غيره. اهـ. [الوصي بالأضحية هل يأكل منها أم لا؟] وأما الوصي في الأضحية فقاسوه على من أوصى إليه بتفرقة شيء -مثلا- على الفقراء وهو فقير. المشهور في المذاهب أنه لا يأخذ شيئا، وأجاز جماعة له الأخذ، وفيه قول يجوز له الأخذ إن دلت قرينة على الإذن وإلا فلا، وتعليلهم على أنه يجوز مع الإذن، فكذلك إذا أذن الموصي للوصي في الأكل من الأضحية جاز، وصرح ابن عبد الهادي بجواز الأكل له كغيره.

وأما ما أفهمه كلام أحمد بن محمد من أنه لا يجوز له الأكل حتى مع الإذن، فالظاهر أنه ليس بصواب، لأن كلام الأصحاب قد دلَّ على جواز الأخذ لمن أوصى إليه بتفرقة شيء، أو وكل إليه فيه إذا أذن له في الأخذ، فكذلك إذا أذن الموصي للوصي في الأخذمن لحم الأضحية، وأي فرق؟ وأما إذا قال الموصي لوصيه في الأضحية: لك جلدها ونحوه على سبيل الوصية له بذلك، أو على طريق العوض، فالظاهر عدم جواز ذلك، وأما إذا قال: أذنت لك في الأكل من لحمها فلا مانع منه، والله أعلم. [العمل بالخط في إثبات الوقف] "وأما المسألة الثالثة": وهي العمل بالخط في إثبات الوقف، وهل ينْزع العقار ونحوه ممن هو في يده؟ بخط قاض معروف ويحكم به بمجرد الخط؟ فالذي يظهر أن هذا مبني على جواز العمل بمجرد الخط في الحكم والشهادة. ومن المعلوم أن الذي عليه أكثر متقدمي الأصحاب أنه لا يجوز العمل بمجرد الخط، وقد علمتم ما شرطوه في كتاب القاضي إلى القاضي وغير ذلك. والذي عليه عمل المتأخرين جواز العمل بالخط، والكلام الذي نقلتموه مضمونه عدم جواز العمل بالخط. لأنه أخرجه عن كونه بينة، ولا شك أن هذا هو مقتضى قول أكثر المتقدمين. وأما ما اعتمده كثير من المتأخرين من العمل بالخطف فمقتضى قولهم جواز العمل بذلك والاعتماد عليه، بشرط تحقق الحاكم أنه خط القاضي المعروف خطه وثقته، فلا يجوز الاعتماد على خط لا يتيقنه ولا يعرف ثقة كاتبه. والله سبحانه وتعالى أعلم.

رسالة في حكم من يكفر غيره من المسلمين، والكفر الذي يعذر صاحبه بالجهل -فلا يحكم عليه به إلا بعد أن تقوم عليه الحجة- والذي لا يعذر

رسالة في حكم من يكفِّر غيره من المسلمين والكفر الذي يعذر صاحبه بالجهل (فلا يحكم عليه به إلا بعد أن تقوم عليه الحجة) والذي لا يعذر من فتاوى {العلامة مفتي الديار النجدية، وعالم الطائفة السلفية} الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن المشتهر بأبا بطين رحمه الله تعالى (علَّق عليه بعض الحواشي الضرورية في هذه المسألة المهمة) السيد محمد رشيد رضا منشئ مجلة المنار

بسم الله الرحمن الرحيم استفتاء "مسألة": قال الشيخ تقي الدين -رحمه الله تعالى- في رده على ابن البكري: "فلهذا كان أهل العلم والسنة لا يكفرون من خالفهم، وإن كان ذلك المخالف يكفرهم، لأن الكفر حكم شرعي، فليس للإنسان أن يعاقب بمثله، كمن كذب عليك، وزنى بأهلك، ليس لك أن تكذب عليه، وتزني بأهله، لأن الزنى والكذب حرام لحق الله -تعالى-، وكذلك التكفير حق لله -تعالى- فلا نكفر إلا من كفره الله ورسوله. وأيضًا فإن تكفير الشخص المعين، وجواز قتله موقوف على أن تبلغه الحجة النبوية التي يكفر من خالفها، وإلا فليس كل من جهل شيئا من الدين يكفر"، إلى أن قال: "ولهذا كنت أقول للجهمية من الحلولية والنفاة الذين ينفون أن يكون -تعالى- فوق العرش: أنا لو وافقتكم كنت كافرًا، لأني أعلم أن قولكم كفر، وأنتم عندي لا تكفرون لأنكم جهال"، إلخ.* أفتونا ما معنى قيام الحجة -أثابكم الله بمنه وكرمه-؟ [حكم من يكفِّر غيره من المسلمين] "الجواب": الحمد لله رب العالمين. تضمَّن كلام الشيخ -رحمه الله- مسألتين: "إحداهما": عدم تكفيرنا لمن كفرنا. وظاهر كلامه أنه سواء كان متأولا أم لا، وقد صرَّح طائفة من العلماء أنه إذا قال ذلك متأولا لا يكفر. ونقل ابن حجر الهيتمي عن طائفة من الشافعية أنهم صرَّحوا بكفره إذا لم يتأوَّل، فنقل عن المتولي أنه قال: إذا قال لمسلم: يا كافر، بلا تأويل، كفر. قال: وتبعه على ذلك جماعة، واحتجُّوا بقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا قال الرجل لأخيه: يا كافر، فقد باء بها أحدهما"1، والذي رماه به مسلم، فيكون هو كافرًا، قالوا: لأنه سمى الإسلام كفرًا. وتعقب بعضهم هذا التعليل وهو قوله: لأنه

_ * "الرد على البكري" 2/ 492، 494. [معد الكتاب للمكتبة الشاملة] 1 البخاري: الأدب "6103".

سمى الإسلام كفرا فقال: هذا المعنى لا يفهم من لفظه: ولا هو مراده، إنما مراده ومعنى لفظه أنك لست على دين الإسلام الذي هو حق، وإنما أنت كافر دينك غير الإسلام، وأنا على دين الإسلام. وهذا مراده بلا شك لأنه إنما وصف بالكفر الشخص لا دين الإسلام، فنفى عنه كونه على دين الإسلام، فلا يكفر بهذا القول، إنما يعزر بهذا السب الفاحش بما يليق به. ويلزم على ما قالوه أن من قال لعبد: يا فاسق، كفر لأنه سمى العبادة فسقا، ولا أحسب أحدا يقوله، وإنما يريد أنك تفسق، وتفعل مع عبادتك ما هو فسق، لا أن عبادتك فسق. انتهى. وظاهر كلام النووي في شرح مسلم يوافق ذلك، فإنه لما ذكر الحديث قال: وهذا مما عده العلماء من المشكلات، فإن مذهب أهل الحق أن المسلم لا يكفر بالمعاصي كالقتل والزنى، وكذا قوله لأخيه: يا كافر من غير اعتقاد بطلان دين الإسلام. ثم حكى في تأويل الأحاديث وجوها: "أحدها": أنه محمول على المستحل ومعنى "باء بها" بكلمة الكفر، وكذا "حارت عليه" في رواية أي: رجعت عليه كلمة الكفر، فباء وحار ورجع بمعنى. "الثاني": رجعت عليه نقيصته لأخيه ومعصية تكفيره. "الثالث": أنه محمول على الخوارج المكفرين للمؤمنين، وهذا نقله القاضي عياض عن مالك، وهو ضعيف لأن المذهب الصحيح المختار الذي قاله الأكثرون والمحققون أن الخوارج لا يكفرون كسائر أهل البدع. "الرابع": معناه أنه يؤول إلى الكفر، فإن المعاصي كما قالوا بريد الكفر، ويخاف على المكثر منها أن يكون عاقبة شؤمها المصير إلى الكفر. ويؤيده رواية أبي عوانة في مستخرجه على مسلم: "فإن كان كما قال، وإلا فقد باء بالكفر"1. "الخامس": فقد رجع بكفره، وليس الراجع حقيقة الكفر بل التكفير، كونه جعل أخاه المؤمن كافرا، فكأنه كفر نفسه، إما لأنه كفر من هو مثله، وإما لأنه كفر من لا يكفره إلا كافر يعتقد بطلان الإسلام. انتهى. وقال ابن دقيق العيد في قوله صلى الله عليه وسلم: "ومن دعا رجلا بالكفر وليس

_ 1 أبو داود: السنة "4687" , وأحمد "2/ 23".

كذلك إلا حار عليه"1 أي: رجع عليه. وهذا وعيد عظيم لمن كفر أحدا من المسلمين، وليس هو كذلك، وهي ورطة عظيمة وقع فيها خلق من العلماء اختلفوا في العقائد، وحكموا بكفر بعضهم بعضا. ثم نقل عن الاستاذ أبي إسحاق الإسفراييني أنه قال: لا أكفر إلا من كفرني، قال: وربما خفي هذا القول على بعض الناس، وحمله على غير محمله الصحيح. والذي ينبغي أن يحمل عليه أنه لمح هذا الحديث الذي يقتضي أن من دعا رجلا بالكفر، وليس كذلك رجع عليه الكفر، وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "من قال لأخيه: يا كافر، فقد باء بها أحدهما"2. وكان هذا المتكلم أي أبو إسحاق يقول: الحديث دل على أنه يحصل الكفر لأحد الشخصين، إما المكفِّر؛ وإما المكفَّر، فإذا كفرني بعض الناس فالكفر واقع بأحدنا، وأنا قاطع أني لست بكافر، فالكفر راجع إليه. انتهى. وظاهر كلام أبي إسحاق أنه لا فرق بين المتأول وغيره، والله أعلم. وما نقله القاضي عن مالك من حمله الحديث على الخوارج موافق لإحدى الروايتين عن أحمد في تكفير الخوارج، اختارها طائفة من الأصحاب وغيرهم، لأنهم كفروا كثيرا من الصحابة، واستحلوا دماءهم وأموالهم متقربين بذلك إلى الله تعالى، فلم يعذروهم بالتأويل الباطل، لكن أكثر الفقهاء على عدم كفرهم لتأويلهم. وقالوا: من استحل قتل المعصومين، وأخذ أموالهم بغير شبهة ولا تأويل كفر. وإن كان استحلاله ذلك بتأويل كالخوارج لم يكفر، والله أعلم وأحكم. [تكفير الشخص المعين وقتله مشروط بقيام الحجة عليه] "المسألة الثانية": "إن تكفير الشخص المعين وجواز قتله موقوف على أن تبلغه الحجة النبوية التي يكفر من خالفها" إلخ. يشمل كلامه من لم تبلغه الدعوة، وقد صرح بذلك في موضع آخر، ونقل ابن عقيل عن الأصحاب أنه لا يعاقب، وقال: إن عفو الله عن الذي كان يعامل، ويتجاوز

_ 1 مسلم: الإيمان "61" , وأحمد "5/ 166". 2 البخاري: الأدب "6104" , ومسلم: الإيمان "60" , والترمذي: الإيمان "2637" , وأبو داود: السنة "4687" , وأحمد "2/ 18 ,2/ 23 ,2/ 44 ,2/ 47 ,2/ 60 ,2/ 105 ,2/ 112 ,2/ 113 ,2/ 142" , ومالك: الجامع "1844".

لأنه لم تبلغه الدعوة، وعمل بخصلة من الخير، واستدل لذلك بما في صحيح مسلم مرفوعا: "والذي نفسي بيده، لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي أو نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار"1. قال في شرح مسلم: خص اليهود والنصارى لأن لهم كتابا، قال: وفي مفهومه أن من لم تبلغه دعوة الإسلام فهو معذور. قال: وهذا جار على ما تقرر في الأصول "لا حكم قبل ورود الشرع على الصحيح". اهـ. وقال القاضي أبو يعلى في قوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} 2 في هذا دليل على أن معرفة الله -تعالى- لا تجب عقلا، وإنما تجب بالشرع وهو بعثة الرسل، وأنه لو مات الإنسان قبل ذلك لم يقطع عليه بالنار. اهـ. وفيمن لم تبلغه الدعوة قول آخر أنه يعاقب 3. اختاره ابن حامد، واحتج بقوله تعالى-: {أَيَحْسَبُ الْأِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً} 4. والله أعلم. فمن بلغته رسالة محمد صلى الله عليه وسلم وبلغه القرآن فقد قامت عليه الحجة 5، فلا يعذر في عدم الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، فلا عذر له بعد ذلك بالجهل، وقد أخبر الله -سبحانه- بجهل كثير من الكفار مع تصريحه بكفرهم 6. ووصف النصارى بالجهل مع أنه لا يشك مسلم في كفرهم، ونقطع أن أكثر اليهود والنصارى اليوم جهال مقلدون، ونعتقد كفرهم وكفر من شك في كفرهم. وقد دل القرآن على أن الشك في أصول الدين كفر، والشك هو التردد بين

_ 1 مسلم: الإيمان "153" , وأحمد "2/ 317 ,2/ 350". 2 سورة الإسراء آية: 15. 3 أجاب القائلون بهذا عن الآية بأن المراد بها عذاب الاستئصال لمعاندي الرسل لا عذاب الآخرة، وهو الذي يدل عليه السياق الذي وردت فيه. 4 سورة القيامة آية: 36. 5 لأن القرآن مشتمل على الحجج العقلية على ما يجب الإيمان به. 6 الكفر كله جهل، والجهل عذر للكافر الذي لم تبلغه الدعوة بالعلم، وحجة الإسلام تزيل هذا الجهل فيزول بها هذا العذر.

شيئين كالذي لا يجزم بصدق الرسول ولا كذبه، ولا يجزم بوقوع البعث ولا عدم وقوعه، ونحو ذلك كالذي لا يعتقد وجوب الصلاة، ولا عدم وجوبها، أو لا يعتقد تحريم الزنى، ولا عدم تحريمه، وهذا كفر بإجماع العلماء. ولا عذر لمن كان حاله هكذا بكونه لم يفهم حجج الله وبيناته، لأنه لا عذر له بعد بلوغها له وإن لم يفهمها 1. وقد أخبر الله عن الكفار أنهم لم يفهموا فقال: {وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا} 2، وقال: {إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ} 3. فبين -سبحانه- أنهم لم يفقهوا فلم يعذرهم لكونهم لم يفهموا، بل صرح القرآن بكفر هذا الجنس من الكفار كما في قوله -تعالى-: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا} 4 الآية. [من قال إن من عجز عن معرفة الحق بعد النظر فهو معذور بكفره] قال الشيخ أبو محمد موفق الدين بن قدامة -رحمه الله تعالى- لما أنجز كلامه في مسألة: هل كل مجتهد مصيب أم لا؟، ورجح أنه ليس كل مجتهد مصيبا، بل الحق في قول واحد من أقوال المجتهدين. قال: وزعم الجاحظ أن مخالف ملة الإسلام إذا نظر فعجز عن درك الحق فهو معذور غير آثم 5 ... إلى أن قال: وأما ما ذهب إليه الجاحظ فباطل يقينا، وكفر بالله -تعالى- ورد عليه وعلى رسوله، فإنا نعلم قطعا أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر اليهود والنصارى بالإسلام واتباعه، وذمهم على إصرارهم، وقاتل جميعهم 6 يقتل البالغ منهم. ونعلم أن المعاند العارف ممن يقل، وإنما الأكثر مقلدة

_ 1 من لم يفهم الدعوة لم تقم عليه الحجة، وما ذكره من إجماع العلماء محله جحود المسلم الذي نشأ بين المسلمين لما ذكر ونحوه مما هو معلوم من الدين بالضرورة فلا يقبل منه دعوى الجهل. 2 سورة الأنعام آية: 25. 3 سورة الأعراف آية: 30. 4 سورة الكهف آية: 103، 104. 5 وصرح بهذا بعض الأشعرية أيضا، وسيأتي تفصيل الكلام فيه. 6 كذا في الأصل.

اعتقدوا دين آبائهم تقليدا، ولم يعرفوا معجزة لرسول صلى الله عليه وسلم وصدقه، والآيات الدالة في القرآن على هذا كثيرة كقوله تعالى-: {ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ} 1، {وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} 2، {وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ} 3، وقوله: {وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ} 4، {وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ} 5، {الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا} 6. وفي الجملة ذم المكذبين لرسول الله صلى الله عليه وسلم لا ينحصر في الكتاب والسنة اهـ. فبين رحمه الله تعالى- أنا لو لم نكفر إلا المعاند العارف لزمنا الحكم بإسلام أكثر اليهود والنصارى، وهذا من أظهر الباطل 7. [التكفير والقتل موقوف على بلوغ الحجة وفهمها] فقول الشيخ تقي الدين -رحمه الله تعالى-: "إن التكفير والقتل موقوف على بلوغ الحجة"، يدل كلامه على أن هذين الأمرين -وهما التكفير والقتل- ليسا موقوفين على فهم الحجة مطلقا، بل على بلوغها، ففهمها شيء، وبلوغها شيء آخر، فلو كان هذا الحكم موقوفا على فهم الحجة لم نكفر ونقتل إلا من علمنا أنه معاند خاصة، وهذا بين البطلان 8. بل آخر كلامه -رحمه الله- يدل على أنه يعتبر فهم الحجة في الأمور

_ 1 سورة ص آية: 27. 2 سورة فصلت آية: 23. 3 سورة الجاثية آية: 24. 4 سورة المجادلة آية: 18. 5 سورة الأعراف آية: 30. 6 سورة الكهف آية: 103، 104. 7 من يقول إن الكافر الذي لم تبلغه الدعوة على وجه يفهمه، وتقوم به عليه الحجة معذور، لا يعني أنه يحكم بإسلامه ولا أنه غير كافر، وإنما يعني أن الله -تعالى- لا يعذبه عذاب من قامت عليه الحجة، وجحدها، ولا عذاب من تولى، وأعرض عن آياتها. 8 في هذه المسألة نظر، وقد اختلف فيها كبار علماء نجد المعاصرون في مجلس الإمام عبد العزيز بن فيصل آل سعود الملك بمكة المكرمة فكانت الحجة للشيخ عبد الله بن بليهد بأن العبرة بفهم الحجة لا بمجرد بلوغها من غير فهم، وأورد لهم نصا صريحا في هذا من كلام المحقق ابن القيم -رحمه الله تعالى- فقنعوا به. وسيأتي تحقيق المسألة في مواضع أخرى.

التي تخفى على كثير من الناس، وليس فيها مناقضة للتوحيد والرسالة كالجهل ببعض الصفات. [مسائل من الكفر يجهلها كثير من العوام] وأما الأمور التي هي مناقضة للتوحيد والإيمان بالرسالة فقد صرح -رحمه الله تعالى- في مواضع كثيرة بكفر أصحابها وقتلهم بعد الاستتابة، ولم يعذرهم بالجهل مع أنا نتحقق أن سبب وقوعهم في تلك الأمور إنما هو الجهل بحقيقتها، فلو علموا أنها كفر تخرج عن الإسلام لم يفعلوها 1. وهذا في كلام الشيخ -رحمه الله تعالى- كثير كقوله في بعض كتبه: "فكل من غلا بنبي أو رجل صالح، وجعل فيه نوعا من الإلهية، مثل أن يدعوه من دون الله، نحو أن يقول: يا فلان أغثني، أو اغفر لي، أو ارحمني، أو انصرني، او أجبرني، أو توكلت عليك، وأنا في حسبك وأنت حسبي، ونحو هذه الأقوال التي هي من خصائص الربوبية التي لا تصلح إلا لله، فكل هذا شرك وضلال يستتاب صاحبه فإن تاب وإلا قتل"*. وقال أيضا: "فمن جعل بينه وبين الله وسائط يدعوهم ويتوكل عليهم ويسألهم، كفر إجماعا".** وقال: "من اعتقد أن زيارة أهل الذمة في كنائسهم قربة إلى الله، فهو مرتد. وإن جهل أن ذلك محرم، عُرّف ذلك، فإن أصر صار مرتدا". ... وقال: "من سب الصحابة أو واحدا منهم، أو اقترن بسبه دعوى أن عليا إله أو نبي، أو أن جبريل غلط، فلا شك في كفر هذا، بل لا شك في كفر من توقف في تكفيره".**** وقال أيضا: "من زعم أن الصحابة ارتدوا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا نفرا قليلا لا يبلغون بضعة عشر، أو أنهم فسقوا، فلا ريب في كفر قائل ذلك، بل من شك في كفره فهو كافر".**** انتهى.

_ 1 فيه أن الاستتابة تتضمن إزالة الجهل لأنها تكون بإعلام فاعل ما ينافي الإيمان بأن فعله كفر يجب عليه تركه والتوبة منه، ويجب التفريق في هذا المقام بين الكافر الأصلي الذي لم يفهم حجة الإسلام وبين المسلم الذي يفعل ما ذكر من مناقضة التوحيد والإيمان بالرسل لجهله بأنه من الإسلام. وفيه تفصيل سيأتي قريبا. * انظر "الوصية الكبرى" ص 84 - 85، ومجموع الفتاوى 3/ 395. [معد الكتاب للمكتبة الشاملة] ** انظر "الواسطة بين الحق والخلق" ص 124، ومجموع الفتاوى 1/ 22. [معد الكتاب للمكتبة الشاملة] ... انظر "مختصر الفتاوى المصرية" ص 514. [معد الكتاب للمكتبة الشاملة] **** انظر "الصارم المسلول" ص 586. [معد الكتاب للمكتبة الشاملة]

[ما يعذر به الجاهل بجهله من أمور الدين واستحلال المحرمات وما لا يعذر] فانظر كيف كفر الشاك، والشاك جاهل، فلم ير الجهل عذرًا في مثل هذه الأمور 1. وقال -رحمه الله- في أثناء كلام له: "ولهذا قالوا: من عصى مستكبرًا كإبليس كفر بالاتفاق، ومن عصى مشتهيًا لم يكفر عند أهل السنة، ومن فعل المحارم مستحلًّا فهو كافر بالاتفاق ... قال: والاستحلال اعتقاد أنها حلال 2، وذلك يكون تارة باعتقاد أن الله لم يحرمها، وتارة بعدم اعتقاد أن الله حرمها، وهذا يكون لخلل في الإيمان بالربوبية أو الرسالة، ويكون جحدًا محضًا غير مبني على مقدمة، وتارة يعلم أن الله حرمها ثم يمتنع من التزام هذا التحريم ويعاند فهذا أشد كفرًا ممن قبله". انتهى.*

_ 1 علماء الأمة متفقون على أن الجهل بأمور الدين القطعية المجمع عليها التي هي معلومة منه بالضرورة كالتوحيد، والبعث وأركان الإسلام وحرمة الزنى والخمر ليس بعذر للمقصر في تعلمها مع توفر الدواعي. وأما غير المقصر كحديث العهد بالإسلام، والذي نشأ في شاهق جبل مثلا أي حيث لا يجد من يتعلم منه، فهو معذور. وهم متفقون أيضا على عذر العوام بجهل المسائل الاجتماعية غير المعلومة بالضرورة، ويمثلون بها في الكتب المختلفة بكون بنت الابن إذا وجدت مع بنت الصلب فإنها ترث الثلث تكملة للثلثين في قوله -تعالى- "فإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان مما ترك"، وهذا التفصيل هو الذي يظهر به كلام شيخ الإسلام في المواضع المختلفة، وفي معناه ما يذكره المؤلف قريبا من نص السلف والأئمة وما ذكرناه أوضح. 2 هذا التفسير للاستحلال هو الذي تلقيناه عن المشايخ فيكون داخلا في عموم عدة المذكورة آنفا فيما يعذر بجهله، وما لا يعذر وهو قسمان فقط: عدم اعتقاد الحكم أو اعتقاد خلافه. وأما القسم الثالث وهو عدم التزام التحريم مع العلم به فلا يدخل في التفسير المذكور للاستحلال، ولكنه هو المعنى المتبادر منه فيما يعد كفرا مطلقا. فالمستحل للحرام الذي أطلقوا القول بكفره هو من يعلم أنه حرام، ولا يذعن لما جاء به الشرع من تحريمه. وشرط صحة الإيمان الذي هو الاعتقاد: الإذعان النفسي الذي هو مفهوم الإسلام وهو الذي يقتضي العمل عند عدم المانع. وأما الاستحلال بالمعنى الأول فلا يعد كفرا مطلقا، بل هو جهل يزول بالعلم. والمتأول به لما يحتمل التأويل معذور باتفاق العلماء، ومنه ما يأتي قريبا من استحلال بعض الصحابة الخمر للمؤمن الصالح التقي. * انظر "الصارم المسلول" ص 521. [معد الكتاب للمكتبة الشاملة]

وكلامه -رحمه الله- في مثل هذا كثير، فلم يخص التكفير بالمعاند مع القطع بأن أكثر هؤلاء جهال لم يعلموا أن ما قالوه، أو فعلوه كفر، فلم يعذروا بالجهل في مثل هذه الأشياء، لأن منها ما هو مناقض للتوحيد الذي هو أعظم الواجبات، ومنها ما هو متضمن معارضة الرسالة ورد نصوص الكتاب والسنة الظاهرة المجمع عليها بين علماء السلف. وقد نص السلف والأئمة على تكفير أناس بأقوال صدرت منهم مع العلم أنهم غير معاندين، ولهذا قال الفقهاء -رحمهم الله تعالى-: من جحد وجوب عبادة من العبادات الخمس، أو جحد حل الخبز ونحوه، أو جحد تحريم الخمر ونحوه، أو شك في ذلك ومثله لا يجهله كفر، وإن كان مثله يجهله عُرف ذلك، فإن أصر بعد التعريف كفر وقتل، ولم يخصوا الحكم بالمعاند. وذكروا في باب حكم المرتد أشياء كثيرة -أقوالا وأفعالا- يكون صاحبها بها مرتدا، ولم يقيدوا الحكم بالمعاند. وقال الشيخ أيضًا: "لما استحل طائفة من الصحابة والتابعين الخمر كقدامة وأصحابه، وظنوا أنها تباح لمن آمن وعمل صالحًا على ما فهموه من آية المائدة 1، اتفق علماء الصحابة كعمر وعلي وغيرهما على أنهم يستتابون، فإن أصروا على الاستحلال كفروا، وإن أقروا به جلدوا، فلم يكفروهم بالاستحلال ابتداء لأجل الشبهة حتى يبين لهم الحق، فإن أصروا كفروا".* وقال أيضًا: "ونحن نعلم بالضرورة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يشرع لأمته أن يدعوا أحدًا 2 من الأحياء والأموات -لا الأنبياء ولا غيرهم- لا بلفظ الاستغاثة ولا بلفظ الاستعانة ولا بغيرهما، كما أنه لم يشرع لهم السجود لميت ولا إلى ميت

_ 1 يعني آية {ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات} إلخ. * من "الرد على البكري" 2/ 492 - 493. [معد الكتاب للمكتبة الشاملة] 2 يعني دعاء العبادة، وهو طلب ما لا يقدر عليه الناس بكسبهم المراد بقوله -تعالى-: {فلا تدعوا مع الله أحدًا}.

ونحو ذلك. بل نعلم أنه نهى عن ذلك كله، وأنه من الشرك الذي حرمه الله ورسوله، لكن لغلبة الجهل وقلة العلم بآثار الرسالة في كثير من المتأخرين، لم يمكن تكفيرهم بذلك حتى يبين لهم ما جاء به الرسول". انتهى.* فانظر إلى قوله: "لم يمكن تكفيرهم حتى يبين لهم ما جاء به الرسول"، ولم يقل حتى يتبين لهم 1 وتتحقق منهم المعاندة بعد المعرفة. وقال أيضا لما أنجز كلامه في ذكر ما عليه كثير من الناس من الكفر والخروج عن الإسلام قال: "وهذا كثير غالب لا سيما في الأعصار والأمصار التي تغلب فيها الجاهلية والكفر والنفاق، فلهؤلاء من عجائب الجهل والظلم والكذب والكفر والنفاق والضلال ما لا يتسع لذكره المقال. وإذا كان في المقالات الخفية فقد يقال: إنه فيها مخطيء ضال لم تقم عليه الحجة التي يكفر صاحبها، لكن ذلك يقع في طوائف منهم في الأمور الظاهرة التي يعلم الخاصة والعامة من المسلمين أنها من دين الإسلام، بل اليهود والنصارى والمشركون يعلمون أن محمدا صلى الله عليه وسلم بعث بها وكفر من خالفها، مثل أمره بعبادة الله وحده لا شريك له، ونهيه عن عبادة أحد سوى الله من الملائكة والنبيين أو غيرهم، فإن

_ * انظر "الرد على البكري" 2/ 731. [معد الكتاب للمكتبة الشاملة] 1 في هذا أن الله -تعالى- قال: {ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم} والدعوة الصحيحة إنما تكون بالآيات والبينات، والغرض من بيان الآيات أن تتبين لمن توجه إليهم كما قال -تعالى-: {سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق}. وهذه المسائل التي قال فيها شيخ الإسلام أن الجاهل لها لا يمكن الحكم بكفره فيها "حتى يبين له ما جاء به الرسول" لا يحتاج المسلم الجاهل في تبينها إلا إلى بيانها. أعنى أنه لما كان مؤمنا برسالة الرسول كان مقتضى هذا الإيمان أن يقبل كل ما علم أنه من الدين الذي جاء به، ولا يتحقق بيانه إلا بما يفهمه بحسب لغته ودرجة فهمه، فذكر النص العربي للجاهل العجمي لا يعد بيانا له، وكذلك ذكره للعربي العامي بألفاظ غريبة، أو اصطلاحية لا يفهمها.

هذا أظهر شعائر الإسلام، ومثل معاداة اليهود والنصارى والمشركين، ومثل تحريم الفواحش والربا والخمر والميسر ونحو ذلك، ثم تجد كثيرا من رؤوسهم وقعوا في هذه الأنواع فكانوا مرتدين، وإن كانوا قد يتوبون من ذلك أو يعودون ... إلى أن قال: وبلغ من ذلك أن منهم من يصنفون في دين المشركين والردة عن الإسلام كما صنف الرازي كتابه في عبادة الكواكب، وأقام الأدلة على حسن ذلك ومنفعته، ورغب فيه 1، وهذه ردة عن الإسلام باتفاق المسلمين، وإن كان قد يكون تاب عنه وعاد إلى الإسلام". انتهى.* فانظر إلى تفريقه بين المقالات الخفية والأمور الظاهرة، فقال في المقالات الخفية التي هي كفر قد يقال: إنه فيها مخطئ ضال لم تقم عليه الحجة التي يكفر صاحبها، ولم يقل ذلك في الأمور الظاهرة. فكلامه ظاهر في الفرق بين الأمور الظاهرة والخفية، فيكفر بالأمور الظاهر حكمها مطلقا، وبما يصدر منها من مسلم جهلا، كاستحلال محرم، أو فعل، أو قول شركي بعد التعريف، ولا يكفر بالأمور الخفية جهلا كالجهل ببعض الصفات فلا يكفر الجاهل بها مطلقا 2 وإن كان داعية، كقوله للجهمية: أنتم عندي لا تكفرون

_ 1 في طبقات السبكي إنكار نسبة هذا الكتاب إليه. * مجموع الفتاوى 18/ 53 - 55. [معد الكتاب للمكتبة الشاملة] 2 الأقسام التي ذكرها ثلاثة "الأول": ما يكفر به مطلقا ولا يعذر بجهله، وهو ما عبر بالأمور الظاهر حكمها، وعبر عنه المحققون بالأمور المعلومة من الدين بالضرورة المجمع عليها، واستثنوا من عموم الإطلاق قريب العهد بالإسلام، ومن نشأ بعيدا عن المسلمين الذين يمكنه التعلم منهم، ومنه أن تقنع رجلا كافرا في بلاد الكفر بتوحيد الله ورسالة محمد -صلى الله عليه وسلم- وما جاء به من البعث والجزاء. ويموت قبل أن تتمكن من تعليمه شرائع الإسلام، أو تعلمه بعضها كالصلاة والصيام دون بعض، وتتركه، وتسافر من بلاده، فهو يعذر بجهل ما لم يعلمه من الضروريات الأخرى =

لأنكم جهال، وقوله "عندي" يبين أن عدم تكفيرهم ليس أمرا مجمعا عليه لكنه اختياره. وقوله في هذه المسألة خلاف المشهور في المذهب، فإن الصحيح من المذهب تكفير المجتهد الداعي إلى القول بخلق القرآن، أو نفي الرؤية، أو الرفض، ونحو ذلك، وتفسيق المقلد. [وجوب الاحتياط في التكفير وقصره على ما اتفق عليه] قال المجد ابن تيمية -رحمه الله-: الصحيح أن كل بدعة كفرنا فيها الداعية، فإنا نفسق المقلد فيها، كمن يقول بخلق القرآن، أو أن علم الله مخلوق، أو أن أسماءه مخلوقة، أو أنه لا يرى في الآخرة، أو يسب الصحابة تدينا، أو أن الإيمان مجرد الاعتقاد، وما أشبه ذلك، فمن كان عالما في شيء من هذه البدع يدعو إليه ويناظر، عليه فهو محكوم بكفره. نص أحمد على ذلك في مواضع. انتهى. فانظر كيف حكموا بكفرهم مع جهلهم، والشيخ 1 - رحمه الله- يختار عدم كفرهم، ويفسقون عنده. ونحوه قول ابن القيم -رحمه الله تعالى- فإنه قال: وفسق الاعتقاد كفسق أهل البدع الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر، ويحرمون ما حرم الله، ويوجبون

_ = إلى أن يتمكن من تعلمها إن علم أن هنالك أمورا أخرى لا بد له من العلم والإيمان بها. "الثاني": ما لا يكفر بجهله مطلقا، وهو الأمور الخفية من الدين، ويقال باصطلاح جمهور العلماء هي ما ليس مجمعا عليه ولا معلوما من الدين بالضرورة كالمسائل التي اختلف فيها أئمة المسلمين من تفويض وتأويل. "الثالث": ما لا يكفر به إذا فعله جاهلا إلا بعد إعلامه بحكم الله فيه، وهو المجمع عليه مما يجب عليه وجوبا عينيا بنص قطعي، وتعرض فيه الشبهة وسوء الفهم كمسألة استحلال الخمر المتقدمة، ومسألة الأعرابي الذي فهم من الخيط الأبيض والخيط الأسود في آية الصيام ظاهر اللفظ، فأعلمه النبي -صلى الله عليه وسلم- أن المراد بهما الليل والنهار، وهنالك قسم رابع وهو المسائل الاجتهادية التي ليس فيها نص قطعي الرواية والدلالة. فهذه يعذر فيها كل مجتهد باجتهاده. 1 يعني شيخ تقي الدين ابن تيمية. وقاعدة الشيخ محمد بن عبد الوهاب عدم التكفير بما اختلف فيه العلماء فهو على رأي الشيخ تقي الدين في هذه المسألة.

ما أوجب الله، ولكن ينفون كثيرا مما أثبت الله ورسوله جهلا وتأويلا وتقليدا للشيوخ، ويثبتون ما لم يثبته الله ورسوله كذلك، وهؤلاء كالخوارج المارقة وكثير من الروافض والقدرية والمعتزلة وكثير من الجهمية الذين ليسوا غلاة في التجهم. وأما غلاة الجهمية فكغلاة الرافضة 1 ليس للطائفتين في الإسلام نصيب، ولذلك أخرجهم جماعة من السلف من الثنتين والسبعين فرقة، وقالوا: هم مباينون للملة. انتهى. وبالجملة فيجب على من نصح نفسه أن لا يتكلم في هذه المسألة إلا بعلم وبرهان من الله، وليحذر من إخراج رجل من الإسلام بمجرد فهمه، واستحسان عقله، فإن إخراج رجل من الإسلام، أو إدخاله فيه أعظم أمور الدين، وقد كفينا بيان هذه المسألة كغيرها بل حكمها في الجملة أظهر أحكام الدين. فالواجب علينا الاتباع وترك الابتداع، كما قال ابن مسعود رضي الله عنه: اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم، وأيضا فما تنازع العلماء في كونه كفرا، فالاحتياط للدين التوقف وعدم الإقدام ما لم يكن في المسألة نص صريح عن المعصوم صلى الله عليه وسلم. وقد استزل الشيطان أكثر الناس في هذه المسألة فقصر بطائفة، فحكموا بإسلام من دلت نصوص الكتاب والسنة والإجماع على كفره، وتعدى بآخرين، فكفروا من حكم الكتاب والسنة مع الإجماع بأنه مسلم. ومن العجب أن أحد هؤلاء لو سئل عن مسألة في الطهارة أو البيع، لم يفت بمجرد فهمه واستحسان عقله، بل يبحث عن كلام العلماء ويفتي بما قالوه، فكيف

_ 1 غلاة الجهمية ينكرون جميع صفات الله -تعالى- الوجودية المنصوصة في القرآن بتأويلات تتبرأ منها اللغة، وغلاة الرافضة هم الباطنية الذين ذهبوا إلى أن باطن الإسلام المقصود بالذات هو غير ظاهره الذي تناقله المسلمون بالعلم والعمل عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه، وأن الباطن الذي هو الحق يجب تلقيه عن أئمتهم المعصومين.

فائدة عظيمة من كلام مفتي الديار النجدية عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين -قدس الله سره- في موضوع التكفير المتقدم عنه

يعتمد في هذا الأمر العظيم الذي هو أعظم أمور الدين وأشدها خطرا على مجرد فهمه واستحسانه؟ فيا مصيبة الإسلام من هاتين الطائفتين، ومحنته من تينك البليتين، ونسألك اللهم أن تهدينا الصراط المستقيم، صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم. [جواز تكفير الشخص بما هو قطعي] فائدة عظيمة من كلام مفتي الديار النجدية عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين -قدس الله سره- (في موضوع التكفير المتقدم عنه) قال -رحمه الله تعالى-: وأما ما سئلت عنه من أنه هل يجوز تعيين إنسان بعينه بالكفر إذا ارتكب شيئا من المكفرات؟ فالأمر الذي دل الكتاب والسنة وإجماع العلماء عليه أنه كفر مثل الشرك بعبادة غير الله سبحانه-. فمن ارتكب شيئا من هذا النوع أو حسنه، فهذا لا شك في كفره، ولا بأس بمن تحققت منه شيئا من ذلك أن تقول كفر فلان بهذا الفعل. يبين هذا أن الفقهاء يذكرون في باب حكم المرتد أشياء كثيرة يصير بها المسلم مرتدا كافرا، ويستفتحون هذا الباب بقولهم: من أشرك بالله كفر، وحكمه أن يستتاب فإن تاب، وإلا قتل. والاستتابة إنما تكون مع معين، ولما قال بعض أهل البدع عند الشافعي: إن القرآن مخلوق، قال: كفرت بالله العظيم. وكلام العلماء في تكفير المعين كثير. وأعظم أنواع الكفر الشرك بعبادة غير الله، وهو كفر بإجماع المسلمين، ولا مانع من تكفير من اتصف بذلك كما أن من زنى قيل: فلان زان، ومن رابى قيل: فلان مراب، والله أعلم. (منقولة حرفا بحرف، وصلى الله على محمد وصحبه وسلم).

رسالة أخرى في سكوت أكثر الناس عن المنكرات، وكونه لا يعد إجماعا يحتج به على مشروعيتها

رسالة أخرى في سكوت أكثر الناس عن المنكرات {وكونه لا يعد إجماعا يحتج به على مشروعيتها؟} بسم الله الرحمن الرحيم (وبه نستعين) من علي بن عبد الله إلى الوالد المكرم عبد الله بن عبد الرحمن، سلمه الله تعالى، وأسبغ عليه نعمه. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. "وبعد": إن قال قائل: تقرون أن إجماع الأمة حجة، وأنها لا تجتمع على ضلالة، وأنتم قد خالفتم جميع العلماء من أهل الأمصار قاطبة، وادعيتم ما لم يدعيه غيركم، وأنكرتم ما لم ينكر في جميع الأرض. والإشارة هنا إلى التوحيد، وإلى ما دعا إليه الشيخ محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله تعالى-، وتكفير من أشرك بالله في ألوهيته عند المشاهد وغيرها، فما الجواب لذلك؟ أفدنا جزاك الله خيرًا جوابًا سديدًا. "فأجاب": سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. "وبعد": دعوى هذا المبطل إجماع العلماء على جواز دعاء أهل القبور، والاستغاثة بهم، والتقرب إليهم بالنذور والذبائح، فهذا كذب، وشبهته أن هذه الأمور ظاهرة في جميع الأمصار، ولم يسمعوا أن عالما أنكرها. فيقال: قد أنكرها كثير من علماء هذا الزمان، ووافق عليه خواص من علماء الحرمين واليمن، وسمعنا منهم مشافهة، ولكن الشوكة لغيرهم. وصنف فيه جماعة كالنعيمي من أهل اليمن، له مصنف في ذلك حسن، وكذلك الشوكاني ومحمد بن إسماعيل الأمير الصنعاني وغيرهم، ورأيت مصنفا لعالم من أهل جبل سليمان في

إنكار ذلك. وهذا مصداق قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين"1، وليس المراد بالظهور بالسيف بل بالحجة دائما، وبالسيف أحيانا. ولو قال هذا المجادل: إن أكثر الناس على ما يرى، لكان صادقا، وهذا مصداق الحديث "بدأ الإسلام غريبا، وسيعود غريبا كما بدأ"2. وأيضا فالبناء على القبور، وإسراجها، وتجصيصها، ظاهر غالب في الأمصار التي تعرف، مع أن النهي عن ذلك ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم، ومنصوص عليه في جميع المذاهب، فهل يمكن هذا المبطل أن يقول: إن الأمة مجمعة على جواز ذلك لكونه ظاهرا في الأمصار. والله سبحانه- إنما افترض على الخلق طاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، وأمرهم أن يردوا إلى كتابه وسنة رسوله ما تنازعوا فيه، وأجمع العلماء على أنه لا يجوز التقليد في التوحيد والرسالة. فإذا عرف أن الشرك عبادة غير الله، وعرف معنى العبادة، وأنها كل قول وعمل يحبه الله ويرضاه 3، ومن أعظم ذلك الدعاء لأنه مخ العبادة، وعلم ما يفعل عند القبور من دعاء أصحابها وسؤالهم قضاء الحاجات، وتفريج الكربات، والتقرب إليهم بالنذور والذبائح. علم أن هذا هو الشرك الأكبر الذي هو

_ 1 مسلم: الإمارة "1920" , والترمذي: الفتن "2229" , وأبو داود: الفتن والملاحم "4252" , وابن ماجه: المقدمة "10" والفتن "3952" , وأحمد "5/ 279". 2 مسلم: الإيمان "145" , وابن ماجه: الفتن "3986" , وأحمد "2/ 389". 3 يعني أن عبادة الله -تعالى- تشمل جميع الأقوال والأفعال المذكورة، وليس هذا تعريفا للعبادة بمعناها الأعم الذي يشمل عبادات الكفار كطواف المشركين بالبيت عراة، وأكثر العلماء يعرفونها بما يسمى تعريف الرسم. وأدق تعريف لها أن يقال: هي كل قول وعمل بدني، أو نفسي يوجه، ويتقرب به إلى من يعتقد فاعله أن له قدرة على النفع ودفع الضرر فوق الأسباب التي يقدر عليها البشر، إما بذاته كالرب الخالق -تعالى-، وإما بالوساطة والتأثير عنده -تعالى-. ومن الأخير قوله -تعالى- في المشركين "ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله" يعنون أن الله تعالى ينفعهم، ويدفع عنهم الضر بشفاعتهم عنده التي يدعونهم لأجلها لا لذواتهم.

عبادة غير الله، فإذا تحقق الإنسان ذلك عرف الحق، ولم يبال بمخالفة أكثر الناس، ويعتقد أن الأمة لا تجتمع على ضلالة. فإن قال هذا المجادل: إن هذه الأمور التي تفعل عند القبور جائزة شرعا، فهو محاد لله ورسوله، فإن قال: هذه الأمور ما تجوز لكنها ليست بشرك، مع دعواه أن علماء الزمان أجمعوا على ذلك، فيلزمه أن الأمة أجمعت على ضلالة، والإنسان إذا تبين له الحق لم يستوحش من قلة الموافقين وكثرة المخالفين لا سيما في هذا الزمان. وقول الجاهل: لو كان هذا حقا ما خفي على فلان وفلان، هذه دعوى الكفار في قولهم {لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ} 1، {أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا} 2. وقد قال علي رضي الله عنه "اعرف الحق تعرف أهله". وأما الذي في حيرة ولبس، فكل شبهة تروج عليه، فلو أن أكثر الناس اليوم على الحق لم يكن الإسلام غريبا، وهو والله اليوم في غاية الغربة. ولما ذكر ابن القيم -رحمه الله تعالى- الشرك وظهوره قال: فما أعز من يخلص من هذا، بل ما أعز من لا يعادي من أنكره، يعني ما أقل من لا يعادي من أنكره. وهذا قوله في زمانه، ولا يأتي زمان إلا والذي بعده شر منه كما قال النبي صلى الله عليه وسلم. وقد نقلنا في الأوراق التي كتبنا وهي عندكم طرفا من كلام العلماء في أنواع الشرك. ومن ذلك قول الشيخ تقي الدين -رحمه الله تعالى-: "من جعل الملائكة والأنبياء وسائط يدعوهم، ويتوكل عليهم، ويسألهم جلب المنافع ودفع المضار، فهو كافر بإجماع المسلمين".* انتهى. وهذا الذي يفعل عند هذه المشاهد، وهذا أظهر أمور الدين، {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} 3. نسأل الله أن يهدينا صراطه المستقيم، صراط الذين أنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين. آمين، وصلى الله على محمد.

_ 1 سورة الأحقاف آية: 11. 2 سورة الأنعام آية: 53. * انظر "الواسطة بين الحق والخلق ص 22، وهي في مجموع الفتاوى 1/ 124. [معد الكتاب للمكتبة الشاملة] 3 سورة النور آية: 40.

رسالة له أخرى في الرد على من احتج على جواز الشرك والضلال بعمل الناس وكثرة السواد

رسالة له أخرى (في الرد على من احتج على جواز الشرك والضلال بعمل الناس وكثرة السواد) بسم الله الرحمن الرحيم (رب يسر وأعن يا كريم) من عبد الله بن عبد الرحمن إلى الولدين المكرمين محمد آل عبد الله ومحمد آل عمر آل سليم زادهما الله علما وفهما، ووهب لنا ولهما حلما وحكما. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد موجب الخط إبلاغ السلام، والخط وصل -أوصلكما الله إلى كل الخير-، وكذلك الأبيات التي نقلتم كتبنا عليها ما اتسع له المحل، وبطلان ما تضمنته ظاهر، ولله الحمد ما يخفى إلا على من أعمى الله بصيرته، ولكن إذا تحققتم بقول الصادق المصدوق أن هذه الأمة تتبع اليهود والنصارى فيما أحدثوا حذو القذة بالقذة مع قوله صلى الله عليه وسلم: "بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ"1، 2، فإذا صدق الإنسان بذلك لم يستنكر 3 ما حدث من الشرك والبدع وظهور المنكرات، وتضييع شرائع الإسلام، وتعطيل حدود الله. فإذا عرف ذلك، وعلم أنه لم يضل اليهود والنصارى إلا علماؤهم، علم أن سبب ضلال هذه الأمة علماؤها كما في الحديث المشهور "علماؤهم شر من تحت أديم السماء، منهم خرجت الفتنة وفيهم تعود". وقول القائل: لو أن هذا ما يجوز، ما خفي على فلان وفلتان، فهذه شبهة باطلة. وقد روى ابن وضاح عن عمر رضي الله عنه قال: "أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بلحيتي وأنا أعرف الحزن في وجهه، فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون، فقلت: أجل

_ 1 مسلم: الإيمان "145" , وابن ماجه: الفتن "3986" , وأحمد "2/ 389". 2 سقط من الأصل جواب: إذا تحققتم إلخ، ويحتمل أن يكون استغنى عنه بجواب الشرط في الجملة التالية لهذه. 3 يعني لم يستغرب ذلك، ولا يعني أنه لا يعده منكرا.

إنا لله وإنا إليه راجعون، فما ذاك يا رسول الله؟ قال: أتاني جبريل فقال: إن أمتك مفتتنة بعد قليل من الدهر غير كثير، قلت: فتنة كفر، أم فتنة ضلالة؟ قال: كل سيكون، قلت: وأين يأتيهم ذلك وأنت تارك فيهم كتاب الله؟ قال: بكتاب الله يضلون، وذلك من قبل قرائهم وأمرائهم". قال محمد بن وضاح: الخير من بعد الأنبياء ينقص، والشر يزداد. وقال: "إنما هلكت بنو إسرائيل على يدي قرائهم وفقهائهم وستهلك هذه الأمة على يدي قرائهم وفقهائهم"، قال ابن المبارك: وهل أفسد الدين إلا الملو ... ك وأحبار سوء ورهبانها وقد أخبر الله -سبحانه- عن اليهود أنهم يحرفون الكلم عن مواضعه، أي: يتأولون كتاب الله على غير ما أراد الله، وقال: {وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} 1، وأخبر عنهم أنهم {يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا} 2، ولا بد أن يوجد في هذه الأمة من يتابعهم على ما ذمهم الله به. والإنسان إذا عرف الحق وضده، لم يبال بمخالفة من خالف كائنا من كان، ولا يكبر في صدره مخالفة عالم ولا عابد، لأن هذا أمر لا بد منه، وما أخوفني على من عاش أن يرى أمورا عظيمة لا منكر لها، والله المستعان. [الاستغاثة بغير الله تعالى شرك] "قلت": والاستغاثة بالنبي صلى الله عليه وسلم صدرت من كثير من المتأخرين ممن يشار إليه بالعلم. وقد صنف رجل يقال له ابن البكري كتابا في الاستغاثة بالنبي صلى الله عليه وسلم ورد عليه شيخ الإسلام ابن تيمية في مجلد، بين فيه بطلان ما ذهب إليه، وبين أنه من الشرك. قال الشيخ: "وقد طاف -يعني ابن البكري- على علماء مصر فلم يوافقه أحد منهم، وطاف عليهم بجوابي الذي كتبته، وطلب منهم معارضته فلم يعارضه أحد

_ 1 سورة البقرة آية: 75. 2 سورة النساء آية: 51.

منهم مع أن عند بعضهم من التعصب ما لا يخفى، ومع أن قوما كان لهم غرض وجهل بالشرع قاموا في ذلك قياما عظيما، واستعانوا بمن له غرض من ذوي سلطان، مع فرط عصبيتهم وكثرة جمعهم وقوة سلطانهم ومكايدة شيطانهم".* قال شيخ الإسلام تقي الدين -رحمه الله تعالى-: "والاستغاثة بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد موته موجودة في كلام بعض الناس، مثل يحيى الصرصري ومحمد بن النعمان، وهؤلاء لهم صلاح، لكن ليسوا من أهل العلم، بل جروا على عادة كعادة من يستغيث بشيخه عند الشدائد ويدعوه".** اهـ. والمقصود أن نوع الشرك من الاستغاثة بالنبي صلى الله عليه وسلم وغيره جرى في زمان الشيخ، والشر يزيد، لا يأتي عام إلا والذي بعده شر منه، فالله المستعان. وفي هذه الأزمنة يقال: العجب ممن نجا كيف نجا ليس العجب ممن هلك كيف هلك. وقول من يقول: استعملها من هو أعلم منا وأعرف بكلام العرب، فبئس الحجة الواهية، والله لم يأمرنا باتباع من رأيناه أعلم منا، وإنما أوجب علينا عند التنازع الرد إلى كتابه وسنة نبيه، قال -تعالى-: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} 1 خاصة في أصول الدين، فإنه لا يجوز التقليد فيها بإجماع العلماء، ولأن أدلته ولله الحمد ظاهرة، ولم يقل -سبحانه- فإن تنازعتم في شيء فاتبعوا ما عليه أكثر الناس ولا ما عليه بلد من البلدان. وأكثر الناس اليوم -خصوصا طلبة العلم- خفي عليهم الشرك، والشيخ ابن عجلان المذكور يجوز الاستغاثة بالأموات فكيف بالنبي صلى الله عليه وسلم؟ وكلامه صريح ما يحتمل تأويلا كقوله: ... ... .... ومنقذي من عذاب الله والألم نسأل الله السلامة، وابن عجلان أقل الأحوال هجره، وأما النصيحة فلا تفيد في مثله. وأمره هذا إن وصل الشيخ عبد الرحمن بن حسن، أو فيصل، أو ابن

_ * انظر "الرد على البكري" 2/ 486. [معد الكتاب للمكتبة الشاملة] ** انظر "الرد على البكري" 2/ 479. [معد الكتاب للمكتبة الشاملة] 1 سورة النساء آية: 59.

سعود الأدني فأخاف على نفسه، ولو له عقل ما أظهر هذا الأمر الذي يجر عليه شرًّا، ولكن قد أحسن القائل -رحمه الله ورضي عنه-: يا من له عقل ونور قد غدا ... يمشي به في الناس كل أوان لكننا قلنا مقالة صارخ ... في كل وقت بينكم بأذان الرب رب والرسول فعبده ... حقًّا وليس لنا إله ثان فلذاك لم نعبده مثل عبادة الر ... حمن فعل المشرك النصراني كلا، ولم نغل الغلو, كما نهى ... عنه الرسول مخافة الكفران لله حق لا يكون لغيره ... ولعبده حق, هما حقان لا تجعلوا الحقين حقًّا واحدًا ... من غير تمييز ولا فرقان فالحج للرحمن دون رسوله ... وكذا الصلاة وذبح ذي القربان وكذا السجود ونذرنا ويميننا ... وكذا متاب العبد من عصيان وكذا التوكل والإنابة والتقى ... وكذا الرجاء وخشية الرحمن وكذا العبادة واستعانتنا به ... إياك نعبد، ذاك توحيدان وعليهما قام الوجود بأسره ... دنيا وأخرى حبذا الركنان وكذا التسبيح والتكبير والتهـ ... ـليل حق إلهنا الديان لكنما التعزير والتوقير حـ ... ـق للرسول بمقتضى القرآن والحب والإيمان والتصديق لا ... يختص بل حقان مشتركان هذي تفاصيل الحقوق ثلاثة ... لا تجملوها يا أولي العدوان حق الإله عبادة بالأمر لا ... بهوى النفوس فذاك للشيطان من غير إشراك ولا شك هما ... سببا النجاة فحبذا السببان ورسوله فهو المطاع وقوله الـ ... ـمقبول إذ هو صاحب البرهان إلى آخر كلامه -رحمه الله ورضي عنه-، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين والله أعلم.

أسئلة عن أحاديث غير صحيحة وأجوبتها

أسئلة عن أحاديث غير صحيحة وأجوبتها بسم الله الرحمن الرحيم {الحمد لله وحده} [حديث "لو أن أحدكم أدلى بحبل"] سئل الشيخ علامة العصر، ونادرة الدهر، عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين -رحمة الله علينا وعليه آمين- عن حديث: "لو أن أحدكم أدلى بحبل لهبط على الله"1. فأجاب: حديث: "لو أن أحدكم أدلى بحبل لهبط على الله"2 رواه الترمذي من رواية الحسن عن أبي هريرة. وللشيخ تقي الدين -رحمه الله- على هذا الحديث كلام طويل، قال: "فإن كان ثابتا 3 فقوله: "لو أن أحدكم أدلى بحبل لهبط على الله"4 إنما هو تقدير مفروض أي: لو وقع الإدلاء لوقع عليه، لكنه لا يمكن أن يدلي أحد على الله -سبحانه وتعالى- شيئا لأنه عال بالذات. وإذا هبط شيء إلى جهة الأرض وقف في المركز من الجزء ... " إلى أن قال: "فكما أن ما يهبط إلى جوف الأرض يمتنع صعوده إلى تلك الناحية لأنها عالية، فترد الهابط بعلوها، كما أن الجهة العليا من عندنا ترد ما يصعد إليها من الثقيل، فلا يصعد الثقيل إلا برافع يرفعه يدافع به ما في قوته من الهبوط، فكذلك ما يهبط من أعلى الأرض إلى أسفلها وهو المركز، لا يصعد من هناك إلى ذلك الوجه إلا برافع يرفعه يدافع به ما في قوته من الهبوط إلى المركز. فإن قدر أن الرافع أقوى كان صاعدا به إلى الفلك من تلك الناحية، وصعد به إلى الله، وإنما يسمى هبوطا باعتبار ما في أذهان المخاطبين من أن ما يحاذي أرجلهم يكون هابطا، ويسمى هبوطا مع تسمية إهباطه إدلاء. وهو إنما يكون إدلاء حقيقيا إلى المركز، ومن هناك إنما يكون مدا للحبل والدلو، لا إدلاء له، ولكن الجزء والشرط مقدران لا محققان، فإنه قال: "لو أدلى لهبط"، أي: لو

_ 1 الترمذي: تفسير القرآن "3298" , وأحمد "2/ 370". 2 الترمذي: تفسير القرآن "3298" , وأحمد "2/ 370". 3 يعني أن الحديث ليس بثابت في نفسه؛ لأن سنده غير صحيح، ومتنه غير معقول، وإنما هو مفروض كما يفرض المحال، وكلام شيخ الإسلام فيه تراه في كتابه في العرش. 4 الترمذي: تفسير القرآن "3298" , وأحمد "2/ 370".

فرض أن هناك إدلاء لفرض أن هناك هبوطا، وهو يكون إدلاء وهبوطا إذا قدر أن السموات تحت الأرض، وهذا منتف. ولكن فائدته بيان الإحاطة والعلو من كل جانب، وهذا المفروض ممتنع في حقنا، لا نقدر عليه فلا يتصور أن ندلي، فلا يتصور أن يهبط على الله شيء، لكن الله قادر على أن يخرق من هناك بحبل لكن لا يكون في حقه إدلاء، فلا يكون في حقه هبوط عليه، كما لو خرق بحبل من القطب إلى القطب، أو من مشرق الشمس إلى مغربها، وقدرنا أن الحبل مر في وسط الأرض فإن الله قادر على ذلك كله ... " إلى أن قال: "فعلى كل تقدير قد خرق بالحبل من جانب المحيط إلى جانبه الآخر مع خرق المركز، وبتقدير إحاطة قبضته بالسموات والأرض، فالحبل الذي قدر أنه خرق به العالم وصل إليه، ولا يسمى شيئا بالنسبة إليه لا إدلاء ولا هبوطا، وأما بالنسبة إلينا فإن ما تحت أرجلنا تحت لنا، وما فوق رؤوسنا فوق لنا. وما ندليه من ناحية رؤوسنا إلى ناحية أرجلنا نتخيل أنه هابط، فإذا قدر أن أحدنا أدلى بحبل كان هابطا على ما هنالك، لكن هذا التقدير ممتنع في حقنا. والمقصود به بيان إحاطة الخالق -تعالى-، كما بين أنه يقبض السموات، ويطوي الأرض ونحو ذلك مما فيه بيان إحاطته بالمخلوقات، ولهذا قرأ في تمام هذا الحديث {هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} 1. وهذا كله كلام على تقدير صحته، فإن الترمذي لما رواه قال: وفسر بعض أهل العلم بأنه هبط على علم الله". ثم قال الشيخ: "وتأويله بالعلم تأويل ظاهر الفساد، قال: وبتقدير ثبوته يكون دالا على الإحاطة، والإحاطة قد علم أن الله قادر عليها، وعلم أنها تكون يوم القيامة بالكتاب والسنة. فليس في إثباتها في الجملة ما يخالف العقل ولا الشرع، لكن لا نتكلم إلا بما نعلم، وما لم نعلم أمسكنا عنه".*

_ 1 سورة الحديد آية: 3. * الرسالة العرشية ص 27 - 29، وهي في مجموع الفتاوى 6/ 571 - 574. [معد الكتاب للمكتبة الشاملة]

قول بعضهم: الجمعة خلف غير المتزوج لا تصح. وإتمام التراويح 20 ركعة

[أحاديث ليس لها أصل] وأما من روى أن الزيدية مجوس هذه الأمة، فلا شك أن هذا كذب وإنما المروي: "القدرية مجوس هذه الأمة". وحديث: "القرآن كلام الله" ... إلخ، ليس له أصل عن النبي صلى الله عليه وسلم. وحديث: "تارك الصلاة" ... إلخ، ما له أصل. وحديث ابن عطاء الله ما ذكر ما أظن له أصلا، ولا ينبغي التحديث بهذا وأشباهه. وحديث: "الحديث في المسجد" ... إلخ ما علمت له أصلا. والله -سبحانه أعلم-. [قول بعضهم: الجمعة خلف غير المتزوج لا تصح. وإتمام التراويح 20 ركعة] (مسألة): في قول بعض الناس ما تصح الجمعة خلف إمام لم يتزوج، وكذلك قول بعضهم في التراويح يجب إتمام عشرين ركعة، ما الصحيح؟ أفتونا مأجورين. (الجواب): الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده. (وبعد)، فصلاتكم التراويح أقل من العشرين فلا بأس، والصحابة -رضي الله عنهم- منهم من يقل، ومنهم من يكثر، والحد المحدود لا نص عليه من الشارع صحيح. وأما صلاتكم الجمعة خلف الإمام الذي ما تزوج فليس الزواج بشرط، وإنما الشرط البلوغ والاستيطان. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وصلى الله على محمد وآله وصحبه. (الكلام على إعادة الروح إلى الميت في قبره وقت السؤال) بسم الله الرحمن الرحيم قال ابن القيم في كتاب الروح: [إعادة الروح إلى الميت في قبره وقت السؤال] (فصل): وأما المسألة السادسة وهي أن الروح هل تعاد إلى الميت في قبره وقت السؤال أم لا تعاد؟ فقد كفانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر هذه المسألة فأغنانا عن أقوال الناس، حيث صرح بإعادة الروح إليه. فقد قال البراء بن عازب رضي الله عنه: كنا في جنازة في بقيع الغرقد، فأتانا النبي صلى الله عليه وسلم فقعد وقعدنا حوله ... إلى أن

قال في آخر الحديث: "حتى ينتهوا بها إلى السماء الدنيا فيستفتحون له، فيفتح له، فيشيعه من كل سماء مقربوها إلى التي تليها، حتى ينتهي بها إلى السماء التي يسمع فيها الخطاب 1، فيقول الله عز وجل: اكتبوا كتاب عبدي في عليين، وأعيدوه إلى الأرض" إلخ الحديث. ووجدت في كلام القرطبي تعليقا على هذا الحديث. قال القرطبي في تذكرته: قوله صلى الله عليه وسلم "حتى ينتهي بها إلى السماء التي فيها الله -تعالى-"2 المعنى أمر الله وحكمه، وهي السماء السابعة التي عندها سدرة المنتهى التي إليها يصعد ما يعرج به من الأرض، ومنها يهبط ما ينْزل به منها، كذا في صحيح مسلم من حديث الإسراء 3. وفي حديث البراء: "أنه ينتهي بها إلى السماء السابعة"4. وقد كنت تكلمت مع بعض أصحابنا القضاة ممن له علم وبصر، ومعنا جماعة من أهل النظر والاجتهاد فيما ذكر أبو عمر بن عبد البر في قوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} 5، فذكرت له هذا الحديث فما كان إلا أن بادر إلى عدم صحته، ولعن رواته، وبين أيدينا رطب نأكله. فقلت له: الحديث صحيح خرجه ابن ماجه في السنن، ولا ترد الأخبار بمثل هذا القول، بل تتأول، وتحمل على ما يليق من التأويل، والذين رووها هم الذين رووا لنا الصلوات الخمس وأحكامها، فإن صدقوا هنا صدقوا هناك، وإن كذبوا هنا كذبوا هناك، ولا تحصل الثقة بأحد منهم فيما يرويه. إلى هنا من التذكرة للقرطبي. * * * ووجدت بخط شيخنا معلقا على هذا الحديث: والهامش المنسوب للتذكرة: يا عجبا لمحرف حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ومغير ألفاظه، كيف يصف رسول الله

_ 1 بهامش الأصل: لفظ الحديث "حتى ينتهي إلى السماء التي فيها الله". 2 ابن ماجه: الزهد "4262" , وأحمد "2/ 364". 3 قول القرطبي هذا إنما هو على رأي المؤولين من المتأخرين، لا على مذهب السلف. 4 أحمد "4/ 287". 5 سورة طه آية: 5.

صلى الله عليه وسلم ربه بأنه في السماء كما في حديث البراء المذكور. وكذلك حديث أبي هريرة الموافق لحديث البراء في إثبات وصف الله -سبحانه- بأنه في السماء، وكذلك حديث الرقية المرفوع في سنن أبي داود: "ربنا الله الذي في السماء"1 وكذلك قوله للجارية: أين الله؟ قالت: في السماء، فهذا أعلم الأمة بربه وأخشاهم له يصف ربه بأنه في السماء، ويشهد لمن وصفه بذلك بالإيمان. ونقل الصحابة ألفاظه للتابعين، ونقلها التابعون، وبلغوها لمن بعدهم، وتداولها أهل الحديث وأئمة الإسلام، وأثبتوها في كتبهم، وأقروها على ظاهرها، وقالوا أمروها كما جاءت، وقالوا: تفسيرها قراءتها، فلما لم يتسع عطن هذا المعطل، لذلك حمله تعطيله وجهله على أن غير لفظ رسول الله صلى الله عليه وسلم وحرفه، ولم يكفه تغيير معناه مع إقرار لفظه كما يفعله كثير، كقول القرطبي في تأويل هذا الحديث. فلهذا المحرف أوفر نصيب من مشابهة اليهود الذين يحرفون الكلم عن مواضعه، ففيه تصديق قوله صلى الله عليه وسلم "لتتبعن سنن من كان قبلكم"2. [رد تأويل من أوّل "أن الله في السماء" وحقيقة معناها] وأما تأويل من تأول كونه في السماء بأن أمره وحكمه ونحو ذلك، فهذا تأويل باطل قطعا، فإن أمره وحكمه لا يختص بسماء دون سماء، ولا بالسماء دون الأرض، وأيضا فيكفي في بطلانه أن القرون المفضلة أقروا هذه الأحاديث على ظاهرها، وكذلك سائر آيات الصفات وأحاديثها. وأنكروا على من تأولها بنحو هذه التأويلات وبدعوهم، فإجماعهم على الإضراب عن تأويلها، وتبديعهم من تأولها، دليل قاطع على بطلان هذه التأويلات. ومن توهم من قوله: "إنه -سبحانه- في السماء"، أنه سبحانه في داخل السموات فهو جاهل ضال، وليس هذا بمراد من اللفظ، ولا ظاهر فيه. إذ السماء يراد بها العلو، فكل ما علا فهو سماء، سواء كان فوق الأفلاك، أو تحتها كما قال -تعالى-: {فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إلي السَّمَاءِ} 3.

_ 1 أبو داود: الطب "3892". 2 البخاري: أحاديث الأنبياء "3456" , ومسلم: العلم "2669" , وأحمد "3/ 84 ,3/ 89 ,3/ 94". 3 سورة الحج آية: 15.

فلما كان قد استقر في نفوس المخاطبين أن الله هو العلي الأعلى، وأنه فوق كل شيء، كان المفهوم من قوله: "إنه في السماء"، أنه في العلو، وأنه فوق كل شيء. وإذا قيل العلو فإنه يتناول ما فوق المخلوقات كلها، فما فوقها كلها هو في السماء، ولا يقتضي هذا أن يكون هناك ظرف وجودي يحيط به، إذ ليس فوق العالم موجود إلا الله، وإن قدر أن السماء المراد بها الأفلاك، كان المراد أنه عليها كما قال: {لأصلبنكم في جذوع النخل} 1 وكما قال: {فسيروا في الأرض} 2، وكما قال: {فسيحوا في الأرض} 3، ويقال: فلان في الجبل وفي السطح، وإن كان على أعلى شيء فيه. [ليس معنى قوله: "إن الله في السماء" أن السماء تحويه] ومن فهم من قول النبي صلى الله عليه وسلم أن الله في السماء أن هناك ظرفا يحيط به، فهذا فهم فاسد. فإذا كانت السموات السبع بالنسبة إلى الكرسي كسبعة دراهم في ترس، والكرسي في العرش كحلقة في فلاة، والعرش مخلوق، فكيف يتوهم هذا في الخالق -جل وعز- الذي يطوي السموات بيمينه، والأرض بيده الأخرى؟ والله -سبحانه- أعظم وأكبر وأجل من كل شيء {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} 4. قال ابن عباس: ما السموات السبع في كف الرحمن إلا كخردلة في يد أحدكم. فلما كان هذا مستقرا في نفوس المخاطبين، كان المفهوم عندهم من كونه -سبحانه- في السماء أن المراد بذلك العلو الذي هو ضد السفل، وأنه فوق كل شيء عال على كل شيء. ومن توهم من وصف الله -سبحانه- بأنه في السماء أن السماء تحيط به، وتحويه، فهو ضال إن اعتقده في ربه، وكاذب إن نقله عن غيره. ولو سئل سائر المسلمين هل تفهمون من قول النبي صلى الله عليه وسلم أن الله في السماء أن السماء تحويه، لبادر كل أحد منهم إلى أن يقول: هذا شيء لعله لم يخطر ببالنا، وإذا كان الأمر هكذا، فمن التكلف أن يجعل ظاهر اللفظ شيئا لا يفهمه الناس منه، بل هو محال عندهم، ثم يريد أن يتأوله؛ بل عند المسلمين أن الله في السماء وهو على

_ 1 سورة طه آية: 71. 2 سورة آل عمران آية: 137. 3 سورة التوبة آية: 2. 4 سورة الشورى آية: 11.

بيان الربا وما يعمله الناس اليوم من الحيل ليصلوا به إلى الربا، ومسائل أخرى في الديون وغيرها

العرش واحد، إذ السماء إنما يراد بها العلو، فالمعنى أن الله في العلو لا في السفل. ومن ظن أن ظاهر قوله أن الله في السماء أن السماء تحيط به، وتحويه فقد ظن برسول الله صلى الله عليه وسلم ما لا يليق به من كونه يخاطب أمته بما ظاهره كفر وضلال، ويشهد لمن قال ذلك بالإيمان، ولم يقل مرة واحدة: لا تعتقدوا ظواهر ما أحدثكم به في صفات ربكم، بل تأولوها، واعتقدوا فيها كذا وكذا، وإن ظاهرها غير مراد. فإنهم كانوا لا يفهمون من ظاهرها إلا ما هو حق، وهو أنه -سبحانه- فوق كل شيء عال على كل شيء، مستو على عرشه، بائن من خلقه، لا يشبهه شيء لا في ذاته ولا في صفاته {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} 1. والله أعلم، وصلى الله على محمد وصحبه وسلم. {بيان الربا وما يعمله الناس اليوم من الحيل ليصلوا به إلى الربا 2} * [ومسائل أخرى في الديون وغيرها] [ما يعمله الناس من الحيل للوصول إلى الربا] "مسألة"**: في تحريم الربا، وما يفعل من المعاملات بين الناس اليوم؛ ليتوصلوا به إلى الربا. وإذا حل الدين يكون المديون معسرا فيقلب الدين في معاملة أخرى بزيادة مال، وما يلزم ولاة الأمور في هذا،؟ وهل يرد على صاحب المال رأس ماله دون ما زاد في معاملة الربا؟ "الجواب": المراباة حرام بالكتاب والسنة والإجماع "وقد لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه والمحلل والمحلل له"3 قال الترمذي: حسن صحيح، فالاثنان ملعونان. وكان أصل الربا في الجاهلية أن الرجل يكون له على الرجل المال المؤجل، فإذا حل الأجل، قال له: أتقضي، أم تربي؟ فإن وفاه، وإلا زاد هذا في الأجل، وزاد

_ 1 سورة الشورى آية: 11. 2 هذه المسائل غير منسوبة لأحد، والظاهر أنها للشيخ عبد الله -رحمه الله-. "انتهى من الأصل". * تتبعت هذه المسائل "غير المنسوبة لأحد" وعددها ستة، فوجدتها كلها لشيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-، وأنبه هنا إلى أن جامع كتاب "الدرر السنية في الأجوبة النجدية" قد اجتهد فأورد هذه المسائل منسوبة للشيخ عبد الله بن الإمام محمد بن عبد الوهاب في مواضع مختلفة من كتابه. [معد الكتاب للمكتبة الشاملة] ** هذه المسألة أوردها الشيخ عبد الرحمن بن حسن من قبل منسوبة لشيخ الإسلام ابن تيمية في 1/ 381، ثم تكررت في 2/ 1/ 43، وهي في "مجموع الفتاوى" 29/ 418. وقد أوردها جامع "الدرر السنية في الأجوبة النجدية" 6/ 91 منسوبة للشيخ عبد الله بن الإمام محمد بن عبد الوهاب، وهو غلط، فليصحح. [معد الكتاب للمكتبة الشاملة] 3 أحمد "1/ 158".

هذا في المال، فيتضاعف المال، والأصل واحد، وهذا الربا حرام بإجماع المسلمين. وأما إذا كان هذا هو المقصود، ولكن توصلوا بمعاملة أخرى، فهذا تنازع فيه المتأخرون من المسلمين. وأما الصحابة فلم يكن منهم نزاع أن هذا محرم؛ فإن الأعمال بالنيات، والآثار عنهم بذلك كثيرة مشهورة. والله -تعالى- حرم الربا لما فيه من ضرر المحتاجين، وأكل المال بالباطل، وهذا موجود في المعاملات الربوية. وإذا حل الدين، وكان الغريم معسرا لم يجز بإجماع المسلمين أن يلزم لقلب لا بمعاملة ولا غيرها، بل يجب إنظاره، وإن كان موسرا كان عليه الوفاء فلا حاجة إلى القلب لا مع يساره ولا مع إعساره. والواجب على ولاة الأمور بعد تعزير المتعاملين بالمعاملة الربوية بأن يأمروا المدين أن يؤدي رأس المال، ويسقط الزيادة الربوية، فإن كان معسرا وله مغلات يوفي منها، وفى دينه منها بحسب الإمكان، والله أعلم. [إبطال مسألة التورق لإفضائها إلى الربا] "مسألة"*: في رجل عليه دين يحتاج إلى بضاعة، أو حيوان ينتفع به أو يتاجر، فيطلبه من إنسان دينا فلم يكن عنده، هل للمطلوب أن يشتريه، ثم يدينه له بثمن إلى أجل؟ وهل له أن يوكله في شرائه، ثم يبيعه له بعد ذلك بربح اتفقا عليه قبل الشراء؟ "الجواب": من كان له عليه دين فإن كان موسرا وجب عليه أن يوفيه، وإن كان معسرا وجب إنظاره، ولا يجوز قلبه عليه بمعاملة ولا غيرها. وأما البيع إلى أجل ابتداء، فإن كان مقصود المشتري الانتفاع بالسلعة أو التجارة فيها جاز إذا كان على الوجه المباح. وأما إذا كان مقصوده الدراهم فيشتريها بمائة مؤجلة، ويبيعها في السوق بسبعين

_ * هذه المسألة من فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، وهي في "مجموع الفتاوى" 29/ 303. وقد أوردها جامع "الدرر السنية في الأجوبة النجدية" 6/ 31 منسوبة للشيخ عبد الله بن الإمام محمد بن عبد الوهاب، وهو غلط، فليصحح. [معد الكتاب للمكتبة الشاملة]

حالة، فهذا مذموم منهي عنه في أظهر قولي العلماء، وهذا يسمى التورق، قال عمر ابن عبد العزيز: التورق أخية الربا، والله أعلم. [بيع الرهن] "مسألة"*: فيمن له على شخص دين، ورهن عليه رهنا، والدين حال، ورب الدين محتاج إلى دراهمه فهل يجوز له بيع الرهن أم لا؟ "الجواب": إذا كان أذن له في البيع جاز، وإلا باع الحاكم إن أمكن، ووفاه حقه منه. ومن العلماء من يقول: إذا تعذر ذلك، دفعه إلى ثقة يبيعه، ويحتاط بالإشهاد على ذلك، واستوفى حقه منه، والله أعلم. [إطالة المدة في البينة] "مسألة"**: في رجل ادعى على رجل دعاوى، ولم يعترف الغريم بشيء، وخرج المدعي على أن يقيم بينة، واعتقل المدعى عليه، ولم يقم بينة بعد أربعة أيام أو خمسة، فهل يجوز تطاول المدة في البينة، أم تكون هذه البينة إلى مدة؟. "الجواب": لا يجوز مثل هذا الحبس كما ذكر، بل قد نص أئمة المذاهب الأربعة أنه لا يجوز مثل هذا الحبس، وإنما تنازعوا هل يطلب من المدعى عليه كفيلا إلى ثلاثة أيام ونحوها، إذا قال المدعي: لي بينة حاضرة، وتنازعوا فيما إذا أقام حجة شرعية، ولها شرط مثل أن يقيم بينة ولم يذكرها، فيطلب حبس الخصم حتى يأتي بشرطها، على قولين في مذهب أحمد والشافعي وغيرهما. فأما هذا الحبس فلا يجوز باتفاق العلماء فيما أعلم، والله -سبحانه- أعلم. [إبراء الزوجة زوجها من الصداق] "مسألة" ... : في امرأة لها زوج، ولها عليه صداق، فلما حضرتها الوفاة أحضرت شاهد عدل، وجماعة نسوة، وأشهدت على نفسها أنها أبرأت زوجها من صداقها، فهل يصح هذا الإبراء أم لا؟

_ * هذه المسألة من فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، وهي في "مجموع الفتاوى" 29/ 538. وقد أوردها جامع "الدرر السنية في الأجوبة النجدية" 6/ 247 منسوبة للشيخ عبد الله بن الإمام محمد بن عبد الوهاب، وهو غلط، فليصحح. [معد الكتاب للمكتبة الشاملة] ** هذه المسألة من فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، انظر مختصرها في "مختصر الفتاوى المصرية" ص 609، وضمت إلى "المستدرك على مجموع الفتاوى" 5/ 164. وقد أوردها جامع "الدرر السنية في الأجوبة النجدية" 7/ 566 منسوبة للشيخ عبد الله بن الإمام محمد بن عبد الوهاب، وهو غلط، فليصحح. [معد الكتاب للمكتبة الشاملة] ... هذه المسألة من فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، وهي في "مجموع الفتاوى" 31/ 293، وقد أوردها جامع "الدرر السنية في الأجوبة النجدية" 7/ 103 منسوبة للشيخ عبد الله بن الإمام محمد بن عبد الوهاب، وهو غلط، فليصحح. [معد الكتاب للمكتبة الشاملة]

"الجواب": إن كان الصداق ثابتا عليه إلى أن مرضت مرض الموت، لم يصح ذلك إلا بإجازة بقية الورثة. وأما إن كانت أبرأته في الصحة جاز ذلك، وثبت بشاهد ويمين عند مالك والشافعي وأحمد؛ ويثبت أيضا بشهادة امرأتين ويمين عند مالك، وقول في مذهب أحمد. وإن أقرت في مرضها أنها أبرأته في الصحة، لم يقبل هذا الإقرار عند أبي حنيفة وأحمد وغيرهما، ويقبل عند الشافعي. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث"1، وليس للمريض أن يخص الوارث بأكثر مما أعطاه الله، والله أعلم. [تكليم الله لموسى بغير واسطة] "مسألة"*: في رجلين تنازعا، فقال أحدهما: إن الله كلم موسى تكليما سمعته أذناه ووعاه قلبه، وإن الله كتب التوراة بيده، وناولها من يده إلى يده إلى موسى. وقال الآخر: إن الله كلم موسى بواسطة، وإن الله لم يكتب التوراة بيده، ولم يناولها من يده إلى يده. "الجواب": القائل الذي قال: إن الله كلم موسى تكليما كما أخبر في كتابه فمصيب، وأما الذي قال: كلم الله موسى بواسطة، فهذا ضال مخطيء؛ بل نص الأئمة على أن من قال ذلك فإنه يستتاب، فإن تاب، وإلا قتل، فإن هذا إنكار لما قد علم بالاضطرار من دين الإسلام، ولما ثبت بالكتاب والسنة والإجماع. قال -تعالى-: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} 2 الآية، ففرق بين تكليمه من وراء حجاب كما كلم موسى، وبين تكليمه بواسطة رسول كما أوحى إلى غير موسى. قال -تعالى-: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ} 3 إلى قوله: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} 4. والأحاديث بذلك كثيرة في الصحيحين والسنن. وفي الحديث المحفوظ عن النبي صلى الله عليه وسلم: "التقى آدم وموسى، قال آدم: أنت

_ 1 الترمذي: الوصايا "2121" , والنسائي: الوصايا "3641" , وابن ماجه: الوصايا "2712" , وأحمد "4/ 187 ,4/ 238 ,4/ 239" , والدارمي: الوصايا "3260". * هذه المسألة من فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، وهي في "مجموع الفتاوى" 29/ 538. وقد أوردها جامع "الدرر السنية في الأجوبة النجدية" 3/ 30 منسوبة للشيخ عبد الله بن الإمام محمد بن عبد الوهاب، وهو غلط، فليصحح. [معد الكتاب للمكتبة الشاملة] 2 سورة الشورى آية: 51. 3 سورة النساء آية: 163. 4 سورة النساء آية: 164.

موسى الذي كلمك الله تكليما، لم يجعل بينك وبينه رسولا من خلقه"1. وسلف الأمة وأئمتها كفروا الجهمية الذين قالوا: إن الله خلق كلاما في بعض الآجام 2 سمعه موسى، وفسر التكليم بذلك. وأما قوله: إن الله كتب التوراة بيده فهذا قد روي في الصحيحين، فمن أنكر ذلك فهو مخطيء ضال، وإذا أنكره بعد معرفته بالحديث الصحيح، فإنه يستحق العقوبة. وأما قوله: ناولها بيده إلى يده، فهذا مأثور عن طائفة من التابعين، وهو كذلك عند أهل الكتاب، لكن لا أعلم هذا اللفظ مأثورًا عن النبي صلى الله عليه وسلم. فالمتكلم به إن أراد ما يخالف ذلك، فقد أخطأ، والله -سبحانه وتعالى- أعلم. تمت بقلم الفقير إلى الله -تعالى- عبد الرحمن بن عبد العزيز بن صعب، غفر الله له ولوالديه ومشايخه وإخوانه وجميع المسلمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

_ 1 أبو داود: السنة "4702". 2 جمع أجمة وهي الشجر الكثير الملتف.

المسائل الحفظية: نصيحة في تعلم التوحيد والطريق إليه، وبيان ما يجب على أهل القرى من حق الضيف، وحق الإمام في زكاة النقدين، والعمل بظاهر الأحاديث

{المسائل الحفظية} نصيحة في تعلم التوحيد والطريق إليه (وبيان ما يجب على أهل القرى من حق الضيف، وحق الإمام في زكاة النقدين، والعمل بظاهر الأحاديث) بسم الله الرحمن الرحيم من حسين وعبد الله ابني الشيخ محمد بن عبد الوهاب إلى جناب الأخ في الله محمد بن أحمد الحفظي -سلمه الله تعالى- من الآفات، واستعمله بالباقيات الصالحات. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. "أما بعد": فإنا نحمد الله إليك الذي لا إله إلا هو، وهو للحمد أهل، وهو على كل شيء قدير، والصلاة والسلام على نبيه وحبيبه محمد البشير النذير، وعلى آله وأصحابه أولي الفضل الشهير، والعلم المستطير. وقد وصل إلينا كتابك، وفهمنا ما حواه من حسن خطابك، وتذكر أنك على هذا الدين الذي نحن عليه من إخلاص الدين لله -تعالى-، وترك عبادة ما سواه، وأنك لا ترضى بالإشراك والتخلف عن التوحيد، ولو قدر فواق 1، فالحمد لله الذي من علينا وعليك. وهذا هو أفرض الفرائض على جميع الخلق، ومن انتفع بهذا الدين، واستقام عليه فله البشرى في الحياة الدنيا والآخرة، وله العزة والرفعة والجاه والملابس الفاخرة. وفي الحديث عن الصادق المصدوق -صلوات الله وسلامه عليه- قال: "إن الله ليرفع بهذا الدين أقواما ويضع به آخرين"2.

_ 1 فواق -كغراب- ما بين الحلبتين من الوقت، أو ما بين يديك وقبضهما على الضرع. 2 مسلم: صلاة المسافرين وقصرها "817" , وابن ماجه: المقدمة "218" , وأحمد "1/ 35" , والدارمي: فضائل القرآن "3365".

والذي نوصيك به، ونحضك عليه: التفقه في التوحيد، ومطالعة مؤلفات شيخنا -رحمه الله تعالى-، فإنها تبين لك حقيقة التوحيد الذي بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم، وحقيقة الشرك الذي حرمه الله -تعالى- ورسوله صلى الله عليه وسلم وأخبر أنه لا ينفع صاحبه، وأن الجنة على فاعله حرام، وأن من فعله حبط عمله. والشأن كل الشأن في معرفة حقيقة التوحيد الذي بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم وبه يكون الرجل مسلما مفارقا للشرك وأهله، وذلك لأن كثيرا من المصنفين إذا ذكر التوحيد لم يبينه، وقد يفسره بتوحيد الربوبية الذي أقر به المشركون، ومنهم من يفسره بتوحيد الذات والصفات، وذلك -وإن كان حقا- فليس هو المراد من توحيد العبادة الذي هو معنى لا إله إلا الله. وكثير من المصنفين يفسر الشرك بالإشراك في توحيد الربوبية الذي أقر به كفار العرب وغيرهم من طوائف المشركين، كما قال -تعالى-: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} 1، وقال: {قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ} 2 الآية. وغير ذلك من الآيات التي تدل على أن المشركين يقرون بتوحيد الربوبية، وإنما الخلاف الذي بينهم وبين الرسول صلى الله عليه وسلم هو توحيد الإلهية الذي هو توحيد العبادة، ولهذا لم يصيروا موحدين بمجرد الإقرار بتوحيد الربوبية. فإياك أن تغتر بما أحدثه المتأخرون وابتدعوه كابن حجر الهيتمي وأشباهه، واعتمد في هذا الأصل على كتاب الله الذي أنزله تبيانا لكل شيء، وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين، وعلى ما كان عليه السلف الصالح من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، ولا تغتر بما حدث بعدهم من البدع المضلة في أصول الدين وفروعه، كما قال -تعالى-: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} 3. وبهذا تعرف حقيقة أصل الإسلام شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا

_ 1 سورة العنكبوت آية: 61. 2 سورة المؤمنون آية: 88، 89. 3 سورة الأنعام آية: 153.

رسول الله، فإن تحقيق شهادة أن لا إله إلا الله، أن لا تعبد إلا الله وحده لا شريك له. وتحقيق شهادة أن محمدا رسول الله، هو أن يطاع فيما أمر، وينتهى عما عنه نهى وزجر، ويكون هو الإمام المتبع، ومن سواه فيؤخذ من كلامه، ويترك فعلى أقواله وأفعاله تعرض الأقوال والأفعال، فما وافق قوله فهو المقبول، وما خالفه فهو المردود. وأما المسائل الثلاث التي سألتم عنها: [حكم الضيافة] "فالأولى": مسألة الضيافة هي واجبة أم لا؟ فالذي عليه العمل أنها واجبة على أهل القرى، وعلى أهل البوادي دون الأمصار الكبار التي توجد الأطعمة تباع فيها بلا كلفة. [طلب الزكاة من الأموال الباطنة كالنقدين] "وأما الثانية": وهي قولكم: هل للإمام وعماله طلب الزكاة من الأموال الباطنة كالنقدين، أم يختص ذلك بالأموال الظاهرة؟ فهذه مسألة اختلف العلماء فيها، فمنهم من يقول: إن للإمام أخذ الزكاة من الأموال الباطنة كالظاهرة، ويجب دفعها إليه، وهو قول مالك، وقول في مذهب أحمد. وأما الأموال الظاهرة فيجب دفعها إلى الإمام العادل إذا طلبها، وهو مذهب مالك وأبي حنيفة والشافعي، ورواية عن الإمام أحمد. واتفق على أن للإمام طلب الزكاة من الأموال الظاهرة والباطنة، وإنما الخلاف في وجوب الدفع إليه، وهل يجزئ عن صاحبها إذا لم يدفعها إليه أم لا؟ [العمل بصريح الحديث وظاهره] "وأما المسألة الثالثة": في العمل بصريح الحديث وظاهره، إذا وجده المرء في الأمهات الست، أو ما التزم مخرجه فيه الصحة والحسن، هل للإنسان العمل به والاعتماد عليه وإن لم يبحث عنه هل هو منسوخ أم لا؟ وهل عارضه أقوى منه أم لا؟ فنقول: الذي ينبغي لطالب العلم إذا رأى مثل ذلك أن يبحث عن كلام أهل العلم في المسألة التي دل عليها الحديث، هل هو معمول به عندهم، أم هو منسوخ، أم

رسائل للشيخ عبد الرحمن بن حسن

قد عارضه ما هو أقوى منه؟ فإذا فعل ذلك، وعرف مذاهب العلماء في المسألة تبين له حينئذ، هل الحديث محكم صحيح، أو منسوخ، أم قد عارضه ما هو أقوى منه عند أهل العلم؟ هذا إذا كان الإنسان من أهل المعرفة بهذا الحديث وكلام العلماء. فإذا وجد حديثا مشهورا عند أهل العلم، محكوما بصحته أو حسنه، ولم يعلم له ناسخا، ولا معارضا أقوى منه، وقد أخذ بعض العلماء من أهل المذاهب المشهورة به تعين عليه العمل بالحديث إذا كان قد سبقه من أهل العلم من يقتدى به، ولو خالف مذهبه الذي ينسب إليه. وأما إذا كان الرجل ليس له معرفة بالحديث، وكلام العلماء، وترجيح الأقوال، فإنما وظيفته تقليد أهل العلم. قال الله -تعالى-: {فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} 1 والله -سبحانه وتعالى- أعلم. والذي نشير به عليك أنك تسافر إلينا، ونتواجه نحن وإياك، وتواجه أمير المؤمنين، ونعرف حالك، وتصبر على تحمل المشقة في ذلك، فإنه خير لك وأحسن عاقبة إن شاء الله. وسلم لنا على الوالد وإخوانك من أهل الدين، وكاتبه أحمد بن ناصر بن معمر يبلغك السلام، ثم أنت في حفظ الله وأمانه. [رسائل للشيخ عبد الرحمن بن حسن] (وجوب جهاد أهل الفساد ودفع فسادهم في الدين) بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الرحمن بن حسن إلى كافة الإخوان، سلمهم الله من شرور الدنيا والآخرة، ووفقنا الله وإياهم للتجارة الفاخرة. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. "وبعد": فاعلموا، وفقنا الله وإياكم لشكر ما أنعم به عليكم من نعمة الإسلام، والاجتماع على ذلك، وجهاد من خرج عنه من أهل الجهل والفساد، الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون، وقد أوجب الله جهادهم

_ 1 سورة النحل آية: 43.

دفعا لعنادهم وخروجهم عن جماعة المسلمين، والسمع والطاعة لمن ولاه الله أمرهم، كما قال -تعالى-: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} 1. ومن فضله عليكم اجتماعكم وجهادكم لأهل الفساد، ولولا الجهاد لأفسدوا عليكم دينكم ودنياكم، وأنتم ولله الحمد على ملة الإسلام، تعبدون ربكم، وتوحدونه، وتعملون بفرائضه، وتأمرون بالمعروف، وتنهون عن المنكر. ومن أعظم الشكر: الجهاد الذي أوجبه الله في كتابه العزيز، قال -تعالى-: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ} 2 الآية، وقال -تعالى-: {فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلا نَفْسَكَ} 3 الآية، وقال -تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} 4 الآية. والإيمان بالله ورسوله، والجهاد في سبيله بالمال والنفس هو التجارة المنجية من شرور الدنيا والآخرة الموجبة لخير الدنيا والآخرة، كما قال -تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} 5 الآيات. فبشركم ربكم، فاقبلوا هذه البشارة، وامتثلوا أمره، وجاهدوا أهل الفساد، وارغبوا في ثواب الجهاد في سبيل الله. وفي الحديث: "غدوة في سبيل الله، أو روحة خير من الدنيا وما فيها"6. ولا تفرطوا في الغدوات والروحات فتضيع عليكم، وفي الحديث: "الجهاد باب من أبواب الخير ينجي الله به من الهم والغم، وخير المال ما أنفق فيه، وخير الأيام أيام المجاهدين" لأن المجاهد في حسنات تكتب له في يقظته ونومه، وفي سيره ومقامه. فارغبوا في هذا الخير الذي رغب فيه ربكم، وابذلوا فيه المال والنفس. وأفضل المجاهدين من جاهد بنفسه وماله. وما عذر ربنا عن الجهاد إلا الأعمى والأعرج والمريض، كذلك الذين لا يجدون ما ينفقون إذا نصحوا لله ورسوله، والنصيحة لله ولدينه واجبة على المعذور وغيره. وصلى الله على محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.

_ 1 سورة البقرة آية: 251. 2 سورة البقرة آية: 216. 3 سورة النساء آية: 84. 4 سورة الحج آية: 40. 5 سورة الصف آية: 13. 6 البخاري: الجهاد والسير "2792" , ومسلم: الإمارة "1880" , والترمذي: فضائل الجهاد "1651" , وابن ماجه: الجهاد "2757 ,2824" , وأحمد "3/ 132 ,3/ 141 ,3/ 153 ,3/ 157 ,3/ 207 ,3/ 263".

الآيات في التوحيد الذي دعت إليه كل الأنبياء

(الآيات في التوحيد الذي دعت إليه كل الأنبياء) بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الرحمن حسن إلى الإخوان من أهل القصيم، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. "وبعد": [توحيد العبادة] اعلموا -وفقنا الله وإياكم لمعرفة العلم النافع والعمل به-، تفهمون أن الله -سبحانه- منَّ على أهل نجد بتوحيده بالعبادة، وترك عبادة ما سواه، وهذه نعمة عظيمة خص الله أهل نجد بالقيام فيها من الخاصة على العامة، لكن ما عرف قدرها. والغفلة ذمها الله في كتابه، وذكر أنها صفة أهل النار، نعوذ بالله من النار بقوله: {أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} 1. وذم أهل الإعراض بقوله: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا} 2 وذكره هو القرآن، ولا تعرفون العبادة التي خلقكم الله لها إلا من القرآن. والقرآن من أوله إلى آخره يبين لكم كلمة الإخلاص: لا إله إلا الله. ولا يصح لأحد إسلام إلا بمعرفة ما دلت عليه هذه الكلمة من نفي الشرك في العبادة، والبراءة منه وممن فعله، ومعاداته، وإخلاص العبادة لله وحده لا شريك له، والموالاة في ذلك. فمن الآيات التي بين الله -تعالى- فيها هذه الكلمة قوله -تعالى-: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ} 3 وهي: لا إله إلا الله. وقد افتتح قوله بالبراءة مما كان يعبده المشركون عموما، ولم يستثن إلا الذي فطره، وهو الله -تعالى- الذي لا يصلح شيء من العبادة إلا له. ونوع تعالى البيان لمعنى هذه الكلمة في آيات كثيرة يتعذر حصرها، كقوله -تعالى-: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلا نَعْبُدَ إِلا اللَّهَ} 4، والكلمة هي: لا إله إلا الله بالإجماع، ففسرها بقوله: {سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} 5 أي: نكون

_ 1 سورة الأعراف آية: 179. 2 سورة طه آية: 124. 3 سورة الزخرف آية:26: 28. 4 سورة آل عمران آية: 64. 5 سورة آل عمران آية: 64.

فيها سواء، علما وعملا وقبولا وانقيادا. فقال: {أَلا نَعْبُدَ إِلا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا} 1: فنفى ما نفته لا إله إلا الله بقوله: {أَلا نَعْبُدَ} 2، وأثبت ما أثبتته لا إله إلا الله بقوله: {إِلا اللَّهَ} 3، وقال: {أَمَرَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ} 4. فهذا أمر عظيم أمر الله -تعالى- به عباده وخلفهم له، ففي قوله: {أَلا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} 5: نفى الشرك الذي نفته لا إله إلا الله، وقوله: {إِلا إِيَّاهُ} 6: هو الإخلاص الذي أثبتته لا إله إلا الله. وقال -تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} 7 قضى أي: أمر، {أَلا تَعْبُدُوا} 8: فيه من النفي ما في معنى لا إله، وقوله: {إِلا إِيَّاهُ} 9: هذا هو الإثبات الذي أثبتته إلا الله. وقال -تعالى-: {قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ} 10 فهذا هو الذي أمر به صلى الله عليه وسلم ودعا الناس إليه، وهو إخلاص العبادة، وتخليصها من الشرك قولا وفعلا واعتقادا. وقد فعل صلى الله عليه وسلم ذلك، ودعا الناس إليه، وجاهدهم عليه حق الجهاد، وهذا هو حقيقة دين الإسلام، كما قال -تعالى-: {قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} 11. بين -تعالى- أن توحيد الإلهية هو الإسلام. والأعمال كلها لا يصلح منها شيء إلا بهذا التوحيد، وهو أساس الملة ودعوة المرسلين. والدين كله من لوازم هذا الأصل وحقوقه، وقد قال -تعالى-: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} 12. فمن تدبر القرآن، وتذكر به عرف حقيقة دين الإسلام الذي أكمله الله لهذه الأمة، كما قال -تعالى-: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الأِسْلامَ دِينًا} 13. هذا ما ننصحكم به، وندعوكم إليه، وبالله التوفيق. وصلى الله على سيد المرسلين، وإمام المتقين نبينا محمد، وعلى آله، وصحبه أجمعين، وسلم تسليما كثيرا.

_ 1 سورة آل عمران آية: 64. 2 سورة آل عمران آية: 64. 3 سورة آل عمران آية: 64. 4 سورة يوسف آية: 40. 5 سورة يوسف آية: 40. 6 سورة يوسف آية: 40. 7 سورة الإسراء آية: 23. 8 سورة الإسراء آية: 23. 9 سورة الإسراء آية: 23. 10 سورة الرعد آية: 36. 11 سورة الأنبياء آية: 108. 12 سورة ص آية: 29. 13 سورة المائدة آية: 3.

أقوال العلماء في الاشتغال بفن المنطق

أقوال العلماء في الاشتغال بفن المنطق بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الرحمن بن حسن إلى الأخ القادم من بلاد الأوغان* عبد الله بن محمد -وفقه الله لحقيقة الإسلام والإيمان-. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته: وبعد: فالذي يجب علينا محبة الخير لمن أراده وقصده، فلعل الله -تعالى- أن يجعله مؤثرا للحق على غيره، لكن نبحث مع مثلك في شيئين: (الأول): إن علم المنطق قد حرمه كثير من المحققين، وأجازه بعض العلماء 1.

_ * كذا في الأصل، وفي "الدرر السنية" (بلاد الأفغان). [معد الكتاب للمكتبة الشاملة] 1 الذي تلقيناه عن مشايخنا أن المنطق الذي اختلفوا فيه هو منطق اليونان الذي نقل في عهد المأمون، إذ كان في كتبه من المسائل والأمثلة ما يخالف الإسلام، وربما يكون شبهة عليه، وفيه قال الشيخ الأخضري صاحب السلم: فابن الصلاح والنواوي حرما ... وقال قوم ينبغي أن يعلما والقولة المشهورة الصحيحة ... جوازه لكامل القريحة ممارس السنة والكتاب ... ليهتدي به إلى الصواب أي الصواب في طرق الاستدلال العقلي، وكان شيخ الإسلام ابن تيمية يعرف المنطق وجميع علوم الفلسفة التي ألف المنطق لتحريرها وفهمها بأدلتها. وقد بين خطأ كثير من مسائله، وله مصنف في ذلك يوجد في الهند بخطه، وقد درس هذا العلم الشيخ عبد اللطيف ابن صاحب الفتوى -رحمهما الله-. والأمور الثلاثة التي ذكرها لا تدل على تحريم علم المنطق المعروف اليوم في كتب المسلمين، وإن كانت في نفسها صحيحة، فالمنطق ليس علما شرعيا فيؤخذ عن أئمة الدين، ولكنه كعلوم اللغة والصناعة والزراعة ... إلخ. وأما قوله "فصار ضرره أكثر من نفعه" فهو يصح في علم اليونان الذي ذكره، ولكن جل الضرر كان في الفلسفة النظرية التي استعمل فيها لا فيه هو. والمنطق الموجود اليوم ليس فيه ضرر مطلقا، ولكن فائدته قليلة؛ لأنه آلة للعلوم النظرية، وهو قلما يستعمل فيها، ويمكن الاستغناء عنه بعلم الأصول كما أشار إليه، وغرضي من هذه الحاشية أن لا يتجرأ من يقرؤون هذه الفتوى على تحريم علم المنطق المعروف، فإن التحريم الديني أمر عظيم جدا، وقد قال شيخ الإسلام: إن السلف لم يكونوا يحرمون شيئا إلا بنص قطعي. ولما نزل قوله -تعالى- في الخمر والميسر "وإثمهما أكبر من نفعهما" لم يحرمهما النبي -صلى الله عليه وسلم- على الأمة به لأن دلالته على التحريم غير قطعية إلى أن نزلت آيات سورة المائدة القطعية الدلالة.

لكن الصواب تحريمه لأمور: "منها": أنه ليس من علوم الشريعة المحمدية، بل هو من علوم اليونان، وأول من أحدثه المأمون بن الرشيد، وأما في خلافة من قبله من أسلافه من بني العباس، وقبلهم خلفاء بني أمية فلا يعرف في عصرهم. (الأمر الثاني): أن أئمة التابعين من الفقهاء والمفسرين والمحدثين لا يعرفون هذا العلم، وهم نقلة العلم، والإسلام في وقتهم أظهر، والعلوم النافعة عندهم أكثر، وقد توافرت دواعيهم على نقل العلم، وكذلك من أخذ عنهم من الأئمة الأربعة، ومن في طبقتهم من المحدثين، ومن الفقهاء والمفسرين، فلا تجد في كتبهم، ولا من أخذ عنهم شيئا من هذا العلم. (الأمر الثالث): أن هذا العلم إنما أحدثه الجهمية لما ألحدوا في أسماء الله وصفاته، واستمالوا المأمون إلى تعريب كتب اليونان، فعظمت فتنة الجهمية، وظهرت بدعتهم من أجل ذلك، فصار ضرره أكثر من نفعه. وذكر العلماء أن ما فيه من صحيح فهو موجود في كتب أصول الفقه، فيتعين تركه وعدم الالتفات إليه، والمعول إنما هو على الكتاب والسنة، وما عليه السلف والأئمة. وهذه كتبهم موجودة بحمد الله ليس فيها من شبهات أهل المنطق شيء أصلا. فهذا الذي ندين الله به. [التوحيد وأنواعه وحقيقة كل نوع منه] (البحث الثاني): السؤال عن التوحيد وأنواعه وحقيقة كل نوع منه، فإن كان عند القادم من ذلك تحقيق، وإلا فيجب إرشاده إلى ذلك وتعليمه، لأن العلم أقسام ثلاثة لا رابع لها. فيجب عليك أيها الرجل القادم أن تسعى لنفسك بمعرفة الحق بدليله واللي يبي 1 يقبل علمنا هذا الذي منَّ الله به علينا من تمييز الحق من الباطل، فهو أخونا، والحمد لله على هداية من اهتدى، واللي يرى غير ذلك فلا نحن بإخوان له. والسلام وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.

_ 1 والذي يحب.

رسائل للشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن

رسالة أدبية، سياسية صوفية فيها الإشارة إلى ما حدث للمسلمين من العقاب بذنوبهم (وما يجب عليهم في هذا المشهد من التوبة عن السيئات، وما فوقه من مشهد الأسماء والصفات) بسم الله الرحمن الرحيم من عبد اللطيف بن عبد الرحمن إلى الابن المكرم المحب المفهم: محمد بن عمر بن سليم، سلك الله بنا وبه الصراط المستقيم، ومنَّ علينا وعليه بمخالفة أصحاب الجحيم، ورفع درجتنا ودرجته في جنات النعيم. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، ما تعاقبت غدوات الدهر وروحاته، سلام ألذ من نسيم الصبا، وأبهى من رونق الصبى. وموجب الخط إبلاغ السلام والتحية، وتفقد تلك الشمائل المرضية، لا زالت محروسة بعين الرعاية الربانية. والخط وصل لا زلت موصولا بنفحات القرب والمحبوبية، محفوظا بألطاف الله الخفية والجلية، وسرنا ما أفاده من الأخبار السارة عن تلك الذات -أدام الله سرورها، ورد أيام أنسها وحبورها-، وصار له عند المحب موقع كريم، بما تضمن من الدعوات والنصائح، جعلك الله ممن يدرأ القبائح والفضائح، ويعمل بالحق ويوصي باتباعه، ويبثه في إخوانه وأشياعه. وما أشرت إليه من أسباب ما حدث بالإسلام وأهله، وأنه من عقوبات الذنوب، فنعم هو ذاك، كما أخبر به -سبحانه وتعالى- في كتابه المبين، على لسان نبيه الأمين. وهذا المشهد يوجب للعبد من التوبة والإنابة، وتدارك ما فرط من الشر وأسبابه ما يطهره من دنس الذنوب والعيوب، ويستقيل به عثراته وهفواته بين يدي علام الغيوب.

وفوقه مشهد أكبر منه وأجلُّ، وهو مشهد الأسماء الحسنى، والصفات العلى، فيشهد عزته ولطفه ورحمته وعفوه وقيوميته وجبروته وانتقامه، وما يبدئ ويعيد، وما يقدر ويريد؛ وهذا المشهد من أجلِّ مشاهد التوحيد، ومنه يطلع العبد على أسرار القدر والقضاء، ويدرك به من حقائق الإيمان ونفحات الرضاء، ما يتبوأ به منازل الصديقين، ويرى الحوادث الكونية قبل وقوعها من وراء ستر رقيق. فنسأل الله أن يجعل لنا ولكم نصيبا وافرا، وحظا كاملا من العلم به، وحسن عبادته ومعاملته، وأن لا يجعلنا ممن اتبع هواه وكان أمره فرطا. وما ذكرته من الوصايا النافعة باجتماع المسلمين ولم شعثهم، فنسأل الله التوفيق لذلك، والإعانة على ما هنالك. والأمور بيد فاطر السموات والأرض، والقلوب بين إصبعين من أصابع الرحمن، وقد وصل الأمر إلى غاية لا يصل إليها الوعظ والقرآن، فنعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا. والعذر عن المكاتبة مقبول، والقلوب شواهد عدول، والدعاء للإخوان بظهر الغيب مبذول، فلا تنس أُخَيّك في أوقات المناجاة وفي ساعات التوجهات، وعليك بالإلحاح في الدعاء بظهور الإسلام ونصره، وإعلاء كلمة الله، ودحض الباطل وأهله. والله أسأل أن يمن بالاجتماع على حال يرضاها، متمسكين من التقوى بأقوى حبالها وعراها، وأن يعيد أوقاتا سلفت بمذاكرة العلم الشريف ألفت. وبلغ سلامنا الوالد والأبناء والإخوان: سهل وعبد العزيز الصقعبي وابن جربوع وناصر السيف، ومن لدينا: العيال وإسماعيل وإخوانه والإخوان ينهون السلام، وأنت سالم والسلام سنة 1291.

