مجمع البحرين لليازجي = مقامات اليازجي

اليازجي، ناصيف

المقامة الأولى وتعريف بالبدوية

المقامة الأولى وتعريف بالبدوية حكى سهيل بن عبادٍ قال: مللت الحضر، وملت إلى السفر. فامتطيت ناقة تسابق الرياح، وجعلت أخترق الهضاب والبسطاح. حتى خيم الغسق، وتصرم الشفق. فدفعت إلى خيمة مضروبة، ونار مشبوبة. فقلت: من يا ترى القوم النزول ههنا ... هل بهم الخوف أم الأمن لنا؟ قد كان عن هذا الطريق لي غنى وإذا رجلٌ من وراء الحجاب، قد استضحك وأجاب: إني ميمون بني الخزام ... وهذه ليلى ابنتي أمامي نعم وهذا رجب غلامي ... من رام أن يدخل في ذمامي يأمن من بوائق الأيام قال: فسكن مني ما جاش، من الجاش. ودخلت فإذا رجل

أشمط الناصية، يكتنفه الغلام والجارية. فحييت تحية ملتاح، وجثمت جثمة مرتاح. وبات الشيخ يطرفنا بحديث يشفي الأوام، ويشفي من السقام. إلى أن رق جلباب الظلماء، وانشق حجاب السماء، فنهضنا نهيم في تلك الهيماء. حتى إذا أشرفنا على فريق، يناوح الطريق. عرض لنا لصوص قد أطلقوا الأعنة، وأشرعوا الأسنة. فأخذ الشيخ القلق، وقال أعوذ برب الفلق، من شر ما خلق. ولما التقت العين بالعين، على أدنى من قاب قوسين. قال: يا قوم هل أدلكم على تجارة، تقوم بحق الغارة؟ قالوا: وما عسى أن يكون ذاك؟ حياك الله وبياك! فقال: يا غلام اهبط بهم إلى مراعي الريف، وأنا أقف هنا أراعي كاللغيف. قال سهيل: فلما توارى بهم أوفض الشيخ على ناقته القلوص، حتى أتى الحي فنادى اللصوص. وطلب المراعي فانهالت في أثره الرجال، وإذا اللصوص قد ساقوا

قطعة من الجمال. فأطبقوا عليهم من كل جانب، وأخذوهم أسرى إلى المضارب. حتى إذا أثخنوهم شدوا الوثاق، وقد كادت أرواحهم تبلغ التراق. ثم أدخلونا إلى بيت طويل الدعائم، في صدره شيخ. كأنه قيس بن عاصم. فقال: أحسنت أيها النذير فسنوفي لك الكيل، ونعطيك ما لهؤلاء اللصوص من الأسلاب والخيل. فابتسم الشيخ من فوره، وقال: جدح جوين من سويق غيره. قال: قد رأيت ما لا يرى، فعند الصباح يحمد القوم السرى. ولما كان الغد أهاب بنا داعي الأمير، ونفحنا بصرة من الدنانير، فضممناها إلى أسلاب

اللصوص وخرجنا نجد المسير. ولما استوى الشيخ على القتب، أخذته هزة الطرب. فأنشأ يقول: أنا الخزامي سليل العرب ... أذهب بين الناس كل مذهب وألبس الجد ثياب اللعب ... وأستقي من كل برق خلب وأتقي باللطف كل مخلب ... وألتقي الرمح بلدن القصب ولا أبالي بالفتى المجرب ... لو أنه عمرو بن معدي كرب علي درع من نسيج الأدب ... تكل عنها ماضيات القضب ولي لسان من بقايا الحقب ... يقنص بالمكر أسود الهضب والصدق، إن ألقاك تحت العطب، ... لا خير فيه فاعتصم بالكذب بمثل هذا كان يوصيني أبي قال: فلما فرع من إنشاده، تزمل ببجاده. وقال: يا قوم اتبعوا من لا يسألكم أجراً، ولا تستطيعون بدونه نصراً. ثم انطلق بين أيدينا كالدليل، وهو يمزج الوخد بالذميل، إلى أن نشرت راية الأصيل. فنزلنا وارتبطنا الأنعام، وأضرمنا النار للطعام. وقال

المقامة الثانية وتعريف بالحجازية

الشيخ حتى دنا من ناقتي فحل العقال، وأخذ يتخطى ويتمطى ذات اليمين وذات الشمال. فنفرت الناقة في مجاهل تلك الأرض، وجعل يستوقفها زجراً فتشتد في الركض. فبادرت أعدو إليها حتى استأنست من النفار، ورجعت بها أتنور تلك النار، وإذا الشيخ قد أخذ كل ما هناك وسار. فصفقت صفقت الأواه، وقلت: لا حول ولا قوة إلا بالله. ثم عمدت إلى عقال ناقتي المجفلة، وإذا طرس قد عقل به مكتوباً فيه بعد البسملة: قل لسهيل: لست بالمغبون، ... لولاي ذقت غصة المنون فأنت والناقة في يميني ... ملك بحق ليس بالمنون لكن عفوت عنك كالمديون ... وهبته الدين لحسن الدين فقدم الشكر إلى ميمون! قال: فعجبت من أخلاقه، وأسفت على فراقه. ووددت على ما بي من الفاقة، ولو مكث واستتبع الناقة. المقامة الثانية وتعريف بالحجازية

حدث سهيل بن عباد قال: نهضت من الأهواز، أريد قطر الحجاز. فخرجت أطوي السباسب والبسابس، في عصبة من أولي الخلابس. فكنت أتفكه منهم بالحديث، وأنتقل منه بالقديم إلى الحديث. وما زلنا نظعن في المفاوز ونضرب، حتى دخلنا مدينة يثرب. فأقمنا بها غرار شهر، كغرة في جبين الدهر. وبينما نحن في ليلة بين الرحال، إلى جيرة بمكان الكليتين من الطحال. سمعنا زفرة متنهد، يليها صوت كئيب ينشد: يا من يرد علي ما فقدت يدي ... هيهات ليس يرد أمس إلى الغد! فقدت يدي طيب الحياة! وهل ترى ... لي مطمع في الغابر المتجدد؟ ماذا يفيد العيش صاحب كربة ... لهفان يمسي في الهموم ويغتدي؟ الموت أطيب من حياة مرة ... تقضى لياليها كقضم الجلمد! مضت الليالي البيض في زمن الصبا ... وأتى المشيب بكل يوم أسود

يا حبذا ما فر من أيامنا ... لو كان يمسك عندنا كمقيد! أنفقت صفو العيش حتى إنه ... لم يبق لي إلا ثمال المورد يا ليت ذي الأكدار أول معهد ... كانت، وذاك الصفو آخر معهد ويحي! متى أمسي ولي نفسٌ بلا ... صعد وأنفاس بغير تصعد؟ ما كنت أحسد سيداً في ملكه ... واليوم أحسد عبد عبد السيد! قال: فلما سمع القوم لهجته الشجية، ورأوا ما له من سلامة الشجية. رقت أفئدتهم عليه، وصبت عواطفهم إليه. وقالوا: هل لنا من يطرق مضجعه، ويؤنسنا بالتمازج معه؟ فما عتم الرجل أن وقف بنا منتصباً، وأنشدنا مقتضباً: أنا الذي ساح البلا في ساحتي ... أباح سري واستباح باحتي! روحي كريحاني، وراحي راحت ... ريحاً، فراحت راحتي من راحتي! فاستحلى القوم هذا التجنيس، وأحلوا الرجل محل الأنيس. ثم استطلعوه طلع أمره، وما ذاق من خله وخمره. فقال: يا كرام العرب، وكعبة الأرب. إني لقد كنت أفري وأقري وأفدي وأسدي. وما زلت ألبس وأطعم، وأجيز وأنعم. حتى ذهب ما في السفط جزافاً،

ونفد ما في الكظيمة استنزافاً. فصرت أجوع من ذؤالة، وأعطش من ثعالة. وإني لطالما كانت تصدع وطأتي الصفا، ويخدش براجمي السفا. فصرت أمشي بقدم الأخنب. وأبسط راحة الأكنب. ولم يبق لي الدهر سوى ولد، أذل فلما حان الهداء وآن البناء. قال ذووها: لا صهار، إلا بالإمهار. فنقدتهم ما راج، وخرجت أسعى بما غير كجابي الخراج. وقد أبرزت لكم حضيضتي، وبضيضتي. وأطلعتكم على عجري وبجري. فإن أحسنتم فأنا من الشاكري، وإلا فإني من العاذرين. فاستحسنوا إشارته، واستلطفوا عبارته. وقالوا: رحبت بك الدار، وحباه كل واحد

بدينار. فانثنى وهو يثني جميلاً، ويمشي ذميلاً. فلما أصبحت قصدت مثواه، لأصطبح بنجواه. وإذا هو صاحبنا ابن الخزام، وقد قام لديه ذاك الغلام. فقلت: أهذا الخطيب المعهود، فأين الملاك المشهود؟ قال: أرجو أن يكون خطيباً، فإني أراه لبيباً. ثم قال: يا بني إن الرامي بعلة الورشان، يأكل رطب المشان، وهذه إحدى حظيات لقمان، فإن رأيت ما سيكون ذهلت عما كان. واعلم أن العيش نجعة، والحرب خدعة. فإذا لم تغلب، فاخلب. وإذا

بليت بسوء المصير، فعليك بحسن التدبير. فلبثت عنده يومي أجمع، أتمتع بالمنظر والسمع. وهو يطرفني بما مر برأسه من العبر، ويحدثني بما ختل وختر، والخبر عندي يعضد الخبر. إلى أن زالت الشمس أو كادت تزول، فاستلقى على وسادته وأنشأ يقول: أعوذ بالمهيمن الفياض ... من أهل هذا الزمن المهتاض أسلمهم كالأرقم اللضلاض، ... يلسع كل قادم وماض! إياك يا صاح من التغاضي ... واحذر ولو من طلحة الفياض من عاشر الخلق بخلق راض، ... وباشر الجفون بالإغماض هيهات أن يخلو من انقباض، ... ما الختل يا بني من أغراضي! لكن تصدى الظلم لانتهاضي ... أن أدفع الأمراض بالأمراض والظلم من خبائث الحياض ... يُلجى إلى تدنس الأعراض لو أنصف الناس استراح القاضي

المقامة الثالثة وتعريف بالعقيقة

قال: ولما فرغ ارتجازه دعا بالطعام، وقطع الكلام. فجلسنا نتناول ما حضر، ثم قمنا نتذاكر السمر، في ظل القمر. إلى أن تهافت الليل، وما علي الكرى كل الميل. فأوغلت في النوم حتى حذتني قارصة الشمس، وإذا الشيخ قد ارتحل فساءني اليوم أكثر مما سرني أمس. المقامة الثالثة وتعريف بالعقيقة حكى سهيل بن عباد قال: بكرت يوماً بكور الزاجر، في معمعان ناجر، خوفاً من اصطكاك الهواجر. فأمعنت في السياحة، وجعلت أقطع ساحة بعد ساحة. حتى إذا تخللت بعض الغيطان، وقد سال عليها مخاط الشيطان. رأيت كتيبة من الرجال، على كثيب من الرمال، فبذلت في شاكلة الجواد المهماز، ورددت

صدور الأرض على الأعجاز. حتى أدركت القوم، في منتصف اليوم. وإذا جنازة قد أودعوها التراب، وشيخ على دكة قد افتتح الخطاب. فقال: يا كرام المعاشر والعشائر، وأولي الأبصار والبصائر، أرأيتم ما أحرج هذا البيت، وأسمج هذا الميت؟ طالما جد وكد، واشتد واعتد. وركب الأهوال، واحتشد الأموال. فانظروا أين ما جمع، وهل أتى بشيء منه إلى هذا المضجع. وطالما شمخ، وبذخ. وأسرف، واستطرف. وتأنق في الطعام والشراب، واستكرم المهاد والثياب، وتضمخ بالعبير والملاب. فاعتبروا كيف صار جيفة لا تطاق، وكريهة لا تستطيع أن تلحظها الأحداق. فإن كنتم قد ضمنتم الخلود، وأنتم اللحود. فتمتعوا بشهواتكم ملياً، واتركوا ما رأيتم نسياً منسياً. وإلا فالبدار البدار، إلى طرح العالم الغرار. فإن السعيد من نظر إلى دينه دون دنياه، وأخذ الأهبة لأخراه قبل أولاه والشقي من نظر قريباً، فبات خصيباً، وعاش رحيباً، وغفل عن يوم يجعل الولدان شيباً. ثم فاضت عيناه بالدموع، وأطرق برأسه من الخشوع. وأنشد:

واهاً لمن خاف الإله واتقى ... وعاف مشترى الضلال بالهدى وظل ينهى نفسه عن الهوى ... إن إلى الرب الكريم المنتهى وليس للإنسان إلا ما سعى ... نعم! وإن سعيه سوف يرى ما هذه الدنيا سوى طيف كرى ... فانتبهوا يا غافلين للسرى! وشمروا الذيل وبادروا الوحى ... من قبل أن يدعوكم داعي الردى واطرحوا كل نعيم وغنى ... واستهدفوا لوقع أسهم البلى وأقرضوا الله فنعم من وفى ... ما أجهل الناس وأذهل النهى لو أن هذا المال في هذا الورى ... قال: ألست ربكم؟ قالوا: بلى ولما فرغ من أبياته زفر زفرة الضرام، وقال: "كل من عليها فإن، ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام"، ونزل وهو يمسح عبراته بفضلة اللثام. فخيل للقوم أنه قد هبط من السماء، وقالوا هذا ممن يمشي على الماء. ثم أقبلوا يهرعون إليه، وطفقوا يقبلون يديه، ويتبركون بمس برديه. وأتحفه كل منهم بما شاء، وقالوا له: الدعاء الدعاء! فلما أحرز المال هب إلى الفرس، بأسرع من رجع النفس. وقام القوم فودعوه، ثم

تطرقوا فشيعوه. فلما أبعد عن الربوة، قيد غلوة. إذا امرأة كأنها من حور الجنان، تنتظره على المكان. فتأفف وقال: يا لكاع! لولا حاجة الرفاق، لأشهدت عليك بالطلاق. فقالوا: ما هذه الجارية، يا مبارك الناصية؟ قال: هي امرأة لي صحبتها في هذه الرحلة، لتخفف عني بعض الثقلة. فأنضاها الكلال حتى لا تستطيع أن تمشي فنذهب، ولا أستطيع أن أترجل لتركب. فتقدم إليها فتى ببرذونة قد امتطاها، وقال: اركبي باسم الله مجراها. فقال الشيخ: جزاك الله خير الجزاء وجزاء الخير، ثم أقسم على القوم فعادوا وكأن على رؤوسهم الطير. قال سهيل: وكنت قد عرفت حين أماط اللثام، أنه ميمون بن خزام. فقلت: إن الشيخ قد أتى الله بقلب سليم: والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم. بيد أني طويت عنه كشحي، لأعلم هل أصاب

قدحي. فتراجعت مع الراجعين، وتوليت عنه حتى حين. فمكثت هنيهة أترقبه، ثم انبعثت أتعقبه. حتى انتهى إلى دسكرةٍ في الطريق، بجانب العقيق. فنزل عن الحجر. واعتزل إلى حجرة، وافترش اريكته في ظل حجرة. فاعتسفت إليه من بعض الجوانب، وكمنت له كالضاغب. وإذا به قد احتجر دستجة من الراح، كزجاجة فيها مصباح. وأخذ يتعاطى الأقداح، ويغازل تلك الخود الرداح. فلما لعبت بعطفيه الشمول، مال على أحد جانبيه وأنشأ يقول: سقى الغمام ترب ذاك القبر ... فقد سقاني من لذيذ الخمر ما لم أذق نظيره في العمر ... أفادني في اليوم قبل العصر ما لست أستفيده في الشهر ... وإن أكن ركبت إثم السكر فقد أفدت القوم عند الذكر ... مواعظاً تلين صلد الصخر فنلت من ذاك عظيم الأجر ... وصرت أرجو أن يقوم عذري عند الإله في مقام الحشر ... بأنني كفرت قبل الوزر

قال: فلما فرغ من إنشاده المريب، طلعت عليه طلعت الذيب، وقلت: السلام على الخطيب. فأجفل إجفال الحمل، وقال: سبق السيف العذل. إذا كنت طفيلياً، فلا تكن فضولياً. قلت: فمن التي تشرب الكأس من يديها؟ أحليلة بنيت بها أم خليلة أنست إليها؟ قال: إن بينهما نقطة فلا تحاسب عليها. والآن قد غلبتني سورة المدام، وتلعثم لساني عن الكلام، فاذهب الليلة بالسلام. وإذا التقينا غداً برزت لك المكنون، ودرأت عنك الظنون. قال: فعلمت أنها

المقامة الرابعة وتعرف بالشامية

من خزعبلاته، لكنني أجريته على علاته. فثنيت عنه عناني، وانثنيت لشاني. المقامة الرابعة وتعرف بالشامية أخبر سهيل بن عباد قال: دخلت يوماً على صاحب لي بالشام، أعوده من داء البرسام. فجلست بإزائه، وأنا أستخبره عن دائه. وبينما هو يبث شكواه، ويتأوه لبلوه. إذا قيل: قد جاء الطبيب، فقلت: قطعت جهيزة قول كل خطيب. ونظرت فإذا رجل قد أقبل يجر ذيل طيلسانه، ويقرع أديم الأرض بصولجانه. حتى دخل فسلم، ثم جلس معرضاً ولم يتكلم. فتوسمته وإذا هو شيخنا ابن خزام، فاحتفزت للقيام، وأردت أن أستأنف السلام. فأومض إلي بجفنيه، واستوفقتي عن التسليم عليه. فقال له المريض: يا مولاي أرى أن

صدري قد ضاق، وتواتر علي الفواق. فقال: ذكر الأستاذ بقراط، أن ذلك يدل على نضج الأخلاط. وقد وصف له الإمام ابن عاتكة، أن يسقى شراب الملائكة. لكنه لا يشترى إلا بمائة درهم، فإن بذلتها نجوت من البلاء الأدهم. فدفعها إليه وقال: حباً وكرامة، إن ظفرت بالسلامة. قال: وكان أهل المريض قد استضعفوا رجاء الشفاء، ورأوا طبيبهم كالكاتب على صفحات الماء، فاستحضروا بعض نطس الأطباء. ووافق تلك الساعة وفده عليه، فدخل وهو يتهادى بين برديه، ثم جلس والشيخ يصوب طرفه ويصعده إليه. فقال: إن شئت أن تتحفنا بمعرفتك، فذلك من عارفتك. قال: أنا من أطباء جزيرة العرب، كنت قد انتصبت للتدريس حتى انقطع الطلب. فاعتزلت عن مزاولة العلاج واصطناع الأدوية، وخرجت أتفقد العقاقير في الجبال والأودية، فعظم الشيخ في عين الطبيب، وأراد أن يسبر غوره ليرى أيخطئ ظنه أم يصيب. فقال: يا مولاي إني رجل من المتطببين،

وقد عثرت على مسائل أنا منها بين الشك واليقين. قال: على الخبير بها سقطت، فسل عما التقطت. فإن وجدت لذلك عبرة، أعطيتك الجواب صبرة. قال: كيف يتركب السرسام، مع البرسام؟ وما هي مقادير الأخلاط بالنسبة إلى بعضها في الأجسام؟ وما هو المراد عند الأول، بقسمة الطب إلى علم وعمل؟ وما هي الكيفية المنفعلة والكيفية الفاعلة؟ وما هي الأسباب السابقة والبادية والواصلة؟ فقال: الله أكبر إن الحديث ذو شجون، وإن لك أجراً غير ممنون. لقد ذكرتني مائة من المسائل، جمعتها في بعض الرسائل. وهي مما يشكل على

الألباء، وتناقش به فحول الأطباء. فإن شئت جعلنا الساعة موعداً، وأتيناك بها غداً. قال: ذاك إليك، فنهض وقال: السلام عليك. وخرج وهو قد اعتضد الصولجان، وانساب انسياب الأفعوان. قال سهيل: فابتدرت الخروج على الأثر، قبل أن يتوارى عن النظر. فأدركته عن أمد يسير، وهو ينشد كحادي البعير: الحمد لله وللفرار ... فقد نجوت من فضوح العار! أفلت من جرادة العيار ... ما لي وللنضال والحوار ما أنا بالرازي ولا البخاري ... وليس لي في الطب من أسفار أدرسها في الليل والنهار ... وسائل مماحك مهذار يسألني عن غامض الأسرار ... جعلت مثل الخادع الغرار موعده الساعة فوق النار ... فقل له: صبراً على انتظاري!

قال: فما استتم الإنشاد، حتى وقفت له بالمرصاد. وقلت: عهدتك بالأمس خطيباً، فمتى صرت طبياً؟ فقال: ألبس لكل حالة لبوسها، إما نعيمها وإما بوسها. دخلت يا ابن أخي هذا البلد، وأنا غريب لا سيد لي ولا

لبد. فرأيت الأديب عند أمته، أهون من قعيس على عمته. فلما رأيتهم معارج لا ترتقى، وأراقم لا تقبل الرقى، جردت المبضع والمشراط، وسأستغفر الله لي ولهم إذا وقفنا على الصراط. قال: وبينما نحن كذلك إذ صاحت الصوائح، وعلا ضجيج النوائح. فقلت له: قاتلك الله ما أقتلك، وأحبط علمك وعملك. قد كنت أهون من قعيس، فصرت أشأم من طويس. لو رمى الله بك أصحاب الفيل، أغنيت عن الطير الأبابيل. فنظر إلي شزراً، وأنشد يقول شعراً: لا خير في الناس دعني ... أفتك بهم، يا فلان

فليس فيهم رجاء، ... وليس منهم أمان يا ليت ألف طبيب ... مثلي يسوق الزمان! فكلما قصر العيش ... يقصر العصيان! فخف عنهم عذاب ال ... أخرى وقل الهوان! ثم قال: هذه معذرتي فإن شئت القبول، وإلا فدع عنك الفضول، وإذا فارقتني فقل ما شئت أن تقول. ثم ولى يهرول، والنائحات تولول. وهو يقول: لو قدرت أن أدفع الموت لبقيت إلى الأبد، ولو شفى الطبيب كل مريض لم يمت أحد. فرجعت أقول: ههنا كل العجب، لا بين جمادى ورجب.

المقامة الخامسة وتعرف بالصعيدية

المقامة الخامسة وتعرف بالصعيدية أخبر سهيل بن عباد قال: دخلت مجلس قاضي الصعيد، وقد جلس للتهنئة بالعيد. فبينما دنوت إليه، وسلمت عليه. دخلت امرأة غضة، كأنها برج فضة. وقالت: السلام عليك أيها المولى، ولا زلت بالكرامة أولى فأحسن رد السلام، وقال: ما وراءك يا عصام؟ قالت: إنني امرأة من كرائم العقائل، وكرام القبائل. قد خطبني إلى والدتي العجوز، رجل يدعي أنه من أصحاب الكنوز. وقد جعل كل ماله لي

وقفاً، وصرفني في بيته عيناً ووصفاً. فلما حضرت إلى بيته وجدته كبيت العنكبوت، لا شيء فيه من الأناث والقوت. وهو قد أمسكني جبراً، وكلفني ما لا أستطيع عليه صبراً. فمره إن شئت بالإنفاق، وإلا فالطلاق. فأشار القاضي إلى الغلام بإحضاره، والمرأة دليلة له في آثاره. فما كان إلا كقراءة هل أتى، حتى عادت المرأة والفتى. وبين أيديهما رجل طويل القامة، كبير العمامة. فتقدم إلى القاضي وهو يقول: أيد الله الجالس على بساط الرسول. قال: أيد الله الحق المبين، وعصمنا وإياك بحبله المتين. ما تقول في دعوى هذه الجارية؟ وما أدراك ما هيه. قال: هي فرية وسوس بها إليها الشيطان، ومرية ما أنزل الله بها من سلطان. قال: فادفع عن نفسك بالتي هي أحسن، ولا تجادل في أشياء إن تبد لك تسوؤك فتحزن. قال: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، ثم أشار إلى القاضي وأنشد بصوت رخيم: أنا أبو ليلى أخو العجاج ... وصاحب الأرجاز والاحاجي عندي من العلم لدى المناجي ... كنز، ومن مطارف الديباج

ما ليس من صناعة النساج، ... لكنني من قلة الرواج قد اشتريت دملجاً عن عاج ... بدرهم كالقمر الوهاج كنت أصونه إلى احتياج ... إذ لم أكن لغيره براج فذاك مالي، يا أبا فراج، ... جعلته في يد بنت الناجي وقفاً لها، فلست بالمداجي ... وهي على بيتي كالحجاج تحكم في الإدخال والإخراج ... من غير عرضة ولا حجاج مصونة في أحصن الأبراج ... آمنة من طارق مفاج مرتاحة من كل ذي إزعاج ... لا تحمل الزيت إلى السراج ولا تعاني الرحض للسناج ... وطاجن الفالوذ والسكباج وعرن الكباش والنعاج ... فلم تزل صحيحة المزاج نقية من وضر الأمشاج ... غنية عن خطر العلاج والمرء لا يرضى ولو بالتاج

قال: وكان المجلس حافلاً بأهل العيد، ومزدحماً بالأحرار والعبيد. فعجبوا من بداهة الرجل وفكاهته، ونزهة لفظه ونزاهته. وقالوا: ما نراه أخطأ في الدعوى، لكنها أخطأت في الفجوى. فليجبر قلبها كل واحد بدينار، ولنجعلها زكاة عيد الإفطار. ثم حصبها كل بدينار حسب وعده، وقالوا لها: أنفقي مما رزقك الله حتى يأتي الله بالفتح أو أمر من عنده. فاستشاط الرجل وقال: أراكم قد أمرتموها بالإنفاق فقد جعلتموها لي بعلاً، وجعلتموني لها أهلاً. فلا تلبث أن تقول: قد استنوق الجمل، وتطلقني البتات لعكس العمل. قالوا: لله درك أيها الجندلة، فما تقول في المسألة؟ قال: قد رأيتم في الكتاب رأي العين، أن للذكر مثل حظ الأنثيين. فإن أحسنتم فإليكم، وإلا فكتاب الله عليكم. قالوا: قضي الأمر الذي فيه تستفتيان، فقد أحسنت وما جزاء

الإحسان إلا الإحسان. فاشرأب الرجل واستطال، وأقبل على القاضي وقال: إن أخطأت جارية في الفهم ... لا يخطئ القاضي المتين العلم في فهم شكواي وفرض السهم فقال القاضي: شهد الذي أخرج المرعى، أنك تريد أن تلسع الأفعى. فخذ هذه الجدوى، على أن لا تحضرني بدعوى. فلما أحرز الرجل ما أعطاه، برزت المرأة كالسعلاة. وقالت: أيد الله القاضي إن الدعوى من قبلي، فقد كان ذلك لي. فأطرق القاضي إطراق المشفق، وقال: إن البلاء موكل بالمنطق. ثم قال

الشرطي: إني أراهما يتداولان مكر الليل والنهار، ويصلان الدرهم بالدينار. فخذهما بهذه السفتجة، واكفني كربة الحشرجة، وأربة السمرجة. قال سهيل: ولما أراد الرجل الخروج عطف إلي، وقد أغمض إحدى عينيه لتخفى معرفته علي. وقال: أعيذك بالله أن لا تكون من الناس، فإن اعتذرت فلا باس. قلت: ليس معي إلا دينار واحد فاقتسماه، وإلا فنظرة إلى ميسرة من رزق الله. قال: نعم ولكن إذ تخلصت قائبة من قوب، فإياك مطل عرقوب. ثم خرج فانطلقت في أثره، لأقف على كنه خبره. فلما أبعد عن دار القضاء، واقتضى

المقامة السادسة وتعرف بالخزرجية

سفتجته البيضاء، فتح الشعرى الغميضاء. فإذا هو صاحبنا ميمون بعينه، وقد انتفض العور من عينه. فابتهجت بمرآه، وابتهجت بملتقاه. وقلت له: ما خطبك وهذه الجارية، ومتى تزوجت في البادية؟ قال: هي في البيت ابنتي، وفي المحكمة زوجتي. ثم أنشد: خبث الدهر، فصارت ... أنفس الناس بخيله وإذا حالك ساءت، ... فليكن عندك حيله ثم غمز بأناملة مرفقي، وقبل مفرقي، وقال: أستودعك الله إلى أن نلتقي. المقامة السادسة وتعرف بالخزرجية قال سهيل بن عباد: دخلت بلاد العرب، في التماس بعض الأرب.

فقصدت نادي الأوس والخزرج، لأتفرج وأتخرج، وآخذ من ألسنتهم بعض المنهج. فلما صرت في بهرة النادي، أخذ بمجامع فؤادي. فجلست بين القوم ساعة، وأنا أحدق إلى الجماعة. وإذا شيخنا ميمون بن خزام، قد تصدر في ذلك المقام. وهو يقول: من أراد أن يعرف جهينة، أو شاعر مزينة. فليحضر ليسمع ويرى=فإن كل الصيد في جوف الفرا. فعمد إليه رجل وقال: أطرق كرى، إن النعامة في القرى. فقال الشيخ: كل فتاة بأبيها معجبة، فكن سائلاً أو مسؤولاً لنرى ما في القداح من الأنصبة. قال: إنما يسأل العالم، فما هي

أسماء المطاعم؟ قال: لبيك وسعديك! وأنشد كهزار الأيك: للنفساء الخرس والعقيقه ... للطفل عند عارف الحقيقة كذلك الإعذار للختان ... وذو الحذاق حافظ القرآن للخطبة الملاك والوليمة ... للعرس والميت له الوضيمه وللبناء جعلوا الوكيره ... ولهلال رجب العقيره وقيل تحفة لزائر يرد ... وشندخ لما يضل إذ وجد كذا نقيعه القدوم من سفر ... ثم القرى للضيف عندما حضر وحيثما لم يك من ذاك سبب ... فإنها مأدبة عند العرب وإن تعم دعوة فالجفلى ... تدعى وإن خصت فتلك النقرى قال: أحسنت يا ضريب الضرب، فما هي نيران العرب؟ فأنشد: أول نار عندهم نار القرى ... وذكر نار الوسم بعدها جرى ونار الاستسقاء والتحالف ... والصيد والحرب لدى التزاحف

ونار غدر وسلامة تعد ... ونار راحل كذا نار الأسد والنار للسليم والفداء ... فجملة النيران هؤلاء قال: أعتقك الله من النار! فهل تعرف ساعات النهار؟ فأنشد: أول ساعة من النهار ... هي البكور والبزوغ طار والرأد والضحى المتوع بعد ... ظهيرة ثم الزوال عدوا فالعصر فالأصيل ثم الطفل ... وبالحدور والغروب تكمل قال: قد أسبغت الذيل، فهل تعرف ساعات الليل؟ فأنشد: أول ساعة من الليل الشفق ... وبعدها العشوة يتلوها الغسق فهدأةٌ ثمت شرعٌ ثم قل ... جنح وزلفة هزيع يا رجل وبعد ذاك غبش وسحر ... والفجر والصبح الذي ينفجر قال: قد درأت الشبهات، فهل تعرف رياح الجهات؟ فأنشد: ما هب من شرق فذلك الصبا ... ثم الجنوب عن يمين ذهبا ثم الشمال والدبور، وجرت ... نكباء بين كل ريحين سرت فذلك الأزيب ثم الصابيه، ... فالهيف ثم الجربياء آتية

قال: قد جلوت الرموز، وفتحت الكنوز، فهل تعرف أيام برد العجوز؟ فأنشد: صن وصنبر ووبر يذكر ... وبعده الآمر والمؤتمر كذا معلل ومطفي الجمر ... هاتيك أيام العجوز فادر قال: حييت يا قطب للعراق، فما أسماء خيل السباق؟ فأنشد: أول سابق هو المجلي ... ثم المصلي بعده المسلي تال ومرتاح عليه يقبل ... والعاطف الحظي والمؤمل كذلك اللطيم والسكيت ... فاحفظ فما أعطيت قد أعطيت قال: لله درك! لقد جمعت فأوعيت، وقدحت فأوريت. فإن شئت فسل، قال: أجل، ولكن خلق الإنسان من عجل. فإن أبطأت في الجواب فلي عليك ناقة حمراء، وعلى قومك فرس غراء. قال: هات

وبالله التوفيق، إلى سواء الطريق. فقال: ما هي برق العرب المذكورة وداراتها المشهورة؟ فضاق الرجل ذرعاً في الجواب، وقال: اللهم اهدنا صراط الحق والصواب. ثم قال: قد وجبت راحلة الشيخ علينا، ليسهل وفده إلينا. فقال الشيخ: قد علمتم يا قوم أن لخير معقود بنواصي الخيل، وهي التي ينجو بها الوافد من جوارح النهار وطوارق الليل. قالوا: كلاهما وتمراً، فقد فرضنا لكل بيت صلة أخرى، على أن تكتبها لنا سطراً فسطراً. ففعل وقال: الشرط أملك، عليك أم لك. فجاؤوا بناقة وجناء وفرس كميت، وشاة لكل بيت. فأنكر الشيخ الشويهات، قد اذخرت شيئاً فأنشده لنجيزه سريعاً. فضحك الشيخ

على الأثر، وقال أريها الشهى وتريني القمر. إن هذه الأبيات مشطورة توهم الأنصاف، لكنها تحسب أبياتاً عند الإنصاف، وإلا لما جاز في قوافيها ما رأيتم من الخلاف. فإن تمسكتم بالعروة الوثقى، وإلا فالله خير وأبقى. فقالوا: لله درك ما أقواك في الحجة، وأهداك إلى المحجة! وقد رضينا بما حكمت، فخذ ما احتكمت. قال: فاعتمد على عصاه وقال: رب ثبت قدمي، واشد عصاي التي أتوكأ عليها وأهش بها على غنمي. ثم أشار إلى المشهد وأنشد: من كان يبغي السير في المنهج ... فليأت نادي الأوس والخزرج يلق الغطاريف الألى همهم ... رب القنا لا ربة الهودج

يدكون نيران القرى في الدجى ... وينحرون الكوم في السجسج إذا دعا الداعي استقامت له ... خيل نسبناها إلى أعوج فقد جزيناهم بما ذكره ... يبقى بقاء الجبل الأصلج فقالوا: قد تفضلت علينا في الثناء، فلك اليد البيضاء. وهذه نفقة لسفرك، فسر مسروراً بظفرك. قال: فلما فصل عن النادي، قفوته إلى الوادي. وقلت له: هنياً مرياً، لقد جئت شيئاً فرياً. فأنى لك هذا السجال، وكيف أجبت كل سؤال بالارتجال؟ قال: يا ابن أخي الحق أولى أن يقال. شهدت سوق عكاظ، وتخللت تلك الأوشاظ، فسمعتهم يتناشدون القطعة والبيت،

المقامة السابعة وتعرف باليمنية

ويتذاكرون من كيت وذيت. فالتقطت منهم ما التقطت، وسقطت به على من سقطت. ثم أشار إلي بعصاه، وأنشد وهو يسوق الشياه: ترى عيني تقر وعين ليلى ... تراقب عودتي حيناً فحينا تُسائِلُ عن أبيها كل ركب ... فلا تدري له خبراً يقيناً نذرت لها الفراهيد اللواتي ... أعود بها وأحرجت اليمينا تضيف بها بنات الحي يوماً ... كما قد كنت أصنع للبنينا ولما فرغ من إنشاده، تمطى في بداده، على جواده، ثم ودعني وانطلق، وأودعني القلق. فأتبعته عيني إلى أن غاب، ورجعت أستمطر له السحاب. المقامة السابعة وتعرف باليمنية حكى سهيل بن عباد قال: لفظتني أحداث الزمن، إلى مشارف اليمن. فحللتها أنكر من شيء، وأنقل من فيء. لا أعرف بها جليساً، ولا أجد لي أنيساً. فلما مللت الإقامة فيها، هممت بالرحيل عن

فيافها. فرأيت رجلاً في الرحال، يطالب شيخاً بمال. والشيخ يتبرأ من طلبه، ما لم يحكم الشرع به، فتنافذا إلى القاضي بسببه. قال: وكنت قد تبينت أن الشيخ صاحبنا ميمون، فابتهجت كأني أوتيت مال قارون، وتبعته إلى دار القضاء لأنظر ماذا يكون. فلما دخلا على القاضي حياة الشيخ بالسلام، وقال: أيد الله شرع الإسلام. فكأن القاضي نظر إلى رثاثة برديه، فلم يحفل بالرد عليه، فأخذت الشيخ الحمية، حمية الجاهلية. وقال: أراك قد ارتكبت الخلة المنهي عنها، فقد قال الكتاب: إذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها. فإن كنت تعتبر الخرق دون الأخلاق، فتلك مدارج الخز في الأسواق، وإلا فانظر إلى الألباب دون الجلباب. فإن المرء بأصغر به، لا بثوبيه، قال: فخجل القاضي واعتذر إليه، وقد عظم في عينيه. وقال هل للشيخ دعوى ترفع؟ قال: لا بل لصاحبنا دعوى لا تسمع. فأشار القاضي إلى الرجل، وقال: تقدم فقل. فقال: يا مولاي لا تطعم العبد الكسراع، فيطمع في الذراع. إن هذا الشيخ استأجر مني ناقة

مهرية، في الديار المصرية. وقال: إذا بلغنا اليمن لا أسلمك الزمام، حتى أسلمك الأجرة عن تمام. فرخصت له في النسيئة، وغفلت عن الخبيئة. فلما بلغنا موطىء القدم، إذا هو أضبط من عائشة بن عثم. فأمسك المطية، فضلاً عن العطية. فقال القاضي: ما تقول يا أيها الشيخ في دعواه؟ فضحك حتى استلقى على قفاه. وقال: قد جعلت تسليم الأجرة موعداً لتسليم الزمام، فأنا لا أسلمه الأجرة والسلام. فعجب القاضي لافتنانه، وأعجب بسحر بيانه، وخاف من ظبة لسانه. فقال للرجل: نجعلها بين بين، خذ العين، واترك الدين، فويل أهون من ويلين. فقال: إذا لم يكن غير هذا عند المولى، فالرضى به أولى. ولما خرج الرجل لشانه، أشار القاضي إلى بعض غلمانه. وقال له: شيع الشيخ إلى بحبوحة الربع، وخذ منه دينار المنع، فقال الشيخ: أراك أيها الإمام، قد جعلت زادك مخ النعام. ولقد بلوتك لأرى هل تحكم

بالقسط بين الناس، فوجدتك تميل إلى حيث ترجو ثمالة الكأس، أو تجهل إخراج القضايا على مقتضى القياس. فلأهجونك بما لم يهج به قاض من قبل، ولأشكونك إلى من يؤدبك بالعزل، أو تشتري عرضك مني ولي عليك الفضل. فندم القاضي على قضائه الخاسر، وقال: هذا جزاء مجير أم عامر. ثم أقبل على الشيخ وقال: قد فرضت في مالي من الزكاة نصاباً، فخذه وسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان تواباً. قال: فلما قبض الشيخ الذهب، نهض وقال لي: يا رجب، خذ من القاضي دينار الأدب. فقال القاضي: إنني بحكمك راض، فاقض ما أنت قاض. فتلقفت الدينار وخرجنا للحين، والقاضي يقول: إن الله لا يضيع أجر المصلحين. ولما فصلنا عن المكان، دعوت الشيخ إلى منزلي بالخان. فقال: إن نفسي لا تطيب بمقام، حتى أفتقد الناقة والغلام. قلت: وما ذاك يا حمة العقرب؟ فضحك حتى استغرب. وقال: أما الناقة فركوبتي التي جرت على أجرتها المخاصمة، وأما الغلام فخصمي الذي رأيته في المحاكمة. فقلت: وماذا حملك، على أن تحبط عملك؟ قال. وصلت إلى

هذه البلاد، وقد خلت وفضتي من الزاد، فتوصلت إلى القاضي بسبب لعلمي أنه أطغى من فرعون ذوي الأوتاد، وأبخل من كلاب بني زياد. ورصدت له حتى طلب دينار القضاء، فكان عليه أشأم من رغيف الحولاء. فقلت له: لله درك ما أطول باعك، وأهول قاعك! قال: من ليس يؤخذ بالبنان، فخذه بالسنان. ثم انساب بي إلى منزله كالحباب، وإذا غلامه الذي كان يخاصمه بالباب. فأشار إليه وأنشد: هذا غلامي الذي خاصمته ... إني لمثل ذلك استخدمته حتى إذا الصيد أتى قاسمته ... بما كسوته وما أطعمته وإن تمادى الدهر بي علمته ... ما قد أذعته وما كتمته وهو مقام ولدي أقمته ... فإن ذخرت عنه أو حرمته عاقبني الله فقد ظلمته قال: فعجبت من أفانينه في المكر، وأساليبه في النظم والنثر. وعدلت إذ ذاك عن الرحيل إلى المقام، حتى أراد الشخوص إلى الشام، فانطلق

المقامة الثامنة وتعرف بالبغدادية

إلى دار الحرب وانطلقت إلى دار السلام. المقامة الثامنة وتعرف بالبغدادية قال سهيل بن عباد: حللت بالزوراء في بعض الأسفار، وأنا غريب الدار، بعيد المزار، فكنت أتردد فيها سحابة النهار، وأتفقد ما بها من المشاهد والآثار. حتى دخلت يوماً بعض المدارس، وإذا شيخنا الخزامي هناك جالس. والطلبة قد أقبلوا عليه، وأحدقوا به وإليه. فسلمت عليه تسليم المشوق، وابتهجت به ابتهاج العاشق بلقاء المعشوق. وجلسنا نتشاكى النوى، ونتباكى للجوى.. وإذا امرأة تنادي يا شاري اللبن، الرخيص الثمن. وهي في أثناء الكلام، تتلاعب في الإعراب على الثلاثة الأحكام. فعجبوا لافتنانها، وتاقت أنفسهم إلى استنباط بيانها.