وجوب صلاة الجمعة على أهل القرى والعدد الذي تنعقد به جماعتها

وجوب صلاة الجمعة على أهل القرى والعدد الذي تنعقد به جماعتها بسم الله الرحمن الرحيم من عبد اللطيف بن عبد الرحمن إلى الأخ المكرم الشيخ عبد العزيز بن حسن -سلمه الله تعالى-. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: فأحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو على نعمه، وخطك وصل، وتأخر جوابه لكثرة الاشتغال، وتشتت البال، والله المستعان. وتسأل فيه عن وجوب صلاة الجمعة على أهل القرى الذين لم يبلغ العدد فيهم أربعين من أهل الوجوب؟ فاعلم أنهم اتفقوا على أن من شرط وجوبها وصحتها الجماعة، واختلفوا في مقدار الجماعة، فمنهم من قال: واحد والإمام، وهذا مذكور عن ابن جرير الطبري. ومنهم من قال: اثنان سوى الإمام لأن أقل الجمع عنده اثنان. ومنهم من قال: ثلاثة دون الإمام، وقائل هذا يرى أن أقل الجمع ثلاثة لا اثنان. والكلام مبسوط على أقل الجمع في شرح التحرير وغيره. والقول الأخير هو قول أبي حنيفة. ومنهم من اشترط أربعين، وهو قول الشافعي وأحمد. وقال قوم: ثلاثين. ومنهم من قال: يجوز فيما دون الأربعين إلا الثلاثة والأربعة، ولم يشترط عددا، وإنما ذكر حدا أورده، وهو أنه لا تجب إلا على عدد تتقرى بهم قرية. وأصحاب القولين الأولين أخرجوا الإمام من مسمى الجمع للاختلاف في دخوله في الجماعة، وأصحاب القول الأخير يقولون: الجمع في غالب الأحوال له حكم غير ما يطلق عليه اسم الجمع في جميعها، بل هم الذين يممكنهم أن يسكنوا على حدة من الناس، وهذا يروى عن

مالك؛ ويروى عنه أيضا: اشتراط اثنا عشر من أهل الوجوب، وكلا القولين معروف. ومن شرط الأربعين كالشافعي وأحمد وجماعة من السلف، فإنما صاروا إلى ما صح من أن هذا العدد كان في أول جمعة صليت بالناس، فهذا هو حد شرطها، أعني شرط الوجوب وشرط الصحة؛ فإن من الشروط ما هو شرط للوجوب فقط، ومنها ما يجمع الأمرين. واختيار شيخ الإسلام ابن تيمية أن هذا الشرط للوجوب فقط، لا للصحة. وهذا من أحسن الأقوال، وبه يتفق غالب كلام المختلفين. إذا عرف هذا، فإنهم اختلفوا أيضا في الأحوال الراتبة التي اقترنت بهذه الصلاة عند فعله إياها صلى الله عليه وسلم. هل هي شرط في الصحة والوجوب أم ليست بشرط؟ وتلك كالجماعة والمصر والاستيطان. فمن رآه دليلا اشترطها، ومنهم من رجح بعضها دون بعض، واشترطه في المرجح لا غير. وبعضهم لم يرها دليلا، ورجع في الاشتراط والوجوب إلى أدلة أخرى لعموم الجماعة في سائر الصلوات. ولقائل أن يقول: لو كانت هذه الأحوال شروطا في صحة الصلاة لما جاز أن يسكت عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يترك بيانها لقوله تعالى: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} 1. هذا ما يحضرني، فإن رأيت خللا، فلا جناح عليك في إصلاحه. وصدقة المحمل 2 تصل إليك إن شاء الله، فعليك بتحري العدل في القسمة، وبلغ سلامنا حمد والعيال والشيخ الوالد، والعيال بخير وينهون السلام.

_ 1 سورة النحل آية: 44. 2 قسم من بلاد نجد إلى جنب العارض.

وصية بالتقوى والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

وصية بالتقوى (والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) بسم الله الرحمن الرحيم من عبد اللطيف بن عبد الرحمن إلى الأخ المكرم عبد الرحمن بن جربوع، وفقه الله للعمل بدينه المشروع. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته "وبعد" فنحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو على سوابغ نعمه، وجزيل عطائه وكرمه، وعلى ما ألبسنا من ملابس فضله، وما اختصنا به من عظيم العطاء الذي صرفه عمن شاء بعدله. والخط وصل وصلك الله إلى ما يرضيه، ونظمك في سلك من يخشاه ويتقيه. [حكم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر] وأوصيك بتقوى الله، والحرص على معرفة تفاصيلها على القلوب والجوارح، فإنك في وقت كثر قراؤه، وقل فقهاؤه. وما ذكرت من طلب الفائدة بما ورد من النصوص الشرعية الدالة على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فهذا مما لا يخفى على آحاد العامة من المسلمين، فضلا عن الطلبة والمتعلمين. وهذا الأصل من آكد الأصول الإسلامية وأوجبها وألزمها. وقد ألحقه بعضهم بالأركان التي لا يقوم بناء الإسلام إلا عليها، وهو من فروض الكفاية، لا يسقط عن المكلفين إلا إن قام به طائفة يحصل بها المقصود الشرعي. وفرض الكفاية من فروض العين من جهة متعلقه، لأن الخطاب به لجميع الأمة، وإنما أرسلت الرسل، وأنزلت الكتب للأمر بالمعروف الذي رأسه وأصله التوحيد، والنهي عن المنكر الذي رأسه وأصله الشرك والعمل لغير الله. وشرع الجهاد لذلك، وهو قدر زائد عن مجرد الأمر والنهي، ولولا ذلك ما قام الإسلام، ولا ظهر دين الله، ولا علت كلمته. ولا يرى تركه والمداهنة فيه إلا من أضاع حظه ونصيبه من العلم والإيمان. قال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ

تَامُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} 1. وقال تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَامُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} 2. فهذه الآيات تدل على وجوبه، وأن القائم به خير الناس وأفضلهم، وأن الخيرية لا تحصل إلا بذلك. وفيها أن الفلاح محصور في أهل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو الفوز بالسعادة الأبدية. وأما الوعيد على تركه، فمثلقوله تعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ} 3 الآية. ففي هذه الآية لعنهم على ألسن أنبيائهم بترك النهي عن المنكر والأمر بالمعروف. واللعن هو الطرد والإبعاد عن الله وعن رحمته. وذكر بعض المفسرين هنا حديث: "إن من كان قبلكم كانوا إذا عمل العامل فيهم بالخطيئة جاءه الناهي تعذيرا، فإذا كان الغد جالسه وواكله وشاربه كأن لم يره على خطيئة بالأمس. فلما رأى الله ذلك منهم ضرب بقلوب بعضهم على بعض، ثم لعنهم على لسان نبيهم داود وعيسى ابن مريم {ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون}. والذي نفس محمد بيده لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، ولتأخذن على يد السفيه، ولتأطرنه على الحق أطرا 4، أو ليضربن الله بقلوب بعضكم على بعض، ثم يلعنكم كما لعنهم". وذكر ابن أبي الدنيا عن إبراهيم بن عمرو الصنعاني قال: "أوحى الله عز وجل إلى يوشع بن نون أني مهلك من قومك أربعين ألفا من خيارهم، وستين ألفا من شرارهم، قال: يا رب، هؤلاء الأشرار، فما بال الأخيار؟ قال: إنهم لم يغضبوا لغضبي، وكانوا يواكلونهم ويشاربونهم". وذكر أيضا من حديث ابن عمر: "لينقضن الإسلام عروة عروة حتى لا يقال

_ 1 سورة آل عمران آية: 110. 2 سورة آل عمران آية: 104. 3 سورة المائدة آية:78، 79. 4 أي تعطفونه وتثنونه.

الله الله. لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر، أو ليسلطن الله عليكم شراركم، فيسومونكم سوء العذاب، ثم يدعو خياركم فلا يستجاب لهم"1 "ولتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر، أو ليبعثن الله عليكم من لا يرحم صغيركم، ولا يوقر كبيركم". وفي المسند مرفوعا: "يا أيها الناس، إن الله يقول: مروا بالمعروف، وانهوا عن المنكر، قبل أن تدعوني فلا أجيبكم، وتستنصروني فلا أنصركم، وتسألوني فلا أعطيكم"2. وفي حديث ابن عباس: "وما ترك قوم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلا لم ترفع أعمالهم، ولم يُسمع دعاؤهم" رواه الطبراني. وذكر الإمام أحمد -رحمه الله تعالى- عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "يوشك القرى أن تخرب وهي عامرة" قالوا: كيف تخرب وهي عامرة؟ قال: "إذا علا فجارها أبرارها، وساد القبيلة منافقوها". والأحاديث في هذا كثيرة تطلب من مظانها. فصل [في مفاسد ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر] وترك ذلك على سبيل المداهنة، والمعاشرة، وحسن السلوك، ونحو ذلك مما يفعله بعض الجاهلين أعظم ضررا، وأكبر إثما من تركه لمجرد الجهالة. فإن هذا الصنف رأوا أن السلوك، وحسن الخلق، ونيل المعيشة لا يحصل إلا بذلك؛ فخالفوا الرسل وأتباعهم، وخرجوا عن سبيلهم ومنهاجهم لأنهم يرون العقل إرضاء الناس على طبائعهم، ويسالمونهم، ويستجلبون مودتهم ومحبتهم، وهذا مع أنه لا سبيل إليه فهو إيثار للحظوظ النفسية، والدعة، ومسالمة الناس، وترك المعاداة في الله، وتحمل الأذى في ذاته. وهذا في الحقيقة هو الهلكة في الآجلة. فما ذاق طعم الإيمان من لم يوال في الله ويعادِ فيه، فالعقل كل العقل ما أوصل إلى رضى الله ورسوله. وهذا إنما يحصل بمراغمة أعداء الله، وإيثار مرضاته، والغضب له إذا انتهكت محارمه، والغضب

_ 1 أحمد "5/ 389". 2 أحمد "6/ 158".

رسالة في بيان فضل من يحيي السنة ويهدم الشرك والبدعة

ينشأ من حياة القلب وغيرته وتعظيمه، وإذا عدم الحياة والغيرة والتعظيم عدم الغضب والاشمئزاز، وسوى بين الخبيث والطيب في معاملته وموالاته ومعاداته، وأي خير يبقى في قلب هذا؟ وفي بعض الآثار: "إن الله أوحى إلى جبريل أن اخسف بقرية كذا وكذا. قال: يا رب، إن فيهم فلانا العابد. قال: به فابدأ، إنه لم يتمعر 1 وجهه فيَّ قط". وذكر ابن عبد البر: "إن الله بعث ملكين إلى قرية ليدمراها بمن فيها، فوجدا فيها رجلا قائما يصلي في مسجد، فقالا: يا رب، إن فيها عبدك فلانا يصلي، فقال الله عز وجل دمراها ودمراه معهم، فإنه ما تمعر وجهه فيَّ قط". انتهى. ومن له علم بأحوال القلوب، وما يوجبه الإيمان ويقتضيه من الغضب لله، والغيرة لحرماته، وتعظيم أمره ونهيه، يعرف من تفاصيل ذلك فوق ما ذكرنا. ولو لم يكن إلا مشابهة المغضوب عليهم والضالين في الإنس بأهل المعاصي ومواكلتهم ومشاربتهم لكفى بذلك عيبا. والله الموفق والهادي لا إله غيره. وبلغ سلامنا الإخوان والخواص إجازة مطلقة، والشيخ الوالد والعيال بخير وينهون السلام، ولا تنسنا من صالح دعائك والسلام. رسالة {في بيان فضل من يحيي السنة ويهدم الشرك والبدعة} بسم الله الرحمن الرحيم من عبد اللطيف بن عبد الرحمن إلى ذي الجناب المكرم، والفضل الباذخ المقدم السيد عبد الرحمن الألوسي، سلك الله به سبل الاستقامة، وزينه بحلل التوفيق والكرامة، ورفعه إلى رتب السيادة والإمامة. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

_ 1 تمعر الوجه: تغير للغضب والغيظ. وأصله قلة النضارة وعدم إشراق اللون.

أما بعد: فإنا نحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو كثير الخير دائم المعروف، على ما أولاه من سوابغ نعمه الباطنة والظاهرة، وما ألبسه من ملابس كرامته السنية الفاخرة، التي أعظمها وأجلها على الإطلاق هدايته لدينه الذي ارتضاه لنفسه، واختص به أولياءه، وخاصة أهل كرامته وقدسه. مع أنه قد اطرد القياس بفساد أكثر الناس، وتركهم من الإسلام أصله الأعظم والأساس، وكثرة الاشتباه في أبواب الدين والالتباس. وجمهورهم عكَس القضية في مسمى الملة الإسلامية، ولم يميزوا بينها وبين الملة القرشية، والسنة الجاهلية، فهم كما وصفهم الله تعالى بقوله: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا} 1. وكتابك الكريم وصل إلينا، وحسن موقعه لدينا، لما بلغنا عنك من إظهار الإسلام والسنة، وعيب أهل الشرك والبدعة، وطعنك على الدعاة إلى الضلالة، وعيبهم بما يبدونه من سوء العمل وشنيع المقالة، وأن الله قمعهم بك وقواك عليهم، فأذلهم وأهانهم، فأبشر بثواب ذلك، واعتده من أفضل أعمالك وحسناتك. وفي الحديث: "من أحيا شيئا من سنتي، كنت أنا وهو في الجنة كهاتين، وضم بين إصبعيه". وفي الأثر: "إن لله عند كل بدعة كيد بها الإسلام وليا لله يذب عنها، وينطق بعلاماتها". فاغتنم ذلك، وكن من صالح أهله، واحرص أن يكون لك في ذلك جماعة وتلامذة يقومون مقامك إن حدث بك حدث، فيكونون أئمة بعدك، ويجري لك مثل أجورهم إلى يوم القيامة كما صح به الخبر. فاعمل على بصيرة، وسر إلى الله بصلاح القصد والسريرة، وإياك أن يكون لك من أهل الشرك الذين يعبدون الأولياء والصالحين جليس أو صديق، فقد جاء في الأثر: "من جالس صاحب بدعة نزعت منه العصمة ووكل إلى نفسه، ومن مشى إلى

_ 1 سورة الفرقان آية: 44.

الإشارة إلى إيواء أهل عنيزة لبعض الخارجين وأخذ العهود عليهم في الامتناع منه

صاحب بدعة مشى في هدم الإسلام". وهذا في بدع لا تخرج عن الملة، فكيف بالشرك الذي يتضمن العدل والتسوية برب العالمين؟ بل يتضمن مسبته تعالى وتقدس. {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} 1. هذا وشيخنا الوالد المكرم، والإمام الفاضل المقدم يبلغانك السلام، والسلام على من لديك من الإخوان في الله، المحبين لجلاله، ورحمة الله وبركاته، وصلى الله على محمد، وعلى آله وصحبه وسلم. {الإشارة إلى إيواء أهل عنيزة لبعض الخارجين وأخذ العهود عليهم في الامتناع منه} {بسم الله الرحمن الرحيم} من عبد اللطيف بن عبد الرحمن إلى الأخ المكرم محمد بن عمر آل سليم -سلمه الله تعالى، وتولاه في الدنيا والآخرة، وألبسه ملابس ولايته السنية الفاخرة-. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: الخط وصل -وصلك الله إلى ما يرضيه-، وسرنا سلامتك وعافيتك، كذلك سرنا ما ذكرت من القراءات وملازمة الدروس، فالحمد لله على ذلك. والله أسأل أن يجعلك هاديا مهديا إماما للمتقين. وما ذكرت وصل، فالليمون وما معه كله موجود عندنا بكثرة، والمقصود الأترنج لما فيه من الخواص والمنافع، وحيث تعذر وجوده فصلتك مقبولة، وهبتك مرضية محمولة. ولا وصلنا جوابكم إلا بعد ما أنكفنا 2 وحرر هذا على ثرمدا 3 وجاءنا عبد الله بن جربوع بالنصيحة بعد ما قرأها على أهل عنيزة، وخضعت لها رقابهم، ورغمت بها أنوفهم في يوم مشهود ظهر فيه الحق، وعلت كلمة الله، وقامت حجته، وجاءتنا

_ 1 سورة الصافات آية: 180: 182. 2 أنكفنا. أي: انكفأنا ورجعنا. ويقصدون بها الرجوع من الجهة التي كانوا فيها، وهكذا ينطق بها أهل نجد. 3 ثرمدا من بلاد القصيم في نجد.

عموم المصاب بقسوة القلوب وانصراف الخلق عن العبادة وغربة الإسلام

المكاتبة من مَلإها وأكابرها يعتذرون ويتنصلون ويحلفون، والله يعلم علانيتهم وسرائرهم، ويحاسب عباده بعلمه فيهم. وقد وعدونا أنه لا يعود إلى بلدتهم ولا يدخلها، وحلف أميرهم عندي في المجلس على ذلك، وأغلظ على نفسه بعد ما جرت المعاتبة، وأغلظت له القول على حمله وتمكينه من دخول البلدة. والرسالة المشار إليها تصلكم مع هذا الجواب -إن شاء الله-. اقرءوها، وتدبروا ما فيها، فإنها مفيدة مع اختصارها. ونسأل الله أن يجعل أعمالنا وأعمالكم خالصة لوجهه الكريم. وبلغ الوالد والعيال والإخوان منا السلام إجازة عامة. ومن لدينا عبد العزيز بن عبد الرحمن وإسماعيل والابن عبد الله وعيال محمد بن علي يبلغون السلام، والسلام. وصلى الله على محمد. (عموم المصاب بقسوة القلوب وانصراف الخلق عن العبادة وغربة الإسلام) بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين من عبد اللطيف بن عبد الرحمن إلى الأخ المكرم محمد بن عمر آل سليم -سلك الله بنا وبه صراطه المستقيم، ووفقنا بمَنِّه لمخالفة أصحاب الجحيم-. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. "وبعد": فأحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو على ما أولاه من إنعامه، وما ألبسه من ملابس إكرامه، جعلنا الله وإياكم ممن عرف نعمة الله عليه، واستعملها فيما يقرب إليه، والخط وصل -وصلك الله بالرضا-، وقد سرنا ما أفاده من سلامة الحال، واعتدال الأوقات، لا زالت أحوالا محروسة، وأوقاتا بذكر الله معمورة مأنوسة. وما أشرت إليه من قسوة القلوب، وكثرة الذنوب، وانصراف الخلق عما خلقوا

حكم العمل بالخط المعروف في الوصية وغيرها

له، فنعم، قد عم بذلك المصاب، واستحكم الداء، وعز الدواء، إلا أن يمن الله على من يشاء من عباده بالهداية والشفاء. واشتداد الغربة، واستحكام الشدة والكربة قد وجد منذ أزمان، والشأن في هذا الزمان في نفس الوجود. فإن غالب الأماكن والقرى والبلدان لا يعرفون فيها للدين حقيقة ولا اسما، ولا يهتدون سبيلا إلى ما جاءت به الرسل ولاسيما والإسلام عندهم هو ما نشئوا عليه، وتلقوه عن أسلافهم في باب معرفة الله ومعرفة حقه، وباب معرفة حكمه وشرعه. فالأول حقيقته عندهم هو التعطيل المحض. "والثاني" خلاصته ولبه فيما بينهم هو التعلق على عباده، وجعلهم شركاء له. "والثالث" جردوا فيه متابعة الأشياخ والآباء عما جاءت به الرسل والأنبياء. وهذا هو عين العكس وقلب الحقائق. فاجتهد في الخلاص من شبكات تلك المهالك والمضايق بلزوم السنة والكتاب، والسلوك على أثر الآل والأصحاب، ومن تبعهم من ذوي الألباب، واجتهد في التضرع إلى الله في الإعانة على ذكره وشكره وحسن عبادته، ولا تنسنا من صالح دعائك، وبلغ سلامنا الوالد والعيال والإخوان: محمد آل عبد الله وآل شومر وابن جاسر ومطلق وكافة الإخوان، ومن لدينا الشيخ المكرم وأولاده وأولادنا وعبد الرازق بخير وينهون السلام، والسلام. {حكم العمل بالخط المعروف في الوصية وغيرها} بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله وحده. وجدت على ظهر وثيقة أوصى بها عبد الرحمن بن محمد القاضي ما نصه: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله وحده. إن كانت هذه الوثيقة بيد ورثة الموصي، وسبق عمل بها من وارثه أو وارث وارثه، ولم ينازع أحد من الورثة في صدورها عن مورثهم؛ فهذا

فتوى في حق الضيف على أهل القرى والبادية

منهم إقرار بالوصية، وتسليم بمقتضاها؛ فيثبت الحكم الشرعي بهذا العمل والتقرير لمضمون الوصية، وهو حجة شرعية، وإذا كان بخط من يوثق به من طلبة العلم المعروفين بالدين والأمانة؛ فهو مما يقوي ثبوت هذه الوصية والعمل بها. قاله ممليه الفقير إلى الله عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن، وكتبه عن أمره أحمد بن محمد بن عبيد، وصدر في 27 محرم سنة 1291. ونقله من خط أحمد بن محمد بن عبيد بعد معرفته يقينا، وعليه ختم ممليه سليمان بن عبد الرحمن بن حمدان. وصلى الله على محمد وسلم. ونقله من خط من سمى نفسه عبد الله بن إبراهيم الربيعي. (فتوى في حق الضيف على أهل القرى والبادية) بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله. من قام بما يجب عليه للضيف الذي يختص به سقط عنه ما يوضع على البلد من جهة الضيف إذا كان الخارج منه للضيف قدر ما يستحق؛ لوجوب العدل الذي أمر الله به. قاله ممليه عبد اللطيف بن عبد الرحمن، وكتبه عن أمره حسن بن علي. وصلى الله على محمد وسلم. بسم الله الرحمن الرحيم ما ذكره الوالد -رحمه الله تعالى- يلزم العمل بمقتضاه، ولا يجوز لأحد العدول عنه حتى لا يخفى. قاله ممليه محمد بن عبد اللطيف -عفا الله عنه-، ونقله من أصله وعليه ختم كل منهما: سليمان بن عبد الرحمن بن حمدان. وصلى الله على محمد وسلم. بسم الله الرحمن الرحيم ما ورد على أهل البلد من الكلف، كالضيف وشبهه يكون على كل أحد بحسبه، والذي يدفع أكثر من غيره فله الرجوع على غيره، كالرجل المعروف المنصر. قال ذلك ممليه عبد الرحمن بن عدوان، ونقله من أصله الذي عليه ختم ممليه سليمان بن حمدان. ونقله من خط ناقله من سمى نفسه عبد الله بن إبراهيم الربيعي.

المسائل الشرعية إلى علماء الدرعية

المسائل الشرعية إلى علماء الدرعية جواب مسألة سئل فيها الشيخ عبد العزيز "قاضي الدرعية" ومن حوله من العلماء* المسماة "المسائل الشرعية إلى علماء الدرعية". فوصل الجواب، واختصر ألفاظ السؤال في كل باب، بل حُذف كثير من ذلك الخطاب، لكن بيت القصيد قد ضمن في الجواب السديد. وصلى الله على محمد النبي الأمي، وآله وصحبه وسلم. نص الجواب بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وبه التوفيق، وبيده أزِمَّة الهداية والتحقيق. [الشرك الأكبر الذي يحل الدم والمال] "أما المسألة الأولى" وهي السؤال الأول عن الشرك بالله، ما هو الأكبر الذي ذم فاعله؟ وماله حلال لأهل الإسلام، ولا يغفر لمن مات عليه؟ وما هو الأصغر؟ فنقول: قد ذكر العلماء -رحمهم الله تعالى- أن الشرك نوعان: أكبر وأصغر فالأكبر أن يجعل لله ندا من خلقه يدعوه كما يدعو الله، ويخافه كما يخاف الله، ويرجوه كما يرجو الله، ويتوكل عليه في الأمور كما يتوكل على الله. والحاصل أن من سوى بين الله وبين خلقه في عبادته ومعاملته، فقد أشرك بالله، وهو الشرك الأكبر الذي لا يغفره الله، كما دل على ذلك قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} 1 إلى قوله: {وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} 2. وقال تعالى عن أهل النار: {تاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ. إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} 3 قال بعض المفسرين: والله ما سووهم بالله في الخلق والرزق والتدبير،

_ * في "الدرر السنية" (1/ 196): (وسئل أيضا أبناء الشيخ محمد بن عبد الوهاب وحمد بن ناصر رحمهم الله تعالى). [معد الكتاب للمكتبة الشاملة] 1 سورة البقرة آية: 165. 2 سورة البقرة آية: 167. 3 سورة الشعراء آية:97، 98.

ولكن سووهم به في المحبة والإجلال والتعظيم. وقال تعالى: {ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} 1 أي يعدلون به في العبادة. ولهذا اتفق العلماء كلهم على أن من جعل بينه وبين الله وسائط يدعوهم ويتوكل عليهم ويسألهم فقد كفر؛ لأن هذا كفر عابدي الأصنام قائلين: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} 2 ثم شهد الله عليهم بالكذب والكفر فقال: {إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} 3 فهذا حال من اتخذ من دون الله أولياء يزعم أنهم يقربونه إلى الله. وقال: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} 4. وقد أنكره الله في كتابه وأبطله، وأخبر أن الشفاعة كلها له، وأنه لا يشفع عنده أحد إلا لمن أذن له أن يشفع فيه، ورضي قوله وعمله، وهم أهل التوحيد الذين لم يتخذوا من دون الله شفعاء، فإنه -سبحانه وتعالى- يأذن في الشفاعة لهم حيث لم يتخذوا من دونه شفعاء، فيكون أسعد الناس بشفاعة الشفعاء صاحب التوحيد الذي حقق قول: لا إله إلا الله. والشفاعة التي أثبتها الله ورسوله هي الشفاعة الصادرة عمن أذن له لمن وحَّده، والشفاعة التي نفاها القرآن هي الشفاعة الشركية التي يظنها المشركون، فيعاملون بنقيض قصدهم، ويفوز بها الموحدون. فتأمل قوله صلى الله عليه وسلم لأبي هريرة - وقد سأله: من أسعد الناس بشفاعتك يا رسول الله؟ قال: "من قال: "لا إله إلا الله" خالصا من قلبه"5 فجعل أعظم الأسباب التي تنال بها الشفاعة تجريد التوحيد، عكس ما عند المشركين: أن الشفاعة تنال باتخاذهم شفعاء، وعبادتهم وموالاتهم من دون الله. فأكذب النبي -صلى الله عليه وسلم- زعمهم الكاذب، وأخبر أن سبب الشفاعة تجريد التوحيد، فحينئذ يأذن الله للشافع أن يشفع فيه. ومن جهل المشرك اعتقاده أن من اتخذ من دون الله شفيعا أنه يشفع له، وينفعه

_ 1 سورة الأنعام آية: 1. 2 سورة الزمر آية: 3. 3 سورة الزمر آية: 3. 4 سورة يونس آية: 18. 5 البخاري: العلم "99" , وأحمد "2/ 373".

كما يكون عند خواص الملوك والولاة، ولم يعلموا أن الله لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه، ولا يأذن في الشفاعة إلا لمن رضي قوله وعمله، كما قال تعالى في الفصل الثاني: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلا لِمَنِ ارْتَضَى} 1 وبقي فصل ثالث وهو: أنه ما يرضى من القول والعمل إلا التوحيد، واتباع الرسول صلى الله عليه وسلم وعن هاتين الكلمتين يسئل الأولون والآخرون، كما قال أبو العالية: كلمتان يسئل عنهما الأولون والآخرون: ماذا كنتم تعبدون؟ وماذا أجبتم المرسلين؟ فهذه ثلاثة أصول تقطع شجرة الشرك من قلب من وعاها وعقلها: "فالأول" أنه لا شفاعة إلا بإذنه. "والثاني" أنه لا يأذن إلا لمن رضي قوله وعمله. "والثالث" أنه لا يرضى من القول والعمل إلا توحيده، واتباع رسوله. وقد قطع -سبحانه وتعالى- الأسباب التي يتعلق بها المشركون قطعا، يعلم من تأمله وعرفه أن من اتخذ من دون الله وليا أو شفيعا فهو كمثل العنكبوت اتخذت بيتا، فقال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} 2 فالمشرك إنما يتخذ معبوده لما يحصل له به من النفع، والنفع لا يكون إلا فيمن فيه خصلة من هذه الأربع: إما مالك لما يريد عابده منه، فإن لم يكن مالكا كان شريكا للمالك، فإن لم يكن شريكا له كان معينا وظهيرا، فإن لم يكن معينا ولا ظهيرا كان شفيعا عنده. فنفى -سبحانه وتعالى- المراتب الأربع نفيا مرتبا منتقلا من الأعلى إلى ما دونه، فنفى الملك والشرك والمظاهرة والشفاعة التي يطلبها المشرك، وأثبت شفاعة لا نصيب فيها لمشرك، وهي الشفاعة بإذنه. فكفى بهذه الآية برهانا ونورا وتجريدا للتوحيد، وقطعا لأصول الشرك ومواده لمن عقلها، والقرآن مملوء من أمثالها ونظائرها، {ولكن أكثر الناس لا

_ 1 سورة الأنبياء آية: 28. 2 سورة سبأ آية: 22، 23.

يشعرون} بدخول الواقع تحته، ويظنه في قوم قد خلوا من قبل ولم يعقبوا وارثا، وهذا هو الذي يحول بين القلب وفهم القرآن. ولعمر الله إن كان أولئك قد خلوا، فقد ورثهم من هو مثلهم أو شر منهم أو دونهم، وتناول القرآن لهم كتناوله لأولئك، ولكن الأمر كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه "إنما تنقض عرى الإسلام عروة عروة إذا نشأ في الإسلام من لا يعرف الجاهلية". والشرك وما عابه الله وذمه فإنه يقع فيه ويقره، ويدعو إليه ويصوبه ويحسنه، وهو لا يعرف أنه الذي كان عليه أهل الجاهلية أو نظيره، أو شر منه أو دونه. فتنقض بذلك عرى الإسلام، ويعود المعروف منكرا، والمنكر معروفا، والبدعة سنة، والسنة بدعة، ويُبَدَّع الرجل لتجريد التوحيد، ومتابعة الرسول صلى الله عليه وسلم ومفارقة أهل الأهواء والبدع، ومن له بصيرة وقلب حي يرى عيانا. والله المستعان. والكلام في هذه المسألة يحتاج إلى بسط طويل ليس هذا محله، وإنما نبهناك على ذلك تنبيها يعرف به -كل من نور الله قلبه- حقيقة الشرك الذي لا يغفره الله إلا بالتوبة منه، وحرم الجنة على فاعله. ولكن من أعظم أنواعه، وأكثرها وقوعا في هذه الأزمان طلب الحوائج من الموتى، والاستغاثة بهم، والرحيل إليهم. وهذا أصل شرك العالم كما ذكره المفسرون عند قوله -تعالى- حكاية عن قوم نوح: {وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} 1 إن هذه أسماء رجال صالحين في قوم نوح، فلما ماتوا عكفوا على قبورهم، ثم طال عليهم الأمد فعبدوهم، كما ذكر البخاري في صحيحه في تفسير سورة نوح -عليه السلام-، وكما ذكر غيره من أهل العلم، والله -سبحانه وتعالى- أعلم. [الشرك الأصغر] وأما الشرك الأصغر فَكَيَسِير الرياء والحلف بغير الله كما ذكر عن النبي -صلى الله عليه وسلم-

_ 1 سورة نوح آية: 23.

أنه قال: "من حلف بغير الله فقد أشرك"1 ومن ذلك قول الرجل: ما شاء الله وشئت، وهذا من الله ومنك، وأنا بالله وبك، ومالي إلا الله وأنت، وأنا متوكل على الله وعليك، ولولا أنت لم يكن كذا وكذا. وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال له رجل: ما شاء الله وشئت فقال: "أجعلتني لله ندا؟ قل: ما شاء الله وحده"2 وهذه اللفظة أحق من غيرها من الألفاظ، وقد يكون هذا شركا أكبر بحسب حال قائله ومقصده. وهذا الذي ذكرنا متفق عليه عند العلماء أنه من الشرك الأصغر، كما أن الذي قبله متفق عليه أنه من الشرك الأكبر. [وجوب التوبة من كبير الشرك وصغيره] واعلم أن التوبة مقبولة منهما، ومن سائر الذنوب قطعا، إذا صحت التوبة واستكملت شروطها، لكن ابن عباس رضي الله عنه ومن تبعه قال: لا تقبل توبة القاتل. وقد ناظر ابن عباس -رضي الله عنهما- أصحابه، وخالفه جمهور العلماء في ذلك، وقالوا: التوبة تأتي على كل ذنب. فكل ذنب يمكن التوبة منه وتقبل. واحتجوا بقوله تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} 3 وبقوله تعالى: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى} 4 فإذا تاب هذا القاتل وآمن وعمل صالحا، فإن الله عزوجل غفار له. فصل [في مراتب الدين] وأما قول السائل: هل للتوحيد والإيمان مرتبتان وحقيقتان ومجازان، يقابل كل واحد واحدة من مراتب الشرك والكفران، ويتعلق بأحدهما دون الآخر النقص والبطلان، ويخرج بفعل بعض قواعد الشرك، أو ترك بعض قواعد التوحيد عن دائرة الإسلام لا دائرة الإيمان، أو بالعكس؟ فاعلم -رحمك الله تعالى- أن العلماء ذكروا أن الدين على ثلاث مراتب:

_ 1 الترمذي: النذور والأيمان "1535" , وأبو داود: الأيمان والنذور "3251" , وأحمد "2/ 34 ,2/ 69 ,2/ 86 ,2/ 125". 2 أحمد "1/ 283". 3 سورة الزمر آية: 53. 4 سورة طه آية: 82.

"المرتبة الأولى" مرتبة الإسلام، وهي المرتبة الأولى التي يدخل فيها الكافر أول ما يتكلم بالإسلام ويذعن وينقاد له. "المرتبة الثانية" مرتبة الإيمان، وهي أعلى من المرتبة الأولى؛ لأن الله تعالى نفى عمن ادعوها الإيمان أول وهلة، وأثبت لهم الإسلام، فقال تعالى: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْأِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} 1 فأنكر -سبحانه- عليهم ادعاءهم الإيمان، وأخبر أنهم لم يبلغوا هذه المرتبة إذ ذاك. وفي الحديث الصحيح -حديث سعد- لما قال للنبي صلى الله عليه وسلم مالك عن فلان؟ فوالله إني لأراه مؤمنا 2 فقال: "أو مسلما"3. "المرتبة الثالثة" الإحسان، وهي أعلى المراتب كلها، وقد تضمن حديث جبريل -عليه السلام- هذه المراتب كلها لما سأله عن الإسلام والإيمان والإحسان، فأخبره صلى الله عليه وسلم بذلك، ثم قال: "هذا جبريل أتاكم يعلمكم أمر دينكم"4. فقد ينفى عن الرجل الإحسان ويثبت له الإيمان، وينفى عنه الإيمان ويثبت له الإسلام، كما في قوله -عليه السلام-: "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن"5 ولا يخرجه عن مرتبة الإسلام إلا الكفر بالله، والشرك المخرج من الملة. وأما المعاصي والكبائر كالزنى والسرقة وشرب الخمر وأشباه ذلك فلا تخرجه عن دائرة الإسلام عند أهل السنة والجماعة، خلافا للخوارج والمعتزلة الذين يكفرون بالذنوب، ويحكمون بتخليد فاعلها في النار.

_ 1 سورة الحجرات آية: 14، 15. 2 أي ما لك تعرض أو تعدل عن فلان فلا تعطيه؟ وقوله -صلى الله عليه وسلم-: "أو مسلما" إضراب يتضمن النهي عن وصفه بالإيمان، وأن يصفه بالإسلام الذي يصدق مهما يكن باطن الرجل. والحديث في الصحيحين. 3 البخاري: الإيمان "27" , ومسلم: الإيمان "150" , والنسائي: الإيمان وشرائعه "4993" , وأبو داود: السنة "4683 ,4685" , وأحمد "1/ 176 ,1/ 182". 4 مسلم: الإيمان "8" , والترمذي: الإيمان "2610" , والنسائي: الإيمان وشرائعه "4990" , وأبو داود: السنة "4695" , وابن ماجه: المقدمة "63" , وأحمد "1/ 27 ,1/ 28 ,1/ 51". 5 البخاري: المظالم والغصب "2475" , ومسلم: الإيمان "57" , والترمذي: الإيمان "2625" , والنسائي: قطع السارق "4870 ,4871 ,4872" والأشربة "5659 ,5660" , وأبو داود: السنة "4689" , وابن ماجه: الفتن "3936" , وأحمد "2/ 243 ,2/ 317 ,2/ 386" , والدارمي: الأشربة "2106".

واحتج أهل السنة والجماعة على ذلك بحجج كثيرة من الكتاب والسنة، وأقوال الصحابة والتابعين. فمن ذلك ما رواه محمد بن نصر المروزي الإمام المشهور: حدثنا إسحاق بن إبراهيم: حدثنا وهب بن جرير بن حازم: حدثنا أبي عن الفضل عن أبي جعفر محمد بن علي أنه سئل عن قول النبي صلى الله عليه وسلم "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن"1. فقال أبو جعفر: هذا الإسلام ودونه دائرة واسعة، وهذا الإيمان ودونه دائرة صغيرة في وسط الكبيرة، فإذا زنى أو سرق خرج من الإيمان إلى الإسلام، ولا يخرج من الإسلام إلى الكفر بالله. انتهى. قال: وإن الله تعالى جعل اسم الإيمان اسم ثناء وتزكية، ومدحه، وأوجب عليه الجنة فقال: {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ} 2 وقال: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ} 3 وقال: {يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ} 4 وقال تعالى: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا} 5 وقال تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} 6 الآية. قالوا: وقد توعد الله بالنار أهل الكبائر، فدل ذلك على أن اسم الإيمان زال عمن أتى بكبيرة، قالوا: ولم نجده تعالى أوجب الجنة باسم الإسلام، فثبت أن اسم الإسلام باق على حاله، واسم الإيمان زائل عنه. [الكفر ضد أصول الإيمان] فإن قيل: أليس ضد الإيمان الكفر؟ "فالجواب" أن الكفر ضد أصل الإيمان؛ لأن الإيمان له أصول وفروع، فلا يثبت الكفر حتى يزول أصل الإيمان الذي هو ضد الكفر. فإن قيل: الذي زعمتم أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أزال عنهم اسم الإيمان، هل بقي معهم من الإيمان شيء؟ قيل: نعم أصله ثابت، ولولا ذلك لكفَّرهم.

_ 1 البخاري: المظالم والغصب "2475" , ومسلم: الإيمان "57" , والترمذي: الإيمان "2625" , والنسائي: قطع السارق "4870 ,4871 ,4872" والأشربة "5659 ,5660" , وأبو داود: السنة "4689" , وابن ماجه: الفتن "3936" , وأحمد "2/ 243 ,2/ 317 ,2/ 386" , والدارمي: الأشربة "2106". 2 سورة الأحزاب آية: 43، 44. 3 سورة يونس آية: 2. 4 سورة الحديد آية: 12. 5 سورة البقرة آية: 257. 6 سورة التوبة آية: 72.

فإن قيل: كيف أمسكتم عن اسم الإيمان أن تسموا به الفاسق، وأنتم تزعمون أن أصل الإيمان معه، وهو التصديق بالله ورسوله؟ "قلنا": لأن الله ورسوله وجماهير المسلمين يسمون الأشياء بما علمت عليها من الأسماء، فيسمون الزاني فاسقا، والقاذف فاسقا، وشارب الخمر فاسقا، ولم يسموا واحدا من هؤلاء تقيا ولا ورعا، وقد أجمع المسلمون أن فيه أصل التقوى والورع، وذلك أنه يتقي أن يكفر أو يشرك بالله، وكذلك يتقي أن يترك الغسل من الجنابة والصلاة، ويتقي أن يأتي أمه فهو في جميع ذلك يتقي 1. وقد أجمع المسلمون من الموافقين والمخالفين أنه لا يسمى تقيا ولا ورعا إذا كان يأتي بالفجور، مع أن أصل التقوى والورع نفاه الله يزيد فيه ... 2 من دعاء بعد الأصل كتورعه عن إتيان المحارم، ثم لا يسمونه تقيا ولا ورعا مع إتيانه ببعض الكبائر، بليسمونه فاسقا وفاجرا مع علمهم أنه قد نفى بعض التقوى والورع، فمنعهم من ذلك أن اسم التقي اسم ثناء وتزكية، وأن الله قد أوجب عليهم المغفرة والجنة. قالوا: فلذلك لا نسميه مؤمنا، ونسميه فاسقا وزانيا، وإن كان في قلبه أصل الإيمان؛ لأن اسم الإيمان أصل أثنى الله به على المؤمنين، وزكاهم به، وأوجب لهم الجنة. ثم قال: مسلم ولم يقل ومن قالوا: ولو كان أحد من المسلمين الموحدين يستحق أن لا يكون في قلبه إيمان وإسلام لكان أحق الناس به أهل النار الذين يخرجون منها؛ لأنه صح عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أن الله يقول: "أخرجوا من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان"3 فثبت أن شر المسلمين في قلبه إيمان. ولما وجدنا الأمة تحكم بالأحكام التي ألزمها الله المسلمين، ولا يكفرونهم، ولا يشهدون لهم بالجنة؛ ثبت أنهم مسلمون يجري عليهم أحكام المسلمين، وأنهم لا يستحقون أن يسموا مؤمنين.

_ 1 الكلام هنا غير منسق. فلعله سقط منه شيء. 2 بياض في الأصل. 3 البخاري: الإيمان "22" , ومسلم: الإيمان "184" , وأحمد "3/ 56".

إذا كان الإسلام مثبتا للملة التي يخرج بها المسلم من جميع الملل، ويزول عنه اسم الكفر، ويثبت له أحكام المسلم. [الفرق بين المسلم والمؤمن] والمقصود معرفة ما قدمناه من أن للدين ثلاث مراتب: أولها الإسلام، وأوسطها الإيمان، وأعلاها الإحسان، ومن وصل إلى العليا، فقد وصل إلى التي قبلها، فالمحسن مؤمن مسلم، والمؤمن مسلم، وأما المسلم فلا يلزم أن يكون مؤمنا. وهذا التفصيل الذي أخرجه النبي صلى الله عليه وسلم في حديث جبريل جاء به القرآن، فجعل الأمة على هذه الأصناف الثلاثة، فقال تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ} 1 الآية. فالمسلم الذي لم يقم بواجب الإيمان هو الظالم لنفسه، والمقتصد هو المؤمن المطلق الذي أدى الواجب وترك المحرم، والسابق بالخيرات هو المحسن الذي عبد الله كأنه يراه. وقد ذكر الله سبحانه تقسيم الناس في المعاد إلى هذه الأقسام الثلاثة في سورة الواقعة والمطففين وهل أتى. وقال أبو سليمان الخطابي -رحمه الله تعالى-: فأكثر ما يغلط الناس في هذه المسألة. فأما الزهري فقال: الإسلام الكلمة، والإيمان العمل. واحتج بالآية. وذهب غيره إلى أن الإسلام والإيمان شيء واحد، واحتج بقوله: {فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} 2 قال: والصحيح من ذلك أن يقيد الكلام في هذا ولا يطلق. وذلك أن المسلم قد يكون مؤمنا في بعض الأحوال، ولا يكون مؤمنا في بعضها، والمؤمن مسلم في جميع الأحوال، فكل مؤمن مسلم، وليس كل مسلم مؤمنا، وإذا حملت الأمر على هذا استقام لك تأويل الآيات، واعتدل القول فيها، ولم يختلف شيء منها. قال الشيخ تقي الدين: "والذي اختاره الخطابي هو قول من فرق بينهما، كأبي جعفر وحماد بن زيد وعبد الرحمن بن مهدي، وهو قول أحمد بن حنبل وغيره،

_ 1 سورة فاطر آية: 32. 2 سورة الذاريات آية: 35.

وما علمت أحدا من المتقدمين خالف هؤلاء، وجعل نفس الإسلام نفس الإيمان. وكان عامة أهل السنة على هذا الذي قاله هؤلاء كما ذكره الخطابي. وكذلك ذكر أبو القاسم التيمي الأصبهاني، وابنه محمد شارح مسلم وغيرهما: أنه المختار عند أهل السنة، وأنه لا يطلق على السارق والزاني اسم مؤمن كما دل عليه النص"*.1 فصل [في تفاضل الناس في التوحيد ولوازمه] إذا تمهدت هذه القاعدة تبين لك أن الناس يتفاضلون في التوحيد تفاضلا عظيما، ويكونون فيه على درجات بعضها أعلى من بعض؛ فمنهم من يدخل الجنة بغير حساب ولا عذاب، كما دلت عليه النصوص الصريحة الصحيحة، ومنهم من

_ * كتاب الإيمان ص 282 - 283، وهو في مجموع الفتاوى 7/ 359. [معد الكتاب للمكتبة الشاملة] 1 وقال بعض العلماء: إن نفي الإيمان عن الزاني والسارق وشارب الخمر معناه أنه في حال تلبسه بما ذكر لا يكون متلبسا بالإيمان بتحريم الله له، كما يدل عليه تقييده بقوله -صلى الله عليه وسلم-: حين يزني وحين يشرب وحين يسرق. أي: بل يكون غافلا عنه، وقال بعضهم: المراد به نفي الإيمان الكامل، وهو الذي بينه في آخر سورة الحجرات، وأول سورة الأنفال، وفي سور أخرى، فهذا هو الذي ينافي الفسق وارتكاب الكبائر، وقد قال الله تعالى في سورة الحجرات: "وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي" .. الآية. فأطلق لقب المؤمنين على المتقاتلين حتى الباغية منهما. وأما الإسلام فهو العمل بالشريعة، فإن كان اعتقادا قطعيا -وهو الإيمان- كان إسلاما صحيحا، وإلا كان نفاقا ولم يكن إسلاما إلا في الظاهر؛ لأن الإيمان بالاعتقاد الجازم أمر باطني لا يعلمه حق العلم إلا الله -تعالى-، وله آيات ودلائل ذكرت في مواضع من القرآن كما تقدم، والمعصية لا تبطله، وإن كانت كبيرة إلا بالاستحلال، بشرطه الذي تقدم بيانه في رسائل العلامة أبا بطين وحواشيها، وإنما تنافي كماله. وفي الإصرار خطر لا محل لبيانه هنا.

يدخل النار وهم العصاة، ويمكثون فيها على قدر ذنوبهم، ثم يخرجون منها؛ لأجل ما في قلوبهم من التوحيد والإيمان، وهم في ذلك متفاوتون كما في الحديث الصحيح من قول النبي صلى الله عليه وسلم "أخرجوا من النار من قال: "لا إله إلا الله" وفي قلبه من الخير ما يزن برة" -وفي لفظ: "شعيرة"، وفي لفظ: "ذرة"، وفي لفظ: حبة خردل - من إيمان"1. ومن تأمل النصوص تبين له أن الناس يتفاضلون في التوحيد والإيمان تفاضلا عظيما، وذلك بحسب ما في قلوبهم من الإيمان بالله، والمعرفة الصادقة والإخلاص واليقين. والله -سبحانه وتعالى- أعلم. [فصل في دار الكفر ودار الإيمان] وأما السؤال الثاني وهو قولكم: من لم تشمله دائرة إمامتكم، ويتسم بسمة دولتكم، هل داره دار كفر وحرب على العموم .. الخ؟ فنقول وبالله التوفيق: الذي نعتقده وندين الله به أن من دان بالإسلام، وأطاع ربه فيما أمر، وانتهى عما عنه نهى وزجر، فهو المسلم حرام المال والدم، كما دل على ذلك الكتاب والسنة وإجماع الأمة، ولم نكفر أحدا دان بالإسلام؛ لكونه لم يدخل في دائرتنا، ولم يتسم بسمة دولتنا، بل لا نكفر إلا من كفر الله ورسوله، ومن زعم أنا نكفر الناس بالعموم، أو نوجب الهجرة إلينا على من قدر على إظهار دينه ببلده، فقد كذب وافترى. وأما من بلغته دعوتنا إلى توحيد الله، والعمل بفرائض الله، وأبى أن يدخل في ذلك، وأقام على الشرك بالله، وترك فرائض الإسلام، فهذا نكفره، ونقاتله، ونشن عليه الغارة. وكل من قاتلناه فقد بلغته دعوتنا، بل الذي نتحققه ونعتقده أن أهل اليمن وتهامة والحرمين والشام والعراق قد بلغتهم دعوتنا، وتحققوا أنا نأمر بإخلاص الدين والعبادة لله، وننكر ما عليه أكثر الناس من الإشراك بالله من دعاء غير الله،

_ 1 البخاري: الإيمان "44" , ومسلم: الإيمان "193" , والترمذي: صفة جهنم "2593" , وابن ماجه: الزهد "4312" , وأحمد "3/ 116 ,3/ 173 ,3/ 247 ,3/ 276".

والاستغاثة به عند الشدائد، وسؤالهم قضاء الحاجات، وإغاثة اللهفات. وأنا نأمر بإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وسائر أمور الإسلام، وننهى عن الفحشاء والمنكرات، وسائر الأمور المبتدعات. ومثل هؤلاء لا يجب دعوتهم قبل القتال؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم أغار على بني المصطلق وهم غارون، وغزا أهل مكة بلا إنذار ولا دعوة. وأما قوله صلى الله عليه وسلم لعلي رضي الله عنه يوم خيبر -لما أعطاه الراية- وقال: "انفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم، ثم ادعهم إلى الإسلام"1 فهو عند أهل العلم على الاستحباب. وأما إذا قدرنا أن أناسًا لم تبلغهم دعوتنا، ولم يعلموا حقيقة أمرنا، أن الواجب دعوتهم أولا قبل القتال، فيدعون إلى الإسلام، وتكشف شبهتهم إن كان لهم شبهة، فإن أجابوا فإنه يقبل منهم، ثم يكف عنهم، فإن أبوا حلت دماؤهم وأموالهم. فصل [في الهجرة من دار الكفر] وأما قولكم: من أجاب الدعوة، وحقق التوحيد، وتبرأ من الشرك. هل تلزمه الهجرة، وإن لم يكن له قدرة؟ "فنقول": الهجرة تجب على كل مسلم لا يقدر على إظهار دينه ببلده إن كان قادرا على الهجرة، كما دل على ذلك قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَاوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} 2. وأما من لم يقدر على الهجرة فقد استثناهم الله تعالى بقوله: {إِلا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا} 3 الآية. فصل [في الإيمان بالمعنى اللغوي والمعنى الشرعي] وأما السؤال الثالث، وهو قولكم: قد ورد: "الإسلام يهدم ما قبله"4 وفي رواية: "يجب ما قبله"، وفي حديث حجة الوداع: "ألا إن دم الجاهلية كله موضوع"5 الخ،

_ 1 البخاري: الجهاد والسير "2942" , ومسلم: فضائل الصحابة "2406" , وأحمد "5/ 333". 2 سورة النساء آية: 97. 3 سورة النساء آية: 98. 4 مسلم: الإيمان "121" , وأحمد "4/ 204". 5 الترمذي: تفسير القرآن "3087" , وأبو داود: البيوع "3334" , وابن ماجه: المناسك "3055".

وظهر لنا من جوابكم أن المؤمن بالله ورسوله إذا قال أو فعل ما يكون كفرا جهلا منه بذلك، فلا تكفرونه حتى تقوم عليه الحجة الرسالية، فهل لو قتل من هذا حاله قبل ظهور هذه الدعوة موضوع أم لا؟ فنقول: إذا كان يعمل بالكفر والشرك لجهله وعدم من ينبهه لا نحكم بكفره حتى تقام عليه الحجة، ولكن نحكم بأنه مسلم، بل نقول: عمله هذا كفر يبيح المال والدم، وإن كنا لا نحكم على هذا الشخص لعدم قيام الحجة عليه، لا يقال: إن لم يكن كافرا فهو مسلم. بل نقول: عمله عمل الكفار. وإطلاق الحكم على هذا الشخص بعينه متوقف على بلوغ الحجة الرسالية إليه. وقد ذكر أهل العلم أن أصحاب الفترات يمتحنون يوم القيامة في العرصات ولم يجعلوا حكمهم حكم الكفار ولا حكم الأبرار. وأما حكم هذا الشخص إذا قتل، ثم أسلم قاتله، فإنا لا نحكم بديته على قاتله إذا أسلم، بل نقول: الإسلام يجب ما قبله؛ لأن القاتل قتله في حال كفره والله أعلم. وأما كلام أسعد على قوله تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} 1 إنه الإيمان اللغوي الشرعي، فهو مصيب في ذلك، وقد ذكر المفسرون أن معنى قوله: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} 2 أن إيمانهم إقرارهم بأن الله هو الخالق الرازق المدبر، ثم إنهم مع هذا الإيمان بتوحيد الربوبية مشركون بالله في العبادة. ومعلوم أن مشركي العرب وغيرهم يؤمنون بالله رب كل شيء ومليكه، وأن بيده ملكوت كل شيء، وهو يجير ولا يجار عليه، ولم تنفعهم هذه الاعتقادات حيث عبدوا مع الله غيره، وأشركوا معه، بل نجد الرجل يؤمن بالله ورسوله وملائكته وكتبه ورسله وما بعد الموت، فإذا فعل نوعا من المكفرات حكم أهل العلم بكفره وقتله، ولم ينفعه ما معه من الإيمان. وقد ذكر الفقهاء من أهل كل مذهب "باب حكم المرتد" وهو الذي يكفر

_ 1 سورة يوسف آية: 106. 2 سورة يوسف آية: 106.

بعد إسلامه، ثم ذكروا أنواعًا كثيرة من فعل واحدًا منها كفر. وإذا تأملت ما ذكرناه تبين لك أن الإيمان الشرعي لا يجامع الكفر بخلاف الإيمان اللغوي. والله أعلم. وأما قولكم: وهل ينفع هذا المؤمن المذكور ما يصدر منه من أعمال البر وأفعال الخير قبل تحقيق التوحيد. فيقال: لا يطلق على الرجل المذكور اسم الإسلام فضلا عن الإيمان، بل يقال: الرجل الذي يفعل الكفر أو يعتقده في حال جهله وعدم من ينبهه إذا فعل شيئا من أفعال البر وأفعال الخير؛ أثابه الله على ذلك إذا صحح إسلامه وحقق توحيده، كما يدل عليه حديث حكيم ابن حزام: "أسلمت على ما أسلفت من خير"1. وأما الحج الذي فعله في تلك الحالة فلا نحكم ببراءة ذمته به، بل نأمره بإعادة الحج؛ لأنا لا نحكم بإسلامه في تلك الحالة، والحج من شرط صحته الإسلام، فكيف يحكم بصحة حجه وهو يفعل الكفر أو يعتقده؟ ولكنا لا نكفره لعدم قيام الحجة عليه، فإذا قامت عليه الحجة، وسلك غير سبيل المحجة، أمرناه بإعادة الحج؛ ليسقط الفرض عنه بيقين. وأما ما ذكرته عن السيوطي أن الردة لا تنقض الأعمال إن لم تتصل فهي مسألة اختلف العلماء فيها، وليست من هذا الباب؛ لأن كلام السيوطي فيمن فعل شيئا من الأعمال في حال إسلامه، ثم ارتد، ثم أسلم، هل يعيد ما فعله قبل ردته؛ لأنه قد حبط بالردة أم لا؟ لأن الردة لا تحبط العمل إلا بالموت عليها؟ فصل [في المصافحة بالأيدي والمعانقة وتقبيل اليد] وأما السؤال الرابع عن المصافحة بالأيدي والمعانقة وتقبيل اليد. فالمصافحة حسنة مرغب فيها، والمعانقة لا بأس بها. وأما تقبيل اليد فورد فيها أحاديث تدل على ذلك، واعتقاده في حق البعض،

_ 1 البخاري: الزكاة "1436" , ومسلم: الإيمان "123" , وأحمد "3/ 402 ,3/ 434".

وبعض الأحيان دون بعض، وأما المداومة على ذلك واعتقاده سنة؛ فليس في الأحاديث ما يدل على ذلك، ونحن لم ننه الناس عن تقبيل اليد على الوجه الوارد في الأحاديث، بل ننهاهم عن الواقع منهم على خلاف ذلك؛ فإنهم يقبلون أيدي السادة الذين يعتقدون فيهم السر، ويرجون منهم البركة، ويجعلون التقبيل من باب الذل والانحناء المنهي عنه، وصار ذريعة إلى الشرك بالله. والشرع قد ورد بسد الذرائع. فصل [في حلق شعر الرأس] وأما السؤال الخامس عن حلق شعر الرأس: فالذي تدل عليه الأحاديث النهي عن حلق بعضه وترك بعضه، فأما تركه كله فلا بأس به إذا أكرمه الإنسان كما دلت عليه السنة الصحيحة. وأما حديث كليب، فهو يدل على الأمر بالحلق عند دخوله في الإسلام إن صح الحديث، ولا يدل على أن استمرار الحلق سنة. وأما تعزير من لم يحلق وأخذ ماله فلا يجوز، وينهى فاعله عن ذلك؛ لأن ترك الحلق ليس منهيا عنه، وإنما نهى عنه ولي الأمر؛ لأن الحلق هو العادة عندنا، ولا يتركه إلا السفهاء عندنا 1 فنهى عن ذلك نهي تنزيه، لا نهي تحريم سدا للذريعة؛ ولأن كفار زماننا لا يحلقون؛ فصار في عدم الحلق تشبها بهم 2.

_ 1 قوله: السفهاء: مراده -رحمه الله- أن الذي يتركه ويعزره ما مقصوده السنة، بل مقصوده الجمال ليعشقه المردان وربات الحجال ويتبعه الفسقة والأرذال اهـ من حاشية الأصل. 2 فيه أن الكفار إذا فعلوا فعلا مشروعا في الإسلام لا يصح لنا أن نتركه؛ لئلا يكون تشبها، لأننا إنما نفعله لأنه مشروع عندنا وهم المتشبهون بنا، وقد صح أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يرسل شعره ويفرقه، وأنه لم يحلقه إلا في النسك، فلا ينبغي أن يتركه أهل العلم والدين ليصير شعارا للسفهاء أو الكافرين.

فصل [في فضائل أهل بيت النبي] وأما السؤال السادس فيما ورد في فضائل أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم. فنقول: قد صح في فضائل أهل البيت أحاديث كثيرة. وكثير من الأحاديث التي يرويها من صنف في فضائل أهل البيت أكثرها لا يصححها الحفاظ، وفيما صح من ذلك كفاية. وأماقوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} 1 وقول من قال: إن الإرادة صفة أزلية لا تتبدل، وأن "إنما" للحصر وغير ذلك. فنقول: قد ذكر أهل العلم أن الآية لا تدل على عصمتهم من الذنوب، يدل على ذلك أن أكابر أهل البيت كالحسن والحسين وابن عباس لم يدعوا لأنفسهم العصمة، ولا استدل أحد منهم بهذه الآية على عصمتهم 2. وقد ذكر العلماء أن الإرادة في كتاب الله تعالى على نوعين: إرادة قدرية وإرادة شرعية، فالإرادة القدرية لا تبدل ولا تغير، والإرادة الشرعية قد تغير وتبدل. فمن الأول قوله تعالى: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا} 3 وقوله تعالى: {وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا

_ 1 سورة الأحزاب آية: 33. 2 بل كان بعضهم يخالف بعضًا في الأحكام الشرعية كمخالفة الحسن في ترك الإمامة لمعاوية، وكذا مخالفة الحسين في الخروج على يزيد. فهؤلاء خيارهم بالإجماع، وأما من بعدهم فقد كان منهم غلاة الباطنية المارقون من الإسلام، الذين يكيدون له ويدعون إلى تركه وعداوة أهله، والذين يذكرون الحصر في الآية لا يفهمون معناه، وهو ما بيناه في الحاشية في صفحة 582، ولو كانت الآية تدل على العصمة لوجب أن تقول الشيعة بعصمة أزواجه -صلى الله عليه وسلم- بالأولى، وأفضلهن عائشة التي يبغضونها، ويخطئونها كما نخطئها في حرب الجمل. 3 سورة الإسراء آية: 16.

فَلا مَرَدَّ لَهُ} 1. وقوله تعالى: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً} 2 الآيتين. ومن الثاني قوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ} 3. وقوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ} 4 كقوله تعالى: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ} 5 وكقوله: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} 6 وكقوله: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ} 7 فإن إرادة الله في هذه الآية متضمنة لمحبة الله، فذلك المراد رضاه به، وأنه شرعه للمؤمنين وأمرهم به ليس في ذلك خلف هذا المراد، ولا أنه قضاؤه وقدره. والدليل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم بعد نزول هذه الآية قال: "اللهم هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا"8 فطلب من الله تعالى إذهاب الرجس والتطهير عنهم 9. فلو كانت الآية تقتضي إخبار الله بأنه أذهب عنهم الرجس وطهرهم لم يحتج إلى الطلب والدعاء، وهذا على قول القدرية أظهر، فإن إرادة الله تعالى عندهم لا تتضمن وجوب المراد، بل قد يريد ما لا يكون ويكون ما لا يريد، فليس في قوله تعالى: {يُرِيدُ} 10 ما يدل على وقوعه. ومن العجب أن الشيعة يحتجون بهذه الآية على عصمة أهل البيت، ومذهبهم في القدر من جنس مذهب القدرية الذين يقولون: إن الله قد أراد إيمان كل من على وجه الأرض، فلم يقع مراده. [الإرادة في كتاب الله] وأما على قول أهل السنة والتحقيق فما تقدم، وهو أن يقال: الإرادة في كتاب الله تعالى نوعان: إرادة شرعية دينية تتضمن محبته ورضاه، وإرادة كونية

_ 1 سورة الرعد آية: 11. 2 سورة القصص آية: 5. 3 سورة النساء آية: 26، 27. 4 سورة الأحزاب آية: 33. 5 سورة المائدة آية: 6. 6 سورة البقرة آية: 185. 7 سورة النساء آية: 26. 8 الترمذي: تفسير القرآن "3205". 9 كذا في الأصل ولعل أصله الصحيح: إذهاب الرجس عنهم والتطهير لهم. 10 سورة النساء آية: 26.

تتضمن خلقه وتقديره "فالأولى" كقوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ} 1 "والثانية" كقوله تعالى: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ} 2 الآية. وقوله تعالى: {وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} 3 ومثل ذلك كثير في القرآن. فالله تعالى قد أخبر أنه يريد أن يتوب على المؤمنين ويطهرهم وفيه 4 من تاب، وفيه من لم يتب، وفيه من تطهر، وفيه من لم يتطهر، فإذا كانت الآية ليس فيها دلالة على وقوع ما أراده من التطهير وإذهاب الرجس؛ لم يلزم بمجرد الآية ثبوت ما ادعاه هؤلاء. ومما يبين ذلك أن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم مذكورات في الآية، فقد قال تعالى: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَاتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ} 5 إلىقوله: {وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا} 6 فالخطاب كله لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم وفيه الأمر والنهي والوعد والوعيد. لكن لما كان ما ذكره سبحانه يعمّهن، ويعمّ غيرهن من أهل البيت جاء بلفظ التزكية فقال: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} 7 والذي يريد الله من حصول 8 الرجس وحصول التطهير. فهذا الخطاب وغيره ليس مختصًّا بأزواجه، بل هو يتناول أهل البيت كلهم، وعلي

_ 1 سورة النساء آية: 26. 2 سورة الأنعام آية: 125. 3 سورة هود آية: 34. 4 قوله: وفيه. لعل أصله وفيهم، وكذا ما بعده. 5 سورة الأحزاب آية: 30، 31. 6 سورة الأحزاب آية: 33، 34. 7 سورة الأحزاب آية: 33. 8 كذا في الأصل والظاهر أنه سبق قلم أو سهو من الناسخ والأصل: إذهاب الرجس.

وفاطمة والحسن والحسين أخص من غيرهم بذلك، خصصهم النبي صلى الله عليه وسلم بالدعاء لهم 1. وهذا كما أن قوله: {لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ} 2 نزل بسبب مسجد قباء، ولكن الحكم يتناوله، ويتناول ما هو أحق منه بذلك، وهو مسجد المدينة. وفي الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن المسجد الذي أسس على التقوى فقال: "هو مسجدي هذا"3 وفي الصحيح أنه كان يأتي مسجد قباء كل سبت راكبًا وماشيًا، فكان يقوم في مسجده يوم الجمعة، ويأتي قباء يوم السبت، وكلاهما مؤسس

_ 1 التحقيق أن هذه الآيات كلها في نساء النبي -صلى الله عليه وسلم- فقط، وإنما ذكر الضمير في "عنكم"، "ويطهركم" تغليبا للنبي -صلى الله عليه وسلم-، وقد أعاد الخطاب لهن بعد هذه الآية، وهي تعليل لما في الآيات من الأوامر والنواهي، والوعد بمضاعفة الثواب، والوعيد بمضاعفة العقاب. والمعنى: إنما يريد الله بما ذكر من أمر ونهي ووعد ووعيد وترغيب وترهيب؛ أن يطهر هذا البيت المنسوب إلى رسوله من كل رجس، ودنس، وعار يمكن أن يمسه عاره بارتكاب أحد منكن لما نهاكن عنه، وترك ما أمركن به. فهذه الإرادة في الطهارة المعنوية كقوله تعالى في الطهارة الحسية بعد الأمر بالوضوء والغسل: {ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون} وما ورد في الدعاء لعلي وفاطمة وولديهما، أو الخبر بكونهم من أهل بيته؛ فمعناه أنهم يدخلون في عموم لفظ أهل البيت الوارد في نسائه -صلى الله عليه وسلم- فيجب عليهم مما جعله الله سببا للتطهير في الآيات التي خاطب بها نساءه، على القاعدة الأصولية المعروفة: العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. وفي حديث أم سلمة إشكال؛ لأنه يخالف ظاهر الآيات التي هي نص في الأزواج الطاهرات، وأم سلمة منهم، فهي داخلة في منطوقها أوليا، وظاهر الحديث أن إرادة التطهير قدرية تكوينية لا أنها أثر لامتثال تلك الأوامر والنواهي المعللة بها، فليراجع سنده، فلعل فيه بعض الشيعة المحرفين للآية. 2 سورة التوبة آية: 108. 3 مسلم: الحج "1398" , والترمذي: الصلاة "323" , والنسائي: المساجد "697" , وأحمد "3/ 8 ,3/ 23 ,3/ 24 ,3/ 91".

على التقوى، وهكذا أزواجه وعلي وفاطمة والحسن والحسين كلهم من أهل البيت. لكن علي وفاطمة والحسن والحسين أخص بذلك من أزواجه، فلهذا خصصهم بالدعاء 1. فصل [في آل النبي أهل بيته بالقرابة وأزواجه] وأما قولكم: ومن يطلق عليه اسم الآل؟ فنقول: قد تنازع العلماء في آل محمد من هم؟ فقيل: هم أمته. وهذا قول طائفة من أصحاب مالك وأحمد وغيرهم، وقيل: المتقون من أمته. ورووا حديثا: "آل محمد كل تقي" رواه الخلال، وتمام في فوائده، وهو حديث لا أصل له. والصحيح: أن آل محمد هم أهل بيته. وهذا هو المنقول عن الشافعي وأحمد، لكن هل أزواجه من آله؟ على قولين، هما روايتان عن أحمد. والصحيح أن أزواجه من آله، فإنه قد ثبت في الصحيحين عن النبي -صلى الله عليه وسلم - أنه علمهم الصلاة عليه: "اللهم صل على محمد وأزواجه وذريته"2 ولأن امرأة إبراهيم -عليه السلام- من آله وأهل بيته، وامرأة لوط من آله وأهل بيته. والآية المذكورة تدل على أنهن من أهل بيته. وأما الأتقياء من أمته فهم أولياؤه، كما ثبت في الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن آل بني فلان ليسوا لي بأولياء، إن وليي الله وصالح المؤمنين"3 فأولياؤه

_ 1 هذا خلاف المتبادر كما علم مما تقدم، ومن الضروري المعلوم بالفطرة والخبرة أن ما يلحق الرجل من العار بعدم طهارة أزواجه أقوى مما يلحقه بعدم طهارة صهره وأسباطه وأحفاده، فلهذا أورد نص الآيات في الأزواج الطاهرات وافتتحت بقوله تعالى: {يا نساء النبي لستن كأحد من النساء إن اتقيتن} فهذا تفضيل صريح لهن، وهذا لا ينافي كون السيدة فاطمة -عليها السلام- أفضل منهن بكونها بضعة منه -صلى الله عليه وسلم-، وبشخصها أيضا، وكذا ولداها وبعلها -عليهم السلام والرضوان-. 2 البخاري: أحاديث الأنبياء "3369" , ومسلم: الصلاة "407" , والنسائي: السهو "1294" , وأبو داود: الصلاة "979" , وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها "905" , وأحمد "5/ 424" , ومالك: النداء للصلاة "397". 3 مسلم: الإيمان "215" , وأحمد "4/ 203".

المتقون بينه وبينهم قرابة الدين والإيمان والتقوى، والقرب بين القلوب والأرواح أعظم من القرب بين الأبدان، وأما أقاربه ففيهم المؤمن والكافر، والبر والفاجر. ومن كان فاضلا منهم كعلي رضي الله عنه وجعفر والحسن والحسين وابن عباس، فتفضيلهم بما فيهم من الإيمان والتقوى، وهم أولياؤه بهذا الاعتبار لا مجرد النسب. فأولياؤه قد يكونون أعظم درجة من آله، وأنه وإن أمر بالصلاة على آله تبعا لم يقتض ذلك أن يكونوا أفضل من أوليائه، وهم أفضل من أهل بيته، وإن لم يدخلوا في الصلاة معه تبعا، فالمفضول قد يختص بأمر، ولا يلزم أن يكون أفضل من الفاضل. وأزواجه ممن يصلى عليه كما ثبت ذلك في الصحيحين. وقد ثبت باتفاق العلماء كلهم أن الأنبياء أفضل منهم، والله أعلم، وصلى الله على محمد، وآله وصحبه وسلم. (تمت الأجوبة السنية عن الأسئلة الحفظية)

فتاوى ومسائل فقهية مختلفة لبعض علماء نجد

فتاوى ومسائل فقهية مختلفة {لبعض علماء نجد معزوة إليهم} بسم الله الرحمن الرحيم أجوبة مسائل سئل عنها الشيخ سليمان بن علي وغيره، وأجاب فيها بما صورته: "المسألة الأولى" ما ذكرتم من أن الكي عيب في الرقيق فقط. فاعلم أن إطلاقه ليس خصوصية في الرقيق دون غيره، لكن إذا كان الكي لا ينقص القيمة في عرف التجار؛ فوجوده كعدمه. والله أعلم [المعاويد التي مع ودعي البدو] "الثانية" وأما ما ذكرتم من المعاويد التي مع ودعي البدو، أو هن مجتمعات بالمشرب والمبيت، وهن مع وديعين لبلدين كل واحد لبلد مثلا، وهن جميع مثلا كما ذكرتم. فاعلم أن الفقهاء صرحوا -ومن أعظمهم تصريحا شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى- بأن الراعي والرعاة ولو غير عدول إذا عاوض أحدهم، أو عاوضوا الظالم عن المال ببعضه؛ لزم المدفوع إلى الظالم المال كله، كل بقسطه؛ لأنه مجتهد في هذه الصورة غير مفرط. وأما إن أخذ الظالم من غير معاوضة الراعي أو الرعاة، ولا دعوى مكس؛ فمصيبة أصابت المال المدفوع فقط دون غيره من المال لا يؤاخذ بها أحد. وأما إقرار الراعي أو الرعاة أولا به، ثم أقروا ثانيا بغيره، فالعمل على الإقرار الأول دون غيره يعني دون الثاني.

مسألة في أن على مؤجر الأرض قيمة حفر البئر إذا كان فيها دفين أو غيره للشيخ عبد الله بن عضيب

[الوقف الذي ظهر بعضه مستحقا] "الثالثة" إذا وقف عقارا، ثم خرج فيه سهم مستحق، هل يصح الوقف أم لا؟ "الجواب" الوقف الذي ظهر بعضه مستحقا حكمه حكم البيع والهبة والرهن بأنه وقف ما لا يملك، وبيع ما لا يملك، وهبته ورهنه ما لا يملك لا يصح، ويصح ذلك فيما يملكه، وكذلك هذا الوقف يصح فيما يملكه، ولا يصح فيما لا يملكه. وجواب الشيخ أحمد البجادي في هذه المسألة كذلك. وأما جواب الشيخ عبد الوهاب بن مشرف أن محل صحة ما وقف يملكه منه إذا كان غير عالم وقت وقفه أن بعضه مستحق، وأما إذا كان عالما أن بعضه مستحق وقت التوقيف، فإن كان يعلم نصيبه من نصيب غيره ووقف الجميع صح في نصيبه دون غيره، وإن كان يجهل نصيبه ووقف الجميع لم يصح. [الثمرة المشتركة في رءوس النخل] "الرابعة" وأما الثمرة المشتركة في رءوس النخل؛ فيصح قسمها خرصا؛ لكون قسمة الثمرة من نوع الإجبار، ولم أر نصا في إجبار الشريك على البيع إذا طلب القسم في رأسها، ولو تعلل بعضهم بعدم أمن البعض، ولو كان محتملا، فعلى هذا تقسم في رأسها إذا تشاحوا، ويحجر على الممتنع من الشركاء، فمن خاف السرقة استأجر حافظا، والله أعلم. (مسألة في أن على مؤجر الأرض قيمة حفر البئر إذا كان فيها دفين أو غيره) (للشيخ عبد الله بن عضيب) بسم الله الرحمن الرحيم [قيمة حفر البئر إذا كان فيها دفين أو غيره] ما قول العلماء -وفقهم الله تعالى إلى السداد، وأيدهم بالتوفيق والإرشاد- في إنسان ضم أرضا من آخر، ثم إن ماء بئر تلك الأرض قل، وإنما قل لأجل أن فيها دفينا من تراب وغيره، وأراد العامل حفرها؛ ليسقي ذلك الزرع، وتعذر حفرها من

مسألة في حق النخلة في الماء المجاور لها

المالك لغيبته أو امتناعه عن حفرها، وحفرها العامل بنية الرجوع على المالك؛ لأنهما شريكان في المنفعة، ثم ظهرت تلك الضمامة فاسدة، فهل والحالة هذه يرجع على المالك؛ لأنهما شريكان في المنفعة، ولأن عقدهما جائز، فلا يمنع نفوذ تصرفه بلا إذن، وهو دخول العامل بالضمامة من المالك، أم ترتب عليه أحكام الغصب لفساده فلا يرجع بشيء؟ وصلى الله على محمد، وآله وصحبه وسلم. "الجواب" الحمد لله. اعلم -وفقنا الله وإياك- أن الذي يظهر لي من حكم تلك المسألة: أنه يلزم صاحب البئر القيام مع المزارع في إخراج الدفين من البئر، ونفقة ذلك على مالك البئر، وإن كان العقد فاسدا لوضعه البذر بإذنه فلزمه ما فيه تمامه، ومن تمامه الماء وتربة الأرض، فكما لا يجبره على قلع زرعه من الأرض التي ينمو الزرع بسببها، بل يلزمه تركه بالأجرة ألزم بتحصيل الماء الذي به ثمرة الزرع، فحفظ الزرع بهاتين الخصلتين- أعني الأرض والماء- لازم لمالك الأرض، ولا فرق بينهما؛ لأن بهما تمام الزرع الحاصل في أرضه بإذنه والله أعلم. قاله عبد الله بن عضيب. وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم. مسألة في حق النخلة في الماء المجاور لها بسم الله الرحمن الرحيم ومن جواب لعبد الوهاب بن سليمان بن علي عن مسألة: وصورتها: نخلة على جال ساقي قريبة من اللزاء، وجاءها قصيرها يبغي يفرك الساقي، والماء يصب في حوضها أولا، فهل له ذلك أم لا؟ "الجواب" إذا كان الأمر كما ذكر السائل لم يجز صرف الماء عن النخلة المذكورة لثبوت ذلك لها شرعا، ولو باع النخلة الصارف لمجري الماء الذي هو

مسألتان: دعوى أن الميت أقر له بنخلتين من ثلاث وجهل عين أحدهما، ورجوع المقر عن إقراره

حق للنخلة المذكورة لم يسقط ما هي مستحقته من جريان الماء، وذلك ظاهر لا يخفى. قال ذلك وكتبه مخبرًا به الفقير إلى الله سبحانه عبد الوهاب بن سليمانز اهـ. [مسألتان: دعوى أن الميت أقر له بنخلتين من ثلاث وجهل عين أحدهما، ورجوع المقر عن إقراره] ومن جواب لإبراهيم بن سليمان بن علي -رحمه الله تعالى- عن مسألتين سئل عنهما وصورة السؤال: إذا ادعى إنسان على آخر أن مورثك أقر لي بنخلتين معينتين من ثلاث نخلات أو أكثر، مع كون المقر به بيد المقر وتصديق المقر له، وأقام بذلك بينة، وعينت البينة إحدى النخلتين، واشتبهت عليه الثانية، أي: نسيت عينها بعد المعرفة لها من تلك النخلات الثلاث، فهل يقدح في ذلك شهادة البينة أم لا؟ "الثانية" إذا أقر إنسان أن عقاري الفلاني لأبي، وأن المال الذي عندي لأبي، وادعى بعد ذلك إبطال الإقرار وقال: إنما أقررت بذلك تلجئة أريد به الحيلة لإسقاط حق وارث، وأقام بذلك بينة هل تسمع أم لا؟ وهل إن عدم البينة وادعى ذلك وحفت بدعواه قرينة على صدقه. ما الحكم في ذلك؟ ابسطوا لنا الجواب أعظم الله لكم الثواب. "الجواب وبالله التوفيق": "الحمد لله سبحانه اللهم ألهمني الصواب" إذا كان الحال كما ذكر السائل -وفقنا الله وإياه لفهم المسائل- وكان الشاهدان يعرفان النخلات المذكورات وقت الإقرار. فالإقرار المذكور صحيح، وصارت النخلتان المعينتان بالإقرار مالا محازا للمقر له، وتعيين ما اشتبه منهما إلى ورثة المقر بأيمانهم؛ لأن ورثة المقر يقومون مقامه في ميراثه والدين الذي له وعليه، وبيناته ودعاويه والأيمان التي له وعليه، فإن لم يحلفوا لم يجز التصرف فيما أثبتته، حتى يقف المقر والمقر له على تعيين النخلة التي اشتبهت إما بتصادق أو قرعة شرعية على

ما قدمه في الإقناع فيما إذا اشتبه عبده بعبد غيره. انتهى. وقال الشيخ مرعي في الغاية: ويتجه يصح قبلها إن تبين عنده. [رجوع المقر عن إقراره] " والجواب عن الثانية": فإقرار الشخص المذكور أن عقاره لأبيه إقرار صحيح بشرط تصديق الأب لابنه في إقراره. وأما قوله: إنه أقر بذلك تلجئة أريد به الحيلة. فقوله ذلك غير مقبول شرعا، حتى ولو أقام بذلك بينة شرعية إلا أن تشهد البينة أن أباه المشار إليه قد أكرهه على الإقرار بذلك العقار المذكور، وأن الأب المشار إليه يتوعده إما بتهدد، وأنه قادر على إيقاع ما تهدده به إما بقتل أو ضرب يؤلمه، أو أخذ مال يضره ولا يمكنه دفعه عنه بهرب ولا غيره، فإذا كان الأمر كذلك، وقامت به البينة العادلة، بان لنا أنه مكره، وأن إقراره المذكور غير صحيح. وأما إذا أقر خوفا من غضب أبيه ونحو ذلك فليس ذلك بإكراه. وأما قول بعض الجهال: إني أقررت تقية أو خوفا، والمقر قادر على دفع الإكراه، أو قادر على الهرب، والمقر له ليس بقادر على إكراه هذا المقر، إما بسلطنة أو قوة أو تلصص ونحو ذلك، فإقرار هذا المقر المشار إليه بالمقدار المذكور إقرار صحيح شرعي، صرح بذلك علماؤنا -رضي الله عنهم-. قال ذلك وكتبه مخبرًا عن مذهبه إبراهيم بن سليمان بن علي الحنبلي. الحمد لله جوابي كما أجاب الشيخ إبراهيم، لموافقته الصواب والله أعلم. وكتبه الفقير إلى الله سبحانه عبد الوهاب بن سليمان -عفا الله عنه بمنّه وكرمه- وصلى الله على محمد، وآله وصحبه وسلم.

رسالتان للشيخ حمد بن ناصر بن معمر

النبذة الشريفة النفيسة في الرد على القبوريين من فتاوى {العلامة مفتي الديار النجدية، وعالم الطائفة السلفية} الشيخ حمد بن ناصر بن عثمان بن معمر الحنبلي رحمه الله تعالى (وقد وقفها على من ينتفع بها من أهل العلم والدين) {لا يحل لمن وقعت بيده بيعها}

بسم الله الرحمن الرحيم {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} 1 وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولا ند ولا معين، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، أرسله رحمة للعالمين، وحجة على الكافرين، صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليما، وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد: فإنه ما كان منتصف جمادى الثانية من شهور سنة سبع عشرة بعد المائتين والألف وصلت إلينا رسالة من محمد بن أحمد الحفظي اليمني، يسأل فيها عن مسائل أوردها عليه بعض المجادلين، فطلب منا الجواب عليها. [إطلاق الكفر بدعاء غير الله] منها: زعم أن إطلاق الكفر بدعاء غير الله غير مسلم لوجوه: "الوجه الأول" عدم النص الصريح على ذلك بخصوصه. "الثاني" أنه إن نظر فيه من حيثية القول فهو كالحلف بغير الله، وقد ورد أنه شرك وكفر، ثم أولوه بالأصغر، وإما نظر فيه من حيثية الاعتقاد فهو كالطيرة وهي من الأصغر. "الثالث" أنه قد ورد في الحديث -أي حديث الضرير- قوله: "يا محمد إني أتوجه بك" الخ 2، وفي الجامع الكبير وعزاه للطبراني: "فمن انفلتت عليه دابته قال: يا عباد الله احبسوا" وهذا دعاء ونداء لغير الله. "الجواب" وبالله التوفيق والتأييد، ومنه أستمد العون والتسديد. اعلم أن دعاء غير الله وسؤاله نوعان: "أحدهما" سؤال الحي الحاضر ما يقدر عليه، مثل سؤاله أن يدعو له أو ينصره أو يعينه بما يقدر عليه، فهذا جائز كما كان الصحابة -رضي الله عنهم- يستشفعون بالنبي صلى الله عليه وسلم في حياته فيشفع لهم، ويسألونه الدعاء فيدعو لهم. فالمخلوق يطلب منه من هذه

_ 1 سورة الفاتحة آية:2: 4. 2 الترمذي: الدعوات "3578" , وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها "1385" , وأحمد "4/ 138".

الأمور ما يقدر عليه منها، كما قال تعالى في قصة موسى: {فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ} 1 وقال تعالى: {وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ} 2 وكما ورد في الصحيحين: أن الناس يوم القيامة يستشفعون بآدم، ثم بنوح، ثم بإبراهيم، ثم بموسى، ثم بعيسى، ثم بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم. وفي سنن أبي داود "أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم إنا نستشفع بالله عليك ونستشفع بك على الله فقال: شأن الله أعظم من ذلك، إنه لا يستشفع به على أحد من خلقه". فأقره على قوله: نستشفع بك على الله، وأنكر قوله: نستشفع بالله عليك؛ فالصحابة -رضي الله عنهم- كانوا يطلبون منه الدعاء، ويستشفعون به في حياته صلى الله عليه وعلى آله وصحبه. "النوع الثاني" سؤال الميت والغائب وغيرهما مما لا يقدر عليه إلا الله مثل سؤال قضاء الحاجات، وتفريج الكربات، وإغاثة اللهفات، فهذا من المحرمات المنكرة باتفاق أئمة المسلمين، لم يأمر الله به ولا رسوله، ولا فعله أحد من الصحابة، ولا التابعين لهم بإحسان، ولا استحسنه أحد من أئمة المسلمين، وهذا مما يعلم بالاضطرار أنه ليس من دين الإسلام. فإنه لم يكن أحد منهم إذا نزل به شدة أو عرضت له حاجة يقول: يا سيدي فلان اقض حاجتي أو اكشف شدتي، وأنا في حسبك، وأنا مستشفع بك إلى ربي. كما يقوله بعض هؤلاء المشركين لمن يدعونهم من الموتى والغائبين، ولا أحد من الصحابة استغاث بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد موته، ولا بغيره من الأنبياء عند قبورهم، ولا إذا أبعدوا عنهم، فإن هذا من الشرك الأكبر الذي كفر الله به المشركين. فإن المشركين الذين كفرهم النبي صلى الله عليه وسلم واستباح دماءهم وأموالهم لم يقولوا: إن آلهتهم شاركت الله تعالى في خلق العالم، أو أنها تنزل المطر وتنبت النبات بل

_ 1 سورة القصص آية: 15. 2 سورة الأنفال آية: 72.

كانوا مقرين بذلك لله وحده، كما قال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} 1 الآية. وقال تعالى: {قُلْ لِمَنِ الأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} 2 إلى قوله: {سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} 3 وقال تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} 4. قال طائفة من السلف في تفسير هذه الآية: كانوا إذا سئلوا من خلق السماوات والأرض؟ قالوا: الله. وهم يعبدون غيره، ففسروا الإيمان في الآية بإقرارهم بتوحيد الربوبية، وفسروا الإشراك بإشراكهم في توحيد الإلهية الذي هو توحيد العبادة. [تعريف العبادة والدعاء] والعبادة اسم جامع لما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال، من ذلك الدعاء بما لا يقدر على جلبه أو دفعه إلا الله، فمن طلب من غيره أو استعانه فيه فقد عبده به، والدعاء من أفضل العبادة وأجل الطاعات، قال الله تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} 5. وفي الترمذي عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الدعاء مخ العبادة"6 وللترمذي والنسائي وابن ماجه من حديث النعمان بن بشير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن الدعاء هو العبادة، ثم قرأ: {وقال ربكم ادعوني أستجب لكم} إلى آخر الآية"7 قال الترمذي: حديث حسن صحيح. قال الشارح: معنى قوله: "الدعاء هو العبادة"8 أي أعظمها فهو كقوله: "الحج عرفة"9 أي: ركنه الأعظم. ومعنى قوله: "الدعاء مخ العبادة"10 أي: خالصها؛ لأن الداعي إنما يدعو الله عند انقطاع أمله مما سواه. وذلك حقيقة التوحيد والإخلاص. انتهى. والدعاء في القرآن يتناول معنيين "أحدهما" دعاء العبادة وهو دعاء الله لامتثال أمره في قوله: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} 11. "الثاني" دعاء المسألة، وهو دعاؤه سبحانه في جلب المنفعة ودفع المضرة، وبقطع النظر عن الامتثال فقد فسرقوله تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ

_ 1 سورة لقمان آية: 25. 2 سورة المؤمنون آية: 84، 85. 3 سورة المؤمنون آية: 89. 4 سورة يوسف آية: 106. 5 سورة غافر آية: 60. 6 الترمذي: الدعوات "3371". 7 الترمذي: تفسير القرآن "2969 ,3247" والدعوات "3372" , وأبو داود: الصلاة "1479" , وابن ماجه: الدعاء "3828" , وأحمد "4/ 267 ,4/ 271 ,4/ 276". 8 الترمذي: تفسير القرآن "3247" , وابن ماجه: الدعاء "3828". 9 الترمذي: الحج "889" , والنسائي: مناسك الحج "3044" , وأبو داود: المناسك "1949" , وابن ماجه: المناسك "3015" , وأحمد "4/ 309 ,4/ 335" , والدارمي: المناسك "1887". 10 الترمذي: الدعوات "3371". 11 سورة غافر آية: 60.

لَكُمْ} 1 بالوجهين: "أحدهما" ما هو معلوم من الدعاء وغيره، وهو العبادة وامتثال الأمر له سبحانه، فيكون معنى قوله: {أَسْتَجِبْ لَكُمْ} 2 أثبكم كما قال في الآية الأخرى: {وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} 3 أي: يثيبهم على أحد التفسيرين. "الثاني" ما هو خاص: معناه سلوني أعطكم، كما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ينزل ربنا كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر، فيقول: من يدعوني فاستجيب له، من يسألني فأعطيه، من يستغفرني فأغفر له"4 فذكر أولا لفظ الدعاء، ثم السؤال، ثم الاستغفار، والمستغفر سائل، كما أن السائل داع، فعطف السؤال على الدعاء والاستغفار، فهو من عطف الخاص على العام، وهذا المعنى الثاني هو الإخلاص لوجهين: "أحدهما" ما في حديث النعمان بن بشير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الدعاء هو العبادة ثم قرأ: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} "5 فاستدلاله صلى الله عليه وسلم بالآية على الدعاء دليل على أن المراد منها سلوني، وخطاب الرب -سبحانه وتعالى- عباده المكلفين بصيغة الأمر منصرف إلى الوجوب ما لم يقم دليل يصرفه إلى الاستحباب، فيفيد قصور نقله على الله، فلا يجعل لغيره؛ لأنه عبادة، ولهذا أمر الله الخلق بسؤاله فقال: {وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِه} 6. وفي الترمذي عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم "سلوا الله من فضله فإن الله يحب أن يسأل"7 وله عن أبي هريرة مرفوعا: "من لم يسأل الله يغضب عليه"8 وله أيضا: "إن الله يحب الملحين في الدعاء". فتبين بهذا أن الدعاء من أفضل العبادات وأجل الطاعات. "الوجه الثاني" أنه سبحانه قال: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} 9 والسائل راغب راهب، وكل سائل راغب راهب فهو عابد للمسئول، وكل عابد فهو أيضا راغب راهب، يرجو رحمته ويخاف عذابه،

_ 1 سورة غافر آية: 60. 2 سورة غافر آية: 60. 3 سورة الشورى آية: 26. 4 البخاري: التوحيد "7494" , ومسلم: صلاة المسافرين وقصرها "758" , والترمذي: الدعوات "3498" , وأبو داود: الصلاة "1315" والسنة "4733" , وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها "1366" , وأحمد "2/ 258 ,2/ 264 ,2/ 267 ,2/ 282 ,2/ 383 ,2/ 419 ,2/ 487 ,2/ 504" , ومالك: النداء للصلاة "496" , والدارمي: الصلاة "1479". 5 الترمذي: تفسير القرآن "3247" , وابن ماجه: الدعاء "3828". 6 سورة النساء آية: 32. 7 الترمذي: الدعوات "3571". 8 الترمذي: الدعوات "3373" , وابن ماجه: الدعاء "3827". 9 سورة البقرة آية: 186.

وكل عابد سائل، وكل سائل فهو عابد لله، قال تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا} 1 ولا يتصور أن يخلو داع لله دعاء عبادة أو دعاء مسألة من الرغب والرهب والخوف والطمع. [دعاء العبادة ودعاء المسألة] فدعاء العبادة ودعاء المسألة كلاهما عبادة لله، لا يجوز صرف شيء منهما إلى غيره؛ فلا يجوز أن يطلب من مخلوق ميت أو غائب قضاء حاجة، أو تفريج كربة، بل ما لا يقدر عليه إلا الله لا يجوز أن يطلب إلا من الله. فمن دعا ميتا أو غائبا فقال: يا سيدي فلان أغثني أو انصرني أو ارحمني أو اكشف عني شدتي ونحو ذلك؛ فهو كافر مشرك يستتاب فإن تاب وإلا قتل. وهذا مما لا خلاف فيه بين العلماء، فإن هذا هو شرك المشركين الذين قاتلهم النبي -صلى الله عليه وسلم- فإنهم لم يكونوا يقولون: إنها تخلق وترزق وتدبر أمر من دعاها، بل كانوا يعلمون أن ذلك لله وحده كما حكاه عنهم في غير موضع من كتابه، وإنما كانوا يفعلون عندها ما يفعله إخوانهم من المشركين اليوم من دعائها والاستغاثة بها، والذبح لها، والنذر لها، يزعمون أنها وسائط بينهم وبين الله تعالى تقربهم إليه، وتشفع لهم لديه، كما حكاه عنهم في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} 2 وقال تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} 3. فقاتلهم الرسول صلى الله عليه وسلم ليكون الدعاء كله لله، والذبح كله لله، والاستغاثة كلها بالله، وجميع العبادات لله، والله سبحانه قد بين في غير موضع من كتابه أن الدعاء عبادة، فقال تعالى حاكيا عن خليله إبراهيم -عليه السلام-: {وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} 4 الآية. وقال تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ

_ 1 سورة الأنبياء آية: 90. 2 سورة الزمر آية: 3. 3 سورة يونس آية: 18. 4 سورة مريم آية: 48، 49.

كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} 1. فأخبر سبحانه أنه لا أضل من هذا الداعي، وأن المدعو لا يستجيب له، وأن ذلك عبادة سيكفر بها المعبود يوم القيامة. كقوله تعالى: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا} 2. [الدعاء من أفضل العبادات وأجل الطاعات] وقد سمى الله سبحانه الدعاء دينا في غير موضع، وأمرنا أن نخلصه له، وأخبر أن المشركين يخلصون له في الشدائد فقال تعالى: {وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} 3 وقال تعالى: {حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} 4 وقال تعالى: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} 5. فأخبر سبحانه أنهم عند الاضطرار يدعونه وحده لا شريك له، مخلصين في تلك الحال، لا يستغيثون بغيره فيها، فلما نجاهم من تلك الشدة إذا هم يشركون في دعائهم. ولهذا قال: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ} 6 أي أنه سبحانه لما نجاكم إلى البر أعرضتم أي: نسيتم ما عرفتم من توحيده، وأعرضتم عن دعائه وحده لا شريك له. وقال تعالى: {فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} 7 وقال تعالى: {هُوَ الْحَيُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} 8. فالدعاء من أفضل العبادات، وأجل الطاعات؛ ولهذا أخبر أنه الدين، فذكره معرفا بالألف واللام، وأخبر أن المشركين يخلصونه له في الشدائد، وأنهم في الرخاء يشركون معه غيره، فيدعون من لا ينفعهم ولا يضرهم، ولا يسمع دعاءهم فصاروا بذلك كافرين. [شرك المشركين كان في الدعاء والذبح] ومن تأمل الكتاب والسنة علم أن شرك المشركين الذين كفرهم النبي صلى الله عليه وسلم

_ 1 سورة الأحقاف آية: 5، 6. 2 سورة مريم آية:81، 82. 3 سورة لقمان آية: 32. 4 سورة يونس آية: 22. 5 سورة العنكبوت آية: 65. 6 سورة الإسراء آية: 67. 7 سورة غافر آية: 14. 8 سورة غافر آية: 65.

إنما هو في الدعاء والذبح والنذر والتوكل والالتجاء ونحو ذلك. فإن جادل مجادل وزعم أنه ليس هذا، قيل له: فأخبرنا عما كانوا يفعلون عند آلهتهم، وما الذي يريدون وما هذا الشرك الذي حكاه الله عنهم؟ فإن قال: شركهم عبادة غير الله. قيل له: وما معنى عبادتهم لغير الله؟ أتظن أنهم يعتقدون أن تلك الأخشاب والأحجار تخلق وترزق، وتدبر أمر من دعاها؟ فهذا يكذبه القرآن؛ لأن الله عز وجل أخبر عنهم أنهم مقرون بذلك لله وحده. فإن قال: إنهم يريدون منهم النفع والضر من دون الله، فهذا يكذبه القرآن أيضا؛ لأن الله أخبر أنهم لم يريدوا إلا التقرب بهم إلى الله، وشفاعتهم عنده كما قال تعالى حاكيا عنهم: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} 1 وقال تعالى: {وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} 2. وأخبر تعالى عن شركهم في غير آية من كتابه كقوله: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلًا} 3 أي: لا يدفعونه بالكلية، ولا يحولونه من حال إلى حال. ثم قال: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} 4. قال طائفة من السلف: كان أقوام يدعون المسيح والعزير والملائكة فبين الله لهم أن هؤلاء عبادي كما أنتم عبادي، يرجون رحمتي كما ترجون رحمتي، ويخافون عذابي كما تخافون عذابي، وأخبر أنهم لا يملكون كشف الضر عن الداعين ولا تحويله، وهذا هو الإغاثة. والمشركون يزعمون أن آلهتهم تشفع لهم بالسؤال عند الله والطلب منه فيقضي الله لهم تلك الحاجات؛ فأبطل هذه الشفاعة التي يظنها المشركون، وبين أنه لا يشفع أحد عنده إلا بإذنه فقال: {وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} 5 وقال: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلا بِإِذْنِهِ} 6.

_ 1 سورة الزمر آية: 3. 2 سورة يونس آية: 18. 3 سورة الإسراء آية: 56. 4 سورة الإسراء آية: 57. 5 سورة سبأ آية: 23. 6 سورة البقرة آية: 255.

فمن جعل الأنبياء والملائكة وسائط بين الله وبين خلقه، كالحُجّاب الذين يكونون بين الملك ورعيته، بحيث يزعم أنهم يرفعون الحوائج إلى الله، وأن الله يرزق عباده، وينصرهم بتوسطهم، أي بمعنى: أن الخلق يسألونهم، وهم يسألون الله؛ فمن اعتقد هذا فهو كافر مشرك. [إطلاق الكفر بدعاء غير الله] إذا تقرر هذا فنقول: قول القائل: "إن إطلاق الكفر بدعاء غير الله غير مسلم لوجوه: الوجه الأول: عدم النص الصريح على ذلك بخصوصه". كلام باطل، بل النصوص صريحة في كفر من دعا غير الله، وجعل لله ندا من خلقه يدعوه كما يدعو الله، ويرجوه كما يرجو الله، ويتوكل عليه في أموره كلها. قال الله تعالى: {ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} 1 وقال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} 2 إلى قوله: {وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} 3 فمن أحب مخلوقا كما يحب الله، أو رجاه كما يرجو الله؛ فقد جعله ندا لله، وصار من الخالدين في النار. وفي صحيح البخاري عن ابن مسعود -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: "من مات وهو يدعو لله ندًّا دخل النار"4. وفي الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم سئل: أي الذنب أعظم؟ قال: "أن تجعل لله ندًّا وهو خلقك"5 والند المثل، قال الله تعالى: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} 6 وقال تعالى عن أهل النار: {تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} 7 ومعلوم أنهم ما يساوونهم به في الخلق والرزق والإحياء والإماتة، وإنما يساوونهم به في الدعاء والخوف والرجاء والمحبة والتعظيم والإجلال. وقال تعالى: {وَإِذَا مَسَّ الْأِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ} 8 وقال تعالى: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ

_ 1 سورة الأنعام آية: 1. 2 سورة البقرة آية: 165. 3 سورة البقرة آية: 167. 4 البخاري: تفسير القرآن "4497" , وأحمد "1/ 374 ,1/ 402 ,1/ 407 ,1/ 462 ,1/ 464". 5 البخاري: الأدب "6001" , ومسلم: الإيمان "86" , والترمذي: تفسير القرآن "3182 ,3183" , والنسائي: تحريم الدم "4013 ,4014 ,4015" , وأبو داود: الطلاق "2310" , وأحمد "1/ 380 ,1/ 431 ,1/ 434 ,1/ 462 ,1/ 464". 6 سورة البقرة آية: 22. 7 سورة الشعراء آية: 97، 98. 8 سورة الزمر آية: 8.

رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} 1 فصرح بكفره. وقال تعالى: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ} 2 إلى قوله: {وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} 3. فبين أن اتخاذ الملائكة والنبيين أربابا كفر. وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} 4 وقال فيما حكاه عن المسيح: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ} 5 وقال: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ} 6. فدلت الآية الكريمة على أن أعظم شركهم إنما هو دعاء غير الله، فأخبر أنهم لا يملكون من قطمير، وهو القشر الذي يكون على ظهر النواة، أي ليس لهم من الأمر شيء، وإن قل. ثم أخبر أنهم لا يسمعون دعاءهم، وأنهم لو سمعوا ما استجابوا لهم، وهذا صريح في دعاء المسألة. ثم أخبر أن هذا شرك يكفرون به يوم القيامة فقال: {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ} 7 كقوله: {كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا} 8 وكقوله: {وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} 9. والله سبحانه قد أرسل رسله، وأنزل كتبه ليعبدوه وحده، ويكون الدين كله له، ونهى أن يشرك به أحد من خلقه. وأخبر أن الرسالة عمت كل أمة، وأن دين الرسل واحد، وهو الأمر بعبادته وحده لا شريك له، وأنه لا يشرك به أحد سواه كما قال: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا} الطَّاغُوتَ} 10 وقال: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} 11. وأخبر أنه لا يغفر أن يشرك به، وأن من أشرك فقد حبط عمله وصار من

_ 1 سورة المؤمنون آية: 117. 2 سورة آل عمران آية: 79. 3 سورة آل عمران آية: 80. 4 سورة النساء آية: 48. 5 سورة المائدة آية: 72. 6 سورة فاطر آية: 13، 14. 7 سورة فاطر آية: 14. 8 سورة مريم آية: 82. 9 سورة الأحقاف آية: 6. 10 سورة النحل آية: 36. 11 سورة الأنبياء آية: 25.

الخالدين في النار، كما قال تعالى: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ} 1. فيقال لمن أنكر أن يكون دعاء الموتى والاستغاثة بهم في الشدائد شركا أكبر: أَخْبِرْنَا عن هذا الشرك الذي عظَّمَه الله، وأخبر أنه لا يغفره، أتظن أن الله يحرمه هذا التحريم ولا يبينه لنا؟ [بيان القرآن للشرك واستحالة تركه بغير بيان] ومعلوم أن الله -سبحانه- أنزل كتابه تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين. وقد أخبر في كتابه أنه أكمل لنا الدين، وأتم علينا النعمة، ورضي لنا الإسلام دينا. فكيف يجوز أن يترك بيان الشرك الذي هو أعظم ذنب عُصِيَ الله به -سبحانه-؟ فإذا أصغى الإنسان إلى كتاب الله وتدبره وجد فيه الهدى والشفاء {مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هَادِيَ لَه} 2 {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} 3. ويقال أيضا: قد أمرنا الله بدعائه وسؤاله، وأخبر أنه يجيب دعوة الداعي إذا دعاه، وأمرنا أن ندعوه خوفا وطمعا، فإذا سمع الإنسان قوله تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} 4 وقوله: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} 5. فمعلوم أن هذا عبادة، فيقال: فإن دعا في تلك الحاجة نبيا أو ملكا، أوعبدا صالحا، هل أشرك في هذه العبادة؟. فلا بد أن يقر بذلك، إلا أن يكابر ويعاند. ويقال أيضا: إذا قال الله: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} 6 وأطعت الله ونحرت له، هل هذا عبادة؟ فلا بد أن يقول: نعم. فيقال له: فإذا ذبحت لمخلوق نبي، أوملك، أوعبد أو غيرهما، هل أشركت في هذه العبادة؟ فلا بد أن يقول: نعم، إلا أن يكابر ويعاند، وكذلك السجود عبادة، فلو سجد لغير الله لكان مشركا في هذه العبادة. [دعاء الموتى] ومعلوم أن الله -سبحانه- ذكر في كتابه من النهي عن دعاء غيره، وتكاثرت

_ 1 سورة التوبة آية: 17. 2 سورة الأعراف آية: 186. 3 سورة النور آية: 40. 4 سورة غافر آية: 60. 5 سورة الأعراف آية: 55. 6 سورة الكوثر آية: 2.

نصوص القرآن في النهي عن ذلك أعظم مما ورد في النهي عن السجود لغير الله والذبح لغير الله، فإذا كان من سجد لقبر نبي أو ملك أو عبد صالح لا يشك أحد في كفره، وكذلك لو ذبح القُرْبَان لم يشك أحد في كفره؛ لأنه أشرك في عبادة الله غيره، فيقال: السجود عبادة، وذبح القربان عبادة، والدعاء عبادة؛ فما الفارق بين السجود والذبح وبين الدعاء، إذ الكل عبادة؟ وما الدليل على أن السجود لغير الله، والذبح لغيره شرك أكبر؟ والدعاء بما لا يقدر عليه إلا الله شرك أصغر؟. ويقال أيضا: قد ذكر أهل العلم من أهل كل مذهب باب حكم المرتد، وذكروا فيه أنواعا كثيرة، كل نوع منها يكفر به الرجل، ويحل دمه وماله، ولم يرد في واحد منها، ما ورد في الدعاء؛ بل لا نعلم نوعا من أنواع الكفر والردة ورد فيه من النصوص مثل ما ورد في دعاء غير الله بالنهي عنه، والتحذير من فعله، والوعيد عليه، ولا يشتبه هذا إلا على مَن لم يعرف حقيقة ما بعث الله به محمدا صلى الله عليه وسلم من التوحيد، ولم يعرف حقيقة شرك المشركين الذين كفَّرَهم النبي صلى الله عليه وسلم وأحَلَّ دماءهم وأموالهم، وأمره الله أن يقاتلهم حتى لا تكون فتنة؛ أي: لا يكون شرك {وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} 1. فمن أصغى إلى كتاب الله عَلِمَ علمًا ضروريا أن دعاء الموتى من أعظم الشرك الذي كَفَّرَ الله به المشركين. فكيف يَسُوغُ لمن عرف التوحيد الذي بعث الله به محمدا -صلى الله عليه وسلم- أن يجعل ذلك من الشرك الأصغر ويقول: قد عدم النص الصريح على كفر فاعله؟! فإن الأدلة القرآنية، والنصوص النبوية قد دلت على ذلك دلالة ظاهرة ليست خفية، ومن أعمى الله بصيرته فلا حيلة فيه: {مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} 2. وأيضا فإن كثيرا من المسائل التي ذكرها العلماء في مسائل الكفر والردة، وانعقد عليها الإجماع: لم يرد فيها نصوص صريحة بتسميتها كفرا، وإنما يستنبطها

_ 1 سورة الأنفال آية: 39. 2 سورة الأعراف آية: 186.

العلماء من عمومات النصوص، كما إذا ذبح المسلم نسكا متقربا به إلى غير الله: فإن هذا كفر بالإجماع، كما نص على ذلك النووي وغيره. وكذلك لو سجد لغير الله، فإذا قيل: هذا شرك؛ لأن الذبح عبادة والسجود عبادة، فلا يجوز لغير الله كما دل على ذلك قوله تعالى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} 1 وقوله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ} 2 فهذا صريح في الأمر بهما، وأنه لا يجوز صرفهما لغيره. فيبقى أن يقال: فأين الدليل المُصَرِّح بأن هذا كفرٌ بعينه؟ ولازمُ هذه المجادلة الإنكارُ على العلماء في كل مسألة من مسائل الكفر، والردة التي لم يرد فيها نص بعينها، مع أن هذه المسألة المسئول عنها قد وجدت فيها النصوص الصريحة من كلام الله وكلام رسوله، وأوردنا من ذلك ما فيه الهدى لمن هداه الله. [نصوص الفقهاء في شرك من يدعو غير الله بالإجماع] وأما كلام العلماء فنشير إلى قليل من كثير، ونذكر كلام من حكى الإجماع على ذلك، قال في الإقناع وشرحه: من جعل بينه وبين الله وسائط يدعوهم ويتوكل عليهم ويسألهم كَفَرَ إجماعا؛ لأن هذا كفعل عابدي الأصنام قائلين: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} 3 انتهى. وقال الشيخ تقي الدين -رحمه الله-* وقد سئل عن رجلين تناظرا فقال أحدهما: لا بد لنا من واسطة بيننا وبين الله؛ فإنا لا نقدر أن نصل إليه إلا بذلك. فأجاب بقوله: إن أراد بذلك أنه لا بد من واسطة تبلغنا أمر الله: فهذا حق؛ فإن الخلق لا يعلمون ما يحبه الله ويرضاه، وما أمر به، وما نهى عنه إلا بالرسل الذين أرسلهم إلى عباده، وهذا مما أجمع عليه أهل الملل من المسلمين واليهود والنصارى؛ فإنهم يثبتون الوسائط بين الله وبين عباده، وهم الرسل الذين بلغوا عن الله أوامره ونواهيه. قال الله تعالى: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ} 4 ومن أنكر هذه الوسائط، فهو كافر بإجماع أهل الملل،

_ 1 سورة الكوثر آية: 2. 2 سورة الأنعام آية: 162، 163. 3 سورة الزمر آية: 3. * "الواسطة بين الحق والخلق" ص 16 - 43، وهو في مجموع الفتاوى 1/ 121 - 137. [معد الكتاب للمكتبة الشاملة] 4 سورة الحج آية: 75.

وإن أراد بالواسطة أنه لا بد من واسطة يتخذه العباد بينهم وبين الله في جلب المنافع، ودفع المضار مثل: أن يكون واسطة في رزق العباد ونصرهم وهداهم يسألونه ذلك، ويرجعون إليه فيه، فهذا من أعظم الشرك الذي كَفَّرَ الله به المشركين حيث اتخذوا من دون الله أولياء وشفعاء يجتلبون بهم المنافع، ويدفعون بهم المَضَارّ، لكن الشفاعة لمن يأذن الله له فيها. قال تعالى: {مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ} 1 وقال: {وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ} 2 وقال: {وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ} 3 وقال: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} 4. وقال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلًا} 5 إلى قوله: {إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُور} 6. قال طائفة من السلف: كان أقوام من الكفار يدعون عيسى والعزير والملائكة والأنبياء، فبيَّن الله لهم أن الملائكة والأنبياء لا يملكون كشف الضر عنهم ولا تحويله، وأنهم يتقربون إليه ويرجون رحمته ويخافون عذابه. وقال تعالى: {وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} 7 فبيَّن -سبحانه وتعالى- أن اتخاذ الملائكة والنبيين أربابا كفر. فمن جعل الملائكة والأنبياء وسائط يدعوهم ويتوكل عليهم، ويسألهم جلب المنافع ودفع المضار، مثل أن يسألهم غفران الذنوب وهداية القلوب، وتفريج الكُرُبَات وسد الفَاقَات فهو: كافر بإجماع المسلمين. وقد قال تعالى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ

_ 1 سورة السجدة آية: 4. 2 سورة الأنعام آية: 51. 3 سورة الأنعام آية: 70. 4 سورة سبأ آية: 22، 23. 5 سورة الإسراء آية: 56. 6 سورة الإسراء آية: 57. 7 سورة آل عمران آية: 80.

ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} 1 إلى قوله: {كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} 2، وقال: {لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ} 3 الآية، وقال: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} 4، وقال: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} 5، وقال: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ} الآية، وقال: {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ}. [اتخاذ الوسائط في عبادة الله] فمن أثبت الوسائط بين الله وبين خلقه كالحجاب بين الملك ورعيته بحيث يكونون هم يرفعون إلى الله حوائج خلقه، وأن الله -تعالى- إنما يهدي عباده ويرزقهم وينصرهم بتوسطهم، بمعنى أن الخلق يسألونهم، وهم يسألون الخالق، كما أن الوسائط عند الملوك يسألون الملوك حوائج الناس؛ لقربهم منهم والناس يسألونهم، أدبا منهم أن يباشروا سؤال الملك؛ أو لأن طلبهم من الوسائط: أنفع لهم من طلبهم من الملك لكونهم أقرب إلى الملك من الطالب، فمن أثبتهم وسائط على هذا الوجه فهو كافر مشرك يجب أن يستتاب، فإن تاب وإلا قتل. وهؤلاء مُشَبِّهُون، شبَّهُوا الخالقَ بالمخلوق، وجعلوا لله أندادا، وفي القرآن من الرد على هؤلاء ما لا تتسع له هذه الفتوى. فإن هذا دين المشركين، عُبَّاد الأوثان، كانوا يقولون: إنها تماثيل الأنبياء والصالحين، وإنها وسائل يتقربون بها إلى الله -تعالى- وهو من الشرك الذي أنكره الله -تعالى- على النصارى حيث قال: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّه} 6 الآية، وقال تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي} 7 أي فليستجيبوا إذا دعوتهم بالأمر والنهي، وليؤمنوا بي: أني أجيب دعاءهم لي بالمسألة والتضرع، وقال: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} 8. وقد بين الله هذا التوحيد في كتابه، وحسم موادَّ الإشراك به حيث لا يخاف

_ 1 سورة الأنبياء آية: 28. 2 سورة الأنبياء آية: 29. 3 سورة النساء آية: 172. 4 سورة النجم آية 26 5 سورة البقرة آية 255. 6 سورة التوبة آية: 31. 7 سورة البقرة آية: 186. 8 سورة الشرح آية: 7، 8.

أحدٌ غيرَ الله ولا يرجو سواه، ولا يتوكل إلا عليه قال تعالى: {فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ} 1 {فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} 2 وقال: {وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ} 3 وقال: {مَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} 4 فبين أن الطاعة لله والرسول. وأما الخشية والتقوى فللَّه وحده. وقال تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ} 5 فبيَّن أن الإتيان لله والرسول. وأما التحسب فهو لله وحده كما قالوا: {حَسْبُنَا اللَّهُ} 6 ولم يقولوا: حسبنا الله ورسوله، ونظيره قوله تعالى: {زَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} 7. [تحقيق النبي لمعنى التوحيد وبيان كلمته وحسم الشركة] وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يحقق هذا التوحيد لأمته، ويحسم عنهم مواد الشرك؛ إذ هذا تحقيق قولنا: "لا إله إلا الله" فإن الإله هو الذي تَأْلَهُهُ القلوبُ بالمحبة والتعظيم والإجلال والإكرام والخوف، حتى قال لهم: "لا تقولوا: ما شاء الله وشاء محمد، ولكن قولوا: ما شاء الله، ثم شاء محمد"8 وقال لرجل قال له: ما شاء الله وشئت فقال: "أجعلتني لله ندًّا؟ بل ما شاء الله وحده"9. وقال لابن عباس: "إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله"10 وقال: "لا تُطْرُونِي كما أَطْرَت النصارى ابن مريم، فإنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله"11 وقال: "لا تتخذوا قبري عيدا، وصلوا عليَّ حيثما كنتم فإن صلاتكم تبلغني"12 وقال -في مرضه الذي مات فيه-: "لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد"13 يحذر ما صنعوا. قالت عائشة: ولولا ذلك لأبرز قبره ولكن خشي أن يتخذ مسجدا. وهذا باب واسع. انتهى ما لخصته من كلام الشيخ ابن تيمية في مسألة الوسائط. وقال -رحمه الله- في موضع آخر*: والله -سبحانه- لم يجعل أحدًا من الأنبياء والمؤمنين واسطة في شيء من الربوبية والإلهية، مثل ما ينفرد به من الخلق والرزق

_ 1 سورة المائدة آية: 44. 2 سورة آل عمران آية: 175. 3 سورة التوبة آية: 18. 4 سورة النور آية: 52. 5 سورة التوبة آية: 59. 6 سورة التوبة آية: 59. 7 سورة آل عمران آية: 173. 8 ابن ماجه: الكفارات "2118" , وأحمد "5/ 72" , والدارمي: الاستئذان "2699". 9 أحمد "1/ 283". 10 الترمذي: صفة القيامة والرقائق والورع "2516" , وأحمد "1/ 293 ,1/ 303 ,1/ 307". 11 البخاري: أحاديث الأنبياء "3445" , وأحمد "1/ 23 ,1/ 24". 12 أبو داود: المناسك "2042" , وأحمد "2/ 367". 13 البخاري: الصلاة "436" , ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة "531" , والنسائي: المساجد "703" , وأحمد "1/ 218 ,6/ 34 ,6/ 80 ,6/ 121 ,6/ 146 ,6/ 252 ,6/ 255 ,6/ 274" , والدارمي: الصلاة "1403". * مجموع الفتاوى 24/ 340 - 342. [معد الكتاب للمكتبة الشاملة]

وإجابة الدعاء، والنصر على الأعداء، وقضاء الحاجات، وتفريج الكربات، بل غاية ما يكون العبد سببا مثل أن يدعو ويشفع، والله -تعالى- يقول: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} 1 وقال تعالى: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} 2 وقال تعالى: {وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} 3. [أقسام الناس في الشفاعة] فبيَّن سبحانه- أن اتخاذ الملائكة والنبيين أربابا كفر؛ ولهذا كانوا في الشفاعة على ثلاثة أقسام: فالمشركون أثبتوا الشفاعة التي هي شرك، كشفاعة المخلوق عند المخلوق، كما يشفع عند ملوك خواصّهم؛ لحاجة الملوك إلى ذلك، فيسألونهم بغير إذنهم، ويجيب الملوك سؤالهم؛ لحاجتهم إليهم، فالذين أثبتوا مثل هذه الشفاعة عند الله: مشركون كفار؛ لأن الله -تعالى- لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه، ولا يحتاج إلى أحد من خلقه، بل من رحمته وإحسانه: إجابة دعاء الشافعين؛ ولهذا قال:. {مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ} 4 وقال: {أمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلا يَعْقِلُونَ قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا} 5. وقال عن صاحب يس {أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلا يُنْقِذُونِ} 6. وأما الخوارج والمعتزلة 7 فإنهم أنكروا شفاعة نبينا صلى الله عليه وسلم في أهل الكبائر من أمته، وهؤلاء مبتدعة ضُلال مخالفون للسنة المستفيضة عن النبي صلى الله عليه وسلم ولإجماع خير القرون. {القسم الثالث} أهل السنة والجماعة وهم سلف الأمة وأئمتها ومن اتبعهم بإحسان، أثبتوا ما أثبته الله في كتابه وسنة رسوله، ونفوا ما نفاه، فالشفاعة التي أثبتوها: هي التي جاءت بها الأحاديث. وأما الشفاعة التي نفاها القرآن كما عليه

_ 1 سورة البقرة آية: 255. 2 سورة النجم آية: 26. 3 سورة آل عمران آية: 80. 4 سورة السجدة آية: 4. 5 سورة الزمر آية: 43، 44. 6 سورة يس آية: 23. 7 هؤلاء هم القسم الثاني في الشفاعة.

المشركون والنصارى ومن ضَاهَاهُم من هذه الأمة، فينفيها أهل العلم والإيمان مثل: أنهم يطلبون من الأنبياء، والصالحين الغائبين والميتين قضاء حوائجهم ويقولون: إنهم إذا أرادوا ذلك قضوها، ويقولون: إنهم عند الله كخواصّ الملوك عند الملوك، يشفعون بغير إذن الملوك، ولهم على الملوك إِدْلالٌ يقضون به حوائجهم فيجعلونهم لله بمنزلة شركاء الملك، والله تعالى- قد نَزَّهُ نفسه عن ذلك. انتهى. [كلام ابن القيم في الشرك الأصغر والأكبر] وقال ابن القيم -رحمه الله تعالى-: وأما الشرك فنوعان: أكبر وأصغر. فالأكبر لا يغفره الله إلا بالتوبة منه، وهو أن يتخذ من دون الله ندا يحبه كما يحب الله، وهو الشرك الذي يتضمن تسوية آلهة المشركين برب العالمين. ولهذا قالوا لآلهتهم في النار: {تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} 1 مع إقرارهم بأن الله هو الخالق وحده، خالق كل شيء ومليكه، وأن آلهتهم لا تخلق ولا ترزق، ولا تحيي ولا تميت، وإنما كانت هذه التسوية في المحبة والتعظيم والعبادة كما هو حال أكثر مشركي العالم؛ بل كلهم يحبون معبوديهم ويعظمونها ويوالونها من دون الله، وكثير منهم بل أكثرهم يحبون آلهتهم أعظم من محبة الله، ويستبشرون بذكرهم أعظم من استبشارهم إذا ذكر الله وحده. ويغضبون إذا انتقص أحدٌ معبودَهم وآلهتهم من المشايخ أعظم مما يغضبون إذا انتقص أحدٌ ربَّ العالمين. وإذا انتقص حرمة من حُرُمَات آلهتهم ومعبوداتهم غضبوا غضب الليث إذا حرب، وإذا انتُهكت حُرُمَات الله: لم يغضبوا لها، بل إذا قام المُنْتَهِكُ لها بإطعامهم شيئا رضوا عنه، ولم تُنْكِر له قلوبهم، وقد شاهدنا هذا منهم نحن وغيرنا. وترى أحدهم قد اتخذ ذكر إلهه ومعبوده من دون الله على لسانه، إن قام، وإن قعد، وإن عثر، وإن مرض، فذكر إلهه ومعبوده من دون الله هو الغالب على لسانه، وهو لا ينكر ذلك ويزعم أنه باب حاجته إلى الله وشفيعه عنده ووسيلته إليه، وهكذا كان عُبَّاد الأصنام سواء.

_ 1 سورة الشعراء آية: 97، 98.

وهذا القدر هو الذي قام بقلوبهم يتوارثه المشركون بحسب اختلاف آلهتهم؛ فأولئك كانت آلهتهم من الحجر، وغيرهم اتخذوها من البشر، قال تعالى حاكيا عن أسلاف هؤلاء المشركين {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} 1 ثم شهد عليهم بالكذب والكفر، وأخبر أنه لا يهديهم فقال: {إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} 2. فهذا حال من اتخذ دون الله وليا، يزعم أنه يقربه إلى الله، وما أعز مَن يُخْلُصُ مِن هذا، بل ما أعز مَن لا يعادي من أنكره. والذي في قلوب هؤلاء المشركين وسلفهم: أن آلهتهم تشفع لهم عند الله، وهذا عين الشرك، وقد أنكره الله عليهم في كتابه، وأبطله وأخبر أن الشفاعة كلها له، وأنه لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه لمن رضي قوله وعمله، وهم أهل التوحيد الذين لم يتخذوا من دون الله شفعاء - ثم ساق كلاما طويلا، وقرره أحسن تقرير. فتأمل كلامه -رحمه الله- وهذا حيث قرر أن الذي يفعله مشركو زمانه هو عين الشرك الذي فعله المشركون الأولون، ثم قال: وما أعز من يخلص من هذا، بل ما أعز مَن لا يعادي مَن أنكره، ففي هذا شاهدٌ لصحة الحديث الوارد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ"3 وقوله فيما صح عنه صلى الله عليه وسلم: "لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه"4 قالوا: يا رسول الله، اليهود والنصارى؟ قال: "فمن؟ " خَرَّجَاه في الصحيحين. [كلام ابن تيمية في الشرك] وقال الشيخ أبو العباس ابن تيمية في "الرسالة السنية"*، لما تكلم على الخوارج: فإذا كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه ممن انتسب إلى الإسلام مَن قد مرق من الدين مع عبادته العظيمة، فليعلم أن المنتسب إلى الإسلام في هذا الزمان قد يمرق أيضا،

_ 1 سورة الزمر آية: 3. 2 سورة الزمر آية: 3. 3 مسلم: الإيمان "145" , وابن ماجه: الفتن "3986" , وأحمد "2/ 389". 4 البخاري: أحاديث الأنبياء "3456" , ومسلم: العلم "2669" , وأحمد "3/ 84 ,3/ 89 ,3/ 94". * هي الرسالة المعروفة بـ"الوصية الكبرى" ص 68 - 86، وهي في مجموع الفتاوى 3/ 383 - 396. [معد الكتاب للمكتبة الشاملة]

وذلك بأمور منها: الغلو الذي ذمه الله كالغلو في بعض المشايخ كالشيخ عدي، بل الغلو في علي بن أبي طالب، بل الغلو في المسيح، فكل من غلا في نبي أو رجل صالح وجعل فيه نوعا من الإلهية، مثل أن يدعوه من دون الله، بأن يقول: يا سيدي فلان أغثني، أو أنا في حسبك، فكل هذا شرك وضلالة يستتاب صاحبه، فإن تاب وإلا قتل، فإن الله أرسل الرسل، وأنزل الكتب ليُعْبَدَ وحده، ولا يجعل معه إله آخر، والذين يجعلون معه آلهة أخرى مثل الملائكة والمسيح والعزير والصالحين أو قبورهم لم يكونوا يعتقدون أنها تخلق وترزق، وإنما كانوا يدعونهم يقولون: هؤلاء شفعاؤنا عند الله، فبعث الله الرسل تَنْهَى أن يُدْعَى أحدٌ من دونه، لا دعاء عبادة ولا دعاء استعانة. انتهى. [كلام ابن عقيل في الشرك] وقال أبو الوفاء ابن عقيل -رحمه الله-: لما صعبت التكاليف على الجُهَّال والطغام عدلوا عن أوضاع الشرع إلى أوضاع وضعوها لأنفسهم، فسهلت عليهم؛ إذ لم يدخلوا بها تحت أمر غيرهم. قال: وهم عندي كفار بهذه الأوضاع، مثل تعظيم القبور، وإكرامها بما نهى عنه الشرع من إيقاد السُّرُج وتقبيلها وتخليقها، وخطاب الموتى بالحوائج، وكتب الرقاع فيها بأمور: أن افعل بي كذا وكذا، وأخذ تربتها تبركا، وإفاضة الطيب على القبور وشد الرحال إليها، وإلقاء الخِرَق على الشجر اقتداء بمن عبد اللات والعزى. والويل عندهم لمن لم يقبل مشهد الكفر ولم يتمسح بالآجر يوم الأربعاء، ولم يقل الحَمَّالون على جنازته: الصديق أبو بكر أو محمد، وعليّ، أو لم يعقد على قبر أبيه أزجا بالجص والآجر، ولم يخرق ثيابه، ولم يُرِقْ ماء الورد على القبر. اهـ كلامه. فتأمل -رحمك الله- ما ذكره هذا الإمام وما كشفه من الأمور التي يفعلها الخواص من الأنام، فضلا عن النساء والغوغاء والعوام مع كونه في سادس القرون، والناس لما ذكره يفعلون، وجهابذة العلماء والنقدة لذلك مشاهدون، وحظهم من النهي مرتبته الثانية فهم بها قائمون، يتضح لك فساد ما زخرفه المبطلون ومَوَّهَ به المتعصبون والملحدون.

فصل [دعاء غير الله شرك لا كالحلف والطيرة] وأما قوله الثاني: "إن نظر فيه من حيثية القول فهو كالحلف بغير الله، وقد ورد أنه شرك، وكفر، ثم أوَّلوه بالأصغر. وإن نظر فيه من حيثية الاعتقاد فهو كالطيرة، وهي من الأصغر". فنقول: هذا كلام باطل، وليس يخفى ما بينهما من الفرق، فأيّ مشابهة بين من وَحَّدَ الله وعبده، ولم يشرك معه أحدا من خلقه، وأنزل حاجاته كلها بالله، واستغاث به في تفريج كُرُبَاته وإغاثة لهفاته، لكنه حلف بغير الله يمينا مجردة لم يقصد بها تعظيمه على ربه، ولم يسأله، ولم يستغث به، وبين من استغاث بغير الله، وسأله جلب الفوائد، وكشف الشدائد، فإن هذا صَرَفَ مُخَّ العبادة -الذي هو لبها وخالصها- لغير الله، وأشرك مع الله غيره في أجلّ العبادات وأفضل القُرُبَات التي أمر الله به في غير موضع من كتابه، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه هو العبادة كما تقدم في حديث النعمان بن بشير: "أن الدعاء هو العبادة"1 وفي حديث أنس: "إن الدعاء مخ العبادة"2 وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم "أن الله يحب المُلِحِّين فيه" وأن "من لم يسأل الله يغضب عليه"3 وفي الترمذي عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم "سلوا الله من فضله، فإن الله يحب أن يُسْأَل"4 وفيه أيضا: "إن الله يحب الملحين في الدعاء" وفيه أيضا: "من لم يسأل الله يغضب عليه"5 وفي الترمذي وابن ماجه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ليس شيء على الله أكرم من الدعاء"6. وأما الحلف فلم يأمرنا الله به بل أمرنا بحفظه فقال: {وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ} 7 قيل: المعنى لا تحلفوا، وقيل: لا تحنثوا، ولا يرد على هذا ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه حلف في مواضع، فإن اليمين تستحب إذا كان فيها مصلحة راجحة. وعلى هذا حمل العلماء ما روي في ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم فهو يحلف لمصالح مطلوبة للأمة، كزيادة إيمانهم وطمأنينة قلوبهم، كما أمره الله بذلك في ثلاثة مواضع

_ 1 الترمذي: تفسير القرآن "2969" , وابن ماجه: الدعاء "3828". 2 الترمذي: الدعوات "3371". 3 الترمذي: الدعوات "3373" , وابن ماجه: الدعاء "3827". 4 الترمذي: الدعوات "3571". 5 الترمذي: الدعوات "3373" , وابن ماجه: الدعاء "3827". 6 الترمذي: الدعوات "3370" , وابن ماجه: الدعاء "3829". 7 سورة المائدة آية: 89.

من كتابه، وأما الحلف لغير مصلحة فليس مشروعا، بل يباح إذا كان صادقا. [الدعاء يتضمن الرغبة والرهبة والتوكل على المدعو] وأما الدعاء: فهو مشروع محبوب لله، بل سماه الله في كتابه الدين، وأمر بإخلاصه له، وسماه رسوله صلى الله عليه وسلم العبادة، ومخ العبادة، فكيف يقال: هو كالحلف؟ فمن صرف الدعاء لغير الله فقد أشرك في الدين الذي أمر الله بإخلاصه له، وفي العبادة التي أمر الله بها. وأيضا فإن الداعي راغبٌ راهبٌ، فالعبد يدعو ربه رغبا ورهبا، ويتوكل عليه في حصول مطلوبه، ودفع مرهوبه، فإذا طلب فوائده، وكَشْفَ شدائده من غير الله فقد أشرك مع الله في الرغبة والرهبة والرجاء والتوكل، فإن هذا من لوازم الدعاء، وهو من العبادة التي أمر الله بها، كقوله تعالى: {وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} 1 وقوله تعالى: {وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} 2 وقال: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} 3. فمن استغاث بغير الله فهو راغب إليه في حصول مطلوبه رَاجٍ له، متوكل عليه، وذلك هو حقيقة العبادة التي لا تصلح إلا لله، وهو معنى لا إله إلا الله، فإن الإله هو الذي تألهه القلوب محبة ورجاء، وخوفا وتوكلا. ويقال أيضا: الذي يدعو غير الله في مهماته وكشف كرباته: قد رد على الله كلامه، وَكَذَّبَ بآياته، فإن الله عز وجل- أخبر أنه لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه، وأن الشفاعة كلها لله، وهذا زعم أن الميت يشفع له، وأخبر الله أن الأولياء والصالحين لا يملكون كشف الضر ولا تحويله، وأنهم لا ينفعون ولا يضرون، ولا يسمعون الدعاء ولا يستجيبون، وهذا زعم أنهم باب حوائجه إلى الله، وأنهم ينفعون ويشفعون، وللدعاء يسمعون، وله يستجيبون، فكذب على الله وكذَّب بآياته. فكيف يقال: إن هذا كالحلف بغير الله الذي أَوَّلُوهُ أن يكون شركا أصغر يُعَاقَب عليه، كما يعاقب الزاني وقاتل النفس وآكل الربا؛ لأنه ارتكب محرما غير مستحل له، نظير ما يفعله الزاني وقاتل النفس؟ فأما إن فعله مستحلا أو لكون

_ 1 سورة الشرح آية: 8. 2 سورة البقرة آية: 40. 3 سورة المائدة آية: 23.

المخلوق في قلبه أعظم من الخالق كان ذلك كفرا. [قول ابن القيم في الشرك الأصغر] قال ابن القيم -رحمه الله تعالى-: وأما الشرك الأصغر فكيسير الرياء والتَّصَنُّع للخلق، والحلف بغير الله، ونحو: ما لي إلا الله وأنت، وأنا متوكل على الله وعليك، ولولا أنت لم يكن كذا وكذا، وقد يكون هذا شركا أكبر بحسب حال قائله ومقصده. انتهى. ويقال أيضا: من المعلوم بالاضطرار من دين الإسلام أن الله -تعالى- بعث محمدا صلى الله عليه وسلم يدعو إلى التوحيد وينهى عن الإشراك، فكان أول آية أرسله الله بها: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} 1 فأنذر عن الشرك، وهجر الأوثان، وكبرَ الله وعظمَه بالتوحيد، فاستجاب له من استجاب من المسلمين، وصبروا على الأذى من قومهم، وقاسوا الشدائد العظيمة فهاجروا وأُخْرِجُوا من ديارهم، وأُوذُوا في الله، وتَمَيَّزَ الكافر من المسلم، ومات من المسلمين مَن استوجب الجنة، ومات مِن الكفار مَن استحق النار، وهذا النهي كله قبل الحلف بغير الله. فالاستغاثة بأهل القبور واستنجادهم واستنصارهم لم يبح في شرائع الرسل كلهم، بل بعث الله جميع رسله بالنهي عن ذلك، والأمر بعبادته وحده لا شريك له. وأما الحلف فكان الصحابة يحلفون بآبائهم، ويحلفون بالكعبة وغير ذلك، ولم يُنْهَوْا عن ذلك إلا بعد مدة طويلة، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم "إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآباءكم"2 وقال: "من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت"3. ومن لا يميز الفرق بين دعاء الميت والحلف به: لا يعرف الشرك الذي بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم ينهى عنه ويقاتل أهله، وأيّ جامع بين الحلف والاستغاثة؟ فالمستغيث طالبٌ سائلٌ، والحالفُ لم يطلب ولم يسأل، فإن كان الجامع بينهما عند القائل باتحادهما: أن كلا منهما قولٌ باللسان؛ فيقال له: والأذكار والدعوات،

_ 1 سورة المدثر آية: 1: 5. 2 البخاري: الأدب "6108" , ومسلم: الأيمان "1646" , والترمذي: النذور والأيمان "1533 ,1534" , والنسائي: الأيمان والنذور "3766 ,3767 ,3768" , وأبو داود: الأيمان والنذور "3249" , وابن ماجه: الكفارات "2094" , وأحمد "2/ 7 ,2/ 8 ,2/ 11 ,2/ 17 ,2/ 20 ,2/ 69 ,2/ 76 ,2/ 86 ,2/ 98 ,2/ 142" , ومالك: النذور والأيمان "1037" , والدارمي: النذور والأيمان "2341". 3 البخاري: الشهادات "2679" , ومسلم: الأيمان "1646" , والترمذي: النذور والأيمان "1534" , وأبو داود: الأيمان والنذور "3249" , وأحمد "2/ 7 ,2/ 11 ,2/ 17 ,2/ 20 ,2/ 76 ,2/ 142" , ومالك: النذور والأيمان "1037" , والدارمي: النذور والأيمان "2341".

وقول الزور، وقذف المحصنات؛ كل ذلك قولٌ باللسان، ولو قال أحدٌ: إنها ألفاظٌ متقاربةٌ لَعُدَّ من المجانين، وإن أراد هذا القائل اتحادَهما في المعنى، فهذا باطل كما تقدم بيانُهُ، وأيّ مشابهة بين من جعل لله ندا من خلقه يدعوه ويرجوه ويستنصر به، ويستغيث به، وبين مَن لا يدعو إلا الله وحده لا شريك له، وأخلص له في عبادته، فالأول أشرك مع الله في قوله وفعله واعتقاده، بخلاف الحالف، بل لو اعتقد الحالف تعظيم المخلوق على الخالق لصار شركا أكبر كما تقدم. [حديث ذات الأنواط] ومما يبين أيضا أن الرسول صلى الله عليه وسلم لَمَّا نهاهم عن الحلف بغير الله وحلف بعض الصحابة -حديثو العهد- فقال في حلفه: واللات، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من حلف باللات فليقل: لا إله إلا الله"1؛ ولما قال له بعض الصحابة -حديثو العهد بالكفر-: اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط، قال: "الله أكبر إنها السنن قلتم -والذي نفسي بيده- كما قالت بنو إسرائيل لموسى: {اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} لتركبن سنن من كان قبلكم"2. فانظر كيف نهى الحالف وأرشده إلى الكفارة بأن يقول: لا إله إلا الله من غير التغليظ الشديد. والذين قالوا: اجعل لنا ذات أنواط غلظ عليهم التغليظ الشديد، وحلف لهم أن طِلبتهم كطِلبة بني إسرائيل، وأن قولهم: اجعل لنا ذات ... كقول بني إسرائيل: {اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} 3 سواء بسواء، فهما متفقان معنًى، وإن اختلف اللفظ. وهذا مما يُبَيِّنُ لك شيئا من معنى لا إله إلا الله، فإذا كان اتخاذ الشجرة للعُكُوف حولها، وتعليق الأسلحة بها للتبرك اتخاذ إله مع الله مع أنهم لا يعبدونها، ولا يسألونها، فما الظن بالعكوف حول القبر ودعائه في إنزال الفوائد، والاستغاثة به في كشف الشدائد؟ وأخذ تربته تبركا؟ وإسراج القبر وتخليقه؟ وأيّ نسبة للفتنة بشجرة إلى الفتنة بالقبر، لو كان أهل الشرك والبدع يعلمون؟ قال بعض أهل العلم من أصحاب مالك: فانظروا -رحمكم الله- أينما وجدتم سِدرة

_ 1 البخاري: تفسير القرآن "4860" والأدب "6107" والاستئذان "6301" والأيمان والنذور "6650" , ومسلم: الأيمان "1647" , والترمذي: النذور والأيمان "1545" , والنسائي: الأيمان والنذور "3775" , وأبو داود: الأيمان والنذور "3247" , وابن ماجه: الكفارات "2096" , وأحمد "2/ 309". 2 الترمذي: الفتن "2180" , وأحمد "5/ 218". 3 سورة الأعراف آية: 138.

أو شجرة يقصدها الناس ويعظمونها، ويرجون البِرّ والشفاء من قِبَلها، ويضربون بها المسامير والخِرَق فهي ذات أنواط فاقطعوها. انتهى. [الفرق بين دعاء الأموات والاستغاثة والحلف بهم] ومما يبيِّنُ الفرق بين دعاء الأموات والاستغاثة بهم وبين الحلف بهم: أن العلماء قسموا الشرك إلى: أكبر وأصغر، جعلوا دعاء الأموات والاستغاثة بهم -فيما لا يقدر عليه إلا رب الأرض والسماوات- هو عين شرك المشركين الذين كفَّرهم الله في كتابه، وجعلوا الحلف بغير الله شركًا أصغر، فيذكرون الأول في باب حكم المرتد. وأن من أشرك بالله فقد كفر، ويستدلون بقوله تعالى:. {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} 1 ويفسرون هذا الشرك بما ذكرنا. ويذكرون الثاني في كتاب الأيْمَان، فيفرقون بين هذا وهذا، ولم نعلم أن أحدا من العلماء الذين لهم لسان صدق في الأمة قال: إن طلب الحوائج من الموتى والاستغاثة بهم: شرك أصغر، ولا قال: إن ذلك كالحلف بغير الله، اللهم إلا أن يكون بعض المنتسبين إلى العلم من المتأخرين الضالين الذين قرَّرُوا الشركَ وحَسَّنُوهُ للناس نَظْمًا وَنَثْرًا، وصار لهم نصيب من قوله عزوجل {لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ} 2. [شرك الطيرة وكونه من خرافات الجاهلية] وأما قوله: "وإن نظر فيه من جهة الاعتقاد فهو كالطِّيَرَة: فهو باطل أيضا يظهر بطلانُهُ مما تقدم". فيقال: وأين الجامع بين شرك مَن جعل بينه وبين الله واسطة: يدعوه ويسأله قضاء حاجاته وكشف كرباته ويقول: هذا وسيلتي إلى الله، وباب حاجتي إليه، وبين مَن عبد الله وحده لا شريك له ودعاه خوفا وطمعا، وأنزل حاجاته كلها به، وكشف كرباته، وتبرأ من عبادة كل معبود سواه، ولكن وقع في قلبه شيء من الطِّيَرَة. فالأول هو: دين أبي جهل وأصحابه، وهو دين أعداء الرسل من نوح إلى يومنا هذا. وأما الطِّيَرة فتقع على المؤمنين الموحدين كما في الحديث المرفوع عن ابن مسعود:

_ 1 سورة النساء آية: 48. 2 سورة النساء آية: 50.

"والطيرة شرك وما منا إلا .... ولكن الله يُذْهِبه بالتوكل"1 رواه أبو داود ورواه الترمذي وصححه وجعل آخرَه من قول ابن مسعود. وفي مراسيل أبي داود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ليس عبد إلا سيدخل قلبه طيرة، فإذا أحس بذلك، فليقل: أنا عبد الله، ما شاء الله، لا قوة إلا بالله، لا يأتي بالحسنات إلا الله، ولا يذهب بالسيئات إلا الله، أشهد أن الله على كل شيء قدير. ثم يمضي لوجهه". وفي مسند الإمام أحمد عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أرجعته الطِّيَرَة عن حاجته: فقد أشرك، وكفارة ذلك أن يقول أحدهم: اللهم لا طير إلا طيرك، ولا خير إلا خيرك، ولا إله غيرك"2. وفي صحيح ابن حبان عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا طيرة، والطيرة على من تَطَيَّرَ". ومعنى هذا أن مَن تَطَيَّرَ تطيُّرًا مَنْهِيًّا عنه بأن يعتمد على ما يسمعه، أو يراه من الأمور التي يتطير بها حتى يمنعه عما يريد من حاجته: فإنه قد يصيبه ما يكرهه، وأما من توكل على الله، ولم ينظر إلى الأسباب المخوفة، وقال ما أُمِرَ به من هذه الكلمات ومضى فإنه لا يضره ذلك، فإذا كان هذا حال الطيرة، فأين الجامع بينها وبين الشرك الأكبر في الاعتقاد؟ فإن أراد السائل أن المُتَطَيِّرَ إذا زَجَرَ الطير أو تَطَيَّرَ بما يراه من علم النجوم وغيره، أو بما يسمعه من الكلام يعتقد أن ذلك من علم الغيب، وأن الطير تخبره عما هو صائر إليه في المستقبل، أو أن الأفلاك تُدَبِّر أمرَ الخلائق؛ فليس هذا من الشرك الأصغر، بل هذا من الشرك الأكبر نظير شرك عُبَّاد الكواكب. فصل [في الدعاء والنداء لغير الله] وأما قول القائل: "الثالث أنه قد ورد في حديث الضرير قوله يا محمد، وفي الجامع الكبير، وعزاه للطبراني فيمن انفلتت عليه دابته قال: "يا عباد الله احبسوا" وهذا دعاء ونداء لغير الله".

_ 1 الترمذي: السير "1614" , وأبو داود: الطب "3910" , وابن ماجه: الطب "3538" , وأحمد "1/ 389 ,1/ 438 ,1/ 440 2 أحمد "2/ 220"

فنقول -وبالله التوفيق-: اعلم أن الله -سبحانه وتعالى- بعث محمدا صلى الله عليه وسلم بالدعوة إلى التوحيد، والنهي عن الشرك، فحَمَى حِمَى التوحيد، وسَدَّ كل طريق يوصل إلى الشرك حتى في الألفاظ، حتى إن رجلا قال له: ما شاء الله وشئت قال: "أجعلتني لله ندا. قل: ما شاء الله وحده"1 فكيف يأمر بدعاء الميت أو الغائب؟. [دعاء الميت والغائب لم ينقل عن صحابي ولا تابعي] بل من المعلوم بالضرورة من دين الإسلام أن دعاء الميت والغائب: لم يأمر الله به ولا رسوله، ولا فعله أحد من الصحابة ولا التابعين، ولا فعله أحد من أئمة المسلمين، ولا أحد من الصحابة استغاث بالنبي -صلى الله عليه وسلم- بعد موته، ولا قال أحدٌ: إن الصحابة استغاثوا بالنبي -صلى الله عليه وسلم- بعد موته، ولو كان هذا جائزا أو مشروعا: لفعلوه، ولو كان خيرا لسبقونا إليه. وقد كان عندهم من قبور أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالأمصار عددٌ كثيرٌ، وهم مُتَوَافِرُون، فما منهم مَن استغاث عند قبر صحابي ولا دعاه، ولا استغاث به ولا استنصر به. ومعلوم أن مثل هذا مما تتوفر الهمم والدواعي على نقله؛ بل على نقل ما هو دونه؛ وحينئذ فلا يخلو إما أن يكون دعاء الموتى والغائبين، أو الدعاء عند قبورهم، والتوسل بأصحابها أفضل، أو لا يكون، فإن كان أفضل فكيف خَفِيَ علمًا وعملا على الصحابة والتابعين وتابعيهم؛ فتكون القرون الثلاثة الفاضلة جاهلة علما وعملا بهذا الفضل العظيم، ويظفر به الخلوف علما وعملا. وهذان الحديثان اللذان أوردهما السائل إما أن يكون الصحابة الذين رَوَوْهُمَا وسمعوهما من النبي صلى الله عليه وسلم جاهليْن بمعناهما، وعلمه هؤلاء المتأخرون، وإما أن يكون الصحابة علموهما علما، وزهدوا فيهما عملا مع حرصهم على الخير وطاعتهم لنبيهم صلى الله عليه وسلم وكلاهما مُحَالٌ، بل هم أعلم الناس بكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأطوع الناس لأوامره، وأحرص الناس على كل خير، وهم الذين نقلوا إلينا سنة نبينا صلى الله عليه وسلم فهل فهموا من هذه الأحاديث جواز دعاء الموتى والغائبين فضلا عن استحبابه والأمر به؟

_ 1 أحمد "1/ 283".

ومعلوم أنه قد عرضتْ لهم شدائدُ واضطراراتٌ وفتنٌ وقحطٌ وسنونٌ مجدباتٌ، أفلا جاءوا إلى قبر النبي -صلى الله عليه وسلم- شاكين وله مخاطبين، وبكشفها عنهم وتفريج كرباتهم داعين. والمضطرب يَتَشَبَّثُ بكل سبب يعلم أن له فيه نفعا؛ لا سيما الدعاء، فلو كان ذلك وسيلة مشروعة وعملا صالحا: لفعلوه. فهذه سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في أهل القبور حتى توفاه الله، وهذه سنة خلفائه الراشدين، وهذه طريقة جميع الصحابة والتابعين، هل يمكن أحد أن يأتي عنهم بنقل صحيح أو حسن أو ضعيف أنهم كانوا إذا كانت لهم حاجة، أو عرضت لهم شدة قصدوا القبور، فدعوا عندها وتمسحوا بها، فضلا عن أن يسألوها حوائجهم، فمن كان عنده في هذا أثرٌ أو حرف واحد في ذلك فليوقفنا عليه. نعم يمكنهم أن يأتوا عن الخُلُوف الذين يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يُؤْمَرُونَ، بكثير من المُخْتَلَقَات، والحكايات المكذوبات، حتى لقد صُنِّفَ في ذلك عدّة مصنفات، ليس فيها حديث صحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما فيها التَّمْوِيهَات والحكايات المخترعات، والأحاديث المكذوبات. كقولهم: إذا أعيتكم الأمور فعليكم بأصحاب القبور، وحديث: لو أحسن أحدكم ظنه بحجر لنفعه. وفيها حكايات لهم عن تلك القبور: أن فلانا استغاث بالقبر الفلاني في شدة فخلص منها، وفلانا دعاه أو دعا به في حاجة فقضيت، وفلانا نزل به ضُرٌّ، فأتى صاحب ذلك القبر: فكشف ضره، ونحو ذلك مما هو مُضَادٌّ لما بعث الله به محمدا صلى الله عليه وسلم من الدين، ومن له معرفة بما بعث الله به محمدا صلى الله عليه وسلم يعلم أنه حَمَى جانب التوحيد وسد الذرائع الموصلة إلى الشرك، فكيف يستدل بكلامه على نقيض ما أمر به فيستدل بقوله في حديث الأعمى: "يا محمد" على أنه أمر بدعائه في حال غيبته فيدل على جواز الاستغاثة بالغائب. وكذلك قوله "يا عباد الله احبسوا" يدل على ذلك.

وأيضا هذا من أعظم المُحَال وأبطل الباطل، بل كلامه صلى الله عليه وسلم يوافق الوحيَ المُنَزَّل عليه، يصدقه ولا يكذبه فإنهما عن مشكاة واحدة {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} 1. ونحن نجيب عن هذين الحديثين -بعون الله وتأييده- من وجوه فنقول: {حديث يا عباد الله احبسوا. وحديث توسل الأعمى} (والرد على من استدل بهما على جواز دعاء غير الله تعالى) من بضعة وجوه 2 [الرد على من استدل بحديث يا عباد الله احبسوا في دعاء غير الله] "الوجه الأول": أن القرآن فيه: {مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} 3 فَيُرَدُّ المتشابهُ إلى المُحْكَم، ولا يُضْرَبُ كتاب الله بعضه ببعض، وكذلك السنة فيها محكم، وفيها متشابه، فيرد متشابهها إلى المحكم، ولا يضرب بعضها ببعض فكلام النبي صلى الله عليه وسلم لا يتناقض بل يصدق بعضه بعضا ويوافق القرآن ولا يناقضه، وهذا أصل عظيم تجب مراعاته، ومن أهمله فقد وقع في أمر عظيم وهو لا يدري. ومن المعلوم أن أدلة القرآن الدالة على النهي عن دعاء غير الله متظاهرة مع وضوحها وبيانها، كقوله تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} 4 وقوله تعالى: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ} 5 وقوله تعالى: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ} 6 الآية. إلى غير ذلك من الآيات الواضحات البينات. فمن أعرض عن هذا كله وَتَعَامَى عنه، وأعرض عن الأحاديث الصحيحة الدالة على تحقيق التوحيد وإبطال الشرك وسد ذرائعه، وتعلق بحديث ضعيف، بل ذكر بعض العلماء أنه حديث منكر، وهو قوله: "إذا انفلتَتْ دابة أحدكم فليناد: يا عباد الله احبسوا" ومثل حديث الأعمى الذي فيه: "يا محمد" وزعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره أن يسأله

_ 1 سورة النجم آية: 3، 4. 2 هذا العنوان ليس من الأصل، وإنما وضع للتنبيه وتوجيه النظر إلى موضوع المسألة. 3 سورة آل عمران آية: 7. 4 سورة الجن آية: 18. 5 سورة الرعد آية: 14. 6 سورة يونس آية: 106.

في حال غَيْبَته لم يكن هذا إلا من زَيْغٍ في قلبه قد تناوله كقوله تعالى {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ} 1. وقوله صلى الله عليه وسلم فيما ثبت عنه في الصحيح من حديث عائشة: "إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم"2. "الوجه الثاني": أن يقال لمن استدل بالحديثين على دعاء غير الله: أتظن أن الرسول صلى الله عليه وسلم يأمر أمته بالشرك، وقد نهى عنه، وجَرَّدَ التوحيد لله، ونهى عن دعوة غير الله. وقال -فيما ثبت عنه- في صحيح البخاري: "من مات وهو يدعو لله نِدًّا دخل النار"3 وقال لابن عباس: "إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله"4 فكيف يجتمع في قلبك أن الله بعثه بالتوحيد والتحذير من الإشراك، ثم يأمر أمته بعين ما حَذَّرَهُم عنه؟! فمن زعم أن قوله: "يا عباد الله احبسوا" يدل على جواز دعاء الغائب بالنص، وعلى دعاء الميت بالقياس على الغائب، وكذلك حديث الأعمى هذا فقد حَادَّ الله ورسوله؛ حيث زعم أن الرسول أمر أمته بالإشراك الذي بعثه الله ينهى عنه. "الوجه الثالث": أن يقال: وعلى تقدير أن هذا يدل على أن الاستغاثة بغير الله شرك أصغر، فهل يظن من في قلبه رائحة إيمان أن الرسول صلى الله عليه وسلم يأمر أمته بالشرك الأصغر الذي قد حرَّمه الله ورسوله؟ بل إذا علم الإنسان أن هذا شرك أصغر، ثم زعم أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- أمر أمته به كان كافرًا. وقد قال تعالى: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ} 5 إلى قوله: {وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} 6 فحاشا جنابه صلى الله عليه وسلم أن يأمر أمته بالشرك ولو كان أصغر. ومن استدل بهذين الحديثين على دعاء الموتى والغائبين: فهو بين أمرين لا محيد

_ 1 سورة آل عمران آية: 7. 2 البخاري: تفسير القرآن "4547" , ومسلم: العلم "2665" , والترمذي: تفسير القرآن "2993 ,2994" , وأبو داود: السنة "4598" , وابن ماجه: المقدمة "47" , وأحمد "6/ 48 ,6/ 124 ,6/ 132 ,6/ 256" , والدارمي: المقدمة "145". 3 البخاري: تفسير القرآن "4497" , وأحمد "1/ 402 ,1/ 407 ,1/ 462 ,1/ 464". 4 الترمذي: صفة القيامة والرقائق والورع "2516" , وأحمد "1/ 293 ,1/ 303 ,1/ 307". 5 سورة آل عمران آية: 79. 6 سورة آل عمران آية: 80.

له عنهما: إما أن يقول: هذا يدل على أن دعاءهم مستحبٌ أو جائزٌ، ومن قال ذلك: فقد خالف إجماع المسلمين، ومرق من الدين، فإنه لم يقل أحد من المسلمين: إن دعاء الموتى جائز أو مستحب. وإما أن يقول: إن ذلك يدل على أن دعاء الموتى شركٌ أصغر لا أكبر، ومن قال ذلك فقد تناقض في استدلاله حيث استدل بكلام النبي صلى الله عليه وسلم الذي أمر به على ما نهى عنه، وكيف يسوغ لمن يؤمن بالله واليوم الآخر أن يستدل بأمره على نهيه. ثم يقال لهذا المستدل بقوله: "فليناد يا عباد الله احبسوا" أَخْبِرْنَا عن هذا الأمر؟ هل هو للوجوب أو للاستحباب أو الإباحة، وهي أقل أحواله، وأما ما كان مكروها أو محرما فلا يكون فيما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم فما وجه الاستدلال؟. "الوجه الرابع": أن هذا الحديث لا يصح عن النبي -صلى الله عليه وسلم- فإن من رواته معروف بن حسان، وهو منكر الحديث قاله ابن عدي. "الوجه الخامس": أن يقال: إن صح الحديث فلا دليل فيه على دعاء الميت والغائب، فإن الحديث ورد في أذكار السفر، ومعناه: أن الإنسان إذا انفلتت دابته، وعجز عنها فقد جعل الله عبادا من عباده الصالحين من صالحي الجن أو من الملائكة أو ممن لا يعلم من جنده سواه: {مَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} 1 فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن لله عبادا قد وكلهم بهذا الأمر، فإذا انفلتت الدابة، ونادى صاحبها بما أمره به النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث: حبسوا عليه دابته. فإن هؤلاء عباد الله أحياء، وقد جعل الله لهم قدرة على ذلك كما جعل للإنس فهو ينادي من يسمع ويعين بنفسه كما ينادي أصحابه الذين معه من الإنس، فأين هذا من الاستغاثة بأهل القبور؟ بل هذا من جنس ما يجوز طلبه من الأحياء، فإن الإنسان يجوز له أن يسأل المخلوق من الأحياء ما يقدر عليه كما قال تعالى: {فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ} 2 وكما في قوله تعالى: {وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إ} 3 وكما يستغيث الناس يوم القيامة بآدم ثم بنوح ثم إبراهيم ثم بموسى ثم بعيسى

_ 1 سورة المدثر آية: 31. 2 سورة القصص آية: 15. 3 سورة الأنفال آية: 72.

حتى يأتوا نبينا -صلى الله عليه وسلم- بل هذا من جنس استغاثته بِرُفْقَتِهِ من الإنس، فإذا انفلتت دابته ونادى أحد رُفْقَتَه يا فلان: رُدَّ الدابة لم يكن في هذا بأس. فهذا الذي ورد في الحديث: من جنس هذا، بل قد يكون قربة إذا قصد به امتثال أمر النبي صلى الله عليه وسلم - فأين هذا من استغاثة العبادة بأن ينادي ميتا أو غائبا في قطر شاسع، سواء كان نبيا أو عبدا صالحا. "الوجه السادس": أن الله -تعالى- قال: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} 1 فبعد أن أكمله بفضله ورحمته فلا يحل أن يخترع فيه ما ليس منه. ونقيس عليه ما لا يقاس عليه، بل الواجب اتباع ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم كما أمر به، فإذا نادى شخصا معينا باسمه، فقد كذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم ونادى مَن لم يُؤْمَر بندائه، وليس ذلك في كل حركة وسكون وقيام وقعود، وإنما ذلك في أمر مخصوص. [الاستدلال بحديث الأعمى في دعاء غير الله] وأما حديث الأعمى، فالجواب عليه من وجوه: "الوجه الأول" أن الحديث إذا شذ عن قواعد الشرع: لا يُعْمَل به، فإنهم قالوا: إن حَدَّ الحديث الصحيح: إذا رواه العدل الضابط عن مثله من غير شذوذ ولا علة، فهذا الحديث لا يجوز الاحتجاج به في هذا الباب؛ لمخالفته قواعد الشرع وأصوله، بل من احتج به على دعاء الميت والغائب فقد خالف نصوص الكتاب والسنة، مع أنه -بحمد الله- يوافق ذلك ولا يخالفه، فليس فيه دليل على ما ذكره السائل كما سنبينه -إن شاء الله- وكيف يستدل بما ليس فيه دلالة مطابقة ولا تضمن ولا التزام؟. "الوجه الثاني" أن يقال: هذا الحديث قد رواه النسائي في عمل اليوم والليلة، والبيهقي وابن شاهين في دلائلهما، كلهم عن عثمان بن حنيف، ولم يذكروا فيه هذه اللفظة: أعني: "يا محمد" ولفظ الحديث عندهم عن عثمان بن حنيف: أن رجلا أعمى أتى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال يا نبي الله قد أُصِبْتُ في بصري فادعُ الله لي. فقال له النبي

_ 1 سورة المائدة آية: 3.

-صلى الله عليه وسلم-: "توضأ وصل ركعتين ثم قل: اللهم إني أتوجه إليك بنبيي محمد، نبي الرحمة، إني أتشفع به إليك في رد بصري، اللهم شَفِّع نبيي فيَّ" ففعل ذلك، فرد الله عليه بصره وقال له: "إذا كانت لك حاجة فبمثل ذلك فافعل" انتهى. فهذا الحديث بهذا اللفظ لا حجة فيه للمبطل؛ لأن غايته أنه توسل بالنبي -صلى الله عليه وسلم-. وساقه الترمذي -رحمه الله- بسياق قريب من هذا. فقال: حدثنا محمد بن غيلان ثنا عثمان بن عمر ثنا شعبة عن أبي جعفر عن عمارة بن خزيمة بن ثابت عن عثمان بن حنيف: أن رجلا ضرير البصر أتى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: ادع الله لي أن يعافيني، قال "إن شئت دعوتُ وإن شئتَ صبرتَ فهو خير لك" قال: فادعه، فأمره أن يتوضأ فيحسن وضوءه ويدعو بهذا الدعاء: "اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة، إني توجهت بك إلى ربي في حاجتي هذه لِتُقْضَى، اللهم فَشَفِّعْهُ فيَّ"1 هذا حديث حسن صحيح غريب، لا نعرفه إلا من حديث أبي جعفر، وهو غير الخَطمي. انتهى. هذا لفظه بحروفه، وفي نسخة أخرى: "إني توجهت به إلى ربي" وليست هذه اللفظة في الحديث في سياق هؤلاء الأئمة أعني قوله: يا محمد، التي هي غاية ما يتعلق به المبطلون. "الوجه الثالث" أن يقال: على تقدير صحة هذه اللفظة فليس فيها ما يدل على دعاء النبي صلى الله عليه وسلم بعد موته، ولو كان فيها ما يدل على ذلك لفعله الصحابة -رضي الله عنهم-، فلما ثبت أن الصحابة لم يفعلوه، بل ولا أجازوه علمنا أنه ليس في ذلك دلالة. فيبقى أن يقال: ما معناه؟ فنقول: ذكر العلماء في معناه قولين: "أحدهما" أنه توسل بالنبي -صلى الله عليه وسلم- فيدل على جواز التوسل به -صلى الله عليه وسلم- في حياته وبعد وفاته، إلا أن التوسل ليس فيه دعاء له ولا استغاثة به، وإنما سؤال الله بِجَاهِهِ، وهذا ذكره الفقيه أبو محمد العز بن عبد السلام في فتاويه، فإنه أفتى بأنه لا يجوز التوسل بغير النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: وأما التوسل به -صلى الله عليه وسلم- فجائز -إن صح الحديث فيه- يعني حديث الأعمى.

_ 1 الترمذي: الدعوات "3578" , وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها "1385".

[التوسل بالنبي وما ورد فيه] قال الشيخ ابن تيمية -رحمه الله-*: أما التوسل إلى الله بغير نبينا صلى الله عليه وسلم فلا نعلم أحدا من السلف فعله، ولا روى فيه أثرا، ولا نعلم فيه إلا ما أفتى ابن عبد السلام من المنع. وأما التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم ففيه حديث في السنن، وهو حديث الأعمى الذي أصيب ببصره، فلأجل هذا الحديث استثنى الشيخ التوسل به، وللناس في معنى الحديث قولان: "أحدهما" أن هذا التوسل هو الذي ذكره عمر لما استسقى بالعباس فذكر أنهم كانوا يتوسلون بالنبي -صلى الله عليه وسلم- في الاستسقاء، ثم توسلوا بعمه العباس بعد موته، وتوسلهم به هو استسقاؤهم به، بحيث يدعو ويدعون معه، فيكون هو وسيلتهم إلى الله. وهذا لم يفعله الصحابة بعد موته وفي مغيبه، والنبي -صلى الله عليه وسلم- كان في مثل هذا شافعا لهم داعيا، ولهذا قال في حديث الأعمى: "اللهم فَشَفِّعْهُ فيَّ"1 فعلم أن النبي -صلى الله عليه وسلم- شفع له فسأل الله أن يُشَفِّعَهُ فيه. "والثاني" أن التوسل به يكون في حياته وبعد وفاته. انتهى كلام الشيخ -رحمه الله-. فتبين بهذا أن معنى التوسل إلى الله هو بدعائه وشفاعته في حضوره أو التوسل بذاته، بأن يسأل الله بجاهه. والتوسل غير الاستغاثة، فإنه لم يقل أحد: إن من قال: اللهم إني أسألك بحق فلان أنه استغاث به؛ بل إنما استغاث بمن دعاه، بل العامة الذين يتوسلون في أدعيتهم بأمور كقول أحدهم: أتوسل إليك بحق الشيخ فلان، أو بحرمته، أو نحو ذلك مما يقولونه في أدعيتهم يعلمون أنهم لا يستغيثون بهذه الأمور، فإن المستغيث بالشيء طالبٌ منه سائل له، والمتوسل به لا يُدْعَى، ولا يُسْأَلُ ولا يُطْلَبُ منه، وإنما يطلب به، وكل أحد يُفَرِّقُ بين المدعو والمدعو به، والاستغاثة هي طلب الغوث، وهو إزالة الشدة كالاستنصار: طلب النصر، والاستعانة: طلب العون، فكل أحد يفرق بين المسئول والمسئول به.

_ * مجموع الفتاوى 1/ 105 - 106. [معد الكتاب للمكتبة الشاملة] 1 الترمذي: الدعوات "3578" , وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها "1385".

فالحديث على هذا المعنى -الذي ذهب إليه ابن عبد السلام- لا حُجَّة فيه لمن جَوَّزَ الاستغاثة بالنبي -صلى الله عليه وسلم- بعد وفاته، فإن هذا لم يفهمه أحد من العلماء من الحديث، ولم يذكروا في معناه إلا هذين القولين اللذين ذكرناهما. "أحدهما" ما ذهب إليه ابن عبد السلام. "والثاني" ما ذهب إليه الأكثرون أن معناه: التوسل إلى الله بدعائه وشفاعته بحضوره كما في صحيح البخاري أن عمر -رضي الله عنه- استسقى بالعباس فقال: "اللهم إنا كنا إذا جدبنا توسلنا إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا فَيُسْقَوْنَ"1. فبيَّن عمر أنهم كانوا يتوسلون به في حياته فيسقون، وتوسلهم به: هو أنهم يسألونه أن يدعو الله لهم، فيدعو ويدعون معه، فيتوسلون بدعائه كما في الصحيحين عن أنس: "أن رجلا دخل المسجد يوم الجمعة من بابٍ كان نَحْوًا من دار القضاء ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يخطب، فاستقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم قائما ثم قال: يا رسول الله: هلكت الأموال وانقطعت السبل، فادع الله أن يغيثنا، فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه فقال: "اللهم أغثنا"2 الحديث بطوله. ففي هذا أنه قال: "ادع الله أن يغيثنا". فلما كثر الغيث قال: "ادع الله أن يمسكها عنا". فهذا هو التوسل الذي كانوا يفعلونه. فلما مات -صلوات الله وسلامه عليه- لم يتوسلوا به، ولم يستسقوا به، فلو كان ذلك مشروعا لم يعدلوا إلى العباس، وكيف يتركون التوسل بنبيهم -صلى الله عليه وسلم- ويعدلون إلى العباس؟ وكذلك معاوية استسقى بيزيد بن الأسود الجرشي وقال: "اللهم إنا نتشفع إليك بخيارنا، يا يزيد ارفع يديك إلى الله" فرفع يديه ودعا ودعوا فَسُقُوا. وقال أبو العباس ابن تيمية في "رده على ابن البكري"* -لما تكلم على حديث

_ 1 البخاري: الجمعة "1010". 2 البخاري: الجمعة "1014" , ومسلم: صلاة الاستسقاء "897" , والنسائي: الاستسقاء "1518". * لم أجد النقل التالي في كتاب "الرد على البكري" طبعة مكتبة الغرباء الأثرية، ولكنه بحروفه ثابت في الفتوى الملحقة بكتاب "قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة" ص 300. ثم وجدتها بعد في طبعة دار المنهاج لكتاب "الرد على البكري". [معد الكتاب للمكتبة الشاملة]

الأعمى- قال: والأعمى كان قد طلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو له كما كان الصحابة يطلبون منه في الاستسقاء. وقوله: "أتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة" أي: بدعائه وشفاعته لي، ولهذا قال في تمام الحديث: "اللهم فشفعه فيَّ". فالذي في الحديث مُتَّفَقٌ على جوازه، وليس هو مما نحن فيه. انتهى. وقال -رحمه الله- في موضع آخر*: "لفظ التوجه والتوسل يُرَادُ به: أن يتوجه بهم ويتوسل إلى الله بدعائهم وشفاعتهم، فهذا هو الذي جاء في ألفاظ السلف من الصحابة -رضي الله عنهم-، كقول عمر: "اللهم إنا كنا إذا أجدبنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا، فيسقون"1 فهذا إخبار من عمر عما كانوا يفعلونه. وتوسلوا بالعباس كما كانوا يتوسلون بالنبي صلى الله عليه وسلم وكذلك معاوية لما استسقى بأهل الشام توسل بيزيد. ومن هذا الباب ما في البخاري عن عمر -رضي الله عنه- قال: ربما ذكرت قول الشاعر، وأنا أنظر إلى وجه النبي صلى الله عليه وسلم يستسقي، فما ينزل حتى يجيش الميزاب: وأبيضُ يُسْتَسْقَى الغَمَام بوجهه ... ثِمَال اليتامى عصمة للأرامل [دعاء النبي للأعمى الذي توسل به] ومن هذا الباب: حديث الأعمى، فإنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ادع الله أن يعافيني. قال: "إن شئت دعوت، وإن شئت صبرت فهو خير لك" قال: ادع الله، فأمره أن يتوضأ فيحسن الوضوء، ويدعو هذا الدعاء "اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد -نبي الرحمة-، يا محمد إني أتوجه بك إلى ربي في حاجتي هذه لِتُقْضَى اللهم فشفعه فيَّ" فأمره أن يطلب من الله أن يشفع فيه النبي صلى الله عليه وسلم وإنما يكون طلبا لتشفيعه فيه إذا شفع فيه فدعا الله له. وكذلك في أول الحديث أنه طلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو له. فدل الحديث على أن النبي صلى الله عليه وسلم شفع له ودعا له، وأن النبي صلى الله عليه وسلم أمره هو أن يدعو الله وأن

_ * لم أجده في طبعة مكتبة الغرباء الأثرية لكتاب "الرد على البكري"، ولكن نقله نعمان الآلوسي صاحب كتاب "جلاء العينين في محاكمة الأحمدين" ص 540 - 542 عن كتاب "الرد على البكري". [معد الكتاب للمكتبة الشاملة] 1 البخاري: الجمعة "1010".

يسأله قبول شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم فهذا نظير توسلهم به في الاستسقاء؛ حيث طلبوا منه أن يدعو الله لهم، وَدَعَوْا هم اللهَ -تعالى- أيضا. وقوله: "يا محمد إني توجهت بك إلى ربي": خطاب لحاضر في قلبه، كما نقول في صلاتنا: "السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته"، وكما يستحضر الإنسان من يحبه ويبغضه أو يخاطبه، وهذا كثير. فهذا كله يبين أن معنى التوسل والتوجه به وبالعباس وغيرهما في كلامهم: هو التوسل والتوجه بدعائه وبدعاء العباس ودعاء من توسلوا به، وهذا مشروع بالاتفاق لا ريب فيه". انتهى كلام أبي العباس ابن تيمية. وفيما ذكرنا كفاية لمن نَوَّرَ الله قلبه، ومن أعمى الله قلبه لم تَزِدْه كثرةُ النُّقُول إلا حيرة وضلالا: {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} 1. فصل [في التوسل المشروع هو التقرب إلى الله بالعمل والدعاء] وأما قول القائل: وأما التوسل فقد أخرج الحاكم في مستدركه وصححه أن آدم توسل بالنبي صلى الله عليه وسلم وورد: "اللهم بحق نبيك والأنبياء قبلي" ولا أدري من خَرَّجَهُ. فأما التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم خاصةً: فقد رأيت لشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب نقلا في جواز ذلك عن ابن عبد السلام، فبقي الكلام في النبي، أو في غيره من الأنبياء، وفي معاني الأحاديث الأخر، وما حكمها؟ وما الحجة المقابلة لما يقولون، المُخَصِّصَة لما يفهمون؟ وأما التوسل بغير الأنبياء فَيُورِدُونَ أن عمر توسل بالعباس في الاستسقاء فسُقُوا، وطفق الناس يتمسحون به، ويقولون: هذا الوسيلة إلى الله. فأما أول القصة فهي في البخاري، وهي لدينا بحمد الله، وقولهم: فطفق إلى آخره. لا أدري من قالها، فما تقولون في معناها؟. وقد رأيت لبعض المحققين أن التوسل بالأولياء غير التوسل إليهم، فالأول جائز، والثاني شرك. وفي عدة الحصن الحصين

_ 1 سورة النور آية: 40.

للجَزَرِيّ: والتوسل إلى الله بأنبيائه ورسله. "فالجواب" أن يقال: العبادات بناؤها على الأمر والاتباع، لا على الهوى والابتداع، والتوسل الذي جاءت به السنة وتواتر في الأحاديث هو: التوسل والتوجه إلى الله بالأسماء والصفات، وبالأعمال الصالحة، كالأدعية الواردة في السنة كقوله: "اللهم إني أسألك بأن لك الحمد، لا إله إلا أنت، المنان بديع السماوات والأرض يا ذا الجلال والإكرام، لا إله إلا أنت يا حي يا قيوم"1. وفي الحديث الآخر: "اللهم إني أسألك بأني أشهد أنك أنت الله، لا إله إلا أنت الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد"2 وقوله في الحديث الآخر: "أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحدا من خلقتك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك"3. وكما حكى الله سبحانه- عن عباده المؤمنين أنهم توسلوا إليه بصالح أعمالهم فقال حاكيا عنهم: {رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا} 4 الآية. وكما ثبت في الصحيحين من قصة الثلاثة الذين أووا إلى الغار، فانطبقت عليهم الصخرة، فتوسلوا إلى الله بصالح أعمالهم. وكالتوسل بدعاء الأنبياء والصالحين وشفاعتهم في حياتهم، كما ذكرنا من توسل الصحابة بالنبي صلى الله عليه وسلم في الاستسقاء، وتوسلهم بالعباس وبيزيد بن الأسود، وتوسل الأعمى بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم وشفاعته له. فهذا كله مما لا نزاع فيه، بل هو من الأمور المشروعة، وهو من الوسيلة التي أمر الله بها في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} 5. [التوسل بذوات الصالحين غير مشروع] وأما التوسل بالذات فيقال: ما الدليل على جواز سؤال الله بذوات المخلوقين؟ ومن قال هذا من الصحابة والتابعين؟ فالذي فعله الصحابة -رضي الله عنهم- هو التوسل إلى الله بالأسماء والصفات والتوحيد، والتوسل بما أمر الله به من الإيمان بالرسل ومحبتهم وطاعتهم ونحو ذلك، وكذلك توسلوا بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم وشفاعته

_ 1 النسائي: السهو "1300" , وأبو داود: الصلاة "1495". 2 الترمذي: الدعوات "3475" , وابن ماجه: الدعاء "3857". 3 أحمد "1/ 452". 4 سورة آل عمران آية: 193. 5 سورة المائدة آية: 35.

في حياته، وبدعاء العباس ويزيد. وأما التوسل بالذات بعد الممات: فلا دليل عليه، ولا قاله أحد من السلف؛ بل المنقول عنهم يناقض ذلك. وقد نص غير واحد من العلماء على أن هذا لا يجوز، ونقل عن بعضهم جوازه، وهذه المسألة وغيرها من المسائل إذا وقع فيها النزاع بين العلماء فالواجب رد ما تنازعوا فيه إلى الله والرسول، قال تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} 1 وقال تعالى: {مَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} 2. ومعلوم أن هذا لم يكن منقولا عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا مشهورا بين السلف، وأكثر العلماء على النهي عنه، ولا ريب أن الأنبياء والصالحين لهم الجاه عند الله، لكن الذين لهم النفع عند الله من الجاه والمنازل والدرجات أمرٌ يعود نفعه إليهم، ونحن ننتفع من ذلك باتباعنا لهم ومحبتنا، فإذا توسلنا إلى الله بإيماننا بنبيه صلى الله عليه وسلم - ومحبته وطاعته واتباع سنته كان هذا من أعظم الوسائل. وأما التوسل بنفس ذاته مع عدم التوسل بالإيمان به وطاعته: فلا يكون وسيلة؛ فالمتوسل بالمخلوق إذا لم يتوسل بما مر من المتوسل به من الدعاء للمتوسل، أو بمحبته، واتباعه، فبأي شيء يتوسل به؟ والإنسان إذا توسل إلى غيره بوسيلة فإما أن يطلب من الوسيلة الشفاعة له عند ذلك، مثل أن يقول لأبي الرجل أو صديقه أو من يكرم عليه: اشفع لنا عند فلان، وهذا جائز، وإما أن يقسم عليه، ولا يجوز الإقسام على مخلوق بمخلوق كما أنه لا يجوز أن يقسم على الله بالمخلوقين. فالتوسل إلى الله بذات خلقه: بدعة مكروهة، لم يفعلها السلف من الصحابة، ولا التابعين لهم بإحسان. [سؤال الله بأحد خلقه وظن استجابة الدعاء عند قبره] قال ابن القيم -رحمه الله- في كتابه "إغاثة اللهفان في مكايد الشيطان": وهذه

_ 1 سورة النساء آية: 59. 2 سورة الشورى آية: 10.

الأمور المبتدعة عند المقبور أنواع: أبعدها عن الشرع: أن يسأل الميت حاجته، كما يفعله كثير، وهؤلاء من جنس عُبَّاد الأصنام، ولهذا قد يتمثل لهم الشيطان في صورة الميت، كما يتمثل لعباد الأصنام، وكذلك السجود للقبر وتقبيله والتمسح به. "النوع الثاني": أن يسأل الله به، وهذا يفعله كثير من المتأخرين، وهو بدعة إجماعا. "النوع الثالث": أن يظن الدعاء عنده مستجابا، أو أنه أفضل من الدعاء في المسجد فيقصد القبر لذلك، فهذا أيضا من المنكر إجماعا، وما علمت فيه نزاعا بين أئمة الدين، وإن كان كثير من المتأخرين يفعله. وبالجملة، فأكثر أهل الأرض مفتونون بعبادة الأصنام، ولم يتخلص منه إلا الحُنَفَاء أتباع ملة إبراهيم، وعبادتها في الأرض من قبل نوح، وهي كلها ووقوفها وسدنتها وحجابها والكتب المُصَنَّفَة في عبادتها قد طبقت الأرض، قال إمام الحنفاء -عليه الصلاة والسلام-: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ * رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ} 1. وكفى في معرفة أنهم أكثر أهل الأرض: ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم "إن بَعْث النار من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون"2 وقد قال تعالى: {فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلا كُفُورًا} 3 وقال: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} 4. ولو لم تكن الفتنة بعبادة الأصنام عظيمة: لما أقدم عُبَّادُها على بذل نفوسهم وأموالهم وأبنائهم دونها، وهم يشاهدون مصارع إخوانهم، وما حل بهم، ولا يزيدهم ذلك إلا حبا لها وتعظيما، ويوصي بعضهم بعضا بالصبر عليها. انتهى كلامه -رحمه الله-. والمقصود أنه حكى الإجماع على أن التوسل إلى الله بصاحب القبر: بدعة إجماعا. [سؤال الله بخلقه أو بحق أحد] وقال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- في الرد على ابن البكري*: "وما زلتُ أبحث وأكشف ما أمكنني عن كلام السلف والأئمة والعلماء، هل جَوَّزَ أحدٌ

_ 1 سورة إبراهيم آية: 35، 36. 2 البخاري: أحاديث الأنبياء "3348" , ومسلم: الإيمان "222" , وأحمد "3/ 32". 3 سورة الإسراء آية: 89. 4 سورة الأنعام آية: 116. * لم أجده في طبعة مكتبة الغرباء الأثرية لكتاب "الرد على البكري"، ولكن نقله نعمان الآلوسي صاحب كتاب "جلاء العينين في محاكمة الأحمدين" ص 537 - 538 عن كتاب "الرد على البكري". [معد الكتاب للمكتبة الشاملة]

منهم التوسل بالصالحين في الدعاء، أو فعل ذلك أحد منهم فما وجدته، ثم وقفتُ على فُتْيَا للفقيه أبي محمد بن عبد السلام، أفتى بأنه لا يجوز التوسل بغير النبي صلى الله عليه وسلم وأما بالنبي صلى الله عليه وسلم فَجَوَّزَ التوسل به -إن صح الحديث في ذلك-. وذكر القُدُورِيُّ في شرح الكرخي عن أبي حنيفة وأبي يوسف أنه لا يجوز أن يسأل الله إلا به". انتهى كلامه. وذكر ابن القيم -رحمه الله-* عن أبي الحسن القدوري نحو ذلك؛ فقال -رحمه الله- قال القدوري: قال بشر بن الوليد: سمعت أبا يوسف قال: قال أبو حنيفة: لا ينبغي لأحد أن يدعو الله إلا به، وأكره أن يقول: بمَعَاقِد العِزّ من عرشك، أو يقول: بحق خلقك. والجوازُ قولُ أبي يوسف - قال أبو يوسف: بمعقد العز من عرشك هو الله، فلا أكره ذلك، وأكره بحق فلان أو بحق أنبيائك ورسلك، وبحق البيت، والمشعر الحرام، قال القدوري: المسألة لا تجوز؛ لأنه لا حق لمخلوق على الخالق: فلا تجوز يعني وفاقا. وقال البلدجي في شرح المختارة: ويكره أن يدعو الله إلا به، فلا يقول: أسألك بفلان أو بملائكتك وأنبيائك ونحو ذلك؛ لأنه لا حق للمخلوق على الخالق. انتهى. وقال أبو العباس ابن تيمية -رحمه الله- في كتاب "اقتضاء الصراط المستقيم"**: "لفظ التوسل بالشخص، والتوجه به، والسؤال به فيه إجمالٌ واشتراكٌ، غلط بسببه مَن لم يَفْهَم مقصود الصحابة، فإنه يُرَاد به التسبب به؛ لكونه داعيا وشافعا مثلا؛ أو لكون الداعي مجيبا له مطيعا لأمره مقتديا به، فيكون التسبب إنما هو بمحبة السائل واتباعه له، وأما بدعاء الوسيلة وشفاعته، ويُرَاد به الإقسام به والتوسل بذاته، فهذا هو الذي كرهوه، ونهوا عنه. وكذلك لفظ السؤال بشيء، قد يُراد به المعنى الأول وهو التسبب به لكونه سببا في حصول المطلوب، وقد يُراد به الإقسام. ومن الأول: حديث الثلاثة الذين أَوَوْا إلى غار، وهو حديث مشهور في الصحيحين وغيرهما؛ فإن الصخرة انطبقت عليهم فقالوا: لِيَدْعُ كل رجل منكم بأفضل

_ * "إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان" 1/ 216 - 217. وهو بحذافيره في "الفتوى المصرية في التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم" الملحقة في كتاب "قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة" ص 306 - 307 لابن تيمية، وأوردت أيضًا ضمن كتاب "الرد على البكري"، انظر "جلاء العينين" ص 551. [معد الكتاب للمكتبة الشاملة] ** اقتضاء الصراط المستقيم 2/ 319 - 329. [معد الكتاب للمكتبة الشاملة]

عمله؛ فدعوا الله بصالح أعمالهم؛ لأن الأعمال الصالحة هي أعظم ما يتوسل به العبد إلى الله؛ ويتوجه به إليه ويسأل به، وهؤلاء دعوه بعبادته، وفعل ما أمر به من العمل الصالح، وسؤاله والتضرع إليه. ومن هذا ما يذكر عن الفضيل بن عياض أنه أصابه عسر البول فقال: بحبي إياك إلا فَرَّجْتَ عني، فَفَرَّجَ عنه. وكذلك المرأة المهاجرة التي أحيا الله ابنها لما قالت: اللهم إني آمنت بك وبرسولك وهاجرت في سبيلك، وسألت الله أن يحيي ولدها، وأمثال ذلك. وهذا كما قال المؤمنون: {رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا} 1 الآيات. من سؤال الله، والتوسل إليه بامتثال أوامره واجتناب نواهيه. [حديث أبي سعيد أسألك بحق السائلين عليك وبحق ممشاي هذا] وأما قوله في حديث أبي سعيد: "أسألك بحق السائلين عليك وبحق ممشاي هذا" فهذا الحديث رواه عطية العوفي وفيه ضعف، لكن بتقدير ثبوته هو من هذا الباب، فإن حق السائلين عليه أن يُجِيبهم، وحق المطيعين له أن يثيبهم. فالسؤال له والطاعة سبب لحصول إجابته وإثابته، فهو من التوسل به والتوجه به والتسبب به. ولو قُدِّرَ أنه قَسَم لكان قَسَمًا بما هو من صفاته؛ فإن إجابته وإثابته من أفعاله وأقواله، فصار هذا كقوله في الحديث الصحيح "أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك"2. والاستعاذة لا تصح بمخلوق، كما نص عليه الإمام أحمد وغيره من الأئمة، فاستعاذ صلى الله عليه وسلم بعفوه ومُعَافَاتِه من عقوبته، مع أنه لا يُسْتَعَاذ بمخلوق كسؤال الله بإجابته وإثابته، وإن كان لا يسأل المخلوق، ومن قال من العلماء: لا يسأل إلا به لا ينافي السؤال بصفاته، كما أن الحلف لا يشرع إلا بالله، و"من حلف بغير الله فقد أشرك"3 ومع هذا: فالحلف بعزة الله، ولعمر الله، ونحو ذلك مما ثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم-

_ 1 سورة آل عمران آية: 193. 2 مسلم: الصلاة "486" , والترمذي: الدعوات "3493" , والنسائي: التطبيق "1100 ,1130" والاستعاذة "5534" , وأبو داود: الصلاة "879" , وابن ماجه: الدعاء "3841" , وأحمد "6/ 58" , ومالك: النداء للصلاة "497". 3 الترمذي: النذور والأيمان "1535" , وأبو داود: الأيمان والنذور "3251" , وأحمد "2/ 34 ,2/ 69 ,2/ 86 ,2/ 125".

الحلف به لم يدخل في الحلف بغير الله. وأما قول بعض الناس: أسألك بالله وبالرحم، وقراءة من قرأ {تسألون به والأرحام} فهو من باب التسبب بها، فإن الرحم توجب الصلة، وتقتضي أن يصل الإنسان به قرابته. فسؤال السائل بالرحم لغيره: يتوسل إليه بما يوجب صلته من القرابة التي بينهما، ليس هو من باب الإقسام، ولا من باب التوسل بما لا يقتضي المطلوب، وتوسل بما هو يقتضي المطلوب كالتوسل بدعاء الأنبياء وبطاعتهم. ومن هذا الباب ما يروى عن عبد الله بن جعفر أنه قال: كنت إذا سألت عليا شيئا فلم يُعْطِينِيه، قلت له: بحق جعفر إلا ما أعطيتنيه فيعطينيه، أو كما قال بعض الناس ظن، فإن هذا من باب الإقسام عليه بجعفر، ومن باب قولهم: أسألك بحق أنبيائك، ونحو ذلك، وليس كذلك بل جعفر هو أخو علي، وعبد الله ابنه، وله عليه حق الصلة، فصلة عبد الله صلة لأبيه جعفر، كما في الحديث: "إن من أبر البر أن يصل الرجل أهل وُدِّ أبيه، بعد أن يولي"1. ولو كان من هذا الباب الذي ظنوه لكان سؤاله لعلي بحق النبي صلى الله عليه وسلم وإبراهيم الخليل ونحوهما أولى من سؤاله بحق جعفر، ولكان عليّ إلى تعظيم رسول الله صلى الله عليه وسلم ومحبته وإجابة السائل أسرع منه إلى إجابة السائل بغيره". انتهى ملخصا. [بطلان ما روي من توسل آدم بالنبي] وأما قول القائل: فقد أخرج الحاكم في مستدركه، وصححه: "أن آدم توسل بالنبي صلى الله عليه وسلم" فهو من رواية عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، قال أحمد بن حنبل: ضعيف، وقال ابن معين: ليس حديثه بشيء، وضعَّفَه ابن المديني جدا، وقال أبو داود: أولاد زيد بن أسلم كلهم ضعيف، وقال النسائي: ضعيف، وقال ابن عبد الحكم: سمعت الشافعي يقول: ذكر رجل لمالك حديثا. فقال من حَدَّثَك؟ فذكر إسنادا له منعطفا. فقال: اذهب إلى عبد الرحمن بن زيد يحدثك عن أبيه

_ 1 مسلم: البر والصلة والآداب "2552" , والترمذي: البر والصلة "1903" , وأبو داود: الأدب "5143" , وأحمد "2/ 88 ,2/ 91 ,2/ 97 ,2/ 111".

عن نوح عليه السلام-. وقال أبو زرعة: ضعيف، وقال أبو حاتم: ليس بقوي في الحديث، كان في نفسه صالحا، وفي الحديث واهيا. وقال ابن حبان: كان يَقْلِب الأخبار، وهو لا يعلم حتى كثر ذلك في روايته من رفع المراسيل وإسناد الموقوف فاستحق الترك، وقال ابن سعد: كان كثير الحديث ضعيفا جدا، وقال ابن خزيمة: ليس هو ممن يحتج أهل العلم بحديثه، وقال الحاكم: وأبو نعيم روى عن أبيه أحاديث موضوعة، وقال ابن الجوزي: أجمعوا على ضعفه، فهذا الحديث الذي استدل به: تفرد به عبد الرحمن بن زيد، وهو كما تسمع. وقال الشيخ تقي الدين ابن تيمية -رحمه الله- في "رده على ابن البكري"*: "وأما قول القائل: قد توسل به الأنبياء، آدم وإدريس ونوح وأيوب، كما هو مذكور في كتب التفسير وغيرها. فيقال: مثل هذه القصص لا يجوز الاحتجاج بها بإجماع المسلمين فإن الناس لهم في شرع من قبلنا قولان: "أحدهما": أنه ليس بحجة. "الثاني": أنه حجة ما لم يأت شرعنا بخلافه، بشرط أن يثبت ذلك بنقل معلوم، كإخبار النبي صلى الله عليه وسلم. [الخلاف في شرع من قبلنا وعدم الاحتجاج بالإسرائيليات] فأما الاعتماد على أخبار أهل الكتاب، أو نقل مَن نقل عنهم: فهذا لا يجوز باتفاق المسلمين؛ لأن في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم"1. وهذه القصص التي فيها ذِكْر توسل الأنبياء بذاته: ليست في شيء من كتب الحديث المعتمدة، ولا لها إسناد معروف عن أحد من الصحابة، وإنما تُذْكَرُ مُرْسَلَة كما تُذْكَرُ الإسرائيلياتُ التي تُرْوَى عَمَّن لا يُعْرَفُ. وقد بُسِطَ الكلام في غير هذا الموضع عما نُقِلَ في ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم وتكلمنا عليه وبَيَّنَا بطلانَ جميعه. ولو نقل ذلك عن كعب ووهب ومالك بن دينار ونحوهم ممن ينقل عن أهل الكتاب: لم يجز أن يحتج به؛ لأن الواحد من هؤلاء، وإن كان ثقة، فغاية

_ * "الرد على البكري" 1/ 158 - 161. [معد الكتاب للمكتبة الشاملة] 1 أبو داود: العلم "3644" , وأحمد "4/ 136".

ما عنده: أن ينقل من كتاب من كتب أهل الكتاب، أو يسمعه من بعضهم؛ فإنه بينه وبين الأنبياء زمن طويل، والمُرْسَل عن المجهول من أهل الكتاب الذي لا يُعْرَف علمُه وصدقُه: لا يُقْبَل باتفاق المسلمين. ومراسيل أهل زماننا عن نبينا صلى الله عليه وسلم لا تقبل عند علمائنا مع كون ديننا محفوظًا محروسًا؛ فكيف بما يُرسل عن آدم وإدريس ونوح وأيوب عليهم السلام؟ والقرآن قد أخبر بأدعية الأنبياء وتوباتهم واستغفارهم، وليس فيها شيء من هذا. وقد نقل أبو نعيم في الحلية: أن داود -عليه السلام- قال: "يا رب أسألك بحق آبائي عليك: إبراهيم وإسحاق ويعقوب. فقال: يا داود وأيّ حق لآبائك علي؟ ". فإن كانت الإسرائيليات حجة، فهذا يدل على أنه لا يسأل بحق الأنبياء، وإن لم يكن حجة: لم يجز الاحتجاج بتلك الإسرائيليات انتهى كلامه. وبيَّن -رحمه الله- أنه لا يصح في هذا شيء عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وأن جميع ما روي في ذلك باطل لا أصل له. [الاستدلال بحديث الأعمى على التوسل بالذات] وأما قوله: وأما التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم خاصة، فقد رأيت لشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب نقلا في جواز ذلك عن ابن عبد السلام. فنقول: قد تقدم أن التوسل المشروع، هو التوسل إلى الله بالأسماء والصفات والتوحيد؛ وكذلك التوسل بمحبة النبي -صلى الله عليه وسلم- والإيمان به وطاعته، وكذلك التوسل بدعائه وشفاعته وهذا كله مشروع بلا ريب. وأما التوسل بنفس الذات، فقد قدمنا أن أكثر العلماء نَهَوْا عن ذلك، وجعلوه من البدعة المكروهة المُحْدَثَة، وبعضهم رَخَّصَ في ذلك، وهو قول ضعيف مردود، والعز بن عبد السلام أنكر التوسل إلى الله بغير النبي -صلى الله عليه وسلم-. وأما التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم فعلق القول بجوازه على صحة حديث الأعمى،

لأنه فهم من الحديث أن الأعمى توسل بذات النبي -صلى الله عليه وسلم- وأما الجمهور فحملوا حديث الأعمى على أنه توسل بدعاء النبي -صلى الله عليه وسلم- كما كان الصحابة يتوسلون به في الاستسقاء، كما في حديث أنس الذي رواه البخاري في صحيحه، وقد تقدم 1. وشيخنا -رحمه الله- نقل كلام العز بن عبد السلام؛ ليبين أن مسألة التوسل بغير النبي -صلى الله عليه وسلم- بدعة مكروهة وأما التوسل بالنبي -صلى الله عليه وسلم- فأجازه بعض العلماء كالعز بن عبد السلام. والسائل فهم من نقل الشيخ أنه اختاره، وليس الأمر كذلك؛ بل اختياره -رحمه الله- هو ما ذهب إليه الجمهور أن ذلك بدعة مُحْدَثَة لم يفعلها الصحابة ولا التابعون؛ فإنه لم يُنْقَل عن أحد منهم أنه توسل بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد موته كما قدمناه. وأما قوله: وأما التوسل بغير الأنبياء فَيُورِدُونَ أن عمر توسل بالعباس في الاستسقاء، فقد تقدم بيانه بما فيه كفاية. وبيان أن التوسل بدعاء الصالحين في الاستسقاء وغيره مشروع، كما فعله الصحابة؛ لما توسلوا بالعباس ويزيد بن الأسود وليس كلامنا في هذا، وإنما الكلام في التوسل بنفس الذات. وأما قولهم في حديث العباس: "فطفق الناس يتمسحون به". فلم نقف لها على أصل، ولا رأيناها في شيء من الكتب، وعلى تقدير ثبوتها فليس فيها حجة على التوسل بالأموات.

_ 1 جملة القول في حديث الأعمى أن له وجها موافقا للعقائد والقواعد، وهو طلب الدعاء والتشفع به، فيؤخذ به، ووجها مخالفا لها فلا يجوز الأخذ به لشذوذه مع مخالفته؛ فإنه لم يرد شيء في معناه عن أحد من الصحابة، ورواية الشاذ كهذا لا يُحْتَجُّ بها مطلقا، فكيف إذا كانت في مسألة تعبدية تمس العقيدة - فهذه لا تثبت إلا بنص قَطْعِي الرواية والدلالة معا.

فصل [بلوغ الدعوة وفهمها الذي تقوم به الحجة] وأما قوله: إن سلمنا هذا القول، وظهر دليله فالجاهل معذور؛ لأنه لم يُدْرِك الشرك والكفر، ومن مات قبل البيان فليس بكافر، وحكمُهُ حكمُ المسلمين في الدنيا والآخرة؛ لأن قصة ذات أنواط وبني إسرائيل حين جاوزوا البحر تدل على ذلك إلى آخره. "فالجواب" أن يقال: إن الله -تعالى- أرسل الرسل {مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} 1 فكل من بلغه القرآن ودعوة الرسول صلى الله عليه وسلم فقد قامت عليه الحجة، قال الله -تعالى-: {لأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} 2 وقال تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} 3. وقد أجمع العلماء على أن مَن بلغته دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم أن حجة الله قائمة عليه. ومعلوم بالاضطرار من الدين أن الله -سبحانه- بعث محمدا صلى الله عليه وسلم وأنزل عليه الكتاب لِيُعْبَدَ وحده ولا يُشْرَكُ معه غيرُهُ، فلا يُدْعَى إلا هو ولا يُذْبَحُ إلا له، ولا يُنْذَرُ إلا له، ولا يُتَوَكَّلُ إلا عليه، ولا يُخَافُ خوفَ السر إلا منه، والقرآن مملوءٌ من هذا. قال الله -تعالى-: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} 4 وقال: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ} 5 الآية، وقال: {وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ} 6 وقال: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} 7 وقال: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} 8 وقال: {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} 9 وقال: {وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} 10 وقال: {وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} 11 وقال: {لَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} 12. والآيات الواردة في هذا المعنى كثيرة، والله -سبحانه- لا يُعَذِّبُ خلقَه إلا بعد الإعذار إليهم، فأرسل رسله وأنزل كتبه لئلا يقولوا: {لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} 13 وقال تعالى: {وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى} 14.

_ 1 سورة النساء آية: 165. 2 سورة الأنعام آية: 19. 3 سورة الإسراء آية: 15. 4 سورة الجن آية: 18. 5 سورة الرعد آية: 14. 6 سورة يونس آية: 106. 7 سورة الكوثر آية: 2. 8 سورة المائدة آية: 23. 9 سورة هود آية: 123. 10 سورة البقرة آية: 40. 11 سورة آل عمران آية: 175. 12 سورة التوبة آية: 18. 13 سورة القصص آية: 47. 14 سورة طه آية: 134.

فكل من بلغه القرآن: فليس بمعذور، فإن الأصول الكبار -التي هي أصل دين الإسلام- قد بَيَّنَهَا الله في كتابه، ووضحها وأقام بها الحجة على عباده، وليس المراد بقيام الحجة: أن يفهمها الإنسان فَهْمًا جَلِيًّا كما يفهمها مَن هداه الله، ووفَّقه وانقاد لأمره 1. فإن الكفار قد قامت عليهم حجة الله، مع إخباره بأنه جعل على قلوبهم أَكِنَّة أن يفهموا كلامه، فقال: {وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا} 2 وقال: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمىً} 3 وقال تعالى: {نَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ} 4 وقال تعالى: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا لَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} 5 والآيات في هذا المعني كثيرة. يخبر -سبحانه- أنهم لم يفهموا القرآن، ولم يفقهوه، وأنه عاقبهم بجعل

_ 1 هذا القيد الذي قيَّد الشيخ به الفهم هنا قد أزال اللبس الذي يتبادر إلى الذهن من بعض إطلاقاته في مواضع أخرى، واتبعه فيه بعضُ علماء نجد، فصار بعضهم يقول بأن الحجة تقوم على الناس ببلوغ القرآن، وإن لم يفهمه من بلغه مطلقا. وهذا لا يُعْقَلُ ولا يَتفق مع قوله تعالى: {ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى} الآية. الذي بنى عليه المحققون قولهم: إن فهم الدعوة بدليلها شرط لقيام الحجة. وقد علمنا من هذا القيد أن الفهم الذي لا يشترطه الشيخ، هو فقه نصوص القرآن المؤثر في النفس، الحامل لها على ترك الباطل، كما يفقهها من اهتدى بها. ففهم التفقه في الحقيقة أخص من فهم المعنى اللغوي، كما يدل عليه استعمال القرآن، وحديث "من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين" متفق عليه، وفي رواية حسنة زيادة "ويلهمه رشده". والمشركون الذين شبههم الله بالصم البكم المختوم على قلوبهم، والمطبوع عليها، والمجعول عليها الأكنة: كلهم قد فهموا مدلول آيات القرآن في التوحيد والبعث والرسالة؛ لأنهم أهل اللغة وقد أنزلت بأفصح أساليبها؛ ولكنهم لم يهتدوا بها لثلاثة أسباب: "أحدها" العناد من الرؤساء. "ثانيها" التقليد من الدهماء. "ثالثها" الشبهات على الأصول الثلاثة، كزعمهم أن دعاء غير الله لا يضر إذا كان بقصد التقريب إليه تعالى والشفاعة عنده. وأن الرسول بشر مثلهم؛ فلا يعقل أن يكون رسولا من الله، وأنه تعالى لو أراد أن يبعث رسولا؛ لبعث ملكا، أو لأيَّدَهُ بملك يكون معه نذيرًا. وأن البعث لا يُعْقَلُ. 2 سورة الأنعام آية: 25. 3 سورة فصلت آية: 44. 4 سورة الأعراف آية: 30. 5 سورة الكهف آية: 103.

الأكنة على قلوبهم، والوقر في آذانهم وأنه ختم على قلوبهم وأسماعهم وأبصارهم 1 فلم يعذرهم مع هذا كله، بل حكم بكفرهم، وأمر بقتالهم فقاتلهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وحكم بكفرهم. فهذا يبين لك أن بلوغ الحجة نوعٌ، وفهمها نوعٌ آخر 2. وقد سئل شيخنا -رحمه الله تعالى- عن هذه المسألة فأجاب السائل بقوله: هذا من العجب العجاب، كيف تشكون في هذا، وقد وضحته لكم مرارا؟ فإن الذي لم تقم عليه الحجة هو الحديث العهد بالإسلام، والذي نشأ ببادية بعيدة، أو يكون ذلك في مسألة خفية مثل الصرف والعطف فلا يكفر حتى يعرف. وأما أصول الدين التي وضحها الله وأحكمها في كتابه، فإن حجة الله هي القرآن، فمن بلغه فقد بلغته الحجة، ولكن أصل الإشكال أنكم لم تفرقوا بين قيام الحجة وفهم الحجة، فإن أكثر الكفار والمنافقين لم يفهموا حجة الله مع قيامها عليهم، كما قال تعالى: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا} 3. وقيام الحجة وبلوغها نوعٌ وفهمها نوع آخر، وكفرهم الله ببلوغها إياهم مع كونهم لم يفهموها 2. وإن أشكل عليكم ذلك، فانظروا قوله -صلى الله عليه وسلم- في الخوارج: "أينما لقيتموهم فاقتلوهم" مع كونهم في عصر الصحابة، ويحقر الإنسان عمل الصحابة معهم، ومع إجماع الناس فإن الذي أخرجهم من الدين هو: التشديد والغلو والاجتهاد، وهم يظنون أنهم يطيعون الله، وقد بلغتهم الحجة، ولكن لم يفهموها 4.

_ 1 هذه التمثيلات بيان بليغ لاستحواذ الكفر عليهم، وعدم رجوعهم عنه، وهو سبب العقاب لا عينه. 2 أي فهمها على الوجه المؤثر في حصول الهُدَى لا فهم الخطاب والمعنى اللغوي كما تقدم. 3 سورة الفرقان آية: 44. 4 مسألة الخوارج ليست في أصول الدين الاعتقادية؛ بل هي في مسائل عملية، وقد اختلف السلف في عذرهم بالاجتهاد فيها وعدمه، والإمام علي وأصحابه لم يكفروهم، بل قاتلوهم بخروجهم عليهم، وعن أحمد وشيخ الإسلام ابن تيمية يُرجِّحَان عدمَ التكفير.

وكذلك قتل علي رضي الله عنه الذين اعتقدوا فيه الإلهية، وتحريقهم بالنار مع كونهم تلاميذ الصحابة، ومع عبادتهم وصلاحهم، وهم أيضا يظنون أنهم على حق. وكذلك إجماع السلف على تكفير أناس من غلاة القدرية وغيرهم، مع كثرة علمهم وشدة عبادتهم، وكونهم يظنون أنهم يحسنون صنعا، ولم يتوقف أحد من السلف في تكفيرهم؛ لأجل أنهم لم يفهموا، فإن هؤلاء كلهم لم يفهموا. اهـ كلامه -رحمه الله-. [التفصيل فيمن يحكم بكفره ومن لا يحكم بكفره] إذا تقرر هذا فنقول: هؤلاء الذين ماتوا قبل ظهور هذه الدعوة الإسلامية، وظاهرُ حالهم الشركُ بالله لا نتعرض لهم، ولا نحكم بكفرهم ولا بإسلامهم، بل نقول: من بلغته هذه الدعوة المحمدية، فإن انقاد لها، ووحَّد الله، وعبده وحده لا شريك له، والتزم شرائع الإسلام، وعمل بما أمره الله به، وتجنَّب ما نهاه عنه: فهذا من المسلمين الموعودين بالجنة في كل زمان، وفي كل مكان. وأما من كانت حالُه حالَ أهل الجاهلية، لا يعرف التوحيد الذي بعث الله به رسوله يدعو إليه، ولا الشرك الذي بعث الله رسوله ينهى عنه ويقاتل عليه، فهذا لا يقال: إنه مسلم؛ لجهله بل من كان ظاهر عمله: الشرك بالله، فظاهره الكفر فلا يستغفر له، ولا يتصدق عنه، وَنَكِلُ حالَه إلى الله الذي يبلو السرائر، ويعلم ما تُخْفِي الصدور، ولا نقول: فلان مات كافرا؛ لأنا نفرق بين المُعَيَّن وغيره، فلا نحكم على مُعَيَّن بكفر؛ لأنا لا نعلم حقيقة حاله وباطن أمره، بل ذلك إلى الله، ولا نَسُبُّ الأموات؛ بل نقول: أَفْضَوْا إلى ما قَدَّمُوا. وليس هذا من الدين الذي أمرنا الله به، بل الذي أمرنا به أن نعبد الله ولا نشرك به، ونقاتل من نَكَلَ عن ذلك بعد ما ندعوه إلى ما دعاه إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا أصَرَّ وعَانَدَ كَفَّرْنَاه وقاتلناه. فينبغي للطالب أن يفهم الفرق بين المُعَيَّن وغيره، فنكفر من دان بغير الإسلام جملة، ولا نحكم على معين بالنار، ونلعن الظالمين جملة، ولا نَخُصُّ معيّنًا بلعنة، كما قد ورد في الأحاديث من لعن السارق وشارب الخمر، فنلعن مَن لعنه رسول الله صلى الله عليه وسلم

جملة، ولا نخص شخصا بلعنة. يبين ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن شارب الخمر جملة، ولما جلد رجلا قد شرب الخمر، قال رجل -من القوم-: اللهم العنه، ما أكثر ما يُؤْتَى به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم "لا تلعنوه فوالله ما علمت إلا أنه يحب الله ورسوله"1. فصل [في إقرار العلماء لبدع القبور والموالد] وأما قوله: "ومنها أن كثيرا من العلماء الكبار فعلوا هذا الأمر، وَفُعِلَتْ بحضرتهم ولم ينكروا. من ذلك تتابعهم على بناء القباب على القبور، واتخاذها أعيادا في الغالب، فلكل شيخ يوم معروف في شهر معلوم، يؤتى إليه من النواحي، وقد يحضر بعض العلماء ولا ينكر". "فالجواب" من وجوه: "الوجه الأول" أن يقال: قد افترض الله على العلماء طاعة رسوله صلى الله عليه وسلم وأخبر أن من أطاعه فقد أطاع الله، فقال تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} 2 وقال: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} 3 وقال: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} 4 وقال: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} 5 وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} 6. فإذا اختلف الناس في شيء من أمور الدين، هل هو واجب أو محرم، أو جائز؟ وجب رد ما وقع فيه النزاع والاختلاف إلى الله والرسول، ويجب على المؤمن إذا دُعِيَ إلى ذلك أن يقول: سَمْعًا وطاعة، قال تعالى: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} 7. فنحن نحاكم مَن نازَعنا في هذه المسألة وغيرها من المسائل إلى الله والرسول، لا إلى أقوال الرجال وآرائهم.

_ 1 البخاري: الحدود "6780". 2 سورة النساء آية: 80. 3 سورة آل عمران آية: 31. 4 سورة النور آية: 54. 5 سورة الحشر آية: 7. 6 سورة النساء آية: 59. 7 سورة النور آية: 51.

[الأحاديث في تسوية القبور وحظر البناء وإيقاد السرج عليها] فنقول لمن أجاز بناء القباب على القبور بالجص والآجر، وأسرجها، وفرشها بالرخام، وعلق عليها القناديل الفضة، وبيض النعام، وكساها كما يُكْسَى بيت الله الحرام-: هل أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا وحثَّ عليه، أم نَهَى عنه، وأمر بإزالة ما وضع من ذلك عليه؟ فما أمرنا به ائتمرنا، وما نهانا عنه انتهينا، وسنته هي الحاكمة بيننا وبين خصومنا في محل النزاع. فنقول: قد ثبت في صحيح مسلم عن أبي الهياج الأسدي قال: قال لي علي بن أبي طالب رضي الله عنه "ألا أبعثك على مابعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا أدع تمثالا إلا طمسته، ولا قبرا مشرفا إلا سويته"1. وفي صحيحه أيضا عن ثمامة بن شفي الهمداني، قال: كنا مع فضالة بن عبيد بأرض الروم، فَتُوُفِّيَ صاحب لنا، فأمر فضالة بن عبيد بقبره فَسُوِّيَ، ثم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر بتسويتها. وفي صحيحه أيضا عن جابر بن عبد الله قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تجصيص القبر، وأن يقعد عليه، وأن يبنى عليه"2. وروى أبو داود في سننه والترمذي عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم " نهى أن تجصص القبور، وأن يكتب عليها"3 قال الترمذي: حديث حسن صحيح. وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج"4 رواه الإمام أحمد وأهل السنن. فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البناء عليها، وأمر بهدمه بعد ما يُبْنَى، ونهى عن الكتابة عليها، ولعن من أسرجها، فنحن نأمر بما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم من تسويتها، وننهى عن البناء عليها، كما نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو الذي افترض الله علينا طاعته واتباعه، وأما غيره فَيُؤْخَذُ من قوله ويُتْرَكُ، كما قال الإمام مالك: "كل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله -صلى الله عليه وسلم -".

_ 1 مسلم: الجنائز "969" , والترمذي: الجنائز "1049" , وأبو داود: الجنائز "3218" , وأحمد "1/ 89 ,1/ 96 ,1/ 111 ,1/ 128 ,1/ 145". 2 مسلم: الجنائز "970" , والترمذي: الجنائز "1052" , والنسائي: الجنائز "2027 ,2028 ,2029" , وأبو داود: الجنائز "3225" , وابن ماجه: ما جاء في الجنائز "1562 ,1563" , وأحمد "3/ 295 ,3/ 332 ,3/ 339 ,3/ 399". 3 مسلم: الجنائز "970" , والترمذي: الجنائز "1052" , والنسائي: الجنائز "2028 ,2029" , وأبو داود: الجنائز "3225" , وابن ماجه: ما جاء في الجنائز "1562 ,1563" , وأحمد "3/ 295 ,3/ 332 ,3/ 339". 4 الترمذي: الصلاة "320" , والنسائي: الجنائز "2043" , وأبو داود: الجنائز "3236" , وابن ماجه: ما جاء في الجنائز "1575" , وأحمد "1/ 229 ,1/ 287 ,1/ 324 ,1/ 337".

وقال الإمام أحمد: "لا تقلد في دينك أحدا، ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه فَخُذْهُ، ثم التابعين بعدُ: فالرجل فيهم مُخَيَّر" وقال أيضا: "لا تقلدوني ولا تقلدوا مالكا، ولا الثوري ولا الأوزاعي، وخذ من حيث أخذوا". [لا يحل لمسلم ترك حديث الرسول لقول أحد] والعجب ممن يسمع هذه الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في النهي عن تعظيم القبور وعقد القباب عليها بالجص والآجر وإسراجها، ولعن من أسرجها ثم يقول: فُعِلَتْ هذه الأمور بحضرة العلماء الكبار ولم ينكروا، كأنه لم يسمع ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك. قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: "يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء! أقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقولون: قال أبو بكر وعمر؟ ". وقال الإمام أحمد: عجبت لقوم عرفوا الإسناد وصحته يذهبون إلى رأي سفيان، والله -تعالى- يقول: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} 1 أتدري ما الفتنة؟ الفتنة: الشرك، لعله إذا رد بعض قوله أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك. فإذا كان هذا كلام ابن عباس فيمن عارض السنة بقول أبي بكر وعمر، وكلام أحمد فيمن ذهب إلى رأي سفيان فكيف بمن عارض السنة بقول فلان وفلتان، وقد روى البيهقي عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن أشد ما أتخوف على أمتي ثلاث: زلة عالم، وجدال منافق بالقرآن، ودنيا تقطع أعناق الرجال"2. ومن المعلوم أن المخوف في زلة العالم تقليده فيها؛ إذ لولا ذلك لم يخف من زلة العالم على غيره. فإذا عرف أنها زلة لم يجز له أن يتبعه فيها باتفاق العلماء، فإنه اتباعٌ للخطأ على عمد. وقال عمر بن الخطاب -رضى الله عنه-: "يُفْسِد الزمانَ ثلاثةٌ: أئمة مُضلون، وجدال منافق بالقرآن -والقرآن حق- وزلة العالم"3. فإذا صح، وثبت أن العالم يَزِلُّ ويُخْطِئُ لم يجز لأحد أن يفتي ويدين الله بقولٍ لا يعرف وجهه، فكيف إذا عارض بقوله أو فعله قولَ رسول الله صلى الله عليه وسلم أو فعله؟

_ 1 سورة النور آية: 63. 2 الدارمي: المقدمة "649". 3 الدارمي: المقدمة "649".

[إيثار أخذ العلم عن السلف وعلماء القرون الثلاثة] "الوجه الثاني" أن يقال: إذا لم تقنع نفسك، ولم يطمئن قلبك بما جاء عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم - وقلت: العلماء أعلم منا بالسنة وأطوع لله -تعالى- ولرسوله -صلى الله عليه وسلم - فنقول: أعلم الناس بما أمر به رسول الله -صلى الله عليه وسلم - وما نهى عنه أصحابه -رضي الله عنهم- فهم أعلم الناس بِسُنته، وأطوعهم لأمره، وهم الذين رضي الله عنهم ورضوا عنه، ورضي عمن اتبعهم بإحسان. وفي حديث العرباض بن سارية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة"1. وفي الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "خير القرون قرني الذين بعثت فيهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم"2 وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه "من كان منكم مُسْتَنًّا فليستن بمن قد مات، فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة، أولئك أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أَبَرُّ هذه الأمة قلوبا، وأعمقها علما، وأقلها تكلفا، قوم اختارهم الله لصحبة نبيه، وإقامة دينه، فاعرفوا لهم حقهم، وتمسكوا بهديهم، فإنهم كانوا على الصراط المستقيم". وقال حذيفة بن اليمان -رضي الله تعالى عنه-: "يا معشر القراء استقيموا وخذوا طريق مَن قبلكم، فوالله لقد سُبِقْتُمْ سبقا بعيدا، ولئن أخذتم يمينا وشمالا: لقد ضللتم ضلالا بعيدا"3. فإذا احتج أحدٌ علينا بما عليه المتأخرون، قلنا: الحجة بما عليه الصحابة والتابعون الذين هم خير القرون، لا بما عليه الخلف الذين يقولون مالا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون، فهؤلاء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم هل نُقِلَ عنهم أنهم عقدوا القباب على القبور أو أسرجوها، أو خلقوها، أو كسوها الحرير، أم هذا مما حدث بعدهم من المُحْدَثات التي هي بدع وضلالات؟

_ 1 أبو داود: السنة "4607" , والدارمي: المقدمة "95". 2 أحمد "5/ 357". 3 البخاري: الاعتصام بالكتاب والسنة "7282".

ومعلوم أن عندهم من قبور الصحابة الذين ماتوا في حياة رسول الله -صلى الله عليه وسلم - وبعد وفاته مالا يُحْصَى، هل بنوا على قبورهم وعظَّموها، ودَعَوْا عندها، وتمسحوا بها، فضلا عن أن يسألوها حوائجهم، ويسألوا الله بأصحابها، فمن كان عنده في هذا أثر صحيح أو حسن، فليرشدنا إليه وليدلنا عليه، وأنَّى له بذلك؟ فهذه سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في القبور وسنة خلفائه الراشدين. [العثور على جسد دانيال وكتابه في تستر] وقد روى خالد بن سنان عن أبي العالية قال: لما فتحنا تَسْتُر 1 وجد في بيت مال الهرمز أن سريرا عليه رجل ميت عند رأسه مصحف، فأخذنا المصحف، فحملناه إلى عمر بن الخطاب، فدعا له كعبا فنسخه بالعربية. فأنا أول رجل من العرب قرأته مثل ما أقرأ القرآن. قال خالد: فقلت لأبي العالية: ما كان فيه؟ قال: سيرتكم وأموركم ولحون كلامكم وما هو كائن بعدُ. قلت: فما صنعتم بالرجل؟ قال: حفرنا بالنهار ثلاثة عشر قبرا متفرقة، فلما كان بالليل دفناه وساوينا القبور كلها مع الأرض لِنُعَمِّيهِ عن الناس لا ينبشونه. فقلت: وما يرجون منه؟ قال: كانت السماء إذا حبست عنهم أبرزوا السرير فَيُمْطَرُونَ. فقلت: مَن كنتم تظنون الرجل؟ قال: رجل يقال له دانيال. فقلت منذ كم وجدتموه مات؟ قال منذ ثلاثمائة سنة، قلت: ما كان تغير منه شيء؟ قال: لا، إلا شعرات من قفاه؛ إن لحوم الأنبياء لا تبليها الأرض ولا تأكلها السباع. ففي هذه القصة ما فعله المهاجرون والأنصار من تعمية قبرة؛ لئلا يَفْتَتِنَ به الناس، ولم يذروه للدعاء عنده والتبرك به، ولو ظفر به هؤلاء المشركون، وعلموا حقيقته لبنوا عليه وعظَّموه وزخرفوا قبره، وأسرجوه، وجعلوه وثنًا يُعْبَد، فإنهم قد اتخذوا من القبور أوثانا مَن لا يُدَانِي هذا ولا يقاربه، بل لعله عدو لله، وأقاموا لها سدنة، وجعلوها معابد، واعتقدوا أن للصلاة عندها والدعاء حولها والتبرك بها

_ 1 بلد بالعراق العجمي.