فدعتها ألسنتهم للشراء، وأفئدتهم للمراء. فجاءت حتى وقفت بالباب، وأرسلت النقاب، وقال: السلام يا أهل الكتاب، قالوا: سلام يا كريمة الأعراب! فما بالك تلحنين في الإعراب؟ قالت: أما سمعتم أن خير الكلام ما كان لحناً، أو لم تيأسوا أن الكتاب قد أقام له وزناً؟ قالوا: أعييتني بأشر، فكيف بدردر؟ إن كنت ممن يفسر الماء بالماء، فما نحن ممن يستجير بالنار من الرمضاء. قالت: شهد من

رفع القبة الخضراء، أني ما جئتكم إلا بالحنيفية البيضاء. لكنكم تشترون در الضوامر، وتستوهبون در الضمائر. فلما رأوا منها دهاء لقمان بن عاد، علموا أنها صخرة واد. فرضخ كل لها بدرهم، وقالوا: إن أعربت عن المعجم، نفحناك بالمشوف المعلم. قال: والشيخ بين ذلك يقلب وجهه في السماء، ويقول: سبحان من علم آدم الأسماء. فلما جلت المكنون، واجتلت الموزون. قال: يا أولي الألباب، إن الله يرزق من يشاء بغير حساب. وإلا ففوق كل ذي علم عليم،

وإن الفضل بيد الله يؤيته من يشاء والله ذو الفضل العظيم. قالوا: إن هذا لهو الحق المبين، فأت بآية من مثل ذلك إن كنت من الصادقين. قال: قد جاء من أمثال ذلك في كلام القوم، قولهم: لا صمت يوم. فإن شئتم ما فوقه من تصاريف العرب، فقولهم: هذا يسر أطيب منه رطب. فإن استزدتم فقولهم في المثل: لا ناقة لي في هذا ولا جمل. قال: وما فرغ الشيخ من الكلام، حتى ابتدر القيام. فتعلقوا به وقالوا: لات حين مناص، فإن دواء الشق أن يحاص. ولقد أتيت من حيث أيس، فلا تذهب من حيث ليس. فعاد إلى المقام، وقال صبراً: على مجامر

الكرام. ثم اندفع في شرحه كاليعبوب، حتى ملأ العيون والقلوب، فانهالت عليه الجوائز حتى لم تبق حاجة في نفس يعقوب. ولما قضى الوطر، نهض على الأثر، فقام القوم يودعونه، وهم يودون لو يتبعونه. وقالوا: بأنفسنا نفديك! لقد سعد بك ناديك، فلا تجعلها بيضة الديك. قال: نعم لي صبي ليس كمثله في بغذاذ، أريد أن أجره يوماً إلى الأستاذ. قالوا: نراك قد جررته مذ الآن، فهل تفيدنا بشيء من البيان؟ قال: إذا عدنا، أفدنا. لكنني لا أرى لقاء مثله من ذوي الشان، حتى يستر أطماري الطيلسان. قال سهيل: ولم يكن بعد

انصرافه إلا كلمح البصر، حتى دخل الأستاذ فأطرفوه بالخبر. فقال: صبر جميل، نام عصام ساعة الرحيل، والله حسبي ونعم الوكيل. ثم ألقى بطيلسانه إلي وقال: هل لك أن تلقاه به فترده علي فقرعت الساق حتى أدركته بالسوق، وأبلغته سياق الخبر المسوق. فقال: إن ليلى قد فصلت عن مجلسنا المعهود، ولنا موعد أنتظرها به أن تعود، فإذا لقيت الأستاذ فقل له المعذرة، وإن غداً لناظره قريب فمن

يعش يره. قلت: أوهي ذات اللبن قال: إن لم تكن فمن قلت:

إنها لنعم البنية! قال: وإن العصا من العصية. ثم جلس على عرفة هناك، وجعل يقلب طرفه بين هذا وذاك. فلما طال أمد الانتظار قال: أظنها تنتظرني في الدار. فهل لك أن تصحبني إلى الرصافة، وتؤنسني الليلة بالضيافة فقلت: إني على ما تريد، وسرنا وهو يقول: أسعد أم سعيد، حتى انتهينا إلى باب حديد، وإذا ليلى بالوصيد. فلما رآها تهلل وجهه بشراً، وأنشد يقول شعراً: حييت يا ليلى ابنة الخزام ... كريمة الأخوال والأعمام

أصبحت في مدينة السلام ... غريبة الموطن والكلام! ما زلت لي عوناً على الأيام ... تمهدين سبلي أمامي وتنفرين الصيد في الآجام ... حتى يكون غرض السهام وإن كنت من ربائب الخيام ... فالسر في الشراب لا في الجام رب ابنة أنفع من غلام قال: ولما فرغ من أبياته أدخلنا إلى البيت، وأفاض في حديث أشهى من

المقامة التاسعة وتعرف بالحلبية

حلبة الكميت. فبتناها ليلة كأنها ليلة القدر وأحييناها بالحديث حتى مطلع الفجر ومازلنا كذلك حتى فرق بيننا الدهر. المقامة التاسعة وتعرف بالحلبية أخبر سهيل بن عباد قال: كان لي صديق بظاهر الشهباء ينتمي إلى العرب العرباء. وكنت وإياه كالماء والراح، أو كنديمي جذيمة الوضاح. فحضرتني منه ذات يوم بطاقة، يطالبني فيها بحق

الصداقة. ويطلب أن أبادر إليه ببعض الأشربة مما وصفه له بعض أهل التجربة. فساءني ما به من توعك المزاج، وأشفقت من تأخر العلاج، فبادرت برقعته الواصلة، إلى سوق الصيادلة. وأخذت له ما أراد كما يريد، وانطلقت إليه أعدو كخيل البريد. وبينما أنا أجري مليحاً، وأقعد طليحاً. لمحت شيخنا الخزامي وابنته بجانب الطريق، ولديهما فتى قد لبس البياض وتختم بالعقيق. فوثبت كالظبي المقمر إليه، حتى أقبلت عليه. فتقدمت، ثم سلمت. فأجابني بالفارسية، وأعرض عن تمام التحية. فقلت هذه إحدى مكايده. قد جعلها من مصايده. وطويت عنه كشحاً، وضربت صفحاً. فتماشيت القهقرى، وتواريت بحيث أرى ولا أرى. فرأيت الشيخ قد أشاح بوجهه عن الجارية والغلام، وجعل يدمدم بلغة الأعجام. والفتى يخالس الجارية النظر؛ ويغازلها على حذر. فقالت: إن صاحبنا أعجم طمطم، لا يفهم ولا يفهم. وقد لقيته وفاقاً. لكنني أرى عينه قد

طمحت إلي، فلا يزال حوالي. وهو يعرض لي طوراً بصرة، وتارة بدرة. وأنا أنفر منه كالناقة الهوجاء، ولا أنبس له بحوجاء ولا لوجاء. فقال: ساء فأل المخنث! إنه لأحمق من شرنبث. أفلا نصرفه إلى حيث يعود الذيب ونرفع ثقل منظره المذيب؟ فقال: أشار إلي بأنه قد أعياه الصداع، ولو كانت لي سكاب لما قلت لا تعار ولا تباع. فأشار إلى برذون له أطير من عنقاء مغرب وقال: نعم القتيل بجير إن أصلح بين بكر وتغلب. فأركبته ذلك البرذون

الأدهم وقالت: اذهب إلى حيث ألقيت رحلها أم قشعم. فلما خلا الفتى بالجارية قال لها: أبشري، خلا لك الجو فبيضي وأصفري. لكنني قبل ذلك أريد أن أطلع طلع حالك. فقالت إنني فتاة كريمة الأصل، قليلة الأهل لا أب لي ولا بعل. وقد سئمت من طول حبسي، وتولي أمر نفسي، فإن كان لك أرب في النساء، فاتبعني لآخذ ما لي من الأشياء، وأتبعك إلى حيث تشاء. قال: أفعل وكرامة، ونهض معها راكباً جناحي النعامة. قال سهيل فأذهلني ذلك الطويل العريض، عن الدواء والمريض. ورجعت أدراجي في أثر الصاحبين حتى دخلا البيت البيت كالفرقدين. فأخذ الفتى يرزم ما لها

من الحطام، وخرجت لتحضر ما تيسر من الطعام. وإذا بأبيها قد هجم هجوم الأسد، على النقد. وقال: ويلك يا عدو الله ما كفاك أن تكون فاسقاً حتى صرت سارقاً فلأقيمن عليك الحد والقطع، ولأجعلنك عبرة إلى يوم الجمع! فطارت نفس الفتى شعاعاً، واستطار فؤاده ارتياعاً! وجعل يتهطر لديه بالسؤال، ويدمث له المقال والشيخ يشمخ بأنفه، ويهز من عطفه، ويرمح برجله ويشير بكفه فكاد الفتى يذوب من الحياء، وظن أن صاعقة هبطت عليه من السماء، فانقاد إليه انقياد الأسير، وقال: قد فديت نفسي بهذه الدنانير قال: قد قبلتها منة الكرام، على أن لا تتعرض لبنات الأعجام. فذهل الفتى عن معرفته بالتلميح، وما صدق أن أطلق ساقيه للريح، فمضى ينهب الطريق، والشيخ من خلفه يهدر كالفنيق. حتى إذا ثاب إلى الوقار، وقف بعرصة الدار. وأنشد: يا هل ترى أين سهيل يطلع ... يا ليته كان يرى ويسمع

يرى الفتى مهرولاً يندفع ... تكاد تذريه الرياح الأربع أعطاني البرذون وهو يطمع ... في وصل ليلى، لا هناه المضجع! سبقته عليه فهو أسرع ... لكنه بالماء ليس يقنع فقمت أبتغي له ما يشبع ... لكن بدون المال ماذا أصنع؟ وإن يكن نال الفتى ما يجزع ... منه فقد نال به ما يردع والنصح من وصل البنات أنفع قال سهيل: فبرزت من الوكنة التي كمنت فيها، وأنشدت بديها هذا سهيل طلعا ... وقد رأى وسمعا أنسيته المريض وال ... دواء والداء معاً أنت صديق لم يدع ... لمن سواه موضعاً فقال: أهلاً بأبي عبادة، متى عهدك بالشهادة؟ قلت: منذ عهدك بالفارسية التي نلت منها السعادة. أفلا تعلمني هذا اللسان، لأستغني معك عن ترجمان؟ قال: أراك تستبيح قطع الأرزاق، فليس لك عندي من خلاق، يعدو كالبرق أو كالبراق.

المقامة العاشرة وتعرف بالكوفية

المقامة العاشرة وتعرف بالكوفية حكى سهيل بن عباد قال: كلفت منذ الصبا بعلم الأدب، وشغفت باستقراء لغة العرب. فكنت أنضي إليها المطايا، وأتفقد الخبايا في الزوايا. حتى كنت يوماً بالكوفة وأنا أتعهد معاهدها المألوفة وأشهد مشاهدها الموصوفة فمررت بعصبة من العلماء كأنهم من بني ماء السماء. وهم قد جلسوا إلى شيخ أغبر الشيبة، أبلج الهيبة. وهو يشير تارة بالبنان، وطوراً بالصولجان. فجعلت أروح تلقاءهم وأجي، وأقول ليس هذا بعشك فادرجي. حتى حذتني القطربية،

على الأشعبية. فألقيت دلوي في الدلاء طمعاً في اجتلاء الجلاء. وتطفلت على تلك الحصرة الجلى وإن كنت ممن عبس وتولى. فلما تخللت المقام حييت القوم بالسلام، وتفرست في الشيخ فإذا هو ميمون بن خزام. فقلت: لله الأمر كله، قد عرف النخل أهله! وجعل القوم يخوضون في حديث العربية، ومسائلها الإعرابية. حتى حلت الحبى، وبلغ السيل الربى. والشيخ ينظر من طرف خفي إلى الناس، والقلم في يده يجري على قرطاس. إلى أن نفد ما عند الجماعة من أسرار الصناعة. وهم يرون أن يلتقط اللآلي، وينظم في سمط الأمالي. فقالوا: أيها الشيخ نراك تجمع، مما تسمع قال: إن لكل ساقطة لاقطة.

ولكن أريد أن تنظروا ما كتبت، لتروا هل أخطأت أم أصبت. فتناولوا الرقعة بديها، وإذا هو يقول فيها: ما الفرق بين التمييز والحال، وبين عطف البيان والإبدال وأين يستوفى حق الإسناد، ولا يخرج يركنيه عن حكم الإفراد؟ وأي الضمير، يتردد بين التعريف والتنكير وأين يراعى ما يقدر، ولا يبالى بما يذكر؟ وأي اسم يجتمع فيه خمس من موانع الصرف، وأي لفظ يشارك الاسم والفعل والحرف؟ وفي أي

الأماكن، يجتمع ثلاثة من السواكن؟ وأي فعل يعطى ما للأسماء ويمنع مما للأفعال؟ وأي اسم يجري مع قبيلته على هذا المنوال؟ قال: فلما وقفوا على تلك المسائل، رأوها من المشاكل. فقالوا له: لله أنت، فقد أحسنت ولكن لو أبنت فعبس، حتى ما نبس، وصارت مقلتاه كالقبس، فأشفقوا من غضبه، وسألوه عن محتضبه. فقال: قد تكلفت لكم الخطاب، ثم أتكلف الجواب، والعلي فوق ذلك أتكلف لكم الثواب. قالوا: لا وأيدك الله بل إن جئت بالبينة السافرة، وجلوت الشرود النافرة، فالنقد عند الحافرة. فلما آنس الندى، ووجد على النار هدى. فتح خزانة أسراره، وسمع بمكنونات أفكاره. حتى امتلأت حقائب الملا، وقالوا: هكذا هكذا وإلا فلا بيد أنهم مالوا إلى استملاء ما أبان، حرصاً على ثباته في الأذهان. فقال: اكتب يا سهيل، واندفق في إملائه كالسيل. حتى إذا أترع

الكؤوس، وقاد الشموس بالشموس قال: لا مخبأ لعطر بعد عروس. ثم أشار إلي وأنشد: العلم خير من صلاة النافلة ... به إلى الله العباد واصله فاحرص عليه والتقط مسائله ... ودع كنوز المال فهي باطله ولا تبع آجلة بعاجلة ... ولا تضع واصلة بحاصلة واعرض عن الليلة نحو القابلة ... فذاك مشرب الثقات الكاملة وليس خير في النفوس العاقلة ... إن غفلت عن القلوب الغافلة والناس إن كانت طغاماً جاهلة ... فما يكون الفرق يا ابن الفاعلة بين الرجال وبغال القافلة

المقامة الحادية عشرة وتعرف بالعراقية

قال: فلما فرغ من سحره السحري، انهال عليه الشمسى والقمري، فأشار نحوي وقال: اسق أخاك النمري. قالوا: علم الله أن سيكون ولكن السابقون السابقون. حتى إذا قضوا فريضته المكتوبة، عادوا إلى سنتي المندوبة. فخرجنا نجر الذلاذل، ونحمد البذل والباذل. المقامة الحادية عشرة وتعرف بالعراقية حدثنا سهيل بن عباد قال: دخلت مجلس أمير العراق، وقد

غص حتى التفت الساق بالساق. فسلمت تسليم الأريب، ووقفت موقف الغريب. حتى إذا ركد النسيم، وصفت الكأس للنديم. دخل شيخ أغبر الناصية، عليه شعار البادية، وهو قد أخذ بيد فتى ترف البنان كأنه من ولدان الجنان. وقال: أيد الله الأمير، وأبد له السرير. إن هذا الغلام سرق نصف أبيات مدحت بها بعض الأمراء، فتحول المديح فيها إلى الهجاء. ولما بلغته أمر بحبسي إلى أن يسر الله لي بالإطلاق وقد كدت أقتل نفسي. فعليه حق الجناية وقطع السارق وعليك تأديب كل طاغ وفاسق. فقال الأمير: يا هذا قد تقرر في علم الأصول، أن الدعوى لا تصح في المجهول فهات أبياتك التي أغار عليها، فأنشد يقول: إذا أتيت نوفل بن دارم ... أمير مخزوم وسيف هاشم وجدته أظلم كل ظالم ... على الدنانير أو الدراهم وأبخل الأعراب والأعاجم ... بعرضه وسره المكاتم لا يستحي من لوم كل لائم ... إذا قضى بالحق في الجرائم

ولا يراعي جانب الكارم ... في جانب الحق وعدل الحاكم يقرع من يأتيه سن النادم ... إذ لم يكن من قدم بقادم إن الشقي وافد البراجم ... وضيف نوفل كضيف حاتم قال: فكيف سرق وعلى أي نسق قال: قد أخذ أصحاب الشمال ونبذ أصحاب اليمين فقال كمن يقرأ مشجر الصين: إذا أتيت نوفل بن دارم ... وجدته أظلم كل ظالم وأنجل الأعراب والأعاجم ... لا يستحي من لوم كل لائم ولا يراعي جانب المكارم ... يقرع من يأتيه سن النادم إن الشقي وافد البراجم

فقال الأمير: أولى لك يا غلام كيف سللت الملح من الطعام؟ قال: كلا إنني ما أنشدت إلا لنفسي، ولا جنيت إلا من غرسي. فإن سلم بتوارد الشاعرين، فقد سقطت الدعوى عن الفريقين. وإلا فلا يتعين السارق حتى يتعين السابق. قال: فأنف الشيخ من ذلك المراء. وقال: ويحك هل أنت من الشعراء؟ قال: عند الامتحان، يكرم المرء أو يهان. قال: إن كنت من أهل الأدب، فما هي أبحر الشعر عند العرب؟ فأنشد: أطل مد وابسط فر وكمل كهازج ... وأرجز برمل وأسرع اسرح مخففاً وكن ضارعاً واقصب من اجتث واقترب ... برمز لنا عن أبحر الشعر قد كفى

قال: قد وفيت الفروض، فهل تعرف أجزاء العروض؟ فأنشد: جميع أجزاء العروض حاصلة ... من سبب ووتد وفاصله يصاغ منها كلمات أحرف ... تجمعهن معلنات يوسف قال: قد جئت بالجواب الشافي، فهل تعرف ألقاب القوافي؟ فأنشد: إن رمت ألقاب القوافي كلها ... فهناك خمس لا يليها سادس هي عندهم: مترادف متواتر ... متدارك متراكب متكاوس قال: وهل تعرف ما للقوافي من الأجزاء وما لأجزائها من الأسماء؟ فأنشد: إذا رمت أجزاء القوافي فسل بها ... خبيراً يجيد القول حين يقول

رويٌّ ووصلٌ والخروج وراءه ... وردفٌ وتأسيسٌ يليه دخيل قال: وهل تعرف حركات القافية، ما هيه؟ فأنشد: حركات قافية نظير حروفها ... ستٌّ: بها المجرى عددنا أولاً ثم النفاذ وحذوها والرس وال ... إشباع والتوجيه فاحفظها ولا قال: حياك عالم الغيوب فهل تعرف ما للقوافي من العيوب؟ فأنشد: عاب القوافي إكفاء وإقواء ... إجازة ثم إصراف وإيطاء كذاك تضمينها التحريد مجتنب ... ومثل ذاك سناد وهو أنحاء

قال: أراك تحسن الجواب في الحال، فما أبرئك من انتحال. فإذا كنت شاعراً فقل أبياتاً تمدح الأمير فيها، قال: بل أهجوك: وأنشد بديها: قل لهذا الشيخ الخزامي: صبرا ... قد توسدت من هجائي جمراً ذلك الخمر بيننا صار خلاً ... وبعيدٌ أن يرجع الخل خمراً يا خزام البعير ليس خزام ال ... روض إن الخزام يعبق نشراً أنت ميمون أمة الترك لا ميمو ... ن عرب فاليمن منك تبراً كنت ترجو من الأمير هبات ... وأنا قد أخذتها منك جبراً لا ترم بعدها خضاباً لشيب ... فالمخازي تسود الشيب دهراً

إن رأيت الغلام يسحب ذيلاً ... من غناه، وأنت تسحب فقراً لا تقل أنت سارق لي مالاً ... مثلما قلت سارق لي شعراً فأقسم الأمير بالسقف المرفوع، أن الغلام لشاعر مطبوع. وقال: أشهد أن هذا الشيخ قد تجنى عليك، وأساء بما نسبه إليك. فخذ هذه الدنانير، جبراً لقلبك الكسير، وإن شئت أن تقيم بداري فأنت أكرم أنصاري. قال: أنا على ما تروم، إن انتصفت لي من هذا الظلوم، بأن لا يفوه بعدها بمنظوم، فلما رأى الشيخ صبح ليلته ومساءها، ظن أن وراء الأكمة ما وراءها. فانتصب كثالثة الأثافي، وقال: أريد أن أودع القوافي. وأنشد:

قد فسد الدهر لطول الأمد ... فلا يسود فيه غير الأمرد إن الفتى قد جد لي في اللدد ... إذ ليس لي من سند أو عضد شكوته إلى أمير البلد ... وقد رجوت أن يكون منجدي فكان خصماً مثله لم أجد ... كأنما قطعت رأسي بيدي لئن منعت عن قريض المنشد ... فالنثر أشفى لغليل الكبد وإن تجاوزت العراق في غد ... فكن لركبان السرى بمرصد إن حملت شعري لأهل المربد قال: فكأن الأمير أفاق، وأشفق من التنديد به في الآفاق. فقطع لسان الشيخ بنصاب، وقال: هذا أيسر ما به نصاب. ثم قال له: دع التهم بينك وبين الفتى، فليذهب أمامك من حيث أتى. فانصرف الشيخ والفتى يتضاحكان، كأن لم يكن بينهما شيء مما كان. قال سهيل: وكنت قد تبينت أن الشيخ صاحبنا ابن الخزام، فهرعت على أثره لأنظر ذلك الغلام. وإذا به قد ناوله الدنانير، وقال: اشكر نعمة الأمير،

فعجبت من استحالة تلك الحالة. وقلت: سرعان ذا إهالة. فابتدرني الشيخ بالسلام وهنأني بالسلامة وقال: أهلاً بأبي عبادة الذي لا تفوته مقامة! قلت: بل أهلاً بالمقعد المقيم، فما هذا الملك الكريم؟ فاهتز اهتزاز المهند، وتبسم لي وأنشد: هذا غلامي بل أنا غلامه ... يا طالما أفادني استخدامه! ينفعني في منزلي قيامه ... وفي الدجى يؤنسني كلامه وفي السرى يسعفني اهتمامه ... حتى إذا أعوزني طعامه سعى بسد خلتي خصامه ثم قال: أنت راويتي وشاهدي، وجليسي في مشاهدي. فلك أن تشاركني في العطاء ولكن عليك أن تحمل عني شطر الهجاء. قلت ليس من هجاك إلا كمن هجاء الورد، فعليه كل هجائه ولا شريك له من بعد. قال: قد أحسنت الجواب وإن لم يصب موضعه، فخذ هذه

المقامة الثانية عشر وتعرف بالأزهرية

النحلة وادع لي بالفلاح والسعة. فودعته مطنباً بشكره متعوذاً من مكره. المقامة الثانية عشر وتعرف بالأزهرية حكى سهيل بن عباد قال: شخصت إلى القاهرة من بلاد الشام، في ركب فيه ميمون بن خزام. فكان يحملنا بحديثه في المراحل، وينسينا لغب السير في المنازل، حتى تبطنا السرى في ليلة حالكة الأديم، وقد قدرنا القمر منازل حتى عاد كالعرجون القديم. فشمذنا إزار السفر، وأوغلنا في تلك القفر. وما زلنا نخبط في ذلك الديجور الأربد، حتى تبين لنا الخيط الأبيض من الخيط الأسود. فمالت أعناق الناس، من النعاس. وأشفق الشيخ من

طوارق البادية، فأراد تنبيه الأعين الساهية. فانتدب سجيته السيطرة، ورفع عقيرته الضبطرة. وأنشد يقول: أيها الراكب الميم مصراً ... ألق سمعاً فللحديث فنون دون مصر عين وعين وعين ... قام فيها نون ونون ونون قال: فطارت السنة من الجفون، بين تلك العين والنون وتحدث القوم بما يكون وما لا يكون. هذا وقد أخذت المطايا في الذميل، وهي تقطع ميلاً بعد ميل، حتى وردت ماء النيل، فتهلل وجه الشيخ ميمون، وقال: هذه عين يشرب بها عباد الله ويسبح فيها النون. فقال القوم: قد فتح الشيخ لنا الباب، فليتذكر أولو الألباب. قال: إذا ألقينا العصا فسنفتح أبواباً أخرى. وسنجعلها للناس تبصرة وذكرى. قال: وما زلنا نستقبل المقبلة ونستدبر الدابرة، حتى دخلنا مدينة القاهرة. فلما أصبحنا دعاني الشيخ إلى ما أراد، وخرجنا نستن كخيل الطراد. حتى أتينا الجامع الأزهر، فأوحى إلي ما أوحى وقال: اصدع بما تؤمر. فمكثت

ريثما دخل المقام، وفرغ من السلام. ثم دخلت فحييت القوم، فقام مسلماً علي كأن لا عهد بيننا مذ اليوم. ولما استقر بي القرار أشار إلي، وقال: مهيم يا بني؟ قلت: قد هجمت بي على هذا المجلس، رقعة كصحيفة المتلمس. فإن كشف لي هذا النادي حجابها المستور، وإلا فقد يئست منها كما يئس الكفار من أصحاب القبور. قال: اقرأ باسم ربك الذي خلق، فكم ركب هنا مثلها طبقاً عن طبق. فقرأتها أقول: سمحت في الشام بألف كامل ... مقتبساً مسألة من سائل يقول: أي اسم بغير طائل ... يركب في التركيب متن الباطل ليس بمعمول ولا بعامل ... وربما أفاد غير العاقل فوق إفادة اللبيب الفاضل ... وقد جعلت مثل ذالك النائل لمن يجيء بالجواب الفاصل قال: فأطرق كل من حضر، ولم يقفوا على خبر ولا خبر. وجعل الطلبة

هنالك، يخبطون في ليلها الحالك. والشيخ يعجب منها ويعجب، ويعظم أمرها ويطنب. فقال الأستاذ: إني قد جعلت على نفسي ما جعل هذا الشاعر، فإن الفوائد تشترى بالذخائر. فترنحت أعطاف الشيخ ابتهاجاً بالظفر، وقال: إن الناس يستنزلون البدر بالبدر، ثم أنشد يقول على الأثر: قل يا ابن عباد لهذا السائل ... ذاك اسم صوت شاع في القبائل وهو من الأغفال والعواطل ... لا يبتنى منه كلام قائل وإنما تركيبه في الحاصل ... مزج بما قدم في الأوائل فهو مع التركيب غير قابل ... لنحو مفعول به أو فاعل ويستفيد منه قلب صاهل ... ما ليس قلب ناطق بشاغل فلا تكن عن حفظه بغافل قال: فعظم الشيخ في أعين الجماعة، لما رأوا عنده من البراعة. وقالوا: لقد

حق لك الثواب، إن كنت مبتكر الجواب. فاستشاط من الغضب، حتى كاد يخرج عن الأدب. وقال: يا هؤلاء قد رميتموني بسهم إن أصاب جرح، وإن أخطأ فضح. فلأركبن معكم ما شئتم من المسائل، ليحق الله الحق ويبطل الباطل. فقال أحدهم: إنني مشتغل بعلم العروض فهل لذلك عندك من عروض؟ قال. اللهم نعم ما الفرق بين المعاقبة، والمكاتفة والمراقبة؟ وما الفرق بين ما تم من الأبيات وما وفى، وبين المصرع منها والمقفى؟ وأي بحر يستبيح أجزاء صاحبه ولا حرج عليه، فإن اختلس منه صاحبه جزءاً سيق برمته إليه؟ فأجاب الرجل

بعض الإجابة وهو يمزج الخطأ بالإصابة. ولما رأى الأستاذ عكس القضية، ثارت به الحمية. فقال للشيخ: إن كنت من علماء اللغة فكم هي مخارج الحروف، وما هي صفاتها التي يتميز بها الموصوف؟ وماذا يمنع

الإدغام والإعلال، بخلاف القياس في الأفعال؟ ولماذا يكتب نحو اصطفى بالياء، وقد كتب مجردة بالألف الملساء؟ فقال الشيخ: إن أخطأت في الجواب فليس لي عندكم شيء، وإن أصبت زتموني أرش جنايتكم علي. قال: قد أحسنت في الشرط والجزاء فأنا على ما تشاء. فأفاض الشيخ في شرحه حتى شرح الصدور، وقال: هل يستوي الأعمى والبصير أم هل تستوي الظلمات والنور؟ ثم اعتمد على عصاه، وقال: أستودعكم الله! فنهض إلى وداعه الأستاذ الكبير، وألقى في ردنه صرة من الدنانير. فخرج يجر الذيل، وقال: هلم يا سهيل. فلما صرنا بمعزل قال: قد حملت رقعة المسألة، واستفدت حل المعضلة! أفتبغي أن يبذل كل لصاحبه ما عليه، أم نطرح الحساب من طرفيه؟ قلت: كلاهما خطر، فلك النظر. قال: أنت ضيفي ما دمنا في هذه البقعة،

المقامة الثالثة عشرة وتعرف بالتغلبية

فلا حاجة لك بدينار ولا قطعة. قال سهيل: فمكثت حيناً من الدهر وإياه، أتيمن بهلال محياه، وأتعلل بزلال حمياه. إلى أن حلت الشمس برج الأسد، ففارقني فراق الروح للجسد. المقامة الثالثة عشرة وتعرف بالتغلبية قال سهيل بن عباد: شخصت في نفر من أهل العالية، إلى أطراف تلك البادية. فسرنا لا نألو جهداً، ولا نعلو مهداً. حتى تبطنا مفازة قد ضربت أساهيجها الريح، كأنها أهاجيج شق أو سطيح. فأرسلنا إبلنا العراك، وأخذنا في الرسيم الدراك.

وبينما نحن كذلك إذا فرسان قد أشرعوا العوامل، ونادوا: يا لتغلب ابنة وائل! فما كان إلا كرجع النفس، أو لمع القبس. حتى أحاطوا بنا إحاطة الأسورة بالمعاصم، وقالوا: لا مانع لكم اليوم من أمر الله ولا عاصم. فسرنا بينهم كالنعاج بين الذئاب، حتى انتهينا إلى حلة كثيرة الخيام والقباب، مكتظة بالخيل والركاب. فطرحونا إلى سرادق كقبة نجران، فيه شيخ كعبد المدان، على قصعة

كجفنة عبد الله بن جدعان. وحواليه حلقة من ذوي البوسى، كأنهم من بقايا قوم موسى. فبتنا نجص في الرباط عند القوم، وأنا لم تأخذني سنة ولا نوم. حتى أوشك صبغ الليل أن يحول، وإذا بجانبنا قائل يقول: يا ليل قد طلت فهل مات السحر ... أم استحالت شمسه إلى القمر؟ طلت على شيخ قليل المصطبر ... قد بات في القيد، كما شاء القدر! يا ليت قومي يعلمون بالخبر ... وليت ليلى نظرت هذا النظر يا أيها الظالم كن على حذر ... كل صغير وكبير مستطر من شاء فليؤمن ومن شاء كفر قال: فلما توجست هذا الكلام، تنسمت منه نسيم الخزام. فقلت:

قد سطعت ريح الخزام ليلاً ... فأدركت من فورها سهيلا عسى تفيد بعد ذاك سيلا فقال: الله أكبر، قد هان علي الموت الأحمر. قلت: نفسي فداء نفسك، فكيف أمر حبسك؟ قال: أخذت من أرض الجزيرة، على غير جريرة، والله أعلم بالسريرة. وإذا رجل قد تخلل إليه الأسرى، كأنه من آيات ربه الكبرى، وقال: هيهات لا تغني نفس عن نفس شيئاً ولا تزر وازة وزر أخرى. ثم أخذ بيده وقاده كالبعير، حتى وقفه بحضرة الأمير. فتلقاه الأمير بالوجه العبوس، وقال: أف لك يا أشأم من البسوس! أتهجو

العرب الذي منهم أخذ الشعر والخطاب؟ وعلى كلامهم بني التصريف والإعراب. ومنهم تعلمت الناس الفصاحة، واجترأت الكرام على

السماحة. وهم ضراب السيوف، وشراب الحتوف، وقراة الضيوف، وحباة الألوف، وحماة السجوف. وآثارهم في الحذاقة والكرم، وحفظ الجوار والذمم، أشهر من نار على علم. فكيف استطعت أن تقول للصبح يا ليل، وللشمس يا سهيل؟ قال سهيل: وكنت بمرأى من ذلك ومسمع، فقلت للحارس: إن الأمير يدعوني فلا تمنع. فأطلقني وهو يرعاني حتى دخلت في الجماعة، وإذا الأمير يقول: هات أبيات الشيخ يا أخا قضاعة. فقام فتى بين المحشد، ونظر إلى الشيخ وأنشد: من رام أن يلقى تباريح الكرم ... من نفسه فليأت أجلاف العرب ير الجمال والجلال والخشب ... والشعر والأوبار كيفما انقلب أسرق أهل الأرض عن أم وأب ... وأسمج الناس وأخزى من نهب

لا تعرف الأقدار فيهم والرتب ... ولا يبالون بأحرار النسب لكن يغرون على حفظ النشب قال: فصفق الشيخ عجباً وأقسم بتربة نزار أنهم ممن يحرفون الكلم عن مواضعه ويبدلون الجنة بالنار. قال: إن يبغ عليك قومك لا يبغ عليك القمر، فهات ما صح عندك من الأثر. فأنشد يقول: من رام أن يلقي تباريح الكرب ... من نفسه فليأت أحلاف العرب ير الجمال والجلال والحسب ... والشعر والأوتار كيفما انقلب أشرف أهل الأرض عن أم وأب ... وأسمح الناس وأجرى من يهب لا تعرف الأقذار فيهم والريب ... ولا يبالون بإحراز النشب لكن يغارون على حفظ النسب قال: فسرى غضب الأمير وأمسك عن التعنيف، وجعل يعجب من

ذلك التصحيف والتحريف: فقال: يا مولاي حاشا أن أهجو قومي الذين منهم حسبت، إليهم نسبت. وبهم يشد أزري، ويستقيم أمري. قال: فما أنت وعرب القفار، وما عندك لهم من الآثار؟ قال: عندي ما أحببت، فلا تسأل عن شيء إلا أجبت. قال: هل تعرف مشاهير العرب الذين ترسل بهم الأمثال؟ قال: اللهم نعم، وأنشد في الحال: من أشهر الأمثال في القبائل ... عزة ذي الحمى كليب وائل وطلب الثأر إلى المهلهل ... ينسب كالوفاء للسموأل

ورأي قيس مثل جود حاتم ... شاع وفتك الحرث بن ظالم

وحلم معن وهو ابن زائده ... وقس ذو الفصاحة ابن ساعده

وشاعت الحكمة عن لقمان ... وهكذا الخطبة عن سحبان واشتهرت فراسة الأفراس ... عن عامر والحذق عن إياس

والحضر يعزى لسليك السلكه ... وحيلة القصير نعم الملكه

وهكذا رواية ابن أصمع ... تذكر والجمال للمقنع واشتهر الحزن عن الخنساء ... مثل اشتهار بصر الزرقاء

قال: حياك من كور النهار على الليل، فهل تعرف مشاهير الخيل؟ فأنشد: أشهر خيل العرب: المشهر ... ثم النعامة التي لا تنكر وداحس منهن والغبراء ... كذلك الخطار والحنفاء وأعوج ولاحق سكاب ... كذلك العبيد والعقاب كذا العصا وأمها العصيه ... وكم لهم أماً وكم بنيه قال: قد أحسنت في الإعراب، فهل تعرف أبيات الأعراب؟ فأنشد: خباء صوف ويجاد الوبر ... وقشع جلد سترة من مدر وخيمة الغزل وفسطاط الشعر ... وقبة اللبن حظيرة الشجر وهكذا الطراف من أديم ... تنزلها العرب من القديم

قال: إن كنت من أهل هذا المقام، فهل تعرف ما لهم من ألوان الطعام؟ فأنشد: بعض طعام العرب الرغيده ... رهيدة لهيدة نهيده وضيعة ربيكة لبيكه ... حريقة سهيكة وديكه وزيمة سخينة فيحاء ... حريرة خزيرة حساء مضيرة عبيثة ثريد ... وحسبنا هذا فلا نزيد قال: وهل تعرف ما لهذه الأطعمة، من الآنية المفعمة؟ فأنشأ يقول: آنية الطعام عند العرب ... أعظمها دسيعة في الرتب فجفنة فقصعة تعد ... فصفحة مثكلة من بعد ففيخة لواحد مقدره ... وفوقه ما فوقها للعشرة

قال: وهل تعرف هذه المسألة الباقية، عن أزلام الميسر في البادية؟ فأنشد: فذ وتوأم قيب نافس ... والحس والرابع قيل الخامس كذلك المسبل والمعلى ... مما على النصيب قد تولى ثم السفيح والمنيح الرغد ... ليس لها إلى النصيب رشد قال: فعجب الأمير من جريه هذا المجرى، وقال: قد كذبت من قال صاحب البيت أدرى. فلا جرم أنك من صميم العرب العرباء، وأبلغ من تحت الجرباء. ولقد جنينا عليك بما أسرناك، فاعذرنا كما

عذرناك، ثم أمر بالطعام، وقال: كيف أنت والمدام؟ قال: إذا أصابت الظباء الماء فلا عباب، وإذا لم تصبه فلا أباب. على أني لا أزدرد الطعام السلجلج، ولا أسيغ اللبن السملج. ما لم تكن يد غلامي قبل يدي، فإنه بمثابة ولدي. قال سهيل: وكنت قد أضمرت الفرار، إذا تعذر القرار. فلما آنست صفو الكأس، برزت من موقفي بين الناس. فدعاني الأمير إلى بساطة، وأقبل علي بانبساطه. وأقمنا عنده ثلاثاً من الليالي، أنقى من اللآليء. حتى إذا أزمعنا السفر، ودعنا النفر. قال للشيخ: نحملك كما حملناك على الأدهم، فدونك هذا الجواد المطهم. قلت: مثل الأمير من حمل على الأدهم والأشهب، فإني أذهب كما يذهب. قال: قد رجبت لكما العطية،

المقامة الرابعة عشرة وتعرف بالهزلية

فضلاً عن المطية. فخرجنا بالخيل والمال والزاد، ونحن نذم المبدأ ونحمد المعاد. المقامة الرابعة عشرة وتعرف بالهزلية حكى سهيل بن عباد قال: كان لي زوجة صناع اليدين، كريمة النبعتين. فحسدتني عليها المنون، وخانني فيها الدهر الخؤون. فلبثت بعدها طويلاً، أردد زفرة وعويلاً، وأنوح بكرة وأصيلاً. حتى حال عليها الحول. وآلت الفريضة إلى العول. فناجتني الحوباء، أن أستبدل ما طالب لي من النساء. ولما لم أجد في الحي، من تروق بعيني. أزمعت الاغتراب، وبكرت بكور الغراب.

فهملجت سحابة النهار، على هملعة عبر اسفار. حتى إذا جنح الظلام رفرف، نزلت بقاع صفصف، في خلال نفنف. فبينما ألقيت وسادي، وتلقيت مائي وزادي. سمعت غطيطاً كأطيط البعير، وزفرات تتصاعد كالزفير. فجنحت عن القمر، إلى السمر وأخذت لنفسي الجذر. ولبثت أتنكب الغمض، وأقلب طرفي بين السماء والأرض. وإذا جارية قد تنهدت، ثم أنشدت: هل من سبيل لي إلى العتاق ... من رق ظلم أو إلى الإباق ما زلت من ذلك في وثاق ... تكاد روحى تبلغ التراقي أطوي على الطوى من الإملاق ... حتى إذا امتدت دجى الأغساق أضوى إلى شيخ جو خفاق ... واهي القوى منهتك الصفاق

ذي الحية أثيثة الأعراق ... تضربها الرياح في الافاق تلبدت طاقاً وراء طاق ... كأن فيها مربض النياق منها دنار الليل حتى الساق ... وظلة النهار كالرواق يجري عليها رمض الآماق ... ووضر المخاط والبصاق حتى ترد المشط بالإزلاق ... فهل كريم النفس والأخلاق يحتال لي بفرجة الطلاق ... وهبته ما لي من الصداق وزدته ثوبي إلى النطاق قال سهيل: فافتتنت بفصاحتها، ولم ألتفت إلى قيد ملاحتها. وقلت: لا جرم أنه قد خازمني التوفيق، من معاجيل الطريق. فأنشدت: الحمد لله وبالله الثقة ... قد صادق الكحل سواد الحدقة واهاً لهذي الطرفة المتفقة ... إن لم نقل وافق شن طبقة فإننا أحمق من هبنقة

قال: وإذا بالشيخ قد استوى، وقال: ما ضل صاحبكم وما غوى وما ينطق عن الهوى. ثم أنشد يقول: قد علم الله الذي له البقا ... لو ترك الدهر لكفي رمقاً

لم تبق إلا ريث أن تطلقا ... ولم تجد عندي فؤاداً شيقاً ولا ذكرت جيدها المطوقا ... ولا جبينها النقي اليققا ولا سواد عينها ذات الرقى ... ولا محياها الجميل الطلقا ولا حديثها وذاك المنطقا ... لكن لها علي مهر سبقا ومهر أخرى بعدها قد لحقا ... فإنما الإنسان زوجاً خلقاً فإن أر المهرين عندي غسقا ... طلقتها والصبح لم ينبثقا لا عيش للزوجين لم يتفقا ... ومن تراه معرضاً قد وثقا بالهجر فاهجره إلى يوم اللقا قال: فاستفزتني أبيات الشيخ فرحاً، حتى كدت أصفق مرحاً. ولم

أتمالك أن دلفت إليه دلفة من تيمن، وقلت: حيا الله الشيخ فمن أنت وممن؟ قال: أنا المبارك بن ريحان، من بطون قحطان. وإني لأرى الفتاة قد شغفتك حباً، وخلبت منك لباً. فإن كنت تملك النقدين، فابذل اللجين، واغتنم قرة العين. قال: فهل علي الوجد بذل الجدة، ونفحته بما معي حتى أفعم ردنه ويده. فأشهد عليه الله والملائكة المقربين وقال لي: بالرفاء والبنين! فلما طرحت النقد، واستبحت العقد، أردت أن أتحول بأهلي، إلى رحلي. فقال: حاشا لك أن تتركني الليلة سمير الفرقدين، ولكن غداً تذهب أنت بالعروس وأنا بخفي حنين. فبت عنده بليلة

الملسوع، وعيني لا يأخذها الهجوع، حتى آذن الصبح بالطلوع. فتبينت وإذا الفتاة ليلى الخزامية والشيخ أبوها ميمون، فقلت أنا لله وأنا إليه راجعون. ما أرى بعل هذه الصبية، إلا كعكاش بعل طمية. فاستغرب الشيخ في الضحك، ثم أنشد غير مرتبك: سلاماً يا ابن عباد سلاماً ... أكهلاً قمت فينا أم غلاماً؟ أريتك إن ملكت طلاق ليلى ... فهل عقد ملكت به الزماما؟ عروس ليس تخلو من خداع، ... وقد لا تعدم الحسناء ذاما فطلقها، كما طلقت، واعلم ... لقد جعلت على كل حراماً

عرفت وقائعي في كل أرضٍ ... ولكن لست تعرفها تماماً ولست ترى سقاماً في مريضٍ ... فتعرفه كمن ذاق السقاما رزأتك يا أعز الناس عندي ... لشدة فاقة برث العظاما ورب كريمة أكلت بنيها ... إذا جاءت، ولم تجد الطعاماً! قال: فقلت له شهد الله أنك لأمكر أهل الخافقين، وأقدرهم على الزين والشين. قال: يا بني إن الخلة، تدعو إلى السلة. والصدق خمر مزاجها الكذب، والجد ثوب طرازه اللعب. ورب طرفة، خير من تحفة. فإن كنت قد ظمئت إلى الضحل، ونسيت أن لا بد دون الشهد من إبر النحل. فهب المال عندي كإحدى القرض، ريثما أرزأ من أستنض لك منه العوض. قلت: قد علم من عنده

علم الغيب أن هذه الطرفة عندي خير نخل هجر وعرائض الحصيب. فاعتنقني كمن تملق، وقال: كلانا أفلس من ابن المذلق، فمن أحرز المال فعليه الإنفاق يعلق. قلت: أنا والمال في يديك، وكلانا لك وإليك. قال: حياك الله فسنستبدل الجمر بالتمر، ولكن اليوم خمر، وغداً أمر. فقضيناه يوماً صفا زلاله، وغاب عذاله. إلى أن آذنت الشمس بالأفول، وهم النجم بالقفول. فجلسنا على الطعام معاً ثم أخذ كل منا مضجعاً. وطفق الشيخ يطرفنا من القصص، بما يسيغ الغصص. وما زال كذلك مذ أطبقت الجونة على الصمير، حتى أقبل فحمة بن جمير. فران على جفني الكرى، حتى سقطت

على الثرى محلول العرى، لا أسمع ولا أرى. فلم أنتبه إلا وقد ذر قرن الغزالة الضاحي ولا رجل ولا امرأة في تلك الضواحي. فاستعذت بالله من مكره ونكره، وثرت إلى الناقة لأرتحل في إثره. فلما دنوت من قتبها، إذا رقعة قد كتب بها: قل لسهيل إذ يهب في السحر: ... إعذر فخير الناس عندي من عذر! خلقت مطبوعاً على كيد البشر ... وليس للإنسان تغيير الفطر ولا يعاند القضاء والقدر ... إلا الذي عصى الإله أو كفر وإن تجد سيئة في ما ندر ... فكم وكم حسنة في ما عبر! وإن يكن غرك منها ما ظهر ... فتلك لا علم لها ولا خبر إلا الذي علمتها في ما استتر ... فإن ترد صاحب هذه الغرر فخذ أباها! إنه أم العبر ... والمهر من أمس إليه قد حضر جرياً على المفروض من حظ الذكر

المقامة الخامسة عشر وتعرف بالرملية

فلما قرأت تلك الرقعة، عجبت من تلك الرقاعة، وعلمت أنه لا يحول عن هذه الصنعة ولا يترك هذه الصناعة. فشكرت نعمته إذ لم يأخذ الناقة، ورجعت أدراجي لما اعترض دون سفري من الفاقة. المقامة الخامسة عشر وتعرف بالرملية قال سيهل بن عباد: حللت بالرملة لوطر أقضية، ودين أقتضيه. فأقمت بها شهراً وكنت أحسبه دهراً. حتى إذا بلغت اللدنة، خرجت تحت الدجنة. وكان الشهر قد وقع في الأنين، فاعتسفت بين الشك واليقين أتجانف تارة ذات الشمال وأخرى ذات اليمين. وما زلت أخبط الظلماء، حتى أقمرت السماء.