فضيلة مخصوصة ليست في المساجد. ولو كان الأمر كما زعموا، بل لو كان مباحا لنصب المهاجرون والأنصار هذا القبر علما وَلَمَا أَخْفَوْهُ خشية الفتنة به، بل لدَعَوْا عنده، وبيَّنُوه لمن بعدهم، ولكن كانوا أعلم بالله ورسوله ودينه من هؤلاء الخلوف الذين أضاعوا الصلاة، واتبعوا الشهوات، أو صرفوا لغير الله أجلَّ العبادات. وما أحسن ما قال الإمام مالك -رحمه الله تعالى-: "لن يُصْلِح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها"ولكن كلما نقص تمسكهم بسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم وهديه وسنة خلفائه الراشدين، تَعَوَّضُوا عن ذلك بما أحدثوه من البدع والشرك. ومن له خبرةٌ بما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم عند زيارة القبور، وما يُفْعَل بها، وبما يفعل عندها، وبما كان عليه الصحابة -رضي الله عنهم-، ثم وَازن بين هديه صلى الله عليه وسلم وهدي أصحابه وبين ما عليه المتأخرون اليوم، وما يفعلونه عند القبور، تبين له ما بينها من التباين والتضاد، وعلم أن بينهما من الفرق أبعد مما بين المشرق والمغرب كمل قيل: سَارَتْ مُشَرِّقَة وَسِرْتُ مُغَرِّبًا ... شَتَّانَ بين مُشَرِّق ومُغَرِّب [أقوال فقهاء المذاهب في منكرات القبور] "الوجه الثالث" أن يقال: قوله: إن كثيرا من العلماء فعلوا هذه الأمور، وفُعِلَتْ بحضرتهم فلم ينكروا من ذلك تتابعهم على بناء القباب على القبور. فيقال: بل قد نهوا عن ذلك، وصرحوا بكراهته والنهي عنه، وهذه كتبهم بأيدينا مُصَرِّحَة بما ذَكَرْنَا، ونحن نَسُوقُ عباراتهم بألفاظها. فأما كلام الحنابلة فقال في "الإقناع": ويستحب رفع القبر قدر شبر ويكره فوقه، ويكره البناء عليه؛ سواء لاصق البناء الأرض أو لا، ولو في ملكه، من قبة أو غيرها؛ للنهي عن ذلك. وقال ابن القيم -رحمه الله تعالى- في إغاثة اللهفان: ويجب هدمُ القباب التي على القبور؛ لأنها أُسِّسَتْ على معصية الرسول. انتهى. وهو في المسألة أشد تحريما، قال الشيخ: هو غاصب. وقال أبو حفص: تحرم الحجرة بل تُهْدَم

وهو الصواب. انتهى كلامه في "الإقناع". هذا والذي ذكره: ذكره غيرُ واحدٍ من أئمة الحنابلة فلا حاجة إلى الإطالة بنقل عباراتهم. وأما كلام الشافعية فقال الأذرعي -رحمه الله- في قوت المحتاج إلى شرح المنهاج عند قول المؤلف: ويكره تجصيص القبر والبناء والكتابة عليه. ثبت في صحيح مسلم النهي عن التجصيص والبناء، وفي الترمذي وغيره النهيُ عن الكتابة، وعبارة الحلوانية: ممنوعٌ منهما. وعبارة القاضي ابن كج: ولا يجوز أن تجصص القبور، ولا أن يُبْنَى عليها قِبَابٌ، ولا غير قباب، والوصية بها باطلة. وقال أبو يعلى الموصلي في مسنده: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا زيد بن الحباب حدثنا جعفر بن إبراهيم من ولد ذي الجناحين حدثنا علي بن الحسين أنه رأى رجلا يجيء إلى فرجة كانت عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم فيدخل فيها، فيدعو فنهاه فقال: ألا أحدثكم بحديث سمعته من أبي عن جدي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تتخذوا قبري عيدا، ولا بيوتكم قبورا، وسلموا عليَّ، فإن تسليمكم يبلغني أينما كنتم"1 رواه أبو عبد الله محمد بن عبد الواحد المقدسي في مختاراته التي اختارها من الأحاديث الجياد الزائدة على الصحيحين. وقال سعيد بن منصور في السنن: حدثنا حبان بن علي حدثني محمد بن عجلان عن أبي سعيد مولى المهري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا تتخذوا بيتي عيدا، ولا بيوتكم قبورا، وصلوا عليَّ حيثما كنتم فإن صلاتكم تبلغني"2. وقال سعيد: حدثنا عبد العزيز بن محمد أخبرني سهيل بن أبي سهيل قال: رآني الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عند القبر فناداني -وهو في بيت فاطمة يتعشى- فقال: هلم إلى العشاء، فقلت: لا أريده، فقال: ما لي رأيتك عند القبر؟ فقلت: سلمت على النبي -صلى الله عليه وسلم - فقال: إذا دخلت المسجد فسلم، ثم قال: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تتخذوا قبري عيدا، ولا تتخذوا بيوتكم مقابر، لعن الله اليهود

_ 1 أبو داود: المناسك "2042" , وأحمد "2/ 367". 2 أبو داود: المناسك "2042" , وأحمد "2/ 367".

والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، وصلوا عليَّ فإن صلاتكم تبلغني حيثما كنتم، ما أنتم ومن بالأندلس إلا سواء". فهذان المرسلان من هذين الوجهين المختلفين يدلان على ثبوت الحديث، لا سيما، وقد احتج به مَن أرسله، وذلك يقتضي ثبوته عنده، هذا لو لم يكن روي مُسْنَدًا من وجوه غير هذا، فكيف وقد تقدم مُسْنَدًا؟ [نهي النبي عن اتخاذ القبور مساجد وقبره عيدا] ووجه الدلالة منه أن قبر رسول الله -صلى الله عليه وسلم - أفضل قبر على وجه الأرض، وقد نَهَى عن اتخاذه عيدا فقبر غيره أولى بالنهي كائنا من كان، ثم إنه قَرَنَ ذلك بقوله: "ولا تتخذوا بيوتكم قبورا"1 أي: لا تعطلوها من الصلاة فيها والدعاء والقراءة، فتكون بمنزلة القبور، فأمر بتحري النافلة في البيوت ونهى عن تحري العبادة عند القبور. وهذا ضد ما عليه المشركون. ثم إنه عَقَّبَ النهي عن اتخاذها عيدا بقوله: "وصلوا عليَّ حيثما كنتم فإن صلاتكم تبلغني"2 يشير بذلك إلى أن ما يَنَالني منكم من الصلاة والسلام يحصل مع قربكم من قبري وبُعْدكم، فلا حاجة إلى اتخاذه عيدا. وقد حَرَّفَ هذه الأحاديث بعض مَن أخذ شَبَهًا من النصارى بالشرك، وشَبَهًا من اليهود بالتحريف، فقال: هذا أمر بملازمة قبره، والعكوف عنده واعتياد قصده وانتيابه، ونهى أن يجعل كالعيد الذي إنما يكون من الحول إلى الحول، بل اقصدوه كل ساعة، وكل وقت، وهذا مراغمة ومحادَّة ومناقضة لما قصده الرسول صلى الله عليه وسلم وقلبٌ للحقائق، ونسبة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى التدليس والتلبيس والتناقض، فقاتل الله أهل الباطل أنى يؤفكون. ولا ريب أن ارتكاب كل كبيرة بعد الشرك أسهلُ إثما وأخف عقوبة من تعاطي مثل ذلك في دينه وسنته، وهكذا غُيِّرَتْ أديان الرسل، ولولا أن الله أقام لدينه أنصارا وأعوانا يَذُبُّونَ عنه لجرى عليه ما جرى على الأديان قبله، ولو

_ 1 البخاري: الصلاة "432" , ومسلم: صلاة المسافرين وقصرها "777" , والترمذي: الصلاة "451" , والنسائي: قيام الليل وتطوع النهار "1598" , وأبو داود: الصلاة "1448" , وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها "1377" , وأحمد "2/ 6 ,2/ 16 ,2/ 122". 2 أبو داود: المناسك "2042" , وأحمد "2/ 367".

أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قاله هؤلاء الضلال لم يَنْهَ عن اتخاذ قبور الأنبياء مساجد ويلعن فاعل ذلك، فإنه إذا لعن من اتخذها مساجد يُعْبَد الله فيها، فكيف يأمر بملازمتها والعكوف عندها، وأن يعتاد قصدها وانتيابها، ولا تجعل كالعيد الذي يجيء من الحول إلى الحول، وكيف يسأل ربه أن لا يجعل قبره وثنًا يعبد؟ وكيف يقول أعلم الخلق بذلك: "ولولا ذلك لأبرز قبره ولكن خشي أن يتخذ مسجدا" وكيف يقول: "لا تجعلوا قبري عيدا، وصلوا عليَّ حيثما كنتم؟ ". وكيف لم يفهم أصحابه وأهل بيته من ذلك ما فهمه هؤلاء الضلال الذين جمعوا بين الشرك والتحريف. وهذا أفضل التابعين من أهل بيته علي بن الحسين -رضي الله عنه- نهى ذلك الرجل أن يتحرى الدعاء عند قبره -صلى الله عليه وسلم- بالحديث، وهو الذي رواه وسمعه من أبيه الحسين عن جده علي رضي الله عنه وهو أعلم بمعناه من هؤلاء الضلال. وكذلك ابن عمه الحسن بن الحسن شيخ أهل بيته كره أن يقصد الرجلُ القبرَ إذا لم يُرِدْ المسجدَ، ورأى أن ذلك مِن اتخاذه عيدا. فانظر إلى هذه السنة كيف مخرجها من أهل البيت، وأهل البيت الذين لهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم قرب نَسَبِيّ وقرب الدار؛ لأنهم إلى ذلك أحوج من غيرهم وكانوا له أضبط. والعيد إذا جعل اسما للمكان فهو المكان الذي يُقْصَد الاجتماع فيه وانتيابه للعبادة عنده، أو لغير العبادة، كما أن المسجد الحرام ومزدلفة وعرفة جعلها الله عيدا مثابة للناس يجتمعون فيها وينتابونها للدعاء والذكر والنسك، وكان المشركون لهم أمكنة ينتابونها للاجتماع عندها، فلما جاء الإسلام مَحَا ذلك كله.

فصل [في مفاسد اتخاذ القبور أعيادا] واعلم أن في اتخاذ القبور أعيادا من المفاسد العظيمة، التي لا يعلمها إلا الله، ما يغضب لأجله كل مَن في قلبه وقار لله وغيرة على التوحيد، فمن ذلك الصلاة إليها والطواف بها، وتقبيلها واستلامها، وتعفير الخدود على ترابها، والاستغاثة بأصحابها وسؤالهم الرزق والنصر والعافية وقضاء الديون، وتفريج الكُرُبَات وإغاثة اللهفات. وغير ذلك من أنواع الطلبات، التي كان عباد الأصنام يسألونها أوثانهم، وهذا هو عين الشرك الأكبر الذي بعث الله رسوله ينهى عنه ويقاتل أهله، ومن مات عليه كان من أهل النار - عياذا بالله من ذلك. وكان مبدأ هذا الداء العظيم في قوم نوح؛ لما غلوا في الصالحين، كما أخبر الله عنهم في كتابه حيث قال: {وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} 1. قال ابن جرير: وكان من خبر هؤلاء ما حدثناه ابن حميد حدثنا مهران عن سفيان عن موسى عن محمد بن قيس أن يغوث ويعوق ونسرا كانوا قوما صالحين من بني آدم، وكان لهم أتباع يقتدون بهم، فلما ماتوا قال أصحابهم -الذين يقتدون بهم-: لو صوَّرْنَاهم كان أشوق لنا إلى العبادة إذا ذكرناهم، فصوَّروهم، فلما ماتوا، وجاء آخرون دَبَّ إليهم إبليس فقال: إنما كانوا يعبدونهم وبهم يُسْقَوْنَ المطر فعبدوهم. وقال غير واحد من السلف: كان هؤلاء قوما صالحين في قوم نوح، فلما ماتوا عكفوا على قبورهم، ثم صوروا تماثيلهم، ثم طال عليهم الأمد فعبدوهم فهؤلاء جمعوا بين الفتنتين: فتنة القبور وفتنة التماثيل، وهما الفتنتان اللتان أشار إليهما النبي صلى الله عليه وسلم لما ذكرت له أم سلمة كنيسة رأتها بأرض الحبشة، وما فيها من الصور، فقال: "أولئك إذا مات فيهم العبد الصالح أو الرجل الصالح بَنَوْا على قبره مسجدا، وصوَّرُوا فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله"2 وهذا كان سبب عبادة اللات، فروى

_ 1 سورة نوح آية: 23. 2 البخاري: الصلاة "434" , ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة "528" , والنسائي: المساجد "704" , وأحمد "6/ 51".

ابن جرير بإسناده عن منصور عن مجاهد {أَفَرَأَيْتُمُ الَلاتَ وَالْعُزَّى} 1 قال: "كان يَلُتُّ السويق للحاج، فمات فعكفوا على قبره". وكذلك قال أبو الجوزاء عن ابن عباس: "كان يَلُتُّ السويق للحاج". فقد رأيت أن سبب عبادة يغوث ويعوق ونسرا واللات إنما كان سبب تعظيم قبورهم، اتخذوا لها تماثيل، ثم عبدوها. [أصل الشرك عبادة الصالحين بتعظيم قبورهم] قال أبو العباس ابن تيمية -قدَّس الله روحه-: "وهذه العلة التي لأجلها نهى الشارع عن اتخاذ المسجد على القبور، هي التي أوقعت كثيرا من الأمم إما في الشرك الأكبر أو فيما دونه من الشرك، فإن الشرك بغير الرجل الذي يُعْتَقَدُ صلاحه أقرب إلى النفوس من الشرك بخشبة أو حجر؛ ولهذا تجد أهل الشرك كثيرا يتضرعون عندها، ويخشونها، ويعبدونها بقلوبهم عبادة لا يفعلونها في بيوت الله، ولا وقت السحر، ومنهم من يسجد لها، وأكثرهم يرجون من بركة الصلاة عندها ما لا يرجون في المساجد؛ فلأجل هذه المفسدة حسم النبي صلى الله عليه وسلم مادتها حتى نهى عن الصلاة وقت طلوع الشمس، وإن لم يقصد ما قصده المشركون سدا للذريعة، قال: وأما إن قصد الرجل بالصلاة عند القبر تبرُّكا بالصلاة في تلك البقعة، فهذا عين المحادة لله ورسوله والمخالفة لدينه، وابتداع دين لم يأذن به الله، فإن المسلمين قد أجمعوا على أن الصلاة عند القبور منهي عنها، وأنه لعن من اتخذها مساجد"*. "فمن أعظم المحدثات، وأسباب الشرك الصلاة عندها، واتخاذها مساجد، وبناء المساجد عليها، وقد تواترت النصوص عن النبي صلى الله عليه وسلم بالنهي عن ذلك، والتغليظ فيه، بل نهى عن ذلك في آخر حياته، ثم إنه لعن وهو في السياق 2 من فعل ذلك من أهل الكتاب ليحذر أمته أن يفعلوا ذلك. قالت عائشة -رضي الله عنها-: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي لم يقم

_ 1 سورة النجم آية: 19. * "اقتضاء الصراط المستقيم" 2/ 192 - 193. [معد الكتاب للمكتبة الشاملة] 2 أي: وهو يعالج سكرات الموت.

منه: "لعن الله اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، ولولا ذلك لأبرز قبره، غير أنه خَشِيَ أن يُتَّخَذَ مسجدا"1 متفق عليه"*، وقولها: "خشي" هو بضم الخاء المعجمة تعليلا لمنع إبراز قبره. [نهي النبي عن الجلوس والصلاة على القبور] وأبلغ من هذا أنه نهى عن الصلاة إلى القبر، فلا يكون القبر بين المصلي وبين القبلة، فروى مسلم في صحيحه عن أبي مرثد الغنوي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تجلسوا على القبور، ولا تصلوا إليها"2 وفي هذا إبطال قول مَنْ زعم أن النهي عن الصلاة فيها لأجل النجاسة، فهذا أبعد شيء عن مقاصد الرسول صلى الله عليه وسلم وهو باطل من عدة أوجه: منها: أن الأحاديث كلها ليس فيها فرق بين المقبرة الحديثة والمنبوشة، كما يقوله المعللون بالنجاسة. ومنها: أنه صلى الله عليه وسلم لعن اليهود والنصارى على اتخاذ قبور أنبيائهم مساجد. ومعلوم قطعا أن هذا ليس لأجل النجاسة؛ لأن قبور الأنبياء من أطهر البقاع، وليس للنجاسة عليها طريق، فإن الله حرَّم على الأرض أن تأكل أجسادهم، فهم في قبورهم طريون، ومنها أنه نهى عن الصلاة إليها. ومنها: أنه أخبر أن الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام، ولو كان ذلك لأجل النجاسة لكان ذكر الحشوش والمجازر أولى من ذكر القبور. ومنها: أنه لعن المتخذين عليها المساجد والسرج، ولو كان ذلك لأجل النجاسة لأمكن أن يتخذ عليها المسجد مع تطيينها بطين طاهر، وهذا باطل قطعا. وبالجملة فمن له معرفة بالشرك وأسبابه، وفهم عن الرسول مقاصده جزم جزما لا يحتمل النقيض أن هذه المبالغة واللعن والنهي ليس لأجل النجاسة، بل هو لأجل الشرك، فإن هذا وأمثاله منه صلى الله عليه وسلم صيان لحمى التوحيد، فأبى المشركون إلا معصية لأمره وارتكابا لنهيه، ومن جمع بين سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في القبور وما أمر به وما نهى عنه وبين ما عليه أكثر الناس اليوم رأى أحدهما مضادا للآخر،

_ * إلى هنا انتهى النقل عن شيخ الإسلام ابن تيمية من كتاب "اقتضاء الصراط المستقيم" 2/ 184 - 185. [معد الكتاب للمكتبة الشاملة] 1 البخاري: الصلاة "436" , ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة "531" , والنسائي: المساجد "703" , وأحمد "1/ 218 ,6/ 34 ,6/ 80 ,6/ 121 ,6/ 146 ,6/ 252 ,6/ 255 ,6/ 274" , والدارمي: الصلاة "1403". 2 مسلم: الجنائز "972" , والترمذي: الجنائز "1050" , والنسائي: القبلة "760" , وأبو داود: الجنائز "3229" , وأحمد "4/ 135".

مناقضا له، فإنه نهى عن الصلاة إليها، وهؤلاء يصلون عندها، ونهى عن اتخاذها مساجد، وهؤلاء يبنون عليها المساجد، ويسمونها مشاهد مضاهاة لبيوت الله، ونهى عن إيقاد السرج عليها، وهؤلاء يوقفون الوقوف على إيقاد القناديل عليها، ونهى أن تُتَّخَذَ عيدا، وهؤلاء يتخذونها أعيادا ومناسك يجتمعون لها كاجتماعهم للعيد أو أكثر، وأمر بتسويتها وهؤلاء يرفعونها ويبنون عليها القباب، ونهى عن الكتابة عليها، وهؤلاء يكتبون عليها القرآن وغيره، ونهى أن يزاد عليها غير ترابها، وهؤلاء يزيدون سوى التراب والآجر والأحجار والجص، فأهل الشرك مناقضون لما أمر به الرسول صلى الله عليه وسلم في أهل القبور، وفيما نهى عنه، محادون له في ذلك. فإذا نهى الموحدون عما نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم من تعظيمها، والصلاة عندها، وإسراجها، والبناء عليها، والدعاء عندها، وما هو أعظم من ذلك، مثل بناء المساجد عليها ودعائها، وسؤالها قضاء الحاجات، وإغاثة اللهفات، غضب المشركون، واشمأزَّت قلوبهم، وقالوا: قد تنقَّص أهل الرتب العالية، وزعم أنهم لا حرمة لهم ولا قدر، وسرى ذلك في نفوس الجهال الطغام حتى عادوا أهل التوحيد، ورموهم بالعظائم، ونفَّروا الناس عن دين الإسلام، ووالوا أهل الشرك وعظَّموهم {وَيَأْبَى اللَّهُ إِلا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} 1. فصل [في إتيان القبور في يوم معلوم] وأما قوله: "فلكل شيخ يوم معروف، في شهر معلوم، يُؤْتَى إليه من النواحي، وقد يحضر بعض العلماء فلا ينكر" فنقول: أما قوله: "فلكل شيخ يوم معروف، في شهر معلوم" فقد قدَّمنا الجواب عن ذلك، وبينا أن ذلك من اتخاذها أعيادا، وأنه مما نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن العيد

_ 1 سورة التوبة آية: 32، 33.

ما يعتاد مجيئه وقصده من زمان ومكان، فالزمان كقوله صلى الله عليه وسلم "يوم عرفة ويوم النحر وأيام مِنى عيدنا أهل الإسلام"1 رواه أبو داود وغيره. وأما المكان فكما روى أبو داود في سننه أن رجلا قال: "يا رسول الله: إني نذرت أن أنحر إبلا بِبُوَانَةَ 2. فقال: أَبِها وثن من أوثان المشركين، أو عيد من أعيادهم؟ قال: لا. قال: فأوف بنذرك" وكقوله: "لا تجعلوا قبري عيدا" فالعيد مأخوذ من المعاودة والاعتياد، فإذا كان اسما للمكان فهو المكان الذي يقصد الاجتماع فيه، وإتيانه للعبادة أو لغيرها، كما أن المسجد الحرام ومِنى ومزدلفة وعرفة والمشاعر جعلها الله عيدا للحنفاء، كما جعل أيام التعبد فيها عيدا. فإتيان القبور في يوم معلوم، من شهر معلوم، والاجتماع لذلك بدعة لم يشرعها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يفعلها الصحابة ولا التابعون لهم بإحسان، سواء ذلك في البلد أو خارجا عنه. وأما قوله: "يُؤْتَى إليه من النواحي" فنقول: وهذا -أيضا- بدعة مذمومة لم يفعلها الصحابة ولا التابعون لهم بإحسان. [زيارة القبور الشرعية والبدعية] وبيان ذلك أن زيارة القبور نوعان: زيارة شرعية، وزيارة بدعية شركية، فالزيارة الشرعية مقصودها ثلاثة أشياء: "أحدها": تذكير الآخرة والاتعاظ والاعتبار. "والثاني": الإحسان إلى الميت في أن لا يطول عهده به؛ فيهجره ويتناساه، فإذا زاره وأهدى إليه هدية من دعاء أو صدقة سُرَّ الميت بذلك، كما يسرُّ الحي من يزوره ويهدي له؛ ولهذا شرع النبي صلى الله عليه وسلم للزائر أن يدعو لأهل القبور بالمغفرة والرحمة، ولا يشرع أن يدعوهم ولا يدعو بهم ولا يصلي عندهم. "الثالث": إحسان الزائر إلى نفسه باتباع السنة والوقوف عند ما شرعه الرسول -صلى الله عليه وسلم -؛ فيحسن إلى نفسه، وإلى المزور.

_ 1 الترمذي: الصوم "773" , والنسائي: مناسك الحج "3004" , وأبو داود: الصوم "2419" , وأحمد "4/ 152" , والدارمي: الصوم "1764". 2 هضبة من وراء ينبع.

وأما الزيارة البدعية الشركية فأصلها مأخوذ من عبادة الأصنام، وهو أن يقصد قبر صالح في الصلاة عنده، أو الدعاء عنده، والدعاء به، أو طلب الحوائج منه، أو الاستغاثة به، ونحو ذلك من البدع التي لم يشرعها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا فعلها أحد من الصحابة ولا التابعين لهم بإحسان -كما تقدم بيانه مبسوطا-. ثم اعلم أن الزيارة الشرعية هي التي لا تُشَدُّ لها الرحال، فإن كانت تشد رحال فهي زيارة بدعية، لم يأمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا فعلها الصحابة، بل قد نهى عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم كما ثبت عنه في الصحيحين أنه قال: "لا تُشَدُّ الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد، المسجد الحرام، والمسجد الأقصى، ومسجدي هذا"1 وهذا الحديث اتفق الأئمة على صحته والعمل به. [زيارة مسجد قباء لأهل المدينة] فلو نذر رجل أن يصلي في المسجد، أو يعتكف فيه، أو يسافر إليه لم يجب عليه ذلك باتفاق الأئمة حتى نص بعض العلماء على أن لا يسافر إلى مسجد قباء؛ لأنه ليس من الثلاثة، مع أن مسجد قباء تُسْتَحَبُّ زيارته لمن كان بالمدينة؛ لأن ذلك ليس بشد رحل، كما في الصحيح: "مَنْ تَطَهَّرَ في بيته، ثم أتى مسجد قباء، لا يريد إلا الصلاة فيه، كان كعمرة"2 قالوا: ولأن السفر لزيارة الأنبياء، وقبور الصالحين بدعة لم يفعلها أحد من الصحابة والتابعين، ولا أمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا استحبَّها أحد من أئمة المسلمين، فمن اعتقد ذلك عبادة وفعلها فهو مخالف للسنة، وإنما اختلف العلماء أتباع الأئمة في الجواز بعد اتفاقهم أنه ليس مشروعا ولا مستحبا. فالمتقدمون منهم قالوا: لا يجوز السفر إليها، ولا تقصر الصلاة في هذا السفر؛ لأنه معصية، وهذا قول أبي عبد الله بن بطة، وأبي الوفاء بن عقيل، وطوائف كثيرة. وذهب طائفة من متأخري أصحاب أحمد والشافعي إلى جواز السفر إليها كأبي حامد الغزالي وابن عبدوس وأبي محمد المقدسي، وأجابوا عن حديث: "لا تشد الرحال"3 بأنه لنفي الاستحباب والفضيلة، وردَّ عليهم الجمهور من وجهين:

_ 1 البخاري: الجمعة "1189 ,1197" والحج "1864" والصوم "1996" , ومسلم: الحج "827" , والترمذي: الصلاة "326" , وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها "1410" , وأحمد "3/ 78". 2 النسائي: المساجد "699" , وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها "1412" , وأحمد "3/ 487". 3 البخاري: الجمعة "1189" , وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها "1410" , وأحمد "3/ 45".

"أحدهما": أن هذا تسليم منهم أن هذا السفر ليس بعمل صالح، ولا قربة ولا طاعة، ومن اعتقد أن السفر لزيارة القبور قربة وطاعة فقد خالف الإجماع، وإذا سافر لاعتقاده بأنه طاعة، فإن ذلك محرم بإجماع المسلمين، فصار التحريم من جهة اتخاذه قربة، ومعلوم أن أحدا لا يسافر إليها إلا لذلك، وأما إذا قصد بشد الرحل غرضا من الأغراض المباحة فهذا جائز. "الوجه الثاني": أن النفي يقتضي النهي، والنهي يقتضي التحريم، والأحاديث التي تذكر في زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم ضعيفة باتفاق أهل العلم بالحديث، بل هي موضوعة، فليس في زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم حديث صحيح ولا حسن، ولا يروي أهل السنن المعروفة كسنن أبي داود والترمذي والنسائي وابن ماجه في ذلك شيئا، بل ولا أهل المسانيد المعروفة كمسند أحمد وأبي داود الطيالسي وعبد بن حميد وغيرهم، ولا أهل المصنفات المعروفة كموطأ مالك وغيره، بل لمَّا سُئِلَ الإمام أحمد -وهو أعلم الناس في زمانه بالسنة- عن هذه المسألة لم يكن عنده ما يقيمه عليها إلا حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ما من رجل يُسَلِّمُ عليَّ إلا ردَّ الله علي روحي حتى أردَّ عليه السلام"1 وعلى هذا اعتمد أبو داود في سننه. وكذلك مالك في الموطأ روى عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- أنه كان إذا دخل المسجد قال: "السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا أبا بكر، السلام عليك يا أبي، ثم ينصرف". واتفق الأئمة على أنه إذا دعا بمسجد النبي صلى الله عليه وسلم لا يستقبل قبره، وتنازعوا عند السلام عليه، فقال مالك وأحمد وغيرهم: "يستقبل قبره، ويسلم عليه"، وهو الذي ذكره أصحاب الشافعي، وأظنه منصوصا عنه، وقال أبو حنيفة: "يستقبل القبلة، ويسلم عليه"، هكذا في كتب أصحابه. وقال مالك: "لا أرى أن يقف عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم ويدعو، ولكن يسلم ويمضي".

_ 1 أبو داود: المناسك "2041" , وأحمد "2/ 527".

ومَنْ رخَّص منهم في الدعاء عند قبره صلى الله عليه وسلم فإنما يرخص فيما إذا سلم عليه، ثم أراد أن يدعو استقبل القبلة إما مستدبرا القبر، وإما منحرفا عنه، وهو أن يستقبل القبلة ويدعو، ولا يدعو مستقبل القبر. وهكذا المنقول عن سائر الأئمة ليس منهم من استحب للمرء أن يستقبل القبر، أعني: قبر النبي صلى الله عليه وسلم ويدعو عنده، فإذا كان هذا حالهم وفعلهم عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم فكيف بغيره؟! [حدوث المشاهد للقبور بعد عصر السلف] ولم يكن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولا في عصر الصحابة والتابعين مشهد يقصد بالزيارة، لا في الحجاز، ولا في الشام، ولا اليمن، ولا العراق، ولا خراسان، ولا مصر بعد ما فتح الله هذه البلاد، وصارت بلاد إسلام، وإنما حدث فيها بعد انقراض عصر السلف. وصار يوجد في كلام بعض الناس فلان تُرْجَى الإجابة عند قبره، وفلان يُدْعَى عند قبره، وبعضهم يقول: قبر فلان الترياق المجرب، ونحو ذلك مما لم يكن معروفا في عهد الصحابة والتابعين، وقائل هذا أحسن أحواله أن يكون مجتهدا في هذه المسألة ومقلدا؛ فيعفو الله عنه، أما أن هذا الذي قاله يقتضي استحباب ذلك فلا، بل يقال: هذه زلة عالم، فلا يجوز تقليده فيها إذا عرف أنها زلة؛ لأنه اتباع للخطأ على عمد، ومن لم يعرف أنها زلة فهو أعذر من العارف، وكلاهما مُفَرِّطٌ فيما أمره به ربه. قال الشعبي: قال عمر رضي الله عنه "يفسد الزمان ثلاثة: أئمة مضلون، وجدال المنافق بالقرآن -والقرآن حق-، وزلة العالم"، وقال معاذ: "احذروا زيغة الحكيم، فإن الشيطان قد يقول الضلالة على لسان الحكيم، وقد يقول المنافق كلمة الحق"، وقال:

"اجتنبوا من كلام الحكيم المشتبهات التي يقال ما هذه، ولا يثنيك ذلك عنه، فإنه لعله يراجع، وتلق الحق إذا سمعته، فإن على الحق نورا". واعلم -رحمك الله- أن الرجل الجليل الذي له في الإسلام قدم صادق، وآثار حسنة، وهو من الإسلام وأهله بمكان قد يكون منه الهفوة والزلة، وهو فيها معذور، بل مأجور لاجتهاده، فلا يجوز أن يتبع فيها، ولا يجوز أن يغمط مكانه وإمامته ومنزلته من قلوب المسلمين. قال مجاهد والحكم ومالك وغيرهم: "ليس أحد من خلق الله إلا يُؤْخَذُ من قوله ويُتْرَكُ إلا رسول الله -صلى الله عليه وسلم -". وقال سليمان التيمي: "إن أخذت برخصة كل عالم اجتمع فيك الشر كله". وقد روى كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف المزني عن أبيه عن جده قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إني لأخاف على أمتي من بعدي من أعمال ثلاثة. قالوا: وما هي يا رسول الله؟ قال: أخاف عليهم من زلة العالم، وجدال المنافق بالقرآن -والقرآن حق-، وعلى القرآن منار كأعلام الطريق". ويكفي اللبيب في هذا ما قصَّه الله -سبحانه- في كتابه عن بني إسرائيل مع صلاحهم وعلمهم: أنهم بعد ما فلق الله لهم البحر وأنجاهم من عدوهم أتوا نبيهم قائلين: {اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} 1 وكذلك ما رواه الترمذي وغيره: "أن ناسا من الصحابة في غزوة حنين أتوا عند النبي صلى الله عليه وسلم حين مروا بسدرة للمشركين يعلقون عندها وينوطون بها أسلحتهم يقال لها: ذات أنواط، فقالوا: يا رسول الله: اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط فقال: الله أكبر، إنها السنن، قلتم -والذي نفسي بيده- كما قالت بنو إسرائيل لموسى: {اجعل لنا إلها كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون} لتركبن سنن من كان قبلكم". فإذا كان هذا قد خفي عليهم مع وضوحه وبيانه، وقبلهم قوم موسى مع

_ 1 سورة الأعراف آية: 138.

صلاحهم وعلمهم، وقد اختارهم الله على علماء زمانهم 1 وخفي عليهم هذا، وقالوا: يا موسى {اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} 2 فهذا يفيد أن المسلم، بل العالم قد يقع في أشياء من الشرك، وهو لا يدري، فيفيد الحرص، وبذل الجهد في البحث عما جاء عن الله ورسوله، ولا يقلد دينه الرجال، فإنهم لن يسلموا أن يغلطوا، وأبى الله أن يصلح إلا كتابه، وأن يعصم إلا رسوله. وإذا اشتبه الحق في هذا الباب أو غيره فليدع بما رواه مسلم في صحيحه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول إذا قام يصلي من الليل: "اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اخْتُلِفَ فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم"3. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

_ 1 إن الاعتبار في محله، وإن كان بنو إسرائيل قالوا هذا عقب خروجهم من مصر، وقبل نزول التوراة، وكانت الوثنية المصرية غالبة عليهم، ولكنهم علموا أن موسى -عليه السلام- دعا فرعون وقومه إلى عبادة الله وحده، وشاهدوا الآيات الدالة على صدقه، وكأنهم ظنوا أن الإله الذي يجعله لهم لا ينافي عبادته وحده كما يظن القبوريون من المسلمين اليوم بجهلهم، وقد قال لهم موسى: "إنكم قوم تجهلون إن هؤلاء متبر ما هم فيه وباطل ما كانوا يعملون"، ولم يمنعهم هذا العلم من عبادة العجل بعد ذلك. 2 سورة الأعراف آية: 138. 3 مسلم: صلاة المسافرين وقصرها "770" , والترمذي: الدعوات "3420" , والنسائي: قيام الليل وتطوع النهار "1625" , وأبو داود: الصلاة "767" , وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها "1357" , وأحمد "6/ 156".

رسالة فيما يدلي به العاصب من الورثة وما لا يدلي

بسم الله الرحمن الرحيم رسالة فيما يدلي به العاصب من الورثة وما لا يدلي من حمد بن ناصر إلى الأخ المكرم محمد بن عبد الوهاب بن صالح قاضي بلد الرياض في آخر وقت الدرعية. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: وصل خطك -وصلك الله إلى رضوانه-، وتسأل عن معنى بيت الجعبري حيث قال: وبالجهة التقديم ثم بقربه ... وبعدهما التقديم بالقوة اجعلا فاعلم أنه إذا اجتمع عصبة، فتارة يستوون في الدرجة والجهة والقوة أو لا، فإن استووا فيما ذكرنا اشتركوا في المال، وفيما أبقت الفروض، وإن لم يستووا في ذلك حجب بعضهم بعضا. والجهات سبع: البنوة، ثم بعدها الأبوة، ثم الجدودة والأخوة عند من يقول: إن الإخوة يشاركون الجد، ثم بنو الإخوة، ثم العمومة ثم الولاء، ثم بيت المال. إذا فهمت ذلك فإذا اجتمع عاصبان، فمن كانت جهته مقدمة فهو المقدم، وإن بَعُدَ على من كانت جهته مؤخرة، فإذا اجتمع ابن ابن أخ شقيق أو لأب فهو مقدم على ابن العم، وهذا معنى قول الجعبري -رحمه الله تعالى-: "فبالجهة التقديم" فإن كانوا في الجهة سواء، فالقريب درجته هو المقدم كالابن يُقَدَّمُ على ابن الابن. وكذلك لو اجتمع ابن أخ لأب مع ابن ابن أخ شقيق، فابن الأخ للأب يقدم على ابن ابن الأخ الشقيق النازل بالإجماع؛ لأن الأول أقرب، ومعنى قول الجعبري -رحمه الله تعالى-: "ثم بقربه" إذا اجتمع عاصبان من جهة واحدة، وكان أحدهما أقرب درجة، فلا شيء للبعيد كما مثَّلته لك، فإن استووا في الجهة والدرجة، وكان أحدهما أقوى -وهو الذي يدلي بقرابتين- فهو المقدم على المدلي بقرابة واحدة.

مثاله: إذا اجتمع أخ شقيق وأخ لأب فقد استويا في الجهة والدرجة، فالشقيق هو المقدم. وهذا هو معنى قول الجعبري: * وبعدهما التقديم بالقوة اجعلا * يعني: أن ذا القرابتين يُقَدَّمُ على ذي القرابة الواحدة إذا استويا في الجهة والدرجة. [طريقة قسمة المواريث] وحاصل الأمر: أن الابن يُقَدَّمُ على ابن الابن، وأن ابن الابن مقدم على الأب في العصب، والأب مقدم على الجد مطلقا، والأب مقدم على الأخ الشقيق، والأخ الشقيق مقدم على الأخ للأب، والأخ للأب مقدم على ابن الأخ الشقيق، وابن الأخ الشقيق مقدم على ابن الأخ للأب، والأخ للأب مقدم على ابن الأخ الشقيق الذي هو أنزل منه، وبنو الإخوة الأشقاء أو لأب مقدمون على العمومة، فلا يرث العم مع ابن الأخ سواء كان ابن أخ شقيق أو لأب وإن نزل، والعم للأب لا يرث مع العم الشقيق، والعم للأب يقدم على ابن العم الشقيق؛ لأنه أقرب، وابن العم الشقيق يقدم على ابن العم للأب؛ لأنه أقوى. وأما قولك: ما معنى التماثل والتناسب، فاعلم أنه إذا كان الكسر على أكثر من فريق، ونظرت بين كل فريق وسهامه، ثم نظرت بين الرءوس والرءوس، فإنه لا يخلو من أربع أحوال: إما أن تجد بين الرءوس والرءوس مماثلة، ومعنى المماثلة هنا: المساواة في العدد كثلاثة وثلاثة، وخمسة وخمسة، وستة وستة، فهذا المماثلة، وحكمه كما قال الناظم: * فخذ من المماثلين واحدًا * فإذا وجدت رؤساء متماثلة في العدد، فخذ رءوس أحدهما واكتفِ به، فإن لم تجد بين الرءوس والرءوس مماثلة، فانظر هل تجد بينهما مناسبة، والمناسبة هي المداخلة، ومعناها أن الأصغر يدخل في الأكبر، فإذا سلطته عليه أفناهُ من غير زيادة ولا نقصان، وذلك كاثنين وأربعة، واثنين وثمانية، أو خمسة وعشرة، وثلاثة وتسعة، هذا هو معنى المناسبة، وحكمه كما قال الناظم: * وخذ من المناسبين الزائد * يعني: العدد الأكبر خذه واكتفِ به عن الأصغر، فإن لم تجد بينهما مماثلة

رسالة فيما يلحق بالنقدين في الزكاة وما لا يلحق فيها مما يتعامل الناس به، من حسن بن حسين

ولا مناسبة فانظر هل تجد بينهما موافقة؟ وهي أن يكون بينهما موافقة في جزء من الأجزاء كأربعة وستة، أو ستة وثمانية، أو ستة وتسعة، أو أربعة وعشرة، وحكم هذا النوع هو ما قال الناظم: * واضرب جميع الوفق في الموافق * فإذا كان معك أربعة وستة، فقد توافقا بالإنصاف، فخذ نصف أحدهما، واضربه في كامل الآخر، فتبلغ اثني عشر، وهكذا تفعل في الباقي تأخذ الوفق، فتضربه في كامل الآخر، فإن لم يكن مناسبة ولا موافقة، فقد حصل التباين، وحكمه كما قال الناظم. وخذ جميع العدد المباين ... واضربه في الثاني ولا تداهن وذلك كثلاثة وخمسة وخمسة وتسعة. انتهى. وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم. تمت. بسم الله الرحمن الرحيم {رسالة فيما يلحق بالنقدين في الزكاة وما لا يلحق فيها مما يتعامل الناس به} من حسن بن حسين إلى الأخ سعد العجيري. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. الخط وصل -وصلك الله إلى رضوانه-، وما سألت عنه من: هل الجدد ملحقة بالنقدين أو بالعروض؟ فنقول: اعلم أن المختار المقطوع به عند علمائنا أنها ملحقة بالعروض كالفلوس، فتكون عرضا من سائر العروض، وتحسب بقيمتها في باب الزكاة كما تحسب العروض بالقيمة، كذا قالوا، وقد اعتنوا بتمييز ما فيها من الفضة، فلم يجدوا فيها إلا القليل، وأما إلحاقها بالنقدين فهو خطأ، والقائل به قد قال شططا، إذ كيف يلحق ما ليس نقدا بالنقود؟! وأما قول القائل: إن بعض الجدد فيه من الفضة النصف، وبعضها فضة خالصا، فهذا ممنوع غير مسلم، وتحديد صرف الريال بالسبع أو الثمان من الجدد باطل، ولو فهم هذا القائل اختيار الشيخ في مسألة مد عجوة لم يكثر فيها نجوه، والسلام، والخط على عجلة.

تنزيه الذات والصفات من درن الإلحاد والشبهات لبعض علماء نجد

رسالة تنزيه الذات والصفات من درن الإلحاد والشبهات لبعض علماء نجد الأعلام من مطبوعات صاحب الجلالة السعودية، ومحيي السنة المحمدية الإمام عبد العزيز آل سعود ملك الحجاز ونجد وملحقاتها (وقد وقفه على من ينتفع به من أهل العلم والدين) {لا يحل لمن وقعت بيده بيعها}

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي خلق الإنسان لعبادته، وشرفه بخطابه ورسالته، وأمره ونهاه، وألهمه فجوره وتقواه، لما أراده منه وقدره عليه؛ ليكون مصيره ومنتهاه إليه، لا إله إلا هو، ولا رب سواه، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. [معنى قوله وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون] "أما بعد": فقد قال الله -سبحانه وتعالى-: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} 1 أي: إن الله -سبحانه- غني كريم عزيز حكيم، فهو محسن إلى عبده مع غنائه عنه، يريد به الخير، ويكشف عنه الضر لا لجلب منفعة، ولا لدفع مضرة، بل رحمة منه وإحسانا، فهو -سبحانه- لم يخلق خلقه ليستكثر بهم من قلة، ولا ليعتز بهم من ذلة، ولا ليرزقوه ولا لينفعوه ولا ليدفعوا عنه، بل ما خلقهم "إلا ليعبدوه" حق عبادته. وأما العباد فإنهم لفقرهم وحاجتهم إنما يحسن بعضهم إلى بعض لحاجته وانتفاعه به عاجلا أو آجلا، ولولا تصور ذلك النفع لما أحسن إليه، فهو في الحقيقة إنما أراد الإحسان إلى نفسه، وجعل إحسانه إلى غيره وسيلة وطريقا إلى وصول ذلك الإحسان إليه، فإنه إما أن يحسن إليه لتوقع جزائه في العاجل فهو محتاج إلى ذلك الجزاء معاوضا بإحسانه، أو لتوقع حمده وشكره، فهو محسن إلى نفسه بإحسانه إلى غيره، وإما أن يريد الجزاء من الله في الآخرة، فهو -أيضا- محسن إلى نفسه بذلك كما قال -تعالى-: {إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لَأَنْفُسِكُمْ} 2 وقال -تعالى-: {مَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ} 3 وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه عن ربه عز وجل "يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني، إنما هي أعمالكم أحصيها لكم، ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيرا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن

_ 1 سورة الذاريات آية: 56، 58. 2 سورة الإسراء آية: 7. 3 سورة البقرة آية: 272.

إلا نفسه"1 وقال -تعالى-: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا} 2 أي: لعبا وباطلا لا لحكمة، وهو منصوب على الحال، أي: عابثين، وقيل: للعبث، أي: لتلعبوا وتعبثوا كما خُلِقَت البهائم لا لثواب ولا عقاب، وهو مثل قوله: {أَيَحْسَبُ الْأِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً} 3 وإنما خلقتم للعبادة، وإقامة أوامر الله -تعالى- واجتناب نواهيه و" حسبتم: {أَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ} 4 في الآخرة لنجازيكم بما عملتم، ولولا ذلك اليوم لما تميَّز المطيع عن العاصي، والصديق عن الزنديق، ويكون هذا الخلق عبثا، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا. وأول ما يقرع سمعك في المصحف من الأمر -بعد ما بيَّن الله مراتب الخلق بين مؤمن وكافر ومنافق-: {اأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} 5 وقال -تعالى-: {اعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} 6 أمر -تعالى- بعبادته وحده لا شريك له، فإنه الخالق الرازق المتفضل على خلقه بآلائه في جميع الحالات، فهو المستحق منهم أن يوحدوه في عبادته لا يشركوا به شيئا من مخلوقاته، كما قال صلى الله عليه وسلم لمعاذ: "أتدري ما حق الله على العباد؟ قال: الله ورسوله أعلم. قال: أن يعبدوه لا يشركوا به شيئا. ثم قال: أتدري ما حق العباد على الله إذا هم فعلوا ذلك؟ أن لا يعذبهم"7. [الاخلاص والاتباع شرطا العبادة] وللعبادة شرطان: "أحدهما": الإخلاص في العمل لقوله -تعالى-: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} 8 أي: الملة المستقيمة، والشريعة المتبعة، وإنما أضاف الدين للقيمة، وهي نعته لاختلاف اللفظين، وأنَّث القيمة ردا إلى الملة، وقيل: القيمة جمع القيم. واحتجَّ بهذه الآية من قال: الإيمان عبارة عن القول والاعتقاد، والعمل هو الدين؛ لأنه -تعالى- ذكر في هذه الآية مجموع هذه الثلاثة قال: {وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} 9 أي: وذلك المذكور دين القيمة؛ لأن الدين هو الإسلام، والإسلام هو الإيمان

_ 1 مسلم: البر والصلة والآداب "2577". 2 سورة المؤمنون آية: 115. 3 سورة القيامة آية: 36. 4 سورة المؤمنون آية: 115. 5 سورة البقرة آية: 21، 22. 6 سورة النساء آية: 36. 7 البخاري: التوحيد "7373" , ومسلم: الإيمان "30" , والترمذي: الإيمان "2643" , وابن ماجه: الزهد "4296" , وأحمد "3/ 260 ,5/ 228 ,5/ 229 ,5/ 230 ,5/ 234 ,5/ 236 ,5/ 238 ,5/ 242". 8 سورة البينة آية: 5. 9 سورة البينة آية: 5.

لقوله -تعالى-: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْأِسْلامُ} 1 والإسلام هو الإيمان من وجهين: "الأول": أن الإيمان لو كان غير الإسلام لما كان مقبولا عند الله لقوله -تعالى-: {مَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْأِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} 2 ولكن الإيمان بالإجماع مقبول عند الله، فلا شك أنه عين الإسلام كما هو ظاهر. "والوجه الثاني": قوله -تعالى-: {أَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} 3. وقال بعضهم: الإشارة في ذلك راجعة إلى الإخلاص من قوله -تعالى-: {مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} 4 وأما مجموع ما تقدم فهو الدين الكامل أي: المستقل بنفسه. "والشرط الثاني": متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم بفعل ما أمر به، وترك ما نهى عنه، كما قال -تعالى-: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي} 5 وقال -تعالى-: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} 6. [أولو الأمر الذين أمر الله بطاعتهم] قال الأخفش في قوله: "عن أمره" صلة، والمعنى يخالفون أمره صلى الله عليه وسلم وقال غيره: عن أصلية، والمعنى يعرضون عن أمره، ويميلون عن سنته، وقال -تعالى-: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} 7. وكان سبب نزول قوله -تعالى-: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ} 8 الآية، أنه كان صلى الله عليه وسلم يُعَرِّضُ في الخطبة بالمنافقين ويعيبهم، فإذا سمع المنافقون ذلك خرجوا ولم يصلوا. "والثانية": نزلت في أموال الفيء والغنيمة، والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فهو عام في كل ما أمر به صلى الله عليه وسلم ونهى عنه من قول وعمل، كما هو جارٍ في جميع الخطاب المتعلق بأفعال المكلفين، فكيف وقد أوجب الله طاعته بقوله -تعالى-: {اأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} 9؟ قال ابن عباس وجابر: "هم الفقهاء والعلماء الذين يُعَلِّمُون الناس معالم دينهم على شريعته ومنهاجه"، وهو قول الحسن والضحاك ومجاهد مستدلين على ذلك بقوله: {وَلَوْ

_ 1 سورة آل عمران آية: 19. 2 سورة آل عمران آية: 85. 3 سورة الذاريات آية: 35، 36. 4 سورة الأعراف آية: 29. 5 سورة آل عمران آية: 31. 6 سورة النور آية: 63. 7 سورة الحشر آية: 7. 8 سورة النور آية: 63. 9 سورة النساء آية: 59.

رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ} 1. وقال أبو هريرة: "هم الأمراء والولاة الذين يُعَلِّمُون ويحكمون بما أنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم. وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه "حق على الإمام أن يحكم بما أنزل الله، ويؤدي الأمانة، فإذا فعل ذلك فحق على الرعية أن يسمعوا ويطيعوا". وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن أطاع أميري فقد أطاعني، ومن عصى أميري فقد عصاني"2. وعن نافع عن عبد الله بن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "السمع والطاعة على المرء المسلم فيما أحب وكره ما لم يؤمر بمعصية، فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة"3. وقال عبادة بن الصامت: "بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في اليسر والعسر، وأن نقوم -أو نقول- بالحق حيثما كنا، لا نخاف في الله لومة لائم"4. وعن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "اسمع وأطع ولو لعبد حبشي كأن رأسه زبيبة"5. وعن أبي أمامة قال: "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب في حجة الوداع فقال: يا أيها الناس اتقوا الله، وصلوا خمسكم، وصوموا شهركم، وأدوا زكاة أموالكم، وأطيعوا ذا أَمْرِكُمْ تدخلوا جنة ربكم"6. فطاعة هؤلاء من طاعته صلى الله عليه وسلم الواجبة على كل مكلف، وقال -تعالى-: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} 7 أي: إلى كتاب الله وإلى رسوله في حياته، وبعد وفاته إلى سنته. [وجوب رد المتنازع فيه إلى الله ورسوله] وقال مجاهد -وغير واحد من السلف-: هذا أمر من الله عزوجل بأن كل شيء تنازع الناس فيه من أصول الدين وفروعه يرد التنازع في ذلك إلى كتاب الله

_ 1 سورة النساء آية: 83. 2 البخاري: الأحكام "7137" , ومسلم: الإمارة "1835" , والنسائي: البيعة "4193" والاستعاذة "5510" , وابن ماجه: المقدمة "3" والجهاد "2859" , وأحمد "2/ 244 ,2/ 252 ,2/ 270 ,2/ 313 ,2/ 342 ,2/ 386 ,2/ 467 ,2/ 471 ,2/ 511". 3 البخاري: الأحكام "7144" , ومسلم: الإمارة "1839" , والترمذي: الجهاد "1707" , وأبو داود: الجهاد "2626" , وابن ماجه: الجهاد "2864" , وأحمد "2/ 17 ,2/ 142". 4 البخاري: الأحكام "7199" , ومسلم: الحدود "1709" , والنسائي: البيعة "4149 ,4151 ,4152 ,4153 ,4154" , وابن ماجه: الجهاد "2866" , وأحمد "3/ 441 ,5/ 318 ,5/ 319 ,5/ 325" , ومالك: الجهاد "977". 5 البخاري: الأذان "693" , وابن ماجه: الجهاد "2860" , وأحمد "3/ 114 ,3/ 171". 6 الترمذي: الجمعة "616" , وأحمد "5/ 251 ,5/ 262". 7 سورة النساء آية: 59.

وسنة رسوله، كما قال -تعالى-: {مَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} 1 فما حكم به كتاب الله وسنة رسوله فهو الحق {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ} 2؛ ولهذا قال -تعالى-: {إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} 3 أي: ردوا الخصومات والجهالات إلى كتاب الله وسنة رسوله، فتحاكموا إليهما فيما شجر بينكم إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر، فدلَّ على أن من لم يتحاكم في مجال النزاع إلى الكتاب والسنة، ولم يرجع إليهما في ذلك فليس مؤمنا بالله واليوم الآخر. فالرد إلى الكتاب والسنة واجب لصريح الأمر، وتعليق الإيمان عليه وجودا وعدما؛ لأن الوعيد عائد إلى قوله: "فردوه" والشرط جوابه محذوف عند جمهور البصريين، أي: فردوه إلى الله وهو المتقدم عند غيرهم، كما جاء الوعيد في قوله: {لا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} 4 فالوعيد عائد إلى التحكيم، و"لا" أصلية، والمعنى: ليس الأمر كما يزعمون أنهم آمنوا وهم يخالفون حكمك، ثم استأنف بعد ذلك، فعلى هذا يكون الوقف على "لا" تاما، وقيل: إن "لا" مزيدة لتأكيد معنى القسم، كما زيدت في: {لئلا يعلم} 5. وقد جاء في الحديث: "والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به". وسبب نزول هذه الآية ما رواه ابن أبي حاتم عن أبي الأسود قال: "اختصم رجلان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقضى بينهما، فقال الذي قضى عليه: ردنا إلى عمر بن الخطاب. فقال: نعم. فانطلقا إليه، فقال الرجل: يا ابن الخطاب: قضى لي رسول الله صلى الله عليه وسلم على هذا، فقال: ردنا إلى عمر فردنا إليك. فقال: أكذلك؟ فقال: نعم. فقال عمر: مكانك حتى أخرج إليكما فأقضي بينكما، فخرج إليهما مشتملا على سيفه فضرب الذي قال ردنا إلى عمر، فقتله وأدبر الآخر فارا إلى رسول الله، فقال: يا رسول الله: قتل عمر والله صاحبي، ولو ما أني أعجزته لقتلني. فقال رسول الله: كنت

_ 1 سورة الشورى آية: 10. 2 سورة يونس آية: 32. 3 سورة النساء آية: 59. 4 سورة النساء آية: 65. 5 سورة الحديد آية: 29.

ما أظن أن يتجرَّأ عمر على قتل مؤمن"فأنزل الله: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} 1 الآية. فهدر دم ذلك الرجل، وبريء عمر منه، فعلى هذا تكون الآية متعلقة بما قبلها، وهو أقرب للمقام من السبب الآتي ذكره، وبه قال مجاهد وعطاء والشعبي وغيرهم من علماء السلف. وقيل: إن هذه الآية نزلت في أنصاري مجهول، وقيل: في حاطب بن أبي بلتعة الأنصاري البدري 2 حين اختصم مع الزبير عند رسول الله في سقيا ماء، فحكم صلى الله عليه وسلم للزبير فقال حاطب: ابن عمتك، فتلوَّن وجه النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية. وعلى هذا تكون الآية مستأنفة حينئذ "الراج مسايل الماء"3 {ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا} 4 قال مجاهد: شكا، وقال غيره: ضيقا {مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} 5 أي: انقادوا لأمرك.

_ 1 سورة النساء آية: 65. 2 ليس في البدريين من الأنصار رجل اسمه حاطب بن أبي بلتعة، وإنما فيهم حاطب بن عمرو، كذا في هامش الأصل. ولكن لهذا القيل أصلا أخرجه ابن أبي حاتم من مراسيل سعيد بن المسيب -وهي أقوى المراسيل-، قال: نزلت في الزبير بن العوام، وحاطب بن أبي بلتعة، وأخذ بهذه الرواية الثعلبي وعنه الواحدي وغيرهما، وَعُدَّ بيانا لرواية البخاري عن عروة عن عبد الله بن الزبير أنه حدَّثه أن رجلا من الأنصار خاصم الزبير عند النبي -صلى الله عليه وسلم- في شراج الجرة التي يسقون بها النخل إلخ، ولما كان حاطب هذا مهاجريا أنصاريا قال بعض العلماء في توجيه الجمع بين الروايتين: إنه كان حليفا للأنصار، وقد سمَّى هذا الأنصاري بعض الرواة بأسماء أخرى، منها قول الواحدي: إنه ثعلبة بن حاطب، وقال بعضهم: إنه كان من المنافقين، والصواب الاكتفاء باتهامه كما فعل البخاري. 3 صواب هذه الكلمة الشراج ككتاب، وهو مفرد جمعه شراج وشروج كبحار وبحور، وهي مسائل الماء التي اختصم فيها الزبير مع الأنصاري، ولم تذكر هنا، ولعلها سقطت من قلم النساخ. 4 سورة النساء آية: 65. 5 سورة النساء آية: 65.

[معنى كلمة التوحيد "لا إله إلا الله"] وقال صلى الله عليه وسلم "وكل ما ليس عليه أمرنا فهو رد"1، 2 وقال صلى الله عليه وسلم "إياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار"3 أي: صاحبها فلا يعبد الله إلا بما شرع على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم. ومعنى لا إله إلا الله: توحيده في عبادته مع التبرئ من كل معبود سواه، كما أخبر الله عن نبيه إبراهيم -عليه السلام- بقوله -تعالى-: {إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ} 4 وهذا هو الذي تضمَّنه قول لا إله إلا الله، فإنما دعت الرسل أممها إلى قول هذه الكلمة، واعتقاد معناها، والعمل به لا بمجرد قولها باللسان. ومعناها: هو إفراد الله بالإلهية والعبادة، والنفي لما يُعْبَد من دونه، والبراءة منه كما حكى الله عن إبراهيم -عليه السلام -: {إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ} 5 وقال صلى الله عليه وسلم "من قال لا إله إلا الله، وكفر بما يعبد من دونه حرم ماله ودمه وحسابه على الله"6 رواه مسلم فحينئذ من لا يكفر بكل معبود سوى الله لا يحرم دمه وماله، ولا يكون مسلما بمجرد التلفظ بلا إله إلا الله إلا إذا أضاف إليها الكفر بما يعبد من دون الله، ولا بمعرفة معناها مع التلفظ بها بل ولا كونه لا يدعو إلا الله، ولم يكفر بما يعبد من دون الله لم يكن مسلما بذلك فلا يحرم ماله ودمه، فهذا أصل لا مرية فيما تضمنه، ولا شك فيه، وأنه لا يتم إيمان أحد حتى يعلمه، ويعمل به. "فإن قيل": قد أنكر صلى الله عليه وسلم على أسامة قتله لمن قال: لا إله إلا الله؟ "فالجواب": أنه لا شك أن من قال: لا إله إلا الله من الكفار حُقِنَ دمه وماله حتى يتبين منه ما يخالف ما قاله؛ ولذا أنزل الله في قصته: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا} 7 الآية، فإن تبيَّن التزامه لمعناها، وهو إفراد الإلهية والعبودية لله -تعالى- كان له ما للمسلمين، وعليه ما عليهم، وإن تبيَّن خلافه لم يُحْقَنْ

_ 1 البخاري: الصلح "2697" , ومسلم: الأقضية "1718" , وأبو داود: السنة "4606" , وابن ماجه: المقدمة "14" , وأحمد "6/ 73 ,6/ 146 ,6/ 180 ,6/ 240 ,6/ 256 ,6/ 270". 2 المعروف من رواية البخاري ومسلم من حديث عائشة وغيرهما: "من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد". 3 أبو داود: السنة "4607" , والدارمي: المقدمة "95". 4 سورة الزخرف آية: 26، 27. 5 سورة الزخرف آية: 26، 27. 6 مسلم: الإيمان "23" , وأحمد "3/ 472". 7 سورة النساء آية: 94.

بمجرد التلفظ ماله ودمه، وهكذا كل من أظهر التوحيد وجب الكفُّ عنه إلى أن يتبين منه ما يخالف ذلك. [وقوع الشرك في توحيد الألوهية دون الربوبية] واعلم أن التوحيد قسمان: القسم الأول: توحيد الربوبية والخالقية ونحوها، ومعناه: أن الله وحده هو الخالق للعالم، وهو الرب لهم والرازق لهم، وهذا لا ينكره المشركون، ولا يجعلون لله فيه شريكا، بل هم مقرُّون به كما أخبر الله عنهم في غير موضع من كتابه. والقسم الثاني: توحيد العبادة، ومعناه: إفراد الله وحده بجميع أنواع العبادة الآتي بيانها، فهذا هو الذي جعلوا لله فيه شركاء، ولفظ شريك يشعر بالإقرار بالله -تعالى-. فالرسل -عليهم السلام- بُعِثُوا لتقرير الأول، ودعاء المشركين لله عند قولهم في خطاب المشركين: {أفِي اللَّهِ شَكٌّ} 1 {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ} 2 ولنهيهم عن شرك العبادة، وكذلك قال -تعالى-: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ} 3 أي: قائلين لأممهم: {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ} 4 وحده {وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} 5 وهو كل ما يعبد من دون الله، فأفاد بقوله -تعالى-: {فِي كُلِّ أُمَّةٍ} 6 أن جميع الأمم لم ترسل إليهم الرسل، وتبعث إلا بطلب توحيد العبادة لا للتعريف بأن الله هو الخالق للعالم، وأنه رب السماوات والأرض، فإنهم مقرون بذلك؛ ولهذا لم ترد الآيات في الغالب إلا بصيغة استفهام التقرير نحو: {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ} 7 {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ} 8 {أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} 9 {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} 10 {فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ} 11 {أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ} 12 استفهام تقرير لهم؛ لأنهم به مقرون. وبهذا يُعْرَف أن المشركين لم يتخذوا الأوثان والأصنام، ولم يعبدوها ولم يتخذوا المسيح وأمه، ولم يتخذوا الملائكة شركاء لله -تعالى- في خلق السماوات والأرض وفي خلق أنفسهم، بل اتخذوهم أولياء يقربونهم إلى الله زلفى كما قالوه، فهم مقرون بالله -تعالى- في نفس كلمات كفرهم، وأنهم شفعاء عند الله -تعالى: {قُلْ

_ 1 سورة إبراهيم آية: 10. 2 سورة فاطر آية: 3. 3 سورة النحل آية: 36. 4 سورة النحل آية: 36. 5 سورة النحل آية: 36. 6 سورة النحل آية: 36. 7 سورة فاطر آية: 3. 8 سورة النحل آية: 17. 9 سورة إبراهيم آية: 10. 10 سورة الأنعام آية: 14. 11 سورة لقمان آية: 11. 12 سورة فاطر آية: 40.

أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} 1 فجعل -سبحانه وتعالى- اتخاذهم للشفعاء شركا ونزَّه نفسه عنه؛ لأنه لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه، فكيف يثبتون شفعاء لم يأذن الله لهم في الشفاعة، ولا يغنون عنهم من الله شيئا؟ {فصل في أنواع العبادة الأربعة} (ودعوة الرسل كلهم إلى جعلها كلها لله وحده) والعبادة أنواع: اعتقادية -وهي أساسها-: وذلك أن يعتقد أنه الرب الواحد الأحد الذي له الخلق والأمر، وبيده النفع والضر، وأنه الذي لا شريك له، ولا يشفع عنده أحد إلا بإذنه، وأنه لا معبود بحق إلا هو، وغير ذلك مما يجب له من لوازم الإلهية. ومنها لفظية: وهي النطق بكلمة التوحيد، فَمَنْ اعتقد ما ذكر ولم ينطق بها لم يُحْقَنْ دمه ولا ماله، وكان كإبليس فإنه يعتقد التوحيد، بل ويقر به، ولم يمتثل أمر الله بالسجود فكفر، ومن نطق ولم يعتقد حُقِنَ ماله ودمه وحسابه على الله، وحكمه حكم المنافقين. وبدنية: كالقيام والركوع والسجود في الصلاة، ومنها الصوم وأفعال الحج والطواف. ومالية: كإخراج جزء من المال امتثالا لما أمر الله -تعالى- به. وأنواع الواجبات والمندوبات في الأبدان والأموال والأفعال والأقوال كثيرة، لكن هذه أمهاتها. وإذا تقررت هذه الأمور، فاعلم أن الله -تعالى- بعث الأنبياء -عليهم السلام- من أولهم إلى آخرهم يدعون العباد إلى إفراد الله بالعبادة، لا إلى إثبات أنه خلقهم ونحوه، إذ هم مقرُّون بذلك كما ذكرناه، ولم يعبدوا الأصنام بالخضوع لهم، والتقرب بالنذور والنحر لهم إلا لاعتقادهم أنها تقرِّبهم إلى الله، وتشفع لهم لديه، فأرسل الله الرسل تأمرهم بترك عبادة كل ما سواه، وأن هذا الاعتقاد الذي يعتقدونه في الأنداد باطل، والتقرب إليهم باطل، وأن ذلك لا يكون إلا لله وحده، وأمر عباده أن يقولوا: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} 2.

_ 1 سورة يونس آية: 18. 2 سورة الفاتحة آية: 5.

ولا يصدق قائل هذا إلا إذا أفرد العبادة لله، وإلا كان كاذبا منهيا عن أن يقول هذه الكلمة، إذ معناها: نخصُّك بالعبادة ونفردك بها وهو معنى قوله: {فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ} 1 و {وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ} 2 لما عرف من علم البيان أن تقديم ما حقه التأخير يفيد الحصر، أي: لا تعبدوا إلا الله ولا تعبدوا غيره، ولا تتقوا إلا الله، ولا تتقوا غيره -كما في الكشاف-. فإفراد الله -تعالى- بتوحيد العبادة لا يكون إلا بأن يتم جميعها كلها له، والنداء في الشدائد والرخاء لا يكون إلا لله وحده، والاستغاثة والاستعانة بالله وحده، واللجأ إلى الله، والنذر له، والنحر له، وجميع أنواع العبادة، ومن يفعل شيئا من ذلك لمخلوق من حي أو ميت أو جماد فقد أشرك في العبادة، وصار من يفعل له هذه الأمور إلها لعابديه، سواء كان ملكا أو نبيا أو وليا أو شجرا أو قبرا أو جنيا، وصار بهذه العبادة أو بأي نوع منها عابدا لذلك المخلوق، وإن أقرَّ بالله وعبده، فإن إقرار المشركين بالله وتقربهم إليه لم يخرجهم عن الشرك، وعن وجوب سفك دمائهم وسبي ذراريهم ونهب أموالهم، فإن الله -تعالى- أغنى الشركاء عن الشرك لا يقبل عملا شورك فيه غيره، ولا يؤمن به عبد عَبَدَ معه غيره، كما أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "يقول الله: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملا أشرك فيه معي غيري تركته وشركه"3. وقد عرفت من هذا كله أن من اعتقد في شجر أو حجر أو قبر أو ملك أو حي أو ميت أنه ينفع أو يضر، وأنه يقرب إلى الله أو يشفع عنده في حاجة من حوائج الدنيا بمجرد التشفع به إلى الرب -تعالى-، إلا ما ورد في حديث فيه مقال في حق نبينا صلى الله عليه وسلم أو نحو ذلك- فإنه قد أشرك مع الله غيره، واعتقد ما لا يحل اعتقاده؛ لقوله -تعالى-: {مَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} 4.

_ 1 سورة العنكبوت آية: 56. 2 سورة البقرة آية: 41. 3 مسلم: الزهد والرقائق "2985" , وابن ماجه: الزهد "4202" , وأحمد "2/ 301 ,2/ 435". 4 سورة الكهف آية: 110.

وعن أنس قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "قال الله: يا ابن آدم إنك لو أتيتني بِقُرَابِ الأرض خطايا، ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا لأتيتك بقرابها مغفرة"1، 2. وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: من أراد أن ينظر إلى وصية محمد صلى الله عليه وسلم فليقرأ: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} 3 إلى قوله: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} 4. وعن معاذ بن جبل قال: "كنت رديف النبي صلى الله عليه وسلم على حمار، فقال: يا معاذ أتدري ما حق الله على العباد، وما حق العباد على الله؟ قلت: الله ورسوله أعلم. قال صلى الله عليه وسلم إن حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا، وحق العباد على الله أن لا يعذب من لا يشرك به شيئا. قلت: يا رسول الله: أفلا أبشر الناس؟ قال: لا تبشرهم فيتكلوا"5 أخرجاه في الصحيحين. فصل (في الشرك الأكبر بدعاء غير الله عز وجل) [الدعاء اعتراف بالعبودية والذلة والمسكنة] ومما تساهل فيه الناس من أنواع العبادة دعاء المسألة الذي أخبر الله به -سبحانه وتعالى- عن موسى وهارون بقوله -تعالى-: {رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ} 6 قال العلي العظيم: {قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا} 7 أي: ما سألتماه {فَاسْتَقِيمَا} 8 على دعوة الله إلى أن يأتيهم العذاب. وأخبر -سبحانه وتعالى- عن زكريا -عليه السلام- بقوله: {كهيعص ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا} 9 أي: دعا {رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا} 10 أي: دعا الله سرا في

_ 1 الترمذي: الدعوات "3540". 2 رواه الترمذي وحسنه، والحاكم: وقال صحيح الإسناد. 3 سورة الأنعام آية: 151. 4 سورة الأنعام آية: 153. 5 البخاري: الجهاد والسير "2856" , ومسلم: الإيمان "30" , والترمذي: الإيمان "2643" , وابن ماجه: الزهد "4296" , وأحمد "3/ 260 ,5/ 228 ,5/ 229 ,5/ 230 ,5/ 234 ,5/ 236 ,5/ 238 ,5/ 242". 6 سورة يونس آية: 88. 7 سورة يونس آية: 89. 8 سورة يونس آية: 89. 9 سورة مريم آية: 2. 10 سورة مريم آية: 3.

قومه {قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا} 1 وأخبر -سبحانه وتعالى- عن أيوب -عليه السلام- بقوله: {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ} 2 أي: دعاه {أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ} 3 وقال -تعالى-: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} 4. قال الجمهور: هو أمر بالدعاء الذي هو أخص من العبادة لقوله -تعالى-: {أَسْتَجِبْ لَكُمْ} 5 وقيل: إنه أمر بالعبادة التي هي أعم من الدعاء لقوله -تعالى-: {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي} 6 فأجيب عن ذلك بأن الدعاء اعتراف بالعبودية والذلة والمسكنة، فما يتركه إلا مستكبر عن إظهار العبودية، ولمَّا عبَّر عن العبادة بالدعاء جعل الإثابة استجابة. وعن النعمان بن بشير قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول على المنبر: "الدعاء هو العبادة، ثم قرأ {وقال ربكم ادعوني استجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين} 7 أي: صاغرين أخرجه أبو داود والترمذي، وقال حديث حسن صحيح وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "مَنْ لم يسأل الله يغضب عليه"8 أخرجه الترمذي وعنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ليس شيء أكرم على الله من الدعاء"9 أخرجه الترمذي. [استجابة الدعاء الذي كملت شروطه] فإذا استكملت شروط الدعاء حصلت الإجابة قطعا للوعد الحق؛ ولما رواه أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم "ما من رجل يدعو الله إلا استجاب له، إما أن يعجله له في الدنيا، وإما أن يدخره له في الآخرة، وإما أن يكفر عنه من ذنوبه بقدر ما دعا، ما لم يدعُ بإثم أو قطيعة رحم أو يستعجل. قالوا: يا رسول: وكيف يستعجل؟ قال: يقول: دعوت ولم يستجب لي" وقال -تعالى-: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ} 10. قال ابن عباس: قال يهود المدينة، يا محمد، كيف يسمع ربنا دعاءنا، وأنت تزعم أن بيننا وبين السماء خمسمائة عام وبين كل سماء خمسمائة عام، وغلظ

_ 1 سورة مريم آية: 4. 2 سورة الأنبياء آية: 83. 3 سورة الأنبياء آية: 83: 85. 4 سورة غافر آية: 60. 5 سورة غافر آية: 60. 6 سورة غافر آية: 60. 7 الترمذي: تفسير القرآن "3247" , وابن ماجه: الدعاء "3828". 8 الترمذي: الدعوات "3373" , وابن ماجه: الدعاء "3827". 9 الترمذي: الدعوات "3370" , وابن ماجه: الدعاء "3829". 10 سورة البقرة آية: 186.

كل سماء خمسمائة عام؟ فنزلت هذه الآية 1 وقيل: سأل بعض الصحابة النبي صلى الله عليه وسلم أقريب ربنا فنناجيه أو بعيد فنناديه؟ فنزلت هذه الآية بقوله: {فَإِنِّي قَرِيبٌ} 2 أي: بالعلم لا يخفى عليه شيء. وقال -تعالى-: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ} 3 أي: المكروب من مرض وبلاء ونازلة من نوازل الدهر، فإذا نزلت بأحد نازلة بادر إلى الالتجاء والتضرع إلى الله -تعالى-؛ فيجيب دعوته؛ فيكشف ما به من مرض وكرب وبلاء؛ لأنه لا يقدر على تغيير الحال من فقر إلى غنى، ومن مرض إلى صحة، ومن ضيق إلى سعة، إلا القادر الذي لا يعجز، والقاهر الذي لا يغلب {مَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} 4 تدعونه في جلب النفع وكشف الضر {قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} 5 أي: تتعظون. وقال صاحب الكشاف: "الاضطرار الحال المحوجة إلى الالتجاء، اضطره إلى كذا، والفاعل والمفعول مضطر 6 وهو من أصابه مرض أو فقر أو نازل نزل به أحوجه إلى التضرع إلى الله"، وقال السيد: "الذي لا حول له ولا قوة"، والخلاف لفظي. [الآيات في إبطال الشرك بدعاء غير الله] وقال -تعالى-: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ} 7 أي: ادعوهم ليكشفوا عنكم الضر الذي نزل بكم فإنهم {لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ} 8 من خير وشر {هُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ} 9 أي: لا شريك ولا معين {وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} 10 تكذيبا لهم حيث قالوا: {هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا} 11. وقال -تعالى-: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ} 12 القشرة الرفيعة التي على النواة {إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا} 13 على سبيل الفرض والتقدير؛ لأن لو حرف امتناع {مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ} 14 أي: ما أجابوكم فيما

_ 1 هذا الحديث لا يصح بل هو من الإسرائيليات. 2 سورة البقرة آية: 186. 3 سورة النمل آية: 62. 4 سورة النمل آية: 62. 5 سورة النمل آية: 62. 6 يعني: أن لفظ اسم الفاعل والمفعول واحد لا يظهر الفرق بينهما في النطق لسبب الإدغام. 7 سورة سبأ آية: 22. 8 سورة سبأ آية: 22. 9 سورة سبأ آية: 22. 10 سورة سبأ آية: 23. 11 سورة يونس آية: 18. 12 سورة فاطر آية: 13. 13 سورة فاطر آية: 14. 14 سورة فاطر آية: 14.

سألتموهم {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ} 1 أي: يتبرءون منكم، ومن دعائكم {وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} 2. وقال -تعالى-: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ} 3 وذلك أن المشركين أصابهم قحط شديد حتى أكلوا الكلاب والجيف، فاستغاثوا بالنبي صلى الله عليه وسلم ليدعو لهم، فقال الله عزوجل {قُلِ} 4 للمشركين {ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ} 5 أي: الجوع والقحط {وَلا تَحْوِيلًا} 6 إلى غيركم. والمقصود من الآية حيث قالوا: ليس لنا أهلية أن نشتغل بعبادة الله، فنحن نعبد هؤلاء المقربين إلى الله، وهم الملائكة، ثم إنهم اتخذوا لذلك الملك الذي عبدوه تمثالا وصورة، واشتغلوا بعبادته، فاحتجَّ على بطلان قولهم بهذه الآية، ثم قال -تعالى-: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ} 7 يعني: الذين يدعوهم المشركون {يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ} 8 أي: القربة والدرجة العليا، قال ابن عباس: "هم عيسى وأمه والعزير والملائكة". وقال ابن مسعود: "نزلت هذه الآية في نفر من العرب كانوا يعبدون نفرا من الجن، فأسلم أولئك الجن، ولم يعلم الإنس بذلك، فتمسكوا بعبادتهم، فغيَّرهم الله من حال إلى حال، وأنزل هذه الآية". وقوله -تعالى-: {أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} 9 معناه: أي ينظرون أيهم أقرب إلى الله فيتوسلون به، وقيل: أيهم أقرب يبتغي الوسيلة إلى الله بالعمل الصالح، وعليه الأكثرون {وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ} 10 أي: جنته {وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ} 11 ناره كغيرهم، فإذا كان الملائكة والمسيح والعزير لا يقدرون على كشف الضر وجلب النفع فكيف بغيرهم؟! وقال -تعالى-: {وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ} 12 إن عبدته بشيء من أنواع العبادة {وَلا يَضُرُّكَ} 13 إن تركت عبادته {فَإِنْ فَعَلْتَ} 14 ما نهيتك عنه، فعبدت غيري، أو طلبت النفع، وكشف الضر من غيري {فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ} 15 فهذا الخطاب، وإن كان للنبي صلى الله عليه وسلم فالمراد به غيره؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لم يدعُ من دون الله شيئا ألبتة، فعلى

_ 1 سورة فاطر آية: 14. 2 سورة فاطر آية: 14. 3 سورة الإسراء آية: 56. 4 سورة الإسراء آية: 56. 5 سورة الإسراء آية: 56. 6 سورة الإسراء آية: 56. 7 سورة الإسراء آية: 57. 8 سورة الإسراء آية: 57. 9 سورة الإسراء آية: 57. 10 سورة الإسراء آية: 57. 11 سورة الإسراء آية: 57. 12 سورة يونس آية: 106. 13 سورة يونس آية: 106. 14 سورة يونس آية: 106. 15 سورة يونس آية: 106.

هذا المعنى المراد: ولا تدع من دون الله أيها الإنسان ما لا ينفعك ولا يضرك. [إبطال ما تعلق به المشركون في اتخاذهم آلهة من دون الله] وقال -تعالى-: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ} 1 يعني: الأصنام لا تجيب دعاء عابديها فيما يسألونها {لَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} 2 أي: لا تجيبهم {وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ} 3 أي: لا يسمعون ولا يفهمون {وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} 4 أي: جاحدين، وكل مَنْ دعا من دون الله فيما لا يقدر عليه إلا الله فقد أشرك؛ لأن الدعاء اعتراف بالعبودية، فبدعائه له صيَّره إلها. وقال -تعالى-: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ} 5 يعني: دعوة الصدق، وقال علي: "دعوة الحق: التوحيد". وقال ابن عباس: "دعوة الحق: شهادة أن لا إله إلا الله". والخلاف بينهما لفظي، وقال صاحب الكشاف: دعوة الحق فيها وجهان: "أحدها": أن تضاف الدعوة إلى الحق الذي هو نقيض الباطل على أن الدعوة ملابسة للحق مختصة به، وأنها بمعزل عن الباطل، والمعنى أن الله يدعى؛ فيستجيب الدعوة، ويعطي الداعي سؤاله. "والوجه الثاني": أن تضاف الدعوة إلى الحق الذي هو الله على معنى دعوة الحق الذي يسمع ويجيب، وعن الحسن أنه الحق، وكل دعاء إليه دعوة الحق. {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ} 6 أي: يدعونهم من دون الله {لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْء} 7 أي: لا يجيبونهم فيما يسألونه منهم من نفع ودفع ضر إذا دعوهم {إِلا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ} 8 يعني: أن استجابتهم لهم كاستجابة الماء لمن بسط كفيه إليه يطلب منه أن يبلغ فاه، وكذلك ما يدعونه جمادا لا يحس دعاءهم، ولا يستطيع إجابتهم، وقيل: شبههم في قلة جدوى دعائهم لآلهتهم بمن أراد أن يغرف الماء بيده ليشرب به، فبسطهما ناشرا أصابعه، لا يكون منه في يده شيء، كذلك الذي يدعو الأصنام بأنها لا تضر ولا تنفع، ولا بيده منها شيء، وقال مجاهد: "كالعطشان الذي يرى الماء بعينه من بعيد، وهو يشير بكفيه إلى الماء، ويدعوه بلسانه، فلا يأتيه أبدا". وقال عطاء: "كالعطشان الجالس على شفير البئر، وهو يمد يده إلى الماء فلا هو يبلغ

_ 1 سورة الأحقاف آية: 5. 2 سورة الأحقاف آية: 5. 3 سورة الأحقاف آية: 5. 4 سورة الأحقاف آية: 6. 5 سورة الرعد آية: 14. 6 سورة الرعد آية: 14. 7 سورة الرعد آية: 14. 8 سورة الرعد آية: 14.

الماء، ولا الماء يرتفع إليه، فلا ينفعه بسط الكف إلى الماء، ودعاؤه له، كذلك الذين يدعون الأصنام لا ينفعهم دعاؤهم". وقال ابن عباس: "كالعطشان إذا بسط كفيه إلى الماء لا ينفعه ذلك ما لم يغرف، ولا يبلغ الماء فاه ما دام باسطا كفيه إلى الماء" {وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ} 1 أي: كل مدعو سواه يضل عمن دعاه إذا احتاج إليه، وقال ابن عباس: "إن أصواتهم محجوبة عن الله -تعالى-، وهذا مثل ضربه الله لمن يدعو غيره فيما لا يقدر عليه إلا هو -سبحانه وتعالى-". وقال -تعالى-: {إنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ} 2 أي: ملك لله أمثالكم، لا يملكون لأنفسهم شيئا، فالذي لا يملك لنفسه شيئا من نفع كيف يتصور في حقه النفع لغيره؟! {فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} 3 في دعواكم، وقال -تعالى-: {قُلْ أَرَأَيْتَكُم} 4 يعني: قل يا محمد لهؤلاء الذين تركوا عبادة الله وحده، وعبدوا معه غيره من الأصنام، أخبروني، تقول: أرأيتك، يعني: أخبرني بحالك، وأصله: أرأيتم، والكاف للتأكيد {إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ} 5 قبل الموت، مثل ما نزل بالأمم الماضية من الغرق والخسف والصواعق، ونحو ذلك من العذاب {أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ} 6 أي: القيامة {أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ} 7 في كشف العذاب عنكم {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} 8 في دعواكم. ومعنى الآية: أن الكفار إذا نزل بهم بلاء وشدة رجعوا إلى الله بالتضرع والدعاء، وتركوا الأصنام، فقيل لهم: أترجعون إلى الله في حال الشدة والبلاء، ولا تعبدونه وتطيعونه في اليسر والرخاء، {بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ} 9 من الضر الذي من أجله دعوتموه، وإنما قيد الإجابة بالمشيئة رعاية للمصلحة، وإن كانت جميع الأمور بمشيئته -سبحانه وتعالى- {وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ} 10 أي: تتركون دعاء الأصنام التي تدعونها؛ لأنها لا تضر ولا تنفع، وقيل: المعنى تركتم دعاء الأصنام بمنزلة من قد نسيها، وهذا قول الحسن، فقد نفى الله عما سواه ما يتعلق به المشركون من دعاء غيره من أن يكون له شرك في مثقال ذرة من نفع أو ضر،

_ 1 سورة الرعد آية: 14. 2 سورة الأعراف آية: 194. 3 سورة الأعراف آية: 194. 4 سورة الأنعام آية: 40. 5 سورة الأنعام آية: 40. 6 سورة الأنعام آية: 40. 7 سورة الأنعام آية: 40. 8 سورة الأنعام آية: 40. 9 سورة الأنعام آية: 41. 10 سورة الأنعام آية: 41.

كما قال لنبيه وخليله: {قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلا ضَرًّا إِلا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} 1 وقال: {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ} 2 وقال صلى الله عليه وسلم في حديث ابن مظعون: "ما يدري ما يفعل به"3 وفي رواية "ما يفعل بي، وأنا رسول الله"4. وفي الصحيح عن أنس قال: "شُجَّ النبي صلى الله عليه وسلم يوم أُحُدٍ، فقال: كيف يفلح قوم شجوا نبيهم؟ فنزلت عليه {ليس لك من الأمر شيء} 5 وفيه عن ابن عمر: "أنه سمع النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول -إذا رفع رأسه من الركوع في الركعة الأخيرة من الفجر-: اللهم العن فلانا وفلانا، بعد ما يقول: سمع الله لمن حمده، فأنزل الله عليه {ليس لك من الأمر شيء} 6 و "لما نزل عليه صلى الله عليه وسلم {وأنذر عشيرتك الأقربين} صعد إلى الصفا فقال: يا معشر قريش -أو كلمة نحوها- اشتروا أنفسكم لا أغني عنكم من الله شيئا، ويا عباس بن عبد المطلب لا أغني عنك من الله شيئا، ويا صفية عمة رسول الله لا أغني عنك من الله شيئا، ويا فاطمة بنت محمد لا أغني عنك من الله شيئا، سليني من مالي"7 فإذا كان سيد الأولين والآخرين، وإمام المتقين، وحبيب رب العالمين، لا يملك لنفسه ولا لأقاربه نفعا ولا ضرا، فكيف بغيره ممن لا يعلم حاله مع ربه، ولا مصيره إلى نعيم أو جحيم؟! فإن كان قيل فيمن عبد الملائكة وعيسى وأمه، والله يقول: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} 8. قال ابن القيم*: "في هذه الآية دليل على جواز الخطاب العام وإرادة الخاص من غير بيان تفصيلي ولا إجمالي، فإن لفظة "ما" عام يشمل المعبودين سوى الله، ولم يرد العموم مع تأخير بيان المخصص، فإنه لمَّا نزلت هذه الآية قال ابن الزِّبَعْرَى: والله لألزمن محمدا بهذه الآية، فحضر عند النبي صلى الله عليه وسلم وقال: لقد عُبدت الملائكة وعُبد عيسى، فيجب أن يكون هؤلاء حصب جهنم، وهو خلاف دينك يا محمد،

_ 1 سورة الأعراف آية: 188. 2 سورة الأحقاف آية: 9. 3 البخاري: الجنائز "1243" , وأحمد "6/ 436". 4 البخاري: الجنائز "1243" , وأحمد "6/ 436". 5 مسلم: الجهاد والسير "1791" , والترمذي: تفسير القرآن "3002" , وابن ماجه: الفتن "4027" , وأحمد "3/ 99 ,3/ 178 ,3/ 201 ,3/ 206". 6 البخاري: المغازي "4070" , والنسائي: التطبيق "1078" , وأحمد "2/ 93 ,2/ 147". 7 البخاري: الوصايا "2753" , ومسلم: الإيمان "206" , والنسائي: الوصايا "3646 ,3647" , والدارمي: الرقاق "2732". 8 سورة الأنبياء آية: 98. * لم أجد هذا النقل. [معد الكتاب للمكتبة الشاملة]

فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم ينكر عليه، فنزل بعد حين: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} 1 فقد أطلق العام مع إرادة الخاص، وبين بعد حين". واعترض على هذا الدليل بأنا لا نسلم احتياج الآية إلى البيان، وإنما تحتاج إليه لو دخلت الملائكة وعيسى في عموم الآية، وهو ممنوع؛ لأن "ما" لغير من يعقل، فلا تتناول الملائكة ولا عيسى؛ ولهذا نقل في بعض الروايات أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لابن الزبعرى: "ما أجهلك بلغة قومك، أما علمت أن "ما" لما لا يعقل، و "من" لمن يعقل 2 وإنما نزلت {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى} 3 زيادة بيان لجهل المعترض لا بيانا للآية السابقة. وإن سلم أن كلمة "ما" تشملهم فلا تحتاج الآية إلى البيان أيضا؛ لأن العقل يحكم بخروجهم عن الآية؛ لأن تعذيب الملائكة وعيسى بذنب الغير -وهو عبادة الناس إياهم- غير جائز عقلا، وإنما يجوز تعذيبهم لو كانوا راضين بذلك، وهو مستحيل في حقهم. فصل {في توحيد الأسماء والصفات والمذهب الصحيح في ذلك} [الإيمان بأسماء الله وصفاته] فإذا عرفت ما تقرر من توحيد العبادة فاعلم بأن إيماننا بما ثبت في نعوته -تعالى- كإيماننا بذاته المقدسة، إذ الصفات تابعة للموصوف، فنعقل وجود الباري، ونميِّز ذاته المقدسة عن الأشباه من غير أن نعقل الماهية، فكذلك القول في صفاته، نؤمن بها، ونعقل وجودها، ونعلمها في الجملة من غير تكييف ولا تمثيل، ولا تشبيه ولا تعطيل، ونقول -كما قال السلف الصالح-: آمنا بالله على مراد الله، و {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} 4 فالاستواء معلوم من الكتاب العزيز {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} 5. وكل ما وصف الله به نفسه وجب الإيمان به، كما يجب الإيمان بذاته، والكيف

_ 1 سورة الأنبياء آية: 101. 2 هذا ليس عليه طلاوة كلام الرسول -صلى الله عليه وسلم-. 3 سورة الأنبياء آية: 101. 4 سورة الشورى آية: 11. 5 سورة فصلت آية: 42.

مجهول فيهما لاستحالة تصوره؛ لقوله -تعالى-: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} 1 ومن ليس له مثل لا يمكن التصور في ذاته وصفاته لا شرعا ولا عقلا. ومَن أوَّلَ فقد تصور المستحيل في حقه -سبحانه وتعالى- من المشابهة للحوادث، فما وسعهم مما تصوروه من التشبيه الواقع في أذهانهم إلا الفرار منه إلى التعطيل. فأوَّلوا اليدين بالقدرة، وقد أثبت الله لنفسه يدا وقدرة، وأوَّلوا الاستواء بالاستيلاء المفيد للتجدد والحدوث في الملك، وهو مستحيل في حقه -سبحانه وتعالى- وعطَّلوا صفتين من صفاته، وقد قال -تعالى-: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} 2 وقال -تعالى-: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} 3 وقال -تعالى-: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} 4 وقال -تعالى-: {الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ} 5 إلى غير ذلك من آيات الاستواء. وقال -تعالى-: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} 6 وقال -تعالى-: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ} 7. وقال -تعالى-: {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} 8. وقال -تعالى-: {إلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ} 9 وقال -تعالى-: {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} 10 وقال -تعالى-: {وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} 11 وقال -تعالى- في الملائكة: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} 12 وقال -تعالى -: {مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ} 13. وقال -تعالى-: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى} 14 وقال -تعالى-: {أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} 15 "في" بمعنى "على" كقوله -تعالى-: {فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ} 16 وقوله: {وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} 17 أي: على

_ 1 سورة الشورى آية: 11. 2 سورة الأعراف آية: 54. 3 سورة هود آية: 7. 4 سورة طه آية: 5. 5 سورة الفرقان آية: 59. 6 سورة فصلت آية: 11. 7 سورة البقرة آية: 29. 8 سورة السجدة آية: 5. 9 سورة فاطر آية: 10. 10 سورة آل عمران آية: 55. 11 سورة النساء آية 157 158 12 سورة النحل آية: 50. 13 سورة المعارج آية: 3. 14 سورة غافر آية: 36. 15 سورة الملك آية: 16. 16 سورة التوبة آية: 2. 17 سورة طه آية: 71.

الأرض، وعلى جذوع النخل، وكذلك في السماء، أي: على العرش فوق السماء إلى غير ذلك من نصوص القرآن العظيم جلَّ منزِّله، وتعالى قائله. [الأحاديث المصرِّحة بعلو الله] وأما السنة: فمن الأحاديث الواردة في العلو حديث معاوية بن الحكم السلمي قال: "كانت لي غنم بين أحد والجوانية فيها جارية لي، فاطلعت ذات يوم، فإذا الذئب قد ذهب منها بشاة، وأنا رجل من بني آدم فأسفت، فصككتها، فأتيت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له، فعظم ذلك علي، فقلت: يا رسول الله: أفلا أعتقها؟ قال: ادعها. فدعوتها، فقال لها: أين الله؟ قالت: في السماء قال: مَنْ أنا؟ قالت: أنت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أعتقها فإنها مؤمنة"1 هذا حديث صحيح، أخرجه مسلم وأبو داود والنسائي، وغير واحد من الأئمة في تصانيفهم. وقال عطاء بن يسار: حدثني صاحب الجارية نفسه قال: "كانت لي جارية ترعى"2 الحديث، وفيه: "فمد النبي صلى الله عليه وسلم يده إليها مستفهما: مَنْ في السماء؟ قالت: الله. قال: فمن أنا؟ قالت: أنت رسول الله. قال: أعتقها فإنها مسلمة. "وقال النسائي في تفسيره في قوله -تعالى-: {ثم استوى إلى السماء} 3 أنبأنا قتيبة عن مالك عن هلال بن أسامة عن عمر بن الحكم قال: "أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله: إن جارية لي كانت ترعى غنما لي، فجئتها ففقدت شاة من الغنم، سألتها عنها، فقالت: أكلها الذئب، فأسفت عليها، وكنت رجلا من بني آدم، فلطمت وجهها، وعلي رقبة فأعتقها؟ فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم أين الله؟ قالت: في السماء. قال: فمن أنا؟ قالت: أنت رسول الله. قال: فأعتقها"4 كذا سمَّاه مالك عمر بن الحكم. وعن أبي هريرة قال: "جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بجارية أعجمية فقال: يا رسول الله: إن علي رقبة مؤمنة، فأعتق هذه؟ فقال لها: أين الله؟ فأشارت إلى السماء، قال: فمن أنا؟ فأشارت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم إلى السماء، قال: أعتقها فإنها مؤمنة"5.

_ 1 مسلم: المساجد ومواضع الصلاة "537" , والنسائي: السهو "1218" , وأبو داود: الصلاة "930" والأيمان والنذور "3282". 2 مسلم: المساجد ومواضع الصلاة "537". 3 سورة البقرة آية: 29. 4 مسلم: المساجد ومواضع الصلاة "537" , والنسائي: السهو "1218" , وأبو داود: الصلاة "930" , وأحمد "5/ 448" , ومالك: العتق والولاء "1511". 5 أبو داود: الأيمان والنذور "3284" , وأحمد "2/ 291".

وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم ومعه جارية سوداء أعجمية، فقال: عليَّ رقبة، فهل تجزئ هذه عني؟ فقال: أين الله؟ فأشارت بيدها إلى السماء، فقال: مَنْ أنا؟ قلت: أنت رسول الله. قال: أعتقها فإنها مؤمنة". حديث أسامة بن زيد الليثي عن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب قال: "جاء حاطب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بجارية له فقال: يا رسول الله: إن عليَّ رقبة، فهل تجزئ هذه عني؟ فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم من أنا؟ قالت: أنت رسول الله. قال: فأين ربك؟ فأشارت إلى السماء، قال: أعتقها فإنها مؤمنة" وهو مرسل. حديث جابر بن عبد الله: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في خطبة يوم عرفة: "ألا هل بلغت، فجعل يرفع أصبعه إلى السماء وَيَنْكُبُهَا إليهم ويقول: اللهم اشهد"1 أخرجه مسلم. وحديث أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار، ويجتمعون في صلاة الفجر وصلاة العصر، ثم يعرج الذين باتوا فيكم، فيسألهم وهو أعلم بهم، كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: أتيناهم وهم يصلون، وتركناهم وهم يصلون"2 متفق عليه. وعن أبي رزين العقيلي قال: "قلت: يا رسول الله: أين كان ربنا قبل أن يخلق السماوات والأرض؟ قال: كان في عماء"3 قال أبو عبيد: "العماء: الغمام". وقال خالد بن يزيد الرازي: "أخطأ أبو عبيد إنما العمى مقصور، ولا يدرى أين كان الرب -تعالى-"، وقيل: معناه مقصور لا شيء معه فوق هواء، وما تحته هواء، ثم خلق العرش، ثم استوى عليه. رواه الترمذي وابن ماجه وإسناده حسن. وعن عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء"4 أخرجه أبو داود والترمذي. وعن عبد الله بن مسعود: "ارحم من في الأرض يرحمك من في السماء"5.

_ 1 مسلم: الحج "1218" , وابن ماجه: المناسك "3074" , والدارمي: المناسك "1850". 2 البخاري: مواقيت الصلاة "555" , ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة "632" , والنسائي: الصلاة "485" , وأحمد "2/ 257 ,2/ 312 ,2/ 344 ,2/ 396 ,2/ 486" , ومالك: النداء للصلاة "413". 3 الترمذي: تفسير القرآن "3109" , وابن ماجه: المقدمة "182" , وأحمد "4/ 11 ,4/ 12". 4 الترمذي: البر والصلة "1924" , وأبو داود: الأدب "4941". 5 الترمذي: البر والصلة "1924" , وأبو داود: الأدب "4941".

وعن أنس أن زينب بنت جحش كانت تفتخر على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم تقول: "زوَّجكن أهاليكن، وزوَّجني الله من فوق سبع سماوات" وفي لفظ: أنها قالت للنبي صلى الله عليه وسلم "زوجنيك الرحمن من فوق عرشه" أخرجه البخاري. وعن أبي سعيد الخدري قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء، يأتيني خبر السماء صباحا ومساء؟ "1 متفق عليه. وعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "والذي نفسي بيده ما من رجل يدعو امرأته إلى فراشه فتأبى عليه، إلا كان الذي في السماء ساخطا عليها، حتى يرضى عنها زوجها"2 أخرجه مسلم. وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لما أُلْقِي إبراهيم -عليه السلام- في النار قال: اللهم إنك واحد في السماء، وأنا في الأرض واحد أعبدك" هذا حديث حسن الإسناد .. وعن عبادة بن الصامت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: "من توضَّأ فأحسن الوضوء، ثم قام إلى الصلاة، فأتمَّ ركوعها وسجودها والقراءة فيها، قالت: حفظك الله كما حفظتني، ثم صُعد بها إلى السماء، ولها نور وضوء، وفتحت لها أبواب السماء، حتى يُنْتَهَى بها إلى الله عز وجل فتشفع لصاحبها". وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الميت يحضره الملائكة، فإذا كان الرجل الصالح قالوا: اخرجي أيتها النفس الطيبة كانت في الجسد الطيب، أبشري بروح وريحان ورب غير غضبان، فلا يزال يقال لها ذلك حتى تخرج، ثم تعرج بها إلى السماء التي فيها الله -تعالى-"3 رواه أحمد في مسنده، والحاكم في مستدركه، وهو على شرط البخاري ومسلم. وعن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "بينا أهل الجنة في نعيمهم إذ سطع لهم نور، فيرفعون رءوسهم، فإذا الرب -جلَّ جلاله- قد أشرف عليهم، فقال: السلام عليكم"

_ 1 البخاري: المغازي "4351" , ومسلم: الزكاة "1064" , والنسائي: تحريم الدم "4101" , وأبو داود: السنة "4764" , وأحمد "3/ 68 ,3/ 73". 2 مسلم: النكاح "1736". 3 أحمد "2/ 364".

يا أهل الجنة. فذلك قوله: عزوجل"سلام قولا من رب رحيم" أخرجه ابن ماجه في سننه. وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من تصدَّق بعدل تمرة من كسب طيب -ولا يصعد إلى الله إلا طيب- فإنه يقبلها بيمينه، ويربيها لصاحبها حتى تكون مثل الجبل"1 أخرجه البخاري. وعن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن الله لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يُرْفَعُ إليه عمل الليل قبل النهار، وعمل النهار قبل الليل، حجابه النور -وفي رواية النار- لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه كل شيء أدركه بصره"2 أخرجه الشيخان. وقال صلى الله عليه وسلم لِحُصَيْنٍ: "كم تعد لنفسك من إله؟ قال: سبعة: ستة في الأرض، وواحد في السماء، قال: فأيهم تعد لرهبتك ورغبتك؟ قال: الذي في السماء. فقال له صلى الله عليه وسلم أما إنك لو أسلمت لعلمتك كلمتين ينفعانك، فلما أسلم حصين قال له: قل: "اللهم ألهمني رشدي وعافني من شر نفسي" أخرجه ابن خزيمة في كتاب التوحيد. وروى الشيخان عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لما قضى الله الخلق كتب في كتاب، فهو عنده فوق العرش: إن رحمتي تغلب غضبي"3 وفي رواية للبخاري: "إن الله كتب كتابا، فهو عنده فوق العرش: إن رحمتي سبقت غضبي، فهو مكتوب عنده فوق العرش"4. وفي رواية لهما: "إن الله لما خلق الخلق"5 وعند مسلم: "لما قضى الله الخلق كتب في كتاب كتبه على نفسه، فهو موضوع عنده"6 زاد البخاري "على العرش"7 ثم اتفقا "إن رحمتي تغلب غضبي"8. وعن أبي الدرداء قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من اشتكى منكم أو اشتكى أخ له فليقل: ربنا الله الذي في السماء تقدَّس اسمك، أمرك في السماء والأرض،

_ 1 البخاري: التوحيد "7429". 2 مسلم: الإيمان "179" , وابن ماجه: المقدمة "195" , وأحمد "4/ 405". 3 البخاري: بدء الخلق "3194" , ومسلم: التوبة "2751" , والترمذي: الدعوات "3543" , وابن ماجه: المقدمة "189" والزهد "4295" , وأحمد "2/ 358". 4 البخاري: التوحيد "7554" , وابن ماجه: المقدمة "189" , وأحمد "2/ 257 ,2/ 259 ,2/ 381 ,2/ 397 ,2/ 466". 5 البخاري: الأدب "5987". 6 البخاري: بدء الخلق "3194" والتوحيد "7404 ,7422 ,7453 ,7553 ,7554" , ومسلم: التوبة "2751" , والترمذي: الدعوات "3543" , وابن ماجه: المقدمة "189" والزهد "4295" , وأحمد "2/ 257 ,2/ 259 ,2/ 313 ,2/ 358 ,2/ 381 ,2/ 397 ,2/ 433 ,2/ 466". 7 البخاري: التوحيد "7404" , ومسلم: التوبة "2751" , والترمذي: الدعوات "3543" , وابن ماجه: الزهد "4295" , وأحمد "2/ 313 ,2/ 358 ,2/ 381 ,2/ 433". 8 البخاري: التوحيد "7404" , ومسلم: التوبة "2751" , والترمذي: الدعوات "3543" , وابن ماجه: الزهد "4295" , وأحمد "2/ 433".

كما رحمتك في السماء، اجعل رحمتك في الأرض، واغفر لنا حوبنا وخطايانا، أنت رب الطيبين، أنزل رحمة من رحمتك، وشفاء من شفائك على هذا الوجع. فيبرأ" 1 أخرجه أبو داود. وهكذا حال من يسأل: أين الله؟ يبادر بفطرته، ويقول: في السماء. ففي الخبر مسألتان: "أحدهما": قول السائل: أين الله؟ "وثانيها": قول المسئول: في السماء. فمن أنكر هاتين المسألتين، فإنما ينكر على رسول الله -صلى الله عليه وسلم -؛ لأنه قالهما، وأقرهما من غيره، والعياذ بالله من الإعراض عما وصف الله به نفسه، ووصفه به رسوله. ولم تخبر الرسل بما تستحيله العقول، بل أخبارهم قسمان: "أحدهما": ما يشهد به العقل والنظر. "والثاني": ما لا تدركه العقول بمجردها كالغيوب التي أخبروا بها عن تفاصيل البرزخ، واليوم الآخر، وتفاصيل العقاب والثواب، ولا يكون خبرهم محالا في العقول أصلا. وكل خبر تظن أن العقل يحيله فلا يخلو من أحد أمرين: إما لعدم صحة في النقل أو لفساد في العقل، والعقل الصحيح لا يخالف النص الصريح. [قول الإمام مالك في الاستواء] واختلف السلف في الاستواء، فقال قوم: "استوى بمعنى استقرَّ"، ومنهم ابن عباس -رضي الله عنهما- كما رواه البيهقي في الأسماء والصفات، وهو استقرار يليق بذاته. وقال آخرون -منهم سفيان الثوري والأوزاعي والليث بن سعد وسفيان بن عيينة وعبد الله بن المبارك، وغيرهم من علماء السلف-: "إقرارها وإمرارها كما جاءت بلا كيف". وقال البغوي: "أهل السنة يقولون: الاستواء على العرش صفة الله بلا كيف، يجب على الإنسان الإيمان به، ويكل العلم به إلى الله -عز وجل-". وروى البيهقي بسنده عن عبد الله بن وهب قال: كنا عند مالك بن أنس، فدخل رجل، فقال: يا أبا عبد الله: {الرحمن عفلى العرش استوى} 2 كيف استوى؟ قال:

_ 1 أبو داود: الطب "3892". 2 سورة طه آية: 5.

فأطرق مالك، وأخذته الرحضاء، ثم رفع رأسه، فقال: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} 1 كما وصف نفسه، ولا يقال: كيف؟ وكيف عنه مرفوع، وأنت رجل سوء صاحب بدعة، أخرجوه، فَأُخْرِجَ الرجل. وفي رواية يحيى قال: كنا عند مالك بن أنس، فجاء رجل، فقال: يا أبا عبد الله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} 2 كيف استواؤه؟ فأطرق مالك رأسه حتى علاه الرحضاء، ثم قال: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، وما أراك إلا مبتدعا. [ما ورد في القرآن والأحاديث في صفة وجه الله الكريم] وقال -تعالى-: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} 3 وقال: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ} 4 وقال: {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ} وقال: {نَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ} 5 وقال: {وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ} 6 وقال: {إِلا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى} 7 وقال: {يُرِيدُونَ وَجْهَه} 8. وروى البخاري عن جابر بن عبد الله قال: "لما نزل على النبي صلى الله عليه وسلم {قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم أو من تحت أرجلكم} قال: أعوذ بوجهك "أو يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض" قال: هاتان أهون وأيسر"9. وروى البخاري عن أبي موسى الأشعري قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم "جنتان من فضة، آنيتهما وما فيهما، وجنتان من ذهب، آنيتهما وما فيهما، وما بين القوم وأن ينظروا إلى وجه ربهم عزوجل إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن"10. وروى البخاري عن عتبان بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "حرَّم الله على النار أن تأكل مَنْ قال: لا إله إلا الله. يبتغي بها وجه الله"11. وروى مسلم عن سعد بن أبي وقاص قال: "كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن ستة نفر، فقال المشركون: اطرد هؤلاء عنك، لا يجترئون علينا، وكنت وعبد الله بن مسعود -أظنه قال: وبلال ورجل من هذيل، ورجلان قد نسيت اسمهما- فوقع

_ 1 سورة طه آية: 5. 2 سورة طه آية: 5. 3 سورة القصص آية: 88. 4 سورة الرحمن آية: 27. 5 سورة الإنسان آية: 9. 6 سورة الرعد آية: 22. 7 سورة الليل آية: 20. 8 سورة الأنعام آية: 52. 9 البخاري: تفسير القرآن "4628" , والترمذي: تفسير القرآن "3065" , وأحمد "3/ 309". 10 البخاري: تفسير القرآن "4878" , ومسلم: الإيمان "180" , وأحمد "4/ 416" , والدارمي: الرقاق "2822". 11 البخاري: الصلاة "425" , ومسلم: الإيمان "33".

في نفس النبي صلى الله عليه وسلم ما شاء الله أن يحدث به نفسه، فأنزل الله عز وجل {ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه} الآية. [صفة اليد لله تعالى وما ورد فيها من النصوص] وقال -تعالى-: {اإِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} 1 وقال: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} 2. وروى الشيخان عن أنس بن مالك أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: "يُجْمَعُ المؤمنون يوم القيامة، فيهتمون لذلك، فيقولون: لو استشفعنا على ربنا حتى يريحنا من مكاننا هذا، فيأتون آدم فيقولون: يا آدم: أنت أبو الناس خلقك الله بيده، وأسجد لك ملائكته، وعلَّمك أسماء كل شيء، اشفع لنا إلى ربنا حتى يريحنا من مكاننا هذا"3 وذكر الحديث بطوله. وروى البخاري عن أبي هريرة قال: "أُتِيَ رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما بلحم فَدُفِعَ إليه الذراع، وكانت تعجبه، فنهش منها نهشة ثم قال: أنا سيد الناس يوم القيامة، وهل تدرون لم ذلك؟ "4 قال: فذكر حديث الشفاعة، وفيه: "فيأتون آدم فيقولون: يا آدم: أنت أبو البشر خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه -أظنه قال:- وعلَّمك أسماء كل شيء، اشفع لنا إلى ربك"5. وروى البخاري عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "احتجَّ آدم وموسى، فقال موسى: أنت الذي خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه"6 إلخ. وروى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "احتجَّ آدم وموسى، فقال موسى لآدم: أنت أبونا جئت، وأخرجتنا من الجنة. فقال له آدم: أنت موسى الذي اصطفاك الله بكلامه، وخطَّ لك في الألواح بيده"7 إلخ. وعن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "خلق الله جنات عدن، وغرس أشجارها بيده، فقال لها: تكلَّمي فقالت: "قد أفلح المؤمنون".

_ 1 سورة ص آية: 75. 2 سورة المائدة آية: 64. 3 البخاري: التوحيد "7410" , ومسلم: الإيمان "193" , وابن ماجه: الزهد "4312" , وأحمد "3/ 116 ,3/ 244 ,3/ 247". 4 البخاري: تفسير القرآن "4712" , ومسلم: الإيمان "194" , والترمذي: صفة القيامة والرقائق والورع "2434". 5 البخاري: أحاديث الأنبياء "3340" , ومسلم: الإيمان "194" , والترمذي: صفة القيامة والرقائق والورع "2434" , وأحمد "2/ 435". 6 البخاري: أحاديث الأنبياء "3409" وتفسير القرآن "4738" , ومسلم: القدر "2652" , والترمذي: القدر "2134" , وأبو داود: السنة "4701" , وابن ماجه: المقدمة "80" , وأحمد "2/ 248 ,2/ 264 ,2/ 268 ,2/ 287 ,2/ 314 ,2/ 392 ,2/ 398 ,2/ 448 ,2/ 464" , ومالك: الجامع "1660". 7 البخاري: أحاديث الأنبياء "3409" , ومسلم: القدر "2652" , والترمذي: القدر "2134" , وأبو داود: السنة "4701" , وابن ماجه: المقدمة "80" , وأحمد "2/ 248 ,2/ 264 ,2/ 268 ,2/ 287 ,2/ 314 ,2/ 392 ,2/ 398 ,2/ 448 ,2/ 464" , ومالك: الجامع "1660".

وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "كتب ربكم -تبارك وتعالى- على نفسه بيده قبل أن يخلق الخلق: إن رحمتي سبقت غضبي"1. وعن ابن عمر قال: "خلق الله أربعة أشياء بيده: العرش وجنات عدن وآدم والقلم، واحتجب من الخلق بأربعة: بنار وظلمة ونور فظلمة". وقد تكون اليد في غير هذه المواضع بمعنى القوة، قال الله -تعالى-: {اذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الْأَيْدِ} 2 أي: ذا القوة، وقد تكون بمعنى النعمة، تقول العرب: كم يد لي عند فلان، أي: كم من نعمة لي قد أسديتها إليه، وقال -تعالى-: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} 3 وقال: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ} 4. وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يقبض الله -تبارك وتعالى- الأرض يوم القيامة، ويطوي السماء بيمينه، ثم يقول: أنا الملك، أين ملوك الأرض؟ "5 رواه البخاري. وروى مسلم عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "المقسطون عند الله يوم القيامة على منابر من نور، على يمين الرحمن، وكلتا يديه يمين"6. وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لمَّا خلق الله آدم، ونفخ فيه الروح عطس، فقال: الحمد لله. فحمد الله بإذن الله، فقال له ربه: رحمك ربك يا آدم، وقال له: يا آدم: اذهب إلى أولئك الملائكة، إلى ملأ منهم جلوس فقل: السلام عليكم. فذهب وسلَّم، قالوا: وعليك السلام ورحمة الله وبركاته. ثم رجع إلى ربه، فقال: هذه تحيتك وتحية بنيك. فقال الله -تبارك وتعالى له، ويداه مقبوضتان-: أيهما شئت؟ فقال: اخترت يمين ربي، وكلتا يدي ربي يمين مباركة، ثم بسطها فإذا فيها آدم وذريته"وذكر الحديث. وسُئِلَ عمر بن الخطاب عن قوله -تعالى-: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ

_ 1 مسلم: التوبة "2751" , وابن ماجه: المقدمة "189" , وأحمد "2/ 259 ,2/ 381 ,2/ 397". 2 سورة ص آية: 17. 3 سورة الزمر آية 67. 4 سورة الحاقة آية 44: 46. 5 البخاري: الرقاق "6519" , ومسلم: صفة القيامة والجنة والنار "2787" , وابن ماجه: المقدمة "192" , وأحمد "2/ 374" , والدارمي: الرقاق "2799". 6 مسلم: الإمارة "1827" , والنسائي: آداب القضاة "5379" , وأحمد "2/ 159 ,2/ 160 ,2/ 203".

ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} 1 الآية. فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عنها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "خلق الله آدم، ثم مسح ظهره بيمينه، فاستخرج منه ذرية، فقال: خلقت هؤلاء للجنة، وبعمل أهل الجنة يعملون، ثم مسح ظهره، واستخرج منه ذرية، فقال: خلقت هؤلاء للنار، وبعمل أهل النار يعملون، فقال رجل: يا رسول الله: فَفِيمَ العمل؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله إذا خلق الرجل للجنة استعمله بعمل أهل الجنة حتى يموت على عمل من أعمال أهل الجنة؛ فيدخله به الجنة، وإذا خلق الرجل للنار استعمله بعمل أهل النار؛ فيدخله به النار". وعن هشام بن حكيم أن رجلا أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "يا رسول الله: أنبتدأ الأعمال أم قد قضى القضاء؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله أخذ ذرية بني آدم من ظهورهم، وأشهدهم على أنفسهم، ثم أفاض بهم في كفيه، فقال: هؤلاء للجنة، وهؤلاء للنار، فأهل الجنة ميسرون لعمل أهل الجنة، وأهل النار ميسرون لعمل أهل النار". [صفة اليمنى والأصبع لله تعالى] وروى مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ما تصدَّق أحد بصدقة من طيب، ولا يقبل الله إلا الطيب إلا أخذها الرحمن بيمينه -وإن كانت تمرة - فتربو في كفِّ الرحمن حتى تكون أعظم من الجبل، كما يُرَبِّي أحدكم فَلُوَّهُ أو فَصِيلَهُ"2 وقال صلى الله عليه وسلم "من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب، ولا يصعد إلى الله إلا طيب، فإن الله رضي الله عنه يتقبلها بيمينه فيربيها لصاحبها كما يربي أحدكم فلوه حتى يكون مثل أحد"3 أخرجه البخاري. وروى البخاري عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "يمين الله ملأى لا يغيضها نفقة، سَحَّاءُ الليل والنهار، أرأيتم ما أنفق منذ خلق السماوات والأرض؟ فإنه لم ينقص مما في يمينه -قال:- وعرشه على الماء، وبيده الأخرى القسط يرفع ويخفض"4.

_ 1 سورة الأعراف آية 172. 2 مسلم: الزكاة "1014" , والترمذي: الزكاة "661" , والنسائي: الزكاة "2525" , وابن ماجه: الزكاة "1842" , وأحمد "2/ 418". 3 البخاري: الزكاة "1410" , ومسلم: الزكاة "1014" , والترمذي: الزكاة "661" , والنسائي: الزكاة "2525" , وابن ماجه: الزكاة "1842" , وأحمد "2/ 331" , ومالك: الجامع "1874" , والدارمي: الزكاة "1675". 4 البخاري: التوحيد "7419" , ومسلم: الزكاة "993" , والترمذي: تفسير القرآن "3045" , وابن ماجه: المقدمة "197" , وأحمد "2/ 242 ,2/ 313 ,2/ 500".

وروى مسلم عن عبد الله بن مسعود قال: "أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل من أهل الكتاب، فقال: يا أبا القاسم: أَبَلَغَكَ أن الله عز وجل يجعل السماوات على أصبع، والأرضين على أصبع، والشجر على أصبع، والثرى على أصبع، والخلائق على أصبع؟ فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه، فأنزل عز وجل {وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه} "1. وروى البخاري عن عبد الله بن مسعود قال: "جاء حبر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد -أو يا رسول الله-: إن الله جعل السماوات على أصبع، والأرضين على أصبع، والجبال على أصبع، والشجر على أصبع، والماء والثرى على أصبع، وسائر الخلق على أصبع، فيهزهنَّ، ويقول: أنا الملك. قال: فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه تصديقا لقول الحبر، ثم قرأ {وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه} "2 إلخ. وروى الشيخان عن عبد الله بن مسعود قال: "جاء حبر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد: إن الله يضع السماء على أصبع، والأرضين على أصبع، والجبال على أصبع، والشجر على أصبع، وسائر الخلق على أصبع، ثم يقول: أنا الملك. فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: {ما قدروا الله حق قدره} 3 وفي رواية: "والماء والثرى على أصبع، وسائر الخلق على أصبع، يهزهنَّ"4 وفيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم "ضحك حتى بدت نواجذه عجبا وتصديقا له، ثم قرأ: {ما قدروا الله حق قدره} 5 الآية. وروى الشيخان عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "يطوي الله السماوات يوم القيامة، ثم يأخذهن بيمينه، ثم يقول: أنا الملك. أين الجبارون؟ أين المستكبرون؟ ثم يطوي الأرضين بشماله، ثم يقول: أنا الملك. أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟ "6 وفي رواية يقول: "إن الله يقبض أصابعه ويبسطها، ثم يقول: أنا الملك. أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟ "7 وفي رواية يقول: "أنا الله، ويقبض أصابعه ويبسطها، ثم يقول: أنا

_ 1 البخاري: تفسير القرآن "4811" , ومسلم: صفة القيامة والجنة والنار "2786" , والترمذي: تفسير القرآن "3238" , وأحمد "1/ 378 ,1/ 429 ,1/ 457". 2 البخاري: تفسير القرآن "4811" , ومسلم: صفة القيامة والجنة والنار "2786" , والترمذي: تفسير القرآن "3238" , وأحمد "1/ 378". 3 البخاري: التوحيد "7451" , ومسلم: صفة القيامة والجنة والنار "2786" , والترمذي: تفسير القرآن "3238" , وأحمد "1/ 378 ,1/ 429 ,1/ 457". 4 البخاري: التوحيد "7513" , ومسلم: صفة القيامة والجنة والنار "2786" , والترمذي: تفسير القرآن "3238" , وأحمد "1/ 378 ,1/ 429 ,1/ 457". 5 البخاري: التوحيد "7415" , ومسلم: صفة القيامة والجنة والنار "2786" , والترمذي: تفسير القرآن "3238" , وأحمد "1/ 378 ,1/ 429 ,1/ 457". 6 البخاري: التوحيد "7413" , ومسلم: صفة القيامة والجنة والنار "2788" , وابن ماجه: المقدمة "198" والزهد "4275" , وأحمد "2/ 87". 7 مسلم: صفة القيامة والجنة والنار "2788" , وابن ماجه: المقدمة "198" والزهد "4275".

الملك. حتى نظرت إلى المنبر يتحرَّك من أسفله حتى إني أقول: أَسَاقِطٌ هو برسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟ "1 هذا لفظ مسلم والبخاري: "إن الله يقبض يوم القيامة الأرضين، وتكون السماوات بيمينه، ويقول: أنا الملك"2. وروى البخاري عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "يقبض الله الأرض، ويطوي السماء بيمينه، ثم يقول: أنا الملك. أين ملوك الأرض؟ "3 وقال صلى الله عليه وسلم "قلوب الخلائق بين أصبعين من أصابع الرحمن، يُقَلِّبُهَا كيف يشاء"4. [صفة القدم لله وإتيانه في ظلل من الغمام] وروى البخاري عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا تزال جهنم تقول: هل من مزيد؟ حتى يضع رب العزة فيها قدمه، فتقول: قَطْ قَطْ وعزتك، وينزوي بعضها إلى بعض"5. وروى البخاري عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "تحاجَّت الجنة والنار، فقالت النار: أُوثِرْتُ بالمتكبرين والمتجبرين. وقالت الجنة: فما لي لا يدخلني إلا ضعفاء الناس وسقطهم؟ قال الله عز وجل للجنة: إنما أنت رحمتي أرحم بك من أشاء من عبادي. وقال للنار: أنت عذابي أعذب بك من أشاء من عبادي، ولكل واحدة منكما ملؤها، فأما النار فلا تمتلئ حتى يضع الله فيها رجله، فتقول: قَطْ قَطْ قَطْ، فهنالك تمتلئ، وينزوي بعضها إلى بعض، ولا يظلم الله من خلقه أحدا، وأما الجنة فإن الله ينشئ لها خلقا"6 وقال -تعالى-: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ} 7 وقال -تعالى-: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} 8 وقال -تعالى-: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ} 9. وقد ذكر الإمام أبو جعفر ابن جرير هنا حديث الصور بطوله عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو حديث مشهور، وساقه غير واحد من أصحاب الأسانيد وغيرهم، وفيه: "إن الناس إذا اهتموا لموقفهم في العَرَصَات تشفَّعوا إلى ربهم بالأنبياء واحدا بعد واحد، من آدم -عليه السلام- فمن بعده، فكلهم يحيدون حتى ينتهوا إلى

_ 1 مسلم: صفة القيامة والجنة والنار "2788" , وابن ماجه: المقدمة "198" والزهد "4275" , وأحمد "2/ 87". 2 البخاري: التوحيد "7413" , ومسلم: صفة القيامة والجنة والنار "2787 ,2788" , وأحمد "2/ 374" , والدارمي: الرقاق "2799". 3 البخاري: الرقاق "6519" , ومسلم: صفة القيامة والجنة والنار "2787" , وابن ماجه: المقدمة "192" , وأحمد "2/ 374" , والدارمي: الرقاق "2799". 4 الترمذي: القدر "2140" , وابن ماجه: الدعاء "3834". 5 البخاري: الأيمان والنذور "6661" , ومسلم: الجنة وصفة نعيمها وأهلها "2848" , والترمذي: تفسير القرآن "3272" , وأحمد "3/ 134 ,3/ 141 ,3/ 229 ,3/ 234". 6 البخاري: تفسير القرآن "4850" والتوحيد "7449" , ومسلم: الجنة وصفة نعيمها وأهلها "2846" , والترمذي: صفة الجنة "2561" , وأحمد "2/ 276 ,2/ 314 ,2/ 507". 7 سورة البقرة آية: 210. 8 سورة الفجر آية: 22. 9 سورة الأنعام آية: 158.

محمد صلى الله عليه وسلم فإذا جاءوا إليه قال: أنا لها أنا لها، فيذهب ويسجد لله تحت العرش، ويشفع عند الله في أن يأتي لفصل القضاء بين العباد، فيشفعه الله، ويأتي في ظلل من الغمام بعد ما تشقق السماء الدنيا، وينزل ما فيها من الملائكة، ثم الثانية، ثم الثالثة، ثم الرابعة إلى السابعة، وتنزل حملة العرش والكروبيون، وينزل الجبار عز وجل في ظلل من الغمام والملائكة، لهم زجل في تسبيحهم يقولون: سبحان ذي الملك والملكوت، سبحان ذي العرش والجبروت، سبحان الحي الذي لا يموت، سبحان الذي يميت الخلائق ولا يموت، سبوح قدوس رب الملائكة والروح، قدوس قدوس سبحان ربنا الأعلى، سبحان ذي السلطان والعظمة، سبحانه أبدا أبدا". وعن عبد الله بن عمرو في قوله: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ} 1 الآية قال: "يهبط حين يهبط وبينه وبين خلقه سبعون ألف حجاب، منها: النور والظلمة والماء، فيصوت الماء في تلك الظلمة صوتا تنخلع منه القلوب". وعن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يجمع الله الأولين والآخرين لميقات يوم معلوم، قياما شاخصة أبصارهم إلى السماء، ينظرون فصل القضاء، وينزل الله في ظلل من الغمام من العرش إلى الكرسي"وعن مجاهد: {فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ} قال: "هو السحاب، ولم يكن قط إلا لبني إسرائيل في تيههم". وقال أبو العالية: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ} فالملائكة يجيئون في ظلل من الغمام، والله -تعالى- يجيء فيما شاء، وهي في بعض القراءة: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ} وهي كقوله: {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلًا} 2. [نزول الرب سبحانه وكلماته] وقال صلى الله عليه وسلم "ينزل ربنا إلى سماء الدنيا"3 الحديث. وقال الله -تعالى-: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا} 4 وقال: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ

_ 1 سورة البقرة آية: 210. 2 سورة الفرقان آية: 25. 3 البخاري: الجمعة "1145" , ومسلم: صلاة المسافرين وقصرها "758" , والترمذي: الصلاة "446" والدعوات "3498" , وأبو داود: الصلاة "1315" والسنة "4733" , وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها "1366" , وأحمد "2/ 258 ,2/ 264 ,2/ 267 ,2/ 282 ,2/ 419 ,2/ 487 ,2/ 504 ,2/ 521" , ومالك: النداء للصلاة "496" , والدارمي: الصلاة "1478 ,1479". 4 سورة الكهف آية: 109.

مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ} 1. وقال: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} 2 ولم يقل: حتى يرى خلق الله. وقال: {يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ} 3 وقال: {يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ} 4 وقال: {اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ} 5 وقال: {وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ} 6 قال: {وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ} 7. وقال: {وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ} 8 وقال: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} 9 وقال: {إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ} 10 وقال: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرائيلَ بِمَا صَبَرُوا} 11. وروى البخاري عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "تكفَّل الله عز وجل لمن جاهد في سبيله لا يخرجه من بيته إلا الجهاد في سبيله، وتصديق كلماته أن يدخله الجنة، أو يرجعه إلى مسكنه الذي خرج منه مع ما نال من أجر وغنيمة"12. وروى مسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "تكفَّل الله لمن جاهد في سبيله لا يخرجه من بيته إلا جهاد في سبيله، وتصديق كلمته بأن يدخله الجنة، أو يرجعه إلى مسكنه الذي خرج منه مع ما نال من أجر وغنيمة"13. وعن أبي موسى الأشعري قال: "أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل، فقال: يا رسول الله، الرجل يقاتل شجاعة، ويقاتل حمية، ويقاتل رياء، أي ذلك في سبيل الله؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم مَنْ قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله"14 رواه مسلم. وروى البخاري عن ابن عباس قال: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يعوذ الحسن والحسين، أعيذكما بكلمات الله التامة من كل شيطان وهامة، ومن كل عين لامة، ثم يقول: كان أبوكما يعوذ بهما إسماعيل وإسحاق"15.

_ 1 سورة لقمان آية: 27. 2 سورة التوبة آية: 6. 3 سورة البقرة آية: 75. 4 سورة الفتح آية: 15. 5 سورة الكهف آية: 27. 6 سورة الزمر آية: 71. 7 سورة الأنفال آية: 7، 8. 8 سورة يونس آية: 82. 9 سورة هود آية: 119. 10 سورة يونس آية: 96 97 11 سورة الأعراف آية: 137. 12 البخاري: فرض الخمس "3123" , ومسلم: الإمارة "1876" , والنسائي: الجهاد "3122 ,3123" والإيمان وشرائعه "5029 ,5030" , وابن ماجه: الجهاد "2753" , وأحمد "2/ 231 ,2/ 384 ,2/ 399 ,2/ 494" , ومالك: الجهاد "974" , والدارمي: الجهاد "2391". 13 البخاري: فرض الخمس "3123" والتوحيد "7457 ,7463" , ومسلم: الإمارة "1876" , والنسائي: الجهاد "3122" , ومالك: الجهاد "974" , والدارمي: الجهاد "2391". 14 البخاري: التوحيد "7458" , ومسلم: الإمارة "1904" , والترمذي: فضائل الجهاد "1646" , والنسائي: الجهاد "3136" , وأبو داود: الجهاد "2517" , وابن ماجه: الجهاد "2783" , وأحمد "4/ 392 ,4/ 397 ,4/ 401 ,4/ 405 ,4/ 417". 15 البخاري: أحاديث الأنبياء "3371" , والترمذي: الطب "2060" , وأبو داود: السنة "4737" , وابن ماجه: الطب "3525" , وأحمد "1/ 236 ,1/ 270".

وعن خولة بنت حكيم أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا نزل أحدكم منزلا فليقل: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق، فإنه لا يضره شيء حتى يرتحل منه"1. قال يعقوب بن عبد الله عن القعقاع بن حكيم عن ذكوان عن أبي هريرة أنه قال: "جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله: ما لقيت من عقرب لدغني البارحة، قال: أما أنك لو قلت حين أمسيت أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق لم تضرك" رواه مسلم ومالك والترمذي. وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا كلمات نقولهن عند النوم من الفزع: بسم الله، أعوذ بكلمات الله التامة من غضبه وعقابه، وشر عباده، ومن همزات الشياطين، وأن يحضرون"2 فكان عبد الله بن عمرو يعلمها من بلغ من ولده، ومن لم يبلغ كتبها وعلقها عليه. فاستعاذ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر أن يستعاذ في هذه الأخبار بكلمات الله -تعالى- كما أمره الله -جل ثناؤه- أن يستعيذ به فقال: {وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ} 3 وقال: {فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} 4 ولا يصح أن يستعيذ المخلوق بالمخلوق، فدَّل أنه استعاذ بصفة من صفات ذاته، وهي غير مخلوقة كما أمره الله أن يستعيذ بذاته، وذاته غير مخلوقة. قال البيهقي: روى ميسرة عن علي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول عند مضجعه: "اللهم إني أعوذ بوجهك الكريم، وبكلماتك التامة من شر ما أنت آخذ بناصيته، اللهم أنت تكشف المغرم والمأثم، لا يُهْزَمُ جندُك، ولا يُخْلفُ وعدُك، ولا ينفع ذا الجد منك الجد، سبحانك وبحمدك". فاستعاذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بكلمات الله كما استعاذ بوجهه الكريم، فكما أن وجهه الذي استعاذ به غير مخلوق، فكذلك كلماته التي استعاذ بها غير

_ 1 مسلم: الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار "2708" , والترمذي: الدعوات "3437" , وابن ماجه: الطب "3547" , وأحمد "6/ 377 ,6/ 378 ,6/ 409" , والدارمي: الاستئذان "2680". 2 الترمذي: الدعوات "3528". 3 سورة المؤمنون آية: 97، 98. 4 سورة النحل آية: 98.

مخلوقة، وكلام الله -تعالى- واحد، وإنما جاء بلفظ الجمع على معنى التفخيم والتعظيم. وهذه الآيات والأحاديث صريحة في أن المسموع كلام الله، وأنه قديم، والقول هو الكلام، قال الله عز وجل {وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي} 1 وقال: {مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ} 2 وقال: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا} 3 وقال: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا} 4 وقال: {سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} 5 وقال: {قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ} 6 فأثبت الله -جل ثناؤه- لنفسه صفة القول في هذه الآيات. وروى البخاري عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا تهجَّد من الليل قال: اللهم لك الحمد، أنت نور السماوات والأرض، ولك الحمد أنت قيم السماوات والأرض ومن فيهن، أنت الحق، ووعدك الحق، وقولك الحق، ولقاؤك الحق، والجنة حق، والنار حق، والنبيون حق، اللهم لك أسلمت، وبك آمنت، وعليك توكلت، وإليك أنبت، وبك خاصمت، وإليك حاكمت، فاغفر لي ما قدَّمت وما أخَّرت، وما أسررت وما أعلنت، أنت إلهي لا إله إلا أنت"7. وقد قال -تعالى-: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} 8 فوصف نفسه بالتكليم، ووكده بالتكرار فقال: {تكليما}. وقال -تعالى-: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ} 9 وذكر في غير آية من كتابه ما كلَّم به موسى -عليه السلام- فقال: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ} 10 إلى قوله: {يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي} 11 وقال: {قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} 12 فهذا كلام سمعه موسى من ربه بلا ترجمان كان بينه وبينه، فدعاه إلى وحدانيته، وأمره بعبادته، وإقامة الصلاة لذكره، وأخبر أنه اصطنعه لنفسه، واصطفاه برسالاته وبكلامه. وروى البخاري عن أبي هريرة قال: قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم "احتجَّ آدم وموسى،

_ 1 سورة يس آية: 7. 2 سورة ق آية: 29. 3 سورة النساء آية: 122. 4 سورة النساء آية: 87. 5 سورة يس آية: 58. 6 سورة ص آية: 84. 7 البخاري: الجمعة "1120" , ومسلم: صلاة المسافرين وقصرها "769" , والترمذي: الدعوات "3418" , والنسائي: قيام الليل وتطوع النهار "1619" , وأبو داود: الصلاة "771" , وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها "1355" , وأحمد "1/ 298 ,1/ 308 ,1/ 358" , ومالك: النداء للصلاة "500" , والدارمي: الصلاة "1486". 8 سورة النساء آية: 164. 9 سورة الأعراف آية: 143. 10 سورة البقرة آية: 253. 11 سورة طه آية: 41. 12 سورة الأعراف آية: 144.

فقال موسى: يا آدم: أنت أبونا خَيَّبْتَنَا وأخرجتنا من الجنة. فقال له آدم: يا موسى: اصطفاك الله بكلامه، وخطَّ لك التوراة أتلومني على أمر قدَّره عليَّ قبل أن يخلقني؟! قال فحجَّ آدم موسى"1. وفي هذا أن موسى كلَّمه الله تكليما، وسمع كلامه بلا واسطة. وأما قوله: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ} 2 فالوحي أول ما أرى الله الأنبياء في منامهم. قال الشافعي -رحمه الله- وغيره من العلماء: "رؤيا الأنبياء وحي لقول ابن إبراهيم لما أُمِرَ أبوه في المنام بذبحه: {افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ} 3". [أنواع تكليم الله تعالى لأنبيائه] وأما الكلام من وراء حجاب: فهو كما كلَّم الله موسى من وراء حجاب. وروى البيهقي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن موسى -عليه السلام- قال: يا رب: أرنا الذي أخرجنا ونفسه من الجنة، فأراه الله عز وجل آدم -عليه السلام-، فقال: أنت أبونا آدم؟ فقال له أبونا آدم: نعم، فقال: أنت الذي نفخ الله فيك من روحه، وعلَّمك الأسماء كلها، وأمر الملائكة فسجدوا لك؟ قال: نعم، قال: فما حملك على أن أخرجتنا ونفسك من الجنة؟ قال له آدم: فمن أنت؟ قال: أنا موسى، قال: أنت نبي بني إسرائيل الذي كلمك الله من وراء حجاب، لم يجعل بينك وبينه رسولا من خلقه؟ قال: نعم"4 إلخ الحديث. وأما الكلام بالرسالة: فهو إرسال الروح الأمين إلى من شاء من عباده، قال الله -تعالى-: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ} 5 والأحاديث في ذلك كثيرة. قال البيهقي: وقد كان لنبينا صلى الله عليه وسلم هذه الأنواع الثلاثة: أما الرسالة: فقد كان جبريل يأتيه بها من عند الله عز وجل. وأما الرؤيا في المنام: فقد قال الله -تعالى-: {قَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ} 6. وأما التكليم: فقد قال الله عز وجل {فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} 7 ثم كان فيما أوحى

_ 1 البخاري: أحاديث الأنبياء "3409" وتفسير القرآن "4738" , ومسلم: القدر "2652" , والترمذي: القدر "2134" , وأبو داود: السنة "4701" , وابن ماجه: المقدمة "80" , وأحمد "2/ 248 ,2/ 264 ,2/ 268 ,2/ 287 ,2/ 314 ,2/ 398 ,2/ 448 ,2/ 464" , ومالك: الجامع "1660". 2 سورة الشورى آية: 51. 3 سورة الصافات آية: 102: 104. 4 أبو داود: السنة "4702". 5 سورة الشعراء آية: 192. 6 سورة الفتح آية: 27. 7 سورة النجم آية: 10.

إليه ليلة المعراج خمسين صلاة، فلم يزل يسأل ربه التخفيف لأمته حتى صارت إلى خمس صلوات، وقال له ربه: "ما يبدل القول لدي " وهي بخمسين صلاة"1. [مذاهب الفرق في رؤية الله تعالى وعلوه] وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: "قلنا يا رسول الله: هل نرى ربنا -جل ذكره-؟ قال: هل تضارون في رؤية الشمس إذا كان صحو؟ قلنا: لا. قال: فتضارون في رؤية القمر ليلة البدر إذا كان صحو؟ قلنا: لا. قال: فإنكم لا تضارون في رؤية ربكم إلا كما تضارون في رؤيتهما، ثم ينادي منادٍ: ليذهب كل قوم مع من كانوا يعبدون"2 فذكر الحديث، قال فيه: "فيقول: هل بينكم وبينه آية تعرفونها؟ فيقولون: الساق، فيكشف عن ساقه؛ فيسجد له كل مؤمن، ويبقى من كان يسجد رياء وسمعة، فيذهب كيما يسجد، فيعود ظهره طبقا واحدا"3. وقال صلى الله عليه وسلم "إنكم سترون ربكم عز وجل يوم القيامة كما ترون الشمس لا تُضَامُّون في رؤيتها"4. فأما أهل الحديث والسنة المحضة فإنهم متفقون على إثبات العلو والمباينة والرؤية، والمعتزلة ينفونها، واختلف الأشعرية في العلو واتفقوا على الرؤية بلا مقابلة. قال ابن القيم: من أثبت أحدهما، ونفى الآخر فهو أقرب إلى الشرع والعقل ممن نفاهما؛ لأن الآيات والأحاديث والآثار المنقولة عن الصحابة في دلالتها على العلو والرؤية أعظم من أن تنحصر، وليس مع نفاة الرؤية والعلو ما يصلح أن يذكر من الأدلة الشرعية، وإنما يزعمون أن عندهم أدلة عقلية. فقول الأشعرية المتناقضين في العلو خير من قول المعتزلة النافين للرؤية والعلو، وذلك أنا إذا عرضنا على العقل وجود موجود لا يشار إليه، ولا يصعد إليه شيء، ولا ينزل منه شيء، ولا هو داخل العالم، ولا هو خارجه، ولا ترفع الأيدي إليه، ولا هو فوق ولا تحت ولا يمين ولا شمال ولا خلف ولا إمام، كانت الفِطَرُ تنكر ذلك، والعقول الصحيحة؛ لأنه لو قيل لك: صف شيئا بالعدم لما قلت أكثر من ذلك كما قاله الحافظ الذهبي.

_ 1 البخاري: الصلاة "349" , والترمذي: الصلاة "213" , والنسائي: الصلاة "449 ,450" , وأحمد "3/ 161". 2 ابن ماجه: المقدمة "179" , وأحمد "3/ 16". 3 البخاري: التوحيد "7440". 4 البخاري: التوحيد "7436" , ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة "633" , والترمذي: صفة الجنة "2551" , وأبو داود: السنة "4729" , وابن ماجه: المقدمة "177" , وأحمد "4/ 360 ,4/ 362 ,4/ 365".

[الأدلة على رؤية الله تعالى]: [قوله تعالى: لن تراني] وقد تمسَّك مَنْ نفى الرؤية من أهل البدع والخوارج والمعتزلة وبعض المرجئة بقوله: {لَنْ تَرَانِي} 1 وقال: "لن" تكون لتأييد النفي ودوامه، والمعتزلة لا يشهد لهم بذلك كتاب ولا سنة، وما قالوه في أن "لن" للتأبيد خطأ بيِّن، وليس يشهد لما قالوه نص عن أهل اللغة والعربية. ويدل على ذلك قوله -تعالى- في اليهود: {وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا} 2 مع أنهم يتمنون الموت يوم القيامة، ويدل عليه قوله -تعالى-: {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} 3. وقوله {يَالَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ}. وقد اتفق على الرؤية الأنبياء والمرسلون وجميع الصحابة والتابعين، وأئمة الإسلام على تتابع القرون، وأنكرها أهل البدع المارقون والجهمية المهوكون والفرعونيون المعطلون والباطنية الذين هم من جميع الأديان منسلخون، والرافضة الذين هم بحبائل الشيطان متمسكون، وعن حبل الله منقطعون، ولكل عدو لله ورسوله ولأمته مسالمون، وكل هؤلاء عن ربهم محجوبون، وعن بابه مطرودون، أولئك أحزاب الضلال شيعة اللعين، وقد قال -تعالى-: {لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا} 4. فبيان الدلالة من هذه الآية على الرؤية من وجوه عديدة: "أحدها": أنه لا يظن بكليم الرحمن أن يسأل ربه ما لا يجوز عليه، بل ذلك من أبطل الباطل، وأعظم المحال، فيالله العجب كيف صار اتباع الصابئة والمجوس والمشركين وفروخ الجهمية والفرعونية أعلم بما يجب لله، ويستحيل عليه، وأشد تنزيها له من رسوله وكليمه؟! "الوجه الثاني": أن الله -سبحانه- لم ينكر عليه سؤاله، ولو كان محالا لأنكره عليه؛ ولهذا لما سأل إبراهيم الخليل ربه أن يريه كيف يحيي الموتى لم ينكر عليه، ولما سأل عيسى ابن مريم ربه أن ينزل مائدة من السماء لم ينكر سؤاله، ولما سأل

_ 1 سورة الأعراف آية: 143. 2 سورة البقرة آية: 95. 3 سورة الحاقة آية: 27. 4 سورة الأعراف آية: 143.

نوح ربه نجاة ابنه أنكر عليه سؤاله وقال {إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} 1. "الوجه الثالث" أنه أجابه بقوله: {لَنْ تَرَانِي} 2 ولم يقل: إني لا أرى، ولا: إني لست بمرئي، أو: لا تجوز رؤيتي، والفرق بين الجوابين ظاهر لمن تأمله، وهذا يدل على أنه -سبحانه- مرئي، ولكن موسى لا تحمل قواه رؤيته في هذا الدار، لضعف قوة البشر عن رؤيته -تعالى-. يوضحه: "الوجه الرابع" وهو قوله: {وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي} 3 فأعلمه أن الجبل مع قوته وصلابته لا يثبت، لتجليه له في هذه الدار، فكيف بالبشر الضعيف، الذي خلق من ضعف؟ "الوجه الخامس" أن الله -سبحانه- قادر على أن يجعل الجبل مستقرا مكانه، وليس هذا بممتنع في مقدوره، بل هو ممكن، وقد علق به الرؤية، ولو كانت محالا في ذاتها لم يعلقها بالممكن في ذاته. "الوجه السادس" قوله: {لَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا} 4 وهذا من أبين الأدلة على جواز رؤيته -تبارك وتعالى- فإنه إذا جاز أن يتجلى للجبل، الذي هو جماد لا ثواب له ولا عقاب، فكيف يمتنع أن يتجلى لأنبيائه ورسله وأوليائه في دار كرامته، ويريهم نفسه؟ فأعلم -سبحانه- موسى -عليه السلام- أن الجبل إذا لم يثبت لرؤيته في هذه الدار، فالبشر أضعف. "الوجه السابع" أن الله -سبحانه- قد كلمه منه إليه، وخاطبه وناجاه وناداه، ومن جاز عليه التكلم والتكليم، وسمع كلامه بغير واسطة فرؤيته أولى بالجواز، ولهذا لا يتم إنكار الرؤية إلا بإنكار التكليم. وقد جمعت هذه الطوائف بين إنكار الأمرين فأنكروا أن يكلم الله أحدا أو يراه

_ 1 سورة هود آية: 46، 47. 2 سورة الأعراف آية: 143. 3 سورة الأعراف آية: 143. 4 سورة الأعراف آية: 143.

أحد، ولهذا سأله موسى النظر إليه لما أسمعه كلامه، وعلم نبي الله جواز رؤيته من وقوع خطابه وتكليمه، ولم يخبر -سبحانه- باستحالة ذلك عليه، ولكن أراه أن ما سأله لا يقدر على احتماله، كما لم يثبت الجبل لتجليه. وأما قوله: {لَنْ تَرَانِي} 1 فإنما يدل على النفي في المستقبل، ولا يدل على دوامه، ولو قيد بالتأبيد فكيف إذا أطلق كما قال تعالى: {وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا} 2 مع قوله: {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} 3. [قوله تعالى: واتقوا الله واعلموا أنكم ملاقوه] والدليل الثاني قوله -تعالى -: {اتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ} 4 وقوله -تعالى-: {تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ} 5 وقوله -تعالى-: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ} 6 وقوله -تعالى-: {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ} 7. وأجمع أهل اللسان أن اللقاء متى نُسِب إلى الحي السليم من العَمى والمانع اقتضى المعاينةَ والرؤيةَ، ولا ينتقض هذا بقوله -تعالى-: {فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ} 8. فقد دلت الأحاديث الصحيحة والصريحة على أن المنافقين يرونه في عرصات القيامة، بل والكفار أيضا كما في الصحيحين من حديث التجلي يوم القيامة. وفي هذه المسألة ثلاثة أقوال لأهل السنة: "أحدها": أنه لا يراه إلا المؤمنون. "والثاني": يراه المؤمن والمنافق. "والثالث": يراه جميع أهل الموقف، مؤمنهم وكافرهم، ثم يحتجب عن الكفار، فلا يرونه بعد ذلك، والأقوال الثلاثة في مذهب أحمد، وهي لأصحابه، وكذلك الأقوال الثلاثة بعينها في تكلمه لهم، ولشيخ الإسلام في ذلك مصنف مفرد*، حكى فيه الأقوال الثلاثة، وحجج أصحابها. وكذلك قوله -سبحانه وتعالى-: {يَا أَيُّهَا الْأِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ} 9 إن عاد الضمير على العمل فهو رؤيته في الكتاب مسطورا، وإن عاد على الرب -تعالى- فهو لقاؤه الذي وعد به.

_ 1 سورة الأعراف آية: 143. 2 سورة البقرة آية: 95. 3 سورة الزخرف آية: 77. 4 سورة البقرة آية: 223. 5 سورة الأحزاب آية: 44. 6 سورة الكهف آية: 110. 7 سورة البقرة آية: 46. 8 سورة التوبة آية: 77. * لم أجده في مطبوعات الرسائل المفردة لشيخ الإسلام، فلينظر إن كان قد طبع ضمن المجاميع أو لا. [معد الكتاب للمكتبة الشاملة] 9 سورة النشقاق آية: 6.

[قوله تعالى: والله يدعوا إلى دار السلام] "والدليل الثالث" قوله -تعالى-: {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} 1 فالحسنى: الجنة، والزيادة: النظر إلى وجهه الكريم، وكذلك فسرها الذي أنزل عليه القرآن صلى الله عليه وسلم والصحابة بعده. كما رواه مسلم في صحيحه، من حديث حماد بن سلمة، عن ثابت عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن صهيب رضي الله عنه قال: قرأ صلى الله عليه وسلم {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} 2 ثم قال: "إذا دخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار، نادى مناد: يا أهل الجنة: إن لكم عند الله موعدا، يريد أن ينجزكموه فيقولون: ما هو؟ ألم يثقل موازيننا، ويبيض وجوهنا ويدخلنا الجنة ويخرجنا من النار؟! فيكشف الحجاب فينظرون إليه، فما أعطاهم شيئا أحب إليهم من النظر إليه، وهي الزيادة"3. وروى الحسن عن أنس بن مالك قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} قال: " {للذين أحسنوا العمل في الدنيا الحسنى} وهي: الجنة، والزيادة: النظر إلى وجه الله -تعالى-". وروى محمد بن جرير، عن كعب بن عجرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله -تعالى-: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} قال: "الزيادة النظر إلى وجه الرحمن" وروى أبو العالية عن أبي بن كعب قال "سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله -تعالى-: للذين أحسنوا الحسنى وزيادة قال: الحسنى الجنة والزيادة النظر إلى الله عز وجل"4 وقال أبو بكر رضي الله عنه الزيادة هي النظر إلى وجه الله. وقال حذيفة رضي الله عنه هي النظر إلى وجه ربهم. وقال أبو موسى الأشعري: هي النظر إلى وجه الرحمن، وقال وهو يخطب الناس في جامع البصرة: إن الله عز وجل يبعث ملكا إلى أهل الجنة فيقول: يا أهل الجنة هل أنجزكم الله ما وعدكم؟ فينظرون إلى الحلي والحلل والأنهار والأزواج

_ 1 سورة يونس آية: 25، 26. 2 سورة يونس آية: 26. 3 الترمذي: صفة الجنة "2552" وتفسير القرآن "3105" , وابن ماجه: المقدمة "187" , وأحمد "4/ 332 ,4/ 333 ,6/ 15". 4 الترمذي: صفة الجنة "2552" , وأحمد "6/ 15".

المطهرة فيقولون: نعم قد أنجز الله ما وعدنا، ثم يقول الملك: هل أنجزكم الله ما وعدكم؟ ثلاث مرات، فيقولون: نعم، فيقول: قد بقي لكم شيء؟ إن الله يقول {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} ألا إن الحسنى الجنة، والزيادة النظر إلى وجه الله الكريم. وقال ابن عباس وابن مسعود -رضي الله عنهما-: الحسنى الجنة، والزيادة النظر إلى وجه الله، والقتر السواد. وقال عبد الرحمن بن أبي ليلى، وعامر بن سعد، وإسماعيل بن عبد الرحمن السدي، والضحاك، وعبد الرحمن بن سابط، وأبو إسحاق السبيعي، وقتادة، وسعيد بن المسيب، والحسن، وعكرمة مولى ابن عباس، ومجاهد: "الحسنى" الجنة، "والزيادة": النظر إلى وجه الله. ولما عطف -سبحانه وتعالى- الزيادة على الحسنى التي هي الجنة، دل على أنها أمر آخر وراء الجنة، وقدر زائد عليها، ومن فسر الزيادة بالمغفرة والرضوان فهو من لوازم رؤية الرب -تبارك وتعالى-. [قوله تعالى: كلا بل ران على قلوبهم] والدليل الرابع: قوله -تعالى-: {كَلا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ كَلا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} 1. ووجه الاستدلال بها أنه -سبحانه- جعل من أعظم عقوبة الكفار كونهم محجوبين عن رؤيته وسماع كلامه، فلو لم يره المؤمنون، ويسمعوا كلامه كانوا أيضا محجوبين عنه. وقد احتج بهذه الحجة الإمام الشافعي وغيره من الأئمة، فذكره الطبراني وغيره عن المزني قال: سمعت الشافعي يقول في قول الله عز وجل {كَلا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} 2 قال: فيها دليل على أن أولياء الله يرون ربهم يوم القيامة. وقال الحاكم: حدثنا الأصم، حدثنا الربيع، قال: حضرت محمد بن إدريس الشافعي، وقد جاءته رقعة من الصعيد فيها: ما تقول في قوله: {كَلا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ

_ 1 سورة المطففين آية:14، 15. 2 سورة المطففين آية: 15.

يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} 1 قال: لما حجب هؤلاء في السخط كان في هذا دليل على أن أولياءه يرونه في الرضاء. [قوله تعالى {لهم ما يشاءون فيها}] "والدليل الخامس": قوله عز وجل {لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} 2 قال الطبراني: قال علي بن أبي طالب، وأنس بن مالك: هو النظر إلى وجه الله عز وجل. [قوله تعالى لا تدركه الأبصار] "والدليل السادس": قوله عز وجل {لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ} 3 والاستدلال بهذه الآية عجيب فإنه من أدلة نفاة الرؤية. وقد قرر شيخ الإسلام ابن تيمية وجه الاستدلال بها أحسن تقرير، وقال*: لا يحتج مبطل بآية، أو حديث صحيح على باطله إلا وفي ذلك الدليل ما يدل على نقيض قوله. فمنها هذه الآية، وهي على جواز الرؤية أدل منها على امتناعها، فإنه -سبحانه- ذكرها في سياق التمدح، ومعلوم أن المدح إنما يكون بالأوصاف الثبوتية، وأما العدم المحض فليس بكمال، ولا يتمدح به. وإنما يمدح الرب -تعالى- بالعدم إذا تضمن أمرا وجوديا، كتمدحه -سبحانه وتعالى- بنفي السنة والنوم المتضمن كمال القيومية، ونفي الموت المتضمن كمال الحياة، ونفي اللغوب والإعياء المتضمن كمال القدرة، ونفي الشريك والصاحبة والولد والظهير المتضمن كمال ربوبيته وإلهيته وقهره، ونفي الأكل والشرب المتضمن كمال صمديته، وغناه عن خلقه، ونفي الظلم المتضمن كمال عدله وعلمه وغنائه، ونفي النسيان وعزوب شيء عن علمه المتضمن كمال علمه وإحاطته، ونفي المثل المتضمن كمال ذاته وصفاته. ولهذا لم يتمدح بعدم محض لا يتضمن أمرا ثبوتيا، فإن المعدوم يشارك الموصوف في ذلك العدم، ولا يوصف الكامل بأمر يشترك هو والمعدوم فيه. فلو كان المراد بقوله: {لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} 4 أنه لا يرى بحال لم يكن في ذلك مدحا ولا كمالا لمشاركة المعدوم له في ذلك، فإن العدم الصرف الذي لا يرى، ولا

_ 1 سورة المطففين آية: 15. 2 سورة ق آية: 35. 3 سورة الأنعام آية: 103. * النقل التالي من طريق كتاب "حادي الأرواح" للإمام ابن القيم ص 293 - 295، ولم أجده فيما وقفت عليه من كتب شيخ الإسلام ابن تيمية. [معد الكتاب للمكتبة الشاملة] 4 سورة الأنعام آية: 103.

تدركه الأبصار. والرب -جل جلاله- يتعالى أن يمدح بأمر يشاركه فيه العدم المحض، فالمعنى أنه يرى ولا يدرك ولا يحاط به، كما كان المعنى في قوله: {وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ} 1 أنه يعلم كل شيء، وفي قوله: {وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} 2 أنه كامل القدرة. وفي قوله: {وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} 3 أنه كامل العدل، وفي قوله: {لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} 4 أنه كامل القيومية. وقوله: {لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} 5 يدل على غاية عظمته، وأنه أكبر من كل شيء، وأنه لعظمته لا يدرك بحيث لا يحاط به، فإن الإدراك هو الإحاطة بالشيء، وهو قدر زائد على الرؤية كما قال تعالى: {فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ قَالَ كَلا} 6 فلم ينف موسى الرؤية، ولم يريدوا بقولهم إنا لمدركون: لمرئيون. فإن موسى -عليه السلام- نفى إدراكهم إياهم بقوله: "كلا". فأخبر الله -سبحانه- أنه لا يخاف دركهم بقوله: {وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لا تَخَافُ دَرَكًا وَلا تَخْشَى} 7 فالرؤية والإدراك كل منهما يوجد مع الآخر وبدونه، فالرب -تعالى- يرى ولا يدرك، كما يعلم، ولا يحاط به، وهذا الذي فهمه الصحابة والأئمة. قال ابن عباس: {لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} 8 لا تحيط به الأبصار. فالمؤمنون يرون ربهم -تبارك وتعالى- بأبصارهم عيانا، ولا تدركه أبصارهم بمعنى أنها لا تحيط به، وهكذا يسمع كلامه من يشاء من خلقه، ولا يحيطون بكلامه، وكذلك يعلم الخلق ما علمهم، ولا يحيطون بعلمه. ونظير هذا استدلالهم على نفي الصفات بقوله -تعالى-: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} 9. وهذا من أعظم الأدلة على كثرة صفات كماله ونعوت جلاله، وأنها لكثرتها وعظمتها وسعتها لم يكن له مثل فيها، وهكذا جميع العقلاء إنما يفهمون من قول القائل: فلان لا مثل له، وليس له نظير ولا شبيه، أنه قد تميز عن الناس بأوصاف

_ 1 سورة يونس آية: 61. 2 سورة ق آية: 38. 3 سورة الكهف آية: 49. 4 سورة البقرة آية: 255. 5 سورة الأنعام آية: 103. 6 سورة الشعراء آية:61، 62. 7 سورة طه آية: 77. 8 سورة الأنعام آية: 103. 9 سورة الشورى آية: 11.

ونعوت لا يشاركونه فيها، وكلما كثرت أوصافه ونعوته فات، وبعد عن مشابهة أضرابه، فكيف بالحي القيوم الذي لا مثل له في ذاته وصفاته؟ فقوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} 1 من أدل شيء على كثرة نعوته وصفاته. وقوله: {لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} 2 من أدل شيء على أنه يرى، ولا يدرك. [قوله تعالى وجوه يومئذ ناضرة] "والدليل السابع": قوله عز وجل {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} 3 فأنت إذا أخرجت هذه الآية عن تحريفها عن موضوعها، والكذب على المتكلم بها -سبحانه- فيما أراد منها، وجدتها منادية نداء صريحا أن الله -سبحانه- يُرَى عيانا بالأبصار يوم القيامة، وإن أبيت إلا تحريفها الذي يسميه المحرفون: تأويلا، فتأويل نصوص المعاد والجنة والنار والميزان والحساب أسهل على أربابه من تأويلها، وتأويل كل نص تضمنه القرآن والسنة كذلك. ولا يشاء مبطل على وجه الأرض أن يتأول النصوص، ويحرفها عن مواضعها إلا وجد إلى ذلك من السبيل ما وجد متأول مثل هذه النصوص، وهذا الذي أفسد الدين والدنيا. وإضافة النظر إلى الوجه الذي هو محله في هذه الآية، وتعديته بأداة "إلى" الصريحة في نظر العين، وإخلاء الكلام من قرينة تدل على أن المراد بالنظر المضاف إلى الوجه المعدى بإلى، خلاف حقيقته وموضوعه -صريح في أن الله أراد بذلك نظر العين التي في الوجه إلى نفس الرب -جل جلاله-. فإن النظر له عدة استعمالات بحسب صلاته، وتعديه بنفسه، فإن عدي بنفسه فمعناه التوقف والانتظار، كقوله: {انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ} 4 وإن عدي بـ"في" فمعناه التفكر والاعتبار، كقوله: {أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} 5 وإن عدي بـ"إلى" فمعناه المعاينة بالأبصار، كقوله: {انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ} 6 فكيف إذا أضيف إلى الوجه الذي هو محل النظر؟ وكيف وقد قال صلى الله عليه وسلم في قوله -تعالى-: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ} 7 قال "من البهاء والحسن" {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} 8 قال "في وجه الله عز وجل".

_ 1 سورة الشورى آية: 11. 2 سورة الأنعام آية: 103. 3 سورة القيامة آية:22، 23. 4 سورة الحديد آية: 13. 5 سورة الأعراف آية: 185. 6 سورة الأنعام آية: 99. 7 سورة القيامة آية: 22. 8 سورة القيامة آية: 23.

فاسمع أيها الإنسان تفسير النبي صلى الله عليه وسلم والأحاديث الدالة على الرؤية متواترة رواها عنه صلى الله عليه وسلم أبو بكر الصديق، وأبو هريرة، وأبو سعيد الخدري، وجرير بن عبد الله، وصهيب، وعبد الله بن مسعود، وعلي ابن أبي طالب، وأبو موسى الأشعري، وعدي بن حاتم الطائي، وأنس بن مالك الأنصاري، وبريدة بن الحصيب الأسلمي، وأبو رزين وجابر بن عبد الله، وأبو أمامة الباهلي، وزيد بن ثابت، وعمار بن ياسر، وعائشة أم المؤمنين، وعبد الله بن عمر، وسلمان الفارسي، وحذيفة بن اليمان، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وحديثه موقوف، وأبي بن كعب، وكعب بن عجرة، وفضالة بن عبيد، وحديثه موقوف، فمن أراد الاطلاع عليها فليراجعها في مظانها. [قوله تعالى وهو معكم] وقوله -تعالى-: {يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} 1 وهذه الآية من أدل شيء على مباينة الرب لخلقه باستوائه على عرشه، وهو يعلم ما هم فاعلون، ويراهم وينفذهم بصره، ويحيط بهم علما وقدرة وإرادة وسمعا وبصرا، فهذا معنى كونه -سبحانه- معهم أينما كانوا. انتهى كلام ابن القيم. قال الحافظ الذهبي في قوله -تعالى-: {وَهُوَ مَعَكُمْ} 2 هو كما إذا كتبت إلى رجل: إني معك، وأنت غائب عنه. قال ابن عباس: نزلت هذه الآية في ربيعة وحبيب ابني عمر، وصفوان بن أمية؛ كانوا يوما يتحدثون، فقال أحدهم: هل يعلم الله ما نقول؟ وقال الثاني: يعلم البعض دون البعض، وقال الثالث: إن كان يعلم البعض فيعلم الكل. والمراد من قوله -تعالى-: {مَعَكُمْ} 3 كونه -تعالى- عالما بكلامهم وضميرهم وسرهم وإعلانهم، كما قال ابن مسعود رضي الله عنه "العرش فوق الماء، والله فوق العرش لا يخفى عليه شيء من أعمالكم".

_ 1 سورة الحديد آية: 4. 2 سورة الحديد آية: 4. 3 سورة الحديد آية: 4.

وعن زر عن عبد الله قال: "ما بين السماء القصوى وبين الكرسي خمسمائة سنة، وما بين الكرسي والماء خمسمائة سنة، والعرش فوق الماء، والله فوق العرش لا يخفى عليه شيء من أعمال بني آدم". وقال البيهقي: لقد أصاب أبو حنيفة -رحمه الله- فيما نفى عن الله عز وجل من الكون في الأرض، وأصاب فيما ذكر من تأويل الآية، وتبع مطلق السمع بأن الله -تعالى- في السماء. وبلغنا عن أبي مطيع الحكم بن عبد الله البلخي صاحب الفقه الأكبر قال: سألت أبا حنيفة عمن يقول: لا أعرف ربي في السماء، أو في الأرض فقال: قد كفر؛ لأن الله يقول: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} 1 وعرشه فوق سماواته، فقلت: إنه يقول: أقول {عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} 2 ولكن قال: لا يدري العرش في السماء، أو في الأرض؟ فقال: إذا أنكر أنه في السماء فقد كفر. رواها صاحب الفاروق بإسناد عن أبي بكر بن يحيى عن الحكم. وسمعت الفاسي الإمام تاج الدين عبد الخالق بن علوان، قال سمعت الإمام أبا محمد عبد الله بن أحمد المقدسي مؤلف المقنع يقول: بلغني عن أبي حنيفة -رحمه الله- أنه قال: من أنكر أن الله عز وجل في السماء فقد كفر. وقال محمد بن كثير: سمعت الأوزاعي يقول: كنا -والتابعون متوافرون- نقول: إن الله عز وجل فوق عرشه، ونؤمن بما وردت به السنة من صفاته. أخرجه البيهقي في كتاب الأسماء والصفات. وروى أبو إسحاق المفسر قال: سئل الأوزاعي عن قوله -تعالى-: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} 3 قال هو على العرش كما وصف نفسه. وقد سأل الوليد بن مسلم الإمام أبا عمرو الأوزاعي عن أحاديث الصفات، فقال: أمروها كما جاءت

_ 1 سورة طه آية: 5. 2 سورة طه آية: 5. 3 سورة الحديد آية: 4.

ومن كلام هذا الإمام عليك بآثار من سلف، وإياك وآراء الرجال، وإن زخرفوه لك بالقول. وروى عبد الله بن أحمد بن حنبل في كتاب السنة عن مقاتل بن حيان في قوله -تعالى-: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ} 1 قال: هو على عرشه وعلمه معهم. وروى البيهقي بإسناده عن مقاتل بن حيان قال: بلغنا- والله أعلم- في قوله -تعالى-: {هُوَ الأَوَّلُ} 2 قبل كل شيء {وَالآخِرُ} بعد كل شيء {وَالظَّاهِرُ} فوق كل شيء، {وَالْبَاطِنُ} أقرب من كل شيء، وأنه قريب بعلمه، وهو فوق عرشه، وسئل سفيان الثوري عن قوله عز وجل {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} 3 قال علمه. [الله في السماء وعلمه في كل مكان لا يخلو منه] وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل في الرد على الجهمية: حدثني أبي، حدثنا شريح بن النعمان عن عبد الله بن نافع، قال مالك بن أنس: "الله في السماء، وعلمه في كل مكان لا يخلو منه" ولهذا افتتح -سبحانه وتعالى- الآية بالعلم، واختتمها بالعلم بقوله: {أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ} 4 وقوله: {بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} 5 كما قاله الإمام أحمد بن حنبل -رحمه الله-، وقال تعالى: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} 6 وقال: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} 7 وقال: {وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي} 8 وقال فيما أخبر به عن عيسى -عليه السلام-: {عْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ} 9. وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: لا أحد أغير من الله؛ ولذلك حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن، ولا شيء أحب إليه المدح من الله؛ ولذلك مدح نفسه. رواه البخاري في الصحيح عن حفص بن عمر، وأخرجه مسلم من وجه آخر عن سعد، وعنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم "ما أحد أحب إليه المدح من الله ومن أجل ذلك مدح نفسه، وما أحد أغير من الله، ومن أجل ذلك حرم الفواحش"10. وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لما قضى الله الخلق كتب في كتاب كتبه على نفسه، وهو مرفوع فوق العرش أن رحمتي تغلب غضبي"11 رواه مسلم

_ 1 سورة المجادلة آية: 7. 2 سورة الحديد آية: 3. 3 سورة الحديد آية: 4. 4 سورة البقرة آية: 77. 5 سورة البقرة آية: 29. 6 سورة آل عمران آية: 28. 7 سورة الأنعام آية: 54. 8 سورة طه آية: 41. 9 سورة المائدة آية: 116. 10 البخاري: تفسير القرآن "4634" , ومسلم: التوبة "2760" , والترمذي: الدعوات "3530" , وأحمد "1/ 381 ,1/ 425 ,1/ 436" , والدارمي: النكاح "2225". 11 البخاري: بدء الخلق "3194" , ومسلم: التوبة "2751" , والترمذي: الدعوات "3543" , وابن ماجه: المقدمة "189" والزهد "4295" , وأحمد "2/ 358".

في الصحيح. وعنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله -سبحانه- لما خلق الخلق كتب بيده على نفسه: إن رحمتي سبقت غضبي"1. وعنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "التقى آدم وموسى فقال موسى لآدم: أنت آدم الذي أشقيت الناس، وأخرجتهم من الجنة؟ قال: فقال آدم لموسى: أنت موسى الذي اصطفاك الله برسالاته، واصطنعك لنفسه"2 الحديث رواه البخاري في الصحيح. وعن الصلت بن محمد، وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "يقول الله عز وجل أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه حين يذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه، وإن تقرب إلي شبرا تقربت إليه ذراعا، وإن تقرب إلي ذراعا تقربت منه باعا، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة"3 أخرجاه في الصحيح من وجه عن الأعمش. وعن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الله: "ابن آدم اذكرني في نفسك أذكرك في نفسي فإن ذكرتني في ملأ ذكرتك في ملأ من الملائكة، أو قال: في ملأ خير منه"4. وعن أبي ذر الغفاري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الله عز وجل أنه قال: "إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا"5 رواه مسلم في الصحيح. وعن ابن عباس عن جويرية "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بها حين صلى الغداة، أو بعد ما صلى الغداة، وهي تذكر الله، ثم مر بها بعد ما ارتفع النهار، أو بعد ما انتصف النهار، وهي كذلك فقال لها: لقد قلت منذ وقفت عليك كلمات ثلاث مرات هن أكثر أو أرجح، أو أوزن مما كنت فيه منذ الغداة: سبحان الله عدد خلقه، سبحان الله رضى نفسه، سبحان الله زنة عرشه، سبحان الله مداد كلماته" رواه مسلم في الصحيح. وعن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ على المنبر: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} 6 فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "كذا

_ 1 البخاري: بدء الخلق "3194" , ومسلم: التوبة "2751" , والترمذي: الدعوات "3543" , وابن ماجه: المقدمة "189" , وأحمد "2/ 257 ,2/ 259 ,2/ 313 ,2/ 358 ,2/ 381 ,2/ 397 ,2/ 433". 2 البخاري: تفسير القرآن "4736" , ومسلم: القدر "2652" , والترمذي: القدر "2134" , وأبو داود: السنة "4701" , وابن ماجه: المقدمة "80" , وأحمد "2/ 248 ,2/ 264 ,2/ 268 ,2/ 287 ,2/ 314 ,2/ 392 ,2/ 398 ,2/ 448 ,2/ 464" , ومالك: الجامع "1660". 3 البخاري: التوحيد "7405 ,7505" , ومسلم: الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار "2675" , والترمذي: الزهد "2388" والدعوات "3603" , وابن ماجه: الأدب "3822" , وأحمد "2/ 251 ,2/ 413 ,2/ 435 ,2/ 445 ,2/ 480 ,2/ 482 ,2/ 515 ,2/ 517 ,2/ 524 ,2/ 534". 4 أحمد "3/ 138". 5 مسلم: البر والصلة والآداب "2577". 6 سورة الزمر آية: 67.

يمجد نفسه -جل وعز-: أنا الجبار أنا العزيز أنا المتكبر"1 فرجف به المنبر حتى قلنا: ليخر به إلى الأرض. وقال تعالى: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} 2 وقال: {فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} 3 وقال: {وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا} 4. عن نافع أن عبد الله بن عمر أخبره أن المسيح الدجال ذكر بين ظهراني الناس فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن الله ليس بأعور ألا إن المسيح الدجال أعور عينه اليمنى، كأن عينه عنبة طافية"5 رواه البخاري في الصحيح. وعن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ما بعث نبي إلا وقد أنذر أمته الأعور الكذاب ألا إنه أعور وإن ربكم ليس بأعور مكتوب بين عينيه كافر"6 وعن ابن عباس: {وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا} 7 قال: بعين الله -تبارك وتعالى-. [ساق الله وذات الله وما ورد في ذلك] وقال -تعالى-: {وْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ} 8 عن أبي سعيد الخدري أنه قال: "قلنا يا رسول الله: أنرى ربنا -تعالى ذكره-؟ قال: هل تضارون في رؤية الشمس إذا كان صحو؟ قلنا: لا. قال: فتضارون في رؤية القمر ليلة البدر إذا كان صحو؟ قلنا: لا. قال: فإنكم لا تضارون في رؤية ربكم إلا كما تضارون في رؤيتهما، ثم ينادي مناد: ليذهب كل قوم مع من كانوا يعبدون"9. فذكر الحديث، وقال فيه: "فيقول: هل بينكم وبينه آية تعرفونها؟ فيقولون: الساق. فيكشف عن ساقه فيسجد له كل مؤمن، ويبقى من كان يسجد رياء وسمعة، فيذهب كيما يسجد فيعود ظهره طبقا واحدا"10. قال وذكر الحديث رواه البخاري في الصحيح عن ابن بكير، ورواه عن آدم بن إياس عن الليث مختصرا. وقال في الحديث: "يكشف ربنا عن ساقه"11 ورواه مسلم عن عيسى بن حماد الليثي، كما رواه ابن بكير. وروي ذلك أيضا عن عبد الله بن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم. وقال -تعالى-:

_ 1 أحمد "2/ 72". 2 سورة طه آية: 39. 3 سورة الطور آية: 48. 4 سورة هود آية: 37. 5 البخاري: أحاديث الأنبياء "3440" , ومسلم: الإيمان "169" , وأحمد "2/ 27 ,2/ 126". 6 البخاري: الفتن "7131" , ومسلم: الفتن وأشراط الساعة "2933" , والترمذي: الفتن "2245" , وأبو داود: الملاحم "4316" , وأحمد "3/ 103". 7 سورة هود آية: 37. 8 سورة القلم آية: 42، 43. 9 ابن ماجه: المقدمة "179" , وأحمد "3/ 16". 10 البخاري: التوحيد "7440". 11 البخاري: تفسير القرآن "4919".

{عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} 1 وقال: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} 2. وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث ذكره: "إن الله لا ينظر إلى أجسادكم، ولا إلى صوركم، ولكن ينظر إلى قلوبكم، التقوى ههنا، وأشار إلى صدره" 3 رواه مسلم في الصحيح عن أبي الطاهر عن ابن وهب. وعنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله عز وجل لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، ولكن إنما ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم" 4. وعنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله لا ينظر إلى صوركم، ولا إلى أجسامكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم" 5 هذا هو الصحيح المحفوظ فيما بين الحفاظ. فأما الجاري على ألسنة جماعة من أهل العلم وغيرهم: إن الله لا ينظر إلى صوركم، ولا إلى أعمالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم. فهو مخالف للحديث الصحيح، ولقوله -تعالى-: {فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ} 6. وعن محمد بن سيرين عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لم يكذب إبراهيم قط إلا ثلاث كذبات: ثنتين في ذات الله قوله: {إني سقيم}، وقوله: {بل فعله كبيرهم هذا}، وواحدة في شأن سارة: إنها أختي" 7 رواه البخاري في الصحيح عن معبد بن تليد عن ابن وهب، ورواه مسلم عن أبي الطاهر. وعن ابن عباس قال: "تفكر في كل شيء ولا تفكر في ذات الله". وعن أبي الدرداء: "لا تفقه كل التفقه حتى تمقت الناس في ذات الله، ثم تقبل على نفسك فتكون لها أشد مقتا منك للناس". إلى غير هذا من الآيات الصريحة، والأحاديث الصحيحة التي يجب الإيمان بها، والعمل بمقتضاها من غير تحريف وتبديل وتشبيه وتعطيل، بل نثبت ما أثبت الله لنفسه، ونكل علمه إليه، ونقول:

_ 1 سورة الأعراف آية: 129. 2 سورة آل عمران آية: 77. 3 مسلم: البر والصلة والآداب "2564" , وابن ماجه: الزهد "4143" , وأحمد "2/ 284". 4 مسلم: البر والصلة والآداب "2564" , وأحمد "2/ 539". 5 مسلم: البر والصلة والآداب "2564" , وابن ماجه: الزهد "4143". 6 سورة التوبة آية: 105. 7 البخاري: أحاديث الأنبياء "3358" , ومسلم: الفضائل "2371" , والترمذي: تفسير القرآن "3166" , وأبو داود: الطلاق "2212" , وأحمد "2/ 403".

آمنا بالله على مراد الله، كما قاله خير القرون الذين هم بالله وصفاته عارفون من الخلفاء الراشدين، والصحابة، والتابعين، ومن على سننهم من أئمة المسلمين. كما قال أبو المعالي الجويني إمام الحرمين: لقد تأملت الطرق الكلامية، والمناهج الفلسفية، فما رأيتها تشفي عليلا، ولا تروي غليلا، بل هم بين مشبه ومعطل، والطريق المخلص منهما طريق القرآن، اقرأ في الإثبات: {الرحمن على العرش استوى} 1 {لَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} 2 واقرأ في النفي: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} 3 {وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} 4 ومن جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي. [تأويل صفات الله وأفعاله يستلزم ظن السوء به] قال ابن القيم: من ظن أن الله -سبحانه وتعالى- أخبر عن نفسه وصفاته وأفعاله بما ظاهره باطل، وتشبيه وتمثيل، وترك الحقائق المقصودة من كلامه -سبحانه وتعالى-، ورمز إليهم رموزا بعيدة، وأشار إليهم إشارة ملغزة، وصرح بالتشبيه والتمثيل والأمور الباطلة التي لا تجوز عليه، ولا تليق به. وأراد من خلقه أن يبعثوا أذهانهم وقواهم وأفكارهم في تحريف كلامه عن مواضعه، وتأويله على غير تأويله المفهوم من ظاهره، ويتطلبوا له وجوه الاحتمالات المستكرهة شرعا وعقلا، والتأويلات التي هي بالألغاز والأحاجي أشبه منها بالكشف والبيان، وأحالهم في معرفته، وأسمائه، وصفاته على عقولهم وآرائهم، لا على كتابه، بل أراد منهم أن لا يحملوا كلامه على ما يعرفون من خطابهم ولغتهم، مع قدرته على أن يصرح لهم بالحق الذي ينفي التصريح به، ويريحهم من الألفاظ التي توقعهم في الاعتقاد الباطل، فلم يفعل، بل سلك بهم خلاف طريق الهدي والبيان - فقد ظن به ظن السوء. فإنه إن قيل: إنه غير قادر على التعبير عن الحق باللفظ الصريح الذي عبر به هو وسلفه فقد ظن العجز بقدرته. وإن قيل: إنه قادر، ولم يبين، وعدل عن البيان والتصريح بالحق إلى ما يوهم

_ 1 سورة طه آية: 5. 2 سورة فاطر آية: 10. 3 سورة الشورى آية: 11. 4 سورة طه آية: 110.

بل يوقع في الباطل المحال، والاعتقاد الفاسد، فقد ظن بحكمته ورحمته ظن السوء، وظن أنه وسلفه عبروا عن الحق بصريحه دون الله ورسوله، وأن الهدى والحق في كلامهم وعبارتهم، وأما كلام الله، فإنما يؤخذ من ظاهره التشبيه والتمثيل والضلال، وظاهر كلام االمتهوكين الحائرين هو الهدى والحق، هذا من سوء الظن بالله، فكل هؤلاء من الظانين بالله ظن السوء، ومن الظانين بالله غير الحق ظن الجاهلية. [أنواع المبتدعين الظانين بالله ظن السوء] ومن ظن به أنه ليس فوق سماواته على عرشه بائن من خلقه، وأن نسبة ذاته -تعالى- إلى عرشه كنسبتها إلى أسفل السافلين، فقد ظن به ظن السوء، ومن ظن أنه أسفل كما هو أعلى، وأن من قال: سبحان ربي الأسفل، كمن قال: سبحان ربي الأعلى، فقد ظن به أقبح الظن وأسوأه. ومن ظن به خلاف ما وصف به نفسه، أو وصفه به رسوله، أو عطل حقائق ما وصف به نفسه، ووصفه به رسوله، فقد ظن به ظن السوء. ومن ظن به أن أحدا يشفع عنده بغير إذنه، وأن بينه وبين خلقه وسائط يرفعون حوائجهم إليه، وأنه نصب لعباده أولياء من دونه يتقربون بهم إليه، ويتوسلون بهم عليه، ويجعلونهم وسائط بينه وبينهم، فيدعونهم في حاجتهم إليه -سبحانه وتعالى-، فقد ظن به أقبح الظن وأسوأه اهـ. وقال الحافظ الذهبي: وما أدركنا عليه العلماء في جميع الأمصار حجازا، وعراقا، وشاما، ويمنا يقولون: إن الله على عرشه بائن من خلقه، كما وصف نفسه بلا كيف، وأحاط بكل شيء علما، وهكذا يقولون في جميع الصفات القدسية. وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني: مذهبنا واختيارنا اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه والتابعين من بعدهم، والتمسك بمذاهب أهل الأثر مثل الشافعي وأحمد وغيرهم -رحمهم الله-، ونعتقد أن الله عز وجل على عرشه بائن من خلقه {كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} 1.

_ 1 سورة الشورى آية: 11.

[القرآن كلام الله غير مخلوق] وقال محمد بن أسلم الطوسي: القرآن كلام الله غير مخلوق أينما تلي، وحيثما كان لا يتغير، ولا يتبدل، ينقل من المصحف مائة مصحف، وذاك الأول لا يتحول في نفسه، ولا يتغير، وتلقن القرآن ألف نفس، وما في صدرك باق بهيئته، وذاك أن المكتوب والكتابة تعددت، والذي في صدرك واحد، وما في صدور المؤمنين هو عين ما في صدرك، والمتلو واحد، وإن تعدد التالون له، وهو كلام الله ووحيه وتنزيله ليس هو كلامنا أصلا، وتكلمنا به، وتلاوتنا له من أفعالنا، وكذلك كتابتنا له، وأصواتنا به من أعمالنا {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} 1. فالقرآن المتلو مع قطع النظر عن أعمالنا كلام الله ليس بمخلوق، فإذا سمعه المؤمنون في الآخرة من رب العالمين، فالتلاوة إذ ذاك والمتلو ليسا بمخلوقين. وقال عبد الله بن الإمام أحمد: سألت أبي ما تقول في الرجل يقول التلاوة مخلوقة، وألفاظنا بالقرآن مخلوقة، والقرآن كلام الله ليس بمخلوق؟. وكان أبي يكره أن يتكلم في اللفظ بشيء، أو يقال مخلوق، أو غير مخلوق كلام حسن، وإلا فالملفوظ كلام الله، والتلفظ به فمن كسبنا. وقال الإمام أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة في كتابه مختلف الحديث: نحن نقول في قول الله -تعالى-: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ} 2 يعلم ما هم عليه كما إذا وجهت رجلا إلى بلد، وقلت له: احذر التقصير فإني معك، تريد أنه لا يخفى علي تقصيرك، ولا يسوغ لأحد أن يقول: إنه -سبحانه- بكل مكان على الحلول فيه مع قوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} 3 ومع قوله: {إلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} 4 فكيف يصعد إليه شيء هو معه، وكيف تعرج الملائكة والروح إليه وهي معه؟. ولو أن هؤلاء رجعوا إلى فطرهم، وما ركبت عليه ذواتهم في معرفة الخالق لعلموا أن الله عز وجل هو العلي الأعلى، وأن الأيدي ترفع بالدعاء إليه، والأمم كلها أعجميها وعربيها تقول: إن الله في السماء ما تركت على فطرها.

_ 1 سورة الصافات آية: 96. 2 سورة المجادلة آية: 7. 3 سورة طه آية: 5. 4 سورة فاطر آية: 10.

[أقوال الأئمة في أخذ الصفات بلا تأويل ولا تمثيل] وقال ابن خزيمة: من لم يقر بأن الله على عرشه، استوى فوق سبع سماواته بائن من خلقه، فهو كافر يستتاب، فإن تاب، وإلا ضربت عنقه، وكان إماما في الحديث، وإماما في الفقه. وقال ابن سريج: حرام على العقول أن تمثل الله، وعلى الأوهام أن تحده، وعلى الألباب أن تصفه بغير ما وصف به نفسه في كتابه، أو على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد صح عند جميع أهل الديانة والسنة إلى زماننا أن جميع الآيات، والأخبار الصادقة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يجب على المسلمين الإيمان بكل واحد منها كما ورد، وأن السؤال عن معانيها بدعة وكفر وزندقة مثل قوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} 1 وقوله: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ} 2. وقوله: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} 3 ونظائرها مما نطق به القرآن كالفوقية والنفس، واليدين والوجه، والسمع والبصر والضحك والتعجب، والنزول إلى السماء الدنيا: اعتقادنا فيه وفي الآي المتشابه في القرآن أن نقبلها، ولا نردها، ولا نتناولها بتأويل المخالفين، ولا نحملها على تشبيه المشبهين، ولا نترجم عن صفاته بلغة غير العربية. وسئل أبو جعفر الترمذي عن حديث نزول الرب فقال: النزول معقول، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة. فالنزول والكلام، والسمع والبصر، والاستواء عبارات جلية واضحة للسامع، فإذا اتصف بها من ليس كمثله شيء فالصفة تابعة للموصوف. وقال الطحاوي في العقيدة التي ألفها: "ذكر بيان السنة والجماعة على مذهب أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد -رضي الله عنهم-" نقول: في توحيد الله معتقدين أن الله واحد لا شريك له، ولا شيء مثله، ما زال بصفاته قبل خلقه، وأن القرآن كلام الله يتلى، وأنزله على نبيه وحيا، وصدقه المؤمنون حقا، وأيقنوا أنه كلام

_ 1 سورة طه آية: 5. 2 سورة البقرة آية: 210. 3 سورة الفجر آية: 22.

الله بالحقيقة ليس بمخلوق، فمن سمعه وزعم أنه كلام البشر فقد كفر، والرؤية لأهل الجنة حق بغير إحاطة ولا كيفية. وكل ما في ذلك من الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو كما قال، ومعناه على ما أراد -سبحانه وتعالى-، ولا تثبت قدم الإسلام، إلا على ظهر التسليم والاستسلام، فمن رام ما حظر عليه علمه، ولم يقنع بالتسليم فهمه، حجبه مرامه عن خالص التوحيد، وصحيح الإيمان، ومن لم يَتَوَقَّ النفي والتشبيه زل، ولم يصب التنزيه، إلى أن قال: والعرش والكرسي حق كما بين في كتابه، وهو مُسْتَغْنٍ عن العرش، وما دونه، محيط بكل شيء وفوقه. [حكاية الأشعري لعقائد أهل السنة] وقال أبو الحسن الأشعري في كتابه الذي سماه: "اختلاف المصلين، ومقالات الإسلاميين" فذكر فِرَق الخوارج والروافض والجهمية وغيرهم، إلى أن ذكر مقالات أهل السنة، وأصحاب الحديث. قال: قولهم الإقرار بالله وملائكته وكتبه ورسله، وبما جاء عن الله، وما رواه الثقات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن الله -تعالى- على عرشه كما قال: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} 1 وأن له يَدَيْن بلا كيف كما قال: {أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ} 2 {وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ} 3 وأثبتوا السمع والبصر، ولم ينفوا ذلك كما نفته المعتزلة. وقالوا: لا يكون في الأرض من خير وشر إلا ما شاء الله، كما قال -تعالى-: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ} 4 ويقولون: القرآن كلام الله غير مخلوق، ويؤمنون بالأحاديث التي جاءت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن الله ينزل إلى السماء الدنيا فيقول: هل من مستغفر"5 الحديث. ويقرون أن الله يجيء يوم القيامة كما قال: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} وأن الله -تعالى- يقرب من خلقه كيف شاء قال: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} 6.

_ 1 سورة طه آية: 5. 2 سورة النساء آية: 166. 3 سورة فاطر آية: 11. 4 سورة الإنسان آية: 30. 5 البخاري: الجمعة "1145" والدعوات "6321" والتوحيد "7494" , ومسلم: صلاة المسافرين وقصرها "758" , والترمذي: الصلاة "446" والدعوات "3498" , وأبو داود: الصلاة "1315" والسنة "4733" , وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها "1366" , وأحمد "2/ 258 ,2/ 264 ,2/ 267 ,2/ 282 ,2/ 383 ,2/ 419 ,2/ 433 ,2/ 487 ,2/ 504 ,2/ 521 ,3/ 94" , ومالك: النداء للصلاة "496" , والدارمي: الصلاة "1478 ,1479 ,1484". 6 سورة ق آية: 16.

إلى أن قال: فهذا جملة ما يأمرون به، ويعتقدونه، ويرونه، وبكل ما ذكرنا من قولهم نقول وإليه نذهب. [كلام الأشعري في علو الله تعالى] وذكر الأشعري في كتابه المذكور في "باب هل الباري -تعالى- في مكان دون مكان، أم ليس في مكان، أم في كل مكان؟ " فقال: اختلفوا في ذلك على سبع عشرة مقالة: "منها": قول أهل السنة وأصحاب الحديث: إنه ليس بجسم، ولا يشبه الأشياء، وإنه على العرش كما قال: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} 1 ولا نتقدم بين يدي الله بالقول، بل نقول: استوى بلا كيف، وإن له يدين كما قال: {خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَ} 2 وإنه ينزل إلى سماء الدنيا كما جاء في الحديث، ثم قال: وقالت المعتزلة: استوى على عرشه بمعنى استولى، وتأولوا اليد بمعنى النعمة، وقوله: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} 3 أي بعلمنا. وقال فيه أيضا في باب الاستواء فإن قال قائل: ما تقولون في الاستواء؟ قيل نقول: إن الله مستو على عرشه كما قال: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} 4 وقال: {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} 5. وقال حكاية عن فرعون: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا} 6 أكذب فرعون موسى في قوله: إن الله فوق سماواته. وقال عز وجل {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ} 7 فالسماوات فوقها العرش، وكل ما علا فهو سماء، والعرش أعلى السماوات، فلولا أن الله -تعالى- فوق عرشه ما قال في حق ملائكته: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} 8 ولما فطر الخلق عند سؤاله على رفع الأيدي إلى السماء. وقال قائلون من المعتزلة والجهمية والحرورية: إن معنى "استوى" استولى وملك وقهر، بما يفيد التجدد والحدوث في الملك، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا،

_ 1 سورة طه آية: 5. 2 سورة ص آية: 75. 3 سورة القمر آية: 14. 4 سورة فاطر آية: 10. 5 سورة النساء آية: 158. 6 سورة غافر آية: 36، 37. 7 سورة الملك آية: 16. 8 سورة النحل آية: 50.

بل هو مستو ومالك وقاهر على العرش، وعلى جميع مخلوقاته من حين خلقهم. وقالوا: إنه في كل مكان، وجحدوا أن يكون على عرشه، كما قال أهل الحق، وذهبوا في الاستواء إلى القدرة، فلو كان كما قالوا كان لا فرق بين العرش، وبين الأرض السابعة؛ لأنه قادر على كل شيء، وكيف يكون في كل مكان؟ ومنه الحشوش والحانات، والمزابل، وما أشبه ذلك من الأماكن المستقذرة، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا، ولم يجز عند أحد من المسلمين أن يكون الله في شيء من ذلك، فبطل ما يقولونه بالنقل والعقل. وذكر أدلة من الكتاب والسنة والعقل سوى ذلك فلا نطيل بذكرها فلتراجع في مظانها. [قول الإمام أحمد في عقيدة أهل السنة] وقال أحمد: جملة ما نقول أن نقر بالله وملائكته وكتبه ورسله، وما جاء عن الله، وما رواه الثقات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن الله إله واحد في ذاته وصفاته، لا إله غيره، وإن محمدا عبده ورسوله، وأن الجنة حق، والنار حق، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور، وأن الله -تعالى- مستو على عرشه كما قال: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} 1 وأن له وجها كما قال: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ} 2 وأن له يدين كما قال: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} 3 وأن له عينا بلا كيف كما قال: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} 4. وأن من زعم أن اسم الله غيره كان جاهلا، وأن الله يرى بالأبصار يوم القيامة كما يرى القمر ليلة البدر، وأنه يقلب القلوب بين إصبعين من أصابعه، وأنه يضع السماوات على إصبع، والأرضين على إصبع، وأنه ينزل في كل ليلة إلى السماء الدنيا كما جاءت الأحاديث، وأنه يقرب من خلقه كيف يشاء، كما قال: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} 5 وكما قال: {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى} 6 إلى أن قال: ونرى مفارقة كل داعية إلى بدعة ومجانبة أهل الأهواء. وقد أخذ أبو الحسن "الأشعري" عن الجبائي، ثم نابذه، ورد عليه، وصار متكلما بالسنة،

_ 1 سورة طه آية: 5. 2 سورة الرحمن آية: 27. 3 سورة المائدة آية: 64. 4 سورة القمر آية: 14. 5 سورة ق آية: 16. 6 سورة النجم آية:8، 9.

ووافق أئمة الحديث في جمهور ما يقولونه، وقد نقل إجماعهم على ذلك وموافقتهم عليه، وكان يتوقد ذكاء، وتوفي سنة أربع وعشرين وثلاثمائة، وله أربع وستون سنة -رحمه الله-. وقال علي بن خلف شيخ الحنابلة ببغداد: الكلام في الرب محدث وبدعة وضلالة، فلا يتكلم في الله إلا بما وصف به نفسه، ولا يقال في صفاته: لم؟ ولا كيف على عرشه استوى؟ وعلمه بكل مكان، والقرآن كلام الله وتنزيله، ونوره ليس بمخلوق. [اعتقاد أهل السنة في صفات الله] وقال الحافظ أبو بكر محمد بن الحسين الآجري في "كتاب الشريعة في السنة" في باب التحذير من مذهب الحلولية: فالذي ذهب إليه أهل العلم أن الله -تعالى- على عرشه فوق سماواته، وعلمه محيط بكل شيء، ويرفع إليه أعمال العباد، فإن قيل: ما معنى قوله: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ} 1 قيل: علمه والله على عرشه، وعلمه محيط بهم، والآية يدل أولها وآخرها على أنه العلم، وهو على عرشه، هذا قول المسلمين. وقال مالك -رحمه الله-: الله في السماء، وعلمه في كل مكان لا يخلو من علمه مكان. وقال أحمد بن إبراهيم الإسماعيلي في كتابه المسمى: "اعتقاد أهل السنة" قال: اعلموا رحمكم الله أن مذهب أهل السنة والجماعة الإقرار بالله وملائكته وكتبه ورسله، وما نطق به كتاب الله، وما صحت به الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا نعدل عما وردا به، ويعتقدون أن الله -تعالى- مدعو بأسمائه الحسنى، موصوف بصفاته التي وصف بها نفسه، ووصفه بها نبيه، خلق آدم بيده، ويداه مبسوطتان بلا كيف، واستوى على عرشه، وأحاط بكل شيء علما. وقال الإمام محمد الهروي 2 صاحب التهذيب: الله -تعالى- على العرش، ويجوز

_ 1 سورة المجادلة آية: 7. 2 كذا في الأصل ولعله أبو إسماعيل عبد الله بن محمد الهروي.

أن يقال في المجاز: هو في السماء لقوله: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} 1. وقال الإمام أبو الحسن علي بن مهدي الطبري تلميذ الأشعري في كتاب "مشكل الآثار" له في باب قوله -تعالى-: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} 2: اعلم أن الله في السماء فوق كل شيء، مستو على عرشه، بمعنى أنه عال عليه، ومعنى الاستواء الاعتلاء، كما تقول العرب، استويت على ظهر الدابة، واستويت على سطح الدار، بمعنى علوته، واستوت الشمس على رأسي، واستوى الطير على قمة رأسي بمعنى علا في الجو فوجد فوق رأسي. فالقديم -جل جلاله وتعالت عظمته- عال على عرشه بذاته، بائن من مخلوقاته؛ لقوله: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} 3 وقوله: {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} 4 وقوله: {عْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} 5. [الرد على من أول الاستواء بالاستيلاء] وزعم البلخي أن استواء الله على العرش هو الاستيلاء عليه، مأخوذ من قول العرب * استوى بشر على العراق * إذا استولى عليها. "فالجواب": أن الاستواء هنا ليس بمعنى الاستيلاء، لأن الله مستول على العرش، وعلى جميع مخلوقاته من حين أوجدهم كما هو المعلوم من الدين بالضرورة، فلا معنى حينئذ لتخصيص العرش بالاستيلاء عليه من دون سائر خلقه، فبان بذلك بطلان قوله، وكذلك أيضا الاستواء هنا ليس هو الاستيلاء الذي هو من قول العرب: استوى فلان على كذا، أي استولى إذا تمكن من بعد أن لم يكن متمكنا، والبارئ عز وجل لا يوصف بالتمكن بعد أن لم يكن متمكنا تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا. إلى غير ذلك من الآيات والأحاديث والآثار، وما عليه الصحابة والتابعون، وتابعوهم وأئمة المسلمين من المجتهدين والمقلدين، وبالله المستعان، وعليه التكلان. وفيما ذكر كفاية لمن له أدنى دراية، وبالله التوفيق إلى سواء الطريق، وحسبنا الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله، ولا نعبد إلا إياه مخلصين له الدين ولو كره الكافرون، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.

_ 1 سورة الملك آية: 16. 2 سورة طه آية: 5. 3 سورة الملك آية: 16. 4 سورة آل عمران آية: 55. 5 سورة المعارج آية: 4.

رسالة فيما هو الميثاق الذي أخذ الله على بني آدم

رسالة فيما هو الميثاق الذي أخذ الله على بني آدم وإليه الإشارة بقوله -تعالى-: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا} 1 الآية لم يذكر اسم مؤلفها، والأسلوب يدل على أنه من المحققين وفيها نقول كثيرة عن العلامة المحقق ابن القيم من كتاب الروح من مطبوعات صاحب الجلالة السعودية، ومحيي السنة المحمدية الإمام عبد العزيز آل سعود ملك الحجاز ونجد وملحقاتها (وقد وقفها على من ينتفع بها من أهل العلم والدين) {لا يحل لمن وقعت بيده بيعها}

_ 1 سورة الأعراف آية: 172.

رسالة فيما هو الميثاق الذي أخذ الله على بني آدم ... بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي خلق الإنسان من صلصال كالفخار، ونفخ فيه من روحه لما سيودعه من الحكم والأسرار، حيث خلقه بيده وسواه، وألهمه فجوره وتقواه، لما أراده منه، وقدره عليه، ليكون مصيره ومنتهاه إليه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأني عبده، وابن عبده، وابن أمته، ومن لا غنى له طرفة عين عن فضله ورحمته، ولا مطمع له بالفوز بالجنة والنجاة من النار إلا بعفوه ومغفرته، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله وصفيه وحبيبه وخليله. أما بعد: فقد قال الله -سبحانه-: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ َوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآياتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} 2. "اعلم" -رحمك الله تعالى- بأنه -سبحانه وتعالى- لما ذكر قصة موسى -عليه السلام- ذكر في هذه الآية ما يجري مجرى تقرير الحجة على جميع المكلفين. [الأحاديث في أخذ ذرية آدم من ظهره] واختلف العلماء في تفسيرها فقال بعضهم محتجا بما رواه مسلم بن يسار الجهني: إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه سئل عن هذه الآية فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عنها فقال: "إن الله خلق آدم، ثم مسح ظهره بيمينه، فاستخرج منه ذرية فقال: خلقت هؤلاء للجنة، وبعمل أهل الجنة يعملون، ثم مسح ظهره فاستخرج منه ذرية فقال: خلقت هؤلاء للنار، وبعمل أهل النار يعملون. فقال رجل: يا رسول الله ففيم العمل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله إذا خلق العبد للجنة استعمله بعمل أهل الجنة حتى يموت على عمل من أعمال أهل الجنة فيدخل به الجنة، وإذا خلق

_ 2 سورة الأعراف آية: 172: 174.

العبد للنار استعمله بعمل أهل النار حتى يموت على عمل من أعمال أهل النار فيدخل به النار"1 قال الحاكم: هذا على شرط مسلم. وروى الحاكم أيضا من طريق هشام بن زيد بن أسلم، عن أبي صالح عن أبي هريرة مرفوعا "لما خلق الله آدم مسح ظهره فسقط من ظهره كل نسمة هو خالقها إلى يوم القيامة أمثال الذر، ثم جعل بين عيني كل إنسان منهم وبيصا من نور، ثم عرضهم على آدم قال: من هؤلاء يا رب؟ فقال: هؤلاء ذريتك، فرأى رجلا منهم أعجبه وبيص ما بين عينيه: فقال: يا رب من هذا؟ فقال: هذا ابنك داود يكون في آخر الأمم، قال: كم جعلت له من العمر؟ قال ستين سنة، قال: يا رب زده من عمري أربعين سنة، فقال الله -تعالى-: إذا يكتب ويختم فلا يبدل، فلما انقضى عمر آدم جاءه ملك الموت، فقال: أو لم يبق من عمري أربعون سنة؟ قال: أو لم تجعلها لابنك داود؟ قال: فجحد فجحدت ذريته، ونسي فنسيت ذريته، وخطيء فخطئت ذريته"وهذا على شرط مسلم، ورواه الترمذي، وقال: هذا حديث حسن صحيح. ورواه الإمام أحمد من حديث ابن عباس قال: لما نزلت آية الدين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن أول من جحد آدم"2 وزاد محمد بن سعد: ثم أكمل الله له ألف سنة، ولداود مائة سنة. وفي صحيح الحاكم أيضا من حديث أبي جعفر الرازي، حدثنا الربيع بن أنس، عن أبي العالية، عن أبي بن كعب في قوله: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي} 3 الآية قال: جمعهم له يومئذ جميعا ما هو كائن منهم إلى يوم القيامة، فجعلهم أرواحا، ثم صورهم، واستنطقهم فتكلموا، وأخذ عليهم العهد والميثاق {وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا} 4. قال الله -تعالى-: فإني أشهد عليكم السماوات السبع والأرضين السبع، وأشهد عليكم أباكم آدم {أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ} 5 لم نعلم، أو تقولوا: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ} 6 فلا تشركوا بي شيئا، فإني أرسل إليكم رسلي يذكرونكم

_ 1 الترمذي: تفسير القرآن "3075" , وأبو داود: السنة "4703" , وأحمد "1/ 44" , ومالك: الجامع "1661". 2 أحمد "1/ 251". 3 سورة الأعراف آية: 172. 4 سورة الأعراف آية: 172. 5 سورة الأعراف آية: 172. 6 سورة الأعراف آية: 172.

عهدي وميثاقي، وأنزل عليكم كتبي، فقالوا: نشهد إنك ربنا وإلهنا، لا رب لنا غيرك، ولا إله لنا غيرك، ورفع لهم أبوهم آدم فرأى منهم الغني والفقير وحَسَن الصورة وغير ذلك، فقال: يا رب، لو سويت بين عبادك؟ فقال: إني أحب أن أشكر، ورأى فيهم الأنبياء مثل السُّرُج. وخصوا بميثاق آخر بالرسالة والنبوة فذلك قوله: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ} 1 وهو قوله: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ} 2 وذلك قوله: {هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الأُولَى} 3 وقوله: {وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ} 4 وهو قوله: {ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ} 5. كان في علمه بما أقروا به من يكذب به، ومن يصدق به، فكان روح عيسى من تلك الأرواح التي أخذ عليها الميثاق في زمن آدم، فأرسل ذلك الروح إلى مريم حين {انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا} 6 إلى قوله:? {قْضِيًّا فَحَمَلَتْهُ} 7 قال: حملت الذي خاطبها، وهو روح عيسى -عليه السلام-، قال أبو جعفر: فحدثنا الربيع بن أنس، عن أبي العالية، عن أبي بن كعب قال: "دخل من فيها" وهذا إسناد صحيح. [الآثار في أخذ ذرية آدم من ظهره] وروى إسحاق بن راهويه بسنده عن هشام بن حكيم بن حزام أن رجلا قال: "يا رسول الله: تبتدأ الأعمال أم قضي القضاء؟ فقال: إن الله لما أخرج ذرية آدم من ظهره، وأشهدهم على أنفسهم، ثم أفاض بهم في كفيه فقال: هؤلاء للجنة، وهؤلاء للنار، فأهل الجنة مُيَسَّرُون لعمل أهل الجنة، وأهل النار ميسرون لعمل أهل النار". وروى ابن إسحاق بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه "قال: لما أراد الله أن يخلق آدم فذكر خلق آدم فقال له: يا آدم أيّ يدي أحب إليك أن أريك ذريتك فيها؟ فقال: يمين ربي -وكلتا يدي ربي يمين-، فبسط يمينه، وإذا فيه ذريته كلهم ما هو خالق إلى يوم القيامة، الصحيح على هيئته، والمبتلى على هيئته، والأنبياء

_ 1 سورة الأحزاب آية: 7. 2 سورة الروم آية: 30. 3 سورة النجم آية: 56. 4 سورة الأعراف آية: 102. 5 سورة يونس آية: 74. 6 سورة مريم آية: 16، 17. 7 سورة مريم آية:22، 23.

على هيئاتهم، فقال: ألا عافيتهم كلهم؟ فقال: أحب أن أشكر". وروى محمد بن نصر بسنده عن عبد الله بن سلام قال: "خلق الله آدم، ثم قال: بيديه فقبضهما فقال: اختر يا آدم فقال: اخترت يمين ربي -وكلتا يديك يمين- فبسطها فإذا فيها ذريته؟ فقال: من هؤلاء يا رب؟ قال: من قضيت أن أخلق من ذريتك إلى يوم القيامة". وروى أيضا ابن إسحاق بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنهعن النبي صلى الله عليه وسلم قال "لما خلق الله آدم مسح ظهره فسقط منه كل نسمة هو خالقها من ذريته إلى يوم القيامة"1. وحدث ابن إسحاق، عن عمرو بن زرارة بسنده عن ابن عباس -رضي الله عنهما- في قوله: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ} 2 الآية. قال: مسح ربك ظهر آدم فخرجت منه كل نسمة هو خالقها إلى يوم القيامة، وهو ينظر بنعمان -هذا الذي بإزاء عرفة- وأخذ ميثاقهم {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا} 3. ورواه أبو حمزة الضبعي ومجاهد، وحبيب بن أبي ثابت، وأبو صالح، وغيرهم عن ابن عباس. وقال ابن إسحاق أخبرنا جرير، عن منصور، عن مجاهد، عن عبد الله بن عمر في هذه الآية قال: أخذهم كما يأخذ المشط من الرأس. وحدثنا حجاج عن ابن جريج، عن الزبير بن موسى، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس -رضي الله عنهما-: إن الله -تعالى- حين خلق آدم ضرب منكبه الأيمن فخرجت كل نفس مخلوقة للجنة بيضاء نقية، فقال: هؤلاء أهل الجنة، ثم ضرب منكبه الأيسر فخرجت كل نفس مخلوقة للنار، فقال: هؤلاء أهل النار، ثم أخذ عهده على الإيمان به، والمعرفة له ولأمره، والتصديق به وبأمره من بني آدم كلهم، وشهدهم على أنفسهم، فآمنوا، وصدقوا، وعرفوا، وأقروا. وعنه رضي الله عنه "أن آدم أبصر في ذريته قوما لهم نور، فقال: يا رب من هم؟

_ 1 الترمذي: تفسير القرآن "3076". 2 سورة الأعراف آية: 172. 3 سورة الأعراف آية: 172.

فقال الأنبياء: ورأى واحدا هو أشدهم نورا فقال: من هو؟ فقال: داود، قال: كم عمره؟ فقال: ستون سنة، فقال: هو قليل، وهبت له من عمري أربعين سنة، وكان عمر آدم ألف سنة، فلما تم عمر آدم تسعمائة وستين سنة أتاه ملك الموت ليقبض روحه، فقال: بقي من أجلي أربعون سنة، فقال: ألست وهبته من ابنك داود؟ فقال: ما كنت لأهب لأحد من أجلي شيئا، فعند ذلك كتب لكل نفس أجلها. [تفسير وإذ أخذ ربك من بني آدم بالأحاديث الواردة] وقال مقاتل: إن الله مسح صفحة ظهر آدم اليمنى، فخرج منه ذرية بيض كهيئة الذر، ثم جانبه الأيسر، فخرج منه ذرية سود كهيئة الذر، فقال: يا آدم هؤلاء ذريتك، ثم قال لهم: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا} 1 فقال للبيض: هؤلاء في الجنة برحمتي، وهم أصحاب اليمين، وقال للسود: هؤلاء للنار، ولا أبالي، وهم أصحاب الشمال، ثم قرأ {فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ} 2 ثم أعادهم جميعا في صلب آدم. فأهل القبور محبوسون حتى يخرج أهل الميثاق كلهم من أصلاب الرجال وأرحام النساء. وقال تعالى فيمن نقض العهد الأول: {وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ} 3. وهذا القول قد ذهب إليه كثير من قدماء المفسرين كسعيد بن المسيب، وسعيد ابن جبير، والضحاك، وعكرمة، والكلبي، وذكر محمد بن نصر من تفسير السدي عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس، وعن مرة الهمداني عن ابن مسعود، وعن أناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ} الآية: لما أخرج الله آدم من الجنة قبل أن يهبط من السماء مسح صفحة ظهره اليمنى، وأخرج منه ذرية بيضاء مثل اللؤلؤ كهيئة الذر، فقال لهم: ادخلوا الجنة برحمتي، ومسح صفحة ظهره اليسرى، فأخرج منه ذرية سوداء كهيئة الذر، فقال لهم: ادخلوا النار، ولا أبالي. فذلك حيث يقول: وأصحاب اليمين وأصحاب الشمال، ثم أخذ منهم الميثاق فقال: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} فأعطاه طائفة طائعين، وطائفة كارهين على جهة

_ 1 سورة الأعراف آية: 172. 2 سورة الواقعة آية:8، 9. 3 سورة الأعراف آية: 102.

التقية، فقال هو والملائكة: {شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} 1 أو تقولوا: {إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ} 2 فليس أحد من بني آدم إلا وهو يعرف أن الله ربه، ولا مشرك إلا وهو يقول: إنا وجدنا آباءنا على أمة، فذلك قوله -تعالى-: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ} 3 وقوله: {وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا} 4 وقوله: {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} 5. يعني يوم أخذ عليهم الميثاق -سبحانه وتعالى- صور النسم، وقدر خلقها، وأجلها، وأعمالها، واستخرج تلك الصور من مادتها، ثم أعادها إليها، وقدر خروج كل فرد من أفرادها في وقته المقدر له كما قال أبو محمد بن حزم. نعم الرب -سبحانه- يخلق منها جملة بعد جملة على الوجه الذي سبق به التقدير أولا، فيجيء الخلق الخارجي مطابقا للتقدير السابق كشأنه -سبحانه وتعالى- في جميع مخلوقاته، قدر لها أقدارا وآجالا وصفات وهيئات، ثم أبرزها في الوجود مطابقة لذلك التقدير الذي قدره لها لا تزيد عليه ولا تنقص عنه. وأخذ عليهم الميثاق بالتوحيد، وترك الأنداد، فلا تناقض حينئذ بين الآية والأحاديث؛ لأن ما في الآية لا ينافي المسح على ظهر آدم، ولا في الأحاديث ما ينفي خروج الذرية من ظهور بني آدم، وإنما سبقت الآية ببيان ما وقع من أخذ الميثاق، وبروز الذرية من ظهور بني آدم، وهذا لا يخالف ما في الأحاديث المذكورة من أن الله -تعالى- خلق آدم، ثم مسح ظهره بيمينه، فاستخرج منه ذرية، فإن الذرية المستخرجة من ظهور بني آدم هي بواسطة مسح ظهر أبيهم، فخرج من ظهره ذرية بلا واسطة، وخرج من ظهور ذريته ذرياتهم بواسطة مسح ظهر أبيهم، ويصدق عليهم جميعا أنهم استخرجوا من ظهر آدم بواسطة، وبلا واسطة، وهكذا حكم كل فرع مع أصله. فالآية الكريمة فصلت ما أجملته الأحاديث من الإخراج، وبينت كيفيته، وبينت الأحاديث أن أخذ الذرية من ظهور بني آدم بواسطة مسح ظهر أبيهم،

_ 1 سورة الأعراف آية: 172. 2 سورة الأعراف آية: 173. 3 سورة الأعراف آية: 172. 4 سورة آل عمران آية: 83. 5 سورة الأنعام آية: 149.

حتى خرج منه من علم الله بروزه إلى عالم الكون والفساد، وأخذ عليهم الميثاق بالتوحيد، وترك الأنداد، وليس فيها نفي ما تضمنته الآية من خروج الذرية من ظهور بني آدم كما أخبر الله -سبحانه وتعالى-. [تفسير آية وإذ أخذ ربك من بني آدم بأنها ليست بمعنى الأحاديث الواردة] ونازع هؤلاء البعض الآخر في كون هذا معنى الآية، وقالوا: معنى قوله -تعالى-: {إِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} 1 أي أخرجهم، وأنشأهم بعد أن كانوا نطفا في أصلاب الآباء إلى الدنيا على ترتيبهم في الوجود، وأشهدهم على أنفسهم أنه ربهم بما أظهر لهم من آياته وبراهينه التي تضطرهم إلى أن يعلموا أنه خالقهم، فليس من أحد إلا وفيه من صنع ربه ما شهد على أنه بارئه، ونافذ الحكم فيه، فلما عرفوا ذلك، ودعاهم كل ما يرون، ويشاهدون إلى التصديق به كانوا بمنزلة الشاهدين والمشهدين على أنفسهم بصحته، كما قال في غير هذا الموضع من كتابه: {شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ} 2 يريد: هم بمنزلة الشاهدين، وإن لم يقولوا: نحن كفرة، وكما يقال: قد شهدت جوارحي بقولك، يريد قد عرفته، وكأن جوارحي لو أشهدت وفي وسعها أن تنطق لشهدت. ومن هذا الباب أيضا {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ} 3 يريد أعلم وبين، فأشبه إعلامه وتبيينه ذلك شهادة من شهد عند الحكام وغيرهم، كما قاله ابن الأنباري. وزاد الجرجاني -بيانا لهذا القول- فقال حاكيا عن أصحابه: إن الله لما خلق الخلق، ونفذ علمه فيهم بما هو كائن مما لم يكن بعد صار ما هو كائن كالكائن، إذ علمه بكونه واقعا غير كونه واقعا في مجاري العربية، فساغ أن يضع ما هو منتظر مما لم يقع بعد موضع الواقع لسبق علمه بوقوعه، كما قال عز وجل في مواضع من القرآن كقوله: {وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ} 4 {وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ} 5 {وَنَادَى أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ} 6 قال: فيكون تأويل قوله: {إِذْ أَخَذَ رَبُّكَ} وإذ يأخذ ربك. وكذلك قوله {وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى

_ 1 سورة الأعراف آية: 172. 2 سورة التوبة آية: 17. 3 سورة آل عمران آية: 18. 4 سورة الأعراف آية: 50. 5 سورة الأعراف آية: 44. 6 سورة الأعراف آية: 48.

أَنْفُسِهِمْ} أي ويشهدون بما رُكِّبَ فيهم من العقل الذي يكون به الفهم، ويجب به الثواب والعقاب، وكل مولود بلغ الحنث، وعقل الضر والنفع، وفهم الوعد والوعيد والثواب والعقاب صار كأن الله -تعالى- أخذ عليه الميثاق في التوحيد بما ركب فيه من العقل، وأراه من الآيات والدلائل على وجوده، وأنه لا يجوز أن يكون قد خلق نفسه، وإذا لم يجز ذلك فلا بد له من خالق هو غيره: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} 1. وليس من مخلوق يبلغ هذا المبلغ، ولم يقدح فيه مانع من فهم، إلا إذا حزبه أمر فزع إلى الله عز وجل حين يرفع رأسه إلى السماء، ويشير إليها بأصبعه علما منه بأن خالقه فوقه، وإذا كان العقل الذي منه الفهم والإفهام مؤديا إلى معرفة ما ذكرنا ودالا عليه، فكل من بلغ هذا المبلغ فقد أخذ عليه العهد والميثاق. وجائز أن يقال له: قد أقر، وأذعن، واستسلم، إذ جعل فيه السبب والآلة اللذين بهما يؤخذ العهد والميثاق، كما قال عز وجل {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا} 2. [عرض الأمانة على السموات والأرض والجبال من المجاز] واحتجوا بقوله صلى الله عليه وسلم "رفع القلم عن ثلاثة: عن الصبي حتى يحتلم، وعن المجنون حتى يفيق، وعن النائم حتى ينتبه"3 وقوله عز وجل {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا} ثم قال: {وَحَمَلَهَا الْأِنْسَانُ} 4. والأمانة ههنا عهد وميثاق، فامتناع السماوات والأرض والجبال من حمل الأمانة خلوها من العقل الذي يكون به الفهم والإفهام، وحمل الإنسان إياها لمكان العقل فيه، قال: وللعرب في هذا المعنى ضروب نظم فمنها قوله: ضمن القنان لفقعس سوآتها ... إن القنان لفقعس لا يأتلي والقنان: جبل فذكر أنه قد ضمن لفقعس، وضمانه لهم أنهم كانوا إذا جرى بهم أمر من هزيمة، أو خوف لجأوا إليه فجعل ذلك كالضمان منه لهم. ومنه قول النابغة:

_ 1 سورة الشورى آية: 11. 2 سورة الرعد آية: 15. 3 أبو داود: الحدود "4403" , وأحمد "1/ 116 ,1/ 118 ,1/ 140 ,1/ 154 ,1/ 158". 4 سورة الأحزاب آية: 72.

كاجارن الجولان من هلك ربه ... وحوران منها خاشع متضائل 1 وأجارن الجولان جبالها، وحوران الأرض التي إلى جانبها. قال إن في قوله: {أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِين َأَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ} 2 دليلا على هذا التأويل؛ لأنه عز وجل علم أن هذا الأخذ للعهد عليهم، لئلا يقولوا يوم القيامة: {إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} 3. والغفلة هاهنا لا تخلو من أحد وجهين: إما أن يكون عن يوم القيامة، أو عن أخذه الميثاق، فأما يوم القيامة فلم يذكر -سبحانه- في الكتاب أنه أخذ عليهم عهدا وميثاقا بمعرفة البعث والحساب، وإنما ذكر معرفته فقط. [أخذ ميثاق النبيين كأخذ العهد على ذرية آدم] فأما أخذ الميثاق فالأطفال والإسقاط إن كان هذا العهد مأخوذا عليهم -كما قال المخالف- فهم لم يبلغوا بعد أخذ الميثاق عليهم مبلغا يكون منهم غفلة عنه، فيجحدونه، وينكرونه. فمتى تكون هذه الغفلة منهم؟ وهو عز وجل لا يؤاخذهم بما لم يكن منهم، وذكر ما لا يجوز، ولا يكون محالا. وقوله: {أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ} 4 فلا يخلو هذا الشرك الذي يؤاخذون به أن يكون منهم أنفسهم، أو من آبائهم، فإن كان منهم، فلا يجوز أن يكون ذلك إلا بعد البلوغ وثبوت الحجة عليهم، إذ الطفل لا يكون منه شرك ولا غيره، وإن كان من غيرهم، فالأمة مجمعة على {أَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} 5 كما قال الله عز وجل. وليس هذا بمخالف لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم "إن الله مسح ظهر آدم، وأخرج منه ذرية، وأخذ عليهم العهد"6؛ لأنه صلى الله عليه وسلم اقتص قول الله عز وجل فجاء بمثل

_ 1 كذا في الأصل، والبيت يرثي به النابغة أبا حجر الغساني. وهو في التاج هكذا: * بكى حارث الجولان من فقد ربه ... إلخ، ويروى من هلك ربه. كما هنا. والحارث قلة من قلاته. والجولان: جبل بالشام. 2 سورة الأعراف آية:172، 173. 3 سورة الأعراف آية: 172. 4 سورة الأعراف آية: 173. 5 سورة النجم آية: 38. 6 الترمذي: تفسير القرآن "3075" , وأبو داود: السنة "4703" , وأحمد "1/ 44" , ومالك: الجامع "1661".