فتبينت وجه الهدى وإذا أنا أمشي على مثل المدى، من حرار تلك الكدى. فوقفت كالحائر اللهف، لا نظر من أين تؤكل الكتف. وإذا ركب يضربون أكباد الإبل، وفي صدرهم شيخ ينشد بصوت زجل: يا من يرى ما لا يرى ولا يرى ... ويعلم السر وأخفى في الورى دعوتك اللهم إذا طال السرى ... ومالت الأعناق من خمر الكرى يسر لنا رزقاً من العرش جرى ... أو فاهدنا لباب رزق يعترى نعد إليه مثل عدو الشنفرى

قال: فلما سمعت ذلك الدعاء خشيت أن يستجاب وأكون أنا ذلك الباب. فوقعت في حيص بيص. إذ لم أجد لي من محيص. ولم يكن إلا كنغبة طائر حتى حمل علي كالثائر. وقال: قد أنجح ربك الطلب، فخل عن السلب. حتى إذا كاد يدركني بسنانه، أخذت جارية بعنانه، وقالت: بتربة خزام دعه يمضي لشانه. فلما آنست ريا الخزام، تفرست فإذا ميمون وليلى والغلام. فاطمأن هنالك قلبي، وانفثأت لوعة كربي. ونزلنا جميعاً على تلك السلام، وتطارحنا السلام بالسلام. وقضينا ثميلة ليلنا البارح، إلى أن صدح الصادح، وسكت للنابح. فقال أنا نريد الرملة، فهل أنت في الجملة؟ قلت: إن العود مع مثلك أحمد، ولو إلى برقة ثهمد. وقمنا

نسير الوحى، فدخلناها رائعة الضحى. وإذا أنا قد كنت أمشي مشية الرحى، ولما ألقينا العصا، أخذ الشيخ يتجهز لطرق الحصى. ثم قام بي يتفقد المعاهد، ويتعهد المشاهد. حتى انتهينا إلى مكتبة مكتظة بالطلبة فتخللنا المقام، وقلنا: سلاماً! قالوا: سلام. وكان بينهم شيخ قد لبس العمائم الثلاث فأشار إلى بعض أولئك الأحداث. وقال: هل تذكر الأبيات العواطل، أم ذهبت عنك بالباطل: فأنشد ولم يماطل: ألحمد لله الصمد ... حال السرور والكمد الله لا إله إلا ... الله مولاك الأحد لا أم لله ولا ... والد لا ولا ولد أول كل أول ... أصل الأصول والعمد الواسع الآلاء وال ... آراء علماً والمدد الحول والطول له ... لا درع إلا ما سرد

كل سواه هالك ... لا عددٌ ولا عدد صاح ادع مولاك لما ... أوعد واسأل ما وعد واصدع رداء اللهو وال ... مكر ودع سوء اللدد واسل المدام والمها ... وارم المراء والحسد وامح رسوماً ما لها ... حد ولا لها عدد وسامح المرء سها ... لما رماك أم عمد واردع هواك كارهاً ... ما ود واعكسي ما طرد واعلم وعلم واطرح ... أحكام عاد وأدد ودر مع الدهر كما ... دار ولو طال الأمد وسر مع الرود ودع ... حر السموم والومد

واعدد دواء الداء لل ... دهر وأكحال الرمد واسل وراء ماطر ... لماطل ولو رعد للمرء سهم مرسل ... وهماً وكم سهم صرد وكم وكم حلو له ... مر وكم وار صلد هول الحمام طالع ... مطلع روع كالأسد كأس لكل دورها ... والكل للكأس ورد وكل عمر كالكلا ... والدهر للكل حصد وكل رسم دارس ... وماهد وما مهد ألله أهل الله، را ... ع كل عدل وأود كل هواه عامل ... والله لكل رصد فقال: أحسنت يا بجير، يا سلافة الدير. ثم نادى: عكرمة،

هات أبياتك المعجمة. فبرز غلام أنقى من العاج، وأجمل من نصر بن حجاج. وأنشد: بشجي يبيت في شجن ... فتن ينتشبن في فتن شيق تيقٌ تجنب في ... نفق ضيق بقي ففني شغف شفني بذي تقة ... نجب شن جيش ذي يزن شيبة في شيبة خضبت ... بشقيق غضن ينض جني

بين جني شقة خشنت ... في قضيض تبيتني خشن قضت جفني بيقظة ثبتت ... غب بين فبت في غبن بي شقيق يغيب غيبة ذي ... ضغن بين تجنبني شيخ فن فتي شنشنة ... شب في بيت نخبة فبني ينتقي زين جنة جنيت ... يتقي شين ضنة بغني غيث فيض يفي فينبت في ... في قنن بغتةً بذي فنن فقال: حياك الله يا بني، وأقر بك عيني. ثم نادى: يا صلمعة بن

قلمعة، أين الأبيات الملمعة؟ فوثب يافع من الأنباط معتدل الشطاط. وأنشد: أسمر كالرمح له عامل ... يغضي فيقضي نخب شيق مسك لماه عاطر ساطعٌ ... في جنة تشفي شج ينشق أكحل ما مارس كحلاً له ... جفن غضيض غنج ضيق در دموع حوله كاسدٌ ... في جنب زيف بين ينفق لا لعهود الود راع ولا ... في شجن ذي فتنة يشفق ما مال إلا راع أحلامه ... خفة شنف خنث يخفق

ولاح سطر الآس أكمامه ... بين شقيق غضة تفتق فقال: عشت ونعشت، يا زهرة البنجكشت. ثم قال: قم يا أبا الهيفاء، وأنشد الأبيات الخيفاء. فقام فتى ميمون النقيبة، أنقى من مرآة الغريبة. وأنشد: ظبية أدماء تفني الأملا ... خيبت كل شجيٍ سألا لا تفي العهد فتشفيني ولا ... تنجز الوعد فتشفي العللا غضة العود تثنت مرحاً ... بضة اللمس تجنت مللا تقضي أحكام بغي طالما ... نفذت أحكامها بين الملا بجبين كهلال فتنت ... كل ذي علم يزين العملا في لماها بنت كرم تختشي ... سكر جفن حكمه نقض الولا

بين ورد شفة واردها ... يبتغي الماء فيجني العسلا درر بيض لها في أحمرٍ ... في سوادٍ بين مسكٍ في طلا فتنة صماء يثني وصلها ... فتنة الداء فتبغي حولا شنفت سمع شجي كلما ... قبضت عوداً فغنت رملا قال: عافاك وشفاك، ولا فض فاك. ثم نادى: يا أبا الشمطاء، علي بأبياتك الرقطاء. فوثب غلام من الخواص، كدرة الغواص. وأنشد: ونديم بات عندي ... ليلة منه غليل خاف من صنع جميل ... قلت: لي صبر جميل قرة لي ميل قلب ... منك يا غصناً يميل سيدي رق لذلي ... سيدي عبد ذليل

قلبه قد ذاب من وجدٍ ... به ظل يسيل لذ لي حجر قديمٌ ... تحت هجر يستطيل قاتلي وجه بديع ... زاجري عنه قليل فلما استتم الإنشاد، وقف الشيخ بالمرصاد. وقال: أعيذكم بالله من أعين الإنس وأنفس الجان. فقد خرج من أفواهكم اللؤلؤ والمرجان. ولقد أباهي بكم كل من نطق بالضاد، حتى يقال أين العين من الصاد. قال سهيل: فلما انتهت الكنانة إلى الأهزع، ولم يبق في القوس منزع. وثب الشيخ ميمون، كأنه ريب المنون. وقال: ما بالك ذكرت اللجين وتركت اللجين. أين عاطل العاطل الذي لا نقطة في اسمه ولا مسماه كالدال دون العين؟

قال: هيهات ذلك مما يخال، ولا يقال، حتى يصاغ من الخاتم خلخال، فإن استطعته جعلناك حالي الحالي في الحال. فصوب الشيخ نظره وصعد، ثم اقعنسس وأنشد: حول در حل ورد ... هل له للحر ورد لحصور حلوٍ وصلٍ ... ورده للصحو طرد وله صولٌ وطولٌ ... وله صد ورد دهره حر صدورٍ ... هل له لله حد قال: فلما اعتبر الجماعة سر تلك الصناعة، تكأكأوا عليه من الأمام والخلف، وقالوا رب واحد يعدل بألف. وإنا لنراك شاسع الوطن،

واسع الفطن. فخذ هذه النفقة عداً، وإن شئت أن تقيم معنا أجرينا عليك ماء عداً. قال: حبذا لولا دين أثقل حاذي وحال دون نفاذي. وهذا غريمي قد لصق بي كالقار، ولو هبطت إلى النار حتى أسعى له بمائة الدينار. قال: فنقدوني مائة ندرى، وقالوا: قد صادفت قدراً، فاتخذ لوردك صدراً. فشكر الشيخ ذلك الامتنان، وأنشد بصوت مرنان: ساعدوني على جميل الثناء ... عن جميل أضاع حق الوفاء وهبوني قلباً يقوم أمامي ... فأنا قد تركت قلبي ورائي! بشروا زوجتي وأمي وأختي ... وغلامي براحة وهناء! فعلى الرملة ابتنيت عهودي ... وعلى الدرس قد عقدت ولائي

قال: فأعجب القوم بأبياته المخيلة، ولم يأبهوا لما فيها من الدخيلة. ثم ضرب الشيخ لهم موعداً، وودعهم مرتعداً، وخرج من بينهم وعدا. فلما بنا وأمنا. قال: يهنئك المغنم البارد، فرب ساع لقاعد. وإن الحسنات يذهبن السيئات فاغتفر ما فات. لكن اغرب إلى حيث لا مناقش، لئلا يفرط منك بادرة فتجني على أهلها براقش. وأنا غداة غد أخرج من المحيط، وأدع القوم ينتظرون حتى يرجع نشيط، ثم كبر واستغفر وأنشد حين أدبر:

المقامة السادسة عشرة وتعرف بالصورية

رأيت الناس قد قاموا ... على زور وبهتان! فلا يرعون ميثاقاً، ... ولا حرمة إحسان! فإن راعيت إنساناً ... فما أنت بإنسان قال سهيل: فتركته وانطلقت من هناك ولم أدر ماذا فتك بعد ذاك. المقامة السادسة عشرة وتعرف بالصورية قال سهيل بن عباد: لفظتني الثغور إلى مدينة صور، فحللتها شهراً أجرد، في سنة جرداء، وكنت يومئذ فتى أمرد، فطفت كل شجراء ومرداء، حتى دخلت يوماً إلى حديقة في إبان وديقة. وإذا القاضي جالس على قطيفة كأنه الإمام أبو حنيفة. فبينما طارحته تحية الأدباء، وأخذت مجلساً على تلك الحصباء.

إذ دخلت امرأة سادلة القناع، سابغة اللفاع، فاسترعت السماع، وقالت: يا قاضي العدل الكريم المنصفا ... إن أبي في جوره قد أسرفا! أقعدني عن الزواج عنفا ... وليس يكفيني لو تقشفا فانظر لنا حكماً إلى الله صفا ... أولا، فإن الله حسبي وكفى! قال: وكانت بين ذلك تخطر كالسمهري، وتفتن في إنشادها كالبحتري. ففتنت بافتنانها من حضر، واستهوت القاضي فجعل يخالسها النظر. فلما فرغت من إنشادها أطرق إطراق المرتاب، وقال: شر أهر ذا ناب، فمن هذا الظالم الذي لا يعرف السنة والكتاب؟ قالت: هو شيخ يفن، قد صار جلده كالسفن، يضمني إلى أضلاع له كالنعش فتعشاني لحيته كالكفن. ولقد خطبني كرام

الأصهار، فأبى إلا أن أكون منه معقد الإزار. وهو فقير يتمنى الفلس، وتغلبه عزة النفس. فيعتفد، ولا يسترفد. ويذوب غليلاً، ولا يستقي خليلاً. ويغضي على القذى، ولا يشكو الأذى. ويتبلغ بالثويناء، على الهويناء. ويقنع من الشراب، بالسراب. فتراه يكظم الغيظ، ويتبرد بالقيظ، ويرضى من البيض بالبيظ. وأنا فتاة غضة الشباب، لا تشبعني كشى الضباب ولا أرضى بخلق الجلباب. ولطالما حرصت على بره فطويته على غره، وكلفت نفسي كتم سره. حتى صرت أهزل من الجوزل، وأجوع من كلة حومل. فاعتبر ما جرى، واحكم بما

ترى. فأكبر القاضي شكواها، وأوى لبلواها. وقال: يا أمة الله صبراً! فإن مع العسر يسراً، وما أتم كلامه إلا وأبوها قد أقبل، وقال: يا مولاي لا تكن كقاضي جبل. وأنشد: ما كذبت وما بها من عار! ... لكن ذاك ليس باختياري فإنها من أحسن الجواري ... بديعة في أعين النظار! كالشمس في رائعة النهار ... فصنتها كدرة البحار! حتى أرى كفأ من الأصهار ... وإنني شيخ غريب الدار صفر من الدرهم والدينار ... أنتظر العفو من الأحرار وأحسن الصبر على الأقدار ... فاحكم بما ترى ولا تمار! ولما فرغ الشيخ من أبياته قال: شهد الله أن موت الذليل خير من حياته. وأنني قد كنت نشبة، فضرت عقبة. وطالما كنت اكلل القصاع، وأجم الكيلجة والصاع. حتى استولت النحوس، وخلت

قدر بني سدوس. فأنكرني الصميم والحميم، وجفاني السمير والنديم فيا ليتني مت قبل هذا البلاء العظيم. قال: وكان القاضي قد أشرب قلب حب فتاته، لما رأى من بلاغتها وسمع من صفاته. فقال: يا هذا إنك قد أثمت بحبسك هذه الحرة! أما سمعت أن امرأة دخلت النار في هرة؟ فخذ هذه الخمس المئين، ودع الفتاة عندي في قرار مكين، إلى أن يأتي الله بالفتح المبين. فأذعن الشيخ لحكمه، على رغمه. وقال علم الله أني ما كنت الأرضى بدون، ولكن إذا لم يكن ما تريد فأرد ما يكون. ثم انثنى إلى وداع ابنته، ودمعه يسيل على وجنته. وأنشد: لله يا ليلى اذكري أباك ... إذا رأيت فقرة أغناك أثني على القاضي الذي أحياك ... بلطفه، فإنه مولاك! وأنني هيهات أن أراك!

قال سهيل: وكان الشيخ قد تنكر فاشتبهت، إلى أن ذكر ليلى فانتبهت. لكنني ضربت عنه صفحاً، لعلي أرى لذلك المتن شرحاً. فلما انصرف أشار القاضي إلى بعض حشمه، أن ينطلق بالفتاة إلى دار حرمه. فبوأها صهوة مهرة غراء، وأخذ بها يخترق الغبراء. حتى إذا مرت على دسكرة وقفت مستنكرة. وقالت: يا فل قد أنهكني اللغب. وأهلكني السغب. فهل تتركني ريثما أستجم من القلق، وتدركني بما يمسك الرمق! فلبى وانطلق. قال: وكنت قد تبعتها بناقتي عن كثب، حتى لم يكن بين السرج والقتب، إلا كما بين الرتب والعتب. فلما لوى عذاره قالت: يا سهيل تلقف مني، وأبلغ الغلام عني:

المقامة السابعة عشرة وتعرف بالحكمية

شيخ أشد جنوناً ... من دقة بن عبابه قد خاتلته فتاةٌ ... واستجهلته صبابة فحي شيخك عني، ... وقل متى جئت بابه: ثم عصفت بمطيتها كما انتشب السهم، أو كما خطر الوهم. فعلقت الأبيات في رقعة، وأودعتها تلك البقعة. وانطلقت في أثر الفتاة إحضاراً، فلم ألحق لها غباراً، ولا عرفت لها قراراً، فخرجت من الديار الشامية، وأنا أحتسب الله على الفتن الخزامية. المقامة السابعة عشرة وتعرف بالحكمية أخبر سهيل بن عباد قال: خرجت في قافلة، بعصابةٍ حافلة.

فكنا نصل الإسآد بالتأويب ونراوح بين الإهذاب والتقريب. حتى أفضت بنا الرحلة إلى شاطئ دجلة. فنزلنا القض والقضيض، في أكناف ذلك الحضيض. فراقتنا فاكهته وفكاهته، وشاقتنا نزهته ونزاهته. فأقمنا ثلاثاً نجتني قطوف أفنانه الميلاء، ونشرب صافي تلك الحجيلاء. حتى إذا أزف الرحيل، وزمت الهجمة والرعيل. قيل هذا يوم النيروز. ولا بد للناس من البروز. فلبد القيروان عجاجته وبلد لجاجته. ولما ألقت الغزالة لعابها، وضربت الضحى أطنابها. نقر القوم ثبات في تلك الرباع، وانتشروا مثنى وثلاث ورباع. فلما انتظمت

الفئام، وجلست القيام في الخيام. نحرت الجزر وشبت النار، وفاح العثان والقتار. وأخذ القوم في تداول الألحان وتناول بنت الحان. إلى نثر الأصيل على نور الشمس نور البهار، وكاد جرف النهار ينهار. فنهضنا، من حيث ربضنا، وأقبلنا إلى حيث قابلنا. وإذا موكب من الرجال، قد ازدحموا على شيخ بال رث الجسم والسربال، وهو قد أن من شدة الكلال، وشرع يوصي رجلاً بين بديه فقال: يا بني لا تسلم نفسك إلى هواك، ولا تستودع سرك سواك. ولا تفوض أمرك، إلا لمن يعرف قدرك. ونزه نفسك عن الخسائس، وقلبك عن الدسائس. واحفظ لسانك من الخلل، قبل أن تحفظ رجلك من الزلل. واقتصد في ما تعتمد. ولا تستعجل، في ما تستعمل. ولا تهرف، بما لا تعرف. ولا تطمع، في ما تجمع، ولا تصدق كل ما تسمع. ولا تنقل القدم، إلى

ما يعقب الندم. ولا تمش في الأرض مرحاً، ولا يستفزك الدهر فرحاً أو ترحاً. ولا تمتهن الضعيف الساقط، ولو كان ماقط بن لاقط. ولا يكن حبك كلفاً، ولا بغضك تلفاً. وإذا استغنيت فلا تبطر، وإذا افتقرت فلا تضجر. وإذا ابتليت فاصطبر، وإذا رأيت العبرة فاعتبر. وإذا أردت أن تطاع، فسل ما يستطاع، وإذا حدثت فعليك بالإيجاز، ولا تلبس الحقيقة بالمجاز. ولا تعد إلا وأنت قادر على الأنجاز. ولا تبادر بالجواب قبل استيفاء الخطاب. ولا تقض الدين بالدين، ولا تطلب أثراً بعد عين. واعلم أن

لكل صارم نبوة، ولكل جوادٍ كبوة، ولكل عالم هفوة. ولكل مقام مقال، ولكل دهرٍ رجال. ولكل قضاء جالب، ولكل در حالب. ومن حسنت سريرته حمدت سيرته. ومن أطاع غضبه، أضاع أدبه. ومن تأنى، نال ما تمنى. ومن سعى، رعى. ومن جال، نال. ومن قل، ذل. والحرحر، وإن مسه الضر. والكذب داء، والصدق شفاء. وطعن اللسان، كوخز السنان. وظن العاقل، أصح من يقين الجاهل. والظمأ القامح، خير من الري الفاضح. وعليك بالمحاجزة، قبل المناجزة. وبالإيناس، قبل الإبساس. وبالعتاب، قبل العقاب. واستعذ بالله من الشيطان

الخناس، الذي يوسوس في صدور الناس. قال: فلما استتم كلامة قال: أنه من سليمان، وأنها لمن وصايا لقمان. فادرسها كلما شهدت الشهر واذكر شيخك الذي اعترك الدهر، وقلب أهله البطن الظهر، فعرف منهم السر والجهر. ثم ثاب إليه بعض الرمق فتجلد، ورأرأ بحدقتيه وأنشد: إني لقد جربت أخلاق الورى ... حتى عرفت ما بدا وما اختفى كل يذم الناس، فالذي نجا ... من ذمه يدخل في ذم الملا والمرء مطبوع على البخل إذا ... جاد فجوده عن العرض فدى يريد أن يغترف البحر ولا ... يترك منه قطرة تروي الظما ينسى من المحسن طوداً قد رسا ... وليس ينسى ذرة ممن أسا ولا يحب غير نفسه فما ... أحبه فهو إلى النفس انتهى

يعرف كل حاله في ما مضى ... إلا الذي كان دنياً فارتقى وكل علمٍ يدرك المرس سوى ... عرفان قدر نفسه كما اقتضى بالعقل والدين له كل الرضى ... أما بماله وجاهه فلا وكلما عقل الفتى قل اكتفى ... به كما ظن فسر وازدهى قد طبع الناس على الظلم! فما ... سلم أمرٌ لامرئٍ إلا بغى! يؤذي الجهول نفسه، فإن جنى ... يوماً عليك لا يلام بالأذى ويذخر الشيخ لدهر، ويرى ... بعينه الموت لدى الباب استوى ينعم البعض بمال يختبى ... وبعضهم ببذله في ما اشتهى من عاش بالتقتير من ذوي الغنى ... فإنه أفقر من فوق الثرى كل يعد نفسه نعم الفتى ... فمن هو اللثيم منا يا ترى! لو عرف الإنسان عيبه، لما ... رأيت عيباً فيه، ما طال المدى

وكل عيب كان من طي الحشى ... في المرء، ينمو فيه كلما نشا لا يشعر الجاهل بالجهل، كما ... لا يشعر السكران إلا إن صحا لا يعرف الصحيح قيمة لما ... كان من الصحة حتى يبتلى لا يحمد القوم الفتى إلا متى ... مات، فيعطى حقه تحت البلى لو كان كل يعرف الحق سوى ... لكان كل الناس أهلاً للقضا من قال: لا أغلط في أمر جرى ... فإنها أول غطة ترى وقلما أبصرت نعمة على ... شخص، ولا تقول: قد ضاعت هنا وقلما كان شجاعاً في اللقا ... إلا عزيز النفس والجود كذا وكل ما في غير مثواه ثوي ... يسمج في العين ويؤذي من رأى وكل ما عن منهج الطبع التوى ... تنكره النفس ولو نفعاً جنى وكل من تاه دلالاً وادعى ... مستكبراً، فذاك ناقص الحجى

وكل من شاب على خلق فلا ... تنصحه، فهو ليس من أهل الهدى وكل من لا خير منه يرتجى ... إن عاش أو مات على حد سوا فلما فرغ من أبياته استهلت دموعه من المآقي، وقال سبحان الحي الباقي، ثم سجا على مضجعه حتى خيل أن روحه قد بلغت التراقي. فأخذت القوم الشفقة، وقالوا لغلامه: خذ هذه الصدقة، إن مات فللتجهيز، وإن عاش فللنفقة. ثم ولوا الأدبار، وهم يضجون بالدعاء له والاستغفار. قال سهيل: فلما خلونا وانتفت التقية، نفض عن نفسه غبار المنية. وقال: يا غلام اذهب بهذه الدستجة، فجثنا بما نشرب الهفتجة. فابتهجت

بإرجاء حينه، وتأملته فإذا هو الخزامي بعينه، فعجبت من ريائه وميه. وقلت. يا أبا ليلى: كيف تعظ الناس بما ذكرت، وتصف الناس بما أنكرت؟ فأشاح بوجهه خجلاً، ثم أنشد مرتجلاً: وصفت الناس بالنكر ... وإني لست بالناسي ولكن نسي الغافل ... أني أحد الناس ثم قال: يا أبا عبادة ليس من العدل سرعة العذل. ومن لا يؤخذ بالأشعبية، فخذه بالشفربية. وإني قد أفدت من الحكم والأمثال، ما لا يعادل بدرهم ولا مثقال. فإما أن تبذل كما بذل القوم، وإلا فالسكوت عن اللوم. قال: فأمسكت عن معاذير الملفقة، وإن لم يضل دريص نفقه. ولبثت في صحبته بالعراق، إلى أن قضى الله بالفراق.

المقامة الثامنة عشرة وتعرف بالرجبية

المقامة الثامنة عشرة وتعرف بالرجبية حكى سهيل بن عباد قال: نزبت يقوم من العرب، في أثناء رجب. وكانوا قد ارتبطوا القنابل، واعتزلوا الصوارم والذوابل، واجتمعوا حتى اختلط الحابل بالنابل. فرأيت جيشاً كأولاد فارزٍ وعقفان. قد تألف من أسود بيشة وظباء عسفان. فلبثت عندهم بضعة أيام، في بعض أطراف الخيام. وكنت كلي يومٍ أشهد المحافل، وأتخلل الجحافل. وأسمع الشاعر، والناثر. وأطرب للشادي، والحادي. حتى إذا كنت يوماً ببعض الأندية، وقد سالت الشعاب

والأودية. أقبل شيخ ضئيل، تليه امرأة أكبر من عجوز بني إسرائيل. فلما وقف بنا قال: حيا الله الموالي، وأعز بهم المعالي والعوالي. أنني طالما أيمنت وأشأمت، وأنجدت وأتهمت وأحجزت وأعرقت، وغربت وشرقت، وشهدت الولائم والوضائم، وشاهدت العزائم والعظائم. ورضت الرجال، وخضضت الآجال. ولقيت السراء والضراء، ومارست الحسناء والخثناء. وأترعت العساس والجفان، وملأت الثبن والأردان. وأجزت الخطباء والشعراء، وأحسنت إلى العفاة والفقراء. وها أنا الآن قد صرت نحساً مستمراً، لا أملك نفعاً ولا ضراً، ولا أذكر مما لقيت حلواً ولا مراً. حتى كأني الآن قد ولدت على هذا البساط، تدرجني هذه الحيزبون بالقماط. فاعتبروا بما رأيتم وسمعتم وخذوا الأهلة لأنفسكم ما استطعتم. فإن الزمان، ليس فيه أمان. والدنيا الغرور، لا يتم فيها سرور. والحياة ظل زائل والنعيم لون حائل. والسعيد من نظر لنفسه، قبل

حلول رمسه.. وكفر عن ذنبه، قبل لقاء ربه. فلما فرغ الشيخ من كلامه اعتمد على عصاه، وبرزت العجوز كالسقلاة. وقالت: يا كرام العرب إن الله قد أمر بالمعروف عباده، كما أمر بفروض العبادة. فعليكم بالمروءة والكرم، ورعاية الذمم والحرم. وحافظوا على الوفاء ولو أفضى إلى الخسف، واحد سوا لوفدكم ولو بمطفئة الرضف. فإن بئس الردف لا بعد نعم، والكثير خير من القليل والقليل خير من العدم. قال: فرضخوا لهما بما حضر، وقالوا: خير الناس من عذر فتناول الشيخ ميسورهم وقال: إني قد قبلت بركم بالجنان، لا بالبنان، وحق علي مدحكم بالقلب لا باللسان. ثم دنا فتدلى، وأنشد وهو قد ولى: حلموا فما ساءت لهم شيم ... سمحوا، فما شحت لهم منن سلموا، فلا زلت لهم قدمٌ ... رشدوا، فلا ضلت لهم سنن

قال: وكان في الموقف فتى شديد الخنزوانة قد انتصب كالأسطوانة. فلما أدبر الشيخ قال: إني لأعرف هذا الخبيث، وقد رابني ذكره القلب في الحديث. فاقلبوا البيتين، لعل بهما شيئاً من الشين. فابتدر رجل إلى قلبهما، بعد كتبهما، وإذا هو يقول بهما: منن لهم شحت، فما سمحوا ... شيم لهم ساءت، فما حلموا سنن لهم ضلت، فلا رشدوا ... قدم لهم زلت، فلا سلموا فلما سمع القوم ذلك استشاطوا غضباً وقالوا: من لنا برد هذا الرجيم فنجعله للناس أدباً؟ أنا لها فإني أعلم بمهب ريحه ومدب طليحة. فأركبوه متن طمرة، وقالوا: هلا يا ابن الحرة! قال سهيل: وكنت عرفت سريرة تلك الصناعة، فانسللت في أثر الفتى من بين الجماعة. فما أدركته إلا على بريد، وإذا هو قد جلس بين الخزامي وابنته على ذلك الصعيد، فلما رآني وثب إلي وقال: لا يفل الحديد إلا الحديد. فاهتز الشيخ تيهاً، وأنشد بديهاً:

هذا غلامي لا تسل عن خيمة ... أن الشراك قد من أديمه لما رأى الحي إلى زعيمه، ... قصر في الوفاء عن تعليمه تلقف المهرة لا من شومه، ... لكن ليقضي الدين من غريمه ثم قال يا أبا عبادة إن الله لم يختص برزقه، أحداً من خلقه، فمن ظفر بشيء فقد أخذه بحقه. لكن أخاف أن القوم لا يأخذون بهذه الفتوى، فلننصرف قبل أن تحل بنا البلوى. ثم نهض إلى بعيره المعقول، وهو يقول: أنا ابن أم الدهر يا ابن المنجبة ... رزقت بين الناس حظ الغلبة بكل وادٍ أثرٌ من ثعلبة

المقامة التاسعة عشرة وتعرف بالخطيبة

قال سهيل: فسرت في صحبته على حذر، ولبثنا في اجتماعنا إلى أن فرقنا القدر. المقامة التاسعة عشرة وتعرف بالخطيبة حدثنا سهيل بن عباد قال: ارتبعت ربيعاً باليادية، أصفى من ماء غادية. فما تركت حياً ولا نادياً، ولا جبلاً ولا وادياً، وإلا سعيت إليه على قدمي، وخاطرت في اعتماره بدمي. فبينما أنا في حلة إذ قام منادٍ على كثيب يقول: حي هل على الخطيب. فوفدت إليه في من وفد، وإذا شيخ أكبر من لبد، عليه حلة من سبد. فلما تألب الجيش، وسكن الطيش. كبر واستغفر، وقرأ ما تيسر. ثم قال: الحمد الله الذي جعل العرب في وجنة العباد شامة، كما جعل أرضهم على

بدن البلاد هامة. أما بعد فإنكم يا معاشر العرب أكرم للناس نسباً، وأفضلهم حسباً. وأفصحهم لساناً، وأثبتهم جناناً، وأضر بهم بالسيوف، وأقراهم للضيوف. وأكثرهم ابتذالاً للمكارم واحتمالاً للمغارم، واعتقالاً بالرماح واشتمالاً بالصوارم. ولكم حفظ العهود وإنجاز الوعود. ومراعاة الجوار، والفرار من العار. وحماية الأرباض، وبذل النفوس دون الأعرض. وخوض الليل بالرجل والخيل. ولكم الخطاب المفعم، والجواب المفحم. والنظم البديه، والنثر النبيه. والقلوب الجرية، والنفوس الأبية. ولا تدينون لسلطان، ولا يتيمكم هوى الأوطان. ولا ترتكبون الدنايا، ولا تبالون بالمنايا. ولا تروعكم الأهوال، ولو أنها من الأغوال. ولا تقبلون الهوان، ولو جاء بالهيل والهيلمان. بلادكم أفضل الأرض

تربة، وأرفعها هضبة. وأحلاها ماء، وأصفاها هواء. وأطيبها جرعى، وأخصبها مرعى. وأطولها نخلة، وأسمنها رخلة وسخلة. وغلامكم أحكم من كهول الناس، وأفتك من فتيانهم صبيحة الباس. وفتاتكم أحذق من فحول الرجال، وأفصح منهم في المقال. وشاعركم المرتجل، ابلغ من شاعرهم المحتفل. وصعلوككم المعسر، أجود من أميرهم الموسر. وفيكم الكاهن والعائف، والحكيم والقائف. والفقيه والخطيب، والمنجم والطبيب. ومنكم التبابعة والمناذرة، والأبطال والجبابرة. والكرام الذين تسير بهم الأمثال، ويعز لهم المثال. فجدوا في جدد الفخر، وتواصوا بالصبر، أعلى نوائب الدهر. وحافظوا على مالكم من

المآثر والآثار، واشطروا شطر من تقدمكم من خوالي الأعصار، واذكروا أيامهم المخلدة في بطون الأسفار، لتكون لأنفسكم كالريحان. ولعزائمكم كالمضمار. قال: فانبرى له شيخ كالأفعوان، عليه حلة أرجوان. وقال: يا مولاي قد مدحت فأكرمت، ونصحت فأحكمت. ولكن ما هي أيام العرب التي أشرت إليها، ومواقعها المنصوص عليها؟ ففكر، ثم قدر، ثم قال: قد أنسانيها الشيطان فذكر إن كنت ممن تذكر. فأطرق برهة وهو ينكت في الأرض، ثم قال: تعالوا أتل عليكم ما يبقى ذكره إلى يوم العرض. وأنشد: قد ذكر القوم لأيام العرب ... مواقعاً تدعى بهن كاللقب من ذلك: الكديد والبيداء ... بعاث والفترة والهيماء كذا كلاب منعج الجفار ... والحجر والزخيخ والستار شمطه والزور غبيط المدره ... كذا الغبيطان اللوى وبئره جو نطاع ذو طلوح والعنب ... درنى الكحيل والغدير ذو نجب نخلة فيف الريح قرن فلج ... طوالة وقبى زرود المرج عويرض الحدائق النسار ... قشاوة كفافة سنجار

ذرحرح خو خولي داب ... عين أباع قادومٌ إراب عراعر النهي الربيع ملهم ... نجران والعينان غول رقم ذو الأثل ذات الرمرم النشاش ... عنيزةٌ عقبة أعشاش وواردات الجنو رحرحان ... والدرك السوبان والسلان شعب خزازى والعظالى حاطب ... قراقر الدثينة الذنائب جبلة القرعاء والصليب ... ظهر وذات الحرمل الكثيب أوارةٌ لهابةٌ ذو قار ... أقرن وجٌّ حيرةٌ سفار شعواء والهباءة المرتقب ... قطن ذو حسى الفروق يحسب يسيان والهرير ذو أحثال ... وما عسى نحصي من الرمال

قال سهيل: فكبر القوم وقالوا: حدث عن البحر ولا حرج، إنك لأحفظ من حماد وأجمع من أبي الفرج. قال: علم الله أني لست من الأفاضل الكملة، ولكن عرف حميقٌ جمله. فسقط في يد الخطيب واستكان، وقال: قد قدر فكان. ولقد أبنت فأحسنت، فمن وممن أنت؟ قال: إن كنت لا ترى، أن تأكل الجبن عرضاً. فأنا سرندل ابن عرندل،

المقامة العشرون وتعرف بالبصرية

من بني الشمردل. فعجب القوم من براعته ورقاعته، وأكبروا سر صناعته. وقالوا: هل تملي علينا ما أنشدت، وسنجزيك بما أفدت. قال: إن لي كاتباً أجرى من السيل، في الليل، ثم قال: هلم يا سهيل. فلما أقبلت عليه قال: اكتب يا بني، وأخذ يملي علي. فلما فرغنا من الإملاء والتعليق، أفرغوا علينا ما يليق، واعتذروا من الإجحاف بالخليق. قال: وكنت قد عرفت أن الشيخ صاحبنا ابن الخزام، فما صدقت أن أفلت من الزحام، حتى تعقبته وهو يعدو في أخريات الخيام. فاستوقفته فأبى، وقال موعدنا مهب الصبا. فرجعت بين الخيبة والظفر، إذ حرمت صحبته ورزقت نفقة السفر. المقامة العشرون وتعرف بالبصرية

حدثنا سهيل بن عباد قال: قدمت البصرة ذات العويم، في ركب من بني الهجيم. فجعلت أطوف بها ما أطوف حتى انتهيت إلى مربدها الموصوف. وإذا في ساحته قوم قد توسدوا ثراها، وهم كالحلقة المفرغة لا يدرى أين طرفاها. فطارحتهم سنة التسليم، وقلت: هل في الكاس حظ لنديم؟ قالوا: لقد أتيت أهلاً، ونزلت سهلاً. فجلت لديهم جلوس التلاميذ، بخصرة الأساتيذ. وأخذوا يتداولون الفنون، ويبرزون كل مكنون. حتى خاضوا في فن البديع، وأفاضوا في التجنيس والتنويع. كان في صدر الحلقة شيخ أفطس العرتبة، كأنه أحد الأغربة. فقال: قد علمتم أيها الناس، أن أعظم

الجناس، ما لا يستحيل بانعكاس. فمن ظفر بفرائده الحسنى، فاز بالمقام الأسني، وسلم له البديع لفظاً ومعنى. قالوا: تراك من أهل الدار، وفرسان المضمار. فحدث بنعمة ربك، ولا تكتم ذخيرة لبك. قال: نعم كنت قد نظمت أبياتاً منه في الصباء، وهي معجزة عند الأدباء. قالوا: إن رأيت أن تنشدنا إياها فلك المنة، وقد دفعت عن نفسك الظنة. فتلا: "إن بعض الظن إثم"، ثم قال اسمعوا يا أولي العلم. وأنشد يقول: قمر يفرط عمداً مشرق ... رش ماء دمع طرفٍ يرمق قرطة يقدي جلاه أيمنٌ ... من مياه الجيد فيه طرق

قبس يدعو سناه إن جفا ... فجناه أنس وعد يسبق قد حلا كاذب وعد تابعٌ ... لعباً تدعو بذاك الحدق قرحت ذا عبرات أربعٍ ... عبرات أربع إذ تحرق قلق يلثم نادي عبلةٍ ... لبعيد، إن مثلي قلق قفرة الربع أهالت فتيةً ... فتلاها عبرٌ لا ترفق قد حماها ركب ليلٍ حافظ ... فاح ليل بيكراها محدق قرَّ في إلف نداها قلبه ... بلقاها دفن لا يفرق

قطنت هيفاء فيه آمناً ... إنما هيفاء فيه تنطبق قف ألا قاضٍ فإني ضاق بي ... ريب قاضينا فضاق الأفق قلم يجري سيلقى ضرماً ... مر ضيق ليس يرجى ملق قيل: إفتح باب جارٍ تلقه ... قلت: راجٍ باب حتفٍ أليق قل طعم دونه رد بكم ... كبيد رهن ودمع طليق فلما فرغ من أبياته صفق القوم، وقالوا: لا عهد لنا بمثل هذه قبل اليوم. فإن هذا الجناس كالعدد المعدول، لم يتجاوز أربعة من المنقول. قال

سهيل: فانبرى له رجلٌ أشمط العارضين، يكاد الشرب الرافدين. وقال: يا هذا إن الفجر بالأثير، لا بالكثير. وإنما ينافس في الثمين، لا في السمين، فكم فئة قليلة غلبت فئة كثيرةً بإذن الله والله مع الصابرين. قال: صدقت إن خير الكلام ما قل وجل، ولكن من ادعى بلا بينة فقد زل وذل. قال: أعوذ بالله من زله العمد، وسفاهة العبد. إني نظمت بيتين لبعض الأمراء، طردهما مديح وعكسهما الهجاءٌ. فكان ينظر إليهما بعين الأحول، ويقصر عنهما الباع الأطوال. قال: فهلم بما فتح الله عليك، قال: لبيك وسعديك! وأنشد: باهي المراحم لابسٌ ... كرماً قديرٌ مسند

باب لكل مؤملٍ ... غنم لعمرك مرفد ثم عمد إلى قلبهما، فإذا هو يقول بهما: دنس مريد قامر ... كسب المحارم لا يهاب دفر مكر معلم ... نغل مؤمل كل باب قال: فاستفزت القوم تلك الصناعة العذراء وقالوا: علم الله أنها لأغراب من العنقاء. ثم أقبلوا على الرجل يرجمونه بالأحداق، وقالوا: فداك أهل العرق! فمن أنت ومن أي الآفاق؟ فتنهد، ثم أنشد: أقبلت من أرض اليمامة ... أبغي العراق على استقامة جبنت الدلامس بالعرا ... مس في النعامة كالنعامة زرت الكرام لأنني ... قد كنت من أهل الكرامة أتلفت مالي في الندى ... لا في الصبابة والمدامة

أقري الضيوف وأقتري ... حمل الحمالة والغرامة وأسد خلة مقتر ... وأرد لهفة ذي ظلامه وأجيز كل مقرظ ... عن كل شعرٍ أو مقامه قسمت مالي في الملا ... ونسيت سهمي في الحتامة وسقيتهم مائي فرح ... ت كأنني كعب بن مامه برح الخفا فندمت ل ... كن حيث لا تجدي الندامة درج الصبا والمال وال ... نفس العزيزة والشهامة عذبت نفسي بالقنو ... ط وعذبتني بالملامة قد كنت أطمع في الغنى ... واليوم أقنع بالسلامة فلما انتهى إلى هذا البيت أن كالمريض وقال حال الجريض، دون القريض، وأثرت شؤونه تفيض. فرثى القوم لبلواه،

وفثأوا ما جاش من جواه. وقالوا: جمع الله شملك فأين خلفت أهلك؟ قال: قد خلفت الجربة، في الشربة، لا يملكون حبة. وهم ينتظرون إيابي على الأثر، كما تنتظر الأرض وسمي المطر. فجمعوا له قبصة من العين، وقبضة من اللجين. وقالوا: إن الكريم أولى بالكرم، قال: نعم، وأهل الحرمة يرعون الحرم، قال سهيل: وكنت قد عرفت أنه الخزامي عند نظري إليه، لكنني أنكرت اغبرار عارضيه. فلما فصلنا عن المكان قلت: حيا الله أبا ليلى! قال: وميمون يفدي سهيلا! قلت: عهدي بك شيخاً فكيف رجعت كهيلا؟ فأنشد: لا تنكرن ما ترى من الشمط ... إن السواد والبياض إذ وخط من طرف الأمور فاخترت الوسط فانعكفت عليه انعكاف المغرم الكلف واعتنقته اعتناق السلام للألف. فأخذ يسايرني على رسله، حتى انتهى بي إلى رحله. وأقمت

المقامة الحادية والعشرون وتعرف بالدمشقية

في صحبته قرير العين، إلى أن نعب بيننا غراب البين. المقامة الحادية والعشرون وتعرف بالدمشقية أخبر سهيل بن عباد قال: نحوت من بعض الأنحاء، نحو دمشق الفيحاء. فجعلت أتتبع الرياح الدوارس، وأتفقد الآثار الطوامس، وأتعهد الأندية والمجالس، حتى انتهيت إلى إحدى المدارس. فتخللت حلقة الطلبة، وقد سكنت الأبصار وسكنت الجلبة. وأخذ القوم يتذاكرون هنالك، حتى جرى ذكر خلاصة ابن مالك. فقال الأستاذ: لا جرم إنها لإحدى الكبر، وعبرة العبر. ولكن قد كان ذلك إذ الناس ناس، لا يلجهون بعذار الآس، وحبب الكاس. قال: وكان شيخنا ميمون بن خزام قد ربض في ذلك المقام، فانتدب من مجثمه كالصمصام. وقال: يا قوم إن المعترف بالفضل لهذا الإمام المشهور،

كالمعترف للشمس بالنور، أو للطود بالظهور. وأما في هذا الزمان فقد بقي من إذا سئل يجيب، وإذا تجشم الإنشاء يصيب، فللأرض من كأس الكرام نصيب. قالوا: ما نرى ذلك إلا كالكبريت الأحمر، يذكر ولا يبصر. فإن لم يكن ذلك حديثاً يفترى، لا تطمئن قلوبنا حتى نرى. قال: أشهد لله إنكم لمن المنصفين، والله يشهد أني لست من المرجفين. أن عندي أبياتاً معتاصة جامع الباكورة والخصاصة، خليقة بان تدعى خلاصة الخلاصة! قالوا: إننا نتوقع سماع مثلها، فإن شئت فاستجلها. فهب كعاصفة القبول، واندفع يقول: بسائط الكلام حين يبنى اسم ... وفعل ثم حرف معنى والحرف واسماً مثله والفعل لا ... كاسم بنوا وأعربوا ما فضلاً

واسماً كفعل مثل كاسم ... إفتح لمنع صرفه وضم ركب وزن واعدل وأنث واجمع ... وزد وصف واعجم وعرف تمنع وأطلق المصروف ثم نون ... والجزم خذ للفعل واترك ما بني وكل إعراب بلفظ حاصل ... أو نية حيث دعاه العامل فالرفع في اسم للذي قد أسندا ... إليه والمسند منه اعتمدا وهو إذا جرد لفظاً يعتبر ... بالمبتدا والمسند منه اعتمدا