نظمه فوضع الماضي من اللفظ موضع المستقبل، وهذا شبيه قوله: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ} 1 فجعل -سبحانه- ما أنزل على الأنبياء من الكتاب والحكمة ميثاقا أخذه من أممهم بعدهم، يدل على ذلك قوله: {ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ} ثم قال للأمم: {أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ}. فجعل -سبحانه- بلوغ الأمم كتابه المنزل على أنبيائهم حجة عليهم كأخذ الميثاق عليهم، وجعل معرفتهم إقرارا منهم. [الآيات في أخذ العهد والميثاق على بني آدم] وشبيه به أيضا قوله: {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} 2 فهذا ميثاقه الذي أخذه عليهم بعد إرسال رسله إليهم بالإيمان به وتصديقه، ونظيره قوله -تعالى-: {لَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ} 3 وقوله: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} 4 فهذا عهده إليهم على ألسنة رسله. ومثله قوله -تعالى- لبني إسرائيل: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ} 5 ومثله {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ} 6 وقوله: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظا} 7 فهذا ميثاق أخذه منهم بعد بعثهم كما أخذ من أممهم بعد إنذارهم. وهذا الميثاق الذي لعن الله -سبحانه- من نقضه، وعاقبه بقوله: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً} 8 فإنما عاقبهم بنقضهم الميثاق الذي أخذه عليهم على ألسنة رسله. وقد صرح به في قوله: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} 9. ولما كانت هذه الآية ونظيرها في سور مدنية خاطب بالتذكير بهذا الميثاق

_ 1 سورة آل عمران آية: 81. 2 سورة المائدة آية: 7. 3 سورة الرعد آية: 20. 4 سورة يس آية: 60. 5 سورة البقرة آية: 40. 6 سورة آل عمران آية: 187. 7 سورة الأحزاب آية: 7. 8 سورة المائدة آية: 13. 9 سورة البقرة آية: 63.

فيها أهل الكتاب، فإنه ميثاق أخذه عليهم بالإيمان به وبرسله. ولما كانت آية الأعراف في سورة مكية ذكر فيها الميثاق والإشهاد العام بجميع المكلفين بالإقرار بربوبيته ووحدانيته، وبطلان الشرك، وهو ميثاق وإشهاد تقوم به عليهم الحجة، وتنقطع به المعذرة، وتحل به العقوبة، ويستحق بمخالفته الإهلاك، فلا بد أن يكونوا ذاكرين له عارفين به، وذلك ما فطرهم عليه من الإقرار بربوبيته، وأنه ربهم وفاطرهم، وأنهم مخلوقون مربوبون، ثم أرسل إليهم رسله يذكرونهم بما في فطرهم وعقولهم، ويعرفونهم حقه عليهم، وأمره، ونهيه، ووعده ووعيده، ونظم الآية إنما يدل على هذا من وجوه متعددة: "أحدها" أنه قال -سبحانه وتعالى-: {إِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ} 1 ولم يقل: من آدم، وبنو آدم غير آدم. "الثاني" أنه قال: {مِنْ ظُهُورِهِمْ} 2 ولم يقل من ظهره، وليس لآدم إلا ظهر، وهذا بدل بعض من كل، أو بدل اشتمال، وهو أحسن. "الثالث" أنه قال: {ذرياتهم} 3 بصيغة الجمع، ولم يقل من ذريته، وهو مفرد 4. "الرابع" أنه قال: {وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ} 5 أي جعلهم شاهدين على أنفسهم، فلا بد أن يكون شاهدا ذاكرا لما يشهد به، وهو إنما يذكر شهادته بعد خروجه إلى هذه الدار، لا يذكر شهادته قبلها. "الخامس" {إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} والحجة إنما قامت عليهم بالرسل والفطر التي فطروا عليها كما قال -تعالى-: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} 6. "السادس" تذكيرهم بذلك؛ لئلا يقولوا يوم القيامة: {إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا

_ 1 سورة الأعراف آية: 172. 2 سورة الأعراف آية: 172. 3 سورة الأعراف آية: 172. 4 في قراءة حفص المشهورة "ذريتهم" والمفرد المضاف إلى الجمع يفيد العموم. 5 سورة الأعراف آية: 172. 6 سورة النساء آية: 165.

غَافِلِينَ} 1. ومعلوم أنهم غافلون بالإخراج لهم من صلب آدم كلهم، وإشهادهم جميعا ذلك الوقت، فهذا لا يذكره أحد منهم. "السابع" قوله: {أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ} 2 فذكر حكمتين في هذا التعريف والإشهاد: "إحداهما" أن لا يدعوا الغفلة. "والثانية" أن لا يدعوا التقليد، فالغافل لا شعور له، والمقلد متبع في تقليده لغيره. "الثامن" أنه -سبحانه وتعالى- أشهد كل واحد على نفسه أنه ربه وخالقه، واحتج عليهم بهذا الإشهاد في غير هذا الموضع من كتابه كقوله: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} 3 أي فكيف يعرضون عن التوحيد بعد هذا الإقرار منهم أن الله ربهم وخالقهم؟ وهذا كثير في القرآن. فهذه هي الحجة التي أشهدهم على أنفسهم بمضمونها، وذكرتهم بها رسله بقوله: {أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} 4 فالله -سبحانه وتعالى- ذكرهم على ألسنة رسله بهذا الإقرار والمعرفة، ولم يذكرهم بإقرار سابق على إيجادهم، ولا أقام به عليهم حجة. "التاسع" قوله -تعالى-: {فَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ} 5 أي لو عذبهم لجحودهم وشركهم لقالوا ذلك، وهو -سبحانه وتعالى- إنما يهلكهم لمخالفة رسله وتكذيبهم، فلو أهلكهم بتقليد آبائهم في شركهم من غير إقامة الحجة عليهم بالرسل لأهلكهم بما فعل المبطلون، أو أهلكهم مع غفلتهم عن معرفة بطلان ما يكونون عليه، وقد أخبر -سبحانه- بأنه لم يكن {لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} 6 وإنما يهلكهم بعد الأعذار والإنذار. "العاشر" أنه جعل هذا آية وهي الدلالة الواضحة البينة المستلزمة لمدلولها بحيث لا يتخلف عنها المدلول، وهذا شأن آيات الرب -تعالى- فإنها أدلة معينة على مطلوب معين مستلزم للعلم به فقال -تعالى-: {وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ} 7 أي مثل

_ 1 سورة الأعراف آية: 172. 2 سورة الأعراف آية: 173. 3 سورة الزخرف آية: 87. 4 سورة إبراهيم آية: 10. 5 سورة الأعراف آية: 173. 6 سورة هود آية: 117. 7 سورة الأعراف آية: 174.

هذا التفصيل والتبيين، {وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} 1 من الشرك إلى التوحيد، ومن الكفر إلى الإيمان. [الجمع بين آية أخذ الميثاق وحديث "إن الله مسح ظهر آدم"] وهذه الآيات التي فصلها، وبينها في كتابه من أنواع مخلوقاته، وهي آيات أفقية ونفسية، آيات في نفوسهم وذواتهم وخلقهم، وآيات في الأقطار والنواحي مما يحدثه الرب -تبارك وتعالى- مما يدل على وجوده ووحدانيته، وصدق رسله والمعاد والقيامة، ومن أثبتها ما أشهد به كل أحد على نفسه من أنه ربه وخالقه ومبدعه، وأنه مربوب مصنوع مخلوق، حادث بعد أن لم يكن، ومحال أن يكون محدثا بلا محدث، أو يكون هو المحدث لنفسه، فلا بد له من موجد أوجده {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} 2 وهذا الإقرار والمشاهدة فطرة فطروا عليها ليست بمكتسبة. وهذه الآية وهي قوله: وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذرياتهم مطابقة لقوله صلى الله عليه وسلم "كل مولود يولد على الفطرة"3 ولقوله -تعالى-: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} 4. وفيما ذهبتم إليه من تأويل هذا الحديث على ظاهره تفاوت بينه وبين ما جاء به القرآن في هذا المعنى إلا أن يرد تأويله إلى ما ذكرناه؛ لأنه عز وجل قال: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} 5 لم يذكر آدم في القصة، إنما هو ههنا مضاف إليه لتعريف ذريته أنهم منه وأولاده، وفي الحديث: "أنه مسح ظهر آدم"6 فلا يمكن رد ما جاء في القرآن، وما جاء في الحديث إلى الاتفاق إلا بالتأويل الذي ذكرناه. قال الجرجاني: وأنا أقول ونحن إلى ما روي في الآية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وما ذهب إليه أهل العلم من السلف الصالح أميل، وإليه أقبل، وبه آنس. قال ابن القيم: وفيما ادعيتموه من التفاوت بين الآية والخبر لاختلاف ألفاظهما نظر لأن الخبر عن الرسول صلى الله عليه وسلم "إن الله مسح ظهر آدم" أفاد زيادة خبر كان في القصة التي ذكرها الله في كتابه، ولو أخبر النبي صلى الله عليه وسلم سوى هذه الزيادة

_ 1 سورة الأعراف آية: 174. 2 سورة الشورى آية: 11. 3 البخاري: الجنائز "1385" , ومسلم: القدر "2658" , وأبو داود: السنة "4714" , وأحمد "2/ 233 ,2/ 282 ,2/ 315 ,2/ 346 ,2/ 393 ,2/ 410" , ومالك: الجنائز "569". 4 سورة الروم آية: 30. 5 سورة الأعراف آية: 172. 6 الترمذي: تفسير القرآن "3075" , وأبو داود: السنة "4703" , وأحمد "1/ 44" , ومالك: الجامع "1661".

التي أخبر بها فما عسى أن يكون قد كان في ذلك الوقت الذي أخذ فيه العهد مما لم يضمنه الله كتابه لما كان في ذلك خلاف ولا تفاوت، بل كان زيادة في الفائدة. وكذلك الألفاظ إذا اختلفت في ذاتها، وكان مرجعها إلى شيء واحد، لم يوجب ذلك تناقضا، كما قال عز وجل في كتابه في خلق آدم، فذكره مرة أنه خلق من تراب، ومرة أنه خلق من حمأ مسنون، ومرة من طين لازب، ومرة من صلصال كالفخار. فهذه الألفاظ مختلفة، ومعانيها أيضا في الأحوال مختلفة، فإن الصلصال غير الحمأ، والحمأ غير التراب، إلا أن مرجعها كلها في الأصل إلى جوهر واحد وهو التراب، ومن التراب تدرجت في هذه الأحوال. فقوله -سبحانه وتعالى-: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} 1 وقوله صلى الله عليه وسلم "إن الله مسح ظهر آدم واستخرج منه ذريته"2 فمرجعهما إلى جوهر واحد وهو آدم، ومنه تدرجت الذرية إلا أن قوله صلى الله عليه وسلم "مسح ظهر آدم" زيادة في الخبر عن الله عز وجل ومسح ظهر آدم مسح لظهور ذريته، واستخراج ذرياتهم من ظهورهم كما أخبر الله -سبحانه وتعالى- بذلك ... إلى أن قال ابن القيم -رحمه الله-: وفيه أيضا أنه عز وجل لما أضاف الذرية إلى آدم احتمل أن يكون الخبر عن الذرية وعن آدم كما قال -تعالى-: {فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ}. فالخبر في الظاهر عن الأعناق، والنعت للأسماء المكنية فيها، وهو مضاف إليها كما كان آدم مضافا إليه هناك، وليسا جميعا بالمقصودين في الظاهر بالخبر، ولا يحتمل أن يكون قوله "خاضعين" للأعناق لأن وجه جمعها خاضعات. ومنه قول الشاعر: ويشرق بالقول الذي قد أذعته ... كما شرقت صدر القناة من الدم فالصدر مذكر. وقوله: شرقت أنث لإضافة الصدر إلى القناة 3.

_ 1 سورة الأعراف آية: 172. 2 الترمذي: تفسير القرآن "3075" , وأبو داود: السنة "4703" , وأحمد "1/ 44" , ومالك: الجامع "1661". 3 إلى هنا كلام ابن القيم -رحمه الله- وأوله "ونازع هؤلاء البعض الأخرون".

وقال أصحاب النظر وأرباب المعقولات: إنه -تعالى- أخرج الذرية، وهم الأولاد من أصلاب آبائهم، وذلك الإخراج أنهم كانوا نطفة فأخرجها الله -تعالى- من أصلاب الآباء إلى أرحام الأمهات، وجعلها علقة، ثم مضغة، حتى جعلهم بشرا سويا، وخلقا كاملا مرضيا. ثم أشهدهم على أنفسهم بما ركب فيهم من دلائل وحدانيته، وعجائب خلقه، وخزائن صنعه وقت الإشهاد حتى صاروا كأنهم قالوا بلى، وإن لم يكن هناك قول باللسان. ولذلك نظائر منها قوله -تعالى -: {فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} 1 ومنها قوله -تعالى-: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} 2. وقالت العرب: * امتلأ الحوض وقال قطني * فهذا النوع من المجاز والاستعارة مشهور في كلام العرب، فوجب حمل الكلام عليه. هذا ما اطلعت عليه من كلام السلف والخلف في الآية والحديث، ومحصل الفائدة منهما "ثبوت الحجة على كل منفوس ممن بلغ، وممن لم يبلغ بالميثاق الذي أخذه عليهم بالمعرفة له، والإيمان به، بقوله -تعالى -: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ} 3. وزاد على من بلغ منهم الحجة بالآيات والدلائل التي نصبها لهم في أنفسهم، وفي العالم، وبإرسال الرسل إليهم مبشرين ومنذرين، وبالمواعظ والأمثال المنقولة إليهم أخبارها، ولا يطالب -سبحانه وتعالى- أحدا بشيء من الطاعة، إلا بقدر ما لزمه من الحجة، وركب فيه من القدرة، وبين -سبحانه- ما هو عامل في البالغين الذين أدركوا الأمر والنهي، وحجب عنا علم ما قدره في غير البالغين، إلا أننا نعلم أنه عدل لا يجور في حكمه، وحكيم لا تفاوت في صنعه، وقادر لا يسئل عما يفعل {لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} 4 "5. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه. "تمت"

_ 1 سورة فصلت آية: 11. 2 سورة النحل آية: 40. 3 سورة الأعراف آية: 172. 4 سورة الأعراف آية: 54. 5 ما بين العلامتين " " من كلام ابن القيم في الروح.

مسائل وفتاوى فقهية، في الطهارة والجمعة والأضحية والتفليس والوقف واللقطة والصلح، للشيخ حسن بن حسين

مسائل وفتاوى فقهية {في الطهارة، والجمعة، والأضحية، والتفليس، والوقف، واللقطة، والصلح} من تأليف الفاضل المحقق الشيخ حسن بن حسين من أحفاد الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمهم الله من مطبوعات صاحب الجلالة السعودية، ومحيي السنة المحمدية الإمام عبد العزيز آل سعود ملك الحجاز ونجد وملحقاتها (وقد وقفها على من ينتفع بها من أهل العلم والدين) {لا يحل لمن وقعت بيده بيعها}

بسم الله الرحمن الرحيم مسائل وفتاوى في فروع فقهية من حسن بن حسين إلى الأخ الفالح والمحب الصالح عبد الرحمن بن محمد لا زال علمه يزداد ويتجدد، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، والخط المصحوب بالصحيفة، المشتملة على سؤالاتكم اللطيفة، وصل -وصلكم الله عز وجل-، وتلقينا الأسئلة بالترحاب، ووافيناها فورا بالجواب، طلبا لمستطاب الثواب، ورجاء لدعوات نافعة في المآب. قال السائل -كثر الله تعالى فوائده-: [تداخل الطهارة الصغرى في الكبرى] "المسألة الأولى": رجل عليه موجب للغسل فنوى بطهارته رفع الحدث الأكبر فقط، هل يرتفع الأصغر، وتتداخل الأحداث بعضها في بعض أم لا؟. "الجواب": إذا نوى من عليه موجب أكبر رفعه بغسله، فإنه يرتفع المنوي، وما كان من جنسه ووصفه، كما إذا نوت من عليها غسل حيض وجنابة رفع أحد الحدثين فيرتفعان معا بنية رفع أحدهما بالغسل؛ لتداخلهما وتساويهما موجبا وحكما. وكما إذا نوى رفع الحدث وأطلق، أو نوى الصلاة ونحوها مما يحتاج لوضوء وغسل. ويسقط الترتيب والموالاة، لكون البدن فيه بمنزلة العضو الواحد. وأما الحدث الأصغر فلا يرتفع بنية الأكبر فقط؛ لما بينهما من تباين الأوصاف، واختلاف الأصناف التي لا يجامعها تداخل. هذا منصوص أحمد، والمعتمد عند أكثر أصحابه، وهو من مفردات مذهبه. قال ناظمها: والغسل للكبرى فقط لا يرفع ... صغرى وإن نوى فعنه يرفع

قال في شرحه: أي وإن نوى بالغسل الطهارة الكبرى أي رفع الحدث الأكبر لم يرتفع حدثه الأصغر؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم "وإنما لكل امرئ ما نوى" 1 وهذا لم ينو الوضوء، هذا الصحيح من المذهب وعليه جماهير الأصحاب، وقطع به كثير منهم اهـ. وحكى في "الفروع" و"المبدع" و"الإنصاف" عن الأزجي وأبي العباس ابن تيمية أن الأصغر يرتفع بنية الأكبر، وجزم به ابن اللحام في الاختيارات لاندراج الأصغر في الأكبر، فيدخل فيه ويضمحل معه. ومبنى الطهارات على التداخل فماهية الأصغر انعدمت بانعدام جزئها، وسواء تقدم الأصغر الأكبر، أو تأخر عنه. وروى البيهقي عن عمر أنه كان يقول: وأي وضوء أتم من الغسل إذا أجنب الفرج؟. وعن يحيى بن سعيد قال: سئل سعيد بن المسيب عن الرجل يغتسل من الجنابة. يكفيه ذلك من الوضوء؟ قال: نعم. واستأنسوا -أعني القائلين بدخوله في الأكبر- بحديث جابر بن عبد الله أن أهل الطائف قالوا: "يا رسول الله: إن أرضنا باردة فما يجزئنا من غسل الجنابة؟ فقال: أما أنا فأفرغ على رأسي ثلاثا"2 وبقوله صلى الله عليه وسلم لأم سلمة: "إنما يكفيك أن تحثي على رأسك ثلاث حثيات، ثم تفيضين عليك الماء فتطهرين"3 أو قال: "فإذا أنت قد طهرت"4 رواهما مسلم. لكن الدلالة من هذين الحديثين ليست بصريحة، وعلى المذهب فقد حصر مُحَشِّي "المنتهى" الشيخُ عثمان صورَ نية رفع الحدث الأكبر في ست فقال: نية رفع الحدث الأكبر. نية رفع الحدثين. نية رفع الحدث وتطلق. نية استباحة أمر يتوقف على الوضوء والغسل معا. نية ما يسن له الغسل ناسيا للغسل الواجب. ففي هذه الصور كلها يرتفع الأكبر، ويرتفع الأصغر أيضا فيما عدا الأولى والأخيرتين، ثم ذكر أنها تأتي في الأصغر أيضا وزيادة، ولا حاجة لذكرها هنا؛ لأنها ليست من غرض السائل.

_ 1 البخاري: بدء الوحي "1" , ومسلم: الإمارة "1907" , والترمذي: فضائل الجهاد "1647" , والنسائي: الطهارة "75" والطلاق "3437" والأيمان والنذور "3794" , وأبو داود: الطلاق "2201" , وابن ماجه: الزهد "4227" , وأحمد "1/ 25 ,1/ 43". 2 البخاري: الغسل "254" , ومسلم: الحيض "327" , والنسائي: الطهارة "250" والغسل والتيمم "425" , وأبو داود: الطهارة "239" , وابن ماجه: الطهارة وسننها "575" , وأحمد "4/ 85". 3 مسلم: الحيض "330" , والترمذي: الطهارة "105" , والنسائي: الطهارة "241" , وأبو داود: الطهارة "251" , وابن ماجه: الطهارة وسننها "603". 4 الترمذي: الطهارة "105" , وأبو داود: الطهارة "251" , وابن ماجه: الطهارة وسننها "603".

[غسل من عليه الحدث الأكبر يديه بنية القيام من النوم] "المسألة الثانية": إذا غسل يديه من عليه الحدث الأكبر بنية القيام من نوم الليل، هل يرتفع الحدث عنهما بتلك النية أم لا بد من التخصيص بالنية أو بالفعل أو بهما؟ "الجواب" إذا قلنا بما اعتمده المتأخرون من الروايات عن أحمد في هذه المسألة واشترطنا النية لغسلهما كما هو المقطوع به عندهم فإن غسلهما بنية القيام من نوم الليل لا يرفع الحدث عنهما، لأنهم صرحوا بأن غسلهما من نوم الليل طهارة مفردة يجوز تقديمها على الوضوء والغسل بالزمن الطويل، لكون وجوب غسلهما منه تعبديا غير معقول لنا، لاحتمال ورود النجاسة عليهما وغسلهما لمعنى فيهما لا كما يقوله بعضهم، وحكاه أبو الحسين ابن القاضي رواية عن أحمد من أن غسلهما لإدخالهما في الإناء، فقد عرفت أنه لا بد لرفع الحدث عنهما من نية وفعل، على المذهب خاصة. "تنبيه" غمس الشمال في هذا كغمس اليمين ولا فرق لأنه مفرد مضاف فيعم كقوله -عليه السلام- "إذا وطئ أحدكم بنعله الأذى"1 صرح به في قوله "فإن التراب لهما طهور" وقوله في رواية مسلم "فنفض بيده" والمراد بيديه كما في المتفق عليه. قال أبو الحسن ابن اللحام في القواعد الأصولية: المفرد المضاف يعم، هذا مذهبنا ونص عليه إمامنا تبعا لعلي وابن عباس. وقال بدر الدين بن عبد الهادي في كتابه: غاية السول في الأصول المفرد المضاف يعم. قال ابن القيم في البدائع: وعموم المفرد المضاف من قوله: {وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ} 2 وقوله: {هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ} 3 والمراد جميع الكتب التي أحصيت فيها أعمالهم انتهى. "قلت" ويستفاد أيضا من قوله -تعالى-: {لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ} وقوله: {فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ} 4.

_ 1 أبو داود: الطهارة "385". 2 سورة التحريم آية: 12. 3 سورة الجاثية آية: 29. 4 سورة الحاقة آية: 10.

قال ابن كثير: وليس رسولهم واحدًا، وقوله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل "لو أن السماوات السبع وعامرهن غيري" والمراد جميع عمارهن سوى الله -سبحانه-. ونظائره كثيرة في الكتاب والسنة واللغة فلا نطول باستقصائه إذ المقام مقام اختصار. والغرض التفطن لهذه القاعدة المهمة. [غمس اليدين في الماء بعد غسلهما بنية رفع الحدث] "المسألة الثالثة" إذا غسلهما بنية رفع الحدث فهل يؤثر غمسهما في الماء بعد الغسل أم لا؟ "الجواب" إذا فرعنا على القول الذي ذكرناه أولا فإن غسلهما والحالة هذه يؤثر في الماء فسادا. قال في "شرح المفردات": ولا يكفي نية الغسل عن نية غسلهما انتهى، وكذا قال غيره من متأخري الأصحاب لما تقدم من أنها طهارة مفردة. إذا تقرر هذا فاعلم أن أحمد نص في رواية أخرى على أن غمسهما في الماء القليل لا يسلبه الطهورية، واختارها من أصحابه الخرقي والموفق وأبو البركات ابن تيمية وابن أبي عمر في شرح المقنع وجزم به في الوجيز وفاقا لأكثر الفقهاء. قال في شرح مسلم: الجماهير من العلماء المتقدمين والمتأخرين على أنه نهي تنزيه لا تحريم، فلو خالف وغمس لم يفسد الماء ولم يأثم الغامس. وأما الحديث 1 فمحمول على التنزيه. انتهى. [تقدم الطهارة للمسح على الجبيرة] "المسألة الرابعة" هل يظهر لكم دليل للأصحاب في اشتراطهم تقدم الطهارة للمسح على الجبيرة أم لا؟ "الجواب" دليلهم القياس على الخف والعمامة، بجامع الحائل. والقياس إذا صح فهو أحد الأدلة الخمسة التي هي الكتاب والسنة والإجماع والقياس والاستصحاب

_ 1 وهو "إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثا".

فكل واحد من هذه الخمسة دليل مستقل بنفسه، إلا أنه وقع من بعض الأصوليين خلاف في الاستصحاب، وقال ابن عبد الهادي: ذكره المحققون إجماعا انتهى، فالتحق بالأصول الأربعة. وقد عرفوا القياس اصطلاحا بأنه حمل فرع على أصل في حكم بجامع بينهما. قال ابن عبد الهادي: وأركانه أربعة الأصل، والفرع، وحكم الأصل، والوصف الجامع. انتهى، قال أبو العباس ابن تيمية*: لا تتناقض دلالة القياس إذا كانت صحيحة. انتهى. فينظر في قياسهم الجبيرة على الخف ونحوه، هل هو صحيح باجتماع أركان القياس الصحيح فيه فيصح دليلا أم لا؟ وإنما يتضح ذلك بنقل عبارات أهل الأصول المحررة، وتمهيد قواعدهم المقررة، ولو ذهبنا ننقلها في هذا الموضع لأدى بنا ذلك إلى التزام ما لا يلزم. إذا علمت ذلك فما اعتمده متأخرو الأصحاب من هذا الاشتراط هو إحدى الروايتين عن أحمد "الثانية" لا يشترط لمسح الجبيرة تقدم الطهارة واختارها الخلال وابن عقيل وأبو عبد الله ابن تيمية في التلخيص والموفق، وجزم به في الوجيز للأخبار والمشقة لكون الجراح قد تقع في حال لا يعلم وقوعها فيه، ففي اشتراط تقدم الطهارة للمسح إفضاء إلى الحرج الموضوع. [الموالاة والترتيب بين الوضوء والتيمم] "المسألة الخامسة" هل يشترط الموالاة والترتيب بين الوضوء والتيمم أم لا. "الجواب" قال في "المبدع": وإن كان حدث الجريح أصغر راعى الترتيب والموالاة ويعيد غسل الصحيح عند كل تيمم في وجه، وفي الآخر لا ترتيب ولا موالاة. فعلى هذا لا يعيد الغسل إلا إذا أحدث انتهى. والأول هو الذي اعتمده المتأخرون فأوجبوا الترتيب والموالاة بين الوضوء والتيمم لاشتراط الترتيب في

_ * مجموع الفتاوى 22/ 332. [معد الكتاب للمكتبة الشاملة]

الوضوء، فلا ينقل عن عضو حتى يكمله غسلا وتيمما عملا بقضية الترتيب، فعلى هذا لا يضر نداوة التراب في يديه كما هو ظاهر كلامهم، وصرح به بعض الشافعية، وحكي في الفروع عن المجد أن قياس المذهب أن الترتيب سنة. وحكي في الإنصاف وغيره عن أبي العباس ينبغي أن لا يرتب وقال غيره لا تلزمه مراعاة الترتيب، وهو الصحيح من مذهب أحمد وغيره، قال والفصل بين أبعاض الوضوء بتيمم بدعة. وجزم به ابن اللحام في الاختيارات، والنفس تميل إلى ما قاله لا سيما وقد حكى هو وغيره من العلماء عن أصل أحمد وغيره من فقهاء الحديث أن الأصل في العبادات التوقيف فلا يشرع منها إلا ما شرعه الله. اللهم إلا أن يكون بين إيجاب الترتيب والموالاة وبين بعض الأدلة الشرعية رابط خفي علينا ففوق كل ذي علم عليم. [اشتراط دخول الوقت للوضوء من الحدث الدائم] "المسألة السادسة" هل يظهر لكم دليل لاشتراطهم دخول الوقت لوضوء من حدثه دائم كسلس البول ودائم الريح ومن به قروح أو جروح؟ "الجواب" دليل ما ذكروه من اشتراط دخول الوقت لمن حدثه دائم كسلس البول ودائم الريح والجروح التي لا يرقأ دمها والقروح السيالة، هو القياس على المستحاضة بجامع العذر، وقد أسلفنا لك أن القياس إذا صح دليل مستقل بنفسه، ونحن نذكر حكم المسألة من كلامهم. قال في شرح المفردات عند قول الناظم: وبدخول الوقت طهر يبطل ... لمن بها استحاضة قد نقلوا لا بالخروج منه لو تطهرت ... للفجر لم يبطل بشمس ظهرت يعني أن المستحاضة ومن به سلس البول ونحوه يتوضأ لوقت كل صلاة إلا لأن يخرج منه شيء، وهو قول أصحاب الرأي لحديث علي بن ثابت عن أبيه

عن جده في المستحاضة "تدع الصلاة أيام إقرائها ثم تغتسل وتصوم وتصلي وتتوضأ عند كل صلاة"1 رواه أبو داود والترمذي. وعن عائشة قالت: جاءت فاطمة بنت أبي حبيش إلى النبي صلى الله عليه وسلم -فذكرت خبرها- ثم قالت قال "توضئي لكل صلاة حتى يجيء ذلك الوقت"2 رواه أحمد وأبو داود والترمذي وقال حسن صحيح. فإذا توضأ أحد هؤلاء قبل الوقت ثم بعد أن دخل الوقت بطلت طهارته لأن دخوله يخرج به الوقت الذي توضأ فيه. والحدث مبطل للطهارة، وإنما عفي عنه مع الحاجة إلى الطهارة، ولا حاجة قبل الوقت، وإن توضأ بعد الوقت صح وضوءه ولم يؤثر فيه ما يتجدد من الحدث الذي لا يمكن التحرز منه، ولا تبطل الطهارة بخروج الوقت إذا لم يدخل وقت صلاة أخرى من الخمس، فمن تطهرت لصلاة الصبح لم يبطل وضوءها بطلوع الشمس لأنه لم يدخل وقت صلاة أخرى. قال المجد -في شرح الهداية- ظاهر كلام أحمد أن طهارة المستحاضة تبطل بدخول الوقت دون خروجه. وقال أبو يعلى: تبطل بكل واحد منهما ثم قال: والأول أولى انتهى. ومشى على الثاني في الإقناع. والمشهور عند الحنفية أنها تبطل بخروج الوقت لا بدخوله، فلو توضأت بعد طلوع الشمس لم تبطل حتى يخرج وقت الظهر. انتهى كلامه. وقال أبو العباس*: أظهر قولي العلماء أن مثل هؤلاء يتوضئون لوقت كل صلاة أو لكل صلاة. [نقض الوضوء بسقوط الجبيرة] "المسألة السابعة" إذا سقطت الجبيرة بنفسها من غير برء هل تنتقض الطهارة بذلك أم لا؟ "الجواب" قال في الفروع: وإن زالت الجبيرة فكالخف وقيل طهارتها باقية

_ 1 الترمذي: الطهارة "126" , وأبو داود: الطهارة "297" , وابن ماجه: الطهارة وسننها "625" , والدارمي: الطهارة "793". 2 البخاري: الوضوء "228" , وأبو داود: الطهارة "298". * مجموع الفتاوى 21/ 221. [معد الكتاب للمكتبة الشاملة]

قبل البرء، واختاره شيخنا مطلقا كإزالة شعر اهـ وعنى بشيخه أبا العباس، قال العكبري: فلو خلع الجبيرة على طهارة لم ينتقض وضوءه بمجرد خلعها. وقال في الإقناع والمنتهى وشرح المفردات: وزوال جبيرة كخف اهـ وكذا عبر غيرهم بلفظ زالت وزوال، وكلا اللفظين أعم من أن يكون بفعل، فعلى هذا إن كان سقوطها على طهارة لم تنتقض الطهارة به وإن كان بعد حدث انتقضت وعلى الثانية هي باقية مطلقا ما لم يبرأ. [صور من جمع المسافر بين الصلاتين] "المسألة الثامنة" إذا تحقق المسافر وصول الماء قبل خروج وقت الثانية من المجموعتين هل له أن يصليهما جميعا في هذه الحال أم لا؟ "الجواب" له أن يؤخر الأولى جمعا مع الثانية لجواز الجمع للمسافر مطلقا، تحقق وجود الماء أو ظنه وقت الثانية أم لا على المشهور في مذهب أحمد، بل حكي في الفروع عن بعضهم أن الجمع في السفر في وقت الثانية أفضل وأنه مذهب الشافعي، وقال المنقح في تصحيح الفروع: جزم به في الهداية والخلاصة، وقال ابن تميم نص عليه اهـ. وقال أبو العباس في المسألة المسماة "بتيسير العبادات"*: الجمع بين الصلاتين بطهارة كاملة خير من أن يفرق بين الصلاتين بتيمم، والجمع بين الصلاتين مشروع لحاجة دنيوية فلأن يكون مشروعا لتكميل الصلاة أولى، والجامع بين الصلاتين مصل في الوقت. وقال في موضع آخر**: الجمع بين الصلاتين يصير الوقتين وقتا لهما، وقاله في الإنصاف وغيره. [ما يستحب وما يكره للجمعة وحكم السفر قبل صلاتها] "المسألة التاسعة" ما ورد في يوم الجمعة كقراءة سورة الكهف والغسل والتفريق بين الاثنين وغيرها هل هو مختص بما قبل الزوال أو باليوم كله؟ "الجواب" أما قراءة سورة الكهف فظاهر الخبر الآتي وصريح كلام

_ * "تيسير العبادات لأرباب الضرورات" ضمن "مجموع فيه مصنفات لشيخ الإسلام ابن تيمية" لإبراهيم الميلي ص 260 - 261، وهو في مجموع الفتاوى 21/ 451. [معد الكتاب للمكتبة الشاملة] ** مجموع الفتاوى 22/ 72. [معد الكتاب للمكتبة الشاملة]

فقهاء الحنابلة والشافعية أنها في مطلق اليوم، والأصل فيه ما رواه الحاكم والبيهقي عن أبي سعيد مرفوعا "من قرأ سورة الكهف يوم الجمعة أضاء له من النور ما بين الجمعتين" وفي رواية للبيهقي "ما بينه وبين البيت العتيق" قال في "شرح الجامع الصغير": وفي رواية "ليلة الجمعة" بدل "يوم الجمعة" وجمع بأن المراد اليوم بليلته والليلة بيومها اهـ. وقاله في "شرح المنهاج"، وفي "الفتاوى المصرية": هي مطلقة يوم الجمعة ما سمعت أنها مختصة ببعد العصر اهـ. قال في "شرح المنهاج": ويستحب الإكثار من قراءتها كما نقل عن الشافعي وقراءتها نهارا آكد، وأولاها بعد الصبح مسارعة للخير اهـ. فلم يقيدها بغير الأولوية وعليها يحمل ما حكاه في "المغني" وغيره عن خالد بن معدان من أنها قبل الصلاة. لكن هل الليلة ما قبل اليوم أو ما بعده؟ قال ابن القيم في البدائع: هذا مما اختلف فيه فحكي عن طائفة أن ليلة اليوم بعده، والمعروف عند الناس أن ليلة اليوم قبله، ومنهم من فصَّل بين الليلة المضافة إلى اليوم كليلة الجمعة وغيرها فالمضافة إلى اليوم قبله، والمضافة إلى غيره بعده والذي فهمه الناس قديما وحديثا من قول النبي صلى الله عليه وسلم "لا تخصوا يوم الجمعة بصيام من بين الأيام، ولا ليلة الجمعة بقيام من بين الليالي"1 أنها الليلة التي تسفر صبيحتها عن يوم الجمعة اهـ ملخصا. وقد جاء الحديث أيضا بقراءة سورة هود وسورة آل عمران في يومها، روى الدارمي في مسنده عن عبد الله بن رباح مرفوعا "اقرءوا سورة هود يوم الجمعة"2 ثم أخرجه كذلك بزيادة عن كعب وهو في مراسيل أبي داود. قال الحافظ مرسل صحيح الإسناد، وروى الطبراني في الأوسط عن ابن عباس مرفوعا "من قرأ السورة التي يذكر فيها آل عمران يوم الجمعة صلى الله وملائكته عليه حتى تجب الشمس"3. ومما ورد من الخصائص مطلقا أيضا الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه

_ 1 مسلم: الصيام "1144". 2 الدارمي: فضائل القرآن "3403". 3 أي تغيب من "وجب" بمعنى سقط كقوله -تعالى- "وجبت جنوبها" أي سقطت.

رواه أبو داود والترمذي من حديث أوس بن أوس قال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين، ومن ذلك أوكدية السواك والتفرغ للعبادة ومزية الصدقة، ودنو أرواح المؤمنين من قبورهم وتوافيها فيه. وأما الاغتسال والتطيب، ولبس أحسن الثياب، وقص الشارب، وتقليم الأظفار، والنهي عن التخطي والتفريق والتحلق، والحبوة، فدلت الأخبار على أنه قبل الصلاة، وإن كان ظاهر الفروع في الاغتسال عدم التقييد لأنه قال في يومها الحاضر: إن صلاها، إلا لامرأة، وقيل: ولها اهـ. ففي الصحيحين عن ابن عمر مرفوعا "من أتى الجمعة فليغتسل"1 وفي السنن عن أبي هريرة مرفوعا "من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة ثم راح -فذكره إلى أن قال-: فإذا خرج الإمام حضرت الملائكة يستمعون الذكر"2 وفي سنن أبي داود عن أبي سعيد مرفوعا "من اغتسل يوم الجمعة ولبس أحسن ثيابه ومس من الطيب إن كان عنده ثم أتى الجمعة فلم يتخط رقاب الناس ثم صلى ما كتب له ثم أنصت إذا خرج إمامه" الحديث. وفي البخاري عن سلمان مرفوعا "ثم راح فلم يفرق بين اثنين فصلى ما كتب له ثم إذا خرج الإمام أنصت"3 الحديث، وفي الطبراني عن أبي هريرة: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم - يقلم أظفاره ويقص شاربه يوم الجمعة قبل أن يخرج إلى الصلاة" وفي مسند أحمد وسنن أبي داود عن ابن عمر: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحبوة يوم الجمعة والإمام يخطب"4. وأما السفر لمن كان من أهل وجوبها فمنعه الأصحاب بعد الزوال إن لم يخف فوت رفقته إذا لم يأت بها في طريقه، وقبل الزوال فمكروه بشرطه، قال ابن المنذر: لا أعلم خبرا ثابتا يمنع السفر أول النهار إلى الزوال، وإنما يمنع إذا سمع النداء لوجوب السعي حينئذ، وقال المجد في "شرح الهداية" روى ابن أبي ذئب قال: "رأيت ابن شهاب يريد يسافر يوم الجمعة ضحوة، فقلت له تسافر يوم الجمعة؟ فقال إن رسول

_ 1 البخاري: الجمعة "877 ,894 ,919" , ومسلم: الجمعة "844" , والترمذي: الجمعة "492" , والنسائي: الجمعة "1376 ,1405 ,1407" , وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها "1088" , وأحمد "2/ 3 ,2/ 9 ,2/ 35 ,2/ 37 ,2/ 41 ,2/ 42 ,2/ 48 ,2/ 53 ,2/ 55 ,2/ 57 ,2/ 64 ,2/ 75 ,2/ 77 ,2/ 78 ,2/ 101 ,2/ 105 ,2/ 115 ,2/ 120 ,2/ 141 ,2/ 145 ,2/ 149" , ومالك: النداء للصلاة "231" , والدارمي: الصلاة "1536". 2 البخاري: الجمعة "881" , ومسلم: الجمعة "850" , والترمذي: الجمعة "499" , والنسائي: الجمعة "1388" , وأبو داود: الطهارة "351" , وأحمد "2/ 460" , ومالك: النداء للصلاة "227". 3 البخاري: الجمعة "910" , وأحمد "5/ 438 ,5/ 440". 4 الترمذي: الجمعة "514" , وأبو داود: الصلاة "1110" , وأحمد "3/ 439".

الله -صلى الله عليه وسلم- سافر يوم الجمعة" رواه أبو بكر النجاد وهو من أقوى وجوه المُرْسل لاحتجاج من أرسله به اهـ. وفي مسند الشافعي عن عمر أنه رأى رجلا عليه هيئة السفر فسمعه يقول: لولا أن اليوم يوم الجمعة لخرجت، فقال عمر: اخرج فإن الجمعة لا تحبس عن سفر، وفيه عن علي نحوه، وفي سنن سعيد بن منصور عن ابن كيسان أن أبا عبيدة بن الجراح سافر يوم الجمعة ولم ينتظر الصلاة. وأما ما رواه الدارقطني في الإفراد عن ابن عمر يرفعه "من سافر يوم الجمعة دعت عليه الملائكة أن لا يصحب في سفره" ففيه ابن لهيعة ولا يحتج بحديثه عند الحفاظ. وأما ساعة الإجابة فاختلف العلماء فيها وفي موضعها على أكثر من ثلاثين قولا ذكرها الحافظ ابن حجر في "الفتح" و"لوامع الأنوار" وغيرهما، ونظمها السيوطي في سبعة عشر بيتا، وأقرب الأقوال فيها قولان -وأحدهما أرجح من الآخر، كما قاله ابن القيم في الهدي وغيره-: "الأول" ما بين جلوس الإمام إلى انقضاء الصلاة. "والثاني" أنها بعد العصر، وهو قول عبد الله بن سلام وأبي هريرة، وذكره ابن جرير عن ابن عباس. قال الترمذي هو مذهب أحمد وإسحاق وجماهير من أهل العلم. "خاتمة" ذكر في "التوشيح" وغيره أن خصائص الجمعة تزيد على الأربعين. [الاشتراك في الأضحية وإجزاء الشاة عن الرجل وعياله] "المسالة العاشرة" ما معنى قوله -عليه السلام- في الأضحية "البدنة عن سبعة، والبقرة عن سبعة" وقوله لما ذبح "أضحية محمد، وآل محمد، وأمة محمد" وهل يشترك في البدنة والبقرة أكثر من سبعة؟ وهل المراد سبعة من الغنم أو سبعة أشخاص إلخ؟ " الجواب" قوله: الجزور عن سبعة يعني تضحية الإبل والبقر عن سبعة أشخاص مجزية عن كل واحد سبع. انتهى من المفاتيح.

وقال عن حديث ابن عباس الذي رواه الترمذي والنسائي: "كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر، فحضر الأضحى، فاشتركنا في البقرة سبعة، وفي البعير عشرة"1 إن هذا الحديث منسوخ بما تقدم وهو "الجزور عن سبعة"2 انتهى. وقال في "المغنى" عن حديث رافع: إن النبي صلى الله عليه وسلم قسَّم فعَدَل عشرةً من الغنم ببعير، هو في القسمة لا في الأضحية. انتهى. وقد أخذ كثير من العلماء، أو أكثرهم بمفهوم الناسخ، فقالوا: لا تجزئ البدنة كالبقرة عن أكثر من سبعة أشخاص، لكن لو اشترك جماعة في بدنة، أو بقرة فذبحوها على أنهم سبعة، فبانوا ثمانية ذبحوا شاة وأجزأتهم. قال في "الإنصاف" على الصحيح من المذهب، نقله ابن القاسم وعليه أكثر الأصحاب. ونقل منها تجزي عن سبعة، ويرضون الثامن ويضحي، وهو قول في الرعاية. انتهى ملخصا. وقال في حاشية "التنقيح": قوله عن سبعة، ويعتبر ذبحها عنهم، قال الزركشي: وتعتبر أن تشترك الجماعة دفعة واحدة؛ فلو اشترك ثلاثة في بقرة أضحية، أو قالوا: من جاء يريد الأضحية شاركناه، فجاء قوم فشاركوهم، لم تجز إلا عن الثلاثة. انتهى. وإذا صح الاشتراك، فالظاهر لا يمنع كون أحدهم مضح لنفسه، وبعضهم مضح لميته 3. وأما الحديث الثاني، فقال الخطابي في معالم السنن في قوله -عليه السلام-: "تقبل من محمد، وآل محمد"4 دليل على أن الشاة الواحدة تجزئ عن الرجل وأهله وإن كثروا، وروى عن أبي هريرة وابن عمر أنهما كانا يفعلان ذلك، وأجازه مالك، والشافعي، والأوزاعي، وأحمد بن حنبل، وإسحاق، وكره ذلك الثوري، وأبو حنيفة. انتهى. قال ابن تيمية في الفتاوى المصرية*: "أجزأه ذلك في أظهر قولي العلماء، وهو مذهب مالك، وأحمد، وغيرهما؛ فإن الصحابة كانوا يفعلون ذلك، وقد ثبت في الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم ضحى، وقال -فذكر الحديث-". وترجم جده المجد في المنتقى "باب الاجتزاء

_ 1 الترمذي: الأضاحي "1501" , والنسائي: الضحايا "4392" , وابن ماجه: الأضاحي "3131". 2 مسلم: الحج "1318" , والترمذي: الحج "904" والأضاحي "1502" , وأبو داود: الضحايا "2807" , وابن ماجه: الأضاحي "3132" , وأحمد "3/ 293 ,3/ 363" , ومالك: الضحايا "1049". 3 كذا في الأصل والوجه في الإعراب أن يقال "مضحيا" في الموضعين؛ لأنه خبر لكون. 4 مسلم: الأضاحي "1967" , وأبو داود: الضحايا "2792" , وأحمد "6/ 78". * مجموع الفتاوى 26/ 310. [معد الكتاب للمكتبة الشاملة]

بالشاة لأهل البيت الواحد" ثم ذكر حديث عطاء بن يسار عن أبي أيوب، وذكر في الإفصاح عن مالك: أنه لا يجوز الاشتراك فيها بالأثمان والأعراض، بل على سبيل الإرفاق، وكان يشرك رب البيت أهل بيته، وسواء في ذلك عنده: البدنة، والبقرة، والشاة. وقال في الإنصاف: وتجزئ الشاة عن واحد بلا نزاع، وتجزئ عن أهل بيته وعياله على الصحيح من المذهب، نص عليه وعليه أكثر الأصحاب، وقطع به كثير منهم، وقيل: لا تجزئ، وقدمه في الرعاية الكبرى، وقال: وقيل في الثواب، لا في الإجزاء. انتهى. والمعتمد عند الشافعية: عدم إجزاء الشاة عن أكثر من واحد، قال في المنهاج وشرحه: والشاة عن واحد، فلو اشترك اثنان في شاة لم يجز، والأحاديث المخالفة لذلك كحديث: "اللهم هذا عن محمد، وآل محمد"1 محمولة على أن المراد التشريك في الثواب، لا في الأضحية. انتهى. وقال الخلخالي في المفاتيح: ذكر في الروضة أن الشاة الواحدة لا يُضحَّى بها إلا عن واحد، لكن إذا ضحى بها واحد عن أهل بيته تأدى الشعار والسنة لجميعهم. وعلى هذا حمل ما روي أنه -عليه السلام- ضحى بكبش وقال: "اللهم تقبل عن محمد، وآل محمد"2 وكما أن الفرض بنفسه ينقسم إلى عين وكفاية، فقد ذكروا أن التضحية كذلك، وأنها مسنونة لأهل كل بيت، وقد حمل جماعة الحديث على الاشتراك في الثواب؛ لأنه قال: "وعن أمة محمد" انتهى. [إخراج الزكاة المستحقة على المورث] "المسألة الحادية عشرة": رجل غني مات، لكن غالب ماله؛ إما في ذمة صاحب عقار معسر، لا يحصل منه وفاء إلا من غلته، أو عند مماطل، أو جاحد ونحوه، فحصل من ذلك المال كل نوع بحسبه، فهل زكاته -لما مضى- واجبة من موت المورث إلى الحصول؟ وهل وقته الذي كان في حياة المورث واجبة على الوارث؟

_ 1 أحمد "6/ 391". 2 أحمد "6/ 391".

فإن قلتم: نعم، وكان بعض الورثة لا يملك نصابا، فهل تكون الزكاة من رأس المال، أو على حصة من ملك نصابا؟ "الجواب": إذا اعتمدنا ما قطع به المتأخرون من وجوب الزكاة في الدَّين الذي على غير المليء كعلى المليء، لصحة الحوالة به عليه والإبراء منه، فإنه يكون في المسألة تفصيل، فإن كان قد مضى على الدَّين المذكور حَولٌ فأكثر من ملك ربه له قبل موته، فإن زكاته تخرج من تركته لما مضى، ولو لم يبلغ المقبوض نصابا. قال في المبدع: وإذا مات من وجبت عليه الزكاة أخذت من تركته؛ نص عليه لقوله -عليه الصلاة والسلام-: "فدين الله أحق بالقضاء"1 وصرحوا بأن الوارث لا يبني على حول مورثه، بل يستأنف حولا من ابتداء ملكه، وهو وقت موت المورث. ثم إن كان قد مضى من موته في صورة السؤال حول فأكثر، وبلغ نصابا، زكاه صاحبه كذلك. وإن لم يحل عليه الحول أو حال ولم يبلغ نصابا، فإنه لا زكاة فيه، هذا على المقطوع به عند المتأخرين من الروايات عن أحمد في المسألة. وعنه رواية ثانية: أن الدين على غير المليء لا زكاة فيه مطلقا، صححها في التلخيص ورجحها جماعة، واختارها ابن شهاب والشيخ تقي الدين ذكره عنهم في المبدع، وقال: روي عن عمر وابن عمر؛ لأنه غير تام، وهو خارج عن يده وتصرفه، ولأن الزكاة وجبت في مقابلة الانتفاع بالنماء حقيقة أو مظنة، وهذا مفقود. انتهى. وعنه رواية ثالثة: إنما يؤمل رجوعه كالدَّين على الغائب المنقطع خبره والمفلس، ففيه الزكاة، وما لا يؤمل رجوعه كالمسروق والمغصوب فلا زكاة فيه، قال أبو العباس: وهذا أقرب -إن شاء الله-، حكاه عنه في المبدع والإنصاف.

_ 1 البخاري: الصوم "1953" , ومسلم: الصيام "1148" , وأبو داود: الأيمان والنذور "3310" , وأحمد "1/ 227 ,1/ 258 ,1/ 362".

[وجد البائع عين ماله عند المفلس بشروطه المعتبرة] "المسألة الثانية عشرة": إذا وجد البائع عين ماله عند المفلس بشروطه المعتبرة، وكان المبيع جمع عددا أكثر بين عشرة إلى مائة، فهل إذا وجد بعضها يأخذه بقسطه، ويضرب فيما بقي مع الغرماء، أم يكون أسوة الغرماء، ولا يملك أخذ باقي سلعته؟ الجواب": هذه المسألة فيها روايتان عن أحمد: "إحداهما": أنه يرجع في العين الباقية؛ جزم به في المنتهى والإقناع، وذكر في الإنصاف: أنه الصحيح من المذهب؛ لأن السالم وجده ربه بعينه، فيدخل في عموم الخبر، قاله في شرح المنتهى، ووجه في الغاية أن مثله المكيل والموزون، فيأخذ ما وجد منه. والرواية الثانية": أن المتعدد كغيره إذا لم يجده كله كان أسوة الغرماء؛ لتعذر كل العين. قال في الإنصاف: وهو ظاهر كلام المصنف هنا وجماعة. انتهى. وفي الأولى قوة مع كونها مختار المتأخرين. [التزام شروط الواقف ومن جوز تغييرها إلى الأصلح] "المسألة الثالثة عشرة": إذا وقَّف إنسان وقفا على جهة معينة كعلى صوام المسجد الفلاني، ثم أراد الواقف 1 أو غيره صرفه إلى جهة أخرى؛ إما في تلك البلد، أو في بلد أخرى، هل له ذلك، أم لا؟ "الجواب": يتعين مصرف الوقف إلى الجهة المعينة على الصحيح من المذهب؛ نقله الجماعة، وقدمه في الفروع وغيره، وقطع به أكثرهم، وعليه الأصحاب. وقال الشيخ تقي الدين*: يجوز تغيير شرط الواقف إلى ما هو أصلح منه وإن اختلف ذلك باختلاف الأزمان، حتى لو وقف على الفقهاء والصوفية، واحتاج الناس إلى الجهاد صُرِف إلى الجند. انتهى من الإنصاف. فجوز الشيخ تغييره إلى ما هو أصلح، لا إلى ما هو مثله أو دونه. ووجه الأول وقوع الوقف لازما، وانتقال الملك

_ 1 كذا في الأصل؛ وهو من أوقف لغة تميم، وأنكرها بعضهم. * "الاختيارات الفقهية" لابن اللحام ص 509، و"الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف" 7/ 57، وهو في "المستدرك على مجموع الفتاوى" 4/ 96. [معد الكتاب للمكتبة الشاملة]

فيه بمجرد عقده إلى الله -سبحانه-، ومعنى الانتقال هو انفكاكه عن اختصاصات الآدميين. قال العلامة ابن زياد الشافعي: والذي يظهر المنع في صورة السؤال، والموقف وغيره في هذا سواء؛ لزوال الملك عنه في الموقوف. [ما تصح به العقود من قول وفعل] "المسألة الرابعة عشر": إذا وقف إنسان وقفا، وأشهد عليه، وكتب به، والشاهد والكاتب يعرفان معنى ما نطق به من لغته وعُرفه، فكتب الكاتب خلاف ما نطق به الموقف وأراده، ظنا منه أن المعنى واحد، كما إذا قال: على أولادي وأولادهم، وهما عالمان منه إرادة التعقيب دون التشريك، إلخ. "الجواب": يتعين العمل بما شهدا عليه من لفظ لغته، وعلماه من إرادته، وإنما يحكم على العامة في هذا ونظائره بما تقتضيه لغاتهم، ويدل عليه عرفهم، وإن عدلوا عن الصيغ الاصطلاحية عند الفقهاء؛ لكون العقود بالمقصود. قال أبو العباس*: للفقهاء في صفة العقود ثلاثة أقوال: "أحدها" أن الأصل في العقود أنها لا تصح إلا بالصيغ والعبارات التي يخصها بعض الفقهاء باسم الإيجاب والقبول، سواء في ذلك البيع، والإجارة، والنكاح، والوقف، والعتق، وغير ذلك، وهذا ظاهر قول الشافعي، وهو قول في مذهب أحمد؛ لكون الأصل عندهم هو اللفظ. "والقول الثاني" أنها تصح بالأفعال كالوقف؛ كمن بنى مسجدا، أو أذن للناس في الصلاة فيه، وكبعض أنواع الإجارة. فهذه العقود لو لم تنعقد بالأحوال الدالة عليها لفسدت أكثر أحوال الناس، وهذا هو الغالب على أصول أبي حنيفة، وقول في مذهب أحمد، ووجه في مذهب الشافعي، بخلاف المعاطاة في الأموال الجليلة، فإنه لا حاجة إليه، ولم يجر به العرف. "والقول الثالث" أن العقود تنعقد بكل ما دل على مقصودها من قول أو فعل، فكل ما عده الناس بيعا، أو إجارة فهو بيع، أو إجارة. وإن اختلف اصطلاح

_ * "القواعد النورانية" ص 153، وهو في مجموع الفتاوى 29/ 5. [معد الكتاب للمكتبة الشاملة]

الناس في الألفاظ والأفعال انعقد العقد عند كل قوم بما يفهمونه من الصيغ والأفعال، وليس لذلك حد مستمر لا في شرع، ولا في لغة، بل يتنوع اصطلاح الناس كما تتنوع لغاتهم، ولا يجب على الناس التزام نوع معين من الاصطلاحات، ولا يحرم عليهم التعاقد بغير ما يتعاقد به غيرهم؛ إذا كان ما يتعاقدون به دالا على مقصودهم، وإن كان قد يستحب بعض الصفات، وهذا هو الغالب على أصول مالك، وظاهر مذهب أحمد، فأما التزام لفظ مخصوص فليس فيه أثر، ولا نظر. وهذه القاعدة من أن العقود تصح بكل ما دل على مقصودها من قول أو فعل هي التي تدل عليها أصول الشريعة، وهي التي يعرفها العامة، ولم ينقل عن أحد من الصحابة والتابعين أنه عيّن للعقود صفة معينة من الألفاظ أو غيرها، أو قال ما يدل على ذلك من أنها لا تنعقد إلا بالصيغ، بل قد قيل: إن هذا القول يخالف الإجماع القديم، وهو أنه من البدع، وهذه قاعدة عظيمة نافعة. انتهى ملخصا. والمنصف لا يعدل عنه. [رد اللقطة لصاحبها] "الخامسة عشرة": إذا التقط رجل لقطة فطلبها صاحبها، وكتمها الملتقط؛ ليبذل عليها صاحبه مالا، هل له أخذ المال على هذا المنوال، أم لا؟ فإن قلتم: لا يحل، فهل يملك الباذل الرجوع، أم لا؟ وهل لقوله حال الإنشاد: حلال من الله، تأثير، أم لا؟ الجواب": لا يحل له أخذ المال المبذول، والحال ما ذكر؛ لوجوب تعريفها عليه، وإيصالها إلى صاحبها فورا، متى جاء، بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ويحرم عليه كتمانها، ولو تلفت في هذه الحال ضمنها بقيمتها مرتين. قال أبو بكر في التنبيه: ثبت خبر عن النبي صلى الله عليه وسلم "في الضالة المكتومة غرامتها، ومثلها معها"1 وهذا حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يرد. اهـ. وصرح الفقهاء بأن أجرة المنادي عليه، وبكتمانه لها ارتكب محرما، وترك واجبات متعددة، فيجب عليه رد ما أخذه إن لم تطب به نفس باذله بعد علمه بالحال،

_ 1 أبو داود: اللقطة "1718".

وقول مالكها حال الإنشاد: حلال من الله، لا تأثير له، وقد صرحوا فيمن رد ضالة قبل بلوغه بذل مالكها للجعل أنه يحرم عليه أخذه، وهو من أكل المال بالباطل، مع كونه بعد بذل صاحب الضالة له، لكنه لم يسمعه، وهو في مقابلة عمله، ولم يرتكب فيه محرما عمدا، أو يمتنع من واجب، فكيف بمن كتم وأثم. [التحكيم ونفوذ حكم الحكم بالتراضي أو مطلقا] "السادسة عشرة": إذا تحاكم اثنان إلى رجل حكماه ورضيا به، هل يلزم أحدهما الآخر بما قاله، أم لا؟ وهل يفرق بينه وبين غيره، أم لا؟ وهل هو محسن، أم لا؟ "الجواب": إذا تحاكم رجلان إلى رجل يصلح للقضاء، وحكماه بينهما، جاز ذلك، ونفذ حكمه عليهما، وبهذا قال أبو حنيفة، وللشافعي قولان: "أحدهما": لا يلزمهما حكمه إلا بتراضيهما. ولنا ما روى أبو شريح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله هو الحكم فلِمَ تكنى أبا الحكم؟، قال: إن قومي إذا اختلفوا في شيء أتوني فحكمت بينهم، فرضي الفريقان، قال: ما أحسن هذا، فمَن أكبر ولدك؟، قال: شريح، قال: فأنت أبو شريح"1 أخرجه النسائي، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم "من حكم بين اثنين تراضيا عليه، فلم يعدل بينهما فهو ملعون" ولولا أن حكمه يلزمهما لما لحقه هذا الذم، ولأن عمر وأُبَيَّا تحاكما إلى زيد، وحاكم عمر أعرابيا إلى شريح قبل أن يوليه القضاء، وتحاكم عثمان وطلحة إلى جبير بن مطعم. اهـ من شرح المقنع. وقال في الإنصاف: نفذ حكمه في المال، وينفذ في القصاص والحدود، والنكاح، واللعان في ظاهر كلامه، وهو المذهب، وقال القاضي: لا ينفذ إلا في الأموال خاصة، وقال في المحرر والفروع: وعنه لا ينفذ في قَود وحدّ، وقذف ولعان ونكاح، وقال في الرعاية: وليس له حبس في عقوبة، ولا ضرب دية خطأ على عاقلة من رضي بحكمه، وما قاله في الإنصاف أولا هو المعتمد، قطع به في التنقيح، وتبعه من بعده، قال في

_ 1 النسائي: آداب القضاة "5387" , وأبو داود: الأدب "4955".

التنقيح: فهو كحاكم الإمام مطلقا، قال في حاشيته: أي سواء وجد حاكم أم لا. اهـ. فلهذا قال المحشي في إقناعه: حتى مع وجود قاض. وقال في الاختيارات: إذا حكّم أحد الخصمين خصمه، جاز لقصة ابن مسعود، وكذا إن حكّما مفتيا في مسألة اجتهادية، وهل يفتقر ذلك إلى تعيين الخصمين أو حضورهما، أو يكفي وصف القضية له؟ الأشبه أنه لا يفتقر، بل إذا تراضيا بقوله في قضية موصوفة مطابقة لقضيتهم فقد لزم، فإن أراد أحدهما الامتناع؛ فإن كان قبل الشروع فينبغي جوازه، وإن كان بعد الشروع لم يملك الامتناع؛ لأنه إذا استشعر بالغلبة امتنع فلا يحصل المقصود. اهـ. فقد ظهر -مما قلناه- لزوم ما حكم به. وأما اشتراط الأهلية فكتب الأصحاب طافحة بها لصحة حكمه ولزومه، وحكى شارح التنبيه من أئمة الشافعية عليها الاتفاق، وأما اتصافه بالإحسان، فذلك إلى الرحمن. وليكن هذا ختام ما نقلناه، وختام ما قلناه، في هذه الألفاظ اللائحة، والأحرف الواضحة، جعله الله -تعالى- في مقام الإخلاص والتقوى السبب الأقوى، والله أعلم، وصلى الله على سيدنا محمد آله وصحبه وسلم. "انتهت"

الرد على المدعو عبد المحمود البخاري فيما موه به من أقوال الاتحادية والمشركين

الرد على المدعو عبد المحمود البخاري {فيما موّه به من أقوال الاتحادية والمشركين} مؤلفها غير معروف اسمه وهو من علماء نجد وقد تقدم لرد أوسع من هذا للشيخ عبد الرحمن بن حسن بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب صفحة 259 - 364 من مطبوعات صاحب الجلالة السعودية، ومحيي السنة المحمدية الإمام عبد العزيز آل سعود ملك الحجاز ونجد وملحقاتها أيده الله ووفقه (وقد وقفها على من ينتفع بها من أهل العلم والدين) {لا يحل لمن وقعت بيده بيعها}

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إله الأولين والآخرين، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ إمام المتقين -صلوات الله وسلامه عليه، وعلى آله وأصحابه أجمعين، وسلم تسليما. أما بعد: فإني وقفت على ورقتين لرجل جاءنا، يزعم أنه من أهل بخارى، ويقول: إن اسمه عبد المحمود، فرأيت ورقتيه تضمنتا عبارات تنبئ أنه يقول بقول أهل وحدة الوجود، وربما خلط ذلك بعبارات الفلاسفة، فتعين عليَّ أن أبين ما في ورقتيه من الإلحاد والدسائس التي موَّه بها على بعض الجهال، فأوقع بعضهم في لبس وضلال، فلما حصل الجواب رجع من رجع. [استواء الله على عرشه وعلوه على خلقه وبدع المبتدعة] فأول ما ابتدأ به الورقتين قوله: "الحمد لله المتوحد بجميع الجهات"؛ فاعلموا -وفقكم الله- أن هذه الكلمة ليس لها استعمال في الكتاب، ولا في السنة، ولا عند علماء السنة، ولا عند غيرهم من الطوائف، بل هي من عبارات أهل الاتحاد، ومعناها: أنه المتوحد بجميع الجهات، فهو فيها وحده، ليس فيها غيره، ومصدره توحّد يتوحد توحدا، إذا توحد بالمكان، فليس فيه غيره، كقول القائل: توحّد فلان بمكان كذا وكذا، إذا كان هو الذي فيه وحده. وأرادت هذه الطائفة بمثل هذه العبادة أن كل ما في الجهات فهو الله، يبين ذلك أنك لا تجد أحدا من أهل السنة، ولا من المتكلمين يصف الله -تعالى- بأنه توحد بجميع الجهات. فالسلف -أهل السنة- يقولون: إنه -تعالى- فوق العرش الذي هو أعظم المخلوقات، وهو فوق السموات، والله -تعالى- فوق عرشه، كما قال -تعالى-: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} 1، {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ}، {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} 2 في سبعة مواضع،

_ 1 سورة النحل آية: 50. 2 سورة طه آية: 5.

{تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} 1، {يا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} 2. وأمثال هذه الأدلة في الكتاب والسنة كثير تدل على أن الله -تعالى- فوق عرشه، وأنه ليس في الجهات، وأدلة علو الرب -تبارك وتعالى- على عرشه كثيرة في الكتاب والسنة. وأما أهل البدع من الجهمية، ومن سلك سبيلهم، فيقولون: إنه -تعالى- حال في كل شيء، تعالى الله عما يقولون علوًا كبيرًا، لكنهم لم يقولوا بقول أهل الاتحاد: إن الذي هو حال فيه هو عينه، بل يقولون: إنه غيره، وأما أهل الوحدة فيقولون: إنه الوجود بعينه، وهو قول هذا الرجل، كما يدل عليه بقية كلامه. وأما الأشاعرة فأخلوه -تعالى- من جميع الجهات، ولم يثبتوا علوه على خلقه، واستواءه على عرشه 3 فخالفوا السلف، وأهل السنة، ولم يؤمنوا بما في كتاب الله، ولا

_ 1 سورة المعارج آية: 4. 2 سورة آل عمران آية: 55. 3 لم يثبتوه كما أثبته السلف بمعناه العربي من غير تمثيل ولا تعطيل ولا تأويل، بل أولوه بما ينافي ما أرادوه من التنزيه، فقالوا: استولى على العرش. فيقال لهم: إن كان استيلاؤه عليه كاستيلاء بشر على العراق ونحوه، فهذا عين التشبيه الذي تفرون منه، وان كان استيلاء يليق به لا كاستيلاء الملوك وغيرهم على البلاد، فلم لا تقولون هذا في اللفظ الوارد في كتاب الله، كما قال السلف، والحال أن لفظكم يرد عليه من الاعتراض ما لا يرد على لفظ كتاب الله، وذلك من وجهين: "أحدهما": أنه لا يقال: إن فلانا الملك، أو القائد استولى على بلد كذا إلا إذا انتزعه من خصم له كان مستوليًا عليه قلبه، "ثانيهما": أن عطف الاستواء على خلق السموات والأرض بثُمّ يفيد أن الاستيلاء على العرش حصل بعد خلق السموات والأرض، والحق أنه كان مستوليًا عليه ومالكا له قبل ذلك، أي منذ خلقه، وهذا لا يرد على نص التنزيل على طريقة السلف كما هو ظاهر، ولا على طريقتكم في التأويل؛ لأن الاستواء في اللغة يدل على معنيين: العلو والتدبير الذي ورد في آية: {استوى على العرش يدبر الأمر}، فإنه لا محذور في العطف بثم على هذين المعنيين. إذ حاصلة أنه -تعالى- لما خلق السموات والأرض، وتحقق بذلك متعلق صفة الملك، تحقق بعده كل من علوه -سبحانه- على مجموع هذا الملك وتدبيره له، وهو معنى استوائه على العرش، فإن رتبة العلو على الملك وتدبيره مرتبة على خلقه وإيجاده، وإنما التراخي بثم هنا في الرتبة لا في الزمن. وكتبه محمد رشيد رضا.

في سنة رسوله من أدلة العلو، ويلزمهم على هذا لوازم ليس هذا محل ذكرها. وإنما أردنا بيان طريقة هذا الرجل، وما دل عليه كلامه لقول أهل الاتحاد، وليس في الكتاب والسنة، ولا في كلام سلف الأمة أن الله -تعالى- متوحد بجميع الجهات، بل الذي في القرآن: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} 1. ومعناه: أنه -تعالى- اختص بالإلهية دون كل ما سواه؛ فهو الذي تؤلهه القلوب محبة وذلا وعبودية، وتعظيما، ودعاء ورجاء، وغير ذلك من أنواع العبادة التي لا تصلح إلا له، وكل إله سواه فهو باطل، فالإلهية صفته التي لا يصح أن يوصف بها غيره إلا على وجه الإنكار لها ونفيها، وهذا هو التوحيد الذي بعث الله به رسله، وأنزل به كتبه، وفي سورة الإخلاص: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} 2 أي لا شبه له، ولا مثل له، ولا ند له، ولا كفو له، بل هو الكامل في ذاته وصفاته، لا إله غيره ولا رب سواه، فهذا هو التوحيد العلمي الذي يجب اعتقاده. [بيان القرآن لتوحيد الألهية والربوبية وإلحاد المبتدعة] والقرآن يقرر هذا التوحيد، ويبين أنه الإله الحق، كما قال -تعالى-: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ} 3 وهذا هو التوحيد في الإلهية، ويبين توحيده في ربوبيته بقوله -تعالى-: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ} 4 وقوله: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ} 5 إلى قوله: {فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ} وهذا التوحيد الثاني قد أقر به مشركو العرب وغيرهم، لكنهم جحدوا التوحيد العملي؛ توحيد العبادة، فصار إقرارهم بهذا النوع حجة عليهم فيما جحدوا، كما قال -تعالى-: {مَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} 6. قال علماء الصحابة والسلف والمفسرون: تسألهم مَن خلق السموات والأرض؟ فيقولون: الله، فذلك إيمانهم، وهم مع ذلك يعبدون غيره، فذلك شركهم. وأما توحيده -تعالى- في أسمائه التي هي أوصافه -تعالى-، فالسلف وأهل السنة يثبتون ما أثبته الله في كتابه، وما أثبته رسوله في سنته، على ما يليق بجلال الرب

_ 1 سورة البقرة آية: 163. 2 سورة الإخلاص آية: 1. 3 سورة الحج آية: 62. 4 سورة يونس آية: 3. 5 سورة يونس آية: 31. 6 سورة يوسف آية: 106.

-تعالى- وعظمته، إثباتا بلا تمثيل، وتنزيها بلا تعطيل، كما قال -تعالى-: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} 1. وأما أهل البدع فألحدوا في هذا التوحيد؛ فمنهم من نفى ما دلت عليه الصفات من كمال الرب، ومنهم من تأولها تأويلات بعيدة تخالف ما دلت عليه من المعاني المعروفة في اللغة، ولسان الشرع، والفطر والعقول الصحيحة. فتدبر -أيها الطالب للعلم والهدى- والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم، إذا عرفت ذلك، وتميز الحق من الباطل عند من طالع في هذا الجواب، فليعلم أن أهل السنة والجماعة لا يطلقون على الله -تعالى- لفظ الجهة؛ لعدم وروده في الكتاب والسنة، وإنما يطلقون على الله -تعالى- ما ورد، فيقولون: إنه -تعالى- استوى على عرشه استواء يليق بجلاله وعظمته، ويقولون: إنه فوق العرش، وأنه على عرشه -تعالى- وتقدس، ويثبتون له العلو من جميع الجهات، علو القهر، وعلو القدر، وعلو الذات، ولا يبخسونه واحدًا منها، كما قال -تعالى-: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلا يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} 2 وهذا في عدة مواضع من القرآن. فلله الحمد لا نحصي ثناء عليه، هو كما أثنى على نفسه، وفوق ما يثني عليه خلقه. [الزعم بأن الإله في كلمة التوحيد كلي مطلق] وأما قوله: "إن لا إله إلا الله إنما نفت كليا في الذهن، لا يوجد منه في الخارج إلا فرد، وهو المستثنى" فهذا تحريف فاسد لمعنى كلمة الإخلاص، لم يسبقه إليه أحد من مشركي الأمم، ولا يقدر أحد على هذا التحريف الذي لا أفسد منه، فإن "لا" إنما وضعت لنفي أفراد الجنس الموجودة في الخارج، ولم توضع لمقدرات الذهن التي لا يوجد لها أفراد، وهذا أمر معروف بالضرورة. واليهود الذين وصفهم الله -تعالى- بكونهم يحرفون الكلم عن مواضعه لا يقدر أحد منهم على مثل هذا التحريف، الذي هو من أعظم التحريف وأبعده عن الإسلام والإيمان، والرسل والكتب،

_ 1 سورة الشورى آية: 11. 2 سورة البقرة آية: 255.

وهذا الكلي الذي قدره هؤلاء في الذهن لا حقيقة له، بل هو كذب محض، وجناية على أصل دين الإسلام، وإبطال لمعنى هذه الكلمة العظيمة التي هي أساس الدين، وهذا من عظيم كفر هذه الطائفة الاتحادية. ومن المعلوم عند كل طائفة أن "لا" النافية للجنس لم توضع لما يقدر في الأذهان، بل وضعت لغة لنفي أفراد الجنس الموجود في الأعيان، والخيالات الذهنية، لم يوضع لها شيء من الأدوات أصلا؛ لأنها خيال ذهني كاذب. وقد مثل ما ذهب إليه بقوله "لا شمس إلا الشمس" يعني أنه قدر في ذهنه أن هناك شموسًا انتفت بلا، واستثنى منها الفرد الموجود، وهذا كذب محض، فما ليس في الوجود لا يصح تقديره موجودًا ينتفي بلا، بل هو منتف في نفسه أصلا، فكيف يدعي أن "لا" نفت ما لا وجود له من تخيلات الأذهان التي هي كذب محض. وهذه الطائفة حاولوا إبطال معنى لا إله إلا الله الذي جاءت به الكتب والرسل من نفي عبادة الأصنام والأنداد، التي دلت العقول الصحيحة والفطر السليمة، والرسل والكتب على نفيها وإبطالها، وعلى ما حرفته هذه الطائفة لم يبق من الإسلام والإيمان حبة خردل، بل هو كفر؛ لأنه لم ينف وثنا ولا صنما، والرسل والكتاب تنفي ذلك كله بكلمة الإخلاص، وقد أراد بذلك أن يفتن الجهال، فوقى الله شره، فلله الحمد على ذلك. وأيضًا فقد تناقض بدعواه أن هذا الفرد الموجود قد انتفى بلا، ثم أثبت بلا، وهذا تناقض ظاهر لا يصدر إلا ممن لا يدري ما يقول، وكل صاحب باطل فلا بد أن يأتي بكلام يناقض بعضه بعضًا. [كلمة التوحيد تنفي آلهة الباطل المتخذة وتثبت الإله الحق] وأما قول هذا الأعجمي: "الإله هو المعبود غير مقيد بقيد الحقيقة أو البطلان". "فالجواب": لا يخفى أن هذا قول في غاية الفساد والمغالطة، فالعناد لا يؤخذ

منه معنى ويستفاد، ولا صدر عن دراية ولا عن رواية، بل ولا تقليد، بل هو عن الصواب بمكان بعيد، بل هو زعم كاذب، لا أصل له في كلام أحد من طوائف الأمة، قد خالف اللغة والمنقول والمعقول. بيان ذلك: أن أسماء المسميات موجودة في سابق علم الله -تعالى- قبل وجود مسمياتها، كاسم الجنس، وعلم الجنس، والمتواطئ، والمشترك، والأعلام ونحو ذلك، ثم إن الله -تعالى- علم آدم الأسماء كلها، كما قال -تعالى-: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} 1. وجميع اللغات إنما وجدت بإلهام من الله -تعالى- ولم يحدث لها بعد ذلك تغيير ولا تقييد بعد الوضع الأول، وكل اسم وضع على مسماه، فمنها ما هو مشترك بين الحق والباطل، كاسم الإله فإنه يقع على كل معبود. إذا ألهه العبد بالعبادة صار مألوها، فإن كان الذي ألهه العبد بالعبادة هو الله وحده فهو الإله الحق، وهذا وصفه تعالى فيما لم يزل ولا يزال كما قال -تعالى-: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} 2 وقال -تعالى-: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ} 3 الآية، ولها نظائر في القرآن. فإن اتخذ العبد معبودا سوى الله فقد ألهه بالعبادة وصار باطلا كما في قوله: {وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ} وهذا هو الأصل في وضع هذا الوصف لم يتغير إطلاقه عن الأصل على الإله الحق سبحانه. وأما إطلاقه على غيره فمن جهة فعل العبد إذا ألَّه غير الله بالمحبة والإجلال، والخضوع والذل، والتوجه ودعائه، وغير ذلك من أنواع العبادة، فيكون قد ألهه بذلك، وشبهه بالإله الحق بعبادته له، فأطلق عليه بهذا الاعتبار، كما قال -تعالى-: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي} 4 الآية. فبين -تعالى- أن إلهيتها ليست بحق، والحق ما قام عليه البرهان. وقال -تعالى-: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا * كَلا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ

_ 1 سورة البقرة آية: 31. 2 سورة البقرة آية: 163. 3 سورة الحج آية: 62. 4 سورة الأنبياء آية: 24.

عَلَيْهِمْ ضِدًّا} 1. ففي هذه الآية بيان: أن الإلهية هي العبادة، قال -تعالى-: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ} 2 فسماهم -تعالى- آلهة، وأخبر عن عجزهم عن نصرة أنفسهم، فضلا عن غيرهم. وقد فسر الله هذه الكلمة العظيمة في مواضع من كتابه بأوضح بيان، وأظهر برهان، يعرف ذلك من طلبه، وبالله التوفيق. وهذا الذي ذكرناه هو العلم الذي يستفاد منه التوحيد، وهذه الآلهة التي تعبد من دون الله هي المنفية بلا إله إلا الله، فلا بد من نفيها بالقول والفعل والاعتقاد، وأما ما ذكره هذا الأعجمي فلا يفيد إلا التخبيط والتخليط، وإدخال الشك على من لا بصيرة له، ولا مقاربة في الفهم ولا تسدد، فالحمد لله الذي دفع عن المسلمين فتنته وبليته، وأظهر لأهل العلم طويته. وأنت -أيها المغرم بحبه- فتش كلامه هذا الذي ذكرناه وانظر إلى ما تأخذه منه، فإنك لا تجد فيه ما ينفعك، وما إخالك تسلم، فإنك عرفت أنه إنما يتكلم بجهل محض لا يعرف عن أحد من طوائف الأمة، بل هو من تخاليط الجهال، وأرباب الضلال، وإلى الله -تعالى- نرغب في هداية قلوبنا، ومغفرة ذنوبنا، وهو المستعان، وعليه التكلان. وأما قوله: إذ اشتقاقه من ألّهه إذا عبده، يوجب اتحاده معه في المعنى. "فالجواب": هذا لا يصلح تعليلا لقوله: غير مقيد بقيد، بل هو إلى كونه مقيدًا أقرب، فإن المشتق والمشتق منه لا بد أن يكون متضمنا لمعناه الذي وضع له على ما كان هو عليه في أصل الوضع، وهذا أمر بين لمن له أدنى معرفة بما ذكره العلماء -رحمهم الله تعالى- في أصل وضع اللغة، وهذا لا يلتبس إلا على جاهل؛ لا معرفة عنده، ولا بصيرة له. وقوله يوجب اتحاده معه في المعنى، هذا لا يفيد معنى الاشتقاق، فلو كان له

_ 1 سورة مريم آية: 81، 82. 2 سورة يس آية: 74.

معرفة لبين معنى اتحاد المشتق مع المشتق منه، وذلك لعدم معرفته بحقيقة ما تكلم به. إذا عرفت ذلك فقد ذكر العلماء -منهم ابن القيم رحمه الله تعالى- ما يبين حقيقة الاشتقاق فقال: ونحن لا نعني بالاشتقاق إلا أنها ملاقية لمصادرها في اللفظ لا أنها متولدة منه، تولد الفرع من أصله. وتسمية النحاة للمصدر، والمشتق منه أصلا وفرعا، ليس معناه أن أحدهما متولد من الآخر، وإنما هو باعتبار أن أحدهما يتضمن الآخر وزيادة. اهـ. [نفي أعيان المعبودات وإبطالها وإزالتها وجعل الله هو المعبود وحده] ثم إن هذا الرجل لما سمع بما كتبته من الرد عليه، أجاب بقوله: قلنا: إنما يلزم هذا لو أريد بالمستثنى منه فرد خاص جزئي، وإنما أريد منه المفهوم العام المتناول لأفراد المعبود بحق سواء كانت في الذهن أو في الخارج. "فالجواب": أن من تأمل كلام هذا علم أن هذا الكلام مع تناقضه يصرح بما ذهب إليه من الاتحاد، وذلك أنه قال: إنما يلزم هذا لو أريد بالمستثنى منه فرد خاص جزئي، وإنما أريد منه المفهوم العام، فصرح بأن المراد من المستثنى منه المفهوم العام، وهذا هو معنى قوله الأول: إن لا إله إلا الله إنما نفت مفهوما، ولم تنف ما نفاه الخليل -عليه السلام- وإخوانه من الرسل، وجميع ما في القرآن والسنة، فإن المنفي في ذلك أشخاص موجودة عند عابديها، كأصنام قوم نوح، وكاللات، والعزى، ومناة، ونحو ذلك مما كان يعبده الأمم. وهذا هو الذي نفته كلمة الإخلاص لا إله إلا الله، نفت أن يكون لله شريك في الإلهية من جميع ما كان يعبده أهل الشرك كما قال -تعالى- عن قوم إبراهيم: {قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ} 1 وقال -تعالى-: {وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرائيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ} 2 إلى قوله: {أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا} 3 الآية.

_ 1 سورة الشعراء آية: 71. 2 سورة الأعراف آية: 138. 3 سورة الأعراف آية: 140.

فليس المراد بالنفي في كلمة الإخلاص مفهوما، وإنما المنفي بها أعيان المعبودات، وإبطال عبادتها وإزالتها، وجهاد الخلق على أن يكون الله وحده معبودهم، دون كل معبود. وقد حصل ذلك لما فتح الله على رسوله مكة، فأزال كل صنم حول الكعبة، وهي ثلاثمائة وستون صنما، وبعث علي بن أبي طالب إلى مناة فهدمها، وبعث خالد بن الوليد إلى العزى مرتين، فقطع الشجرة، وهدم البناء. ولما أسلم أهل الطائف بعث المغيرة بن شعبة فهدم اللات، فلم يبق في جزيرة العرب من الأصنام والأوثان شيء إلا أزاله صلى الله عليه وسلم وقد بعث جرير بن عبد الله إلى ذي الخلصة فهدمه، فصارت كلمة الله هي العليا. فلله الحمد على ما أكمل للأمة من دينه الذي بعث به رسوله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله على نبيه صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، وهو بعرفة: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِينًا} 1 كما صرح به القرآن في هذه الآيات ونحوها. وهذه الأصنام ونحوها هي التي تجب البراءة منها، ومن عابديها؛ لقول الخليل -عليه السلام- {إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ * إِلا الَّذِي فَطَرَنِي} 2 الآية، فتبرأ مما كانوا يعبدون بالقول والفعل، ولم يكونوا يعبدون مفهوما محله الذهن، وقال -تعالى-: {إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} 3 إلى قوله: {وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} 4. فمن قال: إن المستثنى منه مفهوم عام فقد خالف الكتب والرسل، ولم يدر ما معنى هذه الكلمة العظيمة، ثم إن هذا القول منه يقتضي أن هذه الأصنام والأوثان التي يعبدها المشركون ليست منتفية بكلمة الإخلاص، فيلزمه أن تكون تلك الأوثان والأصنام ثابتة غير منتفية، إذا كان النفي مفهوما عاما فغيره على قوله، ولم ينف هذا -لم يقل به- إلا أهل الاتحاد خاصة. وأما طوائف أهل الشرك فهم يعتقدون أن الرسل إنما نهتهم عن عبادة

_ 1 سورة المائدة آية: 3. 2 سورة الزخرف آية: 26، 27. 3 سورة العنكبوت آية: 25. 4 سورة العنكبوت آية: 25.

ما كانوا يعبدونه من تلك الأشخاص التي تألهتها قلوبهم، هذا القول مبني على ما تقدم من كلام أهل الوحدة القائلين: بأن مسمى الله هو الوجود بعينه، فكل شيء يوجد في الخارج فهو الله، وبهذا وسمهم العلماء بأنهم أكفر أهل الأرض. ثم إنه قال: وإنما أريد منه المفهوم العام المتناول لأفراد المعبود بحق، فجعل المستثنى منه يتناول أفراد المعبود بحق، فجعل للمعبود بحق أفرادا، ولهذا قال سواء كانت في الذهن أو في الخارج، فانظر كيف جعل للمعبود بحق أفرادا، وهذا كفر صريح؛ فإن المعبود بحق هو الله وحده لا شريك له في ذلك، كائنا ما كان. [التوحيد الذي دعا إليه جميع الرسل] ثم يقال: كيف يكون معبودًا بحق، وهو منفي بلا النافية للجنس؟ فإذا انتفت إلهيته بطل أن تكون حقا، وتعين أن المستثنى هو الحق خرج من المنفي بأداة الاستثناء، كما قال -تعالى-: {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلا اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} 1 فهذا هو التوحيد الذي دعت إليه الرسل، ولم يفهم أهل الشرك من دعوة الرسل إلا هذا التوحيد، وهو إفراد الرب -تعالى- بالإلهية كما أخبر -تعالى- عن المشركين أنهم قالوا: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} 2 وأخبر عن قوم هود أنهم قالوا: {أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ} 3. ولم يقل أحد من الأمم أن المستثنى له أفراد كلها حق، وهذا القول ينافي ما تقدم له في ورقته من قوله: إن المنفي بلا كلي منوي، لا يوجد منه في الخارج إلا فرد واحد وهو المستثنى، وهو يناقض كلامه هنا، مع أنه باطل في نفسه. فإن قال لنا قائل: المشركون كانوا يعتقدون في آلهتهم أنها حق. قلنا: هذا هو الذي أنكرته الرسل على الأمم؛ فإن الله لم يبعثهم لإبطال ما كان يفعله أهل الشرك مع آلهتهم التي يعبدونها من دون الله، ولم يجحدوا معنى ما دعتهم الرسل إليه، لكن هم لم يتركوا عبادة آلهتهم التي كانوا يعبدونها مع الله، وهؤلاء جحدوا المعنى الذي دلت عليه لا إله إلا الله كما قد عرفت، فخالفوا الرسل والأمم في معنى ما دعت إليه

_ 1 سورة آل عمران آية: 62. 2 سورة ص آية: 5. 3 سورة الأعراف آية: 70.

الرسل من نفي الإلهية عما سوى الله بأداة النفي في كلمة الإخلاص، وخالفوهم في إثبات الإلهية لله وحده، وقالوا: كل شيء هو الله، كما تقدمت الإشارة إليه عن إمامهم ابن عربي من قوله: وعبَّاد عجل السامري على هدًى ... ولائمهم في اللوم ليس على رشد بناء منه على مذهبه الخبيث الذي تقدم بيانه، وقالوا: إن لا إله إلا الله لم تنف شيئًا موجودًا في الخارج، بل كل ما في الخارج من الأصنام وغيرها فهو الله، فلهذا صاروا أكفر الطوائف؛ لأنهم جعلوا المخلوقات هي عين الخالق، وهذا لم يقله أحد ممن تقدم من طوائف أهل الشرك، إلا ما كان من الفلاسفة، فإن قولهم يضاهي قول هؤلاء، قاتلهم الله، ولا حاجة بنا إلى ذكر مذهبهم. ولولا أنا قد ابتلينا بهذا الملحد في بلدنا، لما تجاسرنا على أن نحكي ما كانوا عليه من الضلال، وقد قال -تعالى- عن قوم هود: {أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ} 1 فدل على أنهم يعبدونه -تعالى- لكنهم أبوا أن يفردوه بالعبادة، وعرفوا أنه غير معبوداتهم. وكذلك مشركو العرب أقروا لله -تعالى- بربوبيته، وأن الخلق خلقه، وهو الذي خلقهم وحده، كما قال -تعالى-: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} 2 ولما قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم "أريد منكم كلمة واحدة، قولوا: لا إله إلا الله"3 فقالوا: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} 4 فأنكروا ما دعاهم إليه من أن لا يجعلوا لله شريكا في الإلهية التي هي العبادة. فبهذا وأمثاله مما في القرآن يتبين أن أهل الاتحاد، والفلاسفة قد أربوا في كفرهم على كل كافر. وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-* عن هاتين الطائفتين -أعني الفلاسفة، وأهل الوحدة- أنهم أخذوا أسماء جاء بها الشرع، ووضعوا لها مسميات مخالفة لمسميات صاحب الشرع، ثم صاروا يتكلمون بتلك الأسماء، فيظن الجاهل أنهم

_ 1 سورة الأعراف آية: 70. 2 سورة الزخرف آية: 87. 3 الترمذي: تفسير القرآن "3232" , وأحمد "1/ 227". 4 سورة ص آية: 5. * مجموع الفتاوى 10/ 402 - 403. [معد الكتاب للمكتبة الشاملة]

قصدوا ما قصده صاحب الشرع، فأخذوا مخ الفلسفة، فكسوه ثوب الشريعة، وهذا كلفظ الملك والملكوت والجبروت، واللوح المحفوظ، والشيطان، والحدث والقدم، وغير ذلك، وقد ذكرنا من ذلك طرفا في الرد على الاتحادية، لما ذكرنا قول ابن سبعين وابن عربي، وما يوجد في كلام بعض الناس من أصول هؤلاء الفلاسفة والملاحدة الذين حرفوا كلام الله ورسوله عن مواضعه، كما فعلت القرامطة الباطنية. اهـ. [المراد بالجنس المنفي بكلمة التوحيد] قلت: وقد ذكر إبراهيم بن سعد الكوراني تحريفهم لمعنى لا إله إلا الله، ذكر أنهم اشترطوا في "لا" النافية للجنس في هذه الكلمة شرط الوحدة؛ فجعلوا الجنس المنفي واحدًا، لا يوجد إلا ذهنا. وردّ -رحمه الله- هذا القول بأن قال: "أما أولا": فالمراد بالجنس المأخوذ بلا شرط، وهو الصالح للصدق على الأفراد، يعني المنفية بلا إله إلا الله فهي صادقة بنفي كل فرد مما كان يعبد من دون الله. قال: "وأما ثانيا": فإن الكلام يخرج عن إفادة التوحيد بالكلية؛ لأن حاصله حينئذ: هذا الجنس المأخوذ بشرط الوحدة الذهنية المغايرة لله -تعالى- منتف، وليس هذا من التوحيد في شيء، ولا شم من رائحة الدلالة عليه. "ويقال: ثالثا": إن أريد أن هذا الجنس منتف في الذهن فهو قطعي البطلان، إذ كل من ينطق بهذا التوحيد مستحضر لمعناه، وقد تحقق هذا الجنس في ذهنه، فكيف يصح نفيه؟ وعلى كل حال فلا يصح تفسيرا لهذه الكلمة؛ لأن المراد من لا إله إلا الله هو الدلالة على توحيد الإلهية، وهذا معلوم بالضرورة، وعلى تفسيرهم يكون بينهم وبين الدلالة على التوحيد بُعْد المشرقين. اهـ. فذكر رحمه الله تعالى حقيقة قول هؤلاء الملاحدة، وأنهم حملوا معنى كلمة الإخلاص على معنى بعيد من معناها الذي وضعت له شرعًا ولغة، وفطرة وعقلا، وأنهم أبطلوا دلالتها على التوحيد الذي يفهمه منها كل أحد من علماء المنقول والمعقول. وهذا القول الذي أبطله -رحمه الله- وبيّن بُعْده عن التوحيد، هو بعينه قول هذا الرجل الذي يقول: إنه من بخارى، فموّه على الجهلة بما يوقعهم في الإلحاد، ويبعدهم

عن التوحيد الذي دعت إليه الرسل، فهذه بلية عظيمة، وقى الله المسلمين شرها. [تفسير ابن القيم والرازي لكلمة التوحيد] وأما التوحيد الذي بعث الله به رسله، فنذكر من كلام العلامة ابن القيم -رحمه الله- ما يدل عليه؛ لأنه هو وشيخه من أحسن من عبر عن معنى هذه الكلمة على مقتضى ما دل عليه القرآن والسنة، قال -رحمه الله-*: "نظير هذا اشتمال كلمة الإسلام، وهي شهادة أن لا إله إلا الله على النفي والإثبات، فكان في الإتيان بالنفي في صدر هذه الكلمة من تقرير الإثبات، وتحقيق معنى الإلهية، وتجريد التوحيد الذي يقصد بنفي الإلهية عن كل ما ادعيت فيه سوى الإله الحق -تبارك وتعالى-، فتجريد هذا التوحيد من القلب واللسان بتصور إثبات الإلهية لغير الله، كما قال أعداؤه المشركون، ونفيه وإبطاله من القلب واللسان، من تمام التوحيد وكماله وتقريره، وظهور أعلامه، ووضوح شواهده، وصدق براهينه". وقال الفخر الرازي في معنى لا إله إلا الله: التحقيق أن المضمر المرفوع بلا راجع بالحقيقة إلى نفي الأعيان التي سموها آلهة، من حيث إنها آلهة لا إلى وجودها في حد ذاتها ضرورة أنها موجودة في الخارج، بالفعل محسوسة. وحاصله نفي كل فرد إله من تلك الحيثية غير الله، راجع إلى نفي الألوهية عن كل موجود غير الله. انتهى. "قلت": وحقيقتها إبطال إلهية كل ما يؤله من الأعيان بأي نوع كان من أنواع العبادة؛ كأصنام قوم نوح، والأمم بعدهم، ولما فتح الله مكة لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم أزال كل ما فيها من صنم، وهي ثلاثمائة وستون صنما، وبعث علي بن أبي طالب إلى مناة فهدمها، وبعث خالد بن الوليد إلى العزى فهدمها، وقطع الشجرة، ولما أسلمت ثقيف بعث المغيرة فهدم اللات -كما تقدم-. فأبطلت هذه الكلمة عبادة كل ما عبد من دون الله، أو يعبد من جميع الأعيان. ولو تتبعنا ما في القرآن من بيان معنى هذه الكلمة، وما قاله العلماء في معناها لاحتمل جزءًا، وفي الإشارة إلى ذلك كفاية لمن رغب في معرفة التوحيد الذي دلت عليه الآيات المحكمات، وقد غلط في مسماه طوائف لا يحصيهم إلا الله -تعالى-، والحمد لله على تمييز الحق من الباطل، لا نحصي ثناء عليه، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرًا إلى يوم الدين، والحمد لله رب العالمين.

_ * "طريق الهجرتين وباب السعادتين" ص 145 - 146. [معد الكتاب للمكتبة الشاملة]

رسالة في العهد والأمان، هل يشترط في احترامهما أن يكون من يعقدهما مؤمنا عدلا أم لا؟ وفي العهد والأمان الذي يكون من البدو والأعراب لبعضهم ولغيرهم

رسالة في العهد والأمان هل يشترط في احترامهما أن يكون من يعقدهما مؤمنًا عدلًا أم لا؟ وفي العهد والأمان الذي يكون من البدو والأعراب لبعضهم ولغيرهم تأليف بعض علماء نجد لم يذكر اسمه

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله نحمده ونستعينه، ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم تسليما كثيرا. اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السموات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم. "وبعد": فقد وقع مذاكرة في حال الأعراب الذين يوجد فيهم شيء من المكفرات، هل يصلح أمانهم لبعضهم عن بعض؟ فنقول، وبالله التوفيق: يصح أمان الكفار بعضهم بعضا، ولغيرهم بالكتاب، والسنة، والاعتبار. أما الكتاب: فقوله -تعالى-: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} 1 الآيات، قال مجاهد وقتادة: نزلت في حلف أهل الجاهلية، وآخر السياق يدل على عموم الآية، وهو قوله: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} 2 قال المفسرون: على ملة واحدة وهي الإسلام، {وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} 3 فدل على أن هذا الخطاب شامل للمهديين وغيرهم. وقال -تعالى- في شأن اليهود: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ} 4 إلى قوله: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} 5 قال أهل التفسير: يقول -تعالى- منكرًا على اليهود ما كانوا يأتونه مع الأوس، فإن يهود المدينة كانوا ثلاث قبائل: بني قينقاع، وبني النضير، وبني قريظة. فبنو قينقاع وبنو النضير حلفاء الخزرج، وبنو قريظة حلفاء الأوس، فكانت الحرب إذا شبت بينهم قاتل كل فريق منهم مع حلفائه، فيقتل اليهودي غير اليهودي من أعدائه، وقد يقتل اليهودي الآخر من الفريق الآخر، وذلك حرام عليهم بنص الكتاب،

_ 1 سورة النحل آية: 91. 2 سورة النحل آية: 93. 3 سورة النحل آية: 93. 4 سورة البقرة آية: 84. 5 سورة البقرة آية: 85.

ويخرجونهم من بيوتهم، وينهبون ما فيها من الأثاث والأموال، ثم إذا وضعت الحرب أوزارها فكوا الأسارى من الفريق المغلوب، عملا بحكم التوراة، ولهذا قال: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} 1. فهذه الآية تدل على أن الله -تعالى- حرم قتال بعضهم بعضا، وإن كان الكل كفارا وقت النزول؛ لأن هذا القتل ليس على حق، وإنما هو في سبيل الشيطان. وأما الأحاديث: فما رواه أبو داود والنسائي والترمذي عن ابن عنبسة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من كان بينه وبين قوم عهد فلا يخلف عهده، ولا يشدنه حتى يمضي أمرها، وينبذ إليهم على سواء"2 وهذا الحديث عام. وروى الإمام أحمد عن جبير بن مطعم، عن عمرو بن شعيب، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في خطبته: "أوفوا بحلف الجاهلية، فإنه لا يزيده الإسلام إلا شدة، ولا تحدثوا حلفا في الإسلام"3. قال العلماء في معنى الحديث: إن الإسلام لا يحتاج معه إلى الحلف الذي كان يفعله أهل الجاهلية، فإن في التمسك بالإسلام كفاية عما كانوا فيه، وما كان منه على نصرة الإسلام وصلة الأرحام، كحلف المطيبين وما جرى مجراهم، فذاك الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أيما حلف كان في الجاهلية لم يزده الإسلام إلا شدة"4. وفي صحيح مسلم عن نافع عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إذا جمع الله الأولين والآخرين يوم القيامة، يرفع لكل غادر لواء؛ فيقال: هذه غدرة فلان بن فلان"5 وهذا العقاب لا يختص بالمسلم، بل هو عام في المسلم وغيره. وروى البخاري وغيره عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من قتل معاهدا لم يرح رائحة الجنة، وإن ريحها يوجد من مسيرة أربعين خريفا"6 قال ابن الأثير: يجوز أن يقرأ بفتح الهاء وكسرها على الفاعل والمفعول. والمعاهد من كان بينك وبينه عهد، وأكثر ما يطلق في الحديث على أهل الذمة، وقد يطلق على غيرهم من الكفار إذا صولحوا على ترك الحرب مدة، وقال صلى الله عليه وسلم يوم الفتح: "قد أجرنا من أجرتِ يا أم هانئ"7 وهي من مسلمة الفتح.

_ 1 سورة البقرة آية: 85. 2 الترمذي: السير "1580" , وأبو داود: الجهاد "2759" , وأحمد "4/ 111 ,4/ 113 ,4/ 385". 3 أحمد "2/ 207". 4 مسلم: فضائل الصحابة "2530" , وأبو داود: الفرائض "2925" , وأحمد "4/ 83". 5 البخاري: الأدب "6177" , ومسلم: الجهاد والسير "1735" , والترمذي: السير "1581" , وأبو داود: الجهاد "2756" , وأحمد "2/ 16 ,2/ 29 ,2/ 56 ,2/ 69 ,2/ 75 ,2/ 96 ,2/ 103 ,2/ 112 ,2/ 116 ,2/ 123 ,2/ 142 ,2/ 156". 6 البخاري: الجزية "3166" , والنسائي: القسامة "4750" , وابن ماجه: الديات "2686" , وأحمد "2/ 186". 7 البخاري: الصلاة "357" , ومسلم: صلاة المسافرين وقصرها "336" , وأحمد "6/ 423" , ومالك: النداء للصلاة "359" , والدارمي: الصلاة "1453".

مسائل وفتاوى في الطلاق والخلع والشهادات والعينة وشروط الصلاة وغيرها لأحد علماء نجد

مسائل وفتاوى في الطلاق والخلع والشهادات والعينة وشروط الصلاة وغيرها لأحد علماء نجد، غير معروف اسمه من مطبوعات صاحب الجلالة السعودية، ومحيي السنة المحمدية الإمام عبد العزيز آل سعود ملك الحجاز ونجد وملحقاتها أيده الله ووفقه (وقد وقفها على من ينتفع بها من أهل العلم والدين) {لا يحل لمن وقعت بيده بيعها}

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وإمام المتقين، ورسول رب العالمين، محمد عليه من الله أفضل الصلاة والتسليم. "المسألة الأولى": فيمن طلق امرأته ثلاثا بلفظة واحدة، أو ثلاث متتابعات كقوله: أنت طالق، أنت طالق، أنت طالق: على عوض عوضته المرأة الزوج، هل يصح لهما أن يتراجعا إذا تراضيا بملاك، أم لا؟ فنقول: "الجواب": هذا السؤال مشتمل على ثلاث مسائل من مسائل الطلاق: "الأولى": إذا طلق الرجل امرأته ثلاثا بكلمة واحدة، أو أكثر من الثلاث بلفظة واحدة "والثانية": إذا قال: أنت طالق، أنت طالق، أنت طالق، ثلاث مكررات في مجلس واحد. "والثالثة": إذا طلق الرجل زوجته ثلاثا على عوض، هل يجوز أن يراجعها بملاك جديد، أم لا؟ فالجواب عن المسألة الأولى أن نقول: هذه المسألة فيها خلاف بين العلماء من السلف والخلف، قديما وحديثا، وفيها قولان مشهوران للعلماء: "القول الأول": قول أكثر العلماء من أهل الحديث والفقهاء وغيرهم من المالكية، والشافعية، والحنابلة، والحنفية من المتأخرين والمتقدمين: أن الرجل إذا طلق زوجته ثلاثا بكلمة واحدة؛ بانت منه -صارت لا تحل له حتى تنكح زوجا غيره-، واستدلوا على ذلك بدلائل: منها قوله -تعالى-: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} 1 قالوا: وهذا لا يكون إلا في المبتوتة؛ لأن غير

_ 1 سورة الطلاق آية: 6.

المبتوتة ممن له عليها الرجعة ينفق عليهن حوامل، أو غير حوامل. فعلم بهذا أن قوله: {لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} 1 راجع إلى بعض ما انتظمه الكلام، وهي التي لم تبلغ بطلاقها ثلاثا، كما أن قوله: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} 2 قد عم المطلقات ذوات القروء، وقوله في نسق الآية: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} 3 راجع إلى من لم يبلغ بطلاقها. وفي ذلك إباحة إيقاع ما شاء المطلق من الطلاق. وظاهر حديث ابن عمر يشهد بهذا؛ لأنه قال: "ثم إن شاء طلق، وإن شاء أمسك"4 فلم يخص طلاقا من طلاق، ولا عدة من عدة في الطلاق، قالوا: فله أن يطلق كم شاء، إذا كان مدخولا بها، وإن كانت غير مدخول بها طلقها كم شاء، ومتى شاء طاهرا أو حائضا؛ لأنه لا عدة عليها، ومما احتجوا به أيضا: أن العجلاني طلق امرأته بعد اللعان ثلاثا، فلم ينكره رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن رفاعة بن شموال طلق امرأته ثلاثا، فلم ينكره عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن ركانة طلق امرأته ألبتة، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم "ما أردت بها"5 فدل على أنه لو أراد ثلاثا لكانت ثلاثا، ولم ينكر ذلك عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأن فاطمة بنت قيس طلقها زوجها ثلاثا. ذكره الشعبي عن فاطمة، وشعبة، وسفيان، ثم أبي بكر، وكذلك قال أكثر أصحاب ابن شهاب في حديث فاطمة: طلقها ثلاثا. قالوا: ومن جهة النظر أن من كان له أن يوقع واحدة كان له أن يوقع ثلاثا، وليس في عدد الطلاق سنة ولا بدعة. قد أباحه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم فعند هؤلاء أن من طلق امرأته ثلاثا مجتمعات في طهر لم يصبها فيه فقد طلقها طلاقا مباحا، ومنهم من يقول: إنه قد طلقها للسنة. "والقول الثاني": قول مالك وأصحابه وأحمد بن حنبل في المشهور عنه: أن طلاق السنة أن يطلقها طلقة في طهر، لم يمسها فيه، ولو كان في آخر ساعة منه، ثم يمهلها حتى تنقضي عدتها، وذلك بطهر أول الحيضة الثالثة في الحرة، أو أول الحيضة

_ 1 سورة الطلاق آية: 1. 2 سورة البقرة آية: 228. 3 سورة الطلاق آية: 2. 4 البخاري: تفسير القرآن "4908" والطلاق "5252 ,5253 ,5258 ,5332" والأحكام "7160" , ومسلم: الطلاق "1471" , والنسائي: الطلاق "3389 ,3390 ,3391 ,3392 ,3396 ,3556" , وأبو داود: الطلاق "2185" , وابن ماجه: الطلاق "2019" , وأحمد "2/ 43 ,2/ 63 ,2/ 64 ,2/ 74 ,2/ 79 ,2/ 81 ,2/ 102 ,2/ 124 ,2/ 128 ,2/ 130" , ومالك: الطلاق "1220" , والدارمي: الطلاق "2262". 5 الترمذي: الطلاق "1177" , وأبو داود: الطلاق "2208" , وابن ماجه: الطلاق "2051" , والدارمي: الطلاق "2272".

الثانية في الأمة، فيتم للحرة ثلاثة أقراء، وللأمة قرآن، القرء: الطهر المتصل بالدم عندهم، فإن طلقها في طهر تطليقة، أو طلقها ثلاثا مجتمعات في طهر لم يمسها فيه فقد لزمه، وليس بمطلق للسنة عند مالك، وجمهور أصحابه، وهو قول الأوزاعي وأبي عبيد، وهذا هو المشهور عن أحمد وأصحابه. وأجابوا عما احتج به أهل القول الأول فقالوا: أما حديث العجلاني فلا حجة فيه؛ لأنه طلق في غير موضع طلاق، فاستغنى عن الإنكار عليه. وأما حديث رفاعة بن شموال فقالوا: يحتمل أن يكون طلقها ثلاثا مفترقات في أوقات. وأما حديث فاطمة بنت قيس، فقد قال فيه أبو سلمة: "بعث إلي زوجي بتطليقتي الثالثة"، وأما حديث ركانة فقد تكلموا فيه وضعفوه، فلا حجة فيه. واحتج هؤلاء بقوله -تعالى-: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} 1 ثم قال: {إِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ} 2 ومرتان لا تكون إلا في وقتين، والثلاث في ثلاث أوقات، كما في قوله -عليه السلام-: "من سبح الله مائة مرة" أي مرة بعد مرة، ليس المراد أن يقولها مرة واحدة، وكذلك من قال: قرأت سورة كذا مرتين، المراد مرة بعد مرة. ومن حجتهم أيضا قول الله -تعالى-: {إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} 3 إلى قوله: {لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} 4 فأي أمر يحدث بعد الثلاث، والأمر إنما أريد به المراجعة، فبطل أن يكون وقوع الثلاث للسنة. ومن حجتهم أيضا: ما روى النسائي عن محمود بن لبيد: أن رجلا طلق امرأته ثلاث تطليقات جميعا، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك فقام مغضبا، فقال: "أيلعب بكتاب الله، وأنا بين أظهركم؟ " قال العسقلاني: رجاله ثقات. وبما روى سعيد بن منصور عن النبي صلى الله عليه وسلم أن عمر كان إذا أُتي برجل طلق امرأته ثلاثا، أوجع ظهره. قال العسقلاني: وسنده صحيح. وبما روى عبد الرزاق وغيره أن ابن عمر قال لمن طلق امرأته ثلاثا مجموعة: عصيت ربك، وبانت منك امرأتك. وبما روى

_ 1 سورة البقرة آية: 229. 2 سورة البقرة آية: 230. 3 سورة الطلاق آية: 1. 4 سورة الطلاق آية: 1.