أو لا فإن كان أقام فعله ... ففاعل أو لا فنائب له والنصب للملابس الفعل على ... ما دون إسنادٍ إليه جعلا فإن يكن نفس الذي تعلقا ... به فمفعول يسمى مطلقا أو إن يصبه فهو مفعول به ... أو لا فمعه أن يكن من صحبه أو لا ففيه أو له أو دونه ... إن كان ذاك وبه يدعونه أو لا فما يبين الصفات ... حال وتمييز مبين الذات والخفض قد خصص بالمضاف ... إليه مطلقاً بلا خلاف وتابع ما مر إن يقصد حصل ... بالحرف عطف وبلا حرف بدل

أو لا فتأكيد لتقريرٍ ومن ... وصف لكشف صف ومن ذات أبن ويرفع الفعل إذا تجردا ... وهو جميعاً عامل مطردا وحيثما اختص بجمله نصب ... ما بعد مدفوع له كيف انقلب فإن كفاه واحدٌ فهو خبر ... أو لا فمفعول على نسخ الأثر والحرف عامل إذا اختص فما ... بمفرد اسم خص جراً لزما أو جملة فإن يكن كالفعل ... ينصب فيرفع بخلاف الأصلٍ

وشبه فعل التفي مثله جعل ... فإن نفي الجنس على العكس حمل وما يخص الفعل مما غيرا ... زمانه وليس كالجزء يرى إن يكفه مستقبل دون طلب ... ينصب، وباقية به الجزم وجب والاسم إن ضمن معنى عامل ... سواه يعمل مثله كالحامل وربما أعمل بالتشبيه ... ما ليس للإعمال حق فيه

وجملة حلت محل المفرد ... لها بإعراب محلاً قلد وقل ما ند، وهذا يعتمد ... كأحرف الهجاء حتى في العذد قال: فعجب القوم من ذلك الجمع الضابط، والسرد الرابط. وقالوا: علم الله الذي أنزل الفروض، أنها الأجمع من قولهم كل شرفاء ولودٌ وكل سكاء بيوض. فمن ضارب هذه الحديقة، وناسج هذه البردة الصفيقة؟ قال: هو صاحبكم الذي لا يصحب بنات غير. وقد صرفت عليها سنةً كحوليات زهير. ولكنني طالما كتمتها عمن لا يعرف

قدرها ولا يؤدي مهرها. قالوا: قد استكرمت فارتبط، وفلجت سهامك فاغتبط. لكن ذلك يرتب، على أن تمليها فتكتب. قال: نعم فاكتب يا بني، واندفق في إملائها علي. حتى إذا فرغنا من تعليق الأساطير، انهالت علي الدراهم وعليه الدنانير. فلما أفعم الإناء ودع القوم وأحسن الثناء، فشيعوه إلى الفناء. وخرج بي يعدو كالطريد، حتى انتهينا إلى باب البريد، فقال: كيف أنت وقصعة من ثريد؟ قلت: على ما تريد. فدخل بي إلى غرفة أبهى من قصر غمدان، على ودفة أبهج من شعب بوان. وقال: يا ليلى الهاجدة، قد تلوت لك سورة النجم فعليك بسورة المائدة. فقال: أهلاً بمن زار دار أهل، ... وهو لنحر الجزور أهل

المقامة الثانية والعشرون وتعرف بالسروجية

تطابق الضيف مع قراه ... ذاك سهيل وذاك سهل قال: فابتدرتها بالتغلية، وقلت من غير تروية: بعض السهيلين زار ليلى ... في الليل، والبعض زار ليلاً فذا سهيلٌ وذا سهيلٌ، ... وذاك ليلٌ وتلك ليلى قالت: حياك الله يا أبا عبادة، ومتعنا منك بالوفادة. أنت في ضيافة الوالد والولد، ما دمت حلا بهذا البلد. فمكثنا ريثما انقضى شهرا قماح، وقال السفر: حي على الفرح. فاستوى كل على مطيته، وعاد لطيته. المقامة الثانية والعشرون وتعرف بالسروجية أخبر سهيل بن عباد قال: أردت الخروج إلى سروج. لعلي

أجد لأبي زيد أثراً أتيمن به أو أعثر على أحد من عقبه. فحسرت عن ساقي ويدي، وقلت: سروج يا ناق فسيري وخدي. وما زلت أستغرق اليوم رملاً، وأتخذ الليل جملاً. حتى كنت في ليلة أغير وأنجد، وأسترشد ولا مرشد، وإذا راكب ينشد: أيتها الناقة إن طال السفر ... لا تجزعي منه فق طال الحضر أقمت شهر صفر حتى صفر ... وقد أتى شهر ربيع واشتهر فبادري لا تقفي إلى السحر ... وصابري فإنني ممن صبر سيان عندي كل ورد وصدر ... وكل نومٍ عند جفني وسهر أطوى وليس للطوى بي من أثر ... وأخبط الليل على غير حذر يؤنسني سهيل إن غاب القمر قال: فلما سمعت هذه الأبيات الحماسية، استشيت منها الفحة الخزامية. فقلت:

سهيل أرض أم سهيل الفلك ... يا أيها اللابس ثوب الحلك إنك عندي ملك في ملك فنزل الرجل وقال: ما لنا وسرى الليل، إذا طلع سهيل، رفع كيل ووضع كيل. فوثبت إليه كأبي فراس، وإذا كلنا في فراسته إياس. وقضينا غابر ليلتنا في تلك البطاح، إلى أن تبلج وجه الصباح، فنهض وقال: أين الوجهة يا صاح؟ قلت: قد ملكت دهراً، فأدلني شهراً. قال: أنا إمعة لك في هذه المرة، ولو نزلت بي على أبي مرة! فسرت بين يديه كالدليل، وسار في إثري كالضليل. وأخذنا نخترق الأدغال والشواجن، ونرد العذب والآجن، حتى

دخلنا سروج في صبحة يومٍ داجن. فترجلنا عن أنضائنا الطليحة، ونزلنا في غرفة فسيحة. ولبثنا هناك بضعاً من الليالي، نتفقد البرج المشيد والطلل البالي، ونلتمس آثار من كان في العصر الخالي. حتى كان يوم المهرجان، فضبثت مخالب الشيخ بالصولجان، وقال: هذا يومٌ يجتمع فيه الإنس والجان. وخرج بي في صدر ذلك اليوم، حتى انتهينا إلى منتدى القوم. فوجدنا هناك فجاجاً، وماء ثجاجاً، وناساً يدخلون أفواجاً. فتوسم الشيخ أوجه الناس، وجلس عن جانب أوجه الجلاس. فلما سكنت الضوضاء، أعرض بوجهه إلى الفضاء. وقال: يا أبا عبادة إني قد أزمعت السفر، ولا أدري هل يجمع بيننا القدر. فخذ عني ما ألقيه إليك، والله خليفتي عليك. قلت: أطرف بما عندك، لا ذقت فقدك، ولا حييت بعدك! فقال: يا بني إذا ركبت متن الصحراء، فاطلب خد

العذراء. وإذا نمت فاعتنق الصبي ولا تصل على النبي. واقنع بالسمراء، إذا عزت البيضاء. واشرب من كأس الفاجر، لا من كأس التاجر. وتصدق على الأمير، بجنى غرس الفقير. وإذا كلفت حمل الجنازة، فاطلب المفازة. وإذا اعتمدت السلب في الليل، فعليك بنهب الخيل. وإذا دخلت الحلقة فاحذف السلام، واقتصر على ما كذب من الكلام. وحرم الصبر على الأسير، والجبر على الكسير. واقطع السواعد ولا تتبع القواعد. واختر من النساء العليلة المتنصفة، أحذر المتجملة

المتعففة. وأعرض عن الشافع، إلى الدافع، وانحر الشاري كالبائع. واضرب الساعي، بعصا الراعي. وفضل القوافل، على النوافل. والغريب، على النسيب. والإجارة، على الإمارة. وقدم زيارة الميت، على حج البيت. أحذر لنفسك من الصوم وادخل السوق عند النوم. واتبع ملاح الجواري. ولا تتبع الكاتب والقاري، واطرد اللابس وأكرم العاري. وافترس الليل والنهار، حتى يتيسر لك الفرا. واحرص على الأعراض دون الجواهر، واعدل على المسلمات إلى الكوافر.

وكن من العواطل، ولا تحاول قطع خيط الباطل. وأنكر الشهادة، حيث لا ترى الإفادة. واضرب كبد الإمام، واستعد الله ما بقيت والسلام. قال: وكان القوم قد أرعوه سماعاً فأنكروا عليه إجماعاً. ولكنهم اعتصموا بالحزم، فصبروا كما صبر أولو العزم. حتى إذا فرغ من توصيته، أخذوا بناصيته. وقالوا: أولى لك يا شولة عدوان، وهيلة غطفان، قد أمرت بالسوء ونهيت عن الإحسان! فأرغى الشيخ وأزيد، وقال: ما أشبهكم بولد الخليل بن أحمد. لو كنتم

تعلمون ما وراء الفدام، من صفوة المدام، لنكص عليكم الملام. قالوا: فارفع الغشاء، ولك عندنا ما تشاء. قال: علم الله أنكم لو دخلتم البيوت من أبوابها، لكنتم أهلها وأولى بها. أما الآن وقد لقيت منكم الأمرين، وجاوز الحزام الطبيين، فلأصلينكم بنارين، ولا أبيعكم العبارة إلا بدينارين. فأذعن القوم لحكمه، إذ رأوا طليعة علمه، وقالوا: قد كثبك الصيد فارمه. حتى إذا فتق ما كان قد رتق. صاحت الجماعة: الله أكبر! قد نشر السروجي قبل يوم المحشر. قال: إنا قد أحصينا كل ذلك عدداً، ولو شئنا لجئنا بمثله مدداً. فنفحوه بالدنانير، وألقوا إليه المعاذير. قال سهيل: فلما تلقف المال أشار إلي، وقال: إن كنتم قد نسيتم الراشن فعلي.

فحصبوني بدريهمات، وقالوا: لا تأس على ما فات. فخرجنا نجر الذيول، وراح الشيخ يقول: يا رب يوم قد قرعت الظنبوب ... مندفقاً فيه اندفاق الشؤبوب أشرب بالزق وأسقي بالكوب، ... والناس بين غالب ومغلوب أنا أبو ليلى وسيفي المعلوب فقلت: أنت الخزامي الذي يشفي الضنى ... طاف بك المدح، فمن رام الثنا

المقامة الثالثة والعشرون وتعرف بالموصلية

لقب أو سمى وإن شاء كنى، ... أرسلك الله حديقةً لنا فيها نزاهةٌ وظل وجنى! قال: أكرمت يا سهيل، فشمر الذيل، وبادر الليل. قلت: إني لك أطوع من ثواب، وأتبع من البادية لمواقع السحاب. وخرجت في صحبته تلك الليلة إلى السواد، وكنت أود لو أصحبه إلى برك الغماد. المقامة الثالثة والعشرون وتعرف بالموصلية قال سهيل بن عباد: شخصت من حلب الشهباء، إلى الموصل الحدباء حتى إذا دخلتها أتيت الخان، وإذا شيخنا الخزامي في حجرة على الخوان. فلما رآني وثب عن الطعام، وابتدرني بالسلام.

فابتهجت به ابتهاج الساري بالقمر، ونسيت ما مر بي من بوارح السفر. ثم جلسنا نتناول ما طهت ليلى من الألوان، وهي تختلف إلينا باللحوم والألبان. فقال الشيخ: قد جمعنا بين ليلى وعمها، أفلا نجمع بين ليلى وأمها؟ فما لبثت أن جاءت بزجاجة بيضاء، فيها سلافةٌ سوداء. وقالت: ما أحسن الليل إذا اجتمع بسهيل! قال: وكان في الخصرة فتى من ركب القيروان، عليه مطرف من الأرجوان. فعلق الجارية وافتتن بها، لما رأى من ظرفها وأدبها. فقال: ليس في الموصل إن شاء الله إلا صلة الحبل، واجتماع الشمل. فقالت: إذا اجتمع الرجل بأهله، فسيغنيه الله من فضله. ففطن الشيخ ذو الهول والغول، لما دار بينهما من لحن القول. وقال: قد قضى الله باليسرى، فلك البشرى. واعلم أنه قد خطب إلي أكرم الأصهار، على مهر ألف دينار. فلم يسمح بفراق جنتي جناني، ولم يطب عن روحي وراحي وريحاني.

غير أن البيع مرتخص وغال، فلا يحول بيننا المال. قال: إن في يدي مائة دينارٍ إن كانت تكفيها، فبورك لك فيها. قال: هيهات، ولكن هات! فلما قبض المال قال: جعل مباركاً أينما كان، ولكن تنظرني هنيهة من الزمان. فتواعدا إلى أجل مسمى، وذهب الفتى جذلان بكشف الغمى، وانكشاف المعمى. قال: فلما حان أجل الزفاف، أقبل الفتى كالغداف. فوجد الشيخ يتأهب للرحيل، ويودع من هناك من أبناء السبيل. فأجفل الفتى أي إجفال، وقال: ما بالكم تزمون الجمال؟ قال: يا بني إني صرفت الدنانير بين الجفان والكؤوس، فلم يبق لي ما يقوم بتجهيز العروس. فأردت أن أتحول إلى الحلة إذ ذاك، لأقضي حقها بتلية لي هناك. فأشهد الفتى أن ليس له عنده

عرض ولا نقد، وقال: هلم إلى القاضي لإمضاء العقد. فانطلق معه الشيخ والجارية، وهو يريد أن يأخذها ولو بقرطي مارية. فلما دخلوا على القاضي قال الشيخ: يا مولاي إن هذا الفتى قد خطب امرأتي إلي، وهي غير مطلقةٍ من عصمتي ولا مطلقةٍ من يدي. فاعقد له عليها إن رأيت، وإلا فق له: اذهب من حيث أتيت! فقال الفتى: كلا يا مولاي إنها سليلته، لا حليلته. فقال القاضي: إن جئت ببينة لذاك، وإلا فقد سقطت دعواك. ولما نظر القاضي إلى توقفه، أمر بطرده عن موقفه، وأخذ يعنف الشيخ سوء تصرفه. فتباكى الشيخ وتنهد، ثم أشار إلى القاضي وأنشد: قد رجم الدهر بشهب النحس ... حتى هممت بفراق عرسي خوفاً عليها من حلول الرمس ... لشدة العيش وضنك النفس! ما برحت، مذ أربع أو خمس، ... تصبح في مجاعة وتمسي! ولا أرى في راحتي من فلس ... يقوم بالطعم لها واللبس

وهي فتاة من سراة عبس، ... أخوالها من آل عبد شمس معتادة نحر المهى بالأمس، ... وشرب ألبان العشار الدخس وملبس السندس والدمقس، ... لكنها من طيب ذاك الغرس قد أنفت ارتكاب الرجس ... فأنكسرت خروجها من حبسي وقد شكوت علتي للنطس ... عساه يسقيني شراب الورس فيكتفي الناقه شر النكس ولما فرغ الشيخ من الإنشاد رق له القاضي حتى استهل دمعه أو كاد. وقال: أيها الشيخ لا عجب، إذا أدركتك حرقة الأدب. فاعتثم الآن بهذه الدريهمات على أمر نفسك، وأنفق مما رزقك الله حلالاً طيباً واتق الله في أمر عرسك. فأخذ نحلة القاضي وأثنى عليه

بما استحق، وقال: مثلك من قضى الحق، وقضى بالحق قال سهيل: فلما فصلنا عن باحة القضاء، وحصلنا في ساحة الفضاء. قال: يا بني أقرب وخذ هذه الرقعة واكتب: قل للذي رام الفتاة المحصنة: ... إن كنت تبغي شركة عن بينه، فلنتهايا سنة بعد سنة ... لكن هذا العام يقضى لي أنه إذ قد بدأت فيه بعض أزمنه ... حتى إذا ما نفدت هذه الهنة زفقتها حالية مزينة ... إليك إذ تبغي، بأي الأمكنة لكن على شريطة معينة ... تبذل لي من مهرها نصف الزنة! ثم قال: يا فلان، قد استحيت من دخولي الخان. فأرى أن تترك الجواد وتنساب وتأخذ ما لي هناك من الأسباب، وتلصق هذه

المقامة الرابعة والعشرون وتعرف بالمعرية

الرقعة بالباب. ثم توافيني إلى باب المدينة، لنرحل من هناك بالظعينة. قال: فعلت كما أمر، لكنني لم أجد إلا خفاً بالياً فوافيته به على الأثر. حتى إذا أفضيت إلى الميعاد، لم أجد الشيخ ولا الجواد. فانثنيت أريد الدخول، وإذا رقعة على الرتاج قد كتب فيها يقول: ألا قل لابن عباد بن صخرٍ ... عليك تحيةٌ، ولك البقاء تركت ركوبة وأخذت أخرى ... فراحلةٌ براحلةٍ سواء! قال: فرجعت حينئذ بخف ميمون، واستعذت بالله من مكر كل خوون. المقامة الرابعة والعشرون وتعرف بالمعرية حدثنا سهيل بن عباد قال: أتيت معرة النعمان، في ما مر من الزمان. فطفقت أجوب في شوارعها وأجول بين أجارعها. وأنا أتنسم أخبار العلماء والشيوخ، وأتفقد آثار بني تنوخ. حتى

دفعت إلى ضريح أبي العلاء، وإذا حوله جماعةٌ من الفضلاء. وهم يحدقون إلى شيخٍ عليه شارة الجلال كأنه من بقية الأبدال. فجعلت أخترق الجمع وأسترق السمع. وإذا هو قد بسط ذراعيه، وخلل عذاريه. وقال: الحمد لله الذي جعل الحياة الدنيا، طريقاً إلى جنته العليا. أما بعد يا أهل الكتاب، أفتعلمون ما تحت هذا التراب؟ إن تحته رمم الأمراء والكبراء والعلماء والعظماء. وذوي الجاه والسطوة وأرباب السعة والثروة. وذوات الحسن والجمال، وربات الفضل والكمال. فإذا رفعتم هذه الرضام، واستنبثتم هذا الرغام. فهل لكم أن تمسوا تلك الجماجم، بإحدى البراجم؟ أو تتأملوا تلك الضلوع بقلبٍ لا يخامره الهلوع أو تنظروا بقايا تلك الأعضاء، بعين لا يغلبها الإغضاء؟ وهل تعرفون المالك من المملوك والغني من الصعلوك؟ والبهيج من المسيج؟ والكريم من اللثم؟ وهل

تميزون أبا العلاء، من راعي الإبل والشاء؟ وماذا ترون من عهده، بلزومه وسقط زنده؟ وأين صحة فكره، وسلامة ذكره؟ بل أين عزة لسانه القائل: إني لآتٍ بما لم تستطعه الأوائل؟ هيهات قد صار الجميع قوماً بوراً، وجعلهم الدهر هباءً منثوراً! فاضمحلت محاسنهم، واشمعلت خزائنهم ونثلت كنائنهم، وأصبحوا لا ترى إلا مساكنهم فلينتبه الغافل ولا يشتبه العاقل. وليعتبر كل جبار عنيد ويذكر من كل له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد. واعلموا أن الله قد أرسلني إليكم نذيراً، وأقامني بينكم سراحاً منيراً لأذكركم يوماً عبوساً

قمطريراً. فلا تغفلوا عن ذكر شرب تلك الكأس، وهو ذلك اليوم المجموع له الناس. واتعظوا بمن تقدمكم من القرون والأقران، ومن درج أمامكم من العيون والأعيان وتوبوا إلى بارئكم واندموا على ما فات، فإن الله يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات. واعتمدوا حفظ الفروض والسنن ولا تلووا على خضراء الدمن. فإن المحافظة على الصلوات لا تفيد من يتبع الشهوات. في الخلوات. ومكابدة الصوم لا تنفع من يؤذي القوم. وتجشم الحج والعمرة لا يزكي شارب الخمرة. فليس البر أن تولوا وجوهكم شطر المسجد الحرام، ولكن البر من اتقى والسلام. ثم أطرق وتنهد، وكبر وتشهد، وأنغض رأسه وأنشد: قد غفل الناس عن اليقين، ... وأخذوا بالوهم والظنون! لا يذكرون غمرة المنون، وموقف الحساب يوم الدين وهول ذلك العذاب الهون ... يلهون بالغادة والميسون

وبالجزور والودك السمين، ... والراح والقينة والقانون يا أيها الناس انهضوا في الحين، ... واصغوا لنصح المنذر المبين لا تشتروا دنياكم بالدين، ... ولا تباهوا بالحما المسنون! وليدع كل خاشع رزين ... بقلب عبدٍ خاضعٍ حين يا رب خذ مني باليمين، ... وامنن بروح القدس الأمين علي، واقبل توبة المسكين قال: فلما فرغ من أبياته نكس القوم الرؤوس والأبصار، وخضعوا بين يديه كالأسرى بين أيدي الأنصار. فتهلل الشيخ بوجه صبوح وصدر مشروح، وقال: الله أكبر قد تنزلت الملائكة والروح. فالطف، اللهم بعبادك وكن لهم هادياً ونصيراً، وحاسبهم حساباً يسيراً واكفهم خطب يومٍ كان شره مستطيراً. فازداد القوم على وهنهم وهناً، وصارت جبال قلوبهم عهناً. حتى إذا أزمع المسير عن أمد يسير، نبذوا إليه صرة من الدنانير، وبسطوا لديه المعاذير، وقالوا:

إننا ممن يطعم الطعام على حبه، ويكرم الكريم على ربه. فشكر وأثنى، فرادى ومثنى، وانصاع وهو يدعو بالأسماء الحسنى. قال سهيلٌ: وكنت قد عرفت الخزام بأنفاسه وإن كان قد نكر من لباسه. فقفوته حتى أدركته عن كثب، وإذا به قد جلس بين ليلى ورجب وهو يقسم دنانير الذهب. فيقول: هذا للجزور وهذا للشراب، وهذان للعود والرباب! فقلت: تأمرون الناس بالبر والله يعلم السر؟ فنظر إلي بعين دحرش، وزجرني بصوت دهرش. وقال: قد أردت أن أودع الدنيا، فإني قلما أحيا وأما أنت ففي ريعان الصبا وصحة المزاج، فاقضم الصلصال وتوجر الأجاج. فأمسكت عنه مستكفياً شره، وسدكت به حتى خرجنا من المعرة.

المقامة الخامسة والعشرون وتعريف بالتميمية

المقامة الخامسة والعشرون وتعريف بالتميمية حكى سهيل بن عباد قال: رحلت رحلةً إلى البادية في مفازة صادلة. فبذلت وجهي للهجير، ونضوي للعجارير. حتى إذا نضب الماء، وقد تهلل وجه السماء، أخذتني رعدة الظماء. فوصلت السير بالسرى لعلي أظفر ولو بالصرى، أو أبلغ بعض القرى. وبينما كنت أخب وأخد وأنا أجد ما لا أشتهي وأشتهي ما لا أجد. إذا راكبٌ على أثري يحدو، وهو يشدو: ذكرت ليلى! فاستهل مدمعي=حتى سقى رحلي، وبل مضجعي ما لي وحمل شكوة الماء معي؟ فوقع كلامه مني موقع البرء من أيوب، أو بشرى يوسف من

يعقوب. فزففت إليه زفيف الرال حتى أدركته على ناقته المرقال، وهو قد التثم بربطة واشتاذ بعقال. فسلمت عليه تسليم الصديق الأخص، وقلت: أغثني بشربة ماءً ولا تقل جاوزت شبيثاً والأحص. فقال: إن أخا الهيجاء من يسعى معك ومن يضر نفسه لينفعك. واعلم أني لا أريد أن أسومك الأثقال، فاقنع منك للجرعة بمثقال. قلت: كل الحذاء يحتذي الحافي الوقع، فاحتكم بحيث لا تكلفني ما لم أستطع. فلما انعطف إلى الشكوة انحل اللثام، وإذا هو صاحبنا الميمون بن الخزام. فوجدت من الدهش ما أذهلني عن العطش. واستلمت يده البيضاء استلامن الحجر الأسود وضممته إلي ضم العين للمرود. وبت تلك الليلة تحت رايته متمتعاً بروائه

ورؤيته وروايته. إلى أن لاح ذنب الشرحان، ونعب غراب الصحصحان. فادلجنا في تلك السباريت، وهو ينزو نزوان المصاليت ويقدم إقدام الخراريت. وما زلنا كذلك حتى أقبلنا على ديار بني تميم، في غسق الليل البهيم. فنزلنا في أطيب خرعى، وتركنا مطايانا ترعى. ثم أفضنا بين الحي واللي، في حديث يذهل غيلان عن مي. حتى لجت السنة وتلجلجت الألسنة. فهجعنا هزيعاً من الليل ثم قمنا نشمر الذيل، وإذا ناقة الشيخ قد ندت فدعا بالحرب والويل. فقلت لعلها قد نزعت إلى بعض أعطان القوم، ولعلنا نصيبها قبل انقضاء اليوم. وسرنا نتعاقب مرة ونترادف أخرى. حتى أتينا الحلة وإذا هي بين الإبل شاخصة

الذفرى. فلما رآها الشيخ صاح: الله أكبر ووثب إليها وثبة الذئب الأغبر. فدفعه بعض الرعاة وقال: لا تعرض نفسك للهلكة ولو كنت السليك بن سلكة. قال: علم الله أنها ناقتي الشاردة، وغنيمتك الباردة. فقال: كذبت يا شظاظ البادية، بل هي من تلادً صعصعة بن ناجية. فتمادى بينهما اللجاج، حتى كاد يفضي إلى الشجاج. ورأى الشيخ أنه ينفخ في رماد، وأن دون بغيته خرط القتاد. فقال: يا يا أبذل من حاتم، وآبل من حنيف الحناتم. إن لي حاجة

بالجفار ولا أتيمن بغير هذه المعشار، فأنا أستأجرها كل يوم بدينار. وهذا غلامي رهن في يديك حتى أردها عليك. قال: أما هذا فعير محظور، على أن تواعدني إلى أجل منظور. فضرب له الأجل، وضرب بها على عجل. قال: وكان قد ألاح إلي فاعتزلت، حتى إذا توارى أقبلت، وأردت الخروج من حيث دخلت فجعجع الرجل بي كصاحب السجن. وقال: هيهات قد غلف الرهن إلى أن يؤب مولاك من الصفن. فقلت: أن صح رهن المرء ما ليس له، فقد رهنتك كل ما في هذه المنزلة. وأصر الرجل على الغي، حتى رافعته إلى أمير الحي. فلما أتيناه سئلت عن المسألة، فقلت: قد رهنني صاحب تلك اليعملة، كما باع نعيمان سويبط بن حرملة. فهلم بالشيخ ليثبت امتلاكي وإلا فلا سبيل إلى إمساكي. قال الرجل هيهات إنه قد سار أسرع من ظليم الدو، فصار أمنع من عقاب الجو. فقال

الأمير: من هذا الشيخ ومن أين؟ فإني أراه أحيل الثقلين. قلت: أبيت اللعن يا مولاي! إني لا أعرف له منبت أسلة، ولا مضرب عسلة. لكنني لقيته سهماً حابياً عند إشرافنا على العهد، فحن إليه وأنشد: هذا حمى قوم تميم فاختلس ... فيه الخطى من هيبة كالمحترس فقد حماه كل ليث مفترس ... ليس بهياب الوغى ولا نكس ينسبه العرق الكريم النبجس ... إلى كريم، ذكره لا يندرس محيي الوئيدات الذي لم يبتش ... بماله المبذول دون الملتمس! علمت ما مجد تميم ملتبس ... نعم، ولا رفد تميم يحتبس

يا نافتي هاتيك نار المقتبس ... فإن بلغت الحي فالبشرى لكس قال: فاهتز الأمير عجباً وعجباً حتى كاد يصفق طرباً. وقال: شهيد الله كأنه أبو فراس، قد قام وعمراً في بردةٍ أخماس. ثم قال للرجل: يا هذا إن اللقطة قد راحت كما جاءت، فهبها لا أحسنت ولا أساءت. والآن فعادو إبلك وأحسن عملك، واقنع بما قسم الله لك. ثم قال: علم الله العظيم، إني لقد وجدت في هذا الشيخ رائحة تميم. فخذ له هذه الناقة الأخرى، واذهب فقد يسرتك لليسرى، لئلا يضيع قول شاعرنا: إننا

نفك الأسرى. قال سهيلٌ: فتسنمت تلك الذعلبة القواداء، وضربت بها في عرض البيداء. وكانت ليلة بدرها قد أنار حتى ألبسها جلباب النهار. فبينما أنا في بعض الطريق، إذا الشيخ قد تدثر ببرجد صفيق وهو يغط كالفنيق. فنزلت عن الناقة، وكتبت في بطاقة: قل لأبي ليلى: أنا فتاكا ... رهنتني في ناقة هناكا وقد عفا الأمير بعد ذاكا، ... أطلقني بناقة وراكا

المقامة السادسة والعشرون وتعرف باللغزية

أهداكها، فنعم ما أهداكا ... لكنني أخذتها فتكاكا فهي فدائي ... وأنا فداكا ثم ألقيت البطاقة بين يديه وأوفضت وأنا أتلفت إليه. فنجوت من بنانه، ولم أنج من لسانه. المقامة السادسة والعشرون وتعرف باللغزية حدث سهيل بن عباد قال: أدنفني هم ناصب، بليت منه بعيش شاصب، وعزاب واصب. فأجلت القداح في استخارة البراح. وخرجت أعدو الرهقى على فرسٍ زهقى توجعلت أعتست على

غير هدى، لعلي أجلو بعض الصدا. فلما تمادى السفر، وأنس ما كان قد نفر نزعت نفس إلى معاودة الحي، ولكن أعيت اللهنة علي. فأخذت أتفقد المشاهد جلاء يومي، لعلي أظفر بما أطرف به قومي. إلى أن سقطت على محفلٍ حافل، يستوقف النعام الجافل. فجلست في أخريات الناس، كأنني طفيل الأعراس، وأجلت طرف طرفي بين الجلاس. وإذا شيخ قد اشتمل الصماء واعتم الميلاء. والقوم قد كاوسوا حول مجثمه حتى حلوا دون توسمه. وبينما هم يتداولون أطراف الأسانيد، ويتناولون ألطاف الأناشيد. إذ دخل غلام أشهل الأحداق كأنه من رهط

شنقناق. فألقى رقعة بها كخط ابن مقلة وقال: لا ينبت البقلة، إلا الحقلة. فتصفح الرقعة قاريها، وإذا فيها: ما اسم ثلاثي به اجتمعت ... كل المقاطع غير ذي جسم مهما تقلبت الحروف به ... يأتي بمعنى صادق الرسم وإذا نظرت إليه منتبهاً ... فجميع ذاك تراه في الحلم فطفق القوم يصوغون ويكسرون، ويردون ثم يصدرون من

حيث لا يشعرون. حتى صفرت الوطاب، واختلط الليل بالتراب. فقالوا قد ابتلانا الخبيث بأحر من دمع الصب، وأعقد من ذنب الضب. فلو أن لنا من يقوم بحلة لعرفنا فضل محله. فبرز ذلك الشيخ المحجب، وقال: أنا عذيقها المرجب. وأنشد: قد فسر الكاتب في نظمه ... وقصر القارئ في فهمه لو فطنوا للحلم في قوله ... لعرفوا اللغز على رغمه فلما رأوا ما خامرهم من تورية الغشاء، وكبروا وقالوا: إن الله يهدي

من يشاء، ويضل من يشاء. فاهتز الشيخ عجباً وقال: إنها لإحدى الهنات الهينات! ولو شئت لجئت بما فوق ذلك من الحسنات المحصنات. قالوا: ذاك لك وإليك وفيه منة علينا وعليك. فشمخ بأنفه كأنه ملكٌ أو ملك، وأنشد ملغزاً في الفلك: ما عدمٌ في الحق لكن ترى ... منه وجوداً حيثما استقبلك ذلك لله بإجماله ... فإن قطعنا رأسه فهو لك ثم حدج القوم بالبصر وأنشد ملغزاً في القمر: ومولود بدون أب وأمٍ ... بلا قوتٍ يعيش ولا يموت له وجهٌ وليس له لسانٌ ... فيخبرنا ويلزمه السكوت ثم قال: دونكم يا بني الخالة وأنشد ملغزاً في الهالة: ما قولكم في محيز حسنٍ ... ليس له أول ولا آخر في قلبه نقطةٌ مشكلةٌ ... قد جانسته بشكلها الظاهر

ثم أشار إلى بعض الصحاب وأنشد ملغزاً في قوس السحاب: ماذا ترى، يا ابن الكرامة، ... في قوسٍ بلا سهمٍ ولا وتر تلقاه في بعض النهار ولا ... يبقى له في الليل من أثر ثم جعل ينضنض كالأيم، وأنشد ملغزاً في الغيم: حلل بلا صبغ ملونةٌ ... ترتد عنها كيف لامسها مرفوءة الأذيال بالية ... في البرد تعرق دون لابسها ثم رفع طرفه إلى السماء وأنشد ملغزاً في الماء: يميت ويحيي وهو ميتٌ بنفسه ... ويمشي بلا رجل إلى كل جانب يرى في حضيص الأرض طوراً، وتارةً ... نراه تسامى فوق طور السحائب ثم قال: وهذه خاتمة الأسرار، وأنشد ملغزاً في النار: أي صغير ينمو على عجلٍ ... يعيش بالريح وهي تهلكه يغلب أقوى جسمٍ، ويغلبه ... أضعف جسم بحيث يدركه قال: فلما فرغ من جلائل الألغاز وألقى عليهم دلائل الإعجاز.

تأبط عصاً له كالحفض ثم نهض من حيث ربص. فتعلقوا به وقالوا: نراك تزيد أن تجرح وتسرح فهيهات أن تبرح حتى تشرح! فحولق واستتب على ثفناته، وأفاض في شرح نفثاته. فلما كشف الغطاء، مالوا عليه بالعطاء. قال سهيلٌ: وكنت إذ برز لصحيفة الغلام قد عرفت أنه شيخنا ابن الخذام. فهممت بالجنوح إليه، فنهاني برمز شفتيه، ونهنهني عن التسليم عليه. فلما قضى الإبانة، واقتضى اللبانة. أشار إلي وقال: إني لأرى عليك سمة الغريب وكل غريب للغريب نسيب. فخذ هذا الدينار الساعة واشكر نعمة الجماعة. فغلب على القوم الحياء، وتداولوني بالحباء. حتى إذا اجتنينا الفرصاد خرجنا فإذا الغلام بالمرصاد. فوثب إليه

المقامة السابعة والعشرون وتعرف بالساحلية

الشيخ يعدو الجمزى، وأنشد مرتجزاً: جزيت خيراً يا غلامي رجبا ... دعوتك ابناً لي، فتدعوني أبا بادر إلى أختك ليلى في الخبا ... وقل: رزقت نزهة ومركبا، وملبساً ومطعماً ومشرباً ... وسترين من سهيلٍ كوكبا فاستقبلي الضيف وقولي: مرحبا ثم قال: يا بني من حاد عن الكيد، عاد بلا صيد. فاذهب معي الليلة للمبيت وكن من الشاكرين ما بقيت. فانطلقت أتبع ظله، حتى أتينا المظلمة. وأحيينا ليلتنا بالسمر، حتى انبثق السحر. فودعني وقال: اذهب إلى أهلك باليسرى، وأنا أذهب في ارتياد فترةٍ أخرى. فخلفت في الهم في تلك الديار وعدت إلى أهلي بالدرهم والدينار. المقامة السابعة والعشرون وتعرف بالساحلية

قال سهيل بن عباد: ألقتني الرواحل إلى بعض السواحل. وكان عودي يومئذ رطيباً وفودي غربيباً. فطفت المعالم والمجاهل ووردت الحياض والمناهل. وشهدت المحاشد وافتقدت المشاهد. حتى إذا كنت بمجلس بعض الأمراء، وقد حفت به العلماء والشعراء. دخل شيخ عريض اللثام، قد أخذ بتلبيب غلام. وقال: أعز الله الأمير إني ربيت هذا الغلام مذ دب، إلى أن شب. واتخذته لي عمدة وعدة، في كل رخاء وشدة. واستأمنته في كل ملمة على كل مهمة. فلما كان بعض الأيام المواضي أرسلته بتقريظ إلى القاضي. فاستبدل القوافي، وحول ما في الأبيات من المديح الصافي، إلى الهجاء الجافي. فحكم القاضى علي بالحيس، وقال. المال فداء النفس، فخرجت لا درهم معي ولا فلس. فمر الغلام أن يعطيني حق الجناية علي، ويعوضني ما فقد على يده من يدي. فقال الأمير: وماذا كتبت من الأبيات وكيف بدل الحسنات بالسيئات؟ قال: أما المديح المكتوب، فعلى هذا الأسلوب:

أرى القاضي أبا حسنٍ ... إذا استقضيته عدلا وإن جاءته مسألة ... لطالب رفده بذلا إمام لا نظير له ... نراه بيننا جبلا قد اشتهرت خلائقه ... فأصبح في الورى مثلا وأما التبديل الذي طرا، فكما ترى: أرى القاضي أبا حسنٍ ... إذا استقضيته ظلما وإن جاءته مسألة ... لطالب رفده لؤما إمام لا نظير له ... نراه بيننا صنما قد اشتهرت خلائقه ... فأصبح في الورى عدما فقال الأمير للغلام: أف لك يا عقق، يا ابن شارب الفلق أتجزي جزاء سنمار، ولا تخاف من العار؟ قال: يا مولاي إني غلام غر، لا أعرف الهر، من البر. غير أن هذا الشيخ قد استخدمني

بضع سنين، وهو يطعمني ولا يسقين. فلما أتيت القاضي بكتابه، شكوته إلى بعض حجابه. فقال: لا ظالم إلا سيبلى بأظلم وأخذ الأبيات فحرفها والله أعلم. فإن شئت فمر بسجني لعلي أملأ بطني. فقال الشيخ: بل فاسجنناً جميعاً، فإني أشد منه جوعاً. وكان بينهما قناة كصدر القناة. فقال: يا مولاي أرى أن تدفع إليهما، ما ستنفقه في السجن عليهما، واغتنم الراحة من كليهما. قال: لا جرم أن ذلك أجزم، وحصب كل واحدٍ منها بمائة درهم، قال سهيلٌ: وكنت قد استروحت ريح الخزام، وعرفت الشيخ والفتاة والغلام. فلما انصرفوا خرجت على الأثر، وإذا الشيخ ينشد على حذر: هذا أبو ليلى وهذه ليلاه ... يحوم في طلاب رزق مولاه كطائرٍ وأنتما جناحاه فزلفت مبتدراً إليه وقبلت مفرقة ويديه. وقلت: يا مولاي ألم يئن لك أن تسلك الجدد، وتترك اللدد؟ فحملق إلي كالغول،

المقامة الثامنة والعشرون وتعرف بالفكية

وأنشد يقول: للناس طبع البخل، وهو يقودني ... كرهاً لخلق عضيهةٍ ونفاق فدع الجماعة يتركون طباعهم ... حتى تراني تاركاً أخلاقي ثم قال: يا بني ذاك المسجد إن كنت خطيباً وإلا فلا تداو طبيباً. واعلم أن الصيد لا يؤخذ إلا بالختل، ولا يدرك إلا بالنبل. والفرصة لا تضاع، والمتعنت لا يطاع. فراع المصادر والموارد، وكن مارداً على كل مارد ودع الناس يضربون في حديد بارد. قال سهيلٌ: فأمسكت من مرائه وسرت من ورائه، وأنا أعجب من سفاهة رائه. المقامة الثامنة والعشرون وتعرف بالفكية

حدث سهيل بن عباد قال: ندت لي ناقة بالبادية في ليلة هادية فخرجت أنشدها تحت الغاسق الواقب، كأنني شهاب ثاقب. وكأنها توارت بالحجاب فوق السحاب، أو تحت التراب. فخفت أن الحق بالقارظ العنزي، أو المنخل اليشكري. ولبثت أحدث نفسي بالإحجام، وهي تحدثني بالإقدام. حتى نصب ضحضاح الرجاء واستبهمت شعاب الأرجاء. فانقلبت على أحد جانبي، وأزمعت الأوبة إلى الحي. فما شعرت إلا وأنا بين قوم ثبين، ينفرون إلى الداعي مهطعين. فقفوتهم إلى المشهد المشهود لأستطلع طلع الأمد المأمود. وإذا شيخ أطول من شهر الصوم،

قد قام في صدر القوم. وهو يقسم تارة بالخنس، وطوراً بالجواري الكنس. ويلهج مرةً بمواقع النجوم وأخرى بفواقع الرجوم. وفي خلال ذلك يتفقد الغضون والأسارير، ويرجم بغيوب التقادير. فصمد إله رجلٌ أدرم كأنه القضاء المبرم. وقال: الله أكبر، إن البغاث قد استنسر. إن كنت من علماء الفلك، فأفدنا ما سيارة النجوم والفضل لك. فلم يكن إلا كحل عقال، حتى أنشد فقال: تلك الدراري: زحل فالمشتري ... وبعده مريخها في الأثر شمس فزهرة عطارد قمر ... وكلها سائرة على قدر قال: ذلك على أجوبة العلماء، فما هي أبراج السماء؟ فنظر إليه نظرة الصل الأصم، وقال اسمع وخلاك ذم: من البروج في السماء الحمل ... تنزل فيه الشمس إذ تعتدل

والثور والجوزاء نعم المنزلة ... وسرطان أسد وسنبله كذلك الميزان ثم العقرب ... قوسٌ وجديٌ دلو حوتٍ يشرب قال: أراك من أرباب النظر فهل تعرف منازل القمر؟ فأنغض رأسه واستطال، وأنشد في الحال: الشرطان أول المنازل ... وبعده البطين في القوابل ثم الثريا الدبران الهقعة ... كذلك الذراع بعد الهنعة نثرة طرفٌ جبهةٌ غراء ... وزبرة وصرفة عواء ثم السماك الغفر والزبانى ... كذاك إكليلٌ وقلبٌ بانا والشولة النعائم البلدة مع ... تلك وسعد ذابح سعد بلع سعد السعود ثم سعد الأخبيه ... وفرغها المقدم المستتليه وبعد ذاك فرغها المؤخر ... كذاك بطن الحوت ختماً يذكر

قال: حياك الذي سواه، فهل تعرف لياليه المسماة؟ فنظر نظرةً في السماء، ثم تلا: إن هي إلا أسماءٌ وأنشد: أما لياليه فتلك الغرر ... ونفلٌ وتسعٌ وعشر وبعدهن البيض ثم الدرع ... وظلم حنادسٌ تستتبع وبعدها الدآدئ المحاق ... كل ثلاثٍ في اسمها وفاق والغرة الأولى وصدر البيض ... عفراء فالبلماء في التبعيض

كذا المحاق صدرقه الدعجاء ... وبعدها الدهماء فالدلماء قال: قد عرفت سعود القمر فهل تعرف السعود الأخر؟ فأنشد: هاتيك سعد ملك سعد مطر ... سعد الهمام والبهام في الأثر وسعد بارعٍ وسعد ناشره ... وذاك عدة السعود العاشرة قال: قد عرفت طوالع الأضواء فهل تعرف غوارب الأنواء؟ فأنشد: أول نوء السنة البدري ... وبعده الوسمي فالولي ثم الغمير ثم بسري خوى ... وبارح القيظ وإحراق الهوا

قال سهيلٌ: فلما رأوه عارضاً مستقبل أوديتهم وتياراً مستغرق أنديتهم. قالوا: شهد الله إنك لقطب الأرض والسماء، فانظر لنا واتق الله إنما يخشى الله من عباده العلماء. فقام يستقري الصفوف، ويتوسم الجباه والكفوف. ويستطلع الطوالع والمواليد ويفرق بين الشقي والسعيد. حتى خيل للقوم أن عنده علم الغيب فهو يرى، وأنه يعلم ما في السماء وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى. فاحرنجموا عليه بالعطايا كما تحرنجم على الماء المطايا. فلما قبض نهض، ثم نكص فربض. وقال: قد تطيرت من تحس هذا الكابح، فأخرجوه على هذه الناقة الشوهاء فإنها ضريبةٌ له في المقابح. وهو بين ذلك