أبو داود بسند صحيح عن مجاهد قال: كنت عند ابن عباس، فجاءه رجل فقال: إنه طلق امرأته ثلاثا، فسكت حتى ظننت أنه سيردها إليه، فقال: "ينطلق أحدكم فيركب الأحموقة، ثم يقول: يا ابن عباس، يا ابن عباس، إن الله قال: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} 1 وإنك لم تتق الله، فلا أجد لك مخرجا، عصيت ربك، وبانت منك امرأتك"، قالوا: ففي هذا دليل على أن من طلق امرأته ثلاثا مجتمعات فقد عصى ربه وفعل ما هو محرم، ومن فعل مباحا لا يقال: عصى ربه. وقال هؤلاء: يصير مطلقا امرأته ثلاثا، فلا تحل له حتى تنكح زوجا غيره، وإن كان فعله هذا محرما عليه. ومن القائلين بالتحريم للزوم من قال: إذا طلق ثلاثا مجموعة وقعت واحدة، وهو قول محمد بن إسحاق -صاحب المغازي-، ونقله ابن المنذر عن جماعة من التابعين؛ كعمرو بن دينار، وطاووس، وغيرهما. ومن أقوى ما احتجوا به ما أخرجه مسلم في صحيحه عن ابن عباس قال: "كان الطلاق على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر، وسنتين من خلافة عمر طلاق الثلاث واحدة، فقال عمر بن الخطاب: إن الناس استعجلوا في أمر كان لهم فيه أناة، فلو أمضيناه عليهم، فأمضاه عليهم"2. قال أبو عمر بن عبد البر في حديث ابن عباس هذا: لم يتابع عليه طاوس، وأن سائر أصحاب ابن عباس يروي عنه خلاف ذلك، وما كان ابن عباس يروي عن النبي صلى الله عليه وسلم ثم يخالفه إلى رأي نفسه، بل المعروف عنه أنه كان يقول: أنا أقول لكم: سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنتم تقولون: أبو بكر وعمر؟ قاله في فسخ الحج وغيره. قال جمهور العلماء: إن حديث طاوس في قصة أبي الصهباء لا يصح معناه. وممن روينا عنه أن الثلاث تحرم التي لم يدخل بها زوجها، حتى تنكح زوجا غيره كالدخول سواء: علي بن أبي طالب، وابن مسعود، وابن عباس، وابن عمر،

_ 1 سورة الطلاق آية: 2. 2 مسلم: الطلاق "1472".

وعبد الله بن عمرو بن العاص، وأبو سعيد الخدري، وجابر بن عبد الله، وعبد الله بن المغفل، وأبو هريرة، وعائشة، وأنس، وهو قول جماعة من التابعين، وبه قال جماعة فقهاء الأمصار، وابن أبي ليلى، وابن شبرمة، وسفيان الثوري، ومالك، وأبو حنيفة، والشافعي وأصحابه، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور، وأبو عبيد الطبري. انتهى. إذا عرفت مذهب أهل العلم في المسألة، فالقول المفتى به عندنا ما ذكره ابن عبد البر، وغيره عن جماعة العلماء: أن الرجل إذا طلق امرأته ثلاثا بكلمة واحدة، سواء كان مدخولا بها، أو غير مدخول بها، صغيرة أو كبيرة، أنها تحرم عليه، حتى تنكح زوجا غيره. [تعدد لفظ الطلاق وتكراره ثلاثا] "وأما المسألة الثانية": إذا قال لامرأته أنت طالق، أنت طالق، أنت طالق ثلاث كلمات مكررات، فالصحيح من مذهب أحمد: أن ذلك يرجع إلى نيته؛ فإن أراد التأكيد بطلقة واحدة، ولم يرد أنها ثلاث طلقات فهي تصير واحدة، يجوز له رجعتها، ما دامت في العدة، فإن خرجت من العدة لم يجز له مراجعتها إلا بملاك جديد، وإن أريد بقوله: أنت طالق، أنت طالق، أنت طالق ثلاث تطليقات لم تحل له حتى تنكح زوجا غيره، وهذا هو المفتى به عندنا؛ لأنا لا نعلم شيئا يخالفه من الكتاب والسنة. [الخلاف في كون الخلع طلاقا وعده من الثلاث] وأما المسألة الثالثة: إذا طلق الرجل زوجته ثلاثا على عوض، هل يجوز أن يتراجعا بملاك جديد، أم لا؟. فهذه المسألة تحتاج إلى تفصيل: فإن كانت المرأة أعطت زوجها عوضا على طلاقها إذا كرهته، وخافت أن لا تقيم ما أوجب الله عليها من القيام بحقوق الزوج من المعاشرة بالمعروف، وتمكنه من الاستمتاع منها، وخدمته كما ينبغي من مثلها لمثله، فلا بأس بذلك، ولا على الزوج حرج في أخذ العوض منها، إذا كان الحال كما وصفنا-، ويسمى هذا: الخلع الصحيح، كما قال تعالى-: {وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا

آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} 1. وقد اختلف العلماء هل يكون هذا الخلع طلاقا يعد من الطلقات الثلاث، أم لا يكون طلاقا، ولو خالعها أكثر من ثلاث؟ فمذهب ابن عباس رضي الله عنهكما روى ابن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن طاوس، عن ابن عباس رضي الله عنهأن إبراهيم بن سعد بن أبي وقاص سأله عن رجل طلق امرأته تطليقتين، ثم اختلعت منه، أيتزوجها؟ قال: نعم، ليس الخلع بطلاق، ذكر الله الطلاق في أول الآية وآخرها، والخلع فيما بين ذلك، فليس الخلع بشيء، ثم قرأ: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} 2 وقرأ: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} 3 وبهذا قال أحمد بن حنبل وجمهور أصحابه، وإسحاق، وأبو ثور، وداود، واختار هذا القول طوائف من العلماء منهم الشيخ تقي الدين بن تيمية، وهو اختيار شيخنا -رحمه الله-. وقال أكثر العلماء من الصحابة وغيرهم: هو طلاق يعد من الطلقات الثلاث، وهو طلاق بائن لا رجعة فيه للزوج إلا برضى الزوجة، فعلى هذا القول: لو خالعها ثلاث مرات، أو طلقها طلقتين وخالعها مرة، حرمت عليه حتى تنكح زوجا غيره، سواء تلفظ بلفظ الطلاق، أو غيره. واختلف العلماء هل يلحق المختلعة طلاق ما دامت في العدة؟ فقال مالك: إن طلقها بعد الخلع من غير سكوت طلقت، وإن كان بينهما سكوت لم تطلق، وقال الشافعي: لا يلحقها طلاق، وإن كانت في العدة، وهو قول ابن عباس، وابن الزبير، وبه قال أحمد، وإسحاق، وأبو ثور. وهذا هو المفتى به عندنا، وهو أظهر الأقوال، وعكسه قول أبي حنيفة، وكثير من التابعين. واختلف -أيضا- في قدر عدتها؛ فقال أكثر العلماء: عدة المطلقة، وقال عثمان، وابن عباس -رضي الله عنهم-: عدتها حيضة واحدة. وبه قال عكرمة، وابن عباس،

_ 1 سورة البقرة آية: 229. 2 سورة البقرة آية: 229. 3 سورة البقرة آية: 230.

وإسحاق بن راهويه، وحجتهم: ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه جعل عدة جميلة بنت أبي سلول حيضة، حين اختلعت من زوجها ثابت بن قيس بن شماس، وأصل القصة ثابت في الصحيحين. فالذين قالوا: إن الخلع الصحيح المجتمع فيه الشروط التي ذكرها الله ليس من الطلاق، يقولون: إنه إذا خالعها، ولم يذكر الطلاق لفظا ولا نواه بقلبه فإنه لا يقع به شيء من الطلاق. قال العسقلاني، واستدل لمن قال: إنه فسخ بما وقع في بعض طرق حديث امرأة ثابت بن قيس عند أبي داود والترمذي والنسائي وابن ماجه من حديث الربيع بنت معوذ: أن عثمان أمرها أن تعتد بحيضة. قالت: وتبع عثمان في ذلك قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم في امرأة ثابت بن قيس. قال الخطابي: في هذا أقوى دليل لمن قال: إن الخلع فسخ، وليس بطلاق، إذ لو كان طلاقا لم تعتد بحيضة. انتهى. وأما إذا تلفظ بالطلاق عند الخلع، أو نواه بقلبه، فالذي عليه الجمهور من التابعين، وفقهاء الأمصار بالحجاز والعراق والشام أنه يقع طلاقا بائنا، لا يجوز له الرجعة إلا بعد عقد جديد، ورضاء الزوجة، إلا أن تقول: أنت طالق ثلاثا، فلا يجوز له مراجعتها إلا بعد زوج جديد كالمطلقة ثلاثا بغير عوض. وقيل: إنه فسخ سواء تلفظ بالطلاق أو نواه، أو لم يكن، وهو قول ابن عباس؛ فإنه صح عنه أنه قال: ما أجازه المال فليس بطلاق، وصح عنه أنه قال: الخلع يفرق وليس بطلاق. وصح عن ابن الزبير، وروي ذلك عن غير واحد من الصحابة والتابعين، واختاره الشيخ تقي الدين ابن تيمية، وعليه دل كلام أحمد، وقدماء أصحابه، قال صاحب الفروع: ومراده ما قال عبد الله بن الإمام أحمد: رأيت أبي كان يذهب إلى قول ابن عباس. وأما إذا كان حال الزوجين مستقيمة، ولم يوجد ما ذكر الله من الخوف ألا

يقيما حدود الله، ثم خالعها زوجها مع ذلك على ما بذلته له الزوجة أو غيرها، فالذي عليه جمهور العلماء: أنه يكره، ويصح الخلع، وعن أحمد -رحمه الله-: أن ذلك لا يجوز، ولا يصح. وأما إن عضلها وأساء عشرتها لتفتدي منه، ففعلت فالخلع باطل، والعوض مردود، والزوجية بحالها إلا أن يذكر الطلاق فيقع رجعيا، وقيل: يقع طلاقا بائنا، إن قيل: إن الخلع يصح بلا عوض. قال العسقلاني في شرح البخاري: أخرج عبد الرزاق بسند صحيح عن سعيد ابن المسيب قال: ما أحب أن يأخذ منها ما أعطاها، ليدع لها شيئا، وقال: لم أزل أسمع أن الفدية تجوز بالصداق، وبأكثر لقوله -تعالى-: {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} 1 ولحديث حبيبة بنت سهل. فإذا كان الخلع من قِبلها حل للزوج ما أخذ منها برضاها، وإن كان من قِبله لم يحل، ويرد عليها إن أخذ، وتمضي الفرقة. انتهى. "قلت": وهذا القول كان يفتي به شيخنا رحمه الله تعالى لكثرة الظلم للنساء في هذا الزمان؛ لأن كثيرا من الذين لا يخافون الله إذا أراد أن يطلق امرأته بعد أن تستقيم حالها مدة عضلها وأضر بها، ومنهم من يضربها، فإذا فعل ذلك اشترت نفسها بمال تبذله له على طلاقها فيطلقها، فكان شيخنا -رحمه الله- يفتي إذا كان الأمر ما وصفناه أن العوض الذي بذلت له المرأة على الطلاق مردود، وتَبِين منه المرأة، فلا يمكن من مراجعتها إلا برضاها. [طلق امرأته بحضرة شاهد عدل وأنكر الزوج] وأما المسألة الثانية من المسائل المسئول عنها: فيمن طلق امرأته، بحضرة شاهد عدل، وأنكر الزوج. فالذي عليه أكثر العلماء، وعليه الفتوى، أنه لا يقبل فيه إلا شاهدان عدلان. [طلق امرأته وأحضر شاهدا عدلا وقال العاقد: لا بد من شاهدين عدلين] "وأما المسألة الثالثة": فيمن طلق امرأته وأحضر شاهدا عدلا، وقال العاقد: لا بد

_ 1 سورة البقرة آية: 229.

من عدلين، هل يزوج العاقدين أو يمنعهما؟ فإن كان مراد السائل -رحمه الله- أن المرأة المطلقة من زوجها، أو وكيلها أحضرت شاهدا على طلاقها من زوجها، وطلبت من العاقد أن يعقد نكاحها على زوجها الثاني بشهادة شاهد واحد على طلاقها من زوجها الأول. فجواب هذه المسألة يؤخذ من جواب التي قبلها؛ لأن الذي عليه عامة العلماء من المالكية والشافعية والحنبلية: أن الطلاق لا يثبت إلا بشاهدين عدلين، وإن كان له مراد غير ذلك، فلم نفهمه من سؤاله. [شهادة النساء في الطلاق] "وأما الرابعة": هل تقبل شهادة النساء في الطلاق؟ فالذي عليه أكثر العلماء، وعليه الفتوى، أن شهادة النساء لا تقبل في ذلك، ولا تقبل منفردات إلا فيما لا يطلع عليه الرجال في غالب الأحوال: كالرضاع، وكعيوب المرأة التي تحت الثياب، والثيوبة، والبكارة، والاستهلال، وما جرى هذا المجرى. [له دين على مليء أو مفلس وأراد صاحب الدَّين أن يسلم على المدين] "وأما المسألة الخامسة": فيمن له دَين على مليء أو مفلس، وأراد صاحب الدَّين أن يسلم على المدين، ويقضيه إياه، هل يجوز أم لا؟ فإذا كان المدين مفلسا فلا يجوز ذلك؛ لأن ذلك يكون حيلة على الربا، والحيل لا تجوز في الدين. وأما إذا كان المدين مليئا، وكل من أراد أن يكتب عليه في ذمته ويسلم فعل، سواء كان رب الدَّين أو غيره، وكل يشتهيه؛ لأجل ملاءته، فلا أعلم في ذلك بأسا عند أكثر العلماء. واشتراط بعض المالكية: دفع رأس مال السلم، ويذهب به عن مجلس العقد إلى السوق، أو إلى بيته، ثم إن بدا له بعد ذلك أن يوفيه أوفاه. [التسمية بعبد المطلب] "وأما المسألة السادسة": ما معنى قوله في كتاب التوحيد: "اتفقوا على تحريم كل مُعبَّد لغير الله 1 حاشا عبد المطلب" ما الحكمة في هذا الاستثناء؟

_ 1 أي في التسمية؛ بأن يسمي عبد الرسول، أو نحو ذلك.

فسبب الاستثناء: أن بعض العلماء أجاز التسمية بعبد المطلب على ظاهر ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في غزوة حنين، لما انهزم عنه أصحابه إلا قليل "أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب"1 ولِما حكى ابن حزم الإجماع على تحريم كل اسم معبد لغير الله، استثنى التسمية بعبد المطلب من ذكر الإجماع، لأجل ما تقدم عن بعض العلماء. [بيع الصفر بالصفر والرصاص بالرصاص والنحاس بالنحاس] "وأما المسألة السابعة": هل الصفر والنحاس والرصاص تدخل في المنصوص عليه في قوله "الذهب بالذهب"2 إلخ، الحديث؟ فهذه مسألة اختلف فيها كثير من العلماء، يقولون: إن العلة في الذهب والفضة كونهما موزونين من جنس واحد، فيطّردون العلة في كل موزون من جنس واحد، فلا يجوز بيع الصفر بالصفر، أو الرصاص بالرصاص، أو النحاس بالنحاس، أو الحديد بالحديد، وكذلك الأصناف الأربعة: البر، والشعير، والتمر، والملح، المنصوص عليها في حديث عبادة المُخرَّج في صحيح مسلم "الذهب والفضة" يقولون: العلة في البر، والشعير، والتمر، والملح: الطعم والكيل، فيطردون ذلك في كل مطعوم ومكيل. وأما المطعوم الذي لا يكال ولا يوزن كالمعدودات، كالبطيخ والرمان، وكالبعير والفرس، وما جرى هذا المجرى فيجوز التفاضل في ذلك إذا كان يدا بيد، ولا يجوز بيع ذلك بعضه ببعض نسيئة، هذا الذي عليه قول أكثر العلماء، وعليه الفتوى عندنا. واستدلوا على ذلك بما روى الإمام أحمد في المسند: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "لا تبيعوا الدينار بالدينارين، ولا الدرهم بالدرهمين، ولا الصاع بالصاعين، فإني أخاف عليكم الرماء"3 وهو الربا، فقام إليه رجل فقال: يا رسول الله، الرجل يبيع الفرس بالأفراس، والنجيبة بالإبل؟ فقال: "لا بأس إذا كان يدا بيد"4.

_ 1 البخاري: الجهاد والسير "2864" , ومسلم: الجهاد والسير "1776" , والترمذي: الجهاد "1688" , وأحمد "4/ 280 ,4/ 281 ,4/ 289 ,4/ 304". 2 البخاري: البيوع "2134" , وابن ماجه: التجارات "2253" , والدارمي: البيوع "2578". 3 أحمد "2/ 109". 4 أحمد "2/ 109".

[زكاة الطعام] "وأما المسألة الثامنة": إذا حال عند رجل تمر، أو عيش يزكي زكاة الحرث، فإن كان أراده للتجارة فهو يزكيه زكاة التجارة، بحسب قيمته وقت حلول زكاة التجارة، وإن كان أراده للأكل له أو لبهائمه فليس عليه زكاة، ولو أقام عنده سنين، وإن نقص عن قيمة النصاب، ولم يكن عنده ما يضيفه إليه من الذهب والفضة، أو العروض فلا زكاة فيه، هذا هو الذي عليه الفتوى، والعمل عندنا. [أركان الصلاة] "وأما التاسعة": ما أركان الصلاة؟ فاعلم أن أركان الصلاة المعمول بها عندنا ثلاثة عشر: "الأول": القيام مع القدرة بإجماع أهل العلم، واستدلوا على ذلك بقوله -تعالى-: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} 1. "الثاني": تكبيرة الإحرام، واستدلوا عليه بقوله -عليه السلام-: "تحريمها التكبير" وبقوله في حديث المسيء في صلاته: "إذا قمت إلى الصلاة فكبّر"2. "الثالث": قراءة الفاتحة لمن يقدر على تعلمها 3 لقوله عليه السلام "لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب"4 وأما العاجز عن تعلمها فيقرأ ما تيسر معه من القرآن، أو يذكر بالتهليل، والتكبير، والتحميد.

_ 1 سورة البقرة آية: 238. 2 البخاري: الأذان "757" , ومسلم: الصلاة "397" , والترمذي: الصلاة "303" , والنسائي: الافتتاح "884" , وأبو داود: الصلاة "856" , وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها "1060" , وأحمد "2/ 437". 3 يظن بعض الجهلة أن البليد الذي لا يحفظ الفاتحة بسهولة، عاجز عن تعلمها، والعيي الذي لا يحسن مخارج حروفها عاجز أيضا، وأن لكل منهما أن يستبدل بها غيرها، وهذا خطأ كبير، وجهل عظيم إذا أُخذ على إطلاقه. وقد يصح إذا أريد به أن له ذلك، إن خاف فوت الوقت قبل أن يحفظها. ويجب عليه أن يحفظها ولو في زمن طويل، ويغتفر للأعجم والعيي ما عجز بالخلقة عن أدائه من الحروف صحيحا كالألثغ. وكل ركن عجز عنه المصلي يسقط عنه؛ فالعاجز عن القيام يصلي قاعدا، والعاجز عن القعود يصلي مضطجعا، والعاجز عن الركوع أو السجود يومئ بها إيماء، وإنما ذكر العجز في الفاتحة لأجل ذكر البدل. وكتبه محمد رشيد رضا. 4 البخاري: الأذان "756" , ومسلم: الصلاة "394" , والترمذي: الصلاة "247" , والنسائي: الافتتاح "910 ,911" , وأبو داود: الصلاة "822" , وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها "837" , وأحمد "5/ 313".

"الرابع": الركوع حتى يطمئن راكعا، لحديث المسيء في صلاته وفيه: "اركع حتى تطمئن راكعا"1. "الخامس": الاعتدال من الركوع حتى يطمئن قائما ويقيم صلبه، لقوله عليه السلام في حديث المسيء في صلاته: "ثم ارفع حتى تعتدل قائما"2. "السادس": السجود حتى يطمئن ساجدا، لقوله في حديث المسيء في صلاته: "ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا"3. "السابع": الاعتدال من السجود حتى يطمئن جالسا. "الثامن": السجدة حتى يطمئن ساجدا. "التاسع": قراءة التشهد الأخير إلى قوله: "أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله" لما جاء في حديث ابن مسعود: كنا نقول قبل أن يفرض علينا التشهد. "العاشر": الجلوس له حتى يفرغ. "الحادي عشر": الترتيب على ما ذكر الله ورسوله. "الثاني عشر": الطمأنينة في جميع أحوال الصلاة. "الثالث عشر": التسليم لقوله -عليه السلام- "وتحليلها التسليم"4. واعلم أن أكثر هذه الأركان قد تضمنها حديث المسيء في صلاته، وهو ما ثبت في الصحيحين والسنن عن أبي هريرة رضي الله عنه "أن رجلا دخل المسجد، ثم صلى، ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس، ثم جاء فسلم على النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: ارجع فصل فإنك لم تصل، فرجع الرجل فصلى كما كان صلى، ثم جاء فسلم على النبي صلى الله عليه وسلم فرد عليه السلام، ثم قال: ارجع فصل فإنك لم تصل، فعل ثلاثًا، ثم قال في الثالثة: والذي بعثك بالحق لا أحسن غير هذا فعلمني، فقال: إذا قمت إلى الصلاة فكبّر، ثم اقرأ بما تيسر معك من القرآن، ثم اركع حتى تطمئن راكعا، ثم ارفع حتى تعتدل قائما، ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا، ثم اجلس حتى تطمئن جالسا، ثم افعل ذلك في

_ 1 البخاري: الأذان "757" , ومسلم: الصلاة "397" , والترمذي: الصلاة "303" , والنسائي: الافتتاح "884" , وأبو داود: الصلاة "856" , وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها "1060" , وأحمد "2/ 437". 2 البخاري: الأذان "793" , ومسلم: الصلاة "397" , والترمذي: الصلاة "303" , والنسائي: الافتتاح "884" , وأبو داود: الصلاة "856" , وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها "1060" , وأحمد "2/ 437". 3 البخاري: الأذان "757" , ومسلم: الصلاة "397" , والترمذي: الصلاة "303" , والنسائي: الافتتاح "884" , وأبو داود: الصلاة "856" , وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها "1060" , وأحمد "2/ 437". 4 الترمذي: الطهارة "3" , وابن ماجه: الطهارة وسننها "275" , وأحمد "1/ 123 ,1/ 129" , والدارمي: الطهارة "687".

صلاتك كلها"1. قال العلماء: فدل على أن الطمأنينة في هذا الحديث لا تسقط بحال، فإنها لو سقطت لسقطت عن الأعرابي الجاهل. [النية في الاستجمار] "وأما المسألة العاشرة": فيمن صلى، ولم يستنج وهو مستجمر، وغسل أطرافه، لكنه لم ينو بالاستجمار عن الصلاة. "فالجواب": أن الاستجمار بثلاثة أحجار، أو أكثر إذا أزال الإنسان بذلك النجاسة وبِلتها يكفي عن الاستنجاء، باتفاق العلماء، لكن الاستنجاء بالماء مع الاستجمار أفضل وأكمل. والاستجمار لا يحتاج إلى نية الصلاة؛ لأنه من التروك، والتروك لا تحتاج إلى نية. [تحية المسجد في الأوقات المنهي عنها] "وأما المسألة الحادية عشرة": في أوقات النهي التي نُهي عن الصلاة فيها، هل يدخل في النهي تحية المسجد، وسنة الوضوء، وسنة الطواف، وأشباه ذلك؟. فهذا مخصوص من النهي، واستدلوا على ذلك بحديث بلال في سنة الوضوء، وبأن النبي صلى الله عليه وسلم قضى سنة الظهر بعد العصر كما ثبت ذلك في الصحيحين وغيرهما، واستدلوا بحديث جبير بن مطعم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "يا بني عبد مناف، لا تمنعوا أحدا طاف بهذا البيت أية ساعة من ليل أو نهار، وصلى ركعتين"2 واستدلوا بدلائل أخرى غير ما ذكرنا. [الحديث الغريب والمتصل] "وأما المسألة الثانية عشرة": في الحديث الغريب والمتصل، فالغريب: الذي ليس له إلا سند واحد كما يقول الترمذي في بعض الأحاديث: هذا غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وقد يكون صحيحا إذا كان رواته موثقين، وقد يكون ضعيفا، فعلى كل تقدير هو ضعيف في الحديث. والمتصل هو ما اتصل

_ 1 البخاري: الأذان "793" , ومسلم: الصلاة "397" , والترمذي: الصلاة "303" , والنسائي: الافتتاح "884" , وأبو داود: الصلاة "856" , وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها "1060" , وأحمد "2/ 437". 2 الترمذي: الحج "868" , والنسائي: مناسك الحج "2924" , وأبو داود: المناسك "1894" , وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها "1254" , وأحمد "4/ 81 ,4/ 83" , والدارمي: المناسك "1926".

سنده من أوله إلى أن يصل إلى منتهاه، سواء كان مرفوعا، أو موقوفا، أو مقطوعا فيخرج المرسل، والمنقطع، والمعضل. [الإجارة بنصف الثمرة] "وأما المسألة الثالثة عشرة": فيمن أجر بلده بنصف غرسها، وشرط عليه المستأجر أن يقومها سنين معلومة، فإذا مضت السنون تقاسما النخل. فالذي عليه الفتوى عندنا: أن هذه إجارة صحيحة لازمة، ليس فيها شيء من الغرر. [بيع العينة] "وأما المسألة الرابعة عشرة": فيمن باع سلعة مؤجلة، فلما حل الأجل رد السلعة بما عليه من الثمن وألحق عليه دراهم، أو باعه إياها بدون ثمنها، هل يصح ذلك، أم لا؟ وكذلك مسألة العِينة، بيّنْها لنا. "فالجواب عن المسألة الأولى": أن الذي ذكره العلماء في صفة العِينة المحرمة هي المسئول عنها، قال علماؤنا -رحمهم الله-: ومن باع سلعة بنسيئة، أو بثمن لم يقبضه لم يجز أن يشتريها بأقل مما باعها به، فإن فعل بطل البيع الثاني، ولو كان بعد حلول أجله. قال الشيخ تقي الدين: إن قصد بالعقد الأول الثاني بطل الأول والثاني جميعا، وهو قول أبي حنيفة ومالك. وهذه هي مسألة العينة المشهورة، وروي تحريمها عن ابن عباس، وعائشة -أم المؤمنين-، وهو قول مالك، وأبي حنيفة، وإسحاق، وأصحاب الرأي، واحتجوا على ذلك بما رواه الإمام أحمد في مسنده عن ابن عمر -رضي الله عنهما- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "إذا تبايعتم بالعِينة، وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد، سلط الله عليكم ذلا؛ لا ينزعه عنكم، حتى تراجعوا دينكم"1 وهذا وعيد شديد يدل على التحريم. وروي عن شعبة، عن أبي إسحاق، عن امرأته العالية قالت: دخلت أنا وأم ولد زيد بن أرقم وامرأة على عائشة -أم المؤمنين-، فقالت أم ولد زيد: إني بعت غلاما من

_ 1 أبو داود: البيوع "3462" , وأحمد "2/ 42 ,2/ 84".

زيد بن أرقم بثمانمائة درهم إلى العطاء، ثم اشتريته منه بستمائة درهم، فقالت لها: بئسما شريت، وبئسما اشتريت، أبلغي زيد بن أرقم أنه قد بطل جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن يتوب. رواه الإمام أحمد وسعيد بن منصور. قالوا: والظاهر أنها لا تقدم على مثل هذا الوعيد الشديد إلا بتوقيف من النبي صلى الله عليه وسلم ولأن ذلك ذريعة إلى الربا، فإنه يدخل السلعة ليستبيح به بيع ألف بخمسمائة، ولذلك قال ابن عباس في مثل هذا: أرى مائة بخمسين بينهما حريرة، ولم يستثن من ذلك إلا أن تتغير صفتها بما ينقصها أو ينقص ثمنها، مع أن أحمد -رحمه الله- توقف في رواية مثنى فيما إذا نقص في نصه؛ لأن علة المنع باقية. واختار الموفق وغير واحد من أصحاب أحمد الجواز إذا تغيرت الصفة، وذلك مثل هزال العبد، وسوء الصنعة، أو تخرق الثوب، وذلك لأن الثمن لنقص المبيع لا للتوسل إلى الربا. فهذه صورة مما استثنوها من بيع العينة المحرمة. "الصورة الثانية": إذا كان بيعها الأول بعرض، فاشتراها بنقد. "الصورة الثالثة": إذا كان بيعها الأول بنقد، واشتراها بعرض. قال في المغني: لا نعلم فيه خلافا. "الصورة الرابعة": إذا باعها بنقد واشتراها بنقد آخر فقيل: يجوز، وقال الموفق وغير واحد: لا يجوز، قال في "الإنصاف": وهو الصواب. "الخامسة": إذا باعها بمثل الثمن الأول من غير زيادة ولا نقصان، فإن ذلك جائز، قاله غير واحد من علمائنا -رحمهم الله-. "الصورة السادسة": إذا باعها بأكثر من ثمنها الأول جاز أيضا، فأما إن باع سلعة بنقد، ثم اشتراها بأكثر منه، فهي كمسألة العينة. "السابعة": إذا وجدها تباع مع غيره إلا أن يكون وكيلا له. وقال أحمد في رواية حرب: لا يجوز إلا أن تتغير السلعة؛ لأن ذلك يتخذ وسيلة إلى الربا، فهي كمسألة العينة.

ونقل أبو داود عن أحمد -رحمه الله-: يجوز بلا حيلة، فأما إن اشترى السلعة التي باعها بنقد بسلعة أخرى، أو بأقل من ثمنها، أو بمثله جاز، فإن اشتراها بنقد آخر بأكثر من ثمنها، فهو كمسألة العينة أيضا. ونقل المروزي فيمن يبيع الشيء، ثم يجده يباع: أن يشتريه بأقل مما باعه بالنقد، قال: لا، ولكن بأكثر لا بأس. قال الموفق -رحمه الله-: يحتمل ألا يجوز له شراؤها بجنس الثمن بأكثر منه، إذا لم يكن مواطأة ولا حيلة، بل وقع اتفاقا بلا قصد. ومن مسائل العينة أيضا: إذا باعه شيئا بثمن لم يقبضه، ثم اشتراه بأقل مما باعه نقدا على الخلاف المتقدم لم يصح، ذكره غير واحد من أئمة الحنابلة، وهو ظاهر كلام الإمام أحمد؛ قاله في الإنصاف. [لبس الحرير في الحرب] "وأما المسألة الخامسة عشرة": وهي مسألة لبس الحرير في الحرب، فذكر العلماء أنه يباح لبسه وقت الملاقاة للعدو، كما يباح التبختر في المشي عند ملاقاة العدو، كما صح بذلك الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه رأى رجلا يتبختر بين الصفين فقال "إن هذه المشية يبغضها الله، إلا في مثل هذا الموطن". [بيع المكيل جزافا] "وأما المسألة السادسة عشرة": إذا كان تمر أو عيش مجموع، وأخبر البائع المشتري بكيله، ورضي بذلك، هل يجوز، أم لا؟ "فالجواب": إن ذلك لا يجوز، واحتجوا بما روى الأثرم بإسناده عن الحكم قال: "قدم طعام لعثمان -رضي الله عنه- على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: اذهبوا إلى عثمان نعينه على طعامه، فقال عثمان: إن في هذه الغرارة كذا وكذا، وأبيعها بكذا وكذا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إذا سميت الكيل فكِلْ" واحتج به أحمد،

فعلى هذا: إذا أعلمه بالكيل أو الوزن، ثم باعه إياها مجازفة على أنه بذلك الثمن، زاد أو نقص، لم يجز. [العدة بالخلوة] "وأما المسالة السادسة عشرة": فيمن دخل بامرأة 1 وأغلق بابا، وأرخى حجابا، هل تجب العدة، ولو أقر أنه لم يجر بينهما جماع. "فالجواب": إن الذي عليه قول أهل العلم: إن العدة تجب في هذه الصورة. [مسافة الرخصة في السفر] "وأما المسألة السابعة عشرة": ما المسافة التي يترخص فيها برخص السفر؟ "فالجواب": إن الذي عليه كثير من العلماء: أن ذلك يتحدد بقدر مسيرة يومين للأحمال، وفيها اختلاف كثير بين العلماء، والذي يختاره الشيخ: أن ذلك لا يتحدد بمسافة، بل كل ما سمي سفرا جاز الترخص فيه برخص السفر؛ لأن الله ذكر السفر، وأطلق ولم يحدد، وكذلك لم يصح عن الرسول صلى الله عليه وسلم تحديد ذلك. [بيع الحيوان بالحيوان نسيئة] "المسالة الثامنة عشرة": بيع الحيوان بالحيوان نسيئة، البعير بالبعيرين، أو أقل أو أكثر، إلى أجل معلوم. "فالجواب": إن بعض العلماء كره ذلك، وكثير منهم لا يرى بذلك بأسا؛ لما روي أن عليا باع بعيرا يقال له: عصيفير بأربعة أبعرة إلى أجل معلوم. [عسب الفحل] "وأما المسألة التاسعة عشرة": في أخذ الأجرة على من أراد أن يعلي فرسه بحصان غيره. "فالجواب": إن ذلك لا يجوز، ولا يصح؛ لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن عسب الفحل، وصلى الله على محمد وآله وصحبه، وسلم تسليما كثيرا.

_ 1 هذا سؤال مبهم، لم يفهم إلا من القرينة، والمراد بالمرأة المنكِرة فيه: المرأة المعقود عليها، يعني إذا دخل الرجل بالمرأة التي عقد عليها نكاحه بينا، وأغلق بابه عليه وعليها، ثم طلقها وادعى أنه لم يجامعها هل تعد مدخولا بها، وتجب عليها عدة الطلاق، أم لا؟.

مسائل وفتاوى فقهية لبعض علماء نجد

مسائل وفتاوى فقهية لبعض علماء نجد جاءتنا غير معزوّة إلى أحد* من مطبوعات صاحب الجلالة السعودية، ومحيي السنة المحمدية الإمام عبد العزيز آل سعود ملك الحجاز ونجد وملحقاتها أيده الله ووفقه (وقد وقفها على من ينتفع بها من أهل العلم والدين) {لا يحل لمن وقعت بيده بيعها}

_ * هذه 20 مسألة وردت من قبل بتمامها منسوبة للشيخ حمد بن ناصر بن معمر (1/ 550 - 556)، ووردت المسائل من (1 - 10) بترتيب مختلف منسوبة أيضًا للشيخ عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب (1/ 118، 124، 128 - 130، 139). وقد نسب جامع كتاب "الدرر السنية" المسائل (1 - 4، 6، 9 - 10) للشيخ عبد الله، ونسب المسائل (5، 7 - 8، 11 - 20) للشيخ حمد. [معد الكتاب للمكتبة الشاملة]

مسائل وفتاوى في المعاملات من بيع وإجارة والأيمان وغيرها، وهي عشرون مسألة لأحد علماء نجد ... بسم الله الرحمن الرحيم مسائل وأجوبتها [ثبوت خيار المجلس وصوره] "الأولى": بمَ يثبت خيار المجلس، وما صورته؟ "الجواب": خيار المجلس يثبت للمتبايعيْن، ولكل منهما فسخه ما داما مجتمعين لم يتفرقا، وهو قول أكثر أهل العلم، لما في الصحيحين عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إذا تبايع الرجلان، فكل واحد منهما بالخيار، ما لم يتفرقا، وكانا جميعا، أو يخير أحدهما الآخر، فإن خيّر أحدهما الآخر، فتبايعا على ذلك، فقد وجب البيع، وان تفرقا بعد أن تبايعا، ولم يترك أحدهما البيع فقد وجب البيع"1 والمرجع في التفرق إلى عُرف الناس وعادتهم. [تبايعا وشرطا أن ما بينهما خيار مجلس] "الثانية": إذا تبايعا وشرطا أن ما بينهما خيار مجلس. "الجواب": يلزم البيع ويبطل الخيار؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عمر "فإن خير أحدهما صاحبه فتبايعا على ذلك، فقد وجب البيع"2 يعني لزم البيع. قال في الشرح: وهذا مذهب الشافعي، وهو الصحيح -إن شاء الله- لحديث ابن عمر. [قبض رأس مال السلم في مجلس العقد] "الثالثة": إذا تواعد رجلان يبي يكتب أحدهما على الآخر مائة جديدة، ويوم صار باكر جاءه بالدراهم يبي يكتب عليه، قال: بدا لي، هل يلزمه، أم لا؟ 3 "الجواب": لا بد من قبض رأس مال السلم في مجلس العقد، فإن تفرقا قبل قبضه لم يصح، وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي، وقال مالك: يجوز أن يتأخر قبضه يومين، أو ثلاثا، أو أكثر ما لم يكن ذلك شرطا.

_ 1 البخاري: البيوع "2107 ,2109 ,2111 ,2112" , ومسلم: البيوع "1531" , والترمذي: البيوع "1245" , والنسائي: البيوع "4465 ,4466 ,4467 ,4468 ,4469 ,4470 ,4471 ,4472 ,4473 ,4474 ,4475 ,4476 ,4477 ,4478 ,4479 ,4480" , وأبو داود: البيوع "3454" , وابن ماجه: التجارات "2181" , وأحمد "1/ 56 ,2/ 4 ,2/ 9 ,2/ 54 ,2/ 73 ,2/ 119 ,2/ 135" , ومالك: البيوع "1374". 2 البخاري: البيوع "2112" , ومسلم: البيوع "1531" , والنسائي: البيوع "4467 ,4468 ,4472" , وابن ماجه: التجارات "2181" , وأحمد "2/ 119". 3 قوله يبي: أصله يبغي: أي يريد، وهي لغة أهل نجد. ويوم صار باكر: أي في صباح اليوم الثاني. بدا لي: أي أن أرجع.

[بيع الطعام قبل قبضه] "الرابعة": إذا شرى رجل من آخر مائة صاع، وواعده يبي يكيلها الصبح، ويوم جاء يبي يكيلها، قال: بدا لي، وهو ما بعد نقد الدراهم، هل يلزمه، أم لا؟ "الجواب": يلزمه البيع بمجرد العقد، ولا يوافق على فسخ المبيع إلا برضاء المشتري، ولكن لا يجوز بيعه قبل قبضه؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم "من ابتاع طعاما، فلا يبعه حتى يستوفيه"1 متفق عليه. [عقد الإجارة والمساقاة] "الخامسة": الإجارة والمساقاة، هل هما عقد لازم، أم جائز وما معنى اللازم والجائز؟ "الجواب": أما الإجارة: فهي عقد لازم، وهو قول جمهور العلماء؛ لأنها بمعنى البيع، وأما المساقاة فأكثر الفقهاء على أنها عقد لازم، واختاره الشيخ تقي الدين، وعند شيخنا أنها عقد لازم من جهة المالك، وعقد جائز من جهة العامل. وأما معنى اللازم والجائز؛ فاللازم: هو الذي لا يتمكن أحد المتعاقدين من فسخه إلا برضاء الآخر. والجائز: هو الذي يفسخه كل منهما بغير رضاء صاحبه. [الاختلاف بين البائع والمشتري في الثمن] "السادسة": إذا باع رجل بعيرا على آخر، وقال البائع: الثمن عشرة، وقال المشتري: بل تسعة. "الجواب": إذا اختلفا في قدر الثمن، ولا بينة لأحدهما تحالفا؛ فيحلف البائع أولا: ما بعته بكذا وإنما بعته بكذا، ثم يحلف المشتري: ما اشتريته بكذا، وإنما اشتريته بكذا، فإذا تحالفا، ولم يرض أحدهما بقول الآخر انفسخ البيع، وهو مذهب أبي حنيفة، والشافعي، ورواية عن مالك، وعن أحمد: أن القول قول البائع، أو يترادّان البيع لما روى ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال "إذا اختلف البيعان، وليس بينهما بينة، فالقول ما قال البائع، أو يترادّان البيع"2 رواه سعيد بن منصور وابن ماجه. قال الزركشي: وهذه الرواية، وإن كانت خفية مذهبا فهي ظاهرة دليلا، وذكر دليلها، ومال إليها.

_ 1 البخاري: البيوع "2126" , ومسلم: البيوع "1526" , والنسائي: البيوع "4595 ,4604" , وأبو داود: البيوع "3492" , وابن ماجه: التجارات "2226" , ومالك: البيوع "1335". 2 الدارمي: البيوع "2549".

[الاختلاف في أجرة الكراء] "السابعة": إذا أكرى رجل بعيرا، وقال صاحب البعير: الأجرة عشرة، وقال المكتري: الأجرة ثمانية. "الجواب": إذا اختلفا في قدر الأجرة، وهو كما إذا اختلفا في قدر الثمن في البيع -كما تقدم- في المسألة التي قبلها، نص أحمد على أنهما يتحالفان، وهو مذهب الشافعي قال في الشرح: وهو الصحيح -إن شاء الله-. [الخلاف بين المالك والمستأجر في مدة الكراء] "الثامنة": إذا استكرى رجل بيتا، وقال صاحب البيت: أنا مكريك سنة، وقال المستأجر: أما مستكر سنتين. "فالجواب": إن القول قول المالك مع يمينه. قال في الشرح: لأنه منكر للزيادة، فكان القول قوله بيمينه، كما لو قال: بعتك هذا العبد بمائة، وقال "المشتري": بل هذين العبدين بمائتين. [حكم غلة المبيع في مدة الخيار] "التاسعة": إذا تبايعا نخلا، وشرطا الخيار: عشر سنين، وأخذ المشتري العمارة في هذه العشر السنين، ويوم فك البائع النخل، هل العمارة ترد على البائع، أو تكون للمشتري يأخذها مع الدراهم؟ "الجواب": ما حصل من غلات المبيع ونمائه في مدة الخيار، فهو للمشتري -أمضيا العقد أو فسخاه-؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم "الخراج بالضمان"1، 2 قال الترمذي: هذا حديث صحيح. وهذا من ضمان المشتري، فيجب أن يكون خراجه له بمقابلة ضمانه. [ضمان تلف الرهن] "العاشرة": إذا رهن رجل قِدرا، وضاع القدر، وهو لم يفرط فيه 3 هل يسقط الدَّين، أو الدين ثابت، ولو ضاعت الرهانة؟ "الجواب": إذا تلف الرهن في يد المرتهن؛ فإن كان بتعديه، أو تفريطه في حفظه ضمنه، قال في الشرح: لا نعلم فيه خلافا، فأما إن تلف من غير تعد منه

_ 1 أي ما خرج من الغلة بما على واضع اليد من الضمان من التلف. 2 الترمذي: البيوع "1285" , والنسائي: البيوع "4490" , وأبو داود: البيوع "3508" , وابن ماجه: التجارات "2242 ,2243". 3 القدر التي يطبخ فيها، مؤنثة في العربية، والتذكير لغة العوام.

ولا تفريط فلا ضمان عليه، وهو من مال الراهن، يروى ذلك عن علي رضي الله عنه وبه قال عطاء، والزهري، والأوزاعي، والشافعي، وأبو ثور، وابن المنذر، فإذا تلف بغير تعد ولا تفريط لم يضمنه، ولم يسقط شيء من الدَّين، بل هو ثابت في ذمة الراهن؛ لأن الدَّين ثابت في ذمة الراهن، ولم يوجد ما يسقطه. [مطالبة الضامن والمضمون عنه] "الحادية عشرة": إذا ضمن رجل على آخر، وادعى للمضمون عنه أني أعطيت الغني. "الجواب": لصاحب الحق مطالبة من شاء من الضامن والمضمون عنه، وبه قال الشافعي، والثوري، وإسحاق، وأصحاب الرأي، وأبو عبيد؛ لقوله -عليه السلام- "الزعيم غارم"1 فإن أدى المضمون عنه برئت ذمة الضامن بغير خلاف، وإن أدى الضامن الدَّين، ونوى الرجوع رجع على المضمون عنه بما أداه لصاحب الحق، وهو مذهب مالك والشافعي. [براءة الذمة بالإحالة على المليء] "الثانية عشرة": إذا أحال رجل آخر بعشرة جدد على مليء وقبله، وبعد هذا أفلس المحال عليه، هل ينحرف على صاحبه، أم لا؟ "الجواب": إذا أحاله على مليء برئت ذمة المُحيل، ولم يعد الحق إليه، سواء أمكن الاستيفاء، أم لا، وبه قال الليث، والشافعي، وأبو عبيد، وابن المنذر؛ لأنه أحاله على مليء برضاه وقبله، فلم يكن له على المحيل رجوع، بشرط أن تكون الحوالة صحيحة بشروطها. [معنى تعارض البينتين] "الثالثة عشرة": ما معنى تعارض البَيِّنَتَيْن؟ "الجواب": معنى تعارض البينتين: تساويهما من كل وجه، فإذا أقام المدعي بينة، وأقام المدعى عليه بينة وتساويتا، فقد تعارضتا، (ومتى تعارضت) بينتاهما سقطتا، وكانا كمن لا بينة لهما.

_ 1 الترمذي: البيوع "1265" , وأبو داود: البيوع "3565" , وابن ماجه: الأحكام "2405".

[بينة الداخل والخارج] "الرابعة عشرة": ما معنى قولهم: بَيِّنَة الداخل والخارج؟ "الجواب": بينة الخارج بينة المدعي، وبينة الداخل بينة المدعَى عليه. [قسمة التراضي وقسمة الإجبار] "الخامسة عشرة": الفرق بين قسمة التراضي والإجبار. "الجواب": قسمة الإجبار: هي التي لا ضرر فيها على أحد من الشركاء. ويمكن تعديل السهام من غير رد عوض، فإن كان فيها ضرر لم يجبر الممتنع؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم "لا ضرر ولا ضرار"1 فإن كان فيها رد عوض، فهي بمعنى البيع فلا يجبر عليها الممتنع، فإذا لم تكمل هذه الشروط فهي قسمة تراض، لا يجبر الممتنع عليها، بل برضاه. [المنع من المباني الضارة بالجار] "السادسة عشرة": إذا بنى رجل بيتا، وبنى فيه مدابغ وكنيفا، وبنى جاره بعده بيتا، وأقام الثاني بينة: أن كنيفك، ومدابغك تضر بي. "الجواب": إذا كانت المدابغ والكنيف سابقة على ملك جاره، ولا حدثت دار جاره إلا بعد بناء الكنيف والمدابغ، فلا تُزال؛ لأنها سابقة على ملك الجار، والجار هو الذي أدخل الضرر على نفسه. وفي إزالة ضرره إضرار بجاره، فلا يزال الضرر بالضرر، فإذا كانت المدابغ ونحوها سابقة على ملك الجار لم تزل، وإن أضرت بالجار، والله أعلم. "السابعة عشرة"2: إذا بنى رجل مدابغ أو بنى كنيفا تحت جاره، وأقام الأول البينة أن هذه البنية التي حدثت في ملكك تضر بي. "الجواب": يمنع الجار أن يحدث في ملكه ما يضر بجاره؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم "لا ضرر ولا ضرار"3 فإذا أراد أن يحدث في ملكه ما يضر بجاره فإنه يمنع للحديث، وهذه المسألة عكس التي قبلها في الصورة والحكم. [الأيمان على البت والقطع لا على نفي فعل الغير] "الثامنة عشرة": إذا مات رجل، وجاء آخر إلى الوارث يدعي أن له دَينا على الميت، وليس على المدعي (؟) شهود، أيش صفة يمين الوارث؟ "الجواب": إذا لم يكن مع المدعي بينة، وأراد أن يستحلف الوارث، فإنه

_ 1 ابن ماجه: الأحكام "2340" , وأحمد "5/ 326". 2 هذه المسألة مكررة مع ما قبلها. 3 ابن ماجه: الأحكام "2340" , وأحمد "5/ 326".

يحلف على نفي العلم، قال في "المغني": والأيمان كلها على البت والقطع لا على نفي فعل الغير، فإنها على نفي العلم، فإذا حلف على نفي مثل أن يدعي عليه، أي: على الغير دينا أو غصبا؛ فإنه يحلف على نفي العلم لا غير. "التاسعة عشرة" إذا ادعى رجل على آخر بدعوى وليس عند المدعي بينة ما صفة يمين المنكر؟ "الجواب" يحلف المنكر على البت والقطع لأن الأيمان كلها على البت لا على نفي فعل الغير فإنها على نفي العلم كما تقدم في المسألة قبلها. [الحكم إذا نكل المنكر عن اليمين] "العشرون" إذا تداعى اثنان ولا بينة معهما، وصارت اليمين على المنكر؛ فإن حلف قضي له، وإن أبى أن يحلف، فهل يقضى عليه بنكوله أم تردون اليمين على المدعي؟ "الجواب" فيه قولان للعلماء هما روايتان عن أحمد. "إحداهما" لا ترد، بل إذا نكل من توجهت عليه اليمين قضي عليه بالنكول، وهو قول أبي حنيفة. "والرواية الأخرى" أن اليمين ترد على المدعي فيقال له: رد اليمين على المدعي؛ فإن ردها حلف المدعي، وحكم له بما ادعاه اختاره أبو الخطاب وقال: قد صوبه أحمد، وما هو ببعيد يحلف ويستحق، واختار هذا القول ابن القيم في الطرق الحكمية والموفق في العمدة، وهو قول أهل المدينة. وروي ذلك عن علي رضي الله عنه وبه قال شريح والشعبي والنخعي وابن سيرين ومالك في المال خاصة، وقال الشافعي: بل في جميع الدعاوي. وقال الشيخ تقي الدين*: مع علم مدع وحده بالمدعى به لهم ردها، وإذا لم يحلف لم يأخذ كالدعوى على ورثة ميت حقًا عليه بتركته، وإن كان المدعى عليه هو العالم بالمدعي به دون المدعى مثل أن يدعي الورثة أن الوصي على غريم الميت؛ فينكر فلا يحلف المدعي، وأما إن كان المدعي يدعي العلم والمنكر يدعي العلم، فهنا يتوجه القولان، يعني المتقدمين، هل يقضي بالنكول أم ترد؟ والله أعلم. وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.

_ * انظر "الفروع" لابن مفلح 11/ 193، و"مختصر الفتاوى المصرية" للبعلي ص 607، و"الاختيارات الفقهية" لابن اللحام ص 631، و"الإنصاف" للمرداوي 11/ 255. وهي في "المستدرك على مجموع الفتاوى" 5/ 189. [معد الكتاب للمكتبة الشاملة]

مسائل وفتاوى أخرى لبعض علماء نجد

مسائل وفتاوى أخرى في الصلاة ومصطلح الحديث والنسخ والإجماع والتكفير، وهي عشرون مسألة لبعض علماء نجد ... مسائل وفتاوى أخرى لبعض علماء نجد* بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله والصلاة والسلام على خير خلق الله وعلى آله وأصحابه الذين كانوا نصرة لدين الله. "المسألة الأولى" ما قولكم فيمن ترك السنة 1 من غير استخفاف ما حكمه؟. "الجواب" الذي ذكر أهل العلم أن من ترك السنة وداوم عليها من غير استخفاف بها أنه يكون ناقصا ولا تقبل شهادته. [الرواتب كم قدرها ووقتها وأيها أفضل] "الثانية" ما قولكم في الرواتب كم قدرها ووقتها وأيها أفضل؟ "الجواب" ثبت في الصحيحين عن عبد الله بن عمر قال: "حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر ركعات: ركعتين قبل الظهر وركعتين بعدها وركعتين بعد المغرب وركعتين بعد العشاء وركعتين قبل صلاة الصبح" وفي حديث في الصحيحين عن عائشة -رضي الله عنها-: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يصلي قبل الظهر أربعا"2 فيحتمل أنه كان يصلي تارة أربعا قبل الظهر وتارة ركعتين. وذكر العلماء أن آكد التطوع الكسوف، ثم الوتر ثم ركعتا الفجر؛ لأن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لم يدعهن لا حضرا ولا سفرا. [المسند والمرسل معناهما وأيهما أقوى] "الثالثة" المسند والمرسل أيهما أقوى؟ "الجواب" إن المسند أقوى من المرسل؛ وذلك لأن المسند ما اتصل سنده إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فإذا كان رجال المسند كلهم ثقات وليس فيه شذوذ؛ فأجمع العلماء

_ * هذه 20 مسألة، نسب الشيخ عبد الرحمن بن قاسم جامع "الدرر السنية" المسائل (3 - 5، 12 - 13، 16، 20) منها إلى الشيخ عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب، ونسب المسألة (9) إلى الشيخ علي بن محمد بن عبد الوهاب. [معد الكتاب للمكتبة الشاملة] 1 أي من الصلاة النافلة وهي التي تسمى الرواتب. وليس المراد السنة بمعنى الهدي النبوي والطريقة الشرعية. 2 الترمذي: الصلاة "424".

على الاحتجاج به 1 إذا لم يعارض بمثله أو أقوى منه، وأما المرسل؛ فهو ما يرويه التابعي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- كقول الحسن: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كذا. وقول محمد بن شهاب الزهري: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، أو قول عطاء: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فسقط الصحابي بينه وبين الرسول -صلى الله عليه وسلم- وكثير من أهل العلم لا يحتج بالمرسل إلا إذا اتصل وأسند من وجه صحيح، فإذا كان ذلك كذلك تبين لك أن المسند أقوى وأصح من المرسل بكثير. "الرابعة" ما قولكم في معناهما؟ "الجواب" يتبين لك من جواب المسألة قبلها. ومن أصح المراسيل عندهم مراسيل سعيد بن المسيب القرشي المديني عالم المدينة. وقيل: إنه عالم التابعين وأفضلهم، رضي الله عنه. [ترجيح الحديثين المتعارضين في الأمر والنهي] "الخامسة" إذا جاء خبران عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أحدهما يدل على الأمر، والآخر يدل على النهي أيهما أرجح؟ "فالجواب" أن الراجح ما صح سنده إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- بنقل العدول الثقات الضابطين، فإن قدر اتحادهما في الصحة، فإن أمكن معرفة الآخر منهما أخذ بالآخر؛ لأنه هو الناسخ، وإنما يؤخذ بالآخر، فالآخر من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم أو قوله، فإن لم يمكن معرفة ذلك وأمكن الجمع بينه جمع بينهما، فإن لم يمكن ذلك أخذ بالأحوط، وهو الذي عليه الأكثر من العلماء والفقهاء. [مذاهب العلماء في قراءة البسملة والجهر بها في الصلاة] "السادسة" ما قولكم في حذف البسملة في الصلاة وما الدليل على ذلك؟ "فالجواب" أن البسملة اختلف الفقهاء فيها، هل هي آية من الفاتحة وغيرها من كل

_ 1 أي في الأحكام العملية من العبادات والمعاملات وإن كان آحاديا.

سورة، أو هي آية من الفاتحة دون غيرها من السور؟ أو ليست من الفاتحة ولا غيرها من السور بل هي آية من القرآن تكتب في أول كل سورة وتقرأ سوى سورة براءة؟ هذه أقوال ثلاثة، ذهب إلى كل قول طائفة من العلماء، والذي يترجح عندنا القول الأخير، وبه قال الإمام أحمد بن حنبل وغيره من فقهاء الحديث. وأما الجهر بها في الصلاة؛ فالأحاديث الصحيحة تدل على أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- كان لا يجهر بها لا هو ولا الخلفاء الراشدون اللهم إلا أن يكون بعض الأحيان، فإنه قد روي في بعض أحاديث كما ثبت ذلك في الصحيح عن أنس بن مالك خادم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأبا بكر وعمر كانوا يستفتحون القرآن بـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} 1 في أول القراءة ولا في آخرها، يعنى أن أول ما يجهر به في الصلاة من القرآن {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} 2 وبذلك أخذ الإمام أحمد وجماعة من فقهاء الحديث واستحبوا ترك الجهر بها من غير إنكار على من جهر بها. [رفع اليدين ووضعهما في الصلاة] "السابعة" ما قولكم في الرفع والضم وما الدليل على ذلك؟ "فالجواب" إن كان مراد السائل رفع اليدين في الصلاة، وجعل اليمين على الشمال في الصلاة، فهذا سنة مؤكدة ثابتة عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في أحاديث كثيرة في الصحاح والسنن والمسانيد ومن أشهر ذلك حديث عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- المتفق على صحته قال: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يرفع يديه حذو منكبيه إذا افتتح الصلاة وإذا أراد أن يركع وإذا رفع رأسه من الركوع". وأما وضع اليمين على الشمال ففي حديث سهل بن سعد في صحيح البخاري قال: "كان الناس يؤمرون أن يضع الرجل يده اليمنى على ذراعه اليسرى في الصلاة"3 وإن كان مراد السائل غير ذلك فيبينه بعبارة صحيحة واضحة.

_ 1 سورة الفاتحة آية: 1. 2 سورة الفاتحة آية: 2. 3 البخاري: الأذان "740" , وأحمد "5/ 336" , ومالك: النداء للصلاة "378".

[التأمين آخر الفاتحة] " الثامنة" ما قولكم في التأمين آخر الفاتحة؟ "فالجواب" إنه سنة مؤكدة وصح أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان إذا قرأ: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} 1 قال: آمين يجهر بها، وصح من حديث أبي هريرة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا قال الإمام: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} 2 فقولوا: آمين، فإن من وافق قوله قول الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه" وأجمع العلماء من أهل السنة على استحباب ذلك. [قول المؤذن الصلاة خير من النوم] "التاسعة" ما قولكم في قول المؤذن: "الصلاة خير من النوم" وما الدليل على ذلك؟ "الجواب" دليله ما رواه أهل السنن قالوا: كان بلال إذا أذن أيقظ النبي -صلى الله عليه وسلم- لصلاة الفجر، فقيل له: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نائم، فقال: الصلاة خير من النوم، ورفع بها صوته، قال ابن المسيب: فأدخلت هذه الكلمة في أذان الفجر، واتفق الأئمة الأربعة على استحباب ذلك. [دعاء الاستفتاح في الصلاة] "العاشرة" ما قولكم في استفتاح الصلاة بما الناس عليه وما الدليل على ذلك؟. "فالجواب" أنه قد ثبت في السنن الأربعة "أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يستفتح الصلاة بسبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدك ولا إله غيرك"3. وصح في صحيح مسلم أن عمر كان يجهر بهؤلاء الكلمات يعلمهن الناس في مسجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بحضرة الأكابر من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من المهاجرين والأنصار، فلأجل ذلك أخذ به الإمام أحمد وجماعة من فقهاء الحديث قال أحمد: أنا اختاره وإن استفتح رجل بغيره مما صح عنه صلى الله عليه وسلم فحسن.

_ 1 سورة الفاتحة آية: 7. 2 سورة الفاتحة آية: 7. 3 الترمذي: الصلاة "243" , وأبو داود: الصلاة "776" , وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها "806".

[أول من وضع علم النحو] "الحادية عشرة" ما قولكم في النحو، هل شيء جاء في الاجتهاد أم لا؟ "الجواب" إن علم النحو وضعه بعض العلماء بسبب تغير لغة العرب، وقيل: إن أول من وضعه علي -رضي الله عنه- وذلك لأن الله أنزل القرآن والسنة على لغة العرب، فيجب على الأمة معرفة اللغة وضبطها ليعرف بذلك كتاب الله وسنة نبيه عليه الصلاة والسلام. [النسخ في الكتاب والسنة] "الثانية عشرة" هل ينسخ القرآن بعضه بعضا، وهل ينسخ السنة والسنة تنسخه أم لا؟ "الجواب" الذي عليه أئمة أهل العلم أن القرآن ينسخ بعضه بعضًا، وفيه آيات معروفة منسوخة، والآية التي نسختها معروفة، يعرف ذلك من طلبه من مظانه. وكذلك القرآن ينسخ السنة بإجماع. وأما نسخ القرآن بالسنة، فالذي عليه المحققون من العلماء أن السنة لا تنسخ القرآن، لكن السنة تفسر القرآن وتبينه وتفصل مجمله، لأن الله امتن على أزواج نبيه بما يتلى في بيوتهن من الكتاب والحكمة، قال كثير من العلماء: كان جبرائيل ينزل على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالسنة كما ينزل بالقرآن، ولا يسمى ذلك نسخا، بل هو تفسير له وتوضيح وتشريع للأمة؛ لأن الله ضمن لنبيه -صلى الله عليه وسلم- جمع القرآن في صدره وبيان معناه كما قال تعالى: {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} 1. [رواية الكتاب والسنة بالمعنى] "الثالثة عشرة" هل تجوز رواية الكتاب والسنة بالمعنى أم لا؟ "الجواب" أما قراءة القرآن بالمعنى فما علمت أحدا يجوز ذلك، وكيف يجوز تغيير كلام الله وتغيير نظمه الذي أعجز الله به جميع الخلق وجعله آية ودلالة باهرة على نبوة محمد -صلى الله عليه وسلم-؟ هذا لا يقوله أحد. وأما رواية الحديث بالمعنى، فهو مما اختلف

_ 1 سورة القيامة آية:17: 19.

فيه العلماء وأجازه طائفة ومنعه كثيرون من أهل الحديث وغيرهم. [حجية إجماع الصحابة] "الرابعة عشرة" هل إجماع الصحابة حجة وقول الواحد منهم حجة أم لا؟. "الجواب" إن إجماعهم حجة قاطعة يجب الأخذ بها بالإجماع من أهل العلم، واستدلوا على ذلك بقوله تبارك وتعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} 1 وقوله: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} 2 وقوله في أعظم سورة من القرآن: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} 3 وهم أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. وأما قول الواحد منهم فهو حجة عند العلماء يأخذ به الإمام أحمد وغيره إذا لم يخالفه مثله، وأما إذا خالفه غيره من الصحابة فليس قول أحدهما حجة على الآخر. [إجماع علماء الإسلام] "الخامسة عشرة" إجماع علماء الإسلام من غير الصحابة حجة. "الجواب" نعم حجة قاطعة 4 لكن لا يوجد إجماع صحيح إلا وله سند من

_ 1 سورة النساء آية: 115. 2 سورة التوبة آية: 100. 3 سورة الفاتحة آية:6،7. 4 إطلاقه هذا الجواب غريب وأول مخالف فيه الإمام أحمد "رح" فالمشهور عنه أنه لا يحتج إلا بإجماع الصحابة فقد روى عنه أبو داود أنه قال: الإجماع أن يتبع ما جاء عن النبي "ص" وعن أصحابه وهو في التابعين مخير. وروي مثل هذا عن أبي حنيفة، وهو مذهب الإمام داود بن علي، بل روي عن الإمام أحمد أنه يقول بعدم إمكان العلم بالإجماع في عصره أو بعد الصحابة. والقائلون بحجية إجماع العلماء المجتهدين وهم جمهور الأصوليين قد اختلفوا فيه هل هو حجة قطعية أو ظنية أو فيه تفصيل؟ وقوله: إن الأمة لا تجتمع على ضلالة هو معنى حديث مرفوع استدل به القائلون بأنه حجة، ورد المنكرون عليهم بأن خطأ المجمعين قد يكون عن اجتهاد في صحة نص أو في دلالته وهذا لا يسمى ضلالة، على أن إجماع المجتهدين في عصر على شيء ليس إجماعا للأمة كلها، ولا تتسع هذه الحاشية لأكثر من هذا التنبيه.

الكتاب والسنة وإجماع الصحابة وكثير من المسائل يدعى بعضهم فيها الإجماع، وليس هو قول جميع علماء الإسلام، بل يوجد فيها خلاف لبعض العلماء لا يعلمه من حكى الإجماع. وأمة محمد -صلى الله عليه وسلم- لا تجتمع على ضلالة بل قد أجارها الله من ذلك. [الواجب من قراءة القرآن في الصلاة] "السادسة عشرة" كم الواجب من القرآن في الصلاة وما الدليل على ذلك؟ "فالجواب" الواجب من ذلك هو قراءة الفاتحة لا غير لمن قدر على تعلمها واستدلوا على ذلك بقوله -صلى الله عليه وسلم-: "لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب"1 أخرجه مسلم في صحيحه وفيه دلالة واضحة. [قراءة المأموم في الصلاة] "السابعة عشرة" هل يجب أن يقرأ المأموم لنفسه أم الإمام يتحمل ذلك؟ "فالجواب" هذه مسألة اختلف العلماء فيها؛ فأوجب طائفة من العلماء قراءة الفاتحة على الإمام والمأموم والمنفرد واستدلوا بالحديث المتقدم، وكرهها آخرون للمأموم في السر والجهر وتوسط فيها آخرون فأوجبوها على الإمام والمنفرد في كل ركعة، واستحبوها للمأموم في الصلاة السرية وكرهوها للمأموم في الجهرية إذا سمع قراءة الإمام، واستدلوا على ذلك بقوله عز وجل {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} 2 قال أحمد: هذه الآية في الصلاة، وبما روي في الحديث "من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة"3 وهذا الذي عليه العمل عندنا ونختاره. [قراءة المأموم مع الإمام] "الثامنة عشرة" إذا قرأ المأموم مع الإمام هل تفسد صلاته؟ "فالجواب" إن صلاته لا تفسد ولا أعلم أحدًا قال بفسادها بذلك، بل كرهها من كرهها من العلماء للآية المتقدمة التي قبلها، ولدلائل أخر ليس هذا موضع بسطها ولم يبطلوها بذلك.

_ 1 البخاري: الأذان "756" , ومسلم: الصلاة "394" , والترمذي: الصلاة "247" , والنسائي: الافتتاح "910 ,911" , وأبو داود: الصلاة "822" , وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها "837" , وأحمد "5/ 313". 2 سورة الأعراف آية: 204. 3 ابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها "850" , وأحمد "3/ 339".

[حكم صلاة الجماعة والعيدين] "التاسعة عشرة" ما قولكم في صلاة الجماعة والعيد هل هما واجبتان أم مسنونتان؟ وما الدلائل على ذلك؟ فنقول: أما صلاة الجماعة فاختلف العلماء في وجوبها، وهل هي شرط لصحة الصلاة أو ليست بواجبة ولا شرط لصحة الصلاة، بل سنة مؤكدة؟ فالمشهور عن أحمد وغيره من فقهاء الحديث أنها واجبة على الرجال المكلفين حضرًا وسفرًا، واستدلوا على ذلك بما ثبت في الصحيحين أن رجالا كانوا يتخلفون عن صلاة الجماعة مع النبي -صلى الله عليه وسلم- فهَمَّ -صلى الله عليه وسلم- بتحريق بيوتهم بالنار، وإنما منعه من ذلك ما فيها من النساء والذرية، وقال: "لقد هممت أن آمر رجلا يؤم الناس ثم أخالف إلى قوم لا يشهدون الصلاة فأحرق عليهم بيوتهم"1 وقال ابن مسعود: "لقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق"2 ولدلائل أخر ليس هذا موضع بسطها، وأما صلاة العيدين، فالصحيح من أقوال العلماء: أنها فرض كفاية، ومن قال: إنهما سنتان قال: إذا اتفق أهل بلد على تركهما قاتلهم الإمام، واستدلوا على أنها فرض كفاية بأن النبي -صلى الله عليه وسلم- أمر بهما مالك بن الحويرث وصاحبه. [النهي عن سب الصحابة وجزاء من يفعل ذلك] "العشرون" من سب الصحابة هل يكفر أو يفسق، وما الدليل على ذلك؟. "فالجواب" إن فسقه لا خلاف فيه لقوله عليه السلام-: "سباب المسلم فسوق وقتاله كفر"3 وأما تكفيره فاختلف العلماء في ذلك فمنهم من كفره ويذكر عن مالك، واحتج على كفره بقوله تعالى: {لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} 4 قال: فكل من سبهم فهو كافر لهذه الآية. والذي عليه الأكثر عدم تكفيره، وتوقف أحمد في تكفيره وقتله، وأما تعزيره وتأديبه بالضرب والحبس الذي يزجره عن ذلك فلا خلاف فيه. وهذا ما تحتمله الورقة ونسأل الله أن يوفقنا وسائر إخواننا لما يحبه ويرضاه، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.

_ 1 البخاري: الخصومات "2420" , ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة "651" , والترمذي: الصلاة "217" , والنسائي: الإمامة "848" , وأبو داود: الصلاة "548 ,549" , وابن ماجه: المساجد والجماعات "791" , وأحمد "2/ 314 ,2/ 376 ,2/ 416 ,2/ 479 ,2/ 525 ,2/ 537" , ومالك: النداء للصلاة "292" , والدارمي: الصلاة "1212". 2 مسلم: المساجد ومواضع الصلاة "654" , وأبو داود: الصلاة "550" , وابن ماجه: المساجد والجماعات "777" , وأحمد "1/ 382 ,1/ 414". 3 البخاري: الإيمان "48" , ومسلم: الإيمان "64" , والترمذي: البر والصلة "1983" والإيمان "2634 ,2635" , والنسائي: تحريم الدم "4105 ,4106 ,4108 ,4109 ,4110 ,4111 ,4112 ,4113" , وابن ماجه: المقدمة "69" والفتن "3939" , وأحمد "1/ 385 ,1/ 411 ,1/ 417 ,1/ 433 ,1/ 439 ,1/ 446 ,1/ 454 ,1/ 460". 4 سورة الفتح آية: 29.

مسائل وفتاوى في القراءة في الصلاة والطهارة والوضوء والتيمم والطلاق والعدة وعورة الأمة والكلام عند الأذان وتلاوة القرآن وغير ذلك، لأحد علماء نجد

مسائل وفتاوى في القراءة في الصلاة والطهارة والوضوء والتيمم والطلاق والعدة وعورة الأمة والكلام عند الأذان وتلاوة القرآن وغير ذلك لأحد علماء نجد، غير معروف اسمه* من مطبوعات صاحب الجلالة السعودية، ومحيي السنة المحمدية الإمام عبد العزيز آل سعود ملك الحجاز ونجد وملحقاتها أيده الله ووفقه (وقد وقفها على من ينتفع بها من أهل العلم والدين) {لا يحل لمن وقعت بيده بيعها}

_ * هذه 16 مسألة وردت قبل ذلك في 1/ 526 منسوبة للشيخ حمد بن ناصر بن معمر. [معد الكتاب للمكتبة الشاملة]

مسائل وفتاوى أخرى في الطهارة والصلاة والطلاق والغيبة وغيرها، وهي ست عشرة مسألة ... بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم الحمد لله والصلاة على خير خلق الله وآله وأصحابه الذين كانوا أنصارًا لدين الله. [الصلاة خلف الإمام] "المسألة الأولى" ما قول العلماء -رضي الله عنهم- فيمن صلى خلف الإمام ما حكمه؟ "الجواب" وبالله التوفيق: السنة أن يقف المأموم خلف الإمام، وإن كان واحدا صلى عن يمينه، فإن كان معهم امرأة قامت خلفهم، فإذا وقف المأموم قدام الإمام لم تصح صلاته، وإن وقف الرجل خلف الصف أو خلف الإمام وحده فصلى ركعة فأكثر لم تصح صلاته. [صلاة من أخل بإعراب الفاتحة] "المسألة الثانية" هل تصح صلاة من أخل بإعراب الفاتحة أم لا؟ "الجواب" وبالله التوفيق: يلزم القارئ أن يقرأ الفاتحة مرتبة مشددة غير ملحون فيها لحنا يحيل المعنى، نحو أن يقول: "أنعمتُ" برفع التاء، فإن فعل لم يعتد بقراءته إلا أن يكون عاجزا، وهذا مذهب الشافعي، فإن كان لحنا لا يحيل المعنى نحو أن يكسر النون من "نستعين" لم تبطل صلاته. [الصلاة في ثوب به نجاسة وهو لا يعلم] "المسألة الثالثة" إذا صلى من في بدنه أو ثوبه نجاسة نسيها أو جهلها ولم يعلم بها إلا بعد انقضاء صلاته هل يعيدها أم لا؟ "الجواب" وبالله التوفيق: هذه المسألة فيها عن أحمد روايتان: "أحدهما" لا تفسد صلاته، وهو قول ابن عمر وعطاء لحديث النعلين وفيه: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بأصحابه إذ خلع نعليه إلى أن قال: إن جبرائيل أتأنى فأخبرني أن فيهما قذرا"1 رواه أبو داود ولو بطلت لاستأنفها. "والثانية" يعيد وهو مذهب الشافعي، فإن علم بها في أثناء الصلاة وأمكنه إزالتها من غير عمل كثير كخلع النعال والعمامة

_ 1 أبو داود: الصلاة "650" , وأحمد "3/ 20" , والدارمي: الصلاة "1378".

ونحوهما أزالها، وبنى على ما مضى من صلاته وإلا بطلت. [صلاة الإمام محدثا جاهلا هو والمأمومون] "الرابعة" إذا صلى الإمام محدثا جاهلا والمأمون حتى سلموا ما حكم صلاتهم؟ "الجواب" صلاتهم صحيحة دون الإمام فإنه يعيد، يروى عن عمر وعثمان وعلي ومالك والشافعي، وإن علمه وهو في الصلاة بطلت وأعادها. [في بدن الجنب نجاسة فزالت بغسل الوضوء أو غسل الجنابة ولم ينو إزالتها] "الخامسة" إذا كان في أعضاء الوضوء أو في بدن الجنب نجاسة؛ فزالت بغسل الوضوء أو غسل الجنابة، ولم ينو إزالتها هل تزول أم لابد من النية؟. "الجواب" غسل النجاسة لا يفتقر إلى نية، بل متى زالت عين النجاسة بالماء طهر المحل؛ لأنها من التروك بخلاف الأوامر، فإنها مفتقرة إلى نية لقوله -عليه السلام-: "إنما الأعمال بالنيات"1 الحديث، لكن عليه أن يزيل النجاسة عن أعضائه وعن بدنه قبل الغسل. [تعدد الصلوات بوضوء واحد] "السادسة" إذا توضأ الإنسان لمشروع كالنافلة وصلاة الجنازة ولم ينو به الفرض هل يصلي به الفرض أم لا؟ "الجواب" يصلي به ما شاء فرضا أو نفلا، وأيضا قال في "الشرح الكبير": ولا بأس أن يصلي الصلوات بالوضوء الواحد لا نعلم فيه خلافا. انتهى. [تأخير التيمم إلى آخر الوقت لمن يرجو وجود الماء] "المسألة السابعة" إذا دخل الوقت على عادم الماء، ويرجو أن يصل إليه في آخر الوقت، هل يصلي بالتراب في أول الوقت أو يؤخر الصلاة حتى يأتي الماء؟. "الجواب" قال في الشرح: يستحب تأخير التيمم إلى آخر الوقت لمن يرجو وجود الماء، روي ذلك عن علي وعطاء والحسن وأصحاب الرأي، وقال الشافعي في أحد قوليه: التقديم أفضل. انتهى. [عدة المرضعة] "المسألة الثامنة" إذا طلقت المرأة وهي ترضع، ولم يأتها الحيض بسبب الرضاع ما عدتها؟ "الجواب" هي في عدة حتى يأتيها الحيض، فتعتد به ثلاث حيضات أو تصير آيسة فتعتد بثلاثة أشهر.

_ 1 البخاري: بدء الوحي "1" , وأبو داود: الطلاق "2201" , وابن ماجه: الزهد "4227".

[ادعت المرأة أنها اعتدت بعد الطلاق في وقت تمكن العدة فيه] "المسألة التاسعة": إذا ادعت المرأة أنها اعتدت بعد الطلاق في وقت تمكن العدة فيه هل تصدق أم لا؟ وإذا شهدت امرأة أو امرأتان أنها اعتدت بالحيض هل تقبل شهادتهن في ذلك لعدم اطلاع الرجال أم لا؟ "الجواب" تصدق لقوله تعالى: {وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ} 1 الآية، وإذا شهدت امرأة عدل أنها حاضت ثلاث حيض وهو يمكن قبلت، والأحوط شهادة امرأتين. [كشف الأمة المملوكة لوجهها] "المسألة العاشرة": هل وجه الأمة المملوكة عورة فيلزمها الخمار كالحرة أم لا؟ "الجواب": لا يلزمها؛ لأن عمر بن الخطاب كان ينهى الإماء عن التقنع فاشتهر فلم ينكر، فكان إجماعا، لكن إذا كانت الأمة جميلة يخشى بها الفتنة لم يجز النظر إليها بشهوة. وأما الحرة فلا يجوز كشف وجهها في غير الصلاة بغير خلاف 2 والأمة إذا عتقت فهي حرة. [حكم الكلام عند الأذان والإقامة وتلاوة القرآن وعند الجماع] "المسألة الحادية عشرة": ما حكم الكلام عند الأذان والإقامة وتلاوة القرآن، والكلام عند الجماع. "الجواب": قال في الشرح: يستحب لمن سمع المؤذن أن يقول كما يقول إلا في الحيعلة فإنه يقول: لا حول ولا قوة إلا بالله، وهذا مستحب لا نعلم فيه خلافا، ثم يقول: "اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آت محمدًا الوسيلة والفضيلة وابعثه مقاما محمودًا الذي وعدته"3 رواه البخاري، انتهى. وقال بعض العلماء: كذلك عند الإقامة، وأما الكلام عند تلاوة القرآن فقال النووي -رحمه الله- في كتاب التبيان: ويتأكد الأمر باحترام القرآن من أمور، فمنها اجتناب الضحك واللغط والحديث في خلال القرآن إلا كلاما يضطر إليه وليمتثل أمر الله، قال تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} 4 وعن ابن عمر أنه كان إذا قرئ

_ 1 سورة البقرة آية: 228. 2 هذا إنما يصح في حال خوف الفتنة فقط. 3 البخاري: الأذان "614" , والترمذي: الصلاة "211" , والنسائي: الأذان "680" , وأبو داود: الصلاة "529" , وابن ماجه: الأذان والسنة فيه "722" , وأحمد "3/ 354". 4 سورة الأعراف آية: 204.

القرآن لا يتكلم حتى يفرغ مما أراد أن يقرأ انتهى. وأما الكلام حال الجماع: فيكره كثرة الكلام حال الوطء، قيل إن منه الخرس والفأفأة 1. [نداء والديه أو قرابته أو معلميه بأسمائهم] "المسألة الثانية عشرة": هل نداء الشخص والديه أو قرابته بأسمائهم من العقوق المنهي عنها أم لا؟ "الجواب": قال في كتاب الأذكار: "باب نهي الولد والمتعلم والتلميذ أن ينادي أباه أو معلمه أو شيخه باسمه" رُوِّينا في كتاب ابن السني عن أبي هريرة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رأى رجلا معه غلام فقال: "يا غلام من هذا؟ قال: أبي، قال: لا تمش أمامه، ولا تستسب له، ولا تجلس قبله، ولا تدعه باسمه" قلنا: معنى لا تستسب له أي: لا تفعل فعلا تتعرض فيه لأن يسبك أبوك زجرا لك وتأديبا لك على فعلك القبيح. ورُوّينا عن عبد الله بن زحر قال: كان يقال: "من العقوق أن تسمي أباك باسمه، وأن تمشي أمامه في الطريق" انتهى.2 وأما القرابة غير الوالدين فلا أعلم في ندائهم بأسمائهم بأسا. [التفريق بين المملوكة وولدها في البيع والهبة] "المسألة الثالثة عشرة": هل يجوز التفريق بين المملوكة وولدها في البيع والهبة أم لا؟ "الجواب": لا يجوز التفريق بين ذوي رحم محرم قبل البلوغ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم "من فرق بين والدة وولدها فرق الله بينه وبين أحبته يوم القيامة"3 حديث حسن. [افتقار غسل النجاسة إلى عدد] "المسألة الرابعة عشر": هل يفتقر غسل النجاسة إلى عدد أم لا؟ "الجواب": أما نجاسة الكلب والخنزير وما تولد منهما إذا أصابت غير

_ 1 أي أنه يورث هذين الأمرين: وفي هذا نظر. 2 هذان العملان من سوء الأدب بلا شك، ولكن لا يعدان من العقوق إلا إذا كان الوالد يتأذى بهما أذى شديدا، وهذا يختلف باختلاف العرف والأحوال، فالعقوق الأذى الشديد، مشتق من العق وهو شق الثوب ونحوه، ولذلك كان من أكبر الكبائر. 3 الترمذي: السير "1566" , وأحمد "5/ 412 ,5/ 414" , والدارمي: السير "2479".

الأرض فيجب غسلها سبعا إحداهن بالتراب سواء من ولوغه أو غيره؛ لأنهما نجسان وما تولد منهما 1 لقوله صلى الله عليه وسلم "إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبعا إحداهن بالتراب"2 متفق عليه ولمسلم: "أولاهن بالتراب"3 وأما النجاسات على الأرض فيطهرها أن يغمرها بالماء فيذهب عينها أو لونها لقوله -صلى الله عليه وسلم- في بول الأعرابي: "صبوا عليه ذنوبا من ماء"4 متفق عليه وأما باقي النجاسات ففيها عن أحمد ثلاث روايات: "الأولى" سبعا "والثانية" ثلاثا "والثالثة" تكاثر بالماء حتى يذهب عينها ولونها من غير عدد لقوله صلى الله عليه وسلم "اغسله بالماء" ولم يذكر عددًا. وهذا مذهب الشافعي، واختاره شيخ الإسلام أحمد بن تيمية وهو المفتى به عندنا. [كلام المصلي أثناء الصلاة] "المسألة الخامسة عشرة": إذا تكلم المصلي في نفس الصلاة أو تنحنح هل تبطل صلاته أم لا؟. "الجواب": إن تكلم فيها عمدًا لغير إصلاح صلاته بطلت بالإجماع، وإن تكلم فيها ناسيا أو جاهلا لتحريمه لم تبطل في إحدى الروايتين عن أحمد، وهو مذهب الشافعي؛ لحديث معاوية بن الحكم حين تكلم في صلاته، ولم يأمره بالإعادة، وكذلك إن تنحنح لم تبطل، وقيل: إن بان حرفان بطلت. والله أعلم.

_ 1 كان ينبغي أن يقول: إن هذا مذهب أحمد الذي هو مذهبهم وكذا الشافعي، فإنهما عللا الأمر في الحديث بالنجاسة وقاسا الخنزير على الكلب. ويرى مالك أن الأمر تعبدي؛ لأنه غير معقول والتعبدي لا يقاس عليه ولا يتعدى حكمه المنصوص؛ فلا يقال: إن الثوب إذا لاقى شعر الكلب مع البلل في أحدهما، فإنه يجب غسله سبع مرات إحداهن بالتراب، بل لم يرد نص من الشارع بغسل صيد الكلب مع الحاجة إليه لو كان نجسا وتوفر الدواعي على نقله لو ورد، وقد ظهر للأطباء علة للأمر بغسل الإناء الذي ولغ فيه وتتريبه وهو أن لعاب الكلب يوجد فيه جراثيم دودة ضارة تسمى الدودة الشريطية كما يوجد في لحم الخنزير جراثيم الدودة الوحيدة. وكتبه محمد رشيد رضا. 2 البخاري: الوضوء "172" , ومسلم: الطهارة "279" , والترمذي: الطهارة "91" , والنسائي: الطهارة "63 ,64 ,66" والمياه "335 ,338 ,339" , وأبو داود: الطهارة "71 ,73" , وابن ماجه: الطهارة وسننها "363 ,364" , وأحمد "2/ 245 ,2/ 253 ,2/ 265 ,2/ 271 ,2/ 314 ,2/ 360 ,2/ 398 ,2/ 424 ,2/ 427 ,2/ 460 ,2/ 480 ,2/ 489 ,2/ 507" , ومالك: الطهارة "67". 3 مسلم: الطهارة "279" , والترمذي: الطهارة "91" , والنسائي: المياه "338 ,339" , وأبو داود: الطهارة "71" , وأحمد "2/ 427 ,2/ 489 ,2/ 507". 4 البخاري: الأدب "6128" , والترمذي: الطهارة "147" , والنسائي: المياه "330" , وأحمد "2/ 239 ,2/ 282".

المسالة السادسة عشرة: هل يحل عرض أحد من المسلمين أم لا؟ "الجواب": الغيبة محرمة بالإجماع، وهي ذكرك أخاك بما يكرهه لو كان حاضرًا، وتباح لستة أسباب: "الأول": التظلم فيجوز أن يقول لمن له قدرة على إنصافه: فلان ظلمني أو فعل بي كذا ونحو ذلك. "الثاني": الاستعانة على تغيير المنكر ورد العاصي إلى الصواب، فيقول لمن يرجو قدرته على إزالة المنكر: فلان يعمل كذا فازجره. "الثالث": الاستفتاء بأن يقول للمفتي: ظلمني أبي أو أخي، أو فلان بكذا ونحو ذلك فهذا جائز للحاجة. "الرابع": تحذير المسلمين من الشر ونصيحتهم فمنها جرح المجروحين من الرواة والشهود، ومنها إذا استشارك إنسان في مصاهرته أو معاملته، ونحو ذلك، فيجب عليك أن تذكر له ما تعلم منه على وجه النصيحة، ومنها إذا رأيت من يشتري سلعة معيبة، فعليك أن تبين ذلك للمشتري، وهذا على كل من علم بالعيب وجب عليه بيانه. "الخامس": أن يكون مجاهرًا بالفسق أو ببدعة كالمجاهر بشرب الخمر وخيانة الأموال ظلما وتولي الأمور الباطلة، فيجوز ذكره بما يجاهر به، ويحرم ذكره بغيره من العيوب إلا أن يكون لجوازه سبب آخر. "السادس": التعريف، فإذا كان الإنسان معروفا بلقب كالأعرج والأعمى ونحوهما جاز تعريفه بذلك بنية التعريف لا التنقيص. فهذه الستة ذكرها العلماء مما يباح بها الغيبة ودلائلها مشهورة في الأحاديث. فرحم الله من نظر فيها، وأصلح خلل ألفاظها ومعانيها بعد التحقيق 1 فإن الإنسان لا يعصم من الخطأ والنسيان، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرًا.

_ 1 يقول محمد رشيد رضا: إنني أرجو أن أكون أهلا لهذا الدعاء وأدعو لهذا المفتي بمثل ذلك، رحمه الله وأثابه، وصلى الله على خاتم النبيين محمد وآله وأصحابه آمين.

مسائل سئل عنها الشيخ محمد بن عبد الوهاب

هذه مسائل سئل عنها الشيخ محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله- تعالى فأجاب والسائل عامي.1 بسم الله الرحمن الرحيم [المدة التي يحكم بها بموت المفقود] أما المفقود فلا يحكم بموته إلا بعد أربع سنين. وإذا أخذ الكفار مال مسلم وتملكه مسلم آخر بشراء أو هبة لم يكن لصاحبه الأول عليه طريق؛ لانتقال ملك الأول عنها؛ لأن الكفار يملكون أموال المسلمين بالقهر والاستيلاء كما هو مذهب أحمد في إحدى الروايتين وهي المذهب، ومذهب مالك وأبي حنيفة، لكن يكون صاحبه أحق به بالثمن بعد قسمه أو شرائه. [النخلة متى تصير وقفا] والنخلة: ما تصير وقفا إلا بشهادة رجلين مقبولين. [أعطى بعض بنيه عطية وحازها المعطى ولم يعط الآخرين] والوالد: إذا أعطى بعض بنيه عطية، وحازها المعطى، ولم يعط الآخرين لم يرجعوا عليه، البيع يصح إذا انقطع الخيار ولو كان بدون القيمة. [البعير إذا غدت عينه وهو مثل قاطر] والبعير: إذا غدت عينه وهو مثل فاطر ذبحت، ولا علم القصاب أنها غادية إلا بعد ما ذبحها فلا له طلابه. [رد الدين على المعسر] ورد الدين على المعسر ما يجوز، لا ثمن زاد ولا غيره، وإذا أوفاه بالعقد الفاسد مثل الرد على المعسر ماله إلا رأس ماله. [قسم الدين في الذمة] ويصح قسم الدين في الذمة. [استغرق دين من عليه الدين] وإذا استغرق دين من عليه الدين لم يصح الرهن إلا بأمر الديانين. [اختلف المقرض والمقترض] وإذا اختلف المقرض والمقترض، فقال المقرض: أقرضتك، وقال الآخر: أرهنتني، فالقول قول المقرض مع يمينه. [تلفت الصبرة والمشتري متمكن من القبض ولم يقبض] وإذا تلفت الصبرة والمشتري متمكن من القبض ولم يقبض؛ فهي من ضمان المشتري. [اشترى ثوبا فصبغه أو نسجه أو اختاطه وهو معيب] وإذا اشترى ثوبا فصبغه أو نسجه أو اختاطه، وهو معيب عند البائع، فهو يرده المشتري؛ لإمساكه مع الأرش، وله قدر صبغه أو نسجه أو خياطته وقت الرد، ويلحق البائع قدر استعماله له.

_ 1 قد عثرنا على ورقة فيها هذه المسائل بعد طبع ما تقدم فطبعناها بنصها.

[استأجر أجيرًا إلى مكان يأتي له منه بشيء فحصل له مانع] وإذا استأجر أجيرًا إلى مكان يأتي له منه بشيء فحصل له مانع لزمته الأجرة، والصبي أبو خمسة عشر سنة أنا راجي أن مثله ما يضمن ومثله ... 1. [الزكاة في مال اليتامى] ومال اليتامى ما فيه زكاة حتى يصيب كل واحد منهم نصاب. [قال الزوج لامرأته اطلعي من داري] وإذا قال الزوج لامرأته: اطلعي من داري؛ فليست بقرينة ويحلف أنه ما أراد الطلاق. [متى يطلب المهر] والمهر إذا كان عادة الناس أنه ما يطلب إلا إذا طلقت المرأة، أو مات الزوج فلا يطلب إلا إذا طلق أو مات. [وصاحب الدين المؤجل إذا قال لست بمزكيه إلا بعد قبضه] وصاحب الدين المؤجل إذا قال: لست بمزكيه إلا بعد قبضه فوافقوه، وبعد ما جد يوم يشتري النخل فيعطي زكاة ثمنه. [يشتري صبر التمر في الحصاد فلا يبيعها مشتريها حتى يشيلها] والذي يشتري صبر التمر في الحصاد، فلا يبيعها مشتريها حتى يشيلها، وما ذكرت من قبل الذي يسرق من الثمرة فهو على المشتري. [الهبة تلزم بمجرد العقد] والهبة تلزم بمجرد العقد، وإذا وهبه وقال: أوهبتك عمرك أو عشر سنين فهذا جائز. [تنفيل بعض أولاده في العطية] ولا يجوز للوالد تنفيل بعض أولاده في العطية على بعض. [المرأة إذا حلفت بالظهار] والمرأة التي حلفت بالظهار فليس عليها إلا كفارة يمين. [الضرر المانع من القسمة] والضرر المانع من القسمة هو إذا نقص قيمته مفردًا فهو يمنع. [النخل الذي بين الشركاء وبعضهم يرفض القسمة] والنخل الذي بين الشركاء واحد يشتهي القسمة، وواحد ما يشتهي، فإن كان على بعضهم مضرة لم يقسم. [كان في ذمة رجل لآخر دراهم واشترى من رجل شيئا بشرط أنه يقبل الثمن من ذمة فلان] وأما إذا كان في ذمة رجل لآخر دراهم واشترى من رجل شيئا بشرط أنه يقبل الثمن من ذمة فلان فلا أرى فيه بأسا. [بيع الثمرة وقت الجذاذ] وأما الذين يبيعون الثمرة وقت الجذاذ فبيعهم صحيح ولو ما نقد المشتري الثمن وقبض الثمرة فإنه يلزم إذا خلى بينه وبينها ويكون قبضا؛ لأن قبض هذا بالتخلية. [أوصى بوصية وعلقها على الموت ثم بعد ذلك أوصى بثلث ماله] وإذا أوصى بوصية وعلقها على الموت ثم بعد ذلك أوصى بثلث ماله فالوصية من الثلث إلا إن كان منجزها. [الصغير الذي ورث عصبة له] ومسألة الصغير الذي ورث عصبة له، فإن كان الأمير يقول: بيعها أصلح له فلا تعارضه، وإن كان الأمير والجماعة يقولون: غاديه أصلح فالذي أرى أن البيع ما يتم. [الرهن إذا ظهر مستحقا] ومسألة الرهن إذا ظهر مستحقا فالتالي يرجع على الثاني والثاني يرجع على الأول. "انتهى والله أعلم"

_ 1 بياض في الأصل.

مسائل وفتاوى في الطلاق والعدة والإجارة والثمار والعاقلة، والتيمم لنجاسة الثوب والبدن، والحدود والنكاح والإقرار وغير ذلك، للعلامة الشيخ سعيد بن حجي

مسائل وفتاوى في الطلاق والعدة والإجارة والثمار والعاقلة، والتيمم لنجاسة الثوب والبدن، والحدود والنكاح والإقرار وغير ذلك للعلامة الشيخ سعيد بن حجي الحنبلي النجدي رحمه الله وعفا عنه آمين

مسائل في الطهارة والطلاق والعدة والإجارة والحدود والنكاح وغيرها، وهي سبع عشرة مسألة للشيخ سعيد بن حجي ... بسم الله الرحمن الرحيم من: سعيد بن حجي إلى الأخ: مسفر بن عبد الرحمن. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. "وبعد": الخط وصل -وصلك الله إلى رضوانه- وتسأل فيه عن مسائل: [طلقت قبل الدخول مرتين من رجلين هل تحل للأول] "الأولى": قول العلماء في رجل تزوج امرأة فطلقها قبل أن يدخل بها أعني الجماع، ثم تزوجها بعده آخر فطلقها قبل أن يدخل بها، هل تجوز أم لا؟ "الجواب": لا تحل له إن كان الأول طلقها ثلاثا بكلمة واحدة لعدم تمام شروط النكاح الثاني، وإن كان طلاقه أعني الأول دون الثلاث حلت له. [عتق العبد وتحته أمة ولم تعتق هي ما الحكم] "الثانية": إذا عتق العبد وتحته أمة ولم تعتق هي ما الحكم؟. "الجواب": قال في الإنصاف: لو عتق العبد وتحته أمة فلا خيار له على الصحيح من المذهب. وقاله الموفق والشارح؛ لأن الكفاءة تعتبر فيه لا فيها، انتهى. وكذا قال في المغني والإقناع، فقد علمت أنه لا بأس باستدامة النكاح لهما. [طلاق البتة] "الثالثة": طلاق البتة هل المراد به جمع الثلاث بكلمة واحدة أو غيره؟ "الجواب" في المطلع: وبتة بمعنى مقطوعة يقال: طلقها ثلاثا بتة، وفي حديث فاطمة بنت قيس أن أبا عمرو طلقها البتة وهو غائب. وفي رواية طلقها ثلاثا. الحديث متفق عليه. قال ابن دقيق العيد على هذا الحديث ما نصه: أن لفظة البتة يعبر بها عن طلاق الثلاث دفعة، وتارة عن طلقة يتم بها الثلاث. [المعتدة في حكم الزوجات] "الرابعة": إذا كان عند الرجل أربع نسوة فطلق واحدة بالثلاث، وأراد أن يتزوج رابعة، والتي طلق لم تزل في العدة هل يجوز أم لا؟. "الجواب": مذهب أحمد بن حنبل وأبي حنيفة لا يجوز حتى تنقضي عدة المطلقة فيتزوج رابعة إن شاء، قال في الإقناع وشرحه: ومن طلق واحدة من

نهاية جمعه لم يجز أن يتزوج أخرى حتى تنقضي عدتها ولو كانت بائنا؛ لأن المعتدة في حكم الزوجات، وإن ماتت واحدة جاز في الحال نص عليه انتهى. ولأنه لا يجوز أن يجمع ماءه في رحم خمس نسوة، وهذا هو المفتى به عندنا الآن، ومذهب مالك والشافعي في البائن بخلافه. [استأجر أرضا بطعام وبقطعة من أرض معلومة] "الخامسة": إذا استأجر أرضا بطعام وبقطعة من أرض معلومة هل يصح أم لا؟. "الجواب": إذا تمت شروط الإجارة صح إن كان المراد رقبة الأرض؛ لأن الأرض من العروض، وإن كان المعنى على حذف مضاف، تقديره وزرع قطعة من أرض لم يصح؛ لأنه من المخابرة المنهي عنها، ولأنه يعود بجهالة الأجرة. [بيع الثمار خرصا وقبل بدو صلاحه] "السادسة": إذا كان رجلان شريكان في ثمرة نخل، واحتاج أحدهما إلى أخذ ثمرة نخلة بعضها ثمر وبعضها بسر، وقال لشريكه: إذا صرم النخل؛ فخذ قيمتها ثمرًا هل يصح أم لا؟. "الجواب": قد ذكر العلماء أنه يجوز قسمة الثمار خرصا، ولو كانت الثمار على شجر قبل بدو صلاحه أي: الثمر ولو بشرط التبقية، وأنه يجوز تفرقهما قبل القبض؛ لأنها إفراز حق لا بيع، وأما المسألة المسئول عنها؛ فلا تجوز؛ لأنها في الحقيقة بيع وهو غير صحيح. [الأب وإن علا والابن وإن سفل من العاقلة] "السابعة": هل الأب وإن علا والابن وإن سفل من العاقلة أم لا؟ "الجواب": المسألة فيها روايتان عن أحمد بن حنبل المذهب عند متأخري الحنابلة أنهم من العاقلة؛ لأنهم أحق العصبات بميراثه؛ فكانوا أولى بتحمل عقله ولحديث عمرو بن شعيب وهو مذهب مالك وأبي حنيفة. [إحصان الأمة] "الثامنة": وهل الإحصان للأمة من قبل إقامة الحد عليها إذا زنت الإسلام أو التزويج؟. "الجواب": قال في المغني: إذا زنى العبد أو الأمة جلد كل واحد منهما خمسين

ولم يغربا، بكرين كانا أو ثيبين، في قول أكثر الفقهاء منهم عمر وعلي وابن مسعود والحسن والنخعي ومالك والأوزاعي وأبو حنيفة والشافعي انتهى. ثم ذكر اختلاف العلماء في المسألة وأصلها قوله تعالى: {فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ} 1 الآية. وقد استدلوا على ما ذكرنا بقوله: {فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} 2 والعذاب الجلد منه؛ فينصرف التنصيف له دون غيره، وبقوله -صلى الله عليه وسلم- لعلي: "إذا تعالت من نفاسها فاجلدوها خمسين"3 رواه عبد الله بن أحمد. ورواه مالك عن ابن عمر، وبعمومات الأحاديث التي وردت في إقامة الحد على الإماء. [التيمم لإزالة نجاسة الثوب والبدن] " التاسعة": رجل أصاب ثوبه أو بدنه نجاسة وعدم الماء وصلى بها هل يعيد إذا وجد الماء أم لا؟ " الجواب": قال الشيخ تقي الدين*: أما التيمم للنجاسة على الثوب؛ فلا نعلم له قائلا من العلماء، وإن كانت النجاسة في البدن فهل يتيمم لها؟ فيه قولان للعلماء هما روايتان عن أحمد: "إحداهما" لا يتيمم لها وهذا قول جمهور العلماء كمالك وأبي حنيفة والشافعي إلى أن قال: لما كان عاجزًا عن إزالة النجاسة سقط وجوب إزالتها وجازت الصلاة معها بدون تيمم انتهى ملخصًا. وقال في الكافي: وفي وجوب الإعادة روايتان: "إحداهما" لا يجب لقوله -عليه السلام-: "التراب كافيك ما لم تجد الماء" وقياسا على التيمم. والأخرى تجب الإعادة. [اللواط وإتيان البهيمة] "العاشرة": ما حكم من فعل اللواط وأتى بهيمة؟. "الجواب": أجمع أهل العلم على تحريم اللواط، وأما حكمه فإنه اختلفت الرواية عن أحمد، فعنه أن حده الرجم بكرًا كان أو ثيبًا، وهذا قول علي وابن عباس وجابر وغيرهم ومالك وأحد قولي الشافعي.

_ 1 سورة النساء آية: 25. 2 سورة النساء آية: 25. 3 أحمد "1/ 136". * انظر "المسائل الماردينية" ص 176. [معد الكتاب للمكتبة الشاملة]

"والرواية الثانية" حده حد الزنى وبه قال ابن المسيب وغيره. ووجه الرواية الأولى قوله صلى الله عليه وسلم "من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به"1 رواه أبو داود. وفي لفظ: "فارجموا الأعلى والأسفل" ولأن الصحابة أجمعوا على قتله وإنما اختلفوا في صفته. انتهى ملخصا من المغني. وقال الشيخ تقي الدين في جواب له*: وفي السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم "من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به"2 ولهذا اتفق الصحابة على قتلهما جميعا، لكن اختلفوا في صفة القتل فمذهب جمهور السلف والفقهاء أنهما كانا يرجمان بكرين كانا أو ثيبين، حرين كانا أو مملوكين أو كان أحدهما مملوكا للآخر، واتفق المسلمون على أن من استحلها من مملوك أو غيره أنه كافر مرتد انتهى. وإنما يثبت هذا الحد ببينة أو إقرار كالزنى سواء. وأما من أتى بهيمة فهو يعزر ويبالغ في تعزيره ولا حد عليه. روي ذلك عن ابن عباس وحماد ومالك وأصحاب الرأي وهو قول الشافعي، وتقتل البهيمة، ويكره أكل لحمها، وإنما يثبت هذا التعزير بشهادة رجلين عدلين أو إقراره ولو مرة. [سرقة الثمر وجمار النخل] "الحادية عشرة": ما معنى قوله -عليه السلام-: "لا قطع في ثمر ولا كثر"3 رواه أبو داود وأحمد والترمذي وابن ماجه، ما الكثر؟ "الجواب": الكُثْر -بضم الكاف وسكون الثاء- جُمّار النخل، والجمار بالضم والتشديد شحم النخل الذي في جوفه، وجمرت النخلة قطعت جمارها. [الفرق بين المختلس والمنتهب] " الثانية عشرة": ما الفرق بين المختلس والمنتهب؟ "الجواب": السرقة أخذ مال محترم على وجه الاختفاء فلا قطع على منتهب، وهو الذي يأخذ المال على وجه الغنيمة لما روى جابر مرفوعا قال: "ليس على

_ 1 الترمذي: الحدود "1456" , وأبو داود: الحدود "4462". * انظر "مجموع الفتاوى" 11/ 543. [معد الكتاب للمكتبة الشاملة] 2 الترمذي: الحدود "1456" , وأبو داود: الحدود "4462". 3 الترمذي: الحدود "1449" , والنسائي: قطع السارق "4960" , وأبو داود: الحدود "4388" , وابن ماجه: الحدود "2593" , وأحمد "3/ 463 ,3/ 464 ,4/ 140 ,4/ 142" , ومالك: الحدود "1583" , والدارمي: الحدود "2304 ,2305 ,2306 ,2308".

منتهب قطع"1 رواه أبو داود ولا على مختلس، والاختلاس نوع من الخطف والنهب، وإنما سمي اختفاء في ابتداء اختلاسه. انتهى من "الإقناع" وشرحه. [اشتراط المرأة طلاق ضرتها] "الثالثة عشرة": إذا شرطت المرأة طلاق ضرتها، هل يصح هذا الشرط أم لا؟. "الجواب": قال في "الشرح": وإن شرطت طلاق ضرتها فالصحيح أنه باطل لنهيه -صلى الله عليه وسلم- أن تشترط المرأة طلاق أختها رواه البخاري. والنهي يقتضي فساد المنهي عنه، وعند متأخري الحنابلة: أنه صحيح للزوجة بمعنى ثبوت الخيار لها بعدمه ولا يجب عليه الوفاء به بل يسن. [إقرار المريض في المرض المخوف] "الرابعة عشرة": إذا أقر المريض في مرضه المخوف بشيء لوارث أو لغيره هل يصح أم لا؟. "الجواب": قال في الشرح: ويصح إقرار المريض في المرض المخوف بغير المال، وإن أقر بمال لمن لا يرثه، صح حكاه ابن المنذر إجماعا، وإن أقر لوارث لم يقبل إلا ببينة، وقال عطاء والحسن وإسحاق: يقبل، وقال مالك: يصح إلا أن يتهم إلا أن يقر لزوجته بمهر مثلها فأقل، فيصح في قول الجميع إلا الشعبي. انتهى. [الوكالة في النكاح] "الخامسة عشرة": إذا شهد رجل عدل أن فلانا وكل فلانا على تزويج ابنته فزوجها، ثم أنكر الموكل، هل تمضي الشهادة أم لا؟. "الجواب": للولي أن يوكل من يزوج موليته، قال في "المغني": ولا يعتبر في صحة الوكالة إذن المرأة في التوكيل، ولا يفتقر إلى حضور شاهدين؛ لأنه إذن من الولي في التزويج، فلم يفتقر إلى إذن المرأة، ولا إلى الإشهاد كإذن الحاكم انتهى. لكن لابد من إذنها للوكيل، فقد علمت أنه إذا أذن للوكيل صح وإن لم يشهد، والإشهاد أحوط.

_ 1 الترمذي: الحدود "1448" , والنسائي: قطع السارق "4971 ,4972 ,4975" , وأبو داود: الحدود "4391" , وابن ماجه: الحدود "2591" , وأحمد "3/ 380" , والدارمي: الحدود "2310".

[شهادة العبد إذا كان عدلا] "السادسة عشرة": هل تجوز شهادة العبد إذا كان عدلا في كل شيء، أم لا؟. "الجواب": تجوز شهادته في كل شيء إلا في الحدود والقصاص في إحدى الروايتين عن أحمد، وعنه تقبل فيهما أيضا على الصحيح من المذهب، واختاره ابن القيم في إعلام الموقعين، ونصره هو وغيره بأدلة، ولعل مذهب الأئمة الثلاثة على خلافه. [إقرار السارق] "السابعة عشرة": هل يقطع السارق بإقراره مرة أم لا بد من مرتين؟. "الجواب": قال في المغني: ولا يقطع إلا بشهادة عدلين أو اعترف مرتين، قال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم أن قطع السارق يجب إذا شهد بالسرقة شاهدان حران مسلمان ووصفا ما يوجب القطع انتهى. أو يعترف مرتين، روي ذلك عن علي، وبه قال ابن أبي ليلى وأبو يوسف وقال أبو حنيفة والشافعي: يقطع بإقراره مرة. ولنا ما روى أبو داود أنه -عليه السلام- أتي بلص قد اعترف فقال: "ما إخالك سرقت؟ قال: بلى. فأعاد عليه مرتين فأمر به فقطع"1 انتهى، ولحديث علي، وهذا مذهب الحنابلة والله أعلم. وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.

_ 1 النسائي: قطع السارق "4877" , وأبو داود: الحدود "4380" , وابن ماجه: الحدود "2597" , وأحمد "5/ 293" , والدارمي: الحدود "2303".