ينظر مرةً إلي كالعائف ومرةً إلى الأرض كالقائف. فأطلقوا إلي الناقة وقالوا: اغرب عنا إلى النار، وجعل الشيخ يرمي الحصباء في أثري كما ترمى الجمار. فلما صرت بمعزل، عن المنزل. إذا الشيخ في أثري كالغول وهي يقول: إني خلقت الأحيا ... حتى يشاء القضاء ولي فؤاد لبيبٍ ... يجول حيث يشاء إن ضاقت الأرض دوني ... فما تضيق السماء ثم قال: خذ من جذعٍ ما أعطاك، ولا تقل: كيف ذاك؟ وانطلق

المقامة التاسعة والعشرون وتعرف بالمصرية

ينهب الأرض بجواده حتى غمضت عين سواده. فانثنيت متيمناً بتلك المناحس ومتعجباً مما عنده من ترهات البسابس. المقامة التاسعة والعشرون وتعرف بالمصرية قال سهيل بن عباد: أزمعت الشخوص إلى الكنانة في ركب من بني كنانة. فلما فرغت من الأهبة أتيت القافلة، في اتخاذ الراحلة فعرض لي رجلٌ أدهم، وقال: آجرتك هذا المطهم كلي يوم بدرهم. فرضيت باشتراطه ولم أبتئس باشتطاكه. وخرجنا نطوي الوهاد والربى، بين الخيزلى والهيذبي. حتى حللنا تلك الديار فنزلنا عن الأكوار، إلى الأوكار. وأحفظني صاحب المطيه،

فنقمت منه بهذم العطية. حتى إذا تعذر التراضي ولج في التقاضي، نافذته إلى القاضي. فبينما أتيناه عن كثب، أقبل الخزامي ورجب. فتقدم الغلام، وقال: حيا الله الإمام إن هذا الشيخ أجدب من رحلة وأحرص من نملة. وأسأل من فلحس وأبرد من عضرس. يذخر المرمض ويضن بالغمص. ويتبلغ بالقضاعة في إبان المجاعة. وقد استعبدني لظاظاً، لا ألبس له طحربةً ولا أذوق له لماظاً. وهو يكلفني حمل الأثقال ويسومني ذل السؤال. فأنا أعول نفسي وإياه، حتى كأنني مولاه. فمره أن يقوم بحقي أو يتخلى عن رقي. وإلا قتلت نفسي وخلصت من حبسي. قال: فلما فرغ الغلام من قصته، مال القاضي على منصته، وجعل يتأفف لغصته. ثم سأل الشيخ فتنهد، واغرورقت عيناه بالدموع

وأنشد: قد صدق الغلام في ما يدعي ... فإنه مذ أشهر لم يشبع مزملٌ في السمل المرقع ... موسدٌ فوق الحصى واليرمع يبيت طول ليله لم يهجع ... يدعو إلى الله بقلبٍ موجع لكنني شيخٌ شديد الزمع ... إذ نهضت بكرةً من مضجعي، أمشي كما تمشي ذوات الأربع ... قد بعت حتى إنني لم أدع سواه عندي من جميع السلع، ... فصرت كالطفل الصغير المرضع لا زاد في بيتي ولا مال معي، ... فإن أردت بيعه لم يقع لي في الحيوة بعده من مطمع ... فهو أنيسي في الخلاء البلقع وسندي في عثرةٍ أو مصرع، ... أراه في حديثه كالأصمعي وفي الدهاء كقصير الأجدع ... وفي المضاء مثل سيف تبع يقوم بالأمر قيام المسرع، ... وهو إذا ولى قريب المرجع ويحفظ الود بلا تصنع ... كحفظه سرائر المستودع فانظر إلى ما نحن فيه واسمع

قال: فلما فرغ من أبياته نظر إليه القاضي شزراً وقال: إن لك في أمر نفسك عذراً، ولكن عليك في أمر الغلام وزراً. فإن رأيت أن تبيعه وتستخدم بثمنه، ولا تبكي على أطلال الربع ودمنه. فليس للمرء ثقهٌ من زمنه. وكان الشيخ قد أغرى بالغلام من حضر، عندما ذكر من صفاته ما ذكر. فقام في المجلس بعض حاضريه، وقال: إن كنت تبيعه فأنا أشتريه. فبكى الشيخ حتى اخضل عارضاه وقال: هل من يبيع روحه برضاه؟ لكني قد سئمت العيش المدير كما سئم لبيد. فضع الفأس، في الرأس، وحيهل بهذه الكأس. فابتدر الرجل صفقة العقد وقفى على أثرها بالنقد. وقال للغلام: هيا، فإن الفرج قد تهيا. فلما نهض به لينطلق أجهش الشيخ بصوتٍ صهصلق. وانعكف على الغلام يودعه، ثم خرج يشيعه. وأنشد: لا تنسني، يا من له النفس فدى ... فلست أنساك ولو طال المدى

إن نكن اليوم افترقنا قددا ... فموعد اللقاء بيننا غدا والدهر لا يبقى لحيٍ أبدا قال: فلما قضى وداعه ذهب الرجل يهرول، وتركه وهو يعول. فرئى له قلب كل جبار، وجبر قلبه كل واحلٍ بدينار. فلما أحرز المال انقلب على عقبيه وهو يمسح مدامع جفنيه، واختلس نفسه بحيث لا أهتدي إليه. فبت تلك الليلة بين شوقٍ إلى نظره، وتوقٍ إلى استطلاع خبره. ولما كان الغد خرجت أتخلل المواكب وأتفقد الدهاليز والمساطب. حتى رأيته والغلام بجانبه، وقد لبس كل منهما بزة صاحبه. فلما رآني هش إلي وبش وأنشد بصوتٍ أجش: قد خالف الشرع الشريف فاشترى ... حراً بجهل نفسه، وما درى ففر منه جنح ليلٍ وسرى ... في طاعة الرحمن يمشي القهقرى وإنني علمته بما جرى ... كيف يداري نفسه بين الورى فحق لي ما نلته كما رأى

المقامة الثلاثون وتعرف بالطبية

قال سهيلٌ: فقلت إن كل العجب بين ميمون ورجب. وانصرفت وأنا أصفق من بلابل سحره وأستعيذ بالله من زلازل مكره. المقامة الثلاثون وتعرف بالطبية حكى سهيل بن عبادٍ قال: خرجت على فرسٍ جموح إلى نيةٍ طروح، فأزعجنى إهماجاً وخبباً، وأرهقني صعداً وصبباً. حتى نهكني اللغوب، وأعياني الركوب. فنزلت لأقيل، وأستقيل. وإذا ناقةٌ ترعى، وهي تنساب كالأفعى. فوقفت أستشرف الهضاب والوهاد، وأنا أريد أن أبد لها بالجواد وإذا شيخٌ قد انقض علي

كنسر لقمان بن عاد، وقال: هلكت ولو كنت سهيل بن عباد. فتوسمته من تحت اللثام، وقلت: قاتلك الله ولو كنت ميمون بن خزام فضحك ثم كبر، وقال: الاجتماع مقدر. ثم قال: الطعام، يا غلام فأحضر ما تسنى ثم اندفع فتغنى. قال: فكان عندي أنس ذلك اللقاء، أطرب من شدو سلامة الزرقاء. وبت معه ليلة من ليالي الدهر أحسبها خيراً من ألف شهر. حتى اشتعل رأسها شيباً، وعط الصباح لديجورها جيباً. فاستوى الشيخ على القتب، وقال: أجيبوا داعي الله إلى ما كتب. فأوفضنا في مقازةٍ صلدة، حتى أفضينا إلى بلدة، بها مدرسةٌ للطب عن الحرث بن كلدة. فحللناها

حلول النون في القفار أو الضب في البحار. ولما انجابت وعكة السفر، خرج الشيخ في ارتياد الظفر. حتى أتينا المدرسة وهي حافلةٌ بالطلبة، وقد قام في صدرها شيخٌ طويل الأرنبة، عظيم العرتبة. فقال الحمد لله الذي شرف علم الأبدان، حتى قدم على علم الأديان، أما بعد فإن هذا العلم أفضل علوم الدنيا جميعاً، لأنه أشرفها موضوعاً. وهو أدقها نظراً، وأجلها خطراً، وأقدمها وضعاً، وأعظمها نفعاً. وأغمضها سريرة، وأوسعها حظيرة. وهو يستطلع الخبايا ويستوضح الخفايا. حتى قيل: إنه وحيٌ قد هبط على الأطباء، كما هبط الوحي على الأنبياء. وصاحب هذه الصناعة، أروج الناس بضاعة. وأربحهم تجارة وأشهاهم زيارة. وأكسبهم أجرةً، وأجراً وأنفذهم نهياً وأمراً. وعليه مدار الأعمال والمهن، وقيام الفروض والسنن، فإن كل ذلك لا يتم إلا بصحة البدن. وطالما كان هذا الفن أعز من

جبهة الأسد، حتى اغتالته الجهلاء فأوثقوا جيده بحبل مسد. فواهاً له كيف ثل عرشه وآهاً لعليلهم كيف قل نعشه قال: وكان في الحضرة فتى باهر اللطافة، ظاهر القضافة. فقال: يا مولاي إني قد منيت بجهل المتطببين الرعاع، الذين لا يعرفون الصافن من حبل الذراع. فلعلك توصيني بما يكون غنية اللبيب، عند غيبة الطبيب. فاطرق هنيهةً للتروية، ثم هب في التوصية، فقال: يا بني لا تجلس على الطعام إلا وأنت جائع، وقم وأنت بما دون الشبع قانع. وباكر في الغداء، ولا تتماس في العشاء، والزم الرياضة في الخلاء، واجتنبها عند الامتلاء. ولا تدخل طعاماً على طعام، ولا تشرب بعد المنام. ولا تكثر من الألوان، على الخوان. ولإتعجل في المضغ والازدراد، واجتنب كل ما لم

ينضج وما بات من الطعام فهو مجلبةٌ للفساد. وإذا أمكنتك الوجبة فهي أفضل نخبة. واقطع العادة المضرة، مرةً بعد مرة. وعليك بتنقية الفضول، في معتدلات الفصول وإذا مرضت فقابل السبب، واحرض على القوة فإنها إلى الحيوة سبب. وبالغ في الدواء، وما شعرت بالداء، ودعه متى وثقت بالشفاء. وإذا استغنيت بالمفردات فلا تعد إلى المركبات. وإذا اكتفيت بالأغذية فلا تتجاوز إلى الأدوية. وإذا تعاظم العرض، فاشتغل به عن المرض. واعتمد الحمية الواقية، ما دامت العلة باقية. واحذر دواعي النكس، فإنه شر من العلة بالأمس. واعلم أن التجربة خطر، فكن منها على

حذر، والعلاج بين استفراغ الحاصل، وقطع الواصل. والصحة تحفظ بالشبه وتسترد بالنقيض، والحمية للصحيح كالتخليط للمريض. واستعمال الدواء حيث لا يحتاج، كتركه عند حاجة العلاج. والمضر اليسير، خير من النافع الكثير، وكل ما عسر قضمه، شق هضمه. ومن كثرت تخمه، تفاقم سقمه. وأكثر الأوصاب، يكون من الطعام أو الشراب. فاحفظ عني هذه المواعظ، واحتفظ بها والله الحافظ. قال: فلما فرغ من كلامه الموضون، برز شيخنا الميمون. وقال: إ، ي لأراك من أهل الفضل والفصل، وأرباب العقل والنقل. ولقد عثرت على مسائل، في كتب الأوائل. فهل تأذن بدفع الظنة، ولك المنة؟ قال: حبذا فقل إذا. قال: ما هو الدشبذ؟ وكم هي الدلائل التي تؤخذ؟ وما هو أعدل الأعضاء، بالنسبة إلى بقية الأجزاء؟ فأخذ

الأستاذ في تقليب رأيه، حتى أفرط به لأيه. ثم قال: إن الإنسان موضع النسيان، فهل من مسائل أخرى، لعلي أصادف بها الذكرى؟ قال: قد رميتك بالفصيح فاستعجم، فهل تفرق من صوت الغراب وتفرس الأسد المشبم؟ هيهات إن العلم بتحقيق القضايا، لا يتنميق الوصايا فغلب على الرجل الوجوم، ولعبت بالقوم الرجوم. حتى قالوا للشيخ: مثلك من يستحق الإمامة، فهل لك عندنا من إقامة؟ قال: قد علمتم أ، النقلة، ثقلة. ولا سيما مع تطارح الشقة وتطاوح المشقة. ف'ن خففتم عني بالإمداد، أتيتكم كوري الزناد. فنفحوه بعدةٍ من الدنانير وقالوا: استعن بالله والله على كل شيءٍ قدير. قال سهيلٌ: فلما فصلنا عن المكان أخذ الشيخ مجلساً مكتوماً، ثم برز فناولني طرساً مختوماً. وقال: إذا أصبت فألقه إلى القوم ولا تثريب عليك ولا

المقامة الحادية والثلاثون وتعرف بالعبسية

لوم. فأجبته إلى ما طلب، وإذا به قد كتب: أنا ذاك الطبيب وإن طبي ... لنفسي لا لزيدٍ أو لعمرو وما عالجت سقم الناس يوماً ... ولكني أعالج سقم دهري إذا ما مسني ضنكٌ، فعندي ... جوارش حيلةٍ وشراب مكر فلما وقفوا على أبياته، تعوذوا بالله من آفاته. وقالوا: إن لم يكن طيبياً، فكفى به لبيباً فهل لك أن ترده علينا لظرفه، إن لم يكن لعرفه؟ قلت: ذاك مما لا يقرب، فإنه أجول من قطرب. ورجعت إلى موعدنا فوجدت أنه قد أفل قبل الشمس. المقامة الحادية والثلاثون وتعرف بالعبسية روى سهيل بن عبادٍ قال: ألجئت في الحجاز إلى الهرب، وأنبئت أن بني عبسٍ من جمرات العرب. ففررت إلى ديارهم معتصماً بجوارهم. ولبثت عندهم ردحاً من الزمان، تحت ظل الأمان.

حتى كنت يوماً بحضرة الحكم، على بعض الأكم. وإذا الخزامي قد أقبل تزبد شفتاه، وخلفه فتاته وفتاه. فلما وقف بنا استدعى الجمع واسترعى السمع. ثم قال: الحمد الله الذي شرف الحجاز وأهله، وأذل لبني غطفان حزنه وسهله. أما بعد فإنكم يا بني عبس آية البشر في البشر ولنزيلكم حق التيه والأشر. وفيكم المآثر التي تذكر، والآثار التي لا تنكر. ومنكم الرجال الذين سالت بذكرهم البطحاء كقيس الرأي وعنترة الفلحاء والكملة الأصحاء.

وعنكم تروى حرب السباق التي بلغ عجاجها السبع الطباق. ولكم الرفعة بمصاهرة الدول، والشركة في شرف السبع الطول. وإنني شيخٌ كاسف البال، مشارف الوبال. قد سألت الله ولداً حسناً، فكان لي عدواً وحزناً. يوسعني زجراً ولا يطيع لي أمراً، وإذا ضججت

زادني وقراً. فلينظر المولى إلي ويحكم لي أو علي. فأقسم الفتى بحرمة الحرمين، لقد نطق الشيخ بالمين. وقال: هو يسألني برامتين سلجماً، ثم يفتري علي حديثاً مرجماً. فأشكل بين القوم ذلك الخصام، وقالوا: قربةٌ شدت بعصام. فإما أن تصرحا لدى المولى، وإلا فالصمت أولى. قال: فحلت الفتاة الحبوة وثارت كاللبوة. وقالت: أنا أجعل خادعتهما رتاجاً، وقفلها زلاجاً. ثم أفرجت عنها اللفاع وانتفجت كاليفاع. وأنشدت: هذا البريدي أبو العباس ... قد كان بين الناس كالنبراس يحف بالقيام والجلاس ... ما زال بين طاعمٍ وكاس مكلل الجفان صافي الكاس ... حتى دهته ضربةٌ في الرأس

رمته بالإقتار والإفلاس ... وحاجة الطعام واللباس فصار من شدة ما يقاسي ... يكلف ابنه سؤال الناس فينفر الفتى الشديد الباس ... من ذلك الذل، ولا يؤاسي وتلك دعواه بلا التباس فلما أرى الفتى انهتاك سره وانتهاك ستره. نشط من اعتقاله، كما ينشط البعير من عقاله. وقال: أما وقد برح الخفاء، وطرح الرفاء. فإنني رجلٌ عزيز النفس كأنني من سراة عبس. وقد ربيت في الخير والمير، كأنني مالك بن زهير. وكان هذا الشيخ يقري الضريك، ويعول الضنيك كأنه عروة الصعاليك. فابتزه الدهر الخؤون القاسط، كما فعل بقيسٍ حين لحق بالنمر

ابن قاسط. فلما قوض الدهر مناره وأخمد الفقر ناره. أنكرته المعارف، وضاقت عليه المخارفز فداره حابله على نابله، ورضي بالطل وابله. فصار يشتهي نضاضة الجفال ويتمنى نفاضة الثفال، وجعل يسومني ذُلَّ السؤال، ويحملني على استسقاء الآل. وقد صارت الفتيان حمماً وأصبحت الكرام رمماً. فلا يطمع منهم بذبالة ولا يؤخذون بحبالة، وذلك ضغثٌ

على إبالة. ولعل الله قد ساقه إلى حماكم، وأحيا سباخه بحياكم. فإنكم غيث الجود، وغياث المنجود. ومحط القوافل والقوافي، فليس القوادم كالخوافي. ثم أنشد: إذا لؤم الدهر في نفسه ... فللناس في حذوه المعذرة وإن كان ذلك ذنباً له ... فإن بني عبس المغفرة قال: فسمد الشيخ كمداً وتنفس الصعداء ومداً، ثم مال على عصاه معتمداً. وأنشد: أشكو إلى الله صروف الدهر ... فقد رماني بالرزايا الغُبر أصابني بهرمٍ وفقر ... وأخذ الكرام أهل اليسر فلم أصادف جابراً لكسري ... جزاه مولاي جزاء الغدر كما جزى البغاة آل بدر ... إذا سفكت دماؤهم في الجفر

المقامة الثانية والثلاثون وتعرف بالعاصمية

فأوى القوم لشكيته ورثوا لبليته. وتصدقوا عليه بذود، وأجازوا الفتى بعود. فشكراهم على تلك الجدوى، وانقطعت بينهما الدعوى فهرت الفتاة واكفهرت وأنشدت وقد اسمهرت: نلوم الزمان إذا ما أخل ... بتسوية الرزق في أهله وها نحن نفعل فعل الزمان ... فكيف نلوم في فعله؟ قالوا صدقت أيتها الحرة لقد حقت لك المبرة. وجبروا قلبها بشيء من المال فانقلب الجميع بحسن المآل. المقامة الثانية والثلاثون وتعرف بالعاصمية قال سهيل بن عبادٍ: جمعتني وأبا ليلى الأقدار في بعض الأسفار. وهو قد لبس الطيلسان ولزم تلاوة القرآن. فسرني ما رأيت به من

التقى، أكثر من ذلك الملتقى، وسار القوم يستضيئون بنبراسه، ويتيمنون ببركات أنفاسه. وهو يتداول الأدعية والأوراد، ويقص علينا قصص الأفراد، حتى دخلنا عاصمة البلاد. فنزلنا حيث تنزل أبناء السبيل، وبات الشيخ يطرفنا بحديث أشهى من السلسبيل. فانعكفت عليه أخلاط الزمر، كأنه بينهم عثمان أو عمر، ولم يصبح إلا وهو أشهر من القمر. وصار ذكره عند دهقان القوم، يتردد اليوم بعد اليوم. حتى حمله الشوق إلى لقائه، على استدعائه. فلما حضر هش إليه هشاشة الصديق، ثم قال: أوصني أيها الصديق. فأطرق برأسه من الخشوع، واستهلت عيناه بالدموع. ثم قال: يا مولاي اشكر نعمة الله لئلا يغيرها عنك، وكن خائفاً منه كما تخاف الناس منك. وإياك الكبر والتيه، فإن غضب الله على من يأتيه. وكن في اللين والشدة بين بين، فإن الناس لا يؤخذون بالمحض من

الطرفين. وعليك بالصبر في الشدائد، فإنه للفرج نعم القائد. ولا تكن سريع النقم لئلا تسقط في الندم. وبالغ في البحث عما اشتبه، ولا تثق بأحدٍ قبل التجربة. واجتنب الطمع والشراهة واتق البخل فإنه مجلبة الكراهة. واعتزل الشراب، فإنه آفة الألباب. واحذر العجل، فإنه موطن الزلل. وارفع شأن العلماء، فإن لهم شرفاً من السماء. واقتصر على مجالسة الحكيم، فإنه يهديك الصراط المستقيم. وكن قليل الصخب، بطيء الغضب. وارحم ذلة الشاكي، وعبرة الباكي واحكم بالحق ولو على نفسك، فضلاً عن أبناء جنسك. ولا تفرق بين الأغنياء والصعاليك والسادات والمماليك. ولا تبع الحق بالمال، فذاك بئس الأعمال. والزم الرصانة والوقار، لتهاب في أعين النظار. ولا تكن عبوساً فتنفر منك الناس ولا ضحوكاً فتزدري بك الجلاس. ولا تعتد بنفسك في الملمات، ولا تستبد برأيك في المهمات. ولا تغفل عن إصلاح الهنات مما فسد. فإن البعوضة تدمي مقلة الأسد. ولا تشتغل بالدنيا عن الدين واجعل الموت نصب عينك في كل حين. واعلم أن كثرة الحلم، ضرب من الظلم. والرخصة في تأديب العاصي، مساعدة على المعاصي. والإغضاء عن الصغائر توريطٌ في

الكبائر. والرحمة للمردة الأشرار، كالجور على العبدة الأبرار. ورفع منزلة اللئام، كخفض شأن الكرام. ورزق من ليس مستحقاً، كحرمان من يستحق رزقاً. واعتبر أن الرعايا من الإنسان، ليست كالرعايا من سائر الحيوان. فاجتهد في سياستهم بخيلك ورجلك، واعتقد أنك قد خلقت لأجلهم وهم لم يخلقوا لأجلك. ولا تحسب أن الإنسان يترك سدى، ولن يحاسب غداً والسلام على من اتبع الهدى. فارقم هذه الوصايا على صفحات قلبك واكتب بها إلى أقرانك وصحبك. وأنا زعيم لك بقرة العين، والسعادة في الدارين. قال: فلما سمع الوالي هذه النصائح استجادها واستحلاها ثم استعادها واستملاها. وأمر بتوزيعها في اشتات الجوانب، على كل عاملٍ ونائب. ثم أمر للشيخ بخلعة صوفية، ودنانير كوفية. وقال: اذهب الآن بهذه الجدوى ولا تكن كبارح الأروى. قال سهيلٌ: فلما خرجنا من مجلس الدهقان، وأتينا منزلنا بالخان. جعلت أحمد الله على تلك الهداية، وأغبط الشيخ على حسن النهاية. فضحك بي كالساخر، وقال: ما أشبه الأول بالآخر. ثم أنشد: علمت أني من رجال الدهر ... أنظر في أمري بعين الفكر متى فشا ذكري وشاع مكري ... غالطت من يدري كمن لا يدري

المقامة الثالثة والثلاثون وتعريف بالرشيدية

بآية من الصلاح تسري ... بين الورى مثل نسيم الفجر ليستقيم في البلاد أمري قال: فعلمت أنه لا يحول عن شنشنته الأخزمية، ولا يزول عن سنته الخزامية. ولبثت في صحبته ما شاء الله، وأنا أبكي لدينه وأضحك لدنياه. المقامة الثالثة والثلاثون وتعريف بالرشيدية أخبر سهيل بن عباد قال: بينما كنت يوماً في رشيد جالساً في صرح مشيد. إذ لمحت شيخنا الخزامي في بعض الأسواق، فكدت أطير إليه بأجنحة الأشواق. وما لبثت أن بادرت إلى التماسه، لأنقع

ظمأي بزلال كاسه. فما وجدت له من أثر ولا رأيت من عليه عثر. وما زلت أجري كأني رميت عن قسي البنادق حتى أفضيت إلى بعض الفنادق. وإذا في عرصة الخان، شيخٌ أعجز من قتيل الدخان. والناس قد أطبقوا عليه ووقفوا حواليه. فتخللت ذلك الغمام لأنظر ما وراء الصمام. وإذا الخزامي وابنته يشتجران، وهما يستجران ولا يزدجران. فلما رأى تكأكؤ الناس عليه كتكأكؤهم على ذي جنة، خرج عن آداب الكتاب والسنة. قال: شقحاً لك يا روق الوعل، وشسع النعل، وغصة الأهل والبعل من أنت من شراة العقائل ومن قومك من سراة القبائل؟ إنك لأخسُّ الناس أجمع

أبصع، وأبوك الأم من ابن القرصع فتقدم إليه رجلٌ كالسارية، وقال: ما خطبك وهذه الجارية؟ قال: هي امرأة جرى لي بها القلم فبدلت لذتي بالألم، ومن استرعى الذئب فقد ظلم قال: أراك قد أكثرت شحناً، وأضمرت لحناً، وإني لأسمع جعجعة ولا أرى طحناً. فأبِن عما في نفسك، لننظر بينك وبين عرسك. فقال: إنها هلقامةٌ نهمة، جشعةٌ ملتهمة، مترفهةٌ متنعمة متغطرسةٌ متعظمة. تطلب بيض الأنوق والأبلق العقوق وتحب التبذير والإسراف، كأنها من بنات الأشراف. ويهون عند جوفها دمها

وتصبح ظمآنة وفي البحر فمها. فقالت المرأة: يا للفليقة حشفٌ وسوء كيلة وشيخ أكذب من سهيلة. فسلوه ماذا اقترفت وبماذا أسرفت؟ قال: إنها تريد جردقاً كل مساءٍ ولا ترضى بالخبز والماء، وتأنف من المشي بلا حذاء، والنوم بلا وطاءٍ، حتى كأنها ماء السماء، أو فاطمة الزهراء. وأنا شيخ فقير أتبلغ بالقوت اليسير. وأنتظر زكوة العيد من أمدٍ بعيد. فلا قِبلَ لي بهذه السعة، لو حكمت بها الأيمَّة الأربعة. ثم شرق بالبكاء،

حتى صار نحيبه كالمكاء. وأنشد: ألان لي الدهر بأساً شديداً ... فكان كنارٍ ألانت حديدا وأظمأني كل ظمءٍ فلما ... وردت سقاني ماءً صديدا أحال فطال وصال فهال ... وجال فمال وغال العديدا وغادرني بعد بذل الصلات ... لقصد الجوائز أنشي القصيدا فريداً وحيداً طريداً شريداً ... فقيداً عميداً بعيداً حريدا وأنساني الأمس حتى كأني ... خلقت به اليوم خلقاً جديدا كأني لم أركب الخيل يوماً ... ولم أمتلك في العباد العبيدا ولم أقر ضيفاً ولم أنف حيفاً ... ولم أنض سيفاً ولم أطو بيدا ولكنني قد أتيت رشيدا ... فألفيت ذاك سبيلاً رشيدا لقيت الكرام الأولى يملأون ... يداً بالندى ويحلون جيدا

طوال الأيادي ثقال الغوادي ... ضئال الأعادي غطاريف صيدا وهبني سفينة نوح، فليس ... على البحر وقر فيمشي وئيدا فلما فرغ من افتنانه، افتتن القوم بفكاهة لسان ونباهة جنانه، وجعلوا يذمون له صروف زمانه. ثم حباه كل واحد ديناراً وبسط له اعتذاراً. فأثنى جميلاً وشكر وقال الحمد الله إرغاماً لمن كفر. ثم انقلبا يتمشيان كنسيم الخزرج، في منابت العرفج. قال: فلما خلا بنفسه وثاب إلى وقاره وأنسه. دخلت عليه مهللاً. وقال: لولا منة الخلاق، ودماثة الأخلاق، لفرطت مني بإدارة الطلاق. ولكن الحلم أهنأ المناهل، وإن كان الحليم مطية الجاهل، قلت: مثلك من يدرك القصى، ولا تقرع له العصا. فاحتمل أوصابك،

واصبر على ما أصابك فشمخ واستكبر وأنشد وهو قد أدبر: أنا السفاح ذو الفتك ... بديع الكر والإفك أنا النار التي غلبت ... على الجلمود بالسبك أشد الناس طائلة ... وأشهر من قفا نبك ولكن الزمان بغى ... فعاض العقد بالسلك وجار علي مهتضماً ... كبيت الشعر بالنهك تقاذفي له لججٌ ... كأني نوح في الفلك على أني حمدت الله ... في سعةٍ وفي ضنك ومن يرضى بعيشته ... فذلك صاحب الملك قال سهيلٌ: فلبثت معه برهة من الزمان، كأنني في حديقة من الجنان فيها فاكهةٌ ونخلٌ ورمان. حتى إذا أزمع الفراق تسنم ناقة كالعضر فوط، وقال: موعدنا منفلوط.

المقامة الرابعة والثلاثون وتعرف بالأدبية

المقامة الرابعة والثلاثون وتعرف بالأدبية حدث سهيل بن عباد قال: ترامت بي سفرة شاسعة في موماة واسعة. وكنت قد انضويت إلى صحب أحمى من الجمرات، وأكرم من الطلحات. فسرت بينهم ناعم البال آمن البلبال. وما زلنا بين توصيب وإصعاد حتى هبطنا بطن واد. وإذا خيمة شماء، على صفاة صماء. وفيها قوم نسمع لهم ركزاً، ولا ندرك منهم رمزاً. فنزلنا عن الأقتاد، لنريح الأكتاد ونخمد غليل الأكباد. ثم نصبنا الأطيمة، كما تنصب في الوليمة. وقمنا كالندل حول النار، ونحن نتلهن بالعسم القفار. حتى أنزلت الهيطلة، وأحضر

الهجم والنوفلة. فجلسنا نلتهم ما حضر، حتى لم نبق ولم نذر. وبينما فرغنا إذ تراءى لنا شبيح، وهو ينشد من وراء الحجاب بصوت بديح: كم بطل مدجج غلاب ... قهرته بأسمر صلاب معتدل الأوصال والكعاب ... لا يعرف الطعان بالأعقاب ظمآن لا يروى من الشراب ... سنانه أمضى من الشهاب يخوض في الأحشاء والألباب ... وينفث السموم كالحباب قال: فأوجسنا خيفة في أنفسنا، وتواصينا بالحرس على معرسنا وبتنا نراعي الجمال والخيل إلى أن مضى ذهل من الليل. وإذا بالرجل يقول: يا غلام ادن مني وخذ الأدب عني. ثم قال: يا بني عامل الناس ما استطعت بالإحسان، وكن بينهم عفيف الطرف واليد واللسان. وقابل النعمة بالشكر وأحي الجميل بالذكر. وحافظ على الصديق ولو في الحريق. وإياك الغيبة، فهي بئس الريبة.

وانظر إلى معايبك قبل معايب صاحبك. واجتنب المزاح فإنه يخفض الجناح. ولا تكن إذا سألت ثقيلاً ولا إذا سئلت بخيلاً. ولا تطلب ما في يد الناس، ولو طاقة من الآس. وإذا جلست فاعرف مقامك، وإذا حدثت فانتقد كلامك. وإذا تكلمت ليلاً فاخفض، وإذا تكلمت نهاراً فانفض. وإذا دعيت إلى الولائم، فكن آخر جالس وأول قائم. وأكرم الناس فتكرم، ولا تغتم الزيارة فتسأم. ولا تجالس الخسيس فإنه يزري بالجليس. والزم الوداعة والحياء واجتنب الرياء والكبرياء. واحذر الكسل، فإنه آفة العمل. ولا تطلب الغنى بالمنى. واطلب النوى عن الهوى. واقصر الطماح، إلى الراح. ولا تدخل في الفضول فتخرج عن القبول. وإذا غضبت فاترك بقية من الرضى، ولا يذهلك ما قد حضر عن ذكر ما مضى. واطلب الإفادة جهدك، ولا تدع بما ليس عندك.

واعتزل البخل الذميم، والكرم الوخيم. وإذا دعيت فشمر الذيل وحيثما انقلبت فلا تمل كل الميل. ولا تأت ما يلجئك إلى المعذرة، فتسلم من كل خطة منكرة. واعلم أن الأدب أشرف من النسب، واكتساب العلم خير من اكتساب النشب. والعلم بلا علم كالنحل بلا عسل. وصدق يضر، خيرٌ من كذب يسر. وانتشاب المنايا، وأيسر من ارتكاب الدنايا. واقتحام النار، أهون من التحاف العار. وداء الأسد أسلم من داء الحسد. والقناعة، نعم الصناعة. وحب السلامة، عنوان الكرامة. والنظر في العواقب، من أحسن المناقب. فأتمر بما أمرناك وأحذر مما حذرناك، واذكرنا كما ذكرناك. قال: فراعتنا آدابه الباذخة، إلا أن تكون كحياء مارخة. وبتنا نعجب من صفته ونهفو إلى معرفته. حتى إذا رقت حاشية الظلماء وشقت غاشية السماء. برز الرجل من حجابه المصون، وإذا هو شيخنا الميمون. فحدق القوم إليه بالنظر، وقالوا: قد عرفناه وهل يخفى القمر؟

ووثب كل إليه وثبة السمع الأزل، وحياه تحية الرئيس الأجل. ثم أهبنا به إلى رحالنا وتربصنا عن ترحالنا. وأقمنا معه يوماً أعذب من معتقة الدير، وأفصر من حسو الطير. فلما تبوأ للرحيل طمرته، اعتقل مخصرته، وقدم بين يديه أسرته. فقلت: يا أبا ليلى أين رمحك العسال، الذي قهرت به الأبطال؟ فأشار إلى قلمه وقال: ويك هذا رمحي، وهذا سناني ... منذ يومي أعددته للطعان

المقامة الخامسة والثلاثون وتعرف بالإنطاكية

ليس يروى من المداد وقد ... ينفث سم الهجاء كالأفعوان وهو قد خاص في المحابر حتى ... خضبت رأسه خضاب البنان قال: فقلت له لله درك ما ألعبك بالقلوب وأبصرك بكل أسلوب. فهل تأذن لي في التحول إلى صحبتك، ولو فاتني وطري في سبيل محبتك؟ قال: يا بني قد وطنت نفسي هذه النوبة على الصراع، وآليت أن لا أترك رأساً بلا صداع، لما رأيت في الناس من لؤم الطباع. فأخشى إذا طمى الوادي أن يطم على القريّ، فيلتحق ذنب السقيم بالبري. ثم ولى بجواده ينهب الطريق وأذاقني ببعاده عذاب الحريق. المقامة الخامسة والثلاثون وتعرف بالإنطاكية قال سهيل بن عبادٍ: شخصت إلى إنطاكية الروم، في عصابة كزهر

النجوم. فكنا نقطع الأوقات بالنوادر، كما نقطع الطرقات بالبوادر. وما زلنا نطأ الكناس والعرينة، حتى دخلنا المدينة. فأتيت مجلس القاضي إذ ذاك، لمراشةٍ لي هناك. وإذا سيخنا الميمون، تتقدمه ليلى كالناقة الأمون. فد هشت عند إقباله، واحتفزت لاستقباله. فأعرض عني مقطباً، واقتحم الحضرة مغضباً. حتى إذا وقف بالمحراب، انقضت الفتاة كالعقاب. وقالت: يا مولاي إن هذا بعلي شيخٌ علندى، أظلم من الجلندى وهو فقير وقير، لا يملك شروى نقير. إذا غسل ثيابه لبس البيت، وإذا رأى الجنازة حسد الميت. ولقد أسرني في بيت له كالغار، لا أرى فيه غير الروافد والجدار. وهو ذلك مر المذاق، إلى ما لا يطاق. فيبيت ساغباً، ويصبح

غاضباً، ولا يزال عاتباً. يذكرني زمن الفطحل وينجز الوعد بالمطل. وأنا فتاةٌ غريضة الصبا لا أعيش بالهباء، ولا ألبس غزل عين ذكاء. ولقد خطبني كرام الرجال، وبذلوا في مهري غدقاً من المال، إذ رأوا علي لمحة من الجمال. فأبى القدر المتاح، إلا أن أحوم على ورد هذا الملتاح. فمره أن يقوم بأودي أو يطلقني ويطلقني إلى بلدي، وإلا قتلت نفسي بيدي. فثار الشيخ كالمجنون وهو واجف السودل والعثنون. وقال: يا لكاع تذكرين العنوق، وتنكرين النوق. أنسيت أيام السندس والديباج، والفالوذ والسكباج؟ واللحوم والألبان والغوالي والأدهان. والمراجل

والموائد، والحنائد والثرائد. أما الآن وقد نصب الغدير وأفقر السدير. وبدل الخورنق، بنسج الخدرنق. فماذا ترين في شيخ قد فلد الدهر كبده، وابتز سبده ولبده؟ وابتلاه بالحور، بعد الكور. ورماه بالغيض، بعد الفيض. حتى صارت ناره شراراً، وعاد طعامه بلغة وشرابه نشحاً ونومه غراراً. فإن كنت من رواد الغيث، فاذهبي إلى حيث. وإلا فاثبتي على الحرج، إلى أن يمن الله بالفرج. قالت: معاذ الله لا أفترش ردهة الجندل، ولا أصبر على النار كالسمندل فإما إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان، كما

نطقت به آية القرآن. قال: فلما وقف القاضي على كنه أمرهما حار بين لومهما وعذرهما. وكانت الفتاة قد هجلته بافتنان كلامها، وتثني قوامها. فتاقت نفسه إلى استخلاصها، بعد خلاصها. وقال للشيخ: قد علمت أن سوء الجوار، أمر من عذاب النار. فأرى أن تستبدل بها من توافق هواك وترثي لبلواك، وفي ذلك صلاح لدينك ودنياك. قال: هيهات من ينزل بقاع صلقعٍ بلقع، أو يتيمن بالغراب الأبقع؟ فدعا القاضي بالهميان، وأبرز له نصاباً من العقيان. وقال: أطلق هذه الأسيرة من حبسك، واستعن بهذه الدنانير على أمر نفسك. فأشهد عليه بالطلاق، وقال: حبذا هذا الفراق ولو فعل بي ما فعل الباهلي بعفاق. فأقبلت الفتاة على القاضي بالدعاء، وأجملت له الثناء. فتناولها بيمينه وأولجها إلى عرينه. وانصرف الشيخ بين زفير وشهيق، وهو يرفس برجله الطريق، كأنه الصيلم

الخنفقيق. فلما أبعد نحو غلوة، إلى خلوة. قال: موعدنا الخان يا سهيل، والليل أخفى للويل. قال: فلما جن الظلام أتيته في الخان، وإذا ليلى بجانبه وقد لبست ملابس الغلمان. فقال: هذه بضاعتنا ردت إلينا، وقد حق صفع المانويه علينا. فهل ذلك في السفر، قبل السحر؟ قلت: إني لك أتبع من الصفة للموصوف، وألزم من العاطف للمعطوف. وأخذت ليلى تحدثنا باختلاس نفسها بعد ثقة القاضي بأنسها. فقلت: الله أكبر، إنها من بنات أوبر فتاه الشيخ دلالاً وأنشد ارتجالاً: عرج على القاضي وقل ولا حرج ... جمعت مالاً بالرياء والعوج من كل من دب وكل من درج ... والمال لا يخرج حينما خرج إلا من الباب الذي منه ولج قال سهيلٌ: ثم هممنا بالزيال، وخرجنا نزف كالرئال فما

المقامة السادسة والثلاثون وتعرف بالطائية

أصبحنا إلا ونحن على أميال. وما زلت أسير من ورائه مستسقياً بروائه، وأستظل بلوائه، معتصماً بولائه. إلى أن بلغنا أرفة العراق، فكانت طرفة الفراق. المقامة السادسة والثلاثون وتعرف بالطائية حكى سهيل بن عبادٍ قال: حللت بلاد اليمن في سالف الزمن، وأنا غضيض الصباء غريض الفنن. فجعلت أتردد في بواديها، بين شعبها وواديها ومازلت أطوف الحي بعد الحي، حتى دفعت إلى أحياء بني طى. فرأيت بها ما شاء الله من خيام مبثوثة، ونيران

مشبوبة، وجفان مصفوفة وخيل مشدودة ورماح مركوزة. وجمال كالربى، وسخالٍ كالدبى، وجوار كالظباء وغلمان كالظُّبى. فكان الناظر حيثما سمت، يرى عجباً مما صأى وصمت. قال: وكان يومئذ موسم الحجيج، وقد اشتبك الضجيج واحتبك العجيج فبينما القوم في هياط ومياط، على أضيق من سم الخياط. إذا قلصت الزماجر، ونشصت المحاجر. وارفض القوم يفضون كأنهم إلى نصب يوفضون. فسرت كما ساروا

إلى أن صرت حيث صاروا. وإذا شيخٌ في شملة، قد قام على دعص رملة. وقال: الحمد لله ذو رفع الخضراء وبسط الغبراء. والسلام على أنبيائه الأقطاب، الذين أوتوا الحكمة وفصل الخطاب. أما بعد يا معاشر جلهمة، فإنكم أرباب الخيل المطهمة، والبرود المسهمة. ولكم الكتيبة السمراء، والراية الصفراء. ومنكم حبيب وحاتم

وثعل، الذي يرسل بهم المثل. وإني شيخ قد طعنت في سني حتى وهن العظم مني. وقد قطعت الفدافد والمهامه، وطويت الجداجد واللهاله. وعرفت الشعوب والقبائل والعمائر والفصائل. وأدركت الأحكام والحقائق، وكشفت الأسرار والدقائق. وقيدت الأوابد، وجمعت الشوارد. وأحصيت لغات العرب، واستطلعت ما أغرب منها وما غرب. فكنت من أصحاب الدولة وأرباب الصولة. وكان يثنى إلي العنان، ويشار نحوي بالبنان. وأما الآن وقد فقد من يعرف مساوئ الشعر من محاسنه، ويفرق بين من يرمي الكلام على عواهنه، ومن يستنبث الركاز من معادنه. فقد

ولت المرتبة وحلت المتربة. حتى اضطررت أن أعفر خدي ليجد جدي. وأخلق ديباجتي. قال: فصمد له فتى أجمل من بدر التمام، وأطول من ليل التمام. وقال: شهد رب الكعبة الحرام، لقد تبازى الرهام. وإني لأعجم عودك واستمطر رعودك. فإن كنت أغلط من دالق، قذفتك من حالق. وإلا فأنا زعيم لك عند القوم، أن يكون عليك أيمن يوم. فافتر الشيخ افترار المجون، وقال: قد تحرش الحوار الزفون، بالبازل الأمون. فهات ما ترمي من الحظى وخذ ما ترمى به من اللظى. قال: هل تعرف ما تأتى، من قيود جماعات شتى؟ فأطرق كالشجاع الشجعم، ثم اندفق كالوادي المفعم وأنشد:

زجلة ناسٍ حاصب الرجاله ... وهكذا كوكبة الخياله زهط رجال لمة النساء ... رعيل خيل وقطيع الشاء وربرب المها صوار البقر ... حيلة معزٍ عانةٌ من حمر وصرمة من إبل وعرجله ... من السباع قد حكتها النقلة خيط النعام ومن الجراد ... رجل وسربٌ من ظباء الوادي وهكذا عصابة الطير ورد ... وخشرم النحل تتمة العدد قال: إن كنت سابغ الذيل، فما مراتب عدو الخيل؟ فقال: إيه وأنشد بملء فيهِ: أقل عدو الخيل يدعى خببا ... عليه تقريبٌ فإحضارٌ ربا ثم ابتراكٌ فوقه الإهذاب قد ... رتب والإهماج غاية الأمد قال: إن كنت من ذوي الكمال، فما مراتب سير الجمال؟ فاهتز وطرب، وأنشد بلسان ذرب: أوائل السير الدبيب للإبل ... ثم الذميل فالرسيم قد نقل فالوخد فالعسيج فالوسيج ... ثم الوجيف بعده يهيج وبعده الإجمار فالإرقال ... والاندفاق جهد ما تنال

قال: قد أجدت الوشي، فهل لك في قيود مطلق المشي؟ فخازر جفنيه وأتلع جيده إليه. وأنشد: قد درج الصبي والشيخ دلف ... وخطر الفتى وذو القيد رسف ومشت المرأة والمرء سعى ... وقد حبا الرضيع يبغي المرضعا ودرم الذي علاه الثقل ... وفرس جرى وسار الجمل وهدج الظليم والغراب ... يحجل حيث حية تنساب ونقز العصفور حيث العقرب ... دبت، وكلها قيود تكتب قال: وهل تعرف ما يذكر، من ترتيب جماعات العسكر؟ فروأ ريثما تفكر. ثم أنشد: أقل جمع العسكر الجريدة ... وبعدها السرية المزيدة وفوقها كتيبةٌ تميس ... فالجيش فالفيلق فالخميس قال: ما أرك في البادية بالدخيل، ولا في الإفادة بالبخيل، فهل تعرف مراتب النخيل؟ فاستطال اختيالاً، وأنشد ارتجالاً: فسيلةٌ قيل لصغرى النخل ... وفوقها قاعدةٌ تستعلي جبارة عيدانةٌ والباسقة ... فوقهما ثم السحوق الشاهقة قال: أحياك الله السمر والقمر، فهل لك في ترتيب ما للنخل من الثمر؟

قال: اسمع فترشد، ثم أنشد: أول حمل النخل طلعٌ يبدو ... ثم سيابٌ فخلالٌ بعد بغوٌ فبسرٌ فمخطمٌ يلي ... ثم موكتٌ بتذنوب تلي فجمسةٌ فثعدةٌ فرطب ... وبعده التمر أخيراً يحسب قال سهيل: فلما فرغ الفتى من حواره، وشفى غليل أواره. أقبل على الشيخ وقال: شهد الله أنك علامة الدنيا، وغاية الأدب القصيا. فما برنا في جانب أمرك الجلل إلا رشحة من بلل، أو هبوةٌ من طلل. ثم ألقى ديناراً في ردن البجاد، وقال: كل صعلوك جواد وجعل يطوف على القوم كجابي الوضيعة، وهو يقول: الصنيعة، من كرم الطبيعة. فلم يبق في الجماعة إلا من أعجبته صفاته، ونديت له صفاته. فلما أتم مسعاه، تلقى الشيخ وحياه، وقال: قد جئناك ببضاعة مزجاة. فقبل مفرقه وقال: حياك الله لقد انتشلت الغريق ودرأت الخريق، عن الحريق، فهل لك أن تدلني على الطريق؟

قال: أنا أدل من دعيميص الرمل في أخفى من مدارج النمل، فسر والله يجمع لك الشمل. قال: أتبع الفرس لجامها والناقة زمامها، والله يكلأ شيخ البادية وغلامها. قال الراوي: وكنت قد تبينت أنهما الخزامي وفتاه، فلما انصرفا قفوقهما إلى الفرة. وإذا الشيخ ينشد بلسان ذلق، وصوت كصوت المصطلق: أنا الغملج الذي لا ينكر ... أكون تارة خطيباً ينذر وتارةً زير نساءٍ يسكر ... وتارةً مصلياً يستغفر وتارة راصد نجمٍ يسحر ... وتارةً شيخ علومٍ يبهر

المقامة السابعة والثلاثون وتعرف بالعدنية

فقل لمن جاء ورائي يخطر ... إن أهالي عصرنا تقتصر على المعاصي حيثما تقتدر ... والعبد يصفو تارةً ويكدر فعد إلى القوم بلومٍ يزجر ... أو لا فدعني إن مثلي يعذر قال: فانثنيت عنه كما أشار خوفاً من لسانه المهذار، وعدت إلى استتمام السياحة في تلك الديار. المقامة السابعة والثلاثون وتعرف بالعدنية قال سهيل بن عبادٍ: دخلت بلاد قحطان بين شيبان وملحان. فأصابتنا ديمة مدرار، ألزمتنا الوجار من أوهد إلى شيار. فلما أقلعت السماء، وغيض الماء. خرجنا نتضحى في

تلك الضواحي، وتنفكه بابتسام ثغور الأقاحي. وما زلنا نمرح بين الجد والددن، حتى انتهينا إلى أكناف عدن. وإذا قومٌ قيام، حول شيخ وغلام. والشيخ قد وقف على مويهة، في رديهة وأطرق برأسه بريهة. ثم قال: الحمد لله الذي خلق السموات والأرض، ورفع بعض خلقه درجات فوق بعض. أما بعد يا عشائر اليمن، وبشائر الزمن. فإنكم جرثومة العرب وأرومة النسب. وأسد الدحال، ومحط الرحال. ومعدن العربية والكتابة، والشعر والخطابة. ولكم

المشارف المعهودة والمحاجر المشهودة والمخاليف المذكورة والمحاريب المشهورة. ومنكم سدنة المقام، وحماة الكعبة الحرام. وعليكم مدار العزائم، وإليكم محار العظائم. فإنكم أهدى في الخطى، من القطا. وأثبت على السروج، من البروج. وأمضي في المآزم، من اللهاذم. وأصبر على السوافي من ثالثة الأثافي. وإذا ذكرت المفاخر، بين الأوائل والأواخر. فلكم الرتبة الأولى، واليد الطولى. وإذا حل بساحتكم النزيل، فقد ورد ماء النيل. وإذا استجار بكم المرهق، من العدو الأزرق فقد تمرد ماردٌ وعز الأبلق. وإني شيخٌ قد

أداني القنوت والتبلغ بالقوت، إلى أن صرت أوهن من بيت العنكبوت، وأوحش من برهوت، في حضرموت. فتركت وطني القديم، وهجرت السمير والنديم، وهمت على وجهي ابتغاء وجه الله الكريم. وقد اشتريت هذا الغرانق الوضاء، بألف من الرقة البيضاء. فنقدت شطرها، واستأنيت غبرها. فلم يستطع الغريم صبراً، وارتهن الناقة جبراً. فخرجت بالغلام أسعى حتى أفضيت إلى هذه البقعة الوسعى. وهو غلامٌ فاره، أرى منه جنة لم تحف بالمكاره. فإنه ثقف لقف فوق ما أصف. وهو أشعر من نصيب، وأحكم من أبي الطيب.