رسالة في الرد على صاحب جريدة القبلة الهاشمية، لأحد علماء نجد

رسالة في الرد على صاحب جريدة القبلة التي كانت لسان الحسين بن علي بمكة المكرمة فيما افتراه على أهل نجد من تنقيص الرسول صلى الله عليه وسلم وغير ذلك من الفرى والضلال وضعها أحد علماء نجد، لم يذكر اسمه على الأصل* من مطبوعات صاحب الجلالة السعودية، ومحيي السنة المحمدية الإمام عبد العزيز آل سعود ملك الحجاز ونجد وملحقاتها أيده الله ووفقه (وقد وقفها على من ينتفع بها من أهل العلم والدين) {لا يحل لمن وقعت بيده بيعها}

_ * نشرها مفردة الشيخ عبد السلام بن برجس عام 1410 هـ في دار العاصمة بالرياض بعنوان "رد على جريدة القبلة"، وأثبت أنها من تصنيف الشيخ سليمان بن سحمان، رحمه الله. [معد الكتاب للمكتبة الشاملة]

رسالة في الرد على صاحب جريدة القبلة الهاشمية، لأحد علماء نجد ... بسم الله الرحمن الرحيم [بعثة النبي محمد وظهور نور الشريعة] الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله إله الأولين والآخرين، وقيوم السماوات والأرضين، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، أرسله بالهدى ودين الحق؛ ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدا، ونشهد أنه -صلى الله عليه وسلم- بلغ الرسالة وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الغمة، وفتح الله به عيونا عميا، وآذانا صما، وقلوبا غلفا، وجاهد في الله حق جهاده، وعبد الله مخلصا له الدين حتى أتاه اليقين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا. "أما بعد": فاعلم يا من نور الله قلبه بالإسلام أن الله -سبحانه وتعالى- ما أنعم على خلقه نعمة أجل وأعظم من نعمته ببعثة محمد عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم فإن الله بعثه وأهل الأرض عربهم وعجمهم كتابيهم وأميهم، قرويهم وبدويهم، جهال ضلال على غير هدى، ولا دين يرتضى، إلا من شاء الله من غُبَّر 1 أهل الكتاب - فصدع بما أوحي إليه وأمر بتبليغه، وبلغ رسالة ربه، وأنكر ما الناس عليه من الديانات المتفرقة، والملل المتباينة المتنوعة، ودعاهم إلى صراط مستقيم، ومنهج واضح قويم، يصل بسالكه إلى جنات النعيم، ويتطهر به من كل خلق ذميم، وجاءهم من الآيات والأدلة القاطعة الدالة على صدقه وثبوت رسالته، بما أعجزهم وأفحمهم عن معارضته، ولم يبق لأحد على الله حجة. ومع ذلك كابر من كابر وعاند من عاند، وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق، ورأوا أن الانقياد له صلى الله عليه وسلم وترك ما هم عليه من النحل والملل يجر عليهم من مسبة آبائهم، وتسفيه أحلامهم، أو نقص رياستهم، أو ذهاب مآكلهم، ما يحول بينهم وبين مقاصدهم ومآربهم. فلذلك عدلوا إلى ما اختاروه من الرد والمكابرة، والتعصب على باطلهم والمثابرة، وأكثرهم

_ 1 غبر - بضم الغين المعجمة بعدها باء موحدة، كركع: بقية أهل الكتاب.

يعلمون أنه محق، وأنه جاءهم بالهدى ودعا إلى الله، لكن في النفوس موانع، وهناك إرادات ومؤاخاة ورياسات لا يقوم ناموسها، ولا يحصل مقصودها إلا بمخالفته، وترك الاستجابة له وموافقته، وهذا هو المانع في كل زمان ومكان من متابعة الرسل وتقديم ما جاءوا به، ولولا ذلك ما اختلف من الناس اثنان، ولا اختصم في الإيمان بالله وإسلام الوجه له خصمان. ثم بعد أن ظهر نور الشريعة وطبق مغارب الأرض ومشارقها، وشامها ويمنها، حدث بعد ذلك في الدين من الأغيار، ما لا يعلمه إلا العليم الغفار، وتفرق الناس في أديانهم، وتشعبت بهم الأهواء، وصاروا شيعا كل حزب بما لديهم فرحون، ومن طاف البلاد وخبر أحوال الناس منذ أزمان متطاولة عرف انحرافهم عن الأصل الأصيل، وبعدهم عما جاءت به الرسل من التفريع والتأصيل. فكل بلد وكل قطر وكل جهة فيما نعلم فيها من الآلهة التي عبدت مع الله بخالص العبادات، وقصدت من دونه في الرغبات والرهبات، ما هو معروف مشهور لا يمكن جحده ولا إنكاره، بل وصل الأمر ببعضهم إلى أن ادعوا لمعبوديهم مشاركة في الربوبية بالعطاء والمنع والتدبير، ومن أنكر ذلك عليهم فهو خارجي ينكر الكرامات، وكذلك في باب الأسماء والصفات، ورؤساؤهم وأحبارهم معطلة، وكذلك يدينون بالإلحاد والتحريفات، وهم يظنون أنهم من أهل التنزيه والمعرفة باللغات، ثم إذا نظرت إليهم وسبرتهم في باب فروع العبادات، رأيتهم قد شرعوا لأنفسهم شريعة لم تأت بها النبوات. هذا وصف من يدعي الإسلام منهم في سائر الجهات. وأما من كذب بأصل الرسالة أو أعرض عنها ولم يرفع بذلك رأسا؛ فهؤلاء نوع آخر وجنس ثان ليسوا مما جاءت به الرسل في شيء، بل هم كما قال تعالى: {وَالْأِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} 1.

_ 1 سورة الأعراف آية: 179.

[ملخص عقيدة الوهابية السلفية الحنبلية] فإذا تقرر هذا فاعلم أن الذي نعتقده وندين الله به هو إفراد الله -سبحانه وتعالى- بإخلاص العبادة له وحده لا شريك له، وترك عبادة ما سواه، فلا ندعو إلا الله وحده لا شريك له، ولا نستغيث إلا به، ولا نستعين إلا به، ولا نتوكل إلا عليه، ولا نرجو إلا إياه ولا نخاف إلا منه، ولا ننيب إلا إليه، ولا نذبح إلا له، ولا نستعيذ إلا به، ولا ننذر إلا له، ولا نرغب إلا إليه - إلى غير ذلك من أنواع العبادة التي من صرفها لغير الله كان مشركا، ونقر أن الله -سبحانه وتعالى- هو الخالق الرازق المحيي المميت النافع الضار المدبر لجميع الأمور، وأنه رب كل شيء وخالقه ومليكه - إلى غير ذلك من أفعال الربوبية التي لا يقدر أحد عليها إلا هو سبحانه. وبالجملة فنحن على ما كان عليه السلف الصالح وأئمة الفقه والتقوى في باب معرفة الله وإثبات صفات كماله، ونعوت جلاله، التي نطق بها الكتاب العزيز، وصحت بها الأخبار النبوية وتلقاها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقبول والتسليم، نثبتها ونؤمن بها، ونمرها كما جاءت من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل. ونحن في هذا على مذهب الإمام أحمد بن حنبل -رحمه تعالى- خلافا لما يزعمه أعداء الله ورسوله من أن مذهبنا مذهب خامس. ولبسط هذه الجمل موضع آخر، مذكورة فيه بأدلتها من الكتاب والسنة ليس هذا موضع بسطها، وما ذاك إلا أنا اتبعنا كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وقدمناهما على قول كل أحد كائنا من كان، فزعموا أن ذلك مذهب خامس، فمن أنكر شيئا مما ذكرناه وأراد المناظرة على ذلك ناظرناه، ومن سألنا عن بيان ذلك أجبناه بحول الله وقوته. إذا تحققت هذا فاعلم أن السبب الداعي لهذا الكلام وتسطيره، والباعث على تصويره وتحريره، هو ما رأيناه في جريدة صاحب القبلة مما نسب إلينا معاشر الوهابية من الأكاذيب والأوضاع، التي تمجها النفوس وتنفر منها الطباع، وتستك عند سماعها الأسماع.

(افتراؤه عليهم تفضيل العصا على المصطفى) وذلك أنه زعم أنا نقول: إن العصا أنفع من النبي صلى الله عليه وسلم. فنقول: الله أكبر على هؤلاء الملاحدة الذين ينفرون الناس عن الدخول في دين الله، {يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا} 1 {وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} 2 {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ * وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ} 3. فمن نسب هذا إلينا، وافتراه علينا، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا، وفضحه على رءوس الأشهاد {يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} 4. ويا سبحان الله، كيف يتصور وقوع هذا عاقل أو جاهل أو مجنون؟ ولا يقول هذا من يؤمن بالله واليوم الآخر، ويعلم أنه موقوف بين يدي الله، ومسئول عن ذلك، بل لا يقوله إلا من هو أضل من حمار أهله، نعوذ بالله من رين الذنوب، وانتكاس القلوب {مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} 5. بل نشهد الله وملائكته وجميع خلقه أنا نشهد أن محمدا عبده ورسوله، وأمينه على وحيه، وخيرته من خلقه، أرسله رحمة للعالمين، وقدوة للعاملين، ومحجة للسالكين، وحجة على العباد أجمعين، بعثه للإيمان مناديا، وإلى دار السلام داعيا، وللخليقة هاديا، ولكتابه تاليا، وفي مرضاته ساعيا، وبالمعروف آمرا، وعن المنكر ناهيا. أرسله على حين فترة من الرسل، فهدى به إلى أقوم الطرق وأوضح السبل، وافترض على العباد طاعته ومحبته وتعزيره وتوقيره والقيام بحقه. وسد إلى الجنة جميع الطرق فلم يفتحها لأحد إلا من طريقه، فلو أتوا من كل طريق واستفتحوا من كل باب لما فتح لهم حتى يكونوا خلفه من الداخلين، وعلى منهاجه وطريقته من السالكين.

_ 1 سورة الأعراف آية: 45. 2 سورة المائدة آية: 64. 3 سورة الأنعام آية: 112 - 113. 4 سورة غافر آية: 52. 5 سورة النور آية: 16.

إذا تحققت ما قدمته لك فكيف يصح مع هذا أن نقول: إن العصا أنفع من النبي صلى الله عليه وسلم؟ سبحان الله ما أعظم شأنه وأعز سلطانه {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} 1. {فرية أنهم اتخذوا ملة إبراهيم وأعرضوا عن ملة محمد} وأما قوله فيما نسبه هذا المفتري إلينا: إنا اتخذنا ملة إبراهيم وأعرضنا عن سنة محمد -عليه الصلاة والسلام- فنقول: وهذا أيضا من الكذب علينا والظلم والعدوان، والزور والبهتان، فإن دين محمد صلى الله عليه وسلم وما سنه هو من ملة إبراهيم -عليه السلام-، وملة إبراهيم هي دين محمد لا فرق في ذلك قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم {قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} 2 وقال تعالى: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} 3 وقال تعالى: {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ} 4 وقال تعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ} 5. فمن زعم أنا نفرق بين دين محمد وملة إبراهيم فقد كذب علينا، وافترى وأعظم الفرية على الله وعلى رسله ودينه وحسبنا الله ونعم الوكيل. وقد قال صلى الله عليه وسلم "نحن معاشر الأنبياء أولاد علات، الأب واحد والأمهات متفرقات" فدين الرسل -صلوات الله وسلامه عليهم- من أولهم إلى آخرهم دين واحد وشرائعهم مختلفة كما قال تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} 6. ومراد هؤلاء الملاحدة بهذه الأوضاع الكاذبة الخاطئة تنفير الناس عن دين الله ورسوله: {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} 7.

_ 1 سورة الروم آية: 59. 2 سورة الأنعام آية: 161. 3 سورة النحل آية: 123. 4 سورة البقرة آية: 130. 5 سورة البقرة آية: 285. 6 سورة المائدة آية: 48. 7 سورة التوبة آية: 32.

{فرية أن الوهابية يلزمون الناس تكفير آبائهم وأجدادهم} وأما قوله: إنا نلزم الناس أن يكفروا آبائهم وأجدادهم فنقول: وهذا أيضا من نمط ما قبله من الكذب والبهتان. والذي نقوله في ذلك: إن من مات من أهل الشرك قبل بلوغ هذه الدعوة إليه فالذي يحكم عليه إذا كان معروفا بفعل الشرك: ويدين به ومات على ذلك فهذا ظاهره أنه مات على الكفر فلا يدعى له، ولا يضحى له، ولا يتصدق عنه. وأما حقيقة أمره فإلى الله -تعالى- فإن كان قد قامت عليه الحجة في حياته وعاند فهذا كافر في الظاهر والباطن، وإن كان لم تقم عليه الحجة فأمره إلى الله. وأما من لا نعلم حاله في حال حياته ولا ندري ما مات عليه، فإنا لا نحكم بكفره وأمره إلى الله. فمن نسب إلينا غير هذا فقد كذب علينا وافترى، وحسبنا الله ونعم الوكيل. ثم لو قدر أن بعض الجهال الذين لا يعلمون حدود ما أنزل الله على رسوله قال ذلك جهلا منه بحقائق الأمور ومدارك الأحكام وتفاصيلها، أفينسب إلينا ما قاله هذا الجاهل؟ نحن نبرأ إلى الله من هذه المقالة التي قالها من قالها بغير دليل ولا برهان من الكتاب والسنة. {إبطال قياس دعاء الموتى على الأسباب الطبيعية وبيان أن هناك أسبابا محرمة لا يجوز تعاطيها} وأما قوله: في اعتقادهم في الأنبياء والصالحين أنه كما يقول الرجل لابنه: رد إبلي علي، أو لجاره رد ناقتي علي. "فالجواب" أن نقول: هذا قياس من هؤلاء الملاحدة على أن هذه الأسباب العادية

الطبيعية يقاس عليها دعاء الأنبياء والصالحين بمعنى أنهم أسباب ووسائط بينهم وبين الله. فيقال لهذا الجاهل: ليس الأمر كما زعمت ولا على ما توهمت، فإن هذا القول لا ينبغي أن يؤخذ على إطلاقه؛ لأنه من المعلوم بالضرورة أن من الأسباب أسبابا محرمة لا يجوز لأحد أن يتعاطاها ويجعلها أسبابا إلى ما حرمه الله ورسوله ونحن لا ننازع في إثبات ما أثبته الله من الأسباب والحكم، لكن من هو الذي جعل الاستغاثة بالمخلوق ودعاءه سببا في الأمور التي لا يقدر عليها إلا الله؟. ومن الذي قال: إنك إذا استغثت بميت أو غائب من البشر نبيا كان أو غيره كان سببا في حصول الرزق والنصر والهدى وغير ذلك مما لا يقدر عليه إلا الله؟ ومن الذي شرع ذلك وأمر به؟ ومن الذي فعل ذلك من الأنبياء والصحابة والتابعين لهم بإحسان؟. فإن هذا المقام يحتاج إلى مقدمة وهي أن الأسباب المشروعة لا يحرم فعلها، فإنه ليس كل ما كان سببا كونيا يجوز تعاطيه، فإن المسافر قد يكون سفره سببا لأخذ مال وكلاهما محرم. والدخول في دين من الأديان غير الإسلام قد يكون سببا لمال يعطونه وهو محرم، وشهادة الزور قد تكون سببا لنيل المال يؤخذ من المشهود له وهو محرم، وكثير من الفواحش والظلم قد يكون سببا لنيل مطلب وهو محرم. وكذلك الشرك كدعوة الكواكب والشياطين بل وعبادة البشر قد يكون سببا لبعض المطالب وهو محرم. فإن الله تعالى حرم من الأسباب ما كان مفسدته راجحة على مصلحته كالخمر وإن كان يحصل به بعض الأغراض أحيانا. وهذا المقام مما يظهر به ضلال هؤلاء المشركين خلقا وأمرا، فإنهم مطالبون بالأدلة الشرعية.

(جواز الاستعانة بالأسباب الظاهرية الحسية) وأما قوله في الأسباب العادية: مثل قول الرجل لابنه: رد إبلي علي أو لجاره رد ناقتي علي. فنقول: لا نزاع بين العلماء في جواز الاستعانة بالأسباب العادية الطبيعية الظاهرة الحسية، كأن يستعين الرجل بأصحابه في قتال أو إدراك عدو أو سبع ونحوه من الأسباب العادية المتعلقة مسبباتها بأسبابها، فمتى أتى العبد بالسبب وقع المقدور، ومتى لم يأت بالسبب انتفى المقدور. وهذا كما قدر الشبع والري بالأكل والشرب، وقدر الولد بالوطء، وقدر حصول الزرع بالبذر، وقدر خروج نفس الحيوان بذبحه، لكن هذه الأفعال العادية القائمة بفعالها تنسب إليه وتضاف إليه حقيقة، من إضافة الفعل إلى فاعله، فيقال: أكل وشرب وقام وقعد وحكى ودعا واستغاث حقيقة لا مجازًا بإجماع العقلاء، ولم يخالف في إضافة الأفعال إلى فاعلها حقيقة إلا من هو من أجهل الناس وأضلهم عن سواء السبيل. إذا عرفت هذا؛ فالالتفات إلى الأسباب غير المشروعة شرك في التوحيد، ومحو الأسباب العادية أن تكون أسبابا نقص في العقل. والإعراض عن الأسباب بالكلية قدح في الشرع. إذا تبين لك هذا فقياس الأموات من الأنبياء والصالحين في الأمور التي لا يقدر عليها إلا الله على الأحياء القادرين على الأسباب العادية المقدور عليها من أفسد القياس وأبطل الباطل وأمحل المحال؛ لأن الله -سبحانه وتعالى- فرق بين الأحياء والأموات ولم يسو بينهما بقوله: {وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلا الْأَمْوَاتُ} 1. وقال تعالى: {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ * أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} 2 وقال تعالي: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ

_ 1 سورة فاطر آية: 22. 2 سورة النحل آية: 20، 21.

اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} 1. وقال تعالى: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} 2. هذا ملخص الجواب عما افتراه علينا كل آفك كذاب، ونحن نعلم أن من خالفنا في ديننا، وعاب علينا سلوك طريق نبينا صلى الله عليه وسلم وأصحابه ومن تبعهم من السلف الصالح والصدر الأول، أن عندهم من الترهات والأكاذيب والخرافات أضعاف أضعاف ما ذكره هذا المفتري. وجوابنا عن كل ما يفتريه علينا أعداء الله ورسوله مما خالف دين الإسلام، وما كان عليه الأئمة الأعلام من سلف هذه الأمة وأئمتها أن نقول: سبحانك هذا بهتان عظيم، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل، وحسبنا الله ونعم الوكيل. تم بحمد الله وحسن توفيقه، والحمد لله أولا وآخرًا، وظاهرًا وباطنا. وصلى الله تعالى على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه. "انتهى الرد على الجريدة المسماة بالقبلة"

_ 1 سورة الأحقاف آية:5، 6. 2 سورة فاطر آية:13، 14.

رسالتان للشيخ سعيد بن حجي

الكَلامُ المُنْتَقى مما يتعلّق بكلمَة التقوى "لا إله إلّا الله" تأليف العلامة سعيد بن حجي الحنبلي النجدي رحمه الله وعفا عنه آمين تنبيه قد ظفرنا بهذه الرسالة بعد طبع الرسائل التي أرسلها إلينا الإمام والملك الهمام، فاستحسنا أن نجعلها مسك الختام من مطبوعات صاحب الجلالة السعودية، ومحيي السنة المحمدية الإمام عبد العزيز آل سعود ملك الحجاز ونجد وملحقاتها أيده الله ووفقه (وقد وقفها على من ينتفع بها من أهل العلم والدين) {لا يحل لمن وقعت بيده بيعها}

الكلام المنتقى مما يتعلق بكلمة التقوى للشيخ سعيد بن حجي ... بسم الله الرحمن الرحيم "رب عونك" إلى الأخ الشيخ: محمد بن أحمد الحفظي -حفظه الله من الآفات، وجنبه الشرك والبدع المضلات- سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. "أما بعد" فوصل الكتاب، وفهمنا مضمون الخطاب، وهو قولكم: الشوق إلى الاطلاع على فوائدكم، وما تنتجه القريحة من عوائدكم، وهاهنا عشرة أفصاص في كلمة الإخلاص، أفيدونا بالكلام عليها وهي هذه: لفظها، معناها، حقها، حقيقتها، حكمها، لازمها، فائدتها، مقتضاها، نواقضها، متمماتها. اهـ ملخص جوابكم. [أصل التقوى وحقيقة معناها] "فالجواب وبالله التوفيق" قولكم: هاهنا يشعر أن العشرة لديكم أفصاص، لو قلت أفحاص، أي أبحاث لكان أنسب للمقام 1 وكلمة الإخلاص هي لا إله إلا الله، فأمرها عظيم، وخطبها جسيم، أعلاها مثمر، وأسفلها مغدق، وهي كلمة التقوى. قال الله تعالى: {وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى} 2 قال ابن عباس وأكثر المفسرين: كلمة التقوى "لا إله إلا الله" وقال عطاء الخراساني: هي لا إله إلا الله محمد رسول الله. اه من البغوي، وقال البيضاوي وغيره: أضاف الكلمة إلى التقوى لأنها سببها، أو كلمة أهلها اهـ. وأصل التقوى اتخاذ وقاية تقيه مما يخافه ويحذره. فتقوى العبد لله أن يجعل بينه وبين ما يخشاه من غضبه وقاية تقيه منه، وهي امتثال أوامره، واجتناب زواجره.

_ 1 الفص يجمع على فصوص، والفحص مصدر الأصل فيه ألا يجمع إلا باعتبار أفراده، وفص الخاتم قلبه الذي ينقش فيه الاسم وفصوص العظام مفاصلها. قال في أساس البلاغة: وفلان حزاز الفصوص إذا كان مصيبا في رأيه، وآتيك بالأمر من فصه أي من محزه وأصله. وقرأت في فص الكتاب كذا. ومنه فصوص الأخبار اهـ فاستعمال الفصوص في مسائل كلمة التوحيد أفصح من استعمال الأفحاص أو الفحوص. 2 سورة الفتح آية: 26.

وقولكم: أفيدونا بالكلام عليها. فلست أهلا لذلك؛ لأن علمي لم يصل إلى ذلك، "وتسمع بالمعيدي خير من أن تراه"، لكن ما لا يدرك كله لا يترك كله. ونذكر قبل الشروع في المرام، مقدمة في فضل العلم لتكون له كالتمام: وقد ورد في فضل العلم آيات كثيرة، وأخبار صحيحة شهيرة، وله آداب وشروط، من أهمها الإخلاص لله تعالى في طلبه. قال الإمام عبد الرحمن بن أحمد بن رجب الحنبلي في شرحه على الأربعين النووية المسمى "جامع العلوم والحكم": وقد ورد الوعيد على تعلم العلم لغير وجه الله -تعالى- كما خرج الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من تعلم علما مما يبتغى به وجه الله -تعالى-1 لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضا من الدنيا لم يجد عَرْف الجنة 2 يوم القيامة". وخرج الترمذي من حديث كعب بن مالك -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "من طلب العلم ليماري به السفهاء، أو يجاري به العلماء، أو ليصرف به وجوه الناس إليه أدخله الله النار"3 وخرجه ابن ماجه بمعناه. وجاء من حديث جابر: "لا تتعلموا العلم لتباهوا به العلماء، ولا لتماروا به السفهاء، ولا لتتخيروا به المجالس، فمن فعل ذلك فالنار النار" اهـ. وقال الشهاب أحمد بن حجر العسقلاني في شرح الأربعين النووية عند قوله -صلى الله عليه وسلم-: "فإنما أهلك الذين من قبلكم"4 الحديث: إن كثرة السؤال من غير ضرورة مشعر بالتعنت أو مفض إليه، وهو حرام. وقد نهى الشارع عن قيل وقال وكثرة السؤال اهـ. وقال في الإحياء: حقيقة الإخلاص أن كل شيء يتصور أن يشوبه غيره، فإذا صفا عن شوبه وتخلص عنه يسمى خالصا، ويسمى الفعل المخلص المصفى، والتصفية إخلاصا، قال الله تعالى: {مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا} 5 فإذا خلص الفعل عن الرياء كان لله خالصا اهـ.

_ 1 أي من العلوم الدينية وخرج بهذا القيد العلوم المعاشية من فنون الصناعة والزراعة والتجارة وغيرها فهذه تتعلم لأجل عرض الدنيا، ولا يدخل متعلمها في هذا الوعيد، بل هو مأجور عليها؛ لأنها من فروض الكفايات. 2 عرف الجنة - بفتح العين المهملة وسكون الراء - ريح الجنة. 3 ابن ماجه: المقدمة "253". 4 تتمته "كثرة سؤلهم واختلافهم على أنبيائهم" وهذا الشرح لابن حجر الهيتمي الفقيه، لا للحافظ العسقلاني. 5 سورة النحل آية: 66.

وقال ابن القيم -رحمه الله-: من الناس من يحرم العلم لعدم حسن السؤال إما أنه لا يسأل، أو يسأل عن شيء وغيره أهم منه. وقال سلمان لحذيفة: إن العلم كثير، والعمر قصير، فخذ من العلم ما تحتاج إليه في أمر دينك ودع ما سواه. [ضبط ألفاظ كلمة التوحيد وإعرابها] (رجعنا إلى الجواب) "أما لفظها" فقال في المختصرة المسماة "فاكهة القلوب والأفواه، في تحقيق ما يتعلق بلا إله إلا الله، محمد رسول الله" المنتخبة من شرح محمد بن يوسف السنوسي: فصل في ضبط هذه الكلمة فينبغي للذاكر أن لا يمد ألف "لا" جدا، وأن يقطع الهمزة من إله، إذ كثيرا ما يلحن بعض الناس فيردها ياء، وكذلك يفصح بالهمزة من "إلا" ويشدد اللام بعدها، إذ كثيرا ما يلحن بعضهم فيرد الهمزة أيضا ياء ويخفف اللام، وأما كلمة الجلالة والتعظيم التي بعد "إلا" فلا يخلو إما أن يقف عليها الذاكر أو لا، فإن وقف تعين عليه السكون، وإن وصلها بشيء آخر كأن يقول: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، فله فيها وجهان: الرفع وهو الأرجح، والنصب وهو مرجوح. وقد ذكر أهل التجويد في اسم الله تعالى: المحافظة على ترقيق ألفه، وأن لا يزيد فيها على مقدار المد الطبيعي، وترقق لام "الله" إذا كسرت، أو كسر ما قبلها، وقد أجمعوا على تفخيمها بعد فتحة أو ضمة. فصل (في إعراب هذه الكلمة) قد احتوت على صدر وعجز، فعجزها ظاهر الإعراب، إذ هو جملة من مبتدأ وخبر ومضاف إليه، وأما صدرها فلا فيه نافية "وإله" مبني معها لتضمنه معنى "من"

إذ التقدير لا من إله، ولهذا كانت نصا في العموم، كأنه قد نفى كل إله غيره عز وجل من مبدأ ما يقدر منها إلى ما لا نهاية له، بني الاسم معها للتركيب، وذهب الزجاج إلى أن اسمها معرب منصوب بها، وإذا فرعنا على المشهور من البناء فموضع الاسم نصب ب"لا" العاملة عمل "إن"، وقال الأخفش: "لا" هي العاملة فيه. ونقل السنوسي كلاما قال: قال أهل العلم: إن الاسم المعظم في هذا التركيب يرفع، وهو الكثير ولم يأت في القرآن غيره، وقد ينصب، فالرفع بالبدلية أو على الخبرية، فالقول بالبدلية هو المشهور، وهو رأي ابن مالك، ثم الأقرب أن يكون البدل من الضمير المستتر في الخبر المقدر، أما القول بالخبرية في الاسم المعظم فقد قال به جماعة. ومن البسيط الوافي: "لا إله إلا الله" الأصل فيه: الله إله، فلما أريد قصر الخبر على المبتدأ، وهو من قصر الصفة على الموصوف، قدم الخبر فاقترن بإلا لأن المقصور عليه هو الذي يلي إلا، والمقصور هو الواقع في سياق النفي. ومن القواعد: أن المبتدأ إذا اقترن بإلا وجب تقديم الخبر. والله مرفوع على أنه بدل من اسم "لا" حملا على محله البعيد الذي هو الرفع بالابتداء الحاصل بالتحويل إليه بعد التقديم وقبل اعتبار النسخ، والتقدير: لا إله موجود في الوجود إلا الله، وهذا هو التقدير المشهور. فصل [معنى كلمة التوحيد] وأما معنى هذه الكلمة فلا تتسع له هذه الرسالة، لكن لا نخل ببعضه والله المستعان. فلا شك أنها محتوية على نفي وإثبات، فالمنفي كل فرد من أفراد حقيقة الإله غير مولانا عز وجل والمثبت من تلك الحقيقة فرد واحد، وهو مولانا عز وجل وأتي بإلا لقصر حقيقة الإله على الله تعالى-، وهو الواجب الوجود المستحق للعبادة، المعبود بحق، وهو الخالق المستغني عن كل ما سواه، المفتقر إليه كل من عداه. انتهى كلام صاحب فاكهة القلوب ملخصا.

ومنه قال العماد ابن كثير -رحمه الله- في تفسير قوله تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} 1 الآية: هذا الخطاب يعم أهل الكتاب ومن جرى مجراهم، والكلمة تطلق على الجملة المفيدة كما قال هاهنا، ثم وصفها بقوله: {سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} أي: عدل ونصف نستوي نحن وأنتم فيها، ثم فسرها بقوله: {أَلا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا} لا وثنا، ولا صليبا، ولا صنما، ولا طاغوتا، ولا نارًا، ولا نبيا، بل نفرد العبادة لله وحده لا شريك له، وهذه دعوة جميع الرسل ثم قال تعالى: {وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} قال ابن جرير: يعني يطيع بعضنا بعضا في معصية الله، وقال عكرمة: يعني يسجد بعضنا لبعض، انتهى ملخصا. فقد علمت أن معنى لا إله إلا الله أن لا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا، وشيئا أنكر النكرات، وأن لا يطيع بعضنا بعضا في معصية الله. ومنه قوله تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا} 2 الآية، فالكلمة الطيبة كلمة التوحيد، أصلها تصديق بالجنان، وفرعها إقرار باللسان، وأكلها عمل بالأركان. انتهى من تفسير الحنفي. وفي تفسير البغوي "كلمة طيبة" لا إله إلا الله. انتهى. ثم ذكر نحو ما تقدم. ومنه الكفر بعبادة غير الله وتوحيده، قال العماد ابن كثير في تفسير قوله تعالى: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ} 3 الآية: أي من خلع الأنداد والأوثان وما يدعو إليه الشيطان من عبادة كل ما يعبد من دون الله، ووحَّد الله، فعبده وحده، وشهد أن لا إله إلا هو {فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} 4 أي: فقد ثبت على الصراط المستقيم قال مجاهد: {فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} 5 يعني الإيمان، وقال سعيد بن جبير

_ 1 سورة آل عمران آية: 64. 2 سورة إبراهيم آية: 24، 25. 3 سورة البقرة آية: 256. 4 سورة البقرة آية: 256. 5 سورة البقرة آية: 256.

والضحاك: يعني لا إله إلا الله. انتهى ملخصا. ومنه قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَاا الَّذِي فَطَرَنِي} 1 الآية، أي: بريء من عبادتكم إلا الذي فطرني؛ لأنهم كانوا يعبدون الله والأوثان، أو إني بريء من آلهة تعبدونها غير الذي فطرني، انتهى ملخصًا من البيضاوي. ومنه قوله صلى الله عليه وسلم "من قال: لا إله إلا الله، وكفر بما يعبد من دون الله، حرم ماله ودمه وحسابه على الله عز وجل"2 رواه البخاري. وقال الشيخ أبو علي إمام أهل نجد في زمانه محمد بن عبد الوهاب في معنى لا إله إلا الله في"كتاب التوحيد" شيئًا عجبيًا، قال: "باب تفسير التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله" إلى أن قال: وشرح هذه الترجمة ما بعدها من الأبواب فليراجع. ومنه قوله -رحمه الله- في نبذة تسمى "كشف الشبهات": إذا تحققت أن التوحيد الذي دعت إليه الرسل، وأبى عن الإقرار به المشركون هو التوحيد في العبادة، وهو معنى قولك: لا إله إلا الله، فإن الإله عندهم هو الذي يقصد لأجل هذه الأمور سواء كان ملكًا أو نبيا أو وليا أو شجرة أو قبرًا أو جنيًا، لم يريدوا أن الإله هو الخالق الرزاق، فإنهم يعلمون أن ذلك هو الله وحده، وإنما يعنون بالإله ما يعني المشركون في زماننا بلفظ السيد. فأتاهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يدعوهم إلى كلمة التوحيد "لا إله إلا الله" والمراد من هذه الكلمة معناها لا مجرد لفظها، والكفار الجهال يعلمون أن مراد النبي صلى الله عليه وسلم هو إفراد الرب بالتعلق، والكفر بما يعبد من دونه، والبراءة منهم. فإنه لما قال لهم: "قولوا: لا إله إلا الله قالوا: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا} 3 الآية" انتهى كلامه -رحمه الله-.

_ 1 سورة الزخرف آية: 26، 27، 2 مسلم: الإيمان "23" , وأحمد "3/ 472 ,6/ 394". 3 سورة ص آية: 5.

[تعريف لفظ الإله ومدلوله] "فرعان" "الأول" في تعريف الإله، قال الإمام البيضاوي في تفسيره: الله، أصله إله، فحذفت الهمزة وعوض عنها الألف واللام: ولذلك قيل يا ألله بالقطع، إلا أنه مختص بالمعبود بالحق، والإله في الأصل يقع على كل معبود، ثم غلب على المعبود بحق، واشتقاقه من أله إلهة وألوهة وألوهية، بمعنى عبد، وقيل: من أله إذا تحير، إذ العقول تتحير في معرفته، أو من ألهت إلى فلان أي: سكنت إليه؛ لأن القلوب تطمئن بذكره والأرواح تسكن إلى معرفته، أو من أله الفصيل إذا ولع بأمه، إذ العباد مولعون بالتضرع إليه في الشدائد، وقيل: إنه علم لذاته العلية لأنه يوصف ولا يوصف به، والأظهر أنه وصف في أصله، لكنه لما غلب عليه بحيث لا يستعمل في غيره صار له كالعلم، انتهى كلام البيضاوي ملخصا. وذكر العماد ابن كثير القولين. "تنبيه" انظر إلى قول البيضاوي المتقدم: والإله في الأصل يقع على كل معبود، ثم غلب على المعبود بحق، وقوله: والأظهر أنه وصف في أصله إلى آخره، وقول صاحب الفاكهة المتقدم، وهو من قصر الصفة على الموصوف، وقول أهل اللغة: أله يأله من باب تعب إلاهة بمعنى عبد عبادة، وتأله تعبد، والإله المعبود، وهو الله سبحانه- ثم استعاره المشركون لما عبدوا من دونه، وإله على فعال بمعنى مفعول، لأنه مألوه أي: معبود، ككتاب بمعنى مكتوب، وإمام بمعنى مؤتم به. انتهى من المصباح. وانظر أيضا إلى قول الشيخ محمد المتقدم وهو قوله: فإن الإله عندهم هو الذي يقصد ... إلى آخره، وقال تعالى: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} 1 الآية قال البيضاوي: يعبده إفرادًا وإشراكا، انتهى. فسمي المعبود إلها. وعن أبي واقد الليثي قال: "خرجنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى حنين، ونحن

_ 1 سورة المؤمنون آية: 117.

حدثاء عهد بكفر وللمشركين سدرة يعكفون عندها، وينوطون بها أسلحتهم، يقال لها: ذات أنواط، فمررنا بسدرة، فقلنا: يا رسول الله، اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم الله أكبر، إنها السنن، قلتم والذي نفسي بيده كما قالت بنو إسرائيل لموسى: {اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ}، لتركبن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة"1 رواه الترمذي في صحيحه فتأمل هذا الحديث وقصة بني إسرائيل المشار إليها تجدها مصرحة بما ذكرنا. إذا ثبت هذا فالمقصود أن لفظة "إله" اسم صفة لكل من قصد بشيء من العبادة، كاسم القاضي لمن ولي القضاء، والأمير لمن تأمر، والإمام والمؤذن ونحو ذلك، فكل من قصد مخلوقا بشيء من العبادة فهو إله لمن قصده، والإله الأعظم المستحق للعبادة، المنزه عن النقائص، الموصوف بصفات الكمال هو الله تبارك وتعالى. وهذا بخلاف اسم الجلالة، فإنه علم على الرب تبارك وتعالى مختص به وهو المعبود بالحق، فإنه لم يسم به غيره قال الله تعالى: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} 2. [تعريف العبادة] الفرع الثاني (في تعريف العبادة) قال العماد ابن كثير في تفسيره: العبادة في اللغة من الذلة، يقال طريق معبد أي مذلل، وبعير معبد أي: مذلل، وفي الشرع: عبارة عما يجمع كمال المحبة والخضوع والخوف انتهى. وعبارة البيضاوي في تفسيره: العبادة أقصى غاية الخضوع والتذلل، ومنه طريق معبد أي: مذلل، وثوب ذو عبدة إذا كان في غاية الصفاقة؛ ولذلك

_ 1 القذة ريشة السهم، أي كما تقدر كل واحدة منهما على قدر صاحبتها وتقطع يضرب مثلا لشيئين يستويان ولا يتفاوتان. 2 سورة مريم آية: 65.

لا يستعمل إلا في الخضوع لله تعالى انتهى. وفي حاشية الشهاب على البيضاوي: العبادة أبلغ من العبودية التي هي إظهار التذلل، وعرفت العبادة بأنها فعل اختياري مناف للشهوات البدنية يصدر عن نية يراد بها التقرب إلى الله تعالى. انتهى. والعبادة اسم جنس يشمل جميع أنواعها 1. تنبيه اعلم أن مبنى العبادة على الأمر لتظاهر الأدلة على ذلك، فمنها قوله تعالى: {إِنِ الْحُكْمُ إ} 2 في أمر الدين والعبادة {إِلَاا لِلَّهِ} 3 ثم بين ما حكم به فقال: {أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} 4 الثابت الذي دلت عليه البراهين الآية وقوله تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ} 5 أمر أمرًا مقطوعا به {أَلَاا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ} 6 "أن" مفسرة، ولا تعبدوا أي: بأن لا تعبدوا، انتهى من تفسير الحنفي 7. وقال البغوي في تفسيره: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} 8 أي: أمر ربك. قاله ابن عباس وقتادة والحسن. انتهى. وقد تقدم في حديث أبي واقد الليثي قول الصحابة: يا رسول الله اجعل لنا.

_ 1 هذا في العبادة الشرعية. وكل ما قدم من معناها اللغوي فهو من التعريف بالرسم والخواص. وأما حقيقة معناها الفطري الذي يصدق عليها عند العرب وغيرهم أنها: كل تعظيم وتقرب بقول أو فعل يبعث عليه الشعور بالسلطان الغيبي الذي هو مصدر النفع ودفع الضر بذاته لا بالأسباب، وأعظم هذه العبادة الدعاء بطلب منفعة أو دفع مضرة تعذر على الداعي بكسبه واتخاذ الأسباب له فلجأ إليه بشعوره بذلك السلطان الخاص برب العالمين القادر على كل شيء العالم بكل شيء الذي يجير ولا يجار عليه، والنصوص تدل على هذا ولا سيما الآيات والأحاديث في الدعاء. 2 سورة يوسف آية: 40. 3 سورة يوسف آية: 40. 4 سورة يوسف آية: 40. 5 سورة الإسراء آية: 23. 6 سورة الإسراء آية: 23. 7 لعله النسفي. 8 سورة الإسراء آية: 23.

ذات أنواط، فإنه متقرر عندهم أن العبادات مبناها على الأمر. وقد ذكر ذلك الشيخ محمد بن عبد الوهاب في مسائله على التوحيد، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم "وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم"1 الحديث، متفق عليه وقال ابن القيم -رحمه الله- في نونيته: حق الإله عبادة بالأمر لا ... بهوى النفوس فذاك للشيطان إذا تمَّ هذا فالأمر هو استدعاء الفعل بالقول، ممن هو دونه على سبيل الوجوب عند الإطلاق والتجرد عن القرينة. فيحمل عليه والله أعلم. فصل في حكم كلمة التوحيد وأما حكمها فقال في "فاكهة القلوب والأفواه": اعلم أن الناس مؤمن وكافر، فأما المؤمن بالأصالة فيجب أن يذكرها مرة في عمره وينوي بها الوجوب 2. ثم ينبغي له أن يكثر من ذكرها وليعرف معناها لينتفع بها، وأما الكافر فذكره

_ 1 البخاري: الاعتصام بالكتاب والسنة "7288" , ومسلم: الحج "1337" , والنسائي: مناسك الحج "2619" , وابن ماجه: المقدمة "2" , وأحمد "2/ 482". 2 قد قال كثير من العلماء مثل هذا في الصلاة على النبي -صلى الله عليه وسلم-بناء على أن الأمر في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} للوجوب، وأن الامتثال يحصل بمرة واحدة. ومثل هذا التدقيق أو التقييد بالاصطلاحات لم يكن يخطر ببال الصحابة ولا غيرهم من علماء السلف أولي السليقة العربية، ولا يعقل أحد منهم ولا عاقل من غيرهم أن يوجد مسلم في العالم لا يذكر كلمة التوحيد في عمره إلا مرة واحدة أو مرتين أو مرارًا قليلة، دع وجوبها في الصلاة. ولنا أن نقول -على طريقتهم في الاستدلال: إن الله تعالى- أمر المؤمنين أن يذكروه ذكرًا كثيرًا ووصفهم بكثرة الذكر قياما وقعودًا وعلى جنوبهم، ووصف المنافقين بقلة الذكر. وأفضل الذكر لا إله إلا الله، فهي مما أمرنا بالإكثار منها أو في مقدمته - فحكمها الإكثار منها لا النطق بها مرة واحدة في العمر.

لهذه الكلمة واجب، وهو شرط في صحة إيمانه القلبي مع القدرة. انتهى ملخصا. وفي حديث أبي هريرة المتفق عليه عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها"1. قال علماؤنا -رحمهم الله-: إذا قال الكافر: لا إله إلا الله فقد شرع في العاصم لدمه، فيجب الكف عنه، فإن تمم ذلك تحققت العصمة وإلا بطلت ويكون النبي -صلى الله عليه وسلم- قد قال كل حديث في وقت فقال: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله"2. ليعلم المسلمون أن الكافر المحارب إذا قالها كف عنه وصار ماله ودمه معصومين، ثم بين -صلى الله عليه وسلم- في الحديث الآخر أن القتال ممدود إلى الشهادتين والعبادتين، فقال: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله عز وجل"3 متفق عليه. فبين أن تمام العصمة إنما يحصل بذلك 4 ولئلا تقع الشبهة بأن مجرد الإقرار يعصم على الدوام.

_ 1 البخاري: الصلاة "393" , والترمذي: الإيمان "2608" , والنسائي: تحريم الدم "3966 ,3967" والإيمان وشرائعه "5003" , وأبو داود: الجهاد "2641" , وأحمد "3/ 199 ,3/ 224". 2 البخاري: الصلاة "393" , والترمذي: الإيمان "2608" , والنسائي: تحريم الدم "3966 ,3967" والإيمان وشرائعه "5003" , وأبو داود: الجهاد "2641" , وأحمد "3/ 199 ,3/ 224". 3 البخاري: الإيمان "25" , ومسلم: الإيمان "22". 4 التحقيق أن المراد بالحديثين واحد، وهو الدخول في الإسلام ومفتاح الدخول فيه من المشركين النطق بكلمة التوحيد فهو يعصم صاحبه في المعركة إذ لا مجال فيها لصلاة ولا زكاة، وأما الكفار الموحدون، فلابد من نطق أحدهم برسالة محمد -صلى الله عليه وسلم- كما سيأتي عن النووي. وذكر الصلاة والزكاة في الحديث الآخر يراد به قبول شرائع الإسلام وركنها الديني المحض الأعظم الصلاة وركنها المالي الزكاة فمن دان بهما دان بغيرهما، فإن فرض أنه جحد الصيام أو الحج أو غيرهما مما علم من الدين بالضرورة حكم بكفره، وقد حققنا هذه المسألة في تفسير {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} فيراجع في الجزء العاشر من تفسير المنار وسيأتي ما يؤيد هذا.

وقال النَوَوِيُّ -رحمه الله-: قوله صلى الله عليه وسلم "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله. فمن قال: لا إله إلا الله. فقد عصم مني ماله ونفسه إلا بحقها، وحسابه على الله عز وجل"1. قال الخَطَّابِيُّ: "معلوم أن المراد بهذا أهل الأوثان دون أهل الكتاب؛ لأنهم يقولون: لا إله إلا الله. ثم يقاتلون، ولا يرفع عنهم السيف". وذكر القاضي عِيَاض -رحمه الله- معنى هذا، وزاد عليه وأوضح، فقال: "اختصاص عصمة المال والنفس لمن قال: لا إله إلا الله. تعبيرا عن الإجابة إلى الإيمان، وأن المراد مشركو العرب وأهل الأوثان ومن لا يوحد، وهم كانوا أول من دُعِي إلى الإسلام وقُوتل عليه، فأما غيرهم ممن يقرُّ بالتوحيد فلا يكتفى في عصمته بقوله: لا إله إلا الله. إذ كان يقولها في كفره وهي من اعتقاده؛ ولذلك جاء في الحديث الآخر: "أني رسول الله وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة"". هذا كلام القاضي. "قلت" ولا بد من الإيمان بما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم كما جاء في الرواية الأخرى لأبي هريرة رضي الله عنه "حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، ويؤمنوا بي وبما جئت به" انتهى كلام النَوَوِيّ، انتهى من رسالة الشيخ أحمد بن ناصِر الحَنْبَلِيّ المُسَمَّاة "الفَوَاكِهُ العِذَاب، في الرَّدِ على مَنْ لم يُحَكِّمْ السُّنَةَ والكِتَاب". وقال الحافِظُ ابنُ رَجَبٍ في شرح "الأَرْبَعِين": "ومن المعلوم بالضرورة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقبل من كل من جاء يريد الدخول في الإسلام الشهادتين، ويعصم دمه بذلك، ويجعله مسلما، وقد أنكر على أسامة بن زيد قتله من قال: لا إله إلا الله. واشتد نكيره عليه". وقال شهابُ الدين أحمد بن حَجَر على شرح "الأربعين النووية" نحو ذلك. والمقصود أن حكم من قال: لا إله إلا الله. أنها تعصم ماله ودمه، ثم يُطالب بمعناها وحقها، كالكفر بعبادة غير الله، وشهادة رسالة مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وسائر شرائع الإسلام، وقد تظاهرت الأدلة على ذلك.

_ 1 البخاري: الصلاة "393" , والترمذي: الإيمان "2608" , والنسائي: تحريم الدم "3966 ,3967" والإيمان وشرائعه "5003" , وأبو داود: الجهاد "2641" , وأحمد "3/ 199 ,3/ 224".

فصل [حق كلمة التوحيد] وأما حقها 1 فقال الحافظ ابن رجب في "شرح الأربعين": على حديث ابن عُمَر "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا"2 إلخ وتقدم، فقوله صلى الله عليه وسلم "إلا بحقها"3 وفي رواية: "إلا بحق الإسلام"4 قد سبق أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه أدخل في هذا الحق فعل الصلاة والزكاة، وأن من العلماء من أدخل فيه فعل الصيام والحج أيضا. ومن حقها ارتكاب ما يبيح دم المسلم من المحرمات، وقد روي تفسير حقها بذلك. خرج الطَبَرَانِيُّ وابنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ من حديث أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله. فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله عز وجل قيل: وما حقها؟ قال: زِنا بعد إِحْصان، وكُفْر بعد إيمان، وقَتْل نفسٍ فيقتل بها"5. ويشهد لهذا ما في الصحيحين عن ابن مسعودٍ -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأن مُحَمَّدًا رسول الله إلا بإحدى ثلاث: الثيِّب الزَّانِي، والنَّفس بالنفس، والتارِك لدينه المُفارِق للجماعة"6 انتهى. وقد ذكر ابن رجب في شرح هذا الحديث أنه قد ورد قتل المسلم بغير هذه الثلاث، فمنها اللُّواط، ومنها من أتَى ذَاتَ مَحْرَمٍ، ومنها الساحِر، وذكر غير ذلك.

_ 1 قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في نُبْذَةٍ له في الحب والبغض في الله: واعلم أن قول رسوله الله -صلى الله عليه وسلم-: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها". "يدل" تحقيقا على أن الصلاة من حقها والزكاة من حقها والصوم من حقها والحج من حقها. فهذا تحقيق قوله -صلى الله عليه وسلم-: "إلا بحقها" يعني إذا أقرُّوا بالشهادتين وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وصاموا رمضان وحجُّوا البيت "فقد عصموا مني دماءهم وأموالهم" انتهى. والله أعلم. (*) (*) لم أجد هذا النقل. [معد الكتاب للمكتبة الشاملة] 2 البخاري: الصلاة "393" , والترمذي: الإيمان "2608" , والنسائي: تحريم الدم "3966 ,3967" والإيمان وشرائعه "5003" , وأبو داود: الجهاد "2641" , وأحمد "3/ 199 ,3/ 224". 3 مسلم: الإيمان "21" , والترمذي: الإيمان "2606" , والنسائي: تحريم الدم "3971 ,3976 ,3977 ,3978" , وأبو داود: الجهاد "2640" , وابن ماجه: الفتن "3927 ,3928" , وأحمد "1/ 11 ,2/ 377 ,2/ 423 ,2/ 502 ,3/ 300 ,3/ 332 ,3/ 394". 4 البخاري: الإيمان "25". 5 البخاري: الصلاة "393" , والترمذي: الإيمان "2608" , والنسائي: تحريم الدم "3966 ,3967" والإيمان وشرائعه "5003" , وأبو داود: الجهاد "2641" , وأحمد "3/ 199 ,3/ 224". 6 البخاري: الديات "6878" , ومسلم: القسامة والمحاربين والقصاص والديات "1676" , والترمذي: الديات "1402" , والنسائي: القسامة "4721" , وأبو داود: الحدود "4352" , وابن ماجه: الحدود "2534" , وأحمد "1/ 382 ,1/ 428 ,1/ 444 ,1/ 465 ,6/ 181" , والدارمي: الحدود "2298" والسير "2447".

وأما لازمها، فالظاهر لي -والله أعلم- أنه داخل في حكمها وحقها المتقدمين، فتأملهما 1. فصل [نواقض كلمة التوحيد] وأما نواقضها، فقال في "المطلع على أبواب المقنع": "النواقض واحدها ناقض، وهو اسم فاعل من نقض الشيء إذا أفسده، فنواقض الوضوء مفسداته"، انتهى. ومنه "انقض الأمر بعد استقامته": فسد. فنسأل الله الرحمن الرحيم، اللطيف الكريم، أن يحفظ علينا ديننا، وأن يمتِّعنا به، ويزيدَ إيماننا، وأن يدخلنا جنته برحمته، وأن يعيذنا من أليم نقمته، إنه جَوَادٌ كريم، ويجيب دعوة العباد. فأما نواقض "لا إله إلا الله" فعسيرٌ إحصاؤها، ولا يكاد يُطاق استقصاؤها، وقد تقدم في معنى "لا إله إلا الله" وفي حكمها جمل من نواقضها، فتأمله، فنحيلك على باب المرتد. [قول الفقهاء في حكم المرتد] قال في "الإقناع" وشرحه -وهو العمدة عند متأخري الحنابلة-: (باب حكم المرتد) وهو الذي يكفر بعد إسلامه؛ نطقا أو اعتقادا أو شكا أو فعلا، ولو كان هازلا،

_ 1 اللزوم: الثبوت والدوام، وفسره بعضهم بعدم الانفكاك، فلازم الشيء ما يصحبه ولا ينفك عنه في الواقع، فلازم كلمة التوحيد ما هو أثر فِطريّ طَبعِيّ لاعتقاد مضمونها، وهو غير حقها وحكمها اللذان هما من وضع الشرع، لا من تأثير الطبع. فالمؤمن الموقن بأنه لا إله يعبد بحق إلا الله الخالق الذي بيده ملكوت كل شيء من نفع وضُرّ، وعطاء ومنع يلزم يقينه هذا إخلاص الدعاء له وحده في كل شدة تعرض له، هذا ألصق لوازم الكلمة بصاحبها مهما يكن مسرفا على نفسه، فإذا كمل يقينه بكثرة الذكر والعبادة كان من لوازم توحيده كمال التوكل والشجاعة في الحق إلى غير ذلك، فأظهر لوازم كلمة التوحيد ألا يدعو صاحبها غير الله فيما هو وراء الأسباب، ولا يستغيث غيره في الشدائد، ولا ينذر ولا يذبح لغيره نسكًا. فويل للمشركين الذين يبيحون كل انفكاك هذه اللوازم عن كلمة التوحيد بدعاء غير الله .. إلخ، ويسمونه توسلا إلى الله لا شركا به.

وأجمعوا على وجوب قتل المرتد، فمن أشرك بالله أو جحد ربوبيته أو صفة من صفاته أو اتخذ له -أي الله- صاحبة أو ولدا، كفر، ومن ادَّعى النبوة أو صدَّق من ادَّعَاها أو جحد البعث، أو سب الله ورسوله، أو استهزأ بالله أو كتبه أو رسله، كفر؛ لقوله تعالى: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} 1. وقال الشيخ أبو العباس أحمد بن تيمية: "أو كان مبغضا لرسوله، أو لما جاء به الرسول اتفاقا". وقال أيضا: "أو جعل بينه وبين الله وسائط يدعوهم، ويتوكل عليهم، ويسألهم إجماعا". أي: كفر؛ لأن ذلك كفعل عابدي الأصنام قائلين: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} 2 انتهى من "الإقناع" وشرحه*. فتأمل قوله: "وهو الذي يكفر بعد إسلامه، فإن ظفرت بهذا الباب، ففيه ما يكشف الحجاب. ونحيلك أيضا على كتاب "الإِعلام بقواطِعِ الإسلام" تأليف شهاب الدِّين أحمد بن حَجَرٍ الهَيْتَمِيّ الشَّافِعِيّ، فإنه ذكر فيه الألفاظ والأفعال التي توقع في الكفر عند الأئمة، حتى إنه ذكر أن العزمَ على الكفرِ كفرٌ في الحال. [الردة التي وقعت بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم] ونحيلك -أيضا- على نبذة ألفها الشيخ محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله-، وذكر في آخرها سبع قصص. "أولاهن" قصة الرِّدَّة بعد وفاته صلى الله عليه وسلم: وصورتها أن العرب افترقت في رِدَّتِها؛ فطائفة رجعت إلى عبادة الأصنام، وقالوا: لو كان نبيا ما مات. وطائفة قالت: نؤمن بالله ولا نصلي. وطائفة أقرَّت بالإسلام وصلُّوا، ولكن منعوا الزكاة. وطائفة شهدوا أن لا إله إلا الله وأن مُحَمَّدًا رسول الله، ولكن صدَّقوا مُسَيْلِمَة الكَذَّاب: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أشركه معه في النبوة، ولم يشُك أحد من الصحابة في كفر من ذكرنا إلا مانعي الزكاة، فناظر أبو بكر عمر فيهم، فاقتنع عمر، وأجمع العلماء على تصويب أبي بكر، فقاتلوهم.

_ 1 سورة التوبة آية:65، 66. 2 سورة الزمر آية: 3. * "كشاف القناع عن متن الإقناع" للبهوتي 6/ 168. ولم أجده فيما بين يدي من كتب شيخ الإسلام ابن تيمية. [معد الكتاب للمكتبة الشاملة]

"الثانية" قصة وقعت في زمن الخلفاء الراشدين، وهي أن بقايا بني حَنِيفة لما رجعوا إلى الإسلام وتبرءوا من مسيلمة تحملوا إلى الثغر بأهليهم، فنزلوا الكوفة، فسمع منهم كلام معناه: أن مسيلِمة على حق، وهم جماعة، فجمع عبد الله بن مسعود من عنده من الصحابة فاستشارهم، فاستتاب بعضهم وقتل بعضهم. وهذه القصة في "صحيح البخاري". "الثالثة" قصة أصحاب عَلِيٍّ بن أبي طَالِب رضي الله عنهلما اعتقدوا فيه الإلهية، فدعاهم إلى التوبة فأبوا، فخدَّ لهم الأخاديد، فأضرم فيها النار، فقذفهم فيها وهم أحياء، وأجمع الصحابة وأهل العلم على كفرهم. "القصة الرابعة" قصة المختار بن أبي عبيد الثقفي، وهو رجل ظهر في العراق زمن التابعين يطلب بدم الحسين وأهل بيته، فقتل عبيد الله بن زياد قاتل الحسين، واستولى على العراق، وأظهر شرائع الإسلام، ونصب القضاة والأئمة من أصحاب ابن مسعود، وكان هو الذي يصلي بالناس الجمعة والجماعة، لكن في آخر أمره ادَّعَى أمورا باطلة، وغلا غلوًّا فاحشا، وزعم أنه يوحى إليه، فسيَّر إليه عبد الله بن الزبير جيشا فهزم جيشه فقتلوه. وأجمع العلماء على كفر المختار بن أبي عبيد هذا. "الخامسة" ما وقع في زمن التابعين، وهي قصة الجَعْد بن دِرْهَم، وكان من أشهر الناس بالعلم والعبادة، فلما جحد صفات الله ضحَّى به خَالد بنُ عبد الله القَسْرِيّ بـ"واسط" يوم الأضحى وقال: "يا أيها الناس، ضحُّوا تقبَّل الله ضحاياكم، فإني مُضَحٍّ بالجَعْدِ بنِ دِرْهَم؛ فإنه يزعم أن الله لم يَتَّخِذ إبراهيم خليلا، ولم يُكَلِّم موسى تكليما"، ثم نزل فذبحه. ولم نعلم أحدا من العلماء أنكر عليه ذلك، بل ذكر ابن القيم في "النونية" إجماعهم على استحسانه فقال: شكر الضحية كل صاحب سنة ... لله درك من أخي قربان ثم ذكر قصة بني عبيد الله القداح، ثم ذكر قصة التتار. اهـ ملخصا من كلام الشيخ المتقدم ذكره.

وذكر القاضي عِيَاض في كتاب "الشفاء" أن رجلا -لما أتى مطر يسير- قال: "ابتدأ الخراز يرش سيوره، وهو قريب للملك". فلم يأمر القاضي بقتله مداراة للملك، فغضب المسلمون عليه، ورفعوا أمره إلى السلطان، فأمر السلطان بقتل قريبه، وأمر بعزل القاضي الذي تركه مداراة، انتهى. فكل هؤلاء -الذين ذكرنا- لما نقضوا "لا إله إلا الله" جرى عليهم ما ذكرنا، والله أعلم. فصل (في بيان فضلها) فاعلم أنه لو لم يكن في بيان فضلها إلا كونها علما على الإيمان في الشرع تعصم الدماء والأموال إلا بحقها، وكون إيمان الكافر موقوفا على النطق بها لكان كافيا للعقلاء، كيف وقد ورد في فضلها أحاديث كثيرة؟ فمنها قوله -صلى الله عليه وسلم-: "أفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له"1 رواه مالك في المُوَطَّأ. زاد الترمذي في روايته: "له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير"2. وروى النسائي أنه صلى الله عليه وسلم قال: "أفضل الذكر لا إله إلا الله، وأفضل الدعاء الحمد لله"3. وروى الترمذي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "التسبيح نصف الإيمان، والحمد لله تملأ الميزان، ولا إله إلا الله ليس لها دون الله حجاب حتى تخلص إليه"4. وقال صلى الله عليه وسلم "ما قال أحد: لا إله إلا الله مخلصا من قلبه إلا فتحت له أبواب السماء حتى تفضي إلى العرش ما اجتُنِبَت الكبائر"5. وقال صلى الله عليه وسلم "أتاني آتٍ من ربي، فأخبرني أنه من مات يشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له فله الجنة، فقال له أبو ذر: وإنْ زنى أو سرق؟ قال: وإن زنى أو سرق، كررها

_ 1 مالك: النداء للصلاة "498". 2 الترمذي: الدعوات "3585". 3 الترمذي: الدعوات "3383" , وابن ماجه: الأدب "3800". 4 الترمذي: الدعوات "3518". 5 الترمذي: الدعوات "3590".

ثلاثا، كل ذلك يقول: وإن زَنَى وإن سرق، وقال في الثالثة: رغم أنف أبي ذر". وقال صلى الله عليه وسلم "من دخل القبر بلا إله إلا الله خلصه الله من النار". وقال صلى الله عليه وسلم "أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال: لا إله إلا الله. خالصا من قلبه". وقال صلى الله عليه وسلم "من مات وهو يعلم أن لا إله إلا الله دخل الجنة". وعنه صلى الله عليه وسلم "لا إله إلا الله مفتاح الجنة". وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من لُقِّن عند الموت لا إله إلا الله دخل الجنة". وفي "الإحياء" عنه صلى الله عليه وسلم "لو جاء قائل لا إله إلا الله صادقا بقراب الأرض ذنوبا غفر له". وقال: "لتدخلن الجنة كلكم إلا من أبى وشرد عن الله شرود البعير عن أهله، فقيل: يا رسول الله من يأبى؟ قال: من لم يقل لا إله إلا الله". فأكثِرُوا من قول لا إله إلا الله من قبل أن يحال بينكم وبينها؛ فإنها كلمة التوحيد، وهي كلمة الإخلاص، وهي كلمة التقوى، وهي الكلمة الطيبة، وهي دعوة الحق، وهي العُروة الوُثْقَى، وهي ثمن الجنة. وفي "الإحياء" أيضا قال تعالى: {هَلْ جَزَاءُ الأِحْسَانِ إِلا الأِحْسَانُ} 1 فقيل: الإحسان في الدنيا لا إله إلا الله، وفي الآخرة الجنة. اهـ ملخصا من "فاكهة القلوب والأفواه". [فوائد لا إله إلا الله] أما فائدة لا إله إلا الله فقال أهل اللغة: الفائدة ما استفدته من علم أو مال، وما أفادت له فائدة أي حصلت: وأفدت المال استفدته. وقال في فاكهة القلوب والأفواه:

_ 1 سورة الرحمن آية: 60.

فصل (في الفوائد التي تحصل لذاكر هذه الكلمة المشرفة وهي كثيرة) فمنها الزهد، ونعني به خلو الباطن من الميل إلى فانٍ، وفراغ القلب من الثقة إلى زائل، وإن كانت اليد معمورة بمتاع حلال فعلى سبيل العارية. ومنها التوكل، وهو ثقة القلب بالوكيل الحق، بحيث يسكن عن الاضطراب عند تعذر الأسباب ثقة بمسبب الأسباب، ولا يقدح في توكله تلبس ظاهره بالأسباب إذا كان قلبه فارغا منها. ومنها الحياء بتعظيم الله عز وجل بدوام ذكره، والتزام امتثال أمره ونهيه، والإمساك عن الشكوى إلى العجزة. ومنها الغناء، وهو غناء القلب بسلامته من فتن الأسباب، فلا يعترض على الأحكام بـ"لو، ولعل"؛ لعلمه بمن صدرت عنه عز وجل. ومنها الفتوة، وهي التجافي عن مطالبة الخلق بالإحسان إليه ولو أحسن إليهم؛ لعلمه بأن إحسانه وإساءتهم إليه، كل ذلك مخلوق لله تعالى {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} 1. ومنها الشكر، وهو إفراد القلب بالثناء على الله تعالى، ورؤية النعم في طي النقم. ومنها وضع البركة في الطعام ونحوه، حتى يكثر القليل ويكفي اليسير، وهذا مشاهد لأولياء الله تعالى. انتهى ملخصا. "قلت" ومنها أنها تعصم الدم والمال لمن قالها إلا بحقها كما تقدم. ومنها أن من مات عليها دخل الجنة؛ لحديث معاذ مرفوعا: "من كان آخر كلامه: لا إله إلا الله. دخل الجنة"2 رواه أحمد والحاكم، وقال: صحيح الإسناد. وغيره من الأحاديث الدالة على ذلك، وقد تقدم بعضها، والله أعلم. [تحقيق معنى كلمة التوحيد وإيضاحه] ثم بعد نقل هذه الرسالة من الكتب المذكورة -مع ما فتح الله به- سنح لي أن

_ 1 سورة الصافات آية: 96. 2 أبو داود: الجنائز "3116" , وأحمد "5/ 233 ,5/ 247".

أذكر كلاما ذكره الإمام الحافظ زين الدين عبد الرحمن بن رجب -المتقدم ذكره- على كلمة الإخلاص يليق ذكره هنا، فإنه ذكر شيئا من تحقيق لا إله إلا الله، وتحقيق أن مُحَمَّدًا رسول الله، وما تقتضي لا إله إلا الله وشيئا من أنواع العبادة، وشيئا من الشرك، وشيئا من فضل لا إله إلا الله. قال -رحمه الله- في أثناء كلامه: فتحققه بقول لا إله إلا الله أن لا يؤله القلب غير الله؛ حبا ورجاء، وخوفا وتوكلا، واستعانة وخضوعا، وإنابة وطلبا. وتحققه بأن مُحَمَّدًا رسول الله، أن لا يعبد الله بغير ما شرعه على لسان مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وقد جاء هذا المعنى مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم صريحا أنه قال: "من قال: لا إله إلا الله مخلصا دخل الجنة، قيل: ما إخلاصها يا رسول الله؟ قال: أن تحجزك عما حرَّم الله عليك"1 وهذا يُروى من حديث أنس بن مالك وزيد بن أرقم، ولكن إسنادهما لا يصح، وجاء أيضا من مراسيل الحسن نحوه. وتحقيق هذا المعنى وإيضاحه أن قول العبد: "لا إله إلا الله" يقتضي أن لا إله غير الله، والإله هو الذي يطاع فلا يعصى؛ هيبة له وإجلالا، ومحبة وخوفا ورجاء، وتوكلا عليه، وسؤالا منه، ودعاء له، ولا يصح ذلك كله إلا لله -عز وجل-، فمن أشرك مخلوقا في شيء من هذه الأمور التي من خصائص الإلهية - كان ذلك قدحا في إخلاصه في قول "لا إله إلا الله"، ونقصا في توحيده، وكان فيه من عبودية المخلوق بحسب ما فيه من ذلك، وهذا كله من فروع الشرك؛ ولهذا ورد إطلاق الكفر والشرك على كثير من المعاصي التي منشؤها من طاعة غير الله أو خوفه أو رجائه، أو التوكل عليه، أو العمل لأجله. كما ورد إطلاق الشرك على الرياء، وعلى الحلف بغير الله، وعلى التوكل على غير الله والاعتماد عليه، وعلى من سوى بين الله وبين المخلوق في المشيئة، مثل أن يقول: ما شاء الله وشاء فلان، وكذا قوله: ما لي إلا الله وأنت.

_ 1 الترمذي: الإيمان "2638".

وكذلك ما يقدح في التوحيد وتفرد الله بالنفع والضر، كالطيرة والرقى المكروهة، وإتيان الكهان وتصديقهم بما يقولون. وكذلك اتباع هوى النفس فيما نهى الله عنه قادِح في تمام التوحيد وكماله، ولهذا أطلق الشرع على كثير من الذنوب التي مَنْشَؤها من اتباع هوى النفس أنها كفر وشرك كقتال المسلم، ومن أتى حائضا أو امرأة في دُبُرِها، ومن شرب الخمر في المرة الرابعة، وإن كان ذلك لا يخرج من الملة بالكلية، ولهذا قال السلف: "كفر دون كفر، وشرك دون شرك". وقد ورد إطلاق الإله على الهوى المتبع، قال الله تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} 1 قال الحَسَن: "هو الذي لا يهوى شيئا إلا ركبه". وقال قَتَادَة: "هو الذي كلما هوى شيئا ركبه، وكلما اشتهى شيئا أتاه، لا يحجزه عن ذلك ورع ولا تقوى". ورُوي من حديث أبي أُمَامَةَ مرفوعا بإسناد ضعيف: "ما تحت السماء إله يعبد أعظم عند الله من هوى متبع". وفي حديث آخر: "لا تزال لا إله إلا الله تدفع عن أصحابها حتى يؤثروا دنياهم على دينهم، فإذا فعلوا ذلك ردت عليهم، وقيل لهم: كذبتم". ويشهد لذلك الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم "تَعِسَ عبد الدينار، تَعِسَ عبد الدرهم، تَعِسَ عبد القطيفة، تَعِسَ عبد الخميصة، تَعِسَ وانْتَكَسَ، وإذا شِيكَ فلا انتَقَش"2 فدل هذا على أن كل من أحب شيئا وأطاعه، وكان غاية قصده ومطلوبه، ووالى لأجله، وعادى لأجله فهو عبده، وذلك الشيء معبوده وإلهه. ويدل عليه أيضا أن الله -تعالى- سمَّى طاعة الشيطان في معصيته عبادة للشيطان، كما قال تعالى: {لَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ} 3 وقال -تعالى- حاكيا

_ 1 سورة الجاثية آية: 23. 2 انتكس: انقلب على رأسه، وهو دعاء عليه بالخيبة، "وإذا شِيكَ فَلا انْتَقَش": إذا دخلت فيه شوكة لا أخرجها من موضعها بالمنقاش. 3 سورة يس آية: 60.

عن خليله إبراهيم -عليه السلام- لأبيه: {يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا} 1. فمن لم يحقق عبودية الرحمن وطاعته فإنه يعبد الشيطان بطاعته له ولم يخلص من عبادة الشيطان، إلا من أخلص عبودية الرحمن، وهم الذين قال فيهم: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} 2 فهم الذين حققوا قول: "لا إله إلا الله"، وأخلصوا في قولها، وصدقوا قولهم بفعلهم، فلم يلتفتوا إلى غير الله، محبة ورجاء وخشية وطاعة وتوكلا، وهم الذين صدقوا في قول "لا إله إلا الله"، وهم عباد الله حقا. فأما من قال: "لا إله إلا الله" بلسانه، ثم أطاع الشيطان وهواه في معصية الله ومخالفته فقد كذب فعله قوله، ونقص من كمال توحيده بقدر معصية الله في طاعة الشيطان والهوى {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ} 3 {وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} 4. فيا هذا، كن عبدًا لله لا عبدا للهوى؛ فإن الهوى يهوي بصاحبه في النار {أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} 5 "تعس عبد الدرهم، تعس عبد الدينار"6. والله ما ينجو غدا من عذاب الله إلا من حقق عبودية الله وحده، ولم يلتفت معه إلى شيء من الأغيار. من علم أن إلهه ومعبوده فرد فليفرده بالعبودية، ولا يشرك بعبادة ربه أحدا. كان بعض العارفين يتكلم على أصحابه على رأس جبل، فقال في كلامه: لا ينال أحد مراده حتى ينفرد فردا بفرد، فانزعج واضطرب حتى رأى أصحابه أن الصخور قد تدَكْدَكَت، وبقي على ذلك ساعات، فلما أفاق فكأنه نشر من قبره. قَول "لا إله إلا الله"، يقتضي أن لا يحب سواه؛ فإن الإله هو الذي يطاع محبة وخوفا ورجاء، ومن تمام محبته محبة ما يحبه، وكراهة ما يكرهه، فمن أحب شيئا مما يكرهه الله أو كره شيئا مما يحبه الله لم يكمل توحيده وصدقه في قول لا إله

_ 1 سورة مريم آية: 44. 2 سورة الحجر آية:42. 3 سورة القصص آية:52. 4 سورة ص آية: 26. 5 سورة يوسف آية: 39. 6 البخاري: الجهاد والسير "2887" , وابن ماجه: الزهد "4136".

إلا الله، وكان فيه من الشرك الخفي بحسب ما كرهه مما يحبه الله، وما أحبه مما يكرهه الله، قال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُم} 1. قال لَيْثُ بنُ سَعْدٍ عن مُجَاهِد في قوله تعالى: {لا يُشْرِكُونَ} 2 قال: "لا يحبون غيري". وفي "صحيح الحاكم" عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الشرك في هذه الأمة أخفى من دبيب الذرة على الصفا 3 في الليلة الظلماء وأدناه أن يحب على شيء من الجور أو يبغض على شيء من العدل". وهل الدين إلا الحب والبغض؟ قال الله عز وجل {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} 4. وهذا نص في أن محبة ما يكرهه الله وبغض ما يحبه متابعة للهوى، والموالاة على ذلك والمعاداة عليه من الشرك الخفي. وقال الحسن: "اعلم أنك لن تحب الله حتى تحب طاعته". وسُئل ذو النُّون: متى أحب ربي؟ قال: "إذا كان ما يبغضه عندك أمرَّ من الصبر". وقال بِشْرُ بنُ السَّرِيِّ: "ليس من أعلام الحب أن تحب ما يبغضه حبيبك". وقال أبو يعقوب النَّهرَجورِيُّ: "كل من ادَّعى محبة الله ولم يوافق الله في أمره فدعواه باطلة". وقال رُوَيْم: "المحبة: الموافقة في جميع الأحوال". وأنشد: ولو قلت لي: مِتْ, مِتُّ سمعا وطاعة ... وقلت لداعي الموت: أهلا ومرحبا ويشهد لهذا المعنى قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} 5 قال الحسن: قال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم "إنا نحب ربنا حبا شديدا، فأحب الله أن يجعل لحبه علما فأنزل الله هذه الآية". ومن هنا يُعلم أنه لا تتم شهادة أن لا إله إلا الله إلا بشهادة أن مُحَمَّدًا رسول الله، فإذا علم أنه لا يتم محبة الله إلا بمحبة ما يحبه وكراهة ما يكرهه، فلا طريق إلى معرفة ما يحبه وما يكرهه إلا من طريق الرسول، فصارت محبة الله مستلزمة لمحبة رسوله.

_ 1 - سورة محمد آية: 28. 2 - سورة النور آية: 55. 3 - الذرة: النملة الصغيرة، والصفا: الحجر الأملس. 4 - سورة آل عمران آية: 31. 5 - سورة آل عمران آية: 31.

وتصديقه ومتابعته؛ ولهذا قَرَنَ الله بين محبته ومحبة رسوله في قوله: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ} إلى قوله {أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} 1 كما قَرَنَ طاعته بطاعة رسوله في مواضع كثيرة. وقال صلى الله عليه وسلم "ثلاث من كُنَّ فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يرجع إلى الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يلقى في النار"2. هذه حال السحرة لما سكنت المحبة قلوبهم سمحوا ببذل نفوسهم، وقالوا لفرعون: {فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ} 3. ومتى تمكنت المحبة في القلب، لم تنبعث الجوارح إلا إلى طاعة الرب، وهذا هو معنى الحديث الإلهي الذي خرَّجه البُخَارِيُّ في صحيحه، وفيه: "ولا يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها"4 وقد قيل في بعض الروايات: "فبي يسمع، وبي يبصر، وبي يمشي". والمعنى أن محبة الله إذا استغرق بها القلب واستولت عليه لم تنبعث الجوارح إلا إلى رضاء الرب، وصارت النفس حينئذ مطمئنة بإرادة مولاها عن مرادها وهواها. يا هذا، اعبد الله لمراده منك لا لمرادك منه، فمن عبده لمراده منه فهو ممن يعبد الله على حرف {فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ} 5 ومتى قويت المعرفة والمحبة لم يرد صاحبها إلا ما يريد مولاه. وفي بعض الكتب السابقة: من أحب الله لم يكن شيء عنده آثر من رضاه، ومن أحب الدنيا لم يكن شيء عنده آثر من هوى نفسه. وروى ابن أبي الدنيا بإسناده عن الحسن قال: ما نظرت ببصري ولا نطقت بلساني ولا بطشت بيدي ولا نهضت على قدمي حتى أنظر على طاعة أو على

_ 1 - سورة التوبة آية: 24. 2 البخاري: الإيمان "16" , ومسلم: الإيمان "43" , والترمذي: الإيمان "2624" , والنسائي: الإيمان وشرائعه "4987" , وابن ماجه: الفتن "4033" , وأحمد "3/ 103 ,3/ 174 ,3/ 230". 3 - سورة طه آية: 72. 4 البخاري: الرقاق "6502". 5 - سورة الحج آية: 11.

معصية، فإن كانت على طاعة تقدمت، وإن كانت على معصية تأخرت. هذا حال خواص المحبين الصادقين. فافهموا -رحمكم الله- هذا؛ فإنه من دقائق أسرار التوحيد الغامضة. وإلى هذا المقام أشار -صلى الله عليه وسلم- في خطبته لما قدم المدينة حيث قال: "أحِبُّوا الله من كل قلوبكم" وقد ذكرها ابن إسحاق وغيره. فإنه من امتلأ قلبه من محبة الله لم يكن فيه فراغ لشيء من إرادة النفس والهوى، وإلى ذلك أشار القائل بقوله: أَرَوحُ وقَدْ خَتَمْتَ عَلَى فُؤَادِي ... بحبِّكَ أَنْ يَحِلَّ بِهِ سِواكَا فَلوْ أنِّي استَطَعْت غَضَضْت طَرفيِ ... فَلَمْ أَنْظُرْ بهِ حَتَّى أَرَاكَا أُحبُّك لا بِبَعْضِي, بَلْ بِكُلِّي ... وَإِنْ لَمْ يُبقِ حُبُّكَ لِي حَرَاكَا وفي الأحْبَابِ مَخْصُوصٌ بوَجدٍ ... وآخرُ يَدَّعِي مَعَهُ اشْتِرَاكَا إذا اشتَبَكَت دُموعٌ في خُدُودٍ ... تَبَينَ مَنْ بَكى مِمَنْ تَبَاكَى ومتى بقي للمحب حظ من نفسه فما بيده من المحبة إلا الدعوى؛ إنما المحب من يفنى عن كل هوى ويبقى بحبيبه "فبي يسمع وبي يبصر" القلب بيت الرب، وفي بعض الإسرائيليات: ما وسعني سمائي ولا أرضي وإنما وسعني قلب عبدي المؤمن. فمتى كان القلب فيه غير الله فالله أغنى الأغنياء عن الشرك، وهو لا يرضى بمزاحمة أصنام الهوى. الحق غيور يغار على عبده المؤمن أن يسكن في قلبه سواه، أو أن يكون فيه شيء لا يرضاه. أَرَدْنَاكُمُ صِرفًا فلَّمَا مُزِجْتُمُ ... بَعُدتُم بِمقْدَار التِفَاتِكم عَنَّا وقُلْنَا لَكُم لا تُسْكِنُوا القَلْبَ غَيْرَنَا ... فأَسْكَنْتُم الأَغْيَار، مَا أَنْتُم مِنَّا لا ينجو غدا إلا من لقي الله بقلب سليم ليس فيه سواه، قال الله تعالى: {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ إِلا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} 1 السليم هو الطاهر من أدناس

_ 1 - سورة الشعراء آية: 88 - 89.

المخالفات، فأما المُتَلَطِّخُ بشيء من المكروهات فلا يصلح لمجاورة حضرة القدس إلا بعد أن يُصهر في كِير العذاب، فإذا زال عنه الخَبَث صلح حينئذ للمجاورة "إنَّ الله طيبٌ لا يقْبَلُ إلا طيِّبًا"فأما القلوب الطيبة فتصلح للمجاورة من أول الأمر {سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} 1 {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ} 2. من لم يحرق قلبه اليوم بنار الأسف على ما أسلف، أو بنار الشوق إلى لقاء الحبيب، فنار جهنم له أشد حرًّا، ما يحتاج للتطهير بنار جهنم إلا من لم يكمل تحقيق التوحيد والقيام بحقوقه. أول من تُسَعَّر بهم النار من الموحدين العباد المُراءون بأعمالهم، وأولهم العالم والمجاهد والمتصدق للرياء؛ لأن يسير الرياء شرك. ما نظر المُرائي إلى الخلق بعمله إلا لجهله بعظمة الخالق. المرائي يُزوِّر التوقيع على اسم الملك؛ ليأخذ البراطيل لنفسه، ويوهم أنه من خاصة الملك، وهو ما يعرف الملك بالكلية. نقش المرائي على الدرهم الزائف اسم الملك ليروج، والبهرج لا يجوز إلا على غير الناقد، وبعد أهل الرياء يدخل النار أصحاب الشهوات وعبيد الهوى، الذين أطاعوا هواهم، وعصوا مولاهم. وأما عبيد الله حقا فيقال لهم: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً} 3. جهنم تنطفي بنور إيمان الموحدين، في الحديث: "تقول النار للمؤمن: جُزْ يا مؤمن؛ فقد أطفأ نورك لهبي". وفي المسند عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم "لا يبقى بر ولا فاجر إلا دخلها، فتكون على المؤمن بردا وسلاما كما كانت على إبراهيم، حتى إن للنار ضجيجًا من بردهم" هذا ميراث ورثه المحبون من حال الخليل عليه السلام.

_ 1 - سورة الزمر آية: 73. 2 - سورة النحل آية: 32. 3 - سورة الفجر آية: 27 - 30.

نار المحبة في قلوب المحبين تخاف منها نار جهنم، قال الجنيد: "قالت النار: يا رب، لو لم أطعك هل كنت تعذبني بشيء؟ قال: نعم؛ كنت أسلط عليك ناري الكبرى. قالت: وهل نار أعظم مني وأشد؟ قال: نعم؛ نار محبتي أسكنتها قلوب أوليائي المؤمنين"1. في الحديث: "من أصبح وهمه غير الله فليس من الله" قال بعضهم: من أخبرك أن وليه له هم في غيره فلا تصدقه. وكان داود الطائي يقول: همك عطل على الهموم، وحالف بيني وبين السهاد وشوقي إلى النظر إليك أوثق مني اللذات، وحال بيني وبين الشهوات، فأنا في سجنك أيها الكريم مطلوب. ما لي شغل سواه ما لي شغل ... ما يصرف عن هواه قلبي عذل ما أصنع إن جفا وخاب الأمل ... مني بدل ومنه ما لي بدل إخواني: إذا فهمتم هذا المعنى فهمتم معنى قوله صلى الله عليه وسلم "من شهد أن لا إله إلا الله صادقا من قلبه حرمه الله على النار"فأما من دخل النار من أهل هذه الكلمة فلقلة صدقه في قولها، فإن هذه الكلمة إذا صدقت طهرت القلب من كل ما سوى الله، ومتى بقي في القلب أثر سوى الله فمن قلة الصدق في قولها. من صدق في قول لا إله إلا الله لم يحب سواه، لم يرْجُ سواه، لم يخْشَ أحدا إلا الله، لم يتوكل إلا على الله، لم يبق له بقية من أثر نفسه وهواه. ومع هذا، فلا تظنوا أن المحب مطالب بالعصمة؛ وإنما هو مطالب كلما زلَّ أن يتلافى تلك الوصمة، قال زيد بن أسلم: "إن الله ليحب العبد حتى يبلغ من حبه أن يقول: اذهب فاعمل ما شئت فقد غفرت لك"2 وقال الشعبي: "إذا أحب الله عبدا لم يضره ذنب".

_ 1 إن صح هذا عن الجنيد فمراده منه أن نار الحب أشد حرا من جهنم بطريقة التمثيل لا الرواية، وهو أشبه بكلام جهلة الصوفية منه بكلام الإمام الجنيد "رح". 2 أخذ هذا من حديث أهل بدر الصحيح.

وتفسير هذا الكلام: أن الله -عز وجل- له عناية بمن يحبه من عباده، فكلما زلق ذلك العبد في هوة الهوى أخذ بيده إلى النجاة، ويسّر له أسباب التوبة، ينبهه على قبح الزلة، فيفزع إلى الاعتذار، ويبتليه بمصائب مكفرة لما جنى. في بعض الآثار يقول الله عز وجل "أهل ذكري أهل مجالستي، وأهل طاعتي أهل كرامتي، وأهل معصيتي لا أؤيسهم من رحمتي، إن تابوا فأنا حبيبهم، وإن لم يتوبوا فأنا طبيبهم، أبتليهم بالمصائب، لأطهرهم من المعايب". وفي صحيح مسلم عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الحمى تذهب الخطايا كما يذهب الكير الخبث". وفي المُسْنَد وصحيح ابن حِبَّان عن عَبْدِ الله بنِ مُغَفَّلٍ: "أن رجلا لقِي امرأة كانت بغيا في الجاهلية، فجعل يلاعبها حتى بسط يده إليها، فقالت: مَهْ؛ فإن الله قد أذهب الشرك وجاء بالإسلام. فتركها وولَّى، فجعل يلتفت خلفه وينظر إليها، حتى أصاب وجهه ... 1 فأخبره بالأمر، فقال -صلى الله عليه وسلم-: أنت عبد أراد الله بك خيرا. ثم قال: إن الله إذا أراد بعبده شرا أمسك عنه بذنبه حتى يوافي يوم القيامة". يا قوم، قلوبكم على أصل الطهارة، وإنما أصابها رشاش من نجاسة الذنوب، فرُشُّوا عليها من دموع العيون فقد طهرت، اعزموا على فطام النفوس عن رضاع الهوى؛ فالِحمْيَة رأس الدواء، متى طالبتكم بمألوفاتها فقولوا كما قالت تلك المرأة لذلك الرجل الذي دمي وجهه: "قد أذهب الله الشرك وجاء بالإسلام"، والإسلام يقتضي الاستسلام والانقياد للطاعة، ذكروها مدحة {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} 2. راود رجل امرأة في فَلاة ليلا فأبَتْ، فقال لها: ما يرانا إلا الكواكب. فقالت: فأين مُكَوْكِبُهَا؟

_ 1 بياض في الأصل. والمفهوم من السياق أنه أصاب وجهه جدار أو نحوه فدمي. ثم ذهب إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-. 2 - سورة فصلت آية:30.

أكره رجل امرأة على نفسها، وأمرها بغلق الأبواب، فغلقت، فقال لها: هل بقي باب لم تغلقيه؟ قالت: نعم، الباب الذي بيننا وبين الله تعالى. فلم يتعرض لها. رأى بعض العارفين رجلا يكلم امرأة فقال: إن الله يراكما، سترنا الله وإياكما. سُئل الجُنَيْد: عما يستعان به على غض البصر؟ قال: بعلمك أن نظر الله إليك أسبق من نظرك إلى ما تنظره. وقال المُحَاسِبِيُّ: المراقبة علم القلب بقرب الرب، كلما قويت المعرفة بالله قوي الحياء من قربه ونظره. وصَّى النبي صلى الله عليه وسلم رجلا "أن يستحي من الله كما يستحي من رجل من صالح عشيرته لا يفارقه" قال بعضهم: استحي من الله على قدر قربه منك، وخف من الله على قدر قدرته عليك. كان بعضهم يقول: لي منذ أربعين سنة ما خطوت خطوة لغير الله، ولا نظرت إلى شيء أستحسنه؛ حياء من الله عز وجل. كأن رقيبا منك يرعى خواطري ... وآخر يرعى ناظري ولساني فما أبصرت عيناي بعدك منظرا ... لغيرك إلا قلت قد رمقاني ولا بدرت من فيَّ بعدك لفظة ... لغيرك إلا قلت قد سمعاني ولا خطرت من ذكر غيرك خطرة ... على القلب إلا عرجت بعناني فصل [فضائل كلمة التوحيد] وكلمة التوحيد لها فضائل عظيمة لا يمكن -هاهنا- استقصاؤها، فنذكر بعض ما ورد فيها: [كلمة التقوى والإخلاص] فهي "كلمة التقوى" كما قال عمر وغيره من الصحابة. وهي كلمة الإخلاص، وشهادة الحق، ودعوة الحق، وبراءة من الشرك، ونجاة العبد، ورأس هذا الأمر، ولأجلها خلق الخلق، كما قال تعالى {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ

وَالأِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ} 1. ولأجلها أرسلت الرسل وأنزلت الكتب كما قال الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَاا أَنَا فَاعْبُدُونِ} 2 وقال تعالى: {يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا} 3. وهذه الآية أول ما عدَّد الله على عباده من النعم في سورة النعم التي تُسمى "سورة النحل"؛ ولهذا قال ابن عيينة: "ما أنعم الله على عبد من العباد نعمة أعظم من أن عرَّفه "لا إله إلا الله"، وإن "لا إله إلا الله" لأهل الجنة كالماء البارد لأهل الدنيا، ولأجلها أعدت دار الثواب ودار العقاب، ولأجلها أمرت الرسل بالجهاد، فمن قالها عصم ماله ودمه، ومن أباها فماله ودمه حلال". [مفتاح دعوة الرسل] وهي مفتاح دعوة الرسل، وبها كلم الله موسى كفاحا 4 وفي مسند البزَّار وغيره عن عِيَاض بن حمار الأنصار عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن لا إله إلا الله كلمة حق على كريم، ولها من الله مكان". كلمة جمعت وشركت وهي كلمة جمعت وشركت، فمن قالها صادقا أدخله الله الجنة، ومن قالها كاذبا أحرزت ماله وحقنت دمه، ولقي الله فيحاسبه. [مفتاح الجنة ونجاة من النار] وهي مفتاح الجنة، وهي ثمن الجنة كما تقدم، قاله الحسن، وجاء مرفوعا من وجوه ضعيفة، ومن كانت آخر كلامه دخل الجنة، وهي نجاة من النار، و"سمع النبي صلى الله عليه وسلم مؤذنا يقول: أشهد أن لا إله إلا الله. فقال: خرج من النار" خرَّجه مسلم. [توجب المغفرة] وهي توجب المغفرة، في المسند عن شَدَّاد بنِ أَوْسٍ وعُبَادَة بنِ الصَّامِت "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه يوما: ارفعوا أيديكم وقولوا: لا إله إلا الله، فرفعنا أيدينا ساعة، ثم وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده، ثم قال: الحمد لله اللهم بعثتني بهذه الكلمة، وأمرتني بها، ووعدتني الجنة عليها، وإنك لا تخلف الميعاد، ثم قال: أبشروا؛ فإن الله قد غفر لكم"5. [أحسن الحسنات] وهي أحسن الحسنات، قال أبو ذر قلت: "يا رسول الله، علمني عملا يقربني من

_ 1 سورة الذاريات آية: 56. 2 سورة الأنبياء آية: 25. 3 سورة النحل آية: 2. 4 أي بغير واسطة ولا حجاب. 5 هذا حديث متكلم فيه بالضعف الشديد.

الجنة ويباعدني من النار، فقال: إذا عملت سيئة فاعمل حسنة؛ فإنها عشر أمثالها، قلت: يا رسول الله، لا إله إلا الله من الحسنات؟ قال: هي أحسن الحسنات، [تمحو الذنوب والخطايا] وهي تمحو الذنوب والخطايا". وفي "سنن ابن ماجه" عن أم هانئ عن النبي صلى الله عليه وسلم - قال: "لا إله إلا الله لا تترك ذنبا ولا يسبقها عمل". رُئي بعض السلف بعد موته في المنام، فسئل عن حاله، فقال: ما أبقت لا إله إلا الله شيئا. [تجدد ما درس من الإيمان في القلب] وهي تجدد ما درس من الإيمان في القلب، وفي المسند: "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه: جددوا إيمانكم، قالوا: كيف نجدد إيماننا يا رسول الله؟ قال: قولوا لا إله إلا الله". [لا يعدلها شيء في الوزن] وهي التي لا يعدلها شيء في الوزن، فلو وزنت بالسماوات والأرض لرجحت بهن، كما في المسند عن عبد الله بن عمر عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إن نوحا -عليه السلام- قال لابنه عند موته: آمرك بلا إله إلا الله؛ فإن السماوات والأرضين السبع لو وضعت في كفة ووضعت لا إله إلا الله في كفة رجحت بهن لا إله إلا الله، ولو أن السماوات السبع والأرضين السبع كن حلقة مبهمة فصمتهن لا إله إلا الله". وفيه أيضا: عن عبد الله بن عمرو عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إن موسى -عليه السلام- قال: يا رب، علمني شيئا أذكرك وأدعوك به، قال: يا موسى، قل: لا إله إلا الله، فقال: يا رب، كل عبادك يقولون هذا، قال: قل لا إله إلا الله، فقال: لا إله إلا أنت، إنما أريد شيئا تخصني به، قال: يا موسى، لو أن السماوات السبع وعامرهن غيري، والأرضين السبع في كفة، ولا إله إلا الله في كفة مالت بهن لا إله إلا الله". وكذلك ترجح بصحائف الذنوب كما في حديث السجلات والبطاقة، وقد أخرجه أحمد والنسائي والترمذي -أيضا- من حديث عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم. [تخرق الحجب كلها حتى تصل إلى الله] وهي التي تخرق الحجب كلها حتى تصل إلى الله عز وجل وفي الترمذي عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا إله إلا الله ليس لها دون الله حجاب حتى تصل إليه" وفيه أيضا عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم "ما قال عبد لا إله إلا الله مخلصا إلا فتحت

له أبواب السماء حتى تفضي إلى العرش ما اجتُنِبَت الكبائر". ويُروى عن عباس مرفوعا: "ما من شيء إلا بينه وبين الله حجاب إلا قول لا إله إلا الله، كما أن شفتيك لا تحجبها كذلك لا يحجبها شيء حتى تنتهي إلى الله عز وجل". وقال أبو أُمَامَة: "ما من عبد يُهلِّل تهليلة فيُنَهْنِهُهَا 1 شيء دون العرش". [الكلمة التي ينظر الله إلى قائلها ويستجاب دعاءه] وهي التي ينظر الله إلى قائلها ويجيب دعاءه، خرَّج النسائي في كتاب "اليوم والليلة" من حديث رجلين من الصحابة عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: "من قال: لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير. مخلصا بها روحه، مصدقا بها لسانه، إلا فتق الله له السماء فتقا حتى ينظر إلى قائلها من أهل الأرض، وحق لعبد نظر الله إليه أن يعطيه سؤاله". [الكلمة التي يصدق الله قائلها] وهي الكلمة التي يصدق الله قائلها، كما خرج النسائي والترمذي وابن حبان، من حديث أبي هريرة وأبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا قال: العبد لا إله إلا الله والله أكبر، صدقه ربه وقال: لا إله إلا أنا وأنا أكبر، وإذا قال: لا إله إلا الله وحده، يقول الله: لا إله إلا أنا وحدي، وإذا قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، قال: لا إله إلا أنا وحدي لا شريك لي، وإذا قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد. قال الله: لا إله إلا أنا لي الملك ولي الحمد، وإذا قال لا إله إلا الله ولا حول ولا قوة إلا بالله، قال الله: لا إله إلا أنا لا حول ولا قوة إلا بي"2. وكان يقول: "من قالها في مرضه ثم مات لم تطعمه النار"3. [أفضل ما قاله النبيون] وهي أفضل ما قاله النبيون، كما ورد ذلك في دعاء يوم عرفة. [أفضل الذكر] وهي أفضل الذكر كما في حديث جابر المرفوع: "أفضل الذكر لا إله إلا الله"4. وعن ابن عباس قال: أحب كلمة إلى الله "لا إله إلا الله". لا يقبل الله عملا إلا بها، وهي

_ 1 في النهاية: في حديث وائل "لقد ابتدرها اثنا عشر ملكا، فما نهنهها شيء دون العرش" أي: ما منعها وكفها عن الوصول إليه اه. 2 الترمذي: الدعوات "3430" , وابن ماجه: الأدب "3794". 3 الترمذي: الدعوات "3430". 4 الترمذي: الدعوات "3383" , وابن ماجه: الأدب "3800".

أفضل الأعمال وأكثرها تضعيفا، وتعدل عتق الرقاب، وتكون حرزا من الشيطان كما في الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم "من قال: لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير. في كل يوم مائة مرة، كانت له عدل عشر رقاب، وكتبت له مائة حسنة، ومحيت عنه مائة سيئة، وكانت له حرزا من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي، ولم يأت أحد بأفضل مما جاء به، إلا رجل عمل أكثر منه يوم ذلك"1. وفيهما أيضا عن أبِي أيُّوبَ عن النبي صلى الله عليه وسلم "من قالها عشر مرات كان كمن أعتق أربعة أنفس من ولد إِسماعِيل". وفي التِرْمِذِيّ عن عُمَرَ مرفوعا: "من قالها إذا دخل السوق حتى يُمسي -وزاد فيها- يحيي ويميت، وهو حي لا يموت، بيده الخير، وهو على كل شيء قدير. كتب الله له ألف ألف حسنة، ومحا عنه ألف ألف سيئة، ورفع له ألف ألف درجة -وفي رواية- وبني له بيتا في الجنة"2، 3. [أمان من وحشة القبر وهول المحشر] ومن فضائلها أنها أمان من وحشة القبر وهول المحشر، كما في المسند وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ليس على أهل لا إله إلا الله وحشة في قبورهم ولا في نشورهم، وكأني بأهل لا إله إلا الله قد قاموا ينفضون التراب عن رءوسهم، ويقولون: الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن". وفي حديث مُرْسَلٍ من رواية عَلِيّ كرَّم الله وجهه: "من قال: لا إله إلا الله الملك الحق المبين. كل يوم مائة مرة، كان له أمان من الفقر، وأنس من وحشة القبر، واستجلب به الغنى، واستقرع به باب الجنة". [شعار المؤمنين إذا قاموا من قبورهم] وهي شعار المؤمنين إذا قاموا من قبورهم.

_ 1 البخاري: بدء الخلق "3293" , ومسلم: الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار "2691" , والترمذي: الدعوات "3468" , وابن ماجه: الأدب "3798" , وأحمد "2/ 302 ,2/ 360 ,2/ 375" , ومالك: النداء للصلاة "486". 2 الترمذي: الدعوات "3428" , وابن ماجه: التجارات "2235" , وأحمد "1/ 47" , والدارمي: الاستئذان "2692". 3 رواه التِرْمِذِيُّ من طريق أَزْهَر بنِ سِنَانٍ، وهو ضعيف، وأنكروه عليه، وضعفه به عَلِيُّ بنُ المَدِينِي جدا. ومن طريق عَمْرُو بنِ دِينَارٍ البَصْرِيُّ قَهْرَمَان آلِ الزُّبَيْرِ، وهو ضعيف يروي المنكرات عن الثقات، بل يروي الموضوعات أيضا، وقد أنكروه عليه. ومثل هذه المبالغة في الثواب الكثير على العمل اليسير من علامات وضع الحديث.

قال النَضْرُ بنُ عَرَبِيٍّ: "بلغني أن الناس إذا قاموا من قبرهم كان شعارهم: لا إله إلا الله". وقد خرج الطبَراني مرفوعا: "إن شعار هذه الأمة على الصراط: لا إله إلا أنت". [تفتح لقائلها أبواب الجنة الثمانية] ومن فضائلها أنها تفتح لقائلها أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء، كما في حديث عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم فيمن أتى بالشهادتين بعد الوضوء، وقد خرَّجه مسلم. وفي الصحيحين عن عُبَادَة بنِ الصَّامِت عن النبي صلى الله عليه وسلم "من قال: أشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأن مُحَمَّدًا عبده ورسوله، وأن عِيسَى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مَرْيَم وروح منه، وأن الجنة حق والنار حق، وأن الله يبعث من في القبور، فتحت له ثمانية أبواب الجنة يدخل من أيها شاء". وفي حديث عبد الرَّحمَن بن سَمُرَة عن النبي صلى الله عليه وسلم في قصة منامه الطويل وفيه: "رأيت رجلا من أمتي انتهى إلى أبواب الجنة فأغلقت الأبواب دونه، فجاءته شهادة أن لا إله إلا الله ففتحت له الأبواب وأدخلته الجنة". [أهل كلمة التوحيد غير مخلدين في النار] ومن فضائلها أن أهلها -وإن دخلوا النار بتقصيرهم في حقوقها- فإنهم لا بد أن يخرجوا منها. وفي الصحيحين عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم "يقول الله عز وجل وعزتي وجلالي وكبريائي وعظمتي لأخرجن منها من قال: لا إله إلا الله"1. وخرج الطَّبَرَانِيُّ عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن أناسا من أهل لا إله إلا الله يدخلون النار بذنوبهم، فيقول لهم أهل اللات والعزى: ما أغنى عنكم قول لا إله إلا الله، فيغضب الله لهم، فيخرجهم من النار ويدخلهم الجنة" ومن كان في سخطه محسنا فكيف يكون إذا ما رضي؟ لا يسوي بين من وحده -وإن قصر في حقوق توحيده- وبين من أشرك به. قال بعض السلف: كان إِبْرِاهِيم -عليه السلام- يقول في دعائه: "اللهم لا تشرك من كان يشرك بك بمن كان لا يشرك بك". كان بعض السلف يقول في دعائه: "اللهم إنك قلت عن أهل النار: إنهم أقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت. ونحن نقسم بالله جهد أيماننا ليبعثن الله من يموت، اللهم لا تجمع بين أهل القسمين في دار واحدة".

_ 1 البخاري: التوحيد "7510".

كان أبو سليمان يقول: "إن طالبني ببخلي طالبته بجوده، وإن طالبني بذنوبي طالبته بعفوه، وإن أدخلني النار أخبرت أهل النار أني كنت أحبه، ما أطيب وصله، وما أعذبه، ما أثقل هجره وما أصعبه، في السخط والرضى فما أهيبه، القلب يحبه وإن عذبه". انتهى كلام الحافظ بن رجب ملخصا. فتأمل -رحمك الله- قوله: "فتحققه بقول لا إله إلا الله أن لا يأله القلب غير الله إلى آخره". وقوله: "وتحققه بأن مُحَمَّدًا رسول الله أن لا يعبد الله بغير ما شرعه على لسان مُحَمَّدٍ -صلى الله عليه وسلم" إلخ، وقوله: "وتحقيق هذا المعنى وإيضاحه أن قول العبد لا إله إلا الله يقتضي أنه لا إله غير الله إلى آخره". وقوله: "وقد ورد إطلاق الإله على الهوى المتبع" إلخ. وقوله: "قول لا إله إلا الله يقتضي أن لا يحب سواه". إلخ، وقوله: "ومن هنا يعلم أنه لا يتم شهادة أن لا إله إلا الله إلا شهادة أن مُحَمَّدًا رسول الله". إلى آخره، وهذه من متممات "لا إله إلا الله" وغير ذلك مما يتعلق ب"لا إله إلا الله"، فإنه إنما يبرز بتأمله؛ لأن له تعلقا بما نحن بصدده، والله أعلم. فهذا ما فتح الله به ويسره من فضله من الكلام على عشرة الأفصاص، على كلمة الإخلاص، جمعه ولخصه -فقير ربه الملتجئ إلى عفوه ومغفرته- سَعِيد بنُ حجي الحَنْبَلِيُّ النَّجْدِيُّ، قدَّس الله روحه ونوَّر ضريحه، آمين. انتهى طبع هذا عن نسخة حسنة الخط، قليلة التحريف والغلط، أخذها الأستاذ الشيخ حامد الفقي المصري من العلامة الشهير الشيخ عبد الله بن بليهد النجدي، وقد كنت ناسخها في آخرها ما نصه: وافق الفراغ من كتابة هذه النسخة صبيحة الجمعة، في يوم تسع وعشرين من ربيع الأول، من شهور سنة 1299 ألف ومائتين وتسع وتسعين، على يد -المفتقر إلى كرم الله- صالح بن سالم بن محسن بن شيبان، غفر الله له ولوالديه ولمشايخه ولجميع المسلمين، آمين. ويلي هذا الرسالة الآتية للمؤلف:

حكم التزام مذهب معين، والانتقال من مذهب إلى آخر

حكم التزام مذهب معين (والانتقال من مذهب إلى آخر) رسالة من الشيخ سعيد بن حجي الحنبلي النجدي، إلى الشيخ محمد بن أحمد الحفظي الشافعي التهامي - هي جواب سؤال. "السؤال" ما قول العلماء -رحمهم الله- فيمن التزم مذهبا. هل له الانتقال عنه إلى غيره أم لا؟ "الجواب" قال شيخ الإسلام أحمد بن تيمية في "الفتاوى المصرية"*: "وإذا كان الرجل متبعا لأبي حنيفة أو مالك أو الشافعي أو أحمد، ورأى في بعض المسائل أن مذهب غيره أقوى فاتبعه كان قد أحسن في ذلك، ولم يقدح ذلك في دينه ولا عدالته بلا نزاع، بل هذا أولى بالحق، وأحب إلى الله ورسوله ممن يتعصب لواحد معين غير النبي صلى الله عليه وسلم كمن يتعصب لأبي حنيفة أو مالك أو الشافعي أو أحمد، ويرى أن قول هذا المعين هو الصواب الذي ينبغي اتباعه دون الإمام الذي خالفه، فمن فعل هذا كان جاهلا، بل قد يكون كافرا". انتهى. وقال في "الإقناع" وشرحه: "ولزوم التمذهب بمذهب وامتناع الانتقال إلى غيره الأشهر عدمه. قال الشيخ تقي الدين بن تيمية**: العامي، هل عليه أن يلتزم مذهبا معينا يأخذ بعزائمه ورخصه؟ فيه وجهان لأصحاب أحمد، وهما وجهان لأصحاب الشافعي والجمهور من هؤلاء وهؤلاء لا يوجبون ذلك، والذين يوجبون يقولون إذا التزمه لم يكن له أن يخرج عنه ما دام ملتزما له، أو ما لم يتبين له أن غيره أولى بالالتزام منه. ولا ريب أن التزام المذاهب والخروج عنها إن كان لغير أمر ديني، مثل أن يلتمس مذهبا لحصول غرض دنيوي من مال أو جاه أو نحو ذلك - فهذا مما لا يحمد عليه، بل يذم عليه في نفس الأمر، ولو كان ما انتقل إليه خيرا مما انتقل عنه وهو

_ * مجموع الفتاوى 22/ 248 - 249. [معد الكتاب للمكتبة الشاملة] ** مجموع الفتاوى 20/ 222 - 223. [معد الكتاب للمكتبة الشاملة]

بمنزلة من يسلم لا يسلم إلا لغرض دنيوي، والمهاجر من مكة إلى المدينة لامرأة يتزوجها أو دنيا يصيبها. قال: وأما إن كان انتقاله من مذهب إلى مذهب لأمر ديني فهو مثاب على ذلك، بل واجب على كل واحد إذا تبين له حكم الله ورسوله في أمر أن لا يعدل عنه، ولا يتبع أحدا في مخالفة الله ورسوله؛ فإن الله فرض طاعة رسوله على كل أحد في كل حال". انتهى. وفي "الرعاية": من التزم مذهبا أنكر عليه مخالفته بلا دليل ولا تقليد سائغ ولا عذر. ومراده بقوله: "بلا دليل" إذا كان من أهل الاجتهاد، وقوله: "ولا تقليد سائغ" أي: لعالم أفتاه إذا لم يكن أهلا للاجتهاد، وقوله: "ولا عذر" أي: يبيح له ما فعله فينكر عليه؛ لأنه يكون متبعا لهواه. وقال في موضع آخر: يلزم كل مقلد أن يلتزم بمذهب معين في الأشهر ولا يقلد غيره، وقيل بلى، وقيل لضرورة". انتهى كلام صاحب "الإقناع" وشرحه بلفظه. وقال في "الإنصاف" في (كتاب القضاء): "وقال الشيخ تقي الدين*: من أوجب تقليد إمام بعينه استتيب فإن تاب وإلا قُتل 1، وإن قال "ينبغي" كان جاهلا ضالا، ومن كان متبعا لإمام فخالفه لقوة الدليل أو لكون أحدهما أعلم أو أتقى فقد أحسن ولم يقدح في عدالته بلا نزاع. وقال: في هذه الحال يجوز تقليد من اتصف بذلك عند أئمة الإسلام. وقال: بل يجب". انتهى. ومن قول الشافعي وقواعده: "إذا صح الحديث فهو مذهبي". وفي لفظ: "فاضربوا بقولي الحائط". وفي رواية عنه: "إذا رأيتم عن النبي صلى الله عليه وسلم الثبت فاضربوا على قولي وارجعوا إلى الحديث". انتهى، نقلته من كتاب "الآداب". فقد علم السائل أن من كان متَّبِعا مذهبا من المذاهب الأربعة، ورأى الحق مع غيره فاتبعه أنه محسن، ولا يقدح في عدالته - لا سيما إن كان مع الغير نص أو إجماع أو قول صحابي بشرطه أو جمهور العلماء، والله أعلم. وصلى الله على سيدنا مُحَمَّدٍ وعلى آله وصحبه وسلم. "تم الكتاب"

_ * "الفروع" لابن مفلح 11/ 346، و"الاختيارات الفقهية" لابن اللحام ص 625، و"الإنصاف" للمرداوي 11/ 170، وهو في "المستدرك على مجموع الفتاوى" 2/ 251. [معد الكتاب للمكتبة الشاملة] 1 أي: لأن هذا الإيجاب إشراك بالله في التشريع الذي هو من خصائصه بنص قوله تعالى: {أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله}.

§1/1