وأحضر من تأبط، وأسرى من ربيعة بن الأضبط. ثم أشار إلى الغلام وقال: يا بني هات ما نظمت اليوم، في مديح القوم. فوثب كالقضاء المنزل وأنشد بنغمة أطرب من عود زلزل: قل للذي يشكو تصاريف الزمن: ... هلم فوراً نحو أحياء اليمن

ترى بها من الفروض والسنن ... نحر العبيطات وتوزيع المنن والغارة الشعواء تستقصي الدمن ... وليس تبقي هامةً على بدن وتلتقي جنة عدنٍ في عدن ... وقصر غمدان الشبيه بحضن وأثر الملوك بين ذي يزن ... ومن يلي من قومه كذي يمن وقد أتينا القوم من أقصى وطن ... نرجو فكاك الرهن أو دفع الثمن إن لم يكونوا أهل ما نرجو فمن؟ قال: وكان بين القوم زعيمٌ صلت الجبين، كأنه أحد الذوين.

فقال: شهد الله أنك أدهى من جن عبقر، وأسحر من كهان حيد حور. فخذ هذه الناقة الوجناء جائزة الثناء. وسيأتي مولاك حوط المال، فتظفران بحسن المآل. ثم انهال على الشيخ الحباء وانسكب، حتى امتلأ دلوه إلى عقد الكرب. ولما قضى الوطر، ودع النفر، وأنشد على الأثر: من أيمن الحق أن اليمن في اليمن ... أعطى يميني يمين المال واليمن قد كنت قبلاً لكم عبداً بلا ثمن ... واليوم قد صرت عبد العبد بالثمن قال سهيل: فخلع الزعيم عليه إحدى بردتيه، وانصرف والغلام بين يديه. وكنت قد عرفت الشيخ والغلام إنهما رجب وابن الخزام. فسعيت من ورائهما، بعد انبرائهما. حتى أدركت الشيخ وهو قد تثبج بعصاه وأخذ يداعب فتاه. فقلت:

إلى كم يا أبا ليلى ... تجرد للوغى خيلا؟ لقد سودت وجه الشي ... ب فانقلب الضحى ليلا فنظر إلي بعين الأشوص، وأنشد بلسان الأشمص: إلى كم يا ابن عبادٍ ... تجازف عندنا كيلا؟ إذا لم تقتبس أدباً ... فشمر للنوى ذيلا ثم قال: يا أبا عبادة إن الناس قد أنكروا الذمم، ونبذوا الوفاء والكرم، حتى صاروا لحماً على وضم. فمتى لم نقض التلنة، أخذتنا اللتنة. والآن فلنقطع هذا الطريق الطامس، قبل أن يدركنا الليل الدامس لئلا نقع في هند الأحامس. وإذا وصلنا رفعت لك المنبر، وأقمتك مقام الخطيب الأكبر. قال: فأوجمني الخجل، وسايرته على عجل. حتى انتهينا إلى دار القرار عند سلخ النهار. فبتنا ليلتنا

المقامة الثامنة الثلاثون وتعرف بالحميرية

نتداول الحديث، ونتناول الطيب منه والخبيث. حتى إذا انتهك حجاب الظلام، لم أره ولا الغلام. المقامة الثامنة الثلاثون وتعرف بالحميرية أخبرنا سهيل بن عباد قال: شخصنا نحو صنعاء في ليلة درعاء، فسرينا ليلتنا جمعاء. حتى إذا ذر الشفا، وشيب كدر الأفق بالصفا. نظرنا من خلال العثير وإذا نحن قد أشرفنا على أفنية حمير. فأمعنا في التشمير تحت أمانة قطمير. حتى دخلناها بسلام، ونبذنا مخاوف الظلام، تحت تلك الأعلام. وأقمنا بياض ذلك اليوم، في عراص أولئك القوم. ونحن نسمع لغتهم الحميرية

ونرى كتابتهم المسندية، ونتفقد آثارهم التبعية. ولما أصبحنا زممنا الدلاث وأممنا الدماث، فجعجعوا بنا وقالوا: الضيافة ثلاث. فنكصنا عما أزمعنا، وتربصنا حيث اجتمعنا. ولبثنا نجوس خلال الديار، إلى أن استقام قسطاس النهار. وإذا بالخزامي وصاحبيه، إلى جانبيه. فقلت: يا بشراي قد أمرعت العجزاء ودرنا حوله كنطاق الجوزاء. فأبرقت أسرته وأشرقت مسرته. وتلقانا بما

ينعش الحشاشة، من البشاشة والهشاشة. حتى إذا استقر قراره وانجلى اغبراره. قال: لا يترك الظبي ظله، فانهضوا بنا إلى أمير الحلة. فلما جلسنا في ديوانه، بين أعوانه. قال بعضهم: هذا الخزامي الذي يترامى ذكره، ويتحامى نكره. فلنتوهقه بالمعاياة، ونلق مراديسنا في ركاياه. فوقع ذلك في سماعه، وكان داعيةً لزماعه إلى محجة أطماعه. فانبرى له كالرئبال، وقال: أما إن بريت النبال وطلبت النزال؛ فما ستةٌ في العربية ليس لها سابع، ومفردٌ يكرر جمعه إلى الرابع، فوجم الرجل وانصاع، وبرز فتى تحت أنصاع، وقال: إننا نكايل صاعاً بصاع. إن كنت من أفراد الإنسان فما

قيوده باعتبار الأسنان؟ فاشرأب الشيخ وتعاطى، وأنشد وما تباطا: هو الجنين في الحشى يقام ... فالطفل فالصبي فالغلام وبعد ذاك يافعٌ ثم فتى ... ثم طريرٌ ثم شارخٌ أتى وبعده عنطنطٌ صمل ... وبعد ذاك أشمطٌ فكهل وبعد ذاك الشيخ ثم الهرم ... وبعده الهم الذي يختم قال: فهل لك من جرأة، أن تذكر ما يختص بالمرأة؟ قال: كيف لا، وأنا ابن جلا؟ وأنشد: أما الذي على النساء يقصر ... فكاعبٌ فناهدٌ فمعصر فعاركٌ فعانسٌ فشهله ... وبعد ذاك نصفٌ أو كهله وبعد ذلك العجوز تذكر ... والحيزبون بعدها لا تنكر قال: إن عرفت قيود الإشارة، فلك البشارة، بأحسن شارة فترنح عطفاه، ثم فغرفاه. وأنشد: يقال قد أومأ بالرأس الفتى ... وقد أشار بيدٍ حين أتى

أومض بالجفن إلينا، وغمز ... بحاجب، وبالشفاء قد رمز وهكذا ألمع بالثوب وقد ... ألاح بالكم، فقيد ما ورد قال: وهل تبلغنا الوطر من ترتيب المطر؟ قال لبيك! فخذ ما يلقى إليك. وأنشد: أول قطر الغيث حين ينثر ... طل، وبعده الرذاذ يقطر وبعد ذاك النضح ثم الهطل ... وبعدهن الوابل المنهل قال: قد سلخت على الليل النهار، فهل تعرف ترتيب الأنهار؟ فأنشد: أصغر نهرٍ جدولٌ ينحدر ... وبعده السري ثم الجعفر ثم ربيعاً ذكروا فطبعا ... ثم الخليج فوق ذاك يدعى قال: إن كنت تعرف ترتيب الجبال، فقل ولا تبال. فأنشد: أصغر نجد الأرض يدعى النبكة ... وفوقه الرابية المنتكبة أكمةٌ فزبيةٌ فنجوة ... ريعٌ فقف هضبةٌ كالفجوة قرن فدك ثم ضلعٌ فائق ... نيقٌ فطورٌ باذخٌ فشاهق قال: قد ملأت الكأس إلى الأصبار، فهل تعرف قيود الغبار؟ فأنشد: أدع غبار الحرب باسم القسطل ... والعثير اخصص بغبار الأرجل والنقع ما بحافرٍ يهاج ... وما تثير الريح فالعجاج

قال: إن عرفت أنواع الخيوط، فأنت مركز الخطوط. فزمجر كالأسد، وقال: أعوذ بالله من شر حاسدٍ إذا حسد، ثم أنشد: للخرز السلك كسمط الجوهر ... يذكر، والنصاح خيط الإبر والزيج للبناء، والسباق ... لرجل طيرٍ جارحٍ يساق كذا لخلف الناقة الصرار ... يشد كي لا يرضع الحوار وهكذا رتيمة التذكر ... تعقد خوف غفلةٍ في الخنصر قال: فلما فرغ الفتى من النضال، وشفى الداء العضال. حدق القوم إلى الشيخ بالأبصار، وقالوا: شهد الله أنك نابغة الأعصار، وداهية البوادي والأمصار. وقد حق علينا أن نفرغ عليك قطراً، كلما كتبنا من أبياتك سطراً. فأملها علينا شطراً فشطراً. قال: إن لي كاتباً أجرى من الطمرة، وأحظ من مرامر بن مرة. ثم أشار إلي وقال: اكتب يا أبا عبادة واندفق في الإملاء كالمزادة. فلما

المقامة التاسعة والثلاثون وتعريف بالأنبارية

فرغنا أفاض عليه الأمير حلة يمانية، وأتاه القوم بنقد ثمانية. ثم جاؤوني بدريهماتٍ وقالوا: صلة الكاتب ثانية المراتب، فلا تكن بعاتب. ولما قضى اللبانة، ثنى عن القوم عنانه. ثم ودعنا وسار، وكان آخر عهدي به في تلك الأقطار. المقامة التاسعة والثلاثون وتعريف بالأنبارية روى سهيل بن عباد قال: سافرت ذات الزمين في ركب من بني القين، يملأون الأذن والعين. وما زلنا نقطع المراحل حتى أنضينا الرواحل. فنزلنا في خلاء بلقع، وقلنا: الرشف أنقع. وكان بين القوم رجل واسع الرواية، بعيد الغاية. فبات يجلو علينا خرائد السمر تحت ظل القمر. حتى خاص في حديث علماء الأدب وحكماء العرب. وأخذ يذكر المشاهير والأفراد، كعبيد

بن الأبرص ولقمان بن عاد فأخذتني الحمية هنالك، وقلت: ماء ولا

كصداء وفتى ولا كمالك أين أنت عن الشيخ الخزامي، الذي ينفر العصامي والعظامي؟ قال: رب صلف تحت الراعدة، وأين باقل بن

ربيعة من قس بن ساعدة. فما فتئت أذكر له ملحاً من نوادره ولمحاً من بوادره. حتى قال لسهمي مرحى، بعد برحى وأوشك أن يذوب من غينه، إلى معرفة عينه. قلت: فلنأكل اليوم من حديثه رغداً وإن مع اليوم غداً. ولما افتر ثغر السحر، حسرنا عن ساق السفر، وضربنا في تلك القفر. فما تصرم النهار، إلا ونحن في الأنبار. فنزلنا بها كالشعرة البيضاء في اللمة السوداء. ولما انجابت وعكة الجهاد، ونسخ الهجوع آية السهاد. بدأت بتعهد مجلس الوالي لأتطرق منه على التوالي. وإذا امرأة سادلة

النقاب، قد تعلقت بفتى كالعقاب. وقالت: حي الله الأمير وأحياه، وأصلح دينه ودنياه. إن هذا الفتى قد أخذ أبي احتيالاً وفتك به اغتيالاً. وتركني وحيدة في دار الغربة، أكابد عرق القربة، وأتكبد شظف الكربة. وقد رفعت إليك القصة، وعليك مساغ الغصة. فأكبر الأمير شكواها، وسألها البينة لدعواها. فانطلقت كزفير اللهب، ثم عادت عن كثب ومعها شيخنا الميمون وغلامه رجب. فأديها الشهادة على وجهها في وجه الفتى، وانصرف كلاهما من حيث أتى. فأمر الأمير باعتقاله، وجعل في أذنيه وقراً عن تنصله وسؤاله. ثم قال: يا أمة الله إن المنايا على الحوايا. وإن ما عند الله خير وأبقى، فإن شئت قبول دية فذلك أبر وأتقى. قالت: لا جرم أن أبي كان غرة الأبين، وعزة البنين وعقال المئين. وما كنت لأعدل

منه سبيدة، بهنيدة. ولا أبدل قلامة، بنخل اليمامة. ولقد كان حية صماء، وداهية دهاء. ولكن إذا جاء الحين حارت العين. وإذا حان القضاء ضاق الفضاء. فإن كنت ترى الدية أولى من القود، وأخلى عن الأود. فذلك أجمل من أن يضيع دمه كسلاغ، وأتبلغ بعده بالنباغ. فأخرج لها الدية من مال القاتل، وحظله أن يبرح البلدة ما أرزمت أم حائل. فلما قبضت الدية أخمدت زفراتها، وأجمدت عبراتها. وأجملت الثناء وأجزلت الدعاء. وأنشدت: ما اليتم فقد الأب، لكنه ... في الحق فقد الحاكم العادل ذلك يحي الناس من فيضه ... فيظفر المقتول بالقاتل قال سهيل: وكانت نفسي قد تاقت إلى سبرها لا كتناه خبرها

فلما انصرفت خرجت في إثرها. حتى إذا أفضينا إلى خلاء عطفت إلي، وأقبلت بوجهها علي. وقالت: هذا سهيلٌ يفاجي ... في كل أرض أباه وهكذا كل نجمٍ ... حيث التفتنا نراه فعرفت حينئذ أنها ليلى الخزامية واستنبأتها عن تلك المقالة الحذامية، والفتكة الحسامية. فقالت: إن هذا الكشخان قد طمع منا في السلب، فخلعنا عليه خلة الأدب وتركناه أتب من أبي لهب. ثم انطلقت بي إلى الخان وأنا كشارب ابنة الحان. حتى دخلت على شيخنا الميني، وإذا عنده صاحبنا القيني. فقلت: سبحان من يحيي العظام،

قال: ولو ترك القطا ليلاً لنام. والآن دعنا نتمتع بالحديث، مع صاحبك الحديث، الذي يميز بين القشيب والرثيث، والسمين والغثيث. فقال الرجل: علم الله لقد رأيت أكثر مما سمعت، ونلت أكثر مما طمعت. فليس عبيد إلا عبدك، ولا لقمان إلا لقمة عندك. فقال: يا بني عند الرهان تعرف السوابق، والامتحان يبين الفائق من المائق. وإنني طالما عركت الدهر وقطفت الزهر عن النهر، فلم يغرب عني سر ولا جهر. ولقد خف وقر العار على متني، لو ذادت سوار

لطمتني. ولكن لم يفت، من لم يمت فدعني وشاني، واستعذ بالمثاني، من حمة لساني، قال: فسقط في يد الرجل كما سقط، وندم على ما فرط، وقال: سبحان من تنزه عن الغلت والغلط. ثم أقبل على الشيخ بالإجلال، وتقرب إليه بلسان الإذلال. فقال: ضيعت البكار على طحال، وهيهات أن تعلق ثقتي بالمحال. فلما أصر الشيخ على الحفظة وأوشك أن يترامى إلى الغلظة. أشفق الرجل لعرضه

المقامة الأربعون وتعرف بالجدلية

من العطب وخالج قلبه أن الرثيئة تفثأ الغضب. فأخرج له بردة ممصرة، وقال: إليك المعذرة. فاضطبنها وخرج، وقال: ليس على الأعمى حرج. وكانت تلك البردة، آخر عهدنا به في تلك البلدة. المقامة الأربعون وتعرف بالجدلية حدثنا سهيل بن عباد قال: أصابتني وعكة شديدة، مدة مديدة. فانعكفت على توفية العلاج وتنقية الأعفاج، من الأمشاج. حتى صرت أوق من العفاص، وأدق من النماص. فلما أمنت مس العرواء، وثاب ألي مرح الغلواء. حملني الخواء على الشراهة، ودعاني الملال إلى النزاهة. فكنت ألتهم التهام

الناعط، وأخرج خرج الضافط. حتى دخلت يوماً إلى حديقة جميلة ذات جميلة، قد رتعت بها عصابة جليلة. وقد سطع فيها قتار الجزر، حتى غشي الجدر، فقلت: أمرعت فانزل، واقتحمت ذلك الزحام المتعثكل. وإذا رجل عليه رداء، مثل اللواء. وعلى رأسه عمامة مثل الغمامة. وهو قد أقبل على شيخ أدرد، عليه حنبل أجرد وقد التثم حتى صار كالأمرد. فقال: قد علمت أيها الشيخ أن المال زينة الحيوة الدنيا، وعليه نموت ونحيا. فإنه يقضي لبانة الأولى بالمسرة، ويسهل طريق الأخرى بالمبرة. وعليه مدار العيش ونظام الجيش. وبه قيام الممالك وتمهيد المسالك، ودفع المهالك. وهو قاضي الحاجات ورافع الدرجات ومستعبد السادات، وخارق العادات. ومشدد الهمم ومبدد الغمم. وهو الحبيب الذي يفديه بالنفس، كل من تحت الشمس. ويجد لفراقه الكمد، من لا يسوءه فراق الولد. ولا يزال مرفوع الشان، يشار إليه

بالبنان في كل مكان وزمان. وإليه تشد الرحال وتنتهي الآمال، ولولاه لتعطلت الأعمال، وحانت الآجال، وانقرضت القرون والأجيال. قال: فانبرى له الشيخ كأويس، وقال: لا أفلحت ما غب غبيس. إني أراك قد أطلقت العنان، حتى جعلت الزج قدام السنان. ويك إن المرء بالعلم إنسان لا بالمال، وهو المرقاة إلى درجات الكمال. وبه تعلم الحقائق، وتدرك الدفائق ويعرف المخلوق حق الخالق. وعليه ينفق الطريف والتالد وصاحبه ينال الذكر الخالد. فكم من الملوك والأغنياء، الذين كانت مفاتيح كنوزهم تنوء بالعصبة الأقوياء، قد درس ذكرهم وبقي ذكر العلماء. وحسبك أن العلم لا يناله إلا أفاضل الرجال وطالما نجى صاحبه من الأهوال، وقربه إلى ربه في جميع الأحوال. والمال طالما أحرزته رعاع الناس وألقى أهله في

المهالك والأرجاس، وأغراهم بالنزاع فكان بينهم دونه عكاس ومكاس. قال: فلما سمع القوم ما دار بين الرجلين، قالوا للشيخ: نرى صاحبك قد أخذ طريق العنصلين وتيمن بغراب البين. وإننا لنراه من الأغنياء والأغبياء، فإنه لا يعرف منزلة العلم والعلماء. فاستشاط الرجل غضباً، وقال: عش رجباً، تر عجباً. كيف يتأتى المراء بين اثنين وقد وضح الصبح لذي عينين. تباً لعلمك أيها الشيخ الباهل الذي بنوه كاليتامى وزوجته كالعاهل. وماذا ترى علمك، إذا كنت تشتهي فومة من الشذام وجرولاً من الدرمك؟ أتأكل القضيم

إذا طويت؟ وتشر النفس إذا صديت؟ وتلبس القرطاس إذا عربت؟ كان للعلم دولة عند أنماط الكرام، الذي يبنى عليه، والركن الذي لا يلتفت إلا إليه. فهم يحرمون الأديب ولا يحترمون اللبيب. ويصرمون الفقيه ولا يكرمون النبيه. فتضيع بينهم الكلمة كما ضاع الحديث بين أشعب وعكرمة. ولو صح وهمك، وأصاب سهمك. لما برزت بينهم بهذه الغدافل، ولا قمت فيهم مقام الوارش والوغل. فخفض عنك ما أنت فيه ولا تتخلق بأخلاق السفيه. ثم أنشد: قد عرف الشيخ علوم الورى ... لكن هذا العلم لم يدره فليته أدرك هذا ولم ... يدرك بواقي العلم في عمره

المقامة الحادية والأربعون وتعرف بالتهامية

فانكفأ الشيخ بذلة الخائب، وقال: مع الخواطئ سهم صائب. فأنف القوم من ذلك الشجار، وشعروا بما مسهم من نار الشنار فنفحه كل واحد بدينار. قال سهيل: وكان الزحام قد حال بيني وبينهما، فلم أملك أن أتبين عينهما فرصدتهما ارتقاباً، حتى لقيتهما نقاباً. وإذا هما شيخنا الميمون وغلامه رجب، فكدت أصفق من العجب. فأمرني الشيخ بالقعود، وقال: انتظرنا إلى أن نعود. فكنت كمنتظر القارظين ولم أظفر لهما بأثر ولا عين. المقامة الحادية والأربعون وتعرف بالتهامية

قال سهيل بن عباد: نزلت في غور تهامة، بقوم من أولي الشهامة. فكنا نقضي النهار بالنزاهة، والليل بالفكاهة. حتى إذا كنا في مجلس طرب على صحاف من غرب، فيها أقط وضرب، إذ قيل: قد وفد خطيب العرب. فنزعنا عن لقاء الطيب، إلى لقاء الخطيب. وإذا رجل مقتبل الشباب، على يعبوب يندفق كالعباب. وفي إثره شيخ عليه جبة أتحمية وعمامة عند مية، وهو يرتضخ لكنة أعجمية. فعرفته عند عيانه، على عجمه لسانه. وقلت: هذه فاتحة المساعي وفالية الأفاعي. فلما احتفل النادي جثم شيخنا كأنه صخرة الوادي. وجعل ينضنض كالحية الرقطاء وإذا تكلم يبذل الضاد بالظاء. فاقتحمته أعين الجماعة وعافوا

منظره وسماعه. فبات عندهم أهون من درص، وأذل من قيسي بحمص. قال: وكان بين القوم فتنة وشحناء، وضغينة دكناء. فلما أصبحوا قام الخطيب على هضبة واستهل الخطبة. فقال: الحمد لله الذي أمر بالمعروف ونهى عن المنكر، ورضي عمن ذكر بآيات ربه وتذكر. أما بعد: فإن الله جلاله وسما، قد نهى عن الفتنة وقتل النفس الذي جعله محرماً، وقال: إن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما. وها أنتم قد طويتم الأكباد على الأحقاد. وضممتم القلوب، على الفتن والحروب. وأفعمتم الأحشاء من العداوة والبغضاء. هذا وأنتم من صفوة المسلمين، لا من الجاهلية أو المخضرمين تعبدون رب الشعري، دون اللات والعُزَّى ومناة الثالثة الأخرى. وعندكم الكتاب المنزل والحديث المرسل. وليس بينكم أحمر عاد،

ولا فرعون ذو الأوتاد. فما هذه الغشاوة التي غشيت أبصاركم حتى زرأتم أولياءكم وأنصاركم. أما علمتم ما جرى بين وائل وعمرو، وما جنى بين تغلب وبكر. أتريدون أن تلحقوا بجديس وطسم، وعاد التي لم يبق لها رسم. وتصبح دياركم كإرم ذات العماد التي لم يخلق مثلها في البلاد. أما تعلمون أن العود لا ينمو بلا

لحاء، وأن ليس الدلو إلا بالرشاء. ومنك أنفسك وإن كان أجدع، وساعدك وإن كان أقطع. وليس النار في الفتيلة بأحرق من التعادي للقبيلة. ومن لا أخا له كساع إلى الهيجا بغير سلاح، وهل ينهض البازي بغير جناح. والآن قد بلغت الدماء الثنن، فلا تجعلوها هدنة على دخن. واعلموا أن الخضم قد يبلغ بالقضم. وليس للأمور بصاحب، من لم ينظر في العواقب. وإما ينزغنكم من الشيطان نزغ فاستعيذوا بالله إنه هو السميع العليم، ومن عمل منكم سوءاً بجهالة ثم تاب من بعده وأصلح فإن الله غفور رحيم. فعليكم بالمصالحة قبل المجالحة. وتحمل الجهل بتجمل الخلق السهل. وخذوا بالهواء واللواء فذلك نعم الدواء. ولا يكن عندكم صوت النذير كصوت البعير. والسلام على من ذكر اسم ربه فصلى، والويل

لمن كذب وتولى. قال: فلما فرغ من وعظه واستعد القوم على حفظه. دلف إليه ذلك الشيخ المستعجم، وقال بلسان يحتاج من يترجم: يا مولاي إن للأصوات قيوداً في الحقائق كهدير البعير وحداء السائق. قال: قد أطلقت الصوت للمشاكلة، وإني لأراك من رجال المناضلة. فإن كنت قد جمعت من ذلك نبذة فاجعلها لمسامعنا كالربذة، قال: اللهم نعم، وأنشد بأشجى النغم: هزيز ريح وحفيف الشجر ... هزيم رعد ودوي المطر وسواس حلية صليل النصل ... قلقلة المفتاح ضمن القفل رنة قوس وصريف الناب ... صرير أقلام على الكتاب جعجة الرحى وخفق النعل ... غطغطة القدر نقيض الرحل قعقعة القيد عزيف الجن ... زفير نارٍ نغم المغني

غطيط نائمٍ عويل الباكي ... وهكذا قهقهة الضحاك إهلال مولود أتى من الأثر ... نظيره حشرجة المحتضر قضقفة العظام نقر الأنمل ... نشيش طاجن أزيز المرجل معمعة الحريق والحنين ... للنوق والمرضى لها الأنين صهيل خيل وشحيج البغل ... نهيق عفو وخوار العجل كذلك الهدير للجمال ... يذكر والصئي للأفيال يعار معز وثغاء الشاء ... حداء سائق خرير الماس زئير ليث وضباح الثعلب ... بغام ظبي وضغيب الأرنب جلجلة السبع عواء الذئب ... مواء سنور نباح الكلب قباع خنزير وللغربان ... نعبٌ كذا العرار للظلمان صرصرة الباري صفير النسر ... هدير ورقاء وسجع القمري بقبقة البط كذا والفقفقه ... للصقر والعصفور يبدي الشقشقة زقاء ديك ومن الدجاجة ... نقنقة مثل نقيق الهاجه صئي عقربٍ فحيح الأفعى ... بالنفخ والكشيش حين يسعى

ويذكر الطنين للذباب ... واجعل صدى الوادي ختام الباب قال: فلما فرغ من كلامه الجرهمي. قال: خذوا لغتكم من رجلٍ أعجمي. فعجب القوم من نجابته على غرابته. وقالوا: لله درك لقد فتنت بما أبنت، فمن وممن أنت؟ قال: أنا عمرو بن عامرة، من الأحامرة. قد أهلك الدهر كي كل خضراء وغضراء حتى ألقتني إليكم الغبراء. قالوا: إننا قد ذهلنا بعجمتك، عن حكمتك، فلم نقم بحرمتك. والآن قد عرفنا ما اجترأنا، واعترافنا بأننا قد أسانا، فلا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا. ثم أقبلوا عليه إقبال الطفل على الرضاع، وقالوا: كل علم ليس في القرطاس ضاع. قال سهيل: فأومأ برأسه إلي، وقال: خذ يراعك يا بني، وشرع يملي علي. فلما فرغ منحوه من الشياه ما تيسر، وقالوا: صل لربك وانحر. فانقلب مغطبتاً بالحباء وهو يدعو للخطباء.

المقامة الثانية والأربعون وتعرف بالمضربة

المقامة الثانية والأربعون وتعرف بالمضربة أخبر سهيل بن عباد قال: طرحتني مفاوز الغبراء إلى حواضر مضر الحمراء. فكنت أطوف بها صباح مساء وأتفقد محافل الرجال والنساء. وأنا أسمع المأنوس والغريب، وأتفكه بالغزل والنسيب: حتى جمعت ما استطعت من لغاتهم الجاهلية، وسمعت ما شاء الله من أشعارهم الهوثرية والهوجلية. فبينما دخلت يوماً إلى بعض

الأحياء وقد مسني لغوب الإعياء. إذا شيخ طويل النجاد، مزمل ببجاد. قد قام على كثيب مقام الخطيب. فغمض عني توسمه وجعلت عيني تعجمه. حتى اذكرت بعد أمة، أنه الخزامي باقعة الأمة، وشيخ الأيمة. فاحتفزت للنهوض إليه ملتاعاً، وقد أوشك فؤادي أن يطير شعاعاً. فنهاني بإيماض طرفه، وأشار إلى القوم بكفه. وقال: الحمد لله العلي الكبير، الذي أمر بفك الأسير، وجبر الكسير، وكل ذلك يسير عليه غير عسير. أما بعد يا عشائر البشائر وبشائر العشائر. فإنكم معاذ اللاجي وملاذ الراجي. ومورد الصادي، وموعد الرائح والغادي. وبكم يشد الأزر ويمد الجزر. وبعدلكم يوثق الجاني، وبفضلكم يطلق العاني. وإن لي سبية من ربات الحجال قد سبالها بعض زعانف

الرجال. وهي بكر رقيقة القوام، كأنها ورد الكمام لها نكهة الخزام وصفاء ماء الغمام، وبهجة بدر التمام. تفتن العقول والألباب، وتستعبد السادة والأرباب. وهي عذبة المراشف، لدنة المعاطف. باردة الرضاب، مقصورة وراء الحجاب تسفر عن مثل السحر، وتفتر عن مثل الدرر، وتسر القلب والنظر. قد اعتقلها هذا الظلوم على فداء معلوم. قد طال عنده عناؤها وعز علي فداؤها. وأخاف أن يدركها الفساد، إذا طال عليها التماد. فهل من ابن حرة، يسعفني على استخلاص هذه الدرة، ويدرأ عني هذه الفجعة المرة فرثى له من حضر، من سراة مضر. وحصبه كل واحد بدينار، وقالوا: بدار بدار، إلى كشف هذا العار فحمد وشكر وابتدر السفر، على الأثر. قال سهيل: فلما فصل

الشيخ إلى العراء، قفوته من وراء وراء. فأخذ يدخل من القاصعاء، ويخرج من النافقاء. حتى انتهى إلى حانة أطيب من ريحانة. وجلس بين البواطي وأخذ في التعاطي. فدخلت عليه بنفس أبية، وقلت أين هذه السبية؟ فقد أشفقت أن تكون الصبية. فأشار إلى دستجة من الراح، وقال: هي هذه الخود الرداح، التي تفدى بالأرواح. فإن كنت من جلوس الحضرة، فهذا الماء والخضرة. وإلا فإياك الدخول في الفضول، ثم أنشأ يقول: ما لسهيل قد أراه عاتبا ... يظنني في ما ادعيت كاذباً راجع بما وصفت فكراً ثاقباً ... تجد مقالي في الصفات صائبا لا تحسب الخمر جماداً ذائباً ... بل هي روح فهي يحيي الشاربا

أودعها الخمار سجناً لازبا ... ولم يزل يرد عنها الطالبا حتى ينال منه حقاً واجباً ... وقد أتيت فربضت جانباً إذا لم يكن لي النضار صاحباً ... فقمت أعدو في الطريق ذاهبا إلى حمى القوم فقمت خاطباً ... ونلت من كرامهم مواهبا إن لم تكن حق فداءٍ راتبا ... فهي جزاء مدحهم، لا سالبا أخذتها أو سارقاً أو ناهبا ... وعن قليل ستراني تائباً فيصفح الرحمن عني ثائبا ... يمحو الذي كان علي كاتبا قال: فكسرت من حوله في احتياله وغوله في اغتياله. وابتدرت التسليم عليه، والتسليم إليه. فقابلني بوجه طلق وحياني بلسان ملق وقال: أعط أخاك تمرة فإن أبى فجمرة. ثم قال: يا بني قد ورد النهي عن الخمر صرفاً، وأنا أشربها بالماء فلا ينكر ذلك شرعاً ولا عرفاً. فاشرب عن يميني إن كنت على يقيني، وإلا فلكم دينكم ولي ديني. فجاريته خوفاً من شر شيطانه الرجيم، وقرأت: "فمن

المقامة الثالثة والأربعون وتعرف بالبحرية

أضطر غير باغ ولا عادٍ فإن الله غفورٌ رحيم". وبت معه ليلةً أصفى من الزلال، وأرق من السحر الحلال. حتى إذا أصبحنا نهض عن الوسادة، وقال: اكتب يا أبا عبادة: أبلغ سراة مضر ثنائي ... يوماً على تلك اليد البيضاء من شك في سبيتي العذراء ... فإنها سبية الصهباء شربتها حمراء كالدماء ... فلا تسؤكم هبة الفداء عفواً فأنتم مضر الحمراء ثم ختم الصحيفة واستودعها الخمار، وقال: خذها مغلغلة إلى أحياء مضر بن نزار، وودعنا جميعاً وسار. فانقلبت إلى حيث أتيت وكان ذلك من أعجب ما رأيت. المقامة الثالثة والأربعون وتعرف بالبحرية قال سهيل بن عباد: شهدت وأبا ليلى عيد النحر في بعض

أرياف البحر. وكان ذلك المشهد الميمون، حافلاً كالفلك المشحون. والناس قد برزوا أفواجاً وانتشروا أفراداً وأزواجاً. حتى إذا سكن اللجب وتميز اللباب من النجب. جلس المتأدبون منهم على أديم ذلك التراب، وأخذوا يتذاكرون في حقائق العربية ودقائق الإعراب. حتى إذا أوغلوا في تلك اللجج وأمعنوا في البراهين والحجج. طلع شيخ أعمش العين، أعنش اليدين. فمسح بيديه أطراف السبال، وأشار إلى القوم وقال: الحمد لله الذي جعل العربية أفصح اللغات، وجمع فيها أصول البراعات، وفصول البلاغات. أما بعد فاعلموا يا غرة أهل المدر وقرة أهل الوبر. أن هذه اللغة المستحسنة فريدة عقد الألسنة. وهي خلاصة الذهب الإبريز، التي بها ورد الكتاب العزيز. ولها الفنون العجيبة والشجون الغريبة. والألفاظ القائمة بين الجزل والرقيق، والاختصار المؤدي إلى المراد من أقرب

طريق. وفيها الاستعارات والكنايات، والنوادر والآيات. والبديع الذي هو حلاوتها وحلاها، والشعر الذي لا نظير له في سواها. فضلاً عما بها من الحدود والروابط والقيود والضوابط. والإعراب الذي يقود المعاني بزمام، ويرفع الإبهام، عن الأوهام. وإني لأرى

الناس قد نقضوا ذمامها، وقوضوا خيامها ورفضوا أحكامها. فضاع مفتاحها، وانطفأ مصباحها وتكسرت صحاحها. حتى لم تبق لها حرمة ولا شأن، ولم يبق من يتصرف بها من أهل هذا الزمان. فصار عندهم الناحي، كاللاحي. والشاعر، كبعض الأباعر. وعالم اللغة أحمق من دغة. ولقد ساءني ما فعلت بها الأيام، حتى بكيت على أطلالها التي عفاها عصف السهام، ولا بكاء عروة ابن حزام.

فحافظوا على درس طروسها، وجاهدوا في سبيل إحيائها بعد دروسها. فإنها الدرة اليتيمة، والحرة الكريمة. واللهجة التي لم ينطق اللسان بمثلها، والمطية التي لا تذل إلا لأهلها. وعلي أن انتصب لإفادتكم ما أبقى الدهر لي رمقاً، ولا أخاف نجساً ولا رهقاً. قال: فلما فرغ من خطبته، ونزل من مسطبته. تلقاه الخزامي بثغر باسم وحياه كعادة المواسم. وقال: يا مولاي ما أنا لديك بمن يساجل، فأين الفارس من الراجل والقناة من الزاجل ولكنني رأيتك ابن بجدتها، ورب نجدتها. فأردت أن أستفيدك عما يفيدك الثواب، إن مننت بالجواب. قال: سل، ولا تبل. فقال: كيف يمنع التصغير عمل الصفة، ولا يصرف الأسماء الغير المنصرفة؟ ولماذا لا

تمنع العلمية والوصف، وهما الركن في موانع الصرف؟ وكيف تبنى أي في نحو أيهم أشد، ولا تبنى في نحو أيهم يرد؟ ولماذا لا يباح في العلم دخول اللام، فإذا ثني أو جمع دخلت بسلام، ولماذا تسقط نون الإعراب كالتنوين من المضاف، وتثبت في غيره على الخلاف؟ ولماذا يجوز الإخبار بالأعلام مع أن من شرطه الإبهام؟ وبماذا يتعين البدل أو البيان، في نحو قام أخوك عثمان؟ وكيف يتبع اللفظ في نحو يا زيد الصابر، ولا يتبع في نحو مضى أمس الدابر؟ وكيف يكسر في نحو يا زيد الصابر، ولا يتبع في نحو مضى أمس الدابر؟ وكيف يكسر الساكن في القوافي، ولا ساكن بعده يوافي؟ وكيف يصير الجائي، إلى مثال الرائي؟ ولماذا يتغير الفعل المسند إلى الضمير المتصل، بخلاف الظاهر والمنفصل؟ وإلى كم ينتهي عدد الضمائر، عند أولي البصائر؟ قال: فلما سمع الشيخ هذه الأسئلة، قال: إنها لمن المسائل المشكلة فإن كان

لك في ذلك يد، فقد أجلتك إلى الغد. قال: بل لا أعدو الساعة، إن تبرأت من الصناعة، بمشهد الجماعة. وأخذ يفض أغلاق ختامها حتى أتى عليها بتمامها، وقال: قد رأيتم من يملك زمامها، ويرفع أعلامها، فدعوا أحاديث طسم وأحلامها. فاستغزروا عارض سيله

المقامة الرابعة والأربعون وتعريف بالحلية

وتعلقوا بردنه وذيله. فقال: إن لي أسيراً أسعى في فدائه، قبل أن يهلك في عنائه بدائه. فلينفق ذو سعة من سعته، وكل يعمل على شاكلته. فأولج كل واحدٍ يده في هميانه، وأخرج له ما شاء الله من لجينه وعقيانه. فانثنى بعدما ودع وهو قد أثنى فأبدع. حتى إذا ولى قذاله ورجوت ابتذاله. حلت دون مسيره، أو يعرفني بأسيره. فقال: يا بني قد شربت في حان سويد بن الأضبط فاسترهن مني البربط. وهو ريحان نفسي، وريعان أنسي. فإن شئت أن تصحبني إلى العقبة، وتشركني في تحرير رقبة. وإلا فاذهب بالسلامة، ولا ملامة. قلت: لا جرم أن تقرير الرق، خيرٌ من تحرير البربط والزق. وانثنيت عنه فوراً، وأنا أمدحه تارةً وألومه طوراً. المقامة الرابعة والأربعون وتعريف بالحلية

حكى سهيل بن عباد قال: نزلت بحلة في ديار الحلة. فلقيت بها شيخنا أبا ليلى يسحب في أكنافها ذيلاً، ويخطر ميلاً. فابتهجت به ابتهاج المحب بزيارة الحبيب، أو المريض بعيادة الطبيب. وانضويت هناك إلى حرزه وشددت يدي بغرزه. ولبثت في صحبته برهة أجد من حديثه أطرب نزهة، وأطيب نكهة. حتى إذا كان يوم الأضحى استوى على فرس أضحى، وقال: هلم نتضحى. فخرجنا نطس المراكل، بين تلك الشواكل. وما زلنا نتخلل القباب، ونتخطى اللحاء إلى اللباب. حتى مررنا بقوم من العلماء، قد تألفوا تألف الخندريس بالماء. فدخلنا؛ عليهم دخول المفاجي، وإذا هم يتداولون المعميات والأحاجي. فقال الشيخ: ما الذي أنتم فيه؟ لعلنا نقتفيه. فأعرضوا عنه بوجوه بأسرة، وقالوا: إنها لصفقة

خاصرة. فمن أنت يا من يركب في غير صهوته، ويشرب من غير ضهوته؟ قال: أنا الرقمع بن أصمع من بني السمعمع. ومن أنتم يا من يأبهون للنسب، ويعمهون عن الحسب؟ فذعروا لجوابه، وشعروا بصوابه. وقالوا: تحسبها حمقاء وهي باخس، فلا بد بيننا من حرب داحس. فنظر إليهم نظرة البازي وصال عليهم صولة الغازي. وقال: أما إن كان قد غركم الهزال، حتى دعوتم نزال. فلأرينكم لمحاً باصراً، وفتحتاً ناصراً. ثم تخازر كالأرمد وأنشد معمياً في محمد: على من لا أسميه سلام ... وإن ضاعت تحيتنا لديه مليح لا أرى لي فيه حظاً ... وفي قلبي دم من مقلتيه

ثم أدلم شفتيه كالعنبلي وأنشد معمياً في علي: ما لي أنادي يا علي ... ولا تلبي يا علي؟ للناس نفعك مبصراً ... وإذا عميت فأنت لي ثم اشرأب كتليع الظلمان، وأنشد معمياً في عثمان: ماذا ترى أصنع في حسد ... قد حجبوا عني بديع الزمان؟ لهم عيون راصدات لنا ... إذا بدت عين تلاها ثمان ثم قال: اللهم اهدنا سواء السبيل، وأنشد محاجياً في سلسبيل: يا لوذعياً نراه ... بكل ففن خليقا ما ردف قول المحاجي ... إن قال: أطلب طريقا؟ ثم قال: دونكم أيها الصعافيق وأنشد محاجياً في أباريق:

يا من إذا جاءه المحاجي ... أصاب في كل ما أجابا ماذا تراه يكون ردفاً ... لقوله لم يرد رضابا؟ ثم اندفع كحجر من سجيل وأنشد محاجياً في نار جيل: ألا يا من أحاجيه ... أدارت خمرة الكأس أبن لي ما يرادفه ... لظى صنفٍ من الناس قال: فلما فرع من معمياته وأحاجيه، جعل القوم يخبطون في دياجيه. وقالوا: شهد الله أنك لأعذب من القند وأوسع من هند مند. فأن أنين الثكلى، ورفع طرفه إلى الأفق الأعلى. وقال: اللهم فاطر السموات ومجيب الدعوات. أرفع منار العلم وآله، وأغنني عن منة العبد وسؤاله. وارزقني عمامة مضرجة وحلة مدبجة. حتى إذا دخلت على عبادك يعرون قدري، ويعظمون أمري. ثم اغرورقت عيناه بالعبرات وحشرجت أنفاسه بالزفرات. فأعجب

المقامة الخامسة والأربعون وتعرف بالفراتية

القوم بسلامة فطرته، وخشعوا المذلة هطرته. وقالوا: هذه عمامة فاعتذق، وحلة فالبس وانتطق. فشكر وأثنى، وعلى تلك الحسنى وانثنى يتثنى، وهو يتغنى. وأنشد: يا طربا لقد شفيت الغلة ... بحلة زهراء تشفي العلة فحلةٌ في حلةٍ في حلة ثم انطلق بي أبي وكنةٍ أحرج من الجفن، وأحضر ما تسنى من خبزه اللدن وطعامه الكفن. وقال: إنما الطعام للغذاء، فليأتنا الطاهي بما شاء. وقطعت معه تلك الليلة بالسماع فكانت ليلة الوداع. المقامة الخامسة والأربعون وتعرف بالفراتية

حدث سهيل بن عباد قال: نزلنا بشاطئ الفرات، في إحدى السفرات. فراقنا ما هناك من المياه الخصرة، والخمائل النضرة. ولبثنا أياماً نتنقل في تلك المروج، كما تتنقل الكواكب في البروج، ونجتلي مفاكهة السمر، كما نجتني فاكهة الثمر. ونتوسد كل قضة أنقى من الفضة. ونرد كل سبيل أعذب من السلسبيل. حتى إذا أزفف الترحال، وشدت الرحال. قيل: قد فاح نشر الخزام، على الأنام. فنظرت وإذا شيخنا الميمون، والناس إليه بهيمون وعليه يحرمون. فنفرت إليه نفرة الريم، في ثنايا الصريم، وقلت: هذا الحجر الكريم، فكيف نريم؟ فنقضنا غزلنا أنكاثاً، وعدنا فأقمنا ثلاثاً. قال: وكان في الركب شيخ غضر الناصية، من عاربة البادية. فالتقى الشيخ بالشيخ، لما يلتقي سمهر

بفريخ. وطفقا يتساقطان الحديث، ويتلاقطان الشتيت منه والأثيث. حتى ركبا متن اللغة، وأحاطاً به كالحلقة المفرغة. فتغافل الخزامي كأنه واسطي، حتى طمع ذلك الشيخ الناعطي. فألقى إليه شيئاً من المسائل الدقاق، وتمادى المراء بينهما حتى أفضى إلى الشقاق. فاهتز أبو ليلى كالخليع الماجن، وقال: قبل الرماء تملأ الكنائن. إن كنت من ذوي الحصافة الضابطة، فما عندك من الألفاظ التي تنتابها الظاء القائمة والضاد الساقطة؟ فأطرق برأسه ملياً وأمعن النظر جلياً. ثم قال: أرك قد أبعدت الخطط وركبت الشطط.

فإن كنت ممن يبرز المعصم، لالتماس الغراب الأعصم، فأفض علينا من روائك ونحن تحت لوائك. فلم يكن إلا كر ولا، حتى أنشد مرتجلاً: يدعى نقيض البطن باسم الظهر ... وذروةٌ من جبلٍ بالضهر والقيظ في الصيف بمعنى حره ... والقيض في البيض لبادي قشره والغيظ والغيض وقل فاظ إذا ... مات، وهذا الماء قد فاض كذا ظن وضن باخل والحنظل ... للنبت والظل المديد حنضل والظب للهاذر ثم الضب ... والظرب نبت عندهم والضرب وقيل للروض الأثيث معظل ... وهكذا الأمر عليهم معضل وجاض عنه حائداً حين ضلع ... وجاظ في المشي اختيالاً وظلع والحمض والحمظ لعصر الرطب ... والمظ للوم ومض الخطب وقارظ على جنى الصبغ عظب ... ملازماً وقارض له عضب

وأبرق الظرير والضرير ... وهكذا النظير والنضير وقيل زيد في القتال ظجاً ... مستنجداً وفي سواه ضجا وللآلي في السموط نظم ... وقيل للبر الخصيب نضم والفض والفظ وقيل ضلمه ... للسهر الطويل تحت الظلمه والظعف للنبت وضعف العظم ... ومقبض القوس دعي بالعضم والبيظ بيض النمل والحظيره ... للشاء والناس لهم حضيرة كذا الوظيف ووضيف الوقف ... ظل وضل عن سبيل العرف وعظة الحرب وعضة الأسد ... والحظ والحض وحسبي ما ورد قال: فلما فرغ من ارتجازه وجلا بدائع إعجازه، في سرده وإيجازه. أعجب القوم بسحر بيانه، وعقد بنانه. وقالوا: مثلك من تلقى إليه المقاليد، وتجفخ به المواليد. فشمخ بأنفه من التيه،

وأنشد بغير تمويه: أنا ابن الخزام أنا ابن الرزام ... أنا ابن اللزام غداة النزال حديد الشواظ مديد اللحاظ ... شديد الحفاظ سديد المقال ولكن تجنى علي الزمان ... بنقض الذمام ونكث الحبال وأغرى بنيه بشد الرحال ... وعد الرخال وصد الرجال وأخنى علي بإمحال حالي ... وإخمال مالي وبلبال بالي فرحت أسيفاً ضعيفاً نحيفاً ... قضيفاً سخيفاً حليف السؤال على أنني قد تقلدت صبراً ... بديع الجمال كصبر الجمال فلست أبالي بزج الإلال ... وسلب اللآلي وكيد الليالي قال: فأوى له من حضر، وحباه كل منهم بقدر. وتقدم إليه ذلك الشيخ الدهري بنجيب مهري. وقال: لا جرم أن الشيخ من تقدم

المقامة السادسة والأربعون وتعرف بالسخرية

جهده، لا من تقادم عهده. وبتنا تلك الليلة نتفكه بأنفاسه، ونتنزه بصهباء كأسه. حتى إذا غمضت الجفون عن الشفون. أدلج على ذلك النجيب، وترك القوم عليه ألهف من قضيب. المقامة السادسة والأربعون وتعرف بالسخرية قال سهيل بن عباد: خرجت للصيد في بادية الخلصاء مع بعض الخلصاء الأخصاء. وكنا في عدتنا كنجوم الثريا وفي انتظامنا كحبب الحميا. فاقتنصنا ما شاء الله من سانح وبارح، وقعيد وناطح.

ثم أثقبنا النار في ذلك الحضيض وأخذنا بالمل والتعريض. وجعلنا نختزل الخراذل والأوصال، من كل خنساء وذيال. إلى أن صغت الشمس نحو المغربان، وكادت تلبس حلة الأرجوان. فنهصنا نقتضب تلك الأرض، حتى غشيتنا ظلمات بعضها فوق بعض. فجعلنا نخبط خبط عشواء تحت غشاء ذلك العشاء. وبينما نحن كالآرام في القماص، إذ سمعنا منادياً يقول: القرى يا خماص فخف ما نجد من الكرب، وعجبنا من مكارم العرب. وقصدنا ذلك الصوت على السماع، كما تستروح السباع. فإذا دار قوراء، ونار زهراء، وأوجه غراء. فنزلنا على الرحب والسعة واستقبلنا القوم بالأنس والدعة. وما لبثنا أو وضع الخوان، ورفعت الجفان. فجلسنا مليا. وأكلنا هنياً مرياً. وبتنا ليلتنا في ذلك

الغور، كأننا جلساء قعقاع بن شور. حتى إذا كانت الغداة وقد تألب الحي بمنتداه. وفد شيخ بال، في رثاث أسمال. فبينما حي وجثم وهو قد اشتمل والتثم. أقبل رجل قد تزمل بكساء خلق واعتم بلفائف مكورة كالطبق، قد جمعت ألوان قوس السحاب في الخرق. وأرخى لعمامته عذبة أطول من قصبة. وهو قد كحل إحدى عينيه ولبس خفاً بإحدى رجليه، وأخذ عصاً بكلتا يديه. فلما رآه الشيخ ازمهر وامتقع لونه واكفهر. وقال: أخذتك بالفطسة، بالثؤباء والعطسة. فقال القوم: تبارك اسم ربك الأعلى، من هذا الذي منظره يضحك الثكلى؟ قال: هو أحمق مولع بالفشار، كتلفيق الخنفشار.

ولسانه لا ينطلق، إلا بمثل الخفشلق. وقد قبض الله لي ملتقاه فحيثما سكعت أراه. وأنا أتعوذ من منظره الذميم، كما أتعوذ من الشيطان الرجيم. وهو يداركني سباقاً أو لحاقاً ويفاجني عمداً أو وفاقاً، فلا يرسل الساق إلا ممسكاً ساقاً. فاقتحم الفتى وهو يرفس برجله الأرض،

ويتهادى بين الطول والعرض. فانتشبت شظية في رجله الحافية، كما أصاب رافس الشنفرى بالبادية. فأعول وولول وحجل بعدما هرول. وقال: قبحك الله يا وجه الغول، وسحنة المغول أتتشاءم بي وبك يتشاءم غراب البين؟ هل تظن أن رزق الله يضيق عن اثنين؟ أم تحسب إن القوم إذا رأوا لين قامتي، ونقش عمامتي. يزدرون بشيبتك، ويعزمون على خيبتك؟ أتخالهم لم يروا بلغتك الزرقاء، والغلماء بين يديك كالأرقاء؟ ولم يشموا عطرك الذي يملأ قطرك؟ ولم ينظروا عمامتك الحانية، وجبتك القانية،

وبردتك اليمانية وأظفارك التي كالمناجل وما تحتها من سخام المراجل؟ فلولا حرمة القوم لجعلت في رأسك العشر الشجاج، وحطمتك كقوارير الزجاج فأرغى الشيخ وأزبد وأبرق وأرعد، وثار إليه كالبعير الأقود. فانهزم الفتى كالبحتري وعدا الشيخ في غثره كالصيمري. والناس من ورائهما ينظرون، والصبيان يصفقون

وينقرون. فتكبكب الفتى وكبا، وانتقضت عمامته فذهبت أيدي سبا. فتجارى الغلمان يتخاطفون منها القطع، ويتقاذفون الرقع. وهو من ورائهم يصيح: المدد ويجمع تلك القدد، ويسرد العدد. وهم يطاردونه عن أخذها، وهو يطاردهم عن نبذها. حتى ضاقت عن الضحك الصدور، وبرزت مقصورات الخدور. فالتظى الفتى واضطرب ونادى بالويل والحرب. وقال: ويل لكل همزة لمزة، لا يعرف حق التاج والخرزة أين بقية القطع الحمراء،

والشظايا الصفراء والخرق الخضراء؟ قد عدتها تسعين، ولا أجد منها غير سبعين، فأين أضعتم الأربعين؟ فضحك القوم من حسابه الذي يفتن كل حاسب، ويضحك مروان الكاتب. وقالوا: لا بأس يا أخا العرب، سنعوض عليك ما ذهب. فقال: شهد الله ما بي هذا الخراب، ولكن تشاؤم هذا الشيخ بي وهو أشأم من سراب. فإنه قد أضاع بذلك خفي الذي هو أغلى من خف حنين، وعمامتي التي جمعتها من آثار حجاج الحرمين، وكنت لا أسمع أن يمسها الحسن والحسين. قالوا: خذ هذا الخف الدارش والعمامة الموشاة، وتنكب الشيخ أن تغشاه أو تهيجه بما يخشاه. فأخذهما ومشى، وقد لاحت عليه

المقامة السابعة والأربعون وتعرف بالرصافية

تباشير الرضى. فقال الشيخ: أرأيتم يا كرام الحي، إني كنت فألا على الفتى وكان شؤماً علي؟ قالوا: لا طيرة إن شاء ولا شؤم، فما نحن من أهل اللؤم. ثم وصلوه بصلة سنية وقالوا: عليك بحسن الظن وإصلاح النية. قال سهيل: وكنت قد عرفت الشيخ وفتاه، وعجبت من المجون الذي أتاه. فلما انصرف حثني إليه الشوق فأدركته وهو حثيث السوق، وقلت: يا أبا ليلى شب عمرو عن الطوق. قال يا بني إن المزح في الكلم، كالملح في الطعام. والإلظاظ يورث الملل، ولو كان على العسل. وإني قد مللت الجد واشتقت إلى الهزل، فعسى أن تكون قد مللت اللوم والعذل فاكتفيت من النار بالشرار، وانكفأت على قدم الفرار. المقامة السابعة والأربعون وتعرف بالرصافية

حكى سهيل بن عباد قال: سمرت ليلة بالرصافة، مع كرام من أولي الحصافة. فبتنا نتلاعب بأطراف الكلام المشقق، ونتجاذب أعطاف الحديث المرقق. حتى أدانا حصر الحصر إلى ذكر أفراد العصر. فقال بعض القوم: ما أدراكم من وفد اليوم قد وفد الخزامي الذي إذا انبرى لا يبارى، وإذا جرى لا يجاري وإذا حدث ترى الناس سكارى. فأعجب القوم بارتقائه، وقالوا: من لنا بالتقائه؟ قال: إن شئتم أن تتخذوا إليه سبيلاً، فاتخذوني دليلاً. فلما أصبحوا قالوا: أنجز حر ما وعد، قال: ومن جد وجد. ثم انطلق بنا كالشملة الرافلة حتى أتينا القافلة. وإذا الشيخ قد ثار كأنه من رضفات العرب،

وقال: قد أصابني سهم غرب، فالحرب بيننا والحرب. قال: وكان بين يديه رجل أدرم أثرم، ينزو كالقضاء المبرم ويسطو كأبرهة الأشرم. فقال: قد عرضت فرسينا للرهان، وجعلت مضمارنا البرهان. فإن كنت من طوارق الليل، فما قيود الأسنان والألوان في الخيل؟ فأطرق إطراق الأفعى، ثم قال: خذها حية تسعى، وأنشد: المهر في حوليه باسم الجذع ... يدعى، وبالثني في التالي دعي

ثم الرباعي بعده في الرابع ... وقارح في الحجج التوابع وهو على اختلاف لون جلده ... يدعي بأوصاف جرت في نقده فأدهم وأبيض وأحمر ... وأشقر وأصفر وأخضر حتى إذا اشتد سواد الأدهم ... يقال فيه الغيهبي فاعلم فإن ينقط ببياض أنمش ... قيل، ومع ذاك سواه أبرش فإن تكن نقطه تتسع ... فإنه مدنَّرٌ فأبقع وإن يشب بعض السواد الأبيضا ... فذاك بالأشهب في الوصف قضى وإن أصاب الأحمر السواد ... فبالكميت وصفه المعتاد فإن عرا الكمتة لون أشقر ... فذلك الورد الذي لا ينكر وإن يك الأشقر فيه خلس ... من السواد قيل هذا أغبس وإن رأيت أصفراً يمتد ... فيه السواد فهو السمند فإن عرا الصرة لون شهبه ... فالسوسني وصفه بالنسبة وإن يك الأخضر فيه يحوى ... شيء من السواد فهو الأحوى قال: إن كنت من أولي الكمال، فما مثل ذلك في الجمال؟ فاضطرب

اضطراب السراب، ثم أنشد وما استراب: أول نتج الناقة الحوار ... يدعى كما جاءت به الآثار وهو لعام واحد فصيل، ... وابن مخاض بعده تقول وابن لبون ثم حق جذع ... ثم الثني فالرباعي يتبع ثم الديس بعده والبازل ... والعود في العشر رواه الناقل فإن صفت حمرته فأحمر ... قيل له وهو لديهم يؤثر فإن تشبها دهمة فأرمك ... والجون ما فيه السواد أحلك وذو البياض آدماً يلقب ... فإن علته حمرة فأصهب فإن يكن بياضة يلتبس ... بشقرة، فهو البعير الأعيس والأخضر المصفر في سواد ... يدعى بأحوى اللون في البوادي قال: فلما رأى الرجل ما رأى من طوله باعه، وريع رباعه. قال: قد

حق علي الخرس وحقت لك الفرس. فهلم إليه وخذها غير مأسوف عليها. فاستعظم القوم أمره، واستهالوا غمره. وقالوا: من تمام العمل، أن نزيدك الجمل. قال: إذا ملكت الخطام، فما أبالي بالحطام. ثم سبح وتشهد وترنح وأنشد: إذا كان العباد بكل عصر ... شمال غريبة فأنا اليمين سلوا عما أردتم من فنون ... فعند جهينة الخبر اليقين

المقامة الثامنة والأربعون وتعرف باللاذقية

قال سهيل: فلما انصرف أصحابي قلت هذا مشواي، وقد شغلت شعابي جدواي. قال: أنت على الرحب والسعة، ولك الرغد والدعة. فأقمت في صحبته بأم العراق حتى حم الفراق. المقامة الثامنة والأربعون وتعرف باللاذقية حدثنا سهيل بن عباد قال: عن لي أرب، في لاذقية العرب.

فقصدتها من خناصرة مع رجل صنافرة، يتبرد بالهجرة. فآدتني صحبته الغلوب حتى أدتني إلى اللغوب. فدخلت المدينة، كما تدخل الدلو العدنية. ونزلتها واهن العواهن لا خدن لي ولا عجاهن. وكان بدار منزلي السفلى، مدرسة حفلى. فكنت أزورها لماماً، وأقوم بها إماماً. حتى إذا كنت يوماً بمحرابها، بين أضرابها وأترابها. دخل شيخ كفيف، يقوده غلام خفيف. وهو قد اعتمر بصماد، وسدل له عذبه كالنجاد. فلما وقف بنا لاحت عليه الأريحية، وحياناً بأحسن التحية. ثم قال: حمداً لمن له الحمد والمنة، الذي جعل المدارس أبواب الجنة. أما بعد فإن الله قد أمر بالقراءة وأقسم بالقلم، وهو الذي علم به الإنسان ما لم يعلم. فلا جرم أن هذه الصناعة أرجح الصنائع وأربح البضائع. وعليها مدار

السنة والكتاب، وبها حيوة العلوم والآداب، ومنها استنارة العقول والألباب. وهي عنوان السيادة وعنقوان السعادة. وآية الفلاح، وغاية الصلاح والإصلاح. ولولاها لدوست الأخبار، وطمست الآثار. وهلكت أموال التجارة، وضاعت حقوق القضاء والإمارة. فثابروا أيها الولدان المخلدون، ولا ترضوا من الصناعة بالدون. وإذا قرأتم فافتحوا الطرف، وأظهروا الحرف. والزموا الدرس ولا تكثروا الهمس. وإذا أردتم أن تبروا القلم، فاشحذوا الجلم. وأطيلوا الجلفة وأسمنوها، وحرفوا القطة وأيمنوها واحرصوا على صحة التصوير، وإحكام التحرير، وتقويم الأساطير. وأعلموا أن المناقش، سيتلون عليكم بأبي براقش. فلا تدعوا له سبيلاً أن يلوم، ولا تمكنوه من حجة تقوم وعليكم بعفة اليد واللسان، ونقاء الثوب والبنان، وسهولة الخلق بين الأقران، والمذاكرة في آيات القرآن. لتكونوا زينة الحيوة الدنيا، كما أنزل الله كلمته العليا. وأما الأستاذ

فليكن عفيقاً غيوراً، لطيفاً صبوراً، أديباً وقوراً. ماهراً في صناعته، باهراً في وداعته. ليس بالشديد العتي، ولا البليد العيي. يرغب في أن يفيد كما يرغب في أن يستفيد. ويجتهد في تربية من تحت لوائه، كما يجتهد في تربية أبنائه. وليعلم أن التلامذة أمانة الله في يده، ويتأهب في يومه لما سيحاسب عليه في غده. ثم أقبل قبل المشهد، وأنشد وهو قد تنهد: يا من لهم في السجايا ... عينٌ وجيمٌ وباء ما طالب لي في سواكم ... نونٌ وعينٌ وتاء عهودكم ليس فيها ... نونٌ وكافٌ وثاء وحظكم كل يوم ... ميمٌ ودالٌ وحاء وإنني في حماكم ... شينٌ وياءٌ وخاء لو يبق لي في بلائي ... صادٌ وباءٌ وراء أنتم لكل فقير ... كافٌ ونونٌ وزاء وفي أكف نداكم ... باء وسين وطاء هل عندكم نحو شيخ ... لامٌ وحاءٌ وظاء وحسبه من رضاكم ... عينٌ وطاءٌ وفاء دياركم للأماني ... واوٌ وجيمٌ وهاء شين وباء وعين ... فيها وراءٌ وياء

قال: فلما فرغ من أبياته الحسان، تعلق به أولئك الغلمان. وقالوا: إنك نعم الأستاذ، والعقوة التي بها يلاذ. فنحن هواك ولا نريد سواك. فأشفق الأستاذ من صرم حباله، هاجت بلابل بلباله. فأسر إلي النجوى وباح لي بالشكوى، من هذه البلوى. وكنت قد عرفت الشيخ أنه حامي الحمى، وإن كان قد تظاهر بالعمى. فقلت للأستاذ: إن كنت قد أجفلت من مواء السنانير، فأعطني له قبضة من الدنانير. وأنا أدرأ ما في نفسه قد أوجس وأدعه لا يأتيك سجيس الأوجس. فناولني ما شاء، وقال: أتبع الدلو بالشاء. فدعوت الشيخ إلى خلوة، وبثثته المرة والحلوة. فقهقه كما يقهقه الرعد، وقال: بكل واد بنو سعد. فعده وعد السموأل، أن

المقامة التاسعة والأربعون وتعرف باللبنانية

أسامة لا ينزل في وجار جيأل. قلت: فكيف تعاميت وأنت أبصر من فراس في بهماء غلس. فنظر إلي نظرة الضرغام، وأنشد بصوت كالبغام: تخلق الناس بالأدناس واعتمدوا ... من الصفات الدها والمكر والحسدا كرهت منظرهم من سوء مخبرهم ... فقد تعاميت حتى لا أرى أحدا ثم انطلق بي إلى مثواه وقاسمني شطر جدواه. وقال: أنت الليلة ضيفي وأنا غداً ضيف الهجير، فإن الصقر متى صاد بصير. فقضيت معه ليلة أرق من السابرية، وأطيب من الجاشرية. حتى نسخ الصبح آية الظلام، ونشر على الأفق حمر الأعلام. فودعني وذهب وأودعني اللهب. المقامة التاسعة والأربعون وتعرف باللبنانية

روى سهيل بن عباد قال: ظعنت في نفر من معد بن عدنان، حتى مررنا بجبل لبنان. فراعنا ما به من الشعاب والأودية والمجالس والأندية. والخمائل والغياض، والمياه والرياض. والقرى والدساكر، والعشائر الملتفة كالعساكر. فلبثنا أياماً في جنباته نجول بين رعانه وهضباته. حتى نزلنا بقوم من العظماء، قد أحاطواً بفتى من العلماء. وهو ينشدهم الأبيات، ويُطرفهم بالغرائب والآيات. فوقفنا نسترق السمع، في خلال ذلك الجمع. وإذا شيخ من أبناء السبيل قد أقبل في ثوب رعابيل. فتخلل القوم ولم يسلم، ثم احقوقف مشيحاً ولم يكلم. فاستثقل القوم ظله، وأنكروا محله. وقالوا: إن هذا الشيخ قد بلغ الحدب، ولم يظفر من الأدب ولا بمثل الكدب. ثم أعرضوا عنه ازوراراً، واحتملوا فظاظته اضطراراً. فانتدب له الفتى وقال: من أين أقبلت يا أبا الشقعمق؟

لا كان يومك الشمقمق فزفر كفحيح الأفعى، وقال: استنت الفصال حتى القرعى. فمن أنت يا من لا يعرف الكوع، من البوع؟ قال: بل أنت من لا يعرف الكاع، من الباع إن كنت من أنماط هذا النمط، فما الفرق بين الميت والميت والوسط والوسط؟ وما فرق اليتيم بين الناس والبهائم في الوضع، وفرق الأم بين الفريقين في صيغة الجمع؟ فهمهم الشيخ وجمجم، وغمغم حنقاً ودمدم. وقال: ويك يا مرقعان يا أفرة المعمقان. إن كنت ابن مسألة أو كاشف

معضلة. فأنبئني بقيود القطع، وإلا فأعدد قفاك للصفع فرنا بعين المها، إلى السمهى. وأنشد: يقال: جز الصوف زيد وحصد ... نباته اليابس، والرطب خضد وجدع الأنف وللأذن صلم، ... وشتر الجفن وللكف جذم وشرم الشفة إذ قص الشعر ... وقضب الكرم لدى قطف الثمر وقلم الظفر وحز اللحما ... وحذق الحبل وبت الحكما وقذ ريش السهم إذ قط القلم ... وعصف الزرع وللنخل جرم وقيل: قد السير. والنعل حذا ... وجاب صخراً، قطع الثوب كذا وحذف الذنب والغصن عضد ... وفلح الحديد، فاحفظ ما ورد قال: إن كنت من رجال العصر، فما هي قيود الكسر؟ فاستضحك طويلاً، ثم فكر قليلاً. وأنشد: يقال: شج الرأس والأنف هشم ... ووقص العنق وللسن هتم وقصم الظهر لدى رتم الحجر ... وحطم العظم كغصن قد هصر وفضح الجبس، والنوى رضخ ... ورض حباً رأس حية شدخ وفقس البيض على فدغ البصل ... وهد ذاك الركن من دك الجبل وهضم القصب والخبز ثرد ... ونقف الحنظل فاستجل الرشد قال: فهل تعرف قيود الحصص، من مثل هذه القصص؟ فتململ

كالأفعوان، ثم نزا كالعنظوان. وأنشد: كسرة خبز فدرة اللحم ترد ... كتلة تمر فلذة من الكبد ومن طعام لمظة وكسفه ... من سحب ومن سويق نسفه كذا صبابة من الشراب ... جذوة نار حثوة التراب ودرة من لبن فرزدقه ... من العجين غرفة من مرقه وصبرةٌ من حنطة ونقره ... من فضة ومن حديد زبرة خصلة شعر كبة من غزل ... فرصة قطنٍ رُمةٌ من حبل خرقة ثوب نبذة من مال ... وهدأة الليل من الأمثال قال سهيل: فلما أبان الفتى ما أبان، قال القوم: قد ظهر الشجاع من الجبان. فما أشبه هذه الألمعي بأتي عبيدة والأصمعي. ولقد اعتمانا ويمم

حمانا. فلنحبه بما هو الخليق به رعاية لحرمة أدبه. ثم أفاضوا عليه حلة من الإستبرق، وقبضة من الذهب الأصفر كبتاً لعدوة الأزرق. فطال على الشيخ واستطال، وقال: قد ذل من يصادم الأبطال فاعتصم الشيخ بالهزيمة، واقتفاه الفتى بماضي العزيمة. قال سهيل: فأشفقت على ذلك الشيخ الفاني، من صولة ذلك الفتى الجاني. وخرجت في إثرهما، لترقيح أمرهما. فإذا هما بجانب العقيق بين الأقحوان والشقيق، والشيخ قد لبس الحلة والفتى قائم لديه كالرقيق. فتوسمتها من كثب، وإذا هما ميمون ورجب، فصحت: يا للعجب! فارتفق الشيخ على يمينه، وأنشد والبشر يلوح من جبينه: قد لاح صبح الشيب وارفض الدجى ... والعمر ولى والردى قد عرجا ورجب كالمهر عندي نتجا ... أريد أن أروضه مخرجاً حتى إذا فارقته مندرجا ... رحت قرير العين صادق الرجا

المقامة الخمسون وتعرف بالحموية

لا أختشي معصية أو حرجا ثم قال: يا بني إني قد عولت أن أركب الفلك، وأذهب إما هلك، وإما ملك. فعد إلى أصحابك بالسلام واكتم حديثي مع الغلام. فانثنيت عنه بين العذر واللوم، وكتمت الحديث حتى وصلت إلى القوم المقامة الخمسون وتعرف بالحموية قال سهيل بن عباد: لقيت الخزامي في حماة فانضويت إلى حماه، ولبثت نتسم رياه، وأترشف حمياه. وهو يطوف بي على الرياض والغياض ويرد المعين والحياض. ويتفقد الأجارع النضرة، والخمائل الغضرة. حتى دخلنا إلى حديقة

بهيجة أنيقة. والدواليب حولها تحن حنين الناقة الرؤوم، وتئن أنين المدنف السؤوم. فجعلنا نتخير الأفياء، حتى انتهينا إلى ظلال لمياء. فجلسنا وقد أطاعنا العاصي، وتسخرت لنا مياهه من الأقاصي. وأخذنا نجتني الثمار الذوابل من الأفنان السوابل، وقد رقص البلبل على نغمات البلابل. وإذا قوم من كرام الوجود سيماهم في ناضرة، إلى ربها ناظرة. وهم يسبحون بحمد ربهم، ويستغفرون لما تقدم وما تأخر من ذنبهم. فلما رآهم الشيخ قال: أعوذ برب الناس، وجعل يضرب أخماساً لأسداس! ثم قال: يا بني كنت قد عزمت أن أنتبذ مكاناً قصياً، ولا أكلم اليوم إنسياً. ولكن ما كل رامي غرض يصيب، وكل وافد له نصيب. فلم يكن إلا كتلاوة أم القرآن،

حتى تقدم القوم يخطرون كالمران. ولما كانوا منا بمسمع، جلسوا على رصيف من اليرمع. وأخذوا يتداولون الأحاديث المسندة، ويتناشدون الأشعار العربية والمولدة. فقال الشيخ: التجلد، ولا التبلد. ثم أقبل علي كأنما أنشط من عقال وخلل عذاريه وقال: يا بني إنني خضت القفار، وكشفت الأسرار. وشاهدت بين الإدبار والإقبال، في السهول والجبال، ما لم يخطر لبشر ببال. فكم رأيت إبرة تطلب، وخيطاً يهرب. وثعلباً في جبة، وأرنبة في قبة. وغزالة في السماء وجمرة في الماء. وكوكباً في مقلة، وشهاباً في حقله. وهلالاً في راحة ونجماً في ساحة. وقوماً يحبسون الناصح،

ويكرهون المصافح. ويحتنبون الخاشع ويمتهنون الضارع. ويركبون الشكور ويدوسون الجمهور. ويرون قطع ساق العبد، ألذ من قطف الورد. ويعتقدون أن الكافر هو الظافر. واللعين، نعم الأمين. وأن أكل الأحرار، من شيم الأبرار، وقرة العين لمن علاه الدين. فثق بما أعتمده، وصحح هذا الرأي واعتقده. واستقم ولا تتبع سبيل الذين لا يعلمون، فإن الله إذا أراد شيئاً فإنما يقول له: كن فيكون. قال: فلما سمع القوم كلامه رأوا فيه لغواً ولحناً، فعابوه لفظاً ومعنى. وقالوا: إن هذا شاعر به جنة،

فاجعلوا قلوبكم في أكنة. فثار الشيخ كأنه ليث عفرين، وقال: إني أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين. من أنتم يا سلالة الأنبياء، وثمالة الأولياء. وما بالكم تحكمون بما لا تعلمون وتنكرون من حيث لا تفكرون. أتعلمون اليتيم البكاء والنديم الغناء؟ أم تحسبون أنكم تحسنون صنعاً، إذا تحككت عقربكم بالأفعى؟ لقد غركم بالله الغرور، والله لا يحب كل مختال فخور. فليحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين، وستعلمون غداً من الكذاب الذي يراغ عليه ضرباً باليمين. فلما رأى القوم ما رأوا من ازدهائه، شعروا بدهائه. وقالوا: لعل له عذراً وأنت تلوم، فلينظر المولى بعلمه الذي فيه حق معلوم، للسائل والمحروم. فلما آنس منهم لين الشرة لاحت على أساريره المسرة. وقال: إذا تلاحت الخصوم، تسافهت الحلوم. ثم أفاض

في نقض ما أبرم، وفاض كالسيل العرموم وهو يحرق الأرم. فانقادوا أذل من النقد، وقالوا: نعوذ بالله من شر النفاثات في العقد. ثم قالوا: إنا لنراك غزير السيل، لكنك قصير الذيل يسير النيل. فخذ هذه النفقة، على سبيل الصداقة لا الصدقة. وقد انتهينا عن الصلف، إلى الكلف، فاغفر لنا ما قد سلف. فأبدى الثناء الجميل وأسدى الشكر الجزيل. وانقلب مفتخراً بما فاز، ومغتبطاً بما حاز. قال: فلما أتينا المدينة انحدر عن المطا، ودخل بي إلى مثل أفحوص القطا. فبت معه ليلة أشهى من عصر الصبا. حتى إذا أصبحنا ثار بين النفير، كالعنقفير، وأخذ في التشمير، للمسير. وقال: إني منصرف إلى بلدة أخرى، فإن شئت أن تؤوب إلى أهلك فهو الأحرى. فودعته وداع الهائم المشتاق، وسرت وأنا أحدو بذكره النياق.

المقامة الحادية والخمسون وتعرف باليمامية

المقامة الحادية والخمسون وتعرف باليمامية أخبرنا سهيل بن عباد قال: تقلدت السفر طوق الحمامة، منذ اعتجزت بالعمامة. وكنت أهوى ديار العرب العرباء، لما فيها من الشعراء والخطباء والفصحاء والأدباء، والبلغاء والنجباء. فكنت أزجي إليها الركاب، وأتضمخ منها بالعجاج والعكاب. وأتعطر بالعرار والبشام، وأتفكه بالعرفج والثغام. وأطرب للنصب والحداء، وأبتهج بالثغاء والرغاء. حتى إذا كنت يوماً بحجر اليمامة، رأيت كتيبة فد أطبقت كالغمامة. فحثحثت الجواد، حتى حصحص لي ذلك السواد. وإذا فتى لاغط، وشيخ ضاغط.

والناس حولهما يتفرجون، ولا يفرجون. فانتصبت مع الوقوف، ونظرت من خلال الصفوف. وإذا الشيخ يقول: ويل أمك يا أخبث من الشيطان، وأروغ من الثعلبان إلام تتمادى في العقوق، وتتغاضى عن الحقوق؟ أما تذكر تثقيفي أودك، وتلقيفي رشدك؟ وهل نسيت ما تجشمت من جللك، في مداواة عللك؟ وكم أنفقت عليك في المدارس والمطاعم والملابس؟ فبأي آلاء ربك تتمارى، ولو كنت أبله من الحبارى؟ هذا والغلام يتظلم، ويتململ ويتألم. وهو أحير من ضب وأنفر من بعير أزب. فلما رأى القوم ما رأوا تململه، واصطخابه وتبلبله. قالوا: ليس شكوى بلا بلوى. فأبن أيها الشيخ عذرك وضع عنك وزرك، الذي أنقض ظهرك.

فأرن كما يأرن المهر، وقال: قد تجنى علي هذا الغمر، والله يعلم أن ليس لي ذنب إلا ذنب صحر. إن هذا الفتى عربي الدار، لكنه رومي النجأر. وقد بذلت فيه من الدينار والدرهم، مالا يبذله خالد بن الأيهم. وأفرغت جهدي في تهذيب لسانه، وتعديل ميزانه. فلم يزل يكسر شكيمة اللجام، وينزع إلى ألفاظ الأعجام. فيدعو المعلم، بالمؤلم. ويسمي القلب بالكلب. والحيطان بالخيطان. ويعرف

المضاف، ويؤخر الموصوفات عن الأوصاف. وهذا مما تأباه السجية الأدبية، وتستك منه المسامع العربية. وشهد الله أني أريد تهذيبه، لا تعذيبه. وأرغب في تثقيفه لا تعنيفه. لكنني أجتهد في تسديده فيعثر، وأروم تشديده فينفر. وإن كنتم في ريب من ذلكم فاختبروه، وإلا فأنا أمتحنه لتعتبروه. قالوا: لا جرم أن الموالى، هو الأولى. فأمسك هنيهة عن الكلام، ثم قال قل يا غلام: أنا الخزامي الرقيق الكلم ... مسحت ركن المسجد المحرم ولي غلام من نتاج العجم ... يشرق في فؤاده وفي الفم أوجده باري الورى من عدم ... وحاطه بالقدر المصمم فلم يزل في حرس متمم فتعزز الفتى وتمنع، وهو يروغ كالفارس الأهنع. فما زال به القوم حتى أجاب فترحرح، وأنشد بصوت صمحمح: أنا الخزامي الركيك الكلم ... مسخت ركن المسجد المخرم ولي غلام من نتاج الأجم ... يشرك في فؤاده وفي الفم

أوجده باري الورى من أدم ... وخاطه بالكدر المسمم قلم يزل في خرس متمم قال: فلما رأى القوم سقم هذه الألفاظ، وما أدت إليه من المعاني الفظاظ. تعوذوا بالله من سوء تلك اللثغة، وقالوا: ما هذا الغلام الذي لا يشترى بفشغة؟ فتبرم الشيخ وتأفف وتأوه وتسف. وقال: قد علمتم أن عثار اللسان شر من عثار القدم، ولكن ماذا ينفع الندم؟ وإنني طالما حدثت نفسي بعتاقه، وهممت بانعتاقي من وثاقه. ولو وجدت لي عنه غنى أو كان في يدي سعة من الغنى. لبعته بنصف القيمة، واشتريت غيره بضعف السيمة. ولكن قد انقطع السلى، فلا حول ولا. فأجهش الفتى عن كثب، وأخذ رقعة وكتب: هبوا خطأ اللسان علي عيباً ... أما لي غيره شيء يصيب أنا ابن اقعد وقم لا في الندامى ... أعد ولا سمير أو خطيب

أدير من المعاني كل كاس ... تطيب فخل لفظي لا يطيب إذا كان الجميل سليم حسن ... فليس يضره ثوب معيب فلما وقف القوم على شعره، ورأوا انحطاط سعره. قالوا: إن لم يحسن الكر فالحلب والصر. ونقدوا الشيخ بعض المال وقالوا للفتى: دونك الجمال. فسر كلاهما وارتضى، وودعهم الشيخ ومضى. قال سهيل. وكنت قد عرفت ذينك الصاحبين، اللذين سيئاتهما تغلب الكاتبين. فقفوت الشيخ في تلك البقاع، وقلت: يا فرزدق أين وقاع؟

قال: انزل بنا هنا والليل يواري حضناً. فنزلنا إلى أن استوهن الليل، وإذا رجب على شيظمة من جياد الخيل، تندفق به كعارض السيل. وهو بين ذلك ينادي الليل وأهضام الوادي. واستمر يعدو الهملجة، على مهرته السملجة. فما أدركناه إلا وقد اشمخر الضحى، وكلت الخيل من الوحى. فزلنا جميعاً من السروج في بعض تلك المروج. حتى إذا انجاب بهر الأنفاس، وثاب أشر الأفراس. ثار رجب كالرئبال، وقال: لا تقسط على أبي حبال، وترك القوم يكسرون عليه أوعاظ النبال.

المقامة الثانية والخمسون وتعرف بالعمانية

المقامة الثانية والخمسون وتعرف بالعمانية قال سهيل بن عباد: ألقتني صروف الزمان إلى عمان. فدخلتها وقد آذنت براح بالبراح، وهتف داعي الفلاح. حتى إذا مررت بفناء الجامع، إذا الخزامي هناك راتع. والناس حوله كالحجيج في المزدلفة، أو في موقف عرفة. فابتدرت إليه العبور، وقد استطير فؤادي من الحبور. وجلست للسمر بين تلك الزمر. فقضيناها ليلة أبهج من زهر الربى، وأنفج من نشر الكبا. والشيخ يتلو علينا أساطير الأولين والآخرين، ويطر فنا بحديث العابرين والغابرين. حتى هوم الكرى المفارق، وكدنا نستقبل غرة الطارق. فهجعنا هنالك غبر الليل ذلك. ولما كانت الغداة،

وقد انقضت الصلاة. هجم علينا شيخ أرمش أغفش، كأنه أبو الحسن الأخفش. فحيي من حضر، وقال: أرى عمائم البدو على وجوه الحضر، فقال الشيخ: بل ترى تيجان العرب على أعيان مضر. فمن أنت يا من يسلب السيف فرنده، والصريف زبده؟ قال: إن كنت من أهل تلك الأماكن، فما قيود المساكن باعتبار الساكن؟ فتفكر ريثما تذكر. ثم أنشد: لمسكن الناس يقال الوطن ... ومثل ذاك للجمال العطن إصطبل خيل زرب شاء وورد ... وجار ضبع والعرين للأسد ونفق الخلد كناس للظبا ... والنافقاء لليرابيع خبا

جحر الضباب قرية للنمل ... وهكذا خلية للنحل والوكر للطير وأفحوص القطا ... منه وأدحي النعام ارتبطا والكور للزنبور، والعناكب ... لها البيوت فادرها يا صاحب قال: حييت وحييت، وأعييت ولا عييت. فما قيود السعة، إن كنت من شوس المعمعة؟ فأهتف كولادة، وأنشد كأبي عبادة: بيت فسيح داره قوراء ... صدر رحيب مقلة نجلاء بطن رغيب وطريق مهيع ... والثوب فضفاض كدرع تمنع وأرضنا واسعة، والقدح ... يوصف بالرحراح فيما اصطلحوا

قال: سقيت الغريض، يا كعبة القريض فما قيود الامتلاء، عند أهل الجلاء؟ فقال: جري المذكيات غلاء. وأنشد: يقال عين ثرة والبحر ... طام وطافح لدينا النهر كأس دهاق وجفان رذم ... وزاخر الوادي إناء مفعم وجفنك المترع والسفينة ... بكل كيس أعجر مشحونه وقربة متأقة والطرف ... مغرورق إذ غص ناد فاقف قال: لا شلت أناملك، ولا كلت عواملك. فهل تعرف قيود الخلاء، وتجعلها خاتمة الإملاء؟ قال: سيان الخاتمة والفاتحة، فما أشبه الليلة بالبارحة. وأنشد: أرض من الناس يقال قفر ... جرز من الزرع إناء صفر ودارنا من الأهالي خاويه ... مثل البطون من طعام طاويه والمرء من كل سلاح أعزل ... ورجل من دون سيف أميل أجم من رمح، ومن قوس رمى ... أنكب، والأكشف من ترس حمى

حاف بلا نعل، وحاسر بلا ... عمامة، عار من الثوب خلا وقلب زيد فارغ من شغل ... وخطه غفل بغير شكل حاجب أمرط جفن أمعط ... وأصلع الرأس وجسم أملط وهكذا غيم جهام من مطر ... وقيل: خد أمرد من الشعر ولبن من زبده جهير ... وطلق من قيده الأسير وامرأة من الحلي عطل ... زلاء لا يشخص منها الكفل وعلط من وسمه البعير ... ونزح من المياه البير وشجرات سلب من ورق ... فاقنع بما ذكرت واترك ما بقي قال: فلما رأى القوم من ري شراره، وفري غراره، قالوا: نعيذ لك بالله من نفس حرى، وعين شرى فهل لك أن تكون لنا خطيباً؟ وكفى بالله حسيباً. قال: نحن في المشرب شرع، والطيور على أشكالها تقع. فإن رأيت ما يسد الخلة ويرد الغلة، فأنا منكم نسباً وحلة. ورب ظئر رؤم، خير من أم سؤوم.

فرضخوا له باحتلاب شطر، وقالوا: أول الغيث قطر. فاتفق على مصلاة، وقرأ: إذا عزمت فتوكل على الله. قال سهيل: ولم يكن إلا بعض خذمة، حتى وفدت امرأة حسنة اللثمة، فقالت للشيخ: هلم بأبي عبادة، فقد كلفت الشهادة. قال: علي أن أشهد بالحق، كما أشهد للحق، ونهض بي كالسارية، في أثر الجارية. والقوم إليه ينظرون، وله ينتظرون. فلما انتهينا إلى بعض المناصع، سفرت كليمته، وإذا هي كريمته. فوقفت متدهدهاً فزجرني مقهقهاً. وأنشد: لم أرج سد خلتي من النفر ... فقد عزمت بغتة على السفر متكلاً فيه على ردء القدر ... فلم أكن في أمرهم ممن غدر وأنت يا بني كن ممن عذر

المقامة الثالثة والخمسون وتعرف بالغزية

ثم قال: إن كنت الرفيق، فهذه الطريق. وإلا فعليك السلام ولا ملام. فخرجت بين الحية والحيية، ولم نفترق إلى ديار طهية. المقامة الثالثة والخمسون وتعرف بالغزية حدثنا سهيل بن عباد قال: خرجنا من العواصم، نريد غزة هاشم. فأعملنا السنابك والفراسن ووردنا الآجن والآسن. حتى دخلناها بعد الأين، بين العشاءين. وقد علت أوجهنا ولمحة من السفر ولمحة من الكدر. فاتخذنا بها المضاجع واغتنم كل منا دعة الهاجع.

فلما انسلخ النهار من الليل، وجرت الغزالة فضل الذيل. خرجنا نتفقد أراضيها الخضراء والبيضاء، حتى إذا مررنا بدار القضاء سمعنا لغطاً وضوضاء. فعرجنا على ذلك اللجب، وإذا الخزامي متعلقاً برجب. وهو يقول: أيد الله القاضي، وأنفذ حكمه الماضي. كان لي نديم رقيق المباني، دقيق المعاني. ظريف الشكل، حصيف النقل خفيف الوضع والحمل. بديع الفكاهة والبداهة، بعيد السفاهة والفهاهة. يؤنسني الليل والنهار ويغنيني عمن يزور أو يزار. ويخدمني الصباح والمساء، ولا يشرب لي قطرة ماء. ويبذل المعونة، على غير مؤونة. ويسأل فيعطي ويخطو فلا يخطي. طالما أبدى، فأهدى. وأعاد، فأفاد. لا يهزه الدلال ولا يستفزه الملال. ولا يعرف الغضب ولا يسيء الأدب. ولا يكتم عني سراً ولا يعصي لي أمراً. وإذا قطعته انقطع، وإذا استرجعته رجع. وإذا طويته انطوى وإذا زويته انزوى، وإذا ضويته انضوى. يلقاني بصدر مشروح، وباب مفتوح. ووجه طلق ولسان منطلق. فكنت أتخذه أنيساً، ولا أريد غيره جليساً. وأنعكف عليه آناء الصرعين،

لما أجد به من طيب النفس وقرة العين. وإن هذا الأحمق، قد مزفه كل ممزق. وتركني ألهف عليه، من النعمان على نديميه. قال: فاضطرب الرجل مرتاعاً، وتباكى ملتاعاً. وقال: علم الله أني كنت به أبر من العملس، وعليه أحذر من الذئب الأطلس. فإنه كان راحي ومراحي وصباحي ومصباحي. ولكن قد فرط ما فرط ليقضي الله أمراً كان مفعولاً، وإن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولاً. فإن شاء الشيخ دية أو قوداً، أو يسلكني عذاباً صعداً. فإني له أطوع من عنانه وأوفق من بنانه. فقال الشيخ: أما وقد كان ذلك من خطا فعله، فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله. ولكن هل بالرمل أو شال، وكيف يرجى الري من الآل؟ قال: أنا أسعى بما تيسر وتحط عني ما تعسر. وأخذ يطوف على الجماعة من فوره،

وهو ينشد في أثناء دوره: آهاً من الأيام والليالي ... قد علمتني مهنة السؤال وعارضت الإدلال بالإذلال ... فذقت من لواعج البلبال ما لم يكن يخطر لي ببال ... لكن قضى لي الله ذو الجلال برفدكم، يا كعبة الآمال ... فإن عدا الدهر فما أبالي وجعل يردد الأبيات بين مطافه، ويلين أعطاف استعطافه. فعاد إلى الشيخ بقدر، وقال: هذا ما قيضه القدر. فإن رضيت وإلا ألحقت الحس بالإس، وأغمضتك عمن يجس أو يحس. فانكفأ الشيخ إلى خلفه، وقال: ليس يلام هارب من حتفه. قال سهيل: فلما خرج قفوته أعتقب، إلى حيث لا مرتقب. وقلت: هيهات أن أطلق سبيلك، أو تعرفني قتيلك قال: هو كتاب ألقاه هذا الشيطان، في بعض زوايا الخان، فمزقه الفأر شذر مذر، وعلاه بالرجس

والقذر. وتركني أنوح عليه بزفرات تترى، وأبكي بأجفان شكرى. ثم ناولني لفافة سبنية، وقال: إذا أصبحت فخذها إلى القاضي برسم الهدية. وانطلق يعدو في العراء، ولا يلتفت إلى الوراء. قال: ففضضت تلك الغاشية، وإذا الكتاب فيها كالهشيم فضمته الماشية، وقد علق فيه على الحاشية: هذا القتيل المهتدى بناره ... جئت إلى القاضي لأخذ ثاره من جرذ الفندق أو من فاره، ... وهو لحب اللبث في جواره أوصى بأن ندفنه في داره فائتمرت بإشارته وأطرفت القاضي بعبارته. فضحك حتى هوت قلنسوته، والتوت عنصوته. وقال: هل لك أن ترده فأحتمل من كرامته، فوق ما احتملت من غرامته؟ قلت: هيهات إنه والعقاب، فرخان في نقاب وكان ذلك بيننا وسيلة الوداد والترداد، حتى خرجت من تلك البلاد.

المقامة الرابعة والخمسون وتعرف بالسوادية

المقامة الرابعة والخمسون وتعرف بالسوادية حكى سهيل بن عباد قال: خرجت على ناقة أجد كأنها طود أحد. فاندفعت بي تنهب الطريق، وتخترق الشيق والنيق، حتى أشرفت على تنوفة حافلة بالأشائب، مشحونة بالركائب والجنائب. وكانت الشمس قد جنحت إلى مغاربها، فألقيت حبل ناقتي على غاربها. حتى إذا أدركت القوم ملت عنهم بعض الميل، وقلت أخوك أم الليل. قالوا: إن أخاك من آساك، فلا تطل أساك. فلما آنست منهم أنساً طبت قلباً ونفساً. فعرجت إلى المعرس، وقمت بينهم أتفرج وأتفرس. وإذا الخزامي بين قوم قد تأزروا

كالعيص، وهم يتعاطون رحيقاً كالهصيص، برفد كالأصيص. فلما رآني قال: نور على نور، قد التقى سهيل بالشعرى العبور فبتناها ليلة رقيقة الحواشي، صفيقة الغواشي. حتى إذا جشر السحر، تداعى القوم للسفر. وكانت المزاود قد خفت والمزاد قد جفت فجعلوا يمزجون الإسراء بالمسير، ولا يبالون بابن ثمير أو جمير. وما زالوا يضربون في الآفاق، حتى تبطنوا سواد العراق، فنصبوا السرادق، وانتصبوا حوله كالرزادق. قال: وكان هناك شيخ من علماء البلدين، كان يلم بنا في الأبردين. فدخل يوماً إلى فناء المسجد، وإذا الحزامي هناك ينشد: عاتبوني على القطيعة لما ... طال عهد النوى وطال النفار قل لهم: إن من يزرني أزره ... كل يوم ومن يزور يزار

فتلقاه الشيخ متعرضاً، وقال له معترضاً: إن إخلال مثلك بالإعراب، مما يعد من الأغراب. فوثب شيخنا السرندي كأنه السبندي، وقال: أجل وسقوط مثلك في الوهم، مما يدق على الفهم. إن كنت أنت الفراء، أو معاذ الهراء، فأين يعود الضمير على مطلق التأخير؟ وكم هي أوجه الشبه في بناء الأسماء، وكم أقسام التنوين عند العلماء؟ وأي لفظ يستوي استعماله اسماً وحرفاً، ويستعمل في حرفيته ظرفاً؟ وأي مضاف ينصب المضاف إليه، ولفظهما لا يطرأ التغيير عليه؟ وأي الأسماء يعرب من مكانين؟ وأيها يحتاج إلى معرفين؟ وأيها يكون في الإعراب والبناء بين بين؟ وأيها يعرب أصله ويبنى فرعه؟ وأيها يمنع من الصرف مفرده وجمعه؟ وأيها يكون ثلثاه زوائد؟ وأيها لا يبقى منه إلا أصل واحد؟ وأين تقوم أربعة أحرف في الحفظ، وتسقط كلها في اللفظ؟ وكم هي طرق الإعلال، في الأسماء والأفعال؟ قال

فأخرد الشيخ من الإعياء، وأقرد من الحياء. فقال الخزامي: ويحك إن كنت من حجارة الحرار، فإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار ولقد أجلتك إلى قباقب، عسى أن يتراءى لك النجم الثاقب. فاشتد بالشيخ الوجوم، حتى تعذر أن يفوه ولو بمثل نقيق العلجوم. فلما رأى ماءه ينضب ولونه كحرباء تنضب، رقيت له منه بنات ألبب. فأخذ معه في التلطف والتعطف، ونبذ عنه التصلف والتعسف. فلما خمدت جذوته وأنست جفوته. قال: علم الله ما بي أن

أرتج علي، في ما ألقي إلي. ولكن أن يتندد ذلك فتسقط حرمتي، وينصرف الناس عن تكرمتي، فإن شئت أن تقبل هذا الطيلسان حني، وتكتم هذا الشأن عني قال: لا خوف، إني أوفى من عوف وحاشا الله أن أنث لك سراً، أو أغمط منك براً. ثم خرج يميس في طيلسانه كالعطبول، وهو يقول: قل لمن شئت في العراقين: إني ... قد حباني الإمام بالطيلسان

المقامة الخامسة والخمسون وتعرف بالدمياطية

مأرب لا حفاوة من حريص ... رام بالطيلسان طي لسان قال سهيل: فلما فاء الشيخ إلى فسطاطه، وعلموا ما كان من تبريزه واشتطاطه، وانخذال صاحبه وانحطاطه. باؤوا له بحق الزعامة وبوأوة ذروة الكرامة. فلبث في صحبتهم أياماً، لا يتجشم نفقة ولا طعاماً. حتى إذا أزمع البين، أدلج لا كسعد القين، وهم يفدونه بسواد القلب والعين. المقامة الخامسة والخمسون وتعرف بالدمياطية قال سهيل بن عباد: أزمعنا الشخوص إلى دمياط، في ركب من

الأنباط. فأعددنا النواطق والصوامت، وأغذذنا حتى كلت بنا الشوامت. وما زلنا نطأ الوعث والجدد، حتى أفضينا إلى البلد. فدخلناه على كل طلوح وقد دلكت دلوح، واغبر لوح اللوح. فلما انجابت وعثاء الخلج وانجلت أغثاء الرهج. برزنا نجر الأردية، حتى مررنا ببعض الأندية. وإذا الخزامي ورجب تليهما امرأة بادية الحدق، منادية بالحرب. فتقدم رجب كالأيهم، وهو قد بسر وتجهم، كأنه من جن جيهم. وقال: حي الله السادة الذين يحمون الحقيقة، وينسلون الوديقة ويسوقون الوسيقة. إن امرأتي هذه عجوز حمقاء قرثع خرقاء.

مترهلة خدبة، خنثلة طرطبة. تلقاني بلمة بيضاء وبشرة سوداء، وعين صفراء، ونكهة دفراء. توشك أن تأكل البعير وتشرب الغدير. وهي على ذلك بذية اللسان، عرية من الإحسان. لا تذكر حرمة ولا تشكر نعمة. تهر كالكلاب وتعوي كالذئاب. إذا استقبلتها لطمث، وإذا أدبرت عنها رجمت. تشدخ بظفر كالمخلب، وتنهش بناب كسنان قعضب. ولقد كانت تلطم بكفها، فصارت تلطس بخفها. وكانت تمنحني الدخول إلى الدار، فصارت تمنعني المبيت حول الجدار. وقد منيت منها بالداء العياء والداهية الدهياء. إن هممت بطلاقها، عجزت عن صداقها. وإن تكلفت عليها الجلد، فلا قرار على زأر من الأسد. فثارت تلك المرأة السفيهة، وقالت: يا للعضيهة قد هتك هذا الوغد

أستاري، حتى كأنه جردني من أطماري ويلك يا أنقس، يا ابن الفلنقس أما تذكر عيبك، وريبك؟ وشؤمك، ولؤمك؟ وفاقتك المدقعة، وأسمالك المرقعة؟ تأتيني كل يوم بمعتبة، وما في يدك عنظبة. ثم تجلس على التكرمة، وأنت شامخ الهرثمة. فتأخذ في الأمر والنهي والإيجاب والنفي. وتقول: يا حبذا الإمارة، ولو على الحجارة وزوج من عود، خير من القعود. ساء ما تتوهم، وشاه وجهك الأدهم وليت شعري ما أصنع برجل أبرد من عبقر، وأذل من فقع بقرقر. ليس له ثاغية ولا راغية. ولا عنده حضض ولا بضض. وهو على ذلك أظلم من

الخيفقان، وأنقص من الزبر قان. يشبب بالملامظ واللواحظ، وهو أقبح من الجاحظ. ويدعي ببداهة ابن جماعة، على بلاهة بني خزاعة، ويقذف بهجو جرول ولا يعرف أدب الأخطل. ولكن قد

جرى القلم ومن أشبه أباه فما ظلم. قال: فثار الشيخ كمن مسه الجنون، ودار حولها كالمنجنون. وقال: يا دفار أما اكتفيت بفعلك مع بعلك، الذي وطئته بنعلك حتى تتعرضي لي بجهلك، وتلحقيني بعار أهلك؟ إن كنت ريحاً فقد لاقيت إعصاراً، ورب قرارة تسفهت قراراً. ثم اقتحمها فاندفعت ورفسها فانصرعت، ثم قامت

فوقعت. وهي تشتم بكل شفة ولسان، وتبربر بما لا يفهمه إنس ولا جان. فأضحكت القوم كما أضحك الصحابة نعيمان، أو الهدهد جنود سليمان. فقال الشيخ لصاحبها: طلقها بتاتاً، لا جمع الله له شتاتاً وعلي

تحصيل ما تخشى منه الأثقال، ولو كان ألف مثقال. فما نشب أن طلقها كما أشار، وأخذ الشيخ يطوف على القوم وهو يقول: النار، ولا العار حتى إذا فرغ من مسعاه، دفع إليها ضغث مرعاه، وقال: اذهبي فقد أينعت دوحة الصبر، وتمتع المهتاض بالحبر. فقالت: هبلتكما الهوابل، ولا بشرت بمثلكما القوابل "هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون، فدعهم يخوضوا ويلعبوا حتى يلاقوا يوم الذي يوعدون". ولما أدبرت تلك الدردبيس، أقبل الشيخ على القوم كالعنتريس. وقال: قد غبر من نوالكم قذعملة لا تقضي أشكلة. فإما أن تستردوها، أو تزيدوها. فرشحوا له ببلالة وقالوا: خذ من القطوف مادنا، وقل: لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا. فانقلب لهجاً بحمدهم مبتهجاً برفدهم. قال سهيل: فلما باء على حافرته، في أثر زفراته. تعقبته لأعرف تلك الشهربة الطالق، فإذا هي ابنته العاتق. وهي قد نقضت عنها

المقامة السادسة والخمسون وتعرف بالإسكندرية

الهرم واستوت كبانة العلم. فعجبت من غرابة حاله، وخلابة محال، واغتنمت صحبته إلى أوان ترحاله. المقامة السادسة والخمسون وتعرف بالإسكندرية حدث سهيل بن عباد قال: نحونا الإسكندرية من القاهرة، في عفرة صاهرة. فكنا نقيل بياض اليوم ونستبدل السرى من النوم. وبينما نحن في ليلة كالحة الإهاب، حالكة الجلباب، عرض لنا شبح اسود على جمل أقود. فتواثب القوم إليه كبنات طبق، وما لبثوا أن جاؤوا به في الربق. فلما أسفر ابن ذكاء، وانتقب وجه الأفق بالأياء. تفرست في أسيرنا الظلامي، وإذا هو شيخنا الخزامي. وقد تلبد عثنونه كالثرب، وعليه خيعل

كطيلسان ابن حرب. فقلت: الله أكبر، قد مدرتم المنبر هذا الخزامي الذي يفيد البهج، ويفدى بالمهج. فتأشب القوم حواليه، وأخذوا يتنصلون إليه. فلما سكن جزعه واستكان زمعه. قال: يا بزاة الليل، وغزاة الليل. أهجمتم على دوسر النعمان، أم

على مردة عزوان؟ واقتنصتم سليك المقانب، أم طمعتم بفداء حاجب؟ لقد تقلدتم قلائد عوكل، بهجومكم على هذا الضيكل، ولكن قد كان ذلك في الرق المنشور، وما الحيوة الدنيا إلا متاع الغرور. فلما انجلى عليهم بدره، علا لديهم قدره. فأحفوا له في التكرمة، وباؤوا من وحشة الغراب إلى أنس العكرمة. ثم أخذوا في السير الضريج على متن كل إضريج، وهو يؤنسهم في التعريس والتعريج. حتى ألقوا عصا السفر في السرار من صفر. فنزلنا في منزل مأهول، قد بني للمعلوم والمجهول. وأقمنا في ذلك الحواء إلى ليلة السواء. وإذا شيخ قد ناهز العمرين كأنه

أحد العمرين فجلس مجلس الفقيه وأخذ ينثر الآلئ من فيه. حتى إذا تمادت به الأشواط في شقة بعيدة النياط. تصدى له رجل قصاقص كأنه فرافص. وأخذ يهيم معه في كل واد، ويتلون كأم الحبين في الأعواد. حتى أفضى الأمر إلى الشقاق، والستر إلى الانشقاق. فقال: إني أراك بين الفقهاء، كالمستعصم بين الخلفاء! إن كنت فقيه العصر فأي رجل صح بيعه أباه واستحق الثمن فاستوفاه؟ وأي غاصب لا يبرأ بالرد على المالك، وأي رجل أتلف شيئاً فلزمه

شيئان هنالك؟ وأين ترد شهادة مسلمين، وتقبل شهادة ذميين؟ فأطرق الشيخ أي إطراق، واحتبكت عليه المسألة كحبك النطاق. فاستطال الرجل واهتز، وقال: من عزَّ بزَّ. قال: فثار الخزامي كالفنيق العذافر، وعمد إلى ذلك الرجل الظافر. وقال: قد علمت

يا شيخ الحرم أن انتهاك الحرم من الحرم. ولقد رأيتك تخوض في المعقول والمنقول، وتمزج الفروع بالأصولو. إن كنت من العلماء، فما هي أنواع الإنساء؟ وبماذا يفرق أهل الدرية، بين الاستعارة والتشبيه وبينها وبين الكناية؟ وما هي المقولات العشر والكليات الخمس، وما هو التناقض في القضايا والعكس؟ فارتبك الرجل في تلك المسائل،

ولم يكن عنده طائل ولا نائل. قال: إن كنت قد أنكرت هذه النظائر، فكم طائفة في جناح الطائر؟ فإن كنت قد استخشنت الشرس، فكم دائرة في جلد الفرس؟ فإن رأيت التخفيف أحب، فكم عقدة في ذنب الضب؟ فتخازر الرجل وشزر، وقال: عدا القارض فحزر. ثم

غلبت عليه الأنفة، فلم يفه ببنت شفة. ثم شمر ذيله وانقلب وقد تحطم كالمخشلب. فلما انصاع أخبط من عشواء، وأخيب من قابض على الماء. قال الشيخ: زعم هذا الحبنطى، أن يروعنا بالضبغطى. ولم يدر أن دون ما يأمله نهابر، وهو أفوت من أمس الدابر. فثار إليه ذلك الشيخ الموتور، وقد التألم صدع قلبه المبتور. وقال لا جرم أنك باقعة البواقع، وفلك النسر الواقع، وإني لأراك ضيق الحال على سعة النظر، فخذ هذه الجدوى واستعن بها على مؤونة السفر. قال: وهاك مني وصية تعقد عليها بنانك وتروض بها لسانك. إن العلم إن أكرمته أكرمك، والمال إن أكرمته أهانك. فدارت وصيته في تلك العراص، كما دارت كلمة الإخلاص. فلم

المقامة السابعة والخمسون وتعريف بالنجدية

يبق في القوم إلا من بض له حجره، وغض عليه شجره. فودعهم وانثنى وهو يسحب ذيل الغنى. المقامة السابعة والخمسون وتعريف بالنجدية قال سهيل بن عباد: عبثت بي لواعج الوجد، إلى زيارة نجد. فتسنمت الأكوار، وطويت الأنجاد والأغوار. حتى نقعت بحلولها غلتي بعد اللتيا والتي. فلما سرت عني وعكة السرى، وقضت أجفاني وطر الكرى. قمت أطوف الحلة بعد الحلة وأتفقد الأحياء المشمعلة. حتى إذا كنت صبيحة يوم، بمنتدى زعيم القوم. وفد شيخ أوهى من الشبام، يليه فتى أشهى من البشام. فجثم الشيخ

محقوقفاً وانتصب الفتى محصوصفاً. وقال: أعز الله الوالي، وأذل له أعناق الموالي، إن هذا الشيخ قد استعبدني منذ عام، كما تستعبد أولاد حام. وهو عبيد فلسه، لا يقوم بميرة نفسه. فتراه ألام من أسلم. وأحمق من عجل، وأقلق من الحجل، في الرجل. بيد أنه ملاق مذاق سفساف شقشاق. لا يزال يهذر ويهذرم، ويبربر ويدمدم. ويلغو بالكلم الجاهلية، ويعبث بالتمويهات الخزعبلية. إذا طلبت منه قطعة، أنشدني أبياتاً سبعة. وإذا قلت: لي مسألة، قال: هات الدواة والمرملة. وإذا التمست منه الصرف، جاءني بألف حر. وهو يتأنق بهجن جامدة، من لغة العرب البائدة،

ليس لها طلاوة ولا فائدة. فثار الشيخ كالمعتوه، وقد أزبد فوه. وقال: بهراً لك يا عفنقس، يا ماقط الأنقس متى تشدقت بهذه الشغاشغ، وتمطقت بهذه الضغاضغ؟ ذرعنك هاتي الجعظرة الخضمة، والفظاظة المضلخمة. وإلا قفخت رأسك العفنجج، ولو كنت حفيد العر نجج. قال: فضحك القوم من هذا التنصل، الذي يشهد للتهمة بالتأصل. وكان بينهم رجل أضجم، فتبازخ كالتيار الأعجم. وقال: إني أراك في العربية راسخ القدم، فهل تعرف أيام الأسبوع في القدم؟ فتخازر تخازر القيان، ثم قال: جرى ابنا عيان فاستجل البيان. وأنشد: لأول الأسبوع قيل أوهد ... في قدم الدهر وأهون الغد

ثم جبار بعده دبار ... مؤنس عروبة شيار قال: لا تربت يداك، ولا طربت عداك إن كنت تعرف ألقاب الشهور، فأنت العلم المشهور. فاكتام واشرأب ثم جثم واستستب. وأنشد: مؤتمر وناجر خوان ... من لقب الأشهر والصوان زباء بائد أصم واغل ... وبعد ذاك باطل وعاذل ورنة وتيرك الختام ... وقيل غير ذاك والسلام قال: لله درك ما أبعد غورك، وأقرب نورك فاختم بذكر الأشهر

الحرم، إن كنت ممن أتم فاكرم. فقال: اللهم اجعلنا ممن حسن ختامه، وانجلى قتامه. ثم أنشد: ثلاثة من الشهور سرد ... وواحد عقيب ذاك فرد ذو قعدة وحجة محرم ... ورجب وهي الشهور الحرم قال: فلما رأى القوم اتساع روايته، وارتفاع رايته. علموا أنه صل أصلال فنظروا إليه بعين الإجلال. ولما رأى إقبالهم عليه، وارتياحهم إليه. قال: يا جهابذة اليلامع، وهرابدة المعامع. علم الله أني لست بجعد الكف، كما يزعم هذا الهجف. ولكن قد أناخ الدهر علي بكلكله، وأخنى علي الهرم بأفكله. فلم يبق لي عافطة ولا نافطة. وصرت أسغب من السيدان، بعدما كنت أقري الهيدان والزيدان. ولو

استطعت أن أقوم بأمري، لأطلقت هذا الفتى من أسري. ولكنني ما زلت أعلل نفسي بالمنى، وأمنية بالغنى. لعل الله يقيض لي فتحاً قريباً أو يكتب لي بمثلكم نصيباً. قال: استعذب القوم كلامه، واستعذروا غلامه. وقالوا: قد كتب ربك على نفسه الرحمة، لكن ما كل سوداء تمرة ولا كل بيضاء شحمة. فإن الناس قد لؤموا وجشعوا، حتى لو سئلوا التراب أو شكوا أن يملوا ويمنعوا. فإن شئت أن تجاورنا غابر هذه الشيبة، وتكتفي ذل السؤال وغصة الخيبة. وإلا فخذ هذه النحلة، واعتمد الرحلة. قال: حبذا جواركم لولا ضفف خلفت، وموعد أخلفت. فوصلوه كل واحد بدينار، وارحلوه ناقة ذات سفار. قال سهيل: وكنت قد تنسمت ريح خزامه، وظلفت نفسي عن التزامه. لما شق العصا خرجت في أثره، حتى صرت بمرمى بصره. فقال: أنت من المولدين في هذا الزمان، لا تعرف لغة يعرب بن قحطان،

المقامة الثامنة والخمسون وتعرف بالعكاضية

فعد إلى أن يصادفنا ترجمان. ثم انسدر يعدو كالظليم وغادرني كالسليم. فعدت وأنا أعجب من فنونه، في جده ومجونه. المقامة الثامنة والخمسون وتعرف بالعكاضية قال سهيل بن عباد: خرجت للتجارة في البوادي، مع صاحب كسلام الحادي. فكان يطربني بحدائه الأنيق ويحبب إلي طول الطريق. وما زلنا نطوي بساط الفجاج، وننشر لواء العجاج. حتى أتينا سوق عكاظ، في هاجرة كالشواظ. فانخنا كهشيم المحتظر وإذا الناس كالجراد المنتشر. وقد أخذ بعضهم في المناشدة

والملاجزة، وبعضهم في المحاجاة والمعاجزة، وبعضهم في المفاكهة والمجازرة. فجعلنا نطوف بين تلك الطوائف، ونجتني القطائف واللطائف. حتى مررنا بلفيف من نواصي العرب، وإذا الخزامي بينهم ورجب. وهما قد أخذا في المباراة والمحاورة، والمجاراة والمساورة. حتى مالت إليهما كل صاغية، وتفتقت لهما كل فاغية. فلما رأى الشيخ انصباب الناس إليهما، وانصيابهم عليهما. اخرنشم واخرنطم، واندفق على صاحبه كالغطمطم، وقال: ويلك يا أبرد من حرجف، وأيبس من حرشف قد أردت أن تطاول السمهرية، بالسندرية. وتطارد العناجيج، بالحراجيج، فإما أن تسلبي أطماري اليوم، وإما أن أجردك بين القوم. قال: اشحذ غرارك يا شيخ النار، واستهد لسهام العار قال: إن كنت

من الأدباء، فما قيود الأبناء، باعتبار ضروب الآباء؟ قال: قد ناديت مجيباً، وعاديت نجيباً. ثم أنشد: للخيل مهر وحوار للجمل ... والجدي للمعزي وللشاه الحمل والعجل للثور وللحمير ... عفو، كذا الخنوص للخنزير وشبل ليث ولضبع رعل ... وجرو كلب ولفيل دغفل غفر لو عل وفرار للفرا ... كذاك يعفور مهاة ذكرا وخرنق لأرنب، وتتفل ... لثعلب، ولابن آوى نوفل طلا الغزال ديسم للدب ... جارن حية وحسل الضب وشقذ حرباء كذا للنمل ... ذر، وجاء هرنع للقمل قر الدجاج، الرأل للنعام ... غطريف باز جوزل الحمام للكروان الليل، والحباري ... قد ذكروا لفرخها النهارا وللعقاب ضرم، والحجل ... للفرج منها سلك يستعمل والدرص للهرة واليربوع ... والفأر جارياً على الجميع قال: قد أحكمت السداد، وإن كنت سبد أسباد. فما هي أصابع الراحة، وما بينهن من المساحة؟ قال: راجل يسابق الفارس، ومحترس من

كيده وهو حارس. ثم أنشد: قل: أول الأصابع الإبهام ... وبعدها سبابة تقام وبعدها الوسطى، يليها البنصر ... وبعدها الصغرى أخيراً خنصر وبين إبهام وصغرى شبر ... وما إلى سبابة ففتر وبين ذات الفتر والوسطى رتب ... وبين ذي الوسطى وبنصر عتب والبصم بين خنصر ومايلي ... وبين كلهن فوت الخلل قال: إن عرفت مراتب النبات، أنت من ثبات الثبات. ضحك حتى زجا، وقال: قد أشرقتني بالشجا. ثم أنشد: أول نبت الأرض بأرض إذا ... لم يتميز، والجميم بعد ذا وبعده البسرة الصمعاء ... ثم الكلا، فلتحظ الأسماء فلما فرغ من إنشاده أحجم الشيخ القهقرى، فازدلف إليه يمشي

الخيزري. وقال زعمت يا شيخ مهو، أن البلاغة باللهو، وأن المخدرات ي البهو. فاخلع إذا ما عليك حتى نعليك. وإلا وقصت جيدك حتى الكاهل، ولو كنت من العباهل. ثم أخذ بحبل وريده وأصر على تجريده. فجعل الشيخ يدور كاللولب، ويرفس كالتولب، والفتى يتعلق بثيابه، ويحول دون انسيابه. فأخذت القوم الأنفة، وساءتهم تلك الهجنة المؤتنفة، والمعرة المكتنفة. وقالوا: نحن نفدي هذه الذعاليب، بقشب الجلابيب. فخل عنك العنف، ولا تبله بمطفئة الرضف. قال: علم الله ليس

من وسني هذه الأطمار، ولكن أريد تأديبه بالخزي والشنار لا يلج بعد ذلك في مثل هذا الباب، ويلقي نفسه بين المخلب والناب فتصر عليه رجل الغراب. قالوا: إن عندنا من الفروض، شراء الأعراض بالعروض. على أن تكون ناصح الجيب، في الشهادة والغيب، فلا تسود وجه الشيب. ثم جاؤوه بحلة وضرة، وقالوا: إن في ذلك لأعينكما قرة، والله لا يضيع مثقال ذرة. فاضطبنهما وقال: قد دبر القوم تدبير من طب لمن حب، فادرج أيها القرشب، وخل درج الضب. فتعلق به وقال: إنك بي قد وصلت إلى ما وصلت، وحصلت على ما حصلت. فهلم نقتسم شق الأبلمة

المقامة التاسعة والخمسون وتعرف بالمكية

ولا يسمع الناس لنا أيلمة. قال: هذا البحر فاغترف، وإلا فانصرف، فانتشب بينهما الجذب والدفع، حتى أفضى ذلك إلى الصفع. فرثى القوم لشيخه الجلحاب، وأمطروه كسفاً من سحاب. وقالوا: باءت عرار بكحل، فدونكما الرحل، وحسبكما الضحل. فقالا: شاعكم السلام، وانطلقا بسلام. المقامة التاسعة والخمسون وتعرف بالمكية حدث سهيل بن عباد قال: قدمت مكة، في ليلة عكة، فنزلت ببكة. ولما أصبحنا كان يوم طلق، حسن الخلق والخلق. فجعلت أتفقد المناسك والمشاعر، وأتردد بين العشائر

والمعاشر. فبينما أنا أستشرف وجه الدو، كأنني زرقاء جو. رأيت ركباً يمشون الهرجلة على مطايا همرجلة. فناجتني القرونة أنهم الخزامي وصاحباه، حتى ازدلفوا فإذا هما هما وإذا هو إياه. فوجدت ما يجد من بشر بالماء، على فورة الظماء. وابتدرت إليه كالغداف، فالتقاني كفارس خصاف. واعتنقنا حتى صرنا في التزامنا الدرجي كأننا المركب المزجي. ثم تبوأنا صهوات الخيل،

وأتينا المدينة في ناشئة الليل. كان يومئذ قد أذن في الناس بالحج، فأتوا رجالاً وعلى كل ضامر من كل فج. فلبثنا يوماً أو بعض يوم، نطو بمحافل القوم. حتى مررنا بلفيف مقرون كأمثال اللؤلؤ المكنون. لما وقف الشيخ بهم قال: سلاماً، ثم قام أمامهم إماماً. وقال: الحمد لله الذي أمر بحج البيت من استطاع إليه سبيلاً، ووعد عباده المتقين جنات تجري من تحتها الأنهار وعيناً تسمى سلسبيلاً. أما بعد يا معاشر العرب الكرام، وحجاج البيت الحرام. فإن الله لا يرضى بالوذائم والضحايا ممن أصر على الخطايا. ولا بزيارة الحرمين ممن فاه بالنميمة والمين. ولا باستلام الحجر، ممن طغى وفجر. ولا بالطواف حول البيت، من نشاوي الكميت. ولا برمي الجمار، من ذوي الشحناء والأغمار. إن الله ينظر إلى السرائر المكمنة، لا إلى الشفاه والألسنة. وإن حج القلوب خير من حج الأقدام، ولبس التقوى ذلك خير من لباس الإحرام. فاعبدوا الله مخلصين له الدين، ولا تكونوا ممن يعبده على حر فذلك هو الضلال المبين.

واذكروا أن الزمان ريح قلب والدنيا برق خلب. والحياة سحاب جهام، والحمام ليث حمام. فلا تغتروا برهرهة الآل ولا يذهلكم الحال، عن المآل. وإذا جردتم أنفسكم للاعتكاف وتجردتم للطواف. فقولوا: لبيك يا من يدعو إلى دار السلام، ولك الحمد الذي لا ينفد ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام. اللهم يا مجيب السؤال ورحيب النوال، ومنجح الآمال ومصلح الأعمال. تقبل جدنا وجهدنا، واغفر سهونا وعمدنا. ولا ترض العج والثج ممن حج منا أو دج. واطبع قلوبنا على محبتك المخلصة، وطاعتك المخلصة. واعصمنا بألطافك وقواك، ولا تكلنا إلى أمداد سواك. اللهم يا جزيل الثواب، وقابل كل أواب. ولا تقصنا عن وجهك الميمون، يوم لا ينفع مال ولا بنون. وآتنا كتبنا بأيماننا وكر أعمالنا بإيماننا. ولا تحاسبنا حساباً عسيراً، ولا تجعلنا ممن يضحكون قليلاً ويبكون كثيراً. اللهم يا سابغ الآلاء ونابغ

الإيلاء. هب لنا قلوباً طاهرة، وعيوناً ساهرة. وأنفساً عفيفة وألسناً حصيفة. وأخلاقاً سليمة ونيات مستقيمة. ويسر لنا توبة صادقة، وندامة حاذقة. وسيرة هادية، وعيشة راضية. وعاقبة حميدة وخاتمة سعيدة. وأفض علينا نعمتك، ورحمتك. ولطفك، وعطفك. وهداك ونداك. واجعل حجنا مبروراً، وذنبنا مغفوراً. وأحصنا مع أصحاب اليمين، في فردوسك الأمين، برحمتك يا أرحم الراحمين. قال: فلما فرغ من دعائه، انثنى إلى ورائه. فحال القوم دون مسربه، لعذوبة مشربه. وقالوا له: بورك فيك، ما أحلى نفثات فيك! فهيهات أن تبرح من بيننا، قبل بيننا. قال: إني إلى ما تريدون أقرب من حبل الوريد، وأجرى من خيل البريد. ثم انقاد إلى مربضه وعاد إلى معرضه. فتأشب القوم عليه كدوح البريص، وبذلوا ي صحبته جهد الحريص. وأقام يطرفهم بالملح المستعذبة، والنوادر المستغربة. ويجلو عليهم الخطب المنبهة والزواجر المنهنهه. ويقدمهم بالأدعية، وهم يجاوبونه كالمستفقهة.

المقامة الستون وتعرف بالقدسية

حتى انقضت أيام الشعث وقضوا شعائر التفث. فشرقوا وغرب وتفرقوا تحت كل كوكب. المقامة الستون وتعرف بالقدسية قال سهيل بن عباد: لقيت أبا ليلى في المسجد الأقصى، بين جمهور لا يحصى. والناس قد تألبوا عليه كالأجربين، وأحاطوا به كالأخشبين. وهو يخاطبهم بالوعظ والإنذار، ويحذرهم عذاب النار وسوء عقبى الدار. حتى صارت مدامعهم تصوب، وكادت أكبادهم تذوب. فلما رآني تحز وهو قد استوفز. فانقضضت إليه كالأجدل، وسقطت عليه كالجندل. فحياني تحية الأحبة، ثم استأنف الخطبة، فقال: الحمد لله الذي جعل حرمه أمناً للعباد ومقاماً للعباد. وهو الذي خلق فسوى وقدر فهدى، وأضحك وأبكى، وأمات وأحيي. والذي جعل الأرض مهاداً، والجبال أوتاداً

وبنى فوقكم سبعاً شداداً. والذي مرج البحرين يلتقيان، بينهما برزخ لم يبغيان وهو كل يوم في شأن. لا إله إلا هو الفرد الصمد الذي لا يلد ولم يولد، ولم يكن له كفؤاً أحد. سبحانه وريحانه ما أعظم قدرته وشأنه، وأوسع منته وإحسانه. أما بعد فإنني قد قمت فيكم مقام الفقيه الخاطب، وهي صفقة لم يشهدها حاطب. فإني طالما ارتكبت الأوزار، وتبطنت الأقذار. واجترحت المغارم، واستبحت المحارم. وانتهكت الأعراض فسودت منها كل بياض. وما زال ذلك دأبي مذ شببت، إلى أن دببت. فليس لي أن أعظ أحداً ولا أفوه بخطبه أبداً. وعلي أن أقصر درسي على وعظ نفسي. وها أنا قد اعتمدت الأوبة، واعتصمت بالتوبة. فادعو الله لي أن يأخذني بحلمه، ولا يحكمه. ويعاملني بفضله لا بعدله. ثم أخذ في الأجبج والضجيج، وجعل يراوح بين

النحيب والنشيج. حتى أبكى من حضر، من البدو والحضر. فأخذ القوم في تسكين ارتعاشه، وتمكين انتعاشه. حتى خمدت لوعته وهمدت روعته. فحباه كل واحد بدينار، وقال: أدع ربك لي واستغفره بالأسحار. قال إني قد تجردت عن عرض الدنيا، إلى الغاية القصيا، فلا أقبل منه مثقال ذرة ما دمت أحيي. ثم نهض بي مكبراً، وولى مدبراً. فبات بليل أنقد يساهر الفرقد. وهو لا يفتر من ذكر الله، ولا يمل من الصلوة حتى إذا أخذت الدراري في الأفول، قام على مرقبة وأنشأ يقول: قم في الدجى يا أيها المتعبد ... حتى متى فوق الأسرة ترقد قم وادع مولاك الذي خلق الدجى ... والصبح وامض فقد دعاك المسجد واستغفر الله العظيم بذلة ... واطلب رضاه فإنه لا يحقد واندم على ما فات واندب ما مضى ... بالأمس واذكر ما يجيء به الغد واضرع وقل يا رب عفوك إنني ... من دون عفوك ليس لي ما يعضد أسفاً على عمري الذي ضيعته ... تحت الذنوب وأنت فوقي ترصد يا رب لم أحسب مرارة مصدر ... عن زلة قد طاب منها المورد يا رب قد ثقلت علي كبائر ... بإزاء عيني لم تزل تتردد

يا رب إن أبعدت عنك فإن لي ... طمعاً برحمتك التي لا تبعد يا رب قد عبث البياض بلمتي ... لكن وجهي بالمعاصي أسود يا رب قد ضاع الزمان وليس لي ... في طاعة أو ترك معصية يد يا رب مالي غير لطفك ملجأ ... ولعلني عن بابه لا أطرد يا رب هب لي توبة أقضي بها ... ديناً علي به جلالك يشهد أنت الخبير يحال عبدك إنه ... بسلاسل الوزر الثقيل مقيد أنت المجيب لكل داع يلتجي ... أنت المجير لكل من يستنجد من أي بحر غير بحرك نستقي ... ولأي باب غير بابك نقصد قال سهيل: فلما فرغ من أبياته غاص في التهليل والتحميد، والترتيل والتجويد، حتى تهات من وجده وكاد يغيب عن رشده. عجبت من استحالة حاله وأيقنت بحووله عن محاله. ولبث عنده شهراً، أجتني من روضه زهراً، وأجتلي من أفقه زهراً. إلى أن حم الفراق، وقال ناعبه غاق: فاعتنقني مودعاً، ثم سايرني مشيعاً. وقال: موعدنا دار البقاء، فكان ذلك آخر عهدنا باللقاء.

قال مؤلفه الفقير: هذا آخر ما علقته من الأحاديث الملفقة كما فتحت علي القريحة المغلقة. وأنا ألتمس ممن سلمت بصيرته وطابت سريرته. أن يغض الطرف عما يرى من الإخلال والإجحاف، وأن ينظر إلي بعين الحلم والإنصاف. فإني قد تلقيت هذه الصناعة من باب التطفل والهجوم، إذ لم أقف على أستاذ قط في علم من العلوم. وإنما تلقفت ما تلقفته بجهد المطالعة وأدركت ما أدركته بتكرار المراجعة. فإن أصبت فرمية من غير رام وإن أخطأت فلي معذرة عند الكرام. والله المسؤول أن يحسن خواتمنا اللاحقة، كما أحسن فواتحنا السابقة. إنه ولي الإجابة، وإليه الإنابة، والحمد لله أولاً وآخراً. وكان الفراغ من تبييضه في شهر نيسان سنة ألف وثماني مائة وخمس وخمسين للمسيح.

§1/